صفحات الثقافة

في التأسيس العلمي العربي لمفهوم الثقافة السياسية/ حسين عبد العزيز

منذ انطلاقه عام 2012، ركّز مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، اهتمامه على القضايا الراهنية للعالم العربي (النمو المعاق والتنمية المستدامة، جدلية الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، العدالة في الوطن العربي اليوم، أدوار المثقفين في التحولات التاريخية). وعلى الرغم من أهمية هذه القضايا وراهنيتها المستمرّة، إلا أنها مطروحة في الأوساط الفكرية والأكاديمية العربية منذ عقود، بخلاف موضوع الثقافة السياسية الذي يعدّ موضوعاً حديث العهد في النقاش العربي، وإن تطرّق إليه مفكرون قلائل قبل اندلاع ثورات الربيع العربي بسنوات قليلة.

تعدّ الثقافة السياسية العامل الرئيسي في تكوين الاتجاهات والسلوكيات ذات الصبغة السياسية ما بين الحكام والمحكومين، وبالتالي، أهميتها في أنها أصبحت تعتبر مدخلاً أساسياً لعلم الاجتماع السياسي. ومن هنا، خصّص مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية في دورته التاسعة التي انتهت قبل أيام (11 – 12 – 13/3/2023)، أعماله لـ”مفهوم الثقافة السياسية والثقافات السياسية في العالم العربي”، عبر ثلاثين بحثاً. وأهمية هذه الدورة في ناحيتين رئيسيتين: غياب موضوع الثقافة السياسية عن الأجندات البحثية العربية والمكتبات العربية، الأمر الذي يجعل من أعمال المؤتمر مادّة معرفية تصلح لأن يُبنى عليها لتأسيس مرجعية معرفية عربية حول الثقافة السياسية. .. نقد السردية التي تتبنّاها مراكز بحوث غربية مرتبطة بأجندات الدول الغربية بشأن افتقاد العرب والمسلمين بنيوياً ثقافة سياسية تسمح بنشوء الديمقراطية والليبرالية والعلمانية عربياً، على اعتبار أن الثقافة السياسية جوهر ثابت فوق تاريخي غير قابل للتغيير، وهي السردية التي تبنّتها الأنظمة العربية في لحظة اندلاع ثورات الربيع العربي، للتشديد على أن الشعوب العربية غير مؤهّلة للديمقراطية، وأن الاستبداد هو الصيغة السياسية المناسبة لحكم هذه الشعوب. وفي هذا الصدد، سعت بعض الأوراق البحثية لتفكيك المفاهيم المركزية للمقاربة التي تعتبر الثقافة السياسية جوهرانية غير متغيرة أو صعبة التغيير، مثل التراث العربي/ الإسلامي والعقل العربي والخصوصية الثقافية العربية، وعلاقتها بمفاهيم العقلية العربية، أو الثقافة السياسية العربية، أو عدم التوافق الثقافي التي تبناها بعض روّاد حقل دراسات الشرق الأوسط.

اشتبكت الأوراق البحثية المقدّمة في المؤتمر مع تحليلاتٍ عالميةٍ عديدة ترى أن الثقافة السائدة عموماً، أي ثقافة شعب بأكمله، أو ثقافته السياسية مباشرة، يمكن أن تؤثّر في تكريس النظم السياسية السلطوية. وتجادل أوراق المؤتمر بعدم وجود رابط سببي بين طبيعة نظام الحكم والثقافة التي هي متغيّرة عبر التاريخ من جهة، ومتعدّدة المستويات داخل المجتمع ذاته من جهة أخرى، وهذا ما يُلاحظه في العالم العربي منذ نحو عقد، حيث ثمّة تباين كبير في مستوى الثقافة السياسية داخل المجتمعات العربية بين من يطالب بنشوء الدولة الديمقراطية الليبرالية العلمانية، ومن يطالب بنشوء الدولة الديمقراطية ذات الخلفية الإسلامية ومن يدعم الاستبداد تحت عناوين مختلفة. وإحدى الخلاصات المهمة للمؤتمر أن الثقافة الديمقراطية السائدة التي تساهم في التزام سيادة القانون وحقوق المواطن والتعدّدية السياسية هي نتاج تطور تدريجي للنظام الديمقراطي ونشوئه على مراحل، بما في ذلك التعويد والتثقيف عليها، وهو ما استمرّ أكثر من قرن في الغرب.

تعد ورقة عزمي بشارة الافتتاحية “ملاحظات عامة حول الثقافة السياسية” بمثابة القاعدة المعرفية للمؤتمر، لكونه من أوائل المفكّرين الذين تعرضوا لمسألة الثقافة السياسية في كتابه “المسألة العربية” عام 2007، أولاً، ولأنه طوّر رأياً في هذه المسألة ثانياً. إنه يحاجج بأنه لا نستطيع إثبات علاقة ما بين مجمل أفعال الناس وثقافتهم السياسية هذه، ولا سيما في الحياة اليومية، وهذه عقبة كبيرة أمام الباحثين، فسلوك الناس في حياتهم اليومية ليس حصيلة توجّهاتهم ضمن ثقافة سياسية موحدة.

والموقف القائل إن الإنسان حرّ الإرادة، ومخيّر لا مسيّر، يواجه خيارات متعدّدة، ويصنع خيارات الأخلاقية بحرية، ليس تحليلاً فلسفياً لماهية الإنسان، باعتباره كائناً حرّ الإرادة واعتبار الحرية شرط الأخلاقية، بل يتضمّن حكماً أخلاقياً لما يجب أن يكون عليه الإنسان، وهنا تنشأ مقولة الـ”يجب” المعيارية.

الحرية مكون رئيس في مفهوم الإنسان إلى جانب الوعي والأخلاق، لكنها كامنة في الواقع كإمكانية في نفوس الأفراد، وتتحوّل من الإمكانية إلى الفعل في وعي حرية الإرادة وممارستها بتفاعل مع ظروف اجتماعية وثقافية، ووفق مستوياتٍ متطوّرة من الحسّ الأخلاقي. الحرية جوهر الإنسان يقول الفلاسفة، نعم، لكن ليس بالضرورة أن يخرج من الكمون إلى الفعل إلا بوعي حرية الإرادة وبمستوى معيّن من الأخلاقية، والإنسان ليس حرّاً في حياته اليومية، بل حرّ بالإمكانية إذا وعى هذه الإمكانية. .. هذه هي إضافة بشارة المخالفة للرأي السائد بين مفكّرين غربيين كثيرين.

واستناداً إلى هذه المقاربة، أهمية أن يكون النقد عربياً، بحسب الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والمشارك في المؤتمر، محمد حمشي، لا تقتصر على أنه ينبثق من سياق عربي انتقالي يقع، بفضل الانتفاضات العربية، على تخوم السياقات الاجتماعية السياسية التقليدية، بل تكمن أهميته أيضاً في أن عمل بشارة يقف على تخوم الحقول المعرفية الرئيسة التي يجري فيها تداول الخطاب، ما يجعله قادراً على العبور بينها من دون الانغلاق على نفسه ضمن إحداها دون الأخرى.

غير أن أهمية المؤتمر تبدو مضاعفة بتركيزه، ليس على مستوى مناقشة إشكالية مفهوم الثقافة السياسية بشكل عام فحسب، بل على تناوله الثقافة السياسية في مجتمعاتٍ عربيةٍ معينة (المصري، التونسي، السوري، الجزائري، المغربي). وفي ذلك، تناول محمد النعيمي بالدرس والتحليل موضوع الثقافة السياسية لدى الجمهور السياسي العربي في أثناء موجتي 2011 و2019 من الانتفاضات العربية، وبيّن كيفية بناء الفعل الجمعي، وتفكيكه داخل الفضاء الاحتجاجي العربي الذي ما برح الجمهور العربي يتملكه، وذلك في ارتباط وتفاعل مع الثقافة(ات) السياسية السائدة في العالم العربي. وما يبرّر هذا الاتجاه أن جل الأدبيات العربية والأجنبية المتعلقة بالحركات الاجتماعية في سياق الانتفاضات العربية بنسختيها الأولى والثانية كادت تهمل كلياً مستوى المايكرو بأبعاده الثقافية (معارف، وعواطف وانفعالات، وقيم، وغيرها) في تلك الحركات لفائدة مستوى الماكرو بأبعاده البنيوية، ولا سيما ما يتعلق بتعبئة الموارد وبنية الفرص السياسية. وبهذا، ليست الثقافة السياسية متغيّراً تابعاً كما في الأطروحة المادية الاقتصادوية الماركسية، ولا متغيّراً مستقلاً كما يرى غابرييل ألموند وسيدني فيربا، بل هي عامل مثل سائر العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تؤثر في الواقع السياسي وتتأثر به.

وقد بدا اعتبار الثقافة السياسية عاملاً متغيراً بوضوح من خلال الأوراق البحثية بالتركيز على سياقات عربية محلية، مثل سياق الانتقال الديمقراطي في تونس، بالتركيز على مكوّنات الثقافات السياسية للأحزاب التي اشتملت على ما هو موروث، كثقافة الغنيمة وعودة الأبوية والثقافة الاستبدادية والزبونية السياسية الاختيارية وهيمنة الثقافة السياسية الرعوية التي تقدّس القائد والأب المنقذ، والاسترزاق السياسي، إلخ. وأيضاً في السياق السوري، بالتركيز على السؤال الأيديولوجي الأساسي، لماذا يمتلك بشار الأسد مؤيدين؟ وفي السياق الجزائري، بإلقاء الضوء على العلاقة بين الثقافة السياسية وبنية التصدّعات الاجتماعية، وأثر ذلك في تأييد الديمقراطية، وأهميتها المعتبرة في معرفة الوضعية القائمة للتوجّه نحو الديمقراطية. وفي السياق المصري، حيث أدّت ثورة يناير إلى نشوء ثقافة سياسية جديدة لدى الشباب النوبيين، أسهمت قيم تلك الثقافة ومعاييرها في إحياء قضية العودة. وفي السياق المغربي، من خلال وجود محدّدات ثقافية وتاريخية ودينية لعلاقة النخبة بالمؤسّسة الملكية، ضمنت حيزاً مهماً وثابتاً في الثقافة السياسية للنخب على اختلاف مرجعياتها، بما يجعل مصادر المشروعية التاريخية والدينية التي تحوزها المؤسّسة الملكية أقوى من مصادر المشروعية التي تستمد منها النخب خطابها وممارستها السياسية.

نقد الأوراق البحثية لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية اعتبار الثقافة السياسية جوهراً ثابتاً من جهة، ومعاينتها التغيرات الحاصلة إمبريقيا في الحالات العربية منذ عام 2011 من جهة ثانية، يقدّم للباحثين والمهتمين الأدوات المعرفية اللازمة، ليس لتتبّع المتغيرات الحاصلة في الثقافة السياسية العربية على مستوى النخب والجمهور فحسب، بل، وهذا هو الأهم، في قدرة المثقفين والباحثين من مراكمة القدرة على التأثير في الثقافة السياسية للجماهير.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى