صفحات الحوار

نشوان الأتاسي: خطأ المعارضة أنها قبلت لعب الأدوار التي أوجدتها الأطراف الإقليمية والدولية

غسان ناصر

ضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، هو المعارض السياسي الكاتب والمؤرّخ والمهندس السوري نشوان الأتاسي، مؤلّف كتاب «تطوّر المجتمع السوري: 1831 – 2011»، الصادر عن دار “أطلس للنشر والترجمة”، في بيروت عام 2015، وقد قدّم فيه قراءةً في التاريخ السياسي والاجتماعي لسورية عند نشأة كيانها ثم دولتها، بعد انهيار السلطنة العثمانية وقيام الانتداب الفرنسي، وما رافق ذلك من مفاوضات وانتفاضات أفضت إلى رسم الحدود وإعلان الاستقلال الوطني، ورصد التطوّرات بين أربعينيات القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ليُنجز بذلك محاولة، ربّما هي الأولى لكاتب سوري، للخوض في تاريخ سورية الحديث بمراحله المختلفة، وصولًا إلى المرحلة البعثية فالأسدية، وانتهاءً باندلاع الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011. وتعامل الأتاسي في كتابه هذا مع التاريخ السوري بوصفه “ملكًا للسوريين”، حيث إنه “يخرق الحظر المُسدل على رواية الأحداث منذ 1970 من خارج سيرة النظام الرسمية، أي تلك النافية لوقائع ومستبدلة إياها بأخرى مخترعة، تناسب المشروعية المراد كسبها. وهو يعيد الاعتبار إلى مراحل من التاريخ (ولا سيما مرحلة الخمسينيات) التي سعى النظام بعد تسوّد البعث إلى طمسها والتقليل من شأن مدلولاتها”.

ضيفنا، من مواليد مدينة حمص عام 1948، تخرج مهندسًا كهربائيًا من جامعة الإسكندرية في مصر عام 1971. وإلى جانب تخصصه العلمي كان مهتمًا بالتاريخ، وخاصة تاريخ منطقة شرق المتوسط. وقد أمضى جلّ حياته المهنية، مهندسًا، متنقلًا في العمل ضمن المشاريع الهندسية التي كانت تقام في معظم أنحاء المحافظات السورية، كما أمضى جزءًا منها بالعمل في كل من لبنان والسعودية وألبانيا.

عاد إلى سورية من ألبانيا، حين قامت ثورة السوريين عام 2011، كي يكون إلى جانب إخوته وأبنائه في ثورتهم، وحاول بكتاباته (التي كان ينشرها آنذاك تحت اسم مستعار هو آرام الدمشقي) الإسهام في بلورة الوعي حول مشروعية الثورة وأحقية السوريين جميعًا في الحصول على حياة حرة وكريمة، بعيدًا عن طغيان الأجهزة التسلطية التي كانت تكمّ أفواههم وتستنزف خيرات البلاد لصالح مافيات متسلطة على مفاصل السلطة والأمن والاقتصاد، تقوم بنهب مقدرات البلاد وتهريبها إلى حساباتها في الخارج. وبسبب الظروف والضغوط والمخاطر الأمنية، انتقل الأتاسي، مع عائلته، للعيش في فرنسا على أمل أن يتمكن يومًا من العودة، هو وكتابه، إلى سورية.

هنا نصّ حوارنا معه

بداية من هو المهندس نشوان الأتاسي؟

أنا معارض سوري، وإضافة إلى كوني مهندسًا فإنّ لي اهتمامًا كبيرًا بالتاريخ، بخاصة تاريخ منطقة شرق المتوسط، وقد كان للراحل الدكتور محمد محفل (أستاذ التاريخ القديم سابقًا في كلية الآداب بجامعة دمشق وعضو مجمع اللغة العربية)، دورٌ مؤثرٌ في بلورة اهتماماتي هذه، عبر رفدها بوافر علمه ومعرفته وثقافته الموسوعية، وذلك بحكم الصداقة الشخصية التي جمعتنا على امتداد أكثر من عقود أربعة.

من خلال التواصل والاحتكاك بشابات وشبان الحراك السلمي، تبيّن لي عدم معرفتهم بتاريخ بلدهم الذي يقومون فيه بواحدة من أطهر وأنبل الثورات في التاريخ الإنساني، وكان هذا ناجمًا بالطبع عن عمليات التجهيل والتزوير والتلفيق المتعمدة التي لجأ النظام إليها، عبر أدواته الأمنية، كحزب البعث ومنظمات الطلائع والشبيبة واتحاد الطلبة وماكيناته الإعلامية، كما المناهج المدرسية الرسمية، حيث شاركت جميعها في أكبر عملية تزوير وتجهيل منهجية، لثلاثة أجيال على الأقل، وقد دفعني ذلك إلى البدء في تأليف كتابٍ حول تاريخ سورية في القرنين المنصرمين، بالاستناد إلى عدد من المراجع التاريخية والأبحاث العلمية والأكاديمية، لمجموعة من أهم المؤرّخين والكتّاب المهتمين بتاريخ منطقة الشرق الأوسط وتاريخ سورية، سواء المواد المترجمة إلى العربية، أو التي لم تكن مترجمة حتى تاريخ إعداد الكتاب.

صدر الكتاب عن دار أطلس للنشر والترجمة، في لبنان، لكن لم يتسنَّ له دخول سورية، لأسباب لا تخفى على أحد، بيد أنّ الانتشار الواسع في استخدام الشبكة العنكبوتية، ودخولها إلى سورية، أسهم في وضع الكتاب بين أيدي المهتمين في الداخل السوري. وقد كان الإهداء في الكتاب إلى ناشطي الانتفاضة السورية السلمية، سواء من استُشهد منهم أو اعتُقل أو فُقد أو لجأ إلى خارج البلاد، اعترافًا مني بدورهم في إنضاج فكرة هذا العمل وخروجه إلى النور، وبهذا يكون قد خرج منهم وإليهم عاد.

الحدث الأهم والأنصع في تاريخ سورية المعاصر

ما موقفكم من الثورة السورية التي اندلعت في منتصف آذار/ مارس 2011؟

كانت ثورة السوريين عام 2011 الحلمَ الذي راودني على امتداد حقبة الاستبداد الأسدي المظلمة، ولم أكن أتوقع حدوثها خلال حياتي، حتى في أكثر أحلامي تفاؤلًا، ومن هنا، فقد كانت الحدثَ الأهم والأبرز في مسار حياتي كله، وأنا أعدّ نفسي محظوظًا، لكوني شهدتها وعاصرتها، بصرف النظر عن نتائجها التي لم تكن غائبة عن تفكيري، لكن مجرد قيام الثورة كان الحدث الأهم والأنصع في تاريخ سورية المعاصر.

بتقديركم، هل فشلت الثورة السورية ونحن على أعتاب ذكرى عامها العاشر؟ وما الأسباب؟

في حزيران/ يونيو من عام 2011، بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على بدءالثورة، كتبتُ مقالًا نشرته مواقع إلكترونية عدّة، قارنت فيه بين ثورة السوريين الحالية وبين ثورة عبيد روما (ثورة سبارتاكوس)، وتنبأت لها بالمصير ذاته؛ لأنها كانت، كما ثورة سبارتاكوس، ثورة يتيمة -وفق تعبير الصديق الدكتور زياد ماجد- بيد أنني استرجعت ما قاله فريدريك أنجلز، في دراسة له عن ثورة سبارتاكوس، حيث قال: “لولا سبارتاكوس؛ لما ظهر المسيح”… ليس بالمنظور الديني بالطبع إنما بالمنظور التاريخي. وعمومًا، إنّ تغيير بنية نظام ما في عالم اليوم يقتضي وجود عاملين حاسمين معًا: الأول قيام حراك داخلي يسعى إلى التغيير، والثاني وجود توافق دولي على حصوله. وقد تحقق العامل الأول للثورة السورية في أشدّ وجوهه وضوحًا ومشروعية، لكن العامل الثاني لم يتوفر، بل كان هناك توافق دولي على عدم التغيير، وقد لمسنا ذلك لدى مواقف مختلف الأطراف الدولية والإقليمية المهتمة والضالعة في الشأن السوري، وما زالت آثاره قائمة إلى اليوم، وستبقى!

أين أخطأت قوى الثورة وأطياف المعارضة السورية، من وجهة نظركم، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن؟

كان الخطأ الشائن -وطنيًا- لكل أطياف المعارضة المدنيّة (ولن أقول السياسية، لأنها لم تمارس أي دور سياسي فعلي)، والعسكرية/ الميليشياوية كذلك، هو قبولها لعب تلك الأدوار التي أوجدتها الأطراف الإقليمية والدولية، في دعم مشروعية بقاء النظام وإظهاره كبديل وحيد ممكن لحكم سورية، مقارنة بتلك (المعارضات) التي طفت على السطح وصادرت الثورة. ولا أرمي في هذا إلى تخوين أحد أو اتهامه بالارتزاق، إنما أقول إنّ الأمور مرهونة بخواتيمها التي نشهدها اليوم، خاصة تلك الحالة المزرية التي تمر بها تلك الهياكل المسمّاة تجاوزًا معارضة. لقد أثبتت ممارسات تلك المعارضات أنها الابنة الشرعية للنظام، سواء في مبدأ الإقصاء أو الشللية الذي مارست من خلاله عملها (السياسي)، أم بالأساليب والطروحات، أو بعلاقاتها البينية داخل الجسم الواحد، أو بين الجسم والجسم الآخر. لقد كانوا نسخًا طبق الأصل عن هياكل النظام المتهالكة والمتفسخة.

ما قراءتكم لآخر مجريات الحدث السوري المشتعل، خاصة موقف الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية المتعلق بتشكيل “مفوضية عليا للانتخابات” تعمل على “التحضير للمرحلة الانتقالية وما بعدها”؟

إذا توافقنا على أنّ المعارضة هي الابنة الشرعية للنظام، وعلى أنها تعمل وفق تعليمات مشغليها ومموليها الذين يعمدون إلى إعادة تعويم نظام الأسد ومنحه شرعية لم يتحصل عليها يومًا؛ فسنجد أنّ طرح “المفوضية العليا” (الذي تخلّوا عنه لاحقًا بأسلوب مراوغ لحفظ ماء الوجه المراق) كان منسجمًا ومتوافقًا مع دورهم المكلفين بتنفيذه في إعادة تأهيل الأسد… لا أكثر ولا أقل!

إنّ بشار الأسد، في واقع الحال، ليس بحاجة إلى من يترشح من طرف هؤلاء -صوريًا- أمامه في الانتخابات المقبلة، فلديه في جعبته من هم أفضل لهذا الغرض، وانتخابات عام 2014 شاهدٌ على ذلك، وإن وافق الأسد لاحقًا على طرح كهذا، في حال فُرض عليهم إعادة تسويقه ثانية، فسوف يكون لغرض منح المعارضة ذاتها شرعية تفتقدها، وهو في هذا يرد إليها بعضًا من الجميل!

بشار الأسد امتداد عضوي لمرحلة والده

صدر لكم عام 2015 كتاب بعنوان «تطوّر المجتمع السوري: 1831 – 2011» ماذا تحدثونا عنه؟ وكيف تقيّمون تجربتكم مع هذا الكتاب والإقبال عليه؟

الكتاب مؤلف من أربعة أجزاء رئيسية، وفق تسلسل كرونولوجي:

الجزء الأول، تناول تاريخ سورية خلال الفترة ما بين عامي 1831 و1916، وقد جعلتُ عام 1831 (الغزو المصري لبلاد الشام بقيادة إبراهيم باشا) نقطة بداية لعملي، لأنّ هذا الحدث مثّل نقطة قطع مع ما قبله، إذ كانت بلاد الشام تعيش فترة سبات مجتمعي عميق، خلال القرنين اللذين سبقا الغزو المصري، بحيث جاء الغزو، وما أعقبه من أحداث مفصلية، كمحفّز لاستئناف دورة الحياة في البلاد، وأعاد وصلها مع العالم الخارجي بعد انقطاع مديد، فتتابعت الأحداث فيها باضطراد متلاحق إلى أن قامت الثورة العربية الكبرى عام 1916. كان هذا الجزء في مجمله تمهيدًا لما تلاه من أحداث ما زالت آثارها ماثلة إلى يومنا هذا. وتناول الجزء الثاني الفترة ما بين الثورة العربية الكبرى عام 1916، وصولًا إلى جلاء الفرنسيين عن البلاد عام 1946. أما الجزء الثالث، فقد تناول الحقبة الاستقلالية بين عامي 1946 و1963، متضمنًا فترة الوحدة مع مصر. وكان الجزء الرابع مخصصًا للحقبة البعثية الذاهبة إلى الفترة الأسدية، وصولًا إلى قيام الثورة عام 2011، وقد عمدتُ إلى تقسيم تلك الفترة الزمنية إلى ثلاث مراحل، عنوان كل مرحلة منها كان الشخصية المحورية/ الحاكم الفعلي خلالها، أما ما عداها من شخصيات، ظهرت على سطح واجهة الأحداث ووضعت في مواقع قيادية وحساسة، فلم تكن سوى واجهات لحكم تلك الشخصيات الثلاثة: مرحلة محمد عمران (1963 – 1966)؛ مرحلة صلاح جديد (1966 – 1970)؛ مرحلة حافظ الأسد (1970 – إلى اليوم، من حيث إنّ هذه المرحلة ما زالت مستمرّة عبر ابنه الوريث).

وقد خصّصت في نهاية العمل ملحقًا إضافيًا عن أحداث الثورة ما بين العامين 2011 و2013، من واقع ما خبرته وعرفته في وقائع تلك الفترة. ليست لدي في الحقيقة معلومات عن مدى سعة انتشار الكتاب والإقبال عليه، لكن ما أرجوه هو أن أكون قد وُفقتُ في وضع التاريخ السوري المعاصر، بصدق وأمانة، وبالقدر الممكن من الحيادية، بين أيدي الأجيال الجديدة التي كان الكتاب موجهًا إليها في الأساس.

يُوثق الكتاب لمحاولات تأسيس منتديات للمجتمع المدني وحلم بعض المثقّفين بترسيخ حرّية الرأي والتعبير في البلاد. برأيكم، هل كان بشار الأسد جادًا في إحداث تغيير ديمقراطي حقيقي في سورية يقطع مع عهد والده الدكتاتور حافظ الأسد؟

أثبت الأسد الابن، على امتداد سنوات حكمه، خاصة مرحلة الثورة ضد نظامه، أنه امتداد عضوي لمرحلة والده في أساليب حكمه وفي طبيعة ممارساته، وفي نهج تعامله مع الشعب. ولنذكر أنّ الأسد الأب انتهج الأسلوب ذاته في الهزيع الأخير من السبعينيات، حين تحركت ضد نظامه شرائح واسعة من المجتمع مطالبة بالديمقراطية والتعدّدية، وقد قادت تلك التحركات نقاباتُ المحامين والأطباء والمهندسين وغيرها (ولم تكن قد صودرت وغدت أفرعًا أمنية للنظام)، وأبدى النظام حينذاك مرونة لافتة تجاهها، وسمح لها بعقد الاجتماعات والندوات، حتى إنه قام هو نفسه بتنظيم بعضها، فاستمع إلى مطالب المحتجّين، ووعد بتحقيقها، وحين تمكن من رصد ومعرفة الرموز التي كانت تقود عملية الاحتجاجات؛ انقلب عليهم وأودعهم السجون والمعتقلات، ثم عمد إلى قمعها بقوة السلاح متذرعًا بالحراك الموازي الذي قام به فريق من الإخوان المسلمين؛ فدمج الحراكين معًا ونكّل بالجميع، وهذا ما لجأ إليه الابن الوريث في تعامله مع تحركات المجتمع المدني المطالبة بالديمقراطية بداية حكمه، وفي انقلابه على وعوده لاحقًا، وفي اعتقاله رموز الاحتجاجات وإغلاقه المنتديات، ثم شنّ حملة أمنية واسعة، فاعتقل المثقّفين والكتّاب والناشطين، ثم أوصل الأمور إلى نقطة اللاعودة على إثر اندلاع الثورة عام 2011 وقام -كأبيه- بتكرار النغمات حول الأصولية والتكفيرية والارتباط بالخارج، وقد تم ذلك كله قبل ظهور أي تنظيم مسلح أو جهة أصولية. ولنذكر أنّ بثينة شعبان قد تحدثت في آذار/ مارس 2011، عن وجود تكفيريين وأصوليين بين المتظاهرين السلميين، وأنّ هؤلاء يخططون لإشعال فتنة طائفية ومذهبية في البلاد، الأمر الذي يؤشر إلى نية مبيتة مسبقة في خلق تلك الفتنة جريًا على ما دأب عليه، هو وأبوه، في مواجهة أي حراك مجتمعي ضده. اليوم، بعد مضي ما يقارب عشر سنوات، يخرج علينا بشار الأسد نفسه قائلًا إنّ مجموعات من العلمانيين والملحدين هم الذين استخدموا المساجد للخروج في التظاهرات بداية الأحداث!   

مما ذكرتم في الكتاب أنّ حافظ الأسد سيطر على السلطة في سورية قبل عام 1970. كيف تفسرون لنا هذا بشكل أوضح؟

هذا صحيح! إذ لم يستول حافظ الأسد على الحكم في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1970، كما هو متعارف عليه، بل تمكن من الاستيلاء على مقدرات البلاد وأجهزة الحكم، بذريعة غارة شنّها الطيران الإسرائيلي على واحد من مواقع إحدى المنظمات الفلسطينية قرب دمشق، قام على إثرها باستنفار قوات الجيش، الذي كان قد أحكم السيطرة عليه خلال توليه وزارة الدفاع، وقد بدأ تحركه هذا ليلة الخامس والعشرين من شباط/ فبراير عام 1969، واستمرّ حتى ليلة الثاني من آذار/ مارس، وقام خلاله بالاستيلاء على مراكز مقار الحزب وأجهزة الإعلام والمؤسسات الحيوية، وتمكّن من تصفية جهاز أمن الدولة برئاسة عبد الكريم الجندي واعتقال عناصره، وقد كان هذا الجهاز الذراع العسكرية لقيادة الحزب المدنية التي كانت ممسكة بالمراكز الحزبية والسياسية والإدارية في البلاد (نور الدين الأتاسي، صلاح جديد، يوسف زعين، إبراهيم ماخوس) في مواجهة حافظ الأسد، وتتوّج الأمر ليلة 1/2 آذار/ مارس بمقتل عبد الكريم الجندي في مكتبه، ولم تُعرف الحقيقة إلى اليوم: هل انتحر كما أشيع أم قُتل، مع أنّ معظم الاحتمالات، وما تردّد آنذاك، تشير إلى مقتله، وهو ما أشار إليه أكرم الحوراني في مذكراته.

ومن تراجيديّة السياسة ومفارقاتها في بلادنا، أنّ مجموعة الحزب المدنية الحاكمة في البلاد التي ذكرتها من قبل، لم تعد تملك أي وسيلة إعلامية للتعبير عن مواقفها وآرائها، بعد أن استولى الأسد عليها كلها فلجأت، وهي السلطة (الشرعية) المفترضة، إلى إصدار صحيفة في بيروت (صحيفة الراية) كي تعبر عن وجهات نظرها، فيما كان الإعلام المحلي، بمختلف وسائله وماكيناته، ينطق باسم وزير الدفاع حافظ الأسد!

وإن أحد ألغاز السياسة في سورية (التي يتعذر كشف حقيقتها)، تمنّعُ حافظ الأسد عن إعلان سيطرته الكلية على البلاد خلال الفترة ما بين الثاني من آذار/ مارس 1969 والسادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، مع أنه كان الحاكم الحقيقي للبلاد خلالها، وقد تبدّى ذلك جلّيًا حين قررت القيادة السياسية التدخل في الأردن خلال أحداث أيلول/ سبتمبر 1970 دعمًا للمقاومة الفلسطينية في معاركها ضد الجيش الأردني؛ فكان أن أرسل حافظ الأسد قواته المدرعة دون تأمين تغطية جوية لها، الأمر الذي عرّضها لمجزرة حقيقية، حيث كان الجيش والطيران الأردنيان لها بالمرصاد فاصطادوهم، حتى إنّ السوريين لم يتمكّنوا من سحب قتلاهم ودباباتهم المدمّرة من ساحة المعركة، إلّا بعد وساطات قامت بها أطراف عربية ثالثة. في تقديري أنّ انقلاب شباط/ فبراير 1969 كان الإيذان العملي ببدء مرحلة حافظ الأسد، فيما كانت مسرحية المؤتمر العاشر للحزب في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 هي بمنزلة الإعلان الرسمي عنها، بعد أن غدا المسرح الدولي ومسرح الشرق الأوسط مهيّأين لظهوره.

صورة من اللقاء السادس من (حوارات سوريا حرّيّة) مع نشوان الأتاسي عام 2016 في باريس

سيطرة تكتل العائلات الحاكمة على الاقتصاد السوري

تذكرون في الكتاب أنه مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الحليف السوفيتي، تبدّلت بعض أدوار سورية الخارجية وبدأت التحوّلات الاقتصادية داخلها، واستُبدلت لاحقًا القيادات السياسية بأخرى أكثر ارتباطًا بالعائلة، بعد توريث بشار الحكم العام 2000. كيف تقيّمون العقد الأول من حكم الابن الوريث؟

كان الحدث الاقتصادي والاجتماعي الأبرز، خلال الفترة التي أعقبت وصول بشار إلى السلطة وارثًا لأبيه، هو اعتماد القيادة القطرية لحزب البعث نظام السوق الاجتماعي عام 2005، الذي عُدّ مدخلًا إلى لبرلة الاقتصاد السوري، بعد عقود طويلة من احتكار الدولة لكل أنشطة البلاد الاقتصادية والمالية. وتم ذلك لإفساح المجال أمام حيتان الاقتصاد الجدد الذين راكموا ثروات هائلة، من عمليات النهب التي حدثت في الفترات التي سبقتها من حكم الأب، كي يكملوا استيلاءهم على بقية مقدرات البلاد التي لم تكن متاحة أمامهم قبلًا، خاصة بعد أن اضطر معظمهم إلى إعادة إدخال رؤوس الأموال المنهوبة التي كانت مودعة لدى البنوك الأجنبية، إثر صدور العقوبات الأميركية على سورية، خاصة تشريع الكونغرس الشهير، أي قانون محاسبة سورية (Syria Accountability Act) الذي صدر عام 2003، وأدى ذلك إلى حدوث تضخم كبير تجسد في ارتفاع أسعار العقارات بنسبة وصلت إلى 200 – 300% خلال عامين فقط، لأنّ تلك الأموال العائدة استثمرت في شراء العقارات على نطاق واسع، عبر أشخاص وهميين ومضموني الولاء، لأنّ أصحابها لم يكونوا قادرين على إيداعها المصارف المحلية، ولم يكونوا راغبين في الاستثمار بمشاريع إنتاجية تكون غالبًا ذات ريعية منخفضة ومدة إعادة تدوير رأسمالها طويلة نسبيًا، وأيضًا بغية تنظيف تلك الأصول الوسخة.

تتابع صدور القوانين والمراسيم التي كان عنوانها الرئيسي تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي ووظيفتها الاجتماعية التي كانت تضطلع بها، وبذلك تركت المواطنين مكشوفين أمام تغوّل شريحة المافيوزيين الجدد النهمة والمتشكلة من طبقة رجال الأعمال الطفيلية والمجمع التجاري العسكري، وقد أدى ذلك إلى مجموعة من النتائج:

    – انهيار شبه تام للطبقة الوسطى، بعد أن سجلت معدلات تراجع حاد، في العقود الثلاثة المنصرمة من حكم الأسد الأب، بحيث أصبحت سورية مجتمعًا ذا طبقتين: طبقة فاحشة الثراء وطبقة فقيرة معدمة.

    – تدهور الوضع المعيشي، وتعذر تأمين السكن اللائق لجموع المواطنين، وتراجع الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وبنى تحتية، وتراجع مستويات التعليم ونوعيته في كل المراحل، على إثر تفشي الفساد وقبض الرشا ضمن المؤسسات التعليمية كافة.

    – تسريع انهيار القطاع العام المريض أصلًا، إذ تُرك وضعه الخاسر دون معالجة، فلا تم إصلاحه ولا جرت تصفيته بطريقة منهجية يعود ريعها إلى خزينة الدولة. لقد كان إبقاؤه كما هو عليه يمثل نقطة تقاطع لمصالح البورجوازية البيروقراطية الطفيلية التي تعامل القطاع العام كمصدر للنهب لا ينضب، كما كان أداة تسلطية ذات طابع اقتصادي – اجتماعي، من حيث إنه متخم بالعمالة الفائضة والبطالة المقنعة.

    – تراجع معدل الدخل الفردي السنوي إلى ما دون 3000 دولار.

    – وصول معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، قدرت بـ 20% أي ما يقارب مليون ومئة ألف شخص، كانت حصة الأرياف منها حوالي 51%، أي ما يقارب 550 ألفًا، وكانت النسبة الأعلى منهم كانوا من خريجي الجامعات، ونجم عن ذلك تزايد مطرد في هروب التلاميذ من المدارس الابتدائية ودخولهم سوق العمل لدعم أسرهم ماديًا.

    – هجرة أعداد متزايدة من الشبان السوريين خارج سورية بحثًا عن فرص للعمل، خاصة في لبنان، حيث وصلت أعدادهم إلى ما يقارب 350 ألفًا، فضلًا عن مئات الآلاف، وربما الملايين، من العاملين في دول الخليج ودول أوروبا، ويصنف هؤلاء من نخبة اليد العاملة السورية. ولكن من جهة ثانية، كان لهذه الهجرات دورها الإيجابي في خفض نسب البطالة ضمن البلاد، فلولاها لوصلت تلك النسبة إلى أرقام فلكية. كما كان لها دورها الإيجابي أيضًا في رفد الاقتصاد بالعملة الصعبة، من خلال تحويلاتهم إلى ذويهم داخل البلاد. وقد تفاقمت مسألة البطالة، عندما عادت أعداد كبيرة من العاملين في لبنان، على إثر اغتيال رفيق الحريري عام 2005، فوصلت نسبتها إلى 30% من حجم القوى العاملة التي كانت تقدر آنذاك بـ 5 ملايين. هذا طبعًا عدا جيش العاملين من موظفي الدولة والقطاع العام الذين يعانون بطالة مقنعة، ولم تكن دخولهم، قياسًا إلى غلاء المعيشة ونسب التضخم القائمة، تتعدى تعويض البطالة الذي يمنح للعاطلين عن العمل في دول أخرى.

    – انسحاب الدولة من مجالات كانت حكرًا عليها في قطاع الخدمات الإنتاجية، وفتحها أمام باب الاستثمار للقطاع الخاص، مباشرة في شركات مساهمة، أو في شراكة بين الدولة والشركات القابضة الكبرى المعتبرة كصناديق استثمارية، تتملّك أصول الشركات المساهمة المحدثة والتي أجيزت نظريًا عبر المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2000. وكانت البداية عبر الشركة “القطرية السورية القابضة”، ثم لحقت بها «الشام» القابضة العام 2006 التي تدعمها السلطة ويمسك بها رامي مخلوف (ابن خال بشار الأسد) وصاحب شركة “سيرياتيل” للاتصالات الخليوية، وهو الذي جعل أقاربه وشركات القطاع الخاص ورجال الأعمال والتجار السوريين ينضوون تحت جناحها. وشكل هذا تحوّلًا كبيرًا في تكتل العائلات الحاكمة، وتوّجهًا كقوة اقتصادية تتحكم في الاقتصاد السوري خارج نطاق كل من الدولة والتسلطية الأمنية.

    – دخول عائلات الأسد ومخلوف وشاليش والأخرس وغيرها، في بنية وتكوين الشركات القابضة المستحدثة، مثّل انتقالًا من السيطرة الأمنية على الدولة والمجتمع إلى السيطرة الاقتصادية عليهما. وقدّر مخلوف حجم نشاط «الشام القابضة» بنسبة 60% من النشاط الاقتصادي السوري لمجمل الأعوام السابقة على اندلاع الثورة السورية. ثم ظهرت شركة «السورية القابضة» التي أسسها هيثم جود. ويشكل أعضاء الشركتين وما يدور في فلكهما من كبار تجار وأعضاء الغرف التجارية والصناعية في المدن الكبرى ما دُرج على تسميته بتحالف “المئة الكبار” الذي سيطر على مجمل السوق السورية في السنوات التي سبقت ثورة عام 2011.

ونتيجة الشراكة غير المعلنة بين رجال الأعمال الجدد وكبار موظفي الدولة السورية، خضعت الحكومات لهذه الشركات ومصالح نخبها، حيث إنّ التحالف بينهما دفع إلى توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الخدمية ذات الربحية السريعة. وتحوّل النشاط الاستثماري الفعلي إلى نظام الاستثمار المباشر BOT (بناء، تشغيل، نقل إدارة الأصل إلى الدولة) في قطاعات العقارات والسياحة والمجمعات الخدمية الضخمة، وتسبب ذلك في ارتفاع قيمة الأراضي والعقارات بصورة خيالية، وصلت إلى 500%، خصوصًا في مراكز المدن الكبرى كدمشق وحلب وحولهما، في حين غاب الاستثمار كليًا في قطاعات الصحة والصناعة والطاقة. وأُبرمت معظم مشاريع الشركات القابضة مع الدولة منذ تأسيسها حتى العام 2010، بطريقة الاحتكار، ضمن صيغ عقودٍ بالتراضي، ومُنحت مددًا طويلة للاستثمار. وهذه من ضمن ديناميات الفساد الكبير التي تتحكّم في الدولة السورية. ثم لجأت الدولة إلى تنفيذ عمليات استملاك واسعة في المناطق الريفية وأحزمة المدن التي شهدت ارتفاعات هائلة في أسعار عقاراتها، بغية تأمين حصصها العينية في المشاريع المتعاقد عليها مع الشركات القابضة المشار إليها أعلاه، وفق نظام  BOTوذلك ببدلات استملاك هي أقرب ما تكون إلى المصادرات، حتى إنّ تلك البدَلات لم تُدفع للمالكين.

على هذا، يمكن القول إنّ اللبرلة الاقتصادية بين عامي 2004 – 2007 قد نقلت ما يقرب من 22% من السكان المصنفين “تحت خط الفقر الأعلى”، إلى عتبة “تحت خط الفقر الأدنى”، أي بإضافة ما يقرب من 4.5 مليون إنسان إلى 2.3 مليون يمثّلون 12.3% من السكان الموجودين سلفًا تحت خط الفقر الأدنى، ليصبح 34% من السوريين تحت خط الفقر، بحسب أرقام العام 2008 الواردة في “التقرير الوطني الثاني عن الفقر وعدالة التوزيع في سورية”. وأدى ذلك إلى اختلال توزيع نتائج النمو الاقتصادي الذي راوح عند معدل 5.1% للفترة ذاتها، وهي نسبة عالية غالبًا ما يجري الاعتداد بها كدليل على الازدهار، فيما هي ناتجة عن حسابات كمّية بحتة، تستند إلى معدل وسطي بالأسعار الثابتة بين عامي 2000 – 2010، وتعبّر عن الحركة القوية لرأس المال التي استفادت منها شرائح رجال الأعمال وشركاتهم القابضة. وارتفع معدل التضخم لعام 2008 إلى 15.15% نتيجة إجراءات رفع الدعم عن السلع الرئيسية التي زادت أسعارها بنسبة 56%، عما كانت عليه عام 2000، وخاصة أسعار الرز والسكر اللذين كانا مشمولين بالدعم. وخُفض الدعم عن المشتقات النفطية، وحُررت أسعارها ضمن شرائح. وكانت الضرائب المباشرة على الأرباح الحقيقية قد خُفضت إلى مستويات قياسية عالميًا، لتصبح 14% للشركات المساهمة العامة، و27% لشركات الأشخاص، ورُفعت نسبة الضرائب غير المباشرة والرسوم، كضرائب الرواتب والأجور والرسوم الجمركية التي تتحمّل عبئها الفئات الواسعة في المجتمع؛ ومن ثم تراجعت نسبة الضرائب المباشرة إلى الناتج المحلي الإجمالي بأسعار السوق من 13% العام 2001 إلى 6.5% العام 2008، في حين تضاعفت نسبة الضرائب غير المباشرة إلى الناتج المحلي من 4% إلى 8.8% للفترة نفسها، ويُعدّ ذلك نسبة عالية جدًا. وقد وصلت نسبة البطالة إلى 16.5% العام 2009، أي 3.4 مليون عاطل عن العمل من مجمل حجم قوة العمل السورية، بسبب إفلاس مئات المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة، والخسارة الهائلة التي مُني بها قطاع الزراعة، بنسبة 44% من حجم قوة العمل فيه. وهذا لم يتأتّ من الجفاف في المنطقة الشرقية فحسب، بل من التهميش الحكومي وإحجام القطاع الخاص عن الاستثمار به. كما تراجع حجم قوة العمل الزراعية في ريف دمشق بين العامين 2002 – 2008 بنسبة 60%، وفي حلب بنسبة 54%، وفي السويداء بنسبة 67%. ولم يتمكن الاقتصاد الوطني من خلق سوى 90 ألف فرصة عمل صافية بين عامي 2004 – 2008، في حين كان يلزم فعليًا تأمين 720 ألف فرصة عمل حقيقية.

هكذا، عانى المجتمع السوري انهيارات متلاحقة شملت جميع صعد الحياة، إذ تراجعت الخدمات الصحية وميزانية التعليم تراجعًا حادًا، وطفت على السطح ظواهر العشوائيات التي يقطن فيها ما يزيد على 40% من سكان المدن، وازداد نخر الفساد في كل المؤسسات والسلطات حتى التشريعية والقضائية والتعليمية، وغُيّبت الدولة عن دورها الحمائي الاجتماعي – الاقتصادي للمواطن، في حين ظلت التسلطية الأمنية سيفًا مسلطًا على حياة المجتمع المدني والأهلي، وقد رفع ذلك مقدارَ التوتر الشعبي إلى عتبات قصوى من الغضب، خاصة ضمن المناطق الأكثر تضررًا من جراء هذه السياسات أي ضمن الأحزمة المحيطة بالمدن وفي الأرياف التابعة لها. وعلى هذا؛ لا غرو أنّ بدايات اندلاع الحركات الاحتجاجية في آذار/ مارس 2011 قد انطلقت من تلك المناطق تحديدًا.

مِن الأمور التي استوقفتنا في كتاباتكم، قصةُ “اليورانيوم السوري” منذ سبعينيات القرن المنصرم حتى اليوم. ما هي التفاصيل الخافية عن عامة السوريين؟

نعم، أتيت على ذكر موضوع الفوسفات/ اليورانيوم السوري في مقالاتي مع مواضع أخرى بالتفصيل، ولا بأس من إعطاء فكرة موجزة عنه هنا، ومما تسنّى لي الحصول عليه من معلومات من مصادر مختلفة: يترافق وجود فلز الفوسفات في الطبيعة عادة مع فلز اليورانيوم، ويجري عادة تصنيف منجم ما على أنه منجم فوسفات أو منجم يورانيوم، بناء على دراسات تحدد نسبة اليورانيوم إلى الفوسفات، فإذا تجاوزت نسبة اقتصادية معينة؛ عُدّ منجمًا لليورانيوم، وإذا كانت النسبة أقل من النسبة المعتمدة اقتصاديًا؛ عُدّ منجمًا للفوسفات. وعند اكتشاف مناجم الفوسفات في البادية السورية، في النصف الثاني من ستينيات القرن المنصرم (خنيس وخنيفيس والشرقية)، أجرت شركة روسية تلك الدراسات، وتبيّن لها أنها جميعًا لا تحقق النسبة المطلوبة، لاعتبارها مناجم يورانيوم، ثم تبيّن لاحقًا أنّ تلك النسب كانت أعلى من مثيلاتها في دول أخرى عديدة تقوم بتصدير الفلز على أنه يورانيوم.

أنشئت الشركة العامة للفوسفات والمناجم، وقامت بإنشاء خط حديدي يصل ما بين منطقة المناجم ومرفأ طرطوس، وعمدت إلى شراء أسطول من الشاحنات لذلك الغرض، كما أنشئت صومعة لتخزين الفوسفات في مرفأ طرطوس، وتعاقدت الشركة مع رومانيا/ تشاوشيسكو بعقد طويل الأمد (خمسة عشر عامًا) للتصدير بسعر 7 دولارات للطن الواحد، وجُدّد هذا العقد لخمسة عشر عامًا أخرى، على سعر 9 دولارات للطن الواحد. لم يكن هذان السعران التعاقديان يغطيان تكاليف الاستخراج والنقل إلى مرفأ طرطوس والتخزين، حيث كانت الحكومة السورية تتكفل بتغطية تلك النفقات. ومن رومانيا كان يعاد تصدير هذه (المادة!) إلى دول عديدة، منها إسرائيل.

من الجدير بالذكر:

    – كانت أسعار الفوسفات الخام الذي يصدّر من دول أخرى (تونس، مصر، الأردن، ودول أخرى) تراوح ما بين 15 إلى 20 دولارًا للطن خلال تلك الفترة، وكان النقل من المناجم إلى مرافئ التصدير يتم على نفقة المستورد.

    – كانت هناك مناجم تحوي نسبًا لليورانيوم إلى الفوسفات أخفض من المناجم السورية، لكن تم اعتمادها كمناجم يورانيوم (في منطقة النقب بإسرائيل مثلًا).

    – أعداد الإصابات بالسرطان لدى عمال مناجم (الفوسفات) السوري كانت عالية، إلى درجة أنّ سكان المنطقة المحيطة بالمناجم، الذين استبشروا خيرًا بافتتاحها لأنها حققت لهم فرص عمل قريبة من مناطق سكنهم، عدّوها “مناجم الموت”، ولم يعد أحد منهم يجرؤ على التفكير في العمل فيها.

كيف تقرؤون قرار بشار الأسد المتعلق باستبدال منظومة رامي مخلوف الاقتصادية؟ وما تأثير خلافاتهما على الاقتصاد السوري المنهار أصلًا؟ وما تبعات ذلك على السوريين في الداخل؟

الاقتصاد السوري اقتصاد منهار بكل المعايير، ولا أعتقد أنّ الخلافات على الحصص بين المافيات المتحكمة فيه وفي البلاد ستكون لها نتائج مؤثرة عليه، سوى ما قد يتفقون عليه من عمليات نهب إضافية لمقدرات البلاد، ترضية لهذا الطرف أو ذاك، ولنذكر أنّ حل الخلاف بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت عام 1984 كلّف الخزينة السورية بضع مئات من ملايين الدولارات (لم تعرف قيمتها بعد) جائزة ترضية للشقيق، كثمن لمغادرة البلاد، إضافة إلى كل ما كان قد نهبه من خيراتها حين كان شريكًا أساسيًا في السلطة.

هل توجد علاقة للروس أو للإيرانيين بتصاعد الخلافات بين الأسد ورامي مخلوف؟ وما دور أسماء الأسد في كل ما جرى؟

البروز ذو الملامح غير الواضحة بعدُ لأسماء الأخرس ضمن شبكة وتشكيلات النظام المافيوزية يحتمل تفسيرات وتحليلات عدة ، منها ما قد تكون له علاقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة واحتمالات ترشحها، اقتداء بمسرحيات التناوب التي كانت تتم بين ديمتري مدفيديف وفلاديمير بوتينفي روسيا، انتظارًا لبلوغ حافظ الصغير السن الذي يؤهله لخلافة أبيه، ومنها ما يمكن أن يدخل ضمن نطاق خلافات عائلية مافيوزية، تتصل بإعادة اقتسام الأموال المنهوبة من الشعب، حيث تردّد أنّ رامي قد خدع عائلة الأسد واحتفظ بأرصدة من وراء ظهرها باسم عائلة مخلوف، ومنها ما هو مجرد تكالب على النهب والفوز بحصة أكبر مما تبقى من الكعكة السورية، خاصة بعد نضوب العديد من مصادر النهب، ومنها ما يحتمل أبعادًا سياسية خارجية تتعلق بتراتبية القوى المختلفة ودرجة تأثير كلّ منها على مجريات أحداث الفترات القادمة، وفي هذه الحالة، قد لا يستبعد وجود دور للبريطانيين في ما سيجري، سواء كأصلاء أم كوكلاء لغيرهم. في قناعتي إنّ اللاعبين الرئيسيين في سورية هما الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، أما أدوار كل من روسيا وتركيا وإيران ودول الخليج وحتى بريطانيا، إن صحت بعض التوقعات، فهي أدوار مكملة ومتممة لدور هذين اللاعبين الرئيسيين، وتأخذ أهميتها من خلال ما تفوضهما به هاتان الدولتان، بمعزل عن عمليات الضخ الإعلامي المكثفة والنبرة العالية التي يطالعنا بها إعلام هذه الدولة أو تلك. لا خلاف حقيقيًا بين أي من الدول الضالعة في المقتلة السورية، إلّا على بعض المكاسب الآنية التي قد يحققها هذا الطرف أو ذاك.

إلى أين يمضي المجتمع السوري في هذه الأيام، بعد دخول “قانون قيصر” حيز التطبيق في 17 حزيران/ يونيو الماضي، والانهيار الكبير والمتواصل لليرة السورية أمام العملات الأجنبية؟

“قانون قيصر” هو قميص عثمان الذي يستخدمونه اليوم لتبرير انهيار الاقتصاد السوري، الذي كان منهارًا بالفعل قبل صدور هذا القانون، بل حتى قبل اندلاع ثورة عام 2011، وإن لم يظهر ذلك جليًا للعيان.

مسلسل الأزمات المعيشية في سورية مستمرّ منذ عقود أربعة تقريبًا. التقنين الكهربائي موجود في سورية منذ بداية ثمانينيات القرن المنصرم، يقلّ أحيانًا ويتزايد أحيانًا أخرى، بيد أنه متجذر في حياة السوريين منذئذ. الأزمات المعيشية الخانقة منذ عقود، التي كانت تعزى إلى حصار اقتصادي مزعوم ناجم عن مواقف (وطنية ومشرفة) هي خبز السوريين اليومي، وقد نشأت أجيال عدة عليها: التضخم، معدلات ارتفاع الأسعار، الهبوط المستمر والحاد في قيمة الليرة السورية الشرائية، أزمة المساكن، أزمات النقل المستعصية، فقدان المواد التموينية الأساسية التي كان السوق اللبناني، بالرغم من الحرب الأهلية هناك، المورد الرئيس لكل المواد التموينية إلى سورية، عن طريق التهريب عبر المعابر غير الشرعية (الخط العسكري) …. إلخ.  هناك أيضًا ظاهرة أثرياء الحرب الجدد، وهم غير أثرياء ما قبلها، وهؤلاء يعدّون الآن بالآلاف، وأصبح لهم حضور وازن في الحياة الاقتصادية والسياسية ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. كل ذلك دليل على أنّ مشكلات سورية المعيشية تنبع من الطريقة المافيوزية التي تُحكم بها البلاد منذ عام 1970، وفي تقديري أنّ النظام قد أحسن استغلال “قانون قيصر” لصالح ممارسة مزيد من الضغوط على السوريين، بغية المزيد من إذلالهم، وقد يكون ذلك هدفًا مشتركًا بين النظام والقوى الخارجية التي تعمل على إعادة تأهيله. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنّ “قوات سوريا الديمقراطية”، المعروفة اختصارًا بـ (قسد)، مثلًا، تقوم ببيع النفط المستخرج من الحقول الواقعة تحت سيطرة الجيش الأميركي في الجزيرة السورية، لنظام الأسد الخاضع (رسميًا) لعقوبات “قانون قيصر”!

ما الذي ينقذ الاقتصاد السوري فعليًا في المرحلة الراهنة، ويخلّصه من تكتل العائلات الحاكمة (الأسد – مخلوف – شاليش – الأخرس وغيرها)، خاصة أنّ المتأثر الأكبر هو الشعب الخاضع لسيطرة قوات بشار الأسد الأمنية والعسكرية؟

الأزمات الاقتصادية في سورية ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى، وحلولها يجب أن تكون سياسية قبل أي منظور آخر، وذلك يشمل بالطبع التخلّص من تكتل العائلات الحاكمة الذي تفضلت بالإشارة إليه، والذي هو جزء عضوي من النظام السياسي الحاكم. لا يبدو أنّ هنالك حلولًا سياسية مطروحة في الأفق القريب، بل إنّ الوضع متّجه إلى المزيد من التعقيد والتراجع، خاصة من خلال المحاولات الدولية المكثفة لتعويم نظام الأسد وإعادة تأهيله لحكم سورية من جديد.

ما مدى جدّية الإدارة الأميركية في إنهاء الأزمة السورية؟ وهل تتوقعون حدوث تغيير في مجريات الأحداث مع دخول الرئيس الجديد جو بايدن البيت الأبيض؟

لا تتغيّر السياسات الأميركية الخارجية بتغيّر رؤسائها أو الأحزاب الحاكمة فيها، أو حتى بتبدل الأغلبيات ضمن مجلسي الكونغرس والشيوخ، فهذه مصالح عليا تتقرر بمعزل عن تلك التغيّرات التي قد تتأثر بها السياسات الداخلية فقط.

الأميركيون ينتخبون رؤسائهم وممثليهم إلى المجالس، بناء على برامجهم الانتخابية الداخلية، فيما تغيب السياسات الخارجية عن برامجهم تلك، وهذا أمر طبيعي لدولة عظمى تمتد مصالحها الإستراتيجية على كامل مساحة الكوكب، وأمثلة استمراريتها واضحة ومعروفة، خاصة أنّ جو بايدن بالذات كان نائب الرئيس باراك أوباما لثماني سنوات، وما زلنا نذكر طبيعة سياسة أوباما تجاه سورية، حتى إنّ البعض راهن على دور متمايز للرئيس دونالد ترامب عام 2016، وها هي ولايته قد انتهت ولم يحصل خلالها تبدل في سياساته تجاه سورية عن سياسات سلفه، إلّا بعض الممارسات البهلوانية التي تميزت شخصيته بها، ولم تقدّم شيئًا ولم تؤخر.

سؤالي الأخير: هل ترجّحون أن يكون هناك في الأفق المنظور حراك شعبي سلمي واسع النطاق في المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام يهدف إلى الإطاحة بحكم بشار الأسد؟

سبق لي أن قلتُ إنني لم أكن أتوقع اندلاع ثورة 2011، نظرًا للطبيعة الهمجية للنظام، واستنادًا إلى ردات أفعاله الوحشية في مواجهة حراكات شعبية عديدة سابقة قام بها السوريون، توّجَها في مجازر حلب وجسر الشغور وتدمر عام 1980، ثم حماة 1982، التي أرادها درسًا للسوريين على مدى أجيال. أما اليوم، بعد أن تكبد السوريون في ثورتهم الأخيرة حوالي مليون شهيد ومئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين ومثلهم من مشوهي الحرب، وبعد أن تم تدمير مدنهم وقراهم وعمرانهم وجرى تهجير أكثر من نصف سكان البلاد، فإنني أدعو الله ألّا يفكروا في ثورة جديدة، بالرغم من مشروعيتها المطلقة، لأنها ستطيح بمن تبقى من الشعب، وتحقق حلم النظام ومشغليه في إتمام مشروع الهندسة الديموغرافية التي كُلّف بإنجازها؛ فالظروف الدولية التي حالت دون نجاح ثورة عام 2011 ما زالت كما هي، بل توضحت أكثر وتجذرت. وضع السوريين اليوم يماثل وضع أشقائهم الفلسطينيين، فالمأساة واحدة والعدو واحد، وحلّ القضيتين لن يكون إلّا على التوازي، ومن خلال تغيير جذري في معادلات القوى الدولية، ومن خلال تغيّر نظرة المجتمع الدولي إلى دولة إسرائيل ودورها في المنطقة وفي العالم!

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى