شهادات

شذرات عن الوطن والثورة (1)/ نائل الطوخي

كلمتان لدودتان لا تتوقفان عن الالتقاء والافتراق

يبدو للكثيرين من أبناء اللحظة الراهنة، وبسبب الشدّ والجذب والمكايدات السياسية الدائرة منذ عشر سنوات، وكأن ثمة توتراً بين مفهومي «الوطن» و«الثورة».

كأن هناك تنافساً بينهما على من منهما أجدر بأن يحتل، في العمل السياسي ببلادنا، موقع القيمة المطلقة البديهية التي لا تُساءَل، القيمة التي تنتهي إليها كل القيم الأخرى.

منذ عقود، كان الأحق بقيادة الجماهير هو الأكثر وطنية بينها، ومنذ سنوات أخرى، هذا مكانه للأكثر ثورية.

مع الاختلاف الهائل بين معاني الألفة والأمان والاستقرار التي يقدّمها «الوطن»، والمغامرة العاصفة غير المتوقعة نتائجها التي تقدّمها «الثورة»، تبدو كل من الكلمتين، وللمعاني الإيجابية التي تقدّمانها والتي تقارب حدود القداسة، وكأنها الأجدر بمناطحة الأخرى؛ كأنهما ندّان.

وبالتالي، ليس من قبيل الصدفة لدى اندلاع الاحتجاجات الأولى في 25 يناير 2011، كما لدى اندلاع أية احتجاجات ربما، أن يكون رد الفعل الغريزي لدى أتباع النظام هو اتهام المتظاهرين بـ«العداء للوطن»، كأن أعداء الثورة حاولوا البحث عن شرعية قد تغلب شرعية «الثورة»، فلم يجدوا إلا «الوطن».

ولكن لأن «الثورة» كانت مفهوماً حياً ومتحققاً ساعتها، لا مجرد كلمة مستعارة من الكتب والأدبيات ونشرات الأخبار، فقد فشلت كلمة «الوطن» في إخمادها في الأول، في الـ18 يوماً نفسها، فتَحتَّمَ بالتالي خفضُ الرأس قليلاً أمامها، واللجوء إلى «ثورة» أخرى، 30 يونيو هذه المرة، لتغلب الثورة الأولى.

وبعد أن انكسرت 25 يناير، وبغرض تصفيتها والإجهاز عليها تماماً، جرى اتهامها مجدداً بـ«العداء للوطن».

* * * * *

لحمولتها البلاغية الثقيلة، تصعب ترجمة كلمة «وطن» بشكل حرفي ودقيق. لهذا ربما، ظهرت محاولات أدبية للسؤال عن معناها. في روايته عائد إلى حيفا (1969) طرح الأديب الفلسطيني غسان كنفاني سؤاله الشهير: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟»، وفي 1993، طرح مدحت العدل، أحد أشهر مروجي «الوطنية» في صيغتها الشعبوية في مصر التسعينات، سؤالاً بنفس المعنى. سيُقدَّر له أن يُقتبس بشكل رومانسي في الأول، وبشكل تهكمي بعدها: يعني إيه كلمة وطن؟

لم يعطنا المؤلف إجابة لغوية لسؤاله في الأغنية، ولا نتوقع منه ذلك، وإنما كل ما فعله أنه ردَّ بتعداد تفاصيل الحياة القاهرية، القبيحة منها والجميلة، ولكن الأليفة في كل الأحوال للمستمع.

وهذا لأن دفاع الوطنيين عن الوطن لم ينطلق غالباً من حجج وسجالات عقلانية، وإنما كان ترديداً لتفاصيل يومية يعرفها المستمع جيداً، فيتخدّر بالتالي إحساسه بالمنطق ويستسلم لأُلفته تجاه أماكنه وعاداته.

في هذا السياق، شاع تقليد شعري غنائي، يرص فيه الشاعر أسماء البلدان العربية، أو المحافظات المصرية، أو الأحياء القاهرية، كلها بجوار بعض، في نسق موزون ومُقفّى، للدلالة على براعته.

فقط «لَضْم الأسامي»، بتعبير الشاعر فؤاد حداد، بجوار بعض، أسبغ المعنى غير المنطوق في هذا التقليد الشعري.

فالوطن، في جزء جوهري منه، هو التعوُّد و«توطين» النفس على أمر بعينه، وقد يكون للكلمة، في أصولها الأولى، علاقة ما بـ«الطين»، خاصة بالنسبة لعرب عرفوا كلاً من حياة الترحال ونصب الخيام كما حياة الاستقرار والزراعة وبناء البيوت. كأن الوطن هو الرسوخ في مقابل التغرّب الدائم؛ البيت في مقابل الخيمة، ويكفي التذكير بتفاصيل البيت لإقناع الجمهور بحبِّه.

* * * * *

في فيلم سمع هس (1991) يدلّل الفنان الشاب زوجته، منادياً إياها، في أغنيته، باسم «زوجوجتي»، ورداً على هذا، يقرّر الموسيقار الكبير الذي سرق منه أغنيته، تدليل «الوطن» نفسه: «أنا وطني بنشد وبطنطن، وأتباهى بمجدك يا وطنطن».

بعدها، وللدلالة على فرق القيمة بينهما، يعاير الموسيقارُ الكبيرُ الفنانَ الشابَ قائلاً: «دا الفرق بيني وبينك، إنت بتدلّع مراتك وأنا بدلّع الوطن».

كان هذا هو الرد التهكمي من جيل جديد ظهر في التسعينات، السيناريست ماهر عواد والمخرج شريف عرفة والشاعر بهاء جاهين كاتب الأغاني، على الاحتفاء الأجوف بـ«الوطن»: تدليل الوطن، والتقفية في النهاية بينه وبين الطنطنة.

* * * * *

يعبّر الكثيرون عن غضبهم من استخدام تعبير «مستوطنين يهود»، مقترحين إبدالها بـ«مستعمرين»، لربطهم بالاستعمار بالطبع، ولكن أيضاً وبالأساس، احتجاجاً على اشتقاق الـ«استيطان» من جذر «وطن»، الذي هو مفهوم جميل لا يليق ربطه بالصهاينة.

من كلمة «وطن» تُشتق الـ«وطنية»، ومثلها أيضاً، تأتي الأخيرة بمعنى إيجابي حصراً. يوصف بها الفنان أو المفكر أو المناضل، فنفهم أنه شخص محترم، وغالباً كبير السن، وغالباً عقلاني. وحتى لو كان معارضاً، فهو يميل للإصلاحية أكثر من التغيير الجذري، دون أن يكون للأمر بالضرورة علاقة بالوطن أو بالأفكار الوطنية.

وَلِهَول كلمة «الوطنية» في بلادنا، فغالباً لا يجرؤ أحد من المثقفين، حتى لو عرّف نفسه بوصفه أممياً أو أناركياً، على التصريح بأنه «غير وطني». يظل هذا خطاً أحمر يحدسه الجميع ولا يقتربون منه.

* * * * *

لم تكن كلمة «وطن» شائعة في الخطاب الرسمي المحتفي بمبارك، والذي قدّم نفسه باعتباره رئيساً تقنياً وضد البلاغة الكبيرة – والناصرية منها بالأساس – أو كما وصفه الشاعر عبد السلام أمين في أوبريت اخترناك: «لا بيخدعنا ولا يطمّعنا، بكلام إنشا مالهوش معنى».

وبالتالي فقد جاء الاحتفاء بـ«الوطن»، في تسعينات القرن الفائت، من مكان آخر غير الخطاب الرسمي.

كان يكفي وقتها المغني أو السينمائي أن يُدرِج الكلمة في عمله ليعني هذا فوراً أنه فنان مثقف، من جماعتنا؛ أنه أعلى قليلاً، وأكثر ثورية، من التيار الفني التجاري الذي ينتمي له؛ وليحوز رضا جمهور، صحيح أنه ليس الأكبر في مصر، ولكنه الأكثر نوعية واعتداداً بنفسه وبذائقته وباختلافها.

في 1994، غنى الفنان محمد منير «قلب الوطن مجروح»، وبعدها بعامين، ومن كلمات الشاعر مجدي نجيب، غنّى «يا أنا يا أنا»، وهي أغنية حب تتجاور فيها مفردات السكر والمرمر والشفاه والغزلان والحيرة والشرود والعطور، إلى أن نفاجأ بالمغني في نهايتها يصرّح: «دا منايا، يا هنايا، أسكن في الوطن / هتجيني، تلاقيني، ساكن في الوطن».

وقتها أحاطت بكلمة «الوطن» ظلال مهزومة ورومانسية وحزينة، فيما يشابه، مع بعض الاختلاف، ما تصير إليه كلمة «ثورة» في مصر الآن، وبعد عشر سنوات حدوثها.

لا تزال يناير ماثلة في أذهاننا الآن. هي بداية كل قصصنا، فقط الكلمة لا ننطقها، وإذا ما كتبها أحدهم على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه سرعان ما يُقابَل بإيموجي الوجه الحزين: نحن نعرف كل ما تقوله، ونحن نصدّقه ونوافق عليه، لكننا فقط مُتعَبون، فحلّ عنا الله يخليك.

تشترك الكلمتان في الأسى الذي تثيرانه، حتى لو كان حزن الثورة الآن أكبر بما لا يقاس مما كانه حزن الوطن في التسعينات، سواء لأن الإشارة إلى الثورة أخطر أمنياً، أو لأنها، لطزاجة الحدث، أكثر إرهاقاً وقدرة على تذكيرنا بما لا نريد تذكره.

* * * * *

إذا كان «الوطن»، كما رد غسان كنفاني على سؤاله، «هو ألا يحدث ذلك كله»، فإن الثورة كما نراها الآن، وبارتباطها الوثيق بمفهوم «الحرية»، هي أن يحدث ذلك كله، معاً وبالتزامن ومن اتجاهات غير متوقعة.

نفهم «الوطن» اليوم ربما باعتباره أشبه بالحشيش المسكِّن، في مقابل «الثورة» الأقرب للكوكايين المنشِّط. كأن الاحتفاء بالـ«وطن» هو شكل من أشكال التنويم المغناطيسي، غير الهادف إلا للتثبيط من عزم المتظاهرين.

ولكن الوضع لم يكن دائماً هكذا.

كانت واحدة من أهم حجج المعارضة ضد مبارك أنها أكثر وطنية منه. وكانت أُولى بوادر معارضته، حتى قبل انطلاق حركة «كفاية» في 2004، هي جريدة العربي الناصري التي رأس تحريرها عبد الحليم قنديل، وبهذا المعنى فقد كان الناصريون؛ الوطنيون، لا الشيوعيون ولا الإسلاميون ولا الأناركيون، هم أول دعاة ثورة 25 يناير، حيث كانت أصداء التضامن مع انتفاضة الأقصى والاحتجاج على احتلال العراق لا تزال وقتذاك – في 2004 – حاضرة بقوة في الشارع السياسي.

يعني هذا أن شيئاً كبيراً من «الوطن» قادنا إلى «الثورة» في خطواتنا الأولى، قبل أن تعاود الكلمتان – والمفهومان – الافتراق، كلٌ إلى حال سبيله.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى