الناس

الطابور في الزمن السوري/ سوسن جميل

في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، في أواخر عهد الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، الذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي وتغيُّر خارطة العالم، كانت أولى خبراتي الفعلية في “الطابور”. كان قد لفتني مشهد رتل طويل من الناس يتعرج في الساحة الحمراء مثل أفعى زاحفة، رتل طويل يبدو أنه لا يقصُر، لم يكن غير الأشخاص المنتظرين من أجل الوصول إلى ضريح زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين، ولقد زاد بفضولي حينها ذاك المشهد بليغ الدلالة لأن أزور الضريح، وأعيش حالة الطابور، من دون التفكير في معادلة “هل يستحق هذا العناء أم لا”.

لم نكن نعرف الطابور في سورية حينها إلاّ كسلوك جماعي مفروض من الأعلى، نمارسه في المدارس كتنظيم لدخولنا إلى قاعات الدرس، ثم بعد ذلك من أجل تحية العلم وترديد شعارات البعث: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، ثم العزم الجماعي على تحقيق أهدافنا في الوحدة والحرية والاشتراكية. زاد عليه لاحقًا، بعدما أنشئت منظمة طلائع البعث واضطلعت بدورها في مسؤولية عن تربية النشء منذ نعومة أظفارهم، ترداد نشيد البعث، ثم “قائدنا إلى الأبد”. أما الصورة النمطية الراسخة بالنسبة إلى الطابور فكانت فيما يتعلق بالجيش والعسكر، عندما كنا نراهم على الشاشات، وقبل الشاشات ما رسخ في الذاكرة الجمعية من رؤية بصرية أثناء السوق إلى التجنيد أو المعارك، كما تقول أغنية المطرب اللبناني إيلي شويري “صف العسكر رايح يسهر مع العسكر فوق جبال”، فتلامس هذه الأغنية شغاف قلوبنا المسكونة بالحزن وانكسار الهزيمة، من دون أن نعرف طرح الأسئلة عن هزائمنا المتلاحقة.

الطابور يشرح معناه المعجم أنه فوج من العسكر يقارب عدده المئة عنصر، وهو ككلمة تتردد باستمرار على ألسنة الناس وفي الإعلام وفي الخطابات السياسية ومماحكات المحللين، لكن أكثر كلمة كانت تكرر هي عن الطابور الخامس، خاصة في البلدان التي تحكمها أنظمة شمولية تحاصر الحريات وتغيب فيها معالم الدولة الحديثة وتنتقص الحقوق، إذ يبدو هذا المفهوم سلس القياد والاتكاء عليه من أجل تبرير السياسات وتحميل طرف آخر مسؤولية أي تقصير أو خلل.

في الدول الحديثة تسود الطوابير في المدن، ولم يعد ما قال الروائي جورج أورويل يشكل ملاحظة فريدة ساخرًا من حب البريطانيين للاصطفاف تأكيدا لأولوياتهم: إن الأجنبي سيفاجأ برغبة الإنكليزي في تشكيل طابور، أو الوقوف في الدور. إذ صار الطابور سلوكًا بشريًا حاضرًا بقوة في العالم المعاصر، حتى إنه وصل إلى الفضاء الرقمي، وصار بحد ذاته علمًا يشتغل عليه الكثير من الاختصاصيين في العالم. والطابور القائم على الانتظار بشكل أساسي، هناك أسباب لتشكُّلِه، كالرغبة أو الحاجة إلى الحصول على سلعة ما أو خدمة ما، وهذا يعتمد على أهمية السلعة أو الخدمة، وعدد الشريحة التي تحتاجها، وعلى مدى توفر هذه السلعة وتناسبها مع الطلب والقدرة على تأمينها، وتعتمد على الإمكانات الخدمية المتوفرة من أجلها كالعنصر البشري مثلًا، البنى التحتية المتوفرة لأجلها، أو الخدمات الرقمية، أو درجة الوعي بحاجة المستهدفين والحرص على توفير الخدمات بكفاءة أعلى. عناصر كثيرة تشترك في تشكيل الطابور، لكن يبقى العنصر المهم هو الوقت المنفق في الانتظار وعلاقته بالزمن.

الزمن ليس رخوًا أو مائعًا كما رسمه سلفادور دالي في لوحته الشهيرة “الزمن” أو “ثبات الذاكرة”، هو إحساسنا به ليس أكثر، لكن هل بقي الإحساس كما صوّره وكما كان سائدًا قبل قرن تقريبًا؟ صار الزمن في عصرنا حارقًا سريعًا يرمي بإنسان هذا العصر في غربة موحشة واضطراب روحي، وإذا كان الزمن مفهومًا وضعيًا وضعه الإنسان منذ بدأ بوعي ذاته والعالم، يقوم على توالي الأحداث المستمر منذ الأزل إلى الأبد، أي من اللانهاية في الماضي إلى اللانهائية في المستقبل، فإنه مرتبط بالأعمار وسؤال الموت، أي باللغز الوجودي الذي رافق الإنسان وملأه بالقلق، وبحسب هذا الفهم النيوتوني له، إلى أن جاءت النسبية وانتهكت قدسية هذا الفهم وأصبح انطلاقًا من هذا المفهوم لكل جملة فيزيائية زمنها الخاص. ويبقى الزمن أكثر ما يؤرق البشر خاصة في زمن الموت الرخيص كما لدى الشعب السوري وأمثاله ممن يعيشون في أكثر الظروف قسوة ومهانة.

الزمن مفهوم إنساني وهو اختراع بشري، يُبنى في وعي الإنسان وفق مدخلات كثيرة، وبموجب ترتيب أحداث، وهو يعتمد في تحصيل أدوات تشكله كمفهوم، على حواسنا خاصة البصرية منها، لكنه يبقى في المحصلة مفهومًا مجردًا بالرغم من استحالة حياتنا بدونه، وانقسام الفلاسفة حوله، أما بالنسبة لبقية المخلوقات فلا إدراك للزمن لديها بالرغم من تفوقها في التقاطه، كما تقول الباحثة ألكسندرا هوروبيتس، مؤلفة كتاب “أن تكون كلبًا”: نفرز باستمرار جزيئات الرائحة مثل سحابة صغيرة وراءنا، وتتبد تلك الجزيئات مع مرور الوقت، ومن هذا المنطلق يمكن تصور الزمن بوصفه أحد أبعاد الرائحة. وباعتبار أن الكلاب تتفوق علينا، نحن البشر، كثيرًا بعدد المستقبلات الشمية (300 مليون خلية لدى الكلاب بينما يمتلك الإنسان خمسة ملايين)، فإنها لا تسمح لها باكتشاف الروائح والهرمونات غير المرئية بالنسبة لنا فحسب، بل بتحديد تراكيزها أيضًا، أي إنها بهذا المعنى لديها مهارة فريدة وهي “شم الوقت”.

فالكلاب لا تكشف “من” و”ماذا”، بل تكشف “متى” أيضًا. هل يحق لنا أن نحسد الكلاب على ما تمتلكه ونفتقر إليه مما يحمي من القلق؟ ماتياس دوارتيه، نائب رئيس قسم مواد التصميم في غوغل، يقول: إن الانتظار الإلكتروني يعد ظاهرة محتومة وتتفاقم، شأنه شأن الانتظار في الحياة الواقعية. وهو يعمل منذ سبع سنوات على إيجاد ابتكارات تصرف انتباهنا عن هذه الانتظارات. ويقول: إن العقبة الحقيقية تكمن في إدراك الإنسان للزمن.

تقول سيلفي دورا فوليت، أستاذة علم لنفس في جامعة كليرمون/ فيران – فرنسا: قد تكون ساعاتنا الداخلية اعتباطية إلى حد كبير. تعتقد أنها حددت أحد العوامل الرئيسية المسؤولة عن خطأ تقدير الوقت هي المشاعر، خاصة المركزة منها. فالغضب والخوف والاشمئزاز مثلا تدفع الجسم إلى ردود الفعل، الأمر الذي يسرّع ساعاتنا الداخلية ويؤثر في تقديرنا للفترة المنقضية، فنشعر أن الزمن الخارجي قد تباطأ في تقييمنا للحدث المنصرم.

ريتشار لارسن، المختص بعلم البيانات والنظم والمجتمع في معهد ماساتشوستس، اضطر في إحدى المرات إلى الانتظار في طابور أحد المخازن عندما كان أودع إيصاله لاستلام دراجة اشتراها لابنه، نتيجة المشاعر التي انتابته بسبب الطابور قرر ترجيع الدراجة وعدم التعامل مع المتجر مستقبلا، كان ما أزعجه تحديدًا هو خروج الناس قبله وقد كانوا أتوا بعده، فقدم ورقته البحثية عام 1987 تحت عنوان “علم نفس الوقوف في طابور الانتظار والعدالة الاجتماعية”.

الزمن، والانتظار، والعدالة الاجتماعية

عندما كانت الموارد متوفرة ومتاحة وتكفي احتياجات السوريين، لم تكن هناك حاجة إلى الطابور، شيئًا فشيئًا تسللت أمور إلى حياتهم، وشيئًا فشيئًا بدأت الهوة تتسع وتزداد عمقًا بينهم وبين حكوماتهم المتعاقبة، وبدأت ملامح مراحل جديدة تتسم بالجمود السياسي والقمع والفساد وإبعاد الناس عن صنع القرارات، وبالتالي بدأت الأزمات في مستويات عديدة، صار الحصول على خط هاتف ثابت يتطلب الانتظار سنوات قد تصل إلى عشرين، لكنه متوفر وجاهز لمن يدفع رشوة أو لديه وساطة ما أو نفوذ ما، وصارت الوظائف وفرص العمل محدودة وهناك جيش من المتخرجين العاطلين عن العمل لا يحظون بالفرصة بالرغم من كل المسابقات التي يعلن عنها لكن الوظائف تغور في أنفاق سرية، وصارت السلع غير متاحة بما يتناسب مع الحاجة والطلب، وصارت الخدمات العامة محكومة بالبيروقراطية والمحسوبيات والترهل الوظيفي، وكثير من الأمور يمكن عرضها في الخانة نفسها، فاعتاد الشعب على التجمع والحشد والازدحام، لم يكن الطابور يصلح لأن ينظم دور المحتشدين، فهم مسبقًا فاقدو الثقة بأن الخدمة المرجوة أو السلعة المطلوبة ستصلهم فهي أقل من الحاجة، ومسبقًا يعرفون أنها تتسرب في مسارب معلومة، وأن هناك من يحتكر قسمًا منها ويبيعها لقاء أرباح عالية، ويعرفون أنه في أية لحظة يمكن أن يأتيهم من يشبح عليهم ويتجاوزهم ليأخذ دور غيره ونصيب غيره، فكيف سيصح الطابور مع تلك الآلة؟

أما اليوم، فغني عن الشرح والوصف ما يؤول إليه عيش السوريين بعد سنوات عشر من الحرب اللئيمة والمتاجرة بأرواحهم وممتلكاتهم وأمكنتهم ومستقبل أبنائهم، وانهيار الليرة واقتصاد البلد بعد أن ابتلعت الحرب موارده في التسليح، وقوانين العقوبات الأوروبية وقانون قيصر. السوريون اليوم يحتاجون لقمة الخبز وغاز الطبخ ومحروقات التدفئة والتنقلات، ويخيم فوق أرواحهم غول الحاجة والفقر وكورونا، لكنهم يتزاحمون، ينتظرون وكأن أعمارهم خلقت من زمن آخر لا علاقة له بزمن البشر، ينتظرون أمام الأفران، أمام كوات البيع في المؤسسات، يتزاحمون وتبدأ المشاعر الضاغطة المركزة القائمة على الخوف من شبح الجوع والبرد، ومن احتمال أن يأتي الغد وأطفالهم بدون الخبز، يجعلهم ينقضّون على بعضهم البعض، بينما تجاوزات المتجبرين بهم تُمارس بكل صفاقة، بمنتهى التشبيح والازدراء بكراماتهم، فتصل النفوس إلى ذرى غير مسبوقة من الغضب والقهر، يفجرونها في وجوه بعضهم البعض، فنسمع بين حين وآخر بمصابين وقتلى نتيجة صدامات من هذا النوع في حالات الازدحام هذا. وإذ تتدخل الجهات المسؤولة لفرض إجراء تنظيمي هو “الطابور” فإنها تنجزه بصورة بالغة الدلالة عن قيمة المواطن الرخيصة، إذ تحشر المواطنين في أقفاص أو خلف شبك كما لو كانوا قصّرًا أو مرتكبين، وكل هذا من أجل الرغيف، الرغيف المعجون بالذل والكرامة المنتهكة والكبرياء المحطمة، والفاقد لمقومات الرغيف اللائق بالكرامة الإنسانية، لا تنطبق على السوري اليوم قواعد أو استقراءات سيكولوجية التسعير في الاقتصاد السلوكي، فهو يحتاج فقط إلى الخبز وعدد قليل من المواد الغذائية التي تسد رمقه، ينفق عمره “الرخيص” على كل حال في سبيلها.

“نسبة كبيرة من قراراتنا نأخذها بدون تفكير باستخدام وسائل يطلق عليها في علم النفس (الاستدلالات السريعة heuristics)؛ وهي مجموعة من الاختصارات العقلية التي تتيح اتخاذ قراراتنا اليومية بصورة سريعة، لكن للأسف تؤدي هذه الاختصارات أحيانًا إلى العديد من الأخطاء أو القرارات غير المنطقية”- هذا ما يقوله أحد المقالات في سيكولوجية التسعير في الاقتصاد السلوكي، لكن بالنسبة إلى السوري هذا يحدث في مكان آخر، في عالم الغيبيات على الأرجح، العالم البعيد الذي لم يعد السوري يمتلك القدرة على التفكير فيه، يتحكم مزاج الحرب وتجارها وسماسرتها وزبانيتها في التسعيرة. فمعركته صارت مع الزمن الذي يفصله عن الموت، ليس كقضية وجودية تسبب الأرق جديرة بالتمعن والتفكير، بل كوحش يتربص به أقرب إليه من الحياة ومن نبض قلبه، لذلك صار الزمن بالنسبة إليه حدثًا وحيدًا دائم الوقوع، لا انقطاع فيه، انتظار الرغيف، لم يعد مفهومًا فلسفيًا أو ميتافيزيقيًا أو فيزيائيًا، لم يعد أعمارًا ميدانها الحياة، لم يعد كذلك سرمديًا يمتد بين اللانهايات، صار الزمن متخثرًا يلتصق بروحه، مشاعره المركزة في هذا الحيز الضيق الذي يبتلعه مثل لجة حارقة مع انسداد الأفق واليأس المطلق تجعل من الطابور أمرًا بلا جدوى، لا يستحق عناء ممارسته، طالما انتظاره سيكون بلا طائل في الغالب، وأن هناك من سيتجاوزه بينما ينفق ساعاته في تقطيع زمنه القصير المتخثر منتظرًا “غودو” الذي تأخر كثيرًا، يبقى الازدحام حالة أكثر فاعلية، فهي على الأقل تحيل الانتظار إلى لعبة قتالية، حتى لو كان يقاتل طواحين الهواء، لكن في النهاية قد تسقط فيها ضحايا، وربما هي نوع من الانتحار الموارب، بعد أن لم تعد أمامه عقبة اسمها إدراك الزمن.

معركة السوري صارت مع الزمن الذي يفصله عن الموت، ليس كقضية وجودية تسبب الأرق جديرة بالتمعن والتفكير، بل كوحش يتربص به أقرب إليه من الحياة ومن نبض قلبه                    

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى