أبحاث

أيّ السيناريوهات يحقق إعادة إعمار سورية؟/ سمير سعيفان

حلم السوريين بقرب انفراج أزمتهم:

يشكّل دخول سنة جديدة مناسبةً كي يتطلّع السوريون إلى قرب وضع حدّ للمأساة السورية التي لم يشهد عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ما هو أشدّ هولًا منها. وبسبب هول ما واجهه السوريون، بات جزءٌ كبيرٌ منهم يرحّب بأيّ حلّ كان، وإنْ كان يتضمّن بقاءَ بشار الأسد ونظامه، كي يرَوا نهاية لمآسيهم الشخصية ومآسي أسرهم التي امتدت إلى عقد من الزمان، حتى اليوم، وأملًا بأن تبدأ من بعد ذلك مرحلة “إعادة الإعمار”، كي يستعيدوا شيئًا مما فقدوه، ويستعيدوا بيوتهم وممتلكاتهم وأعمالهم وما تبقّى من أهاليهم.

وإن كنّا نتفهّم هذا الميلَ الذي ينمو لدى جزءٍ من السوريين حتى الذين نهضوا ضد النظام ونالهم اضطهاده بطرق شتى، فإننا نودّ التأكيد أنْ لن يكون لأيّ حلّ سياسي انعكاسٌ إيجابيٌ على حياة السوريين، ما لم يترافق مع إعادة الإعمار، ومن دون ذلك، ستستمر الكارثة، ولن يتم إنتاج الشروط المادية والمجتمعية والسياسية اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين، ولن تكون هناك إعادة بناء للمساكن ولا للبنية التحتية، ولن يكون ثمة فرص عمل ودخول وغيرها من الشروط المادية، إضافة إلى الشروط المجتمعية والسياسية.

لذا، سنمضي في تحليل مكثّف للسيناريوهات المحتملة لتطوّر الأوضاع في سورية، ونحلّل بإيجاز سيناريوهات الحلّ السياسي، لننظر أيّها يحقق الشروط اللازمة لإعادة الإعمار الشاملة، ونحلل أثر كل سيناريو منها على إعادة الإعمار، وأيّها يجلب معه إعادة الإعمار، وأيّها يُغلق الطريق في وجه إعادة الإعمار.

ما هي إعادة الإعمار:

كي تكون لدينا رؤية صحيحة، لا بدّ من أن نرى إعادة الإعمار بحجمها الحقيقي وأبعادها الكلية، فهي عملية شاملة واسعة كبيرة، تشمل عددًا من الصُعد:

     – إعادة الإعمار المادي:

 وتشمل إعادة إعمار أكثر من مليون بيت مهدّم تهديمًا كاملًا، وإصلاح مليون بيت آخر متضرر بشدة، إضافة إلى عدد كبير من المدارس والمشافي والمباني العامة والطرق، ومجمل منشآت البنية التحتية والمصانع والمنشآت والأراضي الزراعية وغيرها، بتكاليف عالية قدّرتها -مبدئيًا- تقارير مختلفة بحدود 200 مليار دولار وأكثر.

    – إعادة الإعمار المجتمعي:

وهي مسألة مهمّة جدًا، بعد التهديم الكبير الذي لحق بالمجتمع السوري، وأنتج 13 مليون لاجئ ونازح سوري، ومليون قتيل، وخلّف مئات آلاف الأسر من دون معيل، ومئات آلاف المعوقين، وأدى إلى انتشار الجريمة وتوسع الفساد وازدياد التمذهب وغير ذلك من مظاهر سلبية ظهرت آثارها في كثير من جوانب الحياة. وقد أنجز مركز حرمون دراسة واسعة حول الدمار المجتمعي، بيّنت الحجم الهائل لهذا الدمار الذي ستكون معالجته أكثر تعقيدًا من إعادة الإعمار المادي.

    – إعادة الإعمار السياسي:

 وهي المدخل الرئيس لإعادة الإعمار ولفتح باب المستقبل أمام سورية وشعبها، وهي تطرح أسئلةً عديدة عن طبيعة النظام السياسي الذي سيحكم سورية، أهو برلماني أم رئاسي (مع النظر إلى ما سببه النظام الرئاسي من مآسٍ)، أم هو خليط بين الرئاسي والبرلماني، وعن طبيعة النظام، بين مركزي ولا مركزي، وطبيعة العلاقة بين السلطات التشريعية والدور الفاعل لمجلس النواب، والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية التي فسدت، وعن إعادة الحياة الحزبية النشطة الحقيقة لسورية، وإعادة إحياء دور النقابات الرقابي، وضمان حيادية الأمن والجيش تجاه الحياة السياسية. فمن المستحيل أن يستمر النظام ذاته في الحكم، وتستمر الأوضاع التي كانت سائدة في سورية قبل 2011، ولا مجال للتفصيل في ذلك.

    – إعادة الإعمار الإداري:

وهي عملية واسعة تشمل إعادة بناء الإدارات العامة، في المناطق التي خرجت من سيطرة النظام، وغابت عنها الإدارات الحكومية بخدماتها وأدوارها، وتشمل أيضًا إعادة رسم للإدارة العامة “إصلاح إداري”؛ فالنظام الإداري القائم قديم، وقد صيغ بعقلية أمنية على مدى أربعة عقود، وأعاق نشاط السوريين المادي والروحي، ولذلك تحتاج سورية إلى نظام إداري عصري، لإدارة مؤسسات الدولة والمجتمع. ويجب أن تشمل عملية الإعادة تعميق دور الأجهزة الرقابية على الإدارة، وتوسيع صلاحيات المحاسبة الإدارية.

    – إعادة الإعمار الاقتصادي:

تحتاج سورية إلى عملية إعادة إطلاق النشاط الاقتصادي الذي لحق به دمار عظيم في قطاعاته كافة، وبلغت الخسائر المادية، مع كلفة فوات فرص النمو، أكثر من 400 مليار دولار، وتُعدّ هذه العملية ركنًا أساسيًا في صنع مستقبل سورية، ويرتبط بها جانبٌ آخر مكمل، وهو تصميم نظام اقتصادي يحقق القدرة الإنتاجية المرتفعة، ويحقق توزيعًا أكثر عدلًا للدخول، ويرسم أدوار أطراف العقد الاجتماعي الثلاثة بشكل سليم (المجتمع وقطاع الأعمال والسلطة) ويعالج البنية المشوهة للاقتصاد السوري التي سادت قبل 2011، إذ إنه صُمّم لخدمة مجموعات نافذة وبقي محكومًا بسيطرة إدارية وأمنية تعسفية، تسببت في هدر طاقات الاقتصاد السوري الكبيرة، نتيجة فشل الإدارة الاقتصادية والخدمية.

    – إعادة الإعمار القانوني:

لا يمكن بقاء البنية القانونية المشوهة والجهاز القضائي الفاسد في معظمه، وهو يخضع لسلطة أجهزة الأمن، ولا بد من عملية إصلاح قانوني وتشريعي جديد، ينظم حياة المجتمع السوري من كل الجوانب، وينسجم مع العصر ومع متطلبات إعادة الإعمار الشاملة، بدءًا من الدستور ومرورًا بالقوانين الرئيسية والفرعية، وانتهاءً بالتعليمات التنفيذية، بما يحقق بنية تشريعية سليمة ومستقرة، ويضمن سيادة القانون ونزاهة القضاء وكفاءته.

    – إعادة وحدة سورية:

لا قيمة لإنجاز كلّ العمليات السابقة، ما لم تُستعَد وحدة سورية كاملة، وقد باتت اليوم مقسّمة إلى أربع مناطق سيطرة، من دون أن يُقتطع أيّ جزء من الأرض السورية، تحت أيّ مسمّى أو زعم، ويجب أن تعود سورية دولة واحدة، بسلطة مركزية واحدة، وبنظام لامركزي إداري موسع، يمنح المحافظات سلطات فعلية أوسع في إدارة شؤونها المحلية، من بينها انتخابُ المحافظ من بين أبنائها، وأن يكون لها مواردها المالية الذاتية الكافية.

فوق كل ما ذكرناه أعلاه، تحتاج عملية إعادة الإعمار الشاملة إلى مناخ وطني سوري ملائم، يحقق نوعًا من المصالحة الوطنية بين السوريين، ولا شك في أن هذا لا يتحقق من دون “عدالة انتقالية“، تنزع فتيل الرغبة في الانتقام، وهي عملية تحاسب القادة الذين أعطوا الأوامر بالقتل، ويجب أن تشمل عملية المحاسبة جميع الضالعين في الجرائم المرتكبة، سواء أكانوا موالاة أم معارضة، ولا يمكن لأْم الجراح من دون تحقيق هذه العدالة الانتقالية، ولكن يجب أن تبقى ضمن حدود، وألا تتحوّل إلى ما يسمى “عدالة تصالحية”، أي “عفا الله عما مضى”، و “المسامح كريم”؛ فلا يحاسَب عندئذ أحد! كما يجب ألا تتحول إلى “عدالة انتقامية”، وإلى عملية أخذ بالثأر على طريقة القبائل قديمًا!

كلّ هذا لن يتحقق من دون العمل على إعادة الاستقرار، وذلك بطرد جميع الميليشيات غير السورية من سورية، وحلّ جميع الميليشيات والفصائل السورية، سواء أكانت موالاة أم معارضة، وحصر السلاح بيد الدولة، وإعادة هيكلة مؤسستي الجيش والأمن، لتؤدي دورًا وطنيًا محايدًا عن السياسة والسلطة وتجاذباتها، يعيد الاستقرار وحفظ الأمن لسورية، ويجب أن يترافق ذلك مع مغادرة جميع القوات غير السورية، من سورية.

إن عملية إعادة الإعمار الشاملة -كما تبيّن من عرض جوانبها، هي عملية واسعة وكبيرة ومعقدة، وتحتاج إلى موارد مادية وبشرية هائلة، وإلى دعم مادي وسياسي عربي وإقليمي ودولي، ويأتي حجم التمويل الهائل في مقدمة هذه المتطلبات. ويمكن القول باختصار: إذا توفّر دعم سياسي ومادي عربي وإقليمي ودولي؛ فإن إعادة الإعمار ستكون ممكنة، ولكنها تظل عملية مكلفة جدًا وصعبة جدًا ومعقدة جدًا، وتستغرق العديد من السنوات. أما إذا لم يتوفر هذا التوافق على الدعم السياسي والمادي العربي والإقليمي والدولي؛ فإن إعادة الإعمار برمتها لن يكون لها مكان، وستبقى مجرد حلم.

والسؤال هو: أيّ السيناريوهات يحقق هذا التوافق وهذا الدعم السياسي والمادي العربي والإقليمي والدولي لعملية إعادة الإعمار الشاملة في سورية؟

السيناريوهات المحتملة في سورية:

من خلال تحليل عام مكثف؛ يمكن توقع ثلاثة سيناريوهات محتملة في سورية:

أولًا – سيناريو “اللاحل”

وهو عدم التوصل إلى حلّ سياسي، واستمرار الوضع الحالي من توزع سورية بين سيطرات مختلفة: إيرانية وروسية وتركية وأميركية (في منطقة PYD)، حيث يوجد على الأرض السورية الآن، بحسب خريطة نشرها مركز جسور قبل أيام، 476 قاعدة وموقعًا عسكريًا أجنبيًا، تتوزع كالتالي:

عدد القواعد والمواقع العسكرية      الجهة    الانتشار

33        التحالف الدولي   في 3 محافظات

83        روسيا    في 12 محافظة

113       تركيا      في 5 محافظات

131       إيران      في 11 محافظة

116       “حزب الله”          في 11 محافظة

ومن يتصوّر أن هذا الوجود المتداخل والكثيف يمكن أن ينتهي من دون توافق سياسي دولي؛ يكن واهمًا، وإن أكبر الواهمين مَن يظنون أن هذا الوضع يمكن أن ينتهي بتنظيم بشار الأسد لانتخابات رئاسية مسبقة الصنع صيف 2021!

مع “سيناريو اللاحل”، ستستمر الأوضاع الحالية، وستشهد عملية إعادة الإعمار بعض الأعمال المتفرقة التي يقوم بها كلّ طرف في مناطق سيطرته؛ فالأميركيون يدعمون جهود PYD في مناطق سيطرته شرق الفرات، وثمة مؤسسات أميركية وأوروبية تقدم دعمًا وتقوم بتنفيذ بعض المشروعات، ويستفيد PYD من وجود موارد نفطية تحت تصرفه بما يمكنه من فرض سيطرته، وتسيير بعض الشؤون العامة بالحد الأدنى، وفق طريقته وغاياته التي ترمي إلى تقسيم سورية في الأمد البعيد أو القريب، ولا مصلحة لـ PYD في تحقيق أي حلّ سياسي في سورية، وسيضطر إلى قبول ما يُعرض عليه، في حال خروج الأميركيين من سورية، وهذا لا يبدو في الأفق الآن.

وفي مناطق ريف إدلب وريف حلب، تقوم تركيا في مناطق سيطرتها الثلاث: (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، ببعض أعمال البنية التحتية، وتعمل لبناء مؤسسات إدارية تقدّم الخدمات للمواطنين بالحد الأدنى، وتشرف مؤسسات تركية على هذه الأعمال، أما في مناطق سيطرة (جبهة النصرة) في إدلب وريفها، فلا يوجد أي أعمال تذكر، وتستمر “النصرة” في فرض نمط تنظيمها المجتمعي المتزمت الغريب عن المجتمع السوري.

وتبقى مناطق سيطرة النظام هي المناطق التي تشهد أسوأ الأوضاع، وخاصة الأوضاع المعيشية للسوريين في تلك المناطق، حيث تُفتقد مقومات الحياة الكريمة، ويكفي أن نذكر أن الرواتب الشهرية باتت بين 15 و 50 دولارًا، في الشهر، لمعظم المشتغلين، عدا قلة منهم، ومعظمهم معيل لأسرة. وهذا السيناريو الاستمراري يعني استمرار الأوضاع المأساوية للسوريين في مناطق سيطرة النظام بخاصة، ولا تقدّم إيران وروسيا دعمًا ماديًا إلا بالحدود اليسيرة، لكونها تركز دعمها على الدعم العسكري، أي على الهدم لا على البناء. ويهمها الاستحواذ على عقود فاسدة احتكارية طويلة الأمد، تفيدها في حال تحقق أي حل سياسي لاحق وبدء أي عملية إعادة إعمار وفق أي سيناريو آخر، أو المشاركة في تشغيل استثمارات راهنة سريعة المردود. وإن الرهان على روسيا وإيران في موضوعات إعادة الإعمار هو رهانٌ خاسر، وإن انتخابات بشار الأسد في صيف 2021 لن تغيّر من شيء في هذا الواقع المأساوي.

وببساطة، مع هذا “السيناريو الاستمراري”؛ لن يكون ثمة إعادة إعمار، وسيستمر الوجود الأجنبي، كما هو الآن، ولن تعود سورية موحدة، ولن يكون ثمة اقتصاد موحد، ولن يكون ثمة عودة للاجئين والنازحين، ولن يطلق سراح معتقلين، ولن يكون ثمة إعمار فعلي من أي نوع كان، وستستمر الكارثة السورية، وسيدفع الشعب السوري مزيدًا من الأثمان الباهظة.

ثانيًا – سيناريو الحل الروسي

بفرض أن الولايات المتحدة، مع تسلّم إدارة بايدن الجديدة زمام الأمور، أدارت ظهرها للملف السوري، معتبرة أن سورية من حصة روسيا من جهة، وأن مصالح الولايات المتحدة في سورية محدودة ولا تستحق كلّ هذا العراك، وأن بايدن قرر العودة إلى مفاوضات النووي مع إيران، وقرر الاستجابة لشروط إيران في ملف التفاوض، بأن يكون لإيران وجود في سورية، وقرّر الانسحاب من شرق الفرات، وترك PYD يواجه مصيره، مع فرض شرط على الروس بمنح حكم ذاتي ضمن المناطق التي يشكل فيها الأكراد أغلبية، وهي ثلاث مناطق منفصلة غير متصلة ببعضها، ولكن ضمن إطار الدولة السورية وعودة سيطرة النظام لشرق الفرات.

سيؤيد الروس انسحاب الأميركان، وهم يأملون ذلك، ويرون أن مسار اللجنة الدستورية هو المسار المناسب، لما له من دلالة شكلية على أنه تنفيذ لقرار مجلس الأمن 2254، بعد أن فسروه بطريقة أفرغته من محتواه، وجعلته مجرد عملية صياغة دستور، تحضيرًا لانتخابات يستطيعون التحكم فيها وفي نتائجها، إذ تشرف عليها الأمم المتحدة، ولكن النظام هو من يديرها، بينما سيُعدّ فشل الدستورية فشلًا للدبلوماسية الروسية التي دفعت بهذا التفسير الأحادي للقرار 2254، وستكون نتائج الانتخابات معروفة، وهي إعادة انتخاب الأسد، وسيعمدون إلى تشكيل حكومةٍ فيها عدد من الوجوه المعارضة، وسيستقدمون عددًا من الشخصيات المعارضة، لتسميتهم كمحافظين ومديرين لبعض المؤسسات العامة، وسيطلقون سراح من تبقى في سجون النظام، أو من قبضوا عليهم أخيرًا كي يطلقوهم بالمناسبة، وسيُخرج كلّ هذا مع ضجة إعلامية كبيرة، ويقدمون ذلك على أنه “حلّ سياسي سوري سوري”، ثم يتقدمون نحو دول العالم كي تعيد الاعتبار للنظام ورئيسه الجديد بشار الأسد، بأن يساعدوه في إعادة الإعمار.

وعلى الرغم من تخلي الإدارة الأميركية عن سورية، وفق هذا السيناريو، فإنها لا تنوي مساعدة روسيا في سورية، كي تحقق قصة “نجاح” في تدخّلها في سورية، بل على العكس تريدها أن تغرق أكثر هي وإيران في “الوحل السوري”، وعلى ذاك؛ ستُبقي أميركا، ومعها أوروبا وبعض بلدان أخرى كذلك، العقوبات المفروضة على سورية، وسيستمرون في وضع فيتو على تمويل إعادة الإعمار، وعلى إعادة العلاقات الدبلوماسية مع النظام، ويدعمون استمرار الوجود التركي شمال غرب في سورية، مطالبين بتطبيق إعلان جنيف وقراري مجلس الأمن 2118 و 2254، وبحدوث انتقال سياسي وقيام حكم وطني، دون أن يضغطوا كفاية على روسيا، لأنهم يريدونها أن تبقى مع إيران متورطة في سورية دون حلّ، من دون أن تكون لهما القدرة على الانسحاب، ولن يسمحوا لهما بتحقيق قصة نجاح، كي يكون ذلك درسًا لهم ولكل من يستعين بهم. وعلى الرغم من أن بعض الدول العربية والأوروبية الصغيرة، وبعض الدول الأخرى، سترى في ما حدث تبريرًا وشرعنةً لإعادة علاقاتها مع النظام، فإن هذا التعاطف السياسي لن يتحول إلى مساعدات مادية وعلاقات تجارية مع النظام، بسبب استمرار العقوبات الأميركية والأوروبية.

مع هذا السيناريو، لن يختلف مصير إعادة الإعمار الشاملة، بجوانبها كافة، عن إعادة الإعمار التي ذكرناها في السيناريو الأول. ولن يكون ثمة إعادة إعمار، ولن تكون هناك عودة لاجئين، ولن يعود الاستقرار. وبالطبع سيدفع الشعب السوري ثمنًا باهظًا عبر هذا السيناريو أيضًا، لأن الكارثة السورية ستستمر إلى أجل غير مسمى، بعد أن تبين عجز كل من روسيا وإيران عن تقديم يد العون.

ثالثًا – سيناريو الانتقال السياسي

لن يتحقق هذا السيناريو من دون توافق روسي أميركي تركي، وقبول إيران، ولو مرغمة، ومن دون ذلك لن يكون ثمة حل سياسي في سورية؛ حيث يجب أن تقتنع روسيا بأن الانتقال السياسي وذهاب بشار الأسد لن يطيح بمصالحها في سورية، ومن جهة أخرى يجب أن تقتنع الإدارة الأميركية (الرئيس ومستشاروه) بأن لأميركا مصلحةً في وضع حد لكارثة إنسانية طال أمدها، وبأن عدم الاستقرار في سورية يشكّل مصدرًا لعدم الاستقرار في المنطقة، وبأن الاستقرار لن يتحقق دون انتقال سياسي وقيام سلطة جديدة مركزية قوية، وسيُسهم فريق بايدن الخاص بالشرق الأوسط وسورية في إقناع الرئيس الأميركي بانتهاج سياسية فاعلة، وبأن يستدرك أخطاء سياسة أوباما.

يتحقق هذا السيناريو، عندما تضع الولايات المتحدة روسيا أمام خيارين: إما استمرار الوضع الحالي من تقاسم سورية بين أربع قوى على الأرض، وإما القبول “بصفقة متوازنة للحل السياسي في سورية”، تقوم على تبادل انتقال سياسي في سورية إلى سلطة جديدة منتخبة على أنقاض سلطة البعث السابقة، مقابل رفع الحصار المفروض على سورية، ورفع الفيتو عن إعادة اعتبارها دوليًا، و رفع الفيتو عن إعادة الإعمار.

ومن المعروف أن سورية هي جزء من شبكة علاقات روسية أميركية عبر العالم، وهي ملفات يؤثر بعضها في بعض، لذا لا يمكن لموسكو أن تتجاهل إرادة الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي التي ربطت رفع العقوبات ورفع الفيتو عن تمويل إعادة الإعمار، بانتقال سياسي حقيقي في سورية.

تركيا طرفٌ في أي حلّ في سورية، بحكم عوامل كثيرة معروفة، ولا يمكن إتمام الحل في سورية من دونها، وعلى الرغم من الخلاف بين تركيا وروسيا في الملف السوري، فإن روسيا مضطرة إلى مراعاة دور تركيا في الملف السوري، فهي لاعب رئيس من جهة، ولروسيا مصالح اقتصادية هائلة ومصالح سياسية كبيرة، ولتركيا دور وتأثير في عدد من بلدان أواسط آسيا المجاورة لروسيا.

ستدعم تركيا هذا السيناريو مدفوعة بمصالحها القومية أولًا، لأنه سيقطع الطريق على PYD لتشكيل كانتون كردي شبه مستقل على حدودها الجنوبية، ومدفوعة ثانيًا بمصالحها المادية رغبة في حصة كبيرة من كعكة إعادة الإعمار السورية، إضافة إلى فتح طريق M5 الدولي الذي يربط تركيا بريًا ببلدان الخليج العربي، ويتيح لبضائعها أن تتدفق برًا نحو بلدان الخليج أيضًا، ومدفوعة ثالثًا بمصالحها السياسية، من حيث إن موقفها إلى جانب انتفاضة السوريين كان موقفًا صحيحًا. لذلك ستبدي تركيا رغبة كبيرة في التعاون مع روسيا، في مثل هذا السيناريو، وستدفع فصائل المعارضة إلى التعاون مع موسكو في هذا الحل. سيكون لمختلف فئات الشعب السوري -موالاة ومعارضة- مصلحة كبيرة في هذا السيناريو، وستندفع إلى العمل لإنجاحه. ولكن روسيا لن تندفع باتجاه هذا الحل، بالرغم من الضغوط الأميركية، إذا كان سيشكل أخطارًا على مصالحها في سورية، ولن تتجه نحوه قبل أن تتأكد أن مصالحها مضمونة مع هذا السيناريو، وأنه يحقق لها منافع كبيرة، ماديًا وسياسيًا.

نتيجة لكل ذلك، قد تجد روسيا أن من مصلحتها التخلي عن الأسد الذي بات بات يشكّل عبئًا دوليًا عليها، وخاصة مع ميل الأسد الواضح إلى إيران، على حساب المصالح الروسية، وأن مصالحها ستكون مستمرة في سورية مع النظام الجديد، وأن هذا السيناريو يحوّل وجودها في سورية إلى قصة نجاح ومثال على علاقاتها بحلفائها، ويحقق مكاسب مادية كبيرة لشركاتها واستثماراتها ويزيد تحكُّمها في مصالح كبيرة للاعبين يطمحون إلى نيل حصة من كعكة إعادة الإعمار بمبالغها الكبيرة، ويمكّنها من استثمار الاتفاقات التي أبرمتها حول الفوسفات وميناء طرطوس وغاز المياه الاقتصادية السورية، فضلًا عن أن ذلك يحقق وحدة سورية، ويجعلها خالية من القواعد والنقاط العسكرية الأجنبية، وستستطيع روسيا الاحتفاظ بوجودها العسكري المجمع في سورية.

ومن جانب آخر، تؤيد إسرائيل الانتقال السياسي، لأنها ترى أن من مصلحتها قيام سلطة مركزية جديدة في سورية، وهي واثقة أنها ستكون سلطة منشغلة بمشكلاتها الداخلية الهائلة، ولن يكون من أولوياتها الصراع مع إسرائيل، كما كان الأسد يقول، محافظًا على سلام بارد مع إسرائيل، مع حرارة في الشعارات وفي الإعلام. وسترحب جميع دول الجوار بهذا الحلّ، وخاصة التي تحتضن أعدادًا كبيرة من السوريين؛ لأنه يأذن بعودة طوعية ميسرة للاجئين السوريين، كما سترحب به دول أوروبا والدول العربية جميعها، حتى تلك المتعاطفة مع النظام الحالي، لأن مصالحها في النهاية تستدعي التعامل مع الواقع الجديد المدعوم دوليًا.

ولذلك تسعى إيران -منذ الآن- لقطع الطريق على مثل هذا الحل، وتخريب أي صفقة مماثلة، وتصوّر المشهدَ بشكل يوحي بأن كل شيء سينهار إذا ذهب الأسد، وذلك لدفع روسيا إلى التمسك به، وعملت على دفع الأسد إلى عدم تحقيق أي تقدم نحو أي حل سياسي، إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وراهنت على خسارة ترامب وفوز بايدن، متوقعة أنه سيتابع معها سياسة أوباما، أو أنه لن يتعامل معها بالقسوة الترامبية، وأنه سيعود إلى الاتفاق النووي المبرم سنة 2015، لو أنها قدمت بعض التنازلات؛ وسيتيح لها ذلك الأمر -إذا حدث- استمرار التخصيب المقيد حتى 2030، والتخصيب غير المقيد بعد هذا التاريخ. ولكن إيران ستضطر إلى القبول، أمام التوافق الروسي الأميركي التركي، لأن تكاليف عدم القبول ستكون باهظة في هذه الحالة.

هذا السيناريو هو السيناريو الذي يعيد وحدة سورية ووحدة شعبها، ويحررها من وجود الميليشيات الأجنبية والميليشيات السورية والفصائل المسلحة، ويحصر السلاح بيد الدولة، ويُبعد إيران ونظامها الديني الاستبدادي وثقافتها المغلقة عن سورية، ويوقف عبثها بالنسيج الاجتماعي السوري، وسيوقف التلاعب بالأملاك ويعالج الأعمال السابقة، وسيكشف عن مصير المعتقلين والمفقودين، ويفتح الطريق لتطبيق العدالة الانتقالية، ويفتح باب التمويل من مصادر عديدة، ويؤمن مساعدات مالية وعينية وبشرية، لإعادة إعمار سورية، ويحقق الشروط المادية والسياسية لعودة اللاجئين والنازحين الآمنة، ويفتح الآفاق أمام إعادة الإعمار المادي، وإعادة الإعمار المجتمعي، وإعادة الإعمار السياسي، وعودة الحريات العامة، وبناء الحياة السياسية في مناخ ديمقراطي، وسيفتح الباب أمام إطلاق الاقتصاد السوري، ويفتح آفاقًا لنمو الدخل وزيادة فرص العمل وتحسّن مستوى المعيشة، ويحقق شروط إعادة إعمار نظام التعليم، بجميع مراحله حتى الفني والمهني، وسيفتح آفاق إعادة بناء قطاع الصحة، وسيفتح الطريق لإعادة الإعمار الإداري والإعمار القانوني والإعمار الثقافي، ويعيد إعمار دور سورية العربي الإقليمي والدولي.

سيناريو وحيد.. وتحرك سوري

إنّ السيناريو الوحيد الذي يضع حدًا للكارثة السورية، ويفتح آفاق المستقبل، ويكون مقدّمة لإعمار سورية من الجوانب كافة، هو السيناريو الثالث القائم على تحقيق انتقال سياسي، بتوافق دولي. وبغض النظر عن المواقف المعارضة والموالية، نجد أن هذا السيناريو يُحقق مصالح سورية ويضمن مستقبلها.

ولا يخفى على أحدٍ أن السوريين أقصُوا عن كلّ ما له علاقة بتقرير مصيرهم ومصير سورية، وأصبح الآخرون يجتمعون ويخططون ويقرّرون مصير سورية ومصير شعبها ومستقبلهم، من دون مشاركة أحد منهم، وإن كانت شكلية، وهذا يعني -عمليًا- أن سورية أصبحت تحت ما هو أسوأ من انتداب، ولا أريد أن أقلل من إدانة هؤلاء الآخرين عمّا فعلوه بسورية، ولكن يجب القول أيضًا بأننا فشِلنا -كسوريين- في أن نكون فاعلين ومبادرين، وفي أن نفرض أنفسنا في المحافل كافة، متسلحين بحقّنا في تقرير مصير سورية، لكوننا أصحاب القضية، ولا يمكن تقرير مصيرنا من دون مشاركتنا الفاعلة.

والسؤال الذي ينتظر الإجابة: هل سيظلّ السوريون عاجزين عن القيام بالفعل، أم سينتقلون من حال الشكوى و “النقّ” إلى حيّز العمل، بقدر المستطاع، ويبادرون باستثمار فرصة صعود إدارة أميركية جديدة، لإعلان مبادرة منظّمة تقوم بها شبكة ضغط مكونة من مجموعات من النخب السورية الفاعلة في البلدان ذات التأثير في الملف السوري، وعلى رأسها واشنطن، ثم موسكو وأنقرة، إضافة إلى باريس وبرلين ولندن والدوحة والرياض، وأن تقوم تلك الشبكة بعمل منظم، وتقدّم تصورًا متكاملًا مدروسًا لحلّ سياسي، وفق السيناريو الثالث، يقوم على انتقال سياسي وفق قراري مجلس الأمن 2254 و 2118 وبيان جنيف 2012، ولا شكّ في أن صياغة هذا الحلّ تحتاج إلى دراسة وتحليل لفهم سياسات هذه الدول، وخاصة الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، تجاه الصراع في سورية، ومعرفة سبل التأثير في مواقفها وإقناعها بهذا التصور، ويجب أن تسعى المجموعات -عبر السبل المعروفة- للتحشيد والضغط عبر التواصل والتأثير في أعضاء الكونغرس والبرلمانات وبالسياسيين والأحزاب، وعبر الإعلاميين ومراكز الدراسات المؤثرة في صنع القرار وغيرها، للترويج لموضوع الحلّ السياسي المصوغ جيدًا، بحيث يدفع ذلك الإدارةَ الأميركية إلى الضغط على روسيا للقبول بهذا الحلّ، ولا ننفي أن إقناع الإدارة الأميركية أمرٌ صعبٌ، لكنّه ممكنٌ، وهذه محاولة تستحق أن يُبذل في سبيل نجاحها كلّ جهدٍ، لأنها الطريق الوحيد الآن. وليس أمام السوريين سوى العمل مع الأمل.

طباعة 

كلمات مفتاحية

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى