أبحاث

مراجعات العام العاشر للثورة السورية -مقالات وحوارات وتحليلات مختارة-ملف من اعداد “صفحات سورية”متجدد يوميا

سيتم تحديث هذا الملف بشكل مستمر، وستضاف المقالات الجديدة في نهاية هذا الملف.

===================

ثلاثة دروس في عشرية ثورات لم تنته/ مروان المعشّر

كُتِبت تحليلات عدة لمناسبة مرور عشر سنوات على الثورات العربية التي بدأت في تونس في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام ٢٠١٠ وامتدت لأن تشمل إما احتجاجات واسعة أو تغييراً في أنظمة الحكم لأكثر من 12 بلداً عربياً. اعتمدت معظم هذه التحليلات على التغيرات الآنية التي حدثت في هذه البلدان، كما جاءت باستنتاجات تغلب فيها رؤية الأمور بالأبيض والأسود فقط، وتخلص إلى أن الاضطرابات التي شهدها العالم العربي ما هي إلا دليل على أن ما مرت به المنطقة هو خريف ودمار عربي، وليترحم الكثيرون على ما كانت عليه المنطقة قبل بدء هذه الثورات.

أزعم أن مثل هذه القراءة تكاد تكون سطحية، وتتجاهل الدروس التاريخية العديدة التي تعلمنا بأن أياً من موجات التغيير في التاريخ لم تنته باستقرار او ازدهار في فترة قصيرة مدتها عشر سنوات. كما ليس بالضرورة أن تنتهي كل موجة احتجاجية باستقرار أو ازدهار. وكما كتبت قبل سنوات في كتابي الثاني “اليقظة العربية الثانية والمعركة من أجل التعددية”، “قد يكون من المبالغ به الى حد كبير ان نتوقع من الناس ان يكون لديهم منظور تاريخي لما حدث منذ العام ٢٠١١. إن فترة انتباه الناس قصيرة، وصبرهم حتى أقصر … قلة من الناس لديها الوقت للنقاشات التاريخية أو للتفسيرات التحليلية”.

ومع ذلك، فقد علمتنا الثورات العربية الكثير خلال عشر سنوات، على الأقل لمن يريد أن يتعلم، وقدمت دروساً من الضروري الاستفادة منها حتى تكون العقود القادمة أكثر سلمية وازدهاراً.

الدرس الأول أن الوضع القائم لم يكن قابلاً للاستمرار لأن جُلّ الانظمة العربية يغلب عليها الطابع السلطوي، ولم تتمكن من محاكاة الهموم اليومية للناس وتوفير العيش الكريم لها ومحاربة الفساد المتفشي بطريقة منهجية. تُشكل هذه الحقيقة نقطة الانطلاق، وذلك رداً على من يتمنى ارجاع عقارب الساعة للوراء وتجاهل الأسباب الرئيسية، أي ضعف المأسسة والحاكمية الرشيدة، التي أدت الى اندلاع الثورات بالدرجة الأولى. أما وقد طالت هذه الاحتجاجات أكثر من 12 دولة، فقد تراجعت الحجة القائلة أن الموضوع ليس الا مؤامرة خارجية، بمعنى أن الشعوب العربية تساق هكذا دون أن يكون لها قرارها الذاتي. هذا لا ينفي بالطبع بروز تدخلات خارجية في العديد من الدول كليبيا وسوريا واليمن، ولكنها أتت استغلالاً لهذه الثورات، وليست مسببة لها. وقد أدت القراءة الخاطئة لقوى الوضع القائم إلى عودة الناس لبيوتها في العديد من الدول خوفاً أن تلقى دولها مصير سوريا أو اليمن أو ليبيا، الى رجوع هذه الانظمة لأساليبها السلطوية، دون معالجة الأسباب التي أدت أصلاً للثورات العربية. فكانت النتيجة ظهور موجة جديدة من الثورات عام ٢٠١٩، وذلك في السودان والجزائر والعراق ولبنان.

الدرس الثاني أن قوى الوضع القائم متجذرة في العالم العربي إلى حد كبير، وأنها قادرة في معظم الاحيان، حتى عندما تتعرض لهزات كبيرة كما في مصر أو الجزائر أو سوريا مثلاً، الى استعادة قواها واساليبها، مستفيدة من قلة خبرة وتنظيم الاحتجاجات الشعبية ضدها. كما من الواضح أن هذه القوى لا تملك رغبة او ارادة اصلاحية، وأنها تعتقد بأن بإمكانها استخدام الاساليب الامنية والسلطوية لإدامة الاستقرار ولو بالقوة، وأن بناء المؤسسات الحقيقية وانظمة الفصل والتوازن وسيادة القانون على الجميع ليس من أدبياتها ولن يكون.

أما الدرس الثالث والأساسي فهو أن الاحتجاجات والثورات بحد ذاتها لا تؤدي الى بناء دول حداثية قوامها مؤسسات راسخة وسيادة القانون واحترام التعددية، وان ذلك يحتاج الى أطر فكرية وتنظيمية، وإلى الوقت الكافي لنضوجها. لم يهتم الجيل الجديد بهذا في الغالب. ولم يُساعد الغياب الفاعل للحياة الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني، في تحويل هذه الاحتجاجات الى بدائل مقنعة لعامة الناس، وبذلك فقد خبا نجم الاحتجاجات في كافة هذه الدول. وبعدما خرج الجزائريون للشارع بمسيرات مليونيه كل يوم جمعة على مدى أكثر من عام، لم ينجحوا في تحقيق التغيير الذين كانوا يطالبون به. وفي لبنان، فان ثورة تشرين الاول عام ٢٠١٩ خبت هي الاخرى. في معظم هذه الدول باستثناء تونس، كان المحتجون أقدر على تعريف ما هم ضده من تقديم ما هم معه من برامج وحلول. لا يعني ذلك أن الثورات العربية انتهت، و طالما لم تعالج المسببات التي أدت لهذه الثورات، فسيشهد العالم العربي موجات ثالثة و رابعة وخامسة.

كيف يكون الحل إذا وما هي أدواته؟ فان سلمنا أن عقارب الساعة لا تعود للوراء، وإن الاحتجاجات الشعبية دون تأطير فكري وسياسي وتنظيمي لا تؤدي الى تغيير ايجابي في معظم الاحيان، وأن الانظمة السلطوية قادرة على وأد أي محاولة لإنشاء أطر تنظيمية تقليدية كالأحزاب مثلا، فكيف السبيل لطرق سلمية فاعلة تعترف بصعوبة الواقع ولكنها لا تقف عنده؟

أعتقد أن امام الجيل الجديد مهمة شاقة تبدأ بالاعتراف بانه ما من طرق مختصرة للديمقراطية والازدهار، وان الطريق يبدأ من تثقيف نفسه فكرياً واستيعاب المبادئ الحقيقية للديمقراطية والايمان بها فعلاً لا قولاً، ثم بناء أطر تنظيمية غير تقليدية لا تستطيع الانظمة السلطوية التقليدية السيطرة عليها، أطر تمكنه من الحوار والمناقشة وتطوير نفسه فكرياً وتنظيمياً، وصولاً الى تقديم بدائل مقنعة لعامة الناس، فلا يمكن للأطر الفكرية أن تبقى أسيرة العقول النخبوية، بل يجب العمل الدؤوب لتوعية الناس كيف تؤدي التعددية والمدنية الديمقراطية لتحسين حياتهم اليومية.

هذه المهمة ليست أهلاً لأصحاب القلوب الضعيفة، أو لمن أعتبرهم الرومانسيين الحقيقيين، أولئك الذين يستسلمون أمام الصعاب الجمة التي تعترض طريق الديمقراطية، وبخاصة بالتزامن مع الأحوال الاقتصادية الصعبة. حان الوقت كي يدرك الجيل الجديد في العالم العربي أن الطريق طويل وشاق، وأن الوصول لعالم عربي مستقر ومزدهر يتطلب عقوداً من الزمن، ولن يتحقق في حياة الكثيرين، بمن فيهم ابناء وبنات جيلي.

التوعية والاستعداد والتثقيف وبناء البرامج المقنعة واستخدام وسائل الاتصال الحديثة كلها عوامل ستساهم في خلق جيل جديد مختلف ينشد الحوكمة الرشيدة والسلمية والتعددية والتشاركية والانتاجية في الوقت ذاته، فهي الاسس التي سيقوم عليها أي ازدهار مستقبلي.

مركز كارينغي للشرق الأوسط

—————————-

من منجزات الثورة السورية/ ميشيل كيلو

لا بد من التأكيد، من دون مبالغة، على أن السوريين أنجزوا إحدى أعظم الثورات في ماضي البشرية وحاضرها، وأن ثورتهم انطلقت على الرغم مما كان قائما في سورية من موازين قوى بين الأسدية وبينهم، ومرّت بأطوار إعجازية، أبدى المواطن السوري فيها من البطولة ما ينتمي إلى عالم الأساطير، فلا عجب أن بلغت مآلاتٍ سيكون مستحيلا بعدها استعادة الوضع السابق لها، بالنسبة لطرفيها كليهما، فلا الأسدية ستتمكّن من ردّ المواطن إلى الزمن السابق لعام 2011، ولا المواطن سيقبل، تحت أي ظرف، الرجوع إلى الذل الذي ثار عليه، واستشهد بالملايين ليتخلص منه، ويعيش بكرامة وحرية وعدالة ومساواة، في ظل نظام لا يستعبده بعد نظام الأسدية الذي خال أن رضوخ السوريين له صار أبديا، وأن ما اصطنعه من استبداد منظّم يحول بينه وبين أن يكون إنسانا جديرا بالحياة، أو مؤهلا لها.

إذا تذكرنا موازين القوى التي كانت قائمة بين تماسك جيش وأجهزة الأسدية وتنظيمهما، وتأملنا ما أعداه ليوم كرسا له طاقاتهما، هو يوم المعركة ضد الشعب، والتي ترجمت إلى انقضاض وحشي عليه في كل مكان، واستخدمت ما راكمته من قوة وسلاح ضده، وحملته من حقدٍ عليه، وقارنا وضعها هذا بوضع مجتمعنا الذي استهدفته، منذ اليوم الأول لاستيلائها على السلطة، وعملت لتقويض لحمته الجامعة، وشحنته بتناقضاتٍ أوكلت إليها تمزيق صفوفه وتوتير علاقاته وإبعادها عن العيش المشترك، وإخضاعها لقدرٍ لا يني يتزايد من العداء، بينما سلطت عليه عالما سفليا منظّما ومزودا بكل ما يلزم لسحق المواطنين، جسّدته أجهزة رأت في حريتهم خطرا يهدّد وجودها. ومع ذلك، تخطى الشعب، بعفويته وشجاعته، فارق القوة بين السلطة وبينه، منذ بدأ حراكه السلمي والمدني. ولم تبدّل هذا الواقع تنظيمات إرهابية مذهبية، قاسمت الأسدية عداءها للحرية ولوحدة السوريين شعبا تجمعهم سوريته، ونجح المجتمع السوري الذي خالت الأسدية أنها حطّمته بما عرّضته له من ظلم واضطهاد، فأخبرها أن ظلمها واضطهادها هما ما دفعاه إلى الثورة، وإلى تمسّكه باستمرارها، مهما كان الثمن الذي تتطلبه، ما دام ثمن كرامته وحريته أغلى وأعلى قيم تجعل الحياة جديرة بالبشر والبشر جديرين بقيمتهم الإنسانية التي لا تعادلها قيمة.

الإنجاز الآخر للثورة إنه كسر نظاما همجيا ووحشيا بتلقائية الإنسان التي تحتضنها الحرية المتأصلة فيه، ومكّنته من أن يواجه بما حبته الطبيعة به من صلابة قوة وظلم وكذب استبداد بني على الغدر والخديعة، مارسه من بدا قويا طوال عقود على من خاله ضعيفا، وانتهي بنزال قوته ما كان كامنا في أرواح السوريين من طاقة، لم يحسب الاستبداد حسابا لها، وهو يزهو بجيشه وأجهزته السرية، ويضحك، في سرّه، وهو يتأمل الخراف التي أعدها للذبح، واكتشف، خلال ثورتهم، أن حرّيتهم جعلتهم نسورا غرست مخالبها في لحمه، وألقت به إلى مهاوي هزيمةٍ لن يخرج منها، أو يتجاوز نتائجها، بعد أن أنزل شعبه به قدرا من الدمار لن يستعيد بعده وضعه قبل النزال العظيم، أي قبل الثورة التي أبلى أبناؤها، إناثا وذكورا، من البطولات ما لم يكن يخطر ببال أحد!

بهذا الانقلاب الثوري، صارت الأسدية وراءنا، مهما فعلت، واستنجدت بالمحتلين والغزاة. ولن تكون سورية القادمة لها، بل ستكون بالأحرى لنا، بما أننا سنواصل ثورتنا التي باغتنا أنفسنا وأعداءنا والعالم بها، وسنعزّز حريتنا التي طردت الأسدية من نفوسنا، قبل أن تقوّضها في واقعنا، وستستكمل القضاء عليها، وعلى أي مظهرٍ من مظاهر الاستبداد، مهما طال الزمن، أو كان التيار والمذهب الذي ينتمي إليه، فالحرية ثورة ومعركة، والسوريون أثبتوا عشرة أعوام أنهم رجالها.

العربي الجديد

————————-

لا أحد يريد الاعتراف بالهزيمة/ رشا عمران

نحن في بداية شهر مارس/ آذار، شهر الثورة السورية التي بدأت قبل عشر سنوات، بكل ألقها واستثنائيتها، وبكل فيض الحب الذي كان يغمر السوريين الثائرين عام 2011. في كل عام وأنا أستعيد ما كتبته على صفحة فيسبوك في هذه الأيام، أصاب بحزنٍ لا أستطيع توصيفه، حزن وقهر وعجز مضاف إليه إحساس بالذنب، ووخز في الضمير لمغادرتي سورية نهاية سنة الثورة الأولى، أو ربما لمغادرتنا جميعا سورية، خوفا من الاعتقال والموت، أو بحثا عن الأمان، بدل الاستمرار في محاولة الحصول، ولو على مطلبٍ وحيد من مطالب الثورة.

لكنني أستعيد لاحقا تدويناتٍ كتبتها أو كتبها أصدقاء سوريون، توثق ما حدث خلال السنوات الماضية، وتسجّل بالتواريخ ما تعرّض له السوريون من عنف وإجرام غير مسبوق، وصولا إلى وقتنا الحالي، حيث يعيش السوريون داخل سورية (في مناطق النظام وفي المناطق الخارجة عن سيطرته، وفي مخيمات دول الجوار) في كارثةٍ إنسانية لا مثيل لها، حيث الجوع والعوز وانعدام أدنى شروط الحياة الإنسانية والكرامات البشرية (التي سفكت وانتهكت بكل الأساليب، ومن جميع المتسلطين في سورية)، فأقول لنفسي، وأنا أستعيد ذلك كله: ربما لصالح أجيال سورية قادمة أن خرج كثيرون منها قاصدين دولا تحترم إنسانيتهم وحقوقهم البشرية، وتصون كراماتهم التي أهدرت عقودا طويلة. ربما لصالح سورية أن تنشأ أجيالٌ بعيدة عن الحرب وآثارها النفسية المدمرة، إذ قد يحدث أن يعود هؤلاء ذات يوم إلى سورية، ويعيدون بناء مجتمع جديد بعقد إنساني محترم، يشبه مجتمعات الدول التي عاشوا فيها ومنحتهم فرصا ما كانوا ليحصلوا عليها، لو لم تغادر عائلاتهم سورية في وقت الثورة والحرب؛ ربما سيتاح لهذه الكوادر، ذات الأصل السوري، أن ترى سورية بشكل مختلف في يوم ما من الزمن المقبل، وهي المتخفّفة من الأثر الذي يخلفه الإجرام المعمّم على الأرواح، ويختزنه العقل الباطن، ليظهر على شكل غضبٍ وعنفٍ وتشبّه بالجلاد في رفض الرأي المخالف، وشمولية الرؤية الفردية ومحاولة فرضها بوصفها الحقيقة الوحيدة، والتمثيل، افتراضيا، في جثة من يعترض على سياق يريده بعضهم عاما، بذريعة محاربة اليأس والتمسك بالأمل.

نمتلك جميعا هذا الغضب السلبي المدمّر، نحن الأجيال التي عاصرت السنوات العشر السابقة، ولم ينج من ذلك حتى الجيل الشاب الذي كبُر مع سنوات الثورة والحرب، وخرج إلى مجتمعاتٍ معافاة، إذ يحمل هذا الجيل معه ثقل ما تعرّض له جيل آبائه، وما تعرّض له هو نفسه، هذا الثقل الذي لا يزيحه الإحساس بالأمان ولا بالكرامة. سيبقى مثل حدبة ثقيلة تحني ظهر حاملها، إلى أن تتحقّق معجزة ما، ويُحاسب من تسبب بكل ما حدث، وهو أملٌ لا يبدو تحقيقه واردا في المنظور القريب، إذ لم يصدف أن حاكمت العدالة الدولية مجرما متهما بارتكاب جرائم حرب ودولة، بعد المحاكمات التي طاولت مرتكبي جرائم النازية، والتي كان وراءها ضغط كبير من اللوبي اليهودي في أوروبا وأميركا، المتكاتف والفاعل جدا بما يخص قضاياه، وهو ما لا يتوفر للسوريين الذين تعرّضوا لإجرام نظام الأسد وحلفائه، ولإجرام الكتائب الإسلامية الراديكالية، وحتى تلك التي تعتبر معتدلة. نحن نمتلك فقط القدرة على الخلاف على أصغر القضايا وعلى أكبرها، حتى اختلافنا يتحوّل إلى خلاف شائك، نعدم فيه بعضنا بعضا. كما نمتلك القدرة على تهشيم وتشويه سمعة وصورة وتاريخ كل من يخالفنا الرأي. لم نستطع تقديم صورة نبيلة عن الثورة، ولا عن أنفسنا للأسف. لا كيانات المعارضة قدّمت هذه الصورة للمجتمع الدولي، ولا النخب السياسية والثقافية والفكرية والقانونية فعلت هذا، ربما هذا هو فقط ما يجمعنا بعد عشر سنوات من الثورة: سهولة شتم وتدمير الجميع بدءا من المجتمع الدولي وانتهاء بأصغر كاتب رأي مختلف على صفحات العالم الأزرق.

في كل حال، ليس فقط أن المجتمع الدولي لا يأخذنا على محمل الجد، بحيث نتمكّن من تشكيل ضغط لتحقيق ما نصبو إليه، بل أيضا، لا يبدو أن هذا المجتمع ينوي محاسبة النظام السوري، أو حتى إزاحته عن حكم سورية، بل ما يحدث هو محاولات لإعادة تدويره، وترتيب أوراقه من جديد، على حساب السوريين وكراماتهم وحاضرهم ومستقبلهم. لا يريد أحد من السوريين الاعتراف بالهزيمة، لا المعارضون ومؤيدو الثورة، ولا الموالون ومؤيدو النظام، بينما الواقع، بعد مرور عشر سنوات على الثورة التي كادت أن تكون استثنائية في تاريخ البشرية: هزمنا جميعا، وأفضل ما نفعله هو الاعتراف بهذا، بدل رطانة شعاراتٍ لا معنى لها.

—————————-

سورية .. ما العمل؟/ مروان قبلان

بعد عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية، وتحولها إلى حرب وكالة إقليمية ودولية، بسبب سوء إدارة النظام وتمرّسه في العنف، وسوء تقدير المعارضة وأخطائها وقلة خبرتها، وفشل المجتمع الدولي في منع انزلاق السوريين إلى كارثة، واستغلال دول عربية وإقليمية الأزمة لتحقيق مكاسب أو تصفية حسابات مع خصومها، لا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن “الساغا” (الملحمة) السورية اقتربت من نهايتها. على العكس، تذهب كل الدلائل إلى أن الوضع السوري سوف يستمر في التحلل والتعفن، وصولاً إلى النقطة التي قد نشهد معها انهيار الدولة السورية، بعد أن تصدّعت أركانها بشدة خلال السنوات الماضية.

في مناطق النظام، يسيطر الجوع والفقر والمرض، ويتفسخ الوضع الاجتماعي والقيمي، وتتحكّم مليشيات بالوضع على الأرض، وتتصرّف خارج أي إطار قانوني خلاف ما تسمح به تبعيتها للراعي الإيراني أو الروسي. وفي مناطق المعارضة، يسيطر الدمار وتنتشر مخيمات اللجوء التي تفتقد إلى أبسط مقومات الحياة، وتتحكّم فصائل مسلحة على الأرض، لا يبدو أنها هي الأخرى تملك قرارها. وفي كلا المعسكرين، يعيش ملايين الأطفال خارج إطار التعليم، أو يتلقون القليل منه، وتزداد بينهم مشاعر الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام، وسط غياب أي مظهر من مظاهر التعاطف مع معاناة “الآخر”، ما ينذر بظهور جيل جديد من “دواعش” الطرفين. مع ذلك، يستمر النظام في التظاهر بأن الوضع عاد إلى “حالة الطبيعة”، بعد أن انتصر على “المؤامرة الكونية” التي استهدفت إزاحته، وهو يعدّ العدّة لإجراء انتخابات رئاسية، يعد فيها مؤيديه بالنصر ويطالبهم بالصبر. في المقابل، تستمر المعارضة في التظاهر بأنها لم تُهزم، وأن قرارها ما زال بيدها، وتبث، فوق ذلك، الوهم أن إسقاط النظام ما زال ممكناً عن طريق المفاوضات واللجنة الدستورية، وأن الانتقال السياسي صار في الأفق وهي تستعد له.

في الأثناء، يستمرّ العالم المشغول بمشاغله الصحية والاقتصادية، التي فرضها تفشّي وباء كورونا، بالتظاهر أنه مهتم بحل الأزمة السورية. وفيما يصرّ شركاء أستانة على أن مسارهم قد يفضي إلى شيء، تصرّ واشنطن، وحلفاؤها الأوروبيون، على ترداد مطالبتهم بتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، الذي أصبح يعني للسوريين ما يعنيه القرار 242 للفلسطينيين، ويراهنون على أن العقوبات ستدفع النظام في نهاية المطاف (الذي لا يبدو واضحا أين ومتى وكيف سينتهي) إلى الرضوخ لشروط الحل السياسي. والنتيجة، بحسب الأمم المتحدة، أن 80% من السوريين المقيمين في سورية (في مناطق النظام والمعارضة) يعيشون تحت خط الفقر، و60% منهم (12,4 مليوناً) يعانون من الجوع، علماً أن العدد، بحسب برنامج الغذاء العالمي، ازداد بمقدار 4,5 ملايين شخص خلال عام واحد. وكأن هذا كله لا يكفي لجعل الوضع سيئاً، إذ فيما يستمر معسكرا النظام والمعارضة في الانتحار والتفسّخ، توضع سورية من جديد على طاولة المفاوضات الأميركية – الإيرانية، ولا يغيب عنها بقية الخمسة الحاضرين بجيوشهم على أرضها (روسيا وتركيا وإسرائيل)، وكل منهم يسعى إلى تأمين حصته فيها.

لا يمكن لأحد أن يرسم صورة واقعية أكثر قتامةً حول مستقبل بلدٍ تميز تاريخياً بأنه صانع حضارة، وانتهى به الأمر هكذا. كل هذا الكلام ينشد الوصول إلى الخلاصة التالية: بات الوضع يتطلّب من كل السوريين المؤمنين باستعادة وطنهم، على اختلاف مواقفهم السياسية ومذاهبهم الفكرية، الارتقاء الى مستوى الكارثة التي حلت بوطنهم، والتخلص من وهم أن معسكراً منهم قادر على فرض إرادته على المعسكر الآخر، والالتفات، بدلاً من ذلك، إلى تسخير كل الإمكانات للإجابة عن السؤال المصيري الذي يصفع الوجوه في هذه المرحلة: ما العمل؟ كيف السبيل إلى الخروج من هذه الكارثة، والانعتاق من لعبة الأمم وحرب المحاور الدائرة على أراضينا وبدمائنا؟ على المعارضة أن تعترف بوجود عقلاء في معسكر النظام يدركون حجم الكارثة ويريدون حلاً. وهناك في المقابل عقلاء في صفوف المعارضة يدركون الأمر عينه ويريدون حلاً. يجب إيجاد طرق للتواصل بين الطرفين، للتوصل إلى صيغة مشتركة للإنقاذ. وإذا لم يجد السوريون هذه الصيغة، فإن أحداً آخر لن يفعل. فالحل، بعد عشر سنوات من الكارثة، لن يأتي من موسكو أو من واشنطن، فنحن بالنسبة للأولى ساحة اختبار لسلاحها، وللثانية ورقة تفاوض وساحة لمقارعة التطرّف بعيداً عن أراضيها. الحل يأتي فقط من رحم المعاناة، وينشده أصحابها، ويصنعه العقلاء بينهم، بشرط أن يكونوا طبعاً سادة قرارهم.

العربي الجديد

—————————–

عندما استنجد الأسد “المنتصر” بروسيا/ غازي دحمان

تفضح الرسالة التي نشرها الدبلوماسي الفلسطيني السوري، رامي الشاعر، في صحيفة زافترا الروسية، ادعاءات بشار الأسد، ومن خلفه، حلف الممانعة، بالنصر الذي حققوه ضد “المؤامرة الكونية” التي تعرّضت لها سورية، وتؤكّد أن الهزيمة الكبرى لنظام الأسد حصلت على يد رجال سورية ونسائها، على الرغم من كل ما صبّه من جحيم ودمار فوق رؤوسهم.

في رسالته التي استنجد فيها بوتين للمسارعة في إنقاذه من مصيرٍ قاتمٍ باتت نذُره على بعد أمتار قليلة من القصر الجمهوري، يقول الأسد “قدّمنا الأسلحة الكيميائية للمجتمع الدولي، واضعين ثقتنا بأن تقدّم روسيا البدائل اللازمة لمواجهة العدوان الإرهابي على وطننا. لكن الأمور في الوقت الراهن تشير إلى انهيار مفاجئ محتمل خلال أيام معدودة، بعد خسارتنا بالأمس أكبر خمس بلدات في الغوطة، ووصول المسلّحين إلى مسافة ثلاثة كيلومترات من مطار دمشق الدولي، وقطعهم طريق دمشق حمص الدولي، بعد احتلالهم مدينة دير عطية، ونفاد قدرتنا البشرية والنارية. لهذا فإن هناك ضرورة ماسّة جداً للتدخل العسكري المباشر من روسيا، وإلا سقطت سورية والعالم المدني بأسره بيد الإرهابيين الإسلاميين”. يكشف نص الرسالة حقائق لطالما حاول الأسد وحلفاؤه نكرانها:

أولاً: كان نظام الأسد يعتبر الأسلحة الكيماوية جزءاً أساسياً من منظومته الحربية ضد الثورة، وهو يطالب روسيا بتعويضه بسلاح مكافئ لردع الثوار ومنعهم من إسقاطه.

ثانياً: استطاعة الثوار تفكيك أدوات النظام العسكرية والأمنية بعد سنتين من قيام الثورة، وبعد سنة من تسلّحها، وهو وقت قصير جداً قياساً لحجم البنية التحتية العسكرية والأمنية للنظام، وخصوصاً في الأماكن التي يذكرها الأسد في رسالته، وهي ريف دمشق، حيث تتموضع أكبر فرقه العسكرية حجماً، وأكثرها تسليحاً وعدداً، حيث يوجد في تلك المنطقة ثلاثة فيالق من أصل خمسة فيالق من مجموع الجيش السوري البالغ عدد عناصره عشية الثورة 325 ألف عنصر، بالإضافة إلى أكثر مائة ألف عنصر مخابرات.

ثالثاً: يكشف تاريخ الرسالة، 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، أن الأسد أرسل استغاثته، بعد أن استنفد كل أوراقه في مواجهة الثورة، وبعد استهداف غوطة دمشق بالكيميائي في 21 أغسطس/ آب، وقتل مئات من أطفال الغوطة ونسائها، بغرض إجبار الثوار على التراجع. وعلى الرغم من حجم الألم فإن من صرخ هو بشار وليس المنكوبين.

رابعاً: لم يغير تدخل إيران وأذرعها، رغم بطشهم ومجازرهم، الوضع لصالح نظام الأسد، مع أنه قد حصل باكراً، ومنذ الأيام الأولى للثورة. صحيح أن حزب الله كان قد دخل القصير في نيسان/ إبريل عام 2013، لكن ذلك لم يحصل إلا بعد تدمير سلاح الجو التابع للأسد القصير، بالإضافة إلى ضعف تسليح ثوار القصير وقلة عددهم، وزجّ حزب الله كل قوته، وساعده في ذلك قربها من حدود لبنان.

خامساً: يكشف تاريخ الرسالة أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لم يكن قد ظهر بعد، إذ إن تاريخ إعلان ولادته مسجلة لدى العالم في 2014. كما أن التنظيم لم يتدخل في الحرب السورية قبل بداية 2015، وبدأ نشاطه ضد الجيش الحر وأحرار الشام وجبهة النصرة في أرياف الرقة وحلب ودير الزور، كما أن جبهة النصرة لم تكن بهذا الحجم من القوة، ولم يكن عدد أفرادها يزيد عن مئات، بعد الإعلان عن تأسيسها في بداية 2012.

سادساً: لم يكن الدعم العربي للثورة قد ظهر بحجم كبير في ذلك الوقت، فالمعلوم أن هذا الدعم بالسلاح والمال قد حصل في سنتي 2014 و2015، عندما تم تأسيس جيش الفتح في شمال سورية. أما “غرفة الموك”، التي تخصصت بدعم وتنظيم عمل الثوار في جنوب سورية وتنظيمه، فقد تأسست نهاية عام 2013.

ويعني ذلك أن من قام بهذا الضغط الذي دفع الأسد إلى الاستنجاد بروسيا هم الثوار الذين أجبرهم نظام الأسد على مغادرة المظاهرات، وبمساعدة الجنود والضباط الذي انشقّوا عن جيش الأسد الذي بدأ عملية قتل واسعة للمدنيين السوريين. .. والسؤال المطرح هنا بقوّة، على خلفية نشر رسالة الأسد: لماذا تأخرت روسيا عامين لنجدة الأسد؟ تثبت الوقائع أن روسيا لم تتأخر في هذا، ففي الأصل هي موجودة عسكرياً قبل الثورة، وفي أثناء الثورة قدّمت، وبحسب اعتراف رامي الشاعر “مساعدات لوجيستية وعسكرية قيمة إلى النظام، بما في ذلك عن طريق الإمدادات من الأسلحة والذخائر وغيرها من مستلزمات تعزيز وضع المؤسسة العسكرية، فضلاً عن إرسال الخبراء العسكريين، وإطلاق نشاط واسع لتزويد دمشق بالمعلومات الاستخباراتية، بما في ذلك عن طريق صور الأقمار الصناعية التي رصدت مواقع المسلحين”. ولكن ذلك كله لم يمنع احتمالية سقوط الأسد. وفي رسالته، طالب الأسد بضخ مزيد من المساعدة، وربما أراد تغيير نمط التدخل الروسي إلى تدخل أكثر كثافةً وحجماً. والدليل أن هذا الانخراط الكبير حصل بعد زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بأيام. ما يعني أن الأخير ذهب لطلب زيادة الدعم، ومن غير المعقول أن تستطيع روسيا تجهيز نفسها بأيام. المؤكّد أن خطوط إمداد لوجستي كانت موجودة، وبنية تحتية للوجود الروسي، وقواعد يعمل بها الروس.

تحاول روسيا، ولديها فضائح كثيرة مخفية، القول للأسد إياك أن تمطّ رقبتك كثيراً، نحن من صنعنا ما تسميه الانتصار، ونحن من سيقبض ثمنه.

العربي الجديد

——————————-

هل ما زال ممكناً منع الانهيار في سورية؟/ مروان قبلان

ينشغل المثقفون والناشطون السوريون من جميع الاتجاهات السياسية والفكرية هذه الأيام في البحث عن مخرج من الحال الكارثية التي آلت إليها بلادهم بعد عشر سنوات دامية من الصراع. المسألة ليست سهلة، والمخرج غير واضح، والكلّ يتلمس طريقه في العتمة، من دون نتيجة، خصوصا أن قدرة السوريين على التأثير في مستقبل بلادهم تتقلص باستمرار، مع تكرّس الوجود الأجنبي فيها، وبلوغ جمهور النظام والمعارضة حافّة الانهيار.

لا يجب أن يكون هناك خلاف كبير بين السوريين بشأن أن بلادهم باتت، منذ السنة الثانية لثورتها، ساحة صراع لقوى إقليمية ودولية لا تقيم وزنا لمصالحهم، ولا تأبه بمصيرهم. هذا يجب أن يقرّ به الجميع خطوة أولى نحو الخروج من المأزق، فإيران لم تهرع لمساعدة النظام حبًا فيه أو وفاءً له، بل وجدت في الصراع فرصةً لاستكمال بناء قوس نفوذها الإقليمي، خصوصا مع خروج الأميركيين من العراق عام 2011. وعندما يئست من ذلك، مع احتدام الصراع على سورية، اقتصر اهتمامها في السيطرة على “كوريدور” برّي، وإنشاء سلطات موازية، تؤمن وصولها إلى حليفها في لبنان، حزب الله. بالنسبة لإيران، ليست سورية سوى خط دفاع، أو ساحة صراع، تمنع عبرها انتقال المعركة إلى طهران وقم وأصفهان، وهي من ثم غير معنية بدمارها، تقسيمها، أو حتى بفناء أهلها، من النظام أو المعارضة، لا فرق ما دامت المعركة تظل بعيدة عن أرضها. دول الخليج العربية لم تكن يوما مهتمةً بمساعدة الثورة في الوصول إلى نظام ديمقراطي، يحقق للسوريين تطلعاتهم في حياة حرّة كريمة، بل وجدت في سورية ساحة صراع لاستنزاف إيران، وكسر قوس نفوذها الذي بات يهدّد الخليج بعد انهيار العراق. ينطبق الأمر نفسه على الروس والأتراك والأميركيين والأوروبيين وغيرهم، كلّ يطمح إلى تحقيق مصالحه في بلدٍ يحظى بأهمية استراتيجية، لا تسمح بتركه للآخرين.

بالنتيجة، تجثم على الأرض السورية اليوم خمسة جيوش أجنبية وتوابعها، تهدّد وحدة سورية وكيانها السياسي، مع ظهور توجّه أميركي إلى الاعتراف بالإدارة الكردية في مناطق شرق الفرات، ووجود توجه تركي إلى إقامة كانتون في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غرب البلاد، ومنطقة “آمنة” في مناطق سيطرة فصائل “الجيش الوطني” في الشمال، واستماتة إيرانية للاحتفاظ بالكوريدور الواصل بين البوكمال والحدود اللبنانية، وتوافق روسي – إسرائيلي على منطقة عازلة في الجنوب تمنع الوجود الإيراني على الحدود، وسيطرة روسية على الساحل السوري بموانئه وحصّة سورية فيه من نفط شرق المتوسط وغازه.

لقد صرف السوريون السنوات العشر الأخيرة في الصراع على رؤيتهم سورية ومستقبلها. أما وقد باتت سورية نفسها مهدّدة بوجودها، فقد صار لزامًا الارتقاء إلى مستوى الخطر المحيق بها. ويتحمّل النظام هنا المسؤولية أكثر من غيره، إذ يبقى في موقع أفضل للمبادرة ومد اليد للتوصل إلى حلٍّ يسمح بجمع السوريين حول صيغة إنقاذ، بعيدا عن الأجندات الخارجية والمصالح الضيقة. أما العناد والاستمرار في ادّعاء النصر فلن يؤدّيا إلا إلى انهيار كامل للبلد الذي يصرّ النظام على حكمه، فأيّ نصرٍ هذا ونحو 40% من الأراضي السورية، بما فيها من ثروات، خارج السيطرة؟ وأي نصرٍ ذاك، والنظام عاجز عن إطعام السوريين تحت حكمه، دع جانبا توفير الخدمات لهم؟ وماذا عن المليشيات والمرتزقة التي تعيث في سورية؟ المعارضة مطالبة بأن تتحلّى بالشجاعة، وتبدأ تبنّي خطاب قد لا يروق لجمهورها، فالقيادة الحقيقية لا تكون في إسماع الناس دائما ما يحبون، بل في إسماعهم أحيانا ما لا يحبون. من المهم أن تعلن المعارضة، في هذه المرحلة، رفضها سياسة تجويع السوريين في مناطق النظام، كما رفضت سياسة النظام في تجويع السوريين في مناطقها، ولنستعد فعلًا، لا قولاً، شعار “الشعب السوري واحد” الذي أطلقته الثورة في يومها الأول.

يبقى أن نقرّ بوجود نقاط توافق جوهرية عديدة بين النظام والمعارضة، يمكن أن تشكل أرضية لحوار حقيقي نحو الحل، أهمها الاتفاق على وحدة الأراضي السورية، ورفض أي نزعات انفصالية، والتأكيد على سيادة سورية واستقلالها، وخروج كل القوات الأجنبية من جيوش ومليشيات منها، ورفض تحويل سورية إلى أرض جهاد أو ساحة صراع لأيٍّ كان، ورفض سياسات المحاور والانخراط فيها، واعتبار الجولان أرضا محتلة لا مساومة عليها. إذا لم نستطع أن نبني على هذه النقاط، سوف يتحمّل النظام مسؤوليةً تاريخية عن انهيار البلد وتفكّكها، وإذا لم تتجاوب المعارضة سوف نبكي، كما قالت أم عبد الله الصغير، بحسب الرواية، “كالنساء وطنًا لم نستطع أن نحافظ عليه كالرجال”.

——————————–

كيف أصبحت الأمم المتحدة شريكة في المقتلة السورية/ برهان غليون

1- من صنع السلام إلى إدارة الحرب

أمام تطرّف النظام في سورية، وخوف المعارضة من الانزلاق إلى الحرب الأهلية، بدا قبول المبادرة العربية والدولية، والعمل مع المجتمع الدولي، للتوصل الى تسوية سياسية، الخيار الأفضل بالنسبة للمجلس الوطني. وأوحت القرارات المتوازنة التي تبنّتها الأمم المتحدة، والتأييد الواضح لها من قادة أغلب دول العالم، بأن هناك فرصة لقطع الطريق على استراتيجية الأسد وحلفائه، وأن الأسد، مهما أظهر من التعنت، لن يستطيع أن يقاوم إلى ما لا نهاية الإرادة الدولية. لكن بعد ما يقرب من عشر سنوات يشعر السوريون، ونشعر جميعا، بأننا خدعنا، بمقدار ما خدعنا أنفسنا نحن أيضاً، عندما اعتقدنا بوجود إمكانية لحل سياسي لا أمل فيه. وبدل أن يجنبنا السير في المبادرة الدولية المزيد من الضحايا والخسائر المادية، كما كنا نأمل، تحول المسار السياسي، بالعكس، إلى فخٍّ، نجح من خلاله النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون في قلب ميزان القوى على الأرض لصالحهم، قبل قلب الطاولة على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي معاً.

لم يشجع الاعتقاد بوجود فرصة حل سياسي الكثير من قوى المعارضة على الاستهانة بامتحان السلاح، ومن ثم بالعمل على تنظيم الفصائل المسلحة وتأهيلها السياسي، وتركيز الجهود، في المقابل، على النشاطات الدبلوماسية، فحسب، ولكنه خدع المجتمع الدولي والدول الصديقة التي لم تعد ترى ضرورة لتسليح الفصائل، والرهان عليها بمقدار ما أصبح هدفها احتواءها، والتحكّم بها. وأتذكر تماماً كيف كان القادة الغربيون ينتظرون آثار ضغوطهم اللفظية بـ”استسلام” الأسد شهراً وراء شهر، ويراهنون على تفاهم محتمل مع موسكو، لم تكن هناك أي دلائل عليه.

وبينما كان عشرات آلاف الشباب السوريين الذين تخلوا عن كل شيء، وحملوا السلاح لتحرير وطنهم من استبداد غاشم، كاد يقضي على معنى المدنية والحضارة فيه، يفنون أعصابهم في انتظار السلاح أو الذخيرة من دون طائل، كان الدعم بالرجال والسلاح يتدفق على قوات النظام من طهران وموسكو من دون حدود، لتدمير المشافي والمخابز والأسواق الشعبية والمباني وتفريغ المدن من سكانها. ولمزيد من الاحتواء العسكري للهجومات البطولية لشبابٍ وهبوا روحهم للثورة، من دون أي تأهيل أو تنظيم عسكري مسبق، دفع النظام بالقوى الرديفة من الحركات المتطرّفة، السلفية والقومية والطائفية، بمن فيها تنظيم الدولة الإسلامية، الذي فتحت له حكومة نوري المالكي في العراق خزائن الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، من المال والسلاح الأميركي الحديث. وأمام تردّد الدول الصديقة في تقديم السلاح لفصائل الجيش الحر، والتدخل الواسع النطاق للمليشيات الإيرانية والجيش الروسي، أصبح من الصعب، أكثر فأكثر، الحفاظ على الأرض التي تم تحريرها في السنة الأولى من المواجهة. وبسبب افتقاره التنظيم والقيادة الموحدة، سرعان ما دبّ الخلاف بين المجموعات المقاتلة، وانهارت دفاعاتها في جبهاتٍ عديدة، وفقدت المبادرة. هكذا لم يبق للمعارضة، بعد خمس سنوات من التضحيات المريرة، ما تضغط به من أجل تطبيق القرارات الدولية، سوى ما تجود به الدول “الصديقة” التي بدأت تتخلّى عنها بمقدار ما اكتشفت فشل خططها في الضغط السياسي والإعلامي على الأسد، وتهديد رجالات حكمه بالحرمان من السفر، أو بحجر حساباتهم في المصارف الأجنبية. وهو ما لا تزال تراهن عليه تحت عنوان الدفع نحو تعديل سلوك النظام بدل إسقاطه.

والنتيجة لم تتحقق أي حلول سياسية، ولا وضعت الحرب أوزارها، ولا أزيلت آثارها الكارثية وتراجعت معاناة السوريين. لا يزال الأسد مصمّماً على الاستمرار في خوض الحرب، بينما يهنئ المجتمع الدولي نفسه بنجاحه في تخفيض وتيرة القتال. والمعنى الحقيقي لهذا النجاح هو تعفن الوضع السياسي، واستيطان النزاع العسكري مع انتشار المليشيات، واستمرار الحروب المتقاطعة بالأصالة وبالوكالة، والسقوط في الهوة ذاتها التي أدّت إلى دمار الدولة في أفغانستان والصومال، ومن قبلها في دول عديدة أخرى، واليوم في أكثر من قطر من أقطار الشرق الأوسط.

هكذا تحول الحلم الذي احتضنته المنظمة الدولية لتحقيق الانتقال السياسي للسوريين ومعهم إلى كابوس، وخسرت المعارضة آخر ما تبقى لها من استقلالية وصدقية، وتحوّل مقاتلوها الذين حطمت معنوياتهم النزاعات الداخلية وانعدام القيادة السياسية والشعور بالمسؤولية إلى جنودٍ مستعدين لبيع قوة عملهم لمن يضمن لهم لقمة العيش والبقاء.

لا تتحمل المنظمة الأممية وحدها المسؤولية عما آل إليه الوضع السوري. لكنها تتحمّل قسطاً كبيراً من المسؤولية في صمتها على عملية الخداع التي مثلتها العملية السياسية وإصرارها، كما هو الحال اليوم مع اللجنة الدستورية، على الاستمرار في مفاوضاتٍ عبثيةٍ أو بالأحرى لا مفاوضات، حتى تحمي نفسها من تهمة الإفلاس والفشل والعجز الذي هو رصيدها الرئيس في نزاعات دولية عديدة حاولت التصدّي لحلها. وهي لا تملك اليوم ما يمكن أن تقدّمه للسوريين الذين أنهكم الجوع والمرض واللجوء والموت سوى ترداد شكاوى مبعوثيها الحزينة والأليمة والتعبير عن خيبة أملهم بالنظام وحلفائه الرافضين أي حوار.

2 – عندما رفض أنان أن يكون شاهد زور

لم تعد الأمم المتحدة كما يبدو، بشكل واضح في السنوات الأخيرة، وبالنظر إلى مآل نزاعات أفريقية عديدة واليوم في أكثر من قطر من أقطار الشرق الأوسط، صانعة سلام، بمقدار ما أصبحت بائعة أواهم للأسف. فقد تحوّلت إلى قوقعة فارغة، يخفي وراءها الأقوياء حقيقة أهدافهم وخططهم. لذلك لم يكن مفاجئاً رفع بعض نشطاء الثورة لائحة بعنوان: الأمم المتحدة شريكة في الجريمة. فهم يحمّلونها مسؤولية التغطية على إخراج مقاتلي المعارضة من مواقعهم وترحيلهم عن مناطقهم مقابل مصالحاتٍ كاذبةٍ وإغراءاتٍ بمناطق آمنة زائفة، أو دفعهم إلى تسليم سلاحهم باسم تسوياتٍ لم تمنع النظام من اعتقال أي فرد ولا اغتياله أو تجنيده في صفوفه بالقوة، وجميعها كانت في مصلحة النظام وتعزيز وجوده. ولم تعد صالحةً، في نظرهم، حتى لمد يد العون لملايين السوريين الغارقين في البؤس ووحل المخيمات وذلها وفقرها، من دون أن تمر بأقبية النظام وتؤمنه على توزيع القسم الأكبر من معوناتها.

لا أحد يجهل أسباب عجز الأمم المتحدة في القضايا السياسية والاستراتيجية، فهو محفورٌ في بنيتها ذاتها. ما يؤخذ على قادتها، وفي مقدمتهم أمناؤها العامون، هو التنطع لمهام ليسوا أهلاً لتحقيقها، والاستمرار في تغذية الأوهام وتسويقها، بدل الاعتراف بالفشل، ووضع المجتمع الدولي، والسوريين أولاً، أمام مسؤولياتهم، بدل الاستمرار في الجري وراء السراب، وتمكين الدول المتنافسة من استخدام قضايا الشعوب المصيرية مناسبة لتفريغ نزاعاتها الخاصة. وفي النتيجة توريط الشعوب المغلوبة على أمرها في مزيد من الخراب والدمار والبؤس، بدل المساهمة في تخفيف معاناتها. وهو ما يفسّر سقوط أقطارٍ عديدة راهنت على مساعي سلام الأمم المتحدة، منذ عقود، في الفوضى الدائمة التي نعرفها.

يحضرني، في هذه اللحظة، وأنا أكتب هذه العبارات، موقف كوفي أنان، الذي التقيته مع وفد المجلس الوطني، بعد تعيينه في 23 فبراير/ شباط 2012 مبعوثاً مشتركاً لجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، قبل أن يبلور خطة النقاط الست التي أصبحت فيما بعد مرجعاً للمفاوضات السورية، فقبل أن تنتهي الأشهر الستة من ولايته اكتشف أنان، وهو ابن المنظمة الدولية وأمينها العام السابق والعليم بآليات عملها، منذ البداية، استحالة مهمته، ولم يتردّد في تقديم استقالته قائلاً، كما ذكرت الصحف، “لم أتلق كل الدعم الذي تتطلبه المهمة (…). هناك انقسامات داخل المجتمع الدولي. كل ذلك أدى إلى تعقيد واجباتي”. بينما ذكرت واشنطن أن استقالة أنان تعود إلى رفض روسيا والصين دعم القرارات التي تستهدف بشار الأسد، ورفض نظام الأسد وقف الهجمات “الإجرامية” ضد شعبه. ببساطة ووضوح، قدم كوفي أنان، أول مبعوثي الأمم المتحدة للمسألة السورية، استقالته، لأنه لا يريد أن يكون شاهد زور.

لا يمكن لأي مسؤول في الأمم المتحدة، خصوصاً للدول الخمس التي تحتكر حق النقض في مجلس الأمن، أن يدّعي أنه كان لا يعلم ما أدركه كوفي أنان، خلال الأشهر الثلاثة من ولايته، وفي مقدمتهم الأمناء العامون للمنظمة، فلم يتوقف الأسد عن استفزاز الأمم المتحدة ذاتها بخرق قراراتها وارتكاب أبشع الجرائم، غير آبهٍ بمفاوضات أو مواقف دولية. وقد تبنّى مجلس الأمن نفسه، في 3 أغسطس/ آب 2011، إعلاناً يدين القمع و”الانتهاكات المعمّمة لحقوق الإنسان واستخدام القوة ضد المدنيين” الذي تمارسه السلطات السورية. ولهذا السبب، أنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 22 من الشهر نفسه لجنة تحقيق دولية مستقلة (IOC)، برئاسة البرازيلي باولو سيرجيو بينيرو. ولم يتردّد في تقارير اللجنة باتهام “الحكومة السورية” بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وفي فبراير/ شباط 2012، عندما قصف الجيش السوري عدة بلدات، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة في حينه، بان كي مون، أن قمع المعارضين “يكاد يكون بالتأكيد جريمة ضد الإنسانية”. وفي 20 مارس/ آذار 2012، أعلن بان كي مون، خلال مؤتمر صحافي، أن “الوضع في سورية أصبح لا يطاق وغير مقبول”. وأن على المجتمع الدولي أن يتحد. فليس لأننا غير قادرين على الحصول على قرار في الأمم المتحدة ينبغي على الشعب السوري أن لا يستمر في المعاناة. هذه هي المسؤولية الأخلاقية والسياسية للمجتمع الدولي”. وفي 13 سبتمبر/ أيلول 2013، اتهم بان كي مون بشار الأسد بارتكاب “جرائم عديدة ضد الإنسانية”. وفي 2 ديسمبر/ كانون الأول 2013، اتهمت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، نافانيثيم بيلاي، الأسد، وذكرت أن “لجنة التحقيق قدّمت كميات هائلة من الأدلة […] على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. […] تشير الأدلة إلى مسؤوليةٍ على أعلى مستوى في الحكومة، بما في ذلك رئيس الدولة”. والمقصود طبعاً استخدام الأسلحة الكيميائية في مئات الهجمات.

لم تثر استقالة كوفي أنان، ثم فشل خلفه الأخضر الإبراهيمي واستقالته أيضاً، أي رد فعل من الأمين العام سوى الإعراب عن قلقه، حتى أصبح قلق الأمين العام موضوعاً للتندّر لدى الأوساط الشعبية السورية. لم تحصل أي مراجعة لأسلوب عمل المنظمة ومقاربتها لمسألة المفاوضات الميتة، واستهتار النظام السوري بممثليها والاعتداء عليهم، وإفشال مساعي مبعوثيها، فعيّن الأمين العام الجديد، غوتيريس، ستيفان دي ميستورا مبعوثاً ثالثاً أمضى أربع سنوات من 2014 ـ 2018 من دون أن يحصل على أدنى تنازل من النظام، على الرغم من تقربه البالغ من موسكو وإظهاره التواطؤ الواضح مع نظام الأسد، وحرفه مسار المفاوضات عن سكّته الأصلية في جنيف، وقبوله إحلال الرعاية الروسية محل الرعاية الأممية لمفاوضاتٍ لم تعد تخضع لأي قواعد أو معايير سياسية أو قانونية.

وعلى الرغم من فشل المبعوثين الثلاثة في إخراج معتقل واحد من سجون الأسد بعد ثماني سنوات على بدء ما سمي مسار الحل السياسي، وفشل الآلية الدولية لتسهيل التحقيقات في انتهاكات القانون الدولي في سورية (في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2016) برئاسة القاضية الفرنسية كاثرين مارشي أوهيل، عاد الأمين العام لتعين مبعوث رابع في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، غير بدرسون، من دون أي مراجعة للمقاربة والمسار. واحتاج بدرسون إلى عامين لتشكيل “لجنة دستورية” كاريكاتورية أحيل إليها ملف التسوية السورية بأكمله، بعد إغلاق النقاش في القضايا الصعبة: الإفراج عن المعتقلين، وقف الانتهاكات المستمرة، وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، والعدالة الانتقالية وإعادة الإعمار ومحاربة الإرهاب.

3- في الحاجة إلى ثورة في إدارة العلاقات الدولية

لا أحد يهمه مصير السوريين ومعاناتهم، وهم أنفسهم لم تعد لديهم أي ثقة بالعالم أو شعور بالانتماء إليه. وكثيرون منهم أصبحوا يؤمنون بأن الشعب والبلاد ضحية مؤامرة يشارك فيها النظام والمجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة والمعارضة السورية معاً.

قد تعتقد بعض الحكومات أن الأمم المتحدة ليست سوى مرآة تعكس إرادة الدول التي تمثلها، وأن الخوف من التطرّف الإسلامي أو الانقسام السياسي لقوى المعارضة لا يشجّع هذه الدول على الانخراط الإيجابي في القضية السورية. والحال أن هذا هو بالضبط ما ينبغي أن يحفز هذه الحكومات، ويدفعها إلى العمل السريع والجاد لقطع الطريق على توسع دائرة التطرّف وتفاقم الانقسام داخل صفوف معارضةٍ يفقدها فشلها المحتوم كل يوم ثقة الشعب، ويترك هذا الأخير عرضة لجميع الإغراءات والتشنجات.

وقد يعتقد بعضهم من الدول التي أشاحت بوجهها عن المسألة السورية أن سورية، في النهاية، ليست موضوعاً خطيراً، فهي دولة صغيرة وفقيرة، ومركب جانح منذ عقود، لا جدوى من إنقاذها ولا خطر من تركها تسبح بدمائها وخرابها. وهذا ما كتبه السفير الأميركي السابق، فورد، في آخر مقالاته، معترفاً بـ”أننا خسرنا” وانتهى الأمر. وقد يعتقد آخرون أن التضحية بسورية يمكن أن تكون مفيدةً لتحقيق مصالح أمنية أو اقتصادية لبعض الدول والجماعات. لكن سورية، مع لبنان مع العراق مع اليمن مع أفغانستان مع الصومال مع ليبيا مع السودان وكردستان، وربما قريباً إيران التي تتخبط منذ نصف قرن بأوهامها الإمبراطورية، وألوف مخيمات اللجوء في بلدان عديدة محيطة، وملايين الأطفال المحرومين من أي حياة كريمة أو تعليم أو تأهيل، تصبح أمراً خطيراً، وقنبلة موقوتة تقبع في قلب العالم نفسه، لا يستطيع أحد أن يخمن عواقب انفجارها.

لست ممن يعتقدون بأن وراء ذلك كله “مؤامرة”، كما أصبح يفكر سوريون كثيرون اليوم، لكنني أعتقد أن السكوت على الخطأ والتستر على الجريمة والتواطؤ مع القوة يمكن أن يكون أكثر تدميراً للثقة وتغذية للفتنة ونكئاً للجراح وتدميراً للعلاقات الدولية ونظام العالم من أي مؤامرة محلية أو كونية، فما قامت به الأمم المتحدة في الأعوام الماضية في سورية، مع الاعتذار من بان كي مون وأنطونيو غوتيريس، لا يعدو أن يكون مساعدة النظام السوري، وحلفائه الإيرانيين والروس ومرتزقة آخرين كثر، على التستر على متابعة حرب تقاسم المصالح والنفوذ على حساب الشعب السوري، وتفكيك دولته وتمزيق نسيجه، وتوفير الوقت الكافي لطهران لتنفيذ مشروع التغيير الديمغرافي والديني، واسع النطاق الذي يضمن لها التحكّم بمستقبل البلاد بعد السيطرة على معظم مؤسساتها السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية.

تمثل الأمم المتحدة منظمة فريدة من نوعها في التاريخ البشري ورمزاً حقيقياً للتقدّم الأخلاقي الكوني. وما من شك في أن فكرة وجود منظمة للدول تسمح لها بالتواصل والتعاون فيما وراء تباين مصالحها وتساعدها على حل خلافاتها بالوسائل السلمية من الأفكار العبقرية التي بشّر بها الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانت، منذ القرن الثامن عشر الموصوف بعصر الأنوار والعقل، والتي كانت إحدى ثمار كارثتي الحربين العالميتين في القرن العشرين. وربما لم يكن ممكناً التفكير فيها قبل ذلك عندما كان البشر ينظرون إلى الصراع والحرب على أنهما من الظواهر الطبيعية، وبالتالي الحتمية عند البشر والمجتمعات. وعلى أكثر من صعيد، تقوم الأمم المتحدة بأعمال عظيمة تستحق عليها الثناء، سواء في شؤون الإغاثة الإنسانية أو في مسائل تنسيق النشاطات الاقتصادية والتعاون العلمي والتقني والتربية والثقافة، وفي مواجهة التحدّيات الصحية والبيئية النابعة من تقدّم حركة الاندماج العالمي.

وهذا ما جعل الشعوب المقهورة بسبب نظمها الجائرة والفاسدة أو المحرومة من التضامن والدعم الدوليين المباشرين تتطلع إليها بوصفها الصديق الوحيد النزيه والمؤهل الذي يمكن أن تراهن عليه في مواجهة المحن التي تتعرّض لها، فهي ترى فيها حليفتها الوحيدة المحتملة في مواجهة الجوائح التي تواجهها.

الواقع أن التحدّي أكبر مما نتصوّر، فالطلب على تدخل الأمم المتحدة، للحد من سد الانتهاك المتزايد للقانون في دول ضعيفة فقدت السيطرة على نفسها، وتمكّنت فيها عناصر نخب منقطعة عنها تماماً، ومتماهية مع نخبة أوليغارشية معولمة متضامنة ضد الشعوب، لا يكفّ عن النمو. وهناك من يدعو، منذ اليوم، في أكثر من بلد عربي، إلى وصاية دولية تعيّن فيها الأمم المتحدة حاكماً لإدارة شؤون البلاد المهدّدة بالتفكك والخراب والمجاعة، بسبب فساد نخبها المستكلبة على السلطة.

لكن للأسف تزداد هذه الطلبات على تدخل دولي إنساني وسياسي معاً في الوقت الذي تفقد فيه هذه المنظمة قدرتها وهامش مبادرتها أكثر من أي حقبة سابقة. وهي تبدو أكثر فأكثر كما لو كانت من بقايا حقبة الحرب الباردة وعقليتها، لا تصلح قواعد عملها لمعالجة تعقيدات عصر الاندماج العالمي الراهن ومشكلاته وتحدياته، والحاجة المتزايدة لمنظمةٍ فعالةٍ تملك أجندة سياسية مسؤولة ومتسقة، وتستند إلى شرعية أممية فعلية وقانون إنساني دولي نافذ وحقيقي، يقيها من أن تتحول إلى ساحةٍ لحروب دولية على حساب الشعوب الفقيرة والضعيفة. عندئذٍ، لن تستطيع دولة متوسطة الحجم، مثل روسيا، تعطيل قرارات دولية باستخدام 15 “فيتو” متعاقبة لحماية حاكم قاتل، وحرمان شعب أسير من حقوقه الإنسانية والتغطية على حرب الإبادة الجماعية. وهذه فضيحة لن تقضي على ما تبقى من صدقية المنظمة الدولية فحسب، ولن تلطخ بالعار موسكو وحدها، وإنما المجتمع الدولي بأكمله، وفي مقدّمه الدول الخمس الدائمة العضوية.

العربي الجديد

——————————

مراجعات العام العاشر للثورات العربية/ عمار ديوب

مراجعاتٌ كثيرةٌ يدوّنها مثقفون منشغلون بمصائر الثورات، عن السنوات العشر الماضية، وبذكراها. أثرت الثورات العربية وتحولاتها على أشكال الحياة كافة، وتُختصر، العشر هذه، بين ثوراتٍ شعبيّة وأنظمة داعمة للثورات المضادّة. هناك حديث دائم الحضور عن سبب الثورات، يُخفِض قصديّاً من العامل الاقتصادي، ويُعلي من شأن العامل الأخلاقي، مسألة الكرامة، أكثر حتى من العامل السياسي (الاستبداد)؛ وهذا مبدأه ونهايته التفكير الأيديولوجي الذي يحكم الرؤى الليبرالية، والتي تريد إعادة التاريخ “مثالياً” إلى الوراء، إلى ما قبل استلام العسكر السلطة، وكأنّ الأمر بهذا اليُسر، وكأنّ التاريخ، وكي يكون كذلك، يجب أن يعود ليبراليّاً، وبالنسبة إلى آخرين إسلامياً.

ثورات تخص العالم العربي

بين نهايتي العامين 2010 و2020، اندلعت الثورات، واستلم بعض من ادّعى تمثيلها الحكم، وفشل بعضها، وتجدّدت أخريات في أكثر من بلد. في 2019 وبعده، تركزت الثورات في الجزائر ولبنان والسودان والعراق. لقد حدثت ضد أنظمةٍ مختلفة في شكل النظام السياسي، ولكن هذه الأنظمة متفقةٌ في تحولاتٍ ليبرالية كانت تُجريها في الاقتصاد، ليصبح حرّاً “ليبرالياً”، وكانت نتائجها، إضافة إلى الفساد والنهب، كارثية، أي تراجعاً في الصناعة والزراعة، وانهارت أحوال الأغلبية. ولو أضفنا الاستبداد، والطائفية، شكلين للحكم، فإن الوضع دخل بطور الانهيار بدرجاتٍ كبيرة، وبالتالي كانت الثورات، بموجاتها، استجابة لشرطٍ محليٍّ، وعربيٍّ بامتياز، أي للسياسات الليبرالية الجديدة أولاً، ولم تكن بأي حالٍ مؤامرات خارجية.

الأخيرة، والأدق التدخلات الخارجية، ولاحقاً الاحتلالات لهذه الدولة أو تلك، كانت تالية لحدوث الثورات، إذا استثنينا العراق، وهذا لا يلغي أنها كانت تتأهب لإعادة إغلاق التاريخ العربي، ووضعه تحت السيطرة المباشرة، وهذا يعود إلى زمن انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتالي إعادة إنتاج منطقتنا إلى أسسٍ، كانت، الدول الاستعمارية، قد حاولت ذلك من قبل: العشائرية، والطائفية، والمناطقية، والعرقية، أليست هذه السياسات ما حاولت زرعه الاتفاقيات الاستعمارية في بداية القرن العشرين؟ أليست هذه ذاتها ما تُرسَم عليها خريطتنا العربية حالياً، وهناك من يرى مصير تركيا وإيران بهذا المنحى. القضية ليست مؤامرة خارجية، وليست صناعة محلية، أو مستمدّة من تاريخ قديم، لا. القضية تتعلق بمن يحكم منطقتنا والعالم، وبمن تدخلاته واضحة ومنذ 2011، وضمن ذلك تتحرّك كل من إيران وتركيا وإسرائيل، بل وكل النظام العربي الذي حدثت الثورات ضدّ أغلبيته. رفض حجّة الصناعة المحلية للأزمات سببا وحيدا للثورات سيقودنا إلى البحث في علاقة التبعية بين الأنظمة العربية والدول المسيطرة على العالم، وتطوّرات هذه العلاقة، ومنذ قرنٍ على أقل تقدير.

التبعية هي ما يجب التفكر والتعقل فيه لفهم طبيعة الأزمات العربية، وما قبل الثورات، وفي أثنائها، والأدق منذ كان الاستعمار مباشراً. لو تجاهلنا ذلك، سيواجهنا السؤال البسيط: ماذا تفعل أميركا في منطقتنا؟ وكذلك روسيا؟ ألا تتدخل الدولتان حالياً في كل شؤون المنطقة، وتبسطان سيطرةً أو احتلالاً هنا وهناك! ولا يخفى على القارئ أنهما الأقوى عسكرياً، وأميركا اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً. الخفّة في قراءة طبيعة الأوضاع العربية أصبحت كارثيّة بامتياز، ليس على راهننا، والذي حدثت فيه ثوراتٌ عظيمة، وتبتغي النهوض بكل أوجه مجتمعاتنا، بل هي تشوّه ماضينا وعقودنا الأخيرة كذلك؛ وأقصد الإساءة في قراءة ذلك التاريخ، وتصويره وكأنّه كان شرّاً كاملاً، وتخلّفاً لا مثيل له، وطائفيّة مقيتة، وسواه كثير.

أن تحدث الثورات في أكثر من دولة عربية، وأن تتجدّد لاحقاً، وبتزامنٍ، وفي أكثر من دولة، وأن تستفيد الموجة الثانية من خبرات الأولى، رافضةً أيّ مظهرٍ للتسلح أو الأسلمة، بل وتتجذّر الوطنية فيها، هي قضايا تتطلب التدقيق. والسؤال، لماذا حدثت في المنطقة العربية في الوقت ذاته، على الرغم من أن الوضع الاقتصادي المتردّي قضية عالمية؟ أليس في الأمر بعدٌ إضافيٌ للاقتصادي. نعم هناك بعدٌ قوميٌّ للثورات العربية، واستنتاجي بعكس الرواية الليبرالية التي تستنتج أن الثورات الشعبية انشغلت بقضاياها المحليّة، وتخلصت من إرث الوطنية والقومية وفلسطين. صحيح أنه لم توضع ضرورة الترابط بين الدول العربية وتحرّر فلسطين على طاولة الثورات، ولكن تزامنها، والخليجُ مشمولٌ فيها، ولاحقاً تَدخُلات الدول العربية، سيما الخليجية، في مصيرها، يؤكد ذلك الترابط. التفكر بالأخير أصبح قضية تتعلق بنهوض العرب أو تخلفهم، سيما أنهم يواجهون، سيما في الإطار الإقليمي، تركيا وإيران وإسرائيل، وعالمياً كل الدول العظمى، ومنها الصين. إذاً كلُّ نقدٍ ضد ضرورة الترابط العربي يَسقط كليّة، فهو حدث من قبل، بالمرحلة القومية، وقبلها، وحدث في أثناء الثورات، وبالتالي يحقّ للثورات وللشعوب تبنّي ذلك الترابط، فهو أحد أسس النهوض بواقع الأمة العربية.

الإسلاميون

لا يمكن الصمت إزاء مسألة الإسلاميين، فقد طُرحت من تونس إلى سورية. لاحقاً، وبالضد منها في كل من الجزائر والسودان ولبنان والعراق، وغلب على طرحها عدم إقصائها من الشعوب أو المعارضات، مع تفضيل أن تتحوّل إلى أحزابٍ سياسيّةٍ محضة، وتُنهي كل رؤيةٍ تأسلميةٍ أو تطييفيةٍ للمجتمع، وهذا لا يتحقق من دون رؤية مواطنيّة للمجتمع بكليته، وتخلٍّ كلّيٍّ عن أيّة أوهام في المزاوجة بين الديمقراطية والدين، أو الدولة والدين، وكذلك ليس من عداءٍ بينهما، وهذا يقتضي فصلاً كلياً لشؤون الأرض وشؤون السماء.

لم تكن تجارب الإسلام السياسي، المنخرطة في الثورات ديمقراطية، ولم تعترف بالمواطنة مرجعية للديمقراطية. وعلى الرغم من الإقرار بحدوث انقلابٍ عسكريٍّ في مصر ضد نظام محمد مرسي، فإن تخبط التجربة التونسية، عشر سنواتٍ متتالية، يؤكد ذلك الاعتراف. كانت التجارب الإسلامية السورية كارثةً على تطوّر مؤسسات المعارضة أو الثورة، والمسألة لا تقتصر على دور الإخوان المسلمين المركزي فيها، بل تشمل كل القوى السلفية، حيث شيّدت إمارات وأنظمة حكم وقوى. وفي مجملها، نافست النظام في ممارساته “فئوية، وفساداً، واستبداداً، وتطييفاً”، والأنكى تدخّلها بما هو شخصي، وتهجير من ليس سنيّاً، ولو أتيحت لها الفرص لما تهاونت إزاء الموالين، أو النظام، وهو ما فعلته بالشعب “السني” الذي وجد نفسه في ظلِّها. إذاً فرضية مظلومية الإخوان، وأنهم المُخولون للحكم، وأن الثورات إسلامية، سقطت بمقياس ممارساتهم، وصار لا بد من تنظيماتٍ سياسيّة، وليكن الدين مرجعيتها الأخلاقية، وتقطع الصلة بين الدين والدنيا، والخلافة والديمقراطية، وتتبنّى الحداثة كاملةً وليس فقط المواطنة؛ فإمّا كذلك أو تدوير وتدمير للتاريخ من جديد، وربما بما هو أسوأ، ومثالنا أشكال السلطات التي بنتها الفصائل السلفية، والكلام لا يتناول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو جبهة النصرة أو الجهاديين.

الخيار السلمي

مَثّلَ النقاش حول شكل الثورات ساحة للصراع الفكري والسياسي، وربما لم يُحسم بعد، بل ولن يُحسم قبل انقضاء أجل الأنظمة في المستقبل. يأخذ الواقع النقاش نحو تفضيل الشكل السلمي، حيث أوضحت الأنظمة أن لا رادع لديها في استخدام كل أنواع ترسانتها العسكرية، بما فيها السلاح الكيميائي. وحتى من سقط سريعاً كزين العابدين في تونس، وحسني مبارك في مصر، ولاحقاً معمر القذافي في ليبيا، وغيرهم. عدم وجود توازنات بين قوى الثورات والأنظمة، وتوظيف السلاح من الخارج لتدمير البلدان، كلّها مسائل تؤكد ضرورة ألّا تصبح الثورات عسكريّة، وأن تظلّ سلميّة، ومهما طال أمدها، أو اشتدّت أشكال قمعها. تعثّرها في تونس والانقلاب في مصر يؤكدان ضرورة ذلك، وليس العكس، حيث الكلف البشرية والمادية والاحتلالية مأساوية، ومهما أجرينا من مقارناتٍ بين تلك الدول وسورية وليبيا واليمن، فالكفّة راجحة للدول التي لم تدخل ميدان الحروب الأهلية والطائفية. ونضيف إن غياب رؤية ثوريّة لضبط السلاح، وعدم خضوع حَمَلَتِه للمعارضات سمح باستقلاليته، شكّل المناخ المناسب للأنظمة وللحركات المعارضة بالتحوّل، وقد أصبحت البلاد، في مرحلة العسكرة، ساحة لأدواتٍ تعمل لصالح الخارج، ودخلت سورية مرحلة التدمير الممنهج والعشوائي للبلاد. إذن الشكل السلمي للثورات هو الصحيح، والاستنتاج هنا يتعلق بغياب التوازن بين طرفي الصراع، وغياب الرؤية الثورية للثورات، وإمكانية ضبط العمل العسكري.

تخريب التمويل

قضية التمويل والمنظمات المدنية أمران لم يَسلم منهما بلد عربي، ولكن دورهما في سورية كان مُشوِّهاً للثوار وللثورة في آن، ودفعهم إلى الابتعاد عن البحث عن مصادر محلية تغيب عنها ثقافة التبرع، إلّا ما رحم ربي ولبعض الجمعيات الخيرية الدينية، وهذا أوقع معظم الثوار والباحثين عن المال، في تلك المصايد، وأفرغ قدرتهم على البحث عن مالٍ محليٍّ، وعن أفكارٍ لتطوير المنظمات المدنية، وبما يتوافق مع حاجات الواقع المحلي، وليس وفق الرؤية العالمية للشركات والجهات الداعمة للمنظمات. وعدا ذلك، فإن التمويل عبر مؤسسات المعارضة والفصائل العسكرية أخرجها كليّة من المصداقية أو التفكر بتطوير الثورات، لصالح المشاريع الخاصة، ويمكن متابعة من “كَفَتت” عليهم الأموال، حيث فَسدَوا كما رجالات النظام، وفي هذا لا يخطئ من يؤكّد تلك المساواة في الممارسات.

إذا التمويل الخارجي يهدف إلى تفريغ الساحة الثورية من اندفاعتها، ويشوّهها، ويمسخها، ويقطع صلة المنظمات المدنية بالواقع المحلي. وفي النهاية، يتم إخراج هؤلاء الأفراد إلى بلدانٍ أخرى، لمتابعة شؤونهم ومشاريع حياتهم، وبذلك ينقطع التمويل ويُترك أهل الداخل، الثورة، للهواء. التمويل الصحيح يُفترض أن يكون من الداخل، وألا يكون لصالح التفرغ، وقائم على استبدال الأشخاص، قابضي الأموال، والتشهير بالفاسدين، ولغاياتٍ محدّدةٍ ومدروسةٍ، وهذا يؤسس لرؤيةٍ وطنية، ويمنع حالات التبعية، ويحاصر المجموعات الانتهازية والبراغماتية التي دخلت إلى الثورات من أجل المال، أو وجدت نفسها في هذا المصير. الحفاظ على سلميّة الثورة يخفف من الاعتماد على التمويل إلى الحدود الدنيا، وحيث لا تُدمر البلاد كما حصل في أكثر من بلد عربي، ويضع المنظمات المدنية والسياسية وسواها أمام حاجات الواقع الفعلية.

الثورات الشبابيّة

برزت أطروحة غير سليمة، أن الثورات العربية شبابيّة، وكأنّ بقية الأجيال ليست محسوبة، أو غير موجودة في ساحاتها أو أطرها. لا شك في أن الكتلة الأكثر تضرّراً من السياسات الليبرالية، ومن فساد السلطات، هي الشباب، وهم الأكثر جرأة على مواجهة النظام، ولكن تم تجاوز ذلك واعتبارهم هم الثورة، كما جرى في ثورات 2011 خصوصا، حيث اختلف الأمر نسبياً في الموجة الثانية من الثورات، على الرغم من تميّز الشباب فيها. الكتلة الشعبية الأصلب في مواجهة أدوات النظام هي الشباب، ولكن هل هذا كل شيء؟ لا طبعاً، وبالتالي تقييم الوضع العام وتوفر الخبرات الثورية والسياسية يكون لدى الفئات الأكثر عمرية، والأكثر “خضرمة”، وهذا يعني، وكما جرى في الثورة السودانية، حيث اندمجت الفئات العمرية والسياسية كلها في معمعة الثورة، وكان لهذا دورٌ كبيرٌ في حمايتها من التسلح، وربما شكّلت قوّة الأحزاب التاريخية، ووجود تنظيماتٍ سابقةٍ للثورات، سدّاً مانعاً في التخفيف من حدّة المواجهة، على الرغم من توفر السلاح، خارج الدولة. وهنا نسجل أن الجيش أدار اللعبة بشكل سليم، وتمّ الاستغناء عن عمر البشير، ومع أن الأمر جرى كما تونس ومصر، وهناك تفاوت بالطبع بين هذه الدولة وتلك، أي من أجل أن يكون التغيير سطحيا، فإن قوّة الثورات هي ما أسّس للتغيير، لكنها لم تدفع به نحو تغييرٍ جذريٍّ، وهذا ساعد بدوره الدولة العميقة للعودة مجدّداً في مصر وتونس والسودان.

إذاً، لم يعد ممكناً الكلام عن ثوراتٍ شبابيّة، ويجب رفض مقولاتٍ كهذه، فالثورات إمّا أن تكون شعبيّة وتمتد إلى فئاتٍ اجتماعية متنوعة وعاملة، وحينها تتجذّر الثورة شعبياً وبرنامجياً ووطنياً، أو أنّها ستكرّر أخطاء السابقات. في كل الأحوال، ثورات الموجة الثانية قدّمت خبراتها، والأولى والثانية هي الأساس الصلب لأيّة برامج ثورية جديدة. إذن هي ثورات شعبية وليست فئوية، والثورات القادمة ستنتصر بالضرورة.

قضية الأقليات

هناك مسألة الأقليات، وهي وإن تفاوتت مشاركاتها من دولةٍ إلى أخرى، فإنها في العموم لم تجد مكاناً لها في الثورات. لهوَ أمرٌ يثير العجب للوهلة الأولى. ولكن لو قرأنا سياسات الأنظمة في مواجهة الثورات، وتغيّرات الثورات ذاتها، نجد أن الأنظمة طيّفتها، والمعارضة الإسلامية كذلك، وكان محصلة ذلك ابتعاد كتلة الأقليات عن الثورة أو وقوفها على الحياد، أو توظيف الأنظمة لها، وهناك كتلة كبيرة من اليساريين والعلمانيين، اصطفوا إلى جانب الأنظمة. ولا يُقرأ موقفهم المدان هذا أخلاقياً فقط، بل سياسيّاً، وطبعاً لا تُناقش القضية من زاوية غياب النظرية السياسية العلمانية اليسارية المسبقة في برامج الثورات. لا، القضية تُقرأ من زاوية تطورات الوضع العام، وإضفاء التطييف على الثورات، وهذا عَزَلَها، ودعم النظم بكتلٍ بشريّة، لا مصلحة حقيقية لها معه.

حساسية موضوع الأقليات، وانخفاض مستوى التطور العام، الاقتصادي خصوصاً، يدفعان إلى التدقيق في كيفية جذب الأغلبية الشعبية للثورات. الفكرة هنا تقوم على أساس التفقير العام، وغياب أي أفق لتحسين الأوضاع العامة، وبالتالي ستزداد الكتلة المفقرة والمهمشة، وستكون وقوداً جديداً حينما تتجدّد الثورات. غياب وعيٍ نقابيٍ لدى الفئات المفقرة يفترض تعويضه بالوعي السياسي، وهذا غير ممكن تحصيله إلا عبر الفئات المسيّسة، أحزاباً، مثقفين، اتحادات. وبالتالي، هناك ضرورة كبيرة لأن يكون البرنامج السياسي للثورات دقيقاً وحساساً لمجمل الوضع العام. وبخلاف ما أوضحتُ، هناك التطييف والحروب الأهلية والتداخلات الخارجية، والاحتلالات. وبالطبع، يرافق ذلك تدمير المدن والتغيير الديموغرافي، ومأسسة الطائفية؛ وهذا، وإنْ لا يستدعيه التاريخ، وتستدعيه الأنظمة، فهو يشكّل إعاقات قوية أمام أية ثورات جديدة، وسيساعد الأنظمة في إدامة نفسها. هذه الديمومة “مؤقتة”، حيث ليس من الممكن استعادة ما قبل 2011، أي أن الأنظمة تزداد ضعفاً، وليس من أملٍ باستمراريتها، والثورات قادمة.

للإيضاح أكثر، لم تعد الشعوب قادرة على الصمت والانزواء وتحمّل غياب العدالة الاجتماعية. وبالتالي، بغياب هذه القضايا ستتجدّد الثورات، حتى تصل إلى أهدافها في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية والتحرّر من كل أشكال الاستبداد أو الاحتلالات. القوى الثورية معنيةٌ بتوسيع قاعدة الحلفاء، وضم أغلبية الفئات الاجتماعية، وصياغة رؤى ونظرياتٍ أكثر حساسية لتعقيدات الواقع.

مشاريع الهيمنة

يكثر الحديث المتشائم بين العرب عن أن خرائطهم السياسية، أصبحت محكومة بالكامل للخارج، وبعيداً عن عقلية المؤامرات، وأن هناك مخططاتٍ مُسبقة وسواه، فقد أصبح الوضع العربي إمّا لصالح الدول الإقليمية أو للدول العظمى. يستند هذا الحديث إلى حجم الدمار الاقتصادي والتخريب المجتمعي والتسييس الشديد للبنى ما قبل الوطنية. ليس هذا القول خاطئا، ولكن تضخيم آثاره هو الخاطئ. نوضح: قبل 2011، لم يكن أحدٌ يتوقع حدوث الثورات، وكان القول السائد، يصف العرب بـ: مجتمعات متخلفة، ميتة، مصحرة، فقاعات صوتية، وسواه كثير. بعد السنوات العشر، هناك حديثٌ يكرّر ما ذكرت. مشكلة الوعي والعقل السائد أنّه غير واقعي، ولا يغرف مما حدث أمام ناظريه، أو يقوم بمراجعات نقدية، حيث ستنحاز أية رؤية، للثقة بالشعب، وبقدرته على تجديد الاحتجاجات والثورات كذلك. بين 2011 و2019، حدثت احتجاجات في هذه الدولة أو تلك، وتوسعت خصوصا في دول الموجة الثانية، وأحدثت تغيّرات معينة، وها هي تشتدّ في العراق، وفي لبنان، يتقدّم الشباب الثوري “العلماني” في الجامعات. وفي السودان، هناك بدايات نهوضٍ شعبيٍّ جديد، ضد حكومة التكنوقراط والعسكر.

أصبحت مصائر سورية وليبيا واليمن متعلقة بتسوياتٍ إقليمية ودولية، وحينما يتمُّ التوافق عليها ستستعيد الشعوب تدفقها، وهذا سيعني تجدّداً في المشاركة السياسية. عدا ذلك كله، الثورات وتجدّدها مرتبطان بالنتائج الكارثية للسياسات الاقتصادية الليبرالية، وبأنظمةٍ قمعيةٍ حامية لها. الدول الداعمة للثورات المضادة، والأنظمة بأغلبيتها، ما تتعلم شيئاً مما جرى، وتحاول إعادة التاريخ إلى الوراء. ذكرت أن هناك أسباباً للثورات، وبالتالي هي حادثة لا محالة.

ملامح البديل

الأزمة العميقة للوضع العربي، والتدخلات الخارجية، وجديدها فرض التطبيع على بعض الدول العربية، واندماج أنظمة التطبيع مع إسرائيل، سيزيد من تعقيدات هذا الوضع، وسيضع إعاقاتٍ جديدة أمام القوى الثورية العربية مستقبلاً. هذا التعدّد لأنظمة الأمر الواقع، داخلياً وإقليمياً وعالمياً، لم يخمد حركة الشعب الفلسطيني، ولا العراقي، ولا اللبناني. وبالتالي لن يخمد كذلك الحراك الثوري العربي. الإشكالية الحقيقية تكمن في التباس البرامج الثورية والرؤى والفرضيات والنظريات، التي تَقرأ واقعنا، وكذلك في شكل الوعي والتعقل. هنا إشكالٌ عميقٌ، وهو ما زال لا يلامس خبرات السنوات العشر، وضرورة الخروج بنظرياتٍ دقيقةٍ عما جرى، واستشراف المستقبل أيضاً.

ليست السنوات العشر محوريّة، كما يُقرأ هنا وهناك. لا، لكنها تثير أسئلة كثيرة أيضاً. الآن، ليس من وصفةٍ صالحة لكل هذا التعقيد، ولكن العودة إلى الواقع، وبياناته، قد تكون المدخل المناسب للتفكر والعمل واستعادة الأحلام والنشاط الثوري. وفي هذا نرى ضرورة إبعاد المنظور الأخلاقي أو السياسوي أو الاقتصادي أو الديني عن مجال الرؤية، ومنهجية التحليل. الواقع معقد، ويستدعي رؤية معقدة ومترابطة. وعدا ذلك كله، يحاول التدخل الخارجي ضبط كل ما يخص حاضر العرب ومستقبلهم ضمن آلياته في السيطرة والهيمنة والنهب والاحتلالات كذلك؛ إذاً لا خيارات لدى العرب في التحليق الخيالي أو غير الواقعي. وبالتالي أصبحت أمامهم إشكالية جديدة، وهي إمّا إنتاج تاريخ جديد ومختلف أو الخضوع للخارج، وهذا زمنٌ مرحليٌّ، حيث أنه غير ممكن الاستدامة.

فكرتنا من ذلك كله أن هناك واقعاً متفجراً، موضوعياً، ويتطلب شغلاً نظرياً كبيراً، وعملاً سياسياً جماعياً بالضرورة، ومن أجل ذلك يجب الانتهاء من التفكير الأحادي والسائد والمحدود والرغبوي أيضاً. يقول باحثون إن العقل العربي أيديولوجي، خيالي، ديني بامتياز، أي لا ينشغل بمستويات الواقع وتخصصات العلم والاعتراف بالآخر والتعدّدية، لفهم الواقع وإشراك الجميع في تغييره، وهذا صحيح. الإشكالية هنا في أن هذا التفكير ذاته يأخذ الصفة ذاتها، أي “الأدلجة” بينما الواقع يتطلب من جهة تلك التخصصات، ومن جهة أخرى، التفلسف والتكامل والربط بين التخصصات، ومن أجل صياغة الفرضيات والنظريات، وبعد ذلك الأدلجة بالتأكيد.

نجمل القول: الواقع العربي متأزمٌ بدرجاتٍ كبيرة، وغير ممكنة إعادته إلى ما قبل 2011، والسنوات العشر تنتظر استجلاءها، والتنظير عنها وللمستقبل، وهناك مطامع إقليمية ودولية للسيطرة على العالم العربي، وهناك تكاملٌ بين أنظمة عربية كثيرة والكيان الصهيوني. الواقع السابق يدفع نحو ثورات عربية جديدة، وبالتالي، هناك ضرورة للتنظير للثورات والانحياز لها، وتهيئة الوعي والعقل العربي من أجل إنجاحها وإدخال الشعوب في حقل المشاركة السياسية، وتغيير الواقع بما يحقّق أهداف تلك المشاركة في العدالة الاجتماعية والتصنيع والتحرّر الوطني والقومي، وصولاً إلى نظامٍ ديمقراطيٍّ على أسس المواطنة وحقوق الإنسان، والفصل بين شؤون السماء وشؤون الأرض.

————————–

سوريا وعشر سنوات من أوهام الحل/ ماسه الموصلي

ما كان متوقعاً بعدما علا صوت الشعب السوري يُطالب باستعادة كرامته التي هدرها النظام الأسدي الحاكم ببطشه وفساده وسرقاته لخيرات سوريا على مدى أربعين عاماً، أن تستمر معاناته من دون أن يحقق شيئاً من مطالبه وليبقى عشر سنوات أخرى راضخاً لثلاثة احتمالات، إما الموت بنيران النظام أو الرضوخ لإذلاله أو الهرب والشتات في بقاع الأرض.

كما لا يمكن في حال من الأحوال القول أن مجريات الأحداث السورية خلال السنوات العشر الماضية كانت تسير بشكل منطقي وصولاً إلى ما وصلت إليه اليوم، فالصوت الذي خرج في العام 2011م من كل بقاع الأرض السورية يصرخ « الموت ولا المذلة « و «واحد واحد واحد الشعب السوري واحد» متأملاً أن يكون قادراً على تغير مستقبله إلى الأفضل، إما أنه قُتلَ بنيران النظام ونيران حلفائه روسيا وإيران أو أنه شُرّد في بقاع الأرض يبحث عن مأوى له.

تردي الأحوال الاقتصادية

أما من نجا من القتل وما زال يعيش على الأرض السورية فإنه يعيش اليوم حرماناً بأضعاف مضاعفة عن بداية الصراع نتيجة تردي الأحوال الاقتصادية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام إلى ما دون خط الفقر برقم لا يمكن لأي خبير اقتصادي أن يقرأه لأنه غير مدرج أصلاً في التعداد العالمي لنسب الفقر.

إن متوسط الراتب الشهري لموظف في مؤسسات الدولة لا يتعدى الخمسين ألف ليرة سورية بعد كل الهبات التي منحت له من جيب سيادة الرئيس حسب تقارير صادرة عن مواقع إخبارية عديدة، وهذا المبلغ يعادل اليوم عشرين دولاراً فقط، في حين أن سعر ربطة الخبر المسعرة بخمسين ليرة سورية في حال توفرت في الأفران مع وقوف المواطن السوري في طابور الانتظار لعشرين ساعة قد وصل إلى 2000 ليرة سورية.

أما بالنسبة لبقية المواد الغذائية فإنه صار من المحال على الفرد السوري الذي يعتمد على راتبه في معيشته دون أن تصله أي مساعدات من أبنائه أو أقاربه الذين يعملون في الخارج، أن يكون قادراً على تأمينها ولو مرة كل عدة أشهر. هذا ولم أذكر بعد المقومات الضرورية لاستمرار الحياة اليومية، والتي هي اليوم معدومة الوجود في حياة الإنسان السوري الذي يعيش في الداخل وأولها الكهرباء التي صار يحسبها من الرفاهيات حـال وجـودها!

مفاوضات جنيف

لم تستطع مبادرات الجامعة العربية التي تدخلت في بداية الأزمة من إيجاد حلٍ سياسي مناسب للصراع السوري، إذ أن النظام رفض تلك المبادرات مدعياً أنه لا توجد ثورة على النظام في سوريا وأن ما يحصل هو بفعل جماعات إرهابية هدفها القتل والتخريب والتدمير ويجب محاربتها، وكان هذا هو ذاته رده بعد أن دُول الملف السوري إلى الأمم المتحدة، وفي كل جلسة من اجتماعاتها كان النظام السوري يضغط في اتجاه يجعل به محاربة الإرهاب هي التي لها الأولوية قبل الحديث عن أي حلّ سياسي، بينما روسيا الداعمة له والمحاربة عنه على الأرض السورية تُوقف أي قرار ضده بحق الفيتو الذي تملكه.

هكذا مضى عداد السنوات لإنهاك الشعب السوري حتى أوجدت روسيا مساراً في اتجاه آخر، حيث ادعت والنظام أن به الحل للأزمة السورية ودعت الأطراف إلى مؤتمر أستانا بداية عام 2017م الذي غير مسار مفاوضات جنيف المستندة على قرار الأمم المتحدة 2254، من حلّ شامل إلى وقف إطلاق نار وتقسيم مناطق سيطرة المعارضة وصولاً إلى خفض تصعيد، أدى بالنهاية إلى مصالحات أعادت النظام إلى أغلب المناطق التي كانت بيد المعارضة.

وسائل الضغط

كانت نتيجة ذلك الإعلان عن لجنة دستورية، وبهذا الإعلان جرى اختزال السنوات الطويلة من الثورة التي عمل فيها النظام على قهر وقتل وإذلال وتهجير الشعب السوري وتدمير سوريا إلى مجرد حديث يتداول عن اجتماعات لجنة بين كتابة دستور جديد للبلاد أو تعديل آخرِ دستور لنظام الأسد الذي أخرجه عام 2012.

وآخر ما حرر في القضية السورية كان من قبل المبعوث الأممي غير بيدرسون إقراره بفشل اللجنة الدستورية في التوصل إلى كتابة دستور جديد للبلاد بسبب عدم تعاون وفد النظام وتعنته بجدالات كسباً للوقت من أجل الانتخابات القادمة التي ستجري منتصف 2021م.

لقد ضيعت المعارضة السورية كل وسائل الضغط التي كانت تملكها في بداية الثورة بخسارتها للأرض التي كانت تسيطر عليها، وهيئاتها التي نصبت نفسها على عرش الثورة وخضعت لأوامر دول رأت في الصراع السوري وجبة سياسية شهية عليها تناولها لتحقق منها مكاسباً هي المسؤولة عن تلك الخسارات، وها هي اليوم تحصد نتيجة أفعالها وقراراتها اللامسؤولة مشاعرَ غضبٍ عليها من السوريين ومطالبات بإسقاطها.

لقد صار صوت السوري الحر مع بداية عام 2021م وبعد أن كبرت معاناته عشر سنوات: يسقط النظام .. تسقط المعارضة!

لكن لم تعد كافية للخروج من قاع الجحيم أصوات تعلو وتطالب بإسقاط هذا الطرف أو ذاك مع استمرار التنابذ والاختلاف على طريقة الخروج، خاصة وأن جميع الدول التي لجأت لها المعارضة السورية لم يعد حل الأزمة السورية من أولوياتها وهي تقبع في غرفة العناية المركزة نتيجة تدهور اقتصادها بسبب الوباء العالمي: كورونا، كما أن الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة بايدن والتي علق كثر الآمال عليها لاتخاذ خطوات لحل الأزمة السورية، أعلنت برنامجها تجاه منطقة الشرق الأوسط ولم يكن العمل على وضع حلول للقضية السورية ضمنه.

وفي ظل هذه الظروف الدولية المحبطة حالياً ليس أمام السوريين اليوم الذين يطالبون بإسقاط كل الأطراف المسيطرة على ملف الأزمة السورية إلا أن يعودوا للعمل معاً على إعادة ترتيب أوراقهم وتجميع رؤاهم «توافقياً» على مستقبل سوريا الذي يطالبون به، وذلك في حوارٍ يجمعهم كلهم مثقفين ومفكرين وسياسيين ليخرجوا للمجتمع الدولي بقرار واحد هو البديل المقنع والمخرج الوحيد.

محامية وكاتبة سورية

القدس العربي

———————-

عشر سنوات على مأساة الشعب السوري ـ أما من نهاية؟/ عبد الحميد صيام

انشغل العالم قليلا عن المأساة السورية في السنة الأخيرة، خاصة بعد اتفاقية وقف إطلاق النار التي توصل إليها الطرفان الروسي والتركي في منطقة إدلب، منذ 6 مارس 2020. تطورات عديدة أدت إلى تراجع الأضواء عن الوضع المأساوي للشعب السوري، داخل البلاد وخارجها، من بينها انتشار وباء كورونا، ومأساة اليمن الإنسانية، والصراع في ليبيا، واتفاقيات التطبيع الخيانية التي انزلقت إليها دول عربية أربع، وأزمة سد النهضة ومجازر تيغراي، وانقلاب ميانمار، والحرب بين أرمينيا وأذربيجان، والانتخابات الأمريكية التي شغلت العالم لأكثر من شهرين، عندما رفض الرئيس ترامب قبول نتائجها وأصر على أنها مزورة.

لكن الحقيقة أن المأساة السورية ما زالت قائمة وعميقة، وتبدو آفاق الحلول موصودة لغاية الآن. الشعب السوري ما زال يعيش المأساة بتفاصيلها كل يوم. يعيشها في مخيمات اللجوء، وفي مناطق التشرد في جبال سوريا، التي تمرّ في موجة صقيع وثلوج قاسية.. يعيشها في دول الشتات واللجوء الإنساني، حيث التمييز والكراهية التي يرونها في عيون العنصريين.. يعيشها حتى في بعض دول الجوار التي كانت لسوريا أفضال عليها، سواء بحمايتها من هزائم محققة، أو باستقبال مئات الألوف الذي فروا من القصف الصهيوني الشامل. ونود أن نلقي بعض الأضواء على الناحية الإنسانية التي يعيشها الشعب السوري، استنادا إلى تقارير الأمم المتحدة الموثقة رسميا.

الأوضاع الإنسانية بعد عشر سنوات من الانتفاضة الشعبية

ما زال أكثر من نصف الشعب السوري أي نحو 15 مليونا بين لاجئ ومهجر ومشرد وسجين، أو تحت بند ما يسمى الإخفاء القسري. تستضيف تركيا أكبر عدد من اللاجئين المسجلين، الذين يصل عددهم إلى 3.3 مليون شخص. أما في لبنان، فيعيش حوالى 70% من اللاجئين تحت خط الفقر، حيث لا توجد مخيمات رسمية، ونتيجة لذلك، يعيش أكثر من مليون سوري مسجل في أكثر من 2100 مجمع وموقع في أنحاء البلاد. لقد أعرب 87% من اللاجئين السوريين عن رغبتهم في العودة إلى بلادهم لكن 83% من الذين يرغبون في العودة قالوا، إن العودة ليست آمنة سواء لأسباب أمنية، أو لأسباب معيشية، أو لعدم توفر السكن المناسب في البلدات التي هجروا منها. ويعاني نحو 12.4 مليون سوري من قلة في الغذاء من بينهم 4.5 مليون شخص إضيفوا إلى هذه الفئة خلال العام الماضي. لقد تعرض الاقتصاد السوري الهش لصدمات متعددة خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، كاد ينهار لسببين رئيسيين إضافيين: انتشار وباء كوفيد -19، وتطبيق الولايات المتحدة لقانون قيصر على سوريا، الذي دخل مرحلة النفاذ في 17 يونيو 2020، بهدف معاقبة النظام وتعميق عزلته، لكن الذي تأذى بسبب هذه القانون هو الشعب السوري وليس النظام.

أدى هذا التعثر الاقتصادي إلى انخفاض جوهري في قيمة الليرة السورية، وصل في ذروته إلى نحو 3000 ليرة للدولار الواحد، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمواد الأساسية الأخرى بأكثر من 200%. وقد أقر 70% من السوريين بأنهم اضطروا للاقتراض السنة الماضية، أو أنهم باعوا بعض ممتلكاتهم من جواهر أو مواشٍ. واعترف الآباء بأنهم تعودوا على وجبة أقل كي يوفروا الطعام لأولادهم. لقد انتشرت أعراض فقر التغذية عند الأطفال، حيث يوجد أكثر من نصف مليون طفل مصابين بقصر القامة لقلة الغذاء، وفي المناطق الشمالية والشمالية الشرقية هناك طفل من كل ثلاثة مصاب بقصر القامة.

يبلغ عدد المشردين داخليا في سوريا الآن نحو 6.7 مليون شخص، ثلثهم يفتقر إلى المأوى المناسب. هذا يعني أنهم يعيشون في مبانٍ متضررة أو غير مكتملة، أو في أماكن عامة مثل المدارس، أو في خيام لا توفر حماية كافية من العوامل الجوية، وهو ما شاهدناه أخيرا أثناء موجات البرد والثلج والصقيع. وتقدر الأمم المتحدة أن أكثر من ثلاثة ملايين شخص في جميع أنحاء سوريا، يحتاجون إلى نوع من المساعدة للإيواء الآمن في فصل الشتاء. العائلات النازحة معرضة للخطر بشكل خاص، وكذلك في المجمعات في المناطق المرتفعة، مثل أجزاء من ريف دمشق. وبالفعل، تتسبب الأمطار الغزيرة في حدوث فيضانات في بعض المناطق، أدت إلى تدمير مئات من الخيام في مواقع النزوح في إدلب وغرب حلب. وتشير تقارير مكتب منسق الشؤون الإنسانية، إلى أن سوريا من أكثر الدول المزروعة بالألغام. وقد أدت هذا الألغام في العشر سنوات الأخيرة إلى مقتل ما لا يقل عن 2601 مدني من بينهم 598 طفلاً، و267 امرأة، و8 من الكوادر الطبية، و6 من كوادر الدفاع المدني، و9 من الكوادر الإعلامية. وجاء في آخر تقرير للجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا، الصادر بتاريخ 22 فبراير 2021، أن السوريين تعرضوا خلال سنوات النزاع لهجمات بالأسلحة الكيميائية، بلغت 38 حالة، استوفت 32 منها معيار الإثبات ونُسبت إلى القوات الحكومية السورية، وحالة واحدة نُسبت إلى تنظيم الدولة. وفي الحالات الخمس المتبقية، لم تتمكن اللجنة من إسناد المسؤولية. كما عانى السوريون في جميع أنحاء البلاد من انتهاكات الحق في الصحة والغذاء، والحق في مستوى معيشي لائق، بسبب فرض الحصارات، والحرمان من الحصول على المعونة الإنسانية، وتدمير المرافق الطبية، وما نتج عن ذلك من عدم إمكانية الحصول على الرعاية الطبية الأساسية، والحرمان من فرص الحصول على السكن والتعليم، وانهيار الاقتصاد السوري.

أما النساء فكن أكثر المتضررين من الحرب. وقد تعرضن للعنف الجنساني والاغتصاب من الجماعات المتحاربة كافة، بمن فيها قوات النظام والميليشيات التابعة له والجماعات الإرهابية مثل تنظيم الدولة وجبهة النصرة، جبهة تحرير الشام لاحقا. وفُرضت أشد القيود على النساء والفتيات في المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيمات الإرهابية، حيث مُنعن إلى حد كبير من الخروج بدون محرم، ومن المشاركة في الحياة العامة. وأخضع تنظيم الدولة الإسلامية فتيات لا تتجاوز أعمارهن 9 سنوات للعبودية الجنسية، وغيرها من أشكال العنف الجنسي، ودأب على تجنيد الأطفال واستخدامهم للمشاركة المباشرة في الأعمال العدائية. أما أعداد القتلى الذين سقطوا في الحرب من جميع الأطراف، وأكثرها على أيدي النظام وحلفائه نتيجة الغارات الجوية والبراميل المتفجرة والصواريخ والقذائف والإعدامات، فتصل إلى نصف مليون ضحية، حسب المركز السوري لبحوث السياسات، ونحو 400 ألف حسب مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية، ونحو 162 ألفا حسب مركز توثيق الانتهاكات و226274 حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، من بينهم 14391 بسبب التعذيب. وهناك 100000 تعرضوا للإخفاء القسري.

هل من بصيص أمل؟

الصورة لغاية الآن تبدو قاتمة، حتى اللجنة الدستورية التي عقدت عدة اجتماعات في جنيف، لم تتفق على شيء. ما زال من يعتقد أنه قادر على فرض الحل العسكري. لكن صاحب القرار في الحسم العسكري هو الاتحاد الروسي، ولا أعتقد أن هذا القرار في مصلحة روسيا حاليا، وهي ترتب أوراقها للتعامل مع إدارة بايدن، الذي طرح منذ حملته الانتخابية فكرة الحلول الدبلوماسية، بعيدا عن استخدام القوة، بل اللجوء إلى القوة الناعمة، كما قال. إضافة إلى أن روسيا لا تريد مواجهة مع تركيا في منطقة الشمال، وهي التي تعمل ببطء لإبعاد تركيا عن حلف الناتو، والاقتراب أكثر من روسيا بعد صفقة صواريخ أس-400. أما إيران فرغم وجودها على الأرض في سوريا فلم تعد ورقتها رابحة، بل إن روسيا تسعى بكل السبل إلى إقصائها عن المشهد السوري، حيث سمحت لإسرائيل أو غضت الطرف، لتقوم باستهداف المواقع الإيرانية، بدون أدنى احتجاج. من جهة أخرى فإن روسيا غير قادرة اقتصاديا على تحمل مسؤولية إعادة اللاجئين والمهجرين من جهة، وإعادة إعمار سوريا من جهة أخرى، التي تقدر بأكثر من 600 مليار دولار. لا بد لإشراك المجتمع الدولي وبعض الدول العربية المستعدة مثل، الإمارات التي تتمتع بعلاقات مميزة مع النظام السوري وروسيا في الوقت نفسه. كل هذا يعيدنا إلى حقيقة أن المسائل متشابكة تماما وأن البداية ستكون بحل الأزمة الإيرانية الأمريكية. فإن عادت الولايات المتحدة للاتفاقية النووية لعام 2015، ورفع الحصار الاقتصادي عن إيران، سنرى أن الملفات العالقة كافة، ستبدأ تتحرك في اتجاه الحلول السياسية، ابتداء من اليمن مرورا بليبيا وصولا إلى سوريا. لكن علينا أن نتذكر أن الكيان الصهيوني، المستفيد الأكبر من كل ما يجري في المنطقة، سيعمل بكل الطرق على منع الولايات المتحدة من العودة للاتفاقية.

الشعب السوري لا يستحق كل هذه العذابات.. إنه أكثر شعوب المنطقة عروبة وحضارة وكرما وتضحية وأخلاقا.. فتح حدوده وبيوته وقلوبه لكل الهاربين من جحيم أوطانهم، وعاملهم معاملة الأخ والابن والبنت والجار والحبيب. اتكأ عليه الفلسطيني واللبناني والعراقي والكردي والأرمني والدرزي واليزيدي والتركماني والشيشاني، فلم يتعب ولم يلن ولم يتأفف ولم يشكُ. فتح بيوته وقلوبه وتقاسم معهم جميعا الخبز والهم والأمل. فهل سنرى خلال عام 2021 نهاية لهذه الحرب القذرة؟

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

القدس العربي

—————————–

رثاء مشرق الطغاة: بؤس السياسة وبئس المصير/ برهان غليون

1- حصاد نصف قرن من الحماقة السياسية وانعدام المسؤولية الجماعية:

كشفت الثورات التي شهدتها الأقطار العربية في العقد الماضي عن الأسس المنخورة والفاسدة التي قامت عليها منظومة الحكم والإدارة في البلاد العربية. ولا تكاد دولة عربية واحدة تنجح في الهرب بنفسها من دائرة الانهيار والفوضى والاضطراب الشامل الذي يدمّر أسس السلام والتفاهم والتضامن داخل المجتمع الواحد، وبين الشعوب القاطنة الإقليم نفسه، من دون أن تظهر في الأفق معالم صحوة وعودة إلى الحد الأدنى من التفاهم والتعاون والاتساق.

يدفع العالم العربي ضريبة نصف قرن من سياسةٍ بائسةٍ تقوم على الإهمال والجشع وشهوة السلطة والجهل وانعدام الشعور بالمسؤولية الجماعية، ووضع السلطة في خدمة المصالح الخاصة لأهل الحكم وأبنائهم وأعوانهم وأزلامهم، في الوقت الذي لم يكفّ التقدم الحضاري، الاقتصادي والتقني، لكن أيضا القانوني والسياسي والأخلاقي، في المجتمعات المركزية، عن توجيه تحدّياتٍ لم تحاول النظم السياسية القائمة حتى النظر إليها، والتعرّف إلى آثارها، ولم تنهل منها إلا ما يساعدها على إخضاع مجتمعاتها وإذلالها، وتعميق الهوّة التي تفصلها عنها. وهكذا تراكمت المعضلات والمشكلات التي لا حل لها، وكبرت المظالم والاختناقات والتناقضات التي لا تجد مجالا للتنفيس عنها أو للتخفيف من آثارها. فما كان منها إلا أن تفجّرت في وجه أهل الحكم أنفسهم، وفجّرت معها الصراعات العميقة، الاجتماعية والسياسية والثقافية والأيديولوجية التي كان في اعتقاد هؤلاء أن الأنظمة القهرية والقاهرة التي أفرزتها قادرة على تجميدها، بل إخمادها إلى الأبد.

لم يعد هناك أبد اليوم. أما الزمن فقد انصهر في لحظة واحدة لن تبرح فيها الشعوب انتفاضاتها حتى تتحقق من الوصول إلى أهدافها. وكل المحاولات التي تقوم بها بقايا النظم القديمة المتعفنة وأنصارها وحماتها لإعادة الجمهور إلى القفص وكبت التناقضات والإغلاق عليها من جديد وكبتها، لن تقود إلا إلى جعل طوفان العنف الجارف القادم أكثر قوة ودموية مما حصل حتى الآن.

لا يمكن حل المسائل الاجتماعية المتنامية بموازاة نمو المجتمعات، وتقدّم اندماجها في الزمانية العالمية، وتطلعاتها الحضارية، بالكذب والخداع والعنف المعمّم الذي اعتادت عليه الأجهزة الأمنية التي تكاد تصبح الوجه الأبرز للدولة والسلطة ذاتها. ولا يمكن القفز عليها بوعود خلبية لم يعد الجمهور يثق بأيٍّ من أصحابها، مهما كان أصله وفصله وعلمه وسحره وعقيدته الدينية والسياسية. يريد الناس اليوم أفعالا قوية وصريحة وواضحة، تبرز سير الإصلاحات المطلوبة بالعين المجرّدة. ويريدونها سريعة، بل فورية، ترد على أوجاعهم وتخفّف معاناتهم وبؤسهم، وترد على قلقهم على الحاضر وخوفهم من المستقبل المظلم عليهم وعلى أبنائهم. ومهما فعل أهل الحكم الجدد سوف يبدو هزيلا بالمقارنة مع المطلوب تحقيقه، لتخفيف الضغوط وتسكين المخاوف وتنفيس التوتر وتهدئة الاضطراب. وليس هناك من شك في أن الجمود والشلل اللذين تبديهما أكثر النظم العربية ينذران بولادة حقبة ثانية من العواصف والزوابع التي تهدّد الجميع، وتدمر كل ما تصادفه في طريقها.

2 – “الظلم المنذر بخراب العمران” وبالغزو الأجنبي.

صحيحٌ أن سياسات إيران الخامنئية وأطماعها التوسعية واستراتيجيتها الخبيثة الالتفافية والطائفية تلعب دورا كبيرا في زعزعة نظم الحكم والمنظومات الأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمنطقة برمتها، خصوصا في المشرق، ولكن من الصحيح أيضا أن هذه الزوبعة الكبرى الإيرانية ما كان يمكن أن تُحدث ما أحدثته من آثار لولا الهشاشة والركاكة التي تسم بنيات هذه المنظومات الحاكمة العربية، والأسس الواهية التي تقوم عليها سياسات الحكومات المحلية تجاه قضايا المجتمعات الرئيسة والحاسمة أولا، وتجاه النخب الاجتماعية المختلفة التي همّشت تماما أو أجبرت على الصمت، أو لم يعد لها خيار سوى الرحيل أو الموت البطيء في سجون مظلمة أبدية، لصالح مجموعات ضيئلة وضعت يدها على جميع موارد الدولة وسلطاتها، ورأت في الآخرين جميعا أعداء ومنافسين، ووصفتهم، قبل أن ينبسوا ببنت شفة، بالمتآمرين والحاقدين الذين لا هم لهم سوى العمل على تقويض سلطة الحاكمين، وتنغيص العيش عليهم، وإخراجهم من الحكم والحلول محلهم.

لم تقم هذه النخب التي تحولت اليوم إلى ما يشبه المافيات المحترفة والجبارة، بما تحوزه من موارد هائلة جرّاء سيطرتها على الدولة، التي جعلت منها المحاور الشرعي الوحيد للمجتمع الدولي والمؤسسات العالمية، بأي مبادرة أو استعدادات من شأنها أن تساعد الشعوب على مواجهة العاصفة أو حتى الحد من آثارها. وها هو نظام مثل نظام الوحش (الاسم الحقيقي للأسد) الذي تعترف المنظمات الحقوقية العالمية اليوم صراحةً بمسؤوليته عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتنشر الوثائق الدامغة عن هذه الاتهامات، يسرح ويمرح كما يشاء على ما تبقى له من الجغرافيا السورية، ويستمر في اعتقال السوريين وتعذيبهم وقتلهم من دون عقاب، ويستمع أعضاء مجلس الأمن لمرافعات مندوبه وشتائمه بشكل دائم، بل لا يمانعون في ترشيح هذا الأخير لرئاسة لجنة نزع الاستعمار، وهو الذي يمثّل نظاما يمارس شكلا مطوّرا وأكثر عنفا منه، داخل حدود سورية نفسها، وضد الشعب الذي يفترض أن يكون المسؤول الأول عن حمايته وضمان أمنه والدفاع عن حقوق كل فرد فيه.

بل إن العجز الفاضح عن بلورة رد متّسق ومتكامل وموحد على عاصفة الموت الإيرانية يعكس، بشكل أكبر، هذا الشلل الذي أصيبت به النظم العربية، فلا رد عسكري ولا سياسي ولا ثقافي ولا حتى ديني على الغزو السافر الذي تتعرّض له المجتمعات العربية من ولاية الفقيه الإيراني، والذي نجح في التوطن في أربعة أقطار عربية بصورة واسعة، وربما يصعب الرجوع عن كثير من آثارها في المستقبل. فلا تزال الخلافات وتسعير العداوات العربية العربية بين الأقطار المختلفة، وداخل كل قطر، هي النشاط الأبرز، بل محور نشاط المجموعات الحاكمة على المستويات جميعا: السياسي والفكري والأمني والاستراتيجي. فبدل أن تقوم بتفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك، أو التنسيق في ما بينها، أو الإعلان عن تضامنها في مواجهة الغزو الخارجي والعداون الموصوف عليها واحدها بعد الآخر، تسعى البلدان العربية الأكثر قوة وثراء إلى التوظيف في الغزو الإيراني لإعادة تقويم موقفها على حساب البلدان العربية الأخرى، وربما من أجل تعويم نفسها أمام الدول الكبرى، كما لو أنها تريد أن تستفيد من غرق بعضهم لتنتزع الاعتراف العالمي بجدارتها وقدرتها على الهرب من المخاطر، بدل مواجهتها. وبدل إبراز إرادة حقيقية على العمل الإقليمي، والتفاهم مع الأطراف القريبة العربية، وتجميع القوى، وإقامة سد قوي سياسي وعسكري، لمنع التطرّف الإيراني وردعه، ترتمي الدول العربية، واحدتها تلو الأخرى، على خطب ود الجيران، أو تجديد البيعة للسلطانين، الأميركي والروسي، وغيرهما من سلاطين عالم اليوم، والتشبث بالسياسة الانفرادية ذاتها، مع زيادة الاستثمار في تأكيد أواصر الصداقة مع الدول الكبرى، من خلال الإنفاق على سلاح لن يُستعمل، ولن يفيد استخدامه شيئا سوى مزيد من الغرق في التبعية وضياع البوصلة الإقليمية وتعرية الخاصرة، بانتظار مزيد من الضربات الإيرانية القادمة، المباشرة وغير المباشرة. ينبغي البحث عن سبب نجاح الغزو الإيراني واختراقه الدفاعات العربية، بل تدميره المشرق بأسره على رؤوس ساكنيه وشعوبه في تطبيق الدول العربية سياسة واحدة: أنج سعد فقد هلك سعيد. وفي النهاية، لم ينج ولن ينجو أحد. ومن سيوقف التوسع الإيراني هو من سوف يرث مكاسبه ويحصد ثماره.

3 – الانتحار الجماعي أو سياسة قتل الذات.

ليس هناك أكثر من فوضى الرد العربي على الغزو الإيراني حافزا لدفع الإيرانيين الخمينيين إلى مزيد من التوغل والتجبر والتآمر على البلدان العربية وتفكيكها من الداخل والخارج، لبسط هيمنتهم الإقليمية والتفاهم في ما بعد مع القوى القوية من إسرائيل وتركيا وغيرهما لتقاسم النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط على حساب العرب، ومن أجل تقاسم مواردهم وثرواتهم وأراضيهم أيضا.

وفي الوقت الذي توظف فيه طهران معظم عوائدها، إن لم يكن جميعها، في تمويل التقدّم التقني والصناعات الاستراتيجية، لتعزّز هامش مبادرتها الجيوسياسية واستقلالها، تفاقم النظم العربية من تبعيتها الاستراتيجية، بزيادة الاعتماد على مشتريات السلاح والخبرة الأجنبيين. وفي الوقت الذي توجه فيه طهران جل استثماراتها الخارجية لاختراق المجتمعات المشرقية، فتشكل المليشيات الطائفية، وتسلحها وتدربها، حيثما تمكنت من ذلك، وفي الوقت الذي لا تكفّ فيه عن إقامة المستوطنات وتوسيعها، لفصائل الحرس الثوري الإيراني ومليشياته الأفغانية والباكستانية وغيرها على الأراضي السورية، لتحسم مسألة الهلال الشيعي الذي يربطها بالمتوسط، وتستطيع من خلاله حصار الخليج، وتطويقه إلى أجل غير مسمى، تراهن نظم عربية كثيرة على هجرة السكان إلى أوروبا أملا في الحصول على بعض عوائد الاغتراب، وبعضها لا يتردد في استخدام المتفجرات لتدمير مدنهم وقراهم، ودفعهم إلى الهجرة والنزوح عن أراضيهم لاغتصابها والمتاجرة بها.

وفي الوقت الذي لا تتردّد فيه طهران في التمويل العلني لحركات التشييع المدعوم من الحكومة، مستفيدةً مما يحدثه غزوها وعمل مليشياتها من دمار لشروط حياة المجتمعات العربية، وحاجة الجمهور المشرّد الذي خانته سلطات الأمر الواقع العربية، لسد رمق أبنائه وجوعهم، وتنتظر التحاق ملايين الناس بها، وفي الوقت الذي لا تكفّ فيه عن بناء “الحسينيات” في كل مكان تطأه أقدام مليشياتها وسائحيها، حتى لو اضطرها ذلك إلى اختلاق مراقد صحابة وأولياء لم يسمع بهم أحد من قبل في المناطق التي لا أثر للتشيّع فيها. وفي الوقت الذي لا تكفّ فيه عن بناء الجامعات والمدارس والمعاهد العلمية التي تستخدم اللغة الفارسية، وفي الوقت الذي تجعل فيه من نفسها حامية الحقوق الإسلامية في فلسطين والقدس، وتعزّز مواقعها العسكرية والسياسية والفكرية في قطاع غزة، لا تجد النظم العربية معركة تستحقّ الخوض بتصميم وإصرار لا حدود لهما، وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، سوى المعركة ضد “الإسلام” الذي تعتقد خطأ، كما أوهمها بعض المتسمّمين بداء “الحداثة”، من أشباه باحثين إسلامويين أو علمانويين، أنه مصدر الخطر الوجودي عليها، لما ينطوي عليه فكره وتعاليمه من بذور التطرّف والتمرّد والتوحش والفتنة والنوازع الإرهابية. وهي بذلك تتخلى من تلقاء نفسها عن أهم رأسمالها الروحي والثقافي والحضاري دفعة واحدة ومن دون مقابل: عن الإسلام وعن الإرث العربي وعن فلسطين وعن القدس وعن قيم السيادة والاستقلال التي يمثلها التمسّك بالهوية والدفاع عن الكرامة الذاتية الوطنية والدينية. وهي تعتقد أنها بذلك تحمي نفسها ومجتمعاتها من بذور التمرّد أو الاحتجاج الذي تنسبه للاعتقاد الديني، وهي على ثقةٍ من أن تقرّبها من الدول المركزية الكبرى، وشراء ود الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا هو الذي يضمن لها الحماية والرعاية والمؤازرة عند الشدة، في وقتٍ لا تقوم فيه إلا بحفر قبرها بيديها.

ويشير ذلك كله إلى أنها تعيش في حالة من الهوس الدائم حول مصيرها ومستقبلها، ولا ترى معركةً تستحق أن تُخاض اليوم على اتساع الرقعة العربية سوى معركة تصفية الحساب مع الإسلام السياسي وغير السياسي، ومع كل من لا يزال يفكّر في استلهام مبادئه أو الاستفادة منه لبناء قوى سياسية أو أيديولوجية قادرة على التحرّك والعمل ككيانات فاعلة ومنظمة. لكن النتيجة واضحة، أن المجتمعات العربية تجد نفسها ضحية ثلاث حروب متقاطعة في الوقت نفسه: الحرب الكبرى التي تشنها النخب الحاكمة على قوى النقد والإصلاح والاحتجاج الناشئة، أو التي من المحتمل نشوؤها والعمل على قتلها في المهد قبل أن تنضج أو تتحول إلى واقع، والحرب التي يمثلها الغزو الإيراني الإيديولوجي والسياسي والعسكري أيضا في المشرق باسم الإسلام، ودفاعا عنه ودفاعا عن فلسطين والقدس المقدسة، وعن قيم الاستقلال والسيادة الإقليمية تجاه التدخلات الأجنبية القادمة من خارج المنطقة. والثالثة حرب التدخلات الغربية، الأميركية والروسية والتحالف الدولي باسم الحرب العالمية على الإرهاب، وما تقود إليه من عنفٍ أعمى ساهم في تفكيك بنى المجتمعات وتدمير مدنها وقراها وتهجير سكانها أكثر مما قضى على الشبكات الإرهابية الحقيقية، كما تظهر ذلك تسوية مدن تاريخية عديدة، في العراق وشرق الفرات، بالأرض، والقضاء على حضارتها وشعبها وتحويلها إلى أثرٍ بعد عين.

وباختصار أكثر، إذا تمكّنت النظم العربية التي جمعت الفساد إلى انعدام الكفاءة إلى غياب أي حسّ بالمسؤولية الوطنية أو حتى الأخلاقية، من البقاء، سيحتاج العرب إلى قرن آخر كي يتمكّنوا من استعادة أنفاسهم ووعيهم وإعادة بناء هويتهم وثقافتهم ومجتمعاتهم، وربما لن يستعيدوا شيئا أبدا، ويصبحوا مناطق مفتوحة أمام أي غزو ومسرح حروب متقاطعة للدول الطامعة فيها، كما كانت عليه الجزيرة العربية وحواشيها السورية والعراقية قبل الإسلام، أي مرتعا لإماراتٍ تعيش في حماية الإمبرطوريات القوية، وتوظف شبابها جنودا في حمايتها، وتوفير شروط السلام والازدهار لشعوبها، كما كان حال إمارتي المناذرة والغساسنة أيام زمان.

لم يعد العداء للأمة، أي لفكرة الشعب السيد المسؤول، يمثل، كما ذكرت قبل ثلاثة عقود، وظيفة الدولة في عهد النخب الحاكمة وبطاقة نيلها الشرعية لدى المنظومة الدولية السائدة. لقد أصبحت، أكثر من ذلك، مركز تنظيم التحالف بين القوى المحلية والأجنبية للإيقاع بالشعوب وسلبها حقوقها وحرياتها حتى أصبح من الصعب التمييز بين الغزو الداخلي والغزو الخارجي. هكذا تتحلل الأمم وتتحول هشيما يقدم للقوارض من النخب الحاكمة ما يعزز حلمها في البقاء الذي تتوهم أن يكون الى الأبد. بئس الساسة وبئس السياسة وبئس المصير.

العربي الجديد

—————————-

حسابات استراتيجية سورية/ حازم نهار

هناك دائمًا تساؤل عن المستقبل. يطرح البشر على أنفسهم سؤال المستقبل في كل وقت وكل مكان، ولا يختلف البشر في هذا عن بعضهم بعضًا. لكنهم يختلفون ويتمايزون، في سياق الإجابة عن سؤال المستقبل، حول: قراءتهم لواقعهم الذي هو نقطة الانطلاق نحو المستقبل، المدى الزمني للمستقبل الذي يسألون عنه، هل يعني الغد أو بعد شهر أو سنوات، وحول الأهداف التي ينشدونها في المستقبل، والآليات التي يستخدمونها للوصول إلى أهدافهم. في السياسة، لا يمكن الحديث عن المستقبل من دون الإجابة عن الأسئلة الكبرى المطروحة علينا أو التي نطرحها على أنفسنا في ضوء القراءة الموضوعية للواقع.

هذا كله يندرج في خانة التفكير الاستراتيجي الذي يهتم بقراءة الواقع بخطوطه الأساسية الفاعلة، والإجابة عن أسئلته الكبرى، ومطابقة الأهداف مع الإمكانات المتوافرة أو الكامنة، ومن ثمّ الاستخدام الأمثل للإمكانات والوسائل المتوافرة. قد يكون من الضروري أحيانًا إنجاز بعض الأهداف المرحلية التي يؤدي تحقيقها إلى إحداث تغييرات مهمة تسمح بالوصول إلى الأهداف الأساسية أو الكبرى. يُضاف إلى ذلك أن الاستراتيجية الناجحة هي التي تنجح في اختيار الوسائل الأجدى والأقل تكلفة للوصول إلى الأهداف، أي التي تنجح في تأمين التوافق بين الوسيلة والهدف.

كان لدى النظام السوري، خلال العقد الماضي، استراتيجية محدّدة من حيث قراءتها للواقع وأسئلته الكبرى وأهدافها ووسائلها وآلياتها، فشلت المعارضة في قراءتها أو توصلت إلى بعضها في مراحل متأخرة. يمكننا أن نتخيّل كيف قرأ النظام الواقع والمستقبل، وكيف ناقش الأسئلة الكبرى بينه وبين نفسه: 1) لا أستطيع أن أرضخ لمطالب الثورة مهما كانت بسيطة؛ لأن أي تنازل سيفسَّر بوصفه ضعفًا، وقد أكون أمام سلسلة لا نهائية من التنازلات التي قد تؤدي إلى انهياري. أنا لا أقدِّم شيئًا تحت الضغط. 2) الآلية الرئيسة المنتجة في الداخل هي استخدام أقصى قدر ممكن من القمع؛ فالقمع إذا كان شديدًا ومعمّمًا يمكن أن يفي بالغرض. 3) أميركا لن تتدخل في سورية؛ فتجربة العراق غير مشجعة، ولا توجد لديها مصالح أو قوى فعلية في سورية. 4) مواقف الدول الأخرى غير مهمة بالنسبة إليّ؛ لأنها لا تستطيع أن تتحرك تحركًا فعليًا من دون قرار أميركي. 5) دول الخليج غير قادرة على إزعاجي في المآل، وبعضها سيفعل المستحيل من أجل ألّا تصل قوى إسلامية إلى السلطة في سورية. الدولة الوحيدة القادرة على إزعاجي نسبيًا هي تركيا، وهذه يمكن أن أشغلها بمعركة مع الكرد، وباللاجئين. 6) لا يستطيع “المجتمع الدولي” أن يسير إلى النهاية نحو إسقاطي؛ لأن أي مرحلة انتقالية بعدي، أو من دوني، قد تكون جحيمًا على المنطقة وعليه. لكن سيضغط “المجتمع الدولي” عليَّ كثيرًا، وأستطيع أن أتحمل الضغط، وسأنتظر حدوث تغيرات في إدارات الدول وأولوياتها. 7) خلط الثورة والمعارضة بالجهاديين والمتطرفين وصفة ناجحة ومجربة، وسيجدني الداخل والخارج دائمًا أفضل وأقدَر الموجود. 8) في حال وصلت إلى محطات حرجة، يمكنني أن أستعين بحلفاء قادرين؛ سقوطي ليس في مصلحة إيران أبدًا، وروسيا يمكن أن تستفيد من وجودي في مناكفة الغرب ومقايضته من جهة، وفي عودتها إلى الشرق الأوسط والساحة الدولية من جهة أخرى. 9) على العموم لدي أوراق مساومة عديدة يمكن أن تربك الآخرين أو تدفعهم لعقد صفقات معي، تحت الطاولة وفوقها؛ لبنان، الجولان، حزب الله والمنظمات الإسلامية، شبح الإسلاميين… إلخ. 10) لا توجد معارضة فعلية منظمة في سورية، وسيكون تنظيم الثورة في قوى سياسية مستحيلًا، ومن ثمّ لا خوف من تشكّل بديل قوي ومنظم، ثم إن التزاحم بين أقطابها، والخلافات الإثنية والطائفية والأيديولوجية بين “أجزائها” سيجعل حركتها صفرية، ويمكن إنهاكها أيضًا بالعمل الإغاثي واليومي.

وفي سياق تحقيق أهدافه، استخدم النظام وسائل عديدة تتوافق معها، مثل القمع، وتسطيح الإعلام، وهذا الأخير كفيل بأن يأتي بشخصيات سطحية أيضًا من الطرف المقابل، فالنظام فرض طبيعة المعركة الإعلامية ومستواها، والمعارضة لاقته في منتصف الطريق. لا شك في أن استراتيجية النظام كانت واقعية من زاوية رؤيته ومصالحه، وحافظت على وجوده، لكنه ليس الوجود المشتهى بالنسبة إليه بالطبع. في المقابل، كانت الحصيلة النهائية لاستراتيجيته هي خراب سورية، وتحولها إلى دولة هشة، تحتاج إلى مدة غير قليلة لتستعيد بعض عافيتها.

أما بالنسبة إلى المعارضة والثورة، خلال العقد الماضي، فلا توجد استراتيجية محدّدة فاعلة ومسيطرة، ويمكن تفهم ذلك في البدايات، لكن لا يمكن استيعابه في المراحل اللاحقة، خصوصًا لدى النخب السياسية والثقافية؛ اتّسم أداء المعارضة وتمثيلات الثورة، خلال العقد الفائت، بكونه عملًا تجريبيًا، منفعلًا، تابعًا، غارقًا في اليوميات، مشتتًا، فاقدًا للنواظم والإيقاع، مفرِغًا للثورة من محتواها، وراكضًا من دون وعي نحو الحفر التي صنعها النظام، لا يراكم ولا يستفيد من التجربة، ويكرِّر الأخطاء ذاتها، وتعبيراته يفني بعضها بعضًا.

الاستراتيجية الوحيدة التي كانت يمكن أن تكون مضمونة ومنتجة على المدى المتوسط والبعيد هي استراتيجية بناء التنظيمات السياسية القوية ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة، وبدلًا منها ذهبت الثورة والمعارضة نحو إنتاج تشكيلات سريعة بناء على الطلب الدولي في أغلب الأحيان، أو مؤخرًا بناء تشكيلات أخرى بصورة سريعة، وفق مقتضيات اللحظة الراهنة، بعيدًا عن الدول لكنها لا تختلف في أدائها ومفاهيمها وخطابها عن التشكيلات السابقة. سيكون النظام مطمئنًا جدًا من هذه الناحية؛ لا توجد بدائل سورية.

حتى على مستوى الخطاب الإعلامي، لم تكن هناك استراتيجيات توافقية، واقتصر الخطاب المعارض/ الثوري على التوصيف أو الشتم أو الوعود أو التنافس الشعبوي أو على إطراب قسم من السوريين بما يحبون أن يسمعوه في لحظة معينة، وذهبت المعارضة عمليًا إلى كل الأخطاء التي أراد النظام أن تصل إليها؛ خطاب انفعالي مؤقت، ومنفِّر، ووعود في الهواء، وخفّة على مستوى علاقاتها بالدول. ومن ثم تحولت إلى منصات تخدم دولًا أكثر مما تخدم سورية، متوهمة أنها تعمل وتنتج وتخدم سورية والسوريين.

لم تطرح المعارضة و”التعبيرات الثورية” على نفسها أسئلة استراتيجية كبرى؛ هل ستتدخل أميركا لمصلحة الثورة والمعارضة؟ هل يمكن إسقاط النظام بضربة واحدة أو هل يمكن إسقاطه أصلًا بالطرق التي تحدث عنها كثيرون وحاولوا تنفيذها؟ هل يمكن فعلًا تحقيق انتصار عسكري نهائي على النظام؟ هل تستطيع الثورة والمعارضة إدارة مرحلة انتقالية آمنة من دون مشاركة جزء من النظام؟ في حال أُغلقت أبواب التدخل والصراع المسلح، ما البدائل التي بين أيدينا؟ ما القوى الذاتية المضمونة بين أيدينا؟ هل لدينا قوى سياسية قوية ومنظمة يمكن أن تؤدي دورًا فاعلًا؟ في حال سُدِّت آفاق العملية السياسية المطروحة، التفاوض واللجنة الدستورية، وهو الأرجح، ما البدائل؟ هل يفيد الثورة أو سورية احتضانها لفصائل إسلامية متطرفة؟ هل يمكن أن يقبل العالم بمساعدة الثورة في حال انتحالها خطابًا إسلاميًا؟ ما الطرق لعزل النظام داخليًا، وما عناصر الخطاب الذي يُفترض إيصاله إلى السوريين الموالين للنظام؟ وغيرها من الأسئلة الجوهرية. على العكس، سارت التشكيلات المعارضة، وعملت على الطريقة “السبحانية”، وأجابت إجابات خاطئة عن معظم الأسئلة المطروحة عليها، ما أدى إلى سيرها في متاهات، يبدو اليوم أن كثيرًا من صناعها يحاولون التبرؤ منها، لكن العقل نفسه يعود ويطل في كل لحظة يتصورون فيها أن النظام يعيش آخر أيامه.

تتحول الاستراتيجية من دون تكتيك يخدمها إلى رؤية بليدة، ويتحول العمل التكتيكي إلى عمل فارغ لا معنى له، أو يأخذ أصحابه من حفرة إلى أخرى، في غياب التفكير في الاستراتيجية والأسئلة الكبرى، خصوصًا في ظل شيوع تكتيكات يعدم بعضها بعضًا. يتخيّل المستغرِقون في المهمات المستعجلة والمطالب اليومية ومشكلات المدى القريب والمؤقت والجزئيات أنهم ينتجون ويعملون، يسافرون ويلتقون بالدبلوماسيين ويصرِّحون ويكثرون من الحركة الخلبية، فيما هم “يغمِّسون خارج الصحن” أو يعملون وفق مبدأ “حركة بلا بركة” كما يقال في العامية. في غياب الاستراتيجية، تصبح التحركات اليومية بلا معنى أو أهمية، ويصبح السياسيون مثل عمال “المياومة”، العمال الذين يشتغلون كل يوم بيومه بحثًا عمّا يسدون به حاجتهم.

من المهم أن نطرح الأسئلة الكبرى على أنفسنا دائمًا، في كل لحظة، وكل مكان، فهذا يساعدنا ألّا نستمر في مراكمة أوهام جديدة فوق أوهامنا، وسيقنعنا بأن الطريق إلى سورية وطنية ديمقراطية مستقلة طريقٌ طويلة، تحتاج منا إلى عمل هادئ وصبور وطويل المدى، على مستوى الفكر والسياسة في آن معًا

المدن

———————————

متى يعود حافظ الأسد؟/ عمر قدور

مع هبوط الليرة السورية إلى مستوى مخيف غير مسبوق، سلّمت صفحة موالية بانتهاء حلول الأرض، متوسلةً حلول “السماء” بمخاطبة حافظ الأسد: انهض يا أبا الفقراء، فشعبك أضحى بين أنياب الضباع. صفحة “شبكة أخبار حمص الأسد 24/24” التي نشرت هذا التضرّع لديها حوالى 260 ألف متابع، وهي لم تبخل عليهم بأقوال للإمام علي تبشّرهم بالفرج بعد الصبر، أو تنص على أن الصبر والصمت وانتظارَ الفرج أفضلُ عبادة!

كان موالون وصفحات موالية قد دأبوا في الأشهر الماضية على مناشدة بشار التدخل لوضع حد للتدهور المعيشي، فهو بموجب تلك المناشدات سيلجم الفاسدين من حوله، وسيعرف كيف يتصدى للمؤامرة الكونية المتعينة بالعقوبات الاقتصادية. إخراج بشار من دائرة المسؤولية عما آلت إليه الأمور لا يقف لدى الجميع عند تنزيهه عن الأخطاء، ففي المقابل كان ثمة إصرار على قدرته على معالجة الوضع، إذا قرر وضع ثقله من أجل ذلك. أي أن التبرئة تندرج في عملية مقايضة، أو هي بمثابة رشوة ضرورية لعلها تحفّزه على فعل ما يجب فعله بصفته الدولة ومالكها معاً.

هكذا تأتي مخاطبة حافظ الأسد تعبيراً عن اليأس من وريثه، بل من المرجح أنها ذروة اليأس التي تقتضي عودة ذلك “الرب”، أو عودة الإمام الغائب. ما يحدث في الواقع قياميّ، أو يدنو من تصورات موروثة عمّا قبل القيامة. إنه البؤس الذي لا يُطاق، والذي يجوز اعتباره تمهيداً لقيامة حافظ الأسد العائد لإنقاذ شعبه. وإذا أعطتنا المخاطبة مادة للسخرية، يبقى الأهم فيما تعبّر عنه من عجز لا يرى بصيص أمل سوى في اللامعقول.

خارج معسكر الموالاة، وتعبيراته الإعلامية التي لا ينبغي أخذها غالباً على محمل الصدق، من المحتمل جداً أن يكون كثر من الواقعين تحت سيطرة الأسد يصبّرون أنفسهم بطريقة مشابهة. من المحتمل جداً أن هؤلاء أيضاً ينتظرون معجزة من الغيب، إذ لا يرون خلاصاً بأقل من معجزة، مثلما من المحتمل أن يلجؤوا إلى مقولات دينية تناسب معتقداتهم، وتحثهم بالطريقة ذاتها على الصبر والانتظار. إنهم سيستعينون بالمقولات التي تناسب أوضاعهم، وتشجعهم على فعل ما يفعلونه حقاً أو ما لا يفعلونه، لتقدّم لهم السلوى بأنه الوحيد الذي يمكن فعله.

لاستجداء الغيب هذه المرة وقع مختلف، أقوى مما كان عليه في أي وقت. إننا لا نستطيع دحضه بعقلانية واقعية يمكن صرفها مباشرة، أي يمكن البرهان ولو شكلياً على احتمال تحققها ونجاعتها. ليس لدينا سيناريوهات ممكنة التحقق لنطرحها كبديل، وأقصى ما ينتظره بعض العقلانيين حدوث معجزة من نوع آخر، كأن تتفق الدول المتحكمة بالشأن السوري على دفن الحقبة الأسدية وفتح صفحة جديدة، وهو افتراض في مقام المعجزة حتى الآن.

باستثناء عبارات المواساة والتعاطف، المطعّمة أحياناً بأمل غامض أو مخادع، لا يملك أحد ما يقدّمه للعالقين في الجحيم السوري. لا أحد مثلاً يجرؤ على نصحهم بالثورة، فالسلطة التي لا تكترث بهمومهم المعيشية تحتفظ بما يفيض عن حاجتها من المخابرات والشبيحة الجاهزين لقمع أي احتجاج. لا ثورة جياع، وعندما ينهش الجوع إلى حد لا يُطاق المستويات الدنيا والوسطى من جهاز القمع فسنشهد على الأرجح حالات من الفلتان والفوضى تتجلى بارتكاب الجرائم، ولن تأخذ طابع الانتفاضة ولن تكون موجهة ضد السلطة.

جرّب سوريون قبل عشر سنوات امتلاك قرارهم ومصيرهم، عبّروا عن ذلك بهتاف “الشعب يريد..”، لكنهم سرعان ما اضطروا إلى طلب النجدة من قوى الخارج. لم يأتِ “المنقذ” الخارجي بسبب استغاثاتهم؛ أتى وبقي بموجب مصالحه وبموجب صراعات النفوذ الدولية والإقليمية. بعض الذين هتفوا “الشعب يريد..” انتهى بهم المطاف إلى هتاف “يا الله ما لنا غيرك”، وبعضهم الآخر صمت نهائياً. قلائل فقط بقوا على عادتهم في بيع الوهم “الثوري”، ونراهم يخترعون بين الحين والآخر معجزة سيأتي بها أولئك المنقذون، أو حتى سيأتي بها حلفاء الأسد.

ذلك الدرس الماثل الطازج لن يشجع ضحايا المجاعة على الظن بأنهم قادرون على فعل شيء، وفوق الدرس السوري لدينا الدرس العراقي أيام العقوبات على صدام حسين، حيث بلغ التدهور المعيشي مستويات أقسى مما هو الحال عليه حتى الآن في سوريا، ومع قسوتها أفادت الإحصائيات آنذاك بتزايد عدد الباحثين عن السلوى في الغيبيات. اليوم، هناك إلى الجوار درس لبناني لم يكن متوقعاً، هو أيضاً درس في ترك البلد الذي كان السوريون يرونه محظوظاً بالرعاية والاهتمام الدوليين والإقليميين.

بينما كانت تلك الصفحة الموالية تطالب حافظ الأسد بالنهوض والعودة لإنقاذ شعبه من الضباع، كانوا سوريون آخرون يستذكرون تحرير مدينة الرقة من قوات الأسد قبل ثماني سنوات، ويستذكرون على نحو خاص تحطيم التمثال الضخم لحافظ الأسد وقيام أحد رجال المدينة بالتبول عليها أمام الحشد. في وعي الذين حطموه، لم يكن تمثالاً، كان صنماً وفق التعبير الشعبي الذي يُقصد به “الوثن-الإله”، وهو مطابق من الجهة الأخرى لمفهوم موالين يطالبونه بالقيامة الآن.

نفترض أن الموالي الذي يطالب وثنه بالنهوض والعودة أقل غباء من أن ينتظر تحقق أمنيته، ومن المؤسف أنه لا يستطيع تمثّل المروية القديمة عن أولئك الذين كانوا يأكلون أصنامهم عندما لا تأتي لهم بالرزق، وإلا كانت تماثيل حافظ الأسد الموجودة في كل حيّ وقرية تكفلت بسدّ جزء من المجاعة الحالية. حسبه أن يمضي مع منطقه إلى الآخر، فإذا كان بشار قد امتنع عن تلبية مناشداته، ثم امتنع أبوه عن القيام والعودة، ربما حان الوقت كي يشهر يأسه المدقع الخالي من الأوهام.

قبل عشر سنوات، كان هذا الموالي يفترض أن غيره سيُباد أو يُعتقل أو يُهجَّر، وسيكون هو سيداً في بحبوحة على أنقاض الضحايا. كان الصامت على المقتلة يُمنّي نفسه بالنجاة، وبأنها أيام صعبة وتنقضي ليستتب الهدوء بعدها. ليس من الشماتة تذكير هؤلاء البؤساء بكل ذلك، في الأصل لا ينفع التذكير ما لم يفهموا من تلقاء أنفسهم درس الخسارة المعممة ويقتلوا ذلك الوثن الذي في رؤوسهم.

المدن

—————————-

كيف يقيّم موالون لنظام الأسد دور “حزب الله” في سوريا؟/ مكسيم عثمان

شكل تدخل “حزب الله” خوفاً لدى أبناء الطائفة العلوية من الانتصارات التي حققها الحزب، فالقيمة المعنوية التي يعكسها الانتصار العسكري بدأت تنال استحسان الأهالي، وتثير خوف النظام وبعض المشايخ…

وصل “حزب الله” إلى سوريا عام 2012، أي بعد سنة تقريباً من انطلاق الثورة السورية. قراءة أحداث السنوات العشر الأخيرة تشي بأن الحزب كان حاضراً منذ بداية الثورة، في أثناء محاولة النظام إيقاف التظاهرات بالقوة العسكرية، إذ استعان بالجنود والخبراء الإيرانيين لإخماد الاحتجاجات بوسائل العنف الممنهج، وهو عنف مارسه حلفاء إيران في العراق ولبنان أيضاً.

لم يكن وصول “حزب الله” إلى سوريا سهلاً أو تلقائياً، فالانشقاقات في صفوف الجيش السوريّ منذ بدء التدخل العسكري للجيش في المناطق المدنية، دفعت النظام إلى الاستعانة مبكراً بقوات عسكريّة أكثر إخلاصاً وتجانساً وأصعب مِراساً، للقتال داخل المدن وعلى أطرافها، أو حتى لاختلاق فتنة طائفية عنيفة ضمن التظاهرات المدنية غير الطائفية، فتنة ضدّها، بهدف تفتيتها. كان لوجود “حزب الله” دور تحفيزي للموجة الطائفية في سوريا وتصعيدها، من خلال تزخيم منطق الصراع السني الشيعي بطريقة مُجربة. وكان العراق خير مثال لذلك.

مع اشتداد المعارك على الأراضي السورية، ومحاولة النظام إخماد النقاط المشتعلة، كانت قوات “حزب الله” تقود آلاف السوريين وتقاتل معهم أيضاً.

كانت جليةً محاولات النظام الاتكال على ما أسماه رديفاً للجيش الوطني، الذي كان ينطوي على ميليشيات وكتائب من المرتزقة، أكثر من اتكاله على الجيش الذي تحوّل في ظل الانقسام الطائفي الخفي الذي شهدته البلاد، إلى مجموعات وتكتّلات غير موثوقة من قبل النظام؛ إذ كان ذلك الانقسام واضحاً على مستوى الجيش بعد كثرة الانشقاقات والاغتيالات.

نال “حزب الله” سمعة جيدة وسط جمهور النظام ومؤيديه، بخاصة بين العلويين، الذين كانوا رأس الحربة في أي تشكيل عسكري سوري. وكان تدخل “حزب الله” ذا قيمة معنوية لجمهور النظام، فالدعاية الكبيرة التي نالها الحزب عربياً، جعلت النظام السوري يسوّق للتدخل بوصفه عملاً “أخلاقياً”، ومع اشتداد المعارك على الأراضي السورية، ومحاولة النظام إخماد النقاط المشتعلة، كانت قوات “حزب الله” تقود آلاف السوريين وتقاتل معهم أيضاً.

صراع ديني

هنا يظهر بُعداً آخر أضافه الحزب إلى الواقع السوريّ؛ هو البُعد الديني الواضح للصراع، فأيديوجيا الحزب الشيعية الإيرانية جعلت ما كان يبدو مقبولاً في العلن صراعاً خفياً بين علويي النظام والمقاتلين الشيعة التابعين للحزب.

في جلسة طويلة مع ضابط سابق لدى النظام، ينتمي إلى ريف مدينة جبلة، وخاض معارك مع النظام إلى جانب مقاتلين من “حزب الله”، أوضح لنا ثلاث نقاط سببت صراعاً مع الحزب وقواته في سوريا: “يوجهون الإهانات إلينا أمام ضباطنا، من دون أن يرد الأعلى رتبة الإهانة عنا، إذ يتمتع المقاتل اللبناني بمعاملة جيدة إلى حد كبير؛ فلا يسمح لنا مثلاً بأن نختلف معهم أو نحاورهم، هم قادة أي معركة يشاركون فيها. والنقطة الثانية كانت الصلاة، فمن الشائع أن عناصر الجيش السوري لا يصلون، ولا تلتزم القوات المقاتلة بأي موعد زمني يومي للواجبات الدينيّة. هذا الأمر جعل مقاتلي حزب الله ينفرون من القتال برفقة السوريين، بل حاولوا التملص من مشاركة السوريين خيامهم أيضاً. أمّا النقطة الثالثة، فكانت السلوك اليومي للعناصر العلويين، إذ تساهل قادة النظام معهم لجهة تناول الكحول وشرب السجائر ما جعل مقاتلي الحزب ينفرون من السلوك “الكافر” للعلويين، لا سيّما في أثناء القتال والاستعداد له”.

شاع داخل الساحل السوري، معقل العلويين، صدى استياء عام: “ثقافة حزب الله ما بيمشي حالها هون”، وشاع التندر على مقاتلي الحزب وتحفظهم الديني، كما أنّ شعارات النصر سببت حرجاً لمؤيدي النظام السوريين أمام مقاتلي حزب الله، الذين لم يكونوا على تماس حقيقي مع الواقع السوري؛ فالصلة بين الدين والقتال لدى عنصر “حزب الله”، تختلف اختلافاً جذرياً عن الجندي السوري، الذي قد يهتف بتوحيد ذات الله وبشار الأسد وحافظ في آنٍ واحد. هذا الفعل الطقوسي الرمزي الانفعالي سبّب لمقاتلي حزب الله نفوراً وامتعاضاً هائلاً.

ما بدا سوريّاً أسدياًّ أمام الحزب كان مشكلة، فضلاً عن التشتت الذي نشأ عن دائرة الاختلاف السلوكي بين الحزب والسوريين. كان سلوك الأول نسقياً عقائدياً، في مقابل عدم الالتزام الديني العقائدي السوري.

شكّل تدين عناصر “حزب الله” ارتباكاً وحذراً من النظام خشيةَ تعاظم المشكلات التي بدأت تمسّ العقيدة العلوية بحد ذاتها، ما استدرج شيوخاً علويين نحو ردة دينية باتجاه الشيعة فتشكلت بوادر صراع خفي حتى بين المشايخ، وبرزت عوامل صدام متعاظم بين المعتقد الشيعي الإيراني وبين العقيدة العلوية، فكان لبعض المشايخ أن يحاولوا دفع العلويين نحو التشيع، وبعضهم الآخر كان يهاجم ما يبدو تشيعاً حفاظاً على صلابة الطائفة.

مخاوف العلويين

شكل تدخل “حزب الله” خوفاً لدى أبناء الطائفة العلوية من الانتصارات التي حققها الحزب، فالقيمة المعنوية التي يعكسها الانتصار العسكري بدأت تنال استحسان الأهالي، وتثير خوف النظام وبعض المشايخ. الميل المتعاظم للمليشيات التي تنتشر، وسيطرة قادة من “حزب الله” وإيران عليها، أشاعت خوفاً من التغير الاجتماعي والديني لدى العلويين، تماماً كما لدى جمهور سني واسع، فبدا الاستعداد للعداء مع “حزب الله” مشتركاً، بين مشايخ الطائفة العلوية، كخوف من التشيع ومن القيمة التي يحققها الحزب بوقوفه قرب النظام السوري، وخوف من الجمهور السني الذي قبل معنوياً فئات إسلامية متشددة للدفاع عن السنة بحسب تصوراتهم ومخاوفهم من المد الإيراني.

أخبرني ضابط سوري من قرية كرسانا في ريف اللاذقية، وهو جندي مصاب، أن الطعام شكل أزمة بين “حزب الله” وعناصر الجيش السوري الذي يقاتلون إلى جانبه، فمقاتل الحزب كان في الغالب يتلقى مؤن طعام تصله من لبنان إلى داخل الأراضي السوريّة، عبر قوافل تحمل وجبات غذائية عالية الجودة، على عكس الجندي السوري الذي بالكاد يستطيع تناول الطعام الذي تقدمه القيادة السورية. هذه الفروقات على بساطتها شكّلت يوماً بعد يوم انفجاراً في العلاقة، ما جعل الوصول الإيراني ذا أهمية لفصل القوات.

بالنسبة إلى متابع عادي غير مُسَيَّس، كان سلوك مقاتلي الحزب أكثر انضباطاً، أمّا جندي النظام السوري؛ فكان يسهل استدراجه للسرقة والقتل لأن النظام سمح له بذلك. بخلاف الحزب المضبوط بعملياته القتالية والذي يؤمن الموارد لعناصره في حين كان سلوك قادة وضباط في الجيش السوري يميل إلى الاستغلال والارتزاق.

وبسبب اختلاف المرجعية، قررت إيران فصل القوات وإعادة ترتيب أوراق سوريا جغرافياً،  فقاتل “حزب الله” وحيداً في ريف حمص، وفي إدلب وريف دمشق أيضاً، وسُمح لبعض القوات العراقية الشيعية بالقتال إلى جانبه، إلّا أنّ قتال عناصر الجيش السوري مع مقاتلي الحزب في معركة واحدة كان نادراً.

بذلك نجا النظام أيضاً من الخوف الذي انتابه من تشيّع العلويين، بعد ظهور نبرة هؤلاء القاسية تجاه ثقافة “حزب الله” من جهة، ونفور الحزب من القتال مع الجيش السوري من جهة أخرى. بدا النظام خائفاً على بنية الجيش، وحتى على العلويين الأكثر ولاءً له.

في لقاء جمعني مع مساعد عسكري علوي متقاعد، التزم دينياً بعد انتهاء خدمته العسكرية، وذهب في رحلة حج إلى إيران برفقة مقاتلي الدفاع الوطني التابعين لهلال الأسد عام 2013 قال: “كانوا يريدون مِنا تغيير سلوكنا، دراسة منهج جعفر الصادق، وإلزام نسائنا بالحجاب، ومنعنا من شرب الخمر، والالتزام بعقيدة شيعية خالصة تتبع الولي الفقيه”.

الدور الروسي علوياً

منذ عام 2012 وحتى دخول القوات الروسية إلى سوريا، تسللت إيران عبر الميليشيات السورية، واستدرجتها نحو اعتماد مرجعيات دينية. هذا ما حصل مثلاً مع ابن عم الرئيس السوري هلال الأسد، الذي ألزم بدوره “قوات الدفاع الوطني” بدروس دينية، وأرسل شيوخاً علويين إلى إيران للحج والتشيع، ودفع أموالاً من أجل ذلك، كما افتتح مدارس دينية ذات طابع شيعيّ في أرياف الساحل حيث التمركز العلوي في سوريا.

مع الوصول الروسي إلى سوريا تغير كل شيء. تجاوز النظام الفارق الأخلاقي الذي حاول “حزب الله” والإيرانيون تكريسه، أو وضع اليد عليه. وما بدا من تحفّظ مقاتلي “حزب الله” ونفورهم، لم يعد النظام يحذر منه. عاد الوضع العام لقوّات النظام إلى ما كان عليه، لا سيّما بعدما تراجع حضور “حزب الله” من واجهة القتال بوصفه “منتصراً”، التي صُنعت في بداية تدخّل إيران وحلفائها، ليتراجع حضوره ومن خلفه إيران لمصلحة تمدد روسي.

باتت روسيا واجهة الانتصارات والنجاحات العسكرية، ولم يعد النظام مجبراً على رفع القبعة للتدخل الإيراني، لأنه لم يستطع حماية النظام كما فعل الروس منذ وصولهم.

التدخل الروسي رجّح كفّة النظام في ميزان القوة والسيطرة، لكن ما الذي تغير في نظرة العامة اتجاه الالتزام الشيعي لـ”حزب الله”، وسلوك مقاتليه ومستشاريه في سوريا؟

تغير كل شيء مع الوصول الروسي، وتخفف العلويون من الثقل الجهادي الديني الذي حاول “حزب الله” تكريسه، بخاصة أن البنية الاجتماعية العميقة للعلويين تنفر من الالتزام الديني، الأمر الذي اتضح عموماً في عدم تهافت السوريين على المنظمات الدينية، وتأثيرها الاجتماعي.

منذ الوصول الروسي إلى سوريا، دُقّ جرس الإنذار لإيران وحلفائها، فخرج مستشارو إيران وقادتها إلى ريف اللاذقية، وسكنوا بيوتاً وفيلات راقية، تعود ملكيتها إلى أهالي تلك المناطق، الذين نزحوا إلى خارج مناطق الصراع، ثم أغلقت مراكز التعليم الديني الشيعي في كل مناطق الساحل. وعام 2018 كانت المراكز الثقافية والتعليميّة التابعة لإيران قد اختفت، ما انعكس سلباً على “حزب الله” الملتزم بمواقع قتالية خارج المدن الكبرى.

درج

———————–

ستون دقيقة أميركية من عمر الثورة السورية/ مرح البقاعي

هو سؤال توجّه به سكوت بيلي مقدّم برنامج “60 مينيتز”، وهو البرنامج التلفزيوني الأشهر الذي يستمر 60 دقيقة تحمل اسمه ويتابعه الملايين من الأميركيين في الولايات المتحدة وأضعاف مضاعفة من المشاهدين في العالم، إلى ستيفن راب السفير الأميركي الأسبق المكلّف بقضايا جرائم الحروب، وذلك خلال حلقة خاصة أعدها تلفزيون سي.بي.أس نيوز عن ملف الجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري بهدف قمع الثورة الشعبية التي انطلقت مسيراتها سلمية في منتصف شهر مارس من العام 2011، تزامنا من مدينتي درعا ودمشق، مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

السفير راب، الذي يشغل حاليا منصب رئيس الهيئة المستقلة للعدالة والمحاسبة الدولية أجاب “عندها سيبدو العالم وكأنه يقول بوسعك أن ترتكب مثل هذه الجرائم ثم تنجو من العقاب، وستكون هذه الوصفة الأسرع لقمع أي انتفاضة شعبية”.

عرض البرنامج بالوثائق والشهادات الحية رحلة قرابة 50 ألف صورة من أقبية معتقلات نظام الأسد إلى قاعات مجلس النواب الأميركي ليتمّ تداولها في جلسات علنية أمام أعضاء الكونغرس.

ولا يخفى على أحد أن قانون “قيصر” لحماية المدنيين السوريين الذي أقرته الولايات المتحدة في العام 2019 كان ردا قويا من ممثلي الشعب الأميركي في مجلسي النواب والشيوخ على انتهاكات نظام الأسد ضد الإنسان السوري والإنسانية جمعاء، وقد انبنى على الحقائق التي حملتها الصور.

تلك الصور الصادمة كان قد هرب بها من دمشق المصوّر العسكري لدى أجهزة الأمن السورية الذي حمل الاسم الحركي “قيصر”، وسمّي قانون العقوبات الأميركي باسمه نظرا لشجاعته في إخراج هذه الصور التي هي دلائل حية على بشاعة ذاك النظام ووحشيته.

إنها صور مرعبة لجثث الآلاف من السوريين، رجالا وأطفالا ونساء، تم تعذيبهم حتى الموت في أقبية فروع الأمن والمخابرات السورية بطريقة لا تمت إلى الحس الآدمي بصلة. وصلت الصور في العام 2014 إلى يد الشاب السوري الأميركي معاذ مصطفى، وكان هو وعائلته قد فرّوا من بطش نظام الأسد إلى الولايات المتحدة وهو طفل صغير.

صمّم هذا الشاب الجريء أن يحمل أوجاع هؤلاء المغدورين إلى المنابر الدولية ومواقع القرار التي بإمكانها أن تجلب شيئا من العدالة والراحة لنفس الضحايا، والاقتصاص قانونا من الفاعلين بإنزال العقوبة اللازمة على جرائمهم الموصوفة أينما حلوا ومهما علت مناصبهم.

وكان مكتب التحقيقات الفدرالية في واشنطن قد تأكد من صحة تلك الصور بتحليل عينة تتكون من حوالي 242 صورة، وخلص إلى قراره بانتفاء وجود أي شبهة أو أدنى شكوك بأنها ملفقة أو متناقضة في ما بينها.

فصول التغريبة السورية قد تبدأ عند خمسين ألف صورة تتسرّب منها رائحة الدم الحي وأزيز أبواب الزنزانات تحك سيالة العصب ولحم الذاكرة، لكنّها لن تنتهي عندها ما لم تتوفر الإرادة الدولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من السوريين والدفع باتجاه الانتقال السياسي الكامل في سوريا ضمن بنود قرار مجلس الأمن رقم 2254.

وفي حال استمر النظام السوري بنهج الإنكار لما وثّقه العالم من جرائمه، تلك التي ترتّبت عليها قرارات أممية ملزمة له في تحقيق التغيير المطلوب الذي خرج من أجله الملايين من السوريين في ثورتهم الماجدة، التي تحتفي هذا الشهر بالعام العاشر من متواليات التضحيات التي لا نظير لها بين حركات التحرّر في العصر الحديث، فلا بد من التصعيد الأممي وفرض القرار مقترنا بشرط جزائي هو الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

يقول راب في نهاية البرنامج “لقد حصلنا على أدلّة ضد الأسد وزمرته أفضل من تلك التي حصلنا عليها لإدانة ميلوزوفيتش في يوغوسلافيا أو النازيين في نورمبيرغ، فالنازيون قد فاتهم التقاط صور لكل ضحية على حدة مع معلومات تعريفية عنها”!

كاتبة سورية أميركية

العرب

———————–

إعادة إعمار سوريا.. الصراع مستمر لكن بوسائل أخرى

دمشق- تتجه الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى الدخول في مرحلة جديدة لا تقل غموضا عمّا شهدته في العشرية الأخيرة، رغم المتغيرات التي بدأت تقفز أمام أنظار كل القوى الفاعلة في المنطقة، ورغم قصور الدبلوماسية الدولية في معالجة أزمات دول راحت ضحية حرب لم تخلف سوى الدمار.

ويبدو أن تحديات إعادة إعمار الدول التي تضررت بفعل الحروب تحت دوافع التغيير المزعوم الذي جاءت به ثورات ما يسمى بـ”الربيع العربي” وهي سوريا وليبيا واليمن، باتت أكثر وضوحا الآن. والأكيد أن النموذج السوري هو الأكثر تضررا بعد أن كشفت تقارير حديثة عن أرقام صادمة حول الخسائر التي تكبدها هذا البلد منذ اندلاع الأزمة وهي مرشحة للارتفاع.

فقد ذكرت منظمة الرؤية العالمية (وورلد فيجن) وشركة فرونتير إيكونوميكس لتطوير النتائج الاقتصادية وهي أكبر شركة استشارات اقتصادية مستقلة في أوروبا في تقرير تحت عنوان “ثمن باهظ للغاية: تكلفة الصراع على أطفال سوريا” صدر الجمعة، أن “التكلفة الاقتصادية للنّزاع في سوريا بعد عشر سنوات تقدّر بأكثر من 1.2 تريليون دولار”.

أزمات دول راحت ضحية حرب لم تخلف سوى الدمار أزمات دول راحت ضحية حرب لم تخلف سوى الدمار

والنتائج الاقتصادية لتقرير منظمة الرؤية العالمية وشركة فرونتير إيكونوميكس لتطوير النتائج الاقتصادية التي جاءت مصحوبة باستطلاع قامت به منظمة الرؤية العالمية لما يقرب من 400 طفل وشاب سوريين في سوريا ولبنان والأردن، تكشف عن الخسائر البشرية الهائلة للصراع.

ولفت التقرير إلى أن الصراع في سوريا يعتبر من أكثر النزاعات الدموية بالنسبة إلى الأطفال والأكثر تدميرا، حيث يقلل من متوسط العمر المتوقع للأطفال بمقدار 13 عاما، كما تم استخدام ما يقدر بنحو 82 في المئة من الأطفال الذين جندتهم الجهات المسلحة في أدوار قتالية مباشرة وكان 25 في المئة منهم دون سن 15 عاما.

ولم يقف معدّوا الدراسة عند ذلك، بل أشاروا إلى أنه حتى مع انتهاء الحرب ستستمر تكلفتها في التّراكم لتصل إلى 1.7 تريليون دولار إضافية بقيمة العملة اليوم وحتى عام 2035. وقالوا إن النتائج تشير في كل الأحوال إلى أن جيلا كاملا قد ضاع في هذا الصراع، وإن الأطفال سيتحمّلون التكلفة من خلال فقدان التعليم والصحة، مما سيمنع الكثيرين من المساعدة في تعافي البلاد والنمو الاقتصادي بمجرد انتهاء الحرب.

ووفق الإحصائيات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان فقد قُتل ما يقدر بنحو 55 ألف طفل، بعضهم عن طريق الإعدام بإجراءات موجزة أو التعذيب، وذلك من أصل قرابة 387 ألف سوري منذ بدء النزاع.

إذن، بعد هذه الأرقام المفزعة ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة ويدور في أذهان الكثير من المتابعين والخبراء يتمحور حول: هل ستتمكن سوريا بالفعل من خوض عملية إعادة إعمار ناجحة في مرحلة ما بعد الحرب وكيف لها أن تحقّق هذا في ضوء موازين القوى الراهنة محليا وإقليميا ودوليا؟

وبعد عقد من الحرب الأهلية الدموية في سوريا التي تقاطعت فيها القوى الدولية والإقليمية لتحقيق مغانم عسكرية أو اقتصادية في المستقبل، أصبح هذا الملف الحارق يتمحور الآن حول من سيكون الأقرب لإعادة إعمار البلد.

وتتفق بعض الآراء على أن عملية إعادة إعمار سوريا بعد نزاع دمّر البنية التحتية ودفع الاقتصاد إلى الانهيار ليست أمرا حتميا في كل الأحوال، ولكن يعتمد حجمها ووتيرتها ونطاقها على مجموعة من العناصر من أبرزها العوامل الجيواقتصادية في الدول الخارجة من الصراع، وهي روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا.

أكثر من 1.2 تريليون دولار التكلفة الاقتصادية للنّزاع في سوريا أكثر من 1.2 تريليون دولار التكلفة الاقتصادية للنّزاع في سوريا

وبعبارة أخرى، هناك احتمال كبير أن تؤثّر التدخلات الجيوسياسية في النزاع السوري الذي بات بلا أفق نهائي للحل على استخدام الموارد الاقتصادية، خاصة وأن الخلافات بين القوى الفاعلة في هذا الملف بدأت تأخذ منحى جديدا في ظل اقتصاد عالمي شاحب زادت من أوجاعه جائحة كورونا.

وإلى حد بعيد تفتقر سوريا إلى جميع الشروط الواجب توافرها لتحقيق إعادة إعمار المدن المدمرة بطريقة ناجحة ما بعد الحرب، لأن العوامل الجيواقتصادية المحركة للنزاع تشير إلى أن البلاد سيتواصل تشرذمها السياسي والأمني الحاد في ظل قدرتها المحدودة على توفير التمويل اللازم في ظل قانون “قيصر” الأميركي الذي خنق ما تبقى من اقتصاد البلد.

وفي ضوء ذلك يرى المتابعون أن ثمة إمكانية أن تشكل مسألة إعادة إعمار سوريا منافسة من نوع آخر بين القوى الكبرى وخاصة مع الصين التي لطالما سعت إلى أخذ جزء من “الكعكة الاقتصادية” السورية لأن الدوافع بالنسبة إليها مالية قبل أن تكون سياسية على عكس الروس والأميركيين والإيرانيين وحتى الأتراك.

العرب

—————————–

مأساة المعارضة السورية/ د. رياض نعسان أغا

من المؤسف أن تصل المعارضة السياسية السورية إلى حالة مفجعة من الضعف والتشتت والانقسام، وخطر الوقوع في تشابكات العلاقات الدولية، وقد دخلت مسارات العملية السياسية في حالة الجمود التي أوصلتها إلى التعلق بوهم قدرة اللجنة الدستورية على إيجاد حل.

وقد تفاقمت الظروف القاسية التي يعاني منها شعبنا في المنافي وفي بلاد الهجرة، وبات ملايين السوريين النازحين في حالة مريعة من التشرد والضياع والفقر المدقع، وفي غياب كامل لأدنى شروط العيش، كذلك باتت معاناة شعبنا في الداخل السوري المحاصر أكثر صعوبة وقسوةً، بعد الانهيارات المتلاحقة في الاقتصاد السوري، وغياب الأمن وضعف بنية الدولة وظهور طبقات من أثرياء الحرب الذين سيطروا على ما تبقى من ثروات سورية.

ولم تستطع تنظيمات المعارضة الراهنة أن تجد مخرجاً من هذا المستنقع الآسن، بل غرق فيه كثير من قواها، وصارت بعض تشكيلاتها عبئاً على الشعب الذي أعلن رفضه لها، وبات يبحث عن بديل، وعن جسد سليم قوي تتجسد فيه روحه الأصيلة، ويقدر أن يجدد حيويتها، ويستعيد حضورها ويحمل المسؤولية باقتدار.

وهذا الجسد الذي نسعى إلى إيجاده، هو جسد الشباب الذي ينبغي أن يحمل الراية، وأن يباشر بنفسه قيادة مسار المستقبل السوري، ترفده كل القوى الوطنية المخلصة، وتمنحه ثقتها.

إن أي بحث عن الاستقرار في منطقتنا لن يكتمل من دون تضميد جراح سوريا، وما لم تصل سفينتها المتخبطة في عواصف الصراعات الدولية إلى شاطئ أمن واستقرار. وإعادة إنتاج الماضي أو الإصرار على فرضه على الشعب وجعله ذاته مستقبل سوريا، أمر ينذر بانفجار جديد لما يخبئ قاعُه من قهر وظلم وفقر، وأية محاولة لرتق الجرح ستبوء بالفشل.

إن إصرار الشعب السوري على تنفيذ القرار الدولي 2254 وفق تراتبية محددة تبدأ في وضع دستور جديد، وتدعو إلى انتخابات نزيهة بإشراف الأمم المتحدة.. هو مفتاح الحل الممكن الذي يضمن سلامة المستقبل، لاسيما أنه لا يقصي أحداً، ولا يتجاهل حق أحد من مكونات الشعب السوري.

إننا ندعو شباب سوريا، وكل القوى الوطنية لبناء جسد وطني معافى من أمراض المعارضة التي أوشكت أن تصير أمراضاً مزمنة بعد نحو عشر سنوات من التخبط، وأن يتسامى الجميع فوق المصالح الشخصية والإثنية والعرقية والمذهبية.. لإنقاذ وطن جريح يترنح اليوم، وينتظر أبناءه الشرفاء كي يتداركوه قبل فوات الأوان.

لا نريد إقصاء أحد، ولا نقبل من أحد أن يلغي الآخر، وليكن مبدأ المواطنة أساساً ومرجعية لكل السوريين فوق كل انتماء فرعي أو ولاء مصلحي.

ولا نقبل أن يرتهن موقف المعارضة عند أي قوى إقليمية أو دولية، ونحن نثمن مساعدتها لشعبنا ووقوفها مع قضيتنا، ونحترم سيادتها في توجهاتها وأهدافها، لكنها تعذرنا حين نخلص لقضيتنا ونبعدها عن أية صراعات أو اشتباكات قد تؤثر على سلامة مسار الحل السياسي المنشود، متفائلين بتجدد الدعم الدولي لإنهاء السيطرة العسكرية الدولية على سوريا وجعلها مناطق تقاسم نفوذ أجنبي، ومصممين على استقلال سوريا، وعلى استعادة سيادتها على كامل أرضها، ومحافظين على وحدة شعبها، ومتفائلين بقدرته على النهوض وبناء دولة مدنية ديمقراطية حرة مستقلة.

——————————

عقدٌ من الخراب

غيدا طيارة

بمناسبة الذكرى العاشرة للنزاع السوري، يتحدث خضر خضّور في مقابلة معه عن الخراب الذي لحق بالبلاد.

يستعرض خضر خضّور، في الذكرى العاشرة لاندلاع الانتفاضة السورية، أبرز فصول النزاع المروّع الذي هزّ البلاد، شارحًا تداعياته وآفاقه المستقبلية. خضّور باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، تركّز أبحاثه على الشؤون السورية، وبخاصة على العلاقات المدنية-العسكرية، والهويات المحليّة في بلاد الشام. صدر له عدد من الدراسات المهمة، وشارك في كتابة إحداها مع باحث آخر في كارنيغي هو حارث حسن، وتحمل عنوان: “تحوّل الحدود العراقية-السورية: من حدود وطنية إلى حدود إقليمية”، إضافةً إلى دراسات أخرى من بينها: “العودة إلى أي مستقبل؟ ماذا سيبقى للنازحين في سورية؟”، و”الحروب المحليّة وفرص السلام اللامركزي في سورية”. أجرت “ديوان” مقابلة معه في أواخر شباط/فبراير.

—————————–

في عَشْريّة الثورة.. السوريون والجناية على الثورة/ ياسين عبد الله جمّول

عشر سنوات تقضّت منذ نداءات الحرية والكرامة في 2011، وهي في ميزان الأفراد عُمر ليس بقصير؛ لكنها في أعمار الدول والحركات وَمْضة، وأفراد البشر مسؤولون يوماً عن أعمارهم فيما أفنَوها، وذلك كشفُ حساب ليس لأحد إلا لمالك يوم الدّين؛ فهل يُحاسب المجموع على ما يَفنَى من عُمر الثورات والحركات الوطنية؟

أكثر ما يُعقد من جلسات المحاكمة للأفراد والكيانات؛ فتُستلّ الأقلام وتُسوَّد صفحات وسائل التواصل بالهجوم على فلان من الائتلاف وفلان من الجيش الحرّ وفلانة من ذاك الكيان، حتى تختلط عليك الأحداث فلا تدري أحياناً سبب الهجوم، ولا تتضح دواعي الإسقاط والإخراج عن الملّة والوطنية! ولكنْ مع شدة الوطأة على الناس وهم يترقبون الفرج، ويعانون مرارة التخاذل الدولي عن نصرتهم مع التنافس الدولي على سرقة ثرواتهم ونهب وطنهم؛ تلتمس الأعذار قليلاً، وإن عزّت في مواطن كثيرة، لاسيما ممن يتصدّر سياسياً أو عسكرياً أو فكرياً.

وإن لم يكن لأحد محاسبة “المجموع” فإن استحضار الأصول قليلاً في الحديث بين فرض العَين وفرض الكفاية؛ يضعنا أمام استحقاق خطير، وهو تأثُّم المجموع إن قصّر فيما يجب على أفراد منه القيام به.

ولعل أشد ما يتأكد التقصير العام فيه مع عَشرية الثورة السورية هو التوثيق؛ ولا أعني هنا ما ننفر منه من تصوير المعاناة الإنسانية والاتّجار بآلام الناس، فبئس ذلك من توثيق؛ وإنما المراد توثيق أحداث الثورة بما يحفظ الحقوق ولا يضيع أمانات نحو مليون شهيد ومعتقل، وأكثر من مليون جريح ومصاب.

ليس من الفجاجة الاعتراف بتقصير السوريين في توثيق ما مرّوا به من تجارب في طول الثورة وعرضها؛ فكم من تجربة عسكرية بدأت واتسعت حتى غطت راياتها الخريطة السورية ثم انتهت بأنياب الغِيلان ولا مرجع اليوم لباحث عنها، مع وفرة مَن بقي مِن أفرادها وقادتها؟ وهذا الألم لا يعرفه إلا مَن عايشَه من دارسين وباحثين يتلمّسون حقيقة ما جرى في منطقة من مناطق الثورة، فلا يجدون مرجعاً يوثق منه إلا ما نُشر من الأجانب عنّا وعن ثورتنا. مع أن المناطق المحررة التي سقطت حتى اليوم شهدت من تجارب الحكم المدني الرشيد ما يُدرَّس في الأكاديميات؛ فضلاً عن الصمود والعمليات العسكرية الثورية الذي كنا نقرأ عنه في الكتب فحسب، وقامت في تلك المناطق رغم شدة الحصار والمعاناة محاولات وطنية عظيمة في التعليم والصحة والمجتمع المدني؛ فلما سقطت وهُجّر أهلها منها نُسيت وأُهملت وطُوي كل ما كان فيها كأنها لم تكن! مع أن أعداء الثورة والسوريين وقفوا عاجزين حائرين أمام بعض تلك التجارب عند دخولهم المناطق بعد تهجير أهلها منها؛ وإن صوّروها بصورة “التخريب” ودعم “المتمرّدين والإرهابيين”.

وإن كنّا نعذر المحاصرين للتقصير في توثيق ما عاشوا وعانوا، وفي تصدير جوانب الألم خلال الحصار؛ فأين الأعذار وقد خرجوا؟! وإن بقيت لمن زاد عليهم الألم بالخروج فاضطروا للعيش في مخيمات النزوح؛ فلا نجهل أن كثيرين صاروا أحسن حالاً، بل تصدروا المنصّات الإعلامية والهيئات السياسية والمنظمات الإنسانية، أليس من الوفاء لما مرّ من سنوات المرارة في الحصار ولمن ودّعناهم تحت الأرض وفي السجون ومَن أقاموا في المخيمات أن نوثّق تجاربنا في تلك المناطق، وأن نشرح للعالم بأسره أننا لولا أنهم أخرجونا بالقوة ما خرجنا؛ بعيداً عن نظريات بيع المنطقة من فلان وسعدان!

ونسعد حين ننظر منصات وسائل التواصل تتزيّن بذكرى استشهاد قائد قضَى؛ وإن كان يعزّ أن نجتمع جميعاً على مدح رجل إلا بعد موته! لكنّ هذا يُعيدنا إلى الاستحقاق ذاته: أين نحن من توثيق يليق بأولئك القادة الأبطال؟ وأين نحن من باقي الشهداء معروفين كانوا أو مغمورين؟ وهل ينجو “المجموع” من إثم التقصير مع نحو مليون شهيد ومعتقل يجهل السوريون -قبل غيرهم- سِيرَهم؛ إلا مَن أسعدَه القدَر بكاتبٍ قريبٍ له يحكي عنه، أو بحدثٍ ارتبط به اسمه يحفظه قليلاً.

وما أنجزته منظمات المجتمع المدني السورية حتى اليوم من الخدمات والتضحيات ليس أقل مما بذله المقاتلون في فصائلهم؛ فسعَوا للجائع وللمصاب وللأرامل وأبناء الشهداء، فماذا أنجزوا في توثيق أعمالهم وتجاربهم الإنسانية؛ عدا التوثيقات الإعلامية التي كثيراً ما تأتي مشوّهة لأعمالهم وبطولاتهم، ومما أُنجز  كذلك مشاريع إنسانية مميزة في سدّ الثغور وتلبية احتياجات الناس؛ ثم تجدنا نسعى لحضور دورة في كيفية الاستجابة في وقت الأزمات، مع أننا شاركنا لسنوات في الاستجابة لأزمة من أكثر الأزمات تعقيداً وطولاً؛ لكننا تكاسلنا عن تطويرها وتوثيقها بما يجب لبلورتها وتقديمها تجارب إنسانية مميزة، كما ظهرت تجربة “الخوذ البيضاء”؛ مع أنه من الظلم للجهود الإنسانية في سوريا خلال عشر سنوات ألا تظهر إلا تجربة “الخوذ البيضاء” المميزة.

وليس الحال إعلامياً بأحسن مما سواه؛ مع وفرة الإعلاميين والمنصات الإعلامية والقنوات الفضائية المؤيدة للحرية، ولكنْ يُحمد لناشط غيور مثل تامر تركماني قيامه بما يجب على هيئات الثورة القيام به من التوثيق والأرشفة، لأنه عمل لا ينهض به فرد؛ بل هو من واجبات “المجموع”، ولعله بقيامه بتوثيق ما حفظ وأرشفة مجريات الثورة وأحداثها أسقط “إثم التقصير” عن مجموعنا كلنا؛ ولكن لابد له من مؤازرة ومساندته من كل غيور على ثورته ودماء الشهداء وآلام المعتقلين فيها.

وأما قطاع التعليم فمع أنه أهم محاضن التربية والتنشئة وإعداد الأجيال فهو من أكثر القطاعات إهمالاً لتوثيق التجارب ودراستها؛ رغم أن للسوريين فيها جهوداً تُخلد على جدار الزمن، ففي القرن الحادي والعشرين لم يترك آلاف الأطفال تعليمهم في المناطق المحاصرة وداوموا في الأقبية يدرسون، وتحت ظلال الزيتون نالت طالبات أعلى الدرجات بعد التهجير، ومع الحاجة والإصابة أكمل كثيرون دراساتهم؛ فأين التوثيق السديد لكل ذلك؟ كم لنا في إدارة التعليم والإرشاد والدعم النفسي والتعليم المسرَّع ما يصلح مواد دراسية في كليات التربية؟ ولماذا لا تحصر الجامعات الحرّة جهودها مع طلابها وأكاديمييها لدراسات ميدانية عما مررنا به؟ لأنّ أحداً لن يذكر تجاربنا تلك ما لم نوثّقها على أصولها ونحفظ شهادات أصحابها عليها؛ ولولا التقارير المميزة لوحدة ACU عن المدارس مثلاً لكنا في جهل تامّ حتى عن وضع مدارسنا في المدن والمخيمات.

يمثّل توثيق الأحداث ركيزة من أهم ركائز تحقيق العدالة الانتقالية، وكلنا نتحرّق للوصول إلى برّ العدالة؛ لكننا إن وصلنا ولا شيء في أيدينا موثقاً وفق الأصول المعمول بها فليس لنا أن “نزعل” من أحد إذا وجدنا أننا بدّدنا تضحيات ملايين منا هباءً، ولا أن نرميها على “المؤامرة” ولصوص الثورة والإنجاز؛ لاسيما مع ما نراه من مواقع مثل يوتيوب وغيره من حذف متعمد للمواد المتعلقة بالثورة السورية.

عشر سنوات تقضّت لن يكون ما بعدها كما كان قبلها؛ فهل نحن على استعداد لدخول العقد الجديد من عُمر ثورتنا؟ وماذا أنجزنا من توثيق تجاربها بالصوت والصورة والقلم؟ ماذا قدّمنا للعالم عنها بالتاريخ والأدب والفنّ والموسيقا والدراما؟

إنها دعوة لاستنفار الأقلام والأصوات الحرّة لأرشفة واعية لعشر سنوات تتسرّب من بين أيدينا، فيومياً نخسر شاهداً وأكثر من شهود تلك العَشرية؛ فلنتدارك ثورتنا وإنجازاتنا قبل أن نندب أنفسنا، ونقول: ليت أنّ ليت أنّ!

لاسيما مع وفرة المؤسسات الثورية السورية اليوم، وما يعيشه عموم السوريين داخل المناطق المحررة وخارج سوريا من حرية التوثيق والكتابة.

فإن لم نوثق أحداث ثورتنا وإنجازاتها على الوجه المأمول فلا نلومَنّ إلا أنفسنا على ما سيُكتب عن تاريخ “ثورة الحرية والكرامة” وسيكون في مقررات الطلاب بعد سنوات؛ وتلك هي الجناية الكبرى على الثورة، ومعها يكون “إثم التقصير” على “المجموع” كله؛ فالتاريخ اليومَ يُكتب وهو ما يُخلّد، وليس ما يجري على طاولات المفاوضات والمساومات بنا وبثورتنا.

فماذا نريد للأجيال أن تعرف عنّا وعن ثورتنا؟ فلنكتب ما نريد للتاريخ أن يحفظ ويحدّث عنّا.

ياسين عبد الله جمّول

تلفزيون سوريا

—————————

العبور السوري الطويل إلى مرحلة ما بعد العسكرة/ أحمد جاسم الحسين

تتسم علاقة المدني السوري بالعسكري السوري بالتعقيد، والتشابك، وهي جزء من تقاطعات الهوية السورية، فقد تناوب على البلد منذ تأسيسه حكام عسكريون، أو مدنيون يأتمرون بأمرهم، وقام أولئك العسكريون بانقلابات، كانت حجتها في كثير من الأحيان، تصحيح مسار الحاكم المدني والاعتراض على موقفه السياسي، كما قال حسني الزعيم في انقلابه الأول ضد القوتلي 1949، وهو ما تبناه حافظ الأسد كذلك في انقلابه على الأتاسي 1970 الذي سماه “حركة تصحيحية”، وقد شكل العسكر في التاريخ السوري المعاصر جسراً لكسر تراتبية السياقات الاجتماعية السورية، وإعطاء الفرصة لطبقات اجتماعية غير مخصّصة بصفتها من طبقة قادة البلاد أو المجتمع، لكنهم قدموا غالباً نموذجاً بائساً في التسلط والتحكم والبطش.

والقرار النهائي في مآل العمل والمنصب وكثير من الفرص في سوريا في مرحلة ما قبل ثورة 2011 هو قرار عسكري، فالدراسة الأمنية هي التي تجبّ ما قبلها أو تفتح له الباب، ويأتي في هذا السياق أن معظم من فتحت له أبواب الفرص في سوريا لا بد له من حامل عسكري يحميه، لذلك نشأت ظاهرة الضباط المستثمرين برأسمالهم الرمزي المتمثل بسلطتهم، وهو ما جعل ضابطاً مفوّهاً مثل بهجت سليمان يفتتح ما يشبه الصالون الفكري في أحد طوابق فرعه الأمني ليحاور “مثقفين وأساتذة جامعيين” كانوا يحجّون إليه في يوم محدد كل أسبوع، على أمل الحماية الشخصية أو العائلية، أو الحصول على فرصة يستحقها أو لا يستحقها، لكن هذا بابها الوحيد، في سوريا المعسكرة، وفي الوقت الذي يجري فيه الحوار الفكري “الراقي”  في الطوابق العليا، تحدث ألوان من التعذيب في قبو البناء نفسه لأشخاص حاولوا قول كلمتهم أو التفكير بحرية، هذه إحدى تناقضات الشخصية السورية أو جوانب من تشكلها.

كان الوزير السوري مثلاً، يناديك مهما علا شأنك العلمي أو الاجتماعي من دون ألقاب، لكنْ إنْ جاءه ضابط فسيستحضر رتبته العسكرية في الخطاب، وربما يرفّعه رتبة أعلى، أثناء الحديث معه على أمل الترفيعات القادمة، وهذا ليس بمستغرب في ظل سطوة وسلطة عرفها الوزير جيداً بخبراته المتراكمة، وكان عدد كبير من الضباط يحرصون على ارتداء لباسهم العسكري في المطاعم والتعازي والمشاوير الخاصة من أجل تحسين الخدمة وعدم الغش ومزيد من الاهتمام والوجاهة.

وفي مرحلة الثورة، كان التدخل العسكري من قبل النظام ومخابراته، وجرّ الثورة إلى العسكرة مفصلاً تحولياً في تاريخها، وهو الملعب الذي يجيد النظام توظيفه واللعب فيه، إضافة إلى كونه عالماً مليئاً بالأسرار والغموض، ويحتمل كل ألوان التفسير والجدل لأن الحقيقة فيه مائعة، وهو ما استثمره النظام محلياً عبر استعادة عصبته القبلية والطائفية، وعالمياً عبر تسويق التصدي للأصولية، والرد على العسكرة التي قام بها الطرف الآخر.

تدور في هذه المرحلة من التاريخ السوري، السريع التحول، صراعات مبطّنة ومعلنة بين الجهات القيادية المدنية من جانب، والجهات العسكرية من جانب آخر، متمثلة في: حكومة النظام السوري وجيشه، والإدارة الذاتية وقسد، والجيش الوطني والحكومة المؤقتة، وهيئة تحرير الشام وحكومتها. وستزداد هذه الخلافات كلما بردتْ الجبهات وبدأ السوريون بتفقد تفاصيلهم، والتخفيف من لا محدودية أحلامهم بالتغيير، الذي كسر ظهورهم. سيرتفع منسوب تلك الصراعات بين الأطراف المستثمرة بالعسكرة، كلما ابتعدت اللحظة عن وقوف المعارك، وسيحاول العسكريون، قدر ما يستطيعون في تلك المناطق، الدفع نحو الأمام لأن كثيراً من سلطاتهم ومنافعهم مرتبطة ببقاء الصراع العسكري الواقعي أو المتخيّل مع الآخر.

 ويترافق ذلك مع تنبّه المستثمرين في الصراع العسكري إلى تدقيق ميزانياتهم وفواتيرهم، بل إن قسماً منهم يريد تحويل جزء من أموال الاستثمار نحو خدمة المواطنين في تلك المناطق؛ لأنه ميدان استثماري أكثر جدوى حالياً، بعد أن حقق استثمارهم العسكري أهدافهم، من حيث درى العسكر والمتعسكرون أو لم يدروا!

وراح المدنيون يبحثون عن متنفّسات لحياتهم بعد أن بدأت مرحلة تلاشي العصبية الحربية، والصراع مع “العدو”، وتشير كثير من المرجعيات المتعلقة في هذا المجال إلى أن أكثر المشكلات في مرحلة ما بعد الحروب، هي مآل العلاقة بين العسكري والمدني، إذ يرى العسكريون أن ما تحقق للمدنيين من انتصار أو اندحار للعدو هو بسبب تضحيات العسكريين، وليس من المعقول أن يوضعوا على الرفّ في أول فرصة، أو أن تُقلّم أياديهم، وقد اعتادوا إبان المعارك أن تُخصَّص التماثيل لأبواطهم، في حين يرى المدنيون أنه من واجب العسكريين بعد انتهاء المعركة أن يغيّروا من دورهم، ويتفرغوا لحماية مكتسبات الناس من العدو الخارجي، وأن يتركوا للعقل التنظيمي والاستثماري والفكري أن يأخذ فرصته في مرحلة حياة ما بعد الحرب!

تعدّ العسكرة جزءاً رئيسياً من الهوية السورية، نتيجة الدور والفاعلية، التي أنيطت بها عبر تاريخ تشكل الكيان السوري، ولم تُولَ ما تستحق من دراسة، بسبب انشغال كثير من الدارسين بحقول الدراسة المألوفة من مثل الإسلام السياسي أو الأحزاب في سوريا، ولضحالة المعلومات الدقيقة عنها، وارتباطها بالمقدس والممنوع، إضافة إلى كونها حقلاً قليل الحضور في الدراسات الثقافية أو الإنثروبولوجية العالمية، كون الدول المنتجة للثقافة المهيمنة عالمياً تجاوزت هذه المرحلة.

ليست العسكرة مفردة دائمة الحضور السلبي في التاريخ السوري، فقد تركت بصمة عميقة في نمط الشخصية السورية، وسرديّاتها، حتى بات تشبيه المسؤول الذي يطبق القوانين ويتسم بالصرامة بأنه عسكري، وهذا تصور إيجابي عن العسكرة بكونها حزماً وتنظيماً ودقة، وهو عكس مفهوم العسكرة السورية المرتبطة بالبطش والاستبداد واستعمال الإكراه في فرض الإرادة، وليس طرائق الدولة المدنية في الحكم، وتجدر الإشارة إلى أن العسكرة السورية في أبهى حالاتها كانت عالماً من الاستثناءات والرغائب والوساطات.

استثمر حافظ الأسد العسكرة مبكراً، ووظفها في مختلف مراحل حياته،  فهو عسكري بقدر ما هو مدني لإدراكه أهمية ذلك، فهو الفريق الرفيق الرئيس، يجمع السلطات المدنية والعسكرية، بل إنه أدخلها في تكوين الحزب الذي قاد مساره نحو العسكرة، وشكل له أجهزة أمنية، بل جعل أكثر من نصف أعضاء اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي من العسكريين، وهي التي كانت تتحكم في توجيه مسارات الحزب، وأدخل العسكر إلى الجامعات بغطاء حزبي يرابطون عند أبواب المدرجات والقاعات، وسلّح من هو معه،  وقد قبل بخيار العسكرة بالسلاح الحي لمواجهة الآخر السوري “العدو”، كانت عسكرة المجتمع أحد أبرز أساليبه للبقاء في الحكم.

واستكمالاً لحياة العسكرة في سوريا، فقد آلت القرارات في السنوات الأخيرة في الجغرافيات السورية إلى العسكري السوري (العسكري هاهنا بمختلف صوره: عسكري المؤسسة، والميليشاوي، والحزبي، والديني)، وعلى الرغم من كل مظاهر الدولة المدنية في مختلف “السوريات الحالية” فإن الكلمة الأعلى ما تزال للعسكري، وكل القرارات يمكنها أن توقف أو تخرق، في حال تقاطعها أو تعارضها مع الرؤية العسكرية.

ولأن أمد الوجع السوري قد طال، وثمة أحداث دولية وإقليمية تحاول أن تنتج حلاً، فقد قال سوريون عديدون في الأيام الماضية: إنْ كان المخرج من الوضع الحالي بمجلس عسكري كمرحلة مؤقتة فمرحباً به، وهذا فتح الباب لسوريين آخرين للقول: أمنَ المعقول بعد كل تلك التضحيات للتخلص من العسكرة والقمع نعود إلى العسكرة بصفتها حلاً؟

ويتساءل آخرون: من سيضبط هذا الوضع السوري الحالي؟ من يعيد تلك الميليشيات والجيوش إلى بلدانها أو ثكناتها أو مكانتها سوى قوة أكبر منها، هل ستكون مجلساً عسكرياً أم قواتٍ دولية أم اتفاقاً سورياً لا نعرف له طريقاً أو وقتاً؟

يرى “هنتنغتون” في سياق الحديث عن آفاق العلاقة بين المدني والعسكري أن الأمل معقود على تطوير نسق علاقات “عسكرية مدنية” من خلال سياسة احترافية للجيوش، تضمن الحد الأعلى من الأمن العسكري للبلاد، بحد أدنى من التضحية، مع الحرص في أثناء ذلك على التواصل المؤسساتي مع القيم الاجتماعية الأخرى، والمحافظة على الحياد.

لا يطمح السوريون في هذه المرحلة إلى ما دعا إليه “هنتنغتون” أعلاه دفعة واحدة، لكنهم يرون أنه من المهم تذكير العسكري السوري أياً كان انتماؤه بالهدف الرئيسي من اللجوء إلى العمل العسكري، المتمثل بخدمة الحياة المدنية والأخذ بسبل نهوضها، وعدم جعل العمل العسكري صيرورة ومآلاً بل مرحلة سيرورة مؤقتة.

الطريق السوري طويل وشاق، في بلد حكمه منذ تشكله العسكر بطريقة أو بأخرى، لذلك نشر ثقافة “ضد العسكرة” وقبولها ليس بأمر سهل، وقد صارت جزءاً من شخصية السوري عامة استناداً إلى معطيات نفسية وإنثروبولوجية، والسؤال الآخر: كيف لمؤسسات عسكرية غير احترافية يعتقد العامل فيها أن قوته غير قادمة من قوة المؤسسة، بل من السلاح الرمزي أو الواقعي الذي يحمله، أن تأخذ بيد مؤسسات مدنية نحو المأسسة أو التطوير؟

قراءةُ تجربة الدول، التي تجاوزت مرحلة العسكرة يوصلنا إلى أن “تمْدين” الجهاز العسكري ومأسسته، وفي الوقت ذاته إشباع رغبات الناس المدنيين: المالية والجسدية والنفسية والاجتماعية أحد سبل إطفاء نار العسكرة بصفتها حلاً وخياراً كما يحسب عديدون؛ لأن العسكرة ليست صفة للعسكريين فحسب، بل سلوك يترسّخ في شخصيات نظرائهم المدنيين، ليشرّع المجتمع ذاته من حيث لا يدري أبوابه لترسيخ تلك الثقافة الأبوية، الاستبدادية ويمهل الخطوات، قبل الوصول إلى مرحلة الدولة المدنية، حيث القوانين والمؤسسات وتعدّد السلطات وتداولها.

—————————–

دروس إقليمية للثورة السورية الغِرّة/ حسام جزماتي

منذ بدأت احتجاجاتهم، قبل نحو عشر سنوات، لم يقصّر السوريون في التذرع بضعف خبرتهم السياسية، نتيجة عقود القمع، للتملّص من مواقف أظهروا فيها طيشاً أو استتباعاً أو خفة أو فردية أو تنافساً يكاد أن يكون صبيانياً بين بعض أقطاب معارضاتهم أحياناً. وفي المقابل، لم يتوانَ خبراء، أو مُدَّعو خبرة، من الدول العربية المجاورة عن التربّع على كرسي المعرفة المنصوب بسرعة، وتقديم ما يظنون أنه خلاصة تجارب مماثلة حدثت مع الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين أساساً. ولم تكن هذه الدروس، منقولة الإحداثيات على عجل هي الأخرى، مفيدة في أغلب الأحيان.

من قضية العرب «المركزية» كما يقال، «القضية» الفلسطينية التي تستأثر بال التعريف إن شاءت، قدِم كتّاب ومحللون وباحثون من الفلسطينيين السوريين، مسلّحين بتجربة تنظيمية متوسطة سابقة في منظمة ما، ومدجّجين بقدرة لا تبارى على الكلام لساعات، متبرّعين لإسداء النصائح التي يصعب اختزالها وتوحيدها، فهم غير متفقين بالأصل. لكن مجمل ما قدّمته الخبرة الفلسطينية كان يصب في سياق القنوط غالباً؛ بداية باستعادة تجارب الخروج المفروض أنه «موقت» من البلاد، والاحتفاظ بمفاتيح المنازل، والسكن في المخيمات التي أصبحت أحياء وبلدات إقامة وحيدة، مروراً باليأس من أي عدالة دولية والتعامل مع العالم السياسي بوصفه مجموعة مؤامرات كبرى معقدة ومتراكبة تستخدم على الدوام أذرعاً محلية مشبوهة بالخيانة، فكل حركة تنسّق مع سفارة، وأي فرد قد يُتهم ببساطة بأنه «قابض» من جهاز مخابرات أو «فاتح» على وزارة خارجية. الاختراقات تملأ الأجواء بصورة عنكبوتية وغرائبية. القادة فاسدون. الاتفاقيات سرية. لا مجال للثقة بتنظيم أو بزعيم، فالكل قد «يبيع القضية» في أي لحظة مفاجئة. والسياسة مجرد سلسلة من «التكويعات» المرتبطة. ولا شيء يمكن للسوريين أن يفعلوه، والحال هذه، سوى أن يستجيبوا لنداء الفلسطيني «العتيق» القائل «صفّ جنبي» بانتظار المستقبل المجهول.

الخبرة اللبنانية أكثر تلويناً وغنى وأقل وطأة، وإن أتت بنتائج مشابهة. ما يمكن أن يحصّله السوريون في نهاية «الحرب الأهلية» هو بلد مهلهل بديمقراطية توافقية ذات طابع طائفي، وبرامج talk show تميّع القضايا وتزلّق الزوايا ويجري فيها إطلاق الاتهامات من دون أمل في الوصول يوماً إلى «الحقيقة». فالزعماء، المتولدون من بنية «أمراء الحرب»، مراوغون وكاذبون، يشكّلون «طبقة سياسية» متناغمة رغم اختلافها. بإمكانك أن تصرخ «كلّن يعني كلّن» لكن هذا لن يكون أكثر من سَورة غضب محدودة في الشارع، في حين تمضي السياسة والحكم والاغتيالات في سياقها المحتوم. الحل الأمثل هو الهجرة أو أن تشتم «البلد» فيما تستخدم مزيجاً من شطارتك الفردية ومكاتب الحوالات لتدبر سبل العيش من دون أن تفكّر في أفق أبعد من اليوميّ.

وإذا كانت هاتان التجربتان لا تطرحان حلولاً من أي نوع، فإن شقيقتهما العراقية، المؤسّسة على الغزو الأميركي عام 2003، لديها الجواب المسموم، صدام حسين!

فبخلاف الفلسطينيين واللبنانيين، الداخلين في نفقين لا تبدو لهما نهاية واضحة، يعرف العراقيون بداية نفقهم على الأقل، وهو لحظة الخلاص من الدكتاتورية والسقوط في الفوضى! ومن اللافت أن الحنين إلى الزمن الصدّامي «المستقر» لم يعد مقتصراً على قاعدته النمطية بين السنّة، بل تعداها إلى شرائح ملحوظة من أعدائه التقليديين من الشيعة أو الأكراد. فبعد خمسة عشر عاماً على إعدامه باتت عيوبه الجسيمة أقل حضوراً في الذهن من الواقع الحالي الذي تمتزج فيه الأيادي الخارجية بالفساد والتناحر والاضطراب العام على صُعد مختلفة. الدرس الذي تقدّمه التجربة العراقية للسوريين هو أن مستبداً محترفاً في القصر خيرٌ من عشرة هواة على الدبابة، المفترض أنها أميركية أو غربية كما تقتضي صورة التدخل الدولي المنشود أو المرذول.

وإلى هذا وذا وذاك تضاف تجارب رادفة أخرى من المحيط. مصر، صاحبة ميدان التحرير، التي وقعت في يد حاكم كاريكاتيري. ليبيا التي تخوض حرباً طاحنة وتستورد المرتزقة على الضفتين. اليمن التي صارت مسرحاً لمكاسرة إيران والسعودية بناء على انقساماتها الداخلية. أنظمة الحكم الضعيفة والقلقة في بلدان وصلت إليها جرعة مخففة من الربيع العربي في آخر أيام صلاحيته، كالجزائر والسودان.

يحتل هذا المشهد المترامي مكانه من أذهان سوريّي الثورة. ويتضافر مع تعقيد قضيتهم واستعصائها الحالي، ليلهيهم عن القليل الذي يمكن أن يفعلوه تجاهها، وأسّه أن يكونوا قد راكموا خبراتهم المستقلة عن بلدهم وخصوصياته بالدرجة الأولى، والحدود الفعلية لتقاطع تجربته أو تشابهها مع غيرها، وتلمّس سبل بنائه بمسؤولية. فالاتكاء على حجة التصحر السياسي الذي فرضه النظام لم يعد مقبولاً بعد عقد من العذاب.

تلفزيون سوريا

——————————-

السوريون والعمل المؤسساتي/ سمير سعيفان

سلّط الدكتور عزمي بشارة، في لقائه الأخير المفتوح مع (التلفزيون العربي)، الضوء على مسألة فشل السوريين في العمل المؤسسي، وقد دفعتني هذه الإضاءة إلى التفكير مرة أخرى في هذه المسألة التي لعبت دورًا رئيسًا في فشل انتفاضة الشعب السوري، التي انفجرت في آذار/ مارس 2011 طلبًا  للحرية وتجاوز الاستبداد إلى الديمقراطية وتداول السلطة، في أن تحقق الغايات التي نهضت من أجلها، على الرغم من الشجاعة والتضحيات الكبيرة، وبخاصة فشلهم في تكوين مبادرة سورية جامعة كبيرة تكون قادرة على فرض ذاتها، كما دفعتني إلى التفكير في المسألة الأهمّ: “ما يجب ويمكن فعله”، وهو ضرورة المبادرة للقيام بعمل مؤسساتي كبير، خاصة أن  مجموعات كثيرة تُعرب اليوم عن ضرورة هذه المبادرة، وهذا يعكس وجود إدراك عميق لأهمية العمل المؤسسي، ووجود استعداد للالتزام به.

ولعلّ من المهمّ أن نشير إلى أن هذا “المرض العضال” ليس جينيًا وراثيًا، بل هو مكتسب، وقد اكتسبه السوريون يوم بدأت أنظمة مستبدة تحكمه وتكتم أنفاسه، فقبل 1958 نما العمل المؤسسي في سورية نموًا كبيرًا، وتشكلت أحزاب صبغت الحياة العامة في سورية بصبغة سياسية قوية، وتشكلت النقابات والجمعيات، ونمت منظمات المجتمع المدني، وكانت التظاهرات والإضرابات جزءًا من الحياة العامة، وكان من اللافت أن العديد من الشركات الكبرى التي قامت قبل 1958 كانت شركات مساهمة، يتشارك فيها عدد من كبار رجال الأعمال مع آلاف المستثمرين الصغار، مثل معمل إسمنت دمّر، ومعمل زجاج دمّر، ومعمل إسمنت حماة، والشركة الخماسية وغيرها.

بدأت حالة النفور من العمل المؤسسي مع عهد الوحدة السورية المصرية شباط 1958 – أيلول 1961، واستمرت مع سلطة البعث بدءًا من آذار 1963، بعد استراحة قصيرة بين أيلول 1961 و آذار 1963، ثم تكرّست وتضخمت مع سلطة الأسد المطلقة في تشرين الثاني 1970؛ إذ كانت هذه الأنظمة تقوم على تسليط أجهزة الأمن على الحياة العامة بجوانبها كافة، وزرع مخبريها في كلّ مكان، وربط أعداد كبيرة من العملاء بأجهزة الأمن ممّن يكتبون التقارير، بل حوّلت فرق حزب البعث إلى مكاتب تعمل في خدمتها، وحولت أعضاء النقابات والمنظمات الشعبية إلى مخبرين، وأصبح السوري يُعتقل بسبب كلمة صغيرة، وأحيانًا بسبب تقرير كاذب، ويُودع في المعتقل من دون محاكمة إلى أجل غير مسمى؛ وحرصت الأجهزة الأمنية السورية المستبدة على زرع النزعة الفردية الأنانية، وثقافة “اللهمّ أسألك نفسي”، وعلى منع أي عمل جماعي أيًا كان، فمنعت تنظيم الأحزاب والجمعيات المدنية، ولم يصدر في سورية قانون للأحزاب، لذا كانت جميع الأحزاب السورية غير مرخصة، حتى حزب البعث الذي تُحكَم سورية باسمه، وقامت سلطة البعث باعتقال كل من انضم إلى حزب سياسي أو سعى لتنظيم عمل سياسي، طبعًا عدا الأحزاب التي دخلت خيمة “الجبهة الوطنية التقديمة” التي قامت “بإخصاء” هذه الأحزاب وجعلها عاقرًا. فنمت حالة الشك والاشتباه بالآخر في نفوس السوريين، ومع الزمن، انتشرت عادة الاتهام بالعمالة. وقد شملت الروح الفردية والخوف والشك بالآخر قطاع الأعمال أيضًا، وأصبح رجال الأعمال بعد انقلاب البعث لا يرحّبون بأي شراكة، وأصبحت الشركات جميعها عائلية، وانتشر القول بين رجال الأعمال: “اللي عندو شريك عندو معلّم”، و”العب وحدك بترجع مبسوط”.

من المساعي الأخرى لسلطة الأسد لنشر الروح الفردية، أنها طوال 37 عامًا بين 1963 و 2010، لم تبنِ مسارح ولا دور سينما، بل ضيّقت على الموجود منها من قبل، حتى تحوّل العديد من دور السينما إلى محالّ تجارية، وكان تأسيس دار الأوبرا في دمشق هو المبنى الوحيد الذي شيدته هذه السلطة، ووضعته تحت رقابة أمنية صارمة، بينما بنت بالمقابل نحو 150 مركز ثقافي حكومي في كلّ منطقة أو ناحية في سورية، تعمل تحت رقابة أجهزة الأمن، وتقدم ثقافة معلّبة بعلب سلطوية. وبالمقابل، شجعت انتشار التلفزيونات وإنتاج الدراما السورية، وتساهلت مع دخول “الستالايت”، كي يبقى أفراد العائلة في البيت يجلسون إلى جانب بعضهم صامتين، بدلًا من أحاديثهم المشتركة، يشاهدون برامج التلفزيون ومسلسلاته وأخباره التي يجب أن تبدأ بخبر وصورة عن حافظ أسد، أيًا كان الخبر. في هذا المناخ الأمني، نمت الفردية، وأصبح السوري يبتعد عن أي عمل منظم، بل بات يشتبه في كلّ من يدعو لذلك.

تغليب الجزء على الكل، والثانوي على الرئيسي

أدت سياسات الاستبداد إلى تنمية عامل آخر له جذرٌ في ثقافتنا، نحن السوريين بل العرب عمومًا، يؤدي بنا إلى النفور من بعضنا لأسباب ثانوية، ويجعل عملنا المشترك أمرًا صعبًا، ويأتي ذلك بسبب الأحكام العرجاء التي يحكم بموجبها السوري على السوري الآخر، وردة فعلنا المبالغ فيها على أخطاء الآخرين الصغيرة. حيث أمسينا نغلّب الجزء على الكل، والثانوي على الرئيسي، أي نرفض الشخص الآخر بكليته، إن رأينا فيه خطأ صغيرًا أو اشتبهنا أو ربّما سمعنا بأنه قد ارتكب خطأ ما، أو فَعَلَ أمرًا لا يعجبنا، متناسين صفاته وأعماله الأخرى. وأخذنا نطلق أحكامنا القاسية على بعضنا، بسبب أخطاء بسيطة، أو قول لم يعجبنا من شخص آخر، أو توتر نشأ لأي سبب صغير أو كبير؛ فنرمي بعلاقتنا بالآخر، وأحيانًا بأحد الأصدقاء، ونسارع إلى تصديق النميمة وإلى ترويج الإشاعات، ونرغب في تداولها مع ميل إلى التفسيرات السلبية دائمًا. وهذا يفسر انتشار فيديوهات لبعض الشتّامين الذين لا همّ لهم سوى شتم الآخرين، مخترعين حكايات وأخبارًا وروايات من مخيلاتهم الخصبة.

أذكر ذات مرة، أيام كنت في المدرسة الإعدادية، أن الأستاذ قد رسم نقطةً بقلم الحبر على ورقة بيضاء، وسألنا: “ماذا ترون؟”، فقلنا “نقطة سوداء”؛ فعلّق: “إذن، لم ترَوا الورقة البيضاء، بالرغم من أنها أكبر من النقطة السوداء بمئات المرات”. ثم بدأ يحدثنا عن الأخطاء الصغيرة، وعن ضرورة النظر إليها بموضوعية، ثم قال: “يجب ألا تحجب الأشجار عنّا الغابة”، وشرح معناها، ثم شرح لنا أبياتًا من قصيدة لبشار بن برد:

إذا أنتَ لَمْ تَشرَبْ مِرارًا على القَذَى ….. ظَمِئْتَ وأيّ الناسِ تَصفو مَشَارِبُه

ومَنْ ذا الذي تُرضى سجاياهُ كُلُّهـــا ….. كَفَى المـرءَ نُبْلًا أنْ تُعَدّ مَعَايبُـــــهْ

أسباب مباشرة:

ضمن هذه المناخات، جاءت انتفاضة السوريين مفاجئة دون تحضير، شيء أشبه بـ “القومة” بالعامية، عندما يقوم عوام الناس، بحسّ جماعي من دون تنظيم ولا قيادة، فيدخلون معركة محتدمة، وحينها سيكون من الصعب الانتظام في عمل مؤسسي، وهم يواجهون عدوًا منظمًا ومؤسسًا جيدًا، يملك أجهزة هرمية عديدة بنظام انضباط عسكري، وقد راكم تجارب على مدى أربعة عقود، وكان يُعِدّ ويستعدّ دائمًا لمثل هذا اليوم، ويمتلك مقدرات الدولة بكاملها، وقد سخّرها لمواجهة شعبه الذي قام مطالبًا بحقّه في اختيار قيادته واختيار شكل نظام حكمه، والتخلّص من سلطة مغتصبة مدعومة بقوة من إيران وروسيا؛ فكانت معركة غير متكافئة أبدًا، وعلى الرغم من ذلك، شكل المتظاهرون تنسيقيات تنظم خروج التظاهرات وتنظم التواصل، وشكلوا اتحادات كان لها دور جيد في الشهور الأولى، واستمر دورها بارزًا في السنوات الأولى، وكانت قابلة للتطور، ولكن النظام حرص على دفع الحراك السلمي نحو حمل السلاح، كي لا تبقى الصورة صورة تظاهرات سلمية تواجهها بنادق نظام مستبد، وأراد جرّ الحراك إلى الملعب الذي يمتلك هو تفوقًا فيه، وهو ملعب السلاح، وهو يمتلك منه أكثر بكثير وبفارق كبير. ومع السلاح، أصبح الحراك المعارض المسلح بحاجة إلى تنظيم وانضباط وهرمية أعلى بكثير من مرحلة التظاهرات، ولم يُفلح المعارضون بتنمية وتطوير عمل المؤسسة سريعًا ليلبي متطلبات صراع عسكري مفتوح، مع فارق القدرات الكبير عند النظام، وفي مقابل حماس المتظاهرين وشجاعتهم، كان هناك جنود النظام وميليشياته المجبرون على القتال تحت تهديد القتل، أو المرتزقة الطامعون بالمال والمغانم.

ولأنّ الصراع أصبح يتطلب إمكانات كبيرة لا قبل للمواطنين السوريين بها؛ أصبحت الحاجة إلى المساعدة الخارجية كبيرة، فجاءت هذه المساعدة  لتصادر قرار الفصائل المعارضة من أيدي السوريين، وتضعه في أيدي الداعمين بالسلاح والمال، وكان على الداعمين حينذاك أن يشكّلوا غرفة عمليات واحدة وصندوقًا ماليًا واحدًا، وأن ينظّموا مركزَ قيادةٍ، سياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا ودبلوماسيًا، واحدًا، على غرار منظمة التحرير الفلسطينية، وقد فعلها الداعمون العرب، مع (فتح) ومنظمة التحرير، إذ حُصر الإمداد بالمال والسلاح بيد ياسر عرفات، فأصبح القرار مركزيًا بيده، وأصبحت (فتح) المنظمة الأكبر، وأصبحت بقية المنظمات الفلسطينية المنضمة إلى منظمة التحرير الفلسطينية عمليًا تحت جناح (فتح) -ياسر عرفات- التي تسيطر على التمويل والسلاح وتتحكم في عملية توزيعه. ولكن هذا النمط من التنظيم الممركز لم يُتبع في دعم المعارضة السورية، بل تُركت الفصائل العسكرية مشرذمة، وصارت تعدّ بالمئات وأصبحت تتنافس بدلًا من أن تتعاون، ويبدو أن وراء هذا الأمر سببين: الأول هو التنافس وعدم التوافق الخليجي، وقد تحدّث عن هذا رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، في أحد لقاءاته المتلفزة؛ والثاني هو إرادة أوباما الذي كان له قناعته التي تقوم على جملة أسباب: وهي 1) إرضاء إيران التي وضعت عدم إسقاط نظام بشار الأسد شرطًا من ضمن شروط إبرام الاتفاق النووي الذي حرص أوباما على توقيعه بأي ثمن؛ 2) تجربة ليبيا التي قدمت له مثالًا سلبيًا عن نتائج إسقاط النظام عسكريًا، في حال غياب معارضة موحدة مؤهلة للحلول محله؛ 3) قناعة أوباما بعجز المعارضة السورية المشرذمة سياسيًا وعسكريًا عن الحلول محلّ النظام، مما يهدد بالفوضى؛ 4) خشيته من أن سقوط النظام سينتهي بسورية مثل ليبيا: فصائل إسلامية عديدة متنافسة ومتحاربة تنمو بينها فصائل جهادية تسيطر على المشهد.

كان أبرز تجليات هذه السياسة التي تعمّدت الإبقاء على حالة الشرذمة هو تشكيل غرفتي عمليات (الموم) و (الموك) اللتين وضعتا ما يشبه “اللجام” في فم أحصنة فصائل المعارضة المسلحة لتوجهها بحسب إراداتها، فلا تذهب إلى أبعد مما تؤمر به، وكانت إرادة الإدارة الأميركية ألا تنهزم المعارضة، وألا ينهزم النظام. وهذا ما جرى، وأدى إلى دمار عظيم غير مسبوق.

ولكن.. ما العمل الآن؟

لقد انتهينا إلى ما نحن عليه الآن، فسورية مقسمة إلى أربع مناطق سيطرة: (منطقة النظام وتدعمه روسيا وإيران؛ منطقة شرق الفرات تدعمها الولايات المتحدة؛ مناطق “الجيش الوطني” والسيطرة التركية؛ منطقة سيطرة النصرة) إضافة إلى مناطق في البادية تنشط فيها فلول داعش. ومن جهة أخرى، يكاد الصراع العسكري يصل إلى نهاياته، وأصبحت معاناة السوريين لا تُحتمل، ويستمر تراجع اهتمام المجتمع الدولي بالقضية السورية، ويستمر النظام وروسيا في نشاطهم الدولي لإعادة تأهيل النظام وإعادته للساحة الدولية، ومن ثم “عودة حليمة لعادتها القديمة”، وكأن شيئًا لم يكن، وذهاب كل تضحيات الشعب السوري هباءً منثورًا. فهل علينا -السوريين- أن نبقى عاجزين عن العمل المؤسساتي؟

بالرغم من كل ما قلته، فالصورة ليست قاتمة؛ فكثيرٌ من السوريين عملوا في منظمات وفي شركات، ونجحوا، والآن يوجد ما يشبه الـ “فورة” في المطالبة بالعمل المؤسسي، والنقد هو أحد أشكال الدعوة للتحرك والفعل، وتشكيل مبادرة كبيرة لها وزن تستطيع أن تفرض نفسها على اللاعبين والمتلاعبين بمصير السوريين، ويوجد اليوم العشرات من الأحزاب الصغيرة والعشرات من مجموعات (واتساب)، وهي تعمل على نحو منظم جيدًا وبتفاهم جيد بين منظميها، و تضم كل منها عشرات الشخصيات، وبعضها تضم المئات، وجميعها تعبّر عن عميق إدراكها لحاجة السوريين إلى مبادرة كبيرة، يطلقها سوريون ويموّلها سوريون، والأمر الذي ينقصُ هو أن تنهض مجموعة من المبادرين، وتعمل على تحضير إطلاق مبادرة بطريقةٍ تجمع أكبر عدد من هذه المجموعات، وتبدأ بعمل تشاوري طويل النفس فيما بينها، لإطلاق عمل كبير في يوم محدد، وأن تحضر لذلك جيّدًا، وتحدد غاياتها وأهدافها، بوثيقة بسيطة تتضمن أهدافًا وغايات عريضة يُجمع عليها السوريون اليوم، وتقوم على مبدأ الحاجة إلى انتقال سياسي منظم إلى نظام ديمقراطي يحافظ على الدولة، ويعيد بناء سورية، ماديًا ومجتمعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وتشريعيًا وثقافيًا، ويجب أن تُطلق هذه المبادرة في يوم واحد، على أن تكون حين إطلاقها ذات جسم كبير منظّمٍ عنقوديًا، بحسب أماكن التواجد، وأن يمتلك هذا الجسم أذرعًا/ مكاتب وفرق عمل متخصصة، من دبلوماسيين وإعلاميين وسياسيين وناشطين، وبرنامج عمل سياسي ودبلوماسي ومدني واجتماعي.. وبذلك تكون مبادرة بكتلةٍ كبيرةٍ تُرغم الجميع على أخذها بعين الاعتبار، وعليها أن تمثل السوريين وتنقل صوتهم، وتُرغم الجميع على الاستماع له، فالسوريون هم أصحاب القضية.

فهل سنرى مثل هذه المبادرة قريبًا؟ الأرض حبلى وننتظر ولادتها!

مركز حرمون

—————————-

السؤال الوطني الملحّ في الذكرى العاشرة للثورة السورية/ عبد الباسط سيدا

من أسوأ مساوئ حكم حزب البعث في سورية، خاصة في حقبته الأسدية السوداوية المستمرة منذ نحو نصف قرن، أنه قضى على الحياة السياسية الفاعلة في البلاد، وهي الحياة التي كان من المفروض أن تجسّد وجهات نظر مختلف القوى والشرائح المجتمعية ضمن أحزاب التزامها الأوسع مصالح الشعب والوطن؛ فأساء بذلك إلى بنية المجتمع السوري، وأحدث فيه تشوهات وتغييرات قيصرية قسرية، ما زالت جروحها ملتهبة، ومضاعفاتها مستمرة.

سعى الحزب المذكور، الذي تأثر كثيرٌ من رواده ومؤسسيه بالأفكار والممارسات الفاشية والنازية في بداية الأمر، للمزاوجة بين التوجهين القومي والاشتراكي، بأكثر صيغهما تطرفًا وفوقية واستهتارًا بطبيعة الظواهر المجتمعية والواقع المجتمعي السوري المشخص، والجهل بهما. ثم كان التأثر بالنموذج الستاليني في الحكم الذي فرض على الاتحاد السوفيتي نمطًا مخابراتيًا شموليًا في الحكم، استخدمه في قمع معارضيه على جميع المستويات، بل مارس صيغة من الهندسة المجتمعية التي تمثلت في اقتلاع مجموعات سكانية كبيرة، لاعتبارات قومية أو غيرها، من مناطق سكناها الأصلية، وتهجيرها إلى مناطق أخرى بعيدة، بهدف خلخلة البنية المجتمعية، وإشغال الناس، وذلك للحيلولة بينهم وبين المطالبة بالحرية والديمقراطية.

وكما هو معروف، تمكّن ستالين من التغطية على دكتاتوريته وجرائمه من خلال التغني بالمآثر الاقتصادية، كما كان يفعل نظام حافظ الأسد، التي أنجزها في خططه الخمسية المعروفة بعرق الناس ودمائهم، وهي الخطط التي أدت في نهاية المطاف -بفعل الفساد والقمع- إلى الانهيار الاقتصادي الكارثي، بالرغم من الموارد الطبيعية والبشرية الهائلة التي امتلكتها روسيا والدول التي كانت تشكل جزءًا من الاتحاد السوفيتي، أو تلك التي كانت تخضع لهيمنته.

ما ألحقه حزب البعث من أضرار بسورية يتمرّد على الحصر؛ فقد دمّر المجتمعَ الأهلي الذي كان قد تشكل في مختلف المناطق السورية، في المدن والأرياف على مدى قرون، وكان يقوم بوظيفة الحفاظ على التوازن المجتمعي، ويسهم في إيجاد المخارج الكفيلة بحل المشكلات بكل أنواعها وعلى جميع المستويات، هذا بالرغم من وجود سلبيات كان يمكن التخلص منها، معالجتها، عبر إجراءات قانونية متوازنة.

والأمر الذي كان يميّز هذا المجتمع الأهلي هو أن زعاماته وشخصياته الفاعلة كانت قد تمكّنت من فرض نفسها من خلال كفاءاتها ومزاياها الشخصية التي تؤهلها للقيام بأدوارها القيادية؛ إذ كانت قد حصلت على قبول أوساطها المجتمعية بها، واقتناعها بقدرتها على خدمة المصلحة العامة. ويُشار هنا إلى الزعامات المجتمعية والدينية وإلى الشخصيات المتميزة من التجار والزراعيين والصناعيين وأصحاب “الكار”، كما يُشار إلى الأكاديميين والمثقفين والمبدعين الذين كانوا يسهمون في عملية التغيير التدريجي لواقع المجتمع، وبما يتناسب مع قدراته وإمكاناته.

وكانت اللقاءات بين هذه الفعاليات تتم بكل حرية وأريحية، في أماكن كانت قد غدت جزءًا فاعلًا من الفضاء العام. كانت تتم في الجوامع والمضافات وفي مجالس العزاء، وفي الأفراح ومناسبات الأعياد، كما كانت تتم في النوادي والجمعيات والجامعة، إضافة إلى الأمسيات الثقافية والفنية، وفي دور السينما والمقاهي… إلخ.

ولكن الذي حصل هو أن حكم البعث الذي تسلطت عليه مجموعة متصارعة لديها شراهة سلطوية غير اعتيادية، متأثرة بصورة سطحية بدائية بأفكار فاشية ونازية وستالينية، تفتقر إلى اطلاع معرفي مقبول على التراث العربي والإسلامي عمومًا، وتجهل تاريخ المنطقة وطبيعة وأبعاد ومآلات الصراع المحتدم عليها.

قضى حزب البعث على فاعلية المجتمع الأهلي السوري، عبر إجراءات التأميم المتهورة، وإجراءات “الإصلاح الزراعي” التي مثّلت الحقّ الذي أرادت به باطلًا، وذلك بهدف إبعاد الخصوم المحتملين أو المتخيلين، وعبر تحويل الدولة إلى دولة أمنية تتحكّم في مفاصل المجتمع ومصاير الأفراد. وغالبًا ما كانت الشعارات المستخدمة في هذا السياق تركز على معاداة “الرجعيين والخونة”.

وفي الوقت ذاته، لم يسمح حكم البعث بظهور مجتمع مدني، كان من شأنه أن يسدّ الفراغ الذي أحدثه تغييب المجتمع الأهلي، ويؤدي دورًا أكثر فاعلية وعصرية على صعيد بناء الجسور بين مختلف المكونات المجتمعية السورية، وتعزيز العلاقات بينها على أساس الثقة المتبادلة واحترام الآخر المختلف، وكل ذلك ضمن إطار الوحدة الوطنية التي تُطمئن الجميع، وتضمن حقوق الجميع من دون أي استثناء.

وكان من شأن هذا المجتمع، في حال وجوده، أن يكون صلة الوصل بين المجتمع والسلطة، وأن يحول دون حصول صدام مباشر، وذلك عبر الضغط على مراكز القرار والمسؤولين، وبيان ضرورة مراعاة حاجات الناس ومطالبهم في أثناء اتخاذ القرارات، وشرح أبعاد الصعوبات والضغوط التي تعانيها السلطة للمواطنين، وذلك من أجل العمل المشترك على تجاوزها، والبحث عن المخارج الأقلّ ضررًا وخسارة، بل الأكثر فائدة.

ولكن الذي حصل كان هو العكس تمامًا؛ فقد تحولت الجمعيات والنقابات وكلّ منظمات المجتمع المدني إلى وجه من أوجه النظام؛ تحكّمت فيها الأجهزة الأمنية بالتعاون مع حزب البعث الذي بات هو الآخر مع الوقت محكومًا من قبل الأجهزة المعنية، ولم يعد دوره سوى واجهة لإضفاء المشروعية على نظام الحزب الواحد، ومن ثم القائد، ليصل في نهاية المطاف إلى الزعيم القائد، والمعلم الأول في كل شيء.

ولاستكمال لعبة السيطرة الأمنية على الدولة والمجتمع بكل مفاصلهما، أوجد حافظ الأسد بدعة “الجبهة الوطنية التقدمية” بقيادة حزب البعث، وعضوية الأحزاب الشيوعية والناصرية والاشتراكية العربية التي تحولت مع الوقت إلى مجرد واجهات شكلية للتعمية مقابل امتيازات شخصية، وفتات سلطوي وهمي، كان يستخدم في غالب الأحيان لتضليل بسطاء الناس، والتضييق على المثقفين والناشطين، ممن كانوا سابقًا من مؤيدي تلك الأحزاب، ومصدرًا لقوتها ضمن الأوساط الشعبية.

والاصطدام العنيف بين السلطة والسوريين الذين خرجوا، بكلّ مكوناتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم، في سائر المناطق السورية، للمطالبة بالإصلاح والتغيير، كان مردّه في جانب كبير منه عدم وجود أيّ دور فاعل لمؤسسات المجتمع الأهلي أو منظمات المجتمع المدني؛ كان من شأن ذلك الدور التخفيف من هذا التصادم، والدفع نحو تدوير الزوايا، وإيجاد المخارج.

ولم تتمكن النخب السورية الوطنية الحريصة على شعبها وبلدها من التواصل كما ينبغي، بل ظلت تعيش مناخات انعدام الثقة، والخشية من ردات أفعال الأجهزة القمعية، وتعاني وطأة الشعارات الثوروية التي سرعان ما أخذت بعدًا طائفيًا مقيتًا، خاصة في مرحلة العسكرة. إذ بات الصراع بين الميليشيات المذهبية التي أدخلها النظام بالتنسيق مع راعيه الإيراني وبين الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي أسهمت في إجهاض ثورة السوريين، هو الوجه الطاغي. الأمر الذي أفقد الثورة السورية زخمها الوطني الذي كان يعبّر عن تنوع المجتمع السوري وتطلعاته. كما شوه صورة الثورة السورية أمام الراي العام العالمي، وهو الأمر الذي استفادت منه الحكومات التي لم تكن أصلًا حاسمة منذ بداية الأمر في موقفها من نظام بشار، وكان كل ما تطالب به النظام هو أن يحسن سلوكه، وفقًا لحساباتها ومطالباتها، هذا بالرغم من وجودها ضمن المجموعة الدولية الكبيرة التي أعلنت نفسها بوصفها مجموعة أصدقاء الشعب السوري.

وعلى الرغم من تشكل أعداد يصعب حصرها بدقة من منظمات المجتمع المدني، في مرحلة الثورة في الداخل والخارج، فإن غالبيتها لم تكن وليدة تطورات طبيعية ضمن المجتمع السوري أو ضمن تجمعات السوريين في الخارج، ولم تكن حصيلة تبلور وتنامي وعي وطني سوري يعقد الآمال على أهمية تلك المنظمات، ويعمل على تعميق دورها، وتطويرها لتكون من أدوات ترميم وتمتين النسيج المجتمعي الوطني السوري. وهذا ما ينبغي العمل عليه والوصول إليه.

والمشكلة المركزية التي يواجهها السوريون اليوم تتمثل في التالي: الأكثرية المؤكدة من السوريين ترى استحالة القبول بإعادة تأهيل وتسويق نظام بشار، هذا النظام الذي بدأت شعبيته تتآكل حتى ضمن وسط ما يسمى بالموالين. فقد توصل هؤلاء، وهم إخوة وأخوات من ضحايا هذا النظام، إلى قناعة تامة بعجز هذا النظام المستبد الفاسد عن حل المشكلات المعيشية الملحّة التي يعانيها السوريون في جميع أنحاء البلاد، وأنه لن يتمكن مطلقًا من توحيد السوريين من جديد ضمن وطن واحد، ما دام هو الحاكم، لأن الثقة بينه وبين الغالبية العظمى من السوريين باتت صفرية.

ولكن في المقابل، لا توجد الأحزاب الوطنية والمنظمات والمؤسسات المجتمعية التي في مقدورها تشكيل حال وطنية جامعة، تقنع السوريين قبل غيرهم، وتقنع العالم، ببديل يعتدّ به، يستطيع إنجاز مهمة تجاوز الوضع الكارثي الذي يعانيه السوريون منذ عشرة أعوام، وهو وضع يعدّ حصيلة تراكمات الاستبداد والفساد والإفساد على مدى أكثر من نصف قرن. كيف يمكن لنا أن نتجاوز ما حصل بعيدًا عن عقلية الثأر والانتقام، وعن عقلية الامتيازات والنزعات العابرة للحدود التي لا تقيم وزنًا لأهمية وضرورة طمأنة شركاء الوطن والمصير؟

 هذا هو السؤال الأساسي، بل الوجودي، الذي على السوريين أن يعملوا معًا للوصول إلى جوابه.

 مركز حرمون

 —————————-

إشكالية الصراع من خارج الدولة/ راتب شعبو

بحسب دراسات الانتقال الديمقراطي، يمكن لعجز القوى السياسية المتصارعة، عن حسم الصراع في بلد ما، أن يؤسس لتسوية فيما بينها ينتج عنها بداية تحوّل ديمقراطي يكون أساسه الفعلي الاعترافَ بالعجز عن الانتصار. غير أن هذا التحول ممكن فقط حين يكون صراع القوى ضمن دائرة الدولة، أي حين تكون الدولة إطارًا ثابتًا تعترف به جميع الأطراف المتصارعة. لدينا في سورية هذا العجز عن الانتصار، ولكنه ليس من النوع الذي يقود إلى بداية ديمقراطية؛ ذلك لأنّ الصراع تعدّى حدود الدولة الرسمية (أي المعترف بها والممثلة في الأمم المتحدة) بعدما أصبحت طرفًا فيه. الانقسام السياسي في سورية اتخذ شكلًا جغرافيًا، حين سيطرت الأطراف على مساحات متفاصلة من الأرض السورية. ومن ثَمّ، لم نعد أمام صراع قوى في إطار دولة، بل أمام صراع بين دويلات (قوى أمر واقع تتبلور مع الوقت ككيانات حكم، ودولة رسمية انحطت في أدائها العام وفي سيادتها إلى مستوى دويلة).

لكلّ من هذه الدويلات المحمية التي تواجه الدولة أو الدويلة الرسمية، كيانٌ وإدارة، ولا يوجد أي تنسيق فيما بينها، ولا تجتمع على مبدأ واحد، ولا على موقف واحد إزاء الدولة الرسمية. هذا يعني أن الصراع القائم بين هذه الأطراف أو الكيانات، سواء ببعده العسكري أو السياسي، لم يعد صراعًا لتغيير نظام طغيان أو استبداد، بل بات صراعًا للفوز بنصيبٍ في الشرعية السورية القادمة أو في الحلّ القادم الذي قد يحافظ على شكل موحد لسورية، ويأتي على الوحدة الفعلية لها. هذا هو الإطار الذي تتحرك فيه سياسات حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يجدد تفاوضه مع نظام الأسد برعاية روسية، ويقبل بدخول (قسد) في جيش النظام، على أن يكون لها وضع خاص، وأن تندرج الإدارة الذاتية في قانون الإدارة المحلية رقم 107. وفي الإطار ذاته، تتحرك سياسات “هيئة تحرير الشام” وتسعى للانسجام مع معايير المقبولية الأميركية وتستعد للتصدي لتنظيم “حراس الدين”، أملًا في رفعها عن قوائم المنظمات الإرهابية وحجز مكان لها في الحل الممكن. وليس بعيدًا عن هذا مسعى القوى العسكرية في الجنوب السوري، لكسب مزيد من الاستقلالية المحمولة على رضا إسرائيلي وتفهم روسي ورفض شعبي لنظام الأسد.

للتعبير سياسيًا عن هذا التحول النوعي في مسار الصراع السوري، لاحظنا، منذ سنوات، تراجع المطلب الديمقراطي وتقدّم مطلب اللامركزية، وهذا يكشف أن مشكلة القوى العسكرية الفاعلة على الأرض والحالمة بشرعية لوجودها في سورية القادمة، لم تعد آلية إنتاج السلطة، بل توزيع السلطة بالأحرى، فهذه القوى نفسها ليست ديمقراطية، لا في ممارساتها ولا في آلية إنتاج السلطة فيها، والحق أنها لا يمكن أن تكون كذلك في بيئة صراع كهذه.

ولكن حتى التنظير الذي يرى إمكانية الانتقال إلى الديمقراطية من دون ديمقراطيين، أي أن يتم التوصل إلى الديمقراطية بوصفها حلًا لصراع أطراف غير ديمقراطية ولكنها عاجزة عن حسم الصراع فيما بينها، لا ينفع في الحالة السورية، بسبب ما ذكرنا من خروج الصراع فيها عن إطار الدولة.

يمكن الإشارة إلى هذا التحول على أنه نقطة فاصلة في سياق الثورة السورية، وهو تحوّل بدأت تتكامل عناصره مع بداية مرحلة ما سمّي “المناطق المحررة”، المرحلة التي أخرجت الصراع من دائرة التوافق على الدولة، وأسست لصراعات مع الدولة، من خارج إطار سيطرتها. وقد أنتجت هذه الصراعات، وكان لا بد لها أن تنتج، كيانات خارجية بالنسبة إلى الدولة وغير ديمقراطية، تبرّر استبدادها وعدوانيتها تجاه بيئتها المحلية بضرورات الصراع.

على هذا؛ أصبحت غاية القوى المسيطرة في هذه المناطق المحررة، ولا سيّما بعد التدخل الروسي في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، الحفاظ على الذات في وجه الدولة الرسمية، وبات مفعول خروجها على النظام شبيهًا بمفعول تمرد الولاة العثمانيين على المركز، أي تقليص المساحة الجغرافية لنفوذ السلطان، لا تقييد سلطاته. على العكس، فقد بات خروج هذه المناطق عن سيطرة الدولة الرسمية مبررًا إضافيًا للطغمة الحاكمة لممارسة مزيد من التضييق على محكوميها، بدعوى ضرورات الصراع أيضًا. بتعبير آخر: صار الصراع بين هذه القوى (لم تعد الدولة الرسمية هي الجهة الوحيدة لصراع هذه القوى بل باتت في صراع فيما بينها أيضًا) شبيهًا بالصراع بين الدول، أي غايته كسب الأرض أكثر مما غايته التغيير السياسي، بعد أن باتت متخارجة حيال بعضها البعض.

زاد في تعقيد الصراع السوري، وهو التعقيد الذي ترافق مع ابتعاده عن مضمونه الديمقراطي، أن القوى العسكرية التي سيطرت على الأرض اتخذت بعدًا هوياتيًا كان يصعب تفاديه، فمن طبيعة الصراع العسكري الداخلي أنه يحتاج إلى عصبية لا توفرها السياسة العقلانية. وقد شهدنا كيف أن الصراع العسكري راح يكنس العناصر العقلانية فيه أولًا بأول. البعد الهوياتي عزز التنافر فيما بين القوى التي توضعت على الأرض، وعزز الطابع غير الديمقراطي لها، وقتل البعد الديمقراطي للصراع، الأمر الذي أعاد للدولة الرسمية مقبولية كانت قد خسرت جزءًا مهمًا منها من قبل. غير أن ما كان قد استرده النظام من جراء الانحطاط في طبيعة القوى التي تواجهه، عاد ليخسره من جراء انحطاطه الخاص المتعدد الأوجه، من جرائمه ضد معارضيه إلى افتقاد السيادة أمام الحلفاء المحتلين وأمام الغارات الإسرائيلية المستمرة، إلى استشراء الفساد في مفاصله، والعجز عن تأمين لقمة العيش لمحكوميه.

أما المطلب الديمقراطي في سورية فلم يعد له من يرفعه سوى الهيئات السياسية المعارضة التي تقطعت خيوط ارتباطها بجمهور واسع كانت تمثله يومًا، ولم يعد لها ما يسندها سوى اعتراف دولي يزداد ضعفًا. وبناء على ذلك؛ بات المطلب الديمقراطي ضعيفًا، يعكس ضعف هذه الهيئات التي تدخل في طور جديد من التراجع، وتصبح أكثر قابلية للدخول في تسوية “ديمقراطية” مع النظام، تقي شخصياتها الخروج من الميدان خالية الوفاض.

مركز حرمون

———————

———————–

سوريا: ثورة الفلاحين الذين لم يعودوا كذلك/ محمد سامي الكيال

برز سؤالان مركزيان منذ بدايات الثورة السورية عام 2011 أثارا دائماً حيرة وغضب مؤيديها: الأول، لماذا لم تثر المدن السورية (والمقصود هنا دمشق وحلب)؟ والثاني، لماذا لم يتمكن المعارضون السوريون من التوحد وتشكيل جبهة صلبة قادرة على قيادة الثورة سياسياً وعسكرياً؟

البعض حاول تجنب هذين السؤالين أو التقليل من شأنهما، البعض الآخر قدم إجابات متعددة لم تكن شديدة الإقناع. بالنسبة للسؤال الأول أكد عدد من الكتاب والناشطين أن المدن السورية ثارت بالتأكيد، واستشهدوا بثورة أحياء وسط حمص التاريخية (الخالدية وباب سباع)، والتجمعات الكبيرة في ساحة العاصي الحموية، فضلاً عن مظاهرات حي الميدان الدمشقي وبعض المظاهرات التي حاولت الوصول إلى قلب حلب. إلا أن هذه الإجابة لم تكن كافية، فحمص وحماة لم تكونا على ما يبدو تطابقان التصور المعياري للمدينة، حتى بمقاييس عالمثالثية. وهما بالتأكيد ليستا مركز “المدنية السورية”، أما مظاهرات حلب ودمشق فكان يمكن الجدل بأن متظاهريها قادمون من الضواحي والأرياف، وعموما بقيت هاتان المدينتان مواطن الاستقرار والثقل للنظام، بما يجعل من الصعب إلصاق علامة “المدن الثائرة” عليهما.

السؤال الثاني لم يُبذل أي جهد حقيقي لبحثه، واكتفى معظم المهتمين بشتيمة المعارضين السوريين وبيان مدى تفاهتهم وفسادهم، فتحول بحث هذه النقطة المهمة إلى نوع من الهجاء الطويل الذي لا ينتهي.

اليوم لم يعد أحد يفكر كثيراً بهذين السؤالين بعد كل التطورات التي عرفتها الساحة السورية، فمشاهد الأحياء السكنية المدمرة وقوافل النازحين واللاجئين جعلت البحث في قضايا المدينة والريف والسياسة ترفاً بدا أن الأحداث قد تجاوزته.

إلا أن القضايا والإشكاليات التي أثارها هذان السؤالان ما زالت إلى حد كبير المفتاح الأساسي لفهم كل حراك تاريخي سوري، وقادرة على قول الكثير، ليس فقط عن الثورة السورية، بل عن سوريا نفسها منذ نشأتها ككيان سياسي في الربع الأول من القرن الماضي. ومحاولة تقديم الإجابات ستعيننا كثيراً في فهم ما وصلنا إليه.

إحدى أكثر التنظيرات أهمية في هذا السياق هي أن سوريا لا تملك أصلاً مدناً أو بنية مدنية، وبالتالي لا معنى للحديث عن تخلف المدينة السورية عن المشاركة في الثورة، وبما أن غياب المدينة يعني غياب المجتمع المدني والمجتمع السياسي أيضاً، فهذا يفسر عدم وجود معارضة سياسية جديرة بهذه الصفة. وبدلاً من ثنائية ريف/مدينة تمت استعارة مصطلح “التهميش” من أدبيات اليسار الغربي المعاصر للإشارة إلى جيوب ريفية مفقرة ومبعدة عن المشاركة السياسية والاقتصادية، ومظلومة ثقافياً. هي من حمل الثورة ضد المركزية القمعية للنظام.

هذا التنظير، الذي كان كاتب هذه السطور من مؤيديه لفترة طويلة، يبدو ملفقاً بعض الشيء، فإذا كانت المدينة السورية غير موجودة أصلاً، لا كبنية اقتصادية ولا كموطن لمجتمع سياسي، فما هي الجهة التي همشت تلك الجيوب الريفية؟ وهل جمهور مؤيدي النظام يمثل فئات أكثر حظاً حقاً من فئات الثائرين “المهمشين”؟ ثم إذا كانت الثورة السورية ثورة جيوب ريفية فهل هي ثورة فلاحين؟ لماذا لم يبذل أي جهد فعلي لدراسة بنى الإنتاج في هذه الجيوب؟ أم أن مصطلح “التهميش” وضع أصلاً بوصفه مقوله ثقافوية تتيح التهرب من الإجابة على السؤال الأخير؟

ربما كان مصطلح “التهميش” لا يعني شيئاً حقاً، ويفشل في رسم أي خريطة جدية للصراع السوري، فهو ينفع في التظلّم والشكوى أكثر من التحليل الإجتماعي والتاريخي. ولعل أسلوب القياس التاريخي يساعدنا أكثر على فهم تعقيد الوضع.

عندما حاصر ماو المدن

الماركسية وتراث الحركة الشيوعية يقدمان منجماً لا ينضب للقياس التاريخي، فمحترفو الثورة الماركسيون الذين طبعوا القرن الماضي بطابعهم خلّفوا لنا ما لا حصر له من التنظيرات وأساليب العمل في الوضع الثوري.

بالنسبة لماركس لا يلعب “التهميش” دوراً مهماً فيما رأى أنه “حركة التاريخ”، وباستثناء بعض أعماله الأولى، وخاصة “مخطوطات 1844” و”إسهام في نقد فلسفة الحق عند هيغل”، التي يمكن ببعض التأويل المتعسف والقراءة الموجهة استنباط بعض المقولات عن “التهميش” منها، فهو يركز في المقام الأول على مفهوم “الاستغلال”: الطبقة العاملة هي الوحيدة القادرة على تحقيق التحول الثوري بسبب موقعها المحوري في بنية الإنتاج، وليس لمجرد كونها مظلومة أو مضطهدة.

إلا أن مكانة الفلاحين كانت إشكالية دوماً في النظرية الماركسية، ولطالما أثارت النزاعات بين الحركات الشيوعية والتنظيمات ذات الطابع الفلاحي، وبين الماركسيين والأناركيين، وبين تيارات الماركسية المتعددة نفسها. فالفلاحون غير المحدثين، المتخلفون، غير القادرين على إنتاج أي تنظيم ثوري متماسك بحكم تشتتهم وتباعدهم المكاني وطبيعة إنتاجهم. لم يكونوا بالتأكيد مناسبين للتصور الماركسي عن الثورة.

الميل إلى التقليل من دور الفلاحين وقدرتهم على الحراك الثوري، الذي وسم أيضاً تاريخ الحركة البلشفية في روسيا، تغير بشكل كبير مع صعود الحركة الشيوعية الصينية. الزعيم الصيني ماو تسي دونغ، الذي اكتسب خبرة كبيرة من الانتفاضات الفلاحية، وجد نفسه أمام وضع تاريخي لا يمكن الالتفاف عليه. فالصين في النصف الأول من القرن الماضي كانت بلداً فلاحياً بشدة، والحركة العمالية في المدن الكبرى تراجعت بشكل كبير، ولم تبلغ نسبة عضوية العمال في الحزب الشيوعي الصيني أكثر من 3%، في حين كانت قاعدته الأساسية من الفلاحين.

الثورة الصينية إذا (مع مراعاة فارق الحجم والامتداد والأهمية التاريخية) كان من الممكن تشبيهها إلى حد ما بوضع الثورة السورية: مناطق ريفية ثائرة ومدن تشكل قاعدة الثقل والاستقرار للسلطة.

بتقديمه قراءة جديدة لمفهوم التناقض الماركسي، ابتكر ماو أسلوباً مبتكراً للعمل الثوري، فالطبقة العاملة الغائبة، التي كان من المفترض أن تقود من المدن ثورة الفلاحيين. استُبدلت بالحزب الثوري، الذي يحلّ في الريف قائداً لثورة الفلاحين ومرشداً لهم.

هنا تجدر الإشارة إلى أن ماو، رغم نشأته في وسط ريفي، أجرى دراسته الجامعية في بكين، أما الحزب الشيوعي الصيني فقد أسسه إثنا عشر مثقفاً، منهم ماو، في مدينة شنغهاي، المدينة الكوزموبولتية العظيمة. لقد كان حزباً يمثل التمدن الصيني آنذاك بأرقى أشكاله.

ماو نقل بشكل من الأشكال “روح المدينة” من خلال الحزب المنظم الحديث ذي الإنضباط الحديدي، وموضعها في قلب الريف. ومن الريف انطلق لحصار المدن الكبرى التي سقطت بيده بعد حروب طويلة وصراع مرير.

تبدو هذه الاستراتيجية قريبة من بعيد لأسلوب الثورة السورية بعد تسلحها، على الأقل من الناحية العسكرية. فعلى الرغم من غياب الحزب القائد و”روح المدينة”، سعت مختلف التنظيمات المسلحة ذات الطابع الإسلامي في سوريا إلى “تحرير” الأرياف المتاخمة للمدن السورية، ونجحت في بعض الأحيان في فرض ما يشبه الحصار أو التطويق على حلب ودمشق.

قبل هذا حاول بعض المثقفين السوريين، وعلى رأسهم ميشيل كيلو، التنظير لـ”تحالف بين المجتمعين المدني والأهلي في سوريا”، والمعني بـ”المجتمع المدني” في هذه الصياغة على ما يبدو هم المثقفون والناشطون “الحداثيون” الذي يعيشون في “المدن”، أما “المجتمع الأهلي” فهو البنى الاجتماعية التقليدية الثائرة في “الجيوب المهمشة”. ضمن هذا التحالف القائم على قيم التحديث الكونية، كما يفترض كيلو، يقدم المجتمع المدني للأهلي الخطاب السياسي والاستراتيجيا الثورية، في حين يقدم المجتمع الأهلي للثورة وقودها البشري والعمود الفقري لحراكها. هذه استراتيجية ماوية بعض الشيء. ولكنها لم تحقق شيئاً يذكر على أرض الواقع.

بالطبع كان ميزان القوى مختلاً منذ البداية لمصلحة النظام، ولكن هذا لوحده لا يعطي تفسيراً للفشل الكارثي والمثير للشفقة الذي منيت به حرب الجيوب الريفية. و”قوى المجتمع المدني” السورية، مما يجعلنا نتسائل عن طبيعة هذه الجيوب والقوى نفسها.

لا مدينة، لا ريف

قلنا في مقدمة حديثنا إنه يمكن التشكيك بشدة في وجود مدينة في سوريا، يمكننا أيضاً أن نشكك بمفهوم الريف السوري نفسه، وذلك من خلال النظر إلى هذا الريف من ناحية النشاط الإنتاجي لسكانه.

حسب المجموعات الإحصائية الرسمية السورية فقد بلغت نسبة العاملين في الزراعة إلى مجموع القوى العاملة %15 عام 2010 ، أما مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الأجمالي فلا تتجاوز 17.6%، وهذه النسب كانت في تراجع ثابت عاماً بعد عام منذ الثمانينيات. كما أن المساحات المزروعة وحجم الإنتاج الزراعي لم يحقق أي تقدم يذكر لسنوات طويلة.

يتم تصنيف سوريا تاريخياً كبلد زراعي، ويُحكى عادة عن الأهمية الاجتماعية والسياسية للفئة الفلاحية فيه، ولكن الأرقام التي بين أيدينا لا تؤكد هذا. الفلاحون أصبحوا منذ زمن أقلية غير مؤثرة اقتصادياً في البلاد.

كما أن تراجع عدد العاملين في الزراعة لم يكن بسبب المكننة، أو الاستثمار في قطاعات أخرى تتطلب استجرار المزيد من الأيدي العاملة، بل هو نتيجة توجه البلاد أكثر للاقتصاد الريعي من خلال عائدات النفط وغيره من الثروات الباطنية من جهة، واستثمار “الأهمية الاستراتيجية” للبلاد في نيل المساعدات الخارجية من جهة أخرى، فضلاً عن حركة الهجرة إلى الخارج واعتماد الكثير من العائلات على تحويلات المغتربين، ما كرس وضع الاقتصاد السوري بوصفه اقتصاداً ريعياً بالدرجة الأولى. كما زاد من أهمية جهاز الدولة كموزع للريع بناءً على الولاء.

من الصحيح أن سنوات الجفاف المتلاحقة، والسياسات الزراعية الكارثية للنظام السوري، ساهمت في تسريع انهيار الزراعة السورية، كما كان لها آثار كارثية على حياة مئات الآلاف، حيث تشير بعض التقارير إلى نزوح حوالي مليون ونصف مواطن من المناطق الريفية إلى المدن في سنوات ما قبل الثورة، إلا أن هذا لم يكن عاملاً حاسماً في انفجار الوضع في البلاد، ولا يوجد ما يؤكد أن هؤلاء النازحين قد قاموا بدور فعال في الحراك الثوري، كما لم تُرصد أي شعارات أو مطالب في سياق الثورة تتعلق بأوضاعهم. محاولة جعل الثورة السورية أثراً جانبياً لـ”الاحتباس الحراري” قد تلاقي سوقاً رائجة لدى حماة البيئة الأوروبيين، ولكنها بالتأكيد غير مسنودة بأي براهين قوية، ولا يمكن التعويل عليها تحليلياً.

سكان الجيوب “المهمشة” إذاً لم يكونوا فلاحين بأغلبيتهم، وهم في كثير من الأحيان يعملون في وظائف شبيهة جداً بوظائف أبناء “المدن”: موظفون في جهاز الدولة، أصحاب مهن وورشات صغيرة، مستثمرون صغار ومتوسطون، عمال موسميون، مع نسبة بطالة عالية بكل تأكيد.

من الصعب إيجاد فرق إنتاجي بنيوي بين سكان الريف والمدينة في سورية. وإذا أضفنا إلى ذلك غياب أي بنية سياسية أو ثقافية مؤسسية في “المدن”، فيمكننا أن تقول مع هامش ضيق من الشك أن ثنائية ريف/مدينة هي ثنائية زائفة في السياق السوري: في سوريا لا توجد بنية زراعية قوية في الريف، ولا بنية تحتية صناعية أو خدمية يعول عليها في المدن. في “المدن السورية الكبرى” لا توجد صحافة أو حركة نشر قوية، لا أكاديميات أو مؤسسات بحث علمي يمكن الحديث عنها بجدية، لا أحزاب سياسية أو حركة ثقافية فعلية، لا مؤسسات مجتمع مدني أو جمعيات حقوقية أو أجتماعية أو رياضية عريقة. حتى الطوائف والإثنيات والإقليات العرقية لم تملك، في بلد يوصف عادة بأنه طائفي، أي مؤسسات دينية أو لغوية أو ثقافية راسخة. إنه اليباب السوري الكبير، والذي يبدو مثيراً للشفقة حتى لو تمت مقارنته بدول الجوار: تركيا ومصر ولبنان، بل وحتى العراق قبل حرب الخليج.

ولنوضح هذه النقطة أكثر يمكننا أن نعود من جديد إلى قياسنا الصيني.

حلب ليست شنغهاي

في الواقع لم تكن استراتيجية ماو تقتصر على محاصرة المدن بالأرياف الثائرة، فهو كان يملك نظرة أكثر عمقاً لثنائية الريف والمدينة. بعد انتصاره الكبير سعى القائد الصيني إلى تحقيق “تراكم بدائي” كالذي تشكل في الدول الغربية مع بدء الثورة الصناعية، لكي ينطلق في عملية التحديث الشامل الذي سعى إليها.

هذا التراكم لم يكن تحقيقه ممكناً دون استغلال الريف لحساب المدينة، هكذا فرض ماو سياسة تبادل قاسية على المزارعين من جهة، الذين كان عليهم تقديم منتجاتهم لسكان المدن بأقل بكثير من أسعارها الحقيقية، وشراء منتجات المدن بأسعار أعلى من قيمتها الفعلية، وعلى مثقفي المدن والخريجين الشباب من جهة أخرى، الذين أُجبروا على النزوح إلى الريف لمواصلة فرض “روح المدينة” على الريف من خلال التنظيم الحزبي القاسي.

هذه السياسة كانت كارثية من الناحية الإنسانية، وأدت إلى مجاعات وأهوال ومآسي يصعب تصورها، ولكن رغم كل شيء، ورغم الفاتورة الدموية التي اضطر الصينيون إلى دفعها، فلا يمكننا أن نقول سوى أن ماو وخلفائه نجحوا بتحقيق “التراكم البدائي” الذي خططوا له، وبفضله، وبفضل التخلي عن مبدأ “فك الارتباط بالغرب” فيما بعد، والسماح للاستثمار الأجنبي بالدخول للبلاد، أصبحت الصين العملاق الاقتصادي والدولة العظمى التي نعرفها اليوم، ببنيتها التحتية المذهلة، وتحديثها الذي لا يتوقف.

مدن عظمى مثل شنغهاي وبكين وتيانجين عادت للازدهار والتوسع بشكل أسطوري، بعد سنوات من الانكماش والإهمال في عصر “حصار المدن”، وذلك ما كان ليحدث لولا التضحيات العظمى التي قدمها الريف، أو لنقل، بعبارة أقل تهذيباً، لولا الاستغلال المتوحش للأرياف.

الصين إذاً هي مثال نموذجي على تناقض ريف/مدينة. حيث توجد منظومتان إنتاجيتان متغايرتان تعتمد كل منهما على الأخرى، تحققان التوازن حيناً، وتطغى إحداهما على الأخرى أحياناً أخرى. أما في سوريا فلا تختلف المدينة عن الريف إلا بالتسمية الإعتباطية التي يطلقها موظفون بيرقراطيون مصابون بالملل على هذه المنطقة أو تلك، فهذا التجمع السكاني يعتبر “مدينة” وذاك يعتبر “قرية” بناء على عدد السكان وهمة المواطنين في التكاثر. هذه المنطقة هي من “دمشق” وتلك من “ريف دمشق” بناء على خرائط قديمة يعلوها الغبار والعفن.

“المدينة السورية” لم تستغل الريف أو تهمشه، والقرويون لم “يريفوا” المدينة ويخربوا بهاءها العظيم، كل ما هنالك هو سياسة تنموية فاشلة، وإنتاجية ضعيفة، وغياب تخطيط جدي أو سوق حرة، وضعف ثقافي وهشاشة اجتماعية وتعليم سيء. هذه الرثاثة الشاملة هي الطابع السوري العام السائد في كل التجمعات السكانية، كبيرة كانت أم صغيرة، وهي سبب الكارثة الشاملة التي سقطت البلاد فيها فيما بعد.

حرب الضيع

النظام السوري نظام مجرم بالتأكيد ويتحمل مسؤولية الفشل التاريخي السوري بشكل أساسي، ولكنه ليس الطرف الذي بدأ سيرورة الفشل السوري، فرثاثة المدن السورية وضعف مجتمعها المدني والسياسي أقدم بكثير من وجود النظام السوري، الذي لم يكن ليسيطر ويستقر لولا هذا الضعف وتلك الرثاثة.

منذ الاستقلال السوري في الأربعينات عولت الكثير من الأحزاب السياسية السورية على الجيش، المؤسسة شبه المتماسكة في البلاد، والقوة الاجتماعية المنظمة الوحيدة، لتحقيق أهدافها، وكان لكل منها لجنته العسكرية السرية أو العلنية، في مخالفة صريحة لأساسيات العمل السياسي المدني، كما أن تحول الأحزاب السياسية والإيديولوجيات الحداثية لغطاء يخفي العصبيات الجهوية والعائلية والمناطقية، هو ظاهرة أساسية في بنية السياسية السورية منذ نشأتها، البعثيون لم يكونوا استثناء في التاريخ السوري، ولكنهم الطرف الذي لعب اللعبة بالشكل الأصح والأكثر قسوة.

سيرة الفشل السوري هي سيرة فشل دمشق وحلب، فلولا فشل هاتين المدينتين لما كانت السياسة والثقافة السورية بهذه الهشاشة، ولما تمكنت فئات همجية من العسكر من استلام السلطة، لتحكم بعقلية “المشلحين” في الضيع.

وعلى عكس ما حلم به ميشيل كيلو أو غيره، لم توجد فئات مدنية في سورية أنتجتها مدن عظيمة مثل بكين أو شنغنهاي، لكي تمد “المجتمع الأهلي” في الريف بالاستراتيجية الثورية.

وهذا يقودنا لتوصيف الوضع السوري تاريخياً بأنه وضع “ضيعجي”. ولا يعود استخدامنا لهذه المفردة بسبب استهانتنا بالصواب السياسي (Political-correctness) أو لرغبة في الاستعلاء والإهانة، فلا يوجد للأسف لفظ يفوقه بامتلاك شحنة دلالية قادرة على التعبير عن الوضع.

الضيعة ليست موطن الفلاحين والعمل الزراعي بالضرورة، بل هي تعبير عن نمط حياة و(لا) إنتاج، يتسم بضعف المؤسسات أو غيابها، وأوقات فراغ ممتدة لا يحدها إلا أشكال من العمل الموسمي، والميل إلى النميمة والتآمر، وضيق الأفق والسعي وراء المصالح الضيقة. وهي النمط الاجتماعي الأكثر انتشاراً سواء سواء فيما يسمى “الريف” أو حتى في “المدن”.

الضيعة لا تنتج سياسة أو ثقافة أو معرفة منضبطة، ولذلك اتخذت الثورة والحرب السورية ذلك الطابع المشتت اللاسياسي، ومال قادتها من العسكر والسياسيين إلى تشكيل شبكات مصالح ضيقة وإمارات حرب ذات سمت ريعي، أو مؤسسات ارتزاق سياسي ومدني، وغابت لديهم حتى أكثر أشكال التخطيط العسكري والاستراتيجي بدائية. ولأن “الضيعة” نمط غير منتج وغير ممأسس فنحن لا نملك سياسيين أو مثقفين أو أكاديميين حتى بالقياس بدول الجوار.

سوريا أيضاً بلد أقل من أن يوصف بالطائفي، فالطوائف والقوميات فيه لا تملك أي وجود سياسي أو اجتماعي منظم، كما لا يوجد تأسيس قانوني أو دستوي للوضع الطائفي كما هو موجود في لبنان مثلاً. لا توجد في سوريا سياسة طائفية بل شبكة معقدة رثة من مصالح العائلات والعشائر والمناطق والعصبيات، تتفق أو تتصارع بناء على حسابات انتهازية صغيرة، ولا يمكن التبؤ بها أو التعويل عليها. ولذلك اتخذت الحرب السورية ذلك الشكل الفوضوي المتوحش.

وإذا كان جهاز الدولة المترهل والجيش الفاسد ذو التاريخ الإجرامي قد شكلا فيما مضى نقطتي الارتكاز الوحيدتين في هذا الوسط غير المتمايز، فقد دخلت البلاد منذ زمن طويل في طور “الدولة الفاشلة”، كما ظهر جيش النظام بوصفه قوة ميلشياوية لا تختلف عن أي مليشيا رثة أخرى إلا بأنها الوحيدة التي تملك سلاح طيران.

ربما كان على السوريين أن يعوّدوا أنفسهم على وضع “الدولة الفاشلة” لسنوات طويلة مقبلة، خاصة في الظرف الدولي الحالي، وربما يكون الاعتراف بالواقع السوداوي وعدم المكابرة عليه، ومحاولة فهمه والعمل عليه نظرياً، والسعي إلى تخفيف مأساة الناس قدر المستطاع، هو كل ما يمكن فعله في هذه المرحلة، على أمل ان يتغير شيء ما في المستقبل.

———————————

انتفاضة” سوريا إذ تنكر هزيمتها وتحتفي بـ”الحلم” و”الكرامة”/ إيلي عبدو

الغاية من تحليل علاقة الكلمتين اللتين شكلتا أساسا لشعار “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”، ليس نقد الشعار بحد ذاته، إنما التنبه إلى ما هو أبعد، أي علاقة السوريين بانتفاضتهم وكيف يقرأونها بعد عشر سنوات عليها.

عبارة “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”، التي اختارها سوريون كثر، لتكون أقرب إلى شعار يعبر عن تجديد موقفهم الداعم للحراك الذي انطلق في آذار 2011، تحيلنا إلى الرغبة في التغيير والتخلص من سنوات الذل والإهانة، وتجديد العلاقة مع هذه الرغبة، وعدم التخلي عنها رغم ما مرّ خلال السنوات العشر الماضية. لكن كلمتي “الحلم” و”الكرامة”، لا يبدو، أنهما تحملان ضمن الشعار المطروح أي مضامين مختلفة، عن تلك التي تراكمت معرفياً في بلادنا، واتخذت سياقات نحو الخرافة والتقليد.

فالحلم، الذي تنوعت الدراسات النفسية في مقاربته، بين اللاوعي وتلبية الرغبات اللاعقلانية، وعدم الخضوع لقوانين المنطق، ينحو في بلادنا ومنها سوريا، منحى الخرافة، حيث يجري تنافس شعبي على تفسيره، ويأخذ كل حدث أو كائن أو حيوان أو رمز، دلالة وشيفرة، تحدد وفق المفسّرين، حياة الحالم وما سيحصل معه، هكذا، يختلط الرغبوي بالخرافي ليشكلا معاً انفصالاً عن الواقع وآليات عمله. أما الكرامة، فهي في ظل انعدام أي بيئة قانونية أو قيمية تضمن وجودها، تكتسب مضمونها من التقاليد، حيث الذكورة وقهر النساء وجرائم الشرف واستخدام العنف، سلوكيات تميز بين من يمتلك الكرامة وبين من يفتقدها. والكلمتان مثقلتان بمعان أيديولوجية تتعلق بحلم “التحرر من الاستعمار” واستعادة “كرامة” الأمة العربية المسلوبة، عملا بتقاليد سياسية تراكمت في بلادنا عبر عقود، ما يضيف بعداً جديداً، للكلمتين، ليس منفصلاً عن الأبعاد الأخرى.

والأغلب أن، استخدام الكلمتين، في شعار عام، دون تقديم مضمون جديد، يكشف عن الفقر القيمي والمعرفي الذي تعاني منها الانتفاضة وجمهورها، والوقوع في فخ المضامين السابقة، التي تتأرجح بين التقاليد والأيديولوجية.

والتأرجح هذا من نتائجه، الخروج عن التاريخية، فـ”الحلم” أو “الكرامة”، جامدان عند لحظة 15 آذار 2011، وما طرأ من تحولات ومآسي وفشل ومجازر وكراهيات طائفية وعرقية وتدخل دولي، لا تطرح أي تحد على الكلمتين الثابتتين. وهنا وجب التنبه إلى الذين راحوا يعدلون الشعار الإجماعي، فيكتبون : تجرأنا على الحلم ولكن أحد أطراف الانتفاضة أضرّ بنا.

بمعنى، الحلم سقط بتعقيدات الواقع المتعلقة بالانتفاضة نفسها وليس بخصمها المعروف. وهو، أي الحلم، موضع انقسام إذا إن السوريين لم يحلموا الحلم نفسه، كل طرف أراد لحلمه أن يكون أقرب لطموحات جماعاته أو طائفته أو عقيدته أو توجهه السياسي. وأيضاً، اعترض البعض على التمسك بكلمة “الكرامة” فيما يعيش السوريون أوضاعاً مزرية في مخيمات اللجوء وداخل البلد، كشف عن الفجوة الهائلة بين طلب الكرامة بمضامين كلاسيكية، لحظة الانتفاضة الأولى، وبين الأحوال التي بات عليها الناس. وكأن كلمة الكرامة ابتذلت، فصارت تعني نقيضها، عبر استخدامها ضمن آلية شعاراتية ثابتة خالية من المضمون. نازح يعاني من أوضاع ذليلة، مطروح عليه الاستمرار في طلب الكرامة، لأن الأخيرة لا تتطور مع شرط الانتفاضة الزمني وما آل إليه من كوارث.

الشعار المطروح إذا لا يبالي بالزمن والتاريخ، ويخلو من المضمون الجديد ما يدفع بشدة نحو نفي السياسة، عبر استخدام كلمتين، مجردتين من إمكانية وضع استراتيجيات لتنفيذهما. فالحلم مضاد للسياسة، حيث التفاوض والتوافق والبحث عن حلول ترضي أطراف شتى، وليس تصورات غيبية، تتوزع مرجعياتها بين الأيدولوجية واللاوعي. عدا أن الكرامة المتروك تحديدها لقيم ثقافية تقدس العشيرة والطائفة والنسب والذكورة، يصعب تأطيرها في أجندة سياسية، تلحظ حقوق الفرد وتنوع خياراته.

الغاية من تحليل علاقة الكلمتين اللتين شكلتا أساسا لشعار “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”، بالثقافة والتاريخ والسياسة، ليس نقد الشعار – العبارة، بحد ذاته، إنما التنبه إلى ما هو أبعد، أي علاقة السوريين بانتفاضتهم، بوصفها ماهية غيبية طوباوية تنتج الجيد دائماً، وليس ديناميكية تاريخية تتأثر بالظروف التي حولت شعارات 15 آذار 2011 إلى مجرد ذكرى. هذا الفهم للانتفاضة، عطل التفكير فيها، على قاعدة إنتاج المفاهيم استناداً إلى قيم جديدة تنحو إلى الفردية والعالمية والتعدد، وهو ما كان سبباً  رئيسياً لهزيمة الانتفاضة.

والشعار – الجملة، بكل انتشاره وتبنيه وحالة الإجماع حوله، هو استعاضة عن الاعتراف بالهزيمة، وتجديد البيعة للانتفاضة المتجسدة ماهية ثابتة، وما الاحتفاء بالحلم سوى إنكار للكابوس، والاحتفاء بالكرامة إنكار للذل.

درج

———————-

عقدة مونغريل السورية/ حازم نهار

أُقيمت البطولة الرابعة لكأس العالم لكرة القدم في عام 1950 بالبرازيل، وكانت الأولى منذ عام 1938، بعد انقطاع دام 12 عامًا بسبب أهوال الحرب العالمية الثانية، فقد أُقيمت آخر بطولة في عام 1938 بفرنسا. كان الشعب البرازيلي متأهبًا جدًا، وتوقّع الجميع فوز البرازيل باللقب نظرًا إلى ضعف الفرق الأوروبية بعد الحرب.

كان هناك أمل حقيقي بأن البرازيل ستترك بصمة مميزة على هذا الحدث الكبير، وتتحرر من أسر ماضيها المتخم بالفشل والإخفاقات. بالغ البرازيليون في الاحتفال باللقب، ظنًا منهم أنه صار في حوزتهم، وزُيِّنت شوارع المدينة، وطبعت بلدية ريو دي جانيرو 22 ميدالية ذهبية بأسماء لاعبي المنتخب الوطني، وخاطب عمدة ريو دي جانيرو البرازيليين بأبطال العالم قبيل المباراة النهائية، وظلت الصحافة العالمية تكرِّر أن البرازيل ستكتسح أوروغواي، وتفوز باللقب، خصوصًا أن البرازيل فازت قبل عام على أوروغواي بنتيجة (5-1).

شهدت المباراة الأخيرة في البطولة بين البرازيل والأوروغواي حضورًا حاشدًا في ملعب (ماراكانا) في 16 تموز/ يوليو 1950، فقد وصل عدد الحاضرين إلى نحو 200 ألف مشجِّع، في مباراة كان يكفي التعادل فيها لتتوج البرازيل باللقب، بينما طالب مدرب منتخب أوروغواي لاعبيه بالدفاع وإهمال الاستماع إلى الجمهور في المدرجات نهائيًا.

لكن الحلم البرازيلي انقلب إلى كابوس بسبب خطأ من الحارس البرازيلي، باربوزا، وخسرت البرازيل المباراة واللقب، وتُوِّجت أوروغواي بطلة كأس العالم مرة ثانية، وبكى البرازيليون وغرقوا في دموعهم، وساد الصمت في الشوارع، وكانت مأساة برازيلية كبرى. على الرغم من أنه لم يكن هناك تلفاز آنذاك، وأن المباراة لم يشاهدها سوى جمهور الملعب، إلا أن البرازيليين كانوا يدورون حول المذياع، ينصتون ويعلقون على مجريات المباراة. وأُطلق على حادثة (الماراكانا) هذه اسم (ماراكانازو)، ومنذ تلك المباراة أعلن الاتحاد البرازيلي لكرة القدم تغيير لباس الفريق من الأبيض الذي جلب الشؤم، إلى اللونين الأزرق والأصفر.

تحوّلت هذه المباراة إلى عقدة بالنسبة إلى حارس المرمى البرازيلي طوال حياته، فقد عاقب نفسه بالسجن في منزله إلى أن توفي بعد 50 عامًا، وفي ذلك قال “أقسى عقوبة للمجرمين في البرازيل هي السجن 30 عامًا، وأنا أعاقب نفسي بالسجن مدى الحياة”. الغريب أن باربوزا كان أفضل حارس في البطولة، وكان مثلًا أعلى للبرازيليين. بينما بيليه الذي كان مجرد طفل آنذاك، عندما رأى والده يبكي بالقرب من المذياع، سأله: لماذا تبكي يا والدي؟، فأجاب الأب: خسرنا كأس العالم، فردّ بيليه: عندما أكبر سأحرز كأس العالم من أجلك.

يمثِّل عام 1950 عام الإخفاق القومي الذريع، عام تحطّم أرواح ومعنويات البرازيليين، وفقدانهم الثقة بأنفسهم. وقد ابتدع الكاتب والمسرحي والروائي البرازيلي آنذاك، نيلسون رودريغوس، مصطلحًا جديدًا للتعبير عن الحالة البرازيلية بعد الهزيمة، وهو مصطلح “عقدة مونغريل”، في إشارة منه إلى خواء البرازيل وذبولها وهامشيتها وتلاشيها، مشيدًا بقدرات وعظمة الآخرين “الآخرون رائعون، ونحن بلا قيمة”. يشير اسم مونغريل إلى كلاب الشوارع، وكأن رودريغوس أراد القول إن فشل البرازيليين الدائم قد شكل عندهم عقدة يمكن أن تحوّلهم إلى أمة من كلاب مونغريل.

كلب مونغريل هو كلب مختلط، هجين، يُطلق عليه أيضًا اسم كلب تربية عشوائية أو الكلب الضال المنبوذ، معاكس لمصطلح الكلب الأصيل، وعادة ما تستخدم التسمية هذه بطريقة ازدرائية؛ كلب بطيء التعلم، يواجه مالكوه صعوباتٍ في إدارته وتدريبه مقارنة بالأصيل، ويعامل كلب مونغريل الغرباء بشيء من عدم الثقة، ليس لديه غرائز ثابتة نسبيًا، كما هو الحال في الكلاب الأصيلة، لذا يصعب التنبؤ بالسمات التي سيرثها جرو مونغريل من والديه، بينما يمكن التنبؤ بأي جرو من كلب أصيل، وغالبًا ما تكون كلاب مونغريل الصغيرة عدوانية تجاه الأطفال والحيوانات الأخرى، على الرغم من أنها تتميز بقدرتها على التحمل وبعاداتها الغذائية البسيطة بحكم تعوّدها احتمال صعوبات الحياة في الشوارع.

بعد ثماني سنوات، تواجه البرازيل السويد في نهائي كأس العالم 1958. تقدمت السويد في بداية المباراة بهدف ضد البرازيل، لكن بيليه (17 سنة) أبدع وقتها، وسجّل هدف التعادل. فازت البرازيل في المباراة على السويد بنتيجة (5/2)، وسجل بيليه هدفًا ثانيًا في المباراة برأسه. كان حلمًا قد تحقّق، وكان شيئًا مذهلًا حقًا.

لم ينم بيليه وقتها. لم ينم البرازيليون. كانوا يقفزون ويرقصون ويهلِّلون، استقبلوا فريقهم، احتفلوا بالنصر، ورحبوا بعودة لاعبيهم المذهلين. ظهر بيليه بوصفه الرجل الذي بدأ بحل عقدة مونغريل البرازيلية. جعل البرازيليين يحبون أنفسهم مجدَّدًا؛ هذا ليس أمرًا بسيطًا أو عابرًا. أصبح بيليه رمزًا وطنيًا برازيليًا، للبيض والسود والمختلطين منهم على حد سواء، وتحوّل إلى رمزٍ لتحرّر البرازيل، وإلى صورة ملهمة لهم؛ فتى أسود فقير، يرغب الجميع في أن يكون مثله. عندما يُسأل أي برازيلي من أين أنت؟ ويجيب: من البرازيل، فيردّ عليه السائل: آه أنت من البرازيل، من بلد بيليه! نعم، جعل بيليه البرازيليين يقولون بفخر إنهم برازيليون.

كانت مرحلة أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات مرحلة مميزة جدًا في تاريخ البرازيل، فقد ظهر بيليه في لحظة ظهور البرازيل كدولة حديثة؛ دولة وثقت بنفسها ونجحت، وبيليه هو بطل الرواية الذي لم يعد لاعب كرة قدم فحسب، بل أصبح مؤسسة وطنية. كرة القدم هي ما أبرزت هوية البرازيليين للعالم. ما أنتجه البرازيليون في الواقع هو ما حدَّد هويتهم، وليس اجترار الماضي. كانت تلك أوقاتًا سعيدة بالنسبة إلى البرازيليين، لكنها انتهت في عام 1964 عندما تلاشت المساحة الديمقراطية بفعل الانقلاب العسكري.

ما حدث في سورية، خلال العقد الماضي، يشير إلى فشلنا وهزيمتنا بوضوح، دولةً ومجتمعًا ونخبًا. لكن الفشل والهزيمة ليسا قدرًا محتومًا كما يروّج كثيرون ممن باعوا الوهم ومارسوا التضليل سابقًا، جهلًا أو قصدًا، وها هم ينشرون حتمية الفشل اليوم. لا شك في أن الفشل حتميٌ بوجود صنّاع الأوهام أولئك، وحتميٌ في ظل استمرار العقلية التجريبية، والاستعراضية، والشعبوية، والهزيلة، والانتهازية، وقصيرة النفس، لكنه ليس ملازمًا أبديًا للسوريين.

فشلت الدولة السورية، وتحوّلت من دولة ضعيفة إلى دولة رخوة، ومن ثمّ إلى دولة فاشلة. وفشلت النخب السياسية الثقافية في بلورة رأي عام سوري وبناء أوليات فضاء وطني عمومي. وفشلت التشكيلات والقوى السياسية في تصوراتها وتحليلاتها ومراهناتها وممارساتها. إنه شكل من أشكال الفشل العام الذي طال كل شيء، وفشلنا جميعنا في أن نكون رقمًا في معادلة تقرير مصير بلدنا ومصيرنا. كل فشل بشري في الواقع يشير إلى هزيمة نمط من التفكير والأداء؛ فإن كان بعض الفشل سببه نصف قرن من الاستبداد، فبعضه الآخر سببه حكمًا الثقافة السائدة وأنماط التفكير المهيمنة.

في مراحل الهزيمة والفشل تذهب نخب سياسية فكرية واسعة إلى الماضي لاستحضاره وإعادة إنتاجه، ولتصدِّره لنا بوصفه هوية. أصلًا سؤال الهوية لا يظهر بحدّة وكثافة إلا عندما تكون الهزيمة شديدة وطاحنة، ليصبح السؤال نفسه، سؤال الهوية، بالضرورة مأزومًا ودالًا على أزمة في الواقع؛ واقع مأزوم وتفكير مأزوم يدعمان بعضهما بعضًا، ويدخلاننا في أزمة دوارة ومستمرة. مجدَّدًا، الهوية أمامنا وليست خلفنا. الهوية ما ننتجه، نحن أبناء الحاضر، في الواقع، ماديًا وروحيًا ومعنويًا. عندما ننتج تأخذ هويتنا في التبلور تلقائيًا، مستوعبةً ومحتضنةً الماضي بدلًا من التهامه لنا. حديث الهويات هو حديث الكسالى وسلالات مونغريل الهائمة على وجهها.

من المهم ألا يتحول فشلنا إلى عقدة مونغريل تلازمنا، فنتوقع الفشل قبل أن نبدأ، حتى بتنا نخاف أن نفكر في أن نبدأ، لاعتقادنا أن الفشل حتمي. الفشل والنجاح ليسا حتميين، هما فعلان بشريان يرتبطان بالبشر وإرادتهم وثقافتهم من جهة، وبالأحوال الموضوعية من جهة أخرى. نقد وعينا وثقافتنا، ورؤية أنفسنا في المرآة، ودراسة الواقع الموضوعي والحدود التي يسمح بها، مقدِّمات أساسية لوضع رؤى جديدة وخطط وبرامج ومبادرات ممكنة التطبيق. النجاحات الصغيرة مهمة، بل أكثر أهمية من طرح المشاريع الكبيرة التي تقفز مسافات ضوئية في الهواء بعيدًا من الواقع، والفاشلة سلفًا. السؤال هو كيف نغادر الفشل؟ جواب السؤال يبدأ من التفكير في الجذور؛ الفكر وأنماط الثقافة السائدة.

المدن

——————-

بعد عشر سنوات من الحرب.. لا سلام في الأفق في سوريا

بعد عقد من العنف ومأساة إنسانية جعلت الحرب السورية تطبع بداية هذا القرن، تراجعت وتيرة المعارك وحدّة القتال في البلاد، لكن الجراح لا تزال نازفة وأفق السلام غير منظور.

في نهاية عام 2011، بدا أن الرئيس بشار الأسد ونظامه قاب قوسين من السقوط وسط ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة عدّة حكمت بلادها لعقود بقبضة حديدية.

ولكن بعد عشر سنوات، لا يزال الأسد في مكانه بعد انتصار باهظ الثمن لم يوفّر فرصة حقيقية لأي مصالحة مع الشعب، وهو يمارس اليوم سيادة محدودة على أرض باتت فريسة لقوى أجنبية متناحرة.

استغرق اشتعال موجة الاحتجاجات وقتا في سوريا، حيث كان التظاهر محظوراً منذ نصف قرن، الى أن انتقلت إليها من تونس ومصر وليبيا. وبدت بعض التجمعات الأولى، على غرار الوقفات الاحتجاجية أمام السفارة الليبية في دمشق، بمثابة دعم للانتفاضات الجارية في بلدان أخرى، لا تحدياً مباشراً لعائلة الأسد التي حكمت البلاد لأربعة عقود.

ويستعيد الناشط الحقوقي البارز مازن درويش ما حصل قائلا: “كنا نهتف من أجل الحرية والديموقراطية كشكل من أشكال الدعم لتونس ومصر وليبيا، لكننا في الحقيقة كنا نهتف لسوريا”.

ويقول درويش الذي اعتقل مرات عدة في سوريا، آخرها في شباط/ فبراير 2012 لأكثر من ثلاث سنوات قبل الإفراج عنه عام 2015 ثم مغادرته البلاد: “بات شغلنا الشاغل البحث عن الشرارة التي توصل الدور إلينا، وهاجسنا سؤال: من هو البوعزيزي السوري؟”، في إشارة الى البائع المتجوّل التونسي محمّد البوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2011، وشكّل ذلك شرارة انتفاضة تونس.

إلى أن أقدم فتيان على كتابة عبارة “إجاك الدور يا دكتور”، في إشارة الى الأسد، طبيب العيون المتمرّن في لندن، على جدار في مدينة درعا جنوبي البلاد، في إشارة الى مصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي الذي اضطر للفرار إلى المنفى، أو مصير الرئيس المصري حسني مبارك الذي استقال تحت ضغط الشارع والجيش.

واعتُقل فتيان درعا وتعرضوا للتعذيب، ما دفع المحتجين للخروج إلى الشارع. لم يكن تاريخ 15 آذار/ مارس، وهو التاريخ الذي تستخدمه وكالة فرانس برس وجهات عديدة لتوثيق بدء الانتفاضة السورية، اليوم الأول للاحتجاجات، لكنه اليوم الذي خرجت فيه التظاهرات بشكل متزامن في أنحاء مختلفة من البلاد.

وتصف الصحافية والكاتبة رانيا أبو زيد اللحظة التي أملت عليها عنوان كتابها: “لا عودة إلى الوراء: الحياة والخسارة والأمل في سوريا زمن الحرب “، قائلة: “تصدّع جدار الخوف العظيم، وتحطم الصمت. كانت المواجهة وجودية، للأطراف كافة، منذ بدايتها”.

عنف وعسكرة

سرعان ما تحوّلت الاحتجاجات الى نزاع دام أجبر نصف عدد سكان سوريا البالغ قرابة 22 مليون إلى مغادرة منازلهم، في أكبر موجة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية.

وفرّ نصف النازحين خارج البلاد، وقادت قوارب الموت عدداً كبيراً منهم إلى شواطئ أوروبا، في ظاهرة كان لنطاقها الواسع تأثيراً على الرأي العام والمشهد السياسي والانتخابات في القارة العجوز.

ووسط الفوضى التي ولّدها النزاع المسلح، أعلن تنظيم “الدولة” قيام “الخلافة الإسلامية” في سوريا والعراق المجاور.

مع عسكرة النزاع، أرسلت إيران والولايات المتحدة، الخصمان اللدودان، قوات إلى سوريا لحماية مصالحهما، كذلك فعلت تركيا. وبدأت روسيا في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 أكبر تدخل عسكري خارج حدودها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، في خطوة رجّحت الكفة في الميدان لصالح الأسد.

خلال عشر سنوات من الحرب، قُتل قرابة 400 ألف شخص، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يواصل احتساب عدد القتلى بعد توقّف المنظمات الدولية عن ذلك منذ فترة طويلة. قُتل معظم المدنيين منهم، وعددهم الإجمالي 117 ألفاً، على يد النظام الذي واجه السكان المعارضين له بوحشية فاجأت أشد خصومه.

ويقول درويش: “رغم معرفتي بالنظام، لم أتوقع أن يصل إلى هذا المستوى من العنف… لكنني كنت مخطئاً”.

واستخدم النظام الأسلحة الكيميائية ضد مناطق مدنية لإخضاع جيوب المعارضة فيها. وشنّت طائراته غارات كثيفة بالبراميل المتفجّرة على مناطق مأهولة بالسكان، مخلفة الموت العشوائي.

واعتمد بشكل منهجي سياسات الحصار والتجويع لإخضاع خصومه. ولم يتردد سلاح الجو في تنفيذ عدد لا يُحصى من الضربات ضد منشآت طبية.

في مدينة حلب التي كانت تُعدّ العاصمة الاقتصادية للبلاد وجوهرة تراثية كونها واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، تمّت تسوية أحياء عدة بالأرض.

حوَّل قمع النظام السريع للاحتجاجات، ومن ثمّ تصاعد نفوذ الفصائل الجهادية الذي عززه الإفراج الجماعي عن مقاتلين من تنظيم القاعدة من السجون السورية، الانتفاضة السورية إلى حرب مدمرة.

“سذاجة.. ورومانسية”

نجح العنف المفرط في أداء تنظيم “الدولة” وقدرته على جذب مقاتلين من أوروبا وخارجها، في زرع الخوف لدى الغرب بشكل قضى تدريجياً على الحماسة المؤيدة للديموقراطية. وانصبّ اهتمام العالم على قتال الجهاديين، متناسيا نضال الشعب السوري، وسرعان ما عاد الأسد ليقدّم نفسه كحصن منيع ضد الإرهاب.

ويقول درويش، وهو من المشاركين في تأسيس لجان التنسيق المحلية التي دأبت على الإعداد وتنظيم التظاهرات في سوريا في بداية الاحتجاجات: “أعتقد أننا دخلنا الثورة بكثير من السذاجة.. كنا نتعامل مع الموضوع بشكل عاطفي وشاعري ورومانسي، اعتبرنا أن منظومتنا الأخلاقية وحدها كافية”، مضيفاً: “لم تكن لدينا أدوات فيما الآخرون، سواء النظام أم الجماعات الإسلامية، كان لديهم شركاء حقيقيون وإمكانات مالية مهولة”.

ويقول: “دخلنا الثورة عراة فيما دخلها الآخرون بكل أسلحتهم وإمكاناتهم”.

وخفت صوت المحتجين سلمياً في وقت ذهب الدعم الخارجي إلى لاعبين آخرين، داعمين في معظمهم للنزاع المسلح.

في عام 2012، وصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية بـ”خط أحمر”. لكن عندما تمّ تجاوز هذا الخط بعد عام عبر هجوم كيميائي استهدف الغوطة الشرقية قرب دمشق، امتنع أوباما عن القيام بتدخل عسكري انتظره كثيرون، وشكل ذلك لحظة حاسمة طبعت عهده وحالت دون توجيه ضربة قوية لنظام الأسد.

وكانت الفصائل المعارضة التي قاتلت تحت رايات عدة وتلقى بعضها تمويلاً وسلاحاً من الخارج، تمكنت في السنتين الأوليين من إلحاق خسائر كبيرة بالجيش السوري الذي أضعفته أيضا الانشقاقات.

إلا أنّ تدخل إيران المبكر والفصائل الموالية لها على رأسها حزب الله اللبناني، ومن ثم التدخل الروسي الحاسم عام 2015، غيّر المعادلات في الميدان تدريجياً لصالح الأسد، بعدما كانت قواته قد فقدت سيطرتها على نحو ثمانين في المئة من مساحة سوريا تشمل مدنا رئيسية وحقول نفط. ووصلت فصائل المعارضة إلى أعتاب دمشق.

“الأرض المحروقة”

وبدعم من طائرات وعتاد ومستشارين روس، وبمساندة من مجموعات شيعية موالية لطهران على رأسها حزب الله اللبناني، استعاد الأسد زمام المبادرة، ونفذت قواته حملة انتقامية متبعة سياسة “الأرض المحروقة” لاستعادة المناطق التي خسرتها.

على وقع حصار محكم، قصفت قوات النظام كل معقل أو جيب للفصائل المعارضة، وعاثت فيه دماراً حتى تضمن استسلام المقاتلين المعارضين.

وتصدّرت صور الأطفال المشوهين الذين تمّ سحبهم من تحت ركام أبنية سكنية دمّرتها البراميل المتفجرة والصواريخ، إضافة الى المدارس والمستشفيات التي شكلت هدفاً دائماً للقصف، وسائل الإعلام حول العالم عاماً بعد عام.

في مقابلة مع وكالة فرانس برس في شباط/ فبراير 2016، أكد الأسد أن هدفه ليس أقلّ من استعادة كامل الأراضي السورية. وقال: “سواء كانت لدينا استطاعة أم لم يكن، هذا هدف سنعمل عليه من دون تردّد. من غير المنطقي أن نقول أن هناك جزءاً سنتخلّى عنه”.

بعد ذلك، تمكنت قواته من فرض حصار خانق على الأحياء الشرقية في مدينة حلب ترافق مع هجوم عسكري واسع بدعم جوي روسي. وتكرّر السيناريو ذاته لاحقاً في الغوطة الشرقية ومناطق أخرى. وانتهت معظم هذه الهجمات باتفاقات تسوية تضمنت إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين إلى محافظة إدلب في شمال غرب سوريا حيث يقيم قرابة ثلاثة ملايين نسمة حالياً، نصفهم نازحون تقريباً، في ظروف صعبة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً).

وعزّزت تركيا التي تنشر 15 ألف جندي في سوريا نفوذها خصوصاً في المناطق الشمالية السورية قرب حدودها.

ويسيطر حاليا المقاتلون الأكراد الذين تلقوا دعماً أمريكياً في تصديهم لتنظيم “الدولة” منذ عام 2014، على مناطق واسعة في شمال وشمال شرق سوريا بعد قضائهم على “دولة الخلافة” في 2019.

ويقول دبلوماسي غربي في المنطقة: “إذا كان الأسد لا يسيطر اليوم على كامل الأراضي السورية، فيعود ذلك في جزء كبير منه إلى عناده وحقيقة أنه لم يوافق يوماً على التفاوض… وأصرّ على استخدام القوة لفرض العودة إلى ما كان الوضع عليه قبل العام 2011”.

وفيما أرسى اتفاق لوقف إطلاق النار توصلت إليه موسكو وأنقرة هدوءاً نسبياً في منطقة إدلب مستمراً منذ عام، يبدو احتمال شنّ الأسد هجوماً لطالما هدّد به مستبعداً في الوقت الحاضر. ويقول محللون إنّ من شأن أي هجوم جديد أن يضع القوتين العسكريتين، أي روسيا وتركيا، في صدام مباشر.

سيادة منقوصة

يسيطر النظام اليوم على أقلّ من ثلثي مساحة البلاد، لكن المشهد ليس براقا بالنسبة اليه لدى معاينة خارطة السيادة على حدود البلاد.

ويوضح الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش في تقرير نشره مؤخراً أنّ القوات الحكومية “تسيطر على 15 في المئة فقط من حدود سوريا”.

ويستنتج “الحدود هي رمز السيادة بامتياز، وبطاقة أداء النظام لا تزال فارغة تقريباً على تلك الجبهة”.

وتسيطر القوات التركية والأمريكية والكردية أو المجموعات المدعومة من طهران، بحكم الأمر الواقع، على ما تبقى من الحدود.

ويعتبر بالانش أن القوى الخارجية “تقسّم البلاد بشكل غير رسمي إلى مناطق نفوذ متعددة، وتسيطر بشكل أحادي على معظم حدودها”.

وفي بودكاست بثّته مجموعة الأزمات الدولية الشهر الماضي بعنوان “الصراع المجمّد” في سوريا، تقول الباحثة دارين خليفة: “أفضل الخيارات السيئة المتاحة لدينا اليوم هو تمادي الجمود” القائم، معتبرة أنّ تجاوزه في محاولة لتسوية النزاع يمرّ عبر تحسين جذري للظروف المعيشية التي يواجهها الشعب السوري.

ورغم أنّ العام الماضي سجّل حصيلة القتلى الأدنى منذ اندلاع النزاع مع تراجع الأعمال القتالية إلى حد كبير، ما قد يوحي أن الحرب انتهت نوعاً ما، إلا أن حياة سوريين كثر هي اليوم أكثر سوءاً من أي وقت مضى.

ويقول حسام (39 عاماً) المقيم في دمشق: “انتهت الحرب بمعنى توقف القتال والمعارك، لكن جراحنا ما زالت تنزف”.

ويضيف: “الاقتصاد هو الأزمة التي يعاني منها الجميع، لذا قد تكون الحرب انتهت عملياً، لكن المعاناة لم تنته”.

عدالة

ويعاني نحو ستين في المئة من سكان سوريا حالياً، وفق الأمم المتحدة، من انعدام الأمن الغذائي. وخسرت الليرة السورية 98 في المئة من قيمتها خلال عقد من الزمن. وقدّر تقرير لمنظمة الرؤية العالمية هذا الشهر كلفة الحرب السورية بـ1,2 تريليون دولار.

ولا يجد العديد من السوريين ما يتطلعون إليه في بلد باتت مقدراته بيد المنتفعين من الحرب والأجهزة الأمنية.

وسط هذا المشهد المحزن، شكّلت إمكانية تحقيق نوع من العدالة لضحايا النزاع بارقة أمل لشريحة واسعة من السوريين.

ففي 24 شباط/ فبراير، قضت محكمة ألمانية بالسجن أربع سنوات ونصف السنة لعضو سابق في الاستخبارات السورية بعد إدانته بتهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية”، في إطار أول محاكمة في العالم تتعلق بانتهاكات منسوبة إلى نظام الأسد.

لكنّ هذا الأخير ودائرته الضيقة ما زالا بعيدين عن أي مساءلة.

لا بل يستعد الأسد (55 عاما) الموجود في السلطة منذ عام 2000، لخوض انتخابات لولاية رئاسية رابعة الصيف المقبل يرجح أن يفوز بها، في وقت لم تثمر الجهود الدولية المبذولة في التوصل الى تسوية سياسية لإنهاء النزاع.

“أخطأنا كثيراً”

ومن دون تسوية سياسية تحت سقف الأمم المتحدة، لن تتمكن دمشق من استقطاب المنظمات الدولية والجهات المانحة لدعمها في عملية استنهاض الاقتصاد المنهك وتمويل عمليات إعادة الإعمار، فيما يبدو أن حلفاء دمشق لا يملكون موارد كافية لذلك.

ويقول رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا جيل برتران: “سوريا واحدة من البلدان الشابة في المنطقة، ونسبة كبيرة من سكانها لم تكن قد ولدت حتى في عام 2011”.

ويضيف: “هؤلاء الفتيات والفتيان سيصبحون شباباً في سوريا خلال خمس أو عشر سنوات، وسيريدون بدورهم مستقبلاً وآفاقاً اقتصادية وحريات سياسية لا يمكن للنظام أن يمنحها لهم إذا لم يجر اصلاحات”.

ويقر درويش (47 عاماً) المقيم حالياً في باريس، بأن الصورة قاتمة لكنّه يشدد على أن روح الثورة لن تخمد.

ويقول الحقوقي الذي يرأس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير: “التغييرات الكبيرة تتطلب وقتاً طويلاً وتضحيات كبرى”، مضيفاً: “لا أعتقد أن هناك ثورة انتهت أو نجحت أو فشلت بما في ذلك في مصر وتونس وليبيا.. أعتقد أن العالم العربي بدأ عملية التغيير وهذه مجرد بداية”.

ويختم مبتسماً: “كانت هذه أول ثورة نشارك فيها، لذلك أخطأنا كثيراً، نعدكم أن يكون أداؤنا أفضل في الثورة المقبلة”.

(أ ف ب)

القدس العربي

———————————

10 دروس قاتمة تعلمها العالم بعد عقد من الحرب في سوريا

بعد 10 سنوات من اندلاعها، تلاشت الحرب المروعة في سوريا من عناوين الأخبار، بعد تردد الغرب في التورط بها، وانهماك الروس في مؤازرة الطرف “الآثم”، وتدخل دول إقليمية لخدمة مصالح ضيقة أنانية وقصيرة المدى.

بهذا المدخل بدأ الكاتب المخضرم بصحيفة الغارديان (The Guardian) البريطانية سايمون تيسدال تحليلا استعرض فيه ما آل إليه الصراع الدائر في سوريا، مردفا أن النتيجة هي “حالة من الجمود؛ صراع شبه بارد، يتسم بالعنف المتقطع والألم العميق واللامبالاة الإستراتيجية”.

وذكر تيسدال أن السياسيين الأميركيين والأوروبيين والجمهور الغربي -في الأغلب- أشاحوا بوجوههم بعيدا عن هذا الصراع، في حين لعبت فيه روسيا دورا محوريا داعما للطرف الخطأ، كما تدخلت دول مثل إيران وإسرائيل وتركيا للدفاع أساسا عن مصالحها الخاصة.

ومع ذلك -يقول تيسدال- فإن هذا الفشل الذريع في وقف الحرب لا تزال له عواقب وخيمة بعيدة المدى على الأمن الدولي والقيم الديمقراطية وسيادة القانون، ناهيك عن المواطنين السوريين أنفسهم.

وسواء كانت القضية تتعلق بالمعاناة الإنسانية أو اللاجئين أو جرائم الحرب أو الأسلحة الكيميائية أو الإرهاب، فإن الموروثات المتعددة والسامة لحرب سوريا عالمية وخبيثة ومستمرة، وفقا للكاتب.

وأبرز تيسدال أن حرب سوريا حرب عالمية، مدللا على ذلك بـ10 أسباب قال إنها تظهر أن 10 سنوات من البؤس والفوضى المستمرة ألحقت الضرر بالجميع:

أولا معاناة المدنيين

تختلف التقديرات بشأن عدد المفقودين ومن قتلوا من المدنيين منذ مارس/آذار 2011 إلى الآن اختلافًا كبيرًا، من حوالي 117 ألفا إلى 226 ألفا، لكن النطاق الواسع لميدان القتل الحديث هذا لا جدال فيه، فقد ذكرت الأمم المتحدة هذا الشهر أن “عشرات الآلاف من المدنيين المحتجزين تعسفا في سوريا ما زالوا مختفين قسرا، في حين تعرض آلاف آخرون للتعذيب أو العنف الجنسي أو الموت أثناء الاحتجاز”، ناهيك عن حالة الخراب التي تعرض لها الاقتصاد والمدن في سوريا وما يواجهه 12 مليون شخص من جوع وفاقة.

وبعد سرده هذه المعلومات يعلق تيسدال “ربما فقدت مثل هذه الإحصاءات القدرة على إحداث الصدمة المرجوة، لكن السؤال الأخلاقي الأساسي الذي لا تزال له أهمية عالمية هو: لماذا يُسمح باستمرار هذه المذبحة؟”

ثانيا اللاجئون

أكثر من نصف سكان سوريا (البالغ عددهم 22 مليون نسمة) نزحوا منذ بداية الحرب، وحوالي 6.6 ملايين منهم لجؤوا إلى الخارج، في حين وجد ملايين منهم أنفسهم محاصرين في إدلب بين القوى المتصارعة هناك، هذا في الوقت الذي يكسب فيه اليمين المتطرف في أوروبا وما يروج له من تحيز ضد المهاجرين تعاطفا متزايدا، ويستمر الموت في الوصول يوميا إلى شواطئ أوروبا. ويتساءل الكاتب: كيف يمكننا الاستمرار في تحمل هذا؟

ثالثا الإفلات من العقاب

يُتهم رئيس النظام السوري بشار الأسد وأعوانه بمجموعة واسعة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية؛ إذ استهدفوا بآلات قتلهم المدنيين وعمال الإنقاذ والعاملين في مجال الصحة والمستشفيات بشكل روتيني (وغير قانوني)، لكن المحكمة الجنائية الدولية التي ينبغي أن تحاكمهم مكبلة باستخدام الروس والصينيين حق النقض.

رابعا الأسلحة الكيميائية

إن استخدام النظام المتكرر للأسلحة الكيميائية المحظورة مثّل تحديا للمعاهدات العالمية، وكانت له تداعيات دولية خطيرة، ليس أقلها إضعاف اتفاقية الأسلحة الكيميائية لعام 1993 بشكل خطير.

خامسا تنظيم الدولة الإسلامية

المستفيد الدائم من الحرب هو تنظيم الدولة الإسلامية، الذي اجتاح بعض الأراضي في سوريا والعراق عام 2014، ولئن كان تحالف دولي قد سحق التنظيم في نهاية المطاف، فإن هذا الفكر ألهم الجماعات الجهادية المناهضة للغرب في جميع أنحاء العالم، ولا يزال الرد الغربي على عودة تنظيم الدولة مجزأ بشكل خطير.

سادسا روسيا والولايات المتحدة

شكلت الحرب تحولا واضحا في ميزان القوى في الشرق الأوسط من الولايات المتحدة إلى روسيا. بعد أن رفض الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما التدخل عسكريا؛ استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الفرصة وهب لإنقاذ الأسد، وبعد أن انهارت عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة في يناير/كانون الثاني الماضي يبدو أن بايدن يعتقد أن الوقت قد فات لإنقاذ سوريا، وسيكون من الرائع أن يجد من يصوب له هذا الخطأ.

سابعا الربيع العربي

تعاطفت الدول الغربية في البداية مع محاولات الإطاحة بالدكتاتوريين والأنظمة الاستبدادية في تونس والبحرين ومصر وليبيا واليمن وسوريا بين 2010 و2012، لكن دخول الإسلاميين على الخط جعل الغرب يتراجع، وكانت الديمقراطية العالمية الخاسر الأكبر من ذلك، وسوريا تجسد تلك الخسارة.

ثامنا تركيا

يوجد الجيش التركي في المناطق الحدودية، لمنع المزيد من تدفق اللاجئين، وردع هجوم النظام على إدلب، ولكنه أيضًا لإحباط الحكم الذاتي الكردي مثل ما حصل في العراق وفي شمال شرق سوريا. لقد قوض المستنقع السوري علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وأوروبا؛ مما أثار التساؤل: من خسر تركيا؟

تاسعا إسرائيل في مواجهة إيران

تخشى إسرائيل من حشد قوات الحرس الثوري الإيراني والقوات المسلحة الموالية لطهران في سوريا ولبنان. وشنت مئات الضربات الجوية على أهداف مرتبطة بإيران هناك. وبالنسبة لإسرائيل وإيران، أصبحت سوريا منطقة معركة متقدمة في صراع متعدد الجبهات، ورفاهية الشعب السوري لا تمثل مصدر قلق لأي منهما، وضعف دمشق المزمن يناسب كلا منهما.

عاشرا فشل الأمم المتحدة

لقد ألحق الإخفاق في إنهاء الحرب السورية أضرارا جسيمة بالمؤسسات الدولية؛ فمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة -على وجه الخصوص- فقد مصداقيته بشدة، وكذلك جهود الأمم المتحدة لصنع السلام، ومع ذلك لو أرادت “الدول الخمس الكبرى” في مجلس الأمن حقًا وقف النزاع لأمكنها ذلك، لكنها لم تحاول، وهذا الإرث هو “الأكثر عارًا” للحرب السورية.

المصدر : غارديان

———————————–

أي مستقبل لـ”سورية الأسد”/ مصطفى عبد السلام

في سورية الأسد، من لم يمت بمدافع ونيران نظام بشار وجرائم حرب يخوضها منذ 10 سنوات ضد شعبه بلا هوادة، مات بالجوع والقهر والحرمان والذل والبطالة والفقر المدقع والعشوائيات وتردي البنية التحتية وهدم المنازل والحرق وسلب ومصادرة الأموال.

ومن لم يمت بالمتفجرات وغازي السارين والكلور، مات بالغلاء والتضخم وقفزات الأسعار الجنونية التي لا تتوقف لحظة، ولا ترحم الغالبية العظمى من المواطنين.

ومن لم يمت بالبراميل المتفجرة والاغتصاب والاحتجاز القاسي وتشويه الجثث، مات في طوابير الخبز والدقيق والوقود والمواصلات العامة، أو خلال رحلة بحث المواطن الفقير والمعدم عن السلع الأساسية المختفية من الأسواق، أو البحث عن لتر بنزين أو سولار أو قارورة غاز منزلي.

ومن لم يمت بالطائرات المقاتلة والمروحيات والبراميل المتفجرة، مات بالبرد القارس والجوع في مخيمات اللاجئين التي تمتد عدة كيلومترات على حدود سورية.

ومن لم يمت في مقابر الكيميائي وغياهب السجون، مات بسبب المرض واختفاء الأدوية الضرورية وعدم وجود سرير في مستشفى حكومي وندرة الأطباء الذين يأسوا من المستقبل وفروا خارج البلاد بحثاً عن الأمان أو غد أفضل لأولادهم.

ومن لم يمت من السوريين في معتقل أو حريق أو تحت منزله بعد أن حولته طائرات النظام إلى ركام، مات كمداً على مصادرة أمواله وشقى عمره، أو من رسوم وضرائب لا ترحمه، أو من راتب ضعيف تتآكل قيمته يوما بعد يوم بسبب التضخم وتعويم العملة وخفض قيمتها بشكل سريع يفوق سرعة الصاروخ الذي يوجهه النظام لبيت المواطن وقلبه المعرض للتوقف فجأة بسبب سياسات بشار وقهره وجرائمه وظلمه وجبروته.

ومن لم يمت من الشباب السوري في جيش نظامي يقتل شعبه ليل نهار، مات غرقاً وهو يستقل مركبا غير مرخص في هجرة غير شرعية نحو أوروبا وغيرها من دول العالم.

في سورية الأسد، بات المواطن يشاهد يومياً كيف أن محتلين أجانب يسرقون قوته وطعامه ومستقبله وثروة بلاده وأولاده وأحفاده، وكيف يمنح النظام الحاكم صفقات بمليارات الدولارات للمحتل الإيراني والروسي مقابل الدفاع عنه والحيلولة دون سقوط نظامه، وكيف يحصد هؤلاء المحتلون من حزب الله وغيره من الميلشيات ما تبقى من نقد أجنبي وأموال في البلاد.

في سورية الأسد يتغاضى النظام عن سرقة ونهب تنظيم “داعش” الإرهابي والأميركان وغيرهم لثروة البلاد من النفط والغاز الطبيعي والمعادن، لكنه يبيد آلاف الشباب ويقتلهم في حال الخروج للشارع للمطالبة بحقوقهم في ثروة بلادهم، والتمتع بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والتوزيع العادل للثروة.

في سورية الأسد، بات المواطن خائفا من كل شيء، وعلى أي شيء، خائفا على بلاده ومستقبلها، على مستقبله وأمنه الشخصي الغامض وسط صمت دولي وعربي متواصل على جرائم الأسد التي تفوق جرائم النازية، خائفا من انهيار اقتصادي واقع لا محالة ولا تخطئه عين محايد، على فساد مستشر في كل ركن من أركان الدولة العربية العريقة، حانقا على رموز النظام ووزراء ومسؤولين يتسابقون على سرقة قوت الشعب وثروته وتهريبه إلى الخارج.

وبعد مرور عقد على الثورة السورية، لا يزال المواطن يسأل: أي مستقبل لسورية، ونظام بشار يواصل إبادة شعب بأكمله طول 10 سنوات كاملة.

أي مستقبل لسورية والنظام لا يزال يصر على تهجير ما تبقى من الشعب، ولم يكفه قتل أكثر من 400 ألف مواطن حسب منظمة هيومن رايتس ووتش، وأكثر من 130 ألف معتقل، وتهجير الملايين إلى كل دول العالم؟

أي مستقبل لسورية والدولة تقترب من الإفلاس الاقتصادي والمالي في ظل نفاد احتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي، واستمرار تهاوي العملة، وعدم توافر سيولة لتمويل واردات البلاد من القمح والأغذية والأرز والوقود وغيرها من السلع الضرورية؟

أي مستقبل لبلد رهن نظامها الحاكم مستقبلها المالي والاقتصادي لمحتلين همهم الأول السطو على ثروة البلاد؟

أي مستقبل لبلد رهن نظامها الحاكم مستقبلها المالي والاقتصادي، بل والسياسي، لمحتلين أجانب همهم الأول هو السطو على ثروة البلاد؟

أي مستقبل لبلد كانت ديونه الخارجية صفرا، وصادراته تفوق وارداته، ويكتفي ذاتيا من الأغذية خاصة القمح، أما الآن فقد بات غارقا في الديون وأزمات نقص السيولة والسلع الرئيسية وغلاء المعيشة؟

أي مستقبل لبلد يشهد أعلى معدلات التضخم في العالم حيث تجاوزت نسبة زيادة الأسعار 2100% خلال السنوات العشر الأخيرة، وبات ملايين الأسر غير قادرين على توفير وجبة غذاء واحدة لذويهم، فماذا عن وجبات اليوم التالي، وماذا عن المستقبل أيضاً؟

في سورية المأزومة لا يخشى نظام بشار من العقوبات الاقتصادية الغربية، أو قانون “قيصر” الأميركي وغيرها من العقوبات التي حاصرت الاقتصاد السوري وساهمت في تجويع الملايين، لأنه لا تعنيه مشاكل المواطن أصلاً طالما أن قصوره مليئة بالأموال والسلع المستوردة، وأرصدته المالية محفوظة في البنوك الغربية.

في سورية الأسد يتغاضى النظام عن دك قوات الاحتلال الإسرائيلي وغيرها من القوات الأجنبية لمواقع استراتيجية وعسكرية، ولا يتغاضى عن قيام شاب خرج للمطالبة بفرصة عمل وحياة كريمة أو برغيف خبز نظيف وبسعر مناسب للأسعار تناسب دخله أو دخل ذويه.

نظام بشار لا يهمه تهاوي قيمة العملة المحلية، ولا تعنيه قفزة سعر الدولار من 45 ليرة في العام 2010 إلى 3750 ليرة في الوقت الحالي، ولا تعنيه الأزمات المعيشية طالما أن المدافع والطائرات والصواريخ على أهبة الاستعداد، والمعتقلات والسجون مفتوحة.

المهم أن يبقى النظام ويواصل حكمه وجبروته حتى ولو كان يحكم جماجم وهياكل بشرية وشعبا فقيرا معدما وشبابا عاطلا ومحطما اقتصاديا ومعنويا.

لا يهم كل ذلك، المهم أن يظل آل الأسد، الذين حولوا سورية إلى ساحة حرب مفتوحة منذ أكثر من عقد، في هرم السلطة للأبد حتى لو حكموا مساحة 10% فقط من أراضي الدولة السورية.

العربي الجديد

—————————-

نقاش حول «ترديد الشعار» لا ندم على الكرامة/ حسام جزماتي

اعتاد السوريون أن تفتتح صباحاتهم المدرسية بلوازم بعثية تتضمن تحية العلم والهتاف بشعار الحزب «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة»، وما تيسّر من عهود على الاستعداد الدائم لبناء «المجتمع العربي الاشتراكي الموحد» والدفاع عنه، والتصدي للإمبريالية والصهيونية والرجعية التي تستهدفه في حركة مستمرة!

تبدو هذه الطقوس الآن جزءاً من عالم انقضى، رغم استمرار تكرارها الرتيب الكئيب في مناطق سيطرة النظام. وبالنسبة إلى الثائرين تشكّل صورة نموذجية عما خرجوا متظاهرين، ثم مقاتلين، لرفضه.

ما يُحيي هذه الذاكرة اليوم نقاش صاخب خاضه سوريو الثورة، قبل أيام، حول عبارة جذابة شهيرة هي: «تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة». وهي الجملة التي طُرزت على ثوب وعد الخطيب، مخرجة فيلم «For Sama

»، الذي يوثق جرائم النظام في حلب، في حفل توزيع جوائز الأوسكار التي رُشح الفيلم لها العام الفائت. وافتتحت صفحته على فيسبوك بإحياء الذكرى العاشرة للثورة السورية، باكراً، بطرحها هذه الجملة في إطار

frame سارع كثير من الناشطين إلى اعتماده ليحيط بصورتهم الشخصية على موقع فيس بوك. وبالمقابل، حفّز هذا الانتشار الكبير والسريع للشعار ناشطين آخرين، من بيئة الثورة، على رفض «الإطار» الواحد الموحد، الذي بدا لوهلة أن الاندراج فيه واجب على الجميع، كما انتقلوا إلى نقد الشعار نفسه متسائلين عن أي «كرامة» يتحدث بالفعل؟

ففي سوريا الخرِبة راهناً نقصت كرامة عموم السكان بشكل مريع خلال عَقد مضى من عمر الثورة. فقد تعرّض مؤيدوها لأنواع من الإذلال بدأت في المعتقلات واستقرت في المخيمات، ومرت بالحصار الذي فُرض تحت شعار «الجوع أو الركوع». وحتى اللاجئون في دول الجوار والمَهاجر لا يشعرون بوفرة في الكرامة، وهم يشتكون عادة من التمييز ومصاعب الاندماج والسلوكات العنصرية الواقعية أو المتوهمة. وباتت سوريا ما قبل «الجرأة على الحلم» تشكّل، بالنسبة إلى كثير منهم، الحضن الدافئ المفقود الذي يتمنون استعادته المستحيلة، رغم عُجره وبُجره.

على الضفة الأخرى، في أوساط مؤيدي النظام ومجمل سكان مناطقه، أودت الأزمة الاقتصادية الخانقة بما تبقى من كرامة تركتها لهم السياسة، خاصة بعد ترسيم سوريا بوصفها البلد الأكثر فقراً في العالم وفق تقديرات صدرت مؤخراً

حتى السلطة الأسدية نفسها، المتغوّلة والمتوحشة، وبما فيها رأس النظام، باتت أقل استقلالية وتفرداً بالقرار مع وجود هذا العدد الكبير من الشركاء والدائنين مادياً ورمزياً، بدءاً بروسيا وانتهاء بميليشيات طائفية صغيرة وبائسة من العراق وأفغانستان، مروراً بإيران.

عن أي كرامة يتحدث الشعار إذاً؟ يقول منتقدوه. ربما عن فئة نادرة من الناشطين أتاحت لهم علاقاتهم بالمنظمات الدولية، وتبكيرهم النسبي في الخروج من البلاد، فرصاً في الترقي المهني والرخاء المادي وصعود سلم المجد باسم من استمروا يتقلبون في أوحال المعاناة.

من يرفض الكرامة؟ لا أحد بالتأكيد. ولكن أين هي؟!

وهل بدت المحاكمة السابقة مقنعة؟ نعم. ولكنْ للحديث وجوهٌ كثيرة..

إذ لا يستمد أي شعار قيمته من أنه حقيقة علمية أو جملة صحافية لوصف الواقع، بل من قدرته على الإلهام. وحالما تنتهي هذه القوة، بتحققه في الأرض أو باهترائه وفقدان طاقته، يموت ببساطة. ومن الواضح أن الجملة المشار إليها ما تزال تبعث العزيمة في عدد يصعب إحصاؤه ممن تبنوها رمزياً من خارج البلاد، وممن يرفعونها في مظاهراتهم في الداخل المحرر. إن أحداً لم يقل إن كرامة السوريين اليوم أوفر من لحظة جرأتهم الحالمة، لكن العلة أن الزمن «الموقت» لانتقالهم المأمول طال فصار دهراً من العذابات المتواصلة والمتراكمة. لا يستطيع أحد أن يعيد العجلة إلى الوراء ويوقف طريق التغيير الدامي الذي انطلق عام 2011، لا من أعدائه ولا من مؤيديه وسالكيه المنهكين. مثلما أن التلاوم وتراشق المسؤولية عنه هو أمر يخرج عن النقاش المجدي. ليس هناك أي معنى للقول «ليتها لم تكن» إلا شعرياً، فقد كانت وانتهى الأمر. وحتى الذين كان يراودهم القلق، أو الأمل، من احتمال ترجمة النظام لسلسلة انتصاراته العسكرية، قبل سنوات، تعويماً سياسياً وإعادة إعمار واستمراراً في الحكم؛ باتوا يعلمون أن هذا الاحتمال بعيد أيضاً، مثله مثل كل سيناريوهات «الحل» السوري.

من حق أي شخص أن يتعب، أن يمل، أن يصرخ. من حقه أن يتراجع حتى عن الأيام الأنبل في حياته. وهو لا يندم هنا على الكرامة بل على عربونها الباهظ وطيفها المتفلّت وملاحقتها السيزيفية. غير أن هذا كله من دون نتيجة، فقد وضعت الثورة استحقاق التغيير على جدول أعمال المستقبل وخرجت صلاحية سحبه من أيدي الجميع. أما الكلام المجدي فهو عن حصة المساهمة في هذا التغيير وشكله، الآن وفي السنوات القادمة.

ما الذي يبقى من هذه المكلمة عن العبارة والحلم والكرامة إذاً؟ قليل من المؤشرات التي قد يكون استعراضها مفيداً. فمن جهة تعكس هذه المعركة ضيق صدر كثير من السوريين بالتعبيرات الشكلية على فيسبوك، وسخريتهم من تغيير صورة البروفايل كدلالة على العجز عن فعل يستحق هذا الاسم، ما يوحي بالرغبة في تقديم ما هو أهم وأكثر جدية عند تخلخل حالة الاستعصاء العامة. ومن جهة أخرى يشير نقد الشعار إلى حساسية قسم من مناصري الثورة في منع تحول أهدافها إلى أيقونات مقدسة، طالما أن مفردتَي الحرية والكرامة هما أبرز ما نادت به. وإن النظر إلى واقع الكرامة من دون تجميل ولا خديعة للذات والآخرين هو مما يحول دون ترديد الشعارات بطريقة متشنجة أو ببغائية خاوية من المعنى كما أصبحت أدبيات حزب البعث المفروضة في المدارس.

يبقى أن يتقبل صقور الثوار هذا النقد ويتفهموا دوافعه ووظيفته، وأن تتسع مساحة حرية الاختلاف والنقاش والتقويم والمعايرة والواقعية والتهكم. هذا كله في قلب حيوية الثورة التي دفعتها قسوة النظام المفرطة إلى تصلب مضاد، تنبغي مقاومته وكسر أسواره وتليين مفاصله على الدوام.

تلفزيون سوريا

——————————–

في بداية عقدها الثاني الثورة السورية إلى أين؟/ بسام يوسف

لم يكن السوريون الذين تجرؤوا على خوفهم في آذار 2011، ونزلوا ليصرخوا قهرهم في الشوارع، يتوقعون أنهم سيقفون بعد عشر سنوات على مشهد بلدهم المدمر، كان منظر التونسيين والليبيين والمصريين قد أشعل حماسهم، ودفعهم للاعتقاد أن الأوان قد حان، وأن فرصتهم في تغيير واقعهم السيئ قد أزفت، ولم يكونوا يتوقعون أبدا أن يكون ثمن حلمهم وحقهم بحياة تليق بهم كل هذا الدم وهذا الخراب.

إذاً اعتقد السوريون أن الفرصة مناسبة لتغيير واقعهم المرير المعاش، فثاروا، لكن (النظام/ العصابة) الذي يحكم سوريا اعتقد أيضا أنها فرصة مناسبة لاستعادة تجربة الثمانينات، وأن إخضاع هذا الشعب بالعسف والقمع مرة أخرى لعقود قادمة ممكن. كذلك وجدت إيران الحالمة بأن تجعل سوريا جزءا من امبراطوريتها، تدار على طريقة حزب الله، أن الفرصة مناسبة لتحقيق حلمها، في الإمساك ليس بمواقع المحسوبين عليها فقط، بل وعلى المجتمع، والجيش، والاقتصاد. وإسرائيل أيضا وجدتها فرصة مناسبة فهل هناك وسيلة أفضل لتدمير سوريا عسكريا وسياسيا واقتصاديا؟، ثم انضمت روسيا وأميركا لاعتقادهم أنها الفرصة المناسبة لهم لتحقيق مصالحهم في منطقة بالغة الأهمية.

انقسم السوريون سريعاً، بين متوهم أن النظام سينتصر سريعا على من ثاروا ضده مستحضراً تجربة الثمانينات، وبالتالي فإن محاباة هذه العصابة المجرمة هو رأس الحكمة، وربما كافأه “الحاكم بأمره” على وقوفه معه، وبين متوهم بأن المجتمع الدولي ينتظر فقط بعض الدم ليتدخل، وينهي مهزلة حكم آل الأسد كما فعل مع القذافي، وبين سياسيين لا يرون في سوريا إلا كرسي سلطة، وبين طائفيين يرون أن الحرب بين طوائف وبين.. وبين.

هكذا ضاعت أصوات السوريين الحالمين بسوريا وطنا واحدا حرا كريما لكل السوريين في ضجيج الأصوات الصاخبة المتصارعة، وهكذا وجدت الأطراف الخارجية سهولة بالغة في تجنيد السوريين من أجل مصالحها، حتى لو كانت ضد مصلحة السوريين، وهكذا بدأ مسلسل تدمير سوريا ولايزال مستمرا.

كان من الطبيعي في صراع كهذا أن يكون السوريون هم الخاسر الأكبر وربما الوحيد، وكان من الطبيعي أن يعزّز الدم المسفوح من حدّة انقسام السوريين، وأن تتعمق الهوّة بينهم أكثر فأكثر.

اليوم وبعد عقد كامل من هذا الصراع نقف على مشهد سوري فريد من نوعه في التاريخ، فهناك سلطة منهارة، مشلولة، تسندها جيوش وأطراف خارجية كي لا تلفظ أنفاسها الأخيرة، وهناك “معارضات” هشة، شديدة البؤس، تابعة وتبحث عن موطئ قدم لها من بوابة الدول الإقليمية، وليس من بوابة الوطن، وهناك شعب مشتت في كل أصقاع الأرض، ومن بقي منه في سوريا يسكن الخيام، أو يعيش ظروفا من الجوع والفقر لم تعرفها سوريا إلا خلال الحرب العالمية الأولى.

وسط كل هذا السواد، وبعد سنوات عشر على الجلجلة السورية الرهيبة هل ثمة أمل في خروج سوريا من كارثتها، وهل ثمة أمل في استعادة السوريين لحق تقرير مصيرهم وبناء وطنهم؟

لعل أكبر فاجعة في هذا الخراب السوري الشامل تكمن باختصار شديد في يأس السوريين، وقبولهم جميعا بتفويض تقرير مصيرهم للآخرين، وانتقالهم بكاملهم إلى حالة الانتظار، لكأن عشر سنوات كشفت حتى العري حقائق كثيرة لم تعلمهم أن الآخر لن يقرر إلا ما يخدم مصالحه، وأن هذا الانتظار لن يفضي إلا إلى تكريس هذا الخراب، وجعل الخروج منه مستحيلا.

عشر سنوات قالت لنا كلنا، بكل تصنيفاتنا، وبكل فصاحة وبلاغة ووضوح إن هذا النظام / العصابة، لا تعنيه سوريا، ولا الشعب السوري، إلا كما يعني العبد لسيده، وإن هذه العصابة لن تتردد لحظة واحدة في بيع ما تبقى من سوريا أرضا وشعبا ومصيرا لمن يبقيها في موقع السلطة.

عشر سنوات قالت لنا بكل فصاحة وبلاغة ووضوح إننا لسنا في نظر المجتمع الدولي شعبا يباد، ويجوع، ويهجر، بل نحن مجرد أعداد وجدنا في منطقة جغرافية بالغة الأهمية لمصالح القوى الفاعلة، وبالتالي فإن ما يعني هذا المجتمع ليس مصيرنا، بل مصير هذه الجغرافية.

عشر سنوات قالت لنا كلنا إنه ما من أحد منا سينجو وحيدا، وإننا كلنا في المحرقة سواء، وما يختلف هو فقط وقت وصول هذه المحرقة لهذا أو لذاك.

عشر سنوات قالت لنا كلنا إنه ما من خلاص لنا إلا على جثة هذه العصابة الحاكمة، التي خرّبت سوريا وتحرس اليوم هذا الخراب وتتاجر به.

لدى السوريين ما يستطيعون فعله، في الداخل والخارج، لإنقاذ وطنهم، وما فعلته الثورة السورية رغم كل مسارها الفاجع هو بالغ الأهمية، فهذه الثورة حطمت واحدة من أعتى ديكتاتوريات العالم في العصر الحديث، وجعلتها مجرد واجهة هشة ستنهار بمجرد أن يتوقف حقن جسدها المتفسخ بالمقويات من هذا الطرف الخارجي أو ذاك.

وهذه الثورة علمت السوريين جميعا أبجدية الحرية، وأذاقتهم طعمها ومعناها، ولن يعودوا أبدا كما كانوا قبلها، ولن يقبلوا بعد اليوم أن يكونوا عبيدا في مزرعة الطغمة الحاكمة.

وهذه الثورة وضعت ملايين السوريين الذين عاشوا معزولين عن العالم، وقوانينه، وتطوره، لعقود طويلة على احتكاك مباشر مع مجتمعات وحضارات وثقافات أخرى.

وهذه الثورة حطمت وإلى الأبد شعارات الكذب التي سوقها النظام طوال سنوات حكمه، وكشفت أيضا وهم المجتمع الدولي ومدى حمايته لحق الشعوب.

فهل يمكن اليوم، وبعد كل هذه التجربة المريرة والدروس البليغة، أن يقرر السوريون في كل مناطق تواجدهم أن يغادروا انتظارهم، وأن يبادروا الى امتلاك حق تقرير مصيرهم؟

إنها مسؤولية الجميع، فهل يبادر سوريون في الداخل والخارج لرسم مسار آخر يوحد السوريين حول وطنهم، وينهي هذه الفرقة السورية التي لم نحصد منها إلا الخراب وارتهان الوطن لمصالح الآخرين؟

تلفزيون سوريا

————————-

هكذا تفاعلت إسرائيل مع الاحتجاجات السورية في آذار 2011/ عدنان أبو عامر

في مثل هذه الأيام من 2011، انشغلت الساحتان السياسية والأمنية في إسرائيل بما بدأت تشهده سوريا من مظاهرات جماهيرية واحتجاجات شعبية، وبدا الأمر لكل متابع للشأن الإسرائيلي كما لو أن ما يحصل في شوارع دمشق ودرعا واللاذقية، إنما يعد شأناً إسرائيلياً داخلياً لكثرة التحليلات والمتابعات والتقييمات، التي تناولت الشأن السوري بجميع تفاصيله الدقيقة: سياسياً، وعسكرياً، واجتماعياً، وطائفياً! وحظيت المواجهات التي تشهدها سوريا باهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية بمختلف أشكالها وتوجهاتها.

من الأهمية بمكان الإشارة إلى النقاط المتعلقة بالإدراك الإسرائيلي لسوريا، والقائمة على الاعتبارات التالية، أولها جغرافياً: فالتطورات الجارية في سوريا، تمثل تطورات تجري في بلد مجاور لإسرائيل، وثانيها رسمياً، حيث ما زالت سوريا في حالة حرب مع إسرائيل، برغم الاحتمالات المتزايدة بإمكانية أن تكون بلداً مرشحاً للدخول في اتفاقية سلام معها.

هناك بعد ثالث يتعلق بامتلاك سوريا ترسانة أسلحة كبيرة، بما في ذلك الأسلحة الصاروخية، والرؤوس الحربية الكيمياوية، وإذا وقعت هذه الترسانة العسكرية في يد معارضي إسرائيل، كما ترى هي، فمن الممكن أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى اندلاع حرب شرق أوسطية كبيرة.

أما البعد الرابع فيتمثل في الارتفاع المتزايد في سقف التساؤلات الإسرائيلية المتعلقة بما إذا كانت مناشدات دمشق القائلة بضرورة استئناف محادثات السلام مع إسرائيل ما زالت سارية المفعول، وتتمتع بالجاذبية، مع أنه خلال السنوات الماضية، وهذا هو البعد الخامس، ظلت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تطالب الحكومات المتعاقبة بتلبية نداءات دمشق بإحلال السلام، لإدراكها بأنَّ إنجاز السلام معها، وإن كان ثمنه إرجاع الجولان المحتل، فسيتيح لإسرائيل فرصة إبعادها عن إيران، وضرب حزب الله، مما يعزز أهدافها الاستراتيجية الكبيرة.

كل ما تقدم يمكن له أن يفسر حجم المتابعة الإسرائيلية الحثيثة لما شهدته الشهور التالية لمارس/آذار 2011، وبات واضحاً أن القيادة الإسرائيلية بشقيها: السياسي والعسكري، تتابع ما يجري في المحافظات السورية بانتباه شديد، خاصة ما يتعلق بأثرها المتوقع على زعزعة استقرار البلاد هناك، ولعل أدل على ذلك ما قام به جملة من القيادات الإسرائيلية، يرافقه عدد من قادة الجيش بزيارة للحدود الشمالية قرب الجولان المحتل، وإعلانهم بما لا يدع مجالاً للشك أن أي زعزعة داخلية في سوريا، ستخفف عن إسرائيل “جبهة حربية”!

مما يؤكد المخاوف الإسرائيلية أن تل أبيب تعرف كيف تتعامل مع المسؤولين السوريين الموجودين في دمشق، لكنها لا تعرف كيف ستتعامل مع “سوريا أخرى” في حال تغير النظام، في ضوء التوقعات التي قد تشير إلى احتمال تصاعد الموقف هناك بصورة دراماتيكية، مما سيضعها على “أتون بركان ملتهب” من الممكن انفجاره في أي وقت، ويعني أن النظام السوري، وفقاً للتقدير الإسرائيلي، وإن نجح بقمع المظاهرات، فلن يستطيع كبح جماح بقية الاحتجاجات في العديد من المدن الأخرى، مع إصراره على التعامل بعنف مع المتظاهرين.

في ظل المتابعة الحثيثة من قبل المحافل الإسرائيلية بقلق لآخر التطورات الميدانية في سوريا، أبدت تل أبيب ثقتها أن رأس النظام السوري في خطر، لأن مفعول ما وصفته بـ””الدومينو” بدأ يضرب بقوة نظام الحكم هناك، بعد أن كسر الشعب حاجز الخوف، وخرج الناس إلى الشوارع، وحطموا التماثيل الضخمة، وأضرموا النار في مباني المؤسسات الحكومية الرسمية.

قدرت الأوساط الإسرائيلية أن استمرار الأمور في سوريا على هذا النحو، سيؤثر لفترة طويلة من انعدام الاستقرار، وستكون له آثار بعيدة المدى على الشرق الأوسط عموماً، وأمن إسرائيل خصوصاً، لأنَّ تخوف جيشها انصبّ آنذاك على مصير الأسلحة غير التقليدية الكيمياوية والبيولوجية التي يحوزها النظام السوري، وعلى عدم وجود ضمان بأن تبقى المنطقة الشمالية على الحدود معها هادئة إن تغيرت الأمور في دمشق.

في إطار التركيز الإسرائيلي على الشأن السوري في بدايات الأحداث الجماهيرية والاحتجاجات الشعبية، ذكرت إسرائيل ألف سبب وسبب يجعل تصنيف الرئيس السوري ضمن النوع الذي لن يبدو متهاوناً في التراجع أمام التطورات الداخلية، محصية أسباباً عديدة.

في ذات السياق، راقبت إسرائيل بحذر مستقبل العلاقات بين سوريا من جهة، والفصائل المسلحة الموجودة هناك كحماس وحزب الله، التي كانت ترعاها دمشق، وتدعمها سياسياً، معربة عن قلقها من مواصلة دعمها لها، لمحاولة صرف الأنظار عما يحصل من تطورات داخلية، والضغط عليها لـ”التحرش” بإسرائيل، إن لزم الأمر، وربما وصل الأمر ببعض الإسرائيليين للإعلان صراحة أنه يمكن القول بكل ثقة “وداعاً للسلام مع سوريا”، لأنه لو أرادت الأخيرة السلام فعلياً مع إسرائيل، لأصبح متأخراً جداً الآن، وهذا الكلام قد ينطبق على بدايات الثورة السورية، وليس الآن وقد تزايدت التلميحات من الجانبين بإمكانية إنجاز اتفاق بينهما.

وفي حين أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حاولت المفاضلة بين نظام وآخر في المنطقة العربية، فإن الوضع في الأحداث السورية بدا مختلفاً ومغايراً، بالنظر إلى الحساسية الدقيقة للدولة السورية، لاسيما على صعيد الموقع الجيو-سياسي، بالنسبة لإسرائيل، ما يتطلب من الأخيرة أن تدير تقييماتها لما يحصل لدى جارتها الشمالية وفق أساسات هامة، تقوم على: قراءة سليمة للتطورات الداخلية هناك، والمزيد من التأهب الأمني، إلى جانب الحوار والتنسيق الوثيقين مع الولايات المتحدة، والأهم من كل ذلك “رأس مفتوح” للفرص التي قد ينطوي عليها الوضع الجديد.

وفي حين أنه بدا من السابق لأوانه محاولة تقدير وجهة سوريا، لاسيما في الأسابيع الأولى للاحتجاجات الداخلية، إلا أن أهمية الأحداث فيها حالياً ليست بحجمها، بل في كونها غير مسبوقة في هذه الدولة التي لم تشهد مظاهرات كهذه منذ ثلاثين عاماً، ما يعني أن تغير الأمور بصورة دراماتيكية يعني بشكل تلقائي انهيار “الحلف غير المقدس” بين سوريا وإيران.

وفي الوقت الذي ما زالت فيه الأوساط الإسرائيلية تنظر بعين من الترقّب إلى مآلات الأوضاع في سوريا، فقد بدأت تطرح أسئلة استشرافية من قبيل: هل هذه هي نهاية سلطة عائلة الأسد؟ أم أنها نهاية “الخيار السوري” لإسرائيل؟ خاصة في ظل اعتياد رؤساء الحكومات الإسرائيلية التعبير في الماضي أن يفحصوا إمكانية التوصل إلى تسوية مع دمشق، أو إعلان ذلك على الأقل، كلما وصل التفاوض مع الفلسطينيين إلى وضع حرج، بل إن بعضاً منهم، كـ”رابين ونتنياهو وباراك”، خطوا خطوات عملية، لكنهم صدموا سريعاً بـ”حائط صد” من الرفض السوري.

ومع ذلك، فإن القراءة الإسرائيلية لما يحصل في سوريا تؤكد مجموعة مما سمّتها “الفرضيات الإسرائيلية الخاطئة”، ومنها القراءة التشاؤمية في إسرائيل لما يقال إنه “ربيع الشعوب العربية”، ومنها سوريا، فقد تجلى بعد وقت قليل أنه بداية لـ”شتاء طويل مظلم”، ما يؤكد أن فرضية نزولها عن هضبة الجولان، قد أُنزل عن جدول الأعمال، بسبب ما يقال إنه شرق أوسط غير مستقر، لأنه على سبيل المثال لو وقعت إسرائيل مع سوريا على اتفاق في شأن انسحاب إلى الساحل الشرقي لبحيرة طبريا مقابل “ترتيبات أمنية”، فماذا كانت احتمالات أن يتم الحفاظ عليها؟ سواء بقي نظام الحكم الحالي، أو حل نظام آخر محله؟

رغم أن جميع التقديرات الإسرائيلية الصادرة خلال السنوات القليلة الماضية بشأن إمكانيات حدوث أي مواجهات بين النظام السوري ومعارضيه كانت تؤكد على أن لدى الأسد من القدرة ما يجعله واثقاً في مسألة بقائه في السلطة، إلا أنه يمكن القول إن الأحداث التي شهدتها بعض المدن السورية في الشهور الأولى من ذلك العام جعلت كبار مسؤولي وزارة الحرب وأجهزة الاستخبارات في تل أبيب يراجعون تقديراتهم بهذا الشأن.

اجتهدت السطور السابقة في استعراض المزيد من المواقف الإسرائيلية من التطورات السورية في مثل هذه الأيام من 2011، أمكن من خلالها رصد التوجهات الإسرائيلية حيال مستقبل الأوضاع في سوريا، وتداعياتها الإقليمية، وكيف سعت إسرائيل لتوظيف تلك الأحداث لمصلحتها، فأصابت مرة وأخطأت مرات!

———————

هكذا تحكم عائلة الأسد/ فاطمة ياسين

عندما تَظهر إشارات لاهتزاز السلطة في أنظمة الحكم العائلية، تُسلَّط الأضواء بقوة على أفراد هذه العائلة، وتجري محاولات لإعادة تحليل علاقاتها الداخلية وآلية إمساكها بالسلطة، ومدى تأثير مؤشرات الاهتزاز الراشحة، على موقع العائلة المسيطرة على البلاد..

في سوريا تحكم عائلة الأسد منذ أكثر من خمسة عقود، وتسيطر على مفاصل السلطة، والسلطة في هذا البلد ذات شقين رئيسيين هما أجهزة الأمن، ومؤسسة الجيش، وتتفرع عنهم آلية تسيير الاقتصاد، ففيما تأخذ دوائر الأمن والجيش شكل المؤسسات، بتقسيمات إدارية منضبطة، قياداتها موزعة بشكل مدروس وعميق لضمان الولاء، فإن الاقتصاد لا يشكل مؤسسة بقدر ما هو مجموعة من التدابير والإجراءات الظرفية، تمليها ظروف النظام المحلية والدولية، ولطالما كان الاقتصاد السوري عبارة عن مجموعة قرارات وإملاءات تفرض على الحكومة التي تذعن للأوامر، وتسيِّر الشؤون اليومية للناس فتبيعهم وتشتري منهم بطرقها البيروقراطية بغض النظر عن موازين الربح والخسارة.

مع انفراط العقد الشيوعي في تسعينيات القرن الماضي وتبخر أفكار اشتراكية الدولة، بدأ النظام السوري بفتح السوق بشكل جزئي، وسمح لمجموعة محددة من الشخصيات التابعة للنظام بممارسة الاقتصاد، وصولًا إلى مرحلة أكثر انفتاحاً قادها بشار الأسد مع قدومه إلى الحكم، وبواجهة ملأها ابن خاله الذي اتخذ دور فتى النظام ووجهه الاقتصادي الأول، مما أبعد عن الأذهان صورة حزب البعث الاشتراكي الذي تحكم عائلة الأسد باسمه طوال العقود الماضية، عانى الاقتصاد خلالها من حالات تموج وتلوٍّ على مقاسات السوق المتاحة ليستقر بين قدمي رامي مخلوف، ليحال أخيراً إلى سطوة أسماء الأسد مع الشخصيات القريبة منها، فيما بقيت مؤسستا الجيش والأمن بذات الهيكلية والقوة والتمكين، ليضاف عليهما بعد الثورة تشكيلات ميليشياوية متطوعة مدفوعة بأسباب منها طائفية ومنها معاشية، أدرجت تحت مسمى الدفاع الوطني، مع محاولات إجرائية مستمرة من قبل النظام لتوفير أكبر قدر من الدعم لها حتى تحقق القمع المطلوب على الجمهور.

تعرضت مؤسسة الجيش في أواسط ثمانينيات القرن الماضي إلى هزة كبيرة هددت بإزاحة حافظ الأسد عن سدة الحكم، من خلال تمردٍ قاده شقيقه رفعت الأسد، وقد كان يتمتع بقوة عسكرية كبيرة تحيط بدمشق، وتسيطر عسكريا على مداخلها، وكانت وسائطه النارية موجهة إلى أبنية القيادة والتحكم في العاصمة كالأركان وقصور الرئاسة ومقرات الأمن الرئيسية، لم يستنفر رئيس النظام قواته العسكرية المضادة لمواجهة هذا التحدي الذي ينذر بإزالة النظام كله، رغم أنه يمتلك ويسيطر على قوات قادرة على المجابهة، لكن ذلك كان سيقود إلى معركة تحتاج لوقت طويل قبل أن ينهيها أحد الطرفين لصالحه، على العكس تصرف رئيس النظام كما يليق برجل “عائلة” وليس برجل دولة، فلم يلجأ إلى مؤسسات الدولة، وفي الواقع لا يوجد فيها إلا الجيش والأمن اللذين كانا موضوع الخلاف الرئيسي بين الرجلين، بل لجأ إلى المؤسسة الحقيقية التي يستند إليها النظام في ممارسة حكمه، وهو العائلة، فاستدعى حافظ الأسد أمه وأشقاءه واصطحب ابنه، وجابه شقيقه، لحل النزاع.. لم يحضر ذلك الاجتماع رئيسَ الوزراء ولا أي عضو في المحكمة الدستورية، ولا حتى عضو في مجلس الشعب، حضرته العائلة، وحلت إشكاليته، وخرج أحد أعضائها بكوتا مالية تكفيه ليعيش أميراً في أوروبا بقية حياته، وعاد كل شيء إلى وضعيته الأصلية، عائلة تحكم بمؤسستي الجيش والأمن والباقي توابع تجري في مدارات محددة سلفاً ومنها الاقتصاد. حدث كل ذلك عندما كان بشار الأسد في التاسعة عشرة من عمره، يتابع خلاف العائلة وطريقة حله، ولا بد أنه حفظ الدرس ووعاه.

قد يكون من المصادفة أن حافظ بشار الأسد الآن بذات عمر والده تقريبا، بينما يشهد، كعضو عائلي، ما يحصل، بين أسرته وبين رامي مخلوف ابن خال والده، وإن كان “الحوار” هذه المرة، حوارًا اقتصاديًا، والاقتصاد لا يخلق مشكلة وجودية للنظام، لذلك لم نرَ تجمعًا مشهودًا لأفراد العائلة كما حدث سابقًا، بل تُرك للأجهزة الإجرائية أن تجهز على هذه العقبة البسيطة، بقرار موقَّع من أعضاء في الحكومة التابعة للنظام.. وفي هذا السلوك درس بليغ وضع فيه رأس النظام حدودًا فاصلة للعائلة، فالعائلة هي المحيط الضيق المرتبط جينيًا بحافظ الأسد وأنيسة مخلوف أيضًا، لكن بشار يقول اليوم ما معناه إن العائلة مقتصرة عليه شخصيًا وعلى أبنائه، بعد أن فقد اثنين من أشقائه سابقًا، باسل الذي توفي بحادث سير أودى بحياته قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا، ومجدْ الذي توفي هو الآخر منذ اثني عشر عامًا، أما فيما يخص العضو الآخر المتبقي من العائلة وهو ماهر الأسد، فهو موجود طالما بقي ملتزمًا بفرقته الرابعة لا يتخطاها، وقد ظهر خلال سني الثورة الطويلة أن ماهر الأسد كان الابن المطيع للنظام بمعناه العائلي ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أنه سيخرق هذا النظام.

أما بشأن الاقتصاد فالعقوبات قد أرهقته رغم الثغرات الجديدة التي تحاول الزوجة فتحها، وصحيح أن حاجات المواطن المعيشية ليست من أولويات النظام لكن فقدان أبسط سبل العيش لن تستطيع هذه المنظومة التعامل معها إلى الأبد..

—————————

النخبة وأزمة تبرير الاصطفاف مع الديكتاتور/ رفقة شقور

منذ بدء الثورات العربية برزت أزمة الاصطفاف من قبل نخب فكرية ودينية وسياسية حزبية مع الديكتاتوريات، يمكن حصر ملامح هذه الأزمة بعدة أشكال:

أولاً: المجهود الذي بذلته النخب الدينية في تبرير قمع الشعوب ورد السلطة لولي الأمر الذي لا يجب أن يتم الخروج عنه، وقد فاجأت شخصيات دينية حول العالم الشعوب باصطفافها مع الديكتاتوريات واستماتتها في شرعنة الاعتداء المباشر والعنفي والقمعي الذي مارسته الأنظمة الديكتاتورية اتجاه الثوار ممن خرجوا احتجاجاً على تردي أوضاع الحياة في كافة النواحي في ظل تلك الديكتاتوريات.

ثانياً: المجهود الإعلامي الذي بذلته جهات إعلامية محسوبة على تلك الديكتاتوريات من أجل إشاعة حالة من الارتباك في أوساط الناس بنشر المخاوف واستدعاء أكثر الشخصيات الإعلامية وفاء للبلاط من أجل مخاطبة الناس بنظريات المؤامرة الخارجية التي تستهدف بلادهم حتى يتم ثنيهم عن أي حراك ضد الوضع القائم.

ثالثاً: المجهود التبريري الذي عكفت معظم أحزاب اليسار العربي عليه من أجل تبرير حالة الاصطفاف مع الديكتاتوريات، وتوظيف قضية فلسطين والتخويف من المصائر المرعبة في حال رحل مجموعة الحكام القمعيين في المنطقة العربية.

رابعاً: المجهود الفكري والثقافي الذي قادته شخصيات فكرية وثقافية عربية من أجل محاولة انتشال الديكتاتوريات العربية من برك الدماء التي سالت في الشوارع الثائرة، فراحت تهين ذكاء الناس وتقلب الحقائق وتستغل صلاتها مع الديكتاتوريات وكافة الموارد التي وظفتها الديكتاتوريات في خدمتها من أجل دعم مشروع فكري وثقافي وأدبي مساند للديكتاتوريات ويعمل على تبييض صورتها وواجهتها الخارجية ببعض قصائد ومؤلفات تغازل البلاط وترتمي أمام أعطياته وامتيازاته.

خامساً: المجهود الفني الذي خاضته شخصيات فنية مؤثرة من العالم العربي في سبيل مساندة الديكتاتوريات بالأغنية أو بالسيناريو أو بالمحتوى السينمائي أو غيرها من مستويات التأثير الفني من أجل دعم الشخصيات الديكتاتورية بنشر حالة من التشكيك وقلب الحقائق أيضاً بين جمهور متابعيهم الذي يمتثل أحياناً لنفوذهم المؤثر.

عكست هذه الملامح عدة أزمات تقف وراء تلك المجهودات التي تصب كلها في خانة الحفاظ على واقع القمع العنفي للأوساط الثائرة في الشوارع العربية وفي معتقلات الأنظمة الديكتاتورية.

أولاً: الأزمة الأخلاقية لدى النخب الدينية والثقافية والفكرية والفنية التي اصطفت لجانب الديكتاتوريات وما أعقب تلك الأزمة من حالة صدمة في الأوساط الثورية من مواقف لا أخلاقية ولا إنسانية لتلك الشخصيات، ففي اللحظة التي كانت فيها الجماهير الثائرة بحاجة لغطاء فكري وديني وإعلامي وثقافي لدعم حراكهم الثوري راحت تلك النخب تصطف مع الديكتاتوريات القمعية وتنطق باسمها بشكل أو بآخر، وتسوق المسوغات الفقهية والفكرية والسياسية من أجل القمع الدموي للحراك الثوري لدى الشعوب، مما زعزع ثقة الجماهير الثائرة بتلك النخب في الوقت الذي شهدت أوساط الشعبويين والمنبطحين للأنظمة القمعية ميلاد نخب تؤصل للفكر الشعبوي والديكتاتوري القمعي وتمنحه غطاء دينياً وثقافياً وسياسياً وفنياً وأدبياً.

أزمة الاستغلال السلبي لقضية فلسطين بخاصة من قبل اليساريين العرب الذين ساندوا نظام الديكتاتور السوري وسوغوا موقفهم بأنه ممانع لإسرائيل فكانوا بذلك أسوأ نموذج على الأحزاب اليسارية الثورية، فالأصل في تلك الأحزاب ثوريتها المطلقة على كافة مصادر وأصول وفروع الظلم المجتمعي لا التبرير لنظام سياسي قمعي وجره لاحتلالات الأرض إلى وطنه في سبيل عدم التخلي عن الكرسي الرئاسي في القصر الجمهوري، وتفاصيل هذه الأزمة تكمن أولاً: بالعقلية التبريرية اللاأخلاقية لسلوك أنظمة مجرمة في حق شعوبها وما تبع ذلك التبرير من منافحات ومطاحنات لا تعتمد المنطق ولا العقل في سبيل إثبات نفسها وإنما راحت تفترض أن النظام العنفي القمعي الذي هجر ملايين من أبناء شعبه في المنافي نظام مساند لقضية عادلة كقضية فلسطين وهذا أمر غير موزون بميزان العقل أو المنطق، فالأنظمة الديكتاتورية التي جلبت الاستعمار لأراضيها وقبلت أن تعمل تحت إمرتها بشكل مباشر في سبيل تقديم الحماية لها لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن تمتثل لمصالحها التي تتقاطع بشكل كبير مع مصالح دول الاستعمار التي ترعى إسرائيل وتقدم لها الاستمرارية والحماية أيضاً، هذا بشهادة كبار الشخصيات السياسية والحربية في الجيش الإسرائيلي التي صرحت مراراً عبر إعلام الاحتلال أن بقاء بشار الأسد مرحب فيه وأنه يصب في صالح دولة الاحتلال.

ثانياً: السلوك الفكري العصابي الذي تسلكه تلك النخب التي تجادل بأن نظاماً ديكتاتورياً مثل نظام بشار الأسد ومن يسانده من حركات قتالية وأحزاب كحزب الله الذي لم يبق من مقاومته لدولة الاحتلال سوى ما تم طرحه في برنامجه الانتخابي ووثيقة انطلاق الحزب، لا يمكن بأي حال من الأحوال نسبة دعم قضية فلسطين لعصابات حاكمة تمارس كل أشكال القمع والعنف اتجاه مواطنيها وكل ما يخالفها، فهذا الاختطاف الذي تم من قبل من يدافعون عن أن النظام السوري يحمي ظهر المقاومة الفلسطينية رفضته الوقائع على أرض مخيم اليرموك والمخيمات الفلسطينية على امتداد سوريا ولبنان وفلسطين.

ثالثاً: أيضاً إقحام قضية فلسطين كمدخل تبريري لاستمرار أنظمة فاسدة وديكتاتورية يناقض حقيقة أن استمرار الاحتلال يعتمد بشكل أساسي على محيط عربي استسلامي تحكمه أنظمة ديكتاتورية قمعية توظف كل مواردها المادية والإعلامية والسياسية لحشد دعم لها ولتبييض صورتها خارجياً بحيث تحصل على حماية من القوى العظمى التي تساندها مقابل جزيات منتظمة الدفع ومقابل مناطق نفوذ وقواعد عسكرية على أراضيها.

رابعاً: التوظيف الاستهلاكي لقضية فلسطين ممن يظن أنه يسبغ أخلاقية أو قدسية على أنظمة ما رفعت شعارات من أجل مساندة فلسطين لا يجدي نفعاً في تطهير تلك الأنظمة الديكتاتورية من الدماء التي أراقتها لمواطنيها في شوارع الثورة وفي معتقلاتها وزنازينها حيث أخفت قسرياً وعذبت بوحشية بدائية في أفرعها الأمنية التي أعطتها اسم فلسطين تعدياً وانتهاكاً لعدالة تلك القضية فكانت أسوأ عدو لها.

خامساً: تميز المدافعون عن نظام بشار الأسد من مدخل فلسطين بإنكار تام للوقائع وقلب لها بالتعنيف والإرهاب اللفظي والفكري مع كل من يحاجج بأن ذلك النظام يحرس الاحتلال ويقدم له خدمات تأمين حدوده مع دولة الاحتلال، فتلك الشخصيات من النخب الثقافية والفكرية والدينية حاولت استخدام جمباز الكلام والاستعراض الفكري واستسهال خدع الناس عبر تأثيرها في سبيل دعم الديكتاتور، فلم يبخلوا على الناس بكتب وقصائد وسيناريوهات ورسومات كاريكاتورية وفتاوى دينية تمجد القاتل وتحثه على اقتراف المزيد من الانتهاكات بدعوى حفظ وحدة الأراضي السورية ومقارعة المؤامرة الكونية.

سادساً: تميزت تلك النخب التي اختطفت اسم فلسطين من أجل مساندة الديكتاتور بعنصرية الجنسيات والتمييز في الحق الثوري حسب المناطق، فلا يمكن بأي حال أن تكون مجموعة سابقة على مجموعة أخرى بحقها في التحرر والانعتاق من ظلم الديكتاتوريات والقمعيات والاحتلال، ففلسطين قضية مركزية لكنها لا تلقي بقضايا تحرر الشعوب العربية وانعتاقها من الديكتاتوريات إلى الهوامش، كيف هذا والمنطق يقتضي بأن تحرر فلسطين يلزمه أولاً شعوب عربية ليست ضحايا لديكتاتوريات شعوب منعتقة لا تضع في اعتباراتها حسابات أمنية أو اعتقالات في صفوفها على خلفية مواقف سياسية تناهض التطبيع مثلاً، كيف لشعوب لا تستطيع لجم أنظمتها عن تطبيع دولة الاحتلال والتعامل معها والتحالف معها من مساندة فلسطين والفلسطينيين؟ كيف لشعب أنهكه الديكتاتور وجعل انشغاله بهمه اليومي في الحصول على لقمة عيشه أن يفكر بهموم وقضايا غيره؟

الانتقائية بالفكر الثوري وعدم العدالة في استيعاب دوافع الثورات من قبل شعب ينشد الحرية والكرامة والتغيير يرفع النخب الفكرية والثقافية والحزبية لمرتبة الديكتاتور لأنهم أدواته الحادة والمخرز الذي يوظفه في قمع يد التغيير، الانتقائية الثورية تعبر عن هزيمة أخلاقية بشعة تفوق الانبطاح التام للاحتلال أو الاستعمار والعمالة له، لأنها توظف أنبل الأدوات وهي الفكر والثورة في سبيل خدمة الديكتاتور فتكون بذلك عقبة كأداء وأشد فتكاً بعملية التغيير والانعتاق من الديكتاتور لو واجهها بدون ذلك الغطاء، فالتحالف بين قوى الفكر والثورية الانتقائية والديكتاتور أسوأ تحالف يشهده تاريخ المجتمعات التي تحارب من أجل حرياتها.

حالة التعدي السافر من قبل النخب الثقافية والفكرية والفنية على قضية فلسطين من أجل تبييض واجهة الديكتاتوريات أمام الشعوب والعالم حالة مستهلكة واستنفذت كل أوراقها حين هرولت تلك الديكتاتوريات من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل أو التصريح بأن لا مشكلة لها في التطبيع مع دولة الاحتلال فبذلك هي قدمت دعوة واضحة للاحتلال لمساومتها على ثمن التطبيع والذي غالباً ما يتم سرقته من جيوب تضحيات الفلسطينيين.

———————

أما نحن، فلم نتجرأ على الحلم/ يوسف نبيل نعمان

الساعة الثانية عشر ودقيقة بعد منتصف الليل، بداية شهر آذار هو تاريخ اعتيادي مثله مثل أي يوم آخر بالنسبة لجميع شعوب العالم. أمّا في سورية فهو الموعد الرسمي لانطلاق حرب الشعارات بين طرفي النزاع السوري. ذلك الموعد الذي يقضي أغلبنا فيه بخسارة رقم جديد من الأصدقاء الذين يخالفونه الرأي. هذا الحال الذي كانت تقوم عليه حياتنا في السنين الأخيرة، أقصد في السنين الأخيرة عندما تبلور شكل النزاع في بلادي وأصبح واضحاً للعلن سلبيات وإيجابيات كل طرف من الأطراف، لدرجة أصبح من غير المنطقي أن تقف مع طرف منهم في وجه الآخر. اليوم، وبعد مرور عشر سنين على “ذلك التاريخ”، أصبح غريباً بالنسبة لي- بعد كل التغيرات التي طرأت على حال معظمنا وحال بلادنا، سيّما في فترة انتشار وباء كورونا- أن نقف في بداية هذا الشهر ونطلق الشعارات التي تصب في مصلحة جهة معينة. لم أعتبر نفسي في أي يوم من الأيام متحدثاً باسم جهة ما، لكني أعتقد أنني أستطيع التحدث باسمي واسم الحياة المعيشية التي رافقتها خلال كل هذه الفترة.

في بداية عام 2011، كنت أنتمي لعائلة مؤمنة تماماً بفكرة المؤامرة الكونية التي تشهدها سورية، وأن من أشعل فتيل الاحتجاجات هم مجموعة من الأشخاص المغرر بهم من الخارج. كانت كل العوامل التي تحيط بي تجعلني بشكل أو بآخر منقاداً كلياً تجاه هذه الصورة. أشاهد عناصر الجيش الذين فقدتهم عائلاتهم في تلك الفترة، ومنهم أشخاص ينتمون إلى عائلتي؛ لم نحمل أكفانهم لعدم العثور على جثثهم حتى يومنا هذا. لذلك، احتجت لسنتين من حياتي لأبدأ بالتعرف على الشكل المقابل لما يحدث داخل البلاد. عام 2013 كان بداية دراستي الجامعية في دمشق؛ العاصمة التي كانت معظم شوارعها آنذاك مغلقة ومليئة بالمتاريس الرملية نظراً لشراسة المعارك والوضع الأمني الخطير. كنت اتخذت حينها قرارً بأن أمحو كل ما كنت أفكر فيه مسبقاً؛ مسيرات التأييد، أفكار المؤامرة، البرامج الكاشفة للتضليل الإعلامي التي كانت تبثها القنوات الرسمية. وأبدأ ببناء مخزون جديد من الواقع الحقيقي، كما اعتقدت.

لم أحتج سوى شهرين لتحدث الحادثة الأولى؛ استوقفني أحد عناصر القوات الرديفة في حاجز قرب جامعتي، وأخذ يوبخني ويطلق عليّ الشتائم لأني من محافظة طرطوس وشعري طويل، قال بأنني شاذ جنسياً وأني لا أمثّل تلك المحافظة بأية شكل. في تلك اللحظة، لم أكن قوياً لأقوم بأي رد فعل. تلقيت الشتيمة أمام كل من تواجد، “من تم ساكت”، كما يقال. تابعت طريقي وأنا أسأل نفسي هل شعري الطويل هو الحرية التي كانوا يخرجون وينادون من أجلها؟

فيما بعد تتالت الأحداث والمواقف. كان معظم أصدقائي آنذاك ممن خرجوا إلى الساحات ليطالبوا بمطالبهم المحقة. كثرت الروايات وبدأت الذاكرة الجديدة بالوصول إلى ذروتها. عند كل رأي أريد أن أدلي به أمام أي شخص، كانت تأتي صورتين في رأسي لا ثالث لهما؛ جثمان ابن خالي الذي لم نحمله بعد أن استهدف صاروخ حراري مركبته العسكرية وهو ابن 24 سنة في جسر الشغور التابع لمحافظة إدلب، وصورة والد صديقي الذي تم اعتقاله لتكون صورة جثمانه من برّاد أحد المشافي هي آخر ما وصل إلى أهله منه. كانت الخسارات متساوية؛ كذلك حجم خسارتنا أنا وصديقي. لم نطلق على بعض أية تهم على الرغم من اختلاف أفكارنا واختلاف طائفتنا. ها أنا أتحدث عنها الآن، لكني لم أتحدّث قبلُ عن تلك الاختلافات كي أعزز فكرة “التعايش” التي تم زرعها في رؤوسنا منذ الصغر. كنّا نحاول صناعة شيء ما في هذه البلاد، على الأقل أن نستمر في أحلامنا؛ كل منا بحسب وجهة نظره.

ما دفعني لكتابة هذا النص، هو أنني منذ بداية عام 2015 لم أقحم نفسي في أي صراع سياسي. كنت أدخله فقط مع أبي كنوع من الاستفزاز الذي طالما أحببت أن أسلكه معه. لم أقحم نفسي لأنني أصبحت أرى أن كل شخص في هذه البلاد معرّض للموت بشكل أو بآخر بسبب أي كلمة من الممكن أن تصدر عنه.

اليوم، بعد عشر سنين، لا أعتقد أن من حق طرف من الأطراف إطلاق أي نوع من الشعارات، مهما كان شكلها، لأن ما تعيشه البلاد في وقتنا الحالي هو نتيجة لتراكم سلبيات كلا الطرفين. لم يعد يعنيني أن أشارك في فعالية ما وأنا أرى الجوع يخيّم على وجوه معظم الناس. لم أعد مهتماً بمستقبل البلاد السياسي وأنا أرى المستشفيات تكتظ بمصابي الكورونا والوفيات ترتفع يومياً وبلادي محاصرة بعقوبات “ما حدا بيرضاها للعدو تبعو”. لم أعد أرى أن هنالك سبب يدفعني للاستنكار والحلم لأن هنالك كتل وأكوام بشرية مرمية في الطرقات لساعات طويلة تنتظر وسائل نقل لتقلها إلى بيوتها.

كل ما أريد قوله هو أن معظم ما قيل باسم الشعب، لم يكن يوماً مهماً أو موثوقاً لهذا الشعب. بعد عشر سنين، أعتقد أننا، من نسكن في الداخل، “لم نتجرأ على الحلم ولم نصمد ونتصدى”. لم يكن في أيدينا سوى أن نستمر في هذه الحياة بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أحلامنا.

شعاراتكم الدائمة كانت في مرحلة ما طريق للاستمرار. لكن اليوم، بعد كل هذه المدة الطويلة، وصلنا إلى حقيقة واحدة؛ أن كل الشعارات التي نحلم بها مرتبطة بألا نفقد قدرتنا على الحياة. لم نعتد حتى يومنا هذا على شكل الحياة التي نتجت عن كل ذلك السلوك المُمارس بحقنا. حجم الخسارات صار كبير جداً ويشكل ضغطاً نشعر بأثره مع كلّ وقت يمضي. بعد عشر سنين، كل ما نريده ألّا نموت بسبب نقص الدواء أو نقص الطعام. لم نكن من هواة الموت من البرد. نريد أن نعيش لنستمر بأحلامنا في الحياة لا لكي نطلق شعارات لا قيمة لها. اليوم، تُصنّف دمشق كأسوأ دول العالم معيشة. هذه نتيجتنا التي طالما أردنا الهرب منها، لكنّها اليوم أصبحت واقعنا الوحيد.

رصيف 22

—————————–

===================

تحديث 09 أذار 2021

———————–

في ألّا يهزمنا التحليل أيضاً/ ياسين السويحة و صادق عبد الرحمن

لا مفرَّ من أن تتكاثف خلال أيام الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة نقاشات كثيرة في تحليل الواقع وفهم أسبابه، بعضها يتكاثف في حضوره، وبعضها الآخر يتكاثف كَبتُه في النفوس، أو في «الحلقات الآمنة»، خشية أن يُساء فهمه، أو خوفاً من أن يُفهَم بشكل صحيح، لكن من قبل جمهورٍ مُتخيَّل تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في تخيُّله جمهوراً متربِّصاً للنهش على الدوام. ليس في تحليل هزيمةٍ ما يسرّ الخاطر، هذا على فرض وجود إجماع على تقبّل فكرة «الهزيمة»، وليس ذلك فقط بسبب المحتوى الذي يتم نقاشه وتحليله، بل غالباً بسبب كيفية النقاش، وأسئلة ترتيب الأسباب والمسؤوليات، وأسئلة صيانة الكرامات واحترام التضحيات. وتتوزع المواقف والنقاشات في الأوساط المنحازة للثورة السورية على طيف واسع وشديد التنوع، لكنّ هناك كتلتين أساسيتين، تبدوان متناقضتين للوهلة الأولى، كثيراً ما تتصارعان بشكل صاخب أحياناً أو مكتوم غالباً، وتُشكِّلان معاً ما نعتقد أنه جو غير صحي ولا مُنتِج بين أقطاب متنافرة، نختزلها هنا ببعض المبالغة: كتلة أولى تقول بضرورة القسوة في تبيان الواقع وتحليل أسبابه، وضرورة عدم المكابرة على رؤية البشاعة التي خرجت منا، ورفض ربْط أسبابها بالأسدية وحدها، مع التأكيد على أن إطار الثورة لم يعد يعني إلا شعارات أقلّوية وغيبيّة الطابع لدى حطام منفيّ من السياسة، وأن رفع عذابات وتضحيات ملايين السوريين خلال الثورة في وجه «الحقيقة» ليس إلا ابتزازاً قصدُه إسكات قسوة الوقائع بقوة الأوهام؛ يقابل هذه الكتلة قول آخر، يرى في الثورة السورية قيمة غير قابلة للهزيمة، أو على الأقل غير قابلة للمحو بفعل الهزيمة، بغض النظر عن الواقع البشري والميداني، مع التأكيد على أن عذابات الناس وتضحياتهم تعني الكثير، وأن على هذا المعنى أن يُصان من السينيكية والتبرّؤ، ومن الهرب من أوحال الواقع نحو تحليل نظيف يحفظ لنفسه مسافة آمنة عن الدم. بالغنا في إظهار حدّية الكتلتين وتناقُضهما، قاصدين أن تكون هذه المبالغة مدخلاً إلى سطور ندافع فيها عن صلاحية عناصر من الكتلتين لتشكيل خطاب عابر لما نراه تناقضاً غير حتمي، خطاب قادر على إنشاء تحليل غير متجرد من دماء الواقع، يصون كرامات وتضحيات وعذابات ملايين البشر، دون أن يعني ذلك تكبيلاً بشعارات وغيبيّات من أي نوع.

* * * * *

لقد بيّنت هذه السنوات العشر مدى هشاشة الكيان السوري وتهافُت فكرته ومقولاته. لا تبدو سوريا اليوم فكرة مقنعة أو قابلة للدفاع الجدي عنها. حتى إن الوطنية السورية تكاد لا تشغل حيزاً ذا بال في المزاعم النظرية للقوى التي تتنازع السيطرة على أرضها، اللهم إلّا في بعض الشعارات الفارغة، أو الديباجات التي يتطلبها إصدار البيانات الرسمية. وجميع هذه القوى، دون استثناء، أظهرت استعدادات هائلة للتبعية لقوى خارجية ودول أخرى، وصولاً إلى الارتزاق والاستزلام الكاملين، دون أن يشعر أصحابها أنهم محتاجون حتى لتبرير أنفسهم تجاه «سوريا» التي يقولون إنهم يعملون لأجلها ودفاعاً عن أهلها. تشهد على ذلك صور فلاديمير بوتين وعلي خامنئي ورجب طيب أردوغان وعبد الله أوجلان، وتشهد على ذلك الخطابات السياسية للجميع، ودون استثناء أيضاً. إن خطاب التطيُّر من حدود هذا البلد وكيانيّته، والبحث دوماً عن تجاوزه نحو «أكبر» مرجوّ – «الوطن العربي» غالباً، واستعادة «أمة إسلامية» ما أحياناً – هيمن على عقود طويلة من التاريخ القصير لهذا البلد. وقد أُضيفت إلى هذا الخطاب نزعات انفصالية عند جزء من الطيف السياسي الكردي، يسعى لأخذ أجزاء منه بهدف إلحاقها بكردستان – مرجوّة هي الأخرى – و«هُلام» عمشاتي نشأ في الأعوام الأخيرة في مناطق السيطرة التركية في الشمال، وهو ضرب من الشمال-قبرصية المسخة، مُسرف في التعبير عن الالتحاق بالأردوغانية عبر سيل من الرمزيات التركية، الإسلامية المحافظة والقومية المتطرفة، ومهجوس بالتعبير عن سروره بل وحتى فخره بهذا الالتحاق. ليس للمدافعين عن الخارطة السورية الحالية، على مختلف تلاوينهم، الكثير من الحيلة. وبدورهم لم يتمكن خصوم سوريا الحالية من تقديم ما يُثبت أن لديهم بديلاً أقلَّ سوءاً. نحن مُجبَرون على العيش معاً، أقله حتى إشعار آخر، ولن يكون تغيير ذلك ممكناً دون جولة أخرى من بحار الدماء، وجولة أخرى من الاستباحة الدولية التي، وإن مزّقت البلد بشراهة كأمر واقع، إلا أنها لم تُبدِ حماساً للتقسيم الفعلي أو الإلحاق القانوني، أقلّه حتى اللحظة. ليس لدينا قوة سياسية نافذة تحمل في جعبتها ما يجعلنا نعيش معاً بسلام وفي مساحات مفتوحة على احتمال التقدّم، ولا يمكن لهذه القوة السياسية أن توجد دون أن تطالب جذرياً برحيل النظام الأسدي. نعم، لقد أكملت أحداث السنوات الماضية، مع سلوك القوى التي سيطرت على مناطق خرجت عن سيطرة النظام، التأكيدَ على أن رحيل النظام الأسدي لا يعني حتماً مستقبلاً أفضل للبلد وأهله. لكنها أكّدت أيضاً أنّه لا إمكانية للتفكير بسوريا دون رحيل النظام الأسدي.

وقد أظهر سوريون كثيرون خلال هذه السنوات العشر ضروباً هائلة من الوحشية، حتى باتت سوريا أرضاً للإفلات من العقاب، يجول في أنحائها مجرمون ارتكبوا شتّى أنواع الفظائع، وعلى رأسهم الأسديون الذين ارتكبوا مذابح جماعية وجرائم تغييب وتهجير وأعمال إبادة بمختلف صنوف الأسلحة، ويُديرون مصانع رهيبة للتعذيب والقتل في مراكز الاعتقال التابعة لهم. ليس الأسديين فقط، فقد ارتكبت القوى الأخرى كلّها أعمالاً مروِّعة لا تختلف عن أعمال الأسدية في النوع، وإن اختلفت عنها في الكم والمنهجية والتواتر. فقط بعض فصائل المعارضة ليس في سجلّها جرائم ممنهجة ضد الإنسانية، لكن هذه باتت من الماضي اليوم، بعد أن تم القضاء عليها وحلُّها أو إلحاقها وإدماجها بفصائل أو تكتّلات أخرى لديها – أو لدى أركان أساسية فيها – سجلّ مروِّع. وما زال هذا الانكباب على التوحش بحاجة إلى كثير من التحليل والعمل على الفهم؛ كيف يحصل؟ ولماذا يحصل؟ وكيف يمكن التعايش مع حصوله؟ وكيف يمكن العمل من أجل حماية ضحاياه قدر الإمكان؟ وكيف يمكن وقفه؟ وكيف لا يتكرر، حين يمكن وقفه؟

وقد غرقت سوريا في الأقلمة والتدويل، حتى أن مصيرها لم يعد شأناً سورياً. تعرف جميع القوى السورية اليوم أن استمرارها رهن بدعم يأتيها من خارج الحدود، فيما تستخدم الدول الأخرى والقوى الخارجية الأرض السورية وسكّان الأرض السورية في مشاريعها وصراعاتها وتنافسها على النفوذ. إن جميع السوريين – الموالين والمعارضين وغير المصطفّين سياسياً – ينتظرون حلاً من الخارج، ولا أحد يراهن على أي شيء أو قوة أو فعل يأتي من داخل البلد. هذه حقيقة لا تُخطئها عين، وهي تعني أن الصراع في سوريا لم يعد صراعاً سورياً، وأن سوريا لم يعد لها وجود بالمعنى الجيوسياسي، دون أن يعني هذا القول أن هذه «حرب الآخرين على أرضنا» بغية إعفاء النفس من المسؤولية. ليست هذه حرب الآخرين على أرض السوريين، بل هي حرب السوريين وقد فقدوا سيطرتهم عليها وعلى مآلاتها ونتائجها، وباتت حرب الآخرين بقدر ما هي حربهم، وربما أكثر. ولا ينبغي لخوفنا من أن نبدو لوّامين لـ«الأجانب»، دون «السوريين»، أن يمنعنا من القول إن حرب الآخرين قد أضفت على «حرب السوريين» أكثر عناصرها عبثية وتوحشاً. بشار الأسد كان السَبَّاق المتحمس في استعداده ليكون بيدقاً في حربِ آخرين في سبيل إخماد الحرب لمصلحته. ودون تجاهل متحمِّسين آخرين لَحِقوه، لا بد لأي تحليل منصف أن يتوقف عند أسبقية الأسديين وحماسهم.

* * * * *

الانهيار الوطني والتبعية، والتوحش، وهيمنة الخارج المطلقة، تجعل المشهد السوري اليوم مشهداً من معاناة بلا معنى. ملايين السوريين، على الأرض السورية وخارجها، يتألمون في كل يوم بلا هدف، يُصارعون الفقر والموت والغربة والاقتلاع وتحطُّم شروط الحياة وفقدان السيطرة على المصائر، دون أن يبدو أن لهذه المعاناة نهاية معلومة، ودون أن يكون وراء هذه المعاناة أهداف محددة يمكن إنجازها. يُعزّي بعض السوريين أنفسهم بالحديث عن وطن ينبغي الحفاظ عليه، أو عن سيادة ينبغي الدفاع عنها، أو عن كرامة ينبغي صونها، أو عن قيم ومبادئ ينبغي تجسيدها على الأرض، لكن هذا كلّه يستعصي على أن يصير كلاماً ذا مضمون واضح. يتحدث كثيرون مثلاً عن «مبادئ الثورة السورية»، لكن أحداً لا يعرف ما هي هذه المبادئ التي لا ينبغي التفريط بها. وحتى إن وُجِدَت مبادئ كهذه فعلاً في الأذهان، فإنه ليس هناك اتفاق عام في أوساط الثورة والمعارضة على الحد الأدنى من القواسم المشتركة فيها. تنطبق مقادير من هذا الوصف على كل السوريين، أياً تكن قناعاتهم واصطفافاتهم، بحيث يبدو إنكار غياب الهدف والمعنى تضليلاً للنفس، بينما يزيد الاعتراف بهذا الغياب من وطأة المعاناة وتراجيديتها. كما لو أن السوريين جماعة بشرية تسير في صحراء قاحلة بلا وجهة معروفة، فلا هم يملكون الكفّ عن المسير خشية الموت في مكانهم عطشاً، ولا هم يسعون إلى محطة أخيرة معروفة تتوقف المعاناة عند بلوغها؛ يتساقط مزيدٌ منهم على الطريق في كل يوم، ولا يجد الباقون متسعاً من الوقت من أجل وداع كريم لأحبابهم الراحلين.

هذه معاناة بالغة القسوة، ولكن من أجل هذا بالتحديد ينبغي أن يكون لها معنى، أو أن يصير لها معنى إن لم يكن له وجود اليوم. في الأصل، ليس هناك معنى لأي شيء، نحن مخلوقات كسائر المخلوقات، نولد ونعيش ثم نموت، ونحن الذين نمنح المعنى لحياتنا وأفعالنا. وليس البحث عن المعنى من كل هذا مستحيلاً، لا في العقد الأخير، ولا في عقود الأسديّة الخمسة. لدينا منذ 2011 كفاح بطولي بالغ الشجاعة خاضه مئات آلاف السوريين والسوريات، وتضحيات وآلام عظيمة كان هدفها معروفاً وواضحاً: الخلاص من الأسدية وصناعة مصير آخر لسوريا وأهلها، وامتلاك الفضاء العام وانتزاع الحق في ممارسة السياسة والتعبير عن النفس والعيش الكريم. في رصيدنا حناجر وأجساد صنعت، عام 2011، ما كان يبدو مستحيلاً في عيوننا، وفي عيون غيرنا. وقبل ذلك، لدينا أربعة عقود شهدت مذابح وأعمال قتل، وامتلأت فيها سجون الأسديين بمناضلات ومناضلين من مختلف أركان الطيف السياسي، في مستوى أعلى من التضحية والنضال السياسيين، يُحيط به مستوى أوسع قَوامه ملايين الذين لم ينخرطوا في أحزاب ولم يناضلوا سياسياً، لكن حياتهم اليومية كانت سلسلة لا تنتهي من أفعال المقاومة ضد الذوبان في همجية السرقة والكذب والاستباحة غير المحدودة – أولئك الذين لم يعتمدوا على الفساد كمصدر عيش رغم الفقر وأبواب الفساد المفتوحة، والذين لم يصيروا أدوات للسلطة رغم إغراء ذلك وإمكانيته، والذين لم يصيروا طائفيين رغم مضخة الطائفية الأسدية التي تعمل ليل نهار، وإلى آخر القائمة من أفعال «عادية» بالغة الكرامة والدلالة. ثم جاءت السنوات العشر الأخيرة لترفع نوع وحجم التضحيات النضالية، موتاً وسجناً وتغييباً وتهجيراً، وتتحوّلَ خلالها أصغر تفاصيل الحياة اليومية إلى فعل مقاومة أكبر بكثير مما كان عليه قبلاً، حتى ملأت بطولة «العاديين» كل دقيقة من دقائق هذا العقد، ليزداد معناها بالذات حين يضمحلّ معنى كل شيء عداها: من الاعتيادي في أي مكان من العالم أن يتعلم الأطفال، وأن يسعى الكبار إلى رزقهم، لكن أن تعمل كل يوم لتعليم أطفالٍ حروفاً وكلمات وأرقاماً وحسابات، في ظروف بالغة السوء، وأن تأكل لقمتك دون أن تخطفها من يد غيرك، ودون أن تؤذي أو تتأذى وسط هذا البحر من التوحش والأذى، هو فعل نضالي بكل ما في الكلمة من معنى. أن تكون «عادياً» وسط العيش تحت الاستثناء هو فعل مقاومة، يمارسه الملايين من أبناء البلد كل يوم، كل ساعة، داخل البلد وخارجه.

مئات آلاف السوريين قدموا تضحيات جسيمة في نضالهم ضد الأسدية، وملايين يناضلون من أجل أن يحتفظوا بكرامتهم ما أمكن، وسط بيئة لا تكفّ عن تذكيرهم بالقعر الذي وصلوا إليه. تبيانُ هذا الواقع قد لا يواسي في شيء، بل لعله يزيد الألم ألماً. وهو لا يفسّر مصائبنا المُركَّبة، ولا يقدِّم حلاً لها. هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن على أي تحليل واقعي أن يأخذ هذه الوقائع بعين الاعتبار. نحن مهزومون، لكننا لسنا الهزيمة؛ خرج من بيننا كثير من الشرّ، لكننا لسنا الشرّ. لسنا أسوأ من غيرنا، ولكننا شهدنا أسوأ بكثير مما يستطيع العالم أن يتخيله. لم يكن من المحتَّم أن تصل أوضاعنا إلى ما وصلت إليه اليوم، لكنها وصلت. ليس من المحتوم أن نظل كذلك، لكننا لن نخرج من قعر البئر بمرور الزمن فحسب.

مرَّ عقد على ولادة لحظة كان يمكن أن تكون تأسيسية بعمق، ليس فقط لنظام سياسي مختلف، بل تأسيسية لمعنى البلد ككل؛ وقد انكسرت تلك اللحظة، وانطوى معنى الثورة كإطار جامع يمكن من خلاله تعريف الذات وبناء التحالفات. ثمة خداع للذات في عدم الإقرار ببشاعة واقعنا ومسؤوليتنا عنه، من هشاشة كياننا الوطني، إلى ضروب التوحُّش والتبعية التي أظهرتها القوى السورية المتحاربة، إلى خروج مصير بلدنا من أيدينا. وبالمقابل، ثمة سينيكية لا تُطاق في التقليل من نضالات وتضحيات ملايين السوريين، سواءً عبّرت عن نفسها في نضال سياسي أو كانت سعياً في سبيل ما هو «عادي» من حياة البشر. هزيمة التحليل تأتي من الإصرار على الركون إلى واحد من هذين القطبين دون الآخر، ومن الإصرار على أن هذين القطبين متناقضان كلياً وبنيوياً، طبعاً دون أن نقصد المكابرة على توتُّرات حتمية بين عناصرهما. لا أجوبة سهلة في الشأن السوري اليوم، ولو وجدنا الآن جواباً سهلاً على أي سؤال سوري، فإن سهولته ستكون صِنوَ خطئه على الأرجح. نحتاج إلى استكمال التحليل عبرَ أخذ هذين القطبين وتوتّراتهما وعناصرهما بعين الاعتبار. لهذا الاستكمال ضرورات أخلاقية، لا شك، ومعرفية أيضاً. وسياسية.

موقع الجمهورية

——————————–

تراث ثوري عربي؟/ ياسين الحاج صالح

أطاحت الانتفاضات الشعبية التي شهدتها تونس والقاهرة وطرابلس بداية سنة 2011 برؤساء مستبدين ومبغوضين. وكان وقع هذه الأحداث كبيرا في كامل المنطقة، من المغرب إلى عمان، ومن سوريا إلى العراق. ثم أتى زمن الجمود -وكان أقل الأضرار- والقمع المتوحش والحرب والأحزان. كانت هذه الشعوب تطمح للتغيير، لكنها ورثت في أغلب الأحيان وضعا أسوأ. في سلسلة من المقالات التي ننشرها بالتشارك مع شبكة الإعلام المستقل من العالم العربي التي يشكلها أوريان 21 مع مواقع الإعلامية العربية المستقلة، يقدم عدد من الصحفيين والمختصين من أبناء المنطقة تحاليلهم وخواطرهم حول ثورات الربيع العربي وتداعياتها.

التقليد قواعد قارّة ينضبط بها الفعل البشري، الثورة حدث تغييري لا يسير على نسق مقرّر. وبقدر ما أن «التقليد الثوري» مفهوم متناقض، فهو يجنح أيضاً إلى تصفية الحدث الذي هو الثورة وتأكيد نفسه هو، على ما نعلم من النموذج الشيوعي الذي يمثل تقليداً ثورياً صلباً، من شأن التفكير فيه أن يساعد في إلقاء الضوء على ثورات اليوم.

يشرط التقليد الشيوعي الثورة بشرط نظري (الماركسية) وعملي (الحرب الطبقية) وتنظيمي (حزب الطبقة العاملة)، إلى درجة سلب الثورة ذاتيتها وجعلها «عِلماً» أو برنامجاً مسبقاً، وليس علاقة متغيرة بين فاعلين وأوضاع معينة. القضاء على السوفييتات التي تمثلت فيها ذاتية الثورة الروسية وإبداعيتها جرى لمصلحة دكتاتورية البروليتاريا، والعلم الثوري انتهى إلى التشكيك في أية ثورات لا تشبه ثورته، ثم اعتبار الحكم الشيوعي «نهاية التاريخ». تُرجم هذا واقعياً في سحق الدبّابات لثورات قامت في بلدان تحكمها أحزاب شيوعية تابعة لموسكو، كما في المجر (1956) وتشكيوسلوفاكيا (1968)، الأمر الذي خلّف مفهوم «التانكيز» أو «الدبّابيّين» المعادين للثورات. تحول التقليد الشيوعي إلى تقليد مضادّ للثورة بعد أن تشكّلت الثورة في تقليد صلب: مذهب وقواعد عمل بعينها لا تتغير، مستغنية عن الحاجة لمعرفة أي شيء مهم عن البلدان المعنية.

ثورات ما بعد الشيوعية

الثورات العربية هي ثورات ما بعد شيوعية، جاءت بعد فقد الثقة في التقليد الشيوعي، دون أن تندرج في تقليد ثوري غيره. ليس لدينا والحق يقال تراكم ثوري حديث يُذكر، وما في ذاكرتنا من نزعات تمرُّدية يُحيل إلى الصراع ضد الاستعمار، وإلى سجلّ من النضال ضد الاستبداد لم يحقق اختراقاً فلم يشكل تقليداً. ومجمل ذلك يلقي ضوءاً كاشفاً على تعثّر ثوراتنا، وفي الوقت نفسه يُسبغ على الثورات صفة البدء والتجربة. لكن هل دخلنا الثورة بلا تنظيم من أي نوع، بلا أفكار أولى، في حدث انفجاري فوضوي كلياً؟ ليس تماماً، إلا إذا كان المقصود بالتنظيم حزباً من الطراز اللينيني، وبالفكرة مذهباً مثل الماركسية اللينينية. كانت هناك حركات احتجاج حتى في بلد مثل سوريا، وكان التغيير الديمقراطي الفكرة الموجِّهة لقطاع نشط من أوائل الثائرين، هم الذي سُحقوا قتلاً أو تغييباً أو نفياً. لقد بدت الثورة السورية في بداياتها تلاقحاً بين تجارب احتجاجية أعقبت ربيع دمشق، والذي جرى في حيزات خاصة منضبطة؛ وبين منهج الاحتجاج الذي أبدعه الربيع العربي، أي الاجتماع السلمي في فضاءات عامة متمرّدة. لكن كلاً من الأفكار السابقة للثورة والمنهج الاحتجاجي المستعار تبخّر على حرارة الحرب المفروضة، فكأن كل شيء بدأ عند حدث الثورة، الذي أخذ يبدو بِدءاً مُطلَقاً بلا قَبل.

ثوّار “من أجل” وثائرون “ضد”

بالتفاعل مع كتاب صدر مؤخراً لآصف بيات بعنوان Revolution Without Revolutionaries. Making Sense of the Arab Spring (Stanford University Press, 2017)، أميّز بين ثوّار من أجل، لديهم تقليد صلب، ويقلّدون ثورات نجحت بما يُحتمل أن يُلغي ذاتية ثورتهم؛ وبين ثائرين ضد، لا يستندون إلى أمثلة ناجحة سابقة، ويعرّفون أنفسهم بعدوّهم، فلا يكاد يبقى لهم أثر إن هُزمت الثورة. في سوريا لدينا ثائرون كثيرون وثوّار قلة.

لهذا كان الإسلاميون، والسلفيون أكثر من غيرهم، أكثر تأهيلاً للفوز في صراع من أجل البقاء في شروط حرب معمَّمة. كانت الثورة السورية مجرد بيئة انتشار للبنية السلفية الجهادية، التي تعيد نسخ نفسها حيثما استطاعت. يبدو التقليد السلفي الجهادي مثل ماركسية لينينية إسلامية، تشرط ثورتها بشرط نظري (السلفية) وعملي (الحرب الدينية) وتنظيمي (مجموعات المجاهدين المنضوين في حرب عصابات). هنا أيضاً تتكثف المعركة في تقليد حديث صلب ورموز حية، تسلب الحدث ذاتيته تماماً لمصلحة «العلم» السابق عليه، أي منهج السلف. هناك اختلاف معياري بين التقليد الشيوعي والتقليد الجهادي، وقد لعبت أجهزة المخابرات والاختناق الديني في أفغانستان دوراً تكوينياً في هذا الأخير، لكن الكلام على بنيات تنظيم واعتقاد وعنف متشابهة، «مناهج» و«تقاليد»، وهويات متصلبة محروسة بالولاء والبراء.

هناك تقليد ثوري عربي تشكَّل في العِقد المنقضي، وصدورنا عنه هو ما يشدُّنا إلى موجة الثورات الجديدة في لبنان والعراق والسودان والجزائر، فضلاً عن احتجاجات هونغ كونغ وفرنسا وغيرها. لكن الأصح الكلام على «تقليد ليّن» أو «تراث» ثوري نستأنس به. ويبدو أن الثورات الناجحة تُخلّف تقاليد صلبة يُقتدى بها ويُنسَج على منوالها، فيما تُخلّف الثورات الفاشلة تجارب وقصصاً وأمثلة تُستحضر في النقاش؛ دروساً يُنتفع بها وضروباً من الحذر.

سيرورات تعلم

لذلك ينبغي التدقيق فيما نعنيه بنجاح الثورات وفشلها، أو التفكير في أن الثورة ثورات كثيرة، بعضها ينجح وبعضها يفشل. ما فشل بخاصة هو التغيُّر السياسي الذي كان من شأنه أن يغيّر البيئة السياسية والنفسية في البلد، ويطلق ديناميكيات اجتماعية وسياسية مختلفة. بل إن في تعدد الثورة ما يدعو إلى التدقيق كذلك في نهاية الثورات.

الثورات سيرورات تعلم، وهي سلفاً حلقات في العملية المكوِّنة للتراث الثوري أو التقليد الثوري الليّن. لدينا منذ الآن ذاكرة ثورية، ولدينا دروس وعِبَر، ستكون زاداً مهماً في مقبلات الأيام. لكن لدينا أيضاً مما تحقق فعلاً ويُبنى عليه ما يتجاوز القصص والحكايات:

قبل كل شيء امتلاك الكلام، كسر واسع لاحتكار الكلام من قبل النظام وشركائه.

ومنه ثورة في الذاتيات، ظهور أفراد بعدد كبير، متحررات ومتحررين، يقرّرْن ويقرّرون مصائرهم. ومنه انتهاك تابوهات متّسِع ومعبَّر عنه فيما يتّصل بشؤون الدين والجنس والأدوار الاجتماعية، فضلاً عن تطبيع انتهاك تابو السلطة السياسية، وكان أقوى التابوهات ومصدر تغذية التابوهات الأخرى.

ومنه تجربة المنفى ذاتها، التي يمكن أن تكون منطلقاً لأفكار وحساسيات مغايرة. هناك ما انتهى في الثورة السورية قبل سنوات، ربما بعد نحو عامين من الثورة أو حتى أبكر، وهناك ما يستمر إلى اليوم. تُستأنف الثورة اليوم وفي الغد بقدر ما تتحقق ثورات أو نقلات مستمرة في مجالات فعل سوريين كثيرين.

——————————-

تأملات غير مكتملة في عشرية الثورة السورية/ عبد الباسط سيدا

قبل نحو عشرة أعوام، كنت في زيارة إلى أبوظبي، للمشاركة في حلقة من برنامج “حوار العرب” الذي كانت تبثه قناة العربية، خصصت وقتها لمناقشة مقدّمات استقلال جنوب السودان ونتائجه. وكانت آراء المشاركين بصورة عامة تركز على ضرورة التعامل بعقلية استيعابية مع القضايا المشابهة، والاستعداد للتعامل مع مطالب التغيير بصورة إيجابية لتجنّب الصدامات العنيفة. وبعد انتهاء تسجيل البرنامج، كان اللقاء مع إخوة وأخوات من الكرد السوريين المقيمين في الإمارات لتداول أبرز المستجدات، ومناقشة أهم التوقعات، وكانت الثورة التونسية قد بدأت، والأوضاع في مصر في طريقها نحو الانفجار، والجميع كان موزعاً بين التمنيات والهواجس.

وفي أثناء المناقشات، تدخل مدير الجلسة، ليعلن نبأ مغادرة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بلاده؛ فكانت فرحة عارمة، وتمنى الجميع أن نشهد في سورية وضعاً شبيهاً بذلك. ولكن الخوف على البلد وأهله كان هو الآخر مشروعاً في ذلك الحين، لمعرفتنا بالطبيعة المتوحشة للنظام، واستعداده لفعل أي شيء من أجل البقاء. ومع انطلاقة الثورة المصرية التي أرغمت الرئيس حسني مبارك على التنحّي، تصاعد مستوى التمنيات بانتقال عدوى الثورة، إذا صحّ التعبير، إلى سورية، وكان من الواضح، في ذلك الحين، أن الموضوع قد بات موضوع وقت ليس إلا.

ودائماً كنا نتحسّب لوحشية السلطة في سورية، وهي التي أعلنت قبل الثورة بسنوات موقفها من أي اعتراض على حكمها المستبد الفاسد، وكان الشعار التعبوي الذي جسّد موقفها هذا هو “الأسد أو نحرق البلد”، وكان يتفاخر به أتباعها وجوقة المنافقين من المستفيدين منها. ففي تونس، اتخذ الجيش موقفاً محايداً بعض الشيء من موضوع التغيير، وربما طالب بن علي بالخروج. ولم يكن الوضع في مصر بعيداً هو الآخر عن هذا المنحى. أما في سورية، فقد كان الجيش أداة قمعية متماهية مع الزمرة الحاكمة نفسها، وكذلك الأجهزة المخابراتية، بأسمائها المختلفة ووظائفها المتداخلة.

كانت الحالة السورية أقرب إلى الحالة الليبية؛ إلا أن الذي حصل في ليبيا أن تدخل المجتمع الدولي أنقذ الموقف، ومنع تفرّد نظام معمر القذافي بالليبيين، وارتكاب المجازر بحقهم. على الرغم من أن ذلك التدخل اكتفى بإسقاط النظام، ولكنه لم يقدّم المطلوب لمساعدة الليبيين للنهوض بمجتمعهم. ولم يكن ذلك المطلوب، في ذلك الحين، باهظ التكاليف بكل المقاييس، ولكن يبدو أن حسابات التنافس بين القوى الإقليمية والدولية قد حالت دون ذلك.

وبدأت الثورة في سورية لأسبابها الخاصة التي تمثلت في تراكمات عقودٍ من الاستبداد والفساد والإفساد، كما تمثلت في انسداد الآفاق أمام الجيل الشاب. وقد اتخذت الثورة، في بداية الأمر، شكل مظاهرات واعتصامات مدنية سلمية، شارك فيها الشباب بالدرجة الأولى، وكانت الفعاليات الاحتجاجية أشبه بمهرجانات احتفالية. وكان واضحا، منذ البداية أيضاً، أن النظام يدفع الأمور نحو فرض العسكرة على الثورة. مع أن المطالبات كانت في المراحل الأولى إصلاحية، تطالب بالتغيير ومعالجة الأمور بالإصلاحات، وهي مطالباتٌ دعت إليها وجوه من النظام نفسه، وأبدت استعدادها لمناقشتها، وحتى تلبيتها، شرط عدم الإخلال بموقع النظام نفسه.

ولعل ما حصل من مناقشات، وما كان من مطالباتٍ في اللقاء التشاوري في دمشق، في 10 يوليو/ تموز 2011، وأداره فاروق الشرع، يلقي ضوءاً في هذا الاتجاه. كما أن حزمة “الإصلاحات الهستيرية” التي أعلنت عنها بثينة شعبان، في بداية الثورة، كانت محاولة للالتفاف على المطالبات السلمية التي نادى بها الشباب السوري في جميع أنحاء سورية. وفي لقاء موسع مفتوح بين المثقفين السوريين والأتراك، نظمه منبر إسطنبول للحوار السياسي في أواخر شهر إبريل/ نيسان 2011، وذلك بعد مرور نحو شهر على انطلاقة الثورة، تقدّمتُ باقتراح علني، فحواه تشكيل مجلس مؤقت، مهمته قيادة عملية التغيير والإصلاح في سورية، إلى حين إجراء انتخابات حرّة نزيهة تسفر عن انتخاب برلمان (مجلس شعب) يعبر بالفعل عن إرادة السوريين الأحرار، وتشكيل حكومة، مهمتها تطبيق برنامج الإصلاح. واقترحت، في ذلك الحين، أن يكون بشار الأسد نفسه من يقود هذا المجلس، شرط أن يبدي الإرادة والقدرة على أداء هذه المهمة. ورغبة في طمأنة السوريين جميعاً، وتحاشياً لأي نزاع داخلي أهلي، اقترحت اسم الأستاذ الجامعي، عارف دليلة، من يقود المجلس المقترح، في حال عدم موافقة بشار.

وفي الداخل الوطني، أبدي السوريون باستمرار في لقاءاتهم مع المسؤولين، في بداية الثورة، رغبتهم في إصلاحات. ويشار هنا، على وجه التخصيص، إلى لقاء مواطنين من درعا مع بشار الأسد نفسه، بعد اعتقال أبنائهم وتعذيبهم. ولكن كان من الواضح أن السلطة، أو بكلام أدق، الزمرة اللامرئية المتحكمة بمفاصل القرار في الدولة السورية، كانت قد خططت لتصفية الحساب مع السوريين الثائرين في مواجهة استبدادها وفسادها. ولم يكن قرار هذه الزمرة بعيداً عن توجيهات (ومطالبات) النظام الإيراني الذي كان يخطط، منذ عقود، لتكون سورية نقطة ارتكاز في مشروعه الإقليمي. وإذا عدنا إلى الوراء بعض الشيء، نستطيع الربط بين جملة من الأحداث التي تلقي مزيدا من الأضواء على أهمية تحكّم النظام المذكور بالساحة السورية في سياق مشروعه التوسعي، فتفجير النزاع المذهبي المقيت في العراق كان بجهود مشتركة بين النظامين، الإيراني والسوري، وبحجّة مقاومة الاحتلال الأميركي. في حين أن ما جرى كان، في واقع الحال، حرباً مفتوحة على المدنيين العراقيين، لتأجيج المشاعر المذهبية، وفصل العرى الوطنية بين العراقيين، وفرض حالة استقطابٍ على السنة والشيعة منهم. وقد شكل النظام الإيراني الفصائل المذهبية الشيعية الخاصة به ودعمها، فيما جيّش النظام البعثي “العلماني” العرب السنة تحت مختلف الشعارات، وأشركهم في عملية الفوضى العارمة التي لم تترك للعراقيين الوطنيين الحريصين على مستقبل شعبهم وبلدهم أي فرصةٍ لالتقاط الأنفاس. ثم جاء اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، ليفسح المجال أمام الهيمنة المطلقة لحزب الله. ومع بروز ظهور بوادر إمكانية إصلاح نظام بشار من الداخل، عبر البحث عن بديل لبشار، تم اغتيال غازي كنعان الذي كان يعتبر خزّان الأسرار وتفاصيل الوضع اللبناني الدقيقة، وكان عارفاً بكل الجهود الإيرانية الخاصة بالتوسع والانتشار، سواء في سورية أم في لبنان، وحتى في العراق.

هذه المعطيات وكثير غيرها تُبين أن قرار الزمرة المعنية كان المواجهة المفتوحة مع الشعب السوري، فقد كانت تدرك أن أي تنازل، مهما كان ضئيلاً، سيكون بالنسبة لها مقدّمة للتهميش وفتح الحسابات معها. ويبدو أن قراءة تلك الزمرة، في قرارها الذي استند، بطبيعة الحال، إلى الخبرة والرعاية الإيرانية والروسية، أوصلتها إلى قناعةٍ بأن المجتمع الدولي لن يكون جادّاً في مواجهتها، خصوصا بعد التشاور مع الروس والإيرانيين. وإلا لم يكن في مقدورها ارتكاب كل الجرائم الكبيرة التي تصنّف جرائم حرب وضد الإنسانية، أمام مرأى العالم ومسمعه، ومن دون أن تحسِب أي حسابٍ لردود الأفعال الدولية.

ومنذ بدايات تشكيل المجلس الوطني السوري، كنا ندرك أن النظام قد اعتمد استراتيجية إبعاد جميع المكونات السورية، ما عدا المكون العربي السني، عن الثورة، ليبقى الأخير وحيداً في المواجهة، وتُنسب إليه تهمة الإرهاب، حتى تصبح عملية المواجهة العسكرية معه مغطّاة أمام الرأي العام السوري والدولي. وقد ارتكبت قيادة المجلس أخطاء في ذلك، ليست هذه السطور بصدد التفصيل فيها، وإنما يُكتفى بمجرد الإشارة إليها، إذ لم تتمكّن تلك القيادة، خصوصا في الأشهر الأولى من تأسيس المجلس في خضم الثورة، من طمأنة المكونات السورية المجتمعية جميعها. لم يتواصل معها كم ينبغي، وإنما كانت تراهن على قراءة متسرّعة خاطئة للأحداث، خلاصتها أن التغيير قادم، وأن المسألة مسألة وقت ليس إلا.

وعلى الرغم من محاولات المجلس العديدة توحيد صفوف الجيش الحر، إلا أنها لم تكن منظمة جديا كما ينبغي، ولذلك لم تكن مثمرة. وكان واضحا مع بروز الفصائل المسلحة الإسلاموية، مع اختلاف جرعة التشدد، أن خطة النظام قد نجحت، بل لقد أسهم النظام نفسه في ظهور بعض تلك الفصائل، بإطلاقه سراح عديدين من السجون، أصبحوا لاحقاً على رأس قيادتها، بل تمكّن النظام من زرع كثير من عناصره بين صفوفها، مستغلاً حالة الفوضى، وانعدام المعلومات المطلوبة لدى قيادة المجلس الوطني التي لم تكن تتابع بدقة ما كان يجري على الأرض، فقد كانت هناك حالة انفصال شبه كلية بين العمل السياسي والعسكري. كانت لدى قيادة المجلس علاقة معقولة مع الجيش الحر، ومن ثم المجالس العسكرية في البداية. ومع الوقت، تمكّنت الفصائل الإسلاموية من تجاوز الجميع، وفرضت نفسها. ولم تكن في حاجةٍ إلى المجلس أصلا، لأنها كانت تحصل على السلاح من غرفتي موم وموك. وعلى المال من الجهات الممولة غير السورية. وأصبحت، في واقع الحال، حالة منفصلة، لا سلطة للمجلس، ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، عليها، بل أصبحت أداة للضغط وفرض المواقف، خصوصا في مرحلة “الائتلاف”. ثم جاء مسار أستانا، لتتبين مدة هشاشة الفصائل، وخضوعها شبه التام لأوامر الممولين والداعمين وتعليماتهم، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه.

عوامل كثيرة أدّت إلى الانتكاسات التي تعرّضت لها ثورة السوريين، إقليمية ودولية، وداخلية أيضا في مقدمتها الفوضى العارمة في العمل العسكري، وعدم خضوع القرار العسكري للقرار السياسي، وهذا مردّه إلى عدم وجود أحزاب وطنية سورية قوية، كان من شأنها أن تقود العمل السياسي، والعسكري إذا ما لزم الأمر، بما يخدم مصلحة السوريين، لا بما يتناسب مع مصالح الدولة التي اتخذت، وما زالت تتخذ، من الواقع السوري أداة لإدارة خلافاتها، وتسجيل مزيد من النقاط، استعداداً لتفاهمات وتوافقات لن تأخذ تطلعات السوريين وتضحياتهم بعين الاعتبار، ما لم يأخذ السوريون العبرة مما كان، ويعيدون ترتيب صفوفهم عبر التركيز على المشتركات التي تجمع بينهم، وهي أكثر بكثير من النقاط الخلافية، وهو ما لن يكون من دون طمأنة جميع السوريين.

ما يحتاج إليه السوريون قيادة وطنية متماسكة، حريصة عليهم جميعهم، تبحث عن بدائل واقعية ممكنة تعطيهم الأمل بأن الخروج من النفق المظلم ممكن، طالما أن المستقبل الزاهر للأجيال السورية المقبلة هو الهدف.

العربي الجديد

————————-

هل انتهت الثورة السورية؟/ مهنا الحبيل

كانت الرايات التي تخفق بعلم الثورة السورية، في ذكراها العاشرة، في قلوب شعبها حاشدة المعنى، محتقنة الدمع حيناً، غاضبة المشاعر والأنين، أمام ذلك التاريخ الذي اختطته الثورة، حيث لا يُمكن لأي إنسان، فضلاً عن عربي، أن يتجاهل ذلك المحفل الاستشهادي والنضالي، ومخزون التضحية الذي لم يتكرّر منذ ثورة المليون شهيد في الجزائر. وهناك لوحة مشرقة دوماً في روح العزيمة الضافية التي تجدها بين فرقاء الثورة أو اتجاهاتها، ويا له من وصف قاسٍ حين نقول فرقاء الثورة، فقصة هذه الفرقة هي بوابة الأسى الكبير، ومدخل الألم الوجداني العنيف، وبالذات حين تُستحضرُ مساهمة هذه الفرقة في زيادة المآسي، وفي تغريبة سورية الكبرى. حيث بات الشعب موزعا بين جغرافيا العالم الغربي والوطن العربي الذي لم يقم بحقوق الأخوّة في الغوث، فضلاً عن الدعم، وبين الهجرة المستمرة، على الأقل في حسابات رعاة الصفقة لتصفية الثورة السورية، حيث ستظل كتلة اللجوء الأكبر مضطرّة للبقاء في تركيا، على الرغم من كل الظروف المحيطة والتعصّب العنصري.

أين الجواب في السؤال الأول الذي أهملته الثورة، في بداية عسكرة الميدان، ثم انفجر مجدّداً، في رحلة المعذّبين السوريين في الأرض: من المسؤول عن عدم تأمين اللاجئين قبل ازدحام السلاح وتوظيفه؟ وهو سؤال يُبنى على سؤال آخر: هل كانت جريمة حلفاء الثورة هي الفاعل في تمزيقها ميدانياً وسياسياً، أم أن هشاشة الثورة وخواصرها الليّنة هي ما هيأ لأولئك الحلفاء الأعداء أن يفتتوها، قبل أن يَحسم الإرهاب الروسي والإيراني معركة الميدان؟ فلنفترض اليوم أن الحلفاء هم المسؤولون عن تمزيق الثورة، ما هو دور توجهات الثورة في العهد الجديد للوقاية، وهل بقيَ للثورة ما يجمع شتاتها اليوم؟ على الرغم من كل هذه المآسي ومهرجان المعاناة، يحتفظ الشعب السوري، في الشتات وفي مخيمات اللجوء، بزخم كبير للتمسك بالثورة، على الرغم من الإحباطات منذ عسكرة الثورة، والظن البسيط لقدرة نجاحها في أول عام، ثم ترحيل أمل النصر كل ستة أشهر، حتى أُنهك الناس وصُبّت عليهم عذاباتٌ لا تنقطع، وكأن الشعب يُعاقب مما يسمى المجتمع الدولي، الشريك في ذبحه بالمدية أو البرميل، أو بالسياسة القاتلة التي حبكتها المؤامرة على الثورة.

كل ذلك التوثيق التاريخي لشركاء الجريمة لن يُغيّر شيئاً في المستقبل، فالسؤال هنا: كيف يُصنع ميدان الثورة من جديد، وما هو هذا الميدان، وعلى كثرة الأنشطة قبل وبعد أن هيمن اتفاق سوتشي، على الوضع السياسي للثورة؟ لم أرصد في هذه الأنشطة التمهيد لعمل مؤتمر وطني جامع، تسبقه حلقات نقاش حوارية، فلا يُمكن للثورة أن تعود، من دون فرز الأخطاء وعناصر الفشل والتوظيف. أي أن الثورة، بوصفها تقييما عقليا مطلقا، لا يُمكن أن تقوم على رجليها، وأفكار هدمها الأول وعناصر المسؤولية في اختراقها قائمة، وهو ما يستدعي حواراً صريحاً وتصفية سياسية أخلاقية واقعية، لكل ما ساهم في رسم الهيكل المزعوم الخاطئ الذي من خلاله خُدع شعب الثورة، وقد كان مصير هذا الهيكل أن يُعاد توظيفه وتبريره.

ولست هنا في مقام القيام بدور الجيل الجديد للثورة السورية ولا مناضليها الصادقين، ولا المقاتلين الذين حملوا السلاح للدفاع عن شعبهم، فاستشهد رفاقهم، وكانوا يرجون أن هذا الدفاع مقدّمة لنصر عسكري، لصالح ميلاد حرية مدنية للشعب السوري، ولكن بندقيتهم اختُطفت، إما بنزعها وإضعاف رفاق الثورة المخلصين لله والشعب، أو من خلال جهل هذا المقاتل الذي فتح باب توظيف قاتل خطير، فتحوّل الثغر الذي كان يرجو حمايته إلى ثغرةٍ لإسقاط الثورة. ولكن الرؤية واضحة اليوم، أن الثورة تحتاج كيانا جمعيا وطنيا، لم يستطع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية تحقيقه، ولا يوجد في جلسات الحوار الدولي اليوم ما يمكن أن يُسفر عن ترتيباتٍ نوعيةٍ لصالح شعب الثورة، حتى في ضمانات اللاجئين. فهل انسحاب “الائتلاف” الذي لا يطعن الكاتب هنا في نيات شخصياته، عن حوارات الحلفاء وموسكو والغرب، قد يضّر أكثر بقضية اللاجئين؟ لا أستطيعُ الجزم، لكن الحديث هنا هو عن ضرورة قيام كيانٍ بديل، أو إعادة صياغة هيكل “الائتلاف” بطريقة تضمن قدرة الجماعة الثورية الوطنية، من داخله وخارجه، صناعة مدرج العودة الجديد. وهي عودة صعبة، تحتاجُ إلى شجاعة لإيجاد فكرة حلف الفضول، بين أطياف الشعب السوري، وتياراته العلمانية والإسلامية تعود لتصحيح القاعدة التي انطلق منها الصراع: ما هي العقيدة النضالية والقتالية للثورة السورية، بيت أيديولوجي ديني، أو علماني راديكالي، أم دولة مدنية حرّة؟ تتنافس فيها الأفكار عبر برامجها لتحقيق طموح الشعب، لا الرقص على جراحه باسم الانتصار للأيديولوجية، ومن يوظفها لتياره، لا للشعب.

هذا المفصل الضخم الذي راقبتُ أزمة صراعه في كل علاقتي الممتدة مع القلم لدعم الثورة، ومع كتل متعدّدة وشخصيات من أطياف الثورة، لا يزال يعاني من فراغ مضمون وفراغ إدارة، فالثورة تحتاج، مع تجميع كفاح الشباب الصادق المخلص لها، إلى طاولة حوار تسبق مؤتمراً وطنياً جمعياً. ليس لإيجاد كيان إضافي، وإنما لإقامة خيمة ثابتة العمود قائمة بين أطياف الشعب، تُحدد المستعجل اليوم، في رحلة تأمين ما تبقّى من مصالح شعب الثورة، وتبني دستورَها الجديد وميثاقها، لعمل حاشد مدني سياسي، بعد أن فقدت البندقية أي مساحة استقلال نوعي.

وحتى السلاح، كان ممكنا أن يُحقق بعض التوازن، لو استخدم في دائرة حماية محدّدة، لكنه ضُخّم لصالح الحلفاء، فانقلب إلى مدخل جهنمي على الشعب، بدلاً من حمايته. نعم، لشهداء البندقية الصادقين حقهم، ومن حقهم أن يؤمن أهلوهم بمشروع حرية، تبني لأطفالهم صرح نهضة إنسانيةٍ لا محطة لجوء بين المواسم الحربية. حينها تنضج معالم الثورة من جديد، ليبصر الشعب بوابة الأمل السعيد.

العربي الجديد

—————————–

بعد عشر سنوات من الثورة ماذا بقي للسوريين من أمل؟/ وسام الدين العكلة

أكملت الثورة السورية عقدها الأول في ظل متغيرات وتطورات دولية وإقليمية ومحلية حساسة من المتوقع أن ترخي بتداعياتها على مسيرتها خلال المرحلة المقبلة، من هذه التطورات وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض لم تتضح استراتيجيتها حتى الآن تجاه قضايا المنطقة، إلى جانب توترات وملفات ساخنة تشهدها منطقة الشرق الأوسط التي تعيش على صفيح ساخن. وعلى المستوى الداخلي فشلت جميع الجهود في التوصل إلى تسوية سياسية دائمة، بما في ذلك صياغة دستور جديد للبلاد، وإعداد النظام لانتخابات رئاسية جديدة وسط صمت رهيب من المجتمع الدولي.

عشر سنوات انقضت، مرَّ فيها قطار الثورة الغرّاء بمحطات كثيرة كانت مليئة بالهموم والآلام والقتل والتشريد والنزوح، لكنها لم تمنع لحظات الأمل بالخلاص من الطغيان والدكتاتورية بالتسلل إلى نفوس السوريين رغم الجراح المثخنة التي خلفتها الحرب الشعواء التي قادها بشار الأسد وحلفاؤه ضدهم منذ عام 2011. عشر سنوات أثبتت السنة تلو الأخرى أن هذا النظام بكل جبروته وآلته القمعية لا يمكن إلا أن يسقط ولو بعد حين، وعلى الثورة السورية أن تجدد دماءها وروحها من جديد في نفوس السوريين، وأن تثبت للعالم أجمع نبل أهدافها وغاياتها، وتكشف زيف الادعاءات التي حاولت النيل منها أو تشويهها.

يُحيي السوريون هذه الأيام الذكرى السنوية العاشرة لانطلاقة الثورة، حيث تصدرت عبارة “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة” وسائل التواصل الاجتماعي، وتعكس هذه العبارة التي خطتها المخرجة والناشطة السورية وعد الخطيب، صاحبة فيلم “من أجل سما” الذي فاز بجائزة الأكاديمية البريطانية لفنون الأفلام والتلفزيون كأفضل فيلم وثائقي، ملحمة شعب مقهور قاد ثورة استثنائية بكل المقاييس. ويشعر من يتابع هذه الحملة بكل ثقة أن الشعب السوري رغم كل ما واجهه ما يزال مُصرّاً على السير في طريق الكفاح المثقل بالكثير من التحديات للوصول إلى الحرية والكرامة وبناء دولته الحديثة الخالية من كل مظاهر التخلف والرجعية والاستبداد، وهو خيار لا رجعة فيه بعد سيل التضحيات التي قدمها، طريق لا بد من السير فيه إلى النهاية، وإلا فإن الانتكاسة تعني عشرات السنوات الأخرى من التوريث لآل الأسد ونهب ثروات البلاد وحكم العباد بالحديد والنار.

هذا الإصرار الشعبي الكبير على المضي في طريق مقاومة الظلم والاضطهاد هو من يغذي سيرورة الثورة وعنفوانها والحفاظ على مبادئها وقيمها النابعة من وجدان الشعب وضميره، وهو من يُقَوِّم أيضاً أداء المؤسسات والشخصيات التي تدعي تمثيلها لها، لذلك أجبرت القاعدة الشعبية للثورة تلك المؤسسات عدة مرات على التراجع عن بعض القرارات التي اتخذتها دون مراعاة رأي الشارع السوري ومصلحته الحقيقية، وهذا يؤكد أن الثورة هي نتاج عمل تراكمي كامن امتد لسنوات ولا علاقة لأحزاب المعارضة فيه، بل على العكس تماماً فهذه الأحزاب والشخصيات المعارضة باتت عبئاً على الثورة وهي من ساهمت في حرفها عن المسار الصحيح، الأمر الذي يستدعي من الثورة إصلاح ذاتها من الداخل وتصحيح مسارها أولاً قبل المضي في طريقها، من خلال التخلص من هذه المؤسسات والشخصيات واستبدالها بمؤسسات ثورية قادرة على قيادة المرحلة الحساسة التي وصلت إليها، وقد يكون هذا هو التحدي الأكبر الذي تواجهه الثورة خلال الفترة المقبلة.

على المستوى الدولي، تبدلت العديد من المواقف بين مؤيد أو محايد أو داعم للثورة أو للنظام، كما تراجع زخم الاهتمام بما يجري في سوريا، ولم تعد القضية السورية ضمن العناوين الرئيسة لوسائل الإعلام العالمية، لكن أثبتت السنوات السابقة أن حلفاء النظام كانوا أكثر ثباتاً في تقديم العون السياسي والعسكري والإعلامي لعميلهم في دمشق على كل المستويات، في حين تراجعت العديد من الدول عن دعمها للثوار بذرائع كثيرة لا مجال لذكرها هنا، كما أكدت الوقائع أن النظام كان الأقدر على التلاعب بالأوراق لتشويه صورة الثورة وتخويف داعميها خاصة ورقة الإرهاب والجماعات المتشددة التي استخدمها بخبث شديد لجلب انتباه الفاعلين الدوليين إلى جانبه. كما أثبت الواقع العملي أيضاً أن المجتمع الدولي لا يكترث كثيراً للقيم ومبادئ حقوق الإنسان التي يُنظّر لها، وأن هذه القيم والمبادئ تختفي عندما تتقاطع مع مصالح الدول، وأبرز مثال على ذلك إفلات بشار الأسد وعصابته من العقاب بسبب استخدامه الأسلحة الكيميائية، وجرائمه الأخرى التي تنتهك جميع الأعراف والمواثيق والقواعد الراسخة في القانون الدولي.

على المستوى الإنساني والاجتماعي هجَّر النظام أكثر من نصف سكان سوريا إلى الدول المجاورة والمخيمات وأصقاع العالم كله، ومن بقي لا يزال يصارع في طوابير للحصول على ربطة خبز أو بضع ليترات من المحروقات، ولا يزال يقبع في سجون النظام ومعتقلاته السرية آلاف من المعتقلين والمغيبين قسرياً قضى قسم كبير منهم تحت التعذيب بأشكاله المختلفة، في حين قلب تدفق اللاجئين إلى أوروبا العديد من سياسات الدول وساهم في صعود الأحزاب اليمينية المناهضة للمهاجرين وكشف عن الوجه الحقيقي لحكومات هذه الدول التي تتشدق بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، كما قوضت الانتهاكات التي تعرض لها السوريون صدقيَّة العديد من المؤسسات والمنظمات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية.

” بعنوان “ثمن باهظ للغاية: كلفة الصراع على أطفال سوريا” نتائج صادمة عن الخسائر البشرية للحرب التي شنها النظام على الشعب السوري، وأشار التقرير إلى أن جيلاً كاملاً قد ضاع في هذا الصراع، والأطفال سيتحمّلون الكلفة من خلال فقدان التعليم والصحة. ولفت التقرير إلى أن “الصراع في سوريا يعدّ من أكثر النزاعات الدموية بالنسبة للأطفال والأكثر تدميراً، حيث يقلل من متوسط العمر المتوقع للأطفال بمقدار 13 عاماً. وأشارت إحصائيات أوردها التقرير إلى مقتل أكثر من 55 ألف طفل، في حين أجبرت الحرب ما يقرب من 12 مليون شخص على ترك منازلهم، أو النزوح داخل بلادهم أو عبر الحدود.

وعلى الجانب الاقتصادي، ما يزال الاقتصاد السوري يشهد انهياراً دراماتيكياً وصراعاً على النفوذ والسطو على ممتلكات وثروات البلد بين تجار الحرب الذين يديرهم النظام من خلف الكواليس. وفي هذا الصدد قال التقرير أعلاه إن الكلفة الاقتصادية للنزاع في سوريا بعد 10 سنوات تقدّر بأكثر من 1.2 تريليون دولار أميركي، وأضاف: “حتى إذا انتهت الحرب اليوم، فستستمر كلفتها في التراكم لتصل إلى 1.7 تريليون دولار إضافي بقيمة العملة اليوم وحتى عام 2035”. وشدّد التقرير على أن “السلام المصحوب بحل سياسي شامل وتمثيلي للأزمة هو السبيل الوحيد لتجنب مزيد من التكاليف الاقتصادية والبشرية. ودون تحقيق ذلك، سيستمر الأطفال السوريون في دفع ثمن فشل الكبار”.

لقد عاش السوريون عشر سنوات من التدمير والتهجير والترويع وضحّوا ودفعوا ثمناً باهظاً لمطالبهم المشروعة، تحوّل حلمهم إلى كابوس ونفق طويل مظلم يجب عليهم السير فيه حتى بلوغ مبتغاهم، وإلى ذلك الحين تبقى الثورة السورية شعلة مضيئة، ونبراساً يهتدي إليه الباحثون عن العدالة والرفعة والكرامة والعزة وإحقاق الحقوق.

تلفزيون سوريا

———————————

ربيع سوريا الدائم/ نزار السهلي

منذ تبلور ثورة السوريين في آذار 2011، تبلورت معها خطط التآمر بأشكال مختلفة، أفضت إلى شن حرب الإبادة الجماعية على الشعب السوري، مارس فيها نظام الأسد وحلفاؤه معظم الأشكال والوسائل الجرمية، وتسلح بعصابات محلية ومستوردة من خارج الحدود، استند فيهما إلى نفاق دولي وعربي فاضح، كان التحدي الأبرز للسوريين في مواجهة النظام وحلفائه وقاعدته الدولية المبنية على قوى الاحتلال المختلفة على الأرض السورية، من أبرز التحديات التي واجهها السوريون منذ استقلال سوريا العام 1946.

ربما لا نبالغ إذا قلنا إن معظم المفاهيم والمصطلحات المرتبطة بالحرية والكرامة والمواطنة، قد تطورت لحدود نسفها من ذهنية الإنسان العربي التي كانت محصورة في أدبيات وشعارات النظام السوري والنظام العربي الذي وجد “رعب” الانتقال من دائرة الشعار للتمرد عليه وممارسته، خطراً يزعزع أنظمة قريبة وبعيدة عن جغرافية السوريين.

على الرغم من إخفاق السوريين في إسقاط الأسد، ووقف همجيته المستمرة منذ عشرة أعوام، فإن تضحياتهم ستتبلور عاجلاً أم آجلاً، هذا منطق التاريخ والأشياء، خواتيمها حطمت الأبدية وصورة “القائد الآلهة”، وما امتزاج الشعور بالخيبة والإذلال، ومرارة التهجير والتشريد والقمع التي رافقت الثورة السورية، إلا دليل على حتمية تجددها والنهوض من كبوتها، ولتعاظم الأسباب وتراكمها عما كانت عليه قبل العام 2011، مع سقوط طغيان الشعار السياسي المنحدر على ترهيب المجتمع والعمل الكلي لتغييب ما هو متعلق بالكرامة والمواطنة والحرية، أصبحت عوامل النهوض أكبر بكثير مما يتوهم البعض، المتلمس خجل وإرباك قوى ونخب قطعت الربط بين ما كان عليه السوريون وما باتوا إليه وما نتج بالأصل من سلوك الطاغية من أثر على الجغرافيا والديمغرافيا والاقتصاد والسياسة والسيادة المتعلقة بسوريا، آثار تدل على تعاظم الحاجة الماسة للسوريين للتحرر من نظام العصابة وفكرها وسلوكها الإجرامي

في سوريا تفاصيل كثيرة، غني عن شرح كل منها، لكن، اليوم هناك محفزُ أعلى بملايين المرات لاندلاع ثورة شعبية عارمة مقارنة مع ما كان عليه الوضع  قبل 2011، ولعل التجربة السورية في دروسها الضخمة الأثمان، تطرح في أكثر من تجربة، وعلى أكثر من صعيد بعد أعوام من النضال والتضحيات، فمن غادر الربط بين دروس ما قبل اندلاع الثورة وبعدها، سيفشل حتما في قراءة النتائج، وسيفشل في تكريس مفاهيم أنانية بالمعنى الوطني أو الحيز الجغرافي لأنها انتهت بطبيعة الحال لعقد صفقات تنحصر بوجود ووظيفة النظام القائم، هنا مكمن الخطر الداهم لنظام ذي أدوات تنفيذية متقدمة في خدمة قوى الاحتلال الروسي والإسرائيلي والإيراني، وصل لدرجة من العشوائية الوقحة بالتعبير عن ذاته، وهنا مكمن التفاؤل التاريخي الذي يلازم ويحتضن مسيرة الثورة السورية في ذكراها العاشرة.

في الذكرى العاشرة للثورة السورية، يمكننا أن نجزم، وإن كان التحليل التاريخي لا يسمح بالجزم القاطع، أن نظام الأسد بسيطرته المدمرة على الجغرافية السورية، أصبح في بداية التقهقر والتراجع ، في حين أن الثورة السوريين خطت لها حيز تحقيق الانتصار، هذا لا يعني أن النظام وقوى الاحتلال الداعمة لبطشه لم تحقق بدورها بعض “الإنجازات” التي تبطئ وتعرقل سرعة التقهقر، وهذا لا يعني أن الثورة السورية ستكون بمنأى عن الانتكاسات المرحلية والطارئة، لكن ما تم حتى الآن هو أن التآكل الفكري والفلسفي والاقتصادي والسياسي والعسكري، بدأ ينهش جوهر النظام، بينما نضوج فكرة الحرية والمواطنة والكرامة آخذة بالتكامل، وهما ما يميزان صورة الشعب السوري وثورته.

أخيرا، يمكن التأكيد، أن الشعب السوري، صار من حيث مصيره، بمنأى عن خطر عودته لقمقم الرعب والخوف، في حين دخل نظام الأسد طور التشكيك بشرعيته، وهو الطور الذي تتم تغطيته آنياً بتلميع روسي وإيراني وإسرائيلي ودعوات عربية لعودته لحظيرة جامعة عربية فاقدة لأهليتها، دعوات من شأنها تكثيف الغشاوة على بصيرة من يدعي حرصه على الشعب السوري وسيادته، لكن كل ما سبق لن يمنع ربيع سوريا من إنتاج زهور حرية بذرها الشعب السوري في عمق أرضه وتاريخه المعاصر.

——————————-

دفاعاً عن التفاجؤ واحتفاء بالمفاجئ

تنسيقية ألفينوإيدعش من أجل الحرية

يستحي كثيرون بيننا، أكثرنا، من عدم توقعنا لأشياء كثيرة، من تفاجئنا الشديد بما لا يحصى من أشياء وقعت في مسار الصراع السوري منذ بداية الثورة إلى اليوم، ما يقترب من 3000 يوم. نستحي لأننا نفترض أن التفاجؤ علامة جهل، سذاجة، قلة تجربة، نقص عقلانية، وعي إيديولوجي أو تفكير غير علمي. لكن يجدر بنا إن شئنا الصدق مع النفس والأمانة حيال الواقع أن نعتبر أن عدم تفاجؤ أي كان هو المفاجئ في واقع الأمر. فعدا أن الثورات هي خروج جمعي هائل على الواقع والمتوقع المُعتاد، وعدا أنها تُدخِل في ميدان السياسة والصراع الاجتماعي أعداداً مليونية من الناس الذين يريدون إسماع أصواتهم غير المتطابقة بطبيعة الحال، بما يجعل التقدير والتوقع الرشيد أمراً أشد مشقة بما لا يقاس، وعدا أنه في عالم اليوم وفي منطقتنا الشرق أوسطية المدولة بعمق يتكاثر المتدخلون حيثما تخلخل وضع قائم، عدا ذلك كله وقع خلال ما يقترب من 100 شهر من الحوادث ما يذهل ويُحيّر إلى أقصى حد، وما حطم قدرة عتادنا الفكري الموروث على التسمية والتحليل، فضلاً عن انفلات الحدث من قدرة أية أطر تنظيمية موروثة على التحكم والضبط والتأثير. مفهوم الحدث بحد ذاته يدلّ على ما يستجد، ما يخرج عن نسق سابق، ما هو جديدٌ ونافرٌ عن تقليد قارّ.

نجد مُفاجئاً لذلك أن نسمع من بعض أساتذتنا أو نقرأ كتابات لهم تقول إنهم توقعوا ما يجري، أو كانوا متأكدين من حدوث ما حدث، أو أن نسمع من نظراء لنا أنهم كانوا يعرفون دوماً المسلك الصحيح في 100 منعطف حاد مر به صراعنا العجيب، أو أنهم قالوا لنا ماذا كان يجب أن نفعل، وأننا وقعنا هذه الوقعة الرهيبة لأننا لم نسمع ما قالوه. ويُنسب إلى من يفترض أن يكونوا العاقلين بيننا ملكة استباق تتيح لهم فيما يبدو أن يعرفوا ما سيجري قبل أن يجري، والغرض هو إنكار العقل علينا وعلى أشباهنا لمصلحة عاقلين يبدو أنهم كانوا يعرفون طوال الوقت ما يقع وما قد يقع، فينجون من أسوأ عواقبه. 

كان بودنا أن ننجو كذلك لو حبتنا المقادير بملكة الاستباق العظيمة هذه. ذلك أن عواقب افتقارنا لهذه الملكة المقدرة لم تقتصر على أننا لم نتوقع أشياء كثيرة، بل تعدتها إلى أذيات رهيبة حطمت حياة بعضنا وأودت بحياة مئات الألوف ممن كان يودّ كل واحد منهنّ ومنهم لو يتوقع قبل دقائق فحسب، بل قبل ثوان أحياناً، وليس قبل التاريخ كله، ما سيجري لها أو له من اعتقال أو موت بالبراميل أو الكيماوي، أو يفضل لو تقدر هي أو يقدر هو ما سيجري بعد أيام أو أسابيع؛ إذن لتجنب بعض أسوئه، إن لم يكن لتجنبه كله. لنا أحباب وأخوة وأصدقاء، كم كنا نودّ لو أنه كانت هناك ملكة عقلية أو كان هناك علم يساعدنا على التنبؤ بما كان يُحتمَل أن يجري لهم ولنا. غير المتوقع والمفاجئ لم يكن بالنسبة لنا شأناً تحليلياً، بل هو بالضبط قصة حياة أو موت، وليت إخواننا وأساتذتنا الذين لا يفاجئهم شيء تكرموا وأسعفونا، أو يسعفوننا اليوم، أو سيسعفوننا غداً، لتجنب نوازل ودواهم ما زلنا نخشى منها، فيما لا يزال علم الاستباق عصياً علينا.

يقول أحد أساتذة أساتذتنا إن الإيدولوجي هو الذي لا يفاجئه شيء (لويس ألتوسير)، ويبدو أن هذا الضبط عكس ما يتم تلقيننا إياه من الموبخية العامة لخاتمي العلم، هذه التي لا ينافس خطاب توبيخ الغير في مراتبها غير خطاب التهنئة الذاتية. هم خطأ، نحن صح! تشرفنا بالتعرف على أنفسنا! أنفسنا أيضاً تتشرف بالتعرف علينا! نحن وأنفسنا متشرفون بأننا لسنا مثلهم! غافلون، مُضلَّلون، يستحقون ما يجري لهم!

صديقنا ألتوسير نفسه، في أرشيف لم يُفرَج عنه إلا حديثاً، وفي سياق ترجمة نقدية لكتاباته إلى الألمانية، يقول متحدثاً على خنقه لزوجته، إن العارض في ذلك الحدث، حدث القتل، أنه ربما كانت إرادة زوجته منذ زمن بأن تموت. حتى ألتوسير الذي كان ينظّر لمفهوم العارض الذي يصبح تاريخاً خشي أن يكمل مفاجأته بالعارض، فحملّه إرادة. العارض مخيف. ولعل الخوف منه هو ما يحمل بعض أستاذتنا وأصحابنا على حذف المفاجئ، أي الحدث، أولاً بأول، مسلمين رقبته، الحدث، لمخطط عام سابق لا يكف عن قطعها. أستاذ آخر لأساتذتنا، عبدالله العروي، يقول إن الحذف المستمر للحدث هو آلية تشكل السنّة، يعني التقليد.   

نحن، الغاضبون من أنفسنا ومن العالم متفاجئون! تفاجأنا ونتفاجأ بأشياء كثيرة، ونحاول أن نستوعب بمشقة ما جرى ويجري. يُخيَّل لنا أن ما جرى كبير ورهيب، لم يكن مدوناً في أي عقل قبل حدوثه، لا في عقل إلهي ولا بشري. لو أمكن لنا أن نؤمن بأن ما حدث كان هناك في عقل ما، لكان لزاماً علينا أن نحاول أن نتطابق مع هذا العقل، أن يكون وعينا مطابقاً كما كان يقول بعض أساتذتنا، وأن نُلام على فشلنا في ذلك. لكن يبدو أننا نُجازَى على كفرنا، عدم إيماننا بأن ألوهةً ما، اسمها الله أو الشيطان أو العلم أو قوانين التاريخ أو الإمبريالية، كانت تدري بما يحدث، في أساسياته على الأقل، إن لم يكن في كل حذفور من حذافيره الكثيرة.

بيد أننا غير مكتفين بالغضب. نعمل على أن نستوعب ما جرى، أن «نتنبأ» بما مضى. ونعترف أننا نجد التنبؤ بالماضي والإنباء عنه شاقاً كل المشقة، هذا لأننا لا نزال نجد صعوبة في تصديق أن ما وقع فعلاً قد وقع فعلاً، ولأنه حتى حين ننجح في النهاية في تصديق أن ما لا يُصدق قد وقع يستعصي علينا توفير شرح وتفسير وافيان له. لكننا في هذا الاشتباك مع أنفسنا ومع الواقع نتعلم، نتغير، نقر بـ «ذاتية» الحدث العظيم ونحاول الحديث عنه والتحدث بأثره. وأن نتحرر. لنا صديق من الكاميرون، أجوم وينغو، يرى أن الحرَّ من الأشخاص هو صانع ما يُفاجِئ. لكن أليس هذا بالضبط هو الإبداع؟ الحرّ هو من يُبدِع،  من يحدث على غير مثال سبق. وهو فيما نتصور من يقاوم عدم التفاجؤ والاندهاش بأشياء العالم. وإننا لنرتاح إلى حقيقة أن السلفيين، بالمصطلح المستقر للكلمة، يعرّفون أنفسهم برفض الإبداع، أو ما يسمونه البدعة، وبالانحياز للتقليد، أو «السنّة». ولا نرى إلا أن السلفيين، بالدلالة العامة للفظ، يرون رأي سلفيينا الدينيين. يشهد على ذلك أنه لم يفاجئهُم شيء، أنهم: «ألم يقولوا لنا»، وأن لديهم ملكة استباق أتاحت لهم من الحكمة بعد وقوع الواقعة ما يفضلون نسبته إلى أنفسهم قبل وقوعها، أو في بلاغة أخرى لديهم بوصلة تعصم من الضلال وتشير دوماً إلى الاتجاه الصحيح للتاريخ. ويصادف أن الاتجاه الصحيح هو الشمال، وإن لم يكن مغناطيسياً: شمال كوكبي رأسمالي متحضر وحداثي و«عقلاني» و«إنساني»، أو شمال ماضوي سوفييتي تُرى روسيا بوتين وريثته الشرعية رغم كل شيء. القوي صح، هذا ما تقوله البوصلة شخصياً!

نحن نريد أن نأخذ من الحدثية طاقتها على الإحداث، مفاجئيتها. لا ننكر على من لا يفاجئهم شيء أن هذا نموذج ممكن للإنسان، بل وأن هذا النموذج ناج من المأساوي حتى حين تدهمه المصائب وتسحقه سحقاً، لكننا نريد الحرية رغم المأساوي، لا نريد أن ننجو منها. كنا نفضّل ألف مرة لو لم نُسحق هذا السحق، لكن السحق ذاته لا يدفعنا إلى الحنين إلى أي علم كلّي أو أبوة حائزة عليه. شببنا عن الطوق، يا للحسرة!

بل إن بعضنا يخشى أشد الخشية أن يكف عن التفاجؤ، أن يفقد التفاجؤ المشحوذ كما يفقد قلم رصاص «بوزته». بعضنا هؤلاء يرعون تفاجأهم بإرادة ورغبة، كمستشعر لصحة نفسية وأخلاقية وأحياناً لا ينجحون تماماً، تنكسر «بوزتهم» مع اللامتفاجئين. ورعاية الدهشة، للمهتمين، تتطلب جهداً وعملاً: ألا تطبّع الفظيع، ألا تجعل من التحديق به استبداناً له، أن تقاوم حرص النظام، الأنظمة، على أن تتوقع دائماً المجزرة كناظم للحياة، بما يبثه من أقاويل وإشاعات وفيديوهات تعذيب واذلال. الرجل الحلبي الذي كان ُيسحل وهو يردد «معزته» لزوجته أدهش في لحظةٍ  قاتليه، هذا ما رأيناه في أعين أحد جلاديه في الفيديو المسرّب الشهير، لقد قاوم بالدهشة، أدهش بالجمال في لحظة تطبيع للبشاعة. حين قال الرجل جملته، كانت شبه تقريرية في نبرتها ولكنها تتضمن ألف اشارة تعجب، في جملته البسيطة الخفورة كان الرجل يعبر عن دهشته من إمكان أن يبتذل الإنسان إلى هذا القاع، فرفض وقرر أن يتفاجأ ويفاجئ

نتفهّم تماماً ذلك المزيج الإسمنتي من التعب واليأس وخيبة الأمل الذي، إن جفّ، يصبح حاجزاً صلباً أمام التفاجؤ. كثيرون منّا لم يعودوا راغبين في أن يفاجئهم شيء، وهؤلاء، على عكس «الألمنقلكلميين»، لا يعرفون الغيب ولا يرون المستور، بل هم بالأحرى لا يرغبون برؤية شيء، ويفضّلون جداً لو لا يراهم شيء أو أحد حتى إشعارٍ آخر، في حِدادهم على أملٍ ميّت. كثيرون من هؤلاء تفاجؤوا بشدّة وبكثرة خلال السنوات السابقة، وأحبوا تفاجؤهم وحوّلوه لهويّة، لمحرّك الأمل والرغبة في الاستمرار، خصوصاً تفاجؤهم الإيجابي بأشخاصٍ وأعمالهم، تكشّف لاحقاً عن خيبة أمل فيهم. اندفاعنا المتحمّس للتفاجئ الإيجابي سرّع إنتاج أيقونات أكثر من مقدرتنا ومقدرة أصحابها على الحِمل، ولكن خيبة الأمل من هذا الاندفاع قاد لأيقنة مضادّة، قاد لرفض الاعتراف بالأشخاص وصنائعهم، للبحث عن الكرتوني-الفلّيني، الديكوري، الكاذب، المخادع، فيهم. بعضنا يرتعب من فكرة الوقوع في فخّ المفاجأة الإيجابية وأيقنتها مجدداً، فإذ به يمارس أيقنة مضادة وينهش المفاجأة-البطل- الضحية، على طريقة المشهد المتكرر في الأفلام، حين يشدّ أحدهم -غالباً مفتش شرطة يجمع بين العبقرية المهنية والحياة الشخصية المحطّمة- شعر آخر بقوّة لأنه يودّ إثبات أنه ليس شعراً حقيقياً بل باروكة. لكن الأيقنة المضادة لبعضنا لا تتوقّف -في كثير من الأحيان- عند شدّ الشعر، بل مع الشعر يُشد الجلد ويُسلخ ويُمزّق. ويحصل كثيراً أننا نمزّق جلداً آدمياً حقيقياً، لا زيّاً تنكرياً، وهذا مؤلم. جداً.

في الواقع، توقّع الأسوأ دوماً، من الأشخاص والظروف، هي استراتيجية «الألمنقلكميين» المفضّلة، وهي نبوءة تحقق نفسها، فمن طبيعة الأمور، في الظروف الصعبة، أن يُخطئ الأشخاص، وبشكل شديد الكارثية أحياناً. لا أحد منّا يتحمّل مجهراً فوق رأسه طوال الوقت، فما بالنا بأشخاص يحملون، عدا المجهر، ثقل ظروفٍ قيامية؟ لكن توقّع الأسوأ صار أيضاً استراتيجية من ليسوا «ألمنقلكلميين» نرجسيّين، بل أناس متعبون، يريدون أرضاً يقفون عليها دون أن تهتز تحتهم، أرضٌ يستطيعون المشي عليها نحو تحقيق شروط حياتهم بعد انهيارات كثيرة وخيبات صادمة. أحد هؤلاء، وهو صديقٌ لدود للتنسيقية، اعترف أنه لم يرَ إلا عسكراً متآمرين على عمر البشير في كلّ ما جرى في السودان، بل أنه قرر بشكل إرادي افتراض أن «الكنداكة» آلاء صلاح، التي تناقل أغانيها مئات الآلاف، إنما تُحب بشار الأسد، وقد نراها في زيارة لـ «قصر الشعب» قريباً، حيث سيتم تكريمها لوقوفها مع سوريا الأسد ضد المؤامرة الكونية.

التفاجؤ مُتعب، لا شكّ في ذلك، لكن تحويل مقاومته لقضيّة يقتضي أن نُطفئ المستشعر الحسّي والأخلاقي الذي يشكّله الاستعداد للتفاجؤ. يعني أن نفقد الإحساس، وأن نحوّل عدم الاكتراث إلى إيديولوجيا. اشتهرت الأرجنتينية مرسيدس سوسا بغنائها قصيدة لليون جييكو، تناجي فيها الله ألا تصير غير مكترثة للألم وللحرب وللظلم… وللمستقبل. فعلاً، إيديولوجيا عدم الاكتراث ماضوية جداً، تعجز عن التفكير بالمستقبل، وفوق ذلك ليست أسهل ولا أهون حملاً من التفاجؤ على المدى البعيد.

ومؤخراً، فوجئنا بانتفاضتي السودان والجزائر. فوجئنا، وسُعدنا، بأن تتحرك مساحات شعبية واسعة في بلدين عاشا محطات تاريخية صعبة ودامية، وأن تقطع ديناميكية انتصار الثورات المضادة و«عودة النظام الرسمي» العربي محمولاً على التخويف من «المصير السوري» بعد أن تفاجأ، هو الآخر، عام 2011. نعترف أن بعضنا كان يتلمّس مفاجأته خلال الأشهر الماضية كمن يقرص نفسه كي يتأكد أنه لا يحلم، في ذات الوقت الذي كان يرى فيه كُثراً يُقاومون المفاجأة بشراسة، رغم أنهم يرجونها حقّاً، ويتمنون لو تصمد المفاجأة أكثر من صمود مقاومتهم لها.

*****

لكن ما الذي فاجأنا بخصوص سورية بالتحديد؟ أسهل علينا، والحق يقال، أن نحصي ما لم يفاجئنا. ونجد حين نحاول الإحصاء أننا لا نكاد نجد شيئاً. الحقيقة أن من حاولوا مفاجأتنا بجهلنا، الألمـنقلـلكمـيّون، هم آخر من فاجأنا. ذلك أنهم لم يكونوا حدثاً، ولم يطرؤوا مع الثورة، ولم يكونوا مختلفين عن أنفسهم من قبل ومن بعد. كانوا يقولون القول نفسه طوال الوقت مثلما يليق بسلفيين متشددين. يفاجئنا قليلاً أنهم استخدموا ما دهمنا من مصائب لإثبات صواب علمهم القديم المكتمل، مفوتين علينا وعلى أنفسهم كلمة تضامن أو تعبير عن الصدمة والغضب. ربما ما فاجأنا قليلاً هو مثابرتهم على الكره، مثابرة تشبه إلى حد كبير إصرار النظام على ملاحقة الأجساد، حتى الميتة منها، لتهشيمها وتمويت الموت. إلا أن هذه المفاجأة بالذات ليست بالأمر العارض بالمعنى الألتوسيري للعارض المنتج للتاريخ؛ المنتجُ الوحيد لهذا الكره هو إعادة إنتاج أكثر بلاغة وثقافة بقليل للغة النظام. لغة الكره غير القادرة على التفاجؤ والاحتفاء بجمال الآخر ونضارة المفاجئ.

فاجأنا ما فاجأ الناس جميعاً: داعش والصعود السلفي، انتشار السلفية في بيئات الثورة، فاجأتنا وحشيتها وقدرتها الخارقة على الإيذاء، فاجأنا توسعها ومشهديتها وتفاخرها بالشرّ. فاجأنا أن صارت أجزاء من بلدنا مساحة مستباحة لخلافة خرافية إجرامية، وطّنت غرباء متوحشين في بلداتنا وبيوتنا، وعاملت أهاليها كغرباء. فاجأنا السبي وسوق الرقيق، والصلب، والهوتة، والرايات واللغة والأقنعة. هذا فاجأنا وملأ نفوسنا بالعار وأسكن اليأس في قلوبنا.

فاجأتنا قبل داعش عدوانية الروس والصينيين، وقلة تحفظهم في دعم نظام إبادة، وعدم رؤيتهم لنا كملايين بشرية تريد أن تتكلم وتتنفس. 

فاجأتنا الصفقة الكيماوية. فاجأتنا الامبريالية التي كنا نظن أنها لا تمانع في تغيير نظامنا «المعادي للامبريالية» حتى وإن لم تتحمس لذلك. ما فاجأنا هو تحمسّها لعدم تغيره، ما فاجأنا هو حرصها الوسواسي على ألا تؤذيه. فاجأنا اليسار في العالم بجهله وعجرفته وعدائه لقضيتنا! فاجأنا حب الفاشيين في العالم لبشار الأسد! وفاجأنا أن النظام الدولي الذي سامح النظام بقتل 1466 في الغوطة الشرقية، وبالاستمرار في قتل محكوميه بأية وسائل آخرى، مقابل نزع سلاحه الكيماوي سيسامحه باستخدام السلاح الكيماوي مرات ومرات بعدها دون عواقب تذكر، ودون أن يقول أحد شيئاً عن جائزة نوبل التي فازت بها زوراً لجنة نزع السلاح الكيماوي.

 فاجأتنا حكومات الغرب بأنها لما تقل شيئاً عن الديمقراطية في سورية في سنوات صراعنا، وفاجأنا خبراء الشرق الأوسط الذين كانوا يعطون الانطباع بأنهم يكرهون النظام ولا يحبوننا، فإذ بهم في ساعة الحقيقة يكرهوننا ولا يكرهون النظام، بل وكان بعضهم في الواقع يحبه. 

فاجأتنا عدوانية إيران المفرطة وكراهيتها لمجتمعنا وفجورها الطائفي ومدى تبعية حزب الله وميليشيات عراقية لها، وفاجأتنا جريدة البراميل، نحن الذين نعتقد أن جوزف سماحة منا وليس منهم رغم كل شيء.

فاجأتنا عدوانية جماعة أوجلان وتعاليهم، وفاجأنا إنكارهم للثورة وابتداء تاريخ النضال من أجل الديمقراطية والمساواة بهم، ومدى إنكار تاريخ كفاحنا من أجل التحرر والديمقراطية، وفاجأنا مدى حظوة الجماعة بعطف شامل من يسار ومينستريم في الغرب. نتفاجأ ونتوجس: فنحن نعرف أمثلة عن المزايدة الحداثية في تاريخ سورية بالذات، وفي تاريخ المنطقة، أسست حصراً لأشكال فادحة من التمييز.

فاجأنا معارضون تاريخيون بأن أشد ما يعارضونه هم معارضون مثلهم، وباعتبار كثيرين منهم أن قولاً لأحدنا مشكلةٌ مثل نظام الأسديين ومثل براميل النمر ومشانق مملوك ومحارق جميل الحسن. وفاجأنا معارضون آخرون بشدة تهافتهم وتفاهتهم ورخصهم. فاجأتنا تفاهة «كبير المفاوضين»، ورؤساء ائتلاف لم نكن سمعنا بهم من قبل.

فاجأنا ما تقوم به اليوم فصائل مسلحة معارضة في الشمال السوري، من انغماس لا حدود له في سياسة «الأمن القومي التركي» إلى حد التمرغ الفخور في الاستزلام والتبعية، مع ارتكاب أفعال بالغة الخسّة والعدوانية، على ما يظهر في مثال عفرين.

فوجئ بعضنا بتواضع أداء وأحياناً قلة استقامة أحزابنا السياسية.

فاجأنا وكسر قلوبنا خطف سميرة ورزان ووائل وناظم من قبل جيش الإسلام، وأنه بالكاد سُمعت أصوات خافتة من معارضين تعترض على الجريمة، كي لا يقال شيء طوال خمس سنوات وشهور بعدها.

ولقد شاب مفاجآتنا حزن وخيبة حين رأينا قدرة السوريين على تقسيم أنفسهم تقسيمات لا نهائية، ليست تقسيمات موالاة ومعارضة فحسب بل تقسيمات أوغلت في تفتيتهم. ما كان يلزم كل هذا «التفتق» الذي أمعن في فتق المفتوق أصلاً، وفي إضعاف الضعيف المدنف.

فاجأتنا إبداعية غباء بعض المحسوبين على قضيتنا، وعدوانية غباء بعض آخر منهم.   

لكن أكثر ما فاجأنا على الإطلاق هو… النظام! كنا نظن أننا نعرفه جيداً، وكان يحصل أن نقول إنه مستعد لفعل كل شيء كي يبقى في السلطة، لكننا نعترف أن «كل شيء» الذي كان في بالنا لم يكن شيئاً بالمقارنة مع الأشياء التي فعلها النظام، ويبدو أنها بعيدة عن كل شيء يستطيع أن يفعله. لم نتوقع إمكان إعدام طفل في الثالثة عشر وقطع قضيبه واتهامه بمحاولة اغتصاب نساء الضباط، لم نتوقع مجازر قصف طوابير الخبز بالطائرات، لم نتوقع اغتصاب النساء في كرم الزيتون والحولة والمقرات الأمنية، لم نتوقع اغتصاب رجال وإجبارهم على اغتصاب بعضهم بما في ذلك اغتصاب الأب لابنه أوالعكس، لم نتوقع صواريخ سكود ضد المدن، لم نتوقع أن تُقصف الغوطة من قاسيون، لم نتوقع السلاح الكمياوي ومجازره، ولم نتوقع تسليم البلد لقوتي احتلال عدوانيتين، تتناهشان عميلهما المحلي وأجهزته اليوم.  

في بداية الثورة كانت ميزة النظام الكبرى حيالنا أنه كان يعرف من هو، ومن أعداؤه: نحن! رؤية النظام واضحة منذ خطاب بشار في 30 آذار2011، وقد فاجأ بعضنا بالمناسبة، من شدة سذاجتنا: الحرب وسحق كل من يعترض، نحن لم تكن لدينا رؤيا مماثلة. أردنا الحرية والتغيير، وأملنا ألا يكون الثمن رهيباً. حدس بعضنا بحماة أخرى، وتوجس بعضنا من أهوال قادمة. لكن المفاجئ ليس غير المتوقع حصراً، بل يحدث أن يكون المتوقع المهول، الذي يحطم مقياس حرارة التوقعات قبله. وفي سورية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين كان المتوقع مهولاً، وكان غير المتوقع مهولاً كذلك. المقياس تحطم.

لا يكاد يكون ثمة شيء من المهول الذي لم نتوقعه ممكنُ التوقع من قبل في سورية. ولم يكن هناك من يمكن أن يقول لنا شيئاً كان ممتنعاً علينا أن نقدّره أو نقوله لأنفسنا، وإن أوهم «الألمنقلكلميون» أنفسهم بذلك. نرجح ونجزم بأن أكثرية كبيرة جداً من السوريين فوجئت بأكثر ما فوجئنا به، ولعل كثيرين يثابرون إلى اليوم على نسبة المفاجئ إلى مؤامرة ما كيلا يقولوا إنه كان مفاجئاً لهم. لكنهم كانوا مخلصين في استغراب كثير مما شاهدوا وعدم تصديقهم له.

على أننا كنا مُطالَبين بأن تكون معرفتنا أفضل بأشياء لو عرفناها لفهمنا بعض الأشياء أفضل، وليس بالضرورة لاستطعنا التوقع بصورة أفضل. بمفعول راجع، نلوم أنفسنا على أننا لم نحاول أن نعرف أكثر عن دولة أبو مصعب الزرقاوي في العراق مثلاً، فقد كان من شأن ذلك أن يسهل لنا معرفة ما سنراه في بلدنا في عام 2013 وما بعد. نلوم أنفسنا على أننا لم نكن نعرف إيران جيداً، وإن كانت فرصتنا في معرفة مباشرة أفضل لها محدودة جداً. ونشعر أننا كنا جاهلين بعلاقات النظام الدولية وتركيب سفاراته والعلاقات «الأهلية» التي ربطها مع جماعات متنوعة في العالم.

يخيل لنا مع ذلك أن المسألة ليس مسألة معرفة عن طريق القراءة والكتب. إنها أكثر من ذلك مسألةُ وجود نشط في العالم، مما لم يكن متاحاً لغير عدد ضئيل جداً منا لا يكاد يُذكر. ولأن هذا كان شرطاً مديداً لنا، فقد طورنا استعدادات فكرية وأخلاقية عقلانية، تنزع إلى تصور العالم كعالم مصالح وحسابات عقلانية، دون شر جذري، دون فن للشر، دون «إدارة توحش»، دون هويات تقتل كثيراً وقتل «يُهوّي» كثيراً، ينتج الهويات المتفاصلة ويبلورها. واضح أن هذا الاستعداد لم يكن الأنسب للتفاعل مع ما عشنا وخبرنا. كنا في حاجة لعقلانية عارفة ومركبة ومستميتة. ولعلنا كنا ولا نزال في حاجة إلى نظرات نافذة في أعماق سوداء للنفس البشرية والاجتماع البشري.  

ما يجدر أن نُلام عليه هو أننا دأبنا كثيراً على قول شيء عن أشياء يستحيل القول بشأنها، أننا سارعنا أحياناً إلى عقلنة ما هو غير معقول، ففسرناه باختزال ونزعنا غرابته المذهلة، وعرّفنا أنفسنا به وألَّفناها عليه، وربما ألّفنا غيرنا على ما هو عجيب غريب غير مألوف إطلاقاً. كان أجدر بنا أن نعطي المذهل حقه من الانذهال، والمفاجئ حقه من التفاجؤ. فعلنا ولم نفعل. اشتبكنا مع العجيب محاولين إدخاله في الكتابة والتعبير. ندرك أن نجاحنا محدود، ونخشى أننا نوهم بنجاح أكبر. لا تزال لغة عربية متشربة باليقين وبأساليب تقريرية في التعبير، ونفور من اللعب واللعن، ومن الجهر بالحيرة والاندهاش، لا تزال تثقل على تفكيرنا وكتاباتنا. وإلى اليوم لا نستطيع أن نلعن بغير لغة الدين، ولا نملك الإقذاع بعربية مكتوبة.

*****

نظريتنا في التنسيقية هي أننا متفاجئون من بين متفاجئين كثيرين، وأن الفرق يقع بين متفاجئين لا يخفون تفاجأهم وبين متفاجئين يفضلون أن يستغفلوا أنفسهم بنسبة كل حدث مستجد إلى مخطط قديم. ويبدو أن أنفسهم مستعدة للتواطؤ مع هذا الاستغفال.

نعتقد أن لدينا اليوم شرح معقول لبعض ما فاجأنا. لقد أخذنا بالاعتبار ما جرى مجدداً، فتعلمنا وتغيرنا. صرنا أفضل معرفة بالعالم وبأنفسنا. لكن لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه ونتغيره. نتطلع إلى أن نكون مشاريع مفتوحة على التعلم والتغير. 

نفكر في السنوات الثمانية ونيف الماضية كهوْل تلزم سنوات طويلة قبل «التنبؤ» به، نعني التقدم خطوات في فهمه وتحليله. ونحدس بأنه تلزم ثورات في المفاهيم والحساسية من أجل فهم ما حدث. فقط حينها يمكن لما حدث أن يكون قد مضى وانقضى. اليوم لا يزال ما حدث أمام أعيننا الزائغة، المنذهلة، شيئاً تلزم سنوات وربما عقود لفهمه، وهو ما يعني أنه لا يزال طيَّ الغيب.

ونعلم بعد هذا أننا سنفاجأ كثيراً بما قد يحدث في بلدنا وفي العالم الذي تناثرنا فيه، ونجد في ذلك ما يثير ويبهج، وما يمكن أن يكون فاجعاً، وما يساعدنا على أن نتغير ونتحرر، أن نفاجئ  أيضاً.

موقع الجمهورية

——————————-

عندما سقطت مئذنة مسجد في عفرين/ صادق عبد الرحمن

شهد يوم الثامن من آذار (مارس) الجاري انهيار مئذنة أحد المساجد في بلدة شيخ الحديد في ريف عفرين، وذلك نتيجة أعمال حفر قام بها عناصر من أحد فصائل المعارضة، بحثاً عن قطع ولُقى أثرية محتملة. لم يحظ هذا الخبر باهتمام في أوساط جمهور الثورة والمعارضة السورية، وهو الأمر الذي يبدو مفهوماً تماماً، ذلك أن تطورات معارك إدلب ومذابح النظام فيها، وما تلاها من اتفاق روسي تركي جاء مخيباً لآمال هذا الجمهور، وكذلك الأخبار المتتالية عن انتشار وباء كورونا المستجد في العالم، لم تترك مجالاً للاهتمام بحدث جانبي كهذا.

لكن ثمة سبباً آخر أكثر أهمية وراء قلّة الاهتمام تلك، وهو أن الخبر لا يحمل جديداً تقريباً، فالتقارير المتلاحقة عن أعمال النهب المنظم التي تتعرض لها الآثار في عفرين لم تنقطع في الأشهر الأخيرة، وكذلك التقارير والأخبار التي تتحدث عن انتهاكات واسعة ترتكبها فصائل ما بات يُعرف بالجيش الوطني في عفرين. وقبل هذا، لقد نُهبت آثار سوريا خلال السنوات القليلة الماضية على يد جميع أطراف الحرب السورية دون استثناء، حتى أن مديرة منظمة اليونسكو كانت قد قالت، منذ العام 2015، إن المواقع الأثرية تُنهب في سوريا «على نطاق مذهل» بحسب تعبيرها.

لكن ما يسترعي الاهتمام فعلاً في خبر سقوط مئذنة المسجد، هو الوقاحة والعلنية التي يتم ارتكاب تلك الجريمة بها، فأعمال الحفر تجري في قلب بلدة مأهولة بالسكان، وفي مسجد ربما يكون الأقدم فيها، وهي مستمرة منذ شهرين على ما تؤكّد مصادر محليّة للجمهورية، دون أن يكلّف اللصوص أنفسهم عناء التستر بشكل جديّ، أو حتى عناء إصدار بيان تافه ينفون فيه ما حصل أو يشرحونه بعد سقوط المئذنة، على غرار بياناتهم التي تنفي بعض الأخبار التي تتحدث عن جرائم أخرى يرتكبونها.

تقع بلدة شيخ الحديد، كما هو اسمها في السجلات الرسمية للدولة، أو بلدة شيه كما يحبّ تسميتها كثيرٌ من أبنائها الأكراد، في أقصى غربي محافظة حلب، إلى جوار الحدود السورية مع لواء اسكندرون. وهي مركز ناحية تتبع لمنطقة عفرين إدارياً، كانت فصائل المعارضة التابعة لتركيا قد سيطرت عليها برفقة الجيش التركي في مطلع آذار (مارس) 2018، بعد معارك مع مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية، أسفرت عن ضحايا من أبنائها وعن تهجير قسم منهم إلى خارج عفرين. والفصيل الأكثر سيطرة في شيخ الحديد ومحيطها هو لواء السلطان سليمان شاه، المعروف محلياً بـ «العمشات»، نسبة إلى قائده محمد الجاسم الشهير بـ «أبو عمشة».

إلى جانب جرائم متنوعة يرتكبها الفصيل في عفرين وغيرها، تشمل السطو والاختطاف والاحتجاز والتعذيب وفرض إتاوات، ينشط الفصيل في التنقيب عن الآثار وبيعها عبر شبكات تهريب، وكان عناصره قد بدأوا قبل نحو شهرين أعمال تنقيب شملت هدم محلات تجارية في محيط المسجد والحفر تحتها، ثم شملت الحفر في صحن المسجد نفسه، ويبدو أن الحماقة وانعدام المعرفة قد تسبّبا بإلحاق ضرر بالغ في أساسات المئذنة، ما أدى إلى سقوطها. المسجد معروف باسم «الجامع التحتاني»، والمئذنة التي سقطت عمرها أكثر من مئة سنة، إذ أنها بنيت عام 1912.

كانت إجراءات التستّر الوحيدة، التي قام بها لصوص العمشات، هي تغطية موقع الحفر داخل صحن المسجد بشوادر كبيرة. سوى ذلك، كان الأمر يتم في وضح النهار، دون أن يتمكّن أحدٌ من الاعتراض أو الاستفسار، بِدءاً من أبناء البلدة المغلوبين على أمرهم، مروراً بالمجالس المحلية الصورية التي شكلّتها سلطات الأمر الواقع، وانتهاءً بهياكل الجيش والشرطة المحلية التي رعت تركيا تأسيسها في المنطقة.

يشرح مثال سقوط المئذنة كيف أن هؤلاء يمارسون جرائمهم دون إي إحساس بالحاجة للتبرير أو التستّر؛ يتمرّغ العمشات وأشباههم في جرائمهم وارتزاقهم وتبعيتهم، دون أن يثير هذا أدنى إحساس بالحرج لديهم، وفوق هذا يتحدثون باسم الثورة السورية، ويدّعون تمثيلها بينما يرتكبون باسمها جرائم متنوعة في عفرين وغيرها. ولعلّ هذا بالضبط يكون سبباً إضافياً وراء قلّة اهتمام جمهور الثورة والمعارضة بهذا الخبر، ومئات الأخبار التي تشبهه خلال السنوات الأخيرة، ذلك أن إحساساً عميقاً بالعار يترافق معها، ويتم التعامل معه بأساليب متنوعة، تشمل التجاهل أو الإنكار، أو التقليل من شأن هذه الجرائم، أو استسهال تحميل نظام الأسد المسؤولية عنها باعتباره مسؤولاً عن الحرب أصلاً، أو جلد الذات ولومها وتحميلها المسؤولية على نحو يشلّ القدرة على الفعل والتفكير والقول.

في الذكرى التاسعة لقيام الثورة السورية المقتولة، يواصل محسوبون عليها شتى أنواع الجرائم، ومثالها الأبرز ما فعلوه ويفعلونه بحق عفرين وأهلها من استباحة وتهجير وسطو وقتل. إذا كانت ثورتنا قد فشلت في نقل البلد وأهله إلى حياة أكثر عدالة وكرامة، فإن ما نستطيعه اليوم هو الدفاع عن مبدأ طلب العدالة والكرامة للجميع، والدفاع عن حكايتنا وذكرى ثورتنا في وجه الأسدية ورُعاتها وأشباهها، وأول وجوه هذا الدفاع يكون في احتقار هذه النسخ الصغيرة المنحطة من الأسدية، التي تعتاش كالطفيليات على ذكرى ثورة خارقة في شجاعتها وصبر أهلها، وفضحها والمطالبة بمحاسبة قادتها ومجرميها تماماً كما نطالب بمحاسبة الأسدية وقادتها ومجرميها وحلفائها، دون الحاجة للبحث في أي تمايزات وترتيب مسؤوليات. لم يعد لدى ثورتنا ما تخسره سوى عدالة قضيتها وذكرى شهدائها، وهؤلاء هم ألدّ أعداء ذكراها وعدالتها.

موقع الجمهورية

——————-

ثورات الربيع العربي/ ميشيل كيلو

تحتفي النُّظم ومناصروها بما يسمّونه “فشل الربيع العربي”، ويستدلون على فشله بما آلت إليه أوضاع مصر واليمن وليبيا وسورية، وباستمرار النظم التي استهدفها ذلك الربيع، وبالصراع بين من انخرطوا فيه حول نمط النظام السياسي البديل الذي يريد كل طرف منهم إقامته.

ومع أن تمرّد السوريين يختلف من جوانب عديدة عن غيره، لكون تناقضه مع الأسدية هو محوره الرئيس والجامع الذي لم تحجبه أو تطغى عليه تناقضات تياراته المختلفة حول هويته وأهدافه، ولم ينجح جيش الأسدية في القضاء عليه، بمعونة من استجلبهم إلى سورية من غزاة وأجانب لمشاركته القتال ضد شعبها المتمرد؛ فإن هناك من يضمّ ثورة السوريين إلى تجارب الربيع العربي الفاشلة، لأنها لم تُسقط النظام القائم أو تقدّم بديلًا له في مناطق سيطرتها، ولم توحّد قدراتها وتنظيماتها وقيادتها، ولم تنجح في بلورة خطط وبرامج توجّه خطى حامليها السياسي والعسكري نحو هدف متوافق عليه وطنيًا، يكبح الالتباسات المحيطة بالصراع بين تياريه الديمقراطي والإسلامي حول مشروعيهما المتناقضين، وما يطالب به الأول من حرية، والآخر من دولة دينية، ويلقيه تناقضهما من غموض على مآل الثورة النهائي، ويثيره من شكوك حول فرص انتصارها.

لا شكّ في أن لما يُقال نصيبًا من الصحة، فالربيع العربي صنعته مجتمعات تفتقر إلى تعبيرات سياسية منظمة، وليس لديها ما يكفي من برامج وخطط يحوّل تطبيقُها حراكه من تمرّد إلى ثورة منظمة، بعيدة عن العشوائية التي وسمت دومًا تمرّد المجتمعات، حتى التمرّد الذي نجح وفتح صفحة جديدة في تاريخ البشرية، كالتمردين الفرنسي والروسي، بما كان بينهما من تباين في المنطلق والمسار والمآل، ويشبه الربيع العربي الأول، الفرنسي، منهما إلى حد بعيد، سواء من حيث الجهة التي قادتهما، وهي فئات تنتمي إلى المجتمع المدني، لم تكن أحزابًا تراتبية العضوية، ولم تمتلك نظرية ثورية صاغتها نخبة ثورية بنت حزبًا حديدي الانضباط، وزودته بخططٍ أريد بها أن تتكفل بتحقيق انتقالها إلى ثورة منظمة، عبر آليات واضحة وملزمة، تحوّل تمردًا ليست من أطلقه إلى ثورةٍ هي التي تقودها، كالثورة الروسية. يشبه الربيع العربي الثورتين في حامله المجتمعي الكثيف والمتنوع مجتمعيًا، ويختلف عنهما في هوية النظام البرجوازي الذي ترتب على تمرّد الشعب الفرنسي، الاشتراكي الذي أدت إليه الثورة الروسية، وفي عدم حسم هوية هذا النظام الاجتماعي، سياسيًا أو طبقيًا، في بلدانه، لما بين رهانيه الديمقراطي والإسلامي من تناقضات حوله، تبلغ حدود التضارب والتعارض بين النموذجين اللذين قد ينتجان؛ فالربيع العربي يعرف الذي يرفضه، ولم يقرّر متمردوه بعدُ نمطَ النظام الذي يريدونه، لاختلاط توضعات نُظم مختلفة في واقعهم: بعضها إقطاعي وبعضها الآخر شبه برجوازي. ويشبه الربيع العربي الثورتين، في الزلزال الذي أحدثه في الواقع السياسي العربي وعلاقات المجتمعات بسلطاتها، والصدع الذي أصابها به، وقد جعل من المحال عودة المجتمعات والنظم إلى ما كانت عليه قبله، وكشف حجم التنافي بين بقاء نظمها ورغبات شعوبها، وبين إرادات مجتمعاتها وخيارات حكّامها، وفضح تقادم حكوماتها وأساليبها وقد عفا الزمن على أشخاصها ومؤسساتها، وعمق التحدي الذي طرحه رفض مواطنيها لها، وترجمه الربيع العربي إلى استحالتين: إحداهما استحالة استمرار طرق الحكم السائدة في حفظ النظم القائمة، والأخرى: استحالة بقاء المحكومين خاضعين للنظم وطرقها في ممارسة السلطة.

بتقادم النظم ورفضها، وباكتشاف مدى عجزها عن ملاقاة مطالب مجتمعاتها؛ تكون المجتمعات العربية قد بدأت ربيعها، وغادرت شتاء نظمها، وقررت مفارقة الرضوخ لها، وانخرطت في دروب الثورة الأعظم في التاريخ: الثورة الفرنسية، التي أحدثت تحولًا على صعيد النظام المجتمعي، خلال الأعوام الخمسة الأولى من انطلاقتها، لكن صراعها من أجل سلطة برجوازية تعبّر عنه استمرّ طوال سبعين عامًا ونيف، ولم يرَ أحدٌ من دارسيها الكثيرين أنها فشلت بسبب المدة الطويلة التي اقتضاها انتصارها على صعيديها الاجتماعي والسياسي، أو لأن نظامًا إمبراطوريًا وآخر ملكيًا تبادلا السلطة في فرنسا بعد عام 1789، عام الثورة، بل قال جميع من أرّخوا لها إنها رسمت في هذا العام خطًا فاصلًا بين زمنين ونظامين ومجتمعين، رسم الربيع العربي خطًا مثله، يجعل النظم القائمة تنتمي إلى زمنٍ مضى، ويجبرها على إجراء إصلاح يشمل بناها وآليات اشتغالها وأهدافها وعلاقاتها بمجتمعاتها، التي لا بدّ من أن تشهد تبدّلًا عميقًا وشاملًا، ستنتمي من خلاله إلى زمن جديد، لن ينجح أحدٌ في تغييب شمسه، أو تجاهل نورها الساطع، إضافة إلى ما فضحه من عفن تاريخي وراهن في واقعنا العربي: السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وأكّده من حاجة إلى بدائل تشمل هذه المجالات جميعها، ويؤمن المواطن العربي بضرورة خضوعها لإصلاحٍ، كان أستاذنا الراحل إلياس مرقص يقول إنه سيكون البوابة التي سندخل منها إلى ما هو أكبر من ثورة!

قلتُ إن الربيع العربي يقع بين الثورتين الفرنسية والروسية، وهو أقرب إلى الأولى منه إلى الثانية، وإنه كان سيتفق مع الثانية، لو توفرت له القيادة والبرامج الكفيلة بتحويله من انتفاضات شعبية إلى ثورات تفتح لنا بوابات تاريخ جديد، أراد المتمردون تحقيقه، لكن افتقارهم إلى قيادة ثورية وموحدة، وخطط تواكب نمو ثورتهم وتحميه، حال بينهم وبين هدفهم الذي لا شكّ في أنه قادم، تدريجيًا، عبر ما ستقوم به الحكومات من إصلاحات، بعد أن فهمت درس الربيع، وعلمت أن تحاشي تجدده يوجب تحقيق مطالبه، كليًا أو جزئيًا، أو عبر انتفاضات جديدة يتوقف انتصارها النهائي والحاسم على نجاح نخبنا في بناء الأداة الثورية التي ستنظمها بالقدر الذي يقتضيه تناميها إلى ثورة تقتلع النظامين الاجتماعي والسياسي، القائمين اليوم. فماذا ننتظر كي نُنجز هذه المهمة التاريخية؟! ومتى نبدأ إنجازها؟!

—————————–

الأزمة السورية.. طريق السلام الشائك بعد “عشرية سوداء

أي مساع جدية لطي صفحة النزاع نهائيا تمرّ عبر بوابة التفاهمات بين القوى العظمى.

بعد “عشرية سوداء” من العنف ومأساة إنسانية جعلت الحرب السورية تطبع بداية هذا القرن، تراجعت وتيرة المعارك التي ذكّتها أطراف، بدءا من حلفاء نظام بشار الأسد مرورا بالجماعات الإرهابية ووصولا إلى معارضي دمشق، لكن الجراح لا تزال تنزف. ورغم كل المحاولات الإقليمية والدولية لرأب الصدع في بلد ممزق، تبدو آفاق السلام بعيدة المنال.

دمشق – دفع السوريون طيلة السنوات العشر الماضية ثمنا باهظا لتعنت نظام بشار الأسد وإصراره على البقاء في السلطة، لكنهم مع ذلك لا يزالون ينشدون سلاما قد لا يأتي، وهم يقتربون من طي عقد من الزمن جر البلد إلى أسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.

ومرت سوريا بسلسلة من الأحداث، وبعد أن بدا وأن الأسد ونظامه قاب قوسين من السقوط في نهاية 2011، وسط ثورات “الربيع العربي”، التي أطاحت بأنظمة عدّة حكمت بلادها لعقود بقبضة حديدية، ظل ممسكا بالحكم ولم يوفّر فرصة حقيقية لأي مصالحة مع الشعب، وهو يمارس اليوم سيادة محدودة على أرض باتت فريسة لقوى أجنبية متناحرة.

وفي ضوء ذلك، لا توجد أي مؤشرات حقيقية على أن البلد سيخرج من هذه الفوضى قريبا، فالحديث عن أي تسوية سياسية محتملة تجمع كافة المكونات أمر غير وارد، وثمة مراقبون يرون أن السلام رهين بتفاهمات بين القوى الكبرى المتدخلة في النزاع.

الأرض المحروقة

عشر سنوات من نزاع دام

استغرق اشتعال موجة الاحتجاجات وقتا في سوريا حيث كان التظاهر محظورا منذ نصف قرن، إلى أن انتقلت إليها من تونس ومصر وليبيا. وبدت بعض التجمعات الأولى، على غرار الوقفات الاحتجاجية أمام السفارة الليبية في دمشق، بمثابة دعم للانتفاضات الجارية في بلدان أخرى، لا تحديا مباشرا لعائلة الأسد التي حكمت البلاد لخمسة عقود.

وتصف الصحافية والكاتبة رانيا أبوزيد اللحظة التي أملت عليها عنوان كتابها “لا عودة إلى الوراء: الحياة والخسارة والأمل في سوريا زمن الحرب”، قائلة “تصدّع جدار الخوف العظيم وتحطم الصمت وكانت المواجهة وجودية للأطراف كافة، منذ بدايتها”.

وسرعان ما تحوّلت الاحتجاجات إلى نزاع دام أجبر نصف عدد سكان سوريا البالغ قرابة 22 مليون إلى مغادرة منازلهم، ووسط الفوضى التي ولّدها النزاع المسلح، أعلن داعش، المجموعة الأكثر تطرفا ووحشية في الجهاد الحديث، قيام “الخلافة الإسلامية” في سوريا والعراق المجاور.

ومع عسكرة النزاع، أرسلت إيران والولايات المتحدة، الخصمان اللدودان، قوات إلى سوريا لحماية مصالحهما، كذلك فعلت تركيا. وبدأت روسيا في نهاية سبتمبر 2015 أكبر تدخل عسكري خارج حدودها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، في خطوة رجّحت الكفة في الميدان لصالح الأسد.

واستخدم نظام الأسد الأسلحة الكيمياوية ضد مناطق مدنية لإخضاع جيوب المعارضة فيها، وشنّت طائراته غارات كثيفة بالبراميل المتفجّرة على مناطق مأهولة بالسكان، مخلفة الموت العشوائي. واعتمد بشكل منهجي سياسات الحصار والتجويع لإخضاع خصومه. ولم يتردد سلاح الجو في تنفيذ عدد لا يُحصى من الضربات ضد منشآت طبية.

وفي 2012، وصف الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما استخدام الأسد للأسلحة الكيمياوية بـ”خط أحمر”، لكن عندما تمّ تجاوز هذا الخط بعد عام عبر هجوم كيمياوي استهدف الغوطة الشرقية قرب دمشق، امتنع أوباما عن القيام بتدخل عسكري انتظره كثيرون، وشكل ذلك لحظة حاسمة طبعت عهده وحالت دون توجيه ضربة قوية لنظام الأسد.

وكانت الفصائل المعارضة، التي قاتلت تحت رايات عدة وتلقى بعضها تمويلا وسلاحا من الخارج، تمكنت في السنتين الأوليين من إلحاق خسائر كبيرة بالجيش السوري الذي أضعفته أيضا الانشقاقات، وبعد سنوات تحولت الغلبة إلى نظام الأسد الذي مارس سياسة “الأرض المحروقة”.

وغيّر تدخل إيران المبكر والفصائل الموالية لها على رأسها حزب الله اللبناني، ومن ثم التدخل الروسي الحاسم عام 2015، المعادلات في الميدان تدريجيا لصالح الأسد، بعدما كانت قواته قد فقدت سيطرتها على نحو 80 في المئة من مساحة سوريا تشمل مدنا رئيسية وحقولا للنفط، ووصلت فصائل المعارضة إلى أعتاب دمشق.

سيطرة مهزوزة

في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية في فبراير 2016، أكد الأسد أن هدفه ليس أقلّ من استعادة كامل الأراضي السورية. وقال “سواء كانت لدينا استطاعة أم لم يكن، هذا هدف سنعمل عليه من دون تردّد. من غير المنطقي أن نقول إن هناك جزءا سنتخلّى عنه”.

ويسيطر النظام اليوم على أقلّ من ثلثي مساحة البلاد، لكن المشهد ليس براقا بالنسبة إليه لدى معاينة خارطة السيادة على حدود البلاد.

ويوضح الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش في تقرير نشره مؤخرا، أنّ القوات الحكومية “تسيطر على 15 في المئة فقط من حدود سوريا”. ويقول إن “الحدود هي رمز السيادة بامتياز، وبطاقة أداء النظام لا تزال فارغة تقريبا على تلك الجبهة”.

في المقابل، تسيطر القوات التركية والأميركية والكردية أو المجموعات المدعومة من طهران، بحكم الأمر الواقع، على ما تبقى من الحدود. ويعتبر بالانش أن القوى الخارجية “تقسّم البلاد بشكل غير رسمي إلى مناطق نفوذ متعددة، وتسيطر بشكل أحادي على معظم حدودها”.

وفي بودكاست بثّته مجموعة الأزمات الدولية الشهر الماضي بعنوان “الصراع المجمّد” في سوريا، تقول الباحثة دارين خليفة “أفضل الخيارات السيئة المتاحة لدينا اليوم هو تمادي الجمود” القائم، معتبرة أنّ تجاوزه في محاولة لتسوية النزاع يمرّ عبر تحسين جذري للظروف المعيشية التي يواجهها الشعب السوري.

وفق الأمم المتحدة، يعاني نحو ستين في المئة من سكان سوريا حاليا، من انعدام الأمن الغذائي، في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي فاقمتها عقوبات “قيصر” الأميركية، فقد خسرت الليرة 98 في المئة من قيمتها خلال عقد من الزمن. وقدّر تقرير لمنظمة الرؤية العالمية هذا الشهر كلفة الحرب السورية بنحو 1.2 تريليون دولار.

ولا يجد العديد من السوريين ما يتطلعون إليه في بلد باتت مقدراته بيد المنتفعين من الحرب والأجهزة الأمنية. ووسط هذا المشهد المحزن، شكّلت إمكانية تحقيق نوع من العدالة لضحايا النزاع بارقة أمل لشريحة واسعة من السوريين.

ففي أواخر فبراير الماضي، قضت محكمة ألمانية بالسجن أربع سنوات ونصف السنة لعضو سابق في الاستخبارات السورية بعد إدانته بتهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية”، في إطار أول محاكمة في العالم تتعلق بانتهاكات منسوبة إلى نظام الأسد.

لكنّ بشار الأسد البالغ 55 عاما والموجود في السلطة منذ العام 2000 ودائرته الضيقة ما زالا بعيدين عن أي مساءلة، لا بل يستعد لخوض انتخابات لولاية رئاسية رابعة الصيف المقبل يرجح أن يفوز بها، في وقت لم تثمر الجهود الدولية المبذولة في التوصل إلى تسوية سياسية لإنهاء النزاع.

ومن دون تسوية سياسية تحت سقف الأمم المتحدة، لن تتمكن دمشق من استقطاب المنظمات الدولية والجهات المانحة لدعمها في عملية استنهاض الاقتصاد المنهك وتمويل عمليات إعادة الإعمار، فيما يبدو أن حلفاء دمشق لا يملكون موارد كافية لذلك.

ويقول رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا جيل برتران “سوريا واحدة من البلدان الشابة في المنطقة، ونسبة كبيرة من سكانها لم تكن قد ولدت حتى في العام 2011”.

ويضيف “هؤلاء الفتيات والفتيان سيصبحون شبابا في سوريا خلال خمس أو 10 سنوات، وسيريدون بدورهم مستقبلا وآفاقا اقتصادية وحريات سياسية لا يمكن للنظام أن يمنحها لهم إذا لم يجر إصلاحات”.

العرب

————————

السلام «لم يقترب» من سوريا بعد عشر سنوات على الصراع

تراجع حدة المعارك… واستمرار نزيف المدنيين

بيروت – لندن: «الشرق الأوسط»

بعد عقد من العنف ومأساة إنسانية جعلت الحرب السورية تطبع بداية هذا القرن، تراجعت وتيرة المعارك وحدّة القتال في البلاد، لكن الجراح لا تزال نازفة وأفق السلام غير منظور، حسب تقرير لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

في نهاية عام 2011، بدا أن الرئيس بشار الأسد ونظامه قاب قوسين من السقوط وسط ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة عدّة حكمت بلادها لعقود بقبضة حديدية. لكن بعد عشر سنوات، لا يزال الأسد في مكانه بعد انتصار باهظ الثمن لم يوفّر فرصة حقيقية لأي مصالحة مع الشعب، وهو يمارس اليوم سيادة محدودة على أرض باتت فريسة لقوى أجنبية متناحرة.

استغرق اشتعال موجة الاحتجاجات وقتاً في سوريا، حيث كان التظاهر محظوراً منذ نصف قرن، إلى أن انتقلت إليها من تونس ومصر وليبيا. وبدت بعض التجمعات الأولى، على غرار الوقفات الاحتجاجية أمام السفارة الليبية في دمشق، بمثابة دعم للانتفاضات الجارية في بلدان أخرى، لا تحدياً مباشراً لعائلة الأسد التي حكمت البلاد لأربعة عقود.

ويستعيد الناشط الحقوقي البارز مازن درويش في مقابلة عبر الهاتف ما حصل قائلاً «كنا نهتف من أجل الحرية والديمقراطية كشكل من أشكال الدعم لتونس ومصر وليبيا، لكننا في الحقيقة كنا نهتف لسوريا».

ويقول درويش الذي اعتقل مرات عدة في سوريا، آخرها في فبراير (شباط) 2012 لأكثر من ثلاث سنوات قبل الإفراج عنه عام 2015 ثم مغادرته البلاد «بات شغلنا الشاغل البحث عن الشرارة التي توصل الدور إلينا، وهاجسنا سؤال: من هو البوعزيزي السوري؟»، في إشارة إلى البائع المتجوّل التونسي محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2011، وشكل ذلك شرارة انتفاضة تونس.

إلى أن أقدم فتيان على كتابة عبارة «أجاك الدور يا دكتور»، في إشارة إلى الأسد على جدار في مدينة درعا في جنوب البلاد، في إشارة إلى مصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي الذي اضطر إلى الفرار إلى المنفى، أو مصير الرئيس المصري حسني مبارك الذي استقال تحت ضغط الشارع والجيش. واعتقل فتيان درعا وتعرضوا للتعذيب؛ ما دفع المحتجين للخروج إلى الشارع. لم يكن تاريخ 15 مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي تستخدمه «وكالة الصحافة الفرنسية» وجهات عديدة لتوثيق بدء الانتفاضة السورية، اليوم الأول للاحتجاجات، لكنه اليوم الذي خرجت فيه المظاهرات بشكل متزامن في أنحاء مختلفة من البلاد.

سرعان ما تحوّلت الاحتجاجات إلى نزاع دام أجبر نصف عدد سكان سوريا البالغ قرابة 22 مليون إلى مغادرة منازلهم، في أكبر موجة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية. وفرّ نصف النازحين خارج البلاد، وقادت قوارب الموت عدداً كبيراً منهم إلى شواطئ أوروبا، في ظاهرة كان لنطاقها الواسع تأثير على الرأي العام والمشهد السياسي والانتخابات في القارة العجوز.

ووسط الفوضى التي ولّدها النزاع المسلح، أعلن تنظيم «داعش» السيطرة على أراض في سوريا والعراق المجاور.

مع عسكرة النزاع، أرسلت إيران والولايات المتحدة، الخصمان اللدودان، قوات إلى سوريا لحماية مصالحهما، كذلك فعلت تركيا. وبدأت روسيا في نهاية سبتمبر (أيلول) 2015 أكبر تدخل عسكري خارج حدودها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، في خطوة رجّحت الكفة في الميدان لصالح الأسد.

خلال عشر سنوات من الحرب، قُتل قرابة 400 ألف شخص، وفق «المرصد السوري لحقوق الإنسان». واستخدم النظام الأسلحة الكيماوية ضد مناطق مدنية لإخضاع جيوب المعارضة فيها. وشنّت طائراته غارات كثيفة بالبراميل المتفجّرة على مناطق مأهولة بالسكان، مخلفة الموت العشوائي. واعتمد بشكل منهجي سياسات الحصار والتجويع لإخضاع خصومه. ولم يتردد سلاح الجو في تنفيذ عدد لا يُحصى من الضربات ضد منشآت طبية.

حوّل قمع النظام السريع للاحتجاجات، ومن ثمّ تصاعد نفوذ الفصائل المتطرفة الذي عززه الإفراج الجماعي عن مقاتلين من تنظيم «القاعدة» من السجون السورية، الانتفاضة السورية إلى حرب مدمرة.

ونجح العنف المفرط في أداء تنظيم «داعش» وقدرته على جذب مقاتلين من أوروبا وخارجها، في زرع الخوف لدى الغرب بشكل قضى تدريجيا على الحماسة المؤيدة للديمقراطية. وانصبّ اهتمام العالم على قتال المتطرفين، متناسياً نضال الشعب السوري، وسرعان ما عاد الأسد ليقدّم نفسه كحصن منيع ضد الإرهاب.

ويقول درويش «أعتقد أننا دخلنا الثورة بكثير من السذاجة… كنا نتعامل مع الموضوع بشكل عاطفي وشاعري ورومانسي، اعتبرنا أن منظومتنا الأخلاقية وحدها كافية»، مضيفاً «لم تكن لدينا أدوات في حين الآخرون، سواء النظام أم الجماعات الإسلامية، كان لديهم شركاء حقيقيون وإمكانات مالية مهولة».

في عام 2012، وصف الرئيس الأميركي باراك أوباما استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية بـ«خط أحمر». لكن عندما تمّ تجاوز هذا الخط بعد عام عبر هجوم كيماوي استهدف الغوطة الشرقية قرب دمشق، امتنع أوباما عن القيام بتدخل عسكري انتظره كثيرون، وشكل ذلك لحظة حاسمة طبعت عهده وحالت دون توجيه ضربة قوية لنظام الأسد.

وكانت الفصائل المعارضة التي قاتلت تحت رايات عدة وتلقى بعضها تمويلاً وسلاحاً من الخارج، تمكنت في السنتين الأوليين من إلحاق خسائر كبيرة بالجيش السوري الذي أضعفته أيضاً الانشقاقات. لكن تدخل إيران المبكر والفصائل الموالية لها على رأسها «حزب الله» اللبناني، ومن ثم التدخل الروسي الحاسم عام 2015، غيّرا المعادلات في الميدان تدريجياً لصالح الأسد، بعدما كانت قواته قد فقدت سيطرتها على نحو 80 في المائة من مساحة سوريا تشمل مدناً رئيسية وحقول نفط. ووصلت فصائل المعارضة إلى أعتاب دمشق.

وبدعم من طائرات وعتاد ومستشارين روس، وبمساندة من مجموعات موالية لطهران على رأسها «حزب الله» اللبناني، استعاد الأسد زمام المبادرة، ونفذت قواته حملة انتقامية متبعة سياسة «الأرض المحروقة» لاستعادة المناطق التي خسرتها.

في فبراير 2016، أكد الأسد أن هدفه ليس أقل من استعادة كامل الأراضي السورية. وقال «سواء كانت لدينا استطاعة أم لم يكن، هذا هدف سنعمل عليه من دون تردّد. من غير المنطقي أن نقول إن هناك جزءاً سنتخلّى عنه».

بعد ذلك، تمكنت قواته من فرض حصار خانق على الأحياء الشرقية في مدينة حلب ترافق مع هجوم عسكري واسع بدعم جوي روسي. وتكرّر السيناريو ذاته لاحقاً في الغوطة الشرقية ومناطق أخرى. وانتهت معظم هذه الهجمات باتفاقات تسوية تضمنت إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين إلى محافظة إدلب في شمال غربي سوريا، حيث يقيم قرابة ثلاثة ملايين نسمة حالياً، نصفهم نازحون تقريباً، في ظروف صعبة تحت سيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً).

وعزّزت تركيا التي تنشر 15 ألف جندي في سوريا نفوذها، خصوصاً في المناطق الشمالية السورية قرب حدودها.

ويسيطر حاليا المقاتلون الأكراد الذين تلقوا دعماً أميركياً في تصديهم لتنظيم «داعش» منذ عام 2014، على مناطق واسعة في شمال وشمال شرقي سوريا بعد قضائهم على مناطق «داعش» في عام 2019.

وفي حين أرسى اتفاق لوقف إطلاق النار توصلت إليه موسكو وأنقرة هدوءاً نسبياً في منطقة إدلب مستمراً منذ عام، يبدو احتمال شنّ الأسد هجوماً لطالما هدّد به مستبعداً في الوقت الحاضر. ويقول محللون، إن من شأن أي هجوم جديد أن يضع القوتين العسكريتين، أي روسيا وتركيا، في صدام مباشر.

ويسيطر النظام اليوم على أقلّ من ثلثي مساحة البلاد، لكن المشهد ليس براقاً بالنسبة إليه لدى معاينة خريطة السيادة على حدود البلاد. ويوضح الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش في تقرير نشره مؤخراً، أنّ القوات الحكومية «تسيطر على 15 في المائة فقط من حدود سوريا».

ورغم أن العام الماضي سجّل حصيلة القتلى الأدنى منذ اندلاع النزاع مع تراجع الأعمال القتالية إلى حد كبير، ما قد يوحي أن الحرب انتهت نوعاً ما، فإن حياة سوريين كثر هي اليوم أكثر سوءاً من أي وقت مضى. ويقول حسام (39 عاماً) المقيم في دمشق عبر الهاتف «انتهت الحرب بمعنى توقف القتال والمعارك، لكن جراحنا ما زالت تنزف».

ويعاني نحو 60 في المائة من سكان سوريا حالياً، وفق الأمم المتحدة، من انعدام الأمن الغذائي. وخسرت الليرة السورية 98 في المائة من قيمتها خلال عقد من الزمن. وقدّر تقرير لمنظمة الرؤية العالمية هذا الشهر كلفة الحرب السورية بـ1.2 تريليون دولار.

وسط هذا المشهد المحزن، شكّلت إمكانية تحقيق نوع من العدالة لضحايا النزاع بارقة أمل لشريحة واسعة من السوريين. وفي 24 فبراير، قضت محكمة ألمانية بالسجن أربع سنوات ونصف السنة لعضو سابق في الاستخبارات السورية بعد إدانته بتهمة «التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية»، في إطار أول محاكمة في العالم تتعلق بانتهاكات منسوبة إلى نظام الأسد. لكنّ هذا الأخير ودائرته الضيقة ما زالا بعيدين عن أي مساءلة. لا بل يستعد الأسد (55 عاماً) الموجود في السلطة منذ عام 2000، لخوض انتخابات لولاية رئاسية رابعة الصيف المقبل.

ويقول رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا جيل برتران «سوريا واحدة من البلدان الشابة في المنطقة، ونسبة كبيرة من سكانها لم تكن قد ولدت حتى في عام 2011». ويضيف «هؤلاء الفتيات والفتيان سيصبحون شباباً في سوريا خلال خمس أو عشر سنوات، وسيريدون بدورهم مستقبلاً وآفاقاً اقتصادية وحريات سياسية لا يمكن للنظام أن يمنحها لهم إذا لم يجر إصلاحات».

الشرق الأزسط

————————

بعض الأشياء التي تعلمتها عن كيف لا نتذكر الثورة/ لينا عطا الله

أطاحت الانتفاضات الشعبية التي شهدتها تونس والقاهرة وطرابلس بداية سنة 2011 برؤساء مستبدين ومبغوضين. وكان وقع هذه الأحداث كبيرا في كامل المنطقة، من المغرب إلى عمان، ومن سوريا إلى العراق. ثم أتى زمن الجمود -وكان أقل الأضرار- والقمع المتوحش والحرب والأحزان. كانت هذه الشعوب تطمح للتغيير، لكنها ورثت في أغلب الأحيان وضعا أسوأ. في سلسلة من المقالات التي ننشرها بالتشارك مع شبكة الإعلام المستقل من العالم العربي التي يشكلها أوريان 21 مع مواقع الإعلامية العربية المستقلة، يقدم عدد من الصحفيين والمختصين من أبناء المنطقة تحاليلهم وخواطرهم حول ثورات الربيع العربي وتداعياتها.

نستهل هذه السلسة بمقال لينا عطا الله، رئيسة تحرير موقع مدى مصر والتي تنطلق فيه من قراءة مشتركة لنص كتبه الفيلسوف فالتر بنيامين سنة 1940 في محاولة لإعادة النظر في الطريق الذي سلكته مصر منذ عشر سنوات. ربما لم ينته كل شيء، رغم الموت المخيم واليأس.

غمرني التعب عندما يصبح فعل التذكر في المتن العام شديد التماثل. الصورة نفسها. والأسئلة ذاتها. ميدان التحرير بين الامتلاء والخواء. ماذا تبقى من الثورة؟ هل تبقى أي شيء؟ هكذا تضع السؤال أمامي صحفية التلفزيون الأوروبي حالها حال صحفي الراديو الأمريكي. الكاميرا في مواجهتي وكذلك الميكروفون، الأولى تعميني والثاني يعنفني، ولكنهما لا يبحثان عن اجاباتي. الموضوع منتهي وأنا مجرد كومبارس يؤكد على انتهائه.

في محاولة لتجاوز دور الكومبارس، أحاول أن أسحب محاورتي الى منطقة ميتافيزيقية ما وأحدثها عن السحر. السحر الذي يركبنا كزي خفي ويحرك أشياء فينا دون أن نعرف، واللحظات الخلاصية التي تظهر أمام أعيننا عندما نعي بهذا الخفاء. لم تفهمني وربما تحولت في ذهنها الى نفس دروشَتها صدمات متتالية. استمتعت داخليًا بمحاولتي وما حركت عند محاورتي من تخيلات عن قواي العقلية.

احتياج للفهم مجددًا

بداية العام الماضي، دعتنا الصديقة سلمى شامل لمجموعة قراءة لأعمال فالتر بنيامين، ليس بدافع دراسة كتاباته في المطلق، ولكن بدافع مقاربتها كمنهجية للمعرفة. أصبحت لقاءاتنا الأسبوعية بمثابة تجسيد لما قد يدعونا له بنيامين أو حسبما فهمت: كيف نستحضر مقطع ما من التاريخ لتلبية احتياجات الحاضر؟ أصبح استحضار ما كتبه بنيامين محاولة لتلبية احتياج ما للحظة: احتياج للفهم مجددًا، أو محاولة الفهم بشكل مختلف، أو تهريب الفهم من عملية انتاج المعرفة المهيمنة، بما يحتويه الفهم من فعل التذكر. تستوقفني أحيانًا حالتنا: جماعة من المهنيين، أكاديميين وكتاب وفنانين وصحفيين، غارقين في فك شفرات كتابات جاءتنا من أربعينيات القرن الماضي، مترجمة من لغتها الأولى ونقرأها معظمنا بلغتنا الثانية. أنجذب إلى طاقة محاولة الفهم هذه، بما فيها من مشاعر الارتباك في أحيان ونشوة الوصول لمعنى في أحيان أخرى. تبدو لي من أفضل محاولات التعامل مع الأزمة: كيف نكون ذوات سياسية في واقعنا الحالي؟ وكيف تكون سياسة ذواتنا نابعة من محاولة أصيلة للاشتباك مع الواقع بعيدًا عن سهولة المسلمات؟ وما موقع التاريخ في هذه الخريطة؟

في عام 1940 كتب بنيامين نص عن مفهوم التاريخ مكون من 20 مقطع، قرأناهم سويًا مقطعًا مقطعًا عبر عدة جلسات. كتبه قبل هروبه من فرنسا وقت تسليم اليهود للغستابو الألماني وانتحاره. أرسل نسخة من النص لصديقته حنا أرندت ليس بغرض النشر، ولكنها ستعبر بهذه النسخة فيما بعد الحدود الفرنسية الإسبانية لتزور قبر صديقها على ضفاف البحر المتوسط وتسلم نسخة النص لأصدقائه لتصل لثيودور أدورنو الذي يتولى نشره لاحقًا.

قد يلبي نص «عن مفهوم التاريخ»، بين أشياء أخرى، احتياجنا للإجابة عن سؤالين: كيف نجعل نظرية الزمن أكثر مواءمة لواقعنا الحالي ولالتزاماتنا السياسية؟ وكيف يمكننا التعاطي مع الماضي بشكل سياسي وليس فقط تاريخي؟

لجنة المعادي الشعبية

الأساسيات في مفهوم بنيامين عن التاريخ تبدأ من التحرر من استهلاك التاريخ كتطور خطي للأحداث والنظر للوقت كشيء متجانس ومتراتب وخاوٍ، واستبدال ذلك بعملية لاستحضار مقاطع بعينها تتقاطع مع حاضرنا. تَظهر لنا هذه المقاطع في لحظات الاحتياج، لحظات الأزمة، وهنا يصبح تقاطع الماضي مع الحاضر لحظة مكثفة، لحظة سياسية. كنت أعيد قراءة نص بنيامين عندما استرسل صديق في الحديث عن لجنة المعادي الشعبية للحفاظ على مكتسبات الثورة التي تكونت في 2011. استوقفني تذكره لهذه اللحظة وسألت نفسي: كيف أثرت هيمنة مركزية السردية الخطية لتاريخ الثورة على هذه الهوامش، هذه المقتطفات والشظايا التي لم نقف عندها كثيرًا؟ في انتصاريته، هناك شيء من الشاعرية في اسم «لجنة المعادي الشعبية للحفاظ على مكتسبات الثورة». وفي هذه الشاعرية، هناك حس سياسي قد يعيد تنظيم فهمنا للسياسات الصغرى المكونة للمشهد الثوري الكبير. ناهيك عما هي اللجنة فعليا، ومن هم أعضاؤها، وكيف يعملون، وما هي أهدافهم، وما هي علاقتهم بحي المعادي في ثورة هيمن ميدان التحرير على مخيلتها الجغرافية؟ وما الذي يمكن أن تقوله لنا حالة هذه اللجنة عن علاقة المحلي بالسياسي وما هي أفق وحدود المحلي في الممارسة والكينونة السياسية؟ وما الذي كان يمكن أن يحدث إن أفسحنا مساحة السرد التاريخي لحدث الثورة لتضم قصة اللجان الشعبية بشكل أكثر جدية؟

فتح غرف الماضي

تبدو لي لجنة المعادي الشعبية للحفاظ على مكتسبات الثورة كانحراف لتاريخ 2011 الملحمي كما نعرفه، وكما لقنّاه لأنفسنا. يحدثنا بنيامين عن الانحرافات والطرق التي لم نسلكها ويجعلنا نتساءل عن الإمكانيات الكامنة فيها. عند بداية الثورة وانسحاب قوى الأمن أمام حالة التصميم الثوري، ظهرت لجان شعبية من نوع آخر في المناطق المختلفة، هادفة بشكل أساسي الى سد الفجوة الأمنية ولعب دور الدولة لحماية المناطق. ظهرت الاختلافات السياسية بمكوناتها الطبقية والجغرافية والجندرية في جسم هذه اللجان، وطاف على السطح مشهد القوة عندما يكتسبها الأشخاص أو يسترجعونها من الدولة. أصبحنا أمام استعراض لهذه القوة كل بحسب ما يمتلكه من أداة: أبناء حي الزمالك يقفون عند مداخل حيهم بالعوامات والأسلحة الآلية، وأبناء امبابة ينتظرون بعصي الشوم وبأجسام رجولية ضخمة. تحولت اللجان هذه لهامش لا نلتفت له كثيرًا في طريقنا من وإلى الميدان، ربما لأنه يربكنا أو يخرجنا عن الحالة المنسجمة المتطهرة التي فرضت نفسها على الميدان على اختلاف مكوناته هو أيضًا. كان هناك إيهام بالانسجام حتى على مستوى خطوط الرفاقية والعداء داخل الميدان. كل شيء خارجه بات مربكًا، ربما لما يمثله من التعقيد الأصيل للواقع. قد تتشابه حالة فرض انسجام ما على الواقع هذه مع ما حاول القيام به صديقا بينامين القريبان، ثيودور أدورنو والمؤرخ غيرشوم شولم عندما غيّبا رسائله للكاتب المحافظ كارل شميت، والذي عبر بنيامين عن فضوله واهتمامه بمشروعه الفكري مرارًا وتكرارًا في مرحلة ما من حياته. تقول لنا محاولات قراءة هذا التقرب (بين بنيامين وشميت) أن الأمر يعود إلى البعد اللاهوتي في فكر بنيامين، وهو البعد الذي خلق مسافة بينه وبين المادية التاريخية التقليدية. بعيدًا عن وساطة أدورنو وشولم لتقديم بنيامين لنا كمفكر ثوري وتقدمي متجانس، أتساءل عن سر هذا التقرب، وما يمكن أن يوحيه لحلحلة ثنائية الثورة والثورة المضادة، الثنائية التي تبحث عن أريحية سياسية في خلق حدود خيالية بين الأشياء. ماذا لو لم يكن هناك مساحة فاصلة بين العالمين؟ أين نقف وكيف نشتبك؟

في استحضار اللجان الشعبية المحلية على اختلاف أشكالها، تعجبني حالة فتح غرف الماضي التي لم تُفتح. يشير بنيامين لهذه الغرف كحاويات للمستقبل يحب علينا تخليصها. يستدعي الأمر التوقف عن النظر الى الماضي كصورة أبدية، ولكن كمجموعة من التجارب.

أجلس على الجانب الآخر من المكالمة منتظرة السؤال الصحفي الحتمي الذي سننهي به الحوار أخيرًا: هل انتهت الثورة؟ الإجابة بنعم قد تخلصني من هذا المأزق المتكرر. والإجابة بلا قد توحي بسذاجة سياسية من المستحيل ألا أكون تجاوزتها بعد كل هذه السنوات. أجد مزيجا من الانضباط الفكري والتحرر الفكري في الوقت نفسه، في دعوة الابتعاد عن منطق اكتمال السردية التاريخية ومقاربة التاريخ كشيء غير مكتمل. أحاول أن أجد كلمات تصف استمرار الماضي عبر فعل التقاطه في الحاضر، في أوج الأزمة، في قمة الشعور بالانسداد، وأن الفعل السياسي يكمن هنا. لا أعرف إن كانت ستستخدم كلماتي في النهاية. فعشرية الثورة تأتي كنُصب زمني صلب، نُصب تذكاري يعنوِن زوال الحدث وينعيه.

ربما علينا أن نتجاوز العشرية هذه وكل العشريات.

—————————

تاريخ عبثي ومستقبل مطلق/ سارة رفقي

بعد عشر سنوات من تنحي حسني مبارك عن الحكم في مصر، كيف نقرأ ميراث “الربيع العربي” في بلد يحكمه عبد الفتاح السيسي بقبضة من حديد؟ بالنسبة لسارة رفقي، يجب استرجاع “ماضي المستقبل”، أي الأفكار التي سبقت وتلت الثورة، وطريقة تخيلها واختبارها.

أطاحت الانتفاضات الشعبية التي شهدتها تونس والقاهرة وطرابلس بداية سنة 2011 برؤساء مستبدين ومبغوضين. وكان وقع هذه الأحداث كبيرا في كامل المنطقة، من المغرب إلى عمان، ومن سوريا إلى العراق. ثم أتى زمن الجمود -وكان أقل الأضرار- والقمع المتوحش والحرب والأحزان. كانت هذه الشعوب تطمح للتغيير، لكنها ورثت في أغلب الأحيان وضعا أسوأ. في سلسلة من المقالات التي ننشرها بالتشارك مع شبكة الإعلام المستقل من العالم العربي التي يشكلها أوريان 21 مع مواقع الإعلامية العربية المستقلة، يقدم عدد من الصحفيين والمختصين من أبناء المنطقة تحاليلهم وخواطرهم حول ثورات الربيع العربي وتداعياتها.

عشية تنحي الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، في شباط (فبراير) 2011، كان شعوري أن الحرية المطلقة تأتي مع شعور بالمحاصرة وسط حشد من الناس. سمح لي هذا الشعور الحاد بالتفكير في الثورة ليس كمُعطى ثابت، بل كمفهوم دائم التغير عبر الزمن، سواءً الزمن التاريخي أو الزمن كما نتخيله ونختبره.

استجابة لمطالب حاضرنا السياسي، أريد أن نفكر في أهمية إيجاد طرق لاسترداد «ماضي المستقبل» أو المستقبلات السابقة (راينهارت كوسيليك). تظهر الفكرة الدافعة لهذا السؤال في أعمال عدد من الكتاب والمؤرخين والأنثروبولوجيين، ومن بينهم أشيل مبيمبي وجاري “وايلدر وديفيد سكوت وغيرهم. في كتابه”زمن الحرية: تفكيك الاستعمار ومستقبل العالم (2015)، يقول وايلدر:

القدرة على الفعل

هناك قيمة أساسية في استرجاع المستقبل المتخيّل الذي لم يتحقق أبداً. كلما ابتعد بنا الزمن عن لحظة اندلاع انتفاضات العالم العربي، أفكر في تأويل علاقتنا بالماضي، وكيف يمكنها تشكيل المستقبل. لذلك أريد أن أتوقف سريعاً عند فكرة رئيسية من أفكار الشهيرة حنة آرنت، إحدى أكثر الفلاسفة السياسيين والمفكرين الإنسانيين تأثيراً في القرن العشرين.

أتحدث عن فكرة الميلادية (natality). الميلادية تختلف إلى عن الولادة، وهي في مكان ما تعني القدرة على الفعل. ترى آرنت أن الميلادية، كحالة اجتماعية وسياسية، هي العملية الراديكالية المتمثلة في القدوم إلى العالم، والتواجد بين الناس – الغرباء – الذين يرسمون العالم من حولنا على نحو يتجاوز معرفتنا ونوايانا. تنبثق القدرة على الفعل بالمعنى السياسي من حالة الميلادية هذه، إلا أنها لا تتجلى دائماً بشكل عياني. لعل أبرز مظاهر تجلي القدرة على الفعل، بالمنطق السياسي، هو إطلاق الثورة. لكن في الوقت نفسه، نفس القدرة على الفعل تتجلى على مستويات أقل أدائيةً من الثورة، وفي نطاقات أقل مشهديةً من الدولة القومية. وحتى في غياب وفشل القدرة على الفعل، فإنها تظل موجودة على مستوى المجتمع والحارة والتنظيمات المختلفة.

حاضر بلا مستقبل

فكرة آرنت عن الحب هي ما يحرّك نظريتها السياسية، وهو ما يظهر من خلال أطروحتها عن “كتابات القديس أوغسطين” التي كتبتها عام 1929. خلقت آرنت مساحة فكرية تمكّنها من فهم الأفكار المفكّكة والمتناقضة لمفكر عالق بين أزمنة مختلفة. في هذه المساحة٬ ندرك المفاهيم المختلفة للحب، ونميز بين الحب البشري باعتباره عابراً وحب الإله الأبدي. كل حالات الحب مرتبطة بأدوار الزمن والذاكرة والتاريخ، لكن إذا كان الحب البشري (cupiditas) عابراً، وشغوفاً، وموجهاً نحو المستقبل، فإن الحب الإلهي هو «حاضر بلا مستقبل»، أو حاضر أبدي (nunc stans). هذا الحاضر الأبدي ليس منفصلاً تماماً عن تجربتنا الإنسانية، لأننا نلاحظه من خلال التذكر أو «استعادة الماضي». يرسَخ الزمن البشري أمامنا في نصب الذاكرة، وهذه الذاكرة هي مصدر رغباتنا لأنها «تحول الماضي إلى إمكانية مستقبلية». بالنسبة لأرنت، وربما بالنسبة لنا، «المستقبل المطلق هو الماضي النهائي».

يشير المؤرخ والفيلسوف الألماني راينهارت كوسيليك في كتابه “ماضي المستقبل: في دلالات الزمن التاريخي” (1979) إلى الصلة بين التسلسل الزمني للماضي والحاضر المُعاش الذي كان يوماً ما مستقبلاً متوقعاً، من جهة، وبين توقعات المستقبل من جهة أخرى، بمعنى أن أي حاضر هو في نفس الوقت مستقبل سابق. كان كوسيليك أحد قراء آرنت ومعاصريها الأصغر سناً ممن أصبحوا من كبار منظري التاريخ في ألمانيا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. اشتهر كوسيليك بابتكاره مجال «التاريخ المفاهيمي» (begiffsgeschichte)، وقد أوضح كيف يتطابق التسلسل الزمني والزمن المُعاش ويتباعدان في نفس الوقت. اعتبر أن التسلسل الزمني هو مرجع (نقطة انطلاق ثابتة) يمكن على أساسه تسجيل الحالة الزمنية المؤقتة، ولكن هذه النظرة في حد ذاتها ليست إلا نتاج للبنية التي نمنحها للأحداث المُعاشة.

ماضي المستقبل

طعّم كوسيليك فهمه للزمن بأفكار معلم آرنت وصديقها وعشيقها مارتن هايدغر، ولا سيما في كتابه “الوجود والزمان” (1927) الذي ينظر إلى الأشخاص وفقاً لإمكانياتهم ومستقبلهم، بشكل يجعل التاريخ ليس قراءة للوقائع بشكلها الأبسط بل أيضاً للاحتمالات، «أو للدقة الاحتمالات والآفاق والتصورات السابقة للمستقبل: ماضي المستقبل». لم تدخل آرنت في حوار مباشر مع كوسيليك، إلا أن كليهما قارب التاريخ من نفس الخط الفكري، مع التركيز على أهمية «الشرط المسبق» للأحداث التاريخية والسياسية المحتملة. وكلاهما شدّد على ضرورة إعادة التفكير بشكل مفاهيمي في التاريخ ككل وكما وقع بالفعل. وكلاهما وصف التاريخ بأنه «عبثي».

عند التفكير في تلك الأيام، بمناسبة تتابع مرور الزمن، أشعر أن ما حدث في 2011 أقل دلالة وأهمية بكثير مما حدث بعد ذلك، بغض النظر عن النتيجة. في هذه المداخلة الموجزة التي تدعونا إلى التفكير في «ماضي المستقبل»، والذي يتخفى مفاهيمياً في التاريخ والثورة، أفكر في طبيعة الثورة ذاتها، كفكرة، وفي طريقة تفكيرنا فيها، وفي أن ما تنطوي عليه – تاريخياً ومفاهيمياً – هو عرضة للتغيير.

———————

================

تحديث 10 أذار 2021

——————–

عشر سنوات من عقاب السوريين!/ فايز سارة

ينقسم السوريون اليوم إلى مجالين جغرافيين؛ أحدهما خارج سوريا، والثاني داخلها. وإذا كان المجال الأول رحباً واسعاً منوعاً ومتعدداً، حاضراً في عشرات الدول المختلفة والمتباينة في كل شيء بما فيه عدد السوريين ومكانتهم فيها، فإن المجال الثاني على ضيقه ومحدوديته، فيه من التنوع والاختلاف، كثير مما يتركه على واقع السوريين في حياتهم وفي مستقبلهم أيضاً.

المجال الجغرافي الأول الذي يعني سوريي الشتات، حسم مستقبل السوريين فيه إلى واحد من احتمالين؛ أولهما لاجئون في مسار يصبحون من خلاله مواطنين بعد وقت يطول أو يقصر، والثاني باعتبارهم «لاجئين» أو «مقيمين» أو «ضيوفاً» إلى آخر ما جادت به لغات المستضيفين من تعابير، حيث إقامتهم هناك مؤقتة، بانتظار عودتهم أو أكثرهم إلى بلدهم في إطار حل مقبل للقضية السورية.

أما المجال الثاني الذي يشمل السوريين الباقين في بلدهم، فما زال مستقبلهم فيه مفتوحاً على كل الاحتمالات، كما كانت عليه الحال في السنوات العشر الماضية. فقد يصيرون ضحايا لموجات العنف المتواصلة، التي تتابع فصولها سلطات الأمر الواقع في المناطق السورية الثلاث والداعمين الإقليميين والدوليين لها كل ضد سكان المناطق الأخرى أو ضد بعض سكانها، فتقتل وتسجن وتشرد سوريين هنا وهناك، وهي إلى ما سبق، تطبق سياسات وممارسات، لا ترتبط بعموم السوريين بمقدار ارتباطها بهموم القوة المسيطرة ومصالحها الفئوية وسط مراعاة محدودة للبيئة الحاضنة ولو شكلياً، فيما تنفذ سياسات سيطرة واستغلال ونهب ضد ما تبقى من سكان، تحرمهم من أي حقوق سياسية أو اجتماعية، وهي في كل الأحوال، لا تعدم تقديم مبررات لسياستها، ولعل أسهلها الحرص على تحصين مناطقها في مواجهة الآخرين.

ورغم أهمية ما تقدم في سياسات سلطات الأمر الواقع في المناطق السورية الثلاث، المحكومة بسياسات إقليمية ودولية نافذة على تلك السلطات، فإن السياسات التي تتابعها تتسم بالسوء والتردي المتقارب، لدرجة يكاد يعتقد المتابع لهذه السياسات كأن هناك توافقاً أو تواطؤاً بين الثلاثة على اتباع السياسة ذاتها ولو بفارق بسيط. ففيها جميعاً غياب لأي صوت سياسي مختلف، لا يعزف على أوتار القوى القابضة على السلطة، والأمر في ذلك ينطبق على منع العمل المدني والإعلام المستقل، ويتعداها إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي الذي تغيب فيه خطط وبرامج تنمية معلنة، ويجري تعطيل القدرات المحلية في تحسين الأوضاع القائمة، بل إن الأمور تسير بالعكس في تكريس العطالة والاعتماد على المساعدات وعلى الجباية، حيث على السكان أن يدفعوا من أجل كل شيء، وتعزيز شبكات النهب وتكريس فساد في النخبة القابضة ومحيطها القريب، وتردي التعليم والقضاء وفساد ما هو موجود منهما.

لعل أهم جوانب التشابه بين قوى سيطرة الأمر الواقع، هو استنادها جميعاً إلى منظومات آيديولوجية سياسية، وإن كانت مختلفة في خلفياتها، فإنها موحدة في وظيفتها في ادعاء حقها في الوجود والسيطرة. فمن القومية والوطنية البعثية – الأسدية، وشعارات عودة سيطرة الدولة وجيشها إلى آخر أطروحات التضليل، التي يتم استخدامها من أجل إخضاع سكان مناطق سيطرتها، وتكريس نظام الأسد بكل جرائمه وتاريخه مجدداً، وصولاً إلى منطق السلفية الجهادية في إدلب وأخواتها من الجماعات المسلحة، التي تتشارك جميعها السعي لإقامة «نظام إسلامي»، يتراوح بين إمارة، تنتمي إلى «القاعدة» حسبما تتبنى «هيئة تحرير الشام»، أو دولة تقوم على «الشريعة الإسلامية» وسط أفق لا يفتح إلا باتجاه ما يتبناه «القاعدة» و«داعش» على هامش اختلافاتهم الطفيفة، الأمر الذي يرسم الحدود الاجتماعية والثقافية للسياسات المطبقة هناك، والتي تتناقض بصورة كلية مع شعارات ومطالب، أعلنها السوريون، وعملوا عليها طوال سنوات، وقدموا تضحيات هائلة من أجلها، وهو أمر لا يختلف كثيراً عما عليه الحال في مناطق شرق الفرات، التي تستند فيها سلطة الأمر الواقع إلى خليط آيديولوجي بين الأممية الستالينية والنزعة القومية، يجري دعمها بسياسات تخلط بين البراغماتية – النفعية والمظلومية الكردية، لتصب جميعها في مشروع الإدارة الذاتية في سوريا الديمقراطية، ووسط هذا الخليط المتناقض، تطلق سياسات قوة بطش عنصرية، لا توجه نحو سكان المنطقة من العرب والسريان فقط، بل تشمل الأكراد، لا سيما أحزاب المجلس الوطني الكردي وحواضنه الاجتماعية، التي عانت كثيراً من سياسات الإدارة الذاتية وحزبها القابض حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا.

وسط هذه الوقائع، يودع السوريون العام العاشر على ثورة عام 2011. سوريو الشتات مقسمون بين لاجئين على أبواب مواطنة في دول اللجوء، وآخرون ثمة التباس في تسميتهم ومصائرهم، لكن أغلبهم ينتظرون عودة كريمة وآمنة إلى بلدهم، أما سوريو الداخل ففي قلب المقتلة والمعاناة والفقر والجوع، وقد يغادر أكثرهم بلدهم إذا وجدوا مخرجاً لبلد يقبل وجودهم ولو بأي صفة كانت.

واقع حال السوريين، كأنهم في حالة عقاب للسنة العاشرة على حلم بالتغيير سعوا إليه بالتظاهر السلمي، وقدموا من أجله أعظم التضحيات، وتحملوا بسببه كل المصائب والمعاناة والجرائم، التي ارتكبها ضدهم نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس وأدواتهم المسلحة، وآخرون حسبوا أنفسهم في صف أصدقاء الشعب السوري وثورته، إضافة إلى ما قامت به جماعات التطرف والإرهاب وعصابات الجريمة من أعمال.

لقد آن الأوان لإنهاء معاقبة السوريين على سعيهم من أجل مستقبل أفضل لهم ولبلدهم وللعالم، وآن الأوان لمعاقبة المجرمين الحقيقيين، فهل سيكون ذلك مسار السنوات المقبلة؟!

كاتب وصحفي سوري

الشرق الأوسط

—————————

الثورة السورية في عيدها تؤكد حتمية انتصارها/ عبد الحميد عكيل العواك

الثورة السورية في عيدها العاشر تؤكد انتصارها، وحسبها أنها مستمرة ولن تتوقف حتى يفهم أعداؤها أنها سائرة إلى حتمية النصر؛ لأن الثورة مفهوم في طبيعته عصي على الهزيمة، لذلك يلوذ به الخارجون من عباءة الاستبداد، وبالمقابل يعمل المستبد ما بوسعه نتيجة خوفه، على نزع صفة الثورة عن أي حراك ضده، وإلصاق أي صفة أخرى به.

استُعمِل مفهوم (revolution) بمعنى مصطلح فلكي عندما استخدمه بشكل لافت كوبر نيكوس في كتابه: (De revolution bus Orbium coelestium)؛ للدلالة على الحركة الاعتيادية للنجوم، وبما أن حركة النجوم هي خارج تأثير الإنسان فهي لا تقاوم، لذلك لا نستغرب استنتاج (حنة أرندت) لمفهوم الثورة بمدلول يعبِّر عن حتمية انتصار تشبه حتمية حركة الكواكب.

ويؤكد ما ذهبت إليه (أرندت) هو الاستخدام المجازي الأول في اللغة السياسية، فقد استخدِمت للدلالة على شيء لا يُقاوم فقط، دون إشارة العودة إلى الخلف، وكان ذلك في أثناء الحوار الذي جرى بتاريخ 14/7/1789 في باريس بين لويس السادس عشر ورسوله (البانكوروت) عندما جرى تحرير سجناء الباستيل صرخ الملك قائلاً: “إنه تمرد”، فصحح له اللفظ رسوله قائلاً: “كلا يا صاحب الجلالة إنها ثورة”.

فالملك كان يرى اقتحام الباستيل تمردًا، ويجب أن يمارس سلطته في قمع هذا التمرد بالوسائل التي بين يديه، أمّا جواب رسوله فكان أن هذا الأمر يصعب ويستحيل مواجهته، فهو خارج سلطة الملك وهو لا يقاوم.

إن لفظ (الثورة) رغم تحديد معناه في وقتنا الحالي، إلا أنه ما يزال يثير لغطًا حول كثرة استخدامه، فالبعض ولا سيما من يقوم بحراك الثورة، يرى أن أيَّ تحرك ضد السلطة مهما كان نوعه أو حجمه أو غايته أو وسائله فهو ثورة، والبعض الآخر، ولاسيما من يكون بالسلطة أو مواليًا لها، ينفي عن كل تلك التحركات صفة الثورة، حتى لو استجمعت عناصرها ووسائلها وغايتها، فهو يراها جميعًا تمردًا ويستوجب القمع المادي والمحاسبة القانونية؛ لأنّها مؤامرة على السلطة الشرعية التي تحكـم البلاد باسـم القانون الذي وضعته واستبدّت به، لذلك من الطبيعي أن يحاول موالو النظام السوري نزع صفة الثورة عن الثورة السورية؛ لهزيمتها.

وكثيرًا ما كرر النظام السوري وأكد إعلامه بأن ما يحدث في سوريا مؤامرة أو حربٌ كونية، أو أي مصطلح آخر، لكنها ليست ثورة؛ لأن ما يحدث في سوريا لا يشبه الثورات في التاريخ حسب زعمهم، وهم بذلك يتناسون أن الثورات في الغرب ذاتها لا نستطيع تصنيفها ضمن قالب واحد نعدُّه (نموذجًا) للثورة؛ لأن الثورة متحركة متبدلة متماهية مع واقعها، فالفروقات كثيرة بين الثورات في الغرب وبين الأنظمة التي تمخضت عنها، فما بالك بالثورة السورية التي تبتعد عن ثورات الغرب زمانًا ومكانًا؟!

لقد جاءت الثورة السورية لتشكل حدثًا تاريخيًا بكل المقاييس؛ لأن الزلزال الذي تهتزّ تحته بنية السلطة في سوريا لا يشكل تحديًا لهذه الأخيرة فقط، بل يضعُ العلوم الاجتماعية، وبالأخص علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية، في مواجهة صلاحية أدواتها ومناهجها التي استخدمت في دراسة المجتمع السوري وفهمها لهذه المجتمع، إذ كثيرًا ما عدَّته راكدًا وعصيًا على التغيير، لا بسبب ضعف إنما من غياب إحساس شعوبها بالحاجة إلى الديمقراطية.

هذا التحدي كسر حاجز الخوف الذي بناه النظام بعد نصف قرن من الزمن في يوم واحد، هذا الفعل الجبار لن يستطيع أي باحث محايد في علم الاجتماع والتاريخ أن يصفه بغير الثورة.

لذلك لن تعود أي ثورة للخلف، وثورتنا منها؛ لأن الإنسان غايتها، وهذا الذي يتيح ربط الثورة ببعدها الإنساني، أما النظام الذي يريد معالجة قضايا الثورة ويرى أن الإنسان مجرد أداة أو وسيلة يمكن التحكـم بها وضبطها كأي آلة، فإنّما يتجاهل الفعل والفاعل الحقيقي في عملية التغيير الثوري؛ لأن الإنسان الذي يصنع ثورة يكون قد عاش حالة من الاغتراب عن حقوقه المسلوبة بعد طغيان السلطة، وزمن الثورة هو الزمن الذي يتسامى فيه الوعي الثوري إلى حدِّه الأقصى، حيث لـم يعد يسمح بأن يظل تاريخ الإنسان يُصنعُ بالرغـم عنه، إذ إن الإنسان في الثورة يترافق مع وعيه لحقوقه، وحالة الوعي التي اكتسبها الثائر السوري لا تسمح له ولا للآخرين أن يعيدوه إلى الخلف. 

ولأن عصر الثورة عصر التغيير على جميع الصُعد، (التغيير الشامل للمفاهيـم والنظريات والقوانين)، فإن الثورات مثل العواصف الراعدة أمرٌ لا يمكن تجنبه، وأمرٌ مفيدٌ في أغلب الأحوال، مثلما تفيد العاصفة الريف الملتهب حرارة.

لذلك يطالب البعضُ الثورةَ السورية بالتغيير قبل نجاحها، متناسين أن النقلة النوعية التي أحدثتها الثورات الكبرى في التاريخ (الأوروبية-الأميركية) على جميع هياكل المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لـم تكن مُدرَكَة بكل أبعادها، حتى الذين صنعوا الثورات، لذلك فإن مفهوم الثورة المعاصر يختلف عمّا كان يُؤمن من قام بها من أنها عودة إلى الخلف بمعنى استدارة نحو الأصول.

فالثورة بصفتها حدث سياسي اجتماعي معاصر فاجأ منظري الثورات ورجالها، فالباحثون المختصون في الثورات الذين درسوا الثورات بعد انتهائها توصلوا إلى مفهوم جديد عن (الثورة) يختلف اختلافًا جذريًا عمّا تعلمه السابقون، وهو أن الثورة ليست سوى استعادة الحقوق الطبيعية وتصحيح العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم.

هذا المفهوم تغير عندما فرضت الثورة نتائجها المذهلة بالتغيير والسير إلى الأمام دون التفات إلى الخلف.

فإذا علمنا هذه الحقيقة التاريخية عن الثورات السابقة، التي أحدثت أكبر قدر من التغيير عرفته البشرية، نعلم بأن الثورة السورية تسير في سياقها التاريخي الطبيعي الذي سيوصلها إلى مبتغاها من التغيير.

ولأن الثورة صيرورة مركبة، يحمل زمنها الاجتماعي ما تراكم في اتجاه أهدافها، ولأنها مركبة فإن أصعب ما فيها إعادة البناء، والصعوبة مصدرها مطلب القطيعة، فهو مطلب شرعي اجتماعي وسياسي وأخلاقي.

صعوبة إعادة البناء عانت منها الثورات بعد انتصارها، وكانت عقبة في طريق نجاحها، فكيف نطلب من الثورة السورية قبل انتهاء معركتها مع النظام أن تحدث التغيير المنشود منها على صعيد الفرد أو المجتمع؟!

الثورة السورية تطمئن أنصارها في عيدها العاشر، وتخيف أعداءها بإعلانها أن لا عودة للخلف وفق ما يرى أندريه ديكوفيل بأن “الثورة في مفهومها المجرد نظام من الآراء تتألف من عداء مع الماضي، وبحث عن مستقبل جديد، بدلاً من النظام المحافظ.”

كل من عرف قراءة التاريخ يعلم جيدًا بأن الجغرافية السورية تحت سلطة النظام، تعلن اقتراب ولادة الجيل الثاني من الثورة السورية، ليتلاحم مع جيلها الأول، ويكسر حدود الجغرافيا المفروضة من النظام، التي تمنع السوريين من توحدهم، مثلما كَسَرَ الجيل الأول للثورة حاجز الخوف.

في الختام الثورة هي فورة غيظ الحقيقة، والمعنى الثوري معنى أخلاقي يُولد، إذ إن الإحساس بالحقد يُولِّدُ الإحساس بالواجب، وليس ثمّة ثورة إلا إلى الإمام، وكل حركة للوراء هي شرّ، وفق ما يقوله فكتور هوجو.

تلفزيون سوريا

————————

الدين والسياسة في الانتفاضة السورية/ سريست نبي

يقول المفكر المصري الراحل، سمير أمين، إن ربيع الثورات العربية تحوّل إلى ربيع للحركات الدينية-الإسلامية. هذا الكلام وإن كان ينطوي على تشاؤم ما، إلا أنه لا يخلو من أساس واقعي وصحيح. إلا أنه يمكننا ترجمة هذا الموقف في الأسئلة التالية: لماذا تمظهر الرفض السياسي الراهن لدى الشعوب العربية كرفض ديني ومذهبي للاستبداد القائم؟ لماذا اتخذت هذه التحولات السياسية الواقعية التي عصفت بالنظم العربية شكلاً دينياً مدججاً بالأيديولوجيات الدينية؟  لماذا من بين عشرات الأيديولوجيات والنظريات السياسية والفلسفات الحديثة التي تملأ بطون الكتب والأكثر توائماً مع روح العصر وانسجاماً، وحدها الأيديولوجية الدينية في صيغتها المذهبية الإسلامية كتب لها الرواج والهيمنة على الوعي الرافض للطغيان في المجتمعات العربية التي هبّت ضد الاستبداد؟

في منتصف آذار عام 2011 خرجت نخبة شجاعة وطموحة من شباب سوريا يطالبون بالتغيير الديمقراطي. تظاهروا في قلب العاصمة. كان هؤلاء يمثلون معظم شرائح المجتمع السوري المدني، وتتنوع انتماءاتهم السياسية بين اليساري والليبرالي والقومي. وفي النهاية تمكنت قوات القمع النظامي من تبديد هذه الحركة الاحتجاجية السريعة كالبرق، واعتقال نشطائها، إلا أنها شكّلت بداية لتحول دراماتيكي تاريخي في سوريا لم تتضح نتائجه بعد.

وفي هذا الوقت كان الإسلاميون وتيارهم السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين يتفاوضون مع النظام سرّاً عبر الوسيط التركي. لم يكونوا متحمسين في هذا الوقت للاحتجاج ضد النظام، إنما كانوا يراهنون على المصالحة والشراكة معه في حكم دمشق. ومع هذا واصل السوريون رفضهم للنظام واستمروا في الاحتجاجات طوال تلك الفترة.

وفي نهاية المطاف وبعد ثلاثة شهور من انتفاضة الشعب السوري ضد استبداد الأسد لم يجد الإخوان، وتيّارات إسلامية أخرى، بدّاً من الانخراط في الثورة بعد تيقنهم أن السوريين قد أحرقوا جميع المراكب وراءهم، وأنهم عازمون على إسقاط النظام. وبعد أن أوعز لهم راعيهم التركي، حين شرع بفسخ علاقاته الحميمية مع نظام الأسد، بضرورة الانخراط في النزاع والمشاركة. غير أن الإخوان المتأسلمين لم يرتضوا لأنفسهم دور الشريك فحسب، إنما وضعوا نصب أعينهم هدف الاستيلاء على الثورة ماديّاً ورمزياً، وطبعها بطابعهم الأيديولوجي الخاص. وهنا بدأت عملية “القرصنة” الكبرى للثورة. وهذه الغاية كانت تتسق تماماً مع المزاعم التي روّج لها النظام حتى هذا الوقت عن حركة الاحتجاج بوصفها حركة طائفية متطرفة.

ولا ريب في أن معظم تسميات الجُمَع “الدينية” التي أطلقتها جهة واحدة مهيمنة احتكرت لسان الثورة فيما بعد، قد خدمت النظام أكثر من أي شيء آخر، فبدلاً من أن تستقطب السوريين حول مطالب الثورة في الديمقراطية والمساواة وتحقق وحدتهم السياسية، أثارت المخاوف والظنون لدى شرائح واسعة وخلقت انقساماً واستقطاباً في المجتمع السوري لمصلحة النظام. إن أزمة تسميات “الجُمع” التي استأثرت بها صفحة “الثورة السورية” حينها وأخذت تفرضها ضمن شروط وخيارات محدودة من قبيل جمعة “العشائر، وخالد بن الوليد، والله أكبر، ومن جهّز غازياً في سبيل الله فقد غزا….إلخ” كانت تعكس بؤساً سياسياً وتاريخياً عميقاً في الوعي لدى هؤلاء. ومثل تلك التسميات كانت تخلو تماماً من أية قيم وطنية جامعة ومشتركة وحديثة، ناهيكم عن أنها لم تخدم سياق توحيد قوى الشارع الوطني في مواجهة الاستبداد الدموي.

هكذا سعى هؤلاء إلى اختزال الصراع السياسي في سورية إلى ثقافي وطائفي، وكان الهدف منه التضليل وتجاهل الأزمة البنيوية لنظام الاستبداد، والتمهيد لتأسيس استبداد ديني وطائفي من نوع آخر. وهذا ما أراده الطرفان، النظام من جهة والمعارضة الطائفية من جهة أخرى. وهنا يكمن الخطأ التاريخي الفادح في المنطق السياسي للمعارضة ومنذ اليوم الذي جعلت من هدف إسقاط نظام بشار الأسد هدفاً رئيساً لها، دون الاهتمام بضرورة تغيير بنية النظام الاستبدادي.

وهذا ما أظهر الصراع وكأنه صراع طائفي على مواقع النفوذ داخل البلاد. عزز هذا الانطباع الطرفان المتصارعان، اللذان اتخذا من السلاح وسيلة وحيدة للوصول إلى أهدافهما دون الاكتراث بنتائجه المدمرة على الصعيد المجتمعي والإنساني.

والحال أنه ما إن قرصن الإخوان المسلمون والعديد من الجهات السياسية، التي انساقت معهم ومع المشروع التركي، انتفاضة الشعب السوري، واستأثرت بتضحياته، واستعارت لسانه، ونصبت من نفسها ناطقة وحيدة باسمه، شرعت مذّاك بفرض رموزها السياسية والمعتقدية-المذهبية على هذا الحراك التاريخي. ما أثار المخاوف المضمرة لدى الهويات الثقافية والدينية المختلفة معها وعمّق من الارتياب بنوايا هؤلاء الحقيقية، وبالنتيجة نشأ صدع عميق في جبهة الرفض للاستبداد وبدت ملامحه واضحة حتى الآن.

وبموازاة ذلك، طغت العاطفة الدينية والإيمانية، والعقائد والمبادئ والشعارات المقدسة على مظاهر الاحتجاج الشامل الذي شهدته المدن السورية المنتفضة. وبدا جليّاً أن الناس في تعبيرهم عن سخطهم على الواقع السياسي كانوا ينساقون بسهولة مع الشعارات الدينية المقدسة ومفاهيم الإيمان أكثر من القيم السياسية الحديثة والصريحة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة. بل وحتى في تلك الحالات التي كانوا يلجؤون فيها إلى التعبير عن مطالبهم السياسية الحديثة مثل المساواة، والحق، والديمقراطية، والمدنية، إنما كانوا يتعاطون معها بمعزل عن سياقاتها الفلسفية الحديثة المرجعية، وبالمقابل كانوا يحيلونها إلى دلالاتها الدينية. وبدا أن الشعب السوري الثائر ضد القهر واغتصاب السلطة إنما يتحرك في ميدان الإيمان الخالص، في الوقت الذي كان فيه بالفعل يصنع تاريخياً جديداً لنفسه، لا يمتّ إلى أزمنة القداسة بشيء، ولا يكترث لأيّ قيمة مقدسة كما اتضح تالياً.

وفي كل الأحوال حين تغدو العاطفة الدينية مركباً أساسياً للأيديولوجية السياسية وشكلاً لها، مثلما هو الحال لدى الجمهور العربي الثائر، فإن هذه العاطفة تغدو عاطفة دنيوية ذات جذر أرضي/إنساني عميق. إذ تحرّض وتخاطب، تبرر دور الذوات التاريخية الفاعلة، وتلبي مستلزمات رغبتها في الصراع والمقاومة، وتعبر عن رفضها للبؤس والتمزق الدنيوي. وضمن هذا الأفق العملي يمكن أن نفهم حاجة الناس إلى الدين واستلهام رموزهم في التعبير عن رفضهم.

وبعد عقد من الانتفاضة السورية، التي تبدو الآن كتراجيديا عبثية وتاريخية، كان مئات الآلاف من الضحايا المدنيين والملايين من المهجرين والمشردين، وفشل الجهود الأممية، وفي ظلّ تدهور اقتصادي وبؤس عام يتفاقم في كل أنحاء سوريا، يبدو أن اليأس من حلّ ما يتخطى هذا المأزق الدموي بات هو الشعور السائد لدى جميع المراقبين. ولا يلوح في الأفق سوى صراع دموي مستمر لا نهاية له، دون أن يمحق أيّ طرف من أطراف النزاع الآخر. فهل يمكن النظر إلى هذا المظهر الديني للاحتجاجات أو الإيمان الديني والطائفي، الذي طغى على الاحتجاجات في سوريا كسهو تاريخي، أو نتاج تخلّف الوعي المجتمعي بالتاريخ؟ أم يمكن النظر إليه كمكيدة تاريخية وسياسية تضافرت مع ما سبق؟

الموقف الآن- بعد عقد من الانتفاضة وتحولها إلى نزاع أهلي دامي- لم يعد في بدايته ونهايته متمثلاً في أزمة النظام المستبد في سوريا وحسب، إنما أيضاً أصبح يتمثل في أزمة المعارضة السورية، التي تتقاسم مع النظام جزءاً كبيراً من المسؤولية إزاء ضحايا الشعب السوري. سواء بسبب غرورها، أو عنجهيتها، أو بسبب قصور خطابها السياسي، أو ضيق أفقها، وحتى انتهازيتها السياسية وارتزاقها لدى الأطراف الإقليمية.

 نورث برس

—————————

لماذا يرفض السوريون دستور 2012/ نبراس إبراهيم

رغم المستوى الهائل للدمار المادي والاجتماعي والسياسي الذي تعاني منه سوريا، وتسبب به النظام السوري، يستعد رأس النظام السوري لترشيح نفسه في انتخابات 2021، مُستنداً إلى دستور يسمح له فقط شخصيا بأن يترشح للرئاسة وكأنه مرشح جديد، لا كرئيس للمرة الرابعة على التوالي، على عكس ما يُجيز الدستور بالترشح لدورتين متتاليتين فقط.

منذ تسلّم حافظ الأسد الحكم، ترسّخ الاستفراد في الحكم في سوريا، حيث حكم البلاد بقبضة أمنية حديدية وبسياسات تمييزية طوال 39 عاماً، ونصّب حزب البعث محتكراً للحياة السياسية من خلال قيادته للدولة والمجتمع، وأعلن قانون الطوارئ الذي يحظر التظاهر ويتيح الاعتقال التعسفي والتنصت، وقانون حماية الثورة، وقانون المحاكمات العسكرية الذي شرّع بتقديم المدنيين للمحاكمات العسكرية، ومحاكم أمن الدولة التي تعتقل وتحكم دون الرجوع للقضاء العادي، وأخيراً قانون 49 لعام 1980 الذي يقضي بإعدام كل منتسب للإخوان المسلمين، وكانت صلاحيات رئيس الجمهورية في ذلك الدستور واسعة وشبه مطلقة.

لم تنته القصة بوراثة بشار الأسد للسلطة، فمع توسع الاحتجاجات والتظاهرات في سوريا، بدأ النظام يُطلق الوعود بتحقيق الإصلاحات السياسية، فأعلن عن إلغاء حالة الطوارئ، لكنّه أصدر قانوناً للإرهاب أكثر سوءاً من سابقه، كما أصدر قانوناً للأحزاب السياسية وآخر للانتخابات وثالثاً للإعلام، لكنه فصّلها وفق ما يناسبه، ثم أعلن عن تشكيل لجنة رئاسية لصياغة مسودة دستور جديد، وأنجزت اللجنة مشروع الدستور، وكانت اللجنة من الشخصيات الموالية له بالمطلق، وفي شباط/ فبراير 2012، صدر مرسوم للاستفتاء على هذا الدستور رغم أن سوريا كانت في زمن حرب، وعلى غرار ما توقع السوريون، جاء الدستور الجديد أسوأ من كل ما سبقه من دساتير، ومنح الرئيس كل الصلاحيات التي تحكم سيطره على الدولة والحكم والسلطات.

وضعت الدستور السوري الجديد لجنة شكلّها رئيس الجمهورية من أشخاص موالين للنظام فقط بعد أن رفضت تيارات المعارضة المشاركة في اللجنة وفي الاستفتاء بعد ذلك، كما لم تشترك فيها الفئات الاجتماعية والاقتصادية السورية، ولم يُطرح مشروع الدستور للنقاش العام، وفُرض على السوريين رغم أن نسب المشاركين في الاستفتاء تدعو للشك حتى بقدرة النظام على التزوير.

رفض جزء كبير من السوريين هذا الدستور، ومازالوا يرفضونه، كقوى سياسية وهيئات مجتمع مدني، وهيئات حقوقية وقانونية، لأنه في حقيقة الأمر كارثة، وتتجلى أكثر ما تتجلى بأنه يمنح صلاحيات واسعة جداً للرئيس، أكثر من أي ملك في العصور الوسطى.

في دستور 2012 هناك 49 مادة لها علاقة برئيس الجمهورية مباشرة من أصل 157 مادة كامل مواد الدستور، أي نحو ثلث مواد الدستور لها علاقة برئيس الجمهورية، وغالبية هذه المواد تُسهب في شرح صلاحياته ونفوذه ومهامه وسلطاته وقوته وقدراته وتدخلاته واستثناءاته.

فمثلاً، تنص المادة 97 بأنه “يتولى تسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه وتسمية الوزراء ونوابهم وقبول استقالتهم وإعفاءهم من مناصبهم”، كما تنص المادة 98 بأن الرئيس “يضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها”، وهو وفق المادة 102 الذي “يُعلن الحرب والتعبئة العامة ويعقد الصلح”، كما تُخوّله المادة 103 الحق في “إعلان حالة الطوارئ وإلغائها”، وتمنحه كذلك المادة 104 الحق في “اعتماد رؤساء البعثات الدبلوماسية لدى الدول الأجنبية”، وتضعه المادة 105 “القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة ويُصدر جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة”، كما تمنحه المادة 106 الحق في “تعيين الموظفين المدنيين والعسكريين وينهي خدماتهم”، أي له الحق في تعيين أكبر وأصغر موظف في الدولة، وإقالته من عمله متى شاء، وتخوّله المادة 107 الحق في “إبرام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وإلغائها” وتمنحه المادة 111 حق حل مجلس النواب، وأن يتولى السلطة التشريعية بدلاً عن مجلس النواب، وتمنحه المادة 108 الحق بمنح عفو خاص عن من يشاء.

إلى ذلك، تمنح المادة 113 رئيس الجمهورية الحق في أن يكون هو السلطة التشريعية، حين سمحت له أن “يتولى سلطة التشريع خارج دورات انعقاد مجلس الشعب، أو في أثناء انعقادها إذا استدعت الضرورة”، وهو يخالف مبادئ فصل السلطات في كل دساتير العالم، لأنه يعطي الرئيس الحق أن ينوب عن كل مجلس الشعب وكأنه مجلس لا قيمة له إطلاقاً، وتؤكد المادة 150 على حقه في اقتراح تغيير الدستور بموافقة نسبة من أعضاء مجلس النواب، وبالإضافة إلى هذه المواد، فقد اعتبر الدستور رئيس الجمهورية غير مسؤول عن أعماله في إطار ممارسة صلاحياته، كما جعل نفسه حاكماً مُطلقاً حتى على رئيس الوزراء والوزراء، فنصت المادة 124 من الدستور على أنه لرئيس الجمهورية “حق إحالة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء إلى المحاكمة عما يرتكبه أي منهم من جرائم في أثناء توليه مهامه أو بسببها”.

لم يقتصر دستور 2012 على منح الرئيس هذه الصلاحيات فقط، بل برأه من أي عمل شائن أو جريمة أو كارثة يقوم بها خلال توليه منصبه، فوضع المادة 117 التي تقول “رئيس الجمهورية غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه”، وهذه المادة تجعله بعيداً عن المحاسبة حتى لو دمّر البلد كما قام به الآن.

وإحدى المواد الدستورية المهزلة، هي المادة 141، المتعلقة بالمحكمة الدستورية، والتي تقول بأنه “تؤلف المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء على الأقل يكون أحدهم رئيساً يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم”، وهذه المحكمة الدستورية هي التي لها مهمة محاكمة رئيس الجمهورية في حال استوجبت محاكمته، أي أن الدستور منح الرئيس حق تعيين القضاة الذين سيحاكمونه، أي جعلت الرئيس الخصم والحكم.

بالتدقيق نلاحظ أنه في دستور 2012، جمع الرئيس في يديه كل السلطات التي من المفروض أن تكون مستقلة، وللمفارقة، شدّد الدستور نفسه على أنها يجب أن تكون مستقلة! ولم يتم تقييد سلطات الرئيس المتضخمة، فالأغلبية البرلمانية في الدستور ليس لها أي دور في تشكيل الحكومة، أو في رسم سياساتها، وله الحق في حل مجلس النواب، ويتحكم بالسلطات التشريعية، وهو الذي يعيّن السلطات التنفيذية بما فيها رئيس الوزراء والوزراء، ويتحكم بالقضاء باعتباره رئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو الذي يعيّن أعضاءه، كما أنه القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، وصمت الدستور عن فترة إيداع القوانين لدى رئاسة الجمهورية دون ردها أو إصدارها، ما يعني إمكانية تعطيل الرئيس لأي قانون لا يريده، وغيرها من المفارقات الغريبة التي لا يضمها أي دستور.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الدستور الذي وضعه الأسد الابن بعد مرور سنة من انطلاق الثورة التي طالبت بتغيير النظام السياسي والخلاص من الحكم الشمولي، يتناقض مع المئات من مواد القانون ولا ينسجم معها، والمواد الدستورية التي تتحدث عن حرية تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والحياة الثقافية والإعلامية والحريات وحقوق الإنسان جميعها مقيدة بقوانين صدرت سابقاً، وهذا ما تستغله أجهزة الأمن والجهاز القضائي، لعدم تفعيل هذه المواد الدستورية وقتلها في مهدها.

لكل ما سبق رفض السوريون دستور عام 2012، وثاروا للخلاص من نظام أمني بامتياز، تمييزي بامتياز، وشمولي بامتياز، وطالبوا بدستور أكثر ديمقراطية ومدنية وحضارية، وطالبوا بتقليص صلاحيات الرئيس – الملك القابع على صدورهم، وتحديد سقف لعدد مرات ولايته، وكل ذلك من أجل بناء دولة ديمقراطية مدنية تعددية تدوالية، ومن حقهم مقاطعة الانتخابات المقبلة، والتأكيد على عدم شرعيتها طالما أنها تجري تحت سقف هذا الدستور، دستور الحكم الشمولي.

وصار ملحاً أن تدخل سوريا في مرحلة انتقالية، وحكومة انتقالية، لها صلاحيات كاملة، دستورية وتشريعية، ويكون لها الحق وحدها بالإشراف على كل مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية، تضع دستوراً جديداً، وقانوناً للانتخابات، تمهيداً لانتخابات رئاسية حقيقية نظيفة يستحقها السوريون.

——————————-

السوريون العلويون وعنقُ الزجاجة/ عبير نصر

عبر التاريخ، لم يقدّمِ العلوّيون أنفسهم تقديماً كافياً، للتعرّف عليهم من مصادرهم، أو كما يعرّفون أنفسهم، كما فعلتِ المذاهبُ الشيعيّةُ الأخرى، ويُرجّحُ السبب العزلة، والتهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي رزحوا تحته قروناً طويلة. وعندما تأسستِ الدولةُ السوريّةُ الحديثة، كانت النخبةُ العلويّة علمانيةً غير متدينة، ولا ترى نفسها مشغولةً بخدمةِ المذهب العلوي ونشره، وإنما كانت منخرطةً في التياراتِ السياسية والفكرية السائدة في المشهد العربي، آنذاك. لذا كان من الطبيعي أن تنشأ في أجواءِ السريّةِ والكتمانِ حالاتٌ كثيرةٌ من الأوهامِ وسوءِ الفهم عن الطائفة (الغامضة)، خصوصا أنّ أوّلَ تعدادٍ فرنسي أثبت أنّ العلويين لم يشاركوا السنّةَ العيشَ في بلدةٍ يتجاوز عدد سكانها مائتي نسمة، على الرغم من تشاركهم مع طوائف أخرى. وعند وصولِ حافظ الأسد إلى السلطة، قدّم تنازلاتٍ جمّة للسنّة، من أجل حدّ نفوذِ رجال الدين في المجال السياسي، بينما حيّدَ العلويين، من خلال منحهم سلطة متزايدة في المجال الاجتماعي. وفي المقابل، أجبر المشايخ على التوافقِ مع الفكرةِ الإسلامية السنيّة عن “الإسلام الصحيح”، بدلاً من بناءِ مجتمعٍ علمانيّ حقيقيّ، ففي حين كان نظامُ الأسد يقرع طبولَ سياسةِ الاندماج ظاهرياً، كان، في الوقت نفسه، يؤسسُ لثقافةِ الانفصالِ، والتفرقةِ بين مكوناتِ المجتمع السوري كافة.

وعلى الرغم من وصول العلويين إلى أعلى مناصب الدولة، إلا أن خوفهم (الأقلويُّ) ظلَّ على حاله، فقد بقيتْ ذاكرتُهم الجمعيّةُ تحملُ المجازرَ التي تعرّضوا لها على يد العثمانيّين. وقد عملتِ السلطةُ على رفع منسوبِ الإحساس بهذا الخطر عند كلّ منعطف، ومنعتْ حدوثَ الاندماج الاجتماعيّ لإبقاءِ الأمر في إطار حسن جوارٍ طائفيٍّ، ولم يتطرّقِ النظامُ أبداً لحلّ مشكلة “الفوبيا السنيّة”، فقوّته كانت تنبع من عدم قيامِ تفاهماتٍ اجتماعيةٍ، بأيّ شكلٍ بمعزلٍ عنه. لذا لم يسمح بتشكيلِ أيّ تمثيلٍ أهلي للطائفة، كمجلسٍ علويّ أعلى، أسوةً بغيره، ولم يكن هذا بسببِ علمانية النظام التي يدّعيها دائماً، بل من أجلِ ربط ِالطائفة بمصيرِ العائلة الحاكمة، ووطّد هذا الارتباط عندما سمح بظهورِ الولاءاتِ العشائرية الضيّقة ضمن الطائفة الواحدة، إلى جانب عمله الدؤوب لزيادةِ تفقيرها، وسلخِ أبنائها عن بيئاتهم الأصيلة، عبر الهجرةِ من قراهم إلى المدن، ليعيشوا براتبٍ محدودٍ، كوظيفةٍ مدنيةٍ أو عسكرية، بينما لم يتطوّر الساحلُ السوري، وبقيتْ مظاهرُ الغنى مرتبطةً بالضبّاط الكبار، والفاسدين المعروفين بالاسم. وفي الحقيقة، كانت علاقةُ العلويين بالمسؤولين شخصيةً بحتة، تتبع أشكالاً مختلفةً نابعةً من المصالحِ المتبادلة، والولاءاتِ العائلية، أو العشائرية الضيقة، على عكس التصوّر السائد أنّ كلَّ العلويين ضباطٌ أثرياء أو “شبّيحة” يسكنون القصورَ الملأى بالخدمِ والسياراتِ الفارهة.

واستطاع النظامُ استثمارَ خوف الطائفة (المنغلقة) بشكلٍ ممنهج، كأيديولوجيةٍ مقدّسةٍ لبقائه، معتمداً على التلاعب بذاكرةِ الخوف الجمعية، والتي لا تحوي فترةَ عزّ على الإطلاق، عن طريق الدعايةِ الطائفيةِ الرخيصة، والألعاب الأمنية، ففي عام 1980، اختار حافظ الأسد الاحتفالَ برمضان في القرداحة، مسقط رأسه، بدلاً من الجامع الأموي في دمشق، كما كان يجري التقليدُ. وجمع إليه، بهذه المناسبة، أهمَّ زعماء الطائفة العلويّة الدينيّين، وأوصاهم برصِّ الصفوف لمواجهةِ الأزمة مع الإخوان المسلمين، وهي أول واقعةٍ تاريخيّةٍ تثبت توجّهَ الأسد إلى طائفته بشكلٍ رسميٍّ وعلني، لأجلِ حماية حكمه. ومنذ تسعينيّات القرن الماضي، ستشهد الطائفةُ تحوّلَ الضبّاط والمساعدين في الجيشِ إلى الدين، سيّما بعد انتهاءِ خدمتهم، كما سيؤدي ضبّاطٌ، على رأس عملهم، زياراتٍ إلى مشايخَ مقرّبين من السلطة، وربّما صنيعة السلطة ذاتها، ضدَّ مشايخَ آخرين لم تتمكّنِ السلطةُ من تدجينهم، ولكنّها قطعتْ جذورَهم الاجتماعيّة. وقد طاولتْ حملتُه كلَّ معارضي النظام العلويّين، وهذا يعني خلوّ الساحة من أيّ نشاطٍ سياسيّ يمكن أن يجمعَ الطائفةَ بعيدًا عن السلطة الحاكمة.

وبعد اندلاعِ الثورة السورية، تبيّن وجودُ فوبيا حقيقية عند علويين كثيرين من السنّة (كهويّة)، وفوبيا من المساجد ومن كلّ ما يخرج منها. لذا أظهروا فشلاً واضحاً في التعاطف، الأخلاقي والإنساني، مع ضحايا قمع النظام الانتفاضةِ الشعبية، بل وتورّطوا فيها من دون رجعة، كما حدث في الثمانينيات حين زجَّ رفعت الأسد سرايا الدفاع في حماة في البداية، لتدخلَ لاحقاً الوحدات الخاصة، بقيادة علي حيدر، وتحسم الأمر نهائياً. على الرغم من هذا، معظم العلويين الذين سكنوا مدناً قريبة من حرب الإبادة تلك، عادوا ليستقروا في الساحل، بسببِ مشاعر مختلطةٍ من الشعورِ بالذنب، وعدمِ الأمان من المستقبل، وتكرّر مسلسل الرّعب نفسه عام 2000، عند وفاة حافظ الأسد، حيث تركتْ عائلاتٌ علويةٌ كثيرةٌ دمشقَ، وعادتْ إلى قراها، ولم ترجعِ َإلا بعد ثبيتِ حكمِ الأسد الابن.

ومعزّزين بخطابِ سلطةٍ متفقّهةٍ بعلمِ تحريك المخاوف الطائفية، شعر العلويون أنّ خطرَ العودةِ إلى لعبِ شخصية “المرابع” باتتْ قريبةً، بعد عام 2011، خصوصا أنّ هناك فهماً جمعياً داخل الطائفة يذهب إلى أنّ بدايةَ الخلاصِ من حقبةِ الانسحاق الطويلة كانتْ مع وصولِ حافظ الأسد إلى سدّة الحكم، وبالثورة ِعليه، وتهديمِ أركان سلطته، ستذهبُ طائفتُه إلى الجحيمِ، كعمليةٍ ثأريةٍ، قديمة حديثة، وأنّ ما يحدثُ إعادةَ تدويرٍ للتاريخ، بشخصياتٍ مختلفةٍ وفكرٍ واحد. وما عزّز قراءتهم هذه أنّ المسجدَ هو القاسم المشترك بين الثوراتِ على نظامِ الأسد، فكيف يرُاد لابن الطائفة العلوية أنْ يصدّقَ أنّ السنيَّ الخارجَ من المسجدِ بلحيةٍ متروكةٍ، وشاربٍ مجتثّ، طالبٌ للحريةِ والعدالة الاجتماعية، ولا يريدُ الثأرَ لما فعله الأسدان الأب والابن، عبر خمسين سنة؟ فبدا شارع الأقليّة العلوية مرتاباً من أنْ تكونَ مخادَعةً يجيدها الفصيلُ السنّي المتطرّف. وهذا صاحب حقدٍ ثأري ومطمعٍ سلطوي، لا يموتان، ولعلّه أجرى تحالفاً مع المثّقفين لكسبِ التأييدِ والتعاطف، وتحديثِ خطابه العنيف، بعد فشل ثوراته السابقة، على اعتبار أنهم “عثمانيّو القرن الجديد”. وما زاد الطين بلّة أنّ الشخصياتِ العلويةَ التي وقفتْ صراحةً مع الثورة، تمَّ اغتيالُ سمعتها، وتصفيتها، بتلفيقاتٍ رخيصة.

والسؤالُ الواجب طرحه هنا: هل سينتخبُ العلويون مجدّداً بشار الأسد؟ هم الذين ساهموا في صناعةِ استقلالِ سورية، وشاركوا في كلِّ تفاصيلِ الحياةِ السياسيّة منذ الاستقلال وحتى بداية السبعينيّات، وحضنوا أهمّ الحركات اليساريّة، والعلمانيّة التقدّميّة، بين الخمسينيّات وبداية الثمانينيّات. (بالتأكيد سيفعلون). هم المحبوسون في عنقِ الزجاجةِ يعيشون سرّاً خوفَهم الأعظم، ليس من الآخر، فقط، إنّما من السلطةِ، لأنهم الأعرفُ ببطشها وفاشيّتها، لكون أغلبِهم يخدمون في أجهزتها الأمنيّة، وينقلون إلى بيئتهم الاجتماعيّة ما يجري في الفروع الأمنيّة من تعذيبٍ وقتلٍ، خصوصا العلويين منهم، ليكونوا عبرةً للطائفةِ، وللسوريّين في آن .. (بالتأكيد سيفعلون)، بعدما أثبتتِ المعارضةُ، بأطيافها كافّةً، جهلَها المخزي بطبيعةِ النظام السوري، إضافةً إلى البياناتِ الخبيثة التي أصدرتها الدولُ الكبرى، عازفةً على نغمة “حماية الأقليّات”. ومع أنّ النظام هو المسؤول الأوّل عن دفعِ التخوّفاتِ الطائفية إلى العتبةِ الحاليّة، إلا أنّ قوى دوليّة كثيرة شاركت في تعزيزها، لكن أفظع ما حدث أنّ قوى معارضة “معتدلة” استسهلتْ هذه النغمة، واستخدمتْها بمنطقٍ كيديٍّ للنيٍل من القوى المنافسة الأكبر عبرَ اتّهامها بالطائفيّة، لا يوازي هذا الرخصَ في الأداء سوى أداءِ بعض المتطرّفين (حقّاً) الذين هدّدوا بالانتقامِ من العلويّين، واسترجعوا بتشفٍّ مرويّاتِ الطائفةِ ذاتها عن مرحلةِ الاضطهاد، مهدّدين بإعادتها إليها.

العربي الجديد

——————————-

كيف نفهم تيارات اليسار في الواقع العربي؟/ ماجد كيالي

التبس مفهوم “اليسار”، في العالم العربي، سيما في الموقف إزاء ثورات الربيع العربي، سيما ما تعلق بالثورة السورية، وفيما تعلق بتغطيته مشاركة حزب الله في قتل السوريين، ومحاباة سياسات إيران في المشرق العربي. بيد أن ذلك هو قمة الجبل في تخلخل مفهوم اليسار في العالم العربي، بعد الصدمة المتحققة مع انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)، مطلع التسعينيات.

وفي الواقع فإن مفهوم “اليسار”، والقصد التيارات الحزبية اليسارية، يحيل إلى جملة من المفاهيم، والقضايا، ضمنها النظرة إلى المجتمع وفق التقسيمات الطبقية، واعتبار الصراع الطبقي بمثابة المحرك للتاريخ، ارتباطاً بالصراع ضد نمط الإنتاج الرأسمالي، لتقويض سلطة البرجوازية المحلية، والتخلص من هيمنة الإمبريالية العالمية.

وبالطبع فإن قضية اليسار، في غضون كل ذلك، تتمثل في انتزاع السلطة، كما يفترض، لإقامة العدالة الاجتماعية، في دولة اشتراكية، تقودها الطبقة العاملة، من خلال حزبها، وفي إطار من التحالف، ربما، مع الفلاحين والمثقفين الثوريين. أيضاً كانت قضية فلسطين باتت، أيضاً، على أجندة الأحزاب والحركات اليسارية العربية، مع صعود المقاومة الفلسطينية، بخاصة مع بروز الجبهتين اليساريتين (الديمقراطية والشعبية)، باعتبار إسرائيل مجرد قاعدة من قواعد الإمبريالية في المنطقة.

هكذا عشنا عقوداً على مقرّرات اللجان المركزية للأحزاب الشيوعية واليسارية، وبياناتها، وأدبياتها، التي كانت تتحدث بيقينية مدهشة عن سمة العصر، التي تتمثل بأفول الرأسمالية وانتصار الاشتراكية، بفضل تضافر وصعود قوى العملية الثورية الثلاث، أي المنظومة الاشتراكية، والأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية، وحركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة، والتي أضيف إليها “النظم الديمقراطية الثورية”، أو بلدان “التطور اللارأسمالي”، التي باتت تشمل سوريا والعراق وليبيا!

كانت تلك هي الترسيمة المعهودة، التي وسمت كل الإنشاءات السياسية الصادرة عن معظم تشكيلات اليسار في العالم العربي، والتي شكّلت هويتها السياسية، والفكرية، ردحاً طويلاً من الزمن.

ومعلوم أن تشكيلات اليسار السائدة هذه لم تتحول إلى تيار فاعل في الحياة السياسية العربية، فهي لم تصل إلى السلطة في أي بلد، باستثناء “اليمن الديمقراطي”، ولم تستطِع حتى المشاركة في الحكم، بل إنها فوق ذلك انحسرت كثيراً.

هكذا، لا يمكن تفسير ذلك بانهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)، فهذا على أهميته لا يكفي، إذ إن ضياع تشكيلات اليسار وفقدانها لهويتها، حصل قبل ذلك بكثير، ولأسباب تتعلق بغربتها عن الواقع، وعدم تمثلها لأحوال مجتمعاتها، وتخليها عن قضيتها وعن دورها السياسي. والحال فإن تنظيمات “اليسار” في البلدان العربية، في أغلب الأحوال، لم تقدم نقداً سياسياً للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي العربي، إلا في حالات نادرة، ومن شخصيات يسارية مستقلة، أو منشقة، مثل إلياس مرقص وياسين الحافظ وعبدالله العروي وفؤاد مرسي وجورج طرابيشي ومهدي عامل.

وقد أخذ هؤلاء على الماركسية – اللينينية عدم إيمانها بالديمقراطية، واستهتارها بقيمة الحرية، وهو المأخذ ذاته الذي أخذته حنة أرندت على الماركسية، كما أخذوا على الأحزاب والقوى الشيوعية أو اليسارية استسهالها نسخ النظرية الماركسية على الواقع العربي، والتعامل معها كأيديولوجيا جاهزة ومغلقة، أو كدين آخر يتأسس على الإيمان، لا على الدراسة والشكّ وإمعان التفكير.

ثمة شيء يثير الاستغراب في الادعاءات السياسية للقوى اليسارية، فالمجتمعات المعنية لم تصل بعد إلى المستوى اللازم من التطور الطبقي، والطبقة العاملة (البروليتاريا) مجرد “أقلية” في المجتمع، والأهم أن المجتمعات العربية، منقسمة على نفسها، على أسس هوياتية دينية أو مذهبية أو عشائرية أو مناطقية، بدل الانقسام بشكل أفقي على المصالح والسياسات، مثلما هو واضح هذه الأيام؛ وفي المحصلة فإن الفقراء يتصارعون أو يتقاتلون مع الفقراء، في حرب الضحايا ضد الضحايا.

المفارقة أن إدراك هذه الحقائق جد سهل وبسيط، وفي متناول الجميع. فحسب معطيات التقرير الاقتصادي العربي (2018)، فإن نسبة العاملين في الصناعة في العالم العربي تبلغ نحو 18%، فقط، من حجم القوى العاملة، وهذا يعني أن “البروليتاريا” لا تشكل أكثرية بين الطبقة العاملة، حيث العاملون في قطاعات الخدمات يشكلون النسبة الأكبر (60%)، ناهيك أن معظم القوى العاملة العربية لا ترتبط بالصناعات العالية، أي المرتبطة بالتقدم العلمي والتكنولوجي. فوق ذلك فإن نسبة مساهمة الصناعة (التحويلية) في الناتج السنوي الإجمالي للبلدان العربية تقدر بـ9% فقط، ما يفيد بأن الطبقة العاملة العربية التي تشتغل في الصناعة، لا تحتل موقعاً متقدماً في الإنتاج الوطني، في اقتصاد يعتمد على الريع النفطي (بنسبة 40%)، وهذا ما تدلل عليه أيضاً، القيمة المتدنّية للصادرات الصناعية التي لا تتجاوز الـ10% من الصادرات.

أما في السياسة، فثمة ثلاث مشكلات كبيرة في المعتقدات “اليسارية” السائدة، وكلها تمخّضت عن كوارث، أولاها ديكتاتورية البروليتاريا، التي شرّعت اختزال الشعب في طبقة ثم في حزب، وبعده في مكتب سياسي أو أمين عام، وكانت بمثابة وصفة لمصادرة الحريات الفردية وسيادة الاستبداد. وثاني هذه الأفكار تتمثّل في الانتقال إلى الاشتراكية، ولو في أكثر الحلقات الرأسمالية تخلفاً (عكس فكرة ماركس الأساسية عن قيام الاشتراكية في أكثر البلدان الرأسمالية تقدماً)، وهذه الفكرة التي تحرق المراحل لم تثبت أيضاً، بدليل إخفاق الاتحاد السوفييتي، في المباراة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وانهيار النظام الاشتراكي بطريقة سلمية ومن الداخل. أما الفكرة الثالثة فتقول بجواز الانتقال إلى مرحلة الثورة الاشتراكية من دون المرور بمرحلة الثورة البرجوازية الديمقراطية.

القصد من كل ذلك القول إن مشكلة “اليسار” قديمة، وليست وليدة الثورات العربية، التي ربما كشفته أكثر من أي وقت مضى، في تماهيه مع نظام الاستبداد الأسدي، بدعوى صد المؤامرة الإمبريالية، أو تبييضه صفحة حزب الله، الذي يقاتل السوريين، بدعوى الحفاظ على مقاومة متوقفة منذ 13 عاماً! وفي الحقيقة فإن “يساراً” كهذا كان فقد ملامحه، وأضاع هويته، منذ زمن.


====================

تحديث 11 أذار 2021

————-

عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية/ بكر صدقي

بعد أيام قليلة تحل الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع ثورة السوريين التراجيدية التي طلبت المستحيل، ولم تحقق أياً من رهاناتها الرئيسية. بل أكثر من ذلك: سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس مستمر يبدو، إلى اليوم، بلا مخرج قريب. وفي ظل انعدام الأفق هذا يتراشق سوريو الثورة فيما بينهم باتهامات، ويخوضون صراعات عبثية لكنها أكثر حدة من صراعهم الأصلي ضد النظام، حتى لو كان بأدوات لغوية ـ فكرية لا بالسلاح. هذا مفهوم بالنظر إلى الهزيمة التي يراوغ كثيرون في الاعتراف بها، ولا يقدم من يعترفون بها شيئاً ذا قيمة بشأن الدروس الواجب استخلاصها من الهزيمة، أو بشأن البحث عن آفاق جديدة تعيد ثقتهم بأنفسهم وبصواب خيار الثورة التي شاركوا فيها أو انحازوا إليها.

حدث أمران في فترتين متقاربتين قبيل ذكرى الثورة، طغيا على ما عداهما من سجالات، الأول هو الحكم الصادر عن إحدى المحاكم الألمانية بحق الجندي المنشق إياد الغريب بالسجن أربع سنوات ونصف، والثاني رفع بعض سوريي الثورة شعار «تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة» الذي كانت الناشطة وعد الخطيب قد نقشته، العام الماضي، على ثوبها بمناسبة ترشيح فيلمها «من أجل سما» إلى جائزة الأوسكار للأفلام التسجيلية الطويلة.

انقسم مجتمع الثورة السورية، بشأن الحكم على إياد غريب، بين من اعتبره فاتحةً لمحاكمة نظام بشار، ومن اعتبره ظلماً بحق منشق انحاز للثورة منذ الأشهر الأولى، فضلاً عن كون الحكم نذير شؤم قد يؤدي إلى محاكمة كل من انشق عن النظام وشارك في الثورة، في الوقت الذي لا تسمح فيه الظروف بمحاكمة مجرمي النظام الملطخة أيديهم بدماء السوريين، بحث تتحول محاكمة إياد إلى سابقة يمكن تأويلها على أنها إدانة لفعل الانشقاق بحد ذاته.

كذلك انقسموا حول العبارة التي اعتمدها البعض شعاراً بمناسبة الذكرى العاشرة للثورة، وهاجمه آخرون بسبب شقه الثاني، غالباً، بدعوى أن مآلات الثورة لم تثمر كرامة بل ذلاً، سواء لسوريي الداخل أو سوريي الشتات، سواء في المخيمات أو في الملاجئ القريبة والبعيدة.

الواقع أن السوريين منقسمون، قبل ذلك، لأسباب أكثر خطورة من الخلاف حول محاكمة أو حول شعار، بين سوريي الثورة وسوريي النظام، وبين أنصار تركيا والكرد، وبين الإسلاميين والعلمانيين، وبين من يعيشون تحت خط الفقر وفوقه، وبين مؤيدي العقوبات على نظام الأسد ومعارضيها…إلخ، إضافة إلى خضوعهم إلى سلطات أمر واقع متعددة في مناطقهم وسلطات الدول المستقبلة لنازحيهم ولاجئيهم. وتدور صراعات فكرية حادة فيما بينهم، في كل فرصة ومناسبة، وعلى كل صغيرة وكبيرة، مقابل تراجع حدة الصراعات المسلحة في الداخل، وهي تدور بين قوى أمر واقع متفاوتة القوة، ولا تعني سائر السوريين كثيراً إلا من حيث الخسائر البشرية والمادية الناجمة عنها.

أما النظام الغارق في أزمته الاقتصادية – الاجتماعية الخانقة، بفعل عوامل كثيرة أضيفت إليها العقوبات الأمريكية المعروفة باسم «قيصر» وآثار جائحة كورونا، ليتعزز هذا الغرق بابتعاد الحل السياسي الذي يريده عودةً مستحيلة إلى ما قبل آذار 2011، ابتعاد السراب. بدلاً من مواجهة هذا الواقع القاتم، بدأت استعداداته مبكراً لتجديد البيعة لبشار الأسد لولاية جديدة من سبع سنوات وكأن كل شيء بخير، في وقت تنتظر فيه القوى المنخرطة في سوريا، روسيا وإيران وتركيا، ما الذي قد تأتي به الإدارة الأمريكية الجديدة من مقاربات بشأن سوريا، ليعيدوا حساباتهم بناءً على ذلك.

في هذا الوقت حدث أمر مفاجئ أثار مخيلات بعض المحللين على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن مصير النظام ورأسه. فقد نشرت وكالة أنباء النظام (سانا) خبراً حول إصابة بشار وزوجته بفايروس كورونا، مضيفة أن «وضعهما الصحي مستقر» ويحتاجان إلى أسبوعين أو ثلاثة لتجاوز الإصابة. المفاجئ في الخبر هو مصدره، أي وكالة سانا، فالتقليد المتبع في وسائل إعلام النظام هو التستر على أخبار من هذا النوع، لا نشرها. فإذا حدث وتسرب شيء ما عن صحة «الرئيس» إلى وسائل إعلام عالمية، كان يتم التكذيب أو التجاهل إلى حين عودته إلى نشاطه المعتاد، فتنشر وسائل إعلامه خبراً عن «وعكة صحية خفيفة» تم تجاوزها، بصرف النظر عن حقيقة ما حدث.

ربطت بعض التحليلات بين خبر الإصابة بالفايروس وبين الاستعدادات الجارية للبيعة، في حين علق آخرون عليها آمالاً، بربطه بمجموعة عوامل أخرى تدعم، برأيهم، نظريتهم المتفائلة حول قرب نهاية النظام. الواقع أنه بمجرد صدور الخبر من وسائل إعلام النظام تفقد تلك التحليلات المتفائلة كل أساس. فمن الواضح أن النظام أراد أن يعتقد الآخرون أنه مصاب بالفايروس، بصرف النظر عن حقيقة الأمر. ترى هل أراد النظام من هذا الخبر أن يزيل الآثار السلبية التي نتجت عن صفقة اللقاحات الروسية بتمويل إسرائيلي؟ وذلك من خلال الإيحاء بأن «الرئيس الممانع» رفض تلقي اللقاح فأصيب بالفايروس؟ إذا كان الأمر كذلك فلا بد أن تتحدث عنه وسائل إعلام النظام في الأيام القادمة.

تجرأ السوريون، قبل عشر سنوات، على الحلم، وتذوقوا طعم الحرية والكرامة في مواجهة إجرام النظام ووضاعته. تكالبت كل الظروف ضد حلمهم، عزاؤهم الوحيد اليوم هو أن النظام جثة تسير على قدمين. ولا بد للجثة أن تدفن أو تحرق في لحظة ما لا يمكننا اليوم التكهن بشأنها.

كاتب سوري

القدس العربي

————————–

الثورة والحرب وما بينهما/ هوازن خداج

منذ عشر سنوات، شكّلت جملة من “الخطوط العريضة” للمشهد السوري العام: “معارضة، نظام، عسكرة، أسلمة، تدخلات دولية وإقليمية”، وضعًا داخليًا مأسويًا: “قتلى، معتقلين، نازحين، لاجئين، فوضى، دمارًا، تشظّيًا، تجويعًا”، وغير ذلك مما يمكن أن يُضاف بحسب تطورات الوضع؛ وقد كوّنت هذه الخطوط المختلفة دليلًا إرشاديًا أو “قاموسًا” في قراءة الوضع السوري وتقويمه، وانقسام الآراء والتصورات حوله، وهي بمجملها لا تقدّم حديثًا عن الثورة، بل عن إشكاليات “حرب أو حروب” مختلفة، تضاعفت فيها المظلوميات، ورُسّخت آثارها على المستويات كافة، فارضة متغيرات مختلفة على الواقع وعلى السوريين.

وفقًا لجملة تصوّرات حول مفردة الثورة، بدءًا من ثورة العبيد (73-71 ق م) إلى ثورة الزنج، والقرامطة والثورة القانونية “البابوية” في العصور القديمة، انتقالًا إلى الثورة الصناعية والرأسمالية، والثورة الإنكليزية والأميركية الشمالية والثورة الفرنسية والروسية في العصور الحديثة، إلى الثورة الأوكرانية، وصولًا إلى ثورات الربيع العربي؛ فإن هذه الأحداث، وإن كانت بمجملها تعطي المعنى العام للثورة بأن (ما قبلها ليس كما بعدها)، لا تعطي العمق “العملي” الذي تبلور مع الثورة الفرنسية، وثورة تشرين الأول/ أكتوبر الروسية، اللتين تحتفظ بهما ذاكرة “الناس” كثورات نوعية، كونهما أسستا للانتقال من مرحلة إلى أخرى، أو من نظام سياسي اقتصادي اجتماعي، إلى ما هو أكثر “تطورًا” أو ما يُشكل استجابة لأهداف الثورة؛ فالثورة الفرنسية كانت انتقالًا من حكم ملكي إلى حكم جمهوري، ومن نظام ديني إلى نظام علماني، والثورة الروسية كانت انتقالًا من النظام الرأسمالي إلى الاشتراكي أو حكم الأكثرية الطبقية “البروليتاريا”.

ما حصل على الأراضي السورية، بكل إرباكاته، لم يكتفِ بأن جعل ما بعد “الحراك/ الثورة” ليس كما قبلها، بل جعل مواجهة ما بعدها أشدّ هولًا مما قبلها، على المستويات كافة؛ فإن كانت الثورة نتاج الظلم والقهر والعسف والتمييز، فإن ما بعدها أضاف إليها أضعافًا، وأدّى ذلك إلى حالة “انقسام” أضيفت إلى الانقسام السوري “المعارضة والموالاة”، أو الانقسام الطائفي وخطه العريض “أكثرية وأقليات”، كظواهر موجودة أساسًا في المجتمع السوري وتأصّلت في بداية الحراك، ولم يتوقف الأمر عند الانقسامات والولاءات اللاحقة بحسب الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة، التي رسمت حدودها مع الحرب.

ففي السنوات الأخيرة، بعد أن بانت ملامح الفشل أو الانتكاسة السورية، في إطار التحرك نحو التغيير وضياع الأهداف العامة للحراك، وظهور العديد من المراجعات للوضع السوري، ومن بينها تقويم “الحراك/ الثورة”، الذي أدخل كثيرين في متاهات “الحيرة” في محاكمتها، بين “مؤيد ومعارض” ضمن طيف محسوب على الثورة نفسها؛ برز في صفوف “الثوار” طيفان متخالفان في تقويمهما للحراك، يمتدان من اليمين إلى اليسار، خرج أحدهما من “يوتوبيا” المشروع الثوري، ورأى أن ما يحدث لم يعد يَحتمل معنى “الثورة”، مقابل تمسّك طيف آخر بالثورة، واعتبارها واقعًا لم نخرج منه أو عنه، لتتحول “الثورة” إلى “بازار” تكثر فيه “المزاودات” بين فريقين:

الأول يتجه نحو اعتبار “الثورة” بداية للتغيير والإنجاز، والانتقال نحو مساحات مختلفة على صعيد السياسة والمجتمع، لم تتأصل في سورية، (لم تكن ثورة) فالاحتجاجات والثورات بحدّ ذاتها لا تؤدي إلى بناء دول حداثية قوامها مؤسسات راسخة وسيادة القانون واحترام التعددية، حيث إنّ ذلك يحتاج إلى أُطر فكرية وتنظيمية. والحراك السوري وتعثراته لم يقم على أساس فكري، ولم يُرسّخ مشروعًا ثوريًا سوريًا على قاعدة التوافق في صفوف “المعارضات”، وغياب الوعي الثوري والتوافق على الغايات والتطبيق الناجح لها أسقط معنى الثورة. والسورويون ما يزالون أبعد من الحديث عن تجربة الثورة ومناقشة ما حققته أو لم تحققه، وأكثر غرقًا في تقويم وعودها التي تحولت من أحلام إلى “أوهام”.

والثاني ينطلق من اعتبار الفعل الثوري من المصطلحات المتجددة، وفقًا لحاجة البشر الفطرية إلى الحرية والعدالة والأمان والحماية والمساواة (الثورة المستمرة)، وأن الثورات تتخذ أشكالًا عدة وتحتمل العنف، كالثورة الفرنسية والروسية، متجاهلين صعوبة إسقاط التجارب وتبنّيها على أرض الواقع في ظروف مختلفة، وأن تبرير العنف لردّ عنف النظام لا يلغي كارثية استخدام العنف، وأن صفة الاستمرارية تحتاج إلى حالة من الفعل حتى تحقق مطالبها كرؤية مستقبلية، وغياب الفعل يجعل مما يطرحه كثيرون في الفضاء الافتراضي “فيسبوك وواتساب”، عن الثورة المستمرة “حتى النصر”، أو حتى القول بأن التسلّح أو الأسلمة لا يمثل انتقاصًا من الثورة، هو “مجازفة”؛ فالخسارة التي مني بها السوريون طوال العشر سنوات لا تدلّ على أن هناك استمرارًا لأفكار ثورية أو احتجاجية، يُحكى عنها. وكلا الاتجاهين أسهم في العديد من العثرات:

أولها: جعل “الثورة” مفهومًا إشكاليًا: الانطلاق من المسلمات النظرية للثورات وللتجارب الأخرى البعيدة، وإسقاطها على الوضع السوري، جعل مفهوم الثورة وخطابها مفهومًا إشكاليًا يشدّه الاتجاه الأول نحو (ما لم يتحقق) على الأقل حتى الآن، ويسحبه الثاني نحو (ما لن يتحقق) في ظل الوضع الحالي.

الانقسام بتقدير رؤية الواقع السوري، من خلال زواية واحدة هي “الثورة/ الحراك”، وإن اختلف اتجاهها بين تيارين أساسين قد يتفقان “بشكل ما” على إضافة توصيف للثورة واعتماد تسمية “ثورة مسروقة أو مغدورة أو…”. يمثل طرحًا إشكاليًا يحتاج إلى معالجات مختلفة على أرضية الخروج من “الطوباويات” الثورية، والتعامل مع الوضع السوري بظروفه كافة، كمسلّمات لا كمفاهيم إشكالية، أو على أنها عمومًا قابلة للتبدل. فالعديد من الأحداث في العالم أُطلق عليها اسم “الثورات”، حتى الأفعال النكوصية والارتداد التاريخي، كالثورة الإسلامية في إيران (1979)، وكذلك الانقلابات العسكرية التي أعادت العالم العربي عقودًا إلى الوراء.

وما حدث في الحراك السوري، سواء على صعيد البداية وعدم القدرة على اختراق الغالبية الصامتة من شرائح المجتمع كافة التي لم تدخل في تشكيلة “الجمهور” لا للنظام ولا للمعارضة، أم إيجاد روابط عامة مع رافضي التسلّح والأسلمة التي ظهرت في بداية الحراك، ثم ما حدث بعدها من أخطاء تتحمل مسؤوليتها المعارضة النخبوية خصوصًا الرسمية التي استلمت الحديث باسم “الشعب” السوري، وحوّلته إلى “جمهور مُتخيَّل” في خطابها الذي اتضحت فيه الصراعات النفعية على النفوذ والمال والولاءات، وانهماك أشخاصها في تعظيم المنافع الشخصية على حساب المصلحة العامة، جعل المعارضةَ “شريكًا” للنظام، في نظر طيف كبير يُمثل الغالبية من شرائح المجتمع ومن المعارضة، وإن استمراراها في العمل باعتبارها “ممثلة” رسميًا للمعارضة يعني استمرار الخسائر وعدم القدرة على بناء مشاريع التغيير الممكنة.

وهذا كلّه يستدعي قراءة الواقع كما هو، بكل حمولاته، بعيدًا من “القطيعة والمزاودات”، وإجراء نقاش بَنّاء حول مطالب الشعب التي لم تتحقق، والالتفات نحو البحث عن آلية تنفيذها كونها مطالب مُحقّة، ودراسة المُعوقات وكيفية العمل للتخلص منها، وهذا ينطبق على من يقولون إن (الثورة مستمرة)، فالسوريون ليسوا بحاجة إلى شعارات “لا تُطعم خبزًا”، فصفة الاستمرارية بمستواها الأدنى تعني الاستفادة من الفرص الداخلية، والانطلاق من زاوية الحاجة إلى التغيير والعمل عليه، وتقديم الدعم والمساندة والثقة، بأي فعل احتجاجي على صعيد الداخل، بدلًا من سحب الغطاء عنه وتسخيفه، كما حدث في الفترة الأخيرة في تظاهرة السويداء طلبًا للخبز.

ثانيها: الابتعاد عن تقويم المُتغيرات والاستفادة من الدروس: لقد خضعت سورية في الفترة السابقة للعديد من المُتغيرات، وإن كان بعضها يصبّ في الناحية الإيجابية بسقوط الخوف من النظام، لكن التأثير السلبي كان كبيرًا في قياس النتائج الكارثية التي تلت الحراك، فسورية خسرت عقودًا من التنمية البشرية، ودخلت الفوضى والتفكك المجتمعي والتهجير، فضلًا عن الاحتلالات المختلفة وظهور الإرهاب، وكلها على حساب الشعب ومطالبه الأساسية، وإنْ كانت مسؤولية كل هذا تعود أولًا إلى النظام لا إلى الحراك. إلا أن سوء تقدير الحالة من قبل المعارضة الرسمية، وعدم العمل باتجاهات مختلفة وإجراء المراجعات والتقويم لكل ما حدث في فترة السنوات المأسوية السابقة، والخروج بخلاصات واعتبارها دروسًا يمكن الاستفادة منها، مدّ في عمر الأزمة؛ فما ثبت حتى الآن أن النظام السوري كان قادرًا على مواجهة أي محاولة لإسقاطه، مستفيدًا من العثرات الكثيرة “للمعارضة”، ومن قوته الأمنية وقوة تحالفاته لإدامة وجوده، وكان قادرًا على مواجهة أي “منافسة” ممكنة أو محتملة على صعيد الواقع، ولو كانت من خارج السياسة، كما حدث في المصالحات أو في إعادة السيطرة على الفضاء الديني الإسلامي “المؤسسة الدينية” وتمكينها، أو في تطويع المناطق التي لم تتخذ ميولًا محددة بإثارة الفوضى والمشكلات الداخلية لترويضها. فضلًا عن أن الانطلاق الأساسي للحراك كان ناتجًا عن أن هذا النظام لم يكن على قدر المسؤولية من محاكاة الهموم اليومية للناس وتوفير العيش الكريم لهم ومحاربة الفساد المتفشي بطريقة منهجية، ومن هنا، فإن تكرار “التجربة”، لدى أي هيئة أو مؤسسة محسوبة على المعارضة، يعني عدم التعويل عليها.

ما بين الحرب والثورة

بعد عشر سنوات “عجاف”؛ يمكننا التسليم بعدم إمكانية العودة للخلف، وبأن محاولة التغيير في العام 2011 تم وأدها، وأن سورية دخلت مرجل “الحرب”، وتحولت إلى دولة “دويلات”، فالنفوذ الإقليمي والدولي شكّل خرائط “ثابتة”، والقرارات الدولية معلّقة ومشكوك في إمكانية تطبيقها، والحوار السوري التفاوضي على بنود الدستور لا يُشكل إنقاذًا للكوارث المتراكمة اقتصادية ومجتمعية وخدمية، وهناك نقمة واسعة على النظام الذي يُعِدّ نفسه لانتخابات جديدة، وكلها تعيد طرح السؤال الأساسي للتغيير: كيف السبيل لابتداع طرق للعمل في ظل الصعوبات الراهنة تكون أكثر فاعلية، وتقديم بدائل مقنعة لعامة الناس؟ ومهما اختلفت التقديرات في الإجابة عن السؤال، فإنها تستوجب الالتزام والانخراط بنمط الاستجابة وتحفيز التوقعات لبناء تفاعل جديد بين القوى النخبوية “المعارضة” نفسها، واستعادة الثقة الشعبية بما تقدمه أو تتبناه من طروحات، للعمل معًا على ثورةٍ لم تقم بعد، يستعيد فيها السوريون مطالبهم المغدورة.

مركز حرمون

—————————

الأمم المتحدة: الوضع في سورية كابوس/ ابتسام عازم

وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الوضع في سورية بالكابوس. وقال: “بعد مرور عشر سنوات على الصراع في سورية، وفي خضم جائحة كورونا، لم تعد أخبار سورية تتصدر الصفحات الرئيسية على الرغم من أن الوضع المعيشي في سورية كابوس”. وجاءت تصريحات غوتيريس خلال مؤتمر صحافي مقتضب عقده في مقر الأمم المتحدة في نيويورك بمناسبة مرور عشر سنوات على انطلاق الاحتجاجات فيها.

وقال غوتيريس: “لقد أدى القمع العنيف للمظاهرات الشعبية السلمية، التي شهدتها سورية، إلى انزلاق البلاد في طريق حرب مروعة”. وأضاف: “توفي مئات الآلاف وتشرد الملايين. ولا يزال عدد لا يُحصى من السوريين محتجزين بشكل غير قانوني، وغالباً ما يتعرضون للتعذيب، ناهيك عن الاختفاء القسري. كما يعيش الكثيرون في حال من القلق والحرمان”.

وأضاف: “رأى العالم، وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة، سورية تنزلق في دمار وسفك للدماء. هذا في الوقت الذي تعرض فيه السوريون لانتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع ومنهجي. كما انتهكت أطراف النزاع القانون الإنساني مراراً وتكراراً مع استمرار الإفلات من العقاب”.

وتحدث غوتيريس عن معاناة السوريين بما في ذلك استهداف المدنيين بالقنابل والأسلحة الكيميائية ناهيك عن استخدام الحصار والتجويع كأسلحة حرب ضدهم. وقال إن جميع أطراف النزاع فرضت كذلك قيوداً على وصول المساعدات الإنسانية. وأضاف: “بقيت ولفترة طويلة من الحرب مناطق واسعة في البلاد تحت سيطرة الجماعات المصنفة كإرهابية، من قبل مجلس الأمن الدولي، والتي عرضت العديد من السوريين لقمع وعنف يصعب تصوره”.

وأشار غوتيريس إلى أنه من المستحيل في الوقت الحالي فهم مدى الدمار الذي لحق بسورية، مؤكداً في الوقت ذاته على أن شعبها تعرض لبعض أكبر الجرائم التي شهدها العالم هذا القرن. وقال: “إن حجم الجرائم المرتكبة يصدم الضمير. كما يجب محاسبة مرتكبيها إذا أردنا التوصل لسلام دائم في سورية”.

وقال غوتيريس إن أهوال الحرب السورية طاولت كل عائلة ولم يسلم منها أحد. وأشار إلى معاناة أطفال سورية حيث “لا يعرف قرابة نصفهم حياة بدون حرب”. وتوقف عند عدد من العوامل التي ضاعفت من معاناة السوريين بما فيها الانهيار الاقتصادي والفقر الذي تفاقم بسبب الصراع والفساد والعقوبات وجائحة كورونا”. ولفت الانتباه إلى أن حوالي 60 بالمئة من السوريين معرضون لخطر الجوع هذا العام حيث يعانون من نقص في الأمن الغذائي. وشدد على ضرورة الوصول وتقديم المساعدات الإنسانية لجميع السوريين في جميع أنحاء البلاد. وأكد في هذا السياق على ضرورة استمرار تقديم المساعدات الإنسانية عبر النقاط العابرة للحدود وطرق أخرى. وحث مجلس الأمن الدولي على التوصل لاتفاق بهذا الشأن.

البنك المركزي السوري/ ملحق الاقتصاد الجديد

وشدد غوتيريس على أن الأمم المتحدة ستستمر في سعيها للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة عن طريق المفاوضات بما ينص عليه القرار 2254. مؤكداً في الوقت ذاته أن الخطوة الأولى على هذا الطريق هي إحراز تقدم ملموس في مباحثات اللجنة الدستورية. وقال غوتيريس: “على أطراف النزاع أن تظهر استعدادها من أجل إيجاد أرضية مشتركة والاعتراف بحاجة جميع السوريين، الذين يمثلونهم، إلى تجاوز حال الصراع الدائمة. هذا هو الطريق الذي سيؤدي إلى حل يلبي التطلعات المشروعة لجميع السوريين، ويهيئ الظروف اللازمة لعودة اللاجئين بأمان وكرامة، ويحترم سيادة سورية وسلامة أراضيها واستقلالها”.

————————

الضرر البيئي في سوريا أخطر من أضرار الحرب!/ هدى الحسيني

بقي بشار الأسد الرئيس السوري أو غادر، أصيب بوباء «كورونا» أو لم يُصب، استعادت إيران وروسيا ما استثمرتاه من أموال على مدى 11 عاماً للحفاظ على حكم الأسد أم لا، يمكن التأكيد أنه مع قرب مرور 10 سنوات على بدء الحرب الأهلية في 15 مارس (آذار) 2011 فإن سوريا سيكون من المستحيل العيش فيها، فكيف إذن بالتعويض عما استثمره كل من ساهم في تلك الحرب؟! ستبقى أرضاً قاحلةً تضم رفات من قيل لهم إنهم يقاتلون من أجل الحفاظ على نظام لم يتحمل مظاهرة شبان عليه فحولها إلى حرب عبثية أكلت كل أخضر في سوريا.

إن الخراب البيئي الذي لحق بالبيئة السورية بدأ يظهر كمأساة مدمرة أخرى، وإن كانت لا تزال أقل وضوحاً الآن، بسبب الحرب الأهلية، وليس كما يدعي الأسد ومؤيدوه أنها حرب كونية شُنت على بلاده. تؤدي التربة الملوثة والمياه الآسنة إلى تفاقم المعاناة الشديدة للمدنيين السوريين، كما تقوض قدرتهم على تلبية حاجاتهم الأساسية وتهدد مستقبل البلاد بعد الحرب. وفي حين أن الحرب في سوريا لم تنتهِ بعدُ، فإن الخسائر البيئية الشديدة سوف تُشكل تحديات كبيرة أمام تعافي البلاد عندما يتوقف القتال في نهاية المطاف.

يحذر خبراء سوريون ودوليون من ضرورة معالجة الآثار البيئية للحرب على وجه السرعة، وإلا ستصبح الأضرار والعواقب الإنسانية المترتبة على ذلك أكثر خطورة. يقول أحدهم، من المهم تحديد تأثير الضرر البيئي، حيث لا يدرك الناس دائماً أنه يستمر بعد توقف النزاع المسلح.

عملياً لم يبق أي جانب من جوانب البيئة السورية من دون أن يتأثر بالحرب التي بدأت كانتفاضة ضد الحكم الاستبدادي البشاري. كانت كل المجموعات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية المتورطة في القتال، بما في ذلك قوات الأسد، والجيش السوري الحر المعارض وفروعه، والميليشيات الكردية والجماعات الإرهابية مثل «داعش»، متواطئة في مستويات متفاوتة في التسبب في الضرر البيئي، فقد أدت الهجمات على آبار النفط والمصافي والمنشآت الصناعية إلى تلويث تربة البلاد وهوائها ومياهها. وفي غياب الإدارة البيئية الفعالة بسبب القتال، غالباً ما يتم إلقاء المواد الكيميائية والنفايات السامة في البحيرات والأنهار، وفي وقت تسارعت فيه إزالة الغابات بالفعل، انكمش القطاع الزراعي – وهو أحد أعمدة الاقتصاد السوري قبل الحرب – بأكثر من 40 في المائة من حيث القيمة الحقيقية.

سوف يتردد صدى الإرث السام للحرب، من الذخائر والذخائر غير المنفجرة وكميات هائلة من الأنقاض الخطرة، بعد فترة طويلة من انتهاء القتال، مع تداعيات خطيرة على رفاهية السوريين وسبل عيشهم.

ينبع أحد الآثار البيئية المدمرة بشكل خاص من «تسليح المياه»، فطوال فترة الصراع، حاولت جهات حكومية وغير حكومية على حد سواء اكتساب ميزة عسكرية من خلال استهداف الخزانات ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، أو عن طريق تحويل موارد المياه أو تكديسها. ونتيجة جزئية لهذه التكتيكات فإن ما يقدر بنحو 15.5 مليون سوري – أكثر من 90 في المائة من عدد السكان – يفتقدون مصادر المياه المأمونة وفقاً لتقرير الأمم المتحدة، مما يزيد من مخاطر الأمراض المنقولة بالمياه والأمراض المعدية.

يواجه السوريون عدداً لا يحصى من المخاطر الصحية البيئية الحادة والطويلة الأجل، من مصادر المياه الملوثة ومن التلوث والمواد الكيميائية السامة.

هناك آثار أخرى طويلة الأمد، ولكنها أقل أذى على الصحة العامة، بسبب فقدان التنوع البيولوجي والتربة المتدهورة. ويقول خبير بيئي، إن الآثار البيئية للحرب يمكن أن يكون لها أيضاً عواقب ضارة على قدرة الدولة على مواجهة تغير المناخ؛ إذ على سبيل المثال، يُقدر بعض المراقبين أن 25 في المائة من الغطاء الذي توفره الأشجار قد اختفى في سوريا خلال الحرب، ومعه، مصارف الكربون الضرورية. تؤدي هذه الخسارة أيضاً إلى اضطراب النظم البيئية المحلية مع جعلها أقل تنوعاً وقدرة على الصمود، ونتيجة لذلك تكون المجتمعات المحلية أكثر عرضة لتأثيرات تغير المناخ، بما في ذلك تآكل التربة والجفاف وأنماط الطقس المتطرفة. كل هذا له تداعيات خطيرة على نوع الدولة التي ستكونه سوريا عندما تنتهي الحرب.

تُعد البيئة الصحية أمراً بالغ الأهمية لدعم أولويات إعادة الإعمار والتعافي؛ من الاحتياجات البشرية الأساسية مثل الأمن الغذائي إلى الرعاية الصحية والتنمية الاقتصادية. ستكون إعادة البناء واستعادة البنية التحتية للمياه أمراً حيوياً بشكل خاص؛ نظرا لدورها الحاسم في دعم الحياة. وكما هو معروف في السياسة البيئية، فإنه في نهاية الحرب، يصبح توفير المياه والخدمات الأساسية من أهم الأولويات الإنسانية، وإذا لم يتم معالجة ذلك، فمن الصعب حقاً البدء في أعمال إعادة البناء. وتكشف الأبحاث أن استهداف البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنفايات والطاقة هو سلاح حرب منتشر بشكل متزايد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع تداعيات طويلة المدى على حل النزاعات والتعافي منها.

لا يوجد نقاش حول أهمية الحصول على المياه النظيفة للرفاهية الاجتماعية والاستقرار، ولكن نظراً لأنها منفعة عامة لا تدر إيرادات. يقول محدثي: «لا توجد إرادة للاستثمار في استعادة أنظمة المياه من قبل المجتمع الدولي، وبالتالي في العديد من الدول المتأثرة بالصراعات هناك ميل إلى الاعتماد على الصناعات المستخرجة مثل النفط والغاز والمعادن والاخشاب لأنها تولد إيرادات بسهولة أكبر». يضيف «أن موارد سبل العيش كالمياه، والأراضي، والقطاع الزراعي على وجه الخصوص لا يتم التفكير فيها بالطريقة نفسها، وتلك هي في الواقع الأكثر أهمية للأمن البشري. ونظراً لأن الحرب الأهلية منعت إجراء أي قياسات ميدانية منهجية للبيئة السورية فإن المدى الكامل للضرر البيئي لا يزال غير معروف، ولا يزال الحصول على بيانات موثوقة يمثل تحدياً كبيراً. لذلك فإن المطلوب أولاً هو تحسين الرصد والتقييم للتأثيرات البيئية التي يمكن أن تساعد على تحديد أولويات الاستجابات للضرر البيئي، والبحث في نوع المساعدة المطلوبة».

رغم التكاليف الباهظة لهذا الضرر البيئي، يحذر العلماء من أنه سيتعين التنافس مع مجموعة من أولويات التعافي الأخرى في سوريا لكسب الاهتمام والتمويل. بشكل عام هناك حاجة إلى المزيد من الوعي بين السوريين والمنظمات الأجنبية غير الحكومية والجهات المانحة للمساعدات، لما سيعنيه التدمير البيئي في سوريا للبلاد الآن وللأجيال القادمة. وكما في كل الدول التي تحتاج إلى مساعدات يمكن للمانحين المساهمة من خلال التمويل المشروط الذي يضمن إعطاء الأولوية للبيئة بطريقة تدعم الأمن البشري. قبل كل شيء من الضروري أن يضمن المانحون الدوليون أن تعزز الإغاثة والموارد التي يقدمونها صمود المجتمعات السورية، وليس نظام الأسد. وبالنظر إلى أن جذور الصراع لها علاقة كبيرة بتوازن القوى والموارد غير المتكافئة للغاية في المجتمع السوري، فإن التعافي النهائي بعد الحرب يجب أن يعالج هذه التفاوتات، وإلا فلن يكون هناك سلام طويل الأمد في سوريا.

يوضح محدثي، أنه إذا لم تعالج القضايا الهيكلية فلا توجد مساءلة. ولن يكون الأمر إلا بمثابة وضع ضمادة طبية في موقف يغلي ويشكل إشكالية حقاً، ولن يكون مستداماً. لذلك على الذين يتهافتون من الآن على إجراء حسابات الربح والربح من خلال إعادة إعمار سوريا، أولاً أن ينتظروا، وأن يأخذوا في عين الاعتبار مصلحة الإنسان السوري، بمعنى أن التهافت على كسب رضا النظام القائم لن يكون طريقهم إلى الثراء الذي ينتظرونه بأحلامهم، وما على محسن رضائي أمين عام تشخيص مصلحة النظام الإيراني إلا نسيان ما قدمته إيران للنظام السوري، وأن صرخته الآن جاءت متأخرة من أن بلاده الآن لن تدفع ريالاً إيرانياً واحداً إلى دول المنطقة، من دون أن تتأكد من استعادته لاحقاً. هو يتهم روسيا بأن إيران تدفع في سوريا والأولى تستفيد. ليت الاثنتين ما دفعتا، لأن ما ارتكبته أيديهما وأيادي غيرهما، حوّل سوريا إلى أرض محروقة، وحوّل شعبها إلى لاجئ يرمي بمشاكله على أعتاب دول أخرى هي بدورها عندها ما تعاني منه.

الشرق الأوسط

—————————–

بعد عشر سنوات من الصراع: سوريا.. لا حرب ولا سلام/ سكوت بيترسون

في 15 مارس 2011 بدأت الأزمة السورية، وبعد مرور عشر سنوات وصل الصراع السوري إلى طريق مسدود. فالرئيس بشار الأسد لم ينتصر بشكل كامل. ولم يخسر تماماً، وأجزاء كبيرة من بلاده لا تزال بعيدة عن السيطرة الحكومية.

في الشرق السوري تشن فلول تنظيم «داعش» الإرهابي حملة حرب عصابات فتاكة، وفي كل مكان تتزايد التكاليف الإنسانية. بعد 400 ألف قتيل، يواجه الشعب السوري انهياراً اقتصادياً، وحالة متفاقمة من انعدام الأمن الغذائي، إضافة إلى الهجمات العشوائية على المدن والمستشفيات.

كانت ساحة المعركة نفسها هادئة إلى حد كبير لمدة عام. فاتفاق وقف إطلاق النار الروسي-التركي صامد إلى حد كبير، منذ أن منع التدخل العسكري التركي القوات السورية –المدعومة من القوات الجوية الروسية -من استعادة محافظة إدلب التي يسيطر عليها المتمردون في شمال غرب سوريا. ويعيش في الجيب 3 ملايين مدني ومجموعة من الإرهابيين من بينهم 10 آلاف مقاتل مسلح.

ولم تحرز سنوات من جهود السلام التي تبذلها الأمم المتحدة أي تقدم، بما في ذلك قرار مجلس الأمن 2254، الذي وضع في ديسمبر 2015 خريطة طريق سياسية تهدف إلى إقامة «حكم شامل ذي مصداقية وغير طائفي» في غضون ستة أشهر، ووضع دستور جديد.

ولم يميز تلك التطلعات سوى أنها كان يتم خرقها. فعلى سبيل المثال، أرسلت دمشق وفداً على مضض إلى جنيف للمشاركة في جهود غير ملزمة يسرتها الأمم المتحدة لصياغة دستور شامل، الأمر الذي بدأ أخيراً في أكتوبر 2019.

ولكن بحلول أواخر يناير من هذا العام، بعد عقد الدورة الخامسة في غضون 16 شهراً، فشل المندوبون حتى في البدء في كتابة المسودة.

باختصار، فإن تقريباً كل من حارب في هذه الحرب بالوكالة لا يزال على الأرض، مما يضمن بقاء سوريا مقسمة إلى مناطق سيطرة مختلفة.

لقد جندت إيران، التي كانت من أوائل من وقفوا إلى جانب الأسد، القدرات القتالية القوية لـ«حزب الله» اللبناني، ثم حشدت لاحقاً الميليشيات الشيعية من العراق وأفغانستان. وبذلت الولايات المتحدة وتركيا جهوداً لدعم المتمردين المناهضين للحكومة، لكن الحكومة السورية في دمشق ظلت مستمرة بفضل إيران حتى تدخلت روسيا بالقوة الجوية في سبتمبر 2015. وقلبت موسكو مجرى الحرب بشكل لا رجعة فيه.

ومع ذلك، تمتلك تركيا اليوم ما يقرب من 12.000 جندي في شمال غرب سوريا، ظاهرياً لإنشاء ما يسمى بـ«منطقة آمنة» للاجئين والدفاع عن إدلب. يهدف الأتراك أيضاً إلى منع نزوح المزيد من السوريين (والمسلحين الإرهابيين) عبر الحدود إلى تركيا، حيث يقيم بالفعل حوالي 3.6 مليون لاجئ مسجل، بالإضافة إلى مراقبة القوات الكردية التي تعتبرها إنقرة تهديداً أمنياً.

وفي الشمال الشرقي الغني بالنفط، تدعم عدة مئات من القوات الأميركية -التي خلفتها الحرب التي دامت سنوات ضد «داعش» في سوريا والعراق -قوة شبه عسكرية كردية-سورية قوامها أكثر من 100.000 مقاتل تحرم دمشق من ربع أراضيها و80% من مواردها.

من حيث النسيج الاجتماعي المتضرر والاقتصاد المدمر، فهذا لا حد له. فقد انهارت العملة السورية وارتفع معدل التضخم بشكل كبير، حيث تضاعف سعر زيت الطهي وحده خمس مرات في العام الماضي.

كما نزح حوالي 12.6 مليون سوري من منازلهم، وفر 6.6 مليون منهم من البلاد.

ما يقرب من 60% من سكان سوريا -«يعانون من انعدام الأمن الغذائي»، وفقاً لتقرير صادر عن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة الشهر الماضي. في العام الماضي وحده، تضاعف عدد السوريين الذين تعتبرهم الأمم المتحدة «يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد»، بحيث لا يمكنهم البقاء على قيد الحياة دون مساعدة، إلى 1.8 مليون.

مراسل «كريستيان ساينس مونيتور» في منطقة الشرق الأوسط

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

الاتحاد

——————————–

في الذكرى العاشرة للثورة السورية- مَن جلب الجرذان إلى بيوتنا

تعد عقوبة النفي من أكثر العقوبات قسوة لدرجة أنها كانت تستخدم وحتى القرن العشرين بدلاً عن عقوبة الإعدام

إعداد ليلى شاكر

الصورة تعود لعام 2018، مأخوذة من الطريق لخان الشونة، أحد الأسواق القديمة بحلب، ومن المعالم التي تدمرت بشكل شبه كامل خلال الحرب.

يُعرّف المنفى بأنه الاقتلاع القسري لشخصٍ من وطنه، وتعد عقوبة النفي من أكثر العقوبات قسوة لدرجة أنها كانت تستخدم وحتى القرن العشرين بدلاً عن عقوبة الإعدام، فبمفهوم الديكتاتوريات الطاغي ليس بحاجة للقتل بل يلجأ لما هو أكثر تعذيباً، ولعل اجتثاث الإنسان من بيته، أهله، وطنه بقي أصعب ما يمكن أن يمرّ عليه، موت بطيء يعاني فيه من الفقد والوحشة ومرارة الاغتراب، وربما هذا ما جعلني أموت خجلاً عندما سألتني الخالة حسناء: كيف حال بيتكم بدير الزور؟

كانت زيارتي الأولى إلى حمص بعد قيام الثورة بسنوات تسعة، فحمص قبل الثورة كانت المكان الهادئ البارد الذي نحلم به نحن سكان المنطقة الشرقية من البلاد، أمّا خلال الثورة طُبعت بذاكرتي كساحات واسعة للمتظاهرين والمتظاهرات، صارت حمص العديّة عاصمة الثورة، ولكن لم يمر كثير من الوقت قبل أن يتم معاقبتها على الحِلم، وتحولت حارات بأكملها إلى ركام.

أخذ مني قرار زيارة أقارب والدتي في حمص تسع سنوات، لتدعوني في يومي الأول هناك الخالة حسناء جارة قديمة لبيت جدي إلى فنجان قهوة في منزل متواضع نزحت إليه بعدما قُصف بيتها في حي الوعر، وهو أحد أحياء مدينة حمص، والذي بقي لسنوات الحي الوحيد الذي تسيطر عليه المعارضة في المدينة. لم تتردد لحظة الخالة حسناء قبل أن تصف لي كيف قُصف الوعر، وكيف تحول لساحة حرب. ومجرد كوني من دير الزور تعني لها بطاقة خضراء لتشتم النظام وتضمن أن أشتمه معها. تعود وتسألني: كيف حال بيتكم بدير الزور؟ كدتُ أموت خجلاً، فبيتنا لم يسقط منه حجراً، أردت الاعتذار منها ومن جميع المنفيين، وأردت البكاء، أنهيت قهوتي وعدتُ إلى دمشق حيث أسكن الآن.

في وسط دمشق المشهد كان مختلفاً، لقد تغيرت هويتها، بالأحرى تم نسف هذه الهوية تماماً، فالبلاد اليوم ثكنة عسكرية، لن تتمكن من ركن سيارتك مثلاً في شارع يسكن به أحد الضباط، شوراع بأكملها لن تستطيع العبور بها “لأسباب أمنية” ولن يقول لك أحدهم قابلني في شارع الملك العادل بل ستسمع عبارة عند “حاجز الملك” للتأكيد على بسط السجّان قوته على الأرض وغَير معالمها. ومع ذلك لا آثار واضحة للحرب في دمشق، وحده الحقد يذكرني بها.

وصلت إلى بيتي وكانت ياسمينة الجيران تكاد تخنقني برائحتها، فأنا لم أعد أحب زهر الياسمين، منذ أخبرتني صديقتي لبنى التي عادت إلى بيتها في حي الوعر صيف 2018: “الحياة هادئة لكننا لا نستطيع فتح الشباك رغم الطقس الخانق وانقطاع التيار الكهربائي فرائحة الجثث تتسلل من النوافذ، إكرام الميت دفنه، ونحن نعيش بلا كرامة فكيف لنا أن نحصّل كرامتنا ونحن أموات.” رائحة الياسمين أصبحت تذكرني برائحة الموتى. ولبنى ليست الوحيدة، فالكثير من العائلات النازحة جُبرت على العودة إلى منازلها بعد عمليات التطهير والتحرير أو المصالحة كما أسماها النظام، وهي لم تكن إلّا احتلالاً.

في حرستا مثلاً التي تبعد 5 كيلومترات عن مركز العاصمة يرمم السكان منازلهم للعودة إليها بعد سوء الوضع المعيشي في أماكن النزوح، وهنا لا أقصد الوضع الاقتصادي بل أقصد وضع الحياة أن تكون مغترباً وبيتك يبعد عنك بضع كيلومترات، تهجيرك القسري الذي تعيشه حين تكون مجبراً للعبور في حارة طفولتك وأنت ذاهب إلى عملك ولا يمكنك شرب كأس ماء من بيتك.

العودة إلى بيتك في حرستا، ريف حلب، دير الزور وغيرهم الكثير من المدن التي سُحقت وتحولت إلى أنقاض تعني أنك سمحت للقوراض أن تشاركك مؤونتك، تعني أنك سمحت للجرذان أن تنقل من الأمراض ما تشاء، وأن تستعد تماماً لحساسية الجلد، وللأوبئة الغريبة أن تصبح أقل غرابة فهنا تحت ظل ركام الديكتاتورية ستتعرف على الكثير.

أمّا العودة إلى بيتك في ريف الحسكة، فيعني أن تكون مستعداً للمرور على المعبر الحدودي الذي يفصلها عن باقي أوصال سوريا، فالحسكة اليوم هي الكعكة التي تقسمها سكاكين مستوردة من كل بقاع الأرض.

حرب

لاجئون سوريون يستذكرون خساراتهم: أي من ممتلكاتهم كانوا سينقذون؟

العودة إلى بيتك في الرقة تعني أن تعتاد السواد، أن تحمل أعلاماً على سقف منزلك كتب عليها اسم الله، وتخاف أن تضعها في بيتك فهي شبهة وتهمة لمن استخدموا اسمه بغية حرق الأرض، وتخاف أن تنظر إليها فتتذكر كيف نُحر أخاك أو صديق قديم لك.

في سوريا ستتعلم أن المثل الشائع “بالحجر ولا بالبشر” كذبة، فنحن نريد أن نعود إلى بيوتنا حتى لو كانت محض تراب، تكفينا جدران أربعة نعلّق عليها صور ضحايانا. نريد أن نعود لنرمم بيوتنا بالهزيمة، نسكن بداخلها لتشكل لنا سجوناً جديدة فالارتباط بالوطن لعنة السجن الكبير، والحنين لبقعة عشنا فيها كاد يقتل من رفضوا ترك منازلهم، لا بل قتل الكثير ممن فضّلوا عقوبة الإعدام والموت السريع، على انتظار موتهم في ساعة رملية اسمها النفي.

مؤخراً انتشرت ظاهرة جديدة وكأنها مجرد سائل لاصق نضعه بين ذكريات طفولتنا وصورة الوطن المشتهى، يكفي أن تمشي بأي سوق من الأسواق لتجد الكنزات البيضاء، الأكواب، فناجين القهوة، اللوحات الخشبية وقد رُسم عليها بخط عربي أسماء مدننا، لنقتنيها ونحتفظ بذكرى الوطن الذي كان.

في البدء ظننته مجرد تريند سيختفي مع ظهور تريند جديد، حتى أدركت أن كل ما بقي لنا من الوطن هو مجرد أسماء وصور تتراءى لنا في مخيلتنا عند الانهيار، وربما هذا ما دفع حبيبة صديقي أن تهديه قلادة فضية تحمل رسماً لجسر معلق – بالإشارة إلى الجسر المعلق فوق نهر الفرات في دير الزور، والذي تم تدميره خلال الحرب. لم يعد الجسر معلقاً بدير الزور بل بات معلقاً على صدورنا.

مرّ عقد كامل على ذكرى الثورة السورية التي قامت من أجل الحرية والكرامة، نتذكرها مثلما نتذكر شوارعنا، هناك كانت مظاهرة، وهذا الشارع كان صاخباً بالحياة وأصوات الأطفال، وهذه الزاوية كانت مكاناً للقبلات المسروقة، وهنا في القلب غضب عميق على خساراتنا واندثار حكاياتنا.

نعود إلى أنفسنا كل ليلة ولا تغيب الثورة عن ذاكرتنا، حين قلنا للعالم كله من بيوتنا ومن ساحاتنا أننا نريد الحرية والكرامة، كل ليلة نعود ونتذكر من غيّب وجه البلاد، من جلب الجرذان إلى بيوتنا ومن جعل من مدننا مجرد أسماء مرسومة على مقتنياتنا.

الكاتبة اختارت اسماً مستعاراً.

فايس

————————-

في السؤال عن الندم والندامة/ علاء الدين العالم

يُحكى أن راعياً أعرابياً زرعَ شجيرة واعتنى بها وسقاها يوماً بعد يوم، ولما اشتدَ خشبها صنع منه قوساً وسهاماً، وذهب ليلاً ليصطاد. كان كلما رمى سهماً، رأى لمعةَ نصلِه على الصخر، فظن أنه فوَّتَ فريسته. أغاظه الفشل، فحطم قوسه وباقي سهامه، وفي الصباح صحا على طرائد مترامية أصابتها سهامُه بحدّة، واخترقت الغزلان نحو الصخر. ذلك الأعرابي كان محارب بن قيس الكُسعي، وندامته صبيحة الليل الطويل وسَمَها العرب بـ«ندامة الكسعي» ودرجت مثلاً بين الألسن إلى يومنا هذا. قد يكون هذا النوع من الندم هو الذي قصدته صحيفة الغارديان في استطلاع رأي يرصد نسبة «ندم» الشعوب العربية على انفجار الربيع العربي: «هل ندمت الشعوب العربية على ثورات الربيع العربي؟». والمقصود الربيع العربي في هبته الأولى قبل عقد (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا) أو في هبته الثانية لاحقاً في (السودان، العراق، الجزائر، لبنان). بدون استثناء، كانت الأغلبية للنادمين على قيام الثورات العربية، وقد ارتفعت المؤشرات في سوريا واليمن أكثر، لكن خلاصة الاستطلاع كانت واضحة بغلبة الندم على الشعوب العربية كافة!

عجلة الندامة الأبدية

بصرف النظر عن آلية الاستطلاع وعشوائيته، ما هي عيّناته وأين هي ميادين بحثه واستطلاعه؟ وبعيداً عن النَّسْخ العربي الغوغائي له، لكن ماذا لو فتحنا الباب على سؤال الندم؟ هل تندم الشعوب العربية حقاً على الربيع العربي؟ وإن كان هناك ندم، فهل كل هو ندم عابر الأجيال، أم هو ذاته لدى كل الأعمار والفئات المجتمعية؟ هل مصدر ندم الفئات المسحوقة والمنكوبة هو نفسه مصدر ندم الفئات التي كانت تلتف حول الأنظمة وتستفيد من فسادها؟ هل علينا كجيل عربي فجّر ثوراته في أكثر من ميدان وبلد أن يندم على ما فعل؟! تدفع أسئلة كهذه إلى الوقوف على الندم بما هو مفهوم ضارب في جذر الثقافة العربية، حاضر دوماً، ومرتبط أيما ارتباط بلغتنا وسردياتنا المختلفة.

عشرية الثورة السورية

خلطَت الأعراب في لغتها بين الندم كشعور يُراود الإنسان على خطأ، وبين الندامة بما هي المؤانسة والمسامرة، وفرّقت بينهما بالألف (نَدِمَ، نادَمَ). أما في المعتقَد، فلطالما ارتبط الندم بالتوبة والغفران، فلا تائب دون ندم على خطاياه، ولا مغفرة دون ندم مقابل. وفي الحديث الصحيح «الندمُ توبة». لم تندم الأمة العربية في تاريخها الحديث مثلما ندمت على ضياع فلسطين، وعلى اختلاف الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد العربية لاحقاً. بقيت حرب فلسطين ونكستها مُصاب العرب الأكبر – قبل أن تصبح إحدى مصائبهم التي لا تحصى – وساد جوّ من الندم والتحسر نتج فيه آلاف الأدبيات التي توصف ندم الجيل الماضي وحسرته على ما فقد. وقد جايلنا ما أدى له ذلك الندم من ولادة آلاف القصائد والحكايات التي تحاكي ندم جيل النكسة وحسرته على ما ترك وراءه في فلسطين.

لم تخطُ الشعوب العربية حينها عتبة الحسرة نحو ندم إيجابي، ونقصد هنا الندم الذي يعني مراجعة ما فُعل وما لم يُفعل، أي ليس ما يساهم بتغيير الواقع، بل ما يسمح على الأقل بتدارك الحال والسعي إلى إنهائه على الأقل. وقفت الشعوب العربية عند حدود الحسرة، لم تتجاوزها نحو ندم يتم فيه مراجعة ما فُعل وما لم يُفعل (وذلك واحد من وجوه الندم الإيجابية). لم يشكل الندم على خسارة فلسطين دافعاً أو حافزاً للأمم العربية كي تتداركه وتنهيه.

على العكس، كان المثبط الأكبر لمرحلة ما بعد النكبة، وما اشتد وَتَرُه ونما بعد نكسة حزيران، أن أصبح الفقد مفتاح كل خطاب سياسي واجتماعي وثقافي. وفي نظرة سريعة للمناهج التعليمية العربية، والتاريخية منها على وجه الخصوص، نجد أن الندم كان الشعور الرئيسي في قراءة تاريخ العرب الأوسط والمعاصر: كل ما دار حول فقدان الأراضي، الخسارات، التقسيم، والتخلف بعد التطور، كلها أفكار كانت تثير في الأجيال المتعاقبة شعوراً بالندم على ما فات.

بعيداً عن كونه شعوراً إنسانياً مرتبطاً بكل البشر، في الجذر، يتفرع الندم – ندمنا – إلى فرعين: ديني وسياسي. ولا ينفك هذان الفرعان أن يظهرا مدى تشابُكهما وارتباطهما ببعض، فالتوبة في الفرع الديني هي ذاتها المحبَّبة في السياسي، وكما هناك الغفران والرجوع إلى الصراط المستقيم، تسعى بقايا الأنظمة السياسية العربية إلى جعل الفرد العربي يسير على صراطها المستقيم من جديد، مُبدياً ندمه على ما اقترفه عندما حاد عن صراطهم، وطالب بمبادئ أساسية كالحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية. إن الندم في هذه الحالة (والتي تتوازى مع حالة استطلاع الغارديان) مصحوب بالتوبة؛ ليس التوبة الفقهية، بل طلب التوبة والغفران من الأنظمة السياسية المتراكبة في بلاد الربيع العربي، باعتبارنا كنا جيلاً ناكر الجميل، طائش عاق، دمر البلاد وشرد العباد، والآن يطأطئ الرأس على أبوابهم المشيّدة ليطلب السموح.

عشرية مشتعلة وعقد مهدور

دائما ما كان الندم، بكل تحولاته، مرتبطاً بالفشل. لا يمكن أن تندم على نجاح، إلا إذا اعتبرته لاحقاً فشلاً. دوماً الندم يحوم حول الفشل. ربما ذلك هو الندم المطلوب من جيل اليوم، الاتعاظ بما جرى، والانكماش على الذات، والغرق في بِرَك من الفشل. هذا ما تحاول الغارديان إخبارنا إياه في الاستطلاع: فشل الجيل العربي الجديد في كل الانتفاضات العربية في تحقيق مكاسب سياسية واجتماعية مُرضية، ورسم مستقبل أفضل. في الكلام السابق وجه حق حينما نرى مصر السيسي، وسوريا الأسد، ولبنان الانفجار الكبير. أيُّ بلادٍ ورثناها! وأي بلاد سنورثها لجيل بدأ على الأبواب! تلك حقائق. صورة هذه البلدان اليوم مقارنة بتسعينات القرن الماضي والعشرية الأولى يبدو وكأنه أبشع بكثير، قاتم حد السواد. لكن وبكل هذا الخراب لا يمكن للشباب العربي أن «يندم» على إشعال النار بكمّ العفن السياسي المتراكم. لم يكن هناك مَخرَج لنا في بداية العشرية إلا نسْف كل شيء. آنذاك، بكل رومانسيتنا وتصورنا الطفولي للثورات، فجّرنا عقداً بأيدينا وبدّدناه.

اختلف علماء الاجتماع في تحديد عمر الجيل الواحد. حدده ابن خلدون بأربعة عقود، بينما جعله عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم ثلاثة عقود، أي يشمل الجيلُ أباً وابناً، ولو أن تلك الحدود تبقى مائعة، تزيد وتنقص. لكن يمكن تحديد الجيل المولود في السبعينات والثمانينات والتسعينات كجيل عربي معاصر (من كانت أعمارهم بداية العقد بين العشرينات والخمسينات)، يسبقه جيل من ولد في الأربعينيات الخمسينات وشب على نكسة حزيران نهاية الستينات. في نظرة سريعة على جيلين عربيين متتالين، يتضح أنه، قبل الفوران العربي، كان هناك ندم متوارث، عملية دوران للندم وتكرير له. سعت الأنظمة السياسية إلى تربية هذا الندم وتنشئته وخلق لغة خاصة به. بعد انفجار الثورات لم يعد هناك وقت لاجترار ذلك الندم، أصبحت الرؤيا لأول مرة منذ عقود تجاه المستقبل، لا الماضي العتيد، الحزين.

حينما انفجرت تونس، وتلتها مصر، كانت مشاعل النار تشتعل تحت الشباب السوري، بدأت الأسئلة تخرج من قوقعة الماضي وكليشيهاته، وبدأ الجيل الجديد يتجرأ على أسئلة كانت قد دفنتها الأنظمة العربية في الثمانينات والتسعينات. ما شكل النظام الحاكم؟ ما هي قدرته وكفاءته السياسية على إدارة البلاد؟ هل فعلاً تتّسق ممارسات هذه الأنظمة مع شعاراتها المقاومة؟ هل لدينا دول بالمعنى الحديث للكلمة، أم أشباه دول؟ بدا حينها سؤال الكرامة أساسياً لنا في صفعة البوعزيزي. حلم التظاهر والتجمع أصبح واقعاً في مصر، بدت اليمن قريبة من الشام، فتحت التكنولوجيا عيوننا على عالم جديد. من هنا، لم تكن ثورة السوريين على نظام سياسي وحسب، بل هي انفجار في وجه كل الموروث النوستالجي والعاطفي، فورة ضد كل الأوهام والأحلام البائدة، ومحاولة لقلب كل القيم السائدة – تلك القيم التي لم تعُد علينا إلا بالمزيد من التراجع والتخلف. نعم تلك الآمال كانت عظيمة، وهذه الأحلام كانت كبيرة، لكن ما العمل؟ أولم يكن ضياع الأحلام الكبيرة ونفاذ الأماني هو ما دفعنا إلى الفعل الثوري؟ هل نندم عليه؟ هل نتأسف؟ لا يمكننا أن نندم اليوم، الندم هو الاستسلام الكامل، هو الإقرار بنهاية المعركة لصالح الأنظمة القديمة، وهو اعتراف بالثورة كذنب يتطلب التوبة والمغفرة. لم تكن بلادنا جميلة ودمرناها بأيدينا، كانت مقهورة، مكبوتة، كانت دولنا فاشلة، وهذا ما أثبته عقد ولّى؛ عقد ندرك في نهايته أنها ما زالت كذلك، وأن أي شعور بالندم سيُبقيها على حالها. نعم كان عقداً مهدوراً، خساراته لا تحصى، ومرَّ بلمح البصر، لكنه لم يكن صامتاً، راكداً، كان عقداً غاضباً، فيه أحداث ألف عام، عقداً من نار ودم وكانت عشرية مشتعلة.

تداعي السرديات وتبدُّل اللغة

لم يكن هناك حرب قبل عشر سنوات، لم يكن هناك أزمة ومؤامرة، كل ذلك حدث لاحقاً. في البدء كانت الثورة، واليوم نقف أمام عشرية الثورة، لا عقد الحرب والخراب كما يُوحى لنا. وكما تشتهي أنظمة العالم أجمع تكريسه. إذا كان استذكارنا لعشرية الثورات العربية على شاكلة استذكارنا لنكبتنا ونكستنا، فسنكون أعدنا تحريك عجلة الندم من البداية؛ فعلنا ما فعل سلفُنا، لا بل الأسوأ، لذلك ستكون كتلة الندم أكبر، وستسحقنا تماماً. قبل الندب، علينا أن نهدم سردية الندم القديمة. لا مجال للنظر إلى الخلف في واقع قاسٍ وشديد. لا مفر من النظر إلى الأعلى في هذا الدَّرَك السياسي الأسفل الذي غدت عليه بلاد الربيع العربي. لا وقت للندم النوستالجي السائد في الحقبة السابقة. الندم الوحيد المتاح هو الندم على كم الأخطاء الهائل المرتكب في الانتفاضات العربية، وعليه أن يكون حافزاً للمزيد من العمل، المزيد من الهدم فكري.

الندم أيضاً مرتبط بسيلان الزمن، هو يحدث بعد فوات الأوان، مرتبط بماضي مهدور، ولا يمكنه أن يحدث في الحاضر. ومن هنا تأتي لغته: هي لغة ماضوية (كانَ، وصارَ، وحدثَ…)، وهي لغة تعُجّ بأدوات التمني (لو، ليت..). هي لغة تقبع في الماضي، تستحضره وتُعيد تكراره. هذه اللغة ذاتها هي ما تحاول أنظمة السلطة اليومية إعادة إنتاجها، كأن نقول: كنّا أفضل، ويا ليتنا لم نفعل، وغيرها من الصيغ التي تستدعي الشعور بالندم على عشرية سابقة «آمنة»، وتعود لغتنا إلى ما كانت عليه منذ عقود، لغة ماضوية محصورة بالتعبير العاطفي.

لقد صار لهذا العقد لغته، لم تتبلور بعد أو تتحدد، لكن يمكن القول أن هناك لغة ماضية انهدّت، هدّها الانفجار. انمحت كلمات خشبية من قبيل (رجعي، انعزالي، انهزامي…). أضافت كلمة «الربيع» قيمة مختلفة لكلمة «العربي»، التي بهتت من فرط استخدامها في الخطاب الأجوف حول «الوحدة العربية» و«العروبة» وغيرها من مفاهيم واصطلاحات السردية العربية المنتفَض عليها. لغة العرب اليوم (ومنها لغتي هذه) هي لغة مجبولة بمفردات جديدة أفرزها عقد النار، لغة معجونة من كلمات الشارع المنتفِض. تلاشت أنساق الخطابات القديمة (ومنها خطابات بداية الثورة) أمام زخم لغة العالم الافتراضي، هناك حيث يمكن للجميع الكتابة دون قيد أو شرط. أضحت وسائل الإعلام العربية الرسمية، بلغتها البالية، هياكل كوميدية، وصار هناك إعلام بديل، يتفاوت في أيديولوجياته واصطفافه ومدى استقلالية قراره، وفي بعض محطاته يضاهي إعلام الأنظمة بفساده، لكنه يحكي بلغة اليومي المعيش وليس الخطابي الحالِم. ولنا في اللغط المثار حول كليشيه «تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة» أكبر مثال على آلية عمل اللغة – لغتنا – اليوم، ومدى النفور من أي لغة خطابية طنانة ولو كانت تنطق بحقائق وأفكار سامية. غدت كلمات ومفاهيم «المواطنة»، «المواطن»، «المدنية»، «الاستقلالية… أساسية في تنظيرنا الاجتماعي، حتى كلمة «ثورة» نفسها أُزيحت من معناها العسكري السابق، لتصبح كلمة مرتبطة بكل مدن المنطقة العربية. باختصار، دفعنا الانفجار العربي إلى مراجعة كل المعجم السياسي والاجتماعي خاصتِنا، والبحث فيه عن لغة تعبّر عنّا؛ عن روح جيل مُنتفِض يبحث عن الحرية وما يزال.

إن نَسْب التفتيت والخراب الحاصل إلى الأنظمة الديكتاتورية ومُفرزاتها وحسب هو ضرب من البلاغة الخطابية، ولا ينفي ذلك فَشَل الثورات الذريع في أكثر من مكان، وعلى رأسهم سوريا. ولا ينفي أيضاً مسؤوليتنا كجيل مفجّر للثورات، سوف يسائله التاريخ. لذلك قد تشكِّل حالة الوقوف والذهول ورؤية البلاد تذهب إلى الهاوية حالةً أشد من تلك التي أصابت الشباب العربي بُعيد نكساته في القرن العشرين، وربما كان المخرَج الوحيد منها هو الاعتراف بالفشل ومحاولة مراجعة ومساءلة كل ما حصل وليس الندم والتحسُّر عليه.

موقع الجمهورية

——————————

بالتزامن مع الذكرى العاشرة للثورة السورية… مشروع قرار أمريكي جديد ضد النظام

أنطاكيا – «القدس العربي» – وكالات: رجح الباحث في جامعة «جورج واشنطن» رضوان زيادة، أن يحظى مشروع القرار الجديد الذي طرحه عدد من النواب الأمريكيين في مجلس الشيوخ، حول تحديد سياسة الولايات المتحدة في الملف السوري، بدعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وعزا زيادة تقديره هذا، خلال اتصال مع «القدس العربي» إلى أن مشروع القرار لا ينص على تدخل عسكري ضد النظام السوري، أو وجود قوات أمريكية على الأرض السورية. يجري ذلك وسط تأكيد استمرار عقوبات أوروبا على النظام… وجولات روسية في الخليج لإعادة تعويم الأسد

وكانت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، قد قدمت مشروع قرار بالتزامن مع الذكرى العاشرة للثورة السورية، لتحديد سياسة الولايات المتحدة في سوريا، ينص على إدانة الجرائم التي يرتكبها النظام السوري، ويدعو إلى مواصلة الجهود لمحاسبته وداعميه، روسيا وإيران. وقد قام رئيس لجنة الشؤون الخارجية الديمقراطي في مجلس الشيوخ السيناتور بوب مينيندز بتقديم مشروع القرار الجديد، بعد تعديل أجزاء منه وتوقيع نواب من الحزب الجمهوري.

وينص مشروع القرار، الذي نشره أيضا الصحافي السوري أيمن عبد النور، على الاحتفال رسمياً بالذكرى السنوية العاشرة للانتفاضة السورية، والعمل على تحميل نظام الاسد ومساعديه الدوليين مسؤولية الفظائع التي ارتكبوها بحق الشعب السوري ومحاسبتهم عليها، وتأمين المساعدات الإنسانية للشعب السوري، ومنع وصول نظام الاسد للموارد التي تساعد في دعم آلته الحربية العسكرية. كذلك، يشيد بالمدافعين عن حقوق الانسان وجهودهم لتوثيق جرائم الاسد والكشف عنها، ويرسل رسالة واضحة للمجتمع الدولي ضد تطبيع العلاقات أو تطويرها أو قوننتها مع نظام الأسد والدول المتحالفة معه. وإلى جانب ذلك، يدعو مشروع القرار حكومة الولايات المتحدة إلى تنشيط الجهود الدبلوماسية لحل النزاع على النحو المبين في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، وتوسيع نطاق المساعدات الإنسانية للشعب السوري، حتى تكون سوريا خالية من العنف سواء من الدولة أو الجماعات المسلحة الأخرى.

موقف أمريكي جديد

وفي تعليقه على مشروع القرار، قال رضوان زيادة، إن أهمية مشروع القرار تأتي من كونه يدفع بسوريا كأولوية لإدارة جو بايدن، التي يبدو أنها لا زالت تتجاهل الملف السوري، أو على الأقل لا تضعه ضمن أولوياتها كما الوضع في اليمن.

وبسؤاله عن وجود صلة بين مشروع القرار الأمريكي الجديد، والتحركات الروسية الساعية إلى تعويم النظام السوري وحشد الدعم السياسي والاقتصادي له، أجاب زيادة: «سوريا منطقة صراع دولي بين روسيا وأمريكا، وبالتالي كل تحرك روسي فيها، سيكون محط اهتمام امريكي، ويكون الرد ليس بالقوة العسكرية وانما افشال انتصار الاسد الوهمي سياسياً واقتصادياً».

من جانبه، قال مدير «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» فضل عبد الغني، إن مشروع القرار يؤكد من جديد على قوة الموقف الأمريكي وحضوره في الملف السوري.

وأضاف لـ»القدس العربي» أن من الواضح من توقيته، أنه يأتي في إطار عرقلة الجهود الروسية الهادفة إلى إعادة تأهيل بشار الأسد، مستدركاً بالقول: «الواضح أن الدور الأمريكي لا زال يراوح مكانه، إذ يمكن اختصاره منذ اندلاع الثورة السورية بأنه يأتي في إطار تحفيز روسيا على البدء بعملية سياسية».

وأوضح عبد الغني، أن الولايات المتحدة تحجم عن بذل مجهود أكبر لإطلاق المسار السياسي، وقال: «لا زالت تحركات واشنطن تأتي لعرقلة المشروع الروسي».

وتابع مدير الشبكة الحقوقية، بأن كل ذلك لا يعني التقليل من أهمية الموقف الأمريكي، لأنه يعرقل ما تريده روسيا، أي إبقاء الأسد على رأس السلطة، وإجراء بعض الإصلاحات الشكلية، حيث تعطي التحركات الأمريكية شيئاً من التوازن في الملف السوري.

وطبقاً لعبد الغني، فإن مشروع القرار الأمريكي يتقاطع مع التحركات الأوروبية والدولية الرافضة لأي انتخابات يجريها النظام السوري في مناطق سيطرته، بعيداً عن المعايير التي يحددها القرار الأممي 2254.

الموقف الأوروبي

وكان الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، قال إن العقوبات الأوروبية ستتواصل بحق نظام الأسد، لغاية تحقيق انتقال سياسي في سوريا. جاء ذلك في كلمة خلال جلسة للبرلمان الأوروبي، الثلاثاء، بمناسبة دخول الحرب السورية عامها العاشر. ولفت بوريل إلى تعرض السوريين للقتل والتعذيب والتجويع والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية على مدار 10 أعوام. وأضاف: «لن يستطيع (بشار) الأسد كسب هذه الحرب رغم الدعم الذي يلقاه من روسيا وإيران. والحل السياسي هو الطريق المستدام الوحيد».

وأشار بوريل إلى انسداد مسار الحل السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة، وعرقلة النظام لعمل اللجنة الدستورية المكلفة بصياغة دستور جديد للبلاد. وأضاف: «الأسد لا يرغب بإجراء انتخابات حرة وعادلة، بل انتخابات يكون هو الرابح فيها». وتابع: «لن يتم إنهاء العقوبات ولن يكون هناك تطبيع ولن يتم دعم جهود إعادة الإعمار حتى يكون هناك انتقال سياسي في سوريا». وشدد على أن الاتحاد الأوروبي غير قادر بمفرده على حل الأزمة السورية، وأنه يتعين ممارسة ضغوط (من الأطراف المعنية) لتحقيق انتقال سياسي في سوريا حسب وكالة الاناضول.

يجري ذلك فيما تواصل روسيا ديبلوماسيتها عبر وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي يجول على دول الخليج لكسب الدعم وإعادة تأهيل بشار الأسد والنظام السوريا دولياً وإقليمياً فبعد جولته على الامارات التي أعلنت تأييدها لعودة الأسد ومقعد سويا الى الجامعة العربية، ذكرت وكالة الأنباء السعودية على تويتر أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان التقي بالمبعوث الروسي الخاص لشؤون التسوية السورية ألكسندر لافرينتييف. وقالت الوكالة إنهما استعرضا «العلاقات الثنائية بين البلدين ومستجدات الأوضاع على الساحة السورية». ونقل عن وزير الخارجية السعودية تأييد بلاده للحل السياسي في سوريا.

———————–

=========================

تحديث 12 أذار 2021

————————-

عشر سنوات من الثورة.. أبرز الأحداث وأسوأ الانتهاكات

إدارة الإعلام/ مركز حرمون

عشر سنوات مرّت على اندلاع الحراك الشعبي في سورية، (في آذار/ مارس 2011) الذي امتد ليشمل المحافظات السورية كافة، من جنوب البلاد إلى وسطها وشمالها، وليس انتهاءً بشرقها.

انطلقت شرارة الثورة السورية من محافظة درعا (جنوب سورية)، على إثر قيام أجهزة أمن النظام، بضوء أخضر من عاطف نجيب (ابن خالة رأس النظام السوري بشار الأسد)، باعتقال 15 طفلًا، وزجهم في مراكز الاحتجاز، وتعذيبهم بشكل منهجي، والسبب إقدامهم، في 26 شباط/ فبراير 2011، على كتابة شعارات تطالب بالحرية وإسقاط نظام الأسد، على جدران عدد من المدارس، ورفضَ النظام إطلاق سراحهم، على الرغم من كل الأصوات التي تعالت مطالبة بذلك، لتكون بداية حراك امتد لهيبه إلى مختلف أرجاء الأرض السورية.

وعلى الرغم من أن التظاهرات انطلقت بشكل سلمي، مطالبة بالإصلاحات والتخفيف من هيمنة القبضة الأمنية لأفرع النظام وأجهزته المخابراتية وحتى العسكرية، إضافة إلى إصلاحات خدمية واقتصادية وأخرى في الإطار ذاته، فإن نظام الأسد قابل الحراك السلمي بزيادة القبضة الأمنية، وبالعنف المنهجي الذي راح ضحيته مئات الآلاف من السوريين، بين شهيد ومعتقل ونازح ومهجر ولاجئ.

وفي ما يأتي أبرز الأحداث التي مرّت، وأبرز الانتهاكات التي مارسها نظام الأسد، خلال 10 سنوات من عمر الثورة السورية:

التظاهرات وقمعها في بداية الحراك الشعبي

عقب أحداث درعا، وجّه ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي (فيسبوك) دعواتٍ للتظاهر تحت اسم “يوم الغضب السوري”، في 15 آذار/ مارس 2011، نصرةً لدرعا وأطفالها. خرجت أولى التظاهرات (بأعداد قليلة) في قلب العاصمة السورية دمشق، وتحديدًا من الجامع الأموي في الحميدية، وقد احتواها على الفور عناصرُ أمن النظام والموالون له. وفي اليوم التالي، كانت هناك تظاهرة أخرى خرجت في ساحة المرجة، مقابل مبنى وزارة الداخلية، وشهدت مواجهات بين المتظاهرين وقوات أمن النظام.

في يوم الجمعة 18 آذار/ مارس 2011، خرجت أول تظاهرة من مسجد العمري في مدينة درعا، فقابلتها قوات أمن النظام بإطلاق الرصاص الحيّ، ما أسفر عن سقوط 4 شهداء، وخرجت بعدها تظاهرات في مدن وبلدات عدة في محافظة درعا، إضافة إلى مناطق محدودة في ريف دمشق، وفي مدن حمص، حماة، بانياس الساحلية، وتمت مواجهتها بالعنف والاعتقالات وإطلاق النار على المتظاهرين.

ومع ازدياد القبضة الأمنية والعنف المنهجي الممارس من نظام الأسد وأجهزته الأمنية؛ اتسعت رقعة الحراك الشعبي وازدادت وتيرته يومًا بعد يوم، وازدادت أعداد الشهداء والمعتقلين والانتهاكات الممارسة من قوات النظام. وكان ما جرى في مدينة حمص بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 2011، حدثًا مفصليًا بتاريخ الثورة السورية؛ إذ شهدت المدينة في ذلك اليوم وقوع مجزرة كبيرة، أطلق عليها اسم “مجزرة الساعة“، في حين لم يكن هناك أعداد واضحة أو موثقة للضحايا آنذاك. وتزامن ذلك مع فرض الحصار على مدينة درعا، في 25 نيسان/ أبريل 2011، ومدن أخرى ثارت بوجه النظام وطالبت بإسقاطه.

وفي 9 أيار/ مايو 2011، فرضت قوات النظام حصارًا خانقًا على مدينة حمص، بهدف إخماد التظاهرات الضخمة التي بدأت تخرج مطالبة برحيل النظام. في حين كانت مناطق بريف حمص الشمالي والغربي تتعرض لعمليات عسكرية من قوات النظام التي حاصرت مدينة (تلكلخ) في الريف الغربي، ومدينتي تلبيسة والرستن في ريف حمص الشمالي.

ولم يكن يوم 3 حزيران/ يونيو 2011، يومًا عاديًا بالنسبة إلى مدينة حماة، التي شهدت حراكًا شعبيًا رد عليه نظام الأسد بارتكاب مجزرةٍ راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين الذين نفّذوا اعتصامًا كبيرًا في ساحة العاصي وسط المدينة. وفي 4 حزيران/ يونيو 2011، بدأت قوات النظام بالتوجه صوب إدلب، لإخماد الحراك فيها، وفرضت حصارًا خانقًا على مدينة جسر الشغور بريف إدلب. وفي 10 حزيران/ يونيو 2011، بدأ نظام الأسد يروّج لرواية ما أسماها “العصابات المسلحة”، مدعيًا أنها قتلت 120 عنصرًا للنظام، عُثر عليهم في مقبرة جماعية في جسر الشغور. واستمرت التظاهرات في مختلف أرجاء سورية، وقابلها استمرار القبضة الأمنية والاعتقالات والملاحقات، الأمر الذي دفع المعارضة إلى تشكيل جسم سياسي يعبّر عن تطلعات الحراك الشعبي لإيصال صوات المتظاهرين للمجتمع الدولي والعالم أجمع.

“لواء الضباط الأحرار” والجيش السوري الحرّ لحماية المتظاهرين

دفعت الحملات العسكرية المنهجية التي بدأت ينفذها النظام ضد المناطق الثائرة، وخاصة عملية الاجتياح العسكرية لمدينة جسر الشغور بريف إدلب، وارتكاب مجزرة بحق المدنيين هناك، في 4 حزيران/ يونيو 2011، دفعت الضباط الرافضين عمليات قتل المدنيين، بدلًا من حمايتهم، إلى الانشقاق عن “جيش النظام”.

وكان المقدم في الفرقة 11 مشاة حسين هرموش أوّل ضابط يعلن انشقاقه عن نظام الأسد، وأعلن تأسيس أوّل جسم عسكري معارض تحت اسم “لواء الضباط الأحرار“، في تموز/ يوليو 2011، وكان اللواء نواة للجيش السوري الحر الذي أعلن تشكيله لاحقًا.

وفي 29 آب/ أغسطس 2011، ردّ النظام على الصفعة التي تلقاها بانشقاق أول ضابط سوري عن صفوفه، بتنفيذ عملية مثيرة للجدل ومثيرة لكثير من التساؤلات، وكان عنوانها العريض “اختطاف المقدم حسين هرموش”، من مكان إقامته على الحدود السورية التركية (من الجانب التركي)، وإلى الآن 2021، ما يزال مصير الهرموش مجهولًا.

في 29 تموز/ يوليو 2011، أُعلن تأسيس “الجيش السوري الحر” بقيادة العقيد المنشق رياض الأسعد، عقب انشقاق عدد من الضباط عن صفوف قوات النظام، وكان الملازم “عبد الرزاق طلاس”، والمقدم “حسين هرموش” من أوائل المنشقين عن جيش النظام. وكان الهدف من تشكيل فصيل معارض مسلح، هو حماية التظاهرات التي كانت تخرج في أكثر من نقطة في المحافظات السورية، في وجه قوات النظام وأجهزة مخابراته وميليشياته المساندة.

ومع تزايد أعداد الضباط المنشقين، أصبح “الجيش السوري الحر” لاعبًا مؤثرًا في عمر الثورة السورية، خاصة بعد أن ارتفع عدد الملتحقين بصفوفه، وغالبيتهم من منشقي الجيش النظامي الذين رفضوا تنفيذ أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين. وتمكّن “الجيش السوري الحر” من التقدم عسكريًا، وطردَ قوات النظام من عدد من المناطق وبسط سيطرته عليها، ونفّذ العديد من العمليات العسكرية التي تسببت في تهاوي النظام الذي استنجد بالميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، لمساندته في استعادة الأراضي التي خسرها أمام ضربات المعارضة العسكرية.

وكانت النقطة المفصلية في عمر الثورة السورية، عسكريًا، هي إعلان المعارضة السورية، في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2017، تشكيل “الجيش الوطني السوري“، الذي دمج جميع الفصائل العسكرية تحت مظلة واحدة، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الثورة السورية في 2011.

الحراك السياسي

كانت بدايات الحراك السوري سياسيًا من بوابة “مؤتمر الإنقاذ الوطني السوري“، الذي عُقد في مدينة إسطنبول، بتاريخ 16 تموز/ يوليو 2011. وحضر المؤتمر غالبية المعارضين السوريين المعروفين، وكان من بينهم برهان غليون، وهيثم المالح، بالإضافة إلى شباب الثورة السورية من ممثلي التنسيقيات وممثلين عن التكتلات الشبابية.

وفي 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، أُعلن تشكيل “المجلس الوطني السوري“، إذ ترأس برهان غليون المجلس الوطني، وأعيد انتخابه ثلاث دورات، ثم استقال بعد ذلك لينتخب عبد الباسط سيدا رئيسًا للمجلس في 9 حزيران/ يونيو 2012، وفي 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، انتخبت الأمانة العامة للمجلس جورج صبرا رئيسًا للمجلس، خلفًا لعبد الباسط سيدا.

وفي11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، تم الاتفاق على توحيد صفوف المعارضة السورية، تحت لواء كيان جديد هو “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية“. وأكد الائتلاف أنه “يهدف إلى دعم القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية والجيش الحر، وإنشاء صندوق دعم الشعب السوري بتنسيق دولي، وإنشاء اللجنة الوطنية السورية”.

ومن التطورات التي شهدها الحراك السياسي، قيام بعض الدول ومنها: السعودية والكويت والبحرين، بسحب سفرائها من دمشق، في 8 آب/ أغسطس 2011، تلا ذلك إعراب “جامعة الدول العربية” عن قلقها إزاء التطورات في سورية، داعية النظام إلى وقف العنف.

وفي 18 آب/ أغسطس، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي، وكندا، أن رأس النظام “بشار الأسد” فقد شرعيَّته بالكامل، وأن عليه التنحِّي فوريًا عن الحكم.

وكان أول تحرّك لمجلس الأمن الدولي في 4 تشرين الأول/ أكتوبر، حين قدمت بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبرتغال مشروع قرارٍ يدين النظام السوري، ويطالبه باحترام حقوق الإنسان والبدء بإصلاحات سياسية، لكن روسيا والصين استخدمتا حق النقض “الفيتو” ضد المشروع.

وفي 26 تشرين الأول/ أكتوبر، دعا “المجلس الوطني السوري” إلى إضراب شامل في عموم سورية، تضامنًا مع درعا، وكانت حماة وحمص أول من استجاب لهذا النداء الذي لاقى صدًى واسعًا في عموم أرجاء سورية. ووُصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر، بأنه “شهر تصفية المعارضين السياسيين”، والبداية كانت من اغتيال الناشط الكردي مشعل تمو في 7 من الشهر ذاته، إضافة إلى تصفية كبار قادة المعارضة، وعدد من النشطاء الثوريين على الأرض.

التذرع بالإرهاب لتبرير الإفراط في استخدام العنف في مواجهة الحراك السلمي

مع استمرار الحراك الشعبي في عموم المحافظات من دون توقف، بالرغم من القبضة الأمنية وحملة الاعتقالات وسقوط الضحايا، بدأ النظام يروج لرواية “العصابات الإرهابية المسلحة” مدعيًا أنها تستهدف المدنيين وقواته الأمنية والعسكرية في الوقت نفسه. وأطلق النظام أيضًا على المتظاهرين الرافضين حكمه لقب “المندسين”، مدعيًا أن هؤلاء “المندسين”، يتبعون لـ “السلفية لجهادية”، وأنه يجب القضاء عليهم، متهمًا أيضًا بعض الدول بتمويلها.

ولم يقتصر الأمر على ذلك وحسب، بل اتهم النظام المعارضين حكمه أو من وصفهم بـ “العصابات الإرهابية” بقتل الآلاف من جنوده وعناصر أفرعه الأمنية. ووصفها أيضًا بأنها “جماعات إرهابية مسلحة ذات دوافع تكفيرية إسلامية متطرفة”. وعمل النظام -عبر ماكيناته العسكرية والأمنية- على شن حملة اعتقالات كان نتيجتها اعتقال عشرات الآلاف من المدنيين. وركزت الاعتقالات على مجموعتين: الناشطين السياسيين، والرجال والفتيان، في عدد من المدن والقرى والبلدات المناهضة للنظام. وقد أكد كثير من الناشطين الحقوقيين تعرض كثير من المعتقلين لأبشع أنواع الانتهاكات، في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري، واستخدام أساليب تعذيب منهجية بحق المعتقلين.

أبرز انتهاكات نظام الأسد خلال 10 سنوات من الثورة

التهجير

مرّت الثورة السورية بكثير من المراحل التي كان عنوانها الأبرز استدعاء النظام لكل الميليشيات والقوات التابعة للقوى المساندة له (أبرزها إيران وروسيا) للوقوف بوجه المناهضين له والمطالبين برحيله، يضاف إلى ذلك خلط الأوراق، سياسيًا وعسكريًا، ما انعكس بشكل سلبي على فصائل المعارضة السورية، وعلى المدنيين أيضًا، يضاف إلى تلك التفاصيل أيضًا ظهور تنظيم “داعش”، وسيطرته على أكثر من منطقة شرقي سورية وفي أماكن أخرى من أرياف حماة وحمص وحلب، وزاد الدعم الروسي والإيراني لنظام الأسد الذي بات يتبع سياسة الأرض المحروقة، وأجبر ذلك المعارضة السورية المسلحة على عقد اتفاقات، للخروج من المناطق الخاضعة لسيطرتها وإخراج المدنيين الذين حاصرهم النظام ومنع عنهم الغذاء والدواء.

وكانت أول عملية تهجير في عام 2014، وتحديدًا من حمص القديمة باتجاه الشمال السوري، بعد حصار خانق وعمليات عسكرية دمرت الأحياء الثائرة، ومن أهمها باب السباع، وباب الدريب، وكثير من الأحياء الأخرى في المدينة، إذ تم نقل المقاتلين مع أسرهم بحافلات إلى ريف حمص الشمالي.

وفي العام 2016، شهدت مدينة حلب (شمالي سورية) عملية تهجير نحو الريف الحلبي أيضًا، وُصفت بأنها الأكبر، بعد شن النظام وداعميه عملية عسكرية استمرت نحو عام كامل، وأسفرت عن سقوط ضحايا بين المدنيين، وقدرت أعداد المهجرين وقتها بنحو 45 ألف شخص.

وفي العام ذاته، تم تهجير أهالي مدينة “داريّا” بريف دمشق باتجاه الشمال السوري، وتم إفراغ المدينة بشكل كامل، وبحسب الأنباء الواردة من المدينة فقد بسطت الميليشيات الإيرانية السيطرة عليها، بضوء أخضر من نظام الأسد، ولم يسمح إلا بعودة القليل من الأسر وبشروط أمنية، في ظل غياب مقومات الحياة المعيشية والاقتصادية.

وفي 2016 أيضًا، عمل النظام على تهجير أهالي بلدتي قدسيّا والهامة إلى منطقة إدلب (شمالي سورية)، بعد حصار خانق عاشه المدنيون. وانضمت أيضًا بلدة معضمية الشام، إلى قائمة المدن المهجرة نحو الشمال، إضافة إلى بلدتي خان الشيح والتلّ بريف دمشق.

وفي 2017، تم تهجير سكان بلدة (وادي) بريف الزبداني بريف دمشق، بعد حصار استمر 40 يومًا، وكانت الوجهة صوب إدلب. كما شهدت أحياء دمشق الشرقية “برزة، تشرين، القابون”، عمليات تهجير.

وفي 13 آذار/ مارس 2017، تم تهجير أهالي حي الوعر، أحد أحياء مدينة حمص، باتجاه الشمال السوري، واستقر نسبة كبيرة منهم في مخيم “زوغرة” للنازحين، ومن ثم توزعوا في عدد من مناطق الشمال السوري.

وكانت أبرز عمليات التهجير والتي تصدرت المشهد، في 11 نيسان/أبريل 2017، ما عُرف باسم “اتفاق تهجير المدن الأربع“، بعد اتفاق بين “هيئة تحرير الشام، وأحرار الشام”، وبين ممثلين عن إيران ونظام الأسد، وقد نصّ على تفريغ بلدة مضايا ومدينة الزبداني في ريف دمشق، إضافة إلى “مخيم اليرموك” جنوبي دمشق، من المقاتلين التابعين للمعارضة السورية ومن الأهالي الراغبين في الخروج، مقابل تفريغ بلدتي كفريّا والفوعة المواليتين للنظام بريف إدلب الشمالي.

وفي 2018، تم تهجير أهالي مدن وبلدات القلمون الشرقي بريف دمشق “الضمير، والناصرية، والرحيبة، والقطيفة”، باتجاه الشمال السوري. وفي 19 حزيران/ يونيو 2018، استهدفت حملة التهجير محافظة درعا “مهد الثورة السورية”، ومحافظة القنيطرة، بعد ضغوط كبيرة وحملة عسكرية شرسة من نظام الأسد وميليشيات إيران والقوات الروسية، وكانت أول دفعة مهجرين خرجت نحو الشمال السوري في 15 تموز/ يوليو 2018.

“ويندرج التهجير القسري ضمن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، وفق القانون الدولي والقانون الإنساني، إضافة إلى أن اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة في آب/ أغسطس 1949، والبروتوكولين الملحقين بها لعام 1997، تعرّفان جرائم الحرب بأنها الانتهاكات الجسيمة للقواعد الموضوعة، إذا تعلق الأمر بالتهجير القسري، فالمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 حظرت النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سكنهم إلى أراضٍ أخرى”.

التغيير الديموغرافي

منذ الأيام الأولى لعمليات التهجير القسري، أطلقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، تحذيرًا من مخاطر عملية التغيير الديموغرافي، التي ينفذها نظام الأسد في مختلف المحافظات السورية، وأكدت أن الأمر يشكل تهديدًا لسلامة كامل البلاد. وطالبت الشبكة الحقوقية في تقاريرها، مجلس الأمن، بالضغط على نظام الأسد، لإيقاف عمليات الاستيطان والإحلال التي يقوم بها في المناطق التي يهجر سكانها منها، وضمان حق العودة للاجئين والنازحين، والحصول على أراضيهم وممتلكاتهم.

وبدأ نظام الأسد في عام 2016 العمل على ترسيخ سياسته المنهجية الرامية إلى التغيير الديموغرافي، من خلال الترويج لفكرة “سورية المفيدة”، ومن خلال هذا المصطلح، بحسب مصادر حقوقية عديدة ومتطابقة، يسعى لتحقيق أهدافه الاستراتيجية وإقامة “سورية المفيدة” التي تعدّ “منطقة من سورية ذات أهمية جغرافية وديموغرافية لاستمراره في الحكم، يقطن فيها أناس موالون للنظام”. ومن أجل هذا الهدف، أعطى النظام الضوء الأخضر لمواليه وقواته والميليشيات المساندة له لارتكاب الانتهاكات بحق المدنيين وتهجيرهم من مدنهم وبلداتهم التي كانوا يقطنون فيها.

وسارع نظام الأسد عبر ميليشياته، بعد عمليات التهجير القسري مباشرة، إلى تطبيق سياسة التغيير الديموغرافي في المناطق التي شهدت تلك العمليات، وكانت البداية من الأحياء الثائرة في مدينة حمص: “باب السباع، باب الدريب، كرم الزيتون” وغيرها، إضافة إلى مدينة القصير بريف حمص الغربي، وامتدادًا إلى مناطق في جنوب العاصمة دمشق وفي ريفها، وصولًا إلى مناطق في حماة وريفها، إذ قام بإحلال سكان آخرين ( علويين، ميليشيات شيعية، شيعة سوريين ومتشيعين جدد)، محلّ السكان الأصليين، معتمدًا في ذلك على أدوات أسهمت في تعزيز هذه السياسة، ومن أبرزها: نقل الملكية للوافدين الجدد والسماح لهم بالاستيلاء على منازل المهجرين والنازحين، وإعطاء الضوء الأخضر لهم بشراء العقارات السكنية والأراضي الزراعية.

واتبع نظام الأسد العديد من الوسائل التي مكّنته من ترسيخ سياسة التغيير الديموغرافي المنهجية، ومنها: التهجير القسري، حملات الدهم والاعتقالات الجماعية التي ما تزال مستمرة منذ اندلاع الثورة 2011، حتى بعد مضي 10 سنوات من عمرها، فرض حصار منهجي بقصد تجويع المناطق الثائرة وإجبارها على الركوع، التدمير المنهجي لأحياء ثائرة بأكملها، هدم الأبنية والمنازل السكنية بحجج واهية (المخالفات) ومصادرة الأراضي الزراعية وعرضها للبيع في المزادات العلنية، علمًا أن ملكيتها تعود لأشخاص مهجرين قسرًا أو مغيبين في مراكز الاحتجاز، حرق مراكز السجلات العقارية والمدنية، منح الجنسية للميليشيات الطائفية، فرض قوانين وتعديل أخرى تتيح شرعنة الاستيلاء على أملاك النازحين والمهجرين واللاجئين والمعتقلين، وأيضًا من أجل توطين الميليشيات الطائفية.

وذكرت مصادر حقوقية متطابقة أن أعداد السكان الذين تم توطينهم مكان السكان الأصليين في “سورية المفيدة” في ازدياد، في حين أن هناك تناقص ملحوظ في أعداد سكان المناطق التي ثارت بوجه النظام وطالبت بإسقاطه في سورية. ومن أهمّ التشريعات والقوانين والتعاميم التي تتيح لنظام الأسد استهداف ملكيات السوريين:

    – قانون الإرهاب لعام 2012، والمرسوم 66 لعام 2018 القاضي بإحداث منطقتين تنظيميتين في المزة.

    – القانون رقم 10 الذي استند إليه وعمل على تعديله وافتتح المناطق التنظيمية في عموم سورية، بطلب من وزير العدل.

    – القانون 35 لعام 2017 الذي نصّ على إلقاء الحجز الاحتياطي على الممتنعين عن دفع البدل، وجرى تعديله في العام 2019، من حجز احتياطي إلى حجز تنفيذي.

    – القانون 1 لعام 2018 القاضي بإنشاء حَرم لنبع الفيجة الذي حرم كثيرًا من الأهالي من ممتلكاتهم.

    – القانون 3 لعام 2018 القاضي بإزالة الأبنية المتضررة.

    – القانون رقم 42 لعام 2018، القاضي بجعل مدة التصريح على الحقوق، من شهر إلى سنة، وهو تعديل للقانون 10 لعام 2018.

وأكدت مصادر حقوقية أن القانون رقم 10 لعام 2018 هو من أخطر تلك القوانين، وخطورته تأتي من خلال التعديلات التي طرأت عليه، وأثرها على النازحين والمهجرين واللاجئين، إذ إن “التعديل الذي طرأ على القانون يتعلق بالمدة المخصصة لتثبيت الملكية، وقد تم تعديلها من 30 يومًا إلى سنة واحدة، بعد الاعتراض عليها، ولكن خطورة هذا القانون ليست في المدة فقط، بل في أنه يُطبّق في هذه الظروف، وغالبية اللاجئين هم من الملاحقين أمنيًا، لذلك فإن هذا القانون هو وسيلة لسلب ممتلكات الناس.

وفي عام 2021، أقرّ برلمان النظام أو ما يسمى “مجلس الشعب”، تعديلات خاصة بقانون تملك الأجانب رقم 11 لعام 2011، تتعلق برفع القيود التي كانت تمنع تملك الأجانب لأكثر من شقة سكنية للعائلة الواحدة، ومنع المالك الأجنبي من التصرف بالعقار قبل مرور سنتين على اكتساب الملكية. وأوضحت “هيئة القانونيين السوريين”، في بيان صادر عنها حول هذه التعديلات، أن:

    – مواد مشروع القانون تضمنت جواز إنشاء أو تعديل أو نقل أي حق عيني عقاري في الأراضي السورية، لاسم أو منفعة شخص غير سوري، وتملّك البعثات الدبلوماسية والقنصلية والمنظمات العربية والإقليمية والدولية والمراكز الثقافية لمقرات لها أو لسكن رؤسائها أو أعضائها.

    – هذه الإجراءات والتعديلات التي تسمح بتملك الأجانب ورفع القيود السابقة جاءت في ظل الحرب المدمرة التي يشنها النظام السوري وميليشياته ضد السوريين، وغياب البيئة الآمنة، وسيطرة القوات الإيرانية على مؤسسات الدولة وعلى مساحات واسعة من سورية.

    – التعديلات الجديدة اشترطت الإقامة المشروعة في سورية لتملك الشقة السكنية وفق التعديلات، محذرة من أن مئات الآلاف من الإيرانيين والشيعة من العراق ولبنان وأفغانستان قدموا إلى سورية وهجّروا السوريين، وهؤلاء هم من سيتملك الشقق السكنية لإتمام عملية التغيير الديموغرافي في سورية.

    – التعديلات جاءت فقط من أجل مئات آلاف الإيرانيين والشيعة، ولم تأتِ من أجل مواطنين من الاتحاد الأوروبي أو أميركا أو الخليج، كونهم غير موجودين أصلًا في سورية، وأن هذه الإجراءات لن تخدم إلا الميليشيات الإيرانية والروس أيضًا.

الإخفاء القسري للمعتقلين والقتل تحت التعذيب

وصل عدد السوريين المختفين قسريًا، في سجون النظام السوري، إلى نحو 100 ألف شخص، وذلك منذ 2011 حتى آواخر العام 2020. وكانت أول 3 سنوات من عمر الثورة السورية هي المرحلة التي شهدت أكبر حملات اعتقالات، ليتحول فيما بعد المعتقلون إلى ضحايا مغيبين قسريًا. وقد عمد نظام الأسد إلى استخدام الإخفاء القسري، سلاح قمع وإرهاب في وجه المدنيين الأبرياء، بهدف تحطيم الحراك الشعبي الذي انتفض بقوة في وجهه.

يضاف إلى ذلك أن “ما لا يقل عن 20842 شخصًا، بينهم 13 طفلًا و27 سيدة، لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري لدى قوات النظام السوري، على خلفية صلات القربى التي تربطهم بمساهمين في الحراك الشعبي ضد النظام السوري، منذ آذار/ مارس 2011 حتى 21 كانون الأول/ ديسمبر 2020. ويشكلون قرابة 15 % من حصيلة المعتقلين أو المختفين قسريًا لدى قوات النظام السوري”، حسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

وأشارت الشبكة الحقوقية إلى أن “ما لا يقل عن 13 شخصًا قد توفوا بسبب التعذيب وإهمال الرعاية الصحية، في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام السوري، خلال الفترة ذاتها، ممن تمَّ اعتقالهم على خلفية وجود صلات قربى تربطهم مع ناشطين في الحراك الشعبي أو معارضين للنظام السوري. لم تسلّم جثامين الضحايا لذويهم، ووفقًا لذلك فإنهم يبقون في عداد المختفين قسريًا”. “ومنذ آذار/ مارس2011 حتى حزيران/ يونيو 2020، قتل ما لا يقل عن 14388 شخصًا بسبب التعذيب، على يد أطراف النزاع الرئيسة الفاعلة في سورية، من بينهم 177 طفلًا و63 سيدة (أثنى بالغة)، كان نظام الأسد مسؤولًا عن مقتل 14235، بينهم 173 طفلًا و46 سيدة”. ومطلع آذار/ مارس 2021، أكد محققون بشأن الجرائم في سورية، ويتبعون للأمم المتحدة، أن “مصير عشرات الآلاف ممن تم اعتقالهم تعسفًا أو أُخفوا قسرًا، من جانب حكومة بشار الأسد والتنظيمات المعارضة، لا يزال مجهولًا”.

وجاء في تقرير صادر عن محققي الأمم المتحدة، أُعدّ بتكليف من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، واستند إلى 2500 مقابلة أجريت على مدى 10 سنوات، وتحقيقات أجريت في نحو 100 مركز احتجاز، وشملت جميع الأطراف التي تسيطر على الأراضي في سورية منذ 2011: “تعرض بعض المعتقلين للتعذيب أو الاغتصاب أو القتل، بما يصل إلى حد ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية”.

وركّز التقرير على جرائم نظام الأسد ضد شعبه، وأشار إلى عدم معرفة مصير عشرات آلاف المدنيين المختفين قسريًا منذ 10 سنوات. وخَلص التقرير إلى أن كل هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان “تمت بمعرفة وبموافقة الحكومات الداعمة لمختلف أطراف النزاع”. ودعا المحققون إلى تأسيس آلية دولية لتحديد أماكن المفقودين أو رفاتهم، ومحاكمة من ارتكبوا هذا الجرائم.

الحصار “الجوع أو الركوع”

كان حصار المناطق الثائرة وتجويعها من الأسلحة التي لجأ إليها نظام الأسد وداعموه، وقد نجح في هذا الأمر بعد أن سخّر كلّ آلات الحصار اللازمة لتجويع المدنيين، لإجبارهم على الرضوخ والاستسلام، الأمر الذي أدى إلى وفاة كثير من سكان المناطق التي تمت محاصرتها. وكانت مدينة حمص، وتحديدًا “حمص القديمة”، من المناطق التي استخدم النظام ضدها سلاح التجويع، بعد أن حاصرت قواته وميليشياته، في العام 2012، الثوار والمدنيين هناك، وأجبرتهم على تناول الحشائش، بعد أن تم منع دخول الدواء والغذاء وأي مواد أساسية أخرى إلى المنطقة.

ومن المناطق التي تم تجويعها أيضًا: الغوطة الشرقية، مضايا، الزبداني، يبرود، معضمية الشام، مناطق جنوب دمشق، دير الزور، حي الوعر الحمصي. وقد دانت منظمات أممية وحقوقية عالمية، بشدة، سياسة التجويع المنهجية، ووصفتها بأنها ترقى لمستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كونها تسببت في وفاة المئات بينهم أطفال بسبب الجوع وسوء التغذية.

انتهاكات حقوق الإنسان والاستيلاء على الأملاك

من أبرز انتهاكات حقوق الإنسان التي مارسها نظام الأسد طوال 10 سنوات من عمر الثورة السورية، القتلُ خارج نطاق القانون، الاعتقال التعسفي، التعذيب، الإعدام بإجراءات موجزة، الحصار، التشريد القسري، القصف العشوائي، التدمير الواسع للمباني والمراكز الحيوية. ويضاف إلى ذلك، الاستيلاء على أراضي المعارضين له وممتلكاتهم، كنوع من العقاب الممتد لهم ولعوائلهم، وإعادة توزيعها على الأجهزة الأمنية، والميليشيات المحلية كنوع من المكافأة بدلًا عن الدفع النقدي.

وفي الآونة الأخيرة، بحسب تأكيدات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، و”هيئة القانونيين السوريين”، بدأت اللجان الأمنية التابعة لنظام الأسد بالإعلان عن مزادات علنية، في كل مناطق ريف محافظة حماة، وريفي محافظة إدلب الجنوبي والشرقي، التي استعاد النظام السوري وحلفاؤه السيطرة عليها، في عامي 2019 و2020. وتم رصد “ما لا يقل عن 22 إعلان لمزادات علنية، شملت قرابة 134 قرية وبلدة في محافظة حماة، و88 قرية وبلدة في محافظة إدلب، وتبلغ مساحة هذه الأراضي ما يقارب 400 ألف دونم، تشمل أراضٍ زراعية متنوعة تنتج محاصيل القمح والشعير والبطاطا والزيتون، وأراضٍ بعلية، إضافة إلى مزارع أسماك”.

“التعفيش”

أعطى نظام الأسد، بعدما تمكّن من تهجير السكان من المدن والأحياء التي ثارت بوجهه بفعل آلة الحرب وسياسة الأرض المحروقة، أعطى الضوء الأخضر لقوات جيشه بممارسة سلاح جديد عُرف باسم “التعفيش”، بات سياسة منهجية تتبعها قوات النظام في المدن التي تجتاحها وتنتهي من تنفيذ عملياتها العسكرية فيها، فيأتي بعد ذلك نهب ممتلكات المدنيين في عمليات سرقة استهدفت ممتلكات المدنيين، على يد تلك المجموعات، وأبرزها ميليشيات “الدفاع الوطني”، التي باتت تعتاش طوال سنوات الثورة على “تعقيش” ممتلكات المدنيين، وكان آخر تلك العمليات، وهي ما تزال مستمرة، عملية نهب مخيم “اليرموك” جنوب دمشق، الذي استهدفته عمليات “تعفيش”، بعد أن تم هدم المنازل في المخيم من أجل أخذ الحديد منها، حتى إن عمال التعفيش سرقوا بواري البلاستيك وخزانات البلاستيك، ووثقت كل تلك العمليات بالصور، كيف أن السيارات تحمل تلك المواد وهي تخرج من المخيم. حتى إن “شاحنات (العفيشة) تخرج من الباب الرئيسي الذي يتمركز عليه عناصر أمن النظام السوري، ما يؤكد أنهم متواطئون معهم، وأن لهم حصة ونصيبًا ونسبة من هذا المواد التي يتم تعفيشها”، بحسب “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية”.

خاتمة

بالرغم من مرور 10 سنوات من عمر الثورة السورية، ما تزال الانتهاكات مستمرة، وما تزال القبضة الأمنية مستمرة، خاصة في المناطق التي بسط نظام الأسد سيطرته عليها، من جنوب البلاد في درعا وريفها وصولًا إلى وسط البلاد في حمص وحماة، وانتقالًا إلى الشمال السوري في حلب وما حولها، وليس انتهاء بقبضته الأمنية في العاصمة دمشق. وتتزامن الضغوطات الأمنية، مع أزمات اقتصادية معيشية متردية، ومع الطوابير البشرية على أبواب الأفران ومحطات الوقود، التي باتت تتصدر واجهة الأحداث الحياتية اليومية في العاصمة دمشق ومناطق سيطرة نظام الأسد، يضاف إليها النزيف الحاد لليرة السورية، مقابل العملات الصعبة وخاصة الدولار، بعد أن وصل سعر الدولار الواحد إلى عتبة الـ 4000 ليرة سورية (في مطلع آذار/ مارس 2021)، يضاف إليها انتشار ظاهرة تعاطي وترويج المخدرات، وتحول سورية من بلد عبور إلى بلد إنتاج، على يد الميليشيات الإيرانية والعراقية لتهريبها إلى الأردن ودول الجوار. ووسط كل تلك الأحداث، تواصل إيران تغلغلها في كل مفاصل الحياة الاقتصادية والتجارية والثقافية والتعليمية، إضافة إلى التغلغل العسكري، في حين تعمل روسيا على السيطرة على القرار السياسي منذ تدخلها في عام 2015، إضافة إلى سيطرتها على مفاصل اقتصادية لا تقلّ أهمية عن تلك التي استولت عليها إيران.

مركز حرمون

——————————-

عشر سنوات على مأساة الشعب السوري- المسؤولية والحل/ عبد الحميد صيام

متابعة لمقالي الأسبوع الماضي حول الذكرى العاشرة للمأساة السورية والذي خصصته للمعاناة الإنسانية بدون التطرق للسياسة، رأيت أن أتابع الموضوع، خاصة بسبب التعليقات الكثيرة التي تلقيتها، في محاولة لاستجلاء أسباب هذه المأساة ومسببيها، وهل هناك من ضوء في نهاية النفق؟

لكن هل هناك إمكانية لتحليل الأوضاع في سوريا، وعرض أسباب هذه المأساة ومن يتحمل مسؤوليتها، وكيف يمكن الخروج منها بشكل موضوعي؟ هل من أسلوب يضع الحقائق بقدر من الموضوعية، ويعرض طرفي المعادلة بما لها وما عليها، فيظهر عيوب النظام وجرائمه الأوحش في التاريخ المعاصر، ويعرض ضعف المعارضة وتفككها وارتهانها للخارج، ويقر باختطاف الثورة من سلميتها من دول البئر النفطي بالتنسيق مع أعداء الأمة التاريخيين، وتحويلها إلى جماعات تكفيرية وشلل إرهابية؟ هل يمكن تحليل الأسباب التي أدت إلى غياب المعارضة الوطنية، واستبدالها بجماعات ظلامية تكفيرية همجية، تجز الرؤوس وتحرق الكنائس، وتدمر التراث وتجتث الأقليات باسم الإسلام.

عشر سنوات مرّت على الثورة السورية السلمية عندما كان يمثلها رموز مثل، حمزة الخطيب وإبراهيم قاشوش وعبد الباسط الساروت وعبد القادر صالح وغياث مطر ومي سكاف وعلي فرزلي ورزان زيتونة وياسين الحاج صالح وفدوى سليمان وغيرهم. طويت صفحة سلمية الثورة، وتحولت إلى المواجهات العسكرية والغارات الجوية والقذائف الصاروخية والبراميل المتفجرة. شهدت سوريا بعدها دمارا وحروبا ونزوحا وتهجيرا وقتلا وتعذيبا، يعجز عنها الوصف. شُتت نصف الشعب السوري ودُمرت مدنه وقراه ومعالمه التاريخية، واستبيحت أرضه وامتلأت السجون بعشرات الألوف، ومازال الآلاف مسجلين مفقودين، وتعطلت الحياة الطبيعية وأغلقت المدارس، وانزلق أكثر من 60% من الشعب السوري تحت خط الفقر وخطر الجوع.

أول من يتحمل المسؤولية هو النظام الذي حول البلاد إلى عقار شخصي، يورثها الأب للولد، ويملأها تماثيل بكل الأحجام للزعيم والقائد الأبدي والفارس والطبيب. نظام حوّل البلاد إلى جمهوملكية على طريقة عائلة كيم في كوريا الشمالية، فاتحا بذلك شهية العديد من أنظمة الطغيان الأخرى، باتباع المسار نفسه. أجيال تعاقبت على سوريا لم تعرف إلا الأب والابن في جمهورية الرعب، وأجهزة المخابرات المتعددة التي تحصي على كل فرد أنفاسه. لقد علّمت مجزرة حماة عام 1982 الناس أن الحل الأمني هو الأسرع والأسهل، والأقل كلفة، والأكثر تأديبا لمن تسول له نفسه أن يتحدى النظام ولو بكلمة أو أغنية أو شعار، أو منشور أو بيان أو تنظيم، أو تجمع أو حديث أو نقد أو تذمر. ومع مجيء بشار الابن بطريقة لا علاقة لها بالدستور، أو الشرعية أو الديمقراطية، كانت هناك فترة ارتياح وتمنيات، ما دعا مجموعة من الغيورين على وطنهم أن يصيغوا بيان الـ99 فيما سمي «ربيع دمشق» الذي طالب أولا بإلغاء حالة الطوارئ، لكنه لم يدم أكثر من ستة أشهر من خطاب الرئاسة الأول بتاريخ 17 يوليو 2000 إلى 17 فبراير 2001، وضع بعدها معظم موقعي البيان في السجن، وأقفلت المنتديات السياسية والأدبية، وأغلقت منابر التعبير أو فرص التجمع أو المعارضة تحت أي ذريعة أو مبرر. لقد حدثت الانتكاسة وعادت سوريا إلى سابق عهدها، كما وصفها الشاعر نزار قباني «دولة قمعستان».

لم يتردد النظام عندما وصلت أخبار درعا، عن أن يستخدام القوة المفرطة، ويحاصر المدينة، ويعتقل الأطفال ويقطع الطرق والممرات على درعا ويقتحم المساجد. تعامل مع من صرخوا مطالبين بالكرامة والحرية في الساحات، أنهم خونة يجب استئصالهم بالحديد والنار، وأطلق يد الشبيحة والمخابرات والأجهزة الأمنية والميليشيات الطائفية. استخدم النظام كل أنواع العنف والقتل والتعذيب والتشريد والحصار والاغتيال والخطف، ليس لمن يشارك في المظاهرات، بل لكل أفراد عائلة المشارك وأقاربه. واستطاع بسرعة أن يجر الثورة الجماهيرية السلمية إلى مربع العسكرة الذي يريده ويتمناه ويخطط له، وينصب الفخ وراء الآخر لإيقاع الثورة فيه، وقد نجح في ذلك، خاصة بعد أن أطلق سراح 1400 معتقل متطرف كانوا في طريقهم إلى العراق. لقد عمل النظام بذكاء على تغيير وجه الثورة الجميل في بداياتها الواعدة، إلى صورة أخرى مغايرة، يمثلها رجال مسلحون متطرفون يمارسون القتل والتدمير وتفجير السيارات المفخخة في الميادين العامة. أثناء هذا التحول من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة دخل على خط الثورة فرقاء خارجيون، ليسوا معنيين بسوريا ولا بشعبها ولا بحريتها ولا بمستقبلها، ولا بدورها التاريخي ولا بقدراتها، وعملوا على تخريب سوريا الوطن والدولة والبنى التحتية، والإمكانات العسكرية والاقتصادية والعمرانية، كل ذلك لخدمة مخططات التفتيت والبلقنة، التي تسعى إليها إسرائيل منذ يومها الأول.

قامت دول النفط وبتنسيق مع أمريكا والأردن وتركيا إلى صب مليارات الدولارات لتحويل الاحتجاج السلمي إلى حركة مسلحة، وهو ما سعى إليه النظام ليبرر إطلاق كل أدوات الموت. تقاسمت الدول المجاورة وغير المجاورة الأدوار، وأنهوا المعارضة السلمية، وزجوا في الساحة بكل أنواع المتطرفين الذين توالدوا مزيدا من الفصائل، ومزيدا من التطرف والإرهاب، وتحولت البلاد إلى مغناطيس يجذب كل لص ومغامر وتكفيري وقاطع طريق، مأخوذين بسحر الفوضى والجنس والسلطة وجز الرقاب، فانتهت البلاد إلى دكاكين تتنازع فيما بينها على من يقطع مزيدا من الرؤوس، ويشرد ويهتك الأعراض، ويدمر مواقع التراث التي تحمل بصمات ستة آلاف سنة من الحضارة المتواصلة. لم يعد المشهد مقتصرا على جبهة النصرة و»داعش» بل انتشرت التنظيمات المسلحة المدعومة من الخارج، في كل أنحاء سوريا. الولايات المتحدة من جهتها عملت على تسليح وتدريب الجماعات الكردية لتزج بهم في المعركة، وبعد انتهاء دورهم تخلت عنهم ليواجهوا مصيرهم أمام الجيش التركي، الذي عبر الحدود وسيطر على الشريط الحدودي ويدخل الآن في معارك طاحنة معهم.

تتحمل مسؤولية هذا الخراب أيضا، المعارضة السورية الهشة التي لم تتفق على شيء، فراحت منها مجموعات تدعو لعسكرة الثورة، وأخرى ارتمت في أحضان الأنظمة العربية والأجنبية، وجماعات غيرها تطالب بالتدخل الأجنبي على الطريقة الليبية، وكأن حسابات الغرب تتطابق مع وهم هذه المجموعات. انضمت للمعارضة جماعات عميلة تتلقى أوامرها من دول الخليج والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وحتى إسرائيل. تشكيلات ومجموعات سياسية، وتكتلات ذات مشارب ومرجعيات وأفكار وحلول متباينة، وكل مجموعة ترى أنها صاحبة المشروع الصحيح، وأنها هي التي تستحق أن تمثل الشعب السوري وتتولى قيادته. تبعثرت هذه المجموعات وتشتتت وانتهى بها الأمر، إما ملحقة بالمنظمات الإرهابية المتطرفة، أو تلعب دورا هامشيا لا يعيره أحد أي انتباه. لقد فشلت المعارضة السورية في صياغة برنامج سياسي وطني جامع واحد يلتف حوله الشعب السوري صاحب المصلحة الحقيقية في إنقاذ سوريا من مأساتها. صحيح أن النظأم أعاد السيطرة على معظم أنحاء سوريا، لكن سوريا الوطن وسوريا الشعب وسوريا الجغرافيا ما زالت مفككة. وجيوش دول كبرى وصغرى مازالت ترابض على أرضها. دخول النظام الإيراني وحرسه الثوري والميليشيات الشيعية مثل، كتائب أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق العراقية ثم حزب الله اللبناني، كلها لم تستطع حماية النظام إلى أن دخلت روسيا في سبتمبر 2015 بقوتها وجبروتها، لتحمي النظام ولو تم تدمير البلاد وقتل مئات الألوف فيها. سيادة سوريا لم تعد في يد السوريين، بل حصريا في أيدي الأنظمة الروسية والتركية والإيرانية، بينما تعربد الطائرات الإسرائيلة فوق المجال الجوي السوري بدون رادع أو حتى إدانة ولو خجولة من الشريك الروسي. لقد فشلت كل محاولات احتواء الصراع سلميا، انطلاقا من إعلان جنيف الصادر بتاريخ 30 يونيو 2012 والقرار التاريخي 2254 (2015) المستند إلى إعلان جنيف، ورغم أن خيرة الوسطاء الدوليين حاولو وفشلوا بداية من كوفي عنان فالأخضر الإبراهيمي، ثم ستيفان دي مستورا، وصولا إلى غير بيدرسون، إلا أن الأزمة مستمرة. تبخرت مجموعة ما كان يسمى «أصدقاء سوريا» وبدأت بعض الأنظمة العربية بقيادة الإمارات تعمل على إعادة تأهيل النظام وإعادته إلى الجامعة العربية. لكن الوقت مبكر للتأكد من توسيع هذا الاتجاه، الحقيقة التي نعتقد أن الجميع سيعود إلى الإقرار بها وهي ألا حل للأزمة السورية إلا بالعودة لبيان جنيف والقرار الدولي 2254 انطلاقا من تشكيل لجنة دستورية تمثل كل أطياف الشعب السوري، تصيغ دستور سوريا المستقبل، القائم على التعددية والحرية والديمقراطية والانتخابات الحرة وتبادل السلطة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان الأساسية، وإلا سنبقى نعد الضحايا والمجازر واستخدامات الأسلحة الكيميائية ويبقى الناس مقسومين بين من يصنف الرئيس السوري بأنه بطل مغوار، وأن معارضيه إرهابيون، ومن يرى أن الرئيس السوري سفاح لم ير العصر الحديث مثيلا له في الإجرام، ولا حل إلا بإسقاطه. لقد ثبت بعد عشر سنوات أن السيناريوهين لا يمثلان خريطة طريق سليمة للحل. لعل الإدارة الأمريكية الجديدة تحمل أفكارا جديدة ومبادرات قابلة للتطبيق بالتعاون مع الدول الثلاث.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

القدس العربي

—————————–

بعد عشر سنوات.. من ثورة الحرّية إلى ثورة الجياع/ ميشال شماس

تجرّأ الشعب السوري في آذار/ مارس 2011 على تحطيم جدران الخوف، لكي يحقق حلمه في نيل حرّيته وكرامته المفقودة، وانتفض في وجه نظام الأسد الإجرامي، وقدّم في سبيل ذلك أثمانًا باهظة في الأرواح والممتلكات: مئات الآلاف من القتلى ومثلهم من المعاقين، مئات الآلاف من المعتقلين في السجون، ملايين المهجرين والنازحين عن بيوتهم وممتلكاتهم التي نُهبت ودُمرت، وتحمّل الشعب فوق كل ذلك، وما يزال، آلامًا هائلة لا تتحمّلها حتى الجبال.

 ولأن الشعب السوري ثار وتجرأ على قول (لا) و(كفى)، ولأنه أراد أن يعيش مثلما تعيش معظم شعوب هذه الأرض؛ أعلن بشار الأسد الحرب على المنتفضين ضد نظامه، بطريقة وحشية مستخدمًا ما راكمه من قوة وسلاح وحقد ضد هذا الشعب. ومنذ سقوط بن علي ومبارك، بدأ يُعدّ جيشًا من الشبيحة تحسّبًا لانتقال العدوى إلى سورية، مع أنه كان يظن أن رضوخ السوريين له صار أبديًا، ولسان حاله يقول من المستحيل أن يقول له أحدٌ في سورية كلمة “لا”.

ما إن انطلقت التظاهرات وعمّت الاحتجاجات كامل الأراضي السورية، حتى أطلق الأسد العنان لشبيحته وأجهزته الأمنية، لاعتقال كلّ من يُشك في عدم ولائه للنظام، واستخدم العاملين في الدولة، ممن ينتمون إلى حزب البعث والأحزاب التابعة له، في عملية قمع المتظاهرين والاعتداء عليهم بالعصي، وعندما لم تفلح حملة الاعتقالات والقتل والضرب بوقف الاحتجاجات والتظاهرات؛ لجأ الأسد إلى استخدام مختلف أنواع الأسلحة التي يمتلكها، بدءًا من إطلاق النار على المنتفضين، إلى قصف المدن والمناطق التي خرجت عن سيطرته بالصواريخ والبراميل المتفجرة، حتى الأسلحة الكيمياوية المحرمة دوليًا، إذ قصف بها النساء والأطفال، وسحب قواته من المناطق الحدودية وتركها مفتوحة، تسهيلًا لدخول كلّ من هبّ ودبّ من الجهاديين وغيرهم، وأطلق من سجونه آلاف الإسلاميين المتشددين، وهو يدرك أنهم سوف يشكلون إمارات وكتائب تحت مسمى إسلامي، حتى يظهر للعالم أن ما يجري في سورية ليس ثورةً بل “إرهاب إسلامي”، وتحديدًا “سُني”، ولم يكتفِ باستدعاء قوًى خارجية وميليشيات أجنبية لتشاركه في قتل السوريين، بل باعها أراضي ومؤسسات ومرافق سورية، ولا همّ له سوى أن يبقى على كرسي الحكم.

 اليوم، بعد انقضاء عشر سنوات على هذه الانتفاضة، كأعظم انتفاضة في ماضي البشرية وحاضرها، تبدو الصورة أكثر مأساوية وأكثر إيلامًا، ليس بفعل الثورة، بل بفعل أسباب أخرى، يأتي في مقدمها سلوك الأسد الإجرامي بشكل أساسي الذي ما زال يصرُّ على التشبث بكرسي الحكم، ولو فنيت سورية، أرضًا وشعبًا، وكذلك ارتهان المعارضات السورية السياسية منها والعسكرية لأجندات خارجية، ووجود احتلالات متعددة، وتخلّي المجتمع الدولي عن الشعب السوري.. إلخ.

 وبخلاف ما نقرؤه من شعارات وما نسمعه من خطابات، على وسائل التواصل الاجتماعي، لسوريّات وسوريين (يعيش معظمهم خارج سورية) يصرّون فيها على متابعة الطريق لتحقيق حلمهم في الحرية والكرامة الذي انتفضوا من أجله في آذار/ مارس 2011؛ نجد الصورة مختلفة تمامًا في داخل سورية، سواء في المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات الأسد، أو تلك التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، أو فصائل “الجيش الوطني” الموالية لتركيا، وكذلك في مناطق سيطرة تنظيم القاعدة المتمثل بـ “هيئة تحرير الشام” المصنفة منظمة إرهابية، حيث تتشابه أوضاع السكان فيها، من حيث الاعتقال والخطف والانفلات الأمني والجوع والغلاء الفاحش في أسعار جميع المواد، وفي مقدمها المواد الغذائية والأدوية.

جدران الخوف التي حطّمها الشعب السوري قبل عشر سنوات عادت لترتفع مجددًا، في كل مكان في سورية، وهي الشيء الوحيد الذي نجحت في تشييده القوى المسيطرة في سورية وسط الدمار والخراب، ففي مناطق سيطرة الأسد، الخوف من الاعتقال هو سيّد الموقف، ومخابرات الأسد تراقب كلّ من ينبس ببنت شفة، وبات السكان لا يجرؤون على قول ما يجول في خاطرهم حتى داخل بيوتهم، فالحيطان عادت لها آذانها، وكل كلمة يقولونها أو يكتبونها قد تجرجرهم إلى فروع الأمن بتهمة (وهن شعور الأمة وإضعاف شعورها القومي)، وليس هذا مبعث خوفهم وحسب، بل لأن الناس أصابها الإنهاك من هول ما جرى، وأصبحت اهتماماتهم محصورة بكيفية تأمين لقمة العيش للبقاء على قيد الحياة. حتى من سبق له أن شارك في التظاهرات ضد نظام الأسد، لم يعد يشغله اليوم بقاء الأسد أو رحليه، بقدر انشغاله في تأمين لقمة العيش أو إخراج قريبه من السجن. ولا يختلف الوضع كثيرًا في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم القاعدة، وفصائل “الجيش الوطني” المعارض، وكذلك في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”.

جميع القوى المسيطرة على سورية لا تسمح بأي حركة احتجاجية، من أي نوع كان، في مناطق سيطرتها، باستثناء التحركات التي تدعم سياسية تلك القوى، فعلى سبيل المثال، في مناطق سيطرة ما يسمّى “جبهة فتح الشام” الإرهابية، أو مناطق سيطرة ما يسمى “الجيش الوطني”، يُسهل على الناس التظاهر لإسقاط نظام الأسد وإسقاط قيادة الائتلاف، بينما لا يجرؤ أحد على المطالبة بإسقاط الجولاني أو “أبو عمشة” أو أي من قادة الفصائل المعارضة، والأمر لا يختلف كثيرًا في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، من هذه الناحية، وأمّا في مناطق سيطرة الأسد، فالأمور معروفة، ويكفي تصفح صفحة الكاتبة “سلوى زكرك” المقيمة في دمشق ليعرف المرء كيف هي أحوال الناس هناك.

فهل سيكون للوضع الاقتصادي المتردي والخانق دورٌ في تفجّر الغضب الشعبي، ونشهد من جديد عودة التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، ضد كل قوى الأمر الواقع، وفي مقدمها نظام الأسد؟ أم أن حدوث ذلك ما زال أمرًا مستبعدًا، في ظل سطوة الأمن والسلاح التي ما زالت تتحكم في رقاب السوريين في كل الأراضي السورية؟

كلّ الاحتمالات ورادة، وربما نشهد ردّات فعل احتجاجية هنا وهناك غير منظمة، وربما لا، لكن في النهاية لن يتمكن الناس من الاحتمال أكثر مما تحمّلوا. ولنتذكر أنه لم يكن هناك أحدٌ يتوقع أن ينتفض الشعب السوري في وجه الأسد قبل عشر سنوات.

مركز حرمون

——————————

التايمز: الحرب السورية نشرت الرعب في الغرب وغيرت مسار العالم للأبد/ إبراهيم درويش

لندن- “القدس العربي”: نشرت صحيفة “التايمز” تقريرا في ذكرى مرور عشرة أعوام على الثورة السورية أعده مراسلها في الشرق الأوسط ريتشارد سبنسر، وتساءل فيه: “كيف نشرت الحرب في سوريا الإرهاب في الغرب وغيرت العالم للأبد؟”. مشيرا إلى أن الفلسفة السياسية كانت على أجندة نقاش بشأن سوريا دار في أيار/ مايو 2013 بين مجموعة لحقوق الإنسان في الرقة.

وتناقش المجتمعون حول كيفية تحويل سوريا نفسها إلى بلد يلتزم بالديمقراطية ويمنح الحريات المدنية، وهل يمكن لأرسطو أن يرشد في هذا، قال أحد المشاركين الذين درسوا في الجامعة. واتفق الجميع على أن أوروبا يجب أن تكون نموذجا. وكما قال أحد الحاضرين، فإن سوريا قد تتقدم من أثينا إلى الإتحاد الأوروبي بدون أن تمر في 2500 عاما بينهما.

وستحل الذكرى العاشرة للثورة السورية يوم الإثنين المقبل، حيث عُقد النقاش هذا في السنوات الأولى للثورة. وكان المعارضون لنظام بشار الأسد قد سيطروا على مناطق تمتد من حلب في الشمال إلى درعا في الجنوب، إلى الرقة ودير الزور في الشرق. وكان النظام يترنح في وقت ضغط فيه الغرب على الرئيس بشار الأسد للتنحي جانبا أو التفاوض مع المعارضة حول انتقال سياسي للسلطة.

وفي إطار آخر، كانت الانتفاضة نقطة تحول، حيث بدأ الأسد يقصف بالبراميل المتفجرة حتى استعاد معظم المناطق التي خرجت عن سيطرته.

وستتحول الرقة التي جرى فيها النقاش حول “سوريا ديمقراطية” إلى مضرب المثل في حملة جهادية قامت بتصوير عملية قتل جماعي وقطع رؤوس. وكانت نقطة تحول لبقية العالم أيضا، ولم تتحول سوريا إلى بلد مثل الغرب، ولكن الغرب هو من استورد النزاع السوري، وهجماته الإرهابية، والاستقطاب السياسي ونقاشاته الطائفية الشرسة حول الدين والهوية الوطنية.

ووصل ساسة شعبويون مثل نايجل فاراج في بريطانيا إلى السلطة مستغلين مشاهد ملايين السوريين الذين فروا إلى الشمال والغرب. وأدى النقاش حول ما يجري في سوريا وبخاصة الهجمات الكيماوية إلى ظهور مصطلح “أخبار مزيفة” واستخدم في الاستغلال السياسي.

وفوق كل هذا، أدى فشل الانتفاضة السورية إلى انتشار عدم الثقة بفكرة الديمقراطية نفسها، مما عزز النظام المدعوم من روسيا والصين. وقال جيمي شاهينيان من الرقة، والذي شارك في أيام الانتفاضة الأولى واعتُقل وعُذب أكثر من مرة: “أصبحت سوريا ساحة للقوى الدولية للتنافس عليها”. وفرّ شاهينيان في النهاية بعد سيطرة تنظيم “الدولة” على الرقة وأنشأ ديكتاتوريته الخاصة وتبع خط المهاجرين إلى ألمانيا. وقال: “أنا سوري وبلدي سوريا وانتمي إليها”. و”أنا سوري معتدل بعيدا عن انتمائي العرقي أو الديني وأنا فخور بهذا، لكن سوريا الآن مهشمة وحزينة ومفككة”.

ولكن ليست سوريا وحدها هي التي تعيش أزمة، بل العالم كله، كما أشار رامي، الناشط السابق والذي يعيش في أستراليا، حيث قال: “في سوريا حصلنا على شرف السبق”. وقبل الحرب كان قلة في الشرق الأوسط قد سمعت بالرقة، فهي عاصمة محافظة على نهر الفرات، وسيطر عليها المعارضون قبل شهرين من جلسة النقاش التي أشرنا لها في الأعلى. وتُعرف مدينة الرقة في سوريا بأنها مدينة ليبرالية رغم وجودها داخل المجتمع المحافظ في شرق البلاد. وكان فيها كازينو وحانة وكنيسة ونساء يخرجن بدون حجاب. ونظر المثقفون الذين التقوا في أيار/ مايو 2013 في المدينة لأنفسهم بأنهم طليعة التقدم. ولكن بذور ما تبع ذلك كانت موجودة. وكما في المدن الأخرى، فقد سيطر على الانتفاضة جماعات الناشطين، متعلمون درسوا في أنظمة منفتحة على العالم الخارجي. وكانوا يعتقدون بإمكانية التغيير عبر الإقناع ورفضوا حمل السلاح.

ويقول شاهينيان: “أنتمي إلى مدرسة السلمية لا العنف، وعارضت دائما عسكرة الثورة”. وسيطر المنشقون عن جيش النظام السوري على المعارضة المسلحة، ومع مرور الوقت حازوا على دعم ناشطين في مجال الإسلام السياسي، سواء كانوا من المعتدلين مثل الإخوان المسلمين، أو الجماعات الجهادية المتشددة. ومع إطلاق النار على المتظاهرين واعتقال ناشطين مثل شاهينيان أو هروبهم للمنفى، بات النزاع أكثر عنفا وتطرفا. وتحول حس الاستقطاب إلى عنصر أساسي في السياسة العالمية، وليس من المبالغة القول إن هذا بدأ في سوريا. وفي الوقت الذي غذى فيه اليمين المتطرف واليسار المتطرف بعضهما البعض في الغرب، فقد حدث كل هذا هناك، حيث بدأت تتكشف الثورة وبقوة لا تقاوم.

فقد انشق تنظيم “الدولة” عن القاعدة، وسيطر على الرقة بحلول 2014، وبدأ بممارسة نفس الأساليب على السكان كتلك التي مارسها النظام، واستهدف نفس الشباب المعارضين الليبراليين والمثاليين. وبالتأكيد فقد كان الجلاد الأكبر أو مدير مخابرات تنظيم “الدولة” في الرقة هو علي موسى الشواخ (أبو لقمان) وبدأ حياته كعنصر في شرطة الأسد السرية، قبل أن يتحول إلى التنظيم بعد معاناته من التعذيب في سجون الأسد.

وكان تنظيم “الدولة” قوة متمردة من نوع ما، واستهدف قوات النظام، وسجل عمليات القتل والذبح على الفيديو. ولكنه سيطر على معظم أراضيه من المعارضة السورية لا قوات النظام. وكان هدف التنظيم هو زرع الخوف في قلوب الغرب وليس الإطاحة بنظام الأسد. وفي تحد للغرب، قام التنظيم بذبح عمال الإغاثة والصحافيين ودعم عمليات إرهابية في الخارج، مما استدعى تدخلا غربيا لردعه. وربما لم يكن هدف التنظيم إنشاء خلافة، ولكن تحريض المسلمين وغير المسلمين على بعضهم البعض في الغرب الذي تعيش فيه كثافة سكانية مسلمة كبيرة.

وكانت أهم لحظة في الحرب السورية هي الهجمات الكيماوية على الغوطة الشرقية في ضواحي العاصمة دمشق، في آب/ أغسطس 2013. وهي المنطقة التي كانت تحت سيطرة المعارضة. وكردٍ على الهجمات، صوت البرلمان البريطاني في اقتراع غير مسبوق على عمل عسكري، حيث عارض زعيم العمال إد ميليباند القرار الذي تقدم به رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، ودعا فيه إلى تشريع استخدام القوة ضد النظام السوري.

وأنهى البرلمان الاعتقاد السائد عن دور الحكومة بتحديد السياسة الخارجية وأرسل رسالة صادمة لواشنطن. وردّ الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بالتخلي عن الحل العسكري بمفرده، مما سمح للنظام السوري باجتياز الخط الأحمر الذي وضعه أوباما في حال استخدمت دمشق السلاح الكيماوي. وترك ذلك أثرا كارثيا، حيث التزم الرئيس دونالد ترامب الذي تعهد بالخروج من حروب الشرق الأوسط بشكل عام، بالحذر. وأصدر أوامر بضرب أهداف للنظام مرتين بعد هجمات بالسلاح الكيماوي نفذتها قوات الأسد. وكان تخلي أوباما عن خطه الأحمر بمثابة فرصة لروسيا كي تسيطر على قصة الحرب.

وجاءت معظم الأدلة على استخدام الأسلحة الكيماوية من النظام نفسه، فالمصادر المفتوحة ولقطات الفيديو التي وضعها جنود النظام على مواقع التواصل وصور الصواريخ التي لا يستخدمها سوى النظام كانت وبشكل متناقض دليلا على ارتكابه جرائم كيماوية. ولمواجهة هذا، بدأ الإعلام الروسي بضخ قصص متناقضة ونشر نظريات غريبة عن قيام المعارضة بترتيب أعمال مسرحية للهجمات الكيماوية.

وولد مصطلح “الأخبار الزائفة” واستخدم كوسيلة في النقاش السياسي. وقال إليوت هيغنز الذي صنع اسمه من خلال فحص تسجيلات الفيديو والتأكد من مصداقيتها منذ بداية الحرب السورية: “أثارت الحرب السورية الانتباه لأهمية محتويات الفيديو وكيفية استخدام المصادر المفتوحة للمحاسبة”. ويدير هيغنز الآن “بيلينغكات” وهي مصدر مفتوح، وكان من بين الأخبار الحصرية التي حصلوا عليها، تحديد عامل الغاز السام “نوفيتشوك” الذي استخدم في محاولة اغتيال العميل المزدوج سيرغي سكريبال في مدينة سالزبري البريطانية عام 2018. ولكنه تعرض لحملة نقد لاذعة على الإنترنت اتهمته بالعمالة للدولة البريطانية، وهي حملة لعبت لاحقا في دفاع ترامب عن دور الروس في الانتخابات الأمريكية عام 2016.

ووجد اليمين واليسار في الغرب راحة في نظرية المؤامرة عن “الدولة العميقة” التي تحاول تشويه سمعة روسيا وحلفائها، ولا تزال تسهم في النقاش ببريطانيا وأوروبا عامة. ويقول رامي إنه كان في وقت الهجوم الكيماوي في الغوطة، حيث كان طالب القانون يؤدي امتحانه الأخير بجامعة دمشق، وكان موضوع الامتحان عن المبادئ الدولية لحقوق الإنسان.

والمفارقة أن رامي مثل عدد كبير من السوريين، لا يتطلع إلى الأمام أو ينظر إلى الوراء للاحتفال بالثورة، ويشعر بالذنب لو شجبها، خاصة أن عددا كبيرا من زملائه الذين لم يحالفهم الحظ ماتوا وعذبوا. وفي الوقت نفسه يشعر بالذنب للاحتفال بثورة فشلت ومات فيها الكثير من الناس. ولا يعرف إن كان سيعود إلى سوريا أو كيف ستكون الحياة فيها، فقد نجا النظام ولكن بثمن باهظ: فالبلد مقسم وهناك كانتونات تديرها تركيا وهيئة تحرير الشام، وآخر تابع للأكراد في شمال- شرق سوريا. وتفشت الميليشيات وأمراء الحرب في كل مكان من البلاد. وفي المناطق الخاضعة للنظام، انهار الاقتصاد وانتشرت الطوابير الطويلة للحصول على الخبز حتى في الأحياء التي كانت راقية في دمشق وحلب.

القدس العربي”

———————————-

واشنطن بوست: إدارة بايدن لا يمكنها تجاهل الحرب في سوريا وإلا فإنها لن تتوقف

إبراهيم درويش

قال المعلق في صحيفة “واشنطن بوست” جوش روغين، إن الحرب السورية مضى عليها عشرة أعوام لكنها لم تنته بعد.

وذكّر في بداية مقاله بخطاب ألقاه نائب الرئيس الأمريكي في حينه جوزيف بايدن في شباط/ فبراير 2011 بالمتحف التذكاري للهولوكوست في واشنطن، وتعهد فيه بدعم الشعوب في كل أنحاء العالم والتي تعرضت للذبح على يد حكوماتها لمجرد مطالبتها بالحريات الأساسية والكرامة. وقال: “عندما تشارك حكومة بمجزرة فإنها تتخلى عن سيادتها”. وبعد شهر خرج السوريون للشوارع مطالبين حكومتهم بمعاملتهم كبشر، ورد نظام بشار الأسد بإطلاق العنان لأسوأ المجازر المنظمة منذ النازيين.

وبعد عشرة أعوام، عاد بايدن إلى البيت الأبيض وهذه المرة كرئيس. و”رغم ما تسمعه، فالثورة السورية مستمرة، والحكمة التقليدية في واشنطن هي أن الأسد ربح الحرب ولا شيء تستطيع الولايات المتحدة عمله، وبالتالي علينا ألا نعمل شيئا”. و”في الحقيقة لم يتوقف الشعب السوري عن القتال ولم تتوقف معاناته”.

ويسيطر الأسد وشركاؤه الإيرانيون والروس على ثلثي البلاد تقريبا، ويحكم بقايا دولته بالقوة الغاشمة، ويواصل تجويع أو قصف الجزء المتبقي من سوريا من أجل تركيعه. وفي داخل المناطق الخاضعة للنظام هناك مئات الآلاف من الناس الأبرياء الذين تُركوا يموتون في أقبية سجونه ويعذبون ويقتلون بدون سبب.

ويقول السوريون الذين يبدون وكأنهم فقدوا الأمل لكنهم يواصلون القتال، إن هناك الكثير مما يمكن للمجتمع الدولي تقديمه. ويقول قتيبة الإدلبي، ممثل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في أمريكا، إن “الشعب السوري صدق بايدن وغيره ممن وعدوا بالوقوف مع أي شخص يعبر عن شجاعة كافية ويطالب بحقوقه”.

وقال: “نحن هنا اليوم لأن ذلك الوعد الذي قطعه المجتمع الدولي لم يتم الوفاء به”. وقال في متحف الهولوكوست بمناسبة نظمتها قوة المهام الطارئة السورية ومؤسسة “أم نايت شاياملان”: ” نريد من الولايات المتحدة أن تستعيد دورها القيادي العالمي”.

والجهد الأهم هو دعم السوريين الذين لا يريدون العيش في ظل الأسد. ومن هؤلاء ستة ملايين نازح توزعوا على شمال- غرب وشمال- شرق سوريا، بالإضافة إلى 5.6 مليون لاجئ سوري فروا إلى دول أخرى.

ويقول روغين: “تخيل لو قادت الولايات المتحدة الجهود الدولية وساعدت هؤلاء السوريين الذين لا يحكمهم الأسد ووفّرت لهم الإمدادات والمساعدات لمواجهة وباء كورونا ودعمتهم اقتصاديا. وفي الوقت نفسه استخدمت العقوبات بشكل ذكي لحرمان الأسد من الاستفادة من جرائمه أو تجديد آلته الحربية، فسيزيد هذا من ورقة نفوذ السوريين على النظام ويجبره على التفاوض من أجل سلام عادل، ويزيد من ورقة نفوذ الولايات المتحدة على موسكو وطهران”.

ويقول الإدلبي إن هؤلاء السوريين رفضوا العيش في ظل النظام، ولهذا السبب يستحقون كل الدعم الذي يمكن للولايات المتحدة تقديمه لهم. ويمكن لواشنطن زيادة دعمها الكبير للجهود الدولية الساعية لمحاسبة الأسد وشركائه المسؤولين عن جرائم الحرب. وبسبب إساءة استخدام روسيا لحق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، فإنها جعلت من عمل المحكمة الجنائية الدولية مسدودا.

ولكن هناك عددا كبيرا من القضايا المدنية والجنائية في دول أخرى حكى من خلالها الناجون قصص التعذيب والانتهاك التي تعرضوا لها في سجون النظام. وكرئيس، لم يقل بايدن كثيرا عن سوريا، وكل ما فعله هو ضرب مخازن تستخدمها ميليشيات موالية لإيران في سوريا، واتهمتها الولايات المتحدة بضرب قواتها في العراق.

ويجب أن تكون أولوية بايدن هي التأكيد بوضوح أن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بعملية نقل السلطة في سوريا، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ارتكاب الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين جرائم ضد الإنسانية.

ولا يمكن للولايات المتحدة القيادة من الخلف، وعلى إدارة بايدن وضع سوريا على رأس أولوياتها. وقال السفير السابق فردريك هوف الذي استشارته إدارة باراك أوباما حول سوريا: ” من المفهوم أن الإدارة تحاول البحث عن طريق لتجنب هذه المشكلة قدر الإمكان، ولكن هذا غير ممكن”. وأضاف: “لو لم تفعل إدارة بايدن شيئا، فسيتعزز وضع سوريا  ككوريا الشمالية في الشرق الأوسط، وستكون سوريا تهديدا عميقا للسلام في المنطقة وأبعد منها”.

وأسهل طريق هي تجاهل أي تحرك في سوريا وتقديمه على أنه خيار بين غزو شامل كما في العراق أو تجاهل المشكلة. ولكن هذا قياس زائف، ومحاولة لتبرير استراتيجية تقلل من شأن القضية. وبدون توقف للجرائم الوحشية، فلن تتوقف الحرب. وبدون عدالة ومحاسبة، لن يكون هناك سلام دائم.

———————–

عشر سنوات على معاناة النساء والفتيات في سوريا/ د.لؤي شبانة

تنهي الأزمة السورية عشريتها الأولى ولا يلوح في الأفق أي بصيص أمل لوقف النزيف والمعاناة. وتزداد الظروف الصحية والاجتماعية والاقتصادية خطورة ومأساوية لملايين النساء والفتيات السوريات. ولم يعد السكوت وانعدام الإرادة الحقيقية لوقف ما يتعرضن له محتملا. وجاءت جائحة كوفيد-19 لتزيد من حجم الألم وتضيف تعقيدا وصعوبات للحالة اللا إنسانية التي أجبرن على عيشها سواء لاجئات أو مشردات داخليا أو في وطنهن غير قادرات على الحصول على أدنى مستوى ممكن من الخدمات لضمان سلامتهن وقدرتهن على العيش الكريم.

يذكر صندوق الأمم المتحدة للسكان مجددا العالم بمخاطر التراخي عن دعم احتياجات النساء والفتيات السوريات في سوريا والمجتمعات المضيفة في البلدان المجاورة.

يوجد في سوريا حاليًا 13.4 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية إضافة ل13 مليون شخص في جميع أنحاء المنطقة، ويوجد 5.5 مليون لاجئ سوري يقيمون في البلدان المضيفة. و يقدر أن أكثر من 7 ملايين امرأة وفتاة في سن الإنجاب وما يقرب من نصف مليون حامل في سوريا وفي المنطقة في أمس الحاجة لخدمات الصحة الجنسية والإنجابية عالية الجودة.

وقد عاظمت جائحة كوفيد-19 من معاناة النساء والفتيات حيث سجلت زيادة العنف القائم على النوع الاجتماعي وخاصة عنف الشريك الحميم وزواج الأطفال والزواج القسري وحالات الحمل غير المقصودة والعنف والاستغلال الجنسيين. لم يمكن القبول بأن تتحمل الخدمات المنقذة للحياة الموجهة للنساء والفتيات التبعات المؤلمة لتحويل الموارد المتاحة لمواجهة كوفيد-19.

نحن في صندوق الأمم المتحدة للسكان نسارع الخطى ونسابق الزمن لتقديم خدمات الصحة الجنسية والإنجابية المنقذة للحياة، وقد وصلنا بهذه الخدمات إلى ما يقرب من مليوني شخص عام 2020، واستفاد نحو 1.2 مليون شخص خدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي. في جميع أنحاء المنطقة ، وقدمنا في العام ذاته دعما ل 112 مكانًا آمنًا للنساء والفتيات و 17 مركزًا للشباب و33 مرفقًا لرعاية التوليد في حالات الطوارئ و133 مركزًا للرعاية الصحية الأولية، و 125 عيادة متنقلة.

ويبين تحليل اتجاهات خدمات صندوق الأمم المتحدة للسكان تمكنه من توسيع نطاق خدماته ومضاعفة عدد الأشخاص الذين تم الوصول إليهم خلال السنوات الخمس الماضية. لكن استمرار النزاع واللجوء والنزوح وتفشي جائحة كوفيد-19 وتعمق الأزمة الاقتصادية الخانقة والتدهور الكبير في القدرة الشرائية للسوريين مع عدم كفاية التمويل اللازم يهدد قدرتنا على مواصلة إنقاذ الأرواح وحماية النساء والفتيات وتلبية احتياجاتهن الصحة العاجلة.

لقد وجه صندوق الأمم المتحدة للسكان نداء لتقديم ما مجموعه 131.6 مليون دولار لتمويل استجابته الإقليمية للأزمة السورية ونطالب بسرعة تلبية هذه الاحتياجات العاجلة. لا يمكن للنساء الحوامل انتظار خدمات الصحة الإنجابية المنقذة للحياة، ولا يمكن ترك الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي والاستغلال الجنسي بلا حماية ومساندة.

في الذكرة العاشرة لاندلاع الأزمة السورية أدق ناقوس الخطر الناجم عن عدم القيام بما يجب القيام به. هذا تذكير صارخ بالضرورة القصوى لدعم الاحتياجات الحالية والناشئة ومد يد العون للسوريين ووقف الخيارات البائسة التي يجبرون على اتخاذها عبر تزويج الفتيات المراهقات وحرمانهن من التعليم ليقعن في شرك العنف والاستغلال ودائرة الفقر التي تزداد اتساعا وقسوة.

وفي المحافظات الشمالية الغربية من سوريا ، لا يزال الوضع شديد الخطورة ، مع استمرار الأعمال العدائية التي تسببت في نزوح جماعي وتعطيل الشبكات والخدمات المجتمعية. وتعتبر الأماكن الآمنة للنساء والفتيات شريان حياة لهن بشكل عام والناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي على وجه الخصوص من خلال الخدمات المنقذة للحياة والحرجة للغاية. وتشكل تدخلات صندوق الامم المتحدة للسكان عبر الحدود مع تركيا الوسيلة الوحيدة المتاحة لإيصال المساعدات إلى المحتاجين.

ويقوم صندوق الأمم المتحدة للسكان بتجربة المساعدة النقدية والقسائم حيث يمكن أن يساعد في ضمان عدم تخلف أحد عن الركب ، ولا سيما النساء والفتيات، والعمل مع الشركاء والسلطات المحلية بما في ذلك الشبكات النسائية والعيادات الصحية والعاملين الصحيين ففي الأردن، يقوم صندوق الأمم المتحدة للسكان بتجريب الأموال النقدية في إدارة حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي ، وفي مصر ، يكمل صندوق الأمم المتحدة للسكان المساعدة النقدية التي تقدمها المفوضية للاجئين من خلال توسيع نطاق التغطية لتشمل النساء والفتيات الأكبر سناً المعرضات لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي والناجيات منه. وفي سوريا ، واستجابةً لملاحظات النساء حول حاجتهن يعتمد صندوق الأمم المتحدة للسكان على خطة القسائم الحالية لبرنامج الأغذية العالمي من خلال توفير مبلغ إضافي لهذه العناصر وربطها بـ الإحالة إلى خدمات الصحة الإنجابية والعنف القائم على النوع الاجتماعي وتوفيرها.

وفي شمال غرب سوريا ، في عام 2020 ، قدم صندوق الأمم المتحدة للسكان مساعدات نقدية غير مشروطة وغير مقيدة للسكان النازحين لتلبية احتياجاتهم العاجلة المتعلقة بالحماية.

يواصل صندوق الأمم المتحدة للسكان أيضًا التركيز على المرونة والإدماج الاجتماعي من خلال تكييف البرامج والخدمات باستمرار للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الشرائح المعرضة للخطر.

بعد 10 سنوات على الأزمة في سوريا، لا زالت النساء والفتيات السوريات يقدمن التضحية الأكبر ويتحملن المعاناة الأكثر، لكنهن يجدن بالعطاء الأجزل في سبيل إبقاء النسيج الاجتماعي قائماً، آن الأوان لنرفع الصوت عالياً، كفى لهذه المعاناة، لنسرع الجهود ونبذل ما هو أكثر لدعم النساء والفتيات في سوريا.

ابلاف

—————————-

حرب لا تنتهي وتسوية لا تبدأ/ رفيق خوري

ما بدأ احتجاجاً في درعا على الغطرسة الأمنية صار شرارة أشعلت انتفاضة شعبية سلمية

حرب سوريا تدخل في مارس (آذار) الحالي، عامها الحادي عشر. لا أحد بين المنخرطين فيها يستطيع أن ينهيها وحده أو يعرف متى تنتهي. ولا التفاهم الضروري بين اللاعبين لإنهائها بدا ممكناً خلال التجارب المتعددة على مدى عشر سنين.

الكل يسلّم، نظرياً وفي الخطاب السياسي، بأن خريطة الطريق لتجاوز الحرب والأزمة التي قادت إليها هي مندرجات القرار الدولي 2254. ولا شيء يوحي أن التسوية السياسية صارت قريبة.

ما بدأ احتجاجاً في درعا على الغطرسة الأمنية صار شرارة أشعلت انتفاضة شعبية سلمية واسعة تراكمت أسبابها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كانت المطالب إصلاحية، وتصوّر كثيرون أن تلبيتها ممكنة وكافية لوقف كل شيء.

لكن النظام رأى منذ البدء أنه في مواجهة “مؤامرة” و”حرب كونية”، فلجأ إلى العنف والقمع في بداية سلسلة من التحولات: الانتفاضة تحوّلت ثورة تطالب بإسقاط النظام. الثورة صارت بفعل العسكرة حرباً. العسكرة أسهمت في دفع قوى الاعتدال إلى الوراء وأعطت واجهة المسرح إلى قوى التطرف والتطيف. وكل ذلك قاد إلى التدخل العربي والإقليمي والدولي في الحرب، إما مباشرة وإما عبر ميليشيات جيء بها من ثمانين بلداً.

بعض الميليشيات صار نواة “داعش”، وبعضها الآخر حمل علم “القاعدة”، ومعظمها يلعب به أكثر من طرف. والنتيجة: سوريا لم تعُد سوريا التي عرفناها. سوريا التي كانت لاعباً إقليمياً مستقلاً صارت ملعباً تتقاسمه خمسة جيوش أجنبية إيرانية وروسية وتركية وأميركية وأوروبية، ومعها قوات ذات أكثرية كردية تسيطر على شرق الفرات، وميليشيات إرهابية من كل الأنواع إلى جانب “جبهة النصرة” و”داعش”، فضلاً عن أن أجواء البلد مفتوحة أمام الطيران الحربي الإسرائيلي بالتفاهم مع موسكو.

وليس أخطر من اللعبة الجيوسياسية سوى ما على الأرض التي تدور فوقها من تحولات اجتماعية واقتصادية ودمار. المركز السوري لبحوث السياسات قدّر أن خسائر الاقتصاد  بين عامي 2011 و2020 تبلغ 530 مليار دولار، أي نحو عشرة أضعاف الناتج المحلي عام 2010. 8 من كل 10 سوريين يعانون الفقر، بحسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية. 9.3 مليون سوري في الداخل يعانون انعدام الأمن الغذائي، بحسب صندوق الأغذية العالمي. نحو 7 ملايين سوري لاجئون في دول الجوار ودول العالم. 80 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، و70 في المئة تحت خط الفقر الشديد، و60 في المئة عاطلون من العمل، كما تفيد أرقام المنظمة الدولية.

من كانوا أطفالاً عند النزوح صاروا جيلاً جديداً من الشباب لا يعرف بلده. والذين ولدوا في الداخل خلال الحرب صاروا أيضاً شعباً جديداً لا تعرف ذاكرته سوى أهوال الحرب. ولا فرصة لإعادة الإعمار من دون تسوية سياسية. والتسوية ليست سهلة، ولم تعُد بين النظام والمعارضين بمقدار ما صارت بين أصحاب الأدوار والجيوش الأجنبية في سوريا.

النظام جرى الحفاظ عليه، والمعارضون ضعفوا، لكن الأزمة صارت أخطر مما كانت عليه قبل عشر سنين. كل الجهود الروسية لإعادة الإعمار فشلت في غياب التسوية التي تشترطها أميركا وأوروبا والدول العربية.

وروسيا التي استعادت دورها كقوة عالمية من خلال انخراطها في حرب سوريا واختبرت 316 طرازاً من الأسلحة الجديدة في الحرب، بحسب وزير الدفاع الجنرال سيرغي شويغو، لم تنجح في وضع التسوية على جدول الأعمال.

حتى اللجنة الدستورية التي شكّلتها بالتفاهم مع دمشق وتركيا وإيران والمعارضين، فإنها لا تزال تراوح مكانها أمام باب المدخل إلى دستور جديد. روسيا رابحة وعالقة. لا تستطيع إكمال المهمة، ولا تريد الانسحاب منها، ولا تبدو قادرة على ممارسة الضغوط المطلوبة منها على النظام والمعارضين لترتيب التسوية السياسية.

وليس أمراً بلا دلالات أن يعترف أخيراً الموفد الروسي الخاص للشؤون السورية ألكسندر لافرنتييف بأن من “الخطأ التصور أن وجودنا في سوريا يعني أن لدينا كل أدوات التأثير في دمشق وإصدار الأوامر الملزمة لها، فلا يسعنا إلا النصح وتقديم بعض التوصيات، لكن القرار في دمشق”.

والمفارقة أن روسيا المحتاجة إلى أميركا وأوروبا من أجل التسوية وإعادة الإعمار، يوحي خطابها أن في أولوية اهتمامها إخراج القوات الأميركية من سوريا.

وفي المقابل، فإن من الأولويات الأميركية والعربية والإسرائيلية الاتكال على روسيا لإخراج إيران وميليشياتها من سوريا. والانطباع السائد لدى النخبة الروسية هو أنه “لا قدرة على فصل النظام عن إيران، والنظام عاجز عن تغيير سلوكه، مع أنه وصل بعد خمسين سنة إلى مرحلة التكلّس، وباتت الحاجة كبيرة إلى سوريا جديدة ونظام يشارك فيه الجميع”.

وما يحدث عملياً أن تركيا تعزز احتلالها للشمال السوري وتبدأ “تتريك” الإدارة والتعليم والعملة. وإيران تعمّق التغلغل في النسيج الاجتماعي السوري وتضاعف قوتها العسكرية وتتصرف على أساس أن الغارات الأميركية والإسرائيلية على ميليشياتها “توجع ولا تردع”.

وأميركا توسع أهدافها من وجودها العسكري شرق الفرات. وروسيا توسع مدارج قاعدة حميميم وتقيم فيها تماثيل لضباط روس وتزيد في نشاطها السياسي والوساطة بين النظام والمعارضين. والحرب مستمرة والتسوية غائبة والخراب كبير.

————————

ما زلنا هنا/ منى رافع

أثناء تعدادك للتجاعيد الصغيرة على وجهك، يأتي من يقول لك إنّ عشر سنين قد مضت. تشعر أنّك لا تكاد تميّز كل ما حدث بين صحوك ونومك، بين صحوك وموتك، تُطالعُ الرزنامة، وتحسب على أصابعك: سنتان، خمسة، سبعة، تسعة، عشرة… في الأولى كنتَ في ذاك المكان، في الثالثة كنتَ في غيره، في الخامسة في غيرهما أيضاً، وفي العاشرة أنت لم تعد تحصي الأمكنة، حيث أنك نسيت نفسك، ونسيك الزمن. وأنت ببساطة تريد لذلك أن يكون.

ولكن أين أنت؟

تتذكر ما كان منذ عشر سنوات، هم يُجبرونك على تذكُّره، رغم أنك تود أن تنسى، لا لشيء إلا لأنك لم تَعُد تحتمل الألم، لأنك لم تَعُد تحتمل تكرار الخسارات والدم والدمار والطين، لأنك اخترت ألا تقول أي شيء، أو تُضيف أي شيء، لأنك تعرف تماماً كل ما قيل، لأنك حفظتَه، سئِمتَه، لأنك تريد أن تنظر إلى الأمام وتنسى ما في الخلف. لكنّ الخلف ثقيل، ثقيل جداً، يسحبك دائما إلى الوراء، يشدُّك من ثيابك وشعرك، يتوسّل إليك ألا تتركه، وأن تجعله أمامك، وحين تُصغي له، يقول لك: آآآآآآآآه… فتملأ التنهيدة صدرك. تستسلم له، و تشفق على نفسك حين يحصل ذلك.

ولكن أين أنت الآن؟

أنا الآن في حمص، أمشي بين الشوارع، المهدَّمة منها وغير المهدَّمة، أَرقبُ الوجوه والأسواق والبضائع، أقول في نفسي: هذا الوجه القاسي الذي مرّ بي الآن يصلح أن يكون وجهاً لقاتل تحت الأرض، وذاك الوجه الطيب المسالم يصلح أن يكون وجهاً لشهيد مظلوم قُتِلَ برصاصة غادرة. ترتيب وجوه العابرين هوايتي في الطريق؛ هذا قاتل وذاك ضحية، هذا شهيد وذاك سفاح. أتوقف عند بعض الوجوه وأقول في نفسي: هذا القاتل ربما يُوقظه ضميره في الليل، وهذا الشهيد ربما كان له قصة لا يود أن يعرف بها أحد. أتوقف عن تصنيف الوجوه وأَنهرُ نفسي بأنّ هذا لا يجوز، لكني أقوم بمحاكماتي الصغيرة تلك كعجز أخير أحاول أن أُعالجه. العجز المتراكم يدفع المرء للقيام بأكثر الأمور بؤساً وخلوّاً من المعنى.

على الهاتف، يقول صوت حزين بأنّ العشر سنوات أخيرة قد مرّت مثل حلم طويل ما زلنا ننتظر نهايته، أُوافقه وأتأمَّلُ السماء حيث المطر يبدو كقضبان حديد، والشمس تبدو كحُزن أصفر. أُصيخُ السمع للناس فتبدو كلماتهم استعارات عاجزة عن هزيمة تستحي أن تقول عن نفسها أنها كذلك.

أفكّر في أنّ لعبة الجميع المُفضَّلة هنا هي أن يُسمُّوا الأمور بغير مسمياتها، فنحن نعيش «الحرب» منذ عشر سنين، و«الأزمة» الخانقة الآن سببها «الحكومة»، و«الحيتان» هم سبب فقر الناس، و«القيادة الحكيمة» تُصدر قرارات لا تُراعي ظروف الناس، و«الجهات المختصة» تُمسِك شابّاً وتقتله «بغير قصد».

الاستعارات الضعيفة هي طريقة الجميع للمكابرة على الحقيقة الغائبة، لكن كل ذلك له ثمنه، إذ يشعر المرء هنا أنه مسخ تماماً، وأنّ عقله ممسوخ مثله، وأنّ وجوده بحدّ ذاته ممسوخ. عليكَ أن تهدم كل شيء في صدرك لتبني وجودك الآمن هنا، عليكَ أن تكذب بكل ما يستطيع الكذب من الامتداد حتى تَقي نفسك، الخوف والإحباط هما مِداد يومك، وحين تُطالعك حقيقة ما، أو كذبة أكبر من احتمالك، فليس أمامك سوى الهروب، والاختباء، حتى يعود انتظام نَفَسِك، بعد أن ابتلعتَه حدَّ الاختناق.

وأنا الآن في حمص، أتوجّه بالكلام إليك، وأقول لك إنني ما زلت أمشي في الطرقات، وأُصغي لأصوات الغائبين. صوتُهم يُعذِّبُ المرء هنا، هم يتحدثون بالكثير غالباً رغم غيابهم. يقولون أحياناً مثلاً ننتظركم، يقولون مثلاً سنبقى حاضرين في صحوكم ونومكم، يقولون أيضاً نُراهِن على غضبكم وحزنكم، وأخيراً يقولون: سنبقى صامتين بانتظار كلمتكم.

يقول أحد الأصدقاء وهو يميل رأسه على كتفه: «أيامنا تمرّ لهواً بلهو»؛ نُطأطئ الرأس جميعنا بالموافقة.

يقول آخر: «عمرنا يضيع هباء في هذا البلد الحزين»؛ نطأطئ الرأس جميعنا بالموافقة.

يقول أحدهم: «ليت الذي كان ما كان»؛ ترتبك حركة الرؤوس وتبقى عيوننا في الأرض، بينما تنبتر الحروف. الكلام عن «الذي كان» يصبح لغزاً أحياناً، أو ماضياً سحيقاً يبدو من الأفضل تجاوزُه، أو ذكريات منتقاة لأحداث خرجنا منها سالمين بفعلِ شبهِ معجزة. أما أكثر من ذلك، يتلكؤ اللسان بالحديث، بينما تشتعل الذاكرة المتيقّظة بما كان.

يرفع ذاك الرجل إصبعه في وجهنا، وعِرقٌ ينبض في منتصف جبهته، ويقول لنا: «هي ليست انتخابات، بل تجديد بيعة، تجديد بيعة!»، نردد من ورائه خانعين، لكن حينما نعود إلى بيوتنا نردِّد ما سمعناه من ذاك الرجل وراء أبوابنا المغلقة ونحن نلعن ما قيل ومن قال.

تَزَامُنُ الأمرَين معاً ليس مما يسهل التعامل معه. تلك السيدة التي استُشهد زوجها، والتي نذرت يوماً أنها ستطبخ في الشارع وتوزع الطعام مجاناً في الطرقات إن سقط النظام، تكاد لا تصدّق أننا وصلنا هنا وصرنا نتحدث عن الانتخابات. ومثلُها كثيرون…

ليس من الضروري أن تأتي الذكرى العاشرة لنتحاور معها في صدورنا، لأنها تتجدد ولو بغير إرادتنا في صبيحة كل يوم نستيقظ فيه على حزن جديد. ليس من الضروري أن تكون ثوريّاً، بما تحمله الكلمة من فعل ومن تجاوزٍ للمعنى، لتؤكد أنك ترفض كل ما حدث ويحدث رغم عجزك الصارخ أمامه.

قد ينوء القلب أحياناً بما يتطلبه الموقف من تَجذُّرِ الفعل الذي عليك القيام به ولا تستطيعه، لكن القلب لا يستطيع سوى أن يدقّ حاملاً كل تلك الآهات والمشقات والخسائر، التي لا يمكن أن تُنسى أبداً مهما طال الزمن.

نحن هنا، ما زلنا نبحث عن نكتة ما لنبتسم وسط كل ما يجري، لكننا بالكاد نجد. لذا نُهرع إلى صفحات فيسبوك ونكرِّر ابتسامات ممجوجة في استعارة أخرى لضحكات فقدناها منذ سنين.

نحن ما زلنا هنا، في حمص. ما زالت الصلابة موجودة فينا. نمشي وننام ونأكل ونخاف ونحلم. المهم أننا ما زلنا نحلم. ويبقى الشيء الوحيد الذي نحن متأكدون منه أنّه لا يمكن لأحد استئصال ما في صدورنا ولا نزعه، مهما بدا خلافَ ذلك.

—————–

المعارضة السورية ونظرية التعويم الزيتي/ محمد برو

وعلى هذه الأولوية تمركزت الإرادات بشكلٍ عفوي، وكانت المؤسسة الأولى للمعارضة “المجلس الوطني” والتي حازت في الأشهر الأولى على دعم الشارع الثوري، وقبوله لها كممثل وحيد للثورة، وهذا لأن المجلس الوطني كان بالفعل ممثلاً لصوت الجماهير الثائرة، وخطابه متطابق إلى حد كبير مع خطابها، وأحياناً بشكلٍ حرفي، فعلى سبيل المثال الشعار الشعبي البسيط والذي أراد أن يقطع الطريق على أولى محاولات التفتيت كان “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد” كرره بحرفيته وعبر كبرى المنصات الإعلامية المتحدثون الرسميون للمجلس الوطني وغيرهم، وحظي يومها بقبول واسع وأصبح شعارنا الجامع.

في تلك الأيام العزيزة علينا كسوريين معارضين ننشد الحرية ونراها مرتبطة بشكلٍ حتمي بسقوط الديكتاتورية وأعوانها، لم نكن نجد فرقاً إن تولى رئاسة المجلس سني أو علوي أو إسلامي أو علماني.

لم يكن أحد ليتجرأ في تلك البدايات لينافح أو يجادل على حصته أو عدد الأفراد الذين يمثلون تياره السياسي في هذه المجموعة أو تلك.

ويومها سارت الوقائع بذلك الزخم الشعبي وحده، فترنح النظام وتراجعت سيطرته على الأرض السورية وانحسر إلى ثلث الأراضي السورية التي أصبح يروج لها فيما بعد باسم سوريا المفيدة، وما ذلك إلا ليبرر هزيمته ويعلل من يواليه بأنه استطاع الحفاظ على الشطر الأهم من سوريا.

عام “1967” إبان حرب حزيران التي خرجت منها إسرائيل منتصرة وقد قضمت سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، كانت السياسة الاستراتيجية السورية قد خرجت بفكرة ألمعية سمَّوها يومئذٍ “التعويم الزيتي” ومفادها أن يترك المجال لإسرائيل فتتوغل في الأراضي السورية إلى عمقٍ متقدم، لا تستطيع معه السيطرة على مكتسباتها، فيسهل تمييعها والقضاء عليها، وتضيع في المحيط العربي كما تضيع قطرة الزيت، لو نشرناها على مسطحٍ مائيٍّ متسع.

غاب عن هذا التفكير الاستراتيجي أن إسرائيل كدولةٍ معتديةٍ، تحارب في محيطٍ عربيٍ واسع، ملزمةٌ بحكم الضرورة، بالتدقيق في حساباتها وخياراتها، وبدراسة خطواتها بشكلٍ تفصيلي، لم يعتد الساسة العرب المرتجلون الإتيان بمثله، فتقدمت قواتها في الحيز المفتوح، بالقدر المناسب لموازين القوة التي تعرفها، وتوقفت عند هذا الحد، وما إن تحطمت النظرية على صخرة الواقع، حتى سارعت القيادة البعثية إلى ابتكار نظرية أكثر جدة، وهي أن إسرائيل خاضت تلك الحرب لهدفٍ وحيد، وهو إجهاض الثورة، وطالما أن الثورة باقية فقد خسرت إسرائيل رهانها الوحيد، وعادت تجر أذيال خيبتها ومعها آلاف الكيلومترات من الأراضي العربية التي استولت عليها في لحظة غضبها.

أتى هذا بالضبط مشابهاً للفشل الذريع، الذي منيت به قطاعات واسعة من المعارضة السورية، وفي مقدمتها الهيئات التمثيلية الكبرى، فبعد أن باتت المعارضة بمجملها تسيطر على ثلثي الأرض السورية، بالرغم من كل القوى “الروسية والإيرانية وحزب الله” التي كانت تحارب بالنيابة عن نظام الأسد المتمزق، والذي لم يعد يملك موارد ولا كوادر، يدير بها ما تبقى له من الأرض السورية المفيدة كما دعاها، توزعت قوى المعارضة السورية بطريقة التعويم الزيتي ذاتها، ولم تعد قادرة على إدارة المساحات التي حررتها من نظام الأسد، لتهيمن عليها فصائل مسلحة لا تملك حرفاً واحداً من أبجدية الإدارة، وبتعبير أكثر دقة لا تصلح لإدارة مؤسسة إغاثية توزع الخبز والطحين وحسب، فما بالنا بإدارة المعابر ونظام الرسوم الجمركية، وضبط الأمن والقضاء بين الناس، وغيره كثير كثير مما هو مطلوب، ممن سيطر على مدن أو بلدات ورفع فوقها علم الثورة، ويبدو أن النظرية البعثية البائسة “نظرية التعويم الزيتي” التي فشلت في الحرب مع إسرائيل، نجحت في الحرب مع المعارضة السورية.

والواقع أنَّ ما جرى، هو تحرير مدن سورية من بقايا نظام الأسد الفاسدة، والسيطرة عليها من قبل مجموعات كانت بفعل جهلها وعدم تأهيلها، تنافس الأسد على إدارة الفساد.

لسوء التدبير وفقر الحال، لم يكن هناك بديل عن النظام في المناطق التي خرجت عن سيطرته، سوى مجموعات لا حصر لها مثَّل كثيرا منها نمطاً من أنماط إدارة الفساد والتجارب الفاشلة، كان من نتائجها تصريح كثيرين ممن ناصروا الثورة في البدء، برغبتهم في العودة إلى حكم نظام الأسد، رغم معرفتهم التامة بمدى فساده وضلوعه في الإجرام.

واليوم وبعد عشر سنوات من انطلاقة الثورة، لم يبق المشهد على ما هو عليه وحسب، بل انحط إلى ما هو دون ذلك، فأصبح ذلك الفساد وغياب الكفاءات أو تنحيتها عمداً، والذي سمحت الفوضى بولادته يومها، أكثر تنظيما وأشد تمكناً، وصار السؤال الصعب والشديد الإيلام هل تستحق هذه الثورة وما بذل فيها من دماء وتضحيات هذه القيادات الفاشلة والبائسة؟ وهل سيتسع الوقت للتخلص من هذه النماذج الثورية التي أصبحت عبئاً على الثورة ذاتها، وعقبة في طريق تقدمها أو تصحيح مسارها، أم أننا مقبلون على أشكال جديدة من الثورات الداخلية والخارجية معاً؟

————————–

ضمائر متصلة على أعتاب موسم جديد/ حسن النيفي

بينما تعاني ثورة السوريين من حالة انسداد فيما يخص مسارات الحل السياسي الموازية لاستمرار نظام الأسد وحلفائه الدوليين بالعدوان على الشعب السوري، تنهض في الجانب الآخر حالةٌ أخرى لشرائح سورية مختلفة تتجسّد بحراك ثقافي يؤكّد أن انبثاقات الثورة السورية لا يمكن اختزالها بالفعل السياسي المباشر أو بالنتائج التي تخلّفها المواجهات العسكرية الميدانية، ولعل العبارة التي باتت تتردّد على ألسنة كثيرين : ( إن العودة إلى ما قبل 2011 باتت مستحيلة) إنما تعني في جانب كبير منها أن قدرة نظام التوحّش على قتل السوريين وتهجيرهم، والاستمرار في تعزيز مأساتهم، لم تستطع إجهاض انتفاضة الوعي السوري، ونزوعه نحو آفاق كانت محجوبة عنه من قبل، بفعل عوامل كثيرة، لعلّ أهمها اثنان:

أولاً – إحكام القبضة الأمنية واستمرار القمع بشتى أشكاله طيلة عقود من الزمن، قد عزّز الشعور بالخوف الذي لم يعد حالة طارئة، بل بات سلوكاً نفسياً ملازماً للمرء في معظم تفاصيل حياته اليومية، الأمر الذي أفرز ظاهرة مرضية باتت مألوفة لدى السوريين طيلة نصف قرن، وأعني ظاهرة (التفكير الخائف) التي أرخت بظلالها على مجمل النشاط الفكري والثقافي السوري في ظل الدولة الأسدية، ما جعل حركة الإبداع في مجمل أشكالها تكاد تكون مشلولةً لافتقارها إلى قرينها الجوهري، وهو  الحرية.

ثانياً – لم يكن قطّاع الثقافة في دولة الاستبداد يختلف عن غيره من القطّاعات الأخرى، من حيث الجانب الوظيفي، إذ إن الأولوية المنوطة بكافة مؤسسات نظام الحكم هي إعادة إنتاج السلطة، من خلال التماهي المطلق مع خطاب السلطة السياسي من جهة، ثم من خلال إنتاج خطاب ثقافي يبرر ويشرعن النهج العام لنظام الحكم من جهة أخرى.

ما راكمه استثمار السلطة لمساحات الثقافة لا تنحصر نتائجه بالعطالة الإبداعية لحركة الفكر فحسب، بل في تعزيز تصوّر خاطئ لمفهوم (الثقافة) التي باتت نشاطاً معزولاً عن سياقه المجتمعي، فضلا عن كونه مصدر تزييف للحياة والوقائع في كثير من الأحوال.

الكشوفات الثقافية للثورة السورية، والتي يمكن أن تكون أكثر غنى وازدهاراً من الإرهاصات السياسية المتعثرة، باتت تفرض ذاتها في الفضاء الثقافي والإعلامي العام، سواءٌ من خلال ما نشهده من حراك ثقافي بين السوريين أنفسهم ( ندوات – محاضرات – حوارات بين أفراد أو جماعات)، أو من خلال حضورها في وسائل الإعلام المختلفة.

تلفزيون سوريا هو أحد الكيانات الإعلامية التي بادرت إلى استلهام هذه الكشوفات المنبثقة عن الحراك الثقافي لثورة السوريين، وذلك من خلال البرنامج الأسبوعي (ضمائر متصلة) الذي يعدّه ويقدّمه الشاعر ياسر الأطرش. وقبل الحديث عن أي مُنجَز لهذا البرنامج، تنبغي الإشارة إلى جملة من التحدّيات التي واجهها، وسأكتفي بالوقوف عند اثنين فقط، أما التحدّي الأول فيكمن بالسؤال حول قدرة أي قناة تلفزيونية على تقديم مادّة معرفية، أمام جمهور لم يعتد أن يكون التلفزيون مصدراً للمعرفة أو الثقافة؟ إذ إن الأثر الذي تركته البرامج الثقافية في الإعلام المرئي السوري طيلة عقود من الزمن كان نافل القيمة، طارداً لأيّ جاذبية، لكونه صدًى باهتاً للخطاب الإعلامي السلطوي. أمّا التحدي الثاني – وهو الأهم كما أظن – فيتمثل في مدى إمكانية برنامج ( ضمائر متصلة) على تقديم رؤية جديدة لمفهوم ( الثقافة)، رؤية تنبثق من عمق العلاقة بين الثقافة والسياق الحياتي للمواطن من جهة، وكذلك العلاقة العضوية بين الثقافة وقضايا الشأن العام من جهة أخرى. ولعلّ المتتبع لمجمل حلقات البرنامج خلال سنتين ماضيتين، يلاحظ بوضوح حضوراً بارزاً لما كان مسكوتاً عنه، بل مُبعَداً عن التداول، إن لم يكن من المحظورات، وعلى سبيل المثال، وليس الحصر(قضايا المعتقلين – أدب السجون – المثقفون والسلطة – الأدب والثورة) بالإضافة إلى تناول البرنامج للعديد من المسائل الأدبية والفنية من منظور فكري شامل لا يقتصر بالوقوف عند حدود الظاهرة، بل يحاول مقاربة أبعادها الاجتماعية والسياسية، وكذلك امتداداتها الفكرية والفلسفية، وذلك من خلال أسلوب في التقديم يحاول الابتعاد عن السرد والإملاء، ويقترب من الحالات الأكثر تفاعلية كالحوار مع شخصية أو أكثر، أو استضافة بعض الكتاب أو بعض الشخصيات الثقافية ذات الحضور في المشهد الثقافي، فضلاً عن الجهد الذي يبذله معدّ البرنامج في إعداد التقارير حول القضايا المطروحة.

يمكن الذهاب بمزيد من الاطمئنان إلى أن برنامج (ضمائر متصلة) قدّم خطوات هامة في إزالة بعض التخوم التي ترسّخت في الأذهان والوعي العام بين مفهومي (المثقف والسياسي)، فالثقافة الخاوية من البعد الإنساني والمنبتّة عن السياق الحياتي للناس، والتي لا تكترث لشقاء الكائن البشري أو سعادته، لا يمكن أن تُراكم أيّ ثراء قيمي في تاريخ الحضارة، وكذلك السياسة حين لا تتقوّم على حوامل معرفية وبواعث أخلاقية، وحين تتجاهل يقظة الضمير ونوازع الإخلاص فلا تعدو كونها – حينئذٍ – ضرباً من الزيف والخداع. فكم من مثقف – في الحالة السورية – أدار ظهره لمأساة السوريين منحازاً إمّا لمصالحه الشخصية أو لنصرة الطغاة، وكم من السياسيين الذين برعوا في التسلّق وتصدّر المشهد، لا يحدوهم سوى الجوع الشديد إلى السلطة والنفوذ والاعتياش على مواجع الناس، وبالتالي نجد أن كلا النموذجين مسيءٌ لشعبه وقضيته. ولكن على الرغم من هذا المنجز النوعي في إعادة شيء من الحيوية لمفهوم الثقافة في ظل الثورة، يبقى من أهم ثغرات (ضمائر متصلة) هو الطابع الفردي للجهد الذي يتقوّم عليه البرنامج، إذ من غير المقبول أن ينهض برنامج ذو موضوعات متنوعة على جهد شخص أو اثنين فقط (إعداداً وتقديماً ومحاورة واختياراً للضيوف)، ولعل المفيد في هذا السياق، أن إدارة البرنامج أو القائمين عليه، قد حاولوا تلافي هذه المسألة، إذ رأينا في أول حلقة في السنة الثالثة لانطلاقة تلفزيون سوريا، أن المساحة الزمنية للبرنامج امتدت إلى نحو الساعة، إضافة لإشراك أكثر من مذيع في عملية الحوار، إلا أن ذلك كلّه لا ينفي حاجة البرنامج إلى فريق عمل متعدد الاهتمامات والاختصاصات، إذ من غير المفيد أن تنحصر مهمة المُحاوِر بإلقاء الأسئلة أو قراءتها على الضيف فقط، بل يمكن التأكيد على ضرورة أن يتجاوز فريق العمل الجانب الوظيفي، ليكونوا أكثر قدرة على مقاربة الموضوعات المطروحة ثقافياً، وليس إعلامياً فحسب.

ولئن كانت الموضوعية تقتضي التأكيد على مبلغ العسر في وصول أي كيان إعلامي سوري إلى مبتغاه في ظل الظروف الصعبة التي تحيط بواقع القضية السورية، فحسبنا أن تبقى الجهود قائمة لتكون ثقافتنا الجديدة ضميراً دائم الاتصال بثورة السوريين.

———————–

السوريون بعد عشر سنوات على الثورة والحرب/ منير شحود

حين نضيف رقم المليون ضحية، الذين سقطوا خلال السنوات العشر الأخيرة بكافة أشكال القتل، إلى ما يقارب التسعين في المئة من الذين ما يزالون يعانون في جحيم الداخل والمخيمات الكئيبة المتناثرة في بلدان الجوار، يحق لنا أن نتحدث عن حقيقة الموت السوري متعدد الأشكال والأنواع، وآخره الجوع السافر أو اللهاث وراء شبح لقمة العيش، حتى أنه يمكن القول بأن من يعيشون في سورية الآن هم أولئك الذين يرتبط رغد عيشهم باستمرار جوع الآخرين ومحنتهم؛ أي الذين يديرون عملية التجويع ويستثمرونها ويغتنون منها، ويلعقون ما تبقى من دماء الضحايا من على أفواههم بتلذذ.

وكي يأخذ الموت كافة أبعاده الشعائرية وطقوسه، بات بعض الأحياء – الموتى يعلنون عن طقوس انتحارهم على الملأ، كخطوة لم تعد بالفعل انتقالًا من الحياة إلى الموت بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، إنما هي مجرد نصف خطوة لتجاوز تلك المسافة القصيرة المتبقية بين الحياة والموت. من هنا يصعب الحكم على المنتحرين بهذه الطريقة، فهل ثمة أخلاق أو مقولات أخلاقية يمكن تسويقها حين يتحول الإنسان إلى كائن يبحث عما يجعله على قيد الحياة بالحدود الدنيا، كتلبية لنداء غريزة البقاء وحسب؟!

ربما كان على السوريين أن يصلوا إلى هذه المرحلة ليدركوا أن ما يجمعهم هو الحياة قبل أي أمر آخر، وأن ما يفرقهم هو مجرد ترف لم يعودوا بعد الآن بحاجة لاعتباره مشكلة، ولن ينقادوا إلى الخوض فيه مجددًا. صحيح أن الأمر يبقى برسم المستقبل، لكن الدرس كان قاسيًا من أجل تجاوز حالة الصراع العدمي هذه، شريطة إزالة الأسباب التي قادت إليها. والأهم هو أن تبقى الذكريات المريرة حاضرة من أجل عدم إعادة الكرّة واستيعاب الدرس، لا أن تُنثر بذور الانتقام من جديد، وذلك اقتداءً بشعوب كثيرة مرت في مثل هذا الجحيم، ومنهم الألمان الذين تجاوزوا محنتهم وأصروا على تحويلها إلى مجرد ذكرى سيئة.

الحق أن السوريين لم يحتربوا لخلافهم واختلافهم، لكن تدجينهم منذ عقود وإشاعة الفرقة بينهم جعلهم غير قادرين على التواصل فيما بينهم وتنظيم جهودهم واتخاذ المبادرات التي قد تنقذهم من الانزلاق في وحل المخاوف والفتن، ما سمح للمتحكمين برقابهم في الداخل والمستغلين لعجزهم في الخارج أن يبحثوا عن مصالحهم وسط الخراب والموت، وعلى حساب حياتهم جميعًا.

من جهة ثانية، ثمة في التاريخ لحظات فريدة تخسر الشعوب فيها الكثير إن لم تستغلها بوعي، وفيها يتكثف الزمن بحيث يصعب اتخاذ القرارات والمواقف إن لم يكن قد تم التحضير لها أو التفكير فيها مسبقًا. من هذه اللحظات ما حدث في ربيع 2011، فلم يكن الخطأ بالمطالبة بالحرية، التي تحولت فجأة إلى كلمة ملعونة عند من وضعوها بالمرتبة الوسطى في شعار الحزب الذي قاد حياتنا إلى التهلكة، رسميًا منذ دستور 1973، أو سمح بأن يجري ذلك باسمه، ولو أن الدساتير في سورية الاستبداد لا تعني شيئًا عند اللزوم.

وفي هذه اللحظة التاريخية التي شهدت انبثاق مطلب الحرية، تجلت نتائج السياسات السابقة بوضوح، فعوضًا عن أن تجمع هذه المناسبة السوريين فقد فرقتهم، مع أنها كانت لحظة تحدي للواقع القائم على استمرار تعسفٍ بات كقدر يُراد تأبيده في الضد من كل قوانين الطبيعة والحياة. لا يمكن أن تُستعاد لحظة اليقظة تلك، لكن يمكن الاستفادة منها كدرس من أجل تأطير مفهوم الحرية السائب في دستور وقوانين جديدة لبناء دولة عصرية.

ومع أن التاريخ لم يدخل عصر الأخلاق إلا مؤخرًا، وبكثير من التردد والالتباس، فإنه يمكن القول بأن مناهضة تلك اللحظات والوقوف في وجه المطالبين بالحرية ليس من الأخلاق في شيء، والنتائج باتت الآن جلية، إذ لم يكن موالو الأمس، الذين يكابدون الآن، قادرين على استيعاب اللحظة المباغتة، وقد أصابهم العماء التاريخي وفقدوا القدرة على التمييز، وتوهموا بأنهم سينجون على حساب من يفترض أن يكونوا إخوتهم في الوطنية والمواطنة الغائبتين، وأن الكأس المرة ستدور عليهم. في المقابل، لم يتوقع من ساندوا شعار الحرية بلا تحديد أو شرط بأن ثمة مأزقًا سينتظرهم بمثل هذه المأساوية، وإن الحرب ستطحن الجميع في نهاية المطاف.

كانت تلك الفترة العصيبة فرصةً لا تعوض بالنسبة لطالبي الحرية، على غموض الفكرة وأحقيتها في آنٍ معًا، خشية أن يفقدوها ويعودوا إلى “القفص”، مثلما كانت فرصة بالنسبة لمناهضي الحرية لتكريس ما هو قائم ضد منطق التاريخ، ملتقطين الإشارات السلبية والشوائب فقط من الجهة المقابلة لتبرير مواقفهم. على العموم، كانت لحظة يصعب فيها على الجميع التعقُّل، وقد ترك العقلاء، إن وُجدوا، أماكنهم لشياطين الموت من كل نوع.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تحصل على امتداد التاريخ الحافل بالأمثلة عن الخراب وإعادة البناء وعن اليقظة بعد الغفلة. كما أن الموت والجوع ليسا ما يوحد السوريين فقط، بل وإرادتهم المستجدة حول تجاوز الماضي والعمل من أجل مستقبل الأجيال الجديدة. إنها نقطة البداية المؤجلة والفرصة السانحة لينهض الجميع سوية ويتجاوزوا الخدعة بعد كل ما حصل، وأن عشر سنوات هي أكثر من كافية لوعي أن الحياة ثمينة وتستحق العيش والعمل من أجلها.

منير شحود

——————————-

================

تحديث 13 أذار 2021

———————–

هلمّوا لإنقاذ بشار!/ عمر قدور

هناك، في القصر المطل على جبل قاسيون، قائد لقسم من العسكر والمخابرات والشبيحة بمرتبة رئيس. هو الآن “على الأرجح” متمارض بزعم إصابته بكورونا، لعل الزعم يعفيه مؤقتاً من مسؤولياته إزاء المجاعة التي تنهش محكوميه، بعدما لم تأتِ نصيحته بإلغاء برامج الطبخ من التلفزيون بالنتيجة المرجوة لوقف الجوع. هو لا يكترث بتصديق السوريين قصة مرضه، المهم أن يتظاهر عدد منهم بذلك لعل عدوى التصديق تصيب آخرين، والأهم أن تصل رسالة تمارضه إلى الجهات الخارجية المعنية فتبادر إلى إنقاذه من دائه الحقيقي.

في موازاة التسول العاطفي المبتذل داخل سوريا، قام وزير الخارجية الروسي بجولة خليجية شملت الإمارات والسعودية وقطر، بذل خلالها جهداً واضحاً لتسول الدعم الخليجي المالي لمريضه في دمشق. الاستعداد الإماراتي “غير المشروط” للمساعدة سبق لواشنطن لجمه، والعائق الوحيد أمامه بحسب وزير الخارجية الإماراتي هو قانون قيصر. الرياض جددت موقفها المعروف منذ استقبالها علي مملوك في صيف 2015، عندما اختصرت هاجسها السوري بوجود الميليشيات الإيرانية، ليُضاف إليه لاحقاً هاجس إخراج تركيا. ما بدا أنه تجاوب قطري في الشق الإنساني، بالتعاون مع أنقرة، سيبقى محكوماً بموقف واشنطن إذ يستحيل المضي في برنامج ضخم من المساعدات من دون موافقتها.

مع التحرك الروسي، ازدهر من جديد سوق التكهنات حول الصفقة الممكنة، بما فيها وضع سيناريوهات متفائلة بقرب تنحية بشار وعدم السماح له بتجديد ولايته. لكن، كما نعلم، التمهيد لمثل هذه الصفقة لا يمر عبر العواصم الثلاث، ولا يكون بغياب واشنطن، وفي مناخ من البرود الذي يحكم علاقتها حالياً بموسكو. هذا إذا وافقنا على الافتراض بأن واشنطن وتل أبيب ترغبان في تنحية بشار الآن، وإذا افترضنا وجود رغبة خليجية مشتركة في ذلك.

على العكس من الافتراض السابق، تمدّنا وقائع السنوات العشر الماضية بالنقيض تماماً. أي أنه كلما وصل بشار إلى حالة من الضعف تهدد بسقوطه فُتحت لها منافذ النجاة، بل ظهر كأن أكبر تهديد يوجهه بشار لقوى تناصبه العداء ظاهراً هو الإعلان عن ضعفه وعدم قدرته على الصمود. رأينا ذلك في خريف 2012، عندما أوشكت فصائل معارضة على محاصرة دمشق، لتتدفق الميليشيات الشيعية والحرس الثوري على نحو لا يمكن حدوثه بلا موافقة من تل أبيب وواشنطن. رأيناه لاحقاً، بعد فشل الميليشيات الشيعية وفقدانه ثلثي الأراضي السورية، عندما خرج بشار في خطابه الشهير ليعلن عدم قدرته على السيطرة سوى على قليل من الأراضي، لتأتي ماكينة الإبادة الروسية بموافقة ضمنية من الغرب كله، وبموافقة من بعض دول الخليج، إذا لم نصدق رواية الدعم المالي الذي نالته من إحدى دوله.

بين التاريخين السابقين، تابع العالم كله مسرحية التنصل من معاقبة بشار على استخدام السلاح الكيماوي صيف 2013. كان صريحاً آنذاك تلكؤ أوباما في انتظار مخرج من اعتباره استخدام الكيماوي خطاً أحمر، ومن المرجح أنه فعل ذلك على سبيل اللغو في أحسن الأحوال، أو لإعطاء رخصة للقاتل باستخدام ترسانته التقليدية بلا حدود وفق تأويل أكثر واقعية. ثبت فيما قبل الكيماوي وما بعده أن الخط الأحمر الوحيد الحقيقي هو بشار نفسه، وهو استنتاج لا يبقى صالحاً إلى الأبد، بل أكثر ما يصلح له إبقاؤه كوصفة للاستعصاء السوري.

للتذكير، في مناسبتين أو ثلاث رداً على اتهامات غربية بحماية بشار، لمّح مسؤولون روس إلى قدرة الغرب على إسقاطه لو أراد ذلك، فتكون موسكو قد لعبت دور إبليس بتنفيذ المشيئة إذا استلهمنا تعبيراً من اللاهوت. لكن يبقى من مصلحة موسكو مجاراة العالم بالتركيز على أنها حامية بشار الأولى، فهذا ما يمكن تصريفه داخلياً كنجاح للتدخل العسكري في سوريا، وما يمكن تصريفه خارجياً للمطالبة بالثمن متى حانت لحظة المساومة والتسوية.

منذ أُنقِذ بشار عسكرياً تراجع الحديث الأممي عن الحل السياسي، وتُرجم ذلك بعدم الاكتراث بانهيار مسار جنيف، وبعدم تدخل واشنطن في مسار أستانة أو المسار الدستوري المنبثق عن سوتشي. بالطبع، كانت واشنطن تتوقع صدور الاستغاثات من بشار جراء الانهيار المحتم للاقتصاد، أو جراء ما دمّره هو وحلفاؤه من بنية تحتية. قانون قيصر أتى بمثابة تسريع لعملية الانهيار المحتمة، ومن ضمن التسريع عدم السماح بجرعات تسكين قد تأتي من هنا أو هناك.

نظرياً، ليس من خطر مباشر على بشار جراء المجاعة التي أوصل البلاد إليها. مع آلة القمع التي يسيطر عليها، ومع الميليشيات الإيرانية وقوة الإبادة الروسية، من المستحيل بروز مخاطر عسكرية بالمعنى التقليدي. هذا لا يمنع بشكل قاطع حدوث ما لا يمكن توقعه، بأسلوب يصعب توقعه أو التعامل معه، كأن يحدث انفجار لفوضى لا تنجح معها الأساليب المخابراتية والعسكرية المعتادة، وقد يكون هذا هو التحذير الذي حمله لافروف في جولته الخليجية.

على نحو أو آخر، لسان حال لافروف تحت عنوان التحذير من الفوضى والمجهول: هلمّوا لإنقاذ بشار. عسى أن تكون دول الخليج وسيطاً لدى واشنطن المطالَبة بالتراخي في تطبيق عقوباتها، أو الشروع بمنح استثناءات تفرغها من مضمونها. موسكو غير قادرة على إنقاذ بشار اقتصادياً، وهذه الخلاصة تعني فشل تدخلها في تحقيق الاستقرار، لذا تسعى إلى وضع الآخرين أمام “مسؤولياتهم”، أو إلى التذكير بأن المسؤولية عن الوضع السوري الحالي هي مسؤولية مشتركة.

في الأيام الأخيرة نقل إعلام الأسد تظاهرات مواليه الذين شكّلوا بأجسادهم الدعوة له “بالشفاء العاجل”، الأيام المقبلة ستكشف لنا ما إذا كان السعي الروسي سيُقابل بنوايا طيبة تشبه تلك الدعوات لا أكثر، أم أن صدى الاستغاثة سيلقى اهتمام واشنطن. بشار بحاجة حقاً إلى ذلك الترياق الذي ينقذه، لكن لا كما يوحي إعلانه عن المرض، إذ ربما كانت معالجته من كورونا تقتضي أولاً إرغامه على استنشاق الفيروس.

المدن

—————————

الجيش الحر بعد عشر سنوات.. الآمال والمآلات/ خالد المطلق

المحتويات

مقدمة

البدايات والنجاحات

الانكماش والتراجعات

النتائج والحلول

خاتمة

مقدمة

ينقلب الجيش على حاكمه في كثير من الأحيان وينحاز للشعب في أغلب الثورات التي قامت على حكام الأنظمة الشمولية في العالم، وذلك نتيجة استخدام هؤلاء الحكام للقوة المفرطة في قمع الاحتجاجات، أو يظهر جناح عسكري من المحتجين مهمته حماية هذه الثورات وهذا ما كان في الثورة الإنكليزية (1642-1660 ) والثورة الفرنسية (1789-1799) والثورة الكوبية (1953 – 1959) وفي الجزائر (1991)، وهذا ما حدث في ثورات الربيع العربي باستثناء مصر وتونس نتيجة تنحي حكامهما عن السلطة باكرًا، وانصياعهم للضغط الشعبي السلمي، أما في ليبيا واليمن فقد اتجهت الأمور نحو عسكرة الثورة وما زالت رحى تلك الثورات -التي تحولت إلى حرب طاحنة- دائرة حتى الآن بعد أن أخذت طابعًا مذهبيًا في ظاهرها وثورات مضادة في مضمونها، وهذا حال الثورة السورية التي لم تستطع إجبار بشار الأسد على الاستقالة منذ البداية،  نتيجة ظروف داخلية وخارجية كثيرة لسنا في وارد ذكرها الآن، ونتيجة إصرار الأسد ونظامه على هدر دماء الشعب السوري باستخدام القوة العسكرية في قمع المتظاهرين السلميين ظهر مصطلح الجيش الحر ليشمل كل من حمل بندقية في وجه الأسد ونظامه، وفي هذه الدراسة سأتحدث عن بدايات الجيش الحر والنجاحات التي حققها على مدى ثلاث سنوات منذ بداية العمل المسلح ومن ثم سأتطرق إلى التحول الكبير في مسيرة هذا الجيش وصولًا إلى الحالة التي وصل إليها الآن وطمس معالمه الحقيقية.

البدايات والنجاحات

نتيجة إرهاب الدولة المنظم وجرائم القتل المنهجي والتنكيل المدروس الذي مورس على سكان المناطق الثائرة منذ اليوم الأول لانطلاق التظاهرات السلمية، ونتيجة إصرار الشعب الثائر على الخروج للمطالبة بحقوقه المشروعة في الحياة الكريمة، ونتيجة عدم تراجع الأسد وأجهزته الأمنية عن مخططهم في إنهاء تلك الاحتجاجات بالقوة المفرطة؛ تنادى عدد من أبناء تلك المناطق لتجميع أنفسهم في مجموعات غلب عليها الارتجال في التشكيل والعمل فشُكلت المجموعة من أبناء الحي الواحد أو العائلة الواحدة أو من مجموعة من الأصدقاء الموثوقين في ما بينهم، وكان هدفه العمل من دون خطط حماية المتظاهرين من القتل بقدر الإمكان والقيام بعمليات يمكن أن تثني النظام عن استهداف الشعب الثائر، هكذا كانت البداية في درعا والغوطة الشرقية وحمص وإدلب ودير الزور وغيرها من المناطق التي شهدت الاحتجاجات، ولم يكن للشباب الثائر الذي رأى القتل والتنكيل بأهله وجيرانه بأبشع الطرائق إلا المقاومة المسلحة حلًا، ومن هنا انطلقت هذه المجموعات في العمل وللأمانة كان يقود هذه المجموعات شباب أغلبه غير متعلم ومن أصحاب الحِرف الحرة أو من الشباب العاطل عن العمل، ونادرًا ما وجدنا قادة لهذه المجموعات من المثقفين وأصحاب الرأي، بدا ذلك فرزًا للمهمات من دون تخطيط، فالسياسيون من المثقفين وأصحاب الشهادات الجامعية انصرفوا إلى تنظيم التظاهرات وقيادتها، والمجموعات المسلحة اهتمت بحماية هذه التظاهرات وهكذا بدأت الأمور، إلى أن ظهرت الانشقاقات في صفوف جيش الأسد وكان أولها انشقاق العسكري المجند (وليد القشعمي) الذي انشق من مدينة حرستا في الغوطة الشرقية في 23 نيسان/ أبريل 2011، وتبعه انشقاق الملازم أول (عبد الرزاق طلاس) الذي انشق في 7 حزيران/ يونيو 2011، وفي 9 حزيران/ يونيو 2011 أعلن المقدم (حسين هرموش) انشقاقه عن جيش الأسد، منذ تلك اللحظة بدأت عملية تنظيم الكفاح المسلح وأعلن تشكيل حركة لواء الضباط الأحرار، إلا أن الهرموش اختفى في نهاية شهر آب/ أغسطس 2011، لتنشق بعدها مجموعة من الضباط في 31 تموز/ يوليو 2011 وتعلن تشكيل الجيش الحر الذي حدد هدفه في إسقاط نظام بشار الأسد وحماية الثورة(1)، لتتوالى الانشقاقات التي شملت كثيرًا من الضباط ذوي الرتب العالية كاللواء (محمد فارس) والعميد (مصطفى الشيخ)، لتبدأ محاولات تنظيم الجسم الوليد، فظهرت المجالس العسكرية في أغلب المناطق المحررة وكان أولها في حمص ومن ثم شُكِّلت قيادة لهذه المجالس برئاسة العميد مصطفى الشيخ وكبار الضباط المنشقين وحاول كثير من كبار الضباط المنشقين تأسيس نواة لجيش وطني، لكن مساعيهم جَمِيعهَا باءت بالفشل نتيجة عوامل عدة، أهمها حرص أصدقاء الشعب السوري -قبل أعدائه- وحرص بعض الأحزاب والحركات الإسلامية التي اخترقت قيادات الثورة على عدم تنظيم الجيش الحر وفق هيكل تنظيمي منضبط يمكن أن يقود الحراك المسلح بحرفية عالية، ولهذا أسباب منها منع انتصار الثورة إلا بقيادتهم، ومنها محاولات السيطرة على الثورة بأكملها، ليظهر من خلال هذه التحركات انقسام واضح في القيادات العسكرية للثورة بين مؤيد للمجالس العسكرية ومؤيد لقيادة الجيش الحر، وهذا أثر كثيرًا في وحدة الصفوف ومسيرة الثورة العسكرية من حيث تنظيم عملها وقيادة معاركها وبقيت كذلك حتى الآن، وفي أثناء تلك المرحلة ظهرت على السطح قيادة أخرى سميت (القيادة المشتركة) التي فشلت منذ اليوم الأول لإعلانها، وظهرت هيئة الأركان فقضت عليها الفصائل الراديكالية التي غزت الثورة وسيطرت على معظم فصائلها، وفي هذه الأثناء كانت المعارك محتدمة على أشدها في المناطق الثائرة بين قوات الأسد والميليشيات الطائفية التي جلبها من لبنان وإيران والعراق وأفغانستان وكتائب من الجيش الحر بلا قيادة مركزية إطلاقًا، تعمل بشكل منفرد أو بالتعاون مع الكتائب أو المجموعات في الجوار وفق الظروف المحيطة بها، من دون أي تخطيط استراتيجي يستطيع من خلاله الجميع التعاون في ما بينهم في كافة المناطق الثائرة، من حيث خطط إشعال الجبهات وتهدئتها، أو من حيث استلام الدعم اللوجستي والمالي وتوزيعه بما يلبي متطلبات المعركة، وبحسب تلك الاستراتيجيات التي يفترض بها أن تخدم الهدف الإستراتيجي للجيش الحر، وبهذا عملت الفصائل التي سمت نفسها جيشًا حرًا على الوصول إلى هذا الهدف، من دون وجود أي علاقة بينها وبين قيادة الجيش الحر وهذا ما لمسته شخصيًا عندما خرجت من الغوطة الشرقية والتحقت بقيادة الجيش الحر في 30 آذار/ مارس 2012، حيث لم أجد أي شيء تنظيمي يدل على مؤسسة اسمها الجيش الحر، فلا توجد أسس لأبسط متطلبات القيادة العسكرية للقيام بواجبها العملياتي وحتى التكتيكي والإداري؛ ومنها افتقاد هذه القيادة إلى فرع الذاتية أو الموارد البشرية المسؤول عادة عن الهيكل التنظيمي لهذا الجسم، ولم يكن هناك إدارة مالية أو خطة دعم لوجستي للفصائل العاملة على الأرض، ولم يوجد آنذاك أي مقر عملياتي لقيادة الأعمال القتالية للجيش الحر، ولم يكن هناك جسم إعلامي لقيادة الحرب الإعلامية التي كان تأثيرها في كثير من الحروب والثورات يفوق تأثير العمليات القتالية على الأرض، وغير ذلك كثير من المتطلبات الضرورية لضمان نجاح تلك القيادة، وللأسف استمر هذا طويلًا، حتى فرط عقد هذه القيادة وشُكلت أجسام أخرى كالقيادة المشتركة التي لم تكن أحسن حالًا من سابقتها من حيث التخطيط الإستراتيجي والعملياتي والتكتيكي ومن حيث تنظيم الوحدات والتشكيلات التابعة لتلك القيادات في هيكل تنظيمي يُسهّل قيادتها وتأمين متطلباتها، وأعتقد جازمًا أن هذا كله كان مخططًا له ونفِّذ بدقة متناهية، كل هذا الحراك انطلق من خارج سورية أما في الداخل وعلى الأرض فكان للثوار رأي آخر وتحرك نوعي باهر على الرغم من بساطة الخطط -إن وجدت- وغياب الخبرة القتالية للقادة.

أنتج الدعم اللوجستي المحدود من الخارج انتصارات باهرة حققها أبطال الفصائل العاملة على الأرض في كل المناطق الثائرة التي لم يكن لديها قيادة مركزية وحاربت بالأسلحة الخفيفة وبعض الأسلحة المتوسطة، ومع انتهاء 2013 حققت هذه الفصائل نتائج عسكرية فاقت التوقعات، إذ حُرِّر أكثر من 70% من الجغرافية السورية(2)، فحرر ريف درعا بالكامل وجزء كبير من ريف القنيطرة وريف دمشق بالكامل بما في ذلك القلمون الغربي والشرقي باستثناء المناطق المحيطة بالمستوطنات التي أنشأها حافظ الأسد لحماية حكم أسرته، وحررت معظم أحياء مدينة حمص وضواحيها، وحُرر الريف الجنوبي والشمالي ومعظم الريف الشرقي لمدينة حمص، والريف الشمالي والشرقي والجنوبي لمدينة حماة وأيضًا معظم أحياء مدينة حلب وأريافها الجنوبية والشرقية والشمالية والغربية وسقطت مدينة الرقة ريفًا ومدينةً تحت قبضة الجيش الحر، وحررت أجزاء كبيرة من أحياء مدينة دير الزور ومعظم ريفها الشمالي والغربي والشرقي والجنوبي، والجزء الشرقي والشمال الشرقي المتمثل في جبل الأكراد وجبل التركمان في ريف مدينة اللاذقية، إضافة إلى جزء من مدينة السويداء الذي سيطرت عليه فصائل رجال الكرامة بقيادة الشيخ (وحيد البلعوس)، واستطاعت هذه الفصائل دحر قوات الأسد والميليشيات الطائفية المساندة لها على الرغم من عدم امتلاكها الأسلحة والذخيرة النوعية، والإمكانات القتالية والخطط الاستراتيجية واستبدلت بهذا كله إرادة قتال لرجال نذروا أنفسهم لتحرير بلدهم ووضعوا نصب أعينهم الانتصار بأي ثمن على الطاغية الذي نكل وقتل وارتكب كثيرًا من المجازر من دون أن يرف جفن لعين المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والدول صاحبة القرار في العالم، وبدا ذلك هدفًا متفقًا عليه لكن إرادة الأحرار كانت لهم بالمرصاد واستطاعت أن تقلب المعادلة لمصلحة الثورة وأهل سورية وشعبها الثائر، وحررت معظم الأراضي السورية خصوصًا في الأرياف والضواحي، وهذا ما أرّق أصدقاء الشعب السوري قبل أعدائه ودق ناقوس الخطر في سراديبهم ليعلنوا لاحقًا تنفيذ خططهم السرية لإعادة السيطرة على الوضع وفق سيناريو سنتحدث عنه لاحقًا.

الانكماش والتراجعات

ومع انتهاء 2013 استطاع الجيش الحر فرض سيطرته عسكريًا وأمنيًا وإداريًا على كل المناطق المحررة، وكانت هذه المرحلة الذهبية للثورة السورية، إلا أن هذه الحالة لم تستمر طويلًا فسرعان ما تمكن أصحاب الفكر السلفي الجهادي -الذين أفرج عنهم الأسد من معتقلاته في بداية الثورة-  من فرض سيطرتهم على جزء كبير من المشهد العسكري بعد تصفيتهم فصائل كثيرة من الجيش الحر، وعقدهم تحالفات في ما بينهم من خلال تشكيل ما سمي (الجبهة الإسلامية).

بدأت حينذاك التنظيمات التابعة لتنظيم القاعدة في الظهور مثل النصرة وداعش، وكان هدفها الأساسي محاربة الجيش الحر والقضاء عليه ولم يمضِ عام 2015 حتى سيطر تنظيم (داعش) على أكثر من نصف المناطق المحررة الممتدة من شمال مدينة حلب باتجاه الحدود التركية، ومن شرق مدينة حلب إلى الحدود العراقية مرورًا بمحافظة الرقة، وسيطر على البادية السورية بالكامل، وفي 29 حزيران/ يونيو 2014 أعلن التنظيم دولته المزعومة (دولة الخلافة الإسلامية)(3)، ولم يكن تنظيم النصرة الذي أصبح اسمه (هيئة تحرير الشام) أقل شأنًا من (داعش)، إذ قضى هذا التنظيم على أغلب فصائل الجيش الحر الموجودة في مدينة إدلب وريفها وريف اللاذقية وريف حماة الشمالي واستطاع أن يفرض نفسه محاورًا باسم الثورة السورية وشعبها، على الرغم من إدراجه على قوائم الإرهاب الأميركية، وهنا المفارقة التي تؤكد أن هذه التنظيمات إنما هي صناعة أجهزة المخابرات الدولية، أُسست في سورية لوأد الثورة السورية ومنع سقوط نظام الأسد وهذا ما ترجمته الوقائع على الأرض، في هذه الأثناء وبالتوازي مع تنفيذ مخطط التنظيمات الإرهابية  بدأ الأسد وجيشه فرض حصارٍ خانقٍ على المناطق المحررة، في خطة عمد فيها إلى ترهيب سكان تلك المناطق من خلال القصف المكثف على المرافق الحيوية المدنية بخاصة مثل الأسواق والمستشفيات والنقاط الطبية والأحياء المكتظة بالسكان، ومنع دخول المواد الغذائية حتى الأساسية منها كالطحين والسكر والأرز والمعدات الطبية والأدوية؛ في خطة كان هدفها تركيع الحاضنة الشعبية للجيش الحر وفرض سياسة الأمر الواقع تمهيدًا لتطبيق خطة المصالحات مع الأسد، وقد نجح الأسد وحلفاؤه في ذلك جزئيًا في بعض مناطق دمشق وريفها مثل الغوطة الجنوبية، وكانت أول عملية مصالحة بين النظام والمناطق المحررة هي التي عُقدت مع فصائل موجودة في بلدة بيت سحم الواقعة على مشارف العاصمة بالقرب من طريق مطار دمشق الدولي، وكان مهندس هذه المصالحة أحد مشايخ دمشق المحسوب على الثورة الذي تقلد منصبًا رفيعًا في مؤسسات الثورة، تبعها مناطق أخرى مثل ببيلا ومخيم التضامن والقزاز ومعضمية الشام وجديدة الفضل والنبك ودير عطية والضمير وجيرود وفي حمص حي الوعر وحمص القديمة، وحماة المدينة التي جرى الاتفاق بين الأسد وأحد التنظيمات الإسلامية النافذة في المعارضة على عدم الاقتراب منها وقصفها وبقاء أهلها في منازلهم مقابل التعاون في قضايا أخرى منها المشاركة في مؤتمرات آستانا وسوتشي، حدثت أغلب هذه المصالحات والترتيبات نتيجة تدخل بعض مشايخ دمشق وتجارها ومباركتهم بحجة حقن الدماء، وللأسف ظهر مؤخرًا أن هذه الحجة استخدمت لوضع المسمار الأول في تركيع المناطق المحررة، إلا أن الجزء الأكبر من تلك المناطق رفض المصالحات وصمد في وجه الحصار وآلة القتل والتجويع الأسدية، على الرغم من وجود الميليشيات الإيرانية الطائفية التي منعت سقوط الأسد وجيشه منذ السنين الأولى للثورة، واستمرت الأمور على ما هي عليه حتى دخول القوى الجوية الروسية في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، حين بدأت القتال إلى جانب الأسد وجيشه المتهالك، لكن ضعفها ظهر جليًا منذ أول معركة خاضتها في منطقة (كفرنبودة) في الريف الشمالي الغربي لمحافظة حماة إذ لم تستطيع القوى الجوية الروسية -على الرغم من استخدامها أحدث الطائرات والحوامات القتالية والذخائر النوعية- تحقيق أي تقدم يذكر طوال ثلاثين يومًا من القصف المركز والقتال الشرس، وانكفأ الروس لتكرار المحاولة وتحقيق شيء يحفظ ماء وجههم في مناطق أخرى لكنهم فشلوا مجددًا، وهنا بدأت تتجه روسيا نحو استراتيجية قصف المدن بمن فيها للتأثير في الحاضنة الشعبية للثورة لكنها فشلت في ذلك أيضًا، وهنا بدأ العمل الاستخباراتي يأخذ طريقه في تفكيك شيفرة الفصائل واستطاعت روسيا وحلفاؤها من الدول العربية والإقليمية التأثير في قادة بعض الفصائل، فاشترت ذمم كثيرين، منهم وضمنت الباقي بقرار سياسي من قيادة التنظيم الإسلامي المهيمن على مؤسسات الثورة وينتمون إليه، رتِّب لعقد مؤتمر آستانا -سيء الذكر- حيث عقدت أول جولة من هذا المؤتمر في 23 و24 كانون الثاني/ يناير 2017(4)، وأُعلن منذ ذلك الوقت أنه مسار عسكري داعم لمسار مؤتمر جنيف، إلا أن مجريات الأحداث التي رافقت المؤتمر منذ عقد الجولة الأولى له وحتى الجولة الخامسة عشرة لم تأتِ بنتائج إيجابية للثورة السورية، بل على العكس جرى البدء في تسليم المناطق المحررة تباعًا على الرغم من الإعلان في نهاية كل جولة من جولات آستانا عن تثبيت وقف إطلاق النار، لكن القوات الروسية وجيش الأسد لم يتقيد بهذه القرارات مرة واحد ، ومن خلال قرارات الجولة الرابعة من مؤتمر آستانا المنعقدة في 4 أيار/ مايو 2017 أصبحت المناطق المحررة مقسمة إلى أربع مناطق سميت مناطق خفض التصعيد، وأظن أن هذا المصطلح لم يدرج يومًا في قاموس المصطلحات العسكرية أو السياسية، وكانت مقسمة كما يأتي:

* محافظة إدلب وأجزاء معينة من المحافظات المجاورة (اللاذقية، حماة، وحلب).

* مناطق معينة من شمال محافظة حمص.

* الغوطة الشرقية.

* مناطق معيّنة من جنوب سورية (محافظتي درعا والقنيطرة)(5).

ومن هنا بدأ مسلسل انهيار المناطق المحررة وتسليمها  ابتداء من الريف الشمالي لمدينة حمص ومن ثم الغوطة الشرقية وتبعها تسليم مناطق درعا والقنيطرة، ورُحِّل المقاتلون والأهالي الذين لم يقبلوا بمصالحة الأسد إلى الشمال السوري ووزِّع أغلبهم في مناطق شرق الفرات وقليل منهم في محافظة إدلب وما حولها، لكن سرعان ما سُلم الريف الشمالي لمدينة حماة والريف الجنوبي لمدينة إدلب وصولًا إلى شمال الطريق الدولي (M4)، وجاء هذا كله نتيجة مقررات جولات آستانا، وبهذا السيناريو حُصر ما تبقى من الفصائل المحسوبة على الثورة في جزء من إدلب تسيطر عليه هيئة تحرير الشام (النصرة)، والجزء الآخر شرق الفرات يسيطر عليه ما يسمى (جيشًا وطنيًا) شُكل على أنقاض الجيش الحر، واستُخدم لمصالح ضيقة حزبية وإقليمية ليس لها أي علاقة بأهداف الثورة والمبادئ التي أُسس عليها الجيش الحر، فأبعد الضباط ذوو الكفاءة العالية واستبدلت بهم مجموعة من قادة الفصائل التي لا تعرف ألف باء  العلوم العسكرية أو الأمنية، وهذا أدى إلى كثير من الكوارث العسكرية والأمنية التي عصفت بأهلنا في تلك المناطق، فضلًا عن التسلط والإرهاب الذي تمارسه بعض الفصائل تارة بحجة الإسلام وتارة أخرى بحجة الفساد.     

النتائج والحلول

من خلال مسيرة الجيش الحر منذ البدايات وحتى الآن يمكن أن نلخص المراحل التي مر بها:

المرحلة الأولى: ويمكن أن نطلق عليها المرحلة الذهبية، بدأت منذ اللحظة الأولى لتشكيل أول مجموعة مسلحة وحتى مرحلة بدء تطبيق الحصار على المناطق المحررة.

المرحلة الثانية: يمكن أن نطلق عليها مرحلة تحول فصائل الجيش الحر من الفكر الوطني إلى الفكر الإسلامي من خلال الصراع البيني بين تلك الفصائل، وسيطرة الفصائل الراديكالية على المشهد العام للحراك المسلح.

المرحلة الثالثة: مرحلة صهر الجيش الحر وأدلجة الفصائل وحرفها عن هدفها الوطني الحقيقي.

ومن خلال النتيجة النهائية لمسيرة الجيش الحر يمكن أن نقرأ الحالة التي وصل إليها الكفاح المسلح بعد أن قُضِي على الكيان الذي حقق انتصارات أمام عدو شرس وحلفاء له مجرمون قتلة يملكون أعتى أنواع الأسلحة والذخائر، هذه الانتصارات التي تعجز جيوش جرارة عن تحقيقها، حيث بدا واضحًا أن المصالح الفردية والحزبية انتصرت على حساب مصالح الشعب السوري والأهداف التي خرج من أجلها وضحى بسببها بمئات آلاف الشهداء والمغيبين وملايين المشردين في أصقاع المعمورة، وحساب مصلحة الوطن السوري المكلوم بأبنائه والسائر في طريق تقطيعه إلى كانتونات إرضاءً لشهوة البعض الجامحة للسلطة ولو على حساب تمزيق النسيج الوطني للشعب السوري ووحدة أراضيه، وبهذا حُرِفت الثورة باتجاه تحقيق مصالح فئة قليلة جدًا من السوريين من خلال تماهيهم مع الأهداف التي قاتل الأسد وحلفاؤه الشعب السوري من أجلها، فعملوا بكل قوتهم على تفكيك الجيش الحر واستنساخ جيش لا هو حر ولا هو جيش، بل تنظيمات تقتات على آلام الشعب المهجر من بيوته وأراضيه، إضافة إلى نجاحه في لصق تهمة الإرهاب بالثورة السورية والشعب السوري وهذا ما كان يسعى إليه الأسد وحلفاؤه منذ بداية الثورة، وما يحدث من انتهاكات أمنية وتسلط وبغي على أهلنا المهجرين في المناطق المحررة دليل دامغ على ذلك.

في ظل هذا الواقع المؤلم على كافة الصعد لا بد من إيجاد حلول لهذه المعضلة والمأزق الذي وضعت فيه الثورة السورية، فالصمت لم يعد يجدي ولا بد من أن تتنادى النخب السورية من مثقفين وعسكريين وطنيين لوضع حد لهذه الجريمة التي لن تتوقف نتائجها على واقعنا الحالي، بل ستمتد عقودًا سيدفع ثمنها غاليًا أبناؤنا وأحفادنا والأجيال القادمة، ومن وجهة نظري الشخصية أظن أن العمل على توحيد صفوف العسكريين المنشقين والوطنيين الذين لم تتلوث أيديهم بدماء السوريين ومن ثم تلاحمهم في جسم سياسي وطني يمثل أطياف الشعب السوري بأكمله، داخل مناطق الأسد وفي مناطق المعارضة بعيدًا عن الطائفية والمذهبية والقومية والحزبية المقيتة التي عمل من خلالها الأسد وعصاباته والمعارضة وفصائلها للتلاعب بعواطف السوريين، وأوصلوا من خلالها الشعب السوري إلى هذه الحالة البائسة، فترميم البيت السوري وإعادة بنائه لا يمكن أن تحدث إلا من خلال السوريين أنفسهم وبخاصة العسكريين الوطنيين في ظل الأخطار التي تحدق ببلدنا وأخطرها التمدد الإيراني وتغلغله في مؤسسات الجيش والأمن والنسيج الاجتماعي السوري، وفي حال حدث ذلك سيسقط من يحمل مشروعه الخاص الحزبي أو الطائفي في أول امتحان أمام وحدة هذا الشعب العظيم الذي لم تتمكن حتى الآن قوى العالم وعملاؤها بيننا من ثنيه عن تحقيق مطالبه التي خرج من أجلها، فاللبنة الأولى تأتي من إيجاد قوة عسكرية وأمنية وطنية تطيح أصحاب المشروعات العابرة للحدود الذين عاثوا فسادًا وإفسادًا في الثورة وحققوا ما لم يستطع تحقيقه الأسد وعصاباته وميليشياته وحلفاؤه.

خاتمة

خلاصة القول إن ما حدث للجيش الحر هو جزء رئيسي مما حدث في مؤسسات الثورة السورية وهذا أمر طبيعي لمن أراد أن يضعف الثورة ويسيطر عليها، ومن ثم يسوقها إلى ما وصلت إليه الآن، ساهمت في ذلك أطراف عدة أهمها ما سمي الدول العربية والإقليمية والدولية الصديقة للشعب السوري التي سيطرت على القرار السياسي لمؤسسات المعارضة السورية وفي الدرجة الثانية الدول الحليفة للأسد مثل روسيا وإيران التي اخترقت الفصائل ومؤسسات الثورة واشترت ضعاف النفوس وجندتهم لخدمتها وخدمة مصالحها التي تصب في مصلحة الأسد في القضاء على الجيش الحر والثورة، وفي الدرجة الثالثة مخابرات الأسد وجيشه والميليشيات الرديفة له التي استطاعت اختراق الثورة وفصائل الجيش الحر منذ بدايتها، ودُس كثير من العملاء في صفوف هذه الفصائل والطرف الأخير والأخطر هو الطابور الخامس الذي تربع على قيادة بعض المؤسسات ووقع على قراراتها المتماهية مع تفكيك الثورة بدافع الحصول على مكاسب شخصية أو في إطار مصالح حزبية ضيقة لتحقيق مشروعات عابرة للحدود لا علاقة للشعب السوري والثورة السورية بها، وهؤلاء لم يكتفوا بذلك بل جندوا كل من هو فاسد ورخيص الثمن وعلى الأخص الضباط الذين تم تكليفهم وتسليمهم أعلى المناصب في حكومات المعارضة وكانوا سببًا رئيسيًا في تسليم المناطق المحررة كما حدث في حمص القديمة  وحلب وحماه ودرعا، ولم ينسوا أن يتبنوا الفاسدين الذين عدّوا الثورة تجارة فباعوا السلاح والذخيرة للفصائل الراديكالية في الوقت الذي كان الجيش الحر بحاجة ماسة إلى هذه الأسلحة، وتاجروا بالممنوعات وعلى رأسها المخدرات لتحقيق مكاسب مادية، وبهؤلاء وأمثالهم قضي على الجيش الحر وظهرت أجسام تشبه كل شيء لكنها لا تشبه لا الجيش ولا الحرية.

الهوامش:

    (1)     موقع قناة الجزيرة، أهم الانشقاقات إبان ثورة سوريا https://bit.ly/2OcV7qI

    موقع مركز دراسات الشرق الأوسط، تسع سنوات على الثورة السورية: كشف حساب للمواقف والنتائج https://bit.ly/2OigTZS

    موقعBBC عربي، تنظيم الدولة الإسلامية: كيف بدأ وإلى أين انتهى http://bbc.in/3qvL25f

    (4)     موقع مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، سلسلة مؤتمرات آستانا منذ بداية العام وحتى اليوم http://www.asharqalarabi.org.uk/

    موقع قناة الجزيرة، النص الكامل لاتفاق وقف التصعيد بسورية https://bit.ly/3v6iHFY

مركز حرمون

————————–

التحالفات الديمقراطية السورية .. سطور في رمال/ راتب شعبو

مع اقتراب الذكرى العاشرة للثورة السورية، يتساءل المرء عن أسباب التعثر المتكرّر لمحاولات تجميع القوى الديمقراطية السورية، بين الذاتي والموضوعي. هل المشكلة في أن السوريين لا يجيدون العمل المشترك فيما ينجحون أفراداً؟ أم أن الحدود الموضوعية (تعقد الموضوع السوري وهامشية تأثير السوريين على موضوعهم وشأنهم الخاص، بعد تحوّل سورية إلى مناطق نفوذ، وتوضع قوى سورية مسيطرة على الأرض من طبيعة متشابهة وتشكل موطئ قدم لنفوذات خارجية مباشرة.. إلخ) تثقل على المحاولات، وعلى النفوس، وتحبطها عن العمل؟

ماذا يمكن للذات السورية التي تهدف إلى تحرير الدولة السورية من قبضة سلطةٍ تستعمرها وتسخّرها لمصالحها الضيقة، كي تعود (الدولة) إلى كونها مؤسسةً عامة، وتريد تحرير سورية من سيطرة القوى الأجنبية، وتحرير الإنسان السوري من سيطرة جماعات محلية تفرض نفسها بالقوة: ماذا يمكن لهذه الذات أن تفعل في الظروف المتاحة اليوم؟ من أين تبدأ، من تثقيل حضورها السوري، كي تتمكّن من بناء علاقةٍ متوازنةٍ مع قوى خارجية من موقع غير تابع؟ ولكن هل تستطيع في الظروف القائمة أن تعزّز ثقلها السوري من دون مساندة ودعم من قوى خارجية؟ أم تبدأ ببناء علاقة مع قوى خارجية، بحيث تستثمر هذه العلاقة بتثقيل حضورها السوري؟ ولكن هل تستطيع أن تحافظ على استقلالها ونزاهتها في علاقتها مع الخارج، فيما هي لا تملك ثقلاً سورياً؟ أليس هذا حال الهيئات الرسمية للمعارضة السورية التي تشكل تبعيتها المبرّر العام لسعي الديموقراطيين السوريين للبحث عن بديل؟

يشكّل ما سبق خلفية التعثر المتكرّر للمحاولات التنظيمية السياسية للديموقراطيين السوريين في الخارج. ومن النماذج التي يمكن عرضها عن هذه الحال تجربة اللقاء السوري الديموقراطي، وهو إحدى المحاولات المشار إليها.

التقى في يوليو/ تموز 2018 في باريس ممثلو 24 مجموعة سياسية ومدنية سورية، بمبادرة من “حركة ضمير” غير السياسية، والتي تحرّكت بدافع “ضميري” سياسي، لتفعيل عمل مشترك بين مجموعاتٍ لا يوجد ما يبرّر تناثرها وتباعدها، وربما جهلها بعضها بعضاً. لدينا ما يدفعنا إلى الاعتقاد أن كون حركة ضمير غير سياسية، فضلاً عن القيمة المعنوية لأفرادها وجهدهم في التواصل والتنسيق مع المجموعات، كان من أهم أسباب نجاحها في لمّ شمل هذه المجموعات التي كان يمكن أن تتردّد، باعتقادنا، لو جاءت الدعوة من طرف سياسي قد تبدو دعوته في عيون بعضهم مسعى للبروز وتحقيق القيمة التي يستجرها بشكل تلقائي مجرّد السعي إلى جمع إرادة السوريين.

على أي حال، رأت القوى المجتمعة أن التشكيلات المعارضة السورية المعترف بها دولياً واقعة تحت تأثير الدول التي تحتضنها، وغير مستقلة في قرارها، ولا يمكنها بالتالي أن تمثل الشعب السوري في سعيه إلى التحرّر. على هذا، تم الاتفاق على تشكيل جسم تحالفي مستقل في قراره وفي تمويله (تمويل ذاتي)، يسعى إلى ملء ما اعتبروه فراغاً أو شبه فراغ للمكان الديموقراطي في اللوحة السورية التي سيطر عليها النظام من جهة والقوى الإسلامية والكردية غير الديموقراطية من جهة ثانية. وعلى تفاوت حجمها وثقلها وتاريخها، كان لدى هذه المجموعات ما يكفي من التقاطعات، ومن الحماس للعمل المشترك، وعبر بعضها عما يتجاوز العمل المشترك إلى أفق الاندماج، أو حتى الاندماج المباشر، سيما أن التباين السياسي بينها ليس كبيراً، ولا يتعدّى ما يمكن وجوده بين أعضاء الجماعة الواحدة.

سمّت المجموعات لقاءها الأول “اللقاء التشاوري” بما يدلّ على طبيعته بوصفه محطّة للتشاور والتفكير في العلاقة التي يمكن صياغتها فيما بينها، وبما يمكن التوافق عليه، وما يمكن عمله.. إلخ. بعد سنة ونصف من هذا، وبعد وضع ورقةٍ سياسيةٍ مشتركة ونظام داخلي (استغرق وضعها كثيراً من العمل والاجتماعات، وقد وقع العبء الأساسي على كاهل بضعة أفراد تجاوزوا الجميع في جهدهم ومثابرتهم وحرصهم على نجاح اللقاء)، نجحت هذه القوى بعقد مؤتمرها الأول في باريس أيضاً، في يناير/ كانون الثاني 2020. خلال هذه الفترة، انسحبت بضع قوى، منها من انقطع عن التواصل من دون سبب واضح، ومنها من اعترض على الورقة السياسية، وهذا شمل، بوجه خاص، القوى الكردية التي كانت مشاركةً في اللقاء التشاوري، فوصل اللقاء إلى مؤتمره الأول، ناقصاً في عدد القوى، وخالياً من أي قوةٍ كردية.

انتخب المؤتمر هيئة تنفيذية، وسرعان ما برزت أمامه مشكلةٌ لم تكن في الحسبان، وهي أن الهيئة التنفيذية اختارت لموقع منسق اللقاء شخصية نشيطة، ولكن لها مشاركة في اللجنة الدستورية، وفي مبادرة سورية الاتحادية التي كان لها حضور في ذلك الوقت، وهما محط خلاف بين القوى المعارضة. رأت القوى المتحالفة أن هذا الاختيار سوف يعطي للقاء هوية محدّدة، لا تعكس هويته، على اعتبار أن هوية الشخص الأول في أي تشكيلٍ تؤخذ على أنها هوية التشكيل.

حين حاولت القوى معالجة الأمر في اجتماع استثنائي وافق فيه الجميع (ما عدا المكوّن الذي تنتمي إليه الشخصية المشار إليها) على استبعاد هذه الشخصية من الموقع الأول في اللقاء، انسحبت الشخصية ومكونها من اللقاء، فاستكملت الهيئة التنفيذية، واختير شخصٌ آخر ذو خبرة ليكون منسق اللقاء. بعد أسابيع قليلة، استقال هذا الشخص فجأة من دون أن يوضح السبب، ثم انسحبت الجماعة التي ينتمي إليها من اللقاء. ليتبيّن لاحقاً أن السبب هو خلاف شخصي مع أحد أعضاء الهيئة التنفيذية. بعد ذلك، أُعيد انتخاب هيئة تنفيذية جديدة بمنسّق جديد، تولت العمل حتى المؤتمر الثاني الذي عقد في 24 فبراير/ شباط 2021.

يمكن عزو التعثر المذكور إلى أن اللقاءات تحتاج إلى بعض الوقت كي تستقر. ولكن السنة الفاصلة بين المؤتمرين تميّزت بضعف النشاط والحماس، وكانت كافيةً لأن يصبح عدد القوى المشاركة عشرة فقط، ولأن تفكّ القوى في المؤتمر الثاني تحالفها، وتتحوّل إلى منصّة أو ملتقى للنقاش وتبادل الرأي، وربما الاتفاق على بيان أو حملة مناصرة أو ما شابه، من دون قيادة ومن دون التزام متبادل.

نموذج عن محاولةٍ استهلكت الوقت والمال والجهود، وانتهت من دون أن تترك أثراً في الموضوع الذي تصدّت له، كأنها خطّت سطراً في رمال. يبقى ما يلفت النظر أن القوى التي شاركت في هذا التحالف تستمر في نشاطها، وكانت غالبيتها، طوال الوقت، أكثر حضوراً من اللقاء السوري الديموقراطي نفسه. كما لو أنه كلما اتجهنا صوب الفردية، كان الأداء أفضل.

العربي الجديد

—————————

4 كتاب روس ل”المدن”:سوريا مسلسل لا ينتهي/ بسام مقداد

عشية السنوية الحادية عشرة للأزمة السورية ، تواصلت “المدن” مع عدد من الكتاب الروس المتابعين لشؤون سوريا والمنطقة ، وطرحت عليهم ثلاثة أسئلة : كيف ترى تطور الأزمة السورية ؛ ما رأيك بالإنتخابات الرئاسية القادمة في سوريا ؛ ما هو مستقبل مشاركة روسيا في الحرب السورية . وحرصت “المدن” على تنوع الأراء بشأن سوريا ، وتنوع الاهتمامات المهنية للكتاب ، بين المؤرخ ونائب رئيس حزب “الحرية الشعبية” الليبرالي (بارناس) المعارض أندريه زوبوف ، ومدير قسم الأبحاث في مركز “حوار الحضارات” ألكسي مالاشنكو ، والمعلق في وكالة نوفوستي الرسمية بيتر أكوبوف ، الذي كان إلى وقت غير بعيد نائب رئيس تحرير صحيفة الكرملين “”vz (الرأي Vizglyad) ، والمعلق في صحيفة “NG” شبه المحايدة (الصحيفة المستقلة Nezavisimaya Gazeta) إيغور سوبوتين ، الذي سبق للسفير السوري في موسكو رياض حداد أن إعترض على أكثر من مقالة له وعلى صحيفته ، بما فيها تلك ، التي إستشهد فيها سوبوتين ب “المدن” وبموقع إعلامي آخر .

المؤرخ أندريه زوبوف ، الذي كانت له غير إطلالة في”المدن” ، لم يأتي على ذكر الإنتخابات الرئاسية في سوريا ، لكنه تحدث في نصه عن روسيا الأخرى ، روسيا ما بعد بوتين ، التي تقف إلى جانب الشعب السوري وتدين له بالإعتذار عن ما إرتكبته سلطة بوتين بحقه . ولذا عنون نصه بالقول “روسيا في النضال من أجل حرية شعب سوريا” ، وقال ، بأنه استبشر خيراً بإنطلاقة الربيع العربي خاصة في سوريا ، حيث “بدا واعداً للغاية الطموح للتحرر من النظام الأسدي الإستبدادي” .

يقول المؤرخ ، أن المساعدة الروسية”الهائلة لنظام الأسد وإيران” ، هي التي حولت مجرى الحرب وجعلت الأسد ينتصر ويستعيد معظم سوريا . لكن ثمن هذا الإنتصار “كان فظيعاً”وموت مئات آلاف السوريين ، وتهجير الملايين ، والتدمير الكامل لبلد كان غنياً يوماً من الأيام ، “يرزح ، إلى حد كبير، على ضمير بوتين وروسيا ، التي يعمل نيابة عنها” . 

يؤكد زوبوف ، أن المعارضة الروسية “لنظام بوتين” ، بما فيها حزبه بارناس، لم تتوقف عن إدانة التدخل الروسي في الحرب السورية منذ البداية . ويقول ، بأن حزبه يطالب بالإنسحاب الكامل للقوات الروسية ، بما فيها التشكيلات العسكرية الخاصة ، من سوريا وإخلاء القواعد العسكرية .  ويعتقد ، أن على روسيا (بعد بوتين)مع الدول الديموقراطية الأخرى ، أن تضمن ، بالوسائل الدبلوماسية ، إستعادة السلام والأمن للشعب السوري . ويرى ، أنه إذا كان من الضروري لهذه الغاية تشكيل وحدة عسكرية لحفظ السلام من الأمم المتحدة وأوروبا ، فلن تشارك فيها روسيا “لأسباب أخلاقية”، وعليها توفير “ما أمكنها من موارد” لإستعادة الإقتصاد الوطني السوري بعد الحرب .

يرى المؤرخ ، أن المسؤولين عن إرتكاب حرائم في سوريا ، بما فيها الجرائم العسكرية ، يجب أن يمثلوا أمام المحاكم الروسية ، إذا كانوا مواطنين روس . بل يجب تقديم المواطنين الروس المشتبه في ارتكابهم جرائم ضد المواطنين السوريين إلى المحاكم الدولية ، إذا ما طلبت ذلك الحكومة الديموقراطية الجديدة في “الجمهورية السورية”.

ألكسي مالاشنكو مدير قسم الأبحاث في المركز المذكور والعضو السابق في مجلس خبراء نوفوستي ، والذي كانت له أكثر من إطلالة أيضاً في “المدن” ، قال في إتصال هاتفي معه ، بأن الصراع  في سوريا سيستمر ، ولا يتصور كيف يمكن أن يجد حلاً له، “لأن البلد مجزأ ومنقسم على نفسه سياسياً وإجتماعياً ودينيا”ً ، ولا يعتقد أن سوريا ستتوحد ، “سواء جرت إنتخابات رئاسية أم لم تجر” . ويعتبر ، أن الصراع السوري هو الصراع الثاني في الشرق الأوسط بعد الصراع العربي الإسرائيلي المستمر منذ العام 1947 ، وذلك لتأثير الوضع في سوريا على المنطقة .  ويقول ، بان البلد ، الذي شهد حرباً أهلية مستمرة منذ عشر سنوات ، من الصعب إيجاد حل لأزمته “يناسب جميع الأطراف” . ثمة آمال معقودة على الإنتخابات التي ستجري، لكنه يتساءل مشككاً بمشاركة الأسد فيها ، لكن إن شارك فيها  واستخدم موارد الدولة وانتصر ، كما في روسيا وبيلوروسيا ، “فسوف تبقى جميع التناقضات موجودة” .

أما كيف سيتطور الوضع بعد ذلك ، فهو لا يعرف ، “ولا أحد يعرف” ، برأيه . والمطلوب توفر “توافق ما على هيئة إنتقالية ما لقيادة البلاد” تضم مختلف القوى السياسية السورية، وهذا ما لايمكن تصوره ، و”تلك هي مأساة سوريا” . ووضع سوريا ، برأيه ، لن يكون أفضل من دون بشار، وإن كان سيئاً بوجوده . وإضافة إلى إستعصاء مسألة قيادة سوريا ، يتطرق مالاشنكو إلى قضية ملايين السوريين النازحين والمهجرين ، الذين لا بد من توفير إمكانية عودتهم إلى حيث غادروا ، وتلك مسألة في غاية الصعوبة على ما يعرفه من تاريخ الحرب الأهلية الروسية .

تتواجد في سوريا روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران وسواها ، ولكل دولة مصلحتها الخاصة بالبقاء في سوريا . لكن بالنسبة لروسيا ، فإن وجود بشار الأسد هو “المسألة الرئيسية الأهم” ، لأن وجوده يعني وجود روسيا في سوريا ، ووجودها في سوريا يعني وجودها في الشرق الأوسط ، وبالتالي وجودها كدولة عظمى . لكنه يرى ، بأنه من الخطورة بمكان ، أن تتمحور السياسة في بلد أو منطقة ما حول شخص واحد ، وذكّر بالإتحاد السوفياتي ورهانه في مصر والمنطقة على عبد الناصر وحده ، و”كيف إنهار كل ما قدمه السوفيات في لحظة” . ويؤكد بأن روسيا في كل الأحوال لن تفقد سوريا تحت اي ظرف من الظروف ، لأن ذلك سوف يعني ضربة للسياسة الروسية في الشرق الأوسط ، وضربة قاتلة للهيبة الروسية ولبوتين شخصياً ، لأن سوريا هي رمز نفوذ روسيا ، إن فقدتها لن تبقى دولة عظمى.

ويتساءل مالاشنكو ماذا سيحل بحرس الثورة الإيراني في سوريا إذا ترك بشار الأسد السلطة ، وسقوطه هو ضربة لإيران , و”للتوجه الروسي في السياسة الإيرانية” ، ويعتبر إيران “دولة ضعيفة” لا تستطيع إمساك الوضع في سوريا دون روسيا .

بيتر أكوبوف المعلق في وكالة نوفوستي يقول في النص ، الذي أرسله ، بأن الوضع في سوريا ، على الرغم من أنه يبدو معلقاً ، إلا أن “آفاق تحسنه لا تزال متوفرة” ، وبالتأكيد ليس من آفاق لتجدد حرب واسعة النطاق ، وذلك لوجود “سلطة قوبة موحدة” .

ويرى ، أن الإنتخابات الرئاسية في هذه السنة لن تؤدي إلى إعتراف المعارضة بشرعية الأسد ، لكنها سوف تؤكد ما أصبح مؤكداً منذ زمن بعيد ، بأن الأسد سوف يبقى في مكانه ، وسيواصل (بمساعدة إيران وروسيا) إستعادة السيطرة تدريجياً على البلاد ، ويمسك بالبلاد نفسها.

ويؤكد أكوبوف ، أن الغرب وبلدان الخليج ، سوف تتوقف عن وضع شروط غير قابلة للتنفيذ من أجل تمويل إعادة البناء . ويرى ، أن تقارب روسيا والسعودية والإمارات قادر أيضاً على المساعدة في فك الحصار المالي عن برامج إعادة إعمار سوريا.

ويرى ، أن آفاق إتفاق سلام مع المعارضة “تبدو بعيدة” ، إلا أن تأثير المعارضة على الوضع في سوريا سوف يستمر في الإنخفاض ، وروسيا وإيران لن تتخليا عن دعم الأسد تحت أي ظرف من الظروف.

ويقول ، بأن ما سيساعد سوريا بصورة غير مباشرة ، “هو تدهور الوضع في لبنان ، الذي يهدد بالإنهيار الكامل للبنى الوطنية اللبنانية” . لكنه يؤكد ، بأن إعادة إعمار سوريا سوف تكون عبر المصارف اللبنانية إذا ما وجد المجتمع الدولي نفسه ملزماً بإيلاء لبنان إهتماماً جدياً ، وحينها ستنطلق أخيراً عملية التمويل الخارجي لإعادة الإعمار السورية .

ويؤكد أكوبوف ، أن روسيا لم تلعب بعد “الورقة السورية”، وهي تسعي في سوريا لتحقيق أهداف  إستراتيجية ، وليس فقط على مستوى سوريا ، وحتى ليس فقط على مستوى الشرق الأوسط ، وهي “لن تخرج من سوريا إلى اي مكان” .

إيغور سوبوتين يرى ، أن  الإنتخابات الرئاسية في سوريا هذه السنة ، قد تكون مناسبة تستفيد منها دمشق للإعلان ، على خلفية نتائجها المشكوك فيها ، عن حل المشكلات ، التي أدت إلى إندلاع الحرب الأهلية ، ولا ينتظر منهاً جديداً ، “غير محاولة أخرى لتزيين عوارض الأزمة” . ويقول ، بأن المؤشر على الوضع الراهن في سوريا ، يبقى الوضع في المحافظات الجنوبية ، الذي يشير ، ليس فقط إلى إستمرار وجود إمكانات جدية للإستياء الشعبي ، بل وإلى عجز النظام البعثي الإلتزام بالإلتزامات ، التي تعهد بها .

ويقول ، بأن روسيا تدرك الطبيعة الإشكالية لشخصية الأسد ، إلا أنها ليست مستعدة للعمل جذرياً ضده . كما أنها لا تستطيع أيضاً العمل جذرياً ضد شريكها التكتيكي طهران ، “التي ضربت جذوراً في الكثير من مجالات الحياة السورية” . ويرى ، أن محفز التغيير الوحيد ، قد يكون تنامي الصراعات داخل النخبة السورية ، التي تثبت  ، أن قدرة الأسد على تقديم شيئ ما مقابل الولاء له ، أخذت تتراجع . وربما سيؤدي هذا ، جزئياً ، إلى تشجيع منتقديه . ومع ذلك ، لا يستحق الأمر المراهنة على النهاية الوشيكة لمستقبل الأسد السياسي. فهذا مسلسل بعدد لانهائي من المواسم .

المدن

—————————-

لوموند: بعد عشر سنوات.. بشار الأسد “ملك الخراب” لا يحكم إلا عبر الخضوع والدمار/ آدم جابر

“بلد مجزأ واقتصاد ممزق ونظام محظور: رئيس النظام السوري لا يحكم إلا من خلال الخضوع والدمار”، هكذا كتبت صحيفة لوموند في تقرير لها نشرته اليوم، تحت عنوان: “بعد عشر سنوات من الحرب.. بشار الأسد ملك الخراب”.

وأوضحت الصحيفة أنه بعد عشر سنوات من الانتفاضة الشعبية ضد النظام السوري، التي تحولت إلى حرب أهلية كارثية، ما يزال بشار في مكانه، لكنه يحكم على بساط من الخراب والأنقاض. توقف القتال عمليا، وبقي النظام على قيد الحياة، لكن سوريا انهارت. سكانها ووطنهم في حالة يرثى لها. لم يعد الشعار “الأسد أو نحرق البلد”، بل أصبح “الأسد والدولة المتفحمة”، الخضوع والتدمير.

بحلول نهاية الربيع، من المرجح أن يكون الرجل قد فاز بولاية رابعة مدتها سبع سنوات. ولم يعرف بعد جدول الانتخابات ولا هوية المرشحين. لكن لا يوجد مراقب يرى أن بشار الأسد يتنازل من تلقاء نفسه عن هذا الاستفتاء المعروفة نتيجته سلفا. فكل شيء يتلاقى مع إعادة انتخاب هذا المنبوذ الملطخة يديه بالدماء، الذي كان موعودا قبل بضع سنوات، بمصير كارثي: المنفى أو الزنزانة أو القبر.

وتنقل لوموند عن دبلوماسي أجنبي يزور دمشق بانتظام، قوله: “النظام السوري يشعر بالانتصار لأنه يعتقد أن الجزء الأصعب أصبح وراءه. فبين عامي 2012 و2014، بدا الأمر كما لو أن ثلثي الكرة الأرضية كانت ضده. وسيطرت الجماعات المسلحة على معظم الأراضي وبدا أنها على وشك الدخول إلى العاصمة دمشق. كنا نظن أن الأمر قد انتهى”.

وبعد ذلك، مثل الدومينو، سقطت المناطق التي سيطر عليها الثوار واحدة تلو الأخرى. القصير عام 2013، وحمص عام 2014، وحلب وداريا عام 2016، ودوما ودرعا عام 2018. ودفعت الميليشيات الشيعية المتمردين إلى الاستسلام. أصبحت “سوريا المفيدة” – العمود الفقري للبلاد على طول محور دمشق وحلب – تحت سيطرة الموالين للأسد مرة أخرى، تضيف “لوموند”.

وقد دفع الدمار الذي زرعه القصف الروسي والمجاعة الناتجة عن حصار الجيش النظامي وضرب وحدات النخبة المدعومة من الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، دفع المتمردين إلى الاستسلام، تشير الصحيفة.

لكن الاستعادة لم تكتمل، إذ ما يزال جيب إدلب في الشمال الغربي يخضع لسيطرة جماعة تحرير الشام الإسلامية المتطرفة التي تحظى بدعم تركي. وما تزال السهوب الشمالية الشرقية تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وهي ميليشيا يهيمن عليها الأكراد، وتحميها وحدة من بضع مئات من الجنود الأمريكيين. وفي البادية، الصحراء الشاسعة التي تمتد من ضواحي دمشق إلى وادي الفرات، ما تزال خلايا تنظيم الدولة الإسلامية منتشرة. وفي درعا، في الطرف الجنوبي من سوريا، لا يمر أسبوع دون أن تتم مهاجمة نقطة تفتيش، توضح “لوموند” دائما.

غيره أنه، بموازاة سحق الثوار، تم سحق البلاد، حيث سقط ما بين 300 ألف و500 ألف قتيل، وأصبح هناك 1,5 مليون من المعاقين، و5.6 مليون من اللاجئين، و6.2 مليون نازح. وتم تدمير أو إتلاف ثلث مخزون المباني. وفقا لتقرير صادر في أيار / مايو 2020 عن المركز السوري لأبحاث السياسات، وهو شركة أبحاث مستقلة، فإن خسائر الحرب التراكمية تصل إلى 530 مليار دولار. وبحسب المصدر ذاته، خسرت الدولة ثلثي ناتجها المحلي الإجمالي، حيث انخفض من 60 مليار دولار في عام 2010 إلى 21 مليار دولار في عام 2019.

الهوة الاقتصادية

وبصرف النظر عن إعادة تأهيل الطرق الرئيسية وترميم جزء من أسواق حلب بتمويل من مؤسسة الآغا خان، فقد توقفت عمليه إعادة البناء، والسبب وجيه: خزائن الدولة فارغة.

وعليه، فإن البلاد تغرق في الهاوية. فجائحة كوفيد -19 وإفلاس القطاع المصرفي اللبناني ودخول ”قانون قيصر” الأمريكي حيز التنفيذ، خنقوا المزيد من الإنتاج والتجارة. والخوف من القانون الأمريكي يعرض السكان لحصار اقتصادي بحكم الأمر الواقع.

ونتيجة لذلك، تسارع انهيار الليرة السورية وارتفعت أسعار السلع، مما اضطر الحكومة إلى خفض الدعم عن الخبز والوقود والغاز. وتمتد الطوابير أمام المخابز ومحطات الوقود لمئات الأمتار، وأحيانا أميال، مما يثير التذمر المتزايد، بما في ذلك داخل المجتمع العلوي، الأقلية التي تنحدر منها عشيرة الأسد، القاعدة التقليدية للنظام.

 في هذا السياق، تحرص الحكومة على عدم ادعاء النصر، حيث يدرك بشار الأسد جيدا أن ثماره مريرة بشكل خاص. كما أنه يمتنع عن البحث عن سبل للرد على الأزمة التي ينسبها بالكامل إلى “الحرب الاقتصادية” التي قيل إن الغرب شنها ضده بعد خسارته المعركة عسكريا على الأرض.

في الوقت الحالي، يبدو الطوق الدبلوماسي المناهض للأسد قويا. والمعاناة الاجتماعية لا تهم في الدول البوليسية. في الواقع، في سوريا، تساعد الدولارات التي يرسلها اللاجئون إلى عائلاتهم في التخفيف من تأثير الأزمة. في الثمانينيات، واجه حافظ الأسد مقاطعة وعقوبات من الولايات المتحدة، حتى التقى بيل كلينتون، باسل ققدو، المستشار السابق في حكومة دمشق.

لكن ثمة عقبة تقف في طريق ابنه بشار الأسد: نشاط المنظمات غير الحكومية السورية والدولية، وتعبئتها ضد جرائم النظام. في أيام الأسد الوالد، لم يكن هناك دليل على القمع. اليوم، المدافعون عن حقوق الإنسان غارقون في التوثيق. مقاطع فيديو وصور وشهادات ورسائل رسمية… أدى هذا العمل الجماعي غير المسبوق، في نهاية شهر فبراير/شباط، إلى إدانة عميل سابق للمخابرات بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، من خلال محكمة ألمانية، وهو أول حكم من نوعه منذ بداية الحرب الأهلية.

 إذا استمر هذا الضغط، فستكون إعادة تأهيل بشار الأسد صعبة للغاية. ولكن إذا ضعفت اليقظة، فإن كل السيناريوهات ممكنة. فالنظام يراهن على النسيان والاستخفاف والتشاؤم. خصومه يطالبون بالعدالة. وبين المعسكرين، السباق مستمر.

 القدس العربي

 ———————

روسيا تتمسك برواية الأسد للثورة السورية غداة جولة لافروف الخليجية/ سامر إلياس

قبل أيام من الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع الثورة السورية، أعادت وزارة الخارجية الروسية تمسكها برواية النظام السوري حول “التدخل الأجنبي والتصدي للإرهاب الدولي”، ونددت بمحاولات “خنق النظام اقتصادياً”، مجددة مطالبتها بتقديم المساعدات الاقتصادية من دون ربطها بالتسوية.

وفي حين عقد مجلس الأمن الروسي، بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، اجتماعاً لمناقشة الأوضاع في الشرق الأوسط غداة جولة وزير الخارجية سيرغي لافروف الخليجية، وقبل أيام من زيارة مقررة لوزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي إلى موسكو في 17 من الشهر الحالي، أكد أكاديمي بارز مقرب من الكرملين والخارجية أن روسيا سوف تعترف بنتائج الانتخابات في سورية في حال نظمت هذا العام، معربا عن ثقته بأنها ستنظم وفقاً للدستور القديم.

وقالت الخارجية الروسية، في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني، اليوم الجمعة، إن “الاضطرابات الجماهيرية تحولت بسرعة بسبب التدخل الخارجي إلى نزاع مسلح، برزت فيه التشكيلات العسكرية غير الشرعية”، معتبرة أن سورية “تعرضت لاعتداء غير مسبوق من قبل الإرهاب الدولي”.

وأضافت: “بفضل المساهمة الروسية الحاسمة تمت هزيمة تنظيم (داعش)، وتوجيه أضرار لا يمكن إصلاحها لبنية تنظيمات الإرهاب الدولي الأخرى”.

وأشادت بتعاون روسيا مع تركيا وإيران ضمن صيغة مسار أستانة، وقالت إنه نتيجة للجهود المشتركة للدول الثلاث “يسود وقف ثابت لإطلاق النار”. لكن البيان أشار إلى استمرار وجود “بؤر توتر منفصلة في إدلب، حيث يحتلها إرهابيو جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام)، والعصابات المتحالفة معها، وكذلك في مناطق الوجود غير الشرعي للولايات المتحدة في شرق الفرات والتنف”.

ومع إشارة الخارجية إلى أن روسيا خاضت حرباً “لا هوادة فيها” مع “الإرهاب الدولي بجميع أشكاله، وقدمت مساعدات عسكرية من أجل تدميره على الأراضي السورية”، شددت على أن موسكو “تنطلق من ضرورة التوصل إلى حل سياسي لتسوية الصراع الداخلي”، وأعربت عن قناعتها بأن الحل لن يكون عسكرياً، مشيرة إلى أن “الحل يجب أن يكون سورياً على أساس القرار 2254”.

وأكدت أنها تتواصل مع المعارضة والنظام من أجل الدفع بمسار اللجنة الدستورية في جنيف المبثق عن مؤتمر سوتشي في 2018. وأعادت التشديد على “رفض وضع أي سقوف زمنية لعمل اللجنة، ورفض أي إملاءات خارجية على جدول عملها”.

ورأت الخارجية الروسية، في بيانها، أن “العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين تعد إحدى أهم الخطوات في إطار استعادة الوحدة الوطنية”، وطالبت بـ”مشاركة نشطة من كل المجتمع الدولي من أجل توفير شروط حياة لائقة لملايين السوريين الذي يعانون في الخارج”.

وأعربت عن أسفها لأن “المؤشرات الإيجابية في سورية لا تسعد الجميع”، مشيرة إلى أنه “بعد فشل محاولات الأطراف المعادية لسورية في إسقاط الحكومة الشرعية لعدة سنوات عبر القوة باستخدام قطاع الطرق والإرهابيين، تحوّلت إلى طرق الخنق الاقتصادي والمالي باستخدام العقوبات والتقييدات الأحادية، وسد الطريق أمام تقديم المساعدات الخارجية، ووضع عقبات أمام عودة اللاجئين والنازحين الداخليين”، محذرة من أن “الدعم الانتقائي الذي تقدمه البلدان الغربية لعملائها في سورية يمكن أن تتسبب فقط في زيادة حدة الانقسام في المجتمع السوري، وتشجع المزاج الانفصالي في المناطق التي يسيطرون عليها والمعزولة بشكل اصطناعي”.

وانتقدت الخارجية الروسية “ازدواجية المعايير” من قبل من “شارك مباشرة في إشعال النار في سورية، ومن يتحملون المسؤولية عن المأساة المستمرة عبر دعم الإرهابيين والمناوئين للحكومة السورية”، وجعل سورية “رهينة لمصالحهم الجيوسياسية الضيقة”.

وانتقدت “مقاربات أولئك الذين يطرحون مطالب سياسية من أجل تقديم المساعدة الإنسانية للسوريين بطريقة غير إنسانية وغير بناءة، خصوصاً في ظل جائحة فيروس كورونا”، ورأت أن “السوريين يعاقبون عمليا لعدم رغبتهم في العيش وفق الأنماط المفروضة عليهم من الخارج”. ودعت في نهاية بيانها “كل من هو مهتم حقا بالتوصل إلى تسوية سريعة للأزمة في سورية إلى التخلي عن المقاربات المسيسة والقيام بدور فعال في تقديم المساعدة الدولية للشعب السوري ، خصوصاً في حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الحادة والتحديات الإنسانية”.

وغداة انتهاء جولة خارجية لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ذكر الكرملين أن بوتين بحث مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الروسي تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، وأكد، في بداية الجلسة، أهمية المنطقة بالنسبة للمصالح الروسية، وكشف عن أن الاجتماع سيتضمن تقريرين، الأول لرئيس الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين، والثاني لوزير الدفاع سيرغي شويغو.

وأعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في إحاطة إعلامية، أن وزير خارجية دولة الاحتلال الإسرائيلي غابي أشكنازي سيزور موسكو في السابع عشر من مارس/آذار، ويعقد جلسة مباحثات مع لافروف.

وأوضحت زاخاروفا أن الاجتماع سيتضمن “تبادلا لوجهات النظر حول القضايا الدولية والإقليمية، مع التركيز على أوضاع التسوية في الشرق الأوسط”.

اللقاء الثلاثي في الدوحة

وفي ظل الجدل حول الانتخابات الرئاسية في سورية، أكد فيتالي ناعومكين، رئيس معهد الدراسات الشرقية في أكاديمية العلوم الروسية، والخبير المقرب من الكرملين والخارجية، أن “روسيا سوف تدعم إجراء الانتخابات الرئاسية في سورية وتعترف بشرعيتها”، معربا عن ثقته بأن “الأسد سوف يفوز في حال تنظيم الانتخابات، وأنه لا توجد معارضة حقيقية قادرة على منافسته”.

وقال ناعومكين، لوكالة “نوفوستي”، على هامش مؤتمر لجامعة موسكو للعلاقات الدولية، إن “الأسد سيفوز بطبيعة الحال، وسيحصل على فترة لمدة 7 سنوات”، مرجحا تنظيم الانتخابات في الموعد الذي حدده النظام في مايو/أيار المقبل، لكنه زاد بأنه من “الصعب تحديد ما سيحدث خلال هذه السنوات السبع، وما إذا كان سيغير شيئا بطريقة ما، أو سيجري إصلاحات سياسية في البلاد”.

وأعرب ناعومكين عن اعتقاده بأن الأميركيين لن يعترفوا بنتائج الانتخابات، لكنهم لن يغلقوا باب الحوار مع الأسد. ورأى أن “الأسد لا يمكنه إلغاء الانتخابات أو تأجيلها، لأن العديد من الفاعلين الإقليميين والعالميين ينكرون شرعيته، وإذا لم تكن هناك انتخابات سيفقد شرعيته رسميا”.

وفي تبرير لموقف بلاده الداعم للأسد في حال تنظيم الانتخابات، قال ناعومكين إنه “لا يوجد شيء نستطيع عمله، وإلا ستفقد سورية شرعيتها، وستكون بلا سلطة”.

واستبعد الخبير الروسي حصول تقدم كبير يؤدي إلى الانتهاء من صياغة الدستور الجديد قبل الانتخابات المقبلة، ما يعني أن الانتخابات ستنظم وفقا للدستور القديم الذي أقر في 2012.

العربي الجديد

————————-

دردشة على ضفاف ثورتي لبنان وسوريا/ فارس خشّان

لا “ثورة 14 آذار” اللبنانية كانت خطأ تاريخياً، على الرغم من أنّ أحداً لن يحتفل بها مع حلول ذكراها السنوية السادسة عشرة، بأكثر من تغريدة “رفع عتب”، ولا “الثورة السورية” التي تطوي عقدها الأوّل، على نقاشات يحتكرها حدّا طغيان بشّار الأسد، من جهة والإرهاب الراديكالي، من جهة أخرى.

إنّ الاعتقاد بصحّة هاتين الثورتين، لا يعني أنّهما لم تُحبَطا في تحقيق الأهداف المباشرة التي كانت مرجوّة منهما، فلا اللبنانيون الذين جمعتهم المصائب، في ضوء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولا السوريون الذين مزّقوا صمتهم، في ضوء جريمة تعذيب أطفال درعا، كانوا يتوقعون أن يوصل هذا الشغف بالسلطة، من جهة وهذا الانهيار القيمي في المجتمع الدولي، من جهة أخرى دولتيهما الى الكارثة التي تعانيان منها حالياً.

لماذا الاعتقاد بصحة هاتين الثورتين؟

ببساطة، لأنّ الواقع الذي انتفض عليه هذان الشعبان، كان واقعاً إجرامياً. اللبنانيون يعرفون ماذا عانى السوريون، والسوريون يدركون ماذا عانى اللبنانيون.

باسم الاستقرار فرضوا القتل، باسم محاربة العدو هتكوا الكرامات، باسم رفاهية الشعب سلّطوا العصابات، باسم الدفاع عن الاعتدال مارسوا تجارة الإرهاب، وباسم حماية المجتمع سرقوا الجميع، وباسم المقاومة…قاولوا.

كان السكوت على هذا الواقع الجهنّمي هو الخطأ الكبير، ولم يكن ثمّة حل متاح سوى الثورة.

إنّ الثورة لا تصنعها الحسابات الدقيقة، ولا مناقشة الجدوى، ولا الاهتمام بموازين القوة. الثورة يصنعها الغضب، فهي مثلها مثل الصراخ الذي لا يبدأ، إلّا عندما يتجاوز الألم حدود التحمّل.

والضحايا الذين يسقطون، في الثورة ليسوا، بالنتيجة، سوى تجميع، في فترة زمنية بسيطة، لجميع هؤلاء الذين كان الطغيان سيقتلهم، في مدى زمني أوسع.

والكوارث التي تنتج عنها، لا يتحمّلها من انتفض مطالباً بحقوقه وبكرامته وبرفاهيته، بل هؤلاء الذين بدل أن يقروا بما فعلوه ضد الشعب، يعمدون الى القمع بالمجازر والاعتقال والتعذيب والترهيب والإرهاب.

إن ثورتي مارس اللبنانية والسورية نجحتا، بمجرد أن اندلعتا وأسقطتا الأقنعة عن وجوه الوحوش الحاكمة والمسوخ التي صنعوها، في مختبراتهم الفرانكشتانية.

ولا تقاس الثورات بنجاحها الفوري. تلك التي تنجح، بسرعة لا تكون ثورة، بل تكون انقلاباً دبّرته أجهزة المخابرات، مثل الثورة الإسلامية في إيران، على سبيل المثال لا الحصر، وتكون لها أهداف استراتيجية، في إطار صراع دولي محتدم، كالحرب الباردة التي كانت ناشئة بين الغرب من جهة والإتحاد السوفياتي من جهة ثانية.

وهذا النوع من الثورات-الانقلابات يضاعف المآسي بدل أن يخفّف منها، ولا يمكنه أن يحمي نفسه إلّا بالوسائل الذي زعم أنّه يثور ضدّها.

أمّا الثورات الحقيقية فتهرم قبل أن تُنتج، مثل الثورة الفرنسية التي بعدما قتلت ملكاً وجدت نفسها ترزح تحت عبء إمبراطورين وأكثر من ملك. إنّ الجمهورية التي حلمت بها الثورة الفرنسية طالت إقامتها كثيراُ في الرحم، ولكنّها، بالنتيجة، ولدت وتألّقت وعمّ نورها أرجاء المعمورة.

إنّ ثورتي لبنان وسوريا نجحتا وإن لم تنتجا بعد.

نجحتا ليس في كشف الحكّام وميليشياتهم وارتباطاتهم، فحسب بل نجحتا أيضاً في إخراج أسوأ ما كان يعتمل من أورام في المجتمع المقموع.

الشعب خسر الموت البطيء عندما سرّع القمع وتيرة القتل، فيما خسر النظام نفسه وأدواته الإرهابية، سواء التي تدافع عنه أو تلك التي تسوّق له بزعمها التصدّي له.

قد تكون اللحظة السياسية الراهنة غير مؤاتية للتخلّص من جثّة النظام الحاكم التي تخرج منها الفيروسات الميليشياوية والميكروبات الإرهابية، ولكنّ المكان الطبيعي للجثث هو القبر. والشعبان اللبناني والسوري شيّداه، ليس من طين صامت، بل من عظام شهدائهم وصرخات المعتقلين وأفئدة المعذّبين.

صحيح أنّ الثوّار لم تلمع أسماؤهم في العالم، ولكنّ الصحيح أكثر أنّ أسماء الحكّام أصبحت مثيرة للغثيان، وأفعالهم طُبِعتْ في لوائح الإرهاب، وصفاتهم رُمِيتْ في مزابل الحاضر، وتاريخهم نُقش في قرارات المحاكم، على امتداد العالم.

مع حلول الذكرى السادسة عشرة ل”ثورة 14 آذار” اللبنانية، أتذكّر تلك الحوارات التي كانت تحصل، في الساحات وفي الصالونات، بيني وبين شابات وشباب نشطوا بقوة في “ثورة 17 أكتوبر” التي عرفها لبنان في خريف العام 2019.

كان هؤلاء يلومون من نشطوا في “ثورة 14 آذار” على فشلهم في بناء وطن يليق بهم، وسماحهم للمجرمين والفاسدين بأن يستلموا السلطة، وولائهم، طويلاً، لهؤلاء الذين سرقوا الناس وهدّموا الدولة وبدّدوا أحلام الشعب.

كاد هؤلاء، بفعل عظيم حماستهم، أن يوجهوا إلى من ثاروا في 14 مارس 2005 تهمة الخيانة العظمى، ولهذا دعوهم إلى الجلوس على مقاعد المشاهدين، ليتعلّموا منهم كيف تكون الثورات الحقيقية والمنتجة.

كان يومها الدفاع عن “ثورة 14 آذار” ضرباً من المستحيل. لا أحد يريد أن يسمع شرحاً. الجميع كانوا يطالبون باعتذار.

ولبّى كثيرون مثلي رغبة هؤلاء فجلسنا على مقاعد المشاهدين. كنّا قلباً وقالباً معهم. صفّقنا لهم وحمّسناهم ودافعنا عنهم، ولكن لم يكن بيننا من لا يعرف النتيجة المباشرة لـ”ثورة 17 أكتوبر”، لأنّنا كنّا نرى أن ما أفسد “رحم” ثورة 14 مارس 2005، يمد يده، مبكراً، إلى رحم “ثورتهم”، لينتزعها.

إنّ الثورة متى عقدت صفقة، باسم الواقعية هنا وباسم موازين القوى هناك، تفشل.

نجحت ثورة 14 مارس 2005 إلى تلك اللحظة التي بدأ فيها كل من استفاد منها في المساومة، وفي التذاكي، وفي الخوف.

ثورة 17 أكتوبر 2019، بدأت، للأسف، من حيث انتهت ثورة 14 مارس.

ولكن، إذا كان هذا هو الجزء المظلم من ثورتَيْ لبنان، وهو متوافر في الثورة السورية أيضاً بفعل استغلالها من القوى الإقليمية، فإن الجانب المضيء يتوافر في أنّ ثقافة الخنوع والخضوع انتهت وبدأت ثقافة الشجاعة. وحيث تنتهج الشعوب ثقافة الشجاعة تُعقَر أرحام الحكّام، وتنبت للشعوب أرحام خصبة.

———————–

صراع سوريا وَسَّع الفجوة بين سُنَّة باكستان وشيعتها

إثر ثورة إيران عملت السعودية على وقف تصدير الثورة الخمينية والنتيجة جماعات طائفية مسلحة وتوتر بين متطرفي السنة والشيعة ما يلبث أن يهدأ حتى يتجدد اشتعاله، حتى في باكستان التي تخشى سلطاتها تجدد العنف ببكاستان نتيجة تورط مسلحين باكستانيين سنة وشيعة في صراع سوريا. محمد لقمان والخلفيات لموقع قنطرة.

يشكّل الهزارة في باكستان أقلية عرقية صغيرة غير معروفة بالنسبة لمعظم من يعيشون خارج حدود هذا البلد. والهزارة يشكلون في أفغانستان المجاورة ثالث أكبر مجموعة عرقية في الأراضي الأفغانية. وقد هاجر قسم منهم إلى منطقة باكستان الحالية في أواخر القرن التاسع عشر نتيجة الملاحقة البالغة الشدة التي تعرضوا لها على يد الأمير الأفغاني عبد الرحمن خان.

ولجأ آنذاك طلبًا للحماية الكثير من الهزارة إلى الهند أيام الاستعمار البريطاني، مشكلين منذ ذلك الحين نسبة كبيرة من سكان مدينة كويتا الباكستانية [كانت باكستان أساسًا قسمًا من الهند تسكنه غالبية مسلمة، وقد أعلنت استقلالها عنها في 14 آب/أغسطس 1947 قبل يوم واحد من إعلان استقلال الهند عن بريطانيا].

ونظرا لانتماء الهزارة إلى مذهب الشيعة الاثني عشرية ولاتسام وجوههم بملامح المنحدرين من آسيا الوسطى أن جعلهم عرضة للتمييز في منطقة شمال إقليم بلوشستان ذات الأغلبية السنية الكاسحة، ما سهّل استهدافهم من قبل جماعات إرهابية سُنيّة. وقد تصاعدت حدة اعتداءات التنظيمات الإرهابية التي ارتُكبت بحق الهزارة منذ عام 2012، ومن بين هذه التنظيمات الإرهابية تنظيم لشكر جهنكوي (جيش جهنكوي).

باكستان الغارقة في دوامة التناحر السعودي-الإيراني: من أسباب ملاحقة إثنية الهزارة الشيعة في باكستان السياسات التي اتبعها الحاكم العسكري [الباكستاني] ضياء الحق (1977 – 1988). فبعد انتهاء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وبمساعدة من المملكة العربية السعودية، قام ضياء الحق بدعم انتشار مذاهب فكرية سنية راديكالية في باكستان عبر الترويج لما سمي “أسلمة باكستان”، وكان المراد من هذه السياسات صَدّ التأثير المتزايد للأفكار الثورية الإيرانية على الشيعة الباكستانيين الذين يشكلون أكثر من 20% من السكان. وقد ساقت هذه السياسات إلى ظهور جماعات مناهضة للشيعة، مثل تنظيم جيش الصحابة أو جيش جهنكوي، هدفها المعلن هو محاربة الشيعة وغيرهم من “المرتدين”. وشهدت باكستان ابتداءً من منتصف الثمانينيات أسوأ أعمال عنف طائفي في تاريخها، وظهرت نتيجة لذلك بعض الجماعات الباكستانية الشيعية المسلحة، وجرى الحديث عن صلات وثيقة تربطها بإيران. وبذلك انزلقت باكستان في مستنقع المواجهة السعودية-الإيرانية، وأسفرت الهجمات والاعتداءات عن سقوط مئات القتلى من الجانبين.

ووفقًا لتقديرات وزارة الداخلية البريطانية الصادرة في عام 2019، فقد قُتل أكثر من ألفي شخص من الهزارة نتيجة هجمات إرهابية في باكستان منذ عام 1999، وقد وقع أحدثها في أوائل كانون الثاني/يناير 2021، عندما أعدم إرهابيون 11 من عمال المناجم الهزارة.

وقد قام أهالي الضحايا على إثر ذلك بقطع إحدى الطرق الرئيسة لعدة أيام احتجاجًا [على التقصير الأمني]، ورفضوا السماح بدفن موتاهم ما لم يضمن لهم رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان شخصيًا مزيدًا من الأمن. وكان رئيس الوزراء قد قوبل بوابل من الانتقادات الشديدة في جميع أنحاء البلاد بسبب تعامله غير الحساس في البداية مع ذوي الضحايا.

وفي نهاية المطاف، التقى رئيس الوزراء بممثلي أهالي الضحايا بعد مرور أسبوع، ووعدهم بتقديم الدعم الحكومي وبتحقيق مزيد من الأمن لهم. أما عن نوعية هذه الوعود، فالمستقبل كفيل بأن يخبرنا إن كانت مجرد وعود جوفاء، كما كانت الحال مع الحكومات السابقة، أم أنّ شيئًا ما سيتغير بالفعل.

ومن أسباب ملاحقة الهزارة في باكستان السياسات التي اتبعها الحاكم العسكري [الباكستاني] ضياء الحق (1977 – 1988). فبعد انتهاء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وبمساعدة من المملكة العربية السعودية، قام ضياء الحق بدعم انتشار مذاهب فكرية سنية راديكالية في باكستان عبر الترويج لما سمي “أسلمة باكستان”، وكان المراد من هذه السياسات صَدّ التأثير المتزايد للأفكار الثورية الإيرانية على الشيعة الباكستانيين الذين يشكلون أكثر من 20% من السكان.

باكستان الغارقة في دوامة التناحر السعودي-الإيراني

وقد ساقت هذه السياسات إلى ظهور جماعات مناهضة للشيعة، مثل تنظيم جيش الصحابة أو جيش جهنكوي، هدفها المعلن هو محاربة الشيعة وغيرهم من “المرتدين”. وشهدت باكستان ابتداءً من منتصف الثمانينيات أسوأ أعمال عنف طائفي في تاريخها، وظهرت نتيجة لذلك بعض الجماعات الباكستانية الشيعية المسلحة، وجرى الحديث عن صلات وثيقة تربطها بإيران. وبذلك انزلقت باكستان في مستنقع المواجهة السعودية-الإيرانية، وأسفرت الهجمات والاعتداءات عن سقوط مئات القتلى من الجانبين.

ولم يبدأ العنف في الانحسار نسبيًا إلا في منتصف التسعينيات، وقد قام الحاكم العسكري برويز مشرف ابتداءً من عام 2001 باتخاذ إجراءات تستهدف الجماعات المتطرفة في البلاد لأول مرة، وقد بقي مشرف في السلطة حتى عام 2008، وتم حظر تنظيم جيش الصحابة السني والعديد من المنظمات الشيعية المتشددة مثل تنظيمي جيش محمد وأنصار الحسين منذ ذلك الحين.

الصراع في سوريا يؤجج الانقسامات الطائفية في باكستان

ويبدو أن الجماعات المعادية للشيعة قد عادت إلى النشاط مرة أخرى بعد فترة من الهدوء النسبي، والسبب الرئيس هذه المرة هو الصراع في سوريا. فإلى جانب تورط متطرفين باكستانيين سنّة، هناك أدلة على تورط مجموعات من شيعة باكستان في القتال الدائر في سوريا منذ عام 2013، وقد تم تنظيمهم بشكل منفرد فيما يسمى “لواء الزينبيون” في عام 2015، حيث تم نشرهم من قبل الحرس الثوري الإيراني في جبهات القتال المختلفة في سوريا بعد تلقيهم تدريبا عسكريا أساسيا.

ولعلَّ المسيرات الجماهيرية المناهضة للشيعة التي نُظمت في كراتشي وإسلام أباد في أيلول/سبتمبر 2020 قد جاءت بمثابة مفاجأة لكثير من الباكستانيين، إلا أنها كانت في حقيقة الأمر تعبيرًا عن هذا الصراع المحتدم، وكان من بين المتظاهرين أعضاء من جماعة جيش الصحابة المحظورة وغيرها من منظمات سنية متشددة متعاطفة مع جماعات إرهابية سنية في سوريا.

يستشري لدى السلطات الباكستانية خوف كبير من احتمال تعرض مدينة كراتشي لموجة جديدة من العنف الطائفي، حيث تتخذ قوى الأمن إجراءات متزايدة ضد الجماعات المسلحة في هذه المدينة المليونية، وقد تم اعتقال عدة عناصر من لواء زينبيون في أواخر عام 2020 خلال إحدى العمليات الأمنية.

غير أن النجاح المستدام في مكافحة التطرف لن يرى النور ما لم يتم تعزيز جو من التسامح في المجتمع برمته، وهو أمر لا تزال باكستان بعيدة عنه كل البعد.

محمد لقمان

ترجمة: حسام الحسون

حقوق النشر: موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

دَرَس محمد لقمان دراسات العالم الإسلامي في مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط في جامعة ماربورغ الألمانية مع التركيز بصورة خاصة على الإسلام في جنوب آسيا، ويُعِدُّ حاليًا أطروحة الدكتوراه عن العلاقة بين الدين والنزعة القومية في باكستان.

————————-

سقط الأسد.. لن يسقط/ عبد السلام حاج بكري

ما نزال –نحن السوريين- منذ عشر سنوات نقع في المطبّ ذاته، الركون للإشاعات وتصديقها والتعامل معها كأنّها واقع معاش، كم مرّة شهدنا انشقاق فاروق الشرع، وكم انتظرنا ساعة الصفر الخلّبيّة، وما عدد المضادات الجوّية التي وصلت الجيش الحر، هل تذكرون بتر قدمي ماهر الأسد، والتدخل العسكري الغربي لإسقاط الأسد و… الأسد

عشر مرات أو مائة وربما ألف مرّة، توافق الغرب وروسيا على استبدال الأسد، وخلال ساعة ستدكّ البوارج الأمريكية بالتوماهوك معاقل بشار، وتقصف طائرات ستيلث مقرّات قيادات جيشه وأمنه، إنّها مصادر معارضتنا التافهة وإعلامنا المعارض الهزيل، نعم نحن شركاء في تأليف القصة وترويجها، ألم يخترع غوار الطوشة أزمة السكر ويسابق الآخرين لشرائه وتموينه.

في الصيف، بعد شهرين، خلال ساعات أو أيام، إنّها نهاية الطاغية، والطاغية يسخر في سرّه من جهالة الأخصام، وهو الذي يدرك يقيناً أنّه مستمر في حكمه بدعم ممن يظنّون بأنّهم يسعون لإسقاطه.

أُدين نفسي أولاً، فقد كنتُ أحد المروّجين لمثل هذه الإشاعات، وقعت في الفخّ كما وقع فيه غيري، في مطلع العام الماضي، أكّد لي برلماني أوروبي أنّ نهاية بشار ستكون في الصيف، نقلت ما قاله لي إلى وسائل الإعلام، دون تعليق موافق أو معترض، تاركاً للقارئ حق الاستشفاف والتمحيص، ولم تسنح الظروف لمحادثته مجدداً وسؤاله عن سبب تسريب تلك المعلومة وحقيقتها وفق معطيات العام الماضي، وما الذي تغيّر فألغاها.

واقع الأمر، نحن غرقى نتعلّق بقشّة، ولكن لا قشّة نتعلق بها، فنرسمها ونمدّ أيدينا لتنقذنا، ظننا بالعرب خيراً، فكانوا شرّاً مستطيراً زاد فرقة المفرّق، ودفعوا للاقتتال البيني بعيداً عن الهدف الأهم، تحوّلت أقلامنا لرسم حلم جديد فكتبت قرارات أممية، ونشرتها قبل اجتماع مجلس الأمن والأمم الكبيرة.

وقبل هذا وذاك، صرخت حناجرنا “يا الله مالنا غيرك يا الله” وما نزال صامدين عليها، نستيقظ صباحاً مسارعين للفيس بوك على أمل قراءة خبر الصاعقة تضرب بشار وأعوانه، أو ذلك الزلزال الذي يتحدّث عنه الجيولوجيون منذ خمسين عاماً. الأسد

قبل أمس، وأمس، واليوم، وغداً، قرأنا ونقرأ وسنقرأ، استمعنا ونستمع وسنستمع، لأخبار الانتصار العظيم سياسياً وعسكرياً، الانتصار الذي يسحق بشار ومنظومته الإجرامية، ويعيد لسوريا مجدها التليد، موحّدة حرّة ديموقراطية، نعم هذا حدث ويحدث وسيحدث، اضحكوا كما يجب، هكذا نحن، نصدّق كل ما نسمع، نرشّ عليه من أطايب البهارات، ونضعه في فرن الترويج، نستلب عقول البسطاء، وندفعهم لرفع أياديهم إلى السماء الخاوية من الغيوم مبتهلة المطر.

نجرم بحق أنفسنا أولاً، وحقّ بقية السورييّن ثانياً، وندعو من غير قصد لتكاسل لا يحتاج غالباً دعوى، وقد آن للثورة المكنونة في الصدور أن تنفجر في وجهنا، فترمينا على المزابل التي نستحق، على الأقل لأننا قدّمنا وجبات لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا أكلوا وما تركناهم يبحثون عن طعام.

كل العالم يبيعنا الأمل من أمريكا إلى الأمم المتحدة والدول الغربية المتحضّرة التي تدّعي زيفاً إنسانية هي أول من يسفحها، إلى عسكر روسيا وميليشيات إيران، والأمل الحقيقي هو فقط في ما نعمل، نعم فقط في العمل الذي تؤديه أيدينا وعقولنا. الأسد

تأخرنا كثيراً لنتيقّن أننا وحدنا من يؤازرنا، ولعلّ البعض لم يتقيّن بعد، لكنها الحقيقة التي تأخر العمل بمقتضاها عشر سنوات، ماذا لو بدأنا اليوم، وتعالوا لا ننتظر حلول مناسبة كذكرى الثورة الوشيكة، بل على الفور، نعمل على أنّنا وحدنا في هذا العالم، وعلينا مواجهة الطاغية والعالم معا للوصول إلى ما نريد.

نتوقف الآن عن الاستماع للمنظّرين والأخبار، نغلق هواتفنا، نفكّر في الحلّ، نعمل له، عسكرة وسياسة وأحزاب، صدق وإخلاص ومؤازرة، لا نترك لحظة تمرّ دون استثمارها في طريق سوريا الجديدة، الآن الآن، فقد لا يكفي ما تبقى في أيام كثيرين منّا لمعايشتها حرّة، كفى بالمعتقلين عذاباً وقهراً، وبالنازحين تشرّداً، وبذوي الشهداء حزناً.

لن يسقط الأسد ما لم نسقطه نحن، ولن يقوم بناء سوريا، إلا إذا بنيناه نحن، كلّهم يريدونه، ولا يريدون سوريا، يلهثون خلف ما يريدون وليس ما نريد نحن. ال

——————-

لماذا يكره الدبلوماسيون الثّورات؟/ سعد القرش

كنت أظن أن كارهي الثورات الشعبية على الطغاة يتحصّنون بمثلث، وترابط كل طائفة منهم في ضلع، ولا يتركون بينهم ثغرة في الرؤوس الثلاثة للمثلث. وربما لا تنظر طائفة إلى الطائفتين الأخريين، اكتفاءً بأن ظهورهم إلى داخل المثلث، وأبصارهم إلى الخارج تراقب المشهد، وتحمي المنافع، وتسوّغ الاستبداد بحجة الاستقرار. ليس شرطاً أن تتلاقى الطوائف الثلاث، وأن تتفق على خطة موحّدة، فكلٌّ بطريقته يجتهد، وتصبّ النتيجة في المثلث الحصين المحميّ بقوى يمتلك أركانَها هذا الثلاثي: القضاة ورجال الدين والعسكريون. وفي ثورة 25 يناير 2011 تباينت المواقف وردود الفعل، بين الرفض والصّمت، فإذا قويت شوكتها وتمكنت من خلع حسني مبارك، التَحق بها كارهوها.

قبل الوصول إلى الطرف الرابع الكاره للثورات، سيقول البعض: “التعميم لا يجوز”. وأعترف بوجود استثناءات في هذه الطوائف، استثناءات لا تنفي القاعدة، وإنما تؤكدها. وبعد عشر سنوات من ثورة 25 يناير، أكتشف حقيقة ربما سبقني إليها غيري، وقد تربّع المثلث، واصطفّ على الضلع الرابع الدبلوماسيون، ولا أعرف ترتيب استفادتهم من استمرار أي نظام سياسي مهما يكن مستبداً، فالأهمّ ألا يهتز الاستقرار، ويأتي نظام جديد يقطع المسارات أو يحوّل وجهتها، فقد يصعد غيرهم ويحتل المواقع ويحظى بالامتيازات. فآخر وزير للخارجية حتى الثورة، أحمد أبو الغيط، كان مدافعاً صلباً عن نظام مبارك، ولا يختلف عن الدبلوماسيين العرب المراهنين على الطغاة حتى السقوط.

الدبلوماسي موظف، يجتهد داخل إطار “النصّ”. لا يرسم سياسات، وليس مطلوباً منه إطلاق تصريح يخالف سياسة نظام الحكم، وإلا فلْيخلع الرداء الوظيفي، ويتحرر بالاستقالة، ويحمل درجة “مواطن”. سبق لثلاثة وزراء للخارجية أن استقالوا اعتراضاً على أوهام “السّلام”، أولهم إسماعيل فهمي، رافضاً أن يزور أنور السادات القدس في نوفمبر 1977. وتبعه محمد رياض، مستقيلاً فور تعيينه. أما محمد إبراهيم كامل فاستقال يوم 16 سبتمبر 1978، عشية توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، تاركاً مقعده شاغراً أثناء التوقيع، وفي كتابه “السّلام الضائع في كامب ديفيد” تحدّث عن “مذبحة التنازلات”، إذ قال له السادات إنه سيوقع “أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه‏”.

اتّبع كاملُ ضميرَه واستقال، فنجا من عار يلوّث ثيابه، بعد تحوّل السادات “إلى موظف في حضرة كارتر يتلقى تعليماته‏”، وينفعل حين يراجعه الوزير، ويصرخ في حضور حسن التهامي وحسن كامل وبطرس غالي وأشرف غربال قائلاً: “وماذا أفعل إذا كان وزير خارجيتي يظنّ أني أهبل?”. ولم يكن الوزير على حق، فليس السادات أهبل، وإنما يؤدي دوراً، فلا يسمح لممثل مسرحيّ بترك العرض قبل انتهائه، انتهاء العرض أو انتهاء حياة الممثل. ولا يحق للممثل أن يرتجل في وجود “النص”، مهما يفعل شريكه على المسرح.

سُرّ السادات وضحك مبتهجاً بقول بيجن إن كارتر بذل جهداً “يفوق العمل والجهد الذي بذله أجدادنا عندما بنوا الأهرام في مصر”. والدارس المبتدئ للآثار والتاريخ المصري يعرف أن الأهرام بنيت في الأسرة الرابعة، (2613 ـ 2494 قبل الميلاد)، قبل قرون من زيارة أسطورية للنبي إبراهيم لمصر.

ومع الشيطنة الإعلامية الرسمية لثورة 25 يناير، يمكن للدبلوماسي أن يصمت، وألا يزايد في هذه الشيطنة، ولكن العدد الجديد من مجلة “الدبلوماسي” (رقم 299/300، يناير/فبراير 2021) دليل على هذه المزايدة التي لا تضطر إليها مجلة صدر عددها الأول في مارس 1992 عن النادي الدبلوماسي المصري. كتب رئيس التحرير، رضا الطايفي، تحت عنوان “حتى لا ننسي….” مشيداً بإنجازات “غير مسبوقة”، “تؤسس لنهضة مصرية حديثة في كافة المجالات التنموية”، بعد خروج مصر “من تبعات أحداث يناير 2011”. لا إشارة إلى عدالة ثورة شعبية لولاها لاستمرّ حسني مبارك رئيساً، وحبيب العادلي وزيراً للداخلية، وكلاهما نال حكماً قضائياً نهائياً غير قابل للنقص بتهمة اللصوصية.

رئيس التحرير، الذي أنهى عمله في هانوي (2010 -2014)، تخلو حقيبته الدبلوماسية من ذكرى لفيتنام التي استقرّت في الذاكرة الإنسانية رمزاً للثورة. وأما الثورة المصرية، مصدر الفخر لملايين أسهموا فيها، فلا تستحقّ منه أن يسمّيها باسمها الحقيقي، ويراها “أحداث يناير 2011” التي أدت إلى اضطرابات في العالم العربي، مع إغفال دور الطغاة في هذه التراجيديا العربية. فلولا الاستبداد ما اضطرّت الشعوب إلى الخروج الكبير، في ثورات تنشد العدل والحرية. ولأن الثورة فشلت فمن الطبيعي أن يلعنوها ويُفقدوها اسمها، وتصبح مجرد “أحداث”، في “الربيع العربي المزعوم”. لا إشارة إلى استبداد سابق للثورة، أو لاحق سيدعو إلى جولة يقرر الشعب موعدها.

كان عبد الرحمن شلقم أمين اللجنة الشعبية العامة للاتصال الخارجي والتعاون الدولي (2000-ـ 2009)، وسمعتُه في التلفزيون المصري يقول إن العقيد معمر القذافي “والد الليبيين”. كان اسم ليبيا مغيّباً، واستبدلت به “الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى”، ولم يكن لشلقم أن يقول إن الأخ العقيد والد الجماهيريين العرب الليبيين الشعبيين الاشتراكيين العظماء. بعد الثورة الليبية فقط، وأتحدث هنا عن عدالة ثورة تسببت فيها سياسات القذافي لا عن مآلاتها التي لا يسأل عنها الشعب المظلوم، أتيح لشقلم البوحُ بما كتمه في صدره اثنين وأربعين عاماً. فضفضة شلقم سجلها غسان شربل في كتابه “في خيمة القذافي… رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده”.

في الكتاب يقول عبد المنعم الهوني ـ مندوب ليبيا في جامعة الدول العربية حتى قيام الثورة ـ إنه عرف القذافي عام 1963: “كنا نتصوّر أنه شخص مثالي، شديد التأدّب في حديثه وشديد البساطة في عيشه ويكره البهرجة في اللباس… كان أيضاً شديد التمسك بمواقيت الصلاة ويحضّ الآخرين على التزامها”، وحين اقترب موعد الحركة شدد على أن تكون عسكرية بيضاء، لا يراق فيها دم ليبي واحد. ويقول شلقم إن القذافي الشاب “كان شبه قديس. يواظب باستمرار على الصلاة والصّيام. استقامته وورعه كانا مصدر إحراج لرفاقِه… كانوا لا يلعبون الورق في حضوره ويطفئون السجائر إذا وصل… كان متديناً وثمة من سمّاه الفقيه”.

بعد الثورة الليبية فقط، سيقول نوري المسماري، أمين جهاز المراسم العامة عن جلوس القذافي مع المثقفين في القاهرة: “كان يجمعهم كي يهينهم”. وسيقول أيضاً إن مجموعة 7 أبريل التي شنقت الطلاب في الجامعات عام 1976 كان الوجه البارز فيها عبد السلام جلود رئيس اللجان الثورية، “هذه تصفية للمعارضين للقذافي في الجامعات، شنقوا دون توقف… جلود كان يشرف على التصفية”. وبعد الثورة فقط سيقول جلود إن القذافي كان يتصرّف “وكأنه إله على الأرض… القذافي هو الأول والأخير. وكان يقول لي: أنا يا عبد السلام في هذه البلاد لا أحترم إلا أنت. وكنت أردّ عليه قائلاً: إذا كنت تحترمني فاحترم الشعبَ الليبي”.

بعد الثورة سيقول جلود إن القذافي انفرد بالسلطة، بعد فشل انقلاب عمر المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة، الهارب إلى المغرب، وأعادته “صفقة قذرة” تضمّنت وقف دعم القذافي لجبهة البوليساريو، ودفع 200 مليون دولار للحسن الثاني، لقاء استعادة أربعة معارضين أولهم المحيشي، وذُبح “كالخروف” كما يروي عبد الرحمن شلقم الذي أتاحت له الثورة ألا يفتري على شعب حجبه القذافي، وحرمه حقّ التمتع باسم “ليبيا”، وسيحكي مساخر عن أبناء القذافي: زوجة هانيبال اللبنانية أرسلت طائرة إلى بيروت لإحضار كلب؛ عائشة أخذت طائرتين إلى بريطانيا لكي تلد؛ المعتصم أنفق على مطربات في سهرة واحدة أربعة ملايين دولار، وكذلك سيف الإسلام في أعياد ميلاده.

بعد الثورة فقط سيقول جلود إن القذافي صار له في كلّ مدينة، وكلّ وادٍ، مقرٌّ أو قصر. وكان “يعتقد نفسه إلهاً ولا يجوز لأحد أن يعارضه أو يمس صورته”، وأنه أعدم بعض أقاربه حين حاولوا اغتياله عام 1998، وعلق البعض منهم على الأشجار، “كما تمّ ربطهم بالسيارات وسحلهم في الطريق في باب العزيزية”، وسيحكي أنه قال للقذافي إن مجزرة سجن أبو سليم عام 1996 “أكبر مذبحة منذ مذابح هتلر”، وقتل فيها 1400 شاب، ويبلغ العدد 1268 في رواية شلقم. يا الله، كيف ألجمتهم الأعراف الدبلوماسية فصمتوا على كلّ هذه الفظائع؟ وكان لا بدّ من ثورة ليتكلموا. فلماذا يكره الدبلوماسيون الثورات؟

رصيف 22

——————

======================

تحديث 15 أذار 2021

——————–

الثورة السورية

10 سنوات على الثورة السورية: شعب ضحية نظام

أيّاً تكن التحولات الكبيرة التي شهدتها سورية بعد عشر سنوات على ثورتها، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً، تبقَ النتيجة واحدة: نظام حاكم اغتال شعباً كاملاً. فمن نجا من الموت والتعذيب والتهجير والفلتان الأمني، غرق في أزمات اقتصادية واجتماعية قاسية، في بلد بات تحت سيطرة خارجية شبيهة بالانتداب، بعدما باع نظام بشار الأسد قراره لإيران ثم روسيا مقابل البقاء بالسلطة، ليقود سورية إلى دمار شبه كامل والسقوط في دوامة من الدم والانهيار، لا تبدو نهايتها قريبة.

وتدخل الثورة عامها الحادي عشر من دون أي أفق لحل سياسي في ظل مؤشرات مرعبة، إذ سقط خلال السنوات العشر الماضية نحو 388 ألف قتيل على أيدي أطراف النزاع المختلفة، النظام والمليشيات الموالية وروسيا وإيران، أو المعارضة والتنظيمات المتشددة، بالإضافة إلى اعتقال نحو 100 ألف، وقتل نحو 100 ألف آخرين تحت التعذيب. كذلك هُجّر نحو 6.7 ملايين شخص من بيوتهم، ولجأ 5.6 ملايين شخص إلى خارج حدود سورية، مع تسجيل خسائر اقتصادية قدّرتها الأمم المتحدة بنحو 440 مليار دولار، ووصول 90 في المائة ممن يعيشون في الداخل السوري إلى ما تحت خط الفقر. هذه الفاتورة الضخمة لقمع ثورة شعب حلم بالحرية والكرامة، لا تؤرق النظام الذي يستعد لإعادة انتخاب بشار الأسد رئيساً لولاية جديدة، من دون الاكتراث بكل قرارات الشرعية الدولية، وبكل ما خلّفته السنوات العشر الماضية من دمار وتهجير واختفاء قسري وانهيار اقتصادي عام، لا يزال السوريون يدفعون ثمنه منذ بداية ثورتهم.

وقد اتخذ النظام قراراً بمواجهتها عسكرياً منذ انطلاقتها، فواجه المتظاهرين السلميين بالرصاص الحيّ، وبدأ بالترويج لمؤامرة خارجية معتبراً المتظاهرين جزءاً منها. ومع اتساع نطاق التظاهرات السلمية التي عمّت كل المحافظات السورية، اتخذ النظام قراراً بتسخير كل إمكانات الدولة لمواجهة الاحتجاجات، مستعيناً بالجيش الذي بدأ باقتحام المدن والبلدات التي تشهد تظاهرات. ومع دخول الجيش خط المواجهة مع المتظاهرين، انشق آلاف العناصر والضباط بشكل فردي وبدأوا بتشكيل فصائل عسكرية، انضم إليها مدنيون كان الهدف منها حماية التظاهرات السلمية، ثم تحولت لاحقاً إلى ما سُمِّي “الجيش السوري الحرّ” الذي بدأ ينتزع مناطق من جيش النظام.

بالتوازي مع ذلك، شُكَِل “المجلس الوطني” كجهة سياسية تمثيلية للثورة في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وكسب تأييداً دولياً من الدول التي اتخذت موقفاً منحازاً للثورة. وكان الموقف الدولي المنحاز إلى الثورة منقسماً إلى مستويين: الأول هو موقف الدول الإقليمية، وفي مقدمتها تركيا وقطر والسعودية، التي قدمت دعماً سياسياً ولوجستياً ومادياً لكل من “المجلس الوطني” و”الجيش السوري الحرّ”. والمستوى الثاني كان موقف الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة، التي كان موقفها لا يتعدى الموقف المنحاز إلى الثورة كلامياً، فيما واقعياً كانت سياستها تقوم على عدم التدخل، بل تسعى إلى الحفاظ على حالة استعصاء عسكري بين النظام والمعارضة. تنظيمات

راديكالية وروسيا

في المقابل، عمل النظام الذي كانت تتحكّم إيران بقراراته خلال السنتين الأوليين من الثورة، على صناعة تنظيمات راديكالية من أجل تسويق نفسه كمحارب للإرهاب. ففي منتصف عام 2011 أفرج النظام عن كل قيادات وعناصر التنظيمات المتهمة بالإرهاب الذين كانوا معتقلين في سجن صيدنايا الشهير، ليصبحوا ضمن قادة التنظيمات المتشددة التي شُكلت لاحقاً في سورية. وبالتوازي مع تشكيل فصائل “الجيش السوري الحرّ”، تأسّست “كتائب أحرار الشام” عام 2011، التي اتّحدت في عام 2013 تحت اسم حركة “أحرار الشام الإسلامية”، كذلك شُكِّلَت “جبهة النصرة” كتنظيم تابع لـ”القاعدة” مطلع عام 2012، وانشق عنها تنظيم “داعش” في عام 2013. وشُكِّلَ “جيش الإسلام” في الغوطة الشرقية في دمشق عام 2013.

واستطاعت هذه التنظيمات تأمين ذريعة للنظام وحلفائه بأنه “يحارب إرهاباً لا ثورة”، كذلك إن تعاطي الجهات التمثيلية والعسكرية للثورة بإيجابية مع هذه التنظيمات، لكونها تحارب النظام، أسهم بمساعدة الأخير في التسويق لفكرة صبغ الثورة بصبغة الإرهاب، خصوصاً أن تلك التنظيمات كانت أكثر تمويلاً من “الجيش السوري الحرّ”. الأمر الذي ساعدها على السيطرة على مساحات واسعة على حساب النظام. ومع ظهور تنظيم “داعش”، تنبّهت قوى الثورة لخطورته عليها، فطردت عناصره من كل محافظة إدلب عام 2014، ليبدأ التنظيم بالتوسع في محافظة الرقة، بعد انسحاب حركة “أحرار الشام” منها. إلا أن الجهات التمثيلية السياسية للثورة والفصائل العسكرية، بقيت تتعاطى بإيجابية مع “جبهة النصرة” وباقي التنظيمات الراديكالية، لأن معظم عناصرها سوريون يقاتلون ضد النظام.

واستطاعت فصائل المعارضة، بالتعاون مع تلك التنظيمات، تحقيق انتصارات على النظام، دفعته في عام 2013 إلى ارتكاب مجزرة بالسلاح الكيميائي المحرّم دولياً في غوطة دمشق الشرقية والمعضمية، وقُتل خلالها نحو 1500 شخص. في مطلع عام 2015، كانت فصائل المعارضة والتنظيمات المتشددة ما عدا “داعش” قد سيطرت على مساحات واسعة من الجغرافية السورية في إدلب وحماة وريف دمشق وريف اللاذقية وريف حلب، بالإضافة إلى الجنوب السوري، وكان تنظيم “داعش” قد سيطر على محافظتي الرقة ودير الزور.

وبدأت فصائل الغوطة تهدد باقتحام دمشق، فطلب بشار الأسد من روسيا التدخل من أجل منع انهيار نظامه بعدما فشلت المليشيات الإيرانية في هذه المهمة، فكان التدخل الروسي في 30 سبتمبر/ أيلول 2015. ونجحت روسيا في تثبيت النظام وتمكينه من استعادة السيطرة على كثير من المناطق التي خسرها، كذلك دعمته عام 2016 لاستعادة السيطرة على مدينة حلب، مستخدمة سياسة الأرض المحروقة التي دمرت من خلالها مدناً بكاملها من دون أي تدخل من المجتمع الدولي الذي اكتفى بالتنديد بالمجازر.

التحولات السياسية

كانت الجهات التمثيلية للثورة تتمثل سياسياً بـ”المجلس الوطني”، الذي استمر عاماً واحداً، وشكّل أعضاؤه بالتشاور مع عدد من الدول المنحازة للثورة جسماً جديداً هو “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، الثابت حتى الآن. وهو جسم سياسي يضم أحزاباً وأفراداً ممثلين عن قوى الثورة والمعارضة السورية. أخذ الائتلاف زخماً كبيراً في بداية تشكيله، وكان قاب قوسين من أخذ مقعد سورية في جامعة الدول العربية، إلا أن دوره بدأ بالتراجع لاحقاً لأسباب كثيرة، منها عمل روسيا والنظام على خلق منصات بديلة وتسويقها على أنها “معارضة” بهدف تقسيم صفوف المعارضة، وفرض تلك المنصات خلال التشكيلات التي أسست لاحقاً، بالإضافة إلى تراجع الدعم الدولي للائتلاف بسبب التنافس بين الدول الإقليمية للسيطرة على قراراته. إلا أن السبب الأهم يعود إلى انفصال الائتلاف عن القوى الثورية في الداخل، وعن التشكيلات العسكرية المعارضة، الأمر الذي أفقده القدرة على تنفيذ مخرجات ما يُتَّفَق عليه مع الدول، أو مع النظام.

أواخر عام 2015، وبعد صدور قرار مجلس الأمن 2254 الخاص بالحل السياسي في سورية، وإنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، شُكِّلَت الهيئة العليا للتفاوض، كجهة تمثيلية أخرى للمعارضة، التي ضمت “الائتلاف الوطني” و”هيئة التنسيق الوطنية” وممثلين عن الفصائل العسكرية، بالإضافة إلى مستقلين، بهدف إجراء مفاوضات مع النظام وفق قرار مجلس الأمن، لكن النظام عطّل معظم جلسات المفاوضات، ولم تتمكن من تحقيق أي تقدّم. في عام 2017، وبضغط من روسيا، أعيدت هيكلة هيئة التفاوض وأضيف إليها ممثلون آخرون، كمنصة القاهرة ومنصة موسكو على حساب تمثيل الائتلاف، فيما مُيِّع قرار مجلس الأمن 2254 من خلال المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، الذي حوّل هذا القرار إلى أربع سلال (هيئة حكم انتقالية، الدستور، انتخابات، مكافحة الإرهاب)، وتوقفت جميعها بسبب مماطلة النظام، واختُصرت بإنشاء لجنة دستورية عام 2019 فشلت في تحقيق أي تقدم حتى الآن.

وبالتوازي مع مسار جنيف القائم على حل القضية السورية بموجب قرار مجلس الأمن 2254، شكّلت روسيا بالتوافق مع كل من تركيا وإيران مساراً سياسياً آخر، عُرف بمسار أستانة، استطاعت موسكو من خلاله استعادة كل المناطق التي سيطرت عليها المعارضة في فترة سابقة من خلال ما عرف باتفاقيات خفض التصعيد. واستعاد النظام السيطرة على كل من ريف حمص الشمالي والغوطة الشرقية بدمشق ومحافظة درعا وجزء من محافظة إدلب.

فشل إيجاد البديل

يرى كبير المفاوضين السابق في هيئة التفاوض المعارضة، محمد صبرا، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الثورة السورية كانت تفتقر إلى إطار سياسي مرجعي يحدد مطالبها وينظم برنامج عملها”، معتبراً أن هذا أمر طبيعي جداً باعتبارها ثورة شعب وليست حركة سياسية مؤطرة. ويضيف: “هذا الغياب للإطار السياسي المحدد لأهداف الثورة وبرنامجها، نظر إليه البعض على أنه شكّل نقطة سلبية في الثورة، مع أنه من وجهة نظري كان النقطة الإيجابية الأبرز، لأنه يثبت أصالة الثورة وعمقها الاجتماعي وانتماءها إلى الفئات الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في عملية التغيير، فالثورة لم يكن مطلوباً منها تقديم برنامج سياسي لها، لأنها لو فعلت ذلك، لكانت أشبه بانقلاب يقوده حزب أو تيار سياسي”. ويعتبر صبرا أن “دور الثورة تحطيم البنية الخامدة للسلطة وتفكك روابطها الممتدة وشبكة سيطرتها على المجتمع، وهو ما نجحت به الثورة السورية منذ نهاية عام 2012. وهنا كان من المفترض أن تقوم المعارضة السياسية، أي التيارات والأحزاب السياسية، بصياغة خطاب سياسي وتأطيره بشكل برنامج عمل واقعي لخلق البديل للبنية التي تمّ تحطيمها. وللأسف كانت كل التيارات السياسية قاصرة في قدرتها على خلق مثل هذا الخطاب، الذي يمكن أن يتحول إلى برنامج عمل قابل للتحقيق”. ويشير إلى أنه “تم تلفيق مجموعة من الكيانات السياسية بفعل تدخل إقليمي لتكون هي المعبّر عن الثورة، ولعل أغرب ما في هذه الكيانات افتقادها لوجود تيارات سياسية حقيقية تتحالف فيها، ومن خلالها، لتقديم برنامج عمل موحد”.

ويلفت إلى أن “هذه الكيانات كانت عبارة عن تيار سياسي واحد، هو الإخوان المسلمون، وإلى جانبه مجموعة من الأفراد الذين شكّلوا المجلس الوطني أولاً ومن ثم الائتلاف الوطني، في ظاهرة طاردة للسياسة ونافية لفكرة العمل السياسي. فمفهوم التحالف أو الائتلاف السياسي يجب أن ينشأ بين تيارات سياسية وليس بين تيار وأفراد أو بين أفراد، وهذا ما عرقل عملياً عمل مؤسسات المعارضة، لأن شروط تشكيلها كانت تماماً هي عين قصورها عن الفعل وعن القدرة على التأثير”.

برامج متناقضة وصراعات دولية

من جهته، يرى الكاتب والصحافي ميشيل كيلو، أن “سبب وصول الثورة إلى الحال الذي وصلت إليه، عدم وجود برامج وخطط استراتيجية”، موضحاً في حديث لـ”العربي الجديد” أن “لا ثورة بلا برامج وخطط واستراتيجية وقيادة موحدة قادرة على توحيد كتلة بشرية واسعة ومتنوعة حولها، وتتحكم بمن يحملون السلاح”. ويضيف أنه “لا يمكن الثورة أن تنتصر ببرنامجين متناقضين، أحدهما لديه سلاح ويريد دولة إسلامية، والثاني أعزل وملاحق ينشد الحرية التي يعتبرها الأول كفراً وخيانة مثلما يعتبر السياسة خيانة. يضاف إلى ذلك وضع الثورة بين أيدي جماعات لا علاقة لها بالشعب وتفتقر إلى الخبرة السياسية، ووضعت نفسها تحت تصرف أموال الدول الخارجية”.

وعن دور المجتمع الدولي في الثورة السورية، يرى الباحث السياسي رضوان زيادة، أن “الوضع السوري تحوّل إلى ساحة دولية للصراع على ثلاثة مستويات: دولي بين الولايات المتحدة وروسيا، وإقليمي بين إيران من جهة وتركيا والسعودية من جهة أخرى، ومحلي بين قوات النظام والمعارضة”. ويضيف في حديث لـ”العربي الجديد” أنه “مع تعدد اللاعبين الدوليين والإقليميين، تتعقد الساحة السورية ويتعقد معها الحل، والمشكلة الأخرى أن هناك صراعاً في الأولويات في أجندات هذه الدول، وكل ذلك يجري على الساحة السورية وعلى حساب الدم السوري”. ويتابع: “بالتأكيد، الدول الداعمة للنظام كانت أكثر ثباتاً واستمراراً في دعم الأسد، خصوصاً روسيا وإيران اللتين تدخلتا عسكرياً لإنقاذ النظام وتدمير سورية على رؤوس أبنائها مهما كانت التكلفة، والنتيجة هي ما نشهده اليوم من دمار اقتصادي كامل وشعب يعيش 90 في المائة تحت خط الفقر”.

———————

سوريا: 10 سنوات هزّت العالم!

حصلت، منذ انطلاقة الثورة السورية في 15 آذار/مارس 2011 وحتى الآن، تغيّرات سياسية عربية كثيرة على مستوى القمة، منها، خروج رؤساء عرب عديدين من الحكم، عبر الخلع أو الإقالة أو الانتخاب أو القتل. تغيّر ثلاثة رؤساء أمريكيين (بينهم أوباما الذي حكم لولايتين) وانتخاب رئيس فرنسي جديد، وتغير عدة رؤساء حكومات بريطانيين، كما حصلت تقلّبات سياسية كبيرة في البلدان الغربية، وكذلك في دول كبرى، جغرافيا أو اقتصاديا أو سياسيا، كالهند واليابان وتركيا والسعودية وغيرها.

استمرّ، في المقابل، رئيس النظام السوري بشار الأسد، وهو وارث أبيه حافظ الأسد (الذي حكم سوريا منذ عام 1970) رئيسا رغم أن حكمه تسبّب في إحدى أكبر كوارث القرن الواحد والعشرين، أدخل بلاده في هوّة فاغرة سوداء، ووضع مواطنيه في خانة أبأس شعوب الأرض، وكان المسؤول الرئيسي في مقتل مئات آلاف البشر، وعذاب باقي مواطنيه، سواء الذين هجّروا ولجأوا إلى دول الجوار وأوروبا وحتى أقاصي العالم، أو الذين بقوا تحت حكمه، فأصبح، كما تسميه صحيفة «لوموند» الفرنسية: «ملكا على كومة من الأنقاض».

اقتضى «الاستمرار رئيسا» تحت شعار «الأسد أو نحرق البلد» ليس إحراق البلد وصب الحمم بأنواعها على مواطنيه، بل تحويل الرئيس إلى مسؤول ميليشيا ضمن قوى أكبر منه وتتحكّم في قراراته، كما هو الحال مع روسيا وإيران، أو تقتطع الجزء الأكثر غنى وموارد في البلاد، كما هو الحال مع قوات «التحالف» الأمريكية وحلفائها في حزب العمال الكردستاني (تحت المسمى الفكاهيّ «قوات سوريا الديمقراطية») أو تتسلّى بقصفه وشن الغارات الجوية والبحرية ضده من دون حساب، كما هو الحال مع إسرائيل، أما في المناطق الخارجة عن حكمه فتسيطر قوات مدعومة من تركيا أو تنظيمات جهادية متطرّفة، بحيث تكاد تتلاشى ذكريات الثورة السلمية السورية التي تم خنقها، عبر القمع المكثّف، ثم عبر التجاهل الدوليّ الممنهج الذي اكتفى بعقوبات على النظام لكنّه قرّر أن حربه الرئيسية هي مع إحدى منتجاته: تنظيم «الدولة الإسلامية».

أدت التداعيات المتصاعدة وحشية بغرض وأد الثورة أيضا لأن يحاول أكثر من نصف الشعب السوري النجاة بأرواحهم، وانتهى الأمر بالقسم الأكبر منهم بالسكن في مخيّمات بائسة في لبنان والأردن وعلى حدود سوريا مع إغلاق تركيا، التي استقبلت العدد الأكبر من اللاجئين لحدودها.

بفضل سياسة «الأسد أو نحرق البلد» فقد الأسد ونظامه السيادة الفعلية على البلاد التي صارت مسيطرا عليها من دول متصارعة، وتحوّلت المسألة السورية إلى قضيّة سياسية متفجرة في البلدان المجاورة، وبشكل خاص في لبنان، التي تعرّض ميناؤها لتفجير هائل تكشّفت أصابع للنظام السوري فيه، وكذلك في تركيا المسؤولة عن ملايين اللاجئين والداعمة لأطراف عسكرية داخل سوريا، والقلقة من سيطرة حزب العمال الكردستاني على أجزاء واسعة منها، وعلى روسيا التي صارت راعية النظام، وإيران التي تعتبر وجودها العسكري مهما لمشروعها الامبراطوري، ولإسرائيل التي تناهض طهران، وللعراق الذي تشارك ميليشياته في الحرب داخل سوريا.

مع فيض اللاجئين السوريين نحو أوروبا، وانضمام لاجئين آخرين من «الشرق الأوسط» وأفغانستان وغيرها، تحوّلت «المسألة السورية» إلى قضيّة عالميّة ساهمت، مع استثمار اليمين العنصريّ في أوروبا فيها، في تدعيم تيّارات عنصرية وفاشية معادية للاجئين وللإسلام، كما حصل مع صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» و«الجبهة الوطنية» في فرنسا، وحزب «الشعب» الدنماركي، وحزب «الحرية» النمساوي، و«رابطة الشمال» الإيطالي و«الاتحاد المدني» الهنغاري وغيرها.

كان لافتا، في هذا السياق، أن أشكال الدعاية التي استخدمها التيار المناهض لأوروبا في بريطانيا (والذي تمكن بعد استفتاء عام 2016 من وضع طريق بلاده نحو الانفصال عن الاتحاد الأوروبي) خريطة تظهر أن للاتحاد الأوروبي حدودا مع تركيا، وبالتالي مع سوريا، وكانت خطابات زعماء هذا التيار، بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، تشير صراحة إلى هذا الأمر، باعتبار أن محاذاة حدود سوريا خطر محدق بأوروبا.

لقد أصبحت سوريا، بفضل خيار القمع الوحشيّ لثورة شعبها، إلى «بعبع» يخيف العالم، ولبلد رازح تحت الاحتلالات والعقوبات، ولأمثولة سياسية كبرى عن تخلّي العالم عن شعب طالب بالحرية.

القدس العربي

—————————

عشر سنوات سورية: واقع اليأس وسياسة الأمل/ ياسين الحاج صالح

أُلقيَت هذه الكلمة يوم 11 آذار عبر تطبيق زووم ضمن يوم سوري في جامعة تولوز بعنوان «سوريا: الثورة، الحرب، بعد عشر سنوات» بمشاركة كل من زياد ماجد وليلى دخلي وفاروق مردم بيك وهالة قضماني وشارلوت الخليل، والكاتب، وبإدارة سدريك مولينو-ماشيتو وسعاد لعبيز

قبل كل شيء، أشكر سعاد لعبيز وسدريك مولينو على هذه الفرصة للكلام.

في ربيع 2015 تسنّت لي الفرصة لأن أتكلم هنا في تولوز عن الأمل، وأن أتأمل في قوته وهشاشته. كان سمير عرابي ورواء بشيتو مع «لجنة التضامن تولوز سوريا» شركاء في تنظيم الدعوة وفي الترجمة. بعد ما يقترب من ست سنوات، يُسعدني أن أتكلم في تولوز مجدداً عن الأمل واليأس، وهي أحوال للنفس تناوبتُ بينها، مثل سوريين كثيرين، خلال عشر سنوات. سأقول شيئين متناقضين من منطلقين متقابلين: فبقدر ما ننظر في المعطيات الحالية وتطوراتها المحتملة، فإنها تُسلّمنا لليأس لا لغيره بفعل فظاعتها خلال عشر سنوات كاملة؛ أما إذا فضلنا الانطلاق من أولوية الأمل من أجل الحياة والفعل، فيجب أن نُعوّل على المتخيَّل الممكن التحقُّق، لا على الواقع المحقَّق، وعلى الطاقات الإبداعية لا على المستقر من عوائدنا وعقائدنا.

واقع اليأس

أبدأ من السجل الواقعي. بعد عشر سنوات من الثورة السورية، الوقائع الأساسية معروفة: نصف مليون قتيل على الأقل (نكرر هذا الرقم منذ أربع سنوات ونيف خشية من المبالغة)؛ ستة ملايين ونصف لاجئ خارج البلد؛ ما قد يصل إلى نصف ترليون دولار من الخسائر المادية، أي ما يقارب عشرة أضعاف الناتج الوطني الإجمالي قبل الثورة؛ نحو 90% من السكان في الداخل تحت خط الفقر بحسب الأمم المتحدة، و12,4 مليون، أي ما يقترب من 60% من السكان غير آمنين غذائياً، ما يعادل مجاعة متسعة النطاق؛ وقوع البلد تحت أربعة احتلالات أجنبية جديدة: إيران، أميركا، وروسيا وتركيا، تضاف إلى الاحتلال الإسرائيلي الأقدم، وتصنيع كل منها لسوريّيها الخاصين، وانقسام البلد عملياً إلى أربع سوريات؛ والأهم من كل ذلك هو بقاء نظام إبادي، وإن بحماية أجنبية، ما يعني حرمان عموم السوريين من وعود، ليس بحد أدنى من العدالة والكرامة في وطنهم، بل بمجرد أن يكون الأسوأ صار وراءَنا. بقاء الحكم الأسدي ورعايته من قبل دول نافذة يعني أن كل ما وقع إلى اليوم هو ثمن للا شيء، أن آلام السوريين ومعاناتهم لا تعني شيئاً في النظام الحالي للدولة والسياسة، وأن ما هو أسوأ مما وقع سلفاً ما يزال ممكناً.

ما حدث خلال عشر سنوات طويلة في سوريا يرتفع إلى مستوى إبادة الأمل (speicide)، المفهوم الذي أرى أنه يدل على واقع حقيقي، يتمثل جوهرياً في إغلاق أي نوافذ للتغيير والعيش في حاضر مؤبَّد، وامتناع الوعد بأن الغد سيكون أقل سوءاً، وبأن من خسروا الخسائر الأكبر سيُنصَفون أو على الأقل يُعترف بخساراتهم وآلامهم. وبموازاة قتل الأمل، يجري إنتاج اليأس وتعميمه، فيتحول السوريون إلى كائنات تحت-سياسية، تتكيف سلباً مع أوضاع لا تطاق. طوال أربعين سنة قبل الثورة، كان اليأس في سورية نظاماً سياسياً، نظام أوضاع مزمنة لا تتغير، قائمة على الامتياز والتمييز، تَسُدّ الأفق أمام السوريين جميعاً، بمن فيهم الموالين. رمز اليأس هو دوام حكم الأسرة الأسدية منذ 51 عاماً. عملياً، هذا يعني سجناً مؤبداً لشعب لا تتجاوز نسبة من هم فوق 60 عاماً من سكانه 4%.

يصعب على من هم من جيلي ألا يُدرِجوا الجولة المريرة الحالية من صراعنا في سياق أطول، يشمل بخاصة جولة سابقة من الصراع، اتسمت بمنزع إبادي، استمر طَورُها الحاد لزمن أقصر، وقضى فيها عشرات الألوف، واعتُقل وعُذِّب مثلهم. أقعدت تلك الجولة من الصراع أكثرية السوريين عن السياسة طوال ثلاثة عقود. كان مزيج من نزع السياسة وزرع العنف ومن التمييز الطائفي قد ولّد أزمة ثقة وطنية دائمة، ورَدَّ السوريين إلى مجموعات بشرية لا تجمعها مطالبات عامة ولا شعور جامع ولا إرادة عيش مشترك. ما وقع خلال السنوات العشر المنقضية أكبر مما وقع مطلع الثمانينات الماضية بعشرين مرة، إن من حيث عدد الضحايا أو الخسائر، أو من حيث انهيار الإطار الوطني للصراع منذ وقت مبكر من العقد، أو من حيث قوة المنزع الإبادي. فإذا كان جيل كامل أو ثلاثون عاماً انقضت بعد حماه 1982 قبل أن تنبعث روح الاحتجاج والأمل بين السوريين في ربيع 2011، فلا يَبعُد أن ينقضي جيلان أو ثلاث قبل أن تنبعث روح مماثِلة بعد هذه الجولة الإبادية. هذا قياس تبسيطي بطبيعة الحال. فعدد المجاهيل هذه المرة أكبر، ومنها الاحتلالات الخمس المذكورة، ومنها احتمال تمادي تقسيم البلد وتحوُّله من انقسام واقعي إلى انقسام قانوني، ومنها كذلك تمادي شرط اللجوء وعيش نحو 30% من السوريين خارج بلدهم منذ ست سنوات أو سبعة، ومنها ما يبدو من أن الأمور لا تزال سائلة جداً ويتعذر توقع اتجاهاتها. لكن يبدو أن كل ما قد نفكر فيه كعوامل تُعقّد تقدير المستقبل تدفع نحو تقديرات أقل تفاؤلاً من حيث فرص التعافي الوطني، وليس نحو العكس.

فإذا صح هذا التقدير، فإن القرن الحالي – الحادي والعشرين – يبدو في حكم الضائع سياسياً سلفاً. وظَاهِرٌ على كل حال أن السوريين، بمن فيهم النظام بقدر ما، قد خرجوا من السياسة، أي من تقرير مصيرهم ومن التأثير على العمليات التي تحدّد مستقبلهم. هناك سوريون في الداخل والخارج، لكن لم تعد ثمة سوريا كإطار للسياسة – كوطن – أو كوحدة مصير.

من أجل مثال وسابقة تاريخية يُستأنس بها، ليس هناك أقرب من فلسطين. تفاوتت سياسات الفلسطينيين بعد قيام إسرائيل تفاوتا كبيراً، لكن الحتميات الدولية قلّلت الفروق بين خياراتهم من حيث النجاعة إلى أدنى حد، وحكمت عليها جميعاً بأن تكون بلا محصول. وهذا لأنه، في عين أعدائهم الأقوياء، وجود الفلسطينيين بحد ذاته – وليس سياساتهم – هو المشكلة. وليس هناك حل سياسي لمشكلة وجودية وفوق-سياسية بهذا القدر. نحن في وضع مُقارِب إلى حد بعيد، لكن دون صهيونية ودون هولوكوست. لا تُثمر سياساتنا المختلفة لأنه يبدو أن المشكلة هي في وجودنا كثائرين ومعترضين على الحكم الأسدي. الأخطاء الوفيرة من قبل المعترضين تحجب واقع أن وجودهم هو المشكلة، وأنه خلال خمسين عاماً، بل ثمانية وخمسين، لم يُقبَل يوماً حتى أكثرُهم اعتدالاً. استفتاءات التسعة وتسعين بالمئة كانت تقول أنه ليس في مواجهة الأسد غير اللاأحد، وهذا قبل أن يُترجَم ذلك إلى شعار معلوم. تغيَّر شكل الإبادة بعد الثورة، أما مضمونها فقديم قِدَمَ الحكم الأسدي.

سياسة الأمل

هل يعني ذلك لا-جدوى السياسة؟ يعني لا-جدوى سياسة معينة، هي التي نراها وحدَها تُمارَس من قبل لاعبين ومتلاعبين صغار متنوعين، يجمع بينهم أنهم تابعون للاعبين ومتلاعبين أكبر. لكن إن كانت مشكلة أعدائنا هي في وجودنا، فإن هذا يعني وجوب أن تكون سياستنا وجودية: إنتاج وجودنا الفاعل، المنشئ للمعاني والقيم والحقوق، وللتنظيم. وجودنا كمصير ممكن، وكحاملين لاسم ولقضية: قضية سوريا.

كانت الثورة سياسة وجود، تمرُّداً على الإبادة السياسية من قِبَل ملايين، هتفوا بملء الصوت أنهم موجودون، وأن سوريا لهم كشعب سوري واحد، وليس للأسرة الأسدية. سياسة الوجود هذه لم تنجح، بفعل متضافر من العنف الإبادي والتمييزي وتواضُع إنتاجيتنا من المعاني والقيم والتنظيم والحقوق. وفي مجرى السنوات العشرة، جرى التحول عنها ضمن طيف الثورة نحو سياسات-عدم إسلامية جهادية، أو سياسات تبعية متنوعة، أي سياسة-عدم كذلك. هذا يتمثل فيما تقدم قولُه من وجود أربع سوريات تابعة، فضلاً عن سوريا الشتات أو اللاجئة. وكذلك في أشكال شيطانية من الإسلامية تلبّست الثورة، وانحصرت بين العدمية والتبعية.

فإذا كان الأمل مُنطلَقَنا، فإن سوريا المأمولة لا يمكن أن تكون سوريا البعثية والأسدية بطبيعة الحال، حتى وإن بقي النظام لسنوات وعقود، ولا يمكنها في الوقت نفسها أن تكون سوريا ماضوية، قبل-بعثية وقبل-أسدية. سوريا التي تحمي السوريين من اليأس هي كيان سياسي يتعين تخيُّلُه، إيجادُه في الأذهان أولاً. وهي، لنكن واضحين، تجاوز لسوريا الثائرة نفسها بقدر ما نزعت هذه لأن تكون سوريا استبعادية، تميل إلى أن تطوي سلبياً صفحة الحقبة الأسدية والبعثية، وتسترجع زمناً أسبق. لم يكن ذلك الزمن الأسبق عظيماً، وإن كان هناك ما يمكن استلهامه منه، وإن كان لا يقارَن بلا ريب بالحقبة الأسدية التي هي حرب أهلية مستمرة، حرب استبعاد ونفي. لا يستقيم الدفاع عن تصور استيعابي لسوريا المأمولة على أرضية تصور غير استيعابي لتاريخها، يبتر حقبة بكاملها من هذا التاريخ.

وما دمنا في نطاق تخيل سوريا بعد-أسدية، فإن هناك أشياء بسيطة وأساسية على المستوى الرمزي لا بد من التعامل معها بعد تجربة السنوات العشرة، ما يتصل بالاسم والعلم والنشيد. تاريخ «الجمهورية العربية السورية» هو تاريخ الحكم البعثي والأسدي أساساً، وهو اسم لا يَستوعب التعدد السوري. نحتاج إلى التركيز على فكرة الجمهورية بمضمون مُعادٍ للتوريث والسلالية أو السلطانية المحدثة، وعلى فكرة سورية بمضمون استيعابي. الأكثرية العربية التي نزفت معنوياً وخسرت المواطنة والحقوق، والكرامة، خلال سنوات استخدام اسمها شكلياً، لن تخسر بعدم استخدامه. سيتوقف النزف المعنوي على الأقل. الجمهورية السورية – أو ما يعادلها – اسم محتمل. ثم علم جديد يؤشر على استعداد لبداية مغايرة، ليس العلم الرسمي الحالي، ولا «علم الاستقلال» أو «علم الثورة» في رأيي، بفعل محدودية التماهي بأي منهما، لكن ربما مع الحفاظ على عناصرهما الأساسية بما يقيم استمرارية تاريخية لكيان البلد الفتي. ثم نشيد وطني أقل عسكريةً وماضويةً وإمبراطوريةً وعُظاميةً، نشيد يُحيّي كفاح السوريين ويؤكد معاني رفض الذل وإرادة الوحدة السورية ورفض الأبد. على أن يجري ذلك كلُّه بروح من التسامح والاحترام، لا بتعنّت أو تحايُل، باستيعاب لا باستبعاد أو إقصاء، وقبل كل شيء على أرضية نقاش عام مفتوح وواسع.

بعد كل ما جرى خلال عشر سنوات، لا تقوم سوريا الموافقة للأمل على حصر التغيير بالنظام، بل هي تقتضي تغييرات أساسية في الكيان. لقد نشأ بلدنا في علاقة غير طيبة بنفسه، مبعثُها التباين الواسع بين وعي الذات وبين الواقع التاريخي. وإصلاح هذه العلاقة يقتضي التقريب بين الوعي والواقع على نحو يقرب سوريا من السوريين.

من شأن ذلك أن يعطي السوريين بداية على مستوى التخيل تؤسِّس لتراكم جديد.

نحن موجودون، نفكر ونتخيل ونحاول بناء شبكاتنا والعمل مع شركاء. سياسة الوجود أو تخيُّل وجود مختلف هي سياسة للأمل، بقدر ما أنها تتوافق مع نهاية الأبد وبداية مغايرة. وهي استئناف لما تطلعت إليه الثورة: امتلاك السياسة والبلد، وإن تكن استئنافاً تجاوزياً، يُدرج الصراع ضد الأسدية وحُماتِها في سياق الصراع ضد شياطين الثورة، ضد روح التمييز والنفي التي أخذت تتوطّن فيها بقدر ما هي تعثرت في مواجهة النظام. الوفاء لروحية الثورة السورية يقتضي قطيعة مع تصور الثورة كانقلاب سني أو ما يقاربه، أي كإنتاج للتمييز ولليأس السياسي على أسس جديدة؛ لأسدية سنية. وحشية النظام والاستماتة في صراعنا أضعفت فرص التمايز عن انقلابيين في إطار الثورة يريدون لأنفسهم جولة أو جولات لا تنتهي، «أبداً»، في الحكم. سياسة الأمل تستأنف الثورة بخوض صراعات لا بد منها في أوضاعنا اليوم ضد التمييز الاجتماعي والديني، ضد التمييز ضد النساء، ومن أجل الحريات الاجتماعية والدينية. سياسة الوجود هي سُبُل تَدبُّرِ وجودٍ مُنشِئ وخلّاق معاً.

النظر بعينين

الأمل مسألة موضوعية وذاتية معاً، إن استخدمنا لغة قديمة. هناك ما يُحيل إلى واقعٍ خارجَنا، يفرض نفسه بقسوة متناهية: واقع الاعتقال والتعذيب والتغييب والقتل والتهجير واللجوء وفقدان الملكيات وتقطّع الروابط حتى ضمن الأسرة الواحدة، والانفصال عن محلات الذاكرة الأولى، والفقر والعيش في مخيمات… هذا «الواقع الموضوعي» سحق ويستمر في سحق آمال كثيرين منا. لكن بعض يأسنا ناشئ عن أننا لا نحاول بقدر ما يلزم الانفصال عن تراكيب اليأس وعلاقاته وعملياته، تراكيب اللا-حرية، عن ضعف إنتاجيتنا لمعانٍ وقيم ومتخيَّلات جديدة. أو بالضبط عن عدم تمكُّننا من تحقيق نهايات تُخفِّف أعباءنا وتُحرِّرنا مما هو ميّت أو مات خلال هذه السنوات العشر، واجتراح بدايات جديدة نكون فيها أكثر حرية وأقدر على الخلق. لدينا من التجربة اليوم، ومن القدرة على تقليب النظر، ما من شأنه أن يساعد في طيّ صفحات وبِدء سجلّات جديدة. الأمل سياسة، أي تخيُّل واختيار، وعمل على بناء الرؤى والبرامج والتنظيمات المناسبة، وليس حتمية تاريخية.

وفي مثل شروطنا الحالية، وقد خسرنا معركة التغيُّر السياسي، يمكن أن نعمل على تغيُّرنا نحن، تغيُّر تفكيرنا وحساسيتنا وتخيُّلِنا، على نحو يُغالب اليأس بكفاءة أكبر. الدرس الذي خرجنا به من تجربة جيلي، وهي تجربة هزيمة سياسية وخسارة تعريف للذات، هو أنه إن أردنا أن نحافظ على أهدافنا فلا بد من تغيير مناهجنا وأدواتنا، فإن لم نفعل كان مرجحاً أن نخسر أهدافنا ذاتها. أعتقد أن هذا الدرس صالح في مواجهة التجارب الأحدث، وإن كان مثيراً للغضب والحزن أن تتكرر الخسائر المهولة، وتُبتلَع أعمار أجيال. في الشتات على الأقل، نستطيع أن نعطي أنفسنا حرية لم تتحقق لبلدنا. ويمكن التفكير في نحو 30% من السوريين يعيشون بعيداً عن سيطرة النظام كفرصة لسوريا، كـ«منطقة محررة» فعلاً. ليست أوضاع كثير من اللاجئين جيدة، وهي أقرب إلى كارثية في لبنان وعسيرة في الأردن، وليست طيبة في أي مكان، لكن ستة ملايين ونصف متحررون من سيطرة نظام الأبد والإبادة؛ نظام اليأس الشامل، وهذه الحرية تجد لنفسها تعبيرات إبداعية سلفاً هنا وهناك، عند الجيل الأصغر، وبخاصة النساء. إبداعية حياتية ووجودية، وليس إبداعية ثقافية فقط. أعني تكوُّن ذاتيات جديدة، مستقلة، تخوض معارك تحرُّر تزداد جذريةً ولا تقبل التبعية لأحد.

إذا نظرنا بعين الواقع، فإن الشتات يمثل أحد أقسى أوجه المحنة السورية، أما إذا نظرنا بعين الأمل، فسنرى في الشتات بالذات وجه سوريا الحر. ليس هناك سبب لأن لا ننظر بالعينين معاً.

موقع الجمهورية

\

—————————

في سرديّات الثورة السوريّة/ د: حسام الدين درويش

في مقدمة ملف الذكرى العاشرة للثورة السوريّة، يكتب د.حسام الدين درويش، المحرّر الضيف في حكاية ما انحكت، وهو مُعّد ومحرر هذا الملف، عن سرديات الثورة السوريّة ويستعرض المقالات التي سيتضمنها هذا الملف.

ها قد مضت عشرة أعوامٍ على بداية الثورة السورية. فما الذي حدث، فعلًا، خلال تلك السنوات؟ وكيف، ولماذا، حدث؟ وما هي نتائجه وآفاقه المستقبليّة؟ وكيف تمّ سرد أحداث الثورة السوريّة وحكاياتها؟ وما هي السرديّات التي ظهرت، للإجابة عن مثل هذه الأسئلة، وعمّا يماثلها أو يتصل بها؟ وهل يمكن المقارنة بين تلك السرديّات، لاستخلاص “سرديّةٍ موضوعيّةٍ واحدةٍ”، واستبعاد “السرديّات غير الموضوعيّة”؟ أم إنّ من طبيعة السرديّات أن تكون متخيَّلةً، بحيث يمتزج فيها الواقع بالخيال، والموضوعيّ بالذاتيّ، وما هو كائنٌ بما يجب أن يكون؟ وما أهميّة وجود هذه السرديّة أو تلك؟ وإلى أيّ حدٍّ تلعب مضامين تلك السرديات دورًا مهمًّا، لا في التأريخ الشفوي أو المكتوب للماضي، وفهمه، فحسب، بل في العلاقة مع الحاضر، وفي تحديد آفاق المستقبل، أيضًا؟

سرديةٌ واحدةٌ أم سردياتٌ متعددةٌ؟

من المؤكَّد أنّ سرديّات الثورة السوريّة مختلفةٌ إلى حد التناقض أحيانًا. فهناك سرديّة “الثورة مستمرةٌ”، مقابل سرديّة “الثورة لم تحدث أصلًا”. وبين هاتين السرديتين، نجد سرديّات حصول الثورة لأيامٍ أو أسابيعٍ أو أشهرٍ، أو لبضع سنواتٍ فقط. وهناك سرديّة “ما حصل مجرَّد مؤامرةٍ من الخارج (الإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة)”، مقابل سرديّة “ثورة شعبٍ ضدّ الاستبداد، من أجل الحريّة والكرامة والعدالة”. وهناك سرديّة “أغلبيّةٌ إسلاميّةٌ/ سنيّةٌ ضدّ الحكم العلوي من أجل تأسيس دولةٍ إسلاميّةٍ”، مقابل سرديّة “أغلبيةٌ سوريّةٌ مقموعةٌ من أجل المواطنة والديمقراطيّة”. وهناك سرديّاتٌ على أساس النسب الإثنيّ أو الدينيّ أو الطائفيّ أو المناطقيّ، وهناك سرديّاتٌ على أساس الانتساب الوطني إلى سوريا عمومًا، وهناك سرديّاتٌ من منظورٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ عالميٍّ.

جهاد محمد.. لاعب النرد (1)

10 آب 2019

سيكون هذا الملف، الذي يحمل عنوان “في سرديّات الثورة السوريّة”، محاولةً للتفكير في (بعضٍ من) هذه السرديّات، وللإجابة عن (بعض) الأسئلة المطروحة آنفًا، من منظوراتٍ متعددةٍ. وسيتضمن كلّ نصٍّ من نصوص هذا الملف عرْضًا لسرديّةٍ أو أكثر من سرديّات الثورة السوريّة، و/ أو تناولًا بالتحليل والنقد لسرديّةٍ أو أكثر من السرديّات الأخرى، وما يتصل بها من أفكارٍ ومفاهيم، في هذا السياق.

في السرد التأريخي (للثورة السوريّة)

يمكن للسرد أن يكون خياليًّا (سرد الروايات والقصص وبقية الأعمال الأدبيَّة) أو تأريخيًّا (سرد علم التاريخ). ويهتم الملف، تحديدًا، بهذا السرد الأخير (للثورة السوريّة). والمقوِّم الأساسي للسرد، كما بيَّن “بول ريكور Paul Ricœur”، هو الحبك، بالمعنى الأرسطي للكلمة، والمتمثل في “ترتيب الأحداث في نسقٍ”(1) فالسرد يحاول إنتاج كليةٍ متسقةٍ من أحداثٍ وأفعالٍ وصدفٍ ووسائل وأهدافٍ وقيمٍ وأفكارٍ تبدو متنافرةً. ولا نعني بالسرديّة هنّا مجرد حكايةٍ أو قصةٍ؛ بل نعني ما هو قريبٌ، جزئيًّا ونسبيًّا، من “السرديّات الكبرى” التي تحدث “جان فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard” عنها، أو عن غيابها في “وضع ما بعد الحداثة”(2). والسرديّة الكبرى رؤيةٌ وصفيّةٌ وتقويميّةٌ عامةٌ، ليس لظاهرةٍ أو حدثٍ ما فحسب، بل وللتاريخ ومعناه وقيمته وفلسفته عمومًا أيضًا. وفي السرديّة الكبرى، قد يختلط أو يتكامل الذاتيّ بالموضوعيّ، والأيديولوجيّ بالمعرفيّ، والأدبيّ بالتأريخي، بطريقةٍ قد تقمع سردياتٍ صغرى كثيرةً، لكنها قد تعطي معنىً لسردياتٍ صغرى كثيرةٍ أيضًا. وحتى الآن، لم يُكتب النجاح لأي سرديةٍ أن تصبح السردية الكبرى. وتتضمن نصوص الملف تصنيفاتٍ رئيسةً مختلفةً، وفقًا لمعايير متنوعةٍ، لأبرز وأهم سرديات الثورة السورية. ومن أبرز النصوص، التي تتناول هذه التصنيفات، في الملف، نذكر نص “مقاربة أوليّة لسردياتنا حول الانفجار السوري”، ﻟـ”حازم نهار”، ونص “سرديّات الثورة السورية”، ﻟـ”معتز الخطيب”. كما يتضمن الملف نصًّا ﻟـ”ناهد بدر”– “ماذا حصل منذ عشر سنوات في سورية؟ تعدديّة الأجوبة وفرجة الممكن” – يشدِّد على تعدّد الإجابات عن سؤال “ماذا حصل في سورية منذ عشر سنواتٍ؟”.

من “السرديات الصغرى” إلى “السرديات الكبرى”

“في البداية”، بدا الربيع العربي وكأنه مجموعةٌ من القصص والأحداث والسرديات الصغرى التي يصعب إقامة علاقةٍ سببيةٍ (خطيةٍ) فيما بينها. فحينئذٍ، لم يكن هناك سرديةٌ كبرى تربط، على سبيل المثال، بين الصفعة التي تلقاها، على الملأ، التونسي “طارق الطيب محمد البوعزيزي” من الشرطية، والصفعة التي وجهها شرطي مرورٍ سوريٍّ، لأحد الشباب في منطقة الحريقة في دمشق. ولم يكن هناك ما يوحي باستثنائية هاتين الصفعتين، وبتحولهما اللاحق إلى جزءٍ أساسيٍّ أو مؤسِّسٍ لسرديةٍ أو لسردياتٍ كبرى. وبدا الحراك الاحتجاجي في “دول الربيع العربي” أشبه بثوراتٍ كبرى، لكن بسردياتٍ صغرى لا كبرى؛ فهي ثورات رفضٍ لما هو كائنٌ، أكثر من كونها ثوراتٍ تحدد (بوضوحٍ) البديل الأيديولوجي الذي يجب أن يكون. لم تكن ثوراتٍ أيديولوجيةً بالمعنى التقليدي والسائد للأيديولوجيا؛ فلم تكن، أو لم يكن يُنظَر إليها، “في البداية”، على أنها ثورة أحزابٍ أو متحزبين، أو يساريين أو يمينيين، أو علمانيين أو إسلاميين، أو ملحدين أو مؤمنين، أو مدينيين أو ريفيين …إلخ.

هيمنة السرديات الصغرى بدت واضحةً، في البداية، حتى في نطاق كل دولةٍ على حدةٍ. وذلك كان واضحًا في الأسابيع الأولى من الثورة السورية، على الأقل. ففي تلك الأسابيع، لم يكن هناك تنسيقٌ أو تكاملٌ وترابطٌ عضويٌّ بين التحركات والاحتجاجات الشعبية في المناطق السورية المختلفة، أو بين مطالب المحتجين في المناطق السورية المختلفة. لكن سرعان ما بدأت الأطراف المختلفة، ذات الصلة المباشرة أو غير المباشرة بالربيع العربي، بتطوير سردياتٍ كبرى تتصارع جنبًا إلى جنبٍ، مع صراع تلك الأطراف على الأرض. ومنذ ذلك الحين، والصراع على أشدّه بين السرديات المختلفة الخاصة بالربيع العربي عمومًا، أو الخاصة بكل دولةٍ من دوله تحديدًا. ولأسباب كثيرةٍ، لم يفضِ الصراع المذكور بين السرديات، حتى الآن، إلى الاستقرار على سرديةٍ كبرى مهيمنةٍ، فالصراع في الواقع ما زال قائمًا، والآفاق مفتوحةٌ، على الرغم من كل محاولات إغلاقها، وجعلها أحادية الأبعاد.

الثورة بوصفها حدثًا (تاريخيًّا)

الحديث عن الآفاق المفتوحة لا ينفي أن الثورة السورية، بوصفها فعلًا لفاعلين سياسيين سوريين، قد “انتهت فعلًا”. لكن الثورة السورية لم تكن، وليست، مجرد فعلٍ، ليتم تناولها على هذا الأساس، ووفقًا لغايات الفعل ونتائجه المباشرة فحسب؛ بل كانت وما زالت حدثًا تاريخيًّا لا ينتهي إلا بانتهاء نتائجه وعقابيله وتداعياته. ويبدو واضحًا أن تلك النتائج والعقابيل والتداعيات لم تنتهِ حتى الآن؛ ومن المرجَّح ألا تنتهي قريبًا. ويمكن للسرديات عمومًا، ولسرديات السوريين خصوصًا، أن تتناول الثورة السورية من منظور نظرية الفعل، بوصفها فعلًا قد انتهى، أو من منظور نظرية التاريخ، بوصفها حدثًا مستمر النتائج والعقابيل والتداعيات. وفي الملف نصان، على الأقل، يشدّد مضمون، بل وعنوان، كلٍّ منهما، على السمة الحدثية للثورة السورية: نص “الثورة السورية بوصفها حدثًا”، ﻟـ”أحمد اليوسف”، ونص “الحدث السوري بوصفه ثورة سياسية”، ﻟـ”لحسن أوزين”.

في التشابك الدائم بين الوصفي والمعياري في سرديّات الثورة السوريّة

ثمة تشابكٌ دائمٌ بين البعدين الوصفي والمعياري، في سرديات الثورة السوريّة، سواءٌ تم تناول تلك الثورة، في تلك السرديات، بوصفها حدثًا أو فعلًا. فبالإضافة إلى حضور البعد المعياري الواضح في مقاربات الفاعلين السياسيين المختلفين، يكون ذلك التشابك بين البعدين الوصفي والمعياري حاضرًا في المقاربات المسماة تحليليةً، بغض النظر عن محاولتها البقاء في إطار الوصف والتحليل، والابتعاد عن التقويم والأحكام المعيارية. ولا يقتصر البعد المعياري على الحكم بأن “الثورة قد فشلت أو أُفشِلت” أو بأنها طائفيةٌ أو غير طائفيةٍ… إلخ فقط، بل يمتد ليشمل استخدام هذا المفهوم أو المصطلح أو ذاك. فعلى سبيل المثال، الحديث عن الحدث السوري بوصفه، أو باستخدام مصطلح/ مفهوم، “ثورة” يتضمن أحكامًا معياريةً (ووصفيةً) مختلفةً كثيرًا عن الأحكام المعيارية (والوصفية) المتضمنة في مفهوم “الحرب الأهلية.(3) ويتناول “وسام سعادة” هذين المفهومين في أحد نصوص الملف الموسوم ﺑـ “جدلية الثورة والحرب الأهلية وإشكالية الكيان الوطني نفسه في سوريا” الذي يتضمن مراجعةً نقديةً مكثفةً لكتاب نيقولاوس فان دام “تدمير أمة. الحرب الأهلية في سوريا”.(4) لكن، بعيدًا عن الأحكام المعيارية الأحادية و”المتطرفة” التي تقتصر على الحديث عن نقاء الثورة وعظمتها، أو عن كونها مجرد مؤامرة أو “فورة” وما شابه، هناك إقرارٌ متزايدٌ ﺑ “التباس الثورة السوريّة”، وهذا هو عنوان أحد نصوص الملف، وهو

الإقرار بهذا الالتباس يتضمن ويقتضي تجنب ورفض كلّ نظرةٍ معياريّةٍ أحاديّةٍ تعمل على ملأكة أو شيطنة هذه الثورة أو الثائرين أو المنتمين لها، انتماءً مباشرًا أو غير مباشرٍ. لكن الإقرار بهذا الالتباس، والتأسيس له، والتأسُّس عليه، معرفيًّا وأيديويوجيًّا، لا يعني، في هذا السياق، اتسام المواقف والتقويمات بالسمة الرماديّة “سيئة الصيت”، أو محاولة تجنب تبني مثل تلك المواقف والتقويمات، من حيث المبدأ، أو من منظور أن “الطرفين سيئان” أو “كل الأطراف أسوأ من بعضها”. فالرمادية هنا هي رمادية الموقف، وليست رمادية اللا-موقف، أو رمادية التهرب من الموقف؛ والرمادية المعنية هنا، والمتصلة بالإقرار بالتباس الثورة السورية، تقرِّ أيضًا باستحالة الإقصاء الكامل للبعد المعياري للمعرفة المتعلقة بالظواهر والأحداث الاجتماعية عمومًا، ولتلك المتصلة بحدثٍ مثل “الثورة السورية” خصوصًا. هذه الرمادية هي تعبيرٌ معرفيٌّ عن التعقيدات الكبيرة المتصلة بما حصل ويحصل في سوريا منذ عشرة أعوامٍ. فما حصل ليس مجرد ثورةٍ فقط، أو حربٍ أهليةٍ فقط، أو حروبٍ بالوكالة فقط،… إلخ، بل هو كل ذلك وغيره أيضًا؛ ولا ينبغي اختزاله في أي بعدٍ أو جانبٍ أحاديٍّ، وصفيٍّ- تقويميٍّ. وعلى العكس من السائد والمظنون للوهلة الأولى، يمكن للنظرة الرمادية المقرَّة بالتباس الثورة السورية أن تقدم رؤيةً أو سرديةً أكثر وضوحًا وموضوعيةً من أي نظرةٍ أو سرديةٍ أحاديةٍ اختزاليةٍ؛ بعيدًا عن الانزلاق إلى لا-مبالاة معرفية وتقويمية لا تميِّز، أو لا تظهر التمايز والتراتب القائمين، بين أبعاد الظاهرة المدروسة، وبين العوامل السببية المؤثرة فيها، وبين القيم المرتبطة بها، من منظورٍ قيميٍّ عامٍّ، و/ أو من منظور الفاعلين السياسيين … إلخ.

بين المعرفة والإيديولوجيا، بين الموضوعيّة والذاتيّة

انطلاقًا من هذا التشابك بين البعدين الوصفي والمعياري، أو من محايثة المعياري لما هو وصفيٌّ، في سرديات الثورة السورية، يمكن تناول مسألة العلاقة بين الأيديولوجي والمعرفي، وبين الذاتي والموضوعي، وبين الانحياز الذاتي والحيادية الموضوعية، في السرد التأريخي عمومًا، وفي السرديات المتعلقة بالثورة السورية خصوصًا. وثمة مشروعيةٌ مبدئيةٌ للاشتباه أو الشك في موضوعية سردية أي ذاتٍ مرتبطةٍ ارتباطًا أيديولوجيًّا ما بالثورة، ومنحازةٍ إليها، لدرجةٍ أو لأخرى. فليس نادرًا أن تكون الذاتية والأيديولوجيا حجر عثرةٍ أمام الموضوعية المعرفية. لكن ذلك التنافر أو التناقض ممكنٌ أو جائزٌ فقط، وليس ضروريًّا على الإطلاق؛ بل يمكن القول بأنه، في مثل هذه السياقات خصوصًا، وفي المعرفة الإنسانية (للظواهر الاجتماعية/ السياسية) عمومًا، لا معرفة بدون أيديولوجيا، ولا معرفة موضوعية بدون ذاتيةٍ وانحيازٍ ما. فالذاتية والانحياز هما طريق الموضوعية (أيضًا)، وليسا نقيضًا ممكنًا لها (فقط). وكذلك هي الحال مع الحيادية التي قد تكون مضادةً للموضوعية في بعض الحالات، وشرطًا ضروريًّا لها في حالاتٍ أخرى. فالحياد المعياري بين القاتل والقتيل، أو بين المجرم والضحية، أو بين الظالم والمظلوم، واعتبارهما مجرد طرفين، يمكن أن يؤثِّر تأثيرًا سلبيًّا في موضوعية أي معرفةٍ تتبنى مثل ذلك الحياد المزعوم الذي لا يعدو أن يكون سوى انحيازًا مقصودًا، على الأرجح، لطرفٍ على حساب طرفٍ آخر.

ينبغي للحديث السابق عن موضوعية المعرفة أو السردية التأريخية ألا يفضي إلى الاعتقاد بإمكانية الوصول إلى السردية الكاملة، أي السردية الكبرى التي تتضمن كل السرديات الصغرى، وتتجاوزها، لتكون سرديةً شاملةً وكاملةً. وهذه السردية ليست غير ممكنةٍ فحسب، بل غير ضروريةٍ، وسلبيةً بالضرورة، لأنها ستكون أقرب إلى السردية الكبرى بالمعنى الليوتاري للكلمة: سرديةٌ أحاديةٌ و”أَحَدَة” تعبِّر عن نزعةٍ وحدانيةٍ ترفض أي إشراك بها، وتعادي كلَّ تعدديةٍ، وتقصي كل مختلفٍ معها، و”تكفِّره” وتزدريه وتنكر وجوده أو وجود أي مشروعيةٍ له. ومن هنا تأتي إحدى ضرورات التخلي عن “حلم السردية الكبرى”، بوصفها “سردية كل السرديات”.

صحيح أنّ محايثة أو ملازمة الانحياز والذاتية والأيديولوجيا لكل معرفةٍ وسرديةٍ لا يعني بالضرورة لا-موضوعية تلك المعرفة والسردية، لكن المحايثة أو الملازمة المذكورة تبيِّن بوضوحٍ منظورية تلك المعرفة. ونعني بالمنظورية أن السردية والمعرفة عمومًا هي حصيلة تفاعلٍّ مميزٍ بين ذاتٍ وموضوعٍ، ويمكن لذلك التفاعل أن يختلف باختلاف (أحد) الجانبين: الجانب الذاتي المتفاعِل و/ أو الجانب الموضوعي المتفاعَل معه. ويمكن وينبغي لكل معرفةٍ (سرديةٍ)، أو لكل سرديةٍ تأريخيةٍ، أن تحاول، قدر المستطاع، الجمع بين أكبر عددٍ ممكنٍ من المنظورات المختلفة، لكن ينبغي أن تتم تلك المحاولة على أساس إقرارٍ مسبقٍ بأن الجدل بين المنظورات المختلفة والمتناقضة لا يمكن أن يصل إلى ذلك التركيب الهيغلي والمعرفة المطلقة المرتبطة به، وأن ذلك التركيب هو أقرب إلى أن يكون أُفُقًا موجِّهًا يجهد الباحث للاقتراب منه، مع علمه باستحالة الوصول إليه والتطابق معه.

من “الشعب يريد” إلى “الطوائف والأديان والإثنيات تريد”… السياسة بين النسب والانتساب

23 تشرين الأول 2018

سرديات الثورة السورية بوصفها تأريخًا لماضٍ ولحاضرٍ

يتكثف الحديث عن منظورية المعرفة وذاتيتها، في سرديات الثورة السورية، عند الحديث عند كونها سرديةً لحدثٍ لم تنتهِ مفاعيله وعقابيله بعد، وفي ظل معاناةٍ تخفُّ حينًا، لكنها تشتد أحيانًا أو أحايين أخرى. وفي تأريخ الحاضر، تزداد المخاوف والشكوك المشروعة وغير المشروعة من منظورية المعرفة وذاتيتها، أو بالأحرى من ذاتويتها. لكن سرديات الثورة السورية ليست تأريخًا لحاضرٍ فقط؛ فقد أصبح ضروريًّا الانتباه، بعد مضي عشر سنين على انطلاق الثورة السورية، إلى أن ما يراه كثيرون حاضرًا هو ماضٍ قد مضى، أو قد أصبح ماضيًا بالنسبة إلى كثيرين؛ وأنّ أعدادًا كبيرةً من السوريات والسوريين كانوا أطفالًا أو مراهقين، حين انطلقت الثورة السورية، وهم، بالتالي، لا يعرفون الكثير عن ماهية “سورية الأسد”، وعمّا حصل قبل الثورة و/ أو أثناءها. ويمكن القول إن عددًا غير قليلٍ من السوريين الذين كانوا راشدين وناضجين، حين قامت الثورة السورية، لم يكن لديهم أي معرفةٍ (كافيةٍ) بوضع البلد وأحواله، وبطبيعة النظام السياسي/ الأمني فيه. ولم يكن نادرًا أن يبرّر السوريون “ابتعادهم عن السياسة” وجهلهم بالأوضاع السياسية لبلدهم بحجة أن السياسة ليست من اهتماماتهم أو ليست من أولوياتهم. ويبدو ذلك الأمر واضحًا في كلام السيدة “لونا وطفة” – “الناشطة السياسية والإعلامية” والمعتقلة السياسية السابقة لدى النظام الأسدي – المنشور مؤخرًا. “فحتى بداية المظاهرات الأولى ضد نظام بشار الأسد في آذار/ مارس 2011، لم تكن السياسة من أولويات لونا، و”لم يكن لديها أية فكرةٍ عما يمكن أن تفعله”، بحسب قولها. الأحداث جعلتها تقبل على القراءة حول تاريخ سوريا السياسي، كما قرأت الكثير عن جرائم عائلة الأسد في سوريا وهو ما جعلها تفهم لماذا نزل الناس إلى الشارع للاحتجاج”.(5)

انطلاقًا مما سبق، يبدو واضحًا وجود ضرورةٍ متزايدة القوة لامتلاك الوعي بأن سرديات الثورة السورية أصبحت تستحضر الماضي أكثر من كونها مجرد تدوينٍ لما هو حاضرٌ، وبأنها، مثل أي عمليةٍ تأريخيةٍ، تؤثر في هذا الماضي بقدر تأثرها به، وربما أكثر. ويكمن تأثيرها في ذلك الماضي من خلال صياغة بعض أجزائه في حبكةٍ تخلق الانسجام بين تلك الأجزاء المختارة منه، وفق سلمٍّ أو تراتبٍ ما من المعايير والأولويات المعرفية- القيمية الذي يفضي إلى إبراز بعض الأجزاء، أو القول بأساسيتها وأهميتها (الكبيرة)، وتهميش أجزاء أخرى، أو القول بثانويتها، والتقليل من أهميتها. وليس نادرًا أن يدفعنا النظر إلى الماضي/ التاريخ إلى الوقوع في فخ الحتميات، من خلال الاعتقاد بحتمية كل ما حصل فيه. ويتناول “محمود هدهود” تلك النظرة بالنقد في أحد نصوص الملف، وهو نصٌّ موسومٌ ﺑـ”الوطنية “الممكنة”: هل كانت هزيمة الثورة السورية محتومة؟”.

“حرب الوثائق والتوثيق” والصراع أو الاختلاف بين سرديات الثورة السورية

“حرب الوثائق والتوثيق” بين الأطراف المختلفة، السورية وغير السورية، قائمة منذ انطلاق الثورة السورية التي يمكن القول بأنها ثورةٌ موثَّقةٌ بقدر ما هي ثورةٌ في التوثيق. فقد كان السوريون الثائرون حريصين جدًّا على أن يوثِّقوا ثورتهم بطريقةٍ تفضح وحشية النظام، وتكشف، في الوقت نفسه، ماهيّة الثورة عليه، وضرورة تلك الثورة. وفي نهاية العام الماضي، اختارت مجلة “التايم” الضابط المنشق “قيصر”، والمخرجة “وعد الخطيب”، ليكونا ضمن قائمتها لأكثر 100 شخصيةٍ مؤثرةٍ لعام 2020. “وكان سبب تضمين “قيصر” والخطيب في هذه القائمة هو لتوثيقهما ما يجري في سوريا من انتهاك لحقوق الإنسان في مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري، سواء كان هذا التوثيق في صور أو من خلال لقطات لمشاهد من مدينة حلب شمالي سوريا”.(6) وقد صرّح  “ستيفن راب Stephen Rapp”، رئيس اللجنة الدولية للعدالة والمسائلة الدولية، أن لدى لجنته أكثر من 900 ألف وثيقةٍ حكوميةٍ توثِّق جرائم النظام الأسدي وتُظهر مسؤولية كبار المسؤولين فيه عمومًا، بما في ذلك رأس ذلك النظام.(7) وأشار برنامج “60 دقيقة Minutes 60” إلى وجود أدلةٍ على جرائم حرب ضد الرئيس السوري بشار الأسد، أكثر مما كانت موجودةً ضد النازيين.(8)

“إلى سما” وصناعة الأفلام السائدة (١٣)

14 أيار 2020

الصراع بين السرديات هو، جزئيًّا ونسبيًّا، جزءٌ من حرب الوثائق والتوثيقات؛ ولعل تضمين هذه الوثائق في سردٍ هو الجزء الأهم من تلك الحرب. ويعي كل من يتناول سرديات الثورة السورية بأن كل سرديةٍ تهجس في السرديات الأخرى المتعارضة معها، وتدخل في حوارٍ أو صراعٍ صريحٍ أو مضمرٍ معها. وتكون السرديات الأخرى، القائمة أو الممكنة، أشبه بالشبح الذي يخيّم فوق كل سرديةٍ؛ وهو شبحٌ لا يمكن التخلص من وجوده بسهولةٍ، لأسباب كثيرةٍ، تبدأ من كون الشبح يقع في منزلةٍ وسطى بين منزلتي الوجود والعدم/ اللاوجود، ولا تنتهي بوجود قوىً عديدةٍ تسعى إلى فرض سرديةٍ أو سردياتٍ (زائفةٍ) على حساب سرديةٍ أو سردياتٍ أخرى. وهذا الصراع هو صراعٌ على معنى الثورة السورية وقيمتها، وهو جزءٌ من الصراع بين أطراف الثورة السورية، أو تتمةٌ واستمرارٌ له، لكن بوسائل أخرى.

ولا يتَّخذ الاختلاف المعرفي والأيديولوجي بين سرديات الثورة السورية، دائمًا، تلك الصيغة الصراعية العدائية – التي تظهر مثلًا في الاختلاف بين السرديات التي تختزل ما حصل في سورية في مؤامرةٍ كونيةٍ، والسرديات التي تختزله في ثورة أخيارٍ على أشرارٍ – بل يمكن لذلك الاختلاف أن يظهر بين رؤىً معرفيةٍ متباينةٍ يسعى أصحابها، بحقٍّ، إلى تقديم سرديةٍ موضوعيةٍ للثورة السورية و/ أو “نقدٍ بناءٍ” لبعض السرديات المهمة أو الرائجة. ويتضمن هذا الملف نصوصًا وسردياتٍ تعكس قدرًا (كبيرًا) من ذلك الاختلاف ومن تلك الرؤى المتباينة. ويمكن القول إن الرؤى والسرديات التي يتبناها كتاب هذا الملف تسعى كلُّها إلى ما هو حقٌّ، أي إلى الحقيقة والخير، بدون أن يفضي ذلك إلى التقليل من حجم الاختلافات القائمة بينها. فالسعي إلى الحق لا يفضي بالضرورة إلى بلوغه، والحقُّ، كما هو حال الوجود/ الموجود – عند أرسطو – يُقال بطرقٍ مختلفة. وهذه الطرق هي التي أطلقنا عليها آنفًا اسم “المنظورات”.

الهوامش

(1) Paul Ricœur, Temps et récit, t. I. L’intrigue et le récit historique, (Paris : Éd. du Seuil, 1983), p. 69. بول ريكور، الزمان والسرد ج1: الحبكة والسرد التاريخي، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، راجعه عن الفرنسيَّة جورج زيناتي، (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2006)، ص 66.

(2) Jean-François Lyotard, The Postmodern Condition: A Report on Knowledge, (University of Minnesota Press, 1984).

(3) انظر: حسام الدين درويش، “في مفهومي “الحرب الأهلية” و”الثورة” في سوريا”، موقع حكاية ما انحكت، 15 آذار، 2020.

(4) انظر: نيقولاوس فان دام، تدمير أمة. الحرب الأهلية في سوريا، ترجمة لمى بوادي، احمد بشارة، أنطوان باسيل، كمال ديب، تنقيح وتدقيق مارلين سعادة (بيروت: دار جنى تامر للدراسات والنشر، 2018).

(5) ماتياس فون هاين، “لونا تحكي قصتها.. على هامش محاكمة ضابطين سوريين في ألمانيا”، موقع دويتش فيله، 13 شباط/ فبراير 2021.

(6) سوريان ضمن قائمة “التايم” لأفضل 100 شخصية مؤثرة في عام 2020″، عنب بلدي، 23 أيلول/ سبتمبر، 2020.

(7) انظر تسجيلًا مع ترجمة مكتوبة، لجزء من برنامج “60 دقيقة60 Minutes ” الذي بُثته شبكة CBS الأمريكية في 21 شباط/ فبراير 2021، وكان مخصَّصًا للحديث عن الجرائم المرتبة في سوريا: موقع التجمع الوطني الحر.

(8) انظر: “تهريب وثائق تدين نظام الأسد “أكثر من الأدلة ضد النازيين””، موقع الحرة، ترجمات، واشنطن، 19 شباط فبراير 2021. وللاطلاع على تقرير لشبكةCBS  عن الموضوع، انظر: “Former prosecutor: More evidence of war crimes against Syrian President Assad than there was against Nazis”, CBS Interactive Inc. 18 February 2021.

شارك المقال

حكاية ما انحكت

——————————-

سورية بين الثورات والتدخلات/ أكرام كاشي – جيروم ماكورانت

ترجمة وتقديم: إبراهيم المحمود*

المقدمة: ماذا يقدّمه لنا مقال مكتوب عن مسارات سورية: الدولة، المجتمع، والثقافة فيها، وقبل خمس سنوات، وهي تعيش حروباً عدّة داخلاً وخارجاً، وها قد تضاعفت المدة الزمنية، وظهرت تغيّرات أو تحولات نوعية، في مجمل ما ذكرت؟

إن هذا المقال الطويل نسبياً، أبعد ما يكون عما هو آني، عما هو إعلامي، منبري، أو صحافي، ومكتوب على عجالة. كما هو المستقّرأ من أسلوب كتابته، وطريقة تناوله للموضوع. لا حكْم في الموضوع. جهة المقرّر هنا، إن قراءته هي المحك، لمعرفة تاريخية المقال هذا، والصفة المعرفية التي تعرّف به من أوله إلى آخره. إنه يقدّم نفسه بنفسه.

نص المقال

سورية هي الدولة العربية الأكثر تضررا من العنف. أكثر من كلمة “ثورة”، هي كلمة “حرب” التي تتبادر إلى الذهن على الفور في عام 2015. ومع ذلك، في البداية، كان الاحتجاج ضد النظام سلميًا في الأساس. وفي هذا الصدد ، تجدر الإشارة إلى النجاح الذي لا يمكن إنكاره لنظام نجح في عسكرة التمرد في التعامل مع القضية السياسية بأسلوب بوليسي أو عسكري. وهكذا ، فإن طبيعتها متعددة الأوجه في الأصل قد أفسحت المجال لمنطق الاستقطاب والتطرف الذي يهدد جوهر المجتمع. والتدخل الأجنبي ، الذي تطور بمساعدة نشطة من النظام الحريص على بناء أعداء مفيدين ، دفع العديد من المعلقين إلى إنكار الطابع الثوري للزمن الذي مر به في سورية. وصحيح أن بعض المتخصصين ، المتميزين بتقاليد استشراقية معينة ، يجدون صعوبة في تصديق أن العالم العربي يمكن أن يشهد ثورات حقيقية بالمعنى الذي يعرفه بها الغرب منذ ثلاثة قرون،إذ إن  المكونات الحاسمة لهذه الثورات ، مثل المساواة أو استقلال فردي معين ، لم تكن موجودة بعد ، في العالم العربي المعاصر عملياً. وتتفق الثقافة الاستشراقية ، بالطبع ، على الاعتراف بأن الانتفاضات يمكن أن تنتج عن الإهانة التي تحافظ فيها دول معينة على شعوبها ؛ كما يمكن أيضًا اعتبار الافتقار إلى الحد الأدنى من إعادة توزيع ثمرات النمو الاقتصادي سببًا للثورات. لكن حجم الأحداث في سورية ، على وجه الخصوص ، يشير ، في هذا المنظور ، إلى تسليط الضوء على عوامل خاصة بالمجتمعات الشرقية ، مثل الطائفية أو نفاذها إلى التأثيرات الأجنبية. ووفقاً لهذه الفرضية ، فإن اندلاع الحرب لن يؤدي إلا إلى تجسيد للمشاعر الطائفية العنيفة المدفونة حتى ذلك الحين. وبالتالي ، فإن استياء جزء من السكان ، والذي زاد من جراء التدخل الأجنبي المتعدد، سيكون محركًا لثورة ليست ثورة بأي حال من الأحوال. إن إمكانية قيام ديكتاتورية طائفية ، والتي يمكن تحديدها في مطالب بعض الثوار ، ستكون حقيقة تمرد لا يثير مسألة التحرر، وبالتالي لن تكون ثورة. ومن ناحية أخرى ، فإن أطروحتنا هي أن التمرد السوري له معنى ثوري عميق ، أي إن السؤال السياسي المركزي هو في الأصل مسألة التحرر الجماعي والفردي. لذا فإن المسألة السورية هي في الأساس مسألة ثورية. ولا يمكن العثور على أصلها في الإطار القديم للطائفية أو في سياسات القوى ، حتى لو كان النمط يعيد تنشيط العالم القديم المتدهور من أجل التمكن من الاستمرار. لهذا نرى أن اندلاع الطائفية يظهر سياسة الثورة المضادة وليس الحقيقة العميقة للثورة. ومع ذلك ، فإن ما لن تتمكن الثورة المضادة على الأرجح من محوه ، حتى لو انتصرت، هو الفكرة المشتركة في أعماق المجتمع ، وهي أن الأحداث قد دمَّرت كل استمرارية بين الماضي والمستقبل ، وهذه هي الفكرة الثورية نفسها,. في الجزء الأول المخصص للإيديولوجيا ، سنناقش فكرة أن الثورة لم تحدث ، لا في سورية ولا في أي مكان آخر. ووفقاً لهذا التصور الاستشراقي ، ينحصر العربي أساساً في إنسان متدين، وهو نموذج ميرسيا إلياد ، الذي يظل غريبًا عن فكرة الثورة. وتتناغم هذه الفرضية مع مفهوم اعتذاري لبعض الأنظمة العربية والإسلامية ، والتي بموجبها لا تنازعها شعوبها جذريًا طالما أنها ليست تابعة للغرب. وبالتالي سيكون هناك طرق فريدة تتكيف مع روح بعض الشعوب ، سواء في سورية أو في دول عربية أخرى أو في إيران. وفي الجزء الثاني الأكثر اجتماعية ، سنعيد التأكيد على الواقع الثوري الذي نريد إخفاءه. وفي هذا الصدد ، من الضروري مناقشة العمل الثري والمختصر للغاية لميشيل سورات Michel Seurat” عالم اجتماع فرنسي، اغتاله حزب الله في بيروت سنة 1986. المترجم ” ، الذي استخدم تصنيفات ماركسية لقلبها ضد نفسها ، والذي انضم في النهاية إلى تحليل الإخوان المسلمين.

استحالة قيام الثورة العربية تبعاً لفكر الاستشراقL’impossibilité de la révolution arabe selon l’idéologie orientaliste

 تتعارض الإشارة ذاتها إلى “الثورات العربية” مع اتجاه الرأي الذي يتجلى أكثر فأكثر في الدوائر التي تدعي أنها تعلمت أو علِمت بمجتمعات الشرق الأوسط. وتنتشر الأطروحة بأنه لا توجد ثورات في العالم العربي. والنقطة المركزية في هذه الحجة هي أن الاختلافات الثقافية مهمة: فالمطالبة بالمساواة ليست أساسية كما هي في الغرب. وبالتالي ، فإن الفشل في تلبية مطلب الكرامة ، كما رأينا في تونس ، سيكون عاملاً أكثر حسماً في العمل في الحركات الاجتماعية. ولم يكن خطأ الأنظمة القديمة تجاهل المطالبة بالمساواة ، وهي قيمة غربية ، بل رفْضها لشرائح كاملة من السكان الاعتراف بمكان يسمح بحياة كريمة ، حتى وإن كانت تلك متواضعة. ووفقًا لهذه الفرضية ، ليس الاحتكار السياسي هو الذي سيكون مشكلة في هذه المجتمعات ، حيث إن إساءة استخدام السلطة المعممة تحوّل سلطة استبدادية – ولكنها في الأصل شرعية جدًا (حالة مصر الناصرية) – إلى استبداد بسيط. والذي يضاف إليه دور العشائرle règne des clans. وبالتالي ، فإن الثورة العربية المعاصرة سوف تشبه إلى حد بعيد المجلات التي تعود إلى القرون الوسطى ، والتي غالبًا ما ينكر المرء صفة الطبقة ، مع التأكيد على أن هذه التمردات في ذلك الوقت لم تكن تهدف إلى الإطاحة بالإقطاع، بل رفض الانتهاكات الوحيدة التي ألقت بها جماهير فلاحي الغرب في إهانة. وفي بعض النواحي ، يشير هذا النهج الضمني الذي يركز على أوروبا تجاه الثورة إلى “التاريخ الفلسفي للثورات” ، على حد تعبير آلان بيزانكون “2” ، والذي ندين به لمارتن ماليا الذي ادَّعى صراحة “المركزية الأوروبية eurocentrisme  ” ، وكتب: ” الثورة ظاهرة أوروبية الأصل ، كما أن الحضارة الحديثة من صنع أوروبى” ” 3 ”  وهي الموروثة من أعمال توكفيل وويبر ، ويضع منهج ماليا Malia  الثقافةَ في مركز فهم الثورات. ومن وجهة النظر هذه ، فإن الحقيقة الجوهرية هي أن “العالم الغربي فقط […] قد عرف السياسة التشاركية والتفكير القانوني والفلسفي الذي ينطوي عليه ذلك” (المرجع نفسه). وبالتالي فإن الإمكانية الثورية ستكون نتاجًا ثقافيًا يفترض مسبقًا شرطين آخرين ، أحدهما سياسي والآخر ديني. وبادئ ذي بدء ، يجب أن تكون هناك “دولة وحدوية تركز كل الاحتجاجات السياسية والاجتماعية” (المرجع نفسه ، ص 18) ، مما يفتح الباب أمام انهيار محتمل للنظام القديم ، ومطلب ديني معين ، لأن ” الراديكالية “هنا أدناه مستمدة من الإيمان بالعالم الآخر” (ص 23). وهكذا حدثت أول ثورة تسمى “هوسيت” (1415-1436) في بوهيميا في إطار دولة موحدة ومفتوحة (ص83-85) ، في حين نشأت مسألة مشاركة الجميع في الخلاص ، ما تحرمه الكنيسة الكاثوليكية الفاسدة. وهذا الاستحضار لعمل ماليا ليس المقصود هنا استبعاده فورًا على أساس افتراضاته المسبقة: إننا نتحدث هنا عن نموذج يجب مناقشته. ويمكن القول بالتأكيد ، بالاعتماد على هذا النموذج ، أن الانتصار الإسلامي الظاهر ، “شتاء الثورات العربية hiver des révolutions arabes  ” المفترض ، يظهر ببساطة واقع المجتمعات غير المنفتحة على التاريخ. لكن بالعكس ، حتى لو اعترفنا مع المفكر السوري صادق جلال العظم ، أن الحداثة حقيقة غربية ، في أصلها ، كما أكدها ماركس ، فهذا لا يعني شيئًا ، حسنٌ، على العكس من ذلك ، تمسّك بـ “الاستشراق الوجودي orientalisme ontologique  ” ” 4 ” لبرنارد لويس. وكان ماركس ، في الواقع ، تاريخياً جذرياً (العظم ، ص 164) ، ويمكنه من وجهة النظر هذه أن يؤكد أن الحداثة كانت حقيقة قابلة للتعميم تماماً ” 5 “. ويحدد: “تأويل ماركس للتاريخ البشري بأنه تميز ، في أصله ، ببعد مسيحاني  messianique” المسيحانية، هي الإيمان بظهور، أو مجيء المسيح المنتظر، لإحقاق العدل. المترجم ”  ورومانسي يطبق على الغرب قبل فترة طويلة من انتشاره إلى الشرق” (المرجع نفسه ، ص 165). باختصار ، مهما كان رأي المرء في الماضي ، فإن المسيحانية الثورية هي مصلحة عامة أو سيئة للبشرية.

علاوة على ذلك ، فإن التنوع المذهبي للمجتمعات ، كما يتم التعبير عنه في لبنان أو سورية ، سيمنع اندماج الأحداث الجارية في الثورات التي حدثت في الغرب ، بما في ذلك روسيا ، منذ قرنين. ولا يمكن اعتبار الرغبة في الانتقام من جانب جزء من المجتمع ، أحيانًا في الأغلبية majoritaire ، من أقلية طائفية minorité confessionnelle  مصادرة السلطة ، رغبة ثورية حقيقية. لذا ، فإنه باستثناء التلاعب بالألفاظ التي تعلم أن الثورة هي العودة إلى الأصل ، فإن إعادة الهيمنة الطائفية على المجتمع بأسره لا تشكل ثورة حقيقية. ومن هذا المنظور ، يعكس النظام السياسي السوري ، بلا شك ، توازنًا اجتماعيًا يكون لكل طائفة مكان فيه.  ومن وجهة النظر هذه ، لن تكون شخصية بشار الأسد شخصية طاغية بل على العكس من ذلك صورة السياسة الوحيدة الممكنة، باستثناء الرغبة في الحرب الأهلية ، أو حتى الإبادة الجماعية المحتملة. وبهذا المعنى ، يجب أن نسمع بشكل أفضل صوت جزء صغير من الرأي العام السوري: سيواجه الأسد مؤامرة تحاك في الخارج ، والعديد من القوى لم تتسامح مع معاداة الصهيونية من قبل نظامه. ولذلك ، ليس النظام بل المجتمع السوري هو الذي نرغب في إضعافه على المدى الطويل ، كما كان الحال في العراق بين عامي 1991 و 2003. وستعبّر قوة الأسديْن Le pouvoir assadien عن الحالة الطبيعية لقوة الشرق الأوسط بأنها دون معنى insensé . وللمواجهة وجهاً لوجه ، باستثناء أن يكون لديك تصميمات أخرى غير إصلاح المجتمع بشكل إيجابي. ولاحظ ، هنا ، أن ثمة جوهرًا منطقيًا لاستحضار المؤامرات: يجب أن يكون المرء ساذجًا جدًا أو فاقدًا للذاكرة حتى لا يرى العدد المذهل من المؤامرات واسعة النطاق ، والتي يُفكر أحيانًا في الخارج ، والتي كانت حاسمة في مسرح الشرق الأوسط. ومن اتفاقية سايكس بيكو إلى التلاعبات التي أقنعت صدام حسين بإفلاته من العقاب لغزو الكويت ، إلى قضية قناة السويس ، هناك أمثلة كثيرة. ومن نواحٍ عديدة ، تعد المؤامرة جزءًا من فن السياسة ، على الرغم من أن تعقيد العالم ، الذي يستمر في النمو في ترابطات العالم العالمي ، يمكن أن يعزز الميل للكشف عن مكائد غير محتملة. ولا يوجد شيء شرق أوسطي على وجه التحديد حول هذا النزوع الخيلائيpropension paranoïaque. إنها ثمرة حالة الإنسان ما بعد الحداثة ، حالة الإنسانية التي تعرضت للشفافية التي أنتجتها الرأسمالية المتأخرة التي وصفها فريدريك جيمسون ” 6 “. ومع ذلك ، فإنه لا يمكن اختزال أي تحليل ينسب دوره إلى التعتيم والمناورة إلى وهم المؤامرة ، باستثناء إنكار أي فعالية للفعل الجماعي أو الفردي من حيث المبدأ. التاريخ ، باستثناء دفن السياسة بحكم الأمر الواقع باسم البنى. وهذا هو السبب في أنه يبدو لنا أن التحليل التفصيلي للوضع الملموس فقط هو الذي يمكن أن يفك شبكة التحديدات ، وفقًا لنهج علم الاجتماع العام الذي يعطي كل تماسكها وزمنها للأنظمة التأسيسية للمجتمع التي هي اقتصادية، والسياسة والرمزية. ومع ذلك ، فإنه نظراً لتغيُّر الأحداث ، يزداد الجدل بشكل متزايد على أن الأسد لا يمكن الاستغناء عنه. لذلك نصل إلى إضفاء الشرعية على ديكتاتورية ستكون أفضل ما في جميع العوالم الممكنة. ونظرًا للاختلافات الدينية العلمانية ، لا يمكن للشرق الأوسط أن يدخل عصرًا سياسيًا مناسبًا ، إذا حددت السياسة ما يشير إلى الصراعات التي لا تزال مفتوحة على نسيج المجتمع. ومن وجهة النظر هذه ، من المناسب انتقاد الخُطب التي تؤكد على وجود اختلاف جوهري بين الشرق العربي وأوروبا الغربية ، وهو اختلاف لا يمكن لأي شيء في التاريخ أن يقوضه – الرأسمالية والتجارة والهجرة- لهذا السبب ، كما سنعود إليه ، لا يمكن استخدام عمل ميشيل سورات بدون احتياطات، ورغم أن كتابه عن سورية. إن حالة البربرية ، التي من الواضح أنها محفزة ، لا يمكن جعلها مرجعية مقدسة ” 7 “. وليس من المعقول اليوم ، بغضّ النظر عن مدى صحة بعض البديهيات التي تم تطويرها بمواد من أواخر السبعينيات ، الرجوع إلى السياسة السورية حول هذا التفرد في الشرق الأوسط للطائفية. فقط لأن السوريين ليسوا أمثال جاك الحداثي ، مهما كان الحكم الذي يحمله المرء على الجاكيات القديمة ، ولكن الرجال يعيشون في نظام انفتح على أشكال من الرأسمالية التي هي بدورها معولمة  mondialisé .

هناك ادعاء شائع آخر نريد مناقشته: تأثُّرُ العالم العربي مؤخرًا بحركات التمرد insurrections  أكثر من تأثره بالثورات بالمعنى الذي يعرفه بها الغرب. ومع ذلك ، يقترحُ أن الشرق الإسلامي قد شهد ثورة حقيقية: الانتفاضة التي أطاحت بالشاه. في اللحظة الخمينية عندما يندمج الجمهور في كتلة مضغوطة ويلقون بأنفسهم في المعركة بمجرد أن يعطي رمز هذه الثورة ، شخص الخميني ، النظام ، سيكون تعبيراً عن نقاء العملية الثورية. وإذا تبنّى المرء معايير شديدة الصعوبة لمَا يجب أن يتخذ الشكل الثوري ، فإن العالم العربي لم يعرف ثورة مؤخراً ، على عكس إيران ، حتى لو ظل الدين من هذا المنظور هو السر المشترك لخلود السماء الشرقية ” 9 “. في الواقع ، يجب أن تمنع المعايير شديدة التقييد أي شخص يتحدث أيضًا عن الثورة الفرنسية أو الروسية ، لأن الثورة غالبًا ما كانت ظاهرة طويلة الأمد ، تؤثر على الجسم الاجتماعي بطريقة مختلفة. وعندما استخدم كلمة انتفاضة ، حوالي 25 كانون الثاني 2011 في مصر ، كلحظة “ديناميكية ثورية” ، كان جيلبرت الأشقر ” 10 ” قريبًا جدًا مما نريد أن نعنيه لسورية في آذار 2011. كما يشير هذا المؤلف ، إن هذا “اقتحام الجماهير للحياة السياسية” فريد من نوعه لأنه يزعج “المحافظين من جميع الأطياف (حتى أن هناك من يدعي أنه تقدمي ومعاد للإمبريالية […]) [الذين] يشوهون الانتفاضات ضد الأنظمة التي يتعرفون عليها ، ويصفونها بالفوضى chienlit ، عندما لا يرونها ثمرة مؤامرة “” 11 “. في هذا الصدد ، يتم اختراع السياسة ، بالنسبة لموسى فينلي “12 “، عندما ينكر الناس للنخبة الحق الحصري في سن القانون ” 13 ” . والآن ، عندما تمحو الليبرالية الأوروبية السياسة تدريجيًا ، وتذوبها. وفي الإجراءات البحتة ، عندما تظهر “المنافسة الحرة وغير المشوهة” على واجهة دستور لأوروبا ، وتحيل الحرية والمساواة إلى نسيان التاريخ ، فإننا ننكر حقيقة اللحظات الثورية. ما الذي يشكل هذا الانقطاع للشعوب العربية في الشئون العامة. إيه يا الزمن المبرمج ويا أعراف   Ô tempora, ô mores! !

في الواقع ، ليست السيرورة الثورية هي نفسها حسب الأماكن والدوائر الاجتماعية التي يعتبرها المرء. وغالباً ما يكون الحماس للثورة ، والعاطفة الجماعية في ذروتها ، والخوف الذي يدفع العديد من الأفراد بعيدًا عن الأحداث مختلطًا. وبالطبع ، فقد تمت إضافة الرغبة التفاعلية المتوقعة للثورة المضادة ، التي أثارها فقدان المراجع التي أمرت بكون رمزي. وشهدت فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر مثل هذه التناقضات ، ويمكن القول إن العملية الثورية استمرت حتى نهاية حروب نابليون. أما فيما يتعلق بعدم الاستقرار الاجتماعي للإنجليز ، أسيادنا في الحرب الأهلية وقتل الأملاك ، فقد استمر حتى منتصف القرن السابع عشر. لذلك لا يبدو أن الطابع الثوري للحدث السياسي يجب أن يقاس بالسمات المركزية أو الضخمة للحركة ، ولا على الأرجح باختصارها. تكمن خصوصية الثورة في أنها تفتح الانقطاع بين ما قبل ، حيث كانت السلطة مشروعة ، وما بعد ذلك ، مما يعرض هذه السلطة للشرعية ، ورفض الطاعة ، وحتى حمل السلاح. بشكل أعمق ، بعيدًا عن أصل الكلمة ، فإن ثورة الحديثين هي فكرة أن لا شيء سيكون كما هو مرة أخرى. بهذا المعنى ، فإن السوريين ، سواء كانوا مقربين من الثوار أو من النظام ، يعرفون ، ضد بعض العلماء ، أن الثورة قد حدثت بالفعل ، وأن مجتمعًا آخر سيخرج من مأزق هذه البداية الفوضوية لهذا القرن. السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه بعد ذلك ، في رأينا ، ليس ما إذا كانت الثورة السورية قد حدثت بالفعل ، لأن العالم العربي ، منذ الأزل ، سينجو من الانقسامات الثورية ، ولكن ما إذا كان ، كما حدث في إيران أمس. ، أو ربما في مصر الآن ، سيحدث تحول ثوري Thermidor ”   وهو الشهر الحادي في التقويم الفرنسي للجمهوري . المترجم “، أي إذا ، سيظهر نظام جديد، من الحركة المشتركة للطموح الثوري والثورة المضادة ، يمكن استثماره مع شرعية دائمة ، بينما تغلق لفترة طويلة الاحتمالات الثورية في أكثر ما لديهم من تحرر.

وكان حصر الإمكانيات التحررية ، في أوروبا القرن العشرين ، من عمل الفاشية التي دمرت البعد السياسي للوجود الإنساني لصالح توازن القوى الخالص الذي يروي كل مؤانسة. كانت الفاشية هي الثورة السياسية التي وضعت حداً لكل محاولات الثورة أو التحول الاجتماعي ” 14 “. لذلك كانت الفاشية هي الثورة المضادة المطلقة: لقد استخدمت الرغبة في ثورة حقيقية لتشكيل شيء مختلف تمامًا. وقد أوضح سلافوي جيجك ببراعة هذا التحويل للطاقة الثورية: “إن الغضب الشديد من المذابح المعادية للسامية هو دليل معاكس لإمكانية قيام ثورة بروليتارية حقيقية: لا يمكن قراءة طاقتها المفرطة إلا كرد فعل للوعي ( “اللاوعي”) لاحتمال ثوري فاشل “” 15 “. إن النتيجة الأكثر إثارة للقلق والممكنة هي الشعور بالثورة “الفاشلة” (حتى الآن) وفي خضوع الجماهير الخائفة من نفسها لسلطة تمارس باسمها  . وفي هذا الصدد ، فإن الحالة السورية هي حاملة للراديكالية الفتاكة أكثر بكثير من الحالة المصرية ، لأن القوة الأسدية تمكنت من كبح جماح الطاقة الثورية ، وتقسيم الشعب والبدء في تفضيل النظام القديم في اضطرابات حرب لا تنتهي أبداً. ويمكن بعد ذلك ممارسة الرغبة في رد الفعل في كل فائض العنف والقلق الحاضرين. ونحن نعلم ، منذ غرامشي ، أن وقت الأزمة ، الذي يمكن أن يكون طويلاً ، هو عندما لا يريد العالم القديم المتدهور أن يموت: فتصبح كل الأمراض الاجتماعية والوحشية ممكنة. وهذا ما تمر به سورية الآن ، لأن قوىً جبارة عملت على منع الانتصار الجديد. هذا هو السبب في أن التحول المرعب للأحداث في سورية مع اقتراب ربيع عام 2015 لا يثبت بأي شكل من الأشكال، أطروحةَ استحالة الثورة في ذلك البلد. على العكس من ذلك ، فإن الجهادية و “التكفير” هما من أعراض شدة العنف المضاد للثورة ” 16 “. ومع ذلك ، ففي مواجهة الجّدَّة الثورية على وجه التحديد ، أعاد النظام تنشيط الإطار القديم للطائفية وسياسة القوة. ولا توجد حالة طبيعية عربية في هذه الحالة ، إنما هناك رغبة في الاستبداد لتعبئة كل الوسائل الممكنة للعودة إلى الوضع السابق. وهل نتذكر أن هذا النظام ، خلافًا لنصائح العديد من العلماء ، لم يكن قادراً على المقاومة ، وأنه فشل في إيجاد المنابع الداخلية التي تسمح له بالتغلب على محنة الثورة؟ يجب أن نتذكر، في الواقع ، أنه بدون إسهامات عراقية ولبنانية ، وبدون مساعدات ضخمة من إيران وروسيا ، كان النظام سينهار. وفي هذا الصدد ، ليس من المعقول ، كما قيل هنا وهناك ، مقارنة الالتزام الخارجي تجاه بيت الأسد بالمساعدات التي يتلقاها مختلف الثوار. وبينما اعتبرت قوتان ، إقليمياً وعالميًا ، بقاء النظام السوري ذا أهمية استراتيجية كبيرة لهما ، لم تتخذ الولايات المتحدة ولا حلفاؤها أو وكلائها مثل هذا القرار. وعندما يتواجد الروس والإيرانيون بشكل مباشر وعلنيّ في مسرح العمليات السوري ، يقود الأمريكيون عمليات مسرحية ، حتى في حدود السخافة: لنتذكر التهديدات المتعلقة بـ “الخطوط الحمراء lignes rouges  ” التي قد يشكلها استخدام الأسلحة الكيميائية ” 17 ” … علاوة على ذلك ، فإن السياسة الحقيقية للولايات المتحدة مبررة بشكل صريح من قبل العديد من الخبراء القلقين، بشأن الوضع الذي قد يسببه سقوط الأسد. وعلى العكس من ذلك ، لا نعلم أن الحكومتين الروسية والإيرانية ومكاتبهما ضاعفتا التحذيرات من انتصار بطلها على نهر العاصي. أما بالنسبة لـ “الإسلامية الدولية internationale islamiste  ” والقوى من الدرجة الثانية التي تدعمها ، فهل يمكننا مقارنة قواتها بجِدية بآلات الدولة القوية والمتشددة والعسكرية؟

المجتمع السوري ما وراء ميشال سورات  La société syrienne par-delà Michel Seurat

 يجب أن نتذكر أن التمرد السوري كان في الأصل تعدديًا ويعكس مجتمعًا لم يعد من الممكن تحليله وفقًا للشبكة المذهبية ، والتي تظل مع ذلك المرجع المركزي للعديد من الشرقيين والمعلقين. وإنما ، لكي يتم فهم وجهة النظر هذه ، من الضروري أولاً أن ننظر إلى الوراء في عمل تم تطويره منذ أكثر من ثلاثة عقود بواسطة عالم اجتماع ومستعرب موهوب ، ميشيل سورات. إن تاريخ الأفكار هو في الواقع جزء من التصور المشترك لسورية المعاصرة. وفي أوائل الثمانينيات ، أنهى سورات كتابة النصوص التي جمعت بعد وفاته عام 1986 كرهينة في كتاب بعنوان: سورية. دولة البربرية Syrie. L’État de barbarie ” 18 “. يحاول سورات إثبات أن السلطة تستولي عليها جماعة صغيرة من الإسلام الهرطوقي والعلويين المهمشين لفترة طويلة. ويشار إلى من هم في السلطة باسم “المماليك الجدد  nouveaux mamelouks ” لأن المماليك كانوا هؤلاء الجنود المحترفين ، الذين ولدوا وهم في حالة العبودية ، والذين اغتصبوا السلطة في النهاية في مصر في العصور الوسطى. ويجب أن تُفهم “دولة البربرية” التي سيكون عليها النظام “العلوي” على أنها انتقام من الصحراء في المدينة أو ، بقدر ما نشعر بالقلق هنا ، من الجبل (العلوي) على المدينة (السنّية): ، بطريقة مشكوك فيها للغاية ، للفئات التي أنشأها ابن خلدون في القرن الرابع عشر. الفكرة الحاسمة الأخرى، لـ: “دولة البربري ” هي أنها في الشرق العربي ، على عكس الغرب ، السياسة هي التي تحدد الاقتصاد(سورات، ص 229-231 ).  ويكتب حول دول العالم الثالث ، “غالباً ما تكون السيطرة على السلطة هي التي تسمح باكتساب الثروة وليس العكس كما هو الحال في المجتمعات الغربية” (المرجع نفسه ، ص 230- 231).  سيكون هذا هو نتيجة الهيمنة الغربية كما كانت تمارس حتى منتصف القرن العشرين. وفي الواقع ، فإنه في المجتمعات المجزأة (المرجع نفسه ، ص 225) بسبب هذه الهيمنة ، المجتمعات التي لا يقابل هشاشتها الداخلية سوى هشاشة خارجية وقاعدتها الاقتصادية متزعزعة ، تكون سلطة الدولة. وهي مصدر التماسك الاجتماعي ” 19 “. لذلك لا يمكن لدولة الشرق الأوسط أن تكون الجهاز الذي من خلاله يمكن للبرجوازية ، التي لا تكاد توجد أو لا تتمتع باستقلال ذاتي ، أن تنظم شئونها ، كما هو الحال في الغرب ، من أجل السيطرة على المجتمع بشكل أفضل ” 20 ” ، بدعم من إنجلز وماركس عام 1847  ” 21 “. ولقد رأينا للتو أساس إشكالية سورات بالنسبة لدولة الشرق العربي: إذ تبعاً لوجهة نظره ، فإن التمييز بين الغرب والشرق يعتمد بالتالي على طبيعة المجموعة التي تسيطر على الدولة ، اقتصاديًا في حالة واحدة. والسياسة في مكان آخر. بعد ذلك يجب التخلي عن “القراءة الماركسية” للشرق ، لأن مقاربة الاقتصاديين لن تكون صالحة إلا في الغرب ” 22 “. إنما عند القيام بذلك ، يرث سورات دائماً قراءة معينة لماركس ، والتي بموجبها تكون الدولة أسيرة لمجموعة اجتماعية، وليس في مقدورها أن تجسد ، باستثناء الاشتراكية ، أي مصلحة تتجاوز أي فجوة اجتماعية clivage social . وهكذا يرفض سورات بوضوح الفرضية القائلة بأن الدولة ، كمؤسسة لمجتمع معقد ، تفترض أي وظيفة لتجميع المجتمع. وهو يختلف عن أولئك الذين يفترضون أن “الدولة تُفهم دائمًا على أنها مستقلة عن قطاعات المجتمع الأخرى” (1989 ، ص 231). إن هذا الموقف مفهوم ، إنما فيه خلَل ، وهو إشكالي للغاية، بسبب تعبيره أحاديّ الجانب ، في استبعاد أي عملية تمكين لمجال الدولة ، مما قد يعرض قارئ سورات لعدم الاستعداد لفهم تطورات معينة، ذات أهمية في علاقة المجتمع العربي الشرقي بدولته.

علاوة على ذلك ، فإن العواقب التي استخلصها سورات من تحليله، لهي غريبة للغاية عندما ربط نتائج بحثه على العالم العربي بالمستوى العالمي. في الواقع ، استعان بهنري لوفيفر ليؤكد أن “الدولة الطرفية تعمل كمنظم للنظام العالمي ، وأنها تنظم استخدام قوتها العاملة أو بيع موادها الخام” (المرجع نفسه، ص 232 ) وفي النهاية ، يبقى الاقتصاد حاسمًا للغاية ، ” في آخر لحظة « en dernière instance  ” … إذا تجرأنا على القول! أخيرًا انضم إلى الماركسية الأرثوذكسية في رفض الأطروحات الإيديولوجية المتعلقة بتمكين الدولة. وأخيرًا ، يقع الدفاع عن نظام الدول العربية في السبعينيات ، سواء أكانت عراقية أم سورية أم سعودية ، على عاتق هيئات خارج مجتمعات الأطراف العربية ، مثل الدول الرأسمالية أو العديد من علماء الاجتماع الغربيين ، هؤلاء، حيث يعتقدون بسذاجة الاعتقاد بأن الدولة العربية هي ناقل التحديث والعقلانية. وكتب سورات ، في الواقع ، هذه الجملة المذهلة étonnante ، فيما يتعلق “بشرعية” الدولة المهددة بـ “صعود الأصولية الدينية la montée de l’intégrisme religieux “: “لا يزال بإمكانه الاعتماد على دعم الباحث و السياسة “(المرجع نفسه). إذن ما هي طبيعة الدولة العربية حسب سورات؟ هيئة خارجية بشكل أساسي لهذه الشركات ، وكيل سلبي لإعادة إنتاج رأس المال العالمي ، بالتأكيد تخدم بنشاط مصالح جزء صغير من الشركات المعنية. إن تلخيص أطروحة سورات بهذه الطريقة يجعل من الممكن إظهار ضعفه: مثل هذا المفهوم لا يسمح لنا بفهم المسارات الخاصة بالدولتين السورية والعراقية لمدة ثلاثين عامًا. وقد تكون الحالة المصرية أو التونسية في الواقع أكثر توضيحًا لمثل هذه الأطروحة ، ولكن على وجه التحديد ، فإن المجتمع أو الظواهر الطائفية ، التي تفتن سورات ، تلعب ، في هذين البلدين ، دورًا مختلفًا تمامًا. بشكل عام ، ليس من الممكن رؤية نظرية مقنعة في سورات لدولة الشرق الأوسط. بالتأكيد ، تظل ميزة سورات وأهميتها في إعادة دمج تراث الفتح العربي ، في تناول تاريخ هذا الجزء من الشرق ، وهو تاريخ الأقليات الدينية العاملة على أسس عرقية bases ethniques ” 23 “. في هذه المجتمعات يمكن حشد الموارد السياسية والرمزية التي تجعل الاستيلاء على السلطة ممكناً. والحالة اللبنانية هي خير مثال على ذلك. ومع ذلك ، يذهب سورات إلى أبعد من تكييف إطار الفكر الماركسي بذكاء مع الواقع العربي. وقد تناول فئات العصور الوسطى التي طورها ابن خلدون. وهكذا ، فإن العصبية الثلاثية (روح جماعية أو عشائرية) والدعوة والملك (القوة الكلية pouvoir total) يمكن إيجادها في سورية حسب الانتداب الفرنسي ” 24 “: ” الثالوث الخلدوني triade khaldounienne ” الجديد هو “المجتمع العلوي – البعثية – السلطة الكاملة لحافظ الأسد “” 25 “. ويظهر سورات أن فرع حزب البعث Baas  (“البعثla résurrection  “) في السلطة في دمشق سيكون بحكم الأمر الواقع حزبًا واحدًا يسيطر عليه الضباط العلويون الذين سيجعلونه أداة لغزو الدولة. وفي ظل هذه الظروف ، تصبح السياسة بوليسية لأن السلطة في نظر الأغلبية الدينية – العقيدة السنية – غير شرعية. والقومية العربية الراديكالية التي يصرح بها النظام لا تستطيع إخفاء حقيقة أنها شاشة مجتمع منبوذ منذ قرون. وكما تم في ظل الانتداب الفرنسي فتح جميع مدن سورية للعلويين.  وبعد قراءة سورات ، لم يكن من غير المألوف مقابلة القراء العرب الذين شعروا أنه بينما كان هذا النظام السياسي يقاوم إسرائيل إلى حد ما ، فإنه يقاتل أولاً ضد شعبه الذي يخافه قبل كل شيء. وفي الواقع ، هذه الأطروحات القليلة منتشرة بشكل كبير في الآراء المطلعة على واقع الشرق الأوسط: في أشكال محدثة وعلمية ، تشكل نوعاً من الأرثوذكسية في الفكر حول سورية. ومع ذلك ، فقد تم تطوير هذه الأطروحات بمواد من الستينيات والسبعينيات وهي تستند ضمنيًا على افتراض واحد: الخلود المذهبي لسورية. على أي حال ، فإن تبديلها البسيط بشكل مماثل في السياق الحالي يطرح مشاكل حساسة. ولفهم سورية اليوم ، من الضروري العودة إلى التعابير الأساسية لنقطة سورات وتجاوزها.

هذه القصة القانونية الآن عن سورية لا تخلو بالتأكيد من الفائدة ، ولكن من الواضح أنها تظل أسيرة التحيز الذي يرى أن حاضر هذا البلد هو ماضٍ طويل ، والذي يجب البحث فيه عن الحقيقة السياسية في التاريخ الجغرافي للاعترافات. لكأن العولمة تجاهلت سورية طيلة عشرين سنة، وكأن النخبة السياسية بقيت مجرد نخبة عسكرية. ومع ذلك ، فقد اختلطت البرجوازية السنية ، في معظمها ، بالمصالح المهيمنة. وهكذا أصبح تحليل قوة الطبقة الحاكمة وفقًا لشبكة طائفية عتيقًا. لذلك ، فإن قصة سورات وأقواله لا تأخذ في الاعتبار حقيقة أن النظام يدافع عن مصالح أولئك الذين أصبحوا أغنياء ، بما في ذلك جميع المجتمعات. يحدث كل شيء كما لو أن التحليل الطائفي له فضيلة إخفاء الحقيقة البسيطة للصراع الطبقي. إن الاهتمام السعيد بهذا التنجيم يسمح للمستشرقين والمعلقين بتقليص الصراع الاجتماعي ، في سورية كما في الشرق ، إلى أصل ثقافي وديني في الأساس ، مما يسمح للبعض بتقييم خصوصية موضوع دراستهم و على الآخرين أن يفقدوا أنفسهم في الغريب. وهكذا ، فإن استدلال سورات ، الذي يجعل المنافسات المذهبية مبدأ الواقع العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص ، يرتكز على فرضية حاسمة: إعادة إنتاج متطابقة للبنى الاجتماعية. ولبنان هو الدليل القاطع – وهو مؤسف إذ قد يظن البعض! – أن التحديدات العرقية والطائفية تغطي المجال السياسي ، وتبقى المشاريع العلمانية من صلاحيات ذلك الجزء من النخبة ، الليبرالية أو اليسارية ، المحكوم عليها بالتهميش أو النفي. ومع ذلك ، فليس من المؤكد أن النموذج اللبناني ، الذي أبهر سورات أيضاً، والذي يرتبط بلا شك بـ “الدولة الطائفية ” حسب عنوان كتاب لمهدي عامل ” 26 ” ، هو المفتاح الصحيح لقراءة سورية المعاصرة. وفي الواقع ، لا يمكن للدولة أن تكون طائفية إلا إذا لم تكن الأمة ، كمنظمة سياسية للشعب وكشعور جماعي ، موجودة: لن تتسامح دولة ، بالمعنى الأوروبي للمصطلح ، مع ولاء المواطنين من خلال الاعتراف. فالشعب اللبناني إذن هو كيان إشكالي ، بينما الدولة اللبنانية هي شكل من أشكال “الحكم” لمختلف الطوائف ، وهي ، بطريقة ما ، ما بعد حداثية للغاية. ليس من قبيل المصادفة أنه خلال الحقبة السورية في لبنان (1991-2005) ، تم حل النزاعات الخطيرة في دمشق ، حيث تم حل النزاعات العادية تحت حكم الحاكم العام في لبنان الذي كان نموذجه الأولي غازي كنعان

. لكن من يستطيع أن يقول إن للسوريين العلاقة نفسها مع أمتهم مثل اللبنانيين؟ بالطبع ، كما في لبنان ، هناك عدد كبير من الطوائف المسيحية. الإسلام مجزأ هنا بين السنة والشيعة ، دون احتساب هذه الطوائف العلوية أو الدرزية التي تطلق على نفسها اسم المسلمين عندما تتطلب الظروف السياسية ذلك. ولكن يبدو أن العروبة غالباً – ولكن ليس دائمًا صحيحًا – تتجاوز هذه الانتماءات ، بينما في لبنان ، تظل العروبة ، حتى يومنا هذا ، تعبيراً إيديولوجياً يحمله المسلمون بشكل أساسي. وبالتالي من الممكن أن العلويين – أو يعتبرون كذلك – يفكرون في شراء الأراضي والمباني في جبلهم ، على الرغم من أنهم قد يعيشون في دمشق أو على الحدود العراقية. لكن الشعور بالبقاء هو الذي يدفعهم ، الخوف المشروع الذي سيضربهم بالانتقام في شكل تسوية طائفية للصفقات ، وليس العودة المنشودة إلى “الوطن الأم المشترك Mère-Patrie communautaire”. سورية كلها وطنهم مهما ظن بعض المستشرقين أو الإسلاميين. دعونا لا ننسى أن الإخوان المسلمين في سورية ، في صراع سابق كان من نوع مجتمعي (1979-1982) ، اختلطوا في تمردهم بشعاراتهم المناهضة للعلويين والإرهاب والأعمال المسلحة الكلاسيكية.

بشكل عام ، فإن القراءة الطائفية للقوة والأحداث الجارية في سورية غير كافية إلى حد كبير ، بل وحتى خاطئة. وفي الواقع ،فقد شهد المجتمع العلوي ، مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة ، مسيرة إجبارية نحو المزيد من “التشمس sunnicisation  “. حافظ الأسد ، كونه حريصًا على إضفاء الشرعية وترسيخ سلطته ، منذ السبعينيات ، أقام تقاربًا مع الإسلام كأرثوذكسي قدر الإمكان (صلاة عامة في المساجد السنية ، الاحتفال بالأعياد الدينية السنية …). بالإضافة إلى ذلك ، بما أن الدستور السوري ينص على أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون مسلمًا ، فقد طلب من موسى الصدر إصدار فتوى تؤكد أن الدين العلوي هو فرع من المذهب الشيعي ، وبالتالي ، أنه ينتمي إلى الإسلام. وبالمثل ، شجع حافظ الأسد بشدة أو حتى أجبر المجتمع العلوي على محو خصوصياته الثقافية والدينية ، مما تسبَّب في تشريد تراثه وفقدانه. تظهر سياسة “التشمس” الاستباقية هذه في برامج التعليم العام الرسمية وفي الحظر المفروض على بعض المهرجانات العلوية. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن وصوله إلى السلطة ، وكذلك السنوات التي تلت ذلك ، تميز باعتقالات سياسية عديدة لشخصيات علوية ، بما في ذلك بعض رفاقه الرحالة منذ الساعات الأولى ” 27 “. في الواقع ، كان حافظ الأسد يخشى تأثير أولئك، داخل جهاز الدولة الذين يمكنهم تحدي تحوله الاستبدادي. وأخيراً ، وصفه الإخوان المسلمين بالزندقة hérétique  رغم كل التقارب الديني والسياسي والمالي مع أهل السنة ، فهو يأتي لتعزيز سلطته من خلال اللعب على مخاوف الأقليات وإقناعها بأن أمنها مرهون بها. وهكذا أصبح العلويون رهائن للنظام. وبالتالي فإن الواقع هو عكس رأي الجماعة. وإذا كان النظام في سورية تحت سيطرة أي عصبية ، فهو نوع من ” عصبية عرْضية asabiyya transversale ” للمتميزين ، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية الحقيقية أو المفترضة ، فإنهم يخسرون أكثر من لكسب إذا انهار النظام ” 28 “. وبعيدًا عن الأساليب الإرهابية في القمع ، وسياسة “فرّق تسد diviser pour régner  ” ” 29 ” ، من الواضح أن التنازلات الاجتماعية من هذا النوع ، والتي لها أساس اقتصادي ، تفسر طول عمر النظام. وبالتالي ، يجب تعديل صورة سورات: لم تعد السياسة تحدد الاقتصاد في سورية بشكل أحادي الجانب ، على عكس السبعينيات.

 وهكذا جمدتْ رؤية ميشيل سورات سورية في شبكة قراءة طائفية ، تمامًا مثل أولئك الذين يتابعون أطروحاته الآن ويجمدونها في الوقت المناسب. ومثل جميع المجتمعات الأخرى ، يتغير المجتمع السوري وتغير كثيرًا في السنوات الأخيرة في ظل الآثار المشتركة للتحرر الاقتصادي والعولمة. وتدخلت القوانين الأولى للانفتاح الاقتصادي في التسعينيات ، وتضخمت مع وصول بشار الأسد إلى السلطة ، الذي أسس ما أطلق عليه اسم “الرأسمالية الصديقة” ” 30 “. إن أسلوب حياة السوريين يتغير –  جهة الاستهلاك ، والوصول إلى القنوات التلفزيونية الدولية ، والهواتف المحمولة ، والإنترنت … – كما يتغير نظام قيمهم. وينتشر التنقل الكبير داخل سورية: تكاثر وسائل النقل ، ونقل الموظفين المدنيين ، فضلاً عن النزوح الجماعي من الريف بسبب فترات الجفاف ، يدفع العديد من السوريين إلى مغادرة مناطقهم الأصلية. وتضعف هذه الظاهرة البنيوية الأبوية ، بينما تخضع المدن الكبرى لعملية تحول ديموغرافي ، وبالتالي تمنح مكانًا أكثر أهمية للفرد والوحدة الأسرية.

إن جيل 15-25 عاماً ، رأس الحربة في الثورة الحالية ، هو نتيجة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية. وكانت تعرف القليل جدًا أو لا تعرف شيئًا عن فترة حافظ الأسد. وهؤلاء الشباب براغماتيون في اختيارهم للتدريب ؛ يمتلك البعض السيطرة الكاملة على أدوات تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة. إنهم يعملون في القطاع الخاص أكثر من الجيل السابق. إنهم لا ينكرون انتماءهم الديني وهم في بعض الأحيان متدينون ، إنما لا تغريهم الإيديولوجية الإسلامية. وتنعكس هذه التغييرات الاجتماعية وظهور هذا الجيل الجديد في الحركة التي بدأت في آذار 2011. ومنذ ذلك التاريخ ، برز السوريون بقدراتهم التنظيمية وإبداعهم وتضامنهم في سياق القمع الشديد والعنف . وفي جميع أنحاء سورية ، تطورت المبادرات ” 31 “: إنشاء لجان التنسيق المحلية ، وتنظيم المساعدة المتبادلة ، وإنشاء المستشفيات السرية ، والقرى ذاتية الإدارة ، وتطوير أنماط احتجاج جديدة ، وتحمل المسؤولية عن وظائف الدولة الفاشلة (قمامة منزلية ، أمن …) ، إنشاء صحف على الإنترنت (  Suriyatuna, Jusuruna…)  وشبكات من الفنانين المحتجين والأعمال الملتزمة. وفي نهاية آب 2012 ، شاركت حوالي 20 منظمة في عملية الاحتجاج ، والتي تعكس جزئيًا هذه سورية الجديدة ، وتدين مأزق التمرد المسلح. وهذه التجارب ، التي تشاركها مكونات متنوعة للغاية في المجتمع السوري ، قد أوجدت حسًا مدنيًا ، ووعيًا سياسيًا، وقدرة على البحث عن حل وسط ، وجعلت من الممكن إنشاء تجمع ، وطن ، يعكس تنوع المجتمع. لكن هذه الثورة الشعبية جاهدت لإسماع صوتها منذ حزيران 2012. والثورة الأخرى ، ثورة الكفاح المسلح ، فرضت نفسها ولكن ما جرتْ معايشته وتقاسمه نضجًا اجتماعيًا وسياسيًا ، حيث تم الحصول عليه بقوة الأحداث ، تساعد على تصفية النظام من أعماق المجتمع.

لكن لماذا هذا الواقع السوري الجديد محجوب؟ في المقام الأول ، تجدر الإشارة إلى أن لمؤيدي النظام مصلحة في إخفاء سورية الجديدة هذه ، الأمر الذي يجعل من غير الضروري الاستبداد يبرر نفسه بالغثيان في “الدفاع” المفترض عن “الأقليات”. وفي المقام الثاني ، يجد المعارضون المتعاطفون مع المذهب السنّي السياسي ، بوضوح ، في القراءة الطائفية ، رواية مغرية لتهميش مفترض وغير عادل للسنة. ثالثًا ، يجدر التذكير بالانبهار بالنموذج اللبناني ” 32 ” ، الذي نستوعبه بسرعة ، وفي كثير من الأحيان ، في واقع الشرق الأدنى بأكمله. وصحيح أن هذا النموذج يثير بشكل كبير، التحديدات العرقية والطائفية ، وهذه الخاصية الغريبة تحظى بتقدير كبير من قبل العديد من الغربيين. وحتى أن تسوية الطائف (1990) أدت إلى استمرار الطائفية ” 33 “، لذلك من الممكن الافتراض أن الدولة اللبنانية، نوع من الدولة بدون شعب. وهذا الانحلال للشعب ، حتى عائقه ، في “حكم ما بعد الحداثة gouvernance postmoderne  ” يثير بلا شك، العديدَ من مؤيّدي تهوُّر الدولة القومية، الذين ، على اليسار واليمين ، يخلطون بين رغبتهم في القواعد والواقع. سوى أن هذه الحقيقة ليس لها قيمة عامة، ولا يمكن تمديد القضية اللبنانية دون محاكمة أخرى للقضية السورية.

الخلاصة: أوعية المستقبل  Conclusion : les marmites de l’avenir

 رفض ماركس ، في فقرة شهيرة ، صياغة ( وصفات (عدادات) لأوعية المستقبل ) ” 34 “. هذه الوصية الصحية ، البعيدة عن أي إرادة نبويَّة ، يجب أن يتبناها بلا شك أولئك الذين لديهم القضية السورية في الصميم. وما يمكن قوله في هذا العام 2015 هو أولاً وقبل كل شيء أن النظام الحالي لضمان بقائه، نجح في استغلال الخلافات المجتمعية على حساب إراقة الدماء التي تستمر في ري أراضي سورية، والتي تصيب المستقبل. إن أي “انتصار” لن يكون سوى انتصار باهظ الثمن. استمرار عدم تناسب الوسائل لصالح الاستبداد. لكنها أصبحت تابعة للقوى الأجنبية التي تدين لها ببقائها. وجاءت مقاومة هذا المستبد على حساب تدمير جزء كبير من الصرح الاجتماعي. لم يكن تهديده الضمني (“أنا أو الفوضى  moi ou le chaos “) عبثًا ، وهو ما كان واضحًا جدًا لأي شخص تابع السياسة السورية في لبنان طوال الثلاثين عامًا الماضية. لذلك ، حدثت الثورة السورية في سياق جيوسياسي غير موات. لكن طابعها الديمقراطي في الأصل ، والذي حرك الوعي الغربي الذي شكلته الثورتان الأمريكية والفرنسية لفترة من الزمن ، لم يكن له تأثير كبير في مواجهة صراعات السلطة القائمة ومنطق المصالح الراسخة. وتدريجياً ، رسَّخت قوى الاستبداد والجهادية المعادية للثورة قبضة متزايدة. ومع ذلك ، كانت ولادة الائتلاف الوطني (الائتلاف الوطني I’tilâf al-Watan ) مشجعة. إنما في النهاية ، لم يكن توحيد المعارضة فعالاً على الإطلاق. وكان مبدأ الحوار مع النظام نفسه حاجزاً. ومع ذلك ، اقتداءً بالنموذج المصري (محمد البرادعي  Mohamed al-Baradaï) ، لم يكن الأمر يتعلق بالبدء بسقوط النظام بل إنهائه في ديناميكيات المفاوضات ذاتها. كان من الممكن أن يكون انسحاب الجيش من المدن (نهاية العنف) ، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين المرتبطين بالحركة الثورية ، ومبدأ فترة الانتقال إلى نظام التعددية الحزبية ، قد خلق الظروف لهذه المفاوضات. وبهذه الطريقة كان يمكن للمعارضة أن تكتسب الشرعية. وإذا كان النظام قد رفض مثل هذه المناقشة من حيث المبدأ ، لكان قد عرّض نفسه لنزع الشرعية، في أعين أولئك الذين ما زالوا يريدون الإيمان بإمكانيات النظام (والذين يخشون الفوضى). بل أكثر من ذلك ، كان التدخل الأجنبي عاملاً مهماً في النزاع بين أحزاب المعارضة . وفي الوقت الحاضر ، تصادَر الثورة أكثر فأكثر من قبل أولئك الذين يريدون تجسيدها عسكريًا، ويكشف الجهاديون ، بدعم من ديناميكيات من الخارج ، عن المثالية الثورية، ويشكلون أولئك الذين لم يرغبوا في أي ثورة إحباطاً مثالياً repoussoir parfait. وكانت الثورة الحقيقية هي استبدال الفراغ الذي تركته الدولة ، لتصنيع نظام جديد هنا والآن ، أي إعادة المجتمع إلى قدرته على الحكم الذاتي ، كما تفعل بعض مجالس الأحياء. إنما هل آمنت غالبية قادة التحالف في يوم من الأيام بقدرات الدستور الذاتي لشعوبهم ؟

* كاتب وباحث ومترجم سوري

مصادر وإشارات:

2-إ. جوسّي ” مارتن ماليا، أو التاريخ الفلسفي للثورات “، Nonfiction.fr,23 تشرين الأول، 2008، عبر الانترنت:

www.nonfiction.fr/article-1695-martin_malia_ou_lhistoire_philosophique_des_revolutions.htm

3-م. ماليا: تاريخ الثورات (مترجم من قاطرات التاريخ. الثورات وصنع العالم الحديث ، 2006) ، باريس ، تالاندير ، 2008 ، ص 17 .

4- س. ج. العظم ، هذه المحظورات تطاردنا. الإسلام ، الرقابة ، الاستشراق ، مرسيليا ، أقواس، ص167-168 .

5-كما ينتقد صادق جلال العظم إدوارد سعيد لعدم فهمه لأهمية عمل ماركس في هذه النقطة (المرجع نفسه ، ص 162-164. ).

6-ينظَر حول هذا الموضوع،  ف. جيمسون ، الكل كمؤامرة. المؤامرة والبارانويا في الخيال المعاصر ( ترجمة عن جمالية الجيو-سياسية: السينما والفضاء في النظام العالمي،1992 )، باريس، البراري المنبسطة، 2007.

7-ينظَر، س. بسّيس، ميشيل سورات كان على حق “، لوموند ، 28 أيلول،

www.lemonde.fr/international،… المجتمع يقف بحزم ضد دولة البربرية “، ميديابارت، ميديابارت، 19 آب.

2012,https://www.mediapart.fr/journal/international/180812/syrie-la-societe-tient-bon-face-l-etat-de-barbarie.

8- هذه الكلمة المتمردة مناسبة: ألا يواجه الجنود الأمريكيون ، مثل جيش الأسد ، المتمردين الجهاديين؟ وهكذا تعرف “حرب بوش العالمية ضد الإرهاب” شخصيات الأسد أو حزب الله.

9- يقر بارح ميكائيل بأن “الوقت وحده هو الذي يمنحنا إجابة أكيدة لهذه الحقيقة” [الطبيعة الثورية للحدث]. ميكائيل ، إعادة قراءة ضرورية لـ “الربيع العربي” ، باريس ، سيغن ، 2012 .

 10-غ.الأشقر ، الشعب يريد. استكشاف جذري للانتفاضة العربية، منشورات الجنوب،2013.ص18 ( التشديد منه ) .

ص8.

11-المصدر نفسه، ص 19 .

 12-م. فينلي،اختراع السياسة ( ترجمة عن السياسة في العالم القديم ، 1983) ، باريس ، فلاماريون ، 2011.

13- يحذرنا من أن هذا الاختراع مميت ، كما تظهره مؤسسة المدير في روما ، بعد التدمير الذاتي للجمهورية.

14- قبل أن يتولى هتلر السلطة ، علق كارل بولاني في عام 1933( في الفاشية الألمانية لا يكمن في المطالب المضادة ذات المحتوى الدقيق ، ولكن في هذه المشاركة الشكلية والظاهرية للجماهير طبعة م. كانغياني، و ج. موكوران ) Hن جوهر في السلطة الاستبدادية التي تمارس عليهم. بتعبير أدق ، يكمن جوهر الفاشية الألمانية ، من خلال الاعتماد على منظمة ما ، في جعل الجماهير تجرد نفسها من قوتها. علاوة على ذلك ، ليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي يرتدي فيها الدين تحولًا اجتماعيًا ذا طبيعة فاشية ، كما حلل بولاني (المرجع نفسه ، ص 407-412) في حالة النمسا في الثلاثينيات. وقد يعتقد المرء أيضًا أن الوثنية الجديدة العنصرية الألمانية في الثلاثينيات كانت محاولة لخلق نوع من الدين يهدف إلى بناء رجل جديد. يعلمنا التاريخ الأوروبي أن الدين والثورة المضادة المنتصرة يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب.

15-س. زيزيك، مرحبًا بكم في صحراء الواقع ، باريس ، فلاماريون ، 2002 ،ص 48-49 .

16-ف.بورغات، ور. كيلّيه، في حرب العصابات “الإسلامية”؟ المكونات الإيديولوجية للثورة المسلحة ( تحرير: ف. بورغات، ب. باولي ، لا ربيع لسورية. مفاتيح فهم الفاعلين وتحديات الأزمة (2011-2013) ، باريس ، لا ديكوفيرت ، 2013 ، ص 55-83 ، هنا ص. 83) ، يؤكدون أن الخوف الغربي من “أسلمة” المعارضة ، خلال الفترة الحرجة لنهاية 2011 ، والتي شهدت صعود الجيش السوري الحر ، كان من نتائجها الأساسية: سحقها تحت نيران مدافع النظام. وهم يحددون نقطة لا بد من التفكير فيها: “ألا يستطيع المجتمع السوري ، بمجرد أن يتحرر من القيود الاستبدادية ، أن يجد بنفسه توازناته الداخلية وأن يقوم بتهميش المتطرفين من أجل القيام بذلك؟ المجتمع الدولي أنكر له هذا الائتمان. “بهذا المعنى ، فإن باحثًا مشهورًا مثل فابريس بالانش (” في سورية ، انتقل المتردد إلى معسكر الأسد “، مقابلة جمعها داود بوغزاله ، كوسور ، شباط 2014 ، ص 24-25). يعزز الرأي الغربي. إذ أدرك ، في إحدى مقابلاته الأخيرة ، أن التطلعات التي لا يمكن إنكارها للعلمانية والديمقراطية كانت تظهر في آذار 2011 ، فإنه يحدد على الفور ، بعد سؤال يذكّره بأنه النظام المسئول عن غالبية الضحايا: “بالتأكيد ، لكن لا تستهينوا بأهمية القضية الوطنية. لو كان النظام قد سقط لشهدنا تقسيم البلاد […] بانتصار النظام ، تستطيع سورية أن تأمل في إنقاذ وحدتها. ويضيف: “من أجل الواقعية ، أعتبر أنه من الأفضل هزيمة التمرد” ، حتى لا تطيل الحرب دون داع (للحصول على وجهة نظر معارضة ، ينظر، ج. ب. فيليو، الشرق الأوسط الجديد. الشعوب في زمن الثورة السورية ، باريس ، فايار). نحن بعيدون عن الحياد المفهومي ، خاصة وأننا كنا نفضل أيضًا أن هذا الاستبداد – الذي يفترض أنه لا يمكن تعويضه – لم يساعده الأجنبي كما كان ، لأن هذا سمح بإطالة أمد الصراع والبقاء دكتاتورية من زمن آخر. ألم يكتب فابريس بالانش (2011 ، ص 33) عن هذا الموضوع: “ومع ذلك ، عندما انتهى الأمر بسورية إلى الانغماس في” الربيع العربي “، لم يكتب (بشار الأسد) “بدائل أخرى غير القمع واللسان في الخد ، لأن أفقه السياسي ليس سوى استمرارية النظام الموروث عن والده”؟ (ف.بلانش ، “بشار الأسد ،” شبل الأسد من دمشق “، الشرق الأوسط. الجغرافيا السياسية ، الجيواقتصادية ، الجيواستراتيجية ومجتمعات العالم العربي الإسلامي ، عدد 12 ، تشرين الأول – كانون الأول 2011 ، ص 31-33 ، هنا ص 33). ويبدو من الممكن لنا أن نستنتج أن هناك أسبابًا هنا لضرورة إجراء تغييرات جذرية ، بل ثورية ، ما لم نعتقد أن ملكية الأسد تعكس فقط أفق المجتمع السوري الذي لا يمكن تجاوزه.

17-حول واقع هذا الاستخدام ، ينظر ، من بين أمور أخرى ، ف. بورغات ، ب. باولي (“مقدمة. ما هي مفاتيح فهم الدراما السورية” ، ص 7-15 ، في ف. بورغات ، ب.

 18- م.سورات ، سورية. الدولة البربرية، ، باريس ، سوي ، 1989.

باولي إد. لا ربيع لسورية ، مرجع سابق ، ص 14.

19-  بهذا المعنى ، يقلب ميشيل سورات حتمية الماركسية الأرثوذكسية ضد نفسها ، مستخدمًا بمهارة عيبًا معروفًا في النصوص الماركسية: غياب نظرية مقنعة عن الدولة. لكن يبدو من المهم بالنسبة لنا أن نؤكد أن اللغة والفئات الماركسية تسقي من خلال عمله ومن خلاله. ألا يطرح أن “كل مجتمع” يخضع لـ “نمط إنتاج مهيمن”؟ علاوة على ذلك ، يعرّف دراسته بأنها “الفعل الحاسم للدولة في عملية التأسيس الطبقي في الشرق العربي ، كأداة لرأس المال الأجنبي ، ثم عاملاً للتكامل الوطني لما يسمى” الفترة الثورية “. “. في كلتا الحالتين ، تلعب الأيديولوجيا دورًا بعيدًا عن الإهمال “. ينظر المرجع نفسه، ص 230 .

20- حتى لو فضل ميشيل سورات الاقتباس من آلان تورين الذي ، في إعادة صياغة بسيطة لماركس ، يجعل الدولة الغربية “مجلس إدارة” البرجوازية الخاصة (تورين استشهد بها سورات ، 1989 ، ص 229 .

21-ومع ذلك ، فإن طريقة معارضة الشرق والغرب هذه قابلة للنقاش تمامًا لأن الدولة والإيديولوجيا والحرب الطبقية في الغرب نفسه لعبت دورًا حاسمًا في تطور البرجوازية ومؤسسة استقلالية الاقتصاد ، كما يُظهر ماركس بوضوح في استحضاره للمرفقات ، وعمل بولاني بأكمله. في القرن العشرين ، يمكن تصور الدولة كمثال على شمولية الواقع المتناقض للمجتمع الرأسمالي

(كما هو مبين ، في سياق ماركسي جديد واعد ، ميشيل أغليتا ، تنظيم وأزمات الرأسمالية ، باريس ، كالمان ليفي ، 1976). إن الدولة الاجتماعية الغربية ، على قدم وساق في ذلك الوقت ، هي دليل على هذا الاتجاه نحو الاستقلال الذاتي ، ونطاق مؤسسات إعادة التوزيع المناهضة للرأسمالية يتعارض مع بعض الأطروحات الماركسية الأرثوذكسية والرغبات النيوليبرالية (مثل كريستوف). راماوكس ، الحالة الاجتماعية: للخروج من الفوضى النيوليبرالية ، باريس ، ألف ليلة وليلة ، 2012). لذلك يبدو من المهم بالنسبة لنا تحديد الميول التي تعمل من أجل استقلالية الدولة تجاه العلاقات بين الطبقات أو الفئات الاجتماعية ، بشكل عام ، في المجتمعات الواقعة تحت تأثير الرأسمالية ، مهما كان الوضع. الشكل الذي يفترضه. مهما كان الأمر ، فإن هذا المنطلق لمقارنة سورات هذا ، يتبنى الفكرة التي بموجبها “وُلد الاقتصاد الصناعي في إنجلترا تحت رعاية برجوازية خاصة خارج أي تدخل من الدولة” (المرجع نفسه) . ، ص 229) لا يمكن الدفاع عنه ويشكل ، في أحسن الأحوال ، عنصرًا من تكوين الأسطورة الاستشراقية.

 22-ينظَر، ج. موكورانت، ب. تينيل” رأس المال والسلطة الوطنية ” ، ماركس الحالي، العدد 43، ص 140-153،

2008 .

23- من غراسي إلى إ. رابّات، المسيحيون في بدايات الإسلام ، بيروت ، منشورات الجامعة اللبنانية ، 1985 ، نحن نفهم كيف تم تشكيل البنية السياسية في الهوية الطائفية منذ العصور البيزنطية.

24-م.سورات، 1989، مقتبَس منه، ص 85 .

25- يبدأ سورات نصه بشرح أن “الفكر الأصولي الإسلامي” الخاص بالإخوان المسلمين “له قيمة معينة في قيادة التفكير في الدولة.

26-اسمه الحقيقي حسن حمدان. لقد فهم منظّر الحزب الشيوعي اللبناني جيدًا أن مبدأ الدولة الطائفية قد تم تقويضه من قبل المعضل الذي يتعارض مع الحرية الدينية نفسها، ينظَر، جورج لابيكا، وهو يتحدث في هذا الصدد عن ” جرامشي العربي” لدى ، مهدي عامل، الدولة الطائفية. الحالة اللبنانية ، مقدمة بقلم ج. لابيكا ، باريس ، لا بريش ، 1996.

27-ن. فان دام، الصراع على السلطة في سورية، السياسة والمجتمع في عهد الأسد وحزب البعث ، لندن ، توريس، 1996.

28-سهيل بلحاج ( ” سورية الأسد : مقاومة النظام “، مجلة الشرق الأوسط، العدد 21، كانون الثاني- آذار، 2014، ص 62 ) . ويظَر كذلك :” يتم تفضيل تماسك النخبة الأمنية السورية من خلال عمل السلطة ، مما يسمح بتقاسم المجتمع (العلويين / السنة) مناصب المسئولية […] هذه التعيينات تذهب في اتجاه الحفاظ على توازن مجتمعي معقد بين العلويون والسنة ، بحيث أن البعض ليس في موقع يحل محل البعض الآخر […]. وتشهد التعديلات الرئيسة في فرق إدارة الاستخبارات على هذا البحث عن التوازن المجتمعي ، بما في ذلك التعديل الوزاري في تموز 2012 ، حيث كان ثلاثة من السنَّة ( علي مملوك، محمد ديب زيتون، ورستم غزاله ) هم من بين كبار المسئولين الأربعة الذين تمت ترقيتهم”.

29- كما كتب جان بابتيست بوشارد بحق (“الآثار اللبنانية للانتفاضات الثورية السورية” ، ص 27-37 ، في سي ستوير ، ج.ب.بوشار ، وإي فاندينهايد ، الشرق الأوسط بعد عام واحد. بين الثورة والثورة والركود ، باريس ، سيجن ، 2012 ، ص 32) ، بعد عام من بدء “الانتفاضة الثورية” في سورية ، في فقرة تجعل من الممكن تحدي الفكرة القائلة بأن نظام الأسد “يحمي أقليات: “على الساحة السورية ، يلعب النظام بـ” التشرذم الطائفي “، الذي كان استراتيجيته خلال الحرب الأهلية اللبنانية. وبهذا المعنى ، يقوم النظام حاليًا “بلبن” الفضاء السوري من خلال استيعاب نموذج إدارة الصراع الذي مكّنه من السيطرة على أعدائه المتعاقبين في لبنان.

30-ف.بابانش،  المنطقة العلوية والقوة السورية ، باريس ، كارتالا ، 2006. دوناتي ، الاستثناء السوري. بين التحديث والمقاومة، لا ديكوفير، 2009،  وحول هذا الموضوع ، من الممكن إعادة صياغة مفهوم فيبر لـ “الرأسمالية السياسية “) ج. موكورانت،”الرأسمالية في العقلانية والسياسة ، الشرق والغرب” ، سيتيز،رقم 41، 2010، ص 15-34 .)

31-ل.فينيال ” سورية تشريح الثورة “، حياة الأفكار، 27 تموز 2012، www.laviedesidees.fr،

32-كان السحر بالفعل، سحر سورات .

33-فضول آخر يكمن في حقيقة أن هذه الدولة فقدت الحق في اتخاذ قرار بشأن الحرب والسلام ، وهو فصيل أخذ هذا الحق في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، مما يؤدي إلى مزيد من التساؤل حول مفهوم الدولة. فيما يتعلق بالكيان اللبناني.

34-ك. ماركس، ” خاتمة للطبعة الألمانية الثانية من الرأسمال “،1873، www.marxists.org/francais/marx/works.

35- وهي مع ذلك حقيقية جداً! انظر أ. كاشيه ، “مسارات المدن السورية في الثورة. نحو نشوء المواطنة؟ ملتقيات متوسطية، العدد 85، 2013 .*

المقال مترجم عن الفرنسية، ونقلاً عن موقع  journals.openedition.org،

La Syrie entre révolutions et ingérences, 2016,

لكل من الكاتبين أكرم كاشي، وجيروم  ماكورانت.

أما عن أكرم كاشي، فهو طالب دكتوراه في مختبر تريانغلي ، ومحاضر في جامعة جان مونّيت في سان اتيان، وفي إييب،  في ليون ، يعمل أكرم كاش على التحولات الديمقراطية. أصدر عام 2013 بشكل خاص بعنوان “مسارات المدن السورية في الثورة نحو نشوء المواطنة؟ في ملتقى البحر المتوسط ​​رقم 85.

أما جيروم ماكورانت، فهو محاضر في الاقتصاد في جامعة جان مونيه، وعضو في مختبر تريانغلي، وهو مؤلف لعدد من المقالات حول التقليد المؤسسي في الاقتصاد، ولا سيما الجانب المؤسساتي للنقد ..

أوراق

——————————

يومان من آذار/ عروة خليفة

في الخامس عشر والسادس عشر من آذار (مارس) 2011 انطلقت مظاهرتان: الأولى في سوق الحميدية ومنطقة الحريقة الملاصقة له، والثانية في ساحة المرجة وسط العاصمة دمشق. كان ما جرى في هذين اليومين هو الإيذان الفعلي بأنّ انتفاضةً ستنطلق في البلد، مع أنّ تلك التجمعات لم تكن الأولى منذ الربيع العربي، إذ كان قد سبقها احتشاد احتجاجي في الحريقة في السابع عشر من شباط، واعتصامات أمام السفارتين المصرية والليبية لدعم الثورات هناك. كما كان طلاب أكراد قد أقاموا في الثاني عشر من آذار، ذكرى انتفاضة عام 2004 الكردية، وقفة صامتة أمام كلية الحقوق في جامعة دمشق.

يُسجِّل هذا المقال تفاصيل ما جرى في يومي 15 و16 آذار، بشهادات مشاركين في تلك المظاهرات، وبالاعتماد على مراجعة وسائط متعددة وأخبار نُشرت في تلك الفترة، للوصول إلى التفاصيل الأكثر دقّة لحدثين يُشار إليهما باعتبارهما أول أنشطة الثورة السورية.

تمّ تسجيل شهادات كاملة عن المظاهرات مع كل من أوس المبارك ومروة الغميان عن مظاهرة 15 آذار، وأسامة نصّار عن مظاهرة 16 آذار، كما جرى سؤال عدد من المشاركين الآخرين في المظاهرتَين عن تفاصيل قد تكون غابت عن الشهادات الكاملة.

15

لم نستطع الوصول إلى المنظمين الأساسيين لمظاهرة الخامس عشر من آذار عام 2011 في سوق الحميدية بمدينة دمشق، لكنّ المشاركين اتفقوا على أنّ المنظمين كانوا مزيجاً من شباب مسيَّسين وناشطين من مدينة دمشق. وكانت قد سبقت ذلك عدة دعوات للتظاهر عبر صفحات قد أُنشئت على موقع فيسبوك، من بينها على سبيل المثال الدعوة ليوم الغضب السوري بعد صلاة الجمعة في الرابع من شهر شباط (فبراير).

لم تنجح أي من تلك الدعوات في إشعال أولى مظاهرات الثورة السورية، ولذلك لم تكن توقعات الجميع كبيرة تجاه الدعوة التي أطلقتها صفحات على فيسبوك للتظاهر يوم الثلاثاء 15 آذار (مارس) 2011 في سوق الحميدية، حتى بالنسبة للذين كانوا قد قرروا الذهاب والمشاركة في المظاهرة حال خروجها.

كان من المقرَّر أن يتم التجمع، عند الظهيرة، أمام باب الجامع الأموي المقابل لسوق الحميدية، لكنّ تجمّع الأمن في المكان أدّى إلى تأخّر لحظة البدء، ما دفع أحد الشبان المشاركين في المظاهرة إلى افتعال مشكلة مع أحد عناصر الأمن في سوق الحميدية كي تكون حجة لتَجمُّع الناس. قام الشاب باعتراض عنصر الأمن الذي كان يحمل كاميرا ليصوِّر الناس قريباً من باب الجامع، وسأله عن هويته. العنصر أجاب بكل صراحة بأنّه تابع للأمن. عندها بدأ الإشكال، وتجمّع الناس في بداية سوق الحميدية، وبدأت الهتافات «سورية حرة حرة» و«الشعب السوري ما بينذل»، وعند تجمّع عدد جيد من المتظاهرين قريباً من القوس الروماني مقابل الباب، بدأوا بالمسير في سوق الحميدية التاريخي، ثم باتجاه ساحة منطقة الحريقة التجارية عبر أحد الشوارع المتفرعة عن الحميدية، مُطْلِقين هتافات تحث الناس على المشاركة في المظاهرة مثل «وينك يا سوري وينك». في تلك اللحظة رفعَ أحد المتظاهرين كاميرا هاتفه المحمول، وصَوَّرَ الفيديو الأشهر من تلك المظاهرة ليوثّق انطلاقة أولى مظاهرات الثورة السورية.

تتفق شهادات المشاركين بأنّ عدد المتظاهرين في تلك اللحظة كان قد وصل إلى ما بين 150 و200 متظاهرة ومتظاهر، دخلوا مجتمعين إلى أحد شوارع الحريقة، متجهين نحو ساحتها التي تتوسط الحي التجاري الأبرز في العاصمة السورية.

في تلك الأثناء، قام عدد من عناصر الأمن باللباس المدني بتطويق المظاهرة، واندفع عدد من الأشخاص باللباس المدني للهتاف تأييداً لبشار الأسد، محاوِلين التغطية على أصوات المتظاهرين الذين رفعوا أصواتهم لتسجيل أول مظاهرة ضد بشار الأسد في مدينة دمشق. في تلك اللحظة بدأ عناصر الأمن بجرّ متظاهرات ومتظاهرين إلى خارج التجمع لاعتقالهم، وبالفعل جرى اعتقال عدد غير محدد تماماً بالقرب من ساحة حي الحريقة، وتفرقت المظاهرة الكبيرة بعد الاعتداء بالضرب على عدد من المتظاهرات والمتظاهرين. استمرّت تلك المظاهرة لأقل من ربع ساعة، لكنها كانت كافية لتسجيل اختراق كبير في الستار الحديدي الذي صنعه النظام حول سوريا، فقد وصلت أخبارها إلى وسائل الإعلام في المنطقة والعالم، وتم بثّ الخبر الذي اعتُبر حدثاً هامّاً للغاية وسط الغليان في المنطقة.

بعد التفريق العنيف للمظاهرة واعتقال أعداد من المشاركين، قام بعض المتظاهرين الناجين من الاعتقال بتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه سابقاً، وهو إعادة التجمع عند ساحة الجامع الأموي إذا ما تمّ تفريق المظاهرة. ذهب عدد قليل هذه المرة إلى ساحة الجامع الأموي، من بينهم مروة الغميان ونورا الرفاعي وسامي دريد الذين قاموا بالهتاف هناك، إلّا أنّ عناصر الأمن قاموا بمحاصرتهم واعتقالهم على الفور، واقتيادهم إلى فرع الأمن الداخلي 251 التابع لجهاز المخابرات العامة، المعروف باسم فرع الخطيب.

هذا التسجيل المصور الشهير أيضاً يوثق ما جرى في تلك اللحظة.

16

قبل نحو أسبوع من ذاك، اجتمع أهالي معتقلي رأي وناشطون حقوقيون من أجل تنظيم اعتصام أمام وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين في سجون النظام السوري. وقام المنظمون بإطلاق مناسبة على فيسبوك من أجل هذا الاعتصام، لنشر الخبر بين السوريين الذين كانوا قد بدأوا بامتلاك حسابات عليه بكثافة متسارعة منذ فترة قريبة، ولا سيما بعد رفع النظام السوري للحظر عن الموقع قبل حوالي شهر.

كان قد تقرّر التجمع في ساحة المرجة، ومن ثم الانطلاق إلى وزارة الداخلية القريبة منها، في الساعة الثانية عشرة ظهراً، إلّا أن أوائل الواصلين كانوا قد وجدوا استنفاراً أمنياً كبيراً في المنطقة وحضوراً لأعداد كبيرة من عناصر الأمن باللباس المدني.

اتجه الشهيد يحيى شربجي مباشرةً إلى أحد الأبنية المحيطة بساحة المرجة (بناء الحافظ) من أجل تصوير المظاهرة من هناك، لكنّه بعد دقائق أخبر صديقه أسامة نصّار، الذي كان متجهاً إلى الساحة، بأنّ أحد عناصر الأمن استولى على الكاميرا، وأخذ هويته وطلب منه الانتظار في مكانه، ليتم اعتقاله بعد دقائق من هذه المكالمة التي جرت قبل الثانية عشرة بدقائق قليلة.

انطلق المتظاهرون في مسير نحو الشارع المحاذي لوزارة الداخلية قبل حوالي عشر دقائق من الموعد المحدد، وذلك كي لا يتم اعتقالهم قبل خروج المظاهرة. وبالفعل، قام عناصر الأمن المحيطون بالساحة بالتهجّم فوراً على المتظاهرين وضرْبهم واعتقال عدد منهم، وكان من بين المعتقلين المحاميان مازن درويش وأنور البني.

كانت مجموعة من صبايا وشباب داريا، تضم أسامة نصّار وميمونة العمّار، قد وصلت بعد ذلك بدقائق قليلة، لتجد لافتات المتظاهرين وصور المعتقلين الذين طالبوا بالإفراج عنهم ممزَّقةً في أرض ساحة المرجة. على الرغم من ذلك، قاموا بالتجمع في الزاوية المقابلة لمجمّع يَلبُغا الذي كانت تقف بالقرب منه حافلات تابعة لأجهزة الأمن.

في تلك اللحظة علت أصوات من شارع مؤدّي إلى ساحة المرجة، عندما حاول عدد من المتجمعين هناك التظاهر مجدداً. توجهت مجموعة صبايا وشباب داريا إلى المكان فوراً، وفي تلك اللحظة قام عدد من العناصر باللباس المدني برفع لافتات مؤيدة لرأس النظام السوري بشار الأسد والهتاف له بصوت عال.

قام عناصر الأمن بمحاصرة المتجمعين وحاولوا اختطاف عدد منهم لاعتقالهم، وعند مطالبة المتجمعين باستعادة المختطفين قاموا باعتقال كامل المجموعة، أولاً في محل للحلاقة قريباً من المكان، ومن ثم إلى الحافلات التابعة لأجهزة الأمن. تم اقتياد المعتقلين إلى أفرع أمن مختلفة، من بينها فرع المنطقة التابع لشعبة المخابرات العسكرية.

يومان متتاليان شهدا مظاهرتين في مدينة دمشق، وكان من الصعب تَخيُّل خروج واحدة منهما قبل ذلك بأشهر قليلة، أو ربما حتى أسابيع. وعلى الرغم من تنظيم ناشطين حقوقيين ومعارضين سياسيين لأنشطة احتجاجية ووقفات تضامنية مع معتقلين سياسيين سابقاً، إلّا أنّ عدد وتنوّع المشاركات والمشاركين في هاتين المظاهرتين، ونوعية الشعارات التي رُفعت فيهما، كانت على ما يبدو حدّاً فاصلاً يعتبره كثيرون انطلاقةً للثورة في سوريا. كان أبرز ما ميَّزَ المظاهرتين، خاصةً مظاهرة الخامس عشر من آذار، الحضور الواضح لشباب وشابات لم يكونوا ينتمون لبيئة المعارضة السياسية التقليدية، ولا لأجواء المحامين والحقوقيين الناشطين في مجال حقوق الإنسان والنضال من أجل معتقلي الرأي.

نرفع في ذكرى الخامس والسادس عشر من آذار وردةً للشهداء والمعتقلين والمخطوفين الذين شاركوا في مظاهرات هذين اليومين، وللناجين منهم ولجميع السوريين أملاً ببلد أفضل وكرامة وعدالة وديمقراطية.

موقع الجمهورية

——————————–

على هامش ثورة وهزيمة/ حازم نهار

قرأت مؤخرًا دراسة جيدة عن الثورات في العالم، يمكن الاستفادة منها في واقعنا الحالي، في الذكرى العاشرة للثورة السورية، على الرغم من أنها تركِّز بصورة أساسية على الثورة الروسية، ثورة عام 1905 وثورة عام 1917، مع إيماننا في الحصيلة بأن لكل شعب تجربته الخاصة المستندة إلى واقعه وظروفه وأحواله.

ترى الفيلسوفة البولندية روزا لوكسمبورغ (1871-1919)، أن الثورة هي “شكل الحرب الوحيد الذي لا يأتي فيه النصر إلا عبر سلسلةٍ من الهزائم”؛ فهناك ثورات عديدة لم تنتصر إلا بعد أن هُزمت مرات عدة، وما كان لها أن تنتصر لولا استفادتها من هزائمها القاسية التي تعرضت لها. وغالبًا لا يُسلَّط الضوء، عند الحديث عن الثورات المنتصرة، على هزائمها السابقة، بل على مشهد الانتصار الأخير فحسب. الثورة الروسية، مثلًا، لم تكن وليدة العام 1917، بل سبقتها ثورة عام 1905 التي هُزمت بقوة، وفي استعادة التاريخ غالبًا ما يجري تجاهل أو نسيان ما حملته المرحلة بين 1905 و1917 في روسيا من تضحيات ونضال وركود وإحباط وموت.

قامت ثورة شعبية في روسيا عام 1905 احتجاجًا على الاستغلال والحرمان والاستبداد، وعلى الأوضاع التي خلقتها حرب روسيا ضدّ اليابان في عام 1904، وكان الشعب الروسي يرزح وقتها تحت الحكم القيصري الاستبدادي. ففي 9 كانون الثاني/ يناير 1905، تظاهر آلاف العمال في سان بطرسبورغ العاصمة، حاملين صور القيصر، وطالبوا بزيادة أجورهم ورفع مستوى الحريات العامة، فما كان من القيصر إلا أن أمر الجيش بإطلاق النار عليهم ليسقط نحو ثلاثة آلاف بين قتيل وجريح، ما أدى عمليًا إلى اتساع نطاق الحركة الشعبية، لتتحول إلى انتفاضة شاملة خلال أشهر قليلة. لكن قدرة الشعب الروسي على التنظيم آنذاك لم تكن كافية لتحقيق النصر، وكان عليه أن يخوض التجربة على الرغم من قساوتها.

أعلنت السلطة القيصرية المحاكم العرفية، وعلّقت المشانق، ونفذت آلاف الأحكام بالإعدام، وقتلت الآلاف رميًا بالرصاص من دون محاكمة، كما كانت هناك آلاف الحالات من الاعتقال والنفي إلى سيبيريا، واضطر الآلاف من المعارضين والثوريين أيضًا إلى الهجرة إلى أوروبا هربًا من القمع والموت أو طمعًا في مواصلة المعارضة من الخارج، لكن الشرطة السرية القيصرية استمرّت أيضًا في ملاحقتهم خارج حدودها.

أدى القمع العنيف إلى تراجع الحركة الشعبية تدريجًا، والانحطاط الحادّ في المعنويات، وإلى انحدار شبه كامل في غضون سنوات معدودة على المستويات كافة؛ تدهورت أعداد المتظاهرين المشاركين في الإضرابات من نحو ثلاثة ملايين في ذروة الثورة في عام 1905، إلى أقل من النصف في العام 1906، ثم إلى 47 ألفًا في عام 1910. وكان لهذا التراجع الحاد تأثيرٌ كبير على التنظيمات السياسية والثورية أيضًا، فهي تنظيمات تنمو في الأحوال الثورية وتتدهور بأفولها؛ خلال عامين من الثورة، في كانون الثاني/ يناير 1907، استطاع الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي مثلًا تحقيق ازدياد كبير في أعداد المنتسبين إليه حتى وصل عدد أعضائه إلى نحو 150 ألف عضو، لكن هذا النمو انحسر بشدة مع انكسار الحركة الشعبية.

انكمش التنظيم الثوري وغاب العمل المنظم؛ في عام 1907 كان عدد أعضاء الحزب نحو 8 آلاف عضو في بطرسبورغ وحدها، لكن في كانون الأول/ ديسمبر 1908 وصل إلى 300 – 400 عضو فقط. وكان الأسوأ هو أن التدهور الحاد للأحزاب الثورية قد أدى إلى دخول عملاء الشرطة السرية القيصرية إليها، إلى درجة أن تنظيم الحزب في موسكو مثلًا قد اختفى كليًا في عام 1910، بعد أن أصبح أحد عملاء الشرطة السرية أمينًا عامًا له.

وكان على الثوريين الوقوف في وجه الانهيار والتفكك التام، والذهاب نحو إعادة البناء، شعبيًا وتنظيميًا، بصبر ومثابرة، وانتظار أحوال ملائمة جديدة لرفع وتيرة العمل تدريجًا. وتمثلت أهم خطوة بتحليل الواقع وتوازناته، والعمل في ضوئها لا خارجها. لكن الهزيمة الساحقة للثورة قد أدّت إلى صدمة لم تطل الحركة الشعبية فحسب، بل الحركة السياسية والتنظيمات الثورية أيضًا، واستسلم كثيرون؛ بعضهم تخلّى عن القيام بأي عمل نضالي بحكم شعوره باللاجدوى، وبعضهم الآخر عاد إلى أحضان النظام القيصري بحكم عدم القدرة على إطاحته.

أما الذين لم يستسلموا، فذهب قسم كبير منهم في اتجاه إنكار الهزيمة، وإعلان استمرارية الثورة، واستمروا بإطلاق الشعارات الكبرى التي تفتقد إلى أي رصيد واقعي، بدلًا من الإقرار بالهزيمة وخفض سقف التوقعات والتركيز على الإنجاز في المعارك الصغيرة تحضيرًا لمستقبل آخر بالاستفادة من الأخطاء السابقة. كان من بين أولئك الروائي الشهير مكسيم جوركي الذي استمرّ يكرِّر شعارات التصعيد الثوري ذاتها انطلاقًا من الأهداف والرغبات بدلًا من الواقع وموازين القوى والتغيرات الكبيرة التي حصلت. يبدو أن الخطاب الذي ينكر الهزيمة شائع جدًا عبر التاريخ في عقب كل هزيمة. بعد هزيمة الثورات التي اجتاحت أوروبا خلال المدة 1848-1849، كتب ماركس: “يترك القمع العميق للثورة بصمة قوية في عقول المشاركين فيها … ولذلك، حتى أولئك الناس ذوي الشخصيات الثابتة قد يفقدون عقولهم لفترات قصيرة أو طويلة، فلا يستطيعون مواكبة الأحداث ولا يتقبّلون حقيقة أن التاريخ قد غيّر مجراه”.

تحتاج المواجهة الفاعلة للهزيمة، أي هزيمة، أولًا وقبل أي شيء، إلى الإقرار بها. ومن ثمّ إلى اختيار التكتيكات الملائمة وساحات العمل المنتجة حتى لو كانت صغيرة، وهذا لا يعني أبدًا التخلّي عن الثورة وأهدافها، بل يعني مراجعة التجربة ونقدها، والاستعداد لمرحلة كفاحية جديدة، بطيئة وصبورة، لتحقيق آمال الثورة مستقبلًا، عندما تسمح تغيرات الواقع وتوازناته بذلك.  ينبغي لنا ألّا نقلِّل من أهمية المعارك الجزئية، ومن محاولات كسب المواقع والمساحات السياسية الصغيرة.

في عقب هزيمة ثورة 1905 الروسية صعدت إلى السطح رهانات جديدة من بعض الثوريين تعوِّل على أن تدهور الاقتصاد يمكن أن يخلق دفعًا جديدًا للثورة، ولذلك رأى أولئك أن الكارثة الاقتصادية العالمية في عام 1907 التي انعكست بشدّة على الاقتصاد الروسي يمكن أن تدفع الشعب الروسي لإعلان التمرد من جديد، وإعطاء الثورة زخمًا جديدًا، لكن هذا لم يحدث، فقد ازداد الروس يأسًا إلى جانب ازديادهم فقرًا. كتب تروتسكي في مراجعته لتلك المرحلة: “بعد مدة من المعارك والهزائم الكبرى، قد تؤدي الأزمات الاقتصادية، لا إلى استنهاض طاقة الطبقة العاملة في النضال، بل إلى هيمنة الإحباط بين صفوفها، ما يُدمِّر ثقة العمال بقوتهم الجماعية ويقتلهم سياسيًا”.

في الحقيقة، ليست هناك علاقة خطية أو مباشرة أو ميكانيكية بين التدهور الاقتصادي وتفاقم الثورة في أي مجتمع، بل هناك علاقة مركبة ومعقدة بين طرفي المعادلة، والحاسم في تحديد التفاعل بينهما هو السياق الذي يحصل فيه التدهور الاقتصادي؛ فإذا جاء في سياق الهزيمة فعلى الأرجح أنه سيخلق يأسًا وإحباطًا متزايدين لدى عامة الشعب، وإذا جاء التدهور في سياق النهوض الشعبي، فعلى الأغلب سيؤدي إلى تزايد زخم الاحتجاج الشعبي، ما يعني أن ازدياد الفقر ليس شرطًا حاسمًا في حدوث أو ازدياد زخم الثورة.

لكن ابتداءً من عام 1911، عادت الحركة الشعبية إلى الصعود اعتمادًا على العمل البطيء والصبور، ومراكمة النجاحات الصغيرة، وقد عبر لينين عن هذا بقوله في تموز/ يوليو 1909: خلال ثورة 1905، تعلمنا كيف نتحدّث الفرنسية؛ نرفع طاقة النضال المباشر للجماهير، ونوسِّع أفق هذا النضال. والآن في مرحلة الركود والتراجع والتفكك، علينا أن نتعلّم كيف نتحدّث الألمانية؛ أن نعمل ببطءٍ وانتظام وثبات، وأن نتقدّم خطوة خطوة، وأن نكسب بوصة تلو الأخرى. ومن يجِد هذا العمل مملًا… فإنه قد أخذ لقب الماركسي عبثًا”.

بعد هزيمة ثورة 1905، حصلت في روسيا عملية إعادة بناء طويلة الأمد، لكنها بالتأكيد لم تنطلق من الصفر؛ فالخبرات الكثيرة المتراكمة لدى قطاعات شعبية وسياسية روسية خلال الثورة المهزومة وسنوات الإحباط القاسية بعدها كان لها دورها المهم، وظهرت إلى السطح عندما تغيرت الأحوال وموازين القوى، وساهمت في إنجاح ثورة أكتوبر 1917. لقد انتقلت ثورة الشعب الروسي في عام 1905 من الزخم إلى الهزيمة، ومن ثمّ إلى الركود والانحسار، لتنهض من جديد وتعبِّر عن نفسها في ثورة جديدة في أكتوبر 1917، استفادت من أخطاء وتجارب الماضي، ثورة انتصرت وأعلنت ولادة نظام جديد. 

لا شك في أن لكل شعب تجربته الخاصة، ولكل زمن شروطه وأدواته، والتاريخ لا يكرِّر نفسه، ولا توجد نسخة واحدة من الثورات يمكن تعميمها، لكن أيضًا للتاريخ منطق وقانون، وتمكن الاستفادة من تجاربه، ومن تجاربنا، لنستطيع، نحن السوريين، الرؤية أبعد من اللحظة الراهنة المتخمة يأسًا وإحباطًا؛ فقد مرّت ثورة الشعب الروسي بمسار قاسٍ ومؤلم إلى أن حققت ما أعلنته من أهداف وقتها، وتقول لنا تجربته بوضوح إن الثورة سيرورة مستمرة من الصعود والهبوط والارتقاء والانحدار، ومن الصراعات الصغيرة والكبيرة، كما تخبرنا أن الواقع قابل للتغيير مهما بلغت قساوته، وأيًا كانت مرارة الهزيمة، وأن إعادة بناء أفكارنا وآلياتنا من منظور مستقبلي مسألة مركزية وضرورية إذا أردنا أن يكون لنا مكان ودور في صوغ حياتنا. الثورة السورية تنتظر السوريين لاستخلاص دروسها والاستفادة من أخطائها، وللمراكمة الإيجابية على جهد أبنائها وتضحياتهم، جهد السوريين كلهم، وآنذاك ربما تولد الثورة ولادة جديدة، وتقدِّم نفسها بصيغة جديدة وعقل جديد وخطاب جديد.

المدن

——————————

“شقّت لنا دروباً جديدة في الصخر”… الجولان بعد عقد من الثورة السورية/ آرام أبو صالح

في الذكرى العاشرة للثورة السورية، أقف متأكّدة من شيء واحد، هو أن الوجع السوري غير قابل للفهم والاستيعاب من قبل مَن لم يجربه. ما عشناه تراجيديا هائلة تنطبق عليها جميع الكليشيهات عن المعاناة والآلام: لا كلمات تصفها.

أكتب هذا في حين نحاول، نحن الكتاب والكاتبات السوريون والسوريات، توظيف الكلمات بهدف وصف عشر سنوات مكتظة، متراصة، وكأن الله أراد فيها تلخيص التجربة الإنسانية بجميع حالاتها الممكنة، المتخيّلة وغير المتخيّلة. أتساءل إذن، كيف لنا أن نصف هذا؟ كيف لنا أن نكتب ما حدث للتاريخ؟ أقول في نفسي: مَن لا يفهم الألم السوري لا يفهم سوريا. كيف نتكلم عن قضية عصية على الفهم؟ ليس لتعقيداتها السياسية أو العسكرية، بل لأن الألم عبر ضفة الوصف والاحتمال.

أكتب عما أعرفه على أفضل وجه: الجولان في الثورة السورية.

بدأت حكاية النزوح والتهجير عند الجولانيين 44 عاماً قبل أن تبدأ عند باقي السوريين. خرج 130 ألف سوري وسورية من قراهم ومزارعهم مجبرين، أمام زحف الجيش الإسرائيلي عام 1967. وأقام أغلبيتهم في ما سمي لاحقاً بتجمعات النازحين في الأرياف السورية الجنوبية. عانى الجولانيون من التهميش والإقصاء والعنصرية في تهجيرهم هذا، وبشكل ممنهج من قبل سلطات النظام السوري. وبينما هُجّرت الأغلبية الساحقة من الجولانيين، بقي منهم 10% في خمس قرى سورية شمال الجولان.

“ابن الحرام… باع الجولان”

بالنسبة للجولانيين، بشطريهم، حمل اندلاع الثورة في سوريا عام 2011 أملاً ملموساً بالتغيير، وخطوة واثقة نحو تحرير الجولان، بعد معاناة طويلة وإهمال متعمد لقضيتهم من قبل النظام السوري. كانت الثورة بالنسبة لهم أملاً بخطوة لطالما انتظروها، نحو عودة المشتاقين إلى بيوتهم وقراهم.

أتذكر نفسي ورفاقي في 2015، كنا نتجه بشكل دوري من قرية مجدل شمس في الجولان المحتل، نحو التلال المطلّة على القنيطرة، لنشاهد علم الثورة يرفرف هناك. كنت أنظر إليه بأمل وأقول في نفسي: “لن يطول الحال أكثر من هذا، الفرج قريب”.

يروي نور، وهو ناشط مدني من القنيطرة، هُجّرت عائلته من جنوب الجولان المحتل عام 1967، أنه كان يقيم في ريف دمشق الجنوبي، عندما خرج الجولانيون بحماس كبير للمشاركة في التظاهرات الشعبية ضد النظام السوري.

هناك، في تجمعات النازحين الجولانيين، يقول نور لرصيف22 إنهم لطالما كرهوا النظام لتهميشهم وإقصائهم عبر السنين، ولكن مع اندلاع الثورة بدأت تتضح ملامح إضافية، استطاع الجولانيون الكلام عنها بفضل الثورة. انتشرت رواية “بيع الجولان” وخيانة أهله كالنار في حقل يابس. بدأوا حينها بالمطالبة بتحرير الجولان في التظاهرات، ورفعوا هتاف “ابن الحرام… باع الجولان”، الذي سرعان ما انتشر في كل المناطق السورية الثائرة.

مع تسلح الثورة، انضم الجولانيون إلى كتائبها وحملوا السلاح في وجه النظام. كانت مناطق الجولانيين المهجّرين من أولى المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام في العامين 2011 و2012. أسّس الجولانيون كتائب وتنظيمات عسكرية تابعة للجيش الحر، وقاتلوا في القنيطرة والجولان وجنوب دمشق، واستشهد الكثير من شبابهم في المعارك. وتشكلت أول كتيبة جولانية في ريف دمشق الجنوبي على يد الملازم أول المنشق عبد الحكيم الرفاعي، ابن الجولان المحتل، مؤسس ألوية أحفاد الرسول، واعتُقل بعد أشهر قليلة من تأسيس الكتيبة، وما زال مصيره مجهولاً حتى اليوم.

حرب على الهوية الجولانية

“كانت الهوية الجولانية حاضرة في جميع التظاهرات وفي ساحات القتال”، يقول نور. كذلك كان انتقام النظام ضد هذه الحاضنة حاضراً بشكل ممنهج، بدءاً باعتقال آلاف الجولانيين على الحواجز، لمجرد كونهم من تجمعات النازحين، وتغييب كثيرين منهم حتى الآن في المعتقلات، وحتى تدمير تجمعات البؤس العشوائية، ومعها بيوت الجولانيين وخيمهم، بشكل شبه تام.

استعمل النظام السوري الاستراتيجية نفسها التي استعملها الاحتلال الإسرائيلي ضد الجولانيين في النكسة، فكانت المجزرة الأولى يوم 17\7\2012، وقد أرعبت الأهالي وأسّست لتهجير الجولانيين للمرة الثانية والثالثة والرابعة. حدثت المجزرة أثناء تشييع الشهيد عبد الرحيم سمّور في منطقة السيدة زينب، والذي حضره قرابة ثلاثة آلاف جولاني. وفجأة حدث تفجير عملاق ما أسفر عن استشهاد 260 شخصاً وجرح المئات.

حتى الآن، لا نعرف بالتأكيد إذا كان سبب المجزرة صاروخ أم سيارة مفخخة. يقول نور: “سمعنا صوت مروحية فوقنا، ولكن بسبب شدة التفجير وهوله، والأشلاء المتناثرة في كل مكان، لم يستطع أحد أن يفهم ما سبب المجزرة. كانت الصدمة أكبر من أن تسمح لنا بفهم الأحداث أو تحليلها”.

بعد هذه المجزرة، بدأ الجولانيون وغيرهم من سكان الجنوب الدمشقي بالنزوح باتجاه درعا أو القنيطرة. يقول نور: “بدأت الناس تخلي بيوتها، وبقي واحد أو اثنان في كل بيت، في مشهد يشبه قصص آبائنا وأجدادنا عن نزوحهم من الجولان خوفاً من مجازر الصهاينة”. وكباقي المناطق السورية الثائرة، جوّعت تجمعات الجولانيين، وقُصفت بكثافة ومن دون أي رحمة. ظل النظام يفتعل المعارك مع المقاتلين حتّى الاستنزاف، إلى أن فُتح “ممرّ إنساني” باتجاه بلدة السيدة زينب. دخل نحو 700 جولاني وجولانية عبر هذا الممر ولم يخرجوا، فبقي مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة.

انقسام الجولانيين… إسرائيل في الوسط

عام 2015، بدأت منطقة الجنوب السوري تنقسم عسكرياً إلى قسم معارض لإسرائيل، وقسم مؤيد لها، بسبب المساعدات الطبية والعسكرية والمالية التي كان الكيان الإسرائيلي يقدمها لبعض قادة الفصائل في الجنوب السوري، في مشروع شبيه بجيش لبنان الجنوبي الذي أنشأته إسرائيل في جنوب لبنان عندما كان محتلاً.

يقول عمر، الذي كان مقاتلاً في “جبهة ثوار سوريا”، لرصيف22: “أدخلت إسرائيل المساعدات وحاولت استغلال الأمر. ما في شي ببلاش. كنّا في مخيمات نازحين وفي أمس الحاجة لأي مساعدة”. أمّا عن الانقسام فيقول: “الفصائل التي قبلت بمساعدات إسرائيل لم تكن جولانية”. لاقى المشروع الإسرائيلي وعملاؤه معارضة شديدة. وفي أول ردود الفعل، صدر بيان وقع عليه 40 فصيلاً عسكرياً ومنظمة سياسية وثقافية وثورية، قيل فيه إن “الكيان الصهيوني كيان محتل غاصب لأرضنا منذ 1967، ولا نعترف به كدولة أبداً'”، واعتبر مَن يروجوا للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي عملاء وخونة.

عملت إسرائيل آنذاك على انتقاء جرحى سوريين من العساكر والمدنيين من الجنوب السوري، ومعالجتهم في مستشفيات في الأراضي المحتلة عام 1948، يعمل فيها بعض الجولانيين من القرى المحتلة.

“كانت تلك علاجات إنسانية صُنّفت تحت عملية أمنية”، يقول أحد الأطباء في أحد مستشفيات صفد لرصيف22، ويضيف: “ليس هذا بالغريب، فقد كان العلاج الانتقائي موظفاً، كما نرى بوضوح اليوم، من أجل التمهيد للمشروع الصهيوني في الجنوب السوري. لم تكن الإنسانية محرّك العلاج هذا، بل البروباغندا”.

الثورة ضعضعت بنى تقليدية في الجولان

وبينما كان الجولانيون في الداخل السوري يجابهون الشرخ الفصائلي هذا، كان الجولانيون في القرى المحتلة يجابهون شرخاً داخلياً آخر. عام 2015، هاجم عشرات الجولانيين سيارة إسعاف إسرائيلية، ومركبة جيش تنقل جرحى سوريين، قيل آنذاك إنهم مقاتلون في جبهة النصرة، وقتلوا أحد الجرحى.

وفيما قاسى الجولانيون في الداخل السوري التهجير مرّة ثانية وثالثة ورابعة، تحت القتل والقصف والاعتقال، راقب الجولانيون في الجانب الآخر المحتل كل هذا، بقلق وخوف كبيرين. وبالرغم من عدم قدرتهم على المشاركة المباشرة بالثورة، إلا أنهم تفاعلوا بشكل مباشر وطبيعي. فالثورة غيّرت كل شيء، وأصبح المجتمع في القرى المحتلة أكثر انفتاحاً من جهة، وأكثر صعوبةً وتعقيداً وضياعاً من جهة أخرى، وأقل تقليدية وهرمية، مسيّراً على خطى رجال الدين الدروز وفتوّاتهم.

ضعضعت الثورة السورية وأحداثها، وأحداث الربيع العربي عامة، مباني اجتماعية كلاسيكية في الجولان وفكّكتها أو دمّرتها، لتترك الجولانيين بمواجهة أزمة هوية كبيرة، على الصعيد السياسي (سوري-إسرائيلي)، وعلى الصعيد الاجتماعي (مؤيد-معارض)، وعلى الصعيد الديني التقليدي (متدين-علماني) وعلى كل الأصعدة المتفرّعة.

لا يمكننا فهم هذا التغيير دون التطرق للمسببين الرئيسين: أولاً، الشرخ المجتمعي الحادّ بين مناصري الثورة ومعارضيها؛ وثانياً، التراجيديا السورية وشدة الحرب والقصف والاعتقال واللجوء، وانهيار الكيان السوري وتفكيكه وتغييره ديموغرافياً، ووقوع أراضيه تحت احتلالات عدة. أمام هول هكذا تراجيديا، تسقط المسلمات وتفرغ جميع الشعارات.

هل هناك ضياع سياسي في الجولان؟

أسّست أحداث الثورة السورية لديناميكيات سياسية واجتماعية جديدة، متمثلة بثالوث قوّة تتصارع مكوناته على الساحة العامة في الجولان المحتل: فمن جهة يقف الاحتلال الإسرائيلي، مصحوباً بمخابراته وعملائه ومؤسساته، مستغلاً الوضع لتمرير مشاريعه التهويدية. ومن جهة أخرى، يقف النظام الأسدي، المتمثّل بمؤيديه ورجاله، وبالسلطة التقليدية الدينية. وهناك المعارضة أو مؤيدي الثورة من جهة ثالثة، والمكوّنة عامة من الناشطين السياسيين الشباب، والمثقفين والفنانين وأكثرية الأسرى المحررين من سجون الاحتلال.

بعد أن كان صراع القوة في الجولان المحتل متمثلاً بثنائية الحركة الوطنية السورية ضد الاحتلال الإسرائيلي، أضيف البعد الثالث، وهو مسألة الثورة السورية، فأحدث شرخاً لم يلتئم حتى اليوم وسط الحركة الوطنية السورية، فشُلّت حركتها بشكل شبه تام لسنين طويلة، ورأت اسرائيل بهذا الشلل فرصة للتغلغل أكثر في وعي الجولانيين ولتمكين انتهاكاتها الاستعمارية.

“ضربت التفاعلات المجتمعية مع أحداث الثورة السورية في عمق شرعية السلطة الدينية التقليدية في الجولان”، يقول هاني زهوة، الناشط في الحراك المعارض في قرية بقعاثا، والذي تحوّل من متدين إلى علماني بعد الثورة، “وبعدما خسروا جزءاً كبيراً من مصداقيتهم وشرعيتهم، بسبب اصطفافهم مع النظام ومعارضتهم لمبادىء الحرية، صارت سلطتهم غير مطبقة إلا على ناسهم”.

ظهرت مظاهر التحرر من هذه السلطة رويداً رويداً في الحيّز العام، لا سيما في قرية مجدل شمس. فُتحت البارات، وأبيحت بعض الحريات الجنسية والنسوية، وأصبحت العلمانية أو الإلحاد حرية شخصية. لكن وبالإضافة إلى هذا، انتشر الاحساس بالضياع وبفقدان الأمل بالتحرير، إضافة إلى الشلل في العمل السياسي والعمل العام، والذي حلّ محل الفراغ الذي خلقته المباني الاجتماعية والمسلمات المفككة والمنهارة، فسادت العبثية والمادية وعدم المبالاة بالسياسة وأحداثها. “من الأمور التي تغيرت جذرياً بعد الثورة، كَسْر وحدة الموقف وكَسْر التفرد به في الجولان”، يقول هاني، ويضيف: “قد يرى البعض هذا التحول إيجابياً، لكنه مخيف ويخلق حالة من الضياع السياسي”.

في البحث عن فسحة تواصل

ظلّت إسرائيل تحاول، وما زالت، استغلال هذا الشرخ المجتمعي وفقدان القيادات في الجولان، محاولة ترسيخ حالة اليأس والعدمية السائدة، حتى اصطدمت عام 2018 بإرادة جولانية متجددة، بعد سنين من السكوت والانقسام والشلل، تمثلت برفض ومقاومة انتخابات المجالس المحلية التابعة للمؤسسة الإسرائيلية، التي حاولت دولة الاحتلال فرضها على الجولانيين، والتي اعتبرها الجولانيون خطوة كبيرة وخطيرة نحو “أسرلة” الوعي والحيّز، واتحد الجولانيون، بصعوبة بالغة، في وجه الانتخابات، على الرغم من اختلافاتهم الجذرية التي ظنناها غير قابلة للالتقاء.

في هذه الانتفاضة الصغيرة، وفي الانتفاضة المستمرة ضد مشروع المراوح الذي تصادر فيه إسرائيل أراضي الجولان حتى اليوم، نوع من عودة “الحركة الوطنية السورية ضد الاحتلال الإسرائيلي” التي كانت موجودة قبل الثورة. هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال انتهاء الشرخ أو التنازل عن الاختلافات الجذرية بين المؤيدين والمعارضين، ولكن هو ائتلاف سوري فقط، دون أي هوية إضافية، لحماية الأرض وهويتها السورية.

أما اليوم، بعد عقد من فعل الثورة الأول، تبقى إسرائيل والنظام السوري، العدوين الأساسيين والمباشرين للجولانيين ولقضيتهم. وبينما يعمل النظامان على توسيع الشروخ والاستثمار فيها والتحريض عليها، يبحث الجولانيون البسطاء عن فسحة للحياة وفسحة للتواصل، وقد أصبحوا اليوم كما جميع السوريين، مشتّتين في جميع بقاع الأرض.

إن أجمل ما أراه اليوم من تواصل بين المهجّرين والباقين، وهو من نتائج الثورة السورية، إذ قرّبت بين بعضنا المشتت والمفصول قسرياً منذ 54 عاماً. نرى اليوم لقاءً جميلاً بين الجولانيين أجمع، على وسائل التواصل الاجتماعي، نتشارك فيها الأمل والألم، ونتحدّث عن قرانا المهجّرة والمسلوبة، وعن التهجير الأول. تواصل ما كان ليوجد لولا الثورة، التي شقّت درباً ما في الصخر، التي ضعنا إثرها وضُيّعنا وأضعنا أنفسنا، لنحاول إيجادها مجدداً.

رصيف 22

——————————————–

الطريق إلى سورية/ سميرة المسالمة

تبعد سورية عن الشعب السوري مسافة عشر سنوات من المآسي والفقدان وعشرات المجازر، ومئات آلاف الجثث من الضحايا والشهداء، وأكثر من مئتي ألف معتقل يدفعون ثمن الحرية طريقا إلى الحياة، ولا يزال الزحف إليها هدفاً نبيلاً لا مساومة عليه، يتبنّاه بعضنا جهاراً سواء داخل سورية أو نحن بحكم بعدنا عن سوط الديكتاتور وجغرافية نفوذه، وبعض منّا محكوم بمكانه وأمانه وحيّزه الجغرافي، يلوذ بالصمت القابل للانفجار، والذي يستشعر ناره النظام السوري، ويتلظّى من وهج لهيبه، وربما تحترق منه روابط المصالح الجامعة لهم كأسرة حاكمة بأبعادها (الأسد، الأخرس، مخلوف) وأجهزة أمنية وتجار وأثرياء حرب.

الطريق إلى سورية الساعية إليها الثورة، هي كما عبر عنها أهلها قبل عشر سنوات، وقبل أن تمتد الأيدي الكثيرة لتغير معالم تلك المطالب وجدول أولويات الثوار، وسبلهم السلمية وتعبيراتهم عن تلك الأهداف، وتترك أمر ثورتهم بين من ليس منهم، وتربط حراكهم بمصالح الدول المتصارعة على “الغنيمة السورية”. وليس هذا الطريق، على الرغم من وعورته، بعيداً إلى درجة اليأس والتسليم ببقاء النظام الحالي، بكل مكوناته وأدواته، عبر بوابة إعادة انتخاب بشار الأسد ولايته الرابعة، وسط دعم روسي – إيراني، ومن بعض الدول العربية، سواء التي جاهرت بعلاقتها مع الأسد (الإمارات مثالاً)، أو تلك التي تلعب من تحت الطاولة الأميركية. وحتما هو ليس درباً معبداً يسهل العبور من خلاله إلى حق السوريين، ما يعني أن العمل للوصول إلى سورية يتطلب إزالة الألغام والمطبّات التي تمترس النظام خلفها، وبعضها صنعتها المعارضة بنفسها.

الرهان على خسارة السوريين حقهم في سورية موحدة، يتظللون بعدالة دستورها لأبنائها، بمختلف تلويناتهم السياسية والمذهبية والقومية، وتحكمهم حقوق المواطنة وواجباتها هو رهان مبكّر جداً في سياق انتصار الثورات الشعبية في العالم، ولكنه قد لا يعني حتمية الانتصار، بخاصة إذا بقيت الثورة السورية تحمل أكثر من معنى، ويعبّر عنها أكثر من مشروع، وتنقسم معارضاتها إلى منصّات وأجندات، وتتحوّل قياداتها إلى موظفين صغار عند أجهزة مخابراتية، أو أذرع لاحتلالات إقليمية أو دولية لجزءٍ هنا أو هناك من الأرض السورية، ويصبح التمسّك بوطنية السوري عيبا يؤخذ عليه ويجرّده من شراكته في ثورة عظيمة، كان هدفها ولا يزال حرية الإنسان وكرامته.

استطاعت روسيا، وقبلها إيران، أن تساند النظام في حربه على السوريين، وأن تعيق سقوطه حسب تصريحات الطرفين، لكنهما، أقصد الدولتين، حتى اليوم لم تعلنا انتصارهما على الثورة، أو هزيمة المعارضة أمام النظام، وذلك لأسبابٍ منها:

أن العمل العسكري بإدارة دولتين كبيرتين، واستخدام أسلحتهما بكل أنواعها، مع استخدام السلاح الكيماوي للنظام وجيشه الجرّار، ضد فصائل “معارضة” مشتتة أهدافاً وتبعيات وتمويلاً وأجندات، ليس إنجازاً تفخر به دولةٌ بحجم روسيا، بما تحاول أن تقدّم نفسها قطبا عالميا يقف في مواجهة القطب الأميركي، وهو ما جعلها تحاول فتح مسارات التسوية بين النظام وأصدقاء المعارضة أو مموليهم، بدءا من مسار أستانة بين الشركاء الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا)، وصولاً إلى المسار الإنساني الذي استبعدت فيه إيران لتضم قطر إليها، وكما تحاول موسكو تغييب دمشق عن صنع قرارها، فقد استطاعت تحجيم المعارضة، وتجاهلهم عند عقد اتفاقات التسوية مع داعميهم، ويأتي هذا الحراك الروسي نحو دول الخليج لأسباب منها:

أن العمل الاقتصادي في سورية في ظل عقوبات تشمل الثلاثي (النظام ، إيران، روسيا) ليس مجديا، وهو عبءٌ لا يتحمّله الداخل الروسي المنهك من العقوبات من جهة، وتبعيات التدخل الروسي في سورية من جهة ثانية، وأخيرا جائحة كورونا بظلها الثقيل على العالم بأسره، فكيف ببلدٍ أتعبته الملفات الخارجية والمعارضة الداخلية، ما يلزمها البحث عن مساندةٍ ماليةٍ لا يمكن أن تتحمّلها إلا دول الخليج العربي التي تريد أن تتكئ على جناح آخر بعد خوفها من تخلي الجناح الأميركي عنها؟

تعمل موسكو على تفتيت قرار مجلس الأمن 2254، بالعبث في مراحله، من دون أن تعلن رفضها له، وهي تسحب البساط من تحت المعارضة عبر التقارب مع داعميها، لأن ذلك الطريق يسهل عليها الوصول إلى سقف تطلعاتها بإعلان فقدان الطرف الآخر المقابل للنظام، فالتحاصص مع الدول أسهل من التفاهم مع ثورات الحرية.

ويمكن النظر إلى المسارات الجديدة التي تؤسّسها موسكو، سواء الإنساني الذي أعلنت عنه الأسبوع الماضي (11 مارس/ آذار) مع قطر وتركيا، أو الآخر الذي لم يتبلور تحت مسمّى واضح مع الإمارات أو السعودية إلى ضيق واقع خيارات روسيا للوصول إلى “تسوية غير عادلة” بين النظام والمعارضة، أو فتح الطريق أمامها حتى لا تنهار “جهودها العسكرية” تحت وطأة الجوع الجماعي الذي يعاني السوريون منه جميعاً، وهو الذي يؤسّس لثورةٍ أخرى، بدأت ملامح الخشية منها داخل أروقة النظام الذي تهزّه أصوات خافتة تنتقد واقع المعيشة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن محاولة إعادة كرسي جامعة الدول العربية لدمشق جزء من مهمة اقتصادية لموسكو لإنقاذ الأسد، واجهتها قطر بالرفض، بينما سارعت الإمارات إلى تبنّيها والموافقة عليها.

وهنا تقع مسؤولية الشخصيات الوطنية السورية والأقلام الحرّة في تسليط الضوء على ما يجب أن تتصدّى له المعارضة السورية التي لا تزال تؤمن بمشروعها السوري، من خلال الإصرار على الوقوف على واقع المؤسسات الناطقة باسمها، وإلزامها الإعلان عن مشروعها وتوحيد أهدافه بكل التفاصيل، وإصلاح محتواها التنظيري والبشري، بما يحقّق وجود قياداتٍ فاعلة غير مرتهنة، واللجوء إلى الحاضنة الشعبية مرجعية وحيدة لهم، وتحقيق مهمتها في النهوض بمؤسسات المجتمع المدني، لأداء وظائفها في الدفاع عن حقوق السوريين جميعها، من الصحية إلى الاقتصادية والبيئية، حتى التعليمية، ومعايرة أداء المؤسسات السياسية لضمان أدائها بما يحقق أهداف السوريين ومصالحهم أولاً.

الطريق إلى سورية أقصر من أن نستصعب السير عليه، وأقرب من الطرق المؤدّية إلى عواصم الاحتلال، لكن تذكرة العبور فوقه تحتاج كل توافق سوري – سوري، قبل أن يكون توافقاً مع الدول، لمعرفة هوية السائق وضمان حسن قيادته إلى سورية، وزرع الثقة بأنها دولة لكل السوريين، تمنح السلام لأهلها ولجوارها وأصدقائها.

العربي الجديد

———————–

الفكر السوري بعد عقدٍ من الثورة: تعلّقٌ بالأمل/ محمود الحاج

تمرّ، اليوم الإثنين، ذكرى انقضاء عقدٍ على انطلاق الثورة السورية، وما كان مأمولاً منها وفيها، فكريّاً، ما يزال كذلك: موضوعاً للأمل. أملٌ تبدو عتَباته بعيدةً نسبياً، رغم الخطوات التي سِيْرت وتُسار في اتّجاهه. بعد عشر سنوات، تبقى حصيلة الثورة، على المستوى الفكريّ، ضعيفةً نسبيّةً، أو ضعيفة بما كان ينتظره كثيرٌ من السوريين. ليست ضعيفةً كمّاً: الكتب والتحاليل والمقالات التي يوقّعها سوريّون كثيرة. ومعها الطموحات والمشاريع والقِيَم والشعارات ــ وهي أيضاً شيءٌ ثقافي وفكريّ. الضعف يُصيب التميّز والنوعيّة، يصيب المضمون والمجيء بمقولات جديدة، ويصيب كذلك العمل الجماعي، وتحقيق الطموحات والمشاريع.

ثمّة مَن يقول إنّ الثورات كذلك، تحتاج سنوات (أكثر من عقدٍ واحد) لتنضج ثمارها. ثمّة مَن يربط هذه القلّة بشروط السوريين المنتمين إلى الثورة ــ بمن فيهم المثقّفون ــ، والتي لا تتناسب مطلقاً مع شروط الشغل الثقافي: نزوح داخل البلد أو على حدوده؛ منفى وهجرة؛ لا استقرار؛ سكنٌ مؤقّت؛ أوراق مؤقّتة؛ انشغالٌ بأوراق الإقامة واللجوء، بالأمراض والكآبة والقلق وتبِعات ما بعد الصدمة، بالبُعد عن الأرض الأولى واللغة الأولى والوجوه والأصوات الأولى؛ انهماكٌ بالحياة واللغة الجديدتين ومتطلّباتهما. ثمّة مَن يرى أنّ في الأمر يداً لحُكْم النظام وطبيعته، ونفاذهما إلى بُنى المجتمع السوري وتأثيرهما في أساليب عمل السوريين وتفكيرهم، بما يعني أنّ امتلاك لغةٍ وخطاب جديدين، متخلّصين من تأثير النظام، يتطلّب وقتاً. وثمة مَن يحيل الأمر إلى تقاعس “العالَم” وعدم وقوفه إلى جانب سورية وتهيئته ظروفاً أكثر مناسَبةً لتحقيق السوريين ما طمحوا إليه في بدايات الثورة.

أيّاً يكن، يمرّ اليوم عقدٌ على بداية الثورة ونحن بعيدون عن تحقُّق مقولاتها الفكريّة الأولى، التي جاءت بصورةٍ سياسية: حرية وبس، ديمقراطية، لا طائفية، عدالة، حقوق. كما أنّنا بعيدون عن الوقوف على منتجات سورية تضيء تلك المقولات الأولى، تفكّر بها، وبحامليها، تعيد بناءها نقديّاً، تهيّئ لإمكانية تحقّقها، أو تشرح عدم تحققها (حتى الآن)، وتُعْلمنا أكثر عن سورية والسوريين، عن المجتمع وثقافته وعمّا يعتمل فيهما من أزمات ومشاكل، أو ما يكم فيهما من وعود لتحسّن قريب.

يمثّل الفكر واحداً من أكثر حقول الاشتغال الثقافي السوري فقراً في يومنا هذا. مكانه الفارغ هائلٌ منذ بدء الثورة. نقصٌ يدفع البعض إلى التساؤل: هل تفكّر سورية حقّاً، اليوم؟ منذ 2011 وحتى اليوم، بالكاد نعدّ على الأصابع العناوينَ التي يمكن النظر إليها باعتبارها إضافةً إلى المكتبة الفكرية السورية، العربية أو العالمية. مَن يُرِدْ معرفة شيء معمّقٍ عن سورية، عن مجتمعها وتاريخها وثقافتها، وحتى عن بُنية النظام السوري، يقرأْ أعمالاً وضعها أشخاص غير سوريين، غربيّون في الأغلب، وعرب. الأشخاص الذين يُؤخَذ بخرائطهم لسورية على شاشات التلفاز وفي الجرائد، في مراكز الأبحاث والجامعات، ليسوا بسوريّين. والذين يشكّل تحليلهم لخمسين عاماً من دكتاتورية النظام مرجعاً للباحثين والقرّاء، ليسوا بسوريين أيضاً، في أغلبهم. وحتى هؤلاء الذين يعطوننا مقولات جديدة عن المجتمع السوري، عن تقاليده وأنماط عمله وعيشه ومقاومته غير المباشرة، أو تعامله، مع سُلطة النظام، هم في الأغلب غربيّون وعرب.

ترنّ هنا أسماء رايموند هينوش، وليزا وادين، وميريام كوك، وميشيل سورا، وليلى هدسون، وستيفان وينتر، وآن بوجو، وديفيد ليش وغيرهم، غرْباً. كما تحضر، عربياً، أسماء عزمي بشارة، وإليزابيث سوزان كسّاب، ووجيه كوثراني، وزياد ماجد. بعبارة أخرى: مراجعُ سورية الفكرية تأتي بالأغلب من خارجها. رفوف الأبحاث الاجتماعية السورية، الجادّة، من علم الاجتماع إلى الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والجغرافيا، شِبه فارغة خلال العقد الماضي. والحال ينطبق أيضاً على الفلسفة والجماليات. ربّما كان التاريخ حقلاً يُستثنى هنا، إذ كُتب فيه ونُشر، أو أعيد نشْرُ، العديد من العناوين التي تستحقّ التذكير بها والعودة إليها.

من الأمثلة، في هذا المقام، كتابا محمد جمال باروت “العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح” (2013) و”التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية: أسئلة وإشكاليات التحوّل من البدونة الى العمران الحضري” (2013)؛ وكتابا عبد الله حنّا “صورٌ من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين ــ جمعها الدارسون في المعهد النقابي بدمشق” (إعداد، 2019) و”صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية” (2018)؛ وعمل شمس الدين الكيلاني “مدخل في الحياة السياسية السورية: من تأسيس الكيان إلى الثورة” (2018)؛ وكذلك “الموسيقى التقليدية في سوريا” (2018) لحسّان عباس؛ و”قصّة حزب العمل الشيوعي السوري: 1976 ـ 1992″ لراتب شعبو (2019)؛ إضافة إلى اشتغالات تيسير خلف التأريخية والتحقيقية، مثل عملَيْه حول أبي خليل القبّاني (2018)، وكتابيه الآخرين “الرواية السريانية للفتوحات الإسلامية” (2016)، و”الحركة النسائية المبكّرة في سوريا العثمانية: تجربة الكاتبة هنا كسباني كوراني 1892 – 1896″ (2019). كما شهد العام الماضي صدور ترجمة كتاب المفكّر السوري الراحل، إدمون رباط (1904 ــ 1991)، “تطور سوريا السياسي في ظل الانتداب”، عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، الذي صدرت لديه أيضاً غالبية الأعمال التاريخية المذكورة.

خارج الحقل التأريخي، إذاً، لم تشهد السنوات الماضية ظهور الكثير، أو الكافي، من أعمالٍ سوريّة جديدة تحمل مشاريع تفكّر بالبلد أو انطلاقاً منه، أو تفكّر حتى بشيء آخر غيره. وكأنّ الحال يقول إن سورية لم تعد تنتج فكراً منذ أصدرت أسماءٌ مثل صادق جلال العظم، وجورج طرابيشي، والطيب تيزيني، وبرهان غليون، آخر أعمالها. رغم ذلك، نتمنّى أن يكون الواقع معاكساً لهذا القول. من الاستثناءات الفكرية القليلة، منذ بدء الثورة، ما وضعه ياسين الحاج صالح وسلامة كيلة (وهو سوريٌّ بالإقامة لعقودٍ في البلد، كواحد من أبنائه، وبالانخراط بالثورة وبالكتابة عنها)، المختلفان إلى حدّ بعيد على مستوى الأدوات النظرية. ولا نشير إلى هذين الكاتبين لمجرّد إصدارهما كتاباً أو اثنين منذ بدء الثورة، بل لأن كتاباتهما شفّت عن مشروع فكريّ حاول مرافقة الثورة تحليلاً وشغلاً مفاهيمياً، وسعى إلى إعادة خلق نفسه انطلاقاً منها ــ وهو ما يبدو نادراً في كتابات السوريين اليوم.

طوّر الحاج صالح، خلال السنوات الأخيرة، معالجته لأسئلة كان طرحها حتّى قبل الثورة، لكنّها أخذت معنىً أكثر وضوحاً ورصانةً منذ 2011. وبعكس كيلة، الذي متَح من العتاد الماركسي، بشكل أساسي، لفهم الراهن السوري، مالت كتابات الحاج صالح إلى البحث في أكثر من مستوى من القراءة النظرية، وإلى الاستعانة بأكثر من مَعينٍ منهجي أو مرجعيّ، غير متردّدة في صياغة مصطلحات جديدة تتيح فهماً أجدد وأوضح لبعض الموضوعات السورية. يمكن، هنا، الإشارة إلى بعضٍ من كتبه، مثل “الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان” (2016)، و”الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية والحرب العامّة في سورية” (2017)، و”السلطان الحديث: في الطائفية وخصخصة الدولة وفي أزمة الوطنية والمواطنة في سورية” (2020).

أمّا سلامة كيلة (1955 ــ 2018)، فكان قد وضع، أيضاً، قبل انطلاق الثورة السورية، العديد من الأعمال التنظيرية حول أسئلة الثورة والحرية والإيديولوجيا والصراع الاجتماعي والاقتصادي (أي السياسي)، وحول النقد التصوّرات الرائجة للماركسية، وحول الإسلام. وجاءت الثورة، عام 2011، لتشكّل فضاءً حيّاً، جديداً، لشغله البحثي؛ فضاء اجتمعت فيه أغلب الوقائع والثيمات التي طالما شغلته. وقد كتب حولها أعمالاً عدّة منذ بدئها، مثل “الثورة السورية: واقعها صيرورتها وآفاقها” (2013)، و”مصائر الشمولية: سورية في صيرورة الثورة” (2014)، و”ثورة حقيقية: منظور ماركسي للثورة السورية” (2014)، و”الصراع الطبقي في سورية” (2015).

كما يمكن الإشارة إلى اشتغالات بعض الباحثين السوريين في لغاتٍ أخرى، ومنهم المؤلّفان الشابّان نبراس شحيّد وجوزيف ضاهر، اللذان تعكس أعمالهما الأولى ولادة تجارب فكرية سورية قد تشهد السنوات المقبلة تراكماً لنتاجها. يكتب شحيّد في الفلسفة، بالعربية والفرنسية، التي نشر فيها “الجسد والكتابة: نيتشه بعد دريدا” (2020) و”التدميرية التشكيلية: قراءات فلسفية في الفنّ السوري المعاصر” (بالاشتراك مع غيّوم دوفو، 2021). أما جوزيف ضاهر، فمن بين ما صدر له، بالإنكليزية، “سورية بعد الانتفاضات: الاقتصاد السياسي لمرونة الدولة” (2019).

ولا بدّ من التذكير، في نهاية الأمر، بأنّ سورية فقدت، خلال العقد المنقضي، عدداً من أبرز أسمائها الفكرية التي رحلت من دون أن تترك وراءها عناوين كتبتها بعد انطلاق الثورة. الحديث هنا، بشكل أساسيّ، عن صادق جلال العظم (1934 ـ 2016)، وجورج طرابيشي (1939 ـ 2016)، والطيّب تيزيني (1934 ـ 2019).

العربي الجديد

————————————–

(المثقف والسياسي) في الثورة السورية/ حسن النيفي

 ( 1 )

يجسّد تاريخ العلاقة بين المثقف والسياسي صورة نمطية وسمت كلّ واحد منهما بسمات محدّدة، وبات ما هو خارج هذه الصورة النمطية لا يعدو كونه شذوذاً، والشذوذ يؤكّد القاعدة ولا يلغيها كما يقال. إذ بات من المألوف أن يُصنّف المثقف على أنه يستقي مادّته من معين قيمي مبعثه المبادئ والأفكار والنظريات والقضايا الكبرى، بينما وُصف السياسي بالقدرة على تغيير المواقف والمناورة والنهج البراغماتي في التفكير والبراعة في الالتفاف على الثوابت وتوظيفها لخدمة أغراضه وأهدافه. كما حملت تلك الصورة النمطية في طياتها مياسم أخرى، جعلت من المثقف ذلك الإنسان النائي عن اليومي والمُعاش، غير مكترثٍ بالسياقات الحياتية والمعيشية للناس، تاركاً بينه وبين ما يجري في الواقع مسافة تحفظ له هدوءه وابتعاده عن صخب الحدث اليومي والمعاناة المباشرة للواقع، غيرَ منفعلٍ بالحدث الآني، بل غالباً ما اتُهم بالتحصّن بمبدأ التقية، حرصاً على سلامته وحفاظاً على ذاته من غضب السلطة، في حين احتل السياسي تقويماً أكثر حضوراً في الوجدان الشعبي، باعتباره شخصاً متفاعلاً مع الشأن الحياتي العام، مواكباً لصوت الشارع ….إلخ، إلّا ان هذا الحضور الشعبي الذي حظي به السياسي لم يكن مصحوباً – في غالب الأحيان – بقبول أخلاقي ، بفعل المفاهيم القارّة في الوعي العام، فطالما عُرّفت السياسة على أنها ( فن الممكن)، والقدرة على تحقيق المصلحة، ولو اقتضى أن يكون ذلك على حساب المبدأ أو القيمة، والبراعة في خداع الخصم، وذلك على نقيض ( المثقف) صاحب الأفكار التي لا تغادر المبادئ، مما يجعل أوجه الخلاف بين الجانبين لا تنحصر في السلوك والممارسة فحسب، بل تقترب من أن تكون قطيعة أخلاقية أيضاً.

بعيداً عمّا أفاضت به الدراسات المعمّقة عن طبيعة العلاقة بين الثقافة والسياسة كمفهومين من جهة، وبين المثقف والسياسي من حيث  وظيفة وفاعليّة كلٍّ منهما في المجتمع من جهة أخرى، فيبدو أن ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، أتاحت المجال لإعادة النظر فيما تنمّط من أفكار وتصورات، كما أكّدت أن المفاهيم والرؤى المؤطّرة بالنظريات لا تملك جداراً حديدياً يعصمها من التصدّع والتشظّي أمام القوّة الدافعة لحركة التاريخ، ولا غرابة في ذلك، طالما أن الفحوى القيمي للثورة السورية إنما تجسّد بكشوفاتها الثقافية والمعرفية أكثر مما تجسّد بإرهاصاتها السياسية التي انتهت إلى الشحوب.

(2 )

لا حاجة للتأكيد على أن شرارة الثورة السورية انطلقت من الوسط الشعبي، من الشارع، ولم تنطلق من الأطر الحزبية، او من مكاتب الأساتذة والأكاديميين، وكانت العفوية هي إحدى سماتها، إلّا أن هذه الانطلاقة العفوية سرعان ما أعقبها أمران اثنان، هما الميل باتجاه الانتظام ضمن أطر ثورية شعبية (التنسيقيات)، ثم الامتداد السريع، وحيال ذلك فقد حدث غير ما هو متوقع، وأعني أن المثقفين السوريين، وتحديداً غير السلطويين، كانوا أكثر تفاعلاً مع الثورة من الكيانات السياسية، ولئن احتاجت بعض الأحزاب والشخصيات السياسية بعض الوقت (أيام – أسابيع) لتتخذ قرارها وتحدد موقفها من الحراك الثوري السلمي آنذاك، عبر بيانات أو تصريحات رسمية، فإن قطاع المثقفين، وبصفاتهم الشخصية ، لم يكونوا الأسرع تفاعلاً مع الحراك السلمي فحسب، بل إن العديد منهم كان جزءاً من ذلك الحراك، دون أن يطرحوا أنفسهم كقادة أو متصدّرين للمشهد، إلّا أن أسبقية موقف المثقف من الثورة لم تمنحه ذلك الدور الذي احتلّه السياسيون فيما بعد، بسبب النشاط الفردي للمثقفين وعدم انتظامهم في أطر أو كيانات تنظيمية محددة، فظل نشاطهم ذا طابع فردي في غالب الأحيان.

ومع ازدياد سخونة الأحداث وتسارعها في الشارع السوري، بدا دور المثقف بالانكفاء شيئاً فشيئاً موازاة مع انزياح الثورة نحو طور السلاح وازدياد وتيرة العنف، وانتشار الفصائل العسكرية التي باتت تفتقر إلى التنظيم والقيادة المركزية والمشروع ذي المعالم الواضحة، فضلاً عن أن ازدياد سطوة السلاح قد عزّز القناعة لدى معظم المثقفين بأن دورهم بات منحسراً في هوامش ضيّقة جداً، وأن المبادرة باتت مرهونة بيد من يحمل السلاح، الامر الذي ولّد جدلاً كبيراً في أوساط المثقفين، بين مؤيد للمقاومة العسكرية وبين معارض لها، أضف إلى ذلك أن باب تسليح الثورة كان المقدمة التي مهدت للتدخل الإقليمي والدولي الذي بات المموّل الأساسي لمعظم الفصائل المقاتلة على الأرض السورية.

( 3 )

حين بدت الحاجة ماسّة لتشكيل كيانات سياسية تمثّل الثورة السورية، انقسم جمهور المثقفين من جديد، فمنهم من آثر الانكفاء أو الابتعاد عن تلك التشكيلات والأُطر، ويمكن أن يكون قد استُبعدوا أو لم تُتح لهم الفرصة، ومنهم من انخرط في تلك التشكيلات، وكان أول كيان سياسي يتشكل في عهد الثورة هو المجلس الوطني السوري (2 – 10 – 2011) وتم اختيار أحد الشخصيات الثقافية ليكون على رأس ذاك الكيان (الدكتور برهان غليون)، وقد بدت خلال قيادة الدكتور برهان للمجلس أول علائم التناقض في التفكير والسلوك بينه – كمثقف – وبين العديد من أعضاء المجلس – السياسيين – وقد أرجع الدكتور برهان في كتابه (عطب الذات) أسباب تلك التناقضات إلى البواعث الدافعة كلا الطرفين للعمل، تلك البواعث التي تتراوح بين من ينظر للمصلحة الوطنية كأولوية، وبين من يراها من منظور مصالحه الشخصية.

وفي خطوة تالية تشكّل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة (11 – 11 – 2012) وقد انضوى بين صفوفه عدد من الشخصيات الثقافية المعروفة بنشاطها السياسي في تاريخ المعارضة السورية، وكان ينتظر كثير من السوريين أن يكون لتلك الشخصيات دورٌ مميّز أو بصمات واضحة في الأداء السياسي للائتلاف، ولكن ما حصل هو العكس، إذ سرعان ما أخذت تلك الشخصيات بالانسحاب من هذا الكيان تدريجياً، مُسوغةً مغادرتها تلك بأن الائتلاف بات محكوماً بالإرادات الدولية والإقليمية، بل فاقداً لقراره الوطني، ولم يعد يلبي تطلعات السوريين، ومنهم من عزا انسحابه إلى تحوّل الائتلاف إلى كيان مغلق تسيطر على مفاصله بعض الشخصيات المعروفة بولائها الخارجي اكثر من ولائها للقضية السورية.

( 4 )

منذ أواخر العام 2016 ، أصبح خضوع الجغرافية السورية لتقاسم النفوذ الدولي أكثر تبلوراً، كما بات صراع السوريين مع نظام الأسد محكوماً أو مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالإرادات الدولية التي تتصارع على الأرض السورية من اجل مصالحها بالدرجة الأولى، فمن الناحية العسكرية باتت جميع القوى والفصائل تعمل بأوامر مشغلّيها الخارجيين، ولم تعد تحمل مشروعها الخاص الذي تقاتل من أجله، ومن الجانب السياسي، فبعد إيجاد مسار أستانا مطلع العام 2017، وتشكيل هيئة التفاوض ذات المنصات المتنوعة، بات دور الكيانات السياسية للمعارضة أقرب للدور الوظيفي، كما باتت القناعة تتعزز لدى كثير من السوريين بأن قضيتهم أصبحت خارج نطاق إرادتهم، ولم تستثن هذه القناعة جمهور المثقفين الذين سلكوا – حيال هذا الواقع – مسالك شتى، فمنهم من آثر الاستمرار في نشاطه الفردي، ومنهم من اتجه نحو تشكيل تجمعات أو منتديات في المجال الافتراضي، فيما نحا قسم آخر باتجاه تشكيل أحزاب أو تجمعات سياسية، فضلاً عن انخراط البعض في روابط أو أطر ثقافية أخرى، إلّا أن الجامع المشترك بين نشاط هؤلاء المثقفين جميعهم هو عدم التأثير المباشر والفعلي في سيرورة ما يجري من أحداث، وهذا لا ينفي – بالطبع – ما يتركه أي حراك ثقافي من أثر على الوعي العام.

( 5 )

من المُنجَزات المهمة والمثيرة لثورة السوريين، زوال معظم التخوم التي ترسّخت في الأذهان والوعي العام بين مفهومي (المثقف والسياسي)، فالثقافة الخاوية من البعد الإنساني والمنبتّة عن السياق الحياتي للناس، والتي لا تكترث لشقاء الكائن البشري أو سعادته، لا يمكن أن تُراكم أيّ ثراء قيمي في تاريخ الحضارة، وكذلك السياسة حين لا تتقوّم على حوامل معرفية وبواعث أخلاقية، وحين تتجاهل يقظة الضمير ونوازع الإخلاص فلا تعدو كونها – حينئذٍ – ضرباً من الزيف والخداع. فكم من مثقف – في الحالة السورية – أدار ظهره لمأساة السوريين منحازاً إمّا لمصالحه الشخصية أو لنصرة الطغاة، وكم من السياسيين الذين برعوا في التسلّق وتصدّر المشهد، لا يحدوهم سوى الجوع الشديد إلى السلطة والنفوذ والاعتياش على مواجع الناس، وبالتالي نجد أن كلا النموذجين مسيءٌ لشعبه وقضيته.

لقد كان – وما يزال – مفهوم (المثقف العضوي) وفقاً لغرامشي، يختزل الكثير مما يمكن أن يقال، ولكن إذا كان هذا المفهوم ما يزال محفوفاً ببعض الريبة (الإيديولوجية) لدى البعض، فإن الانبثاقات الثقافية لثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، قد أسهمت في الكشف عن مقدار العطالة الفكرية والثقافية التي كرّستها الإيديولوجيات التقليدية بكافة أشكالها، وأشرعت أمام الوعي آفاقاً إنسانية أكثر غنًى ورحابة من أقفاص الإيديولوجيا، فهل يمكن لهذه المفاهيم التي أنتجتها الثورة وأملتْها تحولات تاريخية لا يمكن تجاهلها، أن تكون حافزاً للمثقفين السوريين نحو مبادرة ثقافية جديدة خالية من التوصيفات الجاهزة لكل من السياسي والمثقف؟.

أوراق

———————————-

رحلة المنازل في غرفة..وشجون أخرى في ذكرى الثورة السورية/ علاء رشيدي

أقامت منظمة “رؤى لأجل سورية” بالتعاون مع مجموعة من الناشطات والناشطين السوريين المقيمين/ات في برلين، حملة بعنوان (Callforsyria)، وهي عبارة عن مداخلة فنية إحياءً للذكرى العاشرة للثورة السورية، وتتضمن إطلاق موقع إلكتروني، بالتزامن مع افتتاح معرض فني يقام حالياً في برلين على أن يجوب مدناً أوروبية. يتألف المعرض والموقع الإلكتروني من عشرة أعمال فنية صُممت لتمثيل أكثر الأحداث تأثيراً في الثورة السورية. كما صور كل من هؤلاء الفنانين والفنانات فيديو قصير يطلب/ن فيها من الجمهور تقديم الدعم لأي من المنظمات الإنسانية العاملة على الملف السوري.

شعارات الغرافيتي الطفولية

العمل الأول لسلام حسن وهو بوستر يستلهم فنون الغرافيتي التي عرفتها الثورة السورية في بداياتها، وبالتحديد الشعارات الأولى التي خطها أطفال “مدرسة الأربعين” في درعا، مع عبارة “أجاك الدور يا دكتور”، كذلك ضمّن الفنان عمله، كلمة بالإنكليزية freedom. ليست فكرة الفنان فقط استعمال قدرة الغرافيتي على إيصال الرسائل، بل يستلهم أيضاً جماليات فن الغرافيتي في تصميمه البصري، من حيث ضربات الكتل اللونية، انزياحات الأحرف التي توحي كأنها مبخوخة، البخ أحد تقنيات الغرافيتي، على جدار. كما يظهر في البوستر خمسة أطفال وطفلات يجمعهم/ن اللون الداكن التي رسمت فيه ملابسهم/ن، بينما تؤدي واحدة منهن إشارة النصر، وهي إشارة طالما راجت في الصور الملتقطة لأطفال أثناء المظاهرات الاحتجاجية. بوستر سلام حسن يحمل مضامين الثورة، الحرية، الطفولة، بعالم لوني غني وكثيف يتدرج من البقع اللونية الفاقعة إلى الألوان الأشد قتامةً. كأن الفنان أراد أن يجاور بين بهجة المطالبة بالحرية والمصير الصعب التي عانته الطفولة السورية منذ عشر سنوات حتى اليوم.

يتشكل العمل الثاني لسلينا أباظة من مجموعة من الصور النغاتيف المتعلقة بالمظاهرات الشعبية الحاشدة في سورية، تجاورها الفنانة بعضها إلى بعض على شكل شريط نيغايف مربع يمتد على كامل مساحة البوستر، وفي المنتصف كتلة سوداء توحي بأنها من مادة النايلون. أيضاً، تدمج الفنانة بين العناصر البصرية واللغوية، لنقرأ في منتصف البوستر مقطعاً من قصيدة للشاعر المصري هشام الجخ بعنوان “مزق دفاترك القديمة كلها”، دمجتها الفنانة في عملها البصري، كرسالة متعلقة بكسر الخوف، بالحب، بالعلاقة بين الفرد والآخر في ظل الظروف القاسية للانتفاض: “عيناك أجمل طفلتين تقرران بأن هذا الخوف ماض وانتهى، كانت تداعبنا الشوارع بالبرودة والصقيع، ولم نفسر وقتها، كنا ندفئ بعضنا في بعضنا ونراك تبتسمين ننسى بردها”. بهذا المدمج بين تصميم بصري سوري ومقاطع شعرية مصرية يرمز عمل سيلينا أباظة أيضاً إلى مرحلة تاريخية موحدة بين البلدين في تجربة كسر الخوف. فكما استلهم الشعب السوري ثورة تونس ومصر في الربيع العربي، استلهمت الفنانة السورية من الشعر المصري في عملها الفني هذا.

ساعة ونصف الساعة من المقابر الجماعية

تختار رزان صباغ حدث الهجمات الكيماوية التي وقعت في منطقة الغوطة-ريف دمشق، في أعلى يسار البوستر، وضعت الفنانة أرقاماً تدل على الساعة التي وقع فيها الهجوم، 02:30 لتتالى من بعدها سلسلة من المقابر تمتد على كامل سطح الصورة، وصولاً إلى أسفل يمين اللوحة حيث وضع الساعة 04:00، مما يبين أن المقابر المرصوفة في الصورة هي على عدد الضحايا الذين سقطوا خلال هذه الساعة والنصف من التاريخ السوري. في منتصف الصورة الشعار أو اللوغو المعروف بالإشارة إلى وجود مواد كيميائية خطيرة، ويغلب على البوستر اللون الأصفر المستعمل في هذا النوع من اللوغو عادةً، مما يجعل أجواء هذه العمل البصري مشحونة بالرعب والتوتر والخطر، لكن بشكل أساسي بالرهبة التي تصاحب هذا العدد من الضحايا الذي سقطوا لأنهم فقط يتنفسون الهواء.

بين الكتاب والطائرة الحربية

لا يجسد عمل ديالا برصلي حدثاً تاريخياً بعينه، لأنها تختار الإضاءة على موضوعة الطفولة السورية. في تصميمها البصري يحضر الطفل، الكتاب، العصفور، والسحاب المتشكل من دخان الصواريخ. لا يميز أسلوب الفنانة بالعمل على موضوعة الطفولة، بل أيضاً في استلهام أسلوبيات رسومات الأطفال، فنجد الألوان التي توحي بأنها أقلام خشبية مما يستخدمه الأطفال، مع مساحات لونية واسعة بألوان حمراء وبيضاء وبنفسجية. الطفل المصور في البوستر، يقرأ، ويحضر الكتاب في وسط البوستر باعتباره مركزاً للعمل، بينما تشوش على قراءة الطفل صواريخُ فوقه أو في مخيلته. يتميز هذا العمل بالربط المستمر الذي أرادته الفنانة بين الطفل والكتاب، بين فعل القراءة النقيض لفعل الحرب، بين المعرفة والعنف المحيط بها. والأجمل أننا نرى العصفور فوق رأس الطفل يتلصص أيضاً على الكتاب للقراءة، ما يوحي بالفضول، والعوالم الجذابة التي تنقلها الكتب إلى عالم الطفولة ومخيلتها.

الغائبون عن عيوننا وأسماعنا

“الأمر لا يتعلق بهويتي، ومن أنا، أو ما أقدمه في هذا الفيديو، الأمر يتعلق…”، بهذا المقطع يبدأ الفيديو الذي صممه تمام العمر لدعم عائلات ضحايا التعذيب، وعائلات المختفين قسراً في المعتقلات. بعد هذه العبارة الافتتاحية يكمل الفيديو لكن بعد أن ينقطع الصوت، لتستمر العبارات بالظهور كتابةً فقط، لنكتشف أن إخفاء الصوت في الفيديو هو جزء من تصميمه، لنتابع ما يقوله عبر الكلمات المتتالية كترجمة: “إن الأمر يتعلق بآلاف الوجوه الموجودة في صور قيصر، وجوه انمحت من الألم، والأمر يتعلق بالآلاف الآخرين الذين يواجهون المصير نفسه”. إخفاء الصوت هو خيار فني للتعبير عن الوجوه المخفية في صور قيصر، عن الجثث المخفية، وكذلك عن أصوات المعتقلين الذين ينتظرهم مصير الاختفاء والموت المماثل. كذلك يستلهم الفنان مفهوم الإخفاء في تصميم البوستر، فإن كان الاخفاء مجسّداً صوتياً في الفيلم، فإنه يُجسد بصرياً في البوستر، حيث يخفي الفنان ملامح الحضور الإنساني الموجود في الصورة. إن التغييب بالموت أو الاختفاء القسري يعبر عنه الفنان بأن يحجب عن عين الناظر الحضور الإنساني المراد رؤيته، وبذكاء يضع الفنان أسفل الصورة عبارة مماثلة لتلك التي توضع على مرايا السيارات، بتحوير بعض المفردات التي تجعلها متعلقة بالجسد البشري: “إن الأجساد المعذبة تكون متألمة أكثر مما تظهر عليها في الشاشة”، بالإشارة إلى الفارق بين تأمل الألم في عمل فني، وبين عيشه بالتجربة الجسدية.

الخراب من الذاكرة إلى الفن

كذلك يصمم علاء حمامة الفيديو والبوستر الخاص به وفقاً لمفهوم الخراب. في الفيديو الخاص به يعلو صوت الطائرات الحربية ومن ثم أصوات الصواريخ والقذائف على صوت المتحدث. أما البوستر فهو مؤلف من برواز لوحة مذهب، يضم بين أضلاعه المربعة صوراً ممزقة، قطعاً من خشب البرواز نفسه، رسائل ممزقة. ركام الأشياء والصور هذا يخرج من اللوحة ليمتد على كامل سطح البوستر ليوحي العمل بامتداد الركام والدمار خارج إطار اللوحة. إنه الدمار الممتد على كامل الجغرافية السورية، بعض القطع الخشبية للبرواز توحي بالرصاص ببقايا قنابل وصواريخ متفجرة. الصور الفوتوغرافية العائلية الممزقة والرسالة تبين الخراب الحال بالذاكرة، بالأرشيف، وبالفن أيضاً.

حقيبة داخل جواز السفر

أيضاً، يمكن إدراج عمل تامر ملاك أيضاً في إطار العمل المفاهيمي، صمم الفنان حقيبة السفر على شكل جواز السفر السوري، في إشارة إلى ظاهرة النزوح السوري القسري هرباً من الحرب، والهجرة السورية من الدمار التي عرفها العالم، سواءً عبر الطرق البرية أو البحرية. كذلك ترمز حقيبة على شكل جواز سفر سوري إلى العلاقة مع الأوراق الإدارية، في رغبة للتعبير عن الصعوبات التي يواجهها الشعب السوري في العلاقة مع أوراقه الإدارية. فجواز السفر واحدة من الأوراق الإدارية التي فرضت من قبل دول الجوار ودول اللجوء على النازح والمهاجر السوري حتى الآن. عمل بسيط التأليف المفاهيمي لكنه ذكي ولماح في التعبير عن ظاهرة عاشها المجتمع السوري بكثرة في السنوات الأخيرة.

رحلة المنازل السورية في غرفة

في العمل الثامن، تدمج زينة العبد الله بين فن التصميم الرقمي والصور الفوتوغرافية، فموضوعة الصورة هي العائلة السورية، نجد في الجزء العلوي من الصورة عائلة بالأبيض والأسود توحي بالصور الفوتوغرافية العائلية المرتبطة بالذاكرة حيث تقف العائلة بأكملها مواجهة للكاميرا لتلقط لهم صورة وجهية، أما القسم السفلي من اللوحة فهو أكثر تلوناً يميل إلى الإحساس البصري الناتج عن المعالجة البصرية الغرافيكية. تغلب النساء في القسم السفلي من البوستر، وهن لا يجلسن بالأسلوب الوجهي لأعلى الصورة، بل بصورة دائرية حول مجموعة من الأطباق الفارغة. وإن كان القسم العلوي من اللوحة يوحي بالمنزل السوري، فإن القسم السفلي يحيلنا إلى بصريات المخيمات. كأن الفنانة في صورة واحدة تنقلنا بين عالمين عالم المنزل-الذاكرة-الحنين، عالم النزوح-المخيمات-والأواني الفارغة من الطعام. هذا المزيج بين عالمين، أسلوبين فنيين، وحتى بين الفوتوغراف والغرافيك، يخلق عالماً بصرياً مكثفاً بالمشاعر في العمل الفني الذي يبدو وكأنه يروي رحلة العائلات السورية بين المنزل والخيام، بين العائلة المؤلفة من رجال ونساء، والعائلة التي أخفت الحرب رجالها.

كوارث المستشفيات

العمل التاسع لنوح جاد يعود بنا إلى الشكل البصري للصحف القديمة، هو عبارة عن بوستر مؤلف من نصوص وعبارات منسقة بحيث تمتد على كامل مساحة الصورة، وتحمل أكبر كم ممكن من المعلومات. هذا العمل يحمل خاصية في موضوعته، وهي استهداف المشافي والمستشفيات في الحرب السورية. يوضح البوستر بالأرقام أعداد المستشفيات التي طاولها الدمار في سورية. ما يمكن أن نطلق عليه “الحرب الممنهجة على المستشفيات” تناولها الفنون السورية المتعددة، أبرزها كانت الأفلام السينمائية التي وثقتْ لحكايات المستشفيات في أثناء مرحلة القصف والدمار التي يطال كل منها في مناطق متفرقة من البلاد، أفلام مثل “مجانين حلب” للينا سنجاب، “الكهف” لفراس فياض، “إلى سما” لوعد الخطيب.

الحرية نبتة نامية

يتميز الفنان أبو مالك الشامي بتجربته في فن الغرافيتي، أعماله البصرية وعباراته التي يخطها على الجدران المهدمة في إدلب تعبر بقوة عن قوة الفن وقدرته على الاستمرارية فوق الدمار، وتكتسب أهميتها كونها موجودة على أرض الواقع داخل الخريطة السورية، فالأعمال الغرافيتي تتميز بوجودها في مكان فيزيائي محدد هو الداخل السوري، أما أعمال هذا الفنان فهي تتميز بالقدرة على الإثبات الفعلي على إمكانية استمرارية الفن فوق آثار الحرب. العمل العاشر لهذا الفنان يحمل الكثير من التأويلات هو عبارة عن منازل متراكبة فوق بعضها البعض داخل كرتونة، كتب فيها بالخط الأحمر “قابل للكسر”. وبما أن العمل من إدلب فهو يوحي بأن التجربة التي تعيشها هذه المنقطة المستقلة عن السلطة المركزية، مازالت هشة لكنها في طور النمو، كأن العمل الفني يطلب العناية بهذه المنازل، ومتابعة تجربتها في النمو. يبدو وكأن العمل يتخطى كل المراحل السابقة، كالثورة والحرب والهجرة والدمار، إنه عن منازل تحيط بها العصافير وتناطح بمأذنتها السحاب، ليس العمل عن الإعمار بقدر ما هو عن النمو الذي توحي به عريشة من الياسمين تتمدد على الزاوية السفلية للصورة.

المدن

————————

مرتكزات الانتقال إلى الجمهورية السورية الثالثة (*)/ د. عبد الله تركماني

لئن تمكّن نظام البعث من تأسيس جزء من شرعيته على عوامل فوق وطنية، فلقد تمكّن من تفتيت آليات وبنى الولاء الوطني بشكل يولد حالياً حالة من الفراغ وافتقاد الزعامة بشكل خطير. ومع دخول الصدام مرحلة الاستعصاء الراهنة ووصولنا إلى مرحلة توزان الضعف، يستمر المجتمع السوري في تقديم التضحيات الجسيمة، وليصبح التحدي الأكبر الذي سيواجه الجمهورية الثالثة هو كيفية نقل السلطة ومفاتيحها إلى شرعية دستورية ديمقراطية.

لقد عبّرت الثورة عن رغبة أصيلة لدى أوسع قوى الشعب في إقامة جمهورية سورية ثالثة، والانتقال بالبلاد من عهد ” الشرعية الثورية ” إلى ” الشرعية الدستورية ” القائمة على الحكم المدني الديمقراطي. لكنّ الإشكال أنه في غياب أي مستوى مقبول من القيادة السياسية واللوجستية، بل وغياب الحد الأدنى المقبول للقيادة العسكرية، يصبح السؤال الأساسي: كيف يمكن إعادة توليد عقد اجتماعي سياسي جديد يكفل تحويل حالة الفوضى الراهنة إلى عملية بناء لشرعية لا تقوم على تعسف منطق الصراع بل على توافقات منطق العقد الوطني.

فما هي مآلات الجمهورية السورية على صعيد الدولة والمجتمع؟ وعلى صعيد الجغرافيا والديموغرافيا؟ وهل مازال ثمة أمل يرجى من استمرار هذه الجمهورية؟ وما هي الإجماعات الجديدة التي ستتشكل عند السوريين الجدد؟

1- لا تتطور المجتمعات إلا في كنف الدولة [1]

لا سبيل للجماعات لكي تتقدم وتنتج وتراكم وتنظِّم كيانها الداخلي إلا بأن تتحول إلى جماعات سياسية تنشأ الدولة عن اجتماعها السياسي. وتتفاوت الدول في درجة قيمتها وتطور نظمها بتفاوت مستوى التنظيم الذاتي للجماعات السياسية التي تكوِّنها، وبتفاوت درجة نضج فكرة الدولة في وعي تلك الجماعات.

وفي سياق الدولة لا تكتمل السيادة الوطنية من دون تمتُّع كافة المواطنين بالحريات غير المنقوصة: حرية الرأي والتعبير، حرية التجارة والتنقل، حرية تشكيل أحزاب وروابط مدنية وسياسية. أي لابد أن تتأصل الديمقراطية في مفاصل الحياة السياسية، بحيث لا تبقى مجرد آلية لانتخابات شكلية، وبالتالي توظف لخدمة الفئات الحاكمة. كما أنّ ممارسة السيادة الوطنية، من قبل سلطة الدولة الحاكمة، تستدعي وجوب وجود معارضة سلمية منافسة تضبط الحكم، من خلال تطلعها للحكم مستقبلاً، واستعدادها للمنافسة في الانتخابات المقبلة الدورية.

وهكذا، فإنّ السيادة الوطنية تتحدد بمدى احترام سلطة الدولة لحقوق المواطنين، وضرورة إشعار الفرد بأنّ الدولة هي الحصن لحمايته، وهي بناء مستقبل زاهٍ لأبناء الوطن كلهم دون استثناء، وما من عوائق دون ترقية الاندماج الوطني، بما يقتضيه من جهود فكرية وسياسية واجتماعية وقانونية كبيرة.

على أنّ ترسيخ قيم المواطنة، فكرياً وعملياً، لدى أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة، أصبحت من واجبات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، هذه القيم التي يأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور، وبالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد والمجتمع، وبمهام الفرد، ومدى الحريات الممنوحة له وأنواعها، وبكيفية تشكيل القرارات السياسية، وكيفية تنفيذها، وبنمط الحكم السائد، وبنظم الحكم العالمية، وبشروط التمثيل النيابي، وبكيفية المشاركة في الانتخابات، وتشكُّل المجالس النيابية، وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سوية المواطنة ذاتها، وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقلية وثقافة الراعي والرعية، وكل ما يعيق تحقيق دولة القانون. هذه الدولة، التي إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها ستشكل الرافعة العملية والفكرية لاستمرار الدولة وقوتها من جهة، وترسيخ القيم الإنسانية لشعبها ومكانته بين شعوب العالم من جهة ثانية.

والنتيجة إنّ قابلية الدولة لاستعادة دورها التوحيدي في سورية لا تزال قائمة ومطلوبة، وما يزيد من فرص النجاح أن يحضر المجتمع المدني، بمختلف فئاته وفعالياته، ليمارس دوره في حماية الوحدة والتلاحم.

2- الانتقال من الثورة إلى الدولة

على الرغم مما مرت به الثورة السورية من أطوار وكل ما أفرزته من هيئات وتجمعات تولت إدارتها، باختلاف الآليات والأدوات والأشخاص وسطوة متغيرات الظرف الإقليمي والدولي، إلا أنها إلى اليوم لم تستطع إنتاج البديل المؤسساتي لنظام الحكم القائم، والذي يعتبر الآلية الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، والمتمثل اليوم بضرورة الانتقال من فكر الثورة إلى منطق الدولة والمبادرة لامتلاك وظائفها وممارساتها.

وإن كان الانتقال من الحالة الثورية إلى فكر الدولة يحتاج إلى مجموعة خطوات وآليات، فإنّ إيجاد رجالات دولة حقيقيين في مختلف المجالات، يعون أهمية وخطورة المرحلة وحجم التحديات والمسؤوليات التي ستفرزها، هو أساس هذا الانتقال والأرضية والحامل الأهم.

وأثناء البحث والإعداد لتلك القيادات لابد من مراعاة مجموعة عوامل لا يمكن تجاوزها نتيجة خصوصية الوضع السوري، ولعل أبرزها [2]:

أ – كف البحث عن القائد الرمز، والتوجه لبناء المؤسسات، التي تمثل التجربة الأقرب للثورة السورية والأكثر واقعية، وهي القادرة على إنتاج قادة والحفاظ على عامل الديمومة وقطع الطريق بوجه أي استئثار بالسلطة وإعادة إنتاج دكتاتوريات.

ب – إنّ إغفال مفهوم القائد الرمز لا يعني إنهاء مفهوم القيادة، والذي يؤمّن بالدرجة الأولى وحدة واتساق القرار.

ج – إنّ من أهم شروط ومواصفات أولئك القادة المرتقبين تشرّبهم وإيمانهم بالفكر المؤسساتي، وليس الفكر الوصولي السلطوي، ما يجعل معيار الكفاءة والأداء هو الأساس في اختيارهم.

د – لابدَّ أن تتمتع تلك القيادات بهامش حر دون أي قيود أيديولوجية، وذلك لقراءة الواقع والالتزام بمعطياته والاشتقاق منه. 

إنّ تحقيق الانتقال إلى وظائف وممارسات الدولة لا يعني أبداً إلغاء فكرة الثورة أو تهميشها أو التنازل عن أهدافها، فالثورة بمعناها الوظيفي حالة مستمرة ومتجددة، وإنما المقصود به تشذيب الفكرة الثورية وتدعيمها عبر دمجها بمؤسسات الدولة وتحويل الثورة إلى فكرة وبوصلة، أي الإبقاء على الحالة الثورية كموجه للعمل وتحويل الآليات إلى صيغة مؤسساتية تؤدي وظائف الدولة.

3- في الوطنية السورية الجامعة [3]

منذ بدء الثورة، ومع تصاعد العنف المحض الذي بدأته سلطة آل الأسد، باتت أغلب المكوّنات السورية تستشعر نفسها كجماعات وهويات عابرة للكيان، وتتخيل نفسها أقرب الى دول ومجتمعات خارج بلادها، أكثر مما تستشعر قرباً وتماهياً مع المكوّنات الوطنية ضمن الكيان السوري. مما أدى إلى تداعي الإطار الوطني للصراع لمصلحة الانتماءات الفرعية، ما دون الدولة الوطنية الجامعة. ولا شك أنّ سلطة آل الأسد كانت الرائدة في تحطيم الإطار الوطني للصراع، كما أنّ ظاهرة الأسلمة المتطرفة للثورة، خاصة مع وجود الجهاديين الأجانب، تركت آثاراً على انهيار الإطار الوطني تدريجياً.

ويتعدى انهيار الإطار الوطني النطاق السياسي والجغرافي إلى النطاق الزمني أيضاً، إذ لدينا من يعيشون زمناً أصولياً لا يتغير، يستعيدون فيه بواكير الإسلام المفترضة، ومن يعيشون زمن سلطة آل الأسد ” الأسد أو نحرق البلد “، ومن تنشدّ أنظارهم إلى الوطنية السورية الجامعة.

ونرى أنّ خيار الوطنية الجامعة يمكن أن يضع السوريين في وضع أفضل لمواجهة تحديات المستقبل، إذ إنّ التفكير في المعطيات الراهنة يقتضي التأسيس لتصور جديد لهذه الوطنية، يقوم على النظر إلى المكوّنات السورية المختلفة كمكوّنات تأسيسية متساوية الحقوق والواجبات، ويؤسس لامتلاك السوريين دولتهم، ويسهم في تكوّنهم كمواطنين أحرار متساوين.

4- في الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد

في ظل صراع الهويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ملحة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الأرحب. وبطبيعة الحال، ليس المدخل إلى ذلك مشروع ” الفدرالية الكردية ” في شمال سورية وشرقها، ومشروع ” سورية المفيدة ” في غربها. مثل هذه المشاريع، لن تؤول، في ظل الأوضاع الراهنة، إلى قيام دولة فدرالية في سورية، بل سوف تنتهي – غالباً – إلى العصف بالكيان الوطني القائم، حيث كان لخرائط القتال المتغيرة، على مدى أكثر من تسعة أعوام، وخرائط المجازر والتغيير الديموغرافي، الدور الأساس في رسم الحدود، وفقاً للهُويات الطائفية والإثنية.

وبعد انهيار الدولة الشمولية لا بدَّ من إعادة تأسيس النظام السياسي بدءاً من القاعدة، وإعادة تأسيس قيم الديموقراطية بدءاً من مشاركة كل مواطن في تحديد القرارات المباشرة التي تمسه على الصعيد المحلي، بانتظار أن تولّد العمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قوى سياسية واجتماعية جامعة، تستطيع توليد مجتمعاً مدنياً قوياً وأحزاباً سياسية قوية وقيادات وزعامات، يمنحها المجتمع قدراً كافٍ من الثقة والسلطة. فما سقط في سورية هو قيم الشمولية الجامعة، وما يجب أن يرتفع فيها هو روح التوافق الطوعي، المستند إلى المصالح العملية للناس ولقيمهم الثقافية والوطنية المشتركة.

من خلال هذا التحليل لا يمكننا أن نتصور سورية دولة موحدة، إلا من خلال بناء دولة تتمتع فيها مختلف المحافظات والمناطق بقدر كبير جداً من اللامركزية الإدارية الموسّعة، على أساس جغرافي وليس قوميًا أو طائفيًا. بحيث يمكن التفكير لاحقاً في تعزيز طوعي للوحدة الوطنية السورية والبنية الوطنية الموحدة، من خلال الاندماج الطوعي لكل مكوناته. فلقد انتهى زمن الفرض والقمع والاستبداد العقائدي لكل الهويات الفرعية للمواطنة السورية.

لذلك فإننا نعتقد أنّ شكل أي مخرج للأزمة يجب أن يتأسس – بالضرورة – على هذه الحقائق المؤسسة على الطوعية وتعدد الهويات والدولة اللامركزية الإدارية، ولابد من بنية وطنية سورية تستند إلى دولة تتمتع بقدر كبير من اللامركزية كأساس إداري، تتمكن فيها كل شرائح ومكونات الشعب من إعادة بناء هيكليتها الإدارية المحلية واقتصادها وأمنها وكل بنيتها على أساس محلي، لتنتسب طوعاً ومصلحياً للوطن السوري، ومن خلال تنميتها ونموها في الإطار الوطني.

5- أسئلة برسم المستقبل

تطرح الثورة السورية في متغيراتها الكثيرة سؤال الدولة بشكل رئيسي، فما من شك أنّ الدولة كما عرفناها بعد الاستقلال، ودولة البعث، لم تعد قادرة على توليد شرعية الحكم، أو تلبية مطالب الشعب، والأهم من ذلك، أنّ الثورة نفسها، كشفت طبيعة الخلل في العقد الاجتماعي والسياسي السوري، واختراقه من قبل بنى تعود إلى ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، فقد طفت على السطح نزعات قبلية، ودينية، ومناطقية، وقومية، ولا يمكن بأي حال الاكتفاء بإدانة هذه النزعات، فما هو مهم دوماً، معرفة مدى قدرة المجتمع على رأب الصدوع؟ وما هي الأشكال المؤسساتية والإدارية القادرة على توليد عقد اجتماعي وسياسي جديد، وبناء المفهوم الوطني على أسس جديدة؟ وأن تكون الأشكال الجديدة كفيلة بإنتاج مستوى مختلف من العلاقات بين مكونات الشعب السوري، على تنوعها واختلافها، وأن يكون هذا المستوى الجديد، مؤهلاً لإنتاج الدولة ككل.

إنّ طرح اللامركزية الإدارية الموسّعة يمكن أن يلبي طموحات التنوع السوري في لوحته الفسيفسائية، ويمكن أن يشكل رافعة للجمهورية السورية الثالثة [4]، كما أنه يعيد مسألة انبثاق الشرعية وتطورها إلى المستويات المحلية، بعد أن أصبح من الصعوبة بمكان توليد منظومة مركزية للشرعية، مع وجود خلاف فكري حاد في مرجعيات القوى الثورية سياسية كانت أم عسكرية.

6- نحو الجمهورية السورية الثالثة

بعد أن عقد الشعب السوري العزم على أن يخرج من حياة العبودية‏،‏ التي تخبّط في أوحالها وظلماتها أكثر من 50 سنة‏،‏ ويعود حرّاً كما ولدته أمهاته‏.‏ فما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لابدَّ من إدارته؟ وما هي الفترة التي ستستغرقها عملية التحوّل؟ وهل يمكن لثقافة بكاملها أن تتغير لتحل محلها ثقافة أخرى؟

والسؤال الرئيسي هو: كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في سورية؟ أي كيف يتم تفكيك النظام الشمولي والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساساً للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟ [5].

لا شك أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سورية، ليتم التركيز على متطلبات تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية.

إنّ سورية أحوج ما تكون إلى الدولة الديمقراطية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكل الاجتماعي. هي دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والمكوّنات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي.

ولعلَّ مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها، فقد أدى إضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العملية الإنمائية إلى ضعف الإنجازات التنموية الحقيقية، إذ إنّ التقدم الشامل لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب التغيير السياسي، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع وتمتّع فعال بالحريات السياسية والفكرية. ولا يمكن تمثّل هذه التحولات بعمق إلا في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنها.

ومن غير الممكن تصوّر سورية لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. إنّ الدولة التي لا تستمد مشروعيتها من مجتمعها المدني، وليد مفاهيم السياسة المدنية والعقد الاجتماعي، تكون هشة وضعيفة مهما ادّعت القوة.

وفي كل الأحوال، وطالما أنّ كرامة وحرية الإنسان هي التي تشكل أساس تطور أي مجتمع، فإنّ الرقابة المُمَأسسة، التي تمكّن من وضع الإنسان السوري المناسب في المكان المناسب، تشكل أحد أهم الشروط لتحقيق الانتقال من الاستبداد إلى الدولة المدنية الديمقراطية التعددية بأقل الخسائر، واستئصال شأفة العنف من العلاقات الاجتماعية والسياسية.

إنّ عملية التحوّل الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحولات، من أهمها: التغيير من مناخ اليأس والقدرية إلى مناخ الثقة بالذات والقدرة على التحكم في المصير، والانتقال من القدرية التي يسيطر عليها الماضي إلى التوجهات المستقبلية. وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، لأنّ تصفية الحساب مع الماضي ينبغي، استعانة بخبرات الدول الأخرى التي انتقلت من السلطوية إلى الديمقراطية، ألا تؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة ذاتها إلى مكوّناتها المتنوعة.

والتحدي الكبير هنا لا يقتصر على إصلاح التخريب الإنساني والوطني الذي تسبب به الاستبداد، بل يتعداه إلى ظهور الإنسان الجديد، الفرد المستقل الضمير والعقل. فما هو قادم لا يزال كبيراً، ولا يقل عن ثورة دائمة في أشكال وتعبيرات سياسية وثقافية وإنسانية مختلفة. ففي المرحلة الجديدة لن يقبل السوريون بعدم المشاركة في صياغة مستقبلهم، بل سيتصرفون انطلاقاً من حقهم الطبيعي في الكرامة والعدالة والمساواة التامة في وطنهم. وهذا سيعني اعتبار الوطن ملكاً لجميع مكوّناته وليس لفرد أو حزب أو أقلية.

وفي سياق الثورة السورية من أجل التغيير فإنّ القوى الحقيقية، التي نزلت إلى الشارع وقدمت الشهداء من أجل الحرية وإعادة الكرامة للشعب، بلغت بسقف مطالبها ضمان الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، مع المطالبة بمحاكمة رأس السلطة ومسؤولي الأجهزة الأمنية وقادة الشبيحة. وهي تتبنى، بشكل واضح، تصوراً مستقبلياً لسورية: ديمقراطية، مدنية، دولة كل مواطنيها، ودولة قانون وحريات عامة وفردية تنبذ العنف والطائفية.

خاتمة

إنّ أهم ما يواجه عملية التحول الديمقراطي في سورية هو ضرورة إجراء حوار وطني شامل حول كيفية التعامل مع الماضي في إطار العدالة الانتقالية، بما يؤدي إلى رفع الوعي القانوني وتعزيز الثقافة الحقوقية بأهمية التعامل – إنسانياً وقانونياً – مع الماضي بطريقة تجنّب المجتمع السوري ردود الفعل بالانتقام أو الثأر أو الكيدية، أو تغذّي عوامل الكراهية والحقد والضغينة.

ولكي يتم تسهيل مهمات المحاسبة يمكن تشكيل هيئة عليا مستقلة للحقيقة لكشف الانتهاكات في الماضي وخلال الثورة، بحيث تضم ممثلين عن جميع القطاعات والحقول القضائية والقانونية والإعلامية والأكاديمية والأمنية والعسكرية والصحية والنفسية، إضافة إلى ممثلين عن منظمات المجتمع المدني، ويكون لهذه الهيئة شخصية اعتبارية ومعنوية وضمان استقلالها المالي والإداري، ويتم ذلك قانوناً بحيث تحال إليها جميع الملفات، ذات العلاقة بالمجازر واجتياح المدن وقصفها بالصواريخ والبراميل المتفجرة والاغتيالات أو التعذيب أو السجن أو جرائم الفساد أو غيرها.

إنّ المصالحة الوطنية لا تعني النسيان وإنما إلغاء الثأر والانتقام عبر اللجوء إلى القضاء، وذلك يعني أنه لا بدَّ من أن يقبل كل السوريين، من يشعر أنه كان ضحية للنظام ومن يخاف أن يكون أحد ضحايا التغيير، بأنّ سورية المستقبل قادرة على حمايتهم جميعاً وأن تؤمّن لهم مستقبلاً أفضل. وهنا لا بدَّ من التشديد على مبدأ ربح الجميع، بمعنى أنّ المسؤولين الحاليين الذين سيصبحون سابقين، ممن لم تتلطخ أياديهم بدماء الشعب السوري وبالفساد العام، يتوجب عليهم إدراك أنّ تفاوضهم بشأن التحول الديمقراطي هو ضمانة لعدم تعرضهم للمساءلة في المستقبل. كما أنّ على الضحايا السوريين أن يدركوا أنّ مستقبل سورية يتعلق بمدى قدرتهم على تجاوز الماضي من أجل الشراكة في سورية المستقبل، وهذا لن يتم بالطبع إلا عبر المفاوضات المشتركة من أجل وضع خريطة طريق للانتقال الديمقراطي.

(*) – راجع كتابي الجديد ” أنماط من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث “، الصادر عن دار “إي – كتب” في لندن.

[1] – د. عبدالله تركماني، مقدمات ربيع الثورات العربية ومآلاته، دار نون – غازي عينتاب، تركيا 2017.

[2] – ساشا العلو، إعادة إدارة الفكر الثوري بمنطق دولتي، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية – 22 تشرين الأول/أكتوبر 2015.

[3] – د. عبدالله تركماني، في الوطنية السورية الجامعة – صحيفة ” جيرون ” الإلكترونية 31 تموز/يوليو 2016.

[4] – د. عبدالله تركماني، اللامركزية الموسّعة لسورية المستقبل، محاضرة في إطار ندوة ” منتدى هنانو/مركز حرمون للدراسات المعاصرة ” حول ” العلاقات العربية – الكردية خلال الثورة ” – غازي عينتاب في 9 كانون الثاني/يناير 2017.

[5] – د. عبدالله تركماني، أسئلة الانتقال السياسي في سورية – صحيفة ” جيرون ” الإلكترونية – 6 شباط/فبراير 2017.

————————–

مراجعات ضرورية في ذكرى الثورة السورية/ طارق عزيزة

لاجديد في القول إنّ المصالح والصراعات الإقليمية والدولية في سوريا وعليها، وسلوك نظام الأسد وحلفائه في مواجهة الثورة السورية، وتخاذل “المجتمع الدولي” عن حماية المدنيين وردع آلة القتل، كلّها عوامل اجتمعت لتودي بسوريا وشعبها إلى مآلات لا صلة لها بالغايات التي من أجلها قامت الثورة. لكنّ تكرار هذه اللازمة عاماً تلو الآخر في ذكرى الثورة، وجعلها شمّاعة لتعليق الفشل، فيه تعامٍ عن دور العوامل الذاتية الخاصّة بالمعارضة السورية نفسها وخيارات فئات وازنة منها، لاسيّما الذين تصدّروا التمثيل الرسمي لها. فقد تكاملت خياراتهم مع التدخّلات الخارجية وممارسات النّظام، وساهموا في الوصول إلى المحصّلة الكارثية الحالية.

أصوات عالية في المعارضة الرسمية، راهنت باكراً على دعمٍ خارجيّ لإسقاط النظام، وكأنّ رغبتها تلك تكفي لجلبه، فإذا بقصر النظر السياسي، معطوفاً على دوافع أيديولوجية، يجعل من رهانها الموهوم ارتهاناً حقيقياً لبعض هذا الخارج. لم يعد النظام وحده ألعوبة بيد داعميه وسادته، من الروس والإيرانيين، فالمعارضة المعترف بها لها سادتها المتحكمون بها أيضاً. المشكلة أنّ ممثلي هذه المعارضة ليسوا في وارد التخلّص أو حتى التخفّف من علاقة التبعية والارتهان هذه، على ما تؤكّده الوقائع في “مناطق المعارضة” والتي تحتلّها تركيا في الشمال السوري. حتى المناطق التي تحكمها “قسد” وتتغنّى بتجربة “الإدارة الذاتية” فيها، ليست في الواقع أكثر استقلالية من غيرها، عن إرادة “خارج” آخر يرعى استمرار سلطة الأمر الواقع هناك.

حالة الرهان على الخارج، وإدارة الظهر للحراك الشعبي منذ أشهر الثورة الأولى، سعياً وراء “انتصار” سريع يصنعه الدعم الدولي، تكرّست بعد جنوح فئات من المحتجّين إلى حمل السلاح. ذلك أنّ ما بدأ دفاعاً مشروعاً عن النفس بشكل عفويّ أمام بطش قوّات النظام ومخابراته وممارساتها الوحشية، حوّله متنفّذو المعارضة إلى نزوعٍ منظّم نحو عسكرة الثورة، وتجيير العسكريين المنشقّين في هذا الاتّجاه، واستجداء السلاح والدعم من الخارج لتحقيق ذلك.

وللتذكير، قدّمت “العسكرة” للنظام فرصةً لالتقاط أنفاسه التي كادت تقطعها المظاهرات السلميّة، فالعنف كان ويبقى الميدان المفضّل لنظام إجراميّ مفلس أخلاقيّاً وسياسيّاً، في مواجهة مناطق طرده منها السكّان المحليون بتكافلهم وإمكاناتهم المتواضعة. وبعد أن كانت أخبار الفظائع والمجازر حكراً على قوات الأسد وأجهزته الأمنية طيلة مرحلة التظاهرات السلميّة، بدأت الأحاديث عن انتهاكات ارتكبها مجموعات من المعارضة المسلّحة بحق المدنيين في مناطق سيطرتها. ولم يكد يمضي عامٌ على ظاهرة “العسكرة” الطارئة على الثورة، حتى تكاثرت الفصائل الإسلامية وتسيّدت المشهد الميداني، وتردّد صدى أيديولوجيتها في الخطاب الإعلامي والسياسي للمعارضة. كما ظهرت اصطفافات ومناحرات بين الفصائل المقاتلة، تبعاً لخلفياتها الأيديولوجية ولإرادات الدول الداعمة، التي وجدت في المقاتلين الإسلاميين فرصةً للاستثمار أكثر من غيرهم، لحصد المكاسب على حساب السوريين وثورتهم.

إنّ طغيان الصبغة الإسلامية على الفصائل المسلحة وتدفّق الدعم إليها، أدى إلى انحسار “الجيش الحر” وتلاشي مجموعاته تدريجياً، بالتزامن مع تراجع الخطاب الوطني الجامع وعلم الثورة، لمصلحة خطاب دينيّ فئوي تظلّله رايات الفصائل الجهادية المختلفة. ولم تكن مصادفةً أن رأس النظام أصدر عفواً عاماً أطلق بموجبه سراح مئات المعتقلين الإسلاميين، بينهم جهاديون بارزون، من سجن صيدنايا، بينما كان التعذيب حتى الموت هو مصير المتظاهرين السلميين والنشطاء المدنيين. فحين تصدّر المشهد “مجاهدون” يعادون الديمقراطية ويكفّرونها، على حساب شبّان الثورة وشابّاتها من طلاّب الحرّية، تولّدت واحدة من أخطر مفارقات الثورة السوريّة، حيث أنّ خطاب الإسلاميين وسلوكهم الطائفي، حرفها في الاتّجاه الذي يخدم النظام.

لقد أدّى هذا التحول إلى عزوف قطّاعات متزايدة من الرأي العام، داخل البلاد وخارجها، عن تأييد الثورة الشعبية، بل ومعارضتها، بعد أن كانت معقد الأمل في الخلاص من القهر والاستبداد. وهنا استطاع نظام الأسد قلب المعادلة لصالحه، مستفيداً من سلوك خصومه المفترضين من “المجاهدين” أنفسهم المدعومين من الخارج، وما يرتكبونه ويفاخرون به من ممارسات. فقام بتنشيط شبكة هائلة من العلاقات العامة والضخّ الإعلامي لجعل “الحرب على الإرهاب” عنواناً أوحد لما تشهده سوريا، بما يعنيه ذلك من تعمية على إرهاب النظام ونهجه الإبادي بحقّ المدنيين، وتسويق نفسه حليفاً موضوعياً لكل من يريد “محاربة الإرهاب”.

ولم تقتصر هيمنة الإسلاميين وعسكرهم على الميدان فقط، وإنما امتدّت إلى المسارات السياسية والتفاوضية، حيث فرضتهم الدول الداعمة خدمةً لأجنداتها لا للمصلحة السورية، مما أضعف تماسك وموقف الوفود التي تتحدّث باسم المعارضة، وسهّل على النظام وحلفائه تمييع “العملية السياسية” وإفراغها من مضمونها. تجلّى ذلك في اختراع مسارَي أستانا وسوتشي، ثم “اللجنة الدستورية”. المفارقة أنّ تركيا التي لطالما ادّعت دعم الثورة السورية، والتي تتحكم اليوم بإرادة ما كان يوصف بأنه “الممثل الشرعي الوحيد” للثورة والمعارضة، أصبحت شريكاً أساسيّاً في المسارات التي صاغها حُماة الأسد، الإيرانيون والروس!

إنّ تجربة السنوات العشر المنصرمة، فيها من المعطيات ما يكفي لربط الخيارت الكارثية للمعارضة بثالوث “الإسلاميين” و”العسكر” و”الخارج” المتحكّم بهما. ورغم فشل متصدّري المشهد السياسي والميداني، من إسلاميي المعارضة وعسكرها والسائرين في ركابهم من “قوى ديمقراطية”، لايبدو أنّهم بصدد المراجعة أو التراجع عن سياساتهم البائسة. لا يعني هذا أنّ سلوكاً مختلفاً كان سيؤدّي بالضرورة إلى انتصار الثورة، غير أنّه كان سيقلّل من حجم الكارثة، ومن احتمالات تحوّل من زعموا أنهم ثوّار إلى مرتزقة مأجورين، يقاتلون في مشارق الأرض ومغاربها مقابل المال.

ينبغي التفكير مليّاً في مجريات السنوات الماضية لفهم أسباب فشل المعارضة، وتحديد المسؤولين عن هذا الفشل ومحاسبتهم سياسياً على الأقل. وإنّ فهم دور العوامل الذاتية في الوصول إلى النتيجة الكارثية مدخلٌ لازم لتجنّب تكرار الأخطاء، إذا ما كُتب للثورة السورية أن تستأنف مسيرتها مجدّداً.

—————————-

عقدٌ على سيميائيات الجرأة والحلم/ جمال الشوفي

على الرغم من أن جملة ك: “تجرّأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”، جملة لغوية ذات نسق عربي في الإفصاح والإعراب والبيان، فيها الفعل والنا الدالة على الجماعة، وفيها النفي والنصب والجار والمجرور، لكنها، جملة لا تنتمي للموروث العربي اللغوي كلية، سيكيولوجيا وفكرياً، وإن دل على شيء يدل من حيث المبدأ على أنّ اللغة ذات دلالات سيميائية تشير الى التواصلية بين اللغة والحدث من جهة، وتحققها في نسق معرفي مختلف عن السائد والمألوف، أيديولوجياً، وهذا اختلاف ومفارقة لم يتحول عربياً لثقافة جمعية يعبر عنها لغوياً.

لم يحمل الموروث اللغوي العربي ذلك الترابط الهام بين الإرادة الجمعية والحلم العام كميزان للكرامة الشخصية، بقدر ما حمل بين طياته تلك الكاريزما اللغوية التي تحاكي اللغة من منظارها القومي الجامع، حيث أنّ حلم الشعب العربي في الحرية والتحرر من الاستعمار أواسط القرن العشرين الماضي، تحول إلى جملة من الشعارات الفضفاضة لغوية والمنفصلة كلية عن مجريات الواقع العربي وأحداثه، سياسياً واجتماعياً وثقافياً.

كلمات كالحرية والثقافة والحلم العربي وغيرها، تناولتها لوحات فكرية أدبية وفنية عربية متعددة، وغُنيت على الكثير من منابر الثقافة العربية، لكنها في ذات السياق حين برزت ذات الكلمات من أوساط الشباب العربي، في بواكير ربيعه قبل عقد من اليوم، أنكرت عليهم ذات المنابر وذات الفكر القوموي المسيس والسلطوي وبخلاصتها اللغوية، سياسياً وثقافياً، حلم الحرية وتحقيق الكرامة من منظار تحقق الدولة، دولة الحق والقانون والدستور العام الذي يحقق أبسط قواعد العصر في إتاحة الفرص المتساوية في التعبير والإمكانية والتعليم وتولي مناصب الدولة، دون أن تتدخل المحسوبيات السياسية والأجهزة الأمنية التسلطية بإزاحة ذوي الكفاءة والعلم والإمكانية، وتعيين من هو دونهم وأقل منهم إمكانية وعلم وقدرة بغية احكام أسلوب التبعية والهيمنة على مفاصل الدولة ومؤسساتها، وربطها بمؤسسة السلطات الحاكمة في كل دول الوطن العربي.

السلطات التي لم تتوانَ عن اعتقال وترهيب كل من لديه قول أو تعبير أو رأي مختلف وفتح بوابات الاعتقال التعسفي والمحاكمات القضائية المسيسة، لم تكتفِ بفعلها السياسي هذا وحسب، بل عملت بنموذجها السلطوي الاستحواذي والاستئثاري على فتح منابر ومؤسسات تلفيقية للثقافة والفكر واللغة. فهي من جهة تقدم الوجبات الجاهزة اللغوية في الحرية وحلم الوحدة والاشتراكية والعدالة، ومن جهة أخرى تعمل على اجتثاثها من الواقع المجتمعي سياسياً واقتصادياً، وأيضاً وهو الأهم في عوامل الثقافة والممارسات النفسية المجتمعية، تصنع ما عرف بالتاريخ “بشعراء البلاط” ومثقفي السلطات العاملين على الترويج الأمني والسياسي لهيمنة هذه السلطات، ولثقافة أنّ هذه المجتمعات العربية الشرقية لا حياة فيها، يسودها التخلف والجهل ويجب أن تبقى تحت وصاية حكامها وسياسييها من الأحزاب القوموية العربوية التي حكمت طوال نصف قرن دول المنطقة بذات العقلية والمنهجية. لذلك لم يكن مستغرباً أبداً وعندما أتت موجات الربيع العربي أن ظهرت تلك المفارقة بوضوح لا يحذوه الشك بين ثقافة الهيمنة السلطوية وزيف لغتها، وبين ثقافة الحلم والجرأة عليه، تحقيقاً للكرامة والحقوق والعدالة المجتمعية، بحيث تتصل الكلمة بدلالتها اللغوية حدثاً ومضموناً ومعنى، وهذا ما لا تقبل به سلطات السياسة الحاكمة وسلطات الثقافة واللغة المعتاشة في ظلها.

لقد تجرّأنا على الحلم قول لغوي عربي نعم، لكنه قول مختلف عن أيديولوجيات السلطة والحكومات الحاكمة عربياً، عن ثقافة وفكر مسيسي السلطات الممسكين بمفاصل مؤسساتها الثقافية والفكرية يحيون من يشاؤون ويرددون ثقافياً خلفهم أداليجهم النفعية في إبقاء الشعب غارق في مستنقع عدم الإمساك بإرادته الحرة كباقي شعوب الأرض، ويقتلون فكرياً عن عمد كل من يتجرأ على الحرية والحلم، بوصفه ترابط ومعنى وإرادة جمعية مختزنة في أفئدة الشعوب المقهورة والمغلوب على أمرها.

في الكلمة والثقافة، كما اللغة، ثمة أنساب قديمة حاولت في الإعراب والتصريف والنحو، لكنها ومع تطورها اللافت والكبير، بقيت أسيرة المرجعية الثقافية أو القَبْلية، فثمة العربية، واللاتينية والصينية والفرنسية، كأعراق قومية بذاتها، لكن العصر الحديث، عصر الحريات واختلافاتها رأياً وفعلاً والحقوق المتساوية القانونية والدستورية والمنضوية جميعها في جملة من حقوق الإنسان، باتت تشير لوحدة كونية، لمرجعية إنسانية عامة، ففي اللغة بدأت تبرز الألسنية وعلوم الصوتيات والفونتيك، كما وبدأت تتحرر علوم الرمز والدلالة وعلاقتها باللغة من جهة وبالحدث الحسي من جهة أخرى. فقد برزت في العصر الحديث عدة محاولات أبستمولجية تحاول الوصل بين المعرفة ونظرياتها وبين العلم وتطور أدواته التقنية، ومنها السيميائية (السيميولوجيا)، والتي تحاول أن تكون علماً ذا شمول معرفي وعلمي بآن مكتمل القواعد. تلك المحاولات قادت الباحثين للعمل في علومه المتخصصة وتبويبها في أنساق وأنماط، كسميولوجيا الدلالة والتواصل واللغة والثقافة وهي محاولتنا المنهجية في موضوع الكلمة والثقافة ومفارقات دلالات الحرية في الربيع العربي.

من الضرورة القول إنّ اللسان والمنطوق من القول هو فيصل العملية المعرفية تلك: فحيث تظل إمكانية التأسيس لأي نموذج لغوي دال جديد مرهونة بمدى تقاطعه مع اللسان الجمعي ثقافة ومنطوقاً بمظاهر متعددة، تصبح العلامة بوصفها مضموناً ودلالة على حدث عام داخل اللسان وذات مظهر دلالي مستقل، تستطيع من خلاله أن تؤسس للمظهر السيميائي للسان، وبالضرورة التأسيس لفعل ثقافي ولغوي عام. فهل تلك الجمل اللفظية التي قدمتها لفظيات المظالم الكارثية والدموية والجرأة على حلم يمكنها أن تشكل نسقاً لسانياً ومظهراً سيميائياً في نمو نزعتي الحرية والكلمة؟ وليست أي كلمة، بل تلك الكلمة الموطنّة في عرف الإنسان كأداة للفكر، ودلالة محتوى، ورمز دلالي، كما هي تعبير وجودي بآن، دون هذا الفصل التعسفي بين ثقافة ومثقفي السلطات وبين دور الثقافة والكلمة حين تصبح موروثاً ثقافياً يمارس شعبياً.

الكلمة وجود مكتمل حين ترتقي بذواتنا الضعيفة لمصاف الانوجاد الإنساني، والحرية شرطها الأول، وحيث إنّ الواقع الإنساني متعدد الأبعاد يصبح إيجازه في نص أو كلمة غاية في القسوة. وهو ما يلقي بتلك المسؤولية الكبرى على دور الكلمة، فقد تشكل رافعة وجودية وتحدث دلالة في تجاه إنساني، وذاتها ستمثل دلالة موت حضاري أو صنم فكري يقوّض الحياة ما دونها، ولنا في كلمة الحرية وإرادة الشعب الحية اتساع في المعنى والدلالة، فحيث تكتسي اللغة بعداً وجودياً وتعاطفاً إنسانياً، تتحوّل لثقافة وعقل تواصلي، هي سيمياء دلالية وتواصلية بآن، هي مدلول كما هي موضوعة وتصور مفهومي وبالضرورة هي حلم لم يتحقق بعد.

الكتابة اليوم، نمطية كانت، أدبية، فكرية، سياسية، فلسفية، ضرورة وجود وبقاء، حقيقة كبرى تشق وعر الثقافة والفكر المرتهن لسياسة السلطات التي تحرم على شعوبها الحرية، وعليها ألا تعجز، عليها ان تنحت من صلادة الحروف جملاً وكلمات تليق بقدرة الشباب ومستقبلهم، وإلا صعب على العابرين من بعدنا أن يعلموا ماذا جرى وكيف جرى وكيف تجرأت شعوب على الحلم غير نادمة على امتشاقها كرامتها الإنسانية والحقوقية، رغم ما عملت بهم أدوات القتل الفكري والثقافي كما السياسي حتى حولتهم لشعوب منثورة في كل شتات الكون

—————————–

صحيفة عبرية: كيف يشفى الأسد من “السلالة الإيرانية” المسيطرة على سوريا؟

هذا الأسبوع، وبعد مرور عشر سنوات على نشوب الربيع العربي في سوريا، أصيب بشار الأسد وعقيلته أسماء بكورونا مع أعراض نشطة. ويدعي الأطباء بأن احتمالات شفاء الزوجين الرئاسيين طيبة، وإن لم يتمكنا بعد من تلقي لقاء سبوتنيك الروسي الذي مولته إسرائيل لهم مقابل إعادة الشابة التي اجتازت الحدود. كما أن الإحصاءات الإقليمية تمنح الحاكم السوري معدلات بقاء عالية. فبعد كل شيء، يكاد الأسد يكون الوحيد من بين الزعماء العرب الذي خرج دون خدش من العاصفة التي أسقطت طغاة قدامى كمبارك، والقذافي، وبن علي التونسي، وعلي عبد الله صالح اليمني. ولكن هذا البقاء جبى ثمناً رهيباً من سكان سوريا. فقد قتل مئات الآلاف وشرد أكثر من عشرة ملايين من ديارهم. نصفهم على الأقل أصبحوا لاجئين خارج بلدهم. والأسد نفسه، الذي ذبح مواطنيه بلا رحمة، اضطر أن يعرض نفسه لـ السلالة الإيرانية، التي هي معدية وخطيرة أكثر بأضعاف من كورونا، كي ينجو في قصره. فقد بدأت الأحداث قبل عشر سنوات. بإلهام من التطورات في تونس ومصر، خرجت جماعات من المواطنين في آذار 2011 إلى شوارع المدن السورية، دون هوية محددة وزعامة موحدة، مطالبة بإسقاط النظام ومنح مزيد من الحرية والحقوق للفرد. وقمع النظام هذه المظاهرات بعنف شديد.

عناق طهران لسوريا

ولكن بعد سنتين – ثلاث سنوات، كانت سيطرت على حركة الاحتجاج منظمات ثوار سنية، معتدلة أكثر ومعتدلة أقل، وبدعم مصادر من الخارج، ممن شخصوا الفرصة لإسقاط الأسد ابن الطائفة العلوية من الحكم، وهي التي يبلغ عددها بالإجمال نحو 12 في المئة فقط من سكان سوريا، وبدأوا يشعلون النار في أرجاء الدولة. ومقابل إيران، التي لاحظت خطر سقوط حليفها في دمشق وانهيار الجسر البري الذي يربطها عبر العراق وسوريا لحزب الله في لبنان، أمرت آلاف مقاتلي حزب الله بالدخول لمساعدة الأسد.

تحولت المظاهرات المحلية إلى حرب أهلية مضرجة بالدماء. داعش – تنظيم الدولة الإسلامية، الأكثر تطرفاً وإجرامية من بين تنظيمات الثوار – نجح في السيطرة على أجزاء واسعة من أراضي سوريا. وحياله سارع لنجدة الجيش السوري نشطاء حزب الله والحرس الثوري الإيراني. وأصبحت سوريا ساحة قتال متعددة المشاركين، وانضمت إليها محافل محلية كالأكراد ومحافل خارجية كتركيا أردوغان، أو السعودية التي ضخت الأموال للثوار.

في 2015، حين لاحظ بوتين انعدام رغبة التدخل الغربي في ما يجري في سوريا ورداً فاتراً من أوباما على استخدام الأسد للسلاح الكيميائي ضد أبناء شعبه، انغرس وتداً في سوريا وبنى لنفسه هناك معقلاً استراتيجياً لسنوات طويلة. وقلب دخول سلاح الجو الروسي والقوات الخاصة الروسية إلى سوريا إلى جانب إيران و”حزب الله” والميليشيات المؤيدة لإيران الجرة رأساً على عقب. هزمت الدولة الإسلامية، وبدأ الإيرانيون يملأون الفراغ الذي نشأ في سوريا بالسيطرة على مجالات عمل مختلفة وبالحضور في الميدان. وللمفارقة، كان تجند التحالف الغربي لهزيمة الدولة الإسلامية قد ساعد النظام الإيراني في تعميق عناقه لسوريا.

منذ بداية الأحداث في سوريا قبل عشر سنوات، قررت إسرائيل عدم التدخل في الحرب الأهلية، إلا في الحالات التي ينشأ فيها تهديد على أمنها – مثل تموضع مجال معاد على الحدود في هضبة الجولان. وبهذه الروح نشأت علاقات دعم ومساعدة مختلفة للثوار المعتدلين الذين سيطروا على منطقة الحدود.

تداخل المصالح

رغم الهجمات الإسرائيلية في سوريا، تواصل إيران تعميق سيطرتها في سوريا ولا تبدي نية للانسحاب من هناك. وكان نشطاء “حزب الله” قد دخلوا كمستشارين في كل صفوف الجيش السوري. ويواصل السلاح التدفق من مخازن الجيش السوري إلى “حزب الله” مقابل إرساليات نفط توفرها إيران لسوريا والتي تعمل إسرائيل، وفقاً للمنشورات، على منعها في المسار البحري أيضاً.

إن طرد الوجود الإيراني في سوريا، وقطع العلاقة بين طهران ودمشق، يبدو في هذه اللحظة كمهمة صعبة للغاية، ربما متعذرة، ولا سيما عند الحديث عن الوسائل العسكرية فقط. ولكن ينبغي أن نتذكر بأن الروس غير متحمسين، على أقل تقدير، من التواجد الإيراني، وكذا النظام السوري، الذي يدين ببقائه لطهران، غير سعيد من تحوله إلى رهينة لدى خامينئي. باتت سوريا، التي لم تنتعش بعد من الحرب الأهلية، بحاجة ماسة إلى إعادة البناء بالمليارات، ووحده استعداد الغرب لمساعدتها مقابل إبعاد الإيرانيين، إلى جانب استمرار العقوبات الدولية المفروضة على إيران، كفيل بأن يشفي الأسد من السلالة الأخطر التي أصيب بها.

بقلم: عوديد غرانوت

 إسرائيل اليوم 14/3/2021

القدس العربي

————————–

التايمز: بعد عشرة أعوام أصبح مصير سوريا بيد القوى الخارجية

إبراهيم درويش

عد عشرة أعوام من الثورة السورية أصبح مصير سوريا في يد الآخرين، يقول مراسل صحيفة “التايمز” في الشرق الأوسط ريتشارد سبنسر.

ففي مثل هذا اليوم من آذار/ مارس 2011 بدأت الحرب السورية، وبعد سنوات من الدمار أصبحت الأرقام صادمة أكثر، فنسبة 90% من أطفال سوريا بحاجة إلى العناية الإنسانية حسبما أكدت منظمة “يونيسف” التابعة للأمم المتحدة، وهناك نصف مليون طفل يعانون من مشاكل نمو بسبب سوء التغذية، بالإضافة إلى 3 ملايين طفل بدون مدارس أو تعليم، ومعظمهم من الأولاد، وهو ما يعطي صورة مخيفة عن حجم الأزمة في المستقبل.

وفي دراسة مسحية منفصلة للجنة الدولية للصليب الأحمر، وجدت أن نصف الشباب السوري قُتل أو جُرح لهم أصدقاء، وهناك 305 ألفاً من البيوت السورية تضررت أو دمرت بالكامل حسب دراسة. وتطالب جماعات الإغاثة بالمال والسماح لها بدخول المناطق التي تحتاج للمساعدة لكن النظام يعرقل جهودها.

ودفعت روسيا باتجاه تصويت في مجلس الأمن الدولية بخفض المنافذ لدخول الإغاثة إلى كل المناطق التي لا تخضع لسيطرة نظام بشار الأسد وحددته بممر حدودي واحد. وتؤكد الحكومات الغربية بمن فيها بريطانيا على استمرار العقوبات ضد النظام. ويؤكدون على أن يسمح باللجنة الدستورية تضم النظام والمعارضة والأمم المتحدة باقتراح إصلاحات ويجب ممارسة الضغط على النظام حتى يوافق على تقديم تنازلات.

إلا أن حلفاء النظام مثل روسيا وإيران يناقشون أن الوقت قد حان لكي يعترف المجتمع الدولي بانتصار الأسد وأن تخفيف العقوبات هو السبيل الذي يسمح بإعادة بناء البلد وإطعام نفسه.

وهناك أصوات تدعم هذا التوجه في الغرب وبين حلفاء النظام، ودعا وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد في الأسبوع الماضي لإعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية. وقال إن الوقت قد حان لكي “يعود البلد إلى وضعه الطبيعي”، وانتقد قانون قيصر الأمريكي الذي فرض عقوبات على سوريا. وقال إن الإبقاء على قانون قيصر كما هو اليوم يجعل من الطريق صعبا جدا.

واقترحت الإمارات حلها الخاص للأزمة، من خلال العلاقات الجديدة مع إسرائيل. فمقابل إعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية وتخفيف العقوبات، يجب على سوريا الاعتراف بإسرائيل وطرد الميليشيات الإيرانية من أراضيها. وهو موقف غير محتمل، ولكنه يعبر عن مواقف اثنين من أساقفة كانتبري، لورد كيري ولورد ويليامز اوف أوستيرموث بالإضافة للسفير الأمريكي السابق في دمشق روبرت فورد، الذي عمل ما بين 2010- 2014 والذي كان من أشد الناقدين للأسد في بداية الأزمة.

وكتب فورد: “لا أفهم ماذا يعني وقوف المواطنين السوريين في الطوابير لشراء المواد الأساسية والخبر والمحروقات وأن أمريكا قد انتصرت”.

وبدأت الثورة السورية في 15 آذار/ مارس 2011 بعد احتجاجات سلمية استلهمت من تونس ومصر وليبيا. ومنذ ذلك الوقت انهار البلد إلى مجموعة من الكانتونتات وحتى المنطقة التي يسيطر عليها النظام باتت مقسمة، وقتل في الحرب نحو نصف مليون إنسان، وظلت المساعدات الإنسانية الدولية سببا في إبعاد شبح الجوع عن البلاد حتى 2019 حيث ضربت البلاد سلسلة من الأزمات، منها انهيار النظام المصرفي اللبناني، وتم تجميد كميات كبيرة من الأموال السورية المودعة في المصارف اللبنانية، وانتشار فيروس كورونا وقانون قيصر الذي فرض عقوبات قاسية على البلاد.

وانهارت قيمة الليرة السورية ولم تعد تساوي شيئا، والدولار يساوي 3.000 ليرة، مقارنة مع 47 ليرة للدولار قبل 10 أعوام، أي خسارة نسبة 98% من قيمة الليرة، وهو ما يجعل الراتب العادي يساوي دولارين في اليوم. وقال شاهر الخطيب (42 عاما) من مدينة درعا: “سوريا، أرض الخير والازدهار أصبحت بلد الجوع”. وأضاف: “لم يعد الوضع الأمني محتملا، وفي كل يوم نسمع عن أشخاص قتلوا أو اختطفوا بالإضافة للسطو الذي زاد خلال الأزمة، وهذا كابوس”.

ولا يغطي قانون قيصر الدعم الإنساني، لكنه بالتأكيد أدى إلى الإضرار بالاقتصاد السوري بشكل عام. وفي تقرير مشترك لمجلس اللاجئين النرويجي ومنظمة أوكسفام نشر العام الماضي أشار إلى أن العقوبات عوق عملهما وكان عليهم الحصول على استشارة حتى لا يخرقا القانون.

ويرى الخطيب والمدافعين عن العقوبات أن الأسد هو العقبة الحقيقية أمام إعادة الإعمار. وقال: “بالطبع يعتبر قانون قيصر واحد من الأسباب لكن ما هو السبب الأهم؟” ويجيب “إنه بشار الأسد وتمسكه بالكرسي، وتم تناسي كل الجرائم التي ارتكبها ويلوم الجميع قانون قيصر”.

ويتفق الجميع على شيء واحد وهو أن مستقبل سوريا يعتمد على القوى الخارجية، تركيا وإيران وروسيا وكلها تحتفظ بوجود عسكري على الأرض، وتضرب إسرائيل من الجو.

ويقول عامر حسين، الاقتصادي المقيم في لندن ويكتب عن سوريا “عندما أتحدث مع أي شخص يقول إنه مهما اتفقت عليه الولايات المتحدة وروسيا. ثم مهما اتفقت عليه السعودية وإيران”. وأمل تحقيق انتصار هو ما يجعل النظام والجهاديين والمعارضة والأكراد الاستمرار في القتال.

وفي شمال سوريا يرى البعض أن الدعم التركي يمكن أن يؤدي إلى معجزة وتغيير في المصير. ويقول أبو فيصل، من حلب: “لقد خسرنا ولكننا لن نتوقف عن قتال هذا النظام ونتحدث بحرية”. وحتى ذلك الوقت سيظل السوريون جوعى.

———————–

في ذكراها العاشرة.. الثورة السورية حُلم أم كابوس؟/ وليد بركسية

بعد 10 سنوات كاملة من الثورة الشعبية ضد نظام الأسد، باتت القضية السورية اليوم أقرب إلى درس في التاريخ لا يمكن معه استخلاص نتائج جديدة، بعدما بات واقع البلاد معروفاً ومحدداً بدقة في الأدبيات السياسية والإعلامية منذ العام 2017 على الأقل: نزاع مجمد ربح فيه بشار الأسد السلطة بثمن باهظ وبات يحكم بلداً ينهشه الخراب وينذر بانفجارات قادمة مع أزمة اقتصادية دفعت بـ80% من السوريين في الداخل إلى تحت خط الفقر فيما تشتت أكثر من نصف السكان البالغ عددهم قبل عقد كامل 22 مليوناً، في المنافي الداخلية والخارجية.

وإلى جانب الحصيلة المروعة للتعذيب والاختفاء القسري والاعتقال والترهيب والقتل خارج نطاق القانون وغيرها من الكوارث التي سردتها صحيفة “غارديان” و”ليزيكو” الفرنسية، يبقى التوصيف المستخدم للثورة السورية بين السوريين في مواقع التواصل، وحتى ضمن الصحف العالمية التي احتفت بالذكرى هذا الأسبوع بوصفها حركة طالبت بالديموقراطية والحريات الأساسية، هو الحلم، رغم أن المشهد اليوم يبدو كابوساً لا يمكن للسوريين المساكين الاستيقاظ منه رغم إدراكهم لطبيعته حتى لو حاولوا فتح أعينهم مراراً وتكراراً للعودة بالزمن من أجل تصليح الأخطاء.

لا يعتبر ذلك ربما شططاً رومانسياً بقدر ما هو فصل منطقي بين الثورة المجردة كلحظة نبيلة في التاريخ قبل عشر سنوات، عندما تجمع سوريون وتحدوا النظام للمرة الأولى بالهتافات في الشوارع، وبين ما حصل طوال السنوات العشر نفسها. يشبه الأمر رواية “السيدة دالاوي” لفيرجينيا وولف. حيث تعيش الشخصيات في واقع بائس لأنهم لم يحصلوا في الحاضر على السعادة التي كانوا يرجونها من قراراتهم قبل سنوات مضت، قبل إدراك متأخر بأن السعادة كانت لحظة محددة في الماضي عاشوها عند اتخاذ تلك القرارات وانتهت. ويصبح الاحتفاء بالثورة اليوم وفق ذلك المنطق، احتفاء بتلك اللحظة التاريخية بشكل مجرد عن كل ما تلاها.

ولعل السبب الأساسي في ذلك، هو أن ذلك الكابوس لم يكن نتيجة لما قام به السوريون مباشرة بل هو نتيجة مباشرة لرد النظام الوحشي على الثورة السلمية في أعوامها الأولى، وعشرات العوامل الأخرى التي لعبت دوراً في رسم مشهد البلاد، وكانت بدورها نتيجة للثورة والتقلبات التي أحدثتها في سوريا ومحيطها، بما في ذلك انخراط الدول الإقليمية في النزاع وتفاقم أزمة الحركات الجهادية وتأرجح السياسات الغربية والدور الروسي في الشرق الأوسط. ويجعل ذلك كله من الثورة كمفهوم نبيل يحتفى به اليوم، بريئة مما وصل إليه حال البلاد بسبب رد الفعل المبالغ فيه من الطرف الآخر، الذي يفترض أن يكون شريكاً ضمن المساحة الجغرافية المسماة وطناً.

مثلاً، عند تذكر أهوال الحرب السورية التي استفاضت الصحف الكبرى في استرجاعها، تبرز صور قيصر المروعة لضحايا التعذيب في البلاد، لكن المسؤول عن تلك الفظائع هو نظام الأسد الذي يشرف على أسوأ المعتقلات ومراكز الاحتجاز على الكوكب بحسب تعبير منظمات حقوقية من بينها منظمة العفو الدولية “أمنستي” و”هيومان رايتس ووتش”، كما يمكن استذكار مقاطع الفيديو الشنيعة لقطع رؤوس الصحافيين والإعدامات الجماعية في الرقة، لكن المسؤول عن تلك الفظائع، مجدداً، كان تنظيم “داعش” الإرهابي. وبالمثل فإن صورة الطفل إيلان الذي فارق الحياة غرقاً أثناء محاولة الهرب مع عائلته عبر البحر المتوسط إلى أوروبا، وصور مخيمات اللاجئين ومشاهد الطوابير اليومية في المدن السورية، وغيرها، تسببت بها الأطراف الفاعلة في الحرب السورية، ولم تكن نتيجة مباشرة للثورة نفسها.

هذه الذكريات تروع السوريين بشكل متزايد، وتخلق ربما أزمة وجودية في مواقع التواصل وفي التغطيات الإعلامية. يقول أحد السوريين الذين قابلتهم صحيفة “تايمز” البريطانية على سبيل المثال أنه “لا يتطلع إلى الأمام أو ينظر إلى الوراء للاحتفال بالثورة، ويشعر بالذنب لو شجبها، خصوصاً أن عدداً كبيراً من زملائه الذين لم يحالفهم الحظ ماتوا وعذبوا. وفي الوقت نفسه يشعر بالذنب للاحتفال بثورة فشلت ومات فيها الكثير من الناس”.

على أن كلمة الكابوس تنطبق بشكل أكبر على الحياة ضمن سوريا الأسد، ليس فقط خلال العقد الماضي، بل منذ سبعينيات القرن العشرين، عندما استولى حافظ الأسد على السلطة في انقلاب عسكري حكم البلاد بعده طوال ثلاث عقود بسياسة القوة والترهيب، تخللتها حرب صغيرة في حماة منتصف الثمانينيات كلمحة بسيطة ربما لما سيحمله المستقبل للبلاد تحت قيادة ابنه بشار.

ذلك الكابوس يستمر اليوم بسبب أن النظام الذي يحتفي بالنصر في إعلامه وخطابه الرسمي لم يقدم أي تنازلات عن السلطة سواء للمعارضة الداخلية أو الحركات الجهادية أو المعارضة المعتدلة أو ما تبقى من الناشطين المدنيين (كريستيان ساينس مونيتور, إيكونوميست،..) بل نفذ حرفياً تهديده الذي لا يُنسى: “الأسد أو نحرق البلد”، في استمرار لما قامت عليه الدولة الأسدية في جوهرها منذ تأسيسها: “حكم البلاد بالإكراه”، ما يدفع المشهد إلى مزيد من الانهيار في المستقبل.

وفيما يقول مسؤول أممي: “إننا نشهد بَلقَنة سوريا” (نسبة إلى البلقان) كوصف لتشظي البلاد إلى كانتونات تتمايز عن بعضها البعض بشكل متزايد، فإن الحلم يبقى. السوريون يكررون في مواقع التواصل شعار “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”، وصحيفة “واشنطن بوست” تقول أن “الثورة السورية مستمرة”، بينما تسرد صحيفة “إندبندنت” قصصاً شخصية لا يندم فيها أصحابها على الثورة السورية، رغم كل ما حصل لاحقاً. وتفسر صحيفة “لوموند” ذلك كله بالأمل في مستقبل أفضل.

ففي أيام حافظ الأسد، كان كابوس الحياة في سوريا معروفاً على نطاق واسع لكنه لم يكن موثقاً، واليوم يمثل نشاط المنظمات غير الحكومية السورية والدولية، كابوساً لبشار الأسد، لأن المدافعين الشجعان عن حقوق الإنسان غارقون في توثيق آلاف مقاطع الفيديو والصور والشهادات والرسائل الرسمية. وحتى لو لم يؤدّ ذلك إلا لمحاسبة مسؤولين صغار ضمن النظام، كحال القضية الجارية في محكمة كوبلنز الألمانية، فإن استمرار الضغط يعني أن إعادة تأهيل بشار الأسد صعبة للغاية.

ومن هنا، تأتي أهمية الاحتفاء بالثورة السورية. لأن النظام يراهن على النسيان والتشاؤم. ويعمل مع حلفائه على ضخ سرديات بديلة لا تشوه فقط معنى الثورة السورية كحركة شعبية طالبت بالحرية، عبر إطلاق صفة العمالة الخارجية أو الجهادية الإسلامية على المعارضين ككل، بل تحاول أيضاً نسف التاريخ الدامي في السنوات العشر الماضية للتنصل من المسؤولية والبقاء في السلطة من أجل إبقاء الكابوس السوري مستمراً لعقود جديدة.

المدن

————————–

في الذكرى العاشرة للثورة؛ لجان التنسيق المحلية: الأمل الوحيد الذي وئد/ وائل السواح

جاءت الانتفاضة السورية بمثابة مفاجأة تامة لجميع السوريين: للحكومة والمعارضة وأيضاً للأفراد المبعثرين الذين بدأوا بها. في شباط/فبراير 2011، سألتني مدونة فرنسية عما إذا كان من الممكن أن تمتد آثار الثورتين التونسية والمصرية إلى سوريا. أجبت بثقة: “لا!” وأعطيت ستة أسباب لذلك، منها الحساسية الطائفية والوضع الاقتصادي في سوريا والصراع العربي الإسرائيلي. لكن السبب الأول والأهم كان الخوف. قلت إن درجة الخوف بين الشعب السوري كانت عالية لدرجة أن الناس لن يفكروا حتى مجرد التفكير في القيام بثورة. ولكم كنت مخطئا بغباء، فقد كسر الناس الخوف.

فاجأت الانتفاضةُ المعارضةَ السورية. على عكس معظم الدول، لم يكن لدى النظام والمعارضة في سوريا خلاف حقيقي في وجهات النظر السياسية. في الواقع، لقد تشارك الطرفان منذ فترة طويلة في الأيديولوجية نفسها وفي البرامج السياسية والخلفية الاجتماعية. تأتي معظم الأحزاب السياسية في سوريا من حزبين تقليديين: حزب البعث والحزب الشيوعي. من خلال الانقسام الخلوي، أنتج هذان الحزبان حوالي عشرة آخرين يتشاركون في نفس الآراء السياسية والأيديولوجية، لكنهم منقسمون بين الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة وبين المعارضة.

عندما اندلعت الانتفاضة، كانت المعارضة السورية تتسكع في الفناء الخلفي للمشهد السياسي. كان تحالف المعارضة الرئيسي، إعلان دمشق، يعاني من عدة مشاكل، أهمها القمع. ففي عام 2008، سُجن 12 من قادة الإعلان لمدة 30 شهراً، وعلقت الأحزاب القومية والماركسية عضويتهما وأنشطتهما في الإعلان. والأسوأ من ذلك، أنه عندما تم إطلاق سراح قادة الائتلاف في عام 2010، لم يستأنفوا مسؤولياتهم في التحالف. ولم تكن الأحزاب اليسارية القومية في وضع أفضل. عندما انسحب حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل من الائتلاف، بسبب عدم تمكنهم من الحصول على مقعد في قيادة التحالف، ألقى آخرون باللوم عليهم لتركهم المجموعة عندما كانت الحكومة تهاجمها، كما لو كانوا يفرون من سفينة تغرق. وكان الإخوان يعانون أيضاً من العديد من الصعوبات: لم يكن لديهم الكثير من المؤيدين داخل سوريا، بسبب القانون 49 سيء الذكر الذي كان يحكم على أي عضو في الجماعة بالإعدام. كما شوهت صورتهم عام 2008 عندما أعلنوا هدنة مع النظام السوري، بسبب الموقف السوري من الحرب الإسرائيلية على غزة في ذلك الوقت.

ومثل المعارضة، فوجئت الحكومة.  في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال في 31 كانون الثاني/يناير 2011، قال الرئيس بشار الأسد إنّ الاحتجاجات في مصر وتونس واليمن لن تجد طريقها إلى بلاده، لأنّ مواقفه المناهضة لأمريكا والمواجهة لإسرائيل تجعله في وضع محصن، وهو على علاقة جيدة مع القواعد الشعبية في بلده.

على أنّ الأمور لم تسر على هذا النحو. في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير، بدأت مجموعة من الشبان والشابات الالتقاء في المقاهي والمنازل والأماكن العامة لطرح سؤال واحد: هل يمكننا فعل الشيء نفسه في سوريا؟ وجادلوا بأنّه إذا كان بإمكان التونسيين أن يثوروا في تونس، فلا يوجد سبب يمنع السوريين من فعل الشيء نفسه، لأنّه في كثير من الجوانب كانت تونس تشبه سوريا كدولة بوليسية.

فشلت الدعوات الأولى للاعتصام أمام مجلس النواب في 5 شباط/فبراير. ثم بدأ الشباب والشابات الشجعان في تنظيم اعتصامات مقابل السفارتين المصرية والليبية للتعبير عن تضامنهم مع الثورات في البلدين. إذا استطعنا أن نصدق إحدى الناشطات، فإن ما جعلها تستمر بحزم في الانتفاضة هو صفعة تلقتها من رجل أمن عندما كانت تتظاهر في السفارة الليبية ضد نظام القذافي. لكن الثورة لم تبدأ في دمشق. لقد بدأت في مكان آخر. في 6 آذار/مارس، اعتقلت قوات الأمن السورية وعذبت مجموعة من تلاميذ المدارس لقيامهم برش كتابات على الجدران في مدينة درعا تطالب بإسقاط النظام. وعندما رفضت قوات الأمن إطلاق سراحهم نزلت المدينة بأكملها إلى الشوارع. وردّ النظام بإطلاق النار على المتظاهرين وقتل عدداً منهم. انتشرت الشرارة إلى مدن وبلدات أخرى، بينما شاهد العالم كله مفاجأة.

انطلقت المظاهرات سلمياً، وشاركت فيها جميع الفئات الاجتماعية والثقافية والسياسية. كانت الشعارات عامة تطالب بالحرية والإصلاح الوطني. لكنّ المتظاهرين شعروا أنّ معركتهم لم تكن على الأرض فقط، بل في وسائل الإعلام أيضاً. وكانت الحكومة تدرك ذلك أيضاً، فقامت بطرد جميع وسائل الإعلام الأجنبية من البلاد، وصورت وسائل الإعلام الحكومية المتظاهرين كبلطجية طائفيين يريدون إثارة الفوضى وإقامة دولة إسلامية.

انطلاقا من حاجة المتظاهرين للتواصل مع وسائل الإعلام ظهرت ظاهرة جديدة على الأرض: التنسيقات، وهي كلمة تشير إلى مجموعات من الناشطين الشباب الذين يشاركون في المظاهرات، ويوثقونها بواسطة هواتفهم الجوالة، ثم يتواصلون مع وسائل الإعلام العربية والدولية لينقلوا لها الصورة كما جرت، وليس كما يقدمها لهم النظام. كانت هذه المجموعات الصغيرة من النشطاء المنتشرين في جميع أنحاء البلاد بحاجة إلى تنسيق جهودهم، وتبادل المعلومات، وإيجاد أفضل السبل للوصول إلى وسائل الإعلام. وكان أن اتحدت هذه التنسيقيات في إطار أوسع وأطلقوا على أنفسهم لجان التنسيق المحلية، والتي ستصبح لاعباً رئيسياً على الأرض وتساهم في تنظيم المظاهرات وتنسيق جهود النشطاء وتبادل المعلومات من خلال غرفة الأخبار التي أنشأوها على سكايب، ثم الوصول إلى وسائل الإعلام بالأخبار ومقاطع الفيديو وشهود العيان لرواية الأحداث على الأرض.

وجد نشطاء لجان التنسيق المحلية أنفسهم بدون آباء شرعيين بسبب نشاطهم السياسي. كان هذا مبرراً قوياً لهم لتطوير موقفهم السياسي الذي من شأنه أن يدعم الأنشطة الثورية ويحافظ على مطالبهم السياسية. مع البيان الأول للجنة التنسيق المحلية في نيسان/أبريل، ستدخل الحركة الثورية السورية مرحلة جديدة. يرسم البيان أجندة سياسية بسيطة تدعو إلى وقف القتل، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، وحل الأجهزة الأمنية سيئة السمعة، وإنشاء لجنة خاصة للمصالحة بين جميع مكونات الأمة السورية، وتعديل الدستور لضمان انتخابات حرة.

أذهل البيان الحكومة والمعارضة التقليدية: فاندفعت الأولى لإسكات المخلوق حديث الولادة من خلال حملة اعتقالات وتعذيب قاسية، بينما راحت الأخيرة العمل بجدية على تطوير برنامج سياسي يرافق التطورات الدراماتيكية. لكن لجان التنسيق المحلية ستجد نفسها في أكثر من مناسبة مضطرة لاتخاذ المزيد من الخطوات في أداء دور اللاعب السياسي بنفسها. الأول كان الحد من الدعوات هنا وهناك لتسليح الثورة أو السعي للتدخل الأجنبي. على الرغم من أن الثورة كانت سلمية في معظم الجوانب، إلا أنه كان هناك اتجاه خافت وقتها دعا لاستخدام العنف ضد قوات الأمن والشبيحة. وبسبب الخوف من أن يصبح هذا العنف طائفياً، كانت هناك حاجة ماسة إلى موقف مناهض للعنف، ووجدت لجان التنسيق المحلية نفسها مضطرة إلى تبني موقف سياسي يحذر من مثل هذا التهديد.

مثال آخر هو مسألة الحوار مع النظام. بدأ النظام في مقابلة أفراد من المعارضة ومحاولة معرفة ما إذا كانت هناك احتمالات لإجراء محادثات. انقسمت المعارضة حول الموضوع وبدأت في تبادل الاتهامات دون الدفاع عن آرائها. وكان على لجان التنسيق مرة أخرى أن تتدخل وتطور منظورها حول هذه القضية. في 15 أيار/مايو، أصدرت لجان التنسيق المحلية بياناً أوضحت فيه موقفها من الحوار مع الحكومة. وجاء في البيان أن “وقف الحل الأمني ​​فوراً وبدء عملية سياسية أمر لا بد منه، بشرط استيفاء أربعة شروط: إنهاء القتل والعنف، وإطلاق سراح الأسرى، والسماح بالتظاهر السلمي، والسماح لوسائل الإعلام بتغطية الانتفاضة في سوريا”. وستصبح هذه الشروط الأربعة أرضية مشتركة لجميع مواقف مجموعات المعارضة المختلفة كلما تحدثت عن الحوار مع الحكومة.

في غضون ذلك، كان اللاعبون السياسيون التقليديون يتجادلون حول كل شيء تقريبًا: حوار أو لا حوار، إصلاح أو إسقاط النظام، معارضة داخلية مقابل معارضة في المنفى. في الوقت نفسه، كان المتظاهرون في الشوارع يتحركون في جميع الاتجاهات، وكانت الجماهير تفقد الآلاف من الأعضاء الناشطين الذين كانوا يتساقطون تحت رصاص قوات لنظام، بينما كان الآلاف يموتون في السجون وتحت التعذيب. كانت الجماهير تطالب بمظلة سياسية لصرف جزء من المسؤولية الثقيلة عن الشارع. كانت لجان التنسيق المحلية تعمل مع المعارضة السياسية لتوحيد جهودها حول خارطة طريق لفترة انتقالية. وكجزء من جهودهم، طورت لجان التنسيق المحلية “رؤيتها” (نُشرت في 11حزيران/يونيو). على المعارضة أن تعترف بأن رؤية لجان التنسيق المحلية لم تتم مطابقتها بعمق أو شمولية من قبل أي مجموعة معارضة أو حتى من قبل المعارضة ككل. شهدت رؤية لجان التنسيق المحلية طريقين للخروج من الأزمة: الأول تمثل بترتيب “تفاوضي سلمي للتحول نحو نظام ديمقراطي تعددي”، بينما يدفع الطريق الثاني البلاد “في نفق المجهول عبر المضي في خيار العنف ضد الاحتجاجات الشعبية السلمية، والتضحية بسورية من أجل بقاء نظام غير أخلاقي، لا يحترم نفسه ولا شعبه”.

وأوضحت اللجان في رؤيتها أن هذا الخيار الأخير إنما يحمل مخاطر التدويل والنزاعات الأهلية، محملة “النظام وحده” المسؤولية الكاملة عنه. وأوضحت أن الحراك الثوري لن يتوقف “بذريعة أن النظام لن يتوقف عن القتل والتخريب. لا يجوز أن يُكافأ المجنون على جنونه، وليس مقبولاً أن تبقى سورية رهينة بيد خاطفين غير مسؤولين إلى هذا الحد”. أما الخيار الأصلح والأسلم والأولى ببلد مثل سورية فهو بلا شك الخيار الأول القائم على أساس تفاوضي سلمي “يطوي صفحة نظام الحزب الواحد، والرئيس الذي تتجدد ولايته إلى الأبد، والحكم الوراثي، وحصانة الأجهزة الأمنية، واستخدام الدولة لحماية سارقي الشعب، والإعلام التحريضي الكاذب”.

وضع بيان اللجان الذي يتضمن رؤيتهم لمستقبل البلاد قوى المعارضة التقليدية بحرج كبير، لأن مجموعة من الشباب من غير ذوي الخبرة السياسية والتاريخ النضالي العريق تمكنت أن تجترح ما عجزت قوى المعارضة حتى الآن عن فعله.

تلقّت لجان التنسيق المحلية عدّة ضربات، كان أهمها وأشرسها من النظام. ولكن المعارضة أيضا وجهت لها ضربة بتهميشها ما إن بدأت بتشكيل هيئاتها المنظمة، بدءا بالمجلس الوطني ومن ثمّ الائتلاف ومؤتمر القاهرة وغيره. ولم تسلم اللجان من ضربات جاءت ممن أخذ اسم التنسيقيات وبدأ يشكل هيئات ثورية أخرى، بدأت تتلقى دعما من بعض الجهات الخارجية.

عموما، كانت لجان التنسيق تتمتع برؤية سياسية واضحة (ولن أقول صائبة لأن ذلك أمر سيحسمه التاريخ إن عدل)، ومصداقية على الأرض، وسلطة أخلاقية حتى على من امتشق السلاح، واستقلالية تامة. وهذه أمور ثلاثة تفتقر إليها هيئات المعارضة الرسمية الأخرى، التي يعوزها وضوح الرؤية والسلطة الأخلاقية، وليس لها مصداقية على الأرض حتى في المناطق التي تسيطر عليها، ناهيك طبعا عن انعدام الاستقلالية.

كان يمكن للجان التنسيق المحلية أن تتطور إلى قوة سياسية حقيقية وفاعلة، وأن تكون الممثل الحقيقي للسوريين المنتفضين، ولكن شراسة النظام وفجوره، من جهة، وانحطاط المعارضة، من جهة أخرى، جعلاها تفقد هذا الدور الذي لم يعوضه أحد أبدا فيما بعد.

أوراق

—————————-

بيان مشترك لـ: رابطة الصحفيين السوريين، ورابطة الكتّاب السوريين في الذكرى العاشرة للثورة السورية

تمرُّ الآن الذكرى العاشرة لثورة الشعب السوري الحر بكل ما انطوت عليه من بطولات وتضحيات لملايين السوريين الذين أرادوها انتفاضة سلمية ضد الاستبداد وسياسات الإخضاع والقهر والإذلال والقمع المنظَّم، فواجهها النظام بالقصف والقنص والبراميل المتفجرة ودكّ المدن والبلدات على رؤوس ساكنيها، بل إنه لم يوفر حتى استخدام ترسانته الكيميائية. ورغم كل ما تميز به النظام من وحشية، فإنه لم يكن قادراً على حماية نفسه من السقوط، لولا تدخُّل حزب الله وإيران وميليشياتها الشيعية المتعددة وروسيا ومرتزقتها تحت بصر العالم وموافقته أو صمته أو مشاركته وبمباركة أميركية وإسرائيلية بالطبع. وفي سياق هذا القمع السافر والمعمم، دأب النظام الأسدي ووجوهه الأخرى من فصائل إرهابية ومتطرفة على استهداف المثقفين، وبخاصة الكتّاب والصحفيين.

لقد مارس نظام الأسد الأمني الاستبدادي، في السنوات العشر الأخيرة، فظاعات وانتهاكات غير مسبوقة في عصرنا الراهن، ضد حقوق الشعب السوري، في الاختيار، وفي مشاركته الواسعة والفاعلة في صناعة القرار الوطني، وفي ممارسة المكونات الوطنية لحقوقها الثقافية والاجتماعية والسياسية المشروعة.

إننا، إذ نقف إجلالاً أمام التضحيات الجسام التي بذلها الشعب السوري، من أجل الحرية والكرامة، فإننا نستذكر النضال الذي خاضه ولا يزال يخوضه الكتّاب والصحفيون السوريون، دفاعاً عن حقوقهم الأساسية في حرية التعبير، ومن أجل إرساء دعائم الديمقراطية، وبناء المجتمع المدني، القائم على العدل والمساواة، واحترام الحقوق والحريات وحمايتها.

لقد شكلت قضية حرية التعبير، مرتكزاً محورياً لنضال السوريين، وشكلت في الوقت نفسه مصدر تهديد خطير للصحفيين والكتَّاب على أيدي النظام الأمني الاستبدادي الأسدي، كما على أيدي بعض الجماعات المسلحة كداعش والنصرة، فتسابقت هي والنظام على منع ومصادرة حرية القول والكتابة والنشر، ولاحقت الصحفييين والكتَّاب، وتعرّض العشرات منهم للاعتقال والاختطاف والتعذيب والقتل، داخل سوريا وخارجها.

إننا، في الذكرى العاشرة لانطلاقة ثورتنا، ثورة مجيدة ويتيمة ومغدورة، إذ نؤكد وقوفنا مع أهداف من نادى  من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وإكبارنا لما عاناه السوريون في سبيلها من انكسارات وخيبات وتضحيات جِسام، فإننا ندعو شرفاء العالم بكتّابه وصحفييه ومثقفيه وقواه الحيّة، للنهوض بدور مشرِّف في مساندة السوريين من أجل انتزاع الحرية، وإسقاط الديكتاتورية الدموية، وفي وقف القتل والتدمير، وتفعيل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وإنهاء التواجد الأجنبي المسلح في سوريا بكافة أطرافه من إيران إلى روسيا وأميركا وتركيا وغيرها من صنوف المرتزقة والميليشيات.

كما نتوجه إلى مؤسسات المجتمع الدولي المعنية بحقوق الإنسان، من أجل العمل بجدية ومسؤولية لإطلاق سراح عشرات آلاف المعتقلين المدنيين السوريين، الذين اعتقِلوا بسبب نضالهم السلمي من أجل الحرية، والديمقراطية. وأن تعمل على حماية الكتاب والصحفيين، في مناطق العمليات العسكرية، وعدم تعريض حرياتهم أو حياتهم للخطر، والبحث في ضمانات جدية ملزمة لكافة الأطراف، من أجل ضمان حرية التعبير وعدم انتهاكها أو المساس بها.

المجد للثورة السورية، والأمل متجددٌ بانتصار الحرية على الاستبداد.

المجد والعرفان لشهداء الحرية في سوريا، وجميع بلدان الربيع العربي، في ذكراه العاشرة.

الحرية لجميع معتقلي الرأي، وحرية التعبير، في سوريا والعالم.

رابطة الصحفيين السوريين                                رابطة الكتاب السوريين

أوراق

—————————-

بعد عشر سنوات دامية، هل من أمل؟/ سوسن جميل حسن

“إنّ فشل الثورات سيخلق وضعاً جديداً، سيشعل شرارة صيرورة ثورية من جديد”. هذا ما قال جيل دولوز، إنها حركة التاريخ ومنطق الحركة، لا توجد لحظة تشبه التي قبلها أو التي بعدها، لكن في الوقت نفسه لا يمكن فصلها عما قبلها وعمّا سيحصل بعدها، إنها جزء من السياق.

من حيث المبدأ أخمّن أن ليس من الطبيعي فصل ما قبل الثورة عمّا بعدها، أو عمّا آلت إليه الأمور، هو عقد من الزمان، أو سنوات عشر من الحرب والدمار والتهجير والفقر والجوع والانهيارات على مستويات عدة من مجتمع ودولة وفرد، صحيح. لكن هذه السنوات صدّعت كل شيء، عرّت الواقع وكشفت كل ما هو مخبوء تحت قشرته، وليس كل ما هو مخبوء سيئاً ومعيقاً، بل بقدر جحيم هذا الواقع وبقدر الصدمة التي أحدثها اكتشاف الهشاشة وسرعة تهتك النسيج المجتمعي، هناك أيضاً الكثير من المسكوت عنه صار تحت الأضواء الكاشفة، من قضايا اجتماعية ودينية وسياسية وثقافية وغيرها، نلمسها عند جيل جديد من الشباب بما يقدمون من منجز على أصعدة كثيرة، يضعنا، نحن الجيل السابق أو جيل الآباء أمام تجاربنا وجهاً لوجه، أو أمام مرايا كاشفة، هذه الحالة كان لا بد من مواجهتها، برغم كل ما قدّم البعض سابقاً من تضحيات في سبيل القضايا التي آمنوا، ويصبح السؤال عن مسؤولية النخب قبل الانتفاضة مشروعاً بل وضروريّاً. هل ما قدّمته تلك النخب من تضحياتٍ جسيمةٍ ذهب أدراج الرياح، ولم يكن أكثر من سحابة صيف؟ قبل العام 2011، تعامل النظام بوحشية مع أي تهديداتٍ طاولته، سُجن معارضوه أو اغتيلوا، أو انتحروا “بأكثر من رصاصة”، أو تم التعامل معهم بوسائل قمعية أخرى، وما زال كثيرون منهم على قيد الحياة يروون قصصهم ومسيراتهم النضالية المعمّدة بالشوك والألم والقهر. ومع هذا لم يستطيعوا، على الرغم من صدقهم وحقيقية نضالاتهم، أن يزرعوا بذور الوعي، ويؤسّسوا قواعد جماهيرية واسعة وقوية وتعرف طريقها.

هل كان من المحتم أن تتحوّل الثورة إلى حرب؟ سؤال آخر يفرضه منطق النقد الذاتي الذي أكثر ما نحتاجه في نهاية عقد من الدم والدمار، لقد تدخّلت قوى ودول عديدة في الحرب وكان لكل منها أجندتها الخاصة وأدواتها الخاصة، إن كان لمساندة النظام او الفصائل المعارضة، لكن الأمور مشت باتجاه تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ متنوعة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سيطرة القوى الإسلامية الراديكالية على الحراك، وبرامجها التي تغلق الباب على أي وعد في المستقبل بدولة مدنية ومجتمع تعددي، وتقضي شعاراتها على أي احتمال بانتهاج الديموقراطية.

أخطأ العديد من النخب الثقافية في الالتحاق بالسياسة وكان من الأجدر بهم الابتعاد والاضطلاع بدورهم المطلوب وهو رصد التحولات والانزياحات والهزات الارتدادية التي تصيب جسد المجتمع والعمل على الاشتغال عليها وتسليط الضوء، فلم يكن ينقص الشعب المنكوب ما يمارس بحقه من تضليل وتجييش، فهناك وعي عام بحاجة إلى تنقية من موروث ثقيل، هناك شخصية امتثالية متجذرة، ليس بشكل فردي فقط، إنما على شكل جماعات تعيش ضمن قوالب محكمة زادتها الحرب انغلاقًا وإحكامًا، تقع على النخب الثقافية مسؤولية الاشتغال على فك أقفالها، ولا يكفي أن تنجز كتاباتهم في اللحظة الراهنة، بل يجب أن تنتمي إلى تلك اللحظة بكل متغيراتها، وهذا يميّز بعض  الشيء كتابات الجيل الجديد.

في نهاية العقد السوري الدامي يمكن القول إن هناك فارقاً ما قد حدث، وأن الواقع تغيّر، ويمكن انتظار النتائج بالرغم من أن الزمن حارق بما يكفي في انتظارها، فالثورة لا تفشل، هي تتعثر في مسيرتها، لكنها لا تسقط بشكل نهائي، بل تنهض ولا تتوقف عن الحدوث.

أوراق

——————————–

سؤال الثورة السورية بعد عشر سنوات/ ضاهر عيطة

ربما تكمن الإجابة عن سؤال الثورة، بعد مرور عشر سنوات على انطلاقتها، في هذا الكم الهائل من الخراب والدمار، الذي طال البنيان والعمران على امتداد الجغرافية السورية، يضاف إليه، مئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين، والملايين من الضحايا والمهجرين والمشردين، مما يستدعي السؤال عن الغاية من كل ذلك، وسرعان ما تحضر الثورة كمستهدف رئيسي من هذه الوحشية، بوصفها حالة جمالية، بديلة عن البشاعة التي تعمل على إزاحة كل ما يناقضها، فالوحشية والبشاعة المجسدة في التنظيم الأسدي وأعوانه، لا تحتمل فكرة أن يكون للثورة حضوراً منافساً لها، يشكف النقاب عن مدى تأصل هذه الصفات فيها، ما يعني أن هذه الكم الهائل من الخراب والدمار والقتل والاعتقال والتعذيب والتهجير والتشريد، لم يكن هدفًا بحد ذاته، إنما جاء كوسيلة تهدف القضاء على ثورة، كان، ولم يزل يؤمل منها أن تحتفي بالجمال، وأن تبني وتحرر وتجمع، وتعيد الاعتبار لكرامة وكيان الإنسان السوري، وهذا تمامًا ما لا يريده التنظيم الأسدي، وعليها فكلما اضطر الإمعان أكثر في القتل والحصار والتجويع، كلما اتضح المؤشر على تجذر الثورة وفاعليتها في الوجدان السوري، ورغبتها في التطلع نحو المستقبل، لاسيما وأن الخراب والدمار والقتل بمعناه القيمي والأخلاقي، ينتمي إلى العطالة والجمود المضمر فعليًا في مصطلح الأبدية، الذي اجتهد التنظيم الأسدي على تكريسه، وعليه فمن غير المنطقي احالة هذا الخراب والدمار، وحال اليأس والعدمية التي وصلت إليها الحياة السورية، إلى الثورة، إنما مبعث ذلك يرجع إلى الكيفية التي عوملت فيها الثورة، كردة فعل عليها من قبل جميع الأطراف الساعية للعطالة والجمود، وتشمل هنا التنظيم الأسدي، وعصاباته من التكفيريين، وروسيا وإيران وحزب الله، والكثير من العروش والممالك العربية، إذ أن جميعها هذه الأطراف سعت، وكل حسب دوره ومصالحه، لخنق الثورة، وطالما وأن منجزات الخراب المنبثقة عن تلك الأطراف، التي أخلصت لمشروعها الهمجي، ما زالت آثارها مخيمة على حياة السوريين، تبقى الثورة حاضرة بوصفها المشروع الجمالي، والإنساني البديل عن هذه البشاعة والوحشية، ولعله من المفيد الابتعاد، ولو افتراضياً، عن مشاهد الدمار والخراب، وفتح نافذة تطل على مشهدية مغايرة، تشي بمشروعية وتطلعات الثورة، وتؤكد مرارًا وتكرارًا، ما تضمره في وجدان صناعها، من توق الانعتاق من الهمجية والوحشية، وأكثر ما يتجلى ذلك، لدى جيل الشاب، سواء كانوا في الداخل السوري، أم خارجه، فقد شكل هذه الجيل العصب الأساسي للحراك الثوري، ولم يزل يواصل عمليات الخلق والابتكار والإبداع، لاسيما وأنه بات يمتلك آليات تفكير جديدة، أهلته لأن يبدع في كافة الصعد، وبغتة، وفي غفلة عنا ظهرت مواهب شابة تحتفي بكل ما هو حيوي وجمالي، وهي بما تتمتع به من طاقات خلاقة، تعمل على نحو مدرك، أو غير مدرك، للإطاحة بكل ما تم التأسيس والاشتغال عليه على مدار عقود من حكم التنظيم الأسدي، وكما نلحظ الآن ثمة آلاف من الشباب والشابات، ينتجون ويبتكرون في الفكر والفن والعلم والأدب، شعرًا ورواية ومسرحًا وموسيقى وسينما، في حين لم يزل أعداء الثورة، متمسكين بوحشيتهم وبطشهم، رافضين الانفتاح على ممكنات بديلة، حرصاً منهم على البقاء في عتمة ما هو كائن وثابت وأبدي، على عكس أبناء الثورة، الذين اختاروا الانفتاح على كل ما هو مغاير عما ألفوه في سابق حياتهم التي حكمها التنظيم الأسدي. وانطلاقاً من هذه الرؤية المستقبلية، راحوا يجربون كافة الاحتمالات والممكنات في الحقول المعرفية والفكرية والفنية والأدبية والسياسية والعلمية، ولو أنهم لم يثوروا على السلطة القمعية، وبقوا في ذلك الثبات، لما أمكن لهم أن يكونوا على ما هم عليه الآن، من تحرر في الفكر والوعي، وشغف الشك بكل القيم والمقدسات التي روج لها التنظيم الأسدي طوال عقود، وهذا بحد ذاته حدث ثوري، ففي الشك يكمن السؤال حول طبيعة وشكل ومضمون المستقبل، وهو ما كان محرمًا الاقتراب منه، وللحؤول دون حدوث ذلك تم ارتكاب كل تلك المجازر والفظائع، ولكن رغم فداحتها ووحشيّتها لم تحقق المراد منها، وبقيت كردة همجية، تحركها البشاعة الكامنة في مفاصل التنظيم الأسدي، حين يقلق راحتها صخب الجمال والتطلع للمستقبل.

أوراق

———————————

الثورة المغدورة./ غسان المفلح

هذا ليس استعارة لعنوان كتاب تروتسكي” الثورة المغدورة” الذي كتبه عام 1937 ويرى أن الستالينية غدرت بثورة اكتوبر الروسية. بل لأنني كتبت مقالا منذ عشر سنوات تقريبا بعنوان “الثورة السورية التي يراد غدرها” بتاريخ 5.10.2011. يمكن للقارئ الكريم العودة إليه على موقع جريدة ايلاف الالكتروني.

“كشفت الثورة كيفية تبادل المواقع والمصالح، وحجم التواطؤ في هذا الشرق الأوسط. روسيا والصين والهند وتقاعس الدول الغربية والعربية يلتقي مع المصلحة الاسرائيلية في استمرار النظام، أو تحويل سورية إلى مقبرة لشعبها، أو أن تدخل في نفق حرب أهلية طويلة المدى”.

هذا ما كتبته حينها. وما عبرت عنه أيضا في أكثر من مادة وفي أكثر من اجتماع للمعارضة السورية منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة السورية قبل عشر سنوات. بأنها استراتيجية أمريكية بنسخة أوبامية.

رغم ذلك ورغم هذه الهزيمة سيبقى سؤال الثورة قائما. سؤال الثورة مرتبط بوجود نظام أسدي وليس لسبب آخر. سيبقى قائما لعدالته، لما حملته الثورة المغدورة من إحساس بالحرية لدى السوري. ما جعلته يقارب سؤال الحرية. مهما حدث من انكسارات وخيبات سيبقى سؤال الحرية والكرامة حاضرا. لن تتوقف الأجيال عن إنتاج المعنى في كافة المجالات. الثورة بقدر ما هي صيرورة نحو مستقبل أفضل، بقدر ماهي خاضعة لحسابات الربح والخسارة في ظل عالم لا يعتمد سوى ميزان القوى الغاشم معياراً.

الثورة مفاجأة على كافة المستويات حتى لأصحابها. من كان يعتقد ان تظاهرة في درعا يمكن ان تنتج ثورة؟ حتى أهل المظاهرة الأولى لم يعرفوا وفوجئوا كما فوجئ متظاهرون آخرون في أمكنة أخرى. كما فوجئت المعارضة بكل تياراتها والأسدية أيضا. بانطلاق عموم المدن والقرى تقريبا في سورية بتظاهرات تطالب بالحرية وبإعادة الكرامة للفرد المسحوق بترميزات الأسدية المادي منها والمعنوي. ما حصل في ثورات الربيع العربي مفاجأة تخص الربيع ذاته لا تخص مسبقات أخرى. ولن تخص ما يأتي بعدها من ثورات. حتى لو شكل هذا الربيع العربي ذاكرة خبرة، وتقليد لا يمنع المفاجأة في المستقبل. الثورة مفاجأة. حتى النظام القاتل فوجئ، لو كان يعتقد أنه سيستدعي الروس والإيرانيين وكل شذاذ الآفاق، ربما كان تصرف بغير هذه الطريقة. أي حديث عن الثورة السورية بدون سؤال المفاجأة هذا يكون في إطار مسبقات لا قيمة لها.

لأنها مفاجأة غدرت بهذه الطريقة الابادية والوحشية من قبل وحوش هذا العالم. لأنها مفاجأة كانت ستودي بكل مترسخ عبر عقود خمسة وأكثر سوريا وإقليميا وبالتالي سينعكس دوليا.

إنها مفاجأة الحرية والكرامة التي لا تنتهي. إنها السؤال المفتوح أبدا على إجابات لا حصر لها.

انتهاء ديكتاتورية المعنى بانفتاح الأجيال السورية على تجاربهم الذاتية وتجارب الآخرين. كتبوها وأرّخوها ورووها وقصّوها. هزيمة الثورة أو الغدر بها كما توقعت، التوقع لا يعني فقدان الأمل.

هزيمة الثورة لا يعني أنها لم تترك أثراً ولم تُحدث تغييرات ستطال المستقبل سلباً أم إيجابا. لهذا سأختم بلوحة مختصرة للثورة المغدورة ولسورية وشعبها بعد مضي عقد من الزمن: بشار الأسد كان ديكتاتوراً أوحد في سورية قبل الثورة، يسيطر بأجهزة قمعه على كامل مساحة سورية. الآن الأسد لا يسيطر سوى على 15% من الحدود مع سورية، وبات له شركاء في المناطق التي لا يزال يسيطر عليها وهي تقارب ال 60% من مساحة سورية والباقي خارج سيطرته كلياً. الروس والإيرانيون يشاركونه القرار السيادي تحول إلى مسخ سيطرة. صورة النظام في أبشع حالة. كل هذا من أجل ألا يقدم أي تنازل للشعب السوري. هذه كانت إمكانيات الثورة رغم كل هؤلاء الأعداء.

أوراق

—————————-

سؤال الثورة وامتحان الأفكار/ عمّار ديّوب

كل ما حدث في سورية بعد 2011، هو من تأثيرات الثورة الشعبية في ذلك التاريخ. وكل التطورات التي حدثت، والأزمات التي دخلت فيها الثورة، والأسلمة والاحتلالات الخارجية وضعف النظام، أقول كلها لم تلغ تأثير تلك الثورة. ضعف قوى الثورة ورداءة المعارضة وكثرة احتلالات واستعادة مناطق واسعة من الفصائل، أقول كلها لا تساوى دحر الثورة واستعادة النظام لديكتاتوريته. تراجع قوى الثورة لا يعني تقدم قوى النظام، ولهذا يقال إن المسالة السورية أصبحت مسالة إقليمية ودولية. وأن تصير إقليمية ودولية، فهذا يعني أن النظام القائم لم يعد مقبولاً، وهناك ضرورة لنظامٍ جديد، وأما معالمه، فهي ستكون رهينة التسويات الإقليمية والدولية، والأخيرة لم تنضج تسويها بعد، وهذا يعني أن مأساة سورية ما تزال مفتوحة رغم اكتمال العام العاشر للثورة.

سؤال الثورة، وهل ما زال قائماً، وكذلك سؤال الخيبات والانكسارات.. نقول، كلما ساد الكلام عن سيطرة النظام نرى مشكلة جديدة تقف أمامه، وتوضح مقدار هشاشته وضعفه، فكيف لو دققنا بتلك الاحتلالات، وهذا وحده يوضح أزمته العميقة وإغلاق إمكانية تعويمه من جديد. الآن هناك نقاش جديد عن احتمال احتجاجات في المناطق التي اعتُبرت موالية وخاضعة، ولن تتغيّر ومهما تبدلت أحوال النظام، وأقصد مع ترسخ النفوذ الاقليمي للدول المتدخلة في سورية، وتردي العملة باضطراد، تجد أغلبية السوريين الواقعين تحت سيطرة النظام أن أوضاعها كارثية، وصارت تمرّر أيامها ولياليها في طوابير الخبز والوقود والبحث عن العمل والكهرباء المقطوعة وسواه، وبالتالي صرنا نقرأ عن اشكال جديدة من الرفض للنظام فكيف، سيما أن النظام يعمل من أجل ترشيح رئيسه ليحكم سورية لسبعٍ عجاف من جديد!

الثورة ليست فكرة كما قيل يوماً، بل كان الاحتجاج الرافض للفكرة أعلاه، يؤكد أن لا وصفة جاهزة للثورات، نستقيها من تاريخ هذه الدولة أو تلك، وبالتالي هي ليست مجرد حسابات للربح وللخسارة. ربما هي كذلك للانتهازين الذين التحقوا بها، والأن نرى كتل في المعارضة من تلك الكتل. الثورة بدأت من أجل تغييرٍ تاريخي كبير، يُنهي أوضاع سورية التاريخية، وأقلها من 1970، وبالتأكيد هي نتاج انهيارات جزئية للأوضاع الاقتصادية قبل 2011، حيث اعتمد النظام سياسات اقتصادية مناهضة للأغلبية الشعبية، ونقصد “سياسة السوق الاجتماعي” وهذا أدى لانهيار أوضاع الزراعة والصناعة، وهناك أسباب تتعلق بإغلاق النظام لكوّة الإصلاحات السياسية بعد عام 2000، وضمن ذلك، وبدءاً من عام 1970 تركزت الثروة في أيدي حيتان السلطة والمال، وهذا أفضى إلى ضرورة الثورة، وهو ما حدث في 2011، وهناك تأثير الثورات العربية، التي ظروف القائمين فيها تشبه الظروف السورية، وكذلك الاستبداد، إذاً كانت الثورة السورية من أجل التغيير نحو الأفضل وفي كافة مجالات الحياة، ودلالة ذلك، الشعار الدقيق في تلك الاثناء “الشعب السوري واحد” والذي كان من أجل حشد أغلبية السوريين في إطار الثورة ومن أجل طيّ مرحلة الثمانينيات، والانقسام الطائفي على إثره، وطي كل انقسام تعزز بعد ذلك التاريخ. الشعار هذا حاربه النظام، وحاربه الاخوان المسلمين وكل قوى طائفية بعد 2011، وكذلك الخارج.

قضية امتحان أفكارنا التي كنا نحملها في 2011، وعلى ضوء عشر سنوات من الثورة، هي قضية المثقفين بامتياز، وكذلك هي قضية السياسيين، والفاعلين بهذه المجالات. أولاً لم تكن إلّا قلّة تتوقع حدوث ثورة عام 2011، وحينما حدثت حاولت أطراف المعارضة التاريخية الاستيلاء عليها، ولكن أغلبية المثقفين كذلك لم يتوقعوا حدوثها. هناك دعوات في السنوات الأخيرة، ومن أجل نقاش الرؤى والتصورات التي حملتها الثورة والمعارضين للنظام، ولكنها حتى الان هامشية وضعيفة، وهناك رفض من قبل قيادات المعارضة لمسؤوليتها القيادية منذ 2011 وحتى الأن. هذه قضية دقيقة، ودون القيام بها، وبجديةٍ عالية، ستزدهر الأوهام والانكسارات والإحباطات، وهذا ما يجب القيام به، وليس الاستمرار في تجاهله، وكأن الثورة لم تتأزم وما زالت هي هي عام 2011، وهذا غير صحيح، وقد حاولنا تلمس بعض ملامحه “التأزم” بعد 2011 أعلاه.

أوراق

————————-

مسارات الرفاق ومصائرهم/ فايز سارة

انشغلت في الأسبوع الماضي بالعودة إلى الأرشيف لاستخراج مجموعة صور تتصل بحياتي ونشاطاتي العامة، لتكون في خلفية مقابلة مصورة، تعدّها إحدى الفضائيات بمناسبة مرور عشر سنوات على ثورة السوريين ضد نظام الأسد، ومن أجل الوصول إلى صور مناسبة كان علي العودة إلى أرشيفي الشخصي الورقي والالكتروني معاً، والعودة أيضاً إلى الأرشيف الإلكتروني العام الذي توفر محركات البحث (ولا سيما غوغل) لنا فرصة الوصول إليه بما فيه من أخبار ومستندات وصور، وإن كانت عامة، إلا أنها في بعض الجوانب تعتبر خاصة لبعض الناس ممن شاركوا فيها أو كانوا شهوداً عليها أو قريبين منها.

في عملية البحث، ركزت خصوصاً على العشرين عاماً الأخيرة، التي كانت الأكثر حساسية وأثراً في حياة عموم السوريين وفي حياتي كواحد منهم، لأنها شهدت أهم تطورات في التاريخ السوري الحديث والمعاصر، بل إنها الأهم حتى في التاريخ القديم أيضاً، وقد اخترت من تلك التطورات، مقاربة بعض جوانب تجربة الرفاق، وهي صفة رأيت أن أشمل فيها مجموعة من السوريين تقاربت مع بعضها في العقد الأول من القرن، وشاركت في تجربة ربيع دمشق، التي كانت مقدمة مشاركات أخرى لاحقة.

وبسبب من أهمية وخطورة ما شهدتّه سوريا في العقدين الماضيين، رأيت أن أتناولها في العشرية التي سبقت الثورة، والتي بدأت مع موت حافظ الأسد الشخص الأهم والأبرز في تاريخ الدكتاتورية في سوريا، وتولي خليفته بشار السلطة بإرادة دولية، وتمرير سوري على أمل إصلاح سلمي هادئ ومتدرج على نحو ما قدّر بعضنا، انه ممكن، وقد أثبتت سنوات العقد الأول من سلطة الأسد الابن خطأ مراهنة النفر القليل من الشجعان السوريين من مثقفين ومدنيين وسياسيين، انخرطوا في ربيع دمشق، واعتقل عشرة منهم في إطار مساعي النظام لمواجهة حركة البيانات والمنتديات والجمعيات الحقوقية والمدنية وإيقاف مسار القول والكتابة، التي كانت دائماً بين أهم المحرمات في سوريا، وقد تبين أن كل ما تمّ القيام به من جانب الشجعان السوريين، لا يتجاوز خرمشة أظافر على لوح صلب، يغلف دكتاتورية وطائفية ودموية وإجرام نظام ورثه الابن عن الأب، ومضى على طريقه إلى الأبعد في العشرية الثانية.

من أحداث العشرية الأولى، اعتقال مجموعة نشطاء ربيع دمشق الأوائل، أو العشرة الأفاضل كما أسميناهم، لكن الأسبق من اعتقالهم قيام الراحل أنطون المقدسي شيخنا وأستاذنا، بإلقاء محاضرته عن المجتمع المدني في 13 أيلول 2000 في أول جلسات منتدى الحوار الوطني الذي أسسه رياض سيف، وهذا بعض من جهده في تلك الأيام، إضافة إلى رسالته الشهيرة إلى بشار الأسد في 14 آب 2000، التي كانت تمثل تحدياً، لم يفعله مثقف سوري من قبل في تعامله مع منصب الرئاسة الذي حوّله الأسد الأب إلى تابو، يمنع الاقتراب منه، ولا النظر إليه.

بدت المنتديات في تلك الأيام مساحة محدثة للحرية وللحق في التفكير والقول العلني، وهو ما تجسّد في جلسات منتدى الحوار الوطني وفي أنشطة منتديات غيره في دمشق ومدن سورية أخرى، وبعض تلك المنتديات كانت مرسومة لأهداف معينة، لكن بعضها الآخر، كان حقيقياً وفي صلب المحاولة المجيدة للشجّعان السوريين على نحو ما بدا منتدى جمال الأتاسي في دمشق، وشهد في إحدى ندواته، حدثاً أعتقد أنه بين الأهم في نشاط المنتديات، إذ توالى على الحديث في تلك الامسية متحدثون باسم الأحزاب والجماعات السياسية ولجان إحياء المجتمع المدني، عرضوا فيها خلاصات مواقف جماعاتهم في الحال السوري، وكانت هذه الجلسة سبباً في اعتقال أعضاء مجلس إدارة المنتدى جميعاً في أيار 2005، وكانت مقدمة لمنع نشاطاته تالياً.

وطالما أن الحديث يتصل بالنشاطات، فإن الاعتصامات كانت بين أبرزها، وتشارك في تنظيمها ناشطون مدنيون وحقوقيون وسياسيون في دمشق ومدن سورية أخرى، ورغم تعدد وتنوع اعتصامات تلك المرحلة، فقد كان الأهم فيها نوعان أولهما يقام أمام قصر العدل بمناسبة استيلاء البعث على السلطة في سوريا وإعلان حالة الطوارئ في الثامن من آذار، والثاني يقام في العاشر من كانون الأول في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وتنوعت أماكن إقامته، ولعل أفظع الاعتصامات قيام النظام بجلب طلبة جامعة دمشق وتحت حراسة الأمن واتحاد الطلبة لضرب المعتصمين أمام قصر العدل بوسط دمشق في آذار 2005، ومازالت في أذهان من حضروا الاعتصام عمليات ضرب وسحل مشاركين ومشاركات في ذلك اليوم.

وكان لتشكيل تحالف المعارضة السورية المعروف باسم إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في العام 2005 أهمية كبرى في تطورات تلك الفترة، بما مثله من إنجاز كانت الساحة السياسية والمدنية بحاجة ملحة لتجميع قدراتها وجهودها، تشارك في انجازه أشخاص طرحوا الفكرة، وانضم آخرون للمساهمة في الحوارات حوله، والمشاركة في قياداته الأولى، التي ضمت رموزاً من مكونات الجماعة الوطنية ومن مختلف التوجهات الفكرية والسياسية، التي رأت أنه آن الأوان ليكون للمعارضة السورية إطار واحد في مواجهة نظام، لا يملك حواسَّ ولا قدرة له خارج العنف، خاصة بعد حملته الشهيرة على الإعلان في أعقاب اجتماع مجلسه الوطني الأول بدمشق أواخر 2007 والذي رأي فيه النظام خرقاً لمنظومته الأمنية، واعتقل عشرات من نشطاء الإعلان، قبل أن يستقر في السجن منهم اثني عشر شخصاً، كان من الواضح أن النظام اعتبرهم بين المجموعة الأكثر تأثيراً بالمعارضة في ذلك الوقت، وقد انتهت فترة سجنهم قبل الثورة بأشهر لا غير، وهو أمر جاء بمحض الصدفة قرب نهاية العشرية الأولى من رئاسة بشار الأسد.

وإذا كان العقد الأول، قد حمل ذلك القدر غير المشهود من الأحداث، وأبرز قضايا وأشخاص بصورة لم تحدث في عقود ما بعد إعلان الكيان السوري الحديث عام 1936، فإن العقد الثاني مابين 2011 و2020 شهد أحداثاً كثيرة، ليست لها سوابق في التاريخ السوري القديم والحديث كلاهما على نحو ماهي عليه ثورة السوريين، بل إن بعض الأحداث ليس لها مثيل في التاريخ البشري كله على نحو ما ظهرت في المقتلة السورية، التي نفذها نظام الأسد وشارك فيها حلفاؤه الروس والايرانيون وميليشياتهم، قبل أن ينضم إليها متطرفو وإرهابيو الجماعات الإسلامية والعصابات المسلحة، وبعض الدول المحسوبة على أصدقاء الشعب السوري تحت حجة مكافحة الإرهاب، فيما كانت عملياتهم تشمل أهدافاً مدنية لا علاقة لها ب”داعش” ولا أمثالها من المتطرفين.

ورغم أهمية حضور الأفراد ودورهم في أحداث العقد الثاني، فإن حضور ودور الجموع السورية صارت الأهم في الصورة السورية. فقد امتلأت شوارع وساحات مدن وقرى بالسوريين، وفي بعض الحالات قاربت تظاهرات مدن حدود المليون حاملين أعلاماً ولافتات ومرددين هتافات وأغنيات من أجل الكرامة والحرية والحياة الجديدة، ولم تعد حملات القمع والإرهاب توجه لأشخاص أو مجموعات، بل لمدن وقرى ولعموم سوريا، وجرى حصار وتدمير كثير منها وتهجير سكانها، وقد صار الأخير ظاهرة سورية، نقلت ملايين السوريين داخل البلاد، ونقلت ملايين إلى دول الجوار أو إلى الأبعد منها، وكله جرى وسط معاناة وآلام، لم يعرف العالم لها مثيلاً في تاريخه.

وبدا من الطبيعي، أن ينعكس التحول العام من النخبة إلى الجموع على حركة المعارضة والحراك المدني، وبدل المئات أو الآلاف الذين لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة في العقد السابق، صارت أعداد المعارضين والناشطين المدنيين بعشرات الآلاف، وانطلقت في خاصرتهم عشرات أخرى لتشكل جماعات مسلحة باسم الجيش الحر، قبل أن يتحول بعضها لاحقاً إلى جماعات إسلامية وإرهابية متطرفة، أو يتم تدميرها لصالح الأخيرة.

وسط تحولات العقد الثاني في الانتقال السوري من نشاط الأفراد والجماعات الصغيرة إلى الجموع، صار حضور ودور الرفاق محدوداً، بل إن توسع الجغرافيا السورية في انتقالها من مساحة الـ (185) ألف كيلو متر مربع إلى دول كثيرة، يزيد فيها عدد السوريين عن نصف مليون نسمة، وهو أمر ساهم مع غيره في تخفيف حضور ودور الرفاق وتغيير مسارات بعضهم في العقد الثاني، بل إن بعضهم غيّر مساره في أواخر العقد الأول.

لقد بدت أكثرية رفاق المسار الصعب في العقد الأول ممن شاركوا في موجة البيانات والمنتديات والاعتصامات والجمعيات المدنية والحقوقية وصولاً إلى إعلان دمشق مجموعة متماسكة، وملتزمة بما بدأته، ولا يقتصر دليل ذلك على استمرار الأسماء حاضرة ومتابعة في أغلب الفعاليات، بل يمكن تلمس دليل آخر في أن من جرى اعتقالهم في بداية تلك الفترة، عادوا للمشاركة في أنشطة الحراك العام، والقلة التي غابت، كان غيابها قهرياً إما بسبب الاعتقال الذي طال العديد من الشخصيات المعروفة أو السفر خارج سوريا أو الموت الذي طالهم كحال راحلنا أنطون المقدسي.

عند بداية العقد الثاني، كان أغلب الرفاق حاضرين، حتى السجناء منهم، كانوا أنهوا سنوات سجنهم في العام 2010 وبداية العام التالي، لكن عودتهم إلى نشاطاتهم كانت محدودة، لأن بعضهم اتجه الى إعادة ترميم أوضاعه، أو بفعل خلافات واختلافات مستمدة من تفاصيل تجربة العقد الماضي ولاسيما في تجربة إعلان دمشق، وكان لكل طرف أعذاره ومبرراته.

ولئن دفعت الأجواء، التي سبقت ورافقت انطلاق الثورة في آذار 2011 إلى إعادة تواصل وتقارب بين الرفاق، فإن ذلك لم يكن كافياً لطي ملف الخلاقات، لأن أشهراً مرّت كانت تظاهرات السوريين فيها تتواصل في كثير من المدن والقرى، وتتصاعد رغم التكلفة الكبيرة في الاعتقال والقتل والتهجير والتدمير، دون أن تدفع الرفاق للوصول إلى إطار تحالفي يجمعهم على غرار ما تم في إعلان دمشق عام 2005، كان إرث التجربة الماضية وحساسيات شخصية بين بعض الفاعلين والمراهنات الخاطئة أسباباً، وعندما تم إقامة جسم جديد للمعارضة باسم هيئة التنسيق الوطنية، جاءت النتيجة ناقصة فكرست انقساماً، لم يستطع أحد تجاوزه طوال العشر سنوات التالية.

لقد لخص العجز أو عدم قدرة أو رغبة الرفاق في توليد قوة موحدة تساهم في قيادة الثورة أو تقودها، ظواهر المرض عند غالبيتهم، وجزء منهم فاجأته الثورة فوقف يعيد ترتيب أوراقه، حتى ان بعضهم نسي أو تناسى تجربته المرة مع نظام الأسد وسنوات ملاحقته وسجنه الطويلة، وقرر البقاء قريباً من النظام بحجة المخاوف من الثورة وحواضنها الاجتماعية، وما قيل استباقاً عن أسلمة وتسليح الثورة، كان بعضاً من حملات النظام الديماغوجية.

والرفاق الذين ذهبوا إلى صف الثورة، أغلبهم إن لم نقل كلهم، اعتقدوا أن مكانهم في ظل الثورة هو القيادة، كاشفين بصورة لا تقبل الجدل عن جهلهم بالفارق بين لعب دور المعارض في مواجهة نظام آمن على نفسه، ودور القائد الذي يدير جمهوراً لا يعرفه بصورة جيدة من جهة، ويخوض صراعاً مع نظام كشف وجهه الدموي الى آخر الحدود، ولم يكن الوهم السابق إلا بعض واقع كثرت تحدياته، وكان بينه تشتت أغلب الرفاق في توجهاتهم، التي كانت مخفية في سنوات وجودهم في المعارضة.

ففي ظل الثورة، اعتقد أغلبهم، أن بعض التعبيرات الفكرية والسياسية ولاسيما الإسلامية، ستتمكن من فرض نفسها، فراح باتجاه التقرب منها وموالاتها قناعة أو تقرباً، وزاد البعض في ذلك إظهار بعض ميول في معاداة طائفة بعينها، وقد أشاد العديد من الرفاق في مرحلة ما بجماعات اسلامية متشددة، وقيل عن رفيق في مدينة الرقة، أنه كان على تواصل مع جماعات متشددة، الأمر الذي أدى إلى تغيبه، وتحالف عدد من الرفاق في تجربتي المجلس الوطني والائتلاف الوطني مع إسلاميين بينهم الإخوان المسلمين وتفرعاتهم، إضافة الى آخرين بينوا أكثر من مرة، أنهم يقاربون النصرة وداعش في كثير من آرائهم.

غير أن الأهم في مسارات الرفاق ومصائرهم، هو قيام أكثرهم بقطع الصلات بين بعضهم البعض، وهذا لم يحصل بين غير المتجانسين فقط، بل شمل حتى المقربين من بعضهم، وجرى خوض معارك معلنة بين الرفاق، لم يقتصر خوضها على الغرف المغلقة وحفلات النميمة، بل وصلت حد الكلام المكتوب في الصحف الذي جانب الحقائق، أو اخترع قصصاً لم تحدث في الواقع أبداً، وساق اتهامات غير حقيقية، تعزيزاً لجهوده في إدانة الآخر.

مسار الرفاق ومصائرهم، يستحق ما هو أكثر من حيز نحن فيه، لأن في التجربة كثير مما يستحق أن يُكشف ويقال، ليس لإدانة أحد ولا دفاعاً عن أحد، ولهذا أغفلت الأسماء، بل لأن هذه التجربة ورغم محدوديتها، فإنها تؤشر إلى بعض جوانب، فشلنا ليس باعتبارنا أشخاصاً وجماعة معارضة، بل كسوريين طحنتنا السنوات العشر الماضية، وما زلنا ندور بين حجري رحاها.

ما أحب أن أختم به هو خلاصة مختصرة. كان الرفاق الشجعان في العشرية الأولى من وجهة نظري مثالاً في الموقف من الشعب وقضاياه، متفهمين ومتفاهمين ومتضامنين أكثر، رغم كل ما أحاط بتلك التجربة من مشاكل وتحديات، وفي العشرية الثانية أثبتوا عجزاً وضعفاً وتشتتاً، أسقط دورهم، وأخرجهم على نحو عام من دائرة الصراع، ووضعهم على هوامشها، ماعدا قلة منهم بعضهم غيبهم الموت منهم حسين العودات والطيب تيزيني، وآخرين غيبهم الخطف والاعتقال كما خليل معتوق ورزان زيتونة وسميرة خليل وعبد العزيز الخير ورجاء الناصر واسماعيل الحامض، إضافة الى آخرين مازالوا يقبضون على الجمر، ويتابعون ما أمكن مسارهم الأول ولو بتعديلات طفيفة، وبقي أن أشير أخيراً إلى أنّ من كتب من الرفاق عن تلك التجربة، سعى لأن ينجو بنفسه، ويلقي العبء على الآخرين ليس أكثر.

أوراق

—————————-

بعد عشر سنوات على الثورة/ فواز حداد

لن يغيب سؤال الثورة، طالما ما استدعاها ما زال قائما، وإذا كانت في حينها قبل عشر سنوات حتمية، فقد كانت كذلك على مدار أربعة عقود سبقتها من تسلط العسكر والبعث، ما حول سوريا إلى دولة شمولية بات اسقاطها ضرورة إنسانية وتاريخية، وهدفاً مستمراً، ما زال اليوم مطلوباً، بعدما أضاف الطغيان خراباً واستبداداً، انتشر على الأرض السورية، حصيلته؛ ملايين الشهداء والمعاقين والمعتقلين والمغيبين قسرياً والمفقودين والمهجرين والنازحين، وأربعة احتلالات، وبلاد تنهب. ولم ينج الداخل من الغلاء والفقر وطوابير الخبز، حتى أصبحت الطبقة المتوسطة مهددة بالجوع. أما الأثرياء، فأثرياء الحرب.

لا يهم النظام سوى البقاء، ولو كان فوق الأشلاء والدمار، بحماية الروس والإيرانيين. أسباب الثورة متوافرة، ما زلنا في الضفة نفسها، وإذا كانت الوسائل وعدم القدرة مفتقدة حاليا، والمجتمع الدولي إن لم يكن عاجزاً، لا يرغب في التدخل. لا يعني هذا إلغاء الثورة من حساباتنا. وفي حال كان لها أن تحدث فبديناميكية مختلفة، فالحياة مفتوحة على احتمالات لا تنضب، طالما النظام يتهرب من الحل السياسي ومن قرارت الأمم المتحدة، ما دام تحت رعاية الفيتوات الروسية.

 الثورة مفهوم عريض، لو أن النظام لم يواجه المظاهرات الشعبية بالرصاص، واستجاب لمطالب المحتجين، لنجحت الثورة السلمية، وأدت إلى إصلاحات يعول عليها في إجراء متغيرات مع الوقت، ولو بالتدريج، لكن النظام لم يتنازل عن القمع والسجون والاعتقالات. لم تنجح الثورات في أغلب بلاد العالم، لكن حتى في هزيمتها أدت إلى حراك على المدى البعيد أسقط الدكتاتوريات، لولا إرادة التغيير لم تظفر الشعوب بالحرية والديمقراطية.

يمكن ابتداع أساليب متعددة، لإسقاط نظام الحكم: مدنية، سياسية، جهود دولية. فالثورة لا تعني العسكرية فقط، بل الاستفادة من السبل المتاحة. وإذا بدا في سورية، ألا بديل عن السلاح من فرط تعنت النظام، فلأنه لم يترك للسوريين حلا آخر، لكن ليس هناك طريق واحد للثورة.

نعم هناك حساب للخسارات، كانت أكثر مما تحتمله سوريا أو تطيقه، لكنها اضطرت إليه، ربما كانت الثورة السورية من أكثر الثورات التي سجلت خسارات فادحة في الأرواح والبنى التحتية وحصدت الموت والخوف، كذلك تصدع النسيج المجتمعي، ولم تعدم الأرباح، رغم أنها كانت ممزوجة بالفجائع والماسي، وهي أن الانسان السوري، لم يعد رهينة أكاذيب الدولة الشمولية ووعودها ومكرماتها، ولا يعتقد بالزعيم الأوحد، ولا بمهزلة الخلود والأبد. لم يعد ينظر إلى الدكتاتور وبطانته إلا كمجرمين، لن يخدعهم الأمان المبطن بالقتل والتهديدات، ولا النهب المبرمج. 

أما ماذا يعني البقاء على قيد الثورة، فهو أن يبذل كل منا أفضل ما عنده في أي مجال كان، سياسياً، اقتصادياً، إعلامياً، علمياً، فنياً، ادبياً…. يجب أن نتحامل على خسائرنا ونواصل العمل نحو تحقيق هدف واحد، دولة ديمقراطية مدنية تحت سيادة القانون، الجميع فيها سواسية.

إن في استغلال هذه النتائج، مهما كان مردودها، بامتحان أفكارنا وتجربتنا. يجب أن تكون لدينا الجرأة على مراجعة ليس السنوات العشر الماضية، بل منذ الاستقلال السوري، وما تبعه من انقلابات، إذ لا يمكن الخطو نحو المستقبل، قبل تصفية الحساب مع الماضي، وقراءته جيدا، لا القطيعة معه، كي نحمله معنا ذخيرة لا عبئاً.

أوراق

—————————–

بين ربيع الشعوب الأوروبية ١٨٤٨، والعربية ٢٠١١: عن مصائر الثورة السورية/ موفق نيربية

ليس احتفالاً وحسب بمرور عشر سنوات على حدثٍ تاريخي عظيم في حياتنا، ولا حزناً وحسب على مصائر ذلك الحدث ومصائر السوريين جميعاً، نكتب اليوم! هذه الذكرى لن تصل إلى معناها ما لم نأخذها بالعلوم الكبيرة: كالفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، وربّما يأتي بعض تلك العبرة على جناح المقارنات المختلفة.

فقد ثارت مثل نقاشاتنا الحالية هذه قديماً، بمناسبة مرور عشر سنواتٍ على ثورات ١٨٤٨ في أوروبا، واستخلص الباحثون هنالك وفي تلك الأيام استنتاجات متباينة، كما نفعل نحن السوريين مع المهتمين أيضاً… فتّش الأوروبيون في واقعهم خلال ذلك العقد من التاريخ، وفي آفاقه المحتملة.

من الطبيعي أن تُذكّر انتفاضات الربيع العربي بتلك الثورات الأوروبية، التي أُطلق عليها أيضاً اسم “ربيع الشعوب” أو “ربيع الأمم”.. مع أن الفارق بهذا المقدار من الزمن يصيب بالإحباط-وربّما الذهول- من حجم التخلّف الذي تخلّفناه عن العصر ومظاهر تطوره. ورغم ذلك، ربّما تكون إطلالة هناك وآنذاك عوناً لنا وتسهيلاً لتمرير ما لا يمرّ عادة بيسرٍ معنا هاهنا، وحالياً.

من أهمّ ما عالجه الباحثون في أوروبا يومها كان تفصيل وتجريد عوامل فشل ثورات ١٨٤٨، وقد اجتمعوا مع الزمان على إجمال ذلك في عدد منها:

– الافتقاد إلى الوحدة في تلك الثورات كلّها تقريباً. لم يتفق الاشتراكيون والجمهوريون في مهدها فرنسا… كان الاشتراكيون يحملون حماسة محدثي النعمة الذين اكتشفوا المبادئ والأفكار الاشتراكية لتوّهم مع ظهور الطبقة العاملة وإقلاع الثورة الصناعية في أيامها الأولى، وأرادوا تأسيس دولة اشتراكية على الفور ومسلوقةً بسرعة وعلى نارٍ حامية. في حين لم يقتنع الجمهوريون بذلك، وارتكز برنامجهم على تأسيس دولة ديموقراطية قائمة على الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، مع ترك النواحي الاجتماعية الاقتصادية لمراحل لاحقة، حتى تأخذ حظّها من التفاعل مع تحوّلات المجتمع والاقتصاد وتكريس مفهوم حديث للدولة… كانت نتيجة ذلك الصراع ذبح حوالي عشرة آلاف عامل اشتراكي آنذاك، وفشل الثورة.

في إيطاليا، كان هنالك من يريد جمهورية بقيادة مازيني، ومن يريد مملكة دستورية بقيادة ملك بيدمونت وسردينيا، أو من يريد فيدرالية موناركية على رأسها بابا الفاتيكان أيضاً. وانقسمت النمسا بما ورثته من الأمبراطوية الرومانية المقدسة، مع ميول قومية مختلفة في المجر وبوهيميا.. وهكذا في كلّ مكان.

– متانة وحدة الخصوم في وجه تلك الثورات كلّها تقريباً كذلك. فقد أظهر الحكام الرجعيون التزاماً بوحدة صفوفهم غير مسبوق، مدفوعين في الغالب باتفاقهم منذ التقائهم في فيينا بقيادة مترنيخ لتأسيس علاقات دولية جديدة في عام ١٩١٤، (بعدما عانوه من آلام الهزائم في غزوات نابوليون أوائل ذلك القرن، التي كانت بذور الثورة وأفكارها تتحرك في ركابها)… تحرّكت الجيوش الفرنسية -نفسها- لنجدة البابا في إيطاليا؛ والروسية لنجدة أمبراطور النمسا ومساعدته على قمع المجريين، ومثل ذلك في أماكن أخرى.

– انعدام الثقة بين “المكونات” في أكثر من مكان: بين تشيك وألمان بوهيميا مثلاً، وبين المجريين والصرب والرومان أيضاً، وغيرهم. وكان لتلك الظواهر أن تصيب مشاريع التغيير الكبيرة وتتعارض معها أينما ظهرت، وتسهم في فشلها.

– غياب القيادة والتنظيم والبرنامج الواضح، على الرغم من ظواهر عظيمة من المشاركة الشاملة في الانتفاض، مع روح جاهزة للتضحية والإقدام لم يكن لها مثيل في التاريخ. كلّ ذلك لم يكن ليثمر وينتج ما لم تكن هنالك قيادة على مستوى تلك الثورة، تلهم الثوار- السكان بوجودها بينهم، وتساعد على صياغة طموحاتهم في مشروع واضح لا لبس فيه، وتقوم بتنظيم طلائعهم السياسية والاجتماعية والعسكرية، كلٍّ في حقله ومكانه ومهمته. كان الثوار شراذم و”ميليشيات” فوضوية أمام جيوش منظمة وأسلحة أشدّ فتكاّ. بحيث لا يكون مصير الإقدام إلّا الموت المشرّف والهزيمة المحتومة، أو تحوّل تلك الشراذم إلى عصابات معزولة بعد أن كان خلفها مجتمعات كاملة داعمة.

– انعدام توازن وشمول الثورة، ما بين ريف ومدينة، وبين عمال وفلاحين أو طبقة وسطى، أو بين الجماعات الدينية المتنوعة.. وما في حكم ذلك. وقد ابتدأت انتفاضات عام ١٨٤٨ تلك في المدن والمناطق الحضرية، ولم تستطع إدماج الأرياف فيها على ما ينبغي ويلزم. ساعد ذلك على تحسين قدرة الخصوم على فرض الحصار والملاحقة، ومنع الثوار من ظهر وظهير ضروري كان يمكن للريف أن يؤمنه لهم.

هذا عموماً، وباختصار، ما أمكن ملاحظة تكراره بين أسباب فشل تلك الثورات لدى الباحثين.. لتلك الأسباب ذاتها رجعٌ وصدى واضحان وقويّان لدينا، مع أن الزمان مختلف والمكان، والعديد من الخصائص الجغرافية والتاريخية، والثقافية والإيديولوجية، وفي كلّ شيء؛ وليس ذلك علينا بغريب.. في الربيع العربي عموماً، أو- على الأقل- في سوريا.

لقد افتقدنا الوحدة في صفوفنا بقوة، رغم مظاهر الأمور في مجلسنا الوطني ثم ائتلافنا. وكان هذان أساساً قد قاما على اتفاق مباشر أو غير مباشر على إقصاء الآخرين، الذين لم يكن صحيحاً استبعادهم. في حقل المعارضة الديموقراطية التقليدية تمّ استبعاد القوى التي تجمّعت قبل وبعد ذلك في المنبر الديموقراطي وهيئة التنسيق الوطنية، وهؤلاء ليسوا قلة في سجلّات المعارضة الرسمية. تمّ أيضاً استثناء كتلة المثقفين الديموقراطيين التي كانت قد تجمعت سابقاً- كمثال- في إطار لجان إحياء المجتمع المدني؛ وحدث ذلك تحت شعارات الجذرية ومحاربة الوسطية والتساهل أمام النظام وسحقه حتى جذوره. وإضافة إلى ذلك، كانت قد فشلت محاولات تجميع وتوحيد قوى شباب الثورة التي ضمتها “لجان التنسيق المحلية” و”اتحاد تنسيقيات الثورة”، القوتين الأكبر في البدايات في الحجم والفعل على الأرض، لأسباب تتعلّق غالباً بالإيغو الجديد لدى عناصر كانت قد تربّت لدى بعض المعارضة الرسمية أو القديمة.

كان جوهر الفرقة عموماً يتعلّق بالاختلاف حول وجوب التركيز على “إسقاط النظام” أم على طبيعة “النظام القادم الجديد”، حين يأتي. وكان من الطبيعي أن يستهلك الأول الثاني بجاذبيته وراهنيته وإروائه للغليل!

أما اجتماع الخصوم ووحدتهم، فقد كان لهما شكل جديد تجلّى في مواقف تستبطن العداء الشديد للعملية الثورية الجارية في سوريا، وتشتغل في الوقت ذاته على استتباعها وتوريطها في الاتجاهات المسلحة والمتطرفة من جهة، أو السياسية المائعة المتخاذلة من جهة أخرى… وربما لم نعد بحاجة إلى توضيح الأمثلة على ذلك، بعد أن انفضحت الأمور وانكشفت… منذ البداية- على سبيل المثال- عملت قوى خارجية شتّى؛ تعارضت بعد ذلك فيما بينها أيضاً؛ على عزل القوى العسكرية عن تلك السياسية في مسار الثورة بشكل حاسم.

تراجع حجم الثقة بين “المكونات” أيضاً إلى أدنى مما كان عليه من قبل، ولم تدم فورة لقاء العرب والكرد بقيادة شباب الطرفين إلّا قليلاً، ريثما استطاعت القوى التقليدية لملمة صفوفها واستجماع قدراتها لممارسة أساليبها التقليدية. وكان ذلك يخفي نفوراً مخفياً وأصيلاً من الثورة ذاتها أحياناً، أو طموحات متنامية إلى الاحتواء أو الاستثناء في أحيان أخرى، أو انسجاماً وتوفيقاً مع أطرافٍ أخرى في حالة ثالثة. وحتى حين “لجأت” قوى المجلس الوطني الكردي إلى الائتلاف مثلاً وحققت اتفاقيتها معه، أخفى ذلك احتماءً من الخصم الداخلي (حزب الاتحاد الديموقراطي) الذي كان ظهوره الأكبر وهيمنته اللاحقة يلوحان في الأفق.. في حين لم يقم الائتلاف بتلك الخطوة إلّا- مكرهاً لا بطل- وتحت ضغط قوى عشائرية محلية ذات مصلحة، صدف أن كانت قوية في قيادة الائتلاف بدعم إقليمي وازن… جوهر هذه النقطة دائماً هو “غياب الثقة بين المكونات”، كما كان الأمر في أوروبا القديمة تلك.

لم يكن انعدام التوازن والشمول بعيداً عن أجوائنا كذلك. فقد ابتدأت الثورة السورية بتركيزٍ أكبر في المدن، في حمص ودرعا ودمشق وحماة واللاذقية وغيرها.. ثم استبسل النظام في محاولته منع استعادة التجربة المصرية والتونسية وميادينهما، وابتدأت نيران أسلحته بالتوجه مباشرة ضدّ ذلك التمدّد، كما ظهر واضحاً في ساحة العباسيين في دمشق ثم بشكل مأساوي في ساحة الساعة في حمص… ثم ظهر بشكل دفع إلى حسم تردد النظام بعد مظاهرات حماة ودير الزور الهائلة الحجم، المنذرة بالتغيير.

كان رد فعل الثوار والمعارضين هو اللجوء إلى الأبعد عن المدن والتعمق في الريف وحتى العشائر، ومن ثم التنظير لظاهرة الموقف الرمادي بين سكان المدن، في كبرى الحواضر، خصوصاً في حلب ودمشق… وما زالت هذه الظاهرة تفعل فعلها، وتتمظهر في اعتبار سورية قد تكثّفت في إدلب وريف حلب مثلاً، تحت شعار أنها أرض “محررة”. في حين لا تعالج سياسياً أوضاع أهالي المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام كلياً أو جزئياً، بل يتعمّق الانعزال عنها عملياً… ويجري مثل ذلك فيما يخص مناطق هيمنة مجلس سوريا الديموقراطية، التي تعتبر- عملياً وليس نظرياً- مسؤولية كردية محضة، يُحتفى بمعارضيها العرب والسريان والكرد ويُدفعون أحياناً إلى الأحضان أو المواقف العدمية، حتى تتكرّس وتتلاشى فاعليتهم الحقيقية.

غابت القيادة الفاعلة الشاملة أيضاً، وتفرّقت بين الداعمين أحياناً، وبين بقايا المعارضات التقليدية، أو استرخت في مهاجرها وملاجئها محبطة مستسلمة. وهي تعاني حالاتِ استرهان متنوعة، تركية وإماراتية وقطرية وسعودية ومصرية وروسية… من دون حصر ولا استثناء. يعاني بعضها أيضاً من مركبات نقص وحاجة إلى الوجود بأي شكل، فيلجأ إلى استسهال الميول الشعبوية الرائجة.. وذلك كلّ بعد فشل ذريع في ممارسة دور قائد، يوم كان لذلك مردود ونتيجة. ولم يكن ذلك ممكناً في ظلّ العقلية التي سادت منذ اليوم الأول للثورة، والتي تخضع لعقل ينطلق من الروح الانتقامية، أو التطرّف الإيديولوجي المحض، أو الاسترخاء الخائف المعتاد على المرونة التي لا تتوقف عند حدود.

لقد قام المجلس الوطني السوري في الجوهر من أجل تسهيل التدخل الخارجي والتحضير له؛ وقام الائتلاف الوطني بديلاً له عند ثبوت الحاجة إلى حل سياسي وتسوية؛ ولم تستطع قيادتا المجلس والائتلاف أن تحقق شيئاً لا لشعبهما وثورته، ولا حتى للهدف الذي أضمرتاه لتأسيس الكيانين المعارضين.

وصلت الحال إلى ما وصلت إليه الآن من تراجع مريع، ولا يمكن البدء- أي بدء- بالخروج منه إلّا بالاعتراف بالهزيمة والفشل أو الانكفاء… أو ما شاءت اللغة الماكرة. عندئذٍ وحسب، يمكن الاستثمار من جديد في التغيير الهائل الذي أحدثته الثورة في أهلها.

أوراق

————————–

لم تكن مجرد عشر سنوات/ هوازن خداج

أحاول التفكير بمقدمة ما، أكون فيها شاهدة على  عشر سنوات مضت أو مضينا فيها، لا أستطيع أن أجد تلك المقدمة؛ فمن الغرابة أن أكتب “عنها”، وأنا عادة أكتب “منها”  من هول مآسيها ومن ذلك الدمار الذي ثقب أرواحنا فاتحاً فجوة كبيرة لسؤال “ماذا بعد؟”، سؤال لا يسكن ولا يكفّ عن اختراق الوقت، فمع كل لحظة هناك ضحية تسكنني غصباً عني تصرخ لم كل هذا؟ وفي كل لحظة أحاول الفرار منها لالتقاط أنفاسي والبحث منطقياً في تفاصيل حدث ما سأكتب عنه،  لكني أفشل بإيجاد ذلك المنطق أو الكتابة بتجرد “حوله” فأنا أسقط مع كل حدث لأكون ضحية تكتب بأنفاسها كيف يمكن أن تنجو من كل هذا القهر.

سأترك المقدمة جانباً- في الحروب لا يهتم الضحايا غالباً بالمقدمات- لأكتب حول تجربة الكتابة التي خضت فيها خلال العشر سنوات، سأحاول التركيز في الإجابة وأهرب كما هي العادة من ملايين الأسئلة المُعلّقة، لأجيب “لم تتغير الأمور كثيراً” بالنسبة لي، هذا الجواب المشحون بكم من الأحلام والخيبات التي شكلت محور حياة لغالبيتنا في السنوات الماضية، واخترقت التفاصيل القليلة التي تمكنت من كتابتها عما حدث ويحدث.

قبل عشر سنوات

مثل الكثيرين غيري، لم أبدأ الكتابة في الصحافة مع الثورة، بل قبلها بسنوات طويلة، سنوات لم أخرج منها ولم تخرج مني، سنوات وأنا أضع يدي على فمي، كي لا تخرج “الكلمة” كما هي بلغتها الصافية الصريحة. وأقلب شريط اللغة على مهل أبتعد عن مسامير الكلمات الحادة، لأجد كلمة رخوة ليّنة لا تُحتسب إهانة لهيبة الوطن، ولنفسية الأمة، أكتبها وأنا أسأل إلى متى سيستمر هذا الكابوس ساكناً رؤوسنا؟. وغالباً، أؤجل الإجابة أو أهرب منها لأكتب عن “بلد آخر” لا بأس أن انتهكت هيبته قليلاً، وأزعجت بعضاً من نفسية أمته.

ولن أخفيكم أن ضوابطي النفسية كانت تسقط أحياناً، فقلمي كان يغدر بي، كما حدث في ذلك اليوم الذي كتبت فيه مقال “تنفسوا قبل أن يصبح الهواء مكرمة” هل تذكرون ” مكرمة المازوت” في العام 2008، أنهيت المقال بين السخرية والجدّ، لم أفكر أو أتردد حين وضعته على صفحات “الحوار المتمدن” هذا الموقع المحجوب في سوريا. فالكتابة عمل شاق ومغامرة في قول الحقيقة أمام عصا الجلاد، هذه الحقيقة التي أكملت سردها كمذنبة وجاحدة لنعمة الوطن، والضابط يحدثني عن الوطن وضرورة حب الوطن، وعن المكرمات وسيد الوطن.

لن أستطيع ببساطة أن أجمع كل الكلمات التي ارتمت في وجهي أو أصف لكم ذلك الوطن “الأمان، التعايش، التعليم المجاني، الطبابة المجانية….”، لكن أستطيع أن أخبركم بشعوري، كانت أنفاسي تضيق وأنا أُمسك صرخة “أريد هذا الوطن” فوطني لا يشبهه، إنه الصورة المعكوسة لكل ما تقوله، ولكني استبدلت الصرخة بكلمات رخوة زحفت من بين شفاهي لم أفهم القصة هكذا “عن المكرمات”، وصَمُتُّ حوالي ساعة أو أكثر أتابع فيها بقية حديثه “تهديد ووعيد عن سجن وقتل و…” وأنا أنتظر تنفيذ “عقوبة الوطن”، لكنها تأخرت ثلاث سنوات، ليس بالنسبة لي فقط بل لنا جميعاً.

خلال عشر سنوات

قد يُحب البعض أن يكتب عن بداية العشر سنوات، وقد يُحب البعض الآخر الكتابة عما حققته الصحافة الحرّة من فرص للصحفيين، وعن أقلام المبدعين وعن..  لكن سأتجاوز كل ذلك، فأنا لا أكتب مقالاً للتحليل أو للنقد، لأتابع ” لم تتغير الأمور كثيراً بالنسبة لي” الكتابة عمل شاق في الحروب، فكل لحظة هناك حدث ما يدفعك لتكتب أو تصرخ،  وكلما بدأت ترتجف الكلمات لتدخل في صلب الاستيقاظ من “حلم ما” عن الوطن، إلى “واقع ما” للوطن، وفي كليهما بقي الوطن ضيقاً خانقاً.

والأكثر من هذا أني صرت أفشل في الكتابة عن بلد آخر، كي أخفف حدة الألم وأنسحب من استعصاء القهر، أو أتجنب “فنجان القهوة” الذي يعرفه السوريون جيداً، لم أعد أستطيع ممارسة “التقية” والهرب من الكابوس. تحول كل شيء لزفرة طويلة أطلقها مع قراءة الصحف والتحليلات وسيل الكلام، فالأحداث تترصد بي في كل زاوية، ولم تعد الكتابة سوى زفرة طويلة، زفرة بلا نهاية أحاول أن أخفيها على الهامش غير المقروء من النص، وأتابع كتابة القهر، كنت أكتب “منه” لا “عنه”، من عمق الوجع الذي يعيشه الناس، أحياناً أُفلح في تقديم الصورة كحقيقة، وأحياناً أخفي هول الحقيقة بقليل من الأمل، وأستمر بالكتابة وأنا أُلصق فوق الجراح والندب بعض من الكلام الصحفي، أو ما نسميه “حكي جرايد” حول التغيير القريب وحول استحالة أن تستمر الأمور كما هي.

ولكن في ذلك اليوم الذي سألتني فيه “إحداهن” هل فعلاً تعتقدين أن هذا سيتغير وأنه سيكون هناك وطن لكل السوريين، وطن ننعتق فيه من “الرسن”، ونعيش بحرية بلا عصا الطاعة الطويلة؟ لم أستطع  في حينها إلا أن أقول الحقيقة، أني لا أعتقد ذلك بحدود الواقع الحالي.

لم تكن مجرد عشر سنوات

منذ بدأت الكتابة كان يحضرني سؤال: لماذا أكتب؟ ولم أستطع يوماً الإجابة بدقة على هذا السؤال، فأنا رغم ما كتبته من مقالات وأبحاث، لم أمتهن الصحافة بعد، فمهنة الصحافة تحتاج لحرية الفكر والطرح، وهذه لا أعتقد بأنها تحققت بالكامل خلال السنين العشر لأسباب مختلفة يعرفها كل العاملين بالصحافة. ومن بين كل الأسباب هناك سبب وحيد يقنعني بضرورة الكتابة، هو أني غارقة بالحدث وبارعة نوعاً ما بـ”النميمة” كونها أصل السلطة الرابعة، والفعل الحقيقي الذي يمارسه الصحفيون، كما يصفها “كتاب العاقل”، الصحافة هي “نميمة” عن المشكلات لتغييرها، وما أكثرها وأكبرها وأنا عالقة فيها، وغارقة بالبحث عن إمكانية النجاة.

ما حدث ويحدث لم يكن مجرد عشر سنين، إنه موت وضحايا ومختفين وتجويع وقهر من جهة، ومن الجهة الثانية إنه رغبات وأحلام وحقوق وإرادات، كلها تدفعني لأكتب، وكما كنت سابقاً أكتب على “أمل” أن يتغير كل شيء، ما زلت أكتب وأنا أحمل نفس الأمل وإن كنت أدرك أن أملي كان وما يزال مطعون بآلاف السكاكين، سأستمر علّه يصير حقيقة علّه يصير حياة.

أوراق

—————————-

طبول الحرب تهدأ فوق الخراب… وجروح السوريين تنزف/  إبراهيم حميدي

مر عقد على بدء الاحتجاجات السلمية في سوريا، ضمن موجات «الربيع العربي». يختلف السوريون على موعد الذكرى، كما يختلفون حول أمور كثيرة أخرى. وخلال السنوات العشر الماضية، تغيرت أمور كثيرة في الجغرافيا والعسكرة والنسيج الاجتماعي، وفي السياسة. ربما شيء وحيد لم يتغير كثيراً، ألا وهو المعاناة.

يتجادل السوريون حول الكثير من الأمور، وتفرقهم قضايا ومسائل، لكنهم جميعاً يشعرون بأنهم في مأزق، داخل البلاد وخارجها، مع أو ضد، عمل سلمي أو عنفي، في مناطق الحكومة أو خارجها. وبصرف النظر عن اللغة و«الداعم»، فهناك جامع واحد: المعاناة. قد تختلف درجاتها، لكن من الصعب العثور على شخص لم يتأثر بشكل مباشر في السنوات العشر المنصرمة. الاستثناء الوحيد هو فئة، قلة قليلة، استفادت في مكان وخسرت في أمكنة، استفادت في الجغرافيا وخسرت التاريخ، أو كسبت الجغرافيا وخسرت المستقبل.

تطوي سوريا اليوم عشر سنوات وتبدأ سنة جديدة. إنها مناسبة للعودة إلى جذور الأزمة ومراجعة ما حصل بالعقد الأخير مع محاولة لاستشراف السنوات المقبلة.

تنشر «الشرق الأوسط» اعتباراً من اليوم، حلقات تتضمن تقارير ميدانية وإحصاءات وخرائط وجداول عن عمق المعاناة الإنسانية في سوريا وخارجها، ومقالات من كتّاب وباحثين في محاولة لفهم مواقف اللاعبين الخارجيين الأساسيين في سوريا:

موجات «الربيع العربي»، بدأت شرارتها في نهاية 2010 في تونس وشمال أفريقيا. تأخر وصولها إلى سوريا. بدأت تجمعاتها بوقفات احتجاجية أمام السفارة الليبية في دمشق، لدعم الانتفاضات الأخرى، في «تحدٍ حذرٍ» للسلطات المقيمة في البلاد منذ عقود. كانت الهتافات تخاطب تونس وطرابلس والقاهرة، لكنها كانت «تتحدث» مع دمشق. همّ النشطاء كان نقل الشرارة إلى البلاد. ويقول الحقوقي مازن درويش لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، إن السؤال كان: «من هو البوعزيزي السوري؟»، في إشارة إلى البائع التونسي المتجوِّل الذي أضرم النار في نفسه في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010، وشكّل ذلك شرارة انتفاضة تونس.

وفي اعتقاده أن الشرارة كانت على جدران مدرسة في درعا جنوب البلاد، كُتب عليها: «أجاك الدور يا دكتور»، في إشارة إلى الرئيس بشار الأسد، ومصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي. واعتقل فُتيان من درعا وتعرضوا للتعذيب؛ ما دفع المحتجين للخروج إلى الشارع. خرجوا في درعا، وتظاهر آخرون في سوق الحريقة وسط دمشق في 17 فبراير (شباط). لكن اليوم الذي خرجت فيه المظاهرات في شكل متزامن هو 15 مارس (آذار) 2011، ما اعتبره كثيرون تاريخ «بدء الانتفاضة السورية».

كُسر جدار الخوف، وتحطم الصمت، واتسعت المظاهرات. تصاعدت مطالبها بسبب العنف والدعم الخارجي، من شعارات محلية مطلبية، إلى لافتات سياسة تطالب بـ«إسقاط النظام». وبلغت المظاهرات ذروتها في يوليو (تموز) 2011 بمسيرة ضخمة في حماة، وقف فيها سفراء، بينهم السفير الأميركي روبرت فورد. وتركت زيارته إلى المدينة يومها، انطباعاً بأن حلفاء المظاهرات يؤيدون شعاراتها ويدعمون «إسقاط النظام». وجاء تصريح الرئيس باراك أوباما في أغسطس (آب) 2011 عن «تنحّي الأسد» ليعزز هذا الانطباع الخاطئ.

– كيف تحولت إلى العسكرة؟

تراكمت مجموعة من الأسباب للانتقال إلى العسكرة. بداية، واجهت قوات الحكومة وأجهزة الأمن المظاهرات بالعنف والسلاح و«البراميل» والقصف والحصار واتهامات بـ«مندسين» بالقيام بذلك. وتحدث كثيرون عن إطلاق آلاف المعتقلين من المتطرفين كانوا في سجون السلطات، عدد كبير منهم قاتل الأميركيين في العراق بعد 2003، واستغلوا تجاربهم التنظيمية والقتالية في التوسع في الأرض. وهذا الأمر وضع الغرب بين خيارين: النظام أو «داعش».

في المقابل، تشكلت كتلة «مجموعة أصدقاء سوريا» التي دعمت المعارضة، بدءاً من المنشقين عن الجيش، الذي شكلوا «الجيش السوري الحر». كما كان لافتاً أثر الانقسام بين الدول الداعمة للمعارضة ووجود اتجاهات مختلفة فيها. ودعمت «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه) في نهاية 2012 برنامجاً سرياً لدعم المعارضة انطلاقا من الأردن وتركيا.

وخفت صوت المحتجين سلمياً، في وقت ذهب الدعم الخارجي إلى لاعبين آخرين، داعمين في معظمهم للنزاع المسلح. وفي 2012، حذر أوباما الأسد من استعمال الأسلحة الكيماوية، وقال إنها «خط أحمر». ويقول خبراء ومسؤولون غربيون، إنه عندما تجاوز النظام هذا الخط بعد عام، عبر هجوم كيماوي استهدف الغوطة الشرقية قرب دمشق في أغسطس 2013، امتنع أوباما عن القيام بتدخل عسكري انتظره كثيرون.

بالنسبة لكثيرين، كان تلك نقطة فارقة. كانت الفصائل المعارضة قد تمكنت من إلحاق خسائر كبيرة بالجيش السوري، الذي أضعفته أيضاً الانشقاقات. في المقابل، ساهم التدخل المبكر لإيران وميليشياتها و«حزب الله» في لجم تقدم المعارضة. لكنّ توصل روسيا وأميركا إلى اتفاق بنزع السلاح الكيماوي في سبتمبر (أيلول) 2013 وعدم استعمال القوة، أصاب المعارضين وحلفاءهم بالإحباط. والتطور الأهم هنا هو بدء تمدد تنظيم «داعش» والفصائل المتطرقة في البلاد، بحيث زادت سيطرتها على نصف مساحة سوريا.

– متى ولماذا تدخلت أميركا وروسيا؟

أمام تقدم «داعش» في سوريا والعراق في 2014، شكلت أميركا تحالفاً دولياً للقتال ضد هذا التنظيم، يضم حالياً نحو 80 دولة ومنظمة. وحددت أميركا هدفها بمحاربة «داعش»، وقلّصت دعمها للمعارضة في قتال قوات الحكومة. وفي بداية 2014، تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا. وكان هذا أيضاً منعطفاً؛ إذ إنه بدأ الربط بين أوكرانيا وسوريا. وقتذاك، لم تمارس روسيا أي ضغط على الوفد الحكومي السوري في مفاوضات برعاية أممية لتطبيق «بيان جنيف» الصادر في يونيو (حزيران) والقاضي بتشكيل «هيئة حكم انتقالية».

وإذ واصل حلفاء المعارضة دعمها عسكرياً ومالياً، بحيث تراجعت مناطق الحكومة إلى حدود 15 في المائة في ربيع 2015، بعد خسارة جنوب درعا ومناطق إدلب، وجد الرئيس بوتين فرصة سانحة سارع لاستغلالها، وتمثلت في التدخل العسكري المباشر. هذا التدخل جاء بعد رجاء من قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في صيف 2015 إلى الكرملين، للإسراع في التدخل و«إنقاذ الحليف السوري». والصفقة كانت كالآتي: روسيا في الجو، إيران على الأرض. والهدف: إنقاذ النظام – الحليف دون غوص روسيا في «المستنقع السوري»، كما حصل للاتحاد السوفياتي في أفغانستان.

التدخل الروسي الحاسم في سبتمبر 2015، غيّر المعادلات في الميدان تدريجياً لصالح الأسد، بعدما كانت قواته قد فقدت سيطرتها على نحو 85 في المائة من مساحة سوريا، تشمل مدناً رئيسية وحقول نفط. ووصلت فصائل المعارضة إلى مشارف دمشق. وبدعم من طائرات وعتاد ومستشارين روس، وبمساندة من مجموعات موالية لطهران، على رأسها «حزب الله»، استعاد الأسد زمام المبادرة، ونفذت قواته حملة انتقامية، متبعة سياسة «الأرض المحروقة» لاستعادة المناطق التي خسرتها.

– لماذا توغلت تركيا؟

قال الأسد في فبراير 2016، إن هدفه ليس أقلّ من استعادة كامل الأراضي السورية. وقال «سواءً أكانت لدينا القدرة أو لم تكن، هذا هدف سنعمل عليه من دون تردّد. من غير المنطقي أن نقول إن هناك جزءاً سنتخلّى عنه».

في نهاية 2016، بدأت الكفة تميل لصالح النظام؛ إذ استعاد الأحياء الشرقية من حلب. وتكرر هذا المشهد بـ«استسلام» مناطق معارضة أخرى جنوب البلاد ووسطها، بموجب اتفاقات تسوية تضمنت إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين إلى محافظة إدلب في شمال غربي سوريا، حيث يقيم قرابة ثلاثة ملايين نسمة حالياً، نصفهم نازحون تقريباً، في ظروف صعبة، تحت سيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً).

لكن هذه الاستعادة للأراضي، أدخلت البلاد في مرحلة جديدة، وهي تأسيس «مناطق النفوذ». وفي مايو (أيار) 2017، أسست روسيا مساراً جديداً مع تركيا وإيران يتمثل بـ«عملية آستانة». وكان الهدف، عسكرياً، التوصل إلى اتفاقات «خفض التصعيد» في درعا وغوطة دمشق وحمص وإدلب. عملياً، أدى هذا إلى مقايضات بين المناطق: مقابل استعادة شرق حلب، دخلت فصائل موالية لتركيا إلى شمال حلب، وشكلت «درع الفرات». ومقابل استعادة الغوطة وحمص، دخلت فصائل موالية لتركيا، في عملية «غصن الزيتون»، إلى عفرين، شمال حلب، في بداية 2018.

وأمام الدعم الأميركي لأكراد سوريا في قتال «داعش» شرق الفرات، خفضت تركيا سقف توقعاتها للعودة إلى المصالح الاستراتيجية، وهي منع كيان كردي على حدودها الجنوبية. فـ«درع الفرات» قطعت الطريق أمام تواصل كيان كردي من شرق الفرات إلى غربه، و«غصن الزيتون» قطع أوصال إقليم كردي محتمل. وتكرر هذا المشهد أيضاً في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، عندما تدخلت تركيا شرق الفرات وقلصت مساحة مناطق كانت تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من أميركا.

إضافة إلى التوغل التركي ضد الأكراد، اتسع القلق الإقليمي من النفوذ الإيراني في سوريا. وبدأت إسرائيل بشن غارات على «مواقع إيران» لمنع تموضعها في سوريا، كما أن أميركا وروسيا والأردن توصلت في منتصف 2018 إلى «صفقة الجنوب» التي تضمنت إبعاد إيران وميليشياتها عن الجولان والأردن، وعودة قوات الحكومة السورية إلى ريفي درعا والقنيطرة.

– كيف تأسست «مناطق النفوذ»؟

استقرت المعارك والمقايضات على ثلاث مناطق: منطقة للحكومة بدعم روسي – إيراني، وتشكل نحو 65 في المائة من سوريا، وتضم معظم المدن والناس، ومنطقة للأكراد بدعم أميركي وتشكل 23 في المائة من البلاد، وتضم معظم ثروات البلاد الاستراتيجية، وأخيراً منطقة لفصائل للمعارضة تدعمها تركيا وتسيطر على ما تبقى من البلاد، وهي تتاخم القاعدتين الروسيتين في طرطوس واللاذقية غرب البلاد، وقاعدة للنظام السوري.

وبعد جولة معارك في بداية العام الماضي، توصل الرئيسان بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان إلى هدنة في إدلب، في 5 مارس 2020، واستغل الجيش التركي ذلك ونشر نحو 15 ألف جندي وآلاف الآليات وعشرات النقاط والقواعد العسكرية في شمال غربي سوريا.

لأول مرة منذ 2011، لم تتحرك خطوط التماس لأكثر من سنة، أي منذ بداية مارس 2020. ويبدو احتمال شنّ قوات الحكومة هجوماً، لطالما هدّدت به، مستبعداً في الوقت الحاضر. ويقول محللون، إنّ من شأن أي هجوم جديد أن يضع القوتين العسكريتين، أي روسيا وتركيا، في صدام مباشر، في وقت تقوم بينهما علاقات استراتيجية أوسع من إدلب.

وفي هذه «المناطق الثلاث»، هناك الكثير من المقاتلين والقواعد العسكرية ومئات نقاط المراقبة تحت مظلتين جويتين أميركية شرقاً وروسية غرباً، بحث جاز القول بوجود خمسة جيوش في البقعة السورية، وهي الأميركي، والروسي، والإيراني، والتركي، والإسرائيلي.

أيضاً، تقاسمت هذه الأطراف السيطرة على الحدود والمعابر. وقال الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش، إنّ القوات الحكومية «تسيطر على 15 في المائة فقط من حدود سوريا». ويستنتج أن «الحدود هي رمز السيادة بامتياز، وبطاقة أداء النظام لا تزال فارغة تقريباً على تلك الجبهة». وتسيطر القوات التركية والأميركية والكردية والمجموعات المدعومة من طهران، بحكم الأمر الواقع، على ما تبقى من الحدود.

عليه، باتت البلاد بشكل غير رسمي مقسمة رسمياً إلى مناطق نفوذ متعددة، وتسيطر قوى متناحرة بشكل أحادي على معظم حدودها. وما على السوريين، الذين تتعمق جروحهم وتتفاقم معاناتهم إلا انتظار الفرج القادم من الآخرين وتفاهماتهم وصفقاتهم. وصدق قول أحدهم في دمشق «انتهت الحرب، بمعنى توقف القتال والمعارك، لكن جراحنا ما زالت تنزف».

الشرق الأوسط

———————–

 40 رسالة سورية ـ روسية توثق أصعب مراحل الأزمة/  رائد جبر

مع حلول الذكرى العاشرة للأزمة السورية، لا تزال تداعياتها مستمرة. حتى الروس حلفاء النظام، الذين عملوا طويلا على تعزيز قدراته، والدفاع عنه دوليا، وساهموا في إنقاذه، باتوا يطرحون كثيرا من الأسئلة التي تتعلق بأداء النظام وأركان الحكومة خلال السنوات الصعبة.

واحدة من قنوات الاتصال الثنائية النشطة التي هدفت إلى حشد تأييد لدمشق داخل الأوساط الروسية فتحها مكتب الرئيس بشار الأسد مع الدبلوماسي السابق رامي الشاعر الذي عرف منذ البداية بمواقفه المؤيدة لدمشق، وهو أحد المقربين من دوائر الخارجية الروسية. وعن تلك المرحلة، يقول الشاعر لـ«الشرق الأوسط» إنه مع احتدام الوضع في 2013 تلقى اتصالا من مسؤول في مكتب الرئاسة، عرف نفسه بأنه «مكلف من الرئيس الأسد للتواصل»، وشدد على أهمية فتح قنوات اتصال وتعاون بسبب تفاقم الظروف الصعبة، وأهمية حشد التأييد في الأوساط الروسية.

هذا الشخص الذي لم يكشف الشاعر عن اسمه كان صلة الوصل المباشرة بالأسد، وتبادل الطرفان عبر هذه القناة أكثر من أربعين رسالة، أوضح مضمونها كثيرا من التطورات الجارية على الأرض، كما أنه «زار موسكو نحو عشرين مرة لاحقا لمواصلة تبادل الرسائل والأفكار».

الجزء الأكبر من الرسائل التي اطلعت «الشرق الأوسط» على بعضها تمحور حول تطورات الوضع الميداني، وخطط دمشق لاسترداد المناطق، وجزء منها حمل «نداءات استغاثة مباشرة». ومن الجانب الروسي ركز جزء كبير من الرسائل على «نصائح» مرتبطة بطلبات لإبداء مرونة في تسهيل عمليات الحوار مع المعارضة في لقاءات جنيف وموسكو وسوتشي لاحقا، بهدف دعم الجهد الروسي في المسار السياسي. وهنا إحدى الرسائل القادمة من دمشق في 6 يوليو (تموز) 2013: «نضعكم في صورة الوضع الميداني، نحن نواصل سياسة الحصار والقضم والعزل. من خلال عزل شرق سوريا عن غربها بالكامل، وتم قطع الإمدادات والرواتب عن المناطق الشرقية لتحريك الحاضنة الشعبية ضد جبهة النصرة، ما يساعد على تأمين الأوتسترادات الدولية، في المحور الحيوي من حلب إلى درعا، ويقلص مساحة تحرك المسلحين ويضعف استخدامهم للصحراء. نعمل على عزل مدينة حلب عن ريفها تمهيدا لتحريرها مثل القصير (في ريف حمص في 2013) لذلك نعتمد على العمليات الخاصة لتسهيل اجتياح المدينة تحضيرا للعملية الواسعة الشاملة التي يسبقها قطع كل الإمدادات. في حمص تتواصل عملية قضم ما تبقى من المدينة خاصة بعد تجفيف إمدادها من القصير. وهي مسألة أيام. أما دمشق وهي أم المعارك فتقوم بعمليات واسعة ونوعية جدا في الغوطة الشرقية ونحضر ما يلزم من جمع المعلومات عن الوضع في الغوطة الغربية، والتي سيبدأ تحريرها من جوبر بعد النجاح النسبي في قطع الإمدادات بين الغوطتين. والنصر حليفنا (…) لكن يبقى الشغل الشاغل الانهيار الاقتصادي وقيمة الليرة التي إن لم تعالج سريعا فمن الممكن أن تسقط كل الإنجازات العسكرية».

يقول الشاعر إن أهمية الرسالة في ذلك التوقيت كانت أن النظام يعي جيدا أن «الوضع الاقتصادي يتدهور بسرعة ورغم ذلك لم يستجب لكل الجهود التي بذلها الأصدقاء للعب دور أساسي في السير بعملية الانتقال السياسي».

مع حلول نهاية العام، كان اتضح أن النظام لا يزال غير قادر على حسم المعارك، ووجه في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) رسالة الاستغاثة الأبرز التي جاء فيها أن «المسلحين باتوا على بعد 3 كيلومترات من مطار دمشق، ولا بد من تدخل عسكري روسي سريع».

وفقا للمصدر الروسي فقد كانت موسكو تعي خطورة المشكلات التي يواجهها النظام، ليس فقط بسبب تشديد عمليات المعارضة المسلحة، لكن بسبب أدائه وأخطائه، فضلا عن تركيبة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية الطائفية، وهو أمر خطير بسبب المخاوف الجدية من عمليات تطهير وانتقام واسعين. يعد هذا أحد أسباب التريث الروسي وإصرار موسكو على توجيه رسائل تحث دمشق على الانخراط في إصلاحية واسعة.

وفي رسالة وجهت من موسكو عبر هذه القناة في تاريخ 5 ديسمبر (كانون الأول) 2014: «نرجو أن تتجاوبوا مع الجهود التي تبذلها روسيا بخصوص إنعاش الحوار السوري – السوري بينكم وبين جميع مكونات المعارضة، والمبادرة من قبلكم لتشكيل الوفد الذي يمثلكم في جلسات الحوار مع وفود المعارضة وهذا مهم جدا جدا، وأي مماطلة فسيكون لها تداعيات صعبة بل كارثية على مستقبل سوريا ونأمل أن تتخذوا خطوة عملية محددة بهذا الخصوص خلال أسبوع».

الرد الرسمي على هذه الرسالة جاء في الأسبوع الأخير من الشهر، عندما أعلنت دمشق استعدادها للمشاركة في لقاء يضم المعارضة تعمل موسكو على تنظيمه، لكن كما حدث مع «نصائح» روسية كثيرة أخرى، برز تعنت من جانب النظام الذي ترك لنفسه تحديد طبيعة وهدف لقاء موسكو، إذ قال مصدر رسمي في 27 ديسمبر (كانون الأول) إن «دمشق مستعدة للمشاركة في لقاء تمهيدي تشاوري» في موسكو.

ولفت الشاعر إلى تطورين مهمين شكلا أبرز مفاصل التدخل الروسي: الأول، قناعة موسكو بضرورة تدمير السلاح الكيماوي السوري في 2013 ليس فقط بسبب التهديد بعملية عسكرية غربية، بل بسبب ظهور مخاوف جدية من خروج هذا السلاح عن السيطرة واستخدامه على نطاق واسع على خلفية تأجيج الحالة الطائفية ومشاعر الانتقام، ما يعني أن وقوع بعض مكوناته في أيدي إرهابيين كان سيشكل كارثة. وكانت موسكو تخشى من خطر استيلاء المجموعات المسلحة على الجزء الاعظم من أسلحة الجيش السوري و«هذا كان سيشكل خطرا استراتيجيا ليس في سوريا وحدها بل وعلى الأردن ولبنان».

التطور الثاني، ترسخ القناعة الروسية في خريف 2015 أن ما يفصل دمشق عن السقوط هو «أيام أو أسابيع على أبعد تقدير». ورغم الخيبة الروسية بسبب «عدم تجاوب القيادة السورية مع غالبية النصائح الموجهة إليها في الفترة السابقة، فلم يكن من الممكن تجاهل مخاطر انهيار الدولة السورية في تلك اللحظة».

—————————————

ليزيكو”: بعد عشر سنوات من الحرب في سوريا.. كارثة القرن

آدم جابر

“سوريا: بعد عشر سنوات من الحرب، كارثة القرن”، هكذا عنونت صحيفة “ليزيكو” الفرنسية، قائلة إن سوريا تُركت هي وأهلها على الأرض، وفي الوقت الحالي، لا شيء يوحي باتفاق بين المتحاربين.

فعدد الموتى متوقف حالياً عند 45 ألفاً، لأنه من المستحيل إحصاء الضحايا في مناطق معينة. واضطر نصف السكان إلى الفرار من ديارهم، إما للبحث عن ملجأ في الخارج (5.6 مليون)، خاصة في البلدان المجاورة (تركيا ولبنان والأردن)، أو في مخيمات داخل البلاد (6.7 مليون). وتراجعت مؤشرات التنمية في البلاد (محو الأمية، الصحة، التغذية) إلى مستوى العقود الماضية، وانخفض متوسط العمر المتوقع للرجال بمقدار أربع سنوات، ثلثا الأطفال لم يعودوا في المدرسة، لم يعد بإمكان جزء كبير من السوريين الحصول على مياه الشرب أو الكهرباء المنتظمة أو الخدمات الصحية اللائقة.

يتكرر نقص الغذاء، ومستوى الأسعار أعلى بحوالي ثلاثين مرة مما كان عليه قبل الحرب وسط تضخم جنوني، يغذيه انخفاض بنسبة 98% في قيمة العملة في غضون عشر سنوات. ويحتاج حوالي 13.4 مليون سوري إلى مساعدات إنسانية للبقاء على قيد الحياة، وفقا للأمم المتحدة. تم تدمير أحياء بأكملها في حلب، التي كانت الرئة الاقتصادية والصناعية السابقة للبلاد، تماما مثل بلدتها القديمة وأسواقها التاريخية.

السلام حلم بعيد المنال

“نحن أمام أسوأ أزمة على هذا الكوكب منذ عام 1945 من حيث نسبة اللاجئين في عدد سكان بلد أو منطقة”، تلخص لوسيل بابون، من منظمة هانديكاب إنترناشونال غير الحكومية، مضيفة أن “الأمر سيستغرق عقودا لتطهير المنطقة من الذخائر غير المنفجرة والألغام والذخائر العنقودية”.

فما يزال السلام مجرد حلم بعيد المنال، حتى لو كان القتال، بحكم الأمر الواقع، معلقا إلى حد ما منذ عام، تقول “ليزيكو”، موضحة ألا شيء يوحي باتفاق سياسي بين المتحاربين. النظام لا يدفع إلى أدنى تنازل. ثمة عقبة أخرى أمام السلام، وهي أن جميع القوى العالمية أو الإقليمية (إيران، تركيا، المملكة العربية السعودية، الولايات المتحدة، روسيا، فرنسا، المملكة المتحدة، إسرائيل)، باستثناء الصين، وجدت نفسها متورطة إلى حد ما بشكل غير مباشر في الصراع، الذي أصبح مسرح المواجهة بالوكالة، مع خطر اندلاع حرائق أوسع. وفي وضعية لا مثيل له في التاريخ المعاصر، تتابع “ليزيكو”.

وعليه، فإنه من الصعب تخيل اتفاق بين هذه الأطراف، أو احتمال أن يوافق بعضها على “تحمل خسارته” على الصعيد الجيوستراتيجي. اليوم- توضح “ليزيكو”- تتلخص المفاوضات بين المعارضة والنظام السوريين برعاية الأمم المتحدة في عمل لجنة دستورية، يبدو أنه محكوم عليها بالجمود، مع انعدام وغياب أي أفق على المدى القصير، لإعادة الإعمار.

—————————

10سنوات على انتفاضة السوريين ضد النظام: نصف الشعب مشرد والباقي يلهث وراء لقمة العيش

هبة محمد

تصادف اليوم ذكرى مرور 10 سنوات على انطلاق الثورة السورية، التي حوّلها النظام فيما بعد الى حرب ضد شعبه الذي شرّد نصفه هجرةً ونزوحاً، وألحق أضراراً هائلة بالبنى التحتية واستنزف الاقتصاد وقطاعاته، عدا عن دمار كبير لم يميز بين منزل ومرفق عام أو منشأة طبية أم تعليمية.

وبعد مرور 10 سنوات فقد النظام قراره لصالح النظامين الروسي والإيراني وتسبب بمقتل مئات الآلاف من الشعب الذي تشتت في أصقاع الأرض. فقد ذكر المرصد السوري لحقوق الانسان أن 388 ألف شخص على الأقل قتلوا منذ اندلاع النزاع الذي بدأ باحتجاجات سلمية ضد النظام سرعان ما قمعتها دمشق بالقوة، وفق حصيلة للمرصد.

ويمكن تلخيص حصيلة عشر سنوات وفقاً للمرصد بأن قرابة 5,6 مليون نسمة فروا خارج سوريا، معظمهم إلى دول الجوار لا سيما تركيا ولبنان والأردن، ثلثهم تقريباً من الأطفال من عمر 11 عاماً وما دون، حسب إحصاءات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين وهناك أكثر من 2,4 مليون طفل سوري خارج النظام التعليمي. وتقدّر الأمم المتحدة أن مليوني سوري يعيشون في فقر مدقع، فيما 12,4 مليون شخص داخل سوريا يكافحون لإيجاد طعام يسدّ رمقهم كل يوم، وفق برنامج الأغذية العالمي.

وستون في المئة من الأطفال في سوريا يعانون الجوع، حسب منظمة “أنقذوا الأطفال” (سايف ذي تشيلدرن). و 13,4 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وفق الأمم المتحدة، ومئة ألف شخص تقريباً قضوا جراء التعذيب خلال اعتقالهم في سجون النظام، حسب المرصد السوري، بينما لا يزال مئة ألف آخرون رهن الاعتقال. ومئتا ألف شخص هو عدد المفقودين، وفق تقديرات المصدر ذاته. وتسبب النظام بدمار هائل حيث ثلث المدارس تهدمت أو استولى عليها مقاتلون، بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”، وحيث سبعون في المئة من العاملين في مجال الرعاية الصحية فروا خلال سنوات النزاع، بينما دُمّر أو تضرر أكثر من خمسين في المئة من البنى التحتية الصحية.

ووصف البابا فرنسيس الحرب في سوريا الأحد بأنها أخطر الكوارث الإنسانية في هذا العصر، وقال إن الذكرى العاشرة لاندلاعها يجب أن تحفز الجميع للسعي إلى إيجاد “بصيص أمل” للبلد المدمر. ودعا الجميع لرمي السلاح والبدء بإعادة الإعمار. وقاد البابا الحشد بعد ذلك في صلاة من أجل “سوريا الحبيبة والمعذبة”.

وفي الذكرى العاشرة للثورة السورية، يتناقل رواد وسائل التواصل الاجتماعي شعار حملة إلكترونية أطلقوها تحمل عبارة “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة” لدعم ثورتهم، كما خرجت مظاهرات في أكثر من 10 مناطق في محافظتي إدلب وحلب شمال وشمال غربي سوريا في ظل احتفال الأهالي ونشطاء التنسيقيات والحراك الشعبي في معظم المدن والبلدات، للتأكيد على استمرار الثورة، تزامناً مع إصدار 60 رابطة وهيئة ثورية سورية بياناً مشتركاً، أكدت فيه رفض أي مساومة تتعلق بإسقاط نظام الأسد ورموز حكمه.

الباحث السياسي عبد الوهاب عاصي تحدث في الذكرى العاشرة للثورة السورية، عن الانتفاضة السلمية التي خرج بها السوريون و”كان رهان النظام السوري في غير محله، ويبدو أنّه سيبقى في حالة خسارة مستمرّة بعد أن فقد سيادته لصالح روسيا وإيران بشكل كامل، إذ لم يعد يمتلك استقلالية في القرار وممارسة السلطة”. وأضاف أن النظام السوري اليوم أمام خطر الانهيار الاقتصادي بعد أن فقدت الليرة المحليّة قيمتها مقابل سلّة العملات الأجنبية. وبرأي عاصي، فإنّ الثورة السورية رغم ما تعرضت له، فإنها لا تزال تمتلك أسباب الاستمرار، لا سيما حينما تدفع الظروف لتوافق المصالح بما يوفّر لها الحماية الدولية نسبيّاً.

تزامناً، طالب الاتحاد الأوروبي النظام السوري وحلفاءه بإنهاء القمع والإفراج عن المعتقلين وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، للوصول إلى حل سياسي ينهي النزاع.

من جانبه، تقدم الائتلاف الوطني السوري الأحد بتهانيه إلى أبناء الشعب السوري بذكرى انطلاق الثورة السورية، معتبراً أنها “أسقطت أركان نظام الرعب الذي بنته عصابة الأسد على مدار عقود، وقد بات الطريق نحو إتمام المهمة وتثبيت أركان نظام ديمقراطي مدني تعددي مسألة وقت، يزيد أو يقصر، بقدر ما نبذله من جهود وما نقدّمه من مساهمات”. وجددت تركيا، الأحد، تأكيد وقوفها إلى جانب الشعب السوري في مطالبه المشروعة، بمناسبة حلول الذكرى السنوية العاشرة للثورة الشعبية ضد نظام بشار الأسد.

——————————

إعلام الثورة السورية… عوائق أمام صناعة الحقيقة/ عماد كركص

عقد مضى على اندلاع الثورة السورية ضد النظام الحاكم الذي يرأسه بشار الأسد. خلال تلك الأعوام، استندت الثورة على أربع ركائز أساسية، هي: السياسة والعسكرة والنشاط الإنساني – الإغاثي والإعلام. والركيزة الأخيرة هنا، كانت أولى الركائز من حيث الترتيبات التي اعتمدت عليها الثورة لتصدير صورتها للخارج، ونقل الرواية من الضفة الأخرى المغايرة لما كان يصدره إعلام النظام للداخل والخارج، ما شكّل حالة داخل الثورة السورية، كان الإعلام سمتها الأبرز خلال انطلاق الثورة، وحتى ما بعدها، وصولاً إلى اليوم.

فيما بعد، تحولت هذه الحالة إلى شكل منظم أكثر، فظهر مصطلح “الإعلام البديل”، بعد أن أخذ النشاط الإعلامي الذي قام به شباب وشابات هواة يذهب باتجاه المأسسة، فوُلدت منصات إعلامية كبيرة وصغيرة ومتوسطة، من صفحات لها ملايين المتابعين، ومن ثم نشأت وكالات محلية والمواقع الإلكترونية واسعة التغطية والانتشار. كما برزت العديد من القنوات التلفزيونية، جميعها فتحت مجالاً واسعاً للرأي الآخر للتعبير عنه، حيث باتت أمام المتلقي السوري منابر متعددة للخبر والمعلومة، بعد أن كان لأكثر من خمسين عاماً أمام وسائل معدودة، جميعها تنطق برواية واحدة، أو موحدة قصداً، مصدرها وزارة إعلام النظام والمؤسسات الأمنية والحزبية التي تمر بها قبل خروجها إلى وسائل الإعلام أو عبرها.

ولا يمكن إغفال الدور الذي قدمته وسائل الإعلام العربية والعالمية، بفتح تواصل جديد ومن نوع خاص مع الحراك والقائمين عليه والناشطين بشقيه الإعلامي والسياسي، فكانت منبراً لهم للتعبير عن آرائهم، وعرض الرواية المحظور عرضها في إعلام النظام. كما أن تلك الوسائل استقطبت وأهّلت الكثير من الناشطين الإعلاميين، لا سيما الهواة، فدرّبتهم وصقلت قدراتهم وفسحت لهم المجال ليكونوا مراسلين لها، ما نقلهم من الهواية إلى الاحتراف.

لكن الأعوام العشرة الماضية، شهدت أيضاً تقلّبات داخل هذا المجال، أي “الإعلام البديل” الذي أنتجته الثورة السورية. فبعد أن كان محط استقطاب واهتمام ودعم دولي، تراجع هذا الدعم بشكل كبير، فتوقفت الكثير من المؤسسات وتراجع أداء ودور غيرها. وتلك التي صمدت إلى اليوم، تحاول الهروب من شبح توقف ما تبقى لها من دعم شحيح يساعدها على إكمال مسيرتها.

صحيفة “صدى الشام” الورقية والإلكترونية هي إحدى تلك الوسائل الإعلامية التي شكّلت مع غيرها ما عُرف بـ “الإعلام البديل”، الذي نشط إلى جانب الثورة السورية. تأسست الصحيفة بداية عام 2013، وقامت على دعم المنظمات الدولية المعنية بالشأن الإعلامي والحقوقي. سعت للاعتماد على الصحافيين المحترفين، سواء الذين غادروا البلاد أو تركوا المؤسسات الإعلامية لدى النظام وبقوا في مناطق سيطرته للاستفادة من تغطيتهم للأحداث هناك، لكنها أيضاً استقطبت عددا من الناشطين الإعلاميين الذين أفرزتهم الثورة، بعد أن درّبتهم وأهّلتهم ليقدموا مادة جيدة ومستوفية للمعايير الصحافية. توقفت الصحيفة عن إصدار النسخة الورقية منها بداية عام 2019، بسبب تراجع الدعم والتمويل لها، غير أن موقعها الإلكتروني لا يزال قيد العمل، وإنما يمر الآن بفترة توقف للصيانة، واستقطاب كوادر جديدة والبحث عن جهة داعمة تمكّن الصحيفة من إكمال مسيرتها وعدم التوقف، كما حدث مع غيرها.

ويقول مسؤول التحرير في الصحيفة، ريفان سلمان، إن “الإعلام البديل في الثورة، وفي البدايات تحديداً، ألصق بنفسه أنه إعلام غير موضوعي، وهذا ما حاولنا تجنّبه عند تأسيسنا لـ (صدى الشام)، فالكثير من الوكالات والصحف والمواقع التي تأسست على يد ناشطين لم يكن لديهم أي خبرة إعلامية سابقاً، تعاملت مع تقديم المعلومة على مبدأ (الردح) بينها وبين الطرف الآخر (إعلام النظام)، فغابت الموضوعية، ما جعل المصداقية أيضاً لديها محل شكوك”. ويضيف سلمان، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “دخول دعم المنظمات الدولية إلى تلك المؤسسات، شكّل عامل ضبط لسياستها فيما بعد، من خلال نقطتين: الأولى أن الكثير من الناشطين الذين تقدموا للاستفادة من دعم تلك المنظمات خضعوا لتدريبات مكثفة، الأمر الذي أدى إلى غربلتهم واختيار الأفضل، فبقي الأكفأ، وانتهى دور من لا يملكون أدوات مهنة الصحافة شيئاً فشيئاً. أما النقطة الثانية، فهي الضوابط التي وضعتها تلك المنظمات مقابل تقديم الدعم للوسائل الإعلامية السورية، ما جعل الإعلام البديل في سورية، في مرحلة متقدمة من عمر الثورة، أكثر مصداقية وموضوعية والتزاما أخلاقيا من إعلام النظام. فالمنظمات الدولية الداعمة كانت ترفض تقديم أي دعم لمؤسسة تصدّر خطاب كراهية أو تخالف مواثيق الشرف الإعلامي على سبيل المثال، وفيما بعد أصبح الوضع أفضل في هذه الناحية”. ويشير سلمان إلى أنه “مع تقدم عمر الثورة، وتغير المعطيات السياسية الدولية المحيطة بها، قلّ الاهتمام الدولي بالقضية السورية، ما انعكس على واقع الإعلام البديل الذي رافق الثورة السورية منذ بدايتها، لا سيما لجهة الدعم والاهتمام والمساندة”.

ماهر أقرع، صحافي شارك في تأسيس إذاعة “وطن” وموقعها الإلكتروني، ومقرها إسطنبول، عام 2012، إذ كانت من أوائل المؤسسات الإعلامية التي أنتجتها الثورة. وهي لا تزال إلى اليوم قائمةّ بعملها، لكن أقرع قرر اللجوء إلى أوروبا قبل أعوام، وهناك سعى لتأسيس صحيفة إلكترونية تحت مسمى “بروكار برس”. وانطلقت الصحيفة بشكل جيد في التناول والتنوع والأداء، لكن سرعان ما توقفت. وفي حديث مع “العربي الجديد”، يفسر أقرع أنه “لعقود طويلة، كان إنشاء موقع معني بالكلمة الحرة، حلما بعيد المنال بالنسبة للسوريين، وكان هذا الحلم يراودني باستمرار، إلى أن أصبح تحقيقه بعد عام 2011 ممكناً. وهنا تقاطع الحلم الشخصي مع ما فرضته الأحداث الجارية من متطلبات عامة، أبرزها الموقع الحر.. فكانت ولادة المشروع فكرةً عام 2018، وموقعاً خرج للضوء عام 2019 من زيوريخ في سويسرا. وكوني أسّست الموقع الإلكتروني لراديو (وطن) مع بدايات الثورة، كانت هناك صعوبات كثيرة، باعتبار أن العملية كانت في البدايات، أهمها ضعف الإمكانيات والخبرات وكيفية التعامل مع الأزمات، لكن مع مرور الوقت تغير كل شيء”. ويضيف: “عندما انطلق (بروكار)، كانت هناك خبرات تراكمية تكوّنت من خلال السنوات السابقة، فمن الطبيعي أن يتم تلافي ما وقعت فيه من صعوبات في تجربة الإعلام الجديد. ومع صحافيين شباب سوريين انطلق الموقع عام 2019، ومن ثم واجهنا مطبات في الوسيلة، شأننا شأن كل وسيلة إعلام. وأبرز هذه المطبات موضوع التمويل، وتأسيس كادر إعلامي مهني، في ظل تشتت جغرافي واسع على غرار الشتات السوري”.

وينوه أقرع إلى أنه “خلال مراحل الثورة هناك وسائل إعلام سورية أنشئت وأغلقت، لأسباب عديدة في غالبها مالية، ومع جائحة كورونا أصبح التمويل صعبا جداً، وتوقفت الكثير من المنح، وحاولت بروكار الاستمرار، لكن الإغلاق بشكل مفاجئ، أسبابه هجمات إلكترونية تتطلب قدرة مالية كبيرة لصدّها، وهذا ما لم يكن متوفّراً”. ويرى أن “كافة تجارب الإعلام بعد الثورة على اختلافها، برأيي، ناجحة، وفي كل مرحلة كانت هناك أدوات لمحاربة هذه الوسائل، ومؤخّراً من تجربة موقع (بروكار برس)، اتّضح أنّ الهجمات السيبرانية كانت في صدارة الأدوات المستخدمة ضدّ هذه الوسائل”. ويطالب أقرع المنظمات والجهات المعنية بدعم وسائل الإعلام العاملة حالياً، خاصة في موضوع الهجمات الإلكترونية.

يرى يحيى العريضي، وهو عميد سابق لكلية الإعلام بجامعة دمشق، وحالياً المتحدث الإعلامي لـ “هيئة التفاوض السورية”، أنه “رغم أن الإعلام البديل كان الناقل لصرخة الثورة الأولى، بإيصال ما يجري في البلاد، والشاهد على الممارسات الإجرامية للنظام بحق المنتفضين، من خلال كونه الكاميرا الميدانية ومحطة البث الحقيقية لانتفاضة الشعب السوري، بفتح أعين العالم على ما يجري في سورية، إلا أنه لم يرتقِ لما تطمح إليه الثورة السورية، ولا لتطلعات الشعب السوري الذي قدم الكثير من التضحيات”. ويضيف العريضي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “هناك جملة من الأسباب لذلك، في مقدمتها محدودية خبرة من عمل في الإعلام كناقل للصورة والخبر. إذ تصور البعض أن الإعلام مهنة من لا مهنة له، كما أن هناك ندرة في التدريب وضعفاً في التأهيل لبعض مَن انخرطوا في هذا المجال. ما ساهم أيضاً في إضعاف الإعلام البديل، هو الاكتفاء بالتغطية والنقل الميداني، وكأن الموضوع مادة خبرية تنتهي في مكانها. وجانب آخر، كانت الحالة الحماسية التي شكّلت معلما للرسالة الإعلامية المقدمة من قبل وسائل الإعلام البديل، وهذا أوقعها أحياناً في مبالغات انعكست على جانب المصداقية”.  ويشير العريضي، إلى أن “الإعلام المضلل لعب دورا في تشويه الصورة، فالبعض كان يعتمد الإعلام المضلل في إعلام الثورة كمصدر نتيجة قلة الخبرة، والطرف الآخر تنبّه لأهمية الإعلام. فبعد أن أُخِذَ إعلام النظام على حين غرة نتيجة عنصر المفاجأة، وكان في حالة يرثى لها، استنفرت فيما بعد كل الجبهات الإعلامية التي قدمت العون للنظام، من إعلام (حزب الله) وأبواقه، إلى الإعلام الإيراني وحتى الروسي، ثم أخذ إعلام النظام يتماسك، وبدأ يستخدم الكذب والتدليس بأسلوب محترف. وهو أساساً يمتلك بعض الخبرات التي تم توظيفها في هذا الجانب لتشويه الحقائق، وتم رصد الكثير من الأموال وجلبت الخبرات من الخارج، أما في إعلام الثورة فاصطدمت المؤسسات بالضعف المادي وعدم التخصص والمأسسة، فالإعلام مهمة صعبة، وتحتاج إلى أموال”. 

وينوه العريضي إلى أن “هناك بعض المؤسسات أدت ما عليها حقيقة في بداية الثورة، ثم دخلت في دوامات ركيكة أفقدتها بوصلتها، ما ساهم في التشرذم والضعف. كما أن قلة الاستقطاب للكوادر الإعلامية التي أثبتت خبرتها في مجال الصحافة بعد أن تعلمت من التجارب، كانت مشكلة في عدم إحراز تقدم أكبر في مجال الإعلام البديل للثورة للأسف”. وبحسب العريضي، فإن الإعلام العالمي أفرز جانبا مهما للثورة السورية، وخصص لها مساحة كافية، لكن الظروف الدولية والتغيرات التي لحقت بالثورة وظهور تنظيمات لا تخدم قضيتها، جعل الاهتمام الدولي وبالتالي وسائل الإعلام العالمية ينصرف عن الاهتمام، وربما بات لها موقف غير متضامن مع الثورة في مرحلة من المراحل”. ويختم: “بالمجمل، دخلت سورية في عالم الإعلام من أوسع أبوابه. ولحظة عودة سورية إلى حياة حرة ديمقراطية، سيكون إعلامها سلطة رابعة بحق. والفضل في ذلك لثورة الحرية والكرامة”.

العربي الجديد

———————-

تحولات علاقة الأكراد بالثورة السورية/ أمين العاصي

لم يتأخر الأكراد السوريون في الالتحاق بركب الثورة التي انطلقت قبل عشر سنوات من اليوم، ووجدوا فيها فرصة سانحة لاسترداد حقوق لهم سُلبت على مدى عقود. لكن اغتيال مشعل تمو، أبرز القياديين السوريين الأكراد، في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، شكّل فصلاً بارزاً بين مرحلتين في تعاطي الأكراد مع الثورة.

وفيما لم تكن العلاقة جيدة بين الأكراد والنظام منذ نشوئه، إذ كانوا يتعرضون للقمع كغيرهم من السوريين، إلا أن نظام بشار الأسد سهّل بعد اغتيال تمو تشكيل “وحدات حماية الشعب” الكردية، بهدف تطويق الحراك الثوري في المناطق الكردية. أما اليوم، وعلى الرغم من سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) بشكل شبه كامل على منطقة شرقي الفرات، فإن المشهد السياسي الكردي منقسم إلى أحزاب ومجالس عدة، ما يمنع الأكراد السوريين من تشكيل مرجعية سياسية واحدة تمثلهم في استحقاقات الحل السياسي.

تحوّلات تجاه الثورة

عمّت التظاهرات المدن والبلدات الكردية في الشمال السوري مع انطلاق الثورة في ربيع 2011، بدءاً بمنطقة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي، مروراً بمنطقة عين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمال الشرقي، وانتهاء بمحافظة الحسكة، التي تضم العدد الأكبر من الأكراد السوريين في أقصى الشمال الشرقي من سورية. كذلك نشط الأكراد في العاصمة دمشق، وفي مدينة حلب كبرى مدن الشمال السوري، حيث يشكل الأكراد نسبة عالية من سكان أحياء فيها، أبرزها الشيخ مقصود، والذي يضم نازحين أكراداً من عدة مناطق. وليست هناك إحصائيات واضحة عن عدد الأكراد أو النسبة التي يشكلونها بين سكان سورية، لكن المبعوث الأممي السابق إلى سورية ستيفان دي ميستورا كان قال إن نسبة الأكراد 5 في المائة من عدد السكان، بينما ترى هيئات كردية أن النسبة أكبر من ذلك.

لم تكن العلاقة جيدة بين الأكراد والنظام، الذي تشكل عام 1963، إذ كانوا كغيرهم من السوريين يتعرضون للقمع، الذي زادت وتيرته مع استلام حافظ الأسد السلطة في عام 1970، والذي جفف الحياة السياسية في عموم البلاد، وطاول قمعه جميع السوريين. وفي 2004 حاول الأكراد السوريون القيام بما وُصف لاحقاً بـ”انتفاضة الأكراد” على النظام، مدفوعين بما كان يجري في العراق عقب الاحتلال الأميركي. لكن المحاولة سُحقت من قبل النظام، ولم ينل الأكراد جراءها إلا المزيد من الإقصاء والتهميش، وتكلل في عام 2005 باغتيال الشيخ محمد معشوق الخزنوي، الذي علا نجمه في مناهضة سياسة النظام حيال الأكراد.

مع الأشهر الأولى من الثورة، حاول النظام استمالة الأكراد إلى جانبه من خلال عدة إجراءات، أبرزها منح الجنسية السورية لعشرات الآلاف الذين كانوا محرومين منها، ولكن شريحة واسعة من الأكراد اعتبروا الجنسية حقاً من حقوقهم لا يُغني عن حريتهم ومطالبتهم بزوال الاستبداد في عموم سورية. فلم يجد النظام بداً من إرسال رسالة للشارع الكردي المنتفض، فاغتال مشعل تمو الذي كان أحد أبرز وجوه الثورة، وكان يحظى باحترام جميع السوريين. وبعد حادثة الاغتيال، التي كان لها وقع كبير على مجمل المشهد الثوري السوري، سهّل النظام لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي”، الذي يُنظر إليه باعتباره نسخة سورية من حزب “العمال الكردستاني”، تشكيل “وحدات حماية الشعب”، التي تولت إدارة المناطق الكردية بعد تسليحها من قبل النظام نفسه لتطويق الحراك الثوري في تلك المناطق.

وانسحب النظام تدريجياً من الشمال السوري، معتمداً على الوحدات التي لطالما اعتبرها قوة رديفة لقواته. ونشأت علاقة مصلحة مشتركة بين النظام وهذا الحزب، الذي وجد حاجة النظام له فرصة لترسيخ وجوده في المشهد الكردي والتفرّد بالقرار، والحصول على مكاسب سياسية في حال القضاء على الثورة السورية من قبل النظام، الذي اعتمد على “الوحدات” الكردية في الشمال السوري ليركّز جهوده في أماكن أخرى من سورية. ونجح “الاتحاد الديمقراطي” في تحييد الشريحة الأوسع من الأكراد السوريين عن الثورة، التي كانت قد اتجهت إلى العسكرة نتيجة اتّباع النظام حلاً عسكرياً أمنياً، كان الهدف منه جرّ الثورة السورية إلى ميدان يُحسن التعامل معه.

ومع صعود تنظيم “داعش” عام 2014، وهجومه المباغت على منطقة عين العرب، التي تعد من أبرز المناطق الكردية، وجد الأكراد السوريون أنفسهم أمام تحدٍ كبير، فلم يكن أمامهم إلا التحوّل إلى ذراع برية للتحالف الدولي ضد الإرهاب، بعد أن رفضت فصائل المعارضة السورية لعب هذا الدور، بسبب اشتراط التحالف محاربة التنظيم دون النظام. وخاض المقاتلون الأكراد معارك دفاع عن عين العرب، بمساعدة طيران التحالف، انتهت بتراجع “داعش” وتدمير الجانب الأكبر من المدينة. وفي 2015، تعززت الشراكة بين “الوحدات” الكردية والولايات المتحدة، مع تشكيل “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) بقيادة كردية لمحاربة “داعش”. وخاضت هذه القوات الحرب ضد التنظيم على مدى أكثر من 3 سنوات، انتهت بسيطرتها بشكل شبه كامل على منطقة شرقي الفرات، التي تشكل نحو ثلث مساحة البلاد، وهي المنطقة الأغنى والأهم اقتصادياً في سورية، وتُدار اليوم من قبل “الإدارة الذاتية” ذات الصبغة الكردية، والتي كانت قد تأسست بدايات 2014 في شمال شرقي سورية.

ويقول نائب رئيس رابطة الأكراد السوريين المستقلين رديف مصطفى، في حديث مع “العربي الجديد”، إن علاقة الأكراد مع الثورة في سورية “مرّت بمراحل عدة. ففي البداية كانت قوية، وخرجت تظاهرات في أغلب المناطق ذات الغالبية الكردية للتضامن مع المدن السورية الأخرى، والمطالبة بإسقاط النظام. وأنا شخصياً كنت شاهداً ومشاركاً في هذه التظاهرات”. ويوضح “أن انقساماً حدث في الشارع السوري الكردي لاحقاً مع ظهور حزب العمال الكردستاني في سورية، من خلال الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية، وبالتعاون مع النظام”. ويشير إلى أن مهمة هذا الحزب “كانت مواجهة الثورة سياسياً وإعلامياً، والقيام بالاغتيالات ضد نشطاء الثورة وقمع التظاهرات. وسرعان ما سيطر حزب العمال الكردستاني، عبر أذرعه السياسية والعسكرية، بالقوة على الشارع الكردي، وتفرد بالقرار السياسي والعسكري والإداري والاقتصادي والأمني بالتعاون مع النظام، عبر سياسات الترهيب والترغيب”.

ويأسف مصطفى لأن “السوريين الأكراد في أوروبا بغالبيتهم وقعوا تحت تأثير الآلة الإعلامية الهائلة لحزب العمال الكردستاني، والتي لعبت دوراً في تحييد الأكراد عن الثورة”، مشيراً إلى أنه “ما زال كثير من الأكراد السوريين مع الثورة”. ويضيف “الأكراد السوريون كانوا قبل الثورة من أكثر الفئات تضرراً من نظام الطاغية الوراثي الذي أهدر الحقوق والحريات، وحوّل سورية إلى مملكة للرعب والصمت والمقابر الجماعية، لأنهم تعرضوا للظلم مرتين، مرة لأنهم سوريون ومرة لأنهم أكراد”. ويتابع “كان متوقعاً أن يضيف تحرير عفرين جمهوراً جديداً للثورة، ولكن هذا لم يحدث على نطاق واسع، لأسباب ذاتية تتعلق بآليات إدارة عفرين، وأسباب موضوعية”.

انقسامات وتشظٍ

وبنظرة على المشهد السياسي الكردي اليوم، تظهر تشظيه إلى أحزاب وهيئات ومجالس عدة، ما يعكس التباين العميق الذي يمنع الأكراد السوريين من تشكيل مرجعية سياسية واحدة تمثلهم في استحقاقات الحل السياسي. ويعد “المجلس الوطني الكردي”، الذي تأسس أواخر عام 2011، ويرتبط بعلاقة مميزة مع قيادة إقليم كردستان العراق، أبرز الجهات السياسية الكردية في سورية. ويضمّ المجلس، المنضوي في صفوف المعارضة السورية، 11 حزباً سياسياً كردياً سورياً، ويطالب بـ”الاعتراف الدستوري بالهوية القومية الكردية”، و”تحقيق اللامركزية السياسية في الحكم في سياق وحدة الأراضي السورية”.

ويشير المنسق العام لـ”حركة الإصلاح الكردي”، عضو “الهيئة الرئاسية للمجلس الوطني الكردي” فيصل يوسف، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن نضال الأكراد السوريين ظل مستمراً في العقود التي سبقت الثورة السورية “من خلال الاعتصامات أو التظاهرات، في مواجهة الاستبداد وسياسة الاضطهاد القومي التي مورست عليهم من قبل الأنظمة المتعاقبة، رافعين شعار التعددية والديمقراطية وإزالة السياسات الاستثنائية التي طبّقت بحقهم”. ويبيّن أن الأكراد “شاركوا في الاعتصامات التي جرت في دمشق منذ عام 2000 إلى جانب لجان إحياء المجتمع المدني ولجان التنسيق للقوى الديمقراطية”. ويضيف أن “الانتفاضة الكردية التي انطلقت في مدينة القامشلي عام 2004 تعتبر حلقة رئيسية في الدفع نحو تشجيع النضال الديمقراطي في عموم البلاد”. ويتابع “عندما انطلقت التظاهرات السلمية في البلاد عام 2011 إيذاناً بالثورة السورية، انخرط الشباب الأكراد في معظم المناطق الكردية في التظاهرات السلمية المطالبة بالديمقراطية ورفع الغبن عن الأكراد، وسميت إحدى جمع الثورة باسم آزادي (الحرية)”. ويضيف أنه “على الرغم من التحولات والتطورات التي أثرت على سير الثورة، إلا أن الأكراد ما زالوا من القوى العضوية المطالبة بتحقيق أهداف الثورة، وبناء سورية الديمقراطية التعددية لكل أبنائها من دون إقصاء أو تهميش”.

في المقابل، يبرز حزب “الاتحاد الديمقراطي” الذي يتفرد بالقرار الكردي في الداخل من خلال ذراعه العسكرية “قسد”، ويرفض مبدأ فك الارتباط بحزب “العمال الكردستاني”، ويطالب ببقاء “الإدارة الذاتية” في المناطق التي يسيطر عليها. وانخرط هذا الحزب في حوار مع النظام السوري على مدى سنوات، لكنه لم ينجح بسبب إصرار النظام على استرجاع منطقة شرقي نهر الفرات مقابل “حقوق ثقافية” للأكراد. كذلك دخل “الاتحاد” في حوار مع “المجلس الوطني” منذ نحو عام، بدفع من الولايات المتحدة، لترتيب أوراق البيت الداخلي الكردي في سورية، ولكن الطرفين فشلا حتى اللحظة في ردم هوّة خلاف واسعة بينهما.

العربي الجديد

————————–

الخيط الروسي والسجادة السورية/ غسان شربل

لم تكن زيارة «الربيع العربي» لربوعنا موفقة. نتحدث عنها كأننا نقرأ في رواية قديمة مؤلمة. يخالجنا شعور أن تلك الأحداث وقعت في زمن بعيد. وأن طبقات من التراب والنسيان غطت بقع الدم التي توزعت في العواصم والساحات. ومن حق المرء أن يتساءل ما إذا كان ذلك الربيع بكر أم تأخر. وما إذا كانت مجتمعاتنا ملقحة ضد الربيع والتغيير. الأكيد أن الربيع وجد مجتمعاً دولياً مستعداً للتصفيق وتحريض الثوار على مزيد من الأحلام، لكن من دون توفير التضامن السياسي والقانوني والإنساني في ساعة الامتحان. والحقيقة أنه يمكن معاقبة الربيع بوسائل عدة، خصوصاً حين يستولي المتشددون على المنابر والساحات، فيهجم الخوف على المجتمع، وتتحرك قوات الأمن لتبديد الخوف والربيع معاً. يمكن معاقبة الربيع بأساليب كثيرة في الشرق الأوسط الرهيب، لكن العقاب في سوريا كان الأشد، وكانت الحصيلة نظاماً منتصراً في بلاد مدمرة. فبعد عقد على الشرارة الأولى، تبدو سوريا حائرة وسط التدخلات والأعلام والخسائر والأرقام.

يمكن القول إن النظام السوري كان محظوظاً. إيران التي تعتمد لغة الدفاع عن المقهورين والمظلومين اختارت منذ اللحظة الأولى منع الربيع السوري من إنجاز أي تغيير في وضع النظام وتموضعه الإقليمي. كان تغيير النظام في سوريا يعني ببساطة قطع خط الاتصال بـ«حزب الله» في لبنان، وهو أكبر استثمار إقليمي لإيران، والدليل الدور الذي يضطلع به الحزب في حروب المنطقة.

تكاثرت التدخلات على أرض سوريا. وتدفقت الأسلحة وقوافل المقاتلين في مواجهة تميزت بوحشيتها، خصوصاً بعدما صار أسلوبها الوحيد هو أسلوب «الأرض المحروقة». لكن التجربة أظهرت أن الميليشيات الموالية لإيران ليست قادرة وحدها على منع سقوط النظام، بعدما اقتربت هجمات المعارضين من قلب دمشق. كان لا بد من البحث عن مظلة تنقذ النظام من السقوط، وتعطيه لاحقاً فرصة ترميم قدراته لاسترجاع المناطق الحيوية. وإذا كانت طهران كرهت الربيع حين اقترب من دمشق، فإن سيد الكرملين لا يحبه أصلاً. أسباب كثيرة شجعت فلاديمير بوتين على توجيه ضربة قاضية للربيع السوري. لا يحب بوتين الثورات الملونة، وبيانات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية الدولية، ويعتبرها مجرد أقنعة لرغبة غربية لانتهاك سيادة الدول. سبب آخر أشد وجاهة. تعسكرت الثورة السورية واستولى على صفوفها الأمامية المقاتلون الجوالون الذين سهّلت تركيا تسللهم إلى الأراضي السورية، فرفعوا شعارات «داعش» و«القاعدة». وكان بين هؤلاء عدد كبير من الوافدين من البلدان الخارجة من الركام السوفياتي، فرأى بوتين فرصة في أن يطاردهم على أرض سوريا، بدلاً من أن يطاردهم على أطراف روسيا أو داخلها.

قلب التدخل الروسي الموازين، وها هو الربيع السوري مجرد ذكريات. لم يعد إسقاط النظام مطروحاً، وأكثر ما تحلم به الدول الغربية هو أن يوافق الرئيس بشار الأسد الذي يقترب من الفوز بولاية رئاسية جديدة على إبداء مرونة باتجاه الحل السياسي، ولو أقل مما يطالب به قرار مجلس الأمن الدولي 2254. وعندما اعتبرت سوريا ساحة مفتوحة للتدخلات، تقدمت تركيا بدورها لتقويض الشريط الكردي قرب حدودها ولتحجز، على غرار إيران، موقعاً في أي مفاوضات مقبلة.

الخريطة شديدة التعقيد. الانتصار الروسي واضح لكنه ناقص. الإيراني شريك صعب، وهو تسرب إلى الأجهزة العسكرية والأمنية السورية، وإلى بعض المجتمع. وإسرائيل تشن حرباً لا هوادة فيها على التموضع الإيراني في سوريا، وبوتين يعطي نتنياهو صفة الشريك والصديق. وتركيا شريك معترف به منذ انطلاق مسار آستانة مع روسيا وإيران. أما الوجود العسكري الأميركي على الأرض السورية فهو وجود يرفع راية التصدي لـ«داعش»، لكنه يأمل في قطع طريق طهران – بيروت، أو مراقبتها على الأقل. الانتصار الروسي ناقص لأن موسكو ليست قادرة على قيادة عملية لإعادة الإعمار في سوريا، ولا قادرة على إعادة تأهيل النظام، وإعادة دمجه في المجموعتين العربية والدولية. وانتصار النظام ناقص أيضاً. لم يعد مهدداً بالسقوط عسكرياً، لكن التدهور الاقتصادي المريع عدو لا يقل خطورة. ثم إن القدرة على الإقامة الطويلة وسط الركام والأرقام المذهلة لعدد القتلى والجرحى واللاجئين والنازحين محفوفة بالعزلة والتآكل.

في ضوء هذه المعطيات، ومع وجود إدارة أميركية تتلمس طريقها في الشرق الأوسط، جاءت جولة سيرغي لافروف الخليجية التي شملت السعودية والإمارات وقطر. وكان لافتاً أن لقاء الدوحة الروسي – القطري – التركي أسفر عن إطلاق «مسار سياسي مواز لمسار آستانة». واضح أن روسيا الحاضرة حالياً في الملفات الليبية والأفغانية والسورية لا تملك وحدها القدرة على صناعة الحلول. تحتاج إلى تفاهم مع أميركا، وتحتاج أيضاً إلى دعم الدول الخليجية. ويعرف النظام السوري أنه غير قادر على تغيير واقعه الحالي من دون اتخاذه خطوات تشجع العرب على إعادته إلى الجامعة العربية، وتشجع الغرب على تليين العوائق التي تحول دون مساعدته على التقاط أنفاسه.

روسيا هي اللاعب الأول في سوريا الحالية، لكنها ليست اللاعب الوحيد. الخيوط الروسية لا بد منها لحياكة سجادة الحل في سوريا لإخراجها من الركام والتدهور الاقتصادي، وفتح الباب لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين. يحتاج الحائك الروسي أيضاً إلى الخيوط الأميركية والأوروبية والخليجية والتركية والإيرانية. سجادة الحل في سوريا ليست بسيطة، وتعرف روسيا وسوريا أن إدارة بايدن المهتمة بالاتفاق النووي مع إيران، واحتواء «الصعود الصيني»، قد لا تكون مهتمة بتمكين بوتين من تحقيق مثل هذا النجاح في سوريا من دون ثمن مقابل. هل يستطيع الأسد تسهيل مهمة الحائك الروسي؟

———————

المعتقلون والمغيبون: الجرح النازف في خاصرة سورية/ أمين العاصي

اهتز العالم بأسره منذ سنوات أثناء تأمله عشرات آلاف الصور لضحايا التعذيب من المدنيين السوريين في معتقلات النظام السوري، التي سرّبها مصور لدى النظام أُطلق عليه لاحقاً اسم “قيصر”، كان مكلفاً بتصوير جثث المدنيين من ضحايا التعذيب والقتل. وانتشرت أكثر من 55 ألف صورة لقتلى داخل معتقلات نظام بشار الأسد، تبدو على جثثهم آثار التعذيب بالكهرباء والضرب المبرح، وتكسير العظام، والأمراض المختلفة، ومن بينها الجرب، إلى جانب الغرغرينا والخنق. وبين القتلى فتيان تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عاماً، ونساء وشيوخ يتجاوز عمر بعضهم 70 عاماً.

فضحت هذه الصور ما يجري في معتقلات النظام منذ بدء الثورة السورية في ربيع عام 2011. وكان تسريبها سبباً مباشراً وراء قانون أميركي حمل اسم “قيصر”، بوشر تنفيذه منتصف العام الماضي، ويفرض عقوبات مشددة على النظام السوري والمتعاونين معه. وشُكلت عقب عرض الصور في الكونغرس الأميركي، لجنة تحقيق دولية لبحث جرائم الحرب المرتكبة في سورية، كشفت في تقرير لها من 30 صفحة صدر مطلع الشهر الحالي، أن “الإخفاء والاحتجاز لقمع المعارضة سمة مميزة لعقد من الصراع في سورية”. وبيّنت أن “الرقم الفعلي للمعتقلين الذين ماتوا في المعتقلات ليس معروفاً، لكن التقديرات المتحفظة تشير إلى أن عشرات الآلاف قُتلوا في عهدة الحكومة منذ عام 2011”.

وخلال سنوات الثورة، ظهرت إلى العلن مئات الشهادات من معتقلين خرجوا من السجون، تبيّن أن ما يجري فيها من عمليات تعذيب وتصفية، دفعت منظمة “العفو الدولية” إلى وصف سجن صيدنايا الشهير في ريف دمشق الشمالي الشرقي بـ”المسلخ البشري”. وفي تقرير لها صدر في بداية عام 2017، ذكرت المنظمة أن إعدامات جماعية شنقاً نفّذها النظام بحق 13 ألف معتقل، أغلبهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015. ووصفت المنظمة سجن صيدنايا العسكري بأنه “المكان الذي تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء”. وكانت منظمة العفو قد وثقت، في منتصف عام 2016، مقتل 17723 معتقلاً، في أثناء احتجازهم في سجون النظام السوري، ما بين مارس/آذار 2011 وديسمبر/كانون الأول 2015، أي بمعدل 300 معتقل كل شهر.

اعتمد النظام السوري سياسة القبضة الأمنية للاستمرار في السلطة منذ عام 1970، تاريخ استلام حافظ الأسد للحكم في البلاد، وبرزت سجون مثل صيدنايا وتدمر ومطار المزة العسكري وسواها، امتلأت بالمعتقلين من مختلف التيارات السياسية. واستمر بشار الأسد في نهج أبيه في سياسة الاعتقال مع توليه السلطة في عام 2000، والتي تفاقمت مع بدء الثورة، فامتلأت السجون والمعتقلات، وبات لكل جهاز أمني سجونه، بل إن المليشيات المحلية والإيرانية أنشأت معتقلات خارج إطار النظام، لا أحد يملك معلومات عن عدد الموجودين داخلها، أو من قُتل تحت التعذيب فيها.

وعن ذلك، يقول عضو لجنة المعتقلين في هيئة التفاوض التابعة للمعارضة السورية، طارق الكردي، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن عدد المعتقلين في سجون النظام الموثقين أقل من الرقم الحقيقي، مشيراً إلى أن قدرة الوصول إلى عائلات المعتقلين في مناطق النظام تبقى محدودة. ويلفت إلى أن “أغلب توثيقات المنظمات المختصة تتحدث عن 125 ألفاً إلى 140 ألف معتقل”، لافتاً إلى أن صور “قيصر” وثقت آلاف القتلى تحت التعذيب “ولكن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك”. ويضيف أن “صور الأقمار الصناعية تؤكد وجود مقابر جماعية، ما يشير إلى ارتكاب نظام الأسد جرائم تقشعر لها الأبدان بحق السوريات والسوريين في المعتقلات”.

وينوّه الكردي إلى أن “حزب الله لديه سجون تُرتكب فيها كل الانتهاكات بحق السوريين”، كما أن “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) تمارس الاعتقال والإخفاء القسري في منطقة شرقي الفرات. ويشير إلى أن “الجيش الوطني السوري” التابع للمعارضة، لديه أيضاً سجناء وأشخاص موقوفون على ذمة التحقيق في قضايا إرهابية. ولا ينكر وجود أبرياء في سجون “الجيش الوطني السوري”، وأن هناك تجاوزات بحق المعتقلين، مضيفاً: “لكن هذه التجاوزات إن وجدت ليست ممنهجة ولا تمارس نتيجة أوامر”. ويشدد على أنه “لا يمكن تحقيق سلام مستدام من دون عدالة”، مشدّداً على ضرورة أن يتضمن الدستور الجديد لسورية ضمانات تحقيق وتفعيل آليات العدالة الانتقالية وجبر الضرر للناجيات والناجين وعائلات الضحايا.

من جهته، يلفت المشرف على ملف المعتقلين في الائتلاف الوطني السوري المعارض، ياسر الفرحان، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن الجهات الدولية “لم تستطع طيلة عشر سنوات اتخاذ إجراءات فعلية لإلزام النظام بالإفراج عن المعتقلين وتغيير سلوكه”، مضيفاً أن “هذا النظام مجرم بطبيعته، ولا بد من تغييره وتحقيق انتقال سياسي ينهي عذابات السوريين”.

ويكشف الفرحان عن تحرك دولي “نشط” لمحاسبة النظام السوري على جرائمه، لافتاً إلى أن المجتمع الدولي ينتقل من مرحلة التوثيق والرصد والتقصي إلى مرحلة المحاسبة والمحاكمة لرموز هذا النظام. ويتحدث عن تحرك في هولندا وفي كندا لمحاسبة النظام، لإخلاله بالمواثيق الدولية، إضافة إلى “قانون قيصر”، وإجراءات في مجلس حقوق الإنسان، لكنه يستدرك أن المعتقلين في سجون النظام ما زالوا يتعرضون للتعذيب والتصفية الجسدية.

ويؤكد الفرحان أن “الهيئة الوطنية للدفاع عن المعتقلين والمفقودين” التابعة للمعارضة السورية تعمل على أن يبقى هذا الملف أولوية في كل اللقاءات والاجتماعات الإقليمية والدولية، وبناء الأدلة التي تدين النظام، والعمل على إنصاف المعتقلين، فالناجون والناجيات من معتقلات نظام بشار الأسد لم ينصفوا حتى اللحظة. ويطالب بتشكيل “تحالف دولي تكون المعارضة السورية جزءاً منه لفتح السجون أمام المنظمات الدولية والمراقبين لإنقاذ من بقي من المعتقلين ومحاسبة المسؤولين عن المأساة المستمرة منذ 10 سنوات”.

وفيما يتعلق بأرقام المعتقلين والمفقودين والقتلى تحت التعذيب في سجون النظام السوري، يوضح الفرحان أن هناك تكاملاً مع جمعيات المجتمع المدني التي ترصد وتجمع، لكن الأرقام لا تزال غير دقيقة، لأن هذه الجمعيات وثقت أسماء من استطاعت الوصول إليهم وجمع بياناتهم، فيما هناك عدد كبير من السوريين لم يسجلوا بيانات أبنائهم المعتقلين أو المختفين قسراً خوفاً عليهم من أعمال انتقامية من قبل النظام.

وكانت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، وهي جهة مستقلة معنية بتوثيق الانتهاكات من مختلف أطراف الصراع بحق المدنيين في سورية، قد أكدت أن هناك ما لا يقل عن 99479 شخصاً لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد أطراف الصراع والقوى المسيطرة منذ مارس/آذار 2011، وحتى أغسطس/آب من عام 2020، أكثر من 82 في المائة منهم لدى النظام السوري. كما بيّنت الشبكة أن 149391 شخصاً لا يزالون قيد الاعتقال منذ مارس 2011 وحتى مارس الحالي، أكثر من 87 في المائة منهم لدى النظام السوري.

ووثقت الشبكة مقتل 14506 معتقلاً تحت التعذيب من قبل مختلف القوى المسيطرة في سورية منذ عام 2011، أكثر من 98 في المائة منهم قضوا في معتقلات النظام. وأوضحت الشبكة أن أطرافاً عدة لجأت إلى سياسة الاعتقال والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب في سورية إضافة إلى النظام، منها “قسد”، وتنظيم “داعش”، و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، وفصائل المعارضة السورية، وجهات أخرى. وأشارت إلى أن هناك آلاف الأشخاص اعتقلوا من قبل الجهات المذكورة منذ بدء الثورة السورية وحتى اليوم، يأتي في مقدمتها تنظيم “داعش”.

وفي السياق، أوضحت الشبكة في تقرير صدر منذ أيام أن قرابة 9264 امرأة ما زلن قيد الاعتقال أو الإخفاء القسري، 8029 لدى قوات النظام، و255 لدى “داعش”، 43 لدى “هيئة تحرير الشام”، و761 لدى قوات “الجيش الوطني السوري” وفصائل المعارضة المسلحة، و176 لدى “قسد”. ويوضح مدير الشبكة فضل عبد الغني، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن المعتقلين في سورية “هم مخطوفون، لأن الاعتقال يتم من دون مذكرة اعتقال قضائية ومن دون تهم، ويتحول معظم المعتقلين إلى مختفين قسرياً”. ويشير إلى أن على المجتمع الدولي “محاربة الجرائم ضد الإنسانية التي يقوم بها النظام السوري”، معتبراً أن المجتمع فشل في أداء هذه المهمة، بل لم ينجح في كشف مصير معتقل واحد.

————————-

“خارطة سوريا الموسيقية”: مئة أغنية موثّقة

شكّلت الأغنية تعبيراً أساسياً لدى الجماهير السورية لحظة نزولها إلى الشارع للاحتجاج ربيع عام 2011، وظلّت كذلك مع تأسيس العديد من الفرق الموسيقية في المنافي التي احتضنت العديد من الفنانين، وبدأت تقديم أشكال موسيقية جديدة لم تكن ضمن اهتمام الأجهزة التي تدير الثقافة طوال حكم البعث، وحملت مضامين أغنياتهم أحلام التغيير.

في مسار موازٍ، استعادت هذه الفرق التراث السوري المتعدّد في مناخاته الإيقاعية واللحنية في سياق التمسّك بالهوية والجذور ردّاً على النفي والإقصاء، وبرزت مشاريع عديدة كان آخرها إطلاق موقع إلكتروني باسم “خارطة سوريا الموسيقية” الجمعة الفائت، على الرابط التالي: https://www.syriamusicmap.org/ar/home

المشروع بدأ عام 2018 بالبحث وتجميع المواد الموسيقية من داخل سورية، ثم تسجيل العديد من المقطوعات الموسيقية مع خرّيجي مدرسة “العمل للأمل للموسيقى” في بيروت، ليصل مجموعها إلى مائة أغنية تمثّل جميع المناطق السورية، وتعكس عمقها الحضاري، حيث يشير تقديم الموقع إلى أنه من الصعب الحديث عن الموسيقى في سورية المعروفة اليوم، دون التطرق إلى المشهد الموسيقي في ما كان يعرف بـ “سوريا الكبرى”، بل في المشرق العربي كله بتراكمه الآشوري والفارسي والإسلامي، وامتداده المغاربي والأندلسي..

بحسب هذه الرؤية، تبرز التقاطعات مع دول الجوار مثل العراق وتركيا، وكذلك العلاقة الوثيقة مع المشهد الموسيقي في مصر، كما لم يغفل المشروع “تأثير الأشكال المتعددة للموسيقى الدينية المسيحية والإسلامية الذي تعدى الممارسات الدينية وظهر في الموسيقى الدنيوية”.

ضمن هذه الخريطة، انقسم الموقع إلى قوالب غنائية رئيسية أهمها الموشحات التي تعدّ حلب إحدى أبرز الحواضر التي احتضنتها، ويمكن الاستماع إلى نماذج عدّة منها مثل موشّحي “ما احتيالي” من ألحان أبو خليل القباني، و”أعد لنا” من ألحان أم محمد التلاوية.

يضيء الموقع أغاني الريف “الغناء الشعبي”، الذي يعبر في أغلبه عن مواضيع الزراعة والحصاد والمطر والموجود بشكل أساسي في الجزيرة السورية والبادية، ومن أبرز أنواعه العتابا الشروقية والعتابا السويحلية، النايل، والقصيد البدوي، والموليا، واللالا، والهجيني، إلى جانب الأغنية الماردللية التي يمتزج فيها تراث العرب والأكراد والسريان والأرمن والتركمان والإيزيديين مثل أغنية “ضلال” التي يحفظها الموقع، وكذلك “شكرية” من التراث الكردي، “نخ الجمل” وهي من قالب الحداء الشعبي، وغيرها.

لا يغيب الترتيل السرياني الذي يرتبط بالسريان الذين يعيشون في الجزيرة وفي دمشق وحلب وحمص حيث يتضمّن الموقع تسجيلات لتراتيل مثل “شوبحو” و”عمانو موريو”، وأغاني غير دينية باللغة السريانية ومنها أغنية “أوه حبيبو” للمطرب حبيب موسى.

كما يوثّق المشروع أذان الجامع الأموي الجماعي، وهو أكثر ما يميّز التراث الموسيقي الإسلامي في سورية، إذ يجتمع أكثر من عشرة مؤذنين، عند مئذنة العروس عادة، ويطلقون الأذان بصوت جماعي واحد، ويروى أن هذا الطقس بدأ في أواخر القرن الخامس عشر حين كان يجتمع الحجاج فيها لينطلقوا إلى مكة، لذلك لجأ المؤذنون إلى الأذان الجماعي ليًسمع الصوت في كل مدينة دمشق.

ويوضّح القائمون على المشروع أنهم حاولوا بقدر الإمكان أن يفلتوا من القضايا الموسيقية الخلافية: ما هو التراث الموسيقي؟ وما هو الفرق بين الشعبي والتقليدي والتجاري؟ وأين يكمن بالتحديد الموطن الأصلي لهذا النوع من الموسيقى أو ذاك؟ من خلال “الانتصار للقيمة الفنية أولاً، وللمتعة والبهجة ثانياً”، لافتين إلى أن أكثر من ثلث المقطوعات في الخارطة هي من أداء خريجي ومعلمي “مدارس العمل للأمل للموسيقى” في لبنان والأردن.

—————————–

فنانون سوريون في صفوف المعارضة وآخرون موالون وفصيل ثالث/ عماد كركص

عشرة أعوام مرّت على انطلاق الثورة السورية. خلالها، تبدلت اهتمامات السوريين، بعد الحرب الهمجية التي شنت عليهم من قبل النظام. لكن مع بداية الثورة، كانت أنظار السوريين، موالين ومعارضين، تتجه نحو الوسط الفني، وتحديداً تجاه الفنانين والممثلين المشتغلين في قطاع الدراما، التي تعتبر إحدى الواجهات الثقافية لسورية منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، فكانت الرهانات حاضرة على من سيقف مع هذه الضفة أو مع مقابلها.

سرعان ما بدأت عملية الفرز، فاختار قلة من الفنانين والممثلين السوريين، الوقوف إلى جانب الثورة، فيما اختارت شريحة أخرى الوقوف إلى جانب النظام والدفاع عنه. غير أن الصامتين، أو ضامري الموقف، كانوا الشريحة الكبرى في الوسط الفني، لأسباب مختلفة خاصة بهم، وهي متعددة وصعبة الحصر. بيد أن كثيراً من الصامتين، فسروا في ما بعد صمتهم على أنه معارضة وعدم قبول لهمجية النظام في التعامل مع الحراك، وقمعه والمجازر التي ارتكبت، ولا سيما أن الكثير من عناصر تلك الشريحة، باتوا خارج سورية.

لاحقاً، تغير كثير من مواقف الممثلين والفنانين المؤيدين للنظام، ليس لصالح المعارضة، ولكن ضد فشل النظام بتلافي الأزمات المعيشية التي تعيشها البلاد التي لم تستثن كل الشرائح، ومنهم الفنانون الذين كان لهم حظوة في السابق ومكانة في المجتمع، ووجدوا أنفسهم مع غيرهم من السوريين، بانتظار أبسط المواد الأساسية، التي انصرف عن تأمينها النظام إلى صالح العسكرة وإيجاد المزيد من الحلول الأمنية، ولم يأبه لحال مؤيد ومعارض. وكان الفنانون، الموالون للنظام تحديداً، ضمن هذه المعمعة، يشعرون بعدم تلقي المكافأة على الخدمات التجميلية التي قدموها للنظام، ولا سيما في ظل الحرب، الأمر الذي أدى لتغير مواقفهم، بشكل أو بآخر.

وشكل رحيل المخرج حاتم علي، في الأيام الأخيرة من العام الماضي، حالة يمكن الوقوف عندها في هذا السياق، إذ لم يعلن الراحل علي موقفاً صريحاً، لا مع النظام ولا مع المعارضة، لكنه اختار مغادرة البلاد مبكراً، مضحياً بالعديد من الأعمال التي كان من الممكن أن ينتجها ويصنعها في حال قرر البقاء. هذا ما فسر على أنه موقف احتجاجي منه، سخطاً على القمع الحاصل تجاه السوريين من قبل النظام، سواء في المناطق المسيطرة عليها من قبله، أو تلك الخارجة عنه التي أمطرها بالبراميل المتفجرة والصواريخ.

وجمع حاتم علي بعد رحيله المؤيدين والمعارضين على حد سواء، في نعيه والمشاركة بجنازته، شعبياً وداخل الوسط الفني، غير أن النظام كبنية، تعامل مع وفاته بكثير من اللامبالاة والانفصال عن الحدث والواقع، فكان تشييع علي في دمشق شعبياً بامتياز، خلا من الرسمية وأي حضور حكومي من قبل وزراتي الثقافة أو الإعلام، أو نقابي من خلال نقابة الفنانين المسيطر عليها من قبل فنانين موالين بشكل كبير للنظام، على رأسهم زهير رمضان. ما فُهم من الجميع، وربما هي رسالة من قبل النظام لأمثال المخرج حاتم علي، بأن لا كرامة عنده إلا لمن يؤيد مواقفه صراحة ويدافع عنها، وحتى هؤلاء لا يمكن أن يكونوا بمأمن من تعامله المجحف، وهذا ما أثبتته الظروف الأخيرة. 

وبات الانقسام الفني الذي شهدته الأعوام الأولى من الثورة داخل الوسط الفني، بين موالٍ ومعارض وصامت، محط إعادة تقييم بعد عشرة أعوام من الثورة، وتغير ظروف البلاد والمجريات التي ساقت كثيرين إلى تبديل مواقفهم، أو المغالاة فيها في بعض الأحيان. 

يرى الفنان والممثل السوري جهاد عبده، الذي قرر الانحياز إلى الحراك منذ بدايته، وفتح لنفسه آفاقاً جديدة في عمله بعد مغادرته البلاد إلى الولايات المتحدة الأميركية، أنه من “الطبيعي أن يقف الفنان إلى جانب جمهوره الذي طالب بأدنى حقوقه المشروعة”، ويتأسف في حديثه إلى “العربي الجديد”، على قرار بعض الفنانين الوقوف على الجانب الآخر لأسباب باتت معروفة للجميع بحسبه، ملخصاً إياها: “إما مصالح مشتركة، أو رغبة بالحفاظ على المكتسبات التي جمعوها، والدليل على ذلك، الدفاع المستميت عن النظام المستبد وحلفائه المتوحشين”. 

ويضيف: “هذا ما خلق انقساماً يصعب رأبه، خصوصاً بعد كل حملات التخوين بحق زملائهم الفنانين، الذين خسروا نتيجة موقفهم الأخلاقي كل شيء، المنزل ومصدر الرزق والعائلة.. إلخ”.

ينقل عبده: “قال لي أحد الأصدقاء الفنانين، وهو ممن وقف على الضفة الأخرى؛ (والله كنا عايشين أحلى عيشة! شو كان ناقصك إنت؟ كنت ساكن بالمزة، وما عم تهدي شغل، وعندك أحلى سيارة وعم تسافروا إنت وزوجتك سياحة كل سنة على بلد جديد). فقلت وبكل بساطة: نعم هذا صحيح يا صديقي، كنت أعيش برخاء ولكن كان غيري يعاني العوز والفقر والحاجة، ما قيمة أن أعيش أفضل من غيري وأنا مسلوب الحرية، ومجبر على السكوت ومشاهدة كل مظاهر الفساد والظلم أمام عيني ويطلب مني السكوت للحفاظ على حياتي؟ أي الحياة هذه؟”. 

يقول عبده: “كلنا كان يعرف أن خيرات بلدنا تذهب لحفنة من اللصوص وعلينا الرضوخ لمشيئتهم، وهذه عبودية حديثة. للأسف، النظام علم شعبه أن يضع أخلاقه جانباً وعلم المواطنين الأنانية، عبارة (اللهم نفسي) كانت وما تزال هي المسيطرة، للأسف تراجعت النخوة والإحساس بالحق والعدالة (لغيري قبل نفسي)”.

وحول حالة التذمر التي يبديها الفنانون من النظام في ظل الأوضاع المأساوية التي تعيشها المناطق الخاضعة لسيطرته، أكد عبده بأن “النظام وعد، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، كل من ناصره بالكثير، وحلم بعض المناصرين بالسلطة والمال مقابل تشبيحهم، لكن الوعود تلاشت أمام حقيقة مرة، ألا وهي أن النظام ليس له ولاء إلا لذاته، وسيضحي حتى بمن وقف معه ليبقى مهما كان الثمن”.

يضيف: “لقد صحا بعض الممثلين على هذه الحقيقة متأخرين، حين جفت الموارد على هؤلاء وشعروا بالضيق وأدركوا أنهم وضعوا ثقتهم في المكان الخطأ، حتى لو فكروا بالقفز الآن من مركب النظام الغارق، لن يستطيعوا اللجوء، فهم غير مرحب بهم في بلاد اللجوء. على سبيل المثال، اليوم أدركوا أنهم خسروا الرهان وأن هذا النظام الذي طبلوا وزمروا له قد استعملهم كما فعل مع غيرهم، لذلك بدأ صوتهم يرتفع قليلاً، ودوماً من دون المطالبة بمحاسبة رأس النظام”.

الفنان والممثل المسرحي بسام داود، هو الآخر قرر الانحياز للثورة، ويعيش اليوم في ألمانيا. يشير إلى أن “الانقسام في الوسط الفني بين موال ومعارض وصامت، هو انقسام طبيعي نظراً للانقسام الذي حصل داخل المجتمع السوري”، ويضيف في تصريح لـ “العربي الجديد” أن “الممثل والمخرج والكاتب، هو إنسان في النهاية، وفكروا كما يفكر السوريين جميعاً، بمعنى أن هناك المستفيد من النظام ويؤيده، وهناك من يرى فيه كابوساً ويخاف منه، وهناك من خرج من البلاد دون موقف، وأيضاً نتيجة الخوف”.

ويشير كذلك إلى أن “بعض الفنانين يؤيدون النظام لقناعتهم أنه على حق، وهذه قناعة تامة لديهم، رغم أننا نحن بالطرف الآخر ننظر إلى أن هذه الفرضية خاطئة نظراً للإجرام المفرط للنظام، لكنهم تبنوا فكرة المؤامرة والدفاع عن البلد، وأن هذا الدفاع يحتاج إلى خسائر، وكل ما يحدث من موت ودمار يندرج ضمن هذه الخسائر التي تحتاجها المعركة للحفاظ على سورية، وهذه الشريحة من الفنانين الموالين، لا يمكن القول إنه قُدمت لهم حوافز ومغريات ككثير غيرهم، على العكس هم مقتنعين بما فعلوا ويفعلون، بالإضافة لكثيرين ممن ذهبوا وراء انتمائهم الطائفي والمذهبي من خلال الدفاع عن النظام”. 

أما بخصوص الشريحة الصامتة، فيعطي داود وجهة نظر تفصيلية عنهم بالقول إن “الكثير من عناصر هذه الشريحة من الفنانين، لديهم موقف معارض يفصحون عنه ضمن دائرتهم الضيقة، وهؤلاء اختاروا الصمت حفاظاً على عملهم في المهنة، لأن من المعروف أن علاقات النظام متجذرة مع شركات الإنتاج والقنوات، وبالتالي الموقف لهم، المؤيد للمعارضة، يعني خسارة أعمالهم، وهذا ما حدث مع الكثير من الفنانين والممثلين الذين قرروا الانحياز للثورة، فمن بين هؤلاء الأخيرين، يعدون على أصابع اليد الواحدة الذين استطاعوا الحفاظ على مهنتهم وعملهم، أما الأغلب، فقد خسروا تضحية لموقفهم”. 

يدافع داود عن فكرة الانحياز للثورة من قبل هذه الشريحة، وهو منهم: “لم يكن بوسعنا أن نغمض أعيننا عن جانب إنساني واضح، وهذا موقف أخلاقي قبل أن يكون سياسياً، فعندما قررنا الالتزام بمبادئنا الإنسانية والأخلاقية، كنا ندرك تماماً أن حجم الفاتورة والتضحية سيكون ثمنه باهظاً، هناك من قبل، وهناك من فوجئ، بالنسبة لي لم أُفاجأ، وكنت صراحة متوقعاً لما حدث في ما بعد”.

يشير إلى أن “هناك قسماً اختار ألا يتحمل هذه الخسارة، فآثر الصمت وخرج من سورية إلى لبنان أو الإمارات حفاظاً على المكاسب المادية والمهنية، ومن بين هؤلاء من اعتبروا أنهم ما داموا يقومون بأعمالهم ويحصلون على المال، فهم بمقدورهم مساعدة الناس، ولا سيما المتضررة من النظام، بالتبرع وتقديم المساعدة، وهذا موقف يحتاج إلى الدخول في ذوات هؤلاء للتأكد من حقيقة نبله من عدمه، وهذا الأمر مستحيل”.  

ومؤخراً استخدم الكثير من الفنانين والممثلين السوريين، وكثير منهم معروف بموالاته للنظام، منابر إعلامية محلية، ولا سيما الإذاعات الخاصة، بالإضافة إلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، للتعبير عن سخطهم تجاه الأزمات المعيشية والفشل الحكومي داخل مناطق سيطرة النظام، لكن إلى حد الآن لم يتجرأ منهم على من يوجه الانتقاد لمكمن الفساد والوضع السيئ الذي تعيشه البلاد، ولا سيما رأس النظام السوري، وأجهزته الأمنية والمخابراتية القابضة على كل مفاصل الحياة في سورية.

——————————

حقوق السوريات… مشروع تمكين بعد عقد على الثورة/ عبد الله البشير

طوال السنوات العشر الماضية من عمر الثورة، مرّت نساء سورية بكثير من الظروف القاسية. فقدت كثيرات المعيل وواجهن العنف، وحُرمن من التعليم، وهُجّرن، وعشن تحديات مختلفة، فماذا عن مبادرات التمكين؟

الظروف القاسية التي تعيشها نساء كثيرات في المناطق السورية المحررة، بعد عقد على الثورة، تحتم إنشاء مشاريع مناصرة وتمكين، تعينهن في سبيل النهوض من جديد. في هذا الإطار أنهت “رابطة المحامين السوريين الأحرار”، في بداية الشهر الجاري، مشروع تمكين للنساء، بدأته في نهاية العام الماضي، في مناطق الشمال الغربي، مستهدفاً التوعية بالحقوق القانونية للنساء في قضايا مختلفة تمسّهن، مع تدريبهن على تقنيات وآليات المناصرة لقضاياهن، وتنفيذ ورش تدريبية حول أفضل الممارسات للتعامل مع نقص المعلومات، فضلاً عن تنفيذ عدد من الزيارات إلى المناطق والمخيمات القريبة من مراكز المشروع، ولقاء شريحة مهمشة من النساء.

شذى العبد الله، وهي واحدة من المستفيدات، تقول لـ”العربي الجديد” عن تجربتها، والنقلة النوعية التي اختبرتها، إنّ “الوصول إلى المعلومة القانونية الصحيحة كان مفتاحاً لحلّ قضيتي العالقة، كما أنّي، من خلال حضور الورش، والتفاعل المتكرر مع النشاطات، باتت لديّ القدرة على نقل تلك المعلومات إلى غيري من النساء”. تروي تجربتها مع السنوات العشر الماضية من عمر الثورة، فتقول: “كامرأة سورية عايشت هذه الحقبة الزمنية، أعتقد أنّ التغيير طاول الجميع بنسب متفاوتة سلبية وإيجابية، لكنّ من لديه رسالة واضحة في الحياة، ينظر إلى النواحي الإيجابية، فرسالة الثورة السورية ألهمت كثيراً من السوريين والسوريات ليكون لهم، هم بالذات، رسالة يغيّرون ويتغيّرون من أجلها، نحو الأفضل”. تضيف: “مشاعري الحالية هي القلق على مستقبل أطفال سورية، فهم نساء ورجال سورية الغد، لكنّ عجلة الزمن لا تتوقف بل هي كفيلة بطي السلبيات والانكسارات، وتحويل العوائق نفسها إلى سلّم نجاة”.

ومن المستفيدات أيضاً ولاء المحمد، التي تقول إنّ السؤال عمّا نالته المرأة السورية من حقوق وتقدير بعد معاناة طويلة وكفاح طوال السنوات الماضية “لا يحتمل إجابة واحدة قاطعة، فالسوريات موجودات اليوم في أصقاع الدول الديمقراطية والديكتاتورية على حدّ سواء، ومنهن من طاولهن الاعتقال وتعرضن معه لجميع أشكال العنف والاضطهاد. ولكي نذكر الحالات التي تظهر اليوم على الإعلام وما تفعله المنظمات المدنية والأهلية والحالات التي أراها في محيطي، فإنّني أراهن على وعي المرأة بأن تصنع الأفضل لنفسها ونيل حقوقها وإثبات أهليتها في المجتمع، مع العلم أنّ هناك نماذج إيجابية جداً”. تؤكد المحمد لـ”العربي الجديد” أنّ توفير المساحة الآمنة للاستماع إلى المرأة، وتوعيتها بالقوانين التي تمسها، مفتاح لكل آثار إيجابية لاحقة تحصل عليها المرأة، وتعلق: “أوجه حديثي إلى جميع السوريات، في كلّ مكان: معرفتكن بحقوقكن ومطالبتكن بها هي أول خطوات بناء مجتمع يرعى الحق ويرسخ أسسه. وقوتنا هي مفتاح قوة السوريين جميعاً”.

نساء يعملن بالعتالة في القامشلي

المرأة

من جهته، يتحدّث المدير التنفيذي لـ”رابطة المحامين السوريين الأحرار” سامر ضيعي إلى “العربي الجديد” عن أهمية تمكين نساء الشمال السوري، في الوضع الراهن، فيقول: “تمكين المرأة عملية تغيير مستمر، على المستوى الشخصي والمجتمعي للمرأة، إذ يؤمل منها امتلاك الخيار ثم القرار المتعلق بتحسين نوعية الحياة لنفسها ولبيئتها من حولها. العديد من المسالك يمكن أن تتبع نحو تمكين المرأة، لكنّ تطويع الشروط، بما فيها الشروط المجتمعية والاقتصادية والسياسية والدستورية والثقافية، يشكل أهمية جوهرية لا بدّ من لحظها”. يضيف: “تعتمد الرابطة في منهجيتها نحو تمكين المرأة البعد الحقوقي والقانوني، وتولي اهتماماً خاصاً بقضية المناصرة. دراسة الاحتياجات قبل تنفيذ أيّ مشروع تستند إلى معلومات مفصلة عن المستفيدات تعتمد على استطلاعات ميدانية تحتوي أسئلة تتناول قضايا المرأة. تنجم عن تحليل هذه الدراسات مجموعة من النتائج تحدد المسائل القانونية الأكثر إلحاحاً والأكثر أهمية، ثم يصار إلى تصميم النشاطات الملائمة التي تتصدى لمعالجة هذه الاحتياجات، سواء بالتدريبات أو الحملات الإعلامية أو المحاضرات المختصة بالمشاكل القائمة”.

يتابع ضيعي أنّ المشروع الأخير جاء مكمّلاً لنشاطات مشروع آخر هو “العيادة القانونية المتنقلة”. وقد نفذته الرابطة بدعم من الحكومة الكندية، بعد تحليل استطلاع أجري لهذه الغاية، كشفت نتائجه أنّ أبرز المشاكل القانونية التي تواجه المرأة تتمثل في غياب الوعي القانوني حول قضايا عدة ترتبط بتفشي الزواج المبكر، وحرمان المرأة من الميراث، والزواج القسري، والعنف المنزلي، وغياب المعيل، واستسهال الطلاق، وعدم تسجيل الزواج في الدوائر الرسمية المعترف بها دولياً وبالتالي حرمان المرأة وأطفالها لاحقاً من الأوراق الثبوتية، والحرمان من التعليم، والتحرّش في أماكن العمل، وصعوبة الحصول على المساعدة القانونية وتحمل أعبائها المكلفة إن وجدت، وكلّ ذلك يترافق مع غياب شبه تام للمنظومة القضائية الفاعلة والمؤهلة.

في تفاصيل إضافية حول عمل الرابطة، يوضح مدير برامجها، زين الدين رشيد، أنّ المحاضرات تستهدف رفع مستوى الوعي الحقوقي والقانوني لدى المرأة كخطوة أولى، لتتمكن بعدها من شرح مشكلتها والتوجه إلى الآلية المناسبة للحلّ، وفق آليات عدة، مع تحديد المشكلة القانونية والعمل على حلّها، بما يعرف بآليتي الاستشارة القانونية والتحكيم. وقد نفذت الرابطة أكثر من 1700 استشارة قانونية مجانية العام الماضي، منها ما يتعلق بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة، ومنها عقاري، ومنها نزاعات أهلية. ويلفت رشيد إلى أنّه يمكن أن تكون الاستشارات وجاهية مع المستفيد، أو عبر الإنترنت. يتابع أنّ مراكز التحكيم تتوزع في أرياف حلب وإدلب، تحديداً في الأتارب، ودارة عزة، وأرمناز، وأريحا، وأنّ أكثر من خمسين قضية تحكيم جرى حلّها بين عامي 2020 و2021، إذ تتولّى المراكز فضّ النزاعات عبر اللجوء للتحكيم. أما بخصوص آلية العمل، فيوضح رشيد أنّ كلّ مركز يتولّى تشكيل هيئة للتحكيم، تضم مختصين (محامين وقضاة سابقين)، ووجهاء محليين، وامرأة واحدة، على الأقل، لتوفير مساحة آمنة للحديث وتمكين النساء من شرح المشكلة القانونية مهما بلغت حساسيتها. يختار كلّ طرف من الأطراف المتنازعة التي تلجأ إلى التحكيم مُحكِّماً. بعدها، يُنظر في القضية، ويأتي الجميع إلى جلسة التحكيم، ويجرى سماع الحكم والتوقيع على صكّ التحكيم. وتحظى هذه الوثيقة بحجية قانونية معتبرة لدى أيّ نظام قضائي حالي أو مستقبلي.

قصص سوريات بلا معيل

في ما يتعلق بالصعوبات، يوضح رشيد أنّ هناك احتياجات هائلة، في أحيان كثيرة، تربك العملية، وتضعفها بسبب عدم تركيز الدعم الدولي على هذه الاحتياجات، مقارنة بملف الإغاثة والإيواء. كذلك، هناك صعوبات تخص شرح المشكلة القانونية، فكثيرات لا يعلمن أساساً أنّ لديهن مشكلة، أو أنّ لهنّ حقوقاً لا بدّ من المطالبة بها، وذلك نتيجة ترسخ العادات والتقاليد وتجذر المشكلة مجتمعياً. وهناك صعوبات الحصول على تمويل معتبر لهذه المشاريع، فضلاً عن تبدل السيطرة العسكرية الميدانية، وبالتالي تبدل الإدارات المدنية التي تتبع لها، وهو ما يجعل منظمات المجتمع المدني العاملة في الشأن الحقوقي والقانوني أمام وضع مربك يترتب عليه اتخاذ آليات مختلفة، بحسب كلّ جهة مسيطرة. يتابع أنّ أبرز الصعوبات “ترتبط بالتهجير المتكرر الناجم عن اعتداءات النظام وحلفائه، وبالتالي ضياع الحقوق والممتلكات ونشوء مشاكل جديدة مرتبطة بهذه النتائج من خلافات عقارية ومالية وغيرها”. ويضيف: “تعتمد الرابطة لدى تنفيذ أيّ مشروع مرتبط بالمرأة أن تكون النساء هنّ بأنفسهن قائدات التغيير الرئيسيات، لكن، لا ننسى دور الرجل في دعم هذه العملية، كما أنّ الدعم المجتمعي والأهلي عموماً يسهم بشكل أساسي في تسريع تمكين المرأة”. يختم رشيد حديثه إلى “العربي الجديد” بالقول: “يجب عدم تجاهل تمثيل المرأة في دوائر القرار، فهي في قلب المشكلة وربما الأقدر على الإحاطة بآليات حلّها وعلاجها، ولك أن تتخيّل الأثر الهائل لتمكين المرأة، فهو لا يقتصر على مستواها الفردي، بل يمتد ليشكل تمكيناً للأسرة والمجتمع، وبالتالي التمكين للأسس التي يمكن بناء مستقبل أكثر أمناً للسوريين عليها”.

————————-

سوريا لا خبز ولا حرية/ رضوان زيادة

في عام 2003 كتب الصحفي البريطاني آلان جورج كتابه “سوريا: لا خبز ولا حرية” يوثق في تجربة ربيع دمشق التي بدأت مع وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، خلاصة الكتاب أن نظام الأسد يريد إسكات السوريين لأن لديه مشروعا إصلاحيا يتعلق بإطعام السوريين وتحسين وضعهم الاقتصادي، لكن مع انتشار قصص فساد رامي مخلوف تبين واضحا أن الأسد في الحقيقة لا يمنح السوريين الخبز بعد أن سلبهم الحرية.

لا تنطبق هذه المقولة على الأسد كما تنطبق اليوم، حيث يستمر تدهور الاقتصاد السوري بشدة وسط الحرب المستمرة التي بدأت في عام 2011، وتراجع بأكثر من 80٪ من 2010 إلى 2021.

يلقي النظام السوري دائما باللوم على العقوبات الدولية في السقوط الحر لليرة السورية والافتقار إلى الخدمات الأساسية، لكن يتعمد أن يتناسى التدمير الممنهج الواسع النطاق للبنية التحتية عبر البراميل المتفجرة على مدى السنوات العشر الماضية، لقد تراجع الاستهلاك والإنتاج الداخليان، وانخفض الدعم عن السلع الأساسية، وارتفع التضخم، وتبخرت ​​احتياطيات النقد الأجنبي، وانخفضت قيمة الليرة السورية بشكل كارثي، وانخفضت القوة الشرائية للأسر ليست المتوسطة فحسب وإنما تلك الغنية.

لا تقدم الحكومة السورية أي أرقام للأزمة الاقتصادية فهي تعتبر أن هذه الأرقام هي جزء من الأمن القومي، وتعتقل كل من يتحدث عن غلاء الأسعار أو ينتقد طريقة إدارة الحرب مما قاد البلد إلى ماهي عليه اليوم، يعتبر البنك المركزي السوري (CBS) ثاني أقدم بنك في المنطقة بعد البنك المركزي المصري الذي تأسس عام 1863. أسس رئيس الوزراء السوري الأسبق خالد العظم البنك عام 1953 وبدأ عملياته عام 1956.

صدر التشريع الأساسي لإنشاء البنك المركزي والسيطرة على النظام المصرفي في عام 1953، لكن البنك المركزي لم يبدأ عملياته حتى عام 1956، وشملت وظائفه إصدار الأوراق النقدية، والسيطرة على المعروض النقدي، والعمل كوكيل مالي للحكومة، والرقابة على البنوك الائتمانية والتجارية.

كانت فكرة إنشاء البنك هي إبعاد النظام المالي السوري عن الفرنك الفرنسي (كانت فرنسا القوة الاستعمارية في سوريا حتى الاستقلال عام 1946). ثم كان دور البنك منذ البداية هو اتباع سياسة الاستقلال النقدي. وحتى يومنا هذا في عام 2020، لا تزال سياسة البنك كما هو مذكور في الموقع الإلكتروني للبنك هي الحفاظ على “الاستقرار النقدي والمالي، وبالتالي المساهمة في تحقيق أهداف سياسة الاقتصاد الكلي” وأيضا تركيز البنك على بناء سياسة نقدية فعالة للحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة السورية وانخفاض معدل التضخم وثباته”.

لم يذكر البنك المركزي السوري قط النمو الاقتصادي أو معدل البطالة، على الرغم من أن هذه المهمة تعتبر واحدة من المهام الرئيسية لأي بنك مركزي في جميع أنحاء العالم. ببساطة فشل المصرف المركزي السوري فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفه في ضمان استقرار الاقتصاد السوري واستقرار الليرة السورية.

أدى السقوط الحر لليرة السورية إلى انخفاض حاد في القوة الشرائية للمواطنين السوريين، مما زاد من معاناة من يفتقرون إلى خدمات الدولة الأساسية مثل مياه الشرب والكهرباء والغاز والطاقة في هذا الشتاء القاسي.

لقد تبنى البنك المركزي سعرا مرنا قريبا من سعر الدولار في السوق السوداء لجذب العملات الأجنبية القادمة إلى البلاد من المغتربين السوريين (أكثر من 8 ملايين مغترب)، وسياسة البنك المركزي كانت تقوم على الاحتفاظ بالعملة الأجنبية للحفاظ على رصيد الليرة السورية وقد فشل في تحقيق ذلك.

وانهار الاحتياطي من 16 إلى 8 مليار دولار في 2011 إلى مستوى دفع الحكومة للتوقف عن دعم سعر الليرة. وعلى العكس من ذلك، أصدر النظام السوري مرسوما تشريعيا “يحظر استخدام أي شيء آخر غير الليرة السورية كوسيلة للدفع لأي نوع من المعاملات التجارية”. وتعديل قانون العقوبات “ينص على تشديد عقوبة بث أو نشر حقائق ملفقة أو ادعاءات كاذبة تتسبب في انخفاض قيمة العملة الوطنية وعدم استقرارها”.

انهار نظام الإيرادات الضريبية بالكامل ولم يكن قوياً من قبل. علاوة على ذلك، لم تعد عائدات النفط تحت سيطرة الحكومة السورية لأن الولايات المتحدة تسيطر على حقول النفط في شمال شرقي سوريا. وأصبحت الحكومة السورية مستورداً صافياً للنفط بعد أن فقدت السيطرة على حقول النفط مع بداية الحرب.

أفاد المكتب المركزي للإحصاء (CBS) أن معدل التضخم في سوريا في عام 2019 بلغ 826٪ إذا أخذنا في الاعتبار الانخفاض الأخير في سعر الليرة السورية. وفي نهاية الأسبوع الجاري، تم تداول 4000 ليرة للدولار، ومن المتوقع أن تصل إلى 5000 ليرة للدولار في الأشهر القليلة المقبلة. هذا يمثل عمليا انهيارا كاملا للعملة. يشار إلى أنه في عام 2011، كان الدولار يعادل 47 ليرة سورية.

ولدى المصرف المركزي السوري سعر صرف ثابت وهو 1225 ليرة للدولار، ولا تزال سوريا تعمل وفق سياسة أسعار الصرف المختلفة في تعاملاتها، لهذا يعتقد الكثيرون أن رقم التضخم الذي قدمه مكتب الإحصاء المركزي أعلاه غير دقيق، ومعدل التضخم يرتفع بشكل كبير، وهو ما يضع سوريا اليوم في نفس فئة زيمبابوي وفنزويلا، وكلاهما لديهما أعلى معدل تضخم في العالم حسب صندوق النقد الدولي.

يمكننا أن نقول إن سوريا دخلت الآن ما أطلقنا عليه “التضخم المفرط” وهو تضخم مرتفع للغاية ومتسارع في العادة. إنه يؤدي بسرعة إلى تآكل القيمة الحقيقية للعملة المحلية، حيث ترتفع أسعار جميع السلع. يؤدي هذا إلى تقليل احتفاظ الناس إلى أدنى حد من ممتلكاتهم من تلك العملة لأنهم عادةً ما يتحولون إلى عملات أجنبية أكثر استقرارا، وغالبا ما يرتبط التضخم المفرط بالحرب أو الصراع حيث يمكن أن يؤدي الانهيار في إجمالي العرض والانخفاض الحاد في الإيرادات الضريبية الحقيقية إلى جانب الحاجة القوية للحفاظ على الإنفاق الحكومي، جنبا إلى جنب مع عدم القدرة أو عدم الرغبة في الاقتراض، إلى حدوث تضخم مفرط.

السؤال الآن كيف ستتعامل الحكومة السورية مع التضخم المفرط، الأداة الوحيدة للنظام السوري هي قبول الانتقال السياسي والتفاوض على العقوبات لقيادة الطريق لإعادة الإعمار، لا أرى أي خيار آخر لتحفيز الاقتصاد، يمكن لجميع البلدان التي نجت من الحروب الأهلية أن تحقق نموا اقتصاديا هائلا، وأفضل مثال على ذلك رواندا بعد الإبادة الجماعية في عام 1994 عندما قتل أكثر من 800 ألف شخص على يد حكومة الهوتو ضد جماعة التوتسي العرقية، والانهيار التام للاقتصاد. حيث تم تدمير رواندا من خلال القتل الجماعي الذي لا يمكن تصوره لمدنييها. الآن وبعد 25 عاما تمكنت البلاد من تأسيس اقتصاد ناجح ومزدهر، حيث بلغ متوسط ​​نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي 7.76٪ بين عامي 2000 و2019، ومن المتوقع أن يستمر النمو بوتيرة مماثلة خلال السنوات القليلة القادمة. رواندا يمكن أن تكون النموذج الاقتصادي لسوريا اليوم.

تلفزيون سوريا

—————————

عشر سنوات… ومع النصر يتجدد الأمل/ عبد الرحمن مصطفى

تطلعنا دروس التاريخ وعبره أن أعتى قوى الشر والطغيان قد انهارت أمام إرادة الشعوب وهذا ما يجعلنا أمام حقيقة راسخة مفادها أن الشعوب الحية لا يمكن أن تُقهر، والشعب السوري أحد أعظم تلك الشعوب وأكثرها عراقة، فهو بلا شك سليل أمجاد من صنعوا الحضارة في أحلك الظروف وأصعبها، وفي واقع الأمر لم يتوقع الكثيرون أن يقوم الشعب السوري بثورته بالنظر إلى وحشية النظام وبطشه، ولو أن نظرتهم كانت أعمق لتبين لهم أن هذه الثورة ما هي إلا نتيجة منطقية لشعب يأبى بطبيعته الذل والهوان وهو على استعداد لتقديم أعظم التضحيات في سبيل عزته وكرامته.

بعد الاستقلال عاشت البلاد حالة فريدة من التعددية والتنوع والمواطنة، إلى أن   استولى نظام البعث على السلطة ليدخل البلاد في نفق الاستبداد المظلم ويلغي مظاهر المجتمع المدني ويطمس هوية الشعب ويقمع الحريات، كان لابد لذلك الليل الطويل أن ينجلي مهما كلف الثمن، وقد أدرك السوريون أن ذلك الثمن سيكون باهظاً لكنهم عقدوا العزم وقُضي الأمر.

انطلقت المظاهرات السلمية بملايين السوريين تلف أرجاء البلاد وكان وقعها كالصاعقة على نظام اعتقد أن البلاد مجرد مزرعة له والشعب عبيد لديه، مما جعله يفقد صوابه ويتعامل معها بكل وحشية ودناءة، في تلك الأثناء نجح السوريون بكل أطيافهم أن يرسموا لوحة السلام التي تجمعهم كسوريين قبل أن يعمل النظام على تشويه تلك الصورة بخبثه وهمجيته.

إن السنوات العشر التي خلت وما حصل فيها من أمور لا يتصورها عقل كانت كفيلة بأن توهن أعظم الأمم، بل إن جميع من كتب في السياسة والاجتماع يتفقون في تعريفاتهم لمفهوم الثورة على قاسم مشترك ألا وهو العنف.

إن جميع الثورات التي قامت في العالم، قوبلت بالعنف والقمع، وهو بلا شك أمر متوقع، إلا أن ما فعله النظام قد فاق جميع ردات الفعل القمعية لأكثر الأنظمة دمويةً، صحيح أن النظام استطاع أن يقتل ويدمر ويشرد ويعتقل ويمارس أساليبَ وحشيةً لا يتصورها عقل، لكنه لم يستطع إخماد الثورة التي أصبحت قيمها ومبادئها متأصلة في نفوس السوريين.

بعد تلك الرحلة الشاقة لا مجال للالتفات إلى الوراء فالخيار الأوحد هو إكمال الطريق والمضي قدماً نحو النصر الذي أضحى وشيكاً أكثر من أي وقت مضى، خاصة أنه وبعد كل التضحيات الجسيمة لم يعد هنالك ما يُخشى عليه من الخسارة، ومن يعش واقع الحياة اليومية للسوريين يدرك بجلاء تلك الحقيقة، عن ذلك الأب الذي قدّم فلذات أكباده في إحدى المعارك وهو يتكلم عنهم بشموخ وفخر أو تلك الأم الثكلى التي فقدت أطفالها في القصف وهي تراهم طيوراً في الجنة، وأولئك اليتامى الذين ينتظرون عودة والدهم من المعتقل، عند كل ذلك سوف تتيقن من تعابير وجوههم ونبرات أصواتهم وانهمار دموعهم  أن النصر آت لا محالة. ومع كل ذلك يصرُّ المستبدون ألا يتعلموا العبر من دروس الماضي حتى يلحقوا بمن سبقهم من الطغاة الذين احتفظ بهم التاريخ في صفحاته السوداء لينالوا نصيبهم من لعنات الأجيال.

على الطرف المقابل ومما لا يخفى على أحد، فإن الثورة بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى قيادة سياسية موحدة قادرة على صناعة واقع أفضل للسوريين بكل أطيافهم بعد تنحية الخلافات والمصالح الشخصية، حيث تضع أمامها هدف تنظيم الصفوف، والعمل الجاد والدؤوب نحو البناء والتنمية، ولا شك أن ما يكابده السوريون الرازحون تحت قبضة النظام من ظروف تعيسة تجعلهم يتطلعون أكثر من أي وقت مضى للخلاص من ذلك الكابوس الجاثم على صدورهم.

من هنا فإن الحكومة السورية المؤقتة تقدّر عالياً التضحيات العظيمة لأبناء الشعب السوري، وبالرغم من ضعف الإمكانيات فقد بذلت قصارى الجهود للتخفيف من معاناتهم وتوفير مقومات الحياة الكريمة لهم، واتبعت كل السبل لتحقيق الأمن والاستقرار ووضعت الخطط اللازمة للارتقاء المؤسساتي وبناء إدارة نموذجية، وهي تحاول بشكل حثيث ومستمر تلبية الاحتياجات السكانية وفقاً للإمكانيات المتوفرة لديها، مع التركيز بشكل أساسي على قطاعات الصحة والتعليم والخدمات والزراعة. إن تلك الخطط والغايات سوف تشكل منعطفاً مهماً يشجع فعلياً على العودة الآمنة والطوعية لأعداد كبيرة من السوريين وليس بأساليب التضليل والخداع التي ينتهجها النظام المجرم وداعموه في الوقت الذي يعجزون عن تأمين أبسط مقومات الحياة للمواطنين، كما ستقطع الطريق على كل المغرضين الذين راهنوا على إخفاق الثورة في عدم قدرتها على بناء دولة المؤسسات والقانون.

وليس من قبيل التفاؤل وبث الأمل في النفوس، ولكن النصر بات وشيكاً والحلم أصبح أقرب إلى الحقيقة بفضل الصمود الأسطوري للشعب السوري وصبره، وسيدحر نظام القمع والاستبداد مع ضباع الأرض وتعود سوريا المحبة والسلام ملاذاً يجمع كل السوريين، وسوف يكتب التاريخ بحروف من ذهب للأجيال القادمة قصة ثورة عظيمة لشعب جبار قهر الصعاب وصنع المستحيل من أجل حريته وكرامته.

—————————–

في الذكرى العاشرة للثورة.. (المراجعة المطلوبة)/ عقاب يحيى

تطرق الذكرى العاشرة للثورة أبوابنا ورؤوسنا بوقفة تتجاوز الشكليات والشعارات إلى البحث في أوضاعها، وظروفها، ومآلها وفقاً لجملة المعيقات التي حالت دون تحقيق الأهداف التي انطلقت لأجل تحقيقها، والتي بلورتها بثمن كبير من التضحيات الشاملة والتي لا تتناسب ـ حقيقة ـ مع النتائج وما وصلت إليه أوضاع بلادنا من مأساة اعتبرت أنها الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، والمتراكبة مع أكوام من التعقيدات التي تسدّ الأفق على حلّ، أو مخرج قريب يلبي الحدّ المقبول من مطالب الشعب السوري بالتغيير، وبناء النظام البديل.

الكثير يحاول ترحيل أسباب هذا الواقع شديد التعقيد إلى العوامل الخارجية عبر تحميل المسؤولية في الذي جرى للدول الأجنبية، خاصة صاحبة العلاقة بالتأثير في الملف السوري وأنها هي من خذل الشعب السوري، وهي التي وضعت يدها على الملف وعملت على تدويله وتهميش الأطراف السورية ـ جميعها ـ في إخرجها من المعادلة كطرف رئيس.

    أثبتت الوقائع أن غياب قيادة مركزية للثورة كان ضمن عوامل التشتت وانتشار أشكال كثيرة من الصيغ والهيئات المتنافسة

نعم العوامل الخارجية كانت رئيسية وفاعلة، وسنقف عندها، لكن الأساس في الذي جرى يرتبط بالعامل الذاتي انطلاقاً لأنه هو الذي أفسح في المجال للنتائج التي وصلنا إليها، وهذا العامل الأساس لا يمكن الهروب من تحمّل المسؤولية فيه، ولا من الشجاعة في كشفه ومواجهته وصولاً إلى بلورة البدائل وقابليتها على التجسيد، ويمكن تلخيص أهم عوامله بـ:

1 ـ عجز قوى المعارضة “التقليدية” عن قيادة الثورة لأسباب بنيوية وواقعية، مقابل أن الثورة انطلقت بطريقة أقرب للعفوية والتوزّع، أي دون وجود قيادة مسبقة لها تمتلك رؤية أو برنامجاً لخطواتها وعملها، ولئن اعتبر البعض أن تلك الخصيصة عامل إيجابي يحمي الثورة من بطش النظام ـ فيما لو كانت لها قيادة ـ سيعمد على تصفيتها، فقد أثبتت الوقائع أن غياب قيادة مركزية للثورة كان ضمن عوامل التشتت وانتشار أشكال كثيرة من الصيغ والهيئات المتنافسة، وكثيرها يحمل برامج مختلفة، ومتناقضة أحياناً، بما في ذلك إفساح المجال لأنواع من التنافس والصراع حتى داخل قرى ومناطق صغيرة، ناهيك عن المدن.

نتيجة التحولات السريعة ودخول عوامل متعددة على خطّ الثورة، ومنها التحوّل القسري للعَسكرة، بات صعباً أن تلد الثورة من صلبها قيادة موحدة، فتعددت الرؤى والمواقف ومراكز القرار.

2 ـ جاءت ولادة الهيئات الممثلة للثورة بطريقة قيصرية، بل وغير طبيعية تداخلت فيها، وتدخّلت مجموعة عوامل تركت أثرها على بنية تلك الهيئات، وممارساتها، ومدى قدرتها على تمثيل الثورة وقيادتها، ونخصّ بالذكر هنا ظروف نشأة وتركيبة المجلس الوطني، ومن بعده الائتلاف، في ظلّ غياب الانتخاب الديمقراطي الذي يكرّس نوعاً من المشروعية في التمثيل، وقبول الحاضنة الشعبية، وفي التركيبة التي رجحت فيها اتجاهات معينة على حساب فئات أخرى يجب تمثيلها ووجودها.

3 ـ الرهان الأكبر على التدخل الخارجي لإنهاء النظام اعتقاداً أن ما حدث في ليبيا، بشكل خاص، وفي بلدان ثورات الربيع العربي، عموماً، سيتكرر ـ حكماً ـ في سوريا، وقد ولّد هذا الرهان مجموعة من الآثار والظواهر، وأبرزها:

آ ـ الاستعاضة عن الحاضنة الشعبية والعلاقة معها بحركات وعلاقات دولية تهدف إلى التعجيل بالتدخل، بما أوجد هوّة بين تلك الهيئات وبين الحراك الثوري راحت تكبر وتتعمّق مع مرور الزمن، ومع ما عرفته الثورة من “مناقلات” ومتغيّرات، كبروز العَسكرة ومفاعيلها.

ب ـ انعكاس ذلك الرهان على الحياة الداخلية في تلك الهيئات، والذي برز في تقصير فترة الرئيس لمدة شهرين فقط ضمن اعتقاد وجوب تداول أعضاء المكتب التنفيذي على ذلك الموقع تقديراً من أغلبهم أن الأمور قاب قوسين وأدنى من الحسم باتجاه نهاية النظام، وأثر ذلك على عملية الاستقرار، والصراعات التي خيضت والتي تظهر كمّ الخطأ في التقدير، وكمّ الرهان على الدور الخارجي.

ج ـ فتح ذلك الرهان أبواب التدخل الخارجي باتساع وازداد قوة وفعالية مع انتشار العَسكرة.

4 ـ العَسكرة وتداعياتها..

الثورة في جوهرها، وانطلاقتها كانت سلمية وشعبية، تطرح مطالب محقة لخّصتها بالحرية والكرامة والعدالة، وانتهجت المظاهرات سبيلاً للتحقيق بعيداً عن العنف واستخدام السلاح.

لكن تطورات متلاحقة دفعت لولادة، ثم طغيان العَسكرة وما أنتجت من وقائع تركت أثرها الكبير على مسار الثورة والمؤسسات القائمة.

لقد حاول النظام منذ البدايات تشويه الثورة باعتبارها حركة إرهابية، وإسلاموية، وأداة لمؤامرة خارجية، وأنها مصنّعة من قبل عناصر مرتبطة بالخارج، وعمل بتنهيج على حرف مسارها وتحويلها إلى صراع عسكري، أو وصفها بـ”الحرب الأهلية”، وقد استمرت الثورة لأكثر من ستة أشهر سلمية تواجه رصاص وعنف النظام بالصدور العارية والمطالب المحقّة، وترفض التسلّح، لكن مستوى العنف الذي مورس من قبل النظام في القتل والاغتيال والاعتقالات الجماعية، وترافق ذلك مع انشقاق عدد من الضباط العسكريين ممن رفضوا توجيه السلاح لصدور شعبهم، وتقدّمهم الصفوف لحماية المظاهرات فرض بدايات التسلّح الذي سرعان ما انتشر بقوة وسيطر على المشهد الميداني، ثم طغى على السياسي، وما عرفته تلك الظاهرة من تطورات كان في مقدمها:

آ ـ طغيان العسكري على السياسي درجة التهميش، وأثر ذلك على المؤسسات التي تمثل الثورة (المجلس الوطني ثم الائتلاف)، ووجود رأسين في الثورة، بل مجموعة رؤوس تعبّر عن ذلك التوسع الذي عرفته ظاهرة انتشار الفصائل، وغياب، أو ضياع القرار السياسي.

ب ـ حاجة العمل العسكري لإمكانات مالية ضخمة لم يكن بمقدور العامل الذاتي (الثورة والسوريين) تغطيتها فتحت الأبواب لأشكال من التدخل الإقليمي والخارجي تحت عناوين الدعم وتقديم مستحقات تطور العمل العسكري، وصولاً إلى تحكّم تلك الجهات بمسار وقرار معظم تلك الفصائل الممولة من الخارج درجة التبعية.

ج ـ انتشار الفصائلية بتلك الطريقة الغرائبية أدّى إلى التشتت، وغياب الاستراتيجية الموحدة، وعمليات التنسيق.

والأهم من ذلك استحالة توحيد تلك الفصائل عسكرياً، وتحت مظلة سياسية موحدة، ونعرف أن أحد أهم نقاط وثيقة ومبررات تأسيس الائتلاف كان في النصّ على “توحيد الفصائل العسكرية بقيادة سياسية”، بينما جرى تشكيل “هيئة الأركان” بعد فترة وجيزة من تأسيس الائتلاف دون علم، أو قرار منه، وما ترتّب عن ذلك من وجود جسم منفصل صعّب أكثر من عملية التوحيد، وفي إخفاق الجهود المتواصلة لتوحيد الفصائل وبناء علاقة لها مع الائتلاف، ثم في المسارات اللاحقة التي اتسمت بالتراجع والانزياح، خاصة بعد تدخل الاحتلال الروسي وما فعله.

د ـ ترافقت تلك العملية مع تهميش عدد كبير من الضباط المنشقين، وضمور وجود فصائل تابعة للجيش الحر على حساب نمو فصائل كثيرة بخلفيات وأسماء إسلاموية عملت على احتكار الثورة وفقاً لخلفيات أيديولوجية متناقضة مع أهداف الثورة التي قامت لأجلها، والتي لخصتها في شعاراتها، وأدّى ذلك إلى حدوث تغييرات كبيرة في مواقف الحاضنة الشعبية التي لم تقتصر على “المكوّنات” غير الإسلامية، وغير السنيّة وحسب، وإنما على قطاعات واسعة من الشارع السني.

ه ـ بوجود غرفتي “الموم” والموك وقيادتهما من قبل الدول، خاصة أميركا، بدأ التدويل الفعلي للمسألة السورية، ووضع القوى السورية ـ بكل جهاتها ـ على الهامش، أو بموقع التابع لإرادة تلك الدول، ثم التخلي عن الخيار العسكري لصالح “الحل السياسي”، وتأكيد مواقف تلك الدول الفاعلة بأنها لا ترغب بحسم عسكري يوم كان ذلك متاحاً، ويوم كانت الفصائل العسكرية تسيطر على أكثر من 70% من الأرض السورية.

    النظام يرفض بالقطع أي خطوة سياسية ويعتبرها تنازلاً يؤدي إلى نهايته، وتلك حقيقة لم تكن مجهولة لجميع من يعرف بنية ونهج النظام

5 ـ الحل السياسي.. وإخفاقاته..

حين أفصحت الوقائع عن رفض الدول الفاعلة للحسم العسكري، وفرضت الحل السياسي خياراً وحيداً وافق الائتلاف على بيان جنيف، وعلى الحل السياسي ضمن بنود ذلك البيان، ولو عبر صراع كبير داخله، ولجهة تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، ووفق جدولة زمنية مدتها 18 شهراً، تبدأ فيها المرحلة الانتقالية بعد ستة أشهر، تبيّن عبر جولات جنيف 2 أن النظام يرفض بالقطع أي خطوة سياسية ويعتبرها تنازلاً يؤدي إلى نهايته، وتلك حقيقة لم تكن مجهولة لجميع من يعرف بنية ونهج النظام، ورهانه على استهلاك الوقت، وإغراق جولات المحادثات في التفاصيل لزمن مفتوح، وهو ما حصل فعلاً.

لقد حصلت دحرجة في مسارات ومضمون المفاوضات، والانتقال من بيان جنيف إلى القرار 2254 التي تبدو فيه البصمة الروسية واضحة لجهة إشراك منصات أخرى في وفد المفاوضات، وضمور أساس بيان جنيف خاصة لجهة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، ونتج عن ذلك أن الائتلاف لم يعد الطرف الوحيد في المفاوضات.

الائتلاف، ورغم الوقائع العنيدة لمسار المفاوضات، وقناعته الواضحة بعبثية جولاتها بغياب إرادة دولية فاعلة، ونخصّ بالتحديد الموقف الأميركي غير الحاسم والذي ما زال يتعاطى مع المأساة السورية بطريقة هامشية، فإنه، أي الائتلاف، مضطر للاستمرار في تلك الجولات غير المنتجة (تشاركه جميع أطراف المعارضة)، لأسباب متعددة في مقدمها أنه لا يملك خيارات بديلة، وأن أوراقه ضعيفة لا تسمح بممارسة الضغط المطلوب، ناهيك عن مواقف الأطراف الصديقة التي تلحّ على الاستمرار في المفاوضات.

6 ـ كان على الائتلاف من سنوات وسنوات أن يفكر بالبدائل، وأن يشرع في تجسيدها وفق برنامج واقعي ليس لأجل قرار مسبق بالانسحاب من المفاوضات، وإنما لتدعيم موقفه فيها من جهة، والقيام بخطوات موازية، ومناهضة لنهج وممارسات النظام من جهة أخرى.

ومن المعروف أن جوهر وأساس البديل هو العودة إلى الحاضنة الشعبية لاكتساب المشروعية منها، أولاً، وإشراكها في القرار ثانياً، وبناء أوسع علاقات وتحالفات مع القوى والفعاليات الشعبية والسياسية ثالثاً ، وقد تأخر الائتلاف كثيراً في خطواته تلك، وهو يحاول تدارك ذلك الخطأ الكبير ضمن برنامج طموح، وتغيير الخطاب الوطني بالتوجه إلى كافة شرائح ومكوّنات المجتمع السوري في مختلف المناطق، بما فيها تلك التي يسيطر عليها النظام، أو الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع، وبناء علاقات مستدامة معها عبر تطبيق شعار التشاركية والاصطفاف الوطني.

في الذكرى العاشرة للثورة تفرض علينا الوقائع العنيدة أن نعمل بهديها، وهي التي تؤشر إلى الانسداد السياسي لجهة أي حلّ مقبول، وما يستوجبه ذلك من خطوات ضرورية وفي مقدمها إصلاح واقع ومؤسسات الائتلاف، وترسيخ التشاركية مع فعاليات شعبنا وفق مهام عملية قابلة للتحقيق، ومواجهة الاستحقاقات الصعبة بما تستوجبه من متغيّرات ضرورية في مختلف المجالات.

———————

في ذكراها العاشرة.. ثورة لا بد منها/ فاطمة ياسين

لا يتفق الفلاسفة ومفكرو المجتمع بتعريفاتهم للثورة، ولا يتفقون في تحديد الأسباب التي تؤدي للثورة في بلد ما، فكل ما مضى من الثورات كان لها خصوصية، وجانب مميز، وجوانب مظلمة، والثورة التي خاضها الشعب السوري، ثورة بخصوصيتها وتعريفها الفريد أيضاً. أرادت الجموع المتحركة أن تطيح بتراث خمسين عاماً من القمع والاستبداد، هذا كان هدفها الأول، لم تكن واعية لخطواتها التالية ولكنها كانت مدركة لما هو واجب التنفيذ في الحال وهو التخلص من طبقة عسكرية متسلطة تحولت إلى إرث عائلي..

ولم يكن المجتمع الدولي يخفي كراهيته للنظام فلطالما كان نظام الأسد معزولا في فترات عديدة من حكمه، ولكن هذا المجتمع تراجع عند الاستحقاق الأخير، وحظي النظام بدعم من تحالف ملتبس بين إيران وروسيا أرادت الأولى أن تحوله إلى مخدع خاص لأجنداتها الطائفية وتوسعاتها الإقليمية، وأرادت الثانية أن توظف موقعه لطموحها العسكري والتجاري، أما السوريون أنفسهم فمازال معظمهم مؤمناً بالشعارات ذاتها التي خرجت منذ اليوم الأول..

عشرة أعوام من الصراع طغى الدمار على المشهد السوري في معظم نواحيه، ومروراً بنقاط يتفاوض فيها أطراف غير سوريين حول مناطق الهدنة وحدود نفوذ كل قوة، وصدور اتفاقيات بلغات أجنبية، وتحييد السوريين بصورة كبيرة، ودخولا بمنعطفات عديدة منها تعدد الأطراف المسلحة والمتطرفة والقادمة من الخارج لمساندة مختلف الأطراف.

يفضل النظام ومؤيدوه فرض سلسلة سببية لمشهد سوريا المؤلم الراهن تصل إلى لحظة الخامس عشر من آذار اليوم الذي انطلقت فيه التظاهرات ضده، فإلى أي مدى يمكن توجيه الاتهام إلى تلك الانطلاقة؟ والاتهام هنا يأخذ أكثر من شكل فقد اتهم الحراك بأنه طائفي، أو له أهداف شخصية، ومدفوع من جهات خارجية.. وكل تلك الاتهامات واردة وقد مرت الثورة بسياقات أكدت جوانب منها أو عكسته بطريقة ما، ولكن هل يمكن أن نوجه حكم إدانة عما حدث باعتبار أن الصيحة الأولى كانت منشأ كل هذه النتائج؟

رغم أن انطلاق الجماهير للوهلة الأولى قد بني على معاناة شخصية وشعور بالظلم وإهدار الكرامة سواء على المدى الطويل خلال حكم البعث والأسدين، أو انطلاقا من حادثة الشرارة في درعا باعتقال بعض طلاب المدارس وتعذيبهم بوحشية، لكن خلف هذا تقف مجموعة متنوعة من الأسباب الوجيهة والموضوعية التي تجعل تحرك الجموع البشرية ضد النظام القائم نموذجا سوريا بالفعل..

كانت الصورة في لحظات ما قبل الثورة، تعكس تكدساً بشرياً هائلاً في مدينتين هما دمشق وحلب، وخواء في الريف أخرج سوريا من خانة المجتمعات الزراعية إلى نطاق نصف حضري وسكان مدينة نصف متعلمين يقطنون على تخوم المدينة ويحلمون بالعيش الكريم دون امتلاك وسائل لتحقيق أحلامهم..

تخلت الدولة عن دورها في قيادة التنمية وتفرغت للدفاع عن وجودها فأصبحت المؤسسة الضخمة في سوريا هي مؤسسة الأمن التي ابتلعت أو سيطرت على جميع مناحي الحياة، بالإضافة إلى فتات اقتصادي يثير نهم مجموعة غير وطنية متلهفة للربح السريع الذاتي، تحالفت مع وجهاء الجيش لتشكيل قطاع مُصنع ذي طبيعة استهلاكية سيكون بعد مضي بعض الوقت عالة على الاقتصاد نفسه ومتسلطا على جانب كبير من السوق فارضاً نفسه على حساب سلع أكثر إلحاحا وأهمية، مع ضعف قدرته على إنتاج الوظائف الجديدة اللازمة لاستيعاب معدل تزايد سكاني كبير..

إهمال متطلبات السكان الاقتصادية الملحة على النحو الذي جرى وتهميش قدرات الملايين من السوريين القادرين على العمل والإبداع والحلم، حولهم إلى مجموعة غاضبة تنتظر فرصة لتسترد حقوقها.. هذه الكوارث الاقتصادية التي خلقتها حكومات النظام وحافظت عليها جيلا بعد جيل تزامن معها وضع سياسي أكثر تهافتا في ظل دستور يضع كل مسؤوليات الدولة وسلطاتها في يد شخص واحد، وفي ظل موات سياسي وعجز اقتصادي وأفق شبه معدوم للإصلاح، أصبحت الشروط الابتدائية للثورة متوفرة والتغيير مطلوب لذاته حتى ولو لم تعِه الجماهير التي ثارت في 2011.

المطالبة بالكرامة التي بدأت في درعا وترافقت بإصرار فريد بشعار “الشعب السوري واحد”، تحمل بالتأكيد المطالبة بما هو قادر على تحقيق الكرامة، وهو رحيل النظام القائم المسؤول عن تغييب الحرية والكرامة والتنمية أيضا.. جاءت الشعارات مرتبة ومضبوطة ومتلاحقة على ذات الرتم الوطني بما يتم فيه تجاوز كل أمراض الماضي، وصار معروفا أن حراكا كهذا كان بحاجة إلى قيادة خبيرة ومدركة لقيمة التحرك الشعبي الهائل وتوجيهه وتوظيف جهوده بحيث يصل إلى إنجاز ما يريد، وهو ما فشل التحرك في الوصول إليه..

يمكن أن يتم توجيه اللوم إلى المثقف ذاته الذي بدا مذهولا في أول الأمر، وهذا المثقف صاحب تجارب سابقة خاسرة في معارضة النظام الذي كان يلجأ إلى تكسير عظمه عند أول بادرة معارضة تظهر عليه، بالإضافة إلى هزال الخبرات السياسية في تكوين التشكيلات المعارضة فمعظمها كان مخترقاً وبدائياً وأحيانا استعراضيا دون عمق كاف لأخذه على محمل المعارضة الصحيحة، ويمكن تحميل الثوار أنفسهم جزءا في الفشل المبكر في تكوين قيادة، فالنخبة الشابة التي كانت في طليعة التحرك لم يكن لديها الثقة بحكمة معارضة الماضي، وخاصة بعد أن نجحت الشوارع في اكتساب تعاطف جارف وتشكل يقين بإنجاز المهمة بوقت قريب، فاستعيض عن القيادة بتشكيلات محلية أو تنسيقيات كانت ناجحة على المستوى المحلي فقط دون أن تتمكن من التنسيق على مستوى جغرافي أكبر..

تنبه النظام بوحي مخابراتي إيراني وروسي إلى أهمية تطبيق حصار شديد على التنسيقيات وقطع الصلات بين تجمعات التظاهر المختلفة، فلم تؤد التنسيقيات المهمة الأساسية وهي ربط التحرك ليشكل سلسلة كبيرة ومستمرة بتنسيق محدد، فيما كانت المعارضة في الخارج قد بدأت بلملمة نفسها وخضعت لمساومات كثيرة حتى تمكنت من تشكيل المجلس الوطني، ومن ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة..

انحسار التعاطف الدولي مع هذه الثورة جرى حين ظهر تنظيم الدولة الإسلامية وانصرفت الجهود لمحاربته، وصدور تصريحات ومواقف دولية بأن محاربة النظام لم تعد أولوية، لا يغير بأي حال أحقية الثورة ومطالبها التي خرجت من أجلها، ومحاربة التنظيم وحدها لا تعطي مشروعية لأي جهة تقوم بذلك، ولا يشكل التنظيم بذات الوقت عبئاً على الثورة فظروف نشوئه وتطوره ومن ثم افتراسه لنصف مساحة سوريا جاء بسياق مختلف، وإن كان موازياً لسياقات الثورة، ينطبق هذا التوصيف على كل التشكيلات الجهادية التي نتجت أو أُنتجت في سوريا، المستورد منها والمحلي، وقد رفعت هذه التشكيلات بالفعل عبئا كبيراً عن كاهل النظام بتحويل الأنظار عنه وإضعاف التضامن مع الثورة عليه، ولكن التفريق كان على الدوام متاحا بين تنظيمات التطرف وسلوكياتها وبين حركة الثورة الأصلية، ووجود هذا العدد الضخم من اللاجئين السوريين والمهجرين قسريا هو تعبير صريح عن خلل عميق في عقلية وآليات عمل من يحكم هذا البلد، وهي عقلية خارجة عن الزمن وهي دون شك بحاجة إلى ثورة تقتلعها من الوجود.

————————–

أسئلة في الأفق لكن بلا أجوبة/ يحيى العريضي

ها هي تكتمل عشرة عجاف من التاريخ السوري؛ ولازال الجرح مفتوحاً؛ والأسئلة في الأفق تتزاحم؛ ولكن يبقى أكثرها بلا أجوبة.

في علم الدلالة والمنطق، يجب ألا يحمل السؤال حكم قيمة، كي يكون موضوعياً ومحايداً؛ ولكن في الحالة السورية، لا بد أن يحمل السؤال حكم قيمة، كي يشع على المأساة وغرابتها؛ فلا حياد في القضية السورية.

لقد وصل السوريون إلى حالة لم تعد فيها حتى الأسئلة الحادة النفّاذة ذات وزن أو تأثير؛ وممل أصبح توصيف الحال؛ فإذا كان أفق اليوم مسدوداً بفعل دمار الأمس، فماذا سيكون عليه، وأي شكل سيأخذ الغد المبهم!؟

    هل نقاوم بيدنا عبر حرب تحرير شعبية لم يعد في الأفق جدوى إلاّ هي؟! وهل زمننا زمن الحروب الشعبية، بعد أن سدّت اليد الوحشية الداخلية والخارجية هكذا احتمال؟

    هل نسامح آل الاسد ومَن لف لفيفهم بتعب العمر ومسقط الرأس والذكريات والوطن، الذي ليس لنا غيره؟

    ماذا نقول لعشرات آلاف المعتقلين في مقابر الأحياء.. زنازين نظام الإجرام؟

    ماذا عن إخوتنا السوريين الآخرين الذين سمّتهم منظومة الأسد “المجتمع المتجانس” فحوّلتهم إلى رهائن، ليختص بعضهم بالتشبيح، وآخرون بالارتزاق؛ وقلة بلا حول أو قوة، تجمعهم الإهانة ويقتلهم الصمت؟

    ماذا نقول لمن سمح لمخدرات إيران أن تعبث بهم، ولروسيا أن تحتقرهم، ولميليشيات محلية أن تعربد وتخطف وتقتل دون رادع أو واعز أخلاقي يوقف النزيف؟

    أي جيش أو “حماة ديار” تبلّدت مشاعرهم ليصبح في ذهنهم المستبيح حامياً، والقاتل مخلّصاً، والمبعثر موحداً، والعبد الذليل سيداً؛ كل ذلك ليهون عليهم وطن وشعب خرجوا من صلبه ليحموه ويدافعوا عن سيادته، فإذ بهم أداة الجريمة بحقه؟

    أمام هذا التشظي المجتمعي، والبروز الفاقع للهويات المغلقة ما دون الوطنية، كيف يمكن استعادة سوريا الوطن بهوية تشاركية متجددة بعيداً عن القمع والخوف اللذين كرستهما وعاشت عليهما منظومة الاستبداد، التي حولت السوريين إلى رهائن للعوز والخوف والقهر والصمت؟!

    ماذا عن منظومة استبدادية منفصمة عن الواقع وعن الأخلاق والمسؤولية؛ تكذب كما تتنفس؛ لم نشعر أنها سوريا أصلاً؟!

    أي ثوابت تلك التي تتبخّر؟ ومتى وُجدت تحوّلت إلى حبال تخنقنا أو قوالب تجمدنا؟

     من يشبع نهم الصهاينة، وهم يجدون مَن يتسابق على نيل رضاهم وتقديم ما لم يحلموا به، أكان الأسد للبقاء في السلطة، أو بوتين لتُقبَل أوراق اعتماده أميريكياً وأوروبياً؟

    إذا كان مَن ساهم بتمزيق سوريا وهتك سيادتها لازال يتبجح بوحدتها وسيادتها، دون الالتفات إلى بعثرة روحها وجوهر وجودها؛ فهل يمكن أن نعوّل على محتلٍ بصفة حليف، وصاحب مصالح خبيثة بصفة منقذ؟ ماذا يفعل كل الغرباء في بلدنا؟ ومَن تسبب بوجودهم؟ أليس الخلاص من الحجة والذريعة طريقاً للخلاص واستعادة بلدنا؟!

    ما هذا الهوس الداخلي السوري والإقليمي والعالمي بإبقاء النار السورية مشتعلة؟ أو بتضميد الجرح السوري الغائر بعفنه؟ أو بالإبقاء على أساس وسبب المأساة السورية، وعدم تكليف النفس بوقفة ضميرية على جوهر ما حدث ويحدث؟ أو باستمرار خلق الحجج والأعذار الزائفة لتحقيق مصالح صغيرة تؤذي الملايين وتخدم غايات خبيثة تجعل من عالمنا مكاناً مقرفاً وخطراً وغير آمن للحياة البشرية؟!

    ما معنى أن تستميت روسيا بحفر ونبش مقابر في مخيم اليرموك للعثور على رفاة جاسوس إسرائيلي كي تدعم نتنياهو في انتخاباته، علّه يساعدها في رضى الغرب عنها وفي إعادة تكرار رفاة النظام الأسدي؟!

    لماذا لم يطلب وزير خارجية الإمارات من نظام الأسد التجاوب مع الحل السياسي الذي يضع سوريا والسوريين على سكة حياتهم (التي يقلق عليها) كي يتم رفع عقوبات قانون قيصر، وعندها يعيد سوريا إلى الجامعة العربية؟!

    باستثناء شبيحته و “نبيحته”، هل يعتقد بشار الأسد وحرمه المصون أن ادعاء إصابتهما بالكورونا سيجلب التعاطف مع مَن ينتظره ما يقارب المليون وثيقة توثق إجرامه بحق شعبه، وتعيد تكراره رئيساً؟!

ليست جامعة مانعة هذه الأسئلة؛ ويمكن إضافة مئات عليها. حَسْبُها أنها تسلط الضوء على ملامح طريق الخلاص. ضاق مكان الحرب. لن ينسى سوريٌّ آل الأسد أو يسامحهم، ولن يغفر لمن هدر الدم السوري؛ ولكنه جاهز لتضميد الجراح والعودة إلى الحياة. يريد السوريون معتقليهم؛ يتطلعون إلى التعايش وبتجانس كما كانوا، ولكن ليس على الطريقة الأسدية. أتعبتهم مخدرات ملالي طهران وسكاكين ميليشياتها وصواريخ وطائرات بوتين وسياسات لافروف البهلوانية؛ يريدون جيشاً يحمي الديار لا الاستبداد والجرائم؛ يريدون هوية يعتزون بها ووطناً حراً كريماً يتساوون فيه بالحقوق والواجبات تحت قانون هم فيه الأسياد لا الأقنان. عندها بكل ثقة وفخر يستعيدون ما احتُل من أرضهم من إسرائيل التي حمت من قمعهم مقابل التبطح على حقهم. وعندها فقط نستعيد الوطن.

يحيى العريضي

———————-

بعد عشرة أعوام.. بعض حصائل الثورة!/ ميشيل كيلو

بعد عشرة أعوام من ثورة السوريين، تزداد حاجتنا إلى إلقاء نظرة على ما آلت إليه، وأنجزته أو فشلت في تحقيقه.

أعتقد أن هناك نتيجتين ترتبتا على ثورةٍ أراد السوريون بلوغ حريتهم بواسطتها، والتخلص من الوضع الشاذ والمخالف للطبيعة الذي يعيشه وطنهم ومجتمعهم منذ عام 1970، حين استولى حافظ الأسد على السلطة بانقلاب عسكري، وابتدع نظامًا ليس في سياساته غيرُ التنكيل بمواطنيه، بمختلف أشكال العنف والإرهاب، وإخضاعهم لما لا يطيقه شعبٌ من إذلال وإقصاء، وغمرهم بأزمات حرص على تنميتها وتضخيمها، لـ “يطبشها” برؤوس مواطنيه بعد إنضاجها، وجرّهم إلى أزمة أو أزمات أخرى، يتسلط عليهم بواسطتها، وهكذا دواليك.

تتجلى أولى نتائج التمرد الثوري السوري في الإطاحة بنمط السلطة الأسدي، وبالعلاقات التي فرضها على المجتمع السوري، وقامت على تشطيره وتقسيمه ووضعه كجماعات متعادية، بعضها يواجه بعضًا، وخلق هوة اتسعت باضطراد بين أهل السلطة والخاضعين لها، وصولًا إلى إقامة عالمين مختلفين يمتطي أحدهما ظهر الآخر، ويسومه صنوفًا شتى من الاضطهاد، ويهمّشه ويلقي به إلى درك الفقر والذل. هذا النمط من السلطة صارت استعادته، بالصورة التي كان عليها قبل الثورة، ضربًا من المحال، بسبب ما أصابه على يديها من تهتك وضعف وعجز عن إدارة مناطق سيطرته بواسطة وزاراته، ووضع سلطته جهارًا نهارًا بين أيدٍ مخابراتية، فشلت طوال عشرة أعوام فيّ لي ذراع الشعب، على الرغم مما ارتكبته من جرائم لا توصف أو تصدق، واستجلبته من غزاة أجانب لنجدتها، وهم يقفون اليوم عاجزين أيضًا عن إنجاز المهمة التي تعهّدوا بتنفيذها، سواء تعلّق الأمر بإعادة السيطرة إلى كل شبر من سورية، أم بالقضاء على التمرد. وبدلًا من تحقيق وعودهم، ها هو الأسد يقبع في القصر الجمهوري بحمايتهم، وقد أفقدوه ما يدعيه، بين فينة وأخرى، من استقلال وكرامة، بعد تحوله إلى أداة في أيديهم، لا شيء سيمنعهم من بيعها في سوق النخاسة الدولي وصفقاته، إن تواصل فشلهم في رد السوريين إلى بيت طاعته، أو في كسر إرادتهم، ضمن المناطق الخاضعة له، قبل غيرها، التي تبدو مظاهر تململها جلية للعيان، في ما يصدر عن مواطنيها من أقوال ويقومون به من تصرفات، ويرسلونه من إشارات تؤكد رغبة كثيرين منهم في الانضمام إلى المناطق الخارجة عن الأسدية، ومغادرة مناطقها إلى بلدان اللجوء الأجنبية.

 لم يعد هناك من يستطيع إعادة السوريين إلى ما قبل ثورة الحرية، ولم يعد هناك سوريون يقبلون عودة كهذه، تحت أي شرط ولأي سبب، ومهما كانت التضحيات التي يتطلبها استمرار صمودهم الأسطوري في وجه أعدائهم. ولم يعد هناك أيضًا من يستطيع إعادة النظام إلى زمن ما قبل التمرد الثوري، بعد أن دمّره السوريون بصمودهم وبتضحياتهم في سبيل الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وصاروا خطًا أحمر لن يتمكن أجنبي أو أسدي من تجاوزه، لأن الأمن في سورية صار مرتبطًا بشعبها، لا بنظامها الذي فقد وظائفه، باعتراف الروس والإيرانيين، وما يقوم به من تدابير تشبه ما كان يمارسه شطار وعيارون يعيشون من الاحتيال ليستمروا في العيش، ويستحيل أن تكون طريقتهم حبلَ نجاة لنظام قوضه شعبه، ولم يعد له من سند غير غزاة جرّهم إلى مأزقه، لا يستبعد أن تتسع الهوّة بينهم وبينه، إلى أن يدركوا استحالة إنقاذه.

ثمة نتيجة أخرى للثورة، تتعلق بالغزاة الذين يدركون اليوم أن انتصارهم على الشعب السوري هو ضرب من المحال، ووهمٌ سيكون قاتلًا، إن هم تصرفوا كمنتظرين، وضيّعوا وقتهم في إيجاد حلّ يتنكر لحقوق السوريين، لن يحلّ شيئًا، وسيورطهم في صراع لا نهاية له، لن يتردد في خوضه من فقدوا الملايين من أحبائهم، وسيثأرون ممن قتلوهم بقنابلهم أو تحت التعذيب، أو بالتجويع. إذا كانت روسيا وإيران تتوهمان أن بوسعهما إنقاذ الأسدية، عبر حلّ سياسي لا مكان فيه لحرية المواطن السوري وحقوقه، فإن وهمهم سيسوقهم إلى مهالك لن يقوى جيشاهما على تخطيها، في ظل يقظة السوريين الوطنية، وتصميمهم على نيل حقوقهم من أعدائهم، وعلى منازلته، وامتلاك قدر من الطاقات يمكنهم من استهدافه بما لن يترك له مناطق آمنة أو مقار محمية.

بالفارق بين قدرة الشعب على ترميم ما أُنزل به من دمار وتعرّض له من قتل، وبين انهيار الأسدية؛ لن يتمكن الروس، أو غيرهم، من فرض حلّ يُنقذ السفاح، إن كانوا يريدون حقًا تهدئة من لن يهنأ لهم بال، ما دام في السلطة، ووضع حد لحربٍ خالوا أنها ستكون نزهة قصيرة تستمر أسابيع أو أشهرًا قليلة، يحسمون خلالها القتال لصالحه، وها هم عاجزون عن استعادة قرابة نصف مساحة سورية، وعن إركاع مواطنيها، وإزهاق روح الحرية في نفوس بناتها وأبنائها، وبلوغ وضع يضع حدًا للقتال ضدهم أيضًا. 

 لن ينتصر الأسد على شعبٍ غدت هزيمته مستحيلة. ولن يجد الروس حلًا سلميًا لا تكون حقوق السوريين ركيزته وهدفه. ولن يبقى الغزاة الإيرانيون في بلاد ترفض احتلالهم، ولا تمانع في إقامة علاقات طبيعية ورسمية معهم. ولن يفلح أحد بالقفز عن خط الوطنية السورية الأحمر، إذا كان حريصًا على أن لا تُدقّ عنقه.

دمّرت الأسدية طاقاتٍ سوريةً كثيرة، لكن الشعب الثائر أخذ يرمم نفسه، بعد أن دمّرها، وجعلَ استمرارَها مستحيلًا، واستمرارَ الغزاة والمحتلين في وطنه تحديًا لا يستطيعون تجاوزه.

—————————–

عقد من الثورة لا مكان للتهنئة بل دعوة للعمل والتقويم/ د. سميرة مبيض

ليوم كسوريين على عتبة انهاء العقد الأول من الثورة السورية، عشر سنوات رايتها الأولى هي التضحيات التي قدمها الشعب السوري في سعيه لتحقيق الحرية والكرامة الإنسانية، ورغم ما تضمنه مسار السنوات الماضية من انحرافات نجمت عن انجراف واسع في تيارات ضخ المال العسكري والمال السياسي والاستقطاب الايديولوجي بمختلف مسمياته ورغم ما برز من ظواهر سلبية في المجتمع أشدها سوءاً مظاهر التطرف وما اتضح عبرها من تشرذم عميق في صفوف السوريين، لا زالت نخبة إنسانية ماضية بالسعي لتحقيق أهداف الثورة الأولى تضم في صفوفها كل من يؤمن بأحقية الشعب السوري بالحياة وبقدرته على تجاوز القيود الثقيلة التي فُرضت على سوريا في الحقبة الماضية والتي ولدت هذا النتاج الكارثي الذي فاض بنا في السنوات الأخيرة من مظاهر العنصرية والطائفية.

فبمقابل ما تواجهه مطالب السوريين وتضحياتهم اليوم من تغوّل سياسي ومنفعي وصراع مصالح ومحاور ألا أن عجلة التغيير قد انطلقت ولا يمكن اعادتها لما قبل آذار 2011 فالمسار يعتمد في تقدمه على دفعة نابذة من مساوىء وسلبيات الماضي وما نجم عنها في ظل واقع شمولي بعيد عن بنية الشعب السوري التعددية دافعاً بذلك نحو بناء مستقبل نقيض مُنقذ لسوريا.

لا بد في هذا السياق من التأكيد على أن سلطات الأمر الواقع المُسلحة التي تسيطر اليوم على مختلف مناطق النفوذ في سوريا من فصائل وميليشيات وسواها لا تعدو كونها جزء من منظومة القمع الفائتة التي عزز وجودها عشر سنوات من الصراع البيني المسلح والتمويل المرتبط به وأن أي منها لن تستطيع تحقيق مقومات بناء دولة ترتكز على دستور عادل وقوانين تحمي حقوق الانسان وكرامة المواطن السوري بل تُعتبر جميعها شريكاً مباشراً مع نظام الأسد بمعاناة الشعب السوري وعائقاً عن الوصول لحالة الاستقرار والأمن المستدام بعيداً عن السعي لتقاسم السلطة على أنقاض الحرب ولا زال استقطاب هذه المحاور يشكل العائق الأكبر بوجه التوصل لإعلاء المصلحة السورية عن أي مصالح أخرى، ولا زالت الاصطفافات المنضوية في هذه الاقطاب تدفع نحو مزيد من التشرذم.

كذلك لا بد من التأكيد على أن جمود المسارات الدولية للحل السياسي وعدم وجود إرادة حقيقة لتطبيق أو تفعيل أي منها ومحاباة إرادة النظام في التعطيل والتسويف يشكل سبباً اضافياً لزيادة معاناة السوريين، على الأخص منهم المعتقلين والمهجرين في المخيمات ودول اللجوء ومن يعانون من نتاج التدهور الاقتصادي في كافة المناطق ويعتبر السعي لكسر هذا الجمود مطلباً سورياً جامعاً يتوجب أن تأخذ به الجهات الدولية المعنية لتحقيق الانتقال السياسي بالسرعة التي تفرضها الكارثة الإنسانية التي حلت بالشعب السوري وفي ظل تفاقم جائحة وبائية يواجه تحدياتها العالم أجمع.

في مقابل ذلك التدهور يتصاعد حراك مدني وسياسي حديث يمكّن قيم ومبادىء الثورة الاولى ويدعمها بالذكاء والابداع الخلاق ويزداد متانة ويفرض وجوده في كافة المناطق السورية ودول الشتات كأحد أهم الروافع الصلبة لاستمرارية الثورة السورية، فرغم محاولات التيارات السياسية /الأيديولوجية التقليدية المهيمنة على المشهد المعارض اقصاء وتهميش المستقلين والمدنيين من التأثير على مسار العمل السياسي الذي دار في متاهات متعاظمة طيلة العقد المنصرم، ولا زال، فقد أثبت المجتمع السوري أنه قادر على التأثير عبر مسارات حقيقية. سواء عبر منظمات حقوقية تثبّت الادانات الحاصلة بحق الشعب السوري من كافة الجهات وتوثقها وتسعى لتحقيق العدالة وتحييد المجرمين جميعهم عن مستقبل البلاد أو عبر منظمات فكرية وحوارية وثقافية توثق وتوسع أفق التغيير الإيجابي بقوة، أو عبر منظمات تعمل على إعادة فاعلية دور المرأة الطبيعي في المجتمع والحياة العامة وأطر صنع القرار الى سواها من منظمات تسلط الضوء على تدهور الامن المعيشي والصحي للسوريين في جميع المناطق ومبادرات تعزز بناء هوية سورية تعددية منفتحة وتفتح الباب لحلول قابلة للحياة والتطبيق وتهتم برفع صوت السوريين الذي يزداد اصراراً على تحقيق أهدافهم بالكرامة والعيش الكريم.

ليس للتهنئة مكان اليوم بل لإحياء ذكرى التضحيات ووضع اليد على الأخطاء والانحرافات وللدعوة للعمل، للتعمق، للتقويم نحو مسار صاعد يتصدى لجميع التحديات الماضية منها والقادمة.

——————

في عامها العاشر.. هل سنحاسب على خروجنا في ثورة ضد الأسد؟/ أحمد إسماعيل عاصي

أعادتني قضيتا إياد غريب ومجدي نعمة إلى ماض كنت أحاول الفرار منه في سنواتي الأخيرة، هناك في إحدى البراري الوعرة في جبل الزاوية، حيث ترتفع الصخور وتتشابك الأشجار، كنت قد اتخذت مع مجموعة من شباب المنطقة مخبأ لنا هرباً من بطش الأسد وجيشه الباسل، الذي اقتحم قريتنا بعشرات الدبابات والجنود والرشاشات والأسلحة الخفيفة والثقيلة، بحثا عن “العصابات الإرهابية”…!

وتلك العصابات كانت تتمثل في مخيلتي بأشخاص ذوي لحى طويلة، ومعهم أسلحة فتاكة وقد اعتادوا السكن في الجبال، ويطلق عليهم زورا وبهتانا اسم “المجاهدين”، ولكني لم أكن أعلم أنها أضغاث أحلام، وأن الإرهابيين الذين كان يبحث عنهم الأسد هم أنا والشباب الذين معي ومن شابهنا وقرروا الخروج على إرهاب الأسد وإجرامه، وأن أولئك الإرهابيين الذين نعرفهم كانوا الوجه الآخر الذي أكمل ما عجز النظام عنه.

ولعلي اليوم أدهش عندما أعلم أن تلك الأحداث جميعها كانت مراحل متتابعة من ثورة أشعلها الظلم والاضطهاد.. ثورة لم نعرف في انطلاقتها الأولى شيئا من تلك المفردات، ولم يكن لنا فيها غاية أو هدف من تلك الأهداف والغايات التي أصبحت باعث سخط لي وأنا أسمع أحدهم يحاضر بها أمامي ولعله لم يعرف الثورة إلا في سنواتها الأربع الأخيرة.

اليوم وفي ذكرى الثورة العاشرة لم يبق مجالا للشك في أنها لم تكن للحظة ضد نظام الأسد، على عكس توقعاتنا التي وصلنا إليها في أماكن اختفائنا ونحن نستعرض واقعنا ونبحث عن أحاديث نمضي بها أيام نهارنا الطولية التي ما كادت تنقضي، والحديث كان في مجمله منصبا حول ما نحن فيه فلم يكن بيننا من يستطيع التكلم بشكل مباشر، ولا أعلم لماذا كانت الأسئلة كلها تتجه نحوي فقد كان ذلك يشعرني بنوع من القلق والخوف ولا سيما أن الجميع كان يعتقد أنني أعرف كل شيء بحكم أنني صحفي فكنت لا بد أن أتعرض في اليوم أكثر من مرة للسؤال وماذا بعد؟ والحقيقة أني لم أكن أعرف زيادة عما يعرفه الآخرون..

فأن تكون صحفياً في دولة البعث لا يعني أبدا أن تكون ذا اطلاع، بل جل ما يمكن لك أن تعرفه إنجازات القائد والخط السياسي لتوجه الحزب الحاكم، وهذا يعني أنك ستعرف شيئاً عن المقاومة والممانعة وعن رموزها وأركانها، ولن يخلو الأمر من حفظ بعض خطابات القائد الأوحد وإنجازاته الحضارية في قمع معارضيه..

 فإذن ماذا عساي في ظل هذا الواقع أن أجيب؟

 كان لا بد لي من محاولة استشراف مستقبل فيه شيء من الأمل والسعادة، قائلا إننا في خروجنا ضد نظام الأسد حققنا انتصارا مُعظما وإننا اليوم صناع تاريخ حقيقي، وإننا على ما نحن فيه من خوف وهرب وربما موت في أية لحظة أو اعتقال، إلا أننا صنعنا ما يعجز الجميع عنه، وإن الثورة ما إن تتسع رقعتها ويزداد زخمها حتى ينتهي نظام الأسد إلى غير رجعة، ويكون بمقدورنا محاسبة هذا النظام المجرم وأركانه ورموزه على الجرائم التي لا تعد ولا تحصى بحق السوريين منذ اغتصابهم السلطة في سوريا، والحق إن الإجابات التي كنت أطلقها لم تكن إلا أمنياتي ليس إلا ورغبتي التي دفعتني للخروج في الثورة منذ صيحتها الأولى، ولكنني كنت أخشى أن تلك الأمنيات لن تتحقق أو لن يكون من السهولة تحققها، ولا سيما عندما أسترجع أحاديث عائلتي المغلقة والمعتقلين منهم بتهمة الإخوان المسلمين جدي وأعمامي وأقاربي الذين أمضوا أعواما وأعواما في سجون الأسد عقب أحداث الثمانينيات.

والوقوف اليوم على قضية مجدي نعمة وإياد غريب لا يعني إطلاقا الدفاع عن الجناة ولا يعني أبدا أن الثورة تبيح لأحد سفك الدماء أو ارتكاب الجرائم، لكن ما تحمل تلك القضيتان من أبعاد سياسية يشعرني بالقلق والخوف مجددا، فلا يمكن أن يُفهم إلا أنه محاكمة الضحية، سواء كان الغريب أو نعمة فالأول كان انشقاقه بارقة أمل لا يمكن لمن فاتته أشهر الثورة الأولى أن يدرك أهميتها ففي الوقت الذي كان فيه الناس يتنفسون الصعداء ويعيشون حالة من التشتت كانت كل عملية انشقاق على صغرها بمثابة باعث لروح الثورة في النفوس، وربما لولا الانشقاقات التي شهدتها قوات النظام في تلك المرحلة لما كان من الممكن الاستمرار بالثورة حتى هذا اليوم، ومن جانب آخر فليس من السهولة بمكان شرح ما يعنيه انشقاق ضابط أو عنصر من قوات النظام، إنه كان يعني المخاطرة لأبعد حد والتعرض للموت والتنكيل والقتل والقمع بأشد الوسائل وحشية هو وكل من يمت له بصلة.

وأما حالة مجدي فهي الرهان الواضح أمام العدالة الدولية التي رسمت موقف تلك الدول وأوضحت أن المجتمع الدولي اختار الأسد، إذا كيف يمكن لسوري أن يحاكم في فرنسا بتهمة جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية وأن تكون محاكمته في سبيل العدالة وما يزال رفعت الأسد منذ ثلاثين عاما والابتسامة لم تفارق وجهه يعيش في فرنسا بتاريخ حافل بالقتل والإجرام والإرهاب وغيره الكثير من أركان النظام ورموزه.

وتلك المقارنة الخاسرة تبدو اليوم كل ما بقي لثائر لم يحد عن درب الثورة… الماضي والحاضر وما بينهما، فقد كان هروبنا في ذلك اليوم تائها ومشتتا لا يتبدى لنا شيء من معالمه، في حين أن هروبنا اليوم بعد عشرة أعوام من التضحية والثورة واضح المعالم ومليء بالخيبة واليأس، لم نكن نعلم كيف وإلى أين ولا متى ستكون النهاية، كل ما نعرفه أننا كنا نشعل فتيل ثورة لم يعرف العصر الحديث أعظم منها، وأن سوريا لن تكون مزرعة بعد اليوم، وأن الأسد لن يحكم إلى الأبد، وأما اليوم فالواضح فقط أننا وبلادنا ضحية لمطالع دول تحمل شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان في العلن وتتفنن بوسائل القتل والتشريد والتنكيل بعيدا عن الأعين، وأننا أيضا ضحية لعقيلة الاتهام والتخوين والواسطة والمحسوبيات وحب الذات وما تنطوي عليه نفوسنا من عقد نقص يحاول كل منا ملأها على حساب الثورة والوطن.

كنت في أوقات خلوتي وما أكثرها لا يغادرني سؤال طالما ألح علي… متى سنصل إلى اليوم الذي نحاكم فيه نظام الأسد وأركانه ورموزه؟

 كان سؤالاً صعباً وبدت لي في الأيام اللاحقة أن الإجابة عليه كانت أصعب، فقد كان كل شيء مظلماً حولي ولم أكن أعلم شيئاً عن النهاية التي سأصير إليها مع العصبة الصغيرة من أصحابي الذين كلما حدقت النظر إليهم رأيتهم يتقدون ثورة وتجري صيحات الحرية مجرى الدماء منهم، فيتمكن بي الحماس حينها وأنتشي فرحا بأن اليوم الذي سنقف فيه بوجه الأسد وزبانيته والقتلة المجرمين من نظامه لنحاسبهم باتت قريبة، غير أني اليوم أعيد الحسرة والحرقة أكتوي أتألم وأبكي… ولا أجد ما يبث بي الحماس والعزيمة فرفاقي الذين كانوا معي في براري إدلب لم يبق منهم إلا صورهم التي احتفظ بها وأخاف حتى النظر إليها بعد أن مضوا بين قتيل أو مفقود أو معتقل في سجون الأسد، وآخرين لا أعلم عنهم أهم أحياء أم أن الموت أراحهم مما يعانيه الكثير من الأحياء وتركوني وحيداً يحضرني سؤال واحد أكثر ألماً وأبلغ حسرة وأشد وجعاً، متى سنقف في محاكم العدالة الدولية لنُحاسب على خروجنا في ثورة ضد الأسد؟

—————————-

تمسك الأسد بالكرسي وهذه “فاتورة” بقائه.. السوريون في انتظار المجهول في وطن ممزق

قبل عشر سنوات تظاهر السوريون مطالبين بمحاربة الفساد والقمع، وبدلاً من أن يستمع إليهم نظام الرئيس بشار الأسد شن حرباً شعواء على شعبه، واليوم لا يزال بشار رئيساً على سوريا بعد أن ساعدته روسيا وإيران في السيطرة على أغلب البلاد، لكن أي دولة يجلس الأسد على كرسي رئاستها؟

بشار الأسد وسط جنوده/رويترز

ففي نهاية عام 2011، كان نظام الأسد قاب قوسين من السقوط وسط ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة عدّة حكمت بلادها لعقود بقبضة حديدية، لكن اليوم وبعد عقد كامل لا يزال الأسد في مكانه بعد انتصار باهظ الثمن لم يوفّر فرصة حقيقية لأي مصالحة مع الشعب، ويمارس الأسد اليوم سيادة شكلية على أرض أصبحت فريسة لقوى أجنبية متناحرة، على شكل دويلات وليست دولة واحدة.

على ماذا يسيطر الأسد تحديداً؟

يسيطر نظام بشار الأسد حالياً على أقلّ من ثلثي مساحة البلاد، لكن نظرة فاحصة أكثر على الأوضاع تكشف مدى هشاشة تلك السيطرة من الأساس خصوصاً ما يتعلق بخريطة السيادة على حدود البلاد، وهو ما أوضحه الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش في تقرير نشره مؤخراً استنتج فيه أنّ قوات نظام الأسد “تسيطر على 15% فقط من حدود سوريا”، مضيفاً: “الحدود هي رمز السيادة بامتياز، وبطاقة أداء النظام لا تزال فارغة تقريباً على تلك الجبهة”.

وبحكم الأمر الواقع تسيطر القوات التركية والأمريكية والكردية أو المجموعات المدعومة من طهران على ما تبقى من الحدود، ويعتبر بالانش أن القوى الخارجية “تقسّم البلاد بشكل غير رسمي إلى مناطق نفوذ متعددة، وتسيطر بشكل أحادي على معظم حدودها”.

مرتزقة فاغنر

مرتزقة فاغنر يواجهون اتهامات بارتكاب انتهاكات في سوريا – صورة أرشيفية

وفي بودكاست بثّته مجموعة الأزمات الدولية الشهر الماضي بعنوان “الصراع المجمّد” في سوريا، قالت الباحثة دارين خليفة: “أفضل الخيارات السيئة المتاحة لدينا اليوم هو تمادي الجمود” القائم، معتبرة أنّ تجاوزه في محاولة لتسوية النزاع يمرّ عبر تحسين جذري للظروف المعيشية التي يواجهها الشعب السوري.

والمشهد نفسه توقفت عنده مجلة The Economist في تقرير لها رصد مجموعةٌ من الاتفاقيات تضمُّ أمريكا وإيران وروسيا وتركيا ونتج عنها خفوت حدة من القتال، إذ يسافر السوريون عبر البلاد من أجل الدراسة والتسوُّق وزيارة الأقارب، لكن البلاد مُقسَّمة إلى جيوب ولكلٍّ منها حاميةٌ أجنبية.

وأصبحت الإدارات المحلية راسخةً في كلِّ مكان، ولديها ميليشياتها الخاصة، وتدير اقتصاداتها الخاصة، وغالباً ما تفضِّل عرقاً أو طائفةً واحدة. يقول مسؤولٌ في الأمم المتحدة: “إننا نشهد تقسيماً لسوريا مثل البلقان”، بحسب تقرير المجلة.

انهيار اقتصاد سوريا

نقل تقرير لوكالة فرانس برس الفرنسية عن مواطن سوري مقيم في دمشق عبر الهاتف قوله: “انتهت الحرب بمعنى توقف القتال والمعارك، لكن جراحنا ما زالت تنزف”، مضيفاً: “الاقتصاد هو الأزمة التي يعاني منها الجميع، لذا قد تكون الحرب انتهت عملياً، لكن المعاناة لم تنتهِ”.

إذ يعاني نحو 60% من سكان سوريا حالياً، وفق الأمم المتحدة، من انعدام الأمن الغذائي، وخسرت الليرة السورية 98% من قيمتها خلال عقد من الزمن. وقدّر تقرير لمنظمة الرؤية العالمية هذا الشهر كلفة الحرب السورية بـ1,2 تريليون دولار.

وأفاد مصدر موثوق لموقع “عربي بوست” بأن هناك بالفعل احتجاجات بسبب الوضع الاقتصادي الخانق في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، ورغم أنها لا تزال احتجاجات صغيرة الحجم ونادرة الحدوث، “لكنها قد تتزايد نتيجة الانهيار المتواصل للعملة السورية وتدهور الأوضاع الاقتصادية دون مؤشرات إيجابية في الأفق، ويرجح أن تتزايد وتيرة الاحتجاجات لمستويات مؤثرة على النظام”.

الأسد الأزمة الاقتصادية وقف برامج الطبخ

طوابير الحصول على الخبز في سوريا / مواقع التواصل الاجتماعي

وفي هذا السياق، تشير توقعـات “فيتـش سوليوشـنز التابعة لمؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني” إلى أن الاقتصاد السوري سيمر بعام آخر مليء بالتحديات، ومن المتوقع أن يشهد نسبة نمو حقيقي لا تتجاوز 2% في 2021. ويبدو أن هناك احتمالاً ضئيلاً بأن يرفع الرئيس الأمريكي جو بايدن العقوبات عن سوريا في أي وقت قريب، وكذلك من المرجح أن تستمر الأزمة المصرفية في لبنان، ما سيدفع إلى استمرار نقص الدولار في سوريا خلال الفترة المقبلة، وهو ما يعني استمرار الوضع المتأزم لليرة السورية وتأجيج الأزمة المشتعلة بالفعل.

تكلفة تمسك الأسد بالكرسي

وعلى الرغم من تلك السيطرة الشكلية والبلاد الممزقة والخاضعة لسيطرة قوى خارجية، يستعد الأسد البالغ من العمر 55 عاماً والجالس على كرسي الرئاسة منذ 2000 خلفاً لوالده حافظ الأسد لخوض انتخابات لولاية رئاسية رابعة الصيف المقبل يتوقع القاصي والداني أن يفوز بها.

ولا يمتلك الأسد إجابات أو حلول يقدمها لمن تبقى من شعبه في المناطق التي يسيطر عليها وينعكس ذلك في خطبه المتكررة التي يتجاهل فيها مشاكل سوريا الكبيرة الكبيرة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، إذ تعمل القوات الروسية ما تريده دون رادعٍ بينما تسيطر الميليشيات الإيرانية على الحدود بين مناطق سيطرة النظام والعراق ولبنان، وتُسقِط إسرائيل قذائفها على البلاد، وتدافع القبائل الدرزية في الجنوب والقبائل العربية في الشرق وحتى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد على الساحل عن نفسها بشكلٍ متزايد.

تكلفة تمسك الأسد بكرسي الرئاسة تتجاوز أكثر من نصف مليون قتيل وأضعاف هذا العدد من اللاجئين والنازحين، ورغم أن الأوضاع الأمنية صارت أهدأ عن ذي قبل إلا أن المعركة لم تنتهِ بعد، فالتحدي الأكبر الذي يواجهه النظام السوري حالياً هو توفير الحياة الكريمة للذين وقفوا بجواره ودعموه، وكذلك التخلص من التبعية التي فرضتها إيران وروسيا عليه بعد تمكنه من السيطرة على أغلب البلاد عدا منطقة إدلب شمال البلاد والتي ما زالت في يد الفصائل المسلحة.

مظاهرات سوريا/ أرشيفية

وبحسب المصدر الموثوق الذي تحدث لـ”عربي بوست”، لا زال بشـار الأسـد يعلن أنه ملتزم بإعادة السيطرة على كل سـوريا، بدعم من روسيا وإيران، وفي ظل غياب الحافز لديه لتقديم أي تنازلات ذات مغزى لما تبقى مـن المعارضة المسلحة المنقسمة بشدة بيـن فصائل تدعمها تركيا وبعض المجموعات الجهادية، خاصة مع التقدم العسكري الكبير لصالح النظام، وعدم رغبة إيران وروسيا وتركيا والأردن والولايات المتحدة تفكيك هياكل الدولة في سوريا بالكامل.

وفي السياق ذاته، تواجه المعارضة السياسية تصدعات خطيرة للغايـة تجعلها غير فعالة ومنقسمة داخلياً فيما بينها، سواء تلك المجموعات السياسية الرئيسية المشكلة لـ”الائتلاف الوطني للثورة السورية” ومقره إسطنبول أو لجنة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي ومقرها دمشق.

ولا يوجد مؤشر حاليّ على مواجهة الأسد تحديات كبيرة لحكمه من داخل النخبة العلوية، ويبدو أن داعمي المعارضة السورية السابقين قـد تخلوا جميعاً عـن إصرارهم على الإطاحة بالأسد، في حين من المرجح أن تستمر الولايات المتحدة تحت رئاسة بايدن في تقديم تنازلات بشأن مستقبل الأسد، في ظل عدم وجود بديل قابل للتطبيق.

لكن على الجانب الآخر من الصعب تجاهل حقيقة أن غالبية الفريق القيادي الذي عينه بايدن (وزير الخارجية  أنتوني بلينكن، نائبة الرئيس كامالا هاريس، وزير الدفاع لويد أوستن، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان) لهم مواقـف مناهضة وحادة تجاه الأسد، وهو ما يعني أن الاختبار الحقيقي للإدارة الجديدة سيظهر في الموازنة بين توجهات العودة للاتفاق النووي الإيراني من جهة والتعاطي بجدية لدفع عملية الانتقال السياسي في سوريا من جهة أخرى.

والخلاصة هنا هي أنه على الرغم من أن السنوات العشرة الماضية قد حولت سوريا إلى وطن ممزق ومحطم وخرجت منه أكبر موجة نزوح ولجوء على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية واقتصاده على شفا الانهيار التام، فإن القادم لا يبدو مبشراً في ظل إصرار الأسد على البقاء على كرسي الرئاسة مهما كانت التكلفة.

————————–

أردوغان يدعو إدارة بايدن للعمل مع تركيا لإنهاء مأساة سورية

دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إدارة نظيره الأميركي جو بايدن إلى العمل مع تركيا لإنهاء المأساة الإنسانية في سورية.

وقال، في مقالة كتبها لصحيفة “بلومبيرغ” الأميركية بمناسبة مرور 10 أعوام على الثورة في سورية، إنه “على إدارة بايدن الوفاء بوعودها والعمل معنا لإنهاء المأساة في سورية”، لافتاً إلى أنّ “الشعب التركي يؤمن بأن إقامة نظام سياسي قادر على تمثيل جميع السوريين ضرورية لإحلال السلام والاستقرار مجدداً”.

وأوضح أنّ إعادة تأسيس السلام والاستقرار في المنطقة مرتبطة بالدعم الغربي الأمين لتركيا. وتابع قائلاً: “أقولها بكل فخر، الموقف التركي لم يتغير منذ بدء الحرب الداخلية في سورية”.

    On the 10th anniversary of the start of the Syrian uprising, Turkey’s President @RTErdogan calls on the West to support his efforts to end the civil war https://t.co/JrkDNfut7d

    — Bloomberg Opinion (@bopinion) March 15, 2021

وأشار إلى أن الوضع الإنساني في سورية سيكون المقياس النهائي لصدق مواقف الدول، لا سيما أن الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية بات متداولا بكثرة في الآونة الأخيرة.

وأكد أردوغان رفض بلاده لكلّ المخططات التي لا تلبي المطالب الأساسية للشعب السوري، مبيناً أن ذلك لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة.

وأردف قائلاً: “ينبغي على الغرب أولاً أن يتخذ موقفاً واضحاً من تنظيم (ي ب ك) الإرهابي الذي يعتدي على المناطق الآمنة في سورية ويساند النظام الدموي”.

وأوضح أردوغان أن المناطق الآمنة التي أسستها تركيا مع العناصر السورية المحلية دليل على التزام أنقرة بمستقبل الجارة سورية. وشدد على أن الحلّ السلمي والدائم لن يكون ممكناً إلا باحترام وحدة أراضي سورية ووحدتها السياسية.

————————–

العشرية الأولى للثورة السورية:الأسد الباقي على عرش من الدم

في بداية الانتفاضة ضد النظام السوري رفع أنصار رئيس النظام بشار الأسد شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وها هي سوريا اليوم بعد 10 سنوات، بلد مجزأ واقتصاد محطم ونظام معزول، ورئيس يحكم من خلال الخضوع والدمار.

بهذه الكلمات لخصت صحيفة “لوموند” الفرنسية حال سوريا والأسد في الذكرى العاشرة للثورة، موضحة أن الأسد لا يزال بعد حرب أهلية كارثية يراوح مكانه، ولكنه لا يحكم سوى الأنقاض، وقد توقف القتال عملياً وبقي النظام على قيد الحياة، لكن سوريا انهارت، ولم يعد لشعار “الأسد أو نحرق البلد” معنى، لأن الواقع أصبح “الأسد والبلد المتفحم”.

وفي تقرير بقلم بنيامين بارت، قالت الصحيفة إن الأسد الذي لم يتغير مظهره إلا قليلاً، من المرجح أن يفوز بولاية رابعة مدتها 7 سنوات في هذا الربيع. و”كل الدلائل تشير إلى إعادة انتخاب هذا المنبوذ ذي الأيدي الملطخة بالدماء الذي وُعد قبل بضع سنوات بمصير كارثي، المنفى أو زنزانة السجن أو القبر، إلا أنه اليوم يشعر هو ونظامه بالانتصار”.

وينبه الكاتب إلى أن الأسد سحق التمرد، ولكنه سحق معه البلاد، فهناك ما بين 300 ألف و500 ألف قتيل، وهناك مليون ونصف مليون معاق، إضافة إلى 5.6 ملايين لاجئ و6.2 ملايين نازح، في الوقت الذي تم فيه تدمير أو إتلاف ثلث المباني.

ويرى الكاتب أنه وبصرف النظر عن إعادة تأهيل الطرق الرئيسية وترميم جزء من أسواق حلب بتمويل من مؤسسة “آغا خان”، فقد توقفت عملية إعادة الإعمار، لأن خزائن الدولة فارغة، خاصة بعد أن أصبحت معظم آبار النفط والغاز تحت السيطرة الكردية، وغاب الزوار الأجانب، وصار الفوسفات في يد شركة روسية تقديراً لإنقاذ الروس لبشار الأسد.

ويشير الكاتب إلى أن نقطة قوية للنظام الذي أسسه حافظ الأسد قد تحطمت، وهي التحالف مع برجوازية الأعمال السنية، حيث حل جيل جديد من الانتفاعيين -الذين أثروا من التهريب والابتزاز وقنوات التحايل- محل من لم يرحل من النخبة الاقتصادية القديمة.

وقد تمت إعادة توزيع المكاسب الاقتصادية، فخسر رامي مخلوف ابن عمة بشار الأسد الذي كان قبل الحرب أغنى رجل في سوريا، واستولى ماهر الأسد الأخ الأصغر للرئيس على دوره بصفته مصرفياً للنظام.

بدورها، قالت مجلة “كريستيان ساينس مونيتور” إن كلمة “النصر” هي الكلمة التي تستخدمها وسائل الإعلام الموالية للنظام السوري للإشارة إلى بقاء بشار الأسد في السلطة، إلا أن الحقيقة غير ذلك.

وأوضحت أن الأسد لم يقدم أي تنازلات للمعارضين الداخليين المطالبين بحكم ديمقراطي أكثر شمولاً، ولا مع سلفيي تنظيم الدولة الذين حاولوا وفشلوا في تحويل سوريا إلى دولة خلافة لهم. وبدلاً من ذلك، فقد تجنب الأسد الهزيمة باستخدام الأسلحة الكيماوية، والتعذيب المنهجي، والتكتيكات التي ليس عليها قيود والتي حولت مدناً بأكملها إلى أنقاض وخلفت مئات الآلاف من القتلى السوريين.

من جهتها، خصصت “بوليتيكن” الدانماركية مساحة واسعة في عددها الأحد، لتغطية موسعة لذكرى الثورة السورية، وخصصت غلافها للملف الذي تناولته على عدد من صفحاتها.

وباشرت الصحيفة في رسم تسلسل للأحداث (كرونولوجيا الثورة السورية)، قائلة إنه “في مثل هذه الأيام من 2011 كانت استجابة الدكتاتورية لمطالب شعبية بالحرية بمواجهة وحشية وشراسة، نتيجتها خراب أجزاء كبيرة من البلاد، واقتصاد في حالة فوضى، وتهجير 12 مليوناً، وقتل 500 ألف، وسجن أو إخفاء النظام لنحو 150 ألفاً”.

وأوضحت أن كل ذلك “حدث بسبب أطفال رسموا على جدران درعا السورية مقولة (جاء دورك الآن يا دكتور)، وهي رسالة واضحة، واستفزت رئيس أمن المدينة عاطف نجيب، ابن عمة الديكتاتور.

وعددت الصحيفة في تغطيتها ما أسمته مسيرة “السلالة الأسدية الحاكمة، فهي استمرت بعد أن قُتل ابن الدكتاتور حافظ الأسد، باسل، في حادث سيارة عام 1994، استعيد طبيب العيون بشار من بريطانيا، وبعد وفاة الأب كان لا يزال في ال34 عاماً، فاجتمع البرلمان ليعدّل الدستور عام 2000، بما يتوافق مع سنّه”.

وأوضحت في السياق كيف أن “الوريث بشار ظل في مقابلات صحافية غربية يحاول الظهور بمظهر عصري خداع، وأنه اختار طب العيون لأنه ليس فيه دماء كثيرة، فيما هو في الواقع غارق في دماء السوريين”.

وعن أساليب الخداع، عددت “بوليتيكن” كيف أسهمت صحف ومجلات أوروبية وأميركية في تلميع صور الحكم في سوريا، بما فيه إطلاق لقب “زهرة الصحراء” على زوجته أسماء (الأسد)، وأن “الغارديان” أسهمت في وصف الدكتاتور عام 2008 بأنه “متواضع وحكيم وحساس ويتحدث بجاذبية”. وعلى غير تعاطي صحف الغرب مع الطغاة الآخرين حول العالم، بقيت الصحافة الغربية تضفي صورة إيجابية على الرجل، حتى عام 2013.

وفي السياق ذاته، استرجعت الصحيفة “الدور الذي لعبته زوجته أسماء الأسد في خلق أوهام عن القائد العصري والحداثي، حتى ذهبت “نيويورك تايمز” في 2005 إلى إطلاق اسم (الأميرة ديانا السورية) على أسماء، بعد افتتاح أوبرا جديدة في دمشق”.

وتحت عنوان فرعي “أمير حرب متعطش للدماء”، خاضت “بوليتيكن” في تفاصيل القمع الذي جوبه به الشعب السوري منذ 2011. واعتبرت أن “بشار الذي قدم نفسه بصورة الخجول، وطبيب العيون الذي لا يحب الدماء، سرعان ما انكشفت حقيقته الدموية، وأزال الشكوك حول أنه لن يستطيع إلا أن يكون مثل أبيه الذي دمر مدينة حماة، وقتل نحو 20 ألف إنسان في 1982، ليثبت خطأ من راهن على تحول سوريا نحو الديمقراطية، وثبت أنه ورث ظل أبيه وسمعته الدكتاتورية حول العالم، رغم جهود تلميعه”.

واعتبرت الصحيفة أن “المفارقة بقاء الدكتاتور، كبقية الطغاة، يردد أن شعبه يحبه كثيراً، وأنه هو بنفسه يحب شعبه وبلده، كما قال لدير شبيغل الألمانية في 2013، لكنه أظهر حبه لشعبه بتلك القسوة والدموية التي حوّل فيها البلد إلى مذبحة فوضوية في مواجهة انتفاضة سلمية”.

وبالنسبة إلى النتيجة، رأت الصحيفة أن “ذلك القمع لم يكن كافياً، فجيشه لم يكن قوياً كفاية، فراح يعتمد على تحالفات مع إيران وروسيا، بعد أن استدعى قوات قمع من مرتزقة خارجيين، وحزب الله اللبناني، وبعد أن فقد السيطرة على البلاد استعاد حوالى الثلثين بفضل روسيا وإيران”.

ومضت في الختام توضح أن “سوريا القديمة خسرت، بفضل القمع ومواجهة الثورة الشعبية وتمسكه بالكرسي، كل مكانتها الإقليمية، وتحولت من لاعب كان يحتل لبنان ويملك نفوذاً إقليمياً، إلى ساحة يلعب فيها الغير، وارتهن الأسد لمن حمى سلطته، ويعيش رغم ذلك أوهاماً في قصره الفاره الذي يطل من الجبل، وقد عمل على تحويل بلده إلى أنقاض”.

وأضافت “قبل إعلان أنه أصيب وزوجته بكورونا، التقى صحافييه الموالين في عزلته الحقيقية عن العالم وبلاده ليقول لهم: أوقفوا برامج الطبخ حتى لا يشعر الجمهور بالإحباط. وراح يتحدث عن وعود بعدم تقنين المثلية الجنسية في سوريا”.

وواصلت الصحيفة عرض نتائج حالة الانفصام بالقول إن “الرجل يعيش وهمه مع زوجته، حيث وجدت  أسماء الأسد الحل أخيراً: التعليم عبر الإنترنت.. بيد أن الحقيقة أن غالبية السكان لا يملكون ثمن الطعام، ولا تياراً كهربائياً في البلاد، رغم أن الكهرباء لا تنقطع عن القصر، ويتوافر الطعام الفاخر لهم، فأهم شيء بقاء سلالة الأسد في السلطة، وهو بقاء محكوم بحماية خارجية، ويخيم على رأسه خطر الملاحقة الدولية”.

———————-

الذكرى العاشرة للثورة.. مظاهرات بسوريا وعقوبات بريطانية على النظام والمبعوث الأممي يعتبر معظم الحل ليس بيد السوريين

قال المبعوث البريطاني الخاص إلى سوريا جوناثان هارغريفز -في مقابلة مع الجزيرة- إن بريطانيا وحلفاءها ملتزمون بضمان إنهاء الأزمة السورية وعدم دخولها عقدا آخر

خرجت مظاهرات شمال غربي سوريا بمناسبة الذكرى العاشرة للثورة السورية، واعتبر المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون أن معظم حل الأزمة ليس بيد السوريين، كما أعلنت بريطانيا فرض عقوبات جديدة على النظام تزامنا مع دعوات بريطانية وفرنسية لإيجاد الحل.

وردّد آلاف المتظاهرين في عدة مدن وبلدات شمالي سوريا هتافات أكدوا فيها المضي قدما في الثورة، حتى إسقاط النظام ومحاسبته والإفراج عن المعتقلين، وتحقيق كامل مطالبهم.

كما رفع المتظاهرون شعارات طالبوا فيها المجتمع الدولي بمحاسبة النظام السوري وحلفائه على الجرائم التي ارتكبوها، ودعوا المجتمع الدولي للضغط على النظام من أجل الإفراج عن آلاف المعتقلين في سجونه ومعتقلاته.

صراع دولي

من جهة أخرى، عقد مجلس الأمن الدولي مساء اليوم جلسة حول الأزمة السورية، وقال فيها المبعوث الأممي إلى سوريا إن اللجنة الدستورية لا يمكن بمفردها حل النزاع في سوريا، وإنه لا بد من الإعداد المتأني لجولة سادسة من المفاوضات.

وأضاف المبعوث الأممي أن الصراع بات دوليا، ومعظم قضايا حله ليست بيد السوريين.

كما اعتبر بيدرسون أن التقدم السياسي ليس بالأمر السهل بسبب الجمود والتعنت لدى جميع الأطراف، لكنه أبدى تفاؤلا أيضا بمواصلة العمل الدبلوماسي، مؤكدا أن على النظام والمعارضة والأطراف الدولية العمل لتنفيذ القرار الدولي رقم 2254.

وقال بيدرسون إن من ارتكب جرائم حرب أفلت من العقاب، متهما المجتمع الدولي بالفشل في تخليص السوريين من الحرب.

وأضاف المبعوث الأممي أنه يجب إيصال المساعدات لجميع المحتاجين في الداخل السوري وعلى الحدود، كما يجب إعادة اللاجئين بشكل آمن وطوعي إلى مناطقهم.

بريطانيا وفرنسا

وعلى الصعيد الدولي، أعلنت بريطانيا فرض حزمة عقوبات جديدة على 6 مسؤولين في النظام، هم: وزير الخارجية فيصل المقداد، ومستشارة الرئيس الإعلامية لونا الشبل، ورجلا الأعمال ياسر إبراهيم ومحمد براء القطرجي، وقائد الحرس الجمهوري مالك عليا، والرائد بالجيش زيد صلاح.

وقالت الحكومة البريطانية في بيان إنها بمثابة “أول استخدام لنظام العقوبات المستقل في المملكة المتحدة”، والذي بدأ العمل به بعد نهاية الفترة الانتقالية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وأفاد وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب “اليوم، نحاسب 6 أفراد آخرين من النظام لاعتدائهم الشامل على المواطنين الذين يفترض بهم أن يحموهم”.

وقال المبعوث البريطاني الخاص إلى سوريا جوناثان هارغريفز -في مقابلة مع الجزيرة- إن بريطانيا وحلفاءها ملتزمون بضمان إنهاء الأزمة السورية، وعدم دخولها عقدا آخر.

وشدد المبعوث البريطاني على أن الطريقة الوحيدة للحل هي تسوية سياسية سلمية بقيادة سورية ترعاها الأمم المتحدة وتستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، وبمشاركة جدية من النظام وإيران وروسيا.

كما أكد هارغريفز سعي بلاده إلى تحميل الرئيس بشار الأسد المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبها النظام في سوريا، عبر دعم الآلية الدولية المستقلة والمحايدة التي تديرها الأمم المتحدة التي توثق وتجمع الأدلة لهذه الجرائم، وكذلك بدعم لجنة العدالة والمساءلة الدولية التي تقوم بدور مشابه.

وأكد المبعوث فرض العقوبات الجديدة، مضيفا “هناك 350 فردا من النظام السوري تم فرض عقوبات عليهم من قبل المملكة المتحدة، وستتم مقاضاة الجناة”.

من جهة أخرى، كتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تغريدة “إلى الشعب السوري، أريد أن أقول لن نتخلى يوما عن هذه المعركة”.

وأضاف “سنبقى إلى جانبه للاستجابة إلى حاجاته الإنسانية والدفاع عن القانون الدولي ومكافحة الإفلات من العقاب وإيجاد حلّ سياسي، الوحيد الممكن”.

لاجئون في مخيم بإدلب يشعلون الشموع بمناسبة ذكرى الثورة (الأناضول)

موقف تركيا

بدوره، دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إدارة نظيره الأميركي جو بايدن إلى العمل مع تركيا لإنهاء المأساة الإنسانية في سوريا، وذلك في مقالة كتبها أردوغان لصحيفة بلومبيرغ الأميركية بمناسبة مرور 10 أعوام على الثورة.

وقال أردوغان “على إدارة بايدن الوفاء بوعودها والعمل معنا لإنهاء المأساة في سوريا”، معتبرا أن إقامة نظام سياسي قادر على تمثيل جميع السوريين ضروري لإحلال السلام والاستقرار، وأن هذا الهدف “مرتبط بالدعم الغربي الأمين لتركيا”.

وتابع “أقولها بكل فخر؛ الموقف التركي لم يتغير منذ بدء الحرب الداخلية في سوريا”.

وأشار أردوغان إلى أن الوضع الإنساني في سوريا سيكون المقياس النهائي لصدق مواقف الدول، لا سيما أن الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية باتت متداولة بكثرة في الآونة الأخيرة، حسب قوله.

وأكد أردوغان أنه ينبغي على الغرب أولا أن يتخذ موقفا واضحا من مليشيات حزب العمال الكردستاني “الذي يعتدي على المناطق الآمنة (في سوريا) ويساند النظام الدموي”، موضحا أن بلاده “كانت في مقدمة الدول التي كافحت التنظيمات الإرهابية، وأوصلت المساعدات الإنسانية للسوريين”.

وأشار الرئيس التركي إلى ضرورة عدم نسيان مقتل وتعذيب مئات الآلاف من الأشخاص في سوريا وتشريد الملايين، لمجرد مطالبتهم بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، مؤكدا أن ممارسات النظام السوري وداعميه أسفرت عن نتائج مروعة مثل اللجوء والإرهاب.

المصدر : الجزيرة + وكالات

————————

10 سنوات على الثورة.. نصر الحريري: السوريون سينالون حريتهم ولا مصلحة لأحد في العداء مع الشعوب

منتصر أبو نبوت – غازي عنتاب

أكد رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الدكتور نصر الحريري أن الائتلاف بعد مرور 10 سنوات على الثورة لا يزال ممثلا شرعيا للشعب السوري وثورته وتطلعاته، مشيرا إلى أن السوريين في النهاية سينالون حريتهم ولا مصلحة لأحد في العداء مع الشعوب.

وفي حوار مع الجزيرة نت، اعتبر الحريري أنه لا يمكن لروسيا المحافظة على مصالحها الحيوية في سوريا والمنطقة من خلال دعم الدكتاتوريات والجرائم.

وقال رئيس الائتلاف إن المعارضة بعد 10 سنوات على الثورة مطالبة بتقديم مؤسسات متماسكة وقوية تعتمد خطابا سياسيا صلبا ومتّحدا ويلتزم بمبادئ المواطنة والحرية والعدالة وتجنّب السقوط في الخطابات الإيديولوجية.

وفيما يلي نص الحوار:

    بداية، الائتلاف السوري بوصفه ممثلا شرعيا للشعب السوري، على أعتاب العقد الأول من عمر الثورة بات مطالبا بتقديم كشف حساب للمنتفضين السوريين ضد النظام، ماذا قدم لهم؟ وما المنتظر منه؟

كشف الحساب يقدم في سياق رؤية كاملة للمعطيات، ولا شك أن النتائج التي نرجوها كانت أكبر بكثير مما وصلنا إليه، الغضب والألم الذي نشعر به ويشعر به جميع أبناء الشعب السوري اليوم تجاه الأوضاع ليس ناجما عن عجز مؤسسة الائتلاف عن أداء وظيفتها فقط، فتصوير المشهد بهذا الشكل محاولة للعثور على جسم لتعليق المسؤولية عليه، وهذا لن يكون مفيدا لأحد.

كما أن هناك معطيات كثيرة أوصلتنا إلى الواقع الذي نحن فيه الآن، وهنا لا أتحدث عن النظام وحلفائه، فهم دون شك المسؤول الأول عن الجريمة والكارثة. أضف لذلك تقاعس المجتمع الدولي وفشل المنظمة الأممية والأطراف والدول الصديقة عن مسؤولياتها، وهذا كان عنصرا فاعلا فيما وصلنا إليه.

    الائتلاف الوطني هو الممثل الشرعي للشعب السوري ولثورته ولحقوقه وتطلعاته

ومن جانب آخر، ولد الائتلاف بوصفه مؤسسة سياسية مسؤولة عن إدارة فترة مؤقتة في ظل واقع دولي كان آنذاك مختلفا، وجاء تشكيل الائتلاف لإدارة مرحلة قد تستغرق شهرا أو بضعة أشهر على الأقل، لكن مع استمرار الأزمة وتفاقم الأوضاع صار لا بد لهذه المؤسسة من أن تتأقلم مع مسؤوليات جديدة ومع واقع دولي متغير.

كما أن تغير مناخ ومسار كثير من مناطق ودول الربيع العربي جعل المسؤوليات أصعب بكثير، ويجب أخذ كل ذلك بعين الاعتبار عند الحكم على التجربة السورية وتجربة الائتلاف أو عند إجراء كشف حساب.

ومنذ بدء أعمال الدورة الرئاسية الحالية، كنا نشعر بأننا نتسلم القيادة في مرحلة مهمة، وأن السنة العاشرة تعني ضرورة إعادة النظر وضرورة القيام بأداء مختلف ولدينا خطة لتفعيل كل مكاتب الائتلاف ولجانه ودوائره، ونسعى لإجراء حوارات مفتوحة مع الشخصيات السورية بمختلف توجهاتها وخلفياتها.

    في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2012 خرج السوريون بمظاهرات تحت شعار “الائتلاف الوطني يمثلني”، ماذا بقي من هذا الشعار من وجهة نظر الائتلاف في ظل التشرذم الذي تعيشه منصات المعارضة التي تدعي كل منها تمثيل الشعب؟

لا يوجد أي طرف سياسي يزعم أنه يمثل الشعب السوري باستثناء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، هناك من يقولون إنهم يمثلون تيارات أو توجهات أو مصالح أو يعتقدون أنهم أحرص على سوريا من غيرهم.. لكن على أرض الواقع الائتلاف الوطني هو الممثل الشرعي للشعب السوري ولثورته ولحقوقه وتطلعاته.

من جانب آخر، نعلم أن الشارع في العموم ساخط، لكن السخط في الحقيقة هو على النتيجة، ورغم أن النتيجة لها أسباب كثيرة، فإن البعض يستغل مناخ حرية الرأي والنقد والتعبير وينقل هذا السخط ويقوم بتوظيفه سياسيا.

ويبقى المجرم رقم واحد هو النظام وحلفاؤه، ثم تأتي مسؤوليات المجتمع الدولي وأصدقاء الشعب السوري والمنظمات الدولية التي يفترض بها أن تقوم بحفظ الأمن والسلم.

ونحن نؤكد مسؤولية مؤسسات المعارضة وضرورة تحسين أدائها، ولا شك بوجود مساحات تستحق النقد والمحاسبة والمتابعة، ما دام ذلك يأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات الأخرى.

الحريري: لا يوجد أي طرف سياسي يزعم أنه يمثل الشعب السوري باستثناء الائتلاف الوطني (الفرنسية-أرشيف)

    ذكرتم النتيجة والأسباب، وكان بيد الائتلاف الوطني السوري أوراق ضغط قوية لها وزنها دوليا على النظام السوري، لكن بعد مرور عقد على الثورة، ماذا بقي بيد الائتلاف من تلك الأوراق، وهل يمكنها تغيير النتيجة؟

معظم إنجازات الثورة السورية كانت في شهورها الأولى، حتى على المستوى العالمي والتعاطف الدولي، في السنوات الأولى كان هناك إنجازات، وتمكن الجيش الحر من تحرير مساحات واسعة، لكن بدءا من عام 2015 تغير المشهد الدولي وتغيرت الرؤية، لم يعد الملف أولوية دولية. الائتلاف ليس دولة، وأقوى أوراقه كانت ثبات الثورة على الأرض وثبات الثوار، إضافة إلى القرارات الدولية والشرعية الدولية.

دخول روسيا المباشر كان نقطة فاصلة بالنسبة للمجتمع الدولي الذي شعر بأن حجم الرهان أصبح كبيرا، وبأن هناك مخاطر من الدخول في صراع على الأرض، وأن الأمر قد يتفاقم ويخرج عن السيطرة بالنسبة له.

الموقف التركي، والعمليات التي جرت بالتعاون ما بين الجيش الوطني السوري والجيش التركي، أقصد درع الفرات ونبع السلام وغصن الزيتون ودرع الربيع، كلها وضعت معادلة جديدة، ونرى أننا تمكنا من خلالها من إعادة التوازن للوضع والقضاء على أوهام النظام وحلفائه بإمكانية فرض الحل الذي ينسجم مع مصالحهم.

اليوم، نحن مطالبون بأن نقدم مؤسسات متماسكة وقوية تعتمد خطابا سياسيا صلبا ومتحدا، وأن نلتزم بخطاب المواطنة والحرية والعدالة، ونتجنب السقوط في الخطابات الإيديولوجية والطائفية، هذا بحد ذاته يمثل ورقة ضغط كبيرة في حال تمكنا من تحقيقه.

    إذن تجدون أن تدخل روسيا كان نقطة فاصلة، لكنها اليوم طرف مهم بما يحدث في سوريا وداعم كبير للنظام، فهل حاولتم التواصل معها بما يتوافق مع تحقيق طموحات الشعب السوري؟ أو أنها خارج حساباتكم؟

روسيا جزء من مشكلة، وهي شريكة في الجرائم، ودعمت النظام دعما استثنائيا، وهي تضع نفسها باستمرار في موقع المجرم والمحتل والقاتل.

ومن المؤكد أن مصالح روسيا ليست في دعم دكتاتور مجرم وقاتل، بإمكانها أن تعيد ترتيب أولوياتها وتضع مصالحها مع مصالح الشعب السوري، وما هو مطلوب ليس شيئا خياليا، المطلوب هو تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي.

لا يمكن لروسيا أن تحافظ على مصالح حيوية في سوريا والمنطقة من خلال دعم الدكتاتوريات والجرائم، هذا الشعب سينال حريته ولا مصلحة لأحد في العداء مع الشعوب.

هناك مجال لإصلاح حقيقي للموقف الروسي، لكن ليس هناك ما يبشر بذلك حتى الآن.

    في معرض الحديث عن روسيا نجد أن مسار جنيف المتمسكة به المعارضة منذ عام 2012 يشهد جمودا منذ سنوات، بينما مسار أستانا الذي تدعمه روسيا يتقدم على المسار الأممي، فهل نحن أمام تخلي المعارضة عن مسار جنيف لصالح أستانا؟

لقد عبّرنا دوما عن التزامنا بالحل السياسي، لكن هذا لا يعني أننا نعتقد بأن الطرف الآخر سيرضخ طواعية لهذا الحل. نحن نعلم أن النظام لا يريد أي حل سوى الخيار العسكري وتركيع الشعب السوري ودول العالم.

    روسيا جزء من المشكلة وهي شريكة في جرائم النظام السوري

التحرك نحو الحل السياسي يهدف إلى تحقيق أمرين، الأول إثبات جدية قوى الثورة والمعارضة في سعيها لحل سياسي شامل يضمن انتقالا سياسيا حقيقيا، والثاني كشف المجتمع الدولي، ومن ثم دفعه نحو ممارسة الضغوط اللازمة على النظام من أجل التحرك بجدية نحو الحل السياسي. مسؤولياتنا تحتّم علينا ألا نترك ولا نتخلى عن أي خيار يمكن أن يساهم في إنهاء الأزمة وتحقيق تطلعات الشعب السوري.

    أشرنا إلى روسيا لذلك يجب أن نتطرق إلى الدولة التي تثير قلقا للشعب السوري وهي إيران، كيف تنظر المعارضة إليها؟ وما هي الحلول المتاحة أمام الائتلاف للتعامل معها؟

يجب أن نفصل الشعب الإيراني الذي هو شبيه إلى حد كبير بالشعب السوري، نحن نتواصل مع المعارضة الإيرانية كلما كان ذلك ممكنا، ونعبر عن دعمنا لخيار الديمقراطية والاستقرار في إيران التي تبقى دولة من دول المنطقة ولها حضور طبيعي، ولكن نحن نواجه الآن نظاما مجرما آخر يشبه نظام الأسد.

وضمن هذا الإطار ندعم كل المواقف التي تضغط على النظام الإيراني، باعتباره شريكا مباشرا في الإجرام الذي يمارسه نظام الأسد على السوريين، يجب أن تكون هناك مواقف جدية وجادة وعملية في وجه الأزمات التي تقف وراءها إيران ونظام الأسد وروسيا في المنطقة.

هذا هو الموقف الذي نعتقد أن على كل دول العالم الحر، وكل الدول الداعمة الديمقراطية، أن تتبناه وتلتزم به.

    حديثنا عن داعمي النظام موسكو وطهران؛ يقودنا إلى طرح سؤال عن الدول المعروفة بأصدقاء الشعب السوري والتي انضمت منذ بداية الثورة إلى هذه القائمة، ماذا بقي من تلك الدول فعليا؟ وهل ما زال دعمها مستمرا بالطريقة ذاتها التي بدأت بها؟

نعم لقد دعم العالم الشعب السوري وأعلن منذ البداية أن ثورته ومطالبه محقة وأن النظام قاتل وغير شرعي، وقدمت لنا الكثير من الدول دعما إعلاميا وسياسيا وإنسانيا وما تزال، ولكن الدعم المطلوب كان هو التحرك باتجاه سبب الكارثة والخلاص منه.

نظام الأسد فعل في سوريا ما لم يفعله لا الرئيس المصري الراحل حسني مبارك ولا الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، بل حسب حقوقيين فإن جرائمه أبشع من جرائم النازية، وحقيقة لم نلمس إرادة حقيقية لدى الأصدقاء في الخلاص من هذا النظام المجرم مثلما شاهدنا ما حصل مع المذكورين.

    بعد عقد على الثورة السورية، سيجري النظام انتخاباته الثانية كأن شيئا لم يحدث في البلاد، كيف تنظر المعارضة إلى الانتخابات المزمع عقدها أبريل/نيسان المقبل؟

من المناسب أن نشير إلى تقرير أصدرته مؤخرا منظمة “فريدوم هاوس” (Freedom House)، حيث تمكن نظام الأسد من التربع على قائمة الدول الاستبدادية، متفوقا على كل دول العالم بما فيها كوريا الشمالية، وهو اليوم في القاع تماما، وقد جاء بنقطة واحدة من 100 نقطة على مؤشر الحرية.

يمكن في هذا الإطار أن نفهم ما هو معنى هذه المسرحية الفاشلة، نحن أمام ضجيج يسعى لخلق فوضى وتغطيات إعلامية خالية من المعنى، لا أحد يصدق هذه المهزلة على الإطلاق، سيحاول الروس تسويقها سياسيا، لكن لن يكون لذلك أي تأثير.

    تحدثنا عن النظام الذي يسيطر على مناطق في سوريا، لذلك لا بد أن نتحدث عن طرف آخر يقاسمكما السيطرة على البلاد، وهم الأكراد إذ تحاول ما تسمى بوحدات حماية الشعب الكردية إنشاء إقليم شمال شرقي البلاد، ما تعليقكم على هذا الأمر؟

الموقف المبدئي بالنسبة للائتلاف، وبالنسبة لقوى الثورة والمعارضة السورية هو أن سوريا دولة واحدة، سوريا دولة مواطنة، سوريا دولة حرية وعدالة، تحت هذا السقف كل شيء قابل للنقاش، أما ما وراء ذلك فهذا أمر مرفوض، وأي حزب أو تيار أو تجمع يريد البحث عن الحقوق الشخصية وحقوق المكونات والحقوق الحزبية والطائفية والعرقية والقومية على حساب حقوق الآخرين فهذا أمر مرفوض. كل هذه الحقوق تكون مضمونة إذا عملنا من أجل حقوق المواطنة.

من المؤسف أن بعض المكونات، سواء على خلفيات إيديولوجية أو عرقية أو قومية، تصر على التحرك ضد إجماع الشعب السوري، وتعتمد الإرهاب ودعم النظام وسياسات التهجير والتغيير الديمغرافي.

    ملفا المعتقلين والنازحين تصدرا المشهد عالميا لقساوتهما، ماذا عن محاولات الائتلاف الوطني بشأنهما؟

المعتقلون بلا شك على رأس أولوياتنا، ويجب أن يكون ملفهم على رأس أولويات المجتمع الدولي كله، لكن عمليا، وللأسف، فإن هذا الملف معطل مع تعطل الملف السياسي، وكل جهودنا وجهود الهيئة الوطنية لشؤون المعتقلين والمفقودين في تحريك المجتمع الدولي والضغط على أطرافه لم تثمر بما يخدم أوضاع المعتقلين حتى الآن. والجانب الأساسي الذي يمكن أن نتحرك فيه حاليا على هذا الملف هو حشد الضغط الدولي على النظام.

    شاهدنا هجوما من قبل ناشطين سوريين على شخصكم والسيد أنس العبدة رئيس هيئة التفاوض، إذ وجهت اتهامات بعدم الشفافية في تداول سلطة المعارضة، ما تعليقكم؟

الدورة الرئاسية الحالية للائتلاف على مشارف النهاية، وباب الترشيحات مفتوح للجميع وبشفافية، ليس لدينا في الائتلاف ما نخفيه أو نعتم عليه، ولأن الائتلاف مكون من عدد من التيارات والأحزاب والقوى السياسية فإنه يحول تماما دون أي محاباة أو التواء، لا سيما في قضية الانتخابات، ما نقوم به هو تجربة ديمقراطية وليدة في سوريا بعد 50 سنة من القحط السياسي، ولا أعتقد أن تنقّل أي سياسي لأي منصب فيه محظور قانوني، الحكم هو الانتخاب والاختيار.

المصدر : الجزيرة

———————————–

شاهدة على أهوال الحرب في سوريا: لقد غسَّلت الكثير من الأموات

مغسلة أموات يائسة، وبستاني غاضب، ومتمرد متفائل، ورافضون للخدمة العسكرية أعياهم الاختفاء؛ هؤلاء أصناف من سكان الرقة، وهم شاهد حي على أهوال حرب عاشتها المدينة طوال العقد الماضي.

هكذا لخص الكاتبان ويلسون فاش وكلاوي شروق تقريرا أعداه من مدينة الرقة السورية، التي عاشت ويلات الحرب السورية، ولم تفق منها حتى الآن.

وبدأ الكاتبان تقريرهما بصحيفة ليبراسيون الفرنسية (Liberation) بقصة عفراء الأحمد، وهي مغسلة أموات، حيث قالا إنها كانت تداعب بأصابعها الرفيعة أبدان القتلى المتفحمة وتلك التي لم يترك بها النزيف دما، ناهيك عن العظام المهشمة والأشلاء المجمعة.

لقد رأت بأم عينيها أشخاصا يسلمون أرواحهم لبارئها مطلقين صرخة ألمهم الأخيرة، لتتعامل معهم بعد ذلك، فمهنتها منذ ما يقرب من 20 عامًا تغسيل الموتى، حسب التعاليم الإسلامية.

وتقول عفراء (50 عامًا) “لقد غسلت الكثير من القتلى في حياتي، لكن مع الحرب أصبحت الأمور أصعب”، وتضيف أنه “مع كل قصف يموت 15 أو 20 أو 30 شخصًا، صغارًا وكبارًا. لقد دمرت الحرب المدارس والمنازل، وتعرض الناس للتعذيب، ودُفن البعض من دون غسل، ودُفن آخرون على شكل أشلاء”.

هذه مهنتها التي ورثتها عن والدتها التي كانت هي الأخرى مغسلة موتى قبل أن يأتي اليوم الذي ماتت فيه وغسلتها ابنتها عفراء وتتولى من ذلك الحين مشوار حياة يطبعها الماء والدم والكتان.

ولم تفت 10 سنوات من الحرب في عضد عفراء، ولا نقصت من تصميمها على أن تكون آخر من يكرم الموتى بتغسيلهم وتحنيطهم.

وهذه أيضا حال زوجها عبود، الذي يعمل هو الآخر في تغسيل الموتى، حيث يقول “ذات يوم تم استدعائي لتغسيل 17 شخصًا قتلوا في غارة جوية. ومع انتهائي منهم وصل 10 آخرون”. ويعترف عبود بأن التعامل مع 27 جثة في يوم واحد مثّل صدمة له، وهنا أومأت زوجته برأسها قائلة “كنا نغسل ونبكي”.

ولا تعرف عفراء ولا عبود كم عدد الجثث التي توليا تغسيلها خلال عقد من الصراع، ويؤكدان أنهما لم يرفضا قط التعامل مع أي ميت، إذ إنهما على الحياد، وعملا في ظل النظام والمعارضة وتنظيم الدولة الإسلامية، والآن في ظل قوات سوريا الديمقراطية.

الثورة لا تموت

ورغم مرارة الوضع وما تمخضت عنه ثورتهم من المآسي، لا يزال بعض السوريين يرون أن الثورة مستمرة، وأنهم سيحققون هدفهم عاجلا أو آجلا، ويقول محمد فراج آل حمود “الثورة لا تموت أبدا، وحتى بعد موتي سيتولى الجيل القادم زمام الأمور. ليس لدي شك في أن بشار الأسد سيسقط في نهاية المطاف”.

وينتقل الكاتبان إلى مكتب محمود هادي، الناشط المخضرم ومدير منظمة غير حكومية محلية، حيث تدل رائحة القهوة التي تسود الغرفة على نقاشات ساخنة بين الشباب، وفقا للمراسلين.

وينقلان عن هادي قوله “رغم الإخفاقات، تمكنا من كسر جدار الخوف، فمنذ أن سيطر حزب البعث على سوريا لم يعد الناس يجرؤون على الكلام أو الكتابة أو القراءة، الآن نحن نجرؤ، نحن نبتسم، لم نفقد الأمل والثورة مستمرة، الثورة ليست بالسلاح إنها بالأشخاص، والآن ها نحن نرى نشطاء في أوروبا يعملون بجد لتقديم مجرمي النظام إلى العدالة، وبعد كل هذه التضحيات يستحيل أن نعود إلى الوراء”.

ويواجه الشباب في الرقة وفي المناطق التي يسيطر عليها النظام إكراههم على الخدمة العسكرية، لكن كثيرا منهم يرفضون ذلك، ويقضون حياتهم مختبئين لا يجرؤون على الخروج أو التنقل بحرية، وهو ما يقول عنه أحدهم في الرقة “إنه أمر لا يطاق”.

وينقل الكاتبان عن هذا الشاب (28 عاما) قوله “أشعر بالأسى لأنني في بلدي ومع ذلك لا يمكنني التحرك بحرية. إذا استمر هذا الوضع فسأفكر في دفع أموال لمهرب من أجل الهجرة، إنني مرهق، فبعد أن عشت 10 سنوات في حالة من الرعب الدائم، ها أنا محروم حتى من مغادرة منزلي”.

المصدر : ليبراسيون

———————-

مظاهرة الحميدية في 15 آذار.. أول حراك شعبي استجاب لدعوات الثورة/ عبدالله الموسى

كانت ارتدادات الثورات التونسية والمصرية واليمنية والليبية في سوريا افتراضية وتمثلت بالدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي والجلسات الضيقة والمغلقة داخل سوريا لتقييم الوضع ومحاولة إيجاد طريقة لإشعال الثورة في سوريا، حتى وقعت مظاهرة الحريقة في الـ 17 من شباط 2011 وبرهنت للسوريين والنظام أن الشارع مهيأ للانتفاضة، وهنا سارع الناشطون السياسيون ضمن جماعاتهم للتحرك، فكان اعتصام السفارتين المصرية والليبية نصرة للشعوب الشقيقة ومطلباً بتحرر الشعب السوري بطريقة غير مباشرة.

فشلت العديد من الدعوات التي أطلقها ناشطون وصفحات على موقع فيس بوك في شهر شباط والنصف الأول من شهر آذار، إلى أن حصل ما كان ينتظره ملايين السوريين والنظام، فكانت في الـ 15 من آذار المظاهرة التي اعتمدها القسم الأول من السوريين انطلاقة الثورة السورية، والتي خرجت في سوق الحميدية بجوار الجامع الأموي وسط العاصمة دمشق.

حراك شعبي بعيد عن النخب السياسية

من الجدير بالذكر توضيح أهم ما تميزت به مظاهرة الحميدية في الـ 15 من آذار 2011، بأن معظم المشاركين فيها لم يكونوا من الطبقة السياسية المنتمية لتيارات أو جماعات، أو على الأقل ممن يرتبطون بالشخصيات السياسية المعارضة البارزة في سوريا وما أنتجه هؤلاء السياسيون من ربيع دمشق وإعلانها. وإنما مثّل المشاركون في مظاهرة الحميدية مختلف طبقات المجتمع البعيدة عن الحراك السياسي المعارض، والبعيدة عن الأدلجة أو الانحيازات أو التوجهات بين إسلامية أو يسارية وغيرها من التيارات.

في حين كان الناشطون السياسيون ومن يدور في فلكهم من أصدقاء أو مثقفين، حاضرين في اعتصام السفارتين والمظاهرات الإلكترونية على مجموعات الفيس بوك المغلقة ومن ثم في مظاهرة اليوم التالي في الـ 16 من آذار 2011.

من دون تنسيق.. ماذا حصل في الحميدية؟

يروي الأستاذ سامي الدريد لموقع تلفزيون سوريا، تفاصيل ما قبل وأثناء وبعد مظاهرة الحميدية، حيث فشل مع مجموعة من أقربائه وأصدقائه في التظاهر في الـ 12 من آذار، وقرروا أن تكون أولى صرخات الحرية في يوم الـ 15.

أشار الدريد وهو أستاذ اجتماعيات إلى أن حالة الترقب في سوريا لوصول موجة الربيع العربي قد أخذت وقتها كفاية، والجميع ينتظر الشرارة التي ستفجر الوضع، فلم تنجح مظاهرة الحريقة في الـ 17 من شباط في انتفاضة العاصمة دمشق، وكذلك الأمر بالنسبة لاعتصام السفارة الليبية.

وأوضح الدريد أن مظاهرة الحميدية لم يسبقها جلسات تنظيمية لمجموعات شبابية أو مجموعات من الناشطين كما سيحصل لاحقاً في مختلف المدن السورية، وإنما كانت استجابة ناجحة للدعوات التي فشلت قبل ذلك. ودّع الدريد عائلته وخرج مع أخيه وابن أخته وصديقه إلى الجامع الأموي دون أن يكون هنالك ساعة محددة أو مكان محدد للتجمع والبداية، ولذلك لم يكن ممكناً إلا الذهاب إلى الجامع الأموي وسوق الحميدية المجاور لمراقبة الوضع عن كثب واتخاذ قرار بزمان ومكان البداية

مع وصول الدريد ورفاقه إلى المكان، وبعد أداء صلاة الظهر، توجهوا إلى ساحة المسكيّة على الجدار الغربي للأموي، وهناك لاحظوا الانتشار الأمني المكثف، وهو ليس انتشارا لعناصر حفظ النظام أو الشرطة وإنما عناصر أمن بلباس مدني، لكن تصرفاتهم ونظراتهم وانتشارهم كان يؤكد قطعاً مَن هم، ولذلك قررت مجموعة الدريد أن تتفرق قليلاً كي لا تلفت الانتباه إليها.

بعد دقائق سمع الدريد صوت أخيه الذي كان يصرخ بوجه أحد رجال الأمن ويسأله لماذا قام بتصويره، وبعد أن توتر الموقف إلى أقصى درجة، لم يعد هنالك خيار أمام الدريد إلا أن يطلق الشرارة بهتاف “تحيا سوريا حرة”.

تجمع المنتظرون على الفور وانطلقت المظاهرة وتوجه العشرات إلى مدخل سوق الحميدية والتقوا بمجموعة مروة الغميان وصديقتها وزميلتها في المعهد نورا الرفاعي وكذلك أحمد الحمود من إدلب والناشط نبيل الشربجي والإعلامي شفيق عبد العزيز المنحدر من داريا وغيرهم، والذين تعرفوا إلى بعضهم بعضا في فرع الخطيب بعد اعتقالهم من المظاهرة.

حاول المتظاهرون تحريض الحاضرين في السوق للمشاركة، إلا أن عدد المشاركين الذي بقي على حاله كان سيسهل اعتقال الجميع، ولذلك تفرقت المظاهرة بعد دقائق في ساحة الحريقة المجاورة، في حين أكمل الدريد ورفاقه ومروة ورفاقها وأحمد الحمود مظاهرتهم لحين جاء أمر اعتقالهم من الضابط، كما يظهر التسجيل المصور.

تجمع المعتقلون في فرع الخطيب وهناك تعرفوا إلى بعضهم بعضا، وبعد أسبوعين من الضرب والتعذيب والإهانات نقلوا إلى فرع أمن الدولة، وهناك بدأت طلائع المعتقلين من مظاهرات سوريا بالوصول إلى الفرع، ليحدثوهم عن أخبار الثورة وأن البلاد انتفضت على النظام.

حاول الدريد جاهداً أن يصف خليط المشاعر في لحظة الهتاف الأول، التي تطلبت منه تجميع كل ما يملكه من شجاعة، لكنه فشل.

بعد خروجه من المعتقل استقر الدريد في حي القدم الدمشقي، من دون أن يحصل على أي معلومة عن ابن أخته، وهناك نشط في مختلف المجالات لحين تهجيره قسرياً في أيار من عام 2018 إلى الشمال السوري.

استقر الدريد الآن في مدينة جنديرس بمنطقة عفرين ويعمل حالياً مدرس اجتماعيات في مدرسة المدينة الإعدادية.

التقى الأستاذ سامي الدريد مع أحمد الحمود في إدلب عام 2020، وكتب الحمود منشوراً على حسابه في فيس بوك قال فيه: “اليوم وبعد 9 سنين وشوي التقيت بأيقونة ورمز الكفاح والنضال بثورتنا لم يذكر اسمه على شاشات التلفزة ومواقع التواصل مثله مثل كثيرين قدموا بصدق ولايزالون.. الأب والأخ والصديق سامي الدريد اللي وقتها صاح قوموا وانفضوا غبار الذل عنكن بوسط سوق الحميدية.. اعتقلنا سوا واتعذبنا سوا وضحكنا سوا بنفس الزنزانة ورسمنا نفس الهدف بعد ما طلعنا .

ما صدف والتقينا بعدها، اليوم التقينا لأول مرة من سنين ضمينا بعض وما قدرنا نحكي ولا كلمة

شكرا على الاستضافة أبو أيمن بفتخر فيك وبأمثالك.. كل عام وإن ثورة”.

الحمود خرج من المعتقل بعد مظاهرة الحميدية بشهرين وعاد إلى إدلب ليشارك بمظاهرات إدلب وأريحا وجبل الزاوية، وهو شقيق الشهيد محمد عبد الحميد الحمود صاحب أغنية “يما مويلي الهوى”، الذي أعدمته قوات النظام ميدانياً في اقتحام البلدة عام 2011، واعتقلت أخاه زاكي.

حمل الحمود السلاح في صفوف الجيش السوري الحر ودافع عن شعبه، وبعد أن انتقل إلى تركيا، عاد إلى إدلب.

وختم الدريد حديثه معنا بالقول: “الحرية غالية ومقدسة.. وكلما خفّض الإنسان من ارتباطاته بالحياة أحسّ بالحرية أكثر وكان لصيقاً بمبادئه.. لا أطمح للخروج من سوريا”.

وفي اليوم التالي لمظاهرة الحميدية، كانت دمشق مع موعد آخر من المظاهرات، حيث تجمع عشرات الناشطين والسياسيين والحقوقيين وعدد من ذوي سجناء الرأي، في ساحة المرجة قرب وزارة الداخلية، للمطالبة بإطلاق سراح معتقلي الرأي من أقبية المخابرات وسجن صيدنايا، وهذا ما سنروي تفاصيله غداً.

تلفزيون سوريا

—————————–

مظاهرة الحريقة.. أول صرخات الكرامة من قلب العاصمة دمشق/ عبدالله الموسى

لم يكن الهتاف “الشعب السوري ما بينذل” أساس تصنيف ما حصل في الحريقة قبل عقد كامل، بأنه مظاهرة تحمل مطالب سياسية، بقدر ما هو ذاك الصوت الخافت الوحيد الذي صرخ “بالروح بالدم نفديك يا بشار” ولم يلق صدى يتردد من بين الحشود الغاضبة المناصرة لعماد نسب، ابن أحد تجار الحي الذي تلقى مع أخيه إهانة من شرطي مرور.

أول المطالب.. “الشعب السوري ما بينذل”

صباح الـ 17 من شباط عام 2011، كسر تسجيل مصور لمئات المتظاهرين وسط العاصمة دمشق، ما اعتاد أن يشاهده العرب من مظاهرات في مصر وليبيا واليمن وما سبقها من مظاهرات في تونس والتي كانت فاتحة الربيع العربي. وفي الوقت الذي كان فيه المصريون يحشدون لجمعة النصر للاحتفال بالإطاحة بحسني مبارك وإظهار القوة أمام قيادة الجيش كي لا يفرطوا بالتزاماتهم، جاءت حادثة الحريقة عندما شتم شرطي مرور يقف عند إشارة مرور الدرويشية خلف القصر العدلي، الشاب عماد نسب وأخاه وهما ولدا أحد تجار الحي المنحدر من تل منين.

الشرطي المعتدي طلب من عماد أن يكمل طريقه عند الإشارة، لكن شرطياً آخر على الزاوية المقابلة طلب منه التوقف، وعندما شاهدهما الأول متوقفين شتمهما لينفجر الموقف لحين وصول وزير الداخلية حينذاك اللواء سعيد سمور.

وكان التوتر في ذلك اليوم على أشده في العاصمة دمشق تحديداً، حيث أطلق ناشطون سوريون في الأول من شباط 2011 دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت محجوبة حينئذ في سوريا، للتظاهر ضد النظام، لكن ورغم عدم خروج أي مظاهرة في يومي الجمعة في الرابع والحادي عشر من الشهر نفسه، فإن حالة الترقب تطغى على حالة الانتشار الأمني للنظام والجميع بانتظار الشرارة.

وقبل يومين من مظاهرة الحريقة كان رأس النظام بشار الأسد في الحي نفسه، مستغلاً احتفالات عيد المولد النبوي الشريف في المسجد الأموي، ليستعرض كما جرت العادة منذ أن انتزع والده الحكم في سوريا، محبة الناس له وهو يقود سيارته بنفسه في شوارع المدينة القديمة.

وصول المساعد إلى مكان الحادثة ومن ثم الملازم والرائد ورئيس قسم شرطة الحميدية، لم يكن كافياً لتهدئة الوضع، إلا أن وصول وزير الداخلية أظهر بشكل واضح حالة النظام في تلك الفترة، واحترازه وتحسبه من وصول موجة الربيع إلى سوريا، وكذلك أظهرت حالة الخوف من أي هزة لعرشه فكانت التوجيهات بامتصاص غضب الشارع.

وبعد 10 سنوات من الهزة التي أعقبها زلزال، يمكن فهم طبيعة تفكير النظام عندما استيأس سمور ولم يعد لديه خيار إلا بالتهديد عندما قال “عيب يا شباب هاي اسمها مظاهرة”، ليعقبه أحد الحضور بالقول “كلياتنا منحب الرئيس.. مشان الله روحوا”. لكن الهتاف عاد “الشعب السوري ما بينذل” وكذلك سمور عاد إلى مكتبه الذي غادره في نيسان من العام نفسه، هذه المغادرة كانت كفيلة بتوضيح المسار الأمني الذي سيتخذه النظام مع المتظاهرين الذين أطلقوا صرخاتهم مدوية “الشعب يريد إسقاط النظام”.

حرقت المدفعية الفرنسية حي سيدي عامود عام 1925 ليتحول اسمه لحي الحريقة، ومنع الجيش الفرنسي الذي طوق العاصمة دخول الأطباء لإسعاف الجرحى، واعتقل النساء والشيوخ والشباب وأحرق متاجر سوق الحميدية، في مجزرة كتب عنها أحمد شوقي:

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ، وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا، وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ

وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ، بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ

جَزاكُمْ ذو الجَلالِ بَني دِمَشقٍ، وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ”

ما حصل عام 1925 تكرر على مدار السنوات العشر الأخيرة، لكن هذه المرة على يد بشار الأسد وعلى مستوى كامل الأراضي السورية. 10 سنوات كانت بشهدائها ومهجريها ونازحيها وآلامها وفرحات التظاهر والحرية والكرامة، أطول بكثير من أن تكون عقداً واحداً فقط.

—————————-

10 أعوام على الثورة.. هل يفكك الانهيار الاقتصادي العقدة السياسية؟

ليفانت – مرهف دويدري

    مع انطلاق الثورة السورية عبر المظاهرات السلمية، في آذار 2011، اختار رئيس النظام السوري بشارالأسد قمعها بالقوة، واستخدام الحل الأمني الذي ورثه كما سوريا، عن أبيه الذي نفّذ جريمة إبادة جماعية في مدينة حماه عام 1982 بيد أخيه رفعت الأسد؛ هذه الثورة التي سرعان ما تحولت إلى نزاع مسلح، بعد انشقاق عدد من ضباط وعناصر جيش النظام السوري، حيث استطاعوا تشكيل “الجيش السوري الحر” الذي سيّطر على مساحات واسعة من سوريا، ومع تصاعد نفوذ التنظيمات الجهادية وتدخل أطراف خارجية عدة ساهمت في تعقيد المشهد. حيث صنّف الأسد كل من حمل السلاح ضده بـ”الإرهابي”، حيث أسفرت عشر سنوات من الحرب عن مقتل أكثر من 380 ألف شخص واعتقال عشرات الآلاف ودمار البنى التحتية واستنزاف الاقتصاد ونزوح وتشريد أكثر من نصف السكان، مع أزمة اقتصادية حادة وتداعيات عقوبات دولية مفروضة على النظام وأركانه.

وبعد عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية، يبدو أن المشهد السياسي قد انقلب رأساً على عقب، إذ رأى معظم المحللين السياسيين، إن بشار الأسد لن يتمكن من الاحتفاظ برئاسة البلاد أمام ضغط الشارع والمجتمع الدولي وقوات المعارضة التي تلقت اعترافاً ودعماً دولياً، لكنه شنّ حرباً شرسة استخدم فيها كل أنواع الأسلحة، واستعان بكل المليشيات الطائفية التي أنتجتها إيران، بالإضافة للدعم الكبير الذي تلقاه الأسد من روسيا وإيران ما مكنّه من الصمود في وجه الثورة واستعادة السيطرة على مناطق تفنن في تدميرها وتهجير سكانها.

ولعل من أهم أسباب استمرار الأسد في السلطة بعد عقد من الزمن، هو ولاء قيادة الجيش التي تعززت خلال عقود بأقارب الأسد وأتباعه من الطائفة العلوية التي ينتمي إليها. وشكل هؤلاء على الأرجح أكثر من ثمانين في المئة من الضباط القادة في العام 2011، وشغلوا كل منصب مؤثر عملياً داخل الجيش، وقد استفاد نظام الأسد من خوف الناس من “الفوضى” بحسب تعبيره، ومن خوف بيئته (العلوية) على وجودها في حال سقوطه، ما جعلها تستميت في الدفاع عنه دفاعا عن وجودها، كما استفاد من غياب قوى سياسية فاعلة وفقدان الأمل من دور المعارضة.

    سوريا بأربع حكومات وانهيار اقتصادي

يخضع السوريون اليوم، لسيطرة أربع حكومات: حكومة النظام السوري في دمشق، التي تبسط سيطرتها على معظم البلاد والعباد مع انتشار كبير للمليشيات الإيرانية والشرطة العسكرية الروسية ومليشيات فاغنر الروسية، والتي باتت صاحب اليد الطولى في تشريع القوانين بعد سيطرتها على مفاصل هامة في البلاد، وبالتالي باتت حكومة النظام غارقة في صراع روسي إيراني لتحصيل ديون الدولتين بعد الهبات المالية الضخمة لدعم الأسد في مواجهة الشعب السوري.

وحكومة “حكومة الإنقاذ” وهي الواجهة المدنية لـ”هيئة تحرير الشام” أو “جبهة النصرة”سابقاً، وتبسط سيطرتها على جزء واسع من الشمال الغربي “إدلب وجوارها”، والتي فرضت التعامل بالليرة التركية ضمن مناطقها بذريعة الانهيار في سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، وهو ما جعل اقتصاد هذه المنطقة مرتبط بشكل كامل مع تركيا.

والثالثة هي الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني السوري، الذي ليس له سيطرة فعلية على الأرض ولا يحمل أي ثقل عسكري بالمعنى الحقيقي، وإنما تشكل واجهة سياسية للمعارضة المشتتة والمنقسمة لمنصات وولاءات دولية وإقليمية، وهي تمثل الإرادة التركية بالكامل

والرابعة هي حكومة الإدارة الذاتية في الجزيرة وشرقي الفرات، ممثلة بالإدارة الذاتية أو “مجلس سوريا الديمقراطي والمدعومة من قوات سوريا الديمقراطية، الجناح العسكري للإدارة الذاتية والمدعومة بشكل مباشرة من الولايات المتحدة، بعد التحالف الذي أثمر عن طرد داعش من شرق سوريا وهي تعتبر الحاضنة لما تبقى من قوات أميركية في سوريا، حيث تسيطر على حقول النفط في المنطقة بدعم من التحالف الدولي لمحاربة داعش، وهي المكلفة بإدارة مخيمات أسر مقاتلي داعش والسجون التي تحتجز أسرى داعش.

وعلى الرغم وجود أربع حكومات في مناطق النفوذ المختلفة، إلا أن السوريين في هذه المناطق بدأوا يظهروا ضيقاً وبوادر انتفاضات متلاحقة ومتعاقبة، ضد هذه الحكومات التي فشلت في وقف الانهيار الاقتصادي وارتفاع حالات الفقر بشكل متسارع وجنوني

    قانون قيصر..هل يحقق المطلوب منه؟

جاء قانون قيصر بعد أكثر من ثماني سنوات من مطالبة الشعب السوري بالدعم الدولي لحماية المتظاهرين والمدنيين، والذي يهدف إلى حرمان رئيس النظام السوري بشار الأسد من أي فرصة لتحويل التقدم العسكري الذي حققه على الأرض على حساب المعارضة السورية المسلحة، إلى مكسب سياسي يكرس من خلاله فرص بقائه في السلطة إلى أجل غير مسمى، حيث تستهدف العقوبات التي ينص عليها القانون، الكيانات التي تعمل لصالح الأسد في أربعة قطاعات هي: النفط والغاز الطبيعي، وصناعة الطائرات، والبناء، والهندسة ويشمل ذلك الدعم المباشر وغير المباشر للنظام، مثل دعم الميليشيات المدعومة من إيران وروسيا العاملة في سوريا.

وتعتبر أهمية تطبيق قانون “حماية المدنيين في سوريا”، والمعروف بـ “قانون قيصر”، أنها تظهر جلية، في موجة الذعر التي أصابت رجال أعمال وتجار سوريين وعرب يتعاملون مع نظام الأسد خوفاً من العقوبات الدولية التي بدأت تطال بعضهم، كما ويعزو النظام السوري الأزمة الاقتصادية والإنسانية الخانقة داخل سوريا إلى البدء بالعمل بهذا القانون، هذا وتزامنا مع بدء تنفيذ القانون،ودعم السوريون على نطاق واسع هذا القانون الذي أعاد إحياء الأمل بتحقيق حمايتهم من وحشية نظام الأسد الحالية وحماية مستقبل سوريا من المستفيدين من هذا الصراع بعد زوال الأسد.

ولعل إطالة أمد الاستعصاء في حل المعضلة السورية إلى جانب النتائج السلبية لعقوبات قانون قيصر وتراجع الدعم الخارجي للنظام أدت إلى دخول النظام السوري؛ المسؤول الوحيد عن السياسة النقدية في سوريا، في حالة عدم القدرة على الإنتاج بصورة شبه تامة، حيث بدأت الحكومة النظام سوري عقب ذلك، رفع أسعار خدماتها تدريجياً تماشياً مع السعر الجديد للصرف، وكانت هناك قرارات متلاحقة منها رفع أسعار المحروقات والخبز والطحين والإسمنت والرز والسكر المدعومين وتعرفة المواصلات وغيرها الكثير، ما انعكس على أسعار جميع المواد الاستهلاكية في الأسواق، وزاد التضخم بشكل حاد.

طوابير سوريا

وكان قد تجاوز سعر صرف الليرة السورية حاجز الـ 4000 ليرة مقابل الدولار الأمريكي في أدنى قيمة على الإطلاق تسجلها العملة السورية، أما اليورو فقارب 4800 ليرة، ووفقاً لبيانات رسمية تتجاوز نسبة العجز في الموازنة العامة للحكومة السورية للعام الجاري 40%، حيث بلغت اعتمادات الموازنة العامة 8500 مليار ليرة سورية، في حين قدّرت الحكومة العجز في الموازنة العامة بنحو 3484 مليار ليرة.

    انهيار الاقتصاد.. هل يحقق ما عجزت عنه الحرب؟

أدّت الحرب إلى تدمير أغلب ركائز الاقتصاد السوري ومقوماته، مما أثّر سلبا على الاقتصاد المدني في سوريا، حيث توقّفت أغلب المعامل عن العمل وهجرها أصحابها وعمالها، ما أحدث عجزاً بالسوق الداخلية وسبّب معاناة كبيرة في المعيشة التي باتت متدنية وشبه منعدمة لملايين الناس، ويعتبر توقّف الإنتاج الصناعي هو حرمان البلاد من مصادر دخل كبيرة، يرى محللون أن سياسات النظام تعمدت أيضاً معاقبة خصومه ومعارضيه وتدمير أي مصدر إنتاج قد يقع تحت أيديهم، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة أن تكلفة الحرب الاقتصادية في سورية بلغت تريليون و200 مليار دولار أمريكي.

وبسبب هذه الانهيار الكبير في الاقتصاد بدأت حكومة النظام في دمشق، تواجه غضباً شعبياً عارماً بدءاً من السويداء ودرعا، فيما حالة الشكوى والتذمر والضيق تشتعل في مختلف مناطق سيطرة هذه الحكومة، بما فيها مناطق الساحل المعروفة باحتضانها للنظام، حيث باتت الوطأة الغليظة للعقوبات على النظام مع حرمانه من موارده الغذائية والمائية والنفطية في شرق الفرات، وتجارته الخارجية معطلة، وحتى المنافذ المفتوحة مع العراق والأردن لم تعمل كما ينبغي حتى باتت خزائن النظام فارغة، ومشاريعه لإعادة الإعمار تواجه تحدياً غير مسبوق.

اسواق دمشق

فحلفاء النظام روسيا وإيران، في وضع غير مريح، فهم أيضاً عرضة لعقوبات سابقة، ومشمولين بعقوبات “قانون قيصر” اللاحقة، وحرب أسعار النفط، ضربتهم في الصميم، وجائحة كورونا أثقلت بتداعياتها المالية والاقتصادية والاجتماعية كاهل اقتصاداتهم ومواردهم، وليس لديهم الكثير لتقديمه لحليف يغرق في بحر من التحديات، بعضها مفروضة عليه، وبعضها من صنع يديه.

اقرأ المزيد   النقيب عمار الواوي لـ”ليفانت”: المجلس العسكري ضرورة حتمية لسوريا سواء أكان الحل عسكرياً أو سياسياً

ولعا روسيا التي نجحت في تفادي السقوط في المستنقع العسكري السوري، تسعى في تفادي الانزلاق إلى “مستنقع اقتصادي” في سوريا، وهي غير قادرة على حمل “الرجل السوري المريض” على أكتافها المتعبة لفترات طويلة، كذلك إيران الحليف الثاني لنظام الأسد، لكن إيران بخلاف روسيا، تواجه حرب استنزاف إسرائيلية ضد قواتها ومليشياتها المنتشرة على الأرض السورية، ما جلعها تفقد الشهية للتمدد في سوريا والبقاء فيها، وتحال التراجع تدريجياً كلما ارتفعت “فاتورة” هذا البقاء والتمدد، وفي مطلق الأحوال، ليس لدى إيران الكثير لتقدمه لاستنقاذ سوريا من خانقتها الاقتصادية، خاصة وأنها تعاني من العقوبات الأمريكية القصوى بعد خروج ترمب من الاتفاق النووي.

وفيما يبدو أن ما لم تحققه كل المعارك على امتداد الأرض السورية على عشرة سنوات وكل المؤتمرات الدولية والمبعوثيين الدوليين للوصول إلى حل يخرج سوريا من دوامة الوحشية الأسدية، قد يحقق انهيار الاقتصاد في إجبار النظام السوري على الخضوع لطاولة المفاوضات التي قد تفضي لرحيل فيما لو أرادت كل الأطراف الدولية والإقليمية الوصول لحل نهائي تضع الحرب فيها أوزارها

—————————-

بعد عشر سنوات على الحرب… عمّ يتحدث السوريون مع أطبائهم النفسيين؟/ إسراء الشيخ علي

“لو أنني تلقيت العلاج النفسي اللازم منذ البداية لما وصلت إلى هذه المرحلة المتقدمة”، هذا ما أخبرنا به رامي (32 سنة)، بعد معاناة طويلة وقديمة مع الاكتئاب أدت به إلى محاولة للانتحار، ما دفع به أخيراً لزيارة استشاري في الأمراض النفسية.

أخبر رامي طبيبه: “منذ أن كنت مراهقاً، وأنا لا أشعر أنني بخير أبداً، بعيدٌ عن أماكن التجمعات، وحزين دائماً. مررت بمرحلتين صعبتين للغاية في السنوات الماضية، إحداها عندما اشتدت الأعمال القتالية في العاصمة دمشق، وما تبعها من سقوط قذائف هاون عشوائية على المدنيين، فقد كدت أقتل بسبب قذيفة، والثانية بعد أن تخرجت من الجامعة وصرت عاطلاً عن العمل والأمل في آن معاً. اسودت الدنيا في عيني وزادت عزلتي الاجتماعية”.

مع تفاقم وضعه النفسي، بدأ إحساس الندم يأكل رامي يوماً بعد يوم، كما يتحدث لرصيف22، وبدأت الحوارات الداخلية تتصارع في رأسه: “لمَ لمْ أسافر ككل أصدقائي؟ فها هم يعيشون أجمل عيشة في أوروبا. لمَ لمْ أتخذ هذا القرار؟ ويوماً بعد يوم ازداد جلدي لذاتي، حتى أقدمت على محاولة الانتحار عن طريق تناول الأقراص الدوائية، إلا أن تلك الطريقة لم تنفع معي بسبب تقيؤ الدواء”.

يقيم رامي اليوم في منطقة المزة القديمة، غرب دمشق، ويعمل محاسباً بمحل ألبسة، وبراتب لا يتجاوز مئة ألف ليرة (ثلاثون دولاراً وفق سعر الصرف غير الرسمي)، ولا زالت هذه المشاعر تعتريه كل يوم دون توقف.

اكتئاب وقلق واضطرابات

يقول الدكتور ثائر حيدر، وهو اختصاصي في الأمراض النفسية والعصبية: “أكثر الحالات التي تتردّد إلى عيادتي هي الاكتئاب، القلق، اضطرابات النوم واضطراب الكرب ما بعد الصدمة أو اضطراب الشدة ما بعد الرض، إضافة إلى حالات الإدمان على المخدرات والحبوب المهدئة والحشيش، وحالات الذهان والفصام واضطراب الوسواس القهري. هي أمراض كانت موجودة قبل الحرب لكنها تزايدت بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو أمر طبيعي نسبة لظروف الحرب التي عانى منها الجميع”.

وفي دراسة نشرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العاشر من آذار/ مارس الجاري، تحدثت عن الخسائر الفادحة التي تكبدها السوريون، خاصة الشباب، خلال السنوات العشر الأخيرة، مع فقدان الأحبة وضياع الفرص وفقدان السيطرة على المستقبل. كما أوضحت تأثيرات النزاع السوري على الصحة النفسية، مع المعاناة من اضطراب النوم، القلق، الاكتئاب، الشعور بالعزلة والإحباط والحزن.

ويشير الدكتور حيدر، وهو يمتلك عيادة في منطقة الطلياني وسط دمشق، إلى أن الخجل من التوجّه للطبيب النفسي بات أقل بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وفي الجهة المقابلة، فإن كثيرين باتوا يتوجهون لتعاطي الحبوب المهدئة دون استشارة طبيب، أملاً في أن تكون هي الحل لآلامهم النفسية.

هذا ما أكده جهاد، وهو رجل خمسيني يعيش ببلدة جرمانا شرق دمشق، تحدث لرصيف22 قائلاً: “صارحت الطبيب أنني ألجأ الى تعاطي الحبوب المهدئة لأسيطر على مشاعر القلق التي تنتابني، إلا أن موضوع التعاطي خرج عن سيطرتي، وبدأت أشعر وكأنني مدمن على تلك الحبوب”.

أخبر جهاد طبيبه النفسي بأنه قلق من الاستمرار في الحياة، وبأنه وصل إلى مرحلة شعر فيها بأن وجوده عبء ثقيل، ويتابع: “بدأت تنتابني أفكار عن الانتحار وسهولة الموت مقابل الظرف المعيشي السيء الذي أعيشه، رغم أنني صاحب شركة دعاية صغيرة ولا زلت قادراً على دفع مصاريف شركتي وعائلتي، لكن لطالما تساءلت: ماذا لو أفلست بين ليلة وأخرى؟ فشركات كبيرة أغلقت وأنا لن أكون بمنأى عن هذا المصير في الفترة القادمة. وبذلك ازدادت آلامي الجسدية، التي لم أعد قادراً على التخلص منها حتى مع تعاطي المسكنات والمهدئات”.

يقول جهاد بأنه ليس نادماً أبداً على زيارة الطبيب النفسي: “أظن أنني بدون مساعدته في السيطرة على مشاعر القلق التي كانت تنتابني، لكنت الآن في عداد المنتحرين، فالخوف والقلق من المجهول اللذان نعيشهما اليوم في سوريا يفوقان قدرة الإنسان على التحمل”.

————————-

أدباء سوريا بين نار الغربة ولهيب الحرب/ آية ياسر

يواجه أدباء ومبدعو الداخل السوري واقعاً بالغ الصعوبة، منذ اندلاع الثورة السورية في 15 مارس 2011، وما صاحبها من حرب لم تخمد نيرانها طيلة عشر سنوات، راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى، فأمست الحياة على أرض الوطن محكومة بالخوف والبؤس، في ظلّ ظروف إنسانية بالغة الصعوبة.

وبعد أن كانت دمشق عاصمة الثقافة العربية في عام 2008، يكافح الآن أدباء ومبدعو سوريا بالداخل، لأجل البقاء، متحدّين عقبات النشر والأوضاع الأمنية التي تحول بين تنظيم الفعاليات الثقافية. فكانت هناك عشرات الأعمال الأدبية السورية المتميزة لكتّاب الداخل، بعضها صدر في سوريا عن مؤسسات ثقافية رسمية أو دور نشر أهلية، وغالبيتها صدرت عن دور نشر عربية، إلّا أن مشاركة أولئك الأدباء بالمحافل الثقافية العربية والدولية باتت محدودة.

وشهدت السنوات العشر الأخيرة عملية نزوح واسعة للمبدعين السوريين، الذين هاجروا لبلدان عربية وأوروبية، ليأمنوا فيها على أنفسهم وعائلاتهم، ويمارسوا إبداعهم الأدبي بحرية، ولمعت أسماء الكثيرين منهم في سماوات الأدب وشقوا طريقهم بقوة إلى العالمية، عبر أعمالهم التي ألقى الواقع السوري الراهن بظلاله عليها.

يعد الأدب السوري، شاهداً على المرحلة الأهم والأخطر من تاريخ سوريا المعاصر، فلا تكاد تخلو الأعمال من ثيمات الحب والحرب والحلم والموت والغربة والتفكك الأسري والهجرة ومعاناة اللجوء.

وفرض الأدباء السوريين أنفسهم بقوة في المسابقات والجوائز الأدبية، ولا سيما جائزة البوكر العربية، التي تضمنت قائمتها الطويلة لعام 2020، ثلاثة روائيين سوريين، هم: سليم بركات، خالد خليفة وخليل الرز، وشهدت السنوات السابقة وصول روائي سوريا لقوائم البوكر الطويلة نحو 11 مرة، وأبرزهم: “شهلا العجيلي، محمود حسن الجاسم، مها حسن وفواز حداد”.

بينما حصدت ثلاث روايات سورية، جائزة “كتارا” للرواية العربية في 2014، وهي: “لا ما يرويها” لنجاة حسين عبد الصمد، وجوه مؤقتة” لحسن محمد بعيتي، و”كوكب اللا معقول” لماريا دعدوش.

كما فازت “وجوه مؤقــتة” لحسن محمد بعيتي، بجائزة كتارا للرواية العربية الدورة الرابعة، وحصد غازي حسين العلي، الجائزة في دورتها السادسة.

وحلت رواية “حي الدهشة” لمها حسن في القائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ للآداب لعام 2021، وفاز خليل صويلح بالجائزة في دورتها الـ14 عن روايته “وراق الحب”، كما حصد خالد خليفة الجائزة لعام 2013، عن روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”.

وحاز فيصل خرتش على جائزة “الطيب صالح للإبداع الكتابي”، فئة أفضل رواية لعام 2018، وفاز سومر شحادة في الدورة السادسة للجائزة.

بينما حصل خليل النعيمي على جائزة “محمود درويش” للإبداع عام 2018، ورُشّحت رواية “الموت عمل شاق” لخالد خليفة لجوائز الكتاب الوطني، عن المؤسسة الوطنية الأمريكية للكتاب، وهي مؤسسة غير حكومية وغير ربحية.

 أتنفس من خلال ما أكتب

وحول كيفية إلقاء الراهن السوري بظلاله على إبداعها الأدبي خلال السنوات العشر الأخيرة، تقول الروائية السورية، سهير عبدالله رخامية: “ما حدث كان عاصفاً في البداية، من ثم هدأ قليلاً ثم تصاعد ضاغطاً بكل ثقله. أولها العقوبات على سوريا ثانيها قانون قيصر… حالات غير متوازنة ولا متساوية عشتها في قلق نفسي وظروف ضاغطة من كل الجوانب، ذكرتُ مرة أنني أتنفس من خلال ما أكتب. اليوم التنفس أصبح مقنناً من كل الاتجاهات تابعاً لتقنين الكهرباء ومرتبطاً بالظروف المعيشية، ولا يمكننا الفصل بينهما. الكاتب يعيش حياة الشارع. نظراته ومشاعره وقلمه ترصد حركة المواطن لأنه يكتب عنه وعن معاناته”.

سهير عبدالله

وبشأن التحديات التي تواجه الأديب السوري في الداخل في ظل الأوضاع الراهنة، تؤكد رخامية أن واقع النشر الورقي في السنوات الخيرة تأخر وفتح مجال للنشر الإلكتروني، بسبب ارتفاع أسعار الورق وكلفة الطباعة وغيرها مما يعيق حركة النشر، والكاتب مقيد بالبحث عن دار نشر تقبل عمله دون أن ترهقه مادياً.

كما أن التحديات اليومية كثيرة، أولها التقنين الكهربائي الطويل، وهذا يسبب التأخير والتوقف ساعات عن الكتابة وقطع حبل الافكار، موضحة أن “الظروف الحياتية كانت ولا تزال عائقاً بين الكاتب وعمله الإبداعي، بالإضافة إلى أن المواطن السوري بشكل عام متأثر ومتضرر، وبالتالي الكاتب هو واحد من هؤلاء الناس المتضررة، المتأثرة حياتهم بالوضع المعيشي بكل أبعاده وظروفه السيئة جداً. هناك أمور تجري لا يستطيع البشر تحملها”.

وتضيف الكاتبة المقيمة بالداخل السوري: “الأدب بشكله العام والخاص مرتبط بمجتمع الكاتب، بجغرافيته ومناخ وطنه. لا يستطيع العيش دون أن يتأثر، بعيداً كان أم قريباً، يعيش أحداث الفرح والحزن والجوع والألم، منه يستقي تفاصيل مشاعره وأحاسيسه.

الكاتب داخل سورية مقيد بظروفه المعيشة والتقنين والعنف والغلاء والجوع والتشرد والبرد والصقيع، كلها أمور يعيشها مع الغير إن لم يكن واحداً منهم. الكاتب بسوريا يُصنّف من الفقراء. يعيش معاناة مع من حوله ويتأثر بهم. نداء لكل السورين بالخارج أن يهتموا بأقربائهم ومعارفهم، نحن هنا داخل سورية لا نعيش حياة طبيعية بالمطلق”.

وتتابع سهير: “العقوبات على سورية وتطبيق قانون قيصر حمل معه عنفاً معيشياً وعنفاً نفسياً وإنسانياً وجسدياً وأمراضاً”.

كل يوم تتأثر حياة الكاتب بما يحدث داخل سوريا، من هذه التغيرات تطبيق القوانين الدولية على سوريا، يعني على الشعب، وبالتالي الكاتب واحد من شعب تختنق أنفاسه ليؤمن احتياجاته اليومية. ارتفاع أسعار السلع لأهم المواد المعيشية بالآونة الأخير شكلت صدمة عنيفة ومخيفة، لارتباطها بلقمة عيش، كانت ولا تزال يصعب تأمينها بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية أمام ارتفاع الدولار.

تضيف الكاتبة: “كل هذا أثر على المواطن، هذا بالتالي أثر على الكاتب داخل سورية، وخاصة بالنسبة لنشر أعماله بهذا الغلاء الفاحش، وفرق العملة من دولة لأخرى، هذا ما تفعله الحروب بنا، تترك الشعوب بائسة فقيرة في الدرك الأسفل من الحياة. من مكاني هنا ككاتبة أطالب برفع هذه العقوبات عن سوريا عن الشعب السوري، ليتوقف قانون قيصر. يكفي، لقد دمروا الشعب السوري بكل أطيافه ومستوياته. ارفعوا هذه العقوبات وأعطني قطرة ماء وكسرة خبز وغطاء التحف به وسقف يأويني، واتركني أعيش بسلام”.

أديب لم يعد يؤمن إلّا بالحرية خلاصاً

أما القاص والكاتب السوري عمران عز الدين، فيؤكد أن الراهن السوري مثله مثل الماضي السوري، وهو ما سيكون عليه المستقبل الذي لن يكون ورديّاً، مشيراً إلى أن الحروب لم تكن في يوم من الأيام نقمة فقط، بل كانت أيضاً، وفيما يخصُّ الأدب أو الحراك الإبداعي، البوصلة والاكتشاف، الفارق والمارق والمُتجاوز، قدّمت للساحة الأدبية العربية والعالمية أدباً عظيماً لا يمكن تجاهله، وفاق بسنوات بحبوحة ورخاء أدب السلم وكتّاب السلم. لم يكن نجاح الأدب في يوم من الأيام مرتبطاً ارتباطاً شَرْطياً بما تيسر من أجواء مناسبة، لم يكن رهين رخاء دائماً، الفيصل في الأمر هو الجودة والخلق والجِدة والابتكار.

عمران عز الدين

ويقول عز الدين: “الأديب الندّاب هو الذي ينتظر سؤالاً من هذا النوع ليلقي باللائمة والمظلومية في إطلالاته الإعلامية والتلفزيونية على كلّ من جعلوا من حظ سرده عاثراً. لستهُ، لن أكونه، لكنها يقيناً سنوات قحط عجاف، صبّار تجرعناه، وما زلنا نرزح تحت وطأتها، وتغدو الكتابة إزاءها ضرباً من الجنون والترف. حاولت أن أثقبَ عَجَلَة هذه المُسلّمة العاتية غير المُنصفة، بأن أكون مُتوازناً فقط، وأّلّا أقف مكتوفَ القصّ، وكانت النتيجة بعض المخطوطات التي تنتظر فرص نشر مناسبة، ومجموعة قصصية فازت بجائزة في مسابقة أدبية عام 2018، لم أتوصل حتى اللحظة بنسخ منها!

ويضيف الكاتب المقيم بالداخل السوري: “المبدع يعيش حالة اغتراب دائمة في حياته وفي نصّه، سواء في السلم أو في الحرب. المبدع كائن قلق، جسور، مغامر، هدّام، مفكّر، لا يستهويه الركود والنمطية، ولا تستوقفه اليقينيات والنظريات.

ما زلت في سورية، لم أبرح دمارها وألغامها وحرمانها في نصّي وفي تفاصيلي اليومية، وأرى أن الغربة التي يُعانيها غير المغترب عن مسقط نصّه ورأسه، أمرّ وأقسى ممن استقرَّ به المقام في دولة مستقرة وآمنة”.

ويوضح أن التحديات التي تواجه الأديب السوري في الداخل هي ذاتها التي يعاني منها أي أديب في أي دولة أخرى تعرضت لحالة مماثلة.

التغيير الذي اخترق مفاصل الحياة، وطهّرَ بالتالي المخيلة والجغرافية والنفسية من الشوائب والرواسب والميكروبات الضارة، كان له أبلغَ الأثر في افراز أديب لم يعد يؤمن إلّا بالحرية خلاصاً أوحد، بعد أن تيقّن من زيف وبطلان الشعارات التي جاء على قراءتها في كتب الأصنام والأولين.

إنه يسعى الآن بكل ما يدخره من إبداعٍ وموهبة لأن ينسفها أرضاً بحراً وجوّاً، لأنها، كما بات يرى، أصل التناحر والتخلف والانفصام والبلاء والوباء، ولن يتحقّق ذلك إلّا بطرح مفاهيم ونظريات ورؤى جديدة، وهذا هو التحدي الأكبر الذي بإمكانه أن يطوّع سائر التحدّيات ويخلخلها، وأن يُعيد اكتشاف وتأثيث وهندسة رؤى ومفاهيم أكثر ملائمة وتعبيراً عن روح العصر ومواكبته.

لافتاً إلى أن “سطر على تويتر بإمكانه أن يحدث ضجّة إعلامية لا تحظى بها مطبوعات دور النشر العربية لسنوات… الشهرة والحياة الباذخة التي ينعم بها بعض الكتّاب والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، فاقت شهرة ماركيز ونجيب محفوظ وألفريد نوبل. إنه زمن الاستعراض واللايك والتيك توك”.

ويختتم عمران عزالدين حديثه قائلاً: “لست ناطقاً بواقع الكتّاب السوريين داخلاً أو خارجاً، وحال المشهد الثقافي السوري من حال المشهد الثقافي العربي: وفرة في الإنتاج وندرة في الجودة أو القيمة الإبداعية.

الأدب الذي كُتِبَ في سنوات الحرب السورية، كان بأقلام كتّاب وكاتبات أجبروا أو آثروا النزوح عن سورية منذ أول رصاصة شهدتها التظاهرات التي عمّتِ البلاد، في حين أن الكاتب في الداخل لم يُقارب هذا الحدث الجلل إلّا باستحياء”.

بث الأمل في نفوس الأطفال

بينما يقول الكاتب السوري المختص في أدب الأطفال، جيكر خورشيد، لـرصيف22: “ككاتب مختص في أدب الطفل، دفعني إحساسي بالمسؤولية تجاه أطفال وطني، للكتابة عنهم وعن همومهم ومآسيهم، فتنقلت بين المحافظات السورية في البداية، أوثق حالة الطفولة المعذبة، وأساعد في بثّ الأمل في نفوس الأطفال بغد مشرق أجمل، لكن الأوضاع ازدادت سوءاً والحرب ازدادت شراسة، فلم أجد مهرباً غير الهجرة لإنقاذ نفسي وعائلتي وأحلامي من حرب دمرت وتُدمّر الإنسان والوطن.

جيكر خورشيد

فهاجرت مع عائلتي إلى تركيا بداية، وبعدها انتقلت إلى هولندا وفي مدينة لاهاي ألفت عشرات الكتب للأطفال، طرحت فيها ما عاناه ويعانيه الطفل السوري خاصة، والعربي عامة”.

ويضيف: “تحديات كثيرة تثقل كاهل الأديب السوري، فالأوضاع الأمنية والاقتصادية والثقافية والمعيشية سيئة جداً. الأديب السوري يكتب وينجز الأعمال الإبداعية وهو يعاني من الجوع والخوف والوهن والمرض، وأمله الوحيد هو أن يحلّ السّلام والأمان على وطنه سورية.

وفي مجال طباعة كتب الأطفال، أجد أن هناك دعماً كبيراً لطباعة كتاب الطفل، وإقبال جيد من قبل الأهالي والأطفال على شراء الكتب، وهذا ما يفسر وعي المجتمع حديثاً وتنبهه لأهمية الكتاب الورقي في حياة أطفالنا. فعلى سبيل المثال في هولندا، سنجد في كل حي أو قرية مكتبة كبيرة فيها القسم الأكبر لكتب الأطفال، ودائماً ما نجدها مزدحمة بالأهالي والأطفال، يقرؤون الكتب بلهفة ويستمتعون بسماع القصص”.

ويتابع خورشيد: “الوضع السوري العام، من تدهور للاقتصاد واستمرار الحرب وانعدام الأمن، له انعكاسات سلبية على المشهد الثقافي السوري الراهن، ووضع الأدباء في الخارج هو أفضل بكثير من وضع الأدباء داخل سوريا، فنحن على الأقل ننعم بالأمان والسّلام، ولدينا الوقت الكافي لنكتب ولنبدع، وهو ما انعكس على حياتي إيجاباً.

فخلال سنوات قليلة استطعت كتابة وتأليف حوالي 150 كتاباً للطفل، وحصلت على جوائز مهمة، كجائزة ‘اتصالات’ لكتاب الطفل عن أفضل نص، وجائزة ‘الملتقى العربي لناشري كتب الأطفال’ ووصل كتابي ‘أنا لست أنت’ للقائمة القصيرة لجائزة ‘الشيخ زايد للكتاب’، كما حصلت منذ أيام على جائزة ‘ملتقى ابن المقرب’ عن مجموعة قصصية للأطفال. أعتقد لو بقيت في سوريا لم أكن لأحقق أي إنجاز إبداعي حقيقي بسبب الحرب”.

انحزت للضحايا بالدرجة الأولى

أما الروائي والشاعر السوري الكردي هوشنك أوسي، المقيم ببلجيكا، فيقول: “حاولت ألا أكون تقليدياً في تناول الكارثة، منذ بدايات الثورة السلمية، ثم انزلاقها نحو العسكرة والحرب الأهلية، واستباحة البلاد من قبل قوى إقليمية ودولية، وأشرت إلى مسؤولية النظام والمعارضة عن ذلك.

لكن قياس مستويات التأثير على كتاباتي الشعرية والروائية متروك للنقّاد والقرّاء، وهل نجحت محاولاتي في نقل ذلك الواقع بطريقة مختلفة أم لا؟ انحزت للثورة وانتقدتها بشدّة. ثم انحزت للضحايا بالدرجة الأولى”.

هوشنك أوسي

وعند سؤاله عن تأثير الغربة على إبداعه الأدبي، أجاب: “لا أسميها غربة، بل مهجر. وكلمة ‘مهجر’، أضعها بين قوسين. فما منحني المهجر، هو أضعاف ما سلبني الوطن، بفعل النظام الحاكم له. أضاف إليّ المهجر، أو الوطن الثاني، الكثير بما لا يمكنني قياسه”.

وحول تحديات المشهد الثقافي يقول: “التحديّات كثيرة وكبيرة. أبرزها الاستبداد، الفساد، الفقر، انعدام الحريّات في الوطن، وأيضاً عدم الاندماج في بلدان المهجر. الفساد نقله بعض المثقفين السوريين معهم إلى الشتات، ومنطق وذهنيّة الشلل والمحسوبيّات المنتشر في المهجر، كان يعيش أزمة، فاقمتها أزمة كورونا، وزادت الطين بللاً”.

ويضيف: “واقع المشهد الثقافي السوري منقسم على نفسه بحدّة، بين موالاة للنظام الحاكم ومعارضة موالية للخارج، وتحديداً تركيا. قلّة قليلة حافظت على استقلاليّتها مع مناهضتها الاستبداد والفساد الحاكم في البلاد. وسط ذلك، حقق ويحقق المبدعون والمبدعات السوريات، بعض الانجازات التي تبعث الأمل والفخر في النفوس السورية الجريحة”.

نعيش في قعر الجحيم

أما الروائي السوري ثائر الزعزوع، المقيم بفرنسا، فيؤكد أنه لا يمكن للكاتب أو المبدع أن يعيش في معزل عما يحدث في محيطه، فكيف إذا كان ما يحدث حدثاً تاريخياً ومأساوياً كالحدث السوري، فسوف يترك آثاراً كبيرة على الحركة الإبداعية بشكل عام، وسوف يسيطر عليها إن جاز قول ذلك.

ويقول الزعزوع: “طبعاً كوني كنت مشاركاً في الحدث من بدايته، فقد انخرطت كلياً من خلال عملي الصحفي أولاً، ولاحقاً من خلال النصوص التي كتبتها، ولا أعتبر أن تجربة المنفى سوى تفصيل من الحدث بشكل عام، أن يولد النص بعيداً عن بيئته، ويعيش ويحاول إثبات وجوده. بعيداً عن الاحتكاك المباشر مع المتلقي”.

ثائر الزعزوع

ويضيف: “ما يواجهه المبدعون في الداخل تتفاوت درجته، في ذلك الداخل الذي نتحدث عنه، فسوريا ليست كياناً واحداً الآن، لكنها كيانات مختلفة، وكل واحد من تلك الكيانات تختلف شروطه وشكل القوة المسيطرة عليه. وهذا سؤال لا يمكن الإحاطة فيه بإجابة واحدة، ولا في عجالة، لكن الظروف بشكل عام تدفع المبدعين لمزيد من الانغلاق والبحث عن خلاص لنصوصهم، أو أن يبتعدوا قدر المستطاع عن الواقع، ويبحثوا عن حلول فانتازية، كيلا يقعوا فريسة للتأويلات التي قد تؤدي إلى اعتقالهم أو هلاكهم.

واقع النشر الورقي عالمياً يعيش أزمة، وقد ترك وباء كورونا آثاره عليه بشكل واضح، ولا يمكن إنكار أن الناشرين الآن يعيشون ما يشبه حالة إفلاس في الكثير من الدول، وأعرف ناشرين لم يطبعوا كتاباً منذ ستة أو سبعة أشهر”.

ويتابع: “المشهد الثقافي السوري بائس جداً، وقد عصفت به رياح عشر سنوات من التشظي، وهو في حاجة ماسة إلى بعض الوقت كي يستقر على شكل ويعود لرسم ملامحه من جديد، وأي محاولة لتجميل الصورة هي خداع للذات أولاً، قبل أن تكون خداعاً للآخرين.

نحن نعيش في قعر الجحيم، وندعي أننا قادرون على الخلاص، لكن ذلك ليس صحيحاً أبداً وهذا ليس يأساً، لكنه وصف دقيق للحالة”.

رصيف 22

———————————

عن “الأب الملعون” وخوف السوريين السياسي-الأمني/ هشام حميدان

أضافت الثورة السورية لقباً جديداً لحافظ الأسد هو “ملعون الروح”، وهو لقب حمل في دلالاته ثورة على رمزيته وإرثه السياسي القمعي.

رغم البؤس والنكوص والتقهقر والأهوال والمظالم التي حدثت في سوريا أثناء العهد الأسدي، ثمة مَن يتذكر أيام حكم حافظ الأسد أو حكم ابنه قبل الثورة بحسرة، معتبراً أنها فترة “آمنة” كان السوريون ينعمون فيها بعيش هانئ، لا شيء يعكّر صفوه، فترة سلم واستقرار خالية من الصراعات، لم يعرف الناس فيها الخوف على أنفسهم أو مستقبلهم. إلا أن هذا الطرح سياسي سلطوي بامتياز.

إذا وضعنا التأويل السياسي له جانباً، نستطيع أن نقول: إننا نعلم منذ “أجدادنا الإغريق” أن الصراع “أبٌ ومَلِكٌ على جميع الأشياء” وأن عالماً سكونيّاً يعيش في هدأة وسلام هو أمر شبه مستحيل أو غير قابل للتحقق. العالم في صيرورة مستمرة، “نار مشتعلة حية للأبد” على حد تعبير هيراقليطس في إحدى الترجمات العربية. أينما ولّينا وجوهنا ثمة حركة ونزاع، خطر وخوف وريبة. كيف نستطيع والحال هذا أن نعيش في أمن وسلام، خصوصاً إذا كان العيش أثناء فترة حكم كالحكم الأسدي؟

نحن كائنات هلوعة

نحن في المقام الأول كائنات “هلوعة”، يُعتبر الخوف واحداً من إمكاناتنا الوجدانية، نستطيع أن ندرس بنيته وأن نعاين طابعه التهديدي، لكننا لا نستطيع أن نقضي عليه بشكل نهائي، إلا أن ما يهمنا هنا ليس الخوف الذي ينتابنا بوصفنا كائنات “موجودة في العالم”، بل يهمنا ضرب مخصوص من ضروب الخوف هو “الخوف السياسي الأمني” الذي تزرعه وتعتاش عليه الدولة الأمنية.

السلطات السياسية الأمنية هي علة هذا الخوف. شغلها الشاغل في سوريا، على سبيل المثال والتحديد، تهديد وتحذير ونفي وسلب وإعدام الكيان الإنساني الحر، ذلك الذي يفكر ويفعل ما يخالفها. همها مسألة بقائها بالدرجة الأولى، لذلك تسعى إلى تحويل الإنسان السوري (الإنسان وليس المواطن، إذ لا وجود لمواطنة في ظل البعث) إلى كائن لا سياسي، أو حجب حقوقه عنه، وخاصة السياسية منها.

لا تكمن خطورة هذه السلطات بما تدفعنا إلى قوله أو فعله فحسب، بل بما تجبرنا على عدم قوله أو فعله أيضاً. ومن المعلوم أن التخويف أداة سياسية أمنية بالغة القوة. هو فعل ذو غائية قابلة للاستخدام السياسي، نجحت الدولة الأمنية في استثماره إلى أبعد الحدود، ويقوم بتوجيه وتحديد السلوك، أي يتضمن بالإضافة إلى بعده التدميري بعداً إنجازيّاً.

سيتذكر السوريون دائماً قدرة الدولة الأمنية على استخدام التخويف، وكيف قام حافظ الأسد بتأسيس عائلة تَعتبر سوريا ملكاً شخصياً لها ولحواشيها. وإذا تأوّلنا الحياة السياسية في سوريا بوصفها مشهداً عائلياً منذ استيلاء الأسد الأب على الحكم، سيكون هو الأب ذي الألقاب الكثيرة والصورة المُخافة، والدولة الأمنية هي الزوجة التي تنجب له ولنظامه وحزبه “الأبناء الشرعيين”.

والأبناء في هذا المشهد هم جميع السوريين الذين عاشوا فترة حكمه أو حكم ابنه. يكفي أن تدرسوا يوماً واحداً في مدارس البعث أو تدخلوا أي مؤسسة من مؤسسات الدولة حتى تتعرّضوا لمحاولة تنصيب حافظ الأسد كأب. لسنا أمام بنوّة مختارة أو اختيارية، ولا أبوة كريمة يُحسد عليها الأبناء. هي أبوة قائمة على تخويف الناس أمنياً وسياسياً. صورة حافظ الأسد أو مكانته أو رمزيته كـ”سيد الوطن/ الأب/ القائد/ الأمين/ الخالد” غير قابلة للمساس عند النظام. هي صورة محاطة بهالة من التقديس.

زرع الخوف

مَن من السوريين يستطيع أن ينسى الخوف المرافق لمهازل “تجديد البيعة” أو الشعارات البعثية التي حُفرت في الأدمغة، أو مادة “القومية” التي تؤرخ لعهد “البعث المجيد” وتعرض فكر “القائد المفدّى”؟

لعلّ من المفيد أن نُذكّر بأمر لا يخفى على كل مطّلع على تاريخ الحكم البعثي، وهو أن النظام على امتداد عقود حكمه قام باعتقال كل مَن شك في ولائه له، ناهيك عن التعذيب والقتل والمجازر، أي أنه قام بأساليب متعددة وبصرامة كبيرة، بزرع الخوف في نفوس السوريين من التفكير الحر، أي من الفعل أو الكتابة الحرة أيضاً.

مَن يكتب بشكل حرّ في الشأن السياسي السوري، يقاوم بطريقة ما أثراً لحافظ الأسد محفوراً في “الحياة السياسية” السورية وإنْ بشكل غير مباشر. مَن رفض الدولة الأمنية وثار على النظام كانت مكانة حافظ الأسد قد ترسّخت في نفسه كرمز للاستبداد والانحطاط، لذلك كان هتاف “يلعن روحك يا حافظ” من الهتافات الأساسية في الثورة.

لا نقول إن حافظ الأسد كان مسؤولاً عن كل صغيرة في الحياة السياسية السورية، لكنه بدون شك المسؤول الأول عن شكل هذه الحياة. هو نموذج للحاكم الهووي الذي يحاول أن يحدد للناس الكيفية التي ينتمون فيها إلى وطنهم. هو الصنم الأكبر للدولة الأسدية التي اجترحت للناس آلية حكم معطَّلة ومعطِّلة. هو في منظور نفسه ومنظور الأسديين القانون والضمير بعينه. هو لعنة حلّت على سوريا المعاصرة ستكلّفها سنوات طويلة للفكاك منها، والحال أن هذا الفكاك بدأته الثورة، لكننا لا نعلم متى سيتحقق بشكل تام.

كل مَن شارك في الثورة هو على أقل تقدير ابن منبوذ أو ضالّ لسوريا من وجهة نظر النظام. كل محاولة للتمرد على سلطة العائلة الأسدية محفوفة بالمخاطر، لكن القبول بسلطتها والعيش في ظلها ليس آمناً أيضاً، فالأمن الذي توفّره ليس إلا خرافة مسيّسة وهذا في واقع الحال كان سبباً من أسباب الثورة.

وعقلية هذه السلطة الأمنية التي حاولت تنصيب حافظ الأسد كأب/ إله، وإنْ لم تكن العامل الوحيد، هي التي تعاونت مع الإيرانيين والروس وحزب الله كي يدافعوا عن “أمن واستقرار” سوريا ويقفوا ضد “المؤامرة الكونية” عليها، وهي نفسها المسؤولة عن القتل والدمار.

رصيف 22

——————————-

================

تحديث 16 أذار 2021

————————–

التباس الثورة السوريّة/ موريس عايق

في مقالته ضمن ملف الذكرى العاشرة للثورة السوريّة يكتب موريس عايق عن التباسات الثورة المتعددة فيقول إنّ الثورة السوريّة كانت مثار التباس عميق لدى العديد من الفئات الاجتماعيّة والتيارات السياسيّة اليساريّة والقوميّة خصوصًا، سوريًا أو عربيًا.

بمرور عقد على الثورة السوريّة ومساراتها المتشعبة، والربيع العربي عمومًا، فإنّه من الممكن استعادة الحدث وتناوله من زوايا مختلفة؛ قد تتراوح بين استعادة لحظة الأمل التي رافقت هذه الثورات، أو التركيز على ما مثلته الانتفاضات من فتح المجال العام المغلق قسريًا من عقود بقوة أنظمة الاستبداد العربي بتنويعاتها، وظهور العرب للمرة الأولى -حقًا- كذات إنسانيّة فاعلة تسعى إلى التحكم بمصيرها وأمرها. في المقابل يمكن التركيز على الهزيمة والانكسارات والإحراجات التي لازمت الانتفاضات وكانت سببًا في المآلات المأساويّة لها. زوايا تناول الحدث المتباينة ليست دومًا متعارضة بالضرورة، إنّما قد تكون متكاملة بحيث تقدّم صورة أكثر تنوّعًا ومتعددة السويّات للثورة السوريّة والربيع العربي. فلا زاوية نظر مفردة أو لحظة وحيدة تكفي لفهم أو للنظر إلى الثورة السوريّة، وإن كان النص الحالي ينطلق من لحظة الهزيمة والإحراجات في محاولة للنظر إلى مسيرة الانتفاضة خلال عقد.

الانطلاق من الهزيمة وأسئلة الالتباس الخاص بالثورة يفترض تمييزًا أساسيًا بين عدالة انتفاض وتمرد المظلومين، وتصوّر المظلومين أنفسهم عن العدالة، والذي قد يكون سببًا لهول أشدّ من (أو لا يقل عن) الهول الذي انتفضوا عليه. وأعتقد أنّ هذا التمييز المتعسر والحاجة المُلحة إليه في السياق السوري يقعان في أصل الالتباس السوري.

التباس الثورة

كانت الثورة السوريّة مثار التباس عميق لدى العديد من الفئات الاجتماعيّة والتيارات السياسيّة اليساريّة والقوميّة خصوصًا، سوريًا أو عربيًا. وفي أحيان كثيرة تحوّلت هذه الخشية إلى عداء صريح وفي أحيان أخرى اكتفت بموقف سلبي عام من الثورة. لم يستبطن الموقف المعادي للثورة بالضرورة انحيازًا للنظام، بل ربما ترافق مع موقف لا يقل سلبيّة من النظام السوري. الموقف من الثورة هنا لم يكن مؤطر في منطق مثنوي، مع أو ضد، كما حاول الثوار والنظام تقديمه. بالطبع لم يكن هناك الكثير وقتها، وربما للآن، مما يسعف هذا الموقف في الحفاظ على نفسه أو تحويله لخيار جدي، سواء لقسوة الصراع واستقطابه. والأهم، ربما، أنّ الحياد بين القاتل والقتيل، بين القوي والضعيف، لم يكن في محصلته حيادًا.

يمكن لحد كبير تفسير قلّة تعاطف العديدين مع الانتفاضة بالأدلجة العالية، اليساريّة والقوميّة، والنظر إلى العالم بشكل حصري من زاوية الإيديولوجيا التي يصدرون عنها وما تفرضه من صراعات. مثلًا، تحديد الموقف من أيّ صراع يتم من خلال تحديد موقعه بالنسبة إلى الصراع المركزي مع الإمبرياليّة الأمريكيّة، وهكذا لا يعود للصراعات المحليّة أي مضمون ذاتي، ويمكن تبرير الانحياز لأسوأ أنظمة الاستبداد انطلاقًا من تناقضها مع الإمبرياليّة. لكن هذه الأدلجة العالية لم تعمل في اتجاه واحد، ضد المنتفضين، بل أيضًا إلى جانبهم، مثل انحياز العديد من الجماعات والتيارات إلى الثورة السوريّة انطلاقًا من كون المنتفضين مسلمين سنة يواجهون نظامًا علويًا. الأدلجة السلبيّة من قِبل اليساريين والقوميين قابلتها أدلجة إيجابيّة من طرف الإسلاميين. رغم هذا، فإنّ هذه الأدلجة بقيت محصورة في جمهور صغير نسبيًا، ولا يمكن لها تفسير الموقع الملتبس العام للثورة لدى جمهور عريض يتجاوز حفنة المؤدلجين الصارمين. بدورها، تتحمل هذه الأدلجة المزدوجة مسؤوليّة جانب مهم من التباس الثورة السوريّة. فهل هذه الأدلجة جزء من إيديولوجيا الثورة نفسها، بما يفسر المسافة التي أخذها اليساريون والقوميون من الثورة (من حيث كونها ثورة إسلاميّة)، في مقابل تماهي إسلامي معها. يبدو أن تقديم إجابة صريحة ومباشرة عسيرًا، لأنّنا سنجد كلّ ما نريد إن رجعنا إلى التصريحات الثوريّة العديدة خلال السنوات الأولى، من الوطنيّة إلى الإسلاميّة.(1)

التباس الثورة السوريّة، خاصة بعد سنوات الحرب الأهليّة والصراعات الطائفيّة وصعود الجهاد الإسلامي، يمثل نقطة بداية جيدة للنظر مرة أخرى فيما حصل. كانت الثورة السوريّة ملتبسة حقًا، وكذلك الثورات العربيّة كما ظهر لاحقًا، غير أنّ الالتباس السوري كان أكثر حدة وعمقًا وأكثر تكلفة في النهاية. فالالتباس هنا ليس تنازعًا حول تشويه الثورة، أو بابًا لدفع تهمة عنها، أو لإدانة تيار لموقفه منها (لقد أصبحت كلّ هذه المسائل فعليًا وراءنا اليوم) إنّما للإشارة إلى واقعيّة المأزق السوري وما يمكن لنا تعلمه منه.

ثورة حريّة وتمرّد اجتماعي

امتازت البدايات الأولى للحراك السوري بحضور واسع ومتنوع، دون أن يعكس في مستواه مستوى التنوّع السوري. فأبناء الأقليات حضروا في الساحات وإن بشكل رمزي ومحدود، كذلك حضرت المعارضة السوريّة الوطنيّة والديمقراطيّة بأطرها العامة، وهي التي انقسمت لاحقًا حول أسئلة التسليح والتدخل إلى جماعتين متخاصمتين، تابعت الأولى مع المؤسسات السياسيّة للثورة مثل المجلس الوطني والائتلاف وأخرى بقيت خارجها (هيئة التنسيق الوطني).

خلال هذه الفترة تمحور الخطاب الثوري العام حول قيم عامة، الحريّة والكرامة ووحدة الشعب السوري واعتبار الانتفاضة السوريّة موجة من موجات الربيع العربي، الذي نُظر إليه باعتباره نزاع مع الأنظمة السلطويّة (النضال من أجل الديمقراطيّة) وتمرّد شبابي (تحولات جيليّة مع أزمة اقتصاديّة عميقة تمس الأجيال الشابة) وصراع اجتماعي (الريف والمدن والأحياء الطرفيّة المهمشة المتضرّرة من التحولات باتجاه الانفتاح وسياسات السوق).

كانت صورة الثورة عن نفسها تشبه إلى حدّ بعيد صورة الثورات الديمقراطيّة التي عاشها العالم خلال عقود سابقة على الربيع العربي، من أمريكا اللاتينيّة إلى انهيار أنظمة الاشتراكيّة الواقعيّة في أوروبا الشرقيّة. لكن يجب ألا تفوتنا مسألة هامة، وهي أنّ هذه الصورة هي صورة الذين تحدثوا، الذين امتلكوا إمكانيّة الحديث للإعلام، الذين عرفوا كيف يتوجب عليهم صياغة مطالبهم بشكل مناسب لتوقعات داعمي التحول والثورة (وبالطبع كان العديد منهم مقتنعًا بهذه المطالب). كانت هذه إحدى الالتباسات الأولى، لقد أخذتنا هذه اللغة تمامًا وصدقناها. هي لم تكن كاذبة، أو على الأقل لم تكن كاذبة دومًا، لقد كنّا أبناء مجتمع تعلم لسنين ألا يصرّح بما يعتقد إنّما يصرّح بما هو مسموح، وبالتالي عليه استخدام لغة عامة ومسموحة للتعبير عمّا يفكر به، وهذا ما يعني من جانب آخر وجود معنى ضمني (باطني) غير مصرّح به.

لم يكن مسموحًا الحديث علنًا عن الطوائف في سوريا (خارج مشهديّة عناق القس مع الشيخ تحت راية العلم السوري)، حيث تمّ إلغاء أي إشارة إلى الطوائف في المجال العالم. فتغيّرت أسماء المناطق، فصارت جبال العلويين أو جبال النصيريّة جبال اللاذقية وجبل الدروز صار جبل العرب ووداي النصارى أصبح وادي النضارة وهكذا. لكن الطائفيّة وتعبيراتها بقيت حاضرة بقوة في شكل الحياة وعلاقات السلطة، وحتى داخل اللغة ولكن دون تصريح علني (استخدام لهجة علويّة عند الحاجة).

الثورة الإسلاميّة والصراع الطائفي

إضافة إلى كون نظام البعث في سوريا نظامًا تسلطيًا، فقد كان أيضًا نظامًا تشاركيًا، يؤمّن مشاركة الجماعات في المصالح والوظائف الاقتصاديّة للدولة، إضافة إلى تولي ممثلي هذه الجماعات دور الوسيط بين الدولة وأبنائها فيما يتعلق بالعديد من شؤونهم في مقابل ضمان ولائهم وخضوعهم للسلطة. لم تعنِ هذه المشاركة مشاركة في السلطة. فقد مثلت النقابات مصالح وطلبات العمال والفلاحين وتولت إيصالها إلى الدولة وحازت على حق المشاركة في تقرير السياسة الاقتصاديّة والحصول على امتيازات ومصالح اقتصاديّة لأفرادها، في المقابل ضمنت النقابات بدورها خضوع وولاء من تمثلهم للدولة وقمع محاولات التمرّد ضدّ السلطة من داخلها (كلّ هذا قبل أن يضعف دور هذه النقابات بشكل متزايد منذ الثمانينات مع تبني سياسة اقتصاديّة جديدة). وعلى ذات المنوال، كان هناك تمثيل ومشاركة لجماعات أخرى مثل المسلمين والمسيحيين وغيرهم، وهنا يظهر دور رجال الدين المسيحيين والمسلمين.

تعامل النظام مع المسألة الطائفيّة، وهي مسألة مديدة في المشرق، من داخل منطقه التشاركي. فالتعامل مع الطوائف (خاصة المعترف بها علنًا) تمّ بتوسط ممثليها الشرعيين (وهم رجال الدين) وضمن منطق مضبوط لتوزيع السلطة والقوة بين الطوائف، وطبعًا ضمن مستويات مضبوطة سلفًا داخل خطاب الوطنيّة السوريّة والقوميّة العربيّة. مع ازدياد منسوب الطائفيّة العامة، وهو أمر كان للنظام دورًا مركزيًا فيه، وضعف أشكال الانتماءات الأخرى وتهميشها مع السياسات الاقتصاديّة الجديدة (النقابات والهويّات الاجتماعيّة التي اعتمدها البعث في حقبته الشعبويّة) صارت الهويّة الطائفيّة أشدّ بروزًا في الحياة العامة والوصول إلى الدولة وضمان الامتيازات. ترافق بروز الطائفيّة مع بروز أشكال متنوعة من الهويّات الأهليّة، فالعشائريّة عرفت انتعاشًا متجددًا في العقود الاخيرة (شيوخ العشائر في مجالس الشعب) وصار من الأسهل للمرء أن يعود إلى شيخ عشيرته (الذي تمّ نسيانه لعقود) لتأمين وظيفة أو إيصال تظلم من العودة إلى النقابة.

جعلت هذه التحولات من الهويات الأهليّة الأشكال الأكثر بروزًا واستخدامًا من قبل الناس فيما يخص علاقاتهم ببعضهم أو في علاقتهم بالدولة، وهذا بدوره امتد إلى الثورة السوريّة.(2) هل تكون الثورة السوريّة تأسيسًا لهويّة وطنيّة سوريّة جديدة أم تتحول إلى احتجاج وتمرّد سني، بالإحالة إلى عصبيّة سنية يتغذى عليها ويعبر عن ظلمها وقمعها؟ حتى ولو لم يكن كلّ السنّة مؤيدين للتمرد، وربما وقف جزء كبير منهم (خاصة أبناء المدن) صراحة ضدّ هذا التمرد. حُسم الأمر مبكرًا لأسباب متنوعة، ازدياد القمع الذي واجه فيه النظام الثورة، القضاء المبكر والسريع على المجموعات التي تبنت خطابًا وطنيًا، وهو قمع تشارك فيه النظام وأعدائه الإسلاميين، كلٌّ لأسبابه الخاصة، دور المال الخليجي في الأسلمة العامة للفصائل المقابلة. فالثورة السوريّة أخذت وبشكل متزايد صورة تمرّد سني محيلة على رموز ومعاني مرتبطة بهذه الهويّة (أسماء الفصائل من مرحلة مبكرة)، وتسعى إلى الحشد والتعبئة باستثاره هذه الهويّة (برغم الطبيعة الريفيّة والمدن المهمشة للثورة السوريّة، إلّا أنّها لم تركز على مسألة كونها تمرّدًا فلاحيًّا ومن فقراء المدن).

في مقابل تحول الثورة إلى صورة تمرّد سني، حافظ النظام على لغة وطنيّة معادية للتمييز الطائفي، مبقيًا على صورة الدولة: دولة لجميع مواطنيها. ففي حين لم يعد ممكنًا لأقليّات سوريا البقاء في مناطق الثورة تحت خطر القتل (علويون وإيزيدون عرفوا هذا تمامًا) أو أحوال شديدة السوء والمهانة (مسيحيون ودروز)، حافظ النظام على صورة وطنيّة عامة في مناطقه. تكلفة تسنين الثورة لم تقتصر على نزاع مع الأقليّات الطائفية، الأكراد بدورهم صاروا على خط المواجهة مع الثورة.

الثورة السوريّة بمعنى ما هي حرب طائفيّة، وهذا ليس حدثًا فريدًا في السياق السوري. فالتمردات الشعبيّة ضدّ النظام البعثي في سوريا، من أول تمرد في حماة 1964 إلى تمرّد الإسلاميين من نهاية السبعينيات حتى الهجوم على حماة 1982 إلى الثورة السوريّة، كانت تمردات إسلاميّة في إطار منازعة طائفيّة، فيما بقيت حركات الاحتجاج الديمقراطيّة واليساريّة محدودة الامتداد الشعبي، سواء العمل الشيوعي أو الحزب الشيوعي –المكتب السياسي، وإضراب النقابات المهنيّة في بداية الثمانينات ولاحقًا حركات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وعرائض المثقفين في التسعينات والسنوات الأولى لعهد بشار الاسد وصولًا إلى تنسيقيّات المجتمع المدني في سنوات الثورة الأولى. بقدر ما ساعد البعد السني للثورة السوريّة في الحشد والتعبئة وإعطاء معاني وقيم دينيّة تشجع على المواجهة والاستشهاد بعد انهيار الإيديولوجيّات اليساريّة والقوميّة في قدرتها على هذه التعبئة، فإنّها بالمقابل جعلت مساحة الثورة السوريّة مقيدة داخليًا وخارجيًا.

حروب بالوكالة

رغم أنّ الطبيعة الريفيّة للثورة السوريّة لم تلعب دورًا يذكر لجهة تقديم الثورة السوريّة كتمرّد اجتماعي من أجل المساواة والعدالة، إلّا أنّ الثورة السوريّة حملت العديد من سمات التمردات الفلاحيّة، وخاصة فيما يتعلق بجانبها العسكريّ، والذي تمثل بتشتّت الفصائل وتمركزها على قواعد محليّة وعصبيات أهليّة لا تتجاوز مناطقها.

لكن هناك أيضًا ما دخل إلى الموضوع وجعل الأمر أسوأ بكثير، وهو المال الخليجي السهل الذي انهال على الفصائل، وهو ما فتح الباب لتحوّل قادة الفصائل إلى أمراء حرب. لا تتوفر الكثير من المعطيات عن الإدارة الاقتصاديّة الخاصة بالفصائل خلال الحرب السوريّة، لكن هناك صورة عامة يمكن تقديمها الآن (وإن تكن بحاجة لتدعيمها بدراسات ميدانيّة وافية).

بوفرة الوصول إلى المال لم يصبح مطلبًا لأيّ من الفصائل تنظيم الدورة الاقتصاديّة المحليّة الخاصة بالمناطق الخاضعة لسلطتهم، فقدراتهم الماليّة والاقتصاديّة –بفضل المال الخليجي أساسًا- صارت غير مقيدة بقدرة المناطق المحليّة التي يتواجدون فيها. الأمر الذي جعل سكان هذه المناطق في موقع تفاوضي ضعيف إزاء هذه الفصائل. ولأجل الوصول إلى المال كان على الفصائل أن تنفذ ما يُطلب منها من طرف الممول (أي أنّها ضعيفة أمام الممول وشديدة القوة أمام المحليين)، وأيضًا كان يجب عليها أن تظهر قويّة بما يجعلها في موقع أفضل من الفصائل الأخرى لاجتذاب الدعم والتمويل. النزاعات العديدة والهائلة بين الفصائل للسيطرة على الحواجز يمكن فهمها من هذا الباب (إضافة إلى الدور الاقتصادي لهذه الحواجز والمتمثل بفرض الخوات). في المقابل صار الحرمان من التمويل الأجنبي (المرهون بخيارات سياسيّة) خطرًا على بقاء الفصيل واستمراره، سواء لجهة تأمين السلاح أو دفع رواتب لعناصره.(3)

لم يقتصر الأمر على الفصائل العسكريّة وحدها، فقد شاركهم النظام السوري الذي استمر اقتصاديًا بفضل المساعدات الإيرانيّة، وبالتالي هو بدوره لم يعد مستندًا إلى قدرة الاقتصاد السوري وحده، فالحرب الأهليّة تجاوزت تمامًا القدرة الاقتصاديّة للمجتمع السوري في عمومه، وهذا ما جعل من الأخير ضعيفًا وجعل الحرب السوريّة بدورها أمرًا خارجيًا لا يتعلق بقرار محلي. فيما لم يعد النظام يعيش على قدرات مواطنيه، إنّما علاقته معهم آلت إلى علاقة خوة وإعاشة من طرفه تجاههم.

هذا البعد الخارجي حوّل الحرب الأهليّة السوريّة إلى حرب وكالة،(4) لا يملك السوريون عمومًا الكثير من القدرة لتقرير مصيرها وأمر إنهائها. مما سهل تحوّل المقاتلين السوريين إلى أمراء حرب ومرتزقة في خطوة تالية (سواء للأتراك أو الروس والايرانيين).

تحوُّل السيّاق السوري إلى حروب الوكالة والتسويات الإقليميّة، أضاف التباسًا آخرًا حول الثورة السوريّة. فلم يعد ممكنًا النظر إلى أيّ انتصار في هذه الحرب بوصفه انتصارًا سوريًا محضًا، بل هو جزء من انتصار يتم تكريسه في نزاع إقليمي. وهذا يمثل قيمة مضافة من الالتباس لدى النظر إلى الانحيازات والجماعات التي دخلت على خط الانتصار للثورة السوريّة وفصائلها، من تركيا إلى الإمارات والسعودية وقطر. وهذا أضاف أسبابًا أخرى للريبة للعديدين، مثل الأكراد فيما يخص تركيا، الفلسطينيون فيما يخص الإمارات، لبنان فيما يخص السعوديّة والتيارات اليساريّة والقوميّة فيما يخص المحور الخليجي بعمومه.

الساروت صورة الثورة السوريّة

يمكن النظر إلى شخصيّة عبد الباسط الساروت باعتباره تعبيرًا حقيقيًا عن الثورة السوريّة والتباساتها، فالساروت كبطل شعبي يعبر إلى حدّ كبير عن جمهور الثورة ويعكس خلال مسيرته وتقلباته وأغانيه وشعاراته تحوّلات الثورة وتقلباتها. فالساروت بدأ في الظهور كحالة شعبيّة للانتفاض ضدّ الظلم، بطلًا عابرًا للانقسامات الأهليّة، يحدّد موقعه في مواجهة ظلم النظام دون تصوّرات إيجابيّة عمّا يريده، وبالتالي طرح قضايا تبدو في اللحظة الراهنة مجرّدة وبعيدة (مثل المواطنة وشكل الجمهوريّة المبتغاة وغيرها). رافق هذا الشكل السلبي للانتفاض ضدّ الظلم إحالة على حالة وطنيّة وإنسانيّة، حيث شارك فدوى سليمان (المنحدرة من أصول علويّة) الغناء (أغاني وطنيّة وتراثيّة) والاحتجاج على النظام. بعدها انتقل الساروت إلى توجهات إسلاميّة أو طائفيّة مع أسلمة الثورة، وبالتالي بدأ بالغناء ضدّ العلويين وتوعدهم، وصارت المواجهة التي ينتظم فيها مواجهة طائفيّة (هنا لم يعد لمثل فدوى سليمان مكان في خندق الثورة). لاحقًا بايع الساروت تنظيم الدولة الإسلاميّة عندما ظهر الأخير باعتباره القوة الأبرز في مقارعة النظام، وهو أمر تراجع عنه الساروت لاحقًا بدون أن يبدو أنّه ترافق بتراجع عن انحيازات إسلاميّة أو طائفيّة.

مسيرة الساروت تطرح التباسات أكثر بكثير مما تطرح مواقف إيديولوجيّة صارمة. بالتأكيد يمكن لمن يريد أن يرى في مبايعة الساروت للدولة الإسلاميّة وشعاراته الطائفيّة تعبيرًا عن “حقيقة” الساروت. وبشكل معاكس يمكن لآخرين أن ينظروا إلى الفترة الأولى باعتبارها حقيقة الساروت، فيما تبدو الطائفيّة والمبايعة أخطاء أو انحرافات إجباريّة تحكمها الظروف ولكنها لا تعكّر حقيقة الساروت الطيبة. ما أود الإشارة إليه هنا، هو أنّه ربما من الأفضل عدم اتخاذ إحدى اللحظات بوصفها لحظة “حقيقيّة” في مواجهة لحظات أخرى زائفة، على العكس النظر إلى كلّ السيرة بوصفها سيرة ملتبسة، سيرة حُبلى بإمكانات متنوعة ومختلفة، تحقق بعضها فيما لم يتحقق الآخر، انتصرت إحدى الإمكانات في لحظة ما وتراجعت في لحظة أخرى. وبوصفها سيرة من الإمكانات، فإنّه من غير المجدي تجاهل هذه الإمكانات أو تسويغها بشكل ظرفي، كلّ إمكانيّة (خاصة تلك التي تحققت) هي إمكانيّة حقيقيّة يجب أخذها تمامًا بعين الاعتبار عند قراءة هذه السيرة.

سيرة الساروت، كسيرة من الاحتمالات الملتبسة، هي سيرة الثورة السوريّة. بحيث لا يمكن إغفال بعض هذه الاحتمالات وإقصاؤها بحجة إنّها ليست تعبيرًا حقيقيًا عن الثورة. كلّ ما حصل كان تعبيرًا حقيقيًا عن هذه الثورة، وطنيتها الجنينيّة ونزاعاتها الطائفيّة وإسلاميتها المعاديّة للوطنيّة وتوقها الإنساني للحريّة. إنّ إعادة مساءلة وتذكر الثورة السوريّة، بما يسمح لاحقًا بطرح سؤال “ما العمل؟”، يجب أن يقوم على إعادة التساؤل حول الثورة بوصفها ثورة ملتبسة باحتمالاتها.

الهوامش

(1) يمكن العودة إلى كتاب ابراهيم حمامي “الدولة العلوية خيار الأسد الأخير” الصادر 2012 عن مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث في لندن، والكتاب يصدر عن موقف إسلامي، ويجمع عدد كبير من التصريحات والمواقف لقيادات عسكرية وسياسية في الهيئات السياسية والعسكرية للثورة السورية وقتها، وهذه التصريحات تقدم تصوّراً طائفياً عن النزاع (بالطبع من زاوية أن الطائفية هي سمة خاصة بالأقليات). لكن الكتاب يقدم نموذجاً مفيداً كمادة توثيقية لتصوّر جناح اساسي للصراع وطبيعته.

(2) يمكن العودة إلى مقال “داعش والعشائر في دير الزور، التمرد والاحتواء” لمحمد حسان والذي يقدم نظرة عن خطوط الانقسام العشائري التي رافقت النزاع بين داعش والنصرة. https://www.aljumhuriya.net/ar/37621

(3)  يقدم فصيل “أحرار سوريا” تجربة نموذجية لحدود قدرة الفصيل –مهما كانت قوته- على مواجهة مأزق انقطاع التمويل، يمكن مراجعة هذه الورقة التي أعدها موقع الجمهورية عن الفصائل في حلب ومنها فصيل “أحرار سورياً”. https://www.aljumhuriya.net/ar/37621

(4) يمكن العودة إلى أعمال علي قادري، وهو ممثل متأخر لمدرسة التبعية، والذي ينظر إلى الثورة السورية من زاوية الرأسمالية الامبريالية، باعتبارها رأسمالية حروب وكوارث، وحرب الوكالة. Imperialism with Reference to Syria, Ali Kadri, Springer, 2019.

حكاية ما انحكت

———————-

أزمة التمثيل في المعارضة السورية/ ياسين السويحة

مثل كل البلد، وكل أركان حياته العامة، لم تَعِش المعارضة السورية في العقود الأخيرة حياة مستقرة، ولا تمتعت بظروف تسمح بالحد الأدنى من الحياة المؤسساتية والفكرية السليمة. وابتداءً من 2011، كان على المعارضة أن تتعامل مع مفارقة مواجهة واجبات أكبر في ظروف أصعب. إن أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار تمهيد واجب لأي تحليل للحياة السياسية للمعارضة، وإن كان من الضروري ألا يمنع التساؤل حول ما إذا كانت هذه الظروف القصوى قد تحولت إلى مسوِّغ للجمود، ومبرِّر لإعفاء النفس من التفكير.

يبحث هذا النص، عبر مراجعة لأهم محطات التاريخ القريب للمعارضة السياسية السورية، عن تحديد نقاط أساسية في إشكاليات التمثيل السياسي لدى المعارضة السورية. ولأجل ذلك، سيعتمد في تحليله على الإطار المفاهيمي الذي وضعته الأكاديمية وعالِمة السياسة الأميركية حنّه بيتكن في كتابها الشهير مفهوم التمثيل،1 الذي يُعتبر من أوسع الإحاطات المفاهيمية بمسألة جوهرية في النقاش الفكري السياسي المعاصر، أي التمثيل السياسي.2 في هذا الإطار، تقترح بيتكين أربع رؤىً مختلفة، تُمثِّلُ كل واحدة منها زاوية متمايزة يمكن من خلالها النظر إلى مسألة التمثيل السياسي. وهذه الرؤى الأربع هي: التمثيل الشكلاني، أي الإجراءات المؤسسية التي تؤسس لعملية التمثيل (الشرعنة والمحاسبة)؛ والتمثيل الرمزي، أي الأدوات والطرق التي يمارس فيها الفاعل السياسي عملية التمثيل؛ والتمثيل الوصفي، أي مدى تماثل المُمثِّل السياسي مع من يمثّلهم في الشكل والانتماءات وأسلوب الحياة وغيرها؛ والتمثيل الفاعلي (substantive)، أي الأفعال التي يقوم بها الممثل السياسي لتمثيل مصالح ورؤى أولئك الذين يمثّلهم سياسياً. ورغم أن هذا الإطار السياسي نظريّ وعام، إلا أن رؤاه الأربع مفيدة للاستخدام كنقاط علّام عند التفكير في سلوك البُنى السياسية المعارِضة خلال السنوات الأخيرة. وعند تمرير تعريف البُنى السياسية المُعارِضة على نقاط العلاّم التي تمثّلها رؤى بيتكين، سنجد مشاكل بنيوية أساسية في مفهوم التمثيل لدى المعارضة السورية، من التباس معنى كل هيئة من الهيئات المُعارِضة أمام نفسها وأمام الذين يُفترَض أنها تمثلهم.

سينظر النص في سيرة وواقع كل من هيئة التنسيق الوطني، والمجلس الوطني، والائتلاف الوطني، والهيئة العليا للمفاوضات، دون أن يشمل عمل هيئات وكتل معارِضة أقل حجماً وحضوراً في المحافل السياسية، وأيضاً دون أن يشمل تجربتَي المجلس الوطني الكردي ومجلس سوريا الديمقراطية، اللذين ينتميان لدينامية مختلفة لها إطارها وخصوصيتها، رغم التقائهما وتَفارُقهما عن الهيئات المذكورة في محطات عديدة من السنوات الأخيرة (علاقة المجلس الوطني الكردي بتجربتَي المجلس الوطني والائتلاف؛ وحزب الاتحاد الديمقراطي بوصفه جزءاً من تأسيس هيئة التنسيق).

أكبر عدد من المتنوّعين فيما بينهم

أسوةً بغيرها من الدول العربية،3 وتأثُّراً بالتحولات السياسية العالمية بعد انهيار جدار برلين، من تآكل الأطر الأيديولوجية السائدة خلال القرن العشرين ودخول نموذج التنظيم السياسي السائد حتى حينه في أزمة، وتصاعد الإقبال على شخصية «الناشط السياسي المستقل»، أو «المثقف»، كبديل عن الكادر الحزبي، سادت ضمن المعارضة السورية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين قناعة بضرورة إنتاج نموذج الجبهة العريضة، المظلة الائتلافية التي تجمع أكبر عدد من المعارضين المختلفين فيما بينهم أيديولوجياً حول توافُقات حدود دنيا، قوامها الموقف الرافض لإغلاق المجال العام على يد أجهزة أمن نظام الأسد، والدعوة لإطلاق الحريات العامة، وكفّ يد المخابرات، والسماح بالتنظيم السياسي، وكفالة حرية التعبير والحريات الصحفية، مع إهمال الاختلافات البينية أو إدغامها أو «تأجيلها» حتى إحراز ظروف سياسية أفضل. وسط هذه الأجواء، جاء إنشاء إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في تشرين الأول (أكتوبر) 2005 كَأوسع ائتلاف للمعارضة السورية حتى حينه، وأبلغ تعبير عن النموذج (أو الباراديغم) الذي ساد ضمن أجواء المعارضة السورية عموماً. ورغم أن إعلان دمشق عاش خلافات داخلية عاصفة، وانسحابات وتجميد عضويات عديدة خلال سنوات ما قبل 2011، إلا أنه بقي أوسع مظلة سياسية معارِضة في سوريا، والنموذج الذي نشأ في إطاره، أي النموذج الائتلافي الوطني-الديمقراطي، بقي هو السائد.

ورغم الخلافات ومكامن الخلل الواضحة في النموذج الائتلافي السوري، فإن منطق البحث عن ائتلاف يجمع أكبر عدد من المختلفين حول هدف مشترك وواضح لقي دفعة كبيرة مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وبدأت محاولات الاجتماع وتنسيق الجهود نحو إنشاء مظلة جديدة أوسع وأكثر فعالية عبر مؤتمرات ولقاءات واجتماعات داخل سوريا4 وخارجها.5

تأسيس المجلس الوطني السوري، والسنتان ونصف التاليتان (أي حتى انعقاد مؤتمر جنيف2 أوائل عام 2014)، أدى إلى قناعة – عزّزتها ضغوط

تأسست هيئة التنسيق الوطني نهاية حزيران (يونيو) 2011 كمظلة ائتلافية تجمع أحزاباً يسارية وقومية عربية وكرديّة، بالإضافة لناشطين مستقلين ومثقفين معارضين. وقدّمت الهيئة نفسها في بيانها التأسيسي على أنها «أوسع إطار سياسي في سوريا»، لتخوض بعدها مع المجلس الوطني، الذي تأسّس بعدها بأشهر قليلة – في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 – صراعاً سياسياً مريراً حول أحقية «تمثيل» المعارضة السورية.6 وقد تم خوض هذا الصراع وسط أجواء ضغوطات متعددة المستويات من أجل «توحيد» المعارضة السورية تحت عنوان واحد كمدخل أساسي لأي دور دولي داعم للمعارضة السورية، أو حتى لتشكيل وساطة أممية قادرة على تحقيق نتائج ملموسة. تحتاج إشكالية «توحيد» المعارضة، من حيث طبيعة ونوع وكمية الصراعات التي خيضت ضمنها، وكمية الضغوطات والتدخلات والوصايات الدولية التي فُرضت على السياسة السورية المعارِضة باسمها، لوقفة وبحث منفصلين.

دولية – بضرورة تأسيس جسم «تمثيلي» للمعارضة السورية، ليس فقط كمُعبِّر ائتلافي عن الحساسيات السياسية المناهضة لسلطة بشار الأسد، ولكن أيضاً كهيئة سياسية مستعدة لملء الفراغ الذي يمكن أن ينتج عن انهيار النظام، أو عن عملية عسكرية دولية تطيح بسلطته؛ جسم يمثّل السوريين بما يكفي لمنازعة النظام على «تمثيل» سوريا ككل في المحافل الدولية (مثل الجامعة العربية، التي منحت كرسي الجمهورية العربية السورية للمعارضة السورية خلال قمّة الدوحة 2013). بالتالي، دخلت المعارضة السورية في مرحلة جديدة، تتداخل فيها مفاهيم التمثيل السياسي لحساسيات وأيديولوجيات ورؤى سياسية تمثّلها أحزاب (أو مستقلون) مع أنماط توزيع التمثيل ومحاصصته التي يجب أن يَضمنها أي نظام سياسي، من تمثيل الجماعات الأهلية والمناطق الجغرافية وغيرها من التمايزات الاجتماعية-السياسية. وقد بدا هذا الأمر أكثر وضوحاً مع تأسيس الائتلاف الوطني في 11 تشرين الثاني 2012، الذي دخلت على خط تشكيله خلافات بينيّة ضمن المعارضة،7 فاقمتها ضغوطات دولية كثيرة سعت لتجاوز المجلس الوطني نحو تشكيل قُدِّمَ على أنه أكثر تمثيلية واتساعاً من المجلس الوطني (الذي صار جزءاً من بين أجزاء عديدة للائتلاف).

نهاية العام 2015، تأسست الهيئة العليا للمفاوضات كجسم سياسي مُصمَّم لخوض الجولات التفاوضية المتلاحقة مع النظام، والتي تكرّست وتتابعت إثر التفاهمات الروسية-الأميركية التي أعقبت المجزرة الكيماوية في الغوطة الشرقية في آب 2013،8

المسار السياسي السوري الذي دشنه «اتفاق الكيماوي» في موقع الجمهورية (آب، 2019). وأدَّت لإلغاء ضربة عسكرية عقابية مفترضة للنظام جراء ارتكابه مجزرة، مقابل تسليم الأخير ترسانته الكيماوية. أدّت هذه التفاهمات إلى نهاية العمل بفكرة إنشاء جسم «تمثيلي» يمكن أن يحل محل النظام في تمثيل سوريا ككل، والتوجّه نحو تشكيل جسم مُفاوِض يتمثّل فيه الجميع، وفق محاصصات بحتة غير مشغولة بتقديم نفسها بأي شكل، نتجت عن توافقات ومساومات غير علنية ولا ناتجة عن نقاشات سياسية واضحة المعالم لسوريين. في هذا الجسم، بات الائتلاف الوطني كتلة من ضمن كتل أخرى عديدة، تتمثّل فيها الفصائل المسلحة وكتل أخرى من المعارضة السورية لم تكن جزءاً من الائتلاف الوطني؛ وهي محاصصات تمت إعادة توزيعها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 لإدخال عناصر وكتل جديدة.

عدا ذلك، يتمثّل الائتلاف الوطني والفصائل العسكرية أيضاً ضمن وفود مسار أستانة، الذي نشأ برعاية روسية-إيرانية-تركية مطلع العام 2017. ومن اللافت أن الجهات الدولية التي كانت تضغط على المعارضة السورية لكي «تتوحّد» وتكون «تمثيلية»، هي ذاتها التي رسّخت تعدد المسارات السياسية بين جنيف وأستانة.

هكذا، نرى أن سيرورة الأجسام الرئيسية للمعارضة السورية خلال العقد الأخير، قُبيل 2011 وما بعده، قد انتقلت من فكرة جمع أكبر عدد من المختلفين حول فكرة معارضة النظام، إلى إنشاء جسم يُنافس النظام على تمثيل سوريا ككل في المحافل الدولية وقادر على «شغل الفراغ السياسي» في حال سقوط النظام أو إسقاطه؛ وصولاً إلى الوضع الحالي، حيث تظهر الهيئة العليا للمفاوضات كجسم لا أسس واضحة للانضمام له، ينبثق عنه فريق تفاوض دون أُسُس علنية ثابتة في طريقة اختيار أعضائه.

ماذا تمثِّل، ومن يتمثَّل فيها؟

كما سبق الذكر، لا يمكن تحليل عمل أجسام المعارضة السورية، خصوصاً خلال سنوات ما بعد 2011، دون أخذ الظروف القصوى التي عاشتها بعين الاعتبار. يخصّ هذا الأمر كل جوانب عملها السياسي، ومن بينها كيفية التعاطي مع مسألة التمثيل السياسي: عاشت سوريا ظروفاً بالغة القسوة، ومع تحوُّلات ومنعطفات شديدة خلال السنوات السابقة، وتغيّرات على صعيد الساحة السياسية الإقليمية والدولية لم يكن من السهل الاستجابة لمتطلباتها على مستوى إنشاء أجسام قادرة على تمثيل توجّهات أو قوى أو تيارات في مختلف المحافل الطارئة. إضافة لذلك، لم تسمح الظروف بحياة سياسية داخلية سليمة داخل الأجسام المعارِضة نفسها، أكان على مستوى تطوير نُظُمها الداخلية وتمتين آليات الاختيار والتجديد والمحاسبة، والعمل على إرساء طقوس وممارسات دوريّة تؤسس لحياة سياسية سليمة بالحدّ الأدنى. فغالبية الأحزاب والتيارات السياسية مشت بمنطق الضرورة الذي فرضته الأوضاع السورية، ولم تقم بتجديد مكاتبها التنفيذية، ولم تتمكن من عقد مؤتمرات ولا اجتماعات واسعة لتجديد وثائقها وقراراتها، وهذا ينسحب أيضاً على المظلات الكبرى للمعارضة خلال سنوات ما بعد 2011، التي كانت اجتماعاتها الدورية مكرّسة لتجديد عضويات مكاتبها التنفيذية ومجالسها الرئاسية، ولكن دون البحث في تجديد تعريفات الذات والنُظُم الداخلية وآليات الانتساب والمحاسبة، حتى حين أصبحت هذه البُنى أجزاء من بُنى أحدث.

من الضروري التذكير بالظروف السابق ذكرها في المقطع السابق، بقدر ما هو ضروري أن نشير إلى أن ثمة استكانة إلى خطاب «الظروف» التبريري حصلت في مختلف مراحل عمل أجسام المعارضة السورية الرئيسية؛ خطاب تعزّز مع ميل إلى التكتيك السياسوي مقابل إهمال العمل المؤسساتي والتفكير الاستراتيجي والاهتمام بالأسس النظرية والمفاهيمية. دون أخذ هذه الاستكانة بعين الاعتبار، لا يمكن تفسير العَوَز الكبير في آليات العمل السياسي التي قدّمتها هذه الأجسام، ومنها مشاكل جمّة طرأت على صعيد التمثيل على مستويين: الأول يخص طريقة تقديم هذه الأجسام لنفسها كممثلة لتوجهات أو قوى أو أيديولوجيات في سياق المسألة السورية، والثاني الطريقة التي (يُفترض أن) تجد تيارات وجِهات سياسية نفسها، مع قطاعات مختلفة من السوريين، ممثَّلة ضمن هذه الأجسام.

أولاً: تعريفات الذات:

في بيانها التأسيسي، قدّمت هيئة التنسيق الوطني نفسها كعاملة على «إشراك بقية القوى السورية المستعدة لتوقيع الوثيقة في عضويتها لمواجهة الأوضاع الراهنة المعقدة في البلاد في مرحلة الانتقال من النظام الديكتاتوري الحالي إلى النظام الديمقراطي المنشود». ورغم اعتبار نفسها «تمثّل أوسع إطار سياسي في سورية» في البيان نفسه، إلا أن الهيئة لم تطرح نفسها في أيّ وقت كمنافس موضوعي للنظام على تمثيل كلّ السوريين، ولم تزاحمه على تمثيل سوريا في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة أو الجامعة العربية، بل إن جزءاً جوهرياً من معركتها السياسية كان قائماً على نفي هذه الصفة عن المجلس الوطني أولاً، ثم عن الائتلاف، اللذين أنكرت تمثيلهما للمعارضة السورية أمام المحافل الدولية، واعترضت على أي صفة رسمية نالاها من قِبَل أي محفل دولي، قبل أن تلتقيهما في الهيئة العليا للمفاوضات.

من جهته، أعلن المجلس الوطني، في البند الثالث من بيانه التأسيسي، أنه قادر على «تشكيل حكومة مؤقتة على النحو المبيَّن في برنامجه السياسي»، وأنه بـ«تنوع الكتل السياسية الممثلة فيه (أي المجلس) يضمن وحدة الشعب ووحدة الهدف السياسي في إقامة دولة ديمقراطية حرة». ولم يعدِّل المجلس الوطني من قائمة أهدافه وتقديمه لنفسه حتى بعد أن أصبح جزءاً من الائتلاف الوطني، الذي أشار بدوره في بيانه التأسيسي إلى أن من أهدافه «تشكيل حكومة انتقالية بعد الحصول على الاعتراف الدولي».9 وأيضاً، بدوره، لم يُعدّل الائتلاف الوطني من تعريفه لذاته ولا لأهدافه في أدبياته العلنية بعد أن صار طرفاً، من ضمن أطراف أخرى عديدة، في الهيئة العليا للمفاوضات. وعند هذه الأخيرة التقت، على ما يبدو، أعلى درجات الاستنزاف مع أقصى مستويات التكتيك السياسوي، عَبْرَ التصالح منذ اللحظة الأولى مع كونها أداة تكتيك سياسي ليس عليها أن تُوجِّه أي تعريف واضح عن نفسها وتمثيلها للرأي العام، ولا أن تقدِّم أي شكل من الوثائق البرامجية والأهداف، عدا ما يصدر من تصريحات أعضائها وتحليلاتهم على وسائل الإعلام، أو ما تنشره مُعرِّفات الهيئة على وسائل التواصل الاجتماعي.

بالمحصلة، نرى غياباً تاماً للوضوح لدى مختلف بُنى المعارضة السورية الحالية بخصوص ماذا تمثّل هي كمؤسسات سياسية: هل تمثّل مجموعة من السوريين المعارضين المتفقين على أهداف معيّنة، ويوحّدون جهودهم من خلال هذا الكيان السياسي؟ هل تمثّل كلّ أو غالبية المعارضين السوريين الساحقة؟ هل تمثّل – أو تقدر على تمثيل – كلّ السوريين بما يُشرعِن لها طرح نفسها كجهة قادرة على تشكيل حكومات وحدة وطنية انتقالية؟ أم هل هي فريق تفاوض ناتج عن معادلات موازين القوى الإقليمية والدولية. ولا يؤثر غياب الوضوح هذا على دور المؤسسات السياسية المعارِضة فقط، بل أيضاً على حياتها الداخلية، وماذا تعني العضوية فيها، وماذا تمثّل، وكيف يُعبَّر عن هذا التمثيل.

ثانياً: كيف يتمثّل السوريون في أجسام المعارضة؟

عبر وضعها كنقاط لطرح الأسئلة التحليلية بشأن التعريفات والبُنى التنظيمية والوقائع، تفيد الرؤى الأربع للتمثيل السياسي، التي قدّمتها حنّة بيتكِن في كتابها مفهوم التمثيل المذكور أعلاه، في المرور عبر كيفية تعامل بُنى المعارضة السورية الرئيسية مع مسألة التمثيل السياسي: كيف تقدّم هذه البُنى السياسية – ضمن الالتباس المُشار إليه أعلاه حول تعريفها لنفسها – معنى العضوية فيها؟

على مستوى التمثيل الشكلاني، أي محاولة التفكير في المعنى «الرسمي» لأن تكون عضواً في هذه الكتلة المعارضة أو تلك، نرى أن الالتباس هنا هو وليد التباس معنى الكتلة السياسية كمؤسسة، وتعريفها لنفسها ودورها. فمثلاً، عضوٌ ما في المجلس الوطني السوري هو جزء من بُنية تقدِّم نفسها كجهة قادرة على أن تكون بمثابة مجلس حكم انتقالي؛ لكنها في نفس الوقت جزء من مظلة – هي الائتلاف الوطني – تطرح نفسها كنوع من برلمان مؤقت، يُقِرّ تشكيلات حكومية ولديه مكاتب تمثيلية وبعثات دبلوماسية، ويحوي توزيعات وحصصاً لتمثيلات محلية على مستوى المجالس المحلية ومجالس المحافظات؛ لكن هذا الائتلاف هو أيضاً جزء من الهيئة العليا للمفاوضات، حيث تتواجد هناك على المستوى نفسه تكتّلات حزبية وتجمعات مستقلين (مثل منصتَي القاهرة وموسكو) وممثلو فصائل عسكرية، يُفترَض أن بعضهم أصلاً جزء من الائتلاف.

على الصعيد الشكلاني، أيضاً، ثمة ضبابية تامة في آليات الاختيار والتجديد والمحاسبة. صحيح أن ظروف الواقع السوري القاهرة تفرض الاعتماد على آليات التفاوض والتوافق والمشاركة المحاصصاتية ضمن أطر تحمل أهدافاً مشتركة، لكن يظهر واضحاً في حالة كل البُنى المعارضة أن الرأسمال الرمزي والعلاقات الإقليمية والحضور الإعلامي هي عوامل تثقيل غير رسمية ولا علنية للاختيار والتجديد. ولا آليات محاسبة واضحة في أيّ من البنى المذكورة.

وبما يخص التمثيل الرمزي، أي معنى تمثيل ممثّل ما للمجموعة التي (يفترض أنه) يمثّلها، فنجد أن كل واحدة من البُنى السياسية المُلاحَظة، على اختلافات تعريفاتها الملتبسة لنفسها، تفخر بتنوّع كبير في الكُتَل والأحزاب والشخصيات والإثنيات والطوائف والمناطق المتمثلة فيها، فهيئة التنسيق أعلنت في بيان تأسيسها أنها ناتجة عن «تسع قوى قومية عربية ويسارية وماركسية، وأحد عشر حزباً كردياً، وشخصيات من الاتجاه الإسلامي الديمقراطي، ومن قطاع المرأة، وعدد من الشخصيات الوطنية العامة في سورية، كما وقَّعَت عليها شخصيات سورية في أوروبا». ويبدو واضحاً في هذه الصياغة أن الإقبال على الإتيان بمصفوفة توحي بتنوّع كبير يطغى على الانشغال بصياغة منطق ومعنى لهذا التعداد التنوّعي، الذي يوحي، مثلاً، وكأن «قطاع المرأة» تيار سياسي كأي واحد من القوى الماركسية أو القومية العربية أو الكردية. هل يجب أن نفهم إذاً، حسب الصياغة، أن كل ما عدا «قطاع المرأة» مكون من رجال حصراً، وأن المرأة لا يمكن أن تكون إلا «قطاع مرأة»؟

من جهته، يشير المجلس الوطني في بيان أهدافه إلى أنه «بتنوع الكتل السياسية الممثلة فيه يضمن وحدة الشعب ووحدة الهدف السياسي في إقامة دولة ديمقراطية حرة». من جهته، تساعد نظرة إلى تركيبة الهيئة العامة للائتلاف على ملاحظة كيف أن هاجس التنوّع قد طغى على المنطق العملي للتنوّع من حيث ضرورة أن يكون التنوّع مفيداً للعمل السياسي، أو ذا منطق معيّن يساعد على التكامل. ففي الهيئة العامة للائتلاف10 تمثّلت – على المستوى نفسه – كُتَل إثنية وقومية، ومجالس تمثيل محلي، و«عشائر»، ومجلس رجال دين، وأحزاب سياسية، و«شخصيات مستقلة»، و«رجال أعمال»، والمجلس الوطني السوري (الذي يفترض أنه يحوي أساساً ممثلين عن أغلب ما سبق). لو فكرت بنفسي وموقع تمثيلي في الائتلاف، فسأحتارُ في معرفة أين أُمثَّلُ أنا في مصفوفة التنوّع الملوّن هذه طالما أنها كلها على قدم المساواة؟ هل يمثلني المجلس المحلي للرقة (وهل هو جسم إداري أم كيان سياسي أصلاً؟)، أم «كتلة العشائر» (إذ يبدو أن هناك نسخة من مبدأ فوق-دستوري سوري ما، تقول إن كل ما هو شرق طريق حلب-دمشق ليس إلا «عشائر») أم ممثلو الحزب الذي أنتمى له (أو ربما يمنع انتمائي العائلي لعشيرة ما من أن يكون لي أيديولوجيا وانتماء حزبي، ما لم أتبرأ رسمياً من منبتي الأهلي وأنقل تمثيلي من «عشائر» إلى خانة أخرى)؟ أما الهيئة العليا للمفاوضات فهي نتاج محاصصة كل ما سبق مع كُتَل و«منصات» من خارج الائتلاف الوطني، ومع فصائل عسكرية، على أسس يبدو فيها دور القوى الإقليمية الراعية لكل جهة أقوى من أي عامل آخر لدرجة عدم الانشغال ولو بتقديم مصفوفة تنوعات مهنئة للذات كما التي سبق عرضها.

تُرجعنا نظرة إلى خريطة الكُتَل والتمثيلات الحاضرة، في كل بُنية سياسية من بُنى المعارضة، إلى قوّة حضور المنطق الائتلافي الاستيعابي كنموذج وحيد في عمل المعارضة السياسية السورية حتى الآن: كلما كان عدد المختلفين فيما بينهم أكبر، وكلما كانت مسافات ومستويات الاختلاف وتنوّعاتها أكثر، كانت رمزية التمثيل أقوى. بمعنى آخر، يبدو جمع مختلفين، أياً كانوا، وأياً كان اختلافهم، هو «التمثيل الرمزي» وفقاً للنموذج الائتلافي الاستيعابي، ولا أهمية أمام إحرازه لأي اعتبار آخر، من قبيل التبعات العملية للاختلاف، أو طريقة توظيفه على مستوى السياسات العملية، الأبعد من المشهد الرمزي، وعلى أهمية هذا الأخير.

أما مستوى التمثيل الوصفي، أي مدى شَبَه المُمثَّل بالذين يُمثّلهم، ومشاركته لهم في المصالح وفي الخبرات الحياتية، ففيه من الإشكاليات الواجبة التفكير ما قد يدعو لدراسته بشكل مستقل وأكثر تعمّقاً في المستقبل. أول تلك الإشكاليات أن هناك تمثيلات لبُنى أهلية، طوائف وقوميات و«عشائر» في هيئات المعارضة السورية، ما يستدعي بناء صورة نمطية في السلوك لممثلي هذه البنى الأهلية كجزء من ممارستهم السياسية، وإقامة اعتبار لمنظورات جوهرانية ليست فقط غير واقعية، بل إنها مؤذية على الصعيد السياسي. عدا ذلك، يفتح هذا المجال النقاش حول «أصيلانية» سوريين ما مقابل سوريين آخرين، كبناء متقابلات بين سوريين يُشبهون «غالبية» مُتخيَّلة من السوريين مقابل سوريين آخرين «متغرّبين» (وهو نوع من المتقابلات يُقبِل عليه الإسلاميون عادةً بكثافة في البلدان العربية). وفي حالة السياسيات النساء، يبدو أن تقييم مدى «تمثيلية» سيدة ما هو مجال خوض أكثر إصراراً وعنفاً من مثيله بين الرجال في السياق السوري (والسياقات العربية عموماً)، ويدفع نحو اعتبار النساء كتلة واحدة متجانسة، منسجمة في مخيال شديد المُحافَظَة عنهنّ.11

أخيراً، على صعيد التمثيل الفاعلي، أي مجمل السياسات التي يُمارِسها الممثلون السياسيون، فيجدر القول إن فاعلية المعارضة السورية، أكان على صعيد البُنى أو الأفراد، هي تحت رحمة الظروف القاسية التي يعيشها البلد، وضمن الواقع السوري الذي بات شديد التدويل، ويتضمن وجوداً عسكرياً مباشراً لأربع من خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، فيما قدرة المعارضة السياسية على التأثير في هذا الوضع ضعيفة للغاية، بغض النظر عن مدى صحّيّة حياتها السياسية الداخلية. في هذا تَفهُّم للمعارضة السورية بقدر ما هو إشارة إلى أن جزءاً كبيراً من نشاطها الحالي ليس إلا شهادة زور في أروقة مُسايَسات القوى الإقليمية والدولية، صاحبة القرار الفعلي في سوريا.

خاتمة

من المُنصِف قول إن ظروف المعارضة السورية خلال العقود الثلاثة السابقة للثورة كانت مسوِّغاً مشروعاً للتفكير بالنموذج الائتلافي كخطة عمل، ومن المُنصِف كذلك الإقرار أن لحظة التحشيد التي عنتها الثورة السورية كانت دافعاً للذهاب بهذا النموذج إلى أقصاه، ضمن ظروف أشد قسوة. لكن، يُلوى ذراع هذا الإنصاف كثيراً إن لم يُقَل إن هناك الكثير من اللوم اللازم للمعارضة السورية، لأسباب كثيرة، من بينها خِفّة – باتت منذ سنوات كاريكاتيرية – في التعامل مع مسألة التمثيل السياسي. ويجب على هذا اللوم اللازم أن يتجاوز افتراض حسن النيّة ضمن ظروف قُصْوَوِيّة نحو إدانة الإصرار على إنتاج «تنوّعات» زائفة، مناقِضة لبعضها غالباً، وليس تحتها فعلياً إلا الإصرار على «تنوُّع مطلوب» ما. دون لحظة حشدية فعلية، ودون وعي كامل بمؤقتيتها، يصير المنطق الائتلافي حُكماً معادياً للسياسة وحابساً لها.

1. The Concept of Representation, Hanna F. Pitkin; University of California Press (1967).

2. Dovi, Suzanne, “Political Representation”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy, (Fall 2018 Edition).

3. يقدّم الأكاديمي والناشط المصري عمرو عبد الرحمن ملامح من التجربة المصرية في هذا المجال ضمن مراجعته لتاريخ أحزاب اليسار المصري في الجمهورية، آب 2019،

4. أهمها مؤتمر سميراميس، الذي عُقد في دمشق في 27 حزيران (يونيو) 2011.

5. أهمها مؤتمر أنطاليا في تركيا، المنعقد بين نهاية أيار (مايو) وبداية حزيران (يونيو) 2011، وكان محطة أساسية في تأسيس المجلس الوطني السوري بعدها.

6. قدّم برهان غليون شهادته عن تشكيل المجلس الوطني، وصراع المجلس مع هيئة التنسيق من موقعه كأول رئيس للمجلس الوطني السوري في كتابه الأخير عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل 2011-2012 (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019).

7. تساعد هذه الورقة لوحدة الدراسات السياسية في المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الصادرة في نهاية تشرين الثاني 2012، على استعادة أجواء نقاشات وصراعات تلك المرحلة.

8. راجع صادق عبد الرحمن،

9. شكّلَ الائتلاف «حكومة مؤقتة» في آذار (مارس) 2013 ما زالت قائمة، وإن بإمكانات متواضعة ودون اعتراف سياسي دولي، عدا تعاونات محدودة معها كمنسّق لتوزيع الدعم التنموي والإنساني المقدّم من قِبل دول مانحة عبر تركيا.

10. الحياة، تركيبة الهيئة العامة للائتلاف الوطني، ديسمبر 2012.

11. أشارت ليلى العودات إلى هذه المسألة في معرض نقاشها حول أزمة الديمقراطية التمثيلية في مقال منشور في موقع الجمهورية (آب 2019).

موقع الجمهورية

—————————-

أسئلة الثورة السوريّة الملحّة في ذكراها العاشرة.. رؤى سياسيّة وشهادات حيّة

بين المقولتَين السوريّتَين الشهيرتَين: “ليتها لم تكن”، و”تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”؛ تأرجحت مصاير السوريّين في العقد الأخير من الزمن السوري الدامي، بعد أن أعلن بشار الأسد حربه الوحشيّة ضدّ الشعب السوريّ، يوم ثار أحرار وحرائر سورية من أجل حرّيتهم وكرامتهم، مطالبين بإسقاط النظام، الذي استهدف بآلة القتل البشر والحجر والشجر، بالبراميل المتفجّرة وبقذائف الطائرات وبالدبابات والمدفعية الثقيلة؛ فنكّلَ بالسوريّين من كلّ الطوائف والمذاهب والأقليات.. ودمّر بيوتهم، وممتلكاتهم، وباتت كلّ المناطق السوريّة المنتفضة منكوبة، وصار ثلاثة أرباع السوريّين بحاجة إلى المساعدات الإنسانية -بحسب منظمات دولية- في خضمّ دوامة مميتة من الصراعات المسلّحة، والانكماش الاقتصادي والعقوبات الدوليّة وتفشّي جائحة كورونا.

ومع استمرار العدوان الأسدي – الروسي – الإيراني – الميليشياوي الطائفي، كانت إرادة المقموعين، في كل البلدات والقرى والمدن السوريّة، أقوى من فولاذ آلة القتل الأسديّة الجهنميّة المتحالفة مع قيصر الإجرام المافيوزي الروسي ونظام الملالي في طهران، وميليشيات الوسخ الطائفي الشيعي، وأثبتَ ثوّار وثائرات سورية أنّ كفاحهم، من أجل الحرّية والكرامة والعدالة، هو كفاح عادل ومشروع، بالرغم من سعي النظام وحلفائه للتشكيك في الثورة السوريّة، وشرعيّتها ومقاصدها النبيلة، وتشويه صورتها على كل الصعد المحليّة والعربيّة والدوليّة، زاعمين أن كلّ ما حدث “مؤامرة كونيّة” تستهدف سورية وشعبها، وأنّ حكم آل الأسد هو طوق النجاة الوحيد!

لا شكّ في أنّ نظام الأسد يتحمّل مسؤولية كلّ ما حدث ويحدث في سورية، خلال سنوات الثورة التي نُحيي ذكراها العاشرة هذه الأيام، من حروب وصراعات وكوارث ومآس، غير أنّ ذلك لم ولن يمنعنا من مراجعة عقلانيّة نقديّة بنّاءة لمسار الثورة السوريّة، التي لا يمكن نكران وقوعها في أخطاء جسيمة، لعلّ أبرزها صعود الجماعات المسلّحة التي تدّعي الحكم باسم الشريعة والهيئات الشرعيّة في المناطق السوريّة المحرّرة، والتي أساءت إلى السوريّين وإلى ثورتهم وإلى الشريعة ذاتها، تلك الجماعات التي استغلت الدين لخدمة مآربها في التضييق على الناس والتنكيل بهم وفرض آرائها عليهم بقوّة السلاح.

في هذا الملفّ، الذي يشارك فيه عدد من ناشطي وناشطات الجيل الأوّل من الثورة، من الكتّاب والكاتبات، من مختلف الأجيال والمشارب والتوجّهات؛ طرحنا على المشاركين عددًا من الأسئلة: لماذا لم تستطع الثورة السوريّة حتى الآن تحقيق أهدافها، وأهمّها إسقاط النظام الاستبدادي الطائفي الفاسد، ونيل المطالب المشروعة من حرّية وكرامة وعدالة ومساواة؟ وما السّبل لتصحيح المسار وإعادة الروح للثورة السلميّة التي اختطفتها رايات الاستبداد الديني بدفع من النظام الاستبدادي الأسدي، وكيف يمكن الحفاظ على الهويّة الوطنيّة السوريّة الجامعة، والتمسّك بوحدة الجغرافيا السوريّة، وبناء دولة القانون والمواطنة والديمقراطيّة؟

الكاتب والصحافي فرحان المطر: “أراها حيّة”

سأنطلق من اقتناعي بأنّ الثورة السوريّة ما زالت قائمة، على الرغم من كلّ المعطيات الميدانية التي شهدناها في السنوات العشر التي انقضت من عمرها، مع كلّ هذا الدمار والخراب والتشرد والموت والمعتقلين والمفقودين والمصابين، جسديًا ونفسيًا. إذا كان المقصود بالحديث عن الثورة السوريّة تلك التظاهرات التي اشتعلت داخل الأحياء والبلدات والمدن السوريّة خلال السنوات الأولى من عمرها، وبدأت بالتناقص والاضمحلال وصولًا إلى التلاشي اليوم داخل سورية؛ فهذه الثورة فشلت، وماتت واندثرت، ولم يبقَ لها أثرٌ يذكر إلا في التاريخ والذكريات. وإذا كان المقصود بالثورة تلك التضحيات والبطولات التي واجهت بها الصدور العارية الرصاص، في تلك الأيام الأولى من عمر الثورة السوريّة السلميّة، وزالت بفعل التطورات التي حصلت على الأرض، فإنّ تلك الثورة أيضًا انهزمت.

أمّا الحديث عن الجانب العسكري الذي رافق الثورة، نتيجة ظروف غير طبيعية (قد لا تكون الثورة هي المسؤولة عنها أساسًا) وما نجم عنه من تغيّرات ميدانية من كرّ وفرّ ومعارك هنا وهناك، وانتقال السيطرة للقوى المتعاركة حسب الموازين التي فرضت ذاتها في كلّ حدث، إلى درجة أنّ القوى المعارضة للنظام بشقها العسكري قد سيطرت في وقتٍ ما على قرابة السبعين بالمئة من مساحة سورية، حتّى بات الحسم العسكري لصالحها قاب قوسين أو أدنى، إذا كان هذا الجانب هو المقصود بالثورة أيضًا، فهي قد مُنيت بالفشل والهزيمة الماحقة أيضًا. ماذا أيضًا عن المؤشرات التي تدعم مقولة فشل الثورة؟! هناك كثير منها نعم، ولكنني على الرغم من كلّ ما تقدّم، ما زلت على اقتناع بأنّ الثورة ما زالت حيّة حقيقة، وليست مجرّد وهم أو نسج خيال.

الثورة التي أعنيها، هنا، هي تلك الأحلام التي عبّرت عنها حناجر السوريّين في صرخة الحرّية، عندما امتلكوا الجرأة للمرة الأولى على الجهر بعبارة: “الشعب يريد إسقاط النظام”. هذه الأحلام لم تمت، ولا توجد قوّة على الأرض -مهما كان جبروتها- قادرة على قتل الحلم داخل نفوس المؤمنين بالحرّية. ما دام هناك توق، وحاجة إلى الحرّية، فستبقى الثورة حيّة، مع أنّها لم تنتصر، ولم تنجح في تحقيق شعارها الأوّل، ولا في باقي الأهداف والمطالب في الحرّية والعدالة والكرامة.

أمّا السؤال الجوهري هنا: لماذا لم تنجح الثورة في تحقيق أهدافها؟! فهذا يحتاج إلى تحليل هادئ عميق واقعي، لديه القدرة أوّلًا على الاستفادة من كلّ الأخطاء التي أدّت إلى هذا الفشل. الاستفادة التي تفترض أوّلًا شجاعة الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها من قاموا بالثورة في كلّ المراحل، وعلى كل المستويات، وليس صحيحًا أنّ الثورة وقعت ضحية التآمر العالمي، وأنّها تركت وحيدة فريسة لآلة النظام الهمجية والوحشيّة غير المسبوقة التي انتهجها منذ الساعات الأولى للثورة. من السهل إلقاء اللوم على الآخرين، وتبني نظرية المؤامرة، وإظهار أنّ الثورة مجرّد ضحية، هذا سهل، ولكن الأهمّ والحقيقي هو قراءة الأسباب الموضوعية، ومعرفة العوامل والتدخلات الداخليّة والخارجيّة التي اقتحمت الثورة، وخدعت كثيرين من أبنائها البسطاء، وحرفتهم عن مساراتهم وأهدافهم الأولى، النظيفة والسلميّة للثورة وأهدافها النبيلة. قبل أن يتحمّل النظام مسؤولية إفشال الثورة، وهو لا يلامُ على ذلك إن فعل، لأنّه عدو، وهذا ما يسعى إليه بكلّ الطرق والوسائل، يجب أن نفضح الثورة المضادّة التي بدأت بأسلمة وعسكرة الثورة. ما الذي يجب فعله والحال هذه؟! هل ثمّة آمال يجب التمسك بها بغية إعادة روح الثورة إلى سابق عهدها؟! هل يمكن الحديث عن تصحيح المسار بعد كلّ ما حدث؟! وكيف سيكون ذلك؟! هنا يتمثّل السؤال الأكثر خطورة. بكلّ بساطة، ومن دون الحاجة إلى التنظير الذي كان واحدًا من أسباب الفشل، حين صار الكلّ عبقريًا ومفكرًا وقائدًا ولم نعد نرى بيننا من يشبهنا من الناس العاديين، إذًا ما علينا سوى العمل مرة أخرى بفهم أكثر واقعية لطبيعة هذا النظام الذي يبدو أنّنا بنينا أوهامًا حول هشاشته، حتّى تصرف كثيرون منّا على أنّ أيامه باتت معدودة فعلًا، يجب التعامل مع حقيقة أنّ هذا النظام قد تفوّق على كلّ أساتذته في عالم الطغيان أوّلًا، وثانيًا: يجب علينا عدم الارتهان لأيّ قوى محليّة أو دوليّة بدافع الحاجة إلى التمويل أو أيّ خزعبلات أخرى، وثالثًا: علينا عدم تجريب المجرّب مرة أخرى، كي لا ينطبق علينا المثل: “من يجرّب المجرّب عقله مخرّب”. كلّ الوجوه التي شاركت في التشكيلات السياسيّة والإعلامية للمعارضة السوريّة يجب عليها التنحّي أوّلًا، وإفساح المجال لدماء جديدة لم يبلغها التلوث بأشكاله، وجوه متحرّرة من الارتهان لأيّ سلطة، ولا تخضع لغير إرادة الثورة وتحقيق أهدافها بالحرّية، وأوّلها إسقاط هذا النظام الموغل في الإجرام. ابتعدنا عن سورية، ولم نعد نمتلك القدرة على التأثير لأنّنا مهجرون في الخارج؟! نعيش داخل أسوار الوطن يقتلنا الجوع والخوف، وما زلنا نشعر أنّنا غير قادرين على فعل شيء، بسبب آلة الموت التي تواجهنا؟! سورية التي كانت لم تعد ذاتها اليوم، فهي تحت عدد من الاحتلالات العسكريّة. كلّ هذا صحيح لا يمكن التفكير بمعزل عنه، غير أنّ الصحيح أيضًا هو الإيمان بهذا الشعب الذي امتلك القوّة الأسطوريّة في لحظة واحدة من شهر آذار/ مارس 2011 ليقول (لا) مدوّية في وجه الطاغية. الشعب السوريّ الذي علينا ألّا نفقد إيماننا وثقتنا به، وبأنّه قادر في لحظة تاريخية قادمة أن يعيد التجربة، وإن بأشكال أخرى ربّما هي غير معروفة أو غير متوقعة حتّى اللحظة، ولكنه قادر أن يفعلها. لن أفقد ثقتي بهذا الشعب الذي صنع تلك الثورة العظيمة التي ما زلت أراها حيّة، وإن لم تنجح حتّى الآن.

الكاتب والروائي خطيب بدلة: ما نحتاج إليه فعلًا ثورةٌ على ثورتنا

أرى أنّ الثورة فشلت، لأنّها كانت عشوائية، لم ترسم لنفسها هدفًا ثوريًا حقيقيًا، واضحَ المعالم، ولم تنجح في تشكيل فريق ثوري عريض متوافق على إنجاز المهام الواجب إنجازها. قد يقول قائل إنّ الثورة كانت انفجارًا اجتماعيًا ناجمًا عن تراكم استبداد نظام الأسد، وتمكّنه من إخضاع المجتمع لسلطته الفاسدة. حسنًا؛ ولكن لماذا لم ترسم الثورةُ لنفسها خطة، أو تحدّد مجموعة أهداف ثوريّة خلال السنوات العشر التي استغرقتها حتّى الآن؟ هدف إسقاط النظام، وحده، لا بدّ أن يؤدي إلى نتائج كارثية. ماذا يعني أن تُسقط نظامًا، وأنت لا تعرف ماذا تفعل بعد إسقاطه؟! إنّ هذا التفكير، بكلّ صراحة: هدام. الثورات التي شهدها تاريخ البشريّة كانت بناءة وأدّت إلى نقلات نوعية: ثورة لتحرير العبيد، مثلًا، ثورة للتخلّص من سلطة الكنيسة وفصل الدين عن الدولة، ثورة لهدم النظام الإقطاعي القائم ليحلّ محلّه نظام برجوازي رأسمالي، الثورة البلشفية كانت لأجل تحقيق الاشتراكية، وأمّا ثورتنا فقد سلّحها بعض المسيطرين عليها بشعارات إنشائية غريبة، وعبارات ملتبسة غائمة، من قبيل: حرّية، وكرامة، وعدالة. كان بودي أنا ألتقي واضعي هذه الشعارات، وأطلب منهم تعريفًا واضحًا ومحدّدًا لكلّ واحد من هذه المصطلحات. هل يعقل أن تقوم ثورة عريضة لأجل شيء اسمه الكرامة، فقط؟ “الشعب السوريّ ما بينذل”. حقًا، نحن نُحوّل هذه العبارة إلى شعار بعد كلّ هذا الذل؟ الشعب السوريّ واحد! واحد؟ النتيجة التي لمسناها لمس اليد هي أنّ الشعب السوريّ منقسم إلى جماعات متناحرة.. نحن المعارضين مصنفون من قبل جماعة النظام على أنّنا عملاء وخونة، وهم في نظرنا شبيحة ومنحبكجية.. حتّى الكتلة الصامتة، التي تشكّل أغلبية الشعب السوريّ، لم تسلم من ألسنتنا نحن وجماعة النظام، كلانا نتهمها بالتخاذل. في سورية، انقسامات حادّة على أساس القوميّة، وانقسامات وصلت إلى حدود التناحر على أساس المذاهب. سورية دولة مستباحة، تحتاج دائمًا إلى من ينسق عمل الطائرات المعادية التي تغيّر على أراضيها يوميًا، لئلا تتصادم وتتزاعل الدول الكبرى فيما بينها عندما يحصل التصادم. يحكون عن وحدة تراب سورية، تسألهم عن حدود سورية، فيقولون: “أنت سوريّ، ولا تعرف حدود بلدك!!” طبعًا نعرفها، فهم يقصدون سورية المحدّدة بموجب اتفاقية سايكس بيكو، وفي الجلسة نفسها يسبّون على اتفاقية سايكس بيكو، ويبدؤون بكرّ الخطابات: اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية الـ الـ.. إذا أخذت عينة عشوائية من السوريّين، من النظام، والمعارضة، والكتلة الصامتة، ونظمت لهم مؤتمرًا، وفي الجلسة الصباحية طلبت منهم الاتفاق على اسم الدولة التي يطمحون إلى إقامتها في المستقبل، هل هو “الجمهوريّة السوريّة” أم “الجمهوريّة العربيّة السوريّة”؟ فسيستمرّ الجدال (وليس الحوار) حتّى موعد الغداء، ثمّ يتفق الجميع على ترحيل مناقشة هذا البند الإشكالي إلى وقت آخر! ولا شكّ في أنّ موقف المجتمعين من مناقشة قضيّة شكل الدولة: جمهوريّة، ملكيّة، مركزيّة، فدراليّة سيكون أكثر تضاربًا، وستكون ثالثة الأثافي بين المجتمعين، حينما تطرح القضيّة الكرديّة على بساط البحث.

من يستطيع الآن، بعد عشر سنوات من بداية الثورة، أن يتحدّث -بوضوح- عن سيطرة الجماعات الإسلاميّة على مفاصل الثورة، ومؤسّسات الثورة، ومنظمات الإغاثة؟ هذا الأمر ربّما يحتاج إلى ثورة أخرى، ثورة جديدة، ولكنّها غير ممكنة لأنّ سيطرة هذه الجماعات على الأرض ضاربة أطنابها، بينما نظام الأسد مستغرق في بيع أراضٍ سورية، وتأجير أراضٍ ومنشآت أخرى إلى 50 سنة، و100 سنة.

هل يمكننا مناقشة وضع المرأة؟ هل نمتلك الجرأة لنطرح السؤال التالي: لماذا تسببت الثورة في جعل قضيّة المرأة تمشي خطوات كبيرة إلى الوراء؟ هل تكفينا الجرأة لنقول إنّ الجماعات الإسلاميّة تعادي المرأة أكثر ممّا تعادي نظام الأسد؟ وأنّ كثيرين من ممثّلي هذه الجماعات يصرّحون بأنّ استبداد حافظ الأسد حقير، في حين أنّهم يتّخذون من ديكتاتورية صدام حسين نبراسًا يهتدون بهديه؟

خلاصة رأيي أنّ الثورة السوريّة اليوم تحتاج إلى مراجعات طويلة، وصادقة، وأن يمتلك الثائرون الجرأة اللازمة لأن يطالبوا بدولة فيدراليّة ديمقراطيّة علمانيّة، ويعملوا ما بوسعهم لتحقيق ذلك.

الناشطة والصحافية زينة رحيم: جذور الاستقطاب السوريّة تثمر غلًا سامًا

“الأسد أو لا أحد” هو أحد الشعارات الرئيسية التي يبّناها أنصار النظام السوريّ، في إشارة إلى الخيار العدمي الوحيد المُقابل لبقاء النظام، وبعد عشر سنوات، أصبح عنوان “جماعتي أو لا أحد” جامعًا لكلّ الأطياف السوريّة. غابت ثنائية الخيارات الصارمة هذه، في العام الأوّل من الانتفاضة السلميّة؛ فظهر قوس قزح على شعار “لجان التنسيق المحليّة”، وتجلّى إيمانها العميق بالتعدّدية من خلال الطيف الواسع من الناطقين باسمها، من أكراد وعرب بطوائف متعدّدة ينحدرون من مناطق متنوّعة. وفي الهيئة العامّة للثورة السوريّة، عملت المعارضة العلمانيّة سهير الأتاسي في المكتب السياسي مع محمد علوش، الذي كان ناشطًا إسلاميًّا وقتها، قبل أن يؤسّس مع أخيه زهران علوش “جيش الإسلام” في الغوطة. بدأ الحراك على أرضية جامعة متينة، حرّية وحقوق إنسان و “سورية لينا وما هي لبيت الأسد”، سُمع صداها في التظاهرات التي هتفت لمدن لا تعرفها، دعمًا لطوائف اعتادت على تنميطها ومناصبتها العداء. أتذكر كم شعرت بالخجل في تظاهرة نسائية كنت أقود هتافاتها في إدلب، عندما صرخت “سنّة وشيعة وعلويّة.. كلنا بدنا حرّية”، ثمّ نظرت خلفي متوجّسة من انخفاض الأصوات الهاتفة، لأجد الأصوات ذاتها تتابع بنفس الروح، وإحداهنّ تنبّهني بأنّني نسيتِ الدرزيّة. خجلت من تشكيكي في إيمان أهلي بالتنوّع، وفي صدق مقاومتهم للدعوات الطائفيّة التي بدأت تتسرّب شيئًا فشيئًا للحراك.

في البدايات تشاركنا، حتّى مع المؤيدين، علمًا واحدًا كنا نحمله في التظاهرات، ويحملونه في مسيرات البيعة. حتّى عندما بدأ العلم الأخضر بالظهور، كان يسير في الشوارع جنبًا إلى جنب مع الأحمر، إلى أن بدأت الاستقطابات تحتدّ، وتحوّل حامل العلم الأحمر في يوم وليلة إلى “خائن/ موال للنظام، وبات المعارض الحقيقي هو من يحمل العلم الأخضر فقط”، مع تناسي مئات المتظاهرين الذين قُتلوا وهم يحملون هذا العلم. واستمرّت كرة ثلج الاستقطابات الثنائية تكبر وتكبر إلى أن ضربت أغلبنا: بين شبيح وثائر، رمادي شيطان أخرس، ثمّ ثائر من الداخل/ الخارج، مع الجيش الحرّ/ ضدّه، مطالب بالتدخل الدولي/ رافض له، مؤيد للمجلس الوطني/ مقاطع لهيئة التنسيق؟ مع المجموعات الإسلاميّة/ مع تلك التي موّلتها حكومات غربية؟ نازح داخلي/ في دول الجوار؟ تقبض راتب لاجئ من حكومة أوروبيّة أم تعمل بمنظّمة دوليّة؟ تُبرّر الوجود التركي في الشمال؟ ضربات التحالف؟ تشكيل المجلس العسكري؟ منصّة القاهرة أو موسكو؟

كضربة حجرٍ على بحيرة صافية، استمرّت هذه الموجات في الانتشار، وأصبحنا فجأة في مسابقة لا رابح فيها ولا حكم، عن “الأحقّيّة الثوريّة”، حيث يتبارز “الصح مع الخطأ”، وتتوزع صكوك الجنة والنار من الأرباب. ويتغيّر مركز هذه الموجات بتغيّر الكتلة الثوريّة، من مراكز الحراك السلمي في بدايته، لمناطق سيطرة المعارضة بعد دخول العمل المسلّح، ثم لغازي عنتاب التركية، قبل انتقاله أخيرًا إلى الدول الغربية مع هجرة العديد من ناشطي البدايات المعروفين إليها. ومع تغيّر المواقع، يهزأ أرباب الاستقطاب من صفات كانوا يطلقونها من مواقعهم السابقة على الآخرين “الخارجين الآمنين الذين ينظرّون بشعارات خاوية على المتعبين الفقراء بالداخل”، بعد أن أصبحوا هم الخارجين الآن.

وقد تحوّلت الآراء التعميمية المغلوطة إلى وصمات قاتلة لأيّ حلم بالعيش المشترك، فمن يعيشون في مناطق النظام مؤيدون له، ومن يعيشون تحت حكم (داعش) و(النصرة) هم بيئتها الحاضنة، كلّ من يقاتل ضدّ النظام أخيار وطنيون حتّى من بدّلوا اسمها لـ “أرض الشام”. أمّا مديرو هذه التعليميات والاستقطابات المتعدّدة، فشعبويون يعيش العديد منهم على أمجاد بطولات سابقة، وكلّما زاد تشدّدهم وحماسةُ شعاراتهم، ازداد تعصّب عشيرتهم وصرامة الحدود التي تفصلهم عن الآخر، وقد أصبح هذا الآخر معارضًا يحمل الأيديولوجية نفسها لكنه يختلف معهم على اسم حملة أو انتقاد محاكمة مجرم يحبونه. وبهذا حُفرت شروخ وأخاديد واسعة في صفوف كلّ من حلموا يومًا بالحرّية دون استثناء. أنا أُجبرت بالطريقة القاسية على أن أغيّر طريقة تفكيري القاصرة هذه، عندما خُطفتُ في الفوعة عام 2012، في ذلك الوقت فقط جرّبت معنى أن تضع نفسك حرفيًا في حذاء الآخر (وكان وقتها مؤيدو النظام)، وكاد “الأصدقاء” أن يقتلوني بالخطأ، وأنا أهرب بصحبة “الآخرين” على الحدود بين المعسكرين.

لم تختلف عليّ ملامح الفقراء والبؤساء، على طرفَي الحرب، وجدتُ في جانبيها المحايدين الذين لا يريدون أكثر من حياة مملّة، مع المعتدلين الوطنيين العاجزين، والمتطرّفين الغاضبين مسلوبي التفكير، وهم أصحاب الأصوات الأعلى والسلطة الأقوى. بالتأكيد، تربيتنا البعثية الأبوية مع القائد الخالد والحزب الواحد، وأوهام الانصهار في بوتقة هويّة سوريّة لم تتشكّل، لعبت دورًا في هذا كلّه. لكنّ عشر سنوات، عاش فيها كلّ منّا مئات الحيوات والخسارات، كفيلة بأن نعيد التفكير في موضعنا ضمن هذه المعسكرات المُسوّرة، وفكّ البيعة عن أربابها، لنتحدّى التنميط والتصنيف، ونسأل الآخر باهتمام: من أنت، وماذا تريد؟ بدلًا من وصم الآخر واغتيال شخصيته، لأنّه لا يتوافق مع قوالب ومقاسات “جماعتي” الدقيقة. حان الوقت لنكتب آراءنا المختلفة بلا خوف من حملات تحطيم مُشخصنة. فالثورة، كما كتب رائد الفارس على إحدى لافتات كفر نبل، “ليست ضدّ النظام فقط، وإنّما ضدّ اغتصاب العقود والاستبداد الفكري بكلّ أشكاله”.

الناشط الحقوقي المحامي فارس مشعل تمو: أسقطنا كلّ مخطّطات افتعال ثورات مذهبيّة وقوميّة

في البداية، لا بدّ من تقسيم الثورة السوريّة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة انتصار الثورة شعبيًا وإسقاط الرهبة والخوف من قلوب الشعب السوريّ الذي هتف بصوت واحد بالحرّية، وواجه آلة القمع والقتل والترهيب الأسدي بشكلٍ سلمي، مقدّمًا أسمى آيات التضحية والإنسانية في طلب الحرّية والكرامة.

المرحلة الثانية، يمكن تسميتها بمرحلة استلاب ثورة الشعب السوريّ وحرف مسارها، حيث تعمّد النظام في هذه المرحلة استخدام كل السبل وفق خطط منهجية مدروسة بعناية، لتحويل تلك الثورة السلميّة إلى ثورة مسلّحة، من خلال تقسيم مكوّنات الشعب السوريّ بحسب الانتماء المذهبي والقومي. وتعامل نظام الأسد مع كلّ مكوّن بإستراتيجية خاصّة، حيث تعمّد استهداف المكوّن السنّي بأبشع الجرائم، وتعمّد نشرها للعلن لإثارة النقمة عليه كنظام طائفي، لدفع السنّة إلى التقوقع الفئوي، وكان في بعض المناطق يتعمّد ترك كميات كبيرة من السلاح لدفعهم لمواجهته بشكلٍ مسلّح تعبيرًا عن الاحتقان وردًا على الجرائم وبشاعتها بحقِّ المكوّن السنّي. كما تعمّد النظام إحضار ميليشيّات طائفيّة شيعيّة من خارج الحدود لتواجه المكوّن السنّي السوريّ، وتحت شعار المظلومية السنّية، جلب القوى والتنظيميات الراديكالية المتطرّفة ليس للدفاع عن السنّة السوريّين، بل لقتل كلّ من هتف بالحرّية بوجه نظامه من السنّة، بحجّة أولوية إعلان “الدويلة الإسلاميّة”. وساعده في ذلك صمت المجتمع الدولي والإقليمي الذي التزم بالرغبة الأوبامية الأميركية (نسبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما) وبإستراتيجيتها في تفعيل سورية كساحة حرب لا ينتصر فيها أحد، وتحقيق مكاسب أميركية من خلالها في ملفات عالقة مع روسيا وإيران، ليتدخل بعدها بعض أطراف المجتمع الدولي والإقليمي كحليف مباشر للأسد، وبعضها تدخل كصديق مفترض للشعب السوريّ. وتجلّت المساعدة الدوليّة سواء من أصدقاء الشعب السوريّ أو من خصومه، من خلال تقديم الدعم والتسهيلات لتنقل كلّ متطرّف ومختل عقلي من مختلف أنحاء العالم إلى سورية، لتحويلها إلى مقبرة نفايات بشريّة دوليّة على الأرض السوريّة، وعلى حساب ثورة الشعب السوريّ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المكوّن الكردي، حيث جلب حليفه القديم حزب العمال الكردستاني التركي من خارج الحدود لقمع الشارع الكردي السوريّ وترهيبه، وقتل واعتقال كلّ من هتف ضدّ نظام الأسد في الشارع الكردي، بحجّة أولوية دويلة “روجآفا”. بهذا التقسيم، وُضع الناشطون والفصائل الثوريّة أمام خيارين: إمّا الانحياز إلى التطرّف الديني وإما الانحياز إلى التطرّف القومي، وتم ضربهم ببعضهم لتصفية العدد الأكبر من أنصار الثورة السوريّة من كل المكوّنات السوريّة، وحصر الساحة السوريّة بحروب جانبية قوميّة ومذهبيّة وإبعادها عن دمشق.

أمّا المرحلة الثالثة فنحن على أبوابها في الذكرى العاشرة للثورة السوريّة السلميّة، حيث سقطت تلك المخطّطات في افتعال ثورات مذهبيّة وقوميّة لدويلات طوباوية، وانكشفت تلك الألاعيب، وراح ضحيتها مئات الآلاف من أبناء الشعب السوريّ، وكذلك سقطت أقنعة المجتمع الدولي وأكذوبة الأصدقاء والخصوم، وباتت سورية مسرحًا لصراع المصالح الدوليّة والإقليميّة بشكلٍ مباشر. وهذه المرحلة ليست ثورة على نظام الأسد، لأنّه سقط منذ عام 2013. ورسالة الاستنجاد التي أرسلها الأسد حينها للجانب الروسي تؤكّد سقوطه ونهايته، أمّا استمراره الشكلي إلى يومنا هذا، فهو مجرّد حاجة دوليّة، كهيكل محنط بدون سيادة أو قرار. في هذه المرحلة، الشارع السوريّ ضحى بكلّ ما يملك من أرواح ودماء وبات بحاجة إلى ثورة سياسيّة ودبلوماسية، ثورة تكون على قدر المسؤولية في الحفاظ على تلك الدماء الطاهرة التي قدّمتها الثورة السلميّة، حتّى لا تُهدر عبثًا، ثورة سياسيّة تكون بحجم تمثيل آلام وآمال الشارع السوريّ في طلب الحرّية والكرامة، في مواجهة كلّ هذا الثقل الدولي والإقليمي الجاثم على صدره بشكلٍ مباشر. ثورة نتعلم فيها من أخطاء الماضي، ونعلم أنفسنا على أهمّية العمل المؤسّساتي الجماعي للوصول إلى الشكل الأمثل من العمل الوطني السياسي القابل للحياة ولبناء المستقبل. جميعنا ضحايا الوهم الفئوي، وقد آن الأوان لنصحو من هذا الوهم، وندرك بأنّ سورية جيوسياسيًّا غير قابلة للتقسيم، وبأنّ السلم الأهلي والوحدة الوطنيّة هما السبيل الوحيد للخلاص، والوصول إلى دولة مدنية ديمقراطيّة يسودها القانون ويحميها الدستور حتّى تصلح لأن تكون وطنًا جامعًا لكلّ السوريّين على اختلاف مكوّناتهم القوميّة والدينيّة والمذهبيّة، واختلاف مشاربهم الفكرية والسياسيّة والثقافية.

الناشط السياسي والكاتب جبر الشوفي: في مسألة بناء الهويّة والخلاص

وفقًا لما استخلصته من تجربتي، أبدأ مطالعتي من حيث يجب أن أنتهي، لأقول إنّ التوجّه المبكر بالمظلومية إلى الخارج، كان تعبيرًا عن معارضة سياسيّة، دفعها شعورها بضعفها وعجزها عن إسقاط النظام الأمني المدجّج بالسلاح إلى الاقتداء بالتجربة الليبية؛ وهو ما أفسح المجال لاختطاف راية الصراع وتحويل وجهته من قبل فصائل مسلّحة متباينة الولاءات، ويحتاج إليها التدخل العسكري المطلوب. وقد أدّت هيمنة هذه الفصائل التي أخذت تدير الصراع على الأرض إلى إلحاق القيادة السياسيّة للمعارضة بالعسكرة، وتحويل المجلس الوطني السوريّ والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة من بعده إلى غطاء سياسي لسلاح، يدار من الخارج ويرفع شعارات شعبوية عابرة للحالة الوطنيّة أو منكفئة عنها.

وأعطى تراجع القيادة السياسيّة المفترضة إلى خلف السلاح، بدلًا من قيادته إستراتيجيًا، نحو تحقيق بنك الأهداف الجامعة، وإخضاع كلّ ما هو آني وتكتيكي لهذه الأهداف، ذريعةً -ولو ظاهريًا- لأميركا لكي تحجم عن تقديم مساعدة جادّة للسوريّين، لتجاوز محنتهم مع نظام الجريمة والفساد وداعميه الأشرار، وتوجّهها إلى محاربة الإرهاب وإدارة الظهر لنظام القتل وحلفائه. وقد تجاوبت هذه الفصائل مع توجّه مجموعة من السياسيّين الأكاديميّين الإسلاميّين، رفضت التوقيع على بيان مؤتمر الدوحة التشاوري في بداية أيلول/ سبتمبر 2011، وسارعت إلى تشكيل مجلس ال (74) لتتوجّه به إلى الخارج، ثمّ عادت وتوجّهت بالدعوة إلى مجلس وطني سوريّ شامل، بالتنسيق مع الإخوان المسلمين وقطر وتركيا، فقبلها إعلان دمشق، وامتنعت هيئة التنسيق الوطنيّة لأسباب تخصّها عن المشاركة، وأدّى ذلك إلى ضعف التيار الديمقراطي في المجلس الوطني، وارتفاع الضجيج بهيمنة الإخوان المسلمين وهوامشهم على المجلس لإسقاطه. لقد عبّرت الثورة السوريّة الباسلة، عن مدى احتقان (المجتمع الأهلي) بالرغبة في الثأر والانتقام من نظامٍ اشتهر بجرائمه ولا سيما تجاه الأكثرية الوطنيّة، وهدفت إلى تغييره في ظلّ غياب النخب السياسيّة وتشتتها وعدم جاهزيتها لقيادة الثورة والانخراط المباشر في فعالياتها، فكان طبيعيًا أن يغلب على جيل الشباب الثائر طابع الارتجال والاندفاع وغياب حكمة السياسة ورويتها، ممّا سهل على الفصائل الإسلاميّة المسلّحة اختطاف الراية وتأزيم الساحات الوطنيّة وانفضاض حاضنتها الاجتماعيّة، ولا سيما بعد تورطها في دخول مدينة حلب، بصفة فاتحين لا محرّرين، وسهل كذلك عملية استجرار قيادتها غير المؤهلة سياسيًّا إلى التخلي عن مواقعها العسكريّة والانزلاق في متاهات دبلوماسية آستانا الماكرة، بعد أن استجرت معها الائتلاف والحكومة المؤقتة واللجنة الدستوريّة، ومررتها من آستانا إلى سوتشي وصولًا إلى (علاك) دستوري خارج استحقاق البدء بإقامة هيئة حكم انتقالية، وفقًا للقرار 2254 و2218، وبهذا غدا مسار جنيف بمظلته الأممية التفافًا ماكرًا على ما يتطلع إليه السوريّون من انتقال سياسي وحلّ سلمي نحو الحرّية والديمقراطيّة والعدالة والمساواة.

أمّا في مسألة الهويّة والخلاص، فأقول: الهويّة الوطنيّة تبدأ بحقِّ المواطنة وحرّية الفرد، إذ لا عودة إلى (هويّة وطنيّة سوريّة) شائهة ومنقوصة، تضطّرب فيها منظومة الحقوق والواجبات، ولا ترى في المواطنين سوى قرابين وأدوات لأيديولوجية السلطة الخرقاء، ولا إلى توزيع الأفراد والجماعات بتراتبية، بدأت وتجسدت وفق معايير القرب من النظام والولاء لرأسه ومدى الانخراط في تدوير عجلته الأيديولوجية والإدارية، حتّى غدا أقلّ الناس التزامًا بالحقِّ العامّ وأكثرهم إضرارًا بالمصلحة العليا أقربهم وأكثرهم تعبيرًا عن هذه الهويّة الفاسدة للنظام. ولذا بات على السوريّين أن يبدؤوا -بجميع أطيافهم القوميّة والدينيّة- في تحرير الأرض من كلّ الاحتلالات وسلطات الأمر الواقع، لإعادة توحيد الجغرافيا السوريّة، ومن ثمّ البدء بإقامة دولة مواطنة (دولة الحقوق والواجبات) والمساواة أمام القانون، وفي التطبيق العملي وتشريع الحقوق السياسيّة لجميع الاثنيّات والحقوق المدينة للأديان والجماعات، ومن دون ذلك، لا تبنى هويّة وطنيّة حداثيّة قابلة للاستمرار وتأمين الاستقرار والتقدّم في طريق التنمية البشريّة والمتكاملة، وذلك لأنّ (تحرير الأرض ووحدة الجغرافيا) باعتبارهما شرطين ضروريين لبناء هذه الهويّة الوطنيّة، لا يقودان بالضرورة إلى هويّة سوريّة جامعة بدلاليتيها الواقعية والمعنوية (المادية والروحية) لتكون هويّة وطنيّة نهائيّة تعبّر عن مفهوم (الوطن الأمة) لا دولة طارئة ومعلقة في فضاءات إسلاميّة أو قوميّة غائمة، من دون شروط الديمقراطيّة والتعدّدية والتداول السلمي للسلطة. هذا الطموح يبدو طوباويًا في عصرنا المرذول هذا، ولكنه طريق خلاص طويل وعسير، ولا بدّ من تحمل تبعاته بكلّ جدية وإخلاص من الجميع. 

الناشط السياسي د. زكريا ملاحفجي: بعد كلّ هذا لماذا لم ننجح؟!

سؤالٌ بمنتهى الأهمّية، لكن الجواب عنه ليس بمنتهى السهولة، وربّما يكون هذا السؤال قد خطر ببال كلّ فرد فينا: بعد عقد من الثورة؛ لماذا لم ننجح؟ كلّ منّا لديه أجوبة تطول كثيرًا، بعد كلّ هذه الجهود والتضحيات والأعمال، وكلّ تلك الضريبة الكبيرة التي دُفعت. صحيح أنّنا لم نفشل، ما دمنا نناضل ونقاوم، لكنّنا إلى اليوم لم ننجح، ولن أقف على حجم مكر الخصم وظلمه وتوحشه، فهذه سمته أصلًا، ولو لم تكن سمته ما انتفض هذا الشعب ضدّه أصلًا وصرخ بالحرّية التي افتقدها طوال عقود من حكم الأب والابن، ولكن السؤال المهم الآن: لماذا لم نتغلب ولم ننجح إلى الآن؟

أوّلًا: لم ننجح، لأنّ للصراع وإدارته أدواتٌ من لا يمتلكها لا يمتلك النجاح. نحن نمتلك طاقة كبيرة قادرة على المقاومة وقادرة على التعطيل وقادرة على هدم الاستبداد، لكنها ليست قادرة على النجاح وتحقيق نقاط نجاح وبناء وتقدّم، لأنّها طاقة غير منضبطة وغير منتظمة وغير مركزة، فالمياه المتدفقة عشوائيًا لا تصنع شيئًا في حجر، لكنها بالتركيز والضبط تقطع الحجر. فجموع شعبية بلا جماعات وأحزاب وتيارات قوية تملك كوادر بوعي سياسي وإستراتيجي لا تستطيع أن تشكّل ثقلًا في الصراع، مهما كان ثقل الأفراد المتناثرين، وإذا كنا نفتقد ذلك سابقًا، فلماذا لم نصنعه إلى اليوم؟ قيل لرجل أُعطي فأسًا: “لو أنك أُعطيتَ أربع ساعات لتقطع شجرة، فكيف تصنع؟ فقال: أجهز فأسي في ساعتين، وفي ساعتين سأتمكّن من قطع الشجرة بلا كثير تعب، لأنّ فأسي أصبحت ممتازة”.

ثانيًا: لن ننجح ونحن نتآكل ولا نتكامل، ونحن في الصف الواحد نحمل كثيرًا من التفشيل لبعضنا، والعداوات الكثيرة، وغالبها بسبب عدم الوعي بقيمة المصلحة التي تتحقّق من الاجتماع والتناصر فيما بيننا، وترك كلّ ما يعتري النفس البشريّة من الأنانية، وكان أحمد شوقي يقول: “أصدقاء السياسة أعداء بعد الرئاسة”، لكننا أعداء قبل الرئاسة…!

ثالثًا: من أبسط أدبيات إدارة الصراع، الحفاظ على الموجود وإيجاد المفقود، ابتداءً من الأنصار والحلفاء إلى الأعداء، وهناك حلفاء واضحون وهناك متقلبون وهناك غير مكترثين وهناك أعداء. وأبسط وعي سياسي يدفعنا للعمل على الحفاظ على الحليف الواضح، وكسب المتقلب وغير المكترث، بل كسب من هم في صفوف الخصم أيضًا، لكن حالنا لا تشجع الحلفاء فكيف بالآخرين…

رابعًا: أن نكون محلّ جذب لأفكارنا وقضيتنا، بسلوكنا وأخلاقنا وعدالتنا، فلا نشبه الخصم بالظلم، ومهما قلّ مستوى الظلم لدينا فهو مرفوض؛ فمن يناضل من أجل حرّية وعدالة ينبغي أن يمنحها. صحيح أنه لا يوجد تجمع بشري بلا أخطاء ولكن لا يصحّ أن يكون بلا عدالة.

متى توقف الجذب لقضيتنا والمتمثّلة بازدياد المناصرين وكثرة المنشقين وتواليهم؟! مهما قلنا إنّ العالم خذلنا، ولو أنّها حقيقة، فإننا ما لم نمتلك أدوات الصراع وأدوات النجاح لن ننجح، وما لم نكن على سوية كبيرة من الانضباط والتنظيم، فمن سيقدّرنا ويعمل معنا ويساعدنا لمصلحتنا ومصلحته. العواطف وحدها لا تغيّر واقعًا، بل يكون التغيير بالتدافع، فعندما نفشل، نكون حملنا أسباب الفشل المؤدية إليه، ولو حملنا أسباب النجاح لنجحنا، ولكن “لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم”..

بسبب ما نحن عليه، استطاعت القوى المتطرّفة الإرهابية والانفصالية أن تنمو بيننا، لأنّنا لسنا كتلة واحدة متكاملة لها قيادة واحدة، فكانت الساحة مفتوحة لكلّ المشاريع، وتحت ضخ العواطف الدينيّة التي تحركها أذرع خبيثة، فُتك بالثورة السوريّة فتكًا كبيرًا، لأنّهم كانوا بين صفوفنا غير الموحّدة وغير المنظّمة.. لكن السؤال الأهمّ اليوم: هل يمكن أن ننجح؟ وهل يمكن وضع حدّ لإنهاء هذا التعثر والتقهقر؟ الجواب بكلّ تأكيد: نعم، فمعركة المواجهة لم تنتهِ وملايين السوريّين يرفضون العودة الطوعية للعبودية، واليوم حتّى الموالون باتوا يشعرون بأنّهم ضحية الأسد، حسب الظروف التي يعيشونها من فقدان سبل الحياة الأساسية وتحميل الشعب العقوبات ونتائجها، وهي عقوبات على الأسد وعصابته. فالتركيز يجب أن يكون على الخطاب الوطني الجامع، قولًا وعملًا، فاليوم حتى الموالون يستجيرون من الظروف المحيقة بهم، وهذا يحتاج إلى دور وعمل ينقذ السوريّين جميعًا من أن يكونوا ضحية هذا النظام الذي يعيش على مأساة السوريّين، وهذا دور مهم حاليًا. فالمعارضون والموالون اليوم في خندق حريق الأسد، الذي يحرق به الجميع من أجل بقائه هو وزمرته، وينبغي الخروج من حالة الموالي والمعارض، ونفكر في الخلاص كسوريّين جميعًا.

أقول لو أراد البشر خلع جبل لفعلوا، لكن بتوظيف الطاقات والإمكانات توظيفًا مثاليًا مفيدًا، ولا يكفي أن يكون التوظيف صحيحًا فقط، فليس المهم أن أعمل عملًا صحيحًا فقط، لكن ينبغي أن يكون مفيدًا بشكلٍ جماعي يصب بمصلحة السوريّين جميعًا، عبر عمل دؤوب مركّز، وليس بالعاطفة وحدها، فالعاطفة تثير الحماس للعمل المرغوب، لكنّها لا تُنجزه، لا سيما إذا كان غير مرغوبًا رغبويًا. نحن نعيش في عالم بوصلته المصلحة والمكاسب وقناعته بها، لكن كيف سنكون مقنعين، ونحن غير منضبطين وغير منظّمين، وغير قادرين على تقدير مصلحتنا والحفاظ عليها. يحاول البعض من الطيبين والأكاديميين نقد الأداء لكلّ قوى الثورة والمعارضة، ولكن ماذا بعد النقد؟ وهل أصلحنا أو نصلح ما نراه معوجًا نقدناه؟

نحن نعرف ما لا نريد، لكن هل نعرف ما نريد؟ وكيف نحقّق ما نريد؟ نحن نتقن “لا يمثّلني”، وعبارة “يسقط”، وهي لغة المظاهرة الجماعية ضدّ خصم واضح، وليست لغة الصف الواحد ذي الهدف الواحد. ومن هنا بدأنا نتآكل. لنسأل أنفسنا: لِمَ نحتاج إلى الدول لترتب هياكلنا ولتوحدنا ولتقرر عنا؟ ولِمَ نحتاج إلى من يجمعنا ومن يقرر عنا أحيانًا؟ ولِمَ نحاول أن نبرئ ساحتنا ونلقي اللوم في ساحات الآخرين؟ ولِمَ يستغلنا كلّ المتطرّفين ابتداءً من (داعش) و(قسد) إلى سواهما، ليبنوا أحلامهم وأوهامهم فيما بيننا وعلى أرضنا التي دفعنا ثمنًا كبيرًا لتحريرها؟ لأنّهم وجدوا فوضى يستطيعون البناء في وسطها، فمن جرأهم علينا سوى عدم انضباطنا والفوضى التي نعيشها، وعدم قدرتنا على بناء تحالفات وشراكات دوليّة وإقليميّة؟

ليس بالأماني والأمنيات نحقّق أهدافنا، وإذا فشلنا أو لم ننجح، فلنسأل أنفسنا: لماذا لم ننجح، بعد كلّ هذا الكم الكبير؟ وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي: وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي.. وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا.

الباحث والشاعر حمزة رستناوي: علينا زراعة الأمل السوريّ

بداية، من الضرورة بمكان الامتناع عن وصف الثورة السوريّة أو غيرها من ثورات الربيع/ الخريف العربي بمؤشرات الفشل، بمعزل عن وصف الأنظمة الاستبدادية الحاكمة التي قامت عليها هذه الثورات، بالفشل أيضًا وبحُكم مُشدّد. ليس ثمّة عقل للتاريخ مستقلّ عن صيرورة الكينونة الاجتماعيّة، وليس ثمّة محرّك للتاريخ لا يتحرّك! التغيير نفسه ليس مُنجزًا بحدِّ ذاته، بل هو شكل حركي احتمالي احتوائي نسبي يحوي مصالح ومآلات متعدّدة ومختلفة. ولا يتوقف التاريخ عند حدث معين، الانتصار والهزيمة مفهومان نسبيان، الهزيمة الحاسمة تكون في القنوط وانطفاء شعلة الحياة والحرّية. الانتصار قد يلد من رحم الهزيمة، هذا صحيح، ولكن بشرط عقل الهزيمة. الثورة السوريّة قد تكون خميرة لثورات قادمة، وعلينا الاستفادة من الدروس وهي كثيرة. لا داعي للقنوط، وعلينا زراعة الأمل في الواقع لا على طريق القدريّة أو ظنّ الأماني. من الضروري بمكان دراسة الثورة/ الحرب السوريّة في سياق عصر العولمة وثورة المعلومات أوّلًا، وسياق ثورات الربيع/ الخريف العربي ثانيًا. لنتساءل أوّلًا: هل نجحت بقية ثورات الربيع العربي في تحقيق أهدافها؟ في الحقيقة، كثير منها نجحت في إسقاط النظام الاستبدادي القديم، ولكنّها لم تنجح في تحقيق منسوب سياسي-حضاري أفضل من السابق. الفوضى والحروب الأهليّة حاضرة، وإعادة إنتاج النظام الاستبدادي القديم، كما حدث في مصر وتونس، استثناء نسبي، وملامح التجربة السودانية لم تتضّح بعد. ربّما تنجح الثورة السوريّة في إسقاط السلطة الأسدية، لكني لا أجد أسبابًا قوية تجعلني أعتقد بالاستثناء السوريّ في تجاوز مأزق الاستبداد، في المدى المنظور.

في الأسباب السياسيّة (القريبة) السياسيّة، يمكن الإشارة إلى:

     المشروع الإيراني ذي الأيديولوجيا الشيعيّة عبر تدخله بشكلٍ مباشر في دعم السلطة الأسدية، وتعزيز الاستقطاب الطائفي السني/ الشيعي في المنطقة، بما يحجب مصالح الوطنيّة السوريّة والمشروع السياسي الخاصّ بالسوريّين.

     التدخل الروسي المباشر لصالح السلطة الأسدية، والذي انتهى بما يشبه الوصاية والاحتلال. من الصعوبة بمكان لثورة شعبية أن تنتصر على قوى عظمى، دونما داعم حقيقي وكبير لها، يسهِّل قيام حرب تحرير شعبية على غرار أفغانستان أو فيتنام مثلًا!

    الدور السلبي للمال وللأنظمة الخليجية ممثّلة بسياسات السعودية والإمارات وقطر، التي عملت على إعاقة ثورات الربيع العربي ودعم قوى الثورة المضادّة، لكيلا يصل إليها المدّ الثوري، وقد استعانت على ذلك بالمال السياسي ودعم فصائل الإسلام السياسي السنّي التي تتّسم بضيق الأفق السياسي والفكري القاصر عن مصالح العصر والمجتمعات، وكلنا يتذكر الصراعات البينيّة فيما بينها.

    عدم وجود مصالح وازنة أو مزاج أميركي-إسرائيلي للتدخل الفاعل في مجريات الثورة/ الحرب السوريّة.

    العصبيّة الطائفيّة للسلطة السوريّة، حيث لعبت العلويّة السياسيّة دورًا حاسمًا في تحديد الولاءات والاصطفافات السياسيّة.

    الاستثمارات السياسيّة والمخابراتية متعدّدة الأطراف في (داعش والسلفية الجهاديّة)، وتحويل مشروع الثورات إلى مشروع الحرب ضدّ الإرهاب.

في الأسباب الثقافية (البعيدة) يمكن أن نذكر:

     ضعف حضور الحرّية في الثقافة العربيّة عمومًا، والسوريّة خصوصًا، حيث إنّ التعيين الواقعي/ السياسي للحرّية في عصرنا، يمكن تحديده بالعلمانيّة والمواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان.

     عدم وجود خبرة بالعمل السياسي والجماعي نتيجة القمع المزمن وتصحير الاستبداد للحياة السياسيّة السوريّة.

    ضعف حضور الهويّة السوريّة (سبب- نتيجة- سبب)، وطغيان الانتماءات ما قبل الوطنيّة، سواء أكانت طائفيّة (سنّية- علويّة- درزيّة- مسيحيّة..)، أم قوميّة، كما هو حاضر في الحالة الكرديّة مثلًا.

في التصحيح والأمل السوريّ: أقترح بضع نقاط:

     الاشتغال على تشكيل جمعيات – أحزاب – لوبيات للسوريّين، تكون جيدة التنظيم وإن كانت صغيرة.

     تعزيز خطاب وطني سوريّ في مواجهة الاستبداد السياسي/ الأسدي والديني.

    متابعة ملف انتهاكات حقوق الإنسان ومقاضاة المتورطين في جرائم الحرب السوريّة حول العالم.

    تعزيز الاشتغال على توثيق وأرشفة ذاكرة الثورة السوريّة، وتعزيز إنتاج وتسويق وترجمة الأعمال الفنية والأدبية المُنحازة إنسانيًا إلى الثورة السوريّة. وفضح مجازر السلطة السوريّة وانتهاكات حقوق الإنسان في سورية. اشتغال ثقافي كهذا سيكون مفيدًا -على المدى البعيد- عندما يستعصي الفعل السياسي لسبب أو آخر.

الكاتبة والإعلامية سعاد قطناني: الثورة السوريّة.. صوت في وجه السوط

عشر سنوات مضت، لم يفضِ الموت فيها إلى الحياة ولا إلى الحرّية، ولا أوصلت الآلام إلى دروب تقود إلى العيش الكريم والديمقراطيّة. الحديث عن الثورة السوريّة هو حديث يُدمي الروح ويستنهض الأوجاع، هو حديث يستلزم مراجعة الذات والأخطاء، وربّما الكوارث التي مورست على المستويين التكتيكي والإستراتيجي حتّى وصلت الثورة إلى ما وصلت إليه من تعرّج المسالك ومآلات التيه. بعد كلّ التضحيات التي بُذلت والأثمان التي دُفعت، هل يجوز السؤال: هل فشلت الثورة السوريّة في تحقيق أهدافها في إسقاط النظام ونيل المطالب المشروعة من حرّية وكرامة وعدالة انتقالية؟ سؤال يعيدنا إلى الصرخة الأولى والهتاف الأوّل في وجه نظام أمني استبدادي، “الشعب السوريّ ما بينذل”! تلك الصرخة التي دوّت وما زال صداها يتردّد على طول الوطن وعرضه، وذلك الهتاف الذي ما زال يحمل قيم الثورة ورؤاها؛ في هذا نجح السوريّون في شق عصا الطاعة ورفع الصوت في وجه السوط، لم يعد بالإمكان العودة إلى ما كان؛ فالسوريّون الذين عرفوا أنّ الحياة أرحب من سجن، وأوسع من بلاد محكومة بالاستبداد والطغيان، لم يعد بإمكانهم الرجوع إلى الخلف بدعوى الأمن والأمان، على الرغم من أنّ الطريق طويل وصعب، وزاد من صعوبته وتعرّجه تلك المدة الطويلة من الاستبداد التي جثمت فوق صدور السوريّين، وكممت أفواههم وقتلت علاقتهم بالسياسة، ووأدت أيّ فعل سياسي معارض قبل أن ينجز أولى خطواته على درب الحرّية والديمقراطيّة؛ وما فاقم تلك الصعوبات موقع سورية الجغرافي الذي يغري الدول الكبرى في البحث عن مصالحها، وأن تكون لها اليد الطولى في السيطرة عليه، لما له من خصوصيّة على مستوى الشرق الأوسط وتعقيداته السياسيّة وأهمّيته الاقتصاديّة، ويزيد من هذه الخصوصيّة وجود الكيان الإسرائيلي بالجوار وعلاقته بالقوى الدوليّة المتصارعة على النفوذ في هذه المنطقة، ومصالحه المتلازمة مع الحفاظ على نظام متواطئ وضعيف ومهلهل ومستباح.

وفي ظلّ هلامية الموقف الأميركي من النظام، وغياب رؤية واضحة لطبيعة الحلّ، تدخّلت روسيا بقوّة وقلبت المعادلة على أرض المعركة لصالح النظام الذي بدأ باستعادة سيطرته على الأرض؛ ولم تكن إيران بعيدة عن هذه المعادلة، حيث وقفت إلى جانب النظام المنسجم مع المشروع الطائفي الذي تسعى لفرضه، فكانت سندًا للنظام، وكان النظام سندًا لها في احتلالها ومحاولتها التغيير الديموغرافي لصالح مشروعها الطائفي ليس في سورية فقط بل بالمنطقة عامّة. ويمكن أن نسمي هذه العوامل بالخارجيّة، ولم يكن ممكنًا أن يكون لها أيّ دور، لولا بنية النظام الداخليّة التي غذت كلّ هذه التدخلات وجعلت منها احتلالًا متعدّد الأقطاب لسورية، وذلك من خلال القمع غير المسبوق للثورة السلميّة والدفع باتّجاه عسكرتها وجلبها إلى ملعبه؛ الملعب الذي يعرف كيف يديره من خلال تفوقه العسكري وقبضته الأمنية وخبرته الكبيرة في مجال القمع والقتل والتدمير. وهنا، نبدأ حكاية أخرى وهي حكاية العسكرة وانتشار الفصائل المسلّحة بأجنداتها المتناقضة أحيانًا، إن كان على مستوى الرؤية العامّة للثورة وأهدافها أو على مستوى الطريق لتحقيق هذه الرؤية والأهداف؛ لقد تشتت قوى الثورة وأصبحت فصائل وجماعات متصارعة من المستوى الفكري وصولًا إلى المستوى العسكري، وأصبحت متحكمة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بأدوات ورؤى أبعد ما تكون عن روح الثورة وما أراده السوريّون من ثورتهم؛ تقاتلوا وسقط كثير منهم قتلى في معارك أقلّ ما يمكن وصفها بأنّها هامشية، وتخدم أجندات أبعد ما تكون عن روح الثورة وأهدافها، وكان السكوت عن ممارسات هذه الفصائل واعتبارها جزءًا من مسار الثورة خطأ استراتيجيًا لم ينتبه إليه أكبر منظرو الثورة في تلك المرحلة، حيث أسهم ذلك في زيادة الانحراف عن مسار الثورة وخاصّة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

ولم يكن المستوى السياسي الذي يدّعي تمثيل الثورة على المستوى الدولي، أو لنقل على مستوى المحافل الدوليّة، أكثر رشدًا في التعامل مع ما هو مطروح على طاولات المفاوضات متساوقًا مع رغبة النظام في التلاعب بالوقت وجعله عاملًا أساسيًا في تحقيق سياساته على الأرض، ففي كلّ يوم هناك مبادرة جديدة وطرح جديد بسقف أقلّ ممّا هو مطروح بما تضمنته قرارات الأمم المتّحدة حول سورية، وخاصّة قرار مجلس الأمن رقم 2254. فمن جنيف 1 إلى جنيف 8، إلى سوتشي، إلى آستانا؛ أصبحت سورية أبعد وأصبح مسار الحل السياسي أكثر تعقيدًا، وصار ضياع الوقت وهدر الطاقات أجندة بحد ذاتها تبتعد عن البوصلة شيئا فشيئًا، وتمكّن النظام من التسويق لنفسه، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي أو الدولي. وهنا يجب التوقف والتفكير والبحث عن بدائل حقيقية على المستوى السياسي، للخروج من هذه الدوامة التي لا يخدم البقاء في دوائرها سوى النظام والمتحالفين معه، من خلال إعطائهم المبرّر والشرعيّة لاحتلالهم سورية بحجّة إدارة المباحثات والوصول إلى حلّ.

وفي ظلّ كلّ ذلك الدمار على المستوى المادي، والضياع على المستوى السياسي، والتشتت على المستوى العسكري، لم يبق أمام السوريّين الذين تشربوا معنى الحرّية والكرامة إلّا أن يحافظوا على سردية الثورة وقصتها الأولى، من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وتطويع كلّ الوسائل الممكنة في هذا الاتّجاه، وبث روح التفاؤل بأنّ الأجمل قادم؛ وما تدهور الوضع الاقتصادي وتململ الناس في مناطق سيطرة النظام إلّا بوادر حقيقية على أنّ هذا النظام انتهى، ولم يبقَ منه إلّا الهيكل الخارجي المثبّت بفعل قوى الاحتلال الموجودة على الأرض السوريّة، وما سقوطه إلّا مسألة وقت، وهو قادم.

الباحث والكاتب صبر درويش: الرهان على قوى الثورة السلميّة من الجيل الأوّل والشباب والشابّات الذين ترعرعوا في ظروف الصراع

من شبه المستحيل، تناول الصراع السوريّ المستمرّ منذ نحو عشر سنوات ببضعة أسطر، لذا سأضع هنا بعض الأفكار التي قد يكون من المفيد التوسّع في نقاشها مستقبلًا. لم يتمكّن السوريّون من تحقيق أهداف ثورتهم، على الأقلّ حتّى اليوم، كما لم يتمكّنوا من إجراء تغييرات بنيويّة على بنية النظام السوريّ؛ بالتأكيد هشم الصراع أجزاءً أساسية من النظام، وفكّك بعضًا من جوانبه الأكثر أهمّية كإسقاط مشروعيته الاجتماعيّة على سبيل المثال، إلّا أنّ هذا حدث بكلفة باهظة وآثار ستمتدّ على عقود قادمة.

دُمّرت المدن السوريّة، ودُمّرت معها قوى الثورة الأكثر فاعليّة، ومنذ نهاية عام 2011، ذهب الصراع السوريّ باتّجاه العمل المسلّح، وتدريجيًا تحوّلت الثورة إلى حرب أهليّة، دارت رحاها بين فصائل المعارضة المسلّحة وبين النظام السوريّ وحلفائه روسيا وإيران.

وأميّز هنا ثلاثة فاعلين في المشهد العامّ الذي حكم السنوات العشر الماضية: الأوّل قوى الثورة السلميّة، وهم جيل الشبّان والشابّات الذين وسموا العام الأوّل من الثورة، وكان لهم الدور الأهمّ على صعيد الحراك الثوري، فهذا الجيل من الثوار هو من قاد مرحلة النضال السلمي، وبلور الشعارات الأولى للثورة السوريّة، وله يعود الفضل في اختراع “التنسيقيّة”، وهي الشكل الذي انتظمت فيه قوى الثورة، وتمكّنت من خلاله من تنظيم صفوفها وقيادة دفة الصراع، على الأقلّ حتّى منتصف عام 2012؛ والثاني الجناح العسكري للثورة، فمنذ نهاية عام 2011، بدأت تتبلور في سورية القوى العسكريّة المناهضة لنظام الأسد، بداية مع مجموعات ما دعي بـ “الجيش الحرّ”، ثم عبر تشكيل عدد لا يحصى من الفصائل العسكريّة ذات التوجّه الإسلامي، الذي راوح بين المعتدل وصولًا إلى الفصائل الجهاديّة المتطرّفة؛ والفاعل الثالث هو القوى السياسيّة، التي تمثّلت بكيانين أساسيين هما: هيئة التنسيق، التي اختارت العمل من داخل سورية، وتحوّلت مع الوقت إلى تجمع سياسي يشبه إلى حدّ بعيد الأحزاب السوريّة الرسميّة (أحزاب الجبهة)؛ والائتلاف السوريّ المعارض المُشكّل من قبل جماعة الإخوان المسلمين وحزب الشعب “رياض الترك” بشكلٍ أساسي، مع هيمنة واضحة للإخوان.

حتّى كتابة هذه الورقة، بقيت هذه القوى منفصلة عن بعضها البعض بشكلٍ تامّ؛ فلا جيل الشباب تمكّن من بلورة قوى سياسيّة تعبّر عنه، ولا الفصائل العسكريّة تمكّنت من توحيد جهودها وقواها للعمل معًا على تحقيق أهداف الثورة. وبقيت القوى السياسيّة التي تبلورت أثناء الصراع، ذات نزعة إصلاحيّة (هيئة التنسيق)، وتحت سطوة حزب الشعب والإخوان المسلمين “الائتلاف المعارض”، وبقيت الثورة السوريّة بالاستناد إلى ذلك عاجزة عن بلورة قيادة موحّدة لقواها المنتفضة، وهو ما فسح المجال لنظام الأسد للتعامل مع مجموعة خصوم لا خصم واحد، وهذا كان من أهمّ أسباب نجاح النظام السوريّ في ضرب قوى الثورة وهزيمتها في معارك مختلفة.

بعد مرور عشر سنوات على الصراع السوريّ؛ يُطرح السؤال من جديد: من هي أطراف هذا الصراع؟ لا تقدّم التبسيطيّة شيئًا على هذا الصعيد، كتكرار القول بأنّ نظام الأسد هو الخصم الأبرز للسوريّين، فقد أثبتت السنوات السابقة أنّ للسوريّين خصومًا كثيرين، حتّى إن السوريّين ذاتهم هم سوريّون بالجمع لا بالمفرد. إذن المطلوب إجراء تحليل نقدي يحدّد بدقّة طرفي التناقض الرئيسي في سورية. على صعيد الفصائل العسكريّة المعارضة، وباستثناء تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) الذي شكّل كابوسًا للسوريّين على مدار السنوات الماضية، أغلب الفصائل العسكريّة التي سادت المشهد السوريّ كانت خصمًا لقوى الثورة المنتفضة أكثر من كونها تعبيرًا عنها. يكفي هنا مراجعة ممارسات فصيل “جيش الإسلام” في الغوطة الشرقية فيما مضى، أو فصيل “أحرار الشام” في المناطق التي كان يسيطر عليها، وممارسات “جبهة النصرة” اليوم في محافظة إدلب وريف حلب، على سبيل المثال، كي ندرك أنّ هذه الفصائل لا تُدرج في إطار قوى الثورة السوريّة، بل هي بالضبط في الطرف النقيض.

سياسيًّا، لا شيء يذكر حول هيئة التنسيق، بينما قوى الائتلاف المعارض فأقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنّها تفتقد إلى النزاهة، فعدد كبير من قيادات الائتلاف انخرطت في موجات الفساد المتتالية، وظهر من خلال ممارساتها أنها قوى تعبّر عن مصالح إقليميّة ودوليّة أكثر ممّا تعبّر عن مصالح السوريّين. من بقي في هذا المشهد المعقّد للصراع السوريّ؟ أزعم على هذا الصعيد أنّ ثمّة رهانين يتعلّقان بمستقبل سورية: الأوّل قوى الثورة السلميّة من الجيل الأوّل، والتي لم تتلوث بالفساد وحمل السلاح وبؤر السياسة الانتهازيّة، والمنتشرة اليوم في كلّ أصقاع الأرض، والرهان الثاني يتعلّق بجيل الشباب والشابّات الذين ترعرعوا في ظروف الصراع، واكتسبوا خبرات كبيرة خلال السنوات الماضية. على السوريّين إذًا لملمة قواهم الثوريّة، والاستناد إلى تاريخهم النضالي خلال السنوات الماضية، وبلورة قوى سياسيّة تكون ممثّلة شرعيّة لقوى الثورة السوريّة من جهة، وقادرة على وقف الحرب والبدء في مرحلة البناء، من جهة ثانية.

إن المهمة في غاية التعقيد والصعوبة، خصوصًا إذا ما أخذنا حجم الخلافات الدائرة في أوساط السوريّين بعين الاعتبار، إلّا أنّها ليست مهمة مستحيلة. من أين يبدأ العمل؟ أقترح هنا ضرورة انفتاح الشباب السوريّين على الحوار، ووضع أهداف محدّدة كالاتفاق على تصوّر سياسي عامّ يجمع أكثر ممّا يفرق، والترفع عن الغايات الشخصية ووضع مصلحة سورية ككلّ في المقدّمة، وهو شيء ربّما يخفف من حدة الخلافات في أوساط السوريّين، ويقلّل من تسرب الفساد إلى صفوفهم.

الناشطة السياسيّة والنّسويّة لينا وفائي: في سورية الآن ثورة مضادّة

بعد عشر سنوات من انطلاق الثورة السوريّة، وبعد ما وصلنا إليه؛ يلحّ دومًا سؤال: ما الذي اخطأنا به وأوصلنا إلى ما نحن إليه؟ وهل كان بالإمكان تغيير المسار والنتائج؟ انطلقت الثورة السوريّة بشكلٍ عفوي وانفجاري، وحملت شعارات جامعة، الحرّية والكرامة، سرعان ما تطوّر الشعار ليصبح إسقاط النظام، إذ أدركت الجماهير الثائرة بعفويتها أن لا إمكانية للوصول إلى الحرّية والكرامة المنشودين بوجود هذا النظام الذي اعتمد الحلّ الأمني منذ البدء، فقتل واعتقل كثيرين. وسرعان ما وجدت الثورة نفسها في مواجهة هذا القمع الذي دفعها إلى التسلّح، وتحوّلت شيئًا فشيئًا إلى حربٍ تداخل فيها الداخل مع الخارج، وظهرت الفصائل الإسلاميّة بتنوّعاتها، المعتدلة منها والمتطرّفة والأكثر تطرفًا، كما تدخلت دول عدّة في الوضع السوريّ، فأصبحت الحرب السوريّة حربًا أهليّةً إقليميّةً دوليّةً مركبة.

إنّ أسباب ما وصلت إليه ثورتنا ليست ذاتية فقط، وإن كانت هناك بعض الأخطاء هنا وهناك، ولم يكن باستطاعتها تغيير مصيرها كاملًا، حيث إنّ مواجهة نظام قمعي وشمولي وانتقامي كهذا، بالطرق السلميّة، أمرٌ صعبٌ بل قد يصل إلى حدِّ المستحيل، والتسلّح دومًا يجلب التدخل الخارجي والدعم المالي للسلاح الذي يأتي مع أجنداته، وفي الحالة العربيّة لن يكون على الأغلب ديمقراطيًا، ولن يكون بالأحرى إلّا إسلاميًّا. ولكن هذا لا ينفي وجود كثير من الأخطاء التي وقعنا بها، كديمقراطيّين، ولو أننا تجنبناها لكان من الممكن أن تخفف قليلًا من المصير الذي آلت إليه الحال.

عقد الديمقراطيون تحالفات لقيادة الثورة، وهذا في المسألة السياسيّة مفهوم وصحيح، لكنّهم ذابوا في هذه التحالفات، ولم يميزوا أنفسهم عن حلفائهم. فدافع بعضهم حتّى عن (جبهة النصرة)، على أرضية أنّ كلّ بندقية في مواجهة الأسد هي خدمة للثورة، متناسيين أنّ هناك دومًا ثورات مضادّة تبتلع الثورة وتحوّلها عن مسارها، وهذا ما حصل في سورية. ففي سورية الآن، ثورة مضادّة تتمظهر في كلّ التنظيمات الإسلاميّة التي ابتعدت عن مطالب الثورة الأساسية، ونظام طغمة كان وما زال يريد عودة الجميع إلى حظيرة الطاعة. لم يستطع الديمقراطيون خلق جسور تواصل بينهم، فغرقوا بخلافاتهم المرحلية دون النظر إلى أنّ ما يجمعهم في المدى البعيد، من رؤية لسورية الديمقراطيّة، سورية الغد، دولة المواطنة الكاملة، هو الأهمّ، وهو ما يجب أن تُسخّر له كلّ تحالفاتهم المرحلية، وقد أدّى ذلك إلى تشرذمهم وتفرقهم. إنّ أربعين عامًا من القمع المعمم أبعد السوريّين عن العمل والفعل السياسي، لذلك وبسبب عفوية وفطرة الشعب السوريّ وعدم خبرته السياسيّة، كان من الأسهل مخاطبته بشعارات عاطفية تمسّ حياته ووجدانه واستغلال إيمانه الفطري، وهذا ما نجح فيه الإسلاميّون، وهو الذي جعل أيضًا الديمقراطيّين أبعد عن الفعل السياسي المباشر، وخلق أمامهم تحدّيات للوصول إلى القواعد الشعبية، وجعلهم أقلّ تأثيرًا، وفي ظلّ تشرذمهم الذي تحدّثنا عنه آنفًا، زادت عزلتهم وضعف تأثيرهم.

خلقت الثورة السوريّة في أعوامها العشر، بالرغم من كلّ الآلام التي مرّت بها، أو بفضل هذه الآلام والتضحيات، خلقت أفقًا مفتوحًا يمكن العمل من خلاله، فهي كسرت مملكة الصمت، ولن يستطيع النظام -بأيّ حال من الأحوال- العودة إلى ما قبل 2011، هذا ما يجب إدراكه والعمل عليه. فيجب استغلال انفتاح الساحة السوريّة على إمكانية العمل السياسي، والعمل على تحالفات بين الديمقراطيّين، قد تكون هذه التحالفات عريضة، ويتم الاتفاق فيها على بنود عريضة فقط، وذات مهام مشتركة محدودة، أو أكثر توافقًا وذات مهام آنية ومستقبلية حتّى الوصول إلى الاندماج بين التشكيلات المتعدّدة. ما زال طريقنا للوصول إلى مطالب الثورة الحقيقة، التي انطلقت ثورتنا من أجلها، الحرّية والكرامة، ما زال الطريق طويلًا، ولا يمكن تحقيقه إلّا بدولة مواطنة كاملة، دولة لكلّ مواطنيها بغض النظر عن العرق والجنس والدين والإثنيّة، دولة ديمقراطيّة فيها تداول سلطة سلمي. ولكن يجب استغلال الصيرورة التي فتحتها ثورتنا، والعمل بكلّ الطرق الممكنة سياسيًّا، عبر القنوات الداخليّة مع الشعب السوريّ، وخارجيًّا مع المجتمع الدولي الذي يمكن أن يدعم مطالبنا هذه، للحصول على كلّ ما يمكن عبر طريقنا الطويل إلى سورية المستقبل.

الباحث والكاتب الأكاديمي د. حسام الدين درويش: مراجعات نقدية لاستشراف آفاق المستقبل

قد يكون مبتذلًا القول بأنّ “الثورة السوريّة قد أُفشلت أكثر من كونها فشلت. ولم يقم بهذه الإفشال الأطراف المعادية للشعب السوريّ فقط، ومن بينها النظام الأسدي والميليشيّات السوريّة وغير السوريّة المتحالفة معه، ودولتا روسيا وإيران خصوصًا، بل أسهمت في هذا الإفشال مجموعة “أصدقاء الشعب السوريّ” أيضًا. فهؤلاء الأصدقاء “المزعومون” كانوا أصدقاء مباشرين أو غير مباشرين لـ (داعش والنصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام) وغيرها من الفصائل الإسلامويّة، أكثر من كونهم أصدقاء للثائرين والناس المقصوفين والمحاصرين والمجوَّعين والمهجَّرين.. إلخ. وكانوا حريصين على عدم سقوط/ إسقاط النظام أكثر من حرص بعض أقوى حلفائه. وإذا اتبعنا مبدأ “نصل أوكام” ربّما يكفي ذكر ما فعله الأصدقاء و/ أو الأعداء المذكورون لتفسير مسألة فشل أو بالأحرى إفشال الثورة السوريّة. لكنّنا لا نعتقد بضرورة استخدام ذلك النصل في هذا السياق، بل نرى ضرورة ممارسة أشدّ أنواع النقد الذاتي لممارسات “المؤسّسات السياسيّة المعارضة”، وكل الأطراف المنتمية أو الممثلة للثورة السوريّة، بحقِّ أو بدونه، ولقيمها وأفكارها وإسهامها في تحويل مفهوم “المعارضة” من كونه شرفًا ليس سهلًا ادعاؤه أو نيله، إلى كونه وصمًا يتجرأ كثيرون على التبرؤ منه، بحجّة أنّ المعارضة أصبحت أقرب إلى أن تكون قفًا للسلطة بدلًا من أن تكون نقيضًا لها.

ومهما بلغت شدّة النقد الذاتي المذكور، ينبغي لنا ألّا ننسى أنّ الأداء الثوري للشعبين التونسي والمصري، على سبيل المثال، لم يكن أفضل من الأداء الثوري للشعب السوريّ الثائر، وأنّ ذلك لم يمنع من أن تفضي الثورة المصرية إلى إسقاط رأس النظام السياسي المصري، وأن تُحدث الثورة التونسية تغييرًا أكثر عمقًا وإيجابيةً في النظام السياسي التونسي، لم تقتصر على إسقاط رأس النظام فحسب، بل امتدّت إلى إنتاج مرحلة تحوّلٍ ديمقراطي، جزئي وبطيء، لكنه حقيقي وفعلي. في المقابل، لم تفضِ ثورة الشعب السوريّ إلى أيّ تغيير إيجابي في ماهيّة النظام السياسي السوريّ، لا بل إنّ إضعاف النظام الأسدي قد ترافق مع إضعافٍ للدولة السوريّة ذاتها. والخلاصة التي بيّنتها كثير من الدراسات والأبحاث، في هذا الخصوص، أنّ مسألة نجاح الثورة أو فشلها لا تتعلق، فقط أو بالدرجة الأولى، بممارسات الثائرين، وإنّما تتعلق، أساسًا أو خصوصًا، بطبيعة النظام السياسي/ الأمني/ العسكري، ومدى حصول انقسامٍ فيه بين أفراد أو أطراف نخبته، وماهيّة رد فعله على الثورة عليه.. إلخ.

بعيدًا عن لغة الفشل والإفشال، أفضت الثورة السوريّة إلى نشوء أوضاع جديدةٍ، أصبح من الضروري أخذها في الحسبان عند أيّ تفكيرٍ في “القضيّة السوريّة”. والمقصود بالأوضاع الجديدة حالة الشتات السوريّة وأوضاع ملايين السوريّين في المناطق الخاضعة للنظام الأسدي أو لميليشيّات (قسد) أو (الجيش الوطني)، أو في دول الجوار وفي مناطق شتاتهم أو لجوئهم الأخرى. هذه التغيّرات الكبيرة، والمأساوية في كثيرٍ من الأحيان، في أوضاع السوريّين تحتم تبني رؤى وإستراتيجيات جديدة لا تبحث عن تصحيح مسار الثورة وإعادة الروح لها، لأنّ العودة أو الإعادة المذكورة لم تعد أمرًا معقولًا أو ممكنًا أصلًا؛ بل تبحث عن أفكارٍ ورؤىً وإستراتيجيات ومؤسّسات جديدة تسعى إلى توحيد جهود السوريّين الساعين إلى التأثير الإيجابي في القضيّة السوريّة، وتحقيق الانسجام والتكامل بين هذه الجهود، في الشتات وفي الداخل، في الوقت نفسه.

يصعب على السوريّين المتبنّين لقيم ثورة 2011 تحمّل مسؤولية الحفاظ على الهويّة الوطنيّة ووحدة الجغرافيا السوريّة؛ لأنّ كل القوى السوريّة السياسيّة والعسكريّة الفاعلة أصبحت خاضعة خضوعًا جزئيًّا أو كاملًا لقوى أجنبية تتحكّم فيها وتفرض عليها أجندتها. ومع حالة التشظي والتفتت والتمزّق التي أصابت كلًّا من الهويّة الوطنيّة والجغرافيا السوريّة، أصبح ضروريًا امتلاك وعيٍ أكبر بماهيّة الوضع القائم والابتعاد عن اجترار لغةٍ لا تتناسب مع تلك الماهيّة ومتطلباتها. وفي انتظار أن تتضمن عقابيل ثورتهم وتداعياتها المستمرّة، حتّى الآن، ما يساعد في خدمة قضيّة هذه الثورة، من المفيد العمل على تقديم سردٍ ومراجعات نقدية لما سبق، من ناحيةٍ أولى، وعلى إنتاج قراءات وصفية وتقويميّة للواقع الراهن، من ناحيةٍ ثانيةٍ، وعلى استشراف آفاق المستقبل، والاستعداد له، والبحث عن سبل التأثير الإيجابي فيما هو أتٍ، من ناحيةٍ ثالثةٍ.

الباحث والكاتب طارق عزيزة: إعادة الاعتبار للوطنيّة السوريّة كأساس جامع للسوريّين

مع الذكرى العاشرة للثورة السوريّة، يبدو الإحباط الشديد مخيّمًا على غالبية السوريّين المناهضين لنظام الإجرام الأسدي، نتيجة الشعور العميق بالعجز والخذلان، والأوضاع الكارثية التي يعيشها معظم الشعب السوريّ، النازح والمهجّر، وأيضًا من تبقّى مقيمًا في دياره، سواء تحت حكم نظام الأسد أو غيره من سلطات الأمر الواقع الأخرى. فالثورة التي انطلقت طلبًا للحرّية وسعيًا إلى الخلاص من ربقة الاستبداد أصبحت ذكرى أليمة، بعد أن قوبلت بما لا يمكن وصفه وما لا طاقة لبشر على احتماله، من صنوف الجرائم ضدّ الإنسانية، على أيدي نظام الأسد ورعاته وحلفائه من دول وميليشيّات.

ما من شكّ في أنّ ظروفًا موضوعية بالغة التعقيد أثّرت في مجريات الثورة السوريّة، وأفضت بها إلى مآلها الكارثيّ المؤسف، خصوصًا بعد انزلاق الأوضاع إلى الحرب المفتوحة متعدّدة المستويات. هناك ظروف متعلّقة بموقع سورية ضمن شبكة المصالح الدوليّة والإقليميّة المعقّدة، تكاملت مع وحشيّة نظام الأسد المنفلتة من أيّ رقابة أو محاسبة حتّى اللحظة، ولم يكن ممكنًا بأيّ حال استمرار صمود المدنيين في وجه آلة القتل إلى ما لا نهاية. لكن، على مستوى آخر، جرى إقصاء مشروع الثورة التحرّري المدني الديمقراطي بفعل قوًى وجماعات جاءت بمشاريع نقيضة، رفعت رايات الاستبداد المطرّز بالقداسة الدينيّة، فوسمت المشهد السوريّ بطابعها، مجسّدةً عن جدارة ما يُعرف بـ “الثورة المضادّة”. تعزّز دورها وتكرّس بدعم أطراف خارجيّة، أرادت الاستثمار في الصراع السوريّ لغايات ومصالح لا صلة لها بثورة السوريّين، وتوقهم إلى التغيير والحرّية. وبعد كلّ ما حاق بالسوريّات والسوريّين من أهوال، لا يجوز الاكتفاء بإلقاء اللوم في ما جرى ويجري على التخاذل الدولي ووحشيّة النظام وداعميه؛ فالمجتمع الدولي لم يكن يومًا “جمعية خيرية”، ونظام يقوم في جوهره على التوحّش والإجرام كالنظام الأسدي ما كان ليقابل ثورةً ضدّه إلّا على النحو الذي فعل ويفعل. وبالتالي، ينبغي التفكير بطريقة نقديّة معمّقة، بعيدًا عن العواطف والشعارات، لتَبيّن مواضع القصور الذاتي وتجاوزها، عوضًا عن تجميلها والاكتفاء بشتم الشروط الموضوعية، ولا بدّ من تحديد المسؤوليات، بدلًا من الالتفاف عليها والتهرّب منها، كي لا نعيد إنتاج الفشل تلو الفشل.

من المؤسف أنّ التفكير النقدي لم يكن مرحبًا به في صفوف الثورة، حيث إنّ من حملوه من المعارضين والثوار، نساءً ورجالًا، كانوا الأكثر تهميشًا، لا سيما في أجواء الاندفاع والحماسة التي سادت خلال المراحل الأولى للثورة، وبدء إفلات البلدات والمدن المنتفضة تباعًا من قبضة الأسد. وكثيرًا ما مورس “التشبيح الثورجي” ضدّهم، بدل الإنصات إلى تحذيراتهم المبكّرة من خطورة ما كان يحدث، وما سيجرّه على الثورة من عواقب وخيمة. المفارقة أنّ التعمية على الانحرافات والمظاهر السلبية التي أسهمت بشكلٍ أساسي وكبير في تعثّر الثورة وانتكاستها، والمبالغة في تبريرها وإسكات منتقديها، كانت تجري تحت ذريعة “عدم الإضرار بصورة الثورة”! وباعتبار أن كلّ أسباب وموجبات الثورة ضدّ الأسد ما زالت قائمة، بل إنّها تضاعفت تجاهه، وامتدّت لتشمل معه “الفصائل الثوريّة” وهيئات المعارضة المتهافتة، فإنّ المطلوب هو التفكير الثوري، أي التفكير النقدي، الذي يواجه الحقائق ويتعامل معها عبر النقد المجرّد من الانحيازات الشعورية والعاطفية والمصالح الحزبية. هذه مقدّمة لازمة وضرورية للتفكير في ما يمكن عمله، في مناطق النظام قبل غيرها، لمقاومة هذا الواقع المرير، والبحث عن بصيص أمل. ولعلّ ما يجب عمله أوّلًا، قبل كلّ شيء، القطع نهائيًّا مع العدّة النظرية والعملية، وما نتج عنها من نهج وممارسات جاءت بها التشكيلات السياسيّة والعسكريّة التي سادت المشهد طوال السنوات الماضيّة، مدّعيةً تمثيل الثورة والمعارضة. حان الوقت للتبرّؤ منها ومن ومشاريعها إلى غير رجعة (لمن لم يفعل بعد)، ولا سيّما أنّها كشفت عن تبعية ذليلة وانمحاء تامّ أمام إرادات الداعمين و “الأخوّة” التي “بلا حدود”. هذا القطع سيعني، في جانب منه، إعادة الاعتبار للوطنيّة السوريّة، كأساس جامع للسوريّين، ويقع على تضادٍّ مع كلّ ما يمثّله نظام الأسد و”المعارضات” التي شابهته في مسلكها وممارساتها، وارتهانها -مثله تمامًا- لقوى احتلال خارجيّة.

الكاتب والمحلّل السياسي درويش خليفة: إنقاذ الثورة السوريّة يبدأ من قمة الهرم

في صيف 2019، سألتني صحفية روسية معارضة: ما الذي دفعك للتظاهر ضدّ نظام بشار الأسد؟ أجبتها بهدوء، بصرف النظر عن كلّ الانتهاكات التي ارتكبتها عائلة الأسد بحقِّ الشعب السوريّ، إنّي أشعر بالعار من جراء توريث الحكم في الجمهوريّة السوريّة. بالفعل، عندما كنت أتواصل مع أقراني من الشباب العرب، لا أجد مبررًا لما حدث في البرلمان السوريّ في حزيران/ يونيو عام 2000. وفي الذكرى العاشرة من الثورة السوريّة، أجد كثيرًا من الناس يتحدّثون عن فشل الثورة، وهذا لا يعيبها ويعيب الثوار. وبرأيي من الضرورة الاعتراف بالفشل، من أجل وضع النقاط على الحروف، والعودة بكلّ ثقة وروح وطنيّة لمواصلة طريق التحرّر وبناء الدولة العصرية، التي تحفظ كرامة الوطن والمواطن. ولكن في المقابل لا أستطيع تجاهل وجود جيوش خمس دول مختلفة الرؤى والمصالح على الجغرافيا السوريّة، وتهجير ولجوء نصف الشعب السوريّ، والنصف الآخر يعاني إمّا الاعتقال والتغييب القسري وإما البحث عن لقمة عيشه وسط الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها السوريّون كافّة. وكي لا نجلد ذاتنا -جمهور الثورة والمعارضة السوريّة- علينا التوقف عند بعض المحطات التي كانت عائقًا أمام إسقاط النظام، وقد بدأت مع التدخل الإيراني ووقوفهم إلى جانب بشار الأسد ونظام حكمه بكلّ قوّتهم وأسلحتهم وتزويده بالأدوات اللازمة لقمع الثورة وتصفية أيّ صوت ينادي باحتواء الانتفاضة الشعبية، كما فعلوا بالشراكة مع ماهر الأسد في قتل خلية الأزمة منتصف عام 2012. فضلًا عن تدخلهم المباشر مع جيش نظام الأسد لقتل الشعب السوريّ منذ الأشهر الأولى للثورة، أمام مرأى العالم أجمع وصمت دولي مريب، تخللته بعض الإدانات الخجولة آنذاك من دول أوروبية وإدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. ولأنّ إيران قريبة من القوى الجهاديّة المتشدّدة، ولأن لديها سجلًا تاريخيًا في التعاطي معها، فقد لعب قادة الحرس الثوري دورًا في إطلاق نظام الأسد سراح متشدّدين إسلاميّين من سجونه، لينضموا إلى الحراك المسلّح المعارض ويكونوا عاملًا مساعدًا في إظهار الثورة على أنّها إسلاميّة ذات طابع متشدّد، وبالفعل، هذا ما حصل، ولو نسبيًا، عند وصول هؤلاء إلى المناطق الثائرة وتسلّمهم زمام العمل العسكري الجهادي الذي لا يتسق مع طموحات وتطلّعات الشعب السوريّ المنادي بالحرّية والكرامة والعدالة الإنسانية، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف بوجود نظامٍ يعمل على زيادة عدد الأفرع الأمنية والسجون، على حساب تنمية المجتمع وبناء الجامعات والمستشفيات وإيجاد الحلول للبطالة ومكافحة الفساد المستشري في جسد الدولة السوريّة وشخصياتها العاملة.

ومن ناحية أخرى، لم تسهم مؤسّسات ما يسمّى بالمعارضة السياسيّة التي نشأت خارج الحدود السوريّة في تقديم نموذج متطوّر، بالرغم من توفر جميع الأدوات المساعدة والزخم الدولي الذي رافقها في السنوات الأولى. حيث إنّهم تعاملوا مع الثورة على أنّها حالة طارئة، وأنّ مسؤولية إسقاط النظام تقع على عاتق المجتمع الدولي ومؤسّساته العسكريّة والسياسيّة. وفي ضوء ذلك، إذا ما أرادت الثورة العودة إلى مسارها الصحيح، فعلينا العمل جاهدين لتقديم خطاب سياسي يتناسب والمرحلة، ونبذ الخطاب المتشدّد الداعي إلى معاداة الغرب والعرب في آنٍ واحد، والتركيز على احترام حقوق الإنسان، وتنمية المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وإعطاء نموذج يتناسب وسورية التي نطمح للوصول إليها جميعًا. وذلك من خلال تفعيل وترسيخ الديمقراطيّة السياسيّة داخل مؤسّسات المعارضة، واعتماد صندوق الانتخاب وسيلةً للوصول إلى قمة هرم المعارضة، وليس تقليد النظام لكيلا تظهر المعارضة بمظهر المنهزمة في معركة التغيير أمام الشعب السوريّ. ولتوضيح ذلك، نشير إلى أنّ الإصلاح السياسي الحقيقي الذي يؤدي إلى إنقاذ الثورة السوريّة يبدأ من قمة الهرم، وليس من القاعدة الشعبية التي لا تزال تحافظ على مبادئ الثورة وطهرانيتها، على عكس القوى السياسيّة ومنظمات المجتمع المدني التي أصبحت رهينة شخوصها وداعميها. وإنّ مرور عقد من الزمن قبل أن يسقط النظام الاستبدادي لا يشكّل عائقًا أمام المضي قدّمًا في عملية التحرّر الوطني والتغيير السياسي، إذ إن الحرّية بالنسبة إلى السوريّين مطلبٌ لا تقل أهمّيته عن الطعام والشراب. وهذا ما يدفعنا للعمل على مواصلة النضال وتجديد الهويّة الوطنيّة السوريّة، في ظلّ ظهور فواعل الليبرالية عند رواد التغيير، من خلال توفر مقوماتها: الإعلام المستقل، منظمات المجتمع المدني، مجالات التعليم الحديثة، المراكز البحثية، قادة مجتمعيين، منظمات حقوق الإنسان.. إلخ. وعلينا عدم إغفال ملف العدالة الذي يسهم في محاسبة المتورطين وإعادة الحقوق لأصحابها، حيث إنّ العدالة تعمل على تنمية الشعور الوطني لدى شريحة الشباب، وتشجعهم على الانخراط في العمل السياسي، وهو ما أوضحه جون راولز في تصوّره، حيث قال: “أزمة الشرعيّة السياسيّة وشعور الأفراد بالحرّية ورغبتهم في المشاركة لا يمكن أن تحدث إلّا من خلال إعادة النظر في مفهوم العدالة”.

الباحث والكاتب د. محمد جمال طحان: المثقّفون وامتحان الثورة السوريّة

من المبكّر جدًا الحكم على الثورة السوريّة، من حيث نجاحها أو فشلها، فهي ما تزال مستمرّة. ويشعر الشارع العربي بالإحباط نتيجة الواقع الذي يشير إلى أنّ ثورات الربيع العربي تُسرق تباعًا، ويستغلها تجار الحروب. كما أنّ اندحار طاغية ما بالموت أو بالتنحي لم يغيّر شيئًا من الواقع المتردّي الذي تعيشه شعوب الدول العربيّة، وهذا يدعونا لإعادة التذكير بمعنى الثورة وأهدافها. الثورة لا تعني استبدال مستبدّ بآخر، وإنّما تستهدف تغييرًا جذريًا في أسلوب الحكم، وفي بنية المجتمع والدولة. ولم تكن تعني عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام” تغيير شخص وحسب، وإنّما تعني إسقاط الجمود في التفكير وتقويم السلوك. لم يفهم الطغاة، حتّى الآن، أنّ القتل والاعتقال والتعذيب قد تقضي على حياة الثوري، لكنّها لا تقضي على الثورة. الثورة فكرة والفكرة لا تموت. صحيح أنّ ثورات الربيع العربي لم تحقّق أهدافها حتّى الآن، ولكنّها أحدثت وعيًا جديدًا في المجتمع، ومنحت الناس رؤية جديدة للعالم جعلتهم يعيدون النظر في كلّ شيء، بدءًا من تقديسهم للدعاة الأدعياء الذين تبيّن أنّهم دجالون يعملون خدمًا لدى السلطة التي تفسح لهم مجال الشهرة، مرورًا بالمثقّفين المدجنين والتجار الفاسدين المفسدين.

الفعل الثقافي تراكمي اجتماعيًا وبطيء تاريخيًا، ولا تظهر نتائجه النوعية إلّا متأخرة. المهم أن نحرص على تثبيت ما يصلح للمجتمع من أهداف مثل: الكرامة والحرّية والعدالة الاجتماعيّة والدستور والتسامح الديني والنشاطات الأهليّة وحقوق الإنسان. المثقّف الجادّ والمثابر في ضوء الثورة يمتحن جهازه الثقافي والمعرفي والفكري بما يحمله من التزامات ومسؤوليات على الواقع المتحرك، ويعيد النظر في جهازه المعرفي والثقافي على ضوء تجربته مع الواقع ومتغيّراته ومستجداته. ويستخدم جهازه في نقد الواقع حين يرى لزومًا لذلك. إنّ الثورة قد تسير إلى أهدافها ببطء شديد، وعلى المثقّف في هذه المرحلة تقوية الإيمان بالنصر، وإشاعة الصبر وإبعاد الناس عما يؤدي إلى الإحباط والقنوط.

إنّ الهويّة الثقافية تتكوّن من بضعة عناصر مرتبطة ببعضها، وأيّ خلل في أحدها يؤدي إلى خلل في باقي مكوّناتها، ومن أبرز هذه المكوّنات: اللغـة؛ فاللغة جزء لا يتجزأ من ماهيّة الفرد وهويّته، وهي تتغلغل في الكيان الاجتماعي والحضاري لأيّ مجتمع بشري، وتمتد إلى جميع نواحي الحياة فيه. فالعلاقة بين اللغة وبين الهويّة الثقافية علاقة قويّة لا تنفصم، ولهذا كان من أهمّ مقاييس رقيّ الأمم مقدار عنايتها بلغتها. واللغة العربيّة تكتسب أهمّية خاصّة، بوصفها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. وهذا ينقلنا إلى مكوّن ثقافي مهم، هو الدين، فهو الذي يحدّد للأمة فلسفتها الأساسية عن سر الحياة وغاية الوجود. فللتعاليم الدينيّة تأثيرها العميق والشامل في هويّتنا الثقافية، وإنّ التوحيد بمعناه الشامل يمثّل أبرز ملامح هذه الهويّة. والتديّن هنا لا يعني ممارسة الشعائر الدينيّة وحدها، بل هو موقف من ثوابت كثيرة، منها ما يرتبط بالأسرة ومكوّناتها. وإنّ التاريخ، الذاكرة، هو الذي يميز الجماعات البشريّة بعضها عن بعض. فكلّ الذين يشتركون في ماض واحد يعتزون به ويفخرون بمآثره؛ يكونون أبناء أمة واحدة، فالتاريخ المشترك عنصر مهم من عناصر المحافظة على الهويّة الثقافية التي تتعزز من خلال تكاتف الأسرة والمدرسة، ولا تتناقض مع اندماج السوريّين مع محيطهم الجديد الذي يعيشون فيه، نتيجة التهجير الذي فرضته حالة الحرب التي ما زال يعانيها السوريّون في كلّ مكان.

مركز حرمون

————————

عقد على اندلاع الثورة السورية، ماذا نستفيد؟/ راتب شعبو

في العموم، يمكننا القول إن السنوات العشر الماضية شهدت ذروتين للثورة السورية: الأولى ذروة سياسية وأخلاقية بلغتها الثورة سريعًا (في غضون أسابيع قليلة)، أربكت النظام ووضعت مستفيديه وفاسديه في حالة حرج سياسي وأخلاقي أمام المجتمع (اضطر كثيرون منهم إلى إخفاء مظاهر استفادته من النظام وامتيازاته وفساده)، ودفعت النظام، إلى جانب سياسة قمع التظاهرات قمعًا تمييزيًا بحسب المناطق والأوساط، إلى اتخاذ إجراءات احتواء سريعة، مثل زيادة الرواتب، وفتح باب التوظيف واسعًا أمام الشباب، والاستجابة للمطلب الكردي بمنح الجنسية للمجردين الكرد .. إلخ.

كما لجأ النظام إلى طرق غير مباشرة، مثل التساهل مع الأنشطة الاقتصادية غير القانونية، ولا سيّما في مجال مخالفات البناء والبناء العشوائي، لإشغال الناس عن المشاركة في التظاهرات. هذا فضلًا عن تحريك مباشر للعصبيات الطائفية واستخدام الإعلام لخلق حالة غريبة من التوجّس والحيرة والخوف لدى الناس، بنشر قصص غريبة عن أشخاص وسيارات ومندسّين ومؤامرات.. إلخ، جعلت الأهالي يشكّون في أي شخص ويرتابون من أي حركة ويعززون أبواب بيوتهم بالحديد. كان الإفلاس السياسي للنظام صريحًا، في تلك المرحلة، ولم يكن لديه خطاب سياسي يواجه به مطالب التظاهرات بالتغيير.

الذروة الثانية كانت ذروة عسكرية، استغرق الوصول إليها سنوات. فمع التحول العسكري في الثورة، وصل الأمر، كما هو معروف، إلى حد أن النظام خسر حوالي ثلثي مساحة البلاد لصالح تشكيلات عسكرية معارضة إسلامية الطابع، إضافة إلى القوات الكردية في شمال وشرق سورية. لم تعد تنفع النظام، مع هذا الوضع، لا المساعدة الإيرانية ولا التدخل المباشر لـ “حزب الله” اللبناني، فاضطر إلى الاستعانة بالروس في آخر أيلول/ سبتمبر 2015، وهو على حافة السقوط، كما كشف لاحقًا وزير الخارجية الروسي.

ترافقت كلٌّ ذروة من هاتين الذروتين بنقطة ضعفٍ أضعفت فاعليتها في التغيير. الذروة السياسية والأخلاقية ترافقت بضعف القدرة على تغيير النظام، لأن أجهزة الأمن والجيش ظلت، بالغالب، على ولائها. وأمام القمع المتصاعد، كان لا بد لهذه الذروة أن تخبو، إما لجهة التراجع، أو لجهة تغيير الاتجاه نحو تبني العنف المضاد.

الذروة السياسية والأخلاقية أربكت النظام، إلا أنها لم تتمكن من تفكيك لحمته الداخلية، ولم تستطع، بسبب تركيبة النظام وتاريخه، نقل صراع الشعب السوري ضد النظام إلى صراع فعال داخل النظام نفسه، لأنها لم تجد حليفًا لها داخل البنية الصلبة للنظام، ولا سيما داخل الجيش.

أما نقطة الضعف التي رافقت الذروة العسكرية، فهي دخول الثورة في ثوبٍ إسلامي وإسلامي متطرف، جعلها محطّ رفض متزايد، في الغرب، وفي الداخل أيضًا، حيث راحت القوى العسكرية الإسلامية الطابع تعزز الصورة التي سبق أن رسمها النظام لجمهوره عن الثورة، بوصفها حركة إسلامية ذات دوافع طائفية. هذا فضلًا عن اندراج الثورة العسكرية في سياق أحلاف إقليمية من موقع تابع؛ فكان تغير طبيعة الثورة متناسبًا مع صعودها إلى ذروتها العسكرية. على هذا، ترافقت القوة السياسية والأخلاقية مع ضعف مقدرة مادية، وترافقت الذروة العسكرية مع ضعف مقدرة سياسية وأخلاقية. أي أن الذروتين كانتا منفصلتين ولم تتوافقا، وكان لهذا أثره في ضياع ريح الثورة وتعثرها اللاحق.

السؤال: هل يمكن لهاتين الذروتين أن تجتمعا؟ بوضوح أكثر، إذا كنّا أمام طغمة حكم عصبوية فاسدة، لا تتراجع أمام ثورة سلمية، مهما حازت من وزن معنوي، فسيصبح التحول العسكري في الثورة أمرًا شبه محتوم، فهل يمكن للثورة أن تحافظ على وزنها المعنوي والسياسي في تحولها العسكري؟ هل توجد ثورة مسلحة قادرة على احترام المعايير الأخلاقية، وإن بحدود معقولة، في صراع حياة أو موت مع نظام؟

جوابنا يميل إلى النفي. للصراع العسكري منطقه الغالب الذي يقوم على الانضباط الشديد، وهذا ينشئ علاقات تسلط لا محيد عنها. ويحتاج الصراع العسكري إلى إحياء “عصبيات” قديمة (قومية أو دينية أو مذهبية) أو خلق عصبيات حديثة (تحويل الفكر السياسي للجماعة إلى نوع من الديانة) تشدّ المقاتلين إلى القتال والتضحية، ولا سيما أن المقاتلين، في الغالب، هم من مستويات ثقافية دنيا. أصلًا لا يتوافق التكوين العسكري والعمل العسكري مع حرية التفكير بأي حال، لا وسط التشكيل العسكري، ولا وسط البيئة التي ينشط فيها. والنتيجة هي خنق أيّ تفكير حر أو نقدي أو مستقل، ونشوء علاقة إخضاع للمجتمع الذي توجد فيه بدواعٍ أمنية.

ومن شبه المستحيل منع ارتكاب أفعال جرمية ضد “العدو”، سواء بدافع الانتقام أو بغاية إرهاب الطرف الآخر. هذا فضلًا عن الحاجة إلى التمويل (من أجل التسليح ومن أجل إعالة المقاتلين) وهو ما سيتم إما عن طريق دعم خارجي ويتسبب بتبعية للداعمين، وإما عن طريق النهب والضرائب وفرض الخوات، وفي الحالات كلها، يجد المقاتل نفسه في محل أولوية تتيح له التسلط على المدنيين. وسوف يزداد الوضع سوءًا، كلما زادت مدة الكفاح المسلّح وترسخت متطلبات الصراع العسكري.

في النهاية، حتى لو افترضنا أن المعارضة العسكرية تمكنت من الاستيلاء على الحكم، فالراجح أن تفرض “البنية العسكرية” نفسها على الدولة، ذلك أن هناك كثيرًا من الأسباب التي تبرّر للعسكريين الجدد “تأجيل” المشاركة المدنية الفعلية في الحكم: ضرورة فرض حكم حازم يعالج انقسام المجتمع ودماره ويضع حدًا للفوضى ويلاحق الفلول ويستعيد الاستقرار.. إلخ. وإذا كان ثمة منطق في هذه المبررات، فمن شبه المؤكد أن هذا “التأجيل” سيكون أبديًا، ولا ينتهي إلا على يد تشكيل عسكري مشابه، وبالطريقة نفسها التي جاء بها.

إذا كانت الثورة السلمية لا تستطيع إسقاط نظام مثل نظام الأسد، وإذا كانت الثورة العسكرية لا تقود، إذا نجحت في إسقاط النظام، إلى نظام حكم ديمقراطي تشاركي، فما السبيل إلى الخلاص؟

يصبح هذا السؤال أكثر صعوبة، إذا أخذنا في الحسبان أن الثورة السلمية التي تمكّنت من إسقاط نظام مبارك في مصر لم تنتهِ إلى تأسيس ديمقراطية، بل ارتدت إلى نظام عسكري أسوأ من نظام مبارك.

يمكن القول، باستقراء مباشر، إن الرفض المفاجئ للاستبداد بعد تسليم طويل لا يخلص من الاستبداد الذي ترسخ طويلًا في الواقع، كما في العقول والنفوس، وإن التحرر يحتاج إلى سعي دؤوب لتفكيك الاستبداد، يجمع بين الرفض السياسي (مواجهة سياسية لفك احتكار السياسة) والرفض المدني (الصراع لضمان معيشة الناس وكرامتهم). وإذا كان العمل السياسي ينتسب إلى هويات فكرية مختلفة، ويقود بطبيعته إلى تمايز الجماعات السياسية وفرقتها، فإن أهمية النضال المدني تكمن في أنه من طبيعة جامعة، وفي أنه أساس لتماسك النسيج الاجتماعي. هذا النضال، المهمل في سورية، يحتاج إلى اهتمام أكبر من المنشغلين بالشأن العام.

مركز حرمون

—————————–

ندمٌ وضيع على الثورة/ عمر قدور

“إلى حسان عباس”

حظيت ذكرى الثورة السورية هذه السنة بهجمة استباقية، هجمة يحذّر أصحابُها من الاحتفاء بالثورة في ظروف هي الأقسى التي يعاني منها السوريون، سواء من هم تحت سيطرة الأسد أو الذين يعيشون مأساة التهجير في مخيمات الداخل والخارج. وهي أيضاً هجمة اعتباطية بما فيها من سوء فهم، بعضه عفوي وبعضه متعمد، وبين ما هو عفوي ونظيره المتعمد تطل دوافع ومآرب متخالفة، إلا أن تخالفها يضيع جراء التعبير المشترك، وبسبب ما ظهر أشبه بتقسيم السوريين بين نادم وغير نادم على الثورة.

كانت منابر عربية وغريبة قد أفردت حيزاً من استطلاعاتها لفكرة الندم على الربيع العربي، فمرور عشر سنوات يُغري بتقديم تلك الاستقصاءات التي تبدو ناجزة لجهة استخلاص العبر والدروس. وإذ لا يمكن تبرئة طرح فكرة الندامة لدى الجميع، علينا ألا ننسى جاذبيتها العاطفية لدى من أنهكهم مشروع تغيير متعثر في بعض الدول، أو مشروع استعصى كلياً كما هو حال سوريا. الندامة، وفق هذا السياق، توقٌ عاطفي إلى الاستراحة من دفع أثمان، ليبرز ذلك الماضي رغيداً باستقراره، وبعدم تطلّبه ثمناً سوى تلك الأثمان المعتادة خلال عقود سابقة.

الوضاعة تتسلل من استثمار لحظة التعب الإنساني تلك، لتأصيل فعل الندامة، ولمنحه ثقلاً فكرياً مستداماً ينقض فكرة الثورة كما حدثت، وكما يمكن لها أن تحدث لاحقاً. تتسلل الوضاعة الأخلاقية لتستغل لحظة الحزن والانكسار، ولتتاجر ببؤس أولئك الذين لم يستطيعوا امتلاك أصواتهم. إنها تتحدث باسمهم، أكثر مما تسمح لهم بالتحدث أصالة عن أنفسهم، وهي تتحدث باسم أسوأ مآل وصلوا إليه، لا باسم آمالهم الكريمة ولو في أكثر حالاتها تواضعاً.

وهي ليست وضاعة أخلاقية فحسب، إنها وضاعة فكرية موصوفة. ففعل الندامة يتوجه بالاعتذار إلى الماضي، لا بوصفه فقط زمنَ اتقاء شروره، بل لتبرئته من المسؤولية عن الحاضر. في حالتنا، تغيب صورة بشار وحلفاؤه الذين أبادوا ودمروا وهجروا، لتحضر صورته قبل الثورة عندما لم يكن لديه سبب للإبادة والتدمير والتهجير، ولم يكن لديه سبب لاستدعاء حثالات الأرض من ميليشيات وأنظمة حليفة مضادة للحرية من حيث المبدأ. قد تتقنع الوضاعة الفكرية بمنطقها الخاص، فتذكّر الذين ثاروا بأنه يعرفون دموية النظام واستعداده المعلن لحرق البلد، وعليه كان يجب عدم إعطائه ذريعة لتنفيذ وعيده.

ينبغي التزود بالكثير من الضحالة للوصول إلى استنتاجات تدين الحاضر لصالح الماضي، وكأن الأخير لم ينجب الأول. هذه الوضاعة الفكرية تتجاهل كلياً هذه البديهية، وتتناسى أن الذي أتى بالثورة هو انسداد الأفق التام أمام المنظومة الحاكمة، بعدما استنفذت فرصها كاملة. أسوأ وأقسى خيار تضطر الشعوب إليه هي الثورة، وغالباً لا تلجأ إليه إلا عندما تُستنفذ طاقتها على الصبر والتحمل. مَن يصنع الثورة، بالمعنى الفعلي العميق، هي المنظومة المتحكمة بمفاتيح القوة، لا تلك الغالبية الساحقة المسحوقة.

للتذكير، نحن نتحدث عن سلطة مرت بمحطات عديدة راكمت من خلالها انسداد الأفق الخاص بها. ما استخلصته مثلاً هذه السلطة من المواجهة من الإخوان، في نهاية السبعينات، كان ضرورة إحكام القبضة المخابراتية أكثر من قبل على جميع السوريين، ومنافسة الإخوان في السيطرة على الدين. ولم تتراخَ القبضة الأمنية إلا قليلاً مع البدء بمشروع التوريث، وكان وعدها للخارج قبل الداخل بمزيد من الانفتاح في عهد الوريث. صبر السوريون على أمل وفاة الطاغية ووعود ابنه، وقد رأينا كيف انقض الأخير على المعارضين وعلى ظاهرة المنتديات، رغم أن قسماً منهم كان يبشّر بإصلاحات يقودها هو بنفسه، ولو نفّذ القليل القليل مما وعد به لما أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه. كذلك كان تعامل عسكره ومخابراته مع الانتفاضة الكردية في آذار2004، بالرصاص الحي والاعتقالات العشوائية وتعذيب المعتقلين. لم يختلف الأمر خارجياً، فبعد اغتيال رفيق الحريري كانت رسالته اغتيال مناوئين آخرين له، وتوعّدُ الباقين بمزيد من الاغتيالات.

هذه المنظومة لا تستطيع سوى أن تكون رستم غزالي في لبنان وعاطف نجيب في سوريا. لا تستطيع، وهي تبذل كل طاقاتها لمنع التغيير السلمي الديموقراطي، إلا أن تُراكمَ أسباب الثورة ضدها. الندم الوضيع هو ذاك الذي لا يريد استيعاب الحتمية التي تصنعها المنظومة بإرهابها ونهبها الذي لا يشبع، هو ندم يفكر أصحابه بعقل السلطة نفسها، ويحاول تحقيق المستحيل الذي فشل الطغاة في تحقيقه عبر التاريخ.

هذه ليست دعوة مضادة تشجيعاً على الاحتفال بالثورة، فالاحتفال الذي يحمل معناه الحقيقي هو الذي يكون متاحاً لكافة السوريين في مختلف أنحاء سوريا. هو الاحتفال الذي امتنع بفعل الدعم الخارجي لبشار الأسد، الدعم الذي لم ينل مثله طاغية من أولئك الذين استهدفتهم ثورات الربيع العربي. بدوره أثبت هذا الدعم أن معاندة التاريخ باهظة الثمن، فالإبقاء على بشار اقتضى دمار سوريا بأكملها، وحتى أنصار بشار الذين شجعوا على الإبادة، وكانوا يطالبون باستخدام الكيماوي وبمسح مناطق بأكملها وزراعتها بالبطاطا قسم كبير منهم اليوم غير قادر على شراء البطاطا.

ثمة ندم آخر، ثمة حزن مستحق بشدة، هو الحزن على ما آلت إليه الأحوال خاصة والعامة، وهو الندم على السوء الذي واكب به مَن تصدروا المشهد ذلك الزلزالَ الإجباري المسمى ثورة. هنا موضع للندم والحسرات يحتمل الكثير الكثير من النقد، موضع يجب أن يتواضع أصحابه فلا يرون أنفسهم مفجّري حدث تاريخي، ويجب أن يتواضعوا أكثر ليروا كيف أساؤوا خدمة هذا الحدث الاستثنائي.

هناك ممر ثالث بين الندم الوضيع الذي يريد الأرض مسطحة، وأولئك الذين يظنون أنفسهم محرّكي دوران الأرض. لقد كتب الراحل حسان عباس في هذا المنبر قبل سبع سنوات بالضبط: سمّوها ما شئتم، انتقدوها كما أحببتم، اخدعوها، راودوها، تحايلوا عليها، احفروا الأرض تحت أقدامها، لوّنوها، إلعنوها، افعلوا ما شئتم. فهي، وبمحاكاة لما قاله غاليليو غاليليه لمُرهبيه: ومع ذلك فهي تثور. هي باقية، وهي أصلاً لم تبدأ إلا لتبقى حتى تصل إلى ما يريده أهلها: حياة كريمة بلا ظلم أو ظلامية.

نعم.. مع ذلك هي تثور، وسوف تثور أحببنا أم كرهنا، سوف تثور حتى تنتفي أسباب الثورة. الفاشلون لا يصنعون التاريخ، ولا تصنعه الندامة أيضاً.

————————-

عشر سنوات بحثاً عن خلاص السوريين/ عمر كوش

أسئلة كثيرة تتبادر إلى أذهان غالبية السوريين مع مرور عشر سنوات على الثورة السورية، التي انطلقت في منتصف مارس/ آذار 2011، تطاول المدى الذي يمكن أن تمتد إليه الأوضاع الكارثية في سورية، وممكنات الوصول إلى نهاياتٍ قريبةٍ للمآسي والمصائب التي ألمّت بالسوريين، بسبب النهج الدامي الذي اتبعه نظام الأسد في تعامله الوحشي مع الثورة وحاضنتها الاجتماعية منذ البداية، وأسهم في تحويل بلدهم إلى مسرحٍ لصراع إقليمي ودولي، تستعر فيه حروبٌ متعدّدة الأطراف الإقليمية والدولية، وأخرى بالوكالات على مناطق النفوذ والسيطرة، وسوى ذلك.

ولا يجد سؤال الخلاص من نظام الاستبداد الأسدي لدى السوريين الذين خرجوا في ثورتهم من أجله سوى غصّات ثقيلة تطبق على قلوبهم، في ظل بقاء نظام الأسد جاثماً على صدورهم، وغياب أي جهودٍ دوليةٍ من أجل إيجاد حلّ سياسي ينهي معاناتهم، واستمرار صراع تخوضُه خمس قوى دولية في بلادهم وعليها، سواء عبر تدخلها العسكري المباشر أم عبر وكلاء محليين وإقليميين، تنفيذاً لأجنداتها ومصالحها الخاصة والمختلفة.

وتعيد ذكرى مرور عشر سنوات على انطلاقة الثورة السورية إلى الأذهان تلك المظاهرات والوقفات الاحتجاجية السلمية، التي انطلقت في بداياتها، بعد أن خطّ تلاميذ إحدى مدارس مدينة درعا على جدار مدرستهم عبارة “إجاك الدور يا دكتور”، وخروج سوريين كثر إلى الساحات والشوارع كاسرين حاجز الخوف الذي بناء النظام الأسدي في نسختيه، الأب والابن، ومتحدّين بأجسادهم العارية رصاص عناصر استخبارات النظام وسكاكين شبّيحته وسيوفهم. في ذلك الوقت، اكتشف السوري المقموع صوته وجسده، ولسان حالة يقول: “أنا إنسان.. ماني حيوان”، وراح يعبّر عن ذاته في تظاهراتٍ وتجمعاتٍ احتجاجية، غير مكترثٍ بالثمن الذي يدفعه، نتيجة خروجه من القوقعة التي حبسته فيها أجهزة النظام مدة تزيد عن أربعة عقود.

وارتبطت على مدى أشهر عديدة من بداية الثورة شخصية المحتج السوري ببطولة مفهومية في مشهدية حدث الثورة، جسّدته جموع المتظاهرين السلميين في شوارع وساحات مختلف المدن والبلدات والقرى السورية، جنوباً وشمالاً، وشرقاً وغرباً. لكن ذلك كله تحطم، بعد أن تخلى عنهم المجتمع الدولي، وخصوصاً قواه الحيّة عن السوريين، وتركتهم يواجهون كل أنواع القتل، مكتفية بالوقوف متفرّجة على مشهديات تحولهم إلى ضحايا قمع نظام الأسد العنيف والوحشي الذي استقدم مليشيات نظام الملالي الإيراني الطائفية متعدّدة الجنسيات للدفاع عنه. ثم جاء تدخل النظام الروسي العسكري المباشر إلى جانبه، ليُحدث تحوّلاً كبيراً في ميزان القوى لصالح النظام، ويعيد تثبيته.

وعلى الرغم من انقضاء عشر سنوات على انطلاقة الثورة، لا يزال خلاص السوريين بعيداً، ذلك أن كل محاولات الحل السياسي باءت بالفشل، سواء في جنيف أو أستانة أو سوتشي وسواها، بسبب عدم جدّية المجتمع الدولي في إيجاد حل سياسي، وعراقيل نظام الأسد وحلفائه في النظامين الروسي والإيراني وألاعيبهم، إذ حتى اللجنة الدستورية، التي حظيت بموافقة المجتمع الدولي ودعمه، وكانت بمثابة تغطيةٍ لعجزه حيال تنفيذ القرارات الأممية المتعلقة بالقضية السورية، لم تثمر جولاتها الخمس سوى الفشل والخيبة. ومع ذلك، لم يجد المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، سوى الإعلان عن خيبة أمله من تعثر عمل اللجنة، لكنه لم يجرؤ على تحميل النظام مسؤولية إفشال أعمالها، وترك الباب مفتوحاً لمزيد من التوسّل والبهلوانيات الدبلوماسية، من دون أن يقدّم أي مقترح لتفعيل عملها سوى التعويل مجدّداً على زياراته إلى كل من موسكو ودمشق وطهران وسواها، ليبقى الباب موصداً حيال أي مسعىً إلى إيجاد حلّ سياسي في سورية، الأمر الذي يظهر، مرة أخرى، إفلاس هيئات الأمم المتحدة ومبعوثيها الخاصين إلى سورية، وعجزهم حتى عن مجرّد إلقاء اللوم على نظام الأسد أو تحميله مسؤولية إفشال مساعيها.

والمفارق في الأمر أن القوى الدولية الفاعلة لم تكترث لمصاب السوريين خلال السنوات العشر الماضية، لا على المستوى الأخلاقي، ولا على المستويين، الإنساني والحقوقي، إذ كل ما قيل وكُتب عن القيم والمبادئ العالمية، عن حقوق الإنسان والحرية والعدالة ونصرة الضحايا وسواها، كان من باب المبالغة في كونيتها، بينما أثبت التعامل مع الثورة السورية أن تلك القيم والمبادئ محدودة ونسبية، وتخضع لتوظيفات (وإرادات) القوى المهيمنة والمسيطرة، التي لم تتحرّك لمنع نظام الأسد من قتل المحتجين السلميين أو المدنيين العزّل، أو ردعه عن استخدم كل أنواع الأسلحة الفتاكة، وحتى المحرّمة دولياً، بما فيها السلاح الكيميائي الذي استخدمه النظام ضد المدنيين العزّل في غوطة دمشق الشرقية في أغسطس/ آب 2013، على الرغم من أن استخدامه كان يمثل خطّاً أحمر، وضعه الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، بنفسه، ثم ابتلعه في صفقة مشبوهة مع النظام الروسي في مقابل تسليم النظام محزونه من المواد الكيميائية، فيما لا يزال من ارتكب جريمة الهجوم الكيميائي حرّاً طليقاً. كما لم يعاقب أحد في النظام الدولي نظام الأسد على جرائمه العديدة الموثقة في تقارير المنظمات والبعثات الأممية، بل ولم ينزع أحدٌ في المجتمع الدولي شرعية تمثيله سورية والسوريين، حيث بقي نظام الأسد يمثل سورية في المحافل والمنظمات الأممية.

ويبدو أن سؤال خلاص السوريين سيبقى ماثلاً، ما دامت فصول المأساة السورية قائمة وعميقة، ولا تلوح في الأفق ممكناتُ نهايةٍ قريبةٍ لها، ولا يوجد ما يشير إلى سير الأمور نحو الأفضل، بل تزداد معاناة السوريين في الداخل السوري، سواء في مناطق سلطة النظام أم في مناطق سلطات الأمر الواقع، وكذلك الأمر في بلدان المهجر والشتات، حيث يعاني أكثر من نصف الشعب السوري من تبعات التهجير والنزوح، فيما تزداد أهوال معاناة الناس في مناطق سيطرة النظام التي تفاقمت إلى درجةٍ بات فيها السوريون يمضون كل يوم ساعات عديدة في طوابير طويلة، من أجل الحصول على المواد الأساسية لمعيشتهم، كالخبز والغاز والمازوت، إلى جانب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتدهور سعر صرف الليرة، فضلاً عن تفشّي البطالة وانتشار الجريمة وانعدام الأمن والأمان وسوى ذلك. وبالتالي، لا يزال خلاص السوريين يمرّ في مخاض مرير وطويل.

العربي الجديد

————————-

السوريون في العام العاشر/ علي العائد

شهر واحد من الثورة كثير، وعشر سنوات من الثورة، أيضًا، كثير. لكن الثورة لا تزال تشتعل بكل سيئاتها، فموجباتها الحاضرة منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين تؤكد أنها تأخرت أربعين عامًا، كل عام منها كان قادرًا على قتل كل نمور زكريا تامر، وليس تجويعها فقط لتصبح في وداعة قطة منزلية.

تطوع الإفساد في تلك الأربعين حتى استمرأ سوريون الرشوة، وأصبحت من طبيعة الأمور، بعد أن كانت الفائدة (الفايز) عيبًا على “الرجل”، وليس (حرامًا)، فقط، كما يرغب المتدينون في تكييف الكلمة شرعًا، أو قانونًا. أصبح للحيطان آذان، وخشي الأخ من مهاجمة السلطة أمام أخيه، بعد أن سمع أن السجون امتلأت عن آخرها في أعقاب محاولة إعدام مدينة حماة عام 1982.

نعم، كاد السوريون يصبحون قططًا منزلية، بعد أن اصطاد النظام نمور وغزلان وذئاب البلاد، وحوّل سورية إلى مزرعة وشركة عقارية مملوكة لعائلة زوَّرت تاريخها، كما حاولت تزوير تاريخ الدولة ـ السورية، بمختلف تصنيفاتها الأيديولوجية، من الجمهورية السورية، إلى الجمهورية العربية السورية، إلى “سوريا ـ الهلال الخصيب”.

“في زمن نظام الأب والابن، استمرأ سوريون الرشوة، وأصبحت من طبيعة الأمور، بعد أن كانت الفائدة (الفايز) عيبًا على “الرجل”، وليس (حرامًا)، فقط، كما يرغب المتدينون في تكييف الكلمة شرعًا، أو قانونًا”

مضت عشر سنوات على بدء الثورة السورية، الثورة التي ترتدي الآن الأسود، بيدين مخضبتين بالأحمر لكثرة ما سال الدمع والدم من عينيها.

عشر سنوات كأنها أمس، لولا مواكب القتلى والشهداء، ودروب الهجرة والنزوح، ومواكب الغبار الذي يكاد لا يخمد بعد كل برميل، أو قذيفة، هدمت بيوت الناس على رؤوسهم.

لا يوجد سوري واحد محظوظ في كل تلك السنوات، ففي كل بيت مأتم وعويل، في كل شارع، أو حي، وامتدادًا في كل صفحة من صفحات مكتبة العصر، وسائل التواصل الاجتماعي. هنالك، أيضًا، مأتم وعويل.

عمر ذلك الأمس ليس عشر سنوات مما نعد، فتلك حرب، وما يعيشه السوريون، الآن، حرب أخرى، حرب لا مدافع فيها، ولا أصوات قذائف. يقول سوريو فيسبوك، في حال من الصراخ: ليت الحرب الأولى بقيت، فحالنا الاقتصادية كانت أفضل، ودولار التجار ومحدثي الثراء كانت قيمته 500 ليرة سورية، أكثر، أو أقل، قليلًا (الآن تجاوز سعر الدولار 4000 ليرة).

يقولون، أيضًا، ليتنا بَكَّرنا في الخروج من هذه المحرقة للجسد والنفس والكرامة، كما فعل كثير من السوريين يزيد عددهم على خمسة ملايين لاجئ في الجوار القريب والبعيد لسورية، عدا عن ما لا يقل عن ثمانية ملايين لجأوا في وطنهم، وإن كانت أدبيات “الهزيمة” تسميهم نازحين.

معاوية الصياصنة (20 عامًا)، أحد الأطفال الذين كتبوا عم 2011 على الجدران “جاك الدور يا دكتور” في درعا (14/ 3/ 2018/فرانس برس)

أدبيات الهزيمة، أيضًا، التي كانت تصم سكان الجولان بـ”النازحين”، والفلسطينيين بـ”اللاجئين”، في تعبير لا يخلو من العنصرية تمامًا، يرد عليها ظريف، أو ظريفة: لو أكملت إسرائيل حربها في عام 1967، وعمقت “نكستنا” قليلًا بوصولها إلى دمشق، لـ”نزح” سكان دمشق إلى حمص، وأصبحوا “نازحين” من عاصمة الأمويين، إلى مدينة ابن الوليد، وربما أبعد. لكن “اتفاق القائد الخالد” مع إسرائيل كان يقف عند حدود القنيطرة، وهذا ما كان.

“عدد اللاجئين السوريين يزيد على خمسة ملايين، في الجوار القريب والبعيد من سورية، عدا عن ما لا يقل عن ثمانية ملايين لجأوا في وطنهم”

أسواق دمشق الآن هادئة، وأصوات المدافع التي كانت تقصف الغوطة هادئة، أيضًا، لكن النفوس والضمائر تغلي، وأصوات من قالوا في عام 2011 “ما قلنالكم”، كمصطلح يعني “إن هذا النظام دموي من دون حدود”؛ هذه الأصوات نفسها هدأت، بينما علا صوت معادلة اقتصادية مستحيلة: “الدخل 50 ألف ليرة، والحد الأدنى للإنفاق الآدمي 700 ألف ليرة”!

الآن، فقط، بدأت الحرب، ففي زمن دولار الخمسمئة ليرة كانت حال الناس “بخير”، والناس اعتادت إيقاع “القذائف الوطنية”، واللاجئون كانوا يعدون النفس للعودة، وحال التشاؤم التي كانوا يعيشونها كانت دون حدود اليأس، وحصالات كثير منهم كانت مخصصة لإعادة بناء البيت، أو ترميمه، والبحث عن صفر جديد في حياتهم للبدء منه مسيرًا نحو مستقبل أطفالهم.

الآن، أيضًا، لم يعد ضجيج الغارات الإسرائيلية مزعجًا، إلا من حيث أنه يذكر سكان دمشق، خصوصًا، بالحرب الغابرة التي لم يتذكروها إلا مع علو صوت الدولار، وحشرجات روح الليرة، ومعادلة العيش المستحيل غير الغريبة تمامًا عن حياة السوريين في مراحل سابقة من عقد ثمانينيات القرن العشرين.

الجديد في الحرب الحالية الصامتة أن النظام نفسه أصبح في دائرتها، كمفعول به، على عكس حرب الحديد والنار التي كان يُفترض فيه أن يكون فاعلًا، ظاهريًا، على الأقل، وأنه خرج “منتصرًا” في الحرب الكونية على نظام الممانعة. لم ينتصر النظام، بينما خسرت المعارضة، التي لا لون لها، ولا ملامح، ولا طعم، في أي مرحلة من مراحل الثورة، منذ 2011، وحتى اليوم.

النظام في دائرة الخطر، هذه المرة أكثر من كل المرات السابقة، في مسلسل الحرب المديدة، على الرغم من خطابه الإعلامي المعجون بالغباء والتعامي عن حقيقة أن 83 في المئة من السوريين تحت خط الفقر المدقع، بل أدنى من ذلك، أي أن النسبة أكبر من ذلك، رغم أنف معايير مؤسسة الأمم المتحدة، كجهاز بيروقراطي باتت نفقات توزيعه للمساعدات أكبر من حصة الفقراء أنفسهم من تلك المساعدات.

“علا الآن صوت معادلة اقتصادية مستحيلة: “الدخل 50 ألف ليرة، والحد الأدنى للإنفاق الآدمي 700 ألف ليرة”!”

في “النمور في اليوم العاشر”، وصل الأمر بالمروِّض أن أنسى النمر أنه كائن الغابة الحر، اللاحم، بعد أن أجبره على المواء كالقطة، والنهيق كالحمار، حتى استساغ النمر أكل الحشائش.

ينهي زكريا تامر قصته:

“قال المروض:

ـ منذ اليوم، لن تأكل سوى الحشائش.

ولما اشتد جوع النمر حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزًا. ولكنه عاد إليها ثانية. وابتدأ يستسيغ طعمها رويدًا رويدًا.

وفي اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطنًا، والقفص مدينة”.

لاجئون سوريون في مخيم تابع للهلال الأحمر التركي في منطقة Altinozu في هاتاي بالقرب من الحدود السورية (20/ 6/ 2011/فرانس برس)

تلك أسباب أولى لكمون الثورة من جديد في النفوس، وتحت الرماد، تمزج “الجوع بالذل باليأس”، في حالة قصة تامر، وفي الحالة السورية ما قبل الثورة، أما الأعوام العشرة الأولى من الثورة، مع احتوائها أقانيم الذل الثلاثة، فوق الموت والنزوح واللجوء، فثورة لا تشبه إلا نفسها، ثورة تقول للوارث والوريث ومن ينتظر أن يرث: الآن تبدأ حرب النمور على القفص، والجوع، والركوع، والذل، ليبدأ ترويض الوارث “الوحش”.

ضفة ثالثة

—————————-

شعارات الثورة السورية… 10 سنوات من التحولات والتحديات/ جلال بكور

بدأت الثورة السورية بشعارات أطلقها ناشطون كانت تعبّر عن مطالبهم وأحلامهم بنيل الحرية والكرامة، والوصول إلى مرحلة تُحترم فيها حقوقهم كمواطنين وتصونها حكومة تمثلهم. وتعرّضت تلك الشعارات مع تطوّر الأحداث في خضم الثورة لمواجهة من شعارات أخرى حملت طابعاً دينياً، كما كانت شعارات الثورة أيضاً في مواجهة لشعارات النظام وحزب البعث، فحين كان هناك من ينادي “الشعب السوري واحد”؛ كان في الضفة الأخرى من ينادي بالقومية أو المناطقية أو يمجّد بحكم الديكتاتور.

ولعل من أبرز الشعارات التي رفعتها الثورة السورية منذ أيامها الأولى “الموت ولا المذلة، حرية للأبد غصباً عنك يا أسد، الشعب يريد إسقاط النظام، واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”… وغيرها الكثير من الشعارات التي تحوّلت إلى هتافات ومطالب تؤكّد أن الثورة السورية غايتها الوطن الواحد والكرامة والديمقراطية.

رحلة بدأت برفض المذلة

أول شعار بإجماع الكثير من السوريين كان “الشعب السوري ما بينذلّ”، وجاء مع إرهاصات الثورة الأولى، وخاصة مع شرارة الثورة في أسواق دمشق التي انتقلت إلى درعا بشعار “الموت ولا المذلة”، والذي جاء رداً على إهانة أهالي درعا من قبل مسؤول في أمن النظام يُدعى “عاطف نجيب”، بعد اعتقال أطفال كتبوا شعارات مناهضة للنظام.

الثورة السورية

وتوالت بعد ذلك الشعارات في طول البلاد وعرضها، تنادي بمؤازرة درعا في وجه النظام، وتنادي بقية الشعب السوري بالقول الواضح “واحد واحد واحد …الشعب السوري واحد”، وكان ذلك الشعار السلاح الأبرز أمام مزاعم النظام التي ذهبت لترويج أن ما يحدث هو “فتنة طائفية”.

وصدرت شعارات كانت رسالة للنظام ورسالة لمناطق أخرى ثائرة، وبخاصة المناطق التي تعرّضت لبطش النظام من الأيام الأولى، ومنها شعارات “يا درعا… نحنا معاكِ للموت”، “يا حمص… نحنا معاكِ للموت”.

ومن الشعارات التي جاءت رداً على النظام أيضاً “الله سورية حرية وبس”، والذي كان رداً واضحاً على شعار مؤيدي النظام “الله سورية بشار وبس”، ثم جاء “حرية للأبد” رداً على “الأسد أو نحرق البلد”، وانتهى الأمر بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، الذي بات المطلب الأوحد للسوريين الثائرين جميعاً.

وكان الوصول إلى شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” نتيجة طبيعية لتعنّت النظام في الاستجابة لمطالب الثوار، وإصراره على استخدام الحل الأمني القائم على الاعتقال والقتل والملاحقة، تلك المواجهة العنيفة للمظاهرات دفعت الثوار إلى تبني الشعار والإصرار عليه.

وكانت ثمة شعارات كثيرة تواجه النظام وآلته الإعلامية والترويجية، ومنها “ما في للأبد، ما في للأبد، عاشت سورية ويسقط الأسد”، والذي كان مواجهاً لشعارات حزب البعث التي تقول “قائدنا للأبد الرئيس حافظ الأسد”. ومن شعارات الثورة الكثيرة في السياق ذاته “يلا ارحل يا بشار”، و”خاين يللي بيقتل شعبه”.

تحدي الشعارات الدينية

كانت ثمّة شعارات تحمل طابعاً دينياً، ويبدو أنها كانت من أول التحديات التي تواجه الثورة في فكرها الذي تعبّر الشعارات عن جزء كبير منه، ومنها شعارات “قائدنا للأبد سيدنا محمد” الذي شكل معادلاً لشعار مؤيدي النظام “قائدنا للأبد الرئيس حافظ الأسد”، وشعار “لبيك.. لبيك.. لبيك يا الله”، ومع انتقال الثورة شيئاً فشيئاً إلى العسكرة، بدأت تظهر شعارات جديدة ورايات جديدة مع قدوم فصائل عسكرية تحمل أسماء دينية، مثل: الفاروق، جيش الإسلام، الجبهة الإسلامية، جيش الأمة، جيش الفتح، فيلق الرحمن، تجمّع فاستقم،… وغيرها الكثير من الفصائل التي كانت لها غايات مختلفة على اختلاف داعميها. إلى جانب شعارات رفعتها الفصائل والجماعات المتطرفة، كشعار “باقية تتمدد” والذي كان أبرز شعارات تنظيم داعش، بالإضافة لشعار “بالذبح جيناكم”، والذي روّج له تنظيم جبهة النصرة.

ولم يمنع هذا المد الديني الكبير بعض الفصائل من المحافظة على شعارات الثورة ورايتها التي اعتمدت علم سورية في فترة الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، ودخلت هذه الفصائل أيضاً في قتال مع تنظيم داعش ومع جبهة النصرة، حيث برز في تلك المرحلة شعار “زائلة وتتبدد”، والذي كان رداً على شعار تنظيم داعش.

وعلى الرغم من المراحل المتعددة والتطورات الكبيرة التي عاشها مسار الثورة السورية؛ فإن الحراك المدني السلمي المتمثل بالمظاهرات ضد النظام ما زال مستمراً في المناطق الخارجة عن سيطرته، وما زال الناشطون فيه يرفعون راية الثورة ويهتفون بشعاراتها التي تطلب إسقاط النظام قبل كل شيء.

العربي الجديد

————————

الثورة السورية: ماذا بعدما انتصر الأشرار؟

بؤس المصائر التي ألمت بالسوريين جراء الهزيمة، رسم أيضاً أغرب الخرائط. صارت لدينا “سوريا المفيدة” وسوريا الدياسبورا وسوريا كردية وأخرى تركية، وارتسم في المشهد مزيد من العناصر غير المنسجمة…

بعد 10 سنوات على اندلاع الثورة السورية، انتصر الأشرار! المعادلة مخيفة عندما تكون بهذا الوضوح. انتصار واضح وصريح ومعلن للأشرار. العالم أمام هذه الحقيقة المؤلمة، ولكن المحيرة أيضاً. فالنظام المنتصر وحلفاؤه مطوبون في عرف العالم بوصفهم أشراراً، لكن هذا العالم يبحث عن سبيل للتواصل معهم. قبل أيام قال وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة عبدالله بن زايد أن ما يعيق تواصل بلده مع النظام السوري هو قانون قيصر، أي القانون الذي يفرض عقوبات على من يتعامل مع النظام. يلخص هذا القول المعادلة أعلاه، أي البحث عن قناة تواصل مع النظام المعاقب بسبب شرور ارتكبها. العالم يبحث عن وسيلة لقبول الشر بعدما تورط باعتباره شراً. بعد عشر سنوات على الثورة السورية نجدنا أمام هذه المعادلة البائسة فعلاً!

لكن المنتصرين أمام مأزق لا يقل عن مأزق المهزومين. من هي سوريا في ظل انتصار بشار الأسد؟ ما هي حدودها وما هو اقتصادها ومن هم حلفاؤها؟ لا شيء محدد ولا شيء نهائي. هل هي دولة مواجهة؟ أم أنها قناة لتصريف مصالح فلاديمير بوتين وبنيامين نتانياهو؟ وهل هي جزء من الهلال الشيعي أم أن قنوات المصالحة الخليجية المفتوحة على مصراعيها تغري ساكن قصر المهاجرين أكثر؟ لا جواب على كل هذه الأسئلة، والأرجح أن ديكتاتور دمشق نفسه لا يملك أجوبة عليها.

ليست الثورة هي ما هزم، بل الشعب السوري نفسه هو الذي أُصيب. أكثر من عشرة ملايين نازح ومئات آلاف القتلى ومثلهم من المعتقلين والمختفين. كل هذه الحصيلة ستشكل عائقاً أمام أي راغب في التعامل مع “النصر المحقق” لنظام لم يشهد العالم بعد الحرب العالمية الثانية مثيلاً لجريمته.

لكن بؤس المصائر التي ألمت بالسوريين جراء الهزيمة، رسم أيضاً أغرب الخرائط. صارت لدينا “سوريا المفيدة” وسوريا الدياسبورا وسوريا كردية وأخرى تركية، وارتسم في المشهد مزيد من العناصر غير المنسجمة، فلدينا أيضاً محاكم أوروبية تلاحق ضباطاً في النظام، ولدينا قوانين أميركية تعاقب المتعاملين معه، تفوق قدرتها رغبة الحكومات في تجاوز الجريمة. حقائق ثقيلة جداً راكمتها سنوات المأساة السورية. جميعها يقف النظام المنتصر أمامها عاجزاً، وهي تحول دون انتظام هذا النصر في سوية سياسية أو قانونية أو اقتصادية.

لم يعد مفيداً البحث في أسباب الهزيمة والمتسببين بها. لا أثر لشيء اسمه المعارضة لكي يبحث المرء بحجم مسؤوليتها. الخليج انكفأ مفسحاً المجال لوضوح هوية المنتصر، وتركيا دخلت في بازارات بيع وشراء واضحة، ولم تعد في منطقة المساءلة. إسرائيل تقصف المواقع الإيرانية بشكل يومي في دمشق وترسل لقاحات “كوفيد- 19” إلى حكومتها. وضع المنتصر على هذا القدر من انعدام الانسجام ومن غياب الوجهة. لعل وجهة النظام الوحيدة اليوم هي القتل، وكل شيء غير ذلك ضياع في ضياع.

نعم هناك منتصر غير سوري، لا بل منتصرون غير سوريين، لكن هؤلاء أيضاً لا يدركون كيف يوظفون انتصارهم. لعل فلاديمير بوتين وحده من يجيد المراوغة بدماء السوريين. طهران حجزت مكاناً، لكن سوريا هي المكان الأنسب لكي تستهدفها إسرائيل في ظل عجز مطلق عن الرد. وهي في ظل نفوذ موسكو الأوسع تبدو شريكاً صغيراً وعاجزاً عن كف يد بنيامين نتانياهو عن مواصلة قصفه المهين للامبراطورية الوهمية.

لكننا بعد عشر سنوات على الثورة السورية أمام حقيقة أخلاقية يفترض أن تكون قد وضعت قيماً عالمية على محك الصدقية. فليست الثورة هي ما هزم، بل إن الشعب السوري نفسه هو الذي أُصيب. أكثر من عشرة ملايين نازح في الداخل والخارج، ومئات آلاف القتلى ومثلهم من المعتقلين والمختفين. كل هذه الحصيلة ستشكل عائقاً أمام أي راغب في التعامل مع “النصر المحقق” لنظام لم يشهد العالم بعد الحرب العالمية الثانية مثيلاً لجريمته.

درج

—————————-

عشر سنوات على الثورة السورية وبشار الأسد يستعد لانتخابات رئاسية رابعة

————————–

ماذا لو تنحى بشار الأسد في 2011؟

————————–

عن أحلامنا بثورة أقل شأناً/ حمزة المصطفى

لم تطمح الثورة السورية، بمقاربة تعميمية، أن تكون شأنا عظيما كما هي عليه اليوم. لم تفكر بسنوات عشر، وتضحيات جسام، وذاكرة جمعيّة مع هذا العدد اللامتناهي من الشهداء، والجرحى، والمهجرين، والمنكوبين. لم يخطر ببال مُطلقيها في دمشق أو درعا أنهم قد يتنافسون على تسميتها وتأريخها ويخصصون وقتا وجهدا وأعصابا مستنفرة في حسم جدلٍ دائمٍ عن ثنائية 15/18.

لم تطمح الثورة لأن تصبح “ثورة” بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلهذه الكلمة حمولاتها العسكرتاريّة البغيضة في الفعل السياسي السوري، وتحمل بدلالتها اللغوية والمصطلحية دلالات الهياج، والفوَران، وكل المصلحات السيئة، أما تعريفاتها السيسيولوجية، فترتبط بمصطلحات الهدم، والانقلاب، وبناء نظام جديد كليا، وهي أمور تفزع الشخصية السورية التي اعتادت التسويات حتى أضحت خاصية أنثروبولوجية ملازمة للشعوب المتنوعة التي سكنت الشام الكبرى.

تنبّه السوريون لما حولهم من حراك في تونس ومصر، وتنبهوا أيضا لأوضاعهم الاقتصادية المتدهورة ومكانتهم السياسية المتراجعة داخل بلدهم وخارجها. أرادوا أن يكون لهم فعلهم السياسي الذي يكسر الجمود ويفتح الباب للإصلاح، والإصلاح فقط. لم يكن المتظاهرون راغبين في إسقاط النظام آنذاك، ليس حبا فيه بل كرها بما سيترتب على الثورة ضدها من نتائج.

أدركوا باكرا أن معادلة ” نتظاهر، ينحاز الجيش، يتنحى الرئيس” غير ممكنة في جمهورية سلطانية كسوريا. وعليه، ضبطوا سقف أحلامهم وطموحاتهم بما يتناسب مع فعلهم السياسي في تاريخهم الحديث قبل البعث. فكّروا بمظاهرات كبيرة أو “إضراب ستينيّ”، بثورة أطراف تضغط على العاصمة كثورة عام 1925 الكبرى، وفي أفضل الأحوال بضابط مغرور ضمن العائلة يقود رفاقه نحو الإذاعة والتلفزيون؛ ليستبدل ديكتاتورا بآخر، من دون أن يورط الشعب بمواجهة غير محسوبة، فحتى القوى السياسية التقليدية لم تفكر بالثورة أيضا، فالإخوان المسلمون، كما تقول شهاداتهم، أرسلوا لبشار الأسد أن اعتبِرْ مما يجري، وهيّا نعقد صفقة تُنقذك وتعيدنا، في حين كان أقصى طموحات الأحزاب اليسارية والليبرالية أن يجتمعوا في القريّا عند ضريح سلطان باشا الأطرش؛ ليتلوا بيانا يطالب بفتح الحياة السياسية، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور القديم.

بإرهاصاتها الأولى في الحريقة والسفارة الليبية أو بعد انطلاقتها، كان ثمّة نزوع جَمْعيّ، غير منظّم بالطبع، لضبط الشعارات والأهداف بما يسمح بإنجاز تسوية مع النظام لبدء إصلاح يقوده الأخير، إذ تمنّتْ غالبية السوريين على النظام أن يتغيَّر لا أن يُغيّروه بأنفسهم، وأعطوه الفرصة بعد الأخرى لِيُثبتوا بدمائهم أن خيار القمع الأمني لن يُجدي معهم نفعا، وأن عليه هو أن يقدّم لهم خيارات بديلة.

لم يُرفع شعار إسقاط النظام حتى تاريخ الجمعة العظيمة

، في 22 من نيسان/ أبريل 2011، عندما توافرت قناعة لدى الثائرين في كامل الجغرافيا السورية أن النظام لن يتغيّر، وأن عليهم مسؤولية تاريخية لتغييره، وأن حراكهم الذي يتوسع كلَّ يوم سيكون الأخير إذا انتصر النظام. بعد المجزرة وفشل سيناريو تثوير المدن واستنساخ ميدان التحرير في ساحة العباسيين في دمشق، بدأت الثورة السورية بمسمّاها التاريخي الحالي مُستهدفةً النظامَ السياسي ظاهريا، لكنها في الواقع كانت تحفر الأرض تحت دولته في مَسعىً للهدم والبناء الجديد. حدث ذلك؛ لأن النظام ماهَى بينَ الدولةِ والنظام من جهة، والنظامِ وشريحةٍ اجتماعية معيّنة من جهة أخرى، وأخذهما رهينة لبقاء الرئيس، فأضحى أيُّ حراكٍ يسعى لإسقاط الأخير هو انقلابٌ يَمَسُّ الدولة والمجتمع في آن معا.

هنا بدأت الأسئلة المعقدة، وازدادت تعقيدا مع انخراط المؤسسة العسكرية في قمع الاحتجاجات السلمية وتفريخ ميليشيات ذات صبغة طائفية خارج الدولة لمواجهة الحراك، فالحل الأمني الذي لم ينجح في قمع الاحتجاجات، والكلام هنا لضباط ومسؤولين في النظام أعطوا شهادتهم لمجموعة الأزمات الدولية، فَشِلَ فقط؛ لأن كميَّة العنف المُطبَّقة لم تكن كافية، وأن استراتيجيات البقاء تتطلب خيارات مختلفة. زَجَّتِ الدولة جميع مقدّراتها وشبكاتها الاجتماعية وراء خيار القمع، وكان هدفها دفع الحراك السلميّ للتسلح بهدف إفقاده مبرراته الأخلاقية وقمعه كتمرد مسلح، وهذا ما حصل لاحقا مع فارق بسيط أن النزوع إلى التسلح كان أكبر من قدرة النظام على ضبطه، وبالتالي فشل سيناريو حماة. وأضحتِ المعضلة أكثرَ تعقيداً؛ فمشكلةُ السوريين لم تعد مع نظام الأسد بل مع الدولة، إذ غَدا التفريق بينهما تنظيرا لا مكانَ له في الواقع، ليبدأ معها النقاش الكبير عن الطريقة الأمثل للتعامل معها: الهدم البنيويّ الكامل، إعادة الإصلاح.

ولأن خيار التسلح كان عفويا وبأهداف وطنية لا حزبية كما حصل خلال الثمانينيات، أمكن هزيمة النظام عسكريا منذ منتصف عام 2012 مع خروج مساحات جغرافية كبيرة عن سيطرته واقتراب مقاتلي الجيش الحر من العاصمة. في بدايته، انعكس تشتُّتُ وتشرذُمُ العمل المسلح بنتائجَ إيجابيةٍ على أنصاره؛ إذ أدخل النظامَ في حرب عصابات لم يَخبرها على المستوى الوطني من قبل، ومع ملامح النشوة والانتصار بالإضافة إلى بروز بعض ظواهر العنف الاجتماعي أضحى التفكير بتنظيم السلاح ومأسسته حاجة لإكمال المسار أولا، وبناء الدولة خارج منظومة الاستبداد القائمة ثانيا. آنذاك، كان خيار التسوية ما يزال قائما ومطروحا داخليا وعربيا، شريطة رحيل بشار الأسد، لكن الأخير الذي احتكر النظام والدولة قرر المواجهة من خلال الامتداد الطائفي الإقليمي.

تدخلت إيران وحزب الله والميليشيات العراقية واستخدموا لتبرير تدخلهم خطابا طائفيا تماهى مع الخطاب الفئوي للنظام واعتماده على عصبويَّات طائفية لمواجهة ظاهرة الانشقاقات وتعويض العنصر البشري. ويبدو أن وجود هذا النهج التطييفيّ كان فرصة الحركات الجهادية لركوب الموجة، وهي التي وقفت لأكثر من عام عاجزةً عن تقديم مشروع بديل للثورة على مستوى الخطاب والمنهج، وكان على الثورة السورية أن تواجه خيار التطييفِ الممنهج أولا، وتحلّ مسألة التدخل الإقليمي ثانية، واستخدام فلسطين والمقاومة ذريعة لقتل الشعب السوري، وفي كل ذلك امتحان أخلاقي كبير لم تفشل فيه رغم كل الأخطاء. ومع سيطرة الحركات الإسلامية والجهادية على المشهد العسكري، قُدّر للثورة السورية أن تناضل من أجل بقاء المشروع الوطني حاضرا لجميع السوريين وليس وفقا لتصنيفات الإسلاميين الحركيين وميولهم وتفسيراتهم. لقد استغرق ذلك وقتا وجهدا ودماء وجولات كثيرة حتى ركنت الفصائل الإسلامية راغبة أو مُرغمة إلى أصوات العقل، وأعملت المراجعات في برامجها الفكرية ومشاريعها المستقبلية.

بعد ذلك، كان على الثورة أن تتعامل مع التأزّم والاستقطاب الإقليمي الذي غادرَ مربَّعَ الاعتدال مقابل الممانعة إلى تصنيفاتٍ أخرى أكثرَ تعقيدا. تنافست المعارضة السورية على الدعم الإقليمي وتنافس اللاعبون الإقليميون عليها وعلى طريقة توظيفها، وهو الأمر الذي ساهم في منع تبلور قيادة سياسية وعسكرية تُمَأسِسُ الكفاحَ المسلح، وتُؤطِّرُ المشروع الوطني لسوريا المستقبل.

في عام 2015، قُدّر للثورة السورية أيضا أن تتعامل مع أول تدخلٍ عسكري لروسيا خارج نطاقها الجيوسياسي المعروف؛ بُغية العودة لاعبا جيوستراتيجيا مهما على الساحة الدولية، وقُدّر لها أيضا أن تتعامل مع تناقضات منْ يُسمَّون أصدقاءها بعد وصول ترامب إلى الحكم، وما نجم عنه من أزمات وصراعات بَينيّة همّشت سوريا كقضية وثورةٍ قُدّر لها أن تتعامل مع داعش وخلافته، والنصرة وحكومتِها الإنقاذيّة في إدلب، ومع حزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية وأن تطردَ أو تمانع كل هذه المشاريع المرتبطة بالخارج، كما حُكِم على بعض مقاتليها أن يكونوا بيادقَ لقوىً إقليميةٍ ودولية وفي ساحاتٍ لا علاقةَ لها بسوريا أو صراعها، وقُدّر لها أن تكون أكبرَ أزمةٍ إنسانية على مستوى اللجوء والنزوح والتدمير، وأن يعيش أكثرُ من نصف مواطنيها في المنافي الإجبارية وبلدانِ الاغتراب. كان على الثورة السورية أن تعيد تعريف الوطن على أساس الفرد ودوره ووعي انتمائه خارج الجغرافيا. قُدّر لها أن تنوءَ بما تستطيع قضية أخرى تحمّله سواء على مستوى التعقيد أو على مستوى تشابُكِ الملفات الداخلية. وبعد عشرٍ عِجاف، ما يزال الشعب السوري في كل مكان خارج النظام يَخرج متمسّكا بمبادئها، وبإصرارٍ لا يُهزم على الإكمال. كنّا نطمح لثورة أقلَّ شأنا تحلّ قضاياها بالتدريج أسوة بكل تجاربِ العالم الأخرى، لكننا وجدنا أنفسنا أمام ثورة استثنائية في عَظمتها وإصرارِها على الاستمرار ودخولِ التاريخ لأول مرة كدولةٍ أمَّةٍ قابلة للحياة، دولة لكل مواطنيها.

تلفزيون سوريا

————————–

تلك الجرأة/ شام العلي

لم نحظَ بوداع يليق بما كان أو بما عشناه معاً. كان رحيلُنا واحدةً تلو الأخرى عن سوريا نجاةً بالنفس لم يكن لدينا معها رفاهية أن نقول وداعاً. سافرتْ صديقاتي واحدة تلو الأخرى، ثم لحقتهن أنا. لم يكن تواصلنا خلال هذا الوقت مكثفاً لكنه لم ينقطع. عشنا في الثورة تجارب كثيرة معاً، ولكن بعد عام 2014 كان علينا أن نواجه أقدارنا فُرادى.

بين كل فترة والثانية، نتصل اتصالاً غير مخطط له، ونلتقي بشكل افتراضي. يمر حديثنا غالباً ببدايات باردة ومترقبة، لحظات تشبه لحظات شرب القهوة في بيت الجارة المنتقلة حديثاً قبل الدخول في الحديث، يتلوها غوص عميق في حيواتنا الشخصية والتفاصيل وبعض الذكريات. نحن صديقات منذ عام 2007. درسنا في المدرسة نفسها. مرت ست سنوات منذ أن تركت أول واحدة منا سوريا، وعشر سنوات على تفتُّح الثورة في قلوبنا. لم نتكلم يوماً عن الماضي كأنه ماضي، وعن الثورة كأنها انتهت، ولم نتشارك تفاصيل ما بعد 2014. وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة.

قبل بضعة أيام، فعلنا. دون تخطيط أو ترتيب للأمر، وجدنا أنفسنا نفتّش في زوايا الذاكرة ونستعيد لحظات من الماضي، لم تكن استعادتها ممكنة دون أن نجرح أصابعنا، فالذكريات معجونة بألم منسي، ومتشابكة مع أسئلة مغروزة فيها كأشواك.

عدنا بالذاكرة إلى عام 2011 وما بعده. بحذر. ذكريات بسيطة كانت تجر معها حوادث رهيبة. لقد شهدنا معاً ومتفرقين أحداثاً رهيباً، لم نكن نعرف في وقتها شدة رهبتها. دفنّاها بعد أن خرجنا ولم نتكلم عنها لكننا نعرف أنها موجودة.

بعد سنوات على محاولة الشفاء من الماضي، كنا مدركاتٍ تماماً أهمية ألا نعود في الزمن في الوراء. لكننا وجدنا أنفسنا هذه المرة نتأرجح على خط الذكريات، نستعيدها ثم نُعيدها بسرعة إلى مكانها قبل أن تلسع أصابعنا. مع الحديث لم نستطع أن نقاوم الغواية، غواية النبش في ما كان. هل لذلك علاقة بالذكرى العاشرة الثورة؟ لا أعرف فعلاً. لكننا وجدنا أنفسنا خلف شاشاتنا، نحدق بقلق إلى صور وجوه بعضنا، نتفرس ما وراءها ونحاول أن نسحب الكلام العالق في الداخل. قلق خطِر، ممزوج بفضول وخوف وألغام نلتفّ حولها ونحاول ألا نقترب منها.

المظاهرة الأولى، دمشق

تذكرنا المظاهرة الأولى من جامع الدقاق في الميدان. في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 2011 ذهبنا إلى دمشق للمشاركة بمظاهرة هناك، بعد فشل المظاهرة التي خططنا لها في مدينتنا في القلمون. كان سماح والدي لي بالذهاب إلى دمشق غير متوقع أبداً. فقد كان يُطْبق عليّ الحصار ويمنعني من التواصل حتى مع صديقاتي. بعد محاولات كبيرة لإقناعي بأنّ ما أزجّ نفسي به عواقبُه وخيمة جداً، فقد الأمل، وأصبح يراقب تحركاتي ويُقيّدها.

كيف قَبِل والدي، الذي كان يمنع عني الموبايل واللابتوب، ذهابي إلى دمشق؟ هل كذبت كما يجب؟ هل بدا كلامي صادقاً له؟ أم أنه فقد الأمل من جدوى إطباق الحصار؟

كانت الخطة أن نتظاهر في منطقة جوبر. اتصلنا بصديق لنا، تعرفنا عليه على تويتر، ليخبرنا بإحداثيات المظاهرة. الإحداثيات لم تكن تعطى إلا قبل المظاهرة بدقائق وعن طريق رموز. «جامع الأصمعي، بتحطوه وراكن وبتمشوا ضغري ضغري، في كومة طحين. مقابيلها». ضحكنا على اللهجة الشامية ومط الحروف في آخر الكلمة. بعد أن انتظرنا ساعة كاملة ونحن ندور ونلف في مكاننا، اتصل بنا الصديق وأخبرنا أن المظاهرة «فقست». أخبرت صديقنا أنني سأهتف في منتصف الحارة وأن الناس ستتجمع. كان واضحاً أن تجمع الناس في المكان ليس عن عبث. الجميع ينتظر كلمة تكبير لكي يردد وراءها.

«إنتي كنتي مجنونة ع الآخر»، تقول لي ناريمان. لا أعرف إن كنت مجنونة، فأنا إنسانة تفكر بالعقل كثيراً، أو هكذا أعتقد عن نفسي. لكن بالنسبة لي كانت تلك المظاهرة أملي الوحيد. بكيت عندما شعرت بعجزي وبفشل المظاهرة. لا أعتقد أن ما يمشي في دمي كان كريات حمراء وبيضاء فقط، وإنما هذه معجونة بأدرينالين. كنت خائفة من أن «تفقس» المظاهرة. كنت خائفة من ألا تكون كبيرة كما يرضي خيالاتي، كنت خائفة من أمي وأبي، لكن لم أكن أفكر بوقتها بالنظام أو الموت أو الاعتقال. عدنا إلى البيت نجر أذيال الخيبة. كنت أشعر أني سأموت دون أن أحظى بمظاهرة يمكن لحنجرتي أن تنطلق وتنطق فيها. في اليوم التالي عرفنا أن هناك مظاهرة في الميدان قرب جامع الدقاق. ذهبنا إلى المكان في الوقت المحدد لنجد باحة الجامع مليئة بالصبايا والشباب. دقائق قليلة وعلا صوت الهتاف. كنا نُخفي وجوهنا عن طريق حجاباتنا التي نلفها حولها، لكن الأغطية لم تكن قادرة على أن تخفي عضلات وجهنا المبتسمة.

هجم رجال الأمن على المظاهرة بالهراوات والأسلحة. شعرت بالخوف وأنا أراهم كالمجانين ينقضّون على المتظاهرين. شدَدَتُ على كف صديقتي، أمسكتُ بها وكأني أستمد منها القوة. ماذا يمكن أن تفيدني يد صديقتي الطرية أمام شراسة العالم الذي نواجهه؟ لكن الضغط كان مفيداً وكان يهدئ قلبي. عدنا إلى المنزل وقرأنا الأخبار. ارتعدت عندما قرأت في الأخبار أن 16 شاباً استُشهدوا وعشرات تم اعتقالهم. مرت بضع دقائق وبدأنا نبحث عن مظاهرة أخرى يمكننا أن نشارك فيها قبل موعد رجوعنا في اليوم التالي.

التخطيط للمظاهرة النسائية

قبل ذلك التاريخ، وبعد سبع شهور على الثورة، قررنا أن نتظاهر في مدينتنا. كنا أنا وصديقاتي، وأخريات نثق بهن، نريد أن نخرج في مظاهرة نسائية. مظاهرة تجعل رجال المدينة يتحركون. قبلها كنا قد افتتحنا صفحة على الفايسبوك ننشر فيها عن الثورة ونحث على التظاهر. شعرنا مع الوقت بفقدان الأمل، وبأن الطريقة الوحيدة لكي يتحرك الرجال هو أن تخرج النساء. لم تكن الصفحة تلقى رواجاً حقيقياً. في الحقيقة كانت الصفحة مكاناً للتعليقات المسيئة والاتهامات والتهديدات القذرة. انتقلنا بعدها إلى البخ على جدران المدينة؛ المدارس والكنائس ودور العبادة والبيوت. كنت أشعر بالعار وأنا أعد نقاط التظاهر التي تنقلها لنا الجزيرة، وأرى أن مدينتنا، كل جمعة، ليست من بينها. كنت أشعر بخزي كبير. مَن هؤلاء الذين كبرت بينهم؟ تعمّق لا-انتمائي للمكان. «من إيديهن [يستحقون ذلك]»، يقول الناس في الشوارع تعليقاً على قصف حمص، ودرعا، وريف دمشق. وأنا أتمنى أن يشتعل غضبي.

قررنا أنا وصديقاتي أن نخرج بأول مظاهرة. المحافظة على السرية كانت الأولوية المطلقة لتنفيذ العملية، وقد فعلنا كل ما بوسعنا، أو اعتقدت ذلك على الأقل وقتها. ناريمان لا تتذكر شيئاً من ذلك، وأنا أحاول أن أذكّرها بالتفاصيل. غريبة هي الذاكرة البشرية، وغريبة هي التفاصيل التي تقرر أن تحتفظ بها. كان والدي مسافراً خارج البلد، واغتنمتُ الوقت حينها لأخطط وأنظم بعيداً عن عينيه.

قبل يومين من المظاهرة، اتصل بنا عمي. أخبرتني أمي أن عمي يريد رؤيتي. ارتعدت. علاقتي مع عمي قوية، لكنه لا يدعوني هكذا للكلام عادة. تذرعت أن علي الدراسة للمادة يوم غد، وأخبرتُ أمي أن تخبره أني سأراه غداً. قالت لي أمي: اتركي كل شي من إيدك ورُوحي! لم أرَ أمي صارمة كهذا، لم أرَها مكسورة هكذا.

ذهبتُ إلى بيت عمي. كان عمي جالساً خلف الموقدة جلسته البوذية الهادئة، ويضع في حضنه مخدة يريح يديه عليها ويبقى هادئاً ما شاء من الوقت. دعاني للجلوس قربه. جلستُ قبالته على البساط الذي اعتدتُ الجلوس عليه، ونظرت عبر النوافذ الكبيرة. كانت هناك طبقة من الغيوم السوداء والكحلية تحجب السماء. كان يحاول أن يمهد لي الموضوع، بينما كنت أتأمل قطرات المازوت التي تغذي نار الموقدة، وأنا أحاول أن أضبط معها تنفسي وأرتب معها كذباتي.

طلب عمي من أبنائه أن يذهبوا للنوم. أخرج الهواتف من الغرفة. هاتفي أيضاً. قال لي: «17 بنت، بالساحة اللي ورا الجامع؟».

تظاهرتُ بعدم الفهم، وأنا أُخرس صوت الشياطين التي تسرح وتمرح في وعيي. كيف عرف العدد والمكان!! سألتُه عن قصده. أجابني أن رجلاً طيباً، له علاقة وطيدة مع الأمن، سرّب له التفاصيل. تابعتُ الإنكار وأنا أتحرّق لمعرفة التفاصيل التي أدعي أنها لا تهمني ولا تخصني.

أي اختبار للأعصاب هذا الذي أنا فيه؟ كيف سأخبر صديقاتي الآن أن الخطة بعد غد فشلت؟ كيف عرفوا؟ قاطع عمي سيل أفكاري: «بكل الأحوال هنن ناطرينكن، أسماءكن كلها عند المجمع الحكومي، وبس تطلعوا رح يقشوكن واحدة ورا واحدة». تابعتُ في الإنكار الذي استفزّ عمّي. عدل عمي جلسته، وثبت نظرته في عيني: «إذا كان ما بيهمك يعتقلوكي، فكرتي بستّك؟ فكرتي بأبوكي؟ وإذا دوّروا على أبوكي وما لقوه، بياخدوا مين؟ عمّك! طيب أنا ما بدي اتجرجر على الحبوس بسببك!». حاولت أن أشتّت انتباهي، وبحثتُ عن خيط المازوت لكي أعيد ضبط أنفاسي. نظرتُ إلى عمي بتعالٍ وأخبرته أن الرجل الطيب الذي نقل له الكلام كاذب. بدأ عمي يتحاشى أن ينظر إلي بشكل مباشر، وبدا وكأنه يطحن الكلام بأسنانه وقال: «ستّك إذا بتعرف بشي، بتموت. بدك تموتيها؟ بتعرفي عمي شو ممكن يعملوا فيكي هنيك؟ بالمعتقل؟».

عدتُ إلى المنزل. كانت أمي جالسة على الأريكة. قالت لي: «هدّيتيني يا إمي». تراخت ركبتاي تحتي. هربتُ من الرعب إلى المجاز، وفكرت كيف أن كلمة «هدّيتيني» لها معنيان: الهدّ والتهدئة. قطعتْ أمي سيل أفكاري ورمتني بنظرة اخترقت أحشائي وقالت: «لو كنت جبل كان انهدّ». شاخت أمي في دقائق، وهوى في داخلي الجدار الذي بنيتُه. لم تكن والدتي منفعلة كعادتها، ولم توبّخْني. كانت كلماتها مقتصدة، قالت لي: «أبوك مأمّن فيني فيكي. وأنا أمّنت فيكي. بتعرفي شو عم تعملي فينا؟».

شعرتُ أن داخلي مقبرة كبيرة، أو زنزانة تحت الأرض. لم تَهُن عليّ أمي، كدتُ أهوي على ركبتَيها وأقبّل يديها وأقول: «والله ما بقا عيدها، مشان الله ما تزعلي». لوهلة صَحَت في داخلي الثورة، وأصواتُ آلاف المعتقلين الذين فقدهم أهاليهم، وفكرتُ للحظة: بماذا يختلفون عن أهلي؟ لفّتني هالة من القسوة، رمقتُ أمي بنظرة باردة وقلت: «ولا شي من اللي قالوه لعمّي صح! كلو كذب، هنن عم يخوفونا. بتعرفي إنو وقتي كلو عم حضر للبكالوريا. إيمت بدي إفضى خطط مظاهرات؟».

بينما كنت أعبر البيت باتجاه غرفتي، ألحّ عليّ السؤال: والآن ما العمل؟ وجدت نفسي أجيب: أن أقطع روابطي بعائلتي، أن أجعلهم لا يحزنون علي، ولا يكترثون لأمري. الطريق الذي أمشي فيه نهايتُه مظلمة. سأموت تحت التعذيب بلا شك. عليّ أن أحرِّر نفسي وأن أحرِّرهم مني. بكثير من الأناة، وبأقل قدر من الضوضاء. سأقاوم. كنت أطفو على مصيري المحتوم. شعرت بالعجز. بالألم يعتصرني من خاصرتي. لماذا عليّ أن أجيب على كل هذه الأسئلة؟ وصلتُ إلى غرفتي. بكيت وانتحبت وغفوت فوق كتاب الجغرافيا إلى اليوم التالي.

أول بخ على الجدران

قبل ثلاثة شهور من مظاهرتنا التي نخطط لها، بدأنا نبخ الجدران بكثافة في المدينة، شيء من تحضير الوعي العام للثورة. أو هكذا حسبنا. نضحك عندما نتذكر ردود فعل الناس على كتاباتنا على الجدران. كنا نبتكر شعاراتنا الخاصة. لكنها لم تكن تصمد دقائق على الجدران، ويذهب ابتكارنا أدراج الرياح.

الذكريات المضحكة تخفف عنا الألم، لا يمكن أن نتألم ونضحك في وقت واحد. نتذكر عندما التقينا في منزلي، وجاءت هند وهي متعرقة مصْفرّة اللون. صعدَتِ الدرج بسرعة والبخاخات تُصدر طنيناً فضائحياً في حقيبتها. رائحة الغاز من البخاخات تفوح في المكان، وأصابعها ملوّنة بالحبر الأزرق. دخلتْ وهي تلهث وتحكي لنا ما حدث معها. دخلت أمي إلى الغرفة أثناء حديث هند لتبحث عن كتاب لوالدي وتُلقي السلام على صديقاتي.

غمزتُ صديقتي أن تسكت. تساءلتْ والدتي عن سبب رائحة الغاز في الغرفة والألوان على يد هند وجبهتها. كان على هند أن تخترع في ثلاث ثوان قصة محبوكة من كذبات متتالية متناسقة مع بعضها ومنطقية. اخترعت هند قصة أنها تريد التقديم على مسابقة للرسم في دمشق وأنه تم قبولها والرسم سيكون بالبخاخات، وعليها في أسبوع أن تقدم لهم عملاً لكي تترشح للجولة الثانية! صدّقتْ والدتي القصة وشعرت بالخوف من الموهبة التي اكتشفتْها للتوّ عند صديقتي. فتحتُ فمي من الدهشة. نظرتْ لي هند مبررة وقالت بعجلة: «لك هاد من الأدرينالين!».

في ذلك اليوم كانت هند تبخّ الحيطان حول مدرسة في أحد الحارات في منتصف البلد، رآها أحد شبيحة النظام، وركض خلفها. تركتْ من يدها اللوحات التي تستعملها للبخ وركضتْ حتى وصل بها الطريق إلى بناء قديم لتختبئ فيه. في الطابق الثاني، فاجأها رجل في الأربعينيات من العمر، ممتلئ، يلبس فانيلّا بيضاء مع شيال. تأملتْ هند أصابع قدميه وكرشه المتدلي أمامه، وتشهّدت على روحها. يا لخيبة هذه النهاية! أين الشبيحة ذوي العضلات المنفوخة الذين تصورت هند نهايتها على يدهم؟ ضحكنا وتساءلتُ: لو اعتُقلت هند يومها، هل كان يمكن لنا أن نضحك اليوم على الفانيلّا البيضاء والكرش المتدلي؟ نجت هند، والحقيقة أننا كلنا نجونا مرات لا تحصى كان الاعتقال فيها وشيكاً جداً. من أين أتت كل تلك الجرأة؟

423777_175048332614570_91146377_n.jpg

عشرية الثورة السورية

تتذكر ناريمان كيف كانوا يركضون في مظاهرة قرب مبنى الأمن العسكري في دمشق، ثم حين هجم رجال الأمن ضخام الجثة على المظاهرة، أمسكت صديقاتي أيادي بعضهن وركضن. بعد ثلاث حارات، وعندما تعبن من الركض، توقفت أمامهن سيارة. انفتح الباب وأطل لهم شاب في مقتبل الثلاثين يقول لهن: «اطلعوا اطلعوا لآخدكن لبعيد». ركبت صديقاتي بدون تفكير وذهبت السيارة إلى مكان خارج حدود كفرسوسة. همستْ لبنى لهند، ماذا لو كانت هذه السيارة لرجال الأمن أنفسهم؟ ماذا لو كان المكان البعيد هو المعتقل؟ تأكّدت لبنى أن الأبواب لا تُقفل من عند السائق، ووضعت يدها على المقبض متأهّبةً لأن تقفز. توقفت السيارة وكان المكان البعيد فعلاً؛ ليس تحت الأرض. معقول كنا مجانين لهالدرجة؟ ماذا لو كان رجل أمن؟ ماذا لو؟ من أين كنا نأتي بتلك الجرأة؟

الحصار وقصف المدينة

نحاول أن نغيّر الموضوع. التفاصيل تُغوي بالغوص، لكننا نشعر بالخوف من الألغام المدفونة في الذاكرة والتي قد تنفجر في وجهنا في أي لحظة. تتذكر لبنى أصعب لحظة مرت بها. «لهلأ ما بنسى الخوف اللي حسيتو لما بعتّيلي صورة بيتكن محروق ومو مبين شي من السواد». في نهاية عام 2013 حاصر النظام السوري مدينتنا. بعد أيام من القذف بالأسلحة الثقيلة، دخل الحرس الإيراني والميليشيات إلى البيوت والأقبية وأحرقوا بعضها بساكنيها. منذ ذلك الوقت لم نتحدث عن تلك الأيام. ولم نتذكر معاً. وقتَها احترق نصف بيت ناريمان، التي أرسلت الصورة إلى لبنى، ووصلتها بعد أيام بسبب انقطاع الاتصالات. قالت لبنى: «لما وصلتني الصورة، خفت لدرجة انشلت حركتي. كلما إتطلع باخواتي بتخيل إنو جلدهن محروق وعيونن مطفية».

بعد ذلك الاقتحام، لم يعد «سوف نبقى هنا» شعارنا. أصبح السؤال: «كيف ننجو من هنا؟». لم يعد هناك خيار غير الخروج، ولم تعد كلمة الثورة مهمة كما قبل. نحاول أن نتذكر دون أن نسأل ونفسّر. تفرض الأسئلة نفسها على متاهات الذاكرة ونحن نغير طرقنا عندما نلمحها عن بعد. نقفز بين الذكريات ونبتعد عن ألغام الأسئلة المغروسة فيها. لا نريد أن نفكر كثيراً. وأحياناً نشعر أننا نريد فقط أن نحظى بحياة طبيعية. نشعر بالخجل لأن خططاً عظيمة لإنقاذ العالم قد تلاشت من قلوبنا بهذه السرعة. لقد هبّت الرياح وتعرت نهائياً شجرة الشباب المزدهرة. أتأمل في حيواتنا، هل للثورة أثر؟ لقد تمردنا وخرجنا عن الطوق مراراً. لكن أكثر ما نريده اليوم أن نحظى بحياة عادية، ألا يجوع أهالينا وأن لا يُعتقل أحد منهم. هل عاد الأسطول الذي بنيناه ليمخر في الحوض الصغير الآمن؟

نحاول أن نغير الحديث. أشعر في فمي بطعم المرارة، مرارة سامة. أحدق في صور صديقاتي المتحركة على «الغوغل ميت» وأتلمس ما إذا كان هناك مكان لأُلقي به بتلك الكتلة الثقيلة التي تجلس على صدري وأكاد أختنق بها: هل كنا مجانين؟

    كنا مراهقات

    لأ كنا مفكرين الثورة رح تخلص بكم شهر متل مصر

    كنا مو عرفانين شو حيصير

    ما كنا عم نفكر

    طيب بتندموا؟

    لأ!

    لأ

لم نكن مجانين، لا. ولم نكن طائشات. أتذكر أننا كنا نفكر كثيراً ونتناقش كثيراً. وكنا نحسب تصرفاتنا. أنا كنت أعرف أني سأُعتقل، ولم أكن أجهل ماذا يعني المعتقل. قرأت القوقعة وتكلمت مع الدكتور براء السراج وقرأتُ مذكراته عن السجن. وقرأت لهبة الدباغ كتابها عن الاعتقال خمس دقائق فحسب، وكثيراً من منشورات فيسبوك عن تفاصيل الاعتقال. وكنت أتخيل كل ما يمكن أن يحدث لي. لكن لم يكن هناك خيار آخر للتغيير غير هذا. الأفق المسدود كان يقتلنا ببطء. واخترنا نحن أن نُلقي بأنفسنا فيه ونفتحه. لم نفكر في الثورة ولم نخترعها بل فرضت نفسها على وعينا وجذبتنا إليها.

في مظاهرة الميدان، مرّ كلام والدي ببالي، وحديثُه عن سوريا التي لن تكون إلا عراقاً ثانية. عن أننا «شباب الثورة» لسنا إلا حطباً في مواقد الدول الكبرى. لكني وقتها، عندما ارتفعت أصوات التكبير، شعرتُ بقوة لا مثيل لها تمشي في عروقي. عندما رأيت الشباب والصبايا يهتفون، شعرتُ بروحي كما لم أشعر بها من قبل. لم يسبق لي أن شاهدت منظراً فوق-إنساني بهذه الحدة، ومتوافقاً مع قلبي بهذه الصورة. هؤلاء الشباب، الذين لم أرَ مثل عنفوانهم، مستعدّون كلهم للتضحية بذواتهم من أجل الشي الأكبر. ذوى كلام والدي وتبخَّر. لماذا على أمي أن تكون أهمّ من أمهاتهم؟ وحزنها أهم من حزنهنّ؟ لماذا على أبي أن يتمدد قرب المدفأة مرتاح البال، بينما يهرول آباؤهم من فرع لآخر؟ لم أشعر بوعيي مفتوحاً بهذه الصورة من قبل، لم أكن حاضرة بهذا الشكل من قبل.

هل يمكن لكل هذا أن يكون تهوراً؟ هل يعقل أن يكون والدي على حق؟ ما أشعره في دمي لا يكذب. في تلك اللحظات كنت أشعر أن العالم ليّن، وأننا نشكله بأصواتنا بهتافاتنا وأن الماضي لنا، ونحن ندعك وسخه بأقدامنا.

مرت عشر أعوام. لا يمكنني أن أُنكر ذلك الذي شعرت به روحي. ولا أعرف إن كان علي أن أستغرب من تلك الجرأة.

لمَ خرجنا إلى الشوارع؟ لمْ يكن الجوع أو الرغبة بتغيير نظام الحكم أو الألم هو محركنا، بل كان التوق، التوق إلى الحرية. ومن وقتها ونحن نتسلق هذا الجبل الشاهق، نتسلق قمة الحرية الصعبة. ولكن الحرية ممّن، وممَّ؟ لا أعرف بالضبط، لكن إن كان علي أن أختصر سنواتي العشر الماضية، فقد كانت صعوداً مستمراً على جبل الحرية. الحرية من الأنظمة المستبدة في البداية، ومع الوقت، الحرية من كل المستبدين داخلنا، الدين والأهل والعادات والتقاليد، والعقل المتيبس والأفكار القديمة. لم تنتهِ الثورة في داخلِنا، لكنها أصبحت أكثر تمهُّلاً وأكثر عقلانية، وأصبحنا نحن مليئين بالجراح. ومع الأيام، وبعد أن كبِرنا وتوسَّعت مداركنا، توسع الصراع أيضاً، وفاض عن حدود البلد وحدودنا، وتفجر. الصراع لم يعد صراعاً بين المعارضة والنظام، بل بين الخير والشر، بين الانغلاق والانعتاق.

انتشرت مؤخراً عبارة «تجرأنا على الحلم ولم نندم على الكرامة» في أوساطنا. ترددت كثيراً قبل أن أضعها على فيسبوك. حسناً، لقد تجرأنا على الحلم. لكن ماذا يعني الشق الثاني؟ هل ندمنا على الكرامة؟ هل المقصود أن مجرد قولنا «لا» هو كرامة؟ هل هي مرتبطة بالشق الأول، والكرامة هي الجرأة على الحلم. أعرف أننا تجرأنا، بل أندهش لتلك الجرأة. لكن إلى أين أوصلتْنا الجرأة؟ ماذا بقي لنا من السير المقدس نحو الحرية؟ ما الذي بقي لنا من العبارات التي بخَخْناها على الجدران التي هُدِّمت؟ مالذي ترسَّب في أعماقنا من هتافات المظاهرات؟ عمَّ كنا نبحث ونحن نخطط للمظاهرات، وماذا وجدنا؟ لم يتبق لنا غير الجراح العظيمة. العزيزة علينا. لا أشعر بالندم أبداً، لكن بالحيرة.

لسنا راضيات عمّا وصلنا إليه، لكننا راضيات عن أننا لم نخُن الإنساني الكامن فينا. راضيات أن أحاسيسنا لم تكن متبلدة. تزامنت الثورة مع فترة نضوجنا وتفتُّحنا على الحياة؛ على فهمنا للحرية، لكننا لم نخرج إلى الشوارع لأننا معجونات بالفوضى ومُحبّات للشغب. خرجنا لأننا شعرنا أن خروجنا يمكن أن يغيّر الخط التاريخي المُعوَجّ الذي تسير به الحياة. خرجنا لأن الطريق بحاجة لتصحيح ولأن هناك أفقاً مسدوداً. لأن هناك مخاضاً، عليه أن ينتهي بالولادة. حتى لو يكن الجنين معافى.

تزامنت الثورة مع عنفواننا الذي أردنا به أن نغيِّر العالم، كنا مستعدين أن نبني من أجسادنا جسراً لتعبر من خلاله الأجيال القادمة. لم يكن ما فعلناه جنوناً. بل كان منبعثاً من مأساة كبيرة، أدركتْها حواسُّنا. عندما حلمنا بالتغيير، لم نكن مدركاتٍ للفاجعة التي تنتظرنا، لكن عندما بدأتْ ملامح هذه الفاجعة تلوح لنا، لم يكن بوسعنا إلا أن نكمل.

أشعر بالخوف في روحي، وبتنميل في ذاكرتي وأطراف أصابعي، وأنا أكتب. أفكر في كل ما دفعناه ثمناً لتلك الجرأة وذلك التوق. أفكر في كل الحناجر المهشَّمة، والبيوت التي استُبدلت خيماً، أفكر في أرغفة الخبز المعجونة بالدم، في الجدران التي كتبنا عليها وأصبحت حطاماً، في مئات الشباب الذين تظاهروا وأصبحت أسماؤهم أرقاماً. وأتساءل: تلك الجرأة التي كانت تدفعنا لنحفر عميقاً في الأرض بكل ما أوتينا من قوة، هل نحاكمها بما فعلت؟ أم بما سعت للوصول إليه؟

موقع الجمهورية

—————————

من ربيع دمشق إلى الربيع العربي/ بشر سعيد

دمشق عام 2000، وصل الأسد الابن للسلطة. ودخل هذا الحدث في مخيال الإنسان العربي، وكأنه السيناريو المنتظر أو الحتمي في كل “جمهورياتنا”، وبالفعل بدأت الأحداث تتحرك في كل واحدة من تلك الجمهوريات نحو هذا المصير.

لذلك فإنني أعتقد أن واقعة التوريث في سوريا كانت أحد أسباب الربيع العربي، حيث اندفع الشباب في بقية البلدان لتجنب هذا المصير. كما أننا، نحن السوريين، مررنا من 2000 إلى 2010 بعدة محطات أسهمت في انطلاق الثورة في سوريا.

وفاة ربيع دمشق عام 2001 شطب على وعود الإصلاح قبل أن يجف حبر “خطاب القسم”، كما أن الغزو الأميركي للعراق 2003 جاء كفرصة لتشديد القبضة الأمنية، وفي عام 2005 صدر “إعلان دمشق” الذي طالب بالتغيير  التدريجي السلمي والديموقراطية، ولم يحظ بأي تفاعل إيجابي من قبل السلطة، لكن في مطلع 2008، وبعد أيام على مؤتمر إعلان دمشق، جرى سجن واعتقال ومحاكمة العديد من قياداته وأعضائه.

إنها سلسلة من الأحداث جرى خلالها استغلال كل فرص القمع أو السيطرة، مع تفويت كل فرص الإصلاح التي حاولت بعض قوى المعارضة تفعيلها.

عندما بدأت الثورة في تونس أجرى بشار الأسد مقابلة صحفية ذكر فيها أن الربيع العربي لن يمر بسوريا وأن الإصلاح يحتاج جيلاً آخر.

بالنسبة لي وللشباب الذين أتواصل معهم، و”نحن عقلنا على قدنا” كما يقولون، لم نكن مستعدين لسماع كلمة جيل. كانت تلك المقابلة في ذهني عندما قررت المشاركة في الاعتصام أمام وزارة الداخلية في دمشق يوم 16 آذار 2011، والتي دعت لها شخصيات سورية وعائلات للمعتقلين “العشرة الأفاضل”.

شعرت أنها فرصة لدفع عجلة الإصلاح المتوقفة، فالرئيس ربما يكون بحاجة لدفعة.. خاصة “أنه” قال أيضاً في إحدى مقابلاته السابقة، أنه إذا تأخر الإصلاح فإن من المتوقع من الناس أن يعبروا عن استيائهم من ذلك التأخير.

الأحلام كانت كبيرة..

عموماً، وبعد ما جرى في تونس وسرى شعور عام بأن الأمر لن يقف هناك، البعض كان متفائل جدا.. والبعض أيضاً كان متخوفاً جداً.

بعض الشباب والناشطين تحركوا عند السفارة الليبية، وتجمعوا هناك عدة مرات لمؤازرة الشعب الليبي، وكل هتاف كان يرفع هناك، كان يحمل وجهين، وجه يتجه إلى القذافي والشأن الليبي، ووجه محلي يتحدث عن سوريا دون ذكرها بالاسم. هذا كان في شهر شباط 2011.

لاحظ البعض في سوريا تراجعاً في حضور رجال الشرطة والمرور في الشوارع في دمشق، ربما كانت محاولة لترك مسافة أمان وعدم السماح لأي شرارة أن تتولد عن أي احتكاك.. الحديث كان بيننا أنه متى ستبدأ.. وأين.. وكيف؟

قناة الجزيرة مباشر كانت تعرض رسائل نصية يرسلها المشاهدون، للتعليق على الأحداث، وكانت بعض الرسائل “مشفرة” بشكل ما وتتحدث عن سوريا، وكان فيها لمسات لطيفة وفنية، خاصة تلك المستوحاة من شعارات النظام نفسه.

مظاهرة الحريقة كان لها صدى مختلف، لأنها كانت “مظاهرة”، بشهادة وزير الداخلية.

ثم مظاهرة الحميدية ثم اعتصام الداخلية ثم انتفاضة درعا وبقية القصة.

في اعتصام الداخلية، نسقنا للمشاركة مع 9 شباب وشابات، أصدقاء وأقرباء، وصلنا متأخرين “بضع دقائق” فكان الاعتصام قد فُض. وقفنا نتأمل مشهد ثلة تهتف بالروح وبالدم، وصياح هناك.. وصراخ هناك!!

دون أن أنتبه اختفى بقية الشباب من حولي، تلفتت فشاهدت أخي يدخل محل حلاقة، دخلت خلفه وكنت آخر الواصلين، فوجدت نبيل شربجي، مكلبشاً على كرسي الانتظار، وفي المحل أسامة نصار وزوجته ميمونة، والصديقة دانة الجوابرة، إضافة إلى 3 رجال أمن وصاحب المحل.

للأسف لا أتذكر أي كلام قاله أحد غيري، لكنني بدأت أتكلم فوراً، قلت بصوت عال وكررت: “أنا معه، كلبشوني معه”. ولعلي قلت أيضاً وبتكرار: “أنا ما عم بضرب، حدا”.

كنت أيضاً أمد يدي من بين رجال الأمن وأحاول أن أقترب من نبيل. رفض رجال الأمن تحقيق مطلبي!! ثم تعرضت للمسك من الخلف ثم أنزلوني للأرض ثم قرروا اعتقالي ووضعي جنب نبيل، لم يكن معهم كلبشات إضافية، أخرجوا أخي وابن عمي خارج المحل، لكنهما بقيا عند الباب مطالبين بالعودة للداخل، فأدخلوهم وجلسوا جنبنا.

إذا كان هذا يبدو سريالياً، فالبقية أيضاً سريالية.. عندما كنا سنصعد إلى “سرفيس الأمن”، كان آخر من سيركب معنا أسامة نصار وزوجته ميمونة العمار و”هي حامل في الشهر السابع” فقال لها عناصر الأمن: اذهبي أنتِ. فنظرت إلى زوجها وقالت: لا أعود بلا زوجي، فقالوا لهما: “انقلعوا انتوا التنين”، لكن أسامة قال: لا أعود دون أصدقائي، فقالوا: إذاً اصعدوا جميعاً إلى الباص!!

في “السرفيس” إلى الفرع حاول رجال الأمن فرض حضورهم، فرددنا على كل كلمة قالوها، حتى إننا منعناهم من التدخين، استناداً إلى مرسوم رئيس الجمهورية!!

تابعنا هذا الموقف وهذه العقلية في الفرع كلما كان ذلك ممكناً، أدخلونا غرفة كبيرة، كان فيها ضابط أمن يتحدث مع سهير الأتاسي، وهو يدخن، بادره أخي: التدخين ممنوع في الأماكن العامة!!!

فأشار الضابط إلى ورقة ملصقة على الجدار مكتوب عليها شيء يبرر التدخين في هذا المكان، وطلب من العناصر إخراجنا من الغرفة إلى مكان آخر. في كل فرصة كنا نعبر عما في قلوبنا.

في اليوم التالي نقلونا إلى المحكمة، ثم إلى سجن عدرا حيث تجمع أكثر من 20 شاباً من مختلف محافظات سوريا في غرفة واحدة لمدة أسبوعين، كانت غنية بالحوارات ومليئة بالنقاشات والبركات.

جرى إخلاء سبيلنا على دفعتين.. خلال أسبوعين..

قصة سريالية.. وقد تبدو فنتازيا تاريخية اليوم!

تلفزين سوريا

——————–

شباب الثورة السورية.. والعبور نحو اليوم التالي/ عمر مشوح

لقد فعلت الثورة فِعْلها! فبعد عشر سنوات من ثورة الحرية والكرامة في سوريا، يستطيع الجميع أن يقول إن هناك انتصارات واضحة.. وهناك هزائم واضحة.. وهذا أمر طبيعي في جهد بشري مرهون بعوامل النصر والهزيمة وسنن التاريخ والثورات.

لكن الأمر الأكيد الذي نقوله وبكل ثقة إن الثورة لم تتوقف.. وإن الثورة فعلت فعلها في كل المجالات:

أسقطت جدران خوف بعمق أربعين عاما من الاستبداد والطغيان..

أزاحت القناع عن الوجه الطائفي للنظام وتركيبته الأمنية البوليسية..

فككت مصطلح المقاومة الذي كان يختبئ خلفه النظام وأعوانه..

أجبرت الجميع على إعادة صياغة تحالفاته في المنطقة..

أزاحت بعض أوراق التوت التي كان يتغطى بها المجتمع الدولي..

والأهم في ذلك كله أنها أوجدت فضاء جديدا من الحرية (حتى وإن لم يكتمل) لكن الكثير عايشه واقعا بعد أن كان حلما صعب المنال!

تقول حنة أرندت إن الهدف الأساسي للثورة هو “تكوين الحرية”!

وهذا ما كانت الثورة السورية تهدف له.. أن نسترد شيئا ثمينا سُرق منا، سُرق من طبيعتنا الإنسانية، من فطرتنا.. ألا وهو الحرية!

كان يجب علينا أن نواجه “قضية الضرورة الملحة” حسب تعبير حنة أرندت في كتابها (في الثورة)، وكانت الضرورة الملحة بالنسبة لنا هي العودة للحياة بدل أن نبقى على قيد الموت!

لم يعد هناك داع للخوض في أسئلة جلد الذات مثل (هل ندمنا؟) و(هل كانت اللاثورة أفضل من الثورة) و(هل أخطأنا في عسكرة الثورة) و(هل فهمنا تعقيد العلاقات الدولية وطبيعة هذا النظام) إلخ من هذه الأسئلة التي تجاوزها الزمن وتجاوزتها التضحيات، وأصبحت نافذة لجلد الذات والهروب من واقع صعب!

السؤال الملح الآن.. والسؤال الذي هو واجب الوقت وعنوان المرحلة الثانية للثورة هو: ماذا علينا أن نفعل لليوم التالي؟

والجهة الوحيدة التي يجب أن تجيب عن هذا السؤال هم شباب الثورة السورية.. الشباب الذين أشعلوا شعلتها وأوقدوا نارها وكبروا في حضنها!

وعندما نتحدث عن اليوم التالي، فإننا نقصد مرحلة نقل الثورة إلى طور جديد يُحَافظ فيه على المكتسبات التي تحققت، ويعيد بناء الهوية الوطنية الجامعة، ويستمر في اقتلاع جذور الاستبداد داخل الدولة والمجتمع، ويركز على بناء الإنسان وتفعيل دوره المستقبلي لبناء سوريا، وهي معركة أشد صعوبة من المعركة الأولى.

لكن الحديث عن اليوم التالي يجب أن يسبقه الحديث عن “الكتلة الحرجة” التي تحمل المشروع وتمضي به نحو بر الأمان، الكتلة المتفاهمة.. المتناغمة.. التي تتجاوز تنوعها الفكري والثقافي والقومي لتلتقي عند مركزية الوطن وهويته الجامعة.

وهذه الكتلة الحرجة من شباب الثورة السورية لا بد لها من:

أولا: التوافق التام والإيمان العميق بأولوية استمرار الثورة واقتلاع جذور الظلم والاستبداد، الإيمان الكامل بأن اللعب في الهوامش قد يؤدي للخروج من المشهد وفقدان التأثير، الإيمان الكامل باستقلالية القرار الوطني والابتعاد عن المحاور والاستقطابات!

لم يعد مقبولا الحديث عن أنصاف الحلول أو نصف الطريق حين الحديث عن الحرية والخروج من قيد الموت وإنهاء منظومة الاستبداد.. من لم يكن مؤمنا إيمانا كاملا بهذه “الضرورة الملحة” فلن يستطيع أن يكون جزءا من اليوم التالي الذي يعيد بناء الإنسان على أسس جديدة وهوية وطنية جامعة.

ثانيا: إيقاف المعارك الدونكيشوتية بين الإسلاميين والعلمانيين، بين العرب والكرد، بين ألوان الطيف المجتمعي والفكري جميعا!

في هذه المرحلة لا مكان فيها إلا لمعركة واحدة هي معركة مقاومة الاستبداد والظلم، تعبنا جدا وأنهكتنا هذه المعارك الجانبية ذات التوقيت الخاطئ والشحن المتعمد من بعض المتوترين من الطرفين!

الكتلة الحرجة هي تنوع بشري يشمل كل الفسيفساء السورية، لأن المعركة واحدة والمستقبل مشترك بين الجميع.. ولا يمكن لطرف دون آخر أن يخوض وحده معركة بهذا الحجم وهذه التضحيات!

ثالثا: تخطي العوائق والقيود المؤسساتية التقليدية والأطر المعيقة لتشكيل فضاء جامع فاعل وديناميكي ومؤثر في معادلة الواقع الجديدة.

لا بد من مقاربات جديدة في الرؤية وآليات العمل والتخلص من “إرث” الأطر القديمة الذي لم نكن شركاء فيه، تكرار التجارب وتكرار المشاريع أصبح ثمنه خياماً مهترئة على الحدود، وطابور انتظار طويل من أجل رغيف خبز.. وثمنه الأكبر ازدياد معاناة المعتقلين والمعتقلات في سجون الأسد!

العبور نحو اليوم التالي يتطلب شجاعة وصراحة وصبرا على التحديات والعقبات..

يتطلب شجاعة لأنه يتطلب جهدا كبيرا من أجل استقلالية القرار الوطني وإعادة رسم معالم التحالفات الداخلية والخارجية على أساس أهداف الثورة وأجندة الشعب السوري وليس أي أجندة أخرى..

ويتطلب صراحة مع شعبنا وبين بعضنا البعض، لأن الطريق ليس مفروشا بالورود وربما نواجه تضحيات أكبر ونحتاج نفسا أطول في الطريق حتى ننال حقوقنا.. ولسنا بِدعا في التاريخ، فهذه هي سنن الثورات التي أحدثت تغييرا حقيقا!

يجب أن يضع شباب الثورة السورية في أذهانهم أن هذا العبور نحو التالي، وهذه التضحيات وكل هذا الجهد والتعب والعرق والدماء.. قد لا يرون ثمارها!

ولكن على الأقل من أجل مستقبل سوريا.. من أجل مستقبل أولادنا وأحفادنا حتى لا نتركهم غدا يتسولون الحرية على أبواب الطغاة والمستبدين!

تلفزيون سوريا

———-

——————————–

هل يبقى بلد اسمه سوريا؟/ خيرالله خيرالله

ليس أصعب من الكتابة عن ذكرى مرور عشر سنوات على الثورة السورية وليس أسهل من ذلك. كان هناك بلد اسمه الجمهورية العربية السورية. في غضون عشر سنوات لم يبق من سوريا التي عرفناها سوى هيكل عظمي يبحث عن صيغة جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. انهار بلد كان مرشّحا لأن يكون مثالا يحتذى به في المنطقة لولا حزب البعث وتخلّفه وعقد المنتمين إليه، وقبل ذلك أولئك الذين دفعوا في العام 1958 إلى الوحدة مع مصر من أجل بناء نظام أمني كان رمزه ضابط مجنون اسمه عبدالحميد السرّاج.

توّجت المأساة السورية بجنون آخر ليس بعده جنون عبّر عنه ضباط  علويون اعتقدوا أن في استطاعتهم استخدام شعارات البعث من أجل تغطية حكم الأقلية التي ينتمون إليها لسوريا إلى ما لا نهاية.

كان طبيعيا فهم لماذا بدأت الثورة الشعبية في سوريا قبل عشر سنوات. ما يصعب فهمه يتمثّل في ما انتهت إليه سوريا التي لم يعد ممكنا التكهّن بأنّه ستقوم لها قيامة في يوم من الأيام. نعم، من الصعب فهم لماذا كلّ هذا الدمار الذي حلّ بسوريا ولماذا كلّ هذا التهجير لشعبها ولماذا صار تسعة سوريين من أصل عشرة تحت خط الفقر، كما تؤكّد المنظمات الدولية المختصة التي تحاول مساعدة السوريين على إيجاد رغيف.

ليس مستبعدا أن تكون هناك سوريا جديدة يوما، لكن السؤال الذي سيظل مطروحا يرتبط بالشكل الذي ستكون عليه سوريا الجديدة. هل تكون دولة فيدرالية من دون احتلالات أجنبية أم تظلّ في حال من التشرذم.

في النهاية، من يعتقد أن الدول لا يمكن أن تمرّ بمرحلة مخاض طويلة مخطئ كلّيا. يمكن أخذ الصومال كمثال على بلد تشظّى في العام 1991. لا يزال الصومال إلى اليوم يبحث عن نفسه. كذلك، يمكن الكلام عن اليمن الذي لم يعد معروفا هل يمكن أن يعود موحّدا مستقبلا في ظلّ صيغة ثابتة يمكن التوافق عليها بعدما سقط المركز الذي كان يدار منه البلد. هذا المركز اسمه صنعاء. لم يعد المركز موجودا منذ قرّر الإخوان المسلمون خوض حربهم على نظام علي عبدالله صالح، داخل صنعاء نفسها، في شباط – فبراير 2011. مع سقوط المركز، صار اليمن في حال من الضياع. قد يجد نفسه يوما وقد لا يجدها. في الإمكان الاستعانة بتجربة ثالثة في محاولة لاستشفاف مستقبل سوريا. هذه التجربة هي يوغوسلافيا التي بدأت تتفكك مع وفاة جوزيف بروز تيتو في العام 1980. ما كان يوغوسلافيا، صار دولا عدّة مستقلة من بينها صربيا وكرواتيا ومونتينيغرو… والبوسنة.

قرّر النظام السوري التصدي لقرار الشعب بالثورة عليه. قرّر الانتهاء من الشعب. بسبب رفض الاعتراف بأن الشعب السوري، بأكثريته الساحقة، لم يعد قادرا على تحمّل النظام، انتهت سوريا التي صارت في السنة 2021 تحت خمسة احتلالات. نجح النظام في مخططه إلى حد كبير نظرا إلى أن ما يهمّه هو البقاء في السلطة ولو على كومة رماد وحجارة وليس بقاء الشعب أو سوريا. على العكس من ذلك، إنّ تهجير السوريين من مدنهم وقراهم هدف بحدّ ذاته للنظام.

لكن السؤال الذي سيطرح نفسه دائما كيف يستطيع نظام أقلوي الذهاب إلى النهاية في عملية تستهدف التخلّص من شعب كامل والاعتقاد في الوقت ذاته أن في استطاعته حكم سوريا مستقبلا؟

عندما يتعرّف المرء على منطق النظام، لا يعود أمامه ما يثير العجب. على العكس من ذلك، يكتشف أنّ التخلّص من الشعب هو الطريق الأقصر أمامه كي يبقى بشّار الأسد في دمشق رافضا أخذ العلم بما يدور في المنطقة والعالم. من يتخذّ قرارا بتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005، يسهل عليه كلّ شيء. يسهل عليه أخذ سوريا ومعها لبنان إلى الخراب والدمار الكاملين! من يتخذ مثل هذا القرار، غير مدرك لأبعاده، لن يرى لاحقا سببا يحول دون الاستعانة بالميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران من أجل الدفاع عن نظامه ثم بالجيش الروسي كي يؤكّد أنّه ما زال حيّا يرزق…

كان القرار الذي اتخذه النظام والقاضي بالتصدي للثورة طبيعيا يندرج في سياق سلوك لا يعرف النظام غيره. أسست تجربة حماة في شباط – فبراير 1982 لهذا السلوك. تمرّدت مدينة على النظام. جاء الردّ بمحو هذه المدينة من الوجود وتشريد عشرات الآلاف من أهلها. من شتاء العام 1982 إلى آذار – مارس 2011، عندما كتب مراهقون في درعا على الجدران “الشعب يريد تغيير النظام” وشعارات أخرى تتناول بشّار الأسد، لم يتغيّر شيء. لا وجود للغة أخرى يفهمها النظام غير لغة إلغاء الآخر. لهذا السبب وليس لغيره، يمكن القول إنّ لا أمل بإعادة تشكيل سوريا، هذا إذا كان ذلك ممكنا في ظلّ النظام القائم.

لماذا اندلعت الثورة في سوريا؟ كلّ ما في الأمر أن المواطن السوري لم يعد قادرا على تحمّل نظام يعامله معاملة لا تليق بالحيوان. رفض الجيل الجديد في سوريا ما كان يقبله الآباء، خصوصا بعد إدراك أبناء الجيل الجديد ما يدور في العالم وكيف أن النظام حوّل سوريا إلى سجن كبير في حين كان مفترضا بها أن تكون بلدا منفتحا على كلّ ما هو حضاري في العالم.

بعد عشر سنوات من الثورة التي لم تعد ثورة، إلى أين تتّجه سوريا؟ الأكيد أنّ لا مستقبل للنظام. من يعتقد أن بشّار الأسد سيبقى يحكم سوريا، إنّما يراهن على سراب. ليس الحصار الذي تتعرّض له سوريا والعقوبات التي تستمرّ دول العالم، وآخرها بريطانيا، في فرضها على شخصيات تابعة للنظام سوى دليل على أنّ إعادة تأهيل لبشّار الأسد لن تحصل غدا وأنّ على السوريين انتظار سنوات أخرى طويلة قبل معرفة هل سيبقى بلد اسمه سوريا…

إعلامي لبناني

العرب

—————————–

“الثورة السورية” بوصفها محكمة تفتيش/ إيلي عبدو

ليس غريباً وجود أشخاص، وربما جماعات، متحمسين للتخلص من النظام السوري لكنهم مؤيدون بشدة لصدام حسين أو لتنظيم “الدولة الإسلامية”، ثمة انفصام في التعاطي مع القاتل، انطلاقاً من انتماءات طائفية وسياسية وإيديولوجية.

تُستخدم مقولة الموقف الأخلاقي لانتقاد أصحاب المواقف الرمادية أو غير المحسومة تجاه “الثورة السورية”، والمقولة تلك، تفتقر للتعيين، لناحية تعدد مصادر الأخلاق تبعاً لقناعات حامليها، واختلاف تفكيرهم وأحياناً انتماءاتهم، بمعنى أن داخل “الثورة” نفسها تختلف التصورات تجاه الأخلاق.

اختلاف الأيديولوجيات والعقائد يرتب اختلافاً في النظر للأخلاق. والأيديولوجيا والعقيدة تساهمان عادة بتقليص مقولة “الموقف الأخلاقي” وحصرها في اتجاه خلاصي يغفل إدانة الكثير من المجازر والمذابح طالما أن هناك هدفاً مزعوماًَ سيتحقق. بالتوازي، ما هو أهلي وطائفي وريفي وقبلي، يدخل مقولة “الموقف الأخلاقي” في إشكالية تجعل الفرز بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، أمراً يخضع للأهواء والميول والانتماءات أكثر بكثير مما يخضع لقيم واضحة تستتبع فرزاً واضحاً. أي أن الأخلاق لا تنبع مما هو فردي وخاص، وتجارب وانفتاح على العالم والحداثة، بل مما هو جماعي وعام وانغلاق على الجماعة والعقيدة.

بين الخلاص والانتماء الضيق، تعثّر تحديد “الموقف الأخلاقي”، ما استوجب في السياق السوري، تعميمه عبر تأطيره في صيغ “انحياز للقتيل ضد القاتل”، أو “للحرية ضد الاستبداد” أو “للعدل ضد الظلم”، في إحالة إلى مبادئ عامة، منزوعة عن سياقاتها الحديثة المتمثلة بترتيبات تتعلق بوجود الدولة والتشريع والقوانين، أي أن الانحيازات لا تنتج عن الأفكار وما تستدعيه من حوامل، وإنما عن موقف سياسي إجرائي سطحي، يريد أن يتخلص من القاتل دون أن يمتلك أفكار ضد القتل نفسه.

 وعليه، ليس غريباً وجود أشخاص، وربما جماعات، متحمسين للتخلص من النظام السوري لكنهم مؤيدون بشدة لصدام حسين أو لتنظيم “الدولة الإسلامية”، ثمة انفصام في التعاطي مع القاتل، انطلاقاً من انتماءات طائفية وسياسية وإيديولوجية. الموقف إذا يستعمل بالضد من دلالته وهدفه، وكبديل عن بناء تصور للأخلاق يتصل بالقيم الحديثة، وليس بانتماءات تنتج التناقض والانفصام وتحلل القتل أو تنكره هنا وتدينه بشدة وحماس هناك.

من هنا فإن، قسماً من مناصري “الثورة” السورية، وبسبب افتقارهم لأدوات تطوير موقف أخلاقي يستند إلى قيم حديثة، وليس إلى إيديولوجيات وعقائد وانتماءات، استعاضوا عن ذلك، بجعل الموقف معياراً حاداً يفتقر إلى الشمول، فإن كان شخص ما يملك تصوراً دونياً للمرأة وينفي وجود الأقليات ويناصر نظاماً استبدادياً آخر، يكفي أن يعارض النظام السوري ليكون صاحب “موقف أخلاقي”، فيما الرماديون الذين لديهم ملاحظات على “الثورة”، حتى لو حملوا بعض القيم، فهم بدون، “موقف أخلاقي”.

تُستخدم مقولة الموقف الأخلاقي لانتقاد أصحاب المواقف الرمادية أو غير المحسومة تجاه “الثورة السورية”.

هكذا تحولت الثورة إلى محكمة تفتيش، تفرز على أساس موقف ضيق وفقير أخلاقياً بالمعنى الفكري والمعرفي، يستند إلى ما هو عقائدي وديني وقبلي، ويغفل عن ما هو حديث. والموقف هذا ثابت وغير تاريخي، وغير قابل لامتحان الزمن، ذاك أن “الثورة السورية”، اختلطت بتحولات شتى، من تظاهرات سلمية إلى التسليح فالحرب الأهلية وصولاً إلى التطرف، رغم ذلك، “الموقف الأخلاقي” الذي يحاكم الغير، لا يتبدل ولا يخضع لإعادة التقييم، انطلاقاً من أن الكثير من سلوكيات النظام اللاأخلاقية جرى تكرارها من قبل قطاعات محسوبة على “الثورة”.

طالما أن الموقف الأخلاقي مفصول عن القيم الحديثة، ومرتبط بما هو ما قبل دولتي، وبالإيديولوجيات كما فُهمت في بلداننا، فسيبقى يعمل بالضد من هدفه، وسيستخدم لإنتاج نقيضه، أي جعله ديناً، غير تاريخي، يفرز محاكم تفتيش، هدفها طرد المختلف.

رفض القتل والتعذيب وتشريد البشر وتجويعهم لابد أن ينبع من معطى فردي ومتصل بالقيم الحديثة المتأتية من الحداثة الغربية، وليس جماعاتي متصل بالطائفة والعقيدة، وإلا فإن “الموقف الأخلاقي”، الذي نشهره ضد المترددين في إدانة الدكتاتور و أفعاله، سيكون في مقلب ثان، أداة تلميع لديكتاتور آخر عملاً بالتناقضات التي يفرزها فهمنا الضيق لمقولة “الموقف الأخلاقي”.

درج

———————–

في ذكرى الثورة السوريّة: أتمنى لو خرجتُ في تظاهرةٍ واحدة/ كارمن كريم

بعد عشر سنوات أتمنى لو خرجت في تظاهرة واحدة، وفي حين كنت أراقب الأيدي التي تصفق والحناجر التي تنادي بحريتها لم يكفني ذلك يوماً، لكن عجلة الثورة السورية كانت غير متوقعة…

أتتخيلُ العيش في بلادٍ تُراقَبُ فيها كلّ تفاصيل حياتك؟ يُمنع عليك التفكير كما تشاء، تحيا وفق نظام حُددت فيه تحركاتك مسبقاً ولا حيلة لك سوى الرضوخ، هل تخيلت الحياة في بلد تشعر فيه طوال الوقت بأنك مراقب وستُعتَقل في أيّ لحظة؟

ليس هذا بجديدٍ في سوريا، أستطيع ذِكر عشرات الأسماء لرجالٍ ونساء في حيّنا الصغير، عملوا مخبرين للنظام السوريّ، يكتبون التقارير الأمنية بحقّ من ينتقده أو يشك بتوجهاته السياسية ليُعتَقل بعدها. كتابةُ التقارير في سوريا عملٌ كأيّ مهنة أخرى كالسائق والمعلم والطبيب، يعيش المخبرون بفضل وشاياتهم، يطعمون أطفالهم بأموال يتقاضونها لعملهم إلى جانب المنظومة الأمنية، ويخشاهم السوريون بقدر خوفهم من النظام.

اثنان زائد اثنان يساوي خمسة

في رواية 1984 لجورج أورويل، يمتلك النظامُ البلادَ بأكملها، تنتشر شاشاتٌ تراقب تحركات كلّ شخص، تتجسس على كلّ فرد في منظومتها الاستبدادية، يعمل نظام “الأخ الأكبر” كما يُسمى على محو التاريخ وإعادة كتابته والسيطرة على المواطنين، لا يجرؤ أحدٌ على التمرد أو الكتابة أو الثورة، فالرقيب “الأخ الأكبر” في كلّ مكان. تحكي الرواية كيف يعمل النظام الشمولي والديكتاتوري على كسر إرادة البطل المتمرد وبتر رغبة التغيير في داخله حتى يرضخ، في النهاية وبعد تعذيبه يجيب أن اثنين زائداً اثنين يساوي خمسة، هكذا تُمحى الثورات والرغبة في التغيير.

من المثير للسخرية أن تكون وزارات هذا البلد المتخيل تعمل ضد تسميتها، مثلاً “وزارة الحبّ” تحثُّ على الكره واليأس، “وزارة الحقّ” تُغيّر التاريخ بما يتوافق والتحالفات المتغيرة، و”وزارة السلم” تشنُّ الحروب.

هل كان يعلم جورج أورويل أن فتاة سورية ستشبه بطل روايته وتكتب في الخفاء، بينما يخفق قلبها بقوة؟

تصلح الرواية مثالاً عن الحياة داخل سوريا، مثالاً واضحاً وقاسياً. “اثنان زائد اثنان تساوي خمسة”، تعني في سوريا تصديق رواية أن الثوّار عملاء وأن الحرب برمتها هي مؤامرة على الشعب السوريّ! يقابلها في سوريا “المؤامرة الخارجية والأسد المُنقذ”، خلال عشر سنوات بتنا نردد دون دراية، “اثنان زائد اثنان تساوي خمسة!”.

يحاول بطل رواية 1984 كتابة مذكّراته الخاصة وما يمرّ به بعيداً من عين الرقيب وشاشاته ليعتقل بعد اكتشاف أمره، اليوم نكتب أنا وعشرات الصحافيين بأسماء مستعارة بعيداً من أعين النظام السوريّ، هل كان يعلم جورج أورويل أن فتاة سورية ستشبه بطل روايته وتكتب في الخفاء، بينما يخفق قلبها بقوة؟ لكنني حين أصل إلى السؤال المخيف أقول لنفسي: هل سيكتشفُ أمري يوماً؟ هل سأجبر كما بطل الرواية على الرضوخ وترديد: “اثنان زائد اثنان يساوي خمسة!”.

من يرغب باعتقال ابنته؟

لماذا حقاً أريد الكتابة عن الثورة السوريّة؟ أنا التي لم تخرج في تظاهرة واحدة بسبب ضغط عائلتي وخوفهم علي، وفي كلّ مرة قُمِعَتْ فيها تظاهرة أو أُطلق النار على المحتجين، نظرتْ أمي نحوي بذعر من دون أن تقول شيئاً، في الحقيقة كانت تقول كلّ شيء، ماذا لو خرجتُ لمرة واحدة؟ وكسرت كلّ هذا الخوف الذي أحيا فيه حتى اليوم؟

بعد عشر سنوات كُتبت خلالها آلاف المقالات والتحقيقات والمواد المرئية والمسموعة عن الثورة السورية، ماذا بقي حقاً لنكتب عنه؟ فعلى رغم انكشاف وحشية نظام الأسد وعلى رغم الكتابة عن آلام السوريين، لم يتغير شيء، لم تنجح الثورة في تغيير النظام، الثورة التي تحولت في لحظة إلى حرب، راح ضحيتها الآلاف وملايين النازحين في الداخل والخارج، ونحن الباحثين يبحثون عن التغيير، رأيناه، رأينا أبشع صور الموت والخوف والتعذيب.

 أدركُ أن التغيير لم يحصل في البلاد وحسب، فأنا تغيرتُ أيضاً. مشت الحياة والموت جنباً إلى جنب لتصنعا مني إنساناً جديداً. البقاء في سوريا مرغمةً أجبرني على التغيير، على التحول والتمرد بطريقتي ورؤية سوريا من زاوية لم أتخيلها يوماً، لكن كل ذلك داخلي وفي كتاباتي المختبئة خلف اسم آخر.

مع الوقت رحت أشعر بالقوة وبالرغبة في التمرد، وفعل أي شيء أقول من خلاله: “أنا ضد هذا النظام”، أتتخيل أن تبقى صامتاً وكلّ هذه الفظائع تمرّ أمام عينيك؟ أرغب بالحرية وحياة ديموقراطية، إنها أمنيات صغيرة ومستحيلة في آن، يعلم السوريون هذا الأمر جيداً، لكن حين ترغب بالحرية حقاً لن يكسرها النظام حتى لو تمَّ اعتقالك أو غُيّبت، لأنك حين تشعر بالحرية يحدث هذا دفعة واحدة ويصبح تجاهله أمراً مستحيلاً.

لكن لا بد من التحايل على أساليب الحريّة المعروفة في العالم، فالبعض يتظاهر وآخرون يخرجون عراة أو صامتين، كلّها طرائق للاحتجاج لكنها ممنوعة في سوريا ببساطة، لذلك كان عليّ البحث عن طريق أخرى للحريّة، كانت البداية بنسف كلّ الأفكار التي تمّ تلقيني إياها والبدء من جديد، البحث والقراءة والتفكير وحدي بقناعة ورضا.

وحين صرت جاهزة للتمرد، لم يكن بيدي حيلة بخاصة أننا كنا قد عايشنا تجربة اعتقال عمّي وكانت فكرة معارضة النظام ملغاة بشكل كامل من قبل عائلتي. أعلم أنهم محقّون في جانب ما، فمن يرغب باختفاء ابنته لأشهر، ليراقب آثار التعذيب على جسدها بعد خروجها، السياط المحفورة على ظهرها والصمت القاتل التي يسود في كلّ مرة تتحدث فيها عن لحظات التعذيب؟ لا أحد يتمنى لابنه الدخول إلى سجون الأسد.

في البداية يتجاهل الجميع التغيير، نحاول حماية أنفسنا منه، أعرّفها تلك السنين بالموت والغضب والصراخ والمظاهرات، هربت في بدايتها إلى الحب وأدركت بعد سنوات أنني هربتُ إلى حبّ عنيفٍ ومستحيلٍ كالحياة في سوريا، اكتشفت أن كلّ ما سأعيشه هو وجه للثورة والحرب، ونجوت بصعوبة، نعم أنا يائسة من الثورة والحريّة والحب، هذا ما يعيشه آلاف الشباب في الداخل، من المنصف ألّا نُحمّل أنفسنا أكثر من طاقتها ونعترف بضعفنا، في النهاية إنها عشر سنوات من القمع والخوف والاعتقال والنزوح والأزمات الاقتصادية، نعم أنا يائسة لكنني لا أستطيع التوقف عن الكتابة كيلا أختفي وسط مخاوفي وأحلامي.

 لا يستطيعون حرماننا من التفكير

كنت في بداية العشرين حين شاهدت أوّل تظاهرة في مدينة درعا، بدا المشهد مفزعاً ومثيراً في آن، لفتاة ريفية ربتها عائلتها وفقاً لقواعد اجتماعية ودينية وسياسية محددة، لا يمكن وصف ما شعرت به حينها سوى بالخوف، الخوف الذي سيرافقني كما الملايين، وسيكبر بين جدران المعتقلات وغرف التعذيب.

غيرتني الثورة والحرب السورية كما يكبر طفل صغير، من دون أن يشعر بذلك، والفتاة التي شعرت بالذعر عند مشاهدتها التظاهرة الأولى راحت مع الوقت تشعر باالنشوة وبقوة، كيف شعرتُ بالفخر والزهو لرؤية تظاهرة قد يخرج الأمن السوري في أيّ لحظة ويمحوها عن بكرة أبيها!

بعد عشر سنوات أتمنى لو خرجت في تظاهرة واحدة، وفي حين كنت أراقب الأيدي التي تصفق والحناجر التي تنادي بحريتها لم يكفني ذلك يوماً، لكن عجلة الثورة السورية كانت غير متوقعة، فجأة وجدنا أنفسنا نذوب كالملح في مياه هذا العالم القاسي.

على الطرف الآخر لا أستطيع تجاوز حجم الكارثة في داخلنا، والضوء الذي يكاد ينطفئ في كلّ يوم، قد تكون أمي عانت من ويلات الحرب لكنها اليوم تشتم نظام الأسد بصدق وبإدراك حقيقي لحجم ديكتاتوريته، وأنا هذه المرة أقول لها “وطي صوتك”، نحن رقباء بعضنا بعضاً في النهاية، خوفاً على بعضنا من التعذيب، خوفاً على أحبائنا، نحن منعنا بعضنا من الخروج في التظاهرات لأن “الأخ الأكبر” مخيف ويصل إلى كلّ مكان.

ستدرك أن زيادة القمع تعني دوماً طريقة ما للتمرد، للتعبير حتى لو ضمن حلقات ضيقة برفقة الأصدقاء، يستطيعون حرماننا من كل شي إلّا من التفكير والخيال. باتت الكتابة تحت اسم مستعار تعني ظهور معارض جديد للنظام ولو كتبتُ باسم مستعار ثانٍ سيغدو اثنان مني معارضين له، وهكذا رحتُ أشعر ببعض الرضا بعد سنوات من الندم والشوق للتعبير والحكي.

أود الكتابة بقدر يأسي اليوم، يقول صديقٌ لو عشنا بعدُ ظروفاً أصعب مما نحن فيه لكن حصل شيء ما وانقلب الوضع، سنغفر كلّ ما حدث معنا. هل حقاً سنسامح الحياة ونبدأ من جديد لو سقط هذا النظام وتمكّن السوريون من بناء دولة ديموقراطية تخصهم؟ هل سيغدو كلّ ما مضى حكايات نفخر أننا مررنا بها ويأساً جاءت بعده الحريّة والحياة؟!

درج

—————————-

لم نفهم سوريا على الوجه الصحيح/ روبرت فورد

روبرت فورد

عندما كنت سفيراً للولايات المتحدة لدى سوريا، منذ عشر سنوات، غالباً ما كنت أتوجه بعد العمل سيراً على الأقدام، إلى متجر محلي يبيع اللحم بالعجين، كي أشتري منه وجبة العشاء، وأحملها معي إلى مقر إقامتي. وفي سيري، كنت أمر بمقاهٍ ومحال تجارية كان الناس يتابعون فيها، عبر شاشات التلفزيون، الأحداث الجارية في مصر، وفيما بعد الأحداث في ليبيا واليمن.

وعلمنا مساء 17 فبراير (شباط) بالمظاهرة السلمية التي خرجت، ذلك اليوم، في سوق الحريقة في قلب دمشق، على بعد ثلاثة كيلومترات من مقر سفارتنا. وأرشدني أحد السوريين إلى كيفية العثور على معلومات عن هذه المظاهرة على شبكات التواصل الاجتماعي. كذلك، علمنا بالأحداث التي وقعت في درعا من أصدقاء سوريين، أخبرونا عن كيفية الوصول إلى المعلومات عبر «فيسبوك»، وتابعنا الشبكات الإخبارية خلال تلك الأيام الأولى مثل باقي السوريين.

وعندما أستعيد اليوم ما جرى، أجد أننا كنا نلهث باستمرار لمحاولة اللحاق بتطورات الأحداث في سوريا. والأهم من ذلك، أننا لم ندرك أنه بحلول عام 2012 تحول الأمر إلى حرب حقيقية. أما السوريون على الأرض، الذين عاشوا تحت وطأة البراميل الحارقة والهجمات بالأسلحة الكيماوية، فقد أدركوا هذا الأمر. في المقابل، أصر مسؤولون أميركيون يعيشون بعيداً في واشنطن، على الحديث عن «عدم وجود حل عسكري». وكررنا هذا الأمر آلاف المرات منذ عام 2011 حتى يومنا هذا، إلى درجة أن هذه العبارة تحولت إلى عقيدة راسخة في أذهاننا.

ومع ذلك، تبقى الحقيقة أنه في الحروب، يظل التوازن العسكري الأمر الأكثر أهمية.

جدير بالتذكير في هذا الصدد، أن ستالين، عندما حذره مستشاروه من أن بابا الفاتيكان سيغضب إزاء تصرفات السوفيات داخل بولندا، الدولة الكاثوليكية، كان تعليقه «كم عدد الكتائب التي يملكها البابا؟». وبالفعل، ظل الجيش السوفياتي داخل بولندا طوال 49 عاماً.

من ناحيتهم، لم يستجب الأميركيون بعدما تدخل الطيران الروسي على نحو مباشر في الحرب السورية في سبتمبر (أيلول) 2015، وتوقع الرئيس باراك أوباما أن الروس بذلك سيسقطون في مستنقع شبيه بما واجهه الأميركيون في فيتنام. لكن ما ينبغي الانتباه إليه هنا، أنه في فيتنام، كان الاتحاد السوفياتي والصين يبعثان بمزيد من الإمدادات والأسلحة إلى فيتنام الشمالية مع كل تصعيد أميركي.

ولم تدرك واشنطن، من ناحيتها، أنه من دون التصعيد من جانب المعارضة السورية، لن يكون هناك مستنقع في انتظار روسيا. ولا أزال أسمع البعض في واشنطن يعربون عن أملهم في أن تواجه روسيا مستنقعاً سورياً. لكن الواضح أن التوازن العسكري يميل لصالح موسكو ودمشق، وأن بمقدور موسكو تحمّل تكلفة الحرب في سوريا بسهولة.

وبالمثل، لدى الأميركيين كثير من الأمل في قوة العقوبات الاقتصادية للحصول على تنازلات من بشار الأسد، الذي من الواضح أنه سيبقى على عرشه رغم العقوبات.

علاوة على ذلك، وقع الأميركيون في خطأ الظن بأن الاتفاق بين وزراء الخارجية، أثناء اجتماعات «مجموعة أصدقاء سوريا»، يوازي الاتفاق حول الاستراتيجية والتكتيكات العسكرية في الحرب. وقد أخفقنا من جانبنا في حل مشكلة تعارض المصالح والأجندات الوطنية، والأفعال المتضاربة لأجهزة استخبارات الدول «الصديقة لسوريا»، التي أضرت بـ«الجيش السوري الحر»، وشكلت عوناً عسكرياً للأسد.

أما الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الأميركيون، فهو عجزهم عن استيعاب كيف يفكر السوريون.

شخصياً، زرت حماة في يوليو (تموز) 2011 لبعث رسالة إلى حكومة الأسد، مفادها أنه حال ارتكابها مذبحة فإننا سنراقب الوضع بدقة، على خلاف ما حدث عام 1982. وذكرت هذا بالفعل خلال لقائي بوزير الخارجية وليد المعلم، الاثنين التالي لزيارتي للمدينة.

بيد أنه للأسف، تركت زيارتي انطباعاً لدى الكثير من المتظاهرين السوريين بأن واشنطن تدعم «تغيير النظام»، وجاء التصريح الصادر عن أوباما في أغسطس (آب) 2011، حول ضرورة تنحي الأسد، ليعزز هذا الانطباع الخاطئ.

إلا أنه في واقع الأمر، وبعدما حصل في بغداد عام 2003، رغبت واشنطن في تشكيل حكومة وحدة وطنية من أجل إدارة شؤون البلاد خلال فترة انتقالية، يُتفق عليها في مفاوضات بين السوريين أنفسهم. ومع هذا، فإن أفعال وتصريحات الأميركيين خلال الفترة بين عامي 2011 و2019 نقلت نقطة التركيز بعيدا عن المفاوضات السورية، باتجاه تدخلات دول أجنبية.

والآن، يأمل الأميركيون في أن يُجبرَ نموذج الإدارة المتمتعة بالحكم الذاتي، الأسد على تقديم تنازلات. إلا أنه مع تركّز الحكم في أيدي مجموعة عرقية منفصلة وميليشيا مستقلة وإدارة مستقلة، لا يعي كثير من السوريين معنى اللامركزية أو الفيدرالية، لكنهم يخشون من أن تسفر هذه التحركات إلى تقسيم بلدهم.

ولا يعي غالبية المؤيدين الأميركيين لإدارة الحكم الذاتي، كيف يستغل الأسد هذه المخاوف. وربما يرغب السوريون المحليون الذين يتولون إدارة إدلب وعفرين والحسكة ودير الزور في وجود سوريا موحدة، لكنهم لا يوضحون كيف السبيل إلى تحقيق ذلك.

وبطبيعة الحال، سيستغرق بناء هذه الرؤية والخطة بعض الوقت، لكنه سيتطلب تنازلات كبرى لن تبقى سراً. وسيكون من الضروري أن تكون هذه التنازلات مؤلمة، خصوصاً من منظور التوازن العسكري. وربما من الضروري أن تبدأ المناقشات المتعلقة بهذا الأمر بمجموعات صغيرة، ثم تتسع تدريجياً، مع ضرورة أن تأتي الأفكار وجهود التنظيم من جانب السوريين، وليس من الأميركيين.

تجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن الألمان استعادوا وحدتهم عام 1990 بعد مفاوضات بين الشطرين الشرقي والغربي لألمانيا، جرت على مسار، في حين انهمكت دول الاحتلال الأربع في مناقشة الأمن الإقليمي الأوروبي على مسار مختلف. ولم يكن ممكناً التوصل إلى اتفاق، لو أن الألمان لم يتوصلوا فيما بينهم لاتفاقٍ في المقام الأول.

خاص بـ«الشرق الأوسط»

الشرق الأوسط

—————————

البحث عن مبادرة عربية لحل الأزمة السورية/ بهاء العوام

الإدارة الأميركية الجديدة لا تريد استخدام القوة العسكرية لإسقاط الأنظمة الاستبدادية ونشر الديمقراطيات حول العالم، هذا ما أكده وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. ولكن ماذا عن استخدام القوة الاقتصادية؟ ألا تستحق هذه السياسة المراجعة وقد أثبتت فشلها في تغيير المستبدّين أو حتى تقويم سلوكياتهم ولو امتدت لعقود؟ هي فقط تزيد من معاناة الشعوب التي تخضع لسلطة الاستبداد.

عقوبات قيصر على سوريا بدأ تنفيذها منذ نحو تسعة أشهر، فوصل الدولار الأميركي إلى ما يقارب أربعة آلاف ليرة سورية، وأصبح أكثر من تسعين في المئة من السوريين يجدون صعوبة في تأمين طعامهم وحاجاتهم الأساسية. أما العملية السياسية المتمثلة بمفاوضات اللجنة الدستورية في جنيف، فلم تتقدم قيد أنملة طوال هذه الشهور، وبعد بضعة أشهر سيترشح “الرئيس” للانتخابات.

الولايات المتحدة لا تريد من العقوبات أن تشعل ثورة جياع تنتزع بشار الأسد من السلطة. لو كان الأمر كذلك لما تخلّت عن الثورة السورية التي اشتعلت في 2011، بل تبنتها ليرحل الأسد كما رحل غيره خلال أيام. لا يوجد فرق بين ثورة الجياع وثورة الحالمين بوطن أفضل، لذلك فإن قانون “قيصر” جاء فقط ليزيد تعقيد الأزمة ويدفع بها نحو عشرية سوداء ثانية تنتهي بتقسيم دولة سوريا.

الاستعصاء في حلحلة الأزمة سياسيا، وما يواكبه من تدهور في الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بسبب عقوبات قيصر، أثاره وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد بعد لقاء نظيره الروسي خلال زيارته إلى أبوظبي ضمن جولة خليجية شملت الرياض والدوحة أيضا. ومن ضمن الخطوات الضرورية لاحتواء الأمر برأي الإمارات، يأتي توفير الأجواء لعودة سوريا إلى الجامعة العربية.

الوزير الإماراتي ينظر إلى الأزمة ضمن مقاربة واقعية لمعالجتها في سياق عربي دولي يحرّرها من التجاذبات الإقليمية والدولية التي تقسّمها حاليا إلى كيانات ودويلات. طبعا تمثل تركيا وإيران الطرفين الرئيسيين في التجاذبات الإقليمية، وكلا الدولتين تحاولان فرض حضورهما على الديموغرافية والجغرافية السورية لتحيلا مناطق بأكملها إلى محافظات أو ولايات تتبع لأنقرة أو طهران.

حجّة الطرفين هي “حماية” الأمن القومي من الخطر القادم عبر الحدود، وكل منهما يزعم مساعدة الشعب السوري في استعادة بلاده المدمّرة بفعل عقد من الحرب متعددة الأوجه والأقطاب. أما الحقيقة فإنهما يساعدان النظام على البقاء عبر الدعم العسكري كما تفعل إيران، أو تعطيل حل الأزمة كما تفعل تركيا.

هل تحتاج الأزمة السورية إلى مقاربة جديدة عربيا ودوليا. نعم، ومن أدرك ذلك ليس فقط الإمارات بل عدة دول عربية تعتبر أن استرداد المبادرة في حل هذه الأزمة، يأتي في سياق حماية المنطقة من التدخلات التركية والإيرانية في شؤون دولها. ولهذا سارع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى قطر ليعطّل المساعي الروسية في الحشد باتجاه مثل هذه المقاربة العربية للأزمة.

جاء الوزير التركي ليقول إن قرار الدوحة يتبع لأنقرة في الأزمة السورية، ولن يسمح للقطريين بالخروج عن المسار الذي صاغه “السلطان” رجب طيب أردوغان في هذه الأزمة. عليهم أن يؤيدوا السياسة التركية في هذا الملف، ويدفعوا الأموال للشخصيات والكتل والميليشيات السورية التي تعمل في المناطق التي يحتلها الجيش التركي شمالا، بالإضافة إلى تعطيل أي قرار عربي تجاه دمشق.

يبدو هذا الدور مناسبا جدا لقطر، لأنه يجنّبها الحرج مع إيران التي يتوجّب أيضا على الدوحة مراعاة مصالحها في المنطقة، إما من خلال الإنفاق على ضمان استمرار الأزمة السورية، أو من خلال الاعتراض على أي محاولة عربية لمحاصرة نفوذ طهران فوق الأراضي السورية.

تجاهل حقيقة أن الأزمة معقدة لارتباطها بتجاذبات كثيرة بين عدة قوى متناحرة، لن يفيد السوريين. كذلك لن يفيد عدم اعترافهم بأن الثورة لم تعد ثورة، والصراع على السلطة إضافة إلى تردي الأوضاع الأمنية والإنسانية والاقتصادية، باتت سمات عامة في كل المناطق، سواء تلك الخاضعة لسيطرة النظام وحلفائه أو التي تدعي “الاستقلال” وهي مكبّلة باحتلال تركي أو بوصاية أميركية.

على ضوء هذه المعطيات يجب أن تولد المبادرات العربية لحل أزمة سوريا. لا يتعلق الأمر بمن يجلس على الكرسي المخصص لها (سوريا) في مقر الجامعة العربية، وإنما بطرح رؤية عادلة من الأشقاء الذين لا يحلمون باقتطاع مساحات من أراضيها، ولا يريدون هيمنة لتركيا أو إيران على أجزاء منها، ولا يدعمون نجاح مشاريع انفصالية لطائفة أو قومية هناك، كما لا يقبلون باستمرار مأساة النازحين واللاجئين إلى الأبد، ولا ينكرون حاجة السوريين إلى المصالحة الوطنية.

عندما تتوافر مثل هذه الرؤية، ويحصل التوافق حولها مع الروس والأميركيين، تتكفل الجامعة العربية بترجمتها واقعيا عبر تشكيل مجلس انتقالي يخرج عن حوار سوري – سوري تحتضنه دولة شقيقة. لن تستطيع إيران وتركيا عرقلة مثل هذه المساعي أبدا، وخاصة إن حصلتا على تأييد من مجلس الأمن، وأبدت الجامعة استعدادها لدعم المجلس السوري بالمال أو حتى القوات إن احتاج الأمر.

بعد عشر سنوات من الموت والدمار ثمة محاولة روسية لخلق مقاربة جديدة للأزمة السورية عربيا، وهي تلتقي مع حاجة المنطقة إلى مواجهة مشروعين توسّعيين واضحين يهددانها، هما الإيراني والتركي. صحيح أن موسكو تبحث عن مصالحها الخاصة في هذه المقاربة، ولكنها تعيش مأزقا في سوريا يضطرها إلى صياغة تلك المقاربة بما يلبّي التطلعات العربية، ويفرض نفسه بديلا عن أستانة وسوتشي وأي مسار يتجاهل العمق العربي للدولة المتوسطية، وينكر على السوريين بمختلف قومياتهم وطوائفهم ودياناتهم، حقهم في بناء دولة مواطنة مدنية وديمقراطية.

العرب

——————————

ّ”بوليتيكن” الدنماركية: 10 سنوات على حمام الدم السوري وأوهام الجلاد بشار الأسد/ ناصر السهلي

خصصت “بوليتيكن” الدنماركية مساحة واسعة، في عددها الصادر اليوم الأحد، لتغطية موسعة لذكرى الثورة السورية، وخصصت غلافها للملف الذي تناولته على عدد من صفحاتها.

وتحت عنوان: “الجلاد يقطر دما”، كان كاريكاتير الرسام رولد ألس يختصر الكثير، ففيه يظهر فيه رأس النظام في دمشق، بشار الأسد، ببذلة رسمية وكفيه ممدودان أمامه بدم يقطر حتى قدميه، وعلى كتفه اليمنى ينتصب نسر الجيف برأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

باشرت الصحيفة في رسم تسلسل للأحداث (كرونولوجيا الثورة السورية)، قائلة إنه “في مثل هذه الأيام (مارس/ آذار) من 2011 كانت استجابة الديكتاتورية لمطالب شعبية بالحرية بمواجهة وحشية وشراسة، نتيجتها خراب أجزاء كبيرة من البلاد، واقتصاد في حالة فوضى، وتهجير 12 مليوناً، وقتل 500 ألف، وسجن أو إخفاء النظام لنحو 150 ألفاً”.

وأوضحت أن كل ذلك “حدث بسبب أطفال رسموا على جدران درعا السورية مقولة (حان دورك الآن يا دكتور)، وهي رسالة واضحة، واستفزت رئيس أمن المدينة عاطف نجيب، ابن عمة الديكتاتور. وقبل ذلك أجبرت الحشود الغاضبة في تونس الديكتاتور زين العابدين بن علي على الهرب إلى المنفى، وطردت حشود القاهرة ديكتاتور مصر حسني مبارك من السلطة. والأطفال الذين كتبوا (يسقط النظام) عُذبوا وكسرت أصابعهم واقتلعت أظافرهم”. 

وزادت “بوليتيكن” أن أهالي الأطفال “ذهبوا إلى نجيب مطالبين بإطلاقهم، وكان رده فجّاً بقوله: انسوا أطفالكم. إذا كنتم تريدون غيرهم أنجبوا، وإذا لم تعرفوا أجلبوا نساءكم، فنحن ننجبهم لكم”. 

واستعرضت كيف جابه التظاهرات التي اندلعت في حوران، وأن الأسد أرسل جيشه “ليقوم بوحشية ودموية بقمع محتجين مدنيين”، وأشارت إلى أنه “لم تكن هذه المواجهة الأولى بين الديكتاتورية ومدنيي المجتمع السوري، فقد بدأت مبكراً وقبل غرافيتي أطفال درعا، فمنذ انقلاب الأب حافظ الأسد في عام 1970، وبعد وراثة ابنه بشار للسلطة، واجه النظام المدنيين دوماً بالتعذيب والرقابة ومنع الحريات السياسية”. 

خداع شاركت فيه صحافة الغرب

وعددت الصحيفة في تغطيتها ما أسمته مسيرة “السلالة الأسدية الحاكمة، فهي استمرت بعد أن قُتل ابن الديكتاتور حافظ الأسد، باسل، في حادث سيارة عام 1994، استعيد طبيب العيون بشار من بريطانيا، وبعد وفاة الأب كان لا يزال في الـ34 عاماً، فاجتمع البرلمان ليعدّل الدستور عام 2000، بما يتوافق مع سنّه”.

وأوضحت في السياق كيف أن “الوريث بشار ظل في مقابلات صحافية غربية يحاول الظهور بمظهر عصري خداع، وأنه اختار طب العيون لأنه ليس فيه دماء كثيرة، فيما هو في الواقع غارق في دماء السوريين”.

وعن أساليب الخداع، عددت “بوليتيكن” كيف أسهمت صحف ومجلات أوروبية وأميركية في تلميع صور الحكم في سورية، بما فيه إطلاق لقب “زهرة الصحراء” على زوجته أسماء (الأسد)، وأن “”الغارديان” أسهمت في وصف الديكتاتور عام 2008 بأنه (متواضع وحكيم وحساس ويتحدث بجاذبية). وعلى غير تعاطي صحف الغرب مع الطغاة الآخرين حول العالم، بقيت الصحافة الغربية تضفي صورة إيجابية على الرجل، حتى عام 2013″ (لقاء مع “دير شبيغل”).

واستحضرت “بوليتيكن” بعضاً من خدع الحكم، “ففي عام 2000 أوحى أنه عصري، فكان يشجع الكومبيوتر، أغلق سجن المزة المرعب، وترك ما سمي (ربيع دمشق) ومنتديات الحوار يمضيان حتى انقض عليهما وعلى كل ما أشيع عن أنه سيجلب الديمقراطية، وتحول الربيع إلى خريف في 2001 عندما شدد قبضته الأمنية، وزجّ في السجون الصحافيين وأصحاب الرأي النقديين، وأغلق كل المنتديات، ورغم ذلك حافظ على تقديم نفسه للغرب، على خلاف الطغاة، بعبارات إيجابية، حتى صارت دمشق محجاً للدبلوماسيين، بمن فيهم وزير خارجيتنا الأسبق، بيير ستي مولر، والأميركي جون كيري، والعين على سلام مع إسرائيل”.

وفي السياق ذاته، استرجعت الصحيفة “الدور الذي لعبته زوجته أسماء الأسد في خلق أوهام عن القائد العصري والحداثي، حتى ذهبت “نيويورك تايمز” في 2005 إلى إطلاق اسم (الأميرة ديانا السورية) على أسماء، بعد افتتاح أوبرا جديدة في دمشق”.

أمير حرب متعطش للدماء

تحت عنوان فرعي “أمير حرب متعطش للدماء”، خاضت “بوليتيكن” في تفاصيل القمع الذي جوبه به الشعب السوري منذ 2011. واعتبرت أن “بشار الذي قدم نفسه بصورة الخجول، وطبيب العيون الذي لا يحب الدماء، سرعان ما انكشفت حقيقته الدموية، وأزال الشكوك حول أنه لن يستطيع إلا أن يكون مثل أبيه الذي دمر مدينة حماة، وقتل نحو 20 ألف إنسان في 1982، ليثبت خطأ من راهن على تحول سورية نحو الديمقراطية، وثبت أنه ورث ظل أبيه وسمعته الديكتاتورية حول العالم، رغم جهود تلميعه”.

وأشارت الصحيفة إلى كل أساليب القمع، مع تقديم وصف دقيق، مرفق بغرافيك وصور، من إطلاق النار على الاحتجاجات السلمية، إلى حشو البراميل المتفجرة وضرب المدن عشوائياً، “حيث أثبت الأسد استعداده لاستخدام كل الوسائل، كلها حرفياً، من التعذيب إلى التجويع والتهجير تحت البراميل المتفجرة، والقصف بالأسلحة الكيماوية، حفاظاً على السلطة”. 

واعتبرت الصحيفة أن “المفارقة بقاء الديكتاتور، كبقية الطغاة، يردد أن شعبه يحبه كثيراً، وأنه هو بنفسه يحب شعبه وبلده، كما قال لـ”دير شبيغل” (الألمانية في 2013)، لكنه أظهر حبه لشعبه بتلك القسوة والدموية التي حوّل فيها البلد إلى مذبحة فوضوية في مواجهة انتفاضة سلمية”.

إطلالة من القصر على بلد دمره برعاية خارجية

وبالنسبة إلى النتيجة، بحسب الصحيفة في نسختيها الورقية والإلكترونية، رأت أن “ذلك القمع لم يكن كافياً، فجيشه لم يكن قوياً كفاية، فراح يعتمد على تحالفات مع إيران وروسيا، بعد أن استدعى قوات قمع من مرتزقة خارجيين، و”حزب الله” اللبناني، وبعد أن فقد السيطرة على البلاد استعاد حوالى الثلثين بفضل روسيا وإيران”.

ورغم ذلك، رأت “بوليتيكن” أن القمع أدى إلى حرب أهلية، “حيث سُحقت سورية السابقة، وانهار اقتصادها، ولا يستطيع 60 في المائة من السكان تحمّل تكاليف الطعام، وانهارت العملة، وأصبح لبنان المجاور، الذي كان عادة نوعاً من العازل الاقتصادي، على وشك الإفلاس، وخزائن الدولة فارغة، ويعمل الموظفون كسائقي سيارات أجرة، وتبيع النساء شعرهن. فالنقص في كل شيء، وهذا كله لأنه وزوجته، كما ذكر في “دير شبيغل” في 2013، متسائلاً بتهكم: “من هم السوريون الذين يريدون إبعادي عن الحكم؟ لا يزالان يعيشان في أرض الأحلام الغريبة”. 

ومضت في الختام توضح أن “سورية القديمة خسرت، بفضل القمع ومواجهة الثورة الشعبية وتمسكه بالكرسي، كل مكانتها الإقليمية، وتحولت من لاعب كان يحتل لبنان ويملك نفوذاً إقليمياً، إلى ساحة يلعب فيها الغير، وارتهن الأسد لمن حمى سلطته، ويعيش رغم ذلك أوهاماً في قصره الفاره الذي يطل من الجبل، وقد عمل على تحويل بلده إلى أنقاض”.

وأضافت: “قبل إعلان أنه أصيب وزوجته بكورونا، التقى صحافييه الموالين في عزلته الحقيقية عن العالم وبلاده ليقول لهم: “أوقفوا برامج الطبخ حتى لا يشعر الجمهور بالإحباط”. وراح يتحدث عن وعود بعدم تقنين المثلية الجنسية في سورية”.

وواصلت الصحيفة تستعرض نتائج حالة الانفصام بالقول إن “الرجل يعيش وهمه مع زوجته، حيث وجدت  أسماء الأسد الحل أخيراً: التعليم عبر الإنترنت.. بيد أن الحقيقة أن غالبية السكان لا يملكون ثمن الطعام، ولا تياراً كهربائياً في البلاد، رغم أن الكهرباء لا تنقطع عن القصر، ويتوافر الطعام الفاخر لهم، فأهم شيء بقاء سلالة الأسد في السلطة، وهو بقاء محكوم بحماية خارجية، ويخيم على رأسه خطر الملاحقة الدولية”.

وأشارت الصحيفة في الاتجاه ذاته إلى محاكمات جلادي الأسد في الخارج، ودراسة فتح تحقيق في محاكم باريس بحق الأسد لارتكابه هجمات بالسلاح الكيماوي، واعتبرت أن “المكان الوحيد الذي يشعر فيه الأسد بأمان هو في سورية مع أقرب الحلفاء، ولا يعرف إلى متى سيظل الروس والإيرانيون ممسكين بيده، وما إذا كان، مثل العديد من الطغاة، ينهي أيامه الأخيرة غارقاً بمزيد من الدماء أو في زنزانة أحد السجون”. 

———————-

سباق مع الزمن لمنع إتلاف أدلة الانتهاكات في سوريا

يسابق ناشطون سوريون الزمن لمنع إتلاف أو حذف مقاطع فيديو على الإنترنت وثقت العنف الذي استخدمه نظام بشار الأسد ضد شعبه طيلة عشر سنوات من الحرب. وما زاد من عجالة هذا المشروع، هو قيام موقع “يوتيوب” بحذف العديد من هذه الأشرطة كونها تتضمن مشاهد عنف.

وتقوم منظمة “ميونيك” الدولية لأرشفة المواد الرقمية المهددة بالاختفاء، رفقة ناشطين سوريين ومنظمة “الأرشف السوري” بكل ما في وسعهم للحفاظ على هذه الأدلة بهدف محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. واستطاعت “ميونيك” إنقاذ أكثر من 650 ألف مقطع مصور في “يوتيوب”، حسبما أشارت شبكة “فرانس 24” الفرنسية.

وبحسب الشبكة، قام به  الشاب المعتز بالله  منذ أيام النزاع الأولى في سوريا، بتوثيق مقاطع فيديو تروي يوميات الحرب، من غارات قوات النظام الجوية حتى صعود الجهاديين. لكن جهده ذهب سدى بعدما حذف برنامج تشغيل ذاتي العام 2017 أرشيفه الشخصي عن الإنترنت. واعتبر البرنامج الإلكتروني أن محتوى مقاطع الفيديو يخرق معايير موقع “يوتيوب”، لما تتضمنه من مشاهد عنف.

وبعكس فيديوهات كثيرة تمكن ناشطون سوريون من استعادتها، لم يكن ممكناً إنقاذ أرشيف المعتز بالله، الناشط الذي اعتقله تنظيم “داعش” العام 2014 في الرقة وأعدمه جراء نشاطه التوثيقي. ويخشى خبراء وناشطون خسارة أبرز الأدلة التي وثقت أسوأ النزاعات في القرن الحالي مع دخول الحرب عامها العاشر، على الرغم من الجهود الضخمة لحفظها.

وقال الناشط سرمد جيلان، صديق المعتز بالله، لوكالة “فرانس برس” عبر الهاتف من ألمانيا: “لم تكن مجرد فيديوهات تم حذفها، بل هي أرشيف كامل لحياتنا”. وأضاف الناشط الذي كان أحد مؤسسي حملة “الرقة تذبح بصمت”، المنصة الأبرز التي وثقت انتهاكات تنظيم “داعش” في مدينة الرقة، معقل الجهاديين السابق في سوريا: “تشعر وكأن جزءاً من ذاكرتك المرئية مُحي” تماماً.

وعلى غرار شركات أخرى، أطلقت “يوتيوب”، المنصة التي استخدمها معظم الناشطين السوريين لتحميل مقاطع الفيديو، في 2017، برنامج تشغيل ذاتي لرصد وحذف أي محتوى يعارض المعايير المعتمدة من المنصة، كمشاهد العنف والدماء. فأزال مئات آلاف المقاطع المصورة في سوريا. وكانت هذه المقاطع المصورة وثقت الضربات الجوية التي نفذتها قوات النظام على معاقل الفصائل المعارضة، وما خلفته من قتلى وجرحى في صفوف المدنيين والأطفال ومن دمار. ونقلت للعالم مشاهد قاسية من هجمات بأسلحة كيميائية اتُهمت دمشق بشنها. كما أظهرت وحشية الجهاديين الذين استولوا على مناطق واسعة في سوريا ونفذوا إعدامات غير مسبوقة.

وشكلت مقاطع الفيديو التي التقط معظمها شبان سوريون على الأرض، مرجعاً لصحافيين ومحققين للاطلاع على ما يجري في بلد يشهد نزاعاً تعددت أطرافه ولم يكن دخول صحافيين مستقلين إليه متاحاً في كل المراحل.

وعلق جيلان: “تشكل الفيديوهات جزءاً من ذاكرة شعب كامل. كل مقطع يذكرنا بكل قذيفة استهدفتنا، بتاريخ الحدث، حتى بما شعرنا به يومها”.

وبعدما حذف يوتيوب، قبل أربع سنوات، محتوى حملة “الرقة تذبح بصمت”، تمكن القيمون عليها، وفق جيلان، من استعادته بمساعدة من مبادرة “الأرشيف السوري”. وتهدف المبادرة، وفق موقعها الإلكتروني، إلى الحفاظ على “الوثائق المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الأخرى المُرتكبة من جميع أطراف النزاع في سوريا بهدف استخدامها في قضايا المناصرة والعدالة والمساءلة القانونية”.

وتعد المبادرة أحد مشاريع منظمة “مينوميك” الدولية لأرشفة المواد الرقمية المهددة بالاختفاء. وتمكنت منذ العام 2017، من إنقاذ أكثر من 650 ألف مقطع مصور في “يوتيوب”، وهو جزء بسيط جداً مما تم حذفه. وعقبت ضيا كيالي من المنظمة: “ثمة شعور حقيقي لدى من يعمل في مجال التحقيقات عبر المصادر المفتوحة بأنه يصار إلى إزالة التاريخ السوري… إنها عملية نزف ثابتة ومستمرة لمجموعة أدلة”.

والحال أنه بعد مقارنة مقاطع الفيديو المحفوظة لدى “الأرشيف السوري” بتلك المتوفرة إلكترونياً، تبين وفق كيالي، أن ربع المحتوى الموثق لم يعد موجوداً في “يوتيوب”. ويمكن للوضع أن يتفاقم. فقد توصل نواب في الاتحاد الأوروبي نهاية العام الماضي إلى اتفاق أولي يفرض قواعد أكثر تشدداً على منصات التواصل الاجتماعي الكبرى، من بينها إزالة أي مواد تعتبر مسيئة خلال ساعة واحدة فقط من نشرها.

وفي حال تطبيق هذه القواعد، ستزداد محاولات إنقاذ المحتوى السوري صعوبة، ما يدفع المعنيين إلى “أرشفة أي مادة بمجرد أن نجدها”، وفق كيالي.

ويعتمد “يوتيوب” على برامج ذاتية التشغيل فضلاً عن مراقبين لرصد المحتوى. لكن تفشي فيروس كورونا دفع الموقع، وفق آخر تقاريره، إلى الاعتماد بشكل أكبر على البرامج للتقليل من عدد الموظفين في المكاتب. ويعني ذلك أن الموقع قد يحذف أحياناً “محتوى قد لا يشكل انتهاكاً لسياساتنا”.

ورصدت البرامج الذاتية التشغيل 8,8 مليون شريط فيديو من أصل أكثر من تسعة ملايين أزالها الموقع في الفصل الأخير من العام 2020، حُذف نحو 36 في المئة منها قبل حتى أن يشاهدها مستخدمو “يوتيوب”. وأوضح متحدث باسم “يوتيوب” لـ”فرانس برس”: “حين نُبلغ عن أي فيديو أو حساب حذفا عن طريق الخطأ، نعمل سريعاً على إعادته”.

لكن رغم الحذف، يحفل الإنترنت بأرشيف كبير عن سنوات الحرب. وقال نيك ووترز من موقع “بيلينغ كات” المختص بالتحقيقات عبر المصادر المفتوحة: “لدينا كمية مشاهد من الحرب السورية أطول من الحرب نفسها”، علماً أن النزاع السوري ساهم في تحويل “بيلينغ كات” إلى أحد أبرز المراجع التي تعتمد على المصادر المفتوحة، بعدما عمد إلى تحليل صور ومشاهد من سوريا للتحقيق في مزاعم حول هجمات كيميائية.

ولجأت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومنظمات حقوقية عديدة إلى المصادر المفتوحة للتحقيق في صحة هذه الهجمات. وقال ووترز أن المحتوى الذي يحمله شخص ما مهم لناحية تحديد “ما الذي حصل، متى وأين”، لكنه قد لا يكون على هذا القدر من الأهمية حين يتعلق بالإجابة عن سؤالين: لماذا ومن المسؤول؟

إلى ذلك، يرى خبراء أن الصور والفيديو والمعلومات التي نشرها مواطنون على مواقع التواصل الاجتماعي قد تلعب دوراً في المستقبل كأدلة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. وعلق ووترز بأن “كل فيديو أو صورة عبارة عن حقيقة رآها شخص ما”، مضيفاً: “عبر حذف مقاطع الفيديو، خصوصا تلك العائدة لأشخاص قتلوا.. تُدمر كبرى مواقع التواصل الاجتماعي الأدلة”.

————————–

أوجاع سوريا/ حسن مدن

مؤخراً شاهدت، عبر «واتس أب»، فيديو قصيراً صوّره اثنان، شاب وفتاة، كانا يسيران في يوم غائم، وسط خراب البيوت والمنشآت والمرافق، في مخيم اليرموك، ليس بعيداً عن العاصمة السورية، دمشق.

لا بشر بقوا، هناك ولا حياة، ليس سوى ركام المباني، والوحشة الحاضرة في المكان الذي كان يعج بالحياة.

ولأن الشاب والفتاة اللذين صورا الفيلم، بكاميرا هاتف نقال فيما يبدو، عاشا في المخيم، بل على الأرجح أنهما ولدا فيه وكبرا، فإنهما، وبكلماتهما التي كنا نسمعها، وهما يجوبان طرقات المخيم، يشيران إلى أسماء الشوارع التي يعبرانها، والمحال التي يمران أمامها، والمدارس التي درسا فيها، أو درس فيها أحدهما، الواقعة في شارع المدارس بالمخيم.

«هاي بيوتنا.. هون ربينا»، كانت الفتاة تقول، ولكن ما نراه مجرد ركام. بقايا مبانٍ هدّتها القنابل والصواريخ، والله وحده يعلم أعداد من ماتوا بسببها، أو تحت ركام بيوتهم التي هدّت بفعلها.

ومثل هذين الشابين هناك اليوم ملايين العرب من مختلف البلدان، من فلسطين وسوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا، ممن يمكن أن يقولوا الشيء نفسه لو مرّوا بشوارع مدنهم التي مزقتها حروب الداخل والخارج، ويرون كيف أصبحت مرابع طفولتهم، وفتوّتهم، لا بل حيواتهم كاملة، مجرد ركام.

محنة مخيم اليرموك بالذات مزدوجة. إنها مأساة بعنوانين، أو عنوان لمأساتين:

– المحنة الفلسطينية؛ لكونه حوى في جنباته، وعلى مدار عقود اللاجئين الفلسطينيين الذين أتى الجزء الأكبر منهم إليه بعد نكبة 1948، بل إنهم من عمّروه؛

– والمحنة السورية لأن ما حلّ به من دمار على النحو الموجع الذي صوّره الفيديو، هو حصة أهله مما أحاق بسوريا كلها من خراب خلال عقدٍ من الدم والموت، من دون أن تلوح في الأفق بعد هذه السنوات العشر بسوادها الذي غطى سماوات سوريا الصافية، بادرة أمل بقرب نهاية المأساة.

ووفق دراسة قامت بها شركة أبحاث بتكليف من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن ثمانية من كل عشرة شباب في سوريا عانى من فترات وصول محدود للغاية إلى الضروريات الأساسية أو انعدامها، واضطر ثلثاهم إلى مغادرة ديارهم، وأكثر من نصفهم، لقطع دراستهم، وبين الشباب واحد من كل سبعة تعرض للإصابة بجروح.

ومن بين أولئك الذين ما زالوا يعيشون في سوريا، واجه النصف تقريباً وفاة أحد أفراد الأسرة، أو الأصدقاء المقربين. وأُجبر ثلاثة من كل خمسة شبان سوريين على مغادرة ديارهم، وأدى ذلك إلى قطع الروابط الأسرية، فيما تحولت مدن وبلدات عريقة إلى مدن أموات.

* حسن مدن كاتب صحفي من البحرين

المصدر | الخليج

————————

الثورة السورية والربيع الذي لن يأتي/ حسين عبدالحسين

“شاهدتُ السوريين يتحاورون حول مصير بلادهم بعد الأسد. أدركت أن سوريا مثل العراق: خواء ثقافي وفكري ومجتمعي وسياسي”

في ندوة استعرض فيها تجربته في الإدارة، تطرق مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، ديفيد شنكر، إلى موقفه من التغيير في العالم العربي، وقال إنه كان من “المحافظين الجدد”، وأنه كان يؤمن بجدوى استخدام القوة الأميركية لنشر مبادئ الحرية والديموقراطية في دول العالم، وهي رؤية ساهم منا عرب كثيرون في صياغتها وتأييدها في السنوات التي سبقت حرب العراق.

في دنيا العرب، كنا نعتقد أن الشعوب حية واعية، وأنها تسعى للحرية والديمقراطية، لكن الإمبريالية هي العقبة. كنا نردد أن العراق بلد المليون مهندس، وأن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.

كنا نعتقد أن الديكتاتوريات العربية صناعة إمبريالية، وأن صدام حسين كان على اتصال بـ “وكالة الاستخبارات المركزية” الأميركية (سي آي إيه) أثناء إقامته في القاهرة. كنا نعتقد أيضا أن أميركا سلّطت صدام على العراقيين لإضعافهم وإضعاف العرب، وورطته في حربي إيران واجتياح الكويت، ثم راحت تستخدمه كفزاعة لدول الخليج حتى تبتز واشنطن هذه الدول، وتعقد معها صفقات أسلحة ضخمة، وتنشر فيها قواتها. في رأينا، كان العرب يعيشون في شقاء، وكانت المسؤولة هي أميركا، داعمة حكامهم الطغاة.

فجأة، أعلنت أميركا أنها قادمة للإطاحة بصدام. ممتاز. إذا سنحت للعراق فرصة للعيش بدون صدام، سيصبح مهد الحضارة، العراق، مهدا للحرية والديمقراطية في عموم المنطقة. هكذا اعتقدنا نحن المثقفون العرب، وهكذا أقنعتنا الولايات المتحدة، وهكذا توصلنا أنا والصديق شنكر إلى نفس الخلاصة، وصرنا سويا، في صفوف “المحافظين الجدد” الداعين لاستخدام القوة الأميركية لنشر الديمقراطية.

سقط صدام. وقفت في بغداد. الآن ماذا؟ لم أر غير العراقيين الذين ينهبون دوائر دولتهم وقصور صدام حسين والبعثيين. أين ذهب المثقفون العراقيون والمهندسون؟ 

أعطى الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، مهلة سنة بعد الاجتياح لنشر الديموقراطية في العراق ولبنان، ولما لم ينجح العراقيون واللبنانيون في إقامة ديمقراطيتهم، أطاح بوش بـ “المحافظين الجدد”، واستبدلهم بالواقعيين برعاية وزيرة الخارجية السابقة، كوندوليزا رايس، التي عادت إلى دبلوماسية الصفقات: مع رئيس سوريا، بشار الأسد، بدعوته لمؤتمر أنابوليس للسلام، ومع “حزب الله” بالموافقة على “اتفاقية الدوحة”.

أما في العراق، فاستنسخ الدبلوماسيون الأميركيون نموذج لبنان الفاشل: دولة محاصصة طائفية شكلها عدالة تمثيل ومضمونها فساد وتقاسم الدولة كغنائم.

يقول شنكر إن حرب العراق أظهرت محدودية القوة الأميركية على فرض التغيير، فصارت الوسائل الأميركية في السياسة الخارجية تقتصر اليوم على الضغط الدبلوماسي، وربط المساعدات الأميركية بشروط، أو فرض عقوبات. ولى إلى غير رجعة استخدام أميركا قوتها العسكرية لأهداف سياسية غير دفاعية.

هذا درس كنا نعرفه مع اندلاع الثورة السورية، ولكننا كنا نأمل بأن تؤدي انتفاضة السوريين إلى تكرار تجربة مصر أو تونس، أو ربما ليبيا، حيث هب المجتمع الدولي لحماية الليبيين من بطش القذافي. لكننا لم نكن نتوقع حربا دموية كالتي شنها الأسد ونظامي إيران وروسيا على السوريين. لم يكن ممكنا أن نتوقع أن الأسد سيبرز كواحد من أكثر المجرمين دموية في تاريخ العالم. من يقصف فُرناً للخبز؟ من يقصف المشافي؟ من يقصف قافلة الأمم المتحدة للمساعدات الانسانية؟ حتى صدام لم يفعل ذلك يوم قمع انتفاضتي الشمال والجنوب، مع أن صدام — مثل الأسد — قصف شعبه بأسلحة كيماوية محظورة دوليا.

في 2011، تناقل السوريون صورة علم بلادهم وقد كتبوا عليه “انتفاضة” و”15 آذار” (مارس). عممت الصورة على وسائل التواصل الاجتماعي. يوم 15 مارس، الفضائيات العربية لم تتطرق للموضوع السوري. عثرت على فيديو أظهر سوريين يمشون في دمشق ويصيحون “وينك يا سوري وينك” وصاحب الفيديو يعلق بلهجة علوية أن السوريين من كل المذاهب قرروا اقتلاع نظام الأسد.

بثت فضائية “الجزيرة” الخبر، وقالت إن مواطنين سوريين استلموا رسائل على هواتفهم المحمولة دعتهم إلى التظاهر. ونقلت “الجزيرة” عن مصدر حكومي سوري قوله إن “الجيش الاسرائيلي هو من قام بتوجيه الرسالة عبر الشبكة الخليوية السورية”. لم تكن “الجزيرة” تخلت عن الأسد بعد. ثم كانت بعد يومين تظاهرة الحريقة في دمشق، التي أظهرت حشدا لا بأس به. ثم توالت الحشود في مناطق سورية، وسط لامبالاة إعلامية.

يوم رأيتُ أن لا أصدقاء للثورة السورية، قمت بأقصى مجهود ممكن لدعم المتظاهرين. كتبت تقاريرا بالعربية والإنكليزية، وقمت بإنتاج فيديوهات جمعت فيها كل التظاهرات، وأضفت اسم المنطقة والتاريخ، ونشرت حيثما تيسر. كان ابني حديث المولد وكنت أحمله لينام على يدي وأغني له أناشيد القاشوش الثورية. ثم قتلوا القاشوش واستأصلوا حنجرته ورموهما في نهر العاصي. ليلتها، غنيت لابني “يالله ارحل يا بشار”. ابني كان يبكي لأنه طفل وأنا بكيت من الأسى والاحباط.

مع حلول أيار (مايو)، دعتني المعارضة السورية لأول مؤتمر أقامته في مدينة أنطاليا التركية. في حرم الفندق، رقص السوريون وهم يهتفون “عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد”. خارج الفندق، أحاطت بنا مجموعة من شبيحة الأسد وراحوا يهتفون له ويهددون باقتحام الفندق والضرب.

في أنطاليا، شاهدتُ السوريين يتحاورون حول مصير بلادهم بعد الأسد. أدركت أن سوريا مثل العراق: خواء ثقافي وفكري ومجتمعي وسياسي. ما كنا نخاله دولة هو فعليا أجهزة استخبارات وعصابات تعمل بأمرة الطاغية. ينهار الطاغية، لا بديل غير الخواء، الذي يملأه طغاة آخرون، غالبا من المتطرفين الإسلاميين.

عدتُ إلى واشنطن. الحرية والديمقراطية لن تأتي الى العراق أو سوريا أو لبنان بتغيير الأنظمة، بل بتغيير الشعوب. الأنظمة هي نتاج هذه الشعوب. لكن من يغير الشعوب؟ لا أميركا ولا قوى العالم قادرة على ذلك، وهو ما يعيدنا إلى ما ورد في كتاب المسلمين، “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم”، والسلام.

الحرة

———————

بعد 10 أعوام على الثورة.. تحذيرات من مجاعة وموجات نزوح جديدة بسوريا

بعد 10 أعوام على اندلاع الثورة السورية، اضطر شخص للقتال في ليبيا ضمن قوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، أملا في الحصول على المال والهجرة إلى أوروبا، لكنه عاد في الأخير إلى سوريا التي تئن تحت وطأة الحرب والانهيار الاقتصادي.

في تقرير نشرته صحيفة “إندبندنت” (Independent) البريطانية، تقول الكاتبة بيل ترو، إن أحمد واحد من بين آلاف السوريين الذين اضطرتهم الأوضاع الاقتصادية الصعبة إلى القتال في ليبيا، ومثال على المأساة التي يعيشها الشعب السوري الذي كان يحلم بمستقبل مشرق عندما انطلقت ثورته ضد نظام الأسد في مارس/آذار 2011.

اقرأ أيضا

بعد تداولها بدلا من العملة السورية.. الليرة التركية تنعش أسواق إدلب

بعد انهيار العملة السورية.. كيف استقبل السكان بدء تداول الليرة التركية بمناطق المعارضة؟

المزارعون السوريون.. غلاء في التكاليف وتدنٍ للعائدات

معظمهم من النازحين والمهجرين.. عمال الأجرة اليومية أبرز المتضررين من انهيار الليرة السورية

في الأيام الأولى من اندلاع ثورات الربيع العربي، انضم أحمد الذي كان حينها في السادسة عشرة من عمره، إلى الاحتجاجات التي اجتاحت مدن سوريا، وبينما اتجهت البلاد نحو الحرب، انضم إلى “الجيش السوري الحر”، معتقدا أنه أفضل طريقة للقتال من أجل مستقبل أفضل.

بعد مرور 10 أعوام على اندلاع الثورة، وبعد أن نزح عدة مرات، رأى أحمد الذي لا يملك أي مؤهلات دراسية أو أموال، أن أفضل شيء يمكن له فعله هو جني بعض المال من خلال القتال في ليبيا ثم ركوب أحد قوارب الهجرة غير الشرعية من هناك إلى أوروبا، لكن أحمد لم يستطع أن يحقق مبتغاه وعاد في النهاية إلى سوريا.

أوضاع مأساوية

ملايين السوريين يعيشون أوضاعا مأساوية، ليس فقط بسبب النزاع المسلح، ولكن أيضا بسبب الأزمة الاقتصادية التي تجتاح البلاد بعد عقد من الحرب، فما تزال المعارك السبب الأساسي للنزوح، لكن “المجلس النرويجي للاجئين”، يؤكد أن العوز الاقتصادي أصبح بشكل متزايد عاملا رئيسيا يجبر الناس على الفرار، سواء داخل البلاد أو إلى الخارج.

وقد فرّ ما لا يقل عن 6 ملايين شخص من سوريا، ونزح 6.5 ملايين شخص داخل البلاد، ما يقرب من ربعهم نزحوا 4 مرات على الأقل، وكشف تقرير جديد صادر عن المجلس النرويجي للاجئين أن من بين أكثر من 23 ألف نازح في يناير/كانون الثاني 2021، قال ثلثهم إن السبب الأساسي هو نقص الخدمات الأساسية، بينما نزح 28% بسبب تردي الوضع الاقتصادي.

ويتوقع المجلس النرويجي للاجئين أن يضطر عدد متزايد من السوريين إلى النزوح بسبب تراجع قيمة العملة وانهيار البنية التحتية، ويحذر من احتمال نزوح 6 ملايين آخرين إذا استمر النزاع 10 سنوات أخرى.

في هذا الصدد، يقول الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين جان إيغلاند “كلما استمرت هذه الأزمة دون حل، نتوقع أن يصبح العوز الاقتصادي العامل الرئيسي الدافع للنزوح”.

إيغلاند الذي يصف الأعوام العشرة الماضية بـ”عقد من العار على الإنسانية”، قال إن المزيد من الدول تُدير ظهرها لسوريا “يجب أن تدرك حجم التقصير وتتدخل بشكل بَنّاء من أجل دعم ملايين السوريين الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية الحيوية ويطالبون بإنهاء الصراع”.

ملايين السوريين يعيشون أوضاعا صعبة بسبب الأزمة الاقتصادية التي تجتاح البلاد بعد عقد من الحرب (الجزيرة)

موجات نزوح جديدة

زادت الأوضاع الاقتصادية في سوريا سوءا مع هبوط سعر الليرة السورية إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، حيث يعادل الدولار الواحد 4 آلاف ليرة، وفي لبنان المجاور، حيث يرتبط الاقتصاد ارتباطا وثيقا باقتصاد سوريا، تراجعت العملة المحلية إلى مستوى غير مسبوق، بواقع 12 ألف ليرة مقابل الدولار.

وتقول الباحثة والناشطة الحقوقية المتخصصة في الشأن السوري، إليزابيث تسوركوف، في هذا السياق “هذه كارثة لأن كلا البلدين يعتمدان بشكل كبير على الواردات، وقد دُمّرت الصناعات المحلية خلال الحرب الأهلية في البلاد”.

وكتبت تسوركوف على تويتر “هناك مجاعة تلوح في الأفق”، كما أوضحت في مقال لها نُشر في فبراير/شباط الماضي أن النظام السوري لم يعد قادرا حتى على توفير الخبز المدعوم.

من جانبه، حذّر برنامج الأغذية العالمي مرارا من إمكانية حدوث مجاعة في سوريا وعمليات نزوح جماعي جديدة إذا لم يتم توفير المزيد من المساعدات الإنسانية، وقال المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، الأسبوع الماضي، إن 12.4 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وهو أعلى مستوى على الإطلاق، بزيادة تُقدر بـ4.5 ملايين شخص مقارنة بالعام الماضي.

وقد اقترن تدهور الأوضاع في البلاد مع حالة ركود عالمي بسبب جائحة كورونا، وهو ما أدى إلى نقص حاد في المساعدات الإنسانية، الأمر الذي جعل الكثير من المراقبين يحذرون من تزايد عدد الجياع واحتمال حدوث مجاعة في سوريا.

وتختم الكاتبة بأن مرور الذكرى السنوية العاشرة للثورة السورية تعد لحظة مهمة لتقييم الوضع في البلاد، والانتباه إلى أن تدهور تردي الوضع المعيشي ونقص الغذاء، لا يقل خطورة عما يعانيه السوريون جراء الحرب والتفجيرات، وهو ما يُبرز الحاجة إلى تكثيف المساعدات الإنسانية قبل فوات الأوان.

المصدر : إندبندنت

————————————–

إحياء الذكرى العاشرة للثورة يتواصل.. روسيا تدعو المجتمع الدولي إلى رفع “سياسة العزل” عن النظام السوري

دعت روسيا المجتمع الدولي إلى رفع “سياسة العزل” عن النظام السوري، كما شددت على ضرورة التعاون مع تركيا، بينما تواصلت المظاهرات في شمال سوريا إحياء للذكرى العاشرة للثورة.

ودعا المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الدول العربية والغربية إلى استئناف الحوار مع النظام السوري، والابتعاد عما سماه سياسة عزل دمشق.

وقال بيسكوف إن بلاده لا ترى بديلا عن عمل لجنة الدستور السوري، مضيفا أن موسكو تبذل جهدا كبيرا لدعمها ودفع المسار السياسي.

كما شدد بيسكوف على أهمية التعاون بين روسيا وتركيا رغم خلافاتهما بشأن سوريا، وخاصة في المناطق السورية التي تشهد تنسيقا بينهما في شمال البلاد.

وأكد المتحدث باسم الكرملين على مواصلة العمل الوثيق بين الجيشين الروسي والتركي، وفقا للاتفاقات الموقعة بين بلديهما.

الائتلاف المعارض

من جانب آخر، رحّب الائتلاف السوري المعارض بالعقوبات البريطانية الجديدة على شخصيات من النظام ومقربين منه.

ودعا الائتلاف -في اجتماع عقده شمال غربي سوريا- المجتمع الدولي لفرض عقوبات اقتصادية شديدة على الشخصيات المتورطة من النظام وحلفائه في جرائم الحرب التي طالت الشعب السوري.

كما طالب الائتلاف السوري المعارض بتفعيل القرار الأممي 2254، بما يضمن انتقال سوريا إلى نظام ديمقراطي مدني.

إحياء ذكرى الثورة

وأفاد مراسل الجزيرة في سوريا بأن المظاهرات خرجت -لليوم الثاني على التوالي- في مدن وبلدات شمال غربي سوريا، إحياء للذكرى العاشرة للثورة السورية.

وفي مدينة إعزاز، ردّد المتظاهرون هتافات أكدوا خلالها على استمرار ثورتهم حتى إسقاط النظام، ومحاسبة رموزه، وتحقيق كامل مطالب الثورة.

كما طالبوا المجتمع الدولي بضرورة الضغط على النظام للإفراج عن المعتقلين، وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة.

المصدر : الجزيرة + وكالات

————————-

عقد على الثورة السورية.. من احتجاجات سلمية إلى صراع متعدد الأطراف

بعد مرور 10 سنوات على اندلاع الثورة السورية، لم تنجح الاحتجاجات العاصفة التي بدأت سلمية في مارس/آذار 2011 في زحزحة الرئيس بشار الأسد عن منصبه.

ولا يزال النظام يبسط هيمنته على أجزاء كثيرة من البلاد، بمساعدة عسكرية روسية وإيرانية، في حين لا تزال تركيا تسيطر على قطاعات من الشمال الغربي، ولا يزال للولايات المتحدة وجود في الشمال الشرقي، وهي منطقة رئيسية لإنتاج النفط والقمح.

وهذا التسلسل الزمني يوضح كيف اشتعلت الحرب بعد أن بدأت باحتجاجات سلمية مطالبة بالديمقراطية، ثم تحولت إلى صراع متعدد الأطراف انزلقت إليه قوى عالمية، وفقد فيه مئات الآلاف أرواحهم وتشرّد الملايين.

عام 2011

    مارس/آذار 2011

    بدأت المظاهرات الأولى في درعا (جنوبي سوريا) احتجاجا على حكم الأسد، وسرعان ما انتشرت في شتى أنحاء البلاد، وردت قوات الأمن بموجة اعتقالات وبإطلاق النار.

عام 2012

    يونيو/حزيران 2012

    اجتمعت القوى العالمية في جنيف واتفقت على الحاجة إلى انتقال سياسي، لكن الانقسامات حول كيفية تحقيق ذلك قوضت سنوات من جهود السلام التي جرت برعاية الأمم المتحدة.

    يوليو/تموز 2012

    شن الأسد غارات جوية على البلدات والمدن التي تظاهرت ضد حكمه، وبات المحتجون الذين كانوا سلميين يوما يحملون السلاح، وقُتل الآلاف.

عام 2013

    أغسطس/آب 2013

    قالت واشنطن إن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر، لكن مئات المدنيين يلقون حتفهم في هجوم بالغاز على الغوطة الشرقية ذات الكثافة السكانية العالية، والواقعة على مشارف دمشق، والتي كانت تسيطر عليها المعارضة، ولم يلق الحدث ردا عسكريا من جانب الولايات المتحدة.

عام 2014

    يناير/كانون الثاني 2014

    سيطرت جماعة منبثقة عن تنظيم القاعدة على مدينة الرقة، ثم تنطلق لتسيطر على مناطق واسعة في سوريا والعراق، وأعلنت قيام دولة الخلافة وأطلقت على نفسها اسما جديدا هو تنظيم الدولة الإسلامية.

    سبتمبر/أيلول 2014

    شكلت واشنطن ائتلافا مناهضا لتنظيم الدولة، وبدأت ضربات جوية، ودعمت القوات الكردية لوقف ما أسمته “المد الجهادي”، لكن ذلك ولّد احتكاكا مع حليفتها تركيا.

عام 2015

    مارس/آذار 2015

    في الوقت الذي تفقد فيه قوات الأسد السيطرة على الكثير من البلدات والمدن التي انتفضت على حكم حزب البعث، ظهرت فصائل معارضة مسلحة ضمت متظاهرين سابقين ومنشقين عن الجيش.

    سبتمبر/أيلول 2015

    انضمت روسيا إلى الحرب في صف الأسد، ونشرت طائرات حربية وقدمت مساعدات عسكرية غيرت بسرعة -وبمساعدة إيران- مجرى الصراع مع مقاتلي المعارضة.

عام 2016

    أغسطس/آب 2016

    توغلت تركيا في سوريا بمساعدة مقاتلين متحالفين معها -قلقا منها من تقدم الأكراد عند الحدود- وأقامت منطقة خاضعة لسيطرتها اتسعت عام 2018.

    ديسمبر/كانون الأول 2016

    هزم الجيش السوري وحلفاؤه مقاتلي المعارضة في حلب (أكبر قاعدة لهم) بعد أشهر من الحصار والقصف، في خطوة أبرزت حجم الزخم الذي اكتسبه الأسد.

عام 2017

    مارس/آذار 2017

    اعترفت إسرائيل بشن غارات جوية استهدفت حزب الله في سوريا، بهدف إضعاف قوة إيران، بعد أن قويت شوكة فيلق القدس التابع لها وفصائل شيعية جاءت من أفغانستان ولبنان.

    أبريل/نيسان 2017

    شنت الولايات المتحدة أول هجوم بصواريخ كروز على قاعدة جوية تابعة للحكومة السورية بالقرب من حمص، بعد هجوم بالغاز السام على مدينة خان شيخون التي تسيطر عليها قوات المعارضة.

    نوفمبر/تشرين الثاني 2017

    هزمت قوات يقودها الأكراد مدعومة من الولايات المتحدة تنظيم الدولة في الرقة، وأدى هذا مع هجوم آخر من الجيش السوري إلى خروج التنظيم من معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها أو كلها تقريبا.

عام 2018

    أبريل/نيسان 2018 

    بعد أشهر من الحصار والغارات الجوية، تمكن الجيش المدعوم من روسيا من استرجاع الغوطة الشرقية، قبل أن يسترد جيوبا أخرى وسط سوريا، ثم معقل المعارضة الجنوبي بدرعا في يونيو/حزيران.

    سبتمبر/أيلول 2018

    عقدت صفقة روسية تركية بشأن إدلب والشمال الغربي الذي يسيطر عليه مقاتلو المعارضة، وأسفرت عن وقف القتال على الجبهات والحد من غارات القصف، التي أودت بحياة مئات المدنيين في آخر معقل كبير للمعارضة.

عام 2019

    مارس/آذار 2019

    مع سيطرة حلفاء الولايات المتحدة المحليين على المنطقة الأخيرة لتنظيم الدولة في الشرق، قررت واشنطن إبقاء بعض القوات في سوريا بعد أن قالت سابقا إنها ستنسحب.

    أبريل/نيسان 2019

    شنت القوات المدعومة من روسيا حملة في الشمال الغربي انتهت في أغسطس/آب بالسيطرة على مدينة خان شيخون، التي كانت موقعا إستراتيجيا للمعارضة، وهدفا لهجوم كيميائي كبير على المدنيين.

    أكتوبر/تشرين الأول 2019

    أدت قمة روسية تركية لانحسار القتال، لكن موسكو استأنفت هجوما كبيرا في ديسمبر/كانون الأول أفضي إلى توغل أكبر في معقل المعارضة الأخير.

    ديسمبر/كانون الأول 2019

    قامت روسيا بهجوم شمالي غرب سوريا تسبب في نزوح نحو مليون مدني وحدوث أسوأ أزمة إنسانية منذ بدء الصراع. وأرسلت تركيا آلافا من جنودها عبر الحدود لمحاولة صد الهجوم، كما قالت إنها لن تمنع اللاجئين السوريين من محاولة الوصول لأوروبا، وفتحت حدودها ليفر الآلاف إلى اليونان حينها.

عام 2020

    مارس/آذار 2020

    اتفقت تركيا وروسيا على وقف إطلاق النار في إدلب، وتعهدتا بتسيير دوريات مشتركة وفتح ممر آمن بالقرب من طريق إم4 السريع.

    مايو/أيار 2020

    السوريون يعانون من نقص حاد في الوقود، والآلاف يصطفون ساعات للحصول على الخبز المدعم، في علامات على تهاوي الاقتصاد. والحكومة اضطرت لترشيد توزيع الإمدادات وتطبيق زيادات كبيرة في الأسعار.

    مع ظهور أول مؤشرات علنية على حدوث خلاف بين الأسد وابن خاله رجل الأعمال رامي مخلوف، الذي نشر لاحقا تسجيلات مصورة عن الأمر على وسائل التواصل الاجتماعي.

    يونيو/حزيران 2020

    أعلنت الولايات المتحدة عن أشد عقوبات أميركية على سوريا “قانون قيصر”، وهي عقوبات توسع سلطة مصادرة أرصدة كل من يتعامل مع سوريا، بغض النظر عن جنسيته، وتشمل قطاعات من التشييد والبناء إلى الطاقة.

    ديسمبر/كانون الأول 2020

    صعّدت إسرائيل ضرباتها الجوية في أجزاء عديدة من سوريا -خاصة في الشرق- وضربت أهدافا لمنع توسع النفوذ الإيراني.

عام 2021

    فبراير/شباط 2021

    نفذت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ضربة جوية شرق سوريا على طول الحدود العراقية، مستهدفة هيكلا تابعا لما وصفته بمليشيا مدعومة من إيران، ووصفت سوريا الهجوم “بالجبان”.

    مارس/آذار 2021

    هوت الليرة السورية لمستويات جديدة، وجرى تداولها بسعر يقرب من 4000 ليرة للدولار، مع ضعف الاقتصاد، وسط نقص حاد في العملة الأجنبية.

المصدر : رويترز

—————————

إميليا كلارك تنشر صورتها مع لوحة عربية تضامنا مع الثورة السورية في ذكراها العاشرة

على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي “إنستغرام” نشرت الفنانة البريطانية إميليا كلارك صورتها مع لوحة باللغة العربية تحمل عبارة “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة” التي يتداولها النشطاء السوريون في ذكرى الثورة السورية التي اندلعت قبل 10 أعوام.

وكتبت كلارك “لقد مرت 10 سنوات منذ أن اتخذ الشعب السوري موقفا من أجل الحرية والكرامة”.

وأضافت “شاهدت فيلم (من أجل سما) وأنا أقف مع وعد وعائلتها وملايين السوريين الذين يناضلون من أجل السلام والكرامة”.

وتجاوز المعجبون بالمنشور أكثر من مليون شخص في الساعات الـ12 الأولى من نشره.

ودعت كلارك جمهورها إلى زيارة موقع (Actionforsama) ودعم الحملة التي أنشأها فريق الفيلم تحت شعار “تحرّك لأجل سما” للحديث عن استهداف المستشفيات والمراكز الصحية في سوريا.

وكانت كلارك قد دعمت الفيلم الوثائقي الصادر عام 2019 في وقت سابق، وحصد الفيلم جوائز مهرجانات السينما العالمية، بينها جائزة أفضل فيلم وثائقي من الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون “بافتا”، وترشحه للأوسكار عن قائمة الأفلام الوثائقية، وجائزة العين الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وجائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجان “أفلام الهجرة” الدولي بتركيا.

ورصدت المخرجة السورية وعد الخطيب والمخرج البريطاني إدوارد واتس 300 ساعة من الحرب داخل حلب السورية، ليخرج فيلم “من أجل سما” إلى النور، وينقل معاناة السوريين تحت قصف نظام الأسد.

ممثلة بريطانية عالمية

اشتهرت إميليا كلارك على المستوى العالمي من خلال بطولتها للمسلسل الملحمي “صراع العروش” المأخوذ عن رواية الكاتب جورج مارتنز بعنوان “أغنية الثلج والنار”، والذي بدأ تقديمه على شاشة شبكة “إتش بي أو” (HBO) خلال عام 2011، وازدادت شعبيته تدريجيا حول العالم حتى أصبح المسلسل الأعظم في تاريخ التلفزيون بالنسبة لعدد كبير من المشاهدين.

وبعد بضعة مواسم من “صراع العروش” أصبحت إميليا كلارك أحد أشهر نجوم هوليود، ورشحت لـ3 جوائز إيمي، وقامت ببطولة فيلم رومانسي شهير هو “أنا قبلك” (Me Before You)‏، وبطولة أحد أجزاء سلسلة الفضاء الأشهر “حرب النجوم”.

—————————–

 سوريا النّظام والمعارضة تحت الاحتلالات/ عبد الوهاب بدرخان

عشرة أعوام رهيبة شهد العالم خلالها حمّام الدم السوري. أكثر من مليون قتيل ومعوّق ومصاب، بلا أي مبالغة… وكارثة إنسانية مراوحة بين مجازر سجون النظام (صور “قيصر” ليست سوى عيّنة) ومآسي عائلات المفقودين، وبين ستة ملايين ونصف مليون مهجّر ولاجئ وغارق في مياه المتوسط… ودمار عمراني هائل نال من الحواضر التاريخية وتراثها مع ما رافقه من نهب منظّم للآثار وتشويه لمعالم، بعضٌ منها عمّر أكثر من ألفي عام… وتمزيق لنسيج اجتماعي عريق صهر التعددية في تعايش مشهودٍ له بسلميّته… وتهديد لوحدة الشعب والأرض والدولة يتأكّد أكثر فأكثر، بفعل تعدّد القوى الخارجية التي بدا النظام نفسه، في نظر شعبه، واحداً منها.

أهم الدروس أن العالم تفرّج وهُلع وذُهل وتألم، وعجز عن إنهاء سريع للمأساة، وأن الدول “المعنية” ربما بدأت معنيةً بإيجاد حلول، أو هكذا تظاهرت، لكنها انتهت الى اتخاذ سوريا برمّتها، شعباً ودولةً، نظاماً ومعارضةً، وقوداً لموائد مصالحها. فلا “أصدقاء” سوريا أو الشعب السوري برهنوا صدقية هذه الصداقة، ولا “حلفاء” النظام برهنوا أنهم مهتمّون بسوريا، إنْ هي إلا أرضٌ مشاعٌ انفتحت لهم فيها أبواب استغلال الموقع الاستراتيجي وفرص النفوذ ونهب أرزاق السوريين وتبديد روح البلد بإعادة هندسة ديموغرافيته.

ولعلّهم “معذورون” (!) فالبلد سقط عملياً في أيديهم يوم انطلقت الصرخة الشعبية الأولى وواجهها النظام بالعنف الدموي، فسقط، وصار دوره مذّاك أن يحافظ على بقائه بأي وسيلة، باستجلاب الاحتلالات لحمايته ومساعدته على هزم شعبه الموالي والمعارض، فـ”انتصر” ساقطاً، وأسقط سوريا معه. كان تعامله مع الأزمة سلسلةً من الأخطاء “الوطنية” المميتة، وكان “الحليف” الإيراني الى جانبه ليدفعه منذ اللحظة الأولى الى مزيد من الخطأ، ما قاده الى إحباط كل محاولات سياسية، عربية أولاً ثم أممية مستمرّة، وإلى تعطيل أي حلّ أو تسوية لا يعيدان حكمه وسيطرته الى ما كانا عليه قبل عشرة أعوام، لكنه وحلفاءه يعرفون أن هذا لم يعد ممكناً ولا واقعياً. أصبح أسير مآرب حلفائه وأعدائه، ولم يعد قادراً على التأثير في هدف واحد يريده الشعب: إنقاذ سوريا.

وقد يكون أعداء النظام “معذورين” أيضاً في عجزهم، لأن السوريين الثائرين (أو المعارضة) لم يقدّموا لهم “البديل” القادر والصالح. أراد “الأصدقاء” للثورة أن تبقى سلميّة لكنهم رأوا بالعين المجرّدة أن العسكَرَة فرضتها الضرورة وانسداد الأفق سياسياً، مقدار ما استدرجها النظام نفسه ليواجهها بترسانته ويكسرها. شجّعوا العسكريين على الانشقاق ولم يهتمّوا بتوحيدهم، فأوكلوا أمرهم الى دول وجهات مختلفة ما لبث تنافسها أن فرّخ فصائل متنازعة توالي من يموّلها. ثم ضغطوا لتوحيد صفوف المعارضة السياسية وتحالفها مع “الجيش الحرّ” وفصائل معينة، فدبّت الخلافات داخلها وبين “رعاتها”، وزاد التباعد بينها وبين الثورة في الداخل، ولم تتمكّن المعارضة من بناء مؤسسة يُعتدّ بها فبقيت أفراداً موزّعين بين الدول المتقاربة أو المتنافرة.

لا شك بأن هناك أفراداً معارضين يتمتّعون بحسٍّ وطني ونزاهة عاليين، لكن كثيرين حملوا أجندات “إسلامية” واهتمّوا بركوب الثورة للاستيلاء على السلطة متى سنحت الظروف، أو بعد “إسقاط النظام” الذي غدا شعاراً بلا برنامج عمل تراكمي لتحقيقه. وفي أي حال، عانت المعارضة من الأمراض التي زرعها النظام في كياناتها طوال أربعة عقود، فلم تقم تحالفات صلبة ولم تطوّر ممارساتها السياسية، إذ خاض معظم أحزابها تجاربه السابقة سرّاً وتحت ضغوط أمنية، لكن الأهم والأخطر أنها لم تتعلّم سريعاً من المحنة السورية القاسية، وبرغم مرور عشرة أعوام لم يتبلور جسم معارض موحّد الأهداف وواسع التمثيل يعي المصلحة الوطنية ويمكن التعويل عليه.

ولا تُستكمل معالم العُشرية السورية الكارثية إلا بتسليط الضوء على الوضع الحالي لسوريا، مع خمسة جيوش لخمس دول، مع تكرار التذكير بأن أيّاً منها لا يبالي بسوريا ولا بالشعب السوري، بل بالقطعة التي انتزعها من الخريطة ويريد الاحتفاظ بها:

* روسيا وسّعت رقعة سيطرة النظام عسكرياً وتعتبرها حصّتها، ولا تروم من أي “حلّ سياسي” سوى الإبقاء على نظام تنحصر خياراته في تلبية مطالبها و”شرعنة” مكاسبها. لكنها تبحث عن أموال للإعمار وعودة اللاجئين كتمويل لبقائها في سوريا.

* الولايات المتحدة متمسكة بمنطقة الشمال الشرقي الغنية وقد تعترف بها “كياناً خاصاً” للأكراد، فيكون بدوره حصّتها السياسية الدائمة ومنصّتها لمراقبة “كوريدور” إيران وميليشياتها عبر الحدود مع العراق، وتُضاف أيضاً إليه قاعدة التّنْف جنوب شرقي سوريا.

* أما الجنوب الغربي فتسعى إسرائيل، بالتنسيق مع روسيا، الى جعله منطقة عازلة خالية من الوجود الإيراني، لكن الإيرانيين وأتباعهم متخالطون مع قوات النظام. وبالتنسيق نفسه توجّه إسرائيل ضربات جوية وصاروخية للمواقع الإيرانية في مختلف الأنحاء.

* لإيران وجود في كل مناطق النظام جنوباً وشرقاً ووسطاً، وعدا قواعدها العسكرية وميليشياتها المحلية والمستوردة تركّز منذ 2016 على توسيع نشاطها المدني، سواء لنشر التشيّع أو لربط العديد من السوريين بأنشطتها التعليمية والاقتصادية.

* تركيا باتت مستأثرة بالشمال الغربي ولا تبدو مكتفية برقعة نفوذها الحالي، وتحاول توسيعها أو تدعيمها، سواء بالتوافق أم بصراع المصالح مع روسيا، كما أنها توسّع عملها المدني تمهيداً لإقامة طويلة.

هذه الاحتلالات لا تبحث عن حلول، فمَن يحرّر سوريا منها؟ بالتأكيد ليس هذا النظام، أو على الأقل ليس بصيغته الحالية، فهو مَن استدعى بعضها واستدرج بعضاً آخر، فقط من أجل بقائه… في البداية كانت تلك الصرخة “الشعب السوري ما بينذل”، وفي العامين الأخيرين زحف الفقر والجوع والعوز الى كل المناطق، ولم يعد النظام أو المعارضة مبعث أي آمال للشعب الذي يجد نفسه متروكاً، بلا دولة. أصبحت سوريا عبئاً على محتلّيها. روسيا لا تزال تتخبّط بين المخارج العسكرية والسياسية، والنظام يساهم في عُقم “حلولها”، وكلاهما يبحث عن تمويل عربي لكن العقوبات الأميركية والأوروبية بالمرصاد، في انتظار تحريك اللجنة الدستورية، المجلس العسكري، الانتقال السياسي، تحريك أي شيء. غير أن كل هذه المسارات باتت مرتبطة بإرادة الاحتلالات، لا بإرادة النظام أو الشعب السوري.

التهار العربي

————————–

السوري الذي تجرأ على الثورة بوجه الأسد.. باقٍ/ نزار السهلي

يستقبل السوريون عاما جديدا ينهي عقدا كاملا منذ اندلاع ثورتهم، ويتساءل المرء، وهو يقف على عتبة هذا العام، عما يحمله الغد من مفاجآت.

وبالطبع المؤشرات العربية والدولية البارزة تحمل شقين مرتبطين بالإحباط والتفاؤل، فالجو ملوث منذ عشر سنوات وإلى اليوم بالانحرافات والتآمر، والتسويات القاضية بتعويم نظام الأسد وإعادة تسويقه عربياً لم تنقطع. كما أن الجهد الروسي المنصب على تلميع الأسد كمنتصر على “الإرهاب” مستمر؛ في بيئة عربية تشبه تركيبة ووظيفة نظام الأسد الذي ترى في عودته لحضنها إكمالا لعمل “عربي مشترك” افتضح أمره وأمر شراكته بضرورة سيادة القمع العربي المشترك. وخيوط المؤامرة انتهت من نسج ثوب الدهاء والضراوة التي حيك بها أكثر من السابق، وأسفرت عن الوجه القبيح لنظام الأسد وحلفائه بشكل أبشع مما خبره السوريين منذ نصف قرن عنه.

كل هذا مجرد جزء من قدر السوريين، وجزء من التفاؤل بالأمل في السعي نحو التحرر من الاستبداد والطغيان، لكن الأهم والأكثر فاعلية بعد عشر سنوات من الثورة السورية إرادة السوريين التي لم تنكسر بقوة دولة “عظمى” مستوردة لقتلهم، وعزمهم لنيل مطالب الحرية والكرامة والمواطنة، والتصميم على المواجهة لتحقيق الأماني النبيلة لم يعهده من قبل نظام قاتل ومستبد من تصميم شعب على إزاحته ومحاكمته على جرائمه بحقهم..

ملاحقة النظام ومنازلته بكل المحاكم الدولية باتت من ملامح عام السوريين الجديد والقريب، برغم الاعتقاد الذي يتوهم به بعض النظام العربي بالاعتقاد بأن الوقت حان لعودة الأسد لحضن الطغاة، وبترسيخ هذا الاعتقاد بسلسلة من التصرفات التي تقوم بها بعض الأنظمة من مصر إلى الإمارات فموسكو وطهران إلى تل أبيب، بغية تشجيع الغرب والولايات المتحدة لتحقيق تسوية مع جرائم الأسد على أساس تنفيذ بعض بنود العملية “السياسية” أو اللجنة الدستورية؛ كي تضع كلها حداً لطموح شعب قدم ويقدم أغلى وأعلى التضحيات في سبيل حريته.

يختم السوريون عقدهم في الثورة، وفرص النشاط الفاعل لإجهاضها والتملك الحقيقي لمجرى أحداثها على الأرض تُغري الأنظمة المستبدة والاحتلال الاسرائيلي من أجل أن يكون بمقدورهم “تسويق” المساومات على قضية تحرر الإنسان العربي إلى أطول فترة ممكنة. لكن هذه الأنظمة مع الاحتلال الإسرائيلي، التي يدور في فلكها نظام الأسد، تنطلق في سلوكها من قراءة خاطئة لما حصل في الثورة السورية، ومجتمع السوريين وحواضرهم، من حيث أنهم يتصورون أن الحلول المستعصية بقضية الشعب السوري، تكمن في الاستمرار بالتزوير وقلب الحقائق، وبالتالي فإن مهام التضليل المستمر والتخويف من “بعبع” الكرامة والمواطنة والحرية هو ما تنطوي عليه هموم الأنظمة الحريصة على حضنها بوجود الأسد، وتغييب كلي لمطالب وآمال الشعب السوري عن بصيرة شعوب عربية تاقت لنفس الآمال.

صحيح أن الأسد أعاد السيطرة بعد عشر سنوات، على جزء مهم من جغرافية السوريين، لكنها كانت تحت قبضته قبل آذار/ مارس 2011، وإذا دققنا في أي أرقام مرتبطة بالمجتمع السوري لجهة الاقتصاد والعمران والسيادة والسياسة والضحايا وتفكيك المجتمع، يتراءى لنا حجم مرعب مرتبط بالضحايا والدمار والتهجير والقتل تحت التعذيب، وحجم الإفلاس الأخلاقي الذي وصل إليه نظام الأسد في محاولته انتزاع اعتراف بشرعيته مجددا بمهزلة انتخابية؛ تتيح للسوريين اتباع نهج الثورة مجددا عليه بمنأى عن كل ما سبق آذار/ مارس 2011، وهو النموذج الناجح لخروجهم من تحت وطأة الوحشية التي دمرت كل شيء باستثناء عزيمتهم لخلعه من فوق رؤوسهم.

لا أحد ينكر صعوبة هذا النهج والسوريون هم أول من اختبره في كسر الخوف والرعب؛ بالثورة على طاغية بحجم الأسد مع الأثمان الباهظة من لحم ودم السوريين، إلا أنه لن يكون بمقدور السوريين في مطلق الأحوال قبول ثمن التطلع لمستقبل سوريا، دولة ومجتمعا وتاريخا وحضارة، إلا برحيل الأسد ومحاكمته ونظامه على جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وهي القراءة الأسلم والمستوفية لمن هجى معنى الحرية، وجَرأ على تثوير نفسه بقول لا للأسد باقٍ حتى رحيله.

عربي 21

كاتب وصحفي فلسطين

——————-

10 سنوات ..الذات والتحرر من ثقافة الخوف/أحمد برقاوي

نصف قرن من الخوف،نصف قرن من زرع ثقافة الخوف في الطرقات ،في المعامل،في الجامعات،في المؤسسات،نصف قرن من عملية تدمير القيم،كل القيم المتعلقة بالحياة.

وحدهم رجال الأمن والمخبرون والفاسدون والطغمة التي شكلت العصبية الطائفية بدوا في المجتمع بأنهم ما كانوا خائفين.والحاكم بدا بأنه لم يكن خائفاً،لكن هؤلاء كانوا أكثر خوفاً من المصير وعليه،ولأنهم مرعوبون فقد قرروا إشاعة الرعب .

أفضت ثقافة الخوف التي شاعت في أرواح الناس المتأففة من هذا النظام إلى ثقافة العزلة. في العزلة راح الشاب يفكر بمصيره متحرراً من خطاب السلطة الكاذب. راح يفكر بحضوره في هذه الحياة. راح يفكر بعمله وبحقه المسلوب.

ثقافة العزلة حملته على صداقة الكومبيوتر والإنترنت، والتواصل عبر هذا الجهاز. لقد امتلأ بالمعرفة، امتلأ بالعالم. امتلأ بالأحلام. من حلم الرغيف إلى حلم الكرامة. وعبر قطيعة مطلقة مع حاكم شاب ينتمي إلى أزمان مضت،وإلى بنية سلطوية من أسوأ البنى التي عرفها التاريخ. حاكم تحول إلى موضوع سخرية من قبل جيل راح يطرح الأسئلة المعقولة جداً. كيف يمكن لسلطة أن تكون على هذه الدرجة من الفساد؟ كيف يمكن لحاكم أن يكون على هذه الدرجة من الجهل، كيف يمكن لجهاز سلطة أن يكون على هذه الدرجة من التخلف؟ كيف يمكن أن نعيش في هذا الوطن وفي وطن كهذا ؟ أين نحن من هذا العالم؟.

قمع وفقر وجوع ولصوص يراكمون المليارات نهباً، من ثروة الوطن ؟

لقد تفسخ النظام السياسي المتعفن، وفي ظل ثقافة الخوف نما الأنا الخائف، وراح يتأمل خوفه، عالمه المريع، لقد ولد في هذه اللحظة عبر وعيه لخوفه، عبر حلم الخائف.

ومع تراكم الخوف صار الخوف أثقل من أن تحمله صدور الناس فقرروا أن يتحرروا من خوفهم.

في هذه اللحظة من التحرر ولدت الذات الفردية، تحولت الأنا إلى الفعل. ولدت الذات من رحم الخوف والحلم بعالم بلا خوف. بلا خوف على المصير، على الوجود. وفي اللحظة الأولى التي وضع الشباب ـ وجروا خلفهم كل فئات المجتمع ـ أرجلهم على درب التحرر من الخوف، ولدت لديهم شهوة الحضور في الحياة، ولذة الإحساس بالأنا التي صارت ذاتاً.

وعي الحاكم المتبلد الجاهل بإنجازات بشر القرن المعيش، الجاهل بمفاهيم السيرورة والصيرورة والتحول والتطور والتقدم والتمرد والحرية والحلم والأمل وشهوة الحضور الإنساني، الجاهل بالفن والأدب والشعر، الجاهل بالتواصل الإنساني، المعتقد أنه عبر حقن رأسه الفارغ بالخبث الأسود قادر على إخفاء الزمن، وعي هذا الحاكم الذي يعيش لذة الإقامة في الكهف لم يصل إلى أدنى درجات القدرة على التوقع. فانتقل الشباب ومعهم كل الناس، من ثقافة الخوف إلى متعة الإحساس بالقوة، من ثقافة اللامبالاة إلى ثقافة شهوة الحضور في الحياة، مسلحين بالإرادة ومعنى للحياة جديد: حرية وخبز وكرامة.

لقد صارت السلطة كياناً من قش، فالفاسدون أضعف من أن يصمدوا أمام إرادة الحياة التي انفجرت من حناجر البشر الذين تحول كل واحد منهم إلى ذات فاعلة لا تنتظر المخلص. فكل ذات صارت هي المخلص لذاتها.

هو ذا العالم الجديد. عالم ولادة الذات الذي يجري اليوم على نحو تراجيدي ،وتراجيديا الولادة تراجيديا باهظة الثمن دائماً،وبطيئة السير،فسيرورة الولادة بعد نصف قرن من الركود التاريخي عسيرة جداً.

أحمد برقاوي

الناس نيوز

————————–

====================

تحديث 17 أذار 2021

————————

سوريّا والتاريخ الممنوع دائماً/ حازم صاغية

يحتفل السوريّون هذه الأيّام بمرور عشر سنوات على اندلاع ثورتهم. يحتفلون بانتفاضهم على نظام ظُنّ أنّه «أبدٌ» متطاول، لكنْ أيضاً بالانتفاض على ما هو أكثر من نظام. فالثورة بدأت مشروعاً جذريّاً يطرح على المحكّ أموراً عدّة: يطرح حتّى علَم البلد الذي رآه الثوّار اعتداء على وطنيّتهم. يطرح اسم البلد حيث بدا لكثيرين أنّ كلمة «عربيّة» تقضم كلمة «سوريّة»، وتفرض على كتلة معتبرة من السكّان، هي الكرد، هويّة قوميّة غير هويّتهم. وبالطبع ثار السوريّون على أمور كثيرة: على وظيفة قمعيّة استعبدتهم في الداخل وساهمت بنشاط في تدمير المنطقة، وعلى اقتصاد ضحل لا ينتج إلاّ التفاوت والفقر والبطالة، وعلى تعليم لا ينتج معرفة يُعتدّ بها… بهذا المعنى، وبمعانٍ أخرى كثيرة، بدت الثورة محاولة تصحيح جذريّ لخطأ بالغ الجذريّة.

الجذرّيتان معاً، ومن موقعين، تفسّران الكلفة الهائلة التي دفعها، ولا يزال يدفعها، السوريّون.

مع ذلك فالرواية التي يشيعها شطر عريض من رموز الثقافة السياسيّة العربيّة تقول إنّ السماء السوريّة كانت صافية تماماً إلى أن هطلت غيمة المؤامرة على «سوريّا الأسد». إنّها مؤامرة عربيّة – غربيّة استجاب لها عدد من الموتورين والعملاء السوريّين وكان ما كان. لم يحصل تعطيل للحياة السياسيّة ابتداء بـ 1963. لم تحصل مجزرة حماة في 1982. لم يحكم حافظ الأسد ثلاثين عاماً متّصلة قبل أن يورّث نجله الحكم والشعب والبلد. لم تمتلئ سوريّا بالزنازين التي جعلتها أحد أكثر بلدان العالم أمنيّةً وقمعاً. لم يهاجر السوريّون الذين لفظهم اقتصادهم للعمل في الخارج والعيش في ظروف بالغة التعاسة. لم ينجم عن هذا النظام المتطاول تكريس غير مسبوق للعائليّة والطائفيّة. لم يُطرد جيش الأسد ومخابراته من لبنان في استفتاء شعبيّ يُحتفل اليوم أيضاً بذكراه الـ 16. لم يعش السوريّون طويلاً في عزلة عن العالم محرومين من المساهمة في إنجازاته العلميّة والتقنيّة…

هذا الداخل الفائض لم يوجد. المؤامرة الخارجيّة وحدها وُجدت. وردّاً على المؤامرة اضطُرّ نظام وطنيّ ومسالم لا يحمل لشعبه إلاّ الحبّ أن يهجّر ربعه خارج الوطن وربعه خارج منازلهم وأن يستقدم الجيوش من كلّ حدب وصوب، مستعملاً ضدّ السوريّين البراميل والأسلحة الكيماويّة وما توفّر من أدوات القتل والإبادة.

الرواية المشار إليها تقول، مرّة أخرى، كيف أنّنا لا نملك تاريخاً، ولا يمكن أن نملك تاريخاً ما لم تُدفن تلك الرواية. تبعاً لها، هناك دائماً حدث ملعون يشبه الأوبئة، يهاجمنا بين فينة وأخرى، فيما نكون منكبّين على العمل الصالح في ظلّ قيادةٍ لا تعمل إلاّ الصالحات.

هذه الرواية، وإن تجاوز فصلها السوريّ الرهيب كلّ أشكال الاستباحة المألوفة، ليست جديدة بحال من الأحوال. فدائماً تهجم علينا المؤامرة بلا مقدّمات ولا أسباب، فتسلبنا أرضاً أو توقع بيننا حرباً أهليّة أو تزجّنا في تطوّر ما غير محمود. إنّها تفعل هذا في لبنان وفي العراق وفي فلسطين وفي كلّ مكان تصل يدها إليه، ويدها طويلة.

أمّا المحذوف الأوّل من تلك النظريّة، فهو الداخل. إنّنا نتبدّى، على ضوئها، كما لو أنّنا شعوب بلا داخل: ما من تاريخ سياسيّ أو اقتصاديّ أو ثقافيّ لدينا. هناك فحسب الخارج المتربّص الذي لا يكلّ.

ونظريّة إنكار الداخل هذه قد تكون نتاج وعي مبتور ما، وقد تكون نتاج مصالح ومنافع بعينها، وغالباً ما تكون وليدة الاثنين معاً. غير أنّها، كائناً ما كان الأمر، تنطوي على دلالات باهرة: فهي، من جهة، تستحي بصنيعها، أو صنيع الطرف الحاكم الذي تنطق بلسانه وتدافع عنه، كما تعلن، من جهة أخرى، احتقارها لذاتها: فنحن، وفقاً لها، أقرب إلى عجينة يصنعها ويكيّفها ذاك الخارج المتآمر. بعد ذاك فقط، يحين دورنا الأوحد للتدخّل، وهو أن نقاوم. هكذا ندحر المؤامرة مدّةً من الزمن يستجمع الخارج بعدها قواه كي يعاود التآمر، فنعاود المقاومة، وهكذا دواليك إلى أن يقضي الله أمراً.

في الحالات جميعاً، تعجز النظريّة هذه عن أن تصنع تاريخاً، أو تكتب تاريخاً، ما خلا بعض الخرافات والأساطير التي تُرسم بوصفها تاريخاً حربيّاً مجيداً. التاريخ الفعليّ يُكتب في الخارج، في جامعاته ومراكز بحثه، وهي مهمّة يقوم بها مختصّون وصحافيّون أجانب ولاجئون من أبناء بلداننا هجّرهم النظام الصالح. أصحاب النظريّة المذكورة يردّون: هذا استشراق، والاستشراق ملعون يستكمل المؤامرة بأدوات أخرى.

الحقيقة أنّ الشيء الوحيد الذي يُستكمَل هو ما تفعله تلك النظريّة: قتل السوريّين بـ «الأفكار» بعد قتلهم بالرصاص.

الشرق الأوسط

————————-

الثورة السورية في عقدها الأول.. فرضيات ينبغي التخلي عنها/ رشيد الحاج صالح

بعد نحو عشر سنوات من الثورة السورية، لم يكن يتوقع أحدٌ من السوريين أن تصل الأمور في سورية إلى هذا المستوى من التعقيد؛ حيث إن عدد المفاجئات التي باغتتهم كان كبيرًا ومربكًا لهم: المستوى غير المسبوق لإجرام النظام، همجية الفصائل المسلحة، تجاهل المجتمع الدولي للجرائم التي ارتُكبت بحق السوريين، تنمّر السوريين على بعضهم، أما آخر المفاجئات فهو ضعف أداء المعارضة الرسمية وفسادها. هذه المفاجئات وذلك المستوى من التعقيد يعنيان أن على السوريين تغيير الفرضيات أو البديهيات السياسية التي كانوا يؤمنون بها قبل الثورة، وذلك حتى يتمكنوا من إعادة امتلاك السياسة والتفكير في مستقبلهم الغامض.

الفرضية التي نرى ضرورة إعادة التفكير فيها هي اعتقاد غالبية السوريين أن الوضع في سورية، منذ عام 2011، لم يعد وضعًا محليًا سوريًا، بل هو وضع خرج من المحلية إلى الساحة الدولية، وأصبح لعبة بيد الدول الكبرى. وما عدد الجيوش الموجودة اليوم في سورية، والعقوبات الاقتصادية التي يتعرض لها رموز النظام من أميركا ودول أخرى، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها النظام هذه الفترة، وارتهان المعارضة الرسمية للدول الفاعلة الكبرى، سوى أدلة على هذا التدويل. وعلى ذلك، تنتهي تلك الفرضية إلى قدَرّية سورية شبه مطلقة، بأن السوريين ليس بيدهم شيء على الإطلاق، ولن يستطيعوا تغيير الأوضاع الحالية قيد أنملة. 

 وعلى الرغم من أن هذه التدخلات أثّرت بشكل جذري في الوضع السوري الداخلي، وقلبت موازنين القوى أكثر من مرّة، فإن تعامل القوى العالمية مع الحدث السوري لم يكن من باب أن سورية مهمّة في حساباتهم، أو أنهم حريصون على انتصار فريق على آخر، وإنما كان تدخلًا من باب ألا تكبر الأوضاع في سورية بطريقة تؤثر على وضع المنطقة ومصالح القوى الفاعلة، أو من باب البحث عن دور دولي عبر البوابة السورية، كحال روسيا مثلًا. 

ومن يلاحظ الفرق الكبير بين تصريحات السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد في عام 2011، وتصريحاته اليوم، يدرك تمامًا أن سورية لم تكن مهمة في الحسابات الأميركية، كما ظن السوريون وكما كانت توحي تصريحات فورد نفسه. فورد يقول اليوم بترك سورية للروس، لأنه يمكن الاعتماد عليهم في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وفي تنظيم الوضع في سورية، الرجل مسح -بجرّة قلم واحدة- كلّ تصريحاته النارية ضد النظام السوري عام 2011، وشطب من ذاكرته زيارته لساحات التظاهرات في مدن سورية عدة، تلك الزيارات التي كانت سندًا معنويًا للسوريين المطالبين برحيل الأسد ونظامه آنذاك. حتى إن أوباما تراجع عن خطوطه الحمراء عند أول عرض قدّمه له الروس لحفظ ماء الوجه. وتحليلات روبرت فورد الأخيرة تقول أوّل ما تقول إن الأميركان غير مهتمين أصلًا بالوضع في سورية، وليس لديهم معلومات دقيقة أو خطط مستقبلية للتأثير في الوضع في سورية. ولذلك كانت تقديراتهم بعيدة عن الواقع، وحساباتهم لم تكن في محلّها، على الأقل، في ما يتعلق بمدى رغبة إيران في التدخل في سورية، ومستوى الإجرام الذي يمكن أن يصل إليه النظام.

 أما بالنسبة إلى أوروبا، فلسنا بحاجة إلى التدليل على أن اهتمامها بسورية اقتصر على معالجة آثار موجات الهجرة ومشكلات اللجوء. من دون أن ننسى أن مواقف دول المنطقة كانت تنطلق إمّا من مصالحها المحلية وإما من منطلق الحد من تأثير تداعيات الوضع السوري، وصولًا إلى دعم ما يمكن أن نسمّيه بثورات مضادة، والانخراط الخجول -بعد عام 2017- في جهود روسيا التي ترمي إلى إعادة النظام السوري إلى الحظيرة الدولية.

حقيقة كهذه يعرفها كثيرٌ من السوريين، ولكنهم لا يريدون أن يصدقوها ويتحملوا نتائجها. وأوّل نتيجة هي العودة للتفكير في سورية، بوصفها حدثًا محليًا ومشكلة بين سوريين أولًا وقبل كل شيء، وأن ليس هناك من مجال للتفكير في سورية ومستقبلها دون تفاهم السوريين بين بعضهم. طبعًا، الأمور دائمًا أعقد مما تبدو عليه، ولكن وضع علامات أساسية في أي طريق يُعدّ أفضل طريقة لتحديد المسارات. وفي هذا الإطار، فإن حوارات السوريين بين بعضهم البعض أمرٌ مرحّب به وحيوي، أيًا كانت مواقفهم وأيديولوجياتهم، ونقد السوريين لبعضهم أمرٌ يقرّب وجهات النظر أكثر مما يبعدها، ويخفف المخاوف أكثر مما يثيرها.

اليوم، الكلُّ في أزمة: المعارضون والمؤيدون والنظام. الكل يشعر بنوع من الهزيمة أو خيبة أمل، أو بخوف من المستقبل، أو بعدم الرضا، والأهم من ذلك شعور الجميع بالقلق. المعارضون قلقون من أن ثورتهم قد تكون انتهت، وأن تضحيات السوريين ذهبت سدًى. والمؤيدون يشعرون بأن الحياة اليومية أصبحت فضيحة عليهم مداراتها، أما شعورهم باللا قيمة وقلة الحيلة، فلم يتوقعوا أنه سيصل إلى هذا الحد. أما النظام فهو أكبر المنتصرين الخاسرين، إذ احتفظ ببقائه واحتمالية عالية لاستمراره، ولكنه ضحّى بكل شيء: السيادة والأرض، ووحدة الكيان السوري، وهو لا يتوانى عن بيع أي شيء يعود للسوريين، مثلما يقف عاجزًا أمام أي حدث: قصف إسرائيل الدائم للأراضي السورية، الأزمة الاقتصادية الأخيرة، ظاهرة أمراء الحرب، حتى ضحكات بشار الأسد البلهاء على شاشات التلفاز أخذت تثير سخرية المؤيدين أكثر من المعارضين.

من المشكلات الأساسية التي على السوريين وحدهم معالجتها، لأن الآخرين غير مهتمين بها على أقل تقدير، أن السوريين هم أقلّ الأطراف تأثيرًا في الوضع السوري حاليًا، والأمر المؤسف أكثر هو أن قسمًا منهم أسهم في إضعاف السوريين، من حيث إنه قدّر أنه يدعمهم ويريد تحقيق أمر ما لهم. تدويل السوريين المعارضين للثورة لمواجهة تدويل النظام لها، قد يكون خيارًا أجبرت عليه المعارضة حينها، وهي محقة في ذلك، ولكن اليوم ليس هناك ما يسوغه. تفكير السوريين في الخارج يعني أنهم لا يرون أي أهمية للتفاهمات الداخلية بين السوريين. هذا لا يعني أن ليس للخارج والقوى الكبرى تأثير كبير، ولكن يعني أن ذلك التأثير لا يكون إلا عبر السوريين أنفسهم. وعلى ذلك، هم أنفسهم من يستطيع أن يحد من ذلك التأثير.

 ما الذي يجعل الكتائب الإسلامية المتطرفة تفكّر في السوريين، لو لم تكن لدى بعض السوريين رغبة في الاستعانة بها؟ وهناك من السوريين من يستعين بتلك الكتائب كعون لهم على السوريين الآخرين. وما الذي يجعل إيران تفكر في الاستثمار باهض الثمن في سورية، إذا كان السوريون أنفسهم غير معنيين بطائفيتها، ولا يرون أي جدوى من وجودها في سورية؟ وهناك من يستعين بطائفية إيران على السوريين الآخرين. الحوارات السورية السورية، عبر المقالات والمؤتمرات والمنصات الإعلامية ومراكز البحوث والشوارع والنوادي الثقافية والهيئات المختلفة، قد تصل بنا إلى هذه النتيجة (السوري ليس بحاجة إلى غيره) وهي نتيجة -كما يعلم الجميع- بعيدة كل البعد عن واقع اليوم.

من أهداف السياسة الكبرى التي سهر عليها النظام الأسدي، خلال عقوده الطويلة في سدة الحكم، منعُ السوريين من الكلام مع بعضهم البعض في قضايا السياسة. وقد استخدم كلّ الوسائل الممكنة لذلك، من تشجيع السوريين على كتابة التقارير الأمنية ببعضهم البعض، إلى حظر تشكيل الأحزاب السياسة، حتى بات السوريون يعتقدون أن “للحيطان آذانًا”.

لم يعتد السوريون الحديث الشفاف مع الآخرين، عندما يتناولون أوضاعهم السياسية، ولذلك بقي تفكيرهم ينطلق من الذات ويعود ليستقر بها، ولا يقيم وزنًا للآخر أو المختلف. الحوار هو وسيلة فقط لتأكيد ما يريد الشخص قوله، وكثيرًا ما يتحول إلى وسيلة ناجعة لتلفيق التهم للآخرين. وقد سهّل هذا الأمر في النهاية شعور البعض بأن السوريين المختلفين عنه هم أعداء له. ولذلك فإن تحويل الآخر إلى عدو، وهي لعبة نشأت في ظل بيئة استبدادية أسدية تعلي من قيمة عدم الثقة، أمرٌ ما يزال يمارسه السوريون في تقويمهم لبعضهم حتى من قبل من تحرر سلطة آل الأسد. 

الأمر الآخر الذي اعتاده السوري في حياته السياسية الجافة هو عدم التفكير النقدي بالذات، والاعتراف من حين لآخر بأن عليه إعادة النظر في بعض قناعاته الداخلية التي شكّلها قبل نضوجه العقلي. هذا الأمر ساعده في النهاية في رفع درجة احترامه لذاته، بغض النظر عن مضمون هذه الذات، وشيطنته للمختلف معه، بغض النظر عن مضمون ذلك المختلف. هناك تشابه مؤسف في هذه النواحي بين المعارضين، والمؤيدين وجماعة “البين بين” وجماعة الحياديين، وجماعة “بدنا نشحط الأسد بساحة الأمويين”، وجماعة “الله يطفيها بنورو”، وجماعة “الأسد أو نحرق البلد”، وجماعة “هذه الثورة ابتلاء من الله”، وجماعة “الديمقراطية شرك بالله”.

 إخراج الثورة السورية من سوريتها كان خيار النظام، لأنه أضعف منهم، ولأن إبقاء الثورات محلية أطاح بالرؤساء العرب الذين اندلعت فيها ثورات الربيع العربي. ولذلك سيبقى النظام المستفيد الأكبر من بقاء هذا الخيار مفتوحًا أمام كل السوريين، لأنه يمنع السوريين من التفكير في وضعهم ضمن نطاق محلي، بعيدًا عن هلوسات نظرية المؤامرة والمؤامرة المضادة.

نقول هذا الكلام، لأن تجربة الثورة السورية بيّنت أن السوريين أكبر من نظام الأسد، وأن الغسيل الفكري الذي مارسه عليهم -عبر الإعلام والمدارس والجامعات والجوامع والمنظمات الشبابية والنقابات المهنية ومعسكرات الطلائع والشبيبة والطلبة- واحتكاره لفعل الكلام السياسية بشكل مطلق، لم يمنعهم من الثورة عليه ومن نزولهم للشوارع والساحات العامة بالملايين، على الرغم من تحويل النظام تلك الساحات إلى أنهر من الدماء.

للثورات مستويات ومجالات سياسية مختلفة، ومن المهمّ أن نتعامل معها كلّها: السلطة السياسية، علاقة المجتمع بالسياسة، الثقافة السياسية، القيم السياسية، علاقات الجماعات ببعضها، التحرر من ثقافة الاستبداد، إعادة بناء الثقة بين السوريين.. وإن فشل الثورة في مجال (تغيير السلطة السياسية) لا يعني أن تترك المجالات الأخرى دون تفكير، بل إن معالجة مثل تلك المجالات قد يقرب السوريين أكثر من هدف تغيير السلطية السياسية، ومن تكوين سلطة يقبلها الجميع، وتمثل الجميع، وليس إجراء تغيير شكلي أو استبدال مستبد بمستبد.

بحسب علم الاجتماع السياسي، فإن الثورات لا تستقر في فترة وجيزة، وعشر سنوات من عمر الثورة السورية هي مدة قصيرة جدًا، ويحتاج الأمر إلى وقت أطول وجهد أكبر للوصول إلى دولة العدالة والحريات. ولكن الأمر يحتاج أيضًا إلى أن نفكر بطريقة مسؤولة، تتيح لنا الاعتماد على أنفسنا أكثر من الاعتماد على غيرنا. تتيح لنا فهم أنفسنا، كأفراد أولًا، وجماعات ثانيًا، تتيح لنا أيضًا أن ننظر إلى أنفسنا ليس على أننا جزء من المشكلة، ولكن على أننا أيضًا جزءٌ من الحل، بل الجزء الأساسي من الحل.

مركز حرمون

—————————-

تأملات في الثورة الفاشلة/ ماهر مسعود

يتحدث طيف واسع من السوريين؛ كتّاب ومثقفون وسياسيون وصُنّاع رأي وأكاديميون وغير أكاديميين ونجوم فيسبوكيين وإعلاميين وناشطين وغيرهم… الخ، يتحدثون عن فشل الثورة السورية بعد عشر سنوات على انطلاقها، بنوع من الالتزام بالواقعية ونبذ الأوهام، دون أن تخلو تلك الواقعية من الانتصار الاحتفالي بالذات التي كشفت الواقع وكأنها اخترعت الذرّة. أو بنوع من الحسرة والخيبة الخذلان والتباكي على الثورة الفاشلة وحال السوريين المأساوي ومصيرهم التراجيدي والظلم الذي لحق بهم، دون أن تخلو تلك المشاعر أحياناً من الـpatronizing، أي التعاطف المرفق بالتعالي. وفي أحسن الأحوال يتم التعبير عن الثورة التي انحرفت عن مسارها السلمي الجميل، فلم تعد ثورة على الإطلاق، بل باتت حربا أهلية أو حربا بالوكالة وفصائل وميليشيات وجهاد وتطرف واحتلال وغيره… الخ.

تزوير الواقع

ولكن تلك الحزمة من الأوصاف، أي رزمة التعبيرات والحالات السابقة مجتمعة، رغم صحته وواقعيته النسبية في سياقه، إلا أنه ينطلق من مسلمات خاطئة في أصلها وفصلها، وينتهي بنتائج تزوّر الواقع بدل الكشف الاحتفالي عنه. فهو ينطلق أولاً من أن الثورة، لكي تُسمّى ثورة، يجب أن تكون ناجحة! لكن تلك المسلّمة ليست أكثر من حماقة، حيث إنه ليس هناك ثورة كبرى ناجحة في التاريخ؛ حتى لو كانت حنّة آرنت تستثني الثورة الأمريكية، فمن ثورة سبارتكوس إلى الثورة الإيرانية، لم تنجب الثورات إلا الفشل والديكتاتوريات، الثورة الانكليزية أتت بكرومويل، والفرنسية بنابليون، والروسية بجوزف ستالين، والصينية بماوتسي تونغ، والإيرانية بالخميني… والأهم من ذلك في السياق السوري، أن الثورة السورية الكبرى على الاحتلال الفرنسي، والتي يبجّلها السوريون أيما تبجيل، كانت ثورة فاشلة بالمطلق، ولم يحصل السوريون على استقلالهم الأول إلا بعد مرور عقدين على نهاية ثورتهم الكبرى، ناهيك عن أن جميع الانقلابات العربية، التي سمّت نفسها ثورات، لم تنجب إلا ديكتاتوريات عسكرية، وعلى رأسها ثورة يوليو المصرية التي جاءت بمؤسس الاستبداد العسكري في العالم العربي، جمال عبد الناصر.

المسلّمة الخاطئة الثانية ناتجة عن فكرة تبدو لاواعية أو قبْلية، وهي فكرة خيرية الثورات، والمطابقة بين الثورة والخير، فالثورة فعل خيِّر، يصدر عنها الخير، وتنتج الخير للناس، ويشارك بها الأخيار ضد الأشرار، وكأن الثورة تنقلنا دفعة واحدة من الجهل إلى النور، ومن مملكة الظلم إلى مملكة العدل، ومن الديكتاتورية إلى الحرية… وهكذا. لكن لمجرد أن تبدأ بمطابقة الثورة والخير، مطابقتها مع المثال في رأسك، ستبدأ مباشرة بترداد «انحراف الثورة عن مسارها» وكأن مسارها مسجّل في اللوح المحفوظ لإله الثورات الخيِّر، أو تبدأ بالتشريط، أي وضع الشروط على الثورة لكي تسمّيها ثورة، فأدونيس لا يريد ثورة تخرج من جوامع، وغيره لا يعترف بثورة غير مسبوقة بجان جاك روسو ومونتسكيو وفكر التنوير، وثلاثة أرباع اليسار لا يريدون ثورة تخرج عن قيادتهم الطليعية «الأممية» ولا يعترفون بثورة رجعية احتلها الإسلاميون، والإسلاميون أنفسهم لا يريدون ثورة لا تؤدي إلى حكم السنّة، حيث يبقى العلوي أو «الأقلياتي» متهم بثوريته ومشكوك بأمره وكأنه يكفّر عن ذنب الولادة، أو يُنظر له كفارس من فرسان القرون الوسطى.. وهكذا. بالمجمل، ينطلق أولئك من مثال ثوري متعال في الرأس أو في العالم ويقيسون الواقع على أساسه، ثم يحاكمون ذلك الواقع انطلاقاً من المتعالي الزائف الذي يلبس قناع الواقع، بل يصبح هو الواقعية ذاتها وما يمثل الواقع.

محاكمة الواقع

إن نجاح الثورة ضمن ذلك المعيار المتعالي، وعلى عكس ما يظن أولئك «الإشراطيون» هو في الحقيقة تحولها إلى نظام، بل إلى نظام متغطرس. ولا يكف الواقع الحالي؛ أو حتى التاريخ، عن اثبات أن المقاومة الثورية التي تأخذ مكان السلطة تلبس مباشرة ثوب السلطة التي كانت تقاومها لتصبح صيرورة سلطة مضادة لصيرورة الثورة التي خرجت منها. ولا شيء جديد في ذلك فقد أخبرنا نيتشه منذ أكثر من مئة عام أن مقاومة الوحوش تحولك إلى وحش، وأن التحديق الطويل في الهاوية سيجعلها تنفذ فيك وتحولك إلى هاوية. الأمثلة كثيرة، فالمقاومة الفلسطينية انتهت بحماس والجهاد الإسلامي، واللبنانية انتهت بحزب الله، ومحور المقاومة بات محور احتلال علني لدول المشرق وشعوبها، وجعل من إسرائيل تبدو وكأنها عدواً طيباً وبريئاً وإنسانياً مقارنة به… أما في سوريا فقد مضت الوحشية إلى حدودها القصوى مع استخدام النظام للأسلحة الكيميائية عام 2013، لتنتج وحشية مقابلة نقلت مسارات الجيش الحر إلى تنظيم الدولة والنصرة وتحرير الشام وما لا حصر له من الفصائل العنقودية الإسلامية، لتنتهي بالجيش «الوطني» الذي احتل عفرين في الفترة ذاتها والطريقة ذاتها التي احتل فيها النظام والروس والإيرانيون الغوطة الشرقية ضمن رمزية لا تخطئها عين.

ستكون الثورة إذاً، ضمن المعيار الكلّي الذي يضعه المعياريون ومن يحاكمون الواقع بالجملة، تحمل بذرة الفشل قبلياً في مبدئها المتعالي، بل هي ثورة فاشلة منذ البداية، ولا يفعل الواقع سوى إثبات ذلك الفشل الذي يتكشّف كلما مضى الزمن. فطالما أن المعيار هو المتعالي الموجود في الرأس، فلن يكون الواقع إلا خيبات متسلسلة ومتتالية، تثبت ما هو مثبت أصلاً في المقدمات المُفارقة. وهو ما يحوّل أولئك المعياريون إلى أنبياء بعين أنفسهم، ولكنهم أنبياء حاقدون يفيضون بالسلب والعدمية، حاقدون على الواقع الذي لم يره أصلاً سواهم، وعلى الناس الذين لم يأخذونهم أو يأخذوا تحذيراتهم على محمل الجد، ويسلبون الثورية من الواقع الذي لا يمضي وفق مثالهم، وعدميون لا يعجبهم أي تشكيل وأي حركة وأي معارضة وأي شخص أو طرح جديد، كمن يراهن على الخسارة ويعيش على الخيبة التي تثبت في المآل الأخير صحة تنبؤاته ورؤاه المسبقة.

إن الوعي الخلاصي المتجذّر في الثقافة والتاريخ السوري، العربي والإسلامي، والذي يعمل كالابستيم اللاواعي الذي تحدث عنه فوكو، يطلق ديناميات الإنكار والانتظار، ويربط تقدم الواقع وجريان نهر الصيرورة الواقعية بلحظة أصيلة و«بريئة» في البدايات أو لحظة منتَظرة صافية في النهايات، فيصبح من جهة، لا أحد يمثل الثورة على طريقة لا أحد يمثّل الإسلام، هذا هو الوجه الأول للإنكار. أما الوجه المقابل فيتمثل على العكس بالقول إنه ليس هناك ثورة على الإطلاق، أو هذه ليست ثورة، أو لم يعد هناك ثورة، وذلك ليضع المتكلم نفسه خارج الإطار، خارج الثورة والنظام والمعارضة وكل شيء، ويسبح في الفضاء العمومي الفارغ واللامعين، والفضاء الشخصي اللامع بعين ذاته كنجم في مجرّة اللامعنى. فعندما يصبح الانتماء للمتسخ والملوّث والمشوّه وسماً بالوساخة والتلوّث يهدد النظافة الأصليّة، يصبح رفض الانتماء و«اللاإنتماء» حلاً، بل دليلاً على التميّز والاختلاف، لكنه «دليل الحائرين» أيضاً، الغارقين في بحر العدمية الواسع. وهنا نشير أيضاً إلى أن الوعي الخلاصي في المحصلة ليس وعياً دينياً بالضرورة، رغم جذره اللاهوتي، فالوعي الماركسي كان من جهته وعياً خلاصياً جوهرانياً في التاريخ، نافس الدين على خلاص البشرية دون إله.

إفراز التناقضات القصوى

يقال عن فعل ما أنه ثورة عندما يفجر بنية نظام «سستم» قائم من الداخل، ولا يعود من الممكن استمرار ذلك النظام استناداً إلى الأسس التي قام عليها، نتيجة لتقطّع خيوط الاتصال التي تجعل من بنيته قابلة للاستمرار. وحتى عندما نتحدث عن ثورة علمية، فلا يمكننا القول ان أينشتاين قد ألغى نيوتن بالمطلق، ولا هندسة ريمان أو لوباتشوفسكي قد ألغت إقليدس بالمطلق، ولا داروين قد ألغى التصورات الدينية للخلق بالكامل، لكن تلك الثورات جعلت من المستحيل استمرار النظريات والبنى العلمية السابقة كما هي، والعديد من تلك النظريات لم يتم الاعتراف بها ولا أخذها على محمل الجد في وقتها، بل غالباً ما تم إعادة اكتشافها واثبات صحتها بعد سنوات وعقود. حياة ماركس أو نيتشه كانت فاشلة بالكامل على المستوى الفردي، ولكن كلاهما أنتج سلاسل مركبة من الثورات الفكرية «والواقعية» مازالت أثارها قائمة إلى اليوم، بل إن أفكار ماركس الثورية التي أطلقت ديناميات تحرر ومقاومة على مستوى العالم، لم تنجز مطلقاً في الواقع إلا الديكتاتوريات المعادية للتاريخ الذي بجّله ماركس كجدلية انعتاق وحرية.

الثورة السورية ليست استثناء تاريخيا ولو أنها استثناء في تاريخ الكيان السوري، هي صيرورة ثورة لا توجد نتائجها في مقدماتها. إنها صيرورة هدم وإعادة تشكيل لا تتوقف ولا يمكن توقّع نتائجها بطريقة ميكانيكية ساذجة. ومثل كل صيرورة، لا تكف عن الحركة والتناقض الذاتي وإفراز التناقضات القصوى، إلا أن تناقضاتها ليست ثنائية أو ثلاثية على الطريقة الماركسية منتهية الصلاحية؛ حيث صراع الأطروحة ونقيضها الذي ينتج عنه التركيب ضمن عملية شاملة يُطلَق عليها اسم «التاريخ» بل هي تناقضات شبكية «جذمورية» تتصارع فيها قوى متنافرة ومتداخلة بشكل هائل، قوى محلية وإقليمية ودولية، يتفرع من كل منها شبكات قوى محلية متقاطعة ومتنافرة ومتحاربة، وشبكات قوى إقليمية تتقاطع مع بعضها أفقياً ومع الشبكات المحلية عمودياً، وشبكات قوى دولية تعيد تكرار الاختلاف ذاته على مسطّح جغرافي لا يتوقف عن الانزياح والتقلص والتمدد تبعاً لحركة القوى المسيطرة على الأرض، ولا تكف عن اختراق التاريخ؛ الشخصي للأفراد والجمعي للسوريين، لإعادة إنتاجه وهيكلته داخل سوريا وفي الشتات بوصفه تاريخاً متعدداً غير قابل للتأريخ المفرد أو التواصلي الذي يجمع الجميع ضمن سردية واحدة.

سيكون من الحماقة والسذاجة معاً ضمن تلك الشروط، توقع نهاية هندية للفيلم السوري الطويل، أو نهاية أمريكية بطولية للثورة السورية، حيث إن البدايات المتجددة لا تتوقف عن اختراق النهايات وتغيير اتجاهها وإعادة تشكيلها ورسم مساراتها قبل حتى نهايتها، وحيث إن البطل الأساسي للفيلم المرعب «النظام» ما زال يعاود انقسامه الخلوي، لينتج احتلالات تحتله هو ذاته، ثم احتلالات تُنصِّب احتلالات جديدة ضمن سلسلة احتلالية تحكم مسارات أصحابها أكثر مما يحكمون هم مخارجها.

إن سيرة الثورة السورية إذاً هي سيرة ثورة فاشلة بالكامل، ثورة غيرت التاريخ الشخصي لكل سوري، والتاريخ الجمعي للسوريين إلى الأبد، لكن لا شيء يدعو للمناحة، ولا لإعلان النهايات الموقّرة، ولينظر كل منّا إلى حياته الشخصية بصدق، وليتأملها جيداً، بعيداً عن المجردات، فمن لم يصنعه الفشل، لم يوجد بعد.

كاتب سوري

——————————-

ملايين المجرمين الطلقاء/ أحمد جبر

نتيجة وحشية النظام الشديدة وانتهاكه كل القوانين والدساتير، قلّما يتم الحديث عن البنية القانونية التي تقف وراء القمع في سوريا؛ البنية المكتوبة التي تعطي لأجهزة النظام الأمنية الأساس القانوني الذي تستخدمه في قمع وأَسْرِ المجتمع، ولا تُفسح المجال أمام إقامة دولة القانون. وبهدف مقاربة هذا الجانب من بنية النظام ومن معاناة السوريين، يمكننا أن نرجع إلى ما قبل نحو عشر سنوات، إلى يوم السابع عشر من شباط (فبراير) 2011، عندما تظاهر العشرات في ساحة الحريقة وسط دمشق، احتجاجاً على ضرب عناصر الشرطة لأحد الأشخاص، وكان ذلك الاحتشاد الاحتجاجي هو الإشارة الأولى إلى أن السوريين يوشكون على الانتفاض في وجه النظام السوري. وقتها قام وزير داخلية النظام في حينه، اللواء سعيد سمور، بالنزول إلى الحريقة وقد علت وجهَه ملامح المفاجئة، ليصف الحالة بجملته الشهيرة التي يعرفها جلّ السوريين: «عيب يا شباب هي اسمها مظاهرة».

كان استغراب وزير الداخلية طبيعياً تماماً، إذ كانت أعمال التظاهر والإضراب المناوئة للنظام نادرة في المشهد السوري طوال ثلاثة عقود، تحديداً منذ أعمال البطش والمجازر التي مارسها النظام في ثمانينات القرن المنصرم. لكن إلى جانب البطش وقوة السلاح الذي يُستخدَم دون الخضوع لأي قانون، كان النظام ولا يزال يستخدم القوانين في القمع أيضاً، والقوانين هذه في حد ذاتها مخيفة حتى في حال تطبيقها دون أي خرق أو تجاوز.

لم يكن المشهد الذي فاجأ الوزير في الحريقة يتضمن مخالفة لحكم سلطات الأمر الواقع فقط، وإنما أيضاً لقانون العقوبات السوري. لا يعتبر هذا القانون الإضراب والتظاهر مخالفات حتى، بل جرائم جُنْحية حيناً وجنائية حيناً آخر، تصل عقوبتها إلى الحبس (عقوبة مقيِّدة للحرية) والتجريد المدني، هذا في حال لم تُضَف تهمة أخرى مثل تهمة «وهن نفسية الأمة» الشهيرة، وبالتالي تصبح العقوبة أكبر. في الواقع، كان المشهد بالنسبة للوزير عبارة عن مئات من المجرمين الطلقاء.

الإضراب والتظاهر ممنوعان

الإضراب عن العمل من الوسائل الاحتجاجية السلمية التي يستخدمها العمال لتحصيل حقوقهم، لكنها في قانون العقوبات السوري تدخل تحت تصنيف «الجرائم الواقعة على حرية العمل»!! ينطبق ذلك حتى على العاملين لدى القطاع الخاص، ولكن بشكل أكثر تحديداً حين تكون بهدف الاعتراض على قرارات الدولة أو الضغط على سلطاتها، وكأنه يمكن أن يكون الإضراب لأسباب ترفيهية مثلاً! تنص المادة 331 من قانون العقوبات:

والقانون السوري لا يعاقب على الشروع في الجُنَح إلا عند ذكر ذلك صراحة في نص القانون، ويكون ذلك بسبب جسامة الجنحة كما في السرقة، أو حين يُضمِر المُشرِّعُ غاية من وراء هذه المعاقبة، تماماً كما هو الحال في الإضراب عن العمل، حيث يعتبر مجرد الشروع في الإضراب، أو التحريض عليه والدعوة إليه، جريمة يعاقب عليها القانون، بغض النظر عن إتمام الإضراب أو عدمه. إذ نصت المادة 333 على أنه

أما بالنسبة للإضراب في القطاع العام (المادة 330)، فإن المُشرِّعَ لم يكتفِ بالتوصيف الجُنْحي للفعل كما هو الحال في المواد المذكورة أعلاه، بل تشدَّدَ كثيراً وحوله إلى التوصيف الجنائي، ذلك أن عقوبة موظفي الدولة المُضْربين عن العمل، أو الذين يقدمون استقالة جماعية، هي التجريد المدني، وهي عقوبة جنائية ماسّة بالشرف والاعتبار، تنطوي على حرمان المحكوم عليه بها من الكثير من الحقوق التي تؤثر في مركزه الأدبي والاقتصادي، ومن ذلك الإقصاء عن جميع الوظائف والخدمات العامة، والحرمان من كل معاش أو امتياز أو التزام من الدولة، والحرمان من أي مهمة في التعليم العام أو الخاص، وغير ذلك من أحكام تجعل حياة المحكوم بالغة الصعوبة، وأهمها الحرمان من الحصول على وثيقة «غير محكوم» طيلة فترة التجريد، ما يعني أيضاً منعه من إجراء كثير من المعاملات الرسمية، وحتى من العمل في القطاع الخاص إذا ارتأت الجهة التي يريد العمل لديها أن تطلب سجلّاً عدلياً نظيفاً. والحدّ الأدنى للتجريد المدني ثلاث سنوات، والأعلى خمس عشرة سنة، ولا تسقط هذه العقوبة بالتقادم، بخلاف العقوبات الأخرى الواردة في القانون. وفضلاً عن التجريد المدني، يمكن الحكم بالحبس البسيط من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات بحسب تقدير القاضي.

التظاهر من وسائل الاحتجاج السلمية أيضاً، وهو بدوره فعل مجرَّم في قانون العقوبات السوري، والتجريم لا يشمل التظاهر فحسب، وإنما أي تجمعات لا تأخذ الطابع الخاص (أعراس، أعياد ميلاد) كما تنصّ المادة 335. وقد تصل عقوبة المتظاهر في سوريا إلى الحبس لمدة عامين في حال رفض المتظاهرون ترْك المظاهرة بعد إنذار السلطات (المادة 338). والغريب في النص القانوني (المادة 336) أنه يُجرِّمً صراحة المظاهرة السلمية التي تحتجّ على أي «قرار أو تدبير اتخذتهما السلطة العامة»، في حال كانت مؤلَّفة «من سبعة أشخاص على الأقل»، ويُجرِّمُ أي تجمّع فيه عشرون شخصاً إذا «ظهروا بمظهر من شأنه أن يعكّر الطمأنينة العامة».

والدستور هو القانون الأسمى في الدولة، وقد كان دستور العام 1973 يضمن حق الاجتماع والتظاهر السلمي (المادة 39) دون ذكر الإضراب عن العمل، ثم جاء دستور العام 2012 ليضيف أيضاً الحق في الإضراب عن العمل إلى حق الاجتماع والتظاهر السلمي (المادة 44). وصحيح أن الدستور ترك الباب موارباً حين نصَّ على أن ممارسة هذه الحقوق يتم تنظيمها من قبل القانون، إلا أن قانون العقوبات يُغلِق الباب نهائياً بتجريمه ممارسة هذه الحقوق، وهو إغلاق يجعل من نصوص القانون سابقة الذكر غير دستورية ولا قيمة قانونية لها نظرياً. والمحكمة الدستورية العليا هي الجهة التي تَبُتّ بدستورية القوانين، وهي المسؤولة عن إلغاء كل نص قانوني مخالف للدستور. وقبل العام 2012 كان الدستور ينصّ أن رئيس الجمهورية هو الذي يعيِّن جميع أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وكانت مواد الدستور تنظِّم كيفية عملها. ثم جاء المرسوم 35 لعام 2012 لينظم تأليف وعمل هذه المحكمة، ولكن دون أن تدخل تغييرات مهمة على الأحكام السابقة. وعلى الرغم من أن المادة الأولى من المرسوم اعتبرت أن المحكمة الدستورية العليا «هيئة قضائية مستقلة»، إلا أن هذه الاستقلالية تم نسفها مباشرة بالعديد من مواد المرسوم ذاته، حين أعطت المادة الثانية رئيس الجمهورية حق تسمية رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية العليا، كما منحت الفقرة ب من المادة العاشرة لرئيس الجمهورية أن يقرِّر إقالة أعضاء المحكمة منفردين أو مجتمعين. كما أن الدستور السوري لم يُعطِ الحق بالطعن في دستورية القوانين للمواطنين أو الأحزاب، وإنما حَصَرَ هذا الحق برئيس الجمهورية وخُمس أعضاء مجلس الشعب (ربعهم في دستور 1973)، فيما منح للمحاكم سلطة اختيارية غير إلزامية في الطعن بدستورية القوانين. والخلاصة أن هذه المحكمة لا تستطيع القيام بشيء دون موافقة رئيس الجمهورية الذي يملك تعيين وإقالة جميع أعضائها، وهذا نتيجة للدستور والقوانين نفسها، حتى دون اللجوء إلى وسائل الترهيب المخابراتية غير القانونية.

الإصلاح ممنوع

في سياق «إصلاح الأوضاع» والاستجابة لبعض المطالب بعد قيام الثورة، تم في نيسان (أبريل) 2011 رفع حالة الطوارئ المعلنة منذ انقلاب البعث في الثامن من آذار (مارس) 1963، وكذلك إلغاء محكمة أمن الدولة العليا. وطبعاً رغم هذا لم تتوقف الانتهاكات والاعتداءات من قبل الأجهزة الأمنية، ولكن ليس فقط في سياق انتهاك النظام لكل قانون، بل حتى من الناحية القانونية، إذ حلّ قانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012 محل أحكام حالة الطوارئ، ومحكمة الإرهاب محل محكمة أمن الدولة، ليبدو أن ما أعطاه النظام بيمينه أخذه مباشرة بشماله. ومن الحزمة الإصلاحية التي ادّعى النظام تطبيقها كان استصدار قانون التظاهر السلمي بموجب المرسوم التشريعي رقم 54 لعام 2011. ومع أن هذا القانون جاء منسجماً مع نص دستوري بقي مُتجاهَلاً لعقود من الزمن، فإن بنوده لم تغيِّر شيئاً بالنتيجة، إذ ألزمَ القانون الجهة المنظِّمة للتظاهر بتقديم طلب ترخيص إلى وزارة الداخلية (الأداة القمعية)، بدلاً من إبلاغ هيئات منتخبة، كالبلديات مثلاً، على غرار كثير من القوانين الناظمة للتظاهر في العديد من الدول الأخرى. والهدف من الإبلاغ أو الإخطار في سائر قوانين الدول الأخرى، هو أن تتخذ السلطات الإجراءات اللازمة لتأمين سلامة المظاهرة والمتظاهرين والممتلكات العامة والخاصة، أما قانون التظاهر السوري فهو يطلب من منظِّمي المظاهرة القيام بمهام الدولة في ضمان سلامة الممتلكات العامة والخاصة (الفقرة 2 من المادة 5). فوق ذلك، وطوال ما يقرب من عشر سنوات، لم تستطع حتى الأحزاب «المعارضة» المحسوبة على النظام استصدار هذه الموافقة، لا بل تم استدعاء وتوقيف بعض من تقدموا بطلبات ترخيص لتنظيم مظاهرات من قِبَلِ الأجهزة الأمنية، فضلاً عن رفض طلباتهم طبعاً.

القانون ممنوع

لقد قنَّنَ النظام السوري دكتاتوريته دستورياً وقانونياً، وحتى بعد التعديلات الدستورية والقانونية «الإصلاحية»، يبقى أن أي نظام يحكم بحسب الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية بموجب الدستور والقوانين السورية، سيكون بالضرورة نظاماً دكتاتورياً، فكيف هي الحالة عندما يكون نظام الأسد؟

ولكن رغم عدم انضباط النظام بقوانينه، إلا أن هذه القوانين ليست زائدة عن الحاجة، بدليل أن النظام يستخدمها ضد جزء من محكوميه فعلاً، لكنها لا تسري على جميع  معارضيه بشكل متساوٍ، فالمثول أمام القضاء لا يكون إلا للمحظوظين منهم كما هو معروف لدى السوريين. وليس بالإمكان معرفة آلية الفرز التي يتّبعها النظام بحق المعتقلين، فأصحاب الحظ الأوفر يتم تحويلهم من الأفرع الأمنية إلى القضاء المدني، والأقل حظاً يتم تحويلهم إلى القضاء العسكري أو المحاكم الاستثنائية كمحكمة الإرهاب سيئة الصيت المستبدلة بمحكمة أمن الدولة. بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ما زال ما يزيد عن عشرة آلاف سوري يخضعون لمحكمة قضايا الإرهاب. أما الأسوأ حظاً، فيتم تحويلهم إلى المحكمة الميدانية، وهي أشبه بمسرحية مكرَّرة تُصدر نوعين من الأحكام فقط: الإعدام أو السجن المؤبَّد. ليبقى أصحاب الأوضاع الأكثر كارثية هم الألوف الذين استُشهدوا تحت التعذيب بالأفرع الأمنية؛ أولئك الذين رُموا خارج كل قانون وإجراء. ورغم أن هذا الفرز يبدو في كثير من الأحيان عشوائياً غير واضح المعالم، إلا أنه يمكن أيضاً ملاحظة بعض الدلالات التي قد تؤثر ولو جزئياً عليه، كطائفة ودين المعتقل، أو المنطقة الجغرافية التي ينحدر منها، وأحياناً الوضع المادي والقدرة على دفع الرشاوى، أو الواسطة وشبكات المحسوبية.

إن القوانين في سوريا تنسجم مع هيئة وهيكلية النظام، الذي يقفز على هذه القوانين التي وضعها بنفسه في كل يوم. وهو انسجام يحتاج له النظام بشكل من الأشكال، فمن خلاله يمكن أن يمنح أبواقه حجة أنه يطبِّق القانون، وأن سوريا دولة قانون ولو بالحد الأدنى. كما أن أي دولة، في إطار علاقاتها بمحيطها الإقليمي والدولي، تحتاج لأن تمتلك قوانينها الخاصة المُعلَنة، وذلك كي يكون ممكناً التعامل معها في إطار العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية، بل وحتى من أجل رعايا الدول الأخرى المتواجدين على أراضيها، مقيمين كانوا أم سياحاً أم غير ذلك. في دولة القانون، يتمتع المواطنون بالحقوق والحريات المدنية قانونياً، ويمكنهم استخدامها في المحاكم. أما في سوريا، فإن نص القانون نفسه يتعارض مع مفهوم دولة القانون.

موقع الجمهورية

—————————

دروس من ثورة الحرية والكرامة/ علي العبدالله

لم تكن الثورة السورية وليدة فعل قوى سياسية واجتماعية منظمّة، بل ردّة فعل شعبية على غطرسة رجال السلطة واستهتارهم بكرامة المواطنين وحقوقهم؛ وغضب واحتقان عميقين زرعتهما سياساتٌ مديدةٌ من الإذلال والقهر الممنهج اتبعها النظام في تعامله مع المواطنين. وهذا جعلها من دون رأسٍ يقود ويوجه وخطةٍ ترشد وتصوّب، ما سمح لقوى سياسية منظمّة معارضة من خارج صفوف الثوار بالقفز إلى مقعد القيادة والتحدّث باسم الثورة والادّعاء بتمثيل الثوار الذين وجدوا أنفسهم تابعين لشخصيات وأطر منظمة، ليسوا على تواصل مسبق معها، وليسوا على احتكاكٍ مباشر بها، أو تعاون وتنسيق في الساحات والميادين؛ لكنهم استسلموا للموقف، بحكم الضرورة، وعلى أمل أن يملأ هؤلاء فراغ القيادة، ويعزّزوا الثورة بخبراتهم وقدراتهم، ما رتّب نشوء حالة هجينة: جماهير تحرّكها العفوية والارتجال وأطر سياسية منظمة تتحرك بمعزل عنها ومن دون محاولة التأثير فيها وتوجيهها وترشيد خطاها؛ ما أسّس لمعادلة تفاضلية بينهما، حيث فقد الحراك الشعبي استقلاليته وقراره، وفقدت الأطر، مع مرور الوقت، وزنها ومكانتها السياسية، في ضوء عدم التقدّم على طريق تحقيق أهداف الثورة سياسيا، وخسارة الحراك الثوري معاركه ومواقعه.

قاد عدم وجود قيادة ذاتية للثورة، وعدم تفاعل القيادة السياسية في الخارج مع الثوار، إلى تكرّس حراك ثوري محلي بقوى وخطط محلية؛ فغدت الثورة ثوراتٍ تلتقي على تطلعات عامة، لا تجمعها خطة واحدة أو قرار واحد، تتضامن بالبيانات والتصريحات الإعلامية، وتتسابق على الموارد وتتصارع على الدعم الخارجي، فتضعف بعضها وتقلّص هامش تحرّكها وفرص انتصارها. وهذا قاد إلى خسارته “الحراك الثوري” معارك متتالية، وفقدانه السيطرة على مساحاتٍ شاسعة، كان قد استولى عليها في مرحلة الصراع بينه وبين النظام، بعد تحوّل الصرع إلى صراعٍ على سورية بانخراط قوى عربية وإقليمية ودولية وازنة فيه، وحصول النظام على دعم كبير، سياسي وعسكري ومالي، من إيران وأذرعها المذهبية ومن روسيا، ما أفقد القيادة السياسية للثورة في الخارج أوراق قوتها ووزنها، وكشفها التأثيرات العربية والإقليمية والدولية، وحوّلها إلى تابع ضعيف للدول الداعمة، وحوّل أطرها إلى ساحة صراع لهذه الدول، تجسّد في تبادل المواقع القيادية وتدويرها، وفي الرضوخ للضغوط الخارجية والتلاعب الدولي.

لم تقف أخطاء القيادة السياسية عند عدم انخراطها في تفاعلٍ مباشر مع الثوار؛ وذلك ببقائها خارج ساحات الصراع وميادينه، حتى عندما كانت ساحاتٌ وميادين كثيرة تحت سيطرة الثوار وفصائل المعارضة المسلحة، بل زادت الطين بلة بانعزالها عن المواطنين، وحواضن الثورة الذين أجبروا على ترك قراهم وبلداتهم ومدنهم تحت ضغط القصف الوحشي، وبمختلف صنوف الأسلحة، الرشاشات الثقيلة والهاونات والراجمات والصواريخ والطائرات والبراميل المتفجرة والغازات السامة، والحصار والتجويع وقطع الماء والكهرباء والأدوية، في مواقع نزوحهم وهجرتهم؛ ليس لمواساتهم ومد يد العون لهم، وهذا أضعف الإيمان، بل ولتنظيمهم وتحويلهم إلى قوة فاعلة في معارك الثورة السياسية والإعلامية، للتأثير على مواقف الدول والمنظمات الأممية والرأي العام الدولي. ما انعكس سلبا على معنويات النازحين والمهجّرين، وتسبب بقطيعةٍ نفسيةٍ بينهم وبين القيادة السياسية، ترتب عليها انعدام الثقة وتوقع أي إيجابية يمكن أن تأتي عن طريقها. وهذا زاد في ضعف القيادة ومكانتها الوطنية ووزنها لدى القوى العربية والإقليمية والدولية.

وكانت نقطة ضعف القيادة السياسية الصارخة على هذا الصعيد، صعيد علاقتها بالثورة والثوار والحواضن الشعبية، احتفاظها برؤاها وتقديراتها السياسية والاجتماعية السابقة والتمسك بها، من دون اعتبار للبيئة السياسية والاجتماعية التي ترتبت على انطلاق الثورة والمشاركة الشعبية الواسعة غير المنظمة فيها، حيث بقي الشيوعي شيوعيا والقومي قوميا والإخواني إخوانيا. وحاول كل حزبٍ أو صاحب موقف من الشخصيات الوطنية توصيف الموقف، بما يؤكّد صحة منطلقه الفكري وموقفه السياسي، وكأن شيئا لم يحدُث في واقعنا المحلي والعربي والإقليمي والدولي، وكأن تغير المناخ السياسي والاجتماعي لا يستدعي تغييرا في الفكر والممارسة والتعاطي مع المتغيرات بأفكار ومواقف وخطط معدّلة أو جديدة، استجابة للواقع الجديد، فالتمسّك بأفكار ومواقف قديمة، قد تكون منطقيةً في ظروف أخرى، جزء هام من مسبّبات تعثرها وتخبطها وترهلها.

أما على صعيد تحرّك القيادة السياسية لتمثيل الثورة السورية لدى المحافل العربية والإقليمية والدولية، فكان خطأها، يمكن القول فشلها، أكبر، وضرره على الثورة أخطر من أخطائها سالفة الذكر، فقد اعتمدت في تحرّكها على قراءات وتقديرات تقليدية مرتبطة بخلفياتها القديمة، أو تقديرات سطحية، تتوقع حماية دولية على خلفية الشائع من شعارات وإعلانات عن قيم حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني الذي يحمي الشعوب من حكامها وجلاديها؛ في تجاهلٍ تام للقواعد والأعراف السياسية التي تحكم سياسات الدول والأنظمة المرتبطة بتحقيق مصالح الدول، أولا وأخيرا، وأسبقية المنفعة على القيم، والارتكاز على مؤسّساتٍ تقدّر وتوجه، ما يجعل رأي المسؤول، الرئيس أو الوزير أو المدير، محكوما بالمصلحة والمؤسسة، على الضد من السائد في الدول العربية وسورية، حيث لا دور فعليا للمؤسسة، والذي برز في تقديرات القيادة السياسية بشأن سياسة الإدارة الأميركية الجديدة إزاء الملف السوري، من خلال معلوماتها عن الشخصيات التي عينها الرئيس الأميركي الجديد، جوزيف بايدن، في البيت الأبيض والوزارة، في تعارض تام مع القواعد السياسية الأميركية، حيث الرئيس هو صاحب القرار في السياستين، الداخلية والخارجية، وقراراته تستند إلى تقديراتٍ مدروسةٍ بعناية، فحسابات الدول العظمى والكبيرة كونية، وتدخل فيها عمليات مساومات ومقايضات وربط ملفات ولجوء إلى المناورة بالتأجيل والتسويف والتمنع، والمراوحة في المكان لاستنزاف الطرف الآخر، وإرهاقه ودفعه نحو التسليم بالحلول والصيغ المطلوبة، ما يعني أنها متحرّكة متغيرة وفق المصالح والمنافع والظروف والتطورات. ودور مؤسسات البيت الأبيض والحكومة وشخوصها تقديم معطياتٍ وتقديرات موقف واقتراحات للرئيس، كي يأخذ قراره بعد الاطلاع على هذه المعطيات والتقديرات، وربطها بممكنات تحقيق الأهداف والمصالح الأميركية، ما يجعل دور موظفي الإدارة وقناعاتهم الشخصية ثانويا وغير مؤثر، ما لم ينجحوا في إقناع الرئيس بها.

وهذا يجعل مهمة القيادة السياسية للثورة وأطرها دقيقةً ومعقدة، بدءا من الفهم قبل الحكم، والفهم يستدعي أن تتقمّص دور صاحب الموقف أو القرار، وتفكر فيه من زاويته هو أولا، ومصالح بلاده، ثم تنظر في انعكاسه على الثورة، ومدى تأثيره على أهدافها ومصالحها، وتحكم عليه قبولا أو رفضا أو تحفظا، بما ينسجم مع أهداف الثورة وتطلعات السوريين، والسعي إلى إقناع الدول بأهمية هذه الأهداف والتطلعات وانعكاسها الايجابي على مصالحهم وبناء تقاطع مصالح مع كل منها يخدم الطرفين لدفعها إلى الانخراط في حلٍّ يلبي تطلعات المواطنين السوريين، ويحقق مطالبهم في الحرية والكرامة، عبر إقامة نظام يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، في ظل الدستور وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية. وهذا يستدعي عملا مؤسّسيا منسقا تقوم به أطر متفاهمة ومتعاونة، وهو ما لم تنجح القيادة السياسية في توفيره، حيث سادت الفردية والعصبوية والاختلافات والتندّر، فغلب على مواقفها وتقديراتها النمطية أو الغريزية التي كثيرا ما اتسمت بالقطعية والحدة، ما ضيّع عليها فرص التأثير على مواقف قوى سورية وعربية وإقليمية ودولية.

يستدعي إكمال المشوار، وقد دخلت ثورتنا المجيدة عامها الحادي عشر، إجراء مراجعة دقيقة وموضوعية للثورة، وأطرها السياسية والعسكرية، تقوم بها المؤسسات بمشاركة القوى السياسية والاجتماعية والمثقفين السياسيين، بعقد ندوات مفتوحة واجتماعات نخبوية، والاستعانة بخبرات عربية وصديقة، لإيجاد مخرج من حالة الركاكة والمراوحة في المكان، وفتح طريق للتقدم إلى الأمام في العملية السياسية، تطبيقا لقرار مجلس الأمن 2254 ومرتكزه بيان جنيف 1 الصادر في العام 2012.

العربي الجديد

——————————-

فشل الحل العسكري والدولي في سورية/ حيّان جابر

تحلّ الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع الثورة السورية من دون تلمس أي تغيير حقيقي في الوضع السوري السياسي، ونسبيا الميداني، سوى تراجع واضح في حدّة الحملات العسكرية وتواترها، وبالتالي في معدلات القتل والإجرام اليومية. في حين تتسارع الأخبار والتسريبات الشعبية المعبّرة عن صدمة الشارع السوري وخيبة أمله من جميع الأطراف والوسائل التي عوّل على قدرتها في تجاوز الأزمة والصعاب، ومن العبور به وبالبلد إلى برّ الأمان، وهو ما يشمل الكتل الشعبية خارج سورية وداخلها، تماما كما يشمل جمهور الثورة ومناصري النظام على حد سواء. وطبعا، لا يعني ذلك توافق السوريين على مجمل الحل، أو حتى مساره وشكله، بقدر ما يعكس إدراكهم خطأ التعويل على بعض المقولات العبثية التي تم تداولها كثيرا منذ بدايات الثورة من النظام السوري ونظيره في المعارضة الرسمية، مثل الحسم العسكري والتعويل على الحل الخارجي، أميركيا، روسيا، تركيا، إيرانيا.

إذ نجد داخل مناطق سيطرة النظام السوري العديد من الكوارث التي تضرب المدنيين تحديدا، من هشاشة النظام الصحي، سيما بما يخص التصدي لتبعات كورونا، إلى انهيار أو تدهور الوضع الاقتصادي وقيمة العملة السورية، ما ينعكس على ظروف السوريين المعيشية، ويصعب أزماتهم اليومية، ويرفع من معدلات الخطر. الأمر الذي ينذر بأن يصيب خطر الموت جوعا أو مرضا الغالبية العظمى من المدنيين القابعين تحت خط الفقر، والفاقدين أبسط مقومات الحياة، وكأن الموت مصرٌّ على ملاحقة وزيادة حصد السوريين وزيادتها، على الرغم من تراجع حدّة المعارك العسكرية وتوترها، حتى بات تغني النظام بنجاحيه، العسكري والسياسي، في حسم الأمور، والانتصار على المؤامرة الكونية التي تصدّى لها؛ وفق مزاعمه؛ فاقداً أي معنى، حتى في الأوساط التي تؤيده. بل يبدو نجاح النظام المزعوم بمثابة الكارثة والصاعقة التي تضرب الشارع السوري يوميا، لتحاصره وتخنقه اقتصاديا ومعيشيا وصحيا، ما دفع كثيرين من الباقين داخل مناطق النظام إلى إعلاء صوت التهكّم على الأوضاع، وتحميل النظام مسؤوليتها، وصولا إلى بعض الأصوات التي تعبر عن نقمتها من نجاح النظام عسكريا، وتمنّيها عودة الأوضاع إلى ما قبل انتصار النظام المزعوم، وكأنها تربط نجاح النظام عسكريا بفشله وطنيا واقتصاديا وسياسيا.

في المقابل، نجد على صعيد الوسط المعارض تناميا كبيرا في مشاعر الغضب والاحتقان من فشل قوى المعارضة الرسمية في إدارة الملفات العسكرية والسياسية والمعيشية، التي طاولت السوريين داخل بلدهم وخارجه، وعلى جميع الأصعدة، حتى تم حصر القوى المعارضة العسكرية والسياسية في مناطق جغرافية محدودة، غالبيتها في محيط محافظة إدلب، مع توارد خطر تقلصها بشكل دوري، فضلا عن الفشل في التأثير أو حتى التواصل مع القوى المعارضة المسيطرة على محافظة درعا، والاتفاق على آلية تنسيقية وتنظيمية واحدة، مرورا بأزمة اللاجئين على الحدود اللبنانية والأردنية والتركية، على الرغم من تغنّي المعارضة الرسمية بمتانة العلاقة (التبعية) مع تركيا، وأخيرا اقتصاديا من خلال فشل المعارضة في إيجاد حلول لأي من الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كما يحدث في إدلب ومحيطها.

وعليه، فشل النظام، كما فشلت المعارضة الرسمية، في تحقيق أي إنجاز يسهل على الشارع السوري تلمسه والإحساس به والشعور بأهميته، بعيدا عن الخطابات الرنانة المحتفلة بنصر عسكري أو سياسي أو إعلامي وهمي هنا وهناك، فقد عجز النظام والمعارضة عن تحقيق انتصار عسكري حقيقي من دون تدخل خارجي. كما فشلا في إدارة شؤون المناطق الخاضعة لهما اقتصاديا وثقافيا وصحيا. وكذلك فشلا في تحقيق مطالب الثورة الأساسية المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة (ادّعى النظام، منذ بدايات الثورة، تمسّكه بهذه الشعارات ووعد مناصريه بتحقيقها بعد التغلب على المؤامرة الكونية!)، وثمّة مئات الأمثلة على هذا الفشل، من دمشق إلى غوطة دمشق وصولا إلى القامشلي وإدلب ودرعا واللاذقية وغيرهم. وهو ما دفع كثيرين إلى التعويل على المصالح الدولية في سورية، التي قد تفرض حلا سياسيا دوليا بين ليلة وضحاها، لتمرّ الأيام والأشهر والاجتماعات والمبادرات والتوافقات والاختلافات، من دون أي تغيير حقيقي، سوى هدن هشّة قابلة للانهيار بين فينة وأخرى. الأمر الذي دفع جمهوري النظام والثورة إلى فهم مدى عبثية هذه الاجتماعات ومحدودية تأثيرها، تماما كما أدركوا أو شكّكوا بنية الأطراف الدولية المنخرطة في الشأن السوري في حل الأزمة السورية، عبر فرض حل سياسي كامل، أو حتى عبر تعويم النظام وإنعاشه. فالتوجه الروسي مبهم بين التمسّك بالنظام ومراعاة المصالح التركية والإيرانية، والأهم التركية والإسرائيلية من ناحية، وبين تعارض مصالحه مع كل منهم، بما فيهم نظام الأسد وحليفه الإيراني من ناحية ثانية. وعليه يمكن القياس بما يخص التوازنات المكبلة لجميع الأطراف كذلك. ما ساهم في نفور السوريين من متابعة حيثيات الحلول الدولية بصورة شبه كلية، تصل إلى حد المقاطعة الكاملة، إذا ما استثنيا بعض الحالات النادرة التي تعكس مدى استفزاز مشاعر السوريين من عبثية الاجتماعات واللقاءات والرغبات الدولية، ومن عجز الأطراف السورية على تلمّس حل سوري مكتمل أو شبه مكتمل.

قد تكون الخلاصات هذه من أهم ما حصل مع الشعب السوري منذ اندلاع الثورة، كونها مقدّمة لا بد منها من أجل الخروج من حالة الاستعصاء السورية، وبغرض كسر الحواجز المصطنعة المزروعة بين مكونات الشعب السوري، وبهدف كنس أوهام التعلق بالخارج أيا يكن. لأنها بوابة عودة التواصل الشعبي السوري – السوري، الباحث عن حل وطني يضمن لجميع السوريين العدالة والحرية والمساواة والكرامة، على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعيدا عن لغة القوة والقهر والقتل، أي من دون إكراه أو فرض، أي من خلال الاحتكام إلى لغة الحوار والمنطق والالتزام برأي الغالبية، من دون إلغاء الآخر ومن دون التقليل من حق الأقلية في التحوّل إلى أكثرية لاحقا. إذ يدرك الشعب السوري اليوم، بجميع أطيافه وتنوعاته الفكرية والعقائدية والجغرافية، أن لا وجود لحل خارجي أو عسكري في المديين، القريب والمتوسط، وبأننا في خضم استعصاء حقيقي، يفاقم، يوما بعد يوم، من سوء أحوال البلد والشعب على حد سواء، وهو ما يتطلب فعلا وممارسة جديدين يقطعان مع الممارسة التي فرضها الأسد منذ انقلابه في 1970، أو من تلك التي طبقتها قوى المعارضة المسيطرة والمدعومة خارجيا منذ أشهر الحركة الثورية الأولى.

العربي الجديد

—————————–

الثورة السورية .. بعض النقد بوصفه نكداً/ أرنست خوري

رجْمُ الثورة السورية بحجة نقد أخطائها و”من باب الحرص عليها”، كما يقولون، عُمره من عمر الثورة نفسها. ربما كان الأمر مفهوماً في الأيام الأولى. كانت الدنيا تعجّ بالانتفاضات والأمل، وباستعجال إسقاط حبّات عنقود الطغاة العرب. هروب زين العابدين بن علي كان لا يزال طازجاً في تونس، والأدرينالين في ذروته. إطاحة حسني مبارك لم يكن قد مرّ عليها أكثر من شهر. في اليمن، كانت الانتفاضة الشبابية واعدةً بخطابها وعنادها وسلميتها في أحد أكثر بلدان العالم ازدحاماً بكل أوزان السلاح. أما ليبيا، فكان معروفاً أن وصول البوارج والطائرات الغربية لوقف مجازر معمر القذافي مسألة وقت. في ظل هذه الظروف من طفرة الأمل، نزل الفدائيون الأوائل إلى شوارع دمشق مساء الثلاثاء 15 مارس/ آذار 2011، ثم كرّت السبحة. ومنذ اليوم الأول لتلك الحكاية، خرج متذاكون باكتشافٍ مبكّرٍ يفيد بأن خطباً ما يكمن في تلك الانتفاضة، بما أن معظم حشودها تخرج من المساجد بعد انتهاء الصلوات المسائية. من رحم ذلك الهجاء لما سُميت زوراً “انتفاضة المساجد”، وُلد الوسواس المرضي لنقد الثورة السورية قبل أن تكون ثورة أصلاً، وقبل أن تسرقها التنظيمات الجهادية السلفية الإجرامية، أكان اسمها داعشاً أم جبهة نصرة أم “جيش إسلام” أم أياً من بقية أفراد عصابة أوغلت في قتل “الجيش السوري الحر” الذي كان ممكناً أن يكون البديل الحقيقي عن نظام الأسد.

العدد المعقول جداً لأخطاء الثورة السورية في سنتيها الأوليين هو من بين ما يفسّر حجم المعسكر العالمي الذي قام في وجهها. ومَن رفض دعمها دولياً، والاعتراف بمشروعيتها والتصرّف بالتي هي أحسن ضد حكم العصابة الأسدية، أكمل مهمة قتلها. فلنتذكّر أنه، في تلك السنتين، لم تُسجَّل أحداث طائفية جدّية، وأن الانتفاضة كانت عابرة للمناطق وللطوائف والقوميات من دون تصنُّع. صحيحٌ أن أزمة المدينة ــ الريف ظلت ظاهرة في دمشق وحلب خصوصاً، لناحية احتضان الانتفاضة أو معاداتها أو الخشية منها، إلا أن التمدّد الأفقي كان معقولاً جداً نسبةً لما نعرفه عن تصحّر سياسي ــ ثقافي ارتكبه الشرّ الأسدي، وتحالفات طبقية ـ اجتماعية ـ عشائرية نسجها النظام قطبة قطبة على مدى نصف قرن، وكبّل فيها شعبا لم يعد عنده مكان ليجتمع فيه إلا المسجد. هو المسجد الذي يستكثر عليه ذلك الشاعر خروج أولى تظاهرات الاحتجاج منه، وكأنّ الأحزاب السياسية والنوادي الثقافية بقي منها نفر ليروي كيف أُبيدت على مدى عقود.

للمصابين بهوس نقد بدايات الانتفاضة السورية أن يتذكّروا كم رفض المتظاهرون تسلم أسلحة تركها لهم شبّيحة النظام لاختصار الطريق وإعلانها حرباً أهلية تكون نتائجها معروفة سلفاً. فليحيوا ذاكرتهم بنداءات السوريين ومجلسهم الوطني لطمأنة اللبنانيين ممن ترتاب فئاتٌ وازنةٌ منهم من كل ما يأتي من خلف الحدود. لم تختبر أيٌّ من الانتفاضات العربية التنسيقيات بالحِرفية التي انتظمت في السنتين الأوليين للثورة السورية. لم تفهم أيٌّ من الانتفاضات العربية بقدر ما استوعبه السوريون (من بعد التونسيين) أن التغيير المنشود يحتاج شق صفوف النظام من دون تخوين عشوائي. هكذا تم استيعاب رياض حجاب شخصية مرشّحة لقيادة مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، بفهم عميق للفارق الكبير بين منشقّ صادق وجوده ضروري في صفوف أي حركة تغييرية وانتهازيين ليس آل طلاس إلا نماذج عنهم، ممن لا يعني النظام والمعارضة عندهم إلا مشروعاً محتملاً للسلطة.

من بين دروس الثورة السورية أن لا سقف للنقد. لكن أن تُظلم لمجرّد تلبية غريزة النكد باسم النقد، فإنما في ذلك تزوير للتاريخ. العامان الأولان للثورة السورية سارا “مثلما يقول الكتاب”، وبحد أدنى من التشوّهات. ما قتل الثورة لاحقاً لا علاقة له بأخطاء أهلها، بل بدرجة شرّ الطرف الآخر، وبتواطؤ من كان قادراً على التحرّك فسكن، ومن كان باستطاعته الكلام فسكت.

العربي الجديد

——————————-

سورية .. عشرية الدم والأمل/ مروان قبلان

يحيي السوريون هذه الأيام، وقد توزّعوا في أصقاع الأرض، الذكرى السنوية العاشرة لإطلاق ثورتهم، والتي ستُذكر في التاريخ باعتبارها من أعظم الثورات الشعبية في التاريخ العربي المعاصر. لكنها ستُذكر أيضاً باعتبارها واحدة من الفرص الضائعة في عمر الدولة السورية التي هدَّها الفساد والاستبداد، قبل أن تبلغ مئويتها الأولى، لتدخل، على الأثر، دوامة عنفٍ مستمرٍّ صار يهدّد وجودها القانوني والسياسي ووحدتها الترابية. هي فرصةٌ ضائعةٌ لأنها كان يمكن أن تنقل سورية إلى مرتبة أفضل بين دول الإقليم والعالم، لو تعامل معها النظام بمسؤولية، ونظر إليها باعتبارها فرصةً فعليةً للإصلاح وإنتاج شرعية حقيقية نابعة من إرادةٍ شعبيةٍ طالما افتقدها. هذا لم يحصل، وبتنا الآن أمام بلدٍ ممزّق اجتماعياً، مقسّم ترابياً، منهك ومفقر مادياً، سيادته مسلوبة، وقراره مُصادَر، أراضيه محتلة، شعبه مشرّد، وموارده منهوبة. هذا يعني أننا فشلنا في الحفاظ على الدولة التي ناضل من أجل قيامها من سبقنا، وسوف نوّرث، على الأرجح، الفوضى والخراب، من يأتي بعدنا، إذا استمررنا في توهّم إمكانية تحقيق انتصار على أنقاض بلد غير قادرين على جمع أشلائه.

هل نستطيع فعل شيء لتغيير هذا المسار، واجتراح حلٍّ يؤسّس لدولة وطنية ديموقراطية تجمع كل السوريين، تقطع مع الماضي، وتتطلع إلى المستقبل؟ الإجابة، إذا أراد المرء أن يكون مخلصاً، بعيداً عن بيع الأوهام، أن المهمة صعبة، وتتطلّب مقوماتٍ كثيرة غير متوفرة كفاية لدى نخب الطرفين، خصوصاً منها التحلي بروح التضحية والمسؤولية الوطنية وكبح جماح الطموحات الشخصية، حتى نتمكّن من الوصول إلى تسويةٍ تاريخيةٍ تضع اللبنة الأولى لإعادة بناء الدولة المنهارة. على الرغم من ذلك، لا يملك السوريون ترف التوقف عن المحاولة، فمصير بلد وأمة على المحكّ.

وحيث إن التغيير لا يبدو، بعد عشر سنوات من الكارثة، محتملاً من الأعلى، ولا يمكن انتظار حصوله إلى ما لا نهاية، يجدر بنا التفكير في مستوياتٍ أخرى للحل. هناك سبيلان يمكن العمل عليهما، يتطلّب الأول إنشاء قناة تواصل مباشر بين باحثين عن حلّ في المعسكرين، وهو أمر بات يسيراً وآمناً اليوم في ظل التقنيات الحديثة، فالأفرقاء السوريون، منذ أن انقسموا، لم يتخاطبوا بشكل مباشر، وقد حان الوقت ليفعلوا بعيداً عن الوسطاء وأجنداتهم، وقد بات ضرورياً لهم كسر هذا الجدار النفسي الذي ما فتئ يتشامخ بسبب تمترس كل طرفٍ في خندقه واقتصار حديثه مع رفاق معسكره. هناك أملٌ كبيرٌ بحدوث تقاطعات خاصة، وأن في الطرفين من بات مقتنعاً بعدم إمكانية الاستمرار على هذا النحو، وفي الحاجة إلى التحرّك جدّياً نحو تسويةٍ كبرى لإنقاذ ما تبقى.

السبيل الثاني، يتصل بالحاجة إلى مخاطبة السوريين باعتبارهم شعباً، وإن مزّقته السياسة، فقد وحّدته النكبة. لقد أثبتت تجربة العجاف العشر الماضية فشل إمكانية تحقيق التغيير استناداً إلى جزء من السوريين، وبات واضحاً أن التغيير غير ممكن من دون دعم الجزء الآخر. السوريون الذين يعيشون في مناطق النظام، وبعضهم يؤيده، في موقع فريد اليوم للضغط باتجاه الحل. لقد بدأ هؤلاء، بعضهم أو أغلبهم، يدركون هول الكارثة التي حاقت بهم. لذلك من المهم الوصول إليهم، وطلب دعمهم لإحداث التغيير الذي يكفل الخروج من الكارثة.

حقيقة الأمر أن السوريين في مناطق النظام أقدر من غيرهم على صنع الفرق، وقلب المعادلة إذا أمكن الوصول إليهم، فبدونهم يصبح النظام عارياً. هؤلاء لا يمكن مخاطبتهم من خلال العقوبات والتجويع لإثارتهم ضد النظام. هم لا يحتاجون أصلاً من أجل التغيير أن يثوروا، إذ تكفي مقاطعتهم الانتخابات الرئاسية المقبلة مثلاً، أو حتى عدم الاكتراث لها، لنزع آخر ورقة توت يستتر بها النظام. من المهم أن يُخاطب هؤلاء باعتبارهم ضحايا، مثلهم مثل كل السوريين، تم التغرير بهم، وتعمل قلةٌ من مافيات الحرب وأمرائها على تكديس ثرواتها من بؤسهم. هذه القلة يجب عزلها ودفعها إلى الاستسلام لشروط الحل السياسي. بعد عشرية الدم والدمار، يجب أن يفهم الجميع أن الحل السياسي هو أمل السوريين الوحيد، بدونه سوف نغدو جميعاً، وأبناءنا، بلا وطن، وسنعدم إمكانية إنقاذ الدولة التي ورثنا، أو إعادة إعمارها، أو استعادة شعبها، أو القدرة على إخراج كل أجنبي من أراضيها. هذا الأمر غير ممكن من دون مشاركة الجميع.

العربي الجديد

——————————-

ترسانة التشريعات الداعمة لحكم النظام السوري قبل عام 2011 وبعده/ نائل جرجس

حُكمَت سورية في ظلّ حالة الطوارئ 48 عامًا، ولم تُرفع تلك الحالة إلا في العام 2011، على إثر انتفاضة السوريين ضدّ نظام البعث الذي وصل إلى السلطة عقب انقلاب الثامن من آذار لعام 1963. وقد شاركَ في هذا الانقلاب حافظ الأسد، بصفته عضوًا في اللجنة العسكرية للفرع الإقليمي السوري لحزب البعث العربي الاشتراكي. وفي 16 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1970، استأثرَ الأسد، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الدفاع، بالسلطة عقب انقلاب عسكري على رفاقه، عُرف بـ “الحركة التصحيحية”، ليطيح برئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي، وليستمر في حكم سورية حتى وفاته في العام 2000.

تزامنَ انقلاب الثامن من آذار مع إصدار أمرين عسكريين استمرَّ العمل بهما بضعة عقود، ينصّ أولهما على صلاحية النظام الحاكم، ممثلًا بـ “المجلس الوطني لقيادة الثورة”، بممارسة السلطتين التشريعية والتنفيذية، بينما يفرض الثاني حالة الطوارئ في البلاد. وهكذا تأسّست في سورية، في ظلّ حكم الأسد الأب، دولة دكتاتورية قائمة على الأحكام العرفية، وعلى حكم الحزب الواحد أو الفرد ذي السلطات المطلقة واللامحدودة، في ظلّ قمع واسع ومنهجي لحريات المواطنين ولحقوقهم.

في ظلّ حكم حافظ الأسد، صدرَت ترسانة من المراسيم المكرّسة لسلطة النظام الدكتاتوري، ممثلًا بكلٍّ من مؤسسة رئاسة الجمهورية والأجهزة الأمنية وحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم؛ فجاءَ دستور عام 1973 لينصّ في مادته الثامنة على أنّ “حزب البعث هو القائد في المجتمع والدولة”، وأعطى لرئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، على صعيد كل من السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ حيث تخوّل المادة 111 من هذا الدستور رئيس الجمهورية الحق بالتشريع، سواء أكان أثناء انعقاد دورات مجلس الشعب أو خارجها أو حتى في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين، وتُتيح له المادة 107 حلّ مجلس الشعب، وتخوّله المادة 98 الحق بالاعتراض على القوانين التي يقرّها هذا المجلس. وعلى صعيد السلطة القضائية، نصّت المادة 132 من هذا الدستور على أنّ “يرأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى”، ونصت المادة 139 على أن “تؤلف المحكمة الدستورية العليا من خمسة أعضاء يكون أحدهم رئيسًا يسميهم رئيس الجمهورية بنفسه”. وهكذا تعرّض كلٌّ من مبدأ فصل السلطات وحصانة القضاة واستقلالهم للانتهاك المستمر، في ظلّ حكم الأسد. وقد نصّ القانون الخاص بأمن حزب البعث العربي الاشتراكي رقم 52 لعام 1979 على عقوبات قاسية على كلِّ فعل يُقصد منه منع حزب البعث من ممارسة مهامه، تصل إلى الإعدام في بعض الحالات (المادة 9).

أنشأ نظام الأسد المحاكم الاستثنائية لتطبيق ترسانته التشريعية على معارضي النظام وأيديولوجيته في الحكم. وقد امتازت هذه المحاكم بطابعها العسكري، وافتقار أحكامها إلى أدنى شروط المحاكمة العادلة، ولا سيما استقلالية القضاة وحقوق الدفاع والطعن بالقرارات. وكان من أبرز هذه الأجهزة القضائية كل من “محكمة أمن الدولة العليا” المنشأة بموجب المرسوم التشريعي رقم 47 لعام 1968، ومحكمة الميدان العسكرية المشكّلة بموجب المرسوم رقم 109 لعام 1968. ولم تكن هذه المحاكم إلا ذراعًا لأجهزة الأمن السورية المتشعبة والمتعددة والمنشأة بشكل أساسي لبسط هيمنة النظام الحاكم وترهيب معارضيه. فقد لعبت هذه الأجهزة دورًا أساسيًا في قمع أي مظهر للعمل الحقوقي والسياسي والمدني، في ظلّ تمتعها بحصانة واسعة عن انتهاكاتها، وقد نصّ على ذلك صراحة كلٌّ من المرسوم التشريعي رقم 14 الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني/ يناير 1969، ولاحقًا المرسوم رقم 64 لعام 2008.

تسلّم بشار الأسد منصب رئاسة الجمهورية في العام 2000، وذلك في ظلّ إجراء تعديل للمادة 83 من دستور عام 1973 التي كانت تشترط في من يرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون متمًا الأربعين عامًا من عمره، حيث خُفّضَ هذا السنّ إلى الأربعة والثلاثين لينطبق عليه آنذاك، وذلك بمقتضى القانون رقم 9 تاريخ 11 تموز/ يونيو 2000. وقد شهدت أولى سنوات حكم وريث السلطة فترةً من الانفتاح، تخللها نشاط لبعض منظمات المجتمع المدني وللمنتديات الفكرية ولمطالبات وبيانات للتأسيس لحكم ديمقراطي، ولا سيّما رفع حالة الطوارئ وإغلاق ملف الاعتقال السياسي وتعديل المادة الثامنة من دستور عام 1973 المذكورة أعلاه. لم يستجب بشار الأسد لهذه المطالب، وعاد نظامه إلى تنفيذ الاعتقالات السياسية، وخنق أي مظهر للعمل السياسي والمدني. وقد استمرَّ الوضع على هذه الحال في ظلّ ارتفاع معدلات الفساد وغياب تداول السلطة، حتى اندلاع انتفاضة الشعب السوري في آذار/ مارس من العام 2011، متزامنةً مع ثورات عمّت كثيرًا من بلدان المنطقة للمطالبة بإنهاء حكم الأنظمة المستبّدة.

ادّعى النظام السوري أنه أصدر حزمةً من الإصلاحات القانونية لتحقيق تغيير سياسي، غير أنّ ذلك لم يكن أكثر من إعادة صياغة للمنظومة التشريعية القمعية للمواطنين السوريين والمكرّسة للاستمرار في السلطة. فقد أُنهيَ العمل بحالة الطوارئ بمقتضى المرسوم رقم 161 الذي ترافقَ مع إصدار المرسوم التشريعي رقم 53 المتعلّق بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا. فضلًا عن ذلك، اعتمدَ نظام الأسد دستور عام 2012 الذي استبدلَ المادة الثامنة الخاصة بقيادة حزب البعث، بمادة أخرى جاءَ في فقرتها الأولى أن “يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديمقراطيًا عبر الاقتراع”. غير أنّ العام 2012 شهدَ استصدار القانون رقم 19 لعام 2012 الخاص بـ “مكافحة الإرهاب”، الذي مهّد لاستصدار المرسوم رقم 22 لعام 2012 الخاص بإنشاء محكمة تختصّ بالنظر في قضايا الإرهاب. وقد تشكّلت هذه المحكمة الجديدة لتقوم بالمهام المنوطة سابقًا بمحكمة أمن الدولة العليا، وهو ما يتبين من التشابه الكبير بين القوانين الناظمة لعمل كلتا المحكمتين. ويفرض القانون الجديد الخاص بـ “مكافحة الإرهاب”، في مواده الخمسة عشر، قيودًا شديدةً على الحق في حرية التعبير والتجمع، بما يؤدّي إلى التنكيل بمعارضي النظام تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”؛ حيث نصّت مادته الثامنة على معاقبة “كل من قام بتوزيع المطبوعات أو المعلومات المخزنة، مهما كان شكلها، بقصد الترويج لوسائل الإرهاب أو الأعمال الإرهابية، وتنزل العقوبة نفسها بكل من أدار أو استعمل موقعًا إلكترونيًا لهذا الغرض”.

شهدَ أيضًا العام 2011 إصدار مجموعة من القوانين ذات الصلة بالتعددية السياسية والديمقراطية التي يدّعيها النظام، مثل المرسوم رقم 100 الخاص بالأحزاب، والمرسوم رقم 108 الخاص بالإعلام، وكلاهما لا يتفق ودولة القانون، لكونهما يكرّسان سيطرة النظام على مقاليد الحكم. ولم يحقق المرسوم التشريعي رقم 54، الصادر بتاريخ 21 نيسان/ أبريل 2011 والخاص بتنظيم التظاهر السلمي، أدنى المعايير الحقوقية، فلم يتم -حتى يومنا هذا- الاستفادة من أحكامه التي جاءت بشكل أساسي لتقييد الحق بالتظاهر وفرض العقوبات الشديدة على المخالفين. أمّا دستور عام 2012، فقد أعادَ تكريس الصلاحيات المطلقة لرئيس الجمهورية وسيطرته على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما يتبين من بابه الثالث الخاص بسلطات الدولة. واستمرّ العمل بالعديد من القوانين القمعية السابقة، ولا سيما المراسيم الخاصة بحصانة أجهزة الأمن التي تجاوزت انتهاكاتها حتى ما تُتيحه لها التشريعات النافذة.

ترافقت هذه “الإصلاحات” التي ادّعاها النظام السوري بحملات شرسة ضدّ معارضي النظام، تخللها ارتكاب جرائم ضدّ الانسانية وجرائم حرب بحق المواطنين السوريين، بدءًا من قتل المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي، ومرورًا بممارسة عمليات الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري والقتل خارج نطاق القضاء، فضلًا عن القصف العشوائي بالأسلحة المحظورة دوليًا للمناطق المدنية، واتباع سياسة حصار وتهجير المواطنين. وهكذا لم تظهر ملامح لتحقيق تغيير بنيوي في الهيكلية السياسية والتشريعية خلال العقد الماضي، واتضحت أيضًا الطبيعة الطائفية والإجرامية للنظام السوري الذي ينبغي استئصاله، لتحقيق سلام مستدام وعدالة انتقالية في سورية.

مركز حرمون

———————————-

الأسد ليس إلى الأبد/ محمد كريشان

«ملك على كومة من الأنقاض».. هكذا وصفت جريدة «لوموند» الفرنسية الرئيس السوري بشار الأسد بعد عشر سنوات من اندلاع الثورة ضد نظامه. وإذا ما بحثنا عن مثل شعبي عربي مرادف لهذا التشبيه فلن نجد أفضل من «خربها وقعد على تلتها».

المصيبة لا تقف عند هذا الحد ذلك أن الرجل مقر العزم تماما على الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في يونيو / حزيران المقبل والتي لن تجري طبعا سوى في مناطق سيطرة النظام ودون منافسة وبعيدا عن أي إشراف دولي ولا وفق دستور جديد للبلاد.

ومثلما تساءل الدكتور رياض حجاب رئيس الوزراء السوري الأسبق في لقائه التلفزيوني الأخير عما يمكن أن يتضمنه البرنامج الانتخابي للأسد، فإن ما هو متاح حاليا فعلا ليعرضه الرئيس السوري على شعبه ليس سوى خراب البلد وتمزيقه وجعلهم ساحة مستباحة للقاصي والداني وتشتيت شمل شعبه في الداخل والخارج، وأيضا القول لمناصريه في الداخل الذين ظلوا معه حتى وصل البلد إلى ما وصل إليه، إنه لا يملك لهم إلا مزيدا من التفقير والتجويع. لقد وصلت الأوضاع المعيشية، في حاضنة النظام نفسه، إلى درك لم تبلغه من قبل بعد اشتعال أسعار المواد الغذائية وفقدان الليرة السورية كل قيمة أمام الدولار في وقت يزداد فيه فساد ونهم الدائرة المحيطة بالأسد ولاسيما زوجته التي ازداد نفوذها بشكل ملحوظ ومستفز.

ورغم كل ذلك، ها هي القوى السياسية الكبرى في العالم تعترف بعد عشر سنوات من المأساة السورية بأنها عاجزة عمليا عن فعل أي شيء فمجلس الأمن الدولي لم يأت في اجتماعه الأخير أمس الأول بأي جديد ولم تجد المندوبة الأمريكية ما تقوله سوى الدعوة إلى عدم الانخداع بالانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا لأنها «لن تكون لا حرة ولا نزيهة. ولن تُكسب النظام أي شرعية ولن تؤدي إلى أي تطبيع دولي معه».

ليس مهما أن يدعو البيان المشترك الصادر عن وزراء خارجية الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة إلى مقاطعة هذه الانتخابات وإنما أن يشرح معنى ما أورده من أن هذه الدول «لن تتخلى عن الشعب السوري» لأن هذا الكلام قيل من قبل عشرات المرات دون ترجمة فعلية على الأرض حتى فقد كل قيمة.

هذا العجز وقلة الحيلة امتد كذلك إلى المنظمات الدولية من ذلك ما قالته اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أن مسار التسوية السياسية الذي يمهّد للسلام في سوريا «معطّل» ووصل إلى «طريق مسدود».

من ناحية أخرى، لا أحد يدري بالضبط ماهي هذه «الصيغة الدولية الجديدة» التي دعا إليها موفد الأمم المتّحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسون لإحياء فرص الحل السياسي في سوريا، وماذا يمكن أن يقدمه «اللاعبون السياسيون الأساسيون» الذين قال إنه يجب ان يشاركوا في هذه الصيغة لا سيما الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا والاتحاد الأوروبي ودول عربية.

لا أحد يدري كذلك ما إذا كان الاجتماع الثلاثي الأخير في الدوحة بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وقطر يمكن أن يمثل أي نوع من البداية لمثل هذه الصيغة الجديدة، لا سيما وأن سيرغي لافروف الذي قيل إن جولته الأخيرة تهدف إلى تعويم نظام الأسد والدفع بعودته إلى جامعة الدول العربية لم يجد في الدوحة ولدى الأتراك ولدى الدول الكبرى أي تجاوب لمثل هذا التمشي، عدا التفهم الإماراتي المعزول.

في المؤتمر الصحافي في الدوحة لهذا الثلاثي الجديد، والذي ستتواصل اجتماعاته في تركيا وروسيا، لفت انتباه بعض المتابعين الجيدين للملف السوري أمران أساسيان: الأول التراجع النسبي لروسيا في إظهار الدعم الكامل وغير المشروط لبشار الأسد، على الأقل مقارنة بما كانت تفعله طوال السنوات الماضية، أما الثاني فكان عدم الإشارة إلى إيران وهي التي كانت لها من قبل مع موسكو وأنقرة مشاركة أساسية في كثير من الاجتمــاعات المخصصة لسوريا.

ما فهم من الأمرين، وفق نفس المتابعين، أن موسكو قد تكون شرعت رويدا رويدا في استدارة هامة في تعاطيها مع الملف السوري حتى لا تحرق مراكبها بالكامل مع المعارضة السورية ولا تلعن المستقبل الذي لن يبقى فيه الأسد إلى الأبد، كما أن إيران الغارقة في أزمتها الاقتصادية الحادة والمنغمسة في البحث عن مخرج مع واشنطن لعودتها إلى الاتفاق النووي لم تعد في وضع يسمح لها بإبداء نفس القدر من التصلب في الدفاع عن النظام السوري.

بالتأكيد، لا بد من النظر إلى ما سبق بكثير من الحذر وعدم تحميله أكثر مما يحتمل، لكن الأكيد هو أن التغيير قادم في سوريا وأن أي دولة لا بد أن تعيد حساباتها بما لا يدمّر أي علاقات مستقبلية لها مع سوريا فالدولة هي التي ستبقى، ولو بجروح غائرة، لكن بشار سيرحل يوما كما رحل غيره من قبل.

الكل يعيد ترتيب أوراقه وحساباته إلا ذاك الجالس في دمشق على كومة الخراب!!

كاتب وإعلامي تونسي

القدس العربي

———————–

اجتماع الدوحة: عمودياً على طريق إيران/ موفق نيربية

صدر في ختام اجتماع الدوحة الثلاثي منذ أيام، بيان مشترك مهم في مضمونه المباشر، تصدّرت نقاطه مسألة «الحفاظ على سيادة سوريا، واستقلالها ووحدة أراضيها، وفق ميثاق الأمم المتحدة»، ثم المرور على نقطتين عمليتين لازمتين، تؤكّد أولاهما على عدم وجود حل عسكري للصراع، وتعرب ثانيتهما على موقف إيجابي من عمل اللجنة الدستورية، وضرورة التفاعل المستمر مع الأطراف السورية، من أجل استدامة عملها الفعّال، من خلال دعم جهود غير بيدرسون ممثل الأمين العام للأمم المتحدة.

ذلك مهم ويمكن العودة إليه بعد قليل، ولكن الأهم منه هو انعقاد ذلك الاجتماع وتوقيته وتركيبته. فانعقاده بالذات تغيير مهم على المحاور والتوجّهات. ويثير الانتباه بقوة تحوّل الروس من تركيز آمالهم على السعوديين والإماراتيين لتحقيق اختراق في عملية إعادة لصق فتات بشار الأسد وشظاياه، إلى الذهاب إلى الدوحة التي تؤكد – مثل تركيا – على أولوية التسليم بالانتقال السياسي. يلفت أيضاً هذا الاستبدال «القاسي» لإيران بقطر، بعد مسار ثلاثي آخر طويل، ابتدأ في آستانة، وكاد ينهي مسار جنيف أحياناً لمصلحته.

لا بدّ أيضاً من الإشارة إلى تواقت الاجتماع مع ذكرى مرور عشر سنوات على الثورة والحرب والأزمة في سوريا. وقد اهتمّت أطراف رئيسة في العالم بهذه المناسبة، وأصدرت بيانات وعقدت اجتماعات وجدّدت مطالب، في حين لم يكن ذلك على طاولة الدوحة، ولم يجر التطرّق إليه في البيان الختامي، ولا حتى من ناحية الشكليات والبلاغة في البلاغ. على الرغم من كلّ ذلك، للاجتماع أهمية ودلالات، لابدّ من ملاحقتها، ربّما لفترة طويلة. أوّل ذلك، كما أسلفنا، هو غياب إيران والانعطاف إلى قطر، من دون أن نغرق في ذلك عميقاً، قبل التثبّت من صموده في ما بعد. وفي ذلك تنعكس سمات عديدة، منها عروبة قطر، على سبيل المثال، وأهميتها في توجّهات مقبلة تعود فيها بعض جسور العلاقة بين تركيا والعرب. وكان من الطبيعي أكثر المرور على طريق دول الخليج الأخرى الأقرب إلى مصر من الناحية السياسية، كما فعل لافروف بالفعل. لكن الطريق القطري أكثر موثوقية كما يبدو، في سياسة تعتمد على تأسيس عوامل الضغط قبل عوامل المرونة والنوايا الحسنة، وذلك ليس غريباً في السياسة الدولية، والإقليمية خصوصاً. وهنا تلتقي المبادرة كذلك مع استعادة قطرية تقوى بالتدريج للاستراتيجية المستندة إلى قوة وإمكانية «الوساطة»، بدلاً من بعض ما ساد بها سابقاً من المظاهر الأكثر عنفاً، كما حدث في سوريا وليبيا. انعكست دبلوماسية الوساطة مؤخّراً بنجاح في القضية الأفغانية، ويمكن أن تكون لها قريباً مساحة للتحرّك باتّجاه إيران، مع كلّ خصومها، ومع احتدام سجالات الاتفاق النووي، حتى قول نتنياهو إنه «لن يسمح بامتلاك سلاح نووي، مع اتفاق أو بدونه».

الأكثر غرابة في توجهات أطراف الاجتماع، كان الموقف الروسي، الذي هجر- من حيث الشكل على الأقل- مثلثاً عاش طويلاً بوجود إيران والاعتراف بدورها في المسار السوري، على الرغم من كون الطرفين الروسي والتركي هما الفاعلان المباشران في المسار المذكور، كون أحدهما في العديد من الحسابات متعهداً للنظام، والآخر متعهّداً للمعارضة. وسوف تتمّ إضافة ذلك المعنى إلى مؤشّرات معروفة يتزاحم فيها النفوذ الروسي مع الإيراني على جسد النظام السوري، ويصل ذلك أحياناً إلى حدّ الصدام هنا وهناك على الأرض.

تحتاج السياسة الروسية إلى مدخل قطري في المسألة الأفغانية، يُضاف إلى مدخل تركي على المسألة ذاتها من خلال المؤتمر المزمع عقده قريباً في إسطنبول. وقد طال بالفعل ابتعاد الروس عن أفغانستان، في حين أنّ لهم جذوراً قوية هناك، دفعوا من أجلها هزيمة وخسائر وضحايا كبرى في السابق، بذلك يمكن لروسيا أن تستملك ورقة جديدة – زائفة في جوهرها- تلعب مع الأمريكيين والغرب عموماً بوجودها وعلى هوامشها. لا يستطيع الإنكار الروسي لتلك المعاني لاجتماع الدوحة أن ينفيها عملياً، بل هو يؤكّدها بشكل غير مباشر، حين يتمّ ربطها بوجود استراتيجية جديدة في واشنطن، وسياسة محتملة لها أكثر نشاطاً. ذلك مهم جداً للروس، الذين يرغبون بربط الملفات المختلفة، التي تجمّعت في علاقتهم مع الولايات المتحدة وأوروبا، بعد أن حققوا ما أرادوه شرق المتوسّط، وبقيت إشكالات أخرى ينبغي عقد «البازار» عليها الآن، وأهمها إنهاء العقوبات الغربية.

تحتاج تركيا بدورها إلى تعزيز مكاسبها، واستعادة بعض أوراقها التي خسرتها في العاصفة، وتطوير إمكانية دعم الاقتصاد الوطني، وتجميع آثار التشدّد في سياساتها شرق المتوسط، خصوصاً بعد انخراطها في مسار التسوية الليبية وتصفية عوالقها هناك، مع جباية الأرباح والفوائد الممكنة، لذلك لا بدّ من إعادة بناء سياستها العربية، وتحسين علاقاتها مع مصر والسعودية والإمارات، كما ابتدأ يلوح بالفعل في الأفق.

ولكن ما يحتاجه الأتراك أكثر من أيّ شيء آخر، هو ما عبّر عنه بيان الدوحة في نقطته الأولى، من دعم لوحدة أراضي سوريا، ومواجهة التوجّهات الانفصالية، وبالتالي تحقيق دعم روسي وقطري للاستراتيجية التركية الأكثر مركزية وحساسية في وجه حزب العمال، وأخطار وجود قوة كردية مستقرة مدعومة على الحدود، تراها قابلةً للتحوّل إلى كيان يصعب اجتثاثه إذا قام وتأسس على الأرض. هنا يرغب الأتراك – ويدعمهم الطرفان الآخران بشكل غير مباشر على الأقل – في مواجهة السياسة الأمريكية الجديدة، استناداً إلى وضعية أكثر قوة، تضرب كلّ الاحتمالات الضارة التي يمكن أن تتفرّع عن الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية، انطلاقاً من دورها المطلوب في مواجهة «داعش»، التي ينبغي ألّا تنساها أي محاولة لرؤية سياسية جديدة. ولا يحقق مسار آستانة ووجود إيران ما يمكن لمسار الدوحة الواعد أن يحققه.

وهنالك مثلث آخر يجري تمويهه أحياناً، له علاقة ما بما جرى في الدوحة، هو الأمريكي- الروسي- الإسرائيلي. وتجتمع أطراف الدوحة كلها على قلب واحد، في ما يخصّ ذلك الاتجاه. فالروس يريدون التأكيد على ثبات مركزهم هناك، ليس من خلال دور في استعادة جثمان جاسوس، أو التزامات متحركة بالحفاظ على مسافة تواجد الإيرانيين وجماعاتهم على الحدود مع سوريا، بل في الضغط على إيران أكثر فأكثر من أجل التخلي عن سياساتها النووية والصاروخية، وطموحاتها الإقليمية التي نمت بشكل خطير حتى الآن.. تحتاج تركيا لاحقاً إلى تموضع أفضل مع إسرائيل في ما يخص شرق المتوسط وصفقاته المقبلة، وتحتاج روسيا إلى تكريس موقع لها أكثر استراتيجية في السياسة الإسرائيلية. وتحتاج قطر إلى الالتفاف على ما تشكّله اتفاقات إبراهام من خطر عليها، مباشر أو غير مباشر.

وملاحظة هامشيّة: ربّما شكّل انتهاء الحقبة الترامبية، وابتداء حقبة أخرى تبدو مختلفة أكثر من المعتاد، فرصةً لاسترداد الأنفاس للعديد من الأطراف، لتستعيد البراغماتية مركزها ودورها في استراتيجياتها، بعد أن كان الارتجال والعصبية أهمّ ردود الفعل أمام الخوف والقلق حتى الآن.. يظهر مثل هذا التحوّل في سياسات أطراف مثلث الدوحة الجديد بأشكالٍ مختلفة.

أما سوريا الحقيقية نفسها، فربما ينعكس عليها نشاط هذا المحور الجديد آمالاً بمقاربة عملية لمشكلتها، تكون الأكثر قوة منذ عام 2012 ومؤتمر جنيف وبيانه… سوريا التي فقدت مئات الآلاف من مواطنيها، وربما الملايين من الضحايا، وتشرّد نصفهم في الأرض، وابتعدت آمالهم في بناء وطن حرّ ديمقراطي يؤمن لهم الكرامة والمواطنة المتساوية. إنّها «تحتفل» بالذكرى العاشرة لثورتها، ولا يبدو على وجهها الفرح بذلك أبداً، كما ينبغي، مع انسداد الآفاق أكثر وأكثر في الأعوام الأخيرة. لأهل تلك البلاد، ربّما يكون احتمال تفتيت ما بقي من شرعية للطاغية بتطوير حملات المحاسبة والتجريم، وإجباره على الدخول في عملية تفاوض حقيقية من أجل الانتقال السياسي، وزيادة عزلة وضعف النظام الإيراني، بكلّ ما يشكّله من أخطار داهمة؛ مكسباً مؤكّداً قد يكون هنالك دور لاجتماع الدوحة فيه.. وقد لا يكون.

كاتب سوري

القدس العربي

———————

ممثلو الدول الصديقة للشعب السوري يؤكدون دعمهم للانتقال السياسي/ جلال بكور

أكد الممثلون للدول الصديقة للشعب السوري دعمهم للانتقال السياسي في سورية وفق بيان جنيف والقرارات الدولية ذات الصلة، واستمرارهم في دعم الشعب السوري بعد عشر سنوات على انطلاق ثورته ضد النظام.

وجاء ذلك في لقاء افتراضي مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بمناسبة مرور الذكرى العاشرة على انطلاق الثورة السورية ضد النظام. وعُقد اللقاء من مدينة إعزاز بريف حلب شماليّ سورية.

وقالت “الدائرة الإعلامية للائتلاف الوطني السوري”، اليوم الأربعاء، إنّ اجتماعاً افتراضياً عُقد بين سفراء وممثلي الدول الصديقة للشعب السوري بمشاركة أعضاء من الائتلاف بقيادة نصر الحريري ورئيس الحكومة السورية الموقتة عبد الرحمن مصطفى، ومجموعة من الوزراء.

وحضر الاجتماع الافتراضي ممثلون وسفراء عن كل من دول الولايات المتحدة الأميركية، كندا، اليابان، الدنمارك، المملكة المتحدة، فرنسا، أستراليا، بلجيكا، وإسبانيا.

وقدّم رئيس الائتلاف الوطني نصر الحريري إحاطة حول الذكرى العاشرة للثورة السورية، وتطورات العملية السياسية واللجنة الدستورية السورية. كذلك جرت مناقشة العديد من الملفات، من بينها “قانون قيصر” والأوضاع الإنسانية في مخيمات النازحين شماليّ سورية.

وقالت الدائرة الإعلامية للائتلاف إنّ المبعوثين الدوليين أكدوا “دعم الشعب السوري في مطالبه بالحرية والديمقراطية، والمضيّ في سبيل فرض العقوبات على رأس النظام ومجرمي نظامه كجزء من مسار المحاسبة”، وأكدوا “دعم الانتقال السياسي في سورية وفق بيان جنيف والقرارات الدولية”.

وعبّر السفراء والممثلون عن “أمانيهم بنهاية معاناة الشعب السوري وأوجاعه، وتحقيق طموحاته وأحلامه بعد عشر سنوات من التضحيات بالحرية والكرامة والديمقراطية”.

ويذكر أن مجموعة الدول أصدقاء الشعب السوري هي مجموعة اتصال تتكون من دول غربية وعربية إضافة إلى هيئات ومنظمات أُنشئت في فبراير/ شباط 2012 بهدف العمل على إيجاد حلّ للصراع السوري خارج إطار مجلس الأمن، وذلك بعد عرقلة كل من روسيا والصين للقرارات المتعلقة بسورية.

وانعقد مؤتمر “أصدقاء سورية” الأول في فبراير 2012 في تونس، وختم بإعلان يدعو حكومة النظام السوري إلى إنهاء العنف ووقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية لأكثر المناطق تضرراً.

————————-

حصيلة مأساوية للاقتصاد السوري خلال عشر سنوات

دمار البنى التحتية وتوقف إمدادات الوقود عن الخدمة.

تطوي سوريا ذكرى الثورة السورية بحصيلة مأسوية، حيث أدت عشر سنوات من الحرب إلى أضرار جسيمة بالبني التحتية والمنشآت واستنزفت كل مفاصل الاقتصاد، فيما امتدت آثار الدمار إلى قطاعات حيوية كالصحة والتعليم وخلفت ليرة منهارة وأوقفت إمدادات الوقود، ما تسبب في ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية.

دمشق – تسبّبت عشر سنوات من الحرب السورية بأضرار هائلة بالبنى التحتية واستنزفت الاقتصاد وقطاعاته المنهكة، عدا عن دمار كبير لم يميز بين منزل ومرفق عام أو منشأة طبية أم تعليمية وعملة محلية متدهورة.

وحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة في تقرير صدر في سبتمبر 2020، بلغ إجمالي الخسائر المالية التي مُني بها الاقتصاد السوري بعد ثماني سنوات من الحرب فقط نحو 442 مليار دولار.

وتكبد قطاع النفط خسائر بنحو 91.5 مليار دولار، وفق ما أفاد وزير النفط والثروة المعدنية بسام طعمة أمام مجلس الشعب في فبراير الماضي.

وأنتجت سوريا خلال العام 2020 نحو 80 برميل نفط يوميا من إجمالي حوالي 89 برميلا استخرجت من مناطق خارجة عن سيطرة دمشق، مقابل إنتاج يومي بلغ 400 برميل قبل اندلاع النزاع، وفق طعمة.

وتدهور سعر صرف قيمة العملة المحلية الليرة بحوالي 98 في المئة مقابل الدولار في السوق السوداء خلال العقد الأخير، وهوت الليرة بنحو 40 في المئة خلال العام الجاري فقط.

وضغطت الأزمة اللبنانية على مصدر رئيسي للدولار بالنسبة إلى سوريا، مما أدى إلى إلحاق المزيد من الضرر بعملة تئن تحت وطأة سنوات من العقوبات الغربية وصراع مدمر مستمر منذ نحو عشر سنوات.

وحدث آخر تهاوي لليرة السورية في الصيف الماضي، عندما بلغت حاجزا نفسيا عند ثلاثة آلاف ليرة للدولار، بسبب مخاوف من أن يزيد تشديد العقوبات الأميركية حال الاقتصاد سوءا.

وألحق هبوط الليرة الضرر بأنشطة الأعمال مع تردد الكثير من التجار وشركات التجارة في البيع أو الشراء، في بلد يلجأ فيه كثيرون إلى المدخرات الدولارية للحفاظ على أموالهم.

وتنتقد أوساط اقتصادية تردد السلطات في التدخل لحماية احتياطياتها من النقد الأجنبي، مما زاد الضغوط على الليرة، في ظل تراجع حاد في التحويلات النقدية من الخارج، والتي تمثل مصدرا مهما للنقد الأجنبي، من عشرات الآلاف من السوريين المقيمين في دول متضررة من جائحة كوفيد – 19.

وبلغ متوسط الراتب الشهري للموظفين في القطاع العام في مناطق سيطرة الحكومة السورية مطلع العام 2021، حوالي عشرين دولارا وفق سعر الصرف في السوق السوداء. فيما بلغ متوسط راتب الموظفين في القطاع الخاص حوالي خمسين دولارا.

وقدرت قيمة كلفة السلة الغذائية الأساسية لأسرة مكوّنة من خمسة أفراد لمدة شهر، بحوالي 136 دولارا وفق سعر الصرف في السوق السوداء.

وارتفعت أسعار المواد الغذائية بحوالي 33 مرة في أنحاء البلاد، مقارنة بمتوسط خمس سنوات قبل الحرب، وفق برنامج الأغذية.

كما تضاعف سعر كيس الخبز ذي النوعية الجيدة في مناطق الحكومة بحوالي 60 ضعفا منذ اندلاع النزاع.

وفي دليل آخر على القفزة العنيفة للأسعار، بلغ سعر البيضة الواحدة في الوقت الحالي حوالي 300 ليرة في مناطق سيطرة الحكومة مقابل ثلاث ليرات عام 2011.

تهاوي العملة السورية

وكانت خسائر البنية التحتية من بين أكبر الخسائر، نظرا لفداحة أضرار الحرب والقصف بالمنشآت، حيث بلغت خسائر المحطات الكهربائية نحو 70 في المئة فيما توقفت خطوط إمداد الوقود عن الخدمة بسبب الحرب، بحسب بيانات وزارة الطاقة في العام 2019.

ودمرت الحرب وآثار القصف ثلث المدارس، واستولى مقاتلون على عدد منها بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”.

وضربت الحروب أداء القطاع الصحي، حيث تسببت في فرار حوالي 70 في المئة من العاملين في مجال الرعاية الصحية خلال سنوات النزاع، بينما تدمر أو تضرر أكثر من خمسين في المئة من البنى التحتية الصحية.

وفي سياق آخر كانت لقانون العقوبات الأميركي المعروف باسم قيصر آثار مدمرة على الاقتصاد السوري، حيث تجلى ذلك في استهداف كل شخص أجنبي يتعامل مع الحكومة السورية وحتى الكيانات الروسية والإيرانية في سوريا، وشمل مجالات عدة من البناء إلى النفط والغاز.

واستهدف القانون عددا من الصناعات التي تديرها سوريا، بما في ذلك تلك المتعلقة بالبنية التحتية والصيانة العسكرية وإنتاج الطاقة.

كما فرضت الولايات المتحدة أخيرا جولة جديدة من العقوبات على سوريا، استهدفت البنك المركزي السوري وأدرجت العديد من الأشخاص والكيانات في القائمة السوداء لخنق الحكومة السورية.

ومع حدوث هذه الأزمات، استمرت الليرة السورية في التدهور وارتفعت أسعار جميع المواد بشكل كبير، علاوة على ذلك، حدث نقص حاد في الوقود، بالإضافة إلى أزمة تأمين القمح للخبز بسبب ارتفاع أسعار القمح المستورد.

ولجأت الحكومة السورية إلى رفع أسعار الوقود والخبز المدعوم، وعالجت الموقف من خلال ضبط التوزيع عبر بطاقة إلكترونية توزع على المواطنين، لتحديد عدد المواد المدعومة التي يمكنهم الحصول عليها شهريا.

———————————

بقايا الطبقة الوسطى السورية تسقط في هوّة الفقر/ إليزابيث تسوركوف *

كانت مروة، وهي أم معيلة في الأربعينات من عمرها، مستيقظة في وقت متأخر من الليل، في شقتها التي تستأجرها في جرمانا. وكانت معتادة على متابعة الإخطارات الواردة على هاتفها المحمول من تطبيق «سوريا للتجارة»، وهي مؤسسة مملوكة للحكومة، تبيع سلعاً بأسعار مدعومة، لتعرف موعد تسلمها البضائع الخاصة بها.

كانت مروة قد تمكنت من شراء 4 كلغ من الأرز و3 كلغ من السكر، بأسعار مدعومة من أجل أسرتها، لتوفر بذلك نحو 3 دولارات تقريباً، مقارنةً بأسعار السوق. لكنّ تطبيق الهاتف لم يعد يبعث لها إخطارات كالمعتاد. قالت في نفسها: «في الشهرين الماضيين، لم أتلقَّ الرسالة في الوقت المناسب، أما هذا الشهر فقد حالفني الحظ».

تقضي مروة ساعات عدة كل يوم في طوابير طويلة لشراء الخبز المدعوم، لتعود بعدها إلى منزلها وتجلس في الظلام والبرد بسبب انقطاع الكهرباء والارتفاع الشديد في أسعار وقود التدفئة. واضطرت منذ وقت قريب إلى بيع الهاتف المحمول الخاص بابنتها كي تتمكن من سداد نفقات طبية.

مروة، وهي موظفة سابقة في الحكومة، فقدت شقيقها وابنتها في هجمات «داعش» وهجمات أخرى شنتها قوات النظام. وتبدو قصتها شبيهة بقصص كثير من أبناء الطبقة الوسطى الآخذة في التلاشي داخل سوريا، والتي سقطت اليوم في هوة الفقر.

قبل عام 2011، كانت سوريا بين الدول منخفضة الدخل، وبلغ إجمالي الناتج المحلي بالنسبة للفرد عام 2010 ما يقدر بـ2806 دولارات، تبعاً لتقديرات صندوق النقد الدولي. وكان هذا المستوى معادلاً لنظيره في سريلانكا، ويقل قليلاً فقط عما هو عليه في المغرب ومصر. اليوم، يعيش قرابة 90% من المقيمين داخل سوريا تحت خط الفقر، في وقت تتفشى مشكلة الجوع يوماً بعد آخر.

منذ عشر سنوات، لم تكن غالبية السوريين من الأثرياء، لكن البلاد اتسمت بوجود طبقة وسطى واسعة، تتمتع بمستوى معيشة مريح نسبياً. ومع هذا، تسببت إجراءات تحرير الاقتصاد، التي بدأت في تسعينات القرن الماضي، في اتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء. وتراجعت الخدمات، وكذلك الدعم الذي تقدمه الدولة لأسعار المواد الأساسية، لا سيما أسعار الوقود، كما تقلصت أموال الدعم الموجهة للمزارعين، الذين شكّلوا في وقت مضى فئة موالية للنظام يمكن الوثوق بها، أو على الأقل أكثر فئات المجتمع هدوءاً.

وباشتعال الانتفاضات العربية، أواخر عام 2010، ساد شعور في أوساط قطاعات كبيرة من الطبقة الدنيا، التي كانت تقيم في المناطق الريفية وداخل الأزقة على أطراف المدن الكبرى، بأنه ليس هناك ما يمكن خسارته، وثارت هي الأخرى.

ومع ذلك، ظلت الطبقة الوسطى الحضرية السورية، وكذلك الأقليات الدينية، هادئة في معظمها، أو داعمة للنظام.

اليوم، تشعر هذه القطاعات من المجتمع بأن العقد الاجتماعي المسكوت عنه بينها وبين النظام، والذي بمقتضاه تبقى هذه القطاعات على هدوئها، مقابل الحصول على خدمات ووظائف من الدولة، قد جرى خرقه.

شفيق، المقيم في ريف اللاذقية، والذي تم تسريحه من الجيش منذ عام، قال لـ«الشرق الأوسط»: «خدمت في الجيش لثماني سنوات في ظروف يسودها الإذلال والمهانة والظلم. اليوم، لا عمل لديّ ولا مستقبل. أضعت تلك السنوات مقابل لا شيء، وليس بإمكاني تحقيق أي شيء لنفسي».

مكابدة يومية للنجاة من الجوع والبرد… والظلام

يواجه السوريون أزمات عدة، تتسبب كل واحدة منها في تفاقم الأخرى، ما أدى إلى تحويل الحياة إلى صراع متواصل لتأمين الضرورات الأساسية للعيش، للبقاء بمنأى عن الجوع والبرد. وجاء التأثير الأكبر للعقوبات المفروضة ضد النظام، متمثلاً في انخفاض إمدادات المنتجات النفطية من إيران، في أعقاب تشديد العقوبات الأميركية ضد النظام الإيراني والشبكات التي تتولى على نحو غير قانوني توفير النفط منذ أواخر عام 2018. وأسفر نقص الوقود والغاز الطبيعي عن تداعيات واسعة النطاق على مختلف جوانب الاقتصاد السوري.

ويقضي السوريون، في مختلف أرجاء البلاد، الجزء الأكبر من أيامهم في الظلام، مع انقطاع الكهرباء على نطاق واسع، حتى داخل الأماكن التي يوليها النظام أولوية، مثل مدينة اللاذقية وريفها، أو الضواحي التي تقطنها الطبقات الغنية في دمشق، مثل ضواحي «المهاجرين» و«أبو رمانة» و«مشروع دمَّر».

من جهتها، أقرت الحكومة السورية سياسة تقنين الكهرباء. لكن، حتى خلال الساعات التي يفترض أن الكهرباء ستتوافر فيها، والتي يضع السوريون خططهم اليومية بناءً عليها، لشحن هواتفهم المحمولة وأجهزة تخزين الطاقة، غالباً ما يكون التيار الكهربائي متقطعاً فيها.

وعن هذا الأمر، قال وائل، المقيم في ضاحية جنوب دمشق: «عادةً، تتوافر الكهرباء لدينا لساعتين في اليوم. ومنذ وقت قريب، جاء محافظ ريف دمشق لزيارة المنطقة، لذلك كنسوا الشوارع قبل مجيئه، وأبقوا على الكهرباء لمدة ساعة ونصف الساعة. وبعد رحيله، انقطعت الكهرباء عن المنطقة من جديد».

من ناحية أخرى، فإن لتر المازوت قفزت تكلفته من 207 ليرات قبل عام 2011، إلى قرابة 1400 ليرة، اليوم، في السوق السوداء. ومن المفترض أن يتوافر المازوت الخاص بالتدفئة مقابل سعر مدعوم يبلغ 180 ليرة للتر، لكنه، في الواقع، غير متوافر بهذا السعر، في معظم المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، إلا لأفراد ينتمون لشبكات الفساد وأمراء الحرب.

ويحتاج كل منزل بين 60 و150 لتراً من الوقود، شهرياً، من أجل التدفئة في فصل الشتاء، حسب درجة الحرارة في الخارج، أي ما تبلغ تكلفته 84000 ليرة في أدنى تقدير، ما يعادل قرابة ضعف متوسط الراتب الشهري. ولهذا، يستحيل على غالبية السوريين تدفئة منازلهم، علماً بأن درجات الحرارة تنخفض إلى ما دون الصفر في المناطق المرتفعة من البلاد، مثل اللاذقية والجبال المحيطة بدمشق.

عن هذا الأمر، قالت جميلة، وهي جدة تبلغ 65 عاماً، وتعيش في منطقة جبلية قرب دمشق: «يجلس غالبية الناس تحت الأغطية، لكن من الصعب إبقاء الأطفال تحتها. لذلك، يمرض الأطفال باستمرار، ويتعين عليك حينها توفير الدواء لهم، وتوفير ملابس ثقيلة تجعلهم يشبهون دببة الباندا».

من ناحية أخرى، توقفت منظومة النقل العام داخل سوريا، في الجزء الأكبر منها. ونظراً لارتفاع أسعار المازوت في السوق السوداء، وانخفاض الأجرة التي يتقاضاها سائقو سيارات الأجرة الجماعية (السرفيس) من الركاب، يشعر هؤلاء السائقون أن من حقهم الحصول على المازوت بأسعار مدعومة، لكونهم يقودون سيارات أجرة تنتمي للمواصلات العامة، لكنهم يبيعون الوقود المدعوم الذي يتسلمونه، في السوق السوداء، ويبقون في منازلهم، بدلاً من الخروج بسياراتهم لتوصيل المواطنين إلى وجهاتهم.

ويعني هذا الأمر بدوره، اضطرار السوريين إلى الانتظار ساعات طويلة، في بداية ونهاية كل يوم عمل، من أجل إيجاد مقعد داخل وسيلة مواصلات. وإضافة إلى تأخرهم عن أعمالهم، ارتفعت أسعار المواصلات بدرجة هائلة، إلى حدٍ أجبر بعض الموظفين على التغيب عن أعمالهم لأيام عدة من الأسبوع.

ومن بين هؤلاء منى، المدرِّسة في ريف اللاذقية، والتي وصفت صعوبة هذا الوضع على المدرِّسين. وقالت: «بدلاً من الذهاب إلى العمل في جميع أيام الأسبوع، يذهب المعلمون للمدرسة مرة كل يومين، ويحرص الناظر على إبقاء سير جدول الحصص منتظماً. أما من يملكون واسطة، فقد توقفوا تماماً عن الذهاب إلى العمل، ومع ذلك فهم مستمرون في تلقي رواتبهم. أما من ليس لديهم واسطة، فيضطرون إلى الحضور إلى العمل، ما يجبرهم على إهدار كامل رواتبهم على المواصلات، فقط من أجل الحفاظ على وظيفة حكومية، لما تحمله من مميزات أخرى».

وأضافت منى: «بطبيعة الحال، يؤثر هذا الأمر على مستوى التعليم. وفي الواقع، الجيل القادم يتعرض للتدمير».

في الوقت ذاته، أصبح الآباء والأمهات يعتمدون على نحو متزايد على التعليم في المنزل، وعلى مدرسين خصوصيين، يُقدم كثيرون منهم على هذا العمل لضمان الحصول على راتبٍ ثانٍ.

فقدت العملة السورية ما يزيد على 98.5% من قيمتها على مدار السنوات العشر الماضية. وفي مطلع 2011، كان الدولار الأميركي الواحد يساوي 47 ليرة سورية. وبدأت العملة السورية تفقد قيمتها مع بداية الانتفاضة، ومع توقف مصادر العملة الصعبة، مثل السياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة، والصادرات. وبدأ التراجع السريع في قيمة العملة في أعقاب الأزمة المصرفية اللبنانية عام 2019 والتي أدت إلى تجميد حسابات بالدولار في البنوك اللبنانية، مملوكة لسوريين من أبناء الطبقتين المتوسطة والعليا، وكذلك لشركات سورية. ووصل سعر الصرف أمس إلى اكثر من 450 ليرة ليرة للدولار.

وتراجعت العملتان اللبنانية والسورية على نحو حاد لتصلا إلى أدنى مستوى لهما على الإطلاق. وبالنسبة إلى دولة تعتمد على نحو متزايد على الواردات، يعد هذا الانهيار في العملة كارثة. وكان من شأن سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها النظام، وفقدان السيطرة على المناطق الغنية بالموارد، وفرار رجال الصناعة السوريين إلى خارج البلاد، ونهب المصانع من جميع أطراف الصراع، والعقوبات الغربية، أن تؤدي إلى تقليص القدرة الإنتاجية لسوريا.

جدير بالذكر في هذا الصدد، أن سوريا كانت قد حققت الاكتفاء الذاتي، أو كانت على وشك تحقيقه، في مجالات إنتاج الشعير والقمح والبيض والدواء والزيوت. أما اليوم، فإنها أصبحت مضطرة إلى استيراد معظم استهلاكها من هذه السلع الأساسية. وحتى القطاعات الإنتاجية التي تمكنت من البقاء على قيد الحياة خلال سنوات الحرب، مثل القطاع الزراعي والدواجن ومصانع معينة، تضررت هي الأخرى بسبب اضطرارها إلى شراء مواد أساسية، مثل الديزل وعلف الماشية والبذور والأسمدة، بأسعار مرتبطة بسعر صرف الدولار.

ونتيجة انهيار العملة، شهدت أسعار السلع الأساسية ارتفاعاً صاروخياً. وتبعاً لتقديرات الأمم المتحدة، فإنه خلال الفترة بين ديسمبر (كانون الأول) 2019 وديسمبر 2020 ارتفعت أسعار السلة الأساسية من السلع بنسبة 236%. وبحلول نهاية عام 2020، وقبل حدوث ارتفاعات أخرى في الأسعار، قدرت الأمم المتحدة أن 60% من السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ما يعني أنهم لا يعلمون ما إذا كانوا سيتمكنون من تأمين الوجبة التالية.

وتحفل شبكة «فيسبوك» بصفحات أنشأتها مجموعات من المقيمين داخل مناطق يسيطر عليها النظام، تحوي الكثير من المنشورات التي تتضمن نصائح بخصوص أرخص الوجبات التي يمكن طهوها. وغالباً ما تدور النصائح حول البرغل والأرز والبطاطا المطهوة (وليست المقلية، نظراً لارتفاع أسعار الزيت) والمعكرونة. وفي مطلع عام 2020، كان كثيرون لا يزالون يقترحون وجبة «جظ مظ» (الشكشوكة السورية)، لكن البيض آنذاك كان أرخص مصدر للبروتين. أما اليوم، فقد ارتفع سعره على نحو هائل، ما اضطر السوريين إلى تناسيه، كما تناسوا اللحم والفاكهة ومنتجات الألبان، بل حتى الخضراوات، وأصبحوا يعتمدون على نحو متزايد على نظام غذائي غير صحي، قوامه الكربوهيدرات.

وتشير محادثات مع مقيمين عبر المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، إلى أن الجوع أصبح أكثر تفشياً بكثير، مع بدء ظهور نقصٍ في الخبز المدعوم في فبراير (شباط) 2020، وأصبح أشد حدة في أغسطس (آب) 2020، ونتيجة سيطرة قوى أخرى، غير قوات النظام، على المناطق المنتجة للقمح داخل سوريا، إضافة إلى ارتفاع أسعار القمح الذي يبيعه المزارعون للسلطات المحلية في المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام، لم يتمكن النظام من شراء سوى أقل من 20% من المحصول السوري لعام 2020.

وبسبب الأزمة المصرفية اللبنانية، وتراجع احتياطات العملات الأجنبية لدى النظام، وارتفاع أسعار القمح عالمياً، واجهت الحكومة السورية صعوبة في إنجاز صفقات لاستيراد القمح.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الخبز لطالما شكل عنصراً رئيسياً في النظام الغذائي في منطقة الهلال الخصيب، لكن الفقر المتفاقم الذي عاناه السوريون على مدار سنوات الحرب دفعهم نحو الاعتماد على الخبز بدرجة أكبر. وقبل اشتعال الانتفاضة، بلغ السعر الرسمي للخبز المدعوم 15 ليرة مقابل 8 أرغفة، لكن أزمات نقص القمح والوقود والفساد الحكومي، تسببت في ظهور سوق سوداء، حيث يجري بيع الخبز ذاته، والذي أصبح اليوم يتسم بجودة أقل، مقابل ما يتراوح بين 3 و12 ضعف السعر الرسمي، حسب المنطقة.

ودفعت الزيادة الحادة في أسعار المنتجات الغذائية الأساسية السكان إلى الاعتماد بشكل متزايد على السلع المدعومة، التي يجري بيعها تبعاً لأسعار محددة عبر منافذ تتبع مؤسسة «سوريا للتجارة» الحكومية. ووجد سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، الذين سبق أن وصفوا السكر والأرز اللذين يجري بيعهما في هذه المنافذ بأنهما لا يصلحان للأكل، وانتقدوا أولئك الذين يتكدسون في صفوف أمام هذه المنافذ، بسبب عدم التزامهم بالتدابير الاحترازية ضد فيروس «كوفيد – 19»، وجدوا أنفسهم مضطرين للتزاحم في الصفوف نفسها بعد أشهر قليلة فقط.

أما النظام، فقد قلص من جانبه كميات السلع المدعومة، إلى درجة أنها لم تعد كافية لتغطية ولو نسبة ضئيلة من احتياجات الأسر السورية، مع حصول أسر على ما لا يزيد على 3 كيلوغرامات من الأرز، و4 كيلوغرامات من السكر في الشهر، وذك للأسر الأكثر عدداً. كما زادت الحكومة أيضاً أسعار السلع المدعومة، ولا تزال عاجزة على نحو متزايد عن توزيع حتى هذه الكميات الصغيرة على السكان.

انكماش الرواتب الهزيلة… واتساع الانتقادات للنظام

قبل عام 2011، ورغم تفاقم الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء، ضمّت سوريا طبقة وسطى ضخمة، تتألف في معظمها من موظفين حكوميين، وذلك في إطار ميثاق اجتماعي ظهر عبر أرجاء المنطقة، يقضي بأن توفر الأنظمة الوظائف داخل هيكل خدمة مدنية منتفخ، مقابل الحصول على هدوء سياسي. في ذلك الوقت، بلغ متوسط راتب الموظف الحكومي 20000 ليرة سورية، أي نحو 400 دولار تقريباً. ورغم الزيادات المتكررة للرواتب، فإنها عجزت عن مضاهاة التضخم، وأصبحت قيمة متوسط الرواتب حالياً، البالغ 55000 ليرة سورية، لا تزيد على 15 دولاراً في مارس (آذار) 2021.

وبالنظر إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لا يكفي هذا الراتب لتوفير احتياجات ثلاثة أيام من السلع الأساسية لأسرة متوسطة تتكون من خمسة أفراد. وعليه، ليس من المثير للدهشة أن يحاول موظفو الحكومة السورية زيادة مداخيلهم بالحصول على وظائف إضافية.

ومع ذلك، ورغم الرواتب الهزيلة، لا يزال التوظيف في الدولة نعمة يقاتل من أجلها كثيرون، وذلك بسبب عدم توافر البدائل، إلا فيما ندر، إلى جانب الشعور بالاستقرار الذي توفره هذه الوظائف، وما تحمله من ميزات مادية إضافية، قانونية وغير قانونية، مثل الرشى، وكذلك القروض المصرفية بأسعار فائدة منخفضة.

ونظراً للتنافس الشديد على الوظائف الحكومية، فإنه لا ينالها سوى أصحاب المستوى الأعلى من الواسطة، ومن ينظر إليهم بوصفهم مخلصين للنظام.

رسمياً، تولي الحكومة معاملة تفضيلية لأقارب الدرجة الأولى للجنود القتلى، وكذلك الجنود الذين أنجزوا فترة التجنيد التي عادةً ما تمتد لثماني سنوات. لكن، حتى داخل صفوف من يحظون بمثل هذه المعاملة المميزة، تبقى معدلات البطالة عالية.

تجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن 28000 جندي جرى تعيينهم في القطاع العام في الفترة الأخيرة، ممن جرى تسريحهم من الجيش منذ أكثر من عام.

– «مناطق التسويات» المهملة

يعاني سكان المناطق التي كانت خاضعة في السابق للمعارضة، والتي تمكن النظام وحلفاؤه من إعادة السيطرة على الجزء الأكبر منها عام 2018، من ظروف معيشية شديدة القساوة. كانت هذه المناطق، مثل الغوطة الشرقية والغربية قرب دمشق، والقلمون، وريف حمص الشمالي، قد خاضت سنوات من الحصار والتفجيرات والقصف، أنهكت أجساد سكانها، ودمرت كثيراً من البنى التحتية والمنازل فيها.

كذلك عانت درعا، ومدينة حلب الشرقية، ومدينة حمص الغربية، من أضرار واسعة جراء سنوات من القصف.

واليوم، يمتنع النظام الذي يعاني من الإفلاس وتملأه الرغبة في الانتقام، عن إعادة بناء هذه المناطق، وكذلك الحال مع الوكالات التابعة للأمم المتحدة ومنظمات دولية غير حكومية، والتي يبدو أن أولوياتها تتبع إرشادات النظام.

يُذكر أن سكان المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة من قبل، والذين ظلوا في هذه المناطق، بدلاً من الفرار للعيش تحت سيطرة النظام، غالباً ما كان يجري فصلهم من وظائفهم الحكومية ولا يعودون إليها. وبسبب المظاهرات الضخمة التي اشتعلت في هذه المناطق، والضربات الجوية التي لم تتوقف، تعرض كثير من رجال هذه المناطق للاعتقال أو القتل أو التهجير القسري، مخلّفين وراءهم أسراً دون معيل.

عن ذلك، قال منير، المقيم في مدينة دوما بالقرب من دمشق، والتي تعرضت لخمس سنوات من الحصار الخانق من جانب نظام الأسد، إن الجوع يبدو ظاهراً بين سكان المدينة. وأضاف: «وصلت القدرة الشرائية لسكان دوما إلى مستوى شديد الضآلة. ويتكون كثير من الأسر من يتامى وأرامل فحسب. وتبدو آثار الفقر واضحة على الناس والشوارع. أما المتاجر، فمعظمها خاوية، ولا يستطيع سوى قليل من الأفراد شراء الحلوى أو الأطعمة الجاهزة. في المقابل، تعتمد الغالبية على الاستدانة، وبيع ممتلكات من منازلها، وعلى المساعدات الإنسانية، لكن كل هذا لا يكاد يكفي».

من ناحية أخرى، من الواضح أن نظام المساعدات الذي تقوده الأمم المتحدة، والموجود حالياً في دمشق، غير مجهّز للحيلولة دون حدوث مشكلة جوع على نطاق واسع. وقد وثّق باحثون وصحافيون ونشطاء في مجال حقوق الإنسان، قيام النظام بتحويل المساعدات إلى من يعدهم موالين له، بما في ذلك أعضاء ميليشيات، وحرمان أولئك الذين يعدهم النظام غير موالين.

ولا يزال هذا النمط مستمراً حتى اليوم، ذلك أن المناطق والمدن والأقاليم التي تعد موالية للنظام أو مقرّبة من مسؤولين في النظام، مرشحة أكثر من غيرها للحصول على مساعدات والاستفادة من مشروعات تديرها الأمم المتحدة أو منظمات دولية غير حكومية، تتخذ من دمشق مقراً لها.

واعترف موظفون في منظمات غير حكومية، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، بأنه لا يُسمح لهم باتخاذ قرارات نهائية بخصوص اختيار المستفيدين، وليس بإمكانهم منع مسؤولي الاستخبارات السورية أو مسؤولين محليين أو أعضاء في «حزب البعث» من استبعاد من يرونهم غير موالين للنظام، من قوائم المستفيدين من المساعدات، أو إضافة قوائم بأسماء مقربين منهم. وبالنظر إلى أن الغالبية الكاسحة من الشعب السوري تعيش اليوم تحت خط الفقر، فمن المنطقي ألا تكون الأمم المتحدة قادرة على تلبية احتياجاتهم جميعاً.

وبدلاً من تقديم المساعدة إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها، والذين يعيش كثيرون منهم في مناطق كانت تخضع من قبل لسيطرة المعارضة، غالباً ما تكون المعايير الأساسية لتوزيع المساعدات ذات طابع سياسي. ويتوافد أفراد في سيارات فارهة للحصول على سلال مساعدات تخص الهلال الأحمر السوري، حسبما ذكرت إحدى المقيمات في قرية قرب القرداحة، التي تنتمي إليها عائلة الأسد. وأضافت: «لقد خرج الفساد عن السيطرة».

من جهتها، بررت عضوة في حزب «البعث» في حرستا، تدخل الحزب الحاكم في اختيار المستفيدين من المساعدات، وتوفير سلال مساعدات غذائية لموظفي الحكومة الذين بقوا في وظائفهم، لأنه جرى اعتبارهم موالين للنظام، بقولها: «البعض يعارض اختيار المستفيدين بقوله: لماذا يحصل موظفون حكوميون على مساعدات؟ وإنه يجب توجيه جميع المساعدات لمن ليست لديهم وظيفة. أود أن يعلم من يعارضون هذا الأمر أن موظفي الدولة يكافحون هم أيضاً من أجل سداد الفواتير المستحقة عليهم».

– اتساع الفساد

الواضح أن الفساد هو الآخر يتفاقم. والمعروف أن الفساد شكّل عنصراً أساسياً في الحكم داخل سوريا لعقود، مع سماح النظام لموظفي القطاع العام باستغلال مناصبهم داخل الدولة والمؤسسات التابعة للنظام، لابتزاز المواطنين، والتربح من التهريب والنشاطات غير القانونية الأخرى، مقابل ضمان ولائهم. وكان سوء استغلال السلطة من جانب السلطات السورية واحداً من المحفزات الرئيسية للانتفاضة التي اشتعلت عام 2011 وكان من شأن الغياب المتزايد للقانون عن سوريا خلال سنوات الحرب، وازدهار اقتصاد الحرب، وتراجع قيمة رواتب موظفي الدولة السورية، أن يؤدي إلى تشجيع الفساد وفتح المجال واسعاً لازدهاره.

وشكّلت أزمات نقص السلع المختلفة والمتفاقمة أرضاً خصبة للفساد. ففي سوريا، يمكن شراء جميع السلع المدعومة غير الموجودة في المتاجر والمخابز من السوق السوداء، والتي تأتي إمداداتها من مسؤولين كبار في النظام يسرقون السلع، كما تأتي هذه السلع من مؤسسات حكومية.

على سبيل المثال، لم يحصل المزارعون في شرق حماة على حصة فبراير من المازوت، التي تعد ضرورية لرعاية محاصيل القمح الخاصة بهم. وعن هذا، قال أحد المزارعين: «حرصت على الذهاب إلى محطة الوقود يومياً، لكنها كانت مغلقة. وعدت إلى اتحاد المزارعين فأخبروني بأن مالك المحطة تلقى المازوت ولا يرغب في توزيعه، ولا يمكن لأحد الاعتراض عليه لأنه أحد المقربين من المسؤولين».

يُذكر أن مالك محطة البنزين تلك، الواقعة في قرية «تل جديد»، يعمل في تهريب الوقود، ويتولى تمويل ميليشيات موالية للنظام، إضافةً إلى كونه عضواً في مجلس الشعب السوري. وفي الوقت الذي من المفترض أن يتمكن المزارعون من شراء المازوت مقابل 180 ليرة للتر، يُضطر القادرون منهم إلى شرائه من السوق السوداء مقابل 8 أضعاف هذا السعر.

وفي سياق متصل، فإن الخبز المدعوم منخفض الجودة، والذي من المفترض بيعه مقابل 100 ليرة في المخابز التابعة للدولة، يُباع مقابل 300 ليرة على الأقل في السوق السوداء، وقد يصل سعره أحياناً إلى 1200 ليرة، بعد سرقته من جانب موظفي المخابز ومسؤولي الاستخبارات والجنود، بل ومفتشي وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، الذين يفترض أن مهمتهم الحيلولة دون وقوع هذه التجاوزات.

ومع استمرار معاناة الاقتصاد السوري طوال سنوات الحرب، زاد جنود النظام وعناصر الميليشيات والمخابرات من نهبهم للمواطنين. تجدر الإشارة إلى أن الفرقة الرابعة التي يقودها شقيق بشار الأسد، ماهر، تتولى الإشراف على شبكة منتشرة في مختلف أرجاء البلاد، تُدعى «الترفيق»، بمعنى توفير مرافقة مسلحة توفر الحماية للقوافل التجارية من الحواجز العسكرية التي تنتمي لـ«الفرقة الرابعة» ذاتها، وكذلك نقاط التفتيش التي تجمع إتاوات غير رسمية، لا ينتهي بها الحال في خزائن الدولة.

وتبعاً لما ذكره مزارعون من اللاذقية وحماة، زادت أعداد نقاط التفتيش على مدار العام الماضي، الأمر الذي ربما يعكس الحاجة المتزايدة لدى المسلحين لتعويض مداخيلهم المنكمشة.

أيضاً، تتورط «الفرقة الرابعة»، وميليشيات مدعومة من إيران، في عمليات تهريب عبر الحدود إلى لبنان والأردن والعراق. وتتيح شبكات التهريب تلك للتجار بيع منتجاتهم الزراعية وسلع صناعية في دول مجاورة مقابل أسعار أعلى، ما يقلص بدوره المعروض من السلع داخل سوريا، ويرفع الأسعار في الداخل.

وبسبب الفساد المستشري في المؤسسات السورية، تتعرض أي جهود رامية لمكافحة الفساد للفشل، أو ربما تسهم في الفساد وتفاقمه. على سبيل المثال، يسهم مفتشو وزارة التجارة الداخلية، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية منع التلاعب بالأسعار، في ارتفاع الأسعار، من خلال حصولهم على رشى من التجار الراغبين في بيع السلع بأسعار أعلى مما يسمح بها القانون.

كذلك، نجد أن حرس الحدود المكلفين بمهمة منع التهريب، يتولون هم أنفسهم، تيسير عمليات التهريب تلك، بعد حصولهم على رشى. كما أن القضاة الذين جرى تعيينهم لسجن الفاسدين يحصلون هم أيضاً على رشى للسماح بفرار الفاسدين من قبضة العدالة.

ونظراً لاعتماده المستمر على جهازه القمعي، لجأ النظام إلى المخابرات، في محاولة لاحتواء انهيار الليرة السورية، من خلال محاولة فرض إرسال حوالات إلى سوريا من خلال القنوات المعترف بها رسمياً فقط، مع فرض سعر تصريف أقل بكثير مما هو موجود في السوق السوداء. وتعوق هذه السياسة قدرة السوريين على معاونة بعضهم بعضاً. وأدت حملة إجراءات لإلقاء القبض على أصحاب مكاتب الحوالات غير الرسمية إلى ارتفاع رسوم التحويل، بسبب الرشى التي يجري دفعها مقابل إطلاق سراح موظفي مكاتب الحوالات، والتي يجري تحميلها في نهاية الأمر على عاتق الزبائن.

وبسبب الحظر المفروض على استخدام الدولار، وعمليات الاعتقال سالفة الذكر، والمراقبة الشديدة، خصوصاً داخل المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة، أصبحت مسألة تلقي أي من المقيمين في هذه المناطق حوالةً من الخارج أمراً ينطوي على مخاطرة هائلة.

من جانبه، شرح منير، المقيم في دوما، أنه رغم الفقر الطاحن، قليلون فقط من يتجرأون على تلقي أموال محوّلة من الخارج. وأضاف: «يلجأ الناس إلى الحوالات في الظروف الاستثنائية فحسب، ويعتمدون على الأقارب الذين يحملون الأموال النقدية إلى داخل سوريا، الأمر الذي يثير شكوكاً أقل».

واليوم، بعد عشر سنوات من خروج ملايين السوريين ثائرين ضد نظام وحشي وفاسد، واحتجاجاً على توزيع غير عادل للثروة، تبدو سوريا أكثر فساداً من أي وقت مضى، بينما تبدو الطبيعة الوحشية لأعمال العنف فيها واضحة للعيان. كانت السنوات العشر الأخيرة قد جرّدت النظام السوري من كثير من المظاهر المدنية السطحية التي كان يختفي خلفها. وسمحت هذه المظاهر لبعض السوريين بالتظاهر، أو ربما بالاعتقاد عن حق بأنهم يعيشون في ظل دولة مؤسسات تشكل الضامن الوحيد للاستقرار المالي والأمني.

اليوم، أصبحت الطبيعة الفاسدة والعنيفة للنظام، التي تشبه ما يسود داخل عصابات المافيا، واضحة للعيان. والآن، أصبحت النقاشات الخاصة الدائرة في أوساط السوريين الذين لم يثوروا ضد النظام منذ عشر سنوات، إما بسبب الخوف وإما لرغبتهم في الحفاظ على الاستقرار، تشبه على نحو متزايد نبرة حديث الثوار الذين خرجوا ضد النظام عام 2011. ومع ذلك، فإنه بخلاف الثوار، لا يزال هؤلاء السوريون أسرى حالة من الخوف الشديد والانهزام، تَحول دون خروجهم في وجه النظام.

* باحثة في جامعة برنستون

الشرق الأزسط

————————–

سوريا… أسئلة بلا حلول/ طارق الحميد

عاد الحديث مجدداً عن الأزمة السورية، وعلى أصعدة مختلفة، منها ما هو معلن، ومنها ما هو مجرد تسريبات وتكهنات، لكن المتأمل لتلك التصريحات يجد أنها مثيرة للأسئلة أكثر من كونها تقدم حلولاً.

مثلاً تصريحات المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن، في حديثه لصحيفتنا هذه قبل يومين، بأن السوريين وقعوا في «فخ الحرب اللا منتهية»، وإنَّ على الجميع أن «يشعر بالخجل» بسبب الفشل في وقف «المأساة السورية»، وقوله، أي بيدرسن، إن الانتخابات الرئاسية السورية المقررة منتصف العام الحالي «ليست جزءاً» من مهمته بموجب القرار الدولي 2254 الذي «يتحدث عن انتخابات بموجب دستور جديد. هذه الانتخابات يجب أن تُجرى وفق أعلى المعايير الدولية بمشاركة من السوريين في الشتات».

وعليه، هل هذا الأمر ممكن، أي دستور جديد، وانتخابات نزيهة؟ وهل يمكن إعادة التطبيع مع الأسد وسط عقوبات بريطانية جديدة، وعقوبات أميركية سابقة، أهمها قانون قيصر، وعقوبات أخرى؟ ورفض أوروبي أخير للتطبيع مع الأسد؟

وهل يمكن أن تقبل إيران، رغم المحاولات الروسية، بتقديم حلول واقعية في دمشق، أهمها الحل السياسي، والانتقال السلمي للسلطة؟ وإذا لم يحدث ذلك الانتقال السلمي، فمن قادر على تذليل أكبر عائق في سوريا وهو إعادة الإعمار؟

وهل يمكن أن يكون هناك حل جاد في سوريا والمبعوث الأممي نفسه يقول في مقابلة صحيفتنا إن سوريا ليست على سلّم أولويات الولايات المتحدة الآن؟ كيف يمكن تقديم حلول أو إنجاحها من دون وجود الطرف الأميركي؟

ومَن سيفصل بين الجيوش والميليشيات في سوريا، سواء الجيش الروسي، أو القوات والميليشيات الإيرانية، أو التركية، والأميركية، ناهيك بالعمليات الإسرائيلية المفتوحة في أجواء وأرض دمشق؟

وهل يمكن تطبيق أي حل في سوريا من دون الأميركيين، أو من دون مراعاة ما يريدونه، وما لا يريدونه؟ هل يمكن أن يكون الموقف الأميركي في سوريا منصبّاً أكثر على الصورة الكبيرة وهي مفاوضات الملف النووي الإيراني؟ ماذا عن القتلى والمساجين؟

وكيف يمكن أن يتم ذلك من دون مراعاة المحاذير الإسرائيلية في سوريا، خصوصاً أن إسرائيل باتت طرفاً مؤثراً هناك عملياً، ومن خلال العمليات العسكرية المستمرة، والجراحية ضد المصالح الإيرانية في سوريا؟

وأضف إلى كل تلك الأسئلة السؤال الأهم، خصوصاً مع الحديث عن احتمالية مفاوضات بين النظام الأسدي وإسرائيل، وهو: ما الذي سيكون عليه الموقف الإيراني حينها في سوريا وحولها، أي لبنان، مثلاً؟

هل تقبل طهران بعلاقات سورية – إسرائيلية تعني إنهاء الحلم الإيراني بالمتمدد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا وبذلك تخسر طهران أهم ورقة بيدها، وإن كانت قد ضعفت الآن، وهي الورقة السورية؟

هل تقبل إيران خسارة سياسية ليست بالسهلة بعلاقة سورية – إسرائيلية، وتعرّض مصالحها في لبنان، وبالتالي على الحدود العراقية السورية، للخطر بوجود إسرائيلي نتيجة علاقات مع نظام الأسد؟

وعليه، صحيح أن الموضوع السوري يعود للساحة الآن، ولو إعلامياً، لكنه يطرح كثيراً من الأسئلة من دون إجابات واضحة ومحددة، ومن دون خلق تصور لما يمكن أن تؤول إليه الأمور.

الشرق الأوسط»

———————-

لوموند: أطفال سوريا.. جيل كامل ذهب ضحية 10 سنوات من الحرب

نحو 6 ملايين طفل -حسب تقديرات اليونيسيف- ولدوا في سوريا أثناء الحرب المستمرة منذ 10 سنوات، هم يمثلون الآن جيلا لم يعرف في حياته سوى التفجيرات والعنف وهشاشة الحياة، ولكنه مع ذلك سيضطر يوما ما إلى تلبية دعوة بناء مستقبل هذا البلد.

بتلك المقدمة افتتحت لوموند (Le Monde) الفرنسية تقريرا عن الأطفال في سوريا المنكوبة، وقالت إنهم يقفون في الخطوط الأمامية، وخاصة الأطفال النازحين الذين يعانون من عدم الاستقرار وفقدان أحد الوالدين أو كليهما ومن العوز الشديد في بيئة اقتصادية متدهورة بشكل عام.

وأوضحت الصحيفة في تقرير -جميع البيانات المتعلقة بانتهاكات حقوق الأطفال المستخدمة موثقة من تقارير الأمم المتحدة حسب قولها- أن الأطفال النازحين تقودهم هذه الظروف القاسية إلى البحث عن عمل، غالبا ما يكون شاقا ودائما وبأجور زهيدة، من أجل البقاء على قيد الحياة أو مساعدة العائلة، وبالتالي فإن مئات الآلاف من الأطفال أميون الآن، بعد أن كان بلدهم قبل الحرب يتمتع بأعلى معدل تعليمي بين الدول العربية.

تعليم مستحيل

وأشارت لوموند إلى أن حالة النازحين شمال شرق سوريا تعتبر الأكثر تعقيدا، خاصة في المخيمات الواقعة تحت سيطرة الإدارة الكردية، حيث يبلغ عدد سكان مخيم الهول وحده ما يقرب من 65 ألف نسمة، 94% منهم من النساء والأطفال، وأكثر من نصفهم أطفاله دون سن الثانية عشرة، ومن هذا المجموع 48% عراقيون و37% سوريون و15% من 57 جنسية أخرى.

ويأتي غالبية الأطفال السوريين -حسب الصحيفة- من مناطق كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في السابق، وهم ينحدرون من الرقة وبلدات أخرى على طول نهر الفرات، حيث يجبر القاصرون على الزواج ويجند الفتيان في صفوف التنظيم، وقد شاهد كثير منهم مشاهد إعدامات وقطع رؤوس.

عام 2019، دعا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للنظر بالوضع في 16 دولة، للتحقيق في “مصير الأطفال في أوقات النزاع المسلح” فكانت سوريا تحتل المرتبة الثانية في مجال تجنيد الأطفال بعد الصومال صاحبة السجل الأسوأ، بحسب لوموند.

ومنذ أن فقد تنظيم الدولة آخر معاقله في سوريا، كانت القوات الكردية أكثر من يستخدم الأطفال في القتال، حيث استخدموا 820 قاصرا، بينهم 147 تحت سن 15 وجميعهم فتيات، وقد تم التحقق من 55 حالة من بينهن. وفي المرتبة الثانية، تأتي هيئة تحرير الشام التي جندت 245 قاصرا.

وحسب تحقيق للأمم المتحدة، فإن سوريا هي الدولة التي قُتل فيها أكبر عدد من الأطفال عام 2019 الغالبية العظمى منهم على يد قوات النظام، كما أن جيش بشار الأسد وحلفاءه مسؤولون عن كل الضربات التي تستهدف المدارس تقريبا، مما يجعل سوريا في الرتبة الأخيرة في هذا المجال.

واختتم التقرير الأممي بالتعبير عن القلق من “الاتجاه الجديد لمهاجمة مرافق إمدادات المياه، وزيادة عدد الهجمات على المدارس والمستشفيات، واحتجاز الأطفال لأسباب أمنية”.

ومع أن عدد هذه الاعتقالات انخفض عام 2020، فإن نحو 5 آلاف طفل لا يزالون محتجزين، 3600 من بينهم من قبل النظام، في أماكن غير معروفة بالنسبة لعائلاتهم التي تعتبرهم “مفقودين” لأنها لا تعرف هل هم على قيد الحياة أم لا.

المصدر : لوموند

————————————

إقبال على الحياة رغم الألم.. أحلام الطفولة السورية في انتظار وقف الحرب

أيمن فضيلات – عمَان

بقدم اصطناعية وعكازتين تلحق الطفلة السورية سجى (13 عاما) كرة القدم، وتجاري أقرانها رغم إصابتها، فقد اغتالت ساقَها قذائف الحرب الدائرة هناك منذ 10 سنوات، وباتت مقعدة معاقة لا تقوى على الحركة، إلا أنها تقبلت وضعها الصحي وتأقلمت معه، وبدأت حياة جديدة.

وكثيرا ما حلمت سجى بأن تصبح لاعبة جمباز محترفة، تفوز بالبطولات الدولية وترفع علم بلادها، لكن ويلات الحرب كان لها رأي آخر، ومع إصرارها على الحياة وتقبّل الواقع عادت للدراسة وهي تأمل بأن تصبح معلمة رياضة.

يشابه سجى عشرات آلاف الأطفال السوريين الذين أصيبوا بالحرب، فمنهم من فقد أحد أعضائه، ومنهم من فقد عائلته، وطالما بقيت الحرب مستمرة هناك فستبقى قصص مآسي الأطفال السوريين مستمرة أيضا، لكن مع أطفال جدد.

إن وضع الأطفال والعائلات السورية ما يزال محفوفا بالمخاطر، وخاصة أن نحو 90% من الأطفال السوريين يحتاجون للمساعدة الإنسانية -وفق منظمة “يونيسيف” (UNICEF) للطفولة-، وبزيادة بلغت نسبتها 20% في العام الماضي 2020، وذلك نتيجة جائحة كورونا التي اجتاحت العالم.

على مدى 10 سنوات تعاني العائلات السورية من التهجير والنزوح (يونيسيف)

بطل كمال أجسام

وللناظر يبدو وضع سجى أفضل حالا من الطفل السوري عبد الله (15 عاما)، فجرائم الحرب ألزمته كرسيّا متحركا منذ 5 سنوات، وذلك بعدما تهدم البيت على رأس عائلته وتم سحبه من تحت الركام، فبات لا يقوى على تحريك أطرافه السفلى.

ورغم حالته الصحية، يحرص عبد الله على الذهاب يوميا إلى المدرسة بعربته التي يدفع عجلاتها أصدقاؤه، في طريق مليء بالحفر وركام المنازل المدمرة شمال مدينة حلب، وهو يحلم بأن يصبح بطلا في لعبة كمال الأجسام.

وقد خلفت الحرب المستمرة منذ 10 سنوات آثارا مريعة على الطفولة والعائلات السورية، وفق اليونيسيف، حيث ارتفع سعر السلة الغذائية العادية في العام الماضي أكثر من 230%، ويعاني أكثر من نصف مليون طفل دون سن الـ 5 سنوات في سوريا من مرض التقزُّم نتيجة سوء التغذية المزمن، إضافة إلى أن نحو 3.2 ملايين طفل -في سوريا ومخيمات اللاجئين بدول الجوار- لا يذهبون إلى المدرسة، و40% منهم فتيات.

منظمة اليونيسيف للطفولة نظمت مساء الخميس الماضي زيارة ميدانية افتراضية لمناطق الشمال السوري ومخيمات اللاجئين في الأردن عبر تطبيق “زوم” (Zoom)، تلاها مؤتمر صحفي استعرض آثار الحرب في سوريا على الأطفال والطفولة، وذلك في الذكرى العاشرة للثورة السورية.

وأظهرت الجولة أن الحرب السورية المستمرة على مدى عقد كامل أثّرت بشكل مدمر على الأطفال والطفولة، فهناك ما يزيد على 6 ملايين طفل داخل سوريا بحاجة للمساعدة، وقد ولد العديد منهم خلال الحرب، ولم يعرفوا في حياتهم سوى النزاع والنزوح والخسارة.

وخلال العام الماضي تضاعف عدد الأطفال الذين يعانون من ضائقة نفسية، وهو ما يؤشر إلى العواقب الدائمة للحرب على الصحة النفسية ورفاه أطفال سوريا، وفق المنظمة.

المديرة الإقليمية للإعلام بمكتب اليونيسيف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جولييت توما قالت في المؤتمر الصحفي إن نصف أطفال سوريا لا يذهبون للمدرسة وحرموا من التعليم، وواحدة من كل 3 مدارس داخل سوريا لم تعد صالحة للاستخدام جراء إصابتها بالأضرار أو الدمار أو لاستخدامها أماكنَ لإيواء العائلات النازحة أو لأغراض عسكرية.

مثابرة وحب للعلم

اللقاءات التي أجراها موظفو اليونيسيف مع الأطفال السوريين -سواء داخل سوريا أو في مخيمات اللجوء بالأردن- أظهرت حب الأطفال للحياة والمدرسة والعمل، وقدرتهم على الجمع بين الدراسة والعمل بعدها في مهن شاقة على أطفال بعمر 10-15 عاما، وذلك لإعالة ذويهم وتأمين احتياجاتهم المعيشية.

المدير الإقليمي لليونيسيف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تيد شيبان قال في المؤتمر الصحفي إن الأطفال السوريين “يتمتعون بروح معنوية عالية رغم التحديات الهائلة التي يواجهونها، وتصميم هؤلاء الأطفال والشباب على التعلم والتغلب على الصعاب وبناء مستقبل أفضل هو أمر يستحق التقدير”.

ووفق إحصائيات اليونيسيف فإن 12 ألف طفل سوري قتلوا أو أصيبوا في هذه الحرب، وتم تجنيد أكثر من 5.7 آلاف طفل للقتال، بعضهم لا تزيد أعمارهم على 7 سنوات، إضافة لتعرض أكثر من 1300مرفق تعليمي وطبي وطواقم صحية للهجوم.

ووسعت اليونيسيف مجال عمليات الاستجابة التي تقدمها للأزمة السورية، وذلك من أجل تلبية الاحتياجات الإنسانية الفورية وطويلة الأمد، وسط تحديات صعبة بما فيها التطور السريع لجائحة فيروس كورونا، وتسعى للحصول على مليار و400 ألف دولار لاستكمال خطة استجابتها داخل سوريا والدول المجاورة لعام 2021.

المصدر : الجزيرة

——————————–

كي لا ننسى اللاجئين السوريين بعد عشر سنوات على اندلاع الحرب/ ديفيد موريسي

كانت العائلات السورية التي التقيت بها عبر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تحمل أملاً مشتركا هو إعادة بناء حياتها. كانت غالبيتها تريد العودة، لكن هذه الأحلام تبددت مرة تلو أخرى.

عودة ملايين اللاجئين السوريين إلى وطنهم في المدى القريب تبدو مستبعدة، في وقت تفاقم تدهور ظروفهم المعيشية بسبب وباء كورونا (أ ب)

في عام 2019، التقيت محمد وزوجته منى، وهما لاجئان سوريان في مصر. كان أملهما كأمل 5.6 مليون لاجئ سوري ما زالوا في المنطقة، هو أن تنتهي الحرب “قريباً.”

لكن تلك الأحلام كانت تتحطم مرة تلو أخرى. بعد عشر سنوات من تحول التظاهرات السلمية التي اندلعت في عام 2011 إلى صراع شامل – وإلى أكبر أزمة نزوح في عصرنا – لا يزال السلام الدائم أمراً بعيد المنال. ولقد طال أمد هذا الصراع إلى ما يقرب الآن ضعف المدة التي استغرقتها الحرب العالمية الثانية.

فقدت منى ساقها في انفجار، وأصيب محمد بشظية في ظهره، ما جعله يعاني من آلام مستمرة. ونتيجة لذلك، أصبحا يعتمدان على ابنهما عمران، الذي كان يعمل كصبي توصيل لمدة 11 ساعة في اليوم، ستة أيام في الأسبوع – شاب يبلغ من العمر 14 سنة يُعيل والديه وإخوته.

كانت العائلات السورية التي التقيتها في لبنان والأردن ومصر، من خلال مفوضية اللاجئين، تتقاسم الأمل نفسه في الشروع في إعادة بناء حياتهم. كان معظمها يريد العودة، لكن الظروف في سوريا تعني أن هذا الأمر محفوف بمخاطرة كبيرة في الغالب.

ومع ذلك، فإن الحلول المقدمة إلى ملايين اللاجئين الذين ما زالوا منسيين- بالإضافة إلى 6.7 مليون نازح داخل سوريا – تبدو ضئيلة، في وقت تفاقمت ظروفهم المعيشية بسبب جائحة كورونا.

وعلى الرغم من التضحيات التي تحّملتها المجتمعات في جميع أنحاء العالم خلال فترة الوباء، إلا أنه يبنغي التفكير في الـ 20.7 مليون لاجئ في العالم الذين تُشرف عليهم المفوضية، ويعيش معظمهم في بلدان ذات الدخل المنخفض. بالنسبة لهم، أضِيفت حالة الطوارئ المتعلقة بكوفيد-19 إلى حالات طوارئ كانوا يقبعون فيها سلفاً. ولقد أدى ذلك إلى تفاقم ظروفهم الهشة، حيث فقد الكثيرون وظائفهم وأصبحوا لا يعرفون من أين تأتي وجبتهم التالية. ويعيش معظمهم في ملاجئ غير مناسبة و رديئة، ويشعرون بأنهم أقل أمناً من أي وقت مضى. حتى قبل الوباء، كان أكثر من ثلث الأطفال اللاجئين السوريين في سن الدراسة لا يحصلون على التعليم.

في هذا الصدد، أظهرت دراسة حديثة أجرتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والبنك الدولي أنه منذ ظهور كوفيد -19، ربما سقط في الفقر ما يقرب من مليون لاجئ سوري، إلى جانب 4.4 مليون فرد من المجتمعات المضيفة لهم في الأردن ولبنان وإقليم كردستان العراق. في لبنان، يعد الوضع مزمناً، حيث يعيش تسعة من كل 10 لاجئين سوريين حالياً في فقر مدقع، مقارنة بـ 55 في المئة في عام 2019. وفي داخل سوريا، يعيش ثمانية من كل 10 أشخاص تحت خط الفقر.

تظهر هذه الإحصائيات أن السوريين بحاجة إلى المساعدة أكثر من أي وقت مضى. في عام 2021، ستحتاج الجهات الفاعلة في المجالين الإنساني والإنمائي إلى 5.8 مليار دولار أميركي (4.1 مليار جنيه إسترليني) لإغاثة اللاجئين في المنطقة. هناك أيضاً أكثر من 4.8 مليون شخص محتاج داخل المجتمعات المحلية التي قامت بإيواء اللاجئين. وفي العام الماضي جمعت حملة التبرعات 53 في المئة فقط من مبلغ التمويل المستهدف، أي أقل من السنوات السابقة.

كان محمد ومنى من بين القلائل المحظوظين الذين تمكنوا من الحصول على إعادة التوطين في أيرشاير، بإسكتلندا منذ عام تقريباً. وتساعد إعادة التوطين على ضمان حماية أولئك الذين قد تكون حياتهم في خطر أو الذين لديهم احتياجات محددة لا يمكن تلبيتها في البلد الذي طلبوا فيه الحماية.

إنها طريقة ملموسة يمكن من خلالها للمجتمعات الميسورة، بخاصة تلك التي تؤكد أهمية التضامن الدولي، أن تساعد في تقاسم عبء أزمة اللاجئين، بدلاً من الابتعاد عنها.

لقد شهدت فترة الوباء انخفاضاً في إعادة التوطين إلى مستوى قياسي. ومنذ ذروة الطلبات في عام 2016، حدث انخفاض كبير. ففي السنة الماضية، تمت إعادة توطين 22770 فقط من خلال المفوضية، من أصل 1.44 مليون لاجئ على مستوى العالم.

في المملكة المتحدة، تم تعليق إعادة التوطين في مارس (آذار) 2020، ولم يصل إليها إلا عدد قليل منذ ذلك الحين. وانتقلت العائلات التي صنّفتها المفوضية الأممية على أنها الأكثر عرضة للخطر إلى بلدات ومدن في جميع أنحاء بريطانيا بموجب خطة إعادة التوطين. تخيل الانتقال بحياتك إلى ثقافة جديدة. إنها ليست عملية سهلة، خاصة بالنسبة لكبار السن. لكن ما أدهشني هو عدد الأشخاص الذين كرّسوا وقتهم للترحيب بهم ومساعدتهم حتى يقفوا على أقدامهم مجدداً. لقد بذل المجتمع المدني مجهوداته وأعتقد أن روح الترحيب في بريطانيا لم تتأثر على الرغم من التحديات العديدة الحالية، حيث لم ينس الكثيرون محنة اللاجئين ويريدون الاستمرار في تقديم المساعدة.

في بريطانيا، تمكّنت من إعادة التواصل مجدداً مع مها وطلال، اللذين التقيتهما سابقاً في لبنان، حيث كانا يعيشان في بناية غير آمنة وغير قادرين على العمل. وبعد إعادة توطينهما في المملكة المتحدة، أصبحا يعيشان حياة مزدهرة. كانت إعادة التوطين بمثابة شريان حياة لهذه العائلة، التي كانت مصممة على إنجاحها، حيث بذلا قصارى جهدهما لتعلم اللغة الإنجليزية والعثور على عمل، وبناء مستقبلهما، وخدمة المجتمع الذي ساعدهما. لقد أظهرا أن إعادة التوطين وسيلة ناجحة في بث الأمل والتمكين.

دعونا نأمل في أن تظهر حكومة المملكة المتحدة التزاماً واضحاً بمواصلة وتوسيع مخطط التوطين خلال السنوات المقبلة.

إننا بحاجة إلى أن نظهر للسوريين بأن العالم لم ينسهم. أن بلادهم سيُعاد بناؤها، لكن حتى يحدث ذلك، يمكننا جميعاً أن نحاول مساعدة طالبي اللجوء واللاجئين في مجتمعاتنا، ودعم السلطات المحلية والمتطوعين، أو التبرع للجمعيات الخيرية التي تساعدهم.

(ديفيد موريسي ممثل بريطاني يدعم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين منذ عام 2014 وكان سفيراً للنوايا الحسنة منذ مارس 2017. يمكنك زيارة www.unrefugees.org.uk لدعم اللاجئين والنازحين).

© The Independent

——————————

حسن عبدالعظيم: الحل معطل وندعو لمقاطعة الانتخابات

حوار طارق صبح ومحمد حاج بكري

قومي ويساري، آمن بالحركة الناصرية منذ بداياتها، ونشط في أوساط الحركات اليسارية القومية، عارض الانفصال بين سوريا ومصر في العام 1961، وانضم على “حركة الوحدويين الاشتراكيين”، ثم تركها وانضم إلى “الاتحاد الاشتراكي العربي” الذي أسسه الدكتور جمال الأتاسي من عدة أحزاب ناصرية في العام 1964.

ولد حسن عبد العظيم في العام 1932 في قرية حلبون التابعة لمنطقة التل في ريف دمشق الشمالي، حصل على إجازة في الحقوق والمحاماة من جامعة دمشق في العام 1957، وعمل في بداية حياته كمدرس، ثم مارس مهنة المحاماة بعد تخرجه من كلية الحقوق.

يعتبر أحد أبرز أعضاء حزب “الاتحاد الاشتراكي العربي” بعد مؤسسه الدكتور جمال الأتاسي، شغل منصب نائب الأمين العام في العام 1985، ثم أميناً مساعداً في العام 2000، ليتم انتخابه أميناً عاماً بعد وفاة الأتاسي في نيسان من العام 2000.

نشط حسن عبد العظيم ضمن صفوف “التجمع الوطني الديمقراطي”، الذي تألف من عدة أحزاب معارضة، وأصبح الناطق الرسمي باسمه في أيار من العام 2000، وواصل نشاطه السياسي، فكان أحد الموقعين على “إعلان دمشق”، وأحد أبرز الوجوه السياسية المعارضة فيما عُرف باسم “ربيع دمشق”، عقب وفاة حافظ الأسد.

بعد اندلاع الثورة السورية في آذار من العام 2011، ساند الثورة السورية، وشغل منصب المنسق العام لـ “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي”، التي ضمت بين صفوفها معارضين بارزين، جزء كبير منهم معتقلون ومغيبون قسرياً حتى الآن.

تنبأ حسن عبد العظيم منذ بدايات الثورة أن تفاقم عنف النظام وتسلح الثورة سيؤديان إلى حرب أهلية أو صراع طائفي، وشدد على أهمية الحفاظ على الطابع السلمي للاحتجاجات، إلا أنه اعتبر أن من حق العسكريين في جيش النظام الانشقاق عنه والقتال ضده، لكنه عارض تطوع المدنيين وحملهم للسلاح.

لم يعارض بداية الحوار مع النظام على أساس التغيير الديمقراطي، إلا أنه ومنذ تموز من العام 2011 رفض أي حوار أو لقاء سياسي أو أي من أشكال المشاركة في الحكم في ظل تصاعد العنف واستمرار قتل المدنيين.

لطالما شدد حسن عبد العظيم على أن المعارضة السياسية لا تقتصر على فئات دون غيرها، بل هي متعددة الأطراف، ولابد من توحيد الجهود، وانتقد محاولات تفضيل الدول الغربية لبعض التيارات السياسية على غيرها، معتبراً أن ذلك يعني “استبدال الاستبداد باستبداد آخر”.

من العاصمة دمشق، حيث يقيم المحامي والمعارض السياسي حسن عبد العظيم، كان لنا معه هذا الحوار:

ماذا يعني أن تكون معارضاً وضمن تيار سياسي وتقيم في دمشق اليوم؟

يمكن القول إن هذا تأكيد على القدرة على الصمود ومشاركة من بقي من السوريين المعاناة والحصار والاعتقال والتعذيب وانقطاع الكهرباء وفقدان موارد التدفئة والغلاء والبلاء والوباء وفقدان المواد الغذائية وكل احتياجات العيش الكريم الأساسية، وهذا واقع يعيشه المعارضون والموالون على حد سواء.

هيئة التنسيق تدعو لمقاطعة الانتخابات ترشيحاً وانتخاباً

ما موقف هيئة التنسيق اليوم من الانتخابات الرئاسية التي سيجريها بشار الأسد قريباً؟

“هيئة التنسيق الوطنية” تعتبر هذه الانتخابات شكلية، وموقفنا منها هو المقاطعة، ودعوة الشعب لرفض المشاركة ترشيحاً وانتخاباً، وذلك لأنها تقطع الطريق على الحل السياسي التفاوضي وفقا لبيان جنيف 1 في حزيران من العام 2012، وللقرارات الدولية ذات الصلة، وأهمها القراران 2118 في العام 2013، و2254 في العام 2015.

هل يمكن اعتبار إجراء تلك الانتخابات موقفا من النظام وروسيا لعرقلة الحل السياسي في سوريا؟

طبعاً، إجراء الانتخابات الرئاسية من قبل النظام تعني رفض الحل السياسي التفاوضي، وتجاهل القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 2254، ويشمل ذلك بالضرورة الموقف الروسي، إذا كان موافقاً على إجرائها ونتائجها.

الحل السياسي التفاوضي من خلال اللجنة الدستورية معلق ومعطل

هل ترى انفراجاً قريباً في مسار اللجنة الدستورية، أم أنها باتت كمن “يطهو الحصى” كما يقول البعض؟

حتى اليوم لم يحدث أي انفراج في اللجنة الدستورية التي اقترحتها موسكو على مدى فترة لا تقل عن عام ونصف، لأن الضغط الروسي على النظام غير كافٍ، وسيتضح الموقف الروسي أكثر بعد جولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على الدول الخليجية.

هل تقتصر العقبات أمام اللجنة تعطيل النظام لها، أم هناك عقبات أخرى؟

تعطيل النظام لعمل اللجنة الدستورية هو العقبة الرئيسية، ولكن في الوقت ذاته ثمة أسباب أخرى؛ منها تراخي المجموعة الدولية تجاه القضية السورية، والموقف الأميركي والروسي والمجتمع الدولي وتغاضيه عن جرائم النظام وانتهاكاته لحقوق الإنسان.

هل هناك عدم توافق دولي حتى اللحظة على الرؤية الأخيرة لمشروع الحل السوري؟

عندما تم التوافق الأميركي الروسي على إلزام النظام بتسليم السلاح الكيماوي قبل نحو ثمانية سنوات، اضطر النظام إلى تسليمه خلال أيام، غير أن التوافق الدولي، وبخاصة الأميركي الروسي لم يتحقق حتى اليوم بشكل جدي، ويبقى الحل السياسي التفاوضي من خلال اللجنة الدستورية معلقاً ومعطلاً.

إلى أين وصلت الأزمة الداخلية في “هيئة التفاوض السورية”؟

لا تزال “هيئة التفاوض السورية” معطلة بسبب عدم حل مشكلة المستقلين، وعدم حدوث اختراق يعيد لها وحدتها ودورها، كما تلعب الخلافات الإقليمية دوراً يمنع أطراف الهيئة من الاتفاق والتوافق.

من هي الأطراف التي تتدخل في خلق الأزمة داخل الهيئة؟

تركيا طرف أساسي في عدم إمكانية تحقيق الحل، من خلال الضغط الذي تمارسه على الائتلاف للتمسك بالأكثرية التي تفوضه لاتخاذ القرارات والتوجيهات في هيئة التفاوض مع المستقلين السابقين وممثلي الفصائل المقيمين في تركيا، في مقابل التنافس مع وزارة الشؤون الخارجية للسعودية ومصر العربية والإمارات العربية المتحدة والأردن في قضايا المنطقة العربية في العراق ولبنان وسوريا وليبيا.

غير أن تطوراً إيجابياً جديداً في الموقف التركي حصل في لقاء الدوحة، خلال زيارة وزير الخارجية الروسي الأخيرة بالتنسيق مع المجموعة العربية يتعلق بالحل في سوريا، وقد يكون مفتاحاً لحل الأزمة، ويضع نهاية سعيدة لها في الذكرى العاشرة للثورة.

ما السبيل لحل الأزمة داخل الهيئة؟

توفر استقلالية القرار الوطني، والنأي عن الخلافات السياسية في “هيئة التفاوض السورية” ككيان تفاوضي، يهتم بإعداد الإصلاح الدستوري وإعداد مشروع الدستور، وتشكيل هيئة الحكم غير الطائفي، وتوفير البيئة الآمنة والمحايدة للاستفتاء على الدستور، والانتخابات الرئاسية والتشريعية، وقضايا الأمن والإرهاب، لا أن تكون كياناً سياسياً له اصطفافات سياسية مع هذه الدولة أو تلك.

هل ترى أن مشروع الهيئة بات يشكل عبئاً حقيقياً على الدول التي سعت لتشكيله؟

تحرص المجموعة الدولية على “هيئة التفاوض السورية” التي شكلتها، وعلى وحدتها ككيان تفاوضي، وعلى مكوناتها أن تنجز حلاً لمشكلة المستقلين، يعيد التوازن للهيئة بين الدور الإقليمي التركي الإيراني والدور العربي ودور الأمم المتحدة والمبعوث الدولي والمفوضية الأوروبية، والحرص على مبدأ التوافق في الإجراءات والقرارات، وحل الخلافات والإشكالات عبر السلة الواحدة المتكاملة ورفع نسبة التصويت إلى 60 %.

الموقف الأميركي صار أكثر توازناً وتوزيع مناطق النفوذ سيؤدي للتقسيم

كيف تقرأ موقف الإدارة الأميركية الجديدة من الملف السوري؟

موقف السياسة الأميركية تجاه الملف السوري صار أكثر توازناً، والتزاماً بالعمل المؤسسي والقرارات الدولية، بدلاً من التغريدات والقرارات المفاجئة، والتخبط العشوائي للرئيس السابق دونالد ترامب.

نحن أمام ثلاثة تقسيمات حالية للأرض السورية، (مناطق سيطرة النظام، مناطق سيطرة المعارضة، مناطق سيطرة قسد)، هل تعتقد أننا سنشهد تغييراً في معادلة تلك القوى قريباً؟

أستطيع القول إنه يضاف إلى المناطق الثلاث منطقة الوجود الأميركي ومنطقة الوجود التركي ومنطقة إيران وميليشياتها المذهبية، ومنطقة الغارات العدوانية الإسرائيلية على الأراضي السورية، ويشكل استمرار السيطرة الخارجية على هذه المناطق لفترة طويلة الوطن السوري للتجزئة والتقسيم، خاصة أنه يترافق مع تعثر الحل السياسي.

هل ينبئ تدهور الوضع الاقتصادي داخل سوريا بحراك مستقبلي من أي نوع؟

مما لا شك فيه أن تدهور الوضع الاقتصادي والمالي، وانخفاض سعر العملة السورية، وارتفاع الأسعار بشكل متواصل يخرج عن طاقة احتمال الناس وإمكاناتهم المادية، بدأ يثير عوامل الغضب والتحدي ويحرك عوامل التمرد حتى لدى الموالين.

أين المعتقلون اليوم في مفاوضاتكم السياسة؟

قضية المعتقلين وسجناء الرأي ماثلة في مطالبنا باستمرار، في جميع لقاءاتنا وزياراتنا، وفي مقدمتهم معتقلو قياديي الهيئة عبد العزيز الخير وإياس عياش ورجاء الناصر وماهر طحان وخليل معتوق وغيرهم، إلا أن النظام لم يستجب لهذه المطالب، ولا يزال يرفض الإفراج عنهم تنفيذاً للقرار 2254، الذي يلزمه بذلك دون تفاوض.

من وجهة نظرك، هل باتت المعارضة مسؤولة، كما النظام، عن تأخر الحل في سوريا؟

المعارضة ليست مسؤولة عن تأخر الحل في سوريا، ولا تتحمل مسؤولية تعطيله، المسؤول الأول هو نظام الأسد، وكذلك عدم جدية حلفاء النظام والإدارة الأميركية.

وندعو، بعد عشر سنوات من الحرب والتدمير والقتال، إلى أن تتخذ القوى الإقليمية والدولية موقفاً جدياً من الدفع بالحل السياسي.

تلفزيون سوريا

—————————–

عشر سنواتٍ من الثورة بعيونٍ سوريةٍ

ساهم في هذا الملف:

    مرح البقاعي (رئيسة إعلان دمشق للتغيير الوطني والديموقراطي سابقاً)

    نصر الحريري (رئيس الائتلاف الوطني السوري)

    محمد سرميني (مؤسس ومدير عام مركز جسور للدراسات)

    عبد الرحمن مصطفى (رئيس الحكومة السورية المؤقتة)

    برهان غليون (رئيس المجلس الوطني السوري سابقاً)

    سليم إدريس (وزير الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة)

    جورج صبرا (رئيس المجلس الوطني السوري سابقاً)

    عبد الباسط سيدا (رئيس المجلس الوطني السوري سابقاً)

    فضل عبد الغني (مؤسس ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان)

مدخل

انطلقت الثورة السورية في منتصف آذار/مارس 2011 بشكل سلمي، حيث عمّت المظاهرات غير المسبوقة أنحاء معظم المدن السورية، لكن النظام قام بمجابهة هذه المظاهرات بصورة مفرطة في العنف، حيث استخدم الرصاص الحي منذ الأيام الأولى للثورة، قبل أن يتحول إلى استخدام كافة الأسلحة المتوسطة والثقيلة التي يملكها، بما في ذلك سلاح الجو وحتى سلاح البحرية، جنباً إلى جنب مع اعتقالات تعسفية شملت عشرات الآلاف من الأشخاص على مدى السنوات التالية، والتعذيب المفضي للموت.

أدّى عنف السلطة المفرط إلى دفع المحتجين تدريجياً للبحث عن آليات لحماية أنفسهم، فيما دفع هذا العنف عدداً متزايداً من عناصر الجيش نفسه للانشقاق والانضمام للاحتجاجات، والتي بدأت تتحول إلى شكل مسلح.

وأفضى هذا النزاع المسلح خلال عشر سنوات إلى تحويل سورية إلى دولة فاشلة، بعد أن تقسّمت إلى عدد من مناطق السيطرة على مدار هذه الفترة، إلى أن استقرت نسبياً منذ عام 2018 على ثلاث مناطق رئيسية، حيث يُسيطر النظام وحلفاؤه الأجانب على حوالي ثلثي الأرض، فيما تُسيطر قوات سورية الديموقراطية على حوالي ربع الأرض، وتُسيطر فصائل المعارضة على الباقي.

ويستطلع هذا الملف آراء عدد من الشخصيات السورية الفاعلة خلال السنوات العشرة الماضية فيما وصلت إليه القضية السورية، والمآلات التي يرونها في المرحلة المقبلة.

لقراءة المادة بشكل كامل يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية (اضغط هنا)

https://www.jusoor.co/public/content_images/users/1/contents/1385.pdf

——————————-

الانتفاضات العربية بعد 10 سنوات: السعي وراء الشرعية/ د. ايلي ابو عون

بعد عقد من الزمان، ما زالت الحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون مستوى التوقعات الثورية للشعب.

قبل عشر سنوات، أشعلت موجة من الاضطرابات غير المسبوقة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث اتخذ المواطنون موقفًا ضد الأنظمة ذات التاريخ الطويل من الاستبداد والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي المهترئ. منذ ذلك الحين، كانت هناك وفرة من التحليلات المتعلقة بتأثير الانتفاضات العربية على بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لكن هناك عنصرًا حاسمًا في التفكير المتعمق مفقودًا: لماذا لم تنجح حكومات ما بعد 2011 – الانتقالية والمنتخبة – في تحقيق توقعات شعوبها؟

الإلمام بالجوانب الفنية

أكد المجتمع الدولي والعديد من السياسيين المحليين وقادة المجتمع المدني وغيرهم على أهمية الجوانب الفنية في عملية الانتقال السياسي فقد ظلّ التركيز إلى حد كبير على جوانب مثل الانتخابات، وبناء قدرات الهيئات التشريعية، وتعزيز المجتمع المدني، أو إصلاح قطاع الأمن، من بين أمور أخرى.

في ليبيا ما بعد القذافي، على سبيل المثال، كان المجتمع الدولي حريصًا على إجراء الانتخابات، لكن النسيج الاجتماعي للبلاد كان ضعيفًا لدرجة أن مثل هذه الخطة أدت في الواقع إلى انقسام كامل بين المناطق الشرقية والغربية من البلاد في عام 2014.

إن الانتخابات والأمور الفنية الأخرى هي بلا شك عناصر ضرورية لانتقال سياسي ناجح. ولكن في ظل غياب عقد اجتماعي جديد ومكرّس بين الدولة والشعب، وهو العقد الذي يمنح شرعية كافية لهياكل الحكم الناشئة، فإن هذه الإجراءات الفنية توضع على أساس هش. في حين أن هذه الهياكل ضرورية، إلا أنّ الافتقار إلى الثقة يجعلها عديمة الفائدة تقريبًا.

من شأن عقد اجتماعي جديد أن يوجه عمليات تبادل المسؤوليات والتوقعات المنتظرة بين الفرد والدولة. ينقل الفرد سلطته /سلطتها إلى ممثل ينوب عنه مقابل ضمان حماية حقوقه. مثل هذه العلاقة تتطلب الثقة والشرعية حيث دول المنطقة تعاني من عجز كبير في كليهما.

ليس من المستغرب إذاً أنّ معظم البلدان التي شهدت انتفاضات عام 2011 قد دُمِّرت بسبب الصراعات العنيفة التي طال أمدها، أما الدول الباقية فهم يمرون بنوع مختلف من الأزمات الوجودية – إما سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية بطبيعتها.

الأسباب الجذرية لا تزال تغذّي المظالم

كانت انتفاضات عام 2011، في نهاية المطاف، مخيبة للآمال إلى حد كبير لأن الأسباب الجذريّة لمعظم المظالم التي غذّت الاضطرابات لم تُعالج. لسوء الحظ، فإن القضايا المستشرية التي ابتليت بها المنطقة، مثل الفساد وعدم المساواة وانتهاكات حقوق الإنسان وعدم القدرة على إدارة واستيعاب مختلف السكان بشكل صحيح، لم يصحّحها تغيير النظام وحده.

لذلك، على الرغم من التحولات السياسيّة، خلقت هذه العوامل الأساسية فجوة واسعة ومخيبة للآمال بين توقعات الناس للازدهار وإمكانية تحقيقه الفعلي. بعد فوات الأوان، فقد أُسيئ الفهم فيما يتعلق بالصلة بين الديمقراطية والازدهار أو أنّه تمت المبالغة فيه. قبل عشر سنوات، كانت معظم القوى الدافعة وراء الانتفاضات ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية – أكثر من كونها صرخات حرية وحقوق سياسيّة – مما جعل تدهور توفير الخدمات العامة والصعوبات الاقتصادية بعد عام 2011 أكثر إحباطاً.

إن أولئك الذين يشغلون مناصب تم انتخابهم لها أو بصفة انتقالية يضرّون بالقضايا التي تولوا أمر رعايتها، فهم غير قادرين اليوم على الإجابة على الأسئلة الملحة حول الوعود التي لم يتم الوفاء بها. وبدلاً من ذلك، يلجأ معظمهم إلى الخطاب السياسي الفارغ وإجراءات التخفيف التجميلية لكسب الوقت.

على سبيل المثال، في تونس – التي غالبًا ما تُعتبر النجم الوحيد الساطع لانتفاضات 2011 – غالبًا ما تندلع الاضطرابات في منطقة الكامور الغنية بالموارد. يطالب السكان بإعادة استثمار عائدات الموارد المستخرجة من المنطقة في مشاريع تنموية للمدينة الجنوبية المهمّشة، وغالبًا ما تتحول الاحتجاجات إلى توتر وعنف. وبدلاً من تقديم خطة تنموية واقعية تراعي مطالب السكان والقيود المالية للبلاد، قام الوزراء المتعاقبون بزيارة المنطقة لإلقاء خطابات نبيلة واعدة لإرضاء السكان.

في حالات أخرى، عند مواجهة استياء شعبي عام، ألقى الحكام الناشئون وداعموهم الدوليون باللوم على الآخرين. حيث اتهم العلمانيون الإسلاميين والعكس صحيح، وكلاهما يواصل إلقاء اللوم على الأنظمة السابقة أو القوى الإقليمية والدولية، ففي سوريا نجد أن بشار الأسد وخلال الأعوام المتعاقبة يردد نفس العبارات التي تلقي باللوم على الولايات المتحدة وحلفائها في طول مدة الحرب ووحشيّتها.

لقد أفسح هذا الإحباط الطريق ببطء إلى الحنين المتصاعد إلى حقبة ما قبل عام 2011، وفجأة أصبحت الشخصيات السياسية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأنظمة المخلوعة تستحق السلطة الآن. في كثير من الحالات، ذهب بعض الناس إلى حد المطالبة صراحةً بنهوض النظام الذي كان قد أطيح به سابقاً من رفاته ففي ليبيا مثلاً، هناك شعبية سياسية متزايدة لسيف الإسلام القذافي، نجل الدكتاتور الليبي المخلوع. وبالنسبة للبعض في سوريا، فإن حقيقة نظام الأسد لا تبدو بمثل قتامة وسوداوية الصراع الدموي الذي لا ينتهي.

في تونس، تستقطب شخصيات سياسية مثل عبير موسي – زعيمة حزب الدستور الحر الذي غالبًا ما يُتهم بمحاولة إحياء النظام السياسي الذي كان قائماً قبل عام 2011 – شريحة واسعة بشكل مفاجئ من السكان.

التقليل من شأن مبدأ “العمل المضني” لتحقيق الديمقراطية

في أعقاب الانتفاضات، استخف العديد من المواطنين بالمسؤولية الشخصية والتضحية اللازمة لتحقيق تحول سياسي واجتماعي واقتصادي ناجح. فقد فشل غالبية الناس في المنطقة في فهم أن المستقبل الأفضل لا يتعلق فقط بإسقاط النظام الشرير أو استجرار الدعم الدولي، بل يتعلق أيضاً بتوليد مستقبل أفضل من داخل البلد. في التحول السياسي، خاصةً الذي كان داميًا وشاقًا، يميل جزء كبير من التركيز العالمي إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، وبالتوازي مع ذلك التحول السياسي، هناك عمل يجب القيام به على المستوى الأعمق للقيم الاجتماعية لعلاج الأمراض السامّة للتكتيكات السياسية الإقصائية التي تؤدي إلى مسلسل العنف.

في العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان ودول أخرى في المنطقة، تبنّى ضحايا الأنظمة القمعية – بما في ذلك حركات الاحتجاج الناشئة أو مجموعات الأقليات – نفس الممارسات السياسية والاجتماعية التي اشتكوا منها، بما في ذلك العنف السياسي في بعض الحالات. نفس المواطن/المواطنة الذي يشكو من ممارسات فاسدة في مكان ما، من المحتمل أن يقبل أن يُمنح امتيازات – عينية أو نقدية – في مهنته الخاصة، أو في حالة توليه وظيفة في الخدمة العامة، عند القيام بها. لذلك، فإن غالبية الناس في المنطقة يريدون من الآخرين فقط أن يلتزموا تجاههم بتطبيق نماذج حسن التعامل والشفافية والامتثال والأداء الفعال في تنفيذ المهام ولا ينظرون إلى الطريق المعاكس المتمثل بالتزامهم هم تجاه الآخرين.

يتطلب المستقبل الأكثر سلامًا أن يلتزم المواطنون، على المستوى الفردي، بنفس المبادئ والممارسات التي ينادون بها ويرفضون الاعتقاد السائد والقصير النظر في المنطقة القائل بأنّه من المقبول السعي وراء المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية من خلال طرق غير تقليدية – بما في ذلك الأجندات الإقصائية والعنيفة في بعض الأحيان.

من أين المفر؟

يتمثل جوهر الفشل الأساسي لانتفاضات 2011 في أنه على الرغم من وجود بعض التحولات السياسية على المستوى التقني، إلا أن أياً منها لم يكن مصحوباً بعقود اجتماعية أعيد تصورها بين الدول والمواطنين، مما أدى إلى أزمة شرعية للحكومات الناشئة. وقد ترك هذا الخلل المنطقة اليوم تعاني من ضعف التماسك الاجتماعي، وتدهور الظروف المعيشية، وتفاقم عدم الاستقرار السياسي، والمزيد من الفوضى العامة أكثر مما كانت عليه قبل عام 2011, وهناك خطر كبير من أن تتفاقم هذه القضايا في المستقبل القريب.

يشير تقرير حديث صادر عن منظمة أوكسفام إلى أن 45 مليون شخص إضافي في المنطقة قد يتعرضون للفقر نتيجة للوباء، وأن حوالي 1.7 مليون سيفقدون وظائفهم في العامين المقبلين. نظرًا لأن الملايين سيكون لديهم وصول أقل إلى الموارد، فهناك خطر متزايد من الاضطرابات الاجتماعية وعقبات كبيرة أمام إجراء الإصلاحات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها. يبدو أن الازدهار الذي يواصل الكثيرون في المنطقة السعي إليه أصبح بعيد المنال.

في مثل هذا السياق من الهشاشة الشديدة، يجب على الاستجابة أن تتجاوز المساعدة المالية أو الفنية التقليدية. لكي يضفي العقد الاجتماعي الشرعية على سلطة الدولة، يجب أن يعكس الإرادة العامة للشعب، ويخدم مصالحهم الجماعية، ويضمن رفاهيتهم العامة.

على الرغم من أن العقد الماضي كان مخيبًا للآمال، إلا أن الفوضى الحالية لا يتوجب أن تكون مصير المنطقة. في الواقع، تشير الموجة الثانية من الانتفاضات التي اجتاحت المنطقة العام الماضي، من بيروت إلى بغداد إلى الجزائر العاصمة، إلى أنه لا يزال هناك مستوى معين من التأييد لقوة التعبئة الجماهيرية. قبل كانون الأول (ديسمبر) 2010، لم يكن يُنظر إلى فكرة تحدي من هم في السلطة كخيار يمكن أن يولد أي نتيجة إيجابية. لقد أثبتت الانتفاضات العربية أن هذا غير صحيح. الآن، تواجه المنطقة تحديّاً هائلًا آخر، لكنه ممكن، وهو: بناء أسس الحكم الشرعي.

الناشر: معهد الولايات المتحدة للسلام

الرابط: اضغط هنا 

https://www.usip.org/publications/2021/02/arab-uprisings-10-years-later-pursuit-legitimacy

—————————–

سُوريا.. عَقدٌ من الثّورةِ والمأساة/ رانيا مصطفى

مع اقتراب موعد الذكرى السنوية العاشرة على اندلاع الاحتجاجات السورية، ويبدو المشهد اليوم شديد المأساوية؛ فالثورة انتهت منذ أن تَعسْكَرَت وتَطيّفَت وتأسْلَمَت وارتهنت للدول الداعمة، وبات السوريون خارج دائرة الفعل منذ سنوات، وبات النهوض مجدداً شديد الصعوبة، مع وجود احتلالاتٍ متعددة تجثم فوق الأراضي السورية وتتقاسمها إلى مناطق نفوذٍ ذات حدود، انتهت من رسمها منذ قرابة العام، بعد صراعاتٍ دامية عبر وكلاءٍ سوريين متخاصمين، بطابعٍ مليشياوي.

لم ينضج الاتفاق على الحل السياسي بين الدول الفاعلة في الشأن السوري، فكل طرف غير مستعد للتنازل عن مصالحه؛ فروسيا ضمنت السيطرة على الساحل السوري، حيث الموانئ، وحيث حصة سوريا من نفط شرق المتوسط وغازه، وسيطرت على أغلب المطارات، وتريد إكمال سيطرتها على الطرق الرئيسية، بانتظار إيفاء تركيا بتعهداتها حول اتفاق موسكو العام الماضي بخصوص إدلب وفتح الطريق إم-4، فيما فشلت محاولاتها في السيطرة على تتمة الطريق نفسه باتجاه الحدود العراقية شرق الفرات، مع المنع الأميركي لهذا المسعى، ولطموح روسيا باستعادة النظام السيطرة على منابع الطاقة شرق الفرات.

تستمر الولايات المتحدة بعرقلة مساعي الروس حول فرض حلٍّ سياسي منفرد، بإبقاء نظام الأسد، وتتشدد في سياسة العقوبات على رجالات النظام، ومصرفه المركزي، وعلى من يدعمه من دول وشركات، عبر قانون قيصر، وبالتالي تمنع انطلاق إعادة الإعمار دون حل سياسي، وتستمر في دعم حلفائها في قوات سوريا الديمقراطية لمحاربة تنظيم داعش؛ وهي ترغب في التهدئة، لكن حلّ الملف السوري ليس في أولوياتها، مع تركيزها على نشر جيوشها في المحيط الهادئ وفي أوروبا، وتقنين هذا الانتشار في الشرق الأوسط، حسب من ما ورد في وثيقة البيت البيض مؤخراً.

تركيا مهتمة ببناء كونتون شمالي سوريا، وترسيخ تواجدها شرق الفرات بين تل أبيض ورأس العين، وإحداث تغيير ديمغرافي لضمان ولاء الفصائل الإسلامية المتحكّمة في الشريط الحدودي.

وعلى ذلك، تسعى لدمج هيئة تحرير الشام، التي تضم جبهة النصرة المصنفة إرهابية، مع الجبهة الوطنية للتحرير في إدلب؛ وهذا يتوافق مع مساعي زعيم هيئة تحرير الشام لتغيير صفتها الإرهابية، والظهور بمظهر معتدل، ومحاربته التيارات الأكثر تشدداً، وأهمها حراس الدين.

إسرائيل مهتمة بالتنسيق مع روسيا حول جعل منطقة الجنوب السوري خالية من تواجد مليشيات إيران. تدرك الأخيرة أن سوريا ليست أرضاً خصبة تماماً لنشر التّشيّع، رغم محاولاتها هنا وهناك، وتدفع مبالغ كبيرة لتجنيد مليشياتها لترسيخ تواجدها، وذلك لكسب أوراق تلزمها للتفاوض مع المجتمع الدولي حول ملفها النووي؛ وتركيزُها الأهم على الممر البري من البوكمال على الحدود العراقية، وحتى الحدود اللبنانية التي تسيطر عليها كلياً، لضمان استمرار الدعم لحليفها اللبناني، حزب الله.

النظام يتصرف على أنه منتصر في معركته ضد الشعب السوري، ويهدّد بنيّته استعادة إدلب وشرق الفرات، وهو عاجزٌ عن إطعام السوريين الواقعين تحت حكمه، ومعظم مناطق الثروات النفطية والزراعية والغاز خارجة عن سيطرته، والليرة تهوي إلى قيمة 4000 ليرة مقابل الدولار الواحد، ولا يملك مصرفه المركزي القدرة على التدخل مع نفاذ احتياطيه من القطع الأجنبي (700 مليون دولار في 2016، حسب تقديرات البنك الدولي).

وهو عاجز عن اجتذاب القطع الأجنبي بسبب عقوبات قانون قيصر، خاصة على قطاعات الطاقة والبناء؛ وسياساته الاقتصادية تعتمد على التجارة الحرة وليس الإنتاج، ويستمر في سياسة هدم ملامح العاصمة وذاكرتها، وتطويعها لمصلحة المافيات التي دعمته، ولا يملك من الحلول الاقتصادية غير سياسة التمويل بالعجز، عبر طباعة المزيد من الأوراق النقدية بكبسة زر. ورغم كل ذلك؛ يصرّ الأسد على المضي بانتخاباته الرئاسية بصورةٍ فجّة، من حيث انفصالها عن هذا الواقع.

ملفات إدانة النظام بارتكاب جرائم الحرب، ما زالت تلاحقُه قبيل انتخاباته الرئاسية، وهناك ضغوط أميركية- فرنسية- بريطانية مستمرة لدى مجلس الأمن لعدم الاعتراف بتلك الانتخابات، وحديث عن 900 ألف وثيقة حكومية جُمعت خلال سنوات الحرب وهرّبت إلى الخارج، تدين النظام بتلك الجرائم، وملف الكيماوي ما زال مثاراً وموضع خلاف مع روسيا، والولايات المتحدة مستمرة بفرض حزم عقوبات قانون قيصر، وربما هناك قوانين جديدة بهذا الإطار.

المعارضة السورية المكرسة، سقطت لدى جمهور الثورة، بعد ارتهانها لتركيا ولمسارات روسيا، منذ أستانة 2017، والموافقة على مناطق خفض التصعيد، ثم المصالحة، ثم المشاركة في مسار اللجنة الدستورية، كبديل روسي عن مسار التفاوض في جنيف.

هذا العجز السوري انتهى بمعارضين سوريين إلى العودة إلى خيار قديم حول تشكيل مجلس عسكري يحكم سوريا؛ هذا الحل الذي لا يحظى باهتمام الروس وبقية الدول الفاعلة في الملف السوري إلى الآن، لكنه يبدو مقبولاً لدى السوريين من كل الأطراف، رغم المغامرة من تسليم الحكم للعسكر، مع عدم وجود جسم سياسي مدني قوي ومدعوم شعبياً، يُفترض أن يقود المرحلة الانتقالية، لحصر مهمة العسكر في ضبط الأمن وإنهاء الحالة المليشياوية المنتشرة على الأراضي السورية.

ما يجري في سوريا مأساةٌ كبرى؛ فخسائر الحرب قُدرت بنحو 1.2 ترليون دولار، حسب تقرير لمنظمات دولية، وهناك 15 مليون لاجئ سوري مشتتون في أوروبا، أو في مخيمات في دول الجوار، ونسبة الفقر في الداخل السوري فاقت 90 بالمئة، ولا تصل المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، مع منع النظام وروسيا دخولها عبر المنافذ الحدودية الخارجة عن سيطرتهما، والمجتمع السوري بات أكثر تفككاً، حيث تتكرر مؤخراً ظاهرة انتحار الشباب السوري، مع غياب أي أفق للمستقبل.

هناك حقيقة وجب التوقف عندها، وهي أن السوريين بعد آذار 2011 ليسوا كقبله؛ فقد كُسرت في نفوسهم هالة القداسة التي أحاط النظام بها نفسه، مع أول صورة مزقوها للأسد الأب أو الابن، ما فتح العقول أمام التفكير والحلم، وظهور إبداعات في مجالات شتى لدى الشباب اللاجئين في أوروبا.

مؤخراً، صدرت محاكمة إياد غريب، الصف ضابط المنشق عن النظام، بالسجن أربعة سنوات ونصف، بسبب مشاركته في اعتقال سوريين تعرضوا للتعذيب، ورغم ما أثارته المحاكمة من مواقف متناقضة، ورغم رمزية أثرها، لكنها تشكّل خطوة وتمريناً لترسيخ مبدأ المحاسبة مستقبلاً؛ ولا يمكن أن يتحقق استقرار في المستقبل دون عدالة انتقالية، يتولاها قضاة سوريون، وفي دمشق.

—————————-

لنُبعث كطائر الفينيق من الرماد السوري/ آدم دريباتي

الخوف وجبتنا اليومية، نحن سوريّو الداخل. ما إن تفتح عينيك صباحاً حتى تجد أحدهم يحذرك من شتم الواقع والفساد ومسببيه والنظام ورجالاته وشبيحته وحتى حيواناته الأليفة. وتطول قائمة الحذر حتى تجد نفسك محصوراً بين أربعة جدران وصوتك يكاد لا يفارق حلقك من شدة الخوف. يحدثونك عن المعتقلات والأمن “البارحة اختفى فلان ضبوه”، “من يومين عبوا زلمي ع كازية الشاطئ”، “ما حدا رح يعرف وينك”… جمل كثيرة تسمعها وتخيفك. أمور لا تدري إن كانت تحدث حقاً أو هو وهم الخوف الذي زرعه النظام في قلوب الشعب أو مجرد دعاية من دعايات النظام لإرهابه وكم الأفواه كما اعتاد أن يفعل.

في بدايات الحرب كنت لا أزال أصغر من أن افهم السياسة، لكنني لطالما تساءلت كيف استطاعت عشرات الدول ومئات الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية أن تفبرك ثورة كما كان النظام يزعم آنذاك. ووسط مجتمع يأكله الخوف لم أستطع أن أطرح تساؤلي ذاك أمام أحد. اليوم يعود السؤال ذاته ملحاً علي، أطرحه على نفسي. ويعود الخوف. “الحيطان إلها أدنين”؛ تلك الحيطان التي كانت تسمع النكات السياسية وانتقاد مواطن بسيط للنظام أو أحد ركائزه ألم تستطع أن تسمع المؤامرة؟ أم أنها بالأصل ما كانت مؤامرة.

تعود إلى ذاكرتي هتافات طائفيه في حمص وتكبيرات لاختفاء طائفة ما، اختطاف متبادل وتبادل رهائن، قنوات تطلب إبادة طوائف بأكملها، سيطرة المتطرفين على الثورة، خلافات بين العرب والأكراد وبين الأكراد والسريان في الشرق، حديث دولي حول أيهما أهم مكافحة الإرهاب أم الديكتاتور” تلك اللعبة التي لعبها النظام بدهاء فوجه أنظار العالم نحو داعش”. لم تكن اللعبة سهلة، لكن الجميع قرر الخوض فيها. تعلموا السباحة جيداً حتى لا يغرقوا بدمائنا وصوبوا أهدافهم نحو أرضنا.

تحول بلدنا إلى ساحة لعب إقليمية ودولية على حساب أحلامنا وطموحاتنا. صار حوار الروسي والأمريكي أو تصريح تركي أو إيراني أو سعودي أو حتى تصريح دولة صغيرة كقطر أهم بكثير من آراء الاف الشبان السوريين. والذين ظهروا أمام الكاميرات على أنهم ممثلي الثورة لم يختلفوا عن النظام كثيراً، كل ما كان يهمهم هو مصالحهم. كانوا إقصائيين مثل النظام، بل أكثر.

اليوم يبدو النصر بعيداً جداً عن المعارضة وعن النظام. كيف ستكون منتصراً على أنقاض بلد؟ كيف ستكون منتصراً في بلد شماله لتركيا، جنوبه لإيران وشرقه لأمريكا وغربه لروسيا والبحر لأبنائه يغرقون فيه؟

حين تجرح نفسك ألم تتساءل يوماً كيف تبدو الحياة من داخل الجرح؟ سأخبرك كيف تبدو؛ ساعات طويلة مظلمة دون كهرباء، طوابير كثيرة على الغاز، على المازوت، على الخبز، على البنزين، وطوابير طويلة من الناس مرميين في الشوارع ينتظرون المواصلات، أطفال يراقبون محلات الدمى ويحلمون باقتناء دمية، قطع قماشية تغسل مراراً عوضاً عن حفاضات الأطفال، نمرض دون دواء، الحلويات صارت حلماً، الفقر يلتهم الجميع. أما أبناء السلطة فيعيشون في سوريا أخرى غير سوريتنا؛ سوريا المنتجعات والمطاعم الفخمة والبارات، سوريا السيارات الفارهة والثياب الغالية والعطور والساعات المستوردة، سوريا أحدث الهواتف المحمولة.

كل يوم يخبرك أحدهم بكل سذاجة أن هذا الجرح سيندمل لا محاله وأن العالم ملّ منا. لكن الجرح يتسع أكثر، والعالم مل فعلاً من أوجاعنا، لكنه لم يمل من الصراع على أرضنا. أناس يسخرون من كل شيء، نكات القهر تملأ الفيسبوك؛ قهر من عجزنا، قهر من خوفنا، وقهر من الشعارات. أشخاص يمشون في الشوارع ويحدثّون أنفسهم، أحذية بالية، شتاء بلا تدفئه، وكميات طعام لا تكفي، ونقود قليلة، ورفيق يحدثك عن الصمود والتصدي. بلاد بأكملها على حافة المجاعة والجنون والخوف والبؤس والحزن والقائمة طويلة جداً. شعارات يخدعنا بها جميع الأطراف. لا تركيا تريد حريتنا ولا إيران تريد سيادتنا. كل منهما تريد أن تتوسع في المنطقة. أمريكا وروسيا وتجربة كل منهما في العراق وافغانستان لا تبشران بخير.

ماذا تبقى لنا من الأحلام؟ سنظل نحلم رغم الموت ورغم الدمار. سنظل نذكر الإله بعل حين صارع الإله موت، ثم خرج من باطن الارض بعدما لقي مصرعه ليعود إلى الحياة. سنظل نذكر طائر الفينيق الذي سيُبعث من الرماد في هذه الأرض. الحلم ليس مستحيلاً. بإمكاننا أن نمحي سنوات الذل التي عشناها، بإمكاننا أن نصنع ثقافة مجتمع بعيداً عن شعارات النظام والمعارضة. بإمكاننا أن نتحدث عن تاريخنا وحضارتنا، ونبحث عن مستقبلنا. بإمكاننا أن نصنع الوعي بأيدينا وأن نبحث ونحلل ونقرأ أكثر. بإمكان كلّ منا أن يقترح على صفحته على الفيسبوك عنوان كتاب اجتماعي أو سياسي أو ديوان شعر يخص سوريا. بإمكاننا نحن جيل الشباب والحلم أن نحدث تغيراً ما بعيداً عن شعاراتهم وبعيداً عن خداع الدول ولعبة الأمم. بإمكاننا أن نفهم اللعبة إن وضعنا أحقادنا جانباً وخوفنا من الآخر وقهرنا وبحثنا في وجهات النظر جميعها. وسنرى أن جميع الأطراف سواسية وأننا الضحية الوحيدة في هذه اللعبة. الضحية التي يجب عليها ألا تستسلم لجلاديها.

رصيف 22

———————–

=====================

تحديث 18 أذار 2021

————————

الثورة والصراع على السرد: في تصنيف سرديّات الثورة السوريّة/ معتز الخطيب

عاش السوريون لنحو ثلاثة عقود تحت حكم حافظ الأسد (1971/2000)؛ حيث كان الحق في الفعل السياسي وفي السرد حكرًا على الرواية الرسمية التي يدلي بها النظام وحده، خصوصًا أنه لم يكن ثمة قنوات فضائية وإنترنت ووسائل إعلام اجتماعي. لم يختلف الأمر كثيرًا في العقد الأول من حكم بشار الأسد (2000/2010) باستثناءات قليلة تخللت ما أُطلق عليه “ربيع دمشق” (يوليو 2000/ فبراير 2001) الذي سرعان ما تحول إلى خريف. ولكن الثورة السورية (مارس 2011) دشنت عهدًا جديدًا، أهم مظاهر جدته أنه أتاح للسوريين القدرة على التعبير عن أنفسهم بأنفسهم لأول مرة منذ عقود.

يضاف إلى ما سبق، أنه حتى الدراسات البحثية حول سوريا كانت محدودة جدًّا قبل الثورة؛ ويرجع ذلك، في أحد وجوهه على الأقل، إلى صعوبة الوصول إلى إجراء مقابلات مباشرة مع السوريين في جمهورية الصمت عن الكلام في السياسة أو الشأن العام، فالخوف السياسي شكّل أحد الأعمدة المركزية لحكم آل الأسد. لم يتم حظر السياسة ممارسةً فقط، بل قولًا أيضًا؛ فقد فرض نظام الأسد على السوريين أن يكونوا مواطنين بلا إرادة وغير مؤهلين للفعل أو القرار، أي لا رأي لهم في شؤونهم. يساعدنا هذا السياق على فهم لماذا لم يكن صراع الثائرين مع النظام منذ البداية حول التظاهر وعلى الأرض فقط، بل كان أيضًا على فعل السرد، أي رواية ما يجري في الواقع، سواءٌ لعموم سوريي الداخل أم للمجتمع الخارجي. ولهذا أخذت الثورة منذ بدايتها شكل صراع على السرد والتعبير عن النفس، وليس تحديَ قمع النظام وبطشه فقط، بل تحدي احتكار النظام للتعبير والتمثيل ورواية ما يجري.

الصراع على المعنى

وترجع أهمية السرد إلى اتساع دوره وتنوّع وظائفه؛ فقد بات ينتمي إلى حقول عدّة كالأدب والتاريخ وعلم النفس والأخلاق والسياسة الدولية (وخاصة في الحروب والنزاعات). وفي هذا السياق، بات الإنسان يُعرَّف بأنه حيوان قاصّ (storytelling animal)(1). وبعيدًا عن الوظائف المتنوعة للسرد، يمثل السرد في المجال السياسي الصراع على المعنى، كما يعكس موازين القوة الناعمة. بل حتى القوة الصلبة باتت تفتقر إلى سردية تمنحها معنى يخفّف من وطأة قسوتها حتى تحظى بالشرعية، وبات السرد أيضًا وسيلة لكتابة التاريخ وحفظ الذاكرة الجماعية لأمة أو جماعة سياسية ما، ووسيلة للتعبير عن الهوية الفردية والجماعية في الأنظمة الديمقراطية، ولذلك سعت الأنظمة الديكتاتورية – باستمرار – إلى تكميم الأفواه واحتكار الرواية الرسمية الوحيدة والصحيحة.

في سرديّات الثورة السوريّة

يمكن توضيح أهمية السرد في السياسات الدولية من خلال ثلاثة عوامل: (أ) مركزية السرد في العلاقات الإنسانية، (ب) إنّ الفاعلين السياسيين يستخدمون تقنيات معينة لتقديم سردياتهم، ولذلك لا بد من فهمها وتحليلها، (ج) إنّ بيئة التواصل (communication environment) تؤثر على السرديات، سواء لجهة كيفية توصيلها أم لجهة التأثير فيها. فالوسائط وأشكال السرد مهمة كأهمية المحتوى تمامًا(2).

فيما يخص سرديات الثورة السورية يمكن أن نميز بين ثلاث مقاربات:

المقاربة الأولى تبحث في سؤال: كيف تم التعبير عن سرديات الثورة في الإعلام المرئي؟ فهي لا تبحث السرديات نفسها وإنّما كيفية التعبير عنها، مثال ذلك دراسة ريس كريلي (Rhys Crilley) التي درست 528 مجموعة من الصور التي نشرتها قوى المعارضة ممثلة بالائتلاف السوري، والتي تعبّر عن السردية الرئيسة للثورة. عادة ما تركز السرديات على صيغتي الكلام المنطوق والمكتوب، ولكننا هنا أمام دراسة تحلّل سردية مصورة أو مرئية خلصت إلى أنّ السردية التي رسمتها الصور ركزت على المعاناة والألم (ألم الآخرين)، فقد جعلت ضحايا عنف النظام (من قتلى وجرحى ونازحين ولاجئين) مرئيين ومُؤَنْسَنين، فلم يعودوا مجرد أرقام، وهذا يُظهر الأهمية السياسية للصور (3).

المقاربة الثانية تركز على رواية السوريين بأنفسهم عن أنفسهم؛ لأن الثورة أتاحت أشكالاً جديدة من التعبير عن الذات بحرية، وشجعت الملايين على سرد قصصهم لأول مرة. من ذلك دراسة ويندي بيرلمان (Wendy Pearlman) التي تنبهت إلى أهمية الروايات الفردية المباشرة، فدرست سرديات نحو 200 لاجئ سوري في تحليل وصفي مكثف للمقابلات الشخصية، لتجد أن سرديات الأفراد تتحد في سرد ​​جماعي يؤكد على التحولات التي طرأت على الخوف السياسي في سوريا. فقبل الثورة كان الخوف أحد أعمدة سلطة الدولة القمعية، ولكن المظاهرات الشعبية ولّدت تجربة جديدة تم فيها كسر حاجز الخوف، ثم تحوّل الخوف، مع عسكرة الثورة، إلى “طريقة شبه طبيعية” للحياة، ومخاوف غامضة من مستقبل غامض. فالثورة وفرت نافذة جديدة في بناء وتطوّر الهوية الوطنية للأفراد، ففِعل السرد نفسه بات تمرينًا على إنتاج المعنى داخل ثورة، أي أنّ السرد صار، بذاته، ممارسة ثورية وفعلاً سياسيًّا في ظل نظام قمعي. بل حتى التعبير عن الخوف في ظل الثورة هو فعل سياسي لم يكن متاحًا في سوريا ما قبل الثورة، وقد سبق لليزا وادين (Lisa Wedeen) أن لاحظت أن ترديد السوريين لخطاب النظام الرسمي ينتج “أفعالًا روائية غير سياسية”(4)، في حين أن رواية السوريين لقصصهم الخاصة بأنفسهم تجعل منها روايات سياسية ومسيسة (politicized and politicizing). فحين يروي السوريون كيف تعاملوا مع الخوف أو كيف تحدَّوه، يفكون الرموز والأغلال التي كانت تقيّد حياتهم وتجعلها خاوية من المعنى وباهتة، وحين يروون ويشاركون في الأحداث التي تصوغ حياتهم، يتحولون إلى فاعلين سياسيين (political agents)(5).

سردية واحدة أم سرديات متعددة؟

المقاربة الثالثة التي يمكن أن نقدمها هنا بإيجاز، تتصل بحصر سرديات الثورة وتصنيفها، وتقديم مقاربة نقدية لها.

ثمّة عوامل عدة فرضت وجود سرديات للثورة السورية لا سردية واحدة، وهي، في الجملة، ترجع إلى تعقيدات المشهد السوري موقعًا وسياسةً وتركيبة اجتماعية وتاريخًا سياسيًّا، ويمكن أن نذكر هنا أمرين يساعدان على فهم هذه التعددية السردية: الأول: أنّ ثمة سرديات رئيسة أو مركزية، وأخرى فرعية بعضها تفريع أو خادم للسردية المركزية، والثاني: أنّه يمكن التمييز من حيث الجملة بين ثلاث سرديات كبرى:

السردية الأولى لديها مشكلة مع فكرة الثورة من حيث المبدأ لأسباب متعددة، ويمكن أن نميز فيها بين ثلاثة توجهات:

التوجه الأول: ديني لا يرى في فعل الثورة نفسه فعلاً حميدًا؛ لأنه يُحيل إلى الفتنة، ولا يمكن أن يُفهم إلا من خلال منظور الخروج على الحاكم بالمفهوم التاريخي في الدولة السلطانية، ومن أبرز رموز هذا التوجه محمد سعيد رمضان البوطي عبر خطبه ولقاءاته التلفزيونية المتكررة خلال الثورة.

التوجه الثاني: حداثويّ (يختلف عن الحداثي)، ويَشترط تغيير المجتمع أولاً؛ قبل القيام بالثورة؛ فللثورة مقاييس محددة في أذهان ممثليه، فهو يحتقر المجتمع التقليدي الذي يصفه بالتدين والرجعية أو أنه غير مؤهل للديمقراطية، ويصف الثورة بأنها ثورة إسلامية تخرج من المساجد، ومن أبرز رموز هذا التوجه أدونيس وجورج طرابيشي وآخرون.

التوجه الثالث: نفعي، ويضم فئات متنوعة ترى في استقرار النظام ضمانًا لامتيازاتها التي ستزول بزواله، وهي إما تحظى بمناصب سياسيّة أو تنتمي إليه طائفيًّا، أو تربطها به علاقات اقتصاديّة، وتضم أبناء المسؤولين ممن دخلوا ميدان الاقتصاد وطبقة رجال الأعمال، بالإضافة إلى أغلبية علوية ترى في النظام حاميًا وامتدادًا لها.

وسبق أن تحدث ياسين الحاج صالح عن “وجود برجوازية جديدة” في سوريا تتشكل من أبناء المسؤولين وأتباعهم وأيديولوجي الحداثية من نخبة ثقافية (وذكر منها جورج طرابيشي)، وهي تتسم بثلاث سمات: إهمال قضايا القيم الأخلاقية، وإهمال المشكلات الاجتماعية، والنزعة المحافظة سياسيًّا وقربهم من النظام(6)، وهذا ينطبق على التوجهين السابقين معًا.

وقبل هؤلاء جميعًا يأتي النظام نفسه وحلفاؤه، وقد كان مصرًّا منذ البداية على عدم الاستجابة لأي مطالب إصلاحية حقيقية، وكانت سياسته -كما صرح مرارًا- قائمة على خيار الحرب، وقد قال وزير الخارجية وليد المعلم في تموز 2012: إنه “لا حوار قبل القضاء على الإرهابيين”، وكذلك فعل بشار الأسد في أواخر آب 2012 حين رهن مصير الوطن بمصير نظامه تحت مسمّى الدولة. فالحرب، من منظور النظام، ليست أداة سياسية، بل هي سياسته للقضاء على الثورة، هدفها إبادة الخصم سياسيًّا وأخلاقيًّا بإنكار أن له قضية عامة(7)، وقد أكدت بعض الدراسات أن التدمير الذي أحدثه النظام في المدن لم يكن من آثار الحرب ولكنه كان مقصودًا ومنسجمًا مع خطط تنظيمية سابقة(8).

سرديات مضادة

قام النظام السوري بتأليف سرديات مضادة بوصفها جزءًا من حربه على الثورة نفسها، ولتطويقها منذ بداياتها، واستمر في إشاعتها والإلحاح عليها داخليًّا وخارجيًّا. وقد تنوعت السرديات الفرعية التي قدمها النظام؛ بحسب المخاطب والأهداف المتوخاة منها، من ذلك أنها: احتجاجات سنية، وعصابات مسلحة، وجماعات إرهابية، ومندسون، وهي جميعًا سرديات فرعية هدفها تثبيت مقولات مثل: حماية الأقليات في مقابل ثورة سنية، وعلمانية النظام في مقابل جماعات جهادية متطرفة، ومحور المقاومة في مقابل معارضة متآمرة مع العدو وصنيعة الإمبريالية، وعنف الثورة في مقابل دفاع النظام عن الدولة والوطن، وخيانة الثورة مقابل وطنية النظام، إلى غير ذلك من سرديات شهدت تطورًا خلال مسار الثورة، وقد أدت هذه السرديات الفرعية أغراضًا معينة بحسب تنوع الجمهور المخاطَب، ولكنها تكاتفت جميعًا لخدمة السردية الكبرى وهي العداء للثورة من حيث المبدأ. كتب زياد ماجد مثلاً في تفنيد بعض هذه المقولات، موضحًا أن النظام وَفق (في خطابه وبنائه لصورته) بين ثلاث ركائز هي: (أ) الممانعة التي كسب فيها قوميين ويساريين ومناهضين للإمبريالية، (ب) العداء للإسلاميين الذي قرّبه من بعض الدوائر الغربية ومن العلمانويين عامة، (ج) مظهر حداثي يُبرزه في موقع المتقدّم على محكوميه، ويُرضي به مقلدين سطحيين لما يعدّونه غرباً أو يرضي به مدعي التقدمية في سوريا نفسها(9).

ومن المهم أن روسيا وإيران تبنتا سردية النظام نفسها حول الإرهابيين، ولكن الخطاب الإيراني تحديدًا كان يستعمل تعبير “التكفيريين” للإشارة إلى أن الثورة سنية، وأنها مؤامرة لضرب محور المقاومة مما يخدم إسرائيل، وقد تكرّر هذا مرارًا على لسان علي خامنئي وبعض رجال الدين الشيعة في خطب الجمعة كما نجد مثلاً في خطبة لكاظم صديقي في طهران الذي قال في 14 ديسمبر 2018: “إن التكفيريين وجبهة الكفر حاولوا تجزئة سوريا والعراق والقضاء على لبنان والمقاومة”، وتكرّر كذلك في خطابات حسن نصر الله الذي قال في 8 يونيو 2018: “إذا سقطت سوريا بيد التكفيريين ستحل الكارثة على المقاومة وفلسطين”.

سرديّة الثوار

السردية الثانية يقدمها الثوار، وهي أنها ثورة حرية بدأت مدنية سلمية جامعة لمختلف أطياف الشعب، تمّ قمعها بوحشية فتحولت إلى التسلح للدفاع عن النفس، وقد طالبت بإصلاحات جذرية في البداية ولكن مع العنف المفرط من قبل النظام وعدم استجابة النظام لأي إصلاحات، تحول شعارها إلى إسقاط النظام، وهذه السردية هي السائدة لدى مجتمع الثورة عامة والعديد من الكتاب العرب والغربيين(10).

وقد عبّر الثائرون عن سرديتهم من خلال وسيلتين:

الأولى فعل التظاهر الذي غطى مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، في ظروف القمع الوحشي الذي تعرّض له المتظاهرون في الشهور الأولى من الثورة، ومع ذلك حافظوا على سلميتها؛ رغم مقتل الكثير من الشباب المتظاهرين. كان التظاهر يعني المخاطرة بالحياة نفسها، ومع ذلك لم يتوانَ الشباب الثائرون عن الخروج والتعبير عن احتجاجهم ومطالبهم بالحرية.

الوسيلة الثانية تمثلت في شعارات الثورة من جهة، وفي تسمية جُمع التظاهر التي كانت تُرفع فيها لافتات مكتوب عليها اسم الجمعة في مختلف المناطق؛ فعبرت عن روح جامعة للثورة، قادتها تنسيقيات الثورة والهيئة العامة للثورة التي مثلت مجموعات من الشباب الثائرين بين الأرض والفضاء الافتراضي. من تلك الشعارات التي كانت تتردد: “حرية حرية”، “إجاك الدور يا دكتور”، “الشعب يريد إسقاط النظام”. وكذلك الشعارات التضامنية التي كان الثوار في المناطق المختلفة يهتفون معلنين فيها تضامنهم مع المناطق التي تتعرض للقمع الوحشي (مثل شعار: يا درعا حنّا معاك للموت، وغيره)، كما أن بعض الشعارات كانت تحمل ردًّا مباشرًا على قرارات النظام، كهتاف أهل درعا “يا بثينة ويا شعبان، الحوراني مو جوعان. نحن بدنا حرية”، والذي جاء ردًّا على إعلان النظام بُعيد احتجاجات درعا زيادة الإنفاق العام.

في المقابل، استعملت تشكيلات النظام ومؤيدوه شعارات مضادة، كان أبلغَها وأشدَّها وضوحًا شعاران: “الأسد أو لا أحد”، و”الأسد أو نحرق البلد”. كما أنه تم اختراع بعض الشعارات الطائفية للتشويش على الثورة، من ذلك شعار غامض لا يُعرف من ومتى وأين تم استعماله. يقول الشعار: “المسيحية على بيروت والعلوية على التابوت”، وقد اشتهر لدى فئات مؤيدة للنظام ومتعاطفة معه في سوريا وخارجها في مرحلة مبكرة من الثورة، وهو شديد الوضوح في التأكيد على البعد الطائفي للثورة وهي المسألة التي كان النظام يلح عليها في الأشهر الأولى، وكانت بثينة شعبان مستشارة الرئيس والمنتمية للطائفة العلوية أول من تحدث عن الجانب الطائفي علنًا (في آذار 2011، وتكرّر منها تصريحات أخرى بهذا المعنى في سبتمبر 2013).

سرديات تحليليّة

السردية الثالثة هي سرديات تحليلية تبحث عن دوافع الثورة وأسبابها لتقديم تصوّر عما جرى، وهي ذات طابع بحثي، بعضها يركز على الثورة بوصفها فعلاً سياسيًّا محضًا وهو التفسير القريب والبارز، أو بوصفها نتاج عوامل اقتصاديّة محضة أو غالبة، أو نتيجة عوامل اجتماعية مرتبطة بالتغيرات الاجتماعية التي طرأت نتيجة مسار التنمية والهجرة الداخلية، أو طائفية نتيجة صراعات مزمنة تَسِم تركيبة النظام، ولها جذور تاريخية في المنطقة، وهي الرواية التي سوّقها النظام وانحاز إليها بعض الباحثين الغربيين. وقد دفع النظام بقوة باتجاه تطييف الثورة؛ لتحقيق عدّة أهداف: تنشيط العصبية الطائفية داخليًّا، وكسب الأقليات وأنه المعبّر عنها والحامي لها في مواجهة ثورة أكثرية سنية مخيفة، ولضمان التأييد الدولي له ضد الاحتجاجات، ولذلك كان السؤال الذي يُطرح على المعارضة بشكل متكرّر هو ماذا ستفعلون بالعلويين والأقليات؟ وخصوصًا أن تركيبة النظام ومؤسساته العسكرية والأمنية قائمة على أساس طائفي.

يدور المنظور الاقتصادي الذي تبناه عدد من الباحثين الغربيين أيضًا على تأثيرات نهج اللبرلة الاقتصادية الذي اتخذه نظام بشار الأسد، ومن ثم فالثورة ثورة فقراء ومهمشين. وقد جمع جمال باروت بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية عبر دراسة العلاقة بين التنمية والتغير الاجتماعي في سوريا في العقد الأول من الألفين؛ لفهم ديناميات ما يسميه “الاحتجاجات”، وخلص إلى أنها “ثورة المجتمعات المحلية” (أي ثورة المدن المتوسّطة والصّغيرة، والأحياء الشعبيّة والعشوائيّة في المدن الأخرى)، فهي ثورة أطراف على المركز المتمثل في دمشق وحلب، وقد أدى إليها ذلك التزاوج بين النظام التسلطي والليبرالية الاقتصادية(11).

وإذا كانت السرديتان الأولى والثانية سرديات أطراف منخرطة في الصراع (النظام والثائرون)، فإن السردية الثالثة هي سرديات باحثين ومراقبين في الأصل، وإن كان بعضهم قد يكون متعاطفًا مع أحد أطراف الصراع. ولكن ميزة هذا التصنيف الثلاثي للسرديات (ضد الثورة مبدئيًّا، ومع الثورة مبدئيًّا، وتحليل الأسباب والدوافع)، أنه يحقق سمة الشمول أولاً، ويساعدنا على عدم الخلط في السرديات بين ما هو مركزي وما هو فرعي خادم للمركزي، كما أنه يساعدنا على التفريق بين سرديات الأطراف الفاعلة وبين سرديات الأطراف المراقِبة، وإن كنت أميل إلى التمييز بين السرد والتحليل أو التفسير؛ بأن السرد يبحث في التعبير عن النفس والدوافع والمخاوف التي تعبر عن الأطراف الفاعلة نفسها؛ لأنه يعبر عن هويات فردية أو جماعية، فنظام الأسد لا يعي نفسه إلا من خلال هويته الطائفية. في المقابل يبحث التفسير في العوامل المكوِّنة للظاهرة أو الحدث المنفصل عنه. نعم هناك من كتبوا عن الثورة وهم منخرطون فيها بشكل ما، فجمعوا بين الرواية والممارسة الثائرة أو الداعمة للثورة، فهؤلاء تندرج روايتهم ضمن الفعل الثوري نفسه كما شرحت من قبل وهو ما يميزهم عن الفعل البحثي المحض الذي ينفصل فيه الباحث عن موضوعه.

في الواقع نجد أن الثورة فعل مركب ينطوي على عوامل عدة: أولها: جغرافيا يتم فيها الحدث (مدن ومناطق وساحات الفعل الاحتجاجي)، وثانيها: صفات الفاعلين وانتماءاتهم: الدينية والفكرية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية، وثالثها: وسائل التعبير عن النفس أو الاحتجاج والتي تتنوع وتأخذ أشكالاً مختلفة تقليدية وحديثة (سوشيال ميديا، مظاهرات حاشدة، مظاهرات طيارة، تسمية الجمع والاحتجاجات، التغطية الإعلامية، السرد نفسه …)، ورابعها: الطبيعة التفاعلية للفعل الثوري والفعل السياسي عامة؛ لأن الثورة ليست فعلاً مفردًا، بل هي فعل مستمر ومولِّد للأفعال، كما أنها هي ذاتها نتاج أفعال سابقة، أي إننا نتحدث عن صيرورة وفعل مستمر مكوَّن من فعلٍ وردِّ فعل بشكل متسلسل، وهذه التفاعلية تتشكل على وقع تركيبة العوامل السابقة بالإضافة إلى نمط العلاقات الذي يربط الفاعلين بعضهم ببعض، وبكيفية تحديد كل فاعل لمقاصده وأهدافه ومخاوفه أيضًا.

فالمشكلة تنشأ من تقديم رؤية تحليلية بسيطة لفعل مركب ينطوي على العوامل السابقة، كما أنه اكتسب مزيدًا من الجمهور على وقع مجريات الأحداث والتعبئة الشعبية التي وقعت، وكان النظام حريصًا – منذ البداية – على عدم إخمادها والحيلولة دون تحولها إلى احتجاجات شعبية حاشدة من خلال ضبط المشايخ وخطباء المساجد وتحذيرهم مما سماه “خطبًا تحريضية”. فضلاً عن أن عنف النظام الوحشي وصلافته في عدم الاستجابة لأي مطالب إصلاحية حقيقية دفع المتظاهرين إلى اليأس والمطالبة بإسقاطه، وأعطى الثورة مزيدًا من الزخم في محيط عربي ثوري عام (ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن).

وإذا كانت السرديتان الأولى والثانية تنطويان على معنى تقويمي معياري، فإن الثالثة ليست كذلك من حيث الجملة؛ لأنها إنما تبحث في الفهم والتفسير؛ إذا كانت لأغراض بحثية وليست لتقديم توصيات لصانع القرار، أو لتحميل مسؤوليات وإلقاء التبعة. ولكن بعض هذه السرديات التحليلية يخطئ فيرتكب خطأ النظام القمعي نفسه الذي كمّم أفواه الناس لعقود (سياسات الخوف)، حين يتحدث عن دوافع خفية أو باطنية للمتظاهرين، في حين أنه يجب الاستناد إلى سرديات الفاعلين أنفسهم؛ لما أوضحنا من أن السرد فعل سياسي وثوري ويعبّر عن تحرّر من قمع نظام الخوف بعد عقود من الصمت، وهنا تظهر أهمية المقابلات الشخصية أو تتبع لغة الرموز والشعارات التي رفعتها المظاهرات؛ بوصفها خطابًا، لا إسقاط أو فرض تحليلات باردة ومجتزأة أو باطنية على فعل تحرّري غير مسبوق تمّ وأده بوحشية وتكلفة إنسانية ومادية هائلة وغير مسبوقة في التاريخ الحديث.

الهوامش

(1) see: Jonathan Gottschall, The Storytelling Animal: How Stories Make Us Human, Boston, New York: Houghton Mifflin Harcourt, 2013.

(2) see: Crilley, Rhys. Seeing Syria: The Visual Politics of the National Coalition of Syrian Revolution and Opposition Forces on Facebook, Middle East Journal of Culture and Communication 10 (2017) 135; Bruner, Jerome. The Narrative Construction of Reality. Critical Inquiry, 18 (1991) (1): pp. 1–21; Somers, Margaret. The Narrative Constitution of Identity: A Relational and Network Approach. Theory and Society, 23 (1994) (5): pp. 605–649.

(3) Crilley, Rhys. 133–158.

(4) Wedeen, Lisa. “Acting ‘As If’: Symbolic Politics and Social Control in Syria.” Comparative Studies in Society and History 40 (1998) (3): 522.

(5) Pearlman, Wendy. Narratives of Fear in Syria, American Political Science Association, 14 (2016) (1): 31-32.

(6) الحاج صالح، ياسين. الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية والحرب العامة في سورية، عمان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017، ص120.

(7) المرجع السابق، ص89.

(8) Vignal, Leïla. Destruction-in-Progress: Revolution, Repression and War Planning in Syria (2011 Onwards), Built Environment, 40 (2014) (3), 326-341.

(9) ماجد، زياد، سوريا الثورة اليتيمة، بيروت: شرق الكتاب، 2013.

(10) انظر مثلاً:

بشارة، عزمي. سورية: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن، الدوحة: المركز العربي للأبحاث، 2013.

Yassin-Kassab, Robin. Al-Shami, Leila, Burning Country: Syrians in Revolution and War, Pluto Press, 2016; Provence, Michael. Unraveling the Syrian revolution Author, Regions & Cohesion, 2 (2012) (3), Special Issue: A changing of seasons? The Arab Spring revolts and past uprisings, 153-165.

(11) انظر: باروت، محمد جمال، السلفية الشعبوية في سورية و«ثورة المجتمعات المحلية» – محمد جمال باروت، صحيفة الحياة، 17 نوفمبر، 2011؛ وباروت، محمد جمال، العقد الأخير في تاريخ سوريّة: جدليّة الجمود والإصلاح، الدوحة: المركز العربي للأبحاث، 2012.

أستاذ فلسفة الأخلاق ومنسق برنامج ماجستير الأخلاقيّات التطبيقيّة الإسلاميّة في كليّة الدراسات الإسلاميّة في جامعة حمد بن خليفة.

حكاية ما انحكت

—————————–

اصطفافات جديدة في الصراع على سوريا/ بكر صدقي

ترافق مرور عشر سنوات على بداية الثورة السورية مع حراك سياسي ودبلوماسي متعدد بشأن الصراع في سوريا وعليها، لعل أبرزها اجتماع الدوحة الثلاثي الذي جمع وزراء خارجية كل من قطر وتركيا وروسيا، وأعلن عن تشكيل «آلية ثلاثية» ستكون لها اجتماعات لاحقة، في مواعيد قريبة، في كل من أنقرة وموسكو، موضوعها «البحث عن حل سياسي في سوريا». وهو ما يوحي، ضمناً، بأن الآلية الجديدة مصممة لتكون بديلاً عن آلية آستانا ـ سوتشي، وإن كان الروس قد أنكروا ذلك.

ما الذي يعنيه هذا التشكيل الدبلوماسي الجديد؟

يعني قبل كل شيء اعترافاً، ضمنياً، بوصول «الآلية» السابقة إلى طريق مسدود، وهي الحقيقة التي باتت معروفة قبل زمن. ويعني تشكيل الثالوث الجديد، ثانياً، إخراج إيران وإدخال قطر بدلاً منها في المساعي السياسية بشأن سوريا، الأمر الذي يمكن فهمه على أنه ملاقاة للاستراتيجية الأمريكية بشأن عزل إيران، مقابل استدراج الإدارة الأمريكية الجديدة للمساهمة بصورة إيجابية في البحث عن حل للمشكلة السورية، في وقت لم يتضح بعد ما الذي قد تريده واشنطن في سوريا باستثناء مواصلة العقوبات المفروضة على النظام الكيماوي، ومواصلة دعم «قوات سوريا الديمقراطية» في الشمال الشرقي.

كذلك تعني عودة قطر للانخراط في الملف السوري نوعاً من التفاهم على ذلك مع السعودية، بعد إنجاز المصالحة الخليجية، وقد تجلت هذه العودة بأوضح صورها في عودة رئيس الوزراء السابق المنشق رياض حجاب إلى صدارة المشهد المعارض، بعد سنوات من تهميشه من قبل المحور السعودي ـ الإماراتي. في المقابلة التي أجرتها قناة الجزيرة الإخبارية مع حجاب، لاحظنا حرصاً على إظهار التفارق مع الإسلام السياسي «الذي حرف الثورة السورية عن أهدافها» كما قال المحاور محمد كريشان، في حين دعا حجاب إلى «إعادة هيكلة المعارضة بصورة شاملة».

بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، يمكن القول إن انهاء الخلاف الخليجي قد انعكس إيجاباً على القضية السورية، على الأقل من حيث انهاء الوضع المشلول لمؤسسات المعارضة الرسمية بسبب التجاذبات الإقليمية في داخلها. كذلك يمكن اعتبار استبدال «آلية الدوحة» بآلية آستانة، تطوراً إيجابياً بسبب استبعاد إيران منها. يبقى أن انعكاس هذه الإيجابيات النسبية على القضية السورية ستظل مرهونة بعوامل أخرى لعل أهمها الموقف الغربي. كذلك ينبغي توخي الحذر من التفاؤل لأن روسيا بوتين تبقى هي الشريك الأقوى في الآلية الجديدة، كما كانت في القديمة، ودورها حاسم في رسم ملامح الفترة القادمة، لكونها مسيطرة عسكرياً على الوضع في سوريا، إضافة إلى امتلاكها سلاح حق النقض في مجلس الأمن.

ولم تبدر من روسيا أي إشارة إلى التخلي عن حماية النظام الأسدي، بل على العكس من ذلك، رأينا وزير خارجيتها سيرغي لافروف يستبق اجتماع الدوحة الثلاثي بزيارتين لكل من السعودية والإمارات، تقول التقارير الإعلامية إن موضوع مباحثاته مع قادة البلدين ركزت على إخراج النظام الكيماوي من عزلته ومده بالمساعدات ليتمكن من الخروج من أزمته الخانقة. هذا ما يجعلنا، كسوريين، أقل تفاؤلاً بشأن الفترة المقبلة وما يمكن للآلية الثلاثية أن تنجزه في ظل التعنت الروسي في التمسك بالنظام وفي الدفاع عن حقه في إجراء الانتخابات الرئاسية بعد أشهر قليلة.

من جهة أخرى جاءت التصريحات الأوروبية والأمريكية بشأن رفض منح الشرعية للانتخابات المذكورة، استمراراً لمواقف تلك الدول الداعمة لـ«العملية السياسية» في إطار «اللجنة الدستورية» المعطلة، وقد كانت في الأصل هروباً من استحقاقات الانتقال السياسي وفقاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.

ويتضح من المقالة التي نشرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شبكة بلومبرغ، ووجه فيها نداءً إلى الدول الغربية لدعم الموقف التركي في سوريا بصورة فعالة بدلاً من «مراقبة الصراع من المدرجات» على حد تعبيره… يتضح أن تركيا نفسها لا تعول كثيراً على الآلية الثلاثية الجديدة ما لم تدعم بجهود الدول الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة التي خاطب أردوغان رئيسها جو بايدن مطالباً إياه بالوفاء لوعوده في الحملة الانتخابية بشأن سوريا. فالآلية الثلاثية ملغومة سلفاً بسيرغي لافروف الذي لا يفوت فرصة إلا ويكرر فيها أن بشار الأسد هو رئيس شرعي منتخب لسوريا المنكوبة به.

ثمة دعوات في الكونغرس الأمريكي لتشديد العقوبات على النظام الكيماوي وحلفائه، ومحاسبته على استخدامه المتكرر للسلاح الكيماوي، قبل صفقة أوباما بشأنه وبعدها، وثمة تشدد أوروبي تجاه النظام ما زال في إطار البيانات والتصريحات. من المحتمل أن روسيا تستأنف مساعيها المتجددة لفتح قناة دبلوماسية مع الإدارة الأمريكية، على أمل منها لإيجاد توافقات بشأن سوريا وموضوعات الخلاف الأخرى، ويمكن اعتبار استبعاد إيران من الآلية الثلاثية بشأن سوريا نوعاً من «رشوة» للولايات المتحدة بهذا الخصوص.

هل تتحول دعوة رياض حجاب إلى إعادة هيكلة المعارضة إلى موضوع جديد للتجاذبات المؤذية داخل مؤسسات المعارضة تشغل الرأي العام بدلاً من إنجاز أي شيء ذي قيمة؟

كاتب سوري

القدس العربي

—————————–

عن تهميش المنشقين واغتيال الجيش السوري الحر/ العقيد عبد الجبار عكيدي

مر عقد كامل على ثورة الشعب السوري، بما فيه من تحد مُلهم لأعتى الأنظمة الديكتاتورية إجراما، وأكثرها دموية في منطقتنا، وفي هذا العقد ومضات ودروس عظيمة، وتضحيات جليلة، تستوجب في الحد الأدنى مراجعات شجاعة.

من المهم حتى تمضي الثورة إلى غاياتها تحطيم كل التساؤلات المُرة بأجوبة نسعى ما أمكن أن تكون واضحة قاطعة، ويبرز في هذا المقام التساؤلات المتعلقة بالمنشقين عن جيش النظام، الضباط وصف الضباط والأفراد، وننضح من هذا الصندوق الأسود المسكوت عنه أسئلة منها: لماذا هُمش المنشقون؟ ومن هي الجهات الواقفة وراء إقصائهم والحرص على غيابهم؟ وما أسباب تراجع دور المنشقين بعد أن كان يُحتفى بانشقاقهم في بداية الثورة؟ وما انعكاس هذا الغياب على الشق العسكري من الثورة السورية؟

الانشقاق

يعرف السوريون أكثر من سواهم أن حافظ الأسد صمم “الجيش العربي السوري” ليكون “جيشه” في اللحظة التي يتعرض فيها نظامه لخطر السقوط، ولا يتسع المقام هنا لاستعراض آلية “تدجين الجيش” ليصل إلى حد يكون انقلابه على النظام مستحيلا، وكذلك الانشقاق الجماعي المؤثر الواسع، مستفيداً بطبيعة الحال من دروس الانقلابات العسكرية منذ خمسينيات القرن الماضي إلى ما بعد مذبحة حماة.

الانشقاق عملية غير مضمونة العواقب، وفرص انكشافها أكبر من نجاحها، أي أن هذه التجربة كانت في ذلك الوقت وفي معظم الأحيان أقرب إلى العمل الانتحاري، وتداعياتها المميتة قد تصل إلى ذوي المُنشق،

لكن اللجوء إليها كانت أسبابها لا تقل عن الأسباب التي دفعت بملايين السوريين إلى تحدي آلة القتل، وفي حالة الانشقاق ألا يكون المُنشق جزءا من آلة القتل على أقل تقدير، وهو ما فسر احتفاء الثوار بالمنشقين، وتداول فيديوهات انشقاقهم على نطاق واسع.

من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى ما يستحق فعلا أن تُفرد له أبحاث ودراسات، وهو الضرر الذي لحق بالنظام جراء الانشقاقات، فهي وإن كانت فردية إلا أنها تسببت في خلل مهم ومؤثر في الوحدات العسكرية، ونقص في الكوادر، وأطقم العتاد الحربي، أجبرت عمليا النظام لاحقا إلى هدم البنية الكلاسيكية للقوات السورية، لتتحول خلال وقت قصير إلى ما يمكن الجزم بوصفه أنها مجرد ميليشيات، بُنيت على أساس طائفي يستجيب بشكل موضعي للتطورات العسكرية في مكان هنا أو هناك.

من سجن إلى آخر

كثر من المنشقين وفي مقدمتهم الضباط اضطروا، أو دفعوا دفعا إلى مخيم الضباط في جنوب تركيا أو الأردن، وهنا لا يمكن إغفال عامل تأمين ذوي المنشق هربا بالدرجة الأولى من الملاحقات الأمنية.

كثير من المنشقين إن لم يكن جميعهم اعتقد أن المخيم خطوة أولى إلى معسكر للتدريب وتنظيم الصفوف للعودة السريعة المنظمة في الانخراط ضمن منظومة الجيش الحر، على أمل وضع خطط للتنظيم على أسس وقواعد عسكرية احترافية منضبطة وصحيحة، لكن كان كل ما ينتظر المنشقين هو الاستنزاف في طوابير تحصيل الحد الأدنى لمعيشة عائلته.

تهميش الضباط المنشقين كان في ذلك الوقت حالة غير واضحة المعالم ومن الصعب الحكم عليها إن كانت ممنهجة ومقصودة أم فرضتها ظروف الثورة وعشوائية العمل العسكري، وعدم وجود قيادة سياسية حقيقية تحتويها أو رأس يقودها، فالضباط المنشقون لم يقوموا بانقلاب عسكري وتبعتهم الجماهير الشعبية، بل الشعب هو من قام بهذه الثورة والضباط الأحرار التحقوا بركبها رافضين أوامر قيادتهم بقتل أهلهم، منحازين لمطالب الشعب، دون أن يكون لديهم أي مشروع سوى الدفاع عن الشعب وإسقاط النظام.

إلا أن تكديس الضباط ضمن مخيم أسواره محكمة وتحت حراسة مشددة وخاصة بعد اختطاف المقدم حسين الهرموش وتسليمه للنظام، وعدم اهتمام قيادة المعارضة السياسية المتمثلة بالمجلس الوطني آنذاك وفيما بعد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وعدم تقديم أي دعم لهم، كان له بالغ الأثر على نفسياتهم وتحطيمها، وهكذا تحول المنشق الذي كان سجينا خلال خدمته العسكرية ضمن أسوار رفضه أن يكون جزءا من آلة القتل، إلى سجن آخر أوله المخيم وزنازينه فصول متلاحقة من التهميش.

التهميش في الخنادق

دفعت الخلافات والاصطفاف بين تياري العقيد رياض الأسعد والعميد مصطفى الشيخ إلى نشوء تيار ثالث شكّل المجالس العسكرية في المحافظات، وقادت بدورها هذه المجالس عمليات عسكرية حققت نجاحات كبيرة رغم شح الدعم والصعوبات في التعامل مع الثوار غير المتقيدين بأسس العمل والانضباط العسكري ممن لديهم دعم خاص من جهات كانت تحرص على عدم دعم الضباط، إلا أن هذا لم يمنع الكثير من المنشقين من الذوبان في الفصائل المقاتلة.

خناجر الشك المسمومة

في أحيان قليلة عن جهل وتوجس، وأحايين أكثر عن دراية ومعرفة، كان يجري شحذ خناجر التشكيك بالمنشقين، وهم من بعد أن فرح بهم المتظاهرون، بدأت عملية نبذ لهم، إذ كان يجري الترويج وخصوصا مع نمو الصبغة الإسلاموية أن المنشقين هم علمانيون وبعثيون، أو كيف يمكن أن نثق بمن تخرج من كليات ومدارس الأسد العسكرية، وصولا إلى أن المنشقين إن نظموا أنفسهم فسيعيدون سوريا إلى حكم العسكر في حال سقوط النظام.

وهنا من المناسب الإشارة إلى غصة حين كان تُسدل الستائر أيام الأسد للصلاة خشية أن يُتهم المصلون أنهم “إخوان مسلمون”، ولاحقا صار على المنشقين أن يلهجوا بصلاتهم حتى تصدق “التيارات الإسلاموية” أنهم ليسوا أسدييْن، وهكذا تعاضدت عوامل شتى لإبعاد المنشقين العسكريين عمّا كانوا يأملون القيام به، واصطدمت محاولاتهم في مشاركة خبراتهم العسكرية بنظرات استعلاء وتعامل فج، وخصوصا من جانب “قادة الفصائل” الذي بدؤوا النظر إلى فصائلهم على أنها إقطاعية خاصة بهم.

وبناء على ما تقدم، يمكن رسم ملامح مرتكزات البعد الاستراتيجي لتهميش الضباط المنشقين آخذين بعين الاعتبار العوامل الداخلية، وأيضا البعد الإقليمي والدولي، خاصة بعد تشكيل غرفتي العمليات، الموم والموك.

خط أحمر

يمكن القول راهنا إن  تشكيل مؤسسة عسكرية حقيقية بقيادة ضباط متمرسين على أساس رؤية وطنية بعيدة عن التعصب الطائفي والعرقي، كان خطا أحمر، لأن بناء مثل هذه المؤسسة يعني أنها ستكون منافساً قوياً لمؤسسة النظام العسكرية الطائفية الدموية القائمة على تصورات متطرفة، وستصبح مثل هذه المؤسسة عاملَ جذب وتشجيع لكثير من العسكريين ومن كل الرتب وكل المكونات على الانشقاق عن جيش العصابة الأسدية والالتحاق بها، وهذا ما سيسرع بإسقاط النظام ووصول شريحة من الضباط الوطنيين الأحرار إلى قيادة الجيش ، وهذا ما تخشاه إسرائيل ولا ترغب به الكثير من الدول الإقليمية والدولية.

الفوضى هي الهدف

كان لافتا أن فوضى العمل المسلح لم تكن بريئة، وكان أحد أبرز أدواتها ضرورة إقصاء الضباط الأحرار وتجريدهم من كل الأدوات والأسباب التي تمكنهم من البقاء في الساحة، ودعم قادة ميدانيين في سبيل تحويل العمل العسكري إلى بندقية بدون عقل، أو تقوية الانحرافات الكبيرة عن أهداف الثورة، وتبرير التجاوزات والأخطاء.

ظهرت الإرادة الدولية بتهميش الضباط وإقصائهم جلية واضحة أواخر العام 2012 في مؤتمر أنطاليا لتشكيل قيادة أركان الجيش السوري الحر وكانت محطة فارقة في العمل العسكري حيث تم تشكيل المجلس العسكري الأعلى أو كما أطلق عليه (مجلس الثلاثين) وفُرض تصور تشكيله على أن يكون ثلثا أعضائه من المدنيين والثلث الآخر من الضباط واختيار نواب لرئيس الأركان ونواب قادة الجبهات أيضاً من المدنيين مما حجّم دور الضباط وألغى فاعليتهم وخاصة عندما أصبح الدعم الدولي يأتي عن طريق أولئك القادة الثوريين إلى فصائل بعينها دون معرفة رئيس الأركان أو قادة الجبهات والمجالس العسكرية وبالتالي أصبحوا واجهات دون أي فاعلية أو تأثير.

وهنا أشير على سبيل المثال لا الحصر إلى افتقار أغلب القادة للعلم العسكري والخبرة في التخطيط للمعارك واتخاذ القرارات الصحيحة في الأوقات المناسبة، فكان كثير من هؤلاء القادة يتفاخرون بالعدد الكبير من الشهداء في فصائلهم ظناً منهم أن ذلك شجاعة وبطولة غير مدركين أن القائد الناجح هو الذي يستطلع أولا بشكل علمي ويخطط بشكل متقن ويقود تاليا المعركة لتحقيق النصر بأقل قدر ممكن من الخسائر.

حوض التطرف

كانت هناك عدة جهات تنظر بل ترعى نمو التيارات الراديكالية المتطرفة لتحويل سوريا إلى حوض يجذب المتطرفين من كل مكان لضربهم لاحقا، وهي لعبة يحترفها نظام الأسد وأنظمة أخرى في المنطقة،

وتزامن بروز ملامح التحول إلى فصائل إسلاموية مع إطلاق سراح قيادات من سجون نظام الأسد، تبعه رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي وأطلق المئات منهم من سجن أبو غريب، وما ساعد على ذلك وجود بيئة عربية لديها الاستعداد لتقبل هكذا تيارات وتوفير لها مصادر تمويل دائمة ومستمرة من قبل حكومات ظل وشيوخ سلفيين ومنظمات دينية ودعوية وإغاثية بعضها يحيط بها شبهات كبيرة على أنها واجهات لأجهزة استخبارات وجدت ضالتها في سوريا بعد أن فشلت في أفغانستان والصومال وغيرهم من البلدان، وأمام هذا الواقع اكتملت عملية تجفيف دعم المنشقين وأمل إنشاء مؤسسة عسكرية وطنية.

المنشق ثائر ووقفة عند محطات خالدة

رغم كل ما سبق من تضييق وتشكيك، إلا أن الكثير من المنشقين تحمل مسؤولياته الأخلاقية والتاريخية بكل أمانة وجدارة وإخلاص، والتاريخ يشهد على المعارك التي قادها منشقون وحققت نجاحات كبيرة، حرروا فيها قطعات وثكنات محصنة، ارتقى خلالها ما يزيد على ٤٥٠ ضابطا من مختلف الرتب وآلاف من صف الضباط والأفراد.

وقبل أن أترككم مع محطات لمعارك خالدة، وبعدها محطات الانشقاق التي لا ينساها السوريون، أود التأكيد على أن هذه المادة ليست مجرد استحضار للتاريخ القريب، بل هي مراجعة نحتاج معها إلى الاعتراف بأن الفرصة الآن يجب أن لا تضيع ببناء مؤسسة عسكرية وطنية، وتحويل الجيش السوري الحر إلى مؤسسة عسكرية حقيقة، فهي فقط من ستمهد الطريق لنا إلى دمشق، إلى حريتنا وكرامتنا.

معارك خالدة قادها منشقون:

– معركة تحرير معبر باب الهوى في ربيع العام 2012 قادها العقيد البطل محمد رزوق واستشهد وهو في الصفوف الأولى، وإلى جانبه المقدم محمد بكور الذي أصيب في المعركة، والنقيب مصطفى السيد وكثير من الضباط.

– معركة تحرير مدينة الأتارب قادها الشهداء الملازم أول أحمد الفج والنقيب مصطفى عبد الرزاق والملازم محمد اليوسف.

– معركة تحرير الفوج 46 قوات خاصة في ريف حلب الغربي قادها مجموعة من الضباط الأحرار في مقدمتهم العميد أحمد الفج (عم الملازم أول أحمد الفج) ابن الأربعة والستين عاماً آنذاك، العقيد عبد الباسط طويل، العقيد محمد العمر، النقيب علي شاكردي، الرائد ياسر عبد الرحيم، النقيب الشهيد عبد الواحد جمعة، النقيب الشهيد محمد نجم، النقيب ناجي مصطفى الذي تعرض لإصابة بليغة في الرأس، النقيب عبد الناصر جلال، النقيب محمد عكاش، الملازم أول مرشد الخالد الذي لا أنسى منظره وهو كالسهم يقود مجموعته حافي القدمين ملفوفتين بالشاش من أثر الإصابة رغم الأمطار والبرد القارس.

– معركة تحرير مدرسة المشاة قادها الشهيد البطل العقيد يوسف الجادر يساعده الشهيد الملازم أول أحمد طلاس، والمقدم محمد حمادين.

– معركة تحرير اللواء 80 في حلب قادها العقيد الركن عبد الرزاق محمد وإلى جانبه المقدم فهد الجويد، والمقدم إبراهيم الجويد، والملازم أول أحمد شبلخ، والملازم أول رضا حمود.

– معركة تحرير مدرسة الشرطة وخان العسل والراشدين غربي حلب قادها الشهيد البطل ابن درعا الأبية المقدم الدكتور المهندس محمد الخطيب يساعده المقدم محمد بكور والعديد من الضباط تم ذكر أغلبهم في المعارك السابقة من الفرقة التاسعة والفرقة 19.

– معارك تحرير كتيبة الصواريخ في حندارات بقيادة الشهيد الملازم أول رفعت خليل أبو النصر.

– معركة تحرير مطار منغ العسكري بقيادة النقيب أحمد غزالي وثلة من زملائه الأبطال النقيب مروان صيادي وشقيقه النقيب عدنان، الملازم أول محمد طلاس أبو الجولان، النقيب المهندس إسماعيل نداف.

– معارك تحرير حلب المدينة بقيادة الشهيد الرائد المهندس يوسف عجان الحديد والشهيد النقيب المهندس محمد دشو والنقباء المهندسين محمد مصباح عجان الحديد، حسام صباغ وتميم باقر.

محطات انشقاق لا تُنسى

– أول حالة انشقاق للمجند في الحرس الجمهوري وليد القشعمي بتاريخ 23 من نيسان 2011 رافضاً إطلاق النار على المتظاهرين في حرستا ومعه بعض زملائه الذين ألقوا أسلحتهم وهربوا (وهذا مؤشر على وعي مبكر بعدم حمل السلاح والإصرار على سلمية الثورة).

– في السابع من حزيران 2011 وفي خطوة غاية في الشجاعة والإقدام يعلن أول ضابط عن انشقاقه عن الجيش هو الملازم أول عبد الرزاق طلاس بسبب ما سماه الممارسات غير الإنسانية واللاأخلاقية وانحاز لمطالب الشعب.

– في التاسع من حزيران 2011 يعلنها مدوية بطل مغوار من الضباط الأحرار الذين أقسموا على حماية الشعب والوطن يفضلون الموت على توجيه سلاحهم إلى صدور أهلهم إنه المقدم حسين الهرموش الذي أعلن انشقاقه عن الجيش السوري بعد حملة على جسر الشغور وقال إنه انشق بسبب قتل المدنيين العزل من قبل أجهزة النظام.

– 24 من حزيران انشقاق ضيغم من ضياغم الرستن صاحب المقولة المشهورة (إن رأيتم الدبابات في الرستن فاعلموا أنى قد استشهدت)، الملازم أول أحمد الخلف، الذي قاوم دبابات النظام بسلاحه الفردي حتى استشهد.

تتالت بعد ذلك انشقاقات من مختلف الرتب وفي منتصف شهر تموز شكّل المقدم حسين الهرموش لواء الضباط الأحرار في محاولة لاحتواء المنشقين وتنظيمهم في تشكيل عسكري للدفاع عن الشعب السوري.

تلاه في 31 من تموز 2011 انشقاق العقيد رياض الأسعد مع مجموعة من زملائه وتشكيل الجيش السوري الحر، وتسارعت عمليات الانشقاق إلى أن انشق العميد الركن مصطفى الشيخ وكان أعلى رتبة تنشق عن جيش النظام في 18 من شباط 2012.

تلفزيون سوريا

—————————-

كيف تغير مفهوم الثورة عند ناشطي سوريا خلال عشر سنوات

العقلية الثورية هي الحركة الثقافية العالمية الوحيدة التي توجد باستمرارية ووعي ذاتي، بدأت تتشكل حوالي القرن الخامس عشر، وكانت الثورة الفرنسية هي أول تعبير رئيسي لها  حيث بدأت حقبة الشمولية والحروب العالمية والإبادة الجماعية المستمرة.

يختلف الثوريون الذين انبثقوا من مخاض واحد، في كل الثورات العالمية، في بعض الطرق التي تلاقت في بعض الأحيان وتنافرت في أحيان أخرى، ولكنهم يجمعون جميعًا على إسقاط النظام القائم الذين ثاروا عليه، وتحدوا كل الوسائل القمعية التي أرادت إسكاتهم عن حقوقهم وحرياتهم.

بعد مرور عقد كامل على الثورة السورية التي انبثقت منذ احتجاجات الشعب السوري على نظامه وأجهزته الأمنية، في 15 من آذار 2011، ناقشت عنب بلدي، مجموعة من ناشطي وناشطات الثورة السورية حول مفهوم الثورة التي خرجوا من أجلها، وتحدوا نظامًا وصفته العديد من الدول الأوروبية بـ “النظام القمعي” ليحققوا مطالبهم بتحقيق الحرية والثورة ضد هذا النظام.

وتوجهت عنب بلدي بالأسئلة لهؤلاء الناشطين بشأن التغيرات التي طرأت على تغير مفهوم الثورة لديهم، خلال هذا العقد، ولخصت إجاباتهم:

محمد العبد الله مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة

الثورة بمفهومها العام هي رفض لمنظومة قيم ومعايير وسياسة حكم، كان قائمة قبل وجودها، وهي رفض للاستبداد وللقمع والفساد وللإقصاء وتهميش الناس ولإلغاء مشاركة المواطن بالحياة السياسية والعامة، ورفض المنظومة هو فرصة لبناء وتغيير قيمها واقتراح صيغة أكثر عدالة وإنصافًا للجميع.

إن التيارات التي مرت بها الثورة السورية، فشلت بطرح بديل كمنظومة أفكار وقيم وحكم وعقد اجتماعي جديد بين السوريين وبين أي طرف من الممكن أن يحكمهم،  وركزت على منظومة بشار الأسد ومنظومة حزب البعث، ولكن الشق الغائب هو الفشل أو التراجع بطرح أي شيء أفضل.

وعندما طرحت أفكار ومبادئ وأوراق وتجمعات حزبية وسياسية، كانت الأوراق المكتوبة فيها نظريًا ممتازة إلى حد كبير، ولكن عندما وصلت إلى التطبيق العملي لم يطبق منها شيء، كما حصل في تطبيق أوراق حزب البعث، ففي أوراق الحزب كانت هناك أفكار ممتازة ولكن لم يطبق منها أي شيء.

حتى أن التطبيق العملي انتهى بشيء يشبه النظام، دخل التسليح إلى الثورة، وانتشرت الفصائل المسلحة، وأصبح التعذيب جزء من ممارساتها كانتهاكات حقوق الإنسان، التي أصبح الاختطاف والاعتقال فيها جزءًا روتينيًا يمارس من قبل الفصائل.

عندما بدأت أطراف المعارضة بالعمل لتحل محل النظام، كنظام حكم ولو على صعيد مدن أو قرى أو بلدات أو مناطق محررة، كررت نفس ممارساته، وهو أمر متوقع بعد 40 أو 50 سنة من التغييب والتصحر السياسي، ورفض إشراك المواطنين بأي دور واستخدام العنف ضد الناس في حالة التعبير عن رفض الفساد أو أي مشكلة أخرى ليصبح مصيرهم السجن

كما أن الانتقالات التي حصلت في المناطق المحررة، أخافت الناس من إمكانية حدوث تغير حقيقي على مستوى سوريا، فأصبح لديهم شكوك أن هذا التغيير لن يحصل، وإذا ماحل أحد مكان  الأسد، فسيكون شبيهًا به أو لربما أسوء منه لأنهم تربوا بنفس المدرسة وعلى نفس السلوك والأفكار.

لعبت الدول الإقليمية دورًا مباشرًا في التأثير على الفصائل المسلحة، التجاذبات بين السعودية وقطر وتركيا والإمارات كان لها دور على الفصائل المدعومة عللى الأرض من جميع الأطراف، الأمر الذي جعل الفصائل، تجعل من مصلحة الداعم لها فوق مصلحة المواطن السوري.

لم يتغير مفهوم الثورة بالنسبة لي، ولكنني أتفهم المخاض الذي مرت به هذه المرحلة من الثورة وأسبابها، نحن بحالة من الأمر الواقع أو المخاض لمدة أربع أو خمسة سنوات أخرى.

ربما سيلعب الضغط الدولي على الأطراف الإقليمية دورًا في تخفيف دورها السلبي وتدخلها بالمناطق الخارجة عن سيطرة الاسد، ولربما يخفف من الانتهاكات الحاصلة، ومن الحالة السلبية في تلك المناطق،  ولكنه لن يقدم نموذج الحكم الذي يطمح له المواطن السوري الذي خرج بثورة ورفض نظام الأسد.

صحفية سورية وناشطة في مجال حقوق الإنسان

بعد سنوات من تجذر العنف والقمع في سوريا، من الصعب جدًا تحقيق تغيير جذري سريع في الثورة، دونما أن يترافق بكميّة عنف هائل.

اليوم.. هنالك خسائر فادحة ستمتد إلى السنوات العشر المقبلة، وخاصّة على مستوى المواطنة وتعايش الناس مع بعضها البعض والذي يحتاج إلى عمل هائل، يبدأ من محاسبة مرتكبي الجرائم التي وقعت في سوريا من أي جهة كانت، إلى الحوار والاعتراف بالمسؤولية ومحاولة تقبل الرأي الآخر حتى ولو بعد سنوات، والاعتراف بأن الظلم وقع على كل طرف ما دام سوريًا.. وإلاّ سنغرق في المزيد من الخطاب الإقصائي، ويقابله هويّات تنمو تحت شعور المظلوية الإشكالي.

اكتسب السوريون مقابل كل خسائرهم، تجربة عظيمة في عمل منظمات المجتمع المدني الإعلامية كما الإغاثيّة والحقوقيّة.

أؤمن أن التغيير مجتمعي جذري للثقافة والفكر السياسي أو الاجتماعي لا يمكن إنجازه بشهر اواثنين.. قطعنا شوطًا وبالتأكيد القادم أجمل.. فكما قال سعد الله ونوّس.. إننّا محكومون بالأمل.

الناشط السياسي محمد غانم

الثّورة السورية هي لحظة انعتاق من خوف كان قد سكن قلوب السوريين لردحٍ طويلٍ من الزمن، ولحظة تمرّد على آلهةٍ مزيفة نصبت نفسها أربابًا على السوريين.

صار فهمي للمجتمع السوري أعمق بكثير مما كان عليه في الماضي، لدينا تحديات كبيرة لا مناص من مواجهتها وتجاوزها قبل أن نستطيع أن نتغلّب على منظومة الطّغيان.

الثّورة اليوم صارت مُختطفة من قبل جماعات سياسيّة تبحث عن مصالح فرديّة أو حزبيّة ضيّقة وهي بحاجة إلى أن تعود كحركة شعبية لجميع السّوريّين، كما أن قرار السوريين اليوم لم يعد بيدهم والكثيرون يحسبون حسابًا لهذه الدّولة أو تلك، بدلًا من أن يسددوا ويقاربوا كما فعل أجدادنا السوريون حين قاوموا المستعمر الفرنسي بالبارود والسياسة والدّبلوماسية والتنظيم معًا.

بشّار الأسد لم ينتصر وهو موجود اليوم بفعل الحاكمين الفعليين لسوريا، وبفعل المنظومة الدولية التي تنظر لمنطقتنا بعين معينة، وتحسب لها حسابات خاصّة، لا تمتّ لمصالح شعوبنا بأيّ صلة.

المصور والصحفي السوري خليفة خضر

كل التغيرات والتيارات التي مرت بها الثورة السورية، يمكن اختزالها بجملة واحدة وهي “لا ذنب للعنب بما يفعله النبيذ”، فما جرى أثناء الثورة ليس بذنبها، وإنما ذنب المجتمع، لأن مبادئ الثورة هدفها أسمى من حصرها بفصيل عسكري أو منطقة جغرافية بعينها أو بحزب أو حكومة.

الثورة السورية لا تنتهي بانتهاء منطقة أو حتى بسقوط نظام، وإنما هي ثورة إنسان من أجل الحياة ومن أجل كرامة الإنسان، هذا هو مفهومي للثورة، ولم يتغير منذ انبثاقها.

اقتصار إحياء الثورة بالمظاهرات وطقوس المسيرات لا يكفي، وهو أحد السلبيات التي أراها في أذهان الكثيرين، فالثورة بمفهومه لن تنتهي إلا بتحقيق مطالبها.

المحامية والناشطة في مجال حقوق المرأة صباح حلاق

الثورة بالنسبة لي هي استرداد للحقوق وتمتع بالحرية، والحفاظ على كرامة الإنسان والعدالة والمساواة بين كل السوريين والسوريات بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو عرقهم أو قوميتهم.

الثورة هي حرية وتغيير، فالثورة عندما بدأت عام 2011 كانت فرصة ذهبية للنساء، ليثوروا على التمييز الكبير والمنهجي المعد من قبل الحكومات المتعاقبة ضمن هذا النظام الاستبدادي، الذي حرم كل المواطنين والمواطنات من حقوقهم وكرامتهم، وكانت فرصة لكل النساء السوريات للمطالبة بحقوقهن.

الثورة مستمرة للناس السلميين الذين مازالوا يتأملون بدولة حرية ديمقراطية، ليتمتعوا بحقوقهم ويؤدوا واجباتهم فيها.

الثورة قائمة ومازالت ولو طال الزمن وهنالك حتمًا نتائج لهذه الثورة، ستتمتع بها الأجيال القادمة من السوريين والسوريات.

وعلى الرغم من كل مادخل على الثورة من تسليح وتقسيم، وفقدانها لآلاف العشرات من شبابها ونزوح الملايين منها، يبقى الناس الفقراء الذين شهدوا أكبر الانتهاكات من مختلف الأطراف، هم من دفعوا الثمن الأغلى.

الثورة هي تغيير وكل عملية تغيير صعبة جدًا، وطريقها متعرج وثمنها غال جدًا، وهو فقدان الأهل والأحبة.

الزمن القادم سيقول إن السوريين عندما خرجوا في آذار 2011، كانت ثورتهم ثورة شعب نادى بالحرية والكرامة، وسيذكر التاريخ يومًا ما كل البطولات التي سجلها السوريون.

الصحفي السوري أحمد حاج بكري

مفهوم الثورة بالنسبة لي منذ البداية هو السعي المجتمعي والشعبي نحو الأفضل، من خلال تحقيق العدالة والمساواة وتطبيق حقوق الإنسان وتأمين خدمات أفضل، وتوفير حياة تعليمية وتأمين صحي أفضل، وتوفير حياة سياسية متوازنة تتضمن الديمقراطية وتعدد الأحزاب.

تضاربت لدي أفكار وأهداف الثورة خلال هذه السنوات، من خلال التشكيك ببعضها، ولكنني اقتنعت بعناوين عريضة لا يمكن النقاش فيها، أو التفاوض لتسويتها، ففي بداية عام 2013، ومع ظهور الفصائل الإسلامية المتشددة على ساحة النزاع السوري، كان البعض يعتبرها جزءًا من الثورة، وما زال البعض حتى الآن يعتقدون بذلك، ولكن بالنسبة لي، فالثورة هي شيء يختلف كل الاختلاف عن هذه المكونات المسلحة، وبالتالي فإن أي مكون سياسي أو ديني أو عرقي لا يحقق مبادئ وأهداف الثورة لا يمثلها، ويبعد عنها كل البعد.

فتحت الثورة أبوابها للناس كي ينطلقوا من هذا السجن الكبير، لتحقيق أحلامهم وأفكارهم، فإذا كنت مدينًا لشيء في هذه الحياة، فأنا مدين للثورة التي جعلتني ما أنا عليه حاليًا، فهي التي كونتني فكريًا واجتماعيًا وثقافيًا وجعلتني أعمل بالطريقة التي أنا أرغب بها، والمجال الذي أرغب به وبالقناعات التي أؤمن  بها.

الناشط الإعلامي إبراهيم الإدلبي

مفهوم الثورة السورية لم يتغير أبدًا بنظري الآن عن لحظة بدايتها، لأنه غير قابل للتغيير، فهي ثورة كرامة ضد الاستبداد والبحث عن الحرية، ولكن التغيرات الدولية والإقليمية المحيطة بسوريا خلقت بعض التيارات المتغيرة التي أدت إلى مرور الثورة بمنعطفات شكلت مفهومًا أن هنالك تغيرًا بمفهوم الثورة.

ولكن إذا عدنا إلى الأساس فلن نجد أي تغير بالمفهوم الفكري للثورة السورية، إنما التغيرات الإيديولوجية كانت لبعض الأشخاص الذين تقلدوا بعض المناصب السياسية، وكانوا واجة الثورة السورية في المحافل الدولية لبعض الأحيان.

الثورة انتصرت وستكمل انتصارها، انتصرت على الخوف وعلى المؤسسات الأمنية والديكتاتورية والحزب الواحد، كما انتصرت على القمع الذي عاش فيه الشعب السوري على مدار خمس حقب.

ولن تنتهي الحرب في سوريا من دون حل سياسي، ينهي وجود السلاح في الشارع السوري دون قيادة مركزية لإدارته، فنحن لا نريد عيش التجربة العراقية التي تعيش حالة من الفلتان الأمني.

خلود حلمي صحفية سورية وعضو مجلس إدارة مؤسسة عنب بلدي

الثورة السورية بالنسبة لي هي بمثابة حلم لخلاص قريب ومحقق، وكانت الأمل أن تعود سوريا لكل السوريين، وأن يتحقق من خلالها تغيير سياسي ومجتمعي وحريات بسقف مرتفع.

كانت الثورة ومازالت الروح الي بعثت لنا وخاصة بعد سقوط عدة رموز سياسية بدول مجاورة، مثل مصر وتونس واليمن. الثورة كانت بالنسبة لي اللحظة الأولى التي أحسست فيها أني سورية وأنتمي لسوريا.

ومازالت الثورة هي فرصتنا كسوريين لتغيير منهجيات تفكيرنا وكيفية رؤيتنا لمستقبل سوريا كمواطنين، وقدرتنا على التعبير عن كثير من الأمور التي كانت بالنسبة لنا بمثابة “تابوهات”.

ماتغير حقيقة بعد عشر سنوات منها هو الأمل، الذي ضعف بمرافقة الإحباط والعديد من الخسارات التي عايشناها، ولإثبات  مايسمى بالعدالة وحقوق الانسان والقوى الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمن، أنها مجرد شماعات ساعدت بطول أمد معاناة السوريين

وإن التيارات والتغيرات الي طرأت على الثورة، هي ردة فعل منطقية، لكل الكبت السياسي والمجتمعي الذي عايشه الشعب السوري، وتخاذل القوى الدولية عما حصل في سوريا، لتحقيق مكاسبهم الدولية، وظهور مطامع دول أسهمت بتشرذم السياسيين والعسكريين وحتى المجتمع المدني.

ولكن هل فقدت الايمان بالثورة السورية؟ “أبدًا.. ولو عاد الزمن الزمن بي مجددًا، لاخترت طريق الثورة رغم كل الخسارات الي دفعت ثمنها بشكل شخصي وعلى مستوى البلد”.

عشر سنوات من الدموية.. محاسبة متأخرة

مع تصاعد العنف ضد احتجاجات الشعب السوري الذي خرج في 15 آذار 2011، وطالب بالحرية والعدالة والكرامة، ثم بإسقط النظام السوري، أكملت  الثورة السورية عامها العاشر، وأصبحت سوريا واحدة من بين أكبر الأزمات الإنسانية وأكثرها دموية في العالم.

ويخضع مسؤولون في النظام السوري لعقوبات أوروبية وأمريكية، منذ بداية الثورة السورية، وبالمجمل تضم القائمة 270 شخصًا مستهدفين بتجميد الأصول وحظر السفر، إضافة إلى 70 كيانًا.

وحملت الولايات المتحدة الامريكية ودول الاتحاد الأوروبي، في الذكرى العاشرة للثورة، رئيس النظام السوري، بشار الأسد، وداعميه مسؤولية “الحرب ومعاناة الشعب السوري”، كما انطلقت مطالبات أممية للتحرك في قضايا جرائم انتهاك حقوق الإنسان المرتكبة في سوريا ومحاسبة المجرمين.

وتعمل السلطات الأمنية والقضائية في دول الاتحاد الأوروبي على اعتقال ومحاكمة من يثبت ضلوعهم من اللاجئين السوريين بعمليات “إرهابية” أو جرائم حرب ضد السوريين، سواء كانوا مدنيين أو مقاتلين سابقين في صفوف فصائل المعارضة المسلحة، أو النظام السوري.

قدمت هيئة تابعة للأمم المتحدة تعمل على ضمان العدالة في جرائم الحرب التي ارتكبتها جميع الأطراف في سوريا، معلومات وأدلة إلى 12 سلطة قضائية وطنية تعد قضايا جرائم الحرب في سوريا.

وقالت كاثرين مارشي أوهيل، من “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة” التي تحقق في أخطر الجرائم في سوريا، إن مقاطع الفيديو والصور وصور الأقمار الصناعية والوثائق المسربة وإفادات الشهود وعينات الطب الشرعي تشكل “أفضل حالة موثقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”.

وبحسب آخر تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان” والذي صدر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الحراك الشعبي نحو الديمقراطية في سوريا، وثقت الشبكة مقتل 227 ألفًا و413 مدنيًا، بينهم 14 ألفًا و506 تحت التعذيب، واعتقال 149 ألفًا و361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري.

عنب بلدي

——————————-

انتصار الأسد!/ فايز سارة

حملت نهاية العام العاشر لثورة السوريين على نظام بشار الأسد، مزيداً من الإعلانات عن انتصار بشار الأسد في الحرب على السوريين وثورتهم، ولم تكن الإعلانات مقتصرة على نظام الأسد وبعض حلفائه من دول ومؤسسات، بل إن أطرافاً أخرى، وفيها أطراف مصنفة في قائمة «أصدقاء الشعب السوري»، انضمت إلى جوقة أصحاب الإعلانات، واعتبرت أن الأسد انتصر في حرب السنوات العشر.

فكرة انتصار الأسد في معناها، ليست واحدة عند القائلين بها ومروجيها. الأكثرية منهم ترى أن بقاء بشار في منصبه واستمرار وجود نظامه، هو النصر بعينه، وبعض هؤلاء يزيدون في تأكيد النصر، بالإشارة إلى أن نظام الأسد يستعد لإجراء انتخابات رئاسية قبل منتصف عام 2021، ستؤدي إلى فوز بشار بصورة مؤكدة، وتوليه فترة رئاسية جديدة مدتها سبع سنوات، وبعض القائلين بانتصار بشار، يرون أن النصر إنما يعني استعادة سيطرة الأسد على القسم الرئيسي من الأراضي السورية، التي خرج أكثرها عن سيطرته في السنوات الأولى من الثورة، ولا يرى هؤلاء في المناطق التي يسيطر عليها الأتراك ومجموعات متحالفة معهم بمن فيهم «هيئة تحرير الشام» في شمال غربي سوريا، و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تسيطر على شرق الفرات بدعم من الولايات المتحدة، إلا حالتين مؤقتين، سوف تتم استعادتهما في وقت قريب.

وبخلاف كل من سبق من القائلين بـ«انتصار الأسد»، فإن حلفاء الأسد الأساسيين، وخاصة روسيا وإيران، يرون انتصار الأسد من خلال وجودهما في سوريا؛ لأنهما موجودان برغبة منه، وإذا كان الأمر عند الإيرانيين في إطار المسلّمات والبديهيات، فإنه عند الروس مؤكد وحتمي وسيكون لاحقاً، وهذا ما كرره وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مرات. وثمة نوع آخر من القائلين بـ«انتصار الأسد»، لا تستند رؤيتهم في ذلك إلا إلى تقديرات وأوهام ورغبات في «انتصار الأسد»؛ الأمر الذي يمكن أن يعطيهم دوراً ومكانة سياسية في سياسات شرق المتوسط وفي مستقبل سوريا، وبعضهم يتصور أن ذلك سيعطيهم فرصة لتحقيق مكاسب اقتصادية من خلال مشاركتهم في إعادة إعمار سوريا بعد الحرب.

غير أن مقولة «انتصار الأسد» على تعدد وتنوع خلفيات رؤى ومواقف القائلين بها، لا تجد ما يسندها في الوقائع السورية. فأي «انتصار» هذا بعد كل ما فعله الأسد ونظامه بالدولة والمجتمع في سوريا من تدمير وقتل وتهجير طوال عشر سنوات مضت، كان الأهم في نتائجها ابتلاع السلطة للدولة، ومع الفشل الذريع الذي أصاب الأولى، فقد تحولت الثانية إلى دولة فاشلة، وصارت مؤسساتها وأجهزتها مجرد أدوات لعصابات إجرامية مغرضة، تسيطر بالقوة والإرهاب ليس أكثر، وحيث عجزت عن تأمين سيطرتها، فإنها استدعت دولاً وميليشيات وعصابات مسلحة أغلبها موصوف بـ«الإرهاب» من جانب المجتمع الدولي من أجل إحكام سيطرتها وتكريسها، حيث حوّلت المجتمع إلى كيان مدمر من الناحيتين البشرية والمؤسساتية، ومن الناحية البشرية صار نصف السوريين لاجئين في عشرات من دول العالم، كما صار ربعهم قتلى ومعتقلين ومختفين وجرحى معاقين، وتحول ما تبقى من السوريين إلى أدنى درجات الفقر، وتدهور مستوى حياتهم الإنسانية إلى حدود غير مسبوقة، وخاصة في مناطق سيطرة النظام.

وبدا من الطبيعي، أن ينعكس تدمير البنية البشرية للمجتمع السوري على واقع مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتم تدمير أغلبها، وتهميش وإلحاق ما لم يدمر. وعلى سبيل المثال، فإن جميع المؤسسات السياسية والمنظمات الاجتماعية، إما جرى فرط عقدها بحجة مكافحة «الإرهاب» أو أصبحت ملحقة بفروع المخابرات وخاضعة للسيطرة الأمنية، أو تم إضعافها بحيث لا تستطيع أن تفعل شيئاً، وهكذا لم يعد للنظام وليس لرئيسه فقط أي قدرة على الفعل والتأثير خارج الخط الأمني، بل إنه في هذا ليس أكثر من واجهة، تختفي وتتصرف من ورائها قوى الأمر الواقع، وخاصة تلك المحسوبة في عداد حلفاء نظام الأسد روسيا وإيران وميليشياتها، وكلها غير معنية بأي مسؤولية أو عمل حيال السوريين أو أي تقدمات لهم، ما عدا تكريس وجودها وسيطرتها من أجل مصالحها الحصرية.

ولأن الأسد ونظامه وصلا إلى هذه الحدود، فلم يعد بإمكانهما القيام بأي دور في معالجة الأوضاع القائمة ومواجهة تداعياتها، أو السعي للخروج منها سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي، وبالتالي فالأمور جميعها إلى تفاقم على كل المستويات، ولعل الأبرز على الصعيد الداخلي، تزايد التفسخ في البنية الاجتماعية الداعمة للنظام، وكان بين تجليات التفسخ في المستوى الأعلى صراع داخل الحوزة الصلبة للنظام بين آل الأسد وآل مخلوف، وانتهى بتدمير رامي مخلوف والاستيلاء على مؤسساته واستثماراته لصالح بشار الأسد وزوجته، ومن تجليات التفسخ على صعيد مؤيدي النظام وبطانته وداخل أجهزته حالات الموت الغامض لضباط وشخصيات محسوبة على نظام الأسد، وما يحصل في الجهاز الإعلامي – الدعائي للنظام الذي شهد اعتقال واختفاء عشرات المؤيدين العاملين فيه في الآونة الأخيرة.

ومما لا شك فيه، أن تدهور سياسات النظام وأوضاعه على الصعيد الداخلي، تتماثل مع خط موازٍ للسياسات على الصعيد الخارجي، وهو ما يظهر في تعامله مع خصومه الذين صنفهم في مقدمة الفاعلين في المؤامرة الدولية على الأسد ونظامه؛ إذ يتابع مهاجمتهم من جهة، وتمرير رسائل التودد لقبوله كما هو، وكأنه لا يدرك حجم ما ارتكبه من جرائم، تتجاوز في نتائجها وتداعياتها الواقع السوري إلى المحيطين الإقليمي والدولي، ومن الصعب أن يتوافق الاثنان في مسامحة النظام على جرائمه وارتكاباته… ويتابع الأسد سياساته وجرائمه بدلاً من أن يذهب إلى ملاقاة المساعي الدولية نحو حل سياسي على أساس القرار الدولي 2254 مقابل استعداد الفاعلين للمشاركة في إعادة إعمار سوريا، وتشجيع الدول الأخرى على ذلك، ويمتد هذا السلوك بصورة ما إلى علاقاته مع حلفائه الذين كان لهم الفضل الرئيسي في بقائه واستمرار نظامه، أعني الروس والإيرانيين، ليس فقط في سياسة التلاعب والتذاكي والكذب معهما، أو تشجيع التنافس بينهما، والاستيلاء على بعض مساعدات يقدمها الطرفان، يستولي عليها رأس النظام أو بعض بطانته، وقد تسربت في العام الماضي من المصادر الروسية، وأقل من المصادر الإيرانية عن خلافات الاثنين مع نظام الأسد بسبب تلك الحالات.

وسط تلك المحصلة من تردي نظام الأسد وتدهور سياسات رئيسه، تتوالى إعلانات «انتصار الأسد». وإذا كان ذلك من السهل قوله من جانب النظام ورئيسه الذين أعلنوا انتصارهم منذ الأيام الأولى للثورة، ورددوا مئات المرات كلمة «خلصت» تعبيراً عن انتصارهم، فإن من الغريب صدور تلك الإعلانات عن آخرين في وقت يعرفون ويعرف العالم كله وقائع ومعطيات وحقائق، تؤكد استحالة انتصار الأسد في الصراع السوري.

الشرق الأوسط

————————

النَّدم على الربيع العربي/ سهيل كيوان

ماذا جنينا من الربيع العربي؟ إنه مطر موحل وليس ربيعاً، ما هي نتائج هذا الذي أطلقتم عليه ربيعاً عربيّاً؟ لقد دمّر اقتصاد الدُّول العربية واستنزف طاقات شعوبها، كان الناس قبل ربيع الدَّمِ آمنين في بيوتهم، لم يضطروا إلى اللجوء والهجرة، ولم يتعرضوا إلى هذه الإهانات التي يلاقونها حيثما ذهبوا، لقد كان سعر صرف الليرة أو غيرها من العملات العربية مقابل الدولار كذا وكذا، ولكن العملات تدهورت! وكان ثمن ربطة الخبز كذا، وجرّة الغاز كذا، ولم تكن طوابير أمام الأفران، فإلى أين وصلنا؟ لقد كان التعليم والتطبيب متوِّفرا للجميع، إذن، لقد نجحت المؤامرة على الشعوب العربية، والمستفيد الوحيد مما جرى هو إسرائيل وأعداء العرب.

هكذا يردِّدُ بعضُ أولئك الذين صدمتهم غزارة الدماء التي أهرقت، بعض هؤلاء من ردّاحي الأنظمة، وبعضهم يتحدث بنيِّة طيّبة، وكان يحلم بتغيير هادئ من دون إراقة دماء. خطأُ هؤلاء الحالمين أنهم يحمّلون الشعوب التي ثارت مسؤولية التدهور والخراب. الحقيقة أنه لولا ما سبق الثورات من ظلم وقمع وفقر وانسداد في طريق أي محاولة للإصلاح، لما قامت ثورات أصلا. الثورات لا تشتعل بقرارات خارجية، والشعوب لا تثور بواسطة حاكوم (رِيموت) من بعيد، ولا من خلال دعايات مهما كانت قُوَّتُها، الانقلاب نعم، ممكن أن يحدث بالقوة، يسيطر العسكر على مقاليد الحكم ويعلنون حالة طوارئ وينتهي الأمر، ولكن الثورة لا تنطلق إلا عندما يكون الناس مستعدّين للمقامرة في مواجهة خطر الموت، أو الاعتقال والتعذيب والسجن الطويل، أو قطع الأرزاق، بسبب رداءة وتعاسة واقعهم.

قد تحاول جهة ما تثوير الناس لأجندة ما، وقد يخرج بضع مئات وحتى عشرات الآلاف إلى الشوارع نتيجة تحريض أو دعاية كاذبة، ولكن إذا كان النظام سليماً، ولديه الحد الأدنى من العدالة، فلا تلبث المياه أن تعود إلى مجاريها ولو على مَضَضٍ. لكن عندما يكون الألم حقيقياً وعميقاً جداً وملتهباً، ووصل إلى حدِّ اليأس، فإن الملايين يخرجون إلى الميادين والشوارع لأسابيع وأشهر وربما لسنين، في مواجهة المخاطر، لأنهم ما عادوا قادرين على تقبّل واقعهم، ويزدادون توهّجاً عندما يشمُّون رائحة الحرّية تقترب منهم، وهذا ما حدث في الربيع العربي.

الثورات لا تنجح في الموجة الأولى، لأن لكل نظام جذورًا عميقة يضربها خلال عقود من زمن حكمه، وليس من السهل اقتلاعها، فهناك فئات واسعة أيضاً من المستفيدين والمكرَّسين، يخشون فقدان امتيازاتهم، فيدافعون عن النظام لأنهم باتوا جزءاً منه. أكثر من مرَّة، تساءل بعض ثوار الصالونات، أين قيادات الثورات العربية؟ هذا استغباء وليس غباءً، فهؤلاء يعرفون أنه لا يوجد نظام ديكتاتوري يسمح بنشوء معارضات داخل بلده، اللهم إلا الشَّكلية منها، فالمعارضات تمرُّ في عمليات تطهير وتشذيب كثيرة، حتى تصبح شكليةً، وطرحها أقرب إلى النفاق منه إلى نهجٍ معارض، معارضات تمسح لها أنظمة القمع على رأسها وقفاها، هي في الواقع إحدى أذرع النظام، وتؤدي دوراً لإيهام الشعب بأن هناك معارضة، هي تعمل على استيعاب وتفريغ الصواعق، تُجمِّلُ النظام من دون المسِّ في بنيته الأساسية. هل سمعتم عن معارض في نظام عربي داخل برلمان يطالب بتحديد فترة زمنية للرئيس، كما هو متّبع في كثير من دول العالم؟ هل سمعتم عن معارض يسأل سيادته أو سيادة أحد وزرائه، من أينَ لك هذا؟

بلا شك أنه يوجد معارضون أبطال، ولكن هؤلاء ابتلعتهم الظلمات في غياهب السجون، وانقطعت أخبارهم، أو دُبّرت لهم مكائد، وأسيء إلى سمعتهم سواء الوطنية، أو حتى الشخصية، لتسهيل مهمة التخلص منهم وتحطيمهم، لكي يكونوا عبرة لغيرهم. وإذا كانت فرنسا قد اعترفت بقتل جنودها لأحد معارضيها في الجزائر وادعت أنه انتحر، فمثل هذا يوجد الكثير في بلاد العرب، ولا بد أن يأتي يوم ويُكشف ما ارتكب كل نظام في حق معارضيه. قد تنجح بعض ضغوط عالمية في إنقاذ معارض من مصير محتوم، ولكن الأغلبية تتعفن داخل معتقلات النسيان.

الدِّماء الزَّكية التي أهرقت، والتي تُهرق في مقاومة الظلم لا تذهب هدراً، حتى وإن بدا الأمر عكس ذلك، فالشعوب لا تنسى من ضحوا لأجل حريتها، حتى لو بعد حين.

مرّت عشر سنوات على الثورة السورية، وبشار الأسد يتمسك بالسُّلطة، ولن يتخلى عنها حتى لأقرب الناس إليه، ولن يسمح بنشوء منافس جدِّي، لأنه يعرف أن تخلّيه يعني نهاية حقبة من تاريخ سوريا الحديث، ويعني فتح ملفات المعتقلين والضحايا والتعاون والتواطؤ مع قوى إقليمية ودولية لوقف هذا الربيع وإغراقه بالدم، لحثِّ الناس على مقولات من طراز، ماذا جلب لنا الربيع العربي؟ تُجهَضُ الثّورات وتُحبط مرَّة أو اثنتين وثلاث مرات، ولكن الطريق فُتح إلى المستقبل، ولن يستطيعَ أحدٌ إغلاقه، كوّة النور التي شقّت الظُّلمات وأبهرت شعوب العالم لن تنطفئ، قد ينخفض لهيبها قليلا، ولكنها تُصلِح ذاتها وتنهض من جديد، بإرادة وحكمة التجربة المتراكمة حتى الخلاص وميلاد الفجر الصادق.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

————————-

هجوم روسي على «سوريا المنسية» من أميركا/ لندن: إبراهيم حميدي

موسكو ودمشق، انتقلتا إلى الهجوم، على أكثر من جبهة. الهدنة العسكرية صامدة رغم هشاشتها. وزير الخارجية سيرغي لافروف قال، العام الماضي، إن العمليات العسكرية الشاملة انتهت. إذن، الساحة الجديدة للمواجهة الروسية – الغربية هي البيانات السياسية، و«ساعة الصفر»، كانت ذكرى بدء الاحتجاجات في 15 مارس (آذار) الحالي.

في كل سنة، تصدر أميركا وحلفاؤها، خلال العقد الأخير، بيانات. اختلف مضمونها عبر السنوات، بل انخفض سقفها وتماشى مع «الوقائع الجديدة» في «سوريا المنسية» بواشنطن. لكن الجديد هو إصدار الحكومتين الروسية والسورية بيانين عن الذكرى في هجوم لـ«تقديم الحقائق».

– رواية موسكو ودمشق

أقرت الخارجية الروسية، حسب البيان، على موقع «روسيا اليوم»، بأن الأزمة بدأت بـ«مظاهرات مناهضة للحكومة، ثم أصبحت بداية للأزمة». اللوم يقع على «التدخل الخارجي» الذي حول «عملية سياسية داخلية إلى نزاع مسلح وصلت، إلى المقام الأول فيه، تنظيمات مسلحة غير قانونية»، إلى أن باتت سوريا تتعرض لـ«هجوم غير مسبوق من الإرهاب الدولي».

لم يتطرق إلى التدخل الروسي في سبتمبر (أيلول) 2015، والقصف والقضم، بل ركز على «الدور الحاسم» لموسكو في محاربة «داعش»، التنظيم الذي بات أولوية للعمليات الروسية فقط بالأشهر الأخيرة بغارات تُشن على البادية.

بعدما، «أسهمت» روسيا في دحر «داعش» وإلحاق الخسائر بالإرهاب الدولي. انطلقت جهود منسقة من «الدول الضامنة» (روسيا وتركيا وإيران) في مسار آستانة بهدف «وقف الأعمال القتالية»، عدا «بؤرتي توتر» في إدلب بسبب «جبهة النصرة» و«مناطق الوجود العسكري الأميركي غير المشروع شرقي الفرات والتنف»، من دون تطرق للغارات الإسرائيلية أو الوجود العسكري التركي أو الإيراني في سوريا.

عندما فشلت «القوى المناهضة» عبر «تأجيج الحريق»، بـ«الإطاحة بحكومة البلاد»، لجأت إلى «الخنق الاقتصادي والعقوبات الأحادية ومنع المساعدات وعرقلة عودة اللاجئين» أو تقديم «مساعدات انتقائية» تساهم في «ترسيخ الانقسام».

طبعاً، لا حل عسكرياً للأزمة، بل هو عبر تنفيذ 2254 لإطلاق «عملية سياسية يقودها السوريون» للوصول إلى «رؤية مشتركة لمستقبل البلاد دون ضغوط ومواعيد مصطنعة»، وإلى «مصالحة وطنية» وعودة اللاجئين، وهي عناوين ومبادئ لم تكن حاضرة في البيان الذي وزعته «الوكالة السورية للأنباء الرسمية» (سانا)، الذي استعرض ذكرى «عشرة أعوام مرت على أشرس حرب إرهابية تعرض لها السوريون»، حيث اندلعت «حرب استخدمت فيها دول العدوان مختلف أنواع الأسلحة، بدءاً باستقدام آلاف المرتزقة لمحاربة الجيش وصولاً إلى التدخل المباشر». وزاد: «عندما فشلوا في الميدان نقلوا الحرب إلى الاقتصاد لتجويع السوريين، عبر حصار خانق تقوده أميركا وتنفذه أدواتها»، مع الإشارة إلى «حرب السياسة والإعلام لتشويه صورة الدولة وجيشها وتلميع الإرهابيين».

– موقف «أميركا الجديدة» وحلفائها

لدى أميركا وحلفاؤها رواية شبه عكسية لما حصل وكيفية الحل والمستقبل في «سوريا المنسية». كان هذا واضح في بيانات ذكرى 15 مارس. غاب عنها عبارات، مثل «الانتقال السياسي» و«تنحي الأسد» أو تشكيل «هيئة حكم انتقالية»، وحصلت مكانها عبارات تخص شروط أعمار سوريا والموقف من الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا بعد أشهر وآلية دعم الإصلاح الدستوري.

مرور «عقد على الانتفاضة»، شكل مناسبة لإعلان أول موقف لوزير الخارجية الجديد طوني بلنكين، وإدارة جو بايدن، من الملف السوري. وفي بيان مع نظرائه البريطاني والإيطالي والفرنسي والألماني، قال الوزير الأميركي إن الأزمة بدأت بـ«ردّ نظام الأسد بعنف مروّع» على المتظاهرين، ما يعني أن «الرئيس الأسد وداعميه يتحملون مسؤولية سنوات الحرب والمعاناة».

وكان لافتاً القول إن «استمرار الصراع تسبب أيضاً في توفير مساحة للإرهابيين لاستغلالها، وخصوصاً (داعش)، الذي يبقى منع عودته من الأولويات». وعزز هذا الاعتقاد بأن منع ظهور «داعش» والبقاء العسكري شرق سوريا أولوية لإدارة بادين، وسط غياب سوريا سياسياً عن رأس الأولويات، خصوصاً أن الإدارة لا تزال تراجع سياستها، ولم تعين مبعوثاً خاصاً لها إلى سوريا.

ماذا عن الانتخابات الرئاسية السورية؟ قال البيان الأميركي – الأوروبي إنها «لن تكون حرّة ولا نزيهة، وينبغي ألا تؤدّي إلى أي تطبيع دولي مع النظام، لأن أي عملية سياسية لا بدّ لها من أن تتيح الفرصة لمشاركة جميع السوريين، بمن فيهم سوريو الشتات والنازحون». وكان مفوض الشؤون الأمنية والسياسية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، قال في بيانه إن هذه «الانتخابات لا تفي بهذه معايير (قرار 2254)، ولا يمكن أن تسهم في تسوية الصراع، ولا تؤدي إلى أي إجراء للتطبيع الدولي مع النظام».

وأعلنت الخارجية الفرنسية أنها «ستواصل مع شركائها جعل إعمار سوريا وتطبيع العلاقات مع دمشق مشروطا بتنفيذ حل سياسي دائم حسب 2254».

لاشك أن الانتخابات هي «الساحة المقبلة» للمواجهة بين موسكو واشنطن، قبل إجرائها قبل شهرين من انتهاء ولاية الأسد في منتصف يوليو (تموز) بالتزامن مع صدام آخر في مجلس الأمن سيحصل لدى بحث تمديد قرار دولي للمساعدات الإنسانية، عبر الحدود في منتصف يوليو أيضاً. الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف قال إن الكرملين «يعتبر الأسد رئيساً شرعياً لسوريا». كما أن لافروف قام بجولة خليجية بهدف حث دول عربية على إعادة دمشق إلى الجامعة العربية وتمويل إعمار سوريا واعتبار الانتخابات الرئاسية «نقطة تحول».

من الأمور اللافتة الأخرى في «بيانات الذكرى»، أن وثيقة الخارجية التركية لم تتطرق إلى الانتخابات الرئاسية السورية، بل إن أنقرة التي تقيم قواتها العسكرية في أكثر من 10 في المائة من سوريا، وتنشر نحو 15 ألف جندي شمال البلاد، ركزت على أنها ملتزمة «حماية وحدة الكيان السياسي لسوريا وسلامة أراضيها» و«ستواصل مكافحة التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها (داعش) وحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية»، وأن أنقرة التي كانت حليفة واشنطن في دعم المعارضة قبل عشر سنوات، «لن تتسامح مع المساعي الرامية لإضفاء الشرعية على الأجندات الانفصالية للمنظمات الإرهابية» في إشارة إلى الدعم الأميركي لـ«الوحدات» شرق سوريا.

الشرق الأوسط

—————————

لا بد أن تنتهي المأساة السورية/ هادي البحرة

عشر سنوات مرت منذ أن خرج السوريون يحملون الورود مطالبين بالحرية والكرامة، حين صدحت حناجرهم بما تتوق إليه قلوب كل السوريين بالعيش في وطن تُحترم فيه حقوق الإنسان، ويفتخر أبناؤه بالانتماء إليه والعيش فيه، وطن قائم على المواطنة المتساوية، يصون كرامة مواطنيه ويكفل حرياتهم، وعلى نظام حكم مدني ديمقراطي قائم على التعددية السياسية، دولة تحكمها مجموعة من المبادئ الأساسية والقيم المنظمة للمجتمع ولسلطات الدولة، المبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها، الواضعة للأصول الرئيسية التي تنظم سلطاتها العامة، وعلاقتها ببعضها البعض، تحدد صلاحيات وحدود السلطة السياسية، مع الحفاظ على حقوق وواجبات الأفراد، هذه المبادئ والقيم بمجملها تشكل مشروع دستور سوريا المقبل، استنادا إلى عقد اجتماعي يعبر عن التوافق على الحد الأدنى المشترك بين الأطياف والمكونات الاجتماعية، فهو التعبير القانوني والحقوقي عن الكل الاجتماعي ويشكل مقدمة مشروع الدستور، الذي يعتبر المرجعية الأساسية للتشريعات والقوانين كلها، ويجب ألا يأتي أي قانون يتناقض مع مبادئ الدستور، الذي يقع في قمة الهرم الخاص بقانون الدولة.

مشروع الدستور المقبل هو ضرورة وضمان لإنهاء الاستبداد الذي شرعنه الدستور الحالي الذي أجاز تغول وهيمنة السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية على باقي السلطات، حيث يتضمن مشروع الدستور الآليات اللازمة للتأكد من اتساق الممارسات الدستورية مع مضامينه، ليضمن تطبيقه على أرض الواقع وعدم السماح بالتشريع وإصدار قوانين تتناقض مع مبادئه. وهو المدخل الدستوري والقانوني لتحقيق عملية الانتقال السياسي المنظم.  

رغم مرور عقد كامل، عانى خلاله الشعب السوري قمعاً وتجويعًا وتشريداً وقتلاً ودماراً رهيباً، ما زال السوريون يخرجون إلى الشارع مطالبين بالحقوق نفسها، الحرية والكرامة والعدالة، إن كل المسببات التي دفعت الشعب للثورة ما زالت قائمة، لا بل ازدادت عمقًا وتنوعًا وباتت تطول شرائح أوسع من المجتمع.

وفق الوقائع، من المؤكد أن السوريات والسوريين من كل مواقعهم، لن يتوقفوا عن سعيهم لاسترداد ما سلب منهم من حقوق إنسانية ودستورية وقانونية، وصولًا لتحقيق تطلعاتهم التي ثاروا من أجلها للوصول إلى دولة المواطنة المتساوية التي تصون كرامتهم وتكفل حرياتهم وتضمن لكل السوريين حقوقهم وتلبي مطالبهم، ليكون كل طيف من أطياف ومكونات شعبها لبنة أساسية لا يكتمل دونه بناؤها، دولة القانون والقضاء النزيه والمستقل التي تحقق المساءلة والمحاسبة وتحقيق العدالة، ويرتبط مفهوم السيادة فيها عضويًا بحقوق الإنسان.

آن الآوان لإيجاد آليات فعالة لوقف عذاب المعتقلات والمعتقلين وإطلاق سراحهم، ومعرفة مصير المغيبات والمغيبين قسريًا، آن الآوان لإنهاء معاناة الأطفال وأسرهم في المخيمات، وعودتهم الطوعية والآمنة والكريمة إلى مواطنهم الأصلية التي هجروا أو نزحوا منها، نريد عودة أطفالنا وشبابنا إلى مدارسهم وجامعاتهم واستعادة مستقبلهم الضائع المسروق، يؤسفني جداً أن المجتمع الدولي لم يؤد واجبه كما يجب أمام كل هذه المآسي، ولا يزال يتحرك ببطء وتردد، ولا يقدم السبل الممكنة لوضع حد لهذه المأساة الإنسانية الأكبر في التاريخ الحديث.

من واقع التزامنا بواجبنا تجاه معاناة شعبنا، والمأساة التي يعيشها، نستمر بالعمل على التواصل مع الدول الشقيقة والصديقة لتنسيق جهودنا على المسارات الدبلوماسية والقانونية والاقتصادية بما سيؤدي إلى الضغط الفاعل لدفع العملية السياسية قدماً، وصولًا للتطبيق الكامل والصارم لقرارات مجلس الأمن رقم 2254(2015) و2118(2013) متضمنا بيان جنيف.

إننا نبذل كل جهودنا لأن نصيغ دستورا جديدا لسوريا، يكون الضامن الأساس لحرية المواطن وحماية كرامته، وتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع دون استثناء، ودون تمييز على أساس الدين، أو العرق، أو الجنس، أو أي أساس آخر، والفصل المتوازن والواضح بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، لضمان عدم تغول أحدها على الأخرى، ضمانا لعدم تكرار المأساة التي يعيشها شعبنا.

لقد أثبتت السنوات القليلة الماضية أنه من الخطأ الفادح أن نتخيل أن ما يحدث في سوريا ليس له تأثير على العالم، إن إنهاء المأساة السورية هو في مصلحة الدول المعنية في الإقليم وشعوبها بقدر ما هو في مصلحة سوريا وشعبها، وضمان لتحقيق الأمن والسلام الإقليميين والدوليين، على هذه الدول إدراك ذلك، والمضي بشكل جدّي ومسؤول وغير موارب، لدعم الحل السياسي، والاعتراف بأنه لا يمكن تحقيق ذلك الحل إلا إن كان الطرفان السوريان يملكان النوايا الحسنة والإرادة الصادقة للتوصل إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254(2015)، إن الحقيقة التي تم إثباتها منذ بدء مفاوضات جنيف في العام 2014  وإلى الدورة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية بتاريخ يناير/ كانون الثاني 2021 ، هي أن النظام لا يؤمن بالحل السياسي لا بل يعمل كل ما بوسعه لإعاقته، إن استمرار المجتمع الدولي بالتغاضي عن هذه الحقيقة  باستخدام مقولة إن العملية السياسية هي عملية سورية-سورية وبقيادة سورية، باتت دافعا بحد ذاتها نحو استمرار تعنت النظام، واستمرار معاناة الشعب السوري، وباتت تعبر عن عدم وجود رغبة من الدول التي عملت ووافقت على قرار مجلس الأمن 2254(2015) لتنفيذه، طالما لم يتم وضع نهاية لتعنت النظام وسياساته التي تدمر سوريا ستستمر معاناة شعبنا ولن يكون ممكنا أن نجعل من هذا العام، عام السلام في سوريا.

في ظل تباطؤ المجتمع الدولي لا سيما الدول ذات العلاقة بالمأساة السورية في الدفع نحو الحل السياسي، الذي يسعى النظام بكل ما يملك للتهرب منه والقضاء عليه، ليحول المفاوضات إلى عملية تفاوضية أمنية وعسكرية بينه وبين الدول، لا بد من إبقاء العملية السياسية حية، كونها هي ما يبقي قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) حيا، فهو ضمان إبقاء مطالبنا الإنسانية والدستورية والقانونية حية، وهو ما يثبت أنه لا شرعية لهذا النظام ويضع خريطة طريق للحل السياسي.  يتوجب على السوريين الثبات وشق طريقهم باستمرار نضالهم السلمي ضد ثلاثية الاستبداد والفساد والإرهاب التي باتت تقضي على مقومات استمرار حيواتهم وتتغذى من سرقة قوت يومهم وتعتاش على دمائهم وتستلب أرواحهم،  علينا بناء الجسور بين مكونات وأطياف الشعب السوري التي باتت تعاني جميعها من نتائج سياسات النظام، هذه السياسات إن استمرت ستؤدي إلى استمرار بقاء وطننا مقسما وفاقدا لسيادته واستقلاله، وتآكل ما تبقى من مؤسسات الدولة وإفقار شعبنا الذي بات اثنان وتسعون في المئة منه تحت مستوى خط الفقر، محتلا المرتبة الأولى عالميا، ستعني بقاء النازحين بعيدا عن ديارهم الأصلية واللاجئين خارج وطنهم، التاريخ لن يرحم جيلنا إن لم نعِ استحقاقات هذه المرحلة الخطيرة، على كل سورية وسوري أن ترقى ويرقى لمستوى هذه المسؤولية لاسترداد وطننا ممن دمره واستباح سيادته ورهن مستقبله ببيع ثرواته من أجل التشبث بسلطة متوهمة بحقيقتها مرتهنة وخاضعة لمصالح الآخرين، هذه السلطة تعمل على زرع الكراهية والحقد بين السوريين لتجعل بعضهم عدوا للبعض الآخر، علينا ألا نقع في الفخ الذي رسمه وخطط له النظام.

إني على ثقة، بأننا كسوريين وسوريات، يداً بيد، قادرون على أن نبني وطننا من جديد، ونداوي الجراح التي نزفت لعقد كامل من الزمن، ونضمّدها، الكراهية لا تعالج بكراهية مقابلة، والظلم لا يعالج إلا بتحقيق العدالة، والجريمة لا يقضى عليها بجريمة مقابلة إنما بالمساءلة والمحاسبة عبر القضاء العادل والمستقل. علينا التحلي بالمسؤولية والإصرار، هذا ما سنقوم به من جهتنا في اللجنة الدستورية، سنمضي قدماً بالمهمة الموكلة إلينا، دون أن نتخلى عن أي هدف من أهداف الثورة وتطلعات شعبنا التي استحقها، وسنطالب بحقوق الجميع، طفلاً وامرأة ومعتقلاً ومنكوباً ومكلوماً، سنسعى لأن يحقق دستور سورية المقبل كل الطموحات، وكل المعايير الدولية للديمقراطية والإنسانية والحضرية الراقية، فحجم التضحيات التي قدمها السوريون لا يعادلها إلا حل يحقق لهم دولة ووطنا يليق بهم، يحقق ما طمحوا إليه وما ضحوا من أجله، هذا ما نعاهدهم عليه أيضاً.  علينا أن نذكر أنفسنا جميعا بأن النصر في سورية، هو كل شيء عن تحقيق العدل وكسب السلام، وليس الفوز في الحرب التي لن تحقق الأمن والسلام المستدامين. هذا هو النصر الوحيد الذي يمكن لجميع السوريين مشاركته ويكونوا جزءا منه.

تلفزيون سوريا

———————–

حماقة الثورة وبراءة بشار الأسد!/ علي سفر

ومن طرائف قراءة تعليقات السوريين المؤيدين لنظام الأسد، وأولئك الذين يدعون الحيادية، أو الرمادية، خلال الأيام الماضية والحالية، أي في فترة إحياء ذكرى الثورة ضده، أنك سوف تتابع لوم هؤلاء للثائرين، على شكل مقطع سردي متكرر، يلقي بأسباب الكارثة على الضحية، ويحاول تبرئة القاتل من جريمته!

وهكذا، سيسأل هؤلاء، بجدية؛ عن الحماقة التي أصابت السوريين الذين قرروا في الـ 15 والـ 18 من آذار لعام 2011 أن يثوروا ضد النظام،

فيقولون:

“كيف سوّلت لهؤلاء أنفسهم أن يصرخوا معترضين في شوارع دمشق ودرعا وحمص وبانياس، وفي الأيام العشرة التالية، وصولاً إلى يوم 25 آذار، حيث تلقّف النداء مجانين آخرون في أكثر من 70 نقطة تظاهر في كل جهات البلاد؟!

وأي فكرة شيطانية هذه، تلك التي تجعل هؤلاء المواطنين يستفزون السلطة وأجهزتها الأمنية، فتقرر إفراغ مخازن طلقات الأسلحة الأوتوماتيكية بأجسادهم”؟

ويتابعون:

“ألا يشعر من بقي حياً من أولئك الذين نجوا من الاعتقال، ومن الموت برصاص القناصين، أو من الموت تحت البراميل، ومن الاختفاء على الحواجز، وكذلك من قطع الرؤوس على يد داعش، وأيضاً من التغييب في سجون الفصائل الجهادية، ومن الموت في البحر غرقاً، في رحلة الهروب من الموت؟ إضافةً إلى محاولات إغراق القوارب المطاطية على يد خفر السواحل اليونانيين، قبل أن ينتهي بهم المطاف كلاجئين يعيشون “أذلاء” بحماية الدول الغربية، التي تستقبلهم مضطرة، بسبب القواعد المنصوص عليها في الأعراف والقوانين الأممية!

ألا يشعر هؤلاء بالخجل من أنفسهم؟

كيف ثاروا؟ وتركوا بيوتهم للنهب والسلب، ثم فروا من وطنهم؟!

وقد عادوا الآن حيث هم، ليحتفلوا بذكرى مرور عشر سنوات على لحظة الخراب تلك”؟

ويتوجهون للاجئين الآن بشكل مباشر بعد أن كانوا يتحدثون عنهم بصيغة الغائب؛

“أين اختفى الناموس من وجدانكم، فلم تستمروا على دين آبائكم وأجدادكم، الذين عاشوا بصمت، دون الالتفات إلى الأخطاء الصغيرة هنا وهناك، حتى أحالوا تاريخ سوريا إلى لوحة جميلة لا يضيرها قليل من ألوان الهزائم والخسارات، والنكبات، وهدر الموارد، وإفقار العباد، وقمع الحريات، ونشر السجون في كل مكان؟!

لماذا قررتم وبصفاقة أن تعبثوا بخط الأفق، الذي لا يغيب عن أي عيون، تتّبع حيواتكم المزركشة بأفعال نظام الأسد الأب ومن بعده الابن؟

لقد تجاسرتم على التفكير بحمق، وذهبتم أبعد مما يسمح لكم؛

لماذا حماقة الثورة؟

وقد عاش السوريون سعادة ونشوة الانقلابات العسكرية في العقد الأول بعد الاستقلال؟

وبعد ذلك عاشوا عقد آخر حفل بالوحدة مع مصر ثم انفصلوا عنها، فعاد البعثيون لينقلبوا على الحكومة الليبرالية، مفتتحين عقود ثورة الوحدة، والحرية، والاشتراكية، وتجارب متعددة، من انقلابات الرفاق على بعضهم، ثم سيطرة الأسد على كل شيء!

كيف تثورون وقد عقّم سوريا من السياسيين من أجلكم، ومن أجل ألا يأتيكم وجع الرأس من الأحزاب وترهاتها؟

كيف تتخلون عن الإحساس بالعزة، بعد أن انتصر في معاركه مع المعارضات المتنوعة؛ فقتل وأعدم الآلاف من “عصابة الإخوان المسلمين العميلة”، وسجن وغيّب المعارضين في السجون من جراء ما اقترفته أيديهم من تعامل مع الرجعية والإمبريالية!

ألم يتحارب حافظ الأسد مع أخيه رفعت من أجلكم؟

ألم يحول سوريا إلى دولة محورية في السياسات الإقليمية وفي المافيا الدولية، على حدٍ سواء، كي تشعروا بقيمتكم؟

بربكم! لماذا تثورون وقد بات لبلدكم هذه المرتبة المهمة في قائمة الدول المارقة؟

ألم تعيشوا انتصارات جيش الأسد على القوى المدعية للوطنية في لبنان؟

ألم يطرد جماعة أبو عمار، وغيره من مدّعي المقاومة الفلسطينية؟

لماذا لا تقدرون للقائد الخالد مشاركته إيران الحلف ضد صدام حسين؟!

ألم تكونوا سعداء في كل ما فعله، وما فعله الابن لاحقاً؟

كيف جرى، أن كل عقود تاريخكم، كانت مليئة بالإنجازات، ثم حدث وتناسيتم كل هذا، وقررتم أن تعترضوا؟

فأجبرتم بشار الأسد أن يقتلكم، وأن يستدعي الميليشيات الطائفية من كل حدب وصوب كي تساعده على قتلكم؟

وجعلتموه مضطراً لأن يطلق من سجونه كل المتطرفين، الذين لبوا النداء من أجل تحويل حراككم إلى معركة بين النظام وبين الفصائل الجهادية!

ثم دفعتموه دفعاً كي يستدعي الجيش الروسي، بعد أن فشل حليفه الإيراني في قتلكم، بعد أن تكشّف جيشه العقائدي، حماة الديار عن مجاميع من اللصوص والسراق!

لقد خربتم بلادكم الجميلة، السعيدة، وجعلتم خزينة الدولة فارغة، بعد أن حُولت موجوداتها للإنفاق على الحرب معكم، بالتوازي مع توزيع الحصص، بين العائلة وحواشيها!

لقد فعلتم كل شيء أدى إلى هذه المأساة المروعة، التي لم يكن الأسد فيها مذنباً، بل مؤامرتكم عليه وعلى بلادكم، مع الأميركيين الذين فرضوا عليه أخيراً قانون قيصر!

لماذا خالفتم التوقعات عنكم، في الأيام الأولى للربيع العربي، بعد أن قال بشار الأسد للصحافة العالمية إن سوريا مختلفة عن غيرها، وإن شيئاً لن يحدث فيها!

لقد كنا نحن كما أرادنا، فلماذا خنتم عهود الصمت، وثرتم؟

ألا تشعرون بأنكم قد أجرمتم بحقنا؟

لماذا خربتم علينا نعمة الأمن والأمان، وبسببكم حُرم المغتربون منا، زياراتهم الصيفية إلى الوطن؟

كيف ستضعون أعينكم بأعيننا، نحن الذين نحب أن نربط أعناقنا بسيف جلادنا؟!

بينما تطيرون أنتم في السماوات بعيداً، تحتفلون بنسائم الربيع”؟!

تلفزيون سوريا

—————————-

بالثامن عشر من آذار

يطلب الشيخ من جموع المُشيعين الصبر والاحتساب والتزام الهدوء، لكن الحاضرين يرفضون ويبدأون بالصراخ: ثورة ثورة ثورة، في مشهد مهيب يقشعرّ له البدن، ويصلحُ تكثيفاً مذهلاً للحظة مشتركة عاشها مئات آلاف السوريين بشكل شبه متزامن في ربيع 2011، لحظة انفجار الثورة في الصدور، والرغبة العارمة في الردّ على الإهانة التي اسمها نظام الأسد.

كان ذلك في التاسع عشر من آذار، في المقبرة الجديدة في حي البحّار من درعا البلد، بعد دفن أول شهيدين من شهداء الثورة السورية.

كان اليوم السابق، الثامن عشر من آذار 2011، قد شهد خروج مظاهرات في مدن دمشق وحمص وبانياس، لكن أكبرها كانت في درعا، التي شهدت في ذلك اليوم أول إطلاق للرصاص الحي من قبل النظام على متظاهرين في 2011، أدّى إلى استشهاد حسام عياش ومحمود الجوابرة.

والأرجح أن تشييع عياش والجوابرة، في التاسع عشر من آذار، قد شهد أيضاً المرة الأولى التي يهتف فيها سوريون بإسقاط النظام. تظهر تلك اللحظة في التوقيت 1:54 من الفيديو أدناه.

سيتغير كل شيء في حوران وفي البلد كلّه منذ ذلك اليوم، سيسقط مزيد من الشهداء في تشييع مزيد من الشهداء، وسيغني السوريون والسوريات كثيراً وطويلاً قبل الجنازات وبعدها. طوال أشهر لاحقة، ومن أقصى سوريا إلى أقصاها، سيخرج المتظاهرون مراراً إلى ساحات انتزعوها بالكثير من الدماء العزيزة، كي يرقصوا ويغنوا في عين الموت؛ في عين الغول الأسدي الذي انفلت في كل اتجاه يقتل ويدمّر كل شيء وكل أحد يعترض طريقه.

وقد اعترض أبناء وبنات حوران طريق الغول طويلاً، بالمظاهرات والهتافات والأهازيج، وبالعمل الطبي والإعلامي والإغاثي والتنظيمي، وبالسلاح والمعارك، وبكل ما أمكنهم القيام به.

هذه تحية حب إلى أصوات الحوارنة، إلى الجمال الذي ترك على البلد وتاريخه علامات لا تُمحى.

موقع الجمهورية

—————————-

في عشرية الثورة وعبر فيلم وثائقي روسيا تذكر الأسد بفضلها عليه/ تيم الحاج

لم تفوّت روسيا الفرصة في الذكرى العاشرة للثورة السورية كي تذكر بشار الأسد ونظامه بفضلها عليه، إذ كان لتدخلها في أيلول 2015 أثر بالغ في مسار الأحداث، حيث قلبت موازين القوى على الأرض بعد أن كانت فصائل المعارضة تسيطر على نحو ثلثي البلاد.

منذ بدء وصول قواتها المدججة بالسلاح الحديث إلى سوريا، شرعت روسيا في دك المناطق المحررة في حلب والغوطة الشرقية والغربية ودير الزور ودرعا، متفاخرة بتجربة أكثر من 300 نوع سلاح وفق اعترافها، كي تسوقها للبيع في الأسواق العالمية.

روسيا تدمر المناطق المحررة في سوريا

اعتمدت آلة الحرب الروسية على سياسة الأرض المحروقة بهدف واحد هو تسوية المناطق المحررة في الأرض، حتى تصل إلى نتيجة واحدة وسريعة، هي فرض ما سمّتها عمليات “التسوية مع مقاتلي المعارضة” أو الرمي بهم وبعائلاتهم إضافة إلى المدنيين في الشمال السوري، وتكديسهم هناك، ومع ترجمة هذه السياسة على الأرض بدأ بشار الأسد يشعر بنشوة الانتصار المزيف.

يأتي فيلم قناة “tvzvezda” حتى يذكّر نظام ورئيسه الغائب عن الأنظار حالياً بحجة “كورونا” حتى يذكّر الأسد بفضل موسكو عليه وعلى جيشه وقواه الأمنية، بأنها هي من رجّحت كفة الميزان لهم.

وكان لافتا في الفيلم إعادة عرض مشاهد ظهور فلاديمير بوتين وبشار الأسد في قاعدة حميميم في كانون الأول 2017، فهناك أفهم بوتين الأسد حجمه الحقيقي من ما جرى عسكريا، عندما منع جنرال روسي الأسد من اللحاق ببوتين أثناء إلقائه خطابا أمام جنوده.

فصائل المعارضة كانت تسيطر على 70 في المئة من سوريا

يقول الفيلم إن 70% من البلاد كانت بيد فصائل المعارضة، وكان نظام الأسد أمام أيام قليلة وينهار، حينئذ، لجأ الأسد إلى موسكو طلباً للمساعدة العسكرية.

وهنا لا بد من الإشارة إلى رسائل النجدة التي كان يبرق بها الأسد لبوتين عبر وسطاء بينهما، إذ كشف الدبلوماسي الفلسطيني- السوري السابق، والمقرّب من دوائر صنع القرار في موسكو، رامي الشاعر في عدة مقالات عن المرحلة التي سبقت تدخل روسيا عسكرياً لنجدة نظام الأسد.

الشاعر أشار  إلى إحداث قناة تواصل سرية بينه وبين أحد ممثلي بشار الأسد من دمشق، كي يوصل الشاعر رسائل كان النظام يريد لموسكو أن تطلع عليها.

يقول الشاعر عن هذه القناة الثنائية “مع احتدام الوضع في 2013 تلقى اتصالا من مسؤول في مكتب الرئاسة، عرّف نفسه بأنه مكلف من الرئيس الأسد للتواصل، وشدد على أهمية فتح قنوات اتصال وتعاون بسبب تفاقم الظروف الصعبة، وأهمية حشد التأييد في الأوساط الروسية”.

ويؤكد الشاعر أنه تبادل مع ممثل بشار الأسد أكثر من أربعين رسالة، كانت في مجملها عن نداءات استغاثة مباشرة من دمشق لموسكو.

وبالعودة إلى الفيلم الروسي فقد عرض مشاهد من مقابلات مع كبار الجنرالات الروس في حميميم وفي دمشق، تحدثوا خلالاها عن إنقاذ النظام عسكريا، كما عرض الفيلم مشاهد لقاعدتي حميميم وطرطوس ولقوات البحرية الروسية، وللمقاتلات الروسية وهي تدمر المناطق المحررة، وهنا لابد من الإشارة إلى عشرات المجازر التي ارتكبتها القوات الروسية بحق المدنيين خلال سنوات تدخلها ومازالت.

وختم الفيلم بمشاهد الجنود الروس وهم يوزعون أكياس الرز والخبز في درعا وحلب ودمشق وغيرها من المناطق على مدنيين يرزحون تحت ظل واقع معيشي متردٍ واقتصاد منهار وليرة دخلت في نفق مظلم بسبب إصرار الأسد وداعميه على بقائه في السلطة، وعدم السماع لأصوات ملايين السوريين الذين جددوا هذه الأيام عهدهم بمواصلة الثورة حتى تحقيق مطالبها، فطافوا بالآلاف في إدلب وريف حلب، يجددون هتافاتهم التي أطلقوها قبل عشر سنوات.

مالم يذكره فيلم روسيا الوثائق في ذكرى الثورة

تجاهل الفيلم الحديث عن التغييرات التي أجرتها موسكو في بنية جيش نظام الأسد، وهذا مفهوم، لجهة أنها تحمل شعار الحفاظ على سوريا ومؤسساتها موحدة غير منهارة، على عكس ما تتهم به المعارضة وداعميها.

ومنذ اللحظات الأولى لتدخلها، هدفت موسكو إلى إدارة ملف الأزمة بشكل كامل وهذا لن يتأتى لها إلا في حال سيطرتها على مفاصل الجيش وبعض أجهزة الأمن، وهذا ما حصل، فقد أحدثت تغييرات جذرية في هيكلية جيش النظام ليسهل عليها السيطرة على قراراته، إضافة إلى ممارستها ضغطاً على نظام الأسد لإصدار بعض القوانين والقرارات، منها ما يتعلق بقانون الخدمة العسكرية والاحتياط ومنها ما يتعلق بقرارات تسريح الضباط وتنقلاتهم.

برز ذلك في تشكيل “الفيلق الخامس” في 22 من تشرين الثاني 2016، وأرادت موسكو من تشكيله استيعاب الميليشيات المحلية في بنية تنظيمية عسكرية توازي نفوذ الميليشيات الإيرانية على الأرض، كما كان بند الالتحاق بـ “الفيلق الخامس” مقابل تسوية أوضاع المقاتلين في صفوف المعارضة حاضرا في جميع المفاوضات التي خاضتها روسيا مع الفصائل في “مناطق التسويات”، التي كان آخرها في تموز الماضي 2018 عندما انضم قائد فصيل “أسود السنة” في درعا، أحمد العودة، إلى الفيلق والذي أصبح لاحقا قائد اللواء الثامن فيه.

وإلى جانب ذلك أسست لنفسها قواعد عسكرية في الساحل السوري، باتفاقيات طويلة الأمد، ووقعت مع النظام اتفاقيات اقتصادية وتجارية في عدة مجالات على رأسها النفط والغاز والفوسفات، وفي ذكرى الثورة حصل أن منحت وزارة نفط نظام الأسد شركة كابيتال محدودة المسؤولية الروسية حق التنقيب عن النفط في البلوك البحري رقم واحد في البحر الأبيض المتوسط مقابل ساحل محافظة طرطوس حتى الحدود البحرية الجنوبية مع لبنان بمساحة 2250 كم2، لمدة 25 عاماً.

تلفزيون سوريا

——————————

درعا تحيي ذكرى الثورة… وقصف واشتباكات شمالي سورية/ عدنان أحمد

مع حلول الذكرى العاشرة لمقتل أول شابين برصاص قوات النظام السوري في محافظة درعا مهد الثورة السورية، محمود الجوابرة وحسام عياش، تعيش المحافظة التي شهدت خلال العقد المنصرم تقلبات جمة، أوضاعاً متوترة بين الأهالي وقوات النظام، بينما يتواصل القصف والاشتباكات في الشمال السوري بين قوات النظام والفصائل المقاتلة.

ومع حلول الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة السورية في محافظة درعا اليوم 18 مارس/آذار، ظهرت من جديد عبارات مناوئة للنظام على جدران مدينة درعا مثل “تستطيع أن تقتل ثائراً لكن هيهات أن تقتل ثورة”، و”لا تترشح يا مشرشح” في إشارة إلى رئيس النظام، ما يذكر بالعبارات الأولى التي كتبها أطفال درعا على الجدران، وكانت سبباً في اندلاع الثورة السورية، بعد اعتقال قوات الأمن لهؤلاء الأطفال.

وكانت المحافظة شهدت خلال الأيام الأخيرة تصعيداً متبادلاً بين النظام والمسلّحين من أبناء المحافظة، أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من قوات النظام، وكان آخره تفجير آلية عسكرية تابعة لفرع أمن الدولة بعبوة ناسفة على طريق المشفى الوطني بمدينة جاسم شمال درعا، أسفر عن مقتل عنصر من قوات النظام وإصابة آخرين، فيما فجرت “الفرقة الرابعة” التابعة للنظام منزلاً في بلدة المزيريب غرب درعا، بجانب منزل محمد طارق الصبيحي أبرز المطلوبين للنظام والذي حاولت القوات اقتحام منزله قبل يومين.

كما قصفت “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) بالمدفعية محيط قاعدة عسكرية تركية بالقرب من مدينة الباب.

وفي محافظة إدلب، ذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد”، أن قوات النظام قصفت بالمدفعية والصواريخ قرى وبلدات البارة وكنصفرة وأطراف سفوهن والفطيرة وبينين وفليفل في ريف إدلب الجنوبي، والعنكاوي بسهل الغاب شمال غربي حماة.

الثورة السورية

من جهتها، زعمت وزارة الدفاع الروسية أن “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام) نفذت 36 خرقاً لاتفاق الهدنة خلال الساعات الماضية. وذكر نائب رئيس مركز التنسيق الروسي اللواء ألكسندر كاربوف أنه “تم رصد 36 اعتداءً من الأراضي التي تنتشر فيها جبهة “النصرة” بينها 15 اعتداءً في إدلب و12 في اللاذقية و6 في حماة و3 في حلب”، وفق ما ذكرته وسائل إعلام روسية.

وكانت وزارة الدفاع الروسية أعلنت أمس الأربعاء، أن موسكو تجري اتصالات بشكل يومي مع الولايات المتحدة للتنسيق على المستوى العملياتي والتكتيكي في سورية.

ونقلت “وكالة تاس” عن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قوله “إن هذا الأمر قد يكون سراً لكنه يكشفه”، مؤكداً أن “هناك اتصالات تجري عدة مرات في اليوم بين روسيا والولايات المتحدة في إدارة المجال الجوي” معتبراً أن الخطوات الأولى للإدارة الأميركية الجديدة مع وصول الرئيس جو بايدن تثير الأمل، حيث انتقلت واشنطن “من طرح مطالب ومقترحات غير قابلة للتحقيق، إلى حوار طبيعي وبناء”، وفق تعبيره.

إلى ذلك، ذكرت وكالة “سانا” السورية الرسمية أن القوات الأميركية أدخلت قافلة جديدة محمّلة بمواد لوجستية وأسلحة إلى قواعدها بريف الحسكة آتية من العراق، مشيرة إلى أن “قوات الاحتلال الأميركي أدخلت خلال الساعات الماضية قافلة مؤلفة من 40 آلية من شاحنات محملة بمواد لوجستية وأسلحة وذخائر وعدد من البرادات ترافقها مدرعات عسكرية إلى مطار خراب الجير العسكري في ريف اليعربية آتية من العراق عبر معبر الوليد غير الشرعي”.

من جانب آخر، انسحب “لواء الشمال” التابع لقوات “قسد” من محاور عين عيسى شمالي الرقة، وذلك بعد خلاف نشب بين الطرفين.

ونقل موقع “تلفزيون سوريا” عن مصدر خاص قوله إن الخلاف بدأ عندما نظّم “اللواء” تظاهرة رُفعت فيها أعلام الثورة في مساكن الشرطة غربي الرقة، مشيراً إلى أن التظاهرة شهدت مشاركة العشرات من الأهالي، وممثلين عن الفعاليات المحلية، حيث أبدت “قسد” امتعاضها من التظاهرة، وهو السبب الذي دفع قائد اللواء أبو عمر الإدلبي إلى سحب عناصره الموجودين على محاور عين عيسى، في قرى الخالدية وأبو صرة وكور حسن وقزعلي، إضافة إلى محور الحرية وخفية سالم.

وأشار المصدر إلى أن اجتماعاً سيُعقد خلال ساعات بين قيادات “قسد”، بحضور قائدها مظلوم عبدي، لمناقشة وضع “لواء الشمال”.

وفي وقت سابق، انتقدت قيادة “قسد” لواء الشمال، بسبب اعتماده علم الثورة السورية، وطالبته بالتخلي عنه كونه يرمز إلى “الجيش الحرّ”، الأمر الذي رفضه قائد اللواء، بحسب المصدر.

———————-

درعا في ذكرى الثورة السورية: تصعيد النظام ينذر بالأسوأ/ أمين العاصي

لم يترك النظام السوري الذكرى العاشرة للثورة الشعبية ضدّه، تمرّ من دون تصعيد عسكري في محافظة درعا، جنوبي البلاد، والتي يحتفل أبناؤها بذكرى الثورة في 18 مارس/آذار من كل عام  بخلاف عدد كبير من السوريين الذين يحتفلون بها في منتصف مارس. وينذر تصعيد النظام الجديد في درعا، بما هو أسوأ، بعد مرور عامين ونصف العام على إبرامه اتفاقات تسوية مع فصائل المعارضة السورية برعاية روسية، من الواضح أنها تتعرض لتحديات، ربما قد تطيح بها. وبعد هجوم بكمين تعرضت له أول من أمس الثلاثاء، وأوقع في صفوفها خسائر فادحة، عزّزت قوات النظام، أمس الأربعاء، وجودها في محيط بلدة المزيريب في ريف درعا الغربي، وفق ما أكد ناشطون، أشاروا إلى أن هذه القوات استقدمت رتلاً ضمّ دبابات ومدرعات إلى مبنى مؤسسة الريّ الواقع شرقي البلدة، والذي يعدّ نقطة انطلاق قوات النظام في المنطقة.

وكانت “الفرقة الرابعة”، وهي من أشرس فرق قوات النظام، قد تعرضت أول من أمس لخسائر بشرية في اشتباكات مع قيادي سابق في فصائل المعارضة السورية، هو أبو طارق الصبيحي، ومجموعته، ومسلحين من أبناء المنطقة، إثر محاولتها اعتقاله. والصبيحي متهم بقتل تسعة عناصر من أجهزة النظام الأمنية، بهجوم استهدف مخفر المزيريب في أوائل شهر مايو/ أيار الماضي. وأوضحت مصادر محلية لـ”العربي الجديد”، أن عناصر “الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رأس النظام بشار الأسد، وقعوا في كمين محكم أدى إلى مقتل 23 عنصراً وإصابة آخرين. واعترف النظام بخسائره في المزيريب، حيث نقلت وكالة “سانا” الرسمية عن مصدر في قيادة شرطة درعا، قوله إن عدداً من جنود النظام قتلوا وجرح آخرون في الهجوم الذي وقع بين بلدتي المزيريب واليادودة، مضيفاً أنه تم نقل الجرحى إلى مشفى درعا الوطني.

من جهته، أكد المتحدث باسم “تجمع أحرار حوران”، أبو محمود الحوراني، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن من “بين قتلى الفرقة الرابعة، ضباطاً برتب عالية”، مشيراً إلى وجود تخوف من ردّ فعل النظام على الحادث. وبيّن الحوراني أن “للفرقة الرابعة في قوات النظام نقطة تمركز بين اليادودة ومزيريب”، موضحاً أن هذه النقطة عُزّزت بعناصر خلال الأيام القليلة الماضية. ولفت أيضاً إلى أن قائد فصيل “الغيث” في “الفرقة الرابعة”، غياث دلة، كان يتردد بشكل دائم على هذه النقطة، وأن كمين الثلاثاء كان يستهدف عناصر من هذا الفصيل تحديداً. ولفت إلى أن الكمين وقع على مسافة قصيرة من هذه النقطة، لم تتعد ربما الكيلومتر الواحد. ونشر ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، صوراً تظهر جثث قتلى “الفرقة الرابعة” الذين سقطوا إثر الكمين.

وتحاول “الفرقة الرابعة” منذ نهاية العام الماضي إخضاع محافظة درعا لسطوتها، ولكن جميع محاولاتها باءت بالفشل إلى الآن. وتقع منطقة المزيريب في ريف درعا الغربي، غير بعيد عن الحدود السورية – الأردنية، وتتميز ببحيرتها التي تحمل الاسم ذاته، ما جعلها معلماً سياحياً كان السوريون يقصدونه في فصل الصيف. 

وحول أسباب التصعيد الجديد، أشار العميد إبراهيم الجباوي، وهو قيادي سابق في فصائل المعارضة في جنوب سورية، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن قوات النظام ومليشياته الطائفية، والتي وصفها بـ”الحاقدة”، لم تستطع حتى اليوم السيطرة على معظم المدن والبلدات في درعا، مضيفاً أن “النظام يشعر بأن هذا الأمر يقلّل من شأنه ومن سطوته في عموم الجنوب السوري، ولا يتيح له القيام بعمليات انتقام بحق أبناء المحافظة التي شكّلت مهد الثورة السورية”. ولفت الجباوي إلى أن “قوات النظام وأجهزته الأمنية تحاول اقتحام بلدات محافظة درعا، ولكنها تفشل في كلّ مرة، حيث كان هناك فشل في السيطرة على طفس والصنمين وجاسم، لأن أبناء هذه البلدات لم يسلّموا سلاحهم الخفيف والمتوسط وفق ما نصّت اتفاقات التسوية، بل سلّموا السلاح الثقيل فقط، لذا فإنهم بقوا بالمرصاد لقوات النظام”.

وذكّر الجباوي بأن “قوام الفرقة الرابعة الناشطة في عموم محافظة درعا، هم من عناصر مليشيات إيرانية طائفية، ومن حزب الله اللبناني، لذا فإن القرار في هذه الفرقة هو في يد الإيرانيين الذين يحاولون إحداث تغيير ديمغرافي في جنوب سورية بأي شكل من الأشكال، ونشر التشيع بالترغيب أو بالترهيب”. وأكد القيادي السابق في المعارضة، أن هذه المحاولات الإيرانية “ستفشل”، لافتاً إلى أن “أبناء محافظة درعا لن يسمحوا لهذه المليشيات بدخول مدنهم وبلداتهم وقراهم”. كما أكد أن من بين قتلى كمين المزيريب أول من أمس، عناصر من هذه المليشيات.

ويحتفل أهالي محافظة درعا في 18 مارس من كلّ عام، بذكرى الثورة السورية التي اندلعت في العام 2011, ويعتبر أهالي درعا التظاهرات التي عمّت المحافظة في 18 مارس 2011، الانطلاقة الحقيقية للثورة السورية. ويفتخر أبناء المحافظة بأن أول قتيل سقط في هذه الثورة، كان قد خرج في تلك تظاهرات، وهو محمود الجوابرة (مواليد العام 1987)، وذلك إثر إصابته برصاصة أطلقها عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للنظام.

وبمناسبة الذكرى العاشرة، دعا نشطاء محليون أهالي مدينة درعا، للخروج في تظاهرة عصر اليوم الخميس، في ساحة المسجد العمري الكبير في حي درعا البلد. ومن المرجح أن تلقي التطورات المتسارعة في بلدة مزيريب بظلالها على التظاهرات المرتقبة، والتي ستستذكر الشعارات الأولى للثورة، وأبرزها الدعوة إلى “إسقاط النظام”، والإفراج عن المعتقلين في سجونه.

ولم تشهد محافظة درعا أي هدوء أو استقرار منذ منتصف العام 2018 الذي شهد إبرام اتفاقات التهدئة مع قوات النظام بإشراف روسي، والتي نصّت على عدم دخول هذه القوات إلى المدن والبلدات التي تسيطر عليها فصائل المعارضة. ولم يلتزم النظام بتعهداته، وخصوصاً لجهة إطلاق المعتقلين، بل اعتقل المئات أيضاً بعد توقيع هذه الاتفاقات، قُتل البعض منهم تحت التعذيب. كما شهدت المحافظة منذ ذاك الحين عمليات اغتيال على نطاق واسع، تُتهم الأجهزة الأمنية التابعة للنظام بالوقوف وراءها، لعل أبرزها اغتيال القيادي البارز في فصائل المعارضة أدهم الكراد، الذي قتل في كمين على طريق درعا – دمشق في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2020.

العربي الجديد

————————

درعا على فوهة بركان..جذوة الثورة السورية لا تزال متقدة

ظلت درعا مدينة مهمشة من قبل الحكومة السورية، ومنعزلة عن الحواضر المتعددة الثقافات في قلب البلاد. وشهدت المدينة الواقعة جنوب البلاد انطلاق شرارة الانتفاضة السورية ضد حكم رئيس النظام بشار الأسد في مارس/ آذار 2011.

دفع قرار الأسد بسحق الاحتجاجات السلمية في بدايتها إلى تحول الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية أسفرت عن مقتل أكثر من نصف مليون شخص، وتسبب في نزوح نصف السكان وتحول البلاد إلى معترك للتدخلات العسكرية الأجنبية.

ومع دخول الذكرى العاشرة لاندلاع الاحتجاجات، عادت درعا لسيطرة الحكومة. لكن درعا مهد الثورة لا تزال تعيش على فوهة بركان نشط، جراء الأزمة الاقتصادية وانتشار الجماعات المسلحة، بحسب تقرير لوكالة “أسوشيتد برس”.

ويقول أحمد المسالمة، الذي ساعد في تنظيم الاحتجاجات في درعا قبل عقد من الزمن، والذي يعيش الآن في منفاه في الأردن: “لا يزال الشباب داخل سوريا يعيشون في حالة من اليأس. سوف نستثمر هذا اليأس … لإعادة إطلاق الثورة مرة أخرى”.

منذ اليوم الأول للانتفاضة، اعتاد أحمد المسالمة التوجه إلى الجامع العمري في درعا لتنظيم مظاهرات مناهضة للحكومة في وسط درعا. كان المسالمة في المسجد العمري في ذلك اليوم الدموي، 18 آذار/مارس، عندما فتحت قوات الأمن النار على متظاهرين مما أدى إلى مقتل اثنين منهم وإصابة 20 آخرين في الأقل، ليكونوا أول ضحايا الصراع الذي دخل عامه الحادي عشر.

توقع المسالمة وقوع أعمال عنف، لكنه كان يعتقد أن القوات ستستخدم الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. وكان يعتقد في هذا الوقت أن حكام سوريا لا يستطيعون القيام بحملات دموية كما فعل والده حافظ الأسد عام 1982، حيث قتل الآلاف لسحق التمرد.

شكّلت درعا مسار الثورة، ففي الوقت الذي دعا فيه النشطاء العلمانيون إلى الاحتجاجات السلمية، لجأ متظاهرو درعا إلى الميليشيات المسلحة للرد على قيام الأجهزة الأمنية بقتلهم وتعذيبهم.

تمكن مقاتلو الجماعات السلفية في الميليشيات المعارضة، بما في ذلك الموالون لتنظيم “القاعدة”، من تهميش دور الجماعات اليسارية أو العلمانية أو القومية. وصبّت شراسة الحرب مزيداً من الزيت على نار الكراهية الطائفية، لا سيما بين السنة والعلويين، الأقلية التي ينتمي إليها الأسد.

في ذروة الثورة السورية بين عامي 2013 و2014، سيطرت المعارضة السورية على معظم أراضي شرق الفرات وأجزاء من محافظة درعا وجزء كبير من الشمال. وخاضت معارك للسيطرة على كل المدن الكبرى بل وهددت دمشق من الريف المحيط بها.

شنّت قوات الأسد غارات جوية مدمرة بالبراميل المتفجرة والهجمات الكيماوية. وتحول ميزان المعركة عندما تدخلت حليفتاه، موسكو وطهران، بشكل مباشر.

أدى الحصار والحملات العسكرية ضد المدن والبلدات التي تسيطر عليها المعارضة إلى تدمير الأحياء وتجويع السكان وإجبارهم على الخضوع. تقلصت المساحة الخاضعة لسيطرة المعارضة، حتى أصبحت محصورة في جيب صغير متمركز في محافظة إدلب في الشمال الغربي، ويسيطر عليه مسلحون إسلاميون في ظل حماية تركية. اجتاحت القوات الحكومية المدعومة من روسيا محافظة درعا في آب/أغسطس 2018.

وخضعت محافظة درعا لترتيب فريد توسطت فيه روسيا، من جانب بسبب ضغوط إسرائيل التي لا تريد وجود ميليشيات إيرانية مجاورة، ومن الأردن الذي يريد إبقاء معابره الحدودية مفتوحة.

في أجزاء من محافظة درعا، ظل مقاتلو المعارضة الذين وافقوا على “المصالحة” مسؤولين عن الأمن. انضم بعضهم إلى الفيلق الخامس، وهو من الناحية الفنية جزء من قوات النظام السوري ولكن تشرف عليه روسيا.

في هذه المناطق، عادت مؤسسات الدولة والمسؤولون البلديون، لكن القوات الحكومية بقيت في الخارج. في أماكن أخرى، تتولى القوات الروسية والحكومية المسؤولية معاً. وفي باقي المناطق، تسيطر الحكومة بشكل كامل، وانتشر الجيش السوري والميليشيات المدعومة من إيران.

يمنح الوجود المنظم للمعارضة المسلحة هامشاً للاحتجاجات المتكررة والتعبير عن المشاعر المناهضة للحكومة التي يصعب العثور عليها في أماكن أخرى. ورفض بعض المعارضين الاتفاق مع روسيا وشنوا تمرداً منخفض المستوى أسفر عن مقتل أكثر من 600 شخص، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.

وكما هو الحال في مناطق أخرى من البلاد، يشعر الكثيرون بالقلق تجاه نفوذ طهران المتزايد، حيث تقوم الميليشيات المدعومة من إيران بتجنيد الشباب الذين تغريهم برواتب ثابتة فيما استغل التجار الموالون للأسد ولإيران الفقر المدقع في درعا لشراء الأراضي.

—————————–

مؤيدو الأسد ومعارضوه يتجاهلون واقعهم المرير/ إبراهيم الجبين

بين زمن كتابة هذه السطور ونشرها سيكون الوضع الاقتصادي لسوريا قد تغيّر، وسط انهيار غير مسبوق لليرة السورية، تزامنا مع الذكرى العاشرة لانطلاق الانتفاضة الشعبية في العام 2011 التي تشهد المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد احتفالات ومسيرات عارمة بمناسبتها، ترفع شعار “مليونيات من أجل الحرية”. وقد يقول قائل كيف يعيش السوريون أيامهم هذه؟ وبينما يلفظ المواطن السوري أنفاسه الأخيرة بسبب الجوع، حسب صحيفة “تشرين” الرسمية، تنظّم في دمشق حملة شعبية برعاية رئيس الاتحاد الرياضي فراس معلا، المقرّب من رأس النظام، تحت عنوان “أطول رسالة حب ووفاء في العالم لرجل السلام الأول”، لجمع توقيعات تؤيد رئيس النظام بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية القادمة، متجاهلة المطالب الدولية التي اعتبرت أن الانتخابات غير شرعية، وأنها لا تلتزم بقرار مجلس الأمن 2254 وتقفز فوق شرط الوصول إلى تسوية سياسية. ويصف المروّجون لهذه الحملة مسيرتهم بالقول إنها “انطلقت إلى محافظة القنيطرة ومن ثم إلى درعا، فالسويداء ثم ريف دمشق وحمص وحماة وإدلب والرقة وحلب واللاذقية وطرطوس، ومن ثم العودة إلى دمشق في السابع من أبريل تزامنا مع الاحتفال بعيد ميلاد حزب البعث، بعد أن تكون حملت تواقيع مليونين ونصف مليون مواطن سوري في المحافظات، وأنه سيتم العمل على دخول الفعالية موسوعة غينيس”.

في أي سوريا يعيش هؤلاء وأولئك؟ ليست هذه هي المرة الأولى التي يتجاهل فيها مؤيدو الأسد ومعارضوه واقعهم المرير، فقد أوصل الأسد عهده إلى مرحلة من الهشاشة لا يحسده عليها أحد. كما أوصل الكثير من معارضيه بفضل سياسات ابتعدت عن الحنكة، أوضاع الثورة الشعبية إلى انسداد في الأفق وضياع للبوصلة. وعلى الضفتين، الحال يشبه الاحتضار الجماعي غير الواعي، فمن المستفيد من سوريا منهارة؟

سؤال سيبقى يلاحق الجميع، بعد أن يروا بأعينهم نتائج السياسات التي تم اختيارها للمضيّ بسوريا خارج سياقها، وخارج دورها الاستراتيجي، وبعيدا عن كيانها كوعاء وطني حاضن للملايين من المنتمين إلى هذه التابعية. وحين نقول الجميع، فإننا نشير أيضا إلى مجمل الأدوار السلبية التي لعبها الإقليم وبعض دول العالم العربي، أما ما يسمّى بالمجتمع الدولي، فلا ضرورة لبذل الكثير من العناء لاستحضار ما قاله وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل في مؤتمر أصدقاء الشعب السوري الأول بتونس في فبراير 2012 قبل أن ينسحب من الجلسة “مؤتمركم هذا إن لم يعمل على إزاحة بشار الأسد، فإنكم ستكونون كمن يسمّن الذبيحة قبل نحرها، أنتم تشاركون في قتل الشعب السوري”.

كانت تلك مرحلة تسمين بالفعل وإغداق بالمساعدات والإغاثة، تلتها مرحلة تجويع تعرضت لها المناطق السورية المتمرّدة، حتى أكل الناس ورق الشجر في غوطة دمشق وحلب وحمص وغيرها، تحت حصار قوات الأسد وميليشيات إيران وحزب الله اللبناني التي طوّقت كل تلك المناطق. وحصار داخلي فرضته جبهة النصرة الإرهابية ونظرائها، قبل أن يشنّ الروس من السماء حصارا ناريا على الشمال والجنوب، مرادفا لحصار داعش وحزب العمال الكردستاني لعرب المحافظات الثلاث في الشرق دير الزور والرقة والحسكة، لتدور دائرة الجوع وتحيط بسكّان المناطق التي يسيطر عليها الأسد اليوم، لكن هل تغيّر شيء في مواقف السوريين؟ لم يتغيّر أي شيء.

يعتقد البعض أن السبب وراء إصرار معارضي الأسد على إزاحته بعد كل ما تعرّض له المدنيون في سوريا على يديه وبسبب خياراته المدمّرة لمعالجة الأوضاع، هو التزام منهم بموقف مبدئي. وقد يكون هذا صحيحا لدى الكثيرين منهم. لكن القلّة الفاعلة في المشهد لا تنطلق من هذا التوجّه. ومع الوقت أصبح رفض استمرار الأسد منهجا وقالبا ونمطا، وبات الخروج عن ذلك النمط يعني فقدان كل ما ترتّب عليه. والوقوف أمام الكاميرات بلا أي مشروع. لكن هل كان المشروع أساسا إزاحة الأسد وحسب، أم أن هناك برامج مستقبلية كان يجب أن ترسم دون انتظار إسقاط النظام؟ بالمقابل فإن رافضي التمرّد والثورة من السوريين الذين التصقوا بالأسد، لم يكن في تصوّرهم أن مهمتهم ستكون محصورة بالدفاع عن بقاء فرد واحد، بل كانت لديهم مخاوف من التغيير، وغلاف حيويّ آخر اعتادوا عليه بدورهم، وكان صعبا عليهم أن يخلعوه عنهم إلى المجهول.

هذا ما يجري على خشبة المسرح. لكن خلف ذلك، يبحث السوريون، في الكواليس وعلى الجانبين، عن مخرج من هذه الطريق المسدودة. الأسد يرفض قرارات مجلس الأمن وبيان جنيف الذي وقّعه حلفاؤه الروس مع الجانب الأميركي الذي يعاقب الأسد ويطالب بالحوار معه في الوقت ذاته. الروس الذين يبحثون عن مخرج هم أيضا يبتعدون عن داعمي الأسد الإيرانيين، وإيران تعرقل بدورها تطبيق القرارات الأممية التي تتمسك بها المعارضة السورية، كما تمسك الفلسطينيون بالقرار 242 ورفضوا تقسيم فلسطين، فصارت إسرائيل أكبر وأكثر قوة ونفوذا.

تطرح جهات مختلفة مشاريع مثل المجلس العسكري الذي يتوهّم البعض بأنه قادر على حكم سوريا. مجلس مشكل من قيادات عسكرية من الأطراف كافة بما فيها كبار ضباط النظام والعميد المنشق مناف طلاس وغيره. ويعود السوريون مرة جديدة إلى استنساخ التجارب التي شاهدوها في ليبيا ومصر خلال السنوات العشر الماضية، ولكن ليس تونس مع الأسف، فالمجلس العسكري المصري لم تؤسسه قوى خارجية، بل هو من عزل حسني مبارك ومن بعده محمد مرسي، والمجلس العسكري السوداني الذي لم تشكّله قوى غير سودانية هو من عزل عمر البشير، لكن تلك القوى راقبت الحدث المحلّي ولم تقف في وجه التغيير، ومن لا يعلم أن القوى الدولية القادرة على تشكيل مجلس عسكري سوري بديل لنظام الأسد، وبديل لقرار مجلس الأمن، تملك القدرة ذاتها على تأسيس هيئة حكم انتقالي مدنية وفق القرار ذاته؟

الصراع السوري، بفعل عدم إدراك السياسيين السوريين لقوة المبادرة الذاتية، خرج من كونه شأنا محليا منذ سنوات، وتحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وللمقايضة السياسية على ملفات أخرى. ولذلك من المستبعد أن يتمكن السوريون من العثور على مفتاح الصندوق الذي أغلقوه على أنفسهم إن لم يبحثوا عنه أولا.

كاتب سوري

العرب

————————-

“متى رح تنتهي هالقصة بسوريا؟” / مالك العثامنة

هناك اعتقاد “واهم” في مجتمعاتنا العربية، بأن الصحفي يعرف كل شيء، وأنه تقريبا نصف نبي، قادر على التنبؤ وأحيانا “مكشوف عنه” حجاب المعلومات التي لا يراها “العاديون”، وهذه القدرة غير العادية جعلت الصحفي شخصية “غير عادية” في مجتمعات لا تفكر بطريقة “عادية”.

الصحفي، مهما كان مستواه المهني، هو شخص عادي جدا، ومعرفته تعتمد على حدود قراءته بالإضافة إلى مصادره الصحفية التي قد يستغلها أو تستغله، والصحافة مهنة في كل العالم مثل كل المهن، لكن في عالمنا العربي هي مرتبة اجتماعية لكل طامح حتى لو كان لا يملك المعرفة ولا الخبرة.

لكن من الإنصاف القول – من خبرة شخصية- أن غير العادي في حياة الصحفي هو مواجهته للمفاجآت غير العادية في حياته، مما يجعله – وأقصد الصحفي الممتهن للمهنة فعلا- منزوعا من الدهشة والاستغراب مع الزمن.

ومن ذلك، أني في “الحرب السورية” او “المقتلة السورية” أو الثورة التي تحولت إلى فواتير بيع وشراء، وقد صادفت عشريتها الأولى ولم تنته دمويتها حتى اليوم، دوما أواجه بسؤال في أي جلسة أو سهرة مفاده: 

أيوة يا أستاذ، متى رح تنتهي هالقصة بسوريا؟

هذا سؤال واجهته عشرات المرات على مدار سنوات “المقتلة السورية الموجعة” والتي قامت أساسا في وجه الطغيان والاستبداد المتوارث من الأب إلى الإبن.

لكن أطرف ما واجهني في أحد مرات ذلك السؤال، أني كنت مدعوا لعشاء في بيت سوري كريم “وكل بيوت السوريين كريمة”، وكان من بين المدعوين شخص صنف نفسه أنه معارض، وكان مصرا على المبالغة في إبداء موقفه السياسي في مناسبة اجتماعية مثل تلك، حتى انه وبعد الغروب بقليل، قام عن مقعده وصار ينادي بتكبيرة القيام للصلاة ( مع وجود بلجيك وغير مسلمين وغير مصلين حتى)، وأنهاها بإضافة من عنده مدججة بالأدعية والابتهالات ان يقضي الله على نظام الأسد، والذي وصفه باليهودي والصهيوني والشيعي والصفوي والظالم !!

مع استغرابي لهذا التحول المفاجيء في سهرة العشاء، لكن الحذر بدأ يتسلل مع عودة الرجل “المعارض التقي الورع” من صلاته التي قام لها ومعه شخص واحد فقط، وقد اختار الرجل أن يضع مقعدا إلى جانب مقعدي، وبعد التحية سألني: (الأستاز صحفي، مو هيك؟). 

لم أكن بحاجة إلى كثير من النباهة لأتوقع سؤاله التالي: (..أيوة يا أستاز، متى رح تنتهي هالقصة بسوريا؟).

هذا النوع من البشر، بغض النظر عن موقفه السياسي مهما كان، أعرفه جيدا، هم ذلك النوع الذي لا يريد إجابة أصلا، هم يطرحون السؤال عليك كمفتاح لثرثرة على صيغة جواب يريدون أن تستمع إليها ولو غصبا.

طبعا، شخصيا لا أملك إجابة على سؤاله، فأنا مثلي مثله، أبحث عن نهاية وحل لتلك المجزرة ونهاية لهذا الاستبداد في سوريا.

وحين بدأت بالإجابة “التي أردت فيها يائسا اختصار الحديث للاستمتاع بعشاء شهي”، وقلت له أني لا أعرف متى ستنتهي، ولا أحد يمكن أن يعرف..قاطعني الرجل “الواثق بمعرفته  إلى حد ابتسامة عريضة ساخرة” بقوله:

أنا بحكيلك أستاز ما لا تعرفه أنت ولا غيرك، وهو السر العالمي الذي تخفيه الماسونية اليهودية الشيعية.

(نعم أيها السيدات والسادة، لقد جمع الأضداد كلها في جملته تلك بلا تردد).

وضعت اللقمة التي كنت سأستمتع بها بعيدا عن فمي، وتهيأت لتلقي السر العالمي الذي لا يعرفه إلا مدير الكوكب وطاقم مكتبه الماسوني اليهودي الشيعي الغامض، وهذا الرجل الذي سيفضح الآن كل شيء مرة واحدة.

أخذ نفسا عميقا ترافقه نظرة “من تحت لفوق الازدرائية”، ثم قال لي بالحرف:

ما انتبهت إنت والصحافة العالمية تبعك إنو السر كله في كلمة واحدة هي “سلمية” التي كانت شعار الثورة في بدايتها؟

أجبت بسرعة: لا والله، لا تعتب على الصحافة العالمية، فهي لم تنتبه.

فرد بثقة الحكيم العارف: سلمية، هي حيلة الماسونية وشيفرة سرية للقضاء على الإسلام في خمس دول.

لم أندهش، فاستمر في حديثه سعيا لإدهاشي: 

(سلمية، تحمل شيفرة الماسونية الشيعية اليهودية ضد الإسلام في خمس دول، سين عن سوريا، ولام عن ليبيا، وميم عن مصر، والياء عن اليمن، والتاء عن تونس.)

وبهمس “حتى لا يسمع احد في الكوكب السر العظيم” استطرد الرجل: 

(لاحظت معي، خمسة حروف، وأركان الإسلام خمسة!!..واضحة مش هيك؟).

قالها لي الرجل العارف بثقة سر الكون، وأعاد ظهره على مسند مقعده بارتياح وقد فضح السر الأعظم للكوكب، مع ان ما قاله كله لم يكن أبدا جوابا للسؤال الأساسي ” متى رح تنتهي هالقصة بسوريا؟”!

وتلك كانت نهاية العشاء الذي لم أستمتع به، ونهاية علاقة لم تبدأ مع شمس المعارف الكبرى التي تمشي على قدمين وتقدم خدمة معرفة لمن لا يعرف.

ما أردت قوله باختصار..

مع السنة العاشرة للثورة السورية على الظلم والاستبداد والطغيان، لا يزال السؤال ” متى رح تنتهي هالقصة بسوريا؟” مفتوحا ومعلقا على ذمة كل الاحتمالات.

الثورة التي بدأت على طغيان النظام السوري واستبداده الطويل، كشف لنا جميعا حجم الجهل والعتمة التي حجبت الوعي الإنساني، وقدمت الدجل على المعرفة، والشعوذات على المعلومات، والجهل تقدم على الوعي، والإقصائية المتطرفة على الكرامة الإنسانية.

هذا الذي قابلته وذكرت قصته ليس حالة منفردة، بل هو خلايا “جهل” كانت نائمة واستيقظت وانتشرت، وهو مثله كثيرون من اغلبية سحقها الطغيان، هم أنفسهم وقود لاستمرار الطغيان، الذي ان سقط في صيغته الحالية، إلا انه وبجهل هؤلاء سيتشكل على صيغة أخرى تنمو وتكبر من جديد.

نعم، هناك معارضة “حقيقية” للنظام الطاغي الذي يحكم سوريا، معارضة واعية لما تريد، وتدرك هدفها النهائي للوصول إلى كرامة إنسانية بحت.

هذه المعارضة الواعية والمحترمة التي أراها في نماذج سورية عديدة هنا في المهجر، لم تستطع حسم ثورتها مع الطغيان منذ عشر سنوات لأنها عانت من أثقال الجهل “الجماهيري” الذي أنتجه ذات النظام “التقدمي كما أوهم نفسه والعالم”.

وحتى تنجح ثورة الوعي تلك، فإن السؤال ” متى رح تنتهي هالقصة بسوريا؟” سيبقى مفتوحا حتى لو سقط نظام الأسد نفسه.

قناة الحرة

————————–

ويستمر الحلم/ باسل العودات

طوال خمسة عقود، كان يحلم السوريون أن يعيشوا حياة كريمة حرّة، وأن ينتهوا من حقبة مريرة يعيشونها، وأن يتخلصوا من نظام استبدادي شمولي أمني تمييزي طائفي فاسد، أذاقهم المرّ وأذلّهم وقمعهم وأفقدهم إنسانيتهم، وحرمهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية، وأساء إلى سورية، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، وكان الجميع يخشى هذا الحلم، ففي “دولة الأسد” مجرد الحلم هو جريمة يُعاقب عليها بالإخفاء على الأقل.

قبل عشر سنوات، بدأ الحلم يتحوّل إلى حقيقة، إذ كتب طفلٌ في درعا إن دور سقوط دكتاتور سورية قد حان؛ وأيقظ بكتابته حلمَ ملايين السوريين، فخرجوا في تظاهرات سلمية لا سابق لها ولا أروع، يُنشدون الخلاص من هذ الحكم الدكتاتوري الذي منع كل أحلامهم، وحوّلها إلى كوابيس.

في آذار/ مارس 2011، عرف ملايين الشباب السوري أن أحلامهم صارت مشروعة، وآن أوانُ تحقيقها وتحولها إلى حقيقة، فكسروا حاجز الخوف إلى الأبد، وأدركوا في لحظة قوّة أن لا أحد يستطيع حرمانهم من الحلم، لا النظام ولا غيره، ولن يستطيع أحدٌ قتل أحلامهم المشروعة، بالعدالة والحق والمواطنة والعيش الكريم، الأحلام التي ترتقي فوق كل طاغية.

بعد عشر سنوات، على الرغم من كل ما حصل في سورية، وما آلت إليه الثورة، بحسناتها وسيئاتها، بإشكالاتها وسلبياتها، ومع كل الخسائر؛ ما زال السوريون يصرّون على أن يحلموا، ليتخلصوا من كابوسٍ رزح على صدورهم خمسة عقود.

يُدرك السوريون جيدًا، من دون مواربة أو مكابرة، أن ثورتهم تعثّرت، وفشلت في مواقع، ونجحت في مواقع أخرى، وأنهم خسروا الكثير، من شركاء وأصدقاء وأهل وأحبّة، ودمّر النظام بحربه ماضيهم وحاضرهم، وارتكب جرائم حرب بحقهم، وحوّل سورية إلى دولة شبه فاشلة، لكنهم مستمرون بالحلم، ويؤكدون أن تضحياتهم لن تنتهي من أجل تحقيقه.

يدرك السوريون أيضًا أن هيئات المعارضة السورية خذلتهم، وجرّبت بهم، وتحاصصت وتقاسمت وغنِمت، وابتعدت في مواضع كثيرة عن الشعور بالهمّ العام، وركّزت على هموم منتسبيها الشخصية، وأمزجتهم، وأحيانًا مصالحهم الفردية.

كما يدركون جيدًا أن الدول التي اعتقدوا أنها صديقة، لم تكن كذلك تمامًا، حيث إنها ربطت علاقتها بهم بمصالحها أيضًا، واستفادت من قضيتهم إلى أقصى حد، أكثر بكثير مما أفادت هذه القضية، فتقطعت السبل بملايين السوريين، لاجئين ونازحين ومهجّرين ومعتقلين وثكلى وأيتام.

كما يدرك السوريون أخيرًا أن ثمن الثورات دائمًا باهظ، وأن بعضها يستمر عقودًا، فأمُّ الثورات في فرنسا استمرت قرنًا حتى قطفت ثمار تضحيات ثوارها الأوائل، الذين حاكموا لويس السادس عشر وجزّوا رقبته على المقصلة، وساقوا ماري أنطوانيت في شوارع باريس لتلقى مصير زوجها؛ وتنتهي حقبة حكم الفرد والعائلة، وأخذت بعدها الثورة أشكالًا مختلفة حتى حققت مرادها.

في سورية المستقبل، سيساق يومًا الطغاة إلى المحاكم من دون شك، وسيلقون لا محالة عقوبة ما فعلت أيديهم، وتنتهي حقبة حكم الفرد والأسرة، لتُبنى دولة المواطنة الديمقراطية التعددية التداولية، وسيتحقق عندها حلم ملايين السوريين، الذين ملأت أصواتهم شوارع سورية ينشدون: “ما في للأبد… عاشت سورية ويسقط الأسد”.

وسيبقى الحلم مستمرًا، وستنتصر الثورة السورية، وكلّ ما هو آتٍ قريب، وعاشت سورية وليسقط الأسد وكل الطغاة.

تلفزيون سوريا

—————————–

مصطفى صبّاغ: المشهد السوري مجمّد عند مصالح الدول ولا أفق للحل السياسي

بيانات بعض الدول بذكرى الثورة “إيجابية”

اعتبر رئيس مجلس إدارة “المنتدى السوري” مصطفى صبّاغ، أن “الوضع السوري أشبه بالمجمّد وفق الوضع الحالي”، وبالتالي “لا أفق لعملية الحل السياسي في المدى المنظور”، مشيراً إلى أن “تعنت النظام وإصراره على الحلول العسكرية والأمنية فقط، هو السبب الأساسي لآلام السوريين في كل المناطق”.

وفيما حمّل “المجتمع الدولي والدول الفاعلة في الملف السوري، مسؤولية كبيرة للحال الذي وصلت إليه سورية”، فقد اعتبر خلال حوار لـ”السورية.نت”، أن “سياسات الاستقطاب التي خلفتها النزاعات الإقليمية، أثرت سلباً في زيادة تعقيدات الوضع في سورية، ومعاناة أهلها”.

ورأى صبّاغ أن “القرار 2254 تم تقزيمه، بعدما كان واضحاً لجهة تشكيل  هيئة حكم ذات مصداقية تشمل الجميع وغير طائفية خلال ستة أشهر، يليها وضع دستور جديد للبلاد، وتنظيم انتخابات حرة خلال 18 شهراً، بمشاركة جميع السوريين”، معتبراً أن المعارضة انجرت لـ”إرضاء الفاعلين الدوليين”، في مسار المفاوضات، وأداؤها “لا يرقى إلى المطلوب منها، وهي التي أقدمت على تقديم التنازلات شيئاً فشيئاً”.

وتطرق رئيس مجلس إدارة “المنتدى السوري”، في حديثه لنقاط عديدة، حول التفاهمات الحاكمة لمناطق شمال غرب سورية، و مستقبل هذه المناطق، ورؤيته لمواقف الدول التي أصدرت في اليومين الماضيين، بيانات تحمل في روحها دعماً للقضية السورية، وتؤكد على ضرورة الحل السياسي.

وفيما يلي نص الحوار كاملاً:

– تحل الذكرى السنوية العاشرة للثورة السورية هذا العام في وقت ربما هو الأقسى على السوريين في كافة مناطق النفوذ، إن كان اقتصادياً أو لجهة غياب الخدمات الأساسية وهشاشة عوامل الاستقرار..لماذا وصلت الأمور إلى هنا؟ ومن هي الأطراف التي تتحمل المسؤولية الأساسية؟.

تعنت النظام ورفضه تحقيق مطالب الناس، وإصراره على الحلول العسكرية والأمنية فقط، وعدم إبداءه أي مرونة طيلة السنوات الماضية، هي المسببات الأساسية لآلام السوريين في كل المناطق.

يتحمل النظام المسؤولية بالدرجة الأولى بكل تأكيد، حتى بات عاجزاً عن تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين في المناطق الخاضعة له، والتي تعاني أزمات معيشية حادة، بعد أن تراجعت قدرة حلفاءه على تمويله وبات عاجزاً عن إدارة وسد احتياجات مناطقه.

المجتمع الدولي والدول الفاعلة في الملف السوري، تتحمل أيضاً مسؤولية كبيرة للحال الذي وصلت إليه سورية، وسياسات الاستقطاب التي خلفتها النزاعات الإقليمية بين الدول، أثرت سلباً وساهمت للآسف في زيادة تعقيدات الوضع في سورية ومعاناة أهلها.

المعارضة من جهتها، تتحمل كذلك جزءاً من المسؤولية بمناطق الشمال الغربي تحديداً، لأنها فشلت في تفعيل عوامل استقرار مُستدام، وركزت على المسارات السياسية-العسكرية وما إلى ذلك، بدل التخطيط والعمل على تقديم الخدمات وتحسين الفرص المعيشية لنحو أربعة ملايين سوري.

فالمعارضة لديها بعض الحس السياسي، لكنها تفتقد للبعد الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي. والتجارب الناجحة للمشاريع التنموية والخدمية في الشمال، لم تكن صنيعة المعارضة، بقدر ما كانت جهود منظمات ومؤسسات مجتمعية.

– أصدرت دول غربية وإقليمية عديدة، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وتركيا وغيرها، بيانات في ذكرى الثورة السورية، تحملُ في روحها تأييداً ودعماً لقضية السوريين الرافضين للنظام وتدعو لمحاسبته..إلى أي حد ترون هذه الأقوال متسقة مع الأفعال؟.

نظرتنا لهذه البيانات عموماً إيجابية، ولو أن توقعاتنا وآمالنا تبقى أعلى من ذلك، وهنا أجدُ من الصعوبة بمكان، وضع كل هذه الدول في سياق واحد.

فالولايات المتحدة مازالت ترى الملف السوري كجزء من الملف الإيراني، و دول الاتحاد الأوروبي عينها بالدرجة الأولى على إيجاد صيغة استقرار في المنطقة، والحد من ظاهرة الهجرة إليها.

قد لا تتسق رؤى كل هذه الدول عموماً مع مطالب الشعب السوري، إذ ينظرون للملف السوري نظرة مصالح، ولكن هناك تقاطعات بين مصالحهم ومصالح القضية السورية.

أما بالنسبة لدول الإقليم، فهناك حالياً بوادر إزالة للتشنج الذي كان قائماً طيلة سنوات، وقد خَطَتْ بعض الدول التي تشهد أزمات مثل ليبيا خطوةً نحو إنفراجة ما.

نتمنى أن تنعكس بوادر كسر الجليد بين دول الإقليم إيجاباً على المشهد في سورية، ولو أن العقدة الأكبر في الملف السوري وهي النفوذ الإيراني، ما تزال موجودة، ولا نجد تحركات جديدة لتطويق وإنهاء هذا النفوذ.

– هناك من يرى أن القضية السورية استطاعت رغم المأساة الحاصلة، ورغم تراجع الاهتمام الدولي بها، أن تصلَ وتوصِلَ أصوات السوريين المطالبين بالحرية وبدولة ديمقراطية للعالم. بتقديركم ما الذي تحقق للسوريين الرافضين لنظام الأسد حتى الآن؟

كان النظام ينظر للمواطنين على أنهم عبيدٌ في دولة يُخضعها بالقوة، وقد نجحت الثورة في أن تُثبت حيوية الشعب السوري، وطموحه الجامح للحرية والانعتاق من عبودية حاول النظام تكريسها. هذا إنجاز مهم.

لو نظرنا إلى مناطق شمال غرب سورية مثلاً، لوجدنا ورغم انتقادنا للسلبيات وعلمنا بالمنغصات الموجودة، أن هناك حرية تعبيرٍ لا بأس بها. لا أقول عالية أو بقدر طموحنا، ولكن بالمقارنة مع مناطق النظام، فإن سقف الحرية أعلى في مناطق المعارضة، هذه أيضاً نقطة مهمة.

كذلك اللجوء السوري ورغم أنه في أصله مِحنة، إلا أن بعض السوريين في الدول الغربية، استطاعوا تجميع أنفسهم وأنجزوا ملفات حقوقية هامة، وتحولوا لجماعات ضغط فاعلة تساند القضية السورية، في مقابل انحسار أركان النظام، وضعف تأثيره في تلك الدول.

نرى اليوم عدة دول مثل هولندا وكندا قد بدأت مسار مسائلة ومحاسبة عن جرائم النظام، وهذه مسارات مع اُخرى في ألمانيا وغيرها، حصيلة جهود سوريين بعضهم لجأ منذ سنوات فقط إلى تلك الدول.

وفي الولايات المتحدة، استطاعت جماعات ضغط من السوريين، لفت انتباه العالم لقضية آلاف المعتقلين الذين قضوا في سجون النظام عبر “قانون قيصر”، والذي يحمل النظام كامل المسؤولية عن تبعاته، لإقدامه على تصفية آلاف المعتقلين ضمن جرائم ممنهجة.

الثورة السورية التي قدمت تضحيات ضخمة، وإن لم تُنهي النظام حتى الآن، لكنها نجحت في فضح جرائمه أمام العالم، وبدأت بتفكيك منظومة الاستبداد، وزحزحة جذوره الراسخة منذ خمسين سنة.

– العملية السياسية تبدو متعثرة ولا ضوء في نهاية نفقها. ماذا بعد كل المسارات السياسية القائمة من جنيف واللجنة الدستورية وأستانة وغيرها؟ الجميع يسأل ما الحل؟

الوضع السوري الآن، أشبه بالمجمّد وفق الوقائع القائمة حالياً، وقد بدأت مصالح الفاعلين الدوليين والاقليميين تترسخ مع الجمود الحالي.

بمعنى أن كل دولةٍ وجدت سبيلاً لتحقيق مصالحها نسبياً، إن كان حلفاء النظام أو خصومه.

روسيا حجزت قواعدها البحرية والجوية في الجغرافية السورية، وعززت هيمنتها في مختلف مؤسسات النظام، كذلك إيران أمّنت الطرق الحيوية لها، وزادت نفوذها في المؤسسات وبعض مجتمعات المناطق الخاضعة لها.

الولايات المتحدة عززت حضورها شرق الفرات، حيث النفط وغيره من المقدرات، ومازالت تحاول تحجيم النفوذ الإيراني وهو ما تفعله إسرائيل أيضاً.

تركيا خلقت جزء من المنطقة الأمنة التي كانت تريدها منذ سنة 2012، حمايةً لأمنها القومي، عبر سلسلة تفاهمات وعمليات عسكرية أفضت بالنهاية لتقطيع أوصال مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سورية.

وهكذا نجد أن الدول الفاعلة في الملف السوري، حققت شيئاً نسبياً من مصالحها، وصولاً للوضع المجمّد الذي لا جديد فيه منذ فترة. وفق هذا كله، يبدو واضحاً أن لا أفق الآن لحل سياسي.

هناك وقائع وأمنيات، بالواقع لا نرى حلاً قريباً، ولكن نتمنى لو رأى النور، أن يكون مُلبياً لطموح السوريين المطالبين بالحرية والكرامة، متناسباً مع حجم التضحيات التي قدموها.

– النظام يتجه كما توحي مؤشرات عديدة، لإجراء الانتخابات الرئاسية بعد أسابيع، مدعوماً بمواقف حلفائه، الذين ينادون بفصل مسار عملية الحل السياسي عن الانتخابات..هل أُجهِضَ القرار الدولي 2254؟.

رُعاة النظام وعلى رأسهم روسيا، يريدون تمرير مسرحية الانتخابات الرئاسية، وبالتالي مماطلة إضافية للعملية السياسية قد تستمر سنوات.

رغم ذلك نرى أن مسرحية الانتخابات الهزلية، لم تعُد موضع اهتمام كثير من السوريين، حيث تحولت إلى ما يشبه شرعنة بشار الأسد، في الجزء الذي يخضع له من سورية، ويدير فيه ميليشياته لتحقيق مصالح حلفاءه.

بالنسبة للقرار 2254، فقد كان واضحاً لجهة تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية تشمل الجميع وغير طائفية خلال ستة أشهر، يليه وضع دستور جديد للبلاد، وتنظيم انتخابات حرة خلال 18 شهراً، بمشاركة جميع السوريين، ولكن تم تقزيم هذا القرار شيئاً فشيئاً، بداية من إيجاد مسار السلال الأربع التي انجرت لها المعارضة في جنيف، ثم وصولاً إلى الاكتفاء بمسار اللجنة الدستورية.

المسار الحالي الذي لا ضوء في نهايته، هو عين ما أراد حلفاء النظام تحقيقه، من خلال فرض تفسيرهم الخاص للقرار 2254.

– إزاء ذلك ما دور وماذا فعلت المعارضة السورية التي فاوضت طيلة السنوات الماضية برعاية الأمم المتحدة؟

المعارضة تسير وراء إرضاء الفاعلين في العملية السياسية، وأداؤها عملياً لا يرقى إلى الدور المطلوب منها، وهي التي أقدمت على تقديم التنازلات شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى حصر العملية السياسية بمسار كتابة الدستور.

لم يكن الدستور يوماً مشكلة السوريين، بقدر ما كان شكل تطبيق الدستور ونظام الحكم عموماً هو جوهر المشكلة، وهو الأساس الذي كان من المفروض أن يكون أولوية المعارضة في العملية السياسية.

جوهر المشكلة هذا، هو ما حاول معالجته بيان جنيف1، الذي كان واعياً للداء الحقيقي في سورية، ولكن البيان وُلِدَ في سياقٍ تغير كثيراً الآن، وتغيرت معه مناخاتٌ عديدة، ووُلدت بعده مسارات جديدة تقلصت فيها كثيراً مساحة القضية السورية دولياً، وساهمت بذلك المعارضة التي انخرطت في هذه المسارات.

– بالانتقال إلى محور آخر، يبدو المشهد في مناطق شمال غرب البلاد شائكاً مع ترهل الوضع الأمني و تعدد الجهات المسيطرة في أرياف حلب وإدلب، وتهديدات النظام والروس المستمرة في إدلب بشكل خاص. إلى أي حد سيبقى اتفاق سوتشي(مارس/آذار 2020) متماسكاً؟

تتمتع أرياف حلب التي تقع خارج مناطق نفوذ النظام بأريحية أكبر في هذا الخصوص. ورغم بعض مظاهر الفلتان الأمني فيها، لكنها قياساً بإدلب تبقى في وضع أفضل، بمأمنٍ عن نيران النظام وحلفاءه إلى حد ما، وهذا لا ينسحب على الوضع في إدلب، نتيجة وجود هيئة تحرير الشام، التي تجدها روسيا ذريعة دائمة لتكرار الخروقات والقصف.

رغم ذلك، يبدو واضحاً وجود  تفاهم روسي-تركي، على تثبيت الخطوط الحالية في إدلب، التي وإن قدمنا احتمالية حصول تغيير فيها، ضمن مساحات محدودة، لكنها تبدو ثابتة عموماً في المدى المنظور.

– ما هي رؤيتكم في “المنتدى السوري” لمستقبل مناطق شمال غرب سورية التي تنشط فيها مؤسساتكم الإغاثية والتنموية؟.

المنتدى السوري هو مشروع تمكين مجتمعي وسياسي واقتصادي مُستدام، ينطلق من أهمية تمكين الانسان، وبناء مؤسسات مجتمع مدني نابض بالكفاءات والطاقات،  ونموذج حوكمة رشيدة محلياً ووطنياً.

وقد وجدنا وسط الغشاوة السائدة في المسارات السياسية، أن نُركّز على خدمة الانسان السوري في مناطق شمال غرب سورية، التي نساهم في نفض غبار العمليات العسكرية عنها، وتأهيلها بالبنى التحتية والخدمات، وخلق مشاريع مستدامة تُتيح لملايين السوريين فيها أن يعيشوا حياةً كريمة، ويحصلوا على حقوقهم في التعليم والخدمات الصحية والسكن الملائم وباقي مقومات الحياة الأساسية.

يعمل أكثر من 2500 موظف ضمن مؤسساتنا داخل سورية، وبإمكانيات سورية بحتة، على إعادة ملامح الحياة الطبيعية، من خلال دعم الأفراد والقطاعات الإنتاجية المختلفة، ونحاول قدر المستطاع تحقيق ذلك.

صحيحٌ أن أمامنا عملٌ كثير ولم نستطع حتى الآن خلق ظروف طبيعية تماماً هناك، لكننا نعمل رغم كل التحديات، لتحقيق ذلك.

هذه المناطق تحتوي على نخبٍ وكفاءات سورية كثيرة، وفيها فرص كبيرة للتنمية، ونعمل لتكون يوماً نواة سورية التي نطمح لها.

– ختاماً، كنتم جزءاً أساسياً في الائتلاف الوطني ولكنكم ابتعدتم منذ سنوات..لماذا؟

ولد الائتلاف في مناخ مُحدد، وشكّلَ حينها نواة للبدء في عملية سياسية أساسها جنيف1 وصولاً للقرار 2254، لكن المناخات تغيرت وتغيّر معها الائتلاف كثيراً، وبات يعاني من إشكالياتٍ في بنيته وأدائه.

آثرنا الابتعاد عندما وجدنا عمل الائتلاف غير مقنع للسوريين وتضحياتهم وتطلعاتهم، إذ لم نعد نراه نشطاً في خدمتهم وخدمة قضيتهم.

ومع أننا نأمل أن يعود الائتلاف لدوره في تمثيل تطلعات القضية السورية سياسياً، لكن نراه مع هيئة التفاوض، قد فشلوا في تمثيل مطالب الثورة السورية، وأدائهم لا يتناسب مع التضحيات العظيمة و تطلعات السوريين الطامحين بالخلاص من الطغيان وبناء دولة ديمقراطية.

————————-

خمس أساطير بشأن الثورة السورية/ روبرت فورد

وافقت خلال الأسبوع الماضي على إجراء مقابلة مع منتج أميركي للمحتوى الإذاعي من أقصى تيار السياسة الأميركية. ولقد وجه إليّ الدعوة نظراً إلى مقال كتبته في مجلة «فورين بوليسي»، في فبراير (شباط) من العام الجاري، يدعو إلى انسحاب القوات العسكرية الأميركية من الأراضي السورية. (ومع ذلك، فإن إدارة الرئيس بايدن باقية في شرق سوريا حتى اللحظة). ولقد قبلت دعوته نظراً إلى أن اليسار المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا يواصل نشر الأكاذيب والأساطير حول الثورة السورية، ومن المهم ألا يتحول طرحهم المتطرف للأوضاع إلى النسخة المقبولة من الأحداث الجارية.

الخرافة الأولى تتعلق بأن الثورة السورية كانت تحت سيطرة المتطرفين السلفيين منذ بداية الأحداث. وذكرت في تلك المدونة الصوتية زيارتي الأولى إلى مدينة حماة في يوليو (تموز) من عام 2011 التي تحدثت خلالها مع عشرات من أبناء المدينة في حركة الاحتجاج الهائلة هناك، حيث قام رجل واحد فقط من بينهم بسبّ العلويين والإساءة إليهم. ثم التقيت في دمشق كثيراً من المواطنين المسيحيين الذين انخرطوا في صفوف حركة الاحتجاج الشعبية، ثم سمعنا القصة في أواخر عام 2011، وشاهدنا المادة المصوّرة لعدد من المسلمين الذين يعتمرون قبعات «بابا نويل» وينضمون إلى المتظاهرين المسيحيين في سوريا. بطبيعة الحال، غيّرت أعمال العنف اللاحقة من صبغة حركة الاحتجاج السورية، إذ اكتسبت الحرب الأهلية صبغة طائفية قميئة ومريعة بحلول عام 2013. ومع ذلك، رأينا بأُم أعيننا أن أغلب أعمال العنف في عام 2011 نشأت من طرف قوات الأمن الحكومية التابعة لنظام بشار الأسد.

الخرافة الثانية التي تعيَّن علينا دحضها افترضت أنه من دون التدخل العسكري الأميركي كانت الحرب الأهلية السورية ستنتهي بوتيرة سريعة من تلقاء نفسها. وعندما اقترح مضيفي على الحكومة الأميركية وقف التدخلات العسكرية من جانب تركيا، ذكّرته بأن الرئيس التركي لا يطلب الإذن من البيت الأبيض للاهتمام بمصالح بلاده. وتطلب البلدان الأجنبية، في بعض الأحيان، المساعدة من الولايات المتحدة، غير أن طلب المساعدة يختلف تماماً عن طلب الإذن. إذ يعكس نشر الحكومة التركية لآلاف الجنود في سوريا أنه في وجود أو غياب الولايات المتحدة، كان من الممكن لبعض دول الجوار، والبلدان الإقليمية التدخل في سوريا وقوفاً إلى جانب قوى المعارضة.

الخرافة الثالثة تتعلق بأن حكومة بشار الأسد لم تستخدم الأسلحة الكيماوية ضد الشعب السوري. ويدور المنطق حول أن الأسد يرغب في تجنب الانتقادات الدولية وبالتالي يُحجم عن الاستعانة بالأسلحة الكيماوية في الحرب. ويصرّ منتج المدونة الصوتية على وجود فضيحة ما في تقرير أحد الخبراء الدوليين المنشور في عام 2019 بشأن الهجوم السوري بالأسلحة الكيماوية في أبريل (نيسان) من عام 2018 في دوما في غوطة دمشق. غير أن هناك كثيراً من التحقيقات الدولية التي أُجريت حول استعانة بشار الأسد بالأسلحة الكيماوية خلال السنوات التسع الماضية، وليس فقط ما يتصل بحادثة دوما لعام 2018. والأهم من ذلك، أنه بعد قصفه للمستشفيات والمدارس واغتيال عشرات الآلاف من المواطنين في السجون، لماذا يظن أي شخص أن الانتقادات الدولية سوف تردع بشار الأسد عن أفعاله؟ لقد سقط هذا الطرح سقوطاً مدوياً في مواجهة الأدلة الدولية الكاملة والمؤكَّدة لاستخدام الأسد للأسلحة الكيماوية ضد أبناء شعبه.

بطبيعة الحال، كان لزاماً علينا الجدل بشأن خرافة محاربة الأسد للمتطرفين وأن الولايات المتحدة كانت تبعث بالمساعدات لتنظيم «القاعدة» هناك. لقد تجاهل مضيفي متعمداً حالة التعاون التجارية التي جمعت بين الأسد وعناصر تنظيم «داعش» الإرهابي عبر رجال أعمال سوريين بارزين من شاكلة حسام قاطرجي. كما تجاهل أيضاً إطلاق نظام الأسد سراح العناصر المسلحة من سجن صيدنايا في عام 2011. لقد ركز الأسد وجيشه جهودهما على مواجهة «الجيش السوري الحر» أولاً. ولا بد لي من الإقرار بأن بعض الأسلحة الأميركية قد وقعت بين أيدي المتطرفين من تنظيم «القاعدة». ولقد خلص جاكوب جانوفيسكي، وهو المهندس التشيكي الذي عكف بعناية على دراسة مئات المقاطع المصورة لمختلف الجماعات المسلحة، إلى أن «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» قد حصلا على أقل من عشرة صواريخ أميركية طراز «تاو» من «الجيش السوري الحر». كما استولى المتطرفون كذلك على الغالبية العظمى من أسلحتهم من الجيش الحكومي السوري ومن جيش نوري المالكي العراقي. وبطبيعة الحال، كان هناك تنسيق بين «الجيش السوري الحر» مع «جبهة النصرة» في بعض العمليات المشتركة ضد القوات الحكومية السورية، وكان ذلك من الأخطاء السياسية الفادحة التي حذرت الحكومة الأميركية من الوقوع فيها. وذلك هو السبب في إدراج الولايات المتحدة لـ«جبهة النصرة» على قائمة المنظمات الإرهابية في عام 2012.

أخيراً، ناقشت مع مضيفي الخرافة الأخيرة القائلة بأن العقوبات الأميركية هي السبب الرئيسي للجوع في سوريا. بحكم الأمر الواقع، تُلحق العقوبات الاقتصادية الأميركية الأضرار بالمواطنين السوريين. وتواصل العقوبات عرقلة دخول أموال النقد الأجنبي إلى سوريا، فضلاً عن ارتفاع سعر الدولار الأميركي مقابل الليرة السورية، الذي يصاحبه ارتفاع أسعار المواد الغذائية المستوردة. كما تعيق العقوبات وصول النفط المستورد إلى سوريا مما يؤدي إلى صفوف طويلة أمام محطات التموين بالوقود هناك. لكنني ذكّرت مضيفي بأن حكومة الأسد تعاني من فساد واسع النطاق، وأنها أعاقت بنفسها الاستثمارات في البلاد، وزادت من معدلات البطالة، والنزوح (التهجير) الداخلي من شرق سوريا قبل عام 2011. ولم يكن من قبيل المصادفة انضمام المجتمعات ذات الدخول المنخفضة في ريف دمشق وريف حمص على الفور إلى حركة الاحتجاج الشعبية في عام 2011 للمطالبة بالحق في العدالة الاجتماعية والمساءلة من الحكومة.

يميل اليساريون إلى إلقاء التبعات على الإمبريالية الأميركية في الثورة السورية. ومن وجهة نظرهم، فإن السوريين ليسوا هم اللاعب الرئيسي في الأزمة السورية. بدلاً من ذلك، كما يزعمون، إنه بإمكان الولايات المتحدة التلاعب بملايين المواطنين السوريين بكل سهولة. والمنطق الأخير لوجهة نظرهم، والذي يشيع بين عشرات الآلاف من أنصار الأسد الذين يعيشون بكل راحة ويسر في أميركا الشمالية وأوروبا بعيداً على أيدي أجهزة الأمن والاستخبارات السورية، يقول إن السوريين يفتقرون إلى الحكمة الدافعة إلى بناء حكومة أفضل. ومن الواضح تماماً أن الشعب السوري بمفرده، وليس الأجانب، هو الذي يمكنه إصلاح سوريا بصورة دائمة، وأن بثّ الخرافات الكاذبة حول الصراع الجاري لن يفيدهم في شيء.

الشرق الأوسط

السفير الأميركي السابق في سورية والجزائر وباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن

——————————–

كنا نكتب مسلسلاً عن العناق الطويل بينما تُذبح سويا/ ماهر راعي

كنا ثلاثة كتاب لا أحد يعرفنا إلا زوجاتنا وبعض الأصدقاء، ودار نشر ترسل نسخ كتبنا كاملة إلى بيوتنا. تظن الصبية التي تقدم لنا المشروبات في المقهى أننا مجرد زبائن دائمون، أشهر ما لديهم أنهم دائماً يأجلون الدفع إلى الشهور القادمة، وربما كانت تتساءل في سرها عن سبب ضحكاتنا التي لا تنقطع وكيف أننا فجأة كنا نتصايح ونشتم. وقد نتعارك ويترك أحدنا الطاولة إلى طاولة أخرى، ثم في اليوم التالي نعود كأن شيئًا لم يكن لنكمل كتابة مسلسلنا الذي صارت هي إحدى شخصياته. حتى أنها كانت تدخل صراعاتنا حول فكرة ما تخص سير الأحداث التي تمسها؛ مرة وقفت مثل عاشقة غاضبة وضربت الطاولة أمامنا ثم صرخت: “ليش خليتو بشر يخون سوزان بالحلقة العاشرة؟! حسن مستحيل يخونني لأخر العمر”. حاولنا شرح وجهة نظرنا لكننا فشلنا في إقناعها. لم يكن أمامنا إلا خداعها بأننا قمنا بتعديل المشهد، ريثما تتابع الحلقة العاشرة إن تم شراء المسلسل وتصويره، لتصدمها خيانتنا كذلك.

نعم، كنا نكتب مسلسلاً عن الحب وتفاصيل الحياة الحلوة والعناق الطويل، بينما سوريا تذبح بعضها. نكتب عن الفرح البسيط وعن عشاق الحدائق، عن صبايا يتابعن مسلسلاً تركياً تافهاً؛ الصبايا اللواتي كن ينشغلن بطلاء أظافرهن عندما لا يكون البطل ذو العينين الساحرتين في المشهد، ثم ينساح الطلاء على الموكيت لحظة ظهوره. عن هذا نكتب، بينما كانت جثث السوريين تملأ الشاشات. نكتب عن الضحك في السهرات العائلية، في الوقت الذي كنا نعرف أنه ليس هناك عائلة في سوريا يستطيع أفرادها أن يجتمعوا مرة بكامل أسمائهم حول فطور أو مناسبة. لا يوجد عائلة واحدة بسبب فرد أو أكثر غيّبه القتل أو اللجوء أو الخطف. ليس في سوريا إلا بيوت مهدمة وعائلات بأسماء ناقصة. حين تُوضع السفرة، كانت أي أم تستطيع أن تسأل بطبيعية: أين فلان؟ على اعتبار أن الإجابة سهلة جداً، سيرد أحد الحاضرين أنه في الحمام أو لا يزال في فراشه. اليوم صار هذا السؤال على بساطته أصعب الأسئلة كما صار الجواب مستحيلاً.

يقول أحد الأصدقاء أنتم كذَبة ومراوغين، ويلمح إلى ذكائنا في التسويق إذ لم يعد هناك جهة تقبل مسلسلاً عن الحرب السورية. نحن لم نهرب من الكتابة عن الحرب. نحن ببساطة كنا نهرب من الحرب نفسها. إنه الوهم الشهي. تخيل نفسك سجين قبو مظلم ونتن، بينما أنت ترشّ عطراً باهظ الثمن على بشرتك المقرّحة وعلى ثيابك المزّفتة بالبقع. يسألني أحدهم مستغرباً هل تعتقد أن الناس لا زالت تشتري العطر؟! نعم يا صديقي، يبدو أن البشر حين يعودون إلى مرحلة الالتقاط والجمع يرعبهم المشهد، الأمر الذي يحملهم إلى المبالغة في بعض سلوكيات الترف البسيطة لاستعادة الفروق التي تميزهم قليلاً عن أبناء العمومة في المملكة الحيوانية الكبرى.

أتذكر أن أحد شخصيات مسلسلنا كان “كتكوت”؛ ذاك الذي سحبناه بكل واقعية من الشارع الممتد قربنا، ودفعنا به إلى المشهد الأول في المسلسل. المسألة لم تكن سوى حسد مبالغ فيه لقدرة كتكوت على قول ما يريد والعيش بكل طبيعية وواقعية منسجماً مع حالته الحقيقية، حسد لقدرته على رمي عقله في أقرب حاوية قمامة، حسد يخص قدرته العالية على السخرية من فكرة التكيف الذليلة أو من فكرة مقاومة الواقع؛ الواقع السوري الذي كان ولا يزال بكل ما فيه من تفاصيل يومية ومواقف ومشاهد يقول لك بكل واقعية وصدق: ماذا تفعل بهذه الكتلة الغبية التي تظنها دماغاً؟  لكنك كنت عنيداً وهشاً وتنقصك الجرأة. نحن لم نهرب من الكتابة عن الحرب، نحن هربنا من الحرب نفسها. كان لا بد من فعل ما يذكّرنا أننا بشر طبيعيون ولسنا مجرد اسفنجة خوف وذل وقهر، نحاول أن نمسحها كلطخة ضخمة وعنيدة يبدو أن الأمل بزوالها غير ممكن.

كنا ثلاثة كتاب لا أحد يعرفهم. زياد كان شخصاً خارجاً من الموت للتو، جرّبه ما يقارب الثلاثة آلاف مرة على الأقل. نعم هذا رقم تقريبي لعدد الأيام التي قضاها في الاحتياط. سُحب تماماً كما يسحب فروج من القفص الأصفر إلى النتافة. سيقول أحد ما “أممممم زياد كان في جيش النظام!” نعم يا صديقي كان في جيش النظام، لأنه الخيار الأجمل الذي أتيح له، حيث جلس زياد يقلّب خياراته المتعددة، وسأل نفسه: ماذا لو بقيت مع عروستي التي ما يزال مناكير العرس على أظافرها نشرب الويسكي ونقرش الكاجو والتفاح. لن أذهب إلى بيروت ومن ثم إلى هولندا حيث المراعي الواسعة والأبقار السعيدة؟ لا، الأفضل أن أفتح شركة تجارية أو مؤسسة تعليمية ضخمة أو دار نشر تهتم بقصيدة النثر المظلومة وبالشعراء الفقراء؟ لكنه كان حاذقاً واختار الساسبينس والإثارة والتشويق. هذا هو زياد، فكيف له أن يكتب عن الحرب؟ أي شعور بالوقاحة سيعتريه إن فكر بإعادة الرصاص إلى حلقه، ورائحة الجثث إلى أنفه، وإلى روحه أصوات الأصدقاء الذين قتلوا وعيونهم مفتوحة؟ كان من الطبيعي أن يقول سنكتب مسلسلاً عن الحرب بلا أيّة رصاصة. حتى مشيته كانت سريعة كأن أحداً ما يطارده.

كيف لرامي أن يكتب الحرب بينما قلبه قطعة مارشميلو شهية؟ كيف له أن يكتبها وهو من يُقسم أنه لم ير لقطة واحدة من لقطات الدم السوري تلك التي تبقّع وتطرش الشاشات؟ هو من يحصي كل يوم الأصدقاء الذين سافروا أو سجنوا أو صاروا مجرد صور فوتوغرافية على جدار مقهاه كزينة وديكور بسيط. لفرط الحنين، كان رامي يمشي إلى الخلف، معتقداً أنه بذلك سوف يصل إلى حضن أمه وإلى ألعابه التي نسيها تحت شجرة التوت.

كيف لي أن أكتب حرباً على الورق؟ أنا الذي قرأ أسماء طلابه الذين صاروا محاربين فجأة على ورق النعايا في كل الشوارع. صاروا ابتسامات تحمل رشاشاً على الجدران بعيون بسيطة وشوارب تبدو كأنها مستعارة. كيف أكتب الحرب على الورق لتصير على الشاشة؟ أنا الذي حلم بشاشة ضخمة تنصب في قلب تدمر وبارتفاع يسمح لكل السوريين أن يشاهدوا، وفي وقت واحد، كل أفلام السينما العالمية التي تناهض الحروب والقتل والدمار. أنا من بكى يوم قالوا “أفلحوا”  حمص، حينها أرعبتني دوائر الخوف والحقد المفرغة، تلك التي انتشرت في كل الجهات. أنا الذي أمشي وفي روحي تخشخش ضحكات كل سوري ابتلعته الحرب بلقمة واحدة.

كنا نكتب في زاوية من بناء مهدم، مقابل المقهى الذي نحبه، مكان يتبع المقهى كمساحة منزوية بعيداً عن الضجيج، زاوية من بناء مهدم تشبه ما ترونه في وسائل الإعلام من شرفات متهاوية وبقايا من غرف هُتكت. فالغرف في أصلها أربعة جدران وباب وشباكان، وربما شرفة، حتى الأطفال هكذا يرسمونها. لكنها هنا مجرد جدارين والكثير من الفجوات، غرف كانت غرفاً، يضحك فيها البشر وينامون ويستمنون. زاوية مهدمة مقابل مقهى، تشبه سوريا. لوهلة تظن أنه يجب أن يكون هناك حياة طبيعية في هذا المكان، مثلاً يجب، ومن الطبيعي، أن يكون هناك صورة معلقة على الجدار أو ربما صبية تفك السوتيان وتنشغل بخدش صغير قرب حلمتها اليسرى ثم تتفقد رسائل الماسنجر وتبتسم لأمر لا نعرفه. هل كانت الكتابة في مكان كهذا أمراً مقصوداً من شعراء ثلاثة تعجبهم الغرائبية؟ في سوريا لا ينبغي عليك تقصد شيئاً. افعل ما تشاء، وستكون في قلب السوريالية تلقائياً.

لم نكن نهرب من الكتابة عن الحرب مجاملة لشركات الإنتاج وتسويقاً ذكياً، بل كنا ننزع الحرب من جلدنا وننفضها عن ثيابنا كل يوم. كنا نهرب منها. كنا نخون الحرب بكل صفاقة ووضوح. كنا ثلاثة كتاب لا أحد يعرفنا إلا زوجاتنا وبعض الأصدقاء، ودار نشر ترسل لك النسخ كاملة إلى بيوتنا. تعرفنا صبية المقهى، نسيت، لا شك أن كتكوت كان يعرفنا بدقة عالية وإلا ما سر ابتسامته الحزينة والساخرة التي لا تفارقه حين يمر قربنا كل مرة.

=====================

تحديث 19 أذار 2021

—————————–

الثورة السورية وسؤال الهزيمة!/ أكرم البني

تتباين الآراء في توصيف درجة الإخفاق الذي آلت إليه ثورة السوريين بعد عشر سنوات من انطلاقتها، وتالياً في الإجابة عن سؤال: هل تم الإجهاز على هذه الثورة، وبتنا نعيش مناخ هزيمتها، أم أن ما تعانيه مجرد نكسات عابرة وتشوهات مؤقتة، يمكن تخفيف آثارها وتجاوزها؟

أمر مفسر أن يتهرب البعض من الاعتراف بالهزيمة متذرعاً بأن الخراب طال كل شيء، وبأن ليس ثمة منتصر أو مهزوم في صراع دامٍ مع نظام فقد شرعيته وعموميته وتهتكت مقومات استمراره، وبات يعاني أزمة حكم متعددة الوجوه، أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، كما هو أمر مفهوم أن يرفض زعماء الجماعات الإسلاموية في شمال غربي البلاد وقادة القوات الكردية في شرقها، الإقرار بالهزيمة ما داموا قد حافظوا على رؤوسهم سالمة ويستطيعون الاستمرار في فرض تسلطهم وامتيازاتهم على مناطق سيطرتهم، لكن ما ليس مفسراً أو مفهوماً أن يمتنع معارضون سياسيون عن الإقرار بالهزيمة، منهم مَن لا يزالون يخوضون في مستنقع مفاوضات مذلة، ويستسلمون لتنازلات عن حقوق الشعب السوري، تكر كحبات المسبحة، في ظل توازن قوى بات يميل بشكل صارخ لمصلحة النظام وحلفائه، تحدوها حالة الضعف والتهتك التي تعتريهم وخضوعهم للإملاءات الخارجية، بينما تعجز المفاوضات عن التقدم خطوة واحدة نحو المعالجة السياسية، وحتى نحو تحقيق الحد الأدنى من المطالب الإنسانية المتعلقة بإطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير المفقودين والمختفين قسرياً! ومنهم مَن لا يزال محكوماً بحالة من الإدمان على المبالغات والرهانات المضللة، وخَلَقَ آمالاً زائفة، مثلاً، على ما يحصل من خلافات بين أهل الحكم، أو على بعض التحركات الشعبية المعارضة للنظام في مدينتي السويداء ودرعا أو ضد الجماعات الإسلاموية في بلدات إدلب، أو على ثورة للجياع وشيكة في سوريا رداً على التدهور المريع للحياة المعيشية، ولا ضير، بين الفينة والأخرى، من إثارة التعويل على حصول توافق بين واشنطن وموسكو لإزاحة رموز النظام القائم وفرض التغيير السياسي، أو بث الأوهام عن أهمية تشكيل «مجلس عسكري» من ضباط المعارضة والنظام، يمكنه اختراق حالة الاستنقاع وقيادة المرحلة الانتقالية!

وفي المقابل تزداد أعداد المعارضين والناشطين السوريين الذين باتوا يقرون بالخسارة والهزيمة، وإذ لا تزال قلة منهم تأنف استخدام تعبير الهزيمة تحسباً من وقعها الثقيل والمحبط أمام التضحيات العظيمة للشعب السوري، فإن غالبيتهم بدأت تعترف بها جهاراً وتخوض غمار نقاشات جدية وجريئة لتحديد أسبابها، إنْ فيما يتعلق بالمسؤولية الرئيسية لنظام لم يكن يهمه سوى الاستمرار في السلطة، رفض كل التسويات السياسية واستجر مختلف أشكال الدعم الخارجي ودأب على تشويه الثورة السياسية وربطها بالإرهاب وجرها نحو حرب أهلية طائفية، متوسلاً أشد أساليب العنف والقهر وأشنع الاستفزازات المذهبية بالتواطؤ مع زعماء السلفية الجهادية الذين أطلقهم من سجونه، وإنْ فيما يتعلق بتخلي الثورة عن النهج السلمي واستسلامها للعسكرة، ما أفقدها تعاطف الرأي العام وقطاعات مهمة من الشعب السوري لها مصلحة بالتغيير الديمقراطي، لكنها ترفضه بلغة القوة والعنف، وإنْ بدور جماعات الإسلام السياسي والتطرف الجهادي التي نجحت في التغلغل بصفوف الثورة والعبث بمكوناتها ومصادرة روحها وقيمها، وإنْ بخذلان المجتمع الدولي لحقوق السوريين، بصمته عن التدخلات العسكرية الخارجية، وعجزه عن وقف العنف وحماية المدنيين، والأهم الواقع البائس للمعارضة السورية، التي فشلت في نيل ثقة الناس وقيادتهم، ولم تتمكن بائتلافها ومجالسها الوطنية من تنسيق نشاطاتها والظهور كقدوة ومثل يحتذى في السلوك الديمقراطي والمثابرة والتضحية، بل ضجت صفوفها بخلافات وتنافس مَرَضي ومؤذٍ على المناصب والامتيازات تحكمه الأساليب المتخلفة والمصالح الحزبية الضيقة وظواهر الأنانية والاستئثار، ما كرّس تشتتها وضعفها، وتالياً هشاشتها وإخفاقها في تحمل مسؤوليتها التاريخية.

إن الجدل حول أسباب الهزيمة قاد إلى جدل حول مشروعية ثورة السوريين، إن كانت خياراً يمكنهم قبوله أو رفضه، أم رداً لازماً، تاريخياً وأخلاقياً، ضد نظام استبداد وفساد أوصل المجتمع إلى حالة لا تطاق من القهر والتمييز والعوز، كما قاد إلى جدل حول احتمالات المستقبل وما هو متاح لإعادة وجه الوطن ولحمة المجتمع وحماية ما راكمته الثورة وتضحيات أبنائها.

وبعيداً عن الدعوة للتمسك بالمسار التفاوضي وبقرارات المجتمع الدولي، والادعاء بأنهما الطريق الوحيدة المتوفرة للبقاء في حلبة الصراع السياسي وانتزاع ما يمكن انتزاعه من النظام وحلفائه، وبالضد من المطالبة بالتوغل أكثر في الخيار الحربي واستجرار المزيد من السلاح لمواجهة نظام لا يفهم سوى لغة العنف، حتى لو تحول حًمًلة السلاح إلى مجرد أدوات طيعة بيد الأطراف الخارجية التي تدعمهم، يصح القول إن ثمة توافقات موضوعية بدأت تترسخ لمواجهة الوضع المزري الذي وصل إليه السوريون وثورتهم، تجمع بين التركيز على الملفات الإنسانية، وبذل أهم الجهود لمتابعة قضية المعتقلين وكشف مصير المفقودين والمغيبين قسرياً، والتشجيع على محاكمة المرتكبين، وبين الالتفات نحو البعد الفكري والثقافي لنصرة مشروعية الثورة وشعاراتها، ولاستخلاص الدروس والعبر بما يعزز وعي المجتمع والذات السياسية ويهيئهما لخوض جولات جديدة نحو التغيير بأقل الخسائر والآلام، والأهم بما يعيد بناء الثقة بالأفق الديمقراطي الذي تلهفت إليه قلوب السوريين في بداية حراكهم، لكنه لم يحظَ بالشروط الكافية التي تمكنه من التطور والتحول إلى خيار خلاصي.

ولعل ما يمنح الجهود الإنسانية والثقافية الجدوى، رغم شدة الخراب، ويخفف حزن السوريين وتحسرهم على ما وصلت إليه ثورتهم، هو حقيقة أن سوريا لن تعود كما كانت، ولن ترجع مرتعاً للقهر الاجتماعي والاستبداد السياسي، إنْ بشعاراته الديماغوجية الوطنية والقومية وإنْ بعباءته الدينية، فباب التغيير قد فتح للقطع مع الماضي، وللتأسيس والبناء على تراكمات الثورة ودروسها.

يخطئ من يعتقد أن الثورة لا يمكن أن تهزم أو تشوه وإنْ هزمت لا تعود ثورة أو لا تستحق هذا الاسم، ففي التاريخ أمثلة كثيرة عن ثورات حقيقية ونبيلة ومشروعة هزمت مؤقتاً، والأسوأ أن تلي الهزيمة مرحلة دموية وسوداء تقاسي فيها الجموع الثائرة الأمرين قبل أن تتمثل الدروس وتنهض من جديد، فتاريخ نضال الشعوب لا يكاد ينتهي في زمن إلا ويبدأ مجدداً في زمن آخر.

الشرق الأوسط

————————

مقاربة أوليّة لسردياتنا حول الانفجار السوريّ/ حازم نهار

“تبقى السردية المأمولة هي السردية غير المحكومة برؤانا الذاتية ومواقفنا السياسية، السردية التي تكون رهينة منطق التاريخ وعقلانيته ومساراته وتحولاته وحصائله” يكتب حازم نهار ضمن مقالته في ملف الذكرى العاشرة للثورة السوريّة مستعرضًا السرديات المختلفة في الثورة وسرديته الخاصة لما حدث في سوريا منذ العام 2011.

السرد في أكثر معانيه وضوحًا “صيغة من صيغ التاريخ” بحسب إدوارد سعيد، وهذه مسؤولية كبيرة تحتاج إلى أدوات وزمن ومعايير ونص مفتوح غير محدّد بسقف. لذلك، ما أحاوله في هذه المقالة، عمليًا، هو تقديم مقاربة أولية لسرديات متداولة حول الحدث السوري، ومن ثمّ تقديم رؤيتي إلى الانفجار المستمر منذ آذار/ مارس 2011، وهذا الرأي فيه شيء من التحليل القابل للنقد والمراجعة والبرهان، في حين أن السرد التاريخي يكون مرتكزًا، عادة، بصورة رئيسة، على المعطيات الدقيقة والموثَّقة.

تناولت سرديات عديدة، طوال العقد الماضي، الانفجار السوري في آذار/ مارس 2011، وكانت تخضع لعناصر عديدة أو تتأثر بعوامل متنوعة، وعلى الرغم من إمكان استبعاد كثيرٍ منها، استنادًا إلى بعض القواعد العقلانية الواضحة، إلا أنّ الوصول إلى سردية موضوعية عامة اليوم يكاد يكون أقرب إلى الخيال؛ فتباينات الرؤى شديدة إلى درجة أنّ الشخص الواحد قد تتغير رؤيته بين لحظة وأخرى، بحكم كثافة المشهد وتعقيداته وتداخلاته الواسعة، علاوة على المصالح الذاتية للأفراد والجماعات المتنوعة.

ثمة أنماط شائعة من سرد وتحليل وقراءة الواقع والتاريخ، وكثيرٌ منها لا يصمد أمام بديهيات معروفة، ولا يتوافر على تماسك منهجي أو على ترابط المقدمات والنتائج، ولا يفيد في معرفة الواقع، والتنبؤ بمساره وحوادثه؛ فبناء سردية موضوعية وقراءة حوادث الواقع ومساراته وسياساته، يحتاجان إلى جملة من الأدوات الضرورية، ومن دونها لا يمكن أن نبني مقاربة أقرب إلى الموضوعية، بل يمكن أن تصب سرديتنا في التضليل المقصود أو غير المقصود للذات والآخر. في المقابل، يمكن لكل فرد منا أن يقدِّم سرديته التي يراها أقرب إلى الموضوعية، لكن مع الانتباه إلى أن أهمية أي سردية، في الحصيلة، لا تتوقف على قوتها الذاتية وحضورها ومنطقها فحسب، بل على تطورات الواقع أيضًا؛ فحصائل الواقع والمستقبل تعود وتؤثر في سردياتنا تعديلًا وتحويرًا، والتاريخ نفسه تُعاد كتابته مرات عديدة انطلاقًا من تغيرات الحاضر وموازين القوى ونتائجها.

إشارات أساسيّة

لا بدّ من الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة قبل التعرّض للسرديات المتداولة؛ أولها، التأكيد أنّ أي سردية لا يمكن أن تحظى بإحاطة الواقع في كليته، فهناك عناصر ومسائل ستغيب حكمًا عن ناظريّ أي قارئ للواقع. الثانية، إنّ السردية التي نرويها في أثناء الحدث، خصوصًا عندما نكون جزءًا منه أو مندرجين فيه، تختلف بهذه الدرجة أو تلك، عن السردية التي سنعتمدها أو نصل إليها بعد انتهاء الحدث؛ لم ينتهِ الانفجار السوري لنقول إن سردياتنا غير متأثرة بما يجري، أو إننا منزّهون من المصالح الذاتية أو مجرّدون من أيديولوجياتنا وانتماءاتنا ومواقفنا السياسية المسبقة، لكن في المقابل، ينبغي ألّا توصلنا هذه القناعة إلى نوعٍ من العدمية أو تمييع القضايا الواضحة، بحيث لا نستطيع أن نؤكد شيئًا أو نعتمد حقيقة ما. الثالثة، ستتأثر سردياتنا بالضرورة فيما إذا كنا في موقع المنتصر أو المهزوم، ولنا أن نتوقع في عام 1789 وجود رؤى استنكرت الثورة الفرنسية وأنكرتها، ولو لم تنتصر في ما بعد لسادت رؤية الناكرين والمستنكِرين. وربما تتغير سرديات بعضنا أيضًا تناغمًا مع تغيرات موازين القوى في الواقع، والمآلات التي وصلنا إليها، وهو ما حصل، ولا يزال يحصل.

سرديات النخب وسرديات الناس

لا يُعدّ رأي الناس مبدأ حاكمًا نهائيًا في السياسة، فالسياسيون والمثقفون يمكن أن يختلفوا كثيرًا مع سرديات الناس العاديين الذين يكونون منشغلين ومهمومين، عادة وبصورة طبيعية، بالقضايا المباشرة والآنية والمحسوسة، فيما النخب السياسية والثقافية تربط الآني بالاستراتيجي، والحاضر بالتاريخ، والمصالح المؤقتة بالمصالح الوطنية الكبرى، أو في الأحرى هكذا يُفترض أن يكون. إذا كانوا سيردِّدون شعارات الناس فحسب، من دون تعديل أو تحوير أو تطوير، فما فضيلتهم أو ضرورتهم إذًا؟ فبعد أن كانت أكثرية الناس، مثلًا، تمجِّد البوعزيزي، أصبح بعضهم يشتمه، دلالة على وصولهم إلى طريق مسدودة، وبعد أن كانوا ينظرون بهالة قدسية إلى شخصيات المعارضة السورية، أصبح بعضهم يسخر منهم ويستهزئ بهم، وبعد أن كان المنشقون على الجيش السوري في مكانة مرموقة في أعين كثيرٍ من أهل الثورة، أصبحوا يُنظر إليهم أنهم خريجو مدرسة النظام وتربيته، وهكذا.

في سوريا، كنّا أمام مشكلة كبيرة في هذا الحيز؛ وقع بعض السياسيين والمثقفين في حفرة تكرار أو تنفيذ ما يقوله الناس أو استلهام سردياتهم، وفي أحايين أخرى، انتحل بعضهم خطاباتٍ وسردياتٍ تلامس المشاعر المؤقتة للناس، وتلعب على غرائزهم وآلامهم. عندما لا يكون هناك فارق بين سرديات النخب السياسية والثقافية وسرديات الناس العاديين سنكون في مأزق كبير، وهكذا كنا فعلًا؛ ساهم كثيرٌ من السرديات غير العقلانية التي شاعت بين السوريين أو سُرِّبت إليهم من النظام ودول أخرى وقنوات فضائية وأجهزة استخبارية، إلى جانب عوامل أخرى بالطبع في مقدّمها عنف النظام السوري، في خلق وتوليد وقائع ومتغيرات عديدة أثرت في صورة المشهد السوري الكلي، وأوصلته إلى حاله الراهنة.

سرديات غير موضوعيّة أو ناقصة

يمكن عرض عددٍ من السرديات المتداولة وخلفياتها في اختصار، على الرغم من قناعتنا بأن كلًا منها تحتاج إلى تناول بحثي رصين لا يتناول مقارنتها بمعطيات وحقائق الواقع فحسب، بل أيضًا نقد وتفكيك النصّ السردي نفسه، وإظهار نقاط ضعفه وتناقضاته وازدواجيته.

لا تصمد، في رأيي، سردية النظام أمام المنطق البسيط، تلك التي تقول إن ما حصل ليس سوى مؤامرة خارجية من جانب الإمبريالية والصهيونية والرجعية، هدفها ضرب محور المقاومة. لكنها، مع ذلك، وجدت من يؤيدها ويقف خلفها، ولا نستطيع الادعاء كليًا بأن من وقفوا إلى جانب سرديته هم من أصحاب المصالح الخاصة أو ممن تحركهم انتماءاتهم وخلفياتهم الطائفية، فهناك من تظاهروا أنهم صدقوها لأسباب مختلفة، وهناك من صدقوها فعلًا.

ثمة سرديات اختُرعت أو صُمِّمت أو استُحضرت لتكون أداة في التحشيد، لكن سرعان ما تحولت الأداة نفسها إلى سردية فاعلة في الواقع، استمرت في اجتذاب التحشيد، ولتُصنع في الحصيلة قوى تتبناها وتدافع عنها، مثل سردية النظام في الشهر الأول من الثورة حول خطر الإسلاموية والطائفية، وقد استخدمها النظام، في وقت لم يكن لها وجود حقيقي، بالارتكاز على حقائق عدة، الأولى؛ النظام أدرى الجميع بالمجتمع السوري، وبافتقاده قبل الثورة إلى عناصر جامعة وإلى قوى سياسية فاعلة، وهو يعرف ما أنتجه طوال نصف قرن على هذا المستوى، أما الثانية؛ وجود تجربة سورية سابقة، تجربة الثمانينيات، وتجارب أخرى مجاورة، تجعل تصديق سرديته واردًا، علاوة على إمكان تحولها إلى واقع، والثالثة؛ هي سردية مخيفة في الداخل للأقليات بحكم غياب الاندماج الوطني، وراعبة للخارج، ما يفيده في التحشيد داخليًا لمصلحته، وتخفيف الضغوط الخارجية المحتملة عليه.

أما السردية التي تنظر إلى الانفجار السوري بوصفه ثورة أغلبية إسلامية “سنية” ضد “الحكم العلوي”، وبهدف تأسيس دولة إسلامية، فلا تصمد أيضًا أمام المشاهدات والتجارب الكثيرة خلال السنة الأولى بصورة خاصة، ولا أمام الشعارات التي كانت مرفوعة، ولا أمام استعراض طبيعة الفئات التي كانت في واجهة الحدث آنذاك، ولا تصمد أيضًا في حال تناولنا أرقام المسلمين “السنة” الذين كانوا إلى جانب النظام لأسباب مختلفة، أو الذين لم يكترثوا للحدث على أقل تقدير.

ثمة نوع من السرديات استند إلى خلفية طائفية أو موقف طائفي أصلًا في قراءة الواقع السياسي. هناك مثلًا سرديات شائعة ذهبت في اتجاه قراءة سياسات وممارسات إيران وحزب الله والسعودية وقطر وتركيا وغيرها، انطلاقًا من الطائفة، وتختلط هذه السرديات بهذه الدرجة أو تلك بالخلفية الطائفية للمتحدِّث والطرف الخاضع للتحليل، وهي سرديات مضلِّلة لا توصلنا إلى قراءة الواقع بموضوعية وفهم السياسات الفاعلة فيه؛ فالدول والقوى المختلفة يمكن أن تستخدم السردية الطائفية للتضليل أو بقصد التعبئة والتجييش، لكنها في الأغلب غير معنية بالطوائف والمذاهب.

كان ولا يزال للسرديات الأيديولوجية المختلفة حضور في مقاربة الحدث السوري؛ تستولي الأيديولوجية ومسلماتها، عادة، على عقول وقلوب أصحابها، ما يمنعهم من تقديم سردية موضوعية لحوادث الواقع، لأن هاجسهم الرئيس هو إثبات أن الواقع والمتغيرات تسير وفقًا لتعاليم أيديولوجياتهم، وأنهم كانوا على صواب دائمًا. وهناك أمثلة لا حصر لها على هذا النمط من السرد والتحليل؛ فسرديات بعض الشيوعيين العرب يصعب عليها غالبًا أن تستوعب فكرة الدور الروسي الذي يقف ضد تطلعات شعوب المنطقة، فيما سرديات القوميين الكرد لا تستطيع، في معظمها، إلا أن تتعامل بعدائية وتوجس ضد كل ما يصدر عن السياسة التركية، أما سرديات القوميين العرب فقد تخثرت عند مصر عبد الناصر.

وهناك سرديات بنت قوامها اعتمادًا على متابعة التصريحات الإعلامية لأصحاب القرار أو من خلال رصد الأخبار الانتقائية أو الجزئية أو المحوَّرة أو الكاذبة التي تبثّها بعض القنوات الفضائية. وهناك سرديات حقوقية قرأت الواقع بمنظار حقوقي، وليس بالارتكاز على المصالح وتوازنات القوى، ورأت ضمنيًا أن الحقوق هي التي تحرك الواقع وتصنع سياساته، فبنت سردياتها على حتمية انتصار الحق والحقوق في مواجهة الظلم، وبنت مسارات بعيدة من الواقع وحركته.

أما السرديات الرغبوية أو الذاتية، فتجري فيها قراءة الواقع انطلاقًا من الهدف أو الرغبة أو المصلحة الذاتية، وهي قراءات تفرض رغباتها وأمنياتها على الواقع، ليصبح الواقع في هذا التحليل طوعَ بنان الأمنيات والأمزجة والتقديرات الشخصية. كذلك، هناك شكل من تحليل حوادث الواقع وظواهره ينطلق أساسًا من تبني موقف سياسي محدَّد من دون التمييز بين الموقف والتحليل، بما يجعل الموقف متحكِّمًا في التحليل أو مهيمنًا عليه على طول الخط؛ مثلًا، صاحب الموقف الموالي للنظام سيقرأ الوضع السوري بطريقة مختلفة عن قراءة صاحب الموقف المعارض، وهي قراءات ذاتية في الحصيلة لا ترى الواقع أو الحدث بمعزل عن الموقف السياسي.

تعاملت سرديات أخرى مع العلاقات السياسية بين الدول بوصفها علاقاتٍ خطية بسيطة؛ فقد ذهبت في اتجاه تقسيم الدول والقوى والفاعلين إلى محاور نهائية، بعضها عدو مطلق، وبعضها الآخر صديق مطلق، وتقوم في داخل كل محور علاقات تبعية في اتجاه واحد، ومن ثمّ فسّرت حوادث الواقع وبنت سرديات معينة استنادًا إلى هذا التبسيط المضلِّل، مثل افتراض التطابق أو التبعية المطلقة بين روسيا وإيران والنظام السوري، فيما الواقع يشير دائمًا إلى وجود تناقضات أيديولوجية واقتصادية وسياسية معقدة بين الدول المتحالفة، إلى جانب التقاطعات التي تجمعها.

وهناك سرديات استحضرت تجارب أخرى، من التاريخ أو الواقع الحديث، وأسبغتها على واقع آخر، واقعنا، إذ نقلت الممارسات من التجربة المعتمدة وطبقتها في الواقع الجديد، من دون قراءة عميقة ودقيقة للتجربة وتفاصيلها وأحوالها وشروطها وزمنها والأطراف الفاعلة فيها؛ فقد استحضر مثلًا بعض المعارضين السوريين للنظام التجربة الليبية، وبنوا سردية حشروا فيها السوريين والواقع السوري، وتنبؤوا بمسار تجربتنا السورية استنادًا إلى ما حدث في ليبيا من تدخل عسكري، والأجسام السياسية التي رافقته، مثل تشكيل “مجلس انتقالي ليبي”، وتحولت السردية هذه إلى سردية فاعلة بوجود قوى وشخصيات اعتمدتها، وسارت وفق هديها.

وأخيرًا، هناك أيضًا سردية اقتصادية قدَّمها بعض الباحثين، نظروا إلى الانفجار السوري بوصفه تتويجًا للاختلال الاجتماعي، وغياب العدالة في توزيع الثروة، وتحرير الاقتصاد الذي أدى إلى ازدياد معدلات الفقر وإفقار الريف، ما أدى في الحصيلة إلى تمرّد المناطق الريفية. هذا التحليل صحيح ومفيد، لكنه لا يفسِّر الانفجار السوري كليًّا. وفي الأحرى، لم يكن التردّي الاقتصادي حاسمًا في حدوث الانفجار؛ فالوضع الاقتصادي في سوريا كان دائمًا في أزمة، وما كان يمكن أن يؤدي إلى الانفجار لولا تزامنه مع ثورتي تونس ومصر من جهة، ولولا الإمعان في إذلال السوريين في درعا وبعض المناطق الأخرى، ومن ثمّ ظواهر القتل والاعتقال والتعذيب على يد الأجهزة الأمنية من جهة ثانية. أما تركز الثورة في الريف، فهو أيضًا لا يمكن اعتماده كليًا، لأن المدن السورية كلها حدثت فيها احتجاجات وتظاهرات باستثناء مركزي مدينتي دمشق وحلب اللتين حاصرهما النظام من جهة، ولأن الحدود الاجتماعية والعمرانية والحياتية تكاد تكون غائبة بين الريف والمدينة في أغلبية المناطق السورية من جهة ثانية.

سردية أخرى؛ سرديتي

استخدمت في الفقرات السابقة مصطلح “الانفجار السوري” في محاولة لتنحية سرديتي قليلًا في أثناء تناول السرديات الأخرى. هذا الانفجار بدأ بتظاهرات واحتجاجات سلمية، دفعتها سياسات النظام المرتكزة على العنف والقتل والاعتقال والتعذيب والإذلال للتحول إلى ثورة عمّت المدن السورية، شاركت فيها شرائح متنوعة من المجتمع السوري، بأبعاد ومطالب وطنية، وممارسات حضارية.

يصعب على أي طرف أو جهة أو دولة التنكر لأحقيّة الاحتجاجات والتظاهرات التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، ويصعب إنكار سلميّتها عمومًا خلال السنة الأولى، وأخيرًا يصعب إنكار طبيعة مطالبها آنذاك، تلك التي تحدَّدت بالحرية والكرامة للسوريين كلهم بوصفهم شعبًا واحدًا، وللشعارات التي طالبت بالانتقال من الدولة المرتبطة بملكية خاصة لفرد وعائلة إلى دولة جميع السوريين وتداول السلطة، والتوزيع العادل للثروة… وغيرها. كانت هذه الصورة هي المسيطرة طوال عام 2011 أو أكثر، ومن ثمّ أدت عوامل عديدة إلى حدوث تحولات تدريجية متوقّعة، يقع في مركزها درجة العنف الشديدة للنظام، وتردّد المجتمع الدولي واتّخاذه موقف المراقب مراعاة لمصالحه أو درءًا لمخاطر يمكن أن تنعكس عليه، علاوة على ضعف المعارضة السياسية. تغيرت طبيعة الصراع تدريجيًا، وظهرت قوى جديدة ركبت على الانقسامات العمودية في المجتمع السوري، وتماهت مع التدخلات الإقليمية والدولية التي استثمرت في الانقسامات هذه، وفي الأطراف نفسها.

الواقع السوري الحالي فيه شيء من كل شيء، فيه شيء من الثورة، وشيء من الحرب الأهلية، وشيء من الصراع الإقليمي الدولي على الأرض السورية، وشيء من الأزمة. هو واقع مختلط بدرجة معقدة، وأسوأ ما فيه اليوم هو تقديم السوريين لأنفسهم على هيئة طوائف وإثنيات متصارعة، وميليشيات تابعة لدول أخرى، بدلًا من تقديم أنفسهم بوصفهم سوريين أولًا وقبل كلِّ شيء.

نحن اليوم أمام حالة فشل عام؛ فشلت قوى الثورة، وفشلت المعارضة السياسية، وفشل النظام، وفشلت الدول الإقليمية والكبرى في إنتاج حلٍّ يأخذ سوريا والسوريين إلى دولة وطنية ديمقراطية حديثة، آمنة ومستقرة. لكن الانفجار/الحدث لا يزال مستمرًا، ولا نستطيع نفي احتمال تطوره مستقبلًا، واتجاهه نحو وضع خطٍّ فاصلٍ وواضحٍ، يُقيم الحدَّ على المرحلة الماضية، والانطلاق نحو الإسهام في بناء مجالٍ عموميٍّ سوريٍّ يعزلُ أطرافَ الصراع الحالية، ويقطعُ معها، ويبني دولة وطنية ديمقراطية، وعندها سيسجّل التاريخ هذا الانفجار بوصفه ثورة ذات اتجاه تقدمي، وفيما عدا ذلك سيكون بداية تفكك وتشظي سوريا والسوريين.

عندما يجري التساؤل هل ما حدث ثورة أم ماذا، غالبًا ما يسيطر في الخلفية نوعٌ من التقويم الإيجابي والأخلاقي على معنى الثورة سلفًا، ومن ثم نتجه إلى مقاربة ما حدث من منطلق أخلاقي بحت، لنتعاطى من ثمّ مع الثورة من منظار أخطائها فحسب؛ أي نفي صفة الثورية ذات المعنى الإيجابي عن “الثورة السورية” انطلاقًا من أخطائها. هذه مقاربة غير صحيحة، علاوة على أن أخطاء أي ثورة، في جانب ما، لا تدين أهلها فحسب، بل تدين النظام الذي قامت ضده؛ فكلما ازداد النظام سوءًا ازدادت أخطاء الثائرين عليه، لأن النظام، بحكم أنه الطرف الأقوى، يفرض بدرجة عالية حدود وقواعد اللعبة ضده.

سرديّة كبرى مأمولة؛ سرديّة وطنيّة

تبقى السردية المأمولة هي السردية غير المحكومة برؤانا الذاتية ومواقفنا السياسية، السردية التي تكون رهينة منطق التاريخ وعقلانيته ومساراته وتحولاته وحصائله؛ فالتاريخ لا يكترث كثيرًا لسردياتنا الذاتية، قد يقبل بها بعض الوقت إلا أنه يعيد قراءتها دائمًا ليقترب شيئًا فشيئًا من الموضوعية، ولينسجم مع قوانينه التي تنظم حركته وتتحكم فيها.

تتكثف مشكلتنا اليوم في غياب السردية الوطنية؛ لا يعني ذلك أننا نطمح إلى سردية وحيدة تغطي الحدث السوري، بل سردية تتشكل في بيئة من الديمقراطية والتعافي، ويمكن تخيّل أنها ستكون حصيلة مراجعات كبرى للسرديات جميعها، وناتج تفاعل السرديات كلها، بل وتفكيك كثيرٍ منها. سردية طوعية، تلقائية، تنبني تدريجًا عبر الحوار، ويمكنها أن تشكل وعيًا جمعيًا أو حكاية شعب.

لا يمكن كتابة سردية وطنية إزاء الانفجار السوري ولواحقه من دون دولة وطنية ديمقراطية، وبيئة آمنة وسلمية. كل سردية النظام السوري بين 1963 و2011 انفجرت وطارت في لحظة؛ الاستبداد لا يبني سردية وطنية. ربما مع هذه السردية سنكون أمام أمة سورية جديدة بالمعنى الثقافي على أساس أن كل سردية تتضمن في الحصيلة رؤية إلى الذات والآخر؛ رؤية السوريين إلى أنفسهم بوصفهم شعبًا وأمة في المستقبل، ورؤيتهم إلى محيطهم وموقعهم في العالم.

في عالم اليوم، يشكِّك كثيرون في الأفكار والغايات والسرديات الكبرى، لأنّ المعرفة فيه باتت تعتمد على المعلومات التي ينتجها التطور التكنولوجي، لا السرديات، وبالارتكاز على منهج براغماتي ليس في حاجة إلى أهداف كبرى لاكتساب الشرعية والصدقية، ومن ثمّ وتستحوذ فيه السرديات الصغيرة على السردية الكبرى. ربما يكون هذا صحيحًا في العالم الذي أنتج سردياته الكبرى، بينما بالنسبة إلينا ربما تشكِّل عملية خلق سردية كبرى أساس وجودنا وبقائنا، اليوم وفي المستقبل.

كاتب وباحث سوري في الشؤون السياسيّة والثقافيّة، له إسهامات عديدة في الصحف المجلات ومراكز الدراسات العربيّة. نشر عددًا من الكتب السياسيّة والثقافيّة، وله عدة ترجمات. أسّس وأدار عدّة مراكز بحثيّة وثقافيّة، وعدّة مؤسسات ومنظمات مدنيّة.

حكاية ما انحكت

—————————

نفور اليسار الغربي من الانتفاضة السورية: نموذج شومسكي/ صبحي حديدي

على مدار السنوات العشر من عمرها شهدت الانتفاضة الشعبية السورية سلسلة أنماط من المواقف السلبية التي صدرت عن مختلف تيارات اليسار الأوروبي والأمريكي والغربي عموماً، خاصة تلك التي تلتقي غالباً حول شعارات عريضة مثل مناهضة الإمبريالية والتدخل العسكري والعقوبات وما إليها. ورغم أنّ الكثير من القوى الشعبية، خاصة التقدمية واليسارية والديمقراطية، التي انخرطت في الانتفاضة تشترك مع تلك التيارات في الشعارات إياها، فإنّ افتراقاً بيّناً، مذهلاً وعجيباً ومحزناً، دفع باليسار الغربي المشار إليه ليس بعيداً عن مساندة الانتفاضة، فحسب؛ بل قريباً من بعض مواقف النظام وحلفائه الروس والإيرانيين غزاة سوريا، وكذلك ـ وهنا ذروة المفارقة ـ على توافق مع مواقف الإمبريالية ذاتها، ممثلة في الولايات المتحدة تحديداً.

التيارات كثيرة ومتعددة ومتباينة وليس من أغراض هذه السطور أن تأتي على إحصاء الحدّ الأدنى في تنويعاتها؛ خاصة، كما يتوجب القول، أنّ مرور السنوات العشر تكفّل بتعديل بعضها من دون أن يأتي بتحوّل جذري أو مراجعة نقدية. يكفي مثال واحد هو انقلاب كاتب يساري مثل الباكستاني ـ البريطاني طارق علي من اتهام المعارضة السورية المسلحة (وكان يتحدث من شاشة الفضائية الروسية!) بتنفيذ مجزرة الحولة، أيار/ مايو 2012، التي ذهب ضحيتها 108 أشخاص، بينهم 34 امرأة و49 طفلاً؛ إلى الإقرار، ولكن بعد خمسة أشهر، بأنّ النظام هو الذي يقف وراءها، وأنّ سبب تسرّعه في الاتهام الأوّل كان زمن المقابلة القصير الذي لم يتجاوز ستّ دقائق! سيمور هيرش وباتريك كوبرن وروبرت فيسك كانوا في عداد الصحافيين الأكثر تلقفاً لسرديات النظام، والاجتهاد فيها ولصالحها، حتى أنّ الأخير لم يتردد في امتداح سجون النظام ومعتقلاته التي أفسح له ضباط النظام الفرصة لزيارتها ورصدها والتدقيق في أحوالها من دون أيّ تدخل.

هذه السطور تسعى، في المقابل، إلى التركيز على نوام شومسكي الغنيّ عن التعريف بسبب مواقفه المناهضة للإمبريالية الأمريكية ومناصرة قضايا الشعوب بصفة عامة، إلى جانب مكانته العلمية العالية في اللسانيات بالطبع. ولعلّ من الخير البدء من المقدّمة التي وضعها لكتاب الصحافي الأمريكي ريز إرليك المعنون «داخل سوريا: القصة الخلفية لحربهم الأهلية وما يمكن للعالم أن يتوقعه» الذي صدر في نيويورك سنة 2014؛ وهو النصّ الأبكر الذي يكشف عن الخطل الكبير في تفكير شومسكي بصدد الانتفاضة السورية: أنها حرب بين العلويين والشيعة في مواجهة السنّة، وهي استطراداً أقرب إلى حرب أهلية منها إلى انتفاضة شعبية؛ وهذا استقراء (إذا جاز وصفه كذلك) قاد شومسكي إلى استنتاجات أكثر انزلاقاً نحو الخطل في مناسبات لاحقة، ستأتي هذه السطور على ذكرها.

يكتب شومسكي في المقدمة المشار إليها: «في الفصل الخامس يبيّن ريز إرليك أنّ النزاع يبقى بين نظام الأسد وقطاعات رئيسية من الشعب السوري. لكن الحرب أصبحت أكثر تعقيداً بسبب القتال المتزايد بين السنّة، والعلويين، والشيعة، وسواهم، من المجموعات الدينية والإثنية، ودخول مجموعات جهادية ذات أجندات متنوعة على النزاع». وبذلك فإنّ شومسكي لا يختزل تشخيص إرليك فقط (إذْ أنّ الصحافي الأمريكي، في الفصل الخامس المشار إليه، لا يقول البتة إنّ جوهر الصراع يدور حول الأديان والطوائف!)؛ بل ينوس، على غير عادته في التزام الدقّة، بين مصطلحَيْ «النزاع» و«الحرب» متجنباً تماماً أية إشارة توحي بانتفاض الشعب، أو قطاعات واسعة منه، ضدّ نظام استبداد وفساد لا يخفى طابعه على عقل تحليلي بارع مثل شومسكي.

لافت، إلى هذا، أنّ الفصل الخامس الذي يشير إليه شومسكي يشرح الكثير من العناصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي دفعت السوريين إلى الانتفاض في آذار (مارس) 2011؛ لم يكن في عدادها «قتال» من أيّ نوع بين السنّة والشيعة؛ وأنّ بشار الأسد كان على يقين من أنّ السوريين، على نقيض ما جرى في تونس ومصر واليمن، «لن يثوروا أبداً ضدّ نظام عروبي، معاد لإسرائيل، معاد للإمبريالية». إرليك من جانبه يوضح من دون لبس أنّ «السوريين عاشوا تحت نظام دكتاتوري حيث نقد الحكومة يعني السجن والتعذيب» وأنّ الأسد «لم يسمح بأي أحزاب معارضة فعلية، وأنه عاش في شرنقة سياسية مقتنعاً كلّ الاقتناع بأنه محصّن ضدّ الانتفاضات العربية». في المقابل، يكتفي شومسكي بإطلاق صفة «الوحشي» على النظام، في سنة 2014 للتذكير، أي بعد «حادثة الكيميائي» كما يسميها؛ منتقلاً إلى ما يحلو له انتقاده عادة، أي أكاذيب التدخل الإنساني وسياسات الولايات المتحدة عموماً.

في مناسبة لاحقة، خلال محاضرة هارفارد 2015، طرح طالب سوري السؤال التالي على شومسكي: هل تعتبر التدخل الروسي في سوريا إمبريالياً؟ كان جواب أحد نقاد الإمبريالية الأبرز أنّ ذلك التدخل ليس إمبريالياً، رغم أنه من الخطأ في نظره أن تقف روسيا إلى جانب «نظام وحشي» مثل نظام الأسد؛ وزاد، أو الأحرى القول إنه استزاد: «إذا هاجمت الأسد فإنك بذلك تقوّي النصرة، فهل هذا ما تريده في سوريا؟»× ثمّ: «سواء رغبت في ذلك أم كرهته، فإنّ نظام الأسد يجب أن يكون جزءاً من التسوية السياسية، وإلا فإنه سيقاتل حتى الموت». ولعلّ الأخطر في تلك الآراء التي تناولت الوضع السوري أنّ شومسكي كدّس كامل مجموعات المعارضة السورية للنظام في سلّة واحدة هي «الجهاد» متمثلاً في «النصرة» المتفرعة عن «القاعدة» ومنذراً بأنها تتلقى الدعم الكامل من السعودية على سبيل جرّ المجتمع السورية نحو الوهابية.

هل توفرت في داخل سوريا قوى أخرى غير إسلامية أو غير جهادية، ضعيفة كانت أم متوسطة الحضور مثلاً؟ وهل توفرت، على مظانها الكثيرة وأخطائها الفادحة، مؤسسات تخصّ «المعارضة» الخارجية، مثل «الائتلاف الوطني» وقبله «المجلس الوطني» وبعدهما «لجنة التفاوض» وفي الغضون «الجيش السوري الحر» و«الحكومة المؤقتة»…؟ لا يلوح أنّ شومسكي معنيّ بتوظيف هذه المسميات في سياقات ملائمة تليق بعدّته الأثيرة في التحليل والتركيب والاستنباط؛ وكان تنزيه التدخل العسكري الروسي في سوريا عن أيّ بُعد إمبريالي، مقابل قدح أيّ جهد للتدخل الإنساني في الشأن السوري بوصفه مصطلحاً غير موجود أصلاً؛ بمثابة كاشف صريح تماماً حول الأفق الذي يراه شومسكي مناسباً للحلّ في سوريا: فليدع الشعب انتفاضته جانباً، لأنها تأسلمت وانقضى الأمر، وليدخل في تسوية مع النظام ذاته الذي انتفض عليه، ولكلّ مقام مقال!

وفي مقابلة مع إمانويل ستوكس، على موقع Jacobin، عنوانها «شومسكي ونقّاده» لا يرفض الأخير فكرة «الممرّ الإنساني» أو حتى منطقة حظر الطيران، ولكن هل تنفع في إنهاء النزاع؟ شومسكي يرحّل تساؤله هذا إلى «عارفين» بالشأن السوري (مثل باتريك كوبرن، دون سواه!) مستخلصاً مثلهم أنّ حلولاً مثل هذه يمكن أن تفيد في منطقة واحدة داخل سوريا، هي تلك التي يسيطر عليها الأكراد. وفي بلد تحتلّ أراضيه خمس قوى خارجية (روسيا، إيران، تركيا، الولايات المتحدة، دولة الاحتلال الإسرائيلي) يساجل شومسكي بأنّ خيارات التدخل الخارجي لم تثبت فعالية، ولا توحي بأي معونة في التوصل إلى حلول سلمية. ولكن… كيف يمكن لها أن تفعل أصلاً، حتى إذا شاءت؟

وقد يكون شومسكي النموذج الأبرز في صفوف اليسار الغربي النافر من الانتفاضة السورية، لكنه بالطبع قد يفسح المجال قريباً لآخرين أكثر بروزاً؛ ليس على صعيد مكانتهم وتمكّنهم ربما، بل في مستوى التجاسر على الحقّ والحقيقة، من دون رادع في سجلات الماضي أو الحاضر أو المستقبل.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

————————

كيف خان نعوم تشومسكي الشعب السوري؟/ سام حمد

فرح عصام

كتب الناقد الشهير لإسرائيل نورمان فلنكشتاين ذات مرة أن طقس العبور لـ «مرتدِّي اليسار»، أي أولئك الذين تخلَّوا عن مبادئهم اليسارية، تمثَّل في انتقادهم نعوم تشومسكي. وكما لاحظَ فلنكشتاين، فإنَّ تشومسكي يمثل «انعكاسًا لماضيهم الفكري وحاضرهم الباهت، تذكيرًا لا يرحم بأنهم كانوا فيما مضى أصحاب مبادئ بيعَت بينما تمسك هو بها».

وفلنكشتاين محق بطريقة ما. فنعوم تشومسكي صمد سياسيا؛ ولم تُبدل مواقفَهُ السياسية، العوامل المختلفة، أو يغيرها الزمن، وإن تصادمت مواقفه مع الكثير من الآراء المغايرة. وبينما لا شكَّ عندي في أن سياسات تشومسكي نابعة من معارضة أصيلة وضرورية لسياسات الولايات المتحدة الخارجية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنَّ الركود الذي يميز أسلوبه قد تركه عاجزًا عن تقدير تعقيدات الربيع العربي ومتناقضاته على النحو الصحيح.

وركود تشومسكي إزاء الحالة السورية لأشدُّ الأمثلة وضوحًا على ذلك. وكما صرح أثناء مقابلة عقدت في معهد هارفارد للسياسات في أيلول سبتمبر سنة 2015، ومرارا في مقابلات أخرى، فإن تشومسكي يرى بأن اقتراف تدخل إنساني في سوريا رنجةٌ حمراء (الرنجة الحمراء: اسم لحيلة كان يستخدمها الفارون من العدالة لتضليل كلاب الحراسة التي تتبعهم)، فتقريبًا،«كل استخدام للقوة يُنعَت بالتدخل الإنساني». وأغلب التدخلات الإنسانية لا يمت للإنسانية بصلة، واقع الأمر «أنها تدخلات تخدم مصالح منفذيها» على حد تعبيره. من وجهة نظره، فيما يتعلق بالتدخل في سوريا، فإن الولايات المتحدة قد اقترفت ما يفوق دعم القوات التي تنتج وتُديم الحراك «الجهادي» في البلاد.

وبينما قد يَعتبِر الداعمون لوجهة نظر تشومسكي، مناصري الثورة أمثالي، «محافظين جدد» أو «مناصرين للإمبريالية»، فإنَّني أعدُّهم هم واقع الأمر أحقّ الناس بهذه النعوت.

معالم موقف تشومسكي من الوضع السوري

خلال محاضرة ألقاها في هارفارد شهرَ أيلول سبتمبر 2015، سُئل تشومسكي فيما إذا كان يعدُّ انتشار القوات الروسية في سوريا إمبرياليًا. وفي معرض رده،كرر تشومسكي زعمهُ المتلوِّن بأنَّ جُلَّ المعارضة السورية إمَّا هي جزءٌ من تنظيم داعش، أو مغايرٌ ما للقاعدة.

وكما يعرف أشد المتابعين العرضيين للشأن السوري، فإنَّ هذا الادعاء عارٍ عن الصحة. فالمؤلِّف الرئيسي لقوات الثوار في سوريا ليس «الجهاديين» بأي شكل. حتى ضمن أولئك الإسلاميين منهم، ثمة من يدعم حكومة ديمقراطية، بصيغةٍ ما، وهُم أشبه بحماس منهم بتنظيم داعش أو القاعدة.

وبدل أن يأخذ في الحسبان هذه الحقائق وسواها في الثورة السورية، دعم تشومسكي ضمنًا منطق «الحرب على الإرهاب»، في اتفاق مع من لا يرون مشكلة في التحالف مع الديكتاتوريات بهدف هزيمة الإرهاب.

في لقاء سابق مع قناة الجزيرة على سبيل المثال، سُئل تشومسكي فيما إذا كان سيدعم الولايات المتحدة إن انضمت لنظام الأسد في محاربة داعش. وفيما وصف الأسد بالـ «وحشيّ» (اعتراف سيجعل استنتاجه أسوأ)، زعم تشومسكي أنه سيكون من المستحيل «محاربة كل من داعش ونظام الأسد» بذريعة ألا صلة بينهما.

وهذا التعليق صادم على نحو الخصوص، إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ نظام الأسد قد عزز من تقدم داعش على نحو مؤثر . كما فسر دومينيك تيرني Dominic Tierny في صحيفة الأتلانتيك:

يستفيد الأسد من الاستقطاب الملازم للحرب الأهلية، بوصفها حلقةً من الفظاعات والأعمال الانتقامية التي تدفع كل الأطراف نحو الحدّ الأقصى. وقد فاقمَ النظام التطرف بصورة أكبر بتسليطه النيران على الأعداء الوسطيين، بالتزامن مع إطلاق سراح الجهاديين من السجون وشراء النفط من داعش.

سنة 2014، في ذروة توسع تنظيم داعش، كان نصيب التنظيم من هجمات النظام 6%، في الوقت الذي تركزت فيه 64% من ضربات تنظيم داعش على الثوار. وقد كان ثمة حالات لا تحصى تحالف نظام الأسد فيها مع داعش، يغطّيهم القصف الروسي، عوضَ صدّه التنظيم. من الجلي أنَّ النظام السوري الطائفي الإجرامي، والذي تدعمه إيران وميليشياتها، قد ساهم في دعم غير مسبوق لداعش. وهو ما يجعل دعم تشومسكي لتحالف مع بشار الأسد ضد داعش مثيرا للسخرية في أفضل حالاته، ومتهافتًا في أسوئها.

دوافع تشومسكي

في مقابلة أجرتها معه مجلة جاكوبين Jacobin، يوردُ تشومسكي لمحة عن الأسباب العميقة التي تدعم موقفه إزاء سوريا. ففي معرض رده على تساؤل بشأن موقفه من القصف الغربي لداعش. أشار تشومسكي إلى أنَّ «الصراعات الطائفية التي تمزق المنطقة هي جوهريا نتيجة لغزو العراق».

بالنسبة لتشومسكي، ولغيره من اليساريين أيضًا، فإنَّ مداناة الولايات المتحدة، التي يعتقدون بها، للصراع (أو الاعتقاد الباثولوجي بأن الولايات المتحدة مسؤولة عن الحرب المدمرة) قد أدت إلى تشكّل ملامحالعدوانية واللامبالاة إزاء الثورة السورية. بكلمات أخرى، لأنَّ الولايات المتحدة تناوئ نظام الأسد، يرى اليسار نفسه مضطرا إما لتجاهل الثورة أو معاداة أعداء النظام.

في حالته، فإن تشومسكي قد عبر عن تحقير أيدولوجي لقوى الثورة بدعمه إبادتها التامة. في ذات المقابلة مع مجلة جاكوبين، قال تشومسكي بأنَّ الناتج في سوريا «في حال انتصر الجهاديون المدعومون من تركيا وقطر والسعودية لن يقل سوءًا عن الناتج في حال [انتصار داعش]»ويضاهي تصريحه هذا موافقة ضمنية على الحرب التي تشنها روسيا وإيران والأسد ضد العناصر المسماة «جهادية».

إنما، كما توضح تصريحات أخرى لتشومسكي فيما يتعلق بالشأن السوري، فإنَّ المناداة بـ «تدخل امبريالي» أمرٌ يبعث على السرور، حينما يكون لصالح الجماعات المسماة يسارية. في مقابلة على قناة الجزيرة، عبر تشومسكي جهرًا عن دعمه الضربات الجوية الأمريكية نيابةً عن الأكراد. ولليساريين، أدرجَ تشومسكي «الأكراد» مرادفًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) أو فرعهم السوري، حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذي يتحكم في المنطقة السورية الشمالية المعرَّفة بـروج آفا. وبينما استخدم تشومسكي الجدالات الإنسانية لتبرير تلك الضربات، فإنه صرح أيضا لمجلة جاكوبين بأن حزب الاتحاد الديمقراطي(PYD) يبدو «أنه يُطوِّر، كما كنت لتفعل في هذه الظروف، مجتمعًا منصفًا عادلًا، مختلفًا عن أي شيء آخر في سوريا… وهم دون سواهم الجديرون بالدعم».

ونتاجُ تصريح تشومسكي جلي. إذ بـنحو 250.000 قتيل و13 مليون نازح بفعل قصف قوات الأسد وحلفائه، فإن «الأكراد» وحسب مَن يستحقون اهتماما خاصا. وعلى نحو مماثل، فإنَّ أي سوري عربي (أو حتى كردي يقطن في حلب الثورة) لا يستحق الدعم،أولئك القاطنون في مناطق حزب الاتحاد الديمقراطي فقط هُم مستحقوه.

غيرَ أنّ مصير السوريين القابعين في المناطق التي تقع تحت سيطرة الثوار يجب أن يلهم هؤلاء التقدميين المزعومين كأمثال تشومسكي، للتعبير بلا تردد عن التضامن معهم ودعمهم. لقد قامت في الكثير من تلك المناطق لجان تعاونية ثورية محلية ديمقراطية مقام الحكومة، ووفرت خدمات اجتماعية وعامة، وأتاحت للناس خبرتهم الأولى بحرية حقيقية للتعبير.

مما لا شك فيه، أن الثوار ليسوا مثاليين بأي شكل، إنمّا في أي منطقة يحكمونها كان قد ثبت أن أسوأ من فيهم أفضلُ من الطواغيت المتعاقبين لنظام الأسد. لهذا السبب ينزح سكّان المناطق التي يقترب منها النظام. ولهذا السبب أيضا موجات النزوح الأكبر للسكان هي من مناطق الأسد وداعش، لا من مناطق الثوار.

اليسار المحافظ

فيما مضى، كان ركود تشومسكي السياسي باعثًا على الرضى بالنسبة لي. إنما في ضوء موقفه من الثورة السورية، قد بات جليا على نحو محزن بأن سياسات تزمتية، أحادية البعد، رجعية، باتت تستشري في اليسار.

ومع أن تشومسكي وفئات عريضة من اليسار قد لا يروقهم ما سأقول، إلا أنّ الدور الذي يلعبونه في ثورة سوريا المحتدمة قد وسم اليسارية بالعار. ولا يختلف هؤلاء بذلك عن «الاشتراكيين» الذين دمروا اليسارية لأجيال بولائهم الأعمى لكابوس الستالينية.

من المحزن، أنَّ الوضعية المحافظة والاستشراقية والمربكة من سوريا، والتي عبر عنها تشومسكي وأنصاره، هي عوارض يساريةٍ لم يعد لها سبب لأن توجد في نقطة أبعد من المساحات الضيقة لثقافتها الثانوية.

————————–

الثورات ونقاشٌ في العلاقة بين الوطنية والقومية/ عمار ديوب

تنتمي سورية، بأغلبيتها، إلى الأمة العربية، وتقطنها قوميات أخرى. الانتماء العربي حَمَلتهُ الحركات القومية قبل ظهور حزب البعث، ولم يتفرّد به، وما زال موضوعاً يتجادل فيه السوريون؛ فكان انتماءً مناهضاً للعثمانية أولاً، وثانياً للفرنسيين، وثالثاً للصهيونية. هناك جدل سيئ للغاية، لا يناقِش المسألة وفقاً للأصل التاريخي، وتطوراتها في الدولة العربية الإسلامية، وما تلا ذلك، وكهوية لأغلبية السوريين والعرب. وبغض النظر عن جعل النظام للقومية أيديولوجيا له، يُناقشها، الجدل، وفقاً للاعتبار الأخير، وهذا يدفع إلى رفض القضية من أصلها، فهي هو وهو هي، وهنا يقع الخطأ.

“البعث” والدولة القومية

صادر النظام السياسي في سورية المستند إلى “البعث” القومية، والقضية الفلسطينية، وباسمها عَزَّزَ تسلطيته، وأغلق بوابات الحياة السياسية بإحكام. هذا ما حدث منذ السبعينيات، ولكن للمسألة بعدا آخر، يتجاوز تبجيل الأنظمة المسألة القومية. يتعلق هذا البعد بإشكالية عدم تشكيل العرب دولتهم القومية كأمة، وضرورة ذلك. ارتبط عدم التشكيل باتفاقية سايكس بيكو التي قسَّمت بلاد الشام التي كانت بمثابة وحدة جغرافية وسياسية. وطبعاً هناك ارتباط تاريخي بين الشام ومصر، وبالتأكيد الخليج العربي والمغرب. الاستعمار الحديث في الشرق العربي والمغرب اصطنع للعرب حدودهم ودولهم “القُطرية”، وترسّخت بفعله وبتأثير مصالح فئات سياسية سيطرت بزمنه وفي الفترات اللاحقة على الاستقلال، وما تزال مصالح الطبقات الحاكمة الأكثر رفضاً لفكرة الوحدة. الطبقات هذه، وعلى اختلاف أنظمتها السياسية، ترفض فكرة الوحدة، ولكنها تتدخل في الدول الأخرى كلما أصبحت ضعيفة وفي وضعٍ متأزّم. في عشرية الثورات العربية، تأثرت الدول العربية بعضها ببعض، حيث كانت دول الخليج الأكثر تدخلية، وقبلها النظام السوري في لبنان، وغزو الجيش العراقي الكويت عام 1990. وهناك أشكال لا حصر لها من التدخل، وتتم باسم إرثٍ تاريخيٍّ، أو لغايات استراتيجية. وبسبب قوة الدول المتدخلة؛ للمسألة الوطنية بعد عربي، وهذا ما لا يمكن تهميشه، بل ومن الخطأ ذلك، سيما هو إحدى ضرورات التاريخ لنهوض العرب.

أغلبية التيارات الفكرية والسياسية من قومية وأممية وإسلامية كانت تُغلِب رؤاها الفوق قطرية، وتتجاهل حقوق الأفراد في الدول القُطرية “الوطنية”. وهذه الأيديولوجيات، في العموم، تؤمن بالطبقة أو الدين أو القومية. وبالتالي، ليس الفرد منطلقها، ومنظومة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة غائبة عنها. الحاضر الأقوى لديها هو البحث عن طريق الوصول إلى السلطة (أو التحالف معها)، والسيطرة على جمهور تلك الثلاثية، وهذه حالةٌ كانت تتصف بها البلاد الكولونيالية بعامة. كان وجود فئات منادية بالحرّيات وحقوق الإنسان والمواطنة هامشياً بامتياز في فترة ما بعد الاستقلال، وتحديداً بعد أن وصلت بعض الحركات القومية إلى السلطة. وبالتالي، لم تتشكل أمة المواطنين، وكذلك لم تستطع الأمة الإسلامية أو القومية أو الأممية أن تكون بديلاً. دفع ذلك فئاتٍ كثيرة، ومع إخفاقات كبرى للدولة القُطرية بعامةٍ، وتحديداً الدول التي حكمتها الحركات القومية، للعودة بأفكارها نحو الداخل، والبدء بالنضال من أجل المواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية. ولاحقاً بدأ الكلام عن ضرورة بناء الدولة الوطنية، والابتعاد عن أية أيديولوجيات فوق وطنية. النقاش الأخير لم ينته بعد، بل وتضاعف منذ تسعينيات القرن الماضي من الأيديولوجية الليبرالية التي تجد أن كل مشكلات العرب وتأخرهم متعلقٌ بالتمسّك بالمسألة القومية، وتؤكّد ضرورة الانخراط بالنظام العالمي، والالتفات بشكل حاسم نحو قضايا الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان والتنوير والعلمنة وسواه.

ليبراليات عربية

شكل سقوط الاتحاد السوفييتي، وإفلاس الأنظمة “القومية”، وتحولها إلى تسلطيّة، وتطورات الواقع الذي تحكمه وطرحه ضرورة الخلاص من الأدلجة والتفكير بالمصالح والانفتاح على الخارج؛ شكل ذلك كله الأرض الخصبة للتيارات الليبرالية، لتطرح نفسها بديلاً، سيما أن العالم يتجه نحو ليبرالية جديدة منتصرة على “الاشتراكية”. في هذه اللحظة، تكاثرت التيارات الليبرالية، وحدث نزوحٌ يساريٌّ واسع نحوها، بل تلبرل اليسار العربي بأغلبيته، وبذلك توهم من جديد أن الحل الجذري لكل مشكلات المنطقة يكمن في الليبرالية، وصار لا بد من التخلص من الماركسية والاشتراكية التي كانت الحل الجذري من قبل. طبعاً هناك يسار عربي تلبرل قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، وصار يُعرِّف نفسه بدلالة الديمقراطية، والأدقّ بالليبرالية؛ فالديمقراطية بأساسها شكل للحكم، وكل التطورات اللاحقة عليها لا تخرجها عن ذلك التعريف.

أصبح حديث المواطنة وحقوق الإنسان بدءاً من تسعينيات القرن المنصرم حديث الساعة، والدولة الوطنية هي هدف التيارات الليبرالية بعكس الحركات القومية، أن فلسطين أولاً. وبخصوص فلسطين، لا بد من نظرة واقعية بالنسبة لها، تنطلق من التخلص منها، وأن الفلسطينيين هم أهل قضيتهم. وهناك إسرائيل التي أصبحت إحدى دول منطقتنا. أجرى النظام السوري إصلاحاً ليبرالياً في الاقتصاد سماه اقتصاد السوق الاجتماعي، وأصدر مئات المراسيم الرئاسية بقصد تحويل الدولة من التوجهات العامة إلى سيادة القطاع الخاص ولبرلة السوق. وبالتالي، يجب الانشغال بالداخل “ألوطني”، وشطب القومي، و”كبّ” كل النقاش عن إسرائيل. تطور هذا النقاش، وصارت له غلبة مع الإخفاقات أعلاه. وضمن ذلك دخلت القوى اليسارية والقومية بإحباط شديد، لم تخرج منه بعد. وفي هذا المناخ، التقت مصالح الأنظمة والمعارضات الليبرالية في التحوّل الليبرالي، مع مصالح القوى النيو ليبرالية والعولمة، وساد هذا الوضع بعد التسعينات، وإلى ما قبل الثورات العربية الجديدة نهاية 2010 وبعده.

أنتجت أنظمة الحكم السائرة نحو اللبرلة والانفتاح، وتسيّد الليبرالية في الأوساط المعارضة عربياً وسورياً، ليبرالية وطنيّة مشوّهة، تجد نفسها جزءا من نظام عالمي، ولا تجد خلاصاً لمجتمعاتنا إلّا عبر الوحدة العالمية الليبرالية، ويتأتى على هذا نسف للأفكار التي تلهج بضرورة تشكل الدولة الأمة، أو تتحدّث عن مشروعٍ قومي يسعى إلى تلك الدولة. هنا إشكالية كبرى، تتعلق بكيفية النهوض بالدول الوطنية “القُطرية”، فهل هذا ممكن في ظل سيادة الليبرالية الجديدة، وهل تسمح الأخيرة بذلك من أصله؟ يؤدي فهم الوضع العالمي إلى فهم حاجات المحلي “الوطني فعلاً”؛ العالمي هذا ينشغل بتوحيد العالم في إطار حاجات السوق، والسيطرة على دول العالم المتخلّف، ولا يعنيه بحالٍ تصنيع الأطراف أو دمجها به ضمن السوق العالمي الذي تشكله بوصفه مناطق جغرافية للاستثمار وللصراع مع الدول العظمى. وبالتالي، هي تبتغي تفكيك الاقتصاديات والبنية الاجتماعية والنظام الديمقراطي، أو منع تشكله. هذا ما فعلته أميركا بالعراق وبأفغانستان، وهو ما فعلته روسيا لاحقاً بالجمهوريات التي تبسط سيطرتها عليها وبسورية راهناً، وهذا حال الصين التي تتجه نحو سيطرةٍ عالميةٍ أكبر. وإذا دققنا بهذا الجانب، تصبح مهمة القيام والنهوض بالبلدان المتخلفة دقيقة، فكيف تتطور في عالمٍ تسيطر عليه الليبرالية الجديدة، وسميت متوحشة، وهذه لا يمكنها دعم الديمقراطيات. تناسبُ معها الأنظمة التسلطية، مع الإمعان في تفكيك المجتمعات، ليسهل بسط السيطرة عليها. أصبحت البلدان العربية بعد الثورات ودفع الأخيرة نحو خيارات خاطئة أكثر تبعية لأميركا وللاتحاد الأوروبي وللصين ولروسيا، وللدول الإقليمية التي تعاني من سياسات الدول الأكثر تقدّماً، أقصد تركيا وإيران.

نقاشٌ في الوطنية

يحاجج بعضهم أن سياسات الوطنية السورية أو المصرية أو الجزائرية وسواها ليست كالسياسات الليبرالية الجديدة؛ فهي في أغلبيتها ليبرالية، ولكنها ليست كالجديدة. طبعاً هذا من الأوهام، ولنفترض أنها ليست كالجديدة، وتُطعِم سياساتها بالحديث عن العدالة الاجتماعية ورفع الضرائب على الشركات الكبرى، إلا أن رؤيتها العامة، من ناحية ثانية، حاسمة لصالح التحوّل الليبرالي وحق الملكية الخاصة وتهميش دور الدولة. تجد القوى الليبرالية أن الطبقة البرجوازية وحدها القادرة على تطوير الاقتصاد وتلبية حاجات كل الطبقات، وأن على الطبقات المفقرة أن تقبل بأنها محض قوة عملٍ .. تُصوّر القوى الليبرالية الاقتصادية نفسها بأنها تتمتع بأخلاقٍ كافية، فهي تبتغي تعزيز حرية السوق، وضمان حقوق الطبقات الفقيرة من ناحية أخرى. هذا عبثٌ كامل؛ فقانون السوق السائد في الدول العظمى كلّيٌّ، فكيف بدولٍ لا توجد فيها موانع أو قوانين كابحة للاستغلال، بل وأصبحت مفكّكة بالمعنى الاجتماعي والسياسي، وأغلبية قواها السياسية ما زالت استبدادية، بما فيها الليبرالية. المقصد هنا، لا يمكن تعزيز البعد الوطني للقوى السياسية على أسسٍ ليبرالية، وكذلك لا يمكن نشوء قوى وطنية في بلادنا من دون الاستناد إلى قيم الفرد والمواطنة وحقوق الإنسان، ونستثني حق الملكية الكبيرة. هذا الإشكال يواجه الليبرالية العربية، ويواجه القوى السياسية على اختلاف أشكالها.

التقت توجهات الأنظمة المستبدة في ضرورة اللبرلة مع اللبرلة السياسية. وإذا كانت الأنظمة تؤكّد على الاقتصادية منها، فإن الليبرالية السياسية تحاول الدفاع عن الحريات والديمقراطية والمواطنة، وإن كانت تنطلق من التسليم بقدرة الطبقة البرجوازية على تطوير مجتمعاتنا. الافتراق والالتقاء السابقان يكملان بعضهما، ويُدخلان سورية وسواها في إطار الليبرالية العالمية. ما لم يكن يُحسب له حساب أن تتحرّك الشعوب العربية رافضة الليبرالية الاقتصادية بشكلٍ رئيسيٍ، وراغبة في الليبرالية السياسية، ولكن بإطار يحقّق العدالة الاجتماعية والخبز والعمل. أي لم تجد الثورات أفكاراً سوى التي سادت منذ التسعينيات، وتحرّكت ثوراتها عبرها. وطبعاً، لم تستطع القوى اليسارية أن تقدّم بديلاً، أو رؤية أو أفكارا متماسكة، وكذلك غابت تلك القوى في إطار تفسّح اليسار العالمي، وانحياز بقاياه المتفسّخة إلى الأنظمة وضد الثورات الشعبية.

هناك مشكلة كبرى، وتكمن في فصم كل علاقة بين الوطنية والقومية، وطبعاً فصم كل علاقة بين الوطنية والطبقية، حيث تقدّم الليبرالية السياسية “الوطنية” باعتبارها تمثل الكل الاجتماعي، والقومية محض أيديولوجيا، ولم تعد صالحةً للتقدّم، ومفيدة للأنظمة فقط. وترى القوى الليبرالية الرؤية الطبقية محض أيديولوجيا وثرثرة، ولا تخدم التطوّر. رؤية الليبرالية العربية أقرب إلى الأيديولوجيا والعقيدة الإيمانية، وضمن أوهامها أن الاعتماد عليها سيشكل الدولة والهوية الوطنية، وندخل التاريخ، ونسبق الأمم التي تجاوزتنا منذ قرون.

لا يستقيم الوضع في سورية أو أية دولة عربية خارج ذاتها وخارج العالم العربي وبالطبع ضمن العالم؛ ففي عصر الليبرالية والسوق المفتوح لصالح الدول العظمى، لا يمكن المواجهة اعتماداً على أفكار بسيطة بديلة عن التركيب المُعقد المشار إليه، الطبقي والوطني والقومي، وكذلك العالمي، وأقصد إقامة صلات مع حركات عالمية لها الاهتمامات ذاتها، ترفع من شأن التحرّر والحريات والمساواة بين أمم العالم.

تهميش المسألة القومية فضاءً للدولة الوطنية ليس صحيحاً، وكذلك ليس صحيحاً تغييب البعد الطبقي عن وضع مجتمعاتنا التي ازداد فيها الانقسام الطبقي، وأصبحت معالم طبقات ثرية واضحة للعيان في هذا الدولة أو تلك، بينما اتسعت الطبقات المهمّشة. أمّا بعض شرائح الطبقات الوسطى فاندثرت، وبعضها الأكثر ثراءً لا يزال يحاول الاستمرار والعمل وإنتاج الأفكار.

الثورات العربية

كانت الثورة السورية، في بعض وجوهها، أثراً للثورات العربية، وتأثرت بالأخيرة كل الدول العربية، وهناك من يؤكّد أن تأثير الثورة المصرية تعدّى عالمنا العربي إلى العالم. الجانب العربي ظاهر فيها إذاً، ظاهرٌ من دون أدلجة، سيما أن العرب كرهوا الأدلجة الرخيصة التي امتازت بها الأنظمة، ولكن تتالي الثورات وترابطها، وتكرار ذلك منذ أواخر العام 2010، يقول بضرورة التفكير الجادّ بها، وأن المسألة الوطنية لا تكفي بذاتها لفهم “عدوى” الثورات، وحاجات الشعوب إلى التطوّر ومواجهة الليبرالية العالمية، والهجوم الشرس للدول الإقليمية أو العالمية. لندقّق في تموضع كل الدول المتقدّمة في الوضع السوري وكذلك الليبي وأيضا اليمني، خصوصا، وهناك التدخل في كل شؤون عالمنا العربي. إذاً هناك علاقة بين الوطني والعالمي، فكيف السبيل إلى علاقةٍ كونيةٍ تعزّز من الوطنية والترابط مع العالم، ورفض السياسات الليبرالية الجديدة، ومنها ليبراليتنا العربية معتنقة السياسات ذاتها.

لم يكن علوَّ المسألة الوطنية واللبرلة في الأوساط الثورية وحده المدخل السليم للأفكار الثورية، حيث فشلت فشلاً ذريعاً، بعدما اعتُمِدت بعد 2011. تقول أحوال الدول العربية، ومنها تونس، إن تلك الأفكار، إضافة إلى مشاريع الإسلام السياسي، لم تُخرج البلدان العربية من أزماتها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبالتالي هناك ضرورة لتفكيك أسباب الفشل الثوري، والإشاحة كليا عن الأفكار “السحرية”، كالقول بالوطنية حلا جذريّا، أو إعادة القول بالقومية أو الإسلام السياسي أو اليسارية كما كانت؛ كل هذه المشاريع قَدمت نفسها بديلا جذريّا، والآن تتقدم الليبرالية بالإطار ذاته، ولهذا فشلت واقعياً بعد ثورات 2011. ولا تُختصر أسباب الفشل بأثر الاستبداد أو العولمة أو إحدى الأيديولوجيات. ونتساءل هنا، وما هو حال تونس؟ ألم تقع فريسة الخلافات “العقائدية” بين تياراتها السياسية، وتَفشل في الخروج من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية، والتي كانت جذر ثورتها، والثورات العربية. القضية إذاً تتجاوز الركون لبعض الأفكار الليبرالية وتصوراتها السياسية، والتي لا تتجاوز الوطنية المحلية.

توضيحا أكثر، أصبحت مسألة الوطنية كحيزٍ للصراع الوطني قضية مركزية لبناء الدولة الحديثة، ولكن ذلك غير ممكن التحقق خارج إطار الصراع الطبقي المحلي، والأخير يأخذ أشكالاً لا حصر لها، ومنها الصراع الفكري. يهمّني توسيع دائرة الرؤية الفكرية والسياسية للفاعلين في الوسط السوري والمنشغلين فيه. أكرّر، الوطنية صفة تطلق على كل المنشغلين بالأوضاع العامة، وبعيداً عن التبعية للخارج؛ هي صفة لكل التيارات السياسية ما دامت تعمل في الشأن المحلي، وتبتغي تطويره، وبغض النظر عن الاختلاف مع الآخر السياسي والفكري والثقافي. إذاً، لا أفكار كثيرة ولا مشروع نهوضيا أو جادا حينما نتكلم عن الوطنية بعلاقتها بالليبرالية، وهناك من يُخفي الأخيرة، ويتقدّم بالوطنية وكأنّها البداية والنهاية، وبدونها لا يقوم التطوّر.

العقائدية

مشكلتنا الفكرية الكبرى هي في العقائدية الفكرية أو السياسية، وهناك مشكلة عالمية وتتعلق بالعولمة، الأميركية والصينية خاصة، وهناك التسلطية الروسية، وبالطبع الدول المتقدمة تستفيد من أجواء العولمة لتعزيز مصالحها الداخلية والعالمية. في هذا الوضع العالمي يجب إنتاج الأفكار، والرؤى، والمشاريع، ونقد التيارات الفكرية المغلقة ونقد الثورات والمشاريع السياسية التي تسلطت عليها. وعالمنا العربي، وعلى خلاف إيران وتركيا وإسرائيل، يتطلب مشروعاً ينهض به، ويزاوج بين الوطني والقومي والعالمي، ولا يقيم تعارضاً بينها جميعاً. نهضت أوروبا عبر الطبقة البورجوازية، وتبنّت الليبرالية، ولاحقاً تم تطويرها عبر الديمقراطية، وبسبب نضالات الطبقات العمالية بالتحديد. وحدث تطوّر كبير في دولة الرفاه، بسبب شراكة الطبقات البرجوازية والأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية. هكذا نهضت أوروبا وتطوّرت، وهي ما عليه حالياً. وبغياب الاتحاد السوفييتي وغلبة اللبرلة وصعود الشعبوية، تراجعت دولة الرفاه، وأصبحت تعاني من مشكلاتٍ لها علاقة بضعف الديمقراطية وتراجع الخدمات للطبقات العمالية. وكَشَفَ وباء كورونا عن تلك المشكلات بشكل كبير. ولكن ماذا عنّا؟

أهم حدث في عالمنا العربي أن شعوبه ثارت، وفشل الثورات في إشادة دول وطنية لا يقلّل مما فعلته. لقد هشّمت النظام العربي بشكل كبير، ودفعته إلى مزيدٍ من التبعية، وتَوضح حدود دوره في الإطار الوظيفي لصالح الدول العظمى، وطبيعة مشروعه القائمة على التبعية والفساد والنهب وقمع الشعوب. فشل الثورات في تحقيق أهدافها لا يعني أن إعادة إنتاجٍ الأنظمة ممكناً. هي من دون شك تعيد إنتاج نفسها، ولكن بصورة أضعف من قبل وأكثر تبعيةٍ، وابتعاداً عن الشعوب وحاجاتها. وبالتالي، لا يمكن الصمت من جديد، فالواقع المأزوم يقول بضرورة ذلك. الواقع ثوري بامتياز، ولكن الأفكار شحيحة، وهي مدار نقاشنا، ورفضنا تصنيم الوطنية، وكأنّها بذاتها وليس بالصراعات التي أوضحت بعضها تقوم وتتطور وتصبح واقعة ذات معنى، ومنطلقاً للتطور الوطني أولاً والقومي ثانياً.

المشاريع السياسية

الإكثار من لصق صفة الوطنية على أية قضايا، المجتمع والدولة والسياسة في سورية، لا يشكل هوية ودولة وطنية. الأخيرات هي حصيلة الصراع المجتمعي متعدّد المستويات، وهو واقع الحال، حيث لا واقع فعليا من دون صراعاتٍ مستترة أو علنية أو ملتبسة. فكّك النظام المستبد في سورية البنية الاجتماعية، ورفع من عناصرها الأهلية، فسيّسها، أي جعلها طائفية وعشائرية وقومية ومحلية وأسرية. المعارضة لم تع بدورها خطورة ما فعله النظام منذ السبعينيات. وقبل ذلك أيضاً لم تتشكل دولة مواطنية أو وطنية في تاريخ سورية، وكذلك لم تساهم التيارات السياسية والفكرية بتأصيل الموضوع بشكل كافٍ. يقول مجمل التطور السوري إن سورية تتطلب مشروعات سياسية ديمقراطية، ليبرالية أم يسارية أم إسلامية وسواها كثير. إن توفر مشاريع كهذه يمكن أن يبني دولة مواطنية، ووطنية، ولكن العكس ليس صحيحاً في مجتمعاتنا، حيث الدولة “الكولونيالية” مُشوّهَة، وليست حيادية إزاء الإيديولوجيات أو الأديان أو الأفراد أو الطبقات؛ وبذلك يصير بناء الدولة الحديثة من مهمات المشاريع الآنف ذكرها.

إذاً، الدولة الوطنية لا تولد من العدم، وتولد وتتطوّر بفعل مشاريع تاريخية واثقة بإمكانية التطور المستقل والمعتمد على الذات. عالمنا تحكمه القوى الرأسمالية العولمية. وبالتالي، بناء دولة المواطنين هو المدخل نحو الخارج وليس العكس، وهو المدخل لتأمين حاجات الأفراد والطبقات، وعبره يمكن التنسيق والتشبيك وتوحيد بعض القضايا بين الدول العربية. وتوضح حالة التبعية في الدول العربية، حتى التي لم تشهد ثورات عربية، ضرورة التنسيق أعلاه، فهو وحده ما يكمل النهوض العام وحاجات الشعوب وكذلك حاجات الأنظمة، فتكون مستقلة، ووطنية، وقابلة للتطوّر التاريخي. وهذا يعني أن مسألة الإصلاح العام ضرورة حياتية للأنظمة العربية وللشعوب في آن. وبرفض الأنظمة للإصلاح، يصبح الأخير من مهمّات الشعوب، وحينما ترفض الأنظمة نضالات الشعوب الإصلاحية لا يبقى أمامها إلا الثورات كضرورات حتمية للتطور.

ذكرت الفكرة الأخيرة نظراً إلى التعقيد الواسع في مجتمعاتنا، وللضغوط العالمية. ونظراً إلى تعقّد مستقبل الشعوب العربية، وبالتالي كما نصبو إلى مناقشة بعض الأفكار في نصنا هذا، كذلك نعطي مكاناً للأنظمة العربية، سيما أن تغييرها ليس مسألةً بسيطةً كما ظهر في العشرية الأخيرة. وهذا يعني أن لتغييرها مداخل كثيرة، منها الثورات العربية والإصلاح، وسواهما كثير، حيث أعطتنا تجارب السودان والجزائر والعراق ولبنان في السنوات الأخيرة مداخل جديدة، واستفادت من أخطاء ثورات 2011.

عانى السوريون طويلاً من نظامٍ تسلطيٍّ يمثل شرائح من الطبقة الوسطى، أيديولوجيته القومية والاشتراكية. وشكلت الانقسامات المجتمعية قبل الثورة وبعدها دافعاً لمثقفين سوريين كثر للبحث عن مشروعٍ جامعٍ، للخروج من حالة الانقسامات تلك، والتخلص من إرث التسلطيّة. المشكلة هنا بالتحديد؛ فالقضية ليست نظرية فقط، أو وصفةٌ معينة وتلتئم الجراح، ويتآخى السوريون ويسيرون معاً نحو بناء هوية وطنية أو دولة جامعة. هذا تبسيط مخلٌّ للغاية. القضية تكمن في القوى المجتمعية والطبقات التي لها مصلحة في الدولة المواطنية الوطنية. فهل للطبقات الثرية المصلحة ذاتها للأغلبية المفقرة. قيام دولة حديثة يتطلب مشروعاً تاريخياً، ينهض بالاقتصاد والمجتمع والسياسة، وألا يخرج عما جرى في أوروبا، من نهوض صناعي، وتغيير عميق في الثقافة واعتماد الحريات ومساواة الأفراد في الحقوق والواجبات، وبالطبع تحييد الأديان عن السياسة، وأخيراً بناء الدولة القومية، وهذا هو جوهر النقاش في هذا النص. استغلت كل أشكال الحكم في سورية منذ نشوئها بعد “سايكس بيكو” الأديان والمسألة العشائرية والمناطقية وسيّستها، وخرّبت البنى المجتمعية. وبالتالي كيف السبيل إلى بناء تلك الدولة، وأن يكون من مهماتنا التنسيق مع بقية الدولة العربية، للنهوض العربي الكامل؟

ما بعد الثورات

زاد في تعقيد حالة التبعية المتعاظمة للدول العربية التطبيع أخيرا مع إسرائيل، والذي يعاكس تأثيره أيّة مشاريع للنهوض القومي أو الوطني. إذاً، لا يجوز تعظيم الأوهام بشأن سهولة القيام بدولة وطنية مواطنية، ولكن الضرورة التاريخية تفترض قيامها.

اللحظة التاريخية الراهنة هي واقع التبعية، والاحتلالات لأكثر من بلد عربي، وهيمنة تركيا وإيران وإسرائيل على العرب، وهناك روسيا وأميركا، واستعداد الصين للدخول إلى منطقتنا. تركيز التيارات السياسية والفكرية نحو قيام دولة وطنية مسألة ضرورية، وهذا يجب أن يخاض في كل بلد عربي أولاً، ولكن ذلك يفترض التشبيك بين هذه الدولة وتلك، وكذلك هناك ضرورة لقيام علاقات متكافئة مع شعوب المنطقة بأكملها، والإقرار لها بحقوقها السياسية، وبدءاً بالأكراد، والأتراك والإيرانيين.

نعم، أخفق العرب في بناء دولتهم القومية الجامعة، ويقع على تياراتهم الفاعلة خوض كل الصراعات ضمن الساحات الوطنية، وتطويرها وإنتاج هويات وطنية، ستعتمد، لا محالة، على العروبة رابطة ثقافية بين أفرادها، وتتجاوز كل أشكال الانقسام ما قبل الوطني. ولا تنتهي مهمة التيارات هذه هنا، بل تبدأ وتطوّر المحلي الوطني بأفق الوصول إلى الدولة الجامعة، وهذه قضية صراعٍ وطنيٍّ وقوميٍّ في آن واحد، ولكن ما لا يجوز اللعب فيه المفاضلة بين الوطني والقومي؛ فالوطني أولاً، ولا يقوم إلّا بالصراعات المجتمعية والطبقية الساعية إلى النهوض الوطني والعربي.

العربي الجديد

—————————–

عشر سنوات من السياسة الأميركية في سورية.. ماذا في الكواليس؟/ رسلان عامر

على الرغم من بلوغ الأزمة السورية عامها العاشر، ما يزال الموقف الأميركي فيها محيرًا ويشوبه الغموض وتبدو فيه أميركا متخبطة تتصرف بضعف ولا تتخذ قرارًا حاسمًا أو تلعب دورًا فاعلًا أو تثبت حتى على رأي، وذلك بخلاف مواقف الأطراف الأخرى الفاعلة في النزاع، روسيا وإيران وتركيا ذوات المواقف الحازمة والثابتة والواضحة.

وهذا ما يزال يطرح تساؤلات حتى اليوم عن حقيقة الموقف الأميركي، هل هو لامبالاة، أم عجز أم تواطؤ، أم خليط من كل ذلك أو بعضه، أم سواه؟

وبالطبع من المهم جدًا فهم ماهية الموقف والدور الأميركيين، فالأمر هنا يتعلق بالقوة السياسية والاقتصادية والعلمية والصناعية والإستراتيجية الأولى في العالم، وليس بقوة ثانوية أو هامشية التأثير.

فما هي علاقة أميركا بكل ما يحدث في سورية، وأين هو موقعها بين المؤامرة والهزيمة والخديعة والنأي بالنفس، وإمساك خيوط اللعبة أو الابتعاد عنها؟

1-     ماذا تقول لنا البدايات؟

منذ بداية الانتفاضة السورية صرحت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في حينها -وفقًا لوكالة رويترز- في 27 آذار/ مارس 2011 أنها تستبعد تدخل بلادها في سورية كما في ليبيا لأن لكل انتفاضة عربية خصوصيتها وظروفها المختلفة.

وأشار السيناتور المستقل جوزيف ليبرمان إلى أن الولايات المتحدة ودولًا أخرى قد تتدخل عسكريًا في سورية إذا هاجم النظام السوري المحتجين بضراوة أشد، وقال ليبرمان لمحطة فوكس نيوز إن المجتمع الدولي لن يقف مكتوف الأيدي وأنه توجد الآن سابقة قالها المجتمع الدولي في ليبيا وهي الشيء الصواب.

فيما قال إدوارد ووكر، السفير الأميركي السابق لدى مصر وإسرائيل، إنه سيعارض التدخل العسكري في سورية لأن الولايات المتحدة لديها كثير من المهمات في الوقت الراهن بما في ذلك إنهاء الحرب في العراق وقتال طالبان في أفغانستان([1]).

وتقريبًا دعا السيناتور جون ماكين إلى استخدام القوة الجوية الأميركية لإنشاء مناطق آمنة للمدنيين في شمال سورية، وتعليقًا على هذا الموقف قال المفكر الأميركي المعروف نعوم تشومسكي إن جون ماكين لا فكرة لديه عما يتحدث به في هذا الأمر وفي أي موضوع آخر، وأضاف تشومسكي أنه لا يعتقد أنه يمكن للقوة الجوية أن توجد ملجأ آمنًا، وقال أيضًا إنه لا يبدو أن هناك احتمال حدوث تدخل أجنبي، وليس هناك من يريد التدخل، وأنه متأكد من أنهم في واشنطن ولندن كانوا يهللون للفيتو الذي اتخذته كل من روسيا والصين لأن ذلك أعطاهم ذريعة للقيام بما كانوا سيقومون به على أية حال وهو عدم القيام بشيء. إنهم يعملون ما يحلو لهم في معزل عن الأمم المتحدة ولكنهم قادرون على إطلاق التصريحات النبيلة حول الحرية وما إلى ذلك من دون القيام بكثير([2]).

وكما نرى فالمواقف والآراء المختلفة هنا تدل على عدم وجود نية حازمة لدى أميركا حتى هذه اللحظة للتدخل العسكري المباشر في سورية.

2-     ماذا عن المؤامرة على سورية؟

عدم وجود النية للتدخل العسكري لا تعني عدم وجود النية للتدخل بأشكال أخرى، أو أن التدخل بأشكال أخرى غير موجود أساسًا، وهناك كثيرون في سورية وفي غيرها من الدول العربية يرون أن كل ما يجري فيها بل في المنطقة العربية ككل وما يسمى بـ(الربيع العربي) هو (مؤامرة غربية) تتزعمها أميركا، لإعادة ترتيب هذه المنطقة كما يخدم مصالحها.

وهناك في المقابل من يرى غير ذلك أو عكسه، فنعوم تشومسكي الناقد المعروف للسياسات الأميركية الرسمية يقول في هذا الشأن: “لا أعتقد أن هناك أية مؤامرات إنهم جميعا يرون أن في مصلحتهم ألا يقوموا بالكثير فما الذي يمكن أن يقوموا به تحديدًا؟ وليس هناك بلد يريد أن يدخل حربًا برية في سورية لا تركيا ولا فرنسا ولا روسيا ولا أي منهم”([3]).

ولكن على العكس من تشومسكي يرى الأكاديمي والكاتب العراقي البروفيسور كمال مجيد أن أميركا وبريطانيا ضالعتين في المؤامرة على سورية، وأن هذه المؤامرة بدأ إعدادها وتنفيذها قبل 2011، لأن هناك أسبابًا حقيقية مهمة لعداء أميركا للحكومة السورية، فهناك تناقض واضح بين سياسة الحكومتين في كثير من قضايا المنطقة الحساسة، ويقول في هذا الشأن: “في مقابلة تلفزيونية صرح رولاند فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي السابق، بأن (الحكومة البريطانية خططت عمليات سرية في سورية منذ 2009). و(كنت في بريطانيا سنتين قبل بدء العنف في سورية … وقد قابلت مسؤولين في القمة البريطانية الذين اعترفوا أمامي بأنهم كانوا يحضرون شيئًا ضد سورية كتحضير المسلحين للهجوم عليها)”، ويضيف أن أميركا أدخلت قواتها الخاصة إلى سورية حتى قبل بدء التظاهرات فيها لتدريب المتطوعين السوريين على القتال والاستمرار فيه لا لإسقاط النظام السوري فحسب بل لتحطيم سورية وإعادتها إلى القرون الوسطى([4]).

أما دانيال بايبس، وهو من المحافظين الجدد، فقال في مقالة في صحفية واشنطن تايمز في 11 نيسان/ أبريل 2013 إنه إذا سقط النظام السوري الآن فإن الأشرار الآخرين سينتصرون. ودعا فيها الإدارة الأميركية والحكومات الغربية إلى تقديم الدعم للنظام السوري الاستبدادي لخلق توازن بينه وبين معارضيه لمنع انتصار الإسلاميين في سورية؛ ولا سيما بعد أن أصبحت قدراته تتراجع وانتصارهم مرجحًا، والسبب وراء تقديم هذا الاقتراح -في رأيه- هو أن قوى الشر عندما تحارب بعضها بعضًا تصبح أقل خطرًا على الغرب، وهذا ما يجعلها تركز على أوضاعها، ويمنع أيًا منها من تحقيق انتصار بحيث تشكل خطرًا أكبر، فالقوى الغربية يجب أن تدفع الأعداء إلى طريق مسدود بينهم من خلال دعم الطرف الخاسر، لإطالة الصراع بينهم أكثر([5]).

3-     كيف كانت العلاقة بين الإدارة الأميركية والانتفاضة السورية؟

تتفق كثير من الآراء هنا على أن الانتفاضات العربية بما فيها الانتفاضة السورية فاجأت أميركا، ولكن أميركا استدركت الأمر بما لديها من قوى واحتوته، لتتعامل لاحقًا مع كل انتفاضة بمخطط خاص مختلف، وفي هذا الشأن يقول الأكاديمي والكاتب السوري د.قصي غريب في دراسة منشورة له في (مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والإستراتيجية): “فاجأت الانتفاضات والثورات التي اندلعت في 2011 ضد الأنظمة الاستبدادية في أكثر من دولة عربية الإدارة الأميركية وأربكتها، ولكن بسبب القدرات والإمكانات والخبرات السياسية والدبلوماسية والمخابراتية التي تتمتع بها الولايات المتحدة كدولة عظمى في الساحة الدولية سرعان ما استعادت توازنها؛ وبدأت باستخدام السياسات المضادة لهذه الانتفاضات والثورات بالتعامل مع وضع كل دولة عربية ثائرة على حدة وبخاصة الثورة السورية”([6]).

وهذا ما يتفق مع كلام د.برهان غليون الذي يقول بدوره: “قد فاجأت الثورة السورية أوباما وجاءت في لحظة حرجة ما كان يقبل فيها التراجع عما حققته له المفاوضات من مكاسب سياسية عامة وشخصية. لذلك رفض منذ البداية أن يوليها أي أهمية، وربما استاء من اندلاعها في تلك الفترة، وأشاح بنظره عنها قبل أن تضغط عليه الدول الأوروبية وأعلن رسميًا في أكثر من تصريح بأنه لا يملك أي إستراتيجية تجاه المسألة السورية. وقد فضح تعليقه على نتائج اجتماعه ببعض قادة الائتلاف المعارض قبل نهاية ولايته رؤيته الحقيقية للأمر عندما صرح للصحافة أن مزارعين وأطباء أسنان لا يصنعون ثورة أو دولة”([7]).

4-     ماذا فعلت أميركا بالفعل؟

لا يحتاج دور أميركا في منطقة شرق الفرات إلى أي جدل بخصوصه، فهناك تدخلت علنًا وبوضوح، وأنشأت تحالفًا دوليًا لمحاربة داعش الذي تمكن من السيطرة على هذه المنطقة في معمعمة الصراع العنيف الدائر في سورية، ودعمت أميركا لهذا الغرض (وحدات حماية الشعب الكردي)، وهزمت داعش، ولكنها في الحصيلة أنشأت دويلة كردية تحكمها قسد، واستمرت في دعمها واحتضانها حتى اليوم، وإن كانت بين حين وآخر تقوم بسحب جزئي أو إعادة انتشار لقواتها، وتعلن في حين أنها ستنسحب من شرق الفرات، ثم تعلن في حين آخر أنها ستبقى، فعلى سبيل المثال أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في7 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 أنه حان الوقت لتخرج الولايات المتحدة “من الحروب السخيفة التي لا نهاية لها في سورية” وسحب جزءًا من القوات الأميركية الموجودة هناك([8])، بينما في وقت أسبق كان وزير خارجيته ريكس تيلرسون قد أوضح في كلمة ألقاها في جامعة ستانفورد عن إستراتيجية بلاده لإنهاء الحرب الدائرة في سورية منذ 7 سنوات حتى ذلك الحين، أن مهمة الجيش الأميركي هي دحر تنظيم الدولة ومنع عودته مرة أخرى، وأن الجيش الأميركي باق في سورية ليس فقط لدحر تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية بالكامل بل من أجل منع النظام السوري مع حليفته إيران من السيطرة على كامل البلاد، وأن بقاء الجيش الأميركي في سورية يمنح استقرارًا كافيًا يمكن السوريين من إسقاط هذا النظام والتخلص من النفوذ الإيراني([9]).

أما في غرب الفرات فالأمر أكثر تعقيدًا والتباسًا، فالدور الأميركي هناك غير واضح ومبهم، ولكن الجلي فيه هو أن أميركا لم تتصدَّ للتدخل الروسي الذي بدأ في أواخر2015 وما يزال مستمرًا حتى اليوم، ما أسفر عن القضاء على معظم الجماعات المسلحة المعارضة في هذه المنطقة وإعادة سيطرة النظام السوري عليها باستثناء إدلب.

لكن على الرغم من الالتباس والغموض اللذين يظهر فيهما الدور الأميركي، فطبيعة هذا الدور بخطوطه العريضة توضح أن هناك صراعًا علنيًا تارة وخفيًا تارة أخرى يجري بأساليب وتكتيكات مختلفة بين روسيا وأميركا في سورية، وهذا ما سبق أن قال بشأنه كوفي عنان، أول مبعوث أممي إلى سورية في الأزمة، في مقابلة مع صحيفة الغارديان البريطانية، نشرتها في موقعها على الإنترنت، إن “سورية ستواجه حربًا أهلية سيتسع نطاقها ما لم توقف روسيا والغرب ودول عربية تنافسَها الهدّام لفرض وقف لإطلاق النار وإطلاق عملية سياسية”([10]).

هذا الصراع الدولي على المصالح في سورية الذي بدأ في عهد أوباما استمر في عهد ترامب بالشكل العام نفسه الذي يخدم مصالح الأطراف المتنافسة، وعنه يقول د.برهان غليون: “إدارة الرئيس دونالد ترامب غيرت موقفها ونظرتها لسورية، لكن ليس من منطلق ملاقاة التطلعات الشعبية السورية أو التعاطف معها وإنما من منطلق مواجهة روسيا أو عدم السماح لها بأن تفرض هيمنتها في منطقة متوسطية كانت لها فيها ولا تزال السيطرة الرئيسية. وربما فكر بعض خبرائها بتحويل سورية إلى مستنقع للرئيس الروسي بوتين”([11])، ويضيف د. غليون: “نجحت آستانا في قتل مسار جنيف وهذا كان هدفها الحقيقي والرئيس. لكن الولايات المتحدة والغرب عمومًا لم يكن راضيًا تمامًا عن هذا الاختطاف للقضية السورية من قبل الروس، وقد انتظرهم -وما يزال- على باب الخروج. اليوم يقول لهم لن تستطيعوا الهرب بسورية وحدكم، ولن نترككم تفعلون ذلك، وبالمثل لا يعني التمسك بجنيف من قبل الغرب مراعاة حقوق السوريين والسعي إلى إيجاد حل سريع للنزاع الدامي وتلبية الحد الأدنى من مطالب الشعب السوري وتطلعاته. فلو كان هذا هو الهدف لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن، ولضغط الغربيون بقوة منذ السنة الأولى أو الثانية لتطبيق قرارات مجلس الأمن، ولما كان الروس وجدوا طريقا للهرب من الالتزام بهذه القرارات. ما يهدف إليه الغرب اليوم من التشديد على جنيف هو ببساطة عدم ترك الروس وحلفائهم يهربون بالكعكة ويتركونهم على حافة الطريق”([12]).

5-     هل يمكن تحديد أهداف أميركا في سورية؟

بناء على كلام تيليرسون المذكور في الفقرة السابقة أعلاه تتلخص أهداف أميركا في سورية بالقضاء على الإرهاب متمثلا في داعش بشكل رئيس، وبإسقاط النظام السوري الراهن وإخراج إيران من سورية.

لكن وفقًا لبعض المحللين لا يتوقف الأمر على ذلك فقط، فبرأي البروفيسور كمال مجيد تريد أميركا أيضًا السيطرة على كميات النفط والغاز الكبيرة التي اكتشفت في سورية وفي المياه الإقليمية السورية في المتوسط، وتريد مساعدة قطر على مد خط غازها عبر سورية إلى المتوسط لتصديره إلى أوروبا ومنافسة الغاز الروسي، وتريد أيضًا طرد روسيا من قاعدتها في طرطوس، وهي الوحيدة المتبقية من ثلاث قواعد سبق أن أقامها الاتحاد السوفييتي في كل من سورية والعراق وليبيا، ونجحت أميركا في السيطرة على قاعدتي العراق وليبيا منهما، وبذلك لم يبق لروسيا إلا قاعدة طرطوس ليستخدمها الأسطول الروسي في البحر المتوسط، وعدا ذلك تريد أميركا استبدال النظام السوري الحالي بحكومة عميلة تعترف بإسرائيل من دون إعادة الجولان المحتل([13]).

6-     هل فشلت أميركا في تحقيق أهدافها؟

وفقًا للأهداف المذكورة أعلاه يرى البروفيسور مجيد أن أميركا فشلت فشلا ذريعا في تحقيق كل تلك الأهداف، والشيء الوحيد الذي نجحت فيه يندرج في إطار سياسة (الفوضى الخلاقة) (Creative Destruction)([14]).

وهو رأي يلتقي بدرجة ما مع آراء عدد من السياسيين الأميركيين الذين يرون أيضًا -وإن اختلفت التفاصيل- أن السياسة الأميركية في سورية قد فشلت وينتقدونها بشدة، وهذا ما يراه -مثلًا- كل من جيفري فيلتمان الذي كان وزيرًا سابقًا للخارجية الأميركية، وجيفري د. ساكس، أستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسات الصحية والإدارة في جامعة كولومبيا الأميركية، وجيل بارندولار، مدير دراسات الشرق الأوسط في مركز المصلحة الوطنية الأميركية، والأكاديمي والكاتب والصحافي الأميركي ستيفن كوزنر، والأكاديمية المتخصصة في الشؤون الأمنية والإستراتيجية مارا كارلين وسواهم كما سنبين لاحقًا.

7-     السياسة الرسمية الأميركية في دائرة النقد الأميركي

أثارت السياسة الأميركية في سورية لأسباب مختلفة عددًا من انتقادات المفكرين والسياسيين البارزين في الساحة الأميركية نفسها.

فقد صرح تشومسكي في أثناء مقابلة في معهد هارفارد للسياسات في أيلول/ سبتمبر 2015، وفي مقابلات أخرى عدة، بأن اقتراف تدخل إنساني في سورية هو (رنجة حمراء) (وهذا اسم لحيلة كان الفارون من العدالة يستخدمونها لتضليل الكلاب البوليسية التي تتبعهم)، وأن “كل استخدام للقوة يُنعَت بالتدخل الإنساني” وأغلب التدخلات الإنسانية لا يمت إلى الإنسانية بصلة، وأنها في واقع الأمر “تدخلات تخدم مصالح منفذيها” من وجهة نظره، وقال في ما يتعلق بالتدخل في سورية إن الولايات المتحدة قد اقترفت ما يفوق دعم القوات التي تنتج وتُديم الحراك (الجهادي) في البلاد([15]).

أما ​جيفري فيلتمان، فقد صرح بأن السياسة​ الأميركية في ​سورية​، لإدارتي الرئيسين السابقين ​دونالد ترمب​ و​باراك أوباما​ فشلت في ​تحقيق​ نتائج ملموسة تجاه أهداف ​واشنطن​ باستثناء هزيمة (داعش) الإرهابي([16]).

فيما يقول جيفري د.ساكس إن قسمًا كبيرًا من المذبحة التي دمرت سورية في السنوات السبع المنصرمة يعود إلى تصرفات الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، ويرى أنه على الرغم من تخصيص موارد هائلة لإسقاط النظام السوري، فقد فشل كل الجهد في نهاية المطاف، ولكن بعد أن تسبب في إراقة أنهار من الدماء، وتشريد ملايين من السوريين. كما فر كثيرون إلى أوروبا، الأمر الذي أدى إلى إحداث أزمة لاجئين في أوروبا وطفرة في الدعم السياسي لليمين المتطرف المناهض للمهاجرين هناك، إضافة إلى ذلك يرى ساكس أن النظام الحالي لن يسقط ولن يتوقف النفوذان الروسي والإيراني، وأن الوقت قد حان منذ فترة طويلة لتبني نهج أكثر واقعية يفضي إلى سلام حقيقي ينهي إراقة الدماء ويمكن الشعب السوري من استئناف حياته ([17]).

ويقول جيل بارندولار، مدير دراسات الشرق الأوسط إن على قوات بلاده أن تغادر سورية بعد أن فشلت سياستها هناك وبعد أن اقترب النظام السوري من تحقيق الانتصار، ويؤكد أنه لا شيء في سورية يستحق المواجهة بين القوات الأميركية والروسية، مضيفًا: “لقد تهربنا من المواجهة مع روسيا في سورية سابقًا، وقد لا نكون محظوظين إذا أصرت الإدارة الأميركية على البقاء في سورية “([18]).

فيما يقول ستيفن كوزنر: “خلال سبع سنوات مدمرة، قتلت الحرب في سورية مئات الآلاف من الناس، وحولت أكثر من عشرة ملايين إنسان إلى لاجئين، كما حولت مدنًا وبلدات كانت مزدهرة في الماضي إلى خرائب. وهذه الحرب تقترب الآن من نهايتها، ما يعطي فرصة لسورية لكي تعيد بناء نفسها. ومن الممكن الآن إعادة توحيد هذا البلد، وإعادة تنشيط اقتصاده، وتحقيق قدر من الاستقرار السياسي فيه. إلا أنه من المستبعد أن يتحقق أي شيء من ذلك ومن منظور واشنطن، السلام في سورية هو سيناريو مخيف. إذ إن السلام سيعني ما تعتبره الولايات المتحدة (مكسبًا) لأعدائها، وهم روسيا وإيران وحكومة الأسد. ولهذا، فالولايات المتحدة مصممة على منع تحقيق ذلك، مهما تكن الخسائر البشرية. وحسب المنطق الكامن وراء الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط -وبقية العالم- فإن أحد أهدافنا الرئيسية يجب أن يكون منع تحقيق السلام والازدهار في بلدان تحكمها حكومات ليست صديقة لنا“([19]).

كما تقول مارا كارلين: “على مدى السنوات الثماني الماضية ولد الصراع في سورية خليطًا من القلق والألم العصبي والعجز في واشنطن في الوقت الذي خرب فيه المنطقة وأدى إلى أسوأ كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين، ومع احتمال كون ردود الفعل الثلاثة صحيحة، إلا أنها تعكس فشلًا في إدراك السبل التي يمكن لواشنطن من خلالها القيام بدور أكثر فعالية”([20]).

8-     آراء أخرى أميركية وغير أميركية مختلفة

في مقابل تلك الأصوات التي تنتقد السياسة الأميركية في سورية، أو لا تريد لأميركا أن تواصلها فيها، نجد أصواتًا أخرى لديها آراء مختلفة، فعلى سبيل المثال أكد وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، في تصريحات في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير 2019 أن أميركا لن تغادر منطقة الشرق الأوسط على الرغم مما كان يجري في حينها من حديث عن انسحاب أميركي من سورية وما يثار حوله من جدل وتحليلات ([21]).

 فيما أشار الدكتور توفيق أكليمندوس أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية ورئيس وحدة الدراسات الأوروبية بالمركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية إلى أن مسألة الانسحاب الأميركي من المنطقة مطروحة منذ عهد أوباما، وحتى اللحظة لم تنجح واشنطن في تنفيذ هذا الانسحاب، بسبب التهديدات والمشكلات المصاحبة لتبعاته، وفي تصوره “لن يحدث انسحاب كامل لأميركا بالمعنى الحرفي”، فـ”قراءة متأنية للواقع وملفات المنطقة تكشف بوضوح عن أن تكلفة الانسحاب الكامل ستكون صعبة ومرتفعة جدًا ولها تبعات خطرة”، ولذا فهو يفترض “أن الانسحاب سيكون نسبيًا”.

وفي الوقت الذي يبدو فيه أن أميركا -على الأقل في خطابها الرسمي- تخلت عن التزاماتها السابقة تجاه قضايا المنطقة، يقول المحلل السياسي التركي محمد زاهد غول أنه يعتقد بأن “الحضور الأميركي في المنطقة لن يتأثر كثيرًا، ولا يمكننا أن نتحدث عن انسحاب تام”، وهو يتفق بذلك مع ما طرحه الدكتور اكليمندوس([22]).

أما الصحافي البريطاني جانان غانيش، كاتب العمود السياسي الرئيسي في (فاينانشيال تايمز) والمشارك المنتظم في برنامج (صنداي بوليتيكس) على قناة (بي بي سي)، فينبه في صحيفة (فايننشال تايمز) إلى أن “الولايات المتحدة راكمت مصالح أجنبية على مدى القرن العشرين لا تستطيع التخلي عنها بسرعة، ومن دون ثمن باهظ، على الأقل، وليس في منطقة مستعصية كهذه المنطقة”، ويضيف أنه في شهر آب/ أغسطس 2019 حذر المفتش العام في وزارة الدفاع عن العودة الجديدة لتنظيم الدولة في سورية، مشيرًا إلى أن إعلان ترامب عن سحب القوات هو السبب الرئيس، وأنه من الصعب نسيان أن أميركا بعد ثلاثة أعوام من سحب قواتها من العراق2011 عادت إلى القتال من جديد هناك، لكن من الجو([23]).

وبدوره يشير ستيفن كوزنر -الذي ينتقد هو نفسه سياسة أميركا في سورية- إلى أن الإدارة الأميركية (إدارة ترامب يومها) تقول حاليًا إنها لن تكرر تجربة العراق قبل سنوات قليلة عندما انسحبت القوات الأميركية قبل أن تستقر الأوضاع الأمنية والسياسية تمامًا([24]).

9-     بايدن بين التوقعات والتوصيات

مع رحيل دونالد ترامب ووصول جوزيف بايدن إلى الرئاسة الأميركية كثرت الأحاديث والتوقعات عن تغيرات في السياسة الأميركية في سورية والشرق الأوسط.

وفي هذا السياق صرح وزير الخارجية أنتوني بلنكن في إدارة بايدن في سياق انتقاده لسياسة ترامب في سورية قائلًا: “فشلنا في منع وقوع خسائر مروعة في الأرواح وفي منع النزوح الجماعي للناس داخليًا في سورية، وبالطبع في الخارج كلاجئين”، وأضاف: “في الوقت الذي كان لدى الولايات المتحدة نفوذ ما متبقٍ في سورية لمحاولة تحقيق بعض النتائج الإيجابية، لسوء الحظ، قامت إدارة ترامب بتحويل ذلك إلى حد ما للانسحاب بالكامل في سورية” ([25]).

وبالتزامن مع استلام بايدن الرئاسة تطرح اليوم في الساحة السياسية الأميركية آراء مختلفة حول الكيفية الأفضل للتعامل مع الملف السوري.

 ففي مقابلة خاصة مع صحيفة (الشرق الأوسط) دعا وزير الخارجية سابقًا جيفري فيلتمان إلى اختبار مقاربة جديدة تقوم على اتخاذ ​الرئيس السوري​ ​بشار الأسد​ خطوات ملموسة ومحددة وشفافة لا يمكن العودة عنها في شأن الإصلاح السياسي، مقابل إقدام واشنطن على أمور بينها تخفيف العقوبات على دمشق. وأضاف فيلتمان: “الروس والإيرانيون ردوا بطريقة عسكرية على تهديد ​النظام السوري. ​جاؤوا لإنقاذ النظام وتغيير اتجاه الحرب باتجاه معين. حاليًا نحو 65 في المئة من سورية، تحت سيطرة دمشق. لكن، هل ​روسيا​ وإيران مستعدتان لإعطاء الدعم نفسه للنظام في المجال الاقتصادي كما فعلتا عسكريًا، أشك في ذلك. حاليًا، إن تهديد البقاء لحكم الأسد، لم يعد عسكريًا ولا بسبب ​الانتفاضة​، بل بسبب تراجع الوضع الاقتصادي. لا يقابل بالدعم ذاته من روسيا وإيران، كما حصل عسكريًا”([26]).

أما السفير السابق في دمشق روبرت فورد، فيرى أنه يجب على إدارة بايدن أن تكون واقعية تجاه قدرة الولايات المتحدة على انتزاع التنازلات السياسية في سورية وفرض الإصلاحات على النظام السوري التي لا يستجيب لها، فهذا النظام يحارب على افتراض أن الإصلاح سوف يقصر من عمره، كما يرى فورد أن محافظة الرئيس بايدن على استراتيجية ترامب سوف تعني إهدار مليارات الدولارات، إضافة إلى تفاقم التوترات الاجتماعية والفشل في احتواء (داعش)، وأن الأهداف المحدودة للولايات المتحدة في سورية يمكن لواشنطن أن تحققها بتكاليف أقل كثيرًا، ومهما كانت الأموال التي تريد إنفاقها، فهي يجب أن تسخر لمصلحة مشكلة اللاجئين الكبيرة ويقول أيضا: “سورية لم تكن قط قضية أمن قومي أميركي، واقتصرت المصالح الأميركية هناك على منع الصراع فيها من تهديد مصالحها الأكثر أهمية في مناطق أخرى. والسياسة الأميركية الحالية لا تفعل الكثير لخدمة هذا الهدف. وكذلك فشلت في تحقيق الإصلاح السياسي في دمشق، وفي إعادة الاستقرار إلى البلاد، وفي التعامل مع فلول تنظيم الدولة الإسلامية الذي يُعرف باسم تنظيم داعش. وسيفعل الرئيس بايدن حسنًا إذا غيَّر هذا المسار نحو سحب مئات الجنود الأميركيين المنتشرين حاليًا في سورية، والاعتماد على روسيا وتركيا في احتواء (داعش)”، ويرى أنه يجب على الولايات المتحدة أن تتفاوض مع روسيا على انسحاب تدريجي لقواتها وفق جدول زمني لنقل السيطرة من القوات الأميركية إلى الروسية، ويرى أيضًا أن الروس سوف يتحلون بالحكمة الكافية للعمل مع قسد بموجب ترتيبات جديدة. وموسكو لديها تجربة سابقة في هذا المجال، فروسيا قد أنشأت (الفيلق الخامس) وجهزته وتشرف حاليًا عليه، من المقاتلين الموالين لدمشق الذين ينفذون مهمات قتالية في مختلف أنحاء البلاد. وبالاشتراك مع الحكومة السورية، يمكن لموسكو أن تنشئ “فيلقًا سادسًا” مكونًا من قوات سوريا الديمقراطية بإمرة روسية، وبرأيه يحب على قوات حماية الشعب الكردية، وقوات سوريا الديمقراطية، أن تتفاوض مع حكومة دمشق حول الوضع السياسي للمنطقة التي يسيطرون عليها والسعي من خلال المفاوضات لضمان المساواة في حقوق المواطنة والملكية التي حُرم منها الأكراد السوريون مدة طويلة. ومع أن ترتيبات كهذه لن تحقق حكمًا ذاتيًا كاملًا في سورية فيدرالية، إلا أنها ستحقق تقدمًا كبيرًا مقارنة بالوضع قبل الحرب([27]).

وكما نرى الطرحان كلاهما قريب من رأي سبق أن طرحه جيفري د. ساكس في أثناء رئاسة ترامب وقال فيه: “سوف يبقى نظام الأسد في السلطة، وسوف تحافظ إيران وروسيا على نفوذهما في سورية. أما الوهم الأميركي الرسمي المتمثل في قدرة أميركا على اتخاذ القرارات في سورية من خلال اختيار من يحكمها، وبالاستعانة بأي من الحلفاء، فلا بد أن ينتهي. لقد أزف الوقت منذ فترة طويلة لتبني نهج أكثر واقعية يدفع مجلس الأمن بموجبه المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران وإسرائيل إلى سلام عملي ينهي إراقة الدماء ويسمح للشعب السوري باستئناف حياته وسبل معايشه“([28]).

مقابل ذلك ثمة رأي مختلف للأكاديمية مارا كارلين، وهي عضوة في لجنة مكونة من 12 شخصًا، معيّنة من الكونغرس لدراسة الصراع السوري، مهمتها دراسة الحالة السورية، وتقديم التوصيات للإستراتيجية الأميركية تجاه سورية، ففي مقال لها نشره موقع معهد (بروكينغز) في 24 أيلول/ سبتمبر 2019، تركز كارلين على أربع نقاط تختصر رؤيتها للوضع الراهن في سورية، أولاها أن النظام السوري يستمر بمساعدة روسيا وإيران باستعادة مزيد من المساحات التي سبق له فقدها، ولكنه مع ذلك يعجز عن توفير الأمن والاستقرار ومتطلبات الحياة الطبيعية فيها، وتنبه كارلين إلى أن التنافس بين روسيا وإيران وهذا النظام سيتعمق بعد انتهاء الحرب، وستستمر الانقسامات المتفشية بين العناصر المناهضة للنظام، ويمكن للصراع السوري أن يتحول إلى صورة أبشع، وبالذات في إدلب وما حولها، وهكذا تستبعد كارلين حدوث تغير إيجابي واقعي على مدى السنوات الخمس؛ وتركز في النقطة الثانية على الوضع الكارثي لملايين اللاجئين والنازحين داخل سورية وخارجها، وتحوُلهم إلى عناصر غير مرحب بها في دول الجوار بسبب ما يسببونه لها من أعباء مختلفة؛ فيما تركز النقطة الثالثة على التنافس الدولي في الشرق الأوسط وعلى الصعود والدور الكبيرين لروسيا التي أصبحت تقدم نفسها هنا بديلًا من أميركا وتقوم بالحل والعقد، وإن كان ذلك بطريقة غير مسؤولة أو فاعلة، وتنبه في النقطة الرابعة إلى وجوب إدراك أميركا أن سياستها المشوشة والمتناقضة في سورية أثبتت عدم فاعليتها، ثم تخلص إلى القول بأنه على الإدارة الأميركية على الأقل تجنب الأخطاء الرئيسة التي ستفاقم الصراع في سورية، وقائمة هذه الأخطاء تتضمن:

-إعادة نشر القوات الأميركية في سورية بتهور، وبالذات من دون استشارة أعضاء التحالف الرئيسين.

-عدم تحديد المهمة العسكرية الأميركية بالضبط، وما إذا كان (داعش) التهديد ذي الأولوية.

-استخدام قوات ومقاربة تقليدية بدلًا من قوات مكافحة التمرد، على الرغم من تحول المسار الأمني للصراع.

-إهمال عيوب شركاء أميركا في سورية، وبالذات (قسد)، في وقت التحول إلى عمليات الاستقرار والحكم التي تحتاج إلى كثير من الحث لإحداث تغير سياسي دائم ذي معنى.

-التعامل مع النظام السوري.

-السماح للخلافات مع تركيا أن تحدث تمزقًا في تحالف الناتو.

-تمكين روسيا من تعزيز دورها في عقد اجتماعات إقليمية.

-التقليل من شأن احتمال عودة داعش، وبخاصة مع وجود أعداد كبيرة من الجيل القادم من السوريين عالقين في أماكن احتقان مثل مخيم الهول.

-مراقبة كيفية تأثير التوترات المتزايدة -بين أميركا وإيران في الخليج وبين إسرائيل وإيران ووكلائها في سورية- خارج حدود الشام.

-إهمال المعاناة الكبيرة لبلدان مثل لبنان والأردن وتركيا بسبب المتطلبات الضخمة التي يحتاج إليها العدد الكبير من اللاجئين السوريين لديها.

-إلغاء التمويل أو الحد الكبير منه لأسوأ أزمة إنسانية على مدى عقود([29]).

10- خلاصة

كما نرى أعلاه ثمة قدر كبير من الاختلاف في الآراء ووجهات النظر والمواقف حول سياسة أميركا في سورية والشرق الأوسط عمومًا، وليس من المنطقي قطعًا تجاهلها عند محاولة تكوين صورة واضحة عن هذه السياسة، فهذه التباينات الكبيرة والكثيرة في وجهات النظر تعكس فعليًا حقيقة ما يجري على أرض الواقع، وتعني بشكل مؤكد وجود تذبذب وتخبط بدرجات ما في السياسة الأميركية في المنطقة، وهذا بدوره يعكس واقع الحال المتأزم داخل أميركا نفسها اليوم، ما يعد (ظاهرة ترامب الشعبوية) أوضح دليل عليه، في الوقت نفسه الذي تعد فيه هذه (الترامبية) ذروة ما وصلت إليه هذه الحالة المتأزمة التي يمكن إعادة أسبابها المباشرة بشكل رئيس إلى أزمة 2007-2008 الكبيرة التي كانت لها انعكاسات وآثار سلبية ثقيلة في أميركا دولة ومجتمعًا.

هذه الأزمة هي التي ألقت بظلالها الكثيفة على سياسة أوباما، وجعلت أميركا على الرغم من كل قوتها غير قادرة في أحيان عدة على اتخاذ قرارات حاسمة خطرة على الصعيد الدولي، وزاد الأمر سوءًا عندما أفرزت هذه الأزمة منتجها الخاص في شخصية ترامب، لتصبح السياسة الأميركية نفسها محكومة عبره بمنتـَج مأزوم بطبيعته، ولذلك انطبعت سياسة أميركا إلى حد لافت بالتقافز في عهد ترامب، فيما ظهر عليها أيضًا بوضوح التذبذب والتردد في عهد أوباما، واليوم على الرغم من وصول شخصية سياسية مخضرمة إلى رئاسة أميركا ممثلة في بايدن، فالتركة الثقيلة التي خلفها سلفه والآثار الأخرى للأزمة التي أنتجها، ستجعل قدرة بايدن على إحداث تغيير حقيقي محدودة.

مقابل ذلك نجد أن سياسة روسيا كانت مختلفة، وذلك على الرغم من أنها هي الأخرى تعاني أزمات حقيقية مختلفة، ولكن إصرار روسيا الشديد على العودة إلى الحضور الدولي وطبيعة السلطة المختلفة فيها، جعلاها أكثر قدرة على انتهاج سياسة أكثر حزمًا، وما لا شك فيه أن التردد والتذبذب الأميركي ساعدها أيضًا بشكل كبير على ذلك.

في مطلق الأحوال تبقى السياستان الأميركية والروسية كلتاهما سياستي مصالح بشكل كامل، ولا تهمهما مصالح الأطراف الأخرى إلا بقدر ما تخدم مصلحتيهما، ولا تهم في الحالة المعاكسة الأثمان الباهظة التي تدفعها الأطراف الأخرى، ولا سيما شعوب البلدان التي تصبح هدفًا لهذه المصالح، وميدانًا لتنافسها الشرس.

وفي أي حال، ومهما كانت درجة الضعف الذي تعانيه أو تبدو فيه السياسة الأميركية في سورية، فهي بقيت منسجمة مع الإستراتيجية الأميركية وقادرة على ضمان المصالح الأميركية.

عن ذلك يقول د.عودة الصويص في كتاب له عن الإستراتيجية الأميركية والحرب في سورية إنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تحل أي مشكلة في العالم ما دام حلها لا يخدمها، وأن مصلحتها أن تمسك بخيوط المشكلة كلها وتحركها لمصلحتها، وأن التغيير الديمقراطي مقبول ما دام على القياس الأميركي وينضوي تحت لواء خدمة إستراتيجيتها([30]).

وهذا ما يمكن قوله عن الخطوط العريضة التي ستسير ضمنها سياسة بايدن مهما كانت الاختلافات التي سيصنعها في التفاصيل.

يجب عدم المبالغة في حجم تأثير التخبطات والتذبذبات التي تظهر فيها السياسة الأميركية في سورية في المصلحة الأميركية، وألا نبالغ أيضا في حجم المكاسب التي حققتها السياسة الشرسة لروسيا، ففي واقع الأمر هناك إلى درجة كبيرة توازن بين النتيجتين، فروسيا في غرب الفرات تهيمن على منطقة فيها بقايا دولة وبقايا نظام، وأميركا تهيمن في شرق الفرات على منطقة هي بدورها صنعت فيها (دويلة) أو (شبه دولة) ممثلة بـ(مسد وقسد)، ومقابل تفوق مساحة الهيمنة الروسية جغرافيًا ثمة في المقابل تفوق في قيمة منطقة الهيمنة الأميركية اقتصاديًا، فهي منطقة جيدة زراعيًا وغنية بالنفط والغاز بينما هناك جزء كبير من منطقة سيطرة روسيا هو بادية محدودة الفائدة، والمنطقتان كلتاهما فيهما كثير من المشكلات الخطرة والتوترات الحادة وإن اختلفت التفاصيل، والدولتان كلتاهما تعانيان مشكلات مع حلفائها، ففي الوقت الذي تعاني فيه أميركا خلافات مع تركيا بشأن الأكراد وتوسيع النفوذ التركي في سورية، روسيا أيضًا في منطقة سيطرتها تواجه منافسة على النفوذ مع إيران على الرغم من التحالف العسكري بينهما، وعدا عن ذلك ثمة عامل مهم جدًا لمصلحة أميركا، فعمليًا ما تزال أميركا وحلفاؤها الدوليين يتحكمون في الاقتصاد العالمي إلى حد كبير، وهذا يبقي ملف العقوبات والحصار الاقتصاديين اللذين تفرضهما أميركا وحلفاؤها على النظام السوري عاملًا شديد الخطر على موازين القوى في المعادلة السورية، وليس لدى روسيا كثير لترد به في هذا الشأن، هذا إضافة إلى أن منطقة مهمة أيضًا ما تزال تحت سيطرة تركيا -حليفة أميركا في الناتو- في شمال غرب سورية، ويمكن لأميركا تحسين العلاقات مع تركيا أكثر ودعمها فيها، ما يعني في الحصيلة أن الحديث عن حسم وسيطرة روسيين على الملف السوري ليس في محله بتاتًا، ويؤكد مقابل ذلك أن أميركا ما تزال بقدر روسيا على الأقل قادرة على التأثير في هذا الملف وعلى مسار الحل وشكله المنتظر، وهي غير مضطرة بالتأكيد إلى التفريط في هذه الإمكانية.

المؤكد في سياسة بايدن هي أنها ستكون أكثر استقرارًا وحزمًا في الحفاظ على المصلحة الأميركية، ولكن هذا لا يضمن حكمًا أن شيئًا مماثلًا سيحدث في اتجاه المصلحة السورية، أما كيف ستتعامل سياسة بايدن مع الأزمة السورية وكيف سينعكس هذا على المصلحة السورية، فهذا ما ستظهره الأيام المقبلة، مع أن المطلوب من هذه الإدارة وجميع القوى الفاعلة في سورية لحل الأزمة فيها واضح، وهو الالتزام بنتائج مؤتمر جنيف 1 وقرار مجلس الأمن الدولي 2254 والعمل الفعلي الجاد على تنفيذهما.

[1] – صحيفة الشعب اليومية أونلاين الصينية، الولايات المتحدة تستبعد تدخلها في سورية بالطريقة التي تدخلت بها في ليبيا في الوقت الحالي، 28\3\2011

[2] – نعوم تشومسكي.. التدخل العسكري في سوريا، شبكة الجزيرة، 2012/3/29

[3] – نعوم تشومسكي.. التدخل العسكري في سوريا، شبكة الجزيرة، 29-3- 2012

[4] – كمال مجيد، أين نجحت أميركا في سورية وأين فشلت – رأي اليوم، 2-11-2015

[5] – قصي غريب، السياسة الأميركية تجاه الثورة السورية – مركز الروابط للدراسات الإستراتيجية والسياسية، 23-2- 2016

[6] –  المرجع السابق.

[7] – تلفزيون سوريا، غليون: أربعة ظروف جعلت مصير ثورة سورية مختلفًا عمّا سواها، 16-6-2020

[8] – ترامب عن سحب قوات أميركية من سورية حان وقت خروجنا من الحروب السخيفة – CNN Arabic، 7-10-2019

[9] – تيلرسون الولايات المتحدة ستحافظ على وجودها العسكري في سوريا- BBC News عربي،18-1- 2018

[10] –عنان يهاجم التنافس الغربي الهدام على سوريا، سيريان تلغراف، 7-7-2012

[11] – تلفزيون سوريا، غليون: أربعة ظروف جعلت مصير ثورة سورية مختلفًا عمّا سواها، 16-6-2020

[12] – برهان غليون، عن سورية التي تحولت من وطن إلى غنيمة، موقع د. برهان غليون، 2020-01-04

[13] – كمال مجيد، المرجع السابق.

[14] – المرجع السابق.

[15] – سام حمد، كيف خان نعوم تشومسكي الشعب السوري؟ ترجمة فرح عصام – إضاءات، 29-4- 2016

[16] – مسؤول أميركي سياسة واشنطن فشلت في سورية – Sputnik Arabic، 31-1-2021

[17] – جيفري ساكس، إنهاء الدور الكارثي الذي تلعبه أميركا في سوريا، ترجمة: إبراهيم محمد علي، Qantara.de، 26-2-.2018

[18] – ناشينال إنترست على أميركا أن تغادر سورية بعد فشل سياستها، الخليج أونلاين،19-9- 2018.

[19] –  ستيفن كوزنر، ما هي الإستراتيجية الأميركية في سورية ؟ صحيفة الخليج، 2-5- 2018

[20] – باسل درويش، بروكينغز: دراسة تقدم 4 توصيات لإستراتيجية أميركا بسوريا، عربي 21، 25-9- 2019.

[21] – محمد خالد، أميركا في سورية تكتيك متغيّر وإستراتيجية ثابتة، البيان، 27-1- 2019.

[22] – المرجع السابق.

[23] – باسل درويش، لهذا من الصعب على أميركا الخروج من الشرق الأوسط، عربي 21،19 -9- 2019.

[24] –  ستيفن كوزنر، المرجع السابق.

[25] – محمود عثمان، ملامح إستراتيجية جو بايدن في سوريا، وكالة الأناضول، 26-1-2021

[26] – مسؤول أميركي سياسة واشنطن فشلت في سورية – Sputnik Arabic، 32-1-2021

[27] – روبرت فورد، الإستراتيجية الأميركية في سورية قد فشلت، كيوبوست-نقلا عن فوربن أفيرز، 4-2-2021

[28] – جيفري ساكس، المرجع السابق.

[29] – باسل درويش، بروكينغز: دراسة تقدم 4 توصيات لإستراتيجية أميركا بسوريا، عربي 21، 25 -9-2019.

[30] – الإستراتيجية الأميركية والحرب على سورية كتاب جديد للدكتور الصويص، صحيفة الغد الأردنية، 10-1-2021

مركز حرمون

——————————

معضلة الحل السياسي في سورية/ نجيب الغضبان

مع تزايد الحديث عن انسداد الأفق السياسي للتوصل إلى حل للصراع المزمن في سورية، مقابل الخطوات الإيجابية التي تم إحرازها في ليبيا، واهتمام الإدارة الأميركية الحالية بإنهاء الحرب في اليمن، ومرور عقد على انطلاق الثورة/ المأساة السورية، يكتسب نقاش هذا الموضوع أهمية فائقة. ستركز هذه المقالة على المعضلة الأساسية التي غالباً ما يتم القفز فوقها، أو تحويرها، أو تأجيلها باسم البراغماتية السياسية، ألا وهي التوصل إلى تسويةٍ حول مصير رأس النظام بشار الأسد. إن تجاهل هذه المعضلة على مدى السنوات الماضية، وفي أغلب الجهود الدبلوماسية الدولية، هو السبب الرئيس لفشل تلك الجهود.

في تجارب أغلب الدول التي انتقلت من الحكم السلطوي، فإن البداية الحقيقية لعملية التحوّل تكمن في لحظة رحيل الحاكم الدكتاتور. ومع تسليمنا بأن رحيل رأس النظام السلطوي لا يعني، بالضرورة، التحول إلى نظام ديمقراطي، فمن الدول العربية التي رحل رأس النظام فيها عن الحكم، لم تبلغ إلا واحدة منها، وهي تونس، مرحلة التحول إلى الحكم الديمقراطي، على الرغم من التحدّيات الكبيرة التي تواجهها. الدولة الوحيدة التي لم تبلغ غاية رحيل رأس نظامها هي سورية. ولعل هذا ما يفسّر، جزئياً، أن هذه الدولة شهدت أقسى حالات الصراع، ودفع أهلها أثماناً إنسانية ومادية باهظة، وطالت فيها الحرب إلى ما يزيد عن السنوات العشر. فكما هو معلوم، للثورة السورية أسبابها الموضوعية المتجذّرة في استبداد نظام الأقلية القمعي وفساده. ومع أن إرهاصات الثورة السورية بدأت بمطالب إصلاحية محدودة، إلا أنها لم تلبث أن تحوّلت إلى ثورةٍ بالمعنى الشامل، تبنت الشعار الشائع “الشعب يريد إسقاط النظام”. وللإنصاف، كانت قطاعات واسعة من المهتمين بالشأن العام قد ناشدت بشار الأسد أن يقود عملية إصلاحية يكون جزءاً منها، وهكذا فعلت حكومات منها قطر والسعودية وتركيا. التحوّل إلى المطالبة بتغيير النظام، المتضمنة رحيل بشار الأسد، بدأ بشكل مبكر في عمر الثورة السورية، بسبب رد الفعل العنيف الذي أظهرته الأجهزة القمعية في تصدّيها للتظاهر السلمي. ويعتبر الخطاب الأول الذي ألقاه الأسد في مجلس الشعب، في نهاية شهر مارس/ آذار 2011، نقطة تحول بالنسبة لسوريين كثيرين كانوا ينتظرون من الأسد خطواتٍ إصلاحيةً لاحتواء الغضب الناجم عن قمع قواته للتظاهرات السلمية. كما كان للنجاحات الأولى التي حققتها حركات الاحتجاج في باقي دول الربيع العربي دور في إقناع أغلبية الشعب السوري بضرورة رحيل النظام ورأسه. واحتل شعار “إرحل إرحل يا بشار” مكانته المحورية بين الشعارات الثورية الأخرى، باعتبار هذا المطلب هو البداية المنطقية للتغيير المنشود.

بالنسبة إلى الغالبية من الشعب السوري القابع تحت ثنائية القمع والفساد، فإن رحيل بشار الأسد أمر منطقي، فقد أتم “الولد” ما يزيد عن عقد، لم يحقق فيه وعوده المتواضعة بالإصلاح والتطوير. ومع انحيازه لخيار القمع والقتل بحق المتظاهرين السلميين فقد بدّد كل ادّعاء بالشرعية. لكن وللحقيقة، ارتأى مؤيدو النظام أن بقاء بشار الأسد في السلطة يتجاوز رمزية الإقرار بأن لدى الحركة المناهضة للنظام مطالب مشروعة إلى أن استئثاره بالحكم هو الضمانة في وجه التهديد الوجودي، خصوصا بالنسبة للطائفة العلوية. أما المستفيدون من النظام من باقي مكونات الشعب السوري، فإن رحيل الأسد يعني فقدان الامتيازات الاستثنائية التي يتمتعون بها بغير وجه حق. ولذا استثمر النظام في سردية مفادها بأنه الحصن العلماني المدافع عن الأقليات في وجه التطرّف الإسلامي القادم. وطرح هذا المعسكر، خصوصا في جناحه المتطرّف “الشبيحة”، شعاراً مقابلاً للشعار المطالب برحيل بشار، وهو: “الأسد أو نحرق البلد”.

وعلى صعيد الجهود الدبلوماسية، طُرح موضوع ضرورة تنحّي الأسد مدخلا لأي حل سياسي، في مطالبات قادة غربيين بذلك. وكان أهم تلك المناشدات ما صرح به الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في أغسطس/ آب من عام 2011، إن على الأسد تقديم إصلاحات حقيقية أو التنحّي. وتضمنت المبادرة الثانية لجامعة الدول العربية في أوائل عام 2012 خطواتٍ تقود إلى رحيل الأسد، فكانت الصيغة التي طرحتها الجامعة مماثلة للمبادرة الخليجية بشأن اليمن، بحيث يتنازل الرئيس عن صلاحياته لنائبه الذي يقود مرحلة انتقالية، تنتهي بإصلاحات حقيقية. وبالطبع، كان رفض النظام قاطعاً لهذه المبادرة، واختفى من وقتها النائب الأول لرئيس الجمهورية، فاروق الشرع، من المشهد السياسي.

ومع أن مبادرة مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية كوفي عنان لم تشر صراحة إلى رحيل الأسد، فإنها شملت نقطة التوصل إلى حل سياسي يلبي طموحات الشعب السوري، وهي ترجمة لتغيير جذري في طبيعة النظام، لا يتسق معها استمرار الأسد في السلطة. ثم جاءت وثيقة جنيف الشهيرة التي أصبحت مرجعية الحل السياسي في سورية، وتبنّتها قراراتٌ دوليةٌ، أهمها قرار مجلس الأمن رقم 2254. ومع أن الوثيقة لم تنص بشكل صريح على ضرورة رحيل الأسد، لكنها قدّمت تسوية مقبولة للدول التي وافقت على الوثيقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا. تحدّثت الوثيقة عن ضرورة تشكيل “هيئة حكم انتقالي”، من النظام والمعارضة وأطراف ثالثة، كالمجتمع المدني، بصلاحيات تنفيذية كاملة، تقود مرحلةً انتقاليةً تنتهي بحكم ديمقراطي. كما نصّت الوثيقة على أن يكون تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بالتوافق، وهو ما اعتبر نوعا من الغموض “الإيجابي”. وكانت نقطة التوافق هذه تعني إعطاء نوع من “الفيتو” لكل من المعارضة والنظام، برفض أي شخصٍ غير مقبول منهما. وبحلول صيف عام 2012، وقت إقرار الوثيقة، كان هناك إجماع بين القوى الثورية والمعارضة على ضرورة رحيل الأسد مدخلا لأي حل سياسي، باعتباره مسؤولاً مباشراً عن كل أشكال القتل والقمع والدمار التي حلّت بالبلاد. وتتفق أغلب الجهات الدولية على أن تشكيل الهيئة بالتوافق يعني استثناء الشخصيات المرفوضة من كلا الطرفين. ولم تشذ عن هذا التفسير إلا روسيا التي تمسّكت بحق الأسد في أن يكون جزءاً من المرحلة الانتقالية، كما أن لديه الحق في الترشح للرئاسة مستقبلاً.

كانت الجهود الدبلوماسية التي جرت على أساس الوثيقة تتأثر بالوقائع على الأرض، وقناعة كثيرين من السوريين والمجتمع الدولي بأن نظام الأسد ساقط لا محالة. من هنا، اتخذت المعارضة موقفاً مفاده أن رحيل الأسد شرط للدخول في المرحلة الانتقالية. لكن ومع تأخر هذا التوقع، بفعل القمع الوحشي للنظام، وتدخل حليفه الإيراني الحاسم بأذرعه المختلفة، مقابل تقاعس داعمي المعارضة عن مجاراة حلفاء النظام، بدأت قوى غربية ووسطاء أمميين تنصح المعارضة بضرورة إبداء بعض المرونة تجاه هذا المطلب. وبالفعل، استجابت المعارضة على أن يكون أمر رحيل الأسد نتيجة العملية الانتقالية، وضمن جدول زمني واضح. وتمسّكت المعارضة السياسية بهذا الموقف في أثناء الجولات الأولى من مفاوضات جنيف، بينما كانت استراتيجية النظام الدخول في نقاشاتٍ عبثيةٍ لكسب الوقت، أملاً في تغيير الحقائق على الأرض لصالحه.

ومع تدخلها العسكري الحاسم في سبتمبر/ أيلول 2015، أعقب ظهور ما سميت الدولة الإسلامية (داعش)، انتهجت القيادة الروسية منحىً جديداً في تحوير العملية السياسية، ومحاولة تغيير مرجعيتها من وثيقة جنيف إلى ما سمي مسار أستانة وسوتشي لاحقاً. وترافق مع هذه التطورات تزايد الخلافات بين داعمي المعارضة، بينما استطاع الروس استعادة المبادرة على الأرض، والنجاح باستمالة تركيا إلى مسار أستانة. ونجحت روسيا بتقزيم العملية السياسية، وذلك بتقسيمها إلى جزئين: أولهما، التركيز على ما سميت عملية تثبيت وقف إطلاق النار المحلية التي عنت تدمير مناطق المعارضة وترحيل مقاتليها إلى الشمال الغربي. وتمثل القسم الثاني في إعطاء الأولوية لتشكيل لجنة دستورية، تنظر في تعديل دستور الأسد لعام 2012، أو صياغة دستور جديد. وقد جاء هذا التحوير للعملية السياسية مناقضاً للقرار الأممي 2254 الذي نص صراحة على تسلسل منطقي، يبدأ بتشكيل “حكم انتقالي”، تتبعه عملية دستورية، ومن ثم انتخابات برلمانية ورئاسية. ولم تتخذ الأطراف الدولية الداعمة للمعارضة موقفاً تجاه هذا الانحراف، بل نصح بعضها المعارضة بأن تشارك في هذه المسارات، باعتبارها الجهود الوحيدة المتاحة.

ومع النجاحات العسكرية للنظام، بفعل الدور المحوري الروسي – الإيراني وتراجع الدول الداعمة للمعارضة، تراجع موضوع رحيل الأسد من أولويات الجهود الدبلوماسية. وغدا السقف السياسي للروس (أهل الحل والعقد في سورية) هو إقناع بعض الشخصيات “المعارضة” بالدخول في حكومة برئاسة الأسد إلى حين الانتخابات التي تعطي الأسد الحق في الترشح والنجاح سبع سنوات أخرى، استناداً إلى دستوره الذي أقرّه عام 2012. لكن لحظة إعلان انتصار النظام على شعبه لم تكن لتدوم طويلاً، لأنه أصبح مسؤولاً عن المناطق التي أعاد السيطرة عليها، وعن إعادة إعمارها، وهو أمر أكبر من قدرته، ومن إمكانات داعميه الروس والإيرانيين.

وأخيراً، حمل عام 2020 تطورين هامين في غير صالح النظام: الدور التركي العسكري في إيقاف تقدم النظام باتجاه إدلب؛ الموقف التركي الحاسم كان مدفوعاً بفعل التخوّف من احتمال نزوح ملايين السوريين المقيمين في تلك المناطق تجاه أراضيه، وإقرار الولايات المتحدة قانون قيصر، ودخوله حيز التنفيذ. وقد حرم تطبيق العقوبات المتضمنة في قانون قيصر على النظام السوري وداعميه نظام الأسد من تحويل “نصره” العسكري إلى نصر سياسي، وعقّد إمكانية إعادة تأهيله إقليمياً ودولياً عندما ربط عملية إعادة الإعمار بالحل السياسي. ومع أن النظام حاول تحميل فشله في إدارة الأزمة الاقتصادية القاتلة التي تعصف بالبلاد (بينما تعاني أغلب الدول بما فيها داعمو النظام من أزمة كورونا)، فإن الأكيد أن النظام قد وصل إلى طريق مسدود في كسب معركة السلام.

لم يكن بشار الأسد رئيساً لكل السوريين في أي وقت، وأصبح عدواً للملايين المشرّدة وغريماً لأهالي الضحايا الذين تجاوزا المليون بين قتيل وجريح ومعتقل، وأثبت فشله الذريع في تقديم أي من عوائد الانتصار لسورية “المتجانسة”. الخلاصة المهمة لأنصار النظام أن معاناتهم مرتبطة ببقاء الأسد في الحكم، كما أن الإصرار على بقائه لن يزيدهم إلا خيبة وأسىً. المخرج الوحيد من هذه الأزمة المزمنة يكمن في قبول تسويةٍ على أساس مرجعية وثيقة جنيف، تضع المؤيديين والمعارضين والرماديين في صفوف متكافئة لإعادة إنتاج عقد سياسي جديد، أساسه المواطنة المتساوية تحت سقف دولة القانون. الشرط الأساسي لنجاح مثل هذه الصيغة رحيل الأسد.

هنا تقع المسؤولية على الأطراف الدولية الأساسية، وخصوصا الولايات المتحدة وحلفائها، وروسيا الداعم الرئيسي للأسد. وتستوجب هذه المسؤولية تدخلاً عاجلاً وحاسماً لوقف التدهور واحتمالات الانفجار في النصف الثاني من سورية، وذلك بإعادة العملية السياسية إلى مرجعيتها المنطقية، من خلال وثيقة جنيف، والبدء بالمفاوضة حول شروط رحيل الأسد. قد يطول الوقت اللازم لحل هذه المعادلة الصعبة أو يقصر، لكنه يضع الشعب السوري المنهك من هذا الصراع أمام تحدّي البحث عن حلول خلاقة لبناء إطار سياسي يتسع لكل أبنائه، متجاوزاً تجربة مأساة حكم الأسد.

العربي الجديد

—————————-

المأساة السورية مسؤولية أميركية/ بشير البكر

تجاوزت المأساة السورية عامها العاشر، لتندرج واحدة من أحلك فصول التاريخ الحديث، على حد وصف ممثل الأمم المتحدة، غير بيدرسون، في إحاطته إلى مجلس الأمن، يوم الاثنين الماضي، وكانت جردةً وافيةً ومثاليةً لما تعرّضت له الثورة السورية من غدر دولي، ولا سيما من الأمم المتحدة والولايات المتحدة وأوروبا. وبعد عشر سنوات على هذا الحدث التاريخي، تجدر العودة إلى البدايات، حينما تولت الأمم المتحدة القضية، وأسندت مهمة المتابعة إلى مبعوثيْن بارزيْن، كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي. ونجح الأول في إصدار بيان جنيف في 30 يونيو/ حزيران 2012، والذي نصّ على إقامة هيئة الحكم الانتقالية. ولكن الرجلين اعتذرا عن عدم الاستمرار في المهمة، بسبب تعنت النظام ورفضه كل الحلول، واستمراره في الوسائل العسكرية. وبعد ذلك، فترت همّة الأمم المتحدة، وكلفت ستيفان دي ميستورا، والذي كان مثالا نموذجيا في تسويق الأوهام، والالتفاف على الاستحقاقات، ونجح في إدخال القضية في الدهاليز، ليقدّم خدمة كبيرة لمشروع روسيا وإيران في تحجيم الوجود المسلح للمعارضة.

ولم يكن ليحدُث للثورة السورية ما حصل من تخلٍّ وإدارة ظهر، لو أن الولايات المتحدة كانت أكثر جدّية في التعامل مع الملف، والتزاما بتأييد حق الشعب السوري في الحرية والكرامة. وصار ثابتا أن إدارة الرئيس باراك أوباما هي التي تتحمّل مسؤولية إطالة أمد عذاب الشعب السوري، في وقتٍ كان في وسعها أن تضع حدا للمذبحة في أغسطس/ آب 2013، عندما استخدم النظام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين العزّل في الغوطة، وقتل أكثر من 1400 شخص، بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال. وكان بمقدور واشنطن أن توقف بشار الأسد عند ذاك الحد، وتُجبره على قبول تسويةٍ سياسيةٍ على أساس بيان جنيف، من دون حتى أن تستخدم القوة العسكرية، وكان سيخضع في حينها، لأن موسكو لم تكن قد تدخّلت عسكريا لنجدته، ولكن أوباما استخدم القضية السورية في صفقاته مع الروس والإيرانيين، وتخلى عن المسؤولية السياسية والأخلاقية من أجل التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، والذي اعتبره إنجازه التاريخي الأهم طيلة ولايتيه.

واليوم، تبقى المسؤولية ملقاةً على الولايات المتحدة، لإيجاد مخرج من المأزق الكبير، ولإنقاذ الشعب السوري من حرب الإبادة التي يتعرّض لها. وحدها هي القادرة على إيجاد ديناميكية تنتج حلا سياسيا وتفرضه على روسيا والنظام وإيران. وفي وسعها التعويل على الشعب السوري الذي يحتاج اليوم إلى الخبز والدواء، ولكنه يدرك أن نهاية المعاناة مرهونةٌ بالحل السياسي. ومن أجل الحصول على ذلك لن يرجع إلى الوراء، ويقبل ببشار الأسد في ولايةٍ رئاسيةٍ جديدة يستعد لها في الصيف المقبل.

أهم حدث بعد عشر سنوات على الثورة هو المظاهرات التي خرجت، يوم الاثنين الماضي، في المناطق التي تسيطر عليها فصائل معارضة، خصوصا في مدينة إدلب، التي يقع قسم كبير منها تحت حكم جبهة النصرة. وعلى الرغم من أن هذه الجبهة تعادي الثورة، وحاربتها، وقضت على بعض فصائلها التي كانت تحارب النظام، فإنها تراجعت، في هذه المناسبة، عدة خطوات إلى الوراء، أهمها أنها لم تتمكّن من منع المتظاهرين من رفع راية الثورة أو ترديد شعاراتها. وهناك من يعتبر هذه الالتفاتة فعلا انتهازيا، ومحاولة للتطهر بالثورة، وقد يكون ذلك صحيحا، ولكن العبرة تكمن في أنه بعد عشر سنوات ليست هناك راية أو شعار يعلو فوق راية الثورة وشعاراتها لدى الناس الذين تظاهروا. وهذا التجمع الكبير الذي احتضنته إدلب هو في غالبيته ممن رفضوا التسويات مع النظام والروس، وصمدوا رغم العنف والتهجير وسوء الظروف الحياتية.

العربي الجديد

—————————–

ناشطون بلا سياسة أو كيف دُجّنت الثقافة العربية في الدول الغربية/ محمد سامي الكيال

يمكن ملاحظة أسلوبين لتعبير كثير من الناشطين والمثقفين العرب عن أنفسهم في الدول الغربية، سواء وصلوها بصفة لاجئين؛ أو مهاجرين بغرض الدراسة والعمل، وغيرها من الأسباب: الأسلوب الأول يُظهر تحوّلاً واضحاً في الانتماء السياسي، فبدلاً من أن يتكلموا عن ذواتهم بناءً على الجنسية التي يحملونها، بوصفهم سوريين أو مصريين أو تونسيين مثلاً؛ أو بالاعتماد على ميولهم الأيديولوجية، سواءً كانوا ليبراليين أو يساريين أو قوميين، أصبحوا يميّزون أنفسهم باعتبارهم «مسلمين» أو «ملونين». وغيرها من تعيينات هوياتية، لم يكن لها المعنى نفسه عندما كانوا في بلدانهم.

أما الأسلوب الثاني فيظهر واضحاً عندما يتكلمون عن قضاياهم المحلية، فمسائل، مثل النضال الديمقراطي، وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية وثورات الربيع العربي، باتت تُقدّم بصيغ منزوعة الأشكلة، أو بتعبيرات حقوقية مبسّطة، وكأن التغيير في مجتمعات شديدة التعقيد، مثل المجتمعات العربية، أمر بديهي، يستند، بلا أي صعوبات، إلى تطور عالمي خطي نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو كأن مسألة التحوّل الديمقراطي يمكن اختزالها بالقضايا الإنسانية، مثل قضايا المعتقلين والمُهجّرين، دون سياقات مركّبة، تعطي معنىً سياسياً واضحاً لمعاناة هؤلاء، ولا تُظهرهم مجرد «ضحايا» بحاجة للتعاطف والإحسان.

قد يكون من المتوقع أن يستخدم الوافدون إلى الدول الغربية اللغة والمفاهيم السائدة فيها، ومحاولة إيجاد مكان لهم في التعريفات الهوياتية المُستخدمة بين ناشطيها، المتسمة بكثير من الاختزال والتنميط، لكنّ هذا في حالة الناشطين والمثقفين العرب يبدو مثيراً للأسف: هل لا يملك فاعلون اجتماعيون، لديهم تجربة تاريخية وسياسية شديدة الأهمية، أكثر من تكرار صيغ جاهزة عن العنصرية والديكتاتورية، وتقزيم أنفسهم بما يتفق مع تعاطف الرعاة الغربيين؟ ولماذا لا يقدمون منظورات جديدة، تغيّر شيئاً ما في القوالب المطروقة عن المنطقة وسكانها؟ لا يقتصر ضرر هذا على اختزال الحيوية السياسية والاجتماعية العربية في نظر الرأي العام الغربي، بل يعيق تطور المقاربات العربية الداخلية لتجربة السنوات الماضية، خاصة أن كثيراً من النخب باتت فعلياً في الخارج. وبعد نشاط مبشّر، على المستويين الثقافي والسياسي في العالم العربي، يبدو أن كثيرين ممن شاركوا به باتوا عالقين بما يمكن تسميته تجاوزاً «مركزية غربية» جديدة، تنشر نفسها بدعاوى حماية المهاجرين من المركزية والاستعلاء الثقافي الغربي. فما هي الآليات الأساسية لنزع تسييس الناشطين والمثقفين العرب؟ أو بالأصح كيف تتم أسلمتهم وتلوينهم وتحويلهم إلى ضحايا؟

إنتاج الفردانية

شكّلت الدول الغربية، طيلة العقود الماضية، بيئة خصبة للنشاط الثقافي والسياسي العربي المعارض، إلا أن هنالك اختلافاً كبيراً بين جيلين من المثقفين العرب في الخارج، فقد كان مثقفو القرن الماضي أكثر قدرة على التعبير عن سياقات سياسية واجتماعية واضحة لقضاياهم المختلفة، وتقديم تحليلات متينة لها، ساهمت في تطوير المنظورات العامة عن البنى الاجتماعية للدول العربية، وعلى الرغم من التحالفات المعقدة، التي بناها هؤلاء المثقفون مع نظرائهم الغربيين، وتأثّرهم الأيديولوجي والثقافي الواضح بهم، إلا أنهم أعطوا الأولوية، كثيراً من الأحيان، لاهتماماتهم وتصنيفاتهم السياسية المحلية، وربما ساعدهم في ذلك انتشار الأيديولوجيات العالمية الكبرى آنذاك، وعلى رأسها الماركسية والتحرر الوطني، التي أبدت، من جهة، مرونة كبيرة، جعلت تبيئتها ممكنة في بلدان وظروف مختلفة؛ وقدمت، من جهة أخرى، مفاهيم عالمية، يمكن التواصل بها بين المثقفين والمناضلين السياسيين على اختلاف ثقافاتهم.

يبدو الوضع مختلفاً للغاية بين الجيل الحالي من الناشطين العرب في الدول الغربية، الذين يقوم كثير منهم بعملية ترجمة واسعة لقضاياهم، كي تصبح قابلة للإدراج ضمن التصنيفات، التي يفهمها نظراؤهم الغربيون. عملية الترجمة هذه تتطلب بالضرورة نزعاً لتسييس القضايا، لأن الأيديولوجيا الغربية المعاصرة، ذات السمت الهوياتي، والمتبناة من قبل ما يسمى «يساراً ليبرالياً، لا تقبل التصنيفات السياسية الجمعية، مثل الجنسية الوطنية والنزعة القومية والأيديولوجيا السياسية والانتماء الطبقي، التي تتطلّب حيزاً عاماً مفتوحاً، بل تفضّل تصنيفاتٍ فردانية – هوياتية، لا تقوم على خيارات فكرية وسياسية، بقدر ما هي ملتصقة بأجساد الأفراد، وبالمفاهيم المختزلة عن ثقافاتهم (لاجئين، ملونين، مسلمين، نساء مهاجرات، إلخ) ما يجعلها أقرب لوصمة لا تمحى، يتم تسييسها بشكل ملتوٍ لاحقاً.

لا يمكن للأفراد/الهويات أن يمارسوا السياسية بمفهومها الكلاسيكي، فهم لا يملكون قضية أبعد من وجودهم الفردي، المحدد بشكل مسبق وحتمي عبر الهوية، ولا مطالب لهم أكثر من أن ينالوا الاعتراف. وإذا كان «الاعتراف» مفهوماً فلسفياً واجتماعياً شديد التعقيد، فيمكن تبسيطه بطرح سؤال عن الجهة التي تمنحه، في حالة المثقفين العرب في الخارج، والإجابة بالتأكيد: الناشطون والمؤسسات الغربية، التي تحتفي بالتنوّع والتسامح. هكذا تنشأ حالة من الاعتماد المتبادل بين الطرفين، فتنال المؤسسات الغربية الشرعية من خلال قدرتها على منح الاعتراف، ويجد المهاجرون مكاناً ودوراً لهم من خلال ما يُحصّلونه من هذا الاعتراف، في ثنائية تذكّر بالديالكتيك الهيغلي عن السيد والعبد. وضمن هذا الشرط تصبح القضايا السياسية العربية مجرد حالات إنسانية لأفراد، يمكن مشاهدتها في المعارض الكثيرة، التي تملأ الدول الغربية، مظهرةً صوراً لأطفال ونساء ورجال معاقين، «يصارعون لأجل الحياة، وتُختصر مشاكل المهاجرين في الدول الغربية بمعاناتهم من العنصرية والتمييز، اللتين يحاربهما اليسار الليبرالي الغربي الأخلاقي منذ عقود.

لا يعني هذا عدم وجود العنصرية، أو انتفاء الحاجة لإظهار المعاناة الإنسانية لسكان المنطقة، لكنّه يؤشّر إلى أن الناشطين العرب لا يمكنهم، في هذا السياق الأيديولوجي، إلا ممارسة التظلّم، وليس السياسة أو الإنتاج الثقافي المتقن. ويمكن مقارنة الفعل الثقافي، لقسم كبير من لجيل الحالي من المهاجرين، بأعمال الكتّاب الجزائريين في ما مضى، مثل كاتب ياسين ومالك حداد، الذين كتبوا باللغة الفرنسية عن قضية تحرر بلادهم، دون أن يسقطوا في التظلّم، رغم كل ما شهدوه من تمييز وأحداث دموية.

تفكيك الائتلافات

استطاع كثير من ثورات الربيع العربي بناء ائتلافات شعبية واسعة، متعددة الفئات والمطالب. وفي حالتي الثورتين التونسية والسودانية، وهما الثورتان الأكثر تطوراً من الناحية السياسية، شمل الائتلاف الثوري مطالب قطاعات واسعة من الطبقة العاملة، المنظّمة نقابياً، أو غير المستقرة (بريكاريا)، إضافة للفئات الوسطى المدينية، ومطالب النساء والطلاب والمثقفين والأقليات، ورغم عدم نجاح هاتين الثورتين في صياغة خطاب سياسي متماسك، والخلافات بين قواهما السياسية، إلا أنهما تمتلكان القدرة على إلهام تجربة الحراك السياسي في العالم العربي، وربما خارجه. إلا أن تعميم تجارب الثورات العربية يصطدم فعلياً بالأيديولوجيا التي بدأت تنتشر بين الناشطين العرب، ليس فقط في الخارج، بل حتى بين من تبقى منهم في الدول العربية. يصعب بناء الائتلافات على أساس أيديولوجيا هوياتية، تظهر فيها كل فئة أو هوية بوصفها ضحية للآخرين، ويطالب ضمنها كثيرون، بناءً على هرمية الضحايا، التي تفترضها تلك الأيديولوجيا، بامتيازات ومساحات آمنة، نظراً لتفوّقهم في المعاناة. هكذا يتحوّل تضامن ثوار الماضي إلى نمط من التلاسن والمعايرة بامتيازات مفترضة. وإذا كان ما يسمى يساراً ليبرالياً في الغرب قد نجح بخلق نوع من العمل المشترك بين هوياته المختلفة، في المواجهة الانتخابية لليمين الشعبوي، فإن هذا العمل لا يرقى لأن يكون ائتلافاً سياسياً، لا من جهة المطالب، ولا من جهة القدرة على بناء التضامن، الذي يفترض مفهوماً معيناً للمساواة والتشابه. وبالطبع لن تعترف أيديولوجيا كهذه بائتلافات سياسية عربية، بل ستقسّم المهاجرين حسب أفضليتهم في «التمكين». وبهذا سيصعب على الفرد أن يتعرّف على نفسه إلا من خلال الأذى، الذي يتعرّض له من محيطه، وما يمكن أن يناله من رعاية وحماية فوقية.

امتياز الكيان الوطني

لا أحد في الدول الغربية يصنّف المهاجرين القادمين من روسيا، على سبيل المثال، «أرثوذوكساً» أو «قوقازيين، بل يُعرفون بـ»الروس» دائماً، على اختلاف توجهاتهم السياسية وأصولهم الإثنية. وهذا يشير إلى وعيٍ بأن هؤلاء المهاجرين قادمون من كيان وطني بالمعنى الحديث، أي الاعتراف بقدرهم على إنشاء المتحدات السياسية، وممارسة العمل السياسي والثقافي. اللافت أن أريحية «اليسار الليبرالي» الغربي في منح الرعاية والتمكين لا تطال غالباً المهاجرين الروس، الذين لا يُطلب منهم عادةً الحديث عن مظالمهم، رغم أن كثيراً منهم يعاني مما يسمى «التهميش، بما فيه من فقر وبطالة وتمييز ومشاكل اجتماعية، ولذلك يبدو وضع الروس أقرب للكرامة بمعناها السياسي.

ربما كان على الناشطين والمثقفين العرب أن يدركوا أنهم يمتلكون تجربة سياسية واجتماعية، تمكّنهم من رفض وصاية اليسار الهوياتي الغربي، وتؤهلهم أن يكونوا فاعلين سياسيين وثقافيين، أينما حلّوا، ما يستلزم رفض الهويات، التي يتم سجنهم فيها، وإبداء السياقاتِ السياسية المعقدة لوجودهم الاجتماعي.

باحث سوري

القدس العربي

 ———————–

حرقوا سورية ولكن أي أسد بقي؟/ أسامة أبو ارشيد

عندما انطلقت الثورة السورية، علا صراخ شبيحة النظام: “الأسد أو نحرق البلد”. اليوم، وبعد عقد، لا بقيت سورية، كما كنا نعرفها، ولا بقي بشار الأسد حاكماً مطلقاً فيها. هي عشرية سوداء دمرت البلاد، وجعلتها تحت وصاية دول عالمية وإقليمية، دع عنك المليشيات الطائفية الأجنبية، والطائفية والإثنية والإجرامية المحلية. لقد تمزّقت سورية وانفرط عقدها الوطني الجامع، وتشتت شعبها بين المقابر والمعتقلات والإخفاء القسري ومخيمات النزوح واللجوء، وعزّز جيشها وأمنها واستخباراتها دورهم المافيويِّ. وهكذا، تحقّق لشبّيحة الأسد بعض ما أرادوه، فهم حرقوا البلد فعلاً، وبقي الأسد، ولكن تحت نعال الروس والإيرانيين والمليشيات الطائفية والإثنية والمافيات.

قد يتساءل بعضهم: ألم يكن من الأشرف للأسد لو أنه تنازل لشعبه قليلاً، بدل هذا الحال البائس الذي انتهى إليه وانتهت إليه بلاده؟ من أسفٍ، يفضّل الأسد، وغيره من طغاة العرب، أن يكونوا بيادق وضيعة في أيدي قوى أجنبية على أن يعطوا اعتباراً لشعوبهم. إنهم لا يرون فينا إلا متاعاً حقيراً لا يستحق الاحترام ولا المبالاة. ولكن، ينسى هؤلاء أن من احتقر ذاته وأهله وقومه، وما بين يديه وما عنده، لن يحترمه الخصوم، وسيعاملونه بما يستحق وما هو له أهل. هذا ما يلقاه الأسد اليوم، إذ يخوض المتنافسون المتصارعون على أرض سورية المفاوضات لتقاسم تركتها في جنيف وأستانة وسوتشي وجنيف وإسطنبول وطهران ونيويورك، لا يأبهون له، ولا يلقون بالاً لتصريحات مسؤولي نظامه.

في الذكرى العاشرة للثورة السورية، يتضح حجم المأساة البشرية الهائلة لإجرام النظام وخبثه ونذالته. حسب تقرير للمنظمة الأممية “يونيسف”، صادر عام 2019، فإن 12 مليون سوري من أصل 19 مليون مواطن بحاجة إلى مساعدات. بين هؤلاء خمسة ملايين طفل. ويبلغ عدد النازحين داخل سورية أكثر من ستة ملايين إنسان، أما اللاجئون خارجها فيقاربون سبعة ملايين شخص. وفي تقرير آخر للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وصل عدد اللاجئين السوريين، حتى يونيو/ حزيران 2020، إلى 6.6 ملايين شخص. أما النازحون داخلياً، فقد وصل عددهم إلى 6.1 ملايين شخص. وفي تقرير ثالث لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، كان 13.4 مليون سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية عام 2020، في حين تصل أعداد ذوي الإعاقة إلى 3.34 ملايين شخص. أما أعداد ضحايا الصراع في سورية، فإن بعض المصادر تقدرّها بحوالي 400 ألف قتيل، في حين أن أعداد المصابين تجاوزت المليونين. الكارثة، أن هناك من يعتبر الأرقام الأخيرة ضئيلة جداً أمام الأرقام الحقيقية.

كل ما سبق، وعلى الرغم من مأساويته، عاجز عن اختزال الوضع الكارثي في سورية. هناك القطاع الصحي المنهار تماماً، والنظام التعليمي المتهالك، وهناك تمزّق في النسيج الوطني، وتفسّخ اجتماعي وطائفي وإثني، وهناك قرابة 130 ألف معتقل في سجون النظام، منهم 85% قيد الإخفاء القسري، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وفوق هذا وذاك، استغلت إسرائيل انشغال سورية بثكل أبنائها ووأد نفسها، فضمّت إليها الجولان، بمباركة أميركية عام 2018، وهي تشن ضربات جوية وصاروخية بشكل متواصل داخل أراضيها، من دون أن تخشى ردّاً من النظام، ولا من إيران وحزب الله المُسْتَهْدَفَيْنِ، غالباً، في تلك الغارات. أما ثالثة الأثافي، فوقوف روسيا على الحياد متفرّجة وإسرائيل تصول وتجول في الأجواء السورية، على الرغم من أن قواتها هناك تملك منظومات الدفاع الجوي أس – 300 وأس – 400 القادرة على ردع المقاتلات الإسرائيلية لو أرادت. المفارقة في كل ما سبق أن ثمَّة من لا يزال يتحدث عن أضلاع حلف الممانعة، وهم يتلقون الصفعات واحدة تلو الأخرى، في حين يتواطأ من يزعمون أنه ظهيره، أي روسيا، في ذلك، على الأقل بدورها السلبي.

سورية الممزّقة أصبحت مطية و”ملطشة” حتى لمن يصفهم النظام بالحلفاء. نحن نعلم أن “الظهير” الروسي يتفنّن في إذلال الأسد، ويكفي أن نذكر هنا كيف يتحدّث المسؤولون الروس عنه باستخفاف، وكيف يعاملونه باحتقار، بل وكيف أنهم استمالوا وحداتٍ عسكرية سورية وأمنية تعمل بإمرتهم لا بإمرته. الشيء نفسه يفعله الإيرانيون، وحتى حزب الله الذي كان يوماً يدين ببعض الولاء للنظام السوري، واليوم أصبح الأخير مرتهنا له إلى حد كبير.

كل هذه الإهانات يتجرّعها الأسد ونظامه وشبيحته يومياً، لأنهم لم يستسيغوا تقديم تنازلاتٍ مشروعةٍ لشعبهم ولمصلحة بلادهم، فكان أن ضاعت سورية، وتحوّل نظام الأسد إلى وكيل تافه لشركاء متشاكسين، وخصوم متنافسين. الأدهى أن السيناريو السوري قابل للتكرار في غير بلد عربي، وبعد ذلك يأتيك من يشكّك في شرعية الثورات، وكأن قدر شعوبنا أن تبقى رهائن للتخلف والفشل والقمع والفقر والفساد والقهر والذل، وفوق ذلك لأنظمةٍ مستعدّة لبيع كل شيء من أجل بقائها، ولو كوكلاء وضيعين عند الأعداء! لو لم تكن هذه هي طبيعة هذه الأنظمة المجرمة لما وصلنا إلى هنا، ولما كنَّا نسير في طريق ثوراتٍ قادمة، عاجلاً أم آجلاً، فبقاء الحال من المُحال.

العربي الجديد

——————————-

سوريا التي تستسلم بلا مقاومة/ ساطع نور الدين

في ذكرى عشريتها الاولى، ما زالت سردية الثورة السورية محكومة بعقدتين واهنتين:تحليل الظاهرة الاسدية، من جهة، وتوصيف جرأة السوريين في تحديها، من جهة أخرى. كأن الزمن توقف عند الايام الاولى للثورة، وكأن الادلة كافية، على أن النظام حالة إستثنائية، أو أن شجاعة المعارضة ظاهرة ثابتة، ما يزيد من صعوبة تفكيك لغز الراهن المحيّر: كيف يمكن ان يتهاوى النظام والمعارضة معاً، ويفقدان في وقت واحد تقريباً شرعيتهما وقدرتهما على البقاء وفرصتهما في أداء دور في المستقبل السوري.

لم يقدم السرد المفصل والموثق، الذي تعرضه المعارضات السورية، هذه الايام، مساهمة في الرد على الأسئلة الأهم: ما الذي يمكن توقعه في العشرية الثانية من عمر الثورة؟ أي نظام؟ أي معارضة؟ أي منفى؟ أي دور للعرب والاجانب في رسم معالم الطريق؟…طالما ان طرفي الحرب، سلما أمرهما الى الغير، وإستسلما للقدر كلياً.

لعبة استدرار الشفقة والعطف، لن تؤتي أي ثمار، حتى ولو دفعها النظام مؤخراً الى حدها الاقصى، عندما أكد أن “سورياه” مهددة بالمجاعة الفعلية، بعدما كانت غارقة في الفقر، وعندما كشف رئيسه أنه مصاب بفيروس كورونا، في تعبير مفاجىء عن نكران الذات والتضحية والمخاطرة.. بعدم تلقي اللقاح الاسرائيلي أو الاماراتي، الذي وصلت كميات منه الى الرئاسة الاولى والقيادة الحاكمة في سوريا.

النداء الذي يوجهه النظام الى العالم، اليوم، ومفاده:”أنقذوا سوريا قبل فوات الاوان”، لم يكن على صلة بالذكرى العاشرة للثورة، ولا بالانتخابات الرئاسية السورية المقررة بعد شهرين. كان النظام يتوسل تدخلاً عربياً ودولياً من نوع جديد، تدخلاً إقتصادياً وإنسانياً، حتى لا يضطر المجتمع الدولي الى إقامة جسور جوية لالقاء مواد الاغاثة الغذائية والطبية على السوريين المقيمين في دمشق وحمص وحماه وحلب.. والذين يمثلون اليوم رهينة النظام وفرصته الاخيرة.

لكنها صرخة اليأس المتأخرة. حتى ولوهبت بعض الدول الخليجية والاوروبية لمثل هذا التدخل الانساني، الذي لن يكفل سد جوع السوريين، فإن النظام يعرف جيداً أنه بلغ نهاية الطريق، التي تستدعي البحث في المرحلة الانتقالية، وما يرافقها من شروط المحاسبة على الجرائم التي لا تغتفر، والتي إرتكبت في العشرية الماضية.. حسب الاجماع المستعاد بين الاميركيين والاوروبيين، والذي جرى التعبير عنه في الايام الماضية بمواقف بالغة الوضوح والدقة.

لم يقرأ النظام تلك المواقف الاميركية والاوروبية الحادة، ولم يأخذها في الاعتبار، كما أساءت المعارضات السورية فهمها وإعتبرتها مكسباً سياسياً مهماً يعوض الخسائر الاخيرة لا سيما على مستوى اجتماعات اللجنة الدستورية المعطلة، وبقية سلال العملية السياسية المعطوبة. كانت واشنطن وبرلين ولندن وحتى باريس تعبر في بياناتها المشتركة لمناسبة العشرية السورية الاولى، عن فتح صفحة جديدة من الصراع مع روسيا، ومع إيران، أكثر مما كانت تعكس تصميماً على إخراج سوريا من النفق المظلم.

يلعب النظام ورقته الاخيرة، بينما تلعب المعارضة ورقتها القديمة، التي راهنت بها على تدخل غربي شبيه بالسيناريو الليبي، الذي لا يزال يحلم به بعض المعارضين السوريين لاسيما بعد النجاح الاخير للتجربة الانتقالية الليبية، التي أنتجت حكومة مؤقتة وموعداً لأول إنتخابات عامة في ليبيا ما بعد القذافي..متناسين أن الاحتلالين الروسي والايراني، اللذين لم تجر مقاومتهما بجدية توازي ما فعلته شعوب كثيرة خضعت للاحتلال، هما أكثر من عقبة في طريق سوريا الجديدة، ومتجاهلين حقيقة أن إدارة الرئيس جو بايدن تستعد للدخول في حرب باردة جديدة مع روسيا، ولن تكون في وارد صفقة مع الرئيس فلاديمير بوتين ولا طبعا مع المرشد الايراني علي خامنئي حول سوريا.

النظام يلعب، ويتلاعب بورقة استدراج العطف، لكن المعارضة ما زالت أسيرة العشرية الاولى، والسردية الاصلية التي لا خلاف عليها، لكنها كانت ولا تزال بحاجة الى أفكار جديدة وأدوات مختلفة لإدارة الصراع السوري، بما يعيد الاعتبار للعامل الداخلي، ويعد بأن تكون العشرية الثانية من الثورة أقل بؤساً من السنوات العشر التي مضت على خراب ودمار سوري، ليس له أثر فعلي على أي طاولة مفاوضات حول سوريا.

المدن

————————

سوريا بعد عشرة أعوام من الحرب في ظل الدعم الإيراني/ هدى رؤوف

تمر هذه الأيام الذكرى العاشرة لاندلاع الحرب في سوريا. والحرب هي نموذج لحروب الوكالة والتدخلات الإقليمية والدولية، مما أسهم في إطالة أمدها بدلاً من إنهائها وإنهاء مأساة السوريين معها. ويعد التدخل الإيراني في هذه الحرب منذ بداياتها نموذجاً ليس للتدخل الإقليمي الذي عقد ديناميكياتها فحسب بل تقدم الاستراتيجية الإيرانية في سوريا على مدار العشر سنوات كنموذج لكيفية خلق حالة تبعية بين نظام سياسي وآخر، بل خلق مجتمع تابع لآخر.

بمعنى أنه حتى لو تم إيجاد حل سياسي للأزمة السورية يتضمن تقليص الوجود الإيراني العسكري فيها، فهذا لا يعني إنهاء  النفوذ الإيراني في الدولة السورية ومجتمعها. فإيران تتبع الاستراتيجية المتعددة الأبعاد ذاتها في كل الدول التي شهدت انهيار النظام السياسي ومؤسسات الدولة، بل تعمل على إعادة تشكيلها على النحو الذي يخلق علاقات صداقة مع نظام سياسي جديد حليف أو خلق نخب جديدة تابعة أو خلق علاقات تأثير أيديولوجي وثقافي مع المجتمع.

فعلى المستوى السياسي والعسكري قدمت الدعم  للرئيس السوري بشار الأسد، الذي تجاوز الدعم اللوجيستي إلى الوجود الميداني لقوات إيرانية و”حزب الله”، بل وتجنيد ميليشيات أجنبية من أفغانستان وباكستان والعراق عمل كثير منها على نقل أسرها إلى المدن التي هجرها السوريون، كما عملت على تأسيس ميليشيات محلية من سوريا كقوات دفاع، والكثير من عناصرها ينتمون إلى السنة ولكن في مقابل مادي نظراً للحرمان الاقتصادي الذي يعانونه.

كما وجدت إيران ميدانياً داخل سوريا عبر قواتها من الحرس الثوري وحرصت على دمج الميليشيات الإيرانية المحلية في جيش بشار الأسد وفروعه الأمنية لمنحها مكانة قانونية في سوريا. وأسست شركات أمنية خاصة بها، وتعمل على دعم ألوية داخل الجيش السوري.

في حين تنفي إيران مشاركتها في القتال بسوريا، وتؤكد أن دعمها نظام الأسد يقتصر على تقديم استشارات لحليفها.

وفي ظل الرفض الدولي والعربي للترسيخ الإيراني في سوريا، والتنافس الروسي والهجمات الجوية الإسرائيلية، اعتمدت طهران بشكل أساسي على توظيف العامل الأيديولوجي، الذي يعد أهم مصادر القوة الناعمة وأدواتها الفكرية، في كل مجالات تأثيرها، إذ لم تتخلَّ عن البعد الأيديولجي وترسيخه في الدول التي تدخلت فيها. فحرصت على تعزيز نفوذها الديني والترويج لولاية الفقيه عبر طرق عدة. فأحياناً تمارس علاقات القوة من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تتغير فيها القواعد والتوجهات القيمية للنخب والمواطنين في الدول التابعة، لتعكس تلك الخاصة بالدولة التي تسعى لفرض نفوذها. ما يجعلها تحقق منافعها بأقل التكاليف من دون استخدام الأداة العسكرية، فيتحقق لها النفوذ من خلال إعادة تشكيل توجهات القيم والوعي بالتدريج، وتتمثل أدوات التنشئة الاجتماعية لتحقيق التبعية والاقناع الأيديولوجي عبر الاتصال بالنخب الموجودة في الدول التابعة أو تشكيل نخب جديدة من خلال القنوات الدبلوماسية والتبادل الثقافي والطلاب الأجانب وخلق رابط أيديولوجي عبر تجديد المزارات والأضرحة. فإيران تتبع سياسة تستهدف التغيير الديموغرافي والثقافي، ليس باستجلاب المقاتلين الشيعة فحسب بل بتجنيد السنة في تلك الميليشيات ودعوتهم إلى التشيع، كما تم بناء العديد من المراكز الثقافية الإيرانية وتجديد المدارس.

هذا التغيير الجغرافي للدولة السورية ذات الغالبية السنية قد يمكن إيران من إدعاء تمثيلها لمصالح الشيعة عند أي تسويات سياسية، مثلما حدث وسعت بعد سقوط صدام حسين لتشكيل نظام طائفي قائم على التمكين السياسي للشيعة.

إضافة إلى ما سبق، لم تتوقف محاولات إيران للسيطرة الاقتصادية وإحياء منتدى الأعمال السوري- الإيراني، وانتشار المشاريع الإيرانية في سوريا.

إن سوريا الآن، بعد مرور عشر سنوات على بدء الأزمة، هي حصيلة توظيف إيران لأدوات القوة الناعمة والمادية لتنفيذ استراتيجية شرق أوسطية ترتكز على محاور رئيسية ثابتة في كلٍّ من سوريا والعراق ولبنان واليمن لتدعيم نفوذها عبر الاعتماد على تأسيس جماعات وتنظيمات غير حكومية مسلحة، وتنفيذ سياسات طائفية في مواجهة الأقليات الدينية، ورفع شعارات مناهضة للولايات المتحدة، وأخيراً التأثير في العملية السياسية داخل تلك البلدان لضمان تشكيل حكومات حليفة وصديقة وتغيير ديموغرافي. كل هذا يجعل التساؤل هل منع تمركزات إيران العسكرية وإخراجها من سوريا، يعني غياب أي تأثيرات أخرى لها في الوقت الذي سيتضمن إنهاء الأزمة السورية وإعادتها إلى الحاضنة العربية؟

العرب

————————–

عشر سنوات على انتفاضة سوريا المطالبة بالديمقراطية: “التغريبة” السوريةـ مسلسل بلا نهاية؟/ خالد سلامة

“أتمنى أن أعيش في أي بلد غير سوريا، بلد فيه أمان ومدارس وألعاب”. حلم للطفلة لارا البالغة السابعة من العمر والنازحة في إدلب في شمال غرب سوريا، عبرت عنه في تقرير لمنظمة “أنقذوا الأطفال” (سيف ذي تشيلدرن) نشر الثلاثاء (التاسع من آذار/مارس 2021).

وخلص التقرير إلى هذه النتيجة: “86 في المئة من الأطفال اللاجئين .. لا يريدون العودة إلى سوريا”، بينما طفل واحد من كل ثلاثة من النازحين داخلها يفضل العيش في بلد آخر.

أرقام وحقائق

لم تبقِ نار الحرب في سوريا ولم تذر وأكلت الأخضر قبل اليابس والبشر والحجر. قضى حوالي 400 ألف شخص، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يواصل احتساب عدد القتلى بعد توقّف المنظمات الدولية عن ذلك منذ فترة طويلة. وأجبر النزاع الدامي نصف عدد سكان سوريا البالغ قرابة 22 مليون إلى مغادرة منازلهم، في أكبر موجة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية.

وفرّ أكثر من خمسة ملايين ونصف مليون سوري خارج البلاد، معظمهم إلى دول الجوار لا سيما تركيا ولبنان والأردن. ثلثهم تقريباً من الأطفال من عمر 11 عاماً وما دون، بحسب إحصاءات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. ونزح في داخل البلد أكثر من 6 ملايين إنسان.

تتضارب الأرقام بين تلك التي تقدمها المفوضية السامية وما تتحدث عنه الحكومات المضيفة. ومرد ذلك إلى سعي بعض الدول إلى الحصول على مساعدات أكبر من الأمم المتحدة ومحاولة أخرى توظيف ملف اللاجئين في سياساتها الداخلية أو الخارجية.

تستضيف تركيا القسم الأكبر من اللاجئين السوريين المسجلين وبواقع ثلاثة ملايين و600 ألف سوري، بحسب المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين. في حين ذكر معهد DeZim الألماني في 30 أيلول/ سبتمبر 2020 أنه “من الواقعية” اعتبار أن عدد اللاجئين يقترب من ثلاثة ملايين سوري.

ولجأ إلى لبنان أكثر من مليون، وفق التقديرات الأممية، بينما تقول الحكومة إن العدد “الفعلي” أكثر من مليون ونصف.

ويعيش نحو 663 ألف لاجئ سوري مسجلين لدى الأمم المتحدة في الأردن، بينما تقدر عمان عدد الذين لجأوا إلى المملكة منذ اندلاع النزاع في سوريا بأكثر من مليون سوري. ويعيش 246 ألف لاجئ سوري في العراق غالبيتهم في كردستان.

وفي مصر يعيش حوالي 130 ألف لاجئ مسجل لدى الأمم المتحدة، بيد أن مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون العربية، المندوب الدائم بجامعة الدول العربية، محمد البدري، قال في أواخر أيار/مايو 2019 إن “العدد الحقيقي يقدر بـ 550 ألف شخص”.

أما في ألمانيا فتحدث المكتب الاتحادي للإحصاء في حزيران/يونيو من عام 2020 عن وجود 790 ألف سوري في نهاية عام 2019، بعد أن كان يعيش في ألمانيا 30 ألف سوري فقط قبل الحرب. ووصل إلى السويد 100 ألف على الأقل.

“شروط” العودة

“من العلامات الكبرى للثورة السورية هي التغريبة التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها. تعرض السوريون لتهجير ممنهج وتغيير ديمغرافي دفع ببعضهم إلى القُطب [الشمالي] في أقاصي الأرض”، كما يرى الباحث والمحلل السياسي خطار أبو دياب في حوار مع دويتشه فيله. وقد دأبت أطراف من المعارضة السورية على الحديث عن “تغيير ديمغرافي” تقوده إيران وحلفاؤها في سوريا، لكن لم يتم تأكيد ذلك من مصادر مستقلة.

ويذهب المحلل السياسي خطار أبو دياب إلى أن العودة تتطلب ثلاثة شروط: “حل سياسي حقيقي بإشراف وضمانات دولية، وإعادة إعمار تقود إلى وضع اقتصادي يؤمن الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، وأن تكون تلك العودة طوعية وآمنة”.

استطاع نظام الرئيس السوري بشار الأسد إعادة بسط سيطرته على أقل من ثلثي مساحة البلاد، لكن المشهد ليس برَّاقاً بالنسبة إليه لدى معاينة خارطة السيادة على حدود البلاد.

ويوضح الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية، فابريس بالانش، في تقرير أن قوات النظام “تسيطر على 15 في المئة فقط من حدود سوريا”، مشيراً إلى أن “الحدود هي رمز السيادة بامتياز”. ويعتبر بالانش أن القوى الخارجية “تقسّم البلاد بشكل غير رسمي إلى مناطق نفوذ متعددة، وتسيطر بشكل أحادي على معظم حدودها”.

الجغرافيا السورية ممزقة بين مناطق يسيطر عليها النظام وأخرى تحت سيطرة الإدارة الذاتية، المتحالفة مع الولايات المتحدة والمسيطر عليها عملياً من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شرق الفرات حيث يقطن حوالي 2.5 مليون شخص، وثالثة تحت النفوذ التركي في غرب الفرات وفي إدلب في شمال غرب البلاد حيث يعيش ما يزيد عن 3 ملايين شخص. وحتى في منطقة سيطرة النظام هناك مناطق تخضع للنفوذ الإيراني وأخرى للروسي.

لا حل في الأفق

وبعدما كانت الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن تشدّد في كل مناسبة على ضرورة تنحي الأسد، انصب اهتمام المجتمع الدولي على التوصل إلى تسوية سياسية من بوابة اللجنة الدستورية التي تضم ممثلين عن الحكومة والمعارضة وعقدت اجتماعات لمدة 18 شهراً في جنيف.

وأملت الأمم المتحدة أن تمهد نتائج عمل اللجنة لوضع دستور جديد تُجرى الانتخابات الرئاسية المرتقبة منتصف عام 2021 على أساسه وبإشرافها، إلا أن موفدها الى سوريا، غير بيدرسن، قال لصحافيين إنّ الاجتماع الأخير كان “فرصة ضائعة” وشكّل “خيبة أمل”. وأقرّ أمام مجلس الأمن “بفشل المسار السياسي”.

وتعمدت دمشق “تقطيع الوقت” خلال اجتماعات اللجنة الدستورية التي وصفها مصدر دبلوماسي غربي لفرانس برس بأنها أشبه بـ”دعابة”.

ومن دون تسوية سياسية تحت سقف الأمم المتحدة، لن تتمكن دمشق من استقطاب المنظمات الدولية والجهات المانحة لدعمها في عملية استنهاض الاقتصاد المنهك وتمويل عمليات إعادة الإعمار، فيما يبدو أن حلفاء دمشق لا يملكون موارد كافية لذلك. وتتفاوت التقديرات بشأن الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، بيد أنها جميعاً تتحدث عن مئات المليارات.

وقدّر تقرير لمنظمة الرؤية العالمية هذا الشهر كلفة الحرب السورية بـ 1.2 تريليون دولار، بينما قدرتها الأمم المتحدة في تقرير صدر في أيلول/سبتمبر 2020 بحوالي 442 مليار دولار.

وضع اقتصادي “كابوسي”

وتشهد سوريا بعد عشر سنوات من الحرب أزمة اقتصادية خانقة فاقمتها تدابير التصدي لوباء كوفيد-19. كذلك زاد الانهيار الاقتصادي المتسارع في لبنان المجاور الوضع سوءاً في سوريا. وقال الخبير الاقتصادي والباحث لدى “تشاتام هاوس”، زكي محشي لوكالة فرانس برس “إن ما يحصل في لبنان يؤثر على الليرة السورية لأنه لبنان يعد أحد أبرز الممرات التي تربط الحكومة السورية بالسوق الخارجية”.

وأشار الخبير الاقتصادي إلى سبب آخر يكمن في اعتماد ورقة نقدية جديدة لفئة خمسة آلاف ليرة في وقت تشهد البلاد شحاً في العملات الصعبة ولا تحسن في أنشطتها الاقتصادية.

ويعاني نحو ستين في المئة من سكان سوريا حالياً، وفق الأمم المتحدة، من انعدام الأمن الغذائي. وخسرت الليرة السورية 98 في المئة من قيمتها خلال عقد من الزمن. وبلغت نسبة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في أنحاء البلاد 33 مرة، مقارنة بمتوسط خمس سنوات قبل الحرب، وفق برنامج الأغذية العالمي. وارتفع ثمن كيس الخبز ذي النوعية الجيدة في مناطق الحكومة 60 ضعفاً منذ اندلاع النزاع.

وفي العاشر من الشهر الجاري مارس / آذار 2021 وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الوضع في الداخل السوري بأنه “كابوس”، ذاهباً إلى أنه “من المستحيل أن ندرك بشكل كامل حجم الدمار في سوريا، لكن شعبها عانى من بعض أسوأ الجرائم التي عرفها العالم هذا القرن. حجم الفظائع يصيب الضمير بالصدمة”.

لجوء جماعي من سوريا إلى تركيا.

نزوح بلا حدود: فرّ أكثر من خمسة ملايين ونصف مليون سوري خارج البلاد، معظمهم إلى دول الجوار لا سيما تركيا ولبنان والأردن. ثلثهم تقريباً من الأطفال من عمر 11 عاماً وما دون، بحسب إحصاءات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. ونزح في داخل البلد أكثر من 6 ملايين إنسان.

أحلام مؤجلة

قبل شهور نقل موقع مجلة “فوكوس” الألمانية عن دانييل ترتسينباخ، العضو في مجلس إدارة وكالة العمل الاتحادية، قوله إن حوالي نصف اللاجئين القادرين على العمل والمتواجدين في ألمانيا، أصبح لديهم عمل ثابت اليوم. من ناحية أخرى وحسب وكالة العمل الألمانية، فإن ألمانيا سجلت نتائج أفضل في دمج اللاجئين في سوق العمل مقارنة بالدول الأخرى. ويشكل السوريون الغالبية العظمى من اللاجئين الذين منحوا حق الحماية والإقامة في ألمانيا.

ونجح غيث ناشد بعد خمس سنوات ونصف من وصوله إلى ألمانيا في وضع قدميه وتثبيتهما في سوق العمل. الشاب ذو الـ 35 عاماً شريك في مؤسسة Singa ومقرها برلين والتي تعمل على مساعدة المهاجرين واللاجئين على تأسيس أعمال وشركات خاصة بهم. ولدى غيث -الذي أمضى سنوات قليلة بعد خروجه من سوريا في السعودية أيضاً- شركة لإعداد الطعام للمناسبات ولتعليب الأغذية.

“لا أفكر بالعودة ضمن الظروف الحالية وبوجود النظام حيث تنعدم أي مساحة للحرية والانفتاح وفي ظل ظروف اقتصادية مزرية”، يقول غيث في تصريح لدويتشه فيله. بيد أن الشاب المنحدر من مدينة حلب لا يستبعد فكرة العودة مشيراً إلى أنه لا ينطلق من مصلحته الشخصية فقط: “آمل أن تتوافر الفرصة لمد جسور بين ألمانيا وسوريا المستقبل وتمتينها لتتاح لي الفرصة لتوظيف خبراتي التي اكتسبتها هنا للمساهمة في إعادة إعمار سوريا والنهوض بها”.

في تقرير لوكالة فرانس برس نشر في العاشر من الشهر الجاري تحت عنوان: “أطفال سوريون لاجئون في تركيا يحلمون ببلدهم الذي لا يعرفونه”، يقول طفل اسمه محمد إنه يريد ذات يوم “العودة” إلى سوريا هو الذي وُلد في تركيا ولم يزر يوماً بلده الأصلي، “لأنها جميلة، أبي وأمي يقولان لي ذلك”.

وفيما ينقل الكبار خصوصاً حب الانتماء إلى الوطن إلى الصغار، تساهم وسائل إعلام موجهة إلى الشتات السوري لا سيما في تركيا، في تغذية هذا الشعور أيضاً.

محمود الوهب البالغ 14 عاما واللاجئ أيضاً يقدم برنامح “بدي ألعب” (أريد أن ألعب) عبر إذاعة روزانا السورية التي لديها مكتب في غازي عنتاب وآخر في باريس.

ويقول في استوديوهات الإذاعة “نحاول أن نزرع هذا الانتماء لكن بطريقة غير مباشرة فنحن لدينا دائماً أخبار عن الأطفال السوريين داخل سوريا ومعلومات عن سوريا وعن الوضع في سوريا وكيف كانت قبل (النزاع) ونتناول حتى اللغة العربية كي لا يفقدوا لغتهم الأم. ويضيف “دائماً نحاول أن ننقل لهم هذه المعلومات حتى يعرفوا أنهم يبقون سوريين حتى لو كانوا في بلد ثان”.

وترى المديرة التنفيذية للإذاعة لينا الشواف أن “ما من أحد يترك بلده وليس لديه حلم بالعودة. هذا الشيء مرتبط بكيف تربيت وأين كبرت وبذكرياتك. … فحتى لو تأقلمنا كسوريين في بلاد اللجوء لكن حلم العودة يبقى”.

خالد سلامةحقوق النشر: دويتشه فيله 2021

 ar.Qantara.de

 —————————

 غسان الجباعي: هل أنتجت الثورة المثقف الفاعل؟

رحاب منى شاكر

غسان الجباعي (م. 1952) مخرج مسرحي وكاتب درامي، وعضو نقابة الفنانين وعضو رابطة الكتاب السوريين. درس في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة تشرين. اشتغل في المسرح كممثل منذ شبابه وحتى سفره للدراسة، حيث حصل عام 1975 على منحة لدراسة الإخراج المسرحي في مدينة كييف، ونال عام 1981 ماجستير في الإخراج المسرحي. درّس في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق مواد التمثيل ومبادئ الإخراج والمختبر المسرحي. وكان عضواً في لجنة قبول الطلبة في قسم التمثيل.

أخرج للمسرح القومي عدداً من المسرحيات، أبرزها جزيرة الماعز عام 1994، من تأليف أغو بتي، كما أخرج للمسرح الوطني الفلسطيني مسرحية الشقيقة التي ألفها بنفسه. صدر له عن وزارة الثقافة أصابع الموز (1994)، ومجموعة ثلاث مسرحيات (1995)، والوحل (1999)، وديوان شعري بعنوان رغوة الكلام (2011)، وبعد الثورة نشر روايات قهوة الجنرال (2014) والمطخ (2018) وقمل العانة (2020)، بالإضافة إلى كتب الثقافة والاستبداد (2015) والفن والثورة السورية (2016) والمسرح في حضرة العتمة (2020). كما شارك في كتابة بعض الأفلام السينمائية، وكتب للتلفزيون عدداً من الأعمال الدرامية والتاريخية، وهو متفرغ حالياً للكتابة.

اعتُقل لأسباب سياسية نهاية عام 1982 وحتى 1991، وخرج من دون محاكمة. مُنِع من التدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية أكثر من مرة، ومُنِع من ممارسة عمله كمخرج مسرحي، وهو ممنوع من السفر حتى تاريخه. وقد تم الحجز على أملاكه عام 2018.

نشر غسان جباعي مؤخراً نصاً في الجمهورية عن ولادات ثلاث للمسرح السوري.

أجرت رحاب منى شاكر هذا الحوار معه، حيث استفادت جزئياً من لقاء نادي القراءة الذي نوقشت فيه مؤخراً رواية قمل العانة، مع جزيل الشكر لجميع المشاركين والمشاركات فيه.

أين كنت قبل 2011 يا غسان، وأين أودت بك دروب الثورة والحرب؟

كنت في دمشق منهمكاً بالمسرح والكتابة للتلفزيون. آخر مسرحية أخرجتُها للمسرح القومي كانت السهروردي، وهي عن شيخ الإشراق الصوفي شهاب الدين السهروردي، أستاذ ابن عربي، الذي حاول أن يفكر فقُتل صبراً، بأمر من السلطان صلاح الدين الأيوبي وتحريض من مشايخ حلب، وقد ألقي في الجب الأحمر داخل قلعة حلب حتى مات من الجوع والعطش. وكان من المقرر أن تُعرض المسرحية في مهرجان حلب عاصمة الثقافة العربية سنة 2006، لكنها مُنعت من العرض في المهرجان، وتم توقيف عرضها في دمشق، لأنها تسيء للسلطان صلاح الدين الذي كان حافظ الأسد يعتبره رمزاً وقدوة. كما كنت أتوق للعودة إلى التدريس في المعهد، لكني مُنعتُ لأسباب أمنية، فتفرّغتُ لكتابة المسلسلات. وقد أنجزت ثلاثة مسلسلات ضخمة هي الحشاشون، وعمر المختار، وشجرة الدر، وكان آخرها البحث عن وليد مسعود للكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، وذلك بتكليف من المركز العربي في عمّان، لكن أياً من هذه المسلسلات لم ير النور حتى الآن.

عندما انفجرت المظاهرات في تونس ثم مصر، كنت واثقاً أن السوريين سوف يتحركون. وحينما عمّت المظاهرات السلمية جميع المحافظات السورية، قلت لزوجتي: لقد انتصرنا! ومع كل ما حدث بعدها من جرائم وخيبات، ما زلت مصراً على أن السوريين اخترقوا جدار الصمت ودمروه إلى الأبد. شاركتُ بالمظاهرات، وتوقفت عن كتابة المسلسلات وإخراج المسرحيات، وتمت دعوتي للتدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية، بعد المنع الوقح، فرفضت أنا هذه المرة، ودُعيت للمشاركة بأكثر من برنامج في التلفزيون السوري فامتنعت، وأصبح النظام بالنسبة لي ساقطاً وغير معترَف به. وهو كذلك حتى الآن.

حافظت بعد خروجك من المعتقل على وتيرة عالية من النشاط في مجال المسرح والكتابة والشعر. ما الذي يغلي في داخلك حتى خرجتْ كل هذه المواهب والفنون؟ هل لهذا علاقة بمقاومة الظلم، أم أنها موهبة ارتبطت بالتاريخ الذي حصل معك؟

في الحقيقة أنا بالأساس لست كاتباً. طفولتي كانت مسرحاً، وشبابي كان مسرحاً، ودرستُ المسرح. ولكن الله يكثّر خير المعتقل، فهو الذي جعلني كاتباً، هو الذي شكّل في داخلي ذاكرة تختلف عن ذاكرة الحياة. وطبعاً، نحن كنا آلاف المعتقلين، ولكل معتقل قصة وروايته الخاصة به. هذا ربما ما جعلني أشعر بمسؤولية أن أتكلم باسم الجميع؛ أن يتحقق الهدف الذي انحبس من أجله الناس: الحرية! لم أكن قادراً أن أقعد، أو أكتفي بالقراءة، أو أكتئب مثلما حصل مع البعض، أو أنكسر. ما قدرت أنكسر. الأمر أشبه بتلميذ يجب أن يكتب وظيفته قبل أن ينام، أردت أن أقول قبل أن أنام إني إنسان، أقول ذلك باسم جميع الذين كافحوا الظلم والعبودية من أجل الحرية، أن أكون صوتهم، وبخاصة أني أمتلك الأدوات. وبما أني مخرج مسرحي، فيمكنني أن أعبّر عن طريق المسرح. كتبتُ داخل السجن مجموعة هائلة من الأشعار والقصص والمسرحيات التي كان من واجبي أن أنشرها بعد خروجي. كنت قد كتبتها على أوراق السجائر، واخترعنا مليون طريقة حتى تمكّنّا من تهريب الأشياء التي كتبناها. ينبغي ألا تبقى هذه الكتابات ضمن الأدراج، وبخاصة أنه كان هناك محيط يدفعني باتجاه النشر. يمكنكِ أن تقولي إنه واجبنا الذي قمنا به.

هل أخرج من السجن وأصمت؟ ماذا يعني ذلك؟ هل أخرج من المعتقل وأصير مع النظام مثلاً؟ ماذا يعني ذلك؟ هل أُجَنّ؟ أجملنا فقدوا توازنهم النفسي وأصيبوا بأمراض وانتحروا، نعرفهم بالأسماء. كم كانوا راقين! كم كانوا إنساناً بالحرف الكبير! أرقُّنا على الإطلاق وأكثرنا حساسية حصل ذلك معه. لذلك أشعر أني ما زلت مقصراً. ثمة أشياء كثيرة لم أقلها بعد. هناك دائماً دافع الكتابة.

ولكن للأسف، لا توجد رواية أو كتاب طُبع لي في سوريا. طبعت لي وزارة الثقافة أصابع الموز والوحل ومجموعة اسمها ثلاث مسرحيات. ولكنهم طلبوا مني أن أحذف المكان: أنت لم تكتب في تدمر، أنت كتبتها في الشانزليزيه، وهذه لم تكتبها في فرع التحقيق الفلاني، وإنما لا أدري في أي مطعم أو مقهى. طلبوا مني أن أحذف الأماكن ليبدو الأمر كما لو أني أتكلم عن كوكب آخر. اعتباراً من قهوة الجنرال لم يُطبع لي أي عمل في سوريا، والذي طُبع لي بقي في المستودعات. حتى إنهم لم يوزعوها على المراكز الثقافية، كما لو أنها مُصادَرة. وهذا حصل مع غيري، ومع كل الشباب الذين كتبوا ولديهم تجربة ضد الاستبداد.

أما بالنسبة للعروض المسرحية، فلم يُصوَّر أي منها للتلفزيون، ولا لمجرّد أرشفتها. يا أخي صوّرها وضعْها في الأرشيف كي نقول أن ثمة مخرجاً مسرحياً عاش في عام ألف وتسعمائة وخشبة وأخرج هذه المسرحية! صوّرها فقط للأرشيف، أنا لا أُطالب بعرضها. هذا ناهيكِ عن المعاناة قبل أن نصل إلى مرحلة العرض: هذا مسموح، وهذا ممنوع، وتآمُر، وسرقة ديكورات. ينبغي أن تكون نظيفاً في مكان وسخ، لا يمكن إلا أن تتلطخ بالأوساخ. مسيرتنا كانت صعبة جداً رغم الإنتاج الغزير، الذي كان سببه ذلك الدافع الكبير الذي اسمه الدفاع عن الحرية. ينبغي أن ندافع كل يوم عن الحرية.

طرحتَ في رواية قمل العانة موقفاً سلبياً من الكتّاب العرب على لسان البطلة، مشيراً أنهم غير قادرين أن يكتبوا شيئاً مفيداً. وبالتالي فهي لا تقرأ للكتاب العرب، وإنما فقط الأدب المترجم. هذه الفكرة خطيرة بتعميمها. هل هذا هو رأي الكاتب أيضاً؟

الحق ليس على الكتّاب العرب، وواضح في الرواية أنهم مقموعون وغير قادرين أن يكونوا شهوداً على عصرهم. بالتأكيد هناك كتّاب حاولوا، ولكني أقول بصراحة أن من بين كل الرموز الموجودة عندنا، كان الجميع مهادناً للنظام. لم يدخل منهم السجون إلا القليل، ولم ينتحر منهم أحد كما حصل في بلدان أخرى.

هذا الموضوع طويل وعريض، ولكن اسمحي لي أن أتطرق لرمز مثل سعد الله ونوس. درس ونّوس في مصر، ورجع بعدها ليستلم بعد سنة أو سنتين مواقع مهمة من قبيل رئاسة مهرجان المسرح الأول في سوريا. وتم إرساله بعدها إلى فرنسا، وبعد عودته بدأ يكتب وينشر. كل شيء كتبه ونوس تم نشره في البعث والثورة والمعرفة والصحف الرسمية، وهو في الوقت نفسه معارض. نحن نعلم أنه معارض. أنا لا أتناوله كشخص على الإطلاق، فهو رمز من رموز الثقافة وأضعه على رأسي من فوق. ولكن لدينا دائماً هذان القطبان: أنت جزء من النظام وضد النظام. ممدوح عدوان مع النظام وضد النظام. الحق في ذلك يقع على الاستبداد.

أنا أيضاً من الناس الذين زوّروا أنفسهم في فترة من الفترات حتى أقدم مسرحية الشقيقة. كُتبتْ مسرحية الشقيقة عن سجن تدمر، عن رفاقي، عن العذابات التي تعذبناها داخل السجن. كنت مضطراً حين طلب المسرح الوطني الفلسطيني تقديم تلك المسرحية. قالوا لي اعملها عن فلسطيني، وليس عن سوري، وحينها سوف تقبلها الرقابة. أنا وافقت، وهذه خيانة من قِبَلي؛ خيانة لقضيتي، خيانة لمشروع الحرية الذي ننادي به. لذلك لا أقدر أن أعمِّم. لا أعرف إن كنت قد عمّمت في روايتي. ولكني أحترم الكتّاب العرب الذين دخلوا السجون، والذين تهمّشوا وبقيت مخطوطاتهم في الأدراج، أو الذين سُمِح بطبع أعمالهم عن طريق وزارة الثقافة، ولكنها وُضِعت في المستودعات ولم توزَّع.

لقد قدّم النظام مثقّفيه. نحن لا نَقدِر بعد الذي حصل في سوريا أن نقول «معليش»، ونشير إلى الظروف. برأيي ادخل السجن من أجل رأيك! معليش، ضحّي من أجل الهدف الكبير! أنت في جميع الأحوال تضحّي بنفسك وعائلتك. يا أخي ضحّي على الأقل بأن ترفع صوتك ضد الاستبداد والظلم والتخلف والمصادرة للثقافة الوطنية. ربما أكون متطرفاً في هذا الرأي، ولكني أعرف أني دفعت الثمن. لا أقول أن الآخرين يجب أن يفعلوا مثلي، لكل إنسان ظروفه طبعاً. عدد كبير من الكتاب اختاروا أن يهربوا من البلد، وعدد كبير من الكتاب هادنوا النظام ونشروا واشتغلوا سينما ومسرحاً تحت رقابته. ولكنها كانت في واقع الأمر فنوناً مزورة: احذف هذا، أضف هذا، هذا مسموح وهذا ممنوع، ناهيكِ عن الفساد والسرقات. وفي النهاية تكون النتيجة فيلماً مسحوباً خيرُه، أو «من دون ذخر» كما يقول أهلنا في السويداء. لو كان لدينا مثقفون وقفوا ضد النظام كما يجب أن يكون، لربما ما وصلنا إلى هنا. أو على الأقل ليس بهذه الطريقة. على الأقل كان لدينا ضمير عام في سوريا لا يسمح لهذا الشيء أن يمرّ بتلك البساطة، ويتدمر البلد والزرع والضرع والبشر. بكل بساطة: كيف تجرأ النظام على ذلك؟ «يا فرعون من فرعنك؟». نحن الذين فرعنّاه للأسف!

من الصعب أن تكتب عن حدث تظهر نتائجه شيئاً فشيئاً، حتى ولو كان مستمراً على مدى عشر سنوات كما هي الثورة والحرب في سوريا. لقد لعبتَ لعبة ذكية على البناء التقني للرواية؛ أنقذت الرواية من راهنية الحدث. كانت الرواية مليئة بالمفاجآت، والأحداث كثيفة، وفيها تحولات. كيف استطعت أن تصنع هذه الخلطة بين الظاهر والباطن، والرواية داخل الرواية، والشخصية التي تنافس الكاتب بالكتابة إلى درجة لم نعد نعرف من يكتب من؟

أنا منذ البداية مع الحداثة والتجديد. أنا غير قادر أن أكتب عملين متشابهين. وأرى أنه يجب أن نكتب بشكل مختلف كلياً منذ ذلك الحدث الذي أصاب سوريا. نحن سنختلف، ولم نعد قادرين أن نكتب مثل حنا مينا أو زكريا تامر على سبيل المثال. الحدث سبّب انقلاباً كاملاً لي: بالذائقة، بقراءاتي، وبالمفاهيم التي كنا نعرفها، وكل شيء من الناحية الفكرية والجمالية.

بدأت الحداثة في أوروبا بعد الحربين العالميتين، حيث كفرت الناس بالذي كان سابقاً وبدأت تطرح الأسئلة. أنا مستبشر وأنظّر بأن هذا سوف يحصل في سوريا. ولقد بدأنا شيئاً فشيئاً نرى شعراً جديداً وقصة جديدة ومسرحاً جديداً، وبشكل خاص سينما مختلفة عن كل ما تعلمناه في السابق وانفرض علينا في سوريا. أن تكتب تحت راية الاستبداد يختلف برأيي عن أن تكتب وأنت حر. وهذا ما جرّبه الكتاب الذين خرجوا من سوريا. نرى أن كتاباتهم مختلفة تماماً.

ما الفرق؟ أنا لم أفهم أين وجدت الفرق في كتاباتهم، لأني لا أعتقد أنهم يصبحون أحراراً بمجرد خروجهم من حدود سوريا. غالباً يحملون قيودهم معهم. أخبرني أين وجدت الفرق كي أنتبه في المستقبل؟

قرأتُ منذ فترة مسرحيتين لا تشبهان إطلاقاً المسرح السوري بالتقنية والزاوية والنظرة إلى الشخصيات والبنية. في المهجر يتغير أهم شرط من شروط الإبداع، وهو مناخ الحرية، أي حرية التعبير والنشر والنقد الموضوعي والحوار مع الجمهور والبنية التحية المناسبة للثقافة. وهذا ما يفتقده المبدع الحر في سوريا. كما أن للهجرة والتهجير شجوناً وأشواقاً وعواطف إنسانية تنشّط الذاكرة وتُعيد صياغتها، واكتشاف جمالياتها ومعانيها، ناهيك عن اكتساب لغات جديدة والاطلاع على ثقافات جديدة، والعيش في بيئة صديقة للفن والإبداع. ثم إن هذه الظروف تمنح المبدع الموهوب فرصة ذهبية للانفتاح على الآخر والتطور والتغيّر، سواء شاء أم أبى. لذلك، قالت العرب: ارحلوا تتجددوا!

أعطني مثالاً واحداً.

هناك أمثلة كثيرة. في الشعر مثلاً: محمد زادة، سوزان علي؛ وفي المسرح: محمد آل رشي، رأفت الزاقوت، نوار بلبل، رمزي شقير، عمر الجباعي؛ أما في القصة وكتابة المسرح: روعة سنبل، كاتبة القصة الحديثة المدهشة، التي قرأتُ لها نصين مسرحيين هامين جداً هما نقيق وحارسة الحكايات، وهما مختلفان كلياً عما عرفناه في المسرح السوري، ويمكن أن نضيف مسرحية كحل عربي لسوزان علي، التي تعيش في دمشق، وقد حصلتْ على الجائزة الأولى في مهرجان قرطاج المسرحي سنة 2019، بينما رفض النظام السماح لها بعرض مسرحيتها في مسارح دمشق، فعرضتْها في أحد بيوت باب توما. وكذلك عمر الجباعي في عديد من نصوصه وعروضه المسرحية الفقيرة الساخرة، والتي تقوم على التجريب والمغامرة. أما مصطفى تاج الدين الموسى، فهو مثال واضح يبشّر بولادة جديدة للقصة السورية بعد الثورة. ويمكننا أن نتحدث طويلاً عن السينما السورية الجديدة، وبخاصة الفيلم الوثائقي الذي كاد يكون معدوماً فيما سبق، وبدأ – عملياً – مع الثورة من خلال التصوير بالهواتف الذكية. وثمة أسماء شابة كثيرة لم تكن معروفة من قبل حصلت على جوائز هامة في الإخراج والتصوير والتمثيل، مثل إياس مقداد، غطفان غنوم، عروة مقداد، فراس فياض، الفوز طنجور، غيفارا نمر، ووعد الخطيب، المصورة والمخرجة التي حصدت أكثر من خمسين جائزة على فيلمها الوثائقي من أجل سما الذي رُشح لجائزة الأوسكار. وغيرهم الكثير من المبدعين/ات السوريين/ات الشباب.

ولكن كيف نمتلك أدوات الحداثة؟

واحدة من أهم أدوات امتلاك الحداثة هي نفض الرأس من كل شيء قرأتُه. أريد أن أكتب شيئاً مختلفاً عن كل شيء قرأته. لذلك قلت منذ البداية أن لدي استعداداً للحداثة منذ طفولتي. والآن بعد الذي حصل في سوريا، صار هناك إعادة نظر في كل شيء سابق. لا يعني إلغاءه أو تقزيمه، ولا يعني شكراً على رواياتكم التي كتبتموها. كتبتَ يا سعد الله ونوس مسرحاً وقدّمتَ شخصيات ليس لها علاقة لا باللحم ولا بالدم. يبدو أنه لم يكن ممكناً أكثر مما كان. نحن نريد أن نُعيد النظر بهذا الميراث، نريد أن نفكر بطريقة جديدة. من الناحية التقنية، أنا غير قادر أن أكتب عملاً يشبه الآخر. روايتي قهوة الجنرال التي تدور حول العوالم ذاتها تقريباً، إلا أنها مختلفة تماماً عن قمل العانة. بالنسبة للأخيرة كان هناك صدفة حسنة: زوجة جنرال ممنوع عليها أن تتكلم، وإلا قُصّ رأسها، لأنها مرتبطة بجهاز أمني. لذلك كانت تحتاج إلى وسيط كالخيال والتكاذب. مرة تقول إنها وحيدة، ومرة تقول إن لها أخاً، ومرة تقول إن لها أختاً. هي تقدم روايتها بواسطة رجل، غير أنها تجاوزته، وراحت تملي عليه كيف يكتب. أعتز بتلك الرواية، وأعتبرها إنجازاً حداثوياً يختلف عن كل شيء قرأته سابقاً أو هكذا أدعي. برأيي يجب أن نكتب شيئاً آخر مختلف.

إلى أي درجة أثّر تكوينك المسرحي على كتابة الرواية؟

كثيراً، ولكني لا أفصل كثيراً بين الفنون. ذلك أن المسرح تأثر بالفنون التشكيلية والسينما والرقص والغناء. كما أن الرواية تأثرت بالمسرح والسينما. أنا تكويني مسرحي. العظمة في المسرح هي أنه يعلّمك معنى الدراما، وبناء الشخصيات، والاختصار، والاختزال إلى أبعد الحدود. لا يوجد أي شيء زائد في المسرح. هذا لعب دوراً في روايتي، التي كان من الممكن أن تصل إلى خمسمائة صفحة في حال توسّعتُ في سرد تواريخ الشخصيات. أعتقد أن الاختصار في روايتي جاء من المسرح، ناهيكِ عن أن القارئ يشاركني، لا بل يجلس أمامي. هذه الظاهرة في الرواية، أي أن يكون القارئ معك، يكمّل عنك ويضيف ويحذف، هذه الظاهرة تكسر الجدار الرابع في المسرح، ولكنها انتقلت إلى الرواية. والأهم من ذلك المشاهد التي تتحول إلى مسرح. بشكل عام يتأثر الكاتب بكل شيء من حوله، فما بالكِ بالفنون.

تمرّ سوريا بمرحلة فاض فيها الواقع على الخيال أو الكذب الخيالي والفني، حتى صار يكفي أن ترصد الواقع لتصل إلى مستوى وصف يفوق الخيال. أما في كتاباتك، فالخيال يتجاوز نفسه. روايتك قهوة الجنرال كان حاملها الأساسي هو المسرح، ورواية المطخ كان حاملها الأساسي هو السينما. بينما الفن التشكيلي كان الحامل الأساسي لرواية قمل العانة. هل المزج بين الفنون هو الذي يفتح أفق الخيال في أعمالك، مزجك بين الكتابة والمسرح والسينما والفنون التشكيلية، ليصبح الخيال أوسع وأرحب من الخيال العادي؟

الخيال هو أساس أي إبداع على الإطلاق. لا يمكنك إعادة إنتاج هذا الواقع إلا عبر تخيُّله. حتى مسألة أن تبتدع شيئاً من الصعب أن يتواجد في الواقع، هذا يحتاج إلى الخيال. كتابة عمل خيالي شيء، أما أن يكون الخيال هو أساس العمل الإبداعي أو القصصي أو الروائي فهذا شيء آخر. الخيال هو الذي يعطيك مفاتيح الأحداث القادمة أو انحرافها أو تضخيمها، وهو ليس غاية بحد ذاتها، ولكنه يساعدك على تصور أو تخيل الأحداث وإضافة عناصر إليها. من هذا المنطلق، أنا غذائي هو الخيال. حتى حين تكتب القصة الواقعية، تحتاج لتخيل عناصر تدعم الواقع. لا يمكننا رسم الواقع كما بالكاميرا، فأنا أحتاج إلى ترتيبه وأن أختار منه. وهذا ينطبق بالدرجة نفسها على المسرح، لأنك تبني عملاً. يمكنك أن تأتي بشحاذ وتضعه على المسرح، ولكن حين تُلبسه قبعة الجنرال، وتُحمّله عصا الجنرال، وتجعله يقدم قبّعته للناس ليضعوا النقود فيها، عندئذ سوف يزداد المشهد جمالية. الخيال يضفي معنى وجمالية.

بعض القراء لم يتمكنوا من قراءة رواية قمل العانة لأنهم وجدوها قاسية، ما رأيك؟

هذا الكلام مهم جداً ومفاجئ. نعم، صحيح، ولكن هذه هي الحياة في بلدنا. لعل الذي حصل في سوريا أكبر بكثير وأكثر إيلاماً وقذارة من الذي ذكرتُه في الرواية. نعم هي رواية قاسية، ولكن إذا أخذنا فكرة التراجيديا أو التطهير أو أن نُطلّ على هذه العذابات كي نعبر عنها. حين قرأ بوشكين الأرواح الميتة لغوغول، قال: يا إلهي كم هي بائسة روسيا! هو كان يتكلم عن الفلاحين والإقطاعيين الذين كانوا يشترون الأصوات حتى ينجحوا في مجلس «الدوما». كان يتكلم عن الذل الذي يعيشه الفلاحون، مع أنه لم يكن هناك شيء يدعو إلى الأسى. وعذراً من بوشكين: يا إلهي كم هي بائسة سوريا! لا يوجد بلد في العالم، أو في تاريخ البشرية، حصل فيه الذي حصل في سوريا. ياريت لدينا استبداد، لأن الاستبداد عنده على الأقل شرف، وقليل من الأخلاق. أما أن تكون منفلتاً إلى هذه الدرجة؟! الرواية لا تنكتب إلا بهذه الطريقة. لا يمكنني تجميل الواقع، ولكن بالوقت نفسه لا يمكنني تيئيس الناس، أو بالأحرى هذا ليس من طبعي. أنا متفائل بطبعي. لذلك اختلطت المأساة مع الإرادة. فبعد أن اكتشفت المرأة مدى حجم مأساتها، واكتشفت قمل العانة، قررت أن تلبس بنطال جينز وخفّافة وترحل إلى الغوطة، وفي النهاية خاطبتْنا من فرنسا. أعتقد أن السجون التي عانينا منها في الثمانينات كانت سبع نجوم مقارنة مع السجون التي يعاني منها الناس حالياً.

إلى أي مدى كان مسرح القسوة عند أرتو له تأثير من الناحية التقنية على كتابتك لرواية قمل العانة؟ طبعاً القسوة والعنف والدمار الشامل واللامعقول الذي حصل في بلدنا فرضوا أنفسهم على الرواية. ولكن إلى أي درجة استفدت من تقنية مسرح القسوة في مقاربة هكذا موضوعات، سواء بالوعي أو اللاوعي؟

لا بالوعي ولا باللاوعي. القسوة الموجودة في مسرح أرتو مبنية على شيء مختلف كلياً. مبنية على الأساس النفسي الذي له علاقة بالمازوخية أحياناً. هو يرى أن عرض القسوة عبارة عن تفريغ طاقة. في رأيه الحياة بمنتهى القسوة، والقسوة التي يتكلم عنها تأتي بالمعنى النفسي والفلسفي. وهذا مختلف كلياً عما عانيناه نحن من قسوة. القسوة التي يقصدها أرتو نابعة من الذات، أما ما نعاني منه فهو نابع من نظام قاسٍ إلى أبعد الحدود. مارس القسوة حتى يصدم الناس ويجعلهم يمارسون القسوة بأنفسهم. مسرح أرتو يشكل اتجاهاً في نبش الرغبات الدفينة عند الإنسان. الإنسان بطبعه وحش مثلاً، ويحاول أرتو أن يُخرج العنف الكامن في داخله. أرى أننا هنا أمام ضرب من المثاقفة. أنا لست ضدها في المسرح، ويحق لها أن تعيش مثل الاتجاهات الأخرى في المسرح، ولكني لا أتبناها إطلاقاً، حتى أني لا أعتبرها ترتقي لمستوى الفن الحقيقي. الشيء نفسه ينسحب على القول إن الإيروس هو أساس المسرح، وأن المسرح يجب أن يكون فيه رغبات جنسية يعبر عنها بشكل واضح، وأحياناً فاضح.

أنا أتكلم عن صراع القسوة مع الآخر، أما عند أرتو فتنبع الصراعات عن دوافع دفينة. هكذا أفهم مسرح أرتو الذي كان رداً على كل ما كان سائداً ما قبل عصره، ما قبل الحربين العالميتين. حتى أن أرتو ردّ على الكلاسيكيين من أمثال ستانسلافسكي وحتى بريخت. في رأيه الحياة لا يوجد فيها سوى القسوة والألم، هذا هو جوهر وجود الإنسان. الإنسان يتألم، والحياة هي أن تدافع عن نفسك. هذه فلسفة تُشوّه قسوة الاستبداد. العنف الذي مورس في سوريا، لا أرتو ولا الذي أكبر من أرتو فكّر فيه. يتكلم أرتو عن الإنسان الضعيف والمضطهد. من حق النقد أن يلتفت إلى هذه النقطة، ولكن حتى في المسرح ليس لدي استعداد أن أدخل بتلك المتاهة التي اسمها مسرح القسوة.

أذكر أن الكاتبة أليف شافاق قالت مؤخراً ما معناه أن هذا العصر هو عصر الرواية، وأن أي شيء آخر لن يستطيع أن يعبّر عن المعاناة التي نمر بها حالياً كما الرواية والأدب. هل توافقها الرأي؟

بالتأكيد. جميعنا ندرك مدى أهمية الثقافة، سواء كانت أدباً أم مسرحاً أم سينما. كثيرون يقولون الرواية الرواية الرواية، ولكني أعتقد ليست فقط الرواية. جميع مناحي الحياة تلعب دوراً ببناء الوعي، سواء كانت قصة أو مسرح أو سينما أو أي شكل من أشكال الفنون. نحن كسوريين بأمس الحاجة إلى الفن، وبشكل خاص إلى الفن غير المتحزب. راح زمن الفن الأيديولوجي. الجمال والفن بكل أنواعه هو المنقذ، لأنه لا يمكن أن يكون إرهابياً أو غير وطني، لا يمكن إلا أن يكون إنسانياً. وظيفته هي الدفاع عن القيم العليا للبشرية، والتي تجسدت بحقوق الإنسان في القرن العشرين. الفن يدافع عن الحرية والعدالة والجمال، والإنسان السويّ يلتفّ حول هذه المطالب التي ضحّت البشرية لأجلها حتى صارت حقوقاً مكتسبة لها. لا أتصور أن هناك رواية تدعو إلى الاعتقال أو القتل أو الظلم. بطبيعته الفن يحمل هذه القيم العظيمة التي يمكن لجميع السوريين الأسوياء الالتفاف حولها. من هذا المنطلق لا الحزب يُنقذ، ولا الدستور يُنقذ، ولا سقوط النظام يُنقذ. كل هذه التعابير نافلة ومُعيقة. ولكن بناء الشخصية أو بناء الشعب السوري لا يتم إلا إذا تمّ جانبه المعنوي أيضاً. حين تكون مع العدالة، ومع الحرية، وضد قتل البشر والتعصب، هذا هو الذي يبنينا. كذلك ألا تكون منعزلاً أو طائفياً أو أيديولوجياً بالمعنى الذي عرفناه سابقاً. من هذا المنطلق، نعم، الرواية تصنع هذه المعجزة. الرواية توقف الحرب، ولكننا نعلم جميعاً أن الثقافة والفن ديمقراطيان جداً، ولا يفرضان نفسَيهما على أحد. يقدّمان نفسيهما قائلين: هذا الذي عندنا! ليس لديهما سلاح، ولا مخابرات، ولا وسائل ضغط على الإطلاق. هذه هي القوة الناعمة للثقافة التي تتغلغل إلى النفس البشرية. لذلك يذكر الشباب المعتقل في الثمانينات كيف كنا نغني، يعني فن: «طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة!» وهكذا تتذكر أنك إنسان، إنسان جميل!

لم تغنّوا فقط، بل صنعتم مسرحاً كذلك، وقد كتبت عن ذلك في كتابك المسرح في حضرة العتمة الذي جاءت أهميته من ارتكاز النظري على التجربة العملية. لحسن حظ رفاقك في السجن أن كان بينهم مخرج مسرحي. ماذا تروي لنا عن تلك التجربة؟ ما الذي يميزها؟ وهل أضافت لك على الصعيد الشخصي والمهني؟

عندما كنا في معتقل تدمر، لم يكن حتى التفكير بالمسرح معقولاً. لم يكن ثمة مكان، ولا جمهور، ولا ممثل واحد، والمسرح مكان وجمهور وممثلون. كان الخوف والموت والتعذيب هو المسيطر (ولا مسرح مع الخوف والموت والألم). بعد نقلنا إلى معتقل صيدنايا، ولقائنا بمجموعة من شباب حزب العمل واللجان الشعبية وغيرها، دبّت فينا روح جديدة.

مسرحية العنبر رقم 6 جاءت بعد مُضيّ تسع سنوات تقريباً من الاعتقال. كان لنا شرف تدشين سجن صيدنايا العسكري سنة 1987، على ما أذكر. وكان ذلك – بالقياس إلى سجن تدمر – بمثابة إخلاء سبيل. فهو سجن حديث نظيف، مكوَّن من ثلاث طبقات، على شكل مروحة أو إشارة مرسيدس، لكنه من الداخل أشبه بالمتاهة، أو غابة مليئة بالأقفاص والسلالم والأبواب الحديدية، له ساحة كبيرة جداً في وسطها درج لولبي يقود إلى الطبقات العليا، مُسيَّج بشبك حديد دائري، وباب رئيسي يُقفَل بالسلاسل فوق المزلاج. هناك تحول السجن إلى مركز ثقافي، حيث جمعنا من خلال الزيارات عدداً كبيراً من أهم المؤلفات، وحوّلْنا أحد المهاجع إلى مكتبة عامة. وهناك ترجمنا الكتب، وكتبنا الأشعار والقصص والروايات، وأقمنا الأمسيات والمحاضرات. وهناك قمت بأول تجربة مسرحية بعد تخرُّجي. فما إن جمعونا مع حزب العمل الشيوعي في جناح واحد، وكان جلّهم من الشباب المتّقدين حماسةً وحيويةً، حتى دبّت فينا الروح من جديد، فقرّرتُ أن أحقق حلماً مسرحياً قديماً، كنت قد قمتُ بإعداده عن قصة للكاتب الروسي أنطون تشيخوف هي العنبر رقم 6.

اخترنا كل من كان يملك ولو موهبة قليلة في التمثيل، وبدأنا التدريبات سراً، في أحد المهاجع التي تبرع نزلاؤها بالتخلي عنها، لمدة ثلاث ساعات يومياً، وكانت تلك تضحية كبيرة. لكن التحدي الأكبر أمامنا كان تصميم العرض والديكور المناسب للظروف التي نعيشها، وكيف يمكن أن نقدم عرضاً مسرحياً في مهجع لا تتجاوز مساحته 30 متراً مربعاً. أين سيمثل الممثلون؟ أين يجلس المشاهدون!؟ واخترعنا تصاميم وحلولاً غريبة عجيبة، كأن يتحول الممثل، عند الحاجة، إلى طاولة أو كرسي، وأن تُثبَّت المخدات على الجدار وينام سكان العنبر 6 وقوفاً لكسب المساحة المتبقية، وأن نجدل الحبال ونثبّتها بين السطح والأرض لتتحول إلى قضبان حديدية، نفكّها ونركبها حسب المشهد. كما قررنا أن نعتمد في الإضاءة الشاحبة على الشموع خلف الأقنعة، وأن يحضر العرض كل مرة عشرة أشخاص فقط، ويكون الحضور وقوفاً وأداء الممثلين همساً تقريباً، كي لا يسمعنا الحراس. كنت متردداً في البداية، وكان المحرض الأكبر لهذه التجربة صديقي الكاتب والصحفي علي الكردي، الذي كانت له تجارب سابقة مع بدر زكريا ورفاقه، قبل لقائنا. قمت بإعداد النص وقام أحدنا بنسخ عدد من النسخ بخطه الجميل، وبدأ آخر بتأليف الموسيقى على عود صنعناه من «بيدون» ماء بلاستيكي وأوتار من النايلون، وقام الفنان التشكيلي طلال أبو دان برسم تصوُّراته للشخصيات بقلم الرصاص. وما زلت حتى الآن، لحسن الحظ، أحتفظ بنسخة من النص، ومن تلك التصاميم والتصورات التي رسمتها للعرض.

أصبحتْ مسرحيتنا حديث الجميع، وكانت التجربة ماتعة لدرجة أننا تمنَّينا ألا يصدر قرار بإخلاء سبيلنا قبل عرض المسرحية. وبدأنا نبحث عن مهجع مناسب للعرض، فوقع خيارنا على المهجع المخصص للمكتبة الذي لم يكن فيه غير شخص واحد هو أبو رباب المسؤول عنها. كان أبو رباب من أولئك الشيوعيين المخلصين في عملهم، أبيض الشعر وأشقر الوجه، وقد حاولنا إقناعة بشتى الطرق لكنه رفض بعناد مغادرة المهجع، معتبراً المكتبة أهم من المسرح. ولم يبقَ أمامنا إلا أن نضمه إلى فريق العمل ليصبح واحداً من سكان العنبر. لكن العرض مع ذلك لم يتم، لأن إدارة السجن قررت فجأة فصلنا عن بعضنا بجدار إسمنتي، لسبب ما.. مثلما اعتُقلنا لسبب ما أيضاً.

تتحدث في كتابك الثقافة والاستبداد عن ثلاثة أنواع من المثقفين، حسب موقفهم من الاستبداد والمجتمع. لدينا المثقف النخبوي المثالي، والمثقف الانتهازي، والمثقف الحقيقي القادر أن يكون فاعلاً في التغيير ومساهماً في خلق الهوية الثقافية للمجتمع وتطويرها. كيف ترى المشهد الثقافي السوري العام المناهض للنظام؟ هل تعتقد أن الثورة أنتجت ذلك النوع من المثقف/ة الحقيقي/ة القادر/ة على إعلاء صوت الضمير الحي والقيم الإنسانية، السامية على المصالح الآنية والصراعات البينية والعنصرية والذكورية؟ وإذا كان جوابك سلبياً، أين يكمن التقصير برأيك؟

انتشرت في العقد الأخير كثير من مراكز البحوث والمجلات المحكمة ودور النشر والصحف الرصينة والمجتمعات المدنية، وبدأ السؤال النقدي يفرض وجوده على عقولنا، ويطالبنا بإعادة النظر ومراجعة مواقفنا ومفاهيمنا السابقة. وقد لعب المهجَّرون دوراً لافتاً في ذلك. وهذا كله جيد، لكن الفجوة بين الثقافة وأهلنا، ما زالت كبيرة للأسف. لقد تركت قرون طويلة من الاستبداد والاستعمار والتخلف والأمية ندوباً عميقة في نفوسنا وعقولنا، وهو ما تجذَّر أكثر في ظل حكم العسكر والنظام الشمولي الذي استعمر بلدنا – عملياً – منذ الإنقلاب العسكري الأول، فكرّس أجيالاً من الخائفين والخانعين والمراوغين والثقافة الزائفة.

نحن بحاجة ماسة اليوم لثورة ثقافية ديمقراطية شاملة، تواكب ثورتنا السياسية، وتمشي أمامها، وليس خلفها أو إلى جوارها. بحاجة لمثقفين حقيقيين منتجين للفكر والمعرفة، ليس في مجال الإبداع الفني والأدبي وصناعة الكتب فحسب، بل في مجالات الحياة كلها، وبخاصة الفكرية والنقدية والبحثية. فالنخبة السورية – للأسف – ما زالت تشبه النظام القديم وتحمل جيناتِه، وقد تمكن نظام البعث إلى حد كبير من خلط الأنواع الثلاثة التي ذكرتُها في كتابي، ولم يُبقِ إلا على نوع واحد هو المثقف الانتهازي، أو في أفضل الحالات المثقف الدبلوماسي الذي يعرف كيف ومن أين تؤكل الكتف! ولم يَسلم من هذا الاختلاط غير عدد قليل يحاول جاهداً إعادة الروح للثقافة السورية العميقة وهويتها الوطنية. وعلينا بدورنا ألا نخلط الثقافة بالسياسة، أو الأيديولوجيا بالإبداع، على الرغم من الوشائج التي تربط بينها.

كذلك نحن بحاجة ماسّة لبناء مؤسسات تُنظّم وتُوجّه العمل الثقافي، وتُدرّبنا على بناء المؤسسات المنشودة. ويجب أن يبدأ ذلك في أي مكان يتواجد فيه السوريون، وبخاصة في المهجر. عدم قيام هذه المؤسسات سوف يلعب دوراً سلبياً جداً في إثبات الذات، وبَعثرة الجهود، ويحرم السوريين من الإعلان عن أنفسهم وتنظيم عملهم، والدفاع عن إنجازاتهم وإشهارها، كما يحرمهم من الفعالية والتخطيط والتطور.

نحن بانتظار ثقافة حقيقية أصيلة، ومثقفين عضويين يولدون من رحم المأساة السورية، وعندما نقول ثقافة حقيقية، فهذا يعني أنها تأسيسية، ومنفتحة على ثقافات العالم، غير حزبية أو فئوية أو طائفية أو قومية أو دينية أو ذاتية، إنما ثقافة وطنية ديمقراطية شاملة، تتناول هموم حياتنا كلها، وتدافع عن القيم العليا للسوريين أولاً، والبشرية جمعاء.

إذا حاولنا أن نبحث في مشروعك الفكري، سنجد أنه يهتم بشكل أساسي بدراسة علاقة الثقافة والفن بالرقابة والسلطة والاستبداد. وقد كتبت عن ذلك في كتبك المسرح في حضرة العتمة والثقافة والاستبداد والفن والثورة السورية. تعتبر أن جوهر الفن هو النقاش، أما المسرح فهو أول حلقة ديمقراطية أوجدتها البشرية كي تناقش شؤونها البشرية. الحرية هي الكلمة المفتاحية لديك. هل تعتقد أن سلاحنا الأول صار هو الثقافة والفن، بعد أن خسرنا الثورة عسكرياً وحتى سياسياً؟ وماذا يتطلب ذلك منا كي ننتصر وتتحقق نبوءتك في آذار 2011 أخيراً؟

ليست كتبي ومسرحياتي هي وحدها التي تدعو إلى ثقافة وطنية ديمقراطية وفن جميل وأصيل، بل حياتي كلها كانت وما زالت مكرسة لهذا الهدف. نحن نعلم أن الفن، والثقافة بعامة، لا تستطيع وحدها اجتراح المعجزات! آمنّا بذلك عندما كنا صغاراً، وكنا نظن أن قصيدة الشعر يمكن أن تغيّر الكون، وأن المثقفين يستطيعون أن يقودوا العالم، لكن التجربة أثبتت أن ذلك محض هراء، وبخاصة في حضرة الاستبداد والشمولية التي ابتُلينا بها، والمعادية والمزوِّرة للثقافة الوطنية، والعاملة على مسح الذاكرة، وتخريب الذائقة الجمالية، والحس الإنساني، واستبدال ثقافة الحرية بالعبودية، والأصالة بالسخافة والتفاهة والابتذال، والجمال بالبشاعة، والوطن بالمزرعة، والشعب بالقطيع، وسيادة القانون بسيادة الخارجين عن القانون.

لكن المثقفين الحقيقيين لا يستسلمون. والثقافة تحفر ببطء، وتترسّخ عميقاً في الوجدان، وتتحول إلى إيمان بالقيم العليا للبشرية. ثم إن قضية الثقافة محقة وعادلة، لأنها تدافع عن حقوق الناس في الحرية والعدل والخير والجمال، وهي لا تتسلح بالبنادق والحواجز، بل بالعلم والمعرفة والحب والجمال والديمقراطية. لقد علّمنا التاريخ أن الثورة المسلحة تتبادل الأدوار مع الاستبداد المدجَّج بالسلاح، وهي تستخدم العنف والكراهية والثأر، ولا تُنتج غير استبداد جديد، واستبدال طاغية بأخرى. من هنا تأتي أهمية الثقافة للثورة السورية. سيكون الهدف بعيد المنال طبعاً، وقد يحتاج إلى أكثر من جيل لتحقيقه، كما حدث في ثورات الشعوب التي سبقتنا، والتي انتصرت بعد عشرات السنين.

موقع الجمهورية

——————————

القانون الذي يجهله السوريون/ فواز حداد

في الأيام الأولى لانتشار الاحتجاجات في دمشق، ترددت بعد صلاة العشاء بين جنبات جامع زيد بن ثابت، الواقع في حي باب سريجة – منطقة الفحامة، أصوات الشبان تهدر كالرعد تهتف ضد النظام، تساند أهالي درعا. كان دويها يهز الوجدان ويثير الرعب بين الأهالي وأصحاب المحلات المتجمعين على الأرصفة لا يتجرؤون خائفين من التدخل للحيلولة بين الشبان داخل الجامع ومجموعات من رجال الأمن والشرطة على رأسهم الشبيحة، يحملون العصي، والسلاسل، والقضبان، والهراوات.

كانوا قد أحاطوا بالمسجد يتشاورن بغضب فيما بينهم، يريدون اقتحام المسجد، لا انتظار خروج الشبان المعتصمين الذين كانت أصواتهم تخترق الجدران، وتلعلع في ليل الشارع. المتوقع أنه ستجري مقتلة لدى تخطيهم عتبة الجامع. حاول الأهالي التوسط من أجل سلامة أبنائهم، لكن دونما جدوى، فتدخل المشايخ وسرعان ما بدأت المفاوضات مع الضباط المتواجدين، إلى أن جرى الاتفاق على خروجهم متفرقين آمنين. خرجوا لكن اعتقل أكثرهم وزجوا في السيارات والشاحنات، وذهبوا بهم إلى الفروع الأمنية.

يمكن لنا التحدث طويلا عن هذا المشهد العابر، وهو واحد من مئات المشاهد اليومية في الأشهر الأولى للثورة. إحدى الملاحظات الجديرة بالتوقف عندها، أن اللافت في أفراد المجموعات التي كانت تترقب خروجهم، أن بعضهم كانوا من عمال مؤسسات الدولة تطوعوا لقمع المظاهرات، وقد بدا على وجوههم الغل والحماسة للفتك بالمتظاهرين، لم تخف ملامحهم الحانقة، التوثب للانقضاض عليهم، ولا ذلك الوعيد بالانهيال عليهم بالضرب وتكسير عظامهم. طبعًا، لم يفلتوا منهم، نالت هراواتهم من الشبان وهم يصعدون إلى الشاحنات، ورافقهم الضرب إلى حين وصولهم إلى الفروع، لتبدأ سلسلة أخرى من الإهانات والشتائم استقبلتهم لحظة دخولهم. أما في الداخل، فالتأديب حسب الفرع والعناصر، ربما انتهت بعد أيام بإطلاق سراحهم، أو امتدت إلى أيام وأشهر، ثم إلى السجن، وربما لم يخرج بعضهم أحياء. 

كان المحاصرون للجامع يمثلون القانون، قانون النظام مدججاً بوسائل القمع، يُنفذ بمنتهى القناعة على أنه واجب وطني، ضد شبان يهتفون بإسقاط النظام وهو تفسير لهتاف “الشعب السوري ما بينذل”. لا حاجة للتذكير من أن إذلال الشعب السوري استمر على مدى عشر سنوات دون توقف وبتركيز شديد، ولا تستثنى أيضًا أربعة عقود سبقت، مورس خلالها التعذيب بمختلف أنواعه، إلى حد القتل، وفيما بعد سنوات طويلة، بالحصار والتركيع والتهجير والتشريد، مرورًا بالتجويع والغلاء الرهيب. وسوف يبلغ التعسف اعتبار البوط رمزًا للانتصار والإخضاع، أي لإذلال الأهالي.

هذا، ولم ندخل بعد إلى الفروع الأمنية حيث يجري التنكيل بالمعتقلين والتعذيب إلى حد الاغتصاب، يمارس بتشف واحتقار لأية قيم إنسانية… فالشر في الأقبية يعمل بكل قواه وبجلاء تحت ظلال قانون الأجهزة الأمنية، حسب قاعدة لا بريء ولا براءة، مجرم كل من يطالب بالحرية، ومن فرط إيمانهم بما يفعلونه يعتبرون قتل المعتقل أمراً عارضاً أو عرضياً، والأفضل عدم الإفراج عنه إلا ميتًا، وربما عدم تسليم جثته لأهله، ودفنه في مكان مجهول، أو حرقه، والتعامل معه بحقد كأنه ليس من البشر، هذا التعامل امتد إلى المستشفيات، مارسه أطباء وطبيبات ممرضون وممرضات… الشر أيضًا كان حينئذ قانون الطب.

المفاجئ، أن الذين يتولون مهام التعذيب أناسٌ مثلنا، ليسوا مجرمين، وليس هناك ما يبرر كراهيتهم، فلا خصومة ولا عداوة مع المحتجين، أصلًا لا يعرفونهم، كما لا ضغينة أو بغضاء، ولا مشاعر حقد شخصية، لم تقع أبصارهم عليهم من قبل… لكنهم لا يتورعون عن ضربهم بكل حمية، وكأنما من أجل قضية سامية.

كي ندرك هذه المفارقة الإجرامية، يتماثل سؤال، كيف بلغت القسوة بهم هذا المبلغ، بحيث أصبح القتل مجرد واجب أو تأدية عمل، يجب أن يحسنوه بكفاءة، ولو أدى إلى موت المعتقل، سواء اعترف أو لم يعترف. ولنكن واضحين، ليسوا مرضى بانفصام في الشخصية، بالعكس يحدث انسجام بين ما يمارسونه في عملهم، وما يعيشونه في بيوتهم بين عائلاتهم. الأدهى ادعاؤهم أنهم موظفون يتلقون الأوامر وما عليهم إلا تنفيذها، وقد يضحون بأنفسهم من أجلها، إنها وظيفة.

تبلغ المخاوف مداها الأقصى في إدراك أن هذا الإنسان، لا يعرف أنه إنسان، ولا كيف يكون إنسانًا… لا يرى في هؤلاء البشر أنهم مثله، ولا يتحسس آلامهم والحيف الذي أصابهم، أو لماذا يحتجون، لا يرى فيهم سوى أنهم خونة، فلا يسائل المجرم الذي منحه الحق في تعذيبهم؛ إنه عمى الضمير.

هذا واقع يختلقه نظام يريد البقاء ضد الحياة، فيحول الموالين له إلى آلات حاقدة، تقتل لمجرد القتل، تسيرهم أوامر وتعليمات لا تناقش، ولا تقع تحت طائلة الأخلاق، إذ ما علاقة الأخلاق بها، مادام أنها سياسة عليا؟

يشكل القانون مأساة السوريين… مع العلم أن القوانين السورية لا تقل إحكامًا ولا عدالة، عن القوانين التي تنعم بها شعوب البلدان الأخرى بالعدالة والحرية…. لكن قوانيننا لا تعمل، وجرى الاعتياد على النظر إليها على أنها مجرد كلمات مكتوبة، لا تؤخذ بالحسبان، عبارة عن لاشيء، فلم يلحظ لها تطبيق عملي، إذ القانون قانون النظام، وهو “اللاقانون”.

القانون الحقيقي يجهله السوريون، لم يروه يعمل على الأرض.

تلفزيون سوريا

———————————-

في الخطاب الاستعلائي (للديمقراطيين)/ حسن النيفي

مع حلول الذكرى العاشرة لانطلاقة الثورة السورية، يعود الحديث مجدداً في أوساط العديد من الجماعات السياسية السورية حول ضرورة تشكيل أو إنشاء كتل أو تجمعات سياسية وازنة، استجابة لما تمليه المرحلة الراهنة التي تشهد استفحالاً لمأساة السوريين من الناحية الإنسانية، موازاة مع حالة الانسداد الكامل في مسار العملية السياسية التي تعكس كامل بؤسها في اللقاءات المترنّحة للجنة الدستورية. لا شك أن نبرة الحديث عن افتقاد الحالة السورية لتنظيمات سياسية ذات وزن وتأثير، هي الأعلى لدى مجموعات تسمّي نفسها (القوى الديمقراطية) وهي تعني بهذه التسمية الجماعات اليسارية التي ينحدر معظمها من إيديولوجيات شيوعية سابقة، وربما بعضها يعلن انحيازه لتيار ثقافي يتماهى في كثير من جوانبه مع المفاهيم الحقوقية من منظورها الليبرالي.

ولعل الواضح أن هكذا دعوات إنما تأتي استجابة لوجوب المراجعات النقدية الدائمة لمسارات الثورة، إلّا أن الغريب في الأمر، أن هذه المراجعات غالباً ما تكون مواكبة لمناسبة ما، كذكرى انطلاقة الثورة مثلاً، الأمر الذي يستدعي سؤالاً مقلقاً: هل التفكير بأي مراجعة نقدية بات محصوراً بالمناسبات فحسب؟ وهل بات تعاطي السوريين مع واقع القضية السورية يتخذ منحًى وظيفياً يقتضيه واجب المناسبة فقط؟.

بالعودة إلى الجهود التي تبذلها القوى (الديمقراطية) حول ضرورة إنشاء كيان سياسي ديمقراطي وازن، لا بدّ من سماع شرح طويل ومفصّل، واستعراض دقيق من (الديمقراطيين أنفسهم) إلى تشخيص الأسباب الحقيقية التي حالت دون وجود الكيان الديمقراطي المنشود طيلة السنوات السابقة، فذلك ربما يُعدّ الخطوة الأولى والضرورية التي تمهّد للانتقال إلى الخطوة أو المرحلة الثانية من العمل.

في الخطوة الأولى (التشخيص): نسمع شرحاً طويلاً ومفصلاً عن تغوّل القوى السياسية الإسلامية في مفاصل الثورة، وسعيها الحثيث نحو الهيمنة واستثمار العمل الوطني لصالح رؤاها الإيديولوجية ذات النزعة الصارخة نحو التسلّط، كما نسمع شروحات أكثر تفصيلاً عن الدور المدمّر للجماعات الدينية المتطرفة (داعش والقاعدة ومشتقاتهما)، وكذلك عن جميع الفصائل العسكرية المتأسلمة، ودورها التخريبي في استنزاف قوى الثورة من جهة، وفي تشويه الوجه الناصع للثورة السورية في أنظار المجتمع الدولي من جهة أخرى، بل بات من غير المستغرب أن نسمع الكثير منهم لا يكتفي بالحديث عن دور الإسلام السياسي في خراب الثورة فحسب، بل يمتد الكلام على الحاضنة المجتمعية السورية ذات الأكثرية السنية التي اتّسمت بالتديّن، ووفّرت المهاد والغطاء معاً لاستفحال نزعة التطرف والعنف، بل وربما امتدّ الحديث لاستحضار حقب سحيقة من التاريخ، بغية التنقيب في تضاعيفها واكتشاف البذور الفكرية والفلسفية التي أسست لكوابح الوعي والفكر الديمقراطي لدى السوريين، وبالتالي سنكون أمام إرثٍ مليء بالسواد والأوبئة الفكرية والثقافية، أضف إلى ذلك مجتمعاً محكوماً بوعيه وتفكيره الفطري الموروث بنزعة دينية لا تستجيب لأدنى دواعي الحداثة والتطور اللتين يستوجبهما الوعي الديمقراطي الحديث. وبناءً على هذا التشخيص ذي المنشأ (الديمقراطي)، يبدو المجتمع السوري بغالبيته غير مؤهل لاستيعاب، ليس الديمقراطية فحسب، بل جميع مفاهيم الدولة الحديثة، وفي طليعتها: الحرية. وفي هذا السياق تصبح نظرية (التجانس) التي تذرع بها بشار الأسد لتبرير التغيير الديموغرافي في سورية حاجة، ليس بالنسبة إلى السلطة فحسب، بل للقوى (الديمقراطية) أيضاً. إلّا أن المفارقة العجيبة التي ربما خفيت، أو أخفاها (الديمقراطيون) هو أن الشعب السوري الموصوف بالعقم من جانب الديمقراطيين، هو ذاته من فجر ثورة آذار 2011 العظيمة، والتي بفضلها يتحدث (الديمقراطيون) وسواهم بهذه الأريحية.

ما هو مؤكّد، أننا لسنا بصدد محاكمة تشخيصات (الديمقراطيين) التي حالت – طيلة السنوات الماضية – دون الوصول إلى مبتغاهم، وذلك لسببين اثنين، الأول أنهم أحرار فيما يذهبون إليه ويستنبطونه، بل ربما يتفق المرء مع شطر لا بأس به مما يذهبون إليه. والثاني: أن تلك التشخيصات لم تعد جديدة، بل باتت ملازمة لأي حديث يطال مسار الثورة من حيث التقييم والتقويم، ولكن اللافت للانتباه، والموجب للدهشة بآن معاً، أن مراجعات (الديمقراطيين) غالباً ما تتجه خارج بناهم الفكرية ومرجعياتهم الإيديولوجية وتاريخ أحزابهم وذواتهم وكياناتهم المُحصّنة جميعها، وبقوة من أية سلطة نقدية، فهم غالباً ما يتموضعون، أو يضعون أنفسهم في الحيّز الناصع من تاريخ أي حدث، بل ربما ولّد لديهم الاستغراق في تشخيص الأسباب التي أجهضت تطلعاتهم ومبادراتهم (الديمقراطية) سردياتٍ عميقة من المظلومية التي تتماهى في أشكالها مع سواها من المظلوميات الرائجة، فهم – وفقاً لاستنتاجاتهم البحثية والنقاشية – ضحيّة مؤامرة أسهم في نسجها الدين والعادات والتقاليد والسلطات الحاكمة والجماعات الدينية المتطرفة، بل وربما الفطرة الاجتماعية للناس المختلفين عنهم لأنها غير صالحة لاستنبات الوعي الديمقراطي.

لم نشهد (للديمقراطيين) خلال ما فات من عمر الثورة، حديثاً واضحاً عن مُنجَز ديمقراطي بعينه، بل ما شهدناه في الغالب، هو مواقف صادرة عنهم تجاه قوى أخرى، وربما اعتقدوا أن تقييمهم لمنجزات الآخر يكفيهم عناء الفعل أو المبادرة، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، ما تعرّض له السيد رياض الترك من هجوم كاسح لكثير من القوى (الديمقراطية)، ليس لتقصير في مواكبة الثورة (وهو تقصير مفترض لا أؤيده)، ولكن بسبب موقفه غير المتصادم مع الإخوان المسلمين، سواء في (التجمع الوطني الديمقراطي عام 1979) أو في (إعلان دمشق عام 2007)، بينما شهدنا بالمقابل ثناء وتعظيماً وصل إلى درجة (رفع القبعات) للمنجز الذي حققه حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) في محاربة داعش.

ولكي تكون الخطوة الثانية منسجمة مع مقدمات ونتائج الخطوة التي سبقتها (التشخيص)، فأول ما يجب الإفصاح عنه، بل وضرورة الجهر به كي يسمع العالم أجمع، هو التبرؤ من معظم الظواهر والتداعيات ذات المآلات المؤلمة في الثورة، وفي طليعتها العسكرة التي لا تنسجم بالمطلق مع مفهوم التغيير الديمقراطي ولا مع النزعة السلمية للثورة، بل ربما بدا مجرّد حمل السلاح سمةً طاردة لأي مفهوم ثوري ديمقراطي وفقاً لخطاب (الديمقراطيين)، وبالطبع، حين يطال الحديث موضوع العسكرة، فإنه لا يُطرح في سياقه الزمني، من حيث دوره الوظيفي منذ ظهوره وحتى مآلاته الراهنة، بل غالباً ما يُنظر إليه في أكثر حالاته قذارة وخراباً، ثمّ تُؤخذ هذه الحالة على أنها سمة ثابتة، وبناء عليه: يتساوى في ذلك من حمل السلاح ليدافع عن نفسه وأمه وأبيه وإخوته في مواجهة العصابات الطائفية المتوحشة التي كانت تذبح الناس بالسواطير، مع الداعشي الذي يقطع الرؤوس لمجرد اعتقاده أن الآخرين كفرة. مما لا شك فيه أن عقداً من الزمن، قد فات من عمر الثورة، يُظهر كمّاً هائلاً من الفواجع والكوارث التي نتجت بفعل عوامل متعددة، منها ما هو ذاتي، ومنها ما كان بفعل التدخل الخارجي القاهر للجميع، ولئن كان التقييم السليم لما جرى ويجري يستدعي المزيد من الموضوعية والتجرّد من النزق الفكري المنبعث من رواكم الإيديولوجيا، وهذا بالطبع يدعو إلى مزيد من بذل الجهد والعناء فضلاً عن الإحساس بالمسؤولية، إلّا أن البعض ربما اختار طريقاً آخر من المراجعة، ربما لاعتقاده بأن هذا الطريق هو الأسرع للوصول للمبتغى، وهو القفز فوق الوقائع، والخلود إلى ما هو راكن في الذهن، ذلك أن المآلات الراهنة للثورة، والتي – بالتأكيد – لا تسرّ أشدّ مناصريها والمتحمّسين لها، قد تكون مغرية للتبرؤ الكامل حتى من أبسط مظاهرها الرمزية، وهو علم الثورة، وبالفعل فإن عدداً من القوى (الديمقراطية) ترى بعد عشر سنوات، بضرورة إلغاء العلم الأخضر، والرجوع إلى اعتماد علم الجمهورية العربية السورية.

لعله في غاية الموضوعية، أن تختلف القوى السورية المتعددة في تقييمها لما جرى ويجري، وربما من حقها جميعاً أن تتباين في تفسير حدث واقع بالفعل، ولكن من غير الطبيعي هو حذف الفعل، من حيث كونه مرجعية مادية للخلاف، والتعالي عليه بخطاب هو أقرب للثقافوية التي تتحاشى مقاربة الوقائع خشيةً من افتضاح خوائها.

النزعة المتعالية لخطاب (الديمقراطيين) عن الثورة، بدلاً عن البحث والتفكير الموضوعي في عمق إشكالياتها، يقود بسهولة إلى القول: بإمكان أي امرىء أن يبحث عن ثوب على مقاسه ومزاجه، ولكن من غير المنطقي أن يبحث عن ثورة تحدد مصير شعب كامل وفقاً لمقاس أفكاره وتصوراته، فسعيُ (الديمقراطيين) نحو تعزيز القناعة بأن كل مظاهر الدعشنة والعنف والتطرف، وتخلف الوعي، هي امتدادات طبيعية لسمات متجذّرة في المجتمع السوري، يشبه إلى حدّ بعيد مسعى الإسلام السياسي لتعزيز القناعة – وبالقوة ذاتها – بأن جميع الأفكار والرؤى غير الإسلامية، والقوى الحاملة لها، إنما هي مصدر وباء داهم يهدّد بالخراب كينونة الأمة. بل إن حال (الديمقراطي) الذي ما يزال يتوهم بأن (ابن تيمية والغزالي والشافعي) ما يزالون يضغطون على خناقه كي لا يتنفّس هواءً ديمقراطياً، هو مماثل من حيث التفكير، للإسلامي الذي يرى في الحريات بجميع أشكالها، والقيم العلمانية، كابحاً له، يحول دون انطلاقته لتحرير القدس، وربما فتح الأندلس.

تلفزين سوريا

———————-

هل تحقق محاسبة مجرمي الحرب في سوريا العدالة والإنصاف للضحايا؟/ طارق صبح

بسام، رب أسرة يبلغ من العمر الآن 70 عاماً، يعمل في مجال الخياطة في أحد معامل ريف دمشق، ويسكن في حيٍّ شهد كثيرا من التظاهرات وعدة أشكال من الاحتجاج السلمي، إلا أنه أدرك منذ البداية أن النظام سيستخدم كل ما يستطيع من الوسائل، بما فيها الاعتقال والقتل، لوقف هذا الحراك، لذلك منع بسام أبناءه من المشاركة في أي نشاط ثوري مهما كان بسيطاً، واكتفى بمساعدة النازحين إلى دمشق من مناطق حمص الثائرة في ذلك الوقت، معتبراً أن هذه المساعدة هي مشاركته الفعلية والحقيقية في دعم الثورة، مفضلاً ذلك على احتمال أن يعتقل أحد أبنائه إذا ما شاركوا في التظاهرات.

لكن يوم 7 من تموز من العام 2012، حمل لبسام أسوأ ما كان يخاف منه، ففي ذلك اليوم شهد الحي تظاهرة تشييع لشبان قتلوا خلال المظاهرات، وأثناء التشييع لاحق عناصر أمن النظام المتظاهرين، اعتقلوا وقتلوا العديد منهم، بعد ذلك اقتحم الشبيحة منازل الحي بحثاً عمن استطاع الاختباء من المتظاهرين.

في صباح ذلك اليوم أكد بسام على نجله الأكبر موسى، 16 عاماً، ألا يذهب إلى المدرسة ويبقى في المنزل حرصاً على سلامته، لكن بعد ما حصل في مظاهرة التشييع، لم يستطع موسى رؤية رفاقه جرحى دون أن يساعدهم، فاستطاع سحب أحدهم كان ملقى في الشارع، وأدخله إلى المنزل وضمد جراحه معتقداً أنه أنقذه، إلا أن عناصر الشبيحة دهموا المنزل وألقوا القبض على الجريح وسلموه للأمن، بينما قيّدوا موسى على كرسي في إحدى الغرف وأشعلوا النار به ليقضي حرقاً مع كامل محتويات المنزل.

يقول بسام إنه في البداية كان يريد إمساك القاتل والثأر لولده بمثل ما فعل القاتل وفق مبدأ القصاص، لكن بعد مرور الوقت ورؤيته لمختلف أشكال الانتهاكات التي وقعت على السوريين، يؤكد أن ما يريده الآن هو محاسبة قاتل ولده مع من حرّضه ومن أطلق يده ومن زوّده بالسلطة لفعل ذلك أمام المحكمة، وعند ذلك يعتبر بسام أنه حصل على العدالة والقصاص لولده.

يشير بسام إلى أن التعويض المالي لا يعنيه، وإن كان هناك ما يجبر الضرر عما حصل له فإن ذلك سيكون في مثول مرتكبي هذه الجريمة أمام قضاء نزيه يكون هو نفسه شاهدا ومدّعيا عليهم، مشدداً على أن “المحاسبة هي العدالة، ولا شيء سواها”.

ماذا تعني المحاسبة في السياق السوري؟

خلال عشر سنوات أمعن نظام الأسد في انتهاكاته لحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب العلنية التي ارتكبها بحق السوريين العزّل، وتعدّت الانتهاكات جميع المواثيق والأعراف والقوانين الدولية ذات الشأن، حتى إنها أثارت بوحشيتها الضمير العالمي والإنساني حول العالم.

إلا أن فشلاً واضحاً اتّسمت به الجهود الدولية لاتخاذ خطوات جدية في إطار وقف هذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، حيث قيّدت روسيا مجلس الأمن الدولي بحق “الفيتو”، وعرقلت اتخاذ القرارات اللازمة للمحاسبة وضمان عدم الإفلات من العقاب، مثل إحالة ملف الانتهاكات في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما جعل النظام بمنأى عن المحاسبة، ما عدا عقاب صوري بعد أن استخدم النظام السلاح الكيماوي، وكان سقف هذا العقاب اتفاقا روسيا أميركيا نصَّ على تجريد النظام من ترسانته الكيماوية، دون أي محاسبة أو ملاحقة لرموزه.

ومع تواصل العجز الدولي، بدأت في الأشهر الأخيرة تبرز دعوات رسمية صادرة عن حكومات وهيئات دولية، وغير رسمية دعت إليها منظمات حقوقية ومدنية غير حكومية، تطالب بمحاسبة مجرمي الحرب والمسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وسائر الجرائم والانتهاكات في سوريا منذ العام 2011.

فما هي المحاسبة التي يطلبها ضحايا الانتهاكات في سوريا؟ وهل يمكن اعتبار المحاسبة هي العدالة التي ينشدونها؟ وما دور العقوبات الغربية، بما فيها “قانون قيصر”، في تعزيز عدم الإفلات من العقاب؟

في هذا الملف، يتحدث، لموقع “تلفزيون سوريا”، حقوقيون وقانونيون وموثقو انتهاكات عن المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب في سوريا، وعن المحاكم القضائية والآليات اللازمة لذلك، ومن يجب أن يخضع لها، بالإضافة إلى الجهود الدولية ودور العقوبات في ضمان عدم إفلات مرتكبي الانتهاكات من العقاب.

إنصاف وجبر للضرر وردع للمجرمين

يرى الحقوقي والمتخصص بقضايا حقوق الإنسان والناطق السابق باسم “هيومن رايتس ووتش” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فادي القاضي، أن المحاسبة في السياق السوري هي “إطار للمصلحة والمنفعة، وتوضع في سياق هدفين، الأول قريب المدى ويتمثّل في الإنصاف وجبر الضرر وإعادة الاعتبار لمن تضرر وتأذى وقضى بسبب السلوك الإجرامي أو السلوك الذي ينطوي على جرائم ضد أفراد أو جماعات، وهو هدف ضروري لأي مجموعة بشرية تريد العيش في ظل نظام يقوم على المسائلة والمعاقبة على السلوك الذي يعادي القيم البشرية”.

ويضيف القاضي أن “الهدف الثاني وهو بعيد المدى مؤلف من شقين، يقوم أولهما على فكرة الردع، فإن قمنا بمحاسبة ومساءلة الأفراد أو التجمعات التي ارتكبت سلوكاً جرمياً في سياق الحرب، فنحن بالضرورة نقوم بالتأسيس لفكرة أن ارتكاب مزيد من هذه الجرائم في المستقبل سيكون صعباً وشاقاً، أو أنه على الأقل لن يقابل بالسكوت والموافقة والتساهل، وما يسمى بالإفلات من العقاب، والذي هو اصطلاح عميق يقوم على أن التساهل مع من ارتكبوا جرائم سيؤدي حتماً إلى فتح الباب أمام ارتكاب مزيد من الجرائم”.

أما المحامي السوري البريطاني والمتخصص بالقانون الدولي، بسام طبلية، يعتبر أن “العدالة الانتقالية بمفهومها الضيق تعني المحاسبة من أجل عدم الإفلات من العقاب، لكنها بمفهومها الواسع تشمل جبر الضرر والإصلاح المؤسسي ومعرفة الأسباب التي أدت إلى الانتهاكات، بالإضافة لتعويض المتضررين”، مؤكداً أن “محاسبة نظام الأسد عما اقترفه من جرائم، مع ترك الضحية تعاني من خسائرها الروحية والمعنوية والمادية، لا يمكن أن يحقق العدالة الانتقالية”.

ويعتبر البعض أن محاسبة رموز نظام الأسد وأركانه وإنهاء عدم إفلاتهم من العقاب من الأهمية بمكان أنه وسيلة للخروج من الأزمة في سوريا، حيث يقول مدير الحملات في منظمة العفو الدولية “امنستي”، كريستيان بينديكت، إن “إنهاء الإفلات المزمن من العقاب الذي يتمتع به أولئك الذين أمروا بارتكاب الفظائع في سوريا، هو طريق رئيسي للخروج من الأزمة، ويعتمد على التعافي وإعادة الإعمار والعدالة في سوريا”.

ويشدد بينديكت على أنه “إذا استمر المجرمون الرئيسون في التحرر من العقاب الفعال، ولم يتم منعهم من ارتكاب مزيد من الجرائم، فلا نهاية للأزمة السورية، تلك حقيقة لا مفر منها”.

هل تحقق المحاسبة الإنصاف للضحايا؟

تشير المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب إلى مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان، وتتضمن الملاحقات القضائية ولجان التحقيق والحقيقة، وبرامج جبر الضرر وإصلاح المؤسسات، وصولاً إلى العدالة الانتقالية والاعتراف بحقوق الضحايا وتعويضهم وسيادة القانون وتحقيق السلام المجتمعي.

يقول مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، إن “جهود المحاسبة تؤدي إلى استقرار المجتمع، وهدأة الثأر عند الضحايا عندما يرون مرتكبي الانتهاكات تمت محاكمتهم وتجريدهم من مناصبهم وامتيازاتهم واسترجاع الأموال التي نهبوها، ومن دون المحاسبة لن يكون هناك استقرار، بل سنبقى في حالة من دورات العنف اللامتناهية، فالمحاسبة ركن أساسي في تحقيق العدالة”.

ويوضح أن “المحاسبة هي جزء من العدالة للضحايا، لكنها ليست كل العدالة، وفي الحالة السورية، مهما بلغت هذه المحاسبة فهي لن تطول جميع مرتكبي الانتهاكات، ولا حتى الغالبية منهم، فتجارب النزاعات السابقة علمتنا ذلك”.

ويرى عبد الغني أن المحاسبة لن تطول جميع مرتكبي الانتهاكات، لكنها ترمز لملاحقتهم، وهي مطلوبة لتحقيق الاستقرار في المجتمع، لكنها يجب أن تكون بحق الصفوف الأولى من مرتكبي الانتهاكات.

ويصنّف مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان مرتكبي الانتهاكات في سوريا وفق سلّم من 100 درجة، تضم الدرجة الأولى منه رئيس النظام ودائرته القريبة ورؤساء فروعه الأمنية، بينما تضم الثانية قادة فرق الجيش التي تتلقى الأوامر، وصولاً إلى الدرجات الأخيرة التي تضم أصغر مرتكبي الانتهاكات.

ويشير إلى أن المحاكم الأوروبية تلاحق مرتكبي الانتهاكات من الدرجة 97 أو ما بعد، ولكن بالرغم من ذلك يؤكد عبد الغني أن “هذا هو الخيار الوحيد المتاح حالياً، ويجب عند محاسبته أن نقول إننا نحاسب هذه الدرجة، لا أن نهوّل ونبالغ في ذلك”.

يوافق الحقوقي والمتخصص بقضايا حقوق الإنسان، فادي القاضي، فضل عبد الغني فيما يقوله، ويضيف أن “العدالة فكرة طويلة الأمد، أركانها متعددة، لكن المحاسبة خطوة أولى وكبيرة وضرورية، تؤسس لمسار يعود بجبر الضرر، ويعيد وضع الضحايا أو مكانتهم الاعتبارية إلى ما كانت عليه قبل ارتكاب الجرم”.

ووفق القاضي، فإن تحقيق ذلك مسار طويل وصعب ويحتاج إلى جهود مؤسسية في المجتمع والحكم، بالإضافة لإطار من العون الاقتصادي والنفسي والصحي، وتأمين الممارسة الحرة والمشروعة للأعمال والأفكار والتعبير عنها.

من جانبه، يقارب السياسي والبرلماني الألماني من أصل سوري، جمال قارصلي، الانتهاكات التي حصلت في سوريا بتجارب أخرى حول العالم، ويشير إلى أن “محاكمات نورمبرغ”، التي تناولت مرتكبي الانتهاكات ومجرمي الحرب خلال الحقبة النازية بعد سقوط الرايخ الثالث، بين عامي 1945 و1946، وحاكمت 24 شخصية من قادة ورموز ألمانيا النازية، بينما خضع الآلاف من أعضاء الحزب النازي وجنود الجيش لبرنامج من المصالحة المجتمعية، وصممت برامج حكومية لتعويض الضحايا.

يضيف قارصلي أن “المحاسبة ستكون لكبار المجرمين بحق الشعب السوري، وقسم من صغار مرتكبي الانتهاكات لا يمكن محاسبتهم، فمن الصعب محاسبة كل من أجرم، فذلك يحتاج إلى جهود طويلة ووقت أطول”.

ويتوقع قارصلي أن تُبنى في سوريا مستقبلاً دولة مؤسسات، تعمل على جبر الضرر للضحايا، والتخفيف من آثار الانتهاكات التي لا تصل إلى حد وصفها بجرائم حرب، ويتم حلّها وفق برامج تصالحية وتسامح مجتمعي.

محاكم الولاية القضائية الدولية أم المحاكم المحلية؟

خلال الأشهر الأخيرة، بدأ المسار القانوني في بعض الدول الأوروبية يتخذ خطوات مهمة باتجاه اتخاذ إجراءات محاسبة مجرمي الحرب والمتورطين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا، وكان ذلك نتاج جهود مؤسسات حقوقية جمعت أدلة ووثقت انتهاكات ورفعت دعاوي أمام عدة محاكم في السويد وألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها، فضلاً عن دعوات عديدة لإحالة ملف الانتهاكات في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية.

واستندت الدول الأوروبية إلى مبدأ في قوانينها يدعى “الولاية القضائية الدولية”، الذي يخوّلها بالتحقيق في جرائم ارتكبت خارج أراضيها، حتى لو كان المجرم أو الضحية من جنسية دول أخرى، وبناء عليه أقرّت فرق عمل ولجان تحقيق حول الجرائم في سوريا، استعداداً للدعاوى القانونية.

إلا أن ذلك طرح عدة تساؤلات حول مدى صلاحية قضاء تلك الدول في محاسبة أشخاص غير أوروبيين، وعن مدى حيادية واستقلال هذا القضاء في الملاحقة وإصدار الأحكام، وماذا عن المحاكم المحلية، وكيف تقوم بدورها في المحاسبة والمساءلة؟

في هذا الإطار، يرى جمال قارصلي أن المحاكمات ستجري في كل دولة وفق قوانينها ومحاكمها، لكن المحاكمات الأبرز يجب أن تتم عبر المحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة لاهاي، مثل ما حصل مع المجرم اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي خضع لمحكمة الجنائية الدولية.

بينما يقول المتحدث السابق باسم منظمة “هيومن رايتس ووتش”، فادي القاضي، إنه “كي نتحدث عن إمكانية إجراء محاكمات أو محاسبة أو فتح دعاوى تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، هناك العديد من الشروط غير المنطبقة”، ويوضح أنه ليس هناك في الوقت الراهن على الصعيد الدولي فضاءات قانونية مؤهلة للمحاسبة أو الشروع في محاسبة نظام الأسد، وأقرب فكرة لذلك هي المحكمة الجنائية الدولية، وهي كيان مستقل ومنفصل عن الأمم المتحدة وخارج إطارها، كما أن سوريا ليست عضواً فيها.

ويضيف القاضي “حتى لو توفرّت النية لدى بعض الدول لمحاسبة نظام الأسد، فإن مجلس الأمن فشل وأخفق في التوافق والتصويت إيجاباً على إرسال ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية”.

من جانب آخر، يؤكد القاضي أن المحاكم المحلية في معظم أرجاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وضمن شكلها الحالي بحسب البنية والقدرات، ليست مؤهلة ولا تملك القدرات الفنية والبنية القضائية والخبرة المختصة في التقاضي في مجال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي حصلت في سوريا.

ويؤكد القاضي أنه نظراً للوضع الراهن للمحاكم الوطنية في سوريا فإنها ليست مؤهلة على الإطلاق ولا يجوز النظر إليها باعتبارها قادرة على التقاضي في مثل هذه القضايا والمواضيع العميقة، مشيراً إلى أنه “حتى لو افترضنا زوال نظام الأسد، سيلزم النظم القضائية في ظل النظام الجديد فترة طويلة من الوقت لتكتسب الخبرة والحكمة والبنية التحتية الفنية للتقاضي في مجال جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

أما المحامي السوري البريطاني، بسام طبلية، فيرى أنه “من الممكن طلب تشكيل لجان قضائية ولجان تقصي حقائق دولية، على غرار لجنة تقصي الحقائق الدولية فيما يتعلق باستخدام السلاح الكيماوي، واللجنة المعنية بمعرفة مصير المعتقلين، أو يمكن طلب إنشاء آليات في هذا الصدد”.

ويشير طبلية أن “المصلحة السورية تقضي بتدريب كوادر قضائية وقانونية متخصصة، وأن تكون الملاحقة القضائية وإصدار الأحكام أمام محاكم سورية، تراعى فيها المعاهدات والإجراءات الدولية، وتكون تحت رقابة أممية”، مضيفاً أنه “لا يوجد ما يمنع من تبنّي قواعد في أصول المحاكمات وقواعد قانونية للتجريم متفق عليها بشكل عام، فالعبرة هي لآلية التطبيق والشفافية والنزاهة والحيادية في تطبيق القانون”.

هل تسير دعوات المحاسبة في الاتجاه الصحيح؟

بالرغم من الثغرات القانونية، التي يمكن وصفها بالهائلة، في مسألة توثيق جرائم الحرب التي ارتكبت في سوريا، إلا أن الزخم الدولي بشأن دعوات محاسبة نظام الأسد يتصاعد ويتطور بشكل متسارع خلال الأشهر القليلة الماضية، ويعتبر بعض المراقبين أن هذا الزخم يمكن أن يؤسس لتقديم المجرمين للمحاكمات أمام العدالة.

يقول المدير في منظمة العفو الدولية “أمنستي”، كريستيان بينديكت، إن “التقدم في تحقيق العدالة للسوريين كان بطيئاً للغاية، لكن الزخم الآن يتزايد في الاتجاه الصحيح”، معتبراً أن ذلك تجلى في إدانة الضابط السابق في استخبارات نظام الأسد إياد الغريب في محكمة كوبلنز بألمانيا.

ويصف بينديكت قرار إدانة الغريب بأنه “حكم تاريخي، والأول من نوعه على جرائم خاضعة للقانون الدولي ارتكبها مسؤول في نظام الأسد، كما أنه انتصار ساحق لعشرات الآلاف من السوريين الناجين من التعذيب وضحايا الاختفاء القسري، وكذلك للمنظمات الحقوقية التي ناضلت لسنوات من أجل الحقيقة والعدالة”، مؤكداً أن هذه الإدانة هي الأولى، ولكنها لن تكون الأخيرة.

وعن التنسيق المشترك بين الدول لدعوات محاسبة نظام الأسد وضمان عدم إفلات رموزه من العقاب، يقول بينديكت إن هذا “أمرا إيجابيا، لأنه يظهر نية العمل من أجل تحقيق عدالة ومساءلة ذات مصداقية”.

وأضاف أن منظمة العفو الدولية تفضل أن ترى تنسيقاً عالمياً في هذا الإطار، على غرار إعلان كندا وهولندا الأسبوع الماضي عن خطواتهما المشتركة لمحاسبة نظام الأسد، وتأكيد التزامهما بدعم المجتمع الدولي لوضع نظام الأسد تحت المحاسبة، مشيراً إلى أن ذلك يؤدي إلى قيام مجلس الأمن بإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، لضمان أن الجناة من جميع أطراف النزاع، بما في ذلك الأكثر مسؤولية من كبار مسؤولي وقادة النظام، يواجهون العدالة.

ولفت بينديكت إلى “الجهود الطيبة التي نراها في ألمانيا”، مؤكداً أن منظمة العفو الدولية تريد أن ترى مزيدا من الدول تحذو حذو ألمانيا من خلال التحقيق مع الأفراد المشتبه بارتكابهم جرائم حرب أو جرائم أخرى بموجب القانون الدولي في سوريا، ومحاكمتهم من خلال محاكمها الوطنية بموجب مبدأ “الولاية القضائية الدولية”.

كما يؤكد على ذلك جمال قارصلي، معتبراً أن “الدعوات الرسمية بدأت تبدو أكثر جدية، خاصة بعد أن أصبحت تصدر عن مسؤولين كبار ورؤساء دول، ما يعني أنها ستؤخذ على محمل الجد، وستؤدي لاتخاذ خطوات ناجعة من أجل تحقيق العدالة الانتقالية”.

ويشير إلى أن “هناك عوائق بالتأكيد، مثل أن لكل دولة قوانينها، وبعض الدول ترفض تسليم المجرمين لدول أخرى، أو بعض الدول ذات أنظمة ديكتاتورية تحمي المجرمين، وبالرغم من ذلك فإن الدعوات بدأت تذهب في الاتجاه الصحيح”، مطالباً المنظمات الحقوقية ومؤسسات المعارضة السورية والضحايا والمتضررين العمل على جمع الأدلة والإثباتات الدقيقة والدامغة حول المجرمين وانتهاكاتهم، استعداداً لما هو قادم.

أما مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، فيعتبر أن هذه الجهود هي المتاحة في الوقت الراهن، لكنها لا تسير بشكل كافٍ في الاتجاه الصحيح، فالاتجاه الصحيح هو مسار كامل من العدالة الانتقالية، يفضي إلى محاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات، وخاصة من الصفوف الأولى بشكل أساسي، في المحكمة الجنائية الدولية، وهذا ما تعرقله روسيا في مجلس الأمن الدولي.

وفي مقابل هذه الآراء، يعتقد الحقوقي والمتخصص بقضايا حقوق الإنسان، فادي القاضي، أن الدعوات الرسمية التي تطلقها الحكومات، أو تدعو إليها أجسام أو وكالات دولية الطابع، “تحمل قدراً كبيراً من التسيس والفراغ، لأنها تفتقر إلى الإرادة السياسية، والتي يجب تفسيرها في إطار مفهوم يتجاوز النوايا الحسنة وحب الثورة أو كره النظام، إلى التزام منصوص عليه في الخطاب السياسي والقانوني لدولة أو حكومة معينة يتبعه، كما تفتقر لاتخاذ ما يكفي من الإجراءات التي تكفل أو تسهّل أو تضمن أو تشق طريقاً نحو تحقيق خطوة أولى نحو العدالة بالشروع في مجرى المحاسبة”.

أما الدعوات التي تتبناها المنظمات غير الحكومية والجماعات المدنية الضاغطة في المنطقة وخارجها، فيرى القاضي أنها “دعوات جادة”، لكنه يشير إلى أنها “تنطلق من أجسام وبنىً لا تمتلك القرار السياسي، ولا يمكنها أن تفعل ما يتجاوز الضغط”.

ويضيف أن “بعض هذه الجهود أثمرت نجاحات يمكن اعتبارها محدودة، لكنها تؤسس لسوابق، مثل اللجوء لاستخدام ما يسمى بالولاية القضائية الدولية للتقاضي أمام محاكم في دول يسمح نظامها القضائي بمحاكمة مجرمي الحرب ومن ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في بلدان أخرى على هذه الجرائم حتى في هذه الدول”.

محكمة كوبلنز: هل تشمل كبار المسؤولين عن الانتهاكات؟

شهدت مدينة كوبلنز الألمانية، صباح 24 من شباط الماضي، إدانة المحكمة الألمانية العليا للضابط السابق في مخابرات نظام الأسد إياد الغريب، بعد اتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وتعذيب معتقلين في فروع النظام الأمنية، وأصدرت عليه حكماً بالسجن لأربع سنوات ونصف، استناداً إلى القانون الجنائي وقانون العقوبات الألمانيين.

وتعتبر محاكمة كوبلنز أولى المحاكمات في العالم بشأن التعذيب وجرائم الحرب في سوريا، في سابقة عدَّتْها شخصيات ومنظمات حقوقية “علامة فارقة في النضال ضد الإفلات من العقاب”، كونه يؤكد أنه في سوريا ترتكب جرائم ضد الإنسانية، وليس كما يرد في التقارير أنها “ربما ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية”.

من الجانب الآخر، رافق هذه المحاكمة جدل كبير بين السوريين، حول محاكمة الأعضاء السابقين في قوات الأمن الذين انشقوا عن نظام الأسد كمتهمين، أم معاملتهم كشهود في مسعى لتقديم كبار المسؤولين في النظام للعدالة.

وأثار هذا السؤال انقساماً كبيراً بين السوريين اللاجئين ومن يعيشون في المنفى، حيث اعتبر بعضهم أن هذه المحاكمة “خطأ استراتيجيا وأخلاقيا”، حيث خاطر المنشقون بحياتهم للانضمام إلى المعارضة وتقديم أدلة انتهاكات النظام لحقوق الإنسان.

ورأى البعض الآخر أن بدء المحكمة الألمانية ذات الولاية الدولية بمحاكمة عنصر أمن سابق برتبة صف ضابط، فيه إيهام كبير حول إحقاق العدالة بين صغار المسؤولين وإفلات كبارهم من العقاب.

اسم “بشار الأسد” ورد خمس مرات في قرار محكمة كوبلنز

حول ذلك، يقول المحامي والحقوقي السوري ومدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، أنور البني، إن “قرار محكمة كوبلنز صدر على إياد الغريب ليس باعتباره عنصرا قام بارتكاب جريمة، وإنما باعتباره جزءا من حالة ممنهجة ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وهذا يعني أن هذه الجرائم ارتكبتها دولة، وكل المسؤولين في هذه الدولة، بداية من رأسها، مسؤولون عن هذه الجرائم”.

وأوضح أن اسم “بشار الأسد” ورد خمس مرات في القرار، ليؤكد أن هذه الجرائم الممنهجة صادرة من أعلى مستوى في الدولة، وبالتالي يشتمل القرار على إدانة كاملة لكل النظام، بما فيهم رأسه، كما أن أي مسؤول في هذا النظام هو متهم الآن، ومُدان بارتكاب هذه الجرائم، ومحاكمة هؤلاء المجرمين تأتي تباعاً عندما يتم إلقاء القبض عليهم.

ويؤكد المحامي أنور البني أن إياد الغريب تعاون مع المحكمة، وقدّم كل الأدلة التي لديه، لكن القضاء لا يستطيع، ولا يتوجب عليه، غض النظر عن ارتكابه ومشاركته بجرائم ضد الإنسانية في سوريا، مشدداً على أن “الموقف السياسي لأي متهم لا يمكن أن يمنع محاكمته في حال ارتكب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب”.

وأشار إلى أن المحكمة وجدت أن إياد الغريب كان يمكنه التملص من تنفيذ الجرائم، وكان أمامه أكثر من فرصة متاحة لعدم تنفيذ الأوامر والابتعاد جانباً، لكنه لم يقم بذلك، ما دفعها لاتخاذ القرار بأنه شارك في هذه الجرائم في حين كان يمكنه أن يبتعد عن ذلك.

ووفق البني، فإن محكمة كوبلنز قدّرت أن إياد الغريب انشق عن النظام، وساعد القضاء الألماني بمعلومات كثيرة عن المجرمين في سوريا، ولأجل ذلك خفّضت له الحكم إلى أقل من الحد الأدنى، معتبراً أن هذا “بادرة مهمة جداً، تشير إلى أن القضاء يتعامل مع كل شخص بشكل مستقل، ويناقش وضعه وانشقاقه ومساعدته للقضاء وأخذ ذلك في عين الاعتبار”.

ويشدد المحامي والحقوقي السوري على أن “المسألة ليست محاسبة عنصر من النظام، بل هي محاكمة للنظام كاملاً، وهذا ما حصل في محاكمة كوبلنز وسيحصل في محاكمات أخرى”، مضيفاً “نحن نريد محاسبة النظام كله، من أصدر الأوامر، ومن نفذها، ومن كان يعلم بها ولم يقم بأي إجراء لوقفها”.

هل تحتمل العدالة نظرة معيارية؟

من الجهة المقابلة، يرى العقيد المنشق عن جيش النظام، عبد الجبار العكيدي، أن “المنشق الذي تجرأ على هذه المخاطرة ووضع نصب عينيه الموت أو الاعتقال والتنكيل بجميع أفراد أسرته، ويعلم تماماً أنه سيحكم عليه بالإعدام، وتُصادر جميع أملاكه، لم يخطر على باله أبداً أنه سيوضع في قفص الاتهام كما هو حال رسلان والغريب”.

ويضيف أنه “مما لا يعرفه البعض أن كثيراً من المنشقين، ودون أن يعلم بهم أحد، قدموا خدمات ومساعدات للثورة والثوار وهم على رأس عملهم، أكبر بكثير من مرحلة ما بعد انشقاقهم، ولمن لا يعلم فإن فصائل الجيش الحر لولا التنسيق والتعاون مع الشرفاء من الضباط والعناصر داخل القطعات العسكرية لما استطاعت تحرير أي منها، فعملية الانشقاق هي سلوك وموقف سابق يبدأ عند صاحبه منذ أول صرخة حرية في درعا وينتهي بعملية الانشقاق، ومن غير المعقول أن تجد جلاداً أو ظالما ويستفيق فجأة وينشق.

ويتساءل العكيدي حول “ازدواجية المعايير” في المحاكم الأوروبية، حيث يوجد اليوم آلاف الشبيحة والعناصر والقادة من تنظيم “بي كي كي”، المصنّف على لوائح الإرهاب في دول أوروبا، وبموجب الولاية القضائية الدولية، التي تعتمدها العديد من هذه الدول، لم نسمع أنه تم فتح ملفات بحق هؤلاء، رغم تقديم كثير من اللاجئين السوريين في هذه الدول والمنظمات الحقوقية السورية المعلومات والأدلة على تورطهم بارتكاب انتهاكات وجرائم مخالفة للقانون الدولي.

ويشير إلى أنه بعد صدور الحكم بحق إياد الغريب “نظر المنشقون بعين الشك والريبة تجاه هذا الحكم، الذي رؤوا فيه توجهاً انتقامياً في تطبيق العدالة، وينقل رسالة سلبية للمنشقين عن النظام، بأنهم جميعاً قد يتعرضون لمثل ما تعرض له الغريب، ما زاد من شكوكهم ومخاوفهم من تسييس مسارات العدالة، لتكون ذريعة لتعرضهم في المستقبل للمساءلة والمحاسبة بسبب وقوفهم إلى جانب الثورة”.

ويؤكد العقيد المنشق أنه “من المهم التذكير بأن العدالة التي يسعى إليها السوريون هي التي تتحقق ضمن إطار مسار وطني شامل، ومحاكمة كل من ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عبر محاكم وطنية وفقاً لمعايير دولية، علماً أنني شخصياً وكثيرين من زملائي المنشقين لسنا ضد تطبيق العدالة مستقبلاً، ولكن أن تكون بمعايير واحدة وبوقت وظروف ومكان واحد، وتشمل كل من كان موجوداً منذ بداية الثورة في مؤسسات الدولة السورية، لا أن تكون عدالة منقوصة وانتقائية تخضع لأهواء وسياسات كل دولة وكل جهة، فالعدالة والحقوق لا تتجزأ، والثورة التي قامت ضد الظلم والاستبداد لا تحتمل نظرة معيارية للعدالة”.

العقوبات وقانون قيصر والمأمول من المجتمع الدولي

دخل قانون “حماية المدنيين في سوريا” الذي يعرف اختصاراً باسم “قانون قيصر” حيز التنفيذ في 17 من حزيران الماضي، وفرض معادلة جديدة على مسار الأزمة السورية، تهدف إلى زيادة عزلة نظام الأسد السياسية، وفرض نمط جديد شديد يحكم الحصار المالي والاقتصادي ضده، ومعاقبة حلفائه، بغية إجباره على القبول بالحل السياسي على أساس قرار مجلس الأمن 2254.

كما يمنح “قانون قيصر” الإدارة الأميركية مزيداً من الأدوات لفرض عقوبات على شخصيات نظام الأسد المسؤولة عن الجرائم المرتكبة بحق السوريين، وملاحقتها ومحاسبتها على هذه الجرائم.

وفي الاتحاد الأوروبي، تحاول منظمات حقوقية سورية جمع شهادات المعتقلين والمنشقين عن النظام، بالإضافة إلى أدلة تورط النظام ورموزه في مجازر الإبادة الجماعية، وعمليات القتل، والتعذيب بحق الأفراد في السجون والمعتقلات وغيرها، ليكون لديهم ملف كامل لدعم إصدار قانون عقوبات أوروبي، على غرار “قانون قيصر”، يفرضه الاتحاد الأوروبي على نظام الأسد.

فهل تساعد العقوبات الغربية في تقدّم إجراءات المحاسبة وتحقيق العدالة للضحايا؟ وما المأمول من المجتمع الدولي من أجل تعزيز عمليات المحاسبة وإنهاء الإفلات من العقاب في سوريا؟

بحسب المحامي والمعارض السياسي السوري، حسن عبد العظيم، فإن أخطر ما يواجه رموز النظام المدنية والعسكرية والأمنية بعد “قانون قيصر” هو المحاكم الجنائية الدولية، التي باشرت بمحاكمة بعض عناصره بجرائم حرب لم يعد إخفاؤها ممكناً.

ويؤكد عبد العظيم أن “قانون قيصر” يأتي أولاً من حيث الخطورة لأنه “يحاصر النظام ورموزه وداعميه والمتعاونين معه، حتى لو كانوا من أصدقاء أميركا”.

أما المحامي أنور البني فيرى أن “قانون قيصر” يؤكد على أن “مسألة محاسبة وملاحقة مجرمي الحرب في سوريا لن تكون على الصعيد القضائي فحسب، بل على الصعيد السياسي أيضاً، والقرارات القضائية تجبر السياسيين على اتخاذ قرارات متوافقة مع القرارات القضائية باعتبارها ملاحقة المجرمين”.

يوافق السياسي والبرلماني الألماني من أصل سوري، جمال قارصلي، المحامي البني في رأيه، ويضيف “يجب على المجتمع الدولي أن يسخّر كل إمكانياته وقوانينه لجلب المجرمين أمام القضاء، ودعم المعارضة والمتضررين والوصول إلى حقوقهم، وأن يعطي المثال والرسالة لدكتاتوريات في دول أخرى تفيد بأن العقاب آت لكل من أجرم في حق شعبه، أو في حق الإنسانية”.

من جانبه، وصف مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، “قانون قيصر” بأنه “قانون فيروسي متعدٍ، يفرض عقوبات على من يرتكب انتهاكا ومن يخرق القانون ومن يتعاون معه”، مشيراً إلى أن القانون ساهم بشكل من أشكال المحاسبة ضد نظام الأسد.

ويضيف أن “التقارير والوثائق الحقوقية هي أيضاً شكل من أشكال الإدانة والمحاسبة وفضح ممارسات النظام، وإن كان قانون قيصر وحده لا يكفي والإدانات وحدها لا تكفي، ويجب أن تترافق هذه الجهود وتصب في إطار دفع أكبر لعملية سياسية، وتضييق الخناق على نظام الأسد، وتحقيق الانتقال السياسي، الذي يمكن اعتباره أيضاً من أشكال محاسبة النظام”.

ويطالب عبد الغني المجتمع الدولي ببذل مزيد من الجهود لمحاسبة النظام، وبحسب قوله فإن “المحاسبة ليست فقط قضائية، بل مقاطعة سياسية واقتصادية وفضح مرتكبي الجرائم والاستمرار بعزلهم، ومن ثم الحشد باتجاه انتقال سياسي يُفقد النظام السلطة”.

أما المحامي المتخصص بالقانون الدولي، بسام طبلية، فيعتبر أن “العقوبات الغربية في إجراءات المحاسبة ما زالت غير ناجعة في الوقت الحالي، لعدم وحدة الموقف السياسي والدولي، ولذلك لا نجد نتائج ملموسة على الأرض يمكن أن ترضي الشعب السوري، وبالتالي، ما زال الجور والظلم قائماً في سوريا”.

ويرى طبلية أن على المجتمع الدولي تدريب وتأهيل الكوادر القانونية القضائية، من أجل البدء بعملية العدالة الانتقالية والإصلاح للمؤسسات في سوريا.

تلفزيون سوريا

—————————–

برهان غليون: أربعة ظروف جعلت مصير ثورة سوريا مختلفا عمّا سواها

حاوره أحمد صلال

الدكتور برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون، والكاتب والمؤلف والناشط السياسي معا، هو آخر جيل المفكرين السوريين المخضرمين الذين واكبوا كفاح الشعب السوري والشعوب العربية الأخرى منذ عقود طويلة من أجل الحرية، فكان كتابه بيان من أجل الديمقراطية فاتحة إنتاجه الفكري، وما سوف يتحول إلى التزام تجاه قضية الديمقراطية والحرية في جميع ما سوف يكتبه في المستقبل. وهذا هو المسار الذي سيقوده إلى رئاسة أول مجلس وطني سوري مثّل الثورة والمعارضة بعد أشهر من اندلاع ثورة الكرامة والحرية المجيدة، والتي عاين عثراتها “غليون” عن كثب بكتابه “عطب الذات”.

 هنا حوار أجراه موقع تلفزيون سوريا معه حول مصير الثورة السورية وبعض قضاياها الراهنة.

1- بعد مرور أكثر من تسع سنوات، ورغم الدّم الغزير، لم يقطع السوريون بعد كل المسافة التي تفصلهم عن إسقاط النظام ونيل الحرية. إلى ماذا تعزو ذلك؟

لكنهم قطعوا مسافة كبيرة حتى الآن. فما كان اسمه نظام الأسد تحول إلى رسم دارس لم يمح ولا ينبغي أن يمحى من ذاكرة الأجيال وإنما أصبح من الماضي. وجميع الأطراف المنخرطة في الصراع تتسابق على الأشلاء وتتقاسم الغنيمة. لكن بالتأكيد لا يزال أمام السوريين طريق طويلة يقطعونها قبل أن يحققوا هدفهم الأكبر في بناء نظام الحرية والعدالة للجميع ويعيدوا إعمار ما دمره الأسد وحلفاؤه.

وقد كنت دائما أردد أن ما جعل مصير الثورة السورية تختلف عن مصير ثورات الربيع العربي المشابهة هو أنها عانت من تقاطع أربعة ظروف استثنائية. الأول نوعية نظام الأسد الذي كنت أطلقت عليه اسم الانقلاب الدائم. فهو لم يسحب السلاح من الشارع في أي يوم وعاش على الهجوم منذ تأسيسه. لم يبحث حتى عن شرعية سياسية ولكنه اختار عمدا القهر والإذلال والعنف المجاني بهدف الإرهاب والردع. كان نظام حرب استباقية دائمة على الشعب والمجتمع. وتحالف من أجل الاستمرار في هذه الحرب مع جميع القوى التي تخشى نهضة الشعوب العربية وعودة الحياة الحرة إلى سوريا، من إسرائيل إلى إيران إلى دول الخليج إلى الدول الغربية، والتي راهنت على حكم أقلوي، ليس بالضرورة طائفي، يقمع الشعب ويشل حركته. وهذا ما أنتج نظاما مسعورا وليس متوحشا فحسب، لم يخرج من عباءة الأحكام العرفية وقانون الطوارئ طوال وجوده، أي لم يفكر ولم يقبل الانتقال أبدا من حالة الاستثناء إلى حالة طبيعية مهما كانت حدود التطبيع أو شكليته. وكان دائما جاهزا ويده على الزناد للقضاء من دون رحمة على أي نفحة استقلال للأفراد أو حتى حياد، فإما أن تكون معه أو ضده، وفي النهاية فجر كأي إرهابي حزامه الناسف ليقضي على الشعب والدولة والبلاد تحت أنظار المجتمع الدولي الذي بقي في موقف المتفرج.

والثاني اصطدام حلم التحرر السوري بإرادة السيطرة الإيرانية الإقليمية التي أعطاها انهيار العراق البعثي، والاستحواذ على موارده الهائلة، والأزمة المتفجرة التي تشهدها الدول العربية عموما، شعورا بأنها أمام فرصة تاريخية لا تفوت لاستعادة مجد الإمبراطورية الفارسية القديمة، وتحقيق حلمها في التهام المشرق بكامله وإلحاقه بها وتحويل نفسها، باسم الدفاع عما سمته بالعتبات المقدسة وتحرير الأراضي المحتلة، إلى قوة إقليمية كبرى تقارع الدول الغربية وتتحكم بمفاتيح إحدى أكبر المناطق حساسية من الناحيتين الجيوسياسية والاستراتيجية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف لم توفر طهران جهدا، ولا ترددت أمام استخدام أي وسيلة دينية أو عسكرية بما في ذلك حرب الإبادة الجماعية. وقد كانت أكثر من شجع الأسد على الذهاب قدما في عملية التدمير المنظم للعمران السوري والتهجير المنهجي للسكان ومحو معالم القرى والأحياء والمدن والبلدان.

والثالث دخول روسيا على خط المأساة السورية، الإقليمية والسياسية، لاعبا رئيسيا، واستغلالها أو الانطلاق منها في سبيل إعادة ترتيب علاقاتها واستعادة مكانتها الدولية على صعيد النظام العالمي، والانتقام لنفسها من التكتل الغربي الذي رفض إدماجها في نظامه وسعى إلى تهميشها ومحاصرتها وفرض العقوبات الاقتصادية عليها كما لو كانت دولة من الدرجة الثانية أو الثالثة. لقد نظرت موسكو إلى سياستها السورية الجديدة كتحد وردا على التحدي الغربي وتهديدا محتملا لمصالحه في البحر الأبيض المتوسط بكامله. ولم يعنها ولا نظرت بأي عين إلى قضية الشعب السوري ومصالحه ومستقبله. وهذا ما لا يزال يحكم موقفها إلى اليوم.

والرابع انكماش الغرب الأميركي والأوروبي على الصعيد العالمي وانكفاؤه على نفسه بعد حقبة طويلة من المغامرات الفاشلة والمكلفة في أفغانستان والعراق وليبيا والصومال، وإخفاقه في سياسة احتواء إيران، وتراجع اهتمامه بالشرق الأوسط عموما مقابل توجيه أنظاره ومحور استراتيجيته الدفاعية نحو الشرق البعيد لمواجهة أخطار صعود الهيمنة الصينية في آسيا والمحيط الهادي لكن أيضا على صعيد السباق العلمي والتقني والاقتصادي والعسكري.

ومن الطبيعي ألا تستطيع الأمم المتحدة أن تقوم بأي دور فعال أمام هذا التقاطع الاستثنائي للعوامل السلبية، ولا تنجح في حلحلة عقدة ما سوف يتحول إلى “أزمة سورية” مستعصية، تتجاوز رهاناتها وأبعادها الإقليمية والدولية رهانات جميع السوريين وتهمشهم جميعا، حتى إنه لم يبق لهم في النهاية، الثائرين والموالين معا، دور آخر سوى العمل كأدوات في خدمة استراتيجيات القوى الأجنبية، والعمل على أجنداتها. هذا ما يفسر الوضع الذي نعيشه اليوم والذي نقف فيه متفرجين، لا حيلة لنا ولا قدرة على التأثير، ولو بالقليل، في تقرير مصيرنا الذي تصنعه لنا القوى الأجنبية المتنافسة.

2- لماذا تصرّ موسكو وطهران على دعم النظام إلى هذا الحد؟

لا ترى طهران وموسكو وأي دولة أخرى النظام من زاوية ممارساته في الداخل وتنكيله بشعبه ولكن من خلال ما يمكن أن يقدمه لها من خدمة في صراعاتها الخاصة، ومن أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية على المحورين الإقليمي والدولي. فهو مجرد ورقة تلعبها وتتمسك بها العاصمتان طالما كان ذلك يخدم مصالحها. وهذا أيضا وضع سورية بكاملها، ومصيرها، دولة وشعبا، في لعبة إعادة التموضعات الاستراتيجية الجهنمية هذه.

3-   وكيف تفسّر التردّد الأميركي؟ وهل من فارق بين الموقف الأميركي والمواقف الأوروبية خاصةً الموقف الفرنسي؟

لا أعتقد أن الإدارة الأميركية كانت مترددة في الموقف من الثورة حتى لو بدا عليها ذلك. في الواقع كانت إدارة الرئيس باراك أوباما منخرطة قبل الثورة في عملية مفاوضات تعتبرها استراتيجية مع طهران بهدف إيجاد حل يوقف أو يحد من تقدم إيران في إنتاج التقنية النووية ويحول دون إنتاجها للقنبلة النووية، وإعادة استيعابها في المجموعة الدولية، مما يعني توفير حرب على الولايات المتحدة للقضاء عليها كما كانت تطالبها دائما حليفتها الإقليمية الرئيسية إسرائيل. وقد فاجأت الثورة السورية أوباما وجاءت في لحظة حرجة ما كان يقبل فيها التراجع عما حققته له المفاوضات من مكاسب سياسية عامة وشخصية. لذلك رفض منذ البداية أن يوليها أي أهمية، وربما استاء من اندلاعها في تلك الفترة، وأشاح بنظره عنها قبل أن تضغط عليه الدول الأوروبية، أمام مشهد المجازر وجرائم الحرب التي تفاقمت في سوريا، فأجبر على إطلاق بعض التصريحات المنددة بالأسد. لكنه لم يقم بأي إجراء جدي، وحتى عندما استخدمت الأسلحة الكيميائية لَحَسَ بالمعنى الحرفي للكلمة، الخط الأحمر الذي رسمه لدمشق إذا استخدمتها. وبعد أن قبل برصد بعض الدولارات لدعم المعارضة، وللتغطية على فعلته المشينة عاد فسحبها وعطلها بعد أشهر معدودة. وأعلن رسميا في أكثر من تصريح بأنه لا يملك أي استراتيجية تجاه المسألة السورية. وقد فضح تعليقه على نتائج اجتماعه ببعض قادة الائتلاف المعارض قبل نهاية ولايته رؤيته الحقيقية للأمر عندما صرح للصحافة أن مزارعين وأطباء أسنان لا يصنعون ثورة أو دولة.

إدارة الرئيس دونالد ترامب غيرت موقفها ونظرتها لسوريا، لكن ليس من منطلق ملاقاة التطلعات الشعبية السورية أو التعاطف معها وإنما من منطلق مواجهة روسيا أو عدم السماح لها بأن تفرض هيمنتها في منطقة متوسطية كانت لها فيها ولا تزال السيطرة الرئيسية. وربما فكر بعض خبرائها بتحويل سوريا إلى مستنقع للرئيس الروسي بوتين. لكن في النهاية استقرت السياسة الأميركية على تشارك الأعباء بين واشنطن وموسكو لضبط الأوضاع والإمساك بها ومحاربة الإرهاب وتجنب كارثة إنسانية هي الوجه الأبرز للأزمة اليوم. لكن ليس لكل ذلك أي علاقة بدعم الشعب السوري في مواجهة الإبادة الجماعية أو حتى التعاطف مع قضيته وتضحياته من أجل الحرية. ولا يخرج تدريب ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وتجهيزها ودعمها وتمكينها من السيطرة على موارد المحافظات الشرقية في الجزيرة السورية إلا في إطار هذه الأهداف وجزءا من هذه السياسة وتكملة لها.

بالمقابل أظهرت أوروبا في الملف السوري، كما كان حالها في أزمة البوسنة والهرسك من قبل، أنها عالة على واشنطن في سياستها الشرق أوسطية، وليس لديها أي مبادرة مستقلة، لأنها لا تملك أيضا القوى العسكرية والاستراتيجية المستقلة التي تمكنها من اتباع سياسة خاصة بها في أي أزمة دولية تنخرط فيها قوى كبرى، كروسيا أو الصين وغيرهما. ولا يتجاوز دورها في سوريا اليوم أيضا تقديم الدعم للميليشيات الكردية التي لا تعرف ماذا سيكون دورها في المستقبل، ولا تفكر في كيفية إدماجها في النسيج الوطني السوري، وتطلب منها، بعد أن أصبحت دولة داخل الدولة، بجيش وعلم وأجهزة أمنية وإدارة ذاتية وموارد استثنائية، مشاركة السلطة مع أكثرية هجرت الحروب المتواصلة معظم إن لم يكن جميع نخبها السياسية والثقافية والاقتصادية ودمرت مؤسساتها وبنياتها الاجتماعية بما فيها القبيلة والعشيرة والعائلة.

4-عطفاً على السؤال السابق، كيف يُمكن قراءة المواقف العربية والتركية، وماذا عن الموقف القطري والسعودي؟

العرب، أعني الحكومات العربية، ينقصهم التنسيق والمتابعة حتى عندما يتعلق الأمر بمصالح وطنية خاصة بهم. بالإضافة إلى التخبط السياسي والإيديولوجي والافتقار لرؤية واضحة استراتيجية ولخطط مدروسة وعقلانية. ولذلك تبدلت مواقفهم وتنوعت: من الدعم إلى الانكفاء إلى محاولة العودة إلى النظام. أما تركيا فتصرفت كدولة تعرف بوضوح مصالحها الوطنية وتدافع عنها، وتحدد أهدافها في المواجهة السورية بما يخدم هذه المصالح، وتعيد صياغة استراتيجيتها وخططها حسب تغير الواقع الميداني والسياسي. وهي القطر الوحيد الإقليمي الذي نجح في البقاء إلى نهاية الشوط ليشارك الكبار في مناقشة التسوية النهائية للأزمة السورية وربما الإقليمية. على الأقل كما يبدو حتى هذه اللحظة وبعد تسع سنوات من الصراع.

وفيما يتعلق بالدول العربية الأخرى يمكن القول إنه لم يبدر عنها “لا حس ولا إنس”، باستثناء الفترة الانتقالية التي عرفتها مصر بعد ثورة يناير 2011، والتي انتهت بانتخاب محمد مرسي رئيسا للجمهورية، وتنظيم القاهرة في عهده مؤتمرا لدعم الثورة السورية توج بالنداء لنصرة المجاهدين وترسيخ الفكرة الخاطئة عن القضية السورية بوصفها قضية دفاع عن الإسلام والأمة الإسلامية. بعد استعادة الجيش للسلطة بقيادة عبد الفتاح السيسي جنحت مصر إلى موقف المهادنة للنظام ثم دعوة الدول العربية لإلغاء قرار تعليق عضويته في جامعة الدول العربية.

5- تصف في إحدى مقالاتك أوجه الشبه بين نظامي القذافي والأسد. لماذا سقط الأول ولم يسقط الثاني بعد؟ ألم يكن من المُفترض أن تقود أوجه الشبه الاستبدادين إلى نفس المآل؟

يتشابه النظامان في كونهما اعتمدا الترويع وتفتيت المجتمع وتحطيم أضلاعه وإلغاء السياسة وتفتيت المجتمع المدني وإخضاع جميع المؤسسات لسلطة ميليشياوية: وهي في سوريا المخابرات التابعة مباشرة للرئيس والتي تعمل من خارج القانون، وفي ليبيا ميليشيا اللجان الشعبية التي يقودها القذافي مباشرة، والتي حلت محل مؤسسات الدولة وسحقتها. وكلا النظامين اشتركا في المزاج الدموي والاستعداد لاغتيال المعارضين والمحتجين أو تغييبهم، ونظروا إليهم كفئران وحشرات ومتآمرين، ولاحقوهم أينما كانوا “زنغة زنغة ودار دار”، كما قال القذافي في إنشاده الأخير، باختصار كلاهما راهنا على بث الفوضى وحكما من خلال نشرها والتحكم بإدارتها والتعليق الدائم للدستور ولحكم القانون.

الفارق الأكبر لم يكن في منهج الحكم ولكن في أمرين: موقع القطرين الجيوسياسي الإقليمي خاصة، والطريقة التي تم فيها إسقاط النظام والقوى التي دفعت إليه وشاركت فيه. وقد ذكرت لك للتو المعضلة الجيوسياسية الكبرى التي وقعت فيها الثورة في سوريا في تقاطع نيران عدوة، وحيثيات الصراع فيها وعليها، من قبل الدول الإقليمية والعالمية، وتناقض المصالح الذي بدأ يظهر منذ البداية. أما ليبيا فقد شهدت تدخلا عسكريا مباشرا أسقط النظام بالقوة منذ البداية بمبادرة فرنسية ثم أوروبية أميركية، وقضى على معمر القذافي شخصيا، وسلم الحكم إلى مجلس انتقالي قبل أن تتفجر أزمة النظام الجديد نتيجة التدخلات المتقاطعة والمتناقضة للدول المتنازعة على اقتسام المصالح والسيطرة على منابع الطاقة الكبرى والموقع الاستراتيجي الليبي هناك.

يمكن القول إن المقارنة بين الحالتين تظهر حالة متشابهة لكن معكوسة تماما. فالتدخل الأجنبي جاء مبكرا جدا في ليبيا، لكن لغير صالح النظام ولقطف ثمرة الثورة الشعبية، وحرم القذافي من متعة قتل الليبيين وتدمير مدنهم على رؤوسهم، بينما جاء في سوريا مبكرا أيضا لكن لصالح النظام الحليف، وبقوة ومن دون شروط، للدفع نحو الحرب الأهلية وقطف ثمارها وتفكيك سوريا، مما سمح للأسد أن يفتك بشعبه ويحرق البلد كما هدد من قبل. لكن يمكن القول إن النتيجة ستكون متشابهة: يعيش القطران العربيان اليوم حالة أصبح فيها كلاهما ساحة للصراع بين الدول الإقليمية والعالمية، وغنيمة حرب تتغذى منها وعليها جميع القوى المحلية والأجنبية التي تتنازع على تقاسم أشلائها. ويبقى أن المسار الليبي قد وفر على ليبيا ما شهدته سوريا على يد الأسد وحلفائه من إبادة جماعية وتدمير منهجي للمدن والبنية التحتية ومن تهجير وتشريد لا سابق له في التاريخ لأكثر من 12 مليون إنسان.

6- يبدو الكفاح العسكري في سوريا اليوم ذا هوية إسلامية. لماذا صارت هذه الهوية شبه وحيدة في منطقتنا منذ أواخر الثمانينات؟

هذا صحيح. فالشعارات والأفكار والأهداف التي تحتل أو يبدو أنها تحتل واجهة مسرح الأحداث التي تشهدها المجتمعات العربية اليوم تكاد تكون إسلامية أو إسلاموية، أي مرتبطة بالإسلام. لكن ليس لهذا في نظري علاقة بوجود أي مشروع إسلامي منظم قابل للحياة. يملأ الجو أو المناخ الإسلامي بأشكاله المختلفة والمتناثرة والمتناقضة أيضا، الدينية وغير الدينية، جملة من الفراغات التي نجمت عن إفلاس النظم والمشاريع التحديثية العربية التي أصبح نموذجها الأعلى والأوضح نظام الأسد الذي انتهى إلى وضع الدولة في خدمة الإبادة الجماعية للشعب ذاته ولم يتردد في التصريح بنواياه وأهدافه.

الفراغ الأول هو الذي نجم عن انهيار الإيديولوجية القومية العربية وتراجع صدقيتها بعد فشل أو إجهاض مشروع الوحدة العربية السورية المصرية بعد انفصال عام 1961، وهزيمة حزيران/يونيو 1967 الكارثية. وبانهيارهما فقدت الشعوب العربية أو الجمهور الشعبي الواسع الإيديولوجية التي كانت تغذي مخيلة الجمهور العربي وتجعله يحلم، وتوجه الأفراد وتنظم التفكير والوعي السياسي والاجتماعي، وتعطي للجمهور الواسع رؤية وهدفا واضحا للمستقبل. فلا يوجد شك في أن الشعوب العربية راهنت، منذ الخمسينيات، على الفكرة القومية كمرشد للعمل المجزي والناجع في مواجهة التحديات الكبرى التي كانت تواجهها، وأعني بها التوسع الاستيطاني اليهودي في فلسطين وتوجيهه أكثر فأكثر تحديات وجودية لأمن الدول العربية واستقرارها وصدقيتها السياسية، وتفاقم الضغوط والتدخلات الغربية في المنطقة وتهديدها سيادة الدول الحديثة واستقلالها، وتعثر التنمية الاقتصادية وخسارة الثورة الصناعية التي كانت وحدها كفيلة بخلق فرص العمل الضرورية للأجيال الجديدة الصاعدة، والتي تتجاوز نسبتها من السكان 60 بالمئة، واستعادة الكرامة القومية التي هدرها الخضوع للاستعمار وتشوش أو اختلاط الشعور بالهوية تحت حكم السلطنة العثمانية الكسموبوليتي المديد.

والثاني كان نتيجة صعود أنظمة حكم تفتقر لأي شرعية سياسية ورأت في استخدام الورقة الدينية وعلماء الدين أيضا ستارا لإخفاء هذا الفراغ والتستر عليه. ولا يوجد شك هنا أيضا في أن النظم العربية التي جاءت بعد خسارة حربين وفشل ناجز في تحقيق أي هدف من الأهداف التي أعلنتها، لا الوحدة ولا الحرية ولا الاشتراكية أو التنمية، والنظام السوري في مقدمتها، قامت بجهد استثنائي لترسيخ قيم الثقافة الموروثة أو التراثية وعنيت بتمويل بناء المساجد والجوامع، وتشجيع الجمعيات الدينية، الصوفية والنسوية وتمويل ما سمي في سوريا بمكاتب تحفيظ القرآن التي قدمت تعليما دينيا معلبا تحت إشراف المخابرات والأجهزة الأمنية.

وكان الهدف من ذلك التعويض عن إفلاسها التاريخي وإشغال الشباب عن رؤية هذا الإفلاس أو التفكير فيه وعن العمل الاجتماعي والسياسي، وتوجيههم نحو ثقافة دينية تتمحور حول التقى والعبادة الفردية والتزود بالحسنات استعدادا ليوم الحساب. ولم يكن الدافع إلى ذلك حرص النظم على الدين أو المتدينين وإنما لحجب أنظارهم عن المسائل الاجتماعية وإبعادهم عن قنوات التواصل والتفاعل مع قيم ومبادئ المجتمع الحديث ومعاني المواطنة والمسؤولية العمومية والحرية والحق والقانون والتضامن الوطني، من وراء التعدد الطائفي والأقوامي. وهذا هو الدافع أيضا لحرص النظم على شراء ذمم القسم الأكبر من أصحاب المناصب “الدينية” أو الشرعية، واستخدام جميع هؤلاء صمام أمان لضبط المجتمع الشعبي والأجيال الشابة والتحكم بها، رجالا ونساء وإبعادها عن السياسة والتفكير في السلطة وطرق ممارستها.

فالواقع أنه لم يكن أمام النخب الحاكمة المفلسة سوى طريقين للتغطية على حكم القوة وكسب خضوع أو عدم اعتراض الجمهور والشعب، الأول هو مشاركته الشكلية والانفتاح عليه فيما يشبه العودة إلى حياة ديمقراطية بالحد الأدنى، لكن بمخاطر أن تتحول اللعبة إلى واقع حقيقي مع الوقت، ويتعلم الناس السياسة، أو الخيار الثاني التلاعب بالمشاعر والعواطف الدينية وكسب ولاء رجال الدين والطرق الصوفية والجمعيات الدينية والظهور بمظهر المدافع عن الدين والمقدسات والقيم الذاتية والهوية. ولنتذكر أنه في الفترة ذاتها ظهر أيضا لقب خادم الحرمين وحرص رؤساء دول أقوياء على وضع اسم محمد قبل اسمهم الأصلي وصار معظمهم يؤودون صلاة الجمعة في الجوامع مع المؤمنين الأتقياء.

من دون استثناء اختارت النظم السياسية العربية الطريق الثاني، ما عدا ربما بعض الانفتاحات في المغرب الأقصى، مع حكومة التناوب التي رأسها وعمل من أجلها المرحوم عبد الرحمن اليوسفي زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي المعارض. وجميعها عوضت الإيديولوجية القومية ثم الاشتراكية بثقافة تقليدية محافظة دينية، وبعضها عزز من نفوذ هذه الثقافة بإحياء النعرة المذهبية والطائفية والقبلية، وأضاف إليها عبادة الشخصية العبقرية والملهمة، كما فعل حافظ الأسد، فضمنوا بذلك ألا تكون هناك حاجة للتفكير في السياسة، ولا حتى حاجة للسياسة نفسها. وفي سوريا تبنى النظام شعار: “سوريا الله حاميها”، وهذا يعني أنها ليست بحاجة لتفكير أحد والله كفيل بحمايتها وإدارة شؤونها. وبهذا سدت الطرق على ظهور أي أفكار نقدية أو على تطور أي تيارات معارضة حديثة سواء أكانت يسارية أو ليبرالية أو ديمقراطية. هذه كانت خطط النخب الحاكمة لمحاربة الشعب ومحاصرة الجمهور وتغييبه، حتى لا يفكر بما تفعله به وحتى تفعل به ما تشاء بمباركة كبار رجال الدين.

وهكذا سادت “ثقافة جديدة” بطابع ديني أو إسلامي، هي مزيج متنوع ومتعدد الأشكال والغايات والمشارب والمجالات من المشاعر والأفكار والرغبات والمهارب، لدى الجمهور العريض ولا تزال في معظم البلاد العربية. وهي اللغة الوحيدة التي يتداولها العرب ويتعرفون على بعضهم ومجتمعهم وعالمهم من خلالها ولا يزالون. ومن لا يعرفها ولا يتمثلها يصبح غريبا عليهم حتى لو كان أخا شقيقا أو ابن الأسرة والعائلة.

أما النقص الثالث الذي استدعى بعث الإسلاموية أو استنفار تراث الدين فقد كان افتقار النظام الإيراني المحاصر من قبل الغرب لقضية يبرر بها سياسة التوسع والانقضاض على المشرق العربي المتأزم لتوسيع نفوذ طهران وفك العزلة عنها وفرضها قوة إقليمية عظمى لا مهرب للتكتل الغربي والأطلسي من الحوار والتفاهم معها على شؤون المشرق بكامله. فكانت القدس ثم الدفاع عن الإسلام والعمل باسم الإسلام القضية الكبرى التي تبرر وتشرعن حروب توسع تستدعي الزج بمئات آلاف الشباب وحرقهم في أتونها.

وفي هذا السياق تبنى الحكم الإيراني استراتيجية الحرب الدينية أو الطائفية وعمل على تغذيتها بتوتير الأجواء بين السنية والشيعية، وإطلاق مئات الجهاديين السلفيين من السجون السورية، ومن سجن أبو غريب في العراق، لتنظيم ميليشيات طائفية سنية تبرر إنشاء الميليشيات الطائفية الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية والعربية وغيرها.

والرابع خواء القوى الديمقراطية عموما، بجميع تياراتها الفكرية، والقطيعة البنيوية التي رعتها النظرة العلمانوية القاصرة للعلمانية بين النخبة المثقفة والجمهور الشعبي، ونزعة الاستعلاء والترفع الذي وسم موقف هذه النخبة إزاء الثقافة الشعبية المحلية. فقد عزل توجس النخبة الحديثة من الانخراط مع الشعب المثقفين أنفسهم، وأبقى الثقافة الحديثة ومفاهيمها ومعانيها قشرة رقيقة على سطح ثقافة دينية مشوشة ومفرغة من محتواها، في الوقت الذي كان النظام يعمل لإفساد هذه الثقافة نفسها بتحويلها إلى ثقافة طائفية تقوض استقرار المجتمع ووحدته من الداخل، وتمكنه من استخدامها لتحييد الشعب وتوجيه نقمته بعضه لبعض، وترك النظام بعيدا عن المشكلات والاحتجاجات، حتى اعتقد أصحابه بالفعل أنهم أصبحوا مؤبدين ومؤلهين، ولا شيء يمكن أن يزحزحهم عن عروشهم، وأنهم نجحوا في وضع الشعب بكاملها كالصراصير في زجاجة وصار بإمكانهم أن يلعبوا به ويدفعونه إلى الدوار والإغماء متى أرادوا.

 سياسات “أسلمة الفضاء العام” الموجهة هذه كانت جزءا لا يتجزأ من سياسات التعقيم الفكري والسياسي التي مارسها النظام الاستبدادي، والتي لم تترك للشعب الذي قطعته، ثقافيا وعمليا، عن العالم لأكثر من نصف قرن، مرجعية فكرية يستند إليها في كفاحه الدموي بل في تعرفه على ذاته وأصدقائه وخصومه سوى ما يقوله الزعيم الملهم أو المفتي أو الشيخ المعمم السلطان.

وأخيرا، ينبغي أن ندرك أن “الإسلام” لم يعد يقتصر كاصطلاح على مفهوم ديني فحسب، أي يشير إلى منظومة عبادات، ولكنه بسبب ارتباطه بحضارة عريقة تحول إلى ثقافة متعددة الجوانب والمجالات، هي الوحيدة التي لا يحتاج الفرد كي يمتلكها ويستخدمها لبناء مواقفه الوجودية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية إلى جهد استثنائي، أو استثمارات مادية وزمنية كبيرة لتحصيلها. إنها متوفرة مجانا لمن يريد وفي كل مكان. بينما يحتاج تملك الثقافة الحديثة إلى موارد وجهد كبير وعمل على الذات، وأنماط تثقف وتفكير وقراءات في الكتب والصحافة لا تكاد معظم المجتمعات الفقيرة توفر منها شيئا لأفرادها. الثقافة الحديثة مكلفة ولها ثمن، بينما الثقافة الدينية والتقليدية عموما متاحة للجميع ومن دون ثمن وجاهزة للاستخدام في كل المجتمعات.

7- هناك من يريد أن يطيح بتسمية “الثورة” واستبدالها بمسمّى “حرب أهلية” في توصيفه لما يجري في سوريا. ما هي أسباب ذلك وما هي نتائجه إن تعمّم؟

هناك مصدران لهذه التسمية. الأول بريء نابع من التقاليد الفكرية اليسارية، والماركسية بشكل خاص، الذي يرى في الحرب الأهلية مدخلا ضروريا للتغيير باعتباره انقلابا تاريخيا تقضي فيه طبقة صاعدة وحاملة لقوة الزخم والتقدم التاريخي على طبقة سائدة تجاوزها التاريخ ولم يعد لوجودها مبررا ولكنها من المستحيل أن تتخلى عن موقعها من دون قتال. وهذا هو السبب في إطلاق ماركس عنوان الحرب الأهلية في فرنسا على ثورة كومونة باريس وما رافقها من قمع عام 1871.  فالثورة الاشتراكية هي حرب طبقة ضد طبقة. وبهذا المعنى استخدمها بعض المحللين من اليسار الرديكالي العربي والعالمي.

والمصدر الثاني هو نقيض ذلك، أي وصف أحداث الثورة السورية بالحرب الأهلية على سبيل رفض الاعتراف بهويتها بوصفها ثورة شعب من أجل قيم إنسانية ومن ثم مطالب عادلة وشرعية، أي استخدم المصطلح من أجل التشكيك في رسالتها التحررية. فالمقصود بوصفها بالحرب الأهلية أنها حربا طائفية ومن ثم نزع الشرعية عنها، وإلحاقها بأنواع الفتن ما قبل الحديثة التي وسمت الحروب الدموية في بعض بلدان المشرق مثل لبنان والعراق واليمن وغيره.

والواقع  أن الثورة السورية، مثلها مثل ثورات الربيع العربي، لم تكن بأي حال حربا طائفية أو قبلية، وإنما كانت بوضوح لا يحتاج إلى كثير أدلة ثورة شعبية شاركت فيها مختلف قطاعات الرأي العام والطوائف والقوميات، ورفعت في مسيراتها الحاشدة الشعارات السياسية والوطنية والإنسانية، وهدفت بوسائلها ومناهج عملها وتحالفاتها إلى تغيير قواعد الحكم الأبوي نظام العنف والاحتراب الدائم والفساد، وإقامة دولة مدنية ديمقراطية لا تختلف عما تعرفه المجتمعات الحديثة في كل بقاع العالم، تسمح بمشاركتها في تقرير شؤونها بعد ما عرفه نظام الحكم المطلق والفردي من إفلاس وفساد. بالمقابل كان دفعها إلى مهاوي الطائفية والقبلية، كما ذكرت أكثر من مرة، استراتيجية النظم القائمة، لتقسيم الشعب وكسر تضامنه وتشتيت انتباهه عن الهدف المشترك، ولكسب تعاطف الدول الأجنبية التي وجدت في هذا الانحراف ذريعة لتبرير تقاعسها والتخلي عن مسؤولياتها السياسية والأخلاقية في وقف المذابح والانتهاكات.

8- منذ انطلاق الثورة يُؤثِر كثير من اليساريّين الصمت، في حين ينحاز بعضهم إلى النظام الأسدي. كيف يمكن تفسير ذلك؟ هل السبب هو تعلّقهم بما يُسمّى “ممانعة”.

ليس هناك موقف موحد للمثقفين لا في الثورة السورية ولا في أي ثورة أخرى. المثقفون ليسوا طبقة ولا عصبة ولا طائفة. يمكن للمثقف أن يكون مثالا للشرف والوفاء والتضحية ونكران الذات كما يمكن أن يكون مثالا للعهر يبيع صوته وقلمه لمن يدفع له. والأكثرية بين بين، ليسوا نموذجا للنبالة ولا مثالا للخسة والنذالة. لكن ما يميز علاقات المثقفين في مجتمعات يضيق المجال فيها كثيرا عليهم، وتشح موارد الشهرة والسمعة والاعتبار، هو التنافس الشديد وضيق العين وعداوة الكار وبروز النرجسية وحب الذات. وقد عكس موقف أكثريتهم من الثورة السورية شكهم العميق في وعي الجمهور، وعداوتهم التلقائية له، وقلقهم من أي تحركات عفوية لا يتحكم بها قائد أو زعيم أو جهاز أمن، وتمثلهم فكرة جهل الجمهور وميله للفوضى والطائفية، ورفض التحرر والانعتاق.

والحال أن تجربة العقد الماضي، عقد الثورات العربية، لم تظهر خطأ هذه الأفكار فحسب ولكنها أكدت أن المستهلك والمستخدم الأول للطائفية لم يكن الجمهور الشعبي البسيط وإنما النخب السياسية والثقافية المتنازعة على السلطة، وأولها النخبة الإيرانية، وما بالك بنظام الأسد المتأله، وأن من آثر الإبقاء على النظام القديم، نظام القهر والسلطة المستبدة والفساد والمحسوبية والتعبير الثقافي والفكري والإيديولوجي، هم المثقفون الذين كانوا يدعون أكثر من أي أحد آخر العفة والنزاهة والشرف والتحرر والدفاع عن الحرية والعدالة للشعب.

لكن لا ينبغي هنا أيضا أن نخلط الأمور ونلجأ إلى التعميم السريع. معظم اليساريين العرب الذين كانوا يدعون الراديكالية وقفوا ضد ثورات شعبية واضحة الهوية لأنهم نظروا إليها على أنها حركات رجعية، إن لم تكن سلفية، أكثر خطرا على نمط حياتهم وامتيازاتهم الاجتماعية من النظم القائمة. لكن قلة منهم لعبوا أيضا دورا مبدعا ومؤثرا في توجيه عقيدة الثورة وتوضيح رسالتها الإنسانية التحررية. وهذا ما ينطبق أيضا على بعض المثقفين المحافظين، والإسلاميين منهم بشكل خاص، لكن بنسب متعاكسة. ففي أوساط هؤلاء واكبت الأغلبية مسيرة الثورة وتفاعلت معها لأنها كانت في الأصل قريبة من الجمهور الشعبي، لكن كان لقلة منها دور استثنائي في التخريب والانحراف والتعبير ساهم في دفع الرأي العام العالمي إلى سحب تعاطفه معها.

في المحصلة، ليس اليسار ولا اليمين ولا الإسلاموية ولا العلمانية هم المسؤولون عن مواقف الأفراد، مثقفين وغير مثقفين، ولكن مصالح كل من هؤلاء الأفراد وموقعهم الاجتماعي وعلاقتهم بالسلطة بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى أشكال وعيهم، بدرجة أكبر، وجدانهم وأخلاقهم الفردية. فالضمير أو الوجدان عامل لا ينبغي أبدا الاستهانة به في تحديد مواقف الأفراد ونمط تفكيرهم وسلوكهم.

تلفزيون سوريا

——————————

نار تحت رماد “البيئة الحاضنة”: العلويون.. وقود النظام وضحايا “الخوف المقيم”/ رافي طعمة

على بعد أمتار من أحد الحواجز التابعة للنظام، في الطريق الدولي الواصل بين دمشق واللاذقية، يغمز عنصر التفتيش لصحفي يعرفه ترجّل من سيارته لإلقاء التحية عليه، ويسأله: “شو أستاذ، مطوّل ولا رح يقحطولو” يقصد الرئيس السوري بشار الأسد، رافعاً يديه إلى السماء مبتهلاً “الله يخلصنا منهم عن قريب.”

قد تكون هاتان العبارتان من قبل أحد أبناء الطائفة العلوية، المحسوبين على النظام، والمتطوع منذ نحو ست سنوات في فرع الأمن العسكري الأسوأ صيتاً في البلاد، أكبر دلالة على حجم التململ الذي يشعر به أبناء الطائفة على النظام وكبار رموزه بمن فيهم رئيسه بشار الأسد.

هذا النظام الذي استبسل معظم أبناء الطائفة العلوية في الدفاع عنه طيلة السنوات الماضية من عمر الحرب السورية، وقدموا على مذبحه عشرات آلاف الضحايا من شبابهم قبل أن يكتشفوا أنهم لم يكونوا أكثر من وقود في حربه على الشعب السوري بمختلف مكوناته، بمن فيهم العلويون أنفسهم.

لكن هذا الاكتشاف المتأخر، لا يجده بعض أبناء الطائفة كافياً لتخلي العلويين عن النظام الذي أتقن طيلة عقود اللعب على وتر الخوف لدى الطائفة التي ينتمي إليها وتنتمي إليه بالاسم، فيما يرى آخرون أن الانهيار السريع الذي تسير إليه البلاد قد لا يترك مجالاً للخوف “القديم” مقارنةً مع هذا الموت متعدد الأوجه والاحتمالات.

قبل نحو أسبوعين، في بداية شهر آذار/ مارس، وفي معقل وحاضنة النظام بريف جبلة، استنفرت الأجهزة الأمنية السورية العشرات من عناصرها لاقتحام بلدة الدالية (67 كيلو متراً جنوب شرق اللاذقية) وقرية زاما (50 كيلو متراً جنوب شرق اللاذقية).

السبب كما تقول مصادر أهلية من القريتين لـ”نورث برس” كتابات وشعارات على جدران المباني الرسمية والجدران تدعو لإسقاط نظام الأسد ورحيله.

وقالت مصادر أهلية في قرية زاما إن العميد سهيل الحسن، الذي ينحدر من القرية نفسها (قائد الفرقة 25 مهام خاصة، والمعروفة بـ”قوات النمر) تدخل بشكلٍ شخصي لتطويق هذا “التمرد” والبحث عمن يقف وراءه.

هذا التمرد “الأوضح والأكثر صراحةً” كما يقول سمير (اسم مستعار لمعتقَل شيوعي سابق من ريف جبلة)، قد يكون الأول من نوعه في المنطقة المحسوبة على النظام، منذ بداية ثمانينات القرن الماضي.

يتذكّر “حينها كان العشرات من الشبّان “الثوريين” والمتحمسين والذين ينتمون بشكل أساسي لرابطة العمل الشيوعي، يوزعون المنشورات المناهضة لنظام الأب حافظ الأسد، وضمنها جريدة الحزب “الراية” عبر رميها في المنازل أو لصق الشعارات في الشوارع، على جدران المنازل.”

انتهت حالة التمرد تلك بحملة واسعة شنّتها أجهزة المخابرات، استمرت حتى نهاية الثمانينات، وأسفرت عن اعتقال العشرات من أبناء الساحل، وغيرهم من أبناء باقي المناطق السورية، وزجهم لسنوات في معتقلات النظام وسجونه.

“ما أشبه اليوم بالأمس، مقولة لا يمكن أن تصح هنا والآن”، كما يقول معتقل آخر من اللاذقية عاش تجربة السجن لتسع سنوات.

يقول أبو الوفا (الاسم الحركي خلال الملاحقات الأمنية): “بعد حملة القمع الرهيبة التي مارسها النظام على معارضيه اليساريين، أخمد كل صوت معارض، كان الثمن الذي دفعته نخبة المجتمع العلوي (حينها) باهظاً بحيث أن أي إمكانية لتكرار ما حدث في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي غير واردة اليوم.”

يصف “أبو الوفا” تلك التجربة بأنها “يسارية طفولية وطوباية ليس لها أي حامل على الأرض، فما بالك اليوم مع تهشيم النخبة اليسارية بفعل عوامل القمع وعوامل ذاتية داخلية، فضلاً عن لعب النظام على الوتر الطائفي، وتكريس الخوف في نفوس العلويين وعقولهم من الطائفة السنية.”

وبالفعل، اصطف العلويون منذ بداية الاحتجاجات إلى جانب النظام، وشكلوا مع تحول الاحتجاجات إلى العسكرة ميليشيات للدفاع عنه على غرار قوات الدفاع الوطني، فضلاً عن تجنيد الآلاف من أبناء هذه الطائفة (تمثل وفقاً لأكثر الإحصائيات واقعيةً نحو 11,5 في المئة من مجموع السكان في سوريا) للقتال في صفوف الجيش السوري.

“دعمُ العلويين للنظام كان بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت، فهو ولد من رحم هذه الطائفة التي نجحت عبر حزب البعث في الوصول إلى السلطة في سبعينات القرن الماضي عبر حافظ الأسد (1930 – 2000)، الذي منحها امتيازات لم تكن تحلم بها، ومكّن أبناءها من تبوّؤ أعلى المناصب والرتب في الدولة” كما يقول كاتب معارض من أبناء الطائفة يرفض أن يصنف نفسه بأنه “علوي”.

لكن التعديلات الشكلية التي حاول الرئيس الابن كسب ود الطائفة السنية عبرها لم تمنع من اندلاع احتجاجات واسعة ضد نظامه المورّث، تحولت سريعاً إلى حرب مدمرة وكارثية على عموم الشعب السوري، ومن ضمنهم العلويون.

وكانت “حركة أحرار العلويين”، وهي حركة مناهِضة للنظام السوري وثّقت خسائرَ الطائفة العلوية من المقاتلين منذ بدء الحرب في سوريا 2012 حتى نهاية العام 2017.

وفي بيان للحركة عقب اجتماع – لم تحدد مكانه – عُقد بحضور أعضائها “تم فيه دراسة الوضع الحالي والمستقبلي للطائفة في ظل الخسائر الكبيرة التي تكبدتها بعد زجّ شبابها في الحرب لحماية أربع عائلات لا يتجاوز عددهم 250 شخصاً وهم “عائلة الأسد ومخلوف وإسماعيل وخير بيك”.

وذكرت الحركة أن أعداد القتلى تجاوزت الـ 133 ألفاً فيما بلغ عدد المُعاقِين 67 ألفًا و3800 مفقود، مضيفة أن في مدينة طرطوس فقط لقي “89567” مقاتلاً مصرعهم، وأُصيب بحالة إعاقة “58216” آخرون، وفي اللاذقية سقط “28589” قتيلاً و “4568” مُعاقاً وفي حمص 6543 قتيلاً وفي حماة 8760 قتيلاً.

وأضافت أن أكثر من 300 عائلة فقدت كل أبنائها وأصبحت بدون معيل كما أن أغلب تلك العائلات لا تتلقى أي رواتب.

لكن هذه الخسائر الفادحة في طائفة لا يتجاوز عدد أبنائها الثلاثة ملايين شخص لم تكن فيما يبدو كافية لانسلاخ الطائفة عن جلادها، كما يقول أيمن (ناشط حقوقي علوي) رغم حالة القهر والفقر الذي تعانيه كغيرها من مكونات الشعب السوري الأخرى.

ورغم التعويل من قبل بعض النخب السورية على حالة التململ التي تشهدها البيئة الحاضنة للنظام، وتحديداً العلوية، إلا أن الناشط الحقوقي يرى أنه “بالرغم من تفاقم الأوضاع الاقتصادية سوءاً على سوء، لا يمكن الرهان على أي حراك شعبي ضاغط على النظام، سواء من قاعدته الموالية أو تلك التي هربت من جحيم ثورة تكشفت عن إرهاب” كما يقول.

ويضيف: “بعد 10 سنوات على تلك “الثورة” فإن أحداً داخل سوريا لا يرى إمكانية أقل سوءاً مما يعيشه في أي تغيير، فالناس مقتنعون أن لا قيمة لدورهم مهما فعلوا، والقوى التي تتحكم بالأزمة السورية، أي الغرب وروسيا وإيران وتركيا هي وحدها صاحبة الإمكانية لتغيير هذا الوضع.”

يعبر الناس علناً عن غضبهم من فساد النظام وحكومته.. وفي الوقت نفسه يعبّرون عن اعتقادهم أن هذا النظام هو أهون الشرور” على حد قوله.

ويوضح: “يلعب دوراً هاماً في هذا الأمر، غياب أي قوى سياسية أو اجتماعية منظمة داخل المجتمع السوري الممزق طائفياً وعشائرياً، عمودياً وأفقياً. فحتى البعث الحاكم لم يعد له أي دور سوى دوره السلطوي.”

ويضيف أيمن: “ربما سيبقى الأمر على هذا الحال حتى فك الحصار الغربي المضروب على حياتهم،

فالحصار الغربي اليوم يعزّز وضع وسيطرة النظام أمام السوريين في الداخل، على العكس مما يريد أصحاب هذا الحصار.”

سياسية معارضة (فضّلت عدم الكشف عن اسمها) تقيم خارج سورية وتنتمي إلى تيار علماني في المعارضة السورية، قالت لـ”نورث برس”، إن هذا التململ في صفوف العلويين لن يؤدي إلى مظاهرات، إلا أنه بالتأكيد يزيد من تفسخ البيئة الحاضنة للنظام”، وتشير إلى أن “غياب بديل سوري وطني هو ما يبطئ الانهيار.”

وترى المعارضة التي تنتمي للطائفة العلوية أن: “الخوف من وصول المعارضة، وخاصةً الإسلامية لحكم سوريا هو أكثر ما يخيف العلويين.”

ورغم قناعتها بأن “النظام لعب على موضوع الإسلاميين منذ اليوم الأول للاحتجاجات، إلا أنه لا خيارات بديلة لدى العلويين عن هذا النظام، فالمعارضة سيئة وطائفية وإقصائية” على حد قولها.

ولا تعتقد المعارِضة العلمانية أن هذا التململ “العلوي” سيأخذ طابعاً منظماً بسبب فقدانه لقيادات تحرّكه، ومن هنا ترى بأن “المعاناة ستستمر، وانهيار النظام كذلك. نحن حالياً نعيش سيناريو العراق.”

من جهته، يقرأ حازم مصطفى (اسم مستعار لصحفي وكاتب مقيم في اللاذقية) هذا الحراك الذي تشهده المنطقة الساحلية، وخاصةً حالة الاحتجاج التي سجلتها قرى في ريف جبلة، في إطاره العام كما يقول “هذه الاحتجاجات نادرة الحدوث، ولا يمكن القول إنها تمثّل تياراً حقيقياً فاعلاً على الأرض.”

يعود ذلك بحسب مصطفى إلى شبكة أسباب منها الارتباطات العائلية التي تجعل المراقبة والمعاقبة موجودة دائماً، وهو ما يعني أن الفردية تحكم هذه التصرفات المعارِضة، خاصةً أن سمعة المعارضة في الجبل مرتبطة بسياق نتائج عشر سنوات من الفشل السياسي والعسكري واﻹنساني، ويضاف لها الكمية الكبيرة من التشفي بأهل الجبل لموقفهم الداعم للنظام السوري.

ويعتقد الكاتب مصطفى أنه “حتى لو كان هناك تيار جديد ناشئ بين اﻷجيال التي شهدت مرارات الحرب، وملّت من النظام والمعارضة على السواء، إلا أن النظام ما زال عبر احتضانه الدولة هو المرغوب والمطلوب منه مكافحة الفساد والمفسدين وتحسين اﻷوضاع الاقتصادية، ومن الصعب القول بافتقاد النظام مراكز قوته بين أهل الجبل العلوي.”

ثمّة من يراهن على الشعوب، ويرفض صيغة السؤال حول “تململ العلويين” أو الفصل بين مكونات الشعب الواحد.

يمثّل هذا الاتجاه الناشط والكاتب (أيهم .م) الذي يرى أنه “من الصعب اختصار الأزمات الإنسانية الكبرى بصورة قطعان يمكن أن تصحو أو تُغيّب مرةً أخرى، ويصعب أيضاً فصل ما يجري في سوريا من تحولات شعبية عما جرى ويجري في المنطقة.”

ويشير تحديداً إلى مظاهرات لبنان، والأهم من لبنان مظاهرات العراق الذي عانى عنفاً أشد بكثير من العنف الذي تفشى في المجتمع السوري، كما يقول.

يضيف الكاتب “في العراق لجأت قوى مسيطرة إلى سياسة اغتيالات للناشطين خوفاً من نهضة وعي العراق بذاته، الشعوب تتحرك ككتلة واحدة ووعيها مترابط وقديم حتى لو بدا الأمر لبعض التيارات الفكرية أنه يمكن تجزئته.” حسب قوله.

ويقدم نموذجاً عن “الفهم القاصر لما يجري” فيقول “في بداية الحدث السوري تلقيت طلباً من باحث فرنسي للقاءٍ موضوعه الأحداث المتفجرة في المدن السورية، حديثه تمحور حول الطوائف وإمكانية تقسيم البلدان، واعتبر أن الدراسات الغربية “لم تخرج من اعتقادها المرَضي بجدوى تقسيم المنطقة إلى دول طائفية.”

يقول: “كان ردي واضحاً وقاسياً على فرضياته التي تعبّر عن جهلٍ فاضح بتعقيدات قواعد وعلاقات شعوب المنطقة، جهلٌ استمر منذ أيام وجود الاستعمار الفرنسي ولم يتغير مع تطور الزمن.”

“البيئة الحاضنة إذاً لا يمكن اختصارها بطائفة أو بمجموعة علاقات طائفية لكي لا نصطدم بذات الجبل الجليدي، فيغرق تحليلنا للأحداث كما غرقت كل تحليلات الفرقاء خلال السنوات العشر الماضية” حسب قول أيهم.م.

ويلفت إلى أن: “المعارضة المسلحة والدول الداعمة لها فشلت، لأن تحليلها للواقع السوري كان مبنياً على وجود طائفة صغيرة العدد تدعم النظام السياسي القائم، وبالتالي هزيمتها عسكرياً هو أمر سهل كما توقعوا.”

هذا الافتراض كما يقول الناشط اصطدم بقوةٍ وعنف بحقيقة بسيطة، وهي أن الدول عبارة عن تقاطع مصالح كثيف معقد ومتشابك، وأن الافتراض الطائفي إن قبلنا جدلاً بوجوده هو رأس الجبل الجليدي الطافي على سطح المحيط، بينما تقع قاعدته الضخمة تحت منسوب المياه.

ويعتقد (أيهم.م) أن “غرق التايتانك والمعارضة المسلحة كان لذات السبب: عدم رؤية الكتلة الحقيقية الداعمة للنظام السياسي القائم، وهي ليست طائفية، بل خليط من المصالح المتشابكة المعقدة للغاية والتي أحرقت التيارات الإسلامية بقسوة بالغة.”

لكن صعوبات النظام السياسي الحاكم من جهة أخرى تنبع، وفقاً للكاتب نفسه، من رهانه أيضاً على إمكانية تبسيط مقارباته السياسية في تعامله مع الوعي المتبدل للسوريين وحصرها في قضايا عسكرية أو اجتماعية بسيطة ومنها بعبع الجماعات الإسلامية المتطرفة.

وبالرغم من إقراره بأن التململ موجود في البيئة الحاضنة وفق التعريف الموسع والذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالمسألة الطائفية فإنه يعتقد أن “هذا التململ ليس محصوراً باتجاه النظام السياسي القائم، بل يشمل أيضاً تململ السوريين من كافة أجنحة المعارضة السياسية وإخفاقاتها الكارثية في تقديم أي خطاب سياسي عقلاني يقدم حلولاً ممكنة للأزمات التي تعصف بالمجتمع وتنتهك الهوية والوجود السوري.”

ويضيف: “التململ هو حركة المجتمع ككل باتجاه الوعي، وهو لم يُصِب فقط البيئة الحاضنة بالمعنى السياسي والاقتصادي، بل أصاب أيضاً البيئة الحاضنة للمعارضة المسلحة، فهو إذاً إعادة تموضع شامل للقوى السياسية في الساحة السورية والتي ليست السياسة فيها اكتشافاً حديثاً أو أمراً طارئاً على ثقافة أهلها.”

ويخلص الكاتب أيهم.م، إلى أنه “لن  يصل التململ إلى أي انفجار في المدى المنظور، لأن الجميع يعي أنه لا يمكن حسم المسألة عسكرياً أو اجتماعياً في ظل وجود قوى دولية متعددة متعارضة الإرادات والأهداف تملك جيوشاً وطائرات ومدرعات جاهزة للاستخدام، وبالتالي فإن أي تململ من أي طرف سوف يتم سحقه بقوة ووحشية من قبل الدول المتدخلة في الشأن السوري.”

ولا يتحدث الكاتب هنا عن طرف النظام السياسي الحاكم كما يشدّد، بل عن كل أطراف الصراع دون أي استثناء لأي منها “معادلة التوازن هذه مفروضة على الجميع، أصبح الشأن السوري منذ عدة سنوات بيد قوى أكبر من طاقة السوريين وإمكاناتهم.”

ومن هنا يعدّ أيهم.م أنه “ثمّة وعي شعبي عام بضرورة إيجاد مخرج سياسي واقتصادي شامل تشارك فيه الدول اللاعبة على التراب السوري، ربما نحن على أعتاب وعي جديد بالهوية السورية الجامعة كمرحلة أولى لتشكل هوية أكبر منها قد تشمل  بعض الدول المحيطة بنا، هوية مصالح متعارضة حكماً مع هوية المصالح العنيفة للمشاريع المطروحة الآن وعلى رأسها المشروع الإيراني والمشروع التركي.”

ويقول: “من يراهن على الغضب الشعبي ضد النظام السياسي القائم كمن راهن على الغضب الشعبي ضد تيارات المعارضة المسلحة، ربما الغضب الحقيقي للسوريين موجه ضد الدول التي بالغت في الاستهزاء بالهوية السورية، وربما هي من يزداد توحد السوريين على إدانتها، وأعتقد أنه يجب عدم دفع السوريين إلى التفكير بالتحالف مع الشيطان لتحريك مياه التوازنات الدولية الراكدة.”

رغم أن السواد الأعظم من العلويين شكل الحاضنة الرئيسية للنظام والوقود لحربه، لكن هناك العديد من الأصوات من داخل الطائفة خرجت عن صف الإجماع، فيما لم تحسن المعارضة السورية استغلال الأمر، بل أوغلت من خلال خطاباتها وممارساتها في استهداف العلويين، قبل أن تظهر الجماعات الإسلامية مثل “النصرة” لتوغل في الجرح.

ولعل استهداف العلويين في قرى شمال اللاذقية، وخطف نسائهم وأطفالهم، وذبح رجالهم من المزارعين البسطاء، بتواطؤ من النظام الذي أوقع الجماعات الإسلامية الغازية في فخه، مثال حي عما كان يعنيه التخلي عن النظام الذي حرص على توظيف ما حصل للمزيد من شد عصب الطائفة إليه.

اختصاصي نفسي (رفض الكشف عن هويته) يشرح لـ”نورث برس” خلاصة سياسات النظام مع بيئته الحاضنة ومع الأقليات الأخرى.

يقول: “استخدم النظام بعبع الإسلاميين لتحقيق أهدافه الدعائية حول الخطر الذي يمثله هؤلاء على الأقليات، وبالتالي ضمان حشد هذه الأقليات وعلى رأسهم بيئته الحاضنة من العلويين خلفه، وربط مصيرهم ببقائه.”

ويشير إلى أن النظام بالرغم من المأزق الحالي الذي يواجهه، وانفضاض البيئة الحاضنة من حوله، ما زال يراهن على أمرين “العامل الأساسي الذي تم استخدامه من قبل وحتى اليوم هو الخوف، الخوف أهم انفعال بقائي، أي يخاطب أعمق الحاجات وهي البقاء، ومن جهة أخرى الأمل، فبضعة رسائل أو أساطير أو منح مالية، تجعل الموالي يتشبث بالوضع الراهن تحت شعار اللي بتعرفو أحسن من اللي بتتعرف عليه.”

نورث برس

=====================

تحديث 20 أذار 2021

————————–

نحنا الثورة ولاك!/ عمر قدور

في دولة غربية ما، قد يحالفك الحظ وتلتقي بقائد الثورة السورية. ربما، بعد أن يرتاح إليك قليلاً، سيخبرك كيف حرّض الآخرين على التظاهر، وكان لتحريضه الأثر الأول والأخير، وكيف اندسّ في ثورته أصحاب نوايا خبيثة، فسرقوها. هو، منذ ما يزيد عن تسع سنوات ونصف، حزين على ثورته التي سُرقت منه، وهو حزين بصدق لأن من سرقوها ضيّعوا فرصة نجاحها. المآل البائس لهذا النموذج يُضطره إلى التواضع، فيكتفي بالقول أنه الثورة، ولا يقولها مباشرة أو بنبرة من يزعم امتلاك القوة: نحنا الثورة ولاك! وهو على أية حال مثل كثر ينطوي كلامهم أو سلوكهم عل تلك الجملة من دون النطق بها.

الجملة الأصل التي اشتُهرت منذ حوالى أربعة أعوام هي: نحنا الدولة ولاك! وظهرت بما يشبه وسْماً يعبّر عن جيل من مراهقي جيل الألفين، يتوجهون به إلى جيل التسعينات السابق عليهم. العبارة تتضمن زعم القوة الذي تختزنه “الدولة”، والمقصود بالدولة هي السلطة المطلقة لا مفهوم الدولة ككائن مؤسساتي مستقل، بل على العكس هي “الدولة” التي لا تعبأ بأية مؤسسة ولا تبالي بأية قيمة؛ هي القوة العارية المطلقة، وهي كناية إجبارية عن السلطة الوحيدة التي خبرها هذا الجيل، سواء كانت سلطة الأسد أو سلطات الأمر الواقع الأخرى التي يخشى التصريح باسمها.

هناك في الميديا نماذج عديدة تفصّل في “نحنا الدولة ولاك”، تشرح معناها، أو تسخر من أصحابها خاصةً من قِبل أبناء الجيل الأسبق. هناك أغاني راب مثلاً، وهناك أغانٍ بدوية نسمع في إحداها من يغني “كل الهلا بالدولة أبو عيون وساع”، في تأكيد على أن “نحنا الدولة ولاك” هي شخص متكلم ما. أما رواج العبارة خارج أبناء الجيل فهو مرتبط على الأرجح باختصارها حدّين كتناقضين، هما التفاخر المطلق والحاجة المخفية للحصول على الاعتراف العام.

كان انطلاق الثورة، في أحد جوانبه، تعبيراً عن توق السوريين إلى الحصول على الاعتراف بهم في مواجهة سلطة ارتكبت كل الجرائم لإبقائهم مغيّبين. لم تكن مصادفة أن يُفاجأ العالم بالسوريين، بوجودهم كمجموعة بشرية قبل مفاجأة صمودهم وإصرارهم على تحدي السلطة. في المقابل، كانت سياسة الإنكار التي اتبعها الأسد والتركيز على أنها مؤامرة كونية استئنافاً للتعتيم على وجود السوريين نفسه؛ هم لا وجود لهم، وفي أحسن حالات وجودهم هم قلة من المارقين الذين لا يصلحون أكثر من أداة للآخرين.

من المفهوم أيضاً أن نسبة ممن شاركوا في الثورة، أو احتسبوا أنفسهم عليها، لديهم ذلك التوق الشخصي للحصول على اعتراف بوجودهم أو قيمتهم، الأمر الذي كان متعذراً في ظل سلطة الأسد جراء قلة الفرص وتعزيز ثقافة التقاتل على اقتناص القليل المتاح من الفتات. أولئك الذين اعتادوا ندرة الفرص، والتهافت عليها خارج معايير الكفاءة، ستكون الثورة فرصتهم الشخصية التي لا تستتب إلا على حساب الآخرين، أي وفق محاكاةٍ مفادها “نحنا الثورة ولاك”، بما تضمره الأخيرة من تثمين مفرط للذات وإنكار تام للآخر.

مبكراً، تعدى ذلك كونه مجرد ظواهر شخصية يمكن تفهمها والتسامح معها باستحضار مبرراتها. بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة، سيطغى ذلك النزوع إلى احتكار تمثيل الثورة سياسياً، من دون المرور بآليات شفافة ومقنعة للحصول على تفويض بذلك. ثم، مع مرور الوقت، سيبقى فقط أولئك الذين تشبثوا بالفرص التي أتتهم أو سعوا إليها، مع الإصرار على أن الثورة مستمرة طالما هم باقون في مناصبهم. إنهم هم الثورة طالما بقوا مصرون على أنها مستمرة، ما لا يختلف في الجوهر عن الذين يؤرّخون انتهاءها بانسحابهم منها.

ما شهدناه في المستوى السياسي سنرى مثله في الحرب الداخلية بين فصائل يُفترض أنها وُجدت لتقاتل الأسد، وتلك الحروب البينية لا تختصرها حرب الفصائل الجهادية على سواها، فقد بدأت قبل استقواء الأخيرة التي لا تقبل بأقل من تمثيل مشيئة الله، وكانت بين فصائل يدّعي كل منها أحقيته بتمثيل الثورة. هذه المرة لم يكن السلاح يقول “نحنا الثورة ولاك” في مواجهة سلاح “صديق” فحسب، بل كان مختلف حاملي السلاح يقولونها لنشطاء موجودين في أماكن سيطرة تلك الفصائل، وكانت تُقال لعموم المدنيين في تلك المناطق.

لم يكن المستوى الإعلامي خارج الظاهرة ذاتها، مع التنويه بالعدد الضخم للمنابر التي أُنشئت بتمويل خارجي، ومن المرجح أن أية ثورة أخرى لم تحظَ بمثله. وإلى جانب ذلك النزوع إلى احتكار تمثيل الثورة على الأصعدة المذكورة، برز النزوع إلى احتكار فهم الثورة، ومن ثم محاولة فرض سردية للثورة أو محاولة فرض إنكارها كثورة. القادمون من السلالة البلشفية لكتاب الثورات دأبوا طوال الوقت على إعلانها؛ “نحنا الثورة ولاك”، وثورتكم ليست بثورة أصلاً. ومن المفهوم أنهم لن يقبلوا بثورة لا يكونون سدنتها، ولا تكون ثورة مع وقف التنفيذ. بينما وجد آخرون ضالتهم في كتاب الثورة الفرنسية وما تلاها، لأن الاستشهاد بها يبيح القول باستمرار الثورة وبقائهم ممثلين لها. لا نستثني المناكفات التي ستبرز لأسباب مستجدة لا علاقة لها بلحظة انطلاق الثورة، ومنها مؤخراً استرجاع بعض الأكراد الانتفاضة الكردية عام2004، بوصفها الثورة الحقة بالمقارنة مع ثورة “الإرهابيين” عام2011.

لم تكن تلك مجرد ظواهر فردية انتهازية ترافقُ جميع الثورات، لقد كانت عبارة “نحنا الثورة ولاك” كامنة في العديد من الصراعات المؤثرة، وفي تعويم ما وصلنا إليه خلال عشر سنوات، وحتى في الإصرار على استمرار الثورة فقط من أجل المستفيدين من تلك العبارة، وهو يختلف بالتأكيد عن إصرار الذين تظاهروا في الداخل، وفي حوران “مثلاً” التي عادت إلى سيطرة الأسد باتفاق أمريكي-روسي-إسرائيلي. تماهى المستفيدون من تلك العبارة المضمرة في خطابهم معها، وصاروا سلطة واقعية أو معنوية، وبمفهوم السلطة التي تتحول إلى عائق أمام التغيير.

الجيل الذي أطلق “نحنا الدولة ولاك” تخطّى مراهقَته، وربما يضحك أبناؤه الآن من تلك العبارة. بقي أن يفعل المثل أصحاب “نحنا الثورة ولاك”، هؤلاء الذين لم يتوقف جوعهم عن الغرف من الرصيد المادي أو المعنوي للثورة، وعلى حساب شركائهم فيها. يبقى تذكيرهم بظهور “نحنا الدولة ولاك” في مكان لا دولة فيه، وتحديداً بسبب ذلك.

المدن

———————–

ما معنى الثورة؟/ سوسن جميل حسن

في النصف الأول من تسعينيّات القرن الماضي، كانت ابنتي في المرحلة الابتدائية، في الصف الثاني، وفيما كان يُعرض على الشاشة الحكومية السورية برنامج عن قصور الأرميتاج في روسيا، انتبهتُ إلى أنّها مشدودة إلى الشاشة تتابع الصور وتحاول فهم التعليق عليها، سألتني بعدها ما معنى ثورة؟ ولماذا كان هناك قتل ودماء؟ حكيت لها بشكل مبسط وموجز عن الثورة الحمراء البلشفية بأسلوبٍ يناسب سنّها وطفولتها، بتقريب الفكرة إلى روحها البريئة على شكل معادلة بسيطة: ظلم وقهر وفقر للناس من الأباطرة الذين يحكمون ويملكون كل شيء. محاولة تقريب المفهوم النبيل للثورة ومعنيي الظلم والعدالة، من دون أن أجرح هناءة طفولتها بأسئلة المستقبل وقلقه، ومتجاهلة، في الوقت نفسه، بسبب عجزي عن الإجابة، الشطر الثاني من السؤال: لماذا القتل وسفك الدماء؟ لم أتوقّع أن تُضمر سؤالًا قائمًا على المفارقة في وعيها الطفولي حينها، أجّلته لتطرحه على معلّمتها في المدرسة، فقد كانت “ثورة الثامن من آذار” (في سورية) حاضرة في الوعي باستمرار، إنْ في المناهج التعليمية أو في أنشطة منظمة طلائع البعث أو في وسائل الإعلام وغيرها من الميادين العامة. كان سؤالها الذي جعلها تعود إلى البيت مكسورة الخاطر: كيف حصلت ثورتنا؟ تقصد “الثامن من آذار”، فما كان من المعلّمة إلّا أن زجرتها بطريقةٍ غير مسؤولة وعنيفة: روحي اسألي أمّك. أمّا بالنسبة لي فلم أستطع ضمنيًّا لوم المعلّمة، كنت أعرف الخوف الساكن صدور الناس.

أضمرت ابنتي في رأسها الصغير حينها، وفي وجدانها النقي، أسئلة كثيرة، منها سؤالا الخوف والثورة. وها هي اليوم تستعيد ذاكرةً حارقةً وتستعيد السؤال مرة أخرى. تقول أمام صورة ترفع مع رفاقها فيها العلم “الرسمي لسورية” قبل أن ينقسم الشعب حول العلم في صيف 2011 في برلين، وجوههم ضاحكة ومشرقة: إنها خرجت مع أصدقائها في ألمانيا في أكبر تظاهرة، وهي لا تعرف لماذا هذه الضحكة العريضة، (لكن أعرف أنّنا كنّا سعداء، كان لدينا حلم اسمه: “بعد اليوم ما في خوف”). تتابع: “كنّا مؤمنين بالحلم، نعدّ الضحايا، لكن كان لدينا قدرة على الحزن والأمل بأن بكرة أحسن”.

ثم ينحدر خطابها نحو الحزن واليأس، بعد استذكار تقدّم الأحداث وازدياد الضحايا وتهجير الآمنين، لتقول: “كان لدينا (وتقصد في برلين) ملجأ من الخيبات المتوالية بمقتل أشخاص آمنّا بهم، والسقوط الأخلاقي لآخرين، ملجأ من صور الذين انتحروا من اليأس، والذين جنّوا، والذين غرقوا في البحر في محاولة الوصول إلى أوروبا، ملجأ من صور الحصار والتجويع، وحاليًّا ملجأ من صور الجوع وأخباره وسعر صرف الدولار وليتر المحروقات وكيلو السكر وربطة الخبز”. وتستغرق أكثر في وصف الحالة السورية، أو حال السوريين في الداخل ومخيمات اللجوء وبلدانه، لتصل إلى السؤال الجوهري: “لمّا أقرأ هذه الأخبار من شاشة الكومبيوتر في بيتي الدافئ الآمن في برلين، أعتقد أن من حقي أن أسأل نفسي: هل بالفعل لن نندم؟” لكنها تستدرك: “بكل صراحة، لا أعرف، على الأقل لما أقرأ هذه الأخبار من موقعي المستقر الآمن، لا أعرف إذا كان يحقّ لي أن أكون من جماعة “نندم” أو “لا نندم”.

سؤال حارق، سؤال أخلاقي أمام هول الكارثة التي ألمّت بالوطن السوري والفاجعة التي حلّت بشعبه، وهي قضية خلافية بين سوريين كثيرين في الخارج وكثيرين من سوريّي الداخل في كل مناطقه. ابنتي تنتمي إلى جيل الحراك والانتفاضة الشعبية في سورية، هذا الجيل الذي ظلمناه نحن الآباء، لم نفكّر في مستقبله، واستهلكنا كلّ ما لدينا بأنانيّة ربما، أو بجهل واستهتار، على الرغم من الباقة الكبيرة من الشعارات والتنظيرات، لكنّنا كنّا بعيدين كلّ البعد عن الممارسة الصحيحة والسليمة لدورنا، آباء وأمهات. كنّا مسكونين بالخوف الذي قرأه جيل أبنائنا في أحداقنا، بينما أسئلتهم تكبر وقلقهم من عالم متغيّر ومغاير يزداد والفجوة تتسع فيما بيننا.

أنتمي إلى أبناء جيل الهزيمة، عايشتها طفلةً لا تملك مقوّمات الفهم والتحليل، وعشتها انعكاسًا في وجدان أبي ورفاقه، أبي الذي بقي مخلصًا لمبادئه حتى آخر يوم في حياته بطهرانيّة محيّرة، لكنها بقيت تلك المبادئ اليانعة التي اغتُصبت يناعتُها ولم تكبر وتتطور لتنتمي إلى المتغيّرات وإلى عصرها، بل بقيت تحمل معها جرح اغتصابها النازف، القومية العربية، الصهيونية عدوّا وحيدا حاضرا في المنام واليقظة، الإمبريالية وأذنابها من الرجعية المعيقة للتقدّم، وظلّوا في غالبيتهم يجترّون خيباتهم مستمرئين أحزانهم ويأسهم. كانوا سلبيين حدّ الاستكانة، غالبيتهم أيضًا من حاضني “الثامن من آذار” إن لم يكونوا من المشاركين فيها، قسم من هذه الغالبية، وأبي منهم، انزوى وترك الخوض في الشأن السياسي في أوائل السبعينات، الثورة التي سميّت زورًا ثورة، بينما لم تعدُ عن كونها انقلابًا عسكريًّا، واستمرارًا لنهج تداول السلطة في سورية ما بعد الاستقلال، الانقلابات العسكرية.

إذا ما عدنا إلى الخوف، هل حقيقيٌّ أن الانتفاضة حطّمت جدار الخوف الراسخ في نفوس السوريين؟ نعم ولا.. نعم، أمام المدّ الكبير الواسع الذي كانت عليه المظاهرات في البدايات، على الرغم ممّا قوبلت به من عنفٍ باكر. ولا، لأن الانتكاسة كانت أكبر، فاستولدت الخوف مزيدًا برواسب خوف الماضي، غالبية من استمرّوا في خطابهم المناهض لممارسات النظام والمعارضة التي كانت كانعكاس له في المرآة. هم بعيدون عن دائرة الخطر، يستطيعون أن ينتقدوا ويُعلوا الصوت، طالما أنهم بعيدون عن الرصاص والمدافع والاعتقال والقهر والتصفية والتشريد وانتهاك الحقوق والحياة. قايضوا العيش في الوطن بالعيش خارجه، ومارسوا حقّهم في الموقف والرأي، عن دراية أو من دونها. المهم أن لديهم ما يصرخون به. أمّا من هم في الداخل فانصاعوا في غالبيتهم أيضًا ما خلا بعض المنشغلين بالهمّ الثقافي، إذ من يستطيع أن يصرخ حتى في لحظة الألم القصوى من دون أن يعرّض حياته التي لم تعد تشبه الحياة إلى التنكيل والاغتصاب؟ من يصرُخ في الداخل السوري أمام واقعه المهين في كل مناطق النفوذ؟ لقد أظهرت الحرب بسرعةٍ رهيبةٍ هشاشة الوعي المجتمعي، وهشاشة الانتماء وهشاشة النضال حتى، لقد دفعت شريحة كبيرة من الشعب إلى ارتماء كل فردٍ منها في حضن طائفته أو مذهبه أو عشيرته أو قوميته، حتى يساريون منهم لم يشذّوا عن هذه الحال، فأين هو حاجز الخوف الذي تحطّم؟

الثورة حركة أو انتفاضة قد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، أو مزيجًا من هذا كلّه، تقوم بها شريحة من الشعب ضد وضعٍ لم يعد بمقدور أفرادها احتماله بما يشمل من انتهاك حقوق أو مطالبة بحقوق غائبة أو اعتراض على ممارسات وقوانين تؤثر على حياتهم، وهذا أمر مفهوم وله مبرّراته، وما أكثرها في بلادنا، لكن باستقراء السنوات العشر الدامية المنصرمة، واستحضار بقية التجارب في المنطقة التي سمّيت حركات الاحتجاج فيها الربيع العربي، وما نجم عنها من دمار وانهيار لبنى الدولة والمجتمع، وباستحضار الماضي البعيد والتاريخ، يمكن القول إن الثورات ما زالت، كمفهوم وممارسة غريبة عن شعوبنا، على الرغم من وجود كل أسبابها، فالحركات التي عرفها المسلمون، كانت إما تمرّدًا على الخلافة أو محاولات خروج على السلطان. وفي التاريخ الحديث لمنطقتنا العربية، كانت انقلاباتٍ على الحكم أو صراعًا على السلطة.

وبالعودة إلى مقدمة الحديث، وما دوّنت ابنتي، مثالا عن جيل كانت لديه أسباب تمرّده على واقعه وطموحاته وأحلامه المختلفة في مجالات عدة عن طموحات آبائهم وأحلامهم، فإن إعادة النظر في التجربة السابقة ضرورة حتمية، والبناء من أجل غد يوفّر مقوّمات التغيير أو الانقلاب على واقعٍ بات أكثر تعقيدًا ممّا مضى ضرورة أيضًا. الثورة ليست مرحلة. إنها صيرورة دائمة، وكل لحظة تخلق من رحمها لحظة ثورية أخرى، إنها وعيٌ يتشكل خلال مسيرتها. ليست نقطة خلافية بهذا الحجم تسمية ما حدث، بين ثورةٍ وانتفاضةٍ وحراكٍ وغيره، لكن النقطة الأهم هي الاتفاق على ضرورة بناء وعي عام يعين الأجيال في تحديد أهدافها ورسم مسيرتها ووضع خططها، وعي يساعد في النهوض من هذا الواقع المعقد الغارق في اليأس وانسداد الأفق. لقد احترقت عشر سنوات من عمر الشعب، واحترقت مئات آلاف الحيوات في صراع عدمي، أتى على بذور الوعي قبل أن تبدأ ربيعها وتفتّحها، ولم يؤسس لوعي بديل.

العربي الجديد

—————————–

ثورة ليست كغيرها/ ميشيل كيلو

في كل الأعمال الخارجة عن أي مألوف، وحيث الواقع أكبر من احتمالاته، كما قال الفيلسوف هيغل، يصعب على المتابع، حتى إن كان من النوع الذي سماه هيغل نفسه “مؤرّخ كل يوم”، أن يقرأ ثورة السوريين، فهي من أبرز الأعمال الخارجة عن المألوف، وتتحدى قدرتنا على إيجاد لغة تليق بها، وتعبر عن مضامينها التي تجل عن الوصف، وتتخطّى كل ما سبق أن عرفته بلادنا ومنطقتنا خلال تاريخها الطويل، وما عاشته من أمجاد ومآس.

تتحدّانا الثورة التي خال أعداؤها أنها مستحيلة، وها هي تجعل كل ما عداها باطلا وقبض ريح. وبعد أن كانت حلما تُقاس به الأماني، صارت واقعا لا حلم سواه ولا أمنية عداها، يعيشه السوريون منذ الخامس عشر من مارس/ آذار عام 2011. ونحن في يوم الذكرى العاشرة لانفجارها الذي زلزل الدنيا بمعنى الكلمة الحرفي، ولم يستطع أعداؤها حجب ارتداداتها عليهم، وعلى أولئك الذين هرعوا إلى الحرب عليه، وفي ظنهم أنه يكفي أن يهشّوا لها من بعيد، حتى تنهار، ويفرّ أحرارها مذعورين لا يلوون على شيء.

قبل الثورة بأيام، قال بشار الأسد إن سورية لن تشهد ثورة، بسبب التطابق بين معتقداته وما يعتقد به الشعب. بعد أيام، واجه الثورة بردّ فعلٍ أحمق قدر ما هو إجرامي، لأنه استهان بالربيع العربي، وأفهمه جلاوزته أن مجال السلطة العام لا يتّسع للسوريين، فإن دخلوه تم اصطيادهم واحدا بعد آخر، وجماعة بعد جماعة. لم يدخل الشعب مجال الأسدية العام أفرادا أو جماعات، بل اقتحمه كشعب ينتمي إلى مجاله الخاص، القائم على الحرية، والمتنافي مع كل ما يمتّ إلى الأسدية بصلة، والمفعم بالحرية الكرامة والتصميم على كسر قيود الطغيان. وما أن واجهته آلة القمع بعنفها، حتى أخذت تتصدّع بعجزها عن كسر إرادته أولا، ثم بإصراره على تخطّي حواجز النار والدم، الذي بلغ عامه العاشر. ولو أنك سألت متحمسّا للثورة عن الفترة التي يمكن أن يستمر الصراع فيها بين الاستبداد المنظم في مستوى السلطة والحرية التي وحّدت إرادتها وسط الأهازيج، لأخبرك أن الاستبداد أعد نفسه لمثل هذه الساعات، والشعب مشتّت مبعثر، ومن الصعب أن تستمر الثورة. لكن الواقع كان بعيدا عن هذه المخاوف، فالسوريون راهنوا على أنفسهم برهانهم على حريتهم، وأسّسوا إرادتهم العامة في الشارع، وخذلوا من خال، كالأسد، أنه لن تقوم لها قائمة، ما دام نظامه قائما، غير أن هذه الإرادة التي عبرت عن نفسها ناضجة فاعلة خلال الثورة، وجدت قبلها. ولو لم توجد، لما كان هناك غير مزق متناثرة من مواطنين تائهين، ولما شهد العالم جموعا هائلة توحّدها الحرية، وهي تحتفي بها في الشارع، والرصاص ينهمر عليها كالمطر، فكأنها تحتفل بأحد طقوس التضحية التي كانت ضرورية في الزمن الغابر لإنقاذ الجماعة، وغدت بعد الثورة رهان الخلاص، ومعيار التفوّق الأخلاقي والوطني على من كان الرصاص لغتهم التي فشلت في إسكات من يحتفون بأنفسهم وهم يردّدون: سورية بدها حرية، والشعب السوري واحد.

واليوم، وبعد أن بدأ الشعب تاريخا جديدا، وبلغ العاشرة من عمر حريته الذي انتزعه بدمه ودموعه من عمر الأسدية، واجتاز المطهر السياسي والروحي الذي فرض عليه، لم يعد هناك أي شكٍّ في أن النظام الأسدي المقيت صار وراءه، لأنه عجز عن ليّ ذراعه، أو كسر عزيمته، أو إجباره على التخلّي عن إيمانهم بالحرية وبوحدة الشعب، وربط وجودهم به، ما دامت الحرية هي النقطة التي فصلوا أنفسهم بواسطتها عن إجرام الأسدية وبؤسها، وشتلة المستقبل اليانعة التي تتنامى كل يوم وفي كل خطوة يخطونها، حيثما كانوا، على درب الألم الراهن، والحلم الآتي.

—————————-

مستقبل سوريا لم يُكتب بعد..الصراع بلا منتصر

قالت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية إن العنف الذي بدأه الرئيس السوري بشار الأسد لم ينتهِ بعد، ولن ينتهي خلال عقود قادمة، وأنه أصبح من المستحيل عد ضحايا هذا العنف. وذكر المقال الذي كتبه الصحافي أوز قطرجي تحت عنوان: “عنف الأسد بدأ صراعاً سيُحرق لعقود قادمة”، أن العنف الذي بدأه الأسد شكل أكبر كارثة بشرية من صنع الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية.

يصادف هذا الأسبوع الذكرى السنوية العاشرة لأول احتجاجات مناهضة للحكومة اندلعت في دمشق وحلب في آذار/مارس 2011. لكن هذا التاريخ الرسمي لا يمثل سوى بداية الثورة السورية، وليس اللقطة الافتتاحية للحرب الأهلية السورية، التي لم تبدأ إلا بعد شهور من حملة القمع الوحشية التي خلفت بالفعل آلاف القتلى على أيدي قوات الأمن التابعة للنظام.

بدأ هذا العنف، الذي افتتحه رئيس النظام بشار الأسد، بأكبر كارثة بشرية من صنع الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية، لدرجة أن الأمم المتحدة تخلت رسمياً عن محاولة إحصاء عدد القتلى في كانون الأول/يناير 2014. إنه صراع لم ينتهِ- وهذا لم يحدث أبداً.

كانت آخر محاولة للأمم المتحدة لإجراء إحصاء بيّنت مقتل 400 ألف شخص، وصدر عن المبعوث الأممي إلى سوريا آنذاك ستيفان دي ميستورا في عام 2016. وحتى في ذلك الوقت، فإن هذا الإحصاء بالكاد يعكس التكلفة البشرية الفعلية.

أصبح من المستحيل إحصاء عدد القتلى من القصف اليومي، بل والأكثر استحالة تحديد رقم لأولئك الذين ماتوا في وقت لاحق متأثرين بجراحهم، أو ماتوا من أمراض يمكن الوقاية منها، أو جاعوا حتى الموت نتيجة الحصار الهمجي – أو مئات من آلاف السوريين الذين اختفوا أو أعدموا أو تعرضوا للتعذيب حتى الموت في معسكرات الموت التابعة لنظام الأسد. دائرة المعاناة تتجاوز الموتى: ضحايا الاغتصاب، ضحايا التعذيب، الأطفال المصابون بصدمات نفسية، الأرامل، النازحون. إنها قائمة بلا نهاية.

لم يعد العالم مهتماً بالعد بعد الآن. لكن أقل ما يمكن للغرباء فعله هو التحدث عن بدء العنف بدقة وتسمية مرتكبيه.

يجب ألا يتم تعريف الحرب الأهلية السورية من خلال تحدي وشجاعة أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع في عام 2011 ولكن بدلاً من ذلك من خلال الشعار الذي استخدمته ميليشيات الأسد الشخصية لإثارة الخوف في قلوب الشعب السوري: “الأسد أو لا أحد. الأسد أو نحرق البلد “. هذا هو الوعد الوحيد الذي التزم به النظام. لهذا السبب من الخطأ تحديد هذا التاريخ على أنه بداية الحرب الأهلية السورية: لم يختَر السوريون أن يصبحوا ضحايا لحملة عسكرية عنيفة بسبب رغبة رجل واحد في السلطة. كانت جريمة ارتُكبت ضدهم.

لم تبدأ الحرب عندما بدأت المسيرات، ولم تنتهِ حتى مع انهيار أو سحق الكثير من المعارضة. تقع سوريا في أنقاض محترقة، حيث يجلس الأسد على رأس معظم الأراضي التي يسيطر عليها النظام، لكن في الواقع، أجزاء من البلاد تحكمها فعلياً ميليشيات مدعومة من روسيا وإيران. وبعيداً عن “الأسد أو لا أحد”، فإن الشعب السوري الآن لديه حزب الله وحسن نصر الله وآية الله علي خامنئي والروسي فلاديمير بوتين لإضافتهم إلى تلك القائمة. هذا ليس سلاماً. إنها مجموعة من أمراء الحرب المتشابكين الذين يعتمدون على العنف اليومي للحفاظ على قوتهم سليمة.

انهار الاقتصاد السوري إلى عمق غير مسبوق حتى في ذروة العنف، مع انخفاض قيمة الليرة السورية بوتيرة يومية. تجاوز سعر الليرة السورية ال4500 للدولار الواحد. كانت قيمة العملة قبل الحرب قرابة 50 ليرة للدولار. نسبياً، تم تداول الليرة السورية عند حوالي 600 مقابل الدولار في عام 2016. ولكن حتى قبل الانزلاق اللولبي الأخير، لم يفعل النظام شيئاً تقريباً في طريق إعادة الإعمار، حيث لا تزال المناطق التي استولى عليها منذ سنوات في حالة خراب.

لن يمول حلفاء النظام في إيران وروسيا إعادة الإعمار، وبدلاً من ذلك يتطلعون إلى الاتحاد الأوروبي وآخرين لدفع فاتورة تدمير البنية التحتية لسوريا. لن يفتح الغرب الخزائن ولن يسقط العقوبات دون إحراز تقدم نحو الانتقال السياسي الذي أحرق نظام الأسد البلاد لتجنب متابعته.

حتى إذا كان من الممكن التفاوض على – أو تجاهل “الرعب الأخلاقي” لإعادة تطبيع نظام الأسد، فإن النظام، كما تشير جميع الأدلة المتاحة من سلوكه، لن يستخدم التمويل الإضافي سوى لإعادة بناء حالته الأمنية والاستمرار في استخدام المساعدة كسلاح حرب، الأمر الذي سمحت به الأمم المتحدة بشكل مخزٍ من مكتبها في دمشق منذ اليوم الأول.

الوضع قاتم بالقدر نفسه في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. إدلب هي آخر جيب للمعارضة في سوريا، وهي محمية تركية بحكم الأمر الواقع. فهي موطن لأكثر من 3 ملايين شخص، والغالبية العظمى هم من النازحين قسراً من المناطق المحاصرة والقصف بوحشية لا هوادة فيها.

يعيش السكان هناك تحت رحمة إما قوات المعارضة المدعومة من تركيا، والمذنبين بانتهاكات حقوق الإنسان وعمليات الإعدام، والذين تم تجنيدهم مؤخراً من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وصفه المقال ب”المستبد”، في توغلاته العسكرية الأجنبية في أذربيجان وليبيا، أو الأصوليين. هيئة تحرير الشام، الفرع السابق للقاعدة، مذنبة مرة أخرى بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق.

أهالي إدلب محاصرون من جميع الجهات، في مواجهة حدود تركية مغلقة من جهة وقوات النظام من جهة أخرى. على الرغم من وقف إطلاق النار التركي-الروسي الصامد إلى حد كبير في الجيب، لا تزال الأجزاء السكنية من محافظة إدلب تتعرض لقصف مدفعي من قبل نظام لم يتخلّ عن وعده باستعادة “كل شبر” من سوريا. تواجه إدلب اليوم مستقبلاً غير مستقر. هي قطاع غزة السوري المحاصر والفقير والخالي من القانون، الذي يعيش فقط تحت رحمة أمراء الحرب والقوى الدولية غير المبالية أو التي تسمح بمحنتهم.

يقتصر التأثير الضئيل للقوى الغربية على الأرض في سوريا على الجيوب الصغيرة المحيطة بالقوات الأميركية، مثل معبر التنف الحدودي مع الأردن، وفي شمال شرق سوريا إلى جانب حلفائها في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي في الأساس تابعة للولايات المتحدة.

سوريا اليوم دولة فاشلة، مقسمة فعلياً إلى مناطق نفوذ متنافسة. إنها تتأرجح على شفا المجاعة، حيث يعيش 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر، وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر. حتى مع هذه الأرقام الصادمة، يواصل النظام وروسيا إعاقة جهود المساعدات الدولية عن عمد، حيث تعمل الوحشية كعنصر حاسم في تمكين قبضة النظام الكاملة على السلطة.

في حين أن مستقبل سوريا لا يزال غير مكتوب، يبدو أن السنوات العشر القادمة ستكون على الأقل مؤلمة مثل الماضي. ليست الخريطة الإقليمية لسوريا وحدها التي أصبحت عالقة في طريق مسدود. العملية السياسية والدبلوماسية شبه معدومة. لم تنتهِ الحرب، هي فقط في حالة ركود، وتستمر المعاناة في مشهد محطم وفوضوي لدرجة أنه حتى أعلى السلطات على هذا الكوكب لا تستطيع تحديد عدد القتلى بشكل دقيق.

المعاناة هي اليقين الوحيد المتبقي في سوريا. الأسد لم يفز بأي شيء. لا يوجد منتصر في مستقبل البلاد، فقط ضحايا ومرتكبون، ومجتمع دولي يقف جانباً ويتفرج على ملايين البشر يُذبحون ويُشردون.

عندما نحتفل بالذكرى السنوية لاحتجاجات 2011، علينا أن نتذكر ذكرى أولئك الذين ساروا بأذرعهم حاملين الورود ويغنون أغاني السلام، وليس أولئك الذين أحرقوا البلاد لوقفها. هذه الكرامة هي أقل ما يمكننا تقديمه.

المدن

—————————-

الذكرى العاشرة للثورة السورية/ مروان عبد الرزاق

الفشل الكلي، والأمل من جديد

هل فشلت الثورة في سوريا بعد عشر سنوات من انطلاقتها؟ الجواب صعب للغاية، بالفشل أو النجاح! لكن يمكننا أن نرصد باختصار بعض المسائل الهامة لسيرورة الثورة منذ انطلاقتها في “آذار ٢٠١١” على يد أطفال درعا، وحتى”٢٠٢١”، بحيث يمكننا الاجابة على السؤال المطروح.

-١-

انطلق الشعب السوري بالثورة بشكل سلمي وراقي ترفع راية الحرية والكرامة قبل عقد من الزمان، لإسقاط النظام الاستبدادي، وإقامة الدولة الديمقراطية الحديثة، التي تحقق الحرية والكرامة، حيث تم كسر جدار الخوف القابع فوق أعناقهم لعقود، نحو الحرية. لكنها جوبهت من قبل النظام الاستبدادي بالرصاص والنار، وتم قتل واعتقال الآلاف، لأن النظام يعتقد أن الحل العسكري والأمني هو الحل تجاه المعارضة، كما حصل في ثمانينيات القرن الماضي ضد الاخوان المسلمين والشيوعيين. وخلال السنة الاولى من الثورة لم يتم اسقاط الرئيس كما حصل في تونس ومصر. إنما ازداد هذا النظام في القتل والدموية.

وبالتالي فشل الشعب بالطريقة السلمية لإسقاط النظام. لكن هل هذا يعني فشل النضال السلمي لإسقاط الاستبداد؟ بالتأكيد لا، فالطريقة السلمية هي إحدى الطرق الأمثل لإسقاط الطغاة. لكن الحالة الخاصة للنظام السوري بسبب عصبويته وطائفيته، هو الذي أفشل النضال السلمي للشعب.

وهو الفشل “الأول” للشعب السوري الثائر.

-٢-

بالأسلوب الدموي للنظام. اندفع الشباب لاستخدام السلاح ضد النظام الاستبدادي، ليس للدفاع عن المتظاهرين السلميين فقط، انما لإسقاط النظام. وتحولت الثورة في السنة الثانية، من. ثورة سلمية، إلى ثورة مسلحة. وقد استطاع الثوار بفعل السلاح الشخصي الذي اشتروه من مدخراتهم، والسلاح الذي سيطروا عليه من النظام، السيطرة على قسم كبير من الاراضي السورية، وطرد النظام منها. لكن حاجة الفصائل لعسكرية للسلاح والمال، جعلها تنضوي تحت راية دول الخليج العربي: السعودية، وقطر، والامارات، وتركيا، ومدعومة من أصدقاء الشعب السوري، استطاعت تحرير أكثر من ثلثي سوريا. وخلال التسليح والتحرير، لم تقدم هذه الدول الأسلحة اللازمة لإسقاط النظام. وكذلك فشلت المعارضة في الدعم الأمريكي لها. لأن أمريكا لا تريد اسقاط النظام، إنما فقط تريد القضاء على “داعش”، كما أنها منعت تقديم الأسلحة اللازمة، وهذا لم يكن مواتياً للفصائل العسكرية، لأنها ترغب بإسقاط النظام و”داعش” أيضاً. وهذا دفع بأمريكا إلى دعم الفصائل الكردية، لتحرير الرقة من “داعش”، مما أوجد شرخاً كبيراً بين الفصائل الكردية من جهة، والعربية من جهة ثانية.

وهل كان التسلح خطأ، كما كانت تقول “هيئة التنسيق” القابعة في أرض النظام، أم أن الخيار العسكري هو الصحيح؟ بالتأكيد التسليح كان هو الحل المنشود، لكن يلزمه بعض المقومات الضرورية للكفاح المسلح الثوري. ومثل هذه المقومات لم تكن موجودة، وأهمها: القيادة السياسية-العسكرية لعموم الثورة في سوريا، وأن تكون غير مرتهنة لأية دولة خارجية، والتي تقود العملية العسكرية والسياسية للثورة، وتحقق الحرية والكرامة والديمقراطية في المناطق التي تم تحريرها من النظام، كما هي أهداف الثورة. وهذا كان ممكناً في بداية الثورة، لولا تخاذل المعارضة السياسية.

وبذلك كان الفشل “الثاني” للفصائل العسكرية لعدم وجود القيادة السياسية-العسكرية للثورة. وهذا الفشل كان كارِثياً للثورة، وهو مستمر حتى الآن.

-٣-

ومع التحول إلى الثورة المسلحة، اعتقل النظام وعذب العديد من الناشطين وأعدمهم. وبمساعدة. النظام من جهة، والفصائل المعارضة من جهة ثانية، نشأت “داعش والنصرة” وغيرهما من الفصائل العسكرية الاسلامية المسلحة، والتي تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية مع سيطرة المشايخ، وهيئات الامر بالمعروف، والمحاكم الشرعية. بالإضافة إلى البنية الاسلاموية للفصائل المعارضة، الطائفية الحديثة التشكل، التي تشكلت بفعل السلوك الطائفي للنظام، وسيطرة دول الخليج ومشايخهم، بدءاً من “العرعور”، والقرضاوي، وغيرهم، منذ بدايات الثورة. حيث أكملت هذه الفصائل الجريمة بسجن واعدام الشباب الديمقراطي مع الإعلاميين، مما دفع بهم إلى الهجرة والغياب عن الساحة، بسبب الملاحقة من قبل الفصائل العسكرية الحاكمة، أولاً، وبسبب رفضهم لأسلمة الثورة وتطيفها ثانياً، وعدم قدرتهم على تشكيل فصيل عسكري ديمقراطي، يعمل على الكفاح المسلح ضد النظام، ثالثاً، وهذا أدى إلى نتيجة هامة وهي: عدم القدرة في المناطق المحررة من النظام، بتشكيل مناطق ديمقراطية، تعبر عن أهداف الثورة في الحرية وحقوق الإنسان والكرامة، بحيث تكون نقطة جذب هامة لكل المناضلين في سبيل الثورة. إنما كان البديل مناطق يسيطر عليها الاسلام العسكري والسياسي، مع المشايخ، والمحاكم الشرعية، وهذه كانت نقطة فارقة في الثورة السورية، وبداية تدهورها، وخضوعها للإسلام السياسي والعسكري. وهذا البديل ضد الثورة وأهدافها في الحرية وحقوق الانسان. لأن الثورة بعد اسقاط النظام، يعني تحقيق الازدهار الديمقراطي للسكان، والحرية والكرامة. وليس حكم العسكر، والفساد، والنهب الذي يمارسه قادة الفصائل. ولأن الثورة لم تنهض من أجل أن يحكمها المشايخ، والتضييق على الحريات، إنما انتفضت من أجل الحرية.

وبذلك كان الفشل “الثالث” للثورة السورية المجيدة. وهذا الفشل سيكون له تأثيرات عديدة حول مستقبل الثورة.

-٤-

والنظام بالمقابل استنجد بإيران، وحزب الله لنجدته، ثم التدخل الروسي في “٢٠١٥”، الذي حسم المعركة لصالح النظام عسكرياً أولاً، مع القتل والاعتقال والتعذيب لأكثر من مليون شهيد، وتهجير عشرة ملايين شخص في دول الجوار، والمخيمات، بحيث أصبح نصف الشعب السوري مشردا خارج مدينته وبيوته. وأصبحت روسيا هي المقرر العسكري والسياسي لسوريا. وقامت ثانياً بترحيل الثوار من درعا وحمص ودمشق وحلب ودير الزور، عبر مصالحات كاذبة، تم ترتيبها بتآمر روسي-تركي حيث تم ترحيل كافة المعارضين إلى ادلب وريفي حلب وادلب، بحيث أصبحت ادلب هي الموقع لكل المعارضين المسلحين، بقيادة تركية مع تأسيس “الجيش الوطني” الذي ضم الفصائل العسكرية، بالإضافة إلى جبهة النصرة “هيئة تحرير الشام” التابعة للقاعدة التي تسيطر على ادلب وريفها.

ولم تعد تملك الفصائل المسلحة، المحصورة في ادلب وجرابلس والباب وعفرين، أي قرار أو مشروع لتحرير سوريا، أو “اسقاط النظام”. إنما أصبحت هذه الفصائل مرهونة بالقيادة التركية، لقتال الاكراد، أو الارتزاق في الساحة الليبية، أو الاذربيجانية، وفقاً للمصلحة التركية وأهدافها. وبذلك خسرت الداعمين الخليجيين، والسعودية، وأمريكا، وأصدقاء سوريا، والغرب الأوروبي، وأسسوا مع تركيا منطقتهم الخاصة بهم في ادلب. والقيادة التركية ليس لديها أي مشروع لإسقاط النظام. إنما تسعى نحو الحل السياسي مع روسيا وإيران، وفق مصالحها الخاصة.

وبذلك نسجل الفشل “الرابع” للانتفاضة المسلحة التي لم تعد قادرة على اسقاط النظام عسكرياً، وهو السبب الذي تسلحت لأجله، وذلك مفجع للغاية.

فهل سقط الحل العسكري؟ نعم سقط الحل العسكري عبر الفصائل الإسلامية، التي تصدرت ساحة الصراع، والتي ارتهنت منذ تشكلها إلى الخارج، وكان الأخير تركيا.

-٥-

وسورية أصبحت مقسمة بين فصائل عسكرية متعددة. الفصائل العسكرية التي سميت ب”الجيش الوطني” ومسيطر عليه بالقيادة التركية والتي تسيطر على (١١٪) من الارض السورية. وأيضاً “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية المدعومة امريكياً وتسيطر على الرقة الجزء الشرقي من نهر الفرات بنسبة (٢٦٪) من الأرض، بعد انتزاع عفرين منها بالقوات التركية وتهجير اهلها. وكذلك الأراضي التي يسطر عليها الروس مع النظام مع الايرانيين وحزب الله، والتي تضم دمشق وحلب وحماه وحمص والساحل بما يعادل (٦٣٪) من الأراضي السورية. بحيث نجد سوريا مقسمة بين تركيا، والنظام مع روسيا وإيران، وأمريكا، وكل منطقة مفصولة عنن الاخرى وتدير شؤونها بنفسها.

والجميع مرتاح لحالة اللا سلم واللا حرب على الأرض السورية. ولا توجد تناقضات حقيقية للقوى العسكرية على الارض، سوى بعض التناقض بين الاتراك وقوات سوريا الديمقراطية التي تسعى كل منهم للسيطرة على المزيد من الأراضي. والتناقض. بين الروس وإيران وإسرائيل يمكن حله بالتفاهم مع بعض الضربات الاسرائيلية للنظام وإيران. فالاثنان الروس وإيران بحاجة لبعضهم لحماية النظام. وهناك شراكة روسية تركية على الأرض. وأمريكا لا علاقة لها بالآخرين، فقط الدعم للأكراد، والخلاف المؤقت مع تركيا، ومتفقة مع روسيا بسلوكها، باعتبارها هي الفاعل الحقيقي في الساحة. رغم استمرار الصراع بين النظام والروس من جهة، و”الجيش الوطني”، من جهة ثانية، حيث القصف يومي ومستمر لاستيلائه على أرض المعارضة وقتله للمدنيين وقراهم. والجميع يرفض الاسقاط العسكري للنظام. وهذا يعني فشل كل القوى العسكرية المتواجدة على الارض السورية في اسقاط النظام.

إذاً كل الموجودين في أزمة لتواجدهم في سوريا، ويعملون لمصالحهم، في الإبقاء على الرئيس، جوهر الأزمة. ولا يوجد حل راهن في سوريا، وحتى يتحقق ذلك ستبقى سوريا في حالة الضياع والتشرذم. وربما ستجد سوريا نفسها في حالة صراعات مسلحة بين القوى العسكرية على الأرض، باتجاه الحل الشامل، والذي لا يعرف أحد جوهره حتى الآن.

وهذا الحل لا يكون إلا بإسقاط النظام. وهذا الحل غير وارد في المرحلة الراهنة. لأن هذا الحل بحاجة إلى توافق امريكي-روسي، وايراني وتركي، وهذا غير متوفر.

وإذا لم يسقط النظام، وكان الحل الأمريكي-الروسي مطروحاً، قد يذهب النظام إلى “أرضه المفيدة” في الساحل، وتلك اشكالية جديدة تواجه السوريين، حول وحدة التراب الوطني ومجتمعه السوري.

وهذا يعني الفشل رقم (٥) للشعب السوري، في اسقاط النظام والعودة من المخيمات وبلاد المهجر إلى بيوته.

-٦-

والجامعة العربية، ومنظمة الأمم المتحدة، ومجلس الامن، لهما دور مميز، في الصراع السوري. وهذا الدور تمثل بإرسال المندوبين الدوليين مثل: كوفي أنان، والاخضر الابراهيمي، وستيفان دي مستورا، وبيدرسون. وجميعهم حاولوا حل إشكالية الصراع، ليس باعتباره ثورة للحرية ضد الاستبداد، إنما كحرب أهلية، أو “نزاع أهلي مركب”، وأزمة دولية معقدة، بتعبير دي مستورا. وتم اصدار العديد من القرارات المتعلقة بحقوق الانسان، والحاجات الإنسانية. وكذلك اجتماعات جنيف الخمسة “من ٢٠١٢حتى٢٠١٧”، بدءاً من كوفي أنان ونقاطه الستة التي شكلت جوهر القرار “٢٢٥٤لعام ٢٠١٥”، والمراحل الثلاث وتتضمن: مفاوضات لتشكيل هيئة حكم انتقالية، ومجلس عسكري، وانتخابات رئاسية وبرلمانية، والسلال الأربعة، التي تتضمن: حكم غير طائفي، ودستور جديد، وانتخابات حرة، وحوكمة الامن ومكافحة الارهاب، و”تجميد الصراع”، لدى دي مستورا، وانتهاءً باللجنة الدستورية التي يرعاها الآن بيدرسون. مع مجموعة القرارات الدولية للحوار حولها ومنها قراري”٢٢٥٤و ٢٢١٨”. وجميع القرارات والاجتماعات كانت فاشلة، حيث لم يتوصل المبعوثون لأي نتيجة، حيث يستقيل الواحد تلو الآخر. وأسباب الفشل بشكل عام: استمرار النظام بالحل الأمني والعسكري ووصفه للمعارضة بالإرهابيين، وعدم مناقشة تشكيل هيئة حكم انتقالية. وتفضيل المعارضة لإسقاط الرئيس، وكانوا منقسمين، وينظرون بالريبة تجاه أنان والابراهيمي، ومجلس الأمن المنقسم على نفسه بين أمريكا وروسيا، وهذه الأخيرة التي تعطل اصدار أي قرار يدين النظام السوري، أو وضع النظام السوري تحت الفصل السابع، بمعنى أنه لم يقدم شيئاً للمبعوثين وللثورة السورية. وكل القرارات الصادرة، مع وجهات نظر المندوبين لم تتضمن اسقاط الرئيس، وحتى أمريكا لا تريد ذلك. إنهم كانوا يعتمدون على التفاوض من أجل الشراكة في الحكم، وكانت النتيجة الفشل، لأن النظام لا يقبل أية شراكة. وبات دور منظمة الأمم المتحدة والاستنكار، والقلق تجاه القتل اليومي.

وبالتالي إنه الفشل السادس لإسقاط النظام الاستبدادي، وإقامة الدولة الديمقراطية الحديثة.

-٧-

أما أهل السياسة في المعارضة، بدءاً من المجلس الوطني، وهيئة التنسيق، والائتلاف، والمنصات في القاهرة وموسكو، ومارافق ذلك من هيئة التنسيق والدعم، والوزارات المؤقتة، وهيئة التفاوض، واللجنة الدستورية.

    في البداية تم الاعتراف بالمجلس الوطني، من قبل الشعب الثائر، لأن الثورة كانت بحاجة لممثل سياسي لها، ثم عدم الاعتراف به فيما بعد نظراً لأنه لم يقدم شيئاً للثورة، ولم يكن يمثل الثورة.

    منذ البداية لم يتواجدوا في الأرض السورية، ولم يؤسس المجلس، والائتلاف من بعده، أية قوة عسكرية تقاتل النظام، وتأسيس قوة سياسية-عسكرية مشتركة لقيادة الثورة. وكان ذلك ممكناً وخاصة العديد ومن الجنود والضباط المنشقين عن النظام موجودون للتأسيس لجيش حر، يحرر الأراضي، ويقيم حكماً ديمقراطياً منشوداً. إنما بقي في تركيا يتنعم بالملايين، وينهبها ضمن دائرة الفساد المستمرة حتى الآن. وعدم التأسيس لمناطق محررة ديمقراطية، وفتح المجال أمام الاخوان المسلمين وباقي الفصائل العسكرية الإسلاموية مع المشايخ، والأمر بالمعروف، والمحاكم الشرعية، كي تحكم، وصمة عار في وجه القيادة السياسية المعارضة، حيث من الصعب تسميتها بالقيادة للثورة.

    وكانت خارطته الأولى والأخيرة، الدعوة لأمريكا ودول العالم لإسقاط النظام، على الطريقة الليبية أو العراقية. في الوقت الذي صرحت فيه أمريكا أنها لا ترغب بإسقاط النظام. واسقاط النظام بحاجة إلى شعب يسقط النظام، وبحاجة إلى استراتيجية فعالة على الأرض، تملكها القيادة ممثلة بقوة عسكرية، وخطة طريق سياسية مرسومة، وأشخاص قياديين، وليسوا منتفعين، وهذا لم يمتكه الائتلاف. ومازالت الدعوات مستمرة حتى الآن كأنها فقاعة صابون.

    والخلل الأساسي يتمثل في العلاقة المشبوهة مع الاكراد، حيث انقسم الوطن بين الثلاثي: النظام، والمعارضة، والاكراد. دون أن تأخذ الفصائل العسكرية، والائتلاف أيضاً، أن الشعب الكردي، شعب أصيل في سوريا، وهو القومية الثانية في سوريا، وله الحق في إدارة المناطق الكردية، ضمن سوريا الموحدة، أرضاً وشعباً. وهذا الانقسام أفرز حساسية بين العرب والاكراد، وفي مسألة تحرير سوريا من النظام.

    ومع التدخل الروسي انهارت الفصائل العسكرية، وبدأ السياسيون يتعاملون مع الروس في أستانا وسوتشي، كبديل عن جنيف ورعاية الامم المتحدة، ضمن الحل التصالحي الروسي، وتم اخراج الفصائل من كل سوريا باتجاه ادلب. وبدؤوا بهيئة التفاوض، ثم اللجنة الدستورية، ضمن ألاعيب روسيا وخططها نحو إعادة تشكيل النظام، وإلى الان مستمرون ضمن هذه الألاعيب، وهم ينادون بتطبيق القرار “٢٢٥٤” بهدف الحل السياسي المنشود!

وإن عدم وجود قيادة سياسية للثورة يجعلنا أمام الفشل السابع لثورة الشعب السوري.

-٨-

منذ سنوات وممثلي الائتلاف وهيئة التفاوض يحضرون الاجتماعات على أساس القرار “٢٢٥٤”، باعتباره مدخلاً للحل السياسي، دون أن يقتنع النظام مع الروس بذلك مع انضمام منصة “موسكو والقاهرة”، الذين لم يقتنعوا بالحل العسكري، إنما بالحل السياسي برعاية روسية. ويطالبون ب “هيئة حكم انتقالية”، دون وجود الرئيس، وهذا غير متضمن في القرار فهم لايملكون أي استراتيجية لإسقاط النظام عسكرية أو شعبية. والقرار بيد الروس الذين يحافظون على النظام. فالقرار توافقي بين النظام والمعارضة، دون اسقاط الرئيس، انما يؤكد القرار على الحفاظ على مؤسسات الدولة بما فيها الجيش والامن مع بعض التعديلات. وسيجدون أنفسهم بلا حل سياسي، أو حل على الطريقة السورية، التي تتلخص بتغيير وزاري، ووجود الرئيس.

وبالتالي نحن أمام قرار اممي لا يحقق أهداف الشعب السوري بإسقاط الرئيس، وحتى هذا القرار لا يمكن تنفيذه.

فنحن أمام الفشل الثامن لثورة الشعب السوري.

-٩-

عمل الشباب السوري بجهد كبير خلال الثورة. فتم اعتقالهم، وتعذيبهم، وقتلهم، وكذلك تم استخدام ما تبقى منهم في المجلس الوطني من أجل تحسين الواجهة. ثم عملوا في مؤسسات المجتمع المدني، وفي بعض الاحزاب الجديدة التي انتشرت في سوريا والخارج بشكل كبير. لكنهم فشلوا في التأسيس إلى حزب سياسي يعبر ويكون ممثلاً للثورة. وارتهن البعض منهم الى “العجائز” في الأحزاب الصغيرة، والذين جميعهم يدعون إلى البديل الوطني الديمقراطي. لكنهم فشلوا أيضاً وفشلت كل الحوارات لتأسيس بديل ديمقراطي. والسبب الرئيس وراء الفشل-رغم تعدد الأسباب- هي “العنجهية” التي تلازم هذه التنظيمات أو قادتها تحديداً لأنهم يبحثون في النقاط والفواصل، وما قبلها وبعدها، التي تؤدي إلى التفرقة وليس التوحد. وكل زعيم مصاب بالكبرياء، ويحسب نفسه الزعيم الاوحد، ولذلك تفشل كل البدائل الممكنة. بالإضافة إلى سبب آخر وهو أن الجميع في كل الأحزاب يفتقرون إلى الدعم الشعبي في الداخل والخارج.

وبالتالي نحن أمام الفشل التاسع للثورة السورية.

-١٠-

إذا. كانت الثورة فشلت في كل ما سبق، أي “الفشل الكلي”، وعجزت عن إيجاد البديل العسكري والسياسي للثورة، هل يمكن وصف الثورة بالفاشلة، وإنها عجزت عن اسقاط النظام وتحقيق العدالة وحقوق الانسان؟

الإجابة ليست سهلة بالقول انها فشلت أو نجحت. هي بالتأكيد فشلت حتى الآن لأنها لم تنجح بإسقاط النظام الذي تحول إلى عصابة مدعومة روسياً وايرانياً، ومازال يقتل المدنيين كل يوم، ويسيطر على جزء من سوريا.

ولأن الواقع لن يُعيد نفسه فالشعب لن يعود كما كان في السابق تحت راية النظام، ومازال مهجراً، ونازحاً، ومازال العدد الكبير من الشباب والصبايا والكهول ينادي بالثورة في المناطق تحت سيطرة النظام وخارجها، ويقيمون المظاهرات ضد الظلامية الاسلاموية ضد النصرة، وغيرها، تعبيراً عن الثورة واهدافها في الحرية والكرامة، لذلك الثورة مستمرة ولم تفشل نهائياً حتى الآن، ومازالت تكافح وسط التآمرات الاقليمية والدولية.

لكن أين المخرج الفعلي للثورة وسط كل التناقضات على الأرض؟

ينادي الكثيرين بضرورة مؤتمر وطني إنقاذي، كبديل عن الائتلاف أو بالتوافق معه. لكن كل هذه المحاولات فاشلة حتى الآن تحت الزعامات القديمة، التي لا تملك أي رصيد شعبي.

إذ يبدو أننا أمام ثورة جديدة للشباب والصبايا، في إعادة تشكيل أنفسهم، كواقع سياسي جديد للثورة القادمة، يرفض التآمرات الدولية والإقليمية، ويحقق حقوق الانسان، بما فيها حق الأغلبية والأقليات، ويعود إلى “الشعب السوري واحد”، في كل الانتماءات والقوميات، ويرفض كل المؤسسات المشبوهة مثل الائتلاف وغيره، ويؤسس بديلاً سياسياً جديداً، كأن الثورة تبدأ من جديد، مستفيدين من الخبرات المتراكمة من الثورة، وهي كثيرة جداً.

علينا بتشكيل أنفسنا كمجموعات جديدة في الداخل السوري وخارجه، وأقصد الداخل في مناطق النظام، والمناطق المحررة، بحيث تشمل كل الشعب، كما كان حال التنسيقيات في بداية الثورة. وأن تضع هذه التنسيقيات أهدافاً بسيطة ومحددة وهي الاهداف الكبرى بجمل بسيطة يمكن أن يتفق عليها كل الوطنيين السوريين، نحو دولة المواطنة والحرية.

وقد يستغرق ذلك شهوراً، نحو مؤتمر وطني لهذه التنسيقيات، بهدف تشكيل القيادة السياسية للثورة. وهذه القيادة هي التي ستختار الحل العسكري المنشود للقوى الوطنية الديمقراطية لتحرير سوريا من الطاغية.

وإذا لم يتحقق ذلك، ونسجل الفشل العاشر، عندئذ ستبقى سوريا تحت الراية الاستبدادية للعصابة، وللفصائل الاسلامية التي لن تقدم شيئا للشعب الذي سيبقى مشردا، ومهزوماً، والتي يمكن أن تستمر خمس سنوات جديدة، أو أكثر من ذلك. فالمجتمع الدولي والإقليمي، لن يحقق للسوريين الحرية والعدالة، طالما الجميع الآن يعمل لإعادة انشاء النظام واستبداده. فالدولة الديمقراطية الحديثة لا يحققها إلا الشعب السوري وقيادته الثورية.

——————————-

تعو نرّش على الموت سكر

——————————

بشير أبازيد أشعل ثورة أم حربا أهلية في سوريا

في ظل انقلاب الموازين وبقاء النظام السوري تشكلت رؤية جديدة مضمونها أن الحل السلمي للأزمة السورية يعد الخيار الأنسب لمعالجة الملفات الشائكة.

انتفاضة السوريين قد تعود في يوم ما

شهد السوريون، ولا يزالون، أهوالا في خضم الصراع ببلادهم على مدار عقد من الزمن، ولم تفلح المؤسسات والهيئات الدولية في وقف ما يتعرضون له من كافة الأطراف، وخاصة النظام، في ظل غياب محاسبة المسؤولين عن ذلك. ونتيجة لما حصل أصيب اللاجئون الذين ساهموا في إطلاق شرارة الانتفاضة في عام 2011 بصدمة بالغة إثر وقوفهم على الثمن الإنساني الفادح، الذي دفعه الناس بعد أن تحولت الاحتجاجات السلمية إلى حرب أهلية مدمرة.

عمان- يبدو الثابت بعد كل سنوات الحرب، التي جعلت سوريا دولة مدمرة واقتصادها منهارا أن نظام بشار الأسد لم يسقط ولم تفلح الاحتجاجات، التي تفجرت في مارس 2011، في إحداث تغيير كان أغلب السوريين يمنون النفس بأنه سيحصل في وقت وجيز، لتتحول إلى حرب أهلية هي الأقسى.

وبعد أن تمكن النظام من استعادة مناطق واسعة من الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا والمتشددين الإسلاميين. وبدعم من الحليفتين إيران وروسيا، تواصل قوات الأسد معركتها لاستعادة آخر معقل للمعارضة في شمال غرب البلاد.

وفي ظل انقلاب الموازين، بات أشد المعارضين للنظام السوري مجبرين على التخلص من فكرة إسقاط الأسد، فهو ممسك بزمام الأمور في المناطق، التي تسيطر عليها قواته، ويسعى إلى ولاية رئاسية جديدة في الانتخابات المقررة بعد أسابيع، فقد خفتت جذوة أمانيهم ليتحولوا إلى التركيز على أن الأسد لن يستطيع أن يحكم كما كان في السابق.

عدم الاستسلام للواقع

سوريا

يبدو أن الأسد أصبح في وضع آمن بعد أن ظل باقيا في الحكم رغم المعارضة المسلحة، التي شكلت في وقت من الأوقات أكثر التهديدات خطورة على حكم أسرته منذ أن خلف والده حافظ الأسد في الحكم قبل عقدين من الزمن.

لكن الكثير من السوريين وخاصة بمحافظة درعا مصرّون على الإطاحة به، فقد أحيوا الخميس الماضي الذكرى العاشرة للثورة في بادرة لإظهار استمرار التحدي للنظام عبر هتافهم بشعارات مناهضة للحكومة في شوارع الحي القديم من المدينة بعيدا عن أنظار قوات الأمن.

وثمة من يرى أن الأمور قد لا تسير كما كانوا يشتهون، فعندما اعتقل الصبي السوري بشير أبازيد قبل عقد لكتابته شعارات مناهضة للحكومة على جدران مدرسته، لم يكن يتخيل أبدا أن انتفاضة ستندلع وستفضي إلى تدمير بلاده، وهو محبط بسبب ما جرى.

ويروي أبازيد، الذي بلغ الآن الخامسة والعشرين من عمره، في حديثه مع رويترز من تركيا، التي يعيش فيها بعيدا عن مدينته درعا الواقعة في جنوب غرب سوريا قائلا “هذه الأحداث كسرت فينا أشياء كثيرة.. سلبت منا طفولتنا، سلبت منا الفرحة وسلبت منا السعادة. هذه الأحداث كبّرتنا قبل أواننا”.

وباتت درعا مهدا للانتفاضة وما أعقبها من تمرد مسلح ضد الأسد بعد أن جرى اعتقال أكثر من عشرين فتى من بينهم أبازيد وتعذيبهم على يد الشرطة السرية بسبب كتابة شعارات ضد الرئيس. وكان التحدي الذي أبداه الصبية شبيها بأحداث أطلقت شرارة انتفاضات بدول أخرى منها تونس ومصر، كما كشف التعامل الوحشي معهم أثناء الاعتقال عن ظهور استياء قديم كان يغلي تحت السطح.

وتطور الأمر إلى احتجاجات في الشوارع قوبلت من قوات الأمن المدججة بالسلاح بإطلاق النار. وانتشرت الاشتباكات على مستوى البلاد وتفاقمت إلى حرب أهلية دمرت أغلب سوريا قبل أن يُخمد الأسد المعارضة المسلحة بمساعدة من روسيا وإيران.

ويتذكر أبازيد، وهو واحد من بين أكثر من مليوني سوري فروا من الحرب إلى تركيا المجاورة، كيف أجبره أحد أفراد قوات الأمن السورية على الاعتراف تحت الضغط والإكراه بأنه نقش شعارا يقول “أجاك الدور يا دكتور” في إشارة إلى الأسد.

وأطلقت السلطات سراح أبازيد بعد أيام، حين خففت الجولة الأولى من المظاهرات الحاشدة المطالبة بالديمقراطية من القبضة الحديدية للسلطات وبدأت قوات الأمن تلجأ إلى قتل المحتجين السلميين.

وبعد سنوات من إراقة الدماء والفوضى، تمكن أبازيد وأفراد أسرته في النهاية من مغادرة درعا في مايو 2017 واتجهوا إلى تركيا حيث يعمل هو الآن في مجال التشييد. ولا تزال تراوده الكوابيس عن دبابات تعبر في شوارع حي مكتظ بدرعا وأقارب وأصدقاء قتلوا وعن آخرين حملوا السلاح ما فاقم الأمر إلى اندلاع حرب أهلية مدمرة.

لا عودة والأسد موجود

غراف

أصبح أبازيد والعديد من سكان مدينته اليوم من بين ملايين اللاجئين الذين أسسوا لحياة جديدة في دول مجاورة وأبعد من ذلك في أوروبا دون أي نية للعودة في أي وقت قريب. ويخشى الكثيرون من تجنيدهم في الجيش أو اعتقالهم ويعلمون أن بلداتهم وقراهم التي كانت مفعمة بمشاعر مناهضة لحكم الأسد تعرضت للسلب والدمار.

ولم يبق سوى عدد يحصى على أصابع اليد من السكان الأصليين لحي أبازيد الأصلي وهو حي الأربعين في درعا، والشوارع أغلبها أصبحت مهجورة. وقال البعض لرويترز عبر رسائل صوتية على الإنترنت إن السخط تنامى مجددا منذ أن استعادت قوات الأسد بدعم من قوة جوية روسية السيطرة على المدينة واستعادتها من يد المعارضة المسلحة في 2019.

وأشاروا إلى أن الشرطة استأنفت قمعها وسط دمار اقتصادي، بينما أعادت السلطات تماثيل وصورا ضخمة للأسد ووالده الراحل في الأماكن العامة التي كانت قد دُمرت ومُزقت في الأيام الأولى للانتفاضة. ويسرد أبازيد ما حصل بمرارة قائلا “لم يتغير شيء منذ الأيام التي هتفنا خلالها بالحرية. طالبنا بحقنا لكن النظام المجرم لم يتعلم شيئا وازداد وحشية ودموية وتمسكا بالسلطة”.

لكن أحلام الثورة لا تزال تراود أبازيد ويقول “حتى لو بشار سيطر فالثورة لن تنتهي ولن يحلم بحكم سوريا مثلما كان في السابق”. وأشار في تلميح للقوى الغربية التي لم تتدخل ضد الأسد خلال الصراع بالقول إن “الثورة انظلمت… فقط هو الخذلان من الدول التي تدعي حقوق الإنسان وتركتنا لمصيرنا”.

كيف أجهضت الثورة

في ظل انقلاب الموازين، بات أشد المعارضين للنظام السوري مجبرين على التخلص من فكرة إسقاط الأسد، فهو ممسك بزمام الأمور في المناطق، التي تسيطر عليها قواته، ويسعى إلى ولاية رئاسية أخرى في الانتخابات المقررة بعد أسابيع، فقد خفتت جذوة أمانيهم ليتحولوا إلى التركيز على أن الأسد لن يستطيع أن يحكم كما كان في السابق.

وتتناغم مواقف عدد من السوريين مع مواقف أغلب البلدان العربية وحتى القوى الدولية المعارضة للنظام السوري، بأنه لا مفر من إدخال بشار الأسد في تسوية سياسية ممكنة مستقبلا.

وكانت قوات الأسد تسيطر في 2016 على 26 في المئة من المساحة الجملية للبلاد، ولكن بعد أربع سنوات من التدخل العسكري الروسي لدعم النظام أصبحت تسيطر على 60 في المئة من الأراضي.

ويقول محللون إن استرجاع النظام لمدينة حلب، التي كانت تحت سيطرة قوات المعارضة، وغيرها من المدن الحيوية والاستراتيجية، وأكثر من نصف مساحة سوريا الجغرافية، شكلت فارقا في مجريات الأحداث، ما أعطى الأسد نقطة قوة في المفاوضات التي كانت ترعاها روسيا والأمم المتحدة في أستانة.

وحتى يدعم أركان سلطته في وجه التدخل التركي والأميركي كوّن الأسد تحالفات أساسية مع إيران وذراعه حزب الله اللبناني إضافة إلى دعم الصين، التي رفضت التدخل العسكري في سوريا، حيث جاء دعمها نكاية في الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط كما هو الحال مع روسيا.

وفي ضوء تلك التطورات، تشكلت رؤية جديدة لدى بعض القوى الإقليمية وخاصة في بعض العواصم العربية مضمونها أن الحل السلمي للأزمة السورية يعد الخيار الأنسب لمعالجة الملفات الشائكة كالإعمار وقضايا الحدود والإرهاب واللاجئين، وبالتالي تم إغفال النظر عن وجود النظام السوري في أية تسوية سياسية أو سلمية لحل الأزمة.

العرب

—————————–

يارا صبري.. صوت المعتقلين السوريين الحالمين بالحرية

“بدنا ياهم.. بدنا الكل”، بهذه العبارة تعنون الفنانة السورية يارا صبري صفحة خاصة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، خصصتها لمتابعة أخبار المعتقلين السوريين في سجون النظام السوري، ونشر أي معلومات تتعلق بالمختفين قسريا في المعتقلات ومراكز التوقيف بسوريا.

وتنشط صبري المقيمة في كندا من خلال الصفحة بنشر صور معتقلين ومعلومات شخصية عن المعتقل كمدينته ومكان وتاريخ الاعتقال، مطلقة المناشدات للمتابعين لإرسال المعلومات عن مكان المعتقل ومصيره عبر التعليقات على المنشور.

وعبر بعض المنشورات تصل معلومات عن أحد المعتقلين ومصيره، فيتحدث متابع ومعتقل سابق عبر التعليقات أنه التقى بصاحب الصورة، ويؤكد أنه في الفرع الفلاني والمدينة السورية الفلانية.

وفي بعض المنشورات يسيطر الحزن على بعض القصص، إذ يعلق أحدهم بأن هذا المعتقل في الصورة قد توفي نتيجة التعذيب أو المرض وقلة الرعاية الصحية، التي يفتقدها معظم المعتقلين في سجون النظام السوري.

يارا الفنانة

ولدت الفنانة صبري في العاصمة السورية (دمشق) عام 1967، وهي ابنة عائلة فنية بامتياز، فوالدها الفنان الممثل سليم صبري، وأمها الفنانة ثناء دبسي وزوجها الفنان ماهر صليبي.

بدأت يارا مسيرتها الفنية في عام 1989 من خلال مسلسل “شجرة النارنج”، ثم شاركت بعدها في العديد من الأعمال إلى أن وصلت إلى أدوار البطولة المطلقة، لتنتسب بعدها إلى نقابة الفنانين السوريين عام 1998.

من أهم الأعمال التي شاركت بها صبري في الدراما السورية، وفق تسلسلها الزمني: الجذور لا تموت، خان الحرير، باب الحديد، الثريا، الفوارس، الفصول الأربعة، البيوت أسرار، التغريبة الفلسطينية، أهل الغرام، تخت شرقي، وجوه وأماكن، وأوركيديا.

وقالت صبري في تصريحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي إن أقرب الأعمال لقلبها هو الفصول الأربعة، وأكثر شخصية أثرت بها هي أم صالح في التغريبة الفلسطينية، والعملان من إخراج المخرج السوري الراحل حاتم علي.

وفي كندا حيث تقيم صبري شاركت في فيلم “السلام عبر الشوكولاتة” بدور الأم شهناز، فيما جسد الراحل حاتم علي دور الأب عصام هدهد، حيث يرصد الفيلم قصة نجاح عائلة سورية فرت من ويلات الحرب في دمشق إلى لبنان، قبل أن ترحل إلى كندا ضمن برنامج الهجرة.

فازت صبري بجائزة “أدونيا” للدراما السورية عام 2004 كأفضل ممثلة لدورها في المسلسل الشهير “التغريبة الفلسطينية”، وكذلك حازت على جائزة “أدونيا” في 2010 عن دورها في “تخت شرقي”.

وحول ابتعادها عن الساحة الفنية والمخاوف من اختفاء اسمها في عالم الفن، قالت صبري في حوار مفتوح على صفحتها بالإنستغرام إنها لم تترك الفن؛ لكنها تتمنى وجود عمل يستحق عودتها إلى الدراما، مؤكدة أن مسألة الاختفاء لا تشكل خوفا لها أبدا.

مع بدء الحراك الشعبي في درعا (جنوب سوريا) ربيع عام 2011 زج النظام السوري بقوات الجيش في صدام مع المدن والبلدات الثائرة، وفرض حصارا عليها، الأمر الذي دفع الفنانة يارا صبري وعددا من الفنانين لإدانة هذا الحصار والتوقيع على بيان لفكه وإدخال الغذاء والدواء وحليب الأطفال لتلك المدن.

فيما بعد أطلق الموالون للنظام اسم “بيان الحليب” كنوع من السخرية من بيان الفنانين، وكان أبرز الموقعين حينها يارا صبري ومنى واصف وريما فليحان.

لاحقا قامت سلطات النظام السوري باستدعاء الفنانة صبري إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي، لتصوير مقابلة تتبرأ فيها من البيان، وتتحدث بما تمليها عليها الأجهزة الأمنية؛ لكنها خالفت التوقعات وتحدثت بشجاعة بعكس ما يتمنى المخرج والنظام السوري، حيث تم تهديدها وإنهاء المقابلة.

بعد التهديدات اختارت صبري المنفى والخروج من سوريا إلى دبي، ثم كندا حيث تقيم مع أسرتها، وتستكمل متابعة شأن المعتقلين الذين يناشدون الخروج وركوب باص الحرية، الذي بات رمزا وصورة عبر منشوراتها عن المغيبين في سجون النظام.

المصدر : الجزيرة

————————–

فورين بوليسي: الأسد بدأ عنفا لن ينتهي وسيشتعل لعقود

قال مقال بمجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية إن العنف الذي بدأه الرئيس السوري بشار الأسد لم ينته بعد، ولن ينتهي خلال عقود قادمة، وأنه أصبح من المستحيل عد ضحايا هذا العنف.

وذكر المقال -الذي كتبه الصحفي اللبناني البريطاني أوز قطرجي بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لأول احتجاجات مناهضة للنظام السوري بالعاصمة دمشق وبحلب في مارس/آذار 2011- أن العنف الذي بدأه الأسد شكل أكبر كارثة بشرية من صنع الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية.

وأضاف أن عنف النظام السوري بلغ حدا لا يمكن فهمه، لدرجة أن الأمم المتحدة تخلت رسميا عن محاولة إحصاء عدد القتلى في يناير/كانون الثاني 2014، بعد آخر محاولاتها في تقدير العدد الذي صدر من المبعوث الخاص آنذاك لسوريا ستافان دي ميستورا، حيث قُدر 400 ألف قتيل.

تكلفة بشرية مفزعة

وأشار قطرجي إلى أنه من المستحيل معرفة التكلفة البشرية الفعلية، والتي تشمل من ماتوا لاحقا متأثرين بجراحهم أو ماتوا من أمراض لا يمكن الوقاية منها، أو ماتوا جوعا نتيجة الحصار الهمجي، أو مئات آلاف السوريين الذين اختفوا أو أعدموا أو تعرضوا للتعذيب حتى الموت في معسكرات الموت التابعة للنظام.

وأضاف أن دائرة المعاناة تتجاوز الموتى، فهناك ضحايا الاغتصاب، وضحايا التعذيب، والأطفال المصابون بصدمات نفسية، والأرامل والنازحون، “إنها قائمة بلا نهاية”.

وقال إن العالم لم يعد مهتما بالعد، لكن أقل ما يمكن فعله من قبل من هم خارج الصراع هو التحدث عن بدء العنف بدقة وتسمية مرتكبيه.

واستمر قطرجي يقول إن الوعد الوحيد الذي التزم به نظام الأسد هو تطبيق شعار مليشياته لإثارة الخوف في قلوب الشعب السوري “الأسد أو لا أحد. الأسد أو نحرق البلد “.

سوريا أنقاض محترقة

وانتهت سوريا حاليا إلى أنقاض محترقة يجلس على قمتها بشار الأسد، ويحكم أجزاء منها مليشيات مدعومة من روسيا وإيران. وبعيدا عن “الأسد أو لا أحد”، فإن لدى الشعب السوري الآن زعيم حزب الله حسن نصر الله وآية الله علي خامنئي والروسي فلاديمير بوتين، وهم “أمراء الحرب المتشابكون الذين يعتمدون على العنف اليومي للحفاظ على نفوذهم”.

وأكد الكاتب أن حلفاء النظام في إيران وروسيا لن يُمولوا إعادة الإعمار، وبدلا من ذلك يتطلعون إلى الاتحاد الأوروبي وآخرين لدفع فاتورة تدمير البنية التحتية للبلاد، مشيرا إلى أن الغرب لن يفتح خزائنه، ولن يسقط العقوبات دون إحراز تقدم نحو الانتقال السياسي الذي أحرق نظامُ الأسد البلاد لتجنبه.

وقال إن الأسد غير مهتم بإعادة الإعمار، بل هو مهتم بإعادة بناء حالته الأمنية والاستمرار في استخدام المساعدات سلاحا للحرب، “وهو الأمر الذي مكّنت له الأمم المتحدة بشكل مخز من مكتبها في دمشق منذ اليوم الأول”.

المصدر : فورين بوليسي

—————————

بعد عقد على الثورة.. فاتورة التدخل الروسي والإيراني في سوريا/ منتصر أبو نبوت – غازي عنتاب

شكّل التدخل الروسي والإيراني في الحرب بسوريا نقطة تحول في مسار الثورة، حتى بات النظام السوري وكأنه عاجز عن إخراجهما من سوريا في حال رغب في ذلك، أو وصل إلى ما يريد في البلاد. فلم تكتفِ روسيا وإيران بدعم النظام عسكريا، بل عملتا على ترسيخ وجودهما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، حتى إنهما في بعض مراحل النظام سابقا بين طهران وموسكو؛ كانتا كأنهما تغنمان أو تتلقيان أجريهما لقاء مساندة النظام السوري.

ومع مرور 10 سنوات على انطلاق الثورة السورية، تبدو المناسبة فرصة للكشف عن فاتورة تدخل إيران وروسيا في البلاد، فدخولهما بثقلهما إلى جانب النظام السوري جعلهما تتمكنان من السيطرة على مفاصل الدولة في جميع المجالات، ولعل أبرزها العسكرية والاقتصادية بالنسبة لروسيا، والعسكرية والاجتماعية أو ما يصفها الشعب السوري “بالطائفية” بالنسبة لإيران.

فقد عملت روسيا في أثناء فترة تدخلها على إنشاء فيلق جديد في جيش النظام يتبع شكليا لقيادة جيشه، لكنه فعليا يُدار من قبل ضباط روس، فضلًا عن أن الأسلحة التي تزود بها موسكو النظام تصل إلى الفيلق الخامس الذي يواليها. أما إيران فقد عززت سيطرتها على الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر شقيق بشار الأسد، فضلًا عن مليشياتها المنتشرة في كل أرجاء البلاد.

واقتصاديا، مثّل استحواذ روسيا على ميناء طرطوس هدفا إستراتيجيا عسكريا واقتصاديا، فقد ضمنت موسكو مكانها في البحر المتوسط لعشرات السنوات المقبلة، وبدأت بالحصول على موارد المرفأ، إضافة إلى شركات عقارية واتفاقيات مثل اتفاقية الفوسفات السوري الذي سبب صراعا بين إيران وروسيا من أجل الحصول عليه، أما إيران فقد عززت من نشاطاتها التبشيرية في مناطق سورية بعينها، تمهيدا لمحاولات أوسع في جميع المناطق السورية، كما عملت اقتصاديا على إنشاء شركات وشراكات مع النظام السوري ورجال أعماله، أبرزها مشغل اتصالات جديد تعتزم طهران إطلاقه في البلاد.

الفرق بينهما

ويعتقد السوريون المعارضون للنظام أن الأهداف الأساسية والمهمة لروسيا وإيران في سوريا ليست واحدة، فيقول مدير موقع “كلنا شركاء”، السوري أيمن عبد النور، إن الفرق بين التدخلين كبير ويحمل جوانب مختلفة بالنسبة للشعب السوري. فالتدخل الروسي محصور في المجالين العسكري والاقتصادي، أما التدخل الإيراني فيغير ثقافة المجتمع بإرسال أعداد كبيرة من إيران والعراق حتى يحصلوا على الجنسية السورية، إضافة إلى المصالح الاقتصادية بزرع رجال أعمال جدد يعملون لمصلحة طهران.

ويرى عبد النور -في حديثه للجزيرة نت- أن الإيرانيين يسعون إلى زعزعة الدولة كمنظومة بتقوية مليشيات مثل حزب الله وغيره ممن قدموا إلى البلاد، حتى تتحول إلى لبنان ثانية.

ويتفق المحلل السياسي عبد الكريم العمر مع ما ذهب إليه عبد النور، إذ يرى أن التدخل الإيراني أكثر خطورة، خصوصا بعد بدء إيران بنشر المذهب الشيعي في سوريا. ويقول “إن طهران تحاول التوغّل في المجتمع السوري عن طريق نشر الحُسينيات في مناطق نفوذها بسوريا”.

على مدى 10 سنوات رسّخ الروس والإيرانيون نفوذهم في سوريا على كل الصعد (الفرنسية)

نهاية التدخلين

لا يرى المعارضون أن النظام السوري قادر على إيقاف التدخل الإيراني والروسي، إذ تحولت البلاد بنظرهم إلى مناطق نفوذ للدولتين، وهذا ما يؤكده العمر -للجزيرة نت- بقوله “إن تعيين ضباط جيش النظام في مناطق مهمة بسوريا يكون بناء على ولائهم لإحدى الدولتين”، يقصد روسيا وإيران. ويضيف أن وجود إرادة دولية وتطبيق بيان جنيف والقرار 2254 يمكن أن يعيد الأمور في البلاد إلى نصابها كما كانت قبل 2011.

في حين يرى عبد النور أن الظروف الإقليمية والدولية غير متوفرة لتقييد حركة طهران وموسكو، لكنه توقع أن يكون الوجود الروسي في سوريا مقتصرا على قاعدتها العسكرية في البحر المتوسط وبعض النفوذ الاقتصادي، إذا ما توفرت الإرادة الدولية، أما الوجود الإيراني فينظر إليه عبد النور بتعقيد أكثر، لأنه متعدد الجوانب ويعمل على نشر المذهب الشيعي بين السنة وحتى بين العلويين.

ووجود وسيطرة إيران وروسيا في سوريا غيّر ملامح البلاد بشكل كامل، حتى في حال التوصل إلى حل سياسي فالسوريون قلقون مما تسعى إليه الدولتان، خصوصا التحركات الإيرانية التي تفاقمت بعد عقد على انطلاق الثورة، وأصبحت تحتفظ بمناطق نفوذ وقاعدة فكرية جديدة تحديدا في صفوف مؤيدي النظام دون النظر إلى طائفتهم، لكن ما يتفق عليه الجميع أن البلاد لن تعود إلى ما كانت عليه قبل 2011 على جميع الأصعدة؛ اجتماعيا وعسكريا واقتصاديا ودينيا.

المصدر : الجزيرة

————————–

أطفال درعا من الاعتقال إلى الإفراج عنهم.. تفاصيل شهر من التعذيب

إسطنبول – محمد علي

“بعد كل الذي ذقته من عذابات في تلك الأيام فأنا أفضل العيش في أي مكان تحت القصف والتشريد والبرد على أن أعيش في ظل النظام، ولو تريد سؤالي عن السجن فالجواب أنني أفضل الموت على أن أعيش يوماً واحداً في سجون بشار الأسد”.

كانت هذه الكلمات التي اختتم بها لقاؤنا مع “بشير أبازيد” ثاني الأطفال الذين تم اعتقالهم في درعا على خلفية الكتابات السياسية على جدار مدرسة قبيل انتفاضة أهالي درعا وحوران في الـ 18 من آذار.

مع انتشار موجة ثورات الربيع العربي في بدايات العقد المُنصرم، عمد النظام إلى تشديد القبضة الأمنية في المحافظات السورية، فكثف من الدوريات العسكرية، وزاد نشاط وعمل المخبرين والشرطة السرية بين الناس إلى أن وصل به الحال إلى توزيع كبائن (كولبات) المراقبة والحراسة الليلية والنهارية على الأحياء السكنية ومنها ما حدث في درعا، ومنها بدأ تتابع الأحداث في قضية أطفال درعا.

يروي لنا بشير القصة كما حدثت معه من بدايتها، فيقول: “في الشهرين الأول والثاني من عام 2011 كانت الناس تتطلع إلى الثورات التي حدثت في مصر وتونس، وكان حديث الشارع آنذاك هل من الممكن أن تقوم الثورة في سوريا وكيف سيكون ذلك وكيف ستكون ردة فعل النظام، وهل من المعقول سقوط بشار الأسد بالمظاهرات ومن أي مدينة ستكون البداية؟ وأسئلة كثيرة كان مجرد التفكير فيها من المحرمات في ظل نظام الأسد”.

كبائن الشرطة والأطفال المتمردون

في حي الأربعين الذي يقع في الطرف الغربي من الجزء القديم لمدينة درعا، كان عناصر الكبائن يحدون من تحركات الناس في الحي ويمنعون التجمعات، حتى لو اقتصر على بعض شباب في الطريق أو على الأرصفة.

كان بشير وبعض الشباب ممن يلتقون ليلاً للسمر في شوارع الحي أو في بعض الأزقة يشعلون النار ويلتفون حولها، ويتبادلون أطراف الحديث، إلى أن قام عناصر الكبائن بمنعهم من التجمع في الحي، والتهديد باستدعاء قوات الأمن لاعتقالهم. رفض الأطفال الانصياع لأوامر عناصر الشرطة لأنهم لا يسببون الإزعاج لأحد من قاطنيه.

يتابع بشير: “في اليوم التالي كنا في المكان نفسه ضمن الحي فقام عناصر (الكولبة) باستدعاء دورية من مخفر حي العباسية، ليحاولوا الإمساك بنا لكن استطعنا الهروب، وفي اليوم الذي يليه تكررت الحادثة نفسها وصرنا نتراشق بالحجارة مع عناصر شرطة حي العباسية”.

“ادعى أحد عناصر الحراسة الليلية في الكولبة أننا حاولنا إشعال النار به وهو نائم والشروع بقتله، فدهم عناصر المخفر البيوت في وقت متأخر من الليل، واعتقلوا 7 أطفال من الحي.. وهكذا أصبحت المداهمات بشكل دوري ويومي، تأتي سيارات الأمن لتقوم باعتقال أحد الأطفال من المنزل، لدرجة أن الكثير من الأهالي غادروا منازلهم خوفاً من اعتقالهم ضمن هذه الحملات العشوائية”.

“اجاك الدور يا دكتور”

“ذكرى بشير ونايف أبازيد”

يكمل بشير أبازيد سرد ما حدث وقال:

بتاريخ السادس عشر من شباط \ فبراير عام 2011 كُتبت بعض الشعارات على جدار مدرسة بنين درعا البلد في حي الأربعين ومدرسة معاوية ومدرسة الجمارك، فقام مدير مدرسة البنين باستدعاء الشرطة من مخفر العباسية، وعندما وصلوا وشاهدوا الكتابات، “اجاك الدور يا دكتور” و”يسقط الرئيس بشار الأسد”، تملكهم الخوف واستدعوا المخابرات العسكرية بقيادة العقيد لؤي العلي، ليتسلم القضية.

ومن هنا بدأت قصتنا، أنا بشير أبازيد وصديقي نايف أبازيد، كنا قد كتبنا أسماءنا على جدار المدرسة بتاريخ 2009 كذكرى نخلدها أيام الدراسة، وهو ما لفت عناصر الأمن في أثناء القيام بالتحريات، وادعوا بأن محللين أكدوا أن الخط الذي كتب به “اجاك الدور يا دكتور” هو نفسه الذي كتب به “ذكرى بشير أبازيد ونايف أبازيد”.

نايف أبازيد.. أول الأطفال المعتقلين

اعتقلت قوات الأمن نايف من المدرسة وهو في الصف السابع الإعدادي (13 عاماً)، واقتادته إلى فرع الأمن العسكري في مدينة درعا خلف نادي الضباط، وهناك انهالوا على نايف بالضرب بوحشية وهمجية، وأخبروه حينذاك بأنه من قام بكتابة العبارة “اجاك الدور يا دكتور” وأنكر تلك التهمة وأكد أنه كتب ذكرى مع بشير فقط عام 2009.

في الفرع أخبروا نايف أنه لا يزال صغيراً، وطلبوا منه الاعتراف بأنه من قام بالكتابة، والبصم على تعهد بعدم إعادة فعلته، ووعدوه بإطلاق سراحه، وفتحوا له باب الفرع.. وبسبب الضرب والتهديد وافق نايف وبصم على الأوراق التي تدينه، وعندما توجه إلى الباب ليهم بالخروج، أخبروه أنه لن يخرج حتى يأتي بشير ويعترف أيضاً، وتم تحويله إلى فرع المخابرات العسكرية بالسويداء.

في هذه الأثناء كانت دوريات الأمن وعلى مدار 3 أيام تدهم بيت بشير في حي الأربعين ليلاً أو بعد منتصف الليل، لكن بشير هرب من المنزل مدة 3 أيام، وفي اليوم الرابع ذهب إلى المدرسة، وأخبره الطلاب أن المخابرات اعتقلت نايف لأن اسمه مكتوب على جدار المدرسة، ويبحثون عن بشير أيضاً.

وأوصلت المخابرات إلى ذويه الكثير من التعهدات بأنه سيدخل الفرع فقط نصف ساعة، ويتم الإفراج عنه وعن صديقه نايف، وأن نايف لن يخرج من السجن حتى يتعهد بشير بأنه لن يقوم بمثل هذا الفعل مرة أخرى.

بشير ثاني الأطفال المعتقلين.. تعذيب مستمر

قام بشير بتسليم نفسه يوم السبت في الـ 19 من شباط 2011 وكان يرافقه حينذاك أمه وأخوه يحيى الذي استشهد خلال الثورة، وبعد أن أمسك به عناصر الأمن أخبروا أهله أن عليهم المغادرة لأنه سيتأخر ساعة أو أكثر بقليل، وأن الوقوف ممنوع أمام باب الفرع. 

يقول بشير: “في هذه اللحظة خفت كثيراً من الكذب الذي يحدث، دخلت على الفرع لمقابلة العقيد لؤي العلي ولكنه كان خارج الفرع، وتم التحقيق معي بطريقة سيئة جداً، وأخبرتهم أنه لا يوجد لدي شيء لأعترف به، ولم نكتب شيئاً لا أنا ولا نايف، لكنهم أصروا على اتهامنا وأنه يجب أن نأخذ جزاءنا.. دخلت في الساعة 11 صباحاً وتم تحويلي إلى فرع السويداء في نهاية اليوم، ليتم مواجهتي مع نايف في اليوم نفسه، وعند دخولي إلى الفرع كان الوضع سيئاً جداً وتعرضت للضرب والتعذيب النفسي والجسدي، والشبح على الجدران والدواليب، فضلاً عن تجويعنا وتعطيشنا بشكل متعمد من دون رحمة، وهكذا أبقونا في الفرع خمسة أيام.

وأضاف: “كنا نتعرض خلال التحقيق في فرع السويداء للتعذيب والإهانة والذل والشتائم، كما تمت تعريتنا بشكل كامل.. حينذاك أحضروا نايف إلى جانبي ونظرت خلسة من تحت العصابة التي وضعوها على عيني، ولم أر سوى قدمي نايف اللتين كانتا مدميتين ويظهر عليهما آثار التعذيب بشكل مرعب، فعرفت المصير الذي سوف يلاقيني”.

بعد 5 أيام من التحقيق في فرع السويداء واعتراف بشير ونايف تحت التعذيب بأنهم من كتبوا على الجدار، طلب منهما أسماء من شاركوهم في الكتابة وأسماء مَن حرضهم.. نايف لم يتحمل التعذيب وأخبرهم ببعض الأسماء، وسألوا بشير إذا ما كان كلام نايف صحيح، فأجابهم بأنه صحيح، لتقوم قوات الأمن بمداهمة منازل كل من ذُكر اسمه واعتقالهم.

الأطفال المعتقلون ليسوا مَن كتب العبارات على الجدران

بشير كان يصف التحقيق بأنه قطع من العذاب، حيث كان يتم استجوابهم من الساعة العاشرة ليلاً إلى الساعة الخامسة فجراً بشكل فردي وتعاد الأسئلة نفسها على الآخرين، ومن النادر أن يجري التحقيق مع اثنين في الوقت نفسه.

ويقول بشير: “كان التعب يلاحقنا نفسياً وجسدياً وإلى الآن كل ما أتذكر تلك اللحظات تصيبني حالة نفسية سيئة وغريبة”.

كان المحققون يسألون بشير “أي ساعة كتبت العبارات على جدار المدرسة؟”، فيخبرهم في الساعة 9 ليلاً، وعندما يسألون نايف يخبرهم أنهم كتبوا العبارات في الساعة الواحدة ليلاً، وبسبب عدم تطابق الأقوال تتجدد حفلات التعذيب حتى تتطابق جميع الأقوال.

وتابع أبازيد “بالواقع عدم التطابق في الاعتراف سببه الوحيد أننا لم نكتب شيئاً، لكن التعذيب كان يجبرنا على الاعتراف بأي شيء”.

في التحقيق سُئل الأطفال عن مَن قام بالبخ، ومَن الذي كان يراقب، وهل ذهبوا مشياً أم على الدراجات النارية، وما لون الدهان المستعمل، ومن أي دكان اشتروه، ومَن الذي دفع ثمن البخاخ؟

هذه الأسئلة الكثيرة والجميع بريء من التهمة وعدد المعتقلين الكبير، كان يعني أن التعذيب والتحقيق مستمر حتى تتطابق الأقوال.

وأشار بشير إلى أن المحققين كانوا معتقدين أنه لا علاقة للمعتقلين بالقضية، بسبب الاختلاف الكبير في الأقوال، وتابع: “لكن كان لديهم قضية وهي الكتابات السياسية على جدران المدرسة، فالمخفر في درعا لم يستطع تحمل مسؤولية الأمر، ولا حتى المخابرات العسكرية في درعا التي بدورها حولته إلى المخابرات العسكرية في السويداء، وفي السويداء لم يكن لديهم خيار لتبرير أو إغلاق الملف سوى إنزال أسوء أساليب التعذيب بنا للحصول على اعترافات.

والجدير بالذكر أن موقع تلفزيون سوريا لم يتمكن من التأكد من الشخص الذي كتب العبارات على جدران درعا، ولذلك فإنه ما زال مجهولاً حتى اليوم.

إلى فرع فلسطين

في النهاية لم يتحمل فرع السويداء مسؤولية الملف، فتم تحويل المعتقلين إلى فرع فلسطين في العاصمة دمشق، وهناك وفي الأيام الثلاثة الأولى اكتشفوا أن التعذيب أشد وأمر من فرع السويداء.

ويصف بشير العصابة التي يضعونها على عيونهم، “فهي كانت قطعة من دولاب الدراجة النارية الداخلي (الكاوتشوك)، وكانت أصغر من الرأس، وهي وحدها كانت تعذيباً مستمراً.. كنت أحس برأسي سينفجر”.

في إحدى جلسات التعذيب، ومن شدته، وقعت العصابة عن رأس بشير، ورأى محققاً وراء المكتب وحوله 6 أو 7 أشخاص يضحكون بصوت منخفض.

يتابع بشير: “ضمن جولات التحقيق والتعذيب اعترفنا على أشخاص، وهم بدورهم اعترفوا على آخرين، فوصل عدد المعتقلين حينذاك إلى 24 شخصاً وأكثر من 25 آخرين باتوا مطلوبين للقوى الأمنية.

سلّم عدد من الـ 24 شخصاً أنفسهم كما فعل بشير، في حين اعتقل البقية في أثناء المداهمات الليلة على البيوت.

بقي المعتقلون في فرع فلسطين 24 يوماً، وانخفضت وتيرة التحقيق والتعذيب من اليومية إلى كل 4 أيام مرة.

الضابط اللطيف: والله ما رح تطلع حتى يشيب شعر راسك

يصف بشير أحد المحققين بأنه كان يتعامل معهم بدرجة أقل من التعذيب أو ربما كانت لطافة مصطنعة لاستدراجهم، فسأله بشير “سيدي مشان الله، نحن ايمت رح نطلع من هون؟”، ليرد عليه “والله ما رح تطلع حتى يصير راسك أبيض كلياته”.. كان عمر بشير حينذاك 14 عاماً.

وأضاف: “لم يكن هناك أي بوادر أو بشريات لخروجنا من هذا الجحيم، اتهمونا بقضية كبيرة علينا كثيراً.. عندما نقلونا إلى مهجع فيه العديد من المساجين، طلبوا منا ألا نخبر أحداً بالذي حدث معنا أو ما قضيتُنا، وألا نخبر أحداً بأسمائنا”.

أول مظاهرة في درعا.. والأطفال في فرع فلسطين

يوم الجمعة في الـ 18 من آذار 2011، استدعى أحد السجانين نايف وبشير، وسألهما عن قصتهما، فأخبراه بما حصل، ويقول بشير: “كانت نظراته توحي بأنه يعرف شيئاً لكنه يخفيه عنا، فسألنا: متى تحبون الخروج قبل عيد الأم أم بعده؟، فرددت عليه بسرعة من دون تفكير ومن دون أن أعرف موعد عيد الأم: طبعاً قبل العيد، فقال: من الواضح أنك مستعجل جداً للعودة، فرددت: نعم بالتأكيد حاب ارجع عند أهلي.. استغربت أسئلته وأعادنا إلى المهجع.. شعرت بأن شيئاً غريباً قد حدث”.

ويكمل بشير سرد ما حصل معه: “يوم الأحد صباحاً في الـ 20 من آذار تم استدعاؤنا، فتفاجأت بأعداد المعتقلين في القضية نفسها، كلهم من الحي نفسه و3 أشخاص من طفس.. وقال لنا ضابط كبير: “أنتم أخطأتم بحق الرئيس بشار الأسد والسيد الرئيس أصدر مرسوماً رئاسياً بخصوصكم وقرر العفو عنكم على ألا تعودوا إلى فعلتكم مرة أخرى”. 

بدأ العناصر في الفرع بالهتاف “بالروح بالدم نفديك يا بشار”، وأشاروا بأيديهم إلى الأطفال والمعتقلين ليهتفوا أيضاً.

يقول بشير: “يومها وبعد شهر من التعذيب والتحقيق، تغيرت المعاملة، وعرضوا علينا الذهاب للاستحمام أو طلب الطعام، ثم أخرجونا إلى ساحة الفرع وأحضروا حافلة لتقلنا.. نايف عندما اعتقل كانت معه حقيبته المدرسية تحتوي على دفاتره وأقلامه وتذهب معه من فرع إلى آخر، وسلموه إياها في فرع فلسطين لحظة خروجنا”.

إطلاق سراح الأطفال.. “يا شباب ضحكوا علينا.. جابونا يعدمونا”

نُقل المعتقلون المفرج عنهم إلى المخابرات العسكرية في درعا، وهناك بصموا على أوراق لا يعلمون ما المكتوب فيها، وبعدها نقلوا إلى مبنى الحزب الجديد، وعند وصولهم إلى مبنى الحزب الجديد، كان هناك جماهير غفيرة بالآلاف في الساحة.

حينذاك صرخ أحد المعتقلين: “يا شباب والله ضحكوا علينا من الشام لدرعا، والله إنهم يجهزون ساحة لإعدامنا اليوم، طلعوا في آلاف البشر في الساحة”.

ويكمل بشير: “دبّ الرعب في قلوبنا إلى أن دخلت الحافلة وسط التجمع، ليهجم جموع المتظاهرين على الحافلة ويهرب عناصر الأمن إلى داخل الفرع وتركونا داخل الحافلة، والناس تشير إلينا للخروج، فقفزنا من النوافذ، لنجد أنفسنا بين إخوتنا.

لحظة معرفة المعتقلين باندلاع الثورة

بعد أن نزل بشير من الحافلة أمام مبنى الحزب الجديد، عثر على أخيه يحيى وأخبره بما حصل في فترة اعتقالهم من مظاهرات وشهداء واعتقالات وتوقّف الحياة المدنية.

وتابع: ثم رفعونا فوق الأكتاف، وبدأت الهتافات “الله سوريا حرية وبس” و”هاي رجالك يا درعا”، وانتقلت بنا المظاهرة إلى ساحة المسجد العمري بدرعا البلد.

ويختم بشير أبازيد المقيم حالياً في تركيا حديثه بالتأكيد أنه “لولا اندلاع الثورة وخروج المظاهرات لكان من المستحيل أن يتم إطلاق سراحنا أبداً”.

“بعد كل الذي ذقته من عذابات في تلك الأيام فأنا أفضل العيش في أي مكان تحت القصف والتشريد والبرد على أن أعيش في ظل النظام، ولو تريد سؤالي عن السجن فالجواب أنني أفضل الموت على أن أعيش يوماً واحداً في سجون بشار الأسد”.

تلفزيون سوريا

—————————–

هل باتت أيام الأسد معدودة؟/ غازي دحمان

منذ عام 2016 خرج هذا المصطلح من التداول، بعد أن كان العنوان الرئيس لسنوات الثورة الأولى. فقد أدت سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها القوات الروسية، والجرائم المرعبة التي ارتكبتها مليشيات إيران وعصابات الأسد، إلى تفكيك أطواق الحصار التي ضربها الثوار على قصر الأسد، ونجاته تالياً من مصير يشابه مصائر الطغاة في ليبيا واليمن وتونس.

نجا الأسد من السقوط على يد الثوار، ولكن بأثمان باهظة كانت حصيلتها استحالة نهوض سوريا من ركامها ومن تمزق أنسجتها الوطنية، مع بقائه في السلطة، رغم مطالبة روسيا وإيران المجتمع الدولي بالتحلي بالواقعية والنظر للحدث السوري من زاوية انتصار الأسد؛ وطي صفحة الماضي والهروع لمده بالمساعدات الاقتصادية والدعم السياسي.

لكن من المفارقة أن دمار سوريا ومواتها، الوسيلة التي تم بها إنقاذ الأسد من السقوط، هي ذاتها التي ستقتلعه من السلطة، وقد تكون السبب في مقتله، في حال لم يجد الروس طريقة مناسبة لإخراجه، في محاولتهم للهروب من شبح الغرق في مستنقع سوريا الذي بدأ يلوح في الأفق.

تثبت جولة وزير الخارجية سيرغي لافروف أن روسيا استنفذت كل محاولاتها لتعويم الأسد، وربما وصلت لقناعة باستحالة تحقيق هذا الأمر، لذا بدأت في البحث عن مخارج تجنبها التورط في سوريا، التي يبدو أنها مقبلة على أيام صعبة، ما يؤشر إلى وجود تقديرات روسية باحتمال حصول ثورة جياع في بلد لم يعد قادراً على تأمين وجبات الطعام لأبنائه.

تدرك روسيا أن أي استجابة إقليمية أو دولية لطلباتها بتقديم المساعدة لنظام الأسد، ومهما كانت الأطراف متحمسة لفعل ذلك، إلا أن الأمر لن يحصل إلا بعد وقت طويل، نتيجة تشابكات وتعقيدات الملف السوري، في حين أن الوضع في سوريا بات بحاجة لإسعافات عاجلة جداً، كما تدرك استحالة إمكانية إعادة تأهيل الأسد، الذي بات يواجه آلاف التهم، والدعاوى التي تقوم بها دول ومنظمات دولية وحقوقية تملك مئات الآلاف من الوثائق التي تثبت إجرامه، ما يعني احتراق محاولة روسيا لإعادة تأهيله، وتحوّلها إلى عملية عبثية وغير منطقية.

وتدرك روسيا أنها تلعب في فضاء سياسي معقّد، تقابلها أطراف لديها استراتيجياتها، وتملك خبرات واسعة في إدارة الألعاب السياسية، وخاصة في إيصال الخصم إلى حائط مسدود واستنزاف قدراته وإضعافه. إذ يكشف لجوء روسيا إلى اتهام الغرب بالتآمر عليها بشكل دائم؛ إحساسا روسيا بالضعف تجاه تفوق الغرب في التخطيط السياسي والاستراتيجي عليها. وتعرف روسيا أكثر من غيرها محدودية إمكانياتها وضعف خياراتها في مواجهة تكتل يضم أمريكا وأوروبا، لذلك تعيش بشكل دائم، على المستويات الدبلوماسية والأمنية، حالة من اليقظة والحذر، وتحديث تقديراتها الخاصة بسياساتها واستراتيجياتها.

المؤكد أن روسيا التي تطرح نفسها لاعباً دولياً مؤثراً؛ يهمها بدرجة كبيرة تسويق هذه الصورة، في مناخ دولي شديد التنافسية والاستقطاب، وتجهيز الأدوات اللازمة لإنجاح ذلك، مع ما يعنيه من إزاحة لكل أسباب الفشل واحتمالاته. وعلى رأس تلك الأسباب بناء السياسة على أسس عاطفية واتخاذ القرارات المصيرية تحت تأثير عاطفي، والركون بدل ذلك إلى مراعاة الأولويات لتحقيق المصالح الاستراتيجية.

لم تكن روسيا، منذ البداية، في وارد المفاضلة بين بقاء الأسد وإنجاز أهدافها الاستراتيجية، بل حاولت دمج هذا البقاء في صلب مصالحها الاستراتيجية باعتباره عاملاً مساعداً على تحقيق هذه الأهداف. وذهبت التقديرات الروسية إلى وجود احتمالية بجعل العالم المتعب من الأزمة في سوريا يقبل ما تطرحه روسيا، كما (وذلك واضح من خلال إسلوب إدارتها للازمة في المرحلة الماضية) أنها تملك هامشا من الوقت يتيح لها فرض رؤاها وتصوراتها للحل السياسي في سوريا.

اليوم تقف سوريا على عتبة انفجار، فمصادر المخاطر على نظام الأسد باتت عديدة، وقد تأخذ شكل أكثر من سيناريو، كثورة جياع مثلاً، أو انقلاب عسكري، او حصول فوضى عارمة وفقدان السيطرة على الأمن. ورغم القبضة الأمنية الحديدية وهندسة الجيش بحيث يستحيل حصول عملية انقلاب، إلا أن الواقع وتسارع الانهيار يدفعان روسيا إلى إعادة حساباتها والبحث عن مخارج من ورطة باتت تقف على أعتابها في سوريا.

مصادر مواكبة لزيارة وفد “حزب الله” إلى موسكو أكدت أن لافروف قال للوفد، الذي ذهب للاطمئنان على مصير الأسد أن ترشح الأسد لولاية جديدة غير مضمون. وقبل أيام نشر رامي الشاعر، الدبلوماسي المقرب من الكرملين، رسائل بين الأسد والقيادة الروسية، وكان فحوى هذه الرسائل أن القيادة الروسية كانت تطلب على الدوام من الأسد أن يكون مرناً ويتعامل بسياسة واقعية مع تطورات الأحداث السورية، في حين أنه كان يصر على اتباع النهج العسكري في التعامل مع الحدث، وكأن روسيا تريد القول للأسد: يداك أوكتا وفوك نفخ، وأنه آن الأوان للتركيز على مصالحنا التي أصبحتَ عبئاً عليها.

كاتب سوري

عربي 21

———————————-

الثورة السورية وتفكيك بنية الخوف/ رفقة شقور

خلال عقود من حكم آل الأسد لسوريا حكماً عسكرياً أمنياً، نشأت في سوريا حالة بنيوية كاملة من الخوف سيطرت على كافة موارد الحياة ومآلاتها ووصمت السلوك الشعبي برمته حيال انتهاكات النظام السوري، وقامت مؤسسات الدولة بتعميق بنية الخوف لدى كافة الشعب السوري وإحالة مشاعر الاحتجاج إلى حالة من التغاضي العام، فكانت موارد تلك البنية القائمة على الخوف تتقاسمها عدة جهات:

الجهة الأولى: الدولة وأجهزتها وأفرعها الأمنية

قامت الدولة السورية على نظام الخفر ونشر حالة من الخوف الوقائي بين الناس في أعقاب الاعتقالات السياسية اللامتناهية التي شهدتها معتقلات النظام السوري، فمن السهل تلفيق التهم للمعتقلين والتي تراوحت بين الانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين أو التخابر مع جهات معادية للدولة، أرست تلك الترتيبات الأمنية ونشر القمع والعنف بين صفوف المعتقلين السياسيين عرفاً عاماً قوامه بأن أي انتقاد سياسي للنظام العسكري والأمني القائم يفضي لإحدى اثنتين إما الاعتقال والإخفاء القسري وإما العنف الجسدي الذي يذهب لأقصاه حتى يضمن النظام تخلي المقموع بهذه الطرق عن أي فكر ناقد للنظام القمعي العنفي، وحتى يكون عبرة رادعة لكل من تسول له نفسه انتقاد الحالة القمعية العامة.

أصبحت بذلك المعتقلات الأسدية تعيد إنتاج الخوف بين الناس حين يخرج من يخرج منها وهم قلة قليلة ليخبروا الآخرين بحالة التعذيب والعنف التي تعرضوا لها بذلك يتم ردع أي محاولات فردية لانتقاد النظام القمعي.

الجهة الثانية: المدارس والجامعات

تعرضت الأجيال السورية لمناهج تعليمية وتنشئة تعليمية سياسية قائمة على تعميق بنية الخوف لدى الأجيال من القائد الفرد الخالد والذي توحي الكثير من المناهج الوطنية والقصائد المدرسية بأنه قوام الدولة السورية وبأن أي اهتزاز لمكانته المهيمنة بين الناس قد تفضي لانهيار الدولة ومؤسساتها، وقد أفلحت وزارات الداخلية والنظام الأمني حين أشرفوا على وضع المناهج التعليمية في عملية تعميق الانصياع الفكري للقائد الواحد، كذلك حالة الفساد في المؤسسات التعليمية التي جعلت مقياس الترقي والترفع العلمي والأكاديمي مشروطاً بالولاء المطلق للديكتاتور، بذلك شهدت سوريا خلال عقود وما زالت تشهد ترقيات في المؤسسات الأكاديمية والتعليمية على أسس أمنية سابقة على الاستحقاق الفكري والمنجز الأكاديمي المحكم، بذلك أصبحت المؤسسات التعليمية والأكاديمية أماكن لإعادة إنتاج سلطة الديكتاتور على أهم موارد التغيير في المجتمعات وهم المعلمون وأساتذة الفكر.

شهدت الحركة التعليمية في المدارس والجامعات حالة من الترويض الفكري والعلمي وانتشاراً وتفشياً للنظام الأمني بين أساتذة تلك المؤسسات ومعلماتها وما رافق ذلك من التخلي الفردي والجماعي عن الأدوار التعليمية بغية تغيير وتطوير المجتمع إلى أدوار مستهلكة تركن لسلطة الديكتاتور وتعزز حالة الولاء العام له عن طريق اختراق عقول الأجيال وتسميمها وخلط مفاهيمها الوطنية والسياسية.

المؤسسات التعليمية السورية ساهمت في تعميق حالة النزاع الطائفي وأعادت إنتاج حالة التقسيم المناطقي حيث إنها لم تتبن خطاً واحداً عاماً يساهم في بناء مواطن سوري بعيداً عن تلك التقسيمات والتناقضات، لكنها ساهمت في تعميق الشرخ الطائفي والحرص على الاصطفاف الأعمى في صف النظام القائم الذي روجته المناهج التعليمية على أنه منزه عن الأخطاء وأن ديكتاتوره هو المعلم الأول والمفكر الحصري والمطلق.

الجهة الثالثة: العائلة والعشيرة

كان منشأ الخوف الأول للفرد السوري ينطلق من حاضنته العائلية والعشائرية، حيث حكم الخوف الآباء والأمهات فنقلوه للأبناء ضمن الحياة اليومية فتجارب الاعتقال كانت ماثلة أمام الأهل مما جعلهم ينشرون مخاوفهم ورعبهم من النظام القائم بين الأبناء بالتشديد على عدم مخالفة النظام القمعي وعدم محاولة إزعاجه أو زعزعة أركانه، كذلك الأمر بالنسبة للعشائر التي عمقت حالة التبعية للنظام القمعي القائم بناءً على حالة من الولاء الأعمى للديكتاتور والذي يحكمه علاقات التسلط والقوة بشكلها البدائي والذي هو أقرب لفهم المجتمعات البدائية الصغيرة المغلقة، فالتقطت بذلك العشائر والتجمعات العائلية رسالة الديكتاتور الذي لم يتورع عن الاعتقال أو الإخفاء القسري لأبناء تلك العائلات والعشائر في حال خرجت عن طاعته المطلقة.

الجهة الرابعة: المؤسسات الدينية والتشريعية

خاطب حافظ الأسد الشعب السوري عام 1973 بهذه الكلمات “يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. إن ضمير أمتنا ينادينا”، نظام الأسد الأب منذ تسلّمه للسلطة في سوريا بعد انقلاب 1970 قام بإحكام سيطرته على المؤسسة الدينية بعدة طرق وأساليب، قوامها تعيين الأشد ولاءً للنظام السوري مفتياً للجمهورية أو خطباء مساجد، هذه الشخصيات الدينية التي اعتمد في تعيينها على كونها الأضعف خلقاً والأكثر انصياعاً للنظام، ساهمت في جعل التنشئة الدينية عبر المؤسسات الدينية شبيهة بالتنشئة السياسية عبر مادة القومية التي اعتمدها النظام في مؤسساته التعليمية، فأحكم قبضته على السنة في المقابل أطلق يد إيران في المؤسسة الدينية من أجل تشييعها.

بناءً على ذلك انقسم الشباب السوريون إلى قسمين قسم تلقى تعليمه الديني من المؤسسات الدينية الأسدية التي ساهمت في تدجين العقل الديني لديهم بترويج التفسيرات الأسدية لنصوص القرآن الكريم في المؤسسات الدينية حتى وصل الأمر بمشايخ النظام السوري ومفتيه لترديد عبارات من قبيل تلك التي رددها مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون “أقسم بالله إن الذي وضع بشار الأسد وحافظ الأسد وشكري القوتلي وجمال عبد الناصر، لست أنا أو أنت، بل هو الله”.

وقسم آخر من الشباب السوري الغير متدين الذي لم تقصر أجهزة الدولة في إشباعه بعقيدة الولاء للقائد الخالد، بهذا تكون المؤسسة الدينية قد أكملت دورها الذي هو جزء من الأدوار التي وزعتها المؤسسة الأمنية على كافة مرافق ومؤسسات الدولة السورية، خاصة أن الشعب السوري كان قد أصابه حالة من الخوف بسبب المجازر التي اقترفها النظام السوري مثل مذبحة حماة، ومذبحة تدمر، ومذبحة جسر الشغور التي كان من محركاتها الأساسية خفر الدولة الأمنية العلمانية المفرطة تجاه حركة الإخوان المسلمين الناشئة.

عبر الخطب والإشراف المباشر للأجهزة الأمنية على خطباء المساجد والدروس الدينية وفرض الشخصيات الدينية المتماهية مع النظام الديكتاتوري القمعي في فتواها وتأصيلها الديني لمكانة الديكتاتور الفرد في المجتمع طال الخوف العقل الفكري الديني الذي تم إشباعه بتنشئة دينية تسند أدوار الديكتاتور وتصفه بالعصمة المطلقة، كذلك تطلق يده في كافة مرافق الحياة.

الجهة الخامسة: المؤسسة العسكرية

كباقي مؤسسات الدولة عمد النظام السوري منذ بداياته لتعيين الشخصيات الأكثر ولاءً سياسياً وطائفياً له في المراكز القيادية العسكرية، وتكفل النظام السوري عبر جهازه الأمني بمنع أي اختراق فكري في صفوف المؤسسة العسكرية، بذلك كان يعيد إنتاج وضخ نفس المكونات البشرية من قيادات وعساكر في صفوفها، ضمن الخدمة العسكرية الإلزامية التي يفرضها النظام على شباب الجمهورية السورية.

شكلت المؤسسة العسكرية السورية الذراع الصلبة التي وظفها النظام لقمع الجماهير، وأخرجها عن أدوارها في حماية السيادة الوطنية للدولة السورية وحفظ أمن مواطنيها إلى أدوار الخفر والحماية لاستمرارية النظام السوري ولو كلف الأمر ترويع المواطنين واستباحة السيادة الوطنية.

عبر تلك المؤسسات والجهات وعبر كافة مرافق الدولة نجح النظام الأمني السوري منذ تولي حافظ الأسد للرئاسة في إرساء بنية عميقة للخوف في الصفوف السورية، وطبيعة تشابك تلك المؤسسات واقترانها كدرع حام لاستمرار وإعادة إنتاج العقل العلمي والديني والعسكري والوطني الذي يذود عن نظام الديكتاتور عبر عملية تنشئة قوامها قلب المفاهيم وتعميق التسلط المؤسساتي الأمني على كافة زوايا حياة المواطنين السوريين حتى أصبح المواطن السوري يشعر بالرقيب الأمني في داخله يمنعه عن التفكير خارج الصناديق التي فرضها النظام السوري في كافة نواحي الحياة.

ما يُحسب للثورة السورية ورغم الخسائر الباهظة في صفوفها ورغم محاولات اقتلاعها منذ البدايات أنها أتت بعد عقود من تعميق بنية الخوف لدى السوريين، فكانت تحمل طابع المفاجأة لأجهزة الدولة الأمنية العميقة التي حسبت أنها تحسن قبضتها على أنفاس الناس جميعاً، فساهمت الاحتجاجات الغاضبة منذ بداياتها الأولى في زعزعة منظومة الخوف العام التي سيطرت على مؤسسات الدولة والحياة العامة.

خرج الناس يهتفون ويطالبون بالتحرر من قبضة ذلك النظام الذي امتهن كرامات الناس وساهم في تقسيمهم طائفياً وتصنيفهم دينياً واجتماعياً وسياسياً حتى ألغاهم بالكامل أمام سطوة الديكتاتور على كافة موارد الحياة.

لم يكن من السهل على الثوار السوريين قلب موازيين القوى لصالحهم بانقلاب سلس على النظام الحاكم وذلك مرده لأسباب عمق النظام الأمني واختراقه لكافة الجهات والمؤسسات، فكانت الثورة السورية الأكثر عرضة لتشتت مجهوداتها وتعرضها للانتكاسات الداخلية وارتفاع عدد موتاها وأسراها ولاجئيها ونازحيها على امتداد العالم، فالنظام السوري العميق أمنياً كان مسنوداً من قبل دول عظمى وقوى خارجية حتى ممن وصفوا أنفسهم بأصدقاء الشعب السوري.

لا يمكن الاستهانة بما قامت بهِ الحشود الثورية من محاولات مستمرة لتفتيت بنية الخوف التي سيطرت على حياة السوري وأرهقته وكانت تحول بينه وبين حصوله على كرامته الإنسانية، فعبر الثورات العالمية تمت مواجهة بنية الخوف ومحاولة تفكيكها حسب خصوصية كل مجتمع من المجتمعات، فكانت هنالك مجتمعات ودول من السهل نسبياً اختراق بنية الخوف فيها مما جعلها تحصل على نتائج أسرع مما جنته الثورة السورية، وإن كان هنالك من إنجاز يمكن البناء عليه لدى الثوار السوريين فهو محاولاتهم المستميتة في ضرب بنية الخوف والتسبب بعكس الحالة فالشعب السوري الذي ثار على الظلم بكافة الطرق ورفع صوته عالياً نقل حالة الخوف من صفوف الثوار إلى القصر الجمهوري.

حالة الخوف التي يعيشها الديكتاتور السوري وحاشيته والتي تعد أضعاف ما عاشه الشارع السوري خلقت حالة من الانحناء الكامل للاحتلالات الخارجية والقوى الخارجية التي استعان بها النظام السوري للقضاء على ثورة الشعب، فبذلك أقدم النظام الدموي الخائف على الاستعانة بتلك القوى التي تسنده عسكرياً وتحميه من نفاذ القوانين الدولية التي تسري على مجرمي الحرب من أمثال الديكتاتور السوري الدموي وقياداته العسكرية التي ساهمت في قمع الثورة السورية وشردت ملايين السوريين وقتلت الآلاف منهم كي تحمي الديكتاتور وإقامته الدائمة في القصر الجمهوري.

إن الشعب السوري الذي ضرب بنية الخوف العميقة في الدولة السورية فقوبل عالمياً باصطفاف قوى عالمية إلى جانب الديكتاتور، لا يمكن أن يقف عند تلك الحدود هذا لأن مجهوداته الثورية الملهمة لأحرار وثوار العالم ترسي وتخلق حالة من التململ العالمي والتحركات لضبط إسناد الديكتاتور من قوى عالمية خارجة عن القانون الدولي، فالثورة السورية على الديكتاتور وما تكبدته تساهم في رسم خريطة ثورية عالمية من قبل التجمعات العالمية التي صقلت مطالبها من الدول الكبرى بالكف عن دعم الديكتاتور وإحالته هو ومجرمي الحرب للمحاكمة الدولية ومحاكمة داخلية في المحاكم السورية.

لقد فضحت الثورة السورية بنية الخوف الداخلية كذلك فضحت بذات الوقت بنية الخوف العالمية التي يعيشها المواطن العالمي تحت سطوة النظام العالمي الذي يرجح كفة الأقوى فيه ويصبح الأكثر قدرة على التنصل عن مسؤولياته القانونية والجنائية تجاه شعب أو عرق معين، وهنا اقتضى القول إن تفتيت بنية الخوف في الدولة السورية العميقة ملهمة لتفتيت بنية الخوف العالمي الذي تشيعه منظمات تحابي الدول القوية في قوانينها وتشريعاتها، فتفتيت بنى الخوف المحلية لا يمكن أن يكتمل ويفضي لحالة من إعادة البناء الكامل على أساس القانون وحفظ الحقوق طالما لم ترافقه ثورة قانونية عالمية من أجل تفتيت بنى الخوف العالمي الذي أرسته النظم والدول الكبرى والقائم على حماية الدول المعتدية بحق النقض.

—————————

بعد عشرة أعوام؛ المسيحيون السوريون يقولون إن الأسد “جعلَنا رهائن

ترجمة أحمد عيشة

بعد مرور خمسة أعوام، ما تزال نجوى، التي رفضت ذكر اسم عائلتها خوفًا من الكشف عن هويتها، تتذكر شعورها بالغثيان عندما ناشدت ضابطًا سوريًا للحصول على معلومات عن ابنها المفقود هاني البالغ من العمر 16 عامًا.

عرفت لاحقًا ما حدث من صديقٍ لابنها؛ أخبرها نبيل (18 عامًا) أن رجلًا يعمل مع الجيش السوري سبق أن جنّد الشابين للانضمام إلى القوات المتمركزة في مطار الطبقة العسكري، شمالي محافظة الرقة، لصدّ هجوم من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وقال لهم من جنّدهم، كما أُخبرت نجوى لاحقًا: “أنتم المسيحيون نخبة بلدنا، لقد اختاركم بشار الأسد للقتال”.

في اليوم التالي، انسحبت وحدتهم إلى قرية (أثريا) الخاضعة لسيطرة الحكومة في محافظة حماة. لكنهم لم يصلوا إليها قط. بعد أن لجؤوا طوال الليل في مزرعة بالقرب من القاعدة الجوية، هاجمت (داعش) الوحدة مرة أخرى. وكان نبيل من القلائل الذين نجوا من الرصاص، حيث كان مختبئًا في سيارة. من ناحية أخرى، أصر هاني على المشاركة في القتال. ولم يعثَر على جثته البتة.

قالت نجوى، والدموع تنهمر من عينيها، وهي تجلس في مقهى هادئ في الحي اللاتيني بباريس تروي قصتها للصحفي للمرة الأولى: “والأسد يجرؤ على القول إنه يحمينا!”

غالبًا ما يتم تصوير المسيحيين السوريين على أنهم يدعمون الرئيس بشار الأسد، طوال الانتفاضة التي بدأت في 15 آذار/ مارس 2011، وتحولت إلى حرب مستمرة منذ عشرة أعوام تمامًا. لكن بعيدًا عن دمشق، في فرنسا، يروي اللاجئون المسيحيون الذين نجوا من الحرب قصة أكثر تعقيدًا.

هرمية سورية الأسد

في حين أن كثيرًا من المسيحيين ذوي القيادة في سورية قد اختاروا بالفعل الوقوف إلى جانب الحكومة السورية، هناك أعدادٌ لا تُحصى من المسيحيين السوريين لا تؤيد حكومة النظام، وكان آخرون أعضاء نشطين في المعارضة.

ضرب الصراع المجتمعات المسيحية بشدة. كان عددهم (2,2) مليون عندما اندلعت الحرب في عام 2011، لكنه انخفض إلى (677,000) في عام 2021، وفقًا لمؤشر اضطهاد المسيحيين في العالم الذي نشرته منظمة (Open Doors) غير الحكومية.

وبغض النظر عن ذلك، فإن الأسد نفسه علويّ، ومذهبه فرع من الإسلام الشيعي، وقد وضع عائلته كحليف للأقليات في سورية، باستخدام تهديد الجماعات الإسلامية المتطرفة، وعلى الرغم من أن الأسد أطلق سراح كثير من المقاتلين المتطرفين من السجن في وقت مبكر من الصراع، ثم تعامل معهم اقتصاديًا في وقت لاحق، فإنه تمكن من الاحتفاظ بشرعية نسبية، بين بعض الأوساط السياسية الغربية، على الرغم من عدم التعامل الرسمي مع حكومته، كما قال زياد ماجد، عالم سياسي لبناني-فرنسي، وأستاذ في الجامعة الأمريكية في باريس.

قال ماجد: “لقد أنشأ النظام السوري تسلسلًا هرميًا اجتماعيًا يميّزُ الأقليات التي يُنظر إليها على أنها “مفيدة”، ومن ضمنها جزء من الطبقة العليا والمتوسطة السنية، من الطبقة العاملة السنية في الريف أو الضواحي”.

في صيف 2012، عندما تصاعدت حدة الصراع في أعقاب ذبح أكثر من (100) مدني في المنطقة الغربية من الحولة شمال غرب حمص؛ انقلبت حياة الدكتور هيثم سعد رأسًا على عقب. تم تصويره وهو يعالج رياض سيف، المعارض السياسي، في أحد المستشفيات العديدة التي انتشرت في العاصمة السورية دمشق، بينما كان الجيش يقمع التظاهرات. وبعد فترة وجيزة، اعتقل أحد فروع المخابرات السورية الطبيب الجراح وسجنه. ويذكر سعد أن كثيرًا من السجناء الذين كانوا معه في الزنزانة الضيقة الباردة ماتوا من البرد خلال أشهر الشتاء، ونزف آخرون حتى الموت نتيجة لضرب الحراس المتكرر لهم.

أحد الرجال الذي يبلغ من العمر 60 عامًا، تحدث من غرفة جلوسه الباريسية: “عندما يعذبك خمسة أشخاص بالكهرباء في وقت واحد، تفضّل أن تموت ألف مرة. حاولت أن أنهي حياتي بضرب رأسي بالحائط من دون جدوى”. وأضاف: “بعد أسابيع قليلة من هذا الجحيم، توسلت إلى معذبيَّ أن يقتلوني”. لكن أحد الحراس اعترض قائلًا: “السيد الطبيب مسيحي، لا يمكننا القضاء عليه”.

توقف سعد عن رواية قصته ليرينا ثلاثة أصابع من يده اليسرى، لم يعد قادرًا على تحريكها، منذ اليوم الذي كُسرت فيه تحت التعذيب. وقال: “بالنسبة إليّ، كل هذه الآلام لا تُقارن بالمأساة التي تلت ذلك”. عندما اُفرِج عن سعد في حزيران/ يونيو 2013، علم أن ابنه، بعد أن هرب من الجيش، قُتل على يد قناص موالٍ.

بحسب مازن درويش، فإن إطلاق النار على مدنيين مسيحيين أو ضربهم حتى الموت أو تركهم يموتون في زنازين السجن، بيد السلطة التي تقدّم نفسها حامية لهم، ليس بالأمر المفاجئ.

اعتقلت السلطات المحامي ورئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وهو منظمة غير ربحية مقرها فرنسا، من عام 2012 إلى عام 2015، وأعلنت منظمة العفو الدولية أنه سجين رأي. هو نفسه من الأقلية العلوية، مثل الأسد، لكن هذا لم يخلّصه أكثر مما خلّص المسيحيين. وقال لموقع (ميدل إيست آي Middle East Eye): “المنطق هو:” إما أن تكون معي وإما أنت غير موجود”.

فرّق تسُدْ

في سورية الأسد (كلا الأسدين بشار، ووالده حافظ الذي حكم البلاد بقبضة من حديد 29 عامًا) ربطت الحكومة مصيرها بالأقليات العلوية والمسيحية، مع إعطاء الأولوية لهذه المجتمعات في الوظائف الحكومية أو إكراميات (مزايا) لتعزيز الدعم.

يشرح فابريس بالانش، المتخصص في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط ومؤلف كتاب “المنطقة العلوية والقوة السورية”، أن دمشق “استخدمت” الأقليات الدينية “لبناء نظامها السياسي”.

من خلال تحالف الأسد مع المسيحيين والطبقة الوسطى المتعلمة والمدنية من جميع الطوائف -على حساب الطبقة العاملة الفقيرة والسنّة الريفيين والمحافظين- كان قصده أن يُظهر نفسه أكثر تقدّمية من معظم السوريين، كما يشير زياد ماجد، العالم السياسي في كتابه في (عقل بشار الأسد) In The Mind of Bashar Al-Assad. لقد كانت تلك الصورة موجهة إلى الساحة الدولية، وإلى الجزء “المتغربن” الناشئ من البرجوازية السورية.

A mourner attends the funeral procession of a fighter from the Syriac Military Council (SMC), a small minority of Christian fighters fighting alongside the rebel Syrian Democratic Forces (SDF), in Hasakah on 22 November 2019 (AFP)امرأة تحضر جنازة مقاتل من المجلس العسكري السرياني، أقلية صغيرة من المقاتلين المسيحيين الذين يقاتلون إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 (وكالة الصحافة الفرنسية)

حتى قبل الحرب، أدى هذا التكتيك -بحسب ماجد– إلى استخدام شكلين للعنف: الأول هادف وسرّي (اغتيالات وسجن) ضد بعض الأفراد أو الفئات؛ والثاني شامل وعشوائي، ضد جماعات، يأخذ شكل التجويع من خلال الحصار (استراتيجية استخدمت ضد مخيم اليرموك الفلسطيني جنوب دمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2012) وقصف مكثف.

باسل خوري، الذيسُجن عامين في عهد حافظ الأسد عام 1987 بسبب صلاته بالحزب الشيوعي السوري، يعيش الآن جنوب باريس. قال لموقع (ميدل إيست آي Middle East Eye): “أشعر بأنني سوري أولًا، ثم مسيحي”. ويتناقض هدوء الضاحية الباريسية مع ذكرى اعتقاله العنيف عام 1987، عندما كان طالبًا. وقال: “إن أحد أكبر مخاوف النظام هو تنفير الأقليات، ولا سيما الطائفة المسيحية، ومعظمها من المتعلمين. يريدون تجنب ظهور وعي سياسي معادٍ”.

كان خوري يلاحظ المحسوبية تجاهه في حياته اليومية في سورية، كما الحال عندما يُظهر التدقيق في الهوية انتماءه الديني، خاصة أثناء الحرب. وقال: “كان من الممكن أن تقع مصيبة، لو أن اسمي محمد”، في إشارة إلى عمليات التفتيش المتكررة التي تقوم بها المخابرات والإهانات التي يواجهها كثيرٌ من المسلمين السوريين.

وكذلك الحال عند نجوى، فمثل هذه المواقف جعلتها تشعر بعدم الارتياح، عندما كانت لا تزال في البلاد. “عندما سمح لي موظف إداري بتجاوز الطابور، أو عندما كانت سيارتي هي الوحيدة التي لم يتم تفتيشها عند حاجز على الطريق، كنتُ أرى الغضب في عيون الآخرين. لماذا كنت أستحق المرور قبلهم؟”.

وقال ماجد إن هذه المحسوبية التي أثارت الاستياء ضد الأقليات الدينية كانت خطوة متعمدة من قبل مسؤولي الدولة. وأضاف: “هذا يضع المسيحيين في موقف يحتاجون فيه أكثر إلى النظام، لحمايتهم من الناس الذين لربما بدؤوا في الاستياء منهم. إن تغذية هذا العداء يسمح لهم [الحكومة] بتصوير أنفسهم على أنهم (منقذون) للأقليات التي تواجه استياء الأغلبية السنية، مع إعطاء المسيحيين وهم التفضيل عليهم”.

من خلال التمييز بين المواطنين السوريين وتفاقم الطائفية، على الرغم من خطابه العلماني، جعل الحكم البعثي في عهد حافظ وبشار الأسد نفسه أمرًا لا غنى عنه لإخماد النيران التي أوقدها بنفسه.

اللعب بالورقة المسيحية الدبلوماسية

في إحدى المرات من ظهوره النادر في زمن الحرب خارج دمشق، اختار الأسد الظهور في قرية معلولا المسيحية في عيد الفصح 2014، برفقة أعضاء من رجال الدين. كانت المدينة قد استعيدت من المتمردين قبل أيام قليلة. من الذي كان يحاول نظام الأسد إغراءه بهذه الصور التي تم بثها لكل العالم؟ المسيحيون السوريون الذين تحدثوا إلى (ميدل إيست آي) لا يساورهم أدنى شك في أنه “الغرب”.

في فرنسا على الأقل، حيث لجأ آلاف من المسيحيين السوريين، يبدو أن هذا التكتيك قد آتى ثماره. في مقال نُشر في صحيفة (لوموند) الفرنسية اليومية في 20 نيسان/ أبريل 2018، وصف أحد عمال الإغاثة الإنسانية منظمة (أنقذوا مسيحي الشرق) الفرنسية غير الحكومية، بأنها “وكالة ضغط (لوبي) ممتازة وغير مكلفة للأسد”. أثار هذا الخليط الأيديولوجي انتقادات شديدة، حتى من الكنيسة الكاثوليكية.

A woman holds a Syrian flag bearing the portrait Bashar al-Assad during a demonstration called by fundamentalist Catholic organisation Civitas in support of Christians of the Middle East on 20 June 2015 in Paris (AFP)امرأة تحمل العلم السوري وعليه صورة بشار الأسد خلال تظاهرة دعت إليها منظمة (سيفيتاس Civitas) الكاثوليكية الأصولية لدعم مسيحيي الشرق الأوسط في 20 حزيران/ يونيو 2015 في باريس (وكالة الصحافة الفرنسية)

ضُخِمت صورة الأسد كمدافع عن الأقليات الدينية، مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق المجاور في عام 2013؛ إذ بدا أن الأسد الآن يتقاسم عدوًا مشتركًا مع المجتمع الدولي. حيث عَدّ تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية، الذي اتخذ الرقة مقرًا له في ذلك الوقت، كلّ أولئك الذين لم يتبعوا تفسيره الصارم للإسلام السني -من ضمنهم المسيحيون أو الشيعة أو جماعة الأسد العلوية- زنادقة.

تيغران يغافيان، صحفي ومؤلف كتاب “الأقليات الشرقية، منسيو التاريخ”، قال: مع أن المعاملة الحسنة للأقلية المسيحية هي بالتأكيد استعراض من دمشق، لتتزلف به إلى الغرب الذي انحاز إلى حد كبير مع المعارضة في الحرب، فإنها قبل كل شيء تسمح لحكومة الأسد بصقل أوراق اعتمادها مع حليفها الاستراتيجي الرئيس منذ عام 2015: روسيا.

في حديثه إلى (ميدل إيست آي)، أشار يغافيان إلى أن العلاقات الوثيقة بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في سورية، هي روابط روحية بقدر ما هي اقتصادية. في عام 2013، تلقت كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية في دمشق (1,3) مليون دولار من الكنيسة الروسية.

في عام 2015، نفذت المقاتلات الروسية غاراتها الأولى على سورية، بمباركة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وادعى فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، في ذلك الوقت أنه يدافع عن الطوائف الأرثوذكسية الشرقية، كما يشير يغافيان في كتابه. في أعقاب ذلك، أخبر الأسد المجلة الأسبوعية اليمينية الفرنسية (القيم المعاصرةValeurs Actuelles) أنه ينظر إلى سيد الكرملين بأنه “المدافع الوحيد عن الحضارة المسيحية”.

“الأسد جعلنا رهائن”

بالنسبة إلى السوريين الذين يتحدثون إلى موقع (ميدل إيست آي)، فإن التركيز الغربي على المسيحيين في سورية والشرق الأوسط الكبير أمرٌ مضللٌ. وقال سعد الذي تظاهر في شوارع دمشق إلى جانب المسيحيين والمسلمين: “هذه القصص الدينية التي تثير اهتمام وسائل الإعلام كثيرًا لا تستحق، في رأينا، حتى نشرها”.

ومع ذلك، فإن حقيقة وجود مسيحيين بين معارضي الأسد لا تغيّر حقيقة أن الدافع إلى الثورة في سورية جاء في الغالب من المجتمع السني، وفقًا لـ فريدريك بيشون، المؤرخ ومؤلف كثير من الكتب عن الصراع السوري. حيث قال بيشون* إن المسيحيين لم يشاركوا قط في الاحتجاجات بشكل جماعي. ويرى بعض المعارضين المسيحيين هذه المشاركة الضعيفة دليلًا على نجاح خطة الأسد لتقسيم البلاد واحتلالها.

إحدى هؤلاء المشاركات هي سميرة مبيض، نائبة رئيس منظمة مسيحيون سوريون من أجل السلام، وهي منظمة غير حكومية تنتقد الحكومة السورية واستخدام السلاح من قبل معارضيها. وقالت لموقع (ميدل إيست آي): “إننا نعاقَب ثلاث مرات”. وقالت إن المسيحيين هم ضحايا للأسد، مثلهم مثل باقي المواطنين، بينما يتم استغلالهم أيضًا على المسرح الدولي.

“بتقديمه المسيحيين على أنهم أتباعه وحلفاؤه؛ جعلَنا الأسدُ رهائن”.

وقال يغافيان إن حذر المجتمع المسيحي من دعم المعارضة جاء في المقام الأول من هشاشة أوضاعهم في سورية. ووفقًا لمسؤول كنسي في دمشق، كان المسيحيون يمثلون 25 في المئة من سكان سورية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن لم يبق منهم سوى ما بين 5 و6 في المئة فقط قبل الحرب الأهلية السورية في عام 2011.

انخفض عددهم منذ ذلك الحين، ويشكّل المسيحيون (3,6) في المئة فقط من السوريين في عام 2021، وفقًا لبعض التقديرات، وهو ثمن باهظ دفعوه مقابل دعمهم المفترض للأسد. وقال بيشون إن معظمهم ظلوا على الهامش “خوفا من عنف الجهاديين أو أي عنف في هذا الصدد”.

سمير، وهو من سكان حلب سابقًا، وقد طلب استخدام اسم مستعار بسبب وجود بعض أفراد عائلته في سورية، قال: “يقول لي بعض أبناء وطني المسلمين: أنتم المسيحيون مع المجرم بشار”.

يحرص الأستاذ الجامعي السابق على شرح الدور الذي لعبه إخوانه المسيحيون في التاريخ العربي والسوري، قبل العودة إلى يومنا هذا. وقال لموقع (ميدل إيست آي): “نحن لسنا مهددين من الجماعات الإرهابية، بل علينا أيضًا أن نعاني ظلم النظام السوري، مثل إخواننا المسلمين. نود أن نعيش في دولةٍ تحترم الحرية والعدالة”. قُتلت ابنة سمير عام 2012، على يد عصابة مسلحة، وبفضل شجاعة امرأة بدوية مسلمة، قطعت مسافة 170 كيلومترًا تحت طوفان من القنابل لتسليم جسد الفتاة لوالدها، تمكّن من دفنها.

لقد كانت تلك لفتةً، مثل كثير من اللفتات قبل ذلك واليوم، تتحدى العنف والاعتبارات السياسية؛ قد يقرؤها البعض كمثال للتعايش بين الأديان، وربما يراها البعض الآخر دليلًا طبيعيًا على التضامن البشري.

*- الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز بالقضايا المطروحة

اسم المقال الأصلي         Syria war: Ten years on, Syrian Christians say Assad ‘has taken us hostage’

الكاتب   صوفيان أوبان، Sophian Aubin

مكان النشر وتاريخه         ميدل إيست آي، Middle East Eye، 14/3/2021

رابط المقال         http://bit.ly/3tAqj29

ترجمة   وحدة الترجمة/ أحمد عيشة

=======================

تحديث 21 أذار 2021

—————————-

رزان زيتونة… وجه الثورة السورية المُغيّب

نضالها ضد الظلم خلق لها أعداء كثر على عدة جبهات: عند النظام السوري وبعض فصائل المعارضة المسلحة. بعد عشر سنوات على الثورة السورية، أنجزت وحدة التحقيق الاستقصائي التابعة لمؤسسة دويتشه فيله التحقيق التالي حول الاختفاء الغامض للناشطة رزان زيتونة من منطقة كانت تحت سيطرة المعارضة السورية.

وجه رزان زيتونة كان مشعاً وهي وسط المحتجين. أخذها الحماس الثوري عندما انضمت لجموع الهاتفين ضد النظام السوري.

وعندما انطلقت شرارة الثورة، كانت رزان وكأنها تنتظرها طوال حياتها، فقد كانت من بين أوائل النشطاء السوريين الذين طالبوا الحكومة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وذلك في رسالة مفتوحة نُشرت بعد يوم من اندلاع الاحتجاجات الشعبية في الخامس عشر من مارس/ آذار عام 2011.

آنذاك، قالت رزان في مقطع فيديو: “نحن نواجه واحداً من أكثر الأنظمة وحشية في المنطقة والعالم بمظاهرات سلمية، وأغاني الحرية، وهتافات من أجل سوريا جديدة. أنا فخورة بكوني سورية وكوني جزءً من هذه الأيام التاريخية، وبذلك الشعور بالعظمة في شعبي”.

لكن ذلك لم يكن كافياً، إذ انخرطت المحامية البالغة من العمر آنذاك 33 عاماً في تنظيم الاحتجاجات في دمشق ومدن أخرى في البلاد. جهودها ساهمت في إنشاء لجان التنسيق المحلية، والتي كانت مكوناً أساسياً في الديمقراطية السورية الناشئة آنذاك.

معارضة رزان للمقاومة المسلحة ميّزتها عن الكثير من أقرانها، الذين قام بعضهم بعد ذلك بدعم العنف المنظم ضد النظام.

حول ذلك، يقول مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وهو الذي كانت تربطه برزان صداقة مديدة: “أهم ما يميز شخصيتها كان رفضها للظلم واستعدادها للقيام بأي شيء لمحاربة الظلم. لم يكن لرزان أي طموح بالوصول إلى السلطة”.

بذور ثورة

حتى قبل أن تتصدر هي وغيرها لقيادة الحراك الثوري في سوريا، كانت زيتونة محامية لحقوق الإنسان، ومدافعة صنديدة عن الفئات الأقل حظاً والمهمشين والأكثر عرضة للتهديد من قبل الأجهزة الأمنية الوحشية لنظام بشار الأسد.

وفي آخر مقال لها قبل اختفائها، كتبت زيتونة تقول: “حقوق الناس ومعاملتهم بشكل عادل ليس أمراً خاضعاً للتفسير والنقاش، وليس وجهة نظر”.

وفي قضية حصلت منتصف العقد الأول من القرن الحالي، أطلقت السلطات السورية حملة ممنهجة تستهدف السلفيين، شملت سجنهم لفترات طويلة بتهم ملفقة. كانت تلك حملة أمنية لم يُسمح لأحد بالحديث عنها، حسب ما يتذكر نديم حوري، مدير مبادرة الإصلاح العربي، وهو صديق أيضاً لرزان زيتونة. ويضيف حوري: في ذلك الوقت، رتبت رزان لقاء سري لي في مكتبها مع أمهات المعتقلين. لقد قامت بمخاطرة كبيرة من أجل شخص لا تعرفه بشكل جيد، ولكنها أرادت أن تنشر القصة وكانت مستعدة للمخاطرة بحياتها من أجل ذلك”.

اختفاء رزان وزملائها يبقى أحد أكثر الألغاز غموضاً في الثورة السورية. وبالنسبة لمازن درويش، الذي قام بتأسيس مركز توثيق الانتهاكات مع رزان، فإن اختفاءهم يأتي بالتوازي مع اختفاء الحركة الداعمة للديمقراطية في سوريا.

“شاهدة” على هجوم الكيماوي

لكن أكثر ما عُرفت به رزان زيتونة كان توثيقها لانتهاكات حقوق الإنسان. ففي أبريل/ نيسان عام 2011، بعد شهر واحد على المظاهرات ضد بشار الأسد، شاركت زيتونة في تأسيس مركز توثيق الانتهاكات، الذي ما زال يعمل حتى اليوم.

وجدت رزان أنها لم تكن تستطيع أن تواصل نشاطها في دمشق بسبب ملاحقة أجهزة الأمن والمخابرات لها. وفي مايو/ أيار عام 2011، اعتُقل زوجها من منزلهما واحتُجز ثلاثة شهور. وبسبب ذلك، تخفت رزان عن أعين السلطات لمدة عامين.

قررت زيتونة الفرار من دمشق إلى دوما عام 2013 بسبب الضغط المستمر على عملها في العاصمة السورية. تم تهريبها إلى معقل الثوار السوريين على تخوم العاصمة، وكان ذلك آخر مكان معروف لها.

استمر مركز توثيق الانتهاكات في تقصي جرائم الحرب، مثل الهجوم بالأسلحة الكيماوية في أغسطس/ آب عام 2013 في الغوطة الشرقية، والذي وثقته رزان وزميلها ثائر هـ. وسقط نحو ألف ضحية جراء الهجوم، من بينهم أكثر من 400 طفل، بحسب مصادر مستقلة.

كتبت رزان آنذاك: “كنت شاهدة على المجزرة. رأيت جثث رجال ونساء وأطفال في الشوارع. سمعت صراخ الأمهات عندما وجدن جثث أطفالهن بين الموتى”.

استقبال عدواني

شكل وصول رزان زيتونة إلى دوما تحدياً للبعض، فقد أدركت وزملاؤها بسرعة أنهم ليسوا موضع ترحيب، وذلك بسبب توثيقها لانتهاكات حقوق الإنسان على يد فصائل المعارضة المسلحة، بما فيها الفصائل الإسلاموية.

في مايو/ أيار 2013 كتبت زيتونة في رسالة بريد إلكتروني لنديم حوري، الذي عمل في السابق في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، قائلة: “لم نقم بثورة ونخسر آلاف الأرواح كي يقوم هؤلاء الوحوش بتكرار نفس تاريخ الظلم … يجب أن يُحاسب هؤلاء كما يُحاسب النظام”.

طوال عام 2013، شهدت دوما صراعات بين الفصائل المسلحة للسيطرة عليها، بما في ذلك تنظيم “الدولة الإسلامية”، و”جبهة النصرة”، و”جيش الإسلام”، الذي تمكن من إحكام قبضته على المنطقة إما من خلال احتواء منافسيه أو القضاء عليهم.

بحلول صيف ذلك العام، أصبحت زيتونة مستهدفة بسبب نشاطها. لكن رفضها ارتداء الحجاب أو الالتزام بالقيم الدينية المتشددة تسبب في ردود فعل عدوانية أيضاً من بعض الجماعات المسلحة. ففي إحدى المرات، أطلق مسلحون النار في الهواء وتركوا رصاصة على عتبة منزلها. وفي مرة ثانية، تلقت رزان رسالة تهديد حصلت مؤسسة دويتشه فيله  على نسخة منها. الرسالة حوت عبارة “سأقتلك” خمس مرات. قامت  دويتشه فيله بالحديث مع عدة مصادر فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم لأسباب أمنية، وكلهم أجمعوا على أن الرسالة جاءت من عضو في “جيش الإسلام”.

ويقول ثائر، زميل رزان في مركز توثيق الانتهاكات: “لقد أنشأت مبادرات للنساء وبدأت في توثيق الانتهاكات في سجون المعارضة وأماكن أخرى … كل ذلك جعلها خصماً لجيش الإسلام ونفوذه وأيديولوجيته ورغبته في تأسيس إمارة أو خلافة إسلامية”.

اختفاء بلا أثر

في ديسمبر/ كانون الأول عام 2013، قام مسلحون باقتحام مكتب رزان زيتونة في دوما واختطافها، بالإضافة إلى زوجها وائل حمادة وزميلها ناظم حمادي والناشطة السورية سميرة الخليل. بعدها عُرفوا باسم “رباعي دوما” عقب اختفائهم القسري.

أقارب الرباعي وزملاؤهم قاموا بتقديم شكوى قضائية في فرنسا ضد جيش الإسلام، الذي حملوه مسؤولية اختطافهم. على إثر ذلك، تم اعتقال قيادي في التنظيم المسلح على صلة بالقضية، وحصلت DW على حق وصول حصري إلى أهم استنتاجات القضية.

وتؤكد شهادات العيان التي جمعتها وحدة التحقيق الاستقصائي التابعة لمؤسسة دويتشه فيله  في تركيا وسوريا بعض تلك الاستنتاجات، وتشير بشكل قوي إلى أن رزان زيتونة ربما كانت في قبضة مسلحين إسلامويين ينشطون في دوما بعيد اختفائها.

وفي سؤال من وحدة التحقيقات الاستقصائية  عن ذلك، رفض قياديون في “جيش الإسلام” هذه الاتهامات، وأنحوا باللائمة على جبهة النصرة، المرتبطة بتنظيم القاعدة الإرهابي، أو على  نظام الأسد.

اختفاء رزان وزملائها يبقى أحد أكثر الألغاز غموضاً في الثورة السورية. وبالنسبة لمازن درويش، الذي قام بتأسيس مركز توثيق الانتهاكات مع رزان، فإن اختفاءهم يأتي بالتوازي مع اختفاء الحركة الداعمة للديمقراطية في سوريا.

ويقول درويش: “إن مصير رزان وزملائها يشبه مصير الحركة المدنية السلمية التي حاولت أن تخلق بديلاً أخلاقياً في سوريا. لقد تم سحقها ما بين النظام وتلك الجماعات (الإسلاموية)، التي لا تعدو كونها قمعية أيضاً”.

كتاب وكاتبات التحقيق: لويس ساندرز، بريغيتا شولكه-غيل، وفاء البدري، يوليا باير/ ي.أ

حقوق النشر: دويتشه فيله 2021

ملاحظة المحرر: وحدة التحقيقات الاستقصائية في DW ما تزال تحقق في اختفاء رزان زيتونة وزملائها. إذا كانت لديكم أي معلومات تؤدي إلى معرفة مكان تواجدهم أو ظروف اختطافهم، يمكن إجراء اتصال آمن على هذا العنوان  DW.tips@protonmail.com

 ————————————-

انحياز إلى حوران/ صبحي حديدي

أنحاز شخصياً إلى تاريخ 18 آذار (مارس) 2011 في تحديد البدايات الفعلية للانتفاضة الشعبية السورية، ليس لأيّ اعتبار يقلل من أهمية المظاهر التي اقترنت بالتاريخ الأوّل، 15 من الشهر إياه؛ بل – ببساطة بليغة في ذاتها، كما أخال – لأنّ التاريخ الثاني يقترن بمظاهرات درعا البلد، ثمّ حوران إجمالاً. واليوم، في التاريخ نفسه واحتفاء بالذكرى العاشرة للانتفاضة، لم تكذّب المدينة وريفها خبراً، في جاسم وبصر الحرير وعلما والكرك والحراك والجيزة… ولم تخيّب أملاً، فخرجت من الجامع العمري (دون سواه، للتذكير المفيد!) تظاهرات تهتف للشهيد، وتهزج على منوال ما فعلت قبل عشر سنوات: «هاي بلاد العزّ ونحنا رجالها/ وإنت يا شهيد من أبطالها».

حوران، بادئ ذي بدء، استبقت فتيان سوريا وأطفالها في اعتناق الشعار الشهير «إجاك الدور يا دكتور»، الذي كُتب على الجدران وأطاش صواب رأس النظام ومعه ابن خالته العميد عاطف نجيب، فلم يتوقف الأخير عند اعتقال العشرات منهم، وتكسير أصابعهم؛ بل طالب ذويهم بأن ينسوا أبناءهم هؤلاء وأن يعودوا إلى زوجاتهم كي «يصنعوا» أطفالاً آخرين، أو يتركوا هذه المهمة إلى رجال جهازه الصناديد! كذلك كانت حوران قد بذلت أوّل الدم السوري فداء للانتفاضة، فسقط قبل أن يكتمل الشهر عشرات الشهداء؛ في طليعتهم أمثال حسام عياش ومحمد الجوابرة وأيهم الحريري. وأمّا قصف جامع المدينة، العمري العريق الشهير، فقد دشّن عبور نهر جديد من الدماء بين آل الأسد والشعب السوري، فلم تكتف أجهزة النظام باقتحام مسجد لجأ إليه مواطنون جرحى عزّل حتى من الحجارة؛ بل أدخلت عدسات إعلام السلطة إلى المسجد كي «تضبط» الأموال والأسلحة المخزّنة هناك، والتي وصلت إلى «المندسين» من جهات خارجية.

والحصار الذي فرضه النظام على حوران، وشمل الماء والكهرباء والغذاء والدواء والاتصالات والخروج من المحافظة أو الدخول إليها، كان مناسبة لاستيقاظ ضمائر العشرات من الفنانين والكتّاب والمثقفين عموماً، وإصدار بيان يطالب برفع الحصار عن المحافظة؛ عُرف باسم «بيان الحليب» في أدبيات الانتفاضة (لم يكن أدونيس في عداد الموقّعين، غنيّ عن القول، ربما خشية أن تُوزّع علب الحليب من الجوامع مثلاً!). صحيح أنّ عدداً من الموقّعين تراجع سريعاً عن نبرة البيان، وعدد منهم عاد إلى الانضواء في سردية النظام؛ إلا أنّ البيان احتفظ بنقائه التحريضي المبكّر ذاك، واستولد جمهرة من الأسماء التي سوف تبقى على مواقفها في تأييد الانتفاضة، وسيضطر عدد كبير منها إلى مغادرة البلد.

سبب آخر صنع خصوصية حوران في الوجدان السوري عموماً، وضمن تراث الانتفاضة خصوصاً، هو أنها جارة أجزاء واسعة من الجولان المحتل؛ وكان أقصى الحزن، عدا المفارقة الفاضحة الصارخة، أن يشهد السوريون، والحوارنة تحديداً، بطولات جيش النظام وأجهزته الأمنية في استخدام الرصاص الحيّ والقصف الوحشي بالمدفعية والدبابات والراجمات، وذلك على مرمى حجر من جبهات الجولان الصامتة تماماً مع جيش الاحتلال الإسرائيلي. والجيرة بين حوران والجولان رسخّت مكوّناتها أواصر القربى والاجتماع البشري والجغرافيا، فضلاً عن التاريخ السحيق مثل القريب؛ ولم يغب ذلك كلّه عن النابغة الذبياني وهو يرثي أحد أمراء الغساسنة: «بكى حارثُ الجولان من فَقدِ ربِّهِ/ وحَورانُ منهُ موحشٌ متضائِلُ».

انحياز إلى حوران إذن، في الذكرى العاشرة، لا يُغفل حقيقة ختامية «حربية» هذه المرّة: أنّ سهولها احتضنت معركة اليرموك الشهيرة، سنة 636 م، بين المسلمين والروم، وانتهت إلى هزيمة أقوى جيوش العالم آنذاك؛ ومنها سوف يطلق هرقل كلمته الجريحة الشهيرة، حين غادر إلى غير رجعة: «السلام عليك يا سوريا، سلاماً لا لقاء بعده، ونِعْمَ البلد أنت للعدوّ وليس للصديق، ولا يدخلك روميٌ بعد الآن إلا خائفاً».

وهيهات أن يسلم مجرمُ الحرب الكيماوي من مصائر مماثلة، لعلها ستكون أدهى وأشدّ مضاضة؛ طال زمن سوريا وحوران، أم قصر.

القدس العربي

—————————

إعادة الإعمار في سوريا لمن الكعكة؟/ إبراهيم نوار

لم تسكت المدافع بعد. وما تزال سوريا مقسمة بين إرادات سياسية متعارضة. لكن الصراع على كعكة إعادة الإعمار لم يتوقف، منذ عام 2012 أي بعد عام واحد من انفجار الصراع الذي أدى إلى حرب أهلية. الكعكة كبيرة قدّرها ممثل الأمم المتحدة السابق في سوريا ستيفان دي ميستورا بما يتراوح بين 250 إلى 400 مليار دولار، بينما تصل الآن إلى ما يقرب من تريليون دولار، وتشمل إعادة بناء كل شيء في سوريا تقريبا، من المرافق الأساسية المادية إلى المساكن إلى رأس المال البشري والزراعة والصناعة والطاقة ومؤسسات الدولة. ومن ثم فهي تستحق العناء والصبر، لأن الفائز سيحصل على مكافأة ضخمة. ويقدر البنك الدولي أن عودة الاقتصاد السوري إلى ما كان عليه قبل عام 2011 سيحتاج إلى 10 سنوات على الأقل، إذا توفرت شروط التمويل والمهارات البشرية والتنظيمية والتكنولوجيا الملائمة لتحقيق نمو في الناتج المحلي بمعدل يزيد عن 5 في المئة سنويا. أما إذا تحقق النمو بنسبة 3 في المئة فإن سوريا ستحتاج إلى 20 عاما لكي تعود إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.

كيف تتم إعادة الإعمار؟

بدأ الإعداد لإعادة بناء سوريا بتشكيل مجموعة دولية تحت اسم «مجموعة أصدقاء سوريا» داخل إطار يضم 60 دولة ومنظمة متعددة الأطراف تشارك فيه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وعقدت مجموعة العمل التي تتولى التنسيق من أجل الإنعاش والتنمية الاقتصادية أول اجتماع لها في أبو ظبي ايار/مايو 2012. وعلى الرغم من التعهدات بالمساعدات والتمويل، فإن سوريا لم تشهد أي خطوات عملية للإعمار بسبب استمرار الحرب. وهكذا فإن دور البنك الدولي والأمم المتحدة ومجموعة أصدقاء سوريا تبخر تماما، باستثناء عدد محدود من المشروعات، معظمها لأغراض إنسانية مثل مشاريع الإغاثة للاجئين والنازحين، ومشروع إعادة تأهيل محطتين لتوليد الكهرباء في طرطوس وحماة، مولته اليابان بقيمة 11.5 مليون دولار، بمقتضى مذكرة تفاهم مع برنامج الأمم المتحدة الانمائي عام 2016 ونفذته شركة ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة.

روسيا والنفط

أحدث دخول روسيا إلى ساحة الحرب السورية عام 2015 تغييرا جوهريا في قواعد لعبة الصراع بين الأسد وخصومه. وبينما كان الرئيس السوري قاب قوسين أو أدنى من السقوط، فإن روسيا مدت له يد العون وساعدته على فرض سيطرته على ما يقرب من 65 في المئة من الأراضي السورية. وبلغت تقديرات تكلفة التدخل الروسي في ذروة الحرب بما يتراوح بين 2.4 مليون إلى 4 ملايين دولار يوميا. وفي مقابل هذا التدخل حصلت روسيا على مكاسب مهمة، منها تصفية عدة آلاف من المتشددين الإسلاميين من بلدان الاتحاد السوفييتي السابقة مثل الشيشان، المنخرطين في الصراع المسلح ضد الحكومة السورية. وتوسيع الوجود العسكري الروسي في شرق البحر المتوسط في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية.

وعلى الصعيد الاقتصادي تعتبر روسيا الرابح الأكبر بين الدول الحليفة لنظام بشار الأسد، خصوصا مع دورها في إعادة تشغيل قطاع النفط والغاز. وفي هذا السياق وقعت الحكومة السورية مع روسيا عددا من الاتفاقيات تمنح شركات روسية صغيرة مملوكة لمقربين من الرئيس الروسي بوتين، عقودا تصل مدتها إلى 50 عاما لإعادة تأهيل وتشغيل حقول النفط والغاز القائمة، والتنقيب عن النفط والمعادن داخل الأراضي السورية وفي المناطق البحرية قبالة شواطئها في شرق البحر المتوسط، على أساس نسب مشاركة تبلغ 70 في المئة للجانب الروسي و30 في المئة للجانب السوري. وتقدر قيمة العقود الروسية في قطاع النفط والغاز السوري منذ عام 2017 حتى الآن بما يقرب من 40 مليار دولار.

ويتم إنتاج النفط والغاز حاليا في محافظات الحسكة ودير الزور وتدمر وبالقرب من دمشق. وتتولى شركات روسية تشغيل الحقول الخاضعة لسيطرة الحكومة، بينما تتولى شركات أمريكية صغيرة، معفاة من العقوبات، تشغيل الحقول في المناطق التي تخضع لسلطة قوات سوريا الديمقراطية. ويتم تصدير كميات قليلة حاليا من النفط السوري مقابل الحصول على الوقود، بعد أن كان أكثر من 95 في المئة منه يذهب إلى أوروبا الغربية. كما تقوم مصافي النفط السورية باستقبال النفط القادم من المنطقة الكردية لتكريره والحصول على نسبة 30 في المئة من المشتقات النفطية مقابل التكرير. وتشير تقارير مراقبة المعابر البرية أيضا إلى أن نسبة من نفط سوريا يتم تصديرها برا إلى الحدود التركية. وفي مجالات التعدين تعمل الشركات الروسية في استخراج الفوسفات وتطوير المناجم في حماة، وإدارة مجمع الفوسفات في حمص. كما تقوم شركات روسية بتطوير ميناء طرطوس.

وفي عام 2018 أتمت الشركات الروسية تطوير حقول للغاز في شمال دمشق بطاقة إنتاجية تبلغ مليون متر مكعب يوميا. ومع أن تلك الشركات حققت نتائج كبيرة في مجالات تشغيل الحقول البرية وتطويرها، فإن الروس يعتقدون أن ثروة سوريا الحقيقية من النفط والغاز تتركز في منطقتي البادية والساحل بنسبة 83 في المئة، مقابل نسبة تبلغ 12 في المئة فقط في منطقة الجزيرة الغنية بالإنتاج حاليا، التي من المتوقع أن يبدأ نضوب آبارها في عام 2023. وتصديقا لهذه التقديرات قال وزير النفط السوري إن احتياطي بلوك رقم 1 في القطاع البحري السوري يعادل كل الاحتياطي المعروف في الحقول البرية. ولم يبدأ حتى الآن إنتاج الغاز من المناطق البحرية، على الرغم من أن سوريا وقعت في عام 2013 اتفاقا مع شركة سويوز الروسية للنفط والغاز للتنقيب في منطقة حقل عمريت البحري. وليس من المتوقع أن تتمكن سوريا من تحقيق اكتشافات في المناطق البحرية ما لم تشارك في عمليات التنقيب شركات روسية ضخمة ذات خبرة مثل روسنفط وغازبروم. لكن المشاركة المباشرة لهذه الشركات سوف تعرضها للعقوبات. وتقدر هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية احتياطي الغاز الطبيعي في القطاع البحري لسوريا في شرق البحر المتوسط بحوالي 700 مليار متر مكعب. وفي حال استغلاله ستصبح سوريا واحدا من أهم البلدان المنتجة للغاز في العالم.

المصالح الإيرانية في السوق

تعتبر القيادة الإيرانية أن سوريا هي مشروعها الثاني الكبير في الشرق الأوسط بعد العراق. ولذلك فإنها تعتبر أن أي مساعدات تقدمها هناك يجب أن تعود بالنفع عليها. وطبقا لتصريحات أدلى بها علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى الإيراني فإنها قدمت مساعدات لسوريا تبلغ حوالي 8 مليارات دولار سنويا منذ بدء الصراع. وفي مقابل هذه المساعدات الاقتصادية والعسكرية، حصلت الشركات الإيرانية على امتيازات وعقود في كافة المجالات تقريبا، بما في ذلك صيانة محطات الكهرباء والتجارة والمقاولات والنقل والسياحة. وبسبب نقص السيولة المالية المتاحة للحكومة السورية فإن إيران أتاحت خطوطا مممتدة للتسهيلات الائتمانية المخصصة لتمويل صادراتها إلى سوريا. وحتى عام 2019 تم توقيع ثلاثة خطوط ائتمان بقيمة 6.6 مليار دولار، لا تشمل إمدادات السلاح والمعدات العسكرية. ويتم استخدام هذه التسهيلات بواسطة شركات إيرانية تقوم بتنفيذ التعاقدات التجارية مع سوريا، وبهذا تضمن إيران أن تتم المعاملات السلعية والتسويات المالية داخل دائرة إيرانية مغلقة، لا تتسرب منها الأموال أو السلع إلى أياد سورية.

غير أن إيران لم تتمكن من استثمار بعض الفرص التي أتيحت لها في قطاعات الاتصالات والكهرباء واستخراج وتصنيع وتصدير الفوسفات. ففي كانون الثاني/يناير 2017 وقعت الحكومتان السورية والإيرانية مذكرة تفاهم تمنح الشركات الإيرانية حقوق استخراج الفوسفات من مناجم الفوسفات الشرقية في تدمر، لكن تلك الشركات فشلت في بدء الأعمال. وبعد 6 أشهر سحبت سوريا الامتياز ومنحته إلى شركة «ستروي ترانس غاز» الروسية لاستخراج 2.2 مليون طن من الفوسفات سنويا لمدة 50 عاما مع حصول الجانب السوري على نسبة 30 في المئة من الإيرادات.

وتسيطر إيران على عدد مهم من المعابر التجارية التي تتحكم في حركة السلع عبر سوريا أو مع العراق، أهمها معبر البوكمال الذي تستغله لأغراض مدنية-عسكرية تشمل نقل الأسلحة والذخائر والمسلحين القادمين من إيران إلى سوريا عبر العراق. وكانت إيران قد وقعت اتفاقية تجارة حرة مع سوريا عام 2011 كما وضعت تصميما لمشروع خط أنابيب عبر العراق وسوريا إلى ساحل البحر المتوسط، وربط طهران وبغداد ودمشق بشبكة من الطرق لتسهيل حركة الأفراد والتجارة والاستثمارات.

حدود تأثير العقوبات وقانون قيصر

تخضع سوريا لقائمة واسعة من العقوبات الأوروبية والأمريكية تعرقل التنمية في كل القطاعات، لكن بعض جماعات المعارضة والمناطق غير الخاضعة لسلطة الحكومة مثل المناطق التي تديرها القوات الكردية «قوات سوريا الديمقراطية» تتمتع باستثناء من العقوبات، وتحصل الشركات العاملة فيها على تراخيص تسمح لها بالنشاط، مثل الشركات التي تعمل في حقول النفط والغاز.

ويعتبر قانون قيصر صيغة من صيغ العقوبات الثانوية التي تفرضها الولايات المتحدة على أطراف أخرى، بسبب تعاملها مع حكومات أو مؤسسات تخضع لعقوبات أمريكية. وقد أصدره الكونغرس في كانون الأول/ديسمبر 2019 وبدأ سريانه في 17 حزيران/يونيو العام الماضي. ويتضمن القانون فرض عقوبات على الأشخاص والشركات والبنوك التي تقدم مساعدات للحكومة السورية في أي صورة من الصور، مثل تقديم الدعم المالي أو عقد صفقات كبيرة مع النظام أو الكيانات التابعة له، أو إقراض الحكومة السورية أو إمدادها بتسهيلات ائتمانية، أو المساعدة في إنتاج النفط والغاز، أو تقديم قطع غيار للطائرات، أو إمداد القوات السورية بمعدات عسكرية. ويمكن أن تصل هذه العقوبات إلى درجة خطيرة في حال تصنيف البنك المركزي السوري كمؤسسة تستخدم في غسيل الأموال، وهو ما يترتب عليه فرض عقوبات بواسطة الخزانة الأمريكية.

ولا شك أن تطبيق العقوبات الثانوية يمكن أن يسبب ضررا كبيرا للنظام الاقتصادي السوري، حتى في حال رفع العقوبات الأوروبية. لكن هذا الضرر قد يصبح هامشيا وغير ذي أثر يذكر، طالما بقيت المعاملات الخارجية لسوريا محصورة مع دول برعت في تحدي نظم العقوبات الدولية، مثل إيران وروسيا والصين. وبالنظر إلى طبيعة المعاملات الاقتصادية السورية مع العالم الخارجي في السنوات العشر الأخيرة، فإن أشد الأزمات التي تعرضت لها سورية بسبب العقوبات حدثت في قطاعي الوقود والتمويل، مما أدى إلى اتساع نطاق أزمات الوقود والكهرباء وانهيار سعر الليرة.

وإذا أرادت تنفيذ مشروعات إعمار ضخمة بمشاركة مؤسسات دولية، فانها لن تستطيع تحقيق ذلك، بسبب قانون قيصر الأمريكي، حيث ستخضع كل البنوك والشركات التي تتعاون مع سوريا لعقوبات ثانوية، كما هو حادث الآن مع الشركات التي تعمل في تنفيذ خط أنابيب الغاز الشمالي الممتد من سيبيريا حتى المانيا «نورد ستريم -2». كما أن دول الاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية المعنية بالإعمار في سوريا، بما في ذلك الصين، أصدرت إشارات واضحة بعدم استعدادها للمشاركة في مشاريع الإعمار ما لم تتوقف الحرب، ويتم التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة للأوضاع، تنهي الصراع بين الأطراف المختلفة في سوريا. ونتيجة لذلك فإن الدول التي تتمتع بامتيازات اقتصادية في سوريا حاليا ستظل في وضع المستفيد الحصري بمشروعات الإعمار، الممكنة بالتحايل على القوانين الدولية، وهو ما يعني أن عملية إعادة الإعمار ستظل كسيحة ومحدودة لمدة طويلة. ومع بقاء الأسد في السلطة، ووجود مصلحة لأطراف كثيرة في استمراره، بما في ذلك إسرائيل، وضخامة حجم كعكة الإعمار، فربما تتزايد احتمالات المصالحة، وترتيب نوع من الإدارة السياسية يمكن أن يصل إلى حد الاتفاق على إقامة نظام فيدرالي، يسمح بالإدارة الذاتية للمناطق المستقلة نسبيا في شرق وشمال سوريا، وبنفوذ تركي تحكمه ترتيبات إقليمية متفق عليها في منطقة الشريط الحدودي الشمالي الغربي، وهو ما يمكن أن يساعد على تخفيف العقوبات ووقفها تدريجيا. ومن ثم فإن بوابة مشروعات إعادة الإعمار ستصبح مفتوحة على مصراعيها، بعيدا عن العقوبات وعن الحقوق الحصرية التي تتمتع بها حاليا روسيا وإيران في مناطق سيطرة بشار الأسد (حوالي 65 في المئة) وتركيا في الشمال الغربي (حوالي 10 في المئة) والقوى الكردية والولايات المتحدة في الشرق والشمال الشرقي (حوالي 25 في المئة) من سوريا.

القدس العربي

————————-

عقد على انطلاق الثورة السورية: ثورة القابضين على الجمر/ منهل باريش

احتفل المهجرون والنازحون بذكرى مرور عقد على انطلاقة الثورة السورية. وشهدت المظاهرات حشدا كبيرا في عدة مناطق، خصوصا مع سماح هيئة «تحرير الشام» رفع علم الثورة في ساحة السبع بحرات، أكبر ساحات مدينة إدلب.

كذلك، أقيمت عشرات الاحتفالات، شارك في أغلبها أعضاء الائتلاف السوري المعارض في شمال حلب وعفرين، تزامنا مع اجتماعات هيئته العامة الدورية، المنعقدة في مكتبه قرب اعزاز.

وسجلت درعا حضورا لافتا في ذكرى انتفاضتها وسقوط الشهيدين حسام عياش وأكرم الجوابرة، أول شهداء الثورة السورية، حيث تظاهر المئات أمام جامع العمري في درعا البلد، ورفعوا لافتة عريضة كتب عليها «الثورة حق.. والحق لا يموت».

وفي الذكرى العاشرة لانطلاق الحراك الشعبي، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تقريرا حول مرور «عقد من الانتهاكات المتواصلة» وأشارت إلى أنها وثقت مقتل 227413 مدنيا بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال وإخفاء قسري لنحو 149361 وتشريد 13 مليون سوري بين مهجر قسريا ونازح داخليا ولاجئ.

ومع ذكرى انفجار الثورة، يعود نقاش السوريين إلى أوله، كأنهم في عامهم الأول، يعود السجال إلى موعد بدء الثورة، هل هي في 15 آذار/مارس، أم في 18 منه؟ التاريخ الأول هو يوم مظاهرة سوق الحميدية، والثاني هو لحظة تحول الاحتجاج في درعا إلى احتجاج شعبي وسقوط أول شهيد.

ومرورا بسجالات الثورة، ينبري المجادلون حول السلمية والعسكرة، فيدافع البعض عن أسباب حمل السلاح، فيما يرى الآخرون أن البنادق لعنت ثورتهم المزهرة.

كل أنواع القنابل

تختزل الثورة السورية في عناوينها كل ما يمكن ان تختبره ثورة في التاريخ، فحجم المآسي والبطش الذي تعرضت له، قد اختبرت كل أنواع الذخائر المشروعة والمحظورة دوليا، وحدها القنبلة الذرية غابت كأداة انتقام من شعب مظلوم ووطن متوارث، بسبب عدم حيازتها، عدا عنها، استخدم نظام العائلة الأسدية كل ما يملك، كان أشدها الكيميائي، وسبقته كل أنواع القنابل.

وعانت الانتفاضة السورية ضد بشار الأسد منذ انطلاقها من تردد الدول العربية والجارة في دعمها، بما فيها إسرائيل، ورغم انتقادها من قبل دول الاتحاد الأوروبي إلا ان القنوات الدبلوماسية والاجتماعات لم تتوقف مع النظام السوري. إضافة إلى موقف ضبابي من قبل الإدارة الأمريكية، حيث قال أوباما ان على الأسد الرحيل، من دون دعم حقيقي لعملية رحيله.

ووعدت بعض الدول العربية النظام السوري بمنح مالية شريطة الانفتاح السياسي، فعليا لم تنقطع العلاقات مع النظام بشكل نهائي حتى تشكيل المجلس الوطني المعارض وبدء التواصل معه وتشكيل الجيش السوري الحر.

وفتحت الدول العربية باب دعم الثورة السورية على غاربه، من دون محددات وضوابط، وبدون التزام بدعم الثورة عبر بوابتها السياسية الممثلة بالمجلس الوطني. بل توجهت عبر وكلاء مثل الشيخ عدنان العرعور، ونواب في مجلس الأمة الكويتية ومشايخ السلفية الممتدة من لبيبا إلى مصر والكويت وقطر والسعودية.

وفرغت محطات فضائية عربية ساعات طويلة لدعم الثورة السورية، ومع موقف إيران وحزب الله المعادي للثورة بوصفها مؤامرة امبريالية، خلقت مظلومة سنية عريضة، لا ينكر وجودها عاقل، تمثلت في عمليات الانتقام التي مارسها الشبيحة «العلويون» في حمص واللاذقية وبانياس. لكن القنوات العربية عملت على تضخيم المظلومية ودفع الثورة السورية إلى الأسلمة وتحويلها من ثورة شعب إلى ثورة السنة ضد نظام علوي، مستغلين وحشية النظام وتوظيف المشاعر الدينية الشعبية بهدف سوق الحراك الشعبي إلى وضعه في قالب نمطي جاهز.

المجلس الوطني

وشجع تراخي المجلس الوطني باعتباره الممثل السياسي للثورة السورية، في وقف عبث «الأخوة العرب» بمسارات ثورته على ربط الدعم بالشعارات الإسلامية وتسمية الكتائب والألوية. وانعكس خلاف الدعم العسكري بين الأخوة العرب على صراع بين دعم المجالس العسكرية والجبهات. وبلغ حضيض الثورة عسكريا، أن يرعى شيخ سلفي تأسيس القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية. وأن يقدم له ضابط رفيع برتبة عميد ركن التحية العسكرية، ويبث ذلك المشهد على الهواء مباشرة على أهم شاشة عربية، ما أثار سخطا واسعا في صفوف النشطاء المدنيين والعلمانيين والآخرين من غير المسلمين.

ودفع الخلاف العربي داخل قيادة الأركان، إلى لم شمل الفصائل الإسلامية وتأسيس الجبهة الإسلامية، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 التي أعلنت رغبتها في «بناء دولة إسلامية راشدة، تكون فيها السيادة لله وحده، مرجعا وحاكما وناظما لتصرفات الفرد والمجتمع والدولة» وضمت «جيش الإسلام» وحركة «أحرار الشام» الإسلامية و»لواء الحق» و»لواء التوحيد» و»الجبهة الإسلامية الكردية». ومع تشكيل الجبهة الإسلامية انعطف الحراك العسكري إلى نقطة اللاعودة، ودفع رهطا كبيرا من آل الثورة والحراك إلى العزوف والتراجع خطوة إلى الخلف.

قبل ذلك بعام، فرضت أمريكا عبر سفيرها في دمشق روبرت فورد، بناء منصة سياسية عوضا عن المجلس الوطني، تحت ذرائع متعددة، فالمجلس الذي تبنى العسكرة ودعم الفصائل العسكرية ولو بشكل محدود ماليا في عام 2012 رفض بيان جنيف الصادر في 30 حزيران (يونيو) من نفس العام، لعدم تضمنه فقرة عن عدم وجود دور للأسد صراحة في المرحلة الانتقالية.

ودعت الدوحة إلى انعقاد مؤتمرين متتاليين الأول لاجتماع الهيئة العامة للمجلس الوطني بعد توسعة المجلس، والثاني إلى تأسيس جسم سياسي بديل، اعطي فيه المجلس الحصة الكبرى من المقاعد فيما أدخلت كتل أخرى محضرة مسبقا، إضافة إلى نشطاء ومستقلين والهيئتين الأوسع للحراك الثوري (لجان التنسيق المحلية في سوريا، والهيئة العامة للثورة السورية).

وفي ربيع عام 2014 فجر أبو بكر البغدادي زعيم «الدولة الإسلامية» في العراق مفاجأة مدوية بإعلانه تبعية قائد جبهة النصرة لأهل الشام والعراق، ابي محمد الجولاني له، ووصفه انه أحد جنوده، واقتسم معه بيت مال المسلمين على حد وصفه، ودخلت الثورة السورية في منزلق كبير أدى إلى اقتتال فصائلي كبير، سيطر في نهايته تنظيم البغدادي الذي سماه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على نصف ريف حلب الشمالي والشرقي ومحافظات الرقة ونصف الحسكة ودير الزور وأجزاء كبيرة من باديتي حمص وحماة وصولا إلى ريف دمشق الشرقي وبادية السويداء.

وأدى ذلك الاقتتال إلى وسم صفة المعارضة المسلحة بالجهادية والتطرف، ولم يعد أحد يذكر سوريا في نشرات الأخبار إلا بوصفها منطقة سيطرة تنظيم «الدولة» وغطت الأشرطة المصورة التي بثها التنظيم، أغلب مساحات السوشال ميديا ووسائل الإعلام المسموع والمكتوب. وما كاد الرأي العام العالمي ينسى آخر شريط عن عملية ذبح، حتى تعود وكالة «أعماق» الرسمية بإظهار فيلم جديد، يخترع فيه عاصر التنظيم ومخرجوه نوعا جديدا من أساليب القتل. وساهمت الأشرطة المصورة باستقطاب عدد كبير من الشبان والشابات المتحمسين للعيش في رغد «دولة الخلافة» التي أعلنت في صيف عام 2014.

الأولوية الأمريكية

رفضت المعارضة السياسية والعسكرية في عام 2014 المشاركة في التحالف الذي بدأت أمريكا في تشكيله للقضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» والذي تشكل عقب اجتماع جدة في 11 أيلول (سبتمبر) وشارك فيه وزراء خارجية دول، أمريكا والسعودية ومصر والعراق والأردن ولبنان وقطر والكويت والبحرين والإمارات وسلطنة عُمان على محاربة تنظيم «الدولة». وفي 23 من الشهر نفسه، شن التحالف أول طلعات جوية له. ومع رفض المعارضة السورية القتال في أي مشروع يستثني الأسد، وجدت واشنطن في وحدات «حماية الشعب» الكردية شريكا جاهزا للقتال على الأرض، وهو ما راهنت أنقرة على استحالته، حيث سادت وجهة نظر تركية، انعكست لدى المعارضة السورية، ان أمريكا لن تغضب شريكها الاستراتيجي في المنطقة وثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، لكن الرهان التركي فشل في قراءة الأولوية الأمريكية. ورغم ان المعارضة السورية راعت الرغبة التركية في الامتناع عن المشاركة في برنامج التدريب الذي أطلقته وزارة الدفاع الأمريكية، إلا أن السبب الأهم هو ان شعورا عاما داخل لدى قادة الفصائل الإسلامية وفصائل الجيش الحر مفاده ان عناصرهم لن يقاتلوا تحت راية أمريكية ضد من يرفع راية «لا إله الا الله» خصوصا بعد الانشقاقات التي حصلت في صفوف بعض فصائل الجبهة الإسلامية والتحاقها في تنظيم «الدولة» فالقناعة السائدة ان الاقتتال الأولي كان يمكن تبريره بمسألة دفع ظلم التنظيم، أما القتال تحت تحالف أمريكي فهو بالغ الصعوبة، خصوصا ان أغلب شرعيي تلك الفصائل كان يكفر الغرب، جهارا نهارا، على موقع تويتر، وفي الدورات الشرعية التي تقوم بها بعض فصائل الجبهة الإسلامية، ويعتبر الخوف من «جبهة النصرة» أحد أسباب ذلك الرفض أيضا، فلم يكف مقاتلي النصرة بنعت الجيش الحر بـ»الصحوات» في الأحاديث العامة وبين الناس.

هزمت الثورة عسكريا، وانحسر دور بنادقها مع التدخل الروسي نهاية عام 2015 وأفضت تلك الهزيمة إلى تراجع سياسي وخسارة محافظات درعا والقنيطرة وريف دمشق وحمص وحماة وريفي حلب الجنوبي والغربي واللاذقية عدا عن ممر صغير وتل الكبينة. وفرض المتغير الجديد والانسحاب الأمريكي على تركيا تغيير تحالفاتها وبناء مسار جديد مع داعمي النظام، فبنت مسار أستانة إلى جانب روسيا وإيران في محاولة منها لتقليل خسائرها كونها غير قادرة على المجابهة، وخشية ألا تنجر إلى حرب في غير صالحها.

في عقد الثورة السورية، تشير المعطيات على الأرض إلى حجم الكارثة الإنسانية التي الحقت بهؤلاء المحتفلين في ذكراها، فمن يستمع إلى حناجر مئات آلاف المتظاهرين خلال الأيام الفائتة في مناطق الشمال السوري، يعجب لجبروت هؤلاء المتمسكين بثورتهم رغم كل الهزائم والبراميل التي أسقطها طيران النظام على رؤوسهم . انها ثورة القابضين على الجمر كما يشاء أحد النشطاء تسميتها.

القدس العربي

—————————-

عشرة أعوام على المأساة السورية: حرق الأسد البلد وشرد أهله وحوله إلى كانتونات ينتشر فيها الجوع والخوف/ إبراهيم درويش

اهتم العالم بمرور 10 أعوام على اندلاع الثورة السورية التي نزل فيها المتظاهرون السوريون إلى الشوارع مطالبين بالإصلاح السياسي في مظاهرات كانت سلمية بالكامل، بل وحتى جميلة ومفرحة. فقد رأوا الاضطرابات في البلدان العربية الأخرى، والتي أجبرت مجموعة من المستبدين الذين حكموا لفترة طويلة على التنحي عن السلطة. وكانوا يأملون أن يأتي التغيير وربما حتى الديمقراطية الحقيقية إلى سوريا وبدلا من ذلك، لم يكن هناك سوى الخراب والفوضى.

ورددت معظم التعليقات نفس القصة تقريبا، عن الدمار والتشريد والدم والقتل الذي مارسه نظام بشار الأسد وحلفاؤه الذين سارعوا للدفاع عنه كي يبقى في الحكم. وبحسب إيشان ثارور في صحيفة «واشنطن بوست» (16/3/2021) فقد انتهى الصراع السوري كحرب أهلية، من الناحية العملية وباتت قوات الأسد الآن تسيطر على أكثر من 70 في المئة من البلاد وجميع مدنها الرئيسية. ولا تزال الفصائل المتمردة موجودة ضمن طوق متقلص من المعاقل، معظمها في شمال غرب البلاد-وتبقى هناك، إلى حد كبير بفضل الحماية التركية. في الشمال الشرقي، تجد الميليشيات التي يسيطر عليها الأكراد والتي قاتلت في وقت من الأوقات جنبا إلى جنب مع تحالف تقوده أمريكا وتجد الدعم من أمريكا.

وأدى دخول إيران وروسيا في هذه المعمعة الجيوسياسية إلى قلب الموازين بشكل قاطع لصالح النظام. واستهدفت قوات الأسد المراكز السكانية المدنية بالمدفعية والعبوات البدائية الصنع كالبراميل المتفجرة. ثم نشرت بعد ذلك أسلحة كيميائية وركزت القوى الغربية جهودها على محاربة تنظيم «الدولة». وعلى الرغم من فقدان التنظيم للأراضي التي سيطر عليها، يحذر المحللون من استمرار احتمالات عودة ظهوره.

لقد حطم العقد الماضي البلد وتشتت شعبه واضطر أكثر من نصف السكان إلى الفرار.

محنة اللاجئين السوريين

وأشار إلى محنة اللاجئين السوريين التي ظلت ولسنوات، موجودة في المخيلة الغربية غالبا، على أنها تهديد، تم استخدامه في الغالب، كسلاح من قبل السياسيين اليمينيين المتطرفين على جانبي المحيط الأطلسي. مع أن السوريين ومنذ النزوح الكبير عام 2015 أثبتوا أنهم قصة نجاح في الإندماج بمعظم أنحاء أوروبا. وحتى مع تضاؤل المساعدات الإنسانية الأجنبية، لا يزال الملايين يعانون من النسيان في البلدان المجاورة لسوريا، حيث يعيشون على هامش المجتمعات التي تستضيفهم خائفون من المصير الكئيب الذي قد ينتظرهم إذا حاولوا العودة. وتزداد ظروفهم سوءا. وأشار تقرير عن مفوضية شؤون اللاجئين التابعة الأمم المتحدة إلى أن الفقر وانعدام الأمن الغذائي آخذان في الازدياد، والالتحاق بالمدارس والحصول على الرعاية الصحية يتقلصان، وقد قضى انتشار كوفيد-19 على الكثير من العمل غير الرسمي الذي يعتمد عليه اللاجئون. وأشارت المجلة الطبية البريطانية «لانسيت» إلى أن أكثر من 23 مليون شخص في سوريا والدول المجاورة التي تستضيف الجزء الأكبر من لاجئيها بحاجة إلى مساعدة إنسانية، مضيفة أن «الغالبية العظمى من اللاجئين السوريين يعيشون تحت خط الفقر». واستنتج معهد التنمية لما وراء البحار، وهو مؤسسة بحثية عالمية، أن 5.8 مليون طفل سوري يحتاجون إلى «مساعدة تعليمية». وتقدر اليونيسف أن ما يقرب من 3 ملايين طفل سوري داخل وخارج البلاد ببساطة لا يذهبون إلى المدرسة. وهو ما يعطي صورة مخيفة عن حجم الأزمة في المستقبل. وهناك نصف مليون طفل يعانون من مشاكل نمو بسبب سوء التغذية.

التغيير الديموغرافي والأيديولوجي

ومع خروج ملايين السوريين ومعظمهم من السنة دخلت إيران محاولة الاستفادة من الفراغ الديموغرافي. وفي هذا السياق استغل دعاة التوسع الإيرانيين فرصة اليأس والإحباط حيث جندت إيران ميليشيات محلية بذريعة حماية المزارات الشيعية ووطدت علاقتها مع الجهاز العسكري وبخاصة الفرقة الرابعة التي يقودها واحد من أبناء حافظ الأسد، وهو ماهر. وبعد مرور عقد على الحرب الأهلية باتت الجماعات التي تدعمها إيران تسيطر على ضواحي دمشق وتحرس البلدات الإستراتيجية على الحدود السورية-اللبنانية وهي حاضرة بأعداد كبيرة قرب الحدود السورية مع إسرائيل ولديها عدة قواعد في حلب وأقامت منذ هزيمة تنظيم «الدولة» عام 2018 عددا من المعسكرات قرب الحدود السورية-العراقية. ولم تقم إيران بتأمين قوس التأثير عبر السلاح في كل من العراق وسوريا ولبنان، بل وفي السنوات الأخيرة وبعد انخفاض وتيرة المعارك عملت على تشجيع السنة في سوريا للتشيع أو تخفيف مواقفهم من منافسيهم الشيعة. وتحدثت «فورين بوليسي» مع عدد من السوريين الذين يعيشون داخل مناطق النظام وتحولوا للتشيع حيث قالوا إن الأوضاع الاقتصادية جعلت من الصعوبة عليهم تجاهل الامتيازات التي تقدمها إيران. ويقول الخبراء إن الاختراق الثقافي والديموغرافي يهدف لزيادة أعداد الشيعة في سوريا ومساعدة إيران على تأكيد قوتها نيابة عنهم. وتضيف أن محاولات الاختراق شملت شراء العقارات ونقل بعض الشيعة من العراق للعيش بشكل دائم في سوريا. وتوسع النشاط الشيعي من دمشق وشمل مناطق دير الزور.

لا حل سياسيا

ولا يوجد حل سياسي معقول في الأفق، على الرغم من الجهود التي تبذلها جهات دولية منذ سنوات. فيما فرضت الحكومات الغربية عقوبات صارمة على النظام السوري، لكن ذلك لم يفعل شيئا يذكر لزعزعة سلطة الأسد. ويمكن القول إن هذا زاد من آلام المدنيين السوريين العاديين. ولم يعد من الواضح كيف يمكن لبلد محطم وممزق أن يتحد مرة أخرى. وقالت صحيفة «التايمز» (15/3/2021) إن الحكومات الغربية بمن فيها بريطانيا تؤكد على استمرار العقوبات ضد النظام. وتؤكد على أن يسمح بلجنة دستورية تضم النظام والمعارضة والأمم المتحدة واقتراح إصلاحات. ويجب ممارسة الضغط على النظام حتى يوافق على تقديم تنازلات. إلا أن حلفاء النظام مثل روسيا وإيران يناقشون أن الوقت قد حان لكي يعترف المجتمع الدولي بانتصار الأسد وأن تخفيف العقوبات هو السبيل الذي يسمح بإعادة بناء البلد وإطعام نفسه. وهناك أصوات تدعم هذا التوجه في الغرب وبين حلفاء النظام. واقترحت الإمارات العربية المتحدة حلها الخاص للأزمة، من خلال العلاقات الجديدة مع إسرائيل. فمقابل إعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية وتخفيف العقوبات يجب على سوريا الاعتراف بإسرائيل وطرد الميليشيات الإيرانية من أراضيها. وهو موقف غير محتمل، ولكنه يعبر عن مواقف أثنين من أساقفة كانتبري، لورد كيري ولورد ويليامز اوف أوستيرموث بالإضافة للسفير الأمريكي السابق في دمشق، روبرت فورد الذي عمل ما بين 2010- 2014 والذي كان من أشد الناقدين للأسد في بداية الأزمة. وكتب فورد «لا أفهم ماذا يعني وقوف المواطنين السوريين في الطوابير لشراء المواد الأساسية والخبر والمحروقات وأن أمريكا قد انتصرت؟». ورأى المعلق في صحيفة «فايننشال تايمز» (17/3/2021) أن السلام في سوريا يظل سرابا طالما ظل الأسد في الحكم، ويعتقد أن الرئيس الأسد في مركز عدم الاستقرار لكن الحل يكمن في تسوية أمريكية-إيرانية. وأضاف أن الحرب السورية هي في الحقيقة ثلاثة نزاعات: نظام الأقلية الذي يقوده الأسد ويشن حربا شاملة ضد شعبه، ونزاع عرقي-طائفي والذي يقوده المحور الذي تقوده إيران ضد الغالبية السنية في سوريا وحرب إقليمية تستخدم فيها القوى الخارجية بما فيها روسيا، تركيا، إيران والولايات المتحدة سوريا كساحة لمتابعة مصالحها. وقال إن الغزو المتهور الذي قادته الولايات المتحدة على العراق عام 2003 أدى لزرع بذور حروب الوكالة بين السنة والشيعة في المنطقة ولتكاثر الحركات الجهادية. وكان ضعف القوى الغربية التي حرضت ضد الجماعات السورية المعارضة ثم تركت أمر تسليحها لتركيا ودول الخليج ضامنا لأن تتفوق الجماعات المسلحة على المعارضة الرئيسية. واستخدم الأسد والبعض هذه الذريعة لتقديم أنفسهم على أنهم حاجز علماني يحمي الغرب من التطرف بدلا من كونهم حاضنة للقوى السامة التي يقدمون أنفسهم كمضادين لها. فقد أفرغوا السجون السورية من الجهاديين في 2011 وراهنوا أنهم سيقومون باختطاف الثورة. ومع ذلك اقتربت المعارضة من الإطاحة بالنظام في 2012 و2013 و2015 وأصبح الأسد عالقا في بقايا دولة، حتى تدخلت إيران أولا ثم روسيا لنجدته. ويرى أن التقارب الأمريكي-الإيراني والتوافق على البرنامج النووي والصواريخ الباليستية ومستقبل التأثير الإيراني ربما كان مفتاحا للحل. ويجب أن تحتوي أي تسوية على تقارب إقليمي وبناء أمني يتبعه برنامج إعادة إعمار تستفيد منه دول الخليج وهي تحاول تنويع اقتصادها بعيدا عن النفط. وكل هذا يبدو سرابا في الوقت الحالي. فسوريا الأسد هي كيان ممزق مكون من كانتونات ومناطق نفوذ لها قوانينها

من الصعب تجميع البلد

وأشارت مجلة «إيكونوميست»(12/3/2021) في مقال إلى إن أسعار المواد الغذائية في سوريا ارتفعت بشكل حاد. والسبب هو تجار الحرب من كل الأطراف المشاركة والتي تفرض ضرائب على كل شاحنة تمر من المناطق التي تسيطر عليها. وقال تاجر من القامشلي إن «السياسيين يجوعون الشعب». وتأكد الانقسام حتى في المناطق الخاضعة للنظام حيث يسافر السوريون إلى البلاد للدراسة والتسوق وزيارة الأقارب. وتقول «إيكونوميست» إن نفوذ الأسد خارج العاصمة دمشق يبدو أقل، حتى في المناطق التي يسيطر عليها اسميا. فيما تعمل القوات الروسية بدون رادع. وأصبحت الإدارات المحلية راسخة، حتى أن لديها ميليشياتها الخاصة، وتدير اقتصادها الخاص وغالبا ما تفضل عرقا أو طائفة. وقال مسؤول في الأمم المتحدة: «إننا نشهد بلقنة سوريا». وليست لدى الأسد إجابات على الوضع الاقتصادي، وفي مقابلة مع صحافيين موالين للنظام نقلت مضمونها صحيفة «نيويورك تايمز» (23/2/2021) نصح الأسد محطات التلفزة بوقف برامج الطبخ حتى لا تتأثر مشاعر السوريين غير القادرين على شراء المواد الأساسية. وكثيرا ما يتجاهل في خطاباته مشاكل سوريا الكبيرة. ويبدو مهتما بضبط شعبه، وليس تركيز الجهود لمواجهة فيروس كورونا مثلا، ويبحث جواسيسه عن أي تلميح للمعارضة، وسجن صحافي كتب عن الجوع على فيسبوك مؤخرا. ويخشى الأسد من القبول بتسويات حتى لا يظهر ضعيفا لذلك فهو يهدد بمزيد من الحرب بدلا من ذلك. وقد أعاد في خطبه إحياء مجازات والده القديمة عن أمجاد الحضارات العربية والإسلامية. ويسمي مذيعو النظام، السوريين الذين يعيشون خارج المناطق التي يسيطر عليها النظام بأنهم إرهابيون وطابور خامس. وصادق مجلس النواب في دمشق في الأول من آذار/ مارس على قانون ينزع الجنسية عن كل من يتقاعس عن تجديد بطاقة الهوية بعد عشر سنوات. وهي خطوة تستهدف أولئك الذين فروا أو تحرروا من حكم الأسد. ويرغب الكثير منهم في العودة، ولكنهم يرغبون أيضا في رؤية شخص آخر مسؤول.

أسماء الرابحة

وفي محور خاص عن زوجة الأسد من أكثر من 7.000 كلمة نشرت «إيكونوميست» (10/3/2021) قراءة في الوجوه المتعددة لأسماء الأسد، السيدة الأولى التي قالت إنها الرابح الأهم في الحرب وليس زوجها، وربما كانت بديلا عنه، مع أن الحكومة البريطانية تحقق بتحريضها على جرائم ضد الإنسانية، وقد يفضي هذا إلى سحب جنسيتها. وقد استطاعت أسماء الأسد تغيير صورتها من ربة بيت إلى ناشطة في العمل الخيري ومستشارة مالية وقوة وراء الرئيس. وتتحرك بحرية بعد أن أزاحت منافسيها مثل رامي مخلوف، أحد أهم أثرياء سوريا وابن خال الرئيس الذي اتهم جهات عليا في المواجهة الأخيرة مع النظام. ولم تعد والدة الأسد، أنيسة مخلوف على قيد الحياة لكي تعترض على نشاطات زوجة الأسد البريطانية، أما شقيقته بشرى فقد خرجت إلى دبي بعد مقتل زوجها أصف شوكت. ومهما كان انتصارها وزوجها فسيظل فارغا، لأنه انتصار على ركام من الأنقاض.

وفي النهاية تحتاج سوريا لنصف قرن كي تتعافى من جراحها كما تقول جانين دي جيوفاني في «فورين بوليسي» (17/3/2021) ووصفت الحرب السورية بأنها من «أكثر النزاعات تحطيما للقلب. فعقد من الحرب يعني أن جيلا كاملا علمت حياته القنابل والتجويع والموت والتشريد» و «في حالة سوريا التي قام فيها الأسد- رئيس الدولة- بحرق البلد، وهناك موضوع جرائم الحرب الشنيعة والأسلحة الكيميائية التي استخدمت ضد المدنيين وآلاف الاعتقالات التعسفية والاختفاء والاغتصاب والتعذيب». وذكرتها القصص التي بدأت بجمعها عام 2011 عن التعذيب والاغتصاب والسجون بما حدث في البوسنة. وترى أن دخول الروس لم يكن فقط لتدمير المجتمع بل لطمر أدلة الجريمة للنظام. لكن الحرب السورية هي أكبر حرب موثقة ومجال تحقيق العدالة أيا كانت انتقالية وغير ذلك وارد، وهو ما يعطي أملا للضحايا الأحياء ويشرف ذاكرة من ماتوا، لكن القصة السورية لم تنته بعد.

القدس العربي

————————

بعد 10 سنوات على الثورة والحرب هل يحمل ثلاثي روسيا وتركيا وإيران رؤية جديدة للحل النهائي في سوريا؟ / إسماعيل جمال

إسطنبول-»القدس العربي»»:   عقب أيام من لقاء وزيري الخارجية التركي والروسي في قطر والحديث عن آلية تعاون ثلاثية مع قطر فيما يتعلق بالملف السوري، وصل وزير الخارجية الإيراني في زيارة خاطفة إلى إسطنبول عقد خلالها اجتماعا مع نظيره التركي بحضور رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، في إطار ما يعتقد أنه حراك استثنائي يتعلق بالملف السوري ومستقبل الحل النهائي للأزمة عقب مرور 10 سنوات على الثورة.

وعقب اللقاء الذي جرى بعيداً عن الإعلام ولم يعقبه مؤتمر صحافي للوزيرين، قال جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني عبر تويتر إن إيران «ترغب في تطبيق تجربة السلام الإيرانية التركية طوال 4 قرون في منطقة الشرق الأوسط» لافتاً إلى أنه بحث مع نظيره التركي مولود جاوش أوغلو «القضايا الثنائية والإقليمية على أساس التعاون البناء». من جهته قال الوزير التركي: «جددنا مع وزير الخارجية الإيراني تفاهمنا بشأن التعاون القوي في مكافحة كافة أشكال الإرهاب، وفي مقدمته (تنظيم) بي كا كا/ ي ب ك وضرورة الحفاظ على وحدة أراضي سوريا».

وقبل أسبوع، التقى وزراء خارجية روسيا وتركيا وقطر في الدوحة لبحث مستقبل حل الأزمة السورية، وخلصت الاجتماعات إلى الإعلان عن إطلاق «مسار ثلاثي جديد للمشاورات حول الملف السوري» بين الدول الثلاث، وقال وزير الخارجية التركي إنه يهدف إلى «مناقشة سبل المساهمة في الجهود الرامية لإيجاد حل سياسي دائم للأزمة السورية» وسيعقد الاجتماع الثاني في أنقرة والثالث في موسكو.

جاوش أوغلو جدد التأكيد على المواقف التركية المتمثلة في «حماية المدنيين ووحدة الأراضي السورية ومحاربة كافة التنظيمات الإرهابية» مشدداً على أن «السبب الرئيسي لما يجري في سوريا هو تجاهل مطالب الشعب السوري المشروعة» وجدد التأكيد على حتمية أن يكون الحل السياسي «مبنيا على أساس معايير الأمم المتحدة» كما علق الوزير على موضوع عودة النظام لجامعة الدول العربية بالقول: «إذا اتبعت الدول العربية والمجتمع الدولي سياسات موجهة للشعب السوري مباشرة، بدلاً من التعامل مع النظام، فعندها يمكننا أن نقوم بأشياء لتحسين الوضع الإنساني على الأرض».

على الرغم من أن الكثير من هذه المواقف قديمة ومكررة، إلا أن تأكيدها عقب اللقاء الثلاثي يعطي مؤشراً واضحاً على عدم وجود تغيير في الموقف التركي من مستقبل الأسد في سوريا، وذلك عقب التكهنات التي رافقت جولة وزير الخارجية الروسي إلى الخليج والتي فهمت على أنها محاولة لإعادة تأهيل الأسد، وهو ما لا يبدو أنه قد نجح به الوزير الروسي مع الجانب التركي.

فعقب مرور 10 سنوات على الأزمة السورية، تغير الموقف التركي تدريجياً مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية في سوريا والمنطقة بشكل عام، وبعد أن كان اسقاط الأسد عسكرياً الأولية التركية الأولى بات منع إقامة كيان انفصالي كردي على حدود سوريا مع تركيا أولوية أولى، كما ان الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية دفعت الحكومة نحو السعي لإمكانية إنهاء الأزمة السورية في أسرع وقت لتسهيل عودة اللاجئين وتقليل الأعباء الاقتصادية التي أنهكت الحكومة وأثرت عليها انتخابياً.

ورغم هذه التحولات، ما زالت تصر تركيا على ضرورة استبدال الأسد بشكل أساسي، أو العمل ضمن مسار الأمم المتحدة لإعادة صياغة دستور جديد لسوريا ومن ثم إجراء انتخابات ديمقراطية تفرز قيادة جديدة يعترف بها المجتمع الدولي، وصرح مسؤولون أتراك سابقاً بأن أنقرة ستكون «مضطرة للتعامل مع الأسد» في حال انتخابه مجدداً «بطريقة ديمقراطية».

وقبل أيام، شدد وزير الخارجية التركي على أن الاجتماعات الثلاثية بين بلاده وروسيا وقطر بشأن سوريا، «لا تشكل بديلا لمسارات جنيف أو أستانة وغيرها، بل متممة لها» لافتاً إلى أنه يجري العمل من أجل عقد الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية خلال مدة أقصاها شهر.

ومن خلال كافة المعطيات السابقة، فإن أنقرة تدفع من خلال مباحثاتها مع روسيا وإيران من أجل دفعهم للضغط على النظام السوري لتحقيق تقدم في ملف اللجنة الدستورية والوصول إلى الانتخابات، وهو المسار التي ترى فيه تركيا المخرج الوحيد للأزمة السورية وحصول الإدارة الجديدة على الاعتراف الدولي.

وعلى الرغم من أن أوراق المعارضة والتركية العسكرية على الأرض تراجعت مقابل السيطرة الروسية والإيرانية في سوريا، إلا أن الأزمة الإنسانية والانهيار الاقتصادي في مناطق النظام وتعاظم العقوبات الأمريكية والفشل في الحصول على أي تقدم في محاولات إعادة تأهيل النظام، كلها أسباب تدفع موسكو للتمسك بالعمل مع تركيا في محاولة للتوصل إلى حل للأزمة المتواصلة منذ 10 سنوات.

هذا الحل الذي لا يبدو ممكناً على الإطلاق بدون تقديم موسكو تنازلات حقيقية تتعلق بمستقبل الأسد كشخص وهو أمر كاف لتركيا لتغير موقفها بشكل كبير، صفقة ترغب أنقرة في عقدها مع موسكو التي أشارت الكثير من التكهنات إلى أنها بحثت مراراً عن شخصيات بديلة تدين لها بالولاء والعمل بمنطلق التمسك بالمصالح لا الأشخاص وهو عرض تركي قائم منذ سنوات، لا يعرف بعد ما إن كانت روسيا قد قررت العمل به أم لا، إلا أن التحركات الأخيرة تؤشر بشكل واضح على وجود جديد في الحراك حول مستقبل سوريا ربما يتكشف تدريجياً خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.

اقتباس

أولوية تركيا منع إقامة كيان كردي على حدودها

—————————–

المخطط بدأ مع وصول بشار الأسد للسلطة وكشفته الثورة السورية التغيير الديموغرافي في سوريا مشروع إيراني عابر للحدود

مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، أكد أن النظام السوري مارس عدة مخططات في الهندسة السكانية والتغيير الديموغرافي، مستبعدا نجاح بشار الأسد في إحداث تغيير ديموغرافي في البلاد، على اعتبار أن الغالبية السكانية هي من الأكثرية السنية.

وقال لـ «القدس العربي»: النظام السوري غير ديموغرافيا عدة مواقع سورية، لعل أبرزها محافظة حمص- وسط وفي محيط دمشق ودير الزور وريف حلب، وهنا استخدم النظام العديد من الأدوات للتغيير الديموغرافي، منها المجازر الطائفية والعنف الجنسي بهدف إرهاب السكان، والقوانين التي تسمح له بالسطو على أملاك السوريين.

ويرى مدير الشبكة السورية، أن التغيير الديموغرافي مرتبط إلى حد كبير بالتهجير القسري للسوريين، فعدد المهجرين اليوم يقدر بحوالي 13 مليونا بين نازح داخليا ولاجئ خارج الحدود، وهي حرب تهدف إلى التغيير الديموغرافي.

كما أن الأسد يقوم بتجنيس غير السوريين، وهو غير قانوني وغير شرعي، كما اعتبر المصدر أن النظام ارتكب جرائم ضد الإنسانية بغية الوصول إلى مبتغاه، إضافة إلى استغلال الأسد لفقر السكان المحليين، لتغيير توجههم الديني، في خطوة تتبع لسياسات النظام الإيراني.

مخطط إيراني

يرى خبراء في الشأن السوري، أن ملف التغيير الديموغرافي في سوريا، لم يولد بسبب إنطلاق الاحتجاجات الشعبية في البلاد عام 2011 بل أن الثورة كانت من أهم العوامل الكاشفة لخفايا المشروع الذي تقوده إيران في المنطقة العربية، والذي يشمل عددا من الدول العربية كالعراق ولبنان، سوريا واليمن.

وأن دمشق باتت مهيئة لتنفيذ ذلك المخطط مع سيطرة بشار الأسد على السلطة بعد تعديل الدستور خلال فترة وجيزة للغاية، وهو ما شرع الأبواب على مصراعيها للتغلغل الإيراني وتطبيق التغيير الديموغرافي على عدة مستويات باستخدام أدوات ناعمة بداية لاقتحام المجتمع السوري، واستغلال وجود بعض المواقع المذهبية لطهران في سوريا والتي شكلت معسكرات لإحداث التغيير في النسيج الاجتماعي المحلي.

الخبير في العلاقات الدولية محمد العطار، قال لـ «القدس العربي»: «التغيير الديموغرافي الفعلي بدأ في سوريا منذ عام 2005 جراء تعاون وتماهي بشار الأسد مع الرغبات الإيرانية، واستقبال قوافل الحجيج الإيراني إلى ما يسمى المناطق المقدسة-المراقد الدينية في سوريا».

وهي سياسة ساهمت بمضاعفة أعداد الإيرانيين في البلاد أضعاف ما كانت عليه في عهد والده حافظ الأسد، مضيفا، حتى تلك المرحلة، لم يصل المخطط إلى مرحلة التغيير الديموغرافي في النسيج السوري، بل يمكن وصفه بالتغلغل الديني المذهبي، ثم بدأت مرحلة استغلال الفقر والعجز المالي لبعض السوريين في مواقع مختلفة من العاصمة- دمشق إلى سهول حوران جنوبا، وصولا للشرق السوري ووسط البلاد.

نقطة التحول الكبرى، وفق الخبير العطار، بدأت بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، إذ توجه بشار الأسد آنذاك للاستعانة بالقوة الإيرانية المتنوعة، حتى توغلت طهران في مفاصل الدولة السورية بما فيها مؤسسات مدنية وعسكرية، أما على صعيد المجتمع فتوغلت عبر الجمعيات الخيرية والاعتماد على المشافي والمراكز الطبية.

بعد انطلاق الثورة في عام 2011 ساهمت إيران إلى حد ما في دفع النظام السوري نحو الحل العسكري الشامل لمواجهة السوريين، ثم أوعزت لزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله بعبور الحدود اللبنانية-السورية، ليس لحماية النظام السوري فحسب، بل كبداية لتطبيق التغيير الديموغرافي في الجغرافية السورية، وهو ما حصل فعلا، إذ استولى حزب الله على مدن وبلدات وانتشر في مساحات أكبر بحجة الدفاع عن الأسد ونظامه، فارتكب مجازر مروعة بحق السوريين، أسوة بجيش ومخابرات النظام، وكل ذلك تم برعاية وتأييد إيراني مباشر.

وفي خطوة تالية للمخطط الإيراني، بدأ الحرس الثوري الإيراني بشحن آلاف المقاتلين من عشرات الميليشيات المذهبية الطائفية إلى سوريا، وكذلك الميليشيات القومية الموالية للمخططات والمشاريع الإيرانية، وهو ما ساهم بدوره في تثبيت الأقدام الإيرانية في العديد من المحافظات السورية.

ثم بدأت إيران بإرسال المعممين الشيعة إلى سوريا، بهدف الترويج للتشيع عبر استخدام عدة طرق خدمية ومذهبية، خاصة في المدن والبلدات التي تمركزت فيها الميليشيات الطائفية والتي يبلغ تعدادها أكثر من 65 ميليشيا شيعية.

هنا بدأ النظام السوري بتجنيس عناصر تلك الميليشيات ومنحهم بطاقات الهوية السورية، وهذا ما أكده بشار الأسد في خطاب له، عندما تحدث عن مجتمع متجانس، وأن سوريا لمن يدافع عنها فقط.

مصلحة إيران لم تكن بإنهاء الحرب في سوريا والتي كانت هي أحد أبرز أركانها، إذ كانت طهران بحاجة ماسة لعامل الوقت لتأسيس قاعدة اجتماعية ودينية وعسكرية تؤسس لمرحلة بالغة الحساسية في سوريا، تبدأ معها سياسة إحداث حزام أمني مذهبي حول العاصمة، وهو ما تم فعلا إذ انتشرت الميليشيات الإيرانية والحرس الثوري على طول المناطق المحاذية لدمشق، وشيعت العديد من المناطق وعدد ليس بالقليل من العائلات السورية التي كانت تحمل هوية الأكثرية.

وقال العطار: إيران خططت لمعادلة التغيير الديموغرافي قبل الثورة السورية وكثفت جهودها في ذلك منذ انطلاق الثورة التونسية، فهي كانت تدرك بأن المجتمع الدولي سيرفض تواجدها في سوريا.

لذلك اعتمدت على القوة الناعمة المبنية على حاجة السوريين وتأثرهم بنتائج الحرب لتحقيق ما تصبو إليه، في حال تم إجبارها على الانسحاب العسكري من البلاد، فهي بذلك ستكون قد بنت قاعدة محلية تمهد لإعادتها مستقبلا.

ثلاث فيدراليات عسكرية

أما السياسي السوري درويش خليفة، فيرى أن خطة النظام وحلفائه الطائفيين بعد تهجير أهالي القصير في ريف حمص الغربي من قبل قوات النظام السوري وميليشيا حزب الله اللبناني عام 2013 أنهم ذاهبون بهذا الاتجاه من خلال قتل مناهضي الأسد أو اعتقالهم وتهجير ذويهم وقتلهم في الكثير من الأحيان.

إلى أن تدخلت الحكومة الروسية عسكريا ليصبح قتل سكان المناطق الثائرة جوا من خلال القصف بالطائرات وتهجيرهم برًا.

وكل هذا حدث أمام مرأى الأمم المتحدة والدول الخمس الكبرى دون تحريك ساكن منهم بأستثناء بعض الإدانات والبيانات الصحافية.

خليفة قال لـ «القدس العربي»: ما نسمعه من تصريحات قادة الدبلوماسية الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري، لا تعكس الواقع بوحدة سوريا واستقلالية قرارها، وهذا ما يتجلى بوجود ثلاث فيدراليات عسكرية مصيرها البقاء عقدا آخر من الزمن على أقل تقدير، من وجهة نظري.

التغيير الديموغرافي أو الهندسة الديموغرافية كما يروجها البعض؛ جريمة عندما تتم بإقتلاع الناس بالقوة من أراضيهم وتهجيرهم بسبب مطالبهم الحقة في التغيير والعيش الكريم.

ويرى السياسي المعارض، أن التهجير الجماعي، يمكن تعريفه بترحيل مجموعة من الأفراد من موقع جغرافي إلى آخر، يكون جريمةً في حال حصل قهراً دون رضى المهجّرين، أو في غياب السند القانوني، أو لم تتوفر شروط السلامة والحماية المطلوبة أثناء التنقل.

ويشمل مفهوم الترحيل إذا ما كان بإشراف قوة عسكرية أو شبه عسكرية من خلال تسيير عملية التنقل، أو من خلال فرض واقع أمني أو اقتصادي أو صحي لا يترك للمدنيين خياراً سوى الهجرة من محل إقامتهم. وبالتالي إعادة توطينهم عبر عملية إسكان واسعة في أرض دون رضى أصحابها، بغرض تغيير التركيبة الديموغرافية للرقعة الجغرافية المستهدفة.

—————————–

إيران و»حزب الله»: لم ندخل سوريا لنخرج منها وقادرون على ضبط العلاقة مع الروس/ رلى موفّق

تقوم مقاربة طهران الاستراتيجية لسوريا على أنها حجر الزاوية لسياسة إيران في المنطقة. هكذا كانت قبل الثورة السورية على نظام بشار الأسد عام 2011 ولا تزال. موقع سوريا الجيوسياسي هو بالتأكيد عامل مؤثر في رؤية مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، ولكن ثمة عاملاً آخر لا يقل أهمية، وهو «الحلف الأبدي» مع بيت الأسد، بشار وماهر. وسوريا هي جزء من «الهلال الشيعي» الذي يربط إيران بلبنان، معقل «حزب الله» الذراع الإيرانية الأبرز بين الميليشيات التابعة لـ»الحرس الثوري». من هنا، كان انتصار الثورة يعني خروج سوريا من المحور وانقطاع خط الإمداد إلى لبنان وضربة قاصمة للنفوذ الإيراني وتمدده في الإقليم.

بقاء النظام شكَّل مسألة حياة أو موت بالنسبة لـ»حزب الله» فدخل عسكرياً إلى سوريا لمنع سقوط الأسد. خاض معركة القصير ومعارك القلمون والغوطتين. كان الهدف الأساسي للمحور حماية العاصمة، فبقاء دمشق يوفّر طوق النجاة للنظام، حتى لو خسر مدناً وقرى، فيمكنه أن يستعيدها مع الوقت حين تتغيّر موازين القوى. وهذا ما حصل إلى حد كبير، عندما دخلت روسيا على خط إنقاذه من خلال سلاحها الجوي وسياسة الأرض المحروقة، وأدارت القوى الإقليمية والدولية ظهرها إلى الثورة السورية، وتحوّل العنوان إلى: «حرب على الإرهاب».

فعلى أرض سوريا اليوم جيوش عدة يسيطر كل منها على مساحة معينة. هناك الأمريكيون في شمال شرق البلاد، حيث نفوذ الأكراد و80 في المئة من آبار النفط والغاز، وهناك تركيا في الشمال السوري وجماعات مسلحة موالية لها، وهناك ضمانة روسية في جزء من الجنوب وفقاً لاتفاق أمريكي-إسرائيلي-روسي-أردني، ينص على إبعاد إيران وأذرعها مسافة 80 كلم عن الحدود الإسرائيلية إلى الداخل، وهناك القواعد الروسية في اللاذقية وطرطوس على الساحل، وهناك تواجد وتداخل وتنسيق بين الروس وإيران وجماعاتها المسلحة في غرب سوريا ووسطها وبعض من جنوبها، فيما القوات السورية تسيطر حيث الحلفاء على ما نسبته 70 في المئة الأراضي.

يكثر الحديث عن اتفاق أمريكي-روسي بشأن انسحاب إيران وميليشياتها من سوريا. في رأي منظري «المحور» أن إيران وحزب الله لم يدخلا سوريا كي يخرجا منها. ثمة عمليات تجنيد كبيرة تحصل في البيئة السورية وشراء للولاءات، فضلاً عن عمليات توطين تحصل لعائلات ميليشيات شيعية من بلدان عدة، وهناك استثمارات اقتصادية لطهران وشراء عقارات، وغيرها من المشاريع الكبرى، إضافة إلى اتفاقات ثنائية بين الدولتين السورية والإيرانية. وبالتالي، فإن إيران تعمل على تكريس نفوذها بوسائل تتخطى الدعم العسكري إلى ما هو اقتصادي واجتماعي وثقافي، وهي مع «حزب الله» تتسلل إلى النسيج السوري وفقاً لمخططاتها التي تتماهى مع مشروعها الأم في تكريس نفوذها في المنطقة، وفرض نفسها لاعباً وشريكاً إقليمياً وازناً.

زمن القطبين

لا يُعبّر «حزب الله» ومن خلفه إيران، عن قلق كبير من الاتفاقات الروسية-الإسرائيلية في سوريا. إيران تبني على تقاطعات مصالحها مع روسيا في البعد الاستراتيجي بالمنظار الواسع مضافاً إليهما الصين. اللصيقون بـ»المحور» يؤكدون أن لدى الطرفين القدرة على التعايش في مناطق اختلاف المصالح والرؤى السياسية، فذلك يحصل تحت مظلة الحلف الاستراتيجي الذي يتم العمل على ترسيخ قواعده بين موسكو وطهران وبكين للعودة إلى إحياء زمن القطبين. وكل نظريات التوجّه شرقاً تأتي في سياق العمل على تحقيق هذا الهدف بخلق تحولات استراتيجية.

ما يهم «حزب الله» وإيران، هو أن يبقى الأسد في الحكم. ضمانتهم بشّار ومن بعده أو بالتوازي معه شقيقه ماهر. سبق للأسد الابن أن اتّخذ خياره بالانحياز كلياً إلى المحور الإيراني، وليس البقاء في مساحة اللعب على التناقضات بين إيران والعرب، كما كان والده حافظ الأسد. الابن هو في مكان آخر كلياً، وكل الرهانات سابقاً عربياً وغربياً لفك ارتباطه بإيران قد فشلت. وحتى لو نجحت محاولات الروس لإعادة رئيس النظام إلى الجامعة العربية، فذلك لن يؤدي إلى خروجه من العباءة الإيرانية.

تقوم حسابات «الحزب» وإيران على أن الروس بحاجة لهما في الميدان، اليوم وغداً، فهما نجحا في التغلغل بما يجعل من الصعوبة بمكان التخلص من نفوذهما على الأرض بسهولة، فضلاً عن أن «سيناريوهات» إزعاج القوات الروسية جاهزة، وإن كانت جماعات المحور تتجنب الحديث عن إمكان الوصول إلى تلك الحالة. وما يُطمئن الإيرانيين اليوم أكثر هي العلاقات الروسية المتوترة مع الأمريكيين، مما سيجعل موسكو متصلبة إزاء واشنطن، لكن هذا العامل نفسه قد يكون، في رأي بعض المراقبين، عاملاً ضاغطاً على «سيد الكرملين» فلاديمير بوتين من أجل دفع الأسد إلى الطلب من القوات الإيرانية وميليشياتها بالانسحاب من سوريا.

المسألة الحسّاسة بالنسبة لـ»حزب الله» وإيران هي وجودهما داخل الـ80 كلم التي يجب أن تكون خالية من قواتهما في الجنوب. إسرائيل تطالب موسكو باحترام اتفاقها لمنع تحويل جنوب سوريا إلى منطقة شبيهة بجنوب لبنان. قواعد الاشتباك في سوريا واضحة بالنسبة للطرفين، وسلاح الجو الإسرائيلي لا يتوقف عن ضرب مخازن وشحنات الأسلحة لـ»حزب الله» الكاسرة للتوازن، كما أنه يستهدف مواقع إيرانية. الروس في كثير من الأحيان يبلغون إيران وميليشياتها لإخلاء المواقع تفادياً لوقوع إصابات. هذا جزء من الاتفاقات القائمة.

الروس يضغطون على «الحزب» وإيران لخروج كليّ من المنطقة الجنوبية. تقول المعلومات المتوافرة عن محادثات وفد «حزب الله» في موسكو أنه تبلّغ بضرورة إخلاء تلك الجغرافيا. هذه على الأقل الرواية المنقولة عن الروس، لكن ما يُنقل عن محور إيران أنه لن يترك وسيلة متاحة لديه إلا وسيستخدمها لتكريس وجوده المباشر، والروايات أنه يتواجد بثياب الجيش النظامي السوري. وإذا تعذر يوماً وجوده المباشر، فإنه سيكون موجوداً بـ»الواسطة» من خلال ما بات يُعرف بـ»حزب الله»- سوريا، حيث يعمل باستمرار على جذب وتجنيد شبان المنطقة، ولا سيما الدروز، ويعمل متخفياً وتحت الأرض في المناطق المتاخمة للجولان المحتل، وهي المنطقة التي سبق أن فَرَزَ لها «الحزبُ» الأسير المحرر سمير القنطار للقيام بهذه المهمة، قبل أن تستهدفه إسرائيل. ما يضيفه اللصيقون بـ»المحور» أن قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني نجح في تدعيم الوجود الإيراني على خط الإمداد العراقي-السوري في البوكمال والميادين والمساحات المحيطة بجغرافيا الجزيرة.

في حسابات «المحور» أن المواجهة لا تزال طويلة، وأن أوان الحلول في المسألة السورية لم يحن بعد. إيران تنطلق من أن بقاء الأسد في الانتخابات الرئاسية مضمون. وهذا انتصار للمشروع، كما أن التفاوض مع أمريكا لن يبدأ قبل انتهاء الاستحقاقات في سوريا وفي إيران. العين اليوم على الانتخابات الإسرائيلية وما إذا كانت ستُعيد بنيامين نتنياهو أم لا، فيما «الكباش» الأمريكي-الروسي على أشده، وواشنطن منشغلة بوضعها الداخلي وبصراعها مع الصين، ولا تصبّ اهتمامها الفعلي على الإقليم.

هذا الواقع يجعل إيران في لحظة تجميع الأوراق، من اليمن الذي يُصعّد فيه الحوثيون عسكرياً، إلى العراق حيث ترفع ميليشياتها فيه شعار طرد الأمريكيين، إلى سوريا المعزولة فلبنان الذي يُمسك «حزب الله» بقرار السلم والحرب فيه، ولن يتوانى عن استخدامه ساحة حرب في وجه إسرائيل والأمريكيين إذا اقتضت الضرورة لدى المرشد.

———————————

الثورة السورية بعد عشر سنوات.. آراء وآمال/ أسامة آغي

بمناسبة الذكرى العاشرة لتفجّر الثورة السورية المباركة، أرادت نينار برس، أن تستطلع رأي عدد من الشخصيات السورية، السياسية والثقافية والإعلامية، وطرحت عليهم السؤال التالي:

بعد مرور عشر سنوات على انطلاقة الثورة السورية، هل تعتقدون أن هذه الثورة ستحقق نتائج في حدها الأدنى (الانتقال السياسي) وفق القرار 2254، أم لديكم وجهة نظر أخرى.

الثورة أسقطت النظام

يقول السيد جورج صبرا الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري: “الثورة أسقطت النظام أكثر من مرّة، وهشّمت صورته وأفعاله أمام أبنائه وداعميه والمجتمع الدولي، ونزعت عنه أيّ أهلية للاستمرار”.

ويضيف صبرا: “الثورة برهنت بالوقائع والأرقام أنه لم يعد النظام ابن حياة، فقد مضت حياته إلى غير رجعة، فمجريات الأمور في الداخل أمنياً وسياسياً، وسوريا قبل آذار عام 2011 اجتماعياً واقتصادياً تُثبت ذلك”.

ويتابع صبرا حديثه لنينار برس: “ثم جاء عجز الروس عن إعادة تأهيله وتسويقه، بعد محاولات متعددة، ولأن تصميم السوريين مستمرٌ من أجل انتصار الثورة، فسوف يحققون التغيير مهما طال الزمن، وعزّت التضحيات”.

ويعتقد صبرا أن تنفيذ القرار 2254 هو رهين التوافق الدولي، بما في ذلك الانتقال السياسي الذي رسمته القرارات الأممية ذات العلاقة. وأن هذا التوافق هو الغائب الأكبر حتى الآن، لذلك وللأسف لا يبدو لي أن الانتقال السياسي في متناول اليد، رغم أننا في الذكرى العاشرة للثورة.

لا أصدقاء للشعب السوري

المهندس أحمد العسراوي، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي قال لنينار برس في إجابته على سؤالها حول تحقيق هدف الانتقال السياسي من قبل الثورة السورية: “انطلقت الثورة السورية الحديثة رافعة مطالب محقة، بضرورة استعادة الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية”.

ويعتقد العسراوي أن تحقيق ذلك يتطلب أهمية الوصول للتغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل، الذي يشمل كامل بنية النظام القائم، والانتقال السياسي.

ويرى العسراوي “أن النظام اختار الحل الأمني بمواجهة المطالب المحقة للشعب السوري، وهناك من دخل ساحته هذه بنفس الطريقة، معتمداً على الدعم الخارجي، الذي نرفضه ونرفض الاستعانة به”.

ولهذا ومن هذا المنظور يقول العسراوي: “لا زلنا نرى أنه ليس هناك أصدقاء للشعب السوري، وأن المتدخلين بالمسألة السورية، يعملون وفق مصالحهم الذاتية”.

ويضيف العسراوي: “وحول النتائج المرجوة من الثورة السورية، وبعد كل هذه التضحيات يمكنني القول هذه الثورة هي إرادة شعب قد انطلقت، ولا بدّ أن تنتصر، وأنا أرى النصر قادم بعون الله، وقد لا يكون قريباً”.

في انتظار الوقت المناسب

يقول فراس طلاس، المشرف العام سابقاً على تيار الوعد السوري، الذي التحق بصفوف الثورة وأيّدها منذ انطلاقتها: “ستحقق الثورة السورية أهدافها بالحدّ الأقصى وليس بالحدّ الأدنى”. معتبراً أن هذا الأمر حتميٌ، تثبته كل تجارب الشعوب عبر التاريخ.

ويضيف طلاس: “النقاش ليس في سؤال نعم ولا، بل في أسئلة مثل متى؟ وكيف؟ وكم سندفع ثمناً لقاء ذلك”. مبيّناً: “القرار 2254 وكل ما لحق به من قرارات أممية، ومنصاتٍ ومبادراتٍ هي طريقةٌ من المجتمع الدولي، لتمرير الوقت، حتى تأتي اللحظة المناسبة، وهي ستأتي حتماً مهما طال الزمن”.

الثورة ستستمر بأساليب أخرى

رئيس مجلس سوريا الديمقراطية، السيد رياض درار، يقول في إجابة عن سؤال نينار برس: “لا نستطيع أن نطلق على ما حصل في سوريا اسماً آخر غير الثورة، هي ثورة بهدف وغاية، هي تغيير النظام، وتغيير المسار السياسي في سوريا”.

وبرأيه: “الثورات ليس بالضرورة أن تنجح من أول خطوة لها، ولذلك تعرقلت لأسباب كثيرة معروفة”، منها ضعف المعارضة الحقيقية، وعدم وجود قيادة قادرة على إنجاز أهداف الثورة، والخلافات البينية، والتسلح، وكل الصراعات التي حصلت بين الثوار، إضافة إلى الثورة المضادة من قبل النظام”.

ويضيف درار: “نستطيع أن نقول إن الثورة السورية يمكن أن تستمر بأساليب أخرى، لكنها في المرحلة الحالية، بالتأكيد لن تحقق الغاية الأعلى لها، وهي الانتقال السياسي، لأنه لا يوجد قدرة أو قوة تستطيع توحيد الرؤية السورية على الأهداف التي تقيم نظاماً جديداً”.

ويعتقد درار أن هناك عوامل أخرى تقف في وجه الانتقال السياسي منها: “عناد النظام السياسي، وجود من يؤيده ويدعم بقاءه، وضعف الأمم المتحدة والأمم الديمقراطية”. ولهذا يرى أن الإعداد الكامل من أجل التحولات الاضطرارية، وأولها التحول الديمقراطي، وضرورة وجود قوة ديمقراطية قادرة على إنجاز المسار”.

أبتهج بعيدها

الشاعر السوري فواز القادري يقول جواباً على سؤال نينار برس: “رغم تشككي بعدالة هيئات العالم، أقول: “لن يستطيع أحدٌ أن يطيل عمر هذا الطاغية المتوحش”. وبرأي القادري: “عملياً النظام انتهى، ولن تجدي عمليات حقنه بأمصال البقاء، كي يستمر على قيد القتل والمجازر، ولهذا رغم تقاعس العالم، سيفكّر بإيجاد حل، وعلى الأغلب عبر القرار 2254”.

ويصيف القادري: “كنت أحلم مثل بقية السوريين، أن أعيش في بلادي دون خوف، دون أن ترتجف ساقاي حين أمرّ قرب فرع أمنٍ، أو مخفر شرطة، فهناك ألف سبب وسبب للثورة”.

نهاية المطاف انتقال سياسي

الكاتب والاعلامي السوري علي سفر، قال لنينار برس:

“أظنّ وبعد تأملٍ لما جرى خلال العقد المنصرم، أن نهاية المطاف للتحول العميق الذي أحدثه الحراك الثوري وتحولاته اللاحقة ستكون انتقالاً سياسياً يؤسس لسوريا المستقبلية، التي تتحدث بثقة أنها ستكون مدنية وديمقراطية”.

ويضيف سفر، الذي عمل سابقاً في حقل الإعلام: “هنا، أبتعد عن المنحى التفاؤلي الثوري، الذي ندعم من خلاله عقولنا، كي لا تسقط تحت ضربات الخيبات والكآبة، ولا أذهب إلى حلب الهواء من أجل أن أثبت الحتمية التاريخية، لكنني أتبع المنحى الذي خطّه السوريون في تحول علاقتهم بالاستبداد”

ويبيّن سفر معنى رؤيته هذه فيقول: “لقد قاموا بحرق المراكب التي ستعيدهم إلى الاستبداد، فقد خرجت عن سيطرة قوات النظام العودة إلى حكمه، وإدارته، وأن لا حلّ إلا برحيل الطاغية ونظامه، أليس هذا ملمحاً أولياً، يؤكد أننا لن نعود إلى الوراء”.

 نينار برس

———————————

خيارات إدارة بايدن في سوريا تتقلص وسياسة واشنطن لا تزال غامضة بشأن العملية السياسية/ رائد صالحة

أكدت الولايات المتحدة أنها ملتزمة بتسوية سياسية تتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254 لإنهاء الصراع في سوريا، بالتشاور الوثيق مع الحلفاء والشركاء والأمم المتحدة، ولكن يبدو أن هذه التسوية، التي أعلنها مرة أخرى المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية تنطوي على عواقب لرئيس النظام السوري بشار الأسد وحكومته.

وقال المتحدث الأمريكي إن الإدارة «ستستخدم الأدوات المتاحة، بما في ذلك الضغط الاقتصادي، من أجل إصلاح ذا مغزى ومساءلة نظام الأسد» في حين تم إدراج المعركة ضد تنظيم «الدولة» في الوقت الحاضر كأولوية ثالثة.

واستنتج المحللون الأمريكيون أن الأسد غير مستعد للمغادرة في أي وقت، على الرغم من الوضع الكارثي في البلاد، في وقت تحاول فيه روسيا تخفيف الضغط عن النظام السوري، ولكن المتحدث الأمريكي أكد ثانية أن تغيير نهج واشنطن لن يأتي إلا استجابة لتحول في دمشق.

وأقر المتحدث باسم الخارجية، نيد برايس، بأنه لن تكون هناك نهاية مستدامة للصراع السوري قبل أن يغير النظام سلوكه، مؤكداً أن واشنطن بصدد مراجعة ما قد تفعله لتعزيز احتمالات التسوية السياسية.

وأصدر وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، في وقت لاحق بياناً مشتركاً إلى جانب نظرائه من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا حول الشأن السوري بعد 10 سنوات من بدء احتجاجات ضد النظام، جاء فيه إن الأسد وكل من دعمه يتحملون المسؤولية عن السنوات الماضية من حرب ومعاناة إنسانية.

وأشار البيان إلى تدهور الوضع الاقتصادي لسوريا وحاجتها المستمرة للمساعدات الإنسانية، كما أكد على رفض الانتخابات السورية المزعومة ووصفها بأنها مشهد «لن يكون حراً ولا نزيهاً ولا يؤدي إلى أي إجراء للتطبيع الدولي مع النظام السوري».

وبدت الكرة في ملعب واشنطن بعد حديث عن «هدوء هش مزعوم» في سوريا ودعوات أممية للدفع بعملية دبلوماسية جديدة حول سوريا، في حين حذر العديد من السياسيين من عدم قدرة أي دولة على وضع قواعد اللعبة في سوريا وحدها. ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية المتعاقبة لم تكن تشعر بإلحاح للتصدي للحرب الدموية في سوريا، وبالنسبة لإدارة بايدن، لا يزال هناك نوع من الغموض حول سياسة الإدارة الجديدة بشأن سوريا.

وأشار محللون أمريكيون إلى أن روسيا تحاول فتح الباب أمام تعاون محتمل مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الشأن السوري، بعد أن وصلت الحرب الدموية في البلاد إلى علامة فارقة قاتمة، هي مرور 10 سنوات على الكارثة.

وأكد ناطق للسفارة الروسية في واشنطن أن هناك مجالاً للتعاون بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا، ولكن للقيام بذلك يجب التغلب على لغة التنافس التي تعود للحرب الباردة، والتي تعتمد على المصالح المتعارضة والاتهامات البارزة.

وأشارت صحف أمريكية إلى أن واشنطن وموسكو وجدتا أرضية مشتركة في سوريا في المعركة متعددة الجنسيات ضد تنظيم «الدولة» ولكن هناك حاجة الآن لتحديد مجالات إضافية للتفاهم المتبادل.

وبالنسبة لموسكو، فإن التعاون المشترك يعني عدم اعتراض الجهود الأمريكية في تقديم المساعدات الإنسانية ومكافحة الإرهاب ودفع العملية السياسية إلى الأمام، وفقاً لرؤية قريبة من نهج روسيا.

وهذا يعني أن الولايات المتحدة يجب أن تعيد النظر في المقاربات والإجراءات المتعلقة بحليفها رئيس النظام السوري بشار الأسد، وإعادة التفكير في الاستراتيجيات الأمريكية في سوريا.

لم تحقق الإدارات الأمريكية السابقة أي تقدم يذكر في الشأن السوري، ولكن العديد من المحللين يتوقعون أن تكون إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أكثر نشاطاً من تلك التي سبقتها.

وقال العديد من المحللين إن الوقت حان إعادة انخراط الولايات المتحدة لتحقيق التوازن بين الأجندات الروسية والإيرانية في سوريا، وأكدوا أن هناك ضرورة لقيام واشنطن بإجراء محادثات مع تركيا وموسكو للتوصل إلى حد وسط بشأن الحد الأدنى من الشروط المقبولة في أي عملية مفاوضات بخصوص سوريا.

حقول النفط

ولا تخطط القوات الأمريكية لمغادرة سوريا قريباً، ولا يبدو أن إدارة بايدن على عجلة من أمرها لسحب 900 جندي أمريكي بقوا في البلاد، وهي قوة صغيرة نسبياً، يرى العديد من مسؤولي البيت الأبيض أنها ضرورية لمنع عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» ومنع الأطراف الأخرى، بما في ذلك روسيا وإيران وقوات رئيس النظام السوري من السيطرة على حقول النفط.

ولكن التزام بايدن بالإبقاء على القوات هناك على المدى البعيد غير مؤكد، حيث قال العديد من مسؤولي البيت الأبيض انهم يراجعون وجود القوات في سوريا، وهو أعلان أثار مخاوف من أن يعيد بايدن النظر في الانتشار كجزء من تقليص أكبر للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط والتحول المخطط له نحو آسيا.

وقال الجنرال كينيث ماكنزي جونيور، القائد الأعلى للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط، في مقابلة مع الصحافة الأمريكية بعد زيارته لشرق سوريا إن السؤال الأول في المنطقة كان هو ما الذي ستفعله إدارة بايدن في سوريا، مشيراً إلى أنه ينتظر توجيهات من الإدارة بهذا الشأن.

ووصف روبرت فورد، السفير الأمريكي السابق في سوريا خلال إدارة أوباما، الاستراتيجية الأمريكية بأنها «معيبة للغاية».

وقد ساعدت الولايات المتحدة القوات الكردية (قوات سوريا الديمقراطية) على ترسيخ سيطرتها في شرق سوريا، وخلقت بديلاً للنظام وورقة مساومة إذا ما مضت الجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية سياسية للحرب الأهلية إلى الأمام، واستنتج خبراء أن الاحتفاظ بالقوات الأمريكية في شرق سوريا سيساعد على السيطرة على الحدود السورية-العراقية، مما يؤدي إلى تحقيق هدف واشنطن في احتواء نفوذ إيران المتزايد في المنطقة.

ولاحظ محللون أن بايدن قد يجد صعوبة بالفعل في عدم استخدام العامل العسكري في التعامل مع الميليشيات في سوريا، وكان أول عمل عسكري معروف له هو الأمر بشن غارة في شباط/فبراير ضد معسكر في سوريا، بالقرب من الحدود مع العراق، رداً على هجوم ميليشيا مدعومة من إيران على قاعدة أمريكية في العراق.

وقد ركز الرئيس الأسبق، باراك أوباما على تقديم المساعدات الإنسانية والمفاوضات السياسية الهادفة إلى الإطاحة بالأسد، وتقليص الوجود العسكري هناك، ووافق على مساعدة عسكرية سرية لإنشاء قوة معارضة سورية معتدلة، ولكنها ظهرت كجهد فاتر نتجت عنه نتائج هزيلة.

وتعهد ترامب مراراً بالانسحاب من سوريا بعد هزيمة تنظيم «الدولة» ولكنه تراجع بعد استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس احتجاجاً، وفي العام الماضي، أمر ترامب بسحب القوات من الحدود الشمالية بالقرب من الحدود التركية كجزء من تحرك مخطط له لسحب جميع القوات، ولكن تحت ضغط البنتاغون، وافق لاحقاً على إبقاء القوات في الشرق لمواصلة العمل مع القوات الكردية والمساعدة على حماية حقول النفط.

ومع عزم أعضاء الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، على طرح مشروع قانون لإلغاء تراخيص الحرب، فإن خيارات بايدن ستكون محدودة للغاية في الشأن السوري من الناحية العسكرية، حيث قدم مجموعة من النواب مشروع قانون لإلغاء تفويض عام 1991 لاستخدام القوة العسكرية في حرب العراق 2002 وقرار 1957 الذي يجيز العمل العسكري في الشرق الأوسط.

ووصف مقدمو المشروع القانون بأنه خطوة أولى نحو استعادة سلطة الكونغرس الدستورية لإعلان الحرب.

وقد حصل مشروع القانون على زخم جديد بعد استخدام بايدن التفويض لشن غارات جوية على الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا.

—————————-

في الذكرى العاشرة للثورة السورية: احتجاجات مرتقبة وانهيارات اقتصادية بمناطق سيطرة الأسد ومعادلة لا غالب ولا مغلوب هي المرجحة/ حسام محمد

مفارقات عظيمة شهدتها سوريا في الذكرى العاشرة لثورتها، فالمعادلات انعكست، إذ أظهرت المقاطع المصورة والحياة اليومية انهزام النظام السوري الذي أعلن الانتصار مرارا وتكرارا، فيما بدا شعب الثورة متماسكا ومنتصرا رغم النكبات التي حلت به طيلة العقد الماضي، ليحمل شهر آذار/مارس الحالي وهو تاريخ مولد الثورة في البلاد تطورات ملفتة، من عودة محافظة درعا جنوب سوريا، التي تحمل لقب «مهد الثورة» إلى الواجهة بمظاهرات سلمية ضخمة لتأكيد مواقفها الثابتة من رفض مصالحة الأسد إلى المطالبة بالتغيير وإسقاط النظام الحالي.

علاوة عن ذلك، شهدت مناطق سيطرة النظام في الأسابيع الأخيرة، حالة من الاحتقان الشعبي المستمر لدى الشرائح التي دعمت الأسد منذ عام 2011 جراء انهيار الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، ووصولها إلى 4500 ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد، فيما يواصل الأسد وزوجته الغياب عن المشهد العام جراء إصابتهما بفيروس كورونا وفق ما منصة «رئاسة الجمهورية» على معرفاتها.

أما دوليا، وبمناسبة الذكرى العاشرة للثورة السورية، تعهّد وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، في بيان مشترك بعدم التخلي عن الشعب السوري، وأن دولهم ملتزمة بتنشيط السعي إلى حلّ سلمي يحمي حقوق جميع السوريين وازدهارهم في المستقبل، استنادا إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.

ولكن، رغم التطورات المتسارعة في المشهد السوري سواء المحلي أو الدولي، إلا أن آفاق الحل تراوح مكانها رغم الحراك الدبلوماسي الدولي، ليحمل الدكتور رضوان زيادة وهو باحث في المركز «العربي» في واشنطن النظام السوري المسؤولية الأولى والأخيرة عما آلت إليه سوريا اليوم، جراء تعنت الأسد ورفضه لأي شكل من أشكال الانتقال السياسي في سوريا، أسوة بما شهدته دول الربيع العربي كالسودان، وتونس أو الجزائر وغيرها.

زيادة، رأى من الصعب الحديث عن إنجازات الثورة في ظل أوضاع متردية للسوريين سواء داخل مناطق سيطرة النظام أو خارجها، وقال لـ «القدس العربي»: «سوريا دفعت ثمنا لا يمكن وصفه، ولم يكن لأحد تخيله قبل عشر سنوات، لكن من الواضح أن بشار الأسد لا يلقي بالاً أو اهتمامًا لمن مات أو عاش من السوريين، وأن الأسد يهتم فقط ببقائه في السلطة مهما كانت التكلفة» معتبرا، أن آفاق الحل في سوريا صعبة للغاية فيما لو استمر الأسد في إصراره على رفض الانتقال السياسي.

وفي قراءة الباحث في المركز بواشنطن للمشهد السوري، فيرى أن انهيار الاقتصاد سيستمر نحو قاع جديد وغير مسبوق، وهذا سيدخل السوريون في مجاعة حقيقية.

أما على صعيد الحل، فقال المتحدث لـ «القدس العربي»: مصير سوريا اليوم بيد غير السوريين على ثلاثى مستويات، محلي، إقليمي ودولي، مشيرًا أن أي حل في القريب العاجل من المستحيل تخيله، وذلك بسبب الفجوة الواسعة بين كافة الأطراف، كما أنه يتعلق بدور اللاعبين والمجتمع الدولي.

وطالما أن الفجوة كبيرة جدا، علينا عدم توقع أي حل قريب، فيما يتعلق بالانتقال السياسي وستبقى سوريا مقسمة إلى ثلاث سوريات، مع فقدان السيطرة المركزية على شمال وشمال شرق سوريا.

العالم خذل السوريين

قال المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي عبر بيان رسمي في ذكرى الثورة السورية: «تسببت عشر سنوات من الأزمة السورية في حدوث معاناة إنسانية وألم لا يمكن تصورهما. لقد خذل العالم السوريين».

بعد عشر سنوات، اضطر نصف عدد سكان سوريا للفرار من ديارهم، هناك أكثر من 5.5 مليون لاجئ في المنطقة.

فيما مئات الآلاف من الأشخاص الآخرين يتوزعون على 130 بلداً، إضافة إلى ذلك، فقد نزح 6.7 مليون سوري داخل البلاد. خلال عشر سنوات، تكاد أن تكون لا بلدة أو قرية في سوريا قد نجت من العنف، فيما المعاناة الإنسانية والحرمان لمن هم داخل سوريا باتت لا تطاق.

سيناريوهات مفتوحة

الجغرافية السورية مفتوحة على عدة سيناريوهات مستقبلية بدرجات متفاوتة، إذ يرى محمد سالم الباحث في مركز الحوار السوري، أن انتصار الثورة الساحق على النظام، أو انتصار بشار الأسد التام، كما حدث أيام الثمانينيات، هي احتمالات تبقى موجودة وغير مستبعدة، لكن فرصتها ضئيلة جداً.

لكن الخيارات اليوم بحسب ما قاله المصدر لـ «القدس العربي» هو بقاء خريطة السيطرة العسكرية ومناطق النفوذ على حالها، مما يعني بقاء مأوى لقوى الثورة والمعارضة في الشمال السوري، واستمرار المعارضة بأنشطتها السلمية كالمظاهرات التي تقض مضجع النظام.

هذه التطورات ستؤدي بدورها إلى تحريض المناطق التي يسيطر النظام السوري إلى الخروج باحتجاجات، خاصة في الأماكن التي يسيطر عليها بشكل هش كدرعا والسويداء، ويساعد في ذلك الوضع الاقتصادي المنهار في مناطقه. فيما بدأت روسيا على الرغم من التشدد الأمريكي الذي ظهر مؤخراً معها تبدي مرونة بموضوع الحل السياسي، فهي ستسعى لانقاذ النظام، لكن الأخير سوف يتعنت ولن يستجيب غالباً.

وحتى ذلك الوقت، سوف يستمر الوضع الحالي بذات الديناميكات حتى السنة المقبلة أو ما بعدها، عندها قد تنتج الإدارة الأمريكية الجديدة مع روسيا مقاربة حقيقية للحل، إذ قد يسعى بايدن لتحقيق إنجاز شخصي يتميز به عن حقبة أوباما في القضية السورية.

المساعي الدولية للحل

الوضع السوري تحوّل إلى ساحة دولية للصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، والإقليمي بين إيران من جهة وتركيا وعدة دول عربية أخرى من جهة، وصراع محلي بين الشعب السوري والنظام، ومع تعدد المستويات واللاعبين تضاءلت فرصة الوصول للحل السياسي.

صدر في الذكرى العاشرة للثورة بيان مشترك عن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وعدة دول أوروبية، يؤكد أن هذه الدول لن تعترف بالانتخابات الرئاسية التي يعزم نظام بشار الأسد إجراءها خلال أشهر لأنها لن تكون حرة أو نزيهة.

ولا يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاؤها في معرض التراجع عن سياستهم المتشددة مع النظام، وشروطهم لإجراء الحل السياسي وضرورة محاسبة النظام على الانتهاكات التي ارتكبها خلال الفترة الماضية، وفق قراءة للباحث السياسي عرابي عرابي.

بالمقابل فإن روسيا وإيران لا يبدوان أنهما في وارد التراجع عن دعم النظام علنًا على الأقل، رغم اختلاف أسباب كل منهما، فتعويم النظام السوري كانت حاضرة في جولة لافروف الأخيرة في الخليج في محاولة لتخفيف الضغط المفروض على النظام الذي يعاني من العقوبات الدولية، وتداعيات قانون قيصر، إلى جانب العقوبات الأمريكية على إيران.

هذا التباين يؤكد، بحسب تصريحات عرابي لـ «القدس العربي»، أن الحل السياسي التوافقي ما زال بعيد المنال، وأن الدعم المتواصل من قبل موسكو وطهران للنظام لن يفرض أي شرعية له عالميًّا، وهذا سيطيل معاناة السوريين داخل البلاد وخارجها.

حضور المعارضة

يمكن اختصار حال المعارضة ومؤسساتها بأنها تفتقد الفاعلية التي تمكنها من الانخراط الفعلي والتأثير في مسار الأحداث، ويعود هذا لأمور عديدة مثل عدم وجود برامج وخطط استراتيجية، إضافة إلى غياب القيادة الموحدة.

وارتهان المعارضة السورية لعدة دول في المنطقة يؤكد استحالة استقلالها وتصرفها على نحو استراتيجي وفاعل، ويبدو أن هذا الأمر سيستمر كذلك حتى أمدٍ طويل مستقبلاً.

التنظيمات الجهادية

دخلت التنظيمات الجهادية مع الثورة السورية مرحلة جديدة من مراحلها الكلية، فبعد أن كانت السيطرة لتنظيم القاعدة، نشأ جيل جديد من الجهاديين ينتمون لتنظيم «الدولة» وهذا شكل انقساما في بنية الجهاد العالمي.

حتى إن القاعدة نفسها تشظت داخل سوريا إلى عدة تنظيمات آخرها «حراس الدين» وصل إلى التفكك شبه النهائي بينما تحولت «جبهة النصرة» في نسختها الأخيرة إلى سلطة أقرب للمدنية على يد «هيئة تحرير الشام».

يمكن التأكيد على أن نسخًا جديدة تنتسب لتنظيم «الدولة» ستظهر في سوريا، وأن المستقبل سيكون فيه حضور عبر الهجمات والتفجيرات الخاطفة ضد مختلف التنظيمات من قبل تنظيم «الدولة» مما سيجعل المواجهة مع هيئة تحرير الشام على رأس القائمة.

احتجاجات مرتقبة

سيكون من الصعب بعد عشر سنوات من التغلغل الديموغرافي إخراج إيران من سوريا كما أن الفقر تجاوز حدودًا خياليّة، وهذا قد يفجّر احتجاجات قريبة.

من ناحية أخرى فإن مواجهة الوجود الإيراني في حال التوصّل إلى تسوية سياسية سيكون أشبه بالمستحيل، إذ لن تتخلّى روسيا ولا إيران عن الامتيازات التي حصلت عليها سواء كانت اقتصادية أو دينية أو سياسية واستراتيجية.

بالتالي فإن ذلك سيستنزف موارد سوريا لعقود عديدة، وسيسبب في خلخلة النسيج الاجتماعي على الأغلب في محيط العاصمة ومحافظة دير الزور.

الأسد أصل الأزمة

قال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي لدى تركيا السفير نيكولاس ماير-لاندروت، إن نظام الأسد وحلفاءه الدوليين لا يبذلون جهدا من أجل التوصل إلى حل سياسي ودبلوماسي للأزمة.

جاء ذلك في كلمة له خلال زيارته رئيس بلدية ولاية هطاي لطفي سافاش، الخميس، أشار فيها إلى أن الثورة السورية أكملت عامها العاشر.

ولفت، وفق وكالة «الأناضول» إلى أن أهم أسباب الأزمة في سوريا، هو الظلم والعنف الذي يمارسه نظام الأسد ضد أبناء شعبه.

وأوضح أن كلا من تركيا والاتحاد الأوروبي يبذلان جهودا كبيرة من أجل التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا، حيث يهدفان لإيجاد حل لأصل المشكلة هناك.

وأضاف: «إذا نجحنا في إيجاد حل كهذا، حينها سيصبح من الممكن للسوريين الذي اضطروا لترك بلادهم، العودة بشكل طوعي وآمن وكريم».

وأردف: «لكن مع الأسف لا نظام الأسد ولا داعميه الدوليين يبذلان جهودا من أجل تسوية سياسية ودبلوماسية، ولذلك علينا التحرك بناء على الوضع القائم حاليا لفترة أخرى من الزمن».

الأمم المتحدة عاجزة

أكد مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسون، منتصف شهر آذار/مارس الحالي، أن الصراع السوري «بات صراعا دوليا وأن معظم قضايا حله ليست بيد السوريين» وأن اللجنة الدستورية لا يمكنها بمفردها حل النزاع في سوريا ولابد من الإعداد المتأني لجولة سادسة من المفاوضات.

وتابع: «مر اليوم 10 سنوات على الصراع السوري.. 10 سنوات هي مدة الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945) ويؤسفني أننا لم نتمكن من إيجاد نهاية لهذا الصراع حتى الآن».

بيدرسون قال كذلك: «شهد السوريون في سنوات الصراع العشر، 5 جيوش أجنبية وهي تتصارع على بلدهم ودخل مقاتلون من جميع أنحاء العالم تقريبا للمشاركة في القتال. تعرضت سوريا للدمار بسبب الغارات الجوية والبراميل المتفجرة والمتفجرات اليدوية وأهوال الأسلحة الكيميائية».

————————

عشر سنوات ويتحدّثون عن المؤامرة/ سلام الكواكبي

في غابة الندوات والمحاضرات الافتراضية التي تملأ الشبكة العنكبوتية، منذ اجتياح الوباء البشرية، دعاني صديق عزيز إلى ندوة تحمل في عنوانها اسم سورية، موضحاً أنه يتمنّى مني أن أشارك وأتدخل في الحوار، محاولاً توضيح الصورة أمام مشاركين كثر من الفرنسيين الذين تغيب عن أكثرهم معرفة الواقع السوري المر والمستمر منذ 2011 على الأقل. كانت المجموعة مفتوحة، وبالتالي لا حاجة للدعوة أو للتسجيل، فدخلتها غير مستأذنٍ. في البداية، هالني العنوان الذي يتطرق إلى حرب على سورية. ومن ثم، استغرق مني الأمر ثواني معدودات لأعرف الجهة وراء تنظيم هذه الندوة، وطبيعة المشاركين فيها وانتماءهم، من خلال استطلاع بعض أسماء منهم من السوريين، وبعض أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الفرنسيين. وتحاملت على نفسي لأتابع الندوة، على الرغم من تأكدي أن الاستماع إليهم سيؤثر بي صحياً على أقل تقدير، لما تحمله مواقف الأسماء المعروفة بينهم من ترويج كذب يجذب الهلوسة السياسية، وافتراءاتٍ تكره المنطق والعقلانية والإنسانية، ومن نفسياتٍ طغت عليها ثقافة المؤامرة وعبادة البسطار. إلا أن رغبتي في إحسان الظن بالآخر وانتظار تعبير منه عن الحد الأدنى من المشاعر الإنسانية والمواقف الأخلاقية كانت تفوق هذه الخشية من الوقوع على سردياتٍ غير عقلانيةٍ، ما فتئ بعضهم يطوّرها منذ عشر سنوات على أقل تقدير.

استهلّ المضيفون الندوة بخطابٍ خشبيٍّ أصابه التسوّس والاهتراء، شبيه بالخطابات التي ترعرعنا، نحن السوريين، في أتونها عقوداً، وشوّهت من لغتنا ومن إدراكنا. لكن ما ميّز هذا الخطاب، في هذه الندوة، ليس نوع الخشب، بل إن التعبير كان بلغة موليير. وهذه لغة ليست جزلة في الخطابات الخاوية، كما أن المفردات الفرنسية تبحث عن معانٍ محدّدة، ما أضفى على بداية مشاركتي نوعاً من عبثية نصوص محمد الماغوط غير المشوّهة من دريد الطوشة الملقب غوار لحام، فانتظرت مبتسماً، بمرارة، أن ينتقل الكلام أو يُنقل إلى متحدّث فرنسي يختصر في المرادفات، ويحدد موقفه بعبارة أو اثنتين، حتى أسجّل ما يحمل الحد الأدنى من المعنى، لأناقشه إن أُتيح لي.

فاض رجال السلطة بالكلام الذي لا يحمل من الصدق إلا كراهيته، وهم المتبرّعون شكلياً، والمنخرطون ضمنياً في آلة الإعلام الحربي غير النظيفة، والتي تتبنّى قاعدة غوبلز المقدّسة: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس… وهؤلاء الناس لا يصدّقون، وإنما يرغبون في أن يصدّقوا، لأنه مع تطور الإعلام وإمكانية الحصول على المعلومات شبه الدقيقة من خلال مقاطعة عدد كبير منها، يمكن له أن ينقل الإنسان من مرحلة الخضوع للكذب إلى مرحلة التشكيك في هذا الكذب في أقل تقدير. ووصل الأمر بأحدهم إلى نقضٍ كاملٍ لسردية بداية الثورة السورية في مدينة درعا، وتكذيب قصة المراهقين الذين خطّوا كلاماً معارضاً على جدران مدرستهم، معتبراً أن “آلافا” من المسلحين الليبيين تم إدخالهم وتوزيعهم في أحياء المدينة أسابيع عدة قبل بدء المظاهرات. مشيراً بذلك إلى وجود المؤامرة الشهيرة المزعومة التي سمّمت عقول بافلوفيين عرب وغربيين كثيرين. وفي الحقيقة، وعلى الرغم من أكاذيب عديدة تابعناها منذ سنوات عن البارجة الألمانية وعن الضباط الفرنسيين، إلا أن قصة المسلحين الليبيين تجاوزتها بمراحل من السخرية المؤلمة، والتي تُحاكي ما صاغته روايات فرانز كافكا.

انتظرت من بعضهم شيئاً من الذهول، إثر هذا الكلام كالذي أصابني، وبما أن منصة زووم تتيح التمعّن في وجوه المشاركين الذين قاموا بتفعيل كاميراتهم، فلقد تمعّنت في الوجوه فلم أجد سوى كائناتٍ تهز برؤوسها موافقة، وشبه مستمتعة بمستواها المتدنّي من الوعي. ولم يكد أبواق السلطة ينتهون من سرد الأساطير المؤسسة للغباء الإنساني، حتى تولّى أحد الأعضاء اليمينيين المتطرّفين من الفرنسيين الكلام، مُشيداً بعلمانية مزعومة وبحماية محمودة لمسيحيي المشرق، لم تكن لتقوم لها قائمة إلا بدوام الاستبداد. واستمر عليه الحال بين كاذب ومشيدٍ وملفِق، حتى تساءلت، مع نفسي المتألمة، عن سر بقائي، وكأنني مصاب بداء المازوشية.

خُيّل لي، وبعد مرور سنوات عشر من القتل والتدمير والإخفاء القسري والتعذيب الممنهج والخراب الإنساني والانقسام المجتمعي والتهجير واللجوء، أنه من الممكن إيجاد صيغة ما لفتح نقاش ينحصر بالإنسانيات، بعيداً عن السياسة والمحاور والمواقف المتشدّدة، حتى ممّن يعتقد بمشروعية الحراك كما أعتقد أنا. لقد اعتقدتُ أيضاً أننا لن نحتاج، نحن السوريين، ممن يشعرون بمأساة أهلهم وشعبهم بكل مكوناته الإثنية والدينية والمذهبية والطبقية والمناطقية، من دون أي تمييز بين موالٍ ومعارض، إلى البحث في جنس الملائكة وعن مخترع العجلة، وأننا سنحاول، بمضض، أن نجد أرضية مشتركة تحاكي الإنسان، وتتوقف عند الإنسان، دوناً عن الرهانات والأقاصيص وسرديات المظلوميات، وتوزيع شهادات الضحايا. وكما زوّدت نفسي بمعايير الانفتاح على الآخر، وبقبول قلقه وبتفهم حذره. إلا أن ما نسمعه، وما زلنا، عن المؤامرة والفلاشة والبارجة وأنبوب الغاز، لا يشجّع على أي نوع من النقاش، مهما تحلّى الإنسان بالصبر والأمل.

العربي الجديد

————————

الشرق الأوسط على الهاوية : الصراع لن يكون عربياً إيرانياً فماذا يكون ؟

ترجمة – Foreign Policy

يقف الشرق الأوسط على حافة الهاوية، ويتوقف تحقيق السلام في المستقبل على المسار الذي ستتبعه الولايات المتحدة الأميركية.

لفترة تزيد على العقدين، اعتبرت الولايات المتحدة أن السياسة في الشرق الأوسط هي صراع بين الاعتدال والأصولية، أي العرب في مواجهة إيران. إلا أنها لم تنتبه خلال السنوات الأربع التي حكمها فيها دونالد ترامب إلى التصدعات الجلية، والمختلفة التي تتزايد ما بين القوى الثلاثة غير العربية في المنطقة: إيران وإسرائيل وتركيا.

إبان الربع قرن التالي لأزمة قناة السويس عام 1956، تضافرت جهود إسرائيل وتركيا لتحقيق توازن في مواجهة العالم العربي بمساعدة أميركية. لكن الدول العربية غاصت في مستنقع العجز والفوضى شيئاً فشيئاً منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما تلاه من ثورات الربيع العربي الفاشلة، مما أدى إلى نشأة تصدعات جديدة. فالمنافسة التي من المرجح أن تعيد تشكيل الشرق الأوسط لم تعد الآن بين العرب وإسرائيل أو السنة والشيعة، بل بين المتنافسين الثلاثة من غير العرب.

إذ ازدادت حدة الصراعات الناشئة للاستحواذ على القوة والنفوذ بما يكفي لخلخلة النظام العالمي الناتج عن الحرب العالمية الأولى، الذي أسفر عن تفتت الإمبراطورية العثمانية إلى شظايا التقطتها القوى الأوروبية في سعيها للسيطرة على المنطقة. وعلى الرغم من تفكك العالم العربي ووقوعه تحت طائلة السيطرة الأوربية، فقد مثل القلب السياسي النابض لمنطقة الشرق الأوسط. أجج الحكم الأوروبي الصراعات العرقية والطائفية وشكّل العداوات والصراعات التي استمرت حتى يومنا هذا. تسببت تجربة الكولونيالية كذلك في تغذية النزعة القومية لدى العرب، والتي اكتسحت المنطقة عقب الحرب العالمية الثانية ووضعت العالم العربي في بؤرة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.

يشهد كل ذلك تغيرات عدة في الوقت الحالي. فقد ولَّى العهد العربي، وتقدمت القوى غير العربية. ومع تصاعد نفوذ القوى غير العربية في المنطقة، تشعر الدول العربية بالتهديد من امتداد النفوذ الإيراني داخل المنطقة، في الوقت الذي تقلص فيه الولايات المتحدة من التزاماتها. في العام الماضي، بعد أن اتضحت مسؤولية إيران عن الهجوم على حاملات بترول ومنشآت بترولية في السعودية والإمارات، تذرعت أبوظبي بالخطر الإيراني لإبرام صفقتها التاريخية للسلام مع إسرائيل.

إلا أن تلك الصفقة للسلام تضع عائقاً في مواجهة تركيا، بقدر ما تضعه في مواجهة إيران. فبدلاً من إعداد المنطقة لمسار جديد نحو السلام، كما زعمت إدارة ترامب، فإن الصفقة تعزز من اشتداد المنافسة بين العرب والإيرانيين والإسرائيليين والأتراك، وهو ما لم تأخذه الإدارة السابقة بعين الاعتبار. كما أنه قد يؤدي في الواقع إلى اشتداد سباقات التسلح والحروب الإقليمية، وازديادها خطورة، وهو ما لا ترغب الولايات المتحدة في التورط فيه، وما لا يمكنها تحمل تبعاته كذلك. لذا، يتعين على السياسة الخارجية للولايات المتحدة أن تحاول إخماد هذا التنافس الإقليمي الجديد على السلطة بدلاً من إشعاله.

أصبح الآن سعي إيران لامتلاك القوة النووية واستخدامها للعملاء والوكلاء بهدف التأثير في العالم العربي ومهاجمة إسرائيل والمصالح الأميركية من الأمور المألوفة. أما الجديد فهو بزوغ نجم تركيا باعتبارها عامل زعزعة غير متوقع للاستقرار في منطقة أكبر كثيراً. تتبنى تركيا الآن ماضيها الإسلامي، متخطية الحدود التي رسمت منذ قرن مضى، بعدما فقدت الأمل في صناعة مستقبل مع الغرب، ولم يعد من الممكن كذلك غض الطرف عن سعيها لاستعادة النفوذ الذي كانت تمتلكه الإمبراطورية العثمانية في يوم من الأيام، أو اعتباره مجرد خطاب حماسي. إذ بات الطموح التركي الآن قوة لا يستهان بها.

على سبيل المثال، تحتل تركيا الآن أجزاء من سوريا، ولها نفوذ في العراق وتواجه النفوذ الإيراني في كل من دمشق وبغداد. وقد زادت تركيا من العمليات العسكرية ضد الأكراد في العراق واتهمت إيران بإيواء أعداء تركيا الأكراد من حزب العمال الكردستاني.

أقحمت تركيا نفسها في الحرب الأهلية في ليبيا وتدخلت مؤخراً في الصراع القوقازي بين أرمينيا وأذربيجان على ناغورنو-كاراباخ، بما أثر على مجريات الأمور. ويتطلع المسؤولون في أنقرة كذلك إلى القيام بدور أوسع في القرن الإفريقي وفي لبنان، بينما يشعر الحكام العرب بالقلق إزاء الدعم التركي للإخوان المسلمين وزعمها بأن لها دوراً في السياسة العربية.

بررت كل من الدول غير العربية الثلاثة تلك الانتهاكات بأنها ضرورات أمنية، ولكن هناك أيضاً دوافع اقتصادية، مثل الوصول إلى السوق العراقية بالنسبة إلى إيران، أو الصدارة لإسرائيل وتركيا في السيطرة على حقول الغاز الغنية في البحر المتوسط.

وكما هو متوقع، فإن التوسعية التركية تصطدم بالمصالح الإقليمية الإيرانية في بلاد ما بين النهرين والقوقاز بطرق تستثير ماضي تركيا الإمبراطوري. خلال زيارته المبتهجة بالنصر  لباكو، ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً قصيدة تأسف لتقسيم أذربيجان التاريخية ــ التي يقع الجزء الجنوبي منها الآن داخل إيران ــ، وهو ما أثار انتقادات حادة من قادة إيران. لم يكن هذا خطأ غير مقصود.

يلمح أردوغان منذ فترة إلى أن مصطفى كمال أتاتورك كان مخطئاً حين تخلى عن الأراضي العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية حتى جنوب الموصل. وفي إطار إحياء الاهتمام التركي بتلك الأراضي، ينادي أردوغان بوطنية أعظم من تلك التي تمتع بها مؤسس تركيا الحديثة، موضحاً مخالفته للإرث الكمالي عن طريق سعيه لتأكيد الامتيازات التركية في الشرق الأوسط.

في القوقاز، كما في سوريا، تتشابك المصالح التركية والإيرانية مع المصالح الروسية. ويزداد اهتمام الكرملين بالشرق الأوسط، ليس فقط في الصراعات في ليبيا وسوريا وناغورنو كاراباخ، بل وأيضاً على الساحة الدبلوماسية من أوبك إلى أفغانستان.

تحافظ موسكو على علاقاتها الوثيقة مع جميع الجهات الفاعلة في المنطقة وتميل في بعض الأحيان لصالح إحداها ثم لصالح أخرى، وقد استغلت هذا التوازن لتحقيق القدر الأكبر من مصالحها. وبينما لا تزال غايتها من الشرق الأوسط غير واضحة، يتضح أن شبكة علاقات موسكو المعقدة ستلعب دوراً كبيراً في تشكيل مستقبل المنطقة نظراً لتضاؤل اهتمام الولايات المتحدة الأميركية.

كثفت إسرائيل أيضاً من تواجدها في العالم العربي. ففي عام 2019، اعترف ترامب بمطالبة إسرائيل منذ نصف قرن بمرتفعات الجولان التي احتلتها من سوريا في عام 1967، والآن يخطط القادة الإسرائيليون بشكل علني لتوسيع حدود اسرائيل من خلال ضم أجزاء من الضفة الغربية رسمياً. من ناحية أخرى، تشير اتفاقيات “أبراهام” إلى أن العرب يتطلعون إلى غض الطرف عن كل ذلك مقابل الحصول على دعم لموقفهم. يرغب العرب في تعويض اهتمام أميركا المتضائل بشؤون الشرق الأوسط، من خلال التحالف مع إسرائيل ضد إيران وتركيا، إذ ينظرون إلى إسرائيل على أنها ركيزة بقائهم في المنافسة الكبرى على النفوذ الإقليمي.

تفاقم التوتر بين إيران وإسرائيل بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة مع توغل إيران في العالم العربي. وتخوض الدولتان حالياً حرب استنزاف في سوريا وفي الفضاء السيبراني. استهدفت إسرائيل كذلك برامج إيران النووية والصاروخية بشكل مباشر، كما اتُهمت مؤخراً باغتيال أكبر عالم نووي إيراني.

إيران ليست الجهة الوحيدة المعنية بالصراع في الشرق الأوسط، إذ شهد العقد الماضي تدهور العلاقات بين تركيا وإسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر. ومثلما قدمت إيران الدعم لحماس في مواجهة إسرائيل، حذت تركيا حذوها مقدمة دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، مثيرة في الوقت نفسه غضب الحكام العرب جراء هذا الدعم. ومن ثم يتعارض الموقف الإقليمي الحالي لتركيا – الممتد إلى العراق ولبنان وسوريا والقرن الإفريقي، بالتوازي مع الدفاع الصلب عن قطر، وحكومة طرابلس في غمار الحرب الأهلية في ليبيا – مع السياسات التي تنتهجها السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر.

يشير كل ما سبق إلى أن القوة الدافعة في الشرق الأوسط أصبحت السياسة الواقعية العملية العتيقة، وليس الأيدلوجيات أو الأديان. في حال عززت إسرائيل الموقف السعودي الإماراتي، فمن المتوقع أن تعتمد الدول التي تشعر بالتهديد من هذا التحالف، مثل قطر وعمان، على إيران وتركيا لحمايتها. ومن ناحية أخرى، إذا منح التحالف الإسرائيلي العربي سبباً لإيران وتركيا للعمل على قضية مشتركة، فقد يصبح الموقف العدواني لتركيا في القوقاز والعراق مصدر قلق لإيران. يتماشى الدعم العسكري الذي تقدمه تركيا حالياً لأذربيجان مع دعم إسرائيل لباكو، بينما اتفق كل من إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في مخاوفهم بشأن آثار مناورة تركيا الناجحة في ذلك الصراع.

من المرجح أن تصبح المنافسات ونمط التحالفات التكتيكية أكثر غموضاً وأقل توقعاً، بينما تتقاطع تلك الخصومات المتداخلة عبر المنطقة. وهو ما قد يسفر بالتبعية عن تدخل روسيا، التي أثبتت بالفعل براعتها في استغلال انقسامات المنطقة لصالحها. وقد تحذو الصين حذوها، خاصة مع حديثها عن الشراكة الاستراتيجية مع إيران وعقد الاتفاق النووي مع المملكة العربية السعودية، والذي يمكن أن يكون مجرد بداية. تنظر الولايات المتحدة الأميركية إلى الصين عبر المحيط الهادئ، بينما يحاذي الشرق الأوسط الصين من ناحية حدودها الغربية، ومن هنا ستسعى بكين نحو تحقيق رؤيتها لمنطقة نفوذ أوراسية.

يمكن لإدارة بايدن أن تلعب دوراً مهماً في تخفيف التوترات من خلال التشجيع على الحوار الإقليمي واستغلال نفوذها لإنهاء النزاعات وإصلاح العلاقات إن أمكن ذلك. يشير الخصوم المتناحرون إلى استعدادهم لعقد هدنة كاستجابة للتغيير الواقع في واشنطن، وهو ما يمثل فرصة للإدارة الجديدة.

على الرغم من تدهور العلاقات مع تركيا، إلا إنها لا تزال دولة حليفة في الناتو لذا يتوجب على واشنطن التركيز على تعزيز العلاقات لا بين إسرائيل وتركيا فحسب، بل وبين تركيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وهو ما يستلزم دفع الرياض وأبوظبي إلى إصلاح العلاقات مع قطر. أعلن الخصوم الخليجيون عن هدنة، لكن القضايا الأساسية التي أدت إلى اختلافهم وانقسامهم ما زالت قائمة، وقد تتسبب اختلافاتهم وخلافاتهم في خرق الهدنة مرة أخرى، ما لم تُحل بشكل جذري.

تمثل إيران مشكلة أصعب، فسيتعين على المسؤولين الأميركيين التعامل أولاً مع مستقبل الاتفاق النووي. لكن عاجلاً وليس آجلاً، سيتوجب على طهران وواشنطن مناقشة التقدم التوسعي لإيران في المنطقة الأوسع وصواريخها الباليستية. يجب على واشنطن أيضاً أن تشجع حلفائها العرب على تبني هذا النهج وإشراك إيران كذلك. قد يتيح الحد من التسلح الإقليمي وبناء هيكل أمني إقليمي كبح جماح وكلاء إيران والحد من صواريخها في نهاية المطاف، لذا يتعين على الولايات المتحدة الأميركية تيسير تلك العملية ودعمها، كما يجب على الجهات الفاعلة في المنطقة تبنيها كذلك.

يقف الشرق الأوسط على حافة الهاوية، ويتوقف تحقيق السلام في المستقبل على المسار الذي ستتبعه الولايات المتحدة الأميركية. إذا أرادت إدارة بايدن تجنب التدخلات الأميركية التي لا نهاية لها في الشرق الأوسط، فعليها استثمار المزيد من الوقت والموارد الدبلوماسية في المنطقة الآن، على غير ما قد يُتوقَع. وإذا أرادت واشنطن تقليص مساعيها المستقبلية في الشرق الأوسط، فعليها أولاً بذل المزيد من الجهد لتحقيق قدر من الاستقرار في المنطقة. يتعين أن يبدأ هذا الجهد بتبني رؤية أوسع نطاقاً للديناميكيات الإقليمية وجعل تقليل التنافس والصراعات بين القوى الإقليمية الجديدة على رأس أولوياتها.

هذا المقال مترجم عن foreignpolicy.com  ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط التالي.

درج

——————————-

صحيفة: المجتمع الدولي سمح ببقاء دكتاتور سوريا

الحرة – واشنطن

بشار الأسد الرئيس الوحيد الباقي في السلطة بين رؤساء دول “الربيع العربي”

عقد من المجازر في سوريا والعالم يسمح بصمود الأسد

تناولت صحيفة الغارديان في مقالتها الافتتاحية، الأحد، سبب بقاء “دكتاتور” سوريا، بشار الأسد، في السلطة خلال حرب مستمرة تمزق البلاد، وتقتل المدنيين منذ 10 سنوات.

وقالت الصحيفة البريطانية إن “المجتمع الدولي” سمح ببقاء “الدكتاتور بشار الأسد” في الحكم، رغم أن لجنة تحقيق دولية تابعة للأمم المتحدة، رصدت عشرات الجرائم بأدلة وشهادات ووثائق، تتعلق بعشرات الآلاف من المدنيين الذي اختفوا قسرا، أو تم تعذيبهم أو قتلوا.

وتقول الصحيفة إن الأسد حول بلده إلى “مقبرة” كبيرة، تضم مئات الآلاف، ناهيك عن تهجير الملايين من الناس، ما يدعو للتساؤل: لماذا لا يزال بشار الأسد في السلطة؟

واعتبرت الغارديان الإجابة على هذا التساؤل تكمن في “القصور” الذي يعاني منه المجتمع الدولي، وهو ما حول التعامل مع الصراع “انتقائيا، وبإهمال”. والسوريون “دفعوا ثمن خضوعهم لسلطة استبدادية وحشية”، وفق ما قال رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، باولو بينيرو.

وأضاف “أن التمويل الأجنبي” وتوفير “الأسلحة” للأطراف المتحاربة و”صمت المجتمع الدولي، جعل البلاد وكأنها تحترق، فيما يشاهدها العالم عن بعد”.

تقارير الأمم المتحدة، وحتى منظمات دولية أوروبية، لا تزال حبيسة “الرفوف” والأدراج، ويغطيها “الغبار”، فيما لا يزال “طغيان الأسد” من دون أي رادع، بحسب الصحيفة.

وطالبت المقالة الافتتاحية، بضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه “المأساة” الرهيبة التي يعيشها السوريون، والتي تضرب بحقوق الإنسان والقيم العالمية عرض الحائط.

وأكدت أن الهدف هو العدالة لجميع “من قتلوا” والأحياء الذين يعيشون “مأساة”، حيث “جرائم الديكتاتور” المروعة تتطلب “تقديمه للمحاكمة”، حتى تنتهي الحرب السورية.

وتتهم تقارير الأمم المتحدة، التي تغطي عقدا من النزاع في سوريا، النظام السوري والفصائل المتحاربة بالتستر على “معاناة لا يمكن تصورها” في مراكز الاحتجاز أكثر من العثور على الجناة.

وذكرت أنه “بعد 10 سنوات من الحرب، اختفى عشرات آلاف المدنيين المعتقلين تعسفيا في سوريا، وتعرض آلاف آخرون للتعذيب والعنف الجنسي أو ماتوا في المعتقل”.

ويضم تقرير، أعد بتكليف من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الكثير من الشهادات عن الفظائع المرتكبة، ومنها بحق فتى يبلغ من العمر 14 عاما كان مغطى بالكدمات جراء الضرب وينزف من أذنيه وعينيه وأنفه قبل أن يغمى عليه إثر تلقيه ضربة في الرأس بعقب بندقية، وامرأة شابة تم اغتصابها من قبل القوات الحكومية، حيث كان أصعب ما تعرضت له “هو الألم النفسي”.

ويستند التقرير إلى 2500 مقابلة أجريت على مدى 10 سنوات وتحقيقات أجريت في نحو 100 مركز احتجاز وشملت “جميع الأطراف التي تسيطر على الأراضي في سوريا منذ 2011”.

وتشير لجنة التحقيق بشكل خاص إلى أي مدى شكلت “الاعتقالات التعسفية والسجن في آن واحد سببا وحافزا وممارسة متواصلة في النزاع السوري”.

ويخلص التقرير إلى أن كل هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان “تمت بمعرفة وبموافقة الحكومات الداعمة لمختلف أطراف النزاع”، داعيا إياها إلى التوقف عن ذلك.

الحرة – واشنطن

————————

الثورة السورية والشباب/ محمد برو

تكثر المقولات السوداوية بخصوص الثورة وما آلت إليه، تلك العبارات التي يكررها الكثير من السوريين، خاصةً في حالات الغضب أو التبرم، ولكثرة التكرار وسهولة التقليد، فإن تلك العبارات التي تطلق على عواهنها في كثير من الحالات عن الهزيمة التي منيت بها ثورتنا، يتم تردادها دون التوقف لحظةً لفحص مدى صوابيتها وموضوعيتها، إلى أن تغدو في ضمير البعض أشبه بالمسلمات التي لا تحتاج لكثرة تمحيص، فتزيدهم انكساراً إلى انكسارهم.

ومعلوم بالبداهة أنَّ الشعب السوري بمجمله، شعبٌ يعاني من سلسلةٍ طويلةٍ من الأزمات والضغوطات المتراكمة تاريخياً، والتي بلغت ذروتها في سنوات الثورة التي دخلت منذ أيام عامها العاشر، هذه الأزمات المتلاحقة التي تنسكب على حياته من كل حدبٍ وصوب، جعلت من السوريين بشكلٍ عامٍ شعباً مأزوماً، والمأزوم يطلق العنان لغضبه في اتجاهات شتَّى، وإن لم يجد الاتجاه الصحيح الذي ينبغي أن يصبَّ عليه جام غضبه، انكفأ إلى جلد ذاته طلباً لراحةٍ متوهمةٍ، يلتمسها في وضع يده على موطن العلة ومنبع الألم.

هل هي ثورة أم حرب أهلية، أم أزمة أم شرك ومؤامرة إقليمية ودولية انساق إليها السوريون، ووقعوا في شركها، في البدء كانت الثورة، وكانت الحلم الذي يضارع المحال، وكانت ولادتها العفوية نصراً مكتفياً بذاته، معزولاً عن أي انحرافاتٍ ستأتي لاحقاً، حتى من بعض قادتها المزعومين، وهذه طبيعة الأشياء، فأي قضية يطول عليها الأمد تصبح موطناً لطمع الطامعين، وعبث العابثين وتسيد المتطفلين، هذا إذا أغفلنا الجانب الأكثر أهميةً، وهو الرغبة الدولية الواضحة، بألا يصل مركب هذه الثورة إلى شاطئه الآمن، ففي وصوله تهشيم وشرخ لمنظومةٍ مصاغةٍ بتناسق متين، تحمي المصالح والمشاريع التي لم تعد سراً من الأسرار، فنظرية الفوضى الخلاقة، ومشروع الشرق الأوسط الجديد لا ينسجم مع ولادة كياناتٍ وطنية، في بلدان كانت وما زالت، ومخطط لها أن تبقى كويكبات صغيرة، تدور حول المركزيات الكبرى وترعى مصالحها.

فليسمها الآخرون ما شاءوا، لكنها ثورة وقد أنجزت مهمتها الأولى بنجاح، فثقبت جدار الخوف، وحطمت هيكل الآلهة التي تحكم بالرعب والحديد، وأخرجت الشعب المارد من قمقمه، ولن تعود سوريا ولا الشعب السوري كسابق عهده، منتهك الحقوق، يصفق ببلاهة لجلاديه ويساق أبناؤه للمعتقلات وأقبية التعذيب أنّى شاء جلادهم.

هذه الثورة ليست بدعاً في الثورات، فهي كسابقاتها من الثورات التي غيرت وجه التاريخ، سلسلة من التفاعلات التي لا تتوقف، ولا تنتهي إلا بإنجاز مهمتها الأخيرة وهي تغيير النظام الذي كان علة العلل ورحم الانكسارات الممنهجة.

لقد استمرت الثورة الفرنسية زهاء ثمانين سنة حتى تم لها أن تنجز حلمها بجمهورية كانت مضرب المثل في شتى البقاع، ومدرسة ما تزال حناجر المتشوفين إلى الحرية يتغنون بها، بالرغم من كل التعثرات التي اعترتها، بالرغم من سعي الكثيرين من أبنائها لركوب موجتها، ومحاولاتهم التي لم تتوقف على تطويعها، لتكون منسجمةً مع أهوائهم “تماماً كما يحصل اليوم معنا كسوريين”، وها هي آلاف النفوس الحرة اليوم تتغنى بعيد الثورة العاشر.

لن تخمد هذه الجذوة باجتراح حلول قزمة مثل “مجلس عسكري” أو “لجنة دستورية” أو غيرها، حتى لو رعتها قوى إقليمية وعالمية، فهذا الكيان الجديد الذي سيعاد تأسيسه يفتقر إلى القوة اللازمة للقمع اللازم لإعادة إخضاع البلاد، تلك القوة التي أسسها وطورها نظام متجبر، ظلَّ يعد لمعركته هذه خمسين سنة، ومع هذا شارف على الانهيار لولا الدعم والحماية الروسية والإيرانية، وعشرات الميليشيات والمرتزقة الأغراب.

لقد ولد جيل جديد وترعرع في هذه الثورة، لم نعبأ به ولم نتنبه لخطورة ولادته، هو جيل لم يرضع الذل ولم يستمرئ الخنوع، ولم يعتد على الصمت والمشي بحذاء الجدران، جيلٌ لن يؤمن بحيزٍ أو حقٍ مسكوت عنه، ولن يغرم بحكمة الآباء والأجداد في تحكيم العقل والجنوح للسلم مع من يغتصب مقدراته ومستقبله صباح مساء، جيلٌ متصلٌ بفضاءات عالمية وبشعوب تتمسك بخياراتها وحقوقها وحريتها، ولن يرضى بأدنى من هذا سبيلاً لحياته.

هذا الجيل الذي أخذ من حكمة التاريخ وحركته أنَّ موجات التغيير وإن تباطأت أو تخامدت أو عبثت بها الزوابع لكنها دائما تبقى أمينة لاستمرارها، فلا سبيل لاحتواء الطوفان، ولا سبيل إلى إيقاف هذه الحميَّة والنزق، الذي يفور في أرواحهم، هم مؤمنون بأن الغد لهم وأنهم هم ذلك الغد، الذي طالما حلمنا به إلى أن كلّت الأحلام.

وهاهم يملؤون سمع العالم بضجيجهم في عواصم ومدن شتى، وهذه الثورة صيحتهم وأغنيتهم، وما عداها نشاز لا يؤبه له.

تلفزيون سوريا

————————-

الجولان المحتل في عشر سنوات.. بين حضور الثورة وغياب الدولة/ أيمن أبو جبل

فضحت الثورات العربية التي عصفت بدول العالم العربي منذ 2011، الأدوار الوظيفية للمنظومة العربية الرسمية الحاكمة، وهشاشتها في تلبية الاحتياجات الوطنية لشعوبها، وعجزها عن الحفاظ على مصالحها وأولوياتها الوطنية، ومناعتها الأمنية والاقتصادية والثقافية والفكرية، في مواجهة الأزمات الداخلية، والمخاطر الخارجية التي أفرزتها سنوات الاستبداد والطغيان التي أنتجت طبقة فاسدة في إطار الدولة الوطنية. المتحالفة مع الطغمة اللصوصية من رجال الأعمال والمال، إذ استأثرت -منذ مراحل ما بعد الاستقلال الوطني عن الاستعمار الأجنبي والوصاية الغربية- باقتصادات الدولة، وتحكمت في مقدراتها وخيراتها الوطنية.

لم تكن الثورة السورية في بداياتها، واحدة من أطهر الثورات الإنسانية في مواجهة النظام الاستبدادي الشمولي السوري، لكنها كانت ناقوس الخطر الذي قضى على سنوات الأمن والطمأنينة الشكلية التي عاشتها القوى الإقليمية في المنطقة العربية، وبخاصة إسرائيل التي رأتها خطرًا على أمنها ومصالحها في حال استطاعت تغيير الخريطة السياسية، وخشيت من بروز قوى شعبية وسياسية جديدة، تفرض تغييرات على الواقع السياسي والجغرافي في المنطقة، وتقضي على مناخ التعايش والتفاهم بين المصالح الإسرائيلية، والنظام العربي الرسمي. وهذا ما يفسر الخوف الإسرائيلي من تبعات الثورات العربية التي أعادت صوغ نظرية الأمن الإسرائيلية الإستراتيجية، فبنت تحالفات عسكرية جديدة شملت العناصر الأكثر تطرفًا من الناحية الفكرية والعقائدية في سبيل إضعاف عناصر قوة الثورات العربية، وتقليل فرص نجاحها، من خلال توظيف الدين والحركات الأصولية والدعم العسكري لها، في الصراعات العربية الداخلية، وتفكيك منظومة العلاقات الاجتماعية والطائفية والقومية في المنطقة، كالحالة السورية والعراقية، وإعادة الروح إلى مشروعات استعمارية عدة في تقسيم الأوطان العربية إلى دويلات طائفية عرقية.

لقد وفرت حرب حزيران/ يونيو 1967، وهزيمة النظام السوري الأخلاقية والعسكرية، مناخات سياسية وإقليمية، لبروز قوى جديدة تستند في خطابها إلى شعارات وخطابات رنانة، استحوذت على مشاعر معظم أبناء الشعب السوري، ومعظم قواه السياسية التي طوعها هذا الخطاب وأبقاها رهينة رؤيته، بعد الانقلاب الذي قاده جناح حافظ الأسد على قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، ورموز الدولة السورية، وإبعادهم في السجون أو المنافي، بعد محاولتهم إقصاءه، وتحميله مسؤولية نتائج الحرب، وما كُشف من اتفاقات ولقاءات سرية دولية وإسرائيلية قبل الحرب، ساهمت في سقوط الجولان الفاضح والسريع، بعد صدور البلاغ العسكري رقم 66 وانهيار الجيش السوري، والجبهة السورية المحصنة، أمام القوات الإسرائيلية. هذا الوضع فرض نفوذًا خاصًا لضمان موقع الدولة العبرية وأمنها في منطقة الشرق الأوسط، فجرى تحصينه وإعادة ترتيب أوراقه في اتفاقية كيسنجر- الأسد 1974، أو بما يُعرف باتفاقية فصل القوات الناتجة من حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وإعادة مساحة 50 كم من مدينة القنيطرة إلى النظام السوري، فيما بقيت الجولان السورية مُحتلة، وبقيت حدود إسرائيل مع سورية الأكثر هدوءًا وأمانًا بالنسبة إلى الإسرائيليين طوال 44 عامًا حتى انطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس 2001 .

استند النظام السوري منذ خمسة عقود إلى الخطاب الشعاراتي والاستهلاكي في قضية الجولان المحتل التي فرضت نفسها على الأجندة السورية الرسمية في أثناء الانتفاضة الشعبية 1982، رفضًا لقانون ضم الجولان، وفرض الجنسية الإسرائيلية على من تبقى من سكانه، داخل الأرض المحتلة، بعد تغيبها سنوات. منذ أن رفع حافظ الأسد العلم السوري على المساحة التي تنازلت عنها إسرائيل في القنيطرة، باتفاقية فصل القوات مع إسرائيل، لحفظ ماء الوجه، وحوُل نفسه من خلال بروباغندا إعلامية إلى (بطل التحرير)، فيما كانت تسعى إسرائيل إلى فرض وقائع أمنية جديدة شملت ضمان الحدود الإسرائيلية في الجولان وصونها، وتحجيم الملف الفلسطيني، والتضييق عليه من خلال التدخل السوري في لبنان، وضرب القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية، فيما سعت على أرض الواقع إلى دمج سكان الجولان في الحياة المدنية الإسرائيلية.

شكل سقوط الجولان في 1967 مرحلة مفصلية في التاريخ السوري أُعيد خلالها صوغ الخريطة الإقليمية، واقتسام الأدوار الوظيفية، بين القوى الإقليمية في المنطقة، لأكثر من نصف قرن من الزمان، فيما شكلت الثورة السورية ضد الفساد وظاهرة الاستبداد السياسي، فرصة لاستعادة المواطن السوري حقه في المواطنة في وطنه، والمساهمة في صنع قراره، ورسم مستقبله، ونسف ما ثار ضده من الفساد والاستبداد والقمع والاستئثار بمقدرات الوطن  وإمكاناته لمصلحة فئة حاكمة حولت الوطن السوري، إلى مزرعة شخصية وعائلية، لكن الثورة فشلت وسط الدمار الذي خلفه قمع النظام في تحقيق أهدافها المتمثلة في الحرية والعدالة والتعددية السياسية .

الجولان بيضة القبان في التسويات الإقليمية

بالعودة إلى الدور الوظيفي للقوي المتحكمة في الشأن السوري، إن ميزان القوى ما زال يسير في ترجيح المصلحة الأمنية الإسرائيلية، في أي متغيرات محلية وإقليمية، منذ حرب 1967 وما أفرزته من نتائج، ما زالت تؤثر في أي تسويات سياسية في الملف السوري. فسيطرة النظام وحليفه الروسي والإيراني، على معظم الأراضي السورية التي استطاعت المجموعات المسلحة المعارضة طرده منها في سنوات الثورة، بينما ما يزال جزء منها تحت سيطرة القوات الكردية والتركية والأميركية والفرنسية، عدا عن الوجود العسكري والأمني الروسي والإيراني المؤثر، وميليشيات حزب الله، إضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي يسيطر ماديًا وعسكريًا على الأراضي السورية في الجولان، منذ ما يزيد على نصف قرن، ويتحكم في كل مفاصله الجغرافية، وخيراته الطبيعية، وجعله رافعة اقتصادية لإسرائيل من خلال ما يوفره من إمكانات لرفد الاقتصاد الإسرائيلي، وإذا أضفنا السعي الإسرائيلي، لترسيخ الاحتلال في الجولان، بالجهود الدبلوماسي الحثيث، لانتزاع اعترافات دولية بسيادتها على الجولان بعد إعلان قادتها أن سورية التي نعرفها قد انتهت، ولا تنازل عن الجولان حتى في أي تسويات مستقبلية، وبخاصة بعد الاعتراف الأميركي في 2019، والسعي لدمج منتوجات المستوطنات الإسرائيلية ضمن صادراتها الوطنية، وموافقة بعض الدول على عدّها منتوجات إسرائيلية، إضافة إلى السماح للشركات الإسرائيلية بإقامة مشروعات واستثمارات اقتصادية كبيرة، ورفد الجولان المحتل بمزيد من المستوطنين، ضمن خطة حكومية لزيادة عددهم بنحو 250.000 مستوطن مع حلول الذكرى المئوية لقيام دولة إسرائيل في 2048 .

في ضوء ذلك، وفي ظل الخلل في العلاقات السورية الدولية والإقليمية، والعلاقات السورية الداخلية، وغياب قضية الجولان أو تأجيلها من أجندة النظام السوري، وقوى المعارضة السورية وأطرها كالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، سيكون مصير الجولان المحتل قاب قوسين أو أدنى من تحوله إلى رهينة المساومات السياسية لفرض تسويات إقليمية، قد تشرعن بقاء النظام السوري واستمراره في الحكم سنوات مقبلة، وعودة المفاوضات بين إسرائيل وسورية على مستقبل الجولان، ومنح النظام السوري -كقولنا في العامية- (عظمة) لحفظ ماء الوجه مرة أخرى، مستنسخًا تجربة والده في اتفاقات فصل القوات التي تتمثل في إعادة أجزاء من الأرض المحتلة، فيما تحتفظ إسرائيل بالمواقع والمناطق الحيوية والإستراتيجية في الجولان المحتل، في ظل ترتيبات روسية إسرائيلية، وتفاهم أميركي دولي، وإعادة صوغ الدور والوجود الإيراني بما يتماشى مع المصلحة الإسرائيلية العليا.

 الجولان وتغير المعادلات الوطنية

لم يكن تحرير الجولان السوري من الاحتلال الإسرائيلي، في أي مرحلة من المراحل ضمن أولويات النظام السوري، ما فسره عدد من الباحثين والمحللين بتفاهمات أو صفقات غامضة، شهدتها المرحلة التي سبقت احتلاله بسنوات، وعلى الرغم من عدم وجود وثائق مكشوفة تؤكد هذا الأمر، إلا أن شهادات كثير من الضباط والكتاب والمؤرخين والسياسيين العرب والسوريين، تؤكد أن سقوط الجولان السريع، كان ضمن تفاهمات سورية إسرائيلية سرية، حصدت نتائجها في الأربعة والأربعين عامًا الماضية، حتى اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، حيث فُضحت التفاهمات السورية الإسرائيلية من خلال تصريحات ابن خال الرئيس السوري رامي مخلوف في أثناء اقتحام مئات النازحين الفلسطينيين بلدة مجدل شمس المحتلة ومناطق في القنيطرة في أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 2011، بعد استقدامهم في حافلات يملكها (مخلوف) إلى خط وقف إطلاق النار، وقال في مقابلة نشرتها صحيفة (نيويورك تايمز) إن “النظام السوري لن يستسلم بسهولة وسيقاتل حتى النهاية، ولن يكون هناك استقرار في إسرائيل، إذا لم يكن هناك استقرار في سورية” وأضاف “أن السلفيين الإسلاميين هم بديل النظام”. في محاولة لحث الإسرائيليين على توفير الدعم للنظام، والعمل على استقراره، بعد أن كان مهددًا بالسقوط قبل التدخل العسكري الروسي، وبحسب مجلة (فورين أفيرز) الأميركية ذكرت أن الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي أفرايم هاليفي قال: “إن بشار الأسد هو رجل تل أبيب في دمشق، وإن إسرائيل تضع في حسبانها منذ بدأت أحداث الثورة السورية أن هذا الرجل، ووالده تمكّنا من الحفاظ على الهدوء على جبهة الجولان طوال 40 سنة، منذ توقيع اتفاقية فكّ الاشتباك بين الطرفين في 1974”(1)

 لا شك في أن كل تلك الشكوك، حول العلاقة السرية بين النظام بوصف وكيل إسرائيل، ودولة الاحتلال الإسرائيلي، ساهمت في ضعضعة صورته ومكانته لدى فئات واسعة من أبناء الجولان المحتل، وساهمت الجرائم التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوري وقواه السياسية التقدمية، طوال السنوات الأخيرة العشر، في تغيير المفهومات والأفكار والآراء التي رفعتها تلك الفئات الاجتماعية والسياسية، وشكلت خيبة أمل كبيرة، وردات فعل كبيرة لدى شريحة واسعة من أبناء الجيل الجديد الذي ترعرع على عقيدة حتمية التحرير، والعودة إلى حضن الوطن الغائب، وكنس الاحتلال الإسرائيلي سلمًا أم حربًا، وتعرت أمامه الشعارات والخطابات الاستهلاكية والإعلامية التي روجها النظام عبر وسائل إعلامه التي عملت على الاستحواذ على عواطف الناس وتجييشها، في الوقت الذي غاب فيه الوطن تمامًا عن الجولان، حضرت أذرع أجهزة الأمن في رصد تحركات الناس وتصريحاتهم وأفعالهم ومواقفهم، حتى إنها وضعت قوائم أسماء المعارضين الوطنيين ضمن قوائم المطلوبين لأفرع الأمن السورية، وأوعزت إلى بعض عناصرها بالاعتداء على عدد من الوطنين والمعارضين، وتشويه مواقفهم وشخوصهم، وبث الأكاذيب، والإشاعات حولهم، وبخاصة بعد أن واظب عشرات منهم على الخروج في اعتصامات أسبوعية تضامنية، في السنوات الأولى للثورة السورية، جوبهت أحيانًا بعنف المؤيدين للنظام، ومُنع مراسلو التلفزيون السوري في الجولان المحتل -الإخبارية والفضائية- من إجراء أي لقاء أو تغطية أي فعالية أو نشاط، لأشخاص تعدهم معارضين للنظام، كما حدث مع تحرير الأسير السوري وئام محمود عماشة من المعتقل الإسرائيلي المحكوم مدة 21 سنة، ضمن صفقة تبادل الأسرى بين حركة حماس وإسرائيل المعروفة في صفقة شاليط في تشرين الأول/ أكتوبر 2011.

 في الواقع الجولاني بعد عشر سنوات من الثورة السورية، وما شهدتها من عمليات تهجير طالت نصف الشعب السوري وعمليات القتل والتعذيب والقمع والجوع المتفشي في كل أركان الوطن السوري، لم يعد غريبًا -على الرغم من رفضه- أن يفضل عدد من أبناء الجولان المحتل النعيم الإسرائيلي في ظل الاحتلال، على الجحيم السوري في ظل حضن الوطن، ولم يعد مُستهجنًا، ان يتقدم أشخاص للحصول على الجنسية الإسرائيلية بملء إرادتهم، لأسباب شخصية عدة، ولم يعد من المستغرب أن يشارك بعض الناس في الانتخابات الإسرائيلية، وتشريع المجالس المحلية بعد إقرارها رسميًا من الحكومة الإسرائيلية في 2018، ولم يعد غريبًا الترشح لعضويتها -مع عدم قبول ذلك اجتماعيًا من الأغلبية العظمى من الجولانيين- أو تسجيل ناد رياضي في الدوري الإسرائيلي، أو المشاركة في فعاليات إسرائيلية، اقتصادية، وثقافية، وتربوية، وفنية، والدخول في عضوية بعض الأحزاب الإسرائيلية، والمشاركة في برنامج الشبيبة العاملة والمتعلمة، والخدمة الوطنية المدنية الإسرائيلية، كان كل ذلك -حتى ما قبل الثورة السورية- يعد عملًا مرفوضًا، ومنبوذًا، يعرض صاحبه للمقاطعة الاجتماعية والدينية، وخروجًا على الإجماع الوطني، بحسب الوثيقة الوطنية لأبناء الجولان، الصادرة في آذار/ مارس 1981، وهي في منزلة دستور وطني واجتماعي جامع.

وعلى الرغم من أن القانون الإسرائيلي يتيح لكل الجولانيين تلقي مخصصات مالية من التأمين الوطني الإسرائيلي وهبات مالية مختلفة للعاطلين عن العمل وكبار السن، وفي الوقت نفسه تُدفع الضرائب القانونية المفروضة عليهم للتأمين الصحي كلها، وضريبة الدخل الإسرائيلية، تحاول السلطات الإسرائيلية استغلال كل فرصة لتكريس احتلالها للجولان، ودمج السكان في المنظومة الإسرائيلية، لأسباب تتعلق بالانتماء الطائفي لسكان الجولان المتبقين في القرى الأربع في الأرض المحتلة، على الرغم من وجود بعض الخطط التي ستتنازل بموجبها إسرائيل عن بعض الأجزاء الجغرافية، المأهولة بالسكان السوريين، حيث لا وزن ولا تأثير ولا قيمة لهم، في ظل المعادلة السياسية الإسرائيلية، وقانون يهودية الدولة، فضلًا عن رفض الأغلبية العظمى من السكان السورين، التماشي مع السياسة الإسرائيلية في مشروعات الأسرلة والاندماج في السيستم الإسرائيلي، والصعوبات التي تتكبدها بعد فشلها في ذلك على مدار سنوات الاحتلال، الأمر الذي يجعل سيناريو التسوية الوضيعة وارد الحدوث، في أي تسوية سورية إسرائيلية ترعاها روسيا، ودول خليجية، لعودة النظام السوري إلى الحظيرة الدولية والإقليمية واستكمال دوره من خلال برامج إعمار سورية التي دمرتها سنوات الحرب.

مركز حرمون

———————-

الحكاية من البداية”.. السوريون يحيون ذكرى الثورة بـ”توقيت درعا”/ ضياء عودة

محتجون بالمئات على الطريق الواصل بين “درعا البلد” و”درعا المحطة” جنوبي سوريا، وفي مقابلهم جنود مدججون بالسلاح والقنابل المسيلة للدموع، وبرفقتهم سيارات إطفاء خرجت لإخماد شرارة كتبت بلهيبها تاريخا جديدا للبلاد، وشكلت محطة، ما قبلها ليس كما بعدها.

مشهد “سريالي” يستذكره السوريون ويحييونه في 18 من شهر مارس من كل عام بتوقيت محافظة درعا، والتي علت فيها أولى الهتافات المناهضة لنظام الأسد. هتافات كسرت قبل عقد من الزمن المحرمات في البلاد التي يطلق عليها موالو السلطة “سوريا الأسد”، وكانت بوابة ثورة امتدت إلى باقي المحافظات السورية بالتدريج.

ورغم أن القصة بشكلها العام بدأت في 18 مارس 2011، يعود محركها الفعلي إلى ما قبل ذلك بقرابة الشهر، حين اعتقلت الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد 18 طفلا من ثانوية البنين في درعا البلد، بتهمة كتابة عبارات مناهضة لبشار الأسد على الجدران.

عمليات الاعتقال التي نفذتها الأجهزة الأمنية بدأت في الثاني من فبراير 2011، ولأكثر من 30 يوما، لم تفلح حينها محاولات الوجهاء من أهالي درعا للإفراج عنهم.

المحاولات كانت تجري بشكل مباشر مع رئيس فرع الأمن السياسي، عاطف نجيب ابن خالة الأسد، والذي يرى كثير من السوريين أن سياسته الأمنية هي المتسبب الأول والرئيسي لحالة الغليان الشعبي التي عاشتها المحافظة آنذاك، وانتهت بالخروج بالمظاهرات الشعبية.

“الحل أمني بامتياز”

رفض عاطف نجيب مطالب الأهالي بالإفراج عن المعتقلين، الأمر الذي دفع الشارع في درعا لتنسيق الخروج بمظاهرات مناهضة للأسد وسياسته الأمنية في 18 مارس 2011، على أن تنطلق من مسجدي الحمزة والعباس والمسجد العمري الشهير، وتمتد إلى الطريق الواصل بين درعا البلد ودرعا المحطة المعروف بـ”النزلة الشرقية”، وهو ما حصل بالفعل.

خرجت المظاهرات في ذلك الوقت يوم الجمعة، وسميت بعنوان “جمعة الكرامة”. وكما خطط لها، خرجت من المسجدين المذكورين، وصولا إلى “النزلة الشرقية”، ليفاجأ المتظاهرون بإطلاق عناصر الأمن الرصاص المباشر عليهم، ما أسفر عن مقتل شابين الأول هو حسام عياش والثاني يدعى محمود الجوابرة.

انقلب المشهد بعد مقتل الشابين رأسا على عقب وتصاعدت حالة الغليان الشعبي.

وفي اليوم التالي (19 من مارس 2011) وفي أثناء تشييعهما خرجت المظاهرات بزخم أكبر من أحياء درعا البلد، وانضمت إليها مناطق أخرى في الجنوب السوري.

هي أحداث كانت آخذة بالتصعيد، وانتقلت لتشمل باقي محافظات سوريا، كحمص أولا ودمشق وحلب وأريافهما وغيرها فيما بعد، وفي مقابل ذلك كان هناك قرار لسحق الاحتجاجات السلمية من جانب نظام الأسد وأجهزته الأمنية، والذي أدى بدوره إلى حالة من القتل شبه اليومي للمشاركين في المظاهرات، وجميعهم من المدنيين.

 من الحراك السلمي إلى المسلح

السياسة الأمنية التي اتبعها النظام السوري منذ اليوم الأول لخروج المظاهرات المناهضة له، وما تبعها من تعنت في الرأي والممارسات المتكررة من عمليات اعتقال واستهداف للمتظاهرين، كانت دافعا لتحويل الحراك السلمي إلى حراك مسلح، بدأ بصورة فردية، ومن ثم انتقل إلى حالة أكثر تنظيما من خلال تشكيل فصائل وتشكيلات عسكرية أطلقت على نفسها فصائل “الجيش الحر”.

هذه التشكيلات بلغ عددها في بادئ الأمر في محافظة درعا قرابة 56 فصيلا، وجميعها انضوت ضمن ما يسمى بفصائل “الجبهة الجنوبية”، حيث خرجت إلى الواجهة المسلحة بدعم وتنسيق من غرفة عمليات “الموك”، التي تضم عدة دول من “أصدقاء سوريا”، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية والسعودية والأردن والإمارات وتركيا وغيرها.

سيطرت الفصائل المذكورة بعد تنسيق عملها العسكري على معظم مناطق الجنوب السوري من محافظتي درعا والقنيطرة، وخاضت عمليات عسكرية واسعة ضد قوات الأسد والميليشيات التي كانت تدعمه.

وبذلك خرجت معظم مناطق محافظة درعا عن سيطرة نظام الأسد في درعا وجاراتها، عدا منطقة درعا المحطة والمربعات الأمنية الموجودة بها، واستمر هذا الحال الميداني على الأرض لسنوات طويلة، لم تخل من معارك وقصف ودمار مع قوات الأسد تارة وتنظيم داعش الذي سيطر على منطقة حوض اليرموك تارة أخرى، وصولا إلى عام 2018 الذي شكل محطة ثانية وفاصلة لدرعا في تاريخها المكتوب خلال عقد من الزمن.

“تسوية وتسليم”

في أواخر عام 2018 اتخذ قرار روسي للسيطرة على محافظة درعا وطرد فصائل “الجيش الحر” المحسوبة على المعارضة السورية المسلحة. جاء ذلك في الوقت الذي رفعت فيه بعض الدول في غرفة “الموك” يدها عن دعم فصائل “الجبهة الجنوبية”، لأسباب لم تعرف تفاصيلها.

وعلى خلاف المعتاد للعمليات العسكرية لم تصمد فصائل المعارضة لفترة طويلة أمام قوات الأسد والقوات الروسية (شهرين تقريبا)، لتسيطر الأخيرة على القرى والبلدات في درعا بشكل تدريجي، وصولا إلى فرضها اتفاق سمي بـ”اتفاق التسوية”.

وقضى الاتفاق بخروج “من يرغب” من مقاتلي المعارضة السورية إلى الشمال السوري، أما من يتخذ قرار البقاء فعليه القبول ببنود اتفاق “التسوية” وتنفيذها كاملة، وفي المقابل وعدت موسكو بالإفراج عن المعتقلين وتسوية أوضاع المطلوبين أمنيا، وهو الأمر الذي لم تف به، حتى الآن.

ومنذ توقيع اتفاق “التسوية” عام 2018 وحتى الآن، لم تهدأ محافظة درعا، ولم تشهد أي استقرار، بل على العكس، لم يخل مشهدها من عمليات اقتحام ومداهمات من قوات الأسد بين الفترة والأخرى.

وإلى جانب ذلك عكر جوها قاتل “خفي” ما تزال هويته مجهولة، وأقدم على سلسلة من حوادث الاغتيال، طالت عسكريين من الطرفين (النظام والمعارضة) ومدنيين ونشطاء وإعلاميين.

في المقابل تجدد الحراك السلمي من قبل ناشطي المحافظة، وتجلى في الأعوام الثلاثة الماضية بخروج مظاهرات متفرقة مناهضة لنظام الأسد، طالب فيها المتظاهرون بالإفراج عن المعتقلين وإيقاف الحملات الأمنية التي تنفذها أفرع النظام الأمنية وأخرى تتبع للميليشيات الإيرانية والروسية التي تدعمه.

وبموازاة الحراك السلمي شهدت المحافظة حراكا مسلحا أيضا لكنه بصورة فردية أكثر من جماعية، وأسفر عن مقتل عشرات من قوات الأسد، وكانت آخر الحوادث في 16 مارس الجاري، إذ تعرضت حافلة مبيت لـ”الفرقة الرابعة” لكمين في منطقة مزيريب بالريف الغربي، ما أدى إلى مقتل 21 عنصرا.

ما الذي تغير في درعا؟

تشهد درعا حاليا وفي الذكرى العاشرة للثورة السورية خروج مظاهرات شعبية.

وحسب ما قالت مصادر إعلامية من داخل المحافظة لموقع “الحرة” فإنها تتركز في أحياء درعا البلد وبشكل خاص أمام الجامع العمري، إلى جانب مناطق كالجيزة في الريف الشرقي.

يقول الصحفي باسل غزاوي، الذي خرج من المحافظة بعد اتفاقية “التسوية”، ويقيم حاليا في بلد اللجوء ألمانيا، إن عدد المعتقلين بعد “التسوية” وحتى مطلع عام 2020 بلغ 915 معتقلا، بينهم قادة سابقون في فصائل المعارضة.

ويضيف غزاوي في تصريحات لموقع “الحرة” أن “هذه الممارسات أدت إلى حالة من الغليان الشعبي، ما تزال مستمرة حتى الآن”.

ويرى الصحفي السوري أن النقطة التي ميزت درعا عقب اتفاق “التسوية” هي عمليات الاغتيال المتكررة، والتي طالت أبناء درعا وعناصر من قوات الأسد “هذا يدل على وجود مجموعات لاتزال موجودة في المنطقة، ولها دور وعمل معين”.

ويشير غزاوي إلى أن المقاتلين الذين رفضوا الخروج إلى الشمال السوري انقسموا بين الانضمام إلى قوات “الفيلق الخامس” المدعوم من روسيا، وقوات “الفرقة الرابعة” وبشكل أساسي الفوج “666” التابع لها.

ولفت الصحفي السوري إلى أن النظام السوري يحاول حاليا بسط سيطرته الأمنية والعسكرية على المحافظة كاملا، ويتذرع لتحقيق ذلك بوجود خلايا لتنظيم داعش، وخاصة في الريف الغربي الذي سبق وأن نشط فيه الأخير لعدة أعوام.

“جمر تحت الرماد”

من جانبه يرى الكاتب والصحفي السوري، محمد العويد أن الحالة الشعبية التي تعيشها المحافظة بعد 10 سنوات من الثورة يمكن ربطها بالصورة الجماعية التي كانت عليها درعا منذ السنوات الأولى.

ويقول العويد في تصريحات لموقع “الحرة” إن “هذه الصورة الجماعية لحالة الرفض الشعبي كان من الصعب كسرها خلال سنوات الحصار والقتل والتجويع وحتى وصولا إلى اتفاق التسوية”.

ويشير العويد إلى أن “المشهد الجمعي في درعا أعطاها الزخم والإمداد اليومي والروحي للناس الموجودين فيها، لإكمال ما بدأوه رغم اتفاقيات التسوية التي فرضها النظام وحليفته روسيا”.

ويضيف أن “التسوية قهرت أبناء المحافظة من جانب، ولكنها تركت بعض القوى على الأقل بشكلها المدني والسلمي وبشكلها المسلح الفردي من جانب آخر”.

ويتابع الكاتب السوري: “هذا أعطى شعورا للناس بأنها لم تصل لغايتها وأن بإمكانها التحرك في هذه المساحة، كون التسوية تجاوزت الواجبات التي نصت عليها، كالإفراج عن المعتقلين، ووقف الممارسات الأمنية. الجمر ما يزال مشتعلا وينتظر الفرصة”.

مستقبل مجهول

ما سبق من حال تعيشه درعا الواقعة في أقصى الجنوب السوري غير كفيل بإزالة الضبابية عن مستقبلها في المرحلة المقبلة، خاصة مع غياب التصريحات الرسمية من جانب نظام الأسد، والتي تقتصر منذ سنوات على عمليات أمنية هنا وأخرى هناك.

وكان المرجو من اتفاق “التسوية” حين توقيعه فرض حالة من الاستقرار في المحافظة التي كانت أجزاء كبيرة منها خارجة عن سيطرة نظام الأسد، على أن يتبع ذلك تسوية أوضاع المطلوبين أمنيا، وإعادة الخدمات وإصلاح البنى التحتية.

لكن جميعها لم يطبق على أرض الواقع، على خلفية عدة أسباب، أبرزها عدم التزام النظام السوري بأي من المطالب، وخاصة الإفراج عن المعتقلين ووقف عمليات المداهمة والاقتحام.

ومن الخصوصية التي لازمت درعا في عام 2011، وفي الوقت الحالي أيضا، خصوصية تتعلق بطبيعة الأطراف المسيطرة عليها، والتي ينقسم ولاؤها بين تشكيلات موالية للروس كـ”الفيلق الخامس” المتمركز في بصرى الشام بريفها الشرقي، وبين “الفرقة الرابعة” وميليشيات إيرانية أخرى في الريف الغربي.

ويوضح الكاتب السوري، محمد العويد: “في درعا كان واضحا في السنوات الماضية الرغبة الإيرانية بالسيطرة عليها من خلال نشر المذهب الشيعي ودعم القوى الموالية لطهران، هذه الأدوات ساهمت في تزايد مستوى المواجهة من قبل الأهالي”.

ويضيف أن “المشهد في درعا يختصر بأن الناس في بيوتها وقراها تدافع لدرء العدوان عنها، وهو أمر يرتبط بالعرف الإنساني البشري. المعتدى عليه يجب أن يواجه ويستبسل لأخذ حقوقه والحفاظ عليها”.

———————————

توجيه البوصلة العربية في الذكرى العاشرة للثورة السورية/ فراس العرودكي

تمر الذكرى العاشرة لبدء الانتفاضة في سورية، والتي تحولت بعد ذلك إلى ثورة في كل أرجاء البلاد، وغيّرت الكثير من المفاهيم في العالم وأثرت على الوضع الجيوسياسي، فهناك الكثير من التحالفات والأزمات الدولية التي حدثت كما أنها كشفت بعض الوجوه الحقيقية للدول والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية. لكن الثابت الوحيد هو أن الشعب السوري مازال يطالب بحريته وكرامته واستعادة بلاده من الطاغية الذي يتسلط على الحكم ويتشبث به كأنه مُلكُ له.

المظاهرات التي خرجت في المناطق المحررة وبعض مناطق المصالحات والمناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية كان لها “وقع كبير” على المشاهد من الخارج الذي حتى إلى فترة قريبة كان يشعر أنّ هِمّةَ السوريين في الداخل قد خَفَتَتْ وأنهم يعيشون يومهم يتوسلون الطعام والشراب ويبحثون عن أماكن تأويهم بعد تهجيرهم وقصف بيوتهم، أو أنهم يعيشون خائفين في أماكن سيطرة النظام ولا تربطهم أي علاقة ببعضهم.

خروج المتظاهرين سلمياً في مناطق النظام أفقدته صوابه، ففي خَلَدِه أن هؤلاء المعارضين أصبحوا مُفكّكين ولا يثقون ببعضهم البعض، وأنه نجح في إلصاق تهمة “الإرهاب” بكل من ينضوي تحت لواء الثورة أو صورها كأنها حرب أهلية أو أزمة مجتمعية عابرة.

ظن الأسد أن سورية اليوم أصبحت “متجانسة” كما يريدها هو والإيرانيون من ورائه الذين يسعون جاهدين لتحويل سورية إلى إحدى ولايات الفقيه. ولكن بعد عشر سنوات يُثْبِتُ السوريون أنْفُسَهُم لأنْفُسِهِم أولاً وللعالم ثانياً بأن إرادتهم بإسقاط النظام قائمة مادام الأسد وزمرته متربعين ظلماً على الحكم.

شعب الثورة مرَّ بتجارب عظيمة ولمن يتابع الأحداث من فبراير/شباط 2011 يوم مظاهرة “الحريقة” وحتى بدء التظاهرات في دمشق، ومن ثم الانتفاضة في درعا يومي 15 و 18 مارس/آذار من العام نفسه لا يمكن أن يتنبأ بأن سورية ذاهبة إلى ثورة تحرق الأخضر واليابس بالمعنيين السلبي والإيجابي.

الأطراف الدولية دائماً ما تجنبت إطلاق صفة “الثورة” عليها حتى من البدايات وحاولت نعتها على مر الزمن بأوصاف حيادية كالأزمة والحرب الأهلية. هذه الأطراف تسعى للتماهي مع النظام الذي يقود الدولة السورية ويمثلها رسمياً حتى تجد هذه الأطراف مسوغاً قانونياً لإعادة الإعمار تحت إشراف الأسد وضخ المليارات من الدولارات في خزينته. ولكنه اليوم وصل إلى حالة يرثى لها اقتصادياً واجتماعياً وحتى على مستوى أفراد العائلة الواحدة الذين يحاولون القفز من مركبه الغارق والمثقل بالعقوبات والتصدعات المؤسساتية.

تسعى بعض الدول ومنها العربية –للأسف- إلى رفع تلك العقوبات على النظام معللة ذلك إلى إعاقتها لعودة سورية إلى الحضن العربي. ولكن متى كانت سورية التي كانت تحت قيادة نظامي الأسد الأب والابن ذات فائدة للعرب؟ ألم يصطف الأسد الأب مع إيران في حرب الخليج الأولى حينما كانت تلك الدول تدعم العراق؟ ألم تزعج القوات السورية التي أرسلها حافظ الأسد إلى لبنان القوات العربية حينما أرادت تهدئة الأوضاع خلال الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف الثمانينيات ودفعتها للخروج منه؟.

ألم يتواطأ الأسد الابن مع عملاء إيران في لبنان لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وضرب استقرار لبنان لمحاولة تحويله إلى قاعدة إيرانية على البحر المتوسط؟ من المعلوم أن المصالح تتبدل مع مرور الوقت وحدوث متغيرات ولكن عندما يطالب بعض العرب المعادين لإيران عودة نظام أصبحت مؤسساته تأخذ أوامرها من طهران، فلا نستطيع تفسير ذلك إلا بقصور الرؤية وانعدام الاستراتيجية والإصرار على فشل العرب في رفع قيمتهم بين الأمم.

ما يفعله السوريون من خلال ثورتهم هو إعادة الدور السوري ليكون متطابقاً مع الدور العربي في مواجهة نفوذ إيران في المنطقة. على الرغم من أن الثورة كانت ضد نظام بشار الأسد حصراً في بدايتها إلا أن السنوات أرست هدفاً أوسع من الرقعة السورية، ألا وهو “اقتلاع جذور النفوذ الإيراني في سورية والمنطقة”، فلا استقرار لسورية بوجود إيران فيها ولا استقرار للمنطقة والعرب باستخدامها لسورية منطلقاً للهجوم ونشر الفساد في الدول العربية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلن الأردن كثيراً عن كشف شحنات مخدرات مصدرها الأراضي السورية بعد سيطرة النظام على معبر نصيب الحدودي.

كما أن السعودية ومصر كشفتا عن شحنات مخدرات من نفس المصدر بعد أن استقر الإيرانيون وحزب الله في سورية. أما من الجانب الاقتصادي، فإيران اليوم تتحكم بمناطق ذات ثروات تساعدها في تلبية حاجتها للاستمرار في إبقاء نظام الملالي على قيد الحياة على الرغم من العقوبات الأمريكية والدولية. وإن استحكمت إيران بكل المناطق في سورية، فستقوم بإنشاء خط بري يصل طهران بالبحر الأبيض المتوسط الذي سيوفر عليها تكلفة مرتفعة في التعاملات الاقتصادية بين الغرب وبينها. أما جغرافياً، فستشكل إيران سوراً على العرب في الشطر الأسيوي لنقل بضائعهم أو في التنقل جواً أو براً ليعيشوا تحت رحمة الإيرانيين، ولولا وجود قناة السويس لأضيفت كلمة بحراً.

مع إتمام المصالحة الخليجية، وإعادة العلاقات بين تركيا والعرب، توجد فرصة يجب انتهازها لتكوين رؤية عربية مشتركة هدفها إعادة دعم الثورة في سورية لتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة. التعاون الأخير بين تركيا والسعودية لدعم الثورة حقق نصراً في إدلب عام 2015 ودحر النظام من المحافظة كلها.

عودة الدعم العربي للثورة لن ينعكس إيجاباً فقط في سورية، بل سيمتد إلى اليمن ولبنان وبشكل أقل إلى العراق. مع هذه الظروف، يعتبر هذا الوقت من أفضل الأوقات لبدء هجوم مضاد على الحلف الإيراني مستفيدة من تقليل الأخيرة للمخصصات الهجومية في ميزانيتها وانهيار اقتصاد نظام الأسد وتزايد الضغط الشعبي عليه وحالة الاستياء العام من حزب الله وأدواته في لبنان مع انهيار الليرة هناك. وبعد وضع استراتيجية ورؤية واضحة، يحتاج العرب أن يحاولوا الجلوس على مقعد الأمامي لقيادة السيارة بدلاً من البقاء في المقاعد الخلفية ينتظرون الآخرين قيادتهم لأماكن تتضارب مع مصالحهم.

—————————-

=======================

تحديث 22 أذار 2021

—————————

في الحديث عن “هزيمة” الثورة السورية/ محمد ديبو

بعد عشر سنوات على صيحات السوريين المنادية بالحرية والعدالة والكرامة، تنطلق اليوم أصوات كثيرة تتحدّث عن هزيمة الثورة السورية. وضمن المعترفين بهذه الهزيمة، نلحظ صوتين/ خطابين مختلفين بالرؤى، على الرغم من انطلاقهما من جذر واحد (الاعتراف بهزيمة الثورة). ينطلق الأول من إعلان الهزيمة بالمعنى السلبي للمفردة، ونتيجة مرّة لواقع أكبر من قدرته وتصوراته، وينطلق الثاني من منطق تبريري، يبحث في مسوّغات هذه الهزيمة، بما يضفي قيمة “إيجابية” على تلك الهزيمة، باعتبارها “نتيجة علمية”، يقول بها تاريخ الثورات و”علميتها”.

يصدر الخطاب الأول، في أغلبه، عن جمهور الثورة وأبنائها، أو من كانوا جمهورها وفاعليها، سواء عبر الانخراط المباشر في أنشطتها وفاعلياتها، أو عبر التأييد المطلق لها (هناك جمهور آخر يعلن هزيمتها منذ زمن بعيد، وهذا خارج حسابات هذه المقالة التي تركز على المكتشفين الجدد لـ”هزيمة” الثورة وفشلها).

اليوم، بعد عشر سنوات من الأمل الذي تضاءل يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، وصل هؤلاء إلى ما يشبه فقدان الأمل بكل شيء، هم الذين انطلقوا من شعار “الثورات تصنع المستحيل” وجدوا أنفسهم أمام واقع مرّ يتجرّعون به سهام اليأس و”الهزيمة”. كل ما حولهم اليوم يقول ذلك: مخيمات اللجوء، المنافي، الفقر، تمزّق الجغرافيا السورية، القتلى تحت التعذيب، صمت العالم… هذه النتيجة التي وصل إليها هؤلاء لم تأت من فراغ، ولم تولد بين ليلةٍ وضحاها، بل جاءت نتاج تراكم الخسائر والخبرات والوعي والمراقبة والملاحظة خلال تجربتهم اليومية والطويلة في مقارعة الدكتاتورية. وقد انطلق هؤلاء، في بداية الثورة، من إيمان فطري بامتلاكهم الحق في مواجهة الباطل. ومن إيمانهم بإمكانية تحقيق العدالة ضد طغاةٍ قتلة، وأن الحرية تتطلّب التضحيات التي لم يبخلوا بها خلال مسارهم الطويل نحو الحرية، هذا المسار الذي اكتشفوا خلاله دنس السياسة وحقيقة العالم الذي يعيشون فيه، العالم الذي توهموا أن يتحرّك لنجدتهم فسكت (وأحياناً شارك) عن/ في قتلهم. والحق أن هذا المسار طبيعي ومنطقي، ورابح بالنسبة لهم، على الرغم من عدم إدراكهم هذا بعد، وعدم إدراكهم أن الثورة التي آمنوا بها، والتي ينعونها اليوم، لم تُهزم قط. ولكن كيف ذلك؟

محاولة تأمل مسار الحوامل الاجتماعية للثورة ووعيها منذ مرحلة ما قبل الاستبداد يوضح أنّ هذه الحوامل انتقلت من وعي ضحل تجاه السياسة والشأن العام والإحساس بالحرية والمطالبة بالديمقراطية إلى وعي فاعل ومطالبة يومية، فحتى يناير/ كانون الثاني 2011 لم يكن ابن الريف الحموي أو الدمشقي أو الحلبي ذا اهتمامات بالشأن العام الذي كان من اختصاص نخبة وفئة معينة من السوريين، إذ كان جل اهتمام القطاع الواسع من الشعب السوري منصبّاً على تأمين لقمة العيش مع محاذرة الاقتراب من العمل السياسي، من دون أن يعني أيضاً أنه لم يكن لهؤلاء رأي فيما يحصل، بل كان لهم رأي ما، يمكن وصفه بأنه فطري من جهة، ومغيّب، غير مصرّح ومعترف به من جهة أخرى.

مع اندلاع الربيع العربي وتفجر الثورة السورية، انطلق هؤلاء، وخلال وقت قصير، من ضفة الابتعاد شبه المطلق عن الشأن العام إلى الانغماس المطلق به، ولأن وعيهم قبل الثورة هو دون سياسي وفطري، جاء إيمانهم بالثورة من واقع وعيهم الفطري هذا، فكما كانت، سابقاً، سياسة “العين ما بتقاوم المخرز” هي السائدة، أصبحت فجأة ثقافة “الشعب يريد والثورة لا تهزم” هي الطاغية، وهذا مفهومٌ ومبرّرٌ تماماً في حال وعي هذه الشرائح التي لم يسمح لها شرطها بامتلاك وعي أبعد مما تقرأه وتراه في الظواهر المحيطة بها، وبالتالي يكون وعيها وتفاعلها معها حسيّاً وعاطفياً أكثر منه عقلياً، فقبل الثورة كان كل ما حولها يقول لها إن الصمت والابتعاد عن السياسة هو الحل الوحيد، ثم أصبح كل ما حولها في المحيط العربي والسوري يقول لها إن الثورة لا تهزم. وفي الحالين، تلقفت هذا الوعي وسارت به، مع فارق أن الثورة بالنسبة لها كانت نقطة عودتها إلى السياسة، فهي، حتى من موقع إيمانها الغيبي والفطري بانتصار الثورة في البداية، كانت تعود، في الواقع، إلى ما حُرمت منه طويلاً، أي الاهتمام بالسياسة والشأن العام. وهنا، يوماً بعد يوم، وجرّاء تراكم الخبرات وتوالي الهزائم والخسائر وخذلان العالم، بدأ وعيهم يحتكّ بحقيقة سياسات العالم وصعوبة التغيير وعوائقه. وهنا بدأ هذا الوعي يغادر مرحلته الفطرية، ويتطوّر بفعل الجدل بين المثال والواقع إلى مرحلة فهم الواقع والسياسة وألاعيبها، ما أوصلهم، في نهاية المطاف، إلى اللحظة الحالية، وهي لحظة مشرقة (على الرغم من مأساويتها والأثمان المدفوعة في سبيلها) لأنها تشي بالعودة إلى السياسة بحسّها الواقعي، السياسة بمعنى امتلاك الوعي السياسي، ولكن من دون امتلاك الحقل السياسي المكوّن من أحزاب سياسية وقوى تغيير منظمة (وهذه مهمة النخب التي فشلت في إنجازها)، قوى تعرف كيف تستثمر في هذا الوعي السياسي وتؤطّره، لأخذه نحو مساراته الصحيحة. والحديث عن النخب هنا يوصلنا إلى أصحاب الخطاب الثاني المتحدّث عن الهزيمة اليوم.

يصدر الخطاب الثاني عن نخب سياسية وفكرية، تدعو اليوم إلى الاعتراف بهزيمة الثورة مدخلاً ضرورياً للبدء وفق ممكنات الواقع، وتذهب إلى أبعد من ذلك في إيجاد “مداخل ثقافية وفكرية” لتبرير تلك الهزيمة، عبر البحث في تاريخ الثورات التي لم ينتصر أي منها!

كان من المفترض، وفق تصور الكاتب، أن توضح النخب لأصحاب الخطاب الأول عن الهزيمة أن اليأس الذي يرقد فيه اليوم ليس قدرياً أو أبدياً، لكنها تفعل العكس، إذ تأتي، مرة أخرى، لتتبع الشارع مجدّداً، وتسير خلفه في إعلان الهزيمة كما سارت خلفه في بداية الثورة، متخلّية عن حسّها النقدي تجاه الثورة، ومن موقعها كجزء ومدافع عن الثورة في الوقت نفسه.

وهنا في تأمل مسار هذه النخب، نجد أنها انتقلت من إيمانها المطلق بـ”حتمية” انتصار الثورات في عام 2011 إلى “واقعية” و”تاريخية” هزيمتها عام 2021، وأن مقارنة وعي النخب بوعي الحوامل الاجتماعية للثورة في محطاتها الثلاث ستوضح أن النخب نفسها انتقلت من اليأس المطلق بإمكانية إحداث أي تغيير قبل عام 2011، إلى خطاب حتمية التغيير خلال سنوات الثورة، إلى الاعتراف بهزيمتها وإيجاد مسوّغات لهذه الهزيمة، كما أوجدوا مسوّغات لحتمية انتصار الثورات، حين كانوا يؤمنون بانتصارها! ما أسباب ذلك؟ في حقيقة الأمر، إن النخب، وأيضاً بسبب من شروط وعيها وآليات تشكّله في ظل دكتاتورية شديدة القسوة، فاجأها الربيع العربي كما فاجأ الجميع، وبدل أن يكون الربيع محفّزاً لها لامتلاك وعيها وحسّها النقدي الذي لطالما اعتبر واحداً من أهم ما يميز النخبة/ المثقف عن عموم الناس الذين لا تسمح لهم شروطهم برؤية ما يقف خلف الظواهر المرئية، وجدت (النخب) نفسها تلهث وراء الشارع، وتتحدث عن حتمية الانتصار، ثم لتعود وتتحدّث عن الهزيمة، بعد أن وصل الشارع قبلها إلى النتيجة نفسها، بل ربما وصل الشارع إليها قبل سنوات كثيرة من قدرة نخبٍ كثيرة على الاعتراف بهزيمتها، هذا إن كان ثمّة هزيمة أصلاً. وهنا نكون أمام نخبٍ تخون مهمتها للمرة الثانية على التوالي، لأن عليها أن تقرأ وتبحث عن اختراع الأمل على المدى البعيد، من دون أن تتخلّى عن دورها، في الوقت نفسه، إلى الإشارة إلى مدى عقم الواقع الحالي، بما يعني أن عليها أن تستلّ من هزيمة الحاضر ممكناتٍ ما للمضي في طريق طويلٍ وصعب، أي قراءة راهن الواقع الصعب الذي ترقد فيه الثورة السورية اليوم على وقع المدة الطويلة للتاريخ، والتي تحبل بإمكانات شتى، ليس منها هزيمة الثورة إن أمكن الإشارة والإضاءة إلى الممكنات الكامنة والموجودة. ولكن أية إمكانيات هذه التي نتحدّث عنها؟

تشييع عنصر من حزب الله في بيروت قتل في سورية (24/10/2016/ فرانس برس)

في خطاب الهزيمة

والآن بعد الحديث عن مصدر خطاب الهزيمة، نتحدّث عن خطاب الهزيمة ذاته، عبر سؤال: هل هزمت الثورة السورية وانتهت إلى الفشل حقاً؟ وإذا كانت لم تهزم حقاً، فما الذي هزم إذن؟ وما هذا الذي يُجمع الجميع على هزيمته اليوم؟ تبيّن قراءة الثورة ضمن المدة الطويلة للتاريخ (وفق لغة محمد أركون) أن الثورة السورية أدّت تماماً المهمة المطلوبة منها في فتح آفاق التاريخ والممكن، فهي كسرت حلقاتٍ كثيرةً كانت تبدو لنا شبه أبدية ومغلقة، وأنهت أساطير وسرديات كثيرة كانت مهيمنة، وهدمت كل معالم العالم القديم الذي كنا نرقد بين طياته، وما نراه اليوم هو (وهو الذي يظهر لنا هزيمة، وهو ليس كذلك) هو رماد وأنقاض العالم القديم الذي لم يزل يُهدم بفعل أثمانٍ كبيرة وفادحة، تقدّمها القوى الجديدة المطالبة بعالم جديد لم يولد بعد، وتتوقف ولادته على إمكانات الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وهي إمكانات لم تزل قائمة، ولم يغلق قوسها على الرغم من أنها لم تنتظم في إطار واضح ومحدّد المعالم بعد.

من يتأمل مكونات الوعي السوري (مجتمعاً ونخبة) قبل عام 2011 واليوم، يجد أننا أمام وعي جديد، وعي يقطع مع العالم القديم وينتمي إلى روح العصر الحديث، على الرغم من أن كثيراً من مكونات الوعي القديم (خصوصاً في الشق الاجتماعي والثقافي والديني) لم تزل قائمة، وتعاند عملية إسقاطها وهزيمتها. وعي كهذا، نجده حتى عند مؤيدّي الدكتاتورية الذين لم يعودوا ينظرون إلى سورية والعالم بالمنظار نفسه الذي كان يُنظر إليه في السابق، ثمّة تغيير عميق وكبير في الوعي، والنظر إلى الآخر والعالم والسياسة والبلد، وهذا أمر ما كان ليكون من دون الثورة السورية. بل من يعرف كم تستغرق من زمن عمليات الانتقال، من نظام وعي سابق إلى نظام وعي جديد ومتقدّم، يدرك أن الثورة عملت، في عشر سنوات، على كسر “نظام الوعي” الذي أنجزته الدكتاتورية في خمسين عاماً، فمفرداتٌ مثل حقوق الإنسان والانتخابات والديمقراطية والعلمانية والعدالة والمواطنة والإسلام السياسي أصبحت أموراً بديهية وطبيعية في حياة السوريين ووعيهم اليومي، وحتى ممارساتهم (على الرغم من اختلافهم الشديد بشأن كل واحدةٍ من هذه المفردات، وهذا طبيعي وصحي وديمقراطي، ويشير إلى عودة حيوية السياسة إلى المجتمع السوري، على خلاف ما يظن كثيرون)، ما يعني أن السوريين (أو على الأقل كتلة كبيرة منهم) أصبحوا اليوم يمتلكون وعياً مغايراً لما كانوا عليه في السابق، فهم اليوم جزءٌ من روح العصر الحديث، بعد أن كانوا جزءاً من عالم قديم، ما كان لهم أن يغادروه لولا الثورة السورية.

والحق، وهذا مما حقّقته الثورة السورية أيضاً، أن هذا الوعي الحديث ما كان ليتشكّل من دون هدم (وتعرية) أفكار وقوى وإيديولوجيات كثيرة زائفة حكمت الوعي القديم وشكلت عالمه، منها في عجالة: علمانية النظام السوري ووطنيته وممانعته، إمكانية إصلاح النظام من الداخل، محور المقاومة وقداسة سلاحها، كيفية النظر إلى الجمهورية الإيرانية وروسيا والصين وتركيا…، الإسلام السياسي، اليسار… هذه النظم والإيديولوجيات كانت في المخيال السوري العام تمتلك قدراً كبيراً من الإيجاب، لعوامل كثيرة، لا تتعلق بمجال الوعي الذي فرضه النظام السوري وحده، بل أيضاً بسبب تركة مرحلة التحرّر العربي والحرب الباردة على المنطقة والعالم (وسورية جزء منه)، وبسبب من سيادة الشرعية الثورية عقوداً طويلة (لم تزل مستمرة في بعض البلدان) على حساب الشرعية الدستورية التي يجرى العودة إليها اليوم، من خلال العودة إلى روح العصر.

هنا، يمكن القول إن الثورة السورية نجحت نجاحاً كبيراً في تعرية كل الوعي الزائف الذي كان يحكم هذه الإيديولوجيات، وهذا أمرٌ ليس قليلاً أبداً لمن يعرف كيف تشكلت هذه الرؤى والإيديولوجيات، وكم جرى العمل على تعميمها وترويجها وإقناع الناس بها. فإذا أخذنا مثالاً واحداً، هو حزب الله اللبناني، الذي كان يُنظر إليه باعتباره رافعة للمقاومة في المنطقة، وكم دفعت إيران، منذ ثمانينيات القرن الماضي، لبناء هذا “الوهم” وتحويله إلى “مقدّس” في عقول الجماهير ووعيها بحجة المقاومة، حينها نعرف حجم الإنجاز الذي حققته الثورة السورية، حين عرّت كل هذا النفاق، بكل ما يصاحبه من تفكيك إيديولوجية المقاومة الكاذبة والطائفية الكامنة فيه. لقد أجبر هذا الإنجاز حزب الله على الانتقال من موقع الهجوم وموزّع شهادات الوطنية والمقاومة (وهي صفات حازها سابقاً عن طريق القوة الناعمة التي بنتها إيران) إلى موقع الدفاع، بعد أن أصبح، في نظر الجميع، مجرّد مليشيا طائفية وتابعة، وستضطر هذه المليشيا لاستخدام السلاح حتى في الداخل اللبناني بعد اليوم، للحفاظ على مكاسبها، وذلك بعد أن كانت تلقى قبولاً من قطاع كبير، وهذا ما لم يعد ممكناً اليوم، ما يعني أن حزب الله، كما النظام السوري وداعميه، قد دخلوا نفق النهاية، فهم لم يعد لديهم سوى القوة العارية للبقاء. ومعروفٌ أن القوة وحدها لا تبني أية شرعية مهما بلغ حجمها وقوتها وعسفها، بل تعمل على هتك هذه الشرعية. ولكن هنا، ثمّة نقطة مهمة، أن هذه القوى ستبقى قائمة في الواقع كقوى هدم ومعاندة، إلى أن تتمكّن القوى الجديدة من تشكيل أحزابها أو قواها والإمساك بشارعها. وهنا يكون ميدان الفعل الذي ما زال مفتوحاً، وبقوة الثورات وإنجازاتها أيضاً، ومنها الثورة السورية. ما نعنيه، في نهاية المطاف، أن إنجازات الثورة السورية ونجاحاتها كثيرة ومتعدّدة ومفتوحة على احتمالات كثيرة، طالما أن لا اعتراف عالمياً أو دولياً بعد بشرعية نظام الدكتاتور، وحتى لو جرت إعادة تركيب شرعيةٍ ما وفق توازنات دولية ما، فإنه سيبقى نظاماً معزولاً ومداناً دولياً، مثل نظامي صدّام حسين وعمر البشير في أواخر حياتيهما، بما يعني أن مسألة سقوط النظام ورحيل الأسد مسألة وقت لا أكثر، إذا نظرنا إلى التاريخ والثورات من منظار المدة الطويلة. ولكن هنا، يكون ثمّة سؤال: إذا كانت الثورة السورية قد حققت كل هذه الإنجازات، فلماذا يبدو خطاب الهزيمة هو السائد اليوم؟

خطاب الهزيمة السائد اليوم هو هزيمة خطاب واحد من خطابات الثورة، وهو الخطاب الذي كان له الصوت العالي خلال السنوات العشر الماضية، الخطاب الذي ربط نجاح الثورة بأمرين: رحيل الدكتاتور وتحديد مدّة محدّدة لرحيله، فإن لم يرحل خلالها فهل يعني هذا الهزيمة؟ نعم، إن كان ثمّة هزيمة ما، فهي هزيمة هذا الخطاب وليس الثورة (وهو خطابٌ شرعيٌّ وأصيل من الثورة، لكنه ليس كل الثورة)، وهذا الخطاب تكوّن بفعل ثلاثة مسبّبات: أولها التوحّش الإجرامي الذي قابل به نظام الدكتاتور الثورة وكوادرها، بحيث جاء خطابها هذا ردّاً على عنفه الوحشي وانتقاماً منه. والثاني، ارتدادات الربيع في سورية من خلال رحيل زين العابدين بن علي وحسني مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح. والثالث من خلال المال السياسي والضخّ الإعلامي والمناخ الذي أنتجه الفاعلون الإقليميون والدوليون في سورية، كل منهم لمصلحته الخاصة التي ما كانت لها لتتحقق لولا سيادة هذا الخطاب الذي عمل على إشاعة أوهام كثيرة تحت نياته النبيلة.

والحق أن هذه الخطاب ما كان قابلاً للنجاح، ولا بأي شكل، لأن موازين القوى الدولية والإقليمية وطبيعة المجتمع السوري وتركيبة النظام أيضاً كلها عوامل كانت تقول بعدم إمكانية تحقّقه، ما يعني أنه لم تكن هناك أية حوامل سياسية واجتماعية أو دولية أو إقليمية له، وهذا الذي فشل، بل أكثر من ذلك، إن هذا الخيار فشل عملياً منذ الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2014، حين وقف المجتمع الدولي متفرّجاً أمام إعادة انتخاب الدكتاتور لولاية جديدة، في حين واصل أصحاب هذا الخطاب ترداد النخبة نفسها، والسير على الطريق نفسه، حتى وصلوا إلى نهايته المسدودة اليوم. في حين أن الثورة، على الرغم من هزائمها الكثيرة والأثمان الباهظة التي دفعت، حققت الكثير الذي ما كان ليكون من دون هذه الأثمان، وهي ثورة مفاعيلها مستمرة، أي إن ما هزم هو الخطاب السائد عن الثورة الذي أفسح المجال اليوم لخطابٍ آخر عن الثورة كان محتجباً تحت صخب الخطاب الأول، الخطاب الذي يراهن على الفعل اليومي، ويعمل على إسقاط النظام والدكتاتورية على مدى طويل الأمد، طويل الأمد جدا. وهذا الطريق هو الذي سيبقى يسير عليه القابضون على نار التغيير وحتميته، وهو مرهونٌ بالإيمان بإمكانية الفعل والبدء من جديد، بعد تبدّد كل الأوهام. ولكن كيف نبدأ ونعمل ونستغل المساحات الممكنة لترحيل الدكتاتورية، هذا سؤال آخر، ويحتاج قراءة أخرى ليست في متناول هذه السطور. ولكن من المهم أن نعرف أن التاريخ لم يُغلق ولن يُغلق، سواء عبر المدة القصيرة للتاريخ أو عبر المدة الطويلة له، فالدكتاتورية فقدت كل مسوّغات وجودها، وأصبحت عاريةً. ويتوقف أمر ترحيل هذه الجيفة على جهودنا نحن، لا على جهود المجتمع الدولي. والأمر الأهم أن هذه الجيفة ستبقى برائحتها العفنة تلوّث أيامنا حتى نشكل القوة القادرة على فعل ما يجب أن نفعله نحن، لا أحد غيرنا.

سبق للثورة السورية الكبرى ضد المحتل الفرنسي أن هزمت، إلا أنها فتحت أفقاً للمسار السياسي الذي عبّده نضال الكتلة الوطنية، وصولاً إلى الاستقلال الذي جاء بعد عشرين عاماً (تقريباً) من الهزيمة العسكرية للثورة تلك. ولكن هذا الإنجاز (الاستقلال) ما كان ليكون لولا الثورة أولاً، ولولا قدرة السوريين آنذاك (الكتلة الوطنية) على متابعة النضال سياسيا (ومن الداخل لا المنافي) لترحيل الانتداب الفرنسي، بما يشير إلى الإمكانات التي تبقى قائمةً، مهما كان حجم الخسائر. في الأمس، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، أنّ الرئيس الروسي، بوتين، قاتل، وأنه سيدفع الثمن، وكون أن بوتين هو الداعم الأساسي لنظام الأسد، ومعه إيران المحاصرة أميركياً أيضاً، فهذا يعني أن تصريح بايدن ستكون له ارتدادات ما في سورية، قد تكون هذه الارتدادات صغيرة أو كبيرة، ولكن قبل هذه الارتدادات، يبقى السؤال: ماذا بنينا طوال السنوات العشر لنجعل هذه الارتدادات تصبّ في صالحنا، وتساهم في فتح مسار ما، نعمل عليه خطوة خطوة، لنصل إلى تحقيق أهدافنا، في ترحيل الدكتاتور ونظامه؟

العربي الجديد

—————————-

شعاراتنا التي تخبرنا عن أنفسنا/ حازم نهار

تعدّ الشعارات عناصر أساسية في الحياة السياسية، خصوصًا في زمن الثورات والتحولات الاجتماعية الكبرى، حيث تُصاغ بهدف التعبير عن الواقع والتوجهات والآمال، فضلًا عن كونها إحدى أدوات التحشيد في الحملات الانتخابية في البلدان الديمقراطية، وكثيرًا ما أدّت الشعارات السياسية دور المُلهم للتغيير السياسي. وهناك شعارات سياسية عرفها العالم، وأثرت كثيرًا في حياة البشر والشعوب، منها مثلًا شعار الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي “المساواة، الحرية، الإخاء” الذي استُلهم من أفكار جان جاك روسو وفولتير وغيرهم، وشعار “كل السلطة للسوفييت: الخبز والسلام والأرض” الذي أطلقه لينين في عام 1917، وشعار “بلد يليق بحياة الأبطال” الذي أطلقه ديفيد لويد جورج في عام 1918، وشعار “نعم نستطيع” الذي رفعه باراك أوباما، المرشح الرئاسي الأميركي، في 2008.

مع القفزة الكبيرة في دور وسائل التواصل الاجتماعي في حياة المجتمعات، لعبت الشعارات التي بثّها الناشطون على فيس بوك وتويتر وغيرها، دورًا كبيرًا في التعبير عن الرؤية والأهداف، وفي التحريض والتحشيد، وفي خلق وبناء الوعي العام، ما سمح بخروج عملية تصنيع الشعارات من دائرة احتكار السياسيين، ولم يعد هناك جهة واحدة تحتكر لنفسها حق التمثيل داخل المجال العام. كذلك أُنجزت معظم الأعمال التنظيميّة في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن قدمت هذه الوسائل فضاءً تواصليًّا واسعًا أتاح الوصول إلى شرائح وقطاعات واسعة من البشر.

على الرغم من إيجابيات هذا الفعل إلا أننا ندرك أيضًا جوانبه السلبية: استسهال إطلاق الشعارات، تعدّد الشعارات في لحظة تتطلب التركيز على شعارات توحيدية، فوضى إعلامية، دخول الأيديولوجيات المتصارعة على خط الشعارات، دخول الأنماط الثقافية التقليدية الغرائزية على خط صناعة الشعارات وترويجها؛ العرقية والدينية والطائفية. فقد شعر الشباب في البدايات بنشوة في مواجهة الكبار، وأعطتهم شعاراتهم شيئًا من الثقة بقدرتهم على القفز وإدارة الظهر للفكر والسياسة، لكنها كانت نشوة مؤقتة وعابرة، ليعودوا إلى الارتطام بالواقع بحكم تعدّد مستخدمي وسائل التواصل وتنوع الخطابات، وليكتشفوا أهمية إعادة بناء وعيهم من جديد، وأن فضيلتهم على الكبار لا تزيد على وجود وسائل التواصل الاجتماعي في عهدهم، وهو وجود لا فضل لهم فيه. أما القوى التقليدية التي ظهرت ضعيفة في أوائل الربيع العربي، فقد عادت واستوعبت صدمة التكنولوجيا، وعملت على إعادة إنتاج نفسها، لكن وفق النمط والخطاب القديمين، فاستحضرت شعاراتها الماضية وأعادت إطلاقها، ووجدت لها حصة كبيرة في الفضاء الاجتماعي العام، وكانت من حيث خلفياتها الثقافية تتحرك على الأرضية الثقافية نفسها التي تنطلق منها الأنظمة الاستبدادية.

خلال السنوات العشر الماضية، تغيّرت الشعارات مع تغيرات الواقع، لكن بعضها ظل محافظًا على وجوده، لأن وعي أصحابها قد تخثر في لحظة معينة أو لأن عقلها لا يستطيع أن ينتج إلا شعارات من نوع واحد. أما الشعارات الأيديولوجية في زمن الثورات الشعبية؛ الإسلامية والقومية والطائفية والعلمانية، فقد كانت شعارات مدمرة، غير وطنية في العمق، ولم تخلق إلا الكراهية والتباعد، وأثارت الرعب تجاه المستقبل، فضلًا عن أن كثرة الأعلام والشعارات في زمن الثورات تسبِّب النفور، ولا تجذب أحدًا، ولا تخلق الطمأنينة في الأنفس، بل تثير الرعب تجاه ما هو آتٍ.

هناك أهمية كبيرة في حياتنا للكلمات والمفاهيم والشعارات، كونها تساهم فعلًا في صناعة الواقع والوعي العام، تمامًا مثلما يساهم الواقع نفسه في تكوين وعينا. فالشعار يُصوِّر الفكرة التي يُراد إيصالها بأقصى درجة من الفاعلية والوضوح والتكثيف، ويؤدي دور الدليل والمحرّض، في لحظة زمنية معينة، ومن هنا يكون للشعار بيئته الخاصة التي يكون فيها فاعلًا.

لعل أهم سمة مطلوبة في الشعارات، في زمن الثورات والتحولات، هي العمومية، أي الوطنية؛ الشعارات التي تعبر عن، وتلامس وجدان، أوسع شريحة ممكنة من الشعب. لذا من المهم دائمًا البحث عن شعارات جامعة على الرغم من اختلاف مواقفنا السياسية وانتماءاتنا في لحظة معينة. وفي الحقيقة، في بدايات الثورة السورية أنتج الشباب شعارات مهمة، وقدمت مدينة كفرنبل مثلًا، وغيرها من المدن السورية، حالة متقدمة من الشعارات والتعابير السياسية الذكية والمتسقة مع روح ثورة وطنية لجميع السوريين.

لقد اختلفت البنية السياسية واللغوية للشعارات السياسية في الثورة السورية طوال عقد من الزمن؛ بدأت بشعارات تنادي بالوطنية والحرية والكرامة لكل السوريين، ثم تحولت إلى شعارات تعبّر عن توجهات ومصالح أيديولوجية مختلفة؛ قومية ودينية وطائفية، وارتبطت بمحاور إقليمية ودولية متصارعة. في السنة الأولى للثورة السورية، تفوقت الثورة على النظام السوري في توجهاتها وشعاراتها المرفوعة، ففي مواجهة الشعار العدمي “الأسد أو نحرق البلد” قدمت الثورة شعارات وطنية وتقدمية، لكن في ما بعد جرّها النظام من جهة، وبعض “النخب الثورية والسياسية” من جهة أخرى إلى العودة إلى أرضية النظام ذاتها، لتُنتج شعارات عدمية هي الأخرى أيضًا، تتحرك في فلك الفضاء الثقافي للاستبداد نفسه.

من المهم أن تخرج الثورات من إطار تصنيم شعاراتها، وأن تأخذ في الحسبان تغيرات الواقع ووجدان أكثرية البشر مع تغير الزمن. لا أدري إلى أي حدٍّ مثلًا يمكن أن يكون شعار “الثورة مستمرة” متطابقًا اليوم مع الحالة الروحية والوجدانية لأكثرية السوريين، خصوصًا بعد تشظي منابر الثورة وتعقّد الواقع المحيط بها، وهو شعار يُخفي كثيرًا من الخوف وعدم الثقة أكثر كثيرًا مما يوحي بالإصرار. لا يمكن أن تستمر الثورة بالشعارات نفسها، لكن يمكن أن تستمر بطرق وشعارات أخرى، وبتجديد خطابها ونقد نفسها.

من المؤكد أن شعار “يلعن روحك أنيسة”، وشعارات أخرى على شاكلته، لا يجمع ولا يوحِّد، ولا يصلح أن يكون شعارًا سياسيًا مستقبليًا، وهو يستند إلى الأرضية الثقافية ذاتها للنظام، وإلى الثقافة التقليدية الموروثة التي تعتبر شتم الأرواح أعلى شتيمة. لا شك في أن الشتائم جزء من الحياة السياسية، لكن الحياة السياسية يفترض ألا تبنى كلها على الشتائم. لا نريد إنكار أهمية “قلة الأدب” في التعبير عن حالة سياسية، لكن يفترض ألا نبقى في ساحة “قلة الأدب”. بعد عشر سنوات ما زلنا متوقفين عند هذا النمط من الشعارات والتعابير التي لا تقدِّم شيئًا ولا تفيد في شيء، ما يجعلنا نقول بصراحة إن الوعي الجمعي لنا عمومًا هو ما دون السياسة، وهو متوقف في حيز الشتائم أو في استلهام دور “الزغرتية” و”الأبضايات” وزعماء الحارات، والأنكى أن “قيادات ثورية وسياسية” اندمجت في هذا النوع من الخطاب، وغرقت فيه.

كانت أسماء الفصائل العسكرية، بطريقة أو أخرى، شعارات أيديولوجية، يستحيل أن تكون شعارات ملائمة لأكثرية السوريين، وكانت الشعارات هذه كمن يعمل ضدّ نفسه أو كمن يقول للداخل والخارج “لست معنيًا بكم”، “لا أنا منكم ولا أنتم مني”، “خافوا مني ولا تأمنوا جانبي”، “غدًا سأبني دولة تعبِّر عني فحسب”. أليست هذه هي المعاني الضمنية لشعارات الفصائل. كان مهمًا أن تعلن الثورة بوضوح عدم مسؤوليتها عن الشعارات هذه، بل وأن تقف ضدها.

تغلب أيضًا لدينا الشعارات التي تمجِّد الموت على حساب تلك التي تدعو إلى الحياة، وتحضر بكثافة المفاهيم والشعارات التي تُضفي علينا مسحة ثابتة من الكآبة وكراهية الآخر، وقد كان لعنف النظام الذي خرج عن كل تصور دورٌ رئيس في هذا، لكن في المقابل لا يمكن استبعاد الدور الذي تؤديه ثقافتنا التقليدية على هذا الصعيد، وإلا كيف نفسِّر سهولة استحضار تعابير “الدعس” و”الفطس”. على الرغم من تفهمنا لشعار “الموت ولا المذلة”، إلا أنه يبقى شكلًا من أشكال الدفاع السلبي ضدّ الذل. بينما تتجلى المقاومة الإيجابية ضدّ الذل في الإصرار على الحياة بكرامة. ينبغي للموت في سبيل قضية ما أن يكون فعلًا آخر الخيارات، وأن يكون خيار الحياة بكرامة أولها.

نحن اليوم من دون برنامج للحياة، لا الثورة السورية تمتلك برنامجًا سياسيًا اقتصاديًا، ولا النظام السوري بالطبع. أصلًا لو كان هذا الأخير يملك برنامجًا غير شعاراته العدمية المعروفة لما وصلنا إلى الحال هذه من التشظي وفقدان الأمل. يستهزئ بعضنا بالشعارات التي تعبر عن لقمة العيش اليوم، ويراها أقل من المطلوب. في المآل كل الشعارات سياسية، حتى الشعارات التي لها علاقة بالترويج لمنتج شركة ما هي شعارات سياسية تعبِّر عن الميل العام أو تحاول تصنيع ميل عام.

نحتاج اليوم إلى سياسة وطنية سورية، راقية، رزينة، صبورة، مفكِّرة، تعرف كيف تبني تكتيكات صائبة تنسجم مع استراتيجيات وطنية عامة. نحتاج فعلًا إلى إبداع على مستوى إنتاج الشعارات، شعارات تعبر عن آمالنا الإنسانية والوطنية، وعن إصرارنا على الحياة بحرية وكرامة.

المدن

——————————-

ماذا حصل منذ عشر سنوات في سوريا؟/ ناهد بدر

تعدديّة الأجوبة وفرجة المُمكن

سأستعير عنوان كتاب الباحث المغربي، الدكتور سعيد بنكراد، “بين اللفظ والصورة تعددية الأجوبة وفرجة الممكن”(1)، وأعتمد منهجه، في محاولة الإجابة عن السؤال الأساس: ماذا حصل في سوريا منذ عشر سنواتٍ؟ يُجمِع السوريون بكافة مواقعهم وأنواعهم على إجاباتٍ محددةٍ، أولها أن ما حصل هو زلزالٌ سوريٌّ ومنعطفٌ تاريخيٌّ غيَّر مصائر ملايين السوريين وعشرات المدن. والإجماع الثاني هو أن ما حصل كان عبارةً عن صراعٍ كبيرٍ بين طرفين، بين النظام وطرفٍ أخر. من هو هذا الطرف الآخر؟ هنا تتعدد الأجوبة.

إذن، يُجمع السوريون أيضًا على أنّ النظام طرفٌ مؤكدٌ في الصراع. كما يجمعون على أنّ وجوده كان مستهدفًا من قبل الطرف الآخر.

تتعدد الأجوبة إذن فقط حول ماهية الطرف الآخر من الصراع: من هو؟ وماذا يريد؟ ولماذا يستهدف وجود النظام؟ وهل استهدف وجوده منذ البداية؟

سندرس هنا الأجوبة التي تصف أو تصنِّف السوريين الموجودين في الطرف الآخر من النظام. وسنقوم بعزل الكثير من العوامل، سواءٌ التي فعلت فعلها منذ اللحظة الأولى، أم تلك التي ظهرت فيما بعد، والتي ساهمت في تعقيد المسألة السورية وتعقيد الأجوبة، والتي تتمثل في التدخلات الإقليمية والدولية، ودخول المنظمات الإسلامية المتطرفة إلى سوريا. إذن، الجواب الذي نبحث عنه هو: من هو الطرف الآخر في هذا الصراع؟ من هم السوريون الذين كانوا بمواجهة النظام؟

سوف تشكك راهنية الحدث بموضوعية أي سردية أو دراسة تتناول ما حصل منذ عشر سنواتٍ، فالجراح مازلت تنزف، والألم الكبير يمكنه أن يحجب أي رؤيةٍ موضوعيةٍ من قبل أي طرف. لكن إذا كان ذلك سابقٌ لأوانه، ماذا نفعل؟ وكيف يمكننا أن نقارب ما حصل في الذكرى العاشرة للحدث؟ المشكلة أننا نحتاج ذلك فعلًا، فنحن لسنا مجرد باحثين أكاديميين ندرس بكل برودٍ حدثًا في التاريخ. نحن شعبٌ يتألم، وهناك وطنٌ جميلٌ اسمه سوريا علينا استعادته وإعادة إعماره. ولا نستطيع انتظار الزمن وحده، كي يفعل فعله، ويساعدنا في إجلاء الرؤية. لذلك، ليس علينا سوى البحث الدائم، لمقاربة ما حصل، قدر الإمكان، للتوصل الى رؤيةٍ يمكن أن تساعدنا على التقييم الموضوعي، وهذا ضروريٌّ لعودة تشكُّلنا كشعبٍ سوريٍّ، كما يمكنها أن تكون أساسًا لبناء سلامٍ سوريٍّ داخليٍّ مستدامٍ. والاستدامة لا يمكنها أن تتعزز إلا بعملية التصحيح المتكررة التي سوف يقوم بها هذا الشعب كلما فعل الزمان فعله. ولكن هذه العملية التي سوف تكون طويلةً لا يمكن أن تتحقّق بدون تحقّق حرية التعبير كحد أدنى.

تُوفِّر حرية التعبير إمكانية إطلاق السرديات الحرة بكامل أركانها، لأن هناك عاملًا آخر غير الزمن القصير يعيق هذه الإمكانية. ولنسأل أنفسنا مثلًا: هل حان الوقت لتحليل السرديات المختلفة عن مجزرة حماة، رغم مرور أربعين سنةٍ عليها؟ لا أعتقد ذلك، لأن استمرار معادلات القوة والسلطة والهيمنة ذاتها التي كانت في وقت الحدث حتى الآن، يجعلها عصيةً على السرد، عصيةً على المعرفة. وأكثر من ذلك، أزعم أنه لم يحن الوقت لمعرفة ماذا حصل في سوريا منذ عام 1963 وحتى الآن. فما بالكم بما حصل منذ عشر سنوات؟ ولكن لابد من المحاولة.

من هم السوريون على الطرف الآخر من الصراع؟ في تعددية الأجوبة

الجواب الأول: ما حصل هو ثورة شعبٍ سوريٍّ في وجه نظام الاستبداد والقمع والنهب، شعبٌ يريد حريته. والفاعل الأساسي في هذه الثورة هم الشباب الذين أرادوا فتح أفق مستقبلهم الذي كان مغلقًا. وهو جواب كل المنخرطين في الثورة من كافة المشارب الأيديولوجية والمناطقية والطائفية.

الجواب الثاني: ما حصل هو مؤامرةٌ، والطرف الثاني كان عملاء مندسين ينفذون مؤامرةً خارجيةً على سوريا. وهو أول جواب قدمه النظام السوري الذي يعتبر أنه لا يمكن وجود سوريا بدونه، فهي سوريا الأسد منذ خمسين عامًا. لذلك سرعان ما أطلقها في وجه المتظاهرين.

تنوّعت أهداف هذه المؤامرة عند الأطراف الأخرى، التي تبنت هذا الجواب، إذ تراوحت بين الأسباب الاقتصادية، في بعض التحليلات اليسارية، كالاستيلاء على الثروات السورية، وخاصة المكتشفة حديثًا كالغاز، مثلًا والتي بدأت تتصارع عليها الدول. وبين الأسباب الجيوسياسية، وأهمية موقع سوريا كبوابةٍ للمنطقة العربية على الاتحاد الأوروبي. ومؤامرةٌ إسرائيلية لإسقاط النظام الممانع، كما رأينا في بعض التحليلات الفلسطينية والعربية واليسارية الأوروبية. وكذلك كان هذا الجواب هو الخطاب الذي لطالما كرّره حزب الله فوق رؤوسنا.

الجواب الثالث: الطائفة السنية تريد إسقاط النظام العلوي، وتريد إقامة دولةٍ دينيةٍ سنيةٍ بدلًا عنه. هذا الجواب لم يكن موجودًا بقوةٍ عند النظام منذ أول لحظةٍ فحسب، بل أيضا عند أنواعٍ متعددةٍ من الثوار والمعارضة للنظام فيما بعد العام الأول من الثورة. ولسوف يكون لعملية الدمج بين الجوابين الثاني والثالث من قبل النظام قوة تأثيرٍ رهيبةٍ؛ لأن بنية المؤامرة تحتاج إلى أدواتٍ محليةٍ، وبهذا الدمج، يكون قد حدّد هوية هؤلاء العملاء الداخليين؛ آملا بذلك كسب التعاطف أو على الأقل الحياد من كل الأطراف التي لا تريد إقامة دولةً إسلاميةً في سوريا، ابتداءً من الأطراف السورية المتنوعة ذاتها التي شاركت في الثورة، من يسار وليبراليين وأديان وطوائف، وانتهاءً بالعالم الخارجي والشعبوية السائدة فيه نتيجة الخوف، بسبب  العملياتٍ الإرهابية التي قام بها متشددين إسلاميين باسم الاسلام. النظام يدرك تمامًا أنه لا يمكنه أن يكسب تعاطف أحدٍ على الإطلاق ولا حتى الطائفة التي ينحدر منها، من خارج أجهزته القمعية، إذا كان يقمع ثورة حريةٍ شعبيةٍ.

المشكلة أن جواب النظام هذا الذي أطلقه منذ اللحظة الأولى لشق صف الشباب الثائر، تبنته الفصائل العسكرية التي قاتلت ضد النظام فيما بعد، نتيجة انزياح طبيعة الفاعلين على الأرض عن طبيعة الفاعلين الأوائل.

يمكننا أن نضيف هنا فئةً أخرى تبنت هذا الجواب، وهم ما سمّي “الرماديين”. واللون الرمادي ليس سبةً كما اعتبره البعض، بل هو توصيف للموقف من قبل أصحابه أنفسهم، “أنا لست مع النظام، ولكنني لست مع المعارضة”. والأجوبة الرمادية تظهر عادةً عندما يمتنع صاحبها عن التصريح بحقيقة موقفه. وهؤلاء الرماديون لا يجمعهم شيء، فهم عابرون للطوائف والطبقات والمناطق. إنه جواب كل شخصٍ لا يستطيع الدفاع عن النظام، ويخجل من إعلان دعمه له، ولكنه يخاف من تغييره، لأن له مصلحةً ما في استمراره.

الأجوبة كما جاءت عبر الشعارات والصور

الرموز والشعارات من أقوى أدوات السياسة، لذلك ربما يمكننا أن نطلَّ معًا على الحدث عبر بوابتها. سنستمع الى ما قاله عبرها الطرفان مباشرةً أثناء الصراع، علَّنا نصل إلى مقاربةٍ موضوعيةٍ لما يريده كلّ طرفٍ.

يقول سعيد بنكراد، في الفصل السادس من كتابه “إن الشعار السياسي ليس اختراعًا اصطناعيًّا من صنع وكالةٍ إشهاريةٍ أو حزبٍ. إنه يعبِّر أو يلخص رأي مجموعةٍ بشريةٍ. إنه يتميز بحريةٍ كبيرةٍ في الاشتغال، بمعنى أن المرسل إليه يشعر تجاهه وكأنه هو مرسله، وأنه يعبر عن نفسه من خلال هذا الشعار”. وهذا ما رأيناه في الانتشار السريع للشعارات ذاتها في المحافظات السورية كلها. كما رأيناه من قبل عندما اجتازت الحدود شعارات الربيع العربي. اعتبر بنكراد الشعار أداةً مركزيةً كونيةً يمكن أن تصاغ عبرها ووفقها كل الحاجات البشرية في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا والدين. ولكن السبب الرئيس الذي يكمن وراء استخدام الشعار السياسي من قبل الفاعلين السياسيين، هو أن الناس في تصورهم ميالون في العادة الى “الفكر الجاهز” والأحكام القطعية والمسبقة التي يركنون إليها كي تعبِّر عن حاجاتهم الراهنة فورًا وبعيدًا عن قلق الشك والبحث عن الحقائق.

أول شعارٍ أُطلِق في سوريا، في تلك الفترة، كان في مظاهرة الحريقة 17 شباط 2011: “حرامية، حرامية” ثم تبعه مباشرةً شعار “الشعب السوري ما بينذل”. لم تطلق في هذا اليوم شعاراتٌ من قبل النظام، لأنها جاءت مباغتةً، ليس له فحسب، وإنما باغتت الفاعلين فيها أيضًا. كانت عبارةً عن رد فعلٍ مباشرٍ على فعل النهب والإذلال الذي صار فاقعًا في تلك الأيام. فظهر ما في قلوبهم مباشرةً في هذين الشعارين دون تخطيطٍ مسبقٍ. أما من جهة النظام فقد تم التعبير عن رد فعله عبر جملةٍ واحدةٍ فقط، أطلقها وزير الداخلية آنذاك “هذا اسمه مظاهرة!! عيب”.  كان صادقًا وعفويًّا، وعبَّر مباشرةً عن البنية التي عينته وزير داخليةٍ. إن أي مظهرٍ معارضٍ أو احتجاجيٍّ هو عيبٌ. ولو كان من أتى الى الساحة فاعلًا حقيقيًّا في السلطة، رئيس فرع مخابرات مثلًا، لقال فورًا إنها جريمةٌ، وليست عيبًا فحسب.

لم يدرك وزير الداخلية مطلقًا حجم الفضيحة التي ظهرت في جملته العفوية تلك، والتي تم تداولها على نحوٍ كبيرٍ فيما بعد، على سبيل السخرية. كان يعبِّر عن فعل التدجين الذي صار متجذرًا في المخيلة السورية، والذي يعتبر أن أي احتجاجٍ على النظام هو خروجٌ عن الأخلاق ويدخل في ساحة العيب. بينما لخص الهتاف العفوي، “حرامية، حرامية”، الاحتقان الكبير الذي عاشه القطاع الاقتصادي نتيجة الاحتكار الشديد للفعاليات الاقتصادية من قبل العائلة المالكة التي بدأت تُخصخص القطاع العام من خلال “عملية الرمرمة”، وهذا هو اللقب الساخر الذي أطلقه السوريون على احتكار رامي مخلوف والعائلة المالكة للفعاليات الاقتصادية. هذا الاحتقان ظهر في منطقة الحريقة التي تعتبر كما هو معروف، الساحة الخلفية للقطاع الاقتصادي الخاص في دمشق (تجارة وحرف ومشاغل وأماكن تسويق الإنتاج الصناعي) والفاعلون في هذا الحدث كانوا واضحين جدًّا وهم الفئة التي تعمل فيها.

الشعار الثاني الذي أُطلِق في تلك الفترة كان في سوق الحميدية – الحريقة 15 أذار: “الله، سوريا، حرية وبس”. يمكن أن نتلمس عامل التدين الإسلامي في هذا الشعار الذي جمع الدين والوطن والحرية فيه، وكان جواب النظام الفوري عليه: “الله سوريا بشار وبس”؛ بما معناه أنه يمكن أن نتفاوض حول الدين ولكن لا تحلموا بالحرية، ووُضع اسم بشار محل كلمة الحرية.

الشعار الثالث كان: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد”. لا يمكن أن يُفهم الشعار خارج سياقه، كما يقول بنكراد. لأن الغاية الحقيقية للشعار “لا تكمن في معناه الحرفي، بل في قدرته المتكررة على التحريض داخل سياق اجتماعي محدد”. هل كان المتظاهرون يريدون توصيف الشعب السوري بأنه واحدٌ؟ وإذا كان الامر كذلك، فلماذا تعرَّض حامله للقمع الشديد الى حدّ القتل؟ هذا الشعار كان يحمل حلم الشعب السوري الواحد، ويطالب بعدم التمييز بين المواطنين، مؤكدًا، في الوقت ذاته، بأنه لا يطمح الى طائفيةٍ مقلوبةٍ.

الشعار الرابع تم رفعه في 16 آذار في ساحة الداخلية، عندما بدأ قمع المعتصمين فيها، وكان قد أطلق في الأيام التي سبقتها أمام السفارة الليبية: “خاين يللي بيقتل شعبه”. لكن النظام أطلق شعارًا واحدًا وهو: “الله، سوريا، بشار وبس”، بعد أن جرى تعميمه مسبقًا على عناصر الأمن. لذلك جاء مضحكًا وناتئًا ولا يخاطب الموجودين بالاعتصام؛ إذ لم يكن هناك من يهتف “الله، سوريا، حرية وبس”. كانت هوية الفاعلين في اعتصام الداخلية علنيةً وواضحةً، منذ اللحظة الأولى، وتهمة الاندساس غير ناجحةٍ معهم.  فقد أعلن القائمون على الاعتصام عن أنفسهم في البيان الذي وقعه أكثر من 300 مثقفٍ قبل الاعتصام بأسبوعٍ، وأعلنوا من خلاله دعمهم لمعتقلي ربيع دمشق الذين بدأوا إضرابهم عن الطعام مطالبين بالإفراج عنهم. فقد ضاق السجن عليهم إلى حدّ الاختناق، بعد أن شهدوا نجاح الشعب التونسي والمصري في إسقاط أنظمتهم الديكتاتورية، وهم الذين كانوا يدفعون ثمن مطالبتهم بالديمقراطية في سوريا في السجن، ولم يكونوا أصلًا يطالبون بإسقاط النظام.

تكرّرت الشعارات ذاتها في 18 آذار في درعا، ثم حصل انفجارٌ بالشعارات هناك، ثم امتد فيما بعد إلى كل أنحاء سوريا. وتحول شعار “الشعب السوري ما بينذل” الى “الموت ولا المذلة”، بعد سقوط أول شهيد من بين المتظاهرين السلميين. وهو شعارٌ شعبيٌّ قديمٌ. لكن الشعار يمكن أن يكون “ممتدًّا في الزمان، حتى وإن لم يكن دائم الفعالية، إنه متواتر بطبيعته. فكلما وجدت مجموعة بشرية ما نفسها أمام نفس التهديد، فإنه يظهر من جديد كالصيغة السحرية ليستأصل القلق ويستجمع الطاقات”، كما يقول بنكراد. وعندما لم يترك النظام خيارًا للتفاوض وبدأ بالعنف العاري، بدأ انتشار شعار الربيع العربي “الشعب يريد إسقاط النظام”.

نلاحظ أثناء رصدنا لشعارات النظام بأنه لم يكذب في معركته مطلقًا، وكان منسجمًا مع ذاته على طول الخط، منذ أول خطابٍ له في آذار، عندما أعلن الحرب على شعبه. وكانت شعاراته تعبِّر تمامًا عن حقيقته، “الأسد أو نحرق البلد”، لا بل صار عناصره يردّدون بكل صراحةٍ ووقاحةٍ شعارهم “شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد” في مواجهة شعار المتظاهرين “حرية للأبد غصب العنك يا أسد”.

أما بالنسبة للصور المرفوعة فقد كانت أهم ملاحظةٍ يجمع عليها السوريون هي أن النظام رفع صورةً واحدةً فقط، وهي صورة بشار الأسد في وجه المتظاهرين. بالمقابل لم يرفع المتظاهرون صورًا لرموزٍ تخصهم على الإطلاق. ولكن بعد سقوط قتلى في صفوفهم، حضرت الصور بكثافةٍ، ولكنها كانت صور الشهداء المتعددة، في مقابل الصورة الواحدة التي كانت ترعى عملية قتلهم.

فرجة الممكن في تقاطعات الأجوبة 

المشتركات بين الأجوبة بكل تدرجاتها هي، أولا أن حركةً سوريةً هائلةً بدأت في 2011 في سوريا. وثانيًا أن النظام الحاكم كان مستهدفًا في هذه الحركة. وثالثًا أن هناك محركات طائفيةً في هذه الحركة.

رفض أصحاب الجواب الأول، الشباب الثائر غير المنضوي في غالبيته تحت لافتةٍ أيديولوجيةٍ دينيةٍ أو طائفيةٍ، شعار “الثورة السُّنيّة في سوريا”، وأصرّوا على أنها ثورةٌ وطنيةٌ سلميةٌ ضد الاستبداد والفساد والتمييز وقمع الحريات وغياب العدالة؛ بينما اتفقت الكثير من الفصائل العسكرية، فيما بعد، مع النظام، على أنها ثورةٌ دينيةٌ سنيةٌ ضد الحكم العلوي الطائفي المتشيّع حديثًا. وسوف تتقارب الرؤية أكثر بينهما، كلما امتدت الحرب؛ حتى أضحت هي ذاتها بعد سنواتٍ. وذلك بعد أن انتهى الصراع المسلح الذي بدأ بين فصائل عسكريةٍ منشقةٍ عن النظام، من جهةٍ، والنظام وجيشه من جهةٍ أخرى، والذي اعتبره الكثيرون امتدادًا للثورة وممرًّا إجباريًّا لها، نتيجة عنف النظام.

لقد حل محل الصراع المسلح الأول نوعٌ جديدٌ من الصراع، نتيجة تكاثف العوامل الخارجية على الأرض السورية. ولم يعد طرفا الصراع الشعب/ النظام فحسب، بل اندلعت حربٌ إقليميةٌ ودوليةٌ بأدواتٍ جديدةٍ، وهي الميلشيات السنية والشيعية. وحصل ذلك بعد إعلان النفير من قبل كل طرفٍ الى الجهاد، كي يأتي المقاتلون الى سوريا لنصرة أهل السنة. فجاء الشيشان والتوانسة ومسلمو فرنسا وأوروبا وداعش والقاعدة. وكذلك بدأت ظاهرةٌ جديدةٌ من نوعها في العصر الحديث، وهي التعبئة العالمية الشيعية للجهاد، التي أطلقتها إيران من أجل دعم الشيعة في حربهم ضد السنة. فحزب الله الشيعي لم يعد يكفي وحده، وانما تم تعبئة ميليشياتٍ شيعيةٍ متنوعةٍ. وجاء الأفغان والباكستان وفقراء شيعة إيران والعراق ليلبوا نداء الجهاد الشيعي. توافد الطرفان إلى سوريا، إما عبر الارتزاق أو عبر التعبئة الدينية التي كانت ضروريةً، لكسب وقودٍ بشريٍّ للحرب من بسطاء الشباب المتدين، الذين عادة ما يكونون ضحية الشحن الطائفي، من أجل استخدامهم في حروبٍ لا تمت للدين ولا للطائفة بأي صلةٍ.

في عملية تصفية الأجوبة عما حصل، نصل إلى جوابين مختلفين فقط، ولكنهما لم يأتيا من الفراغ بدليل التأثير الهائل لهما على كتلٍ كبيرةٍ من البشر. لذلك أعتقد أنه علينا البحث في تقاطعات الجوابين كي نستطيع مقاربة الواقع، ونتوصل إلى فرجة الممكن في المستقبل السوري. سنلاحظ أنّ التقاطع الذي يمكن البناء عليه، جاء في التسليم بحضور الفاعل المتدين المسلم الشعبي في الثورة، الذي لم يتعارض مع كونها ثورةً ديمقراطيةً. وعادة ما تتعدد الدوافع التي تكمن وراء انخراط كل فرد فيها، كما في كل ثورة. أما التفارق الكبير بينهما فقد كان كامنًا في شعار الدولة الإسلامية الذي طرح فيما بعد وقسم صفوف الثوار.

الساروت وفدوى سليمان والنخب الثقافية

كان أشهر تقاطعٍ بين الأجوبة هو ظهور الثنائي الثائر الشهير في حي الخالدية المسلم في حمص، عبد الباسط الساروت وفدوى سليمان. كما تقاطعت الأجوبة في انحياز غالبية المثقفين المنحدرين من كافة المشارب الطائفية والفكرية إلى الثورة، رغم مظاهر التدين التي تضمنتها. فالمثقف عادةً بطبيعته كنخبةٍ لا يخضع للمخاوف الشعبوية التي أعاقت الكثيرين من الانحياز للثورة. فقد رأينا كيف انحازت للثورة، ووثَّقت انتهاكات النظام في المناطق السنية الثائرة، أعدادًا كبيرةً من المثقفات والمثقفين، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: سمر يزبك وروزا ياسين حسن ووجدان ناصيف وهنادي زحلوط وغيرهن كثيرات وكثيرون.

لقد انحاز للثورة ياسين حاج صالح الكاتب الديمقراطي اليساري، وعاش في مدينة دوما الثائرة مع زوجته المناضلة السياسية سميرة خليل. وكذلك فعلت المحامية الديمقراطية رزان زيتونة التي كانت في قيادات تنسيقيات الثورة، والناشط وائل حمادة والشاعر ناظم حمادي. وما لبث التفارق أن عبر عن نفسه في عام 2013 عبر اختطاف هؤلاء الناشطين الديمقراطيين الأربعة من قبل الفصائل المسلحة المتأسلمة. 

صادق جلال العظم المفكر والفيلسوف السوري، الذي كتب كتاب “نقد الفكر الديني” في الستينيات، قاطع بين الجوابين على نحوٍ واضحٍ في مقابلة مع تلفزيون أورينت، في أيلول ٢٠١٥، قائلًا “البلد معبّأ طائفيا وغرائز الانتقام منفلته من كل عقال”(2) كما وضح في تلك المقابلة أن “المقصود بالعلوية السياسية ليس العلويين كبشر، بل تلك الطغمة الأمنية العسكرية المالية الطائفية المطلوب إسقاطها. لقد أردت بذلك تحييد الطائفة العلوية”، ثم أردف أنه “من فضائل الثورة علينا أننا نستطيع الكلام الآن بعد أن بقي الكلام السوري بهذا الخصوص يدور بين الجدران المغلقة فقط”. كما أكد أنه لا يمكننا أن نتجاهل أن “العمود الفقري للثورة هي الطائفة السنية العربية مع مشاركة من الأكراد والعمود الفقري للنظام هو الطائفة العلوية وهي التي تمده بالرجال والمقاتلين”، ثم أضاف بأن هذا لا يعني أنها ثورةٌ سنيةٌ بمعنى أنها دينيةٌ. ولا على أنها حربٌ أهليةٌ. إنها ثورةٌ من أجل الديمقراطية وضد التمييز الطائفي. في المجر مثلًا في عام 1956 لم يقل أحدًا أن الثورة كانت مسيحيةً رغم أن الأغلبية كانت كاثوليكيةً، وتطالب بالحريات الدينية. وعند سؤاله عن تخوفاته وهو اليساري والعلماني من تدين الثوار أجاب بأنه لا يخاف من ذلك لأن “الإسلام الشعبي السوري لا يتقبل عنف وتشدّد الإسلام الطالباني والقاعدة وداعش فهو عبارة عن عبادات ومعاملات”.

 أما الكاتب السوري مصطفى خليفة فقد قال، في هذا السياق، في إحدى مقابلاته: “في سوريا، ومنذ خمسين عاما كانت هناك حرب أهلية بلبوس طائفي مسكوت عنه. ولو انتصرت ثورة الحرية والسلمية خلال العام الأول لأنهت هذه الحرب الأهلية المستمرة حتى الآن”(3). إذن ما حصل من عشر سنوات هو ثورة حريةٍ وديمقراطيةٍ، والنضال ضد أي شكلٍ من أشكال التمييز، هو نضالٌ ديمقراطيٌّ سوريٌّ جامعٌ. وهذا ما أعطى طاقةً هائلةً للثورة منذ اللحظة الأولى، والتي استطاعت أن تسقط رمزيًّا هذا النظام منذ العام الأول. ولكن القوى الإقليمية والدولية احتفظت به هيكلًا فارغًا، كي تبرر من خلاله احتلالها لسوريا.

إذن ما حصل من عشر سنوات هي محاولة جبارة من الشعب السوري من أجل إطلاق “الجولة الثالثة من الاندماج الوطني السوري”(4)، محاولة عودة تشكله كشعب بعد أن بددت أوصاله 50 عامًا من التحطيم الممنهج. 

أخيرًا، أشير إلى تعريف حنة أرندت للثورة، كي لا نغرق في توصيف المآلات والعقابيل التي ظهرت فيما بعد. ففي كتابها، “في الثورة”، شددت أرندت على الارتباط الوثيق لمفهوم الثورة بالفكرة التي تقول “إن مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأةً، وبأن قصةً جديدةً تمامًا، قصة لم ترو سابقًا ولم تعرف قط، هي على وشك أن تظهر”(5). وهذا ما حصل تمامًا في سوريا منذ عشر سنوات، عندما بدأ مسار التاريخ، من جديدٍ، فجأةً.

الهوامش

(1) سعيد بنكراد، بين اللفظ والصورة: تعددية الأجوبة وفرجة الممكن، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي-الدار البيضاء، 2017).

ستشير الكاتبة لاحقًا إلى الفصل الذي تقتبس منه، من هذا الكتاب، لكنها للأسف لن تكون قادرةً على توثيق رقم الصفحة، لعدم قدرتها على الوصول إلى الكتاب في هذه الظروف “الكورونية” الاستثنائية. (المحرر).

(2) لمشاهدة المقابلة، يمكن الضغط على كلمة الرابط.

(3) سمعت الكاتبة هذا الكلام من مصطفى خليفة في إحدى مقابلاته، لكنها لم تعد تتذكر تفصيلات توثيق المقابلة. لذلك قامت بمراسلة مصطفى خليفة الذي أكد لها ذلك القول كتابةً.

(4) مقال للكاتبة بعنوان الجولة الثالثة من الاندماج الوطني في سوريا- 2011-الحوار المتمدن https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=276191

(5) انظر: حنة آرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، مراجعة رامز بورسلان (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008).

حكاية ما انحكت

———————————

الانتفاضة السورية ونظريات الجفاف/ صبحي حديدي

المؤلفات التي صدرت خلال السنوات العشر الماضية وتناولت الانتفاضة الشعبية السورية من قريب أو بعيد، لا تُعدّ ولا تُحصى: حسب محرّك بحث غوغل، هنالك أكثر من 140 باللغة الإنكليزية، و83 باللغة الفرنسية، إذا استخدم المرء مفردة «ثورة»؛ وقرابة 56، إذا استعاض عنها بمفردة «انتفاضة». الجرد الموجز لمحتويات كلّ مؤلف يوحي، من دون كبير عناء، بالتوجّه السياسي والفكري للعمل، وما الذي يتبناه من مقاربات في قراءة الانتفاضة، وهل يميل إلى الشعب أم النظام أم يختار منزلة بين المنزلتين؛ وهل يُرجعها إلى آمال الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدل والديمقراطية، أم إلى مؤامرات قوى خارجية ومجموعات «مندسة» وإسلاميين وجهاديين وما إلى هذا…

وفي حدود ما قرأت من هذه المؤلفات، وما حرصت على التعرّف إلى مقارباته ضمن مستويات متباينة من الإلمام أو حتى التقليب، وأقول – بعيداً عن أيّ تواضع كاذب – إنه ليس مقداراً قليلاً لجهة العدد والسوية المنهجية والفكرية؛ لم تدهشني، ولم تستفزّني منهجياً قبل الاستفزاز الأخلاقي، أطروحة أخرى غير تلك القائلة بأنّ سبب اندلاع الانتفاضة في سوريا مناخي صرف، يعود إلى فترات الجفاف التي سبقت 2011. والمرء يمكن أن يتفهم صدور هذا التفسير من باحثين مختلفي المشارب والخيارات والمناهج، أو من معلّقين يندر أن تفاجئنا خلاصاتهم (مثل الأمريكي توماس فريدمان)؛ ويبدو صعباً، في المقابل، أن تصدر الأطروحة عن أكاديمية في جامعة جورجتاون الأمريكية، يحدث أنها سورية الأصل وتعرف طبائع بلدها والنظام الذي يحكمه بالحديد والنار منذ 50 سنة!

هذه حال مروة داودي في كتابها «أصول النزاع السوري: التغيّر المناخي والأمن الإنساني» الذي صدر بالإنكليزية السنة الماضية، عن منشورات جامعة كيمبرج؛ وتتوزع فصوله على جزء أوّل يتناول السياق (تاريخ وجغرافية وأمن سوريا) ويفصّل الثاني القول في معادلة ثلاثية تسميها داودي «الأمن الإنساني – البيئي – المناخي». سؤال الاستهلال تطرحه المؤلفة منذ السطور الأولى كي تطلق وهج الفرضية الكبرى: «هل كانت الانتفاضة ستقع سنة 2011 من دون الربيع العربي؟ لا، ربما» تجيب داودي، لأنّ «القمع السياسي، والفساد، والهزّات الإقليمية كانت كافية لتحفيز الناس على الخروج إلى الشوارع». حسناً، فما الذي يجعلها تخصّ الانتفاضة السورية بهذا المثلث الإنساني والبيئي والمناخي؟ هنا جوابها الأوّل والابتدائي: «في سياق التغيّر المناخي، كان التوتر الشديد بخصوص موارد الماء والأرض قد ضاعف كثيراً من انعدام المساواة، فأنتج بذلك قنبلة موقوتة تنتظر التفجير».

والحال أنّ الحدود الدنيا من مقتضيات الرصانة العلمية، ومثلها حدود دنيا من أخذ سلسلة حقائق صلبة بعين الاعتبار، دفعت داودي إلى استعراض ثلاثة معطيات حاسمة: أنّ الانتفاضة لم تبدأ، أوّلاً، من مساحات الجفاف في منطقة «الجزيرة» السورية؛ ولا أدلة، ثانياً، على انطلاق الانتفاضة من أوساط بعض الذين هاجروا هرباً من الجفاف، واستوطنوا في محيط دمشق ودرعا؛ وأنّ شحّ المياه، ثالثاً، يضرب سوريا بأسرها منذ الخمسينيات. هذه حقائق لا تصنع رادعاً أمام ترسيخ فرضيات البيئة والمناخ والجفاف كعوامل محرّضة على الانتفاضة، أكثر من تاريخ الاستبداد والفساد والحكم الوراثي والعائلي وتحويل سوريا إلى مزرعة لآل الأسد وآل مخلوف؛ بل لعلّ الحقائق الثلاث ليست، عند داودي، سوى «حيثيات» من داخل الفرضية المركزية ذاتها، أو أنها انزياح مؤقت يثبت ما يتمّ افتراضه حتى من باب نقضه!

بديل هذا التشخيص لواقع النظام هو اعتماد الأسد الأب على خيارات ليبرالية نأت عن سياسات حزب البعث الزراعية خصوصاً، ثم فرض «الانفتاح» على المجتمع السوري واقتصاده والانتقال إلى اقتصاد السوق منذ عام 2005. ورغم إقرار داودي بأنّ توجهات كهذه هي من صنع النظام وليس الطبيعة والبيئة والمناخ، فإنها تواصل تصعيد الأطروحة على قواعد متناهية البساطة، والكثير من التبسيط، في إطار تساؤلات مثل هذه: ألم تؤثر هذه السياسات على شحّ المياه والأمن الغذائي؟ ألم تكن مشكلة سدّ الطبقة (الذي تطلق عليه المؤلفة اسم «الطقبة» ص 135) وراء الكثير من عناصر المسالة الكردية في سوريا؟ ألا نعود، إذن، إلى أصول «النزاع» كما يقول عنوان الكتاب، أيّ التغيّر المناخي؟

وإذْ يستخلص الكتاب بأنّ العوامل السياسية كانت «في نهاية المطاف» كما تقول المؤلفة، أهمّ من الجفاف في بناء الانتفاضة؛ فإنّ منظور الفرضية المركزية يبقى طاغياً وكفيلاً عندها بإرجاع السبب إلى المسبب، وهو بالتالي «قابل للتطبيق حتى ما وراء التغيّر المناخي وانعدام الأمن في سوريا». في المقابل، لسوف ينتظر القارئ 94 صفحة حتى تأتي داودي على ذكر بشار الأسد، للمرة الثانية بعد مرّة أولى بريئة ص 10، ضمن مصطلح «انبثاق قيادة جديدة».

هو اصطلاح لا يُفهم منه، عند غير المطلع على أحوال سوريا في جورجتاون مثلاً، أنّ هذا «القائد» الجديد ليس سوى وريث لأبيه، وجرى تنصيبه ضمن مهزلة «دستورية» أقرب إلى الكرنفال؛ أو أنه، في سنة 2013، سوف يستحق لقب «بشار الكيماوي» بعد قصف الغوطة الشرقية؛ أو، أخيراً وليس آخراً، أنه سلّم البلد الذي تتحدّر منه داودي إلى خمسة احتلالات أجنبية، كي يبقى متربعاً على عرش الدمار…

القدس العربي

————————–

السرديات المتنافرة واستمرار الاستعصاء/ يحيى العريضي

درج قول إنكليزي بين الحربين العالميتين مفاده أن “ما هو طيّب الطعم لألماني، سُمٌّ زعاف لروسي”:

“What’s good food for a German is poisonous for a Russian”

وأساس القول: “ما هو غذاء لإنسان، سمٌّ زعاف لآخر“

One man’s meat is another man’s poison

هكذا تماما تقع بعض المفاهيم على عقول ونفوس السوريين تجاه قضيتهم؛ فتتحوّل إلى اصطفافات وتناقضات، وسرديات متنافرة، وصولاً إلى انقسامات مجتمعية مدمرة.

حتى في المفهوم الأقدس للإنسانية، الحرية، ترى كلاً منهم في واد. ومعروف أنه كي يكون الإنسان إنساناً بالمعنى الكامل للكلمة، لا بد أن يكون حراً، لأن الحرية من أسمى المبادئ في الحياة، وأساسٌ في التطور والبناء والإبداع. هذه العبارة وهذا المفهوم تحوّل في سوريا خلال السنوات العشرة الماضية إلى مصدر للتهديد وحتى السخرية عند منظومة الاستبداد ومحيطها.

“حماة الديار”، عبارة أُطلقَت على الجيش العربي السوري الذي كان السوريون يعتزون به، ويفخرون بأن بلدهم سيدٌ مصانٌ ومنيع؛ ولكنهم تحوّلوا إلى حماة للاستبداد وأداة للقتل والعيش بخنوع وإذلال أمام المحتل الإيراني والروسي.

بالنسبة للنظام والمدافعين عنه، مَن يعارض غير وطني؛ ويُوصف بالخائن، والمتآمر مع قوى خارجية؛ والمتسبب بجلب الإرهاب وبدمار سوريا وبالنزوح؛ ولا يرون أن هناك ثورة أو معارضة في سوريا، بل مجموعات من الإرهابيين المتطرفين أو الطامعين بالمناصب أوهنوا عزيمة الأمة، وخرجوا على “المقاومة والممانعة”. وبدون هؤلاء يمكن خلق “مجتمع متجانس”. وبالمقابل، ترى المعارضة والثورة أنها تقف في وجه منظومة استبدادية مجبولة على اللاوطنية تصرفت بلامسؤولية، دمرت، وهجّرت، وأفقرت، وأذلت مواطنيها؛ جلبت الإرهاب والاحتلال؛ منفصمة عن الواقع؛ تكذب كما تتنفس.

وصلت الأمور بالبعض ليرى في إسرائيل- محتلة الأرض ومغتصبة الحقوق- مخلصاً؛ وآخرون يرون فيها السبب الأساس في امتداد مأساتهم؛ ومنظومة الاستبداد تغازلها للإنقاذ، عبر اتفاق نظراً لوصولها لحالة الاختناق.

الروسي والإيراني، بالنسبة للنظام ومَن معه، صديق وحليف ومحارب للإرهاب، ومانع لسقوط سوريا؛ ولكنه لكثير من السوريين، عدو ومحتل وأساس للإرهاب بميليشياته وصواريخه.

اشترك السوريون تاريخياً بمعاناتهم من “الفيتو” الأميركي الذي حال دون حصول الفلسطينيين على بعض حقوقهم في فلسطين؛ وإذ بهم يختلفون على تقييم الفيتو الروسي؛ فمجموعة النظام رأت فيه حماية لرأس نظامهم، ومعظم السوريين رأوا فيه ما يحول دون حصولهم على حقوقهم، وحامٍ لقاتلهم.

لا وصف لدى النظام ومحيطه لتركيا إلا “المحتل التركي”؛ والثورة السورية ومعارضتها بالنسبة لهؤلاء رهينة لتركيا؛ أما بالنسبة “للرهائن” السوريين، فهم يرون تركيا ملجأً من البراميل الأسدية وميليشيات إيران وسوخوي بوتين.

بالنسبة لمنظومة الاستبداد وحاضنتها، أميركا رأس المؤامرة على سوريا، وصاحبة قانون قيصر؛ ولكن هؤلاء- برأي بقية السوريين- ينسون “خطها الأحمر” على الرمال، وسياقتها من الخلف وسماحها لروسيا وإيران في التدخل لحماية منظومة الاستبداد.

داعش اسمٌ أذى ثورة السوريين في الصميم؛ فمن هو مع منظومة الاستبداد يرى الداعشية ركناً أساسياً في انتفاضة السوريين؛ وثورة السوريين تراها اختراعاً أمنياً أسدياً أكثر أمرائها خريجو معتقل صيدنايا ومن زملائهم الذين دفعت بهم إيران وإسرائيل ودول أخرى لتشويه ثورة السوريين.

معظم السوريين يرون في “مؤتمر سوتشي للشعوب السورية”- حسب تسمية بوتين- ومسار “أستانا” إهانة للشعب السوري، وخطفاً للقرارات الدولية التي تحفظ حقوقهم؛ والتفافاً على مسار “جنيف”؛ ويراهما النظام ومن معه مخرجاً لسوريا؛ ببساطة لأن النظام لا يريد العملية السياسية، وترعبه عبارة: “انتقال سياسي”.

يرى نظام الاستبداد ومؤيدوه بأنهم انتصروا لمجرد بقاء النظام كل هذا الوقت في مواجهة “المؤامرة الكونية”؛ وشعب سوريا أيضاً يرى بأن ثورته انتصرت، وللسبب ذاته. وحقيقة الأمر أن كل سوريا والسوريين خسروا؛ ولا بد أن يعترفوا بذلك، ويبدؤوا بمراجعة شاملة لكل ما حدث، وبصدق وصراحة وعقل وإرادة.

هذه بعض نماذج التناقض والتنافر في الرؤى والسرديات؛ ويمكن إضافة مئات حالات التناقض والتنافر؛ وكلها تدل على افتراق وفجوات وتشظٍ حقيقي لا يمكن أن يعيد سوريا إلى سكة الحياة؛ ولو طالت الحالة لسنوات وسنوات.

لا مخرج إلا باقتراب المفاهيم كي تكون النجاة.

ليس ظاهراً بل في القلوب والعقول ننجو، وتعود سوريا الوطن. سوريا لن تعود لما كانت عليه من قهر وذل واستبداد. فالحرية لا تنازل عنها، ولا بد من حماة ديار حقيقيين، وليكن في سوريا سلطة ومعارضة تحكمهما مبادئ الديموقراطية والقانون في مجتمع متجانس ووطن سيد مستقل لكل أهله، ولا مكان فيه لإسرائيل أو داعش أو إيران أو أميركا أو روسيا أو تركيا. إنه القطع مع هذا الماضي والبناء على حلم الثورة وما أنجزته بأغلى الأثمان. حقيقة الحياة وحكمتها تقول: “تنتهي حبة القمح، كي تتحوّل إلى سنبلة”.

تلفزيون سوريا

————————–

مستقبل سوريا بين دولة غاربة واللادولة/ سام منسى

مع دخول النزاع السوري عامه الحادي عشر، يدور سؤال ملحّ بشأن مستقبل سوريا، الدولة والشعب، ولعله من المفيد في محاولة التكهن بملامحه التي ستخرج من أتون الحرب الهائلة، إسقاط النموذج اللبناني لأن حال سوريا تحاكي حال لبنان بعد حروبه الطويلة.

سجلت الحرب السورية العدمية أنها من أفظع الحروب الأهلية إنْ لجهة الانتهاكات التي ارتُكبت ضد المدنيين أو لجهة حجم التدخلات الأجنبية فيها وخُبث دوافعها، وسط صمت عالمي يُظهر رياء وهزالة غير مسبوقين وصل إليهما المجتمع الدولي. فرغم كل التدمير الذي طال الحجر والبشر، يبدو الانطباع العام أن الرئيس بشار الأسد قد انتصر مع إصرار روسيا وإيران على تعويمه لتثبيت نفوذهما في المنطقة، ومحاولات بعض العرب احتضانه يأساً من معارضة سورية جدية تشكّل بديلاً لنظامه، ولفشل العقوبات الدولية والأميركية التي أفقرت الشعب من دون أن تصيب النظام.

من البدهيّ القول بدايةً إن مستقبل سوريا مرتبط بعوامل عدة أبرزها الوجود الأجنبي الإيراني والروسي والتركي والأميركي وأدوارها كما التدخل الإسرائيلي، إضافةً إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة ومصير اللاجئين والنازحين وكل التغييرات الديموغرافية التي طالت المجتمعات المحلية.

لا بد من التسليم بأن سوريا الغد لن تشبه بأي شكل من الأشكال سوريا قبل الحرب. من المرجح أن تبقى حدودها الدولية وأن يكون هناك حكومة في دمشق، لكن كلبنان تماماً، ستظل البلاد واهنة بحالة الغروب أو في مساحة رمادية بين الدولة واللادولة، لتستمر التجاذبات وتتواصل جولات التفاوض بين الأطراف المحلية برعاية أجنبية أو عربية.

كما يصعب احتمال عودة الاقتتال كما شهدناه خلال العقد المنصرم مع الإنهاك الحاصل على صعد عدة والمعاناة التي عاشها الشعب السوري، من دون أن نستبعد نزاعات مسلحة بين وقت وآخر مع مجموعات معارضة قديمة أو مستجدة قد تخلّفها الأوضاع السياسية والاقتصادية غير المستقرة.

وكلبنان أيضاً، ستمرّ سوريا تحت وصايات أجنبية، مع رجحان استمرار الوجود العسكري الروسي والإيراني والتركي والأميركي في المستقبل القريب، مع اختلاف في الأحجام والأدوار ومقاربة كل منها للتسوية فيها. وإذا كان مستقبل الوجود الأميركي في سوريا لا يزال ضبابياً مع قدوم إدارة جديدة وتشابك العلاقات الأميركية مع تركيا والأكراد، لن تترك روسيا موطئ القدم الذي كسبته، كما لن تفرط إيران في جهود عقود من التمدد العقائدي والسياسي والعسكري باتجاه المنطقة، وسيكون تالياً دورهما محورياً في رسم مستقبل البلاد.

حتى اليوم، لبس التدخل الروسي في سوريا قبعات عدة، بدءاً بالمقاتل العسكري إلى جانب النظام ضد مَن تعدّهم يعملون على تفكيك الدولة، وقبعة المدافع الشرس ليس عن النظام فقط بل عن رأسه أيضاً، وقبعة الوسيط الدبلوماسي الحيادي الساعي وراء تسوية سياسية للنزاع. ومع تخريبها لمفاوضات جنيف وفشلها في مفاوضات آستانة، يبدو أن موسكو لا تسعى جدياً إلى إرساء إصلاحات سياسية ودستورية في سوريا بل تقتصر رؤيتها لتحقيق تسوية واستقرار سياسي على المحافظة على رأس النظام بشخص الأسد، ويظهر ذلك جلياً بإصرارها على إجراء انتخابات رئاسية في مايو (أيار) المقبل تثبّته في كرسيه، من دون أن تسمح بإشراف الأمم المتحدة عليها، ما قد يحافظ على النظام بدون الأسد. وبتمسك روسيا بالأسد، فهي تغامر أيضاً بالمشاركة الغربية في إعادة إعمار سوريا، ما يؤشر إلى عدم اهتمامها بتحقيق إنعاش اقتصادي عبر إصلاحات بنيوية.

أما الوجود الإيراني فهو أكثر تعقيداً وخطورة لأنه لا يقتصر على الوجود العسكري والسياسي كما الروسي، بل أصبح متجذراً في النسيج الاجتماعي السوري، وهو وليد عقود من الاستثمار الإيراني في المنطقة منذ اندلاع الثورة الإيرانية ولن تتخلى عنه اليوم، لا سيما مع النفوذ الذي حققته في العراق واليمن. فالنظام السوري برأسيه الأسد الأب والابن، شكَّل قاطرة ومنصة انطلاق للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية ومن أكبر تجلياته نشأة «حزب الله» في لبنان، ولعب المذهب دوراً في إرساء التحالف بين النظامين حتى باتا كتوأم سيامي من الصعب التفريق بينهما، وهذا ما يعصى للأسف على الأميركيين والأوروبيين فهمه. لذلك من السذاجة التفكير في أن يتخلى النظام في إيران عن سوريا لأن ذلك يعني تخليه عن لبنان وهذا شبه مستحيل وفق المعطيات السائدة عن الطموحات الاستراتيجية لإيران.

وكما روسيا، لا تهتم إيران بإجراء إصلاحات سياسية ودستورية واقتصادية في سوريا، بل همّها بشار الأسد وما يمثله لتطلعاتها، والإنهاك الذي وصلت إليه البلاد يتناغم مع المجتمعات المقاومة التي تسعى إلى زرعها في المنطقة.

وعلى الرغم من اختلاف دوافع الوجودين الروسي والإيراني في سوريا، فالتحالف بينهما مستمرٌّ كلٌّ وفق أجندة معينة تخدم مصالحه، والرهان على كسره يبقى في خانة التمنيات أكثر منه واقعاً يُبنى عليه. أما إيحاءات موسكو وخصوصاً لإسرائيل بأنها قادرة على لجم الوجود الإيراني في سوريا، فهي خرافة كما محاولتها التسويق أن مصالحة بين سوريا وإسرائيل سوف تمكّن موسكو من إنهاء الدور الإيراني.

أما تركيا فانسحاب قواتها من سوريا غير مرجَّح لأنها تشكّل منطقة عازلة لها ما دام عداؤها للأكراد مستمراً.

أما إسرائيل، فهناك من يعتقد أن الأمر الوحيد الذي يعنيها في سوريا هو إيران، وأن همومها تكمن في مخاطر إطلاق صواريخ إيرانية من سوريا عليها. وإذا حصلت على ضمانات، قد تتغاضى عن الوجود الإيراني، ويعتقد بعض الأوساط الدبلوماسية بإمكانية التوصل لاتفاق بين كل من روسيا وأميركا وإيران وتركيا وإسرائيل على وجود إيراني لا يضر بأمن إسرائيل، بينما يصر رأي آخر على أن الإسرائيليين من غير مناصري رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لا يثقون بأي نوع من الضمانات في هذا الشأن، ولعل نتائج الانتخابات المقبلة أواخر هذا الشهر قد توضح المشهد أكثر.

المحصلة أن الأسد باقٍ تحت مظلة وصاية روسية – إيرانية مشتركة بلا إصلاحات سياسية ودستورية واقتصادية جوهرية، مع تقويض للجيش الوطني كما حصل في لبنان، إنما ليس فقط عبر ميليشيات مسلحة كـ«حزب الله» بل أيضاً شركات أمنية خاصة تابعة للوصيين تنمو كالفِطر وتسمح لهما باعتماد الإنكار المعقول.

المرجح أن المجتمع الدولي، خصوصاً أميركا والدول الأوروبية، لن يعترف بالأسد. لكنّ الحاجة إلى مساعدة الشعب السوري ستفتح الباب لنوع من التعاطي ولو بدرجات مختلفة مع حكومة في دمشق. كل ذلك سيحوّل سوريا كما لبنان إلى بلاد غاربة ورمادية Twilight zone معلّقة بين الدولة واللادولة وإلى ميدان لتصفية الحسابات الإقليمية منها والدولية.

أين الشعب السوري من ذلك؟

المشكلة أن عقوداً من الاستبداد وعُقد من حرب مدمِّرة تعرَّض خلالها لكل أساليب القمع والتعذيب والقتل والإذلال والتهجير، خلقت خواءً سياسياً لديه أصابه بالشلل والعجز حتى بات مغيّباً كما الشعب اللبناني وإن اختلفت الأسباب. أما النخبة السياسية السورية التي حاولت في بدايات الحرب لعب دور تغييري، فقد أثبتت أنها غير فعالة وتشبه النخبة اللبنانية من حيث حجم الخلافات السياسية فيما بينها وعدم امتلاكها رؤية موحدة للحل وغياب التأطير.

الغائب الأكبر في رسم مستقبل سوريا هو الدور العربي بسبب تباين الهموم التي أضحت وطنية أكثر منها إقليمية، وذلك على مستوى كل العالم العربي أو ما تبقى منه.

الشرق الأوسط

—————————–

الأكراد اللامرئيون وأحوال سوريا/ رستم محمود

مع مرور الذكرى السابعة عشرة لانتفاضة أكراد سوريا ضد النظام الحاكم عام 2004، وحينما كان يتم استحضار وتذكر تلك الأحداث “المريعة” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن أغلبية واضحة من المُعلقين السوريين على ذلك الحدث، من غير الأكراد، كانوا يُعبرون عن اندهاشهم لما يتم عرضه من مقاطع وروايات عن تلك الأحداث.

فالمتابعون السورين هؤلاء، كانوا يعبرون عن عدم عِلمهم سابقاً بتلك الأحداث، وتالياً سوء إدراكهم للتناقضات والصراع السياسي الذي كان بين أكراد سوريا ومطالبهم وبين النظام السوري. 

يحدث ذلك بشكل دوري كل عام تقريباً. فحتى بعد مرور سبعة عشر عاماً على تلك الأحداث الاستثنائية في دولة صغيرة نسبياً مثل سوريا، وبالرغم من ضخامة ما جرى وقتئذ، حيث راح ضحيتها عشرات الشُبان الأكراد وحُصرت بعض المُدن ذات الغالبية الكُردية وتم التنكيل بسكانها المدنيين، بعدما حُطمت تماثيل حافظ الأسد فيها وطُردت الأجهزة الأمنية من داخل المُدن والبلدات، إلا أن قاعدة واسعة من السورية تُعبر كل مرة عن عدم علمها بما جرى، بالضبط كما كانت وما تزال تُعبر دوماً عن “جهلها” بكل تفاصيل المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكُردية، وطبعاً تكاد أن لا تعرف شيئاً حوال الثقافة والمُجتمع وأشكال الحياة الخاصة التي كانت وما تزال لأكراد سوريا. 

التفسير الأكثر رواجاً لأسباب ذلك، والذي تُقدمه نُخبة المُعارضة السورية عادة، ومنذ أن وقعت تلك الأحداث، يُعلل ذلك بطبيعة النظام الحاكم، حيث كانت شموليته مانعاً أساسياً ودائماً لسوء فهمٍ وتواصل وتعاضد داخلي بين المُجتمعات السورية. ولأجل ذلك، ودائماً حسب ذلك التفسير التقليدي، فإن عموم السوريين من غير الأكراد لم يعرفوا ويتفاعلوا مع ذلك الحدث الاستثنائي في التاريخ السياسي السوري. 

ذلك التفسير، على صحته النسبية، لا يُقدم إجابة شافية على تفصيلين داخليين ضمن هذه المُعضلة: لماذا يطال ذلك النوع من عدم المعرفة والإدراك حتى “النُخب السياسية والمعرفية والاجتماعية” السورية، التي من المُفترض أن تكون حصينة وأعلى مكانة من أدوات النظام السوري التي تحاول تجهيل السوريين ببعضهم!.

كذلك لا يُقدم ذلك التفسير دلالة واضحة على أسباب استمرار ذلك النوع من سوء الفهم، رغم مرور كل هذه السنوات، وخروج السوريين بأغلبيتهم المُطلقة من عباءة أدوات ودعاية النظام السوري، ومعها التطور الهائل لأدوات التواصل الإعلامي!. 

ذلكم التفصيلين يثبتان بأن المسألة تتجاوز بتفسيرها ديناميكيات النظام السوري التفريقية، لتكون تعبيراً عن أشكال من علاقات القوة والسُلطة والتفوق التي كانت تربط الجماعات والمُجتمعات السورية الداخلية فيما بينها.

إذ كان ثمة ترتيب هرمي بين هذه الجماعات السورية، من أكثرها ضعفاً وهشاشة وهامشية، إلى أقواها وأكثرها حضوراً ومركزياً وسطوة على المتن العام للحياة في ذلك البلد. حيث أن المركزيين هؤلاء لم يكونوا يشعرون وينتبهون ويبالون بمن هُم دونهم في سلم القوة ذاك، حتى أنهم لم يكونوا يرونهم ويمنحونهم أي اعتبار. 

الأكراد السوريون كان في أسفل ذلك السلم، لأنهم كانوا يشكلون ذروة الهامشية في كل تفصيل. فقد كانوا أبناء القومية الأخرى، في بلد كان أسير طوفان العروبة السياسية، كذلك كانوا الأبعد جغرافياً عن مراكز المُدن الرئيسية، وفوق ذلك كانت مناطقهم هي الأفقر والأقل تنمية، بالرغم من ثرواتها الهائلة.

مع هذا كله، كانوا الأقل حضوراً في التاريخ السياسي والثقافي والاقتصادي للبلاد، وأكثر المُشككين بولائهم وعلاقتهم الوجدانية مع البلاد، حيث تذخر وثائق الدولة السورية بآلاف التقارير الحكومية التحذيرية من الأكراد، منذ أربعينيات القرن المنصرم.

ومع هذه الأمور كلها، كانوا الأقل تعليماً والأكثر ريفية والأقل حضوراً في الجيش والوظائف الحكومية العليا والكلام العام، وحتى في الدراما والسينما والأغاني السورية، وطبعاً منذ اللحظات التأسيسية الأولى للدولة السورية. 

بدرجات متفاوتة مماثلة لحالة الأكراد، كان ثمة جماعات سورية أخرى تتفاوت هامشيتها وحضورها، تلك التي لا وزن وحضور لها، وإن بدرجات أقل من الأكراد. لكن الجامع الجوهري بالنسبة لهذه الجماعات السورية كان في كونها غير ذات اعتبار بالنسبة للوجدان والعقل العام لنظيرتها من الجماعات والنُخب المركزية.

هذه الجماعات تمثلت، خلال نصف قرن كامل أخير مضى، في تشكيلتين رئيسيتين: العرب السُنة من أبناء المُدن الرئيسية التاريخية الأربعة في البلاد، كممثلين لجماعة الأكثرية العددية والمهيمنين على هوية الدولة السورية بوثائقها ومؤسساتها ورمزيتها. وأبناء الطائفة العلوية من الذين هيمنوا على السُلطة والمؤسسات الحاكمة في البلاد، وتالياً أنشأوا استطالات في كافة مؤسسات ومناح الحياة. 

مرت عشرة سنوات على اندلاع الثورة السورية، وبالرغم من جذرية مطالبها وفظاعة الأثمان التي دفعها السوريون جرّاءها، إلا أنه ثمة جماعات وتشكيلات سورية هامشية غير مرئيين تماماً، بهوياتها ومطالبها وأفعالها وتطلعاتها، ثمة إصرار مريع من قِبل التشكيلات المركزية في البلاد على احتكار البلاد لنفسها، وعدم الالتفات إلى عالم هؤلاء الهامشيين، ومنحهم شيئاً من ثروات البلاد الرمزية والسياسية عبر هبة الاعتراف بوجودهم وحقهم النسبي في الشراكة في الحياة العامة للبلاد.

ثمة إصرار مريع للجماعات المركزية للحفاظ على امتيازاتهم واستثنائيتهم في الكيان السوري، وتالياً خلق تبعية ميكانيكية للآخرين وتطلعاتهم وأفعالهم العامة. 

بالضبط كما يصر النظام السوري للحفاظ على سلطويته المُطلقة على البلاد، ثمة إصرار نظير من قِبل المركزيين للاحتفاظ بمكانتهم ومُلكيتهم للبلاد وعماهم عن غير من السوريين. ثمة أمثلة لا تُعد حول ذلك، يُجمع عليها المركزيون بالرُغم من صراعهم السياسي البيني، الإصرار على إبقاء اسم البلاد “الجمهورية العربية السورية” مثلاً، التأكيد على مركزية الحُكم مثال آخر، ومثلها ما لا حد له من النماذج، التي تقول في كل تفصيل منها: هذه البلاد لنا، وفقط كذلك.

هذه المقولة التي تفعل الكثير من الأشياء في حاضر البلاد، من حروب أهلية وأشكال من الاستعصاء التي لا تنتهي، وغالباً ستبقى تفعل أشياء من مثلها في مستقبل سوريا، هذا إن كان يجوز جمع كلمتي سوريا ومستقبل في جُملة واحدة.

الحة

—————————

التايمز: سوريا بلا مستقبل.. ممزقة فعليا والغرب أضاع فرصا مهمة لمساعدتها

إبراهيم درويش

نشرت صحيفة “التايمز” افتتاحية عن مستقبل سوريا قالت فيها إن عشرة أعوام مرت على بداية الحرب الأهلية، مشيرة إلى أن الأرقام تحكي بنفسها، فمن بين عدد سكان سوريا قبل الحرب، 22 مليون نسمة، شرد نصفهم، منهم 7 ملايين نسمة أصبحوا لاجئين في خارج البلاد. وهناك نصف مليون قتيل وتم هدم أو الإضرار بثلث المباني السورية.

وأكثر المدن السورية التي تضررت هي الرقة وحلب وحمص والتي تعرضت لقصف سجادي ولا تزال تنتشر فيها الألغام والمفخخات والتي يقول الخبراء إن التخلص منها يحتاج لجيلين.

وتوقف القتال تقريبا في وقت أصبحت فيه البلاد مقسمة بشكل فعلي. وبرز الأسد من الحرب المنتصر الفعلي. فالرجل حرق بلده بمساعدة من روسيا وإيران واستخدم الأسلحة الكيماوية لتحطيم شعبه والبقاء في السلطة. ويبدو أن ما سيقوم الغرب بعمله الآن، سؤالا عبثيا، إذا أخذنا بعين الاعتبار عواقب فشله المستمرة والتدخل في مرحلة مهمة من النزاع. فقد رسم الرئيس باراك أوباما خطا أحمر حول الأسلحة الكيماوية وقام الأسد بخرقه في 2013، وشعر بالخوف من الكونغرس عندما رفض البرلمان البريطاني المشاركة في تحرك.

وكانت تلك اللحظة بداية الانشقاق من الجماعات المدعومة من الغرب إلى الجماعات الأكثر راديكالية بشكل قوى ما أصبح يعرف بتنظيم “الدولة”. واضطر الغرب للتحرك بشكل محدود ضد تهديد عمل الأسد. وأعطى تنظيم “الدولة” زخما للأصوات التي دعت لدعم الأسد وبقائه في السلطة خوفا من خلق “أفغانستان جديدة”.

وكانت إيران موجودة من أجل دعم الأسد وكجزء من جهودها لإنشاء هلال شيعي ودول وكيلة تمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط. ووجدت تركيا التي دعمت عددا من الجماعات السورية المسلحة الفرصة للتدخل وقمع أي محاولة كردية في سوريا لإنشاء شبه دولة وقامت بخلق منطقة عازلة بدلا من ذلك.

وطوال عقد من الحرب الأهلية كان هناك مبعوث دولي لسوريا وآخرهم غير بيدرسون، النرويجي الذي تولى المهمة منذ 2019 ويحاول أن يعقد مؤتمرا دستوريا يمثل كل السوريين والاتفاق على خريطة للسلام في البلاد. ولم تنجح الجهود بسبب إصرار المعارضة على تنحي الأسد. وغيّر بيدرسون من خططه الآن، واقترح تقسيم العملية إلى مراحل بدلا من التوصل لنتيجة نهائية.

ونظرا لتجمد محاور النزاع فهناك حالة من الهدوء تستدعي توثيق حالة السلام، لكن انتصار الأسد الفعلي لا يعطيه أي محفز للتنازل كما كان تحت الضغط. وبدون تسوية دولية فلن يكون هناك منظور لإعادة الإعمار ولا جمع المبالغ الفلكية لإعادة بناء دولة قابلة للحياة وذات طبقة متوسطة كما كانت في السابق.

وتطالب إيران وروسيا وبعض الدول العربية برفع العقوبات، مع أن بعض الدول العربية المعادية للتأثير الإيراني تعارضها. وعندما يعود السوريون، هذا لو عادوا إلى الأماكن التي بنيت عليها بيوتهم قبل عقد، وما هو المستقبل الذي سيواجهون عندما يصلون ويستمرون الحياة في ظل قوى جاءت من خارج حدودهم.

القدس العربي

———————————

حملات التضليل الروسية في سوريا شكّلت العالم وأثّرت على حركات اليمين المتطرف/ إبراهيم درويش

هل هناك إمكانية لرسم خط بين الهجمات الكيماوية في سوريا والرعاع الذين هاجموا مبنى الكابيتول هيل في واشنطن؟ نعم، كما يقول الكاتب في صحيفة “إندبندنت” بورزو دارغاهي، حيث يرى أن الجامع بينهما هو “الأخبار المزيفة” وحملات التضليل الإعلامي.

فقبل عشرة أعوام خرج المتظاهرون السوريون إلى الشوارع في تجمعات سلمية مطالبة بالإصلاح والمعاملة الإنسانية من نظام بشار الأسد. ولكنهم دفعوا ثمنا لا يمكن تخيله، وتم تدمير بلدهم ومحو مجتمعاتهم العزيزة عليهم، وفقدوا أحبابهم بأعداد كبيرة، حوالي 594 ألفاً بمن فيهم الأطفال. وتم تشريد نصف السكان منهم ستة ملايين نزحوا إلى الخارج.

ولكن العالم أيضا دفع ثمن الحرب الأهلية السورية؛ لأنه تركها تتكشف أمام ناظريه. فآلة الأكاذيب التي غذت النزاع والورقة البيضاء التي أعطيت لرعاة الأسد الأجانب ومن ساعدوه في الغرب أعادت تشكيل العالم.

وفي الحقيقة يمكن للواحد أن يربط بين الغارات الكيماوية التي ضربت الغوطة الشرقية قرب دمشق في 2013، والأعداد من الأمريكيين الفاشيين الذين اقتحموا الكونغرس في 6 كانون الثاني/ يناير.

ولا يزال السوريون يحنّون للتغيير الديمقراطي الذي دفع بالانتفاضة ضد الأسد. وفي الأسبوع الماضي قام عدد من أبناء درعا في جنوب سوريا بتنظيم تظاهرة سلمية ضد النظام ورفعوا الشعارات المعادية له. وفي درعا عام 2011 قامت مجموعة من الأطفال بكتابة شعارات معادية للأسد حيث تم اختطافهم وتعذيبهم، وحتى طلب من عائلاتهم نسيانهم والتفكير بإنجاب غيرهم، لكن المعاملة الوحشية كانت وراء الاحتجاجات في درعا والتي انتشرت في معظم أنحاء البلاد.

وكان المتظاهرون من كل طبقات المجتمع، الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة والمتعلمين والطبقة العاملة، المسلمين والمسيحيين وأبناء الطائفة العلوية، وكلهم طالبوا النظام بطريقة سلمية بالإصلاح، لكن النظام رد بعنف وفتح النيران على المتظاهرين واعتقلهم وعذبهم وظهرت صور التعذيب والأجساد المنهكة من الجوع لاحقا وتداولتها منظمات حقوق الإنسان التي قامت بتوثيق أبشع جرائم ارتكبت ضد الإنسانية.

وعلى خلاف الثورات في تونس ومصر والبحرين، لم يتهم الغرب بالثورة السورية، بل نظر إليها دعاة المقاومة في الغرب للإمبريالية الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية نظرة لامبالاة. وتحول هؤلاء إلى حلفاء راضين وقبلوا أكاذيب الأسد حول طبيعة الثورة وردة فعل أجهزته الأمنية. وانضم إليهم في جهودهم حزب الله وإيران اللذين كانا يريدان نظام الأسد كمعبر للأسلحة إلى منطقة المشرق وتقوية موقفهما.

وحملت المعارضة السلاح في النهاية، وانضم إليهم جهاديون أطلق بعضهم الأسد من سجونه. ومن هنا أعطى الغموض حول الخطأ والصواب في سوريا الأسد حساً بأنه فوق المحاسبة. وزاد من عنفه واستهدف المستشفيات والعمارات السكنية والمدارس وأطلق حمم النيران والبراميل المتفجرة. واجتاز الأسد خط باراك أوباما الأحمر في آب/ أغسطس 2013 بشأن استخدام السلاح الكيماوي ولم تتم معاقبته. وكانت بريطانيا وأمريكا تخططان للتدخل، لكن روسيا راعية الأسد استطاعت تأمين مخرج له.

وتم إغراق العالم في حرب تضليل حول أصول الحرب السورية لمدة عامين، وتم قبول الرواية هذه برضا. ووجدت روسيا بابا مفتوحا ودفعته، وقامت بحملة تضليل فاعلة سمحت للنظام وحلفائه بتجاهل قواعد الحرب وأعطت طائرات الميغ الروسية والميليشيات الشيعية الفرصة لسحق المعارضة. لكن الحرب السورية واحتواءها كانت نذيرا لمرحلة ما بعد الحقيقة التي جاءت لاحقا.

وفي 2014 وبعد عام على الهجمات الكيماوية التي قتل فيها 1729 شخصا، استخدم الكرملين نفس التوليفة من العنف وحملات التضليل على منصات التواصل لغزو وتقطيع أوصال أوكرانيا وضم قطع قطعة كبيرة منها. وتم استخدام الحيلة نفسها، حيث أدى تدخل اليمين المتطرف المستلهم من روسيا وسذاجة اليسار إلى إجبار بريطانيا التي صوتت وبهامش ضيق لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016.

واستخدمت روسيا وجماعات اليمين المتطرف هروب السوريين من الغارات الجوية وفرق الموت والهجمات الروسية نحو أوروبا وتصوير اللاجئين الذين جرحتهم الحرب بأنهم مثل مصاصي الدم الذين يتدفقون على القارة. وأدت الحملة الدعائية التي نشرها الكرملين وقبلها اليمين المتطرف حول العالم إلى زيادة المشاعر المعادية للمهاجرين والمسلمين.

ولم يتوقف أثر الدومينو عند هذا الحد، فقد شجع السم الذي خمرته جماعات اليمين المتطرف التي دعمتها روسيا وما تطلق على نفسها الجماعات اليسارية، الناخب الأمريكي على البقاء في البيوت أو التصويت لمرشحة حزب الخضر جيل ستين مما سمح لدونالد ترامب الفوز بالانتخابات.

ولم تتردد روسيا ومن معها من الداعمين عن المحاولة، فقد قالت إدارة الأمن القومي الأمريكية إن موسكو حاولت التدخل في انتخابات 2020.

وفي الحقيقة لو تتبعت ناشري التضليل الإعلامي، فستجد أن الأصوات التي زعمت أن الأسد لم يستخدم السلاح الكيماوي هي نفسها التي عبّرت عن هوسها برسائل هيلاري كلينتون الإلكترونية وكمبيوتر هانتر بايدن. ومع فوز بايدن في 2020، فقد أصبح عالم ما بعد الحقيقة الذي شكّلته روسيا قائما بذاته، مما سمح للعصاة المهووسين الذين اعتقدوا أن بايدن سرق أكثر انتخابات شفافية في العالم، وأن ترامب هو بطل يخوض معركة ضد حلقة من أكلة لحوم الأطفال الذين يحبون انتهاكهم للهجوم على الكونغرس.

ومع أنه لا يوجد دليل عن سرقة بايدن الانتخابات، أو أن حركة “كيو أنون” ونظرية المؤامرة الحمقاء التي تنشر عن عالم تديره مجموعة من منتهكي الأطفال، وأنها نتاج لحملة تضليل دعمتها روسيا وسمحت للأسد بالإفلات من العقاب وفوز ترامب بنسبة ضئيلة.  لكن ليس هناك شك أن المجانين الذين اقتحموا الكابيتول هيل بداية العام الماضي تشكلوا عبر نفس حملات التضليل التي تجذرت في الحرب السورية.

إندبندنت

القدس العربي”

——————————

عندما ينتهك فراس طلاس المقدّسات/ حسين عبد العزيز

أثار الأخوان طلاس، فراس ومناف، في السنوات العشر الماضية، جدلا واسعا في الساحة السورية، من خلال أنشطتهما السياسية والعسكرية وتصريحاتهما الإعلامية. ويكمن الاهتمام الشعبي والإعلامي بمواقف فراس (رجل الأعمال السابق في قطاعات الإسمنت والألبان والبُن والمعادن والأغذية المعلبة والسكر) ومناف (قاد اللواء 104 في الحرس الجمهوري) بحكم علاقتهما السابقة بأولاد حافظ الأسد، وبأنهما كانا جزءا من منظومة الحكم الضيقة في سورية، فهما نجلا وزير الدفاع الأسبق، العماد مصطفى طلاس، المقرّب جدا من حافظ الأسد، وبقي في منصبه 32 عاما. وكان واضحا منذ سنوات أن الأخوين يبحثان عن أدوار سياسية وعسكرية في المشهد السوري، بعدما فشلا في إقناع المعارضة بأهليتهما في أن يكونا جزءا منها.

حمل العام الجاري تحرّكين بارزين للأخوين: أعلن فراس تأسيس “الحزب الوطني السوري”، فيما بدأ مناف التجهيز لرئاسة “مجلس عسكري”، يهدف إلى قيادة البلاد نحو مرحلة انتقالية. وفي ضوء هذين التطوّرين، يبدو مفهوما وطبيعيا أن يدلو كل منهما بتصريحاتٍ عن مستقبل الوضعين، السياسي والعسكري، السوريين، بغض النظر عن مضمون هذه التصريحات ومدى التزامها بالخط السياسي المعارض.

ولكن، أن يدلي فراس طلاس بتصريحاتٍ لصحيفة إسرائيلية، ويعطي قيمة لإسرائيل، من حيث دور إيجابي كان يمكن أن تلعبه في الساحة السورية، فهذا خروجٌ عن المألوف، وضربٌ لكل التابوهات السياسية والأخلاقية في الوعي والوجدان السوريين. إن مجرد قبوله التحدث إلى صحيفة “ماكور ريشون” الإسرائيلية، المحسوبة على اليمين الصهيوني ـ الديني (الاستيطاني)، فهذا اعتراف منه ليس بإسرائيل فحسب، بل بالاستراتيجية الاستيطانية داخل الأراضي العربية المحتلة. وبمجرّد قبوله بفكرة دور “بناء” لإسرائيل في سورية، فهذا يعني وضعها في مصفوفة الجهات القادرة على لعب دور إيجابي في سورية والبلدان العربية.

لو جاءت تصريحات فراس طلاس قبل خمس سنوات أو أكثر، لقلنا إن رغبة الرجل في إسقاط النظام بأية وسيلة دفعته بالخطأ نحو إسرائيل، وإن كان هذا السلوك مرفوضا بالأساس، ولكن أن تأتي تصريحاته في هذه المرحلة، بعدما انتهت العمليات العسكرية الكبرى في سورية، وثبتت مناطق النفوذ، فإن الأمر لا يتعلق بالوضع السوري، بقدر ما يتعلق بأجندةٍ تخدم إسرائيل في عموم المنطقة.

لم يتحدّث الرجل عن حزبه السياسي، ولا عن الدور المفترض لأخيه العسكري. ولم يتحدّث عن الوضع السياسي المستقبلي في سورية، ولا عن الدور الإيراني أو الضربات العسكرية الإسرائيلية، بل تحدّث عن علاقة بشار الأسد بزوجته وأخوته، وعن تصريحاتٍ للأخير عام 2011، لم يعد لها أية قيمة سياسية، ما يوحي أن المقابلة جاءت خارج السياق السياسي والإعلامي.

أبرز ما قاله إن “إسرائيل أخطأت بعدم تدخلها في الحرب الأهلية في سورية”، وإنه “بين عامي 2013 ـ 2015، نظر سوريون كثيرون بشكل إيجابي إلى إسرائيل، وكانت فرصة حقيقية للتغيير ولمستقبل جديد. واليوم عاد الشعب السوري إلى النظر بصورة سلبية لإسرائيل، لأنها أيّدت الروس وبقاء الأسد رئيسا. والآن على إسرائيل أن تفعل كثيرا من أجل تغيير هذه الفكرة السلبية”. وثمة مغالطتان هنا. الأولى، اعتقاد نجل مصطفى طلاس أن إسرائيل تهتم لما يجري في سورية فيما يتعلق بالصراع بين النظام والمعارضة، وإنها تهتم بالحقوق والحريات والديمقراطية ودولة القانون. وتناسى أن الربيع العربي شكل خطرا استراتيجيا كبيرا على إسرائيل، فنشوء دول عربية ديمقراطية هو التهديد الأكبر لها. لم يدرك أن إسرائيل ليست معنية بما يجري في سورية، إلا من من ناحية حصول تهديد لها. ولهذا السبب مالت نحو النظام أكثر مما مالت نحو المعارضة التي يطغى عليها البعد الإسلامي. المغالطة الثانية، قوله إن سوريين كثيرين نظروا بإعجاب إلى إسرائيل في مرحلة معينة، وهذا كلام مناف للحقّ والحقيقة، فالشعب السوري مفرط في أيديولوجيته القومية. وما زال الصراع مع إسرائيل وسيبقى صراعا وجوديا في الهوية السورية، وأن مسألة التعاطي مع إسرائيل تعتبر انتهاكا للمقدّسات في صفوف المعارضة.

على الرغم من هذه المغالطات، ليست المسألة الجوهرية في منطوق كلام فراس طلاس، وإنما في توقيته وغايته والجهة الموجّه إليها هذا الكلام. وهنا تطرح بعض الأسئلة والاستفسارات: ما الذي يجعل صحيفة إسرائيلية ثانوية تتصل بطلاس، وتجري معه لقاءً عبر الهاتف للحديث عن قضايا أصبحت ميتة سياسيا، ولا تحظى بالاهتمام الإعلامي؟ لماذا تهتم صحيفة إسرائيلية محلية معنية بالاستيطان بوضع سياسي مضى عليه عشر سنوات؟

ثمة ملاحظات لا بد من طرحها: لا تخرج تصريحات طلاس عن محاولة تلطيف صورة إسرائيل من خلال قدرتها على لعب دور في إسقاط النظام السوري، وإنهاء حالة الاستبداد مقدمة لبناء نظام ديمقراطي. ولا تنفصل هذه التصريحات، بطبيعة الحال، عن موجةٍ عربيةٍ متلهفة للتطبيع مع إسرائيل والانفتاح عليها، لعبت الإمارات، حيث يقيم فراس طلاس، فيها دور العرّاب. وهي موجة تعمل، منذ فترة، على تلميع صورة إسرائيل في الوعي العربي، منارة للحرية والسلام. ثانيا، ليس مصادفة أن تأتي تصريحات فراس طلاس في هذا التوقيت، بعدما أصبح له حزب سياسي، وكأنه يبحث عن دور سياسي مستقبلي، يحظى بدعم إماراتي وبرعاية إسرائيلية، وبقبول أميركي. ثالثا، تهدف مثل هذه التصريحات إلى توجيه ضربة سياسية للمعارضة وتشكيكا في أخلاقياتها، في وقت تخدم النظام السوري الذي طالما استغلّ مثل هذه الحالات الفردية، لاتهام المعارضة بالعمالة لإسرائيل والولايات المتحدة، وحالة كمال اللبواني ماثلة في الذاكرة. رابعا، من الواضح أن عقلية طلاس لا تنفصل عن عقلية النظام السوري القائمة على مكيافيلية انتهازية، تساوم على كل شيء من أجل تحقيق مصالحه الضيقة.

هل علينا التذكير بتصريح رامي مخلوف عام 2011 حين قال لصحيفة نيويورك تايمز “إذا لم يكن هناك استقرار في سورية، فلن يكون هناك استقرار في إسرائيل”؟ وهل علينا التذكير أيضا بما جرى في 5 يونيو/ حزيران عام 2011، حين أرسل النظام مئات السوريين والفلسطينيين لاجتياز السياج الحدودي والعبور إلى الجولان المحتلة، في خطوةٍ لم تحدث منذ نهاية حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973؟ .. إنها رسائل سياسية واضحة، مفادها بأن أي تهديدٍ لنظام الحكم في دمشق سينعكس سلبا على إسرائيل، وما المقاومة والممانعة إلا أداتان أيديولوجيتان لخدمة السلطة.

يعيد فراس طلاس اليوم منطق النظام السوري، ولكن هذه المرّة من بوابة الشعب السوري المعارض، البريء منه براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب.

العربي الجديد

—————————–

خمس حكايات وقصة واحدة/ عروة خليفة

بعد الوقفة السنوية في عامودا لإحياء ذكرى ضحايا مجزرة حلبجة الرهيبة، التي استخدم فيها نظام صدام حسين السلاح الكيميائي ضد المدنيين الكُرد، وتحديداً بعد انتهاء دقائق الصمت حداداً على أرواح ضحايا المجزرة، وقف من عرفتُ أنّه صديقي بهزاد حمو يهتف بصوته الجهوري «بالروح بالدم نفديكي يا دمشق». كان ذلك في السادس عشر من آذار (مارس) 2011، بعد يوم واحد فقط من أولى المظاهرات التي خرجت في العاصمة. لم تتحول تلك الواقعة، التي رواها لي إسماعيل شريف، إلى مظاهرة علنية ضد النظام، لكن الهتاف كان تحية واضحة لمظاهرة الخامس عشر من آذار في دمشق. بعدها بأسابيع قليلة، سيخرج الآلاف في عامودا بريف الحسكة مطالبين بإسقاط نظام الأسد.

يحكي هذا التقرير قصة هي خلاصة حوارات مع صبايا وشباب من كرد سوريا، كانوا حرفياً في الصفوف الأولى للثورة عام 2011، وانتهى بهم الأمر يشاهدون عربات تركية مدرعة عام 2018 تدخل مدينة عفرين برفقة فصائل كانت تسمى جيشاً حراً ذات يوم. تقول بيريفان أحمد: «نهاية العام 2011، لففتُ علم الثورة على خصري تحت ملابسي وعبرتُ به الحواجز. كان يمكن أن أُقتلَ إذا اعتُقلتُ وهو بحوزتي. عَبرتُ به حواجز أمنية في مدينة دمشق من أجل المشاركة في مظاهرة. العلم ذاتُه رأيته مرفوعاً على مدرعات وعربات تحتل ّعفرين بعد أعوام».

بيريفان أحمد، غيفارا نمر، بيروز بيريك، إسماعيل شريف، بشير أمين: صبايا وشباب كُرد، شاركوا في حراك الثورة السورية منذ آذار ونيسان 2011، يتحدثون اليوم عن تلك اللحظة بعد كلّ ما حدث، ليس في عفرين فقط، لكن بعد كل شيء منذ اقتحام فصائل مُعارِضة للنظام، كانت تضم ’غرباء الشام‘ وفصائل إسلامية منها ’جبهة النصرة‘، لمدينة رأس العين في صيف 2012.

* * * * *

كانت بيريفان أحمد تعيش في المدينة الجامعية، وتكمل سنتها الدراسية الرابعة في جامعة دمشق: «من بداية 2011 كان المجتمع عم يغلي، ونحنا عم نغلي. بالنسبة للكردي أو الكردية السورية، كان الشعور بالقمع والظلم مضاعفاً. كنا ننتظر تلك اللحظة التي ستبدأ الانتفاضة فيها».

واجهت بيريفان في البداية صعوبة في التنسيق من أجل المشاركة في المظاهرات، لكن لم يكن شي ليمنعها: «كان أصدقائي المقربون الذين شاركوا في المظاهرات يرفضون مساعدتي على معرفة مواعيدها ومكان انطلاقها خوفاً عليّ، خاصةً وأنّني كنتُ أعيش في المدينة الجامعية حيث الرقابة أكثر تشديداً بكثير. أذكر بوضوح المرة الأولى التي شاركتُ فيها في مظاهرة في جديدة عرطوز قرب دمشق، ذهبت إلى المنطقة وأنا مصمِّمة تماماً على الانخراط في الحراك. لم يكن هناك مجال لنقاشي أبداً، لا من أصدقائي ولا عائلتي التي كانت قلقة للغاية. كان الحلم يتحقق، فلماذا الانتظار الآن؟ في تلك اللحظة، وأنا في طريقي إلى المظاهرة، عرفتُ أنني لا أريد التخرج. كان التخرج يعني أن أترك دمشق التي أحسستُ للمرة الأولى بالانتماء إليها. حتى هذه اللحظة، عندما أتذكر تلك اللحظات التي توالت علينا ونحن نتظاهر خلال السنة الأولى من الثورة، أتذكر كم كان مدهشاً لنا أن نهتف للحرية وضد النظام في مدينة دمشق».

وُلِدَتْ غيفارا نمر في مدينة دمشق، وعاشت فيها معظم سنين حياتها. كانت المشاركة في الحراك أمراً غير قابل للمجادلة بالنسبة لها: «عندما سُئِلتُ قبل فترة قريبة: لماذا شاركتِ بالثورة السورية؟ فوجئتُ من السؤال. الأمر كان بالنسبة لي منطقياً للغاية، ولا يحتاج للنقاش والتبرير طوال تلك الفترة. لماذا شاركتُ بالثورة؟ لأنّ هناك ثورة انطلقت وعلى الجميع المشاركة بها. بهذه البساطة كان جوابي».

انتقلت غيفارا فوراً للمشاركة في تنظيم نشاطات ضمن الاحتجاجات في دمشق: «كنتُ مع مجموعة اسمها أيام الحرية، كنا ننظم نشاطات حراك سلمي بدمشق، مثل المظاهرات الطيارة، أو تلوين نوافير في ساحات رئيسية في العاصمة باللون الأحمر. شاركتُ في تنظيم عدد من المظاهرات في دمشق، ولاحقاً قمتُ بالتركيز على التصوير خلال عام 2012. بالعودة الآن إلى ذكريات عام 2011، أظن أنه من الجيد تَذكُّرُ من نظموا المظاهرات أيضاً، الذين ربما لم يستطع بعضٌ منهم المشاركة فيها، فيما البعض الآخر شارك في المظاهرات من دون القدرة على المساهمة في تنظيمها. ربما من الجيد تذكر الأمرين اليوم؛ المنظمون والمشاركون في تلك المظاهرات».

في الشهر السابع من العام 2011 اعتُقِلت غيفارا خلال مشاركتها في مظاهرة في حي الميدان: «كانت عائلتي في تلك الأيام تنتظر دورها للحصول على الهوية السورية لأول مرة. تأجَّلَ ذلك الموعد لأشهر بسبب اعتقالي. كنتُ أحس أنّني لم أُعتقَل لأيام قليلة في فرع الأمن الجنائي فحسب، بل سأخسر ربما فرصتي الأخيرة بالحصول على هوية. أحسستُ بذنب فظيع لأنني قد أكون قد تسببتُ في خسارة أفراد عائلتي لهذه الفرصة أيضاً. في فرع الأمن الجنائي بعد ساعات من اعتقالي، عاد المحقق المسؤول عنّا، فتح باب الزنزانة ووجه الكلام لي: غيفارا نمر، أجانب حسكة وعم تتظاهري! أخرجني من الزنزانة وأعاد التحقيق على مدى ساعات، موجِّهاً طوال ذلك إهانات لأنني كردية لست حاصلة على الجنسية السورية».

أما إسماعيل شريف فكانت المشاركة في الحراك بالنسبة له أمراً شديد الأهمية، ما دفعه إلى تغيير مسار دراسته: «في بداية الثورة كنتُ أدرس في معهد إعداد المعلمين في مدينة اللاذقية. عندما عدتُ من إجازتي التي أخذتها في عيد النوروز، والتي قضيتُها في مدينتي عامودا، عرفتُ بالمظاهرات التي خرجت في اللاذقية في حي الشيخ ضاهر. كان أمراً غَيَّرَ حياتنا. لم أُرِد البقاء طويلاً بعيداً عن عامودا التي بدأت فيها بعض التحركات، لذلك عدتُ في بداية شهر نيسان. المظاهرة التي حدثت في 8 نيسان 2011 كانت أولى المظاهرات التي أشارك فيها، واستمر هذا الحال من مشاركاتي في التظاهر خلال إجازاتي من المعهد، ومشاركتي مع تنسيقية عامودا التي بدأنا بتنظيم العمل ضمنها من أجل المظاهرات والحراك السلمي في المدينة، إلى أن نَقلتُ دراستي في العام التالي إلى مدينة الحسكة كي أبقى بالقرب من الحراك في مدينتي. استمرَّ الحراك في المدينة حتى صيف 2013، عندما حدثت مجزرة عامودا. عندها اضطُررتُ للهرب من المدينة بعد اعتقال عدد من أصدقائي في التنسيقية، لم يعد البقاء ممكناً بعدها».

في آذار 2011 كان بشير أمين يدرس للشهادة الثانوية في مدينة عامودا: «عند انطلاق الثورة لم أكن مسيَّساً بالمعنى الفعلي، ولم أكن أتابع الشأن السياسي بشكل دائم. لكنّ ما حدث في آذار 2011 صنع فارقاً كبيراً بالنسبة لي. لقد أخرجَ ما كان واضحاً إلى العلن. هذا النظام شديد السوء والطغيان، والثورة أعطتنا فرصة لمقاومته. شاركتُ في العديد من المظاهرات في مدينتي عامودا. بعدها بدأت المجموعات الأكبر التي شاركتْ في تلك المظاهرات بالانقسام سريعاً، اتخذ المقربون من ’حزب الاتحاد الديموقراطي‘ موقفاً خاصاً، بينما نظمت الأحزاب التي تجمعت في ’المجلس الوطني الكردي‘ لاحقاً تنسيقيات خاصة بها، وظلّ الشباب المستقلون الذين كانت تمثلهم تنسيقية عامودا بشكل أساسي عصبَ الحراك في المدينة. استمرَّ الحراك حتى صيف 2013، عندما حدثت مجزرة عامودا والحصار الأمني الذي قامت به وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، التي اعتقلت وقتلت شبّاناً من الأحزاب الكردية الأخرى ومن المستقلين. خرجتُ من المدينة في تلك الفترة التي تمّ منع الحراك تماماً فيها».

بيروز بيريك من جهته كان قد قرّر الالتحاق بالمظاهرات التي دعت إليها صفحات على فيسبوك ربيع 2011: «قرّرتُ أنني سأتوجه للجامع الأموي يوم الجمعة 18 آذار بناءً على تلك الدعوات. عندما انتهت صلاة الجمعة، وقفَ شاب ووجه حديثه لخطيب الجمعة وقت ذلك، الشيخ البوطي. كان هناك ضجة كبيرة ولم يكن الصوت واضحاً، لكنني عرفتُ أنّ الاحتجاج سيبدأ داخل الجامع من نبرة الشاب في الحديث. وعندما بدأت الهتافات توجَّه أشخاص نحو البوطي، لم أكن متأكداً من أنهم كانوا يريدون ضربه أو الاعتداء عليه كما أُشيعَ وقتها، ربما كانوا يحتجوّن على مضامين حديثه المؤيدة للنظام. عندما خرجت المظاهرة إلى صحن الجامع الخارجي، بدأ هجوم الشبيحة علينا. ركضتُ باتجاه باب صلاح الدين واستطعتُ الهرب من ضرباتهم. قبل ذلك، كان هناك شيخ كبير في العمر، حاول تخليص أحد المتظاهرين من أيديهم، لكنّهم بدأوا بضربه بدلاً من الشاب. كان منظراً فظيعاً. عرفتُ وقتها مع مَن نتعامل».

يذكر بيروز ارتباطاً عاطفياً بينه وبين دمشق: «قضيتُ فيها 13 عاماً خلال دراستي وخدمتي العسكرية الإلزامية، وقد واصلتُ المشاركة في المظاهرات في مدينة دمشق لأشهر طويلة بعدها. كنتُ أسميها ’ثورة‘، وأنظر إلى ما يجمعنا كطيف مدني ديموقراطي، وهو الرغبة بالعدالة والديمقراطية في هذا البلد. اليوم أميلُ إلى تسمية ’الانتفاضة‘ بدلاً من ’الثورة‘. هناك خيبة أمل كبيرة حصلت بعد كل تلك السنوات».

* * * * *

كان من المفترض أن يكون سؤالنا المحوري في هذا التقرير متعلقاً بالمشاعر والتناقضات التي يُحسّ بها شباب وصبايا كُرد شاركوا في حراك الثورة السورية منذ 2011، بعد الذي حصل في عفرين عام 2018. لكن في الحقيقة، لم يكن ذلك الحدث نقطة التحول الوحيدة ولا الصدمة الأولى، بل كانت هناك لحظات وصدمات أخرى، سابقة ولاحقة، دفعتهم إلى الفصل بين تلك اللحظات الثورية في 2011 وكلّ ما جرى بعدها

تقول غيفارا: «أرى أن الأمر قد بدأ قبل عفرين. ما حدث هناك كان في رأيي مجرد نتيجة. الصدمات توالت منذ اقتحام فصائل مسلّحة معارِضة لرأس العين في صيف عام 2012. كانت تلك الصدمات بالنسبة لي مشابهة لوجود تنظيمات مثل ’جيش الإسلام‘ في صفوف الثورة. هؤلاء شركاؤنا في الوطن (للسخرية). بعد كل تلك الصدمات التي عشناها، أواجه اليوم موقفاً شديد التعقيد. ارتباطي بالثورة بالنسبة لجزء من الناشطين الكرد أصبح تهمة، فقد تخليتُ في نظرهم عن هويتي الكردية. في الطرف الآخر، اكتشفَ البعض فجأة أنني كردية، وأصبحتُ مضطرة في نظرهم لتبرير انتهاكات قسد و’حزب الاتحاد الديمقراطي‘. اليوم، أرى أن الذي قتل مشعل تمو كان يعرف إلى أين سيقودنا كل ذلك، ويبدو أنّه نجح في مساعيه. ها نحن قد وصلنا إلى أسوأ مكان، حيث الكثيرون أصبحوا مضطرين للعودة والاحتماء بهوياتهم المختلفة. ليس لأنّ مشعل بطل خارق كان سيوقف حركة التاريخ لوحده، لكنّ وجود مشعل وما يُمثّله كان بالتأكيد سيسمح لأصوات مغايرة بالظهور وسط هذا التوتر. كان وجوده سيدعم مبادرات تساهم في المطالبة بحق تقرير المصير إلى جانب الديمقراطية. بالنسبة لي، هذان مطلبان غير منفصلَين. قضيتي اليوم هي حماية حقوق الإنسان في هذه البقعة الجغرافية التي ننتمي إليها بهوياتنا المتنوعة، وإذا لم يكن هذا جوهر اتفاقنا كسوريين فإن ما يجري سيستمر من دون أن نعرف نهاية له».

كذلك بيريفان سبق شعورها بالخذلان أيضاً ما حصل في عفرين. هي كانت قد انتقلت إلى مخيم اليرموك قبيل نهاية العام 2012، لتشارك في المنطقة المحاصرة آنذاك في العمل الإنساني كمُسعفة ضمن النقطة الطبيّة، وضمن تنظيم النشاطات الحراك المدني في اليرموك: «لم يكن أمام الحراك إلّا الانتقال إلى المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. كان الوصول إلى الغوطة الشرقية صعباً للغاية بالنسبة لي، بينما كان لدي إمكانية للانتقال إلى مخيم اليرموك. كان المخيم امتداداً للعاصمة، التي كنتُ أرى أنّ الحراك فيها أساسي من أجل إسقاط النظام. قضيتُ عاماً وأربعة أشهر في المخيم، كانت فيها أقسى اللحظات التي عشتها، لكنني لستُ نادمة، وإذا عاد الزمن لن أغيّر في قرارتي. ربما ستكون أكثر تعقُّلاً، لكنني لست نادمة على أي لحظة. رغم تمسُّكنا بسلمية الحراك ورفضي الشخصي للسلاح، كان السلاح قد أصبح أمراً واقعاً. كانت نظرتي العاطفية، أو لنقل موقفي في ذلك الوقت، أننا رغم موقفنا ضد التسلّح، إلّا أنّ دورنا الآن هو أن نُمنطق وجود السلاح. كان هذا أحد أسباب دخولي إلى اليرموك أيضاً. لكن التجربة اليوم أثبتت لي أن المنطق والسلاح لن يجتمعا أبداً. بعد سبعة أشهر قضيتها في مخيم اليرموك، قضيتُ معظمها في العمل ضمن نقطة طبية لإسعاف الجرحى نتيجة القصف والمعارك، اختطفتْني مجموعة إسلامية بذريعة اتهامات لي بالعلاقة مع أحزاب كردية. كنتُ موجودة في نقطة قريبة جداً من خط الجبهة، لذلك ظننتُ أنّ النظام اعتقلني في اللحظات الأولى. لم أعرف تماماً أين أنا لأن عيوني كانت مغطاة طوال الوقت، لكن عندما بدأوا التحقيق معي وهم يصوّبون المسدس إلى رأسي عرفتُهم. لقد عرفتُ الأصوات، فقد أسعفتُ عدداً منهم خلال تلك الأشهر، وقد قلتُ لهم ذلك. كان الإحساس بالخذلان طاغياً عليَّ في تلك اللحظات. قررتُ وقتها أنّني أريد الخروج من المخيم. بعد ذلك بأشهر غير قصيرة خرجتُ بصعوبة شديدة من الحصار إلى مدينة دمشق. لم أكن أعرف ما الذي أريد فعله، حاولتُ الدخول إلى الغوطة الشرقية، لكن لم أُفلِح. انتهى بي الأمر خارجة من سوريا في 2014».

يقول بيروز أنّ آمالاً كبيرة تبخرت بعد كل ذلك: «بعد انتشار السلاح بيد الإسلاميين وتحكم العصابات بالناس، تبخرت آمالنا. كنتُ أشعر، ككردي، أن الانتكاسات أكبر بالنسبة لي، وحتى قبل احتلال عفرين، فقد كان الهجوم على مدينة رأس العين في 2012 مؤشراً واضحاً على تبدل وجه الثورة وأولوياتها لدى من حملوا السلاح. كانوا يحملون علم الثورة واقتحموا المدينة. كنتُ فيها وقتها لأن بيتي هناك، وبقيتُ إلى اليوم الثالث من سيطرتهم على المدينة. رأيتُ كيف تعاملوا مع الناس، وكيف قتلوا عناصر أمن وشرطة وجيش لم يشاركوا في أي انتهاكات أو يقمعوا المظاهرات التي كانت تخرج فيها سابقاً. منذ ذلك الوقت رأينا أحداثاً كثيرة، دفعتنا… لن أقول إلى الندم، لكن إلى مراجعة الحسابات. صرنا ننظر إلى الثورة بمنظور آخر، بمنظورنا الخاص، فبالتأكيد لم يكن هناك أي رابط بيننا وبين الذين دافعوا عن تلك الانتهاكات والتصرفات. لكن اليوم، وبعد كل ما حدث، عندما أستعيدُ تلك الحالة الأولى خاصة في الشهور الستة الأولى، لو عاد بي الزمن، فإنني سأعود للمشاركة فيها. تلك البداية التي أحسسْنا فيها بأنّ سقوط النظام والتحول إلى نظام ديمقراطي سيقود تلقائياً إلى حل القضية الكردية. اليوم، أصبح هذا المطلب أبعد، وما زال الحضور السياسي الكردي في سوريا مهدَّداً. لم تكن تركيا بحاجة لحجّة قسد أو ’حزب الاتحاد الديمقراطي‘ لاحتلال عفرين أو سري كانييه، برأيي أنّ الهدف هو الوجود الكردي والتنوع الإثني والثقافي في هذه المنطقة. هذه التوجهات تشكّل اليوم خطراً على وجود الكرد أنفسهم، وليس على مشاركتهم السياسية فقط».

أما بشير فيظن أنّ استعادة لحظات 2011 أصبحت أكثر صعوبة بعد كل ما حدث: «لم أعد أستطيع الحديث عن تلك الفترة أمام أقاربي ومحيطي الكردي بالطريقة نفسها. أشعر بالانزعاج الشديد الآن لأني أقول ذلك، لكن للأسف لم أعد أستطيع، ومع ذلك لا زلتُ أحاول. هذه الثورة، بغض النظر عمّا جرى لاحقاً، غيَّرتْ فيَّ الكثير. كنتُ سأكون شخصاً آخر بالتأكيد لولا الثورة، لكنّ هذا الخطاب لم يعد ينفع في الوسط الكردي. أمام الضحايا والتطرف الذي يستهدف الوجود الكردي، لم يعد هذا الخطاب يحقق أي شيء. الكرد يُحسون اليوم بأنهم يحاربون من أجل وجودهم وليس من أجل مشروع سياسي. الأمر صار أن تكون أو لا تكون».

إسماعيل يقول إنّه بالتأكيد لن يشعر بالندم، لكن ما حدث غير الكثير: «بالنسبة لنا لم يكن احتلال عفرين الحدث الأول، كنا قد شاهدنا ما حدث في رأس العين صيف 2012، لكن عفرين كان نقطة مفصلية بالنسبة لي، فقد شاهدتُ كتائب تقول إنها تمثل الثورة، وتحمل علم الثورة، تقتحم مدينة عفرين وتقوم بانتهاكات بحق الأهالي. المدنيون في عفرين ليسوا من البي كي كي، وليسوا من أحزاب المجلس الوطني. الانتهاكات ارتُكِبت وتُرتكبُ بحق الجميع، بحق شعب كامل. منذ اليوم الأول الذي دخلوا فيه إلى عفرين، كانت الصورة التي خرجت من المدينة مخزية».

يقول إسماعيل إن أخته تسكن في مدينة رأس العين، عادت مع عائلتها إليها بعد نزوح لسنوات بسبب معارك 2012: «أعادوا بناء منزلهم هناك، لكنهم لم يقضوا فيه عامين حتى بدأت العمليات العسكرية مجدداً في المدينة، عندما اقتحمت القوات التركية وفصائل سورية تابعة لها المنطقة أواخر العام 2019. أرسلت أختي لي صورة للبيت، حتى الشبابيك والأبواب تمّت سرقتها. قبل ذلك، بعد وفاة الساروت شاركتُ فيديو له من مظاهرات حمص، فاتصلت أختي بي لتُعاتبني: هل ما زلت معهم؟ هل ما زلت تحترم هذا العلم؟ للأسف لُطِّخَ هذا العلم بالدماء. كان كلامها من أصعب المواقف التي واجهتها في حياتي. لا أشعر بالخجل أو الندم على تلك السنوات، ولا بالصور التي لديّ من مشاركاتي والتي تضمّ علم الثورة. كنتُ أشارك فيها مقتنعاً بأنها الطريق الوحيد لنا، لكنني لن أحمل علم الثورة اليوم، ولستُ نادماً في الوقت ذاته على رفعه سابقاً. كانت لحظات غيّرتْنا جميعاً».

* * * * *

يوم أمس كان عيد النوروز، هذا العيد الذي مُنِعَ الاحتفال به في عفرين خلال الأعوام القليلة الماضية، ثم خرج الائتلاف هذه السنة بقرارات تُعلنه عطلةً رسمية؛ الائتلاف نفسه الذي يمثّل سياسياً فصائل سورية مدعومة من تركيا، تقتل وتعتقل وتقمع كرداً من أبناء المنطقة وبناتها، وتُهجِّر كثيرين وكثيرات لن يستطيعوا الاحتفال بهذا العيد في بيوتهم، لكنّ عيونهم ترقب بالتأكيد.

موقع الجمهورية

——————————-

استخلاصات إسرائيلية في الذكرى العاشرة للثورة السورية/ عدنان أبو عامر

بعد مرور عقد كامل على اندلاع البدايات الأولى للثورة في سوريا، فإن كل النبوءات التي أطلقتها أجهزة المخابرات الغربية، ومنها إسرائيل، لم تجد طريقها للتحقق على الأرض، ما يفسح المجال لاستخلاص جملة من الدروس الإسرائيلية من هذه الأحداث.

أول هذه الدروس أنه بعد فترة وجيزة من اندلاع الانتفاضة في درعا جنوبي سوريا، قبل عشر سنوات، تنبأت المخابرات في الغرب برحيل بشار الأسد عن السلطة خلال فترة وجيزة، حتى إن كبار المسؤولين في إسرائيل أمهلوه بضعة أسابيع على الأكثر لحزم أمتعته، والسفر لطهران ليقضي بقية حياته.

بعد عقد من هذه النبوءات، فلا يزال الأسد موجودا، رغم أنهار الدم التي سكبت في بلاد الشام، والدمار والخراب الذي لحق بها، ولذلك يمكن تعلم العديد من الدروس مما أصبح يعرف بالربيع العربي، وعلى رأسها الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي، الذي لم يقم بتقييم الوضع السوري بشكل صحيح، لأن تحليل الاستخبارات للموقف وفقا للتطورات الميدانية قد يعمد إلى إغفال التقييم الدقيق، وفي المقابل يميل التحليل الاستخباراتي للتطورات السرية إلى فهم الواقع بشكل أفضل.

الدرس الثاني يتمثل بفشل الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في إظهار القوة والتصميم في مواجهة استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية، شكل نافذة واسعة جدا لدخول روسيا إلى الساحة السورية، وهي التي طالما طمحت بوصول “المياه الدافئة” للبحر المتوسط، ورأت أن الطريق ممهد أمامها، ويبدو أنها لن تغادر في وقت قريب، رغم أن إسرائيل قررت أن تبتعد عما يحدث لجارتها الشمالية، ولكن ليس لفترة طويلة.

الدرس الثالث الذي تستخلصه إسرائيل من الثورة السورية في ذكراها العاشرة هو تقوية حزب الله في لبنان، وتأسيس الوجود الإيراني في سوريا، ما أدى إلى نشوب مواجهة عسكرية مباشرة بين حين وآخر مع سوريا وإيران وحزب الله.

الدرس الإسرائيلي المهم الرابع يشير إلى أن الأسد الآن يسيطر على ثلثي مساحة الدولة السورية، بمساعدة حزب الله وإيران والروس، وبات مدينا لهم، لكنه في الوقت ذاته تخلى فعليا عن السيطرة على حدود سوريا، وأصبحت 20٪ من حدودها البرية والبحرية تخضع لسيطرة جهات أجنبية، ورغم ذلك، فإن سيطرة الأسد على بقية سوريا تسمح له بالبقاء لفترة طويلة، حيث تم إنشاء مناطق نفوذ بحكم الأمر الواقع، مع استقرار نسبي، دون وجود حل للأزمة القائمة.

الدرس الخامس يتمثل في أن إسرائيل على عكس كل اللاعبين الآخرين في سوريا، فلديها اعتبارات خاصة، وباستثناء الوجود الروسي، فإن جميع اللاعبين الآخرين في سوريا معادون لإسرائيل، لذلك ظهر سلوكها مميزا؛ وليس مقتصرا على مجرد هجمات عسكرية فقط، بل الاتصالات الدبلوماسية في القنوات الهادئة أيضا، ولعل موسكو هي الأفضل لذلك.

في النهاية، فإن روسيا لا تريد إيران أو حزب الله أو تركيا في سوريا، بل تسعى لأن تكون حصرية هناك، وهذا أمر مدهش أن نرى مدى تطابق المصالح الروسية مع المصلحة الإسرائيلية، في ظل أن الخط الساخن بين تل أبيب وموسكو موجود، ما يتطلب من إسرائيل التكثيف من استخدامه.

فضلا عن تلك الدروس الإسرائيلية من الذكرى السنوية العاشرة للثورة السورية، فقد اعتبرت محافل عسكرية إسرائيلية، أن مرور هذه السنوات العشر، أثبتت فشلا في التنبؤ الاستخباري فيما يتعلق بسوريا، ما تسببت بحرج شديد داخل إسرائيل، لأن أياً من أجهزة مخابراتها، لم تستطع توقع الأحداث الداخلية والمفاجئة في سوريا، فضلا عن الحرب التي استمرت لسنوات عديدة.

من الناحية العملية، حطمت الانتفاضة الشعبية في سوريا تصور إسرائيل للأمن، ففي البداية، على ما يبدو، كان يأمل الإسرائيليون أن تهدأ الاحتجاجات في سوريا كما بدأت، لكن سرعان ما اتضح أن الواقع أكثر تعقيدًا، وزاد عدد اللاعبين والمصالح في سوريا مع مرور الوقت.

بعد الصدمة الأولية، ساد الرأي في قيادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، في ما عبر عنه وزير الحرب إيهود باراك بأن زمن حكم الرئيس السوري بشار الأسد بات محدودا، وأن سقوطه مسألة وقت فقط، لكن إسرائيل احتاجت إلى وقت طويل لصياغة سياستها تجاه سوريا، وبدا لفترة طويلة أنها لا تجري التعديلات اللازمة.

من الأمثلة البارزة على ذلك، أن قوات الجيش الإسرائيلي واصلت التدرب على غزوات الجيش السوري الذي لم يعد قائما، في حين استمرت الجاهزية الأمنية على طول الحدود، بزعم أنها مهددة بخطر لم يعد موجودا من الناحية العملية، فضلا عن جمع أخبار ومعلومات استخبارية عن تهديدات جديدة على شكل مسلحين مختلفين على حدودها، بما في ذلك داعش وجبهة النصرة.

أجرى القادة الإسرائيليون على الأرض، مباحثات مكثفة للتعرف على واقع الفوضى العارمة في قيادة المنطقة الشمالية العليا، وحاول مسؤولو الجيش الإسرائيلي تنظيم المنطقة، كي يساعد، من بين أمور أخرى، في تدفق المعلومات الاستخباراتية.

لكن ما يثير استياء إسرائيل أن حزب الله يخوض عملية إعادة تأهيل الجيش السوري بشكل أساسي من خلال هيئة تُعرف بـ”القيادة الجنوبية”، تساعد السوريين على التعافي، وجلب مواردها لهذا الغرض، والخوف الإسرائيلي من محاولة حزب الله فتح جبهة أخرى ضد إسرائيل على الحدود السورية، دون إغفال أن هناك توترًا كبيرًا عبر الحدود بين روسيا وإيران، وكل منهما معنية بتعزيز نفوذها وتعزيز مصالحها في سوريا.

الخلاصة الإسرائيلية أن الاستقرار في سوريا غير مضمون لفترة طويلة، وليس هناك شك في أن سوريا بأكملها، والمنطقة القريبة من الحدود خصوصاً، ستظل منطقة غير مستقرة ومنكوبة لسنوات عديدة قادمة، لذلك فإن التنبؤ بالأحداث، القريبة أو البعيدة، يميل في النهاية إلى الصفر بالنسبة للاستخبارات الإسرائيلية.

تأتي هذه الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع الثورة السورية مع ما استمرار الهجمات التي يشنها سلاح الجو الإسرائيلي على الأراضي السورية، دون أن تكترث دولة الاحتلال بـأي ردود قادمة، أو موجة، ولعل الهجوم الأميركي الأخير على الحدود العراقية السورية منح هجماتها “مشروعية” كانت بحاجتها، لا سيما في عهد الإدارة الأميركية الجديدة.

لقد حاز التوتر الأمني والعسكري على الجبهة السورية على تغطية الإعلام الإسرائيلي، مع ارتفاع مستوى الهجمات الإسرائيلية، وانخفاض مستوى الرد الإيراني والسوري عليها، إن حصل فعلًا، ما يؤكد أن الهجمات الإسرائيلية المستمرة على سوريا يمكن عدّها معركة حاسمة، لا سيما أنها ارتفعت في الأسابيع الأخيرة خطوة إضافية في ضوء الهجوم الأميركي على الحدود السورية العراقية، ما يوصل العملية الإسرائيلية المستمرة في سوريا إلى مفرق طرق.

هذا المفرق تنظر إليه إسرائيل على أنه استمرار لهذه الهجمات دون توقف، مع أن هناك ثلاثة أهداف تضعها لهجماتها داخل سوريا، وهي: منع إقامة جبهة عسكرية جديدة على حدود الجولان، والحيلولة دون الوجود العسكري الإيراني في سوريا، وحرمان حزب الله والقوات الإيرانية في سوريا حيازة أسلحة هجومية بعيدة المدى.

وخشية من التصعيد، ودخول المواجهة في سوريا مرحلة غير مسيطر عليها، أو وجود شكوك بعدم تحقيق هذه الهجمات أهدافها؛ فقد تزايدت الدعوات في إسرائيل للاستمرار في العمليات الهجومية داخل سوريا، استمرارًا لاستراتيجية “المعركة بين الحروب” التي صممها الجنرال غادي آيزنكوت قائد الجيش السابق قبل أربع سنوات.

تذكرنا الضربات الإسرائيلية على سوريا في السنوات الأخيرة بين 2015-2021، بالضربات التي سبقت اندلاع حرب عام 1967، فقد بدأت تل أبيب هجمات مركزة على دمشق منذ عام 1964، وهدفت إلى إحباط خطة تحويل مصادر نهر الأردن، وفرض “السيادة” الإسرائيلية على المناطق المنزوعة السلاح على الحدود مع سوريا، والعمليات ضد المنظمات الفلسطينية، التي أقامت قواعد عسكرية داخل معسكراتها التنظيمية في سوريا.

إن مرور الذكرى السنوية العاشرة للثورة السورية، مع زيادة الهجمات الإسرائيلية على سوريا، يكشف عن تطلعات إسرائيلية لا تخطئها العين، وتتمثل في إضعاف العناصر المعادية، وتحقيق الردع، وإبعاد شبح الحرب القادمة، لكن التساؤلات بدأت تطرح في الأروقة العسكرية الإسرائيلية عن مدى إنجاز الهجمات الأخيرة على سوريا هذه الأهداف، لا سيما الهدف المتعلق بإرجاء موعد المواجهة المستقبلية.

تلفزيون سوريا

————————-

في ضرورة إعادة بناء الأحزاب/ بسام يوسف

دفع السوريون ثمناً باهظاً من أجل حلمهم بوطن يستردون فيه حريتهم، ويعيشون فيه بكرامتهم، ولم يكن لهذا الثمن أن يكون باهظاً إلى هذا الحد، لو أن من يحكمون سوريا تصرفوا ولو للحظة واحدة بمسؤولية ما اتجاه سوريا والسوريين، ليس هذا في سنوات الثورة فحسب، بل منذ اللحظة الأولى لوصول حافظ الأسد الى كرسي الحكم في سوريا، لقد كان هاجسه الوحيد هو السلطة واستمراره في كرسيها.

كثيرة هي الشواهد التي تعكس حقيقة فهم عائلة الأسد للسلطة، وهوسهم بها من جهة، ولفهمهم لمعنى الدولة والمجتمع من جهة أخرى، شواهد فاضحة منذ لحظات انقلاب حافظ الأسد الأولى، مروراً بمجازر حماة وحلب وجسر الشغور، وسجن تدمر.. إلخ، ووصولا إلى وقائع الثورة خلال سنواتها العشر، لكن ما فعله رفعت الأسد عندما تردت حالة شقيقه حافظ الأسد الصحية، ورأى أن دوره قد حان لاغتصاب السلطة، فابتز وهدد بتدمير دمشق، وقام بتوجيه كل ترسانته العسكرية التي تملكها وحدته العسكرية “سرايا الدفاع” باتجاه دمشق، كانت الرسالة الأشد وضوحاً.

قالها رفعت الأسد بجنازير دباباته وفوهات مدافعه سنة 1984م، ثم قالها بشار الأسد مكتوبة على كل جدران سوريا “الأسد أو نحرق البلد”، عند وراثته للسلطة، وها هو يفعلها منذ عشر سنوات بكل ما يملك من وسائل القتل، وبكل ما يمكنه من استحضار لمرتزقة أو جيوش.

في طريقها لتكريس سلطتها وديمومتها، كان لابدّ لهذه العائلة من هدم كل ما من شأنه أن يحمي الدولة والمجتمع، في زمن الأزمات والكوارث والخضات الاجتماعية أو السياسية، فهُدمت الدولة، وأقيمت دولة على مقاس العائلة، وفُصّل الجيش على مقاسها، والبرلمان على مقاسها، والقضاء، والإعلام، والجامعات والمدارس والمنظمات وحتى أئمة المساجد… كل شيء فُصّل على مقاس سلطة هذه العائلة، لكن المهزلة الأكبر كانت عندما فُصّلت الأحزاب أيضاً على مقاسها.

منذ البداية كانت الركيزة الضرورية التي تؤسس لكل تفاصيل هذا التحول، والتي ستضعف سوريا إلى حد إخضاعها الكامل، تتلخص في إنهاء الحياة السياسية في سوريا، ومنع الأحزاب والنقابات والمنظمات المدنية من ممارسة أي فعل حقيقي في المجتمع، وتم استبدال الحياة السياسية الطبيعية ببديل مسخ ومشوه سُمي “الجبهة الوطنية التقدمية”.

لم تدمِّر الثورة السورية سوريا كما يتفاصح بعضهم، ما فعلته الثورة السورية في عقدها الذي انتهى منذ أيام، هو أنها أزاحت الستار عن الخراب الهائل الذي ينخر جسد سوريا بسبب حكم هذه العائلة، وأنهت الدجل الذي مارسته هذه العائلة طوال فترة حكمها حول الممانعة، وسوريا الحديثة، وكشفت أيضا الحقيقة الأهم، والتي لم تحظ بما يجب من الاهتمام، وهي أن سوريا ما كانت لتدفع كل هذا الثمن لو أن فيها حياة سياسية وأحزاب، ونقابات، ولو بالحد الأدنى.

إذا كان “الربيع العربي” قد فتح آفاقا جديدة أمام المجتمعات التي وصلها، فإن هذه الآفاق أُغلقت، أو ستغلق مرة أخرى، إذا لم تسارع نخب هذه المجتمعات إلى إعادة حياة سياسية حقيقية فيها، وإلى إيلاء صناعة الرأي العام الأهمية القصوى، وإلى إعادة الاعتبار للمرتكزات الأساسية التي تحمي المجتمع، وتفتح أمامه سيرورة التطور، والتي تأتي الدولة المحايدة، والحياة السياسية المحكومة بالدستور والقانون في مقدمتها.

اليوم أو غداً، ستطوى صفحة عائلة الأسد، فهذه العائلة “المافيا” لن تتمكن من الاستمرار، ليس لأن خصومها انتصروا عليها بمعارك السلاح، ولا لأن المجتمع الدولي يساند الشعب السوري، بل لأنها عندما دفعت بانهيار الدولة والمجتمع من أجل بقائها، دفعت أيضا باتجاه انهيارها هي أيضاً، لكن السؤال الذي يلح الآن:

    ماذا بعد نهاية هذه المافيا؟

لا أدري لماذا لا يحظى هذا السؤال بما يستحقه من التحضير، ولا أدري من أين يأتي هذا الاطمئنان إلى أن رحيل هذه العائلة سيحلّ الجزء الأكبر من المشكلة، وأن ما تبقى لا يعدو كونه ترتيب حكومة أو صيغة سياسية، أو اتفاقا ما بين أطراف خارجية وداخلية، رغم أن تجارب العراق ولبنان المجاورتين لنا لاتزال طازجة، ورغم أن إعدام صدام حسين، وإعدام القذافي، ورحيل حسني مبارك لم ينقذ العراق ولا ليبيا ولا مصر!

كيف سيتعايش السوريون، وكيف سيتدبرون كل هذا الخراب، كيف سيرتبون أولوياتهم، وأولويات تعافي بلدهم بعد كل هذا الدم، وهذا الدمار، وهذا الضعف في كل مجالات الحياة، وهل سيحتكمون في أيامهم القادمة للمنظومة إياها التي دمرت بلدهم، لكن بوجوه ومسميات جديدة؟

قد يبدو السؤال ساذجاً، وربما يميل الكثير منا لعدم الخوض فيه فثمة – برأيهم – ما هو أكثر إلحاحاً، لكن دروس تجربتنا، ناهيك عن دروس تجارب أخرى تخبرنا أن الكارثة قد لا تقف عند رحيل هذا الشخص أو ذاك، لا بل ربما تكون الكارثة أفدح بعد ذلك.

هل سنعيد تجربة سنوات الثورة السورية الأولى من جديد، فنعيد تفاصيلها الفاجعة مرة أخرى، ألم تخبرنا وقائعها أننا دفعنا كل ما دفعناه لأننا لم نكن شعباً، بل كنا عصبيات سلمت أمرها لمن لا يهتم لأمرها، فذهبنا إلى طوائفنا وقومياتنا، وتصنيفاتنا المتعددة، ونسينا سوريتنا، ولم نستمع لمن يختلف عنا، وحاربناه وكفرناه وأسكتناه، والأهم أننا خضنا هذا الصراع بلا أي مرجعية سياسية، أو حتى رؤية تعكس الاختلافات في الرؤى أو البرامج السياسية.

لا يمكننا أن نعيد الصراع إلى حقله الحقيقي بوصفه صراعا بين استبداد وشعب يتوق لحريته، دون أن نعيد للسياسة اعتبارها، من هنا تأتي حاجتنا الماسة لإعادة تشكيل تعبيراتنا السياسية، وحاجتنا الماسة لتشكيل أحزاب سياسية واضحة الأهداف والرؤى، ولها حدودها التنظيمية الواضحة والصريحة، وتخضع في علاقتها فيما بينها لنواظم الديمقراطية، ومحددات الحياة السياسية الطبيعية.

وهنا، لابدّ لنا من الاعتراف أن محاولاتنا خلال هذه السنوات العشر في خلق بنى حزبية وسياسية كانت محاولات فاشلة، ومرتجلة، ومتسرعة، فلم تنتج إلا هياكل هشّة بلا ملامح واضحة، تنقصها الرؤى والرؤية، وتعميها الانفعالات والشعارات، ولا نزال حتى اللحظة، وبعد سنوات نعيد اجترار تجاربنا الفاشلة، ونعيد للمرة الألف اجتماعاتنا التي يغلب عليها الانفعال، والمجاملة، وعدم الجدوى.

نحن بحاجة لأحزاب سياسية حقيقية، لها برامجها الواضحة، ويلتزم أعضاؤها بها وبنظامها الداخلي، وببرنامجها السياسي، وبشروط عضويتها، وبنواظمها وآليات اتخاذ القرار فيها.

إنها مسؤولية النخب السورية كلها، والشباب منها أولا، وهي مسؤولية ملحة لا تحتمل التأجيل، وربما تكون ضرورتها أشد في الداخل السوري اليوم، ففي هذا الخراب العميم لن يكون لنا مخرج إلا عبر تكاتف مسؤول وواع، ترعاه الأحزاب وتغيب عنه الطوائف والأحقاد.

——————————-

سورية بين التعويم وأهداف الثورة/ حيان جابر

بدأنا نلحظ -في الآونة الأخيرة- تركيزًا كبيرًا، من قِبل الوسائل الإعلامية والمنصات السياسية المعارضة، على موضوعين اثنين، يتمثل الأول في التحذير من احتمال تعويم الأسد دوليًا، في حين يتطرق الموضوع الثاني إلى مسار الحلول والمفاوضات الدولية؛ وكلا الموضوعين يثير حفيظة وغضب جمهور الثورة، خصوصًا عندما يتمّ تسليط الضوء عليهما. وأعتقد أن التركيز اليوم على كلا الموضوعين يُسهم في حرف الأنظار وتضييع الوقت من دون أيّ جدوى، ويؤدي ذلك إلى إهمال النقاط الأساسية التي تحتاج إلى تركيز وتعبئة وتحريض، وإلى عمل شعبي ووطني سريع.

في ما يخص إضاعة الوقت، دعونا نتفق أن جزئية التعويم والحلّ الدولي، في ظل غياب الفعل الثوري المدني أو الشعبي، مرتبطةٌ بالتوازنات والمصالح الدولية فقط، ولا يملك الشعب السوري اليوم أيّ قدرة على التأثير فيهما، قبل استرجاع دوره النضال الثوري؛ إذ إننا نجد، بالنظر إلى تجارب الشعوب الأخرى، فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا، أن الجهود النخبوية أو الفئوية المندرجة في نطاق ممارسة ضغط شعبي وإعلامي، على المجتمع الدولي الإقليمي والعالمي، ذات مردود محدود وهامشي، لا يتعدى النجاح في تأخير القرارات والتوجهات الدولية. ولدينا دروسٌ في هذا الخصوص من التجربة السورية، وبالتحديد في المرحلة التي سبقت الثورة، حيث حاول كثيرٌ من المعارضين والناشطين ممارسةَ ضغطٍ دولي متواصل، في المرحلة التي تلت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وكذلك الأمر بعد احتلال أميركا العراق، متعلقين بوهم التحرير عبر الخارج، وأميركا تحديدًا، من دون أن تؤدي جهودهم إلى إسقاط نظام الأسد من الحسابات الدولية والأميركية والصهيونية. في المقابل، نحج صمود وإصرار الشعب السوري الأعزل، في 2011، في إجبار الرئيس الأميركي أوباما على تغيير الخطاب الأميركي تجاه الوضع السوري، في آب/ أغسطس 2011، أي بعد بضعة أشهر من بدء الشعب ثورته والإصرار عليها، عندما صرّح أوباما بضرورة تنحي الأسد. وبغضّ النظر عن عدم جدية تصريح أوباما، وعن خطأ التعويل على الخارج، أيًا يكن، ولا سيما أميركا الآن، فإن سرد هذه الواقعة هنا يهدف إلى توضيح دور وأهمية الشارع في التغيير الداخلي والخارجي، فهو القوة الوحيدة القادرة على بعثرة جميع الحسابات الإقليمية والدولية، عندما يستعيد دوره السياسي والنضالي.

من كلّ ذلك، يبدو لي أن تعبئة الشارع السوري حول هذه المواضيع، على أهميتها، اليوم هو محض عبث، لأنها تعبئة في الموضع الخاطئ؛ حيث يجب أن تكون التعبئة حول تحقيق الأهداف الثورية الوطنية، المتمثلة في تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على الرغم من تراجع الفعل الشعبي راهنًا، ومن تصاعد حدة ودور القوى الخارجية، كونه رهانًا على المستقبل، بل على المستقبل القريب أيضًا، حيث يظهر من متابعة الأوضاع السورية مدى التدهور الحاصل، اقتصاديًا واجتماعيًا، ما يُسهم في إنضاج الأجواء الثورية، وفي تهيئة مناخ التعبئة السياسية الوطنية الجذري الساعي لبناء دولة وإطار سوري جامع، يلبي مطامح السوريين وأهدافهم. وبالتالي، يجب أن تتمحور الأولوية السورية اليوم حول تقديم الرؤى الاستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية، التي تعكس شعارات الثورة الأولى، وتحاكي الأهداف الوطنية، في بناء دولة العدالة والمساواة لجميع أبنائها، تكون متطورة ومنتجة، صناعيًا وزراعيًا، وتناقض الدولة الأسدية.

لم تعد مقولة إزاحة الأسد كافية في إقناع السوريين بقدرتها على حلّ أزمات البلد المتلاحقة، وإن كانت شرطًا لا بدّ منه، بقدر ما بتنا بحاجة إلى طرح متكامل، يضع نظام الأسد في موقعه الطبيعي والحقيقي، كنظام قمعي وإجرامي لا يدّخر فرصة من أجل نهب ثروات سورية والسوريين، ويهمل قضاياهم اليومية والمعيشية والاستراتيجية. حيث تسهم ممارسات الأسد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في فتح نافذة ثورية جديدة، أو في إعادة فتح النافذة الثورية الوطنية، وهذا ما يمنح القوى الثورية فرصة جديدة، لتدارك الظرف الذي أتاح لقوى الثورة المضادة التحكم في مسار الصراع مع السلطة، ويعيد الأمل في استعادة الصوت الثوري الذي صدحت به حناجر السوريين قبل عقد من الزمن، ويفسح لها المجال لتوحيد المجتمع السوري سياسيًا؛ إذ لا يدخر نظام الأسد أي فرصة من أجل نهب المال العام والخاص، ولنا في عشرات القوانين والإجراءات مثال على ذلك، وعلى رأسها قرار البنك المركزي القاضي باعتماد سعر السوق السوداء من أجل دفع بدل الخدمة العسكرية، وكذلك من خلال فرض رسوم على السوريين الراغبين في الزيارة أو العودة إلى سورية. ولا يتوانى النظام عن التنكيل بأي صوت ينتقد النظام، بغض النظر عن موقعه الجغرافي وعن موقفه من نظام الأسد. وهذا يؤكد طبيعة النظام النهبية والقمعية المتأصلة، على اختلاف الزمان والمراحل والظروف، كما يؤكد طبيعة نقيضه وبديله، اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا. إذ لا يعني السوريين اليوم الحديثُ عن بديل ديمقراطي يتيح لهم الموت جوعًا بصخب، أو أن يملؤوا الساحات العامة صراخًا قبل موتهم مرضًا وسقمًا، بقدر ما تعنيهم الحياة الحرة والكريمة، الحياة التي انتفض جزءٌ من الشعب السوري من أجلها في 2011، وحان الوقت اليوم، أو في المدى المنظور، لاستكمال مشروعها، مشروع الحياة لا الموت، وهذا يقتضي التعمّق في هذه الجزئية وشروطها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.

بناء على ذلك؛ نقول إن الجوهر الأساسي اليوم هو توضيح التناقض الجذري، بين نظام الموت قمعًا أو جوعًا أو مرضًا من ناحية، وثورة الحياة الكريمة اقتصاديًا واجتماعيًا والحرة والعادلة سياسيًا، ولذلك لا بدّ من تقديم أفكار ورؤى وبرامج، تتحدث عن حلّ مشكلات سورية الاقتصادية والاجتماعية، بما يتجاوز الأسطوانة المشروخة التي دأبت قوى المعارضة على تكرارها حول الديمقراطية، وكأنها أزمة السوريين الوحيدة، طبعًا الديمقراطية شرطٌ جوهري في طبيعة النظام الوطني مستقبلًا، نظام ما بعد نجاح الثورة، لكن يجب إعادتها إلى موقعها الطبيعي، كجزء من كلٍّ أوسع وأشمل، يتناول طبيعة العلاقات الاقتصادية وموقع الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وماهية الحقوق الفردية الاقتصادية والاجتماعية، دون إهمال الحقوق السياسية طبعًا. وهو موضوع كبير وشائك، لن أخوض فيه الآن كي لا يطول الحديث، على أن أعود إليه قريبًا، وسأكتفي بالإشارة إلى ضرورة التمييز بين دور الدولة السياسي ودورها الاقتصادي والاجتماعي؛ فالأول يجب ضبطه وتقييده وإخضاعه لسلطة الشعب والسلطات التشريعية والقضائية المستقلة والفاعلة، في حين يحتاج الثاني إلى استعادة لمفهوم الدولة ومسؤولياتها تجاه مواطنيها وسكانها، ضمن حدود وأطر دستورية ومحاسبية، تَحول دون طغيان المصلحة والرغبة الفردية على حساب المصلحة الوطنية العامة، وتضعها في خدمة استراتيجية تنموية وتطويرية وطنية بعيدة المدى. هنا لبّ الموضوع وجوهره الذي يمكّننا من استعادة روح الثورة، ويزيد زخمها ويوسع قاعدتها الاجتماعية، ويمنحها قوة تنظيمية وسياسية افتقدتها كثيرًا على امتداد العقد المنصرم.

مركز حرمون

——————————-

=====================

تحديث 23 أذار 2021

————————-

بعد عشر سنوات.. سيناريوهات الحلّ في سورية في موازين كتّاب ومحلّلين سوريّين/ غسان ناصر

المحتويات

حسام ميرو: الحامل السوري الديمقراطي

د. سمير التقي: في سيناريوهات الحلّ السوريّ

إبراهيم العلوش: سياسة تجفيف المستنقعات

عقاب يحيى: الخيارات البديلة

د. مضر الدبس: مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة

أسامة العاشور: الواقع والتوقّع

حسن النيفي: القضيّة السوريّة في ضوء المآلات الراهنة

غسان المفلح: لا حلّ في الأفق

مهند الكاطع: العمليّة السياسيّة لم تبدأ حتّى نعلن فشلها

بهنان يامين: سورية الثورة الى أين في نهاية عامها العاشر؟

فراس علاوي: السيناريو العراقي الأقرب إلى الحلّ في سورية

بعد اندلاع الثورة السوريّة -في آذار/ مارس 2011- التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد، دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة على درب الجلجلة نحو الحرّيّة والديمقراطية وبناء دولة القانون المواطنة.

أثمانٌ وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة الذي وثق مقتل 227413 مدنيًا بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، وأكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشرية والاقتصادية ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنيّة التحتيّة التي خلفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.

ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوريّ في ظلّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتدخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أي تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة بوصفه حلًا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر، تفشّت في صفوف السوريّين حالةً من اليأس الشعبي العامّ من إمكانية إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، مع هذا كله يفتح مركز حرمون للدراسات المعاصرة، مع دخول الثورة عامها الحادي عشر، ملفًا خاصًّا حول سيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة التي يحضر لها الروس ورأس النظام في دمشق، فكان أن استضفنا نخبة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.

حسام ميرو: الحامل السوري الديمقراطي

في ضوء معطيات مركّبة ومعقّدة مثل أوضاع الوطن السوريّ، يبدو سؤال الحلّ الإستراتيجي للأزمة السوريّة سؤالًا إشكاليًا من جميع جوانبه، وإذا كان مفهومًا من الصيغة العامّة للسؤال أنّ المقصود هو الحلّ السياسي لهذه الأزمة، إلّا أنّ مفهوم الحلّ السياسي في الحالة السوريّة يحتاج إلى تفكيك، فنحن بداية لسنا أمام أزمة فشل حكومة محددة، أو فشل ائتلاف حاكم، كما في الدول الديمقراطيّة، بل أمام أزمة وجودية عصفت بالكيان السوريّ نفسه، وهي تطرح منذ سنوات أسئلة كثيرة حول مستقبل هذا الكيان كما عرفه السوريّون بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في 1946.

منذ صدور بيان (جنيف1) في 30 حزيران/ يونيو 2012، ذهبت المسألة السوريّة (من المفيد لنا في إطار البحث عن حلّ إستراتيجي التمسّك بمفهوم المسألة السوريّة) نحو التدويل، خصوصًا مع التفسيرين المتضاربين لنصّ البيان من جهة واشنطن وموسكو، وهو الأمر الذي سيترك تداعياته على مجمل مسار التدخل الخارجي في المسألة الوطنيّة، بكونها صراعًا لم يعد محليًا خالصًا، بل إقليميًا ودوليًا.

البحث عن حلّ سياسي مرّ بمراحل عدة، لكنّها بالمجمل اختزلت، بشكلٍ أو بآخر، في مسألة السلطة، في الوقت الذي كان فيه الواقع السوريّ يتحرك بسيولة كبيرة، ويطرح مسائله الكثيرة، ونحن اليوم، بعد عقد كامل من الحدث السوريّ التاريخي نجد أنفسنا أمام أسئلة تتعلق بالدولة، ونظام الحكم، والهويّة الوطنيّة، ودور الجيش والأمن، ومنزلة الجماعات والأفراد في الدستور، إضافة إلى كلّ هذه الأسئلة، ثمّة واقع يتضمّن ملفّات وطنيّة وإنسانيّة واقتصاديّة، لا يمكن القفز من فوقها، فأي حلّ سياسي مقبل لن يكون ناجعًا ومستدامًا من دون أخذ الأسئلة والملفّات الرئيسية الكبرى بالحسبان.

على سبيل المثال: كيف يمكن لنا أن نتصوّر حلًّا سياسيًّا لا يأخذ بالحسبان واقع النقد السوريّ، وعدم وجود احتياطات نقدية، وحالة التضخم الاقتصادي والمالي الناجمة عن عقد كامل من الصراع؟

ملفّ اللاجئين والنازحين من الملفّات التي تحتاج إلى تصوّر إستراتيجي متكامل، إذ لا يمكن تصوّر أي حلّ سياسي لا يفتح الباب أمام عودة اللاجئين والنازحين، وتكلفة هذا الملفّ، من النواحي القانونية والمالية واللوجستية، تحتاج إلى تمويلات دوليّة كبيرة، وضمانات من جميع الأطراف، وليس واضحًا بعد إذا كان بالإمكان، ضمن أي حلّ، ومهما كان نوعه، أن تُؤَمَّن تلك التمويلات.

 بالنظر إلى تجارب كثيرة، فإنّ الحلول السياسيّة في حال توافرها قد لا تكون حلولًا تقدّميّة، بمعنى أنّها قد تكون مقدّمة لتثبيت وقائع التشظي الجغرافي والديموغرافي، بكلّ حمولاته ما دون الوطنيّة، وتلك الحلول هي من قبيل (سلام ما بعده سلام) على الطريقتين اللبنانية والعراقية، لكن مفهوم الحلّ الإستراتيجي ينبغي أن يقوم على تأمين تنمية مستدامة لجميع مقوّمات المجتمع والدولة، والمقصود الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة.

إنّ فشل المسارات السياسيّة والعسكريّة من آستانا وسوتشي واللجنة الدستوريّة، وعمل روسيا على إعادة تعويم النظام، كلّها تؤكّد أنّنا ما زلنا بعيدين عن إنتاج حلّ سياسي إستراتيجي، فحلول كهذه لا بدّ لها من حوامل موضوعية وذاتية. فمن الجانب الموضوعي، ما تزال القوى الإقليميّة والدوليّة المنخرطة في الصراع السوريّ -وعلى الرغم من وجود القرار الأممي 2234- بعيدة عن التوصل إلى تفاهمات حول الحلّ السياسي، فأجندة هذه الدول، بما فيها الدول الضامنة الثلاث، روسيا، وتركيا، وإيران، غير متطابقة، بل متناقضة إلى حدٍّ بعيد.

الحوامل السوريّة في اللحظة الراهنة ضعيفة، فـ(المعارضة السوريّة) بصيغتها الرسميّة، أصبحت تعبيرات عن إرادات الدول الداعمة لها، من حيث الشرعيّة والوجود، وبالعودة إلى ظروف تشكيلها والقوى المنضوية فيها وتمويلها وممارساتها، فهي أقلّ من ناحية الممكنات الموضوعية من أن تكون فاعلة في إنتاج حلّ سياسي إستراتيجي، أمّا المعارضات الديمقراطيّة، من أحزاب وتيارات وحتى تكتلات، فهي في أوضاع لا تسمح لها، أن تكون مؤثّرة في إنتاج حلّ من هذا النوع.

الأمل في إنضاج حلّ سياسي إستراتيجي يتوقف، بشكلٍ من الأشكال، على إنضاج حامل سوريّ ديمقراطي، وهو ما يتطلب من هذه القوى إعادة بناء نفسها من كلّ النواحي للعمل وفق برامج إستراتيجيّة، ليس من أجل خوض انتخابات أو الدخول في مؤسّسات تفاوضية، بل من أجل بناء تيار ديمقراطي شعبي، يستعيد في أثناء عمله وحركته أهمّية الحامل السوريّ الوطني في إنتاج الحلّ السياسي، بوصفه عملية انتقال من الجمهورية الثانية التي انتهت في 2011 إلى الجمهورية الثالثة التي طال انتظارها.

د. سمير التقي: في سيناريوهات الحلّ السوريّ

في بضع مئات من الكلمات، أنت تكتب كلامًا عموميًا يختزل الحقيقة بالضرورة، ويصبح الكلام أحيانًا فجًا وفاحشًا.

طالما كانت سورية الجغرافيا جسرًا، أفقر من أن تحتل وأهمّ من أن تترك لشأنها في إقليم يتداعى بحدِّ ذاته. بل غالبًا ما كانت تابعة، لا خاضعة، لحضارات غنية.

حين كانت تضعف بلاد الشام كانت تنقسم بين غساسنة ومناذرة، وحين تقوى تحاول أن تكون عاصمة للعواصم، وكان أهل الشام كقوم سياسي من طراز فريد، يجترحون نهضة تعيد بناء ثقافة الإقليم وسياسته، بل العالم. فكانت الديانات وكانت الحركات القومية. بذلك أصبحت بلادنا أس الأيديولوجيا.

سورية، في أصل تكونها الجغرافي – الاقتصادي، هي وحدة واحدة بطبيعتها. لكن لكونها جسر عبور، قسمها أقوامها بحسب العصبيات.

الأصل في الدولة أن تكون أمة لذاتها، وبالفعل نشأت على هذه الجغرافيا السوريّة بعد الاستقلال محاولة لتشكيل دولة/ أمة سوريّة من بشر طامحين في الحياة المشتركة. وبدل بناء سورية الدولة/ الأمة الناشئة، سرعان ما قفز الطامحون لتحميل مشروعنا الوطني عبء العالم بأسره. وكما في كلّ مرّة، تتجاوز سورية ذاتها لتحمل أحمال الإقليم كله، كانت سورية تنكسر. فما بين حلم (وحدة العرب) من الخليج إلى المحيط وإحياء (خلافة المسلمين)، وتحرير (المغتصبات)، تفكّكت سورية وتذرت.

في التاريخ؛ نادرًا ما استتب نظام عالمي. والنظام الراهن مؤقت وطارئ يتداعى ويعاد تشكيله بعد سبعين عامًا، وتتداعى معه كلّ الحقوق. حيث صارت سورية ثقبًا أسود يشكّل أضعف حلقاته. انهارت مقوّمات اتّفاقات (يالطا)، وقبلها (فرساي) و(سايكس – بيكو) و(سيفر). في حين ما تزال المسألة الشرقية الناجمة عن الانهيار المحتوم للإمبراطورية العثمانية حيّة، وانهارت معها أربع إمبراطوريات أخرى بعد الحرب العالميّة الأولى.

السوريّون من جهتهم يناشدون ويطالبون ويدينون ولا من مجيب في نظام عالمي منكفئ، تتراجع فيه كلّ الحقوق. على جانب آخر وفي غفلة من السوريّين، جرى في سوتشي إقرار جملة مبادئ لـ(سايكس – بيكو) الجديد يتضمّن تقسيم سورية. أشعر برغبة جامحة في أن أهز السوريّين فردًا فردًا بغض النظر عن ولاءاتهم لأقول: إنّ (سايكس – بيكو) الجديد قد طبق، ولسذاجة كثيرين ما يزالون يشترون وعود وحدة الأراضي السوريّة. ليس تقسيم سورية محتمًا، وبالمقابل لن يأتي يوم يتدخل فيه أحد في هذا الكون لتوحيدنا. ولا أحد يهتم. وفي أحسن الأحوال قد يقررون تفويض عسكري أو رجل دين ليجمعنا على الاستبداد. أهمّ ما في الأمر أنّه في إطار صراع البقاء لم يعد لدى كثير من السوريّين سوى تأجير بنادقهم للمحتلّين، فيصفق (وطن)” سوريّ لطائرات تقصف هنا ويشجب الطائرات ذاتها حين تقصف هناك.

لأجل كلّ ذلك أقول: إذا استبعدنا حربًا إقليميّة تعاقب الأشرار وتنصر الأخيار، وإن استبعدنا انسحاب المستعمِرين المختلفين، وإذا فهمنا انهيار منظومة الحقوق؛ ندرك أنّه غالبًا ما تذهب الحقوق حتّى لو بقي المطالبون، أقول ليس لنا خيار إلّا المصالحة، أمّا الإيمانات بالحتميات التاريخية ونظريات المؤامرة فمثواها الجنة وليس في سورية الآن. من دروس التاريخ ندرك أنّ ستالين انتصر في الحرب وخسر كلّ روسيا في السلام، وكان العكس في ألمانيا واليابان. وإذ تنتهي الحروب الأهلية بجلوس الملوثة أيديهم لإنتاج حلّ ما، يحسمه عاملان: ميزان القوى، وأفق استدامة الحلّ. انتصر النظام عسكريًّا ثلاثة أرباع انتصار، وهزمت المعارضة عسكريًّا ثلاثة أرباع هزيمة. لكن أيًا منها لم ينتصر ولا ربع انتصار في الحوكمة واستدامة السلام.أمّا عن الديمقراطيّة فلقد وعاها العالم منذ ألفي عام، وعلى الرغم من التبشير بها لم تبدأ في التحقق إلّا حين صارت ضرورية للتطور البشري. وهي لم تصبح كذلك إلّا في نموذج الدولة الليبرالي حيث أقلّ ما يمكن من الدولة وأكثر ما يمكن من الحرّيّة. أمّا مشكلة الهويّات العرقية – الطائفية، فلقد حلّها التاريخ إمّا بالاستبداد والدم، أو بالديمقراطيّة. السلم الأهلي لا يتحقّق من دون اعتراف ومشاركة طوعية تامّة للهويّات. لا حلّ مع الديمقراطيّة إلّا بالوحدة الطوعية وأي قسر أو قمع للهويّات يعني عودة الاستبداد بأسوأ أشكاله.

في هذه الظروف، وبغض النظر عن مظالمها، الأكثرية هي صاحبة المصلحة يجب أن تضحي من أجل الحفاظ وحدة البلاد. ليس ثمّة حلّ سياسي دولي في سورية. لا أحد يهتم بعد أن أصبحنا مصرفًا لكلّ نتن الصراعات الإقليميّة. أمّا بشار الأسد فلقد صار غير ذي أهمية، لو غاب لن تتوقف الحرب وإن بقي فهو غير قادر على شيء، ولكلّ هذه الأسباب أرى سيناريوهات الحلّ في سورية احتمالًا بين ثلاث: أولها، سيناريو أن تستمر الأمور على عواهنها. ويستقر مزيد من عفن أمراء الحرب. والسيناريو الثاني أن تحتاج إحدى دول الإقليم (بما في ذلك روسيا) إلى إغلاق الجرح السوريّ، فتجلب بسطارًا ما لإدارة حلقة جديدة من عذابات الحرب الأهلية وخرابها لتنفجر في كلّ حين. وأمّا الثالث، فهو المصالحة. الثورات، نمط خاصّ من الحروب الأهلية يفترض فيها أصلًا الانتصار الصفري، فإن لم يتحقّق تصبح المصالحة في الحرب الأهلية توافقية بين العسكر الملطخة أيديهم بالدم. لم يقدم التاريخ أي مخرج آخر. بل إنّ من الوهم أن نتصوّر أن تقوم أي قوّة إقليميّة بتسهيل المصالحة. كلّهم سعداء بخمود النار واستمرار الخراب في حين غاب صوت السوريّين.

في ظلّ الطموح الديمقراطي، لن تحدث المصالحة إلّا طوعيًا ضمن شروط بين كلّ المكوّنات الإثنو- طائفية للشعب السوريّ وخارج منطق الحرب الأهلية ومنطق الفوز والخسارة. أمّا الحلول فلن تكون عادلة، ومنصفة، بل تستند إلى ضرورة طمأنة الجميع في ظلّ شرخ عميق.

المصالحة مجتمعية طوعية أولًا بين مكوّنات كلّ الشعب السوريّ على أساس الاعتراف المتبادل بالمصالح وإدراك صعوبة بناء الثقة على مدى عقود. الحديث عن الدستور وسوى ذلك محض مضغ للهواء، بل إنّ جل ما يمكن إنجازه الآن هو وثيقة ما فوق دستوريّة بمنزلة عقد اجتماعي يصوغها المتحاربون. وإلّا فالخراب.

إبراهيم العلوش: سياسة تجفيف المستنقعات

كلّ الحروب الداخليّة في المنطقة جرى امتصاصها بسياسة التجفيف طويل الأمد مثل لبنان والعراق والسودان. وسورية لن تكون استثناءً، ودورنا نحن السوريّين، خلال مسيرة التجفيف هذه، هو الذي سيحدّد ما نكسبه من نقاط وحلول خلال المرحلة القادمة.

من الواضح أنّ الجهات الدوليّة تجفف المستنقع السوريّ، وهي تنتزع انتصارات النظام العسكريّة بتطبيق قانون (قيصر)، وتُفاجئ الشبيحة وهم ينزلون من دباباتهم ليجدوا أنفسهم وقد كسبوا بلدًا جائعًا ومدمّرًا ومحاصرًا بعد انهيار البنية التحتية وهرب الكفاءات، إضافة إلى انتزاع القوى الأخرى سيادة القرار من نظام الأسد، فالروس والإيرانيون والأميركيون والأتراك يهيمنون على قرارات إدارة البلاد، ولم يعد أمام المنتصرين من شبيحة الأسد إلّا أنّ يختاروا بين التبعية للروس أو للإيرانيين، وهم المحتلّون الذين اختارهم الأسد في مقابل المحتلّين الآخرين.

تعيد الجهات الأوروبيّة تأهيل إدلب وتعمل على انتزاع مخالب التنظيمات المتطرّفة وأنيابها هناك، ويدير الأميركيون الجزيرة والفرات بتفويض للقوّات الكرديّة التي تتصدّر المشهد، بينما تدير تركيا المناطق التي تقع تحت سيطرتها من اعزاز حتّى رأس العين، وروسيا تركض لاهثة من درعا إلى الحسكة من أجل الإمساك بملفّات تمكّنها من إعادة تأهيل نفسها بديلًا من إيران.

لقد انتهت الحرب كما صرح النظام ورجالاته وعادت السياسة إلى احتلال الاهتمام الأكبر في الملفّ السوريّ، وانحسر دور الميليشيات الطائفية التي ساعدت النظام في أعمال التدمير والتخريب وبدأت تنخر جسد النظام نفسه، وحان دور السياسة واللعب الدولي، فهل تستطيع الجبهة الوطنيّة التقدّميّة احتلال مكانها في القرارات الداخليّة؟ وهل يستطيع حزب البعث إعادة نفسه إلى الحياة السياسيّة بعدما كان صامتًا أمام أعمال التخريب والتعذيب والتهجير الطائفي؟ وهل البنية السياسيّة والثقافية للنظام قادرة على القيام بدور الدفاع السياسي عن النظام بعدما أصبحت كسيحة في مقابل الشبيحة، وفي مقابل الاحتلال الإيراني وميلشياته الطائفية، وفي مقابل الهيمنة المتعاظمة لمستعمرة (حميميم) على القرارات السوريّة؟

استيقظت النخب المساندة لنظام الأسد عارية وغير قادرة على فعل شيء، ولم تعد قادرة على إصدار مواقف مقنعة للناس الجائعين ولا لأهالي المعتقلين ولا لضحايا الحرب وأيتامها، وليست قادرة على تبرير الصلاحيات المطلقة للإيرانيين والروس، فقد باع العسكر والمخابرات البلاد بأبخس الأثمان.

من هنا، تكون أهمّية دور السوريّين في الحلول القادمة، فمليون سوريّ في أوروبا وملايين أخرى في تركيا وفي لبنان يجب أن تتحرك اليوم مدافعة عن نفسها وتستطيع أن تتظاهر أمام السفارات الروسيّة والإيرانيّة وأن تطالب بالمعتقلين وتطالب بمحاكمة المجرمين من نظام الأسد، وما محاكمة (كوبلنز) الألمانية إلّا خطوة أولى ضمن خطوات كثيرة واعدة ضدّ نظام الأسد الذي يحرص السوريّون جميعًا على عدم إفلات مسؤوليه من العقاب.

البدائل المطروحة لنا نحن السوريّين للحلّ هي الاستفادة من الزمن المخصّص للتجفيف، والاستفادة من الضغوطات الدوليّة بمضاعفتها عبر صنع رأي عامّ ضاغط على المحتلّين، يطيل تخبطهم، ويجعل إعادة تأهيل نظام الأسد شبه مستحيلة، وإن حصل فيجب أن نجعلهم يدفعون ثمنًا غاليًا مقابله، بجعل المطالبات السوريّة تتدفق بشكلٍ دائم عبر التظاهرات والميديا والمؤتمرات واللجوء إلى المنظمات الإنسانيّة العالميّة التي لها باع طويل في مساعدة السوريّين على توثيق جرائم النظام.

نستطيع الانتصار على النظام بالجهد الإنساني والسياسي في مرحلة التجفيف المقبلة بسبب ضعف مكوّناته السياسيّة، ونستطيع تقليل عدد الناجين من العقاب ضمن صفوف نخبة الأسد، ونستطيع إحباط المناورات التي يتلاعب بها، مثل محاولة النظام الفاشلة في ترشيح أسماء الأسد بدلًا من بشار متّخذًا من سياسة بوتين في تبادل الرئاسة مع رئيس وزرائه، مثالًا يحتذى في التلاعب بالناس وبالقوانين التي مارسها في روسيا. لقد فاز أمراء الحرب في لبنان وكرّس انتصارهم استيلاءهم على اتّفاق الطائف، وها هم يقودون بلدهم اليوم إلى حرب أهلية جديدة، ويجب ألّا نسمح بفوز أمراء الحرب في سورية بالاستيلاء على مباحثات جنيف أو غيرها، على الأقلّ كي لا يقودوا الأجيال القادمة إلى حروب أهلية ستطال الجميع.

عقاب يحيى: الخيارات البديلة

نحن على أبواب الذكرى العاشرة للثورة وما تزال الأزمة السوريّة موصدة الطرق في وجه أي حلّ يحقّق الحدّ الأدنى لطموحات الشعب السوريّ ومطالبه بعد أن قدّم التضحيات الغالية ثمنًا للحرّيّة وإقامة نظام تعدّدي، مدني، ديمقراطي بديل لنظام الاستبداد والفئوية والفساد.

ـ الأسباب كثيرة يتداخل فيها الذاتي بالعامّ. الداخلي بالخارجي، ويظهر الدور الخارجي ثقيل الوطأة وكبير الأثر إن كان عبر تدويل (المسالة السوريّة)، أو من خلال الاحتلالات الأجنبية، أو عدم وجود اتّفاق، أو قرار دولي يلزم النظام بالانصياع لقرارات الشرعيّة الدوليّة، وبخاصّة دور الولايات المتّحدة الأميركيّة وقرارها الذي ما يزال بعيدًا عن الحسم، أو الاقتناع بوجوب إنهاء النزيف السوريّ بإيجاد حلّ سياسي يستجيب لإرادة معظم السوريّين من جهة ولمجموعة القرارات المتّخذة في الهيئة الدوليّة بدءًا من بيان (جنيف 1) ووقوفًا عند القرار الأممي 2254.

الأسباب المتداخلة كثيرة سنحاول إيجازها بما يأتي:

1-عند انطلاق ثورات الربيع العربي جاءت التدخلات الخارجيّة عاملًا حاسمًا في إنهاء عدد من الأنظمة الاستبدادية، وكانت الحالة الليبية نموذجًا صارخًا لها، دفعت السوريّين إلى الرهان على مثلها، وتجلّى ذلك في خطوات المجلس الوطني ورهاناته، ما كان له كثير التداعيات، وأهمّها وضع ذلك الرهان بديلًا من الحاضنة الشعبيّة وبناء علاقات طبيعية معها وللعامل الذاتي، فكانت الفجوة التي اتّسعت مع انتشار العَسكرة، وتحوّلاتها السريعة التي أنتجت ظواهر سلبية منها التهميش السياسي، والإسلامويّة المتنوّعة وعلى رأسها بروز تنظيمات متشدّدة كـ(القاعدة) و(داعش) وتلوينات مختلفة دخلت على الخط وفتحت الأبواب واسعة لشتّى التدخلات الإقليميّة والخارجيّة التي كان من أهمّ نتائجها: سحب الملفّ السوريّ من أيدي أصحابه ووضعه في يد القوى المموّلة والفاعلة، ومنع توحيد تلك الفصائل التي انتشرت كالفطر وإتباعها للقيادة السياسيّة، وإنشاء ما يعرف بغرفتي (الموك) و(المول) اللتان تحكّمتا في القرار والدور.

2-الجميع يعرف طبيعة النظام الأقلوية، العنفية، واعتماده نهج الحلّ الأمني-العسكري، وهو ما مارسه منذ الأيام الأولى للثورة حينما كانت سلمية، وبما يعني أنّه لن يقبل بأي حلّ سياسي ولو كان خطوات صغيرة ويراه بداية النهاية له، وأنّه لن يوافق على القرارات الدوليّة إلّا مجبورًا ومنصاعًا وهو الأمر الذي لم يحدث.

3-على العكس من ذلك، حين كانت فصائل الجيش السوريّ الحرّ تسيطر على أكثر من 70% من الأرض السوريّة، وحين كان النظام على شفير هاوية الانهيار في نهاية 2012 و2013 كان التدخل الإيراني حاسمًا لمنع السقوط، ثمّ الاحتلال الروسي الذي لا بدّ أنّه جاء بضوء أخضر أميركي وغيّر موازين القوى بشكلٍ ساحق على الأرض لمصلحة النظام، وفرض وقائع ما يعرف بمناطق خفض التصعيد التي التهمها وأعاد معظمها إلى النظام وفرض ما يعرف بالمصالحات وإنهاء وجود عدد من الفصائل المسلحة.

4-بعد تلك التطورات توضّح الموقف الدولي المعلن بأنّ الحلّ العسكري ممنوع، وأنّ صيغة (لا غالب ولا مغلوب) هي المتّفق عليها، وأنّه لا سبيل سوى الحلّ السياسي.

-لقد وافق الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وبعد تباينات كبيرة داخله، على الدخول في مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتّحدة وظهر جلّيًا رفض النظام لأي استجابة، وتطبيق ما أعلنه وزير خارجيته بإغراق المعارضة بالتفاصيل، واستهلاك الوقت من دون تحقيق أي خطوة إيجابية.

-من جهة أخرى حدثت دحرجات متتالية على صعيد القرارات الدوليّة ومضمون بيان (جنيف 1). فقد مورست ضغوط متعدّدة تحت شعار (توسيع تمثيل المعارضة) لمنع بقاء الائتلاف الطرف الرئيس في المعارضة لتمسّكه الشديد بثوابت الثورة، فكان مؤتمر (رياض 1)، ثمّ (رياض 2) الذي أدخل منصّات عدة كالقاهرة وموسكو، وأضعف تمثيل الائتلاف، وكان الأهمّ من ذلك تلك الزحزحة لجوهر بيان (جنيف 1) القاضي بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وتحديد مرحلة العمليّة الانتقاليّة التي تكون فيها القضايا الدستوريّة والانتخابات ترجمة ونتيجة لها لا مقدّمة.

-المبعوث الدولي الخاصّ إلى سورية السابق، ستيفان ديمستورا، ولتحريك وضع المفاوضات، وربّما لاستمراره في مهمّته خرج بما يعرف بالسلال الأربع، ثمّ اختصرت بسلّة واحدة هي اللجنة الدستوريّة ببصمة روسيّة واضحة، بينما غاب الأهمّ الخاصّ المتعلّق بهيئة الحكم الانتقالي والاستعاضة عنها بتصريحات غير رسميّة، أو غير معتمدة عن (البيئة الآمنة).

-المفاوضات في اللجنة الدستوريّة، وبعد عام من المماحكات والصراعات لتشكيلها -وهي للمناسبة من مخرجات (مؤتمر سوتشي)- استمرّت أربع جولات كانت نتيجتها عبثية تدور في الفراغ واستهلاك الوقت نتيجة مواقف النظام الرافضة لأي تجاوب مع جدول الأعمال، والدخول في صلب الموضوع. ما يطرح سؤالًا مهمًّا عن الجدوى ومبرر الاستمرار، وأقلّه طرح نقاط كشروط لأي جولة قادمة.

الخيارات البديلة، أو المساندة:

الأساس في أي مفاوضات هو ميزان القوى لدى كلّ طرف لأنّه العامل الفاعل في النتائج.

-على صعيد ميزان القوى يبدو النظام راجحًا، نتيجة قراره الواحد ومؤسّساته المتعاضدة، والأهمّ من ذلك وجود حلفاء مساندين له بقوّة وعلى رأسهم روسيا، بينما حالة المعارضة خلاف ذلك إن كان لجهة وضعها غير الموحّد في الموقف والقرار، أو لموقعها على الأرض وما لديها من أوراق، أو لجهة تحالفاتها وعلاقاتها، وبعد الخسائر التي منيّت بها الفصائل العسكريّة بات وضعها أكثر ضعفًا، فضلًا عن افتقارها إلى تحالفات قوية، فعلاقاتها الخاصّة بالحكومة التركيّة قائمة على توافقات رئيسة، وبقية العلاقات، وبخاصّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة وتأثيرها في بقية دول العالم المحسوبة على أنّها أصدقاء الشعب السوريّ فإنّها لا ترتقي إلى مستوى الدعم المطلوب، وما زالت لا تخرج عن إدارة هامشية للملفّ السوريّ بينما تولي اهتمامها الرئيس لقضايا عالميّة وإقليميّة أخرى في مقدّمها العلاقة مع إيران.

-إنّ الإشكال الرئيس عند المعارضة السوريّة لا يكمن فقط في تشتّتها واختلاف الرؤى والمواقف في ما بينها وحسب، بل في علاقاتها بالحاضنة الشعبيّة من جهة، وبالدول ذات الفاعليّة من جهة أخرى.

-إنّ الأساس والسبيل في تغيير هذا الوضع، وامتلاك أوراق فاعلة تكمن في بناء علاقات طبيعية مع الحاضنة الشعبيّة للثورة وجميع الفعاليّات والقوى السياسيّة وإقامة أوطد العلاقات الدائمة معها ضمن ما يعرف بـ(الاصطفاف الوطني) الذي يسعى إلى التوافقات العامّة ووضع الجهد في المنحى العامّ لمواجهة الأخطار والتحدّيات التي يعيشها الوطن، وتأمين مستلزمات الوصول إلى التغيير المنشود، وذلك من خلال مجموعة من الخطوات التي يجب أن يتضمّنها ويضمن تحقيقها برنامج عمل واقعي، وفي مقدّمها:

1-تجديد الخطاب الوطني باتّجاه التوجّه إلى كافّة أطياف الشعب السوريّ ومكوّناته بما يتجاوز الجهات المحسوبة على الثورة والمعارضة إلى تلك (الكتلة الرمادية)، وحتّى المحسوبة على النظام سوى من تلوثت أيديهم بدم الشعب، والاهتمام، أيضًا، بفئات شعبنا تحت سيطرة سلطات الأمر الواقع (قسد وهيئة تحرير الشام) والتوجّه إليها بخطاب المصالحة والتسامح والسلم الأهلي، والاهتمام بمعاناتها وأوضاعها المعيشية والحياتية، وصولًا إلى مساهمتها في بناء مستقبل بلادنا.

2-العمل لإقامة أوسع التحالفات مع القوى السياسيّة السوريّة المحسوبة على المعارضة، والفعاليّات الثوريّة لتجسيد التشاركية، وفتح المجال للحوار الوطني الأوسع الذي يهدف ليس إلى التوافقات حول القضايا الرئيسة وحسب، بل إلى عقد مؤتمر تشاوري وطني يناقش أوضاع الثورة والمخارج، ويعزز السلم الأهلي، ويعالج هيئات المعارضة، بما فيها -بل أساسها- الائتلاف الوطني.

3-الانتقال من حالة المعارضة إلى مفهوم الدولة خاصّة للمناطق المحرّرة بتكريس منظومة الحكم الرشيد، وتمكين الحكومة السوريّة المؤقتة من ممارسة دورها التنفيذي المأمول، وبناء الجيش الوطني المهني، وتعزيز دور المجالس المحليّة، والفعاليّات السياسيّة والشعبيّة.

4-تعزيز الشرعيّة والمشروعيّة عبر تلك العلاقات مع الحاضنة الشعبيّة، والعمل في الوقت نفسه على نزع شرعيّة النظام ورفض الانتخابات التي قد يجريها هذا العام، والعمل على منع إعادة تأهيله، والسعي إلى تقديم كلّ ما يلزم لتحويل رأس النظام وكبار رموزه إلى محكمة الجنايات الدوليّة.

5-إنّ أسبابًا عدة تدعو إلى الاستمرار في المفاوضات في جنيف، لكن يجب العمل على تغيير الشكل والمجرى عبر الإلحاح على وضع هيئة الحكم الانتقالي على جدول المفاوضات كبند رئيس، وتعيين مدّة زمنية لعمل اللجنة الدستوريّة ونهج المفاوضات وآلية التعامل.

6-العمل الحثيث لتغيير الموقف الدولي باتّجاه فرض الحلّ السياسي، وبخاصّة مع الطرف الأميركي، لاتّخاذ القرار الواضح بإلزام النظام بالانصياع للقرارات الدوليّة، وتطوير العلاقات مع الدول العربيّة، وبخاصّة تلك التي تقف مع ثورة الشعب السوريّ، ومع الحكومة التركيّة لما لها من حيثية خاصّة كدولة جوار، وكأكبر دولة تحتضن اللاجئين السوريّين، ودورها في المناطق المحرّرة.

7-وإذا كان أمر الحسم العسكري مبعدًا فإنّ دوره لن يلغى ويجب أن يكون حاضرًا بقوّة في ميزان القوّة وفي معركة التغيير ضمن إطار المقاومة متعدّدة الأشكال التي تأتي في مقدّمتها حركات الاحتجاج والتظاهر، وسياسات النظام بالتجويع والحرمان والقمع وملاحقة المعارضين، بكلّ الوسائل السلمية التي يبدعها الشعب السوريّ.

8-إنّ التفكير بإمكانية إجراء انتخابات برلمانية للسوريّين في المناطق المحرّرة وأماكن اللجوء أمر يجب بحثه ووضعه على سلم الاحتمالات بكلّ ما يقتضيه ذلك من تفاهمات بين السوريّين المعنيين، ومع الجهات الإقليميّة والدوليّة.

9-إنّ استعادة القرار الوطني وتغيير ميزان القوى لمصلحة الثورة هو تحصيل مدى الإنجاز في هذه النقاط التي طرحت، وقد أولى الائتلاف -وبخاصّة في دورته الحالية- الاهتمام الكبير لتجسيد البديل عبر وضع برنامج شامل يتناول الاستناد إلى الداخل السوريّ والوجود في المناطق المحرّرة وفتح عدد من المقرات، وإنجاز وثيقة تجديد الخطاب الوطني، وتشكيل لجنة خاصّة بالحوار الوطني قامت بجهد ولقاءات مستمرّة مع عدد مهم من الفعاليّات السوريّة، وإنجاز الرؤية السياسيّة، ووثيقة الحقوق والحرّيّات، والاهتمام بمنطقة الجزيرة والفرات عبر لجنة خاصّة، وكذا في لجنة الجنوب التي تضمّ كلًّا من محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، والإعداد لمؤتمر اللقاء التشاوري الوطني وتقديم ورقة المشروع الوطني في زمن منظور، والتقدّم خطوات مهمّة في إعداد وثائق الحوكمة الرشيدة والانتقال إلى المأسسة الدوليّة، وكذا المطالبة بتغيير نهج اللجنة الدستوريّة وطريقة عملها، والتركيز على بند هيئة الحكم الانتقالي واعتماد وضعها في رأس جدول عمل المفاوضات.

-إنّ السعي الحثيث لتغيير الموقف الأميركي باتّجاه وضع ثقل الإدارة الأميركيّة في الملفّ السوريّ يمثّل اليوم هدفًا مهمًّا يجب الوصول إليه مع الإدارة الجديدة التي لم تفصح -حتّى الآن- عن توجّهاتها التفصيلية في الشأن السوريّ، وتقوم ممثّلية الائتلاف إلى جانب المؤسّسات السوريّة واللجان الفاعلة بدور متواصل للتوصل إلى نتائج إيجابية للموقف الأميركي، وهو ما يتطلب أيضًا تكاتف جميع السوريّين المعنيين للضغط على مراكز التأثير والقرار في أميركا وصولًا إلى موقف فاعل سيكون له أثره في الدول الأوروبيّة وبقية دول العالم، من شأنه منع روسيا من السيطرة على الملفّ السوريّ والتفرد به، وإيقاف المدّ الإيراني والمشروع الخطر الذي يجري تطبيقه في بلادنا.

د. مضر الدبس: مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة

تعلمنا صيرورة الثورة وتحوّلاتها الابتعاد عن الوصفات الجاهزة وخرائط الطريق الناجزة حين التفكير في حلّ المشكلة السوريّة، وهذا بتقديرنا واحدٌ من أكثر دروس الثورة السياسيّة أهمّيةً؛ فهذا النوع من الصيرورات متعرّج ومتغيّر ومتحوّل، ولا يُقابل بالتنظير المسبق أو المقولب، ولا بالإسهاب في تحليل الأخبار، وفي النبوءة بالسيناريوهات، وتبادل التسجيلات الصوتية والمرئية في غرف التواصل الاجتماعي، ولا يقتصر العمل فيه على توقّع سلوك الدول والتحليل المسهب لجمل سفرائها ووزراء خارجياتها وكلماتهم، بل تقابل هذه الصيرورة التاريخية في تقديرنا بدءًا من التدريب على الشعور بالمسؤولية شعورًا عقلانيًا ووطنيًا، بمسؤولية الكلمة والفعل، الخطاب والسلوك، الكلام والصمت، إلى ما هنالك، وتقابل أيضًا بالفكر السياسي الذي يرتكز على الإبداع والابتكار.

إنّ منهجية الدوران في أفق المجتمع الدولي والإقليمي، والاستناد إليه في مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة، منهجيةٌ أثبت فشلها مليون مرّة. وبطبيعة الحال هذا الكلام لا يقلل من أهمّية الوضع الدولي والإقليمي وتأثيره في المشهد السوريّ، ولكنّه بالضرورة كلامٌ يعلي من شأن ما تقلل هذه الطريقة عادةً من شأنه وأهمّيته ولا توليه أهمّيةً، وهو ما يمكن أن نسمّيه مشروع بناء مجتمع سياسي سوريّ حقيقي وصونه بأيادٍ سوريّة، بعد كلّ هذا الإخفاق والابتذال.

لا مجال للحديث عن إمكانية التفكير الإستراتيجي من دون بناء هذا المجتمع السياسي السوريّ، وبناء مؤسّسات متماسكة ومتناغمة تمثّله وتعمل بتفويضٍ منه، ولذلك يكون السؤال عن حلول إستراتيجيّة للمشكلة السوريّة هو نفسه السؤال عن آفاق بناء هذا المجتمع السياسي وإمكانيته، والجواب عن هذا الأخير هو في الوقت نفسه جوابٌ عن كلّ تساؤل يدور في فلك ما العمل؟ وما الحلّ؟

كثيرةٌ هي الأفكار التي يمكن للمرء أن يقولها اليوم في بناء مجتمع سياسي سوريّ، ولكن أكثرها أهمّيةً في هذه العجالة فكرة إطلاق حوار عمومي سوريّ يضم السوريّين كلّهم باستثناء الطغمة الحاكمة ومن تلطخت أيديهم بدماء السوريّين. وأن يتكوّن رأس مالٍ اجتماعي سوريّ ينتج من إعادة ثقة السوريّين في بعضهم وإعادة ثقتهم في قدرة السياسة على تغيير أحوالنا الخانقة وحلّ مشكلاتنا الكبيرة والمستعصية. يومها لن تكون أهمّيةٌ تذكر لمحاولات حلفاء الطغمة في إعادة إنتاجها، بل يومها يمكن بناء مقاربة قوية لعلاقات سورية الخارجيّة على أسس ومعايير جديدة مختلفة ترتكز على المصلحة الوطنيّة السوريّة وفنّ تحقيقها.

أميل إلى التوقف قليلًا عند سؤالكم عن مكان أميركا من كلّ ما يجري، ويبدو لنا في هذا السياق أنّ ملخص السياسة الأميركيّة (أوباما / ترامب) يمكن رؤيتها في مستويين: مستوى الصراع على سورية حيث تبنت رؤية تقوم على حماية الحلفاء واستنزاف الأعداء، وفي مستوى الصراع في سورية أظهرت دائمًا تردّدًا وارتباكًا ولم يكن إسقاط النظام أولويةً لديها. يعني يمكن أن نقول إنّ ما كان يعرف بـ(مبدأ أوباما) قد وسمّ السياسة الخارجيّة الأميركيّة في سورية بمجملها، وهو مبدأ انتشر منذ أن كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عضوًا في مجلس الشيوخ، إذ تبنى في آرائه حول السياسة الخارجيّة، ما بات يعرف بـ(مبدأ أوباما) الذي يميل إلى عدم توريط الولايات المتّحدة في معارك خارجيّة، وأنّ أميركا ليست مضطّرة إلى الدخول في حروب استنزاف جديدة في المناطق العربيّة والإسلاميّة، ويمكن التعامل مع التحدّيات كافّة من خلال دعم الحلفاء بالسلاح والتدريب. للمرء أن يلاحظ أنّ هذا المبدأ قد ألحق الخسارة بالمصالح القومية الخارجيّة الأميركيّة ذاتها أكثر ممّا حقّقه من فوائد، زاد التدخل السلبي الإيراني في المنطقة كلّها وتمدّدت قوتها ونفوذها وأدوات الضغط الإقليمي لديها وخصوصًا في العراق، وفي اليمن، وارتكبت جرائم في سورية، وأعمالًا تخريبية في البحرين، وتمدّد حزب الله وتمادى في تعطيل الدولة اللبنانية وتدخل عسكريًّا في سورية، ودخلت ليبيا في متاهة الفوضى، وعاد العسكر إلى حكم مصر بعد بوادر ولادة مشروع دولة ديمقراطيّة، اضطّربت الأوضاع في أوكرانيا ولم تعد المدن الغربية بمنأى عن الإرهاب، توسّع نفوذ التنظيمات الإسلاميّة الراديكالية وسيطرتها، وعُزز الدور الروسي في العالم، إلى آخر ما هنالك من تغيّرات يمكن تصنيفها في المجمل بأنّها خسارة للمصلحة القومية الأميركيّة في المنطقة. لذلك يمكن القول إنّ الأميركيين شركاؤنا في الخسارة والإخفاق هذا المرّة، والأوروبيين أيضًا. ومن المبكر الحكم على مستقبل هذا الإخفاق مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن ولكن المؤشرات الأولية لا تبُشر بخلاف ذلك.

أسامة العاشور: الواقع والتوقّع

    – سورية مقسمة واقعيًا إلى ثلاث مناطق نفوذ: أميركي في شرق الفرات بمساحة 25%، وتركي في الشمال بمساحة 11%، وروسي – إيراني في غرب سورية ووسطها بمساحة 64%، وتفاقمت الأزمة الاقتصاديّة والتحدّيات التي تواجه صدقية النظام أو بقاءه حتّى في أوساط الموالين له.

    – استمرار تناقضات القوى المتدخلة في سورية وخلافاتها؛ بين موسكو الراغبة في تقويض هيمنة أميركا على الصراع السوريّ ومخرجاته واحتلال دور إقليمي ودولي مؤثّر، وواشنطن التي منعت روسيا من تحويل التقدّم العسكري الذي حقّقته إلى نصر سياسي، إضافة إلى التناقضات الناتجة من طموحات الأمن القومي التركي وأطماع إيران الطائفية وأمن إسرائيل، وكلّها لا علاقة لسورية وثورتها بها.

    – تعطيل روسيا والنظام المفاوضات بأشكالها ومساراتها كافّة، والعمل على تأهيل النظام عبر الضغط لعودته إلى الجامعة العربيّة ووساطة لإبرام اتّفاق سلام مع إسرائيل، وإجراء انتخابات رئاسيّة، وجمع الأموال لإعادة الاعمار من دون إشراف الامم المتّحدة.

    – استمرار مطالبة الولايات المتّحدة وبعض الدول الأوروبيّة بتثبيت وقف إطلاق النار في شمال سورية، وتقديم الدعم لمشروع (الإدارة الذاتية)، وممارسة الضغوط الدبلوماسية والاقتصاديّة على النظام وحلفائه ورفض المشاركة في إعادة الإعمار إلى حين إنجاز الحلّ السياسي.

المتغيّرات في عهد الإدارة الأميركيّة الجديدة:

لا تمثّل القضيّة السوريّة للإدارة الأميركيّة الحالية أولوية إستراتيجيّة ولا تهديدًا حيويًا، وما تخشى منه واشنطن في سورية هو التمدّد التركي والنفوذ الإيراني والتأثير الروسي، وتتعامل مع هذه الخشية عبر تفعيل الحلول الدبلوماسية والحوار ومن المرجّح أن تسمح لإيران بالاستمرار في الحفاظ على مناطق تمدّد نفوذها الإقليمي، مقابل التخلّي عن البرنامج النووي وعدم التعرّض لـ(أمن إسرائيل)، والحفاظ على وجود قوّات عسكريّة أميركيّة محدودة في شرق الفرات للضغط على تركيا وحماية مناطق سيطرة قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، ومحاربة تنظيم الدولة (داعش)، بالتوازي مع استمرار عقوبات قانون (قيصر)، للضغط على روسيا والنظام لقبول الحلّ السياسي.

السيناريوهات المتوقّعة

    استمرار الوضع الراهن وتعطيل الوصول إلى حلّ سياسي لاعتقاد الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين أنّ اللعب على الوقت من مصلحتهم، وأنّ أميركا وأوروبا في نهاية المطاف سيقبلون ببقاء نظام الأسد والتفاوض معه كما فعلوا مع كوريا الشمالية وطالبان، وهذا يعني تحوّل سورية إلى دولة معزولة عن الاقتصاد العالمي ومنبوذة في المستوى السياسي والدبلوماسي، وازدياد المعاناة المعيشية للشعب السوريّ وعدم عودة اللاجئين، وبقاء سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ.

    ازدياد الصراع بين القوى المتدخلة ووكلائهم المحلّيين -الذين لا يحمل أي منهم مقوّمات الاستمرار- وداخل كلّ منطقة نفوذ وانتشار العوز والمجاعة، وفقدان الأمن، وتحوّل سورية إلى دولة فاشلة تشكّل كارثة لحقوق الإنسان وأرضًا خصبة للمتطرّفين وعدم الاستقرار الإقليمي.

    اتّفاق اللاعبين الدوليين على سورية دولة موحّدة دستوريًا، ولكنّها مكوّنة من ثلاث فدراليات جغرافية منطقة إدلب، ومنطقة شرق الفرات، ومنطقة غرب سورية ووسطها، تحتفظ كلّ منها بصلاحيات واسعة في شؤونها الداخليّة. ويحظى هذا الخيار بقبول ضمني روسي – أميركي بعد حلّ القضايا العالقة بينهما وموافقة إيرانيّة بشرط ضمان الاتصال الجغرافي بين العراق وسورية ولبنان ورفض حزام تركي.

    اتّفاق دولي على تطبيق القرار الأممي 2254 وفق القراءة الروسيّة وأطراف مؤتمر آستانا يتضمّن عملية انتقال سياسيّة تحافظ على النظام، مع مشاركة أجزاء من المعارضة في الحكم، الأمر الذي لا يتوافق مع إعادة البناء والتمهيد لعودة اللاجئين على نطاق واسع، وسيكون غالبًا بالضدّ من رغبة الولايات المتّحدة الأميركيّة.

    اتّفاق دولي على تطبيق الحلّ السياسي بموجب ما نصّ عليه القرار 2254 وفق التسلسل الذي ورد فيه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتّحدة، يُنهي حكم الأسد ويستبدل به نظامًا ديمقراطيًا تعدّديًا عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي، ثمّ دستور، ثمّ انتخابات من دون الأسد ومجرمي الحرب، ويفتح الأفق لحلّ مشكلة اللاجئين والتغير الديموغرافي والفقر وإنهاء الجماعات المسلحة والخروج تدريجي للوجود العسكري الأجنبي من سورية، وهو أصعب الخيارات وأعقدها لتعارض مخطّطات القوى العالميّة والإقليميّة وتعددها، والأهمّ من ذلك كلّه تفرّق القوى الحاملة للمشروع الوطني السوريّ ولافاعليتها، ولكن ما يدفع إلى هذا الخيار أنّه لا استقرار ولا عملية بناء شاملة، من دون انتقال سياسي حقيقي متوافق عليه، دوليًا وإقليميًا وسوريًّا.

حسن النيفي: القضيّة السوريّة في ضوء المآلات الراهنة

 جسّدت نهاية 2016 ، وبداية 2017 ، مفصلًا ربّما يكون الأكثر أهمّيةً في سيرورة أحداث الثورة السوريّة، وأعني بذلك استعادة سيطرة النظام على حلب الشرقية، وترحيل ما يقارب 200.000 مواطن من سكانها بالباصات الخضراء، ومن ثمّ بداية مسار آستانا، وكان هذا المفصل إيذانًا بمرحلة جديدة من المواجهة بين قوى الثورة ونظام الأسد، كان من أبرز سماتها بدء التقهقر العسكري للفصائل العسكريّة، بالتوازي مع استعادة النظام معظم المناطق التي كانت خارج سيطرته، بخاصّة ما سُمّيَ بمناطق خفض التصعيد (حمص – الغوطة الشرقية – درعا – القلمون)، ومن ثمّ تمكّن النظام لاحقًا –وبدعم مطلق من حليفيه الروسي والإيراني- من الإجهاز على معظم البلدات الإستراتيجيّة حول إدلب (خان شيخون، سراقب، معرة النعمان، كفرنبل)، فيما حالت المصالح المتشابكة بين موسكو وأنقرة دون اجتياح مدينة إدلب. في حين لم تكن التداعيات السياسيّة أقلّ فداحةً، ذلك أنّ مسار آستانا لم يعد مختصًّا بالقضايا الميدانية والإنسانيّة كما ادّعى القائمون عليه منذ البداية، بل أصبح –كما أراده الروس– المسار البديل من جنيف، وقد عُزّز هذا المسار بقبول فكرة ديمستورا حول السلال الأربع في لقاء جنيف الرابع في 23 شباط/ فبراير 2017 ، ليصبح القرار 2254، بعد القفز من فوق بنوده الإنسانيّة المُلزِمة، وبخاصّة (12 و13 و 14) هو المرجعية الأكثر تداولًا، ربّما لكونه أكثر استيعابًا للتفسيرات والتأويلات المختلفة، ولكن على الرغم من ذلك، فإنّ القيمة الفعليّة للقرار المذكور قد تلاشت حيال مخرجات لقاء سوتشي الأول (30 كانون الثاني/ يناير 2018) الذي اختزل العمليّة السياسيّة بتشكيل لجنة لكتابة الدستور أو تعديله.

يعزو كثيرون الاستعصاء الحاصل في عمل اللجنة الدستوريّة إلى عدم جدّية نظام الأسد في تفاعله مع العمليّة السياسيّة، ومحاولاته الرامية إلى المماطلة واستثمار الوقت، بموازاة تمسّكه واستمراره في الحلّ الأمني. ربّما يعكس هذا التفسير فهمًا عامًا، مبعثه سلوك النظام حيال عملية المفاوضات، ولكنّه لا يعكس بالضرورة الفهم العميق لبنية نظام الأسد وماهيّته، ذلك أنّ مماطلة النظام وعدم تفاعله مع القرارات الأممية واستمراره في نهج القتل والاستئصال إنّما هو نتيجة سبب، تعود جذوره إلى أنّ السوريّين لم يكونوا في مواجهة نظام مستبدّ فاسد كما في بلدان ثورات الربيع العربي الأخرى فحسب، بل هم في الأصل في مواجهة استبداد مُركَّب (سياسي وطائفي) ساهم في تحويل السلطة من (نظام حكم ذي طابع مؤسّساتي)، إلى (طغمة أو عصابة) ولكنّها عصابة أقوى تماسكًا وأشدّ صلابةً من نظام الحكم، من جهة أنّها لا تقبل التفكيك بالوسائل الليّنة أو السياسيّة، فهي إمّا أن تنشطر أو تنفجر فتتهاوى كلّيًّا، أو تبقى قائمة. وفي ضوء هذا الفهم، لا يبدو مُستغربًا هذا الانسداد الذي تواجهه العمليّة السياسيّة، ولا يبدو مُستغربًا أيضًا أن يستنجد كثيرون بالسؤال: أين هو الدور الأميركي حيال المآلات الراهنة للمسار السياسي السوريّ؟ وما الذي يجب على قوى الثورة فعلُه؟

لا جديد في القول: إنّ القضيّة السوريّة منذ إدارة أوباما، مرورًا بإدارة ترامب، وحتّى إدارة بايدن، لم تكن أولوية لواشنطن، ولعله من الصحيح أيضًا أنّ التفرّد الروسي بالملفّ السوريّ إنّما كان نتيجة النأي الأميركي، ولكن ما لا يمكن نكرانه أيضًا، هو أنّ الحضور الأميركي كان -وما يزال- قائمًا، إذ تكفي الإشارة إلى بعض المواقف:

1 – الموقف الأميركي، ومن خلفه الموقف الأوروبي، هو العثرة الأساسيّة أمام رغبة الروس في تحويل منجزهم العسكري إلى مُنجز اقتصادي وسياسي، من خلال رفض واشنطن وأوروبا دعم أي عملية إعادة إعمار من دون الوصول إلى حلّ سياسي وفقًا للقرارات الأممية.

2 – واشنطن كانت هي الكابح الحقيقي أمام عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربيّة، ذلك أنّ الرسالة التي وجّهتها الإدارة الأميركيّة إلى الخارجيّة المصريّة في أواخر 2019 كانت صارمة بهذا الخصوص.

3 – إقرار قانون (قيصر) وجملة العقوبات الاقتصاديّة التي تضيق الخناق على نظام الأسد، إنّما هي أميركيّة بامتياز.

ولعل هذا التأرجح في الموقف الأميركي، بين النأي عن التدخل المباشر من جهة، والاستمرار في فرض العقوبات الاقتصاديّة والضغط الإعلامي من جهة أخرى، إنّما مبعثه الحقيقي هو أنّ حضور القضيّة السوريّة في الأجندة الأميركيّة ليس حضورًا مُستهدفًا بذاته، بل هو مُلحَقٌ بالموقف من إيران، ذلك الموقف الذي اتّسم –تاريخيًا– بكثير من التعقيدات والمتناقضات، وما يزال حتّى الوقت الراهن مفتوحًا على احتمالات عدّة. أضف إلى ذلك، أنّ النأي الأميركي -في جزء كبير منه- ذو صلة بمسعى الإدارة الأميركيّة إلى استنزاف الموقف الروسي، أو إغراق موسكو في جحيم المقتلة السوريّة، وعدم تمكين بوتين من الحصول على ما يريده من سورية -إستراتيجيًّا واقتصاديًّا- بالسهولة التي يتخيلها.

لعل حالة الانسداد أمام أي تقدّم في المسار التفاوضي بين النظام والمعارضة، إنّما تجسّد استمرار صراع المصالح بين الدول النافذة على مسرح الجغرافيا السوريّة، بل ليس ثمّة ما يشير إلى اقتراب هذا الصراع إلى الحسم، وفي موازاة ذلك، يتساءل كثير من السوريّين: هل ثمّة جدوى من التعويل على عملية سياسيّة قد أُفرِغتْ من محتواها الجوهري، وما بقي منها (لجنة الدستور) ليست سوى وسيلة يستثمرها النظام لكسب الوقت وتمرير حلوله الأمنيّة وإعادة تعويمه من جديد؟ وهل يمكن التعويل على ما سيسفر عنه صراع المصالح الدوليّة والإقليميّة، مع العلم التامّ بأنّ المصلحة السوريّة هي طرف غائب في أولويّات مصالح الدول المتصارعة؟ وعلى الرغم من تباين الأجوبة المتوقّعة عن الأسئلة السالفة، فإنّه يمكن القول: ثمّة مساحة أخرى للمواجهة، يمكن أن يخوضها السوريّون، وهي المساحة المتبقية التي لا يملك النظام وحلفاؤه فيها أوراق قوّة، ولا يمسكون بزمام المبادرة، وأعني بذلك المواجهة الحقوقية والإنسانيّة، ذلك أنّ السقوط الأخلاقي لنظام الأسد بسبب سلوكه الموغل في التوحّش، قد أتاح المجال للعالم أجمع أن يقف على مئات الآلاف من الأدلّة والوثائق التي تكفي لبدء مواجهات عنيفة يخوضها السوريّون أمام جميع المحاكم المعنية في العالم، ولئن بدت تلك المواجهات ذات الطابع الحقوقي والإنساني ذات مردود غير مباشر يرقى إلى مستوى معاناة السوريّين، إلّا أنّها –بلا شك – تعود بمردود تراكمي منبثقٍ من تضحيات السوريّين ونضالاتهم، وغير خاضع للوصاية والاستثمار الدوليين.

إنّ تحوّل النشاط الحقوقي لعدد من الكفاءات السوريّة من حقول النشاط الفردي إلى العمل المؤطّر والقائم على التنسيق بين الأفراد والمنظمات الحقوقية، بغية الوصول إلى أصحاب القرار والمرجعيات القضائية الدوليّة والتأثير فيهم، لهو من الأولويّات الراهنة، ليس لأنّه سيكون بديلًا من سبل أخرى للمواجهة، بل لأنّه -على الأقلّ- يساهم في بقاء القضيّة السوريّة حيّةً في الضمائر والأذهان.

غسان المفلح: لا حلّ في الأفق

في الواقع هنالك مغالطة تحمل تشويهًا وتضليلًا وتبريرًا للجريمة. هذه المغالطة تستند إلى حيثية تقول الآتي: إنّ ما حدث في سورية، يتحمّله الشعب السوريّ والمعارضة السوريّة.

يستند هذا الرأي إلى أنّ العالم القوي غير متدخل في الشأن السوريّ. أو أنّ هذا العالم القوي الذي تمثّله دول مجلس الأمن قانونيًا، وتمثّله أيضًا دول الاتّحاد الأوروبي بالتحالف مع أميركا التي هي واجهة القوّة في العالم، لم يجد بديلًا للأسد، أو لم يجد بديلًا سياسيًّا يؤمّن مصالحه في سورية غير الأسد، من جهة أخرى تتردّد عبارة لهؤلاء تقول: “كلّ شيء نرميه على إسرائيل” أو أنّ “سببه إسرائيل”. في عبارة ذات طابع استنكاري بالطبع، في الإقليم السيادة الكبرى لأميركا والصغرى لإسرائيل أقلّه فيما يُسمّى دول الطوق. سلطات غاشمة مع دول فاشلة. هذه إستراتيجيّة قديمة جديدة وتتجدّد، وفي كلّ مرحلة يلبسونها رداءً جديدًا. ليس أدل على ذلك من أنّ روسيا وإيران لا تستطيعان الرد على إسرائيل في غاراتها شبه اليومية على سورية. فلمن تكون السيادة في الأجواء السوريّة إذًا؟ في المقابل نلاحظ أنّ الطيران التركي لا يستطيع اختراق المجال الجوي للمناطق الخاضعة لسيطرة الأسد. بينما يقصف الطيران الروسي في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا. النتيجة عندما تقول إسرائيل هذا يعني نسبيًا أميركا أيضًا.

قبل أن نحاول استيضاح هذه القضيّة، لا بدّ لي من القول، إنّه منذ 2005 -العام الذي بدأ فيه احتكاكي المتواضع مع السياسة الأميركيّة- كان كلّ عام يمضي أجد أنّ أي رهان إنساني على السياسة الأميركيّة هو محض هراء. لكن في المقابل لا فكاك من هذا الأخطبوط العالمي. ما يجعلك تطرح على نفسك السؤال الأهمّ في معادلتنا السوريّة بخاصّة والشرق أوسطيّة بعامّة: كيف يمكننا التعامل مع هذا الأخطبوط؟ كيف يمكن التعامل من قبل المعارضة السوريّة مع هذه الأميركا؟

وجدت بعد انطلاق الربيع العربي، والثورة السوريّة بخاصّة، أنّ هذا السؤال يحتوي على جانب عبثي، قبل معرفة الإجابة عن سؤال: ماهي علاقة أميركا بالنظام السوريّ وسورية والشرق الأوسط؟

هذا السؤال هو ما شغلني كثيرًا في الحقيقة وما يزال. لأنّني حاولت مرارًا وتكرارًا الهرب من عنوان طالما واجهني وأنا أبحث في هذا الحقل، وهو (أميركا تدير الشرق الأوسط، بشركاء أم من دون بحسب كلّ ملفّ). نعم أميركا تدير الشرق الأوسط.

أميركا متدخلة بشكلٍ كثيف في كلّ دوله ومجتمعاته. هذا الأمر لم يعد يحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل. ما تعيشه شعوب المنطقة منذ عقود هو نتاج لهذا التدخل. ولا بدّ لنا من التأكيد أنّ كلّ القوى المتدخلة في سورية لاحتلال ثورتها، كلّ القوى من دون استثناء -وعلى رأسها روسيا- تدخلت للحفاظ على الأسد أميركيًا من خلال تشاركها مع أميركا الذي يبدو في لحظات تنافسيًا أو صراعًا.

هذه القوى متشاركة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في الإستراتيجيّة الأميركيّة. الإستراتيجيّة الأميركيّة التي تقوم في أحد ركائزها على أنّ القضيّة التي لا تريد أميركا حلّها، أو تريد تزمينها وتعفين وضعها حتّى، ترميها إلى أروقة الأمم المتّحدة. حيث لا حلّ حتّى الآن أو في الأفق. إذا حدث تأهيل الأسد، ماذا يعني أولًا تأهيل الأسد؟ هل يعني عودة كلّ سورية المحتلّة إلى سيطرة الأسد؟ أم هي إجراء انتخابات شكلانية بحماية روسيا وإيران وإبقاء الوضع الحالي كما هو؟ ثلاث سيادات: أميركيّة في شرق الفرات، وتركيّة في غربه خارج الخريطة الأسدية من جهة، وأسدية إيرانيّة روسيّة مشتركة من جهة أخرى.

تركت أميركا أسدية هزيلة؛ قصر الشعب في دمشق ومقعدًا في الأمم المتّحدة، والشعب السوريّ ضرر جانبي. أمّا سياديًا فأسدية ما قبل الثورة لم تعد موجودة ولن تعود.

أميركا من القوّة في الشرق الاوسط، أنّها لا تحتاج إلى جحافل جيوشها، كي تأتي إليه لتغيير نظام سياسي، أو لفرض أجندة سياسيّة ما. ما هو موجود من جيوش أكثر من كافٍ. ها هي جربت في سورية بـ 900 جندي فقط احتلّت 60.000 كم2 وهي المنطقة الأغنى في سورية. على الرغم من أنف بقية الحبايب. حتّى إنّها لا تحتاج إليهم. يكفي أن تُبقي العلم الأميركي مرفوعًا فوق منطقة تحدّدها. هذه القوّة تراكمت عبر سبعين عامًا وأكثر. هي من حوّلت روسيا وإيران وتركيا في سورية إلى قوى تخريبية لا أكثر ولا تستطيع هذه الدول وبقية دول الملفّ السوريّ، فرض حلّ سياسي من دون أميركا. ما علاقة أميركا إذًا بأنظمة المنطقة؟ لماذا لا تهتمّ بقتل شعوب المنطقة سواءً من أنظمتها أو من أنظمة أخرى بما فيها أميركا؟ الشعب السوريّ ليس استثناء. في الحصيلة لن يكون هنالك حلّ عبر الأمم المتّحدة، وليس هنالك حلّ في الأفق الأميركي. خطورة هذا الوضع ببساطة إبقاء ثلاث مناطق أمنيّة عسكريّة، إلى زمن لا أحد يتكهن بنهايته. ما يعني حالة شبيهة بما جرى في الجولان المحتلّ. لا حرب ولا سلم منذ أكثر من خمسة عقود، والموت بالتقادم لقضية الجولان. ما يعني بشكلٍ أو بآخر إنتاج وضع تقسيمي غير “مدستر” وغير معلن إلى ما شاء الله. هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا بالنسبة إلي، وأتمنى أن أكون خاطئًا.

مهند الكاطع: العمليّة السياسيّة لم تبدأ حتّى نعلن فشلها

لا يخفى على أحد بأنّ العمليّة السياسيّة في سورية تعاني جمودًا كبيرًا وشللًا شبه تامّ في كافّة المستويات والأطر التنظيميّة ومنذ سنوات طويلة، بل لم تعد المعارضة السوريّة اليوم تحظى بأي دعم دولي حقيقي، وعشرات الدول التي كانت تُسمّي نفسها بـ (أصدقاء الشعب السوريّ) أحجمت عن تقديم أي دعم حقيقي للشعب السوريّ في ثورته ضدّ نظام الاستبداد في وقت باكر ومنذ 2013 ولأسباب عدة يطول شرحها، لكنّها لا تخرج عن دائرة المخاوف الغربية من نتائج ثورات الربيع العربي التي ربّما لا تنسجم مع سياسات المجتمع الغربي تّجاه الشعوب العربيّة، وجاءت مسألة الجماعات الإرهابية الراديكالية مثل (داعش) و(النصرة)، شماعة تبرّر للمجتمع الدولي تقاعسه عن مساندة الشعب السوريّ في ثورته العادلة. فلم تعد المسألة السوريّة مدرجة على قائمة اهتمام المجتمع الدولي وبشكلٍ خاصّ الولايات المتّحدة الأميركيّة التي لا يبدو أنّها تستعجل الخطوات للعمل على حلّ جذري (حلّ سياسي) يسمح بإنهاء معاناة الشعب السوريّ، بل على العكس تمامًا، لم تزد الخطوات التي قامت بها الولايات المتّحدة منذ عهد أوباما ومرورًا بعهد ترامب الأمور إلّا تعقيدًا، وبخاصّة مع اتّخاذ أميركا خطوات قضت بفرض حظر على وصول الأسلحة النوعية إلى معارضي النظام، وقامت تحت شعار (الحرب على الإرهاب) بدعم الميليشيات الانفصالية التابعة لـ(حزب العمال الكردستاني) التي كانت حتّى نهاية 2015 متحالفة عسكريًّا بالكامل مع النظام، بل حمتها من النظام بعد توتر العلاقة بين الطرفين، وذلك بفرض حظر طيران على مناطق شرق الفرات، في الوقت الذي بقيت طائرات النظام ومدفعيته تقصف الشعب السوريّ والمعارضة في باقي المناطق السوريّة. 

على أي حال، لم تعد الحلول العسكريّة مطروحة اليوم مع كلّ هذا التعقيد في المشهد العسكري على الساحة السوريّة، وكلّ الآمال كانت معقودة على أن يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته لتنفيذ قرارات الأمم المتّحدة الخاصّة بسورية (2118 و 2254) التي تتطلب تضافر جميع الدول الفاعلة للبدء بدعم خطوة الانتقال السياسي الذي يمثّل الخطوة (السلّة) الأولى من خطوات الحلّ في سورية، وبدلًا من ذلك، فقد حصل التفاف على جميع خطوات الحلّ السياسي، وجرى التركيز على مسارات جانبية لم تزد الطين إلّا بلّة، كمسار آستانا أو مسار اللجنة الدستوريّة التي أدخلت السوريّين في متاهات مضيعة للوقت، قبل البدء بمفاوضات ماراثونية مع النظام المماطل حول (شكل الدستور) كما لو كانت هذه أساس معضلة السوريّين، فالمجتمع الدولي كان يعرف أنّ النظام غير جاد، ولم يكن أحد يتوقّع أي توصل إلى نتائج إيجابية من هذه الخطوة العكسية تفتح بوابة أمل لبحث باقي الملفّات، ولم يجنِ السوريّون من كلّ هذا سوى إطالة أمد معاناتهم وتردي واقعهم الاقتصادي والمعيشي بشكلٍ كارثي وفظيع ينذر بكارثة تهدّد حياة من تبقى من الشعب السوريّ ومستقبلهم.

لا أظن أن العمليّة السياسيّة بدأت حتّى نعلن فشلها، والنظام -في رأيي- هو محض واجهة للتعطيل، أمّا من يقف خلف حالة الجمود والتعطيل في الحلّ السياسي فهو القوى الدوليّة والإقليميّة الفاعلة في الشأن السوريّ، وبشكلٍ خاصّ أميركا، وروسيا، وتركيا، وإيران، وبعض الدول الأوروبيّة التي ما تزال مصالحها متضاربة ولم تصل إلى تسوية حقيقية تسمح لها بدفع العمليّة السياسيّة في سورية إلى الأمام وإنجاز حلّ سياسي منسجم مع قرار الأمم المتّحدة 2254 ليتحقّق انتقال سياسي وإطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين، وإنجاز باقي القضايا والبدء بطي مسيرة مؤلمة يعيشها الشعب السوريّ منذ عشر سنوات.

بالنسبة إلى الروس، شكّلت سلسلة الاتّفاقيات التي عُقدت مع النظام السوريّ المتهالك، الورقة التي استند إليها الروس في تحقيق مصالحهم، وتعزيز وجودهم العسكري وموقفهم السياسي في الساحة السوريّة، حتى لم يعد للنظام أي دور يذكر وفقد كثيرًا من نقاط التحكم والقرار والسيطرة لمصلحة الروس، لذلك في ظلّ عملية الجمود السياسي -التي قلنا إنّها بسبب تضارب مصالح دوليّة وإقليميّة في سورية بالدرجة الأولى- سيسعى الروس إلى الاستمرار في مسرحية تنصيب بشار الأسد رئيسًا من دون قرار لسورية. أمّا بالنسبة إلى الأميركيين وحتّى المجتمع الدولي، فوجود بشار الأسد في السلطة غير مرتبط بتاتًا بمسألة الانتخابات الرئاسيّة في سورية، وفي حال كانت هناك نية أو توافق للشروع في عملية سياسيّة حقيقية، ستُدعم عملية انتقال سياسي للسلطة، حتّى لو كان ذلك بعد تنصيب بشار الأسد بيوم واحد.

بهنان يامين: سورية الثورة الى أين في نهاية عامها العاشر؟

تطوي الثورة السوريّة -وقد يسمّيها بعض حراكًا ثوريًّا أو فورة، لا تهمّ التسمية- عامها العاشر لتخطو نحو العام الحادي عشر، فإلى أين تتّجه سورية؟ هل هناك آمال بأن يوجد حلّ، فالمستعمِر الروسي يحاول أن يلمع صورة النظام حينًا بإجراء انتخابات رئاسيّة، ويطرح المجلس العسكري تارةً أخرى بديلًا من النظام القائم، وطورًا آخر يدعو إلى اجتماعات اللجنة الدستوريّة، التي ولدت مخصية سواء بكامل هيئتها أم بهيئتها المصغّرة.

الحقيقة المرّة والمبكية في الآن ذاته، ألا حلّ في الأفق للمسألة السوريّة، فالنظام يسعى إلى لعبة الانتخابات الرئاسيّة، والكلّ يعرف بأنّ مثل هذه الانتخابات غير شرعيّة، والمعارضة تتقبل أحيانًا الطرح الروسي بالمشاركة في الانتخابات الرئاسيّة، وكذلك المجلس العسكري الذي قد يكون مناف طلاس رئيسًا له، ولقد دخلت (الإدارة الذاتية) على الخط الروسي لتتقبل المساهمة في المجلس العسكري.

كلّ هذه الحلول هي حلول خارجة عن قرارات الأمم المتّحدة التي دعت إلى سلطة انتقاليّة، تؤسّس لدولة وطنيّة ديمقراطيّة، بقي النظام والمستعمِر الروسي والإيراني والتركي والأميركي، يحاول منع قيام مثلها، ولقد نجحوا إلى حدٍّ ما في إجهاض هذه الخطوة التي لم يتقبلها النظام المستبدّ، والكلّ يكذب على الشعب السوريّ، وبخاصّة على قواه الوطنيّة الديمقراطيّة التي تسعى بصدق إلى نقل سورية من دولة فاشلة إلى دولة فعليّة، تعتمد الإرادة الشعبيّة في تكوين دستورها.

هل الانتخابات الرئاسيّة السوريّة شرعيّة؟ طبعًا ليست كذلك؛ لأنّ الشرعيّة يجب أن تستمدّ شرعيّتها من دستور سوريّ شرعي، فدستور 2012 الذي جاء مسخًا ونسخة مشوّهة عن دستور 1973، دستور حافظ الأسد، فمن وضع هذا الدستور، والدستور الذي قبله، ليسوا من ذوي الاختصاص بالقانون الدستوري، بل هم مجموعة شكّلتها الأجهزة الأمنيّة لكي تؤكّد دكتاتوريّة الجالس في قصر قاسيون، سواء أكان بشار أم مناف أم أم.. إلخ.

من هنا فإنّ أي انتخابات في كافّة المستويات، من أسفل الهرم إلى قمته، هي انتخابات غير شرعيّة، وبالطبع إن جرت فإنّ نتيجتها معروفة، ألّا وهي إعادة انتخاب بشار الأسد، فترة رئاسية جديدة، أي سبع سنوات أخرى من المخاتلة، والاحتيال، والقتل، والتشريد، والتدمير، واستمرار هذا الحكم سيوصل بالطبع إلى مزيد من التأكل في الجسد السوريّ.

هل يستطيع المجلس العسكري المطروح، أن يشكّل حلًّا للسلطة السياسيّة في سورية؟ قطعًا لا لأنّ أي دارس للأوضاع السياسيّة، ليس في سورية فحسب، بل في كلّ المنطقة، يصل إلى نتيجة حتميّة، بأنّ سبب هذا البلاء هو العسكر، وما ينتجه العسكر من أجهزة أمنيّة. من هنا فإنّ مثل هذا المجلس ليس بشرعي لأنّه لا يمثّل تطلعات الشعب السوريّ، فهم لم يثوروا من أجل استبدال عسكر بعسكر، فالعسكر مكانهم الثكنات لا السياسة، ويجب أن يخضعوا للسياسي وليس العكس، وإن أراد العسكر أدوارًا سياسيةً، فعليهم الاستقالة من مناصبهم العسكريّة، ويكون ما بين استقالة أحدهم ومشاركته في السلطة السياسيّة مدة زمنية مقبولة لكي يتأهل إلى دخول المعترك السياسي، والابتعاد عن الجيش، وإلّا سنكون أمام نموذج (ميانمار) حيث ينقلب فيها العسكر على السلطة كما يحلو لهم ذلك.

هناك من يقول إنّ (الإدارة الذاتية) الكرديّة -أقول الكرديّة لأنّ باقي المكوّنات السوريّة لا وجود لها في هذه الإدارة، وإن وجد بعض منهم فهم (ديكورات)- هي نموذج ناجح بديل للسلطة السياسيّة في دمشق، وهذا القول باطل لأنّ هذه الإدارة خاضعة لـ(حزب العمال الكردستاني) التركي، المتمركز في وادي قنديل، وممارستها هي ممارسة شبيهة بممارسات النظام، ولنا مثال في تصرفاتها في محافظات الرقة، ودير الزور، والحسكة، أي في منطقة الجزيرة السوريّة، فضلًا عن خضوعها للسياسة الأميركيّة، ولدكتاتوريّة عبد الله أوجلان. إنّ سياسة (تكريد) محافظات الجزيرة أوصلت إلى التدخل العسكري التركي ما بين رأس العين وتل أبيض وهي منطقة عشائر عربيّة، لا أكراد فيها وإن وجدوا فهم أقلّيّة ضئيلة.

كلّ هذه الطروحات، وغيرها، لا تشكّل حلًّا للمسألة السوريّة، كونها طروحات استعمارية ومرفوضة من القوى الديمقراطيّة السوريّة، الطامحة إلى قيام دولة المواطنة الديمقراطيّة قائمة على أسس دستوريّة تفصل ما بين الدين والدولة، وترسي دولة عصريّة تدخل سورية إلى الحداثة.

فراس علاوي: السيناريو العراقي الأقرب إلى الحلّ في سورية

عقد كامل مضى على انطلاق الثورة السوريّة شهد فشلًا كاملًا للمجتمع الدولي في الوصول إلى حلّ يرضي السوريّين، ولعل أبرز أسباب هذا الفشل هو الانقسام الدولي وتضارب المشروعات الدوليّة في سورية، ما أنتج عددًا من الصراعات الثانويّة السياسيّة والعسكريّة على الأرض السوريّة، فعلى الرغم من التوافق الدولي على القرار 225‪4 إلّا أنّ الاختلاف على تفسيره وفق مصالح الدول المتدخلة أدى إلى زيادة هذا الخلاف، وازدياد حدّة الانقسام أدى إلى نشوء مسارات سياسيّة أخرى، وتسبب في انقسامات في أجسام المعارضة التي بدأت تخضع لتوافقات دوليّة وإقليميّة، أبرز تلك المسارات مساري آستانا وسوتشي التي أنتجت ما سُمّيَ اللجنة الدستوريّة، في قفز على تراتبيّة القرار 225‪4 الذي يقرّ بيئة آمنة، ثمّ هيئة حكم انتقالي، ثمّ دستور، ويلي ذلك الانتخابات.

مسار اللجنة الدستوريّة بشكلٍه الحالي يتناسب مع الرؤية الروسيّة التي عملت مع النظام على تكتيكات تفاوض من شأنها إغراق اللجنة بالتفاصيل والابتعاد عن بحث دستور وفق رؤية السوريّين، ومن ثم الوصول إلى الانتخابات المزمع القيام بها في منتصف العام الحالي 202‪1. إذ يرغب الروس من خلالها دعم انتخاب بشار الأسد بحسب دستور 201‪2. وما الدعم الروسي والإيراني المقدّم للأسد -لا يختلف اثنان على أنّه المرشح أو الفائز الوحيد في هذه الانتخابات الشكليّة، إلّا لتثبيت أقدامهم من خلال إعادة تعويم النظام واستخدام هذا التعويم ورقة ضغط في التنافس مع الأميركان في سورية.

هذا الدعم يتزامن مع تراجع الاهتمام الأميركي -ومن ثم الأوروبي- بالملفّ السوريّ وإلحاقه بملفّات أخرى أبرزها الصراع الأميركي – الإيراني في المنطقة، وهذا التراجع الواضح يفسر ذهاب الروس بعيدًا في فرض حلولهم في سورية وإن كانت حلولًا مرحليّة لكنّها تؤثّر في الوضع الراهن. هذا الاستعصاء في الوضع السوريّ يجعل استشراف أي حلول من الصعوبة بمكان، وبخاصّة مع إدارة بايدن التي تشبه نوعًا ما في إستراتيجيّتها بالتعاطي مع الملفّ السوريّ ما ذهبت إليه إدارة أوباما التي رهنت الملفّ السوريّ بمباحثات الاتّفاق النووي مع إيران، ومن ثم الابتعاد عن سياسة الضغط الأقصى التي اتبعها ترامب. ليدخل الصراع مرحلة التنافس في سورية على الرغم من الامتعاض الإسرائيلي سيكون الذهاب بعيدًا في إعطاء إيران حيّزًا أكبر من التمدّد في محيطها الجغرافي أحد المشكلات الأساسيّة التي تهدّد أي حلّ في سورية.

الاستعصاء الحاصل في الملفّ السوريّ مردّه الأساسي لرؤى ومصالح سياسيّة واقتصاديّة متعلّقة بالدول المتدخلة، وأيضًا لتجارب سبقت الملفّ السوريّ في العلاقة بين الدول المتدخلة، كما حصل في العراق حين استفرد الأميركان بالحلّ، ما أثار في حينها امتعاض الروس، وكذلك كما حصل في الملفّ الليبي حيث أقصِيت روسيا من الحلّ هناك ما جعلها تعود لاحقًا عبر عمليات عرقلة وتعطيل أي حلّ. وهناك صراعات جزئيّة لا يمكن الوصول إلى الحلّ في سورية من دون المرور عبرها وإيجاد حلول لها، فمن أجل الوصول إلى حلّ شامل في سورية لا بدّ من إنهاء حالة التنازع والتنافس على الجغرافيا السوريّة، وبناء إستراتيجيّة تقوم على إنهاء النزاعات المحليّة وصولًا إلى حلّ سياسي شامل يضمن مصالح الدول المتدخلة، ولعل أبرز هذه الصراعات هي:

1 – الصراع التركي – الكردي (حزب العمال الكردستاني/pkk)، حيث أصبح شمال وشمال شرق سورية مسرحًا له إذ تسعى تركيا إلى منع قيام كيان كردي في وقت تحاول فيه بعض الأحزاب الكرديّة استغلال الوضع السوريّ لإقامته، ومن ثم إبعاد خطر (pkk) عن الداخل التركي للحفاظ على أمنها القومي، وأي انخراط في عملية سياسيّة تضمن من خلالها تركيا تحقيق أهدافها ستساهم في الاقتراب من حلّ شامل في سورية، ولعل تطوير اتّفاق أضنة 199‪8 بين تركيا وسورية قد يعد محفزًا لقبول تركي بالحلّ السياسي المرتقب.

2 – الصراع الثاني هو الأميركي – الإيراني، وهو صراع متشعب ومتغيّر بحسب الإدارات الأميركيّة، لذا فازدياد حدّة الصراع أو التوصل إلى اتّفاق سيؤدي إلى اقتراب الحلّ في سورية، لكن لكلّ حلّ تأثيره المختلف ونتائجه المختلفة. من هنا نستطيع تقييم الموقف الأميركي من خلال التصعيد الإسرائيلي أو تراجع مستوى التصعيد كما حدث في إدارة أوباما، إذ يلعب دورًا أساسيًّا في التوصل إلى اتّفاق أميركي – إيراني.

المشكلة الأساس المتعلّقة بهذا الملفّ هي تحوّل الملفّ السوريّ إلى ملفّ ملحق وليس ملفًّا أساسيًّا في الحلّ بالمنطقة، لذلك فإنّ إدارة الصراع في سورية من هذا المنطلق تعتمد بشكلٍ كبير على مدى اشتراطات كل من إيران وإسرائيل ومدى تحقيق التوافق بينهما أميركيًا من حيث الوصول إلى اتّفاق شامل مع إيران يعيد إحياء الاتّفاق النووي، لكن بشروط جديدة وفق رؤية إدارة بايدن. من جهتها فإنّ السلطة في إيران تلقفت الرغبة الأميركيّة في عدم الذهاب إلى تصعيد جديد والابتعاد عن ممارسة سياسة الضغط الأقصى لتبدأ برفع عتبة شروطها والعمل على استخدام الورقة السوريّة ورقة ضغط واضحة على ملفّ الصراع ما يعني تعقيدًا آخر في الحلّ السوريّ.

3 – الصراع الثالث هو الصراع الأميركي – الروسي، إذ اختارت روسيا بعد خساراتها في العراق وليبيا الساحة السوريّة لخوض صراع من نوع آخر مع الأميركان من خلال التدخل المباشر في سورية، وقد استفاد الروس من التراجع أو عدم الاهتمام الأميركي للتدخل ومحاولة فرض رؤية وشكل للحلّ يعتمد على إعادة سيطرة نظام الأسد عسكريًّا من خلال ما سُمّيَ بمناطق خفض التصعيد (وهو ما لاقى رضى أميركيًا)، ومحاولة فرض رؤية روسيّة للحلّ السياسي من خلال إعادة تعويم النظام، وهذا الأمر يلقى حتّى الآن رفضًا أميركيًّا. وازدياد حدّة هذا الصراع قد يسرّع الوصول إلى حلٍّ، وكذلك التوصل إلى توافقات في ملفّات أخرى في القرم وأوكرانيا من شأته أن يسرع الحلّ في سورية، ومن دون هذه الحدّة سيبقى الحلّ يراوح مكانه بين الطرفين.

 العامل المشترك لجميع التدخلات الدوليّة في الملفّ السوريّ هو (مكافحة الإرهاب) وتنظيم (داعش) بصورة خاصّة، فنشاط التنظيم وصعوده مجددًا -على الرغم من إعلان القضاء عليه سابقًا- سيلعب دورًا في طبيعة الحلّ السوريّ وشكله. لذلك فإنّ إستراتيجيّة الحلّ تبدو معقدة ومتشابكة الخيوط ومن الصعب تفكيكها إلّا من خلال تفكيك جزئياتها ويعتمد ذلك على الرغبة الأميركيّة في الحلّ بصورة خاصّة. فيما تراجع إدارة بايدن إستراتيجيّتها المتعلّقة بالشرق الأوسط لا يبدو الملفّ السوريّ أولوية للأميركيين. وسيبقى الحلّ في سورية مرتبطًا بملفّات أخرى أكثر تعقيدًا ما لم تصل التدخلات الدوليّة إلى حدّة كافية تهدّد بتغيير قواعد الاشتباك، حينها فقط ستذهب الدول نحو الحلّ تجنبًا للتصعيد العسكري، إذ لا تملك تلك الدول بما فيها الولايات المتّحدة وروسيا الرغبة في الذهاب بعيدًا في حرب مفتوحة من أجل سورية.

لذلك فإنّ جميع سيناريوهات الحلّ المتوقّعة تعتمد بشكلٍ رئيس على إنهاء هذه الصراعات من جهة، وإيجاد نوع من التوافق حول مسائل إعادة الإعمار إذ سيكون لمتعهدي عملية الإعمار حصّة من الحلّ.

ولعل السيناريو العراقي يبدو الأقرب إلى الحلّ في سورية على الرغم من مساوئه إلّا أنّ الحلول التوافقيّة غالبًا ما تكون نتائجها أقرب إلى المحاصصة والتقسيم من أجل إرضاء جميع الأطراف الفاعلة وإعطائها حصّة من كعكة الحلّ في سورية. وهذا الحلّ لن يحقّق طموحات الشعب السوريّ لكنّه ربّما سيوقف ولو جزئيًّا دوامة العنف السوريّة التي تعدّدت ملفّاتها بما فيها ملفّ اللاجئين في دول العالم، وملفّ معتقلي تنظيم (داعش) في سورية، وكذلك ملفّي العدالة الانتقاليّة وإعادة الإعمار وغيرها من ملفّات.

مركز حرمون

—————————————

الثورة السورية بين الواقع والمأمول/ يونس العيسى

منذ أيام أطلت الذكرى العاشرة للثورة السورية، ومرور هذه الذكرى يدفع المتأمل للتمعن بمآلات الثورة وحيثياتها وإفرازاتها، لأنها كانت ثورة شعب حرٍّ أراد استعادة حريته وكرامته. تحمل هذه الذكرى في طياتها كل المشاعر المتناقضة، وتختلط المشاعر لتنتج شعورا بالإصرار على متابعة الطريق حتى تحقيق الغاية. ولكن الأهم من ذلك كله وحتى لا تحضر الذكرى وتغيب الثورة، ويحضر الشعار ويغيب المشروع، هو مراجعة السنوات السابقة، وتحديد مكامن الضعف والإخفاق ومكامن القوة والنجاح. لأن المراجعة والنقد تقوية وإصلاح، والثوار أولى به من أعداء الثورة.

عشرة أعوام على الثورة فهل حققت مقاصدها؟ أم بعضها؟ أم أنّها مقبلة على احتمالات أخرى قد تنفيها؟ فيما يبدو أننا إزاء نزعة حلول سياسية ومجلس عسكري، لا يمكن الحكم لها أو عليها حتى الآن، أو في الحد الأدنى أن تسعى باتجاه التقدم، على أن احتمال نفي الثورة هو أيضا احتمال وارد. ورجوع أشخاص انشقوا عن نظام الأسد، بعد أن كانوا من سدنة نظامه وبتوافق مع المعارضة السورية، يسمى تلطفا «شراكة» وتهافت الانتهازيين نحو هذه الحلول من كل حدب وصوب، يبتغون مناصب تسد جوعهم للسلطة، ويصفق لهم أرباب «الهبوط الناعم» الذين تقمَّصوا اليوم روح الثوار.

مقابل ذلك لا تبسط اليد لحداة الثورة الأوائل، الذين نهضوا بها وضحوا كثيرا من أجل تحقيق مطالبها، وما يطرح من حل للقضية السورية، الذي يعِدُ بمشروع ما جديد يلوح في الأفق، لا يزال قيد التشكل بعسر، يبحث عن عناصره التائهة هنا وهناك، وقد تظل مشاريع هذه الحلول «في حضرة الغياب» طالما الضيق الفكري، والانقياد السياسي يتلبس المعارضة السورية، التي استمر كسلها وفشلت على مدار عشر سنوات في القبض على الأهداف التي طالبت بها الثورة، وعدم حمل المعارضة لفكر الثورة، الذي كان بالإمكان أن يكون محركها وضامن مسارها، ومحققا لمطالب جمهورها، ما قزّم مطالبه إلى خدمات معيشية ومطلبية ضيقة، بدون تقديم للمطالب الثورية الكبرى، فلم يعد يعنيها إلا سلامتها بالفعل المضارع ومراودة المستقبل. وكعادتها ومنذ عشر سنوات تلعب الدول الكبرى لعبتها الوظيفية في تخدير المعارضة السورية، التي تسيدت صفوف الثورة، وتستخدم تلك الدول كل الأدوات للوصول إلى هدفها، وهو وضع عربة تلك المعارضة خلف قطارها، الذي يجدّ المسير نحو أهداف تلك الدول، من خلال مؤتمرات وندوات، يستخدم فيها كل وسائل الإقناع الميكافيلية، ما يولد إحساسا لدى كل معارض بأنه هو الأمير، ومن واجبه استخدام الوسائل كافة ليبقى أميرا، ولو كان في ذلك خيانة لذوي الشهداء والمعتقلين والجرحى، وخذلان الشعب الثائر في الوصول لمبتغاه، وتصبح عندهم الخيانة وجهة نظر، ولها فقه يصف الثورة بأنها أزمة، وأن الثائر مسلح، وتحرير الأرض حرب، وخيانة دم الشهداء تعايش ومواطنة.

وسعت الدول الإقليمية والدولية ذات التأثير بالشأن السوري، إلى التخلص من الفكر الثوري لدى المعارضة السورية، وقامت بإبراز وتوجيه البوصلة نحو عالم الأشخاص، بدلا من الأفكار والمبادئ والقيم الثورية، وبذلك أصبح الأشخاص بديلا للمبادئ والأفكار، وهؤلاء لا يستطيعون الصمود، إذا لم يتلقوا دعما خارجيا من الدول التي اختارتهم، ولا يصلحوا أن يحلوا محل القيم الثورية التي نادى بها الشعب الثائر، وبذلك يتحول الأحرار إلى عبيد وهم لا يشعرون. فيما أدى المال السياسي الذي تدفق على ثورتنا، بتحول النضال الملتزم بقيم ومبادئ الثورة، إلى مجرد نشاط يوظف فيه الناشط والسياسي والعسكري والإعلامي، وغيرهم، تجربته وخبرته لمن يدفع، شأنه في ذلك شأن لاعب كرة القدم. كان المأمول أن تصنع الثورة السورية نصرا حاسما، وفي واقع الأمر فقد اقتربت من ذلك كثيرا في سنواتها الأولى، ولكن المتربصين قطعوا عليها الطريق، لأنها أسفرت عن وجهها الحضاري، باعتبارها ثورة وعي وبعث لقيم التحرر والمواطنة، التي وطأتها أحذية الكهنوتيين. وفي التقدير ثمة أسباب حالت دون اكتمال حلم الثورة. فقد أصيبت الثورة مبكرا «بكورونا التأسلم» الذي عمل نظام الأسد على نشره في نهجها ووعيها. وقد عمل هذا الفيروس على «أسلمة الثورة السورية» حسب بوصلة المتأسلمين السياسية، التي تعمل على استغلال العواطف والمشاعر الدينية عند الشعب، ما أدى لتأخر الحسم في المعركة ضد نظام الأسد. وارتفعت كلفة الحرية، وأنتج عوامل هدم أخرى أنهكت الحراك الثوري وألحقت به ضررا كبيرا، وطبع الثورة بطابع «الإسلام السياسي» ما أدى للفشل والانغلاق والانسداد. فمن حيث المنطلق يعلم الجميع أن الثورة السورية انطلقت لأسباب إنسانية عامة، مرتبطة بقيم الحرية والكرامة، ضد نظام مستبد، لا يمت إلى مصلحة الوطن بصلة، ولا يقيم لآدمية الإنسان أدنى اعتبار، اندلعت «ضد الظلم لا ضد الكفر» وبهذا الفهم فتحت الثورة بابا لكل السوريين، لا لفئة محددة أو طائفة بعينها، لأن معظم السوريين نالهم من ظلم النظام الشيء الكثير. وقد لعب المتأسلمون دورا سيئا للغاية في «أسلمة» الثورة، من خلال استغلال العواطف الدينية واللعب على وتر تجييشها، لأن هناك فرقا بين المسلم والمتأسلم، فالمسلم شخص يتبع دينه، ويطبق أركانه وينعكس على سلوكه وأخلاقه ومعاملاته ويرى الإسلام دينا جامعا، ولا يستغل الدين لتحقيق مآربه. بينما المتأسلم متعصب لفكر منهجه وأيديولوجيته، ويعتقد بصحته دون سواه، ويعادي من يخالفه ويلجأ إلى التدين لإزاحة خصومه والدعاية لحزبه، ويغازل الجمهور بعاطفة الوتر الديني. الثورات تشيخ بانتظام، ثم تنقلب على نفسها، إذا لم تكن هناك استراتيجية ثورية وقيادة تنظيمية، تستثمر الحراك الثوري، فقد كان هناك نابليون في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، وجاء ستالين بعد الثورة البلشفية، وكان هناك ماو بعد الثورة الصينية.

لأن الثورة هي وصول الإرادة الثورية للجمهور، والتحرك نحو الهدف وهو النظام الديكتاتوري لإسقاطه، والبدء بعملية تغيير الحالة السلبية، أو الظلامية التي كرّسها النظام الحاكم عبر القمع والدولة البوليسية. إنه لأمر مؤسف حقا أن ينفصم وعي الثورة، ليصبح واقعها افتراضيا ومحصورا بشعارات وأيقونات. وبعد عشر سنوات من الثورة مازال العمل جاريا على إلقاء القبض على أحلامنا بتهمة التمني. بعد عشر سنوات ثورة مازالت المعارضة تقود الثورة بفكر غير ثوري، بل بعقل نمطي تعود على الفئوية والحزبية، واستئصال المخالف لفكرها، ولم تعمل بالمعنى الصحيح على إدارة حراك ثورة ضد نظام يقمع ويقتل شعبا يطمح للتحرر، بل انحنوا لمكاسب السلطة. بعد عشر سنوات سيجد المتابع لمسار الثورة مثالب وأخطاء كثيرة منها:

أولا: انعدام الوعي الثوري عند قادة الثورة، وميلهم لعسكرة الثورة بشكل تقليدي في الشارع، ما أورث هذا الحال انقساما في الصف الثوري.

ثانيا: العجز عن جمع الكلمة، نتيجة عدم تحقق الوعي بالثورة، وخوفا من ضياع مكتسبات سلطوية خاصة، إذ لو تحقق الوعي الثوري عند القادة لفهموا أن قوتهم مستمدة من اجتماعهم واصطفافهم لتحقيق هدف واحد، ما أدى لتبعثرهم في سؤال الشريعة وتطبيقها، وتصنيف الناس على أساس خيارهم إلى إسلامي وعلماني.

ثالثا: الثورة مشروع سياسي، والجهل في اختيار الأصدقاء وتحديد الأعداء كان غالبا على مسار من تصدر قيادة الثورة.

رابعا: التخوين، هذه الجرثومة التي أصابت الكثير وأصبحوا يرون بسببها الثائر المخالف لهم في رأيه مخالفا لهم في الغاية، وقد أنتج هذا الأمر تشظيا غير مسبوق في عدد الفصائل العسكرية والمحافل السياسية.

خامسا: خرج الثوار للخلاص من الاستبداد بالسلطة والحكم، ولكنهم وجدوا قياداتهم بشتى أطيافها لا يتداولون القيادة، إلا بتدخل من عزرائيل، نتيجة عجز عن تصدير الأشخاص المناسبين لقيادة المرحلة على أساس الكفاءة والإنجاز، والاكتفاء بقيادات تقليدية بوعي قديم.

سادسا: سقوط الكثير من القيادات في المجالات التي تصدروا قيادتها في اختبار النزاهة الثورية، وامتحان المال العام، وطرق وأساليب كسبه المشروعة.

سابعا: الانحراف عن مبادئ الثورة، التي تقتضي الالتزام بأس الأخلاق الكريمة، ومحاولة المتاجرين بالثورة صبغها بأخلاقهم.

ثامنا: أفرزت الثورة السورية خواء على مستوى القدوات، فمع كثرة المتساقطين، انكشفت للناس نوعية القدوات التي كانت تتبعها وتخلفها عن القيم والأخلاق قبل عامة الناس.

تاسعا: التشبيح باسم الثورة، وهذا الأمر يجب عدم السكوت عليه، ولا تعليله باسم الأولويات، فمن يرى أن هذه استثناءات لا تستدعي التصدي لها الآن، فإنما يؤسس لأن تصبح هذه الاستثناءات هي الأساس. فالشعب الذي عانى من تصرفات وحواجز الشبيحة، يجب عدم القبول بحواجز باسم الفصائل العسكرية المنتمية للثورة، لأنها تمارس تشبيحا أقل، وليس لأن العصابة الحاكمة تقتل الناشطين والإعلاميين وتخفيهم باسم محاربة الإرهاب، يعني القبول بضرب وإهانة واعتقال هؤلاء باسم الثورة، وإذا كان نظام الأسد يمارس الاستخفاف بالشعب السوري ونخبه، فليست مهمة الثورة والثوار تقليده في الاستهزاء مع من يختلف معهم بالرأي وتخوينه واتهامه ليثبت هؤلاء صحة وجهة نظرهم.

هذه الأخطاء والتجاوزات وغيرها من الممارسات على المستوى اللفظي والفعلي، ليست في مصلحة الثورة، والسكوت على التجاوزات وتبريرها يعيق تقدم الثورة نحو بناء مجتمع مواطنة مختلف، عن ذلك الذي أسس له الأسد في جمهورية الخوف والرعب والقهر. تلك ليست مهمة محصورة في جهة واحدة من الثورة، بل ثقافة يجب أن تشاع، والتملق والخوف من مواجهتها ليس فيه أي نوع من حماية الثورة، بل العكس هو الصحيح. هدف الثورة إسقاط منظومة نظام الأسد، والعمل على بناء نظام مواطنة عادل، وهدف نظام الأسد القضاء على الثورة، وإن لم يستطع يعمل جاهدا لتحويلها من خلال روسيا وإيران والدول التي تدعمه من ثورة أحرار، إلى ثورة عبيد. وهذا يتطلب توصيف الشخوص وتحديد موقف ممن حضر مؤتمرات سوتشي وأستانة مدعيا تمثيله للثورة، وهناك وجهات نظر مختلفة اتجاه هؤلاء، الذين ذهبوا إلى سوتشي تصل حد التوصيف بالخيانة، واختلاف وجهات النظر ليس نابعا في لبس وغموض في الموضوع، وإنما نابع من مفهوم قيم الثورة. من قاطع المؤتمرات عليه أن يقاطع من ذهبوا إليها، ومن يصف نتائج المؤتمرات عليه أن يصف فعل الذين شاركوا، وبناء عليه يحدد وجودهم أو عدمه ضمن صفوف الثورة. وفي ذكرى الثورة تستدعي اللحظة الثورية مقارعة الوثنية الدستورية، فحتمية التمايز بين ثوابت الثورة ومتغيرات السياسة تملي على الثوار استعادة يقظتهم لامتلاك منابر الحق، فليس هناك ثورة في التاريخ تطيع الدستور، الثورات تكون دائما وأبدا غير دستورية، الثورة تستمد شرعيتها من نفسها، ودستور النظام يسقط تلقائيا، بدون الحاجة إلى أي إجراء آخر. عندما تفرض الثورة نفسها ويقوم حولها إجماع شعبي أو شبه إجماع، الدستور القديم يسقط ليس من خلال آليات يحددها هو، ولكن من فعل يأتي من خارجه ويلغيه، هذا الفعل هو الثورة.

كاتب سوري

القدس العربي

————————–

سورية بين ثورة الشعب ومؤامرة النظام/ عبد الباسط سيدا

هل ما يحدث في سورية منذ عشرة أعوام ثورة أم مؤامرة؟ سؤال مركّب، يتضمن محورين رئيسين، تتمفصل حولهما المناقشات والجدالات. كما تتوزّع بينهما حجج النظام وأتباعه والمرتبطين به، والمستفيدين منه، وأنصاره ورُعاته على المستويين، الإقليمي والدولي، وتلك التي تخص المناهضين للنظام من السوريين من جهة أخرى، وهؤلاء هم الأغلبية الساحقة، ثاروا على نظام الفساد والاستبداد بصورة علنية، وتحمّلوا نتيجة مواقفهم. أما الصامتون الذين لم تسمح لهم ظروفهم، وربما تقديراتهم واعتباراتهم الخاصة، بالتعبير عن مواقفهم صراحة، فهم أيضاً يدركون تماماً الإدراك أن النظام هو المسؤول الأول عما آلت إليه أوضاع البلاد والعباد؛ ولن تتعافى سورية بوجوده.

يدّعي النظام وأتباعه ورعاته أن سورية كانت بألف خير، كانت مستقرّة، وكان الناس “عايشين” كما يقال، على الرغم من الصعوبات التي كانت بسبب نهج “المقاومة والممانعة” و”الصراع مع العدو الإسرائيلي”، وتعرّضها “للضغوط والعقوبات من أميركا وعملائها من دول المنطقة”. ما زال هذا الخطاب معتمداً من نظام بشار وأتباعه من قوميي محور “المقاومة والممانعة” ويسارييه وعلمانيّيه، كما أن هذا الخطاب هو الذي يستخدمه النظام الإيراني مع مليشياته في سورية ولبنان والعراق واليمن.

أما ملفات الفساد الكبرى الخاصة بالعائلات المافياوية التي ما زالت تتحكّم بالسلطة والثروات منذ ما قبل الثورة، ومعاناة أكثر من نصف السوريين قبل الثورة من الحاجة والفقر، واستبداد الأجهزة الأمنية، وتنكيلها بالسوريين، وتحوّل الأحزاب والمنظمات الشعبية إلى مجرّد واجهة تزيينية للسلطة المتوحشة، وتحكّم تلك الأجهزة بمفاصل الدولة والمجتمع، وتدخلها في أدق تفاصيل الناس، بدءا من مسألة الحصول على العمل أو الترخيص لأي عمل، أو أي عقد بيع وشراء، وحتى موافقات السفر .. إلخ.

أما مسائل حرية التعبير والنشر، وتأسيس الجمعيات والأحزاب فقد كانت من المحظورات، حتى في مجال التعبير عن المطالبة بها. وعن الاستقرار المزعوم، فقد كان بفعل أساليب القمع والتدجين، حتى وصل أهل الحكم إلى قناعةٍ زائفةٍ مفادها بأنهم قد أصبحوا في منأى عن أي تهديدات، وبات في مقدورهم سن القوانين، وإصدار المراسيم، بل الدساتير، المفصّلة وفق حساباتهم. فثبّت حافظ الأسد، في دستوره المادة الثامنة التي نصّت صراحة على قيادة حزب البعث الدولة والمجتمع، أي أنه ثبت قيادته الشخصية باعتباره القائد الملهم لذاك الحزب. كما أصدر قانون 49 لعام 1980 الذي نصّ على إعدام كل من يثبت انتماؤه إلى جماعة الإخوان المسلمين. وأصدر نجله بشار المرسوم 49 لعام 2008 الذي حوّل مناطق واسعة في المحافظات الشرقية، خصوصا في محافظة الحسكة، إلى مناطق تخصع لإجراءات استثنائية تستوجب الحصول على موافقات معقدة من مختلف الأجهزة الأمنية والوزارات في عمليات بيع العقارات والأراضي الزراعية وشرائها، بحجّة أنها مناطق حدودية، الأمر الذي كان يعني، بطبيعة الحال، خنق هذه المناطق، وسد كل المنافذ أمام إمكانية حلحلة اقتصادية في ميدان العمران، وسوق العقارات، وهي المناطق التي كانت أصلاً مهملةً مهمشةً من النظام، بل كانت ميداناً للنهب الذي كان يمارسه المسؤولون الأمنيون وشركاؤهم هناك.

أما لعبة توريث الجمهورية التي شارك فيها أركان النظام، بمن فيهم من تركه لاحقاً، تحت تهديد أرباب الأجهزة الأمنية، فهي قد باتت وشماً يُعرف به نظامٌ يتبجّح حاكمه الوارث بالعفة والشعارات الكبرى التي كانت، وما زالت، مجرّد قنابل دخانية استخدمت للتمويه على ما كان يجري في الداخل من قمعٍ للحريات، وسلب ونهب للثروات، وتسطيح للعقول والضمائر.

ولم يكتف هذا النظام بسطوته على الداخل السوري وحده؛ بل مارس العنف والإرهاب بكل الأساليب لإزاحة المعارضين اللبنانيين الذين كانت ينتقدون تغلغل النظام السوري في الدولة والمجتمع اللبنانيين، وذلك بالتنسيق مع النظام الإيراني. حتى تمكّن حليفه، حزب الله، من التحكّم بالدولة اللبنانية، ومكّن الفاسدين الذين أجهزوا على الاقتصاد اللبناني الذي يترنّح اليوم محتضراً، ما لم تحدُث معجزة ما. كما تَشَارك النظام نفسه مع النظام الإيراني في تفجير الأوضاع في العراق؛ لمصادرة أي احتمالية لنموذج حكم ديمقراطي، ولو في حدوده الدنيا، في العراق، وذلك لتيقّنه من أن رياح التغيير ستمتد من العراق إلى سورية أيضاً، لأسباب كثيرة، منها النقمة الشعبية على حكم “البعث”، واستبداد الزمرة الحاكمة وفسادها. ولذلك نرى أن الحملة الديماغوجية التي قادها النظام، وألزم أتباعه والمنتفعين منه، وتدّعي أن هناك مؤامرة كونية على سورية، ما هي إلا واحدة من وسائله المعهودة لتسويغ حربه على الشعب السوري، عبر تسويق أكذوبة محاربته الإرهاب، وهو النظام الذي اعتمد الإرهاب أداةً لقمع السوريين في الداخل. ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى ما فعله في حماة عام 1982، وفي القامشلي عام 2004؛ هذا فضلاً عن حالات البطش بالمعتقلين في سجونه وأقبيته التي كانت دائما مكتظةً بالمنتقدين والمعارضين لسياساته وممارساته.

لن ندخل هنا في المماحكات والتعريفات النظرية الخاصة بضبط مفاهيم الثورة والانتفاضة والحراك الشعبي، وغيرها من المفاهيم اللغوية التي تستخدم في هذا المجال. وإنما نتاول الوقائع التي حدثت على الأرض، على أن يحدّد المنظرون والمفكرون المصطلح المناسب لبيان ماهية ما حدث ويحدث في سورية منذ مارس/ آذار 2011.

لقد تمكّن الشعب السوري، بفطرته السلمية، ومنذ اليوم الأول، من تحديد خياراته الوطنية، فكان التركيز على الوحدة الوطنية السورية، واحترام التنوّع السوري، وطالب بالقطع مع كل أشكال التعصب، سواء الديني أم القومي أم الأيديولوجي، وتعرية شعارات المقاومة والممانعة. كما كانت المطالبات الشعبية العارمة بإنهاء سلطة الاستبداد والفساد، وإتاحة الفرصة أمام المواطنين السوريين لممارسة حرياتهم في ميادين التعبير والنشر، والاستفادة من الموارد، وتأمين العدالة الاجتماعية عبر توفير فرص العمل للناس، والاهتمام بمناطق الأطراف التي اُهملت وهُمشت عقودا، واستخدام موارد البلد في مشاريع تنموية لصالح جميع السوريين.

كل هذه المطالبات كان السوريون يرفعونها، ويضحّون في سبيلها؛ ولكن النظام هو الذي تآمر مع رعاته الإيرانيين، خصوصا في البدايات على مظاهرات السوريين واحتجاجاتهم السلمية، ودفع بها نحو الحرب الداخلية الطائفية البغيضة، حينما فتح البلاد أمام المليشيات المذهبية التابعة للنظام الإيراني، وفي مقدمتها مليشيات حزب الله. وهكذا تطوّرت الأمور إلى أن حصل التدخل الروسي عام 2015، والذي لم يكن له أن يحصل لولا التفاهم مع الجانبين، الأميركي والإسرائيلي. ثم كان التدخل التركي ابتداء من عام 2016، حتى أصبحت سورية مقسّمة بين جملة مناطق نفوذ، تتحكّم فيها جيوش دولية وإقليمية لها مليشيات، سواء من تلك الوافدة، أم المحلية التي تشكّلت من سوريين ألزمتهم الظروف بأخذ هذا التوجه أو ذاك.

نحن اليوم في مرحلة المراجعات الفكرية لما حصل، والتأسيس لمشروع وطني سوري، كان يبدو، قبل عشرة أعوام، وكأنه مجرّد طرح نظري طوباوي، ولكن التجارب القاسية علّمت السوريين، وأقنعتهم بأن المشاريع العابرة للحدود، بشعاراتها الدينية أو المذهبية أو القومية، لم تمكّن السوريين على مدن قرن من الاستقرار، ولم تحقّق لهم النهضة المطلوبة بأبعادها العلمية المعرفية والاقتصادية والتقنية. نهضة تمتلك سورية كل مقوماتها.

المناقشات التي تجري اليوم بين السوريين عبر مختلف وسائل التواصل واعدة، وكذلك الكتابات التي تُنشر، والأفكار التي تُطرح، والأعمال الفنية بمعناها الأوسع، التي تتناول الواقع السوري من جميع جوانبه. ملايين السوريين في الداخل والخارج ما زالوا على موقفهم المطالب بضرورة خروج بشار الأسد وزمرته من دائرة الحكم، لكن المطلوب أولاً توافق السوريين على بديل وطني يعيد الاعتبار للانسان السوري أولاً، ويرمّم النسيج المجتمعي الوطني السوري، قبل الحديث عن أية عملية إعادة إعمار يسيل لها منذ الآن لعاب مافيات الفساد المحلية والإقليمية والدولية.

وقد أدّت التراكمات التي كانت خلال السنوات العشر الماضية بسلبياتها وإيجابياتها، وستؤدّي، إلى تحوّلاتٍ كثيرة في المفاهيم والأفكار، بل وفي أدوات التفكير. ولم يعد هناك من ميدان محظور على النقد والتحليل والتفكيك، سواء على صعيد المفاهيم والأيديولوجيات، أم على صعيد طبيعة النظام وحقيقته، وماهية ما يتوخّاه السوريون. وقد كشفت الأعوام العشرة الماضية عن خرافات النظام ومزاعمه، خصوصا بشأن الإرهاب الذي فتح هو بنفسه البلاد أمامه، ليضع العالم أمام بديلين فاسدين. كما كانت العشرية السورية الكارثية كاشفاً أخلاقياً أماط اللثام عن قباحات كثيرين من القوميين والعلمانيين واليساريين من السوريين والعرب، وأوصلت سوريين كثيرين إلى قناعة تامة بأن المشاريع الإسلاموية السياسية بأسمائها المختلفة لا تناسب الواقع السوري، بل أضرّت الثورة كثيراً.

الثورة السورية مستمرة، وستستمر. وستجدّد نفسها من خلال فكر وطني ناضج، يمتلك الجرأة والقدرة على نقد الذات قبل الآخر؛ فكر يؤسّس لمشروع وطني سوري واقعي يطمئن الجميع، يكون حامله الاجتماعي ملايين الشباب والشابات من السوريين، ممن امتلكوا الخبرة والمعرفة في الداخل والخارج؛ وهم اليوم يتطلّعون إلى مستقبل أفضل لهم ولشعبهم وبلادهم، ولأجيالنا السورية المقبلة.

العربي الجديد

—————————–

الثورة السورية والغانديون الجدد/ أحمد عيشة

قبل الحديث عن ظاهرة العسكرة في الثورة السورية، لا بدّ من الحديث قليلًا عن تركيبة النظام الأسدي، نظام الأب والابن، فقد استولى حافظ الأسد على السلطة، عبر انقلاب عسكري في تشرين الثاني عام 1970، مستفيدًا من نظام رفاقه في البعث (1966 -1970) وما خلقه من استياءٍ شعبي وعزلة على المستوى العربي نتيجة لخطابه “اليساري” المعادي للإمبريالية وإسرائيل، فتوجّه الأسد بخطابٍ يتودّد فيه إلى الناس في الداخل، ويفتح علاقات جديدة مع الدول العربية، خاصة مصر والسعودية، وبذلك مهّد لنظامه حالة من القبول الشعبي والعربي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وهي الأهمّ، باشر بترتيب الجيش وفروع الأمن وفق استراتيجية جديدة: الكل يراقب الكل، والرئيس هو المرجع للجميع. بالطبع، كان ترتيبه للجيش وللإدارات الأمنية يقوم على خلق نواة طائفية في قيادتها، كما سعى لإجراء توسعة للجيش من خلال خلق وتوسيع وحدات عسكرية شبه مستقلة عن الجيش (سرايا الدفاع)، يقودها أخوه، رفعت، وعقد للمرة الأولى صفقة مع المرشديين أتاح لهم فيها ممارسة طقوسهم المذهبية، مقابل التطوّع في وحدات عسكرية خاصة (سرايا الصراع) حديثة النشأة (1973) بقيادة ابن عمه عدنان الأسد، ويمكن القول إن الأسد -بهذه الترتيبة- أوقف عمليات الانقلابات العسكرية بالكامل.

كانت المواجهة الأولى للأسد مع الشارع، بعد دخوله إلى لبنان عام 1976، إذ ظهرت مواقف رافضة لتدخله من بعض النقابات وبعض التيارات السياسية، وقد أظهر منذ البداية عدم تساهل تجاه من لا يؤيده. وتعمقت هذه المواجهة، في آواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، مع ظهور التمرد المسلح لجماعة “الطليعة المقاتلة”، ومع الاحتجاجات الشعبية الأخرى (عموم النقابات المهنية) والإخوان المسلمين، وظهور تيار سياسي ديمقراطي جديد يدعو إلى عملية التغيير الديمقراطي، كوسيلة للخلاص من الاستبداد والخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد. وكان ردّ الأسد أكثر عنفًا، وتمثل بالمواجهة العسكرية مع جماعة “الطليعة المقاتلة”، وبحملة اعتقالات واسعة تجاه جميع التيارات الأخرى (الإخوان المسلمين، بعث العراق، أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي، حزب العمل الشيوعي)، فامتلأت السجون وأقبية الفروع الأمنية بالمعتقلين، حيث تعرّضوا لصنوف مرعبةٍ من التعذيب حتى الموت، وتوّج الأسد تلك الجرائم بمجزرة سجن تدمر في تموز 1980.

عام 1982، في شباط/ فبراير، اتخذت المواجهة شكلًا أكثر وحشية، بعد أحداث مدينة حماة، إذ لجأ الأسد إلى أسلوب جديد في المواجهة، لا يمكن وصفه إلا بأنه حالة إبادة، وخلق حالة ديموغرافية جديدة نفذتها الوحدات العسكرية شبه المستقلة (سرايا الدفاع والصراع)، وكانت مدينة حماة أولى الضحايا، حيث دمّر ما يقارب من نصف المدينة، وقتل ما يقرب من (25) ألف وهجّر أضعافهم، وأعاد بنائها وفق تخطيط عمراني وتنظيم سكاني جديدين. بعدها، غاصت البلاد في حالة من الركود والخوف، حتى صارت البلاد كلها “مملكة للرعب والصمت”، وبات السجن إلى أجل غير مسمّى مصيرَ كلّ من يكتب أو يقول كلمة تزعج السلطة. وحينذاك عرف السوريون أنهم يعيشون تحت سلطة احتلال أكثر قساوة من سلطات الاحتلال الأجنبية التي عرفوها أو قرؤوا عنها، حيث أطبق النظام سيطرته على عموم مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية، لدرجة تتجاوز سيطرة المحتلين، حتى إن موازنة تلك الجرائم مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي تفضي إلى رجحان كفة النظام الأسدي، وهو ما عبّر عنه الشيخ رائد صلاح، في بدايات الثورة السورية عام 2011، عندما قال: “هناك احتلال وهنا احتلال!”، وما عبّر عنه الأسير السوري، في الآونة الأخيرة، من رفض العودة إلى دمشق يكشف عن بشاعة الاحتلال الأسدي..

مع انطلاقة الثورة في آذار/ مارس 2011، كان نظام الأسد الابن واضحًا في تعامله معها، وفي ردّه على المطالب التي نادى بها السوريون: الكرامة والحرية، حيث اختار المواجهة العنيفة والبطش حتى الإبادة منذ البداية، بقصد وأد الثورة من بدايتها، فكانت الاعتقالات والتعذيب المرعب في الفروع الأمنية، تلاها مباشرة، مع تصاعد التظاهرات، المواجهة بالرصاص الحيّ؛ فتقلّصت الخيارات أمام السوريين عمومًا، وبخاصة المتظاهرين، وباتوا أمام أمرين أحلاهما مرُّ: إمّا الاستمرار في التظاهرات السلمية وتحمّل نتيجتها (القتل أو الاعتقال والموت تحت التعذيب، مع تلقي إهانات عميقة يصعب أن تندمل، كما حصل مع ذوي أطفال درعا)، وإما التراجع عن مطالبهم، وانتظار دورهم في التصفية مستقبلًا، حيث سيتمكّن النظام -بعد انحسار التظاهرات- من وأد الثورة. وأمام هذه الفظائع التي توازي أو تفوق أحيانًا ما ارتكبته أبشع جيوش الاحتلال على مرّ التاريخ؛ ظهرت أسئلة ملحّة: هل بات اللجوء إلى السلاح خيارًا، أم طريقًا أساسيًا لا بدّ منه للخلاص من هذا النظام؟! وهل يمكن أن تؤدي التظاهرات السلمية وحدها إلى أهداف الثورة؟!

بالطبع، يعرف كثيرٌ من السوريين الجواب، وهم عرفوه من ساحات التظاهر ومراكز الاعتقال، وهم من كانوا عزّلًا طوال أشهر يصدحون بأصواتهم فقط، ومنهم من جرّب توزيع الورود على عناصر الجيش للدلالة على أن المواجهة هي مع نظام الأسد فقط، وليست مع عناصر الجيش، ورغبة في إمكانية تحييد الجيش! ومعروف للجميع النتيجة: اقتلاع الحناجر وانتزاع الأرواح.

يخلط كثيرٌ من منتقدي “العسكرة” بينها وبين “الأسلمة”، بقصد أو بغير قصد، متذرّعين بالوقائع التي حصلت لاحقًا في سورية، وهي هيمنة النزعة الإسلامية على الفصائل العسكرية عمومًا، وظهور التيارات الإسلامية الجهادية التي تمكنت من ابتلاع الجميع، وهيمنت على المشهد إلى حد كبير. بدأت هذه الموجة من “الانتقادات” والاتهامات من تيّاراتٍ تعاني حالة خللٍ بنيوية في النظرة إلى المجتمع السوري عمومًا، كمجتمع غالبيته من المسلمين، وتجاه الحركات الإسلامية خصوصًا من دون التفريق بينها، وكأنها كتلة واحدة معادية لديمقراطيتها وعلمانيتها. ومن ناحية أخرى، استخدمت تلك الانتقادات كتبريرٍ عن انسحاب تلك التيارات من المواجهة التي أصبحت عسكرية، ولجوئها إلى منابر النصح والقيادة من بعيد؛ فكان ميدانها الوحيد توزيع الاتهامات والأحكام تجاه حركة السوريين العسكرية.

الأمر المهم، الذي يجب نقده ومواجهته، ليس العسكرة، إذ لا غنى عنها في مواجهة أنظمة على شاكلة نظام الاحتلال الأسدي، وإنما هو انسحاب النخبة “الديمقراطية” التي لديها تصور لا يتزحزح عن نمطية الثورات، والأمر الثاني، وهو أكثر أهمية، التدخلات الإقليمية والدولية التي تمكنت من تجزئة العمل العسكري وأخذه رهينة لمصالحها فيما بعد. بالطبع، لم تكن تلك “النخب” الديمقراطية واليسارية بعيدة عن حالة الارتهان، فقد كانت غائصة فيها حتى أذنيها، لدرجة الاستنقاع، ولربما تبرع بعض من “تياراتها” في أعمال أخرى، تعبيرًا عن التزامه وتبنيه لقيم الحداثة: “الديمقراطية والعلمانية”. وهو ما خلق حالة انقسام بين تلك “النخب وهيئاتها” والقواعد الشعبية في البلاد ما نزال ندفع ثمنًا لها حتى اللحظة.

يُذكّرنا الموقف من العسكرة الذي تبناه كثيرون، وخصوصًا التيار “اليساري”، بموقف المهاتما غاندي وفلسفته في المقاومة، في مسعاه إلى تحرير بلاده الهند “درّة التاج” من المستعمر البريطاني، إضافة إلى ما كتبه في تبرير ممارساته تجاه أنصاره. حيث تتجلى “فلسفة” غاندي في نزوعه نحو اللاعنف والصوم والتقشف والتحمل، في مواجهة أعتى الهجمات من البريطانيين. مؤسسًا لنموذجه في المقاومة غير العنيفة أو السلمية، التي يسميها البعض المقاومة السلبية؛ وقد دفع هذا النزوع في المقاومة غاندي إلى النظر سلبيًا إلى أي شكل آخر غيره، وخاصة المقاومة المسلحة، وهو الأمر الذي وضعه من ناحية أولى بمواجهة حركات أخرى قاومت الاستعمار البريطاني، ولربما كان لها دور ملحوظ في إجبار البريطانيين على الانسحاب من الهند، ومن ناحية أخرى وسم “فلسفته” بالنخبوية المتعالية على عموم الناس، وخاصة الفقراء منهم، إلى درجة أنه وصفهم بـ “الرعاع” الذين يثيرون البريطانيين ضد الهنود، بمنطق يحمّل الضحية مسؤولية عنف المستعمر.

إنّ نظرة متفحصة بسيطة، إلى تركيبة النظام الأسدي، توصل ببساطة إلى أنها سلطة احتلال ليس إلا، ولا شك في أنّ من حق الشعوب أن تقاوم سلطات الاحتلال، بكل الطرق المشروعة، ومنها السلاح، وما حدث من فوضى وارتهان لتجربة التسليح في سورية لا يلغي هذا المبدأ، وإنما يدعو إلى تنظيمه واستقلاليته قدر الإمكان، ورفض ارتهانه بالكامل. أما تخيل إمكانية الخلاص من مثل تلك الأنظمة بالتظاهرات السلمية كالتي جرت في أوروبا، أو حتى في تونس، فهو أمرٌ يشير إلى عدم معرفة طبيعة هذا النظام بالمطلق.

لربّما يدرك اليوم “الغانديون الجدد” في سورية، أصحاب تلك الأطروحات، قبل غيرهم، عدم جدوى التظاهرات السلمية وحدها في الخلاص من النظام الأسدي، ولكن إصرارهم عليها مع اتهام الآخرين بسببها يعكس صورة لحالة العزلة من جهة، وللعداء تجاه الجمهور “المتخلف” والخوف منه، من جهة أخرى، وهو ما نجده في عزوف البعض عن حراك الشارع من جهة، وتقارب البعض من مواقف النظام ضد هذا الجمهور “المتخلف”، إضافة إلى الدعوات إلى الحوار وكتابة الدستور والحفاظ على مؤسسات الدولة وغيرها من الصيغ التي تبتعدُ من جوهر صرخات السوريين المعبّرة عن الرغبة في التحرّر من طغيان الاحتلال الأسدي، وتكرّس للاستبداد، ولو بأشكال أخرى.

مركز حرمون

——————————–

التايمز: الحرب الأهلية السورية غيّرت ميزان القوى في الشرق الأوسط وحوّلت الهامش إلى مركز

إبراهيم درويش

لندن- “القدس العربي”: كيف قلبت الحرب في سوريا ميزان القوة في الشرق الأوسط رأسا على عقب؟ تجيب مراسلة صحيفة “التايمز” في الشرق الأوسط حنا لوسيندا سميث أن الإنتفاضة السورية بدأت بهدف متواضع: الاحتجاج على اعتقال وتعذيب ناشطين ثوريين صغار كتبوا شعارات على الجدران. ومن بين كل الانتفاضات العربية، فقد كان مصيرها التلاشي بدون أن تترك أي أثر.

وبعد عقد من الزمان، فالنار التي أشعلت هذه الاحتجاجات لم تحرق سوريا، التي أصبحت مجرد قشرة عما كانت عليه، بل وانتشرت في كل المنطقة محطمة التحالفات القديمة ومؤسسة لتحالفات جديدة وخالقة مناطق قوة لقوى صاعدة قد تستمر لجيل أو أكثر.

وأصبحت بغداد والقاهرة وبيروت ودمشق التي كانت مرة قلب الحياة السياسية والثقافية للمنطقة، مراكز خلفية ونائية، حيث انتقلت عملية صناعة القرار إلى الهامش. وبصراحة، تحولت دول أربعة إلى مراكز دفع في الشرق الأوسط وهي: إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل.

ويقول مايكل ستيفنز، الزميل في المعهد الملكي للدراسات المتحدة بلندن: “اعتاد الناس على الاستماع للموسيقى السورية واللبنانية ومشاهدة الأفلام المصرية، من يفعل هذا اليوم؟”. و”بناء على كل مؤشر- اجتماعي، سياسي، ثقافي- فهذه الدول غير موجودة، ولا تستطيع إظهار القوة ولهذا فالقوة تنعكس في داخلها”.

والمفارقة أن الرئيس بشار الأسد لا يزال في قصره، مع أنه أضعف لدرجة أنه أصبح مجرد تابع لموسكو وطهران، وكل شيء غير هذا فقد تغير.

وتركيا التي كان ينظر إليها كنموذج للديمقراطية الإسلامية في المنطقة وخرجت من عقود من الديكتاتورية العسكرية، رمت نفسها خلف المعارضة السورية، لكنها غيرت مسارها عندما شاهدت صعود تنظيم “الدولة” والأكراد السوريين، إلى درجة باتت فيه أنقرة اليوم شبه معزولة عن جوارها الأوروبي وفي الشرق الأوسط. ولكن الرئيس رجب طيب أردوغان يتمتع بتأثير شخصي قوي كمدافع عن الإخوان المسلمين، الحركة التي سيطرت على الربيع العربي.

وقال عضو البرلمان التركي السابق والزميل في مركز الدراسات التطبيقية التركية في برلين: “وضعت تركيا قدمها بشكل دائم في الشرق الأوسط والسبب وجودها في سوريا. وهذا يعني أنها ستستثمر طويلا هناك. وهي الآن جزء من لعبة الشرق الأوسط”، و”لكنني لا أعتقد أن تركيا قوية على المسرح الدولي، وذهبت فكرة أنها ستكون نموذجا لكل المنطقة، فهي بلد لا يستطيع التنافس مع أي مكان، لا الشرق أو الغرب أو حتى العالم السلافي. وتجد صعوبة في جعل آرائها مقبولة”.

أما السعودية التي دعمت في البداية الثورة السورية، فقد قامت بإصلاحات محلية، وإن كانت تجميلية، مثل السماح للمرأة بقيادة السيارات. وعلى المستوى الآخر فهي ديكتاتورية أكثر من أي وقت مضى. ووطد ولي العهد محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي سلطته عبر سلسلة من تهميش وملاحقة منافسيه. وزاد من الرهانات مع أردوغان، حيث يحاول تحويل السعودية لمركز للإسلام السني ولكن بدون أن يكون للإخوان المسلمين مكان فيه.

ورسمت الرياض أيضا خطوط المواجهة مع إيران التي شلتها العقوبات الأمريكية، إلا أن طهران استخدمت سوريا والفوضى فيها لتوسيع سيطرتها وتأثيرها في منطقة البحر المتوسط. وفعلت هذا بدعم الجماعات الوكيلة لها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. ومن خلال الحصول على عقود إعادة إعمار في سوريا، بما في ذلك إدارة ميناء طرطوس والذي يقول المحللون إن إيران تستخدمه لنقل السلاح. ونقل حزب الله اللبناني الذي يواجه إسرائيل منذ عقود جنوده قريبا من الحدود السورية مع إسرائيل.

ورغم هذه الخريطة العسكرية التي تنذر بالخطر، إلا أن إسرائيل ربما كانت الرابح الحقيقي من حرب سوريا، فقبل عقد كانت فلسطين هي القضية المركزية في العالم العربي، حيث وقفت إسرائيل على جانب، والبقية على الجانب الآخر. لكن حرب سوريا وصعود إيران أدى لتغير خطوط الصدع لتصبح النزاع السني- الشيعي، وبخاصة من خلال التنافس السعودي- الإيراني، بدلا من النزاع العربي- الإسرائيلي. مما أدى للتقارب بين دول الخليج وإسرائيل باعتبار أن إيران هي العدو المشترك الآن.

واتخذت إسرائيل خطوات لتحسين موقفها بين المعارضة لنظام الأسد من خلال توفير العناية الصحية لمقاتلي المعارضة والمدنيين الذين يعيشون قريبا من حدودها ومساعدة 98 من المتطوعين في الخوذ البيضاء وعائلاتهم- عددهم الإجمالي 400- على الفرار من سوريا.

والسؤال إن كانت إسرائيل ستستخدم الفرصة لجذب عقول وقلوب العرب بدلا من بناء علاقات مع الحكومات العربية فقط. وتقول كارميت فالنسي، المؤلفة المشاركة في كتاب “قداس سوري: الحرب الأهلية وتداعياتها” والباحثة في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بتل أبيب، إن “النزاع في سوريا أسهم وبوضوح في اعتراف دول عربية، وبخاصة دول الخليج بالحاجة لمحور جديد يتكون من دول مستقرة وبراغماتية ويمكن أن يجلب الإزدهار للمنطقة وتلعب فيه إسرائيل دورا”.

و”أصبح النهج قويا في المنطقة مع اكتشاف أن الولايات المتحدة لا تخطط البقاء في الشرق الأوسط أو خوض حروب الآخرين”. و”بالنسبة لإسرائيل يجب أن يكون التطبيع نقطة انطلاق لمبادرات جديدة، مع لبنان مثلا وتقوية العلاقات مع المجتمعات المحلية في سوريا وأبعد”.

القدس العربي

—————————–

ثلاثون أمّاً لأجل الأسد/ عمر قدور

رغم كل الفظائع التي خبرها السوريون، قبل وبعد انطلاق الثورة، يصعب المرور بحيادية على بعض الأخبار. من ذلك خبرُ تكريم أمهات مئة وخمسة شهداء في نادي الضباط في حمص، لمناسبة عيد الأم. موقع “الثورة أون لاين” يُفرد مساحة خاصة صغيرة للنبأ، فيُخبرنا بأن التكريم خاص بأمهات “ضحّين بثلاثة من أبنائهن في سبيل الدفاع عن الوطن”، بينما موقع جريدة البعث يُلحق الخبر بخبر تكريم عاملات في حمص لمناسبة عيد الأم، إلا أنه في سطرين يفيدنا بأن التكريم كان للأمهات اللواتي قدّمن ثلاثة شهداء “أو أكثر”، ويورد العدد المشار إليه أعلاه.

هذا حدث يستحق مجيء المسؤولين عن موسوعة غينيس للأرقام القياسية من أجل توثيقه، إذ لا يتكرر في التاريخ جمْعُ حوالى ثلاثين أمّاً لثلاثة “أو أكثر من الشهداء” تحت سقف واحد، ومن مدينة صغيرة واحدة. بل، باستنتاج بسيط وسهل، نستطيع الجزم بوجود عدد أضخم، يستحيل تجاوزه إذا سُجّل في الموسوعة، لو احتُسب عدد الأمهات المماثلات في المدن والمناطق التي بقيت تحت سيطرة الأسد خلال السنوات العشر الأخيرة. من المستغرب ألا تبادر سلطة الأسد إلى استثمارهن على هذا النحو، وبوصفهن أمهات لأجل الأسد بدل تلك الإشارة المبتذلة إلى الوطن.

في متاجرة طائفية معكوسة، ينشر موقع “الثورة أون لاين” النبأ مُرفَقاً بصورة لامرأة محجبة تحمل صورة تجمع أبناءها الثلاثة القتلى، ذلك كي لا يذهب الظن بالقارئ إلى أن أولئك الأمهات هنّ علَويات حصراً. تأكيد لا يحتاجه من يلمّ قليلاً بالوضع السوري، ويعرف كيف قاد بشار الأسد قواته إلى المقتلة، فلا يتخيّل عناصر تلك القوات كافةً من المتعطشين مثله إلى دماء سوريين آخرين. في الواقع، بينهم ذلك التوّاق إلى إبادة المعارضين وربما ذهب إلى المعركة تطوعاً، وبينهم من يرى وجوده في خدمته الإلزامية أمراً من طبيعة الحياة، وبينهم أيضاً من لا يريد أن يُقتل أو يَقتل لكنه لم يتمكن من النجاة من هذا المصير لسبب أو لآخر من ضمنها اعتباره قدراً لا يستطيع معاندته.

مع بدء حرب بشار على الثورة، كانت هناك أمّهات شجّعن أبناءهن على القتال، بل في بعض الحالات شجعن الأبناء على القتال ثأراً لأخ قتيل ليُفجعن بأولئك الذاهبين إلى الانتقام. لم يكن البعد الطائفي غائباً كلياً، مثلما تريد صورة الأم المحجبة إفهامنا، ولم يكن هو الوحيد على الإطلاق. بتوالي السنين والتطورات، نستبعد وجود الأمهات اللواتي يشجعن أبناءهن على الانخراط في متوالية لا تنتهي من الثأر، وضمن أفق غير معلوم للحرب وأهدافها. حتى إذا وجدت قلة منهن، لن يكون العدد بالمئات أو الآلاف كما هو متوقع بالقياس إلى هذه الاحتفالية الصغيرة.

نحن لا نعرف عدد الأمهات اللواتي فقدن اثنين من أبنائهن في المدينة نفسها، ولا عدد اللواتي فقدن ابناً واحداً. وفق المعيار الاحتفالي، لا مكان لمن ضحّين بأقل من ثلاثة أبناء. تلك الأمهات اللواتي لم يحالفهن الحظ بمقتل ثلاثة من أبنائهن، ربما لأنهن “قصّرن” أصلاً في إنجاب ثلاثة، لا مكان لهن في صدارة البؤس. ومَن منهن بقي لها ابن حي، مقاتل أو غير مقاتل، عليها التواضع والاكتفاء بتهنئته لها بعيد الأم بدل تلقي التهنئة من ضباط ومسؤولين صغار!

في دلالة على أثر الإرغام، لا نرى في الجهة المقابلة عدداً يُعتد به من أمهات فقدن العديد من الأبناء المقاتلين. هناك ندرة من أمهات فقدن العديد من أبنائهن الذين تطوعوا لقتال الأسد، نفترض هنا توفر حافز القتال ضد قوات الأسد لدى نسبة مماثلة من نظيرتها لدى تلك القوات، ولا نهمل الأثر المتزايد للمال في تطويع مقاتلين لا يرون أمامهم فرصاً للعمل والعيش، وهذا عامل برز بقوة في السنوات الأخيرة، بل ربما لم يعد هناك سواه لدى أولئك المتطوعين الذين صار ذهابهم إلى القتال خارج سوريا أبلغ مؤشر على أحوالهم وأحوال أسرهم. وحتى إذا أخذنا الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن بسبب قصف قوات الأسد وحلفائه، أي من المدنيين، فمن المرجح ألا نصادف عدداً من الأمهات يماثل أولئك اللواتي فقدن ثلاثة أو أكثر ضمن قوات الأسد وشبيحته. هنا، في الجهة الأخرى، قد نعثر على أرقام قياسية أخرى، من قبيل حصة كل مدني من البراميل المتفجرة.

نظرياً، نفترض أن وجود أمّ واحدة فقدت ثلاثة أو أكثر من أبنائها هو بمثابة مأساة فريدة، أو يجب أن تكون فريدة فلا تتكرر. بقاء الأسدية يتحفنا طوال الوقت بما هو شاذّ بكل المقاييس الإنسانية، وبما يعكس شذوذ الأسدية ضمن ما هو مألوف عن أنظمة الاستبداد نفسها. قلّما وُجدت، أو ستوجد، سلطة متوحشة تخدش إنسانيتنا باحتقارها مواليها وسوقهم إلى حتفهم كما تفعل هذه السلطة.

خمسة سطور في جريدة الثورة، وسطران ملحقان بخبر آخر في جريدة البعث، هذه هي قيمة الأمهات المشار إليهن لدى إعلام الأسد. لكن وعد الأسدية لا يتوقف هنا، فهي “تطور” أدواتها لتستثمر تزاوج وتناسل الواقعين تحت سيطرتها على أكمل وجه. بسبب ذلك النقص الفادح في الذكور، النقص الذي يشرحه وجود أمهات فقدن جميع أبنائهن الذكور، تعِد سلطة الأسد بقانون للخدمة الإلزامية للإناث. ورغم أن القانون المذكور يحدد خدمة الإناث في مواقع غير قتالية، فالغاية الأساسية منه هي دفع الذكور الذين يشغلون تلك المواقع إلى ساحات القتال، ولن يكون مستبعداً لاحقاً الزجّ بالفتيات في المعارك، ومن ثم التغني بهن وببطولاتهن واعتبار مشاركتهن في القتال دليلاً على المضي في مشروع التحديث والتطوير الذي يقوده بشار الأسد.

لقد تدرجت هذه السلطة بين تقديم معزاة إلى أهالي شهدائها وتقديم ساعة حائط لهم! لتصل إلى اصطفاء أمهاتهم المكرَّمات على مبدأ الكثرة، وفي حال بقائها قد لا يجد الواقعون تحت سيطرتها مهرباً سوى الإقلاع نهائياً عن فكرة الإنجاب. كل الاحتمالات قابلة للحدوث ضمن الاستثناء الأسدي، بما فيها توقفنا المطوَّل عند مأساة تلك الأمهات اللواتي أتى ذكرهن عابراً في إعلام الأسد.

المدن

———————–

نحو تضامنات أهلية واعية/ قاسم البصري

من المستحيل اليوم في دمشق أو حلب أن نأكل شيئاً في الشارع، سيلحق بنا أطفال ورجال ونساء يطلبون منّا، بإلحاح شديد، إطعامهم. لقد بدأ هذا الأمر ملحوظاً مع بدايات عمليات النزوح الواسعة نتيجة أعمال النظام العسكرية ضدّ كثير من المدن السورية قبل أعوام، إلا أنّ الوضع اليوم أكثر سوءاً بكثير.

عبر الإحصائيات الأممية وغير الحكومية، نعرف أن تسعين بالمئة من السوريين تحت خطّ الفقر، وأنّ الملايين منهم يعيشون فقراً مُدقِعاً، وأنّ الملايين يُعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأنّ ملايين الأطفال لا يحظون بتعليم جيّد، ومثلُهم لا يحصلون على أيّ شكل من أشكال التعليم.

في مختلف أنحاء البلاد، لم يعد يستجلب الملاحظة أن نشاهد الكثيرين يأكلون من حاويات القمامة. سنمرّ بجانبهم كما نمرّ يومياً من أمام إشارة مرورية معطَّلة، دون أن يستوقفنا شيء. سنسمع أيضاً عن رجل مات على طابور البنزين، وعن امرأة وافاها الأجل بانتظار حصولها على الخبز. سنصدّق هذه الأخبار دون حاجة للتثبُّت منها، لأنّنا ندرك أنّ مثل هذا حصل ويحصل.

ويمكننا، في مناطق سيطرة النظام، أن نشاهد عناصر من الشرطة أو من عمال الأفران يحملون خراطيم يضربون بها الناس لتنظيم الطوابير، وأن نراقبهم يُسمِعون المئات والآلاف المنتظِرين للحصول على بعض المخصَّصات شتائم متنوّعة لا تستدعي أيَّ رد، كما لو أنّ المشتومين أشباح تصطفّ بينهم، في الحيّز اللا-مرئيّ واللا-محسوس، وليسوا هم الأشخاص أنفسهم.

يقول لي صديق ما يزال في دمشق: ما الضير في أن نُشتَم جميعاً؟ ألا يجدر بنا التعامل مع هذه الشتائم بوصفها نافذة على المساواة التي حلُمنا بها قبل عشر سنين! ستقول لي إنّا أردنا الكرامة قبل المساواة، وسأقول لك إنّ الخبز كرامة، وإنّ الجوع يسحقُ في الإنسان ما لا يسحقه البارود.

* * * * *

في آخر إحاطة قدّمها إلى مجلس الأمن الدولي، يقول وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية إنّ أكثر من نصف مليون طفل سوري دون سن الخامسة يعانون من التقزُّم نتيجة سوء التغذية المُزمن، وإنّ النسبة ترتفع في الشمالَين الشرقي والغربي من البلاد، حيث واحد من كلّ ثلاثة أطفال مصاب بالتقزُّم، وحيث نصف الأَسِرّة في بعض مشافي هذه المناطق يشغلها أطفال يعانون من سوء تغذية مُزمِن، يموت بعضهم، ومن يبقى على قيد الحياة ستُرافقهم آثار سوء التغذية مدى الحياة، وبشكل لا رجعة فيه، وسيتأثّر نموهم وتعليمهم.

يشير الوكيل مارك لوكوك في نفس الإحاطة إلى أنّ 12.4 مليون سوري، وهم 60 بالمئة من الشعب المقيم في البلاد، لا يحصلون بانتظام على ما يكفي من الغذاء الآمن والمُغذّي.

هذه الأرقام صادمة، ولكنها ليست مُفاجِئة بالنسبة له. من جانبها، قالت اليونيسيف بمناسبة مرور عقد على «النزاع السوري» إنّ 90 بالمئة من الأطفال السوريين بحاجة إلى الدعم الإنساني، وإنّها تناشد الدول للحصول على 1.4 مليار دولار لتنفيذ خطط استجابتها في العام 2021 في سوريا ودول الجوار السوري التي تؤوي اللاجئين.

إذن، تقول عين المشاهد والإحصائيات الأشياء نفسها تقريباً: إنّ شعباً كاملاً يعيش ما يشبه مواتاً جماعياً: جوعاً وفاقة وانعداماً لأساسيات الوجود البشري، وينبغي أن يتوفّر له الطعام والدواء والمسكن لكي يتمكّن من العيش، ولكن من دون القدرة على محو الأضرار التي لحقت به جرّاء مرارات العقد الأخير. ويمكننا أن نطالع تقارير كثيرة من جهات أممية عاملة في سوريا، مثل تقرير هيومن رايتس ووتش الأخير، تقول جميعها إن حجم المساعدات الواصل إلى المنظمات لا يغطي سوى أجزاء بسيطة من احتياجات المستفيدين، في حين أنّ النظام السوري وروسيا يعرقلون وصول ما يتوفّر من المساعدات بشكل متعمّد.

* * * * *

تنقسم سوريا هذه الأيام إلى سوريّات متفاوتة الحجم والتعداد السكاني، وليس من بين السوريات واحدة أفضل من أخرى، فرثاثة الأحوال المعيشية هي المشترك الأبرز بين مناطق النفوذ والسيطرة المختلفة. وإذا كان الوضع في مناطق سيطرة النظام مأساوياً على نحو رهيب بحسب ما ترويه الصور والشهادات القادمة من هناك، فهو لا يقلّ سوءاً في المناطق التي تسيطر عليها أطراف أخرى، لا سيما في مخيمات الشمال البالغ عددها 1,300 مخيم تقريباً، يقطنها ما يزيد على مليون إنسان، يعانون شُحّاً في كلّ ما يتّصل بمقومات العيش الكريم، وفي مقدّمتها الطعام والطبابة والمسكن الآمن.

وقد يبدو للبعض أنّ الحال في مناطق النفوذ التركي أو في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أفضل من باقي المناطق، إلا أنّ ذلك ليس دقيقاً أبداً. يمكن القول إنّ شريحةً من السوريين الذين يتقاضون رواتب بالليرة التركية، نتيجة عملهم في المؤسسات الممولة تركيّاً، قادرون على تأمين احتياجاتهم بشكل أفضل من غيرهم، إلا أنهم شريحة قليلة العدد، يُضاف إليها بعض العاملين في عموم المنظمات ذات التمويل الأجنبي في الشمال، وهؤلاء شريحة أقل عدداً من الأولى.

أما في مناطق سيطرة قسد، ورغم الحديث عن استقرار نسبي وعن وجود الغلال الزراعية والنفط والغاز، ونشاط عدد من المنظمات الأجنبية العاملة هناك، إلا أنّ العوز والفقر أكبر من أن تُخطئهما العين، ولا سيما في ظلّ أشكال من السياسة التمييزية تتبعُها مؤسسات قسد، تكاد تجعل الكثير من الوظائف حكراً على فئات محددة، مما بات يثير النقمة على الكوادر الممسكة بزمام الأمور في الهياكل الإدارية للإدارات الذاتية.

بوسعنا أن نُضيف إلى المشهد فساداً ينخر مجمل المؤسسات «الرسمية» على امتداد البلاد، وبغضّ النظر عن الجهة التي تتبع إليها هذه المؤسسات.

* * * * *

اليوم، بالتزامن مع الذكرى العاشرة للثورة السورية، وإزاء هذا المشهد القاتم الذي يعيشه سكان البلاد بحسب ما تشرح الأرقام، وإزاء انهيارات متواصلة للّيرة السورية ومرشَّحة للتطور، ومع تعذُّر الوصول إلى أيّ حلّ سياسيّ يُفضي إلى حلحلة الأزمة الإنسانية ورفع العقوبات المفروضة على السوريين نتيجة تعنُّت النظام وداعميه، ما الذي يمكن فعله؟ كيف بإمكان السوريين، وهنا أعني على وجه الخصوص شرائح معينة من اللاجئين في دول جوار سوريا، وما يزيد على المليون لاجئ سوري في الدول الأوروبية، فضلاً عن الموجودين في دول الخليج والولايات المتحدة وأستراليا وكندا، أن يخفّفوا من أزمة أهلهم المعيشية؟ أزعم أنّه لا بدّ من تحرك أهلي تضامني يساهم في التخفيف عن الناس؛ تحرك ينطلق من حيثية أنْ لا حكومات «معنيّة» أو قادرة على تقديم المساعدة، لا سيما الحكومات المحلية التابعة لنظام الأسد وباقي الأطراف الموجودة على الأرض.

بالتواصل مع فريق ملهم التطوعي، أوضح مسؤول القسم الإعلامي عبد الله خطيب أنّ نسبة التبرعات بحسب الجنسية لا يمكن تحديدها بدقّة، إلا أنه قدّر نسبة الأموال القادمة من سوريين مقيمين خارج البلاد، خلال الأشهر المنقضية من العام الحالي، بحدود 65% من إجمالي التبرعات التي تلقّاها الفريق في حملاته المتواصلة. هذا الرقم، غير الدقيق تماماً، يُظهر أنّ نسبة كبيرة من السوريين يَسعَون بشكل جدي إلى مساعدة من تبقّى داخل البلاد ممن هم خارج حلقاتهم الأضيق المشتملة على الأهل والمعارف والأصدقاء، وهؤلاء المتبرعون، فضلاً عن تبرعاتهم لفريق ملهم وغيره من المنظمات، يرسلون بشكل مباشر الأموال إلى أهلهم ومعارفهم بشكل دوري.

ويمكن لنا في هذا السياق إعطاء مثال آخر عن شكل من التضامن الأهلي الذي نعنيه، وهو حملة أهلية قام بها عدد من أبناء وبنات محافظة دير الزور، هدفها نقل بعض العوائل الديرية التي تسكن الخيام في الشمال السوري إلى وحدات سكنية إسمنتية، بشكل يجعل من حياتهم أكثر استقراراً وآدمية. جمعت الحملة خلال أيام قليلة مبالغ كافية لإسكان عشرات العائلات، ولاقت تجاوباً من سوريين من أبناء المحافظة نفسها ومن المحافظات السورية الأخرى، بل كان من بين المشاركين في هذه الحملة، التي أطلقها أفراد لا ينتمون إلى مؤسسة، متبرعون من جنسيات عربية وأجنبية. شجعت هذه الحملة أبناء الرقة على تنظيم حملة مشابهة من حيث المبدأ، ولكنها تهدف إلى الاستجابة لمتطلبات أخرى متعلّقة باحتياجات الأسر الفقيرة التي ما زالت تقيم في الرقة.

نحن إذن لا نفتقر إلى المتبرعين بقدر ما نفتقر إلى سبل تحفيزهم والوصول إليهم، وبإمكاننا كسوريين المساهمة في جمع أموال أكبر لتلبية احتياجات الناس بغضّ النظر عن الاستجابة الأممية وتبرعات الدول المانحة التي لا غنى عنها. ما نحتاجه هو حشد أكبر الجهود لتشكيل أكبر قدر ممكن من الفِرَق التطوعية الصغيرة، صفريّة التكاليف الإدارية والتنظيمية، التي تدعم عدداً محدوداً من العوائل، ولتشكيل المزيد من الفرق الكبيرة الشبيهة بفريق ملهم التطوعي، يقوم على تبنّيها شخصيات عامة ومشاهير من سوريا ومن حول العالم، لتكون تحت الضوء ومحطّ ثقة منذ انطلاقتها، على أن تعمل هذه الفرق على بناء شبكات قادرة على التبرع وعلى الوصول إلى المتبرعين على نطاق واسع. وفي هذا السياق، لا بدّ من الاستفادة من شبكات العلاقات الجديدة التي كوّنها السوريون في دول اللجوء، وتوسيع الاستجابة للأزمة الإنسانية من سياقها السوري إلى السياق العالمي، ومن سياق المنظمات الأممية والدولية إلى سياق الأفراد والجماعات.

وبإمكان الكثير من الفِرَق أن تستخدم وجودها على الأراضي الأوروبية وعلاقاتها وارتباطاتها هناك في الحصول على تراخيص تسمح بجمع التبرعات بشكل قانوني، إذ تعطي هذه التراخيص الموثوقية المطلوبة للتبرع، وتستفيد من التخفيضات الضريبية التي تُعطى للمتبرعين، لا سيما أن عدداً من الدول الأوروبية تمنح تخفيضات ضريبية تتجاوز أحياناً 65% من قيمة المبالغ المُتبرَّع بها للجهات غير الربحية والعاملة في حقول الإغاثة والتنمية وغيرها.

ولا يكفي أن تكون الأموال التي يتم جمعها موجّهة لتأمين متطلبات العيش اليومي ومهدَّدة دوماً بالانقطاع مع غياب المتبرّع، بل أن يُصار من خلالها إلى تمكين الأسر المحتاجة من تأمين قوتها بنفسها مستقبلاً، إذ يجب أن يوجَّه قسم من الأموال وفق آلية بناء تراكمية إلى دعم المشاريع الفردية متناهية الصغر، وإلى دعم مشاريع أخرى جماعية، وأن يكون هناك فِرَق مختصة بتقديم هذا الشكل من الدعم وتنظيمه ورَفده بالمهارات والتدريبات. لدينا الكثير من الجهود الواجبة لتحقيق ذلك، ولكنه ليس صعب التحقيق، بل هو معمول به في سوريا نفسها، وإن على نطاق ضيّق جداً في بعض مناطق الشمال والساحل السوري ويستهدف النساء بشكل أساسي.

ولا بد من إخراج هذه المشاريع من الكليشيهات القائمة على التطريز وبعض المهن اليدوية الأخرى التي تُنظَّم لها معارض حول العالم لبيعها بأسعار لا تتناسب مع قيمتها الفعلية في الأسواق، بل المطلوب هو دعم قطاعات مُنتِجة لسلع حقيقية ذات قدرة تنافسية في الأسواق المحلية والعالمية بشكل خاص، وتفعيل شبكات العلاقات لإيجاد منافذ بيع خارج الحدود لمنتجات هذه المشاريع. يمكن في هذا الإطار الاطلاع على تجارب ثريّة وبنّاءة حول العالم، منها تجربة بنك الفقراء في بنغلاديش، وأنشطة أنتروبرونور دو موند الناشطة في دول إفريقية عديدة، وأيضاً تجربة آرك أون سييل في لبنان، التي تمكنت من توظيف مئات المصابين بإعاقات خلال الحرب الأهلية في مشاريع مهنية يُديرونها بأنفسهم وتحقق أرباحاً، فضلاً عن الأمثلة الأخرى حول العالم. ولدينا أيضاً في هذا السياق شركات أهلية كبيرة في دول مختلفة، يملكها مجموعة كبيرة من العاملين فيها، وحقّقت ليس فقط مستوىً معيشياً أفضل لهؤلاء العمال، بل تنمية حقيقية في القرى والمدن التي يسكنونها.

ويجب أن يولى قطاع التعليم أهمية كبرى في هذا السياق، وهو ما بِوِسع المجتمعات المحلية العمل على دعمه بشكل أوفر اقتصادياً وأكثر فاعلية من المنظمات الدولية التي لم تستطع تغطيته بشكل جيد بحسب أرقامها. بالحديث مع معلمة سورية تعمل على عدد من مشاريع التعليم في مناطق الجزيرة السورية، قالت إنّ 150 دولار شهرياً قادرة على تأمين تعليم أوّلي لقرابة 60 طفل. بالتأكيد ليس هذا هو التعليم المنشود، ولكنّ ذلك يضمن، على الأقل، أن يتمكن هؤلاء الأطفال من تعلّم أساسيات القراءة والكتابة والحساب، وهو أمر يفتقده عشرات آلاف الأطفال السوريين. ورغم أنّ ذلك لا يحلّ المشكلة العميقة في الحقل التعليمي، لكنه في النهاية أفضل من أن يُترك جيل كامل تقريباً بلا تعليم إطلاقاً. وبمقدور ذلك أن يجنّبهم، مع بعض الدعم لأسرهم، أن يقعوا ضحية عمالة الأطفال المنتشرة في سوريا على نطاق واسع. ثمة جيل كامل ينمو في سوريا بعيداً عن المدارس، بلا مستقبل وبلا أمل، ولا بدّ من فعل شيء تجاهه، ولو كان ذلك بأبسط الإمكانيات المتاحة.

أمر آخر يمكن فعله، قد يبدو حالماً ولكنه ممكن في حال توفّرت الإرادة، وهو حشد الجهود والتنسيق بين أكبر قدر ممكن من المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني السورية والشريكة لها من أجل إطلاق منصة دولية لكفالة السوريين المحتاجين، وأن تكون المنصة قائمة على فكرة هي في جوهرها شائعة في السياق السوري وفي بلدان أخرى، ولكنها ليست منظمة ومعمّمة، وهي أن تتيح المنصة الوصول إلى عشرات آلاف الأسر السورية المحتاجة للتكفّل بها بشكل مباشر، ومن خلال بروفايلات واضحة وقدرة على التواصل المباشر بين المتبرع أو المتبرعة والمستفيدين، وبشكل يسمح أيضاً بتطوير علاقة إنسانية مباشرة بين الطرفين، ويأخذ فيها المتبرّع أو المتبرّعة صفة الراعي/ة، وأن تتيح له/ا المنصة مراقبة الأثر الذي يتركه التكفّل بهذه الأسرة على حياتها ومستقبلها. يمكن تطوير الصيغة المعمول بها حالياً – والقائمة على نشر حالات مرضيّة على فيسبوك وتأمين متبرع لها أو طرح حالة طفل يتيم للكفالة – إلى شكل أكثر تطوراً. كل الجهود المعمول بها حالياً محط تقدير، ولكن لا بدّ من تطويرها وتوسيع دائرة المستفيدين منها ودائرة الحلقات القادرة على تقديم الكفالات.

وفي قلب كل هذا، لا بدّ من التواصل المكثّف مع حكومات الدول، الأوروبية على وجه الخصوص، لتأمين طرق إيصال الأموال إلى سوريا المشمولة بالعقوبات الأوروبية والأميركية، إذ ليس من المعقول أن يَترك الناس أهاليهم نهباً للجوع. إنّ الأموال تُحوَّل من هذه الدول على كلّ حال، إلا أنّ عقبات التحويل المفروضة من السلطات تُفضي غالباً إلى وقوع اللاجئين تحت رحمة المحوِّلين الأفراد غير المُرخَّصين، العاملين «بالأسود»، وهو ما يؤدي إلى دفع مبالغ كبيرة لقاء التحويل، تصل إلى 20-25% من قيمة الحوالة أحياناً، وتدفع الكثيرين للامتناع عن إرسال الأموال خشية التعرّض للمساءلة. لا بد أن تكون هناك سياسات مُعِينة من الدول المستضيفة للاجئين السوريين تسمح بنقل الأموال إلى سوريا، لا سيما الأموال العائدة للمنخرطين في سوق العمل ممن لا يحصلون على مساعدات حكومية، ويجب تقديم توجيهات ونصائح قانونية في هذا النطاق للاجئين السوريين، إذ إنّ الكثيرين منهم، مع الأسف، لا يدركون فعلياً إذا ما كان بإمكانهم إخراج الأموال بصيغ قانونية من الدول المستضيفة لهم وكيفية القيام بذلك.

في السياق، تشتكي العديد من المؤسسات السورية المرخَّصة في أوروبا من إقفال حساباتها البنكية منذ عدة سنوات، وبشكل مكثّف خلال العامين الفائت والحالي، تزامناً مع دخول عقوبات قيصر حيّز التنفيذ، وذلك فقط لأنها مرتبطة بالسوريين أو تعمل من أجلهم. هذه المشكلة تستوجب العمل على حلها، فليس من الطبيعي عدم التفريق بين مؤسسات إنسانية وإغاثية ومنظمات مجتمع مدني، وجهات أخرى متهمة بارتكاب انتهاكات وجرائم، وليس من اللائق والعادل أن يُمنَع السوريون، أفراداً ومؤسسات، من استخدام والاستفادة من الأنظمة المصرفية وخدماتها فقط لأنّ البنوك لا تريد إقلاق راحتها بأيّ تفصيل متعلق ببلد تُثار الكثير من علامات الاستفهام حول الأموال الذاهبة إليه أو المُتعلقة به وبالمنحدرين منه. فضلاً عن أنّ ذلك لا يحل المشكلة، بل يجعل السوريين ضحايا مضاعَفين، مرةً بالإقصاء من حقهم في الوصول إلى الخدمات البنكية، ومرةً بتركهم ضحايا لشبكات تحويل الأموال الجشعة وغير القانونية.

يمكن أن تُحَلّ هذه الجزئية من خلال تواصل فاعل مع حكومات هذه الدول إذا كانت تمتلك الرغبة في التحرك الإنساني والأخلاقي تجاه السوريين، بل يجب الضغط عليها إعلامياً في هذا الجزئية المهمة والأساسية، لكي تُعَامَل مؤسسات السوريين كغيرها من المؤسسات، وبموجب إجراءات الشفافية نفسها التي تتّبعها جميع المؤسسات الإغاثية وغير الربحية.

يمكن أيضاً الاستثمار في حملات إعلامية يشترك فيها المشاهير بهدف دعم قدرة الناس على العيش، من خلال تسليط الضوء أكثر على المشاكل المعيشية. ليس هذا الكلام جديداً أو مجهولاً بالنسبة للناشطات والناشطين السوريين، ولكننا اليوم نحتاجه أكثر من أيّ وقت مضى. لا يمكننا أن نُنكر أن أول خطوة على طريق انتشال الناس من جوعهم هو عملية سياسية تُزيح الأسد وترفع العقوبات عن سوريا، ولكننا أمام خصم عديم الأخلاق ولن يسلِّم السلطة ولو مات الناس جوعاً. كيف يمكن للمنظومة الأسدية التي قتلت مئات الآلاف بالسلاح الكيماوي وبالبراميل وفي السجون أن تهتم لعذابات ملايين آخرين نتيجة الفقر والجوع! لن يؤدي جوع الناس إلى إسقاط النظام، ولو فرضنا أنّ ذلك سيحصل يوماً ما، هل سنترك أهلنا يعيشون أشكالاً متنوعة من العذاب اليومي إلى ذلك الوقت المجهول!

ولكن، في ظلّ العقوبات الحالية على النظام السوري، هل ستكون إغاثة السوريين والحشد لمواجهة الجوع الذي يعانونه في مناطق سيطرته على وجه الخصوص بمثابة خدمة للنظام؟ إنّ تبعات هذا الجوع وهذا الفقر وتعطُّل التعليم أكبر من قضيتنا ضد النظام السوري ومعركتنا معه، فهو سيؤدي إلى مزيد من التشوهات العميقة في بنية المجتمع السوري المحطَّم، وسيكون امتداداً للتشوه الذي حصل في سنوات القتال الماضية الأكثر عنفاً.

أزعم أنّه ليس بوسع العقوبات والأزمة الاقتصادية التي يعيشها السوريون اليوم أن تقود النظام إلى القبول بتسوية سياسية حقيقية أو تقديم التنازلات بالشكل الذي نصّ عليه قانون قيصر، وأزعم أيضاً أنّ إرادة أميركية ودولية حقيقية لدفع النظام نحو تسوية وتنازلات سياسية تقتضي تحركاً سياسياً فاعلاً، وأن قليلاً من الجدية وبضع صواريخ أميركية بإمكانها فعل ذلك أكثر بكثير من العقوبات الحالية. ولا أدري إذا كان الأميركيون يدركون ما ندركه جيداً عن دناءة النظام السوري ورأسِه تحديداً، وعن كونه لن يقدم أي تنازلات ما لم يكن هو المستهدف الحقيقي والفعلي، لا ملايين الناس، في محاولات جرّه إلى تقديم التنازلات.

ليست العقوبات وحدها سبب الأزمة المعيشية، ولكن يجب أن يُعاد التفكير سورياً ودولياً بمسألة العقوبات واستراتيجيات مواجهة نظام الأسد، وأن تُبنى هذه المواجهة بموجب أُطُر واستراتيجيات لا تمسّ حياة شعب هو الأفقر والأكثر هشاشةً معيشية على مستوى العالم. هذا الكلام ليس انهزامياً، ولا أخلاقويّاً، ولا تراجعاً عن جذرية رافِضة لنظام الأسد، بل هو استمرار لما نراه جذرية أخلاقية واعية تجاه أهلنا الذين كان على رأس أهداف الثورة أن تمنحهم العيش الكريم، وهو إخلاص لفكرة الكرامة التي انطلقت لأجلها الثورة.

* * * * *

قد تبدو المقترحات أعلاه بضع أفكار مجردة، رؤيوية ورومنسية وتحتاج جهوداً وطاقات لا يمتلكها السوريون اليوم، ولكن فلتكن دعوة للنقاش وللتحرك بشكل أو بآخر من أجل صون كرامات الناس. بإمكاننا التحرك لتطوير هذه الأفكار وغيرها، والشروع بفعل أشياء كثيرة، ومهما كانت نسبة تنفيذها، ستنقذ في طريقها العديد من الأسر، وهي تدريب مفتوح على التنظيم والتضامن والتكافل والفعل الإنساني النقي. يجدر بنا اليوم، وبعد عشر سنوات من الثورة والعذاب، أن نفكّر بشكل أكثر اتساعاً وواقعية من سوريا العام 2011 وثورتها وأحلام التغيير فيها؛ يجدر بنا التفكّر والتحرك انطلاقاً من وقائع اليوم الحالي، ومن تفاصيل الحال التي وصل إليها عموم السوريين. لا مفر من التحرك الجدي والواعي لتغيير الحال والوقائع المعيشة، وذلك حتى تعيش سوريا ويسقط بشار الأسد.

موقع الجمهورية

—————————–

أربعين، خمسين، عشر سنين/ سنا يازجي

وردت مقاطع قليلة من هذا النص، في نص آخر نشر باللغة الفرنسية ضمن كتاب عربوراما: كان يا ما كان… الثورات العربية، وهو إصدار مشترك لمعهد العالم العربي ودار Seuil.

أُحسُّ بالخفّة وبالثّقل في آن معاً.

بعد 2011، عام الثورة، بات لا يمكن لي كتابة أي شيء، دون أن يمتزج الشخصي بالمهني بالعام! كما بات لا يمكنني النظر إلى الحاضر دون التفاتة إلى الماضي، وكأنّي بي أشرب من عين الماء!

سأكتب الآن، وستختلط المطارح والأزمان والأفكار.

أنا في الخمسين، أنا من الشرق، الحزين، وثورتي لم تنتهِ بعد.

الممكن يُشعرني بالخفّة، وثمنُ تحدّي المستحيل ثقيل!

كلما أغمضت عينيّ، طالعتني وجوه وعتبات، وضجيج الطيبين والطيبات، العادلين والعادلات… والتضحيات.

طالعني حزن وحنين، غضب وفرح، إحباط وأمل، غياب وحضور، هشاشة وثبات.

في سوريا «الأسد»، سوريا «الأسف» كما أطلق عليها ثائرون عندما تلمّسوا الكارثة، حدّقنا في عيني الوحش، فشرب من دمنا، لكنّنا بقينا!

عن الثّورة، أستحضر الكلمات، لا الشعارات، فالأخيرة قد تُخطئ وقد تصيب. قد تتحول إلى سياسة. وقد تصير هباء. أما الكلمات، فهي نحن: من نحن؟ ماذا نريد!؟

كنّا قد اتفقنا، جهاد زوجي وأنا، ألا نشارك سوية في المظاهرات (تقليد الآباء والأمهات). سبقني هو إلى القابون، وحين عاد، قال: روحي روحي، بحياتك ما بتنسيها!

إلى برزة، ذهبت مع نسرين وعلا وآخرين. نزلنا من السيارة، وعلى عجل وبعض الخفّة، تأتيني فكرة أن نتخذ أسماء تدل على «مسيحيّتنا». لا نتفق. تنتفض نسرين، لا تقبل. تقول: مع الوقت كلّه بينعرف دون افتعال، بس مو هيك! نتلعثم بأسماء متلعثمة، وننطلق متبادلين ضحكات عصبية.

إلى منزل رفيدة نذهب أولاً، لنشرب ماءً وشجاعة، وأماناً. هناك، حيث تستضيف رفيدة كل الـ«حابّين» يطلعوا مظاهرة، تُوزِّع علينا «الإشاربات» لنتخفّى، خوفاً علينا؛ خوفاً منهم، رجال الأمن.

الدرب مُعتِمة للغاية، سواد مهيب تُقطّعه أنوار «البيل» من هنا وهناك. نتبع بصيصَ الضوء، تُرافقه أصوات الشجعان: «من هون»، «دغري»، «ع اليسار»…

وبعد دقائق، ينبلج الضوء من ساحة المظاهرة، وكأننا في كوكب آخر: زينة عرس، أوراق ملونة، مكبرات للصوت، دربكة، طبل، رقص وغناء.

لا أعرف من أخذ بيدي! لا أعرف من يقفز بجانبي! الكتف ع الكتف ويبدأ النطّ: «وهيه… ويالله…».

من «الإشاربات» التي كانت تزحط عن رؤوسنا، عرفوا أننا من غير مكان. من وين؟ «من القصّاع!». هو الحي المسيحي الأشهر بدمشق، تعمّدتُ ذِكره مع أني لست منه. فَعَلَتِ التهاليل: «إسلام ومسيحّية / كلنا بدنا حريّة!».

كنتُ عندها في الأربعين، وإذ أسمع صوتي يخرج من حنجرتي. لا أصدق! لحظة كثيفة، تساوت عندي فيها الحياة مع الموت، وفكرتُ أني إن عدت إلى بيتي أم لا، ما عاد بتفرق، خلص… لقد عشت!

يمر وقت قصير، وتبدأ الإشارات أن اهربوا!

حزيران 2012 تركنا سوريا مؤقتاً! اعتُقل أصدقاء، وقُتل آخرون

بدأت الأمور بالتدهور في دمشق بعد منتصف عام 2012، فقرّرنا الذهاب إلى بيروت، حيث يعيش قسم من العائلة والأصدقاء. لحين من الزمن قررنا الذهاب، وريثما يسقط النظام. فمرّت ستة أعوام.

في غمرة مرارة ذنب الخروج من سوريا، يصلني نبأ استشهاد النّحّات وائل قسطون، صديق الصبا والكشّاف، في ضيعتي مرمريتا.

وائل الذي لم يكن يتحمل يوما منظر الدم عند اللّحّام بجانب محل والده في حارة «السّهلة»، قُتل تحت التعذيب!

نعيت وائل بمطلع أغنية من أغاني الرحلات:

«مارمريتا ما أحلاكي متل العروس / لمّا جينا وشفناكي نسينا طرطوس»

تحت التعذيب، يا وائل!؟ «يا ويل أمّ الدّني»، مرمريتا… مُرّة!

دُفن وائل قسطون بصمت، والسبب؟ «القضاء والقدر»! قدر الأب، قدر الابن!

المرارة في الحلق

قال لي الطبيب في مستشفى أوتيل دْيو «حرق في البلعوم! ليه يا مدام؟».

«القاشوش!»

«كيف!؟»

«أقصد دبس الرّمان… أنا يعني كتير بحب دبس الرمان، ولولا الحياء بحطه مع الكاتوه!»

«لا لا، يجب إيقاف كل هذا بأسرع وقت».

ومرَّ الوقت، قبل وائل وبعد وائل. ومرّت المجازر، وكلّ هذا لم يتوقف… يا دكتور.

أغاني، رسومات، لافتات، غرافيتي، مسرح، أفلام، أقلام… فرح، حرية، انعتاق… أحلام، اعتقال، مجازر، براميل، لجوء، موت وحطام.

تشرين الثاني 2012: مستشفى القديس سان لويس

قصة خوف عادية: أبي يحاول أن يموت أول مرة!

إلى غرفة العناية المشددة في مستشفى الفرنسي بالقصاع. أقطع الشوراع، وفي كل مكان، على الحيطان صور الموت الطري، بالجملة!

أبي، مدرس ومفتش مادة الرياضيات، المهووس بها، والمحامي الذي ربح دعوتين وتقاعد بعدها، ممدَّدّاً. جسد هزيل تملؤه ثقوب الإبر وأشرطة المضادات الحيوية، يُرسل إشارات كأنها الوداع. يبتسم: «جيتي؟».

يفتح عينان متعبتان مرهقتان، وبصوت معقول: «يَسقُط…».

الأطباء، الممرضون… يتلفّتون: «هيئته العمّ انفصل عن الواقع… معلش، الله يشفيه يا مدام».

ستة أيام، لم ينم. يضحك «منفصلاً عن الواقع»، ومع صوت المدافع، يُسقِط الكثير ويُبقي على أبي العلاء المعري. يملأ المكان كلام، نفس الكلام على مدى ستة أيام:

«غرفة 111»، «مستشفى القديس سان لويس»، «يا ليت شعري ما الصحيح!».

بعد عامين، قرر أبي أن يموت، ومات.

في بيت «أم جهاد»، وفي الغرفة على الحائط قبالتي، وضعت خريطة لسوريا، وخريطة لدمشق وريفها: دوما، القابون، برزة. إلى هناك أنظر ساهمةً طوال الوقت، مع مرارة في الحلق. أفكر بأم عبدو من دوما، بأبو عبدو من القابون. يقلقون علينا، هم في جحيمهم اليومي، يخافون علينا: «بدكم شي؟ عاوزين شي؟».

كنّ كلّهن أم عبدو، كانوا كلّهم أبو عبدو. لبسوا اسماً واحداً، وتفرّدوا بالبطولات! حيطانهم مليئة بغرافيتي الحرية و«يسقط النّظام»، وهنا، في دمشق، حيطاننا تقول هو أو لا أحد، هو أو يحرق البلد.

2013 بيت صغير في الملّا، وذاكرة

من البيت الصغير في منطقة الملّا، بيت فواز ونوال طرابلسي، حيث أقمنا، وبالتحديد من مكتب فواز، الـ«مترين بمتر»، أبدأ العمل وأملأ المساحات القليلة المتبقية على الجدار بخرائط للغوطة، للّجوء، للمعارك والجيوش… وبرسم توضيحي لكل نقطة على طريق دمشق- بيروت، أملاها عليّ السائق أبو علي «ملك الحدود»، بالإضافة إلى رسومات الأولاد بموضوع شبه وحيد.

كانت ابنتي تهمُّ بإطفاء شمعة ميلادها، حين وَشوَشَتْني بتردد: «ماما، ممكن غيّر الأمنية هديك تبع 2011؟». وتنهّدت: «صار عندي وحدة جديدة!»

كيف لا وقد صار الزمن يُقاس بعدد الأسابيع والأشهر التي انقضت على الاعتقال الثاني لصديقنا الجويد نجاح، وبعدد زيارات عبير إلى سجن عدرا، وأحاديث آخر الليل حول تفاصيل الزيارة والطريق الخطرة بين دمشق وعدرا! عبير التي تحدت الخطر بالزيارة، كما يتحدّى المؤمن التجربة بالصلاة، تَسخَر لتَصبِر. نقهقه هي وأنا، وننام على أمل. عبير التي قالت لنا يوماً بعد اللجوء إلى فرنسا، حيث غيَّرتْ مهنتها من تدريس الفرنسيّة إلى الحدادة: «الحديد أسهل من الإنسان». «عبير الحديد»، هكذا لقبناها، يُعينها في يومياتها برنامج «طريق الفلسفة» على إحدى محطات الراديو الفرنسية.

لماذا أعمل على «ذاكرة»؟ ليس لدي جواب نهائي. ولما نختار ما نختار؟

ذاكرة لما هو حاضر، وكأنّه اختفى للتوّ؟! هاجس!

أَمْ ذاكرة حاضر مسكونة بماضيه، فتكشف المستقبل!؟

تؤرقني الأسئلة، وأتابع العمل.

في سوريا، تخرجت من كلية الفنون الجميلة، حيث المكتبة مغلقة، لأننا مخرِّبون بالضرورة، وحتى يثبت العكس! وكيف يثبت العكس؟

لم تعلمني الجامعة، بل علّمني أستاذ. الفنان الراحل، باكراً جداً، عبد القادر أرناؤوط، والذي وضع لي يوماً علامة الصّفر، عقاباً لي، حتى أفكر، حتى أؤمن بمخيلتي، ولا أستكين لثِقَل الملل والممنوع والمغلق، فهناك دائماً باب صغير مُشْرَع على دواخلنا، حذار أن نُغلقَه!

ذكراك عطرة أستاذي.

خلال الست سنين التي سبقت انطلاقة الثورة، عملتُ في مجال الثقافة والفن، على مشروع أجندة «يوميات ثقافية».

أتاحت لي هذه التجربة أن أراقب، أن ألاحظ، أن أكون في دوائر متعددة. دوائر الإبداع: من ينتج؟ ماذا؟ أين؟ لمن؟ ودوائر الرقابة: ماذا نستطيع؟ كيف نلتفّ؟ أين نقف؟

في 2011 علّق فاعلون ثقافيون وفنانون سوريون نشاطهم جِهاراً احتجاجاً على القمع، وكلفهم ذلك أثماناً. تأتي مي سعيفان، نجتمع في مكتبي، في ساحة التحرير، المقابل تماماً لمبنى المخابرات الجويّة الشهير (بأيّ فصام كنّا نعيش؟).

تقول مي: «اسحبي الإعلان، سأعلّق مهرجان الرقص المعاصر». أندهش للشجاعة!

وكرّت السبحة. أغلقت الصالات والمراكز الثقافية أبوابها تباعاً، وتوقفت حتّى برامج المراكز الثقافية العامة التابعة للدولة، فتحولت «يوميات ثقافية»، خلال سنة، من 40 صفحة باللغتين في أفضل مواسمها ما قبل الثورة، إلى صفحتين فقط باللغتين في صيف 2012، متحدّيةً رواية النظام القائلة على مدى شهور طويلة بأن «سوريا بخير»!

ما قبل الثورة، معها، وما بعدها، سواءً في «يوميات ثقافية» أو في «ذاكرة إبداعية»، لم يكن الفن فقط هو الهاجس، بل تعبير الإنسان، ذاكرة هذا التعبير. كيف عبّرنا؟ شو قلنا؟ كيف تغيرْنا وكيف تغيرتْ علاقتنا ببعضنا، ومع المكان؟

ذاكرة زمن ما إن انفتح فيه المكان حتى سطعت المخيلة، وتدفقت المواهب والأفكار.

احتجاج، فن، ثقافة، كلام، وكلّه في السياسة. شيء لم يخطر على بال في يوم من الأيام!

انفرط شيء من عِقد

لكننا صرنا نتشابك حول ما إن كان الفن والثقافة يغيران في شيء! وإن كان الفن جميلاً شرط أن يكون عادلاً! وهل من ذاكرة عادلة؟ وماذا عن التاريخ؟ غاب عنّا أن النظام السوري قتل أكرم رسلان لأنه رسم! بالضبط كما أعدم المجند لأنه لم يَقتُل.

وصرنا ننقسم حول الأولويات، وحول مين «برّا» ومين «جوّا»، داخل وخارج، فيما كنّا نصارع التحدّيات برّا وجوّا: اعتقال، قتل، هروب، تمويل، أجندات، برامج… أو صمت.

في لبنان الذي أحب، وحيث عشتُ أغنى التجارب، ازدهرنا، لكن إلى حين! فتبدُّل القرار السياسي الدولي وتقلُّبه، واستثمار اللجوء الهائل بأسوأ الأساليب، أغلق الفضاء الرحب على حلبة لعبة موازين القوى اللئيمة.

أرادت لنا قوى المال والقرار، بِنِيّة أو بغيرها، أن ننزع عنا، كيفما اشتغلنا، صفة السياسة، وأن نلبس صفة «الإنسانية»، وكأن الشيئين متضادّان! فصرنا طبقتين، طبقة المثقفين والفنانين والمشتغلين في الشأن المدني، وطبقة الباقيين. عمل الأوّلون، في أحيان ليست قليلة، «على» الباقيين وليس «معهم»، ومعظمنا فات بالحيط، قبل أن نستعيد الزِّمام، بعناء.

خمسين، باريس، وحديقة

هذه المرة لجوء. مع أنني أملك الجنسية الفرنسية منذ زمن، إلا أن الطعم هذه المرة هو طعم لجوء.

جلبت معي بعضاً من حديقة سوريا ولبنان. فعاشت وأشرقت.

في الخمسين، لم يعد عندي لا أب ولا أمّ. غابت «الستّ ماما» بتاريخ 17 آذار، في ثنايا الذكرى الثامنة للثورة، هكذا اختارت موعداً خاصّاً بها، لا في 15 ولا في 18 ولا حتى في عيد الأم! لوحدها، في بيتها الذي لم تشأ يوما تركه، لأنّه «طالما حواليي إم منير وإم شادي، وإم جورج، وغسان وسلامة، الله يرظى عليهم، بجيبلولي إنترنت وأكلات طيبة، مش طالعه من هون». وإلاّ ما يسقط هالنظّام!

«لا إم عبدالله ولا مرت عصام، أني إلي إسم، روزة». أمي التي فاقَ شعورُها العفويّ بنفسها كامرأة كلَّ فضاء مُتاح، فتحوّلت إلى كتلة مَرار، رتّبت موتَها على مَهلِها، غيرَ ساعيةٍ إليه، فاشترت قبراً في مكان هي اختارته، في جوار بيت هي اشترته، من تعبِ سنين العمل الطويلة المالحة. بيت يُطلُّ على سهل واسع ساطع مَهيب، وقبر لوحدها، لا مع أهلها ولا مع زوجها! أيُّ امرأة أنتِ يا ستّ؟!

انتظرتُ قليلاً، وطبختُ كشكاً؛ طقس الآباء والأمهات، طقس نهايات وبدايات.

مرّ الكثير، مرت عشرُ سنين، ليست خسارة ولا انتصاراً.

أقفل الكلام على حزنِ فقدِك يا حسّان، فهل أستعيدك في اسم بنفسجة؟

ألست الذي قال في الذكرى الثالثة للثورة: «هي أصلاً لم تبدأ إلا لتبقى حتى تصل إلى ما يريده أهلها: حياة كريمة بلا ظلم ولا ظلامية»؟

موقع الجمهورية

————————————-

=====================

تحديث 24 أذار 2021

————————–

ماذا لو بقيت الحالة السورية على ما هي عليه؟

قسم الدراسات

أولًا: مقدمة

يأخذنا هذا السؤال بداية إلى الغوص في التداعيات والآثار التي ستترتب على الوضع السوري، على المستويات كافة، إذا بقيت الحال على ما هي عليه، وتأتي مشروعية السؤال من الوضع الكارثي الذي وصلت إليه الأمور، من الناحية الاقتصادية، حيث إن هناك تسارعًا نحو الانهيار، وهذا السؤال يفتح الباب لأسئلة عدة، على درجة عالية من الأهمية، تتعلق بالحلّ السياسي المنتظر وفقًا للقرارات الدولية ذات الصلة: هل من الممكن أن يحصل توافق ما بين الدول المتدخلة، ينهي الصراع ويطلق العملية السياسية المتعثرة؟ وهل سيكون هناك تغيير في المعادلات الناظمة للصراع، عند هذه العتبة التي وصل إليها، يُسهم في فتح آفاق جديدة أمام الحل السياسي؟

ثانيًا: مواقف الدول المتدخلة والمعنية بالملف السوري

1 – أميركا لاعب رئيس

لم يبدر من الإدارة الأميركية الجديدة، التي دخل رئيسها جو بايدن البيت الأبيض منذ أقلّ من شهرين، ما يشير إلى وجود أولوية للملفّ السوري، في مرحلتها الأولى على الأقل، ففي الخطابين اللذين ألقاهما بايدن، حتى الآن، وتطرّق فيهما إلى إستراتيجيته التي وصفها بـ “المؤقتة”، بدا أن تلك الإستراتيجية تقوم على ركيزتين (الديمقراطية والدبلوماسية) تعبّران بالدرجة الأولى عن الانقلاب على كلّ سياسات ترامب، وعن ترميم الصدوع والانقسامات التي طفت على سطح الحياة السياسية الداخلية الأميركية بتقدّم اليمين الشعبوي الأميركي، الذي كان آخر تمظهر له احتلال مبنى الكابيتول، الأمر الذي شكل صدمة وضربة قاسية للديمقراطية الأميركية، وقد حدد بايدن أولوياته، فضلًا عن معالجة مشكلات الاقتصاد الأميركي ومحاصرة وباء كورونا وتوترات البنية المجتمعية على المستوى الداخلي، بإعادة ترميم العلاقات مع الحلفاء على المستوى الخارجي، بخاصة بين الحلفاء على ضفتي الأطلسي، والعودة إلى اتفاقية باريس للمناخ ومواجهة المنافس الصيني الخطير بالوسائل المتعددة، بما يخدم المصالح الأميركية، ومواجهة السياسات الروسية، التي وصفها بـ “الخطيرة” على الأمن القومي الأميركي، وإعادة تقويم العلاقات مع الحلفاء الآخرين في الشرق الأوسط، على عكس ما كانت عليه توجهات سلفه ترامب، ودرة توجهاته العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران وجلبها إلى طاولة التفاوض حوله وحول ملفها الصاروخي وسياساتها التوسعية التي زعزعت استقرار المنطقة.

إن الإستراتيجية الجديدة المعلنة تقوم ببندها الأول على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان على مستوى العالم، ومعاقبة الأنظمة المستبدة بما يتوافق والقيم الديمقراطية الأميركية، بمساعدة ما سمّاه “تحالف الدول الديمقراطية”، هذه الديمقراطية التي تجاهل رئيسها السابق ونائبه الرئيس الحالي أكبر مأساة إنسانية تعرّض لها الشعب السوري، كما تجاهل الجرائم التي ارتُكبت من قتل وتدمير وحصار وتجويع وتهجير على يد النظام وحلفائه، والتي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، مقابل أن ينجز الاتفاق النووي مع إيران، وتفكيك ترسانة النظام الكيمياوية. ويتعلّق بندها الثاني بالوسيلة، وقد حصرها بالدبلوماسية مع التشديد على ذلك، إلا إذا حصلت تطورات تشكل خطرًا على الأمن القومي الأميركي والمصالح الأميركية.

خلاصة القول أن الملفّ السوري ليس في أولوياتهم، وإذا ما ظهر بأي صيغة، فسيكون من خلال تداخله مع الملف الإيراني، لكن هذا الوضع المجحف بحق الشعب السوري المنكوب ليس من المفيد البناء عليه أو اعتباره سياسة نهائية للإدارة الجديدة، فمن المبكر الحكم على مسيرة التطورات من خلال المرحلة الأولى لهذه الإدارة، حتى لو سارت على نهج إدارة أوباما إلى حدٍ ما؛ حيث إن مواقع صنع القرار الأميركي، المتمثلة بالكونغرس بغرفتيه ومجمع الأبحاث وركائز الدولة العميقة، هي التي تلعب الدور الأساس في تحديد المواقف، عندما تستشعر ظهور ما لا يناسب المصالح الأميركية، على أهمية الدور الذي يلعبه ساكن البيت الأبيض وإدارته التنفيذية.

2 – لا تطوّر في الموقف الروسي

ما يزال الموقف الروسي مستمرًّا في نهجه، ومحاولاته الالتفاف على القرارات الدولية العديدة التي رسمت خارطة طريق للحل السياسي المنتظر، من خلال مسارات آستانا وسوتشي واللجنة الدستورية، متكئًا على تحالفاته الهشة مع الطرفين المتدخلين الإيراني والتركي، وكلها خطوط باءت بالفشل حتى الآن، لأن النظام لا يريدها، وهو يراهن على عامل الوقت الذي يجيده، وعلى اللعب على التناقضات الهامشية بين حلفائه، حيث يريد الروس تثبيت النظام مع إجراء تغييرات شكلية، لا تمسّ جوهر النظام وأدوات تحكمه في الدولة والمجتمع، والتقدّم بذلك إلى العالم على أن هذا هو الحل السياسي الذي توافق عليه السوريون، وما زال يواجه التعطيل الأميركي لكل توجهاته وتحركاته؛ فالأميركيون ليسوا في عجلة من أمرهم، ولهم رهاناتهم الخاصة على المستوى الإستراتيجي في ما يخص كل ملفات المنطقة المتداخلة والمترابطة، خاصة أن احتلالهم لمناطق شرق الفرات (مكمن الثروات السورية)، بمساعدة حليفهم “قوات سوريا الديمقراطية”، لا يكلفهم شيئًا يذكر.

صحيح أن الروس حصلوا على مصالح اقتصادية كبيرة حتى الآن من النظام، وهم الذين أوقفوه على رجليه بعد هوانه، وأعادوه إلى 60% من الجغرافيا السورية، وأغلبها كانت خارجة عن سيطرته، إلا أنهم بالمقابل خسروا الكثير، بالمعنى المادي والسياسي والأخلاقي، وهم يدركون تمام الإدراك أنهم في مأزق، وسوف يظلّون عاجزين عن تحويل إنجازاتهم العسكرية إلى إنجازات سياسية، إلا إذا سمحت لهم الولايات المتحدة والأطراف الغربية الأخرى بذلك، وهذا ما زال بعيدًا، لذلك تراهم مترددين تجاه كل الالتزامات، التي قطعوها لإسرائيل والولايات المتحدة، بعد مؤتمر القدس الأمني الذي عقد في 23 حزيران/ يونيو 2019، وضمّ مسؤولي الأمن في كل من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، ومنها إلزام الإيرانيين بالانسحاب حتى ثمانين كيلومترًا من حدود الجولان، وتسهيل تنفيذ القرار الأممي 2254، وذلك لأنهم لم يحصلوا، حتى الآن، على مقابلٍ يبرر المغامرة بعلاقتهم مع إيران، بغض النظر عن تضارب مصالحهما الجزئي على الأراضي السورية، ولذلك هم مستمرون في تقطيع الوقت، والمساعدة في تثبيت النظام، ومساعدته في إنجاز الانتخابات القادمة، سواء أعترف الغرب بنتائجها أو لم يعترف، ولا يني يرمي ببالونات الاختبار وجس النبض لحلوله التي يتفتق عنها، وآخرها فكرة مجلس عسكري انتقالي يكون بديلًا عن هيئة الحكم الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة، كما وردت في جنيف1 لعام 2012 ، أو حكومة واسعة غير طائفية، كما ورد بالقرار 2254 لعام 2015، ثم عادوا ونفوا وجود خطط لهم أو مبادرات بهذا الخصوص، وبما أن الروس عاجزون أو غير راغبين في مساعدة حليفهم في وقف حالة التدهور الاقتصادي والمعيشي للسوريين، وهم يدركون خطورة ذلك على مستقبل النظام وعلى وجودهم في سورية؛ فقد قام وزير خارجيتهم، الأسبوع الثاني من الشهر الجاري آذار/ مارس، بجولة خليجية في محاولة لفك العزلة عن النظام، وتأمين مساعدات اقتصادية له، ومن غير المعروف مدى النجاح الذي أصابه.

3 – الموقف الإيراني

يبني القادة الإيرانيون على توجه الإدارة الأميركية الجديدة، برغبتها الجامحة في العودة إلى الاتفاق النووي، وتأكيدها على الخيار الدبلوماسي، وعلى تضامن الأوروبيين على درجة كبيرة مع مواقف طهران، ومعارضتهم قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق عام 2018، وعقوبات الضغط الأقصى على إيران، الأمر الذي أنهك الاقتصاد الإيراني بشكل كبير، وعطل على الآخرين مصالحهم واستثماراتهم في إيران، هذا البناء يدفع الإيرانيين إلى التقدّم خطوة إضافية من سياسة حافة الهاوية في تصدير مواقفها، وهي تغطي على ذلك بتبادل الأدوار لمسؤوليها بالتأرجح، ما بين التعنت والإصرار على المواقف المعلنة، أو إرسال مزيد من الرسائل الاستفزازية المحسوبة، بواسطة أذرعها الميليشياوية المنتشرة في العراق واليمن، ضد المصالح الأميركية، وآخرها ضرب مصالح ومواقع أميركية بالقرب من مطار أربيل، شباط/ فبراير الماضي، ومن جانب آخر، ما زالت إيران تمارس ضبطًا عاليًا للنفس، تجاه الضربات الإسرائيلية لمواقع تمركز ميليشياتها على مساحة الجغرافيا السورية، ليس لأن قتلى الغارات ليسوا إيرانيون بالعموم، وهذا مهمّ عندهم، بل لكيلا تعطي إسرائيل حجّة لتغيير قواعد الاشتباك، وتوسعة نطاق الحرب التي لا تريدها إيران، فنهجها حرب الوكالات البعيدة عن أراضيها، وليس المواجهة المباشرة، لذلك تلجأ باستمرار إلى تغيير مواقع تمركزها، أو التمركز داخل مواقع القوات السورية وارتداء زيّها، وتمكين وجودها بتشكيل وتدريب وتسليح مزيد من الميليشيات من حملة الجنسية السورية، يقدّر عديدها بخمسة عشرة ألفًا في المنطقتين الشرقية والجنوبية على وجه الخصوص، تحسبًا لأوضاع مستقبلية قد تضطر فيها إلى مغادرة الأراضي السورية، فتكون هذه الميليشيات قنابل موقوته تشاغب بها على مستقبل استقرار الوضع السوري، إذا انطلقت عجلة الحل السياسي.

ردًا على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، خففت إيران من التزاماتها باتفاق مجموعة العمل المشتركة؛ فزادت من نسبة التخصيب حتى نسبة 20%، وقامت بتركيب مزيد من أجهزة الطرد المركزي. وفي اجتماع الوكالة الأخير، وكان هناك مشروع قرار إدانة ذو تأثير للخروقات الإيرانية، سارع الأوروبيون -بدعم أميركي- إلى تعليق مشروع الإدانة، وكانت طهران قد استبقته بإعلان استعدادها لإجراء مفاوضات غير مباشرة مع مجموعةG5+1 حول الاتفاق، وقد صرّح الناطق باسم الخارجية الأميركية بأن “الولايات المتحدة مستعدة لقبول دعوة الاتحاد الأوروبي، لبدء مسار دبلوماسي مع إيران في إطار مجموعة G5+1″، كما صرّح محسن رضائي (رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام) بالقول إن “طهران سوف تعود إلى المفاوضات، إذا قدّمت الولايات المتحدة والدول الغربية ضمانات برفع العقوبات عن إيران خلال عام”، وبغض النظر عن تصريحات التشدد الإيراني، لا يُستبعد أن تكون هناك مفاوضات سرية تجري بين إيران والولايات المتحدة، فقد حصل مثل هذا الشيء عام 2010، بين الطرفين، بتسهيل عماني، أفضى إلى توقيع الاتفاق عام 2015، ويرجح أن إيران مستعدة لتقديم تنازلات مهمة في الاتفاق النووي، مقابل رفع العقوبات، إذا استطاعت جرّ الولايات المتحدة لغض الطرف عن ملفيها الأثيرين: ملف الصواريخ وملف تدخلاتها وتوسعها في المنطقة.

4 – الموقف التركي

على الرغم من التدخل التركي في الصراع الدائر في سورية بشكل مباشر منذ العام 2016، ومن أن تركيا باتت تتحكّم، من بعد ثلاث عمليات عسكرية واسعة (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، في ما يزيد على ثلث الشريط الحدودي بين سورية وتركيا، بهدف خلق حاجز بشري، بينها وبين حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، فقد بات لتركيا وجود عسكري مهمّ على الأراضي السورية، ويتبعها -ضمن صيغ تحالفية- أكثر من مئة ألف مسلح من المعارضة السورية المتجمعة في ذلك الشريط، وتعلن تركيا أن لوجودها هدفين أساسيين في سورية: أوّلهما منع قيام أي صيغة لظهور كيان كردي يسعى له حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية، ذلك أنها تعدّ الحزب منظمة إرهابية، لكونه يتبع حزب العمال الكردستاني التركي، ويشكل مصدر خطر للأمن القومي التركي؛ وثانيهما أن تضمن لنفسها مقعدًا على طاولة التفاوض حول تطبيق الحل السياسي ومخرجاته، لتحقيق نفوذ تسعى إليه في محافظة حلب على وجه الخصوص، وبما أن مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي قد بات من الماضي، وصار جلّ ما يطمح به الحزب أن يساعده الأميركيون في أن يكون طرفًا داخليًا في الحل السياسي، وليس هناك من مؤشرات توحي بغير ذلك؛ فلن يكون الطرف التركي معرقلًا عنيدًا للحل السياسي في حال انطلاقه، وفي كل الأحوال، بغض النظر عن التوترات في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة، يتوقع أن تصطف تركيا -في النهاية- إلى جانب الخيارات الأميركية.

 5- الموقف الإسرائيلي

 يبدو الموقف الإسرائيلي أكثر ارتباكًا في هذه المرحلة، بعد إعلان الإدارة الأميركية الجديدة استعدادها لبدء مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي، بالتعاون مع مجموعة العمل المشتركة، ولم تخفِ إسرائيل معارضتها لهذه العودة، كذلك لم تُلق الإدارة بالًا للاعتراض الإسرائيلي؛ فإسرائيل تريد الدعم الأميركي والتعاون الروسي لخطتها، التي تستهدف إنهاء الوجود العسكري الإيراني ومنع تمركزه على الأراضي السورية، ولذلك تكثف استهدافاتها بضربات جوية متواترة ومؤلمة لهذا الوجود، مع تفهم روسي أو عدم ممانعة لما تقوم به، وتشير تقارير عديدة إلى وجود حالة انقسام في الرأي داخل المؤسسة العسكرية والأمنية الحاكمة في إسرائيل، حول حرب استباقية واسعة لإنهاء الوجود الإيراني، وإرباك العودة الأميركية للاتفاق النووي، ما بين مؤيدين لمثل هذا الخيار ورافضين له نظرًا لتداعياته التي لا يمكن التكهن بنتائجها، ولا بمدى توسعها إلى أكثر من دولة، إذ قد يترتب على هذا الأمر عواقب وخيمة تؤثر في طبيعة التحالف الأميركي الإسرائيلي، إذا ما انفردت إسرائيل باتخاذ مثل هذا القرار، ويبدو أن تيار الرافضين لمثل هذا التوجه هو الأقوى داخل مركز القرار الإسرائيلي، ولذلك يُرجح أن تتابع إسرائيل ضرباتها النوعية بانتظار تغيير في المعطيات والتوجهات في واشنطن.

6 – لقاء الدوحة الثلاثي ومسارات روسيا المتوالدة

في نهاية جولته الخليجية، عقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيريه القطري والتركي مؤتمرهم الأول في العاصمة القطرية، بتاريخ 13 آذار/ مارس الجاري، بغية إطلاق مسار جديد للبحث عن حل للقضية السورية، وقد جاءت المبادرة الروسية للتغطية على فشل مساري آستانا وسوتشي وكذلك اللجنة الدستورية، في محاولة من الروس لإشراك العرب في الحلّ، وفك العزلة عن النظام، ودفع الدول الخليجية للمساعدة في وقف تدهور الاقتصاد السوي، على الأقلّ من الباب الإنساني، فالروس يعتقدون بأن مدخل التطبيع الدولي وإعادة تأهيل النظام وتسويق انتخاباته الوشيكة، لا بد من أن تبدأ من جامعة الدول العربية، ولذا استبعدت طهران عن مسار الدوحة، مراعاة للحساسيات الخليجية.

وقد برز خلال الاجتماع تباينٌ واضحٌ في مواقف الدول الثلاث، على الرغم من أن البيان الختامي المشترك حرص على إظهار الطابع التوافقي بين الدول الثلاث، ولم يُضف البيان جديدًا إلى البيانات الأخرى التي شارك فيها الروس، فهم لم يقدموا أي تنازل عن مواقفهم ورؤاهم السابقة للحلّ، وعليه لا يمكن البناء على مخرجات المؤتمر، فكل دولة عبّرت عن مواقفها المعروفة من الصراع في سورية. وعلى الرغم من الترحيب الذي قوبلت به عودة الدور العربي من بوابة الدوحة، على أمل التأثير في مسارات العملية السياسية السورية؛ فمن غير المتوقع أن يفتح مسار الدوحة بابًا للحل، ما دام الطرف الأميركي غير مهتم جديًا بالقضية السورية، ولم تدرج في سلّم أولوياته حتى الآن.

بناءً على الاستعراض السابق؛ يرجح ألّا يحظى الملف السوري بأي أولوية أو أهمية، ما عدا الجانب الإنساني وتطوراته المرتبطة مباشرة بمستقبل العلاقات الأميركية الإيرانية، والاتجاه الذي سوف تتخذه وطبيعة الاتفاق الذي قد يتم التوصل إليه، ولا يخفى أن الأوروبيين، في ذلك السياق، غيرُ متحمسين، ولا موافقين على أي تشدد أميركي تجاه إيران، ويصرّون على اعتماد الخيار الدبلوماسي خيارًا وحيدًا للتعامل معها، بغض النظر عن التخريب الذي نشرته وتنشره في المنطقة، من ضمن إستراتيجيتها التوسعية، فالعقوبات التي فرضها الطرف الأميركي على الضد من توجهاتهم، فهم لا يريدون خسارة نفوذهم التاريخي ومصالحهم الكبيرة في إيران، ويمكن الاستنتاج، بقدر لا بأس به من اليقينية، أن الملف السوري لن يشهد تطورات نوعية في المدى المنظور، إلا إذا حدث أحد الاحتمالات غير المتوقعة التالية، وغيّر في طبيعة التوجهات الدولية القائمة:

    أن يركب التعنت رأس القيادة الإيرانية، وأن تركن إلى استنتاجها الذي يقول بضعف الإدارة الأميركية الجديدة، وعجزها عن القيام بردود خطيرة، بحيث تستفيد من عامل الوقت في تطوير قدراتها العسكرية وإجبار الغرب على تخفيف شروطه للعودة للاتفاق النووي، وطيّ مطالباته بوقف تدخلاتها في المنطقة وإشاعة عدم الاستقرار، وغضّ الطرف عن ملفها الصاروخي، أو أن تتورط -عبر حرسها أو وكلائها من الميليشيات التي تمارس استفزازًا محسوبًا لتحسين أوراقها التفاوضية- في عملٍ قد يقلب المواقف تجاهها، وهذا احتمال حدوثه ضعيفٌ جدًا، فقد برهن الساسة الإيرانيون أنهم يجيدون لعبة التحرش التحذيري من جهة، وأنهم من جهة أخرى يراهنون على قدرتهم على تحمّل العقوبات المفروضة، بل تحمل مزيدٍ منها، لعدم اكتراثهم بوضع الشعب الإيراني المعاشي.

    أن تستطيع إسرائيل من ضمن خطة ما أو استدراج ما لإيران، بقيامها بعمل ضد إسرائيل أو مصالحها في البحار أو في الخارج، يتيح لها توسعة خياراتها العسكرية وإرباك الخطط الأميركية، وهذا أيضًا احتمال حدوثه ضعيفٌ جدًا، نظرًا لقدرات الولايات المتحدة الاستخباراتية والتقنية وتحليل المعطيات العالية.

    أن ينفجر الوضع في سورية أو في لبنان؛ فتضطر الإدارة والغرب إلى التدخل لوقفه، وقد يُحدث ذلك تغييرًا في المواقف من إيران وحلفائها كحزب الله اللبناني، لكن ليس هناك من مؤشرات على توقع احتمال من هذا القبيل. وهذا يعيدنا إلى السؤال الأساس حول بقاء الحال السورية على ما هي عليه، والتداعيات المحتملة على حياة السوريين وأوضاعهم.

ثالثًا: في تداعيات الوضع السوري المتوقعة

إنّ التدهور المريع في سعر الليرة السورية مع موجة الغلاء الكبيرة، أظهر عجز النظام عن وقف حالة التدهور المكشوفة، وكشف عدم اكتراثه بها وبعواقبها الوخيمة على الشعب السوري في مجالات الحياة كافة، وتعنته ورفضه الاعتراف بها أو بأسبابها، إذ رمى بالأزمة على كاهل الانهيار اللبناني وضياع ودائع سورية تقدّر بـ 20 مليار دولار وربما أكثر، من دون أن يوضح لمن تعود تلك الودائع، متجاهلًا ترابط الاقتصادين اللبناني وتداخلهما، وهو الأمر الذي فرضه نظامه منذ عهد الوصاية السورية على لبنان، الذي استمر مدة عقدين من الزمن، وما زال مستمرًا عبر حلفائه هناك حتى الآن، كذلك الإصرار على عدم تقديم الوعود ببذل ما يمكن من جهود وتدابير لحلول تخفف عن كاهل البشر، مع عجز حلفائه الروس والإيرانيين عن مدّ يد العون له على هذا الصعيد، بحكم ما تعانيه اقتصاداتهم من أعباء وعجز، إما بحكم العقوبات المفروضة عليهما وإما بحكم الإنفاق العسكري الهائل نتيجة تدخلاتهم الخارجية، وليس أدلّ على ذلك من تصريح السفير الروسي في دمشق، حديثًا، بأن بلاده لا تستطيع تقديم المساعدة المالية للحكومة السورية على هذا الصعيد، لأنها “تعاني آثار العقوبات الغربية المفروضة عليها”، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا يتعلق بالحالة التي سوف يصل إليها الوضع السوري، وانعكاسه على حياة السوريين ومعاشهم، وما سوف تستتبعه من تداعيات خطيرة على كل مناحي الحياة.

فعلى المستوى الاقتصادي؛ هناك عجز لا تخطئه العين يعانيه الاقتصاد السوري، بحكم طول مدة الصراع وما استنزفه من مقدرات، وما لحق من دمار في البنى التحتية، ودمار ونهب للمنشآت والمعامل الصناعية، وهروب رؤوس الأموال السورية باتجاه الخارج، خشية السطو عليها بآلاف الطرق غير الشرعية التي مارستها قوات النظام وحلفاؤه، على هذا الصعيد، وخسارته للمعابر الحدودية مع دول الجوار باستثناء لبنان، وشح واردات الخزينة والصرف الهائل على مجهود النظام الحربي، واضطراره إلى طباعة مزيد من الأوراق المالية التي أدت إلى زيادة الكتلة النقدية الموضوعة بالتداول عن طاقة الاقتصاد المعطل، وعجز المصرف المركزي عن دعم الليرة، لنفاد موجوداته من القطع الأجنبي التي كان يقدّر احتياطيها بأكثر من سبعة عشر مليار دولار، عشية انطلاقة الثورة، الأمر الذي رفع معدلات التضخم ما بين 50 و60 ضعفًا عما كان عليه حينذاك، في وقتٍ لم ترتفع فيه الدخول إلا بمقدار ضعف إلى ضعفين في أحسن الأحوال، الأمر الذي رمى بثقله على أسعار المواد والسلع بشكل يفوق طاقة الدخول بأضعاف، ويضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، فحسب تقرير للأمم المتحدة فإن 45% من العائلات السورية فقدت دخلًا واحدًا على الأقل، اعتبارًا من كانون الأول/ ديسمبر 2020، الأمر الذي زاد الوضع سوءًا ، وفي تقرير آخر صادر في حزيران/ يونيو 2020 عن الصليب الأحمر الدولي، ظهر أن 80% من السكان يعيشون تحت خط الفقر الدولي، البالغ 1.90$ في اليوم. ولعلّ أخطر ما في الأمر، على هذا الصعيد، الشح الكبير في المحروقات والطحين، وانعكاساته على حركة النقل وأجورها وعلى إمدادات الكهرباء التي لا يراها المواطن لأكثر من ثماني ساعات متقطعة في اليوم، في أحسن الأحوال في المدن الرئيسية، في حين أن الوضع أسوأ من ذلك بكثير في الأرياف والبلدات والمناطق المهمشة.

تنبئ كلّ المعطيات على الصعيد الاقتصادي، بغض النظر عن تصريحات التهوين أو القفز فوق حقائق الوضع الاقتصادي التي يطلقها مسؤولو النظام بين الحين والآخر، بأن الاقتصاد السوري يحث الخطى نحو الانهيار الشامل، وعجز الدولة حتى عن تأمين رواتب موظفيها، نظرًا لغياب إمكانات وقف عجلة التراجع، وهو ما سوف يدفع موضوعيًا إلى انتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة، وتهديد حياة البشر، وانتشار الأمراض الاجتماعية نتيجة الحاجة والفقر، الأمر الذي قد يدفع بمزيد من السوريين إلى اللجوء ومغادرة أوضاعهم البائسة، ويضيفون مزيدًا من المهجرين إلى الملايين من السوريين، الذين سبقوهم هربًا بأولادهم من وسائل الموت والحصار والتجويع، لكن الأخطر أن تنهار مؤسسات الدولة تدريجيًا، نتيجة التدهور العام، والانهيار البيئي الخطير، ودخول سورية تصنيف الدول الفاشلة، وانتشار الفوضى وظهور أنواع جديدة من الصراعات المدمرة، قد يصعب التنبؤ بمداها أو أطرافها.

رابعًا: استنتاجات

ليس هناك من مؤشرات على أن الملفّ السوري سيكون من أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، وإذا حدث شيء من ذلك، فإنه سيكون من خلال تطورات العلاقة الأميركية الإيرانية، شأنه شأن الملفات الأخرى التي تكون إيران طرفًا فاعلًا فيها من ضمن سياستها التوسعية. وبناء على ذلك؛ فإن استمرار الوضع على حاله، من الناحية السياسية، ومتابعة تدهوره على المستويات الأخرى، هو المرجح على المدى المنظور، وسوف يجري النظام انتخاباته الرئاسية منتصف العام، بمساعدة الروس والإيرانيين، غير عابئ بالمواقف الغربية، سواءٌ أعترفت بنتائجها أم لا، فهذا يوفر له رسالة يحتاج إليها تجاه حاضنته ومواليه، بأنه باق، وأن الزمن يسير لصالحه، وألا داعي للقلق، وعلى الرغم من التدهور المريع لأوضاع السوريين، فإن المراهنة على انتفاضة جوع في مناطق سيطرة النظام أمرٌ غير وارد، لعدم توفر العامل الذاتي لانتفاضة من هذا النوع، ما دامت الحالة العامة ثابتة، لكن من الممكن أن يضعف تمسك حاضنته ومواليه به، عما كانت عليه سابقًا، حيث إن رهاناتهم لم تثمر، وباتت خساراتهم كبيرة، ولن تُعوض، وصار واقعهم المعاشي والأمني أكثر سوءًا، وهذا قد يفيد في انطلاق موجة مراجعات، تقرّب بين الأطراف السورية المنقسمة. وبشكل عام، هناك أيام قاسية تنتظر السوريين، في المرحلة القادمة، إلا إذا وقعت تطورات غير متوقعة.

مركز حرمون

———————————–

الثورة السوريّة بوصفها حدثًا/ أحمد اليوسف

“لا يمكن القفز فوق حدث البدايات، في تقييمنا لما نتج لاحقًا؛ فكل ما حدث كان جزءًا من وعيد سلطةٍ بأن تهدَّ البلاد، ولا تدع حجرًا على حجرٍ؛ وقد نفذت السلطة وعيدها، في سياقٍ سياسيٍّ دوليٍّ سمح بذلك. وكان الحدث السوري، في بدايته، ثورةً شعبيةً، على سلطة مُذِلّةٍ فتحت في جدار الأبد فرصةً راهنةً للخلاص تم تفويتها” يكتب أحمد اليوسف ذلك ضمن مقالته في ملف ذكرى الثورة السوريّة العاشرة بعد أن يسرد أحداث وأسباب الثورة ويُعرّف الثورة السوريّة بصفتها حدثًا.

لم يسبق لحدثٍ سوريٍّ أن أثار جدالًا وسجالًا واسعًا كما فعلت ثورة 2011. وتبدو اختلافات السرد في تناول ما حدث، في كثيرٍ من الأحايين، جزءًا من الصراع، على مستوى الخطاب، بين من هم مع النظام وبين من هم مع الثائرين عليه. قد يتعلق الأمر، في شطرٍ كبيرٍ منه، بالصراع على الشرعية، شرعية النظام أو شرعية الثورة. ولا ننفي، طبعًا، إمكانية أن يكون تناول تلك الظاهرة/ الحدث، جزءًا من محاولة الفهم البعيدة عن التحيز. لكن محاولةً من هذا النوع تبقى صعبةً جدًّا وخصوصًا أننا جزءٌ من الحدث الذي لم يُنجز بعد. وقبل أن أدلو بدلوي في الإجابة عن أسئلةٍ من قبيل: “ماذا حدث فعلًا؟”، و”لماذا حدث؟”، أود أن أوضِّح معنىً كلمة “حدث” ودلالاتها المستخدمة في العنوان أعلاه.

الثورة ما بين حدثيّة الوقوع وحتميته

غالبًا ما تتم محاولة فهم الثورة السورية، بوصفها واقعةً تاريخيةً، عبر ردها إلى شروطها السياسية والاقتصادية السابقة عليها أو يتم فهمها، وكذلك محاكمتها، عبر ما انتهت إليه، أي وفق النتائج التي أفضت إليها. ونادرًا ما تم تناول الحدث ذاته، وتناول لحظة وقوعه. إن لحظة البدء، لحظة الوقوع، وما حملته من خطاب رُفع في الساحات العامة كمطالب جماهير، ومن سلوك رأت تلك الجماهير فيه سبيلًا لبلوغ الغاية، وآخر بوصفه استجابة أو ردًّا من قبل السلطة على ما رفعته وسلكته تلك الجماهير، يبدو مفصليًّا لأسبابٍ كثيرةٍ، منها، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ كل الأسباب المذكورة، بوصفها شروطًا مقدمة لما حدث، من سياسية واقتصادية، كان يمكن أن تُقرأ على أنها أسباب غياب الثورة، وغياب الإرادة الشعبية. أي أن تلك الأسباب ذاتها تشرح استحالة الثورة لا إمكانيتها. حدوث الثورة كان مستبعدًا ومفاجئًا على الرغم من توفر كل الأسباب الوجيهة لذلك الحدوث. وليس من باب المجاز أن نقول إن حدوث الثورة جعل من الشروط السابقة أسبابًا ممهدةً؛ فلولا حدوثها لكانت تلك الشروط ذاتها شرحًا لأسباب غيابها. فوجود سلطةٍ دمويةٍ قد يكون سببًا للخنوع لها، كما قد يكون سببًا للانقلاب عليها. وغياب المجتمع المدني، واحتكار السلطة للمال، وجعلها من الفساد والإفساد نهج حكمٍ وتحكّمٍ، يشرح أسباب اليأس، وافتقاد المعنى، وانتشار الخوف المرافق بالخنوع، لا أسباب ثورة. لم تكن الثورة السورية، حقيقة، ضرورةً قبل وقوعها، إن لم نقل إنها لم تكن حتى ممكنةً. من هنا، فإن كلمة حدث تدل على فرادة الواقعة، وما تحمله من خواص كالصدفة والعفوية والمفاجأة والصدمة والزعزعة وخروجها عن المتوقع والمألوف والمخطّط له. وإننا اليوم نفكر في الحدث انطلاقًا منه، أي أن محاولة فهمنا له هي جزءٌ منه. إنه يحتوينا جميعًا على اختلافاتنا، فكلنا داخل الثورة/ الحدث، وهي فاعلةٌ فينا، ونحن فاعلين فيها، سواءٌ كنا ضدها أو معها.

ينبغي ألا يُستنتج من كل ما قيل هنا أننا نفصِل بين ثورة شعبٍ، بوصفها حدثًا، وشروطها. فهذا الحدث ليس واقعًا في الغيب أو ظاهرةً معزولةً عن شروطها التاريخية. بالعكس، إنه اكتمالٌ مفاجئٌ لتراكماتٍ سابقةٍ. ولكن هذا الاكتمال ليس نتيجةً آليةً لما سبق، بقدر ما هو طفرةٌ مضافةٌ جاءت في غفلةٍ. إنها شرطٌ إضافيٌّ وُلِد في سياق ربيعٍ عربيٍّ، وليس مجرد نتيجةٍ لما تقدم. فحرق محمد البوعزيزي لنفسه هو حدثٌ إضافيٌّ فجَّر احتجاجاتٍ شعبيةً في تونس لم يكن متوقعًا لها أن تتحول إلى ثورةٍ تُسقِط نظام حكمٍ. إن رد فعل البوعزيزي غير المتوقع أدى إلى رد فعلٍ شعبيٍّ غير متوقعٍ أدى بدوره إلى ثورةٍ شعبيةٍ غير متوقعةٍ انتهت بسقوطٍ غير متوقعٍ لنظام الحكم.

سلسلة اللا-متوقع هذه، وما أفضت إليه، قادت المصريين، بعدها، إلى خروجٍ سريعٍ مفاجئٍ ضد سلطتهم، فسقطت تلك السلطة حتى قبل أن تفهم ما حدث. إن المفاجأة لعبت هنا دورًا مفصليًّا، عبر خلقها للجدوى على مستوى ضمير الشعب، بعد عقودٍ من غيابها، فتحول اليأس فجأةً الى إيمانٍ صلبٍ بالتغيير، وبإرادة الشعوب، مقابل سطوة السلطة. وعلى الرغم من الاختلافات بين ثورات الربيع العربي وفرادة كل واحدةٍ منها، تبقى المفاجأة، وولادة الجدوى، وسقوط اليأس، أهم القواسم المشتركة فيما بينها، وهي قواسم وهبت معنىً لكل الأسباب السياسية والاقتصادية، الممهدة لثورة الشعب. وضمن هذا المعنى يمكننا الحديث عن أسباب الثورة.

الحدث على مستوى الخطاب

إن الثورة، بوصفها حدثًا، كانت، منذ البدء، صراع خطاباتٍ بين النظام والشعب. وأغلب الهتافات الشعبية كانت خطاب ردٍّ على خطاب النظام، عبر مهرجانات سخطٍ يختلط فيها شتم السلطة بتمجيد قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. وقدمت تلك المهرجانات، بصيغة المعاش والمعاناة، أسباب ثورتها ومطالبها معًا. فالمواجهات الأولى كانت بين حناجر تصدح بالحرية وبحب الوطن وسلطةٍ أفرطت بالعنف بأكثر أشكاله دمويةً وفجاجةً ووضوحًا، وكأنها تحاول أن تقنع الناس بجدية تهديداتها القائلة: “الأسد أو نحرق البلد”. وخطاب الساحات العامة، ساحات المواجهة، كان واضحًا وصريحًا ومباشرًا، على عكس خطاب المنابر. فقد نزع النظام القشور الأيديولوجية وشعارات البعث بالوحدة والحرية والاشتراكية والعروبة ذات الرسالة الخالدة، وجاء يحمل هراوةً، ويدوس عسكره على أجساد الناس، وهم يصرخون: “بدك حرية! هي حرية”. وما من لغةٍ يمكن أن تعبر عن ضيم الناس ومعاناتهم كلغة المعاناة ذاتها. وهكذا تكشف الشعارات عن أسباب الثورة، وعن طبيعة الثائرين، وعن الطبيعة التي انتهى إليها النظام، بعدما نزع أقنعته، وأعفى نفسه من لغة الأدلجة.

لم تكن مطالب الناس اقتصاديةً، بل كان جلّها سياسيًّا، ويتمحور حول قيمٍ أساسيةٍ بديهيةٍ ووجوديةٍ من حريةٍ وكرامةٍ. وتستحق تلك الشعارات أن تكون موضوع دراسةٍ نفسيةٍ لفهم وعي الشعوب، عبر تحليل لغة سخطها. كيف يمكن أن تفهم لغة شعبٍ مقموعٍ مكبوتٍ مقهورٍ، لدرجة أنه يصرخ في مواجهة الموت أمام بنادق القناصة كلمةً واحدةً (حرية)، في تكرارٍ سريعٍ، وكأنه يحاول أن يقول ذاته قبل موته؟ وسبَّبت لغة الصراحة والوضوح حرجًا لكل من حاول الدفاع عن نظام شلح سترة الخطابات والأقنعة، وأصبح يكتب على الجدران تهديدات الحرق، مختصرًا البلاد كلها برأس السلطة. وأصبحت الموالاة تهتف، علنًا ودونما حرجٍ، لرئيس يخطب بهم في دار الأوبرا ﺑـ(شبيحة للأبد، لأجل عيونك يا أسد). وقد استخدم الناس في احتجاجاتهم الأولى قيمة الكرامة بصيغة الإيجاب وبصيغة السلب. وأول شعارٍ رُفع في أول مظاهرة كان: “الشعب السوري ما بينذل”، لتتبعه شعاراتٌ أخرى لاحقةٌ من نوع “الموت ولا المذلة”. 

أسباب الحدث

لا شك أن ثمة أسبابًا اقتصاديةً مهمةً خلف الحدث السوري، منها ما لعب دورًا تهميشيًّا لشرائح واسعةٍ من الشعب، وخصوصًا من كانت حياتهم معتمدةً على الزراعة. فقد تعرضت الزراعة بين عامي 2006-2009 إلى أسوأ موجة جفافٍ مرت بها البلاد منذ عقودٍ طويلةٍ؛ وترافق ذلك مع عملية رفع الدعم الذي كانت تقدمه الدولة للمزارعين، كرفع الدعم عن المشتقات النفطية، عمومًا، وعن المازوت (الديزل) خصوصًا؛ مما ألحق أضرارًا كبيرةً بالقطاع الزراعي، وبالمشتغلين فيه(1)، وأفضى ذلك بالنتيجة إلى هجرة الكثير من السكان بحثاً عن لقمة العيش. وقد تراوحت نسبة الهجرة في القرى المنكوبة بين 50-75%(2). وأدى ذلك إلى انخفاض عدد المنخرطين في القطاع الزراعي من 1.4 مليون شخص إلى حوالي 800 ألف، في أثناء الفترة من 2002 إلى 2008، أي بنسبة 44%(3). وأدى ذلك إلى زيادة أعداد الفقراء وتدهور أوضاعهم المعيشية بشدةٍ، فأصبح أكثر من 7 ملايين شخص، أي نسبة 34.3% من سكان سوريا، تحت خط الفقر. وبالنسبة إلى البطالة، تشير الدراسات غير الرسمية إلى أنَّ معدل البطالة في سنة 2009 تجاوز 16.2%، يمثلون 3.4 ملايين عاطل عن العمل(4). كما تدهورت نوعية رعاية الخدمات الصحية، وقامت الحكومة بتطبيق برنامج تحويل جزءٍ من خدمات المشافي العامة إلى خدماتٍ صحيةٍ مدفوعةٍ، مما أدى إلى تدهور الخدمات الصحية للفئات غير القادرة على الدفع(5).

وهكذا اجتمعت عدة عوامل وظروفٍ أدت إلى الحدث السوري، منها ارتفاع مستوى المهانة، وفقدان أفق الخلاص، وشيوع اليأس والتهميش الاجتماعي، وازدياد مشاعر العجز والازدراء والنبذ والاستبعاد، وتحوُّل اقتصاد البلاد إلى اقتصادٍ هشٍّ ينخره الفساد، مدارٍ بطريقةٍ سيئةٍ من قبل نظامٍ استبداديٍّ نكّارٍ نشالٍ أفرغ البلاد من ثرواتها المادية، وجعلها، وفق تعبير الكاتب البريطاني آلن جورج، “بلا خبز ولا حرية”؛ وعزَّز قيم الفساد والخواء الأخلاقي، وجعل من قيم الحداثة والمواطنة وسيادة القانون قيمًا مخوِّنةً، يحرَّم التفكير فيها. ومن المفيد التفصيل، في هذا السياق، في تناولنا لمشاعر الهوان والمذلة وافتقاد الكرامة، لأنه يجعلنا نفهم طبيعة التحدي الذي فرضه ذلك النظام المتعالي على إرادة شعبه، من جهةٍ، وطبيعة الاستجابة التي اضطرت تلك الشعوب إلى القيام بها، من جهةٍ أخرى. والسؤال هنا هو: لماذا خرج الناس إلى الساحات العامة، بدل اللجوء إلى مؤسسات الدولة؟ للحقيقة، يبدو مثل هذا السؤال، للعارفين بالشأن السوري، ساذجًا، لأسبابٍ كثيرةٍ، منها أن النظام القائم قد ألغى الدولة ومؤسساتها ونقاباتها ومجتمعها المدني بكل تفصيلاته، وألغى معها السياسة، وفرَّغ الوطنية السورية من رموزها، جاعلًا من شخص الحاكم الرمز الأوحد. والتفريغ الرمزي كان أخطر أشكال هدم الدولة، حيث أدى ذلك إلى هدم الروابط الجامعة للشعب ذاته، فما من دولةٍ يمكن أن تقوم بدون رموزٍ وطنيةٍ جامعةٍ. وعلى مستوى الثقافة، والتي يفترض لها أن تكون فضاءً ومنبرًا يناقش فيهما قضايا الكرامة والشرعية والحريات، نجد أن نظام القهر قد طوَّعها وأحالها إلى أداةٍ لنشر ما يسميه أركون بـ”الجهل الرسمي المعمم على الشعب مؤسساتيًّا من قبل السلطات التعسفية.”(6) ونصَّب النظام نفسه حارسًا أمنيًّا على البرامج التعليمية، وحوَّلها إلى وسائل لتأبيد الجهل والخنوع، ولكسر روح المواطن، وربط ولائه للسلطة الحاكمة. لقد كانت مناهج التعليم عملية تربيةٍ للشعب، بالمعنى التأديبي. وتم ربط ذلك كله بمشروع تأبيدٍ السلطة الحاكمة. وقد يشرح لنا هذا لماذا خرجت الناس من ساحاتٍ عامةٍ، ومن المساجد، بدل خروجها من الجامعات. إن الجامعات ومنابر الثقافة كلها كانت جزءًا بنيويًّا من سلطة التأديب الأمنية.

أدت هيمنة النظام الاستبدادي المعادي للدولة، للأمة، وللقيم الإنسانية، وتأبيده كسلطةٍ مقدسةٍ فوق التاريخ، وفوق الأمة، وفوق القانون، إلى غياب احترام كرامة الإنسان، بوصفه مواطنًا في دولةٍ، وغياب دولة الحق والقانون التي ينبغي لها حماية المجتمع المدني الذي يرعى الفضاء المفتوح لمواطنيه، ويحدد حقوقهم وواجباتهم. وأدى هذا كله إلى غليانٍ مخفيٍّ تَحوَّل في لحظةٍ غير متوقعةٍ إلى انفجارٍ شعبيٍّ على شكل ثورةٍ رفعت شعار “الموت ولا المذلة”.

ما الذي حدث؟

يعتبر هذا السؤال جوهريًّا في سردية الحدث السوري. فعلى أساس الإجابة عنه، يتم تقييم ما قد تلا ذلك من نتائج أقل ما يقال فيها إنها فاجعةٌ. وعلى الرغم من أن النتائج محتومة بأسبابها، نجد من تغويه فكرة تقويم الأسباب ذاتها عبر نتائجها.

بداية الحدث كانت عبر قيام مجموعةٍ من الأطفال بكتابة جملةٍ على جدار المدرسة تقول: “جاك الدور يا دكتور”؛ تلاها عملية اعتقال السلطة الأمنية في درعا لهؤلاء الأطفال. فشل الأهالي في إخراج أطفالهم من المعتقلات مما قادهم إلى التظاهر لاحقًا. ثمة اختلافٌ حول البداية، إن كانت مظاهرةٍ الخامس عشر من آذار في دمشق، أم في الثامن عشر من الشهر نفسه في درعا. ردّ النظام على الاحتجاجات بما هو متوقعٌ منه، عبر إطلاق النار الحيّ على المتظاهرين، وإراقة الدماء في الشوارع، والدوس على أجساد الناس في الساحات العامة. وحدث أن فرَّغ عسكر النظام بلدةً كاملةً، اسمها البيضا، من أهلها، وراحوا يدوسون عليهم في مشهد يختصر العلاقة بين الشعب والسلطة. وهزت تلك المشاهد الضمير السوري، فامتدت المظاهرات إلى شرق البلاد وغربها وجنوبها وشمالها.

في مقابل شعارات الحرية، كشعار “الله سوريا حرية وبس”، أنزل النظام مؤيديه ليرفعوا شعاراتٍ من نوع “الله سوريا بشار وبس”، “الأسد أو نحرق البلد”. وكانت البدايات تضج بالمهرجانات الغنائية، حيث كانت الثورة حناجر وأصوات، وكان النظام بنادق وقناصةً. كان هناك الكثير من القبح، من الدم والمجازر، والكثير من الجمال، في الوقت نفسه. وبدت سوريا وكأنها ارتدت إلى شعبها بعد أبدياتٍ من التغييب. ودامت المظاهرات الشعبية أشهرًا طويلةً، وهي تواجه الموت، دونما رادعٍ لسلطة القتل. وتحول الموت السوري إلى فظائع تنكيلٍ شملت ذبح الأطفال، وقتل الجرحى بالمشافي، وافتعال مجازر بالكيماوي، واغتصاب النساء. وكشفت الشبكة الأوروبية-المتوسطية لحقوق الإنسان عن أرقامٍ مذهلةٍ لحالات الاغتصاب، حيث إن ما يقارب الستة آلاف امرأة قد تعرضت للاغتصاب، بالإضافة إلى استخدامهن مع أطفالهن كدروعٍ بشريةٍ، وتعرضهن للتعذيب أثناء اعتقالهن(7). وقد تمّ استهداف المدارس أيضًا، بوصفها ملجأً للخارجين عن سلطة النظام؛ وتم تدمير أكثر من 450 مدرسةً تمامًا، يقع أغلبها في حمص وريف دمشق وحلب، كما تعرّضت أكثر من 3423 مدرسةٍ لتدميرٍ جزئيٍّ(8). وارتفعت وتيرة القتل تدريجيًّا، وارتفع معها عدد الجرحى؛ فأخذ الناس ينزحون من أماكن التدمير إلى أماكن أكثر أمنًا. وبلغ عدد النازحين داخل البلاد نفسها، سنة 2013، أكثر من 4.25 مليون مواطن(9). وقد ترافق ذلك مع حركة نزوحٍ خارجيةٍ أغلبها إلى دول الجوار. وفي سنة 2013 تعدّى عدد الضحايا المئة ألف قتيلٍ، إذ وصل، وفقًا لوكالة رويترز، في شهر ديسمبر، إلى 125,835 قتيلًا(10)، وأعلنت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أنها أوقفت عمليات حصر قتلى الحرب في سوريا حتى إشعارٍ آخر، وذلك بسبب كثرة الضحايا. وكانت آخر إحصائيةٍ قدمتها المفوضية تعود إلى شهر يوليو/تموز 2013. ويقدر عدد الجرحى بثلاثة إلى أربعة أضعاف عدد القتلى(11)، حيث تقدر الهيئة الطبية التابعة للائتلاف الوطني السوري عدد القتلى بنصف مليون شخصٍ(12)، كما ازدادت عمليات القتل والاعتقال والتعذيب الممنهج لآلاف الاشخاص(13) وتدمير البيوت.

تحولت سوريا إلى مجرد ورقةٍ في صراعات دوليةٍ وإقليميةٍ تتزاحم وتتسابق على احتلال بلدٍ تم تفريغه من دواخله عبر تهجير الشعب واعتقال ضمائره ممن باتوا يعرفون بمعتقلي الرأي. وأُفرِج عن إسلامياتٍ جهاديةٍ كانت مخبأةً في سجون النظام، لتبدأ سلسلةً من صراعات ملء الوقت عنفًا في زمن الركود السياسي على المستوى الإقليمي، وليتم لاحقًا تصدير جهادياتٍ داعشيةٍ من العراق، رافقتها جهادياتٌ شيعيةٌ. وغابت صيغ الحل لدى المعارضات السورية التي يعود أغلبها إلى ما قبل الثورة في زمن الأبد، وإلى حقبة الإيديولوجيات فوق الوطنية، من يسارياتٍ تؤمن بولاءٍ لمنظومةٍ دفنها التاريخ، وأخرى إسلاميةٌ تؤمن بأبديةٍ مدفونةٍ في الغيب. وللحقيقة، صادرت الظروف الدولية على ولادة أي معارضةٍ وطنيةٍ، أي أنها أكملت شروطًا فرضها نظام الأسد. ومع ذلك، لا يمكن لتلك الظروف أن تعفيها من مسؤولية ما حدث من تخبطٍ وإطالةٍ للمحنة. 

لا يمكن القفز فوق حدث البدايات، في تقييمنا لما نتج لاحقًا؛ فكل ما حدث كان جزءًا من وعيد سلطةٍ بأن تهدَّ البلاد، ولا تدع حجرًا على حجرٍ؛ وقد نفذت السلطة وعيدها، في سياقٍ سياسيٍّ دوليٍّ سمح بذلك. وكان الحدث السوري، في بدايته، ثورةً شعبيةً، على سلطة مُذِلّةٍ فتحت في جدار الأبد فرصةً راهنةً للخلاص تم تفويتها؛ وفشلت النخب المعارضة في تحويل ثورةٍ من أجل الكرامة إلى نضالٍ سياسيٍّ لأجل الديمقراطية، وبناء نظامٍ بديلٍ يقوم على سيادة القانون، ويربط مطلب الكرامة لدى الشعب الثائر على الاستبداد ونظام الذل بمطلب الديمقراطية ودولة المواطنة.

الهوامش

(1) محمد جمال باروت، العقد الاخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (3ـ5)، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2011)، ص43.

(2) المصدر السابق، ص 44.

(3) المصدر السابق (5ـ5ـ4)، ص 4.

(4) المصدر السابق (1ـ5)، ص 12.

(5) سمير سعيفان وآخرون، خلفيات الثورة: دراسات سورية، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 129.

(6) محمّد أركون، معارك من أجل الأنسنة في السّياقات الإسلاميّة، ترجمة هاشم صالح، (بيروت: دار السّاقي، 2001)، ص 34-35.

(7) سيما ناصر وآخرون، “العنف تجاه النساء جرح مفتوح في النزاع السوري”، (كوبنهاغن: الشبكة الأوروبية-المتوسطية لحقوق الإنسان، نوفمبر 2013)، ص11. http://www.euromedrights.org/ara/wp-content/uploads/2013/11/Report-VAW-Syria_FINAL_AR.pdf

(8)  هيومن رايتس ووتش، لم تعد أمنة، الاعتداءات على الطلاب والمدارس في سورية، يونيو/حزيران 2013، ص 13. http://www.hrw.org/sites/default/files/reports/syria0613ar_ForUpload.pdf

(9)  C. Quosh, L. Eloul and R. Ajlani, ‘Mental health of refugees and displaced persons in Syria and surrounding countries: a systematic review’, 11:3 Intervention, (2013), 276-294, at 276.

(10)  E. Solomon, ‘Syria death toll hits nearly 126,000: monitoring group’, Reuters, December 2, 2013, available online at http://www.reuters.com/article/2013/12/02/us-syria-crisis-toll-idUSBRE9B10ES20131202.

(11)  A. H. Cordesman, ‘The Human cost of the Syrian Civil War’, Center for Strategic & International Studies, September 3, 2013, available online at http://csis.org/publication/human-cost-syrian-civil-war.

(12)  موقع الجزيرة، أطراف صناعية لجرحى سوريا المحظوظين، الأحد 23/6/2013. http://aljazeera.net/news/pages/29895feb-3e85-4782-aa2d-d8193c0ac2ef

(13) CNN, ‘Syria’s alleged “Killing machine”’,  available online at https://www.cnn.com/videos/world/2014/01/20/amanpour-syrian-war-torture-a.cnn

باحث سوري مختص بالدراسات العربيّة الإسلاميّة، مقيم في كندا.

حكاية ما انحكت

————————————

المثقفون السوريون وعقد الثورة الأعجف/ مصعب قاسم عزاوي

“القلم المجاهد الصابر المصابر قد يفلح في صدّ المخرز” حين تتضافر كلّ المآقي التي يكتب لأجلها في حركة جمعيّة ينظر فيها المثقفون إلى ذواتهم بأنّها جزء عضوي وتكويني في لحمتها باطنًا و ظاهرًا بغض النظر عن موقعها الوظيفي فيه، سواء كان رياديًا أو نصيرًا أو ظهيرًا.” هذا ما يقوله الدكتور والكاتب مصعب قاسم عزاوي في مقاله الذي يناقش أحوال المثقفين السوريين في دولة البعث الأسديّة وتغيرات بعض المواقف خلال عقد الثورة السوريّة.

لم تكن ثورة الشعب السوري المظلوم في آذار من العام 2011 ثورة زنادها القادح اجتهاد المثقفين بأشكاله المعرفيّة والتنظيريّة والإيديولوجيّة، وإنّما ثورة شعب أدمن التنكيل به، وقهره، وتحويله إلى قطيع من الأسرى في سجن كبير اسمه الحرفي والتوصيفي في آن معًا “سورية الأسديّة”.

بشكل أكثر تدقيقًا، فقد كانت ثورة السوريين ثورة عفويّة شارك فيها كلّ الشعب السوري المنكوب تاريخيًا منذ وأد مسيرة نضجه الطبيعي كمجتمع وككيان سياسي في لحظة إذعانه للقوميّة الشعبويّة العسكرتاريّة مشخصة بلحظة اجتراعه على مضض لمشروع الوحدة الاندماجيّة مع مصر في العام 1958 في تجربة إرادويّة أصَّلت القمع كأسمى أدوات الفعل السياسي في المجتمع، ومأسسّت الدولة الأمنيّة وشبكة علائقها كنموذج حصري ليس سواه من بنيان وهيكل للبيروقراطيّة التنفيذيّة للكيان العياني المشخص لعلاقة الرعايا بحكامهم.

وهو الواقع البائس الذي أعاد إنتاج نفسه بشكل أكثر قبحًا في انقلاب القوميين الفاشيين من البعثيين في العام 1963، وما تلاه من انقلاب البعثي “الخُلّبي” حافظ الأسد في العام 1970، واعتقاله لكلّ “رفاقه” من “رموز الفاشيّة البعثيّة”، ليفسح المجال لإعادة تعريف “حزب البعث الفاشي” بمضاهاته و مطابقته مع شخص “حافظ الأسد” نفسه ليتصعد بعدئذٍ إلى رتبة “القائد الملهم” الذي يختزل الوطن في “عظمته الفاشيّة والمافيويّة والطائفيّة”، ويصير في ظلّه المجتمع السوري “سورية الأسد” التي كان المآل الطبيعي لصيرورتها الاستمساخيّة ممثلًا بتحولها “ملكيّة إقطاعيّة” يورث فيها “الفاشي الأب” ابنه “المأفون الممسوس” بواجبه المقدس بالحفاظ على كينونة ما استولى عليه “سلفه بالحديد والنار”.

ذلك ما كان المقدمة للتعامل البربري المنفلت من كلّ عقال آدمي في تعامل كلّ المنتسبين إلى جسد “الدولة الأمنيّة السوريّة” والمنتفعين منها من مرتزقة و قناصي فرص مع أولئك المقهورين الذين خُيِّل لهم بأنّ الانعتاق من “أسرهم المزمن” في أوطانهم المحتلة من قبل طغاة الفاشيّة الأسديّة وجلاوزتها وعسسها وبصاصيها ووشاتها قد أصبح قاب قوسين أو أدنى كما كان حال أشقائهم في القهر و الفجيعة المزمنة في “تونس الطاغيّة بن علي”؛ وهو ما كان ليتحقق فعليًا لولا تآمر كلّ الأفرقاء والأعدقاء الكونيين على الشعب السوري المظلوم، وتحويل أرضه إلى ساحة لتصفيّة حساباتهم بدماء الشعب السوري المكلوم.

مثقفو الخط الأحمر!

قد يستقيم القول بأنّ الكثير من المثقفين الأحقاق في سوريا قد أُخذوا على حين غرة بذلك الزخم الشعبي الثوري الاستثنائي مجتاحًا جُلَّ تفاصيل الخريطة السوريّة بشكل غير مسبوق استُعصي استبطانه من قِبَل أولئك المثقفين الذين تدرب كثير منهم على “فن السير على الخطوط الحمراء دون تجاوزها”، أو الانكفاء إلى العمل الثقافي النخبوي فكريًا أو إبداعيًا أو حتى أكاديميًا في محاولة لتجنب مفاعيل حلقة الترويع التاريخي التي قام بها نظام “الطاغية الأب” بتصفية وإعدام الحركيّة الثقافيّة في سياق تصحير المجتمع سياسيًا وفكريًا ومعرفيًا ضمن نسق أنّ “حزب البعث قائد للدولة والمجتمع”، وأنّ الحزب ومن لفّ لفه من أمساخ انتهازيّة ارتزاقيّة فيما كان يدعى “الجبهة الوطنية التقدميّة” مشخص مختزل في كينونة وعظمة “القائد الملهم” الذي ليس من جهد ثقافي أو فكري أو معرفي يستحق القيام به في حضرته سوى “التسبيح بحمده بكرةً وعشيًا”.

هو الواقع المأساوي الذي أنتج جحافلًا من “المثقفين الخُلّبيين” من فئة “المتعالمين الانتهازيين الوصوليين” الذين تمكّنوا بقوة “إرهاب الدولة الأمنيّة وأجهزتها القمعيّة” من تأصيل معادلة قوامها أنّ المثقف الخالص في “سورية الأسديّة” هو الأكثر “إبداعًا و أصالةً” في “فنون و ضروب” التحول إلى “تيس مستعار” مهمته نزع صفة “الحرام” عن الطغيان والاستبداد والفساد والإفساد المافيويّ للدولة الأمنيّة وتحويله إلى “حلال زلال”، بالتوازي مع “تفتقه الثر” عن مداخل إخراجيّة جديدة تبزّ كلّ ما كان يقوم به “وعاظ السلاطين”، و تتجاوزه إلى رتبة جديدة من “نضال الرفاق المثقفين الأمنيين” الذين تصدرت إفرازاتهم كلّ المحافل الثقافيّة المحدودة على امتداد الخريطة السوريّة إبان الثورة، والتي قد يكون أبرزها “اتحاد كتاب علي عقلة عرسان”، و”اتحاد صحفيي البعث و الثورة و صابر فلحوط” الذين تمركز دورهما الوظيفي على تدجين المثقفين وترويضهم وتدريبهم على عدم تجاوز الخطوط الحمراء عبر “القبض على تلابيبهم الماديّة” من خلال ما يقومان بدفعه من مكافآت واستكتابات ومزايا هنا وهناك، دون أن يعني ذلك عدم حضور الآلة القمعيّة الجلموديّة بكلّ ثقلها إذ سولت النفس الأمارة بالسوء لأيّ كاتب أو مثقف النشوز عمّا هو مرسوم له ليكون مصيره كمصير مئات الآلاف من المفقودين في غياهب السراديب الأمنيّة في الأفرع و الشعب الاستخباراتيّة التي قد لا يكون من المبالغة النظر إلى عددها بأنّه كان دائمًا أكبر من عدد المشافي والمدارس على امتداد الخريطة السورية دائمًا في حقبة “عصور الظلام الأسديّة”.

مثقفو النزعات النرجسيّة

قد يكون من اللازم في سياق الحديث عن الثورة السوريّة اليتيمة التطرق إلى ما طغى هنا وهناك من نزعات نرجسيّة مبالغ بها لبعض “المثقفين الأحقاق” والكثير من “المتعالمين الخُلّبيين” لمحاولة امتطاء جسم الثورة وتصدر زخمها الاجتماعي والإعلامي، وهو ما تكرس لاحقًا في تشكل “رموز قياديّة انتحاليّة مزورة” تصدرت الشاشات الإعلاميّة شرقًا وغربًا، بعد أن أصبحت الساحة الثوريّة مفرغة من قدرات فرز الغث عن السمين والانتهازي الوصولي عن “المثقف الانعتاقي المؤمن حقًا بثورة أهله وناسه” جرّاء ما تعرضت له انتفاضة الشعب السوري من بطش أمني في المراحل الأولى للثورة، ومن ثمّ عسكري على نهج النازيين والفاشيين بيمينهم ويسارهم في تخليق “الأرض المحروقة” و”الإبادة الجماعية” وصولًا إلى مختلف أشكال “التطهير العرقي والمذهبي” في تراجيديا قد تكون الأكثر إيلامًا في تاريخ الثورات الاجتماعيّة في القرن الواحد والعشرين.

هي الثورة السورية اليتيمة التي بدا زخمها الاستثنائي الصاعد في أشهرها الأولى بأنّه تباشير الانتصار والانعتاق من طغيان “الطغمة المافيويّة الأسديّة”، مما حدا بالكثير من أولئك “المثقفين الطبالين” و”الأتياس الفكريّة المستعارة” السالفة الذكر إلى القفز مبكرًا من مركب “التسبيح بحمد الجلّادين الأسديين والبعثيين” إلى مركب الثورة طمعًا في قطف مبكر لحصة أكبر من مكاسب الثورة التي كادت فعليًا أن تدرك مآربها في أكثر من منعطف في صيرورتها خلال الأشهر الأولى من عمرها الطهراني القصير.

ذلك التوصيف الأخير يستدعي من كلّ ذي عقل وجنان لا زالت “الموضوعيّة والعقلانيّة” كسمتين واجبتين في خَلَدِ و جَنَانِ كلّ “مثقف صدوق” من التشديد على أنّ الثورات ليست كالحج الذي “يغسل ذنوب” المنخرط فيه، ويعيده “طاهرًا كما وُلدَ من بطن أمه”؛ إذ أنّ الهدف الطهراني السامي لكلّ الثورات الاجتماعيّة على امتداد تاريخ الحضارة البشريّة المكتوب كان يتمحور حول “إنصاف المظلومين”، و”معاقبة الظالمين”.

وذلك هو ما يقتضي الإشارة بالبنان المشرئب واللسان القويم الصريح الذي لا مواربة فيه إلى الكثير من فئة “المثقفين التلفيقيين الخلبيين”، و الذين هم بالأصل “نكرات ووشاة و منافقون أفاقون تم تصنيعهم أمنيًا في كواليس اتحاد علي عقلة عرسان وشركاه” قادهم “رجس قرون استشعارهم الدنيئة” إلى الظن بأنّ غرق مركب الطغمة الأسديّة وشيك بعد تلويح “سيد الإرهابيين في البيت الأبيض” بخطوطه الحمراء الإيهاميّة، فقرروا القفز إلى مركب الثورة وهي في مهدها، ولم يجدوا من طريق بعد تراجع زخم الثورة السوريّة سوى العمل بالنهج الذي لا يعرفون سواه، وأعني هنا “الوصوليّة والارتزاقيّة” و”اللعب على كلّ الحبائل” لتحويل “انخراطهم الشكلي” في ركاب الثورة السوريّة إلى “بوابة للارتزاق والارتهان” على حساب دماء وحقوق السوريين المظلومين لأيّ من قد يشبع نوازعهم وغاياتهم وأسبابهم الوصوليّة والانتهازيّة الدونيّة الرخيصة في شكلها ومضمونها وكلّ تمظهرهاتها.

تقصير عن أداء الواجب

الحقيقة الدامغة في سياق عقد سنوات الثورة السوريّة مهيضة الجناح هو صَغَارُ وتقصير كلّ المثقفين الخلص بكلّ مشاربهم، عن القيام بواجبهم المناط بهم بشكل يرتقي إلى حجم التضحيات الأسطوريّة للشعب السوري المقهور، وهو ما تجلّى بأشكال متفاوتة من القصور البنيوي والوظيفي من قبيل بعض التمظهرات “الطفوليّة الفرويديّة الصارخة” على شاكلة “الصراع الوجودي” الذي خاضته بعض “الأنات النرجسيّة المتورمة تلفيقًا” في منظار بعض شخوص الجسد الثقافي السوري لترسيخ و توطيد قيمتها -الصفريّة في الواقع- في صيرورة الثورة السوريّة وبين العطاء الملحمي للسوريين البسطاء والذين لم يحظ الكثير منهم بقسط منصف من التعليم جراء الإفقار والنهب والفساد المنظم الذي هيمن على المشهد السوري خلال عقود “الظلاميّة الأسديّة”. وهو ما تجلى أيضًا بتلاوين تقصيريّة أُخرى عند البقيّة الباقية من أولي الألباب الخُلَّصِ من المثقفين على شاكلة “النكوص”، و”الانسحاب” جرّاء الشعور العميق المتأصل “بقلة الحيلة” و”التفجع المتحسر” الذي لا مهرب من حبائله في وجدان الغارق في مفاعيله، مقعدًا إياه عن الانخراط أو الإتيان بأيّ جهد فعلي حقيقي ملموس يرتقي إلى مستوى وحجم تضحيات الشعب السوري الجلّلة.

وذلك التوصيف الأخير كلّه يستدعي من كلّ مثقف سوري حق مخلص صدوق  إعادة الاعتبار للحقيقة الدامغة بتقصير جلّ المثقفين السوريين عن القيام بواجبهم التاريخي المناط بهم، بشكل يتجاوز “حركيات التنفيس” و”لغو نواصي المقاهي القائمة بالفعل و تلك الفيسبوكيّة منها” إلى نموذج من العمل المجتهد الدؤوب بكلّ ما أوتي كلّ فرد من أولئك المثقفين من قوة وعزم وصبر ومصابرة للالتحام بواجبه الذي لا بدّ منه إبداعيًا ومعرفيًا وفكريًا وتوثيقيًا لإظهار الصورة الحقيقية لكينونة الثورة السوريّة الموءودة، والشعب السوري المظلوم المقهور، والدفاع عن حق كلّ أبناء المجتمع السوري المكلوم بالانعتاق وعدم الاستسلام المهين الذليل إلى ما يريد الظُلَّام من مظلوميهم استبطانه مشخصًا في المقولة النكوصيّة بأنّ “العين لا تقاوم المخرز”، والانتقال من فضائها الاستكاني الذليل إلى حيز “تشاؤم العقل بواقعه البائس، وتفاؤل الإرادة بما يمكن لحركيّة التاريخ تحقيقه”، وهو ما قد يستقيم القياس عليه في نسق الثقافة و الفكر و الإبداع بأنّ “القلم المجاهد الصابر المصابر قد يفلح في صدّ المخرز” حين تتضافر كلّ المآقي التي يكتب لأجلها في حركة جمعيّة ينظر فيها المثقفون إلى ذواتهم بأنّها جزء من عضوي وتكويني في لحمتها باطنًا و ظاهرًا بغض النظر عن موقعها الوظيفي فيه سواء كان رياديًا أو نصيرًا أو ظهيرًا.

طبيب استشاري في علم الأمراض. كاتب في العديد من الدوريات الناطقة بالعربية والإنجليزية منذ العام 1991. مؤلف ومحرر لمئات الكتب والأبحاث والدراسات باللغتين العربية والإنجليزية.

حكاية ما انحكت

—————————————

أنقاض وباصات خضراء واستثمارات/ سوسن أبو زين الدين

سأخوض فيما يلي في رهاب الذاكرة الثقيلة لعشر سنوات خلت، كما وصفها ياسين. سأغوص في ما بقي من مدننا وما لها من بلدات وما فيها من أحياء سُلِبناها منذ عشر سنوات.

سُلِبناها، سواء كانت لا تزال معمورة مأهولة بمن بقي فينا، في ذلك الحيّز الذي يقال عنه، بمجاز مؤلم، «مناطق النظام»، أو مدمّرة مفرّغة ممّن هُجِّر منا، بعد «تسويات» و«مصالحات»، إثر «حسم» بمئات البراميل الطاحنة.

صارت مدننا في الغالب مقرات أمنية كبيرة، «حرّرنا» منها بضع مناطق فصرنا «إرهابيين». أحكم الأسد قبضته على من بقي منّا في ما «يحتلّ» من مناطق، واتجه نحو «بيئاتنا الحاضنة»، نحن الإرهابيين، يدمّرها حتى لا يستبقي منها – أو منّا – شيئاً.

سأمرّ على الذاكرة العمرانية لهذه المناطق المدمّرة من بلدنا الرهيب، وسأتلمس الكثير من حطامها، وأنا أعني هنا حطامها بالمعنى الحرفي: بقاياها من الإسمنت والحديد والبْلوك والخشب ونحاس الأسلاك والأنابيب التي تتراكم معجونة فوق بعضها البعض في حارات كثيرة؛ أو مما فُرِد بشكل أنيق على بسطات أسواق التعفيش؛ أو حتى البقايا التي لا تزال واقفة أو شبه واقفة، تنتظر مصيراً مجهولاً. وسأحاول ألا أَفجَع، وألا أَجلِد، وألا أَهلَع!

* * * * *

يقال إن في حلب ما يقارب 15 مليون طن من أنقاض المنازل والبنى التي دُمِّرت على مدار السنوات العشر الماضية. إخلاؤها سيستغرق 6 سنين من العمل المتواصل غير المنقطع، وما يعادل 26 مليون شاحنة-كيلومتر، هذا في حال افترضنا وجود ما يلزم من تمويل ومعدات وقدرات بشرية ومؤسساتية لذلك. هذه الأنقاض هي حطام ما يقارب 35 ألف مبنى مدمر في حلب. ومثلها في الغوطة الشرقية. وفي كل من الرقة وحمص وحماه حطام ما يجاوز العشرة آلاف مبنى مدمر، وفي باقي المدن التي ثارت، كدير الزور وإدلب ودرعا، ما يتراوح بين بضع مئات وبضعة آلاف.

لكن هذا ليس حطاماً عشوائياً. لا هو تحصيل حاصل لواقع الحرب، ولا حتى مجرّد ضرر جانبيّ حتّمته الضرورات العسكرية. حجم الدمار هائل، وجغرافيا تَوَزُّعِه تشي بفعل ممنهج. ترسم خرائط الدمار في المدن السورية عموماً مساحات تتموضع بدقة في مناطقها الثائرة التي صنعت إرثاً سياسياً، وتُطابق في كثير من الأحيان أحياءها الفقيرة أو المهمَّشة أو العشوائية، أو مناطقها ذات البُعد الاقتصادي الاستراتيجي غير المسروق بعد. داخل هذه المناطق، تتكاثف خرائط الدمار عند البيوت والمخابز والمشافي والمدارس والأسواق وشبكات الكهرباء والماء، وكل ما يَمُتّ لمقومات الحياة بِصِلة.

حلّل باحثون وباحثات عمرانيات هذا الدمار بأنماطه المختلفة، وأجمعوا على أنه كان بحد ذاته سلاحاً ممنهجاً في سياسات الحرب التي صممها النظام. فقد خلُصت ليلى فينال، التي فنّدت موضوع التدمير في سوريا بتفاصيله، إلى أنه كان استراتيجية غذت انتصارات النظام العسكرية بشكل مباشر، حيث هدفت إلى تعزيز القمع والقضاء على من ثار ضده، وتعزيز الدولة الزبائنية من خلال تفريغ المناطق الاستراتيجية لمكافأة عملائه من الرأسماليين المحاسيب. فاليري كليرك، التي عملت بكثافة على موضوع العشوائيات في سوريا قبل عام 2011، فأكدت أن تدمير مناطق العشوائيات، كسياسة تنظيم عمراني انتهجها النظام، لم تكن غائبة عن أجنداته قبل سنوات الثورة، إلا أنها ازدادت حضوراً في العشر سنوات السابقة، والأهم أن مواقع تنفيذها طابقت أهداف النظام العسكرية. أما دين شارب، الذي بحث في مفهوم «الأوربسايد» أو الإبادة العمرانية من خلال الحرب السورية، فأكد أن التدمير، كواحد من الترتيبات العمرانية العنيفة التي فرضها النظام أثناء الحرب، كان في منطقه السياسي محاولة لفرض التجانس سياسياً عبر القضاء على من ثار، أي أنه كان وجهاً من أوجه الأوربسايد.

هذا الدمار لم يكن عشوائياً إذاً! على مدار عشر سنوات طويلة، كان هذا الدمار – ولا يزال – أداة من أدوات الحرب التي أُشهرت في وجهنا، وهَجّرت نصفنا داخل حدود البلد أو خارجه. كان سلاحاً شديد الانتقائية، استأصل منّا كثيرين ممن تشي هوياتهم بانتماءات جغرافية مشاغبة سياسياً، أو حتى ممن لم تُسعفهم طبقاتهم الاجتماعية الاقتصادية في أن يستَبْقوا مكاناً في أحيائهم المُستحوَذ عليها بالدمار وبالمراسيم، والتي ستُقَدَّم في الغالب لمحاسيب نخبة البلد السياسية والاقتصادية أرضاً غضة للاستثمار. يشهد على هذا حطام منازلنا التي تتراكم معجونة ببعضها البعض، وبلحمِ من قضى منّا، تسدُّ الكثير من حاراتنا وشوارعنا. يشهد عليه الغبار الذي يتطاير من هذا الحطام، مُعفَّراً بطحين مخابزنا المدمرة أحياناً، وعابقاً بروائح الأدوية والمعقِّمات في مشافينا التي سُوِّيت بالأرض أحياناً أخرى. ويشهد عليه ما تبقّى من ذكريات خبأناها جيداً في الزوايا التي انطوى عليها هذا الحطام.

* * * * *

هُجِّر نصفُنا. لا بفعل الدمار وحسب، فقد تواطأت مدننا ضدنا بطرق شتّى، أو الأصح أن أقول، طوّعها النظام ضدنا بطرق شتّى. لم تكن حربه على مدننا. كانت حربه علينا، يخوضها من خلال مدننا، يدمّرها تارة، ويعطل شبكات الحياة التي تدور فيها تارة أخرى، حتى يدمرنا نحن، أو على الأقل يُقصينا. الحصار، وما تلاه من «تسويات» و«مصالحات» وتهجير وسياسات منع عودة، وجه آخر لحطام هذا البلد.

حاصر النظام على مدار السنوات العشر الماضية ما يقارب المليونين ونصف المليون منّا. أحكم إغلاق المعابر من وإلى أحيائنا التي حوصِرت، وقيَّدَ حتى الحركة فيها، ثم قطع الإمدادات والخدمات الحيوية عنها بشكل ممنهج. وفي حين وقف جنوده على حدود مناطقنا المحاصرة وانتصب قنّاصوه على زواياها، كان طيّاروه يحومون فوق ما تبقى فيها من نقاط حيوية، يُلقون البراميل على مشافيها ومخابزها وأسواقها ومدارسها حتى تُشَلّ الحياة فيها. مليونان ونصف المليون منّا، أي ما يقارب واحداً من كل عشرة سوريين، حوصروا ضمن جغرافيات مختلفة؛ حُرِموا الماء والكهرباء والوقود والغذاء والدواء وقوافل المساعدات الإنسانية – الشحيحة أصلاً – التي حاولت النفاذ إليهم، والتي حين وصلت بمعجزة كانت قد فُرِّغت مما قد يعينهم على النجاة أطول. ما حُرِموا من مدنهم، لكن مدنهم حُرِّمت عليهم حتى استحال البقاء فيها.

منظمات حقوق الإنسان الدولية التي تابعت الحصارات عن قرب ووثقتها، كمنظمة السلام باكس ومنظمة العفو الدولية، وصفتها باستراتيجية «الجوع أو الركوع»، وهو اسم مطروق في أسماعنا، استقَوه غالباً من شعارات الشبيحة الذين يُحيطون بنا وبمناطقنا المحاصرة. لكننا نعلم يقيناً أن الجوع لم يكن السلاح الوحيد الذي أُشهِر في وجه من حوصر منّا. كانت الحصاراتُ الأرضَ التي أَعَدَّها النظام ليُنهكنا قبل أن تغزو قواتُه العسكرية حدودَ مناطقنا المحاصرة في جولات عنيفة لإعادة ترسيم الحدود. وكانت معاركَ ما فَتِئَ النظام يتقدم فيها، ضامّاً الحي تلو الآخر لمناطق سيطرته. حينها، جاء عارضاً «الصُّلح» على من أُنهِك منّا، وفق اتفاقيات وثّقتها أيضاً منظمات حقوقية ووصفتها باستراتيجية «الموت أو التهجير».

وهكذا هُجِّر منّا في الغالب من لم يمت تحت البراميل والنيران المسكوبة على المناطق الثائرة. هُجّروا بحقائب صغيرة، في طوابير طويلة من الباصات الخضراء الكريهة. هُجّروا ليتزاحموا في مراكز الإيواء، ومخيمات النزوح، أو في بضع مدن صغيرة في الشمال صارت أسعار بيوتها تناطح السحاب. تركوا خلفهم بيوتاً واقفة أو شبه واقفة، وشوارع مهجورة إلا من الحطام. أُقفلت أحياؤهم ما إن غادروها. أُحكِم إغلاق مداخلها بالنقاط العسكرية منعاً للدخول، ثم أُعمِلت فيها أيادي العساكر، يعفّشون كل ما يمكن تعفيشه، يسرقون الملابس والبرادات والغسالات وغيره من الأثاث، ويفكّكون الأبواب والشبابيك والحنفيات والأنابيب، ثم يسحبون النحاس من قلب الأسلاك الكهربائية، والحديد من أنقاض ما تهدّم. يحملون كل هذا خارج المناطق المقفلة، ويفردونه بشكل أنيق على بسطات أسواق التعفيش التي صارت تشغل مواقع كثيرة في مدن أخرى. والأقسى، أن هذه الأسواق صارت ملجأ كثيرين يصعب عليّ الخوض في أخلاقيات خياراتِهم في ظل الفقر العنيف الذي يطحنهم.

في الأحيان القليلة التي سُمِح لبعض منّا البقاء، بعد أن «فُكّت الحصارات» عنّا عسكريّاً، ظللْنا «محاصَرين». صنّفتنا منظمات الأمم المتحدة على أننا «مجتمعات المناطق صعبة الوصول». ظل النظام يقيّد حركة من بقي منّا في هذه الأحياء، يحدّ وصولهم للخدمات كما يحد وصول البضائع إليهم، ويمنع منظمات الأمم المتحدة من إيصال المساعدات أو تقييم الاحتياجات أو البدء ببعض مشاريع إعادة التأهيل التي قد تُنقذ ما تبقى من بيوت هذه المناطق وشوارعها وبُناها التحتية. ظل عشرات أو مئات الآلاف في هذه المناطق يعيشون وسط دمار هائل وحرمان كبير، بانتظار ما ستؤول إليه حالهم يوماً ما.

* * * * *

في الأحياء التي استعاد النظام السيطرة عليها، أُعمِلت الجرافات وحِزَم الديناميت، تهدم ما تبقى من مبانيها الواقفة أو شبه الواقفة استعداداً لمشاريع إعادة الإعمار الظالمة التي ستقتحم الأحياء بعد قليل. هكتارات كثيرة في مدننا سُوِّيت بالأرض بعد أن رُحِّل عنها أصحابها، ثم بدأت تَصدُر مخططات التنظيم العمراني لها، واحداً تلو الآخر؛ مخططات لا تُقيم وزناً لما كان يوماً في هذه الأحياء، ولا لمن كان فيها، ولا حتى تأخذ بالحسبان أننا في بلد حرب، وأن ملايين منّا يعيشون اليوم مشردين! مخططات مستفزة في فجورها وهي تستعرض الكثير من المساحات الخضراء والمسطحات المائية والأبراج التي سترسم وجه البلد الحداثي الجديد، على حطامنا.

والأنكى، أنه قبل صدور هذه المخططات بوقت طويل، كان النظام يَسُنّ جملة طويلة من المراسيم والقوانين التي ستسلِبُنا حقوقنا في بيوتنا وممتلكاتنا وأراضينا ومدننا التي ستُدمَّر أو نُرحَّل عنها. صودرت أملاك الكثيرين من «الإرهابيين» فينا، بالقانون، كما ستُصادَر أملاك الكثيرين منّا ممن رفضوا الالتحاق بجيش النظام، بالقانون أيضاً، لتُباع جميعها بالمزادات العلنية على مرأى من أعيننا. شُرّعت القوانين لترحيل الأنقاض في أحيائنا، فعَرَّف النظام بيوتنا التي تركناها واقفة أو شبه واقفة على أنها أنقاض، وهدّمها كي يرحّلها، بالقانون. أَوقَفَ العمل بالسجلات العقارية في مناطقنا التي خرجت عن سيطرته، بالقانون، حتى صرنا في دوّامة مستمرة من إنتاج ما سيسميه النظام «مخالفات أو عشوائيات»، سيهدمها لاحقاً بالقانون.

سنّ النظام أيضاً مراسيمَ وقوانينَ للتنظيم العمراني، قد لا تسلبنا بيوتنا وممتلكاتنا وأراضينا مباشرة، إلا أنها ستحبِسنا في دوّامات قانونية وتقنية بيروقراطية لا سبيل لنا لخوضها، فنخسرها بالقانون. تشريعات منمّقة قد توحي للقارئ أن المخططات التنظيمية المشرقة الخضراء الحديثة التي تُعَدُّ وفقها إنما وضعت لتُعوّضنا عن أحيائنا الكئيبة الرمادية المتهالكة. يقف سكان بساتين الرازي اليوم في شوارع دمشق، يصارعون سوق الإيجار المتضخم فيها، لا حول لهم ولا قوة، بعد أن سلبتْهم هذه القوانين حقهم في أرضهم وبيوتهم وممتلكاتهم، والتي صودرت منهم مقابل وعود ببضعة أمتار في أرض مدينة السيادة «ماروتا» وسكن بديل. لا هم استلموا السكن البديل، ولا استطاعت إلا قلة منهم أن تستجيب لمتطلبات النظام الإجرائية المعقدة والصارمة والمحكومة بمُهَل زمنية محدودة جداً، ليُحصّلوا ما وُعدوا به من أرض في ماروتا. في ذات الوقت، شَرَّع النظام للوحدات الإدارية أن تُنشئ شركات قابضة تستثمر في أملاك الدولة العامة، أي أملاكنا العامة، فخُلقت دمشق القابضة، كما ستُخلَق مثيلاتها في باقي المحافظات، ووُقِّعت عقود بملايين الدولارات مع سامر الفوز ومازن الترزي وغيرهم من محاسيب النظام الرأسماليين ليستثمروا في أراضي بساتين الرازي التي صودرت من أهلها «للصالح العام». هذا «الصالح العام» يُرَخَّص اليوم في محافظة دمشق على شكل أبراج سكنية ومكتبية قُدِّر سعر المتر المربع فيها، منذ سنين، بآلاف الدولارت.

لا يهم إن كانت مدننا سيُعاد تنظيمها أو إعمارها وفقاً للمرسوم 66 على غرار أراضي بساتين الرازي، أو القانون 10 سيئ الصيت، أو الـ23 أو غيرها. ستَعيث الشركات القابضة فيها فساداً لا محال. ولن يستطيع سكانها وأصحاب الحق فيها الوصول إليها، فهم مهجَّرون ومقتولون ومعتقلون وملاحقون، ولا حيلة لهم أو من بقي من أهلهم لإثبات حقوق ملكيتهم فيها. ستؤول مدننا غالباً لمن رضي عليهم النظام من ذوي الحسابات البنكية الدسمة الذين يستطيعون تحمل تكاليف أبراجها القادمة، وسنظلّ نحن نَحِنُّ لمدن ربما تواطأت ضدنا.

أحاول أن أنهي هذا النص. تقاطعني رسالة واتس أب تصلني من أختي الصغيرة في سوريا. ترسل إليّ إحدى رسماتها غير المنجَزة بعد، دون أن تضيف شيئاً. أصفن في الرسمة… امرأة تحاول تلمُّس وجهها بحثاً عن ملامح ربما تكون مفقودة… أعود إلى النص. أحاول تذكُّر ما بقي من ملامح هذا البلد… ليس فقط من حطامه…

هذا البلد ستتطاول فيه أبراج فاحشة الحداثة واللاانتماء، تُطلّ على أحياء مدمرة أحببناها كثيراً، تقف اليوم كنُصُب تذكارية للمحارق التي يمكن أن يفتعلها طاغية في محاولاته لفرض الولاء. لكنه هو ذاته البلد الذي تعلمنا كثيراً من أسماء مدنه وبلداته وأحيائه للمرة الأولى منذ عشر سنوات حين هتفنا بأننا سنفديها هي، لا الأسد، بالروح وبالدم. هو ذاته البلد الذي خبّأتْنا حاراته وشوارعه الضيقة عقب كل مظاهرة، والذي أغرقنا حيطانه بشعارات الحرية، وازدحمنا في بيوته الصغيرة في كل مرة كان أحدنا ينجو فيها من هول مجزرة. وهو ذاته البلد الذي حين حُرِمنا الحياة فوق أرضه، خلقنا فيه مدناً كاملة تحت الأرض، حفرناها أنفاقاً وبنيناها مدارس ومشافيَ وملاجئ. وذاته البلد الذي حين كرهناه، ظللْنا نَحِنُّ إليه.

إلا أنني كتبت ما كتبت أعلاه، بفظاظة أحياناً، لا لنندب أو نتفجّع، بل كي ندرّب أنفسنا على الغضب! على أن نستحضر كل التفاصيل بقساوتها حتى نغضب، وعلى أن نغضب، وأن نتعلم كيف نُحوّلُ غضبنا لعمل يمكن أن يؤتي ثماره يوماً ما، في ذات المدن!

موقع الجمهورية

——————————-

11 دولاراً منحة لمرةٍ واحدةٍ في ذكرى الثورة: النظام إذ يسخر من السوريين/ كارمن كريم

بقي كثر من المتظاهرين داخل سوريا، منهم لا يزال تحت مراقبة الأمن السوري، فيما آخرون ما زالوا معتقلين، أو عادوا إلى منازلهم وحسب بعدما فقدوا أحبة لهم أو اعتقل النظام عائلاتهم وأبناءهم…

عشرُ سنواتٍ مرّت على هُتاف الحريّة الأول، عشرُ سنواتٍ على التظاهرة الأولى، على للمرة الأولى التي رُفِعتْ فيها الأيدي وصرخ الشعب “ارحل يا بشار”، حينها بات الشعب قادراً على قول “حريّة… حريّة”. زعزعت الثورة جذور الحياة السوريّة، غيّرت الجميع ولا يمكن بأيٍّ شكل أن يعود السوريون كما كانوا قبل عشر سنوات، هذا التغيير وإن بدا دموياً إلّا أنه أيضاً غيّر الفكرة المقدسة عن الأسد، النظام الذي لا يمسّ، الرئيس الخالد…  باتت كلها مصطلحات قابلة للسخرية، والهتاف ضد قدسيتها. “في الداخل” كما يُطلَقُ على سوريا اليوم، هناك حكايات كثيرة لمتظاهرين عادوا إلى منازلهم أو اعتقلوا، هناك ثورات تتمنى لو أنها تحيا، للناس حكايات مختلفة مع ذكريات عشر سنوات على المرة الأولى التي صرخ فيها السوريون من أجل الحريّة.

لمْ نصدق الثورة في البداية

نظامُ الأسد واحدٌ من أكثر الأنظمة القادرة على تدجين شعبه، كيف؟ يفعل ذلك بطريقة ممنهجة، منذ دخول الطفل إلى المدرسة وإلقاء التحية العسكرية أمام العلم السوريّ مردداً: “قائدنا إلى الأبد، الأمين بشار الأسد”، هل حقاً يعنون بالأبد اللانهاية؟ ارتبط الأسد أباً وابناً بالأبد، بانعدام البديل، الأسد هو الأوحد والوحيد، لذلك لم يتخيل كثر من السوريين قيام الثورة، على رغم شعورهم العميق بالغضب، عاشوا تحت مظلة الأسد مرغمين، أو مقتنعين بألوهيته التي حرص على تحصينها يوماً بعد آخر.

في البداية لم يقتنع كثيرون بمشروعية الثورة، تقول ريم (اسم مستعار): “كنّا خائفين، وجدنا في التظاهرات حينها تهديداً وخطراً محدقاً، لا أستطيع معرفة السبب، كنا خائفين وحسب، ولذلك نعم شتمنا المتظاهرين وقلنا ماذا يريدون حقاً؟”، تعرف اليوم ريم ماذا أراد المتظاهرون. بعد سنوات بدأت الصورة الضبابية تتكشف وما عادت العيون تستطيع تجاهل وحشية النظام، قد يبدو هذا الخوف لريم وغيرها طبيعياً في سياق الديكتاتورية التي مورست عليهم منذ عقود، فارتباط سوريا بالأسد يعني خطورة تغييره التي تُفضي إلى الموت مباشرة، بخاصة بالنسبة إلى الأقليات التي ردد عددٌ منها صراحةً: “لو ذهب الأسد سنُمحى تماماً”، هكذا أقنعهم النظام على مرَّ السنوات. في حصص الدروس الدينية خرجَ الطلاب من الأقليات إلى غرفة أخرى ليأخذوا درسهم، مرة في غرفة المكتبة أو غرفة المعلمين وفي أسوأ الأحوال في غرفة المستخدم، بينما بقي الطلاب الآخرون في غرفة الصف، هذا الشعور حين الخروج ونحن نحملُ الكتب كان يعمّق هذا الانفصال، لنعود إلى الصف ونشعر بالغربة وعدم فهم ما تعلمه رفاقنا، كنا 5 أو 6 طلاب من الأقليات في القرية، أهناك طائفية أكثر من هذه اللحظات؟ كان من المريب أن تظهر فكرة الطائفية مباشرة مع بدء الثورة حتى وإن وجِدَت بين المتطرفين، وهو أمر طبيعي لكن النظام أيضاً حرص على تعزيز هذا الخوف، وهذا ما تطرقت إليه فرح (اسم مستعار): “في أول مسيرة مؤيدة خرجنا فيها لدعم الأسد، كان المؤيدون يرددون: لا للطائفية. ورددت كما الجميع مقتنعة بأنَّ سوريا تتعرض لتهديد الانقسام الطائفي، وبعد مرور السنين حين تحوّلت إلى معارضة للنظام فكرتُ لِماذا جعلونا نردد هذا الشعار، على رغم أن الثورة كانت لا تزال في بدايتها ولم تتعدَّ في حينها متظاهري درعا؟ يبدو أنهم كانوا يؤدلجون أدمغتنا مسبقاً”.

ازدياد عدد معارضي الداخل

دعمت وحشية “داعش” والفصائل المتطرفة نظرية الأسد الطائفية وهذا ما دفع البعض لترديد: “الأسد أحسن من غيرو”، هؤلاء الخائفون من الإبادة الجماعية أو النزوح لم يعرفوا أن النظام كان الطرف الأساسي فيها. لكن المفاجئ اليوم أن الأشخاص الذين كانوا يقولون “لو ذهب الأسد سنُمحى تماماً”، اقتنعوا بأن وجوده يزيد الوضع سوءاً يوماً بعد آخر، وأن “داعش” ليس الخطر الوحيد، فديكتاتورية النظام وعدم منحه مكوناته الاجتماعية الأمان والحقوق ذاتها وفصل الدين عن الدولة أوصل الأقليات إلى هذا الخوف المشروع. يُعتبر هذا الأمر بحد ذاته بداية للتغيير حتى لو جاء بعد سنوات، أي مع ظهور معارضين جدد لهذا النظام، كانوا في يوم ما مؤيدين له وهم في زيادة لا يمكن تجاهلها سواء في الدوائر الضيقة أو حتى في الجمل المبطنة بين الغرباء. في ذكرى الثورة قال لي البقّال “إنّها عشرة أيام أتتخيلين!”. فأجبته وأنا خارجة “وقد تأتي عشرة أيام غيرها!”. يعلم النظام هذا ويدرك أن الناس بدأوا يغلون غضباً لذلك يزداد وحشية، يقول جورج: “بات معارضو الداخل أكثر، إنهم يزدادون يوماً بعد آخر، وعلى رغم ظهور بعض العبارات الطائفية في بعض التظاهرات عرفتُ أنها حالة شاذة وبقيت مؤمناً بأن تغيير النظام هو الحل لنتخلص من هذه العبارة، ليست المشكلة في الذين يرددونها بل بمن جعلنا نخاف ونقتنع بأن الآخر خطير”.

لكن يبدو أن ازدياد عدد المعارضين يدفع هذا النظام ليجاهر أكثر بقمعيته وبقدرته على إذلال الناس وتذكيرهم بأن ذكرى الثورة هي مجرد يوم غدا فيه أكثر وحشية، يقول طبيب أسناني: “أهناك أوقح من هذا النظام؟ أصدر قراراً برفع أسعار المحروقات وأسطوانات الغاز في ذكرى الثورة وكأنّه يسخر من كلّ ثائر وأعلن عن مِنحة لا تتعدى 11 دولاراً لمرةٍ واحدة، إنّه يسخر منا حقاً!”.

“النظام قتل أخي لكنني مؤيدة له”

ماذا عن أولئك الذين خرجوا في التظاهرات وبقوا في الداخل؟ بدا مفاجئاً هذا التحول والتعقيد في ما يخصُّ الثورة السورية، فالبعض كان مؤيداً وغدا معارضاً والعكس حدث كذلك. توفي أخ السيدة فريال (اسم مستعار) منذ 9 سنوات بعدما رمى النظام صاروخاً على المتظاهرين في منطقة الحجر الأسود في ريف دمشق. تقول فريال: “في البداية كنت ضد النظام وهللنا للثورة، لكن بعدما توفي أخي، مات شيء ما داخلنا”، والآن بعد مرور عشر سنوات بات غريباً أن تعود فريال لتقف إلى جانب النظام، مجبرة على الرضوخ للخيار الوحيد، حتى لا تخسر المزيد من أفراد عائلتها، تقول: “جربنا الثورة وتشردنا، يكفينا، نريد بعض الأمان”، هذه النقطة بالتحديد تُظهِر فداحة ما يحصل داخل سوريا واستفحال أزمة الفرد مع الحريّة والنظام.

بقي كثر من المتظاهرين داخل سوريا، منهم لا يزال تحت مراقبة الأمن السوري، فيما آخرون ما زالوا معتقلين، أو عادوا إلى  منازلهم وحسب بعدما فقدوا أحبة لهم أو اعتقل النظام عائلاتهم وأبناءهم، عادوا إلى منازلهم بعدما هتفوا للحرية للمرة الأولى. كمَن يرى الشمس لمرة واحدة ثم يعود إلى الظلام، كان هناك أطفال ونساء وعائلات لا يمكن تجاهلهم، هُدد المعتقلون باغتصاب أخواتهم، يقول رامي (اسم مستعار): “في غرفة التعذيب أخبروني أنهم اعتقلوا أخواتي أيضاً وأنهم يغتصبونهن في الغرفة المجاورة، لاحقاً اكتشفتُ أنهم كذبوا عليّ، رددوا مراراً أنهم سيجلبون والدتي من قبرها ويغتصبونها، كان هذا كافياً لأصمت للأبد بعدما أُفرج عني”.

“لو تنازل بشار قليلاً وسمعنا، لما حدث كلّ ما حدث” إنها العبارة التي تتردد على ألسنة كثيرين، يتخيلون سيناريو أقل دموية، كأن يتصوّّرون أن الأسد باشر بإصلاحات حقيقية ومنح مساحة أكبر لحرية الرأي، يقول سمير (اسم مستعار): “لم يكن ضرورياً أن يرحل في حينها، كان يستطيع الاستماع للمحتجين، كان يستطيع تجاوز مجزرة كبيرة، ويبقى على الكرسي لكن الآن بات وجوده مجزرة دائمة”. يقول مجد (اسم مستعار): “حتى اليوم أفكر، لماذا لم يتعامل بحكمة مع التظاهرات في بدايتها؟ أكان صعباً أن يقول أنا معكم وأسمعكم؟ أتتخيلين كل ما كان سيتغير لو تصرف بتفهم أكبر؟ ماذا لو تنازل عن الحكم؟ ما كانت البلاد لتسقط وما كان ليموت أخي خلال خدمته في الجيش”.

يوماً ما سيهاجر كلّ السوريين

يزداد الضغط في الداخل يوماً بعد آخر، تتردد عبارات “نيال الي هاجر” في كلّ زاوية، صلوات وبحث مستميت عن فرصة لقطع هذه الحدود الملعونة كما يطلق عليها السوريون. في كلّ جلسة هناك خطط للهجرة، بحث عن فرصة نجاة واحدة، وقع بسببها كثر ضحيةً لعمليات نصب واحتيال من أشخاص وعدوهم بمغادرة سوريا إلى الأبد، لكنهم اكتفوا بسرقتهم وتركهم في مهب أزمة اقتصادية وإنسانية أكبر. تقول سلمى (اسم مستعار): “تعرفت في إحدى الصفحات إلى مهرّب وعدني بأنه قادر على إخراجي أنا وعائلتي من البلاد، بعنا معظم ممتلكاتنا وأرسلناها له، في المقابل أرسل لي بعض الأوراق التي بدت رسمية في حينها. اكتشفت أنه محتال وأنني خسرت مالي”. مثل هذه الحوادث تكررت مع أشخاص يائسين، يحلمون بعالم لا يخافون فيه الجوع أو انتقاد حكومة البلد، أشخاص وقعوا ضحية جهلهم وعدم درايتهم وتعلقهم المستميت بالهجرة.

حتى المؤيدون يرغبون بالهجرة؟ كان جوابهم واضحاً: “لو أتيحت فرصة لي ولعائلتي لهاجرت”، وكانت هذه النقطة محيرة، لماذا يرغب المؤيدون الذين صفقوا للأسد بالهجرة؟ وكأنَّ فكرة السلطة منفصلة تماماً عن الحياة الكريمة والديموقراطية، الجميع يائس وخائف، عدا أغنياء الحرب أولئك الذين استغلوا الموت بأفضل صورة. أذكرُ صديقة لي كانت هي وعائلتها معارضين بقوة في السنوات الأولى، مع الوقت بدأ كلامها يتغير وطريقة هجومها على الجيش والأمن السوري تبدو أكثر ليناً مرددةً أسباباً تدفع الأمن للتحرك ضد المتظاهرين، ثم فجأة عاد إيمانها ببشار كرئيس مُنقذ. لاحقاً عرفت أن عائلتها كانت إحدى العائلات المستفيدة من الأزمة والتي بنت ثروتها بطرائق غير مشروعة، حينها أدركت أن السيارات الفارهة ومعاطف الفرو باهظة الثمن تعني أن يبقى بشار على كرسيه.

هذه الحكايات جزء صغير من ألم الداخل وتفتته وخساراته المتتالية والتي باتت السيطرة عليها مستحيلة، أحلام السوريين تتجه نحو الهاوية، غول الجوع يكبر، والجميع يغلي غضباً وألماً بانتظار معجزة ما أو ربما ثورة أخرى.

درج

——————————-

الإنسان السوري المبدع/ محمد كريشان

عبد الواحد غبيش، اسم لا يعني شيئا لأحد لكنه بات يعني لمن شاهد قصته الكثير جدا.

هذا الرجل في العقد السادس من عمره فر من اللاذقية خوفا من الموت ولجأ إلى تركيا حيث استقر ببلدة ألتنوزو جنوب البلاد. تقرير تلفزيوني في «الجزيرة» أظهر كيف يتوجه هذا الرجل صباحا إلى أسفل الجبال في تلك المنطقة ليجمع حجارة مختلفة الأحجام ويدفعها في عربة صغيرة إلى محل منحه له أحدهم في ذلك الخلاء ليشرع في تحويل ما جمعه إلى أوان منزلية متعددة الأحجام والأصناف. يقوم بقصّها ثم صقلها بعناية فائقة لأخذها بعد ذلك لعرضها على قارعة الطريق.

يقول عبد الواحد إنه قد يبيع في اليوم الواحد قطعتين أو ثلاث، وأحيانا قطعة واحدة لا غير، وقد لا يبيع شيئا طوال يوم كامل تمر أمامه السيارات بالمئات مسرعة لكنها لا تتوقف لتفحص بضاعته أو ربما يفعل بعضها ذلك دون أن يشتري أصحابها شيئا. يروي قصته وهو يكرر باستمرار كلمة «الحمد لله» مؤكدا أن ما يفعله أفضل من البقاء في البيت وهو أكرم في كل الأحوال من الالتجاء إلى الناس طلبا للمساعدة.

وإذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول «لإن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» فإن هذا السوري عزيز النفس اختار ما هو أعسر من ذلك بكثير وهو اقتطاع الحجر ونحته وتليينه دون تأفف ولا تذمر، بل إن تعففه في الحديث عن دخله اليومي يوحي لك بأنه قادر تماما على سد حاجياته وحاجيات أسرته.

عبد الواحد ليس استثناء بين السوريين الذين دفعهم نظام دموي مجرم خارج حدود البلاد ففي إقليم كردستان العراق مثلا يعيش منذ سنوات نحوُ مئتين وخمسين ألفَ لاجئ سوري يعيشون منذ سنواتٍ لكن نحوَ ستين بالمئة منهم فضّل الخروجَ من المخيمات والانخراطَ في سوق العمل وفق منظمة الهجرة العالمية.

وفي تقرير تلفزيوني آخر يتحدث عبد الرحمن مصطفى الذي قدم من أقصى شَماليِّ سوريا وفتح محلا للحلويات إن من يعتمد على نفسه يكون مرتاحا نفسيا لأنه لا يمد يده لأحد ويعيش من عرق جبينه، مفتخرا بأنه استطاع أن يشغّل لديه سوريين آخرين وعراقيين كذلك. أما دلشاد ملا درويش الذي قدم من رأس العين السورية ليفتتح مطعما للوجبات السريعة في السليمانية فيفتخر هو الآخر بأنه رغم قدومه إلى هناك قبل نحو عشر سنوات إلا أنه لم يذهب الى المخيم، بل قرر العمل والاعتماد على نفسه و«ليس على المنظمات والمساعدات الإنسانية، وها نحن نعمل ونعيل عائلاتنا والحمد لله نعيش في وضع جيد».

نماذج النجاح هذه ليست حالات معزولة ولا محدودة ففي تركيا كما في مصر كما في السودان وموريتانيا قصص نجاح متعددة قد تضاهي ما فات وقد تتفوق عليها. قبل عامين تقريبا جاء في نتائج دراسة أنجزها أكاديمي من جامعة غازي عنتاب جنوبي تركيا بحثت حال السوريين المقيمين هناك من مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية منذ قدومهم من بلادهم عام 2011 أن من بين من يقيم في غازي عنتاب من السوريين، وعددهم يفوق 450 ألفا، نجد أن 69٪ من هؤلاء يعملون في شركات سورية وأعمال خاصة، بينما يعتمد 31٪ منهم على شركاء أتراك، في حين بلغت نسبة السوريين الذين لم يحصلوا على أي مساعدات مالية أو عينية 62.5٪.

في مصر التي فضلها عدد من السوريين لأن العمل فيها متاح دون تصاريح، عكس عدد من الدول العربية الأخرى، توجد أيضا قصص نجاح خاصة في مجالي المطاعم والنسيج لكن ذلك لم يمنع مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين من أن تحذر قبل عامين من أن 80٪ من اللاجئين في مصر يعيشون في أوضاع إنسانية بائسة.

أما في السودان فقد أصيب الوجود السوري هناك بانتكاسة بعد أن قررت الحكومة السودانية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، منع الأجانب من ممارسة العمل التجاري بالبلاد مما أدى إلى إغلاق عدد من المطاعم والمحال السورية التي ازدهر نشاطها وتكثف في العاصمة الخرطوم لاسيما مع حملة التفتيش التي تشنها السلطات للتأكد من وجود تصاريح العمل والإقامة مع أن هذه المشاريع أدخلت بهجة خاصة على إيقاع الحياة اليومية هناك. ورغم عدم وجود إحصائية رسمية حول أعداد اللاجئين السوريين في السودان، فإن منظمات غير حكومية، تقدر عدد هؤلاء بأكثر من 200 ألف.

قصص نجاح السوريين يجب ألا تطمس معاناة الكثير منهم في الدول العربية التي قصدوها مضطرين هربا من الموت وبراميل النظام المتفجرة، كما أن نجاح من يملكون رؤوس أموال سمحت لهم بدخول عالم المشاريع الكبيرة أو المتوسطة يجب ألا تغطي شيئا أساسيا، ولا يقدر بثمن، وهو حرص السوري على كرامته وعزة نفسه فلا يتركها عالة على أحد، ولو نحت الجبل بأظافره.

كاتب وإعلامي تونسي

القدس العربي

—————————-

العدالة في الحرب السورية/ رضوان زيادة

ليس لدي شك أبداً في أن العدالة في سوريا ستتحقق لكن ربما سيطول الوقت، هذا الشهر كان حافلا بالعديد من المؤشرات التي تؤكد إصرار المجتمع الدولي على المحاسبة للمتورطين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري وعلى رأسهم نظام الأسد ورؤساء الأجهزة الأمنية الذين فتكوا بالشعب لسوري قتلا وتعذيبا.

وربما نحتاج إلى سنوات حتى نحصد نتائج المبادرات الدولية التي تم تأسيسها لضمان المحاسبة والعدالة للضحايا في الحرب السورية، وأهمها إنشاء الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق ومحاكمة الأشخاص المسؤولين عن أخطر الجرائم بموجب القانون الدولي التي ارتكبت في الجمهورية العربية السورية. “حيث اعتمد القرار في 21 ديسمبر 2016. هذه الآلية التي يطلق عليها بالإنكليزية International, Impartial, and Independent Mechanism (IIIM) تهدف لوضع قضية المساءلة عن سنوات الفظائع في سوريا ضد المدنيين أولوية لها.

هذا القرار يعتبر الخطوة الأكثر عملية من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اتخذت منذ بداية الصراع في سوريا في عام 2011. فالحكومة السورية تتحمل المسؤولية النهائية لحماية المدنيين، لكنها فشلت عاما بعد عام وأصبح حجم جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية يفوق الوصف. وبالتالي فهذا القرار يضمن احترام القانون وتوفير العدالة للضحايا، ويتطلب تقديم معلومات موثقة تمهد الطريق لتحقيق العدالة الجنائية وبناء مستقبل مختلف في سوريا.

بنفس الوقت وجدنا في ألمانيا في محكمة كوبلز تفعيل ما يسمى الولاية القضائية العالمية لمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب في سوريا وهناك قضايا أخرى مرفوعة في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإن كانت محاكمات فردية وخارج سياق محاسبة الجرائم الأكثر خطورة في الحرب السورية إلا أنها ترسل رسائل حاسمة أن ملف العدالة ربما سيكون مفتوحا في سوريا لعقود طويلة مقبلة فهذا النوع من الجرائم لا يسقط بالتقادم وطالما هناك ضحايا مؤمنون بتفعيل قضيتهم والوصول بها حتى تحقيق العدالة سيظل رفع الدعاوى القانونية في كل فرصة يشكل خطوة للأمام.

وبنفس الوقت يجب ألا نحيد عن الهدف بضرورة إنشاء محكمة خاصة مختلطة تتكون من قضاة سوريين مع الاستعانة بقضاة دوليين بإشراف الأمم المتحدة لمحاسبة مرتكبي الجرائم في فترة الثورة، وتكون هذه المحكمة خاصة بتوقيتها وآلياتها وتقوم بتطبيق كل من القانون الدولي والوطني السوري (المحلي). ويمكن الاستعانة بقوانين ونصوص المعاهدات الدولية التي وقعت عليها سوريا من أجل تطوير الإجراءات الخاصة بالمحكمة ونظامها القضائي. تهدف المحاكم المختلطة والمقترحة بشأن سوريا إلى تعزيز ملكية الضحايا السوريين من الأفراد لعملية الإجراءات الجنائية، وفي الوقت ذاته ضمان النزاهة الخاصة بالمحاكم الدولية.

في صلب العدالة الانتقالية تكون المساءلة وتحقيق العدالة والتي تشمل اتخاذ الإجراءات القضائية ضد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي جرت في سوريا خلال فترة الثورة، ويمكن لهذه المحكمة استهداف المرتكبين لهذه الجرائم أو التركيز على العاملين بالمستويات القيادية العليا في هيكلية نظام الأسد المسؤولين عن إصدار أوامر بتلك الانتهاكات والجرائم أو الذين لديهم صلاحيات إدارة نافذة على مرتكبي تلك الجرائم، ولا يستثنى من ذلك من ارتكب الانتهاكات ضد المدنيين من قبل المعارضة المسلحة، ويتعين إجراء هذه المحاكمات بما يتفق مع معايير المحاكمات العادلة في إجراءاتها وذلك لتجنب أي طعون في مشروعيتها.

علينا أن نفكر كيف يمكن تجاوز هذا الاستعصاء القانوني في عدم محاكمة نظام الأسد على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بحق الشعب السوري يوميا، ولما كانت محكمة الجنايات الدولية تبدو بعيدة المنال بسبب عدم توقيع سوريا على اتفاق روما الأساسي المنشأ للمحكمة ورفض روسيا واستخدامها حق النقض الفيتو في منع إحالة هذه الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية بقرار من مجلس الأمن، هنا يجب أن نبدأ التفكير في آليات دولية أخرى وجديدة لإنهاء دورة العنف وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب التي كانت عقيدة نظام الأسد خلال حكمه لسوريا على مدى خمسين عاماً.

تلفزيون سوريا

————————

التغريبة السوريّة إلى أربيل… عمّ يبحث السوريون في هذه المدينة؟/ ديما القائد

منذ أن بدأت الحرب في سوريا وصل السوريون إلى آخر بقاع الأرض هرباً منها، الفقير والغني ومتوسط الحال، سفر بشكل نظامي أو عن طريق التهريب وما بينهما، بالبحر والبر والجو. خرجوا من بيوتهم بحقيبة وقليل من الأغراض والأوراق المهمة، في مهمة ليست بالسهلة أبداً، وهم بكامل القناعة أنه ما من حل بديل للوضع الذي وصلت إليه البلاد.

وخلال السنوات العشر الماضية، كانت القارة الأوروبية الوجهة الأساسية لشريحة كبيرة ممن استطاعوا الوصول إليها، أما الشريحة غير المحظوظة كثيراً فكانت وجهتها إلى أحد بلاد الوطن العربي، وبعضها لم يكن ملائماً لحياة جديدة يتمناها إنسان هارب من حرب مجنونة، وفي الحالتين لم يكن الترحيب بالسوريين قوياً من الجميع.

لبنان، مصر، الأردن، العراق وغيرها من البلدان التي تستقبل كل يوم المزيد من العائلات السورية، لكن اسم المدينة الأكثر تداولاً منذ سنين والذي أصبح مكرراً بشكل يومي منذ أواخر العام الماضي هو أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، أو “هَوْلير” كما تلفظ باللغة الكردية.

كم مرة سمعتم في السنين الماضية عن عائلات سورية سافرت إلى أربيل؟ والسؤال الأهم حالياً، كم صديقاً ودعتم في الشهور الماضية لأنه قادم إلى هنا؟ نعم قادم إلى هنا لأني أنا أيضاً في أربيل، وأتيت إليها منذ أشهر بحثاً عن مستقبل أفضل.

رحلات يومية

بعد مرور عام 2020 بصعوبة كبيرة على العالم كله، وعلى سوريا بشكل خاص، وتأجيل الكثير من أحلام السفر عند فئة الشباب، بسبب حال العالم في ظل جائحة كورونا وإغلاق الحدود، كان شباب سوريون كثر، بكامل جهوزيتهم، موضبين لحقائبهم وجوازات سفرهم لأول بلد يمكنهم الوصول إليه، ما شكل ازدحاماً كبيراً على حجوزات الطيران إلى أربيل، عند فتح الحدود في شهر تشرين الأول 2020، فهي من المدن القليلة جداً التي ما زالت تستقبل السوريين بشروط سهلة، إلى جانب بلدان أخرى منها السودان، جزر القمر، الموزمبيق والصومال.

ونتيجة هذا الازدحام، أعلنت شركة الطيران السورية “أجنحة الشام” انتقالها من رحلتين في الأسبوع بين دمشق وأربيل إلى رحلات يومية، وأعلنت شركات أخرى، مثل فلاي بغداد، عن تسيير رحلات من سوريا إلى أربيل بسبب الإقبال الشديد.

بحساب بسيط للأرقام حيث تتسع الطائرة الواحدة لأكثر من 150 شخصاً، نستطيع القول إن آلاف الشباب السوريين يصلون شهرياً إلى أربيل التي فتحت أبوابها لهم، على عكس أغلب مدن العالم.

مجرد محطة

حازم (29 عاماً)، خريج إدارة أعمال في دمشق، انتقل مؤخراً إلى أربيل. يقول لرصيف22: “كان وضعي جيداً في سوريا، أو أستطيع القول بأن حالي كان أفضل من غيري فقط، ولكني أسعى للسفر إلى أوروبا، فقررت المجيء إلى أربيل كمرحلة انتقالية، فهي منفتحة على العالم حالياً أكثر من دمشق، ويمكنني فيها التواصل مع السفارات بطريقة أفضل، وأيضاً العمل وادخار بعض المال للمستقبل”.

هذه المحطة لم تقتصر فقط على الشباب، بل كانت ملاذاً لأعداد لا يستهان بها من العائلات السورية الآتية لتقديم اللجوء إلى كندا وأستراليا وغيرها، لتأمين حياة كريمة لأبنائها، بعيداً عن أزمات لا تنتهي في سوريا، ولتحقيق إحدى شروط تقديم اللجوء وهي أن تكون خارج بلدك، فوجدوا في أربيل مكاناً يمكنهم العيش فيه واختيار الاستقرار، أو الانتظار بأريحية أكبر من العاصمة اللبنانية بيروت، التي كانت خياراً لهم في أول سنوات الحرب، لكن أحوال الحياة فيها لم تعد سهلة أيضاً منذ أكثر من عام.

الخدمة العسكرية

ومن أسباب قدوم الشباب السوريين بكثرة إلى أربيل الهرب من الخدمة العسكرية التي باتت عبئاً ثقيلاً وواجباً غير محدود المدة، خاصة أن أربيل من المدن القليلة التي ما زالت تعطي السوري تأشيرة دخول بشكل سهل ومباشر وغير مكلف نسبياً مقارنةً بغيرها، إذ يمكن الاستعانة بمكاتب السفر أو محامين للحصول على التأشيرة، وبتكلفة تبلغ 250 دولاراً، فأصبحت الوجهة الأولى للشباب بين العشرينيات إلى الثلاثينيات.

الياس سيوفي، شاب سوري تخرج من كلية طب الأسنان. يقول في حديث لرصيف22: “سافرت بآخر عام 2018 بسبب الخدمة العسكرية، والسبب الثاني الوضع السيء في البلد. كان أمامي خياران فقط، إما لبنان أو أربيل، فاخترت الثانية”.

لم يعرف الياس أنه سيبقى فترة طويلة دون عمل بسبب قلة الفرص خاصة في مجاله نتيجة صعوبة تعديل الشهادة، ما يضطر بعض الأطباء السوريين للجوء إلى الريف، أو للعمل بأي فرصة تتاح لهم حتى لو كانت بعيدة عن طموحهم. يكمل الشاب: “أفكر بالسفر مستقبلاً فالوضع غير مستقر، ومن الممكن أن يتخلوا عني في العمل بأية لحظة، لكن من المؤكد أن وضعي هنا أفضل من سوريا، وما أستطيع تأمينه هنا لا يمكنني تأمينه في دمشق”.

وبشكل عام ينقسم الشباب السوري في أربيل إلى قديم مستقر منذ سنين وثابت بعمله براتب جيد جداً، وجديد يعمل بأجر زهيد لا يكفي بدل إيجار منزل. وعندما تزور المقاهي والمحلات التجارية حتماً ستلتقي بشباب سوريين يعملون فيها، وهم هاربون من حمل السلاح في بلدهم. منهم من يخطط لجمع بدل الخدمة العسكرية والعودة إلى سوريا، ومنهم من ينوي جمع نفس المبلغ والانطلاق نحو بلد أجنبي يعطيه إذن دخول، وإذا ما اضطرته الأحوال يلجأ إلى التهريب.

للسوريات فصل مهم في الحكاية

لا تقتصر الرحلات من سوريا إلى أربيل على الرجال، فنسبة كبيرة من الشابات السوريات والأمهات أيضاً يأتين بحثاً عن فرص عمل جديدة ووضع معيشي مريح ومستقر لهن ولعائلاتهن.

رنيم شموط، شابة سوريّة طموحة ونشيطة، تعمل في مجال الإخراج التلفزيوني والتسويق، تحدثت لرصيف22 عن تجربتها وسبب قدومها إلى أربيل: “قررت الانتقال إلى هنا لأنه لا يوجد وجهة أخرى يمكنني الذهاب إليها، كما أن سكانها يحبون السوريين. أعمل كمديرة تسويق لسلسلة مطاعم، وأطمح للعمل على مشروعي الخاص، فالفرص كثيرة هنا ويوجد انفتاح على الأفكار الجديدة دائماً”.

في كل شركة ومنظمة ومؤسسة أو مركز تجميل يوجد على الأقل امرأة سورية، والكثير منهن عازبات قررن الإقدام على خطوة نحو الاستقلال مجتمعياً ومادياً، واستطعن تحقيق نجاحات مميزة رغم صعوبات هذه الرحلة البعيدة عن وطنهن وأصدقائهن وأحبائهن أحياناً، ولكن وجود الكثير من السوريات ساعد على بناء مجتمع “سوريات في أربيل” الذي صنعوه لأنفسهن على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى أرض الواقع، يبحثن فيه عن سكن مشترك للفتيات، عن فرصة عمل، عن صديقة أو عن نصيحة ما.

تتابع رنيم في الحديث عن الوجود السوري الكبير في المدينة: “يوجد الكثير من السوريين هنا وأعرف أغلبهم، نصفهم هنا بشكل مؤقت لتقديم ملفاتهم إلى السفارات، ومنهم هنا من عدة سنين بوظائف مرموقة، أو لديهم مشاريع خاصة. كوضع اقتصادي في الشكل العام لا يوجد سوري يعمل ويعيش تحت مستوى الوسط، والجميع يمكنه تأمين كل احتياجاته بشكل طبيعي”.

تكثر الأحاديث الجانبية عن المقارنة بين دمشق وأربيل، بين مدينة يربطهم بها حب ودفء الماضي مع ألم الحاضر، ومدينة جديدة احتضنتهم وقدمت لهم مساحة جديدة للبدايات مع صعوبات لا يمكن غضّ النظر عنها. بالرغم من حبها الكبير للشام، مدينتها الأم، أي دمشق كما يطلق عليها السوريون، تؤكد رنيم بأن أربيل بالنسبة إليها أفضل بكثير للعيش حالياً من دمشق.

العائلة والحياة الاجتماعية

عُرفت سوريا سابقاً بمجتمعها اليافع وتشكيل الشباب النسبة الأكبر من شعبها، وكان من العادي جداً البدء بتأسيس العائلة بعد الانتهاء من الجامعة فوراً، فرغم الصعوبات التي من الممكن أن يواجها شاب وشابة في مقتبل العمر من أمور مادية لفتح منزل وتكوين أسرة، لم يكن ذلك مستحيلاً، على عكس ما وصلت إليه الأمور الآن بظل تدهور الاقتصاد.

شام السمان، خريجة كلية الفنون بجامعة دمشق، وصلت أربيل منذ عدة أشهر هي وزوجها وابنهما الصغير. وصفت تجربتها بالسفر بأنها الحل الأفضل، وقالت لرصيف22: “قررنا السفر بعد أن جربنا كل الاحتمالات الممكنة بالبقاء، لكن للأسف لم نجد الحل، فاتخذنا من أربيل وجهة لأنها الأسهل والأقرب إلى سوريا في حال أردنا زيارة عائلاتنا أو العودة”.

وعن الوضع الاقتصادي والاجتماعي، أكملت بقولها إن العمل في أربيل جيد ومنظم بشكل عام، ولكن لا يوجد حياة اجتماعية كتلك الموجودة في دمشق: “نحن كعائلة نفقد هنا لجمعاتنا التي اعتدنا عليها في سوريا كل أسبوع، وحتى بالنسبة لابننا، كان لديه أصدقاء من عمره يلعب معهم، ولكن هنا لا يوجد هذا الشيء، علماً بأننا نعرف أكثر من ثلاثين سورياً في أربيل، لكن الوضع الاجتماعي لا يشبه حياتنا التي نحب هناك”.

“هنا دمشق”

يرى السوريون في أربيل دمشق أخرى، أو يحبون أن يروها كذلك، فتجدهم يشبّهون سوق قلعة أربيل بسوق الحميدية، وشوارعها القديمة بشوارع دمشق القديمة، والمقاهي فيها بمقاهي الشام وجلساتهم فيها، وهكذا يهونون على أنفسهم ما خسروه من تفاصيل أحبوها هناك، ويكسبون فيها ما لا يمكنهم امتلاكه هناك أيضاً، علّهم يعودون يوماً لاستكمال قصتهم التي حلموا بكتابتها في بيوت الطفولة بين جدران غرفهم و”لمّة العيلة”.

رصيف 22

———————————–

أحلامنا المشوّهة التي ستغدو ذاكرة أبنائنا/ زياد جبيلي

“قفز الأرنب، ركض الأرنب

كنت قريباً منه ألعب

يا بحرية هيلا هيلا

هييلا.. هيييلااا”

كيف لأغنية يرددها مشجعو كرة القدم في الملاعب السورية أن تستهلّ مقالاً يتحدث عن الذاكرة؟ الحقيقة أنهم كانوا يرددونها، جامعين لحن الأغنية الشهيرة لمارسيل خليفة مع قصائد سليمان العيسى التي شبّوا عليها في المدارس حين كانوا متساوين؛ قبل أن تفرزهم الحياة إلى مستويات وطبقات أفقية وشاقوليه، مازجين بين ما حلموا به وما تخيلوه وبين واقعهم، تاركين للذاكرة أن ترتب ما تناثر من حيواتهم هنا وهناك. الذاكرة البشرية الانتقائية التي تحكمها طبيعتها والأثر الذي تتركه بعد التذكر، ثم السلوك الناجم عن ذلك. لذا، نستطيع أن نصدق العبارة الشائعة “نحن نتذكر ما نريد أن نتذكره فقط”. عندما سحب الجمهور أغنية مارسيل إلى الملاعب، كان يريد نقل الحماس المتولّد عند سماعها إلى اللاعبين، لتتحول المباراة إلى معركة مصيرها الانتصار المحتوم- الذي نشأنا عليه في أغاني الثمانينيات والتسعينيات- على أي عدو قد يجرؤ ويقترب منا. ذلك قبل أن تتحول حياتنا إلى سلسلة هزائم أبدية حين خرجنا من فقاعة الحماسة في الأغاني إلى دبوس الواقع الفقير. أراد الجمهور أن يعود إلى الانتصارات ولو في مجرّد أغنية. يمكن لنا أن نذكر مثلاً رائحة الخبز كل صباح وننسى ساعتين من الانتظار تحت مطر خفيف أو ثقيل لا فرق، أن نذكر أسعار الأثاث في منازلنا ونسميهم هكذا: بدل أن نقول براد نقول مليون ليرة، بدل أن نقول غسالة نقول مليون ومئتان وننسى أنّ البراد والغسالة والفرن ربما يكونان مجرّد بديهيات عند أية أسرة في أي مكان آخر من هذا العالم، أن نتذكّر أغنية وديع الصافي “بلدي” وننسى أن البلد قد تحوّل إلى قاعة انتظار، نتذكر فقط ما نريد أو ما يجعلنا قادرين على الاستمرار ولو ليومٍ آخر جديد.

ما يهمنا في هذا الحديث هو كيفية تعاملنا مع ذاكرتنا. بجرد بسيطة، نلاحظ أن أغلب النصوص الأدبية كانت تستند إلى أحداث واقعية مرّ بها الكاتب قبل أن يُعمل الخيال في قصته لتصبح أكثر تشويقاً: دوستويفسكي في المقامر، موراكامي في الغابة النرويجية، جوليان بارنز في الإحساس بالنهاية وغيرهم وغيرهم. جميعهم جعلوا من أحداث واقعية مروا بها حجر أساس يُبنى عليه، ثمّ أضافوا خيالهم حتى يخففوا من حدة ما مروا به أو يزيدوه حدّة، والغاية واحدة: إيصال فكرتهم إلى المتلقي. حسناً، ماذا ستتذكّر أجيال الحرب السورية؟ وكيف ستتعامل مع ذاكرتها؟ وماذا ستضيف أو تحذف؟

أسئلة كهذه ليست صحيحة بالشكل الكافي، ينبغي عليها أن تكون: ما هو سلوك جيل الحرب السورية المرتكز على ما سيذكره من الحرب؟ أو ما هو سلوك أجيال الحرب السورية المرتكز على ما ستحذفه أو تضيفه من ذاكرتها؟

يمكن أن نكون متشائمين ونجيب بمفردة واحدة: كارثة. ثم نضع نقطة بعدها، كما فعلتُ بالضبط، ثم نغرق في صمت عميق. ويمكن أن نجتهد قليلاً ونجعل الأمر كما في الحكايات؛ كأن نتحدث عن ذاكرة المدن ما بعد الحرب مثلاً ونسهب بالحديث عن الأنقاض والجثث وندعم حديثنا بصور ونشترك في لعبة الـ “قبل وبعد”؛ قبل الحرب وبعد الحرب، قبل التشرد وبعد الفقد، قبل الفقر وبعد انقطاع الكهرباء والماء، قبل الخمارات وبعد الجوامع، قبل الضحكات المنتهية بالدمع وبعد الدمع المنتهي بالضحك، قبل الملهاة وبعد المأساة. ثم نراهن على أن المدن لن تذكر إلا الشوارع حيث لا جدران تحجب أحداً عن أحد. حيث الجميع ضاحك ومبتسم وعابس وغاضب وشارد. بعدها يمكن أن نتوسّع في الحديث لننتقل إلى ذاكرة البيوت: الجدران والشرفات والبلاط والعتبات والنوافذ والأبواب والأسرّة والخزائن والأسرار. ماذا سيذكر بيت لم يبق فيه إلا دَرَج صاعد نحو السماء، معلّق هكذا في الفراغ؟ ماذا ستروي العتبة حين لا يكون ثمة شيء خلفها؟ من يقنع النوافذ بعابرين جدد؟ كيف تصمد الأصوات في الفراغات المهدّمة؟

للأمانة، لم أُجب على السؤال. راوغت وتحدثت بعاطفة وأغفلت الجواب تماماً، لأنني ببساطة لا أعلم. أو لا أريد أن أعلم. أو لأنني خائف. خائفٌ فقط ووحيد وذاكرتي تطاردني ولا أريد أن أتنبأ بما يمكن أن نفعله لاحقاً، لا أريد أن أتخيّل حتى. يكفيني ما فعلناه ببعضنا سابقاً.. يكفيني تماماً.

عُرّفت الذاكرة بأنها إحدى قدرات الدماغ التي تمكنه من تخزين المعلومات واسترجاعها، وتقع ضمن حقول علم النفس الإدراكي وعلم الأعصاب، وقُسّمت إلى فرعين رئيسيين: الذاكرة طويلة الأمد والذاكرة قصيرة الأمد.

أين نضع نوعي الذاكرة الرئيسيين في هذا المقال؟ هل يمكن وضع ذاكرة ذوي الأطراف المبتورة والأمهات فاقدات الأبناء والآباء مهتوكي العرض والأطفال منقوصي الكلى والزوجات المقهورات دائماً على أزواج لم يعودوا بيننا ضمن قسم الذاكرة قصيرة الأمد؟ أم نضع من كتب It is a boy على برج خليفة أو من أصبح رجل أعمال كبير وافتتح سلسلة مطاعم في دول مجاورة بعد سنين قضاها يدعوا إلى الجهاد وإقامة الخلافة ضمن قسم الذاكرة طويلة المدى؟ ثم نكتب بالخط العريض تحتهما “كي لا ننسى”.

“بابا بابا يومك طابا

دمت ربيعاً دمت شبابا

يا بحرية هيلا هيلا

هييلا هيلاااا”

ماذا نفعل بآبائنا حين يتحدثون عن زمن كان “الخير فيه كثير” على حدّ تعبيرهم، والناس تحب بعضها هكذا لمجرد الحب فقط ودون مقابل؟ كيف نصدق أن هؤلاء الآباء قد أنجبوا وربّوا أولاداً براغماتيين بالمطلق، يحكمهم قانون واحد فقط: البقاء للأدهى. حسناً، يمكن أن نعزو السبب الآن إلى قلة التربية. كلام جميل، أخيراً يمكن أن نتنفس بهدوء ونتابع حياتنا محمّلين غيرنا سبب تصرفاتنا، كما هو الحال دائما.

في الحقيقة، كان يمكن ذلك لو لم نتذكر أن الآباء كانوا دوماً يقلّون الحديث عن ظروف مشابهة لما عشناه ونعيشه اليوم. مثلاً، ترى أحدهم يذكر حقبة الثمانينات بعبارتين أو ثلاث فقط، ثم يعود ثلاثين أو أربعين عاماً قبلها ويستطرد. تخيل اختزال عشرة أعوام بعبارتين. تخيّل فقط.

وتذكّر الآن ما ستذكره بعد ثلاثين أو أربعين عاماً حين ستختصر عشر سنين بجملة واحدة. من نحاسب حين يقول لنا أبناؤنا لاحقاً: ليس هذا ما وعدتني به حين كنتُ فكرةً، مجرّد فكرةٍ في رأسك. بماذا نجيب حين يسألوننا عن الرضا والهدوء والاكتفاء والخير؟ بماذا نجيب حين يسألوننا عن الفرح الذي وعدناهم به حين كنا نحلم بهم؟

القضية هنا أن حلمك أصبح ذاكرة ولدك. ذاكرة مشوهّة آتية من زمن مشوّه. ماذا سيبني عليها حين سيحلم؟ أم أنّ ذاكرتك أصبحت حلماً لابنك؟ كلّ هذا والخيال لم يقم بعمله بعد.

“خلف القلعة قلعة نحنا

ع جناح الدنيي مطارحنا

يا بحرية هيلا هيلا

هييلا هييييلااا”

رصيف 22

———————–

======================

تحديث 25 أذار 2021

—————————-

الحدث السوري بوصفه ثورة سياسيّة/ لحسن أوزين

بعد عشر سنوات على الحدث السوري، فرضت الكثير من الأسئلة نفسها، بوصفها جزءًا ضروريًا من أي مراجعة نقدية لكلّ المقاربات السردية التي حاولت قراءة هذا الحدث، بوصفه ثورةً سياسيةً. وبهذه الصفة، كان الحدث السوري ضرورة تاريخية لحركة تطوّر واقع اجتماعي اقتصادي يتسم بوجود صراع سياسي بين القوى الوطنية والديمقراطية والشعبية، من جهةٍ، والنظام السياسي المتسلط والاستبدادي إلى حد وصفه بالطاغية، من جهةٍ أخرى. وقد تنوّعت السرديات التي أنتجتها سيرورة هذا الحدث، تبعًا لسياقات وترابطات شديدة التعقيد والتركيب، ضمن شروط وظروف تكوّنه وتطوره. فعلى المستوى المحلي، نجد مقاربة النظام السوري الأمنية العنيفة، والعسكرية الدموية. وعلى المستوى الإقليمي، نجد أنظمة استبدادية مناهضة للمضمون الوطني والاجتماعي السياسي لهذا الحدث، ورافضة لأيّ تحول وطني ديمقراطي، قد تعرفه المنطقة وشعوبها. وعلى المستوى الدولي، نلاحظ التدخل الغربي الأمريكي والروسي تبعًا لمصالحهما الاقتصادية والجيوسياسية.

هكذا تولدت عن تطوّر الحدث السوري، تبعًا لهذه السياقات والظروف، مجموعة من السرديات. ومن هذه السرديات تلك التي رفضت اعتبار الحدث ثورة، ولم ترَ فيه إلا مؤامرة صهيونية إمبريالية. وهذا هو حال سرديات بعض القوى السياسية اليسارية، التي تبنت بشكل أو بآخر، خطاب النظام في استراتيجيته السياسية والإعلامية والعسكرية، في تعامله مع هذا الحدث كتهديد إرهابي للدولة والمجتمع ولبلدان المنطقة كلها. ونجد أيضًا سرديات مكونات مجتمعية أخرى اعتبرت الحدث مجرد صراع طائفي أو ديني أو مذهبي أو إثني.

نحن نعتقد أنّ هذا الحدث ثورة سياسية داخلية بالأساس ضد نظام سياسي تسلطي إلى حدّ الطغيان. وتتأسس وجهة نظرنا على الكثير من المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية السورية، التي يمتلك، من خلالها، هذا الحدث السياسي شرعيته الثورية، وهي معطيات اشتغل عليها عدد لا بأس به من المفكرين والباحثين والسياسيين العرب والأجانب(1)، في ترابط تفاعلي جدلي مع السياق السياسي العربي الوطني والشعبي في ثوراته ضد الأنظمة العربية الاستبدادية. والمنظور الذي يقرأ هذا الحدث على أنه ثورة يؤسس حججه على مستويات الصراع داخل بنى التركيب السياسي والاجتماعي الاقتصادي السوري، وانطلاقًا أيضًا من التطورات التي عرفتها سيرورة الثورة، سواء بسبب التصعيد الدموي للنظام، أو من خلال التدخل الإقليمي والدولي. ويمكن لهذا المنظور أن يسمح لنا بإدراك العوامل والديناميات التي كانت وراء بروز السرديات الأخرى، القائمة على التشكيك والاتهام، أو للتقزيم والتبخيس، أو للتشويه لشرعية الحدث الثوري. ففي تلك السرديات تم الاكتفاء بالقراءة السطحية للمكونات الثقافية والاجتماعية التي تشكل المجتمع السوري في تنوعه وتعدده واختلافه، كثراء وطني فكّكه وأفسده الاستبداد، بوصفه أصل المشكلة السياسية، لكل تلك المظاهر السردية.

فكيف يمكننا طرح هذا الفهم والرأي الذي يجعلنا نعتقد أنّ هذا الحدث، في أسبابه السياسية والاجتماعية الاقتصادية، تعبير عن ثورة سياسية سلمية وطنية “ديمقراطية” في وجه النظام السياسي الأمني الاستبدادي؟ وكيف يمكن فهم سيرورة التفاعلات والتطورات المحلية والإقليمية والدولية التي تحكمت في سيرورة الثورة وفق مسارات تتناقض كليًا (تقريبًا) مع منطلقاتها وطموحاتها وأهدافها الوطنية والديمقراطية السلمية، وكانت، بوعي صريح، أو بدون وعي، أرضية لممارسات وسرديات مضادة للثورة وسقوطها في فخ مصالح الأطراف الأجنبية وأجنداتها؟

أولًا: الأسباب السياسية

خاض النظام السياسي الأسدي (مرحلتا الأب والابن)، منذ نشأته، أقسى أشكال العنف السياسي ضد مختلف الأشكال السياسية المعارضة (أفراد، وتنظيمات…) لاحتكار السلطة والتحكم الاستبدادي التسلطي بالدولة، بكل هياكلها القانونية والتشريعية والسياسية والنقابية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد فرض نوعاً من الإرهاب الأمني لفرض سيطرته على البلاد بكل خيراتها وثرواتها، وتقرير مصيرها السياسي والاقتصادي؛ فزج بالعشرات من الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، والمثقفين في السجون العلنية والسرية، (التي أتى على فضحها وتعريتها تراكم هائل من الإبداع الروائي)(2). حيث فرض النظام بالحديد والنار الخنوع والإذعان، وفق ممارسة سياسية تعتمد ثقافة الولاء والسمع والطاعة، أو الاعتقال والتصفية والتطهير الإبادي. وهذه الممارسة السياسية للصراع الاجتماعي السياسي هي التي أسست وجوده السياسي كطاغية، وضمنت تأبيد ديمومته في تاريخ سوريا المعاصر. الشيء الذي جعل من المستحيل التفكير خارج صندوق الأسدية الذي التهم المجال العام المدني والسياسي والثقافي، فحرم السوريين من امتلاك السياسة. وجفّف كل منابع التنوع والاختلاف والتعدّد السياسي والفكري والمجتمعي كثراء وطني ديمقراطي. وأغلق كل السبل في وجه القوى الحيّة الطامحة إلى الحرية والكرامة والعدالة، وكل القيم الإنسانية.

ورغم هذا العنف السياسي الأمني، ظلّت فعاليات سياسية، ثقافية، حقوقية، ونقابية تمارس حقها في الوجود السياسي والحقوقي والديمقراطي، بأشكال نضالية مختلفة، سرية وعلنية، رغم ما تعرّضت له من بطش وقهر واعتقال(3). وهذا يعني أنّه على الرغم من اختلال موازين القوى، وتجفيف الحياة السياسية إلى حد التصحر، لم يستطع النظام القضاء على الحيز الاجتماعي المستتر، والعلني (الوطني، الديمقراطي، والشعبي) لتشكل الخطاب والممارسة السياسية والفكرية والثقافية المعارضة للطغيان الأسدي. وكان من نتيجة ذلك تبلور الوعي السياسي الوطني والشعبي في أشكال تنظيمية مدنية نضالية سلمية قبل الثورة، أو عند انفجارها، في ما عرف بلجان التنسيق الوطنية. فهذا الواقع السياسي وما طبعه من جدليات القمع والنضال، هو الذي تولدت وتكونت وتطورت خلاله سيرورة الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة…، التي حملت شعاراتها الثورة السورية، باعتبارها ثورة سياسية، ضد النظام السياسي في أسسه اللاوطنية واللاديمقراطية واللاشعبية، من خلال فرض استمراره في الهيمنة والسيطرة، أو تدمير البلد وتهجير وقتل الشعب، والتنازل عن السيادة للاحتلالات الأجنبية.

ثانيًا: الأسباب الاقتصادية والاجتماعية

وكما التهم النظام السياسي المجال العام، وضع يده على كل الخيرات والثروات الوطنية من خلال سياسات اقتصادية تلبي الطموحات والمصالح الضيقة للأقلية الحاكمة، وفقًا للسياسات النيوليبرالية في القضاء على جميع الخدمات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن للاقتصاد الوطني أن يوفرها للشعب. وجسّد النظام أقلية تعتمد في مخططاتها ومشاريعها على سياسات رفع معدلات النمو بمعزل عن التنمية الاجتماعية الشاملة التي يمكن أن تنعكس خيراتها على كل فئات المجتمع ماديًا ومعنويًا في بناء الإنسان الحرّ المستقل، والمتميز في قدراته المعرفية والعلمية والإنتاجية، كموارد بشرية مؤهلة، تسهم في الاقتصاد من باب الفعالية والمشاركة(4). وليس من خلال سياسات النمو الأحادية التي تزيد الشعب فقرًا، وبطالة وتهميشًا، وتهجيرًا وإذلالًا ومهانة لكرامته الإنسانية، في الوقت الذي تحظى فيه الأقلية الحاكمة بكل الخيرات والثروات والقدرات التعليمية والصحية والسياسية والثقافية…

وقد دقت أجراس الكارثة(5) الكثير من الأبحاث العلمية لأقلام وطنية حريصة على التمكين والتغيير السياسي الديمقراطي، والاقتصادي للدولة والمجتمع السوري. لكن طبيعة النظام السياسي اللاوطني واللاديمقراطي في ارتباط مصالحه الفئوية والعائلية بالسياسات النيوليبرالية، وفي تمزيقه للإطار الوطني، من خلال سياسات طائفية جعلت من الصعب أن يتبلور من داخله أي مخرج أو حلّ إصلاحي اقتصادي، وسياسي ديمقراطي لما يتهدد البلاد من أزمات وكوارث. فمن داخل هذه السيرورة للصراع السياسي الاجتماعي الاقتصادي الذي خاضه النظام بعنف إرهابي انفجرت الثورة كمشكلة سياسية داخلية لم يعد فيها الشعب يقبل بالدكتاتورية الأسدية كنظام سياسي للحكم.

ثالثًا: التفاعلات والتطورات

هذه مجموعة من التفاعلات والتطورات التي رافقت ولادة الثورة السورية وتحكمت- إلى حد ما- بسيرورة مساراتها، ومنحتها وجهات دون أخرى، تبعا لسياساتها ومخططاتها ومصالحها وأهدافها الاستراتيجية. وهي في حقيقتها، كممارسات اجتماعية سياسية، تعبّر عن صراع سياسي محلي وإقليمي، وجيوسياسي دولي. وبناء على هذه التفاعلات والتطورات نشأت تلك السرديات الأخرى، التي أنتجتها طبيعة وممارسات النظام الدموي والتدخلات الأجنبية.

    على المستوى المحلي

استعمل النظام السياسي في صراعه السياسي ضد الثورة كل المقاربات الممكنة السياسية والإعلامية للتشويه والتبخيس والاتهام، والتهديد بالفتنة والتخويف بالطائفية والحرب الأهلية والإرهاب الديني المذهبي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى اعتمد المقاربة الأمنية والعسكرية كالاختطاف والاعتقال والقتل والتدمير والتهجير، الشيء الذي ولّد ردودًا فعلية أساسها الدفاع عن الذات، وحماية الاحتجاجات والتظاهرات السلمية، مع توفير بيئة آمنة ضد العدوان الوحشي للنظام. ووفق هذه الاستراتيجية تمكن النظام من توليد سرديات طائفية دينية ومذهبية تفاوتت في شدتها وقوة انتشارها. نذكر ضمن ذلك بروز قوى عدمية(6) لا علاقة لها بالثورة كمشروع سياسي وطني يتوخى الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة.

وفق هذه الرؤية في التحليل يمكننا فهم جذور وأسس صناعة الكثير من السرديات، بوعي أو بدون وعي، التي كانت تخدم أجندة النظام في تشويه الحدث السوري باعتباره ثورة سياسية. ومن ثمّة التشكيك في منطلقاتها وأهدافها الوطنية، وبالتالي ترسيخ الوصمة السيئة والتنفيرية: مؤامرة تخدم أجندة أجنبية صهيونية وإمبريالية. في الوقت الذي ظلّ فيه النظام السياسي الأسدي سندًا أمنيًا لإسرائيل، حاملًا قناع الممانعة والمقاومة، كشكل سياسي لفرض التسلط والطغيان.

    على المستوى الإقليمي

لم تكن الدول الإقليمية المؤيدة للثورة أو المعارضة لها تخدم سوى مصالحها السياسية والاقتصادية. فهي دول مناهضة في طبيعتها السياسية للمنطلقات الفكرية والسياسية للثورة، ولقيمها وأهدافها. فالدول الخليجية كانت معنية بمصالحها السياسية في التحكم بسيرورة وآفاق الثورة التي تهدّد في بعدها السياسي والقيمي والواقعي وجودها السياسي كأنظمة قروسطية تسلطية استبدادية، لا تختلف عن النظام السياسي الأمني والعسكري السوري. وتركيا كانت مهتمة بموقعها الجيوسياسي كقوة سيطرة وهيمنة، وسعت إلى امتلاك القرار السوري المصيري على مستوى آفاقه الثورية، خاصة على المستوى الكردي.

لذلك تم التحكم ماليًا وإعلاميًا وسياسيًا في أغلب الميليشيات العسكرية التي كانت تحارب بالوكالة انسجامًا مع مصالح هذه الدول الإقليمية وأغراضها. وهنا تكمن أرضية بعض السرديات التي وصمت الثورة بالطائفية والإرهاب من دون أن تدرك هذه الخلفيات، وتضعها في الحسبان، وهي تحلل أو تنتقد لتؤسس سرديتها على فهم خاطئ للسيرورة المعقدة للثورة السورية داخليًا وخارجيًا.

أما الدول الإقليمية المعادية للثورة كإيران والعراق وحزب الله، فهي لا تختلف كثيرًا عن النظام السياسي السوري في التسلط والقهر والاستبداد، لذلك كان طبيعيًا أن تقوي من شأن السرديات الطائفية الدينية والمذهبية (مستعملة مصطلحات الأكثرية السنية والأقلية العلوية، والأقليات الأخرى) كشكل سياسي لمعاودة إنتاج علاقات السيطرة التي تضمن وجودها السياسي وديمومتها الاستبدادية.

    على المستوى الدولي

رغم التباين الجزئي للمصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية بين الدول الكبرى الغربية إلى جانب روسيا والصين، فهي في علاقتها السياسية والاقتصادية بشعوب المنطقة لم تكن سوى الوجه الدموي للديمقراطية الغربية، في الهيمنة والسيطرة. كما هو الأمر في العلاقات والتفاعلات والتبادلات غير المتكافئة، وفي الضغوطات السياسية، والتحكم الاقتصادي، من خلال تكريس التبعية البنيوية، واعتماد آليات مختلفة على رأسها المؤسسات المالية الدولية، إلى درجة سطوها على القرار السيادي لبلدان المنطقة، أو في التدخل والاحتلال العسكري. بمعنى أن هذه الدول غير معنية بسيرورة الثورة السورية، إلا من زاوية الضبط والوصاية، والتحكم في مساراتها تبعا لمصالحها التي تتناقض مع أفق التغيير الذي أعلن عنه الحدث السوري كثورة سياسية سيادية.

وينبغي ألا نغفل، في هذا المستوى الدولي، الحضور الإسرائيلي/ الصهيوني الذي تتناقض مصلحته مع تحقق تحول اجتماعي سياسي وطني وديمقراطي في سوريا. فساهم هذا الحضور في تثبيت سرديات النظام السياسي الأمني الممانع والمقاوم لطموحات وتطلعات شعبه نحو تحقيق الكرامة والديمقراطية، والحرية والتحرر من سطوة المشروع الصهيوني.

بناء على هذه الملاحظات السريعة حول الحدث السوري، وما أفرزه من سرديات يمكن القول إنّ أية مقاربة تتوخى العلمية والمصداقية الأخلاقية والمعرفية، والرؤية الموضوعية، لابد أن تستحضر السياقات والمعطيات المحلية المرتبطة بطبيعة النظام السياسي الديكتاتوري، في سيرورة نشأته وتكونه وتطوره، وصولا إلى مستوى التملك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلد والشعب، فيما صار يعرف بسوريا الأسد. كما ينبغي لها أن تستحضر المستوى الإقليمي الاستبدادي المتمثل في دول الجوار كدول مضادة للثورة، من دون إغفال المستوى الدولي المناهض من زاوية مصالحه السياسية والاقتصادية للتغيير السياسي الاجتماعي، تبعًا لقيم الحرية والديمقراطية، التي تفتح آفاق امتلاك السياسة(7)، والقرار السيادي الوطني، وتقرير المصير، ومسارات التنمية الاجتماعية الاقتصادية، والسياسية الديمقراطية.

انطلاقًا من هذا، حاولنا التفكير نقديًا في السياقات والظروف والتطورات التي أحاطت بولادة هذه السرديات حول الثورة السورية، مع التنبيه إلى أنّ السرديات المناهضة أو المشككة في الثورة ما هي إلا نتيجة الحضور القوي لهذه المستويات الثلاث في التغطية على الحدث السوري بوصفه ثورة سياسية داخلية، ضد نظام فكك المكونات المجتمعية في بعدها الوطني، وقهر كل الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، وهدر الثروات، وفتح البلد في وجه الاحتلالات الأجنبية. ومثَّل ذلك الأرضية السياسية الأساسية التي أدت إلى بروز سرديات المؤامرة والطائفية والإرهاب.

الهوامش

(1) أقصد هنا الكتب التي تمكنت من قراءتها واستفدت منها في كتابة هذا المقال:

– ياسين الحاج صالح، الثورة المستحيلة، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017)

– عزمي بشارة، سورية درب الآلام نحو الحرية، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2013).

– محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)

– جلبير الأشقر، الشعب يريد، ترجمة عمر الشافعي (بيروت: دار الساقي، 2013).

– عصام الخفاجي، ولادات متعسرة العبور إلى الحداثة في أوروبا والمشرق، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).

(2) انظر، على سبيل المثال: مصطفى خليفة ، القوقعة، يوميات متلصص، (بيروت: دار الآداب، 2008).

(3) بشارة، سورية، ص51

(4) باروت، العقد الأخير، ص 75.

(5) محمد جمال باروت، الإصلاح أو الكارثة 2010، ضمن كتاب حسام الدين درويش، نصوص نقدية في الفكر السياسي العربي والثورة السورية واللجوء، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017) ص79.

(6) الحاج صالح، ص 54.

(7) الحاج صالح، ص 16.

كاتب مغربي، حاصل على الإجازة في الأدب العربي وعلى الإجازة في علم الاجتماع، يعدّ دكتوراه في علم الاجتماع، نشرت له بعض المقالات والأبحاث في مجلاّت مغربيّة وعربيّة.

حكاية ما انحكت

——————————

الثورة السوريّة بوصفها حدثًا/ أحمد اليوسف

“لا يمكن القفز فوق حدث البدايات، في تقييمنا لما نتج لاحقًا؛ فكل ما حدث كان جزءًا من وعيد سلطةٍ بأن تهدَّ البلاد، ولا تدع حجرًا على حجرٍ؛ وقد نفذت السلطة وعيدها، في سياقٍ سياسيٍّ دوليٍّ سمح بذلك. وكان الحدث السوري، في بدايته، ثورةً شعبيةً، على سلطة مُذِلّةٍ فتحت في جدار الأبد فرصةً راهنةً للخلاص تم تفويتها” يكتب أحمد اليوسف ذلك ضمن مقالته في ملف ذكرى الثورة السوريّة العاشرة بعد أن يسرد أحداث وأسباب الثورة ويُعرّف الثورة السوريّة بصفتها حدثًا.

لم يسبق لحدثٍ سوريٍّ أن أثار جدالًا وسجالًا واسعًا كما فعلت ثورة 2011. وتبدو اختلافات السرد في تناول ما حدث، في كثيرٍ من الأحايين، جزءًا من الصراع، على مستوى الخطاب، بين من هم مع النظام وبين من هم مع الثائرين عليه. قد يتعلق الأمر، في شطرٍ كبيرٍ منه، بالصراع على الشرعية، شرعية النظام أو شرعية الثورة. ولا ننفي، طبعًا، إمكانية أن يكون تناول تلك الظاهرة/ الحدث، جزءًا من محاولة الفهم البعيدة عن التحيز. لكن محاولةً من هذا النوع تبقى صعبةً جدًّا وخصوصًا أننا جزءٌ من الحدث الذي لم يُنجز بعد. وقبل أن أدلو بدلوي في الإجابة عن أسئلةٍ من قبيل: “ماذا حدث فعلًا؟”، و”لماذا حدث؟”، أود أن أوضِّح معنىً كلمة “حدث” ودلالاتها المستخدمة في العنوان أعلاه.

الثورة ما بين حدثيّة الوقوع وحتميته

غالبًا ما تتم محاولة فهم الثورة السورية، بوصفها واقعةً تاريخيةً، عبر ردها إلى شروطها السياسية والاقتصادية السابقة عليها أو يتم فهمها، وكذلك محاكمتها، عبر ما انتهت إليه، أي وفق النتائج التي أفضت إليها. ونادرًا ما تم تناول الحدث ذاته، وتناول لحظة وقوعه. إن لحظة البدء، لحظة الوقوع، وما حملته من خطاب رُفع في الساحات العامة كمطالب جماهير، ومن سلوك رأت تلك الجماهير فيه سبيلًا لبلوغ الغاية، وآخر بوصفه استجابة أو ردًّا من قبل السلطة على ما رفعته وسلكته تلك الجماهير، يبدو مفصليًّا لأسبابٍ كثيرةٍ، منها، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ كل الأسباب المذكورة، بوصفها شروطًا مقدمة لما حدث، من سياسية واقتصادية، كان يمكن أن تُقرأ على أنها أسباب غياب الثورة، وغياب الإرادة الشعبية. أي أن تلك الأسباب ذاتها تشرح استحالة الثورة لا إمكانيتها. حدوث الثورة كان مستبعدًا ومفاجئًا على الرغم من توفر كل الأسباب الوجيهة لذلك الحدوث. وليس من باب المجاز أن نقول إن حدوث الثورة جعل من الشروط السابقة أسبابًا ممهدةً؛ فلولا حدوثها لكانت تلك الشروط ذاتها شرحًا لأسباب غيابها. فوجود سلطةٍ دمويةٍ قد يكون سببًا للخنوع لها، كما قد يكون سببًا للانقلاب عليها. وغياب المجتمع المدني، واحتكار السلطة للمال، وجعلها من الفساد والإفساد نهج حكمٍ وتحكّمٍ، يشرح أسباب اليأس، وافتقاد المعنى، وانتشار الخوف المرافق بالخنوع، لا أسباب ثورة. لم تكن الثورة السورية، حقيقة، ضرورةً قبل وقوعها، إن لم نقل إنها لم تكن حتى ممكنةً. من هنا، فإن كلمة حدث تدل على فرادة الواقعة، وما تحمله من خواص كالصدفة والعفوية والمفاجأة والصدمة والزعزعة وخروجها عن المتوقع والمألوف والمخطّط له. وإننا اليوم نفكر في الحدث انطلاقًا منه، أي أن محاولة فهمنا له هي جزءٌ منه. إنه يحتوينا جميعًا على اختلافاتنا، فكلنا داخل الثورة/ الحدث، وهي فاعلةٌ فينا، ونحن فاعلين فيها، سواءٌ كنا ضدها أو معها.

ينبغي ألا يُستنتج من كل ما قيل هنا أننا نفصِل بين ثورة شعبٍ، بوصفها حدثًا، وشروطها. فهذا الحدث ليس واقعًا في الغيب أو ظاهرةً معزولةً عن شروطها التاريخية. بالعكس، إنه اكتمالٌ مفاجئٌ لتراكماتٍ سابقةٍ. ولكن هذا الاكتمال ليس نتيجةً آليةً لما سبق، بقدر ما هو طفرةٌ مضافةٌ جاءت في غفلةٍ. إنها شرطٌ إضافيٌّ وُلِد في سياق ربيعٍ عربيٍّ، وليس مجرد نتيجةٍ لما تقدم. فحرق محمد البوعزيزي لنفسه هو حدثٌ إضافيٌّ فجَّر احتجاجاتٍ شعبيةً في تونس لم يكن متوقعًا لها أن تتحول إلى ثورةٍ تُسقِط نظام حكمٍ. إن رد فعل البوعزيزي غير المتوقع أدى إلى رد فعلٍ شعبيٍّ غير متوقعٍ أدى بدوره إلى ثورةٍ شعبيةٍ غير متوقعةٍ انتهت بسقوطٍ غير متوقعٍ لنظام الحكم.

سلسلة اللا-متوقع هذه، وما أفضت إليه، قادت المصريين، بعدها، إلى خروجٍ سريعٍ مفاجئٍ ضد سلطتهم، فسقطت تلك السلطة حتى قبل أن تفهم ما حدث. إن المفاجأة لعبت هنا دورًا مفصليًّا، عبر خلقها للجدوى على مستوى ضمير الشعب، بعد عقودٍ من غيابها، فتحول اليأس فجأةً الى إيمانٍ صلبٍ بالتغيير، وبإرادة الشعوب، مقابل سطوة السلطة. وعلى الرغم من الاختلافات بين ثورات الربيع العربي وفرادة كل واحدةٍ منها، تبقى المفاجأة، وولادة الجدوى، وسقوط اليأس، أهم القواسم المشتركة فيما بينها، وهي قواسم وهبت معنىً لكل الأسباب السياسية والاقتصادية، الممهدة لثورة الشعب. وضمن هذا المعنى يمكننا الحديث عن أسباب الثورة.

الحدث على مستوى الخطاب

إن الثورة، بوصفها حدثًا، كانت، منذ البدء، صراع خطاباتٍ بين النظام والشعب. وأغلب الهتافات الشعبية كانت خطاب ردٍّ على خطاب النظام، عبر مهرجانات سخطٍ يختلط فيها شتم السلطة بتمجيد قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. وقدمت تلك المهرجانات، بصيغة المعاش والمعاناة، أسباب ثورتها ومطالبها معًا. فالمواجهات الأولى كانت بين حناجر تصدح بالحرية وبحب الوطن وسلطةٍ أفرطت بالعنف بأكثر أشكاله دمويةً وفجاجةً ووضوحًا، وكأنها تحاول أن تقنع الناس بجدية تهديداتها القائلة: “الأسد أو نحرق البلد”. وخطاب الساحات العامة، ساحات المواجهة، كان واضحًا وصريحًا ومباشرًا، على عكس خطاب المنابر. فقد نزع النظام القشور الأيديولوجية وشعارات البعث بالوحدة والحرية والاشتراكية والعروبة ذات الرسالة الخالدة، وجاء يحمل هراوةً، ويدوس عسكره على أجساد الناس، وهم يصرخون: “بدك حرية! هي حرية”. وما من لغةٍ يمكن أن تعبر عن ضيم الناس ومعاناتهم كلغة المعاناة ذاتها. وهكذا تكشف الشعارات عن أسباب الثورة، وعن طبيعة الثائرين، وعن الطبيعة التي انتهى إليها النظام، بعدما نزع أقنعته، وأعفى نفسه من لغة الأدلجة.

لا شك أن ثمة أسبابًا اقتصاديةً مهمةً خلف الحدث السوري، منها ما لعب دورًا تهميشيًّا لشرائح واسعةٍ من الشعب، وخصوصًا من كانت حياتهم معتمدةً على الزراعة.

لم تكن مطالب الناس اقتصاديةً، بل كان جلّها سياسيًّا، ويتمحور حول قيمٍ أساسيةٍ بديهيةٍ ووجوديةٍ من حريةٍ وكرامةٍ. وتستحق تلك الشعارات أن تكون موضوع دراسةٍ نفسيةٍ لفهم وعي الشعوب، عبر تحليل لغة سخطها. كيف يمكن أن تفهم لغة شعبٍ مقموعٍ مكبوتٍ مقهورٍ، لدرجة أنه يصرخ في مواجهة الموت أمام بنادق القناصة كلمةً واحدةً (حرية)، في تكرارٍ سريعٍ، وكأنه يحاول أن يقول ذاته قبل موته؟ وسبَّبت لغة الصراحة والوضوح حرجًا لكل من حاول الدفاع عن نظام شلح سترة الخطابات والأقنعة، وأصبح يكتب على الجدران تهديدات الحرق، مختصرًا البلاد كلها برأس السلطة. وأصبحت الموالاة تهتف، علنًا ودونما حرجٍ، لرئيس يخطب بهم في دار الأوبرا ﺑـ(شبيحة للأبد، لأجل عيونك يا أسد). وقد استخدم الناس في احتجاجاتهم الأولى قيمة الكرامة بصيغة الإيجاب وبصيغة السلب. وأول شعارٍ رُفع في أول مظاهرة كان: “الشعب السوري ما بينذل”، لتتبعه شعاراتٌ أخرى لاحقةٌ من نوع “الموت ولا المذلة”.

أسباب الحدث

لا شك أن ثمة أسبابًا اقتصاديةً مهمةً خلف الحدث السوري، منها ما لعب دورًا تهميشيًّا لشرائح واسعةٍ من الشعب، وخصوصًا من كانت حياتهم معتمدةً على الزراعة. فقد تعرضت الزراعة بين عامي 2006-2009 إلى أسوأ موجة جفافٍ مرت بها البلاد منذ عقودٍ طويلةٍ؛ وترافق ذلك مع عملية رفع الدعم الذي كانت تقدمه الدولة للمزارعين، كرفع الدعم عن المشتقات النفطية، عمومًا، وعن المازوت (الديزل) خصوصًا؛ مما ألحق أضرارًا كبيرةً بالقطاع الزراعي، وبالمشتغلين فيه(1)، وأفضى ذلك بالنتيجة إلى هجرة الكثير من السكان بحثاً عن لقمة العيش. وقد تراوحت نسبة الهجرة في القرى المنكوبة بين 50-75%(2). وأدى ذلك إلى انخفاض عدد المنخرطين في القطاع الزراعي من 1.4 مليون شخص إلى حوالي 800 ألف، في أثناء الفترة من 2002 إلى 2008، أي بنسبة 44%(3). وأدى ذلك إلى زيادة أعداد الفقراء وتدهور أوضاعهم المعيشية بشدةٍ، فأصبح أكثر من 7 ملايين شخص، أي نسبة 34.3% من سكان سوريا، تحت خط الفقر. وبالنسبة إلى البطالة، تشير الدراسات غير الرسمية إلى أنَّ معدل البطالة في سنة 2009 تجاوز 16.2%، يمثلون 3.4 ملايين عاطل عن العمل(4). كما تدهورت نوعية رعاية الخدمات الصحية، وقامت الحكومة بتطبيق برنامج تحويل جزءٍ من خدمات المشافي العامة إلى خدماتٍ صحيةٍ مدفوعةٍ، مما أدى إلى تدهور الخدمات الصحية للفئات غير القادرة على الدفع(5).

وهكذا اجتمعت عدة عوامل وظروفٍ أدت إلى الحدث السوري، منها ارتفاع مستوى المهانة، وفقدان أفق الخلاص، وشيوع اليأس والتهميش الاجتماعي، وازدياد مشاعر العجز والازدراء والنبذ والاستبعاد، وتحوُّل اقتصاد البلاد إلى اقتصادٍ هشٍّ ينخره الفساد، مدارٍ بطريقةٍ سيئةٍ من قبل نظامٍ استبداديٍّ نكّارٍ نشالٍ أفرغ البلاد من ثرواتها المادية، وجعلها، وفق تعبير الكاتب البريطاني آلن جورج، “بلا خبز ولا حرية”؛ وعزَّز قيم الفساد والخواء الأخلاقي، وجعل من قيم الحداثة والمواطنة وسيادة القانون قيمًا مخوِّنةً، يحرَّم التفكير فيها. ومن المفيد التفصيل، في هذا السياق، في تناولنا لمشاعر الهوان والمذلة وافتقاد الكرامة، لأنه يجعلنا نفهم طبيعة التحدي الذي فرضه ذلك النظام المتعالي على إرادة شعبه، من جهةٍ، وطبيعة الاستجابة التي اضطرت تلك الشعوب إلى القيام بها، من جهةٍ أخرى. والسؤال هنا هو: لماذا خرج الناس إلى الساحات العامة، بدل اللجوء إلى مؤسسات الدولة؟ للحقيقة، يبدو مثل هذا السؤال، للعارفين بالشأن السوري، ساذجًا، لأسبابٍ كثيرةٍ، منها أن النظام القائم قد ألغى الدولة ومؤسساتها ونقاباتها ومجتمعها المدني بكل تفصيلاته، وألغى معها السياسة، وفرَّغ الوطنية السورية من رموزها، جاعلًا من شخص الحاكم الرمز الأوحد. والتفريغ الرمزي كان أخطر أشكال هدم الدولة، حيث أدى ذلك إلى هدم الروابط الجامعة للشعب ذاته، فما من دولةٍ يمكن أن تقوم بدون رموزٍ وطنيةٍ جامعةٍ. وعلى مستوى الثقافة، والتي يفترض لها أن تكون فضاءً ومنبرًا يناقش فيهما قضايا الكرامة والشرعية والحريات، نجد أن نظام القهر قد طوَّعها وأحالها إلى أداةٍ لنشر ما يسميه أركون بـ”الجهل الرسمي المعمم على الشعب مؤسساتيًّا من قبل السلطات التعسفية.”(6) ونصَّب النظام نفسه حارسًا أمنيًّا على البرامج التعليمية، وحوَّلها إلى وسائل لتأبيد الجهل والخنوع، ولكسر روح المواطن، وربط ولائه للسلطة الحاكمة. لقد كانت مناهج التعليم عملية تربيةٍ للشعب، بالمعنى التأديبي. وتم ربط ذلك كله بمشروع تأبيدٍ السلطة الحاكمة. وقد يشرح لنا هذا لماذا خرجت الناس من ساحاتٍ عامةٍ، ومن المساجد، بدل خروجها من الجامعات. إن الجامعات ومنابر الثقافة كلها كانت جزءًا بنيويًّا من سلطة التأديب الأمنية.

بداية الحدث كانت عبر قيام مجموعةٍ من الأطفال بكتابة جملةٍ على جدار المدرسة تقول: “جاك الدور يا دكتور”؛ تلاها عملية اعتقال السلطة الأمنية في درعا لهؤلاء الأطفال.

أدت هيمنة النظام الاستبدادي المعادي للدولة، للأمة، وللقيم الإنسانية، وتأبيده كسلطةٍ مقدسةٍ فوق التاريخ، وفوق الأمة، وفوق القانون، إلى غياب احترام كرامة الإنسان، بوصفه مواطنًا في دولةٍ، وغياب دولة الحق والقانون التي ينبغي لها حماية المجتمع المدني الذي يرعى الفضاء المفتوح لمواطنيه، ويحدد حقوقهم وواجباتهم. وأدى هذا كله إلى غليانٍ مخفيٍّ تَحوَّل في لحظةٍ غير متوقعةٍ إلى انفجارٍ شعبيٍّ على شكل ثورةٍ رفعت شعار “الموت ولا المذلة”.

ما الذي حدث؟

يعتبر هذا السؤال جوهريًّا في سردية الحدث السوري. فعلى أساس الإجابة عنه، يتم تقييم ما قد تلا ذلك من نتائج أقل ما يقال فيها إنها فاجعةٌ. وعلى الرغم من أن النتائج محتومة بأسبابها، نجد من تغويه فكرة تقويم الأسباب ذاتها عبر نتائجها.

بداية الحدث كانت عبر قيام مجموعةٍ من الأطفال بكتابة جملةٍ على جدار المدرسة تقول: “جاك الدور يا دكتور”؛ تلاها عملية اعتقال السلطة الأمنية في درعا لهؤلاء الأطفال. فشل الأهالي في إخراج أطفالهم من المعتقلات مما قادهم إلى التظاهر لاحقًا. ثمة اختلافٌ حول البداية، إن كانت مظاهرةٍ الخامس عشر من آذار في دمشق، أم في الثامن عشر من الشهر نفسه في درعا. ردّ النظام على الاحتجاجات بما هو متوقعٌ منه، عبر إطلاق النار الحيّ على المتظاهرين، وإراقة الدماء في الشوارع، والدوس على أجساد الناس في الساحات العامة. وحدث أن فرَّغ عسكر النظام بلدةً كاملةً، اسمها البيضا، من أهلها، وراحوا يدوسون عليهم في مشهد يختصر العلاقة بين الشعب والسلطة. وهزت تلك المشاهد الضمير السوري، فامتدت المظاهرات إلى شرق البلاد وغربها وجنوبها وشمالها.

لا يمكن القفز فوق حدث البدايات، في تقييمنا لما نتج لاحقًا؛ فكل ما حدث كان جزءًا من وعيد سلطةٍ بأن تهدَّ البلاد، ولا تدع حجرًا على حجرٍ؛ وقد نفذت السلطة وعيدها، في سياقٍ سياسيٍّ دوليٍّ سمح بذلك.

في مقابل شعارات الحرية، كشعار “الله سوريا حرية وبس”، أنزل النظام مؤيديه ليرفعوا شعاراتٍ من نوع “الله سوريا بشار وبس”، “الأسد أو نحرق البلد”. وكانت البدايات تضج بالمهرجانات الغنائية، حيث كانت الثورة حناجر وأصوات، وكان النظام بنادق وقناصةً. كان هناك الكثير من القبح، من الدم والمجازر، والكثير من الجمال، في الوقت نفسه. وبدت سوريا وكأنها ارتدت إلى شعبها بعد أبدياتٍ من التغييب. ودامت المظاهرات الشعبية أشهرًا طويلةً، وهي تواجه الموت، دونما رادعٍ لسلطة القتل. وتحول الموت السوري إلى فظائع تنكيلٍ شملت ذبح الأطفال، وقتل الجرحى بالمشافي، وافتعال مجازر بالكيماوي، واغتصاب النساء. وكشفت الشبكة الأوروبية-المتوسطية لحقوق الإنسان عن أرقامٍ مذهلةٍ لحالات الاغتصاب، حيث إن ما يقارب الستة آلاف امرأة قد تعرضت للاغتصاب، بالإضافة إلى استخدامهن مع أطفالهن كدروعٍ بشريةٍ، وتعرضهن للتعذيب أثناء اعتقالهن(7). وقد تمّ استهداف المدارس أيضًا، بوصفها ملجأً للخارجين عن سلطة النظام؛ وتم تدمير أكثر من 450 مدرسةً تمامًا، يقع أغلبها في حمص وريف دمشق وحلب، كما تعرّضت أكثر من 3423 مدرسةٍ لتدميرٍ جزئيٍّ(8). وارتفعت وتيرة القتل تدريجيًّا، وارتفع معها عدد الجرحى؛ فأخذ الناس ينزحون من أماكن التدمير إلى أماكن أكثر أمنًا. وبلغ عدد النازحين داخل البلاد نفسها، سنة 2013، أكثر من 4.25 مليون مواطن(9). وقد ترافق ذلك مع حركة نزوحٍ خارجيةٍ أغلبها إلى دول الجوار. وفي سنة 2013 تعدّى عدد الضحايا المئة ألف قتيلٍ، إذ وصل، وفقًا لوكالة رويترز، في شهر ديسمبر، إلى 125,835 قتيلًا(10)، وأعلنت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أنها أوقفت عمليات حصر قتلى الحرب في سوريا حتى إشعارٍ آخر، وذلك بسبب كثرة الضحايا. وكانت آخر إحصائيةٍ قدمتها المفوضية تعود إلى شهر يوليو/تموز 2013. ويقدر عدد الجرحى بثلاثة إلى أربعة أضعاف عدد القتلى(11)، حيث تقدر الهيئة الطبية التابعة للائتلاف الوطني السوري عدد القتلى بنصف مليون شخصٍ(12)، كما ازدادت عمليات القتل والاعتقال والتعذيب الممنهج لآلاف الاشخاص(13) وتدمير البيوت.

تحولت سوريا إلى مجرد ورقةٍ في صراعات دوليةٍ وإقليميةٍ تتزاحم وتتسابق على احتلال بلدٍ تم تفريغه من دواخله عبر تهجير الشعب واعتقال ضمائره ممن باتوا يعرفون بمعتقلي الرأي. وأُفرِج عن إسلامياتٍ جهاديةٍ كانت مخبأةً في سجون النظام، لتبدأ سلسلةً من صراعات ملء الوقت عنفًا في زمن الركود السياسي على المستوى الإقليمي، وليتم لاحقًا تصدير جهادياتٍ داعشيةٍ من العراق، رافقتها جهادياتٌ شيعيةٌ. وغابت صيغ الحل لدى المعارضات السورية التي يعود أغلبها إلى ما قبل الثورة في زمن الأبد، وإلى حقبة الإيديولوجيات فوق الوطنية، من يسارياتٍ تؤمن بولاءٍ لمنظومةٍ دفنها التاريخ، وأخرى إسلاميةٌ تؤمن بأبديةٍ مدفونةٍ في الغيب. وللحقيقة، صادرت الظروف الدولية على ولادة أي معارضةٍ وطنيةٍ، أي أنها أكملت شروطًا فرضها نظام الأسد. ومع ذلك، لا يمكن لتلك الظروف أن تعفيها من مسؤولية ما حدث من تخبطٍ وإطالةٍ للمحنة.

لا يمكن القفز فوق حدث البدايات، في تقييمنا لما نتج لاحقًا؛ فكل ما حدث كان جزءًا من وعيد سلطةٍ بأن تهدَّ البلاد، ولا تدع حجرًا على حجرٍ؛ وقد نفذت السلطة وعيدها، في سياقٍ سياسيٍّ دوليٍّ سمح بذلك. وكان الحدث السوري، في بدايته، ثورةً شعبيةً، على سلطة مُذِلّةٍ فتحت في جدار الأبد فرصةً راهنةً للخلاص تم تفويتها؛ وفشلت النخب المعارضة في تحويل ثورةٍ من أجل الكرامة إلى نضالٍ سياسيٍّ لأجل الديمقراطية، وبناء نظامٍ بديلٍ يقوم على سيادة القانون، ويربط مطلب الكرامة لدى الشعب الثائر على الاستبداد ونظام الذل بمطلب الديمقراطية ودولة المواطنة.

الهوامش

(1) محمد جمال باروت، العقد الاخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (3ـ5)، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2011)، ص43.

(2) المصدر السابق، ص 44.

(3) المصدر السابق (5ـ5ـ4)، ص 4.

(4) المصدر السابق (1ـ5)، ص 12.

(5) سمير سعيفان وآخرون، خلفيات الثورة: دراسات سورية، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 129.

(6) محمّد أركون، معارك من أجل الأنسنة في السّياقات الإسلاميّة، ترجمة هاشم صالح، (بيروت: دار السّاقي، 2001)، ص 34-35.

(7) سيما ناصر وآخرون، “العنف تجاه النساء جرح مفتوح في النزاع السوري”، (كوبنهاغن: الشبكة الأوروبية-المتوسطية لحقوق الإنسان، نوفمبر 2013)، ص11. http://www.euromedrights.org/ara/wp-content/uploads/2013/11/Report-VAW-Syria_FINAL_AR.pdf

(8) هيومن رايتس ووتش، لم تعد أمنة، الاعتداءات على الطلاب والمدارس في سورية، يونيو/حزيران 2013، ص 13. http://www.hrw.org/sites/default/files/reports/syria0613ar_ForUpload.pdf

(9) C. Quosh, L. Eloul and R. Ajlani, ‘Mental health of refugees and displaced persons in Syria and surrounding countries: a systematic review’, 11:3 Intervention, (2013), 276-294, at 276.

(10) E. Solomon, ‘Syria death toll hits nearly 126,000: monitoring group’, Reuters, December 2, 2013, available online at http://www.reuters.com/article/2013/12/02/us-syria-crisis-toll-idUSBRE9B10ES20131202.

(11) A. H. Cordesman, ‘The Human cost of the Syrian Civil War’, Center for Strategic & International Studies, September 3, 2013, available online at http://csis.org/publication/human-cost-syrian-civil-war.

(12) موقع الجزيرة، أطراف صناعية لجرحى سوريا المحظوظين، الأحد 23/6/2013. http://aljazeera.net/news/pages/29895feb-3e85-4782-aa2d-d8193c0ac2ef

(13) CNN, ‘Syria’s alleged “Killing machine”’, available online at https://www.cnn.com/videos/world/2014/01/20/amanpour-syrian-war-torture-a.cnn

أحمد اليوسف باحث سوري مختص بالدراسات العربيّة الإسلاميّة، مقيم في كندا.

حكاية ما انحكت

——————————–

هل عدم تمكّن الثورة من إسقاط النظام يعني نهايتها؟/ رشيد الحاج صالح

يجادل عدد من السوريين بأن الثورة السورية، على الرغم من التضحيات التي قدّمتها والوضع الصعب الذي وضعت النظام فيه، لم تتمكن في النهاية من إسقاط نظام الأسد، وهذا يعني أنها انتهت، أو أنها في طريقها إلى التلاشي، ولا سيّما أنها حاليًا بعيدة بدرجة كبيرة عن إجبار النظام على الرحيل.

يجادل هذا المقال في قضيتين أساسيتين في هذا السياق: الأولى أن الثورات الناجحة ليست بالضرورة هي من تتمكن من إسقاط النظام الحاكم، في السنوات الأولى من اندلاعها؛ والثانية أن الثورات تهدف بالأساس إلى تغيير البراديم (نظام التفكير في السياسة والثقافة في مجتمع ما). وما إسقاط النظام سوى إحدى الطرق للوصول إلى تغيير البراديم، بل إنه قد لا يكون أفضلها، كما يقول تاريخ الثورات الحديثة. 

فإذا نظرنا إلى الثورات على أنها حركات احتجاجية شعبية أو عسكرية، أو كلاهما معًا، لإسقاط نظام الحكم القائم، بشكل مباشر، أو عبر صراع يصل إلى حد العنف، أو بالتحوّل إلى حرب طويلة؛ فإن الحديث عن نهاية الثورة السورية صحيحٌ حتى هذه اللحظة. ولكن ليس هذا مقياس نجاح الثورات؛ فالثورة الإيرانية والروسية والمصرية، مثلًا، تمكّنت من إسقاط النظام الحاكم بشكل كلي، غير أنها أنتجت نظام حُكم لم يكن أفضل من الأنظمة السابقة، على الأقلّ على مستوى الحريات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، أي أنها لم تتمكن من تغيير البراديم السياسي المسيطر على تلك المجتمعات، وهو براديم تسلطي دكتاتوري فاسد.

أما الثورة الفرنسية التي عانت الكثير، وقد عاد النظام الذي كان قبل الثورة أكثر من مرّة إلى الحكم، فإنها ثورة ناجحة، ليس لأنها تمكنت في النهاية من إسقاط النظام، ولكن لأنها فرضت في النهاية براديم الحقوق والحريات الذي قامت من أجله. وما يقال عن الثورة الفرنسية يقال عن الثورة الأميركية أيضًا، من حيث إن نجاحها كان بسبب تمكنها من تغيير البراديم السياسي والاجتماعي المسيطر، وليس بسبب تمكنها من إسقاط نظام الحكم السابق فقط، والحصول على الاستقلال.

وهذا ما يفسّر أيضًا تحسّر السوريين في عيد الجلاء، كلّ سنة، ذلك أن انتفاضاتهم المتلاحقة أدت إلى خروج المستعمر، ولكن لم يكن للأمر أيّ أثر، خاصة بعد عام 1963. ولذلك طرح النظام السوري الأسدي آنذاك شعار: “خرج المستعمر من الباب، وعاد من الشباك”، لكي يزيل عن نفسه الحرج، من حيث إنه كان أسوأ بكثير من المستعمر الفرنسي.

التركيز على إسقاط النظام أحدُ الأخطاء الكبرى في تاريخ الثورات، من دون إنكار أن الأوضاع في زمن الثورات كثيرًا ما تكون معقدة ومتسارعة. وهذا أحد أخطاء المعارضة الرسمية السورية التي اعتقدت أن الثورة لن تنجح إلا إذا بدأت بهدف إسقاط النظام. الخطأ هنا أن التركيز على المسارات الأخرى في الثورة لم يكن بدرجة التركيز على رحيل النظام.

للثورة السورية مساراتٌ وأهدافٌ متشعبة ومتداخلة، تتعلق بأمور عديدة: العدالة الاجتماعية، إنصاف المهمشين، نبذ ثقافة الاستبداد، تأكيد مركزية حقوق السوريين، تحفيز الشعور بالمسؤولية داخل المجتمع، كشف زيف الأفكار النمطية السلبية التي نمَّط بها النظام الأسدي السوريين، فضح زيف الأيديولوجيات الشمولية المسيطرة على المجال السياسي السوري، إعادة الثقة بين السوريين من جهة، وبين جيشهم وأجهزتهم الأمنية من جهة أخرى، التفكير في وطنية جديدة يلتف حولها السوريون، معالجة قضايا العلاقة بين الأديان والسياسية.. وهي متطلبات قامت الثورة السورية من أجل تحقيقها. ولذلك فإن تحفيز هذه المسارات يُعدّ استمرارًا للثورة، وليس من المقبول أن تقفز ثورة السوريين فوقها.

إن المراقب لمسار الثورة يدرك بسهولة أن تلك المجالات تُركت، أو تم تأجيلها، لحين إسقاط النظام، على طريقة النظام الأسدي الذي أجّل قضايا الحريات والتنمية، لحين تحرير الأراضي المحتلة وتلقين إسرائيل دروسًا لن تنساها.

بحسب تاريخ الثورات، هناك ثورات أعندُ من الأنظمة القائمة، ونَفَسها في التحدّي لا يستهان به، ولجوؤها إلى طرق أخرى، لسحب البساط من تحت أقدام المنظومة المسيطرة، كثيرًا ما غيّر الأوضاع القائمة جزئيًا، وأحيانًا بشكل كلي.

إن إنتاج قراءات بحثية وتحليلية عن الثورة السورية أمرٌ حيوي للثورة نفسها، من حيث إن مثل ذلك الإنتاج يساعد في اكتشاف طرق عديدة، يمكن للثورة من خلالها أن تقوّي نفسها، أو أن تعيد التركيز على أخطاء وقعت بها. قراءات تستشرف قادم الأيام، وماذا يمكن للسوريين أن يفعلوا اليوم.

الثورة السورية لم تنتهِ، ولكنها أيضًا لم تقم بكثير من المهمات التي يفترض أنها أخذتها على عاتقها.

 مركز حرمون

———————-

الثورة السورية الكبرى في ذكراها/ محمود الوهب

بعد عشر سنين يصفها السوريون بالعجاف، ولعلها، في ظاهرها، كذلك. يسأل بعضهم: هل كان ضروريًا أن يدفع الشعب السوري ما دفعه من قرابين دمًا وخرابًا، وآلامَ فَقْدٍ، ومعاناةَ تشرُّدٍ، وتهجيرٍ، وتعتيرٍ؟ أمَا كان تَجَنُّبُ ذلك بالإصلاح الممكن؟ ثمَّ يأتيك سؤال آخر، في السياق نفسه، لكنه يحمل كثيرًا من اللؤم والسخرية، ونوعًا من التشفّي: وهل ما جرى يعدُّ ثورة فعلًا؟

وبغض النظر عن إيجابية الإجابة أو سلبيتها، فإن سورية تستحق ما قدَّمه شعبها من تضحيات، وما تحمَّله من أعباء وأثقال. ولا يزال يعاني شقاءً متعدّد الأوجه والأشكال! وكذلك ما ينتظره من تحقق آمال وأحلام. وتظلُّ تلك الأسئلة، على ما فيها من مغالطات، وما تضمره نفوس أصحابها من نيات، تثير أسئلةً جمّة، منها سؤال جوهري، لعله الأكثر أهميةً: من تُراه يتحمّل وزر ما حدث فعلًا؟ ففي الجواب الدقيق عنه يتوقف كل شيء. ولكن قبل الحديث عن أنها ثورة أو غير ذلك، وعن ضرورتها من عدمه لا بدَّ من التذكير بأنَّ النظام الذي استمر 48 سنة، أي منذ مارس/ آذار 1963 وحتى مارس/ آذار 2011، يعدُّ المسؤول الأول والأخير عن كل ما جرى، وما عداه تفاصيل وهوامش، مهما كانت أبعادها وأخطارها، بما في ذلك الإرهاب الذي وجد وعمّم بفعل فاعل، فقد سار النظام بتلك السنين ثقيلًا على الشعب، وبوتيرة واحدة عرجاء، يجرُّ هزائم تتوالى في ميادين السياسة والحروب، والاقتصاد، وبفشل التنمية، بشقّيها الإنتاجي والخدمي، وكذلك الفشل في تطبيق الشعارات التي رفعها.

وما كان لتلك الهزائم، ولا لذلك الفشل كله، أن يحدثا، إلا بسبب وحيد، الحفاظ على كرسي الحكم الذي اقتضى من حافظ الأسد، كأيّ حاكم مستبد، أن يصادر السياسة وسيرورة الاقتصاد، ومال الشعب ولسانه. وعلى ذلك، فقد اهتم، على الدوام، بتنمية أدوات قمعه كافة، فمن جيشٍ عقائدي إلى أجهزة أمن توغلت في شرايين المجتمع وفي مفاصله الحيوية.. ولم تخل منها المساجد والمدارس ودور القضاء تلك التي تحمل سمات “المقدّس”، والغاية تفرّيغ مضامينها التربوية التي تعنى بالإنسان (المواطن) ماديًا وروحيًا، وحتى عقول الأطفال لم تسلم دونما عملٍ على تسطيحها باستبدال شخص الزعيم بالقيم الوطنية والأخلاقية والإنسانية عمومًا! لقد أفسد النظام كل شيء في سعيه الدؤوب إلى الحفاظ على الحكم، إذ لم يكن لديه من همٍّ سواه.. فمن أين إذًا يأتي الإصلاح؟ حتى إن الولد الوريث الذي جاء باسم التطوير والتحديث، ومكافحة الفساد، سار على المنوال نفسه، مبتلعًا ما كان قد صرّح به في هذا السياق، بل ما كان باشره في السنة الأولى من توريثه. وما كان قد سمعه من كثيرين، معارضين وغير ذلك ممن تعزّ عليهم سورية التي كان يأكلها القمع والفساد.

وفي عودة إلى الجواب عن السؤال الساخر/ الشامت، الثورة تعريفًا هي حال من الهيجان الشعبي الواعي، يحدُث نتيجة تراكماتٍ طويلةٍ، غايته إحداث تغيير في البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفق أفكار جديدة ورؤية مستقبلية، تستلهم ضرورات الواقع، وحاجاته المرئية في أعين الناس ورؤاهم.. ولم يكن الهدف في التجربة السورية غير تحرير المجتمع، وفكّ أسره، ليمضي إلى الأمام عبر تحرير السياسة الداخلية التي اعتقلها نظام الأسد الأب، بما أسّسه من قمع وعسكر وفساد وتمييز وفشل شامل. ومن هنا، يمكن إيجاد تفسير لحالة الغموض التي أحاطت بذلك الانفجار الهائل الذي جاء على شكل ثورة قام بها ملايين المهمَّشين في وطنهم السوري العريق، إضافة إلى جيلٍ من الشباب الذين مسّتهم عدوى الربيع العربي باكتشافهم، من خلال ثورتي الاتصالات، والمعلوماتية، حقيقة عيش العالم، واتساع الهوة بين حياتهم وحياة الآخرين. وهكذا، ومن غير أحزابٍ سياسية، فلا فعالية لأي حزب في ظل الاستبداد، ودونما رأس مفكر يوجِّه ويدبِّر، سرت حرارة روح التغيير في وجدانهم. وكذلك أدرك تلك الحقيقة آلاف الخرّيجين من خلال تشرّدهم في العالم بحثًا عن عملٍ يليق بوضعهم، ويؤمّن لهم ولأسرهم عيشًا كريمًا.. فضلًا عن مظالم كثيرة عانتها أقوام وطوائف ومدن ومناطق وأحزاب سياسية من يمين ويسار، قتلًا وتحريمًا أو تضييقًا وتحجيمًا.

اليوم، يحاول كثيرون ممن أذهلهم زخم الثورة السورية، وتجرؤ شبابها، وعنادهم وبسالتهم، وكذلك غناؤهم وفرحهم وانطلاقة مواهب مبدعيهم، أن يقارنوا بين الثورة السورية والثورات البرجوازية الأوروبية، وبخاصة الفرنسية منها، وحتى الثورة البلشفية أحيانًا. الحقيقة، الأمر مختلف عند السوريين، بل هو أكثر تعقيدًا، فالثورة الروسية كانت على مقربةٍ من ثورات أوروبية أو من حالة ثورية تعتري معظم البلدان الأوروبية، ثم إن هناك حزبًا يعي ما كان يريده. وثمّة قادة سياسيون على قدر من المعرفة والثقافة، والتجارب المكتسبة، ومعظمهم يحمل أفكارًا جديدة هي ابنة واقعها. ولم يكن بينهم وبين ماركس بالذات مسافات بعيدة. وذلك لم يكن متوفرًا عند السوريين. ومع ذلك، ما حدث في سورية ثورة بكل معنى الكلمة، لكنها ثورة في إطار تأثير الثورات البرجوازية في العالم. ألم تُنه تلك الثورات إمبراطوريات كانت بلداننا وغيرها في قلبها وتبعيتها؟ ثم ألم يستمد السوريون نظام حكمهم، وأول دساتيرهم، من روح الثورة الفرنسية؟ بل ألم يحاجج السوريون الفرنسيين المستعمرين في المحاكم استنادًا إلى مبادئ الثورة الفرنسية؟ (مرافعة فتح الله صقال عن إبراهيم هنانو). ثم ألم يَقُد النضال ضد الفرنسيين مَنْ درسَ في جامعاتهم، وأعني كثيرين من رجال الكتلة الوطنية، هؤلاء الذين حكموا سورية خلال السنوات الأخيرة من الاحتلال الفرنسي وبعد الاستقلال حتى عام 1958، وكانت سورية في عهدهم تسير في طليعة دول الشرق الأوسط. من هنا، ما جرى في سورية هو ثورة تدور في فلك الثورات البرجوازية، وخصوصًا الفرنسية، إذ هي الأقرب لنا في التاريخ. ولعلها تبحث في جوهرها عن “الديمقراطية المغدورة” التي جعلها المعارض المخضرم، عدنان بدر حلو، عنوانًا فرعيًا لكتابه “سورية الخمسينيات” وأكملها بعبارة “من عسكر الدولة إلى دولة العسكر”.

نعم، غاية الثورة السورية تحطيم ذلك الحاجز، بل السد الفولاذي الذي بناه الأسد حول سلطته، وتحت رداء “الوطنية” و”العلمانية” و”المعاصرة” وشعاراتٍ لم يشهد العالم ضجيجًا مماثلًا لها، لكن ذلك كله ما جاء، في الجوهر والأساس، إلا لتكريس الفردية الطاغية، وللحيلولة ما بين الشعب وحرياته السياسية التي عدَّها حزب البعث رجعية (بقايا إقطاعية) أو برجوازية (متأوربة) أو (مستغربة) تعادي النظام الاشتراكي الذي أتى بانقلاب عسكري، وتحت اسم “الشرعية الثورية”، متجاهلًا أن الاشتراكية في جوهرها حرية، وما كان سبب سقوط الاتحاد السوفييتي والدول التي سارت في ركابه إلا لتغييب الحريات. وكان على البلدان الطرفية التي حاكت ذلك الأسلوب في بناء الدولة أن تسقط أيضاً، إلا أن أشكال القمع القاسية حالت دون إيجاد الفرص المواتية، وقد أتت فكان ما كان.

ويُذكر أن حزب البعث الذي تأسس في عام 1947 لم يكن لأحدٍ من رجاله أي نصيب في استقلال سورية الوطني، وما كان بناء ذلك السد الذي بناه الأسد إلا لنسيان الماضي الزاهر لسورية، وليبدأ التاريخ معه. اليوم أسقطت الثورة ذلك السد، في عودة إلى السير الطبيعي. ولا أدلّ على ذلك غير استعادة علم الاستقلال الوطني رمزًا عميقًا يشير إلى جوهر الثورة. ومع سقوط ذلك السد، يكون النظام قد سقط، وإن بقي هيكلًا يختلف المعنيون حول زمن ترقينه وأسلوبه المناسبين. وعندئذٍ، تبدأ سورية بالتعافي، وبالبناء على أسس جديدة.

أما أن يقال إن الثورة فيها كذا وكذا فهذا أمر عارض وطبيعي، فمثل هذه الثورة التي تعمل على استعادة الوجه المضيء الذي كان لسورية لا بد أن تعترضها عثرات وأوجاع كثيرة، أليست “دروبُ الحرية دروبَ آلام وأحزان”؟!

العربي الجديد

——————————

الثورة السورية.. السرديات والسرديات المضادة/ مصلح مصلح

منذ الانفجار السوري الكبير في الـ 18 من آذار/مارس 2011 والسرديات والسرديات المضادة، التي حاولت القبض على كنه الحدث ما فتئت تتوالد لا بقصد فهمه وحسب، بل بقصد تجييره في حالة الصراع الوجودي الذي وجد أصحاب تلك الرؤى المتصارعة أنفسهم في معمعانه. ففي الوقت الذي كان مناصرو الحدث يصرون على وضعه في خانة الفعل الثوري، في رغبة مضمرة منهم لربطه بكل ما هو جديد وخير، فإن رافضيه على الطرف الآخر ظلوا يستميتون لوضعه في خان التمرد، بكل ما يعني ذلك من خيانة ونكران جميل لصاحب النعمة الأوحد كما يتصورونه، وهو في حالتنا العيانية بشار الأسد، الذي لم يقصر يومًا في توفير الخبز والأمن والأمان لرعاياه.

في كتابه “الثورة والقابلية للثورة” يقارب عزمي بشارة الثورة من خلال ذرى الحقيقة الثلاث “المظلومية، الوعي بها، التحرك للخلاص منها”، لا ليميز بينها وبين أنواع الاحتجاجات الشعبية الأخرى كالهبات والتمردات المحلية، وإنما ليكشف عن طابعها أو محركها الداخلي المتمثل بوجود المظلومية. هذا مع علمه المسبق أن وجود المظلومية التي قد يتجلى على شكل شعور بوجود حق أو حقوق مستلبة، لا تنتج بحد ذاتها ثورة، وإن كانت تمهد الأرضية لحدوثها.

ذلك أن الرغبة بالتغيير والخلاص من حالة الظلم تلك غالبًا ما تتوقف على الطريقة التي يعي بها المظلوم أو صاحب الحق مظلوميته، فشتان ما بين وعيه لها كنوع من القضاء والقدر أو اللعنة الإلهية، وبين وعيه لها كنتيجة لتعدي حاكم فرد أو جماعة حاكمة عليه. ومع أن لا أحد يجادل بدور الوعي في إشعال الثورة، فإن الكلمة الفصل في هذا المقام تظل منوطة بحركة الناس أو انتقالهم من حالة السلب المصاحبة للثرثرة والشكوى المكبوته، إلى حالة الايجاب المصاحبة للخروج بقصد المطالبة بالحق والخلاص من عبء المظلومية.

نجحت سردية الناس في وعيهم لحراكهم الاحتجاجي كفعل ثوري، لا يهدف للمطالبة باستعادة حقوقهم المستلبة خارج مؤسسات السلطة الأسدية وحسب، بل لهدمها أيضًا “الشعب يريد إسقاط النظام” في إصابة الأسد في مقتل. فلقد كشفت تلك الاحتجاجات زيف إدعاءاته المتعلقة بالإصلاح والتطوير في كونها لا تعدو مجرد وسيلة من وسائل إدامة السيطرة والتحكم. الأمر الذي أسقط في يديه، وجعله يلجأ للمنطق السجالي الذي يتعمد الهروب من البرهنة على حجة الخصم وهي هنا “فكرة الخروج إلى الحق” إلى البرهنة إلى تهافت الخصم ذاته، في شيطنته في جعله تارة إهاربيًا وتارة أخرى أصوليًا عدميًا، في مقدمة لتبرير سحقه بالقوة العارية.

وحين لم تفلح أدوات قمعه في ثني الناس عن الخروج، عمد إلى التشنيع عليهم عبر مفردة الثورة ذاتها، ليس عبر بيان تهافت مطالبها الجذرية مقارنة بخطواته الاصلاحية التي قد يعد بها الناس، بل عبر إفراغها من طابعها الاحتجاجي عبر جعل نفسه مقياسًا لكل فعل ثوري، مدعيًا بأنها لوكانت فعلًا ثوريًا حقيقيًا أي خيرًا عامًا، لما تأخر عن الانضمام إليها لحظة واحدة، الأمر الذي لا يمكن فهم فحواه الهذياني إلا إذا تم التعامل مع ما يقوله الرجل كمجرد دور تمثيلي في مسرحية هزلية، يلعب فيها الأسد دور البطل الذي لا يمانع من إسقاط نفسه عبر الهتاف ضد نفسه بالشارع، ما دام الأمر برمته لا يخرج عن حدود اللعب والعبث المستساغ. فكيف لرجل أن يطالب بإسقاط نفسه أي نزع الشرعية عن ذاته، خارج المؤسسات التي استمات في جعلها مصدر كل شرعية رئاسية تذكر.

واحدة من السرديات الكبرى التي حاول النظام الدفع بها وتعميمها على أوسع نطاق ممكن بقصد النيل من الثورة، هي سردية التمرد السني الطائفي ذو التوجه الوهابي، مستغلًا في ذلك خروج المظاهرات من الجوامع، كما خطاب بعض الدعاة السلفيين التكفيريين من أمثال عدنان العرعور. كل ذلك لحرف الانظار عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء مظلومية الناس التي يجد المرء أصدائها الحقيقية في بنية المؤسسات السلطوية التي بنتها الأسدية في جسد الدولة السورية ذاتها.

وبدل أن تستثمر الأسدية في عمل مؤسسة الشرطة، المناط بها ضبط الأمن العام وتحقيق العدالة عمدت إلى تفريغها من محتواها، وأحلت محلها أجهزة المخابرات التي أنيطت بها مهمة الضبط الاجتماعي، أي تحويل السوريين الأحرار إلى مجرد تابعين لسلطة الزعيم الأوحد، المالك الوحيد لكل حق أو حيز عام. كما أحلت في الوقت نفسه سرايا الدفاع وأخواتها من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري كنوع من الجيش العقائدي أو الرئاسي الذي انحصرت مهمته في حماية سلطة الرئيس وآل بيته، بدلًا من الجيش النظامي. فيما تكفلت مؤسسة الرئاسة بالحلول محل جميع الوزرات والسلطات الأخرى عبر التحكم في جميع أعمالها ومهامها، جاعلة من فكرة البرلمان الحر والنظام النزيه والصحافة المستقلة، مجرد مؤسسات سلطوية همها الأول والأخير تزيين وجه السلطة القبيح الذي تحول إلى سلطة إحتلال، لا هم لها سوى إذلال السوريين وإدامة نهبهم.

لقد أدى خلق الأسد لمؤسسات دولته السلطوية (المخابرات، الجيش العقائدي، مؤسسة الرئاسة) إلى جانب مؤسسات الدولة السورية إلى تفتيت وحدة السوريين وتحويلهم من شعب واحد يخضع لحكم مؤسسات دولة واحدة، إلى شعب يخضع لحكم مؤسستين ودولتين، واحدة قوية وسيدة وأخرى ضعيفة وعاجزة. الأمر الذي جعل من كل حراك للتخلص من دولة الاستبداد الأسدي وصفة سحرية للحرب الأهلية، وحالة من حالات الاحتراب الأهلي، التي لن تبق ولا تذر أي من الجماعات الاهلية المتنازعة (الطوائف)، بدلًا من أن يكون مدخلًا لاستعادة السوريين وحدتهم والخلاص من حالة التسلط التي أوجدتها الأسدية بين ظهرانيهم.

لقد كان حراك السوريين السلمي للخلاص من دولة الأسد الاستبدادية أشبه بالمغامرة المحكومة بالفشل، فمن جهة ترك المحتجون السلميون بلا غطاء وطني من بقية الجماعات الأهلية أو الطوائف التي إما وقفت على الحياد، وإما أصرت على التحالف مع السلطة وعصبتها الأهلية، ومن جهة أخرى فشلوا في تحييد مؤسسات الدولة الأسدية ( الجيش العقائدي، المخابرات) بسبب طابعها اللاوطني المرتبط بالذات الرئاسية، الأمر الذي اضطرهم للدفاع عن أنفسهم في وجه آلتها الجهمنية عبر اللجوء إلى حمل السلاح، الذي بدل أن يوحد المتضررين من نظام الأسد شتتهم، وجعلهم يضعون توجهاتهم الايدلوجية ذات البعد الديني محل توجهات الناس الديمقراطية.

لقد جوبهت سردية الثورة منذ نشوئها بنوعين من القراءات؛ واحدة عدمية تنفي حدوثها من الأصل وأخرى تشترط ربطها بالإنجاز، أما العدمية فقد ارتبطت بالسلطة الأسدية التي لم تر فيها سوى حالة من حالات الإرهاب الكلي والمؤامرة الكونية، أما تلك التي أصرت على ربطها بالانجاز فلم تقبل بثوريتها إلا إذا نجحت في إسقاط النظام ومن ثم مباشرة مهام التحول الديمقراطي. كل ذلك دون الالتفات لحقيقة أن الثورة تظل ثورة حتى لو فشلت في تحقيق كلا الاستحقاقين. فالأصل في الثورة ليس نجاحها أو فشلها، بل في خروج الناس للمطالبة بحقوقهم خارج مؤسسات النظام القائمة.

لقد أثبتت الثورة السورية أن ثمة مسافة ضوئية في تصور الجماعات الثورية المسلحة لها وبين تصور النخب التي تصدت لقيادتها. ففي حين لم تكن الثورة في ذهن الجماعات الدينية المسلحة، أكثر من إسقاط دولة الأسد وعصبيتها الأهلية والحلول محلها كعصبية جديدة، قوامها نوع من الحكومة الدينية ذات العدالة المتوهمة، التي لا تفعل شيئًا سوى نقل علاقات التبعية والخضوع والطاعة من السلطات الأسدية إلى سلطات إمارات الأمر الواقع. بدا تصور الثورة لدى بعض النخب الديمقراطية كعملية بسط كبيرة، عودة إلى أصل ما هو الكائن الفرد، الذي تحول في عهد السلطة الأسدية إلى مجرد فرد تابع مسلوب الإرادة والحرية، فكان لا بد من الارتقاء به إلى حالة الفرد المواطن، المتعين وفق مفهومي المساواة والحرية، فبدون مساواة لا توجد عملية ديمقراطية تضمن حقوق الجميع على نحو عادل، وبدون حرية لا وجود لصاحب الحق، الذي يستطيع تقرير مصيره بنفسه عن طريق مشاركته في مؤسسات الدولة، التي من واجبها إدارة شؤون الناس العامة على نحو عقلاني وصائب.

إن فشل الثورة السورية في إسقاط النظام، كما فشلها في خلق نواة أي حكم ديمقراطي في المناطق التي تم تحريرها من سلطة الدولة الأسدية، يجب أن لا يحجب عنا الحقيقة البسيطة، التي خلقتها لناحية وعي الناس بحقيقة أنفسهم كأفراد أحرار في طور التحول إلى مواطنين، كما وعيهم لحقيقة مستقبلهم كأفراد في أمة سياسية لا يمكن أن توجد وتتشكل إلا في إطار دولة تقوم على مبدأي الحق والقانون. ومن هنا فإن الذكرى العاشرة للثورة السورية ليست وقفة لجلد الذات والتعريض بها، بل محطة للتأمل في أوجه العطب والقصور التي حال بينها وبين الخلاص من دولة الاستبداد، وصولًا إلى دولة المواطنين الأحرار.

الترا صوت

————————————

ثورة الرُّعب المصوَّر/ وائل سالم

مرت الآن عشر سنين ويزداد النظر للخلف ثِقَلاً. من بين كل الصور التي ظهرت في السنوات العشر الماضية، ظلت صورة الجسد السوري الميت حاضرة بكل ثقلها؛ صور الدماء والأجساد والأشلاء، صور الأجساد المعذبة والأهل والأصدقاء المنكوبون. تخرج للعلن دوماً صور جديدة للحظات قديمة تعيد فتح نقاشات سابقة، فتبدو العودة للصور ومحاولة التعمق فيها رغم كل قسوتها هي واحدة من آليات التعامل مع هول ما حدث.

نعي طبعاً أن هنالك زوايا مختلفة ومتعددة للحديث عن صورة الجسد السوري، ونختار في هذه المقالة أن نتطرق إلى نظرية التلقي، وعبر هذا الخط نبحث عن قدرة الصورة في التأثير وفاعليتها في إحداث تغيير، وربما يمكننا الإضاءة هنا على حدث وثيق الصلة بموضوعنا وهو مجموعة صور قيصر، فقد استطاعت هذه الصور انتزاع اعتراف رسمي عالمي بمدى قسوة ومباشرة حضور الجسد السوري كضحية للنظام، بالتالي لم يكن من الممكن غض النظر عنها، ربما بسبب روتينيتها وترتيبها الوحشيين، واللذين ربما ذكّرا أو أعادا للذهن صور الهولوكوست وضحايا الإبادة النازية مع إدراك الاختلاف الكبير بين السياقين بالطبع. أما بعيداً عن صور قيصر، فسنجد أن من الإشكالي الحديث عن أثر الصورة القادمة من سوريا، لأسباب متشابكة نحاول هنا تَلَمُّسها أو الإحاطة بها.

تاريخ التصوير كمرافق أساسي للحروب

خلّف انتشار صور الأشلاء والموت بمختلف أشكاله حالة من الإشباع لدى من رأوها. تعود بعض أسباب هذا الإشباع إلى الإغراق البصري الهائل الذي نعيشه اليوم، فقد أصبح للموت بسبب العنف المسلح والحرب صورة واضحة في مخيلتنا. كل شيء مباح، وبضع ضغطات فقط هي ما يبعدنا عن رؤية أبشع ما يمكن للبشر فعله.

تاريخياً، تعود أولى صور الحرب إلى عام 1847، عندما التقط مصور أمريكي غير معروف سلسلة من الصور التي تصور مشاهد من الحرب المكسيكية الأمريكية في سالتيلو المكسيك. سرعان ما تغيرت الأمور من تلك اللحظة، مع إدراك أهمية وقع الصورة وإمكانات استخدامها في الصحافة والسياسة. وهكذا بدأت تنشأ مجموعة من الأخلاقيات والقواعد والأعراف التي تحاول تنظيم عملية تصوير الحرب وشناعتها، وبرز حينها السؤال الدائم: ما الذي يجوز تصويره، ومن ثم عرضه، وما الذي لا يجوز؟

وعليه، حاربت الصورة الصحفية التي تصور أهوال الحرب مطولاً لتخرج للعلن. كان هنالك تخوف دائم من نشر صور واضحة وحقيقية عن بشاعة الحروب. في عام 1924، نشر الناشط الألماني المناهض للحرب إرنست فريدريش كتاباً صادماً حينها بعنوان الحرب ضد الحرب. عرض هذا الكتاب مجموعة كبيرة من الصور التي تُظهر واقع الحرب العالمية الأولى، أشهرها كانت مجموعة صور تعرض حالات تَشَوُّه الوجه التي عاناها الجنود الباقون على قيد الحياة بعد الحرب.

مع الإيمان بضرورة عرض شناعة الحرب كواجب أخلاقي للحّد من الحرب أو إيقافها، أو كضرورة لمصداقية العمل الصحفي، كافح الكثيرون لعرض تلك الصور عبر الصحف والمجلات، ولاحقاً عبر التلفاز، وأشهر هذه الصور التي خرجت عن المألوف أو العرف في تقديم صور الحرب واستطاعت تحريك مشاعر الناس المختلفة كانت صور الجسد البشري في الحرب. تقول هذه الفكرة الكثير حول التماهي مع الضحية الذي قدّمته تلك الصور، حين نقلت الصور مركز الثقل من شعارات لا يمكن تصويرها حول الواجب والوطن وغيرها من مبررات الحروب منذ الأزل، إلى الجسد الحي في خضم هذه الحروب.

صورة الجسد الميت في الحرب كأداة

تِباعاً، تضخمت قيمة الصورة، وأصبح فريق التصوير ملازماً لطاقم الحرب في القرن العشرين، وربما أغلبنا ما زال يذكر أثر صور غزو العراق في التسعينات والإغراق الذي بذله الإعلام ليواكب الحرب بأكثر الطرق دعائيةً، وكيف تحولت الصورة إلى قوة قادرة على تكذيب خطاب أي مؤسسة عسكرية مهما كان ثقلها، وكيف وجهت أنظار المؤسسات والدول إلى أن احتكار الصورة هو نصر جزئي في حرب،

وربما أهم ما يدعم حديثنا حدثان: الأول منع كل التغطية الإعلامية البريطانية لحرب الفوكلاند عام 1982 بين بريطانيا والأرجنتين، واقتصارها على صحفيَّين فقط، وبالطبع كل الصور التي خرجت من هذه الحرب كانت تخضع لموافقة المؤسسة العسكرية البريطانية؛ والحدث الثاني هو منع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب نشر أي صور حول أكفان الجنود الأمريكين العائدين من حرب الخليج الثانية 1991، وذلك لمنع حضور كلفة الحرب البشرية على ساحة النقاش، واقتصار التغطية الصحفية على صور موافق عليها من المؤسسة العسكرية رغم التغطية الهائلة التي حصلت عليها هذه الحرب.

هذا النوع من التغطية الصحفية، الذي صار يعرف بالتغطية الصحفية المُضَمَنة (embedded journalism)، حيث يرافق الفريق الصحفي القوات العسكرية ويحصل على الحماية بشرط الحصول على الموافقة قبل نشر أي صور وفيديوهات، هذا النوع من التغطية أصبح هو المعتاد، وما يخالفه أصبح هو القليل.

صار الحديث متشعباً عن أخلاقيات حضور الجسد-الضحية في الصورة، وما هو الوازع الأخلاقي للمصور، وكيف تُنقل الحرب خاصة إذا كانت في مكان بعيد عن المتلقين. بالتالي، خلقت كل تلك النقاشات ساحة للتفكير في المعنى خلف الصورة، خاصة إذا كان المصور أجنبياً ويوثّق ما هو بعيد عنه تماماً، وقد لخصت سارة سنتيليس في مقالة لها فكرة أن «تصوير تذكارات الحرب – ممارسة التقاط صور للعدو الميت وإحضار تلك الصور إلى المنزل مثل الهدايا التذكارية – يجعل كل الصور التي تم التقاطها في الصراع العسكري موضع شك».

هنالك الكثير مما يُقال ويُبحَث في سؤال أخلاقيات الصورة القادمة من الحرب، وهو نقاش متعدد الجوانب، ففي لحظة، يبدو أن الأسئلة التي تخوض في أخلاقيات التصوير الصحفي في الحرب تنقسم لعدة محاور: من الفاعل، أي من يصوِّر؟ ومن المفعول به، أي من يُصوَّر؟ وأين هي الصورة؟ وكيف تظهر؟ وكيف يتلقى المتلقي هذه الصور؟ وما هي الحساسيات التي تُعنى بها هذه الصور؟

ما يهمنا نحن من كل هذا النقاش هو التباين في الشروط التي تُعرض فيها صور الأجساد الميتة القادمة من الشرق الأوسط، أو أفريقيا أو أفغانستان أو غيرها من دول المستعمرات السابقة، مقارنة مع تلك التي تُصوِّر ضحايا الإرهاب أو العنف المسلح ضمن أوروبا أو أميركا مثلاً. وهذا التباين يودي إلى تباين في تلقي الصور وتأثيرها وفاعليتها. هذا ما ناقشته الكاتبة والفيلسوفة سوزان سونتاج في كتابها بخصوص ألم الآخرين فقد اعتبرت أنه كلما كان المكان أبعد، وكلما كان إكزوتيكياً أكثر، أصبح عرض الصور القادمة منه بشكل مباح كلياً أسهل، يستطيع معها المشاهد الغربي مشاهدة كل تفاصيل الموت والأشلاء والدماء، لتكون هذه الصور تابعة لنفس آليات الآخَريّة (أو صنع الآخر) والعنصرية وعلاقات القوة المختلفة التي تزيد التعقيد الأخلاقي المرتبط فيها.

الثورة السورية والإنترنت والمواطن الصحفي

تزامن الربيع العربي مع لحظات تقنية فارقة، منها الانفجار العالمي لوسائل التواصل الاجتماعي، وازدياد انتشار الأجهزة المحمولة القادرة على التصوير والوصول للإنترنت، مما ساعد على التوثيق والتصوير، وقدّم بدائل لكل الوسائل الإعلامية التقليدية، وخلق إمكانية حضور «المواطن الصحفي» بكل ثقلها، خاصة في بلاد محكومة بنظام قمعي مُسيطِر على كل مرافق الحياة مثل سوريا.

في تلك اللحظة، ومع دخول المواطن الصحفي – الذي جمع بين الفاعل والمفعول به – الساحة الإعلامية، نشأت طبقة جديدة من المعنى للصورة الملتقطة، حيث تركب سؤال من يُصوِّر مع سؤال من يُصوَّر، وتشابه السؤالان، وبذلك دخل مستوى جديد لتعقيدات الأخلاقيات المتعلقة بها. استطاع ذلك بالطبع تقديم مواكبة مباشرة للثورة عبر مئات آلاف الصور والفيديوهات والبث المباشر، وبات واضحاً لنا أن صور السوريين تخترق الفضاء الافتراضي؛ صور تُجَسِّد رحلة شعب من لحظة المظاهرات الأولى والأغاني والهتافات، والقدرة غير المسبوقة على التجمع السياسي، إلى القصف والقتل والدمار، إلى التهجير والنزوح.

أثناء البحث المرافق لكتابة هذه المقالة، ومن بين الكتابات والأصوات المختلفة لمفكرين ومصورين عن أخلاقيات وأسئلة التصوير الصحفي في مناطق النزاع المسلَّح والحرب، يستوقفنا تصريح الصحفي بول ماسون في صحيفة الغارديان البريطانية عام 2014، الذي عبّر عن عدم موافقته أخلاقياً على تصوير آثار الحرب الأكثر بشاعة، فهو لا يرى أن تصوير الحرب يوقف الحرب.

ربما لم تَقدِر كل الصور والتوثيقات لما حدث ويحدث في سوريا على منع استمرار عنف النظام، ولاحقاً عنف الميليشيات والفصائل المسلحة الإسلامية. لكنْ هناك اختلاف أساسي يجب عدم نسيانه، وهو أن أغلب من كتب عن رسالة الصورة الصحفية في الحرب وأثرها كنّ أشخاصاً بعيدين عن الحدث نفسه، أو تواجدن كزوار يرحلن مع انتهاء عملهن. ورغم أهمية دورهن إلا أن تلك الحالة تفترض وجود امتياز القدرة على المغادرة والنجاة والنظر من مسافة بعيدة لكل ما حصل ويحصل؛ امتياز هو القدرة على النظر للصورة كمُشاهِدة خارجية ممتلكة لكل الخيار بأن تكون أو لا تكون معنية.

الصورة في حالة الثورة السورية وما تلاها كانت في كثير من الأحوال أداة وحيدة للمقاومة والبحث عن العدالة، قبل أن تكون «وثيقة»، وضمن رغبة الصحفيين.ات كانت تسعى بشكل أساسي للتحكم بالسردية وحمايتها من ماكينة النظام وحلفائه على الصعيدَين العسكري والإعلامي. ورغم الرغبة الكبيرة بأن تصل الصورة للكثيرين، وأن تحقق أثراً ما، كانت الصورة لأصحابها فعل مقاومة بحد ذاتها؛ فعل بقاء واضح، بينما المتلقي والتأثير عليه نتيجة جانبية لا الهدف الأساسي بالضرورة.

هل تُوْقف صور الضحايا الحرب؟

دائماً ومع مثل هذه الأسئلة عن القيمة الأخلاقية للصور القادمة من مناطق الحرب، تظهر لنا صورة إعدام في سايغون على أنها مثال الصورة التي شاركت في إنهاء الحرب في فيتنام؛ صورة كُرِّست لفترة طويلة على أنها صورة بشاعة الحرب، وربحت جائزة بولتزر سنة 1969. إلا أننا في لحظة زمنية بعيدة جداً عن ذلك الوقت كما يبدو، ولا بد من ربط السؤال من جديد بسياقنا، فهو سؤال مهم ومؤثر في متن الحديث عن الثورة السورية، وعن الصور التي ترافقت مع صيرورتها المستمرة.

الخوض في نقاش التلقي هنا لا يدّعي التأثير لدى المتلقي كمطلب يشابه الاعتراف الذي يحكمنا بعلاقتنا مع الغرب البعيد عن سياقاتنا، وإنما ينبع بشكل أساسي من فهمنا لمعايير القوى الدولية وأقطاب الثقل العالمي. بالتالي، فإن البحث عن أثر لهذه الصورة يصطدم كما تقول الفيلسوفة جوديث بتلر بقدرة الناظر على سحب الإنسانية من «الآخر» المعروض الصورة، بالتالي التعاطف أو التواصل معها. بينما تشرح الفيلسوفة سوزان سونتاج لماذا يحدث ذلك، حيث تقول إن محاصرتنا بالكم الهائل من الصور العنيفة يحملنا على التذبذب في الأحكام الأخلاقية الواضحة للصورة، بل تجعل هذه الصور في حكم الكليشيه والمكرر.

سونتاج ترى أن هذه الصور للغرب تحمل رسالة مزدوجة: من جهة تُظهر معاناة شائنة وظالمة ويجب إصلاحها، ومن جهة أخرى تُظهر أن مثل هذا العنف أو هذه الحروب لا تحدث إلا في البلاد الفقيرة المتخلفة، وليس لدينا نحن في البلاد المتحضرة. ويمكننا فهم ذلك كله من تقاطع عدة عوامل على الصورة، عن لون بشرة الضحايا، جنسهن، عرقهن، والفاعل الذي أدى إلى هذا العنف.

كل هذه العوامل تزيد سحب الإنسانية من الأشخاص الذين تعرضهن الصور، وتقلل قدرة المشاهدين في الغرب على التواصل معها، حيث تُقدِّم صورة تُوافق توقعاتهم عن تلك الأماكن وما يحدث فيها، مما يجعلها معتادة ولا تستحق الاهتمام. في ذات الوقت، ومن تلك التقاطعات كلها ربما، يمكننا فهم انتشار وتأثير العديد من الصور التي أصدرتها داعش. ففي أغلب تلك الصور التي انتشرت بشكل كبير وحققت رواجاً عالمياً، كانت الضحية بيضاء غربية؛ الضحية الممتلكة لكل عناصر الإنسانية والمستغرب وجودها ضمن هكذا سياق، أما الفاعل في تلك الصورة فيماثل كلياً النمطية العنصرية المفترضة حول المتدينين الإسلاميين وهمجيتهم.

ربما لا تستطيع صور الضحايا اليوم الوصول بشكل سهل في عالم مُشبَع بصرياً ومن ثم تحقيق أثر ما، لكن هذا الأمر مرتبط بشكل كبير بالضحية التي تعرضها الصورة. فبالتأكيد، ليست كل ضحايا العنف المسلح سواسية، رغم التبجُّح الدائم بهذا ضمن كل اجتماع دولي. نحن نعيش ضمن منظومة معقدة لعلاقات القوة، لها تاريخها الطويل الذي ما زال يلعب دوراً كبيراً في تحديد قيمة ذلك «الآخر» بالنسبة للمنظومة. الأكثر أسفاً في واقع الحال هذا أن الصور التي قاوم بها الشعب السوري الظلم الذي طاله، هي نفسها التي تُستعمَل لتؤكد آخريّة الجسد/الفرد السوري؛ الآخر البعيد، الأقل إنسانيةً بالنسبة للمتلقين الغربيين، بدل أن تساعد تلك الصور في تحرُّره أو إضفاء المزيد من الإنسانية عليه.

الصور تحمل الكثير من المعاني المكنونة فيها، بالإضافة لتلك التي نُحملّها نحن إياها. ليس بالضرورة أن يرى كل شخصين نفس الشيء في ذات الصورة. لعل خصوصيتها تتمثل في أن ما تبقى لدينا اليوم من كثير من أحبائنا هو صورهم فقط، وذكريات بعيدة أصبحت بشكل أو آخر غريبة عنا رغم أُلفتها، بل حتى تكاد تكون من حياة أخرى. النظر إلى الخلف أمر صعب؛ نحن نحمل مخزون صور هائلاً عن الفرح والحزن والهموم والانكسارات والهزائم، ونحاول دوماً أن نتعامل معه. إلا أنه لا بد أن ندافع عن هذه الصورة؛ أن نجعلها حاضرة؛ أن تكون هي الصورة البديلة لكل دعايات النظام؛ أن تصبح قادرة على التمايز، وأن تُرى كما هي، على حقيقتها الموجعة، وبما تخفيه من آلام شعب كامل. علينا النظر وعدم إغلاق أعيُننا، وعلينا جعل الجميع ينظر بحق أيضاً.

موقع الجمهورية

————————–

تجديد المطالبة بالبديهي/ مصطفى أبو شمس

في مظاهرات الذكرى العاشرة للثورة السورية التي انطلقت في مناطق عديدة من البلد، يمكن أن تلفت الانتباه مشاهد عديدة، وإن اختلفت في مكانتها ومعناها من شخص إلى آخر. أهمها كان حضور علم الثورة وحده تقريباً، وغياب ما اعتدنا رؤيته من أعلام أخرى كثيرة كانت تُرافق المظاهرات في السنتين الأخيرتين. وكذلك تجدُّد الثورة التي لم تَخْبُ في درعا، رغم القبضة الأمنية، في استذكار للأشهر الأولى من العام 2011، وما رافق هذه المظاهرات من تجديد للفرح والأمل في نفوس السوريين في كل مكان. لكن ما لفت نظري شخصياً، كان رفْع صورة عبد العزيز الخيّر من قبل سيدة في إدلب، ووجود علم الثورة – وحده – في دوار المحراب في المدينة.

أعادني المشهدان إلى أول سنتين من عِقد الثورة تقريباً، حين كان التعبير والنقاش مباحاً في مختلف الأماكن والمساحات الجديدة التي أنتجتها الثورة، والذي ربما رافقه خلاف واحتكاكات أحياناً، لكنه لم يصل وقتها إلى تكميم الأفواه أو اعتقال أصحابها، خلافاً لما ستشهده السنوات التالية. بالنسبة لي، كان مشهد صورة عبد العزيز الخيّر يفرض التفكير مجدداً في سوريتنا كـ«وطن» للجميع، دون التوقف عند خلفيات الأشخاص ومناطقهم وآرائهم. والمشهد كلّه كان يُعيد مجدَّداً طرح السؤال الذي يؤرق كثيراً من السوريين حول أمنياتهم وطموحاتهم الملتصقة بثورتهم، فيركَنون إلى إجابة واحدة واضحة تختصر ما مروا به وما يريدونه ربما، أو لعلّهم يلجأون إليها في غياب مفردات أكثر دقة، إذ يكون الجواب غالباً مقتصراً على مفردتَي «الحرية والكرامة».

لكن مع مرور العقد الأول من الثورة السورية وما تكبده أصحابها من أكلاف تفوق قدرتهم، لا يمكن الاكتفاء بهذَين المفهومين أثناء محاولة الاستدلال على نجاح الثورة أو عدم نجاحها، وفيما إن كنا على الطريق الصحيح أم أننا فشلنا وهُزِمنا ضمن واقع من التفكك والخسارات المتلاحقة، التي زرعت في نفوس كثير من المؤيدين للثورة إحساساً باليأس أو عدم الجدوى، يُرافقه شعور آخر بالرغبة بالخلاص، والأهم من ذلك غياب مؤسسات أو شخصيات يلتفّ حولها الناس، وتُعطيهم صورة عمّا يمكن أن يكون في قادمهم: شكل الحكم، النظام السياسي والانتقال إليه، ضمان الحقوق، المحاسبة والعدالة، قانون الدولة، والتي يمكن جمعها معاً ضمن عبارة واحدة: «ما هو شكل الوطن وكيف يمكن أن يكون؟ مع خطوات عملية لإمكانية التطبيق».

أذكر هنا نقاشات عديدة صبغت المراحل الأولى من عمر الثورة السورية، وكيف تعدّى النقاش أحياناً مطالب «الحرية والكرامة» إلى الحديث عن شكل الحكم في سوريا، عن سوريا ديمقراطية، عن ضمانة الحقوق والمساءلة، ومطالبة البعض بسوريا مدنية، أو علمانية، أو إسلامية سنيّة، دون أن يتطور هذا الخلاف فوراً إلى «تخوين ومطالبات بالقتل»، وإن وجدت مطالبات أو توجهات كهذه، فإنها كانت دون القدرة على التنفيذ الفعلي، لعدم وجود آذان صاغية وللاتفاق العام على الدفاع عن الحرية التي تحقّقت على يد عدد كبير من الرجال والنساء الثوريين الذين كانوا يقودون الدفة. ونتيجة ذلك، كثيراً ما خرجت مظاهرات وأُقيمت اعتصامات للدفاع عن شخص تم اعتقاله من قبل فصيل عسكري، ورُفعت لافتات مندِّدة بهذا الفصيل أو ذاك أو هذه الجهة أو تلك، وتدخَّل أشخاص لا يملكون قوة عسكرية، لكن سلاحهم كان الكلمات والشارع، وغالباً ما كانوا ينجحون في فرض قوانين غير مكتوبة أنتجتْها الثورة.

لكن الحرية ليست هدفاً نهائياً بحد ذاته لأي حراك أو ثورة، ولا يمكن أن تكون، ذلك أن الحرية حق طبيعي لجميع البشر، وهو ما ينسحب أيضاً على مفهوم الكرامة، ويشكل المفهومان معاً جوهر حياة الإنسان وحقوقه الأساسية في المساواة والقدرة على التعبير. ولهذا فإن السعي لامتلاك الحرية والكرامة ليس نضالاً يجب علينا الاستمرار به والتأكيد عليه في كل مناسبة، بل إن الهدف النهائي هو أن تُغنينا عن التفكير به بديهيةُ وجودِه أصلاً. لكن الظروف التي عشناها تحت حكم النظام قبل الثورة جعلت من هذا البديهي هدفاً، وحوّلت الحصول عليه إلى أمنية بفعل القبضة الأمنية وعهود الظلم والقهر والسجون. غير أن اللحظة الأولى التي خرج فيها سوريون مناهضون للنظام بأصواتهم إلى الساحات حقّقت هذا الغرض، بمعنى أنها أعادت للبديهي وجوده في حياتنا اليومية، وكسرت حاجزاً كان يبدو أنه لا يمكن العودة إليه والدوران في فلكه من جديد، هو حاجز الخوف الذي تم تحطيمه باللافتات المرفوعة، الكتابة على الجدران، تحطيم تماثيل الأبد، الكتابة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي فرضت شكلاً جديداً أَلِفه السوريون من التوثيق والتعبير، والوعي السياسي المضاد لـ«المنطلقات النظرية» التي عشّشت في رؤوسنا خلال سنوات دراستنا وعملنا وحياتنا العامة.

لقد كلّفَ إسقاط حاجز الخوف كثيراً من البسالة والدم والدمار، وتُظهر الأرقام والإحصائيات هذه الأكلاف الباهظة. وقد كانت المسؤولية مضاعَفة على الثائرين، الذين قدّموا أنفسهم كمدافعِين عن الحقَّين الطبيعيَّين في الحرية والكرامة، فقد وقعت عليهم مسؤولية إيجاد خيط يربط بين ما تم تحقيقه على الصعيد النفسي وبين ما يجب أن يكون على أرض الواقع في الأيام القادمة. هكذا برزت أشكال من الإدارات، كالمجالس المحلية ومجالس الأحياء والمديريات والتجمعات، كنواة لشكل جديد من المأسسة التي كان مطلوباً منها البدء في حلّ المشكلات اليومية العالقة. لكن ذلك لم يُفلح في الكثير من الأحيان لأسباب كثيرة، أهمها الزمن الطويل للثورة السورية والتدخلات الخارجية التي أبقت على النظام قائماً وحمت أركانه، واليأس الذي صاحب عدداً من الناشطين الفاعلين، اللجوء والنزوح، وتراجع دور الجيش الحر لصالح فصائل أخرى بأجندات مغايرة.

في هذه الظروف القاسية، تم التركيز على هذَين المفهومين العريضين، الحرية والكرامة، باعتبار أن تحقيقهما يمهّد لما يمكن أن يأتي بعدهما في مراحل لاحقة، وتم تأجيل نقاش مفاهيم أخرى لا تقل أهمية، فيما كان الانقسام بين التيارات والتوجهات السياسية يتعزز، وتتعزز التبعية لدول خارجية مارستْ سلطتها وأجندتها كسيدة على قرار السوريين. هنا راح السوريون جميعاً يستسلمون لافتراض عدم قدرتهم على إيجاد الحل بأنفسهم، ويركَنون إلى القرارات والسياسات الدولية والإقليمية.

كذلك كان الوصول إلى الحرية والكرامة في أول الثورة مرهوناً بسقوط رأس النظام، المحمي جيداً من دول لا تريد له أن يسقط، والذي التفّت حوله قطاعات لا بأس بها من السوريين. وكان الرأي الأكثر شيوعاً وقتها أنه بسقوطه ستتفرق السبحة المحيطة به، لكن الدائرة اتسعت فيما بعد إلى وجوب اجتثاث النظام ككل، كخطوة أولى لتحقيق ما عولت عليه الثورة في بناء الديمقراطية، ومن ثم «الوطن». ومع الدعم، غير المتناهي، للنظام ككل، ولرأسه بشكل خاص، تأجلت جميع هذه الخطوات، وبدأت تفقد وهجها. ثم مع خسارة حلب وما تلاها من خسارات و«مصالحات» في مناطق سورية عديدة، وما رافقهما من تدمير للبنى التحتية وزيادة في أعداد الشهداء واللاجئين والنازحين الذين يعيشون ظروفاً قاسية، بدأ كثيرون داخل البلد وخارجه بالابتعاد شيئاً فشيئاً عن ما يحدث في كواليس السياسة، وفقدوا إيمانهم بأي جسم سياسي أو منصة أو حتى رابطة أو اتحاد، وفقدوا الإحساس بجدوى الملاحقات القضائية والتقارير الأممية وإثبات انتهاكات حقوق الإنسان.

بعد عشر سنوات من الثورة، يعيش السوريون جميعاً دون مؤسسات سياسية يتدخلون في اختيارها ويدافعون عن حقهم في تغييرها أو إصلاحها. في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في إدلب وريف حلب، على سبيل المثال، هناك حكومتان مستقلتان عن بعضهما، تعمل كل منهما بعيدة عن الأخرى، وتفرض قوانينها دون وجود أنظمة داخلية تحكم هذه القرارات وتحدد معايير لمحاسبة من اتخذوها، ودون أن تنبثق أي منهما عن مجلس نيابي منتخب أو تكتلات شعبية تمثيلية. كذلك تعملان دون قرار مستقلّ، ودون أن تُستشار أي منهما في الحل السياسي أو شكل الدولة ونظامها، ودون تدخّل أي منهما في المفاوضات أو المعارك العسكرية ومسارها، ودون تمويل أو سيطرة على الخدمات العامة، ودون قدرة على تنظيم الحياة العامة أو متابعتها. تتبع كل منهما لفصيل عسكري أو قرار خارجي يُملي عليها ما يجب أن تكونه وتفعله، دون حق الاعتراض أو القدرة على حماية مواطنيها ومساندتهم في أبسط حقوقهم.

كذلك لم تشهد هذه المناطق سوى محاولات خجولة لتطبيق الانتخابات في بعض المجالس المحلية، بدلاً من التزكية والمحاصصات العائلية. وقد كانت الانتخابات شفّافة ومُرْضية عند إجرائها، لكن هذه المجالس بقيت ضعيفة في ظل سطوة سلطات الأمر الواقع من جهة، وعدم توفر الإمكانيات لحل المشكلات الحياتية للسكان من جهة ثانية. كذلك ظهرت روابط واتحادات كثيرة متفرقة، لكنها لم تستطع توحيد جهودها ولا حتى حماية المنتسبين لها.

بموازاة هذه التشكيلات السياسية الواهنة، يبرز دور هيئة تحرير الشام في إدلب كقوة أمر واقع تسيطر على مقدرات الأمور، ويقف في وجهها نشطاء تُركِت لهم مهمة الحفاظ على مكسب «الحرية والكرامة» الذي ندور في فلكه منذ بداية الثورة. فيما يبرز دور تركيا في المناطق التي تسيطر عليها فصائل تابعة لها، حيث يُدير وُلاة معيَّنون من قِبَلها كل شيء، ومقابل ذلك يفرضون تكميماً للأفواه بشأن كل ما يتعلق بهذه المناطق وشكل الحكم والإدارة فيها.

هناك أمثلة كثيرة يمكن لأي متابع للحياة العامة في الداخل السوري الوصول إليها دون جهد يُذكر. يكفي أن تسأل أي شخص ليُجيبك بما تريد معرفته. معظم المحاولات لإيجاد شيء من «الحرية» كما أُنجزت في العام 2011 تبوء بالفشل اليوم. يتم اعتقال الناشطين، أو حتى من يعبر عن رأيه في فيسبوك أحياناً، ويتم فرض التوقيع على تعهدات بعدم الإدلاء بأي تصريحات صحفية على الموظفين في المناطق الخاضعة لتركيا، ويتم فصل من يتظاهر أو يطالب سلمياً بحق من حقوقه من العمل. يتعدى الأمر ذلك إلى وجود معتقلين في السجون دون معرفة مصيرهم ودون ضمان حرية السؤال عنهم وضمان عدم تعذيبهم، وإلى محاسبة أي منتقِد لقائد فصيل عسكري هنا وهناك، وتقطيع الأوصال بين المناطق المتجاورة، ونصب الحواجز وفرض الإتاوات والتعدي على الأملاك، وإلى آخر القائمة.

وطبعاً، ليس القصد أنه يمكن إنتاج ديمقراطية متماسكة وسط كل هذا الهُدام والظروف الصعبة، لكن ما يبدو واضحاً اليوم هو أن الديمقراطية لم يكن متوافَقاً عليها وعلى معناها وشكلها بين الجميع. الوقوف عند مفهومي الحرية والكرامة، وعدم تجاوزهما إلى ما يليهما، هو ما شكَّلَ هذا الخلط بين البُعد الأخلاقي للثورة، الذي كان عماده هذين المفهومين، وبين الديمقراطية والبدء في البناء، إذ لا يمكن للبعد الأخلاقي وحده أن يكون ضامناً لشكل الوطن والمواطنة. ونتحمل هنا جميعنا، في الذكرى العاشرة لقيام الثورة السورية، المسؤولية عن التقاط الفرصة التي أتيحت لنا، أو تبديدها والعودة مجدداً إلى المطالبة بما يجب أن يكون بديهياً.

موقع الجمهورية

————————

عن البلاد التي تُسمّى أنا/ عبد الحميد يوسف

لا تتعدد داخل نفسك.

«لا توجد سوريا التي فَكَّرتَ فيها إلا في الهتافات، التي مازلتَ عالقاً داخل ساحاتها وأصواتها ودموع الصاخبين بها»، أجيبُ نفسي عن سؤال «البلاد»، وعن سؤال لماذا أستخدم هذه الكلمة في التعبير عن سوريا.

في القطعة التي أعيش فيها من البلاد، تعود ذكرى الثورة وقد أكملَتِ العاشرة من سنين ولادتها. هنا لا احتفال ولا ذكرى، ولا مشاهد غير اعتيادية، إلا مشاهد الانهيار البطيء الواضح لقاتلي الثورة وخصومها. قد ينفعك المشهد لو أن الحقد خيار مُشرَع للقصاص، أو لو أن الانهيار يطال بآثاره قتلة الثورة وحدهم. هنا تسقط دولة الأسد ببطء شديد، ويسقط معها موالوها، أو يسقطون قبلها ببطء، تخنقهم أيديهم التي امتدت إلى غيرهم ولا يستطيعون الفكاك منها. لا حقد هنا، فلم نعد نحن أنفسنا الذين كنا هناك في ساحات السنين الأولى، و«نا» الجماعة هنا تعود على حيواتي التي مرَّت وتعددتْ منذ عشر سنين حتى الآن. لقد وقعنا في أعمار متعددة لم تتصل بما سبقها، تتفق مع درجات الخِناق الذي أطبقه علينا النظام وأذرعه. لكننا – الحيوات الكثيرة – نلملم أنفسنا بانتظار القصاص المأمول.

لم نعرف معنى أن تكون سوريا وطناً أو بلاداً بالمفهوم السياسي والحقوقي للوطن والبلاد، ومن غير المختلَف عليه، كما أعتقد، أننا خرجنا ندافع عن أنفسنا في الثورة السورية، عن أماننا وحقنا في العيش بلا أفرع أمنية وبلا أب قائد؛ بلا آباء قادة. لكن الذاتية الفردية هذه أصبحت جمعية بشكل ملموس لا يُنسى في ساحات المظاهرات، أصبحت لـ«البلاد» ذاتية نُخرِجها وتُخرِجنا في الهتافات والصدح الصاخب الذي لم نكسب فيه سوى صراخنا.

وعلى مدى أكثر من سبع سنوات أخيرة مضت، أي منذ توهُّج السقوط ووضوحه في أذهاننا، تم تحويل بعضنا إلى شهود على الجريمة، وشهود على قتلنا المدوي في المذبحة السورية الكبيرة، المذبحة المركبة، المذبحة «فوق الجسدية»، التي استمرّت بهمّة يومية لا يستطيع أحد اللحاق بنزفها ولا الإحاطة بمحاولات تجاوزها اليومية، والتي كانت مختصرة لديّ بمشهد الوظيفة: وظيفة أربع مروحيات روسية تهدر صباحاً بمحاذاة كورنيش مدينة طرطوس، ثم «تُشرِّق» نحو مدينة حمص، وأنت تسير إلى عملك مُضافَاً إليه وظيفتان: محاولة معرفة وجهة الطائرات اليوم، مع مشاهد كثيرة في عقلك تتشابك كهاتفك المحمول حين يصيبه «التعليق» وتُجَنُّ في داخله الصور والملفات والمقالات والملاحظات، بطريقة تشبه ما تذكره اليوم من مشاهد نشرات الأخبار، وصور المدن والمراسلين في مناطق الثورة، وبشكل مركب من مشاهد اليوم السابق. لكل يوم حصته من الهول، وليس سهلاً أن تجمع الحصتين سوياً.

والوظيفة الثانية هي محاولة التغاضي عن رحلة المروحيات ومقاصدها، حتى تستطيع المتابعة والنجاة من الهيستيريا التي يُضاعفها عجزك عن تغيير توصيف سلامتك إلى إصابة مرضية.

تحاول الكتابة خارج الواقع؛ كتابة شيء ما بمجاز عالٍ. يُدهشك كم أصبحتَ جدياً في مناداة نفسك داخل النص، ويُدهشك كم يصعب عليك أن تعي هذا الواقع وهذا الكمّ من الأحداث؛ كم أصبح هذا الواقعي أشد خيالاً منك، ينافسك على نفسه، لأنك ببساطة في حديث عابر مع أصدقاء تقول: «ما تخيلت نوصل لهون»

«كيف يعني ما تخيلت؟!».

تُخاطِبُ الآخرين هنا في مدينتك في حوار مُتخيَّل، تخاطبهم دون أن يسمعوك، تُنشئ معهم حواراً عن الثورة والنظام لتُحذِّرَهم، وتقول إنك سبق وحذَّرتَ من أنهم مثل غيرهم سيدفعون ثمن بقاء الأفرع الأمنية ومؤسسيها، وأنهم سيُخوَّنون إذا ما طالبوا حتى برغيف خبز. حوار مُغرٍ، لو أنك تستطيع الصراخ فيه بصوت عالٍ.

هنا ولدتَ وكبرتَ، تحب البحر والكورنيش ووجوه الناس صباحاً وهم يحجّون إلى أعمالهم، بسطاء بلا أفكار جاهزة، بلا أب قائد، وانقسامات مواقفية. يُدهشك أنك حتى في هذه الحوار المونولوجي تختلفُ معهم. حين يُطالعك «بغل» ببدلة مموَّهة، وثياب غير مرتَّبة تعرف معانيها جيداً، تُكمل حوارك بعاطفة أقل، لكن رصيدك من الخيال يطردك خارج الكتابة والأفكار. تبدأ بالشتم بابتكار عالي المستوى، تتمنى لو أنك تستطيع امتلاكه في محاولاتك للكتابة. تعودُ إلى نفسك، تهجس كما كنت تهجس في 2011:

    أقيموا بني أمي صدور مطيّكم / فإنّي إلى قوم سواكم لأَميَلُ

تقاطع نفسك كالعادة: «لا تُغذِّ مظالمك أيها الأخرق».

إذن ما الذي تبقّى من البلاد؟ وما الذي تبقّى من صورتها في أذهاننا؟ دائماً ما يدفعني الفضول إلى منصة ويكيبيديا، ليس لمصداقيتها ودقتها، بل لاتخاذها تعريفاً عاماً وحكاية عامة عن الأشياء التي تَرِدُ فيها، وخصوصاً ما يتعلق بالشعوب التي ما زالت تتنازع على تاريخها ومعانيه. نتيجة آلية عملها، تميل المنصة إلى التعاريف الأكثر شيوعاً، وتعتمد بعض أشهرها مع روابط. وإذا كنا لم نتفق حتى الآن على تاريخنا، وحدوده وحدود ارتباطنا فيه، أو ما إذا كان يستحق الصراحة والبحث الجدي عن الحقائق، أم تكفيه صناديق الأَسطَرة المعبأ بها، فإن المنصة تشبهنا في تعاطيها مع المعاني والأحداث، وتعطينا كثيراً من الروايات عن الواقعة الواحدة. هكذا تُعرِّفُ المنصّة الثورة السورية:

    الحرب الأهلية السورية، وتسمّى أيضاً الأزمة السورية والحرب على سوريا (حسب الحكومة)، أو الثورة السورية (حسب المعارضة)؛ هي صراع مسلح داخلي متعدد الجوانب في سوريا منذ 2011، شاركت فيه عدّة أطراف دوليّة، يُخاض بالدرجة الأولى بين الحكومة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد، وقوات المعارضة المسلحة، إلى جانب الجماعات الإسلامية والتنظيمات المتشددة.

    نشأت الاضطرابات في سوريا، وهي جزء من موجة أوسع نطاقاً من احتجاجات الربيع العربي 2011، بسبب استياء شعبي من حكومة الأسد التي قامت بسجن مجموعة من الأطفال في مدينة درعا السورية، ورفْض طلب الأهالي بإطلاق سراحهم، مما أدى إلى خروج الأهالي بمظاهرة قوبلت بإطلاق نار من الجنود الحكوميين، وقد تصاعدت إلى نزاع مسلح بعد قيام قوات الأمن بقمع الاحتجاجات الداعية إلى إبعاد الأسد.

يفترض هذا التعريف جماهير مقسَّمة ينظر كل منها إلى الرواية من موقعه، أو يرى البلاد من موقعه، وهذا الافتراض حقيقي طالما أن هذه الجماهير المعنية موجودة، بغض النظر عن الأدوار الملعوبة من قبل الأطراف في الرواية. إذن، القاتل له وجهة نظر، تعطيه الحق في أفعاله ضمن إحدى صيغ الرواية.

وإذا ما ابتعدنا عن الحنين إلى السنوات الثلاث الأولى، حينَ الأحلامُ والعملُ عليها كان مشروعَ دولة بلا مستبدين، فالرواية الآن ليست واحدة، وهذا ينطبق على روايتنا بلا شك، فقد كان استهدافها كرواية أهم نقاط خطة الهجوم عند رافضيها ومُناوئيها. لكن الرواية، وعلى الدوام، بدأت من فم راوٍ: أين الرواي؟ ومن هي البلاد؟ البلاد هنا هي أنا: لكن ليست أنا كمفرد، هي أنا كُلِّ سوريّ، فلم يبقَ من البلاد إلا تلك البلاد التي ترسّبت هناك في زوايا الحنين؛ الحنين إلى اللُّقمة التي لم تصل إلى الفم.

كل «أنا» تُحاور نفسها بشأن ما حدث هي سوريا باقية تبحث لنفسها عن مبررات الاستمرار والعيش، كل «أنا» هي بلادنا المركبة من قصص مختلفة ومتفاوتة في نِسَبِ هذيانها ببقائها، كل «أنا» هي حماية شرسة لتلك الزاوية الباقية في القلب، المُصانة بحزن عظيم قاسٍ لا يسمح لأيّ فرح آنيّ أن يُغيِّب الصور والحكايات؛ الصور والحكايات التي أَقسمَ بلا قصد أن يحميها، وألّا يُدخِلها في عبث المُجدي والصواب السياسي، وألّا تأخذها فتنة المظلومية إلى أَسطَرة الجراح.

نحن هنا، نتكلم ونقول في كل ذكرى وكل يوم وكل غصّة، تُرافقنا البلاد في بقائنا وتدرُّجنا تحت لعنة موقعها الجغرافي، وتاريخها الناقص المسلوب، وعيونها الملأى بأحبّائنا.

—————————

عشر سنوات بين زيارتين.. حزب الله يتحسس رأس “النظام”/ منير الربيع

عشر سنوات من الثورة السورية. عشر سنوات، فصلت بين زيارتين رسميتين بهذا الشكل والمستوى أجراهما حزب الله إلى روسيا. ويمكن الاستخلاص أن فحوى الزيارتين هو لنفس الأسباب وتلقي الإجابات على تساؤلات كثيرة مطروحة. في العام 2011 وبعد اندلاع الثورة السورية، توجه وفد حزب الله إلى موسكو للقاء المسؤولين الروس وسؤالهم عن موقفهم مما يجري ومن النظام السوري، وتلمسوا أن موسكو ستدعم النظام في وجه ثورة الشعب. على هذا الأساس اتخذ حزب الله ومن خلفه إيران قرار المشاركة في الحرب ضد الثورة السورية. عشر سنوات، من الدمار والتهجير وعمليات القتل الممنهج وتغيير سوريا سياسياً وديمغرافياً بما يشكل لحظة مناسبة للمهاجمين للانتقام التاريخي من “الشام”.

في الأيام الأولى للثورة، قال وزير الخارجية سيرغي لافروف في الكثير من المحطات واللقاءات الجانبية التي عقدها، إن روسيا لن تسمح للسنّة بأن يحكموا سوريا. إيران وحزب الله أيضاً من البديهي أيضاً أن يسارعوا إلى ملاقاة روسيا على هذا الموقف وانتهاز اللحظة لإعادة الانتقام من تاريخ عمره 1400 سنة. ثقافياً واجتماعياً وبناء على كل عمليات الضخ والتعبئة والصراع الذي أخذ بعداً ديمغرافياً، كان مغلفاً بسياق تاريخي انتقامي، بين الأمويين والصفويين. وصوّر بأن اللحظة مؤاتية للصفوية بالانتقام من الأموية. ولزيادة منسوب التحشيد وأدلجته، كان لا بد من إسباغ ما يجري بأنه صراع بين أحفاد الحسين وأحفاد يزيد.

علماً أن كل مقومات الصراع كانت سياسية وذات مصالح جيوستراتيجية، أعطيت الطابع الديني والفكري والأيديولوجي، أو طابع صراع الحضارات. بينما كل ما فعله الثوريون السوريون هو رفع شعار الحرية والمطالبة بالحياة السياسية والسعي إلى تغيير النظام إلى المدنية والديمقراطية. نجح المسار السياسي الدولي والإقليمي، والانطباعات المذهبية والدينية التي فرضتها روسيا من جهة، والأسد من جهة أخرى من خلال دعاية حماية الأقليات، أو من قبل إيران وحزب الله بالانتقام من أحفاد يزيد، في أخذ الصراع إلى مكان آخر، وصولاً إلى تدمير سوريا عمرانياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً وديمغرافياً، وصولاً إلى التدمير الاقتصادي والمالي التي أصبحت عليه اليوم. ونجح هؤلاء في عسكرة الثورة السورية، وهم كانوا أول من استدعى الخطاب المذهبي والطائفي بإسباغ الثوار بلطخة مذهبية، ما استدعى دعم النظام السوري وفتح أبواب المعتقلات أمام السجناء المتطرفين وداعيات الإسلام السياسي والعسكري إلى اجتياح المشهد السوري ليكون لإيران والنظام ما أراداه من تحويل الصراع إلى صراع ديني تاريخي، فتحول الناس إلى وقود يغذّي ماكينة الحرب.

لا بد من الاعتراف أن الثورة، والمعارضات السورية المتنوعة وقعت في أخطاء كثيرة، وهذه أصبحت تحتاج بلا شك إلى انتفاضة فكرية تركز على عامل الوعي لإعادة الصراع إلى جذوره الأساسية بدلاً من تركه في غياهب التاريخ الديني وما يحويه من صراعات عرف النظام ومن خلفه إيران كيفية استخدامها لضرب الثورة بحدّ ذاتها وضرب المجتمع السوري ككل. ذلك يحتاج إلى زمن طويل لإعادة تصحيح مساره ويرتكز على لقاءات وحلقات نقاشية وإصدار كتب ودوريات تقترن بالعمل على أرض الواقع أيضاً. قد يكون الكلام مفتاحاً للتنظير ومكاناً لتلقي الكثير من الانتقادات. لكن الوقت مناسب في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الذي يعيشه النظام، وما سيستدعيه ذلك من صرخات ستخرج من قبل الموالين له قبل المعارضين، وهذه لا بد من الاستفادة منها والتركيز عليها.

وهذا المسار لن يكون منفصلاً عن خروج الحاضنة الشيعية الشعبية في العراق منذ أكثر من سنة في انتفاضة هائلة ضد إيران والحرس الثوري والحشد الشعبي، وكان لهذه التحركات مفاعيل رئيسية وأساسية في إحداث تغيير عراقي كبير مع مصطفى الكاظمي وبعودة العراق إلى خطّ مناقض للتوجيهات الإيرانية. كذلك الصرخات التي خرجت في لبنان ومن بيئات موالية لحزب الله، وهي قابلة لأن تتوسع أكثر في المرحلة المقبلة، وسط توقعات باحتمال حصول انفجار اجتماعي هائل لا يكون أحد قادراً على السيطرة عليه. أمام هذه الوقائع لا شيء يمنع من حصول انفجار اجتماعي داخل بيئة النظام، وهذا ما يجب التركيز عليه والعمل في سبيله. لأن المعركة لن تعود عسكرية، إنما ستأخذ طابعاً سياسياً واقتصادياً وحول خيارات العيش، بغض النظر عن الانتخابات الرئاسية أو غيرها.

كل هذه الجوانب كانت حاضرة في لقاءات موسكو وحزب الله، والتي بحث فيه الكثير من الملفات العسكرية والأمنية والسياسية، خاصة أن روسيا تلعب دوراً بارزاً بين النظام وإسرائيل، وهدفها منع استفزاز تل أبيب في سوريا، وقد طلبت ذلك من الحزب لتخفيف أنشطته العسكرية. كما أن روسيا تحاول استغلال نفوذها في سوريا وعلاقتها مع إيران وإسرائيل والنظام والحزب لتسجيل حضور وخروقات في ساحات أخرى، بينها لبنان، واليمن والعراق، في إطار اتساع رقعة التنافس مع الإدارة الأميركية الجديدة.

نتائج زيارة وفد الحزب إلى روسيا انعكست في إرسال موسكو المزيد من القوات العسكرية إلى شرق سوريا، وسترفع منسوب الخلاف والصراع بين الروس والإيرانيين على المعابر ومنابع الطاقة والثروات، كما أن روسيا سيكون لديها اهتمام ليس فقط بالسيطرة على شرق سوريا مع الأميركيين بل بالتوسع جنوباً وغرباً باتجاه الحدود اللبنانية السورية. لا سيما أن الوضع الروسي في حالة استنزاف كاملة في سوريا، والأسد أصبح عبئاً على الجميع وعلى رأسهم الروس الذين يبحثون عن أي ثمن للتنفس ووقف حرب الاستنزاف، والحصول على دعم مالي. وهذا ما بحثه وزير الخارجية الروسي في كل جولاته.

تحاول روسيا نسج تفاهم إقليمي دولي، يرتكز على لجم الانهيار في لبنان وسوريا لعدم إغراقها أكثر، هذا الحل سيكون مفتاحه تقديم تنازلات من قبل إيران وحزب الله والنظام السوري، ويقوم على قاعدة تشاركية في الحكم، قد تكون مرحلة بلورته ما بعد الانتخابات الرئاسية، إذ يعاد انتخاب الأسد، مقابل تشكيل حكومة موسعة تضم أطرافاً مختلفة من النظام والمعارضات، وتكون هي صاحبة الصلاحيات الأساسية في المرحلة المقبلة.

تلفزيون سوريا

———————————–

====================

تحديث 27 أذار 2021

——————————

الثورة السورية

الثورة السورية تحديات ومآلات/ رفقة شقور

في الذكرى العاشرة لانطلاقة الثورة السورية أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريرها الذي وثقت فيه مقتل 227413 مدنياً بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149361 شخصاً، وتشريد نحو 13 مليون سوري، مشيرة إلى عَقْدٍ من الانتهاكات المتواصلة وفشلٍ في تحقيق الانتقال السياسي نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان.

تعبر الذكرى العاشرة للثورة السورية على السوريين في كل مكان وكل من ناصرها وهم يواجهون تحديات متواصلة عبر مستويات عدة يذكر من هذه التحديات:

أولاً: تحدي البديل، واجهت قيادات المعارضة السورية إخفاقات كثيرة على عدة مسارات وإحباطات متتالية تدخلت بها عدة أسباب وعوامل منها الذاتي الذي يتمحور حول مكوناتها الفكرية والنقدية والثورية والكاريزماتية ومنها الموضوعي المتعلق بتعمد بعض المحاور الدولية إفشالها بعدة طرق ووسائل.

ثانياً: تحدي الهجرة والنزوح، تعرض الشعب السوري لأكبر موجات الهجرة والنزوح في العصر الحديث مما وضعه أمام تحديات مضاعفة أمام واقع الثورة السورية وصرفه في كثير من المواطن عن متابعة مشروعه الثوري والتحرري من النظام الديكتاتوري وارتباطاته الاقتصادية وشبكته الاجتماعية والدينية والطائفية والعسكرية التي فتتت مكونات نسيج المجتمع السوري وهي تلوذ عن الديكتاتور.

ثالثاً: التحديات الإقليمية والدولية، شهدت الساحة الإقليمية في المحيط السوري مجموعة تغيرات وتبدلات شكلت حالة من تكريس سلطة الديكتاتوريات في المنطقة وما رافق تلك الحالة من تحالفات بين الديكتاتوريات والاستعمار لتثبيت حكم الاستبداد الحارس الوفي للمستعمرات التوسعية لكيانات عالمية تعيش على العلاقات الزبائنية بينها وبين الديكتاتوريات.

رابعاً: تحدي إعادة تدوير الانقسام الطائفي والمجتمعي السوري عبر محاولات النظام العسكري السوري فرض رؤيته على المناهج التعليمية السورية بمحاولات إقصاء كل ما من شأنه أن يعزز ملكات التفكير الحر لدى الأجيال أو بحجب المعلومات الخاصة بالحراك الثوري السوري، فبعد أن كانت المناهج التعليمية مهمة التربويين والاختصاصيين، أصبحت مهمة الحكومة الاستبدادية والمجالس العسكرية ووزارات الداخلية. كل هذه الجهات اجتمعت لمراقبة وتغيير المناهج بحيث تعيد إنتاج مواطن خاضع للنظام الاستبدادي بتوجية المعلومات الانتقائية ضمن المناهج التعليمية.

خامساً: تحدي الوعي السوري، فالوعي الثوري السوري تعرض لهزات كثيرة نتيجة لتحالف موارد هذا الوعي بأشكال سلبية مما يتعرض له الوعي الثوري من ضغط إعلامي وضغط فكري يحاول تشويه هذا الوعي وقرن الحراك الثوري السوري بحالة الإخفاق في العبور لمرحلة تحول ديمقراطي وهذا أمر يهمل سيرورة الثورة وينقلب عليها وقد قادت مهمة تشويه الوعي السوري محاور الثورة المضادة التي وقفت مع النظام الديكتاتوري وأعادت إنتاجه على المستوى المحلي والمستوى الدولي.

تلك القوى المضادة للثورة من كيانات ودول توافقت علناً أو سراً مع النظام السوري القمعي وساهمت في تحويل الثورة إلى صراعات طائفية ونزاعات مسلحة ثم انتقلت إلى حيلة الحرب ضد الإرهاب بعد تغذية سوريا بالمجموعات من تنظيم القاعدة وداعش، عملت ذلك بتناغم كبير وكان هدفها تدمير الوعي الثوري وتحويل نموذجها إلى مقتلة ومجزرة توضع أمام شعوب العالم التي لديها بذور الثورات كي لا تتجرأ على التحرك.

هذه التحديات التي تشهدها ذكرى انطلاق الحراك الثوري تقودنا لرؤية مجموعة من النقاط التي قد تسهم في حلحلة الواقع المعقد والمأزوم بفعل التغيرات الجذرية التي شهدتها مكونات الثورة السورية بفعل العوامل المذكورة آنفاً وهنا أذكر منها الآتية:

أولاً: لا بد من وجود قيادات وطنية وحركات تتجاوز الحدود الضيقة الفاصلة بين السوريين، تلك القيادات من أهم مكوناتها مسألة الكلية أي اهتمامها بالنهضة بكل المكونات السورية وإيجاد الأدوات الممكنة من أجل ذلك بل ابتكارها أيضاً بناء على إحاطتها بالمشتركات بين السوريين من قيم إنسانية مثل التعاون وحماية المظلوم وإنكار الظلم والتعدي بغض النظر عن هوية المظلوم أو الظالم الطائفية أو الدينية.

ثانياً: العمل السوري المشترك انطلاقاً من قاعدة استبعاد الأصوات التي تنطلق من منطلقات طائفية أو عنصرية أو قومية حصرية في صفوف القيادات الثورية المعارضة، بالإضافة لاستبعاد كل ما يعزز الخطاب المناطقي والصراع الهوياتي بين مكونات المجتمع السوري.

ثالثاً: في مجتمعات اللاجئين والنازحين بكل مكان من الضرورة تطوير شبكة علاقات اجتماعية لحل المشكلات التي تواجهها تلك التجمعات وتكون بمثابة جماعة ضغط على الأطراف الدولية والإقليمية وكل من يحاول التهاون في قضايا اللاجئين والنازحين، هذه الشبكة إن تشكلت ستكون قادرة على مواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها مجتمعات النازحين واللاجئين في القضايا التي يحتاج حلها لمجهودات فيها حالة من التكامل والتعاون المجتمعي، وهذه الشبكة إن قامت على هذه الأسس ستكون بمثابة مخرج طوارئ أيضاً يفضي لحلول حقيقية في مجتمعات اللاجئين والنازحين.

رابعاً: في مواجهة حملات النظام لتشويه الوعي الجمعي وإعادة إنتاج الخطاب الطائفي والديني وإعادة صياغة المواطن الخاضع عبر المناهج التعليمية يمكن للجهات الإعلامية التي تسند الحراك الثوري من مقاومة المحتوى التعليمي المساند للديكتاتور وأدواته بإطلاق مشروع ثقافي توعوي يخاطب كل الأجيال السورية ويبتعد عن أن يكرر نفس الأدوات كي لا تساهم تلك الحملات بنتائج عكسية تغذي وتعيد إنتاج صراع الدين والطائفة والهوية، وإنما تكون بمثابة حوارات عابرة لكل مكونات الشعب السوري.

خامساً: بناء وعي جديد داخل مكونات المجتمع السوري انطلاقاً من المشتركات التي تجمعها، فكل من يعتدي على مكون من تلك المكونات لأنها من خارج منطقته الدينية أو السياسية أو الحزبية، سوف يعمد لإلغاء كل من في دائرته المشتركة في حال شكلَ خطراً أو تهديداً وجودياً عليه، فالثورة تتأصل بأدوات الواقع الأكثر صميمية والأكثر قدرة على إقناع كل مكونات المجتمع بضرورة حصولهم على حقوق متساوية بعيداً عن تمايزات الدين والطبقة السياسية.

سادساً: لكل ثورة في تاريخ العالم تفاصيلها وجذورها وامتداداتها، والثورة السورية واجهت من التحديات والتحالفات المضادة ما ساهم في ارتباك مساراتها وحرفها أحياناً بفعل وجود قيادات فئوية تسعى لمصالحها الخاصة، شكلت هذه القيادات الشعبوية حجر عثرة أمام عجلة التغير الديمقراطي وكانت أسوأ أمثلة ساهمت في تشويه الوعي الثوري لدى المواطن السوري.

سابعا: لا بد من إعادة تحديد أهداف الثورة وتقديم البدائل التي فيها حلول لكل المشكلات الاجتماعية، والتوقف عن مهزلة تنافس رجال الأعمال المعارضين للحصول على نصيب من إعادة الإعمار حتى لا يتم فرض اقتصاد ليبرالي شره يعيد إنتاج مصالح الطبقة الواحدة داخل المعارضة، لا بد أن يتنبه رجال الأعمال المعارضين لعدم مراكمة ثرواتهم على حساب الشعب النازح والمفقر.

ثامنا: لا بد من حوار ثوري سوري عابر لكل المكونات المجتمعية وقادر على مخاطبة كل مكون من تلك المكونات بلغة مرنة تبتعد عن أدوات الشعبوية والقمعية وتستند لحوار المشتركات الإنسانية والقيم الرسالية العليا والتي هي أساس الهوية السورية الجامعة للمكونات الوطنية والإنسانية، ولا بد من العمل على تطوير الوعي الثقافي والأخلاقي عبر قنوات الثورة الفردية والجماعية عن طريق اعتماد أدوات تغيير حصرية لتلك القوى الثورية بعيداً عن تقليد الأدوات الشمولية لكن على الجانب الآخر.

ولا بد لهذا الحوار أو الخطاب الثوري أن يخاطب كتلة الجيش السوري المهمشة والتي تعايش حالة من غسيل الدماغ الوطني، كذلك لا بد لهذا الخطاب أن يكون قادرا على محاورة الساحل السوري فهو يمثل البنية الصلبة للنظام السوري حيث عمل النظام السوري على استغلاله طوال السنوات العشر الماضية وأفقده خيرة شبابه.

صراع الثورة مع السلطة لم يحسم بعد، فالثورة ليست في أحسن حالاتها بفعل إرهاق كل مكوناتها عبر القوى الإقليمية والعالمية التي وقفت بشكل مضاد لمجهوداتها، لكن في المقابل السلطة السورية ليست في أفضل حالاتها أيضا، لذلك لا بد من إعادة بناء الثورة السورية بما يسمح لها أن تعيد ترتيب ظروفها كي تواصل في تحقيق الأهداف عبر قيادات أكثر وعيا بمهامها الثورية على كل مستويات البناء الوطني الثوري الموازي للثورة على السلطة.

تلفزيون سوريا

————————-

محو الناس عبر التضليل: سوريا و«أنتي إمبريالية» الحمقى

الرسالة المفتوحة التالية هي عمل جماعي لمجموعة من الكتاب والمثقفين السوريين وغيرهم من المتضامنين معهم، وقد وقعها ناشطون وكتاب وفنانون وأكاديميون من سوريا و32 بلداً آخر في إفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأميركا الشمالية والجنوبية وأوقيانوسيا. وهي متاحة أيضاً بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية وستضاف لغات أخرى تباعاً.

منذ بداية الانتفاضة السورية في العام 2011 ظهرت عند بعض من يصفون أنفسهم عادةً بالتقدميين أو «اليسار» ولاءات مؤيدة لنظام الأسد تحت عنوان «مناهضة الإمبريالية». نتج عن ذلك انتشار معلومات مضلّلة ومغرضة بهدف حرف الانتباه عن الانتهاكات التي قام بها نظام الأسد وحلفاؤه، وهي انتهاكات موثقة جيداً بالمناسبة. تفاقمت هذه الظاهرة منذ بدء التدخل الروسي في سوريا لدعم بشار الأسد. يقدّم أصحاب هذه الولاءات أنفسهم كـ«مناهضين» للإمبريالية، لكنهم يعرضون انتقائية شديدة في الانتباه إلى مسائل «التدخل» وانتهاكات حقوق الإنسان؛ انتقائية تنحاز غالباً لحكومتي روسيا والصين. أما المعترضون على هذه المقاربات المفرطة التسييس فيتكرر وصمهم الكاذب بأنهم مجرد «متحمّسين لقلب النظام» أو مغفّلين وغافلين عن المصالح السياسية الغربية.

الدور التطييفي والتقسيمي الذي لعبته هذه المجموعة لا تخطئه عين. فنظرتهم التبسيطية تُصوِّر كل الحركات الداعمة للديمقراطية والمناهضة لمصالح دولتي روسيا والصين بوصفها نتاجاً فوقياً للتدخلات الغربية، لا نتاجاً موضوعياً لظروف بيئتها، كأنها لا تنضوي في عقود من النضال الداخلي المستقل ضد ديكتاتوريات عنيفة (كما هو الحال في سوريا)، ولا تمثل بحق تطلعات من يطالبون بحقهم في حياة كريمة بدل القمع والانتهاك. ما يجمع مثل هؤلاء الكتاب هو رفض مناقشة جرائم نظام الأسد، أو حتى الإقرار بحصول انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد تعرضت للقمع الشديد.

لقد تكاثر هؤلاء الكتّاب والوسائل الإعلامية المرتبطة بهم في الأعوام الأخيرة بشكل كبير، وقد وضعوا سوريا في واجهة نقدهم للإمبريالية والتدخلات الأجنبية، مع حصر هاتَين بالغرب فقط ومع تجاهل التدخلات الروسية والإيرانية. وهم يسعَون بذلك إلى إدراج أنفسهم ضمن تراث مديد ومحترم من المناهضة الداخلية في المجتمعات الغربية لارتكابات القوى الإمبريالية في الخارج، وهو تراث لا يقتصر على اليسار لكنه يغلب أن يكون يسارياً.

غير أنهم لا ينتمون حقاً لهذا التيار. إذا لا يمكن أن ينتمي لليسار من ينحاز، صراحةً أو ضمناً، لنظام الأسد القاتل، ولا من يوجه اتهامات انتقائية وانتهازية بالـ«إمبريالية» بحجج مستمدة من تصوره الخاص لليسار، بدلاً من مناهضة الإمبريالية بصورة متّسقة ومبدئية وعلى نطاق عالمي، تعترف بالتدخلات الإمبريالية من كل الأطراف ولا تستثني منها روسيا وإيران والصين.

في كثير من الأحيان، وتحت ستار ممارسة «الصحافة المستقلة»، عمل هؤلاء الكتاب وتلك المنابر الإعلامية كمصادر رئيسية للدعاية والمعلومات المضلّلة حول الكارثة الإنسانية المستمرة التي آلت إليها سوريا. إن نسختهم الرجعية والمقلوبة من «السياسة الواقعية» لا تقلّ تشبّثاً بالقراءات الأحادية عن «سياسات القوة» الفوقية واللاديمقراطية عن هنري كسنجر أو صامويل هنتنغتون، وإن تعاكست التوجهات. لكن هذا التحرك الخطابي المفرط في تبسيطيته، وبقدر ما يبدو جذاباً للتواقين دوماً لتعريف سطحي لمن هم «الأخيار» ومن هم «الأشرار» في أيّ مكان وأي سياق في العالم، ما هو إلا أداة لتعزيز الوضع المعطِّل والبائس، وعرقلة تطوير مقاربة تقدمية ودوليّة حقاً للسياسة العالمية، وهو ما نحتاج إليه بشدة نظراً للتحديات العالمية المتعددة، وخاصة مسألة التصدي للاحتباس الحراري.

ثمة أدلة ساطعة على التدميرية المروِّعة للقوة الأميركية في كل العالم، خاصة خلال الحرب الباردة. ومن فييتنام إلى أندونيسيا، مروراً بإيران والكونغو والأميركيتين اللاتينية والوسطى وغيرها، سجلّ الانتهاكات الأميركية الهائل لحقوق الإنسان المتراكم باسم محاربة الشيوعية جليّ ومعروف. وحتى في الحقبة اللاحقة لانتهاء الحرب الباردة، حيث ساد شعار «الحرب على الإرهاب»، لم تَدُلّ التدخلات الأميركية في أفغانستان والعراق على تغيّرات جوهرية في توجهاتها التدميرية هذه. لكن الولايات المتحدة غير مركزية في ما حصل في سوريا، على عكس ما يدّعيه هؤلاء. إن إدعاء ذلك، رغم كل الأدلة المغايرة، هو نتاج لثقافة سياسية محلية غربية تركّز على مركزية القوة الأميركية على المستوى العالمي، وكذلك على الحق الإمبريالي في تحديد من هم «الأخيار» و«الأشرار» في أي سياق.

إن الترادف الأيديولوجي لمحبي الأسد اليمينيين مع هذا النوع من «اليسار» الصديق للأنظمة التسلطية هو أحد أعراض هذا الأمر، وهو يشير إلى أن المشكلة الحقيقية والأخلاقية تكمن في مكان آخر: ما الذي يجب فعله حين يتم تعنيف شعب بشدة من قبل نظامه كما جرى للشعب السوري، ثم يجري حبسه ضمن تصورات أشخاص لا فكرة لديهم عن تعذيب الناس وسجنهم وقتلهم لمجرد تعبيرهم عن المعارضة السياسية للنظام؟ ففي حين تتوجه الكثير من البلدان نحو أنظمة حكم تسلطية وتبتعد عن الديمقراطية رويداً رويداً، تبدو لنا هذه مسألة سياسية عاجلة لا جواب لها حتى الآن. وبسبب غياب الجواب بالذات، نجد إفلاتاً متزايداً من العقاب في كل مكان في العالم من جانب الأقوياء، وكذلك هشاشة متزايدة عند المستضعفين.

وفي هذا الشأن، ليس لدى «مناهضي الإمبريالية» المزعومين كلام مفيد. لا كلمات لديهم عن العنف السياسي العميق المسلَّط على الشعب السوري من قبل الأسديين والإيرانيين والروس. اسمحوا لنا إذاً أن نشير إلى أن محو حيوات السوريين وتجاربهم على هذا النحو يبدو حاملاً لجوهر الامتياز الإمبريالي (والعنصري) بحد ذاته. لم يتكلف هؤلاء الكتّاب والمدوّنين عناء الاعتراف بوجود سوريين، بما في ذلك السوريين الموقعين على هذه الرسالة، والذين جازفوا بحياتهم لأنهم عارضوا الأسد، فسُجِنوا في معتقلات نظامه الأشبه بالمسالخ (أحياناً لسنوات طويلة)، وفقدوا أحباءهم، وغُيِّب أصدقاؤهم وأقاربهم، ولجأوا خارج البلاد – رغم أن سوريين كثيرين تكلموا وكتبوا بإسهاب عن هذه الأحداث وعن معناها طوال سنوات.

إن التجارب السورية المعاشة منذ بداية الثورة حتى اليوم تشكل تحدياً جوهرياً للعالم، كما يبدو لهؤلاء الكتاب والمدونين. إن الذين عارضوا من بيننا نظام الأسد بشكل مباشر، وغالباً بكلفة هائلة، لم يفعلوا ذلك نتيجة مؤامرة إمبريالية غربية، بل لأن عقوداً من الانتهاكات والعنف المفرط والفساد كانت ولا تزال رهيبة وعصيّة على الاحتمال. الإصرار، مع ذلك، على دعم الأسد هو محاولة لحرمان السوريين من أهليتهم السياسية، وتأييد لسياسات الأسد المديدة الرامية للإبادة السياسية، والتي حرمت السوريين من أي قول ذي معنى في شؤون حكمهم وظروفهم.

نحن الموقعين أدناه، من سوريين وغير سوريين، داعمين لنضال الشعب السوري في سبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان، نعتبر أن هذه المساعي لتغييب السوريين عن عالم السياسة والتضامن والشراكة تتسق تماماً مع طبائع النظام، والذي يحظى وضوحاً بإعجاب «معادي الإمبريالية» هؤلاء. هذه هي إذاً «الأنتي إمبريالية» و«اليسار» الخاص بعديمي المبادئ، والكسالى، والحمقى. نأمل أن ينضمّ قراء هذا النص إلينا في مناهضة هؤلاء والوقوف في وجه التضليل الذي يقومون به.

الموقعون (المؤسسات لأغراض التعريف فقط):

السوريون

آيات ياسين-قصاب، طالبة في جامعة أكسفورد (بريطانيا)

أحمد عيشة، صحفي ومترجم (تركيا)

أسامة الحويج العمر، كاتب (الولايات المتحدة)

أسماء دشان، صحفية سورية-إيطالية (إيطاليا)

أمينة المصري، ناشطة وتربوية (الولايات المتحدة)

إيرين لابري شعيا، مهندسة معمارية ومدرسة سابقة في كلية العمارة في جامعة القلمون في دير عطية، سوريا

بانا الغضبان، جامعة كاليفورنيا، سان دييغو (الولايات المتحدة)

بشر غزال-أسود، طبيب في مؤسسة الصحة الوطنية (بريطانيا)

بكر صدقي، مترجم وكاتب صحفي (تركيا)

تهامة معروف، طبيبة أسنان (تركيا)

جوزيف ضاهر، أكاديمي سوري / سويسري، جامعة لوزان / معهد الجامعة الأوروبية (سويسرا)

حايد حايد، زميل باحث أول، تشاتام هاوس (بريطانيا)

حسن نيفي، كاتب (تركيا)

حيان دخان، زميل باحث مشارك، مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز (بريطانيا)

دلير يوسف، كاتب ومخرج، برلين (ألمانيا)

رمزي شقير، ممثل ومدير شركة مسرح كواليسي (فرنسا)

رهف الدغلي، محاضرة في دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جامعة لانكستر (بريطانيا)

روبن ياسين-قصاب، الكاتب (اسكتلندا)

سامي حداد، ناشط (إيطاليا)

سلام سعيد، أكاديمية (ألمانيا)

سلام عبارة، طبيب وناشط، باريس (فرنسا)

سمر يزبك، روائية (فرنسا)

صادق عبد الرحمن، كاتب (تركيا)

عبد الوهاب كيالي، باحث في جامعة برينستون (كندا)

عدي الزعبي، كاتب (السويد)

عروة خليفة، كاتب (تركيا)

عزيز العظمة، أستاذ فخري في الجامعة الأوروبية المركزية (النمسا)

علي عقيل، المؤسس والمتحدث الرسمي السوري لمجموعة التضامن مع سوريا في نيوزيلندا (أوتياروا / نيوزيلندا)

عمر قدور، روائي وصحفي (فرنسا)

غياث المدهون، شاعر (ألمانيا)

فؤاد رويحة، ناشط (إيطاليا)

فؤاد محمد فؤاد، أستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)

فاروق مردم بك، ناشر وكاتب، باريس (فرنسا)

فرج بيرقدار، شاعر (السويد)

فيكتوريوس بيان شمس، صحفي (البرازيل)

كرم شعار، محلل أول، وزارة المالية النيوزيلندية (نيوزيلندا)

لارا الكاتب، عضو تحالف اشتراكيي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

لبيد الجندي، مرشح دكتوراه في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن (بريطانيا)

ليلى الشامي، كاتبة / ناشطة (اسكتلندا)

ماركوس حلبي، كاتب بريطاني-سوري وعضو في حزب العمل (بريطانيا)

محمد العطار، كاتب ومسرحي، برلين (ألمانيا)

محمد راشد، ممثل (فرنسا)

محمد زاهر سحلول، رئيس ميدغلوبال ومؤسس ائتلاف الإغاثة الأميركية لسوريا (الولايات المتحدة)

محمود وهب، كاتب (تركيا)

ميريام سلامة، فنانة سورية (أستراليا)

ميسون المصري، الدفاع المدني السوري – الخوذ البيضاء، حائزة على جائزة غاندي للسلام 2021 (كندا)

نسرين الزهر، أكاديمية وكاتبة (فرنسا)

نضال بيطاري، صحفي (الولايات المتحدة)

نور غزال أسود، مرشحة دكتوراه، جامعة ممفيس (الولايات المتحدة)

هالة العبدالله، مخرجة (فرنسا)

وائل الخولي، طبيب إداري، بي إي سميث، ميشيغان (الولايات المتحدة)

ياسمين مرعي، كاتبة وصحفية ورئيسة نساء من أجل مساحات مشتركة، برلين (ألمانيا)

ياسين الحاج صالح، كاتب، سجين سياسي سابق (ألمانيا)

ياسر خنجر، شاعر سوري من الجولان المحتل

ياسر منيف، كلية إمرسون (الولايات المتحدة)

يزن بدران، طالب دكتوراه، جامعة فريجي وحكاية ما انحكت (بلجيكا)

آخرون

آدم شاتز، الكاتب، بروكلين (الولايات المتحدة)

آدم صبرا، أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا (الولايات المتحدة)

آرت يونغ، ناشط متضامن (كندا)

آلان والد، أستاذ فخري لكرسي هـ تشاندلر ديفس كوليجييت في جامعة ميشيغان (الولايات المتحدة)

آن إفيليث، ناشطة مناهضة للحرب، واشنطن العاصمة (الولايات المتحدة)

آنا ألبوث، المسيرة المدنية من أجل حلب (ألمانيا / بولندا)

أثينا موس، صحفية (اليونان)

أحمد مطر، طباخ (فلسطيني، ألمانيا)

إد ساتون، ناشط إعلامي ومنظم في مجال الإغاثة المتبادلة (الولايات المتحدة)

أديتيا سركار، جامعة وارويك (بريطانيا)

إدين هايدارباسك، أستاذ مشارك في التاريخ في جامعة لويولا شيكاغو (الولايات المتحدة)

أريانا باريساتو (إيطاليا)

أشلي سميث، عضو شبكة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين ومجموعة تمبست (الولايات المتحدة)

ألدو كورديرو سودا، ناشر صحيفة كونترابادو، ساو باولو (البرازيل)

أليساندرا ميزاردي، محاضر أول في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن (بريطانيا)

أليكس جونسون، مجموعة التضامن مع سوريا في أستراليا (أستراليا)

أليكس دي يونغ، مدير مشارك في المعهد الدولي للبحوث والتعليم (هولندا)

أمل بشارة، جامعة توفتس (الولايات المتحدة)

أمينة أ.، مجموعة التضامن مع سوريا في مدينة نيويورك (الولايات المتحدة)

أناهيتا رزمي، فنانة تشكيلية (ألمانيا)

أنتوني راتكليف، جامعة ولاية كاليفورنيا في لوس أنجلوس (الولايات المتحدة)

أنجا مطر، وكيل سفريات (ألمانيا)

أندرو بيرمان، لجنة التضامن مع الشعب السوري CISPOS (الولايات المتحدة)

أندريا لوف، تربوية (الولايات المتحدة)

إنريكو دي أنجيليس، باحث مستقل، برلين (ألمانيا)

أنصار جاسم، باحثة سياسية، برلين (ألمانيا)

أنيا بري، طالبة دكتوراه في جامعة بينغهامتون (الولايات المتحدة)

أنيس منصوري، أستاذ تعليم خاص ومنسق شبكة الأمميين التونسيين في سويسرا (سويسرا)

أو لونغ-يو، ناشط في مجال العدالة الدولية وحقوق العمل (هونغ كونغ)

أوراش عزيزي، مرشح دكتوراه، جامعة نيويورك (الولايات المتحدة)

أوستن ج. مكيل (أستراليا)

إيدين جيبويرس، اختصاصية مالية (بريطانيا)

إيريك توسان، عضو المجلس الدولي للمنتدى الاجتماعي العالمي (بلجيكا)

إيفان هاندلر، مدير قسم معلومات متقاعد من مؤسسة ولاية إلينوي للمساعدات الطبية وتبادل المعلومات الصحية (الولايات المتحدة)

إيلينا دي بيكولي، ناشطة (إيطاليا)

ايليني فاريكاس، أستاذة فخرية للعلوم السياسية في جامعة باريس الثامنة (فرنسا)

إيما وايلد بوتا، صحيفة نيو بوليتيكس (الولايات المتحدة)

باتريك بوند، أستاذ في جامعة رسترن كيب (جنوب أفريقيا)

باتريك ج. أوديا، كهربائى وناشط نقابي (نيوزيلندا)

باربرا إبستين، أستاذة فخرية في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز (الولايات المتحدة)

باربرا بلودزن، طالبة ماجستير في جامعة هومبولت في برلين (ألمانيا)

بارفاثي مينون، باحث / محاضر، جامعة هلسنكي (فنلندا)

بام بروملي، عضو مستقل في مجلس مدينة روزندالي (بريطانيا)

بايام غاليهدار، جامعة غوتنغن (ألمانيا)

برنار دريانو، ناشط (فرنسا)

بريان بين، منظم سياسي وصحفي، مجلة  رامبانت، مجموعة تمبست، محرر ومؤلف كتاب فلسطين: مقدمة اشتراكية (الولايات المتحدة)

بشرى أ.، مجموعة التضامن مع سوريا في مدينة نيويورك (الولايات المتحدة)

بشير أبو منه، محاضر في جامعة كينت (بريطانيا)

بلال أنصاري، عضو الهيئة التدريسية ومدير برنامج العبادة الإسلامية في معهد هارتفورد (الولايات المتحدة)

بولي كيلوغ، أستاذ متقاعد في العلاقات الإنسانية، جامعة ولاية سانت كلاود في مينيسوتا (الولايات المتحدة)

بيت كلوسترمان، ناشط حقوقي في مدينة نيويورك (الولايات المتحدة)

بيتر بوهمر، عضو فخري في الهيئة التدريسية، كلية إفرغرين (الولايات المتحدة)

بيتر مكلارين، أستاذ مميز في الدراسات النقدية في جامعة تشابمان (الولايات المتحدة)

بيتر هوديس، أستاذ الفلسفة في كلية أكتون الاجتماعية (الولايات المتحدة)

بيكي كارول، شريك مؤسس في حملة الوقوف مع حلب (الولايات المتحدة)

بيل فليتشر جونيور، الرئيس السابق لمنتدى ترانس أفريقيا (الولايات المتحدة)

بيل واينبرغ، صحفي وكاتب (الولايات المتحدة)

بين مانسكي، أستاذ مساعد في علم الاجتماع، جامعة جورج ماسون (الولايات المتحدة)

بينيلوب دوغان، رئيس تحرير إنترناشنل فيوبوينت (فرنسا)

بيير كونشنس، نائب مجتمعي، مجلس مدينة لوزان، المجموعة اليسارية، لجنة التضامن في فود (سويسرا)

بييرو مايستري، ناشط، ميلانو (ايطاليا)

تاسوس أناستاسياديس، صحفي (اليونان)

تانيا مونفورت، مرشح دكتوراه في القانون من جامعة ماكغيل (كندا)

تريستان سلوتر، الاشتراكيون الديمقراطيون الأميركيون، لاركسبور، كولورادو (الولايات المتحدة)

توفيق حداد، أكاديمي وكاتب (فلسطين)

توماس هاريسون، عضو هيئة تحرير صحيفة نيو بوليتيكس (الولايات المتحدة)

تيري بيرك، لجنة التضامن مع الشعب السوري – CISPOS (الولايات المتحدة)

تيريز ريكمان بول، داعمة ومدافعة مستقلة عن حقوق الإنسان (الولايات المتحدة)

تيم يدبيتر، معلم (أوتياروا / نيوزيلندا)

ثريا مصلح، صحفية (البرازيل)

ثيو هوريش، مؤلف وصحفي مستقل (الولايات المتحدة)

جان باتو، مؤرخ ونائب في برلمان محافظة جنيف (سويسرا)

جان ميشيل دوليفو، محامي ونائب سابق في المجموعة اليسارية في برلمان محافظة فود (سويسرا)

جانيت آفاري، كرسي ميليتشامب في قسم الدين والحداثة في العالم، جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا (الولايات المتحدة)

جانيت روبن بوغل، جدة (أوتياروا / نيوزيلندا)

جانيك شاوفلبوهل، أستاذ مشارك، جامعة لوزان (سويسرا)

جلبرتو كوندي، أستاذ باحث في كوليخيو دي مكسيكو (المكسيك)

جلبير أشقر، أستاذ في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

جوان كونيلي، أمين سر متقاعد (الولايات المتحدة)

جورج مونبيوت، كاتب وصحفي وناشط بيئي (بريطانيا)

جوزيف إيفانكا (يوشكا) فيسيلز، محاضر في جامعة مالمو (السويد)

جوزيف غرين، منظمة الصوت الشيوعي (الولايات المتحدة)

جوليا بار-تال، مزارعة، برلين (ألمانيا)

جوليان سالينغو، مدير صحيفة وموقع لانتيكابيتاليست ضمن الحزب الجديد المناهض للرأسمالية (فرنسا)

جولييت هاركين، كاتبة (بريطانيا)

جون دون، عضو اللجنة الفرعية لشبكة إضراب مناجم الفحم، نقابة عمال المناجم الوطنية، فرع دربيشاير (بريطانيا)

جون رايمان، أمين التسجيل السابق، نقابة النجارين الفرع 713، محرر في أوكلاند سوشلست (الولايات المتحدة)

جون فيفر، مدير مجموعة السياسة الخارجية تحت المجهر في معهد دراسة السياسات (الولايات المتحدة)

جون كالر، طبيب وزميل أكاديمية أطباء الأطفال الأميركية (الولايات المتحدة)

جوي أيوب، باحث دكتوراه مساعد في جامعة زيوريخ، مؤسس بودكاست ذا فاير ذيس تايمز، كاتب / صحفي (سويسرا)

جويل بينين، أستاذة فخرية في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد (الولايات المتحدة)

جيسي نصار مرشح دكتوراه، كينغز كولج لندن (لبنان)

جيمس ديكرت، مهندس كمبيوتر متقاعد (الولايات المتحدة)

جيمس مولالي، ناشط في مجال حقوق الإنسان، برتش كولومبيا (كندا)

جيمي مايرفيلد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة واشنطن بولاية سياتل (الولايات المتحدة)

جين إنغلاند، كاتبة (أوتياروا / نيوزيلندا)

جين ماكلينان، إعلامية مستقلة، ناشطة في مجموعة التضامن مع سوريا، لندن (بريطانيا)

جينارو جرفاسيو، أستاذ مشارك في التاريخ والسياسة في الشرق الأوسط بجامعة روما الثالثة (إيطاليا)

جيوفانا دي لوشا، مترجمة وناشطة (إيطاليا)

حبيب نصار، ناشط ومحامي (هولندا)

خالد صاغية، صحافي وكاتب، بيروت (لبنان)

خالد غنام، مدير مستودع (أستراليا)

خالد منصور، كاتب (مصر)

خايمي باستور، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الوطنية للتعليم من بعد (اسبانيا)

داريو لوبرينو، خبير جغرافي (سويسرا)

دان باكلي، المنظمة الماركسية-الإنسانية الدولية (الولايات المتحدة)

دان لا بوتز، صحيفة نيو بوليتيكس (الولايات المتحدة)

داني بوستل، كاتب، عضو حركة الأممية من تحت (الولايات المتحدة)

دانيال فيشر، حملة الغذاء لا القنابل (الولايات المتحدة)

درة مانا، الناشط (إيطاليا)

دنيا علي نجاد، محاضرة وباحثة ما بعد الدكتوراه في جامتي أمستردام وأوتريخت (هولندا)

ديفيد بروفي، أستاذ محاضر في التاريخ بجامعة سيدني (أستراليا)

ديفيد بيدجود، مسؤول النقاش والاستراتيجية في مجموعة التضامن مع سوريا (أوتياروا / نيوزيلندا)

ديفيد توربين، ناشط مناهض للحرب (الولايات المتحدة)

ديفيد دبليو جيد، قس وسفير كنسي، الكنيسة الجمعية في لايم القديمة، كونيتيكت (الولايات المتحدة)

ديفيد مكنالي، أستاذة متميزة لكرسي كولين للتاريخ، جامعة هيوستن (الولايات المتحدة)

ديفيد ن. سميث، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كانساس (الولايات المتحدة)

ديفيد ويستمان، منظمة الصوت الشيوعي، الولايات المتحدة

ديفيد يرتدي، زميل تدريس أول، مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

ديليب سيميون، معلم (الهند)

دينا مطر، محاضرة في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

راشمي فارما، جامعة وارويك (بريطانيا)

راشيل كيفي، رجل دين مسيحي، كنيسة ليفينغ تيبل يونايتد من أجل المسيح (الولايات المتحدة)

ربيكا ريكسهوسن، مساعد إدارة مشاريع، السفر شرقاً (ألمانيا)

رشاد علي، زميل أول مقيم في معهد الحوار الاستراتيجي (بريطانيا)

رنا عيسى، الجامعة الأميركية في بيروت (النرويج)

روبرت ريد، فيلسوف، جامعة إيست أنجليا (بريطانيا)

روبرتو أندرفيل، عامل اجتماعي وناشط (إيطاليا)

روجر سيلفرمان، مرشح سابق عن حزب العمال البريطاني للجنة التنفيذية الوطنية (بريطانيا)

رولان ميريو، عضو الفريق الوطني للرسوم المتحركة في أنسمبل! (فرنسا)

رومولو مولو، محامي (سويسرا)

رون كاري، محرر أول، ذا نيشن (الولايات المتحدة)

روهينى هينسمان، كاتب وباحث مستقل (الهند)

ريتشارد غريمان، مؤسسة فيكتور سيرج (فرنسا)

ريكاردو بيلا، مسرح فني، ميلانو (ايطاليا)

ريما ماجد، أستاذة مساعدة، الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)

زليخة ديناث، مؤلفة (جنوب أفريقيا)

زياد المرصافي، أستاذ الأدب المقارن في كينغز كولج في لندن (بريطانيا)

زياد ماجد، أستاذ مشارك، الجامعة الأميركية في باريس (لبنان / فرنسا)

زينات آدم، استراتيجي علاقات دولية، حملة وقف القصف (جنوب أفريقيا)

ساجدة بيات، سيدة أعمال (جنوب أفريقيا)

سادري خياري، مصمم (تونس)

سارة عباس، طالبة دكتوراه، جامعة برلين الحرة (ألمانيا)

ساسكيا ساسين، أستاذة في جامعة كولومبيا، نيويورك (الولايات المتحدة)

سام حمد، كاتب وباحث في جامعة غلاسكو (اسكتلندا)

سام فريدمان، شاعر وباحث في فيروس نقص المناعة المكتسب (الولايات المتحدة)

سامانثا فلاشياتوري، مؤلفة مستقلة على الإنترنت (إيطاليا)

ساندرا هيتزل، مترجمة وقيّمة معارض فنية (ألمانيا)

ستانلي هيلر، مذيع أخبار ذا ستراغل (الولايات المتحدة)

ستايسي براون، مديرة برنامج ريفيوجيز فوروورد (الولايات المتحدة)

ستيفان زغليزنسكي، كاتب وناشر (بولندا)

ستيفاني بريزيوسو، أكاديمية في جامعة لوزان وعضو البرلمان السويسري عن المجموعة اليسارية (سويسرا)

ستيفن زونس، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة سان فرانسيسكو (الولايات المتحدة)

ستيفن سولدز، التحالف من أجل علم نفس أخلاقي (الولايات المتحدة)

ستيفن شالوم، جامعة ويليام باترسون، نيو جيرسي (الولايات المتحدة)

ستيفن هاستينغز-كينغ، حاصل على دكتوراه، كاتب (الولايات المتحدة)

ستيفن هايدمان، مدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في كلية سميث (الولايات المتحدة)

سكوت لوكاس، محرر في EA وولرفيو، وأستاذ فخري في جامعة برمنغهام (بريطانيا)

سلوى إسماعيل، أستاذ العلوم السياسية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

سليم البيك، كاتب وصحفي فلسطيني سوري (فرنسا)

سو سباركس، حملة يونايت (بريطانيا)

سواتي بيرلا، جامعة ماساتشوستس أمهيرست (الولايات المتحدة)

سوبير سينها، محاضر أول في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

سوجي دوغان، أستاذ في المدرسة الوطنية العليا سكولا نورمال سوبريور (إيطاليا)

سوزان نوسباوم، كاتبة (الولايات المتحدة)

سيباستيان غو، أستاذ في جامعة لوزان وعضو سابق في مجلس مدينة لوزان (سويسرا)

سيدا ألتوج، أكاديمية، إسطنبول (تركيا)

سيدريك بايداتش، طباخ متقاعد (أستراليا)

سيلة بن حبيب، أستاذة كرسي يوجين ماير للعلوم السياسية والفلسفة، جامعة ييل (الولايات المتحدة)

سيلفيا شارنزي، مرشحة دكتوراه، سكولا نورمال سوبريور (إيطاليا)

سيمون عساف، محرر في المنشور almanshour.org لندن / بيروت (لبنان)

سينا زكافات، التحالف العالمي لإلغاء السجون (الولايات المتحدة)

شارل أندريه أودري، خبير اقتصادي، محرر في موقع ألينكونتر (سويسرا)

شيري وولف، مؤلفة ونقابية، مجموعة تمبست، مدينة نيويورك (الولايات المتحدة)

شيريل زور، الرئيس السابق للاتحاد الأمريكي لموظفي الدولة والمقاطعات والبلديات في المقاطعة 444 (USA)

شينتارو موري، الترجمة (اليابان)

ص. ج. ف. ميتشل، محرر أول في كريتيكال إنكويري، شيكاغو (الولايات المتحدة)

صالح سهند، مستقلة (الولايات المتحدة)

صامويل فاربر، أستاذ فخري في العلوم السياسية، كلية بروكلين في جامعة مدينة نيويورك (الولايات المتحدة)

عزت دروزة، أستاذ في كلية لندن الجامعية (بريطانيا)

علي باكير، باحث أول، مركز ابن خلدون (تركيا)

علي سمادي أحادي، مخرج (ألمانيا)

علي فتح الله-نجاد، جامعة برلين الحرة (ألمانيا)

عمر ديواشي، أنثروبولوجي في جامعة روتجرز، (الولايات المتحدة)

عمران فيروز، صحفي (ألمانيا)

عمرو العظم، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط والأنثروبولوجيا في جامعة ولاية شاوني (الولايات المتحدة)

عوفر نايمان، طالب وناشط في حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، القدس

غابرييل هولاند، مرشح دكتوراه ومدرّس مساعد في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

غراسييلا مونتيغودو، جامعة ماساشوستس في أمهيرست (الولايات المتحدة)

غريغوري سيل ليفينغستون، مبادرة الإيمان من أجل سوريا، نيويورك (الولايات المتحدة)

غولينه آتاي، صحفي تلفزيوني (ألمانيا)

غونتر أورث، مترجم (ألمانيا)

فابيو بوسكو، الاتحاد الشعبي المركزي CSP-Conlutas (البرازيل)

فاطمة مسجدي، باحثة مشاركة في مركز مارك بلوخ، برلين (ألمانيا)

فرانسيس سيتيل، عضو الفريق الوطني للرسوم المتحركة في أنسمبل! (فرنسا)

فرانشيسكا جورا، ناشطة (إيطاليا)

فرانشيسكا سكالينشي، مترجمة وكاتبة (إيطاليا)

فرانكو كاساغراندي (إيطاليا)

فرانكي هيل، محترف مستقل (نيوزيلندا)

فريدا أفاري، منتجة في شبكة تقدميون إيرانيون يمارسون الترجمة (الولايات المتحدة)

فنسنت كوماريه، كاتب أغاني (فرنسا)

فيروز مانجي، ناشر، درجة بريس (كندا)

فيفيان أوديل، عالم وباحث في مركز الفيزياء الفلكية للجسيمات بجامعة ويسكونسن (الولايات المتحدة)

فيكن تشيتيريان، محاضر في التاريخ والعلاقات الدولية في جامعتَي جنيف وويبستر في جنيف (سويسرا)

فيل غاسبر، أستاذ فخري في جامعة نوتردام دي نامور (الولايات المتحدة)

كاترين سماري، خبيرة اقتصادية، عضو المجلس العلمي ATTAC (فرنسا)

كاترينا كوبولا، ناشطة (إيطاليا)

كاثرين إستراد، مغنية (فرنسا)

كارولين جيلبرت، متقاعدة من مركز هيلب الاستشاري في جامعة مينيسوتا (الولايات المتحدة)

كاميلا باستور، أستاذة باحثة في قسم التاريخ ومركز بحوث وتدريس الاقتصاد (المكسيك)

كاوري هيزومي، منتج تلفزيوني، طوكيو (اليابان)

كريس كوليمانس، كاتب وصحفي (هولندا)

كريستوف رويتر، صحفي ومؤلف، برلين (ألمانيا)

كريستيان داندريه، عضو في البرلمان / المجلس الوطني (سويسرا)

كريستيان شونيسي الاشتراكيون الديمقراطيون الأميركيون، فرع إنلاند إمباير (الولايات المتحدة)

كريستيان فارين، موظف حكومي وعضو اللجنة الدولية للحزب الجديد المناهض للرأسمالية (فرنسا)

كريستين لوتيشتش، مختص بالشأن السوري، مبادرة التضامن الألمانية-السورية «تبنى الثورة» (ألمانيا)

كريغ لاركين، محاضر أول في كينغز كولج في لندن (بريطانيا)

كلود ماريل، تربوية متقاعدة، نقابية، النقابة الوطنية لموظفي التعليم والعمل الاجتماعي (فرنسا)

كوليت مورو، أستاذة الأدب واللغة الإنكليزية في جامعة بوردو نورث وست (الولايات المتحدة)

كولين كييس، عضو الهيئة التدريسية في معهد هارتفورد (الولايات المتحدة)

كونستانتين رينتلمان، طالب دكتوراه، جامعة إدنبره (بريطانيا)

كيفن ب. أندرسون، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا (الولايات المتحدة)

كيلي غروتكي، كاتب وحاصل على دكتوراه، بوسطن (الولايات المتحدة)

كين هيبرت، نشاطة في مجموعة التضامن مع فلسطين (كندا)

لوري كينغ، أستاذ مشارك في قسم الأنثروبولوجيا بجامعة جورجتاون (الولايات المتحدة)

لوريتا فاشينيتي، ناشطة (إيطاليا)

لورين لانغمان، أستاذة علم الاجتماع، جامعة لويولا في شيكاغو (الولايات المتحدة)

لويس واينر، أستاذة فخرية، جامعة نيو جيرسي سيتي (الولايات المتحدة)

ليديا بيتي، لجنة التضامن مع الشعب السوري – CISPOS (الولايات المتحدة)

ليزا ألبرشت، أستاذ متقاعد من جامعة مينيسوتا، عضو منظمة العدالة الاجتماعية (الولايات المتحدة)

ليزا ودين، أستاذة كرسي ماري ر. مورتون للعلوم السيباسية في جامعة شيكاغو (الولايات المتحدة)

ليفيا ويك، أستاذة مشاركة في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)

مارتا طويل-خوري، أستاذة باحثة في كوليخيو دي مكسيكو (المكسيك)

مارتي كوسكينيمي، أستاذ القانون الدولي في جامعة هلسنكي (فنلندا)

مارك غودكامب، أستاذ تاريخ، مجموعة التضامن مع سوريا في أستراليا (أستراليا)

ماري ريزو، مترجمة وناشطة (إيطاليا)

ماري كيليان، عازفة بيانو / معلمة موسيقا، برلين (ألمانيا)

ماري لين ميرفي، لجنة التضامن مع الشعب السوري – CISPOS (الولايات المتحدة)

ماريز هيجارتي، عاملة في التنمية المجتمعية، مجموعة التضامن مع سوريا في أيرلندا (أيرلندا)

مارينا شنتونزي، ناشطة (إيطاليا)

مازن الحلبي، ناشط (الولايات المتحدة)

ماهفيش أحمد، أستاذ مساعد في حقوق الإنسان والسياسة، كلية لندن للاقتصاد (المملكة المتحدة)

مايكل ألبرت، زي نت (الولايات المتحدة)

مايكل بروبستينغ، مؤلف، رئيس تحرير موقع ذا كوميونستس thecommunists.net (النمسا)

مايكل سانتوس، ناشط مناهض للحرب (الولايات المتحدة)

مايكل فولر، خبير خرائط وعالم اجتماع، برتش كولومبيا (كندا)

مايكل كاردييس، جامعة غرب سيدني، مجموعة التضامن مع سوريا في أستراليا (أستراليا)

مايكل لوي، مدير أبحاث فخري في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية (فرنسا)

مايكل هيرش، الاشتراكيون الديمقراطيون الأميركيون في نيويورك (الولايات المتحدة)

محمد خيرالله، عمدة بروسبكت بارك، نيو جيرسي (الولايات المتحدة)

محمد الخولي، لجنة التضامن مع الشعب السوري – CISPOS (الولايات المتحدة)

محمد عبدي نور، الأمين العام للنقابات الصومالية العامة (الصومال)

مهدي قدسي، خبير اقتصادي، معهد فيينا للدراسات الاقتصادية الدولية (النمسا)

مي طه، كلية غولدسميث في جامعة لندن (بريطانيا)

مير كيلي، ناشطة، برلين (ألمانيا)

ميسون سكرية، محاضر أول في كينغز كولج في لندن (بريطانيا)

ميغان كين، مدير مشاركة لإمرجنت هورايزنز (الولايات المتحدة)

ميغيل أوربان، عضو البرلمان الأوروبي (اليسار الأوروبي المتحد – يسار الخضر الشمال-أوروبي) (إسبانيا)

نادر هاشمي، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة دنفر (الولايات المتحدة / كندا)

نادية العلي، أستاذة الأنثروبولوجيا ودراسات الشرق الأوسط في جامعة براون (الولايات المتحدة)

نادية سمور، محامية، برلين (ألمانيا)

نادية ليلى عيساوي، عالمة اجتماع (الجزائر / فرنسا)

نازان أوستونداج، باحثة مستقلة (ألمانيا)

نافتيج بيوروال، أستاذة في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

نانسي هولمستروم، أستاذة فخرية في جامعة روتجرز (الولايات المتحدة)

نايجل جيبسون، كلية إيمرسون (الولايات المتحدة)

نعوم تشومسكي، جامعة أريزونا (الولايات المتحدة)

نعيم جيناه، مدير تنفيذي للمركز الأفريقي الشرقوسطي (جنوب أفريقيا)

نقولا غاندولفي (اسبانيا)

نيك رايمر، جامعة سيدني (أستراليا)

نيلس دي داردل، محامي، عضو سابق في البرلمان (سويسرا)

هادريان بوكلين، أكاديمية ونائبة عن المجموعة اليسارية في برلمان محافظة فود (سويسرا)

هارالد إتزباش، صحفي (ألمانيا)

هاروت أكيديان، زميل أول، مشروع الإضراب من الهوامش، الجامعة المركزية الأوروبية (الولايات المتحدة)

هايده موغيسي، أستاذة فخرية في جامعة يورك (كندا)

هوي هوكينز، مرشح حزب الخضر للرئاسة لعام 2020 (الولايات المتحدة)

هيذر أ. براون، أستاذ مشارك في علم الاجتماع، جامعة ولاية ويستفيلد (الولايات المتحدة)

هيروكي أوكازاكي، محاضر جامعي (اليابان)

هيلين لاكنر، باحثة مشاركة في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

وحيد يوجسوي، مرشح دكتوراه، جامعة مونتريال (كندا)

ويندي بيرلمان، أستاذة في جامعة نورث وسترن (الولايات المتحدة)

ياسمين فيدا، مخرجة وفنانة (بريطانيا)

يايرس بناجي، مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

يناير مالويسكي، محرر في مجلة إنبريكور (فرنسا)

ينس ليرش، محاضر في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن (بريطانيا)

ينس هانسن، جامعة تورنتو (كندا)

يوسي برتال، كاتب (ألمانيا)

——————————

========================

تحديث 29 أذار 2021

————————

نداء إلى السوريين الأحرار/ ميشيل كيلو

كان بهيجاً، ومفاجئاً، ويبعث على التفاؤل، مشهد ملايين السوريين في مظاهراتهم التي عمّت مناطق عديدة، في الشمال والجنوب، وهم يهتفون للحرية وللوحدة الوطنية في سورية المستقبل، بعد عشرة أعوام من الصمود الأسطوري، على ما فيها من معاناة، وآلام، وتضحيات، وبطولات. بيد أن تلك المظاهرات العارمة تؤكّد، أيضا، أن شعبنا يعيش على الأمل، وأن روح الوطنية السورية ما زالت متقدة في قلبه، على الرغم من كل ما مر به من أهوال، وأنه أحوج ما يكون إلى قوى حية تمثله، وتعبر عنه، وتدير كفاحه لتحقيق حقوقه.

هذه الظاهرة الوطنية عند شعبنا، وعبّر فيها عن نفسه، تحتاج منا إلى موقف مسؤول، وموحّد، يتفق معها، ويواكبها، فيما أعتقد، أو أحلم، به كرسالة إلى العالم، تفيد بأن زمن الاستبداد السوري ولّى إلى غير رجعة، وأن سورية الأسد ولّت إلى الأبد، وأن لا أحد يستطيع إنقاذ هذا النظام، مهما كانت قدراته، وأن محاولة روسيا (أو إيران) ذلك لن تُفضي إلى شيء، فهي بمثابة قبض ريح، لأن سورية لا يمكن أن تكون إلا لشعبها، ولمن يرى فيهم ضيوفا بشروطه المنفتحة على العالم، وفق قيم الحرية والكرامة والعدالة.

خرجت تلك المظاهرات لتجدّد الأمل، على الرغم من الألم، في لحظةٍ تتراكم خلالها عوامل إيجابية لصالحنا، وسلبية لصالح عدونا النظام الأسدي الذي يبدو أنه يجابه مأزقا، لا مخرج له، أو لنظامه منه. ما يضعنا، أيضا، إزاء مسؤولياتنا، وضمنها أننا في أمسّ الحاجة إلى لقاء سياسي، لقاء وطني جامع، نقطع بواسطته مع خلافاتنا التي استهلكتنا واستنزفتنا وبدّدت تضحياتنا. مطلوبٌ أن نقف صفا واحدا لمواجهة هذا الخراب، وهذا التخريب، في أوضاعنا، أولاً كي نكون على مستوى تضحيات شعبنا وآماله. وثانيا، كي نكون عند مستوى مسؤولياتنا الوطنية. وثالثا، كي نقنع العالم بعدالة قضيتنا، وبجدارتنا في تحمّل المسؤولية، كي يأخذنا على محمل الجدّ، أي يجب أن نقنع أنفسنا وشعبنا والعالم بأننا جديرون بتلك المسؤولية الوطنية. فهل من مبادر لطي تلك الصفحة، على قاعدة المراجعة النقدية المسؤولة، وعلى قاعدة الاستقلالية، وعلى قاعدة المسؤولية الوطنية، وعلى قاعدة الولاء للشعب السوري وحقوقه الوطنية؟ هل من مبادرٍ إلى ذلك كله؟ أو ألم يحن الوقت لخطوة في هذا الاتجاه نؤسس عليها؟

على الصعيد الدولي، تتحرّك دول أوروبية عديدة، وتتحرّك الولايات المتحدة، بكونغرسها (مجلسي النواب والشيوخ) وبإدارتها، نحو تدعيم جهدنا وكفاحنا للتحرّر من نظام الأسد، فهل يعقل ألا نتحرّك نحن نحو قضيتنا، من خارج صندوق خلافاتنا الحزبية والفئوية والشخصية، التي سدّت دربنا نحو حريتنا من ضمن عوامل كثيرة نعرفها جميعنا؟

مفهومٌ أننا جميعا نتحمّل المسؤولية، أشخاصا وكيانات، بهذه الدرجة أو تلك، وضمن ذلك شيوع أوهام ومراهنات ثبت، منذ البداية، عقمها، ومخاطرها على شعبنا وقضيتنا وثورتنا، كما يأتي سوء التخطيط، وغياب التفكير الجماعي، والنزعة نحو الاستئثار، وغلبة المصالح الشخصية، والارتهان لهذه الدولة أو تلك. وقد أسهمت كل تلك الأمور في حرف ثورتنا، أو إزاحتها عن مسارها الصحيح، أو الصائب، إلى الدرجة التي استطاع فيها النظام أن يكسب الجولة تلو الجولة، سياسيا وعسكريا وعلى الصعيد الدولي، فكانت النتيجة ما نعرف ونرى.

بصراحة، لن يؤدّي ما يحصل إلى إسقاط الإسلاميين وحدهم، ولا الديمقراطيين وحدهم ولا القوميين وحدهم، ولا اليساريين وحدهم. جميع تلك التيارات ستسقط في معركة المسؤولية الوطنية، إذا لم نتدارك ما يحصل. وأقصد هنا تحديدا تلك التيارات، بغض النظر عن خلفيتها الفكرية، أي تلك التي ترى في سورية وطنا لها، وأن السوريين جميعا مواطنون أحرار ومتساوون، والمستقلة عن أي نظام في الإقليم، أي تلك القوى التي تمثل (وتتمثل) شعب سورية وقضيته وحقوقه، قبل، وفوق أي أحد آخر.

لن يُسقِط الإسلاميون وحدهم، أو اليساريون أو القوميون، الديمقراطيون، وحدهم، نظاما وحشيا تدعمه قوة إقليمية، وأخرى دولية متوحشة مثله، وأكثر. ولن يسقُط ما لم تقتنع الدولتان المعنيتان بأننا نمتلك من القوة ما يصدّ محاولاتهما فرض إرادتهما علينا، فهل تكون مراجعتنا أحوالنا التي تتجاوز حزبيتنا، ومصالحنا الضيقة، خطوتنا التالية على درب التمهيد للنهوض وتاليا للانتصار المأمول؟

باختصار، من غير المعقول أن نستمر في التمسّك بمصادر إضعاف ثورتنا وقضيتنا وشعبنا. ومن غير المعقول أن نستمر على ذلك المسار، التفتيتي، والارتجالي، والمرتهن للخارج، والذي خدم النظام أكثر مما أسهم في زعزعته.

تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، تعالوا نجدّد العهد لشعبنا .. تعالوا إلى مراجعة نقدية، نوضح فيها، بصراحةٍ وبمسؤولية وبشفافية، أين أخطأنا وأين أصبنا، وكيف يجب أن نعيد بناء أحوالنا.. هذا ما يريده شعبنا.. فلنكن على قدر تلك الإرادة.

العربي الجديد

——————————-

القضية الكردية السورية والثورة: بين الحق واستغلال الحق/ عبد الباسط سيدا

كانت أنظار السوريين الثائرين على حكم الاستبداد والفساد متجهة في بداية الثورة نحو الكرد السوريين، الذين كانوا، وما زالوا، يعانون على مدى عقود من حكم البعث، خاصة في حقبته الأسدية من ظلم مركب، قوامه الظلم المفروض على جميع السوريين من جهة، والظلم الخاص بالكرد من جهة ثانية. هذا الظلم الذي كان يتمظهر في صيغة اضطهاد مزدوج  يتجسد في جملة من المشاريع والإجراءات العنصرية مثل الإحصاء الاستثنائي 1962، و»الحزام العربي» 1973، والتعريب القسري الذي شمل أسماء البلدات والقرى، وحتى الأسماء الشخصية الكردية. هذا فضلاً عن حرمان الشباب الكرد من البعثات الدراسية سواء الداخلية منها أم الخارجية؛ وإبعادهم عن كليات الجيش والشرطة، وعن الوظائف لا سيما العليا منها.

وإلى جانب هذا وذاك، كانت دائما هناك الإجراءات الاستثنائية، والقرارات السرية التي تستهدف التلاعب بديموغرافية تلك المناطق، ودفع أهلها نحو الرحيل. ويُشار هنا على وجه التحديد إلى المرسوم 49 لعام 2008 الذي أفسح المجال أمام الأجهزة الأمنية للتحكم بكل شاردة وواردة في المناطق المعنية، عبر استغلال القوانين الخاصة بالمناطق الحدودية، لا سيما على صعيد التدخل في عقود البيع والشراء، وتراخيص البناء؛ وكل ذلك أدى إلى شل الحياة الاقتصادية التي كانت أصلا ضعيفة في تلك المناطق نتيجة سياسات السلطة المبرمجة. وحده قطاع البناء والعقارات كان هو الذي يحرك سوق العمل في تلك المناطق، وذلك بفضل جهود خاصة، فجاء المرسوم المذكور ليسد الطريق أمام المواطنين الكرد، ويرغمهم على الهجرة سواء إلى الداخل السوري أم إلى خارج البلاد.

أما الجانب الآخر من الاضطهاد المزدوج المشار إليه، فقد تشخّص في حرمان الكرد من جميع الحقوق القومية المشروعة التي باتت اليوم من البدهيات المسلم بها في مختلف أنحاء العالم، ويشار هنا إلى الحقوق الثقافية والاجتماعية والسياسية والإدارية، وغيرها من الحقوق التي تحترم الخصوصية الكردية على أساس وحدة الشعب والوطن.

وكانت حجة النظام المستمرة هي زعمه أن هناك نزعة انفصالية كردية لا بد من أخذ كل الإجراءات لسدّ الأبواب عليها؛ هذا مع العلم أن النظام نفسه كان يعرف من خلال أجهزته ومتابعته المستمرة للقضية الكردية السورية أنه لا يوجد أي أساس واقعي لمثل هذه النزعة، بل لا توجد امكانية لتحقيقها؛ ولا توجد أي دعوات رسمية من جانب أي حزب كردي يطالب بها. وإنما كان الموضوع برمته يدخل ضمن خانة الفزّاعات التي كان النظام يسوغ من خلالها سياساته في ميدان اشغال السوريين بقضايا وهمية، ليتمكن من التحكم بكل مفاصل الدولة والمجتمع السوريين، و»الفزّاعة الكردية» كانت شبيهة إلى حد كبير بـ «فزاعة الإرهاب» التي استخدمها، ويستخدمها، اليوم لمواجهة كل السوريين الثائرين على حكمه المستبد الفاسد المفسد.

غير أن الكرد السوريين لم يستسلموا من جانبهم لهذه السياسة الاضطهادية، بل اعترضوا عليها دائماً، وعملوا باستمرار على إلغائها، وطالبوا بحقوقهم المشروعة. وشكلوا من أجل ذلك الأحزاب والمنظمات، وتظاهروا واعتصموا وأقاموا الندوات، ووزعوا المنشورات، وأصدروا الجرائد والمجلات غير المرخصة. وكانت احتفالات النوروز عادة مناسبة للمطالبة برفع الاضطهاد، وتأمين الحقوق. وقد تعرض الكرد باستمرار للملاحقة والاعتقال، والفصل من الوظائف، وسد أبواب الوظائف بكل درجاتها نهائيا أمام الناشطين الكرد، وبلغت الاحتجاجات الكردية ذروتها في انتفاضة القامشلي ربيع عام 2004 التي شملت سائر المناطق الكردية السورية، وامتدت إلى المدن الكبرى، ووصلت أصداؤها إلى العواصم والمدن الكبرى في العالم حيث الجاليات الكردية السورية.

ومع انطلاقة الثورة السورية التي كانت رداً على تراكمات الاستبداد والفساد، وانسداد الآفاق أمام الجيل الشاب، وانعدام الأمل بمستقبل واعد للأجيال المقبلة؛ تطلع السوريون نحو الكرد، شركاءهم في الوطن والمصير، وراهنوا على تفاعلهم العضوي مع الثورة، هذا رغم عدم معرفة الكثير من السوريين بتاريخ وحجم وطبيعة القضية الكردية في سوريا؛ ولم يكونوا على اطلاع كامل بأبعاد ومآلات السياسية الاضطهادية التمييزية التي تعرضوا لها على مدى عقود، وذلك نتيجة سياسات النظام التي حرصت على الفصل بين السوريين، والتعامل مع كل القضايا الداخلية على أنها من أسرار الدولة التي يحظر الحديث عنها، وإبداء الرأي فيها.

ولعل هذا ما يفسر محدودية نطاق حالات التفهم والتعاطف مع الحقوق الكردية، فقد كانت حالات خجولة، إن لم نقل متوجسة، حتى بين الكثير من النخب المعروفة بمناهضتها للنظام. وقلائل هم من تفهم القضية الكردية السورية، وساندوها بقوة في سياق رؤيتهم لها بوصفها قضية وطنية سورية عامة، تستوجب الحل العادل ضمن إطار وحدة الشعب والوطن.

تفاعل الشباب الكردي السوري منذ اليوم الأول مع الثورة السورية، بل كان موجودا حتى في المراحل التمهيدية لها. وجميعنا يتذكر كيف كانت مظاهرات عامودا تُبث عبر الفضائيات بعد مظاهرات حمص الكرنفالية. وكان هناك حراك شبابي لافت في مختلف المدن والبلدات ذات الأغلبية الكردية، وكان الالتزام بشعارات الثورة وجداولها الزمنية، الأمر الذي كان يعزز آمال السوريين، ويثير مخاوف النظام.

وكانت وسيلته مع الكرد دفاتره القديمة – الجديدة مع حزب العمال الكردستاني. وتم الاتفاق بالتنسيق مع الإيراني، وربما الروسي، على ادخال قوات الحزب المعني تحت اسم قوات «حماية الشعب» وبقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المرتبط بعلاقات وثيقة مع النظام الإيراني. وتم تسليم المناطق الكردية إلى تلك القوات، كما تم توزيع المهام والوظائف بينها وبين النظام، وكان الاتفاق على قواعد العمل، هذا إلى جانب تزويدها بالسلاح والمعدات والمال من جانب النظام.

وقد استمد هذا الحزب الكثيرمن أدوات النجاح من مواقف الأحزاب الكردية المترددة التي كانت تروّج بعض الأفكار لتتستر خلفها، وتواجه من خلالها الضغط الشعبي الذي كان يطالبها بالانضمام إلى الثورة. ومن بين ما كنا نسمعه في ذلك الحين هو أن النظام استبدادي، والمعارضة شوفينية، وعلينا أن ننتظر، لأن المهم بالنسبة لنا هو حصولنا على حقوقنا، هذا ما كانت تنظّر له بعض الأحزاب التي انضمت لاحقا إلى أدارة حزب العمال الكردستاني «الذاتية». هذا مع العلم أن المعارضة في ذلك الحين كان قد أصدرت أفضل الوثائق التي اعترفت صراحة بالخصوصية والحقوق الكردية  في سوريا، ويشار هنا إلى وثيقة المجلس الوطني السوري ربيع عام 2012، ومؤتمر المعارضة السورية في القاهرة صيف عام 2012.

وهكذا استطاع الحزب المعني تثبيت وجوده، بعد ان تمكن من اخراج شباب التنسيقيات الكردية من الساحة، عبر الترغيب والترهيب، وكانت مجزرة عامودا صيف عام 2013 هي الذروة كما نعلم جميعاّ.

أما الأحزاب الكردية التي ظلت مترددة حائرة حتى بعد تشكيل المجلس الوطني الكردي 2012 بعد أيام من تأسيس الوطني السوري، فقد كانت ترفع السقف وهي تدرك سلفاً أنها لا تملك أوراق الضغط، وليس لديها القدرات التي تمكّنها من الصمود، ومنع حزب العمال الكردستاني من الاستفراد بساحتها.

وهكذا تحول هذا الحزب «العمال الكردستاني» عبر واجهته السورية، «حزب الاتحاد الديمقراطي»، مع الوقت إلى قوة أمر واقع. أعلن عن الكومونات والدستور؛ ثم جاء بفكرة الإدارة الذاتية، وقد استفاد لاحقاً من الطلب الأمريكي الخاص على المقاتلين الميدانيين لمواجهة «داعش». فبدأ يدفع بالشباب الكرد نحو محافظتي دير الزور والرقة، عبر فرض التجنيد الاجباري الذي يبدو انه كان قد توافق حوله مع النظام  منذ البدايات.

واليوم، ورغم مرود أكثر من سنة على بدء المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني عبر واجهاته السورية من جهة، والمجلس الوطني الكردي السوري من جهة ثانية، برعاية أمريكية، يُلاحظ أن هذه المفاوضات لم تسفر حتى الآن سوى عن نتائج متواضعة جداً، لا يمكن البناء عليها للوصول إلى اتفاق شامل كامل، يكون في صالح الكرد السوريين تحديداً، وفي صالح السوريين بصورة عامة. وليس سراً أن العقبة الكأداء التي تعترض سبيل هذه المفاوضات، تتمثل في العلاقة العضوية الشاملة بين حزب الاتحاد الديمقراطي، والمفاصل الأساسية في «قسد» من ناحية، وحزب العمال الكردستاني من ناحية ثانية. وهي علاقة وحيدة الاتجاه، بمعنى أن الطرف المتحكم هو العمال الكردستاني، الذي يستغل عدالة القضية الكردية السورية، ويتخذها ورقة من أوراقه الإقليمية التي لا تتقاطع مع مصلحة الكرد السوريين، ولا مع مصلحة السوريين.

القضية الكردية السورية هي قضية سورية وطنية داخلية، تسبّب النظام في استفحالها عوضاً عن معالجتها، فأصبحت قضية إقليمية؛ ثم غدت مع تطورات الأوضاع في سوريا منذ عام 2011 قضية دولية، ومثل هذه القضايا تستوجب حلولاً استراتيجية على مستوى الإقليم، إذا كانت هناك رغبة في تعزيز الأمن والاستقرار على اسس عادلة، ولمصلحة الجميع.

* كاتب وأكاديمي سوري

القدس العربي

———————————

سنوات حرب ثقيلة… سوريا تخسر موردها البشري ببطء وصمت

زينة شهلا /فريق تحرير قسم حياة

“يلزمنا عامل ذو خبرة”… “يلزمنا عمال شباب”… “يلزمنا مدير للصالة”… “يلزمنا موظفو وموظفات تسويق بخبرة كبيرة”…

هي إعلانات لا بد لأي سائر في أسواق العاصمة السورية دمشق، والمدن السورية الأخرى، من ملاحظتها على واجهات العديد من المحال والورشات، وقد ازداد عددها بشكل مطّرد عاماً بعد آخر، بالتزامن مع الحديث عن نزيف هائل للكوادر البشرية خلال عشرة أعوام من الحرب.

الهرب من الموت والبحث عن الأمان، خسارة الممتلكات وموارد الرزق الأساسية، تدني مستوى المعيشة، الرغبة بالحصول على تعليم أفضل وفرص عمل مضمونة أكثر، وغيرها من الأسباب، هي التي دفعت بما لا يقل عن خمسة ملايين ونصف المليون سوري لمغادرة بلادهم منذ العام 2011، والتوجه نحو كافة أصقاع العالم، طلباً لحياة أفضل.

ومن ضمن هذه الخسارات، تتحدث الأرقام الرسمية وغير الرسمية عن هجرة وفقدان نسب تتراوح بين 20 و80 بالمئة من العاملين، ضمن القطاعات المهنية والعلمية وحاملي الشهادات العليا على اختلافها، ما يعني حدوث نقص وخلل في البنى الاقتصادية والمهنية، والحاجة للكثير من الجهود لترميمه وتعويضه، الأمر الذي يتحدث خبراء عن الحاجة لعدة سنوات، وربما عقود، لتجاوزه.

“أبحث عن عمال ولا أجد”

تحدث رصيف22 مع عدد من أصحاب المحال والورش في دمشق وريفها، حول معاناتهم في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، في استقطاب موظفين وعمال يتمتعون بالخبرة الكافية.

يقول صائب الحجار، الذي يملك ورشة لأعمال النجارة في بلدة جرمانا شرق دمشق، إن العامين الأخيرين مثّلا التحدي الأكبر لعمله على الإطلاق، مع “نزيف غير مسبوق في اليد العاملة التي تمتلك المهارات والتمرّس المهني الذي يتطلبه هذا النوع من الأعمال عادة”.

ويضيف الرجل الأربعيني: “لا تكمن المشكلة فقط في العثور على عمال ماهرين، الأمر الذي كان متاحاً بسهولة ويسر في السنوات السابقة للحرب، وإنما في الاحتفاظ بمن نجدهم وتحفيزهم على العمل، وهي مهمة باتت شاقة للغاية”.

يعزو الحجار هذه المشاكل لعدة أسباب، فبالإضافة للسفر والوفاة، يتحدث عن فقدان الرغبة بالعمل لساعات طويلة، وفي الوقت ذاته الإحساس بعدم الجدوى: “فأنا لا قدرة لدي على تخصيص رواتب شهرية عالية، مع انخفاض وتيرة العمل بشكل ملحوظ مؤخراً. إن كان العامل سيتقاضى مبلغاً شهرياً لا يزيد عن مئة ألف ليرة (30 دولاراً وفق سعر الصرف غير الرسمي)، فعن أي حافز نتحدث، وتكاليف المعيشة ترتفع يومياً دون قدرتنا على مواكبتها؟”.

وفي سوق الصالحية وسط دمشق، يعلق محمد الحلبي على واجهة محله لبيع الملابس الرجالية، ورقة كُتب عليها “مطلوب مدير صالة وأمين صندوق ذوا خبرة”. يصف الرجل الأربعيني وضع السوق واليد العاملة حالياً في سوريا “بالمأساوي”، ويتحدث عن معاناة غير مسبوقة بموضوع التوظيف.

“لا تكمن المشكلة في عدم وجود راغبين بالعمل، وإنما في عدم امتلاك الخبرات الكافية، وهو أمر ضروري لبعض المناصب، كإدارة الصالة أو العمل على برامج المحاسبة”، يقول الحلبي، ويضيف بأن المعضلة الأخرى التي تواجهه هي في “دورة الحياة القصيرة للموظف”، فوتيرة السفر ارتفعت في العامين الأخيرين، وكثير من الموظفين يستقرون في العمل لأشهر قليلة فقط ثم يقررون السفر، فيضطر لتوظيف أشخاص جدد وتعليمهم من الصفر، ليسافروا بدورهم، ويبقى هو ضمن الدوامة نفسها. “شروط العمل باتت مجحفة للجميع، لنا ولهم”، يقول في ختام حديثه.

خسارة خطيرة

في حديث لرصيف22، يصف الصحفي السوري المتخصص بالشؤون الاقتصادية، زياد غصن، فقدان اليد العاملة السورية بأنه “خطير، إذ خسرت البلاد الكثير من الكفاءات والخبرات، ممن اضطرّوا تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية إما إلى ترك اختصاصاتهم والعمل في مجالات أخرى تؤمن دخلاً مادياً أفضل، أو النزوح عن مدنهم وقراهم، داخلياً أو خارجياً، وسلوك الهجرة نحو دول أخرى طلباً للأمان والاستقرار”.

والخسارة هنا وفق غصن مضاعفة، فمن جهة نحن نتحدث عن مبالغ هائلة استثمرت بتعليم وتدريب وتأهيل هذه الكفاءات، وكمثال على ذلك هجرة أكثر من 10 آلاف طبيب ومهندس لألمانيا خلال السنوات الخمس الأولى من الحرب، والتقديرات تقول إن الدولة السورية تكلفت عليهم منذ الولادة أكثر من 10 مليارات دولار. ومن جهة أخرى هناك خسارة جرّاء فوات المنفعة التي كان يمكن لهذه الكفاءات والخبرات تقديمها للبلد، وإلى الآن ليست هناك بيانات رسمية لتقدير حجم خسارة البلاد الاقتصادية والفكرية.

ويشير غصن إلى نقطة بالغة الأهمية برأيه، وهي أن “خسارة البلاد من العمال المهرة والفنيين أخطر بكثير من أصحاب الشهادات الجامعية، فالثانية يمكن للبلاد تعويضها خلال سنوات معينة مع استمرار الدعم الحكومي للتعليم بمختلف مراحله، لكن تأهيل وتدريب العمال يحتاج إلى فترة أطول، لأنها خبرة قائمة على الانخراط بالعمل وتجارب الواقع”.

تتفق الدكتورة هلا الشاش، مديرة الموارد البشرية في الجامعة العربية الدولية بسوريا، مع هذا الرأي، إذ تقول بأن المهارات المتوارثة من جيل لآخر، والتي كان السوريون معروفين بها على مدار عقود ماضية، هي اليوم مهددة بالانقراض بسبب النزيف غير المسبوق باليد العاملة ذات الخبرة والكفاءة. وبالتالي نحن نتحدث اليوم عن “فقدان مركّب بالكوادر، فنحن لا نخسر فقط من يخرجون من سوق العمل، وإنما نخسر خبراتهم المتراكمة، وبالتالي يمتد الأثر على أجيال متتالية، لعدم القدرة كل مرة على إعادة البناء من الصفر”.

وللأمر عدة أسباب، كما تقول الشاش في لقاء مع رصيف22، منها “انغلاق السوق السورية بسبب الحرب والعقوبات، وانعدام فرص المنافسة فيها، وبالتالي انخفاض الحد الأدنى من المعايير المهنية، وتقلص فرص العمل الحقيقية التي يكون عادة لها دور محوري ببناء المهارات والخبرات، مقابل فرص عمل قصيرة الأمد وغير ذات أهمية، وغياب مفهوم الرقابة الجادة التي تلزم بالتقيد بمعايير معينة لا يجوز التنازل عنها، إلى جانب التدهور الحاصل في مستوى العملية التعليمية بجميع مراحلها”.

ولا تغفل الشاش ذكر التأثيرات العميقة للأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريون اليوم، “فكيف سأحصل على عامل أو حرفي ماهر، وهو غير قادر في نهاية الشهر على تأمين تكاليف معيشة كريمة لعائلته؟”. بذلك، تغدو عملية إدارة الموارد البشرية في سوريا برأيها من “أصعب المهام، فنحن عدنا إلى أسفل قاعدة هرم الاحتياجات، وبدلاً من التفكير بتطوير مهاراتنا، نحن مضطرون للعمل ليل نهار لتأمين قوت يومنا”.

وتصف المتحدثة كل ذلك بأنه “تغير خطير بهوية السوق في سوريا، إذ انتقلنا من سوق مفتوح بخبرات محلية وخارجية، ومنافسة على مستوى عالٍ، والقدرة على تبادل الخبرات والمعارف مع العالم الخارجي، إلى سوق يمكنني أن أقول بأنه مقهور، وفيه اليوم من العناصر الدخيلة غير الأصيلة ما يزيد من وطأة وتأثير هذه التغييرات”.

الحاجة لحلول عاجلة

إن كنا نتحدث عن ملامح بدأت تتبدى الآن لكل هذه الخسارات، سواء من خلال نقص اليد العاملة والماهرة الذي تعانيه مختلف المعامل والمنشآت والورش الحرفية، للقطاعين العام والخاص، أو من خلال النقص في المهن الحرة المتعلقة بالاحتياجات اليومية للمواطنين، وأيضاً الكفاءات في المنشآت الثقافية والفكرية والتعليمية، فهذه الملامح، كما يقول زياد غصن، ستظهر أكثر مع دخول البلاد في مرحلة إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، ما يعني الحاجة لحلول عاجلة.

    كيف سأحصل على عامل أو حرفي ماهر، وهو غير قادر في نهاية الشهر على تأمين تكاليف معيشة كريمة لعائلته؟ نحن عدنا إلى أسفل قاعدة هرم الاحتياجات، وبدلاً من التفكير بتطوير مهاراتنا، نحن مضطرون للعمل ليل نهار لتأمين قوت يومنا

من هذه الحلول، تتحدث هلا الشاش عن “منظومة كاملة لا بد من العمل عليها، من التعليم للتدريب لبناء القدرات للتأهيل، للخروج بجيل جديد قادر على أن يزاول مختلف أنواع المهن والأعمال بحرفية عالية”.

وبتفصيل أكثر، يتحدث غصن عن أن إعادة ترميم الفجوة في اليد العاملة اليوم يحتاج لبرنامج وطني يعمل على محورين أساسيين: الأول إعادة استقطاب اليد العاملة الخبيرة والمؤهلة وتشجيعها على العودة إلى البلاد، وهذا يتطلب معالجة كل العوائق التي تعترض تنفيذ مثل هذه المهمة الضرورية، وحتى لو كانت تلك العودة جزئية، بتشجيع الكفاءات والخبرات على القيام بزيارات دورية ونقل معارفهم إلى نظرائهم داخل البلاد.

والمحور الثاني يتعلق بالعمل على إطلاق مبادرات وطنية هدفها التعليم والتدريب، مثل حملة “تدريب مليون شاب سوري”، والدورات التدريبية بمختلف المهن والتي تهدف لتأهيل اليد العاملة الشابة ومساعدتها على توفير مصدر دخل لها ولأسرتها.

لكن، “كل هذه الحلول لن تكون كافية إذا استمر الوضع على ما هو عليه، من تطفيش للكفاءات والخبرات التي لا تزال موجودة داخل البلاد، وتهميش دورها وعدم السماح لها بتقديم خبراتها ومعارفها”، يختتم غصن حديثه، وتضيف الشاش بأن على “أي سياسة حكومية أن تضع الموارد البشرية ضمن أولوياتها، وأن تكون براغماتية في التعامل معها، وإلا فإنها تساهم بضياع ما تبقى من خبرات سورية لا زالت تكافح داخل البلاد أملاً بمستقبل أفضل”.

رصيف 22

——————————–

سورية.. عشر سنوات من الحصاد المر/ رسلان عامر

فهرس الدراسة

تقديم

1- الخسائر البشرية

2- الاعتداء الجنسي

3- النزوح

4- أضرار القطاع الصحي

5-التدهور الاقتصادي

6- تدني مستوى التعليم

7- ارتفاع معدلات الجريمة

8- نمو ظاهرة البغاء

9- الارتزاق

10- تجنيد الأطفال

11- فوضى السلاح

12- المشكلات الاجتماعية

خلاصة

تقديم

قبل أربعة أعوام، مع دخول الصراع عامه السابع، صنفت الأمم المتحدة النزاع في سورية بوصفه “أسوأ كارثة من صنع الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية”([1])، واليوم -وهذا النزاع يوشك أن يتم عامه العاشر- صارت هذه الكارثة أسوأ كثيرًا كمًا وكيفًا، وامتدت إلى كافة مجالات الحياة وميادين المجتمع، ووضعت عليها بصماتها الطاغية التي ما زالت تنمو بشراسة، ولا يبدو أن نهاية ذلك قريبة.

هذه الدراسة مساهمة في توضيح تفاصيل الواقع السوري المأساوي بعد عشر سنوات من الحرب المدمّرة، وما أصيب به من أضرار فادحة إنسانيًا واقتصاديًا وأخلاقيًاوعلميًا وسوى ذلك.

1- الخسائر البشرية

تشمل هذه الخسائر القتلى والمصابين بإعاقات دائمة والمفقودين بين المحاربين والمدنيين من الرجال وبين النساء والأطفال، وليس هناك إحصائية رسمية دقيقة شاملة لعدد هؤلاء الضحايا، ولكن المعطيات المختلفة جميعها تجمع على ضخامة أعدادهم، ووفقًا لجريدة الشرق الأوسط في عددها 15013 الصادر في 5 كانون الثاني/ يناير 2020، ونقلًا عن (المرصد السوري لحقوق الإنسان)، فقد تسببت الحرب السورية، منذ اندلاعها في 2011 بمقتل نحو 585.000 شخص، جرى التأكد من مقتل نحو 380.000 منهم، بينهم أكثر من 115.000 مدني يدخل في عدادهم نحو 22.000 طفل وأكثر من 13.000 امرأة، إضافة إلى إصابة مليوني شخص بجروح مختلفة وإعاقات دائمة وتشريد 12 مليونًا من سكان سورية الذين بلغ عددهم 23 مليونًا في 2011([2]).

تقول (الشبكة السورية لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر في 30 حزيران/ يونيو 2020 بمناسبة اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب إن 14388 شخصًا قتلوا بسبب التعذيب على أيدي أطراف النزاع الرئيسة الفاعلة في سورية منذ آذار/ مارس 2011 وحتى حزيران/ يونيو 0202([3]).

 فيما ترى منظمة الصحة العالمية أن الأزمة السورية هي إحدى أكثر الحالات الطارئة خطورة وتعقيدًا في العالم، لا سيما وأن النزاع ألحق الضرر وأضعف المرافق الصحية إلى حد كبير، ووفقًا لبياناتها في آذار/ مارس 2019 تصل نسب الإعاقة في بعض المناطق إلى 30% من السكان، ويعاني حوالى 45% من مصابي الحرب إعاقة دائمة تتطلب عناية متخصصة لمدة طويلة بعد انتهاء الأعمال الحربية([4]).

2- الاعتداء الجنسي

تشير كثير من المعطيات الموثقة إلى تفشي العدوان الجنسي في الصراع السوري واستخدامه بشكل ممنهج من معظم أطراف الصراع، وإلى استهدافه الرجال والأولاد، لا النساء والفتيات وحدهن، وهذا ما تؤكده (لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سورية) التي تقول في تقاريرها إن العنف الجنسي والجنساني المُوجَه ضد النساء والفتيات والرجال والأولاد هو سمة من بين سمات النزاع المُدمِرة والمُستشرية، وأن أطراف النزاع السوري أخضعت -على مدى السنوات الماضية- النساء والفتيات والرجال والأولاد للعنف الجنسي والجنساني بوصفه أداة لنشر الرُعب وللإذلال أو للعقاب، أو أداة لفرض نظام اجتماعي صارم في حالة المجموعات الإرهابية([5]).

تقول شارو لاتا هوغ (Charu Lata Hogg) الباحثة في تشاسام هاوس (Chatham House) والمديرة التنفيذية لمنظمة (مشروع جميع الناجين) في مقال لها على موقع (الحقوق العالمية المفتوحة Open Global Rights): “يُعدّ العنف الجنسي المتعلق بالنزاع من بين انتهاكات حقوق الإنسان العديدة التي اتّسم بها النزاع المسلح في سورية. وفي حين ما زال العنف الجنسي مشكلة جسيمة تواجه النساء والفتيات، فقد قامت أيضًا الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية دولية وقطرية بتوثيق وقائع عنف جنسي ارتُكبَت بحقّ الرجال والفتية. وتكشف البحوث السابقة أيضًا عن الخطر القائم بحق الرجال والفتية… وقد صدر تقرير جديد يُشير إلى تفشّي العنف ضد الرجال والفتية في النزاع السوري، وهو انتهاك لا يحظى -إلى حدّ بعيد- بالمتابعة والاهتمام، وتكاد الاستجابات الإنسانية للأزمة لا تتصدّى له بالمرّة”([6]).

3- النزوح

لم تشهد أي كارثة من صنع البشر بعد الحرب العالمية الثانية حالة تشريد ونزوح مثل الكارثة السورية التي لم يتوقف حتى اليوم نزيفها الدموي والبشري والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي وسواه، والنازحون السوريون -سواء كانوا داخليين أم خارجيين- يواجهون ظروفًا بالغة القسوة والتعقيد في الحصول على الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، حيث يعيش كثيرون منهم في مخيمات تفتقر إلى معظم شروط الحياة الصحية، ويتعرضون إلى مخاطر كبيرة على صعيد الحماية في مناطق عدة، وكثيرًا ما يتعرضون للاستغلال والابتزاز بأشكالهما المختلفة، إضافة إلى الاعتداءات العنصرية الكثيرة في بلاد اللجوء التي يضاف إليها سوء المعاملة في مراكز الإيواء نفسها، سواء من الموظفين العاملين في هذه المراكز أو من اللاجئين الآخرين، هذا عدا مخاطر التهجير القسري، وهذا كله يحدث إذا لم يدفع هؤلاء النازحون حياتهم في مغامرة النزوح بسبب مخاطر الطريق كالموت غرقًا، أو قتلًا على أيدي عصابات التهريب لسبب أو لآخر.

وتفيد المعطيات بأنه منذ اندلاع الحرب في سورية وحتى نهاية 2019، نزح أكثر من نصف سكان سورية، إذ وصلت نسبة اللاجئين السوريين إلى 8,25% من نسبة اللاجئين عالميًا حتى نهاية ذلك العام، وأصبحت سورية بذلك بلد المنشأ الأول للاجئين منذ 2014، وقد ذكر تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة أن عدد اللاجئين السوريين أصبح نحو 6,6 مليون لاجئ موزعين في 126 دولة حتى نهاية 2019.. وبلغ عدد النازحين نحو 13 مليون سوري نزحوا منذ اشتعال الصراع 2011، وهذا يشكل نحو 60% من عدد السكان قبل الحرب، وهناك قرابة 5,6 مليون لاجئ في كل من مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا، إضافة إلى نحو مليون لاجئ في أوروبا وأميركا الشمالية، وعلى الرغم من تراجع العمليات العسكرية في عدد المناطق بشكل كبير، فما تزال الاحتياجات الإنسانية في سورية هائلة، وهناك نحو 12,8 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية منهم 5,2 مليون شخص بحاجة ماسة إلى الدعم([7]).

ووفقًا لأحدث إحصائية لفريق (منسقو الاستجابة) في الشمال السوري، فإن أعداد النازحين السوريين بلغت حتى الآن نحو 2,1 مليون نازح، من أصل حوالى 4 ملايين سوري يسكنون مناطق المعارضة السورية. في حين يبلغ عدد سكان المخيمات 2.043.869 نازحًا، يعيشون ضمن 1293 مخيمًا، من بينها 282 مخيمًا عشوائيًا أقيمت في أراض زراعية، ولا تحصل على أي دعم أو مساعدة إنسانية أممية([8]).

وبدورها قالت الأمم المتحدة مؤخرًا إن أكثر من 120.000 لاجئ يعيشون في مخيمات شمال سورية يكافحون للبقاء على قيد الحياة، بسبب التساقط الكثيف للأمطار والرياح العاتية التي ألحقت ضررًا كبيرًا بمخيماتهم. ووصف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الوضع بأنه كارثي([9]).

 أما تقرير هيومان رايتس ووتش عن الوضع في سورية في 2019، فيقول إن اللاجئين السوريين في البلدان المجاورة يواجهون ضغوطًا للعودة إلى سورية، على الرغم من المخاوف الخطرة المتعلقة بالسلامة وانعدام الشفافية حول الظروف في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، وتشير سجلات مفوضية اللجوء إلى أن أكثر من 40.000 لاجئ قد عادوا حتى حزيران/ يونيو 2019، وقد ظهرت تقارير عن حالات الاعتقال وسوء معاملة الذين عادوا إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة([10]).

4- أضرار القطاع الصحي

تعرض القطاع الصحي -كسواه من القطاعات الأخرى- على مدى سنوات الصراع لخسائر كبيرة، وذلك بشكل رئيس نتيجة دمار المرافق الصحية في الأعمال القتالية أو القصف المتعمد، أو هجرة الكوادر الطبية والصحية أو نزوحهم أو مقتلهم، أو بسبب العقوبات الاقتصادية، هذا في الوقت الذي ضوعفت فيه الاحتياجات الصحية للسوريين أضعافًا، بسبب الإصابات الناجمة عن الأعمال القتالية والنزوح وتدهور ظروف المعيشة في الغذاء والسكن والخدمات، وسوى ذلك.

عن هذا الأمر يقول تقرير حديث لمنظمة (أطباء بلا حدود): “خلال سنوات النزاع هذه، لحقت أضرار بجزء كبير من البنية التحتية السورية، وطال الدمار بشكل خاص النظام الصحي الذي اعتاد أن يعمل بشكل جيد نسبيًا. تعرّضت المئات من المرافق الطبية للقصف، وقُتل عدد كبير من العاملين في المجال الطبي بينما فرّ آخرون كُثر، وما زالت أجزاء كثيرة من البلاد تشهد نقصًا حادًا في الإمدادات الطبية، واليوم، بلغت احتياجات الشعب السوري الطبية حدًّا هائلًا”([11]).

ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة في ربيع 2020، فقد خلّفت سنوات الصراع آثارًا مدمّرة في السوريين، وتفيد المعطيات بأن 64% من المستشفيات و54% من مراكز الرعاية الصحية الأولية فقط كانت تقوم بوظائفها بشكل كامل حتى نهاية 2019، ونحو 70% من العاملين في القطاع الصحي تركوا البلاد([12]).

وتفيد مصادر أخرى أنه حتى أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2020 تعرض القطاع الصحي في سورية لخسائر كبيرة في عشر سنوات من الحرب، وتحتاج البلاد لإعادة هذا القطاع إلى سابق عهده إلى ما يزيد على مبلغ 25 مليار دولار، حيث كان في سورية 1826 مركزًا صحيًا، 631 منها خرجت من الخدمة نتيجة الحرب، و89 مستشفى خرج 52 منها من الخدمة، و700 سيارة إسعاف وقعت خسارة 350 منها نتيجة النهب أو الاستهداف([13]).

فيما تذكر منظمة الصحة العالمية في بيانات لها عن الوضع الصحي في سورية في آذار/ مارس 2019 أنه:

يحتاج 13,2 مليون شخص إلى مساعدات صحية في سورية، لكن الملايين يفتقرون إلى سبل الحصول عليها، ونتيجة الهجمات أو نقص العاملين، لا تتجاوز نسبة المرافق الصحية العمومية العاملة بكامل طاقتها في سورية قرابة النصف، ومع وجود ما يزيد على 80% من السكان ممن يعيشون تحت خط الفقر، لا يقدر كثير من الأشخاص الذين يحتاجون إلى رعاية صحية على تحمّل تكلفة الانتقال للوصول إلى مرافق الرعاية الصحية المجهزة تجهيزًا ملائمًا أو المتخصصة، وتقول أيضا إن نسبة إتاحة العاملين في مجال الرعاية الصحية في إدلب وحلب على سبيل المثال لا تتجاوز لكل 10.000 شخص 26% مما يحدده مؤشر أهداف التنمية المستدامة، وهو ما يؤثر -بصفة خاصة- في الخدمات المتخصصة مثل طب الأمراض الباطنية والقلب ورعاية الأمراض المزمنة؛ وبعد ثماني سنوات من الصراع، ازدادت احتياجات الصحة النفسية حاليًا، وتشير تقديرات المنظمة إلى أنه نتيجة طول أمد التعرض للعنف، يعاني واحد من كل 30 شخصًا في سورية حالة صحية نفسية وخيمة مع إصابة واحد على الأقل من كل خمسة أشخاص بحالة صحية نفسية خفيفة إلى معتدلة. وتشير التقارير إلى ارتفاع معدلات الإعاقة في بعض أجزاء سورية حيث وصلت إلى 30% من السكان، أي ضعف المعدل العالمي، ويُتوقع أن يعاني 45% على الأقل من المصابين نتيجة الصراع عاهة مستدامة تتطلب دعمًا متخصصًا بعد انتهاء أعمال القتال بوقت طويل. إضافة إلى ما تقدم فنتيجة الانخفاض الخطر لمعدلات التطعيم في بعض المناطق، إلى جانب الانهيار في نظم المياه والصرف الصحي وبؤر سوء التغذية، يتواتر تفشي الأمراض المميتة في سورية بمعدلات أكبر([14]).

 5-التدهور الاقتصادي

وصل التدهور الاقتصادي في سورية إلى أرقام قياسية غير مسبوقة، في عشر سنوات من الصراع الداخلي والحصار الخارجي، وما تزال وتيرته تتسارع، فقبل 2011، كان سعر الدولار في حدود 50 ليرة سورية، واليوم قد بلغت قيمة الدولار أمام الليرة المنهارة قرابة أربعة آلاف، وقد ضوعف سعر الدولار أربع مرات تقريبًا منذ بداية العام الماضي وحتى اليوم، وفي الوقت الذي تتبع فيه الأسعار الدولار، بل باتت ترتفع حتى مقابله بشكل ملحوظ في ظروف منفلتة لا يخشى فيها جشع معظم التجار أي رقيب أو حسيب، والدولة فيها غائبة في معظم المستويات، فالرواتب بالكاد ضوعفت وسطيًا ثلاث مرات، ومتوسطها هو 50.000 ليرة سورية، ما يعني أن مستوى معيشة أصحاب الدخل المحدود من المواطنين السوريين حتى في المناطق التي لم تشهد عنفًا حربيًا قد تدهورت أكثر من 25 مرة، وأصحاب الدخل المحدود في سورية هم الأغلبية الساحقة من المواطنين.

عن تدهور الوضع المعيشي للسوريين قال (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية/ أوتشا) في 1 كانون الأول/ ديسمبر 2020، إن هناك 13 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية داخل سورية، ويضاف إلى ذلك 5,5 مليون لاجئ سوري في المنطقة.

فيما يقول تقرير هيومان رايتس ووتش 2021: إن أكثر من 9,3 مليون سوري يفتقرون إلى الأمن الغذائي، ويعيش أكثر من 80% من السوريين تحت خط الفقر([15]).

ويقول تشارلز ليستر مدير قسم مكافحة الإرهاب في (معهد الشرق الأوسط/ Middle East Institute) والزميل الزائر السابق في مركز بروكنجز في الدوحة: “أسفر الانزلاق السوري المستمر في هوة الأزمات المالية العميقة عن تأكل شديد في الطبقة الوسطى في البلاد، حيث بات ما نسبتهم 90% من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر حاليًا. وأصبح شراء رغيف الخبز لوضعه على المائدة محنة من المحن اليومية المستمرة”([16]).

وتقول بوابة التنمية العربية إنه وفقًا لمؤشر السلام العالمي، حلّت سورية في المرتبة الأخيرة بوصفها أقلّ الدول سلمًا في السنوات الست قبل 2019، ثم في المرتبة ما قبل الأخيرة عالميًا في 2019، نظرًا إلى انخفاض حدة الصراع، وأن الصراع تسبب في سورية بخسائر فادحة في الاقتصاد، وأنه وفقًا للبنك الدولي بلغت خسائر الناتج المحلي الإجمالي التراكمية 226 مليار دولار أميركي في سورية بين عامي 2011 و2016، وأن سورية تكبدت أكبر تكلفة اقتصادية ناتجة من العنف في العالم، وتقدر بنحو 67% من ناتجها المحلي في 2019، وأنها في مؤشر التنمية البشرية في 2018 حلت في المرتبة 154 من أصل 189 دولة، وأن البطالة ارتفعت فيها في 2019 إلى 55 % مقارنة بـ 8,6 % في 2010([17]).

وبدورهما ذكرت لجنة الأمم المتحدة (الإسكوا) وجامعة (سانت أندروز) في تقرير لهما بعنوان (بعد ثماني سنوات من الحرب)، أنّه في المرحلة الممتدة من 2011 حتى 2019، تسبب الصراع بخسائر فادحة وأدى إلى خسائر اقتصادية تفوق 442 مليار دولار أميركي، وتهجير 5,6 مليون شخص على الأقل، فضلًا عن نزوح داخلي لـ 6,5 مليون مواطن، وانعدام الأمن الغذائي وحاجة 11,7 مليون شخص إلى نوع من أنواع المساعدة الإنسانية([18]).

أما نقابة عمال المصارف، فتفيد في تقريرها في 30 كانون الثاني/ يناير 2021 أن نسبة دمار البنية التحتية في المساكن وشبكات الكهرباء والمدارس والمستشفيات ومرافق الخدمات تجاوزت 40%، فيما هبط إنتاج النفط مقارنة بعام 2010 أكثر من 13 مرة([19]).

6- تدني مستوى التعليم

كما كان الحال قي عامي 2017 و2018، فسورية هي اليوم خارج تصنيف جودة التعليم العالمي وفقًا لـ (مؤشر جودة التعليم العالمي) السنوي لعام 2019، الصادر عن (المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس) الذي شمل 140 دولة من العالم، رُتِّبَت بحسب تطور جودة التعليم فيها، وقد كشف هذا الترتيب خروج 6 دول عربية من التقييم العالمي في جودة التعليم، وهي سورية والعراق واليمن وليبيا والسودان والصومال، وذلك لافتقادهما إلى معايير الجودة التعليمية([20]).

وعن واقع التعليم الراهن في سورية قالت يونيسف في 15 آذار/ مارس 2020 إن هناك أكثر من 2,8 مليون طفل داخل سورية وفي دول الجوار لا يذهبون إلى المدارس، وأن اثنتين من كل خمس مدارس لا يمكن استخدامها لأنها تعرّضت للدمار أو الضرر أو لإيوائها عائلات نازحة أو لأنها تستخدم لأغراض عسكرية ([21]).

أما التعليم العالي فوفقًا لتحقيق صادر ضمن مشروع (سوريا بعمق)، نُشر في أيار/ مايو 2018، فقدْ فقدَ التعليم العالي في سورية نحو 20% من أعضاء هيئات التدريس بسبب الهجرة خارج البلاد بشكل أساسي، وبسبب تدني الأجور بشكل رئيس، وبلغت نسبة الغياب 90% في بعض الكليات بحسب ما أفاد طلاب، وقد انخفضت نسبة الخريجين المؤهلين لفرص العمل المتاحة إلى ما بين 1,5 و2% بحسب ما أفاد مسؤولو توظيف في بعض الشركات([22]).

7- ارتفاع معدلات الجريمة

تسببت سنوات الحرب المدمرة في سورية بدرجات عالية من الانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي، أسفرت بدورها عن درجات مماثلة من تفشي الجريمة المنظمة وغير المنظمة في المجتمع السوري، وتتنوع أشكال هذه الجريمة ما بين القتل والاغتصاب والسطو والخطف والسرقة وتجارة السلاح والمخدرات والمنتجات الفاسدة وسواها، وهكذا تصدرت سورية قائمة الدول العربية بارتفاع معدل الجريمة لتحتل المرتبة الأولى عربيًا والتاسعة عالميًا، للعام 2021، وذلك بحسب موقع (Numbeo Crime Index) المتخصص بمؤشرات الجريمة حول العالم، واحتلت مدينة دمشق المرتبة الثانية بارتفاع معدل الجريمة في الدول الآسيوية بعد مدينة كابول في أفغانستان([23]).

ووفقًا لإحصاءات وزارة الداخلية في سورية وقعت 7161 جريمة اختطاف بين 2012 و2016، وتشير الأرقام الرسميّة الصادرة عن إدارة مكافحة المخدّرات إلى تسجيل أكثر من 4000 قضية في 2015 وحدها، تجاوز عدد المتهمين فيها 5200 متهم، وهذا رقم غير مسبوق في مثل هذا النوع من الجرائم، إضافة إلى ذلك ضُبطت أكثر من 255 شبكة تتاجر بالمخدرات وتروّج لها في العاصمة دمشق وفي غيرها من المدن السوريّة التي لم تخرج عن سيطرة السلطة الرسميّة، وبين 2012 و2016 ارتكبت أكثر من 12.000 جريمة قتل، وقد ارتفع عدد جرائم السرقة ليبلغ قرابة 45.000 جريمة وقعت كلّها ما بين 2012 و2016 بحسب الأرقام الرسمية([24]).

مع ذلك يرفض رئيس الطبابة الشرعية في سورية زاهر حجو تصنيف هذه الجرائم تحت سقف الجريمة المنظمة، ويقول: “في سورية لا توجد جريمة منظمة، أيّ لا توجد عقلية إجرامية لدى المجتمع”([25]).

وهذا ليس غريبًا على ذهنية سلطوية تعودت دائمًا تجاهل أكثر الحقائق وضوحًا وإنكارها.

8- نمو ظاهرة البغاء

دفع الجوع -وسواه من عواقب الفقر الوخيمة التي أنتجتها الأزمة الكارثية في سورية- سوريات كثيرات إلى هذا الدرب الأسود، بعد أن انسدت أمامهن كل سبل الحد الأدنى من العيش الكريم، وما يضاعف مأساة الضحية التي تهوي بها ظروف الحياة إلى هذا الحد في المجتمعات المحافظة، هو أن هذه المجتمعات لا تراها إلا في ما وصلت إليه من سقوط، فتحملها وزره كاملًا، وتصمها بأنها ساقطة وعاهرة.. وتحتقرها وتهينها وتعاقبها بشدة في المستويين الرسمي والشعبي، وكثيرًا ما تقتلها بذريعة الدفاع عن الشرف، وكأنها اختارت بإرادتها هذا السبيل المزري، في وقت يجب فيه على الشرفاء الحقيقيين أن يتعاطفوا معها ويساعدوها على الخروج مما أجبرتها بربرية الظروف على الوقوع فيه.

عن نمو ظاهرة البغاء في الأزمة السورية يقول الصحافي السوري ثامر قرقوط: إنه ثمرة للسياسات الاقتصادية الحكومية المتتابعة، ونتيجة ثماني سنوات مدمِّرَة من الحرب، ولانتشار الفقر وتغوله في المجتمع، ما أسقط مقولة الحرة لا تأكل بثدييها، فالحرب قلبت الموازين، والفقر أسس قواعد جديدة للحياة الصعبة، بخاصة أن أكثر من ثلثي عدد السكان يعيشون تحت خط الفقر، كما أن الانهيار الأخلاقي يرافق سوء الحالة الاقتصادية وغياب التنمية وعدم وجود أمل يلوح في الأفق ليتمسك به الناس([26]).

ليس هناك بالطبع أي إحصاءات موثوقة يمكن الاعتماد عليها لتقدير عدد من تحولن إلى هذا النوع من الضحايا من السوريات في الداخل والخارج، فهذا الموضوع الموصوم بالعار يبقى عادة في طي الكتمان في مستوى الفرد والمجتمع والسلطة.

مع ذلك ذكر محمد نضال الشعار وزير الاقتصاد السوري السابق في أيلول/ سبتمبر 2013 أن عدد الشقق السكنية التي تحتضن مهنة الدعارة في سورية تبلغ نحو 55.000 شقة([27]) .

أما الطريقة المزرية التي تتعامل بها السلطات الرسمية مع هذه الظاهرة فيقول عنها الصحافي السوري أيمن الشوفي: “أما عاملات الجنس عاثرات الحظ اللواتي يعملن بصورة مسّتقلة عن الشبكات المحميّة وعن القوادين… فإنهن يصرن طرائد لشرطة الآداب ومجرّد أرقام بائسة تعْبر في تصريحاتهم الرسمية كما حدث مع وزارة الداخلية عام 2013 حين ألقت القبض على نحو 80 عصابة تعمل في الدعارة، وأرسلت 250 إمرأة إلى السجن، بينما كانت ألقت القبض عام 2012 على 30 عصابة دعارة فقط. وفي أرقامها هذه إيحاء بأن الدعارة ارتفعت في سورية ضعفين ونصف الضعف بين العامين 2012 و2013. أو أن تصرّح مصادر قضائية إلى إعلام السلطة بأن عدد حالات الدعارة منذ بداية العام 2013 وحتى شهر أيلول/ سبتمبر منه بلغت فقط 600 حالة، منها 200 حالة في دمشق وريفها، و150 حالة في حلب”([28]).

وفي كلام الشوفي هناك أيضًا إشارة واضحة إلى وجود شبكات بغاء منظمة ومحمية ويديرها محترفون نافذون، ومحتضنة من مسؤولين فاسدين كبار، وزبائنها من هذه البطانة، وهذه الشبكات كانت ناشطة قبل الأزمة بكثير، لكن ازداد نشاطها فيها أكثر كثيرًا من قبل.

9- الارتزاق

تعرف موسوعة ويكيبيديا المرتزق بأنه “كل شخص يقوم بأى عمل بمقابل مادي بغض النظر عن نوعية العمل أو الهدف منه، وغالبًا يطلق اسم (مرتزق) على من يخدم في القوات المسلحة لبلد أجنبي من أجل المال”، وتضيف عن المرتزقة أنه “في وقتنا الحالي تم استخدامهم بكثرة في بعض الدول العربية من مختلف الجنسيات نظرًا للحروب الدائرة في المنطقة وخصوصا في سورية وليبيا”([29]).

هذا الكلام يتفق مع كثير من الأحاديث المتداولة والكلام الموثق عن مرتزقة أجانب استقدموا من أطراف وجهات مختلفة ليستخدموا في الصراع داخل سورية، وعن سوريين استخدموا لأغراض مماثلة في ليبيا وأذربيجان([30]) وفنزويلا وجندوا بشكل رئيس من تركيا([31]) أو روسيا([32])، حيث يُستغل فقر السوريين ومعاناتهم المعيشية داخل سورية سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام أم المعارضة المسلحة، ويُستغل في ذلك أيضًا اللاجئون السوريون وحتى المقاتلون الذين تستغلهم الدول الراعية لهم أو تفرض عليهم المشاركة في أعمال ذات طابع عسكري خارج بلدانهم، وقد جرى تبادل التهم بين روسيا وتركيا وسواهما بهذا الشأن، ففي الوقت الذي تُتهم تركيا مثلًا بتجنيد السوريين في أذربيجان، تتهم هي بدورها أرمينيا بفعل شيء مماثل وبأنها تستغل أرمن سورية في حربها مع أذربيجان([33]).

وقد يدفع هؤلاء المرتزقة أحيانًا حيواتهم ثمنًا لهذا الارتزاق([34])، وأحيانًا يُجند حتى الأطفال بينهم.

10- تجنيد الأطفال

عن تجنيد الأطفال في سورية تقول هيومان رايتس ووتش: “منذ بدأ النزاع المسلح السوري في أواخر عام 2011، وقعت انتهاكات جسيمة كثيرة للقانون الدولي. تتحمل القوات المسلحة السورية النظامية بالأساس المسؤولية عن هذه الانتهاكات، لكن الجماعات المسلحة التي تقاتل الحكومة ارتكبت بدورها انتهاكات جسيمة كثيرة، ومنها تجنيد واستخدام الأطفال تحت سن 18 عامًا في القتال وفي الاضطلاع بأدوار دعم مباشر للقتال” .وتضيف هيومن رايتس ووتش “أنها وثقت هذه الممارسة للمرة الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، حيث وجدت أن فتية تبلغ أعمار صغارهم نحو الرابعة عشرة ساعدوا في أدوار داعمة لـ (الجيش السوري الحر)، ومنذ ذلك التوقيت، زاد عدد الجماعات المسلحة في سورية، وأصبح منها جماعات إسلامية متطرفة مثل جبهة النصرة وداعش، لجأت بحسب قول سكان محليين وجنود أطفال سابقين، بشكل ممنهج إلى تجنيد الأطفال”([35]).

ويجند الأطفال أحيانًا قسريًا، فيما يجري تطويعهم أحيانًا في الجماعات المسلحة مقابل بعض الأجر لمساعدة أسرهم التي تعاني تدهور أوضاعها المعيشية بسبب الصراع.

وتقول وكالة رويترز في تقرير نشرته في 12 شباط/ فبراير 2021 إن سورية هي واحدة من أربع دول في العالم تضم أكبر عدد من الجنود الأطفال في العالم، وقد جاء ذلك في بيان مشترك صدر عن الممثلة الخاصة للأمين العام للأطفال والصراعات المسلحة، فيرجينيا غامبا، والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، جوسيب بوريل، بمناسبة اليوم الدولي لمناهضة استخدام الجنود الأطفال، ويضيف التقرير أن الجماعات المسلحة تجند الفتيات أيضًا، وتستخدمهن مخبرين وجواسيس وعبيد منزليين ولصوصًا([36]).

وفي السياق نفسه تقول اليونيسف إنه وفقًا للبيانات التي جرى التحقق منها منذ 2014 عندما بدأ الرصد الرسمي وحتى 2019 قد جُنِّد نحو 5,000 طفل في القتال.. لا يتجاوز عمر بعضهم سبع سنوات([37])، وهذا الرقم هو ما تم التحقق منه، أما الرقم الحقيقي فمن المرجح أنه أكبر.

11- فوضى السلاح

فوضى السلاح والتسلح في سورية هي أحد أخطر نتائج الصراع العنيف، وأحد أخطر جوانب الأزمة المتفاقمة، وبخصوصها يقول الكاتب السياسي الليبي غازي دحمان: “تشكّل الفوضى الحاصلة في سورية أحد أبرز عناصر استدامة الأزمة فيها، وتلك الفوضى مسؤولة، بدرجة أو أخرى، عن تأخر الحسم وإطالة الصراع. كما أنها تقف وجه عثرة في إمكانية التوصل إلى تسويات بين الأطراف المتصارعة، وذلك لسيطرة التفكير الفوضوي وانعدام التقديرات السليمة التي من شأنها تحديد الفرص والمخاطر وترتيب الأولويات. الفوضى في سورية، على صعيد الكيانات والسلاح، لم تعد مسألة مقاربتها مهمّة فقط من حيث تأثيرها على الصراع في المرحلة السابقة، بل هي قضية سورية في المرحلة المقبلة التي من شأنها أن تحدّد مسار هذا البلد وحجم المصاعب والمآزق التي تنتظره ما لم يجرِ تفكيك تلك الحالة”([38]).

هذه الظاهرة حدثت بسبب عسكرة الانتفاضة الشعبية التي دفعت إليها أطراف مقامرة على جانبي جبهة المواجهة داخل سورية، وكان كل منها يتوهم أن التحول إلى المواجهة المسلحة سيحسمها سريعًا لمصلحته، ويضاف إلى ذلك بالطبع التدخلات الخارجية المغرضة التي ارتأت هي الأخرى أن المواجهة المسلحة تخدم مصالحها السياسية أو التجارية، -أي تجارة السلاح نفسه- أكثر.

في الحصيلة انتشر السلاح على نطاق شديد الاتساع، فحملته:

الجماعات المقاتلة المناهضة، والتنظيمات الإرهابية، والعناصر الإجرامية المنظمة وغير المنظمة، وحمله عامة الناس للدفاع عن النفس أيضًا.

هذا السلاح لم يستخدم فقط في الصراع بين النظام والمعارضة، فالجماعات المسلحة التي نشأت عشوائيًا تصارعت في ما بينها بشدة، وتصارعت كذلك مع التنظيمات الإرهابية التي تصارعت هي الأخرى مع بعضها بعنف، وهذا أدى إلى حالة من حرب الكل ضد الكل، وهذا ما حدث في المناطق التي خسرها النظام، أما في المناطق التي بقيت تحت سيطرته فقد انتشر السلاح أيضًا نتيجة حشد النظام نفسه للموالين لحاجته إليهم في الصراع، ونتيجة اضطرار الأهالي إلى التسلح للدفاع عن أنفسهم بسبب الفلتان الأمني ونمو الجريمة المنظمة وغير المنظمة.

وفي الحصيلة أصبح السلاح، إضافة إلى وجوده في أيدي الجماعات والتنظيمات المسلحة ذات الطابع العسكري، أيضًا في أيدي العصابات الإجرامية والعناصر الإجرامية غير المنظمة التي تستغله في نشاطها الإجرامي والعدوان على المواطنين، وأصبح أيضًا في أيدي عامة الناس، وصار يستخدم في كثير من الأحيان في الشجارات وحسم الخلافات التقليدية، ووصل حتى إلى أيدي المراهقين والقاصرين الذين صاروا يستخدمونه بطيش فيؤذون غيرهم.. أو بجهل فيؤذون أنفسهم، وأحيانًا يكون هذا الأذى فادحًا ويصل إلى القتل.

وهكذا زادت فوضى السلاح والتسلح هذه من درجة العنف والفوضى في المجتمع السوري، وفي قابلية المجتمع لمزيد منها، وأصبحت أحد أكبر الجوانب الخطرة والصعبة في الأزمة.

12- المشكلات الاجتماعية

تسببت سنوات الصراع أيضًا في أضرار كبيرة على الصعيد الاجتماعي، وترتبط بشكل رئيس بتدهور الاقتصاد والفلتان الأمني وغياب القانون سواء في المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام أم في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة.

ووفقًا لهيومان رايتس ووتش في آذار/ مارس 2020، أربعة من كل خمسة أشخاص في سورية يعيشون تحت خطّ الفقر، ما يتسبب في تجنيدهم في القتال، وعمالة الأطفال، وزواج الأطفال([39]).

أما العنوسة فقد وصلت نسبتها في سورية إلى مستويات غير مسبوقة، نتيجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية في السنوات الأخيرة، وبحسب صحيفة البعث السورية الرسمية بلغت نسبة العنوسة في سورية 70%([40]).

وفي ما يتعلق بزواج القاصرات، نبه القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي في 18 آذار/ مارس 2019، إلى أن نسبة زواج القاصرات في سنوات الأزمة ارتفعت إلى 13%، بعد أن كانت لا تتجاوز 3% قبلها، وقال إن أغلب الحالات هي عقود عرفية، وذكر أيضًا أن حالات زواج القاصرات في دمشق ارتفعت من 24.000 في 2017 إلى 28.000 في 2018([41]).

وهذه الظاهرة تتفشى أيضًا في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة، وإضافة إلى العامل الاقتصادي، ففي كثير من الأحيان يكون سبب زواج القاصر هو خوف الأهل عليها من تعرضها للاعتداء، أو يكون رضوخًا لإرادة العناصر المسلحة.

وفي دول اللجوء أيضًا النسب عالية، فمثلًا في الأردن 55% من مجموع زيجات اللاجئات السوريات و32% من حالات الزواج بين اللاجئين في لبنان هي لفتيات تحت سن الثامنة عشر([42]).

وبالنسبة إلى الطلاق ارتفعت معدلاته هو الآخر، وغالبًا ما يرتبط ذلك بزواج القصّر، أو بالأزمة الاقتصادية أو الخلاف على الهجرة، أو غياب الزوج مدة طويلة أو جهل مصيره، وهذا كله مرتبط بتداعيات ومفرزات الأزمة، وعلى سبيل المثال أكد القاضي المعراوي أن عدد حالات الطلاق ارتفع بين عامي 2017 و2018، وقال إن نسبتها بلغت 31%([43]).

أصبحت عمالة الأطفال بدورها ظاهرة شائعة في سورية، وفي 2016 كشفت دراسة أجراها (المعهد العالي للدراسات السكانية) عن ارتفاع نسبة عمالة الأطفال في سورية في الحرب إلى 49%، وأن نصف الأسر السورية في دول الجوار تعتمد في معيشتها على دخل أبنائها الأطفال، وبدورها أشارت هناء سنجار ممثلة اليونيسف لشؤون الأطفال إلى أن 55% من المناطق السورية يعمل أطفالها، وبعضهم يخضع لأسوأ أشكال العمالة وبخاصة في المناطق المحاصرة التي يصعب الوصول إليها، حيث يتعرض الأطفال فيها إلى التجنيد والاستغلال الجنسي والأنشطة غير المشروعة([44])، فيما قالت اليونيسف إن في دول الجوار المضيفة للاجئين هناك ما يقرب من 10.000 لاجئ سوري من الأطفال غير المصحوبين أو المنفصلين عن ذويهم، ما يجعل هؤلاء الأطفال في وضع هشّ وعرضة للاستغلال بطرائق مختلفة من بينها عمالة الأطفال([45]).

خلاصة

ما تقدم لا يستنفد كل جوانب الأزمة وتداعياتها الكارثية التي وصلت إليها سورية التي أصبحت مسرحًا تتنازع فيه وعليه الأطماع الخبيثة لأطراف داخلية وإقليمية ودولية، وبشكل مسعور لا يبالي بالثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب السوري في هذا النزاع.

وعدا ما تقدم هناك جوانب على درجات عالية من الخطر وسوء الأثر لا يمكن التعبير عنها بلغة الأرقام، يأتي في طليعتها انقسام البلاد ووقوع أقسامها تحت هيمنة قوى أجنبية دولية أو إقليمية، إضافة إلى العدد الكبير من الميليشيات والمقاتلين الأجانب الذين لا يعرف عددهم بالضبط على الأرض السورية، وهذا كله يعني في الحصيلة أن الدولة الآن مفككة وسيادتها مفقودة ووحدتها في خطر ومستقبلها مجهول، وهذا ما يفاقمه أيضًا التمزق الداخلي لنسيج المجتمع السوري الذي تنامت فيه بقوة النزعات الفِرَقية من عائلية وطائفية وعرقية وسواها، وصارت بدورها عاملًا من عوامل التوظيف الرئيسة في الصراع، وجانبًا كبيرًا من جوانب الاستثمار السياسي فيه، وليس أمام السوريين سوى انتظار الخلاص، والانتقال لبلد آمن أمين حر ديمقراطي وقوي.

[1] – سوريا.. العام السابع على انطلاق ثورة تحولت إلى حرب كارثية، DW عربية، 15 آذار/ مارس 2017.

[2] – سوريا بعد 9 سنوات من الحرب: 585 ألف ضحية ومليونا جريح، الشرق الأوسط، 05 كانون الثاني/ يناير 2020

[3] – مركز الشرق العربي- لندن، من أخبار حقوق الإنسان في سورية 30 حزيران/ يونيو 2020

[4] – الصراع في سوريا.. أرقام مأساوية، موقع “ارفع صوتك”، 24 حزيران/ يونيو 2020

[5] – مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا، العنف الجنسي والجنساني المُوجَه ضد النساء والفتيات والرجال والأولاد، 15 آذار/ مارس 2018.

[6] – الانتهاك الخفي – العنف الجنسي ضدّ الرجال والفتية في سورية وتركيا OpenGlobalRights ، 19 أيلول/ سبتمبر 2018.

[7] – بالأرقام.. البوابة نيوز ترصد خريطة تواجد اللاجئين السوريين حول العالم، البوابة نيوز، 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.

[8] – النازحون السوريون 2021.. أرقام كارثية تكشف حجم المأساة، شيكة الجزيرة، 5 كانون الثاني/ يناير 2021.

[9] – الأمم المتحدة تحذر: 120 ألف شخص شمال سورية في وضع خطر – RT Arabic، 01 شباط/ فبراير 2021

[10] – الصراع في سوريا.. أرقام مأساوية، موقع “ارفع صوتك”، 24 حزيران/ يونيو 2020

[11] – عقد من الحرب في سوريا، أطباء بلا حدود، 4 آذار 2021.

[12] – شمال سورية محاولات لتصدي فيروس كورونا ومخاوف من انهيار النظام الصحي – مهاجر نيوز، 1 نيسان 2020

[13] – دعم إضافي من الصحة العالمية لترميم أضرار القطاع الصحي في سورية – قناة العالم الاخبارية، ٢٨تشرين الأول ٢٠٢٠

[14] – المنظمة تدعم الصحة في سورية بثماني طرق، منظمة الصحة العالمية، 14 آذار/ مارس 2019.

[15] – هيومان رايتس ووتش، التقرير العالمي 2021- سورية

[16] – 2021 سيكون عامًا حاسمًا بالنسبة إلى سوريا، جريدة الشرق الأوسط، العدد 15386، 12 كانون الثاني/ يناير 2021.

[17] – البوابة العربية للتنمية، سوريا.

[18] – 8 سنوات من الحرب في سوريا.. خسائر تفوق 400 مليار دولار وملايين المهجرين والنازحين، قناة الحرة، 24 أيلول/ سبتمبر 2020

[19] – سوريا تكشف رقمًا هائلًا عن حجم الخسائر الاقتصادية منذ بداية الحرب! – قناة العالم الإخبارية، 30 كانون الثاني/ يناير 2021.

[20] – بينهم 6 خارج التقييم.. ترتيب الدول العربية حسب مؤشر جودة التعليم، موقع مصر العربية، 18 شباط/ فبراير 2020

[21] – حوالي 5 ملايين طفل وُلدوا أثناء الحرب في سورية ومليون طفل سوري وُلدوا لاجئين في دول الجوار- اليونيسف، 15 آذار/ مارس 2020.

[22] – زينة شهلا، التعليم العالي السوري يحتاج لسنوات من الإنعاش – Al-Fanar Media، 2 أيار/ مايو 2018.

[23] – سوريا الأولى عربيًا والتاسعة عالميًا بارتفاع معدل الجريمة، تلفزيون سوريا، 18 شباط/ فبراير 2021.

[24] – أيمن الشوفي، ربيع الجريمة المنظّمة في سوريّا، السفير العربي، 29 آذار/ مارس 2017.

[25] – نور ملحم، «الفقر والجريمة».. سورية تتحول إلى «شيكاغو الثانية» ؟!Q Media Street journal، 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2020.

[26] – الدعارة عنوة.. الحرب والفقر نهشا أجساد السوريات، TRT عربي.

[27]  – أيمن الشوفي، الدعارة في سورية سلطة الظلّ ، السفير العربي، 17 أيار/ مايو 2015.

[28] – المرجع السابق.

[29] – مرتزق – ويكيبيديا

[30] – رائد جبر، «مرتزقة» سوريون يعودون من ليبيا وآخرون يذهبون إلى أذربيجان وأرمينيا، الشرق الأوسط العدد-15281 ، 29 أيلول/ سبتمبر 2020.

[31] – محمد العربي، مرتزقة سوريون رأس حربة تركيا في ليبيا، إندبندنت عربية، 30 كانون الأول/ أكتوبر 2019.

[32] – DW عربية، مرتزقة موسكو وأنقرة ـ ليبيا ساحة حرب جديدة بين مقاتلين سوريين! 19 أيار/ مايو 2020.

[33] – أذربيجان.. مرتزقة سوريون يقاتلون بصفوف القوات الأرمينية، وكالة الأناضول، 28 أيلول/ سبتمبر 2020.

[34] – لأول مرة.. مقتل 7 من مرتزقة روسيا السوريين بانفجار في ليبيا، قناة الحرة، 4 شباط/ فبراير 2021.

[35] – هيومان رايتس ووتش، تجنيد الأطفال واستخدامهم من قبل الجماعات المسلحة في سوريا، 23 حزيران/ يونيو 2014.

[36] – سوريا ضمن أكثر الدول تجنيدًا للأطفال في العالم، موقع عنب بلدي، 12 شباط/ فبراير 2021.

[37] – حوالي 5 ملايين طفل وُلدوا أثناء الحرب في سورية ومليون طفل سوري وُلدوا لاجئين في دول الجوار- اليونيسف، 15 آذار/ مارس 2020.

[38] – غازي دحمان، فوضى الكيانات والسلاح في سورية واقعها ومآلاتها، معهد العام للدراسات، 16 كانون الأول/ ديسمبر 2016.

[39] – هيومان رايتس ووتش، أطفال سوريا، 13 آذار/ مارس 2020.

[40] – حنان الحبش، الزواج في سوريا… فقط للقلة المستطيعة، مجلة المجلة، 10 أيلول/ سبتمبر 2020.

[41] – سوريا.. تزايد نسبة زواج القاصرات خلال الأزمة 13 بالمئة-RT Arabic ، 18 آذار/ مارس 2019.

[42] – ارتفاع نسبة زواج القاصرات في سوريا، بوابة الوفد، 19 حزيران/ يونيو 2017.

[43] – سوريا.. تزايد نسبة زواج القاصرات خلال الأزمة 13 بالمئة-RT Arabic ، 18 آذار/ مارس 2019.

[44] – أسامة مكية، دراسة: نسبة عمالة الأطفال في سورية 50%، موقع الحل، 14 حزيران/ يونيو 2016.

[45] – الأزمة السورية حقائق سريعة، UNICEF، آب/ أغسطس 2019.

مركز حرمون

—————————-

====================

تحديث 29 اذار 2021

—————————-

عن استمرار الثورة السورية وحواجز الخوف/ راتب شعبو

-1-

لا يمكن اعتبار التظاهر ضد نظام الأسد، في مناطق خارج سيطرته وواقعة تحت سيطرة قوى تعاديه وتشبهه، جزءًا من الثورة السورية التي يجري إحياء ذكراها، ولا يمكن، من باب أولى، اعتبار هذا الإحياء للثورة استمرارًا لها. الثورة تخرج ضد سلطات حاضرة، لا ضدّ سلطات غائبة. استمرار روح الثورة السورية يقتضي الخروج ضد السلطات المسيطرة في مناطق الخروج أينما كانت، وإلا فإنها لا تعدو كونها طقوسًا مستعادة، كما تستعاد طقوس صلب المسيح. أو يمكن النظر إليها، بسوءِ ظنّ له ما يبرره، على أنها أفعال تحكي على رضا السلطات المسيطرة في مناطقها.

الشيء نفسه ينطبق على إحياء ذكرى الثورة في “بلدان الشتات”. هذا لا يعني، مرة أخرى، التقليل من القيمة المعنوية وربما السياسية، لإحياء الذكرى، بل يعني التقليل من قيمة اعتبار هذه الأنشطة، مهما بلغ الحشد الذي تحققه، مؤشرًا على استمرار الثورة. التغيير الذي خرجت من أجله الثورة يحتاج إلى نقطة انطلاق جديدة تكون، بحكم الضرورة، مستقلة عن الفولكلور الثوري الخارجي (خارج سورية أو خارج مناطق سيطرة النظام). باتت الثورة بحاجة إلى انقطاع لكي تستمر. يجوز القول إن الاحتفاء بذكرى الثورة هو بالأحرى مؤشرٌ على أنها باتت “ذكرى”.

عبّر من خرج في التظاهرات الأولى، مع اندلاع الثورة السورية، عن شعورهم بولادة جديدة، وكأنهم يتعرفون إلى أنفسهم من جديد، وكأنهم ليسوا هم، وكأنهم يخرجون من شرنقة ويكتشفون عالمًا جديدًا وقدرات جديدة. كثيرون أشاروا إلى أن خروجهم في التظاهرات كان أجمل لحظات حياتهم. لم يبعث المتظاهرون السوريون حينها الدهشة في المراقبين فقط، بل أدهشوا أنفسهم أيضًا. هذا ما جعل البعض يسمي ما جرى في سورية بالانفجار، للدلالة على المفاجأة وعلى ضخامة الحدث، أو بحدوث المستحيل، للدلالة على الصعوبة القصوى وعلى مدى اليأس.

كانت هذه اللحظة السورية من تلك اللحظات التي تخترق جدار الزمن لتبقى، ومن النوع الذي يؤسس لنفسه في الوجدان حضورًا دائمًا. نقطة بدء مركزية ترتاح النفس في استعادتها، وتدفع أهلها، بعد أن ابتعدت اللحظة عنهم، وفقدوا عناصرها المادية، إلى توسل ممارسات طقوسية تستعيدها لتؤبدها.

هكذا ينشأ، إلى جانب البعد السياسي للحدث، بعدٌ آخر ينتمي إلى المجال النفسي، مجال الإيمان، ويميل هذا البعد، مع استقرار الحال، إلى السيطرة على البعد الأول وتهميشه. هكذا يتحول اندلاع الثورة إلى ما يشبه الحدث الأصلي المستقل، حدث خارق عصيّ على الزمن ولا يتقادم، يستمد استمراره من استمرار حاجة الإنسان إلى انتماء وهوية وإيمان.

من الناحية السياسية، فإن قيمة مناسبات إحياء ذكرى الثورة السورية لا تتعدى التأكيد على اغتصاب مزمن ومستمر لحقوق شعب، وعلى جرائم مهملة ومستمرة، أي إنها قيمة في التذكر والتذكير. وهي، على كل حال، ليست قيمة فارغة المعنى أو الجدوى. لكن على خلاف الحدث المحتفى به، فإن الاحتفاء هذا هو احتفال خال من المخاطرة. إنه فعل روتيني يحتفي بفعل خارق. أو إنه فعل آمن يحتفي بفعل خطير. فعل روتيني آمن يسعى إلى امتلاك فعل خارق خطير، إلى امتلاكه معنويًا واحتكار قيمته. أما الحق فهو أن امتلاك الفعل الخارق الخطير لا يكون إلا بفعل خارق وخطير مثله.

-2-

في مواجهة العنف المنفلت من جهة النظام، بدأ المتظاهرون الذين كسروا بالفعل حاجز الخوف، يلجؤون إلى وسائل حماية، مثل التظاهرات الطيارة، ثم الهتاف من داخل البيوت، ثم التظاهرات الرقمية، وصولًا إلى التظاهرات المحمية بالسلاح. هذا المسار عكس مسار عودة الخوف والتفكير فيه. لم يكن للخوف حضور في اندفاعات الثورة الأولى. فلا يمكن أن يجتمع الإقدام والخوف معًا. لم يحتط المندفعون الأوائل في الثورة من قمع الأمن، ولم يفكروا في سبل الحماية، لأن الاندفاع طرد الخوف من قلوبهم. هؤلاء دفعوا الثمن الأكبر، رصاصًا موجهًا إلى الرأس، قبل أن تبرز فكرة الدفاع عن النفس، وتحوز التظاهرات على شيء من الحماية والأمان. يمكن القول إن التحول العسكري، الذي شكل النتيجة التي كان يصعب تفاديها في تلك الشروط، كان، من بين أسباب أخرى، نتيجة لعودة الخوف، لكنه هذه المرة الخوف من التراجع وليس من الإقدام. الخوف من انتقام النظام.

من المؤكد والمفهوم أن الخروج على نظام الأسد هو مسار باتجاه واحد لا يسمح بالعودة، فإما أن يسقط النظام وإما أن يدفع الخارجون عليه ومحيطهم الاجتماعي ثمنًا غاليًا يعرفه السوريون جيدًا. مثاله ما حدث في أعقاب المحاولة المسلحة للطليعة المقاتلة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. على هذا، لم يكن أمام المتظاهرين الذين كسروا حاجز الخوف، بعد أن صمد النظام للمرحلة السلمية، سوى الفرار خارج البلد، وهذا خيار غير متاح بسهولة وغير مضمون، أو الاستمرار، وهذا كان يقتضي التحول العسكري. في الواقع، تحقق الأمران مع الوقت. الخروج من البلد والمسار العسكري الذي أنشأ مناطق له خارجة عن سيطرة النظام، وبنى جدران خوف جديدة وفق معاييره الخاصة.

ازدياد الانخراط الدولي المواكب للتحول العسكري، إضافة إلى الزخم الشعبي الواسع للثورة، قياسًا على ما كانت عليه الحال في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، هو ما أتاح وجود مناطق آمنة نسبيًا للخارجين على النظام، الأمر الذي لم تتمتع به التجربة العسكرية السابقة للطليعة المقاتلة التي لم يُتح لها أن تحتفظ بمناطق كاملة تحت سيطرتها، كما صارت إليه الحال في وقت لاحق من تداعيات الثورة السورية.

النتيجة أن نظام “حرق البلد” رمم حاجز الخوف في مناطقه، وأحاله إلى حاجز رعب. وأن القوى الأخرى التي استطاعت أن تبني سلطة لها، في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، راحت تزرع الخوف في قلوب الناس الواقعين تحت سيطرتها، وبنت حواجز خوفها الخاصة. على هذا، فإن استئناف الثورة السورية بات أكثر صعوبة، بسبب تعدد السلطات، وما يفرضه ذلك من تباين الشروط السياسية بين المناطق.

مركز حرمون

—————————————-

بين اليوتوبيا والديستوبيا: التطييف عبر الثورة والحرب

ترجمة أحمد عيشة

المحتوى:

الملخص

1. المقدمة

2. تأملات منهجية

3. الطائفية وسورية – مقاربات نظرية

3.1. من الطائفية إلى التطييف

3.2 المشهد السردي الرئيس في سورية

4. تتبع التطييف: سرديات اللاجئين السوريين عن الثورة والحرب الناشئة

4.1 المطالبة بالحرية: سرديات الأمل

4.2 كسر جدار الصمت: سرديات الخوف

4.3 شبح حماة: سرديات الاستهداف والإيذاء

4.4. مواجهة الآخر المتدين/ الديني: سرديات الكراهية وعدم الثقة

5. الاستنتاجات

الملخص

حاولت كثيرٌ من الأبحاث الحديثة فهم دور الطائفية في الصراع السوري، إلا أن قلة من الدراسات تناولت هذه القضية بنظرة عمودية، من القاعدة إلى القمة، من خلال دراسة تجارب الناس اليومية والمعيشة. تسعى هذه الدراسة للوصول إلى مسارات تشكيلات الهوية الطائفية، من خلال روايات اللاجئين السوريين التي تعبّر عنها قصصٌ تدور حول الثورة والحرب الأهلية الناشئة. وتتساءل الدراسة عن الكيفية التي يُختبر فيها الجدل الطائفي وانعكاسه، من منظور السرديات الجزئية للاجئين، ومن الطرق التي تتوافق بها هذه التجارب مع الأطر المسيسة التي تعمل على المستوى الكلي. من خلال اتخاذ مفهوم “الطائفية” نقطة نظرية، تدافع الدراسة عن مقاربة هوية ديناميكية، عند محاولة فهم العمليات المعقدة للهويات المتنازع عليها والمتنافسة. وتشير الدراسة إلى أن استخدام مفهوم “التطييف“، بدلًا من الطائفية، قد يُقدّم فهمًا أكثر دقة للعمليات التي يتم فيها بناء الهويات الدينية بصورة خطابية مطّردة وتعبئتها، في صراعات مثل الصراع السوري.

يعتمد التحليل الكيفي لهذه الدراسة على مقابلات سردية عميقة، مع لاجئين سوريين متعددي الديانات يقيمون في النرويج، تنقسم قصصهم إلى أربع مجموعات سردية، وتتناول الأمل والخوف والإيذاء أو التضحية وكذلك الكراهية وعدم الثقة. من خلال عمليات تطرف الثورة والحرب، تسرد كل مجموعة من هذه المجموعات ذكريات ولحظات وتجارب معينة، أسهمت -بطرق مختلفة- في معرفة وتشكيل قضايا الهوية وتصورات “الآخر الديني”. وتكشف قصصهم مجتمعة منعطفًا مهمًا، يمكن من خلاله دراسة التعقيدات المحيطة بالدين والهوية والصراع، دراسة أوضح وأدق.

المقدمة

“أتيحت لنا الفرصة لتنفس الحرية، وكان ذلك شعورًا رائعًا. لقد شعرتُ بأننا وُلدنا من جديد”؛ “الطائفية تجري في دم سورية.. إنها ليست قضية إيجابية أو سلبية، إنها واقع”؛ “وصلت الطائفية إلى نقطة يعرف فيها الجميع أنها الآن باتت أبدية، وستجرف الجميع إلى الجحيم”!

تصوّر تمثيلات اليوتوبيا والديستوبيا إطارَين قهريين، مجازيًا، يلفّان القصص التي جمعتها من اللاجئين السوريين في المنفى. وهما يؤطران معًا مساحة سردية تحدث فيها تعددية مطّردة لأصوات اللاجئين. تتأرجح تلك الأصوات، بين الآمال المليئة بالحيوية عن عصر جديد وديمقراطي بدأ بالثورة في عام 2011، ومشاعر اليأس بالانحدار اللاحق إلى العنف والحرب والتهجير القسري. إن مسألة “الطائفية” أو الطرق التي يتم بها بناء الهويات والاختلافات الدينية وتعبئتها واكتسابها للزخم، اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، هي جزءٌ لا يتجزأ من هذه القصص.

إن حالة الطائفية في سورية، من منظور اللاجئين السوريين، ظاهرة مثيرة للاهتمام لا بدّ من دراستها؛ حيث إن تاريخ البلاد الطويل، من التنوع العرقي والديني والتعايش السلمي بين الثقافات، مثيرٌ للاهتمام والتساؤل، وإن لم يكن بالضرورة تفسيرًا مشتركًا للماضي يتقيد به جميع السوريين. وراء أحداث عام 2011 وما بعده، هناك سياق متعدد الطبقات يثير سؤالًا عامًا وشاملًا، عن الأسباب التي جعلت سورية تنحدر بهذه السرعة إلى صراع عنيف، وتغذي الانقسامات على أسس طائفية. تتمثل إحدى طرق تتبع “جذور ” وتطور هذه الخلافات وآثارها الدينية، إن جاز لنا التعبير، في أن نصغي جيدًا للاجئين السوريين المشتتين في بقاع الأرض، عن تلك الخصومات وتداعياتها الدينية. تحاول هذه الدراسة، مسترشدة ببعض الأسئلة، تتبع عمليات التطييف [استخدام الطائفية في المشهد] من خلال الأصوات السورية في النرويج: كيف يُعاش النقاش الطائفي، وكيف ينعكس عليهم، من منظور اللاجئين وعلى مستوى السرد الجزئي؟ وكيف تتوافق هذه التجارب مع الأطر المسيسة التي تعمل على المستوى الكلي؟

على الرغم من الكميات المتزايدة من الأدبيات المتعلقة بدور الطائفية في الصراع السوري، فإن قليلًا من الدراسات تناول هذه القضية، من منظور الدراسات الاجتماعية والثقافية أو الدينية. وعدد أقلّ منها يستمر في استكشاف تشكيل الهويات الطائفية والخطابات، من روايات اللاجئين المباشرة [2]. وبناء على ذلك؛ هناك حاجة إلى فهم أكثر دقة لكيفية عمل الدين والهويات على الأرض في الصراعات المعقدة، مثل الذي يجري في سورية. على وجه الخصوص، كما أوضحت آن ماري كورتي ولوسيان فان ليير، نحتاج إلى النظر عن كثب في كيفية “تشكيل الهويات الدينية السائلة، و(إعادة) اختراعها و(إعادة) تخصيصها أو إعادة ملاءمتها، ضمن الأطر الثقافية والسياسية المتغيرة”.

استجابةً لهذه الدعوة؛ تسعى هذه الدراسة للوصول إلى مسارات تشكيلات الهوية الطائفية، من خلال روايات اللاجئين التي عبّرت عنها السرديّات التي تدور حول الثورة والحرب الأهلية الناشئة. وبالتحديد، تتساءل هذه المقالة عن كيفية أن شذرات من قصص التجربة الذاتية للاجئين تعرض الإطار الاستطرادي للطائفية وتعيد تقويمه وتتحقق من صحته، أو تنقضه وتنفيه. سأوضح أننا ننقل تجارب اللاجئين بوساطة الخطابات، وهي موجودة في تقاطع السرديات الجزئية والكلية، والقصص الأصغر والأكبر، والشهادات الفردية والخطابات الاجتماعية السياسية. وإذا أخذناها مجتمعة، فإنها تكشف عن منعطف مهمّ، يمكن من خلاله دراسة التعقيدات المحيطة بالدين والهوية والصراع.

باتباع نظرة منهجية عامة، تبدأ هذه الدراسة بفحص نقدي لمفهوم “الطائفية”، وتوضّح أن المقاربات المختلفة نظريًا تتفاعل مع المصطلح في تحليلات الصراع السوري. وتبدأ بتقديم لمحة عامة عن المشهد السردي الرئيس في سورية، قبل تخصيص الجزء الأخير للتحليل الكيفي، حيث تُستكشف عمليات التطييف من الأسفل، بالاعتماد على الروايات التي يسردها اللاجئون السوريون. تنقسم القصص إلى أربع مجموعات سردية، وتتعامل مع الأمل، والخوف، والإيذاء، والكراهية وعدم الثقة. وتكشف كلّ مجموعة من هذه المجموعات عن لحظات وأحداث وتجارب معينة، قامت بطرق مختلفة بتشكيل التصورات حول قضايا الهوية والاختلافات الوليدة التي تنشأ عندما يتقاطع الصراع والدين في المسارات السردية للحرب.

يمكنكم قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل

https://www.harmoon.org/wp-content/uploads/2021/02/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D9%8A%D9%8A%D9%81-%D8%B9%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-.pdf

مركز حرمون

————————-

عيون شاخصة على المفترقات/ مصعب النميري

كانت السنوات العشر الأخيرة عاصفة على جميع الأصعدة في معظم البلدان التي شهدت موجات الربيع العربي. هذه السنوات شهدت التحول الأكبر والأهم في التاريخ المعاصر لهذه البلاد، إذ حاولت فيها الشرائح المهمّشة والمقموعة، لأول مرة، تحدّي الأنظمة القمعية والوحشية التي حكمتها على مدار عشرات الأعوام.

تفاوتت نتائج هذه الثورات في البلدان العربية، فاستطاع التونسيون والمصريون والليبيون واليمنيون الإطاحة بأنظمتهم، ثم انتكس هذا السير باستيلاء الثورات المضادة مجدداً على الحكم، أو الغرق في الفوضى، إلا أن سوريا تبدو استثناءً بين كل هذه البلدان، لكونها البلد الوحيد الذي لم يسقط نظامه رغم ارتكابه الجرائم الأفظع. لن نسعى في هذا المقال إلى التحليل المحض للأحداث السياسية والعسكرية، بل سنحاول الإضاءة على تفاعل السوريين وجدانياً وعاطفياً مع ما جرى خلال هذه السنوات، ورسم خريطة لمشاعرهم التي تحولت من الأمل المفعم بالطاقة في البدايات إلى الإحباط العام والقبول المرير بفشل الثورة في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى التصالح مع غياب القدرة على العودة القريبة إلى سوريا التي نحلم بها.

ومضات من العقد اللاهب

كانت المشاعر التي سادت لحظة اندلاع الثورة في سوريا مركّبة وحادة، فالأمل الذي تفجّر في نفوس الملايين على وقع الصرخات الأولى كان ممتزجاً بالرهبة تلقاء الحدث الهائل. هذه المشاعر كانت نتيجة معاينة الحياة المتدفِّقة بعد رقاد يشابه الموت، وقد اعتبرها كثير من السوريين لحظة ميلاد لهم. كثير من الاعتبارات والمعاني ماتت لديهم بموت هذه المشاعر، بما يكفي لدفعهم بقسوة إلى عدمية يحاولون اليوم تجاوزها وتوليد المعنى عبر طرائق ومقاربات أخرى.

كان لكل عام من هذه الأعوام العشر ثيمة خاصة به، أو عنوان عريض تدور الأحداث في ظله. كان 2011 عام التظاهر السلمي وشهد الفرز الحاد بين النظام ومؤيديه من جهة، ومعارضيه من جهة أخرى، وتصاعدت فيه حدّة شعارات الثورة حتى وصلت إلى مطلبها الأكثر جذرية، وهو إسقاط النظام، إلى جانب بدء الانشقاقات عن قوات النظام وتشكيل الجيش الحر. كان سقوط النظام لدى كثير من السوريين حينها «مسألة وقت»، ففي ذلك العام سقط بالتوالي كل من بن علي في كانون الثاني، ومبارك في شباط، والقذافي في آب، ما أدى إلى حالة يقين عام بأن كل الأنظمة التي تواجه شعوبها ستسقط في النهاية.

كان العام 2012 هو عام المجازر والقتل الجماعي على يد النظام، وفي موازاة ذلك كان التسلّح يزاحم مشاهد المظاهرات ويطغى على المشهد، إلى جانب اتّضاح حجم التدخل الإيراني لصالح النظام. في هذا العام بدأت فصائل الجيش الحر بالتحول نحو الأسلمة وتلقّي التمويل من دول متضاربة المصالح، وبرز إلى جانبها بشكل متصاعد اسم جبهة النصرة التي بدأت بتنفيذ عمليات انتحارية والبروز إلى الواجهة.

أهم ما جرى في 2013 كان مجزرة الكيماوي وتراجع الولايات المتحدة عن ضرب النظام، وظهور اسم داعش لأول مرة. في خلفية هذه الأحداث كانت موجات اللجوء تتصاعد إلى دول الجوار والدول الأوروبية. وبعد أن احتل داعش صدارة المشهد في 2014 وبدأ تدويل القضية السورية لتصبح «حرباً على الإرهاب»، صار إسقاط النظام شأناً ثانوياً على الصعيد الدولي. في 2015 تدخلت روسيا عسكرياً بشكل مباشر لتقلب الموازين لصالح النظام السوري.

سُتَر النجاة كانت تُباع على الأرصفة التركية حينها. 

تدخلت تركيا في 2016 لتصبح المعارضة السياسية والعسكرية مرتهَنة بالكامل لها، وليكتمل نصاب الدول الضالعة في رسم المشهد السوري. في هذا العام ستسقط حلب، وسيصل إحباط السوريين إلى ذروته مع إدراكهم لانعدام قدرتهم على التأثير. ثم ستدخل تركيا إلى عفرين في 2019، ليتجذّر الشرخ العربي الكردي وتأخذ الخارطة شكلاً قارّاً حتى كتابة هذا المقال: النفوذ الأكبر للنظام تحت الوصاية الروسية والإيرانية، ومناطق الإدارة الذاتية تحت الوصاية الأميركية، وجيوب المعارضة تحت الوصاية التركية في إدلب وعفرين واعزاز وتل أبيض. السوريون في مناطق النظام يعيشون أزمة اقتصادية خانقة، والسوريون في دول الجوار تُراودهم كوابيس العودة حين يُطْبقون أجفانهم. تدور في غرف كْلَبْهاوس اليوم نقاشات لمحاولة فهم ما جرى، وتتخللها تساؤلات حول ما يمكن فعله على المدى البعيد.

لا ندم على لحظة حبّ

يرى الكاتب مصطفى الجرف أن عام 2013 كان العام الذي «شعر فيه بالاستباحة بعد تراجع أوباما عن ضرب النظام إثر مجزرة الكيماوي»، وأن هذه اللحظة أدت إلى فقدانه الأمل. ذلك أن النظام السوري بمجزرة الكيماوي كان قد داس على الخط الأحمر الموضوع له دولياً ومرّ الأمر دون عواقب. في هذه السنة ظهر اسم داعش للمرة الأولى، وسيطر جيش الإسلام على دوما. كان هجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية حدثاً جللاً: «أظن أنه بعد هذه اللحظة صار الموت أمراً عادياً للسوريين، وفقدوا الإحساس بهول الأشياء». ولفت الجرف إلى أن الشارع السوري خرج من المعادلة السياسية مع تأسيس الائتلاف، الذي كان منسلخاً عنه، وأن القاع الذي وصل إليه الحال كان مع سقوط حلب ودخول تركيا بصفقاتها إلى المشهد ثم دخولها عفرين.

خرج الجرف من سوريا عام 2014 بعد أن كان مصرّاً على عدم الخروج: «حتى الموت في سوريا كان له بهجة قبل ذلك في ظل وجود مشاعر الحرية. كان السوريون يعتقدون بأن لهم قيمة لأنهم يغيّرون العالم. الجنازة كانت سرعان ما تتحول عرساً. حتى الموت كان ينبض الحياة». غادر مصطفى إلى تركيا، ولم يستطع البقاء في عنتاب بعدما عاينه من «نرجسية وأنانية واستنفاع وفساد في أوساط المنظمات». يشعر مصطفى أنه فقد الهالة والروح العالية التي كان يمتلكها في سوريا، والتي كانت قد تشكّلت عبر الإيمان بنبل وضخامة مشروع الثورة: «بعد الخروج من سوريا فقد كل شيء معناه، حتى الحرّية فقدت معناها. أنا اليوم أعيش بحرية في فرنسا، ولكن هذه الحرية لا معنى لها، مقارنة بما كان يمثّلة نُطق كلمة الحرية في حلب مثلاً».

سألتُ مصطفى إن كان قد شعر بالندم على ما جرى في سوريا، فقال إنه نادم على كل ما فعله في حياته، باستثناء الأيام القليلة التي عايش فيها الثورة: «قد يندم أحدنا على زواج فاشل، ولكنه لا ينبغي له أن يندم على لحظة حبّ جميلة. ما فعله السوريون خلال سنوات الثورة كان مذهلاً بجسارته ونبله، والعظمة التي خرجت منهم كانت استثنائية. الأمل كان قد حوّلهم إلى ملائكة، وغيابه دفعهم إلى العدمية المتوحشة»، مضيفاً أنه، رغم كل ما حدث، ضد جلد الذات بشكل قاس: «نحن لا نستطيع مواجهة روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة ووحوش داعش والنصرة. كنا نظن أن الديمقراطية هي أمر محتوم في عالم اليوم في مواجهة الأنظمة البدائية، والدرس الذي تعلمناه من هذه التجربة هو أنه لا مكان للثورات في هذا العالم الذي يعاني انتكاساً في قيمه. ما نستطيع فعله اليوم، رغم غياب الأمل، هو ألا ننهار أو نبصق على أنفسنا. أن نحاول تجاوز التروما ومشاعر الانتكاس، وأن نتمكن، خاصة الشرائح الشابة منا، من معرفة البلدان التي نقيم فيها اليوم وامتلاك أدوات التأثير فيها».

لحظة الجسارة الغامرة

شارك مروان زكريا في المظاهرة التي خرجت من الجامع الأموي بتاريخ 25 آذار 2011. شعر بأن ثمة شيئاً «غامراً» يحدث وهو يمشي مع الحشد. كانت هذه اللحظة «الأكثر جسارة وجرأة» في حياته. كان مروان يؤمن أن العالم يسير نحو التغيير، حتى قبل الثورة، وأن زمن الديكتاتوريات يشارف على النهاية. وأدرك مع لحظة الثورة تحطم آماله السابقة بأن النظام قد يغيّر نفسه.

يضيف مروان: «أعترف أنني كنت أشعر قبل الثورة، دون أن أدرك ذلك، أننا كسوريين شعب طيب ولكن لدينا شيء من الجهل، وانتبهت إلى هذه المشاعر لاحقاً. جاءت الثورة كحدث مذهل، أدركتُ فيه أن بإمكاني التعلّم من أصغر متظاهر في الشارع. كنت أشعر كشاب سوري أن الآخرين ينظرون إلينا كأبطال خارقين يغيّرون العالم». خرج مروان من سوريا بعد تشكّل جبهة النصرة عام 2012 وانتشار التفجيرات العشوائية. أيقن باستحالة العودة إلى سوريا في عام 2013. تملّكتْه مشاعر مختلطة لدى حصول انقلاب السيسي في مصر في ذلك العام، إذ كان مرتاحاً لذهاب الإخوان في البداية، وسرعان ما أدرك فداحة هذا الحدث وتبعاته. ثم جاء تراجع أوباما عن ضرب النظام إثر الهجوم الكيماوي ليتجذر اليأس لديه.

يرى مروان أن الثورة «لم تُهزَم»، لأن الهزيمة تقتضي وجود طرفين يتواجهان بشكل عادل، ثم ينتصر أحدهما على الآخر. يقول إن الثورة «تعرضت للإبادة» عبر إبادة السوريين وحلمهم. يشير مروان إلى أن هذين الحدثين (انقلاب السيسي وتراجع أوباما) أسّسا لمشاعر الاكتئاب والإحباط لديه، ودفعه ذلك لزيارة معالِجة نفسية للمرة الأولى. انتقل من دبي إلى اسطنبول بعد ذلك مدفوعاً بالرغبة في الاقتراب من الحدث السوري. لم يتصالح مروان مع حالة الهزيمة حتى اليوم، فيقول إن «شعور الانكسار دُفن عميقاً، وكانت الحياة تسير بمعزل عنه. ثم جاء سقوط حلب في 2016 وانحدرت المشاعر السلبية إلى قاعها».

عن سؤال ما الذي يمكن فعله، يجيب مروان أن السوريين افتقدوا خلال هذه السنوات الكيان الجامع الذي يمثّلهم: «اتّضح بشكل جلي أن محاولات تأسيس الكيانات السياسية التقليدية فشلت خلال هذه السنوات العشر، فهذه الكيانات أخفقت في تأدية مهامها وصارت تحت وصاية الآخرين». السوريون تواصلوا وتعارفوا ونسّقوا ونقلوا المظاهرات بأدوات افتراضية، ويقترح مروان أن «يتم التفكير بعد كل هذه التجربة بكيان افتراضي يستفيد من الأدوات المتاحة اليوم في التكنولوجيا المتطورة ويستقطب أصحاب الكفاءات ورؤوس الأموال، ويمكنه مع الوقت التحول إلى كيان شامل، يجمع من يرغب من السوريين الانضمام إليه».

ابحث عمّا ليس جحيماً

لدى دخولها الجامعة، كانت هيفين جقلي قد بدأت بالتعرّف على ملامح الوضع السياسي والأمني في سوريا، قُبَيل اندلاع الثورة بسنوات قليلة. تقول هيفن إنها شعرت بالرهبة لدى اندلاع الثورة: «منذ كنا أطفالاً في سوريا، كان هناك تصور عن العالم بوصفه صراعاً بين الخير والشر، والصح والخطأ، يحكم مقاربتنا للأشياء. بالنسبة لشخص في الثانية والعشرين كانت المظاهرات في درعا تجسيداً لهذا الصراع. أبطال يواجهون رصاص الأشرار في الساحات من أجل الخير دون اكتراث لكلفة ذلك. أردت أن أشارك. اليوم بعد عشر سنوات تغيرت هذه النظرة القاصرة، وصرت أميل لمقولة حنة أرندت: الشر متطرف، أما الخير جذري. الناس ليسوا معطى نهائياً».

هيفين هي كاتبة سورية كردية من سكان مخيم اليرموك. شاركت في المظاهرات السلمية وعملت لفترة في مراكز لإيواء الهاربين من قصف النظام. بعد سيطرة المعارضة على المخيم، عملتْ كممرضة وعاشت فترة الحصار وظهور داعش. ثم غادرته عام 2014 بعد فوز بشار الأسد في الانتخابات: «معنوياتي كانت في الحضيض حينها، فالمخيم كان قد أصبح تحت سيطرة فصائل جهادية لا تعي ما تفعل، ولم يعد بوسعي البقاء فيه. ودمشق حين خرجت إليها كانت مغطّاة بصور بشار الأسد بعد أن أُعيد انتخابه رغم استخدامه السلاح الكيماوي، وكانت اللطميات تصدح من وسائل النقل. كان الانكسار في عيون الناس صورة متكاملة وطاغية للهزيمة. وحين طُلب مني مراجعة فرع أمن المنطقة الجنوبية، قررتُ مغادرة سوريا عازمةً على عدم ذكر اسمها مرة أخرى على لساني».

في بيروت، عملت هيفن في الصحافة وبدأت بالتواصل مع مراسلين من بقية مناطق سوريا. توسّع مفهوم وواقع سوريا لديها عن حدود المخيم، وشعرت بعودة الرابط بينها وبين سوريا مرة أخرى: «لم أعد سجينة تجربتي الخاصة ولم أعد أستطيع الاحتفاظ بشعور الهزيمة مع هذه المعرفة الجديدة، وعادت الرغبة بأن أكون جزءاً من هذه الحيوية المكتشفة. أحببت الصحافة وأردت المزيد منها. قررت الانتقال إلى تركيا لأنني رأيت فرصة للمحاولة من جديد. بوجود المعابر الحدودية، كنت أطمح إلى العمل كصحفية ميدانية، وأن أكون جزءاً من المجتمع الذي يقاوم هيمنة الإسلاميين على المناطق المحررة».

انتقلت هيفن الى تركيا منتصف 2015، لكن المعابر كانت قد أغلقت مع سوريا مع وصولها الى تركيا. عملت لعامين مع إحدى مؤسسات الإعلام البديل بانتظار أن تُفتح المعابر. لكن بعد استيلاء النظام على حلب وإدراكها أن المعابر أُغلقت دون عودة، انتقلت الى اسطنبول نهاية 2017 وعملت مع منظمات المجتمع المدني أملاً في العثور على بديل أو شكل جديد للعمل؛ تجربة تقول إنها كانت «مفيدة لكنها غير سارّة».

تعتقد هيفن أن الكثير من الخسارات وقعت في الثورة لأن الائتلاف الذي يدّعي تمثيلها سياسياً وعسكرياً يفعل ما يحلو له دون أي رقابة أو محاسبة. فهو لم يغير استراتيجيته ولا خطابه طوال عشر سنوات رغم كل الخسارات التي مُني بها السوريون. كان اجتياح عفرين والانتهاكات المرافقة له تكليلاً لسلسلة من المصائب جرّها الائتلاف على الثورة: «كان بوسع المؤسسات الإعلامية والمنظمات الموجودة في تركيا أو خارجها أن تلعب دورها في هذا المجال كمؤسسات سورية وطنية ومدنية في مواجهة الانتهاكات التي تُرتكَب باسم الثورة. هذه المؤسسات الإعلامية أو التي تعمل على برامج مرتبطة بالعدالة الانتقالية لم تؤدِّ دورها في مساءلة الائتلاف حول دوره وواجباته، بدءاً من قضايا مثل انتهاكات الفصائل المسلحة، ومروراً باتفاقيات التهجير القسري أو شرعنة ترحيل اللاجئين إلى سوريا، وليس انتهاءً بقضية اجتياح عفرين وتحويل المعارضة المسلحة إلى مرتزقة».

عن جدوى العمل والاستمرار، تقول هيفن إن الثورة كانت تجسيداً مضاداً لرواية النظام القائلة إن الناس لا قيمة لوجودها ولأصواتها، مشيرةً إلى أن هناك الكثير من الاستسهال بالقول إنه لا جدوى من فعل أي شيء اليوم: «لدينا الماضي لنسأله، والحاضر لنتعامل معه، والمستقبل لنخطط له. خلال الأسابيع الماضية كان هناك أحاديث عن التذكر والندم والأمل، وهناك شبه اتفاق في معظم ما قرأته من تحليلات أو سمعته على عجزنا وكيف أننا ضئيلون في مواجهة قوى عالمية، لكن هناك حديث أقل عن ما هي الإمكانيات. أتفق مع من يقول إن واقعنا سيء، لكنني أختلف مع من يقول إن واقعنا اليوم كان أمراً محتوماً. وأعتقد أن هذه الحتمية هي الندم، والمحاولة مجدداً هي اللا-ندم».

تضيف هيفن: «يقول سورن كيركغارد إن حب التكرار هو الحب الوحيد السعيد، فهو مثل حب التذكر، ليس لديه اضطراب الأمل، ولا مغامرة الاكتشاف القلقة، ولا أسى التذكر، بل له أمان اللحظة المباركة. الأمل رداء جديد قوي ومحكم وفاخر، ومع ذلك لم يلبسه أحد قط، لذا لا أحد يعلم كم سيكون مناسباً له. أما التذكر كما يصفه فهو رداء مهمَل مهما كان جميلاً، لم يعد مناسباً للمرء لأنه صار صغيراً عليه. أي أن التذكر حركة نحو الماضي، أما التكرار فهو تذكر في المستقبل. خلال هذه السنوات العشر كانت هناك أمور جيدة وأخرى سيئة. والأمر يعود إلينا إن أردنا، بإمكاننا العودة إلى ما جرى ومعاينة مواطن القوة في هذه السيرة ومحاولة الاستفادة من المعرفة التي راكمناها، وتوظيفها عبر الأدوات والمساحات التي أصبحت متاحة لنا بشكل مختلف عن السابق. كريغارد يقول أيضاً إن من يعيش على الأمل فقط هو جبان، ومن يريد أن يتذكر فقط شهواني، لكن من يريد التكرار هو إنسان. بيد أن هذا التكرار يستلزم شجاعة لنقول إنه كان بالإمكان أفضل مما كان، أو على الأقل الشجاعة لنقول إنه لا يمكننا الجزم بالقول دون مراجعة حقيقية لسيرة السنوات العشرة».

تستعير هيفن كلام الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في مقاربتها لما نعيشه اليوم: «إن جحيم الأحياء ليس شيئاً سيكون، وإذا وُجد جحيم، فهو ذلك الموجود هنا الآن. الجحيم حيث نعيش كل يوم والذي نكونه حين نكون معاً. هناك طريقتان لتجنب عذابه، الأولى: سهلة للجميع، أن تتقبل الجحيم وتصبح بعضاً منه، فلا تراه بعد ذلك. الثانية خطرة، وتتطلب احتراساً وخشية دائمين: تبحث وتعرف، في وسط الجحيم، من وما هو ليس جحيماً، ثم تُمكّنهما من البقاء وتمنحهما مجالاً».

موقع الجمهورية

———————–

في عدم حاجة العلويين لبقاء الأسد/ أدهم حنا

يُثار سؤال في عيد الثورة السورية: متى يتحرك العلويون ضد النظام؟ وما موقفهم اليوم منه؟ في هذا يشعر الجميع بالريبة، وتُفرض خيارات أكثر نحو النظام وبقائه بسبب تجمهر العلويين خلفه.

من الأفضل القول: جمهور العلويين؛ وذلك منعاً للّبس في الفلسفة السياسة، في الفارق بين الشعب والجمهور. فالجمهور هو جزء من الشعب، يحمل اختلافاً عن جمهور آخر؛ أي الجمهور زمرة، والشعب مجموع الزّمر أو المجموعات. كان واضحاً أن الجميع ينتظر أن ينتقل العلويون إلى مكانٍ ما يظهرون فيه كشعب، متوحدين في كيانات أكثر اتساعاً وشمولاً في نقد النظام، أو رفضه. ليس مفاجئاً أن تبدو عصبية طائفية وراء نظام متخلف كالنظام السوريّ، يعيش على هامش من العنف الرمزي، الذي من دونه لا يمكن لعنف مادي أن يظهر.

كان تجييش بعض العلويين فادحاً في الحرب، قروسطية رمزية دينية، عممها قادة وعسكريون علويون، ومن ثم مرتزقة في مليشيات واضحة الغاية والهدف، في وجه شعب أعزل في بداية الثورة. لقد كان حمل السلاح في وجه النظام أكثر ما احتاجهُ ليُشكل حالة ارتزاق عامة ومجنونة انطوى تحتها الكثير من العلويين. نستطيع القول إنه منذ نشوء جذور الحرب الأهلية في الثمانينيات وضرب النظام لمدينة حماة؛ حافظ النظام على هامش من الاعتقادات والألقاب الطائفية التي تتبادلها الجماعات السورية: (العلويون شبّيحة)، (السنة إخوانجيّة)، (المسيحيون أقلية غير لازمة). الحداثة السياسية بمفهومها الطبقي مثلاً، أُقصيت من التداول الاعتقادي لدى السوريين، طفت الثقافة الرديئة للجماعات على حساب الوعي الطبقي والمعيار الاجتماعي الاقتصادي. وعاش العلويون على أنهم مظلومون ومهمّشون، وأنهم محاربون دائماً من دون سلاح في أيديهم، ومن دون قائد مرتزقة. هذا لم يخلُ من بعد منشئي عام للريف السوري الذي حكم سوريا؛ فحتى ثورة الأرياف كانت تحمل طابعاً من طوابع السلطة، في العنف والفوضى والقسوة.

عملياً فقد النظام قسماً كبيراً من جمهور العلويين، منذ العام 2015، كما فقد السيطرة العسكرية على أكثر من نصف البلاد.

النظام لم يتنبه إلى أن جعل الحرب السورية طائفيّة بين صفوف الجيش ستكون رهاناً خاسراً. هنا نما مبدأ كمي؛ مقارنة كمية جعلت العلويين يشعرون بأنهم الخاسرون في حرب لا طائل منها. في صراع الأجساد خسر العلويون أجسادهم، في حربٍ تبنوا فيها، جراء توجهات قادة المرتزقة من ضباط وأمراء حرب، شعارات دينية ضمنية، حاولوا إخفاءها وراء قناع الدولة، والفاشية العسكرية. كان كمّ الأجساد الذي خسروه إنذاراً بحجم التضحيات التي لا يمكن دفع كلفتها، ولا يمكن الاستفادة منها.

فكُسِر النظام جرّاء فشله التكنولوجي في قيادة الحرب؛ إنّ عدم تطوره التقني والمعرفي العسكري، جعل دعايته الدينية القديمة خاسرة أصلاً، والتي لم تخلُ من تحفيز ضمني لصراع العقائد. العنفوان الطائفي وعنفه، والآلية التدميرية التي غرسها في العلويين فشلت في سباق الأبدان والأجساد التي وصلت إلى مرحلة فقدان الوجود. لا يمكن للعلويين تحمل حربٍ يموتون فيها كلهم بلا جدوى. والأكثر إيلاماً؛ بلا تحقيق أيّ قيمة.

لم يعد الجسد العلوي متماهياً مع النظام، ولم يعد قادراً أصلاً على مواجهة أكثرية عسكرية وشعبية. الوصول الروسي جعل النظام قزماً، أكثر من التدخل الإيراني الذي حاول بالعقيدة الجهادية التآخي مع العلويين، الذين اتضح لهم أنه كان يُقصيهم، ويقصي تاريخ أفكار عقيدتهم أيضاً. كان النظام من أجل الكُرسي يضحي حتى باعتقادات الطائفة ورواسخها.

لم يكن النظام يتوقع أبداً، أن تبدو خياراته العسكرية للانتصار على الثورة السورية ناقصة من ناحية التكنولوجيا، أو أن فداحة خسارته للسيادة التي كان يتمتع بها سببها فقر التكنولوجيا، التي ساهم الروس في إغناء جزء منها، من خلال الحرب التقنية والجوية المتمايزة مكانياً عن البشر وعن الصلة بهم. وفي الحقيقة، أنقذ الروس العلويين من التجنيد، وحتى من الحاجة إليهم في المليشيات.

وصولاً إلى العام 2015، كان النظام يفقد الهيمنة العسكرية لصالح إيران ومليشياتها. رافق هذا تنبّه العلويين إلى أن النظام يجرهم للموت فقط.

الدفع بالأجساد المُخلصة المقادة إلى الموت، انتهى منذ تنبه “الأمريكان” إلى أنّ الانتصار في الحروب يتمّ بتقنية عالية وبريئة من الأجساد المشاركة فعلياً والموجودة في ساحة القتال. هذا ما أوصل الروس إلى سوريا؛ فالحداثة العالمية للشر والإبادة أنقذت النظام بتقنياتها من أجل مصالح سياسية لا تُشعر العلويين بقيمتهم، بل تجعلهم أقل معنى، حتى بالنسبة إلى بشار الأسد، والذين تماهوا مع سلامة كرسيه لعشرات السنين قبل تيقظهم.

هنا النظام ذاته تخلى عن العلويين، محولاً قادة العلويين العسكريين والمرتزقة المشغّلين لهم، إلى لا شيء بكل ما للكلمة من معنى، ورغم كل العنف الذي أدخلهم فيه، إلّا أنّهم فشلوا في تحقيق الانتصار له، فأزاحهم، أو حتى طوعهم للقتال في بلدان أخرى كمرتزقة للروس. لم يعد العلويون بالطبع من جمهور الأسد. فهو يُشتَم في الطرق، وتُزاح صوره عن واجهات البيوت؛ ذلك كان ردّ فعل العلويين على الأسد بعد اكتشافهم لما وضعهم فيه. وفي الوقت نفسه، ظهر، خلال سنوات التدخل الروسي، أنّ الروس يبقون على بشار، ويحبون العدو الصهيوني ولا يحموننا منه. لم تعد هناك حجّة لنظام الأسد في مواجهة جمهوره الأكثر التصاقاً. بدا ضعيفاً، وبلا أي قدرة على فعل شيء في البلاد، باستثناء جمع الأموال هو وعائلته.

في إفلاس البلاد، وعدم الحاجة إلى الخوف من الجماعات الأخرى، بدا العلويون اليوم أقل خوفاً، بالتالي أكثر استقراراً لتأمل أوضاعهم وخساراتهم، هل سيثورون؟ ولو ثاروا، لا معنى لهم، النظام لم يعد يعتمد عليهم. لقد فقد العلويون المعنى الذي كانوا يتخيلونه، فالوطن بات مستعمرة، وحديقة لآل الأسد، والطائفة في أسوأ أحوالها المعيشية، أسوة ببقية طوائف الشعب، الذي بات متوحداً طبقياً. ظهر النظام في عيونهم متأخراً، بوصفه مليشيا تتبع إقليمياً دولاً ذات مصالح، ومعيار ثورتهم عليه لن يبدو ذكياً أو حاسماً. لقد تخلى عنهم منذ فشلوا كأداة عنف مسخرة لمعتقدات طائفية يعج فيها المجتمع السوري. محاولة دفع العلويين إلى الثورة لن تكون مجدية؛ سيقتلهم النظام بالمليشيات التي تخيف العلويين أنفسهم؛ مليشيات من أمراء حرب لبنانيين وإيرانيين وقوات روسيّة مدربة ذات أجر عالٍ تُرهب السوريين كلهم. حينما أصبح العلويون -من ناحية طبقية- شعباً، باتت ثورتهم مستحيلة، مثل ثورات بقية الفئات السوريّة. لم يعد العلويون يملكون أجساداً أكثر لتُزجّ في ساحات الحرب، ولا في ساحات الثورة، باتوا وحيدين متأملين فقرهم وذل عيشهم بعد كلّ ما خسروه وضحّوا به، من أجل عائلة تتربع على كرسي لن تقوم عنه، ليس لأنها وطنية أو لأنّ الشعب وراءها، بل لأنّها عالم مليشيوي ينصب الكراسي ويزيلها.

المدن

—————————-

نظرة حسد لبنانية.. الى ليبيا/ ساطع نور الدين

لم يكن أحد يتصور أن تثير التجربة الليبية المتواضعة، والمتعثرة، الحسد. ولم يكن أحد يتخيل ان يكون الاشقاء الليبيون محظوظين الى هذا الحد، في التدخل الدولي الذي وضعهم على سكة الاستقرار والخروج من مأزق الثورة التي إستحالت حرباً أهلية كادت تؤدي الى تفكيك وحدة ليبيا وتمزيق شعبها وإغراقه في الفراغ والفوضى، على ما هو حاصل في سوريا واليمن ولبنان وحتى العراق.

لم تستعد ليبيا هدوءها الكامل وعافيتها المنشودة. ما زال الطريق طويلاً. لكن السلاح صمَت تقريباً، والسياسة تعمل بشكل طبيعي نسبياً، والأشقاء الليبيون على إختلاف إنتماءاتهم وأهوائهم يتطلعون للمرة الاولى منذ عشر سنوات الى المستقبل بأمل.. فالمجتمع الدولي يتدخل في التفاصيل الليبية الصغيرة، ويراقب أداء جميع القوى السياسية-العسكرية، ويضعها أمام إمتحان يومي، ويقيس مدى إلتزامها وجديتها في الالتزام بخريطة الطريق التي شكلت حكومة وحدة وطنية وحددت مواعيد لانتخابات رئاسية ونيابية.. وخططاً لإدارة قطاع النفط الحيوي، تمهيداً للشروع في عملية إعادة الاعمار.

بديهي القول ان النفط الليبي سبب رئيسي للتدخل الدولي ولنجاحه، حتى الآن، وكذلك الامر بالنسبة الى الثروة الليبية التي تجتذب العالم أجمع، وتثير صراعاً أوروبياً داخلياً لاسيما بين إيطاليا وفرنسا، وتنافساً حاداً بين اوروبا الغربية وبين كل من روسيا وتركيا اللتين تسللتا، بدرجات متفاوتة الى العمق الليبي، وشرعتا في التنازع على حصصهما، في تكرار شبه حرفي للسيناريو السوري، في ظل موقف اميركي مراقب، يطالب بدور ليس له قوة تأثير حاسمة على الارض.

بالطبع، كان الفصل الاخير من الدراما الليبية الذي يعد بخاتمة سعيدة، مكوناً من وقائع متعارضة، أهمها حماقة بعض العرب، لاسيما دولة الامارات ومصر ومعهما روسيا، في الرهان على اللواء خليفة حفتر للإنقلاب على أصل الثورة الليبية والسعي لإحياء نظام معمر القذافي، ما دفع تركيا الى التدخل العاجل للدفاع عن موقعها الليبي، ولاعادة الأمور الى توازنها على المستويين العسكري والسياسي، والعمل على إستبعاد العبث الفرنسي بموازين القوى الليبية، وهو ما مهّد في نهاية المطاف الى الحل الداخلي، الذي يعطل الى حد بعيد تلك الحماقات العربية والروسية، وإن كان لا يلغيها نهائيا.

في المحصلة الاخيرة، تبدو التجربة الليبية نموذجية، وإن لم تكن مثالية: الآن هل سيعمد المجتمع الدولي الى تعميم هذا النموذج على بقية البلدان العربية التي تواجه مخاطر شبيهة بتلك التي واجهتها ليبيا في سنوات ما بعد القذافي، عندما غرقت في دماء أبنائها وتعرضت لإستباحة اقليمية ودولية واسعة النطاق، كانت تستهدف نفطها وثروتها وبرنامجها لإعادة الاعمار الذي يقدره الاتراك والايطاليون بما يزيد عن 120 مليار دولار أميركي.

القول ان ما يصح في ليبيا، يصح في سوريا واليمن ولبنان والعراق..يعبر عن رغبات أكثر مما يعبر عن حقائق. والحالة الليبية، سواء الثورة نفسها وبداياتها الواعدة، أو طبعا النهايات المستعادة أخيراً، تتمتع بخصوصيات فريدة لا يمكن العثور عليها في أي بلد عربي آخر. لكن سلوك المجتمع الدولي، كان حتى الآن إنتقائياً جداً، ومبنياً على إنحيازات وتنافسات حادة ومتسرعة. هنا لا يمكن الحديث مثلا عن تفاهم اميركي روسي أسفر عن خريطة طريق ليبية طموحة، كما لا يمكن الحديث عن توافق أوروبي – أوروبي أسهم في صياغة تلك الخريطة، كما لا يمكن العثور على دليل على تقاسم روسي تركي شبيه بذلك المعتمد في سوريا. السلوك الروسي في ليبيا كان، وربما لا يزال، يحاول التسلل كشريك في المغانم وفي العقود الموقعة مع نظام القذافي. والسلوك التركي، الذي كانت مغامرته الليبية منذ البداية، حافزاً للحل السلمي، لم يلتزم بالضوابط والقيود التي فرضت في سوريا.

هل يمكن أن يكون اليمن هو النموذج المقبل؟ هذا ما توحي به الوقائع الاخيرة للحرب، والمبادرة السعودية الاخيرة لوقفها، والتي لن يستطيع الحوثيون رفضها طويلاً، كما لن تتمكن إيران من عرقلتها كثيراً..خاصة وأن أميركا لا تواجه منافسة من أحد في مساعيها لتفكيك ألغام تلك الحرب المدمرة وإزالة أعبائها الانسانية القاسية.

المهمة ستكون سهلة في اليمن، أكثر بكثير من سوريا، التي كانت ولا تزال تنشد مثل هذا التدخل لإنهاء حربها، لكنها تواجه عقبة عملية غير موجودة في أي بلد عربي آخر، هي ان النظام السوري لم يسقط، ولن يسقط إلا بتفاهم أو تواطؤ أميركي روسي، وشراكة تركية فعلية، ومراجعة إيرانية جدية للعلاقة مع سوريا ونظامها، والحصة التي ستنالها من النظام الذي سيخلفه.. وهي مستحيلات، لا يلوح في الافق ما يسمح بتخطيها، أو على الاقل يتيح وقف الحماقات العربية التي ساهمت في إطالة أمد الحرب السورية عشر سنوات كاملة. 

ربما يكون لبنان هو النموذج المقبل، والممكن، ما يضع حداً لتلك المفارقة المثيرة للسخرية: طالب بعض اللبنانيين بتدخل دولي، فكان التدخل من نصيب ليبيا.. وبات الأمل الأخير للبنان في أن يتجرأ المجتمع الدولي فقط على فرض عقوبات قاسية وعزلة تامة على المسؤولين اللبنانيين الذي يجاهرون يومياً بعدائهم وإزدرائهم لبلدهم وشعبهم، ولا يبدون إستعداداً للسير على خطى الأشقاء الليبيين.

المدن

——————————–

اسباب الثورة وتحدياتها

https://www.facebook.com/sa.institue/videos/192788459037957/?fref=mentions&__tn__=K-R

—————————-

=======================

تحديث 30 أذار 2021

—————————–

عشر سنوات من الثورة.. وثلاثة حلول ممكنة/ نبراس إبراهيم

بمرور عشر سنوات على انطلاق الثورة السورية، وتعرض السوريين لخسارات هائلة، وانكشاف النظام السوري باعتباره نظاماً شمولياً أمنياً تمييزياً طائفياً، وانكشاف ضعف المجتمع الدولي وهشاشته أمام القضايا الإنسانية، وشبه اليأس من مؤسسات وهيئات المعارضة السورية بواقعها الراهن، من الأفضل الحديث عن الممكنات للمستقبل بدلاً من الحديث عن عشر سنوات عجاف، ثكلى وحزينة، مليئة بالإجرام والانتهاكات والقتل، على أن يصبّ التفكير بالمستقبل في صالح ضحايا الأمس.

وبما أن الأسس النظرية والفلسفية والسياسية للنظام السوري لم تتغير، ومازال نظاماً أمنياً حربياً شمولياً تمييزياً بامتياز، صادر مؤسسات الدولة والمجتمع وتنظيماته، وقبوله بالتغيير أمر معدوم، بل وهو مستعد لتدمير سوريا وإزالتها عن الخارطة عن بكرة أبيها لو لم يبق هو على رأس السلطة، والأجهزة الأمنية مستمرة بغيّها وتغوّلها، بكل ما فيها من فساد واستبداد وهضم لحقوق المواطن والإنسان.

وبما أن سوريا صارت مستقراً لأطراف إقليمية ودولية عديدة، وصار فيها جيوش وقواعد عسكرية أجنبية، وتنشط فيها ميليشيات متشددة ومتطرفة دينياً وقومياً وإثنياً، وفيها مكوّنات تسعى للاستقلال أو الفيدرالية، وتختبئ “داعش” في صحرائها، وانتشرت فيها الفوضى، وانهار الاقتصاد، ودُمِّرت البنى التحتية، وتحولت إلى ما يُشبه الدولة الفاشلة.

وبما أن المعارضة السورية لم تتمكن من أن تثبت أنها قادرة على أن تكون البديل على مدى عشر سنوات، وبقيت مفاهيم الديمقراطية واحترام الرأي الآخر وقيم الدولة ومعاييرها خارج ثقافة غالبية التيارات السياسية المعارضة ومؤسساتها، وانشغل قسم كبير منها بالهم الخاص على حساب الهم العام، ونسي أهداف الثورة وتناسى أصحابها.

لكل الأسباب سابقة الذكر، ولأن الانتظار والبكاء على الخسائر أمر عبثي، والشكوى للمجتمع الدولي أمر عقيم، ولأن سوريا لن تعود إلى ما قبل 2011، ولأن السوريين يستحقون أن يكون لهم مستقبل أفضل، ولأن إيقاد شمعة أفضل من لعن الظلام، وباستعراض كل الحلول ومشاريع الحلول السياسية الفاشلة التي طُرحت لإنهاء الحرب السورية، بدءاً من مبادرة الجامعة العربية إلى مبادرات الأمم المتحدة العديدة ومؤتمرات جنيف وفيينا وسوتشي وأستانا وغيرها الكثير، وصولاً إلى القرار الأممي 2254، يمكن استقراء ثلاثة حلول ممكنة متاحة يدرسها السوريون، يمكن لها أن توقف الحرب السورية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا، ورغم أن هذه الحلول قديمة/ جديدة، إلا أن السوريين لم يضعوا ولا مرة ثقلهم على أي منها، ولم يتوحدوا ويبذلوا كل طاقتهم، ويستثمروا كل صلاتهم، لإنجاح أحدها.

أولى هذه الحلول أن تستيقظ المعارضة السورية من سباتها، وتعرف أن أمامها استحقاقات وطنية مصيرية، وتتخلى عن الذاتية لصالح الهم العام، وتعيد تقييم الأوضاع السياسية والتحالفات والرهانات، والمبادئ والنهج والأساليب، وتقرأ الواقع بإشكالياته وحقيقته، وتعيد صياغة حلول قابلة للتحقق، وتضع عقداً اجتماعياً جديداً، وتجعل عملية تغيير الدستور واقعاً، وبجدول زمني، ويد سورية، وبإلزام دولي صارم، وتُصرّ على توزيع صلاحيات الرئيس لصالح الحكومة والسلطات الأساسية الثلاث، وهو حق لا يمكن أن تعترض عليه الدول الكبرى، ورغم أن الفكرة قد تبدو مُتهاونة، أو أخفض سقفاً من مطلب تنحية رأس النظام قبل بدء المرحلة الانتقالية، إلا أنها خطوة ستضمن بالتأكيد رحيله في نهاية المرحلة الانتقالية.

وإلا يبقى هناك خياران أولهما هو أن توضع سوريا تحت وصاية دولية، أي وصاية الأمم المتحدة، مهما كانت محاذيرها، فهذه الوصاية تستطيع تحييد النظام ووضع حد له ولانفلاته، وتضع المعارضة أمام استحقاقات منطقية قابلة للتنفيذ، وتوقف القتل، وتساعد في الإفراج عن المعتقلين، وتُسهّل عودة اللاجئين والنازحين، وتحيل القتلة إلى المحاكم الدولية، وتُنقذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الدولة ومؤسساتها، وتُبعد أوحال الطائفية والمحاصصة، وتُنهي احتمال التقسيم، وتُدرب سوريين لتسيير بلدهم وكتابة دستورهم وتٌشرف على الانتخابات حتى إيصال سوريا إلى بر الأمان.

والخيار الثاني قد يكون هو المجلس العسكري المشترك، الذي كثر الحديث عنه، شرط أن يحظى برعاية دولية، والذي يفترض أن يتشكل من ضباط معارضين منشقين ومن ضباط مازالوا يعملون مع النظام، جميعهم ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء، يستلم زمام الحكم في سوريا لفترة انتقالية، ويفرض الأمن والأمان، ويجمع السلاح، ويُنهي الميليشيات والتنظيمات المتشددة، من أي جنسية أو أيديولوجية كانت، ويقونن عمل الأجهزة الأمنية والمخابرات، ويُشرف على الانتقال السياسي، ويكون الضامن لتطبيق قرارات الهيئة الحاكمة الانتقالية المفترضة التي أقرتها قرارات الأمم المتحدة.

جميع الحلول سابقة الذكر، يمكن أن تضمن التغيير السياسي، ويمكن أن تُقونن مصالح المتدخلين في القضية السورية، وتُقلّص مخاوفهم الأمنية، ويمكن إقناع الدول الكبرى بها، وتوصل إلى حل يحقق أهداف الثورة تدريجياً، وكلها حلول تحتاج إلى وعي ونضال وإصرار استثنائي لتمرير أي منها، لكن النتائج تستحق من كل المعارضة السورية أن تتوحد وتناضل بكل الطاقات والوسائل لجعل أي منها أمراً واقعاً.

—————————–

عيون شاخصة على المفترقات/ مصعب النميري

كانت السنوات العشر الأخيرة عاصفة على جميع الأصعدة في معظم البلدان التي شهدت موجات الربيع العربي. هذه السنوات شهدت التحول الأكبر والأهم في التاريخ المعاصر لهذه البلاد، إذ حاولت فيها الشرائح المهمّشة والمقموعة، لأول مرة، تحدّي الأنظمة القمعية والوحشية التي حكمتها على مدار عشرات الأعوام.

تفاوتت نتائج هذه الثورات في البلدان العربية، فاستطاع التونسيون والمصريون والليبيون واليمنيون الإطاحة بأنظمتهم، ثم انتكس هذا السير باستيلاء الثورات المضادة مجدداً على الحكم، أو الغرق في الفوضى، إلا أن سوريا تبدو استثناءً بين كل هذه البلدان، لكونها البلد الوحيد الذي لم يسقط نظامه رغم ارتكابه الجرائم الأفظع. لن نسعى في هذا المقال إلى التحليل المحض للأحداث السياسية والعسكرية، بل سنحاول الإضاءة على تفاعل السوريين وجدانياً وعاطفياً مع ما جرى خلال هذه السنوات، ورسم خريطة لمشاعرهم التي تحولت من الأمل المفعم بالطاقة في البدايات إلى الإحباط العام والقبول المرير بفشل الثورة في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى التصالح مع غياب القدرة على العودة القريبة إلى سوريا التي نحلم بها.

ومضات من العقد اللاهب

كانت المشاعر التي سادت لحظة اندلاع الثورة في سوريا مركّبة وحادة، فالأمل الذي تفجّر في نفوس الملايين على وقع الصرخات الأولى كان ممتزجاً بالرهبة تلقاء الحدث الهائل. هذه المشاعر كانت نتيجة معاينة الحياة المتدفِّقة بعد رقاد يشابه الموت، وقد اعتبرها كثير من السوريين لحظة ميلاد لهم. كثير من الاعتبارات والمعاني ماتت لديهم بموت هذه المشاعر، بما يكفي لدفعهم بقسوة إلى عدمية يحاولون اليوم تجاوزها وتوليد المعنى عبر طرائق ومقاربات أخرى.

كان لكل عام من هذه الأعوام العشر ثيمة خاصة به، أو عنوان عريض تدور الأحداث في ظله. كان 2011 عام التظاهر السلمي وشهد الفرز الحاد بين النظام ومؤيديه من جهة، ومعارضيه من جهة أخرى، وتصاعدت فيه حدّة شعارات الثورة حتى وصلت إلى مطلبها الأكثر جذرية، وهو إسقاط النظام، إلى جانب بدء الانشقاقات عن قوات النظام وتشكيل الجيش الحر. كان سقوط النظام لدى كثير من السوريين حينها «مسألة وقت»، ففي ذلك العام سقط بالتوالي كل من بن علي في كانون الثاني، ومبارك في شباط، والقذافي في آب، ما أدى إلى حالة يقين عام بأن كل الأنظمة التي تواجه شعوبها ستسقط في النهاية.

كان العام 2012 هو عام المجازر والقتل الجماعي على يد النظام، وفي موازاة ذلك كان التسلّح يزاحم مشاهد المظاهرات ويطغى على المشهد، إلى جانب اتّضاح حجم التدخل الإيراني لصالح النظام. في هذا العام بدأت فصائل الجيش الحر بالتحول نحو الأسلمة وتلقّي التمويل من دول متضاربة المصالح، وبرز إلى جانبها بشكل متصاعد اسم جبهة النصرة التي بدأت بتنفيذ عمليات انتحارية والبروز إلى الواجهة.

أهم ما جرى في 2013 كان مجزرة الكيماوي وتراجع الولايات المتحدة عن ضرب النظام، وظهور اسم داعش لأول مرة. في خلفية هذه الأحداث كانت موجات اللجوء تتصاعد إلى دول الجوار والدول الأوروبية. وبعد أن احتل داعش صدارة المشهد في 2014 وبدأ تدويل القضية السورية لتصبح «حرباً على الإرهاب»، صار إسقاط النظام شأناً ثانوياً على الصعيد الدولي. في 2015 تدخلت روسيا عسكرياً بشكل مباشر لتقلب الموازين لصالح النظام السوري.

سُتَر النجاة كانت تُباع على الأرصفة التركية حينها. 

تدخلت تركيا في 2016 لتصبح المعارضة السياسية والعسكرية مرتهَنة بالكامل لها، وليكتمل نصاب الدول الضالعة في رسم المشهد السوري. في هذا العام ستسقط حلب، وسيصل إحباط السوريين إلى ذروته مع إدراكهم لانعدام قدرتهم على التأثير. ثم ستدخل تركيا إلى عفرين في 2019، ليتجذّر الشرخ العربي الكردي وتأخذ الخارطة شكلاً قارّاً حتى كتابة هذا المقال: النفوذ الأكبر للنظام تحت الوصاية الروسية والإيرانية، ومناطق الإدارة الذاتية تحت الوصاية الأميركية، وجيوب المعارضة تحت الوصاية التركية في إدلب وعفرين واعزاز وتل أبيض. السوريون في مناطق النظام يعيشون أزمة اقتصادية خانقة، والسوريون في دول الجوار تُراودهم كوابيس العودة حين يُطْبقون أجفانهم. تدور في غرف كْلَبْهاوس اليوم نقاشات لمحاولة فهم ما جرى، وتتخللها تساؤلات حول ما يمكن فعله على المدى البعيد.

لا ندم على لحظة حبّ

يرى الكاتب مصطفى الجرف أن عام 2013 كان العام الذي «شعر فيه بالاستباحة بعد تراجع أوباما عن ضرب النظام إثر مجزرة الكيماوي»، وأن هذه اللحظة أدت إلى فقدانه الأمل. ذلك أن النظام السوري بمجزرة الكيماوي كان قد داس على الخط الأحمر الموضوع له دولياً ومرّ الأمر دون عواقب. في هذه السنة ظهر اسم داعش للمرة الأولى، وسيطر جيش الإسلام على دوما. كان هجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية حدثاً جللاً: «أظن أنه بعد هذه اللحظة صار الموت أمراً عادياً للسوريين، وفقدوا الإحساس بهول الأشياء». ولفت الجرف إلى أن الشارع السوري خرج من المعادلة السياسية مع تأسيس الائتلاف، الذي كان منسلخاً عنه، وأن القاع الذي وصل إليه الحال كان مع سقوط حلب ودخول تركيا بصفقاتها إلى المشهد ثم دخولها عفرين.

خرج الجرف من سوريا عام 2014 بعد أن كان مصرّاً على عدم الخروج: «حتى الموت في سوريا كان له بهجة قبل ذلك في ظل وجود مشاعر الحرية. كان السوريون يعتقدون بأن لهم قيمة لأنهم يغيّرون العالم. الجنازة كانت سرعان ما تتحول عرساً. حتى الموت كان ينبض الحياة». غادر مصطفى إلى تركيا، ولم يستطع البقاء في عنتاب بعدما عاينه من «نرجسية وأنانية واستنفاع وفساد في أوساط المنظمات». يشعر مصطفى أنه فقد الهالة والروح العالية التي كان يمتلكها في سوريا، والتي كانت قد تشكّلت عبر الإيمان بنبل وضخامة مشروع الثورة: «بعد الخروج من سوريا فقد كل شيء معناه، حتى الحرّية فقدت معناها. أنا اليوم أعيش بحرية في فرنسا، ولكن هذه الحرية لا معنى لها، مقارنة بما كان يمثّلة نُطق كلمة الحرية في حلب مثلاً».

سألتُ مصطفى إن كان قد شعر بالندم على ما جرى في سوريا، فقال إنه نادم على كل ما فعله في حياته، باستثناء الأيام القليلة التي عايش فيها الثورة: «قد يندم أحدنا على زواج فاشل، ولكنه لا ينبغي له أن يندم على لحظة حبّ جميلة. ما فعله السوريون خلال سنوات الثورة كان مذهلاً بجسارته ونبله، والعظمة التي خرجت منهم كانت استثنائية. الأمل كان قد حوّلهم إلى ملائكة، وغيابه دفعهم إلى العدمية المتوحشة»، مضيفاً أنه، رغم كل ما حدث، ضد جلد الذات بشكل قاس: «نحن لا نستطيع مواجهة روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة ووحوش داعش والنصرة. كنا نظن أن الديمقراطية هي أمر محتوم في عالم اليوم في مواجهة الأنظمة البدائية، والدرس الذي تعلمناه من هذه التجربة هو أنه لا مكان للثورات في هذا العالم الذي يعاني انتكاساً في قيمه. ما نستطيع فعله اليوم، رغم غياب الأمل، هو ألا ننهار أو نبصق على أنفسنا. أن نحاول تجاوز التروما ومشاعر الانتكاس، وأن نتمكن، خاصة الشرائح الشابة منا، من معرفة البلدان التي نقيم فيها اليوم وامتلاك أدوات التأثير فيها».

لحظة الجسارة الغامرة

شارك مروان زكريا في المظاهرة التي خرجت من الجامع الأموي بتاريخ 25 آذار 2011. شعر بأن ثمة شيئاً «غامراً» يحدث وهو يمشي مع الحشد. كانت هذه اللحظة «الأكثر جسارة وجرأة» في حياته. كان مروان يؤمن أن العالم يسير نحو التغيير، حتى قبل الثورة، وأن زمن الديكتاتوريات يشارف على النهاية. وأدرك مع لحظة الثورة تحطم آماله السابقة بأن النظام قد يغيّر نفسه.

يضيف مروان: «أعترف أنني كنت أشعر قبل الثورة، دون أن أدرك ذلك، أننا كسوريين شعب طيب ولكن لدينا شيء من الجهل، وانتبهت إلى هذه المشاعر لاحقاً. جاءت الثورة كحدث مذهل، أدركتُ فيه أن بإمكاني التعلّم من أصغر متظاهر في الشارع. كنت أشعر كشاب سوري أن الآخرين ينظرون إلينا كأبطال خارقين يغيّرون العالم». خرج مروان من سوريا بعد تشكّل جبهة النصرة عام 2012 وانتشار التفجيرات العشوائية. أيقن باستحالة العودة إلى سوريا في عام 2013. تملّكتْه مشاعر مختلطة لدى حصول انقلاب السيسي في مصر في ذلك العام، إذ كان مرتاحاً لذهاب الإخوان في البداية، وسرعان ما أدرك فداحة هذا الحدث وتبعاته. ثم جاء تراجع أوباما عن ضرب النظام إثر الهجوم الكيماوي ليتجذر اليأس لديه.

يرى مروان أن الثورة «لم تُهزَم»، لأن الهزيمة تقتضي وجود طرفين يتواجهان بشكل عادل، ثم ينتصر أحدهما على الآخر. يقول إن الثورة «تعرضت للإبادة» عبر إبادة السوريين وحلمهم. يشير مروان إلى أن هذين الحدثين (انقلاب السيسي وتراجع أوباما) أسّسا لمشاعر الاكتئاب والإحباط لديه، ودفعه ذلك لزيارة معالِجة نفسية للمرة الأولى. انتقل من دبي إلى اسطنبول بعد ذلك مدفوعاً بالرغبة في الاقتراب من الحدث السوري. لم يتصالح مروان مع حالة الهزيمة حتى اليوم، فيقول إن «شعور الانكسار دُفن عميقاً، وكانت الحياة تسير بمعزل عنه. ثم جاء سقوط حلب في 2016 وانحدرت المشاعر السلبية إلى قاعها».

عن سؤال ما الذي يمكن فعله، يجيب مروان أن السوريين افتقدوا خلال هذه السنوات الكيان الجامع الذي يمثّلهم: «اتّضح بشكل جلي أن محاولات تأسيس الكيانات السياسية التقليدية فشلت خلال هذه السنوات العشر، فهذه الكيانات أخفقت في تأدية مهامها وصارت تحت وصاية الآخرين». السوريون تواصلوا وتعارفوا ونسّقوا ونقلوا المظاهرات بأدوات افتراضية، ويقترح مروان أن «يتم التفكير بعد كل هذه التجربة بكيان افتراضي يستفيد من الأدوات المتاحة اليوم في التكنولوجيا المتطورة ويستقطب أصحاب الكفاءات ورؤوس الأموال، ويمكنه مع الوقت التحول إلى كيان شامل، يجمع من يرغب من السوريين الانضمام إليه».

ابحث عمّا ليس جحيماً

لدى دخولها الجامعة، كانت هيفين جقلي قد بدأت بالتعرّف على ملامح الوضع السياسي والأمني في سوريا، قُبَيل اندلاع الثورة بسنوات قليلة. تقول هيفن إنها شعرت بالرهبة لدى اندلاع الثورة: «منذ كنا أطفالاً في سوريا، كان هناك تصور عن العالم بوصفه صراعاً بين الخير والشر، والصح والخطأ، يحكم مقاربتنا للأشياء. بالنسبة لشخص في الثانية والعشرين كانت المظاهرات في درعا تجسيداً لهذا الصراع. أبطال يواجهون رصاص الأشرار في الساحات من أجل الخير دون اكتراث لكلفة ذلك. أردت أن أشارك. اليوم بعد عشر سنوات تغيرت هذه النظرة القاصرة، وصرت أميل لمقولة حنة أرندت: الشر متطرف، أما الخير جذري. الناس ليسوا معطى نهائياً».

هيفين هي كاتبة سورية كردية من سكان مخيم اليرموك. شاركت في المظاهرات السلمية وعملت لفترة في مراكز لإيواء الهاربين من قصف النظام. بعد سيطرة المعارضة على المخيم، عملتْ كممرضة وعاشت فترة الحصار وظهور داعش. ثم غادرته عام 2014 بعد فوز بشار الأسد في الانتخابات: «معنوياتي كانت في الحضيض حينها، فالمخيم كان قد أصبح تحت سيطرة فصائل جهادية لا تعي ما تفعل، ولم يعد بوسعي البقاء فيه. ودمشق حين خرجت إليها كانت مغطّاة بصور بشار الأسد بعد أن أُعيد انتخابه رغم استخدامه السلاح الكيماوي، وكانت اللطميات تصدح من وسائل النقل. كان الانكسار في عيون الناس صورة متكاملة وطاغية للهزيمة. وحين طُلب مني مراجعة فرع أمن المنطقة الجنوبية، قررتُ مغادرة سوريا عازمةً على عدم ذكر اسمها مرة أخرى على لساني».

في بيروت، عملت هيفن في الصحافة وبدأت بالتواصل مع مراسلين من بقية مناطق سوريا. توسّع مفهوم وواقع سوريا لديها عن حدود المخيم، وشعرت بعودة الرابط بينها وبين سوريا مرة أخرى: «لم أعد سجينة تجربتي الخاصة ولم أعد أستطيع الاحتفاظ بشعور الهزيمة مع هذه المعرفة الجديدة، وعادت الرغبة بأن أكون جزءاً من هذه الحيوية المكتشفة. أحببت الصحافة وأردت المزيد منها. قررت الانتقال إلى تركيا لأنني رأيت فرصة للمحاولة من جديد. بوجود المعابر الحدودية، كنت أطمح إلى العمل كصحفية ميدانية، وأن أكون جزءاً من المجتمع الذي يقاوم هيمنة الإسلاميين على المناطق المحررة».

انتقلت هيفن الى تركيا منتصف 2015، لكن المعابر كانت قد أغلقت مع سوريا مع وصولها الى تركيا. عملت لعامين مع إحدى مؤسسات الإعلام البديل بانتظار أن تُفتح المعابر. لكن بعد استيلاء النظام على حلب وإدراكها أن المعابر أُغلقت دون عودة، انتقلت الى اسطنبول نهاية 2017 وعملت مع منظمات المجتمع المدني أملاً في العثور على بديل أو شكل جديد للعمل؛ تجربة تقول إنها كانت «مفيدة لكنها غير سارّة».

تعتقد هيفن أن الكثير من الخسارات وقعت في الثورة لأن الائتلاف الذي يدّعي تمثيلها سياسياً وعسكرياً يفعل ما يحلو له دون أي رقابة أو محاسبة. فهو لم يغير استراتيجيته ولا خطابه طوال عشر سنوات رغم كل الخسارات التي مُني بها السوريون. كان اجتياح عفرين والانتهاكات المرافقة له تكليلاً لسلسلة من المصائب جرّها الائتلاف على الثورة: «كان بوسع المؤسسات الإعلامية والمنظمات الموجودة في تركيا أو خارجها أن تلعب دورها في هذا المجال كمؤسسات سورية وطنية ومدنية في مواجهة الانتهاكات التي تُرتكَب باسم الثورة. هذه المؤسسات الإعلامية أو التي تعمل على برامج مرتبطة بالعدالة الانتقالية لم تؤدِّ دورها في مساءلة الائتلاف حول دوره وواجباته، بدءاً من قضايا مثل انتهاكات الفصائل المسلحة، ومروراً باتفاقيات التهجير القسري أو شرعنة ترحيل اللاجئين إلى سوريا، وليس انتهاءً بقضية اجتياح عفرين وتحويل المعارضة المسلحة إلى مرتزقة».

عن جدوى العمل والاستمرار، تقول هيفن إن الثورة كانت تجسيداً مضاداً لرواية النظام القائلة إن الناس لا قيمة لوجودها ولأصواتها، مشيرةً إلى أن هناك الكثير من الاستسهال بالقول إنه لا جدوى من فعل أي شيء اليوم: «لدينا الماضي لنسأله، والحاضر لنتعامل معه، والمستقبل لنخطط له. خلال الأسابيع الماضية كان هناك أحاديث عن التذكر والندم والأمل، وهناك شبه اتفاق في معظم ما قرأته من تحليلات أو سمعته على عجزنا وكيف أننا ضئيلون في مواجهة قوى عالمية، لكن هناك حديث أقل عن ما هي الإمكانيات. أتفق مع من يقول إن واقعنا سيء، لكنني أختلف مع من يقول إن واقعنا اليوم كان أمراً محتوماً. وأعتقد أن هذه الحتمية هي الندم، والمحاولة مجدداً هي اللا-ندم».

تضيف هيفن: «يقول سورن كيركغارد إن حب التكرار هو الحب الوحيد السعيد، فهو مثل حب التذكر، ليس لديه اضطراب الأمل، ولا مغامرة الاكتشاف القلقة، ولا أسى التذكر، بل له أمان اللحظة المباركة. الأمل رداء جديد قوي ومحكم وفاخر، ومع ذلك لم يلبسه أحد قط، لذا لا أحد يعلم كم سيكون مناسباً له. أما التذكر كما يصفه فهو رداء مهمَل مهما كان جميلاً، لم يعد مناسباً للمرء لأنه صار صغيراً عليه. أي أن التذكر حركة نحو الماضي، أما التكرار فهو تذكر في المستقبل. خلال هذه السنوات العشر كانت هناك أمور جيدة وأخرى سيئة. والأمر يعود إلينا إن أردنا، بإمكاننا العودة إلى ما جرى ومعاينة مواطن القوة في هذه السيرة ومحاولة الاستفادة من المعرفة التي راكمناها، وتوظيفها عبر الأدوات والمساحات التي أصبحت متاحة لنا بشكل مختلف عن السابق. كريغارد يقول أيضاً إن من يعيش على الأمل فقط هو جبان، ومن يريد أن يتذكر فقط شهواني، لكن من يريد التكرار هو إنسان. بيد أن هذا التكرار يستلزم شجاعة لنقول إنه كان بالإمكان أفضل مما كان، أو على الأقل الشجاعة لنقول إنه لا يمكننا الجزم بالقول دون مراجعة حقيقية لسيرة السنوات العشرة».

تستعير هيفن كلام الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في مقاربتها لما نعيشه اليوم: «إن جحيم الأحياء ليس شيئاً سيكون، وإذا وُجد جحيم، فهو ذلك الموجود هنا الآن. الجحيم حيث نعيش كل يوم والذي نكونه حين نكون معاً. هناك طريقتان لتجنب عذابه، الأولى: سهلة للجميع، أن تتقبل الجحيم وتصبح بعضاً منه، فلا تراه بعد ذلك. الثانية خطرة، وتتطلب احتراساً وخشية دائمين: تبحث وتعرف، في وسط الجحيم، من وما هو ليس جحيماً، ثم تُمكّنهما من البقاء وتمنحهما مجالاً».

موقع الجمهورية

————————–

عن الثقافة المستقلة وأسئلة الشتات/ وديعة فرزلي و رشا عباس

مرّ قبل يومين اليوم العالمي للمسرح، وقد كان مناسبة للاحتفال والتجمع والتواصل الحي مع مُحبّي وصانعي المسرح. لكن قبل أن يغيّر الوباء واقع وشكل الاحتفال بالمسرح، كان الجمهور السوري قد اختبر خلال العشر سنوات الماضية ارتجاجات عنيفة غيّرت وجه الفنون السورية بشكل عميق. طرأت تغييرات على صُلب العمل الثقافي مع بدايات الثورة، وأُعيدت صياغة العديد من التعريفات التي تمس جوهر الفنون بكافة أنواعها، كما وُضع العاملون في المجال الفني والثقافي في مواجهة مع أسئلة معقدة عن طبيعة العمل الثقافي.

عشر سنوات مدة طويلة فعلاً، وليس من السهل تلخيص مجمل ملامحها ودلالاتها. لكن في الوقت نفسه، تمنحنا الذكرى العاشرة للثورة فرصة لمراجعة العمل الثقافي والكيفية التي تمت بها الاستجابة للحدث الاجتماعي وللحدث السياسي، سواءً من ناحية مضامين وموضوعات الأعمال الفنية السورية، أو من ناحية شكل الإدارة والتخطيط ضمن المؤسسات الثقافية المستقلة. مرت هذه السنوات العشرة بثقل بالغ، وانطوت على تحديات قاسية، وقد كانت الاستجابة لهذه التحديات والاستمرار بالعمل الثقافي جزءاً من مقاومة الوضع الراهن، وعلامة من علامات الإصرار على التغيير والسعي نحو مستقبل أكثر تحرراً وانفتاحاً على الحاجات الإنسانية والاجتماعية.

عند بدء التفكير في التحولات التي حدثت في المشهد الثقافي السوري، أدركنا أن تغطية كافة التحولات في ديناميات العمل الثقافي، للوصول إلى نظرة بانورامية واسعة تشمل كامل المشهد الثقافي السوري في سوريا والشتات، مهمة تستحق أوراقاً طويلة. لذلك استضفنا آراء عاملين وعاملات في مجال العمل الثقافي وعلى قرب من الحدث السوري، وهم بسمة الحسيني، الفاعلة الثقافية التي ساهمت بتأسيس العدد من المؤسسات الثقافية، آخرها مؤسسة العمل للأمل في لبنان، ورانيا المليحي، الدراماتورج والمديرة الفنية التي ساهمت بإدارة عدد من المشاريع الفنية مع فرق مسرحية سورية في ألمانيا، وعبد الله الكفري، المؤسس والمدير الثقافي لمؤسسة اتجاهات-ثقافة مستقلة في لبنان. سمحت لنا المقابلات والنقاشات مع ضيوفنا بعصف ذهني يرصد أبرز تحولات شكل العمل الثقافي وأشكال التعبيرات الفنية عنه ونقاش معانيها الاجتماعية والسياسية الأعمق.

تقاطعات العمل الثقافي مع المدني

بدأت محاولات التأسيس للعمل الثقافي المستقل في سوريا قبل سنوات قليلة من بداية الثورة السورية 2009 و2010، مع بروز الحاجة للانفتاح على مساحات جديدة، واكتشاف آليات إنتاج مستقلة عن مؤسسات الدولة القائمة مثل وزارة الثقافة أو المسرح القومي. مع بداية الثورة السورية ومع ازدياد عنف وقمع الدولة، ازدادت هذه الحاجة لخلق مساحات آمنة تضمن حريات التعبير وممارسة الفنون. وقد أجبر ذلك العديد من المجموعات الناشطة ثقافياً وفنياً على متابعة العمل الثقافي في ظروف وشروط إنتاج إستثنائية. ففي أغلب المؤسسات الثقافية السورية المستقلة، كانت الاستجابة للكارثة الإنسانية والاقتصادية والسياسية نقطة زمنية تأسيسية في العمل والهيكلة، ومن ناحية أخرى مثلت هذه الاستجابة تأكيداً وتذكيراً بمركزية العمل الثقافي المستقل في المجتمعات المدنية.

يشير عبد الله الكفري إلى أن استجابة المؤسسات الثقافية السورية للحدث السوري خلال العشر سنوات الماضية دليل على أن هذه المؤسسات والتجمعات الثقافية افترضت دوراً مُلقىً على عاتقها وباشرت العمل به: «كان هذا الموضوع محسوماً». الثقافة أخذت تبتعد عن النموذج السائد، بمعنى أن تتولى الدولة التخطيط للثقافة وتقديمها، فأتت المؤسسات الثقافية لتقول: نحن موجودون في قلب المجتمع المدني. هذا الواقع يوجب أن تكون الثقافة جزءاً من أي شيء يخص مستقبل سوريا والاشتباك السياسي فيها، ونتحدث هنا عن الاشتباك على أكثر من مستوى، الاشتباك بالسياسة على المستوى المباشر، المرتبط بمن يحكم وكيف يحكم، ولكن الأهم وما حصل لاحقاً هو الاشتباك مع السياسة بالمعنى العميق، أي كيف نتخيل شكل مستقبل البلاد، وكيف نتمنى له أن يكون».

ارتباط العمل الثقافي بالمجتمع المدني «هو الوضع الطبيعي»، كما تشرح بسمة الحسيني، «فالمكان الأساسي للعمل الثقافي يجب أن يكون خارج الإطار الحكومي. العمل الثقافي يحتاج دائماً إلى مساحة أكبر من الحرية، والإنتاج الحكومي يحدّ من حريته حتى في أكثر الدول ديمقراطيةً. بالطبع يوجد للدولة دور، لكن ليس تقديم العمل وإنتاجه، بل ربما تأمين بنى تحتية ملائمة تسمح بإنجاز الأعمال الفنية والثقافية. هذا بشكل عام، أما في الحالة السورية، فبعد خروج السوريين إلى دول اللجوء والمنافي، والانفكاك من السيطرة الخانقة للدولة، انطلق العمل الثقافي والفني في مناخ من الحرية، وهذه نتيجة طبيعية ضمن هذا السياق. ما أراه ضرورياً وإشكالياً في اللحظة الراهنة هو وصول ذلك إلى المجتمعات السورية أينما كانت، سواء داخل سوريا أو خارجها».

لدى إعادة التفكير بشكل ودرجة استجابة المؤسسات الثقافية للحدث السوري الراهن، يؤكد الكفري أن تحديد شكل الاستجابة وضرورتها قرار استراتيجي ويستحق النقاش في سياق العمل المؤسساتي. «هناك الكثير من المؤسسات التي استغرقت بعض الوقت قبل أن تحدد إذا كان عملها استجابة للحظة حالية، أم استجابة للحظة آتية أو للمستقبل. هذا تمرين صعب، ببساطة لأننا نرى أن الاحتياج مهول في اللحظة الحالية، ولكن بنفس الوقت نعلم أن من الصعب تلبيته. ولذلك هناك مؤسسات وتجمعات استُنزفت تماماً، وهناك مؤسسات أخرى اختارت أن تعمل على المدى المتوسط، على مدى ثلاث أو خمس أو سبع سنوات، وبالتالي وافقتْ أن تدخل في مشاريع حتى لو أدخلتها في معارك أو صراعات تتعلق بالحاجة اللحظية أو ما يعتبره آخرون أولويات. هذا الموضوع يستحق التوقف عنده، لأنه يجعلنا نتفهّم توقّف بعض التجمعات عن العمل. التمويل بالطبع جزء من الأسباب، لكن برأيي هذه المؤسسات عملت كثيراً وبشكل جيد، وهي كانت غالباً تتوخى الهم العام. هل كان بوسعها أن تنجز ما هو أكثر؟ أكيد، وهي قناعة أُلزم بها مؤسسة اتجاهات على الأقل. كنا نستطيع أن نفعل أكثر، ولكن لنتذكر أن أغلب المؤسسات الثقافية اكتشفت كلمة «المهجر» في السياق السوري لأول مرة في حياتها».

ممارسة فنية ديمقراطية

حاولت مؤسسات العمل الثقافي في دول اللجوء إيجاد أشكال من الممارسة الفنية أكثر ديمقراطيةً مما كان سائداً، لتستوعب شرائح أوسع من المجتمعات من خلال عدة قنوات، مثل اكتشاف مواهب جديدة أو خلق طرق بديلة لنقل المعارف وتدريس الفنون في البيئات المهمشة. في مؤسسة العمل للأمل، كما تشرح بسمة الحسيني، «نقسم آلية عملنا الثقافي ضمن المؤسسة إلى ثلاث مراحل، أولاً التدخلات الفنية، ومن ثم التنمية الثقافية، وثالثاً إنتاج الأعمال الفنية. بدأت العمل للأمل التركيز على تأسيس مدارس لتعليم الفنون الموسيقية والسينمائية، والتوجه نحو صناعة فنانين وفنانات جدد، وذلك انطلاقاً من الحاجة لفتح نافذة – ولو صغيرة – أمام فئات متنوعة من الناس للوصول إلى مدارس الفنون».

تضيف الحسيني أن نسبة كبيرة من اللاجئين السوريين في مخيم البقاع لم يكن بإمكانهم الوصول إلى مدارس تعليم الموسيقا في سوريا. بالطبع هم يعرفون ويحبون الموسيقا، لكن فكرة تعلمها لم تكن متاحة، وذلك لسبب واضح هو قلة عدد المدارس، وتركزها في المدن، واقتصار طلابها على فئة محدودة جداً من الأكثر حظاً. «وجود مكان بديل لتعلم الفنون، خارج إطار المؤسسات الأكاديمية أو المعاهد الفنية، يسمح بتصميم شكل جديد من مناهج التعليم، ففي مدارس مؤسسة العمل للأمل، المنهاج التعليمي «يجب أن يكثف وأن يحذف»، وأن يبتعد عن الإضافة أو التطويل. ففي المجتمعات الفقيرة، غالبية الطلاب يحاولون إنهاء فترة الدراسة بأسرع ما يمكن للخروج إلى سوق العمل، وقد يضطر الطالب أو الطالبة للعمل حتى ضمن فترة الدراسة. بالتالي، لا بد من منهاج يحترم حاجة الطلاب لإنهاء الدراسة وبدء البحث عن مصدر الدخل. على سبيل المثال، في برنامج تعليم السينما في المؤسسة، تخلينا عن الكثير من التعليم النظري وركزنا على مهارات مثل التصوير والمونتاج، بحيث يكتسب الطلاب مهارات عملية تمكّنهم بعد عشرة أشهر من العمل في تصوير تقرير إخباري مثلاً، أو حتى تصوير أعراس».

المدارس الفنية البديلة التي تقدمها مؤسسة العمل للأمل هي واحدة من أشكال خلق ممارسات فنية تشمل المجتمعات الفقيرة والنازحة والمهمشة. لكن من جهة أخرى، يلاحظ العاملون في المجال الثقافي أن السنوات العشر الأخيرة، بعد الثورة والنزوح واللجوء، شهدت محاولات من فنانين وفنانات لاستكشاف المجتمعات السورية المحيطة، والتي كانت مغيَّبة لسنوات طويلة عن المشهد الثقافي قبل 2011. بدأت محاولات الاستكشاف والتواصل إما من خلال العمل مع اللاجئين، أو تقديم ورشات تدريبية وفنية في المخيمات والمناطق المتضررة من الحرب. يذكر الكفري «أن تفكيك مفهوم الدولة بعد عام 2011 ارتبط بعلاقتنا من مجتمعات لم يُتَح لنا التعرف بشكل كافٍ عليها من قبل، كنا فقط نظن أننا نعرفها. أذكر قبل عشر سنوات بالضبط، في شهر آذار، كيف كان التلفزيون السوري يستضيف فنانين يتحدثون عن حماية البيئة، وكأن دمشق أنجزت كل شيء وبتنا بحاجة لحملات فنية عن النظافة. في تلك الأثناء، وعلى بعد 2 كيلومتر من العاصمة، كانت هناك صور مرعبة تصل إلينا. كانت المعرفة بشكل المدن والمجتمعات خارج دمشق محدودة. لكن بعد 2011 انخلط المجتمع وتُرك لمواجهة مصير مشترك، إما داخل سوريا أو خارج سوريا، وضمن شروط نعرفها جميعاً وليست صالحة للعمل على الإطلاق».

يضيف الكفري أنه لم تكن لدى المؤسسات الثقافية، أو العاملين في المجالات الفنية والإبداعية، خبرة حقيقية – توازي الخبرة في لبنان مثلاً – في التعامل مع صدمات ما بعد الحرب، أو صدمات اللجوء أو العنف الأهلي. «لقد ورثنا كل المشاكل الموجودة في بلداننا بعد الثورة: مركزية الثقافة، التعامل التحنيطي مع الفنون، افتراض أن كل شيء مكانه في المركز، وكذلك افتراض أن كل شيء يجب أن ينفذه محترفون. احتجنا لبعض الوقت الوقت لاستدراك هذه التغييرات، في لحظة ازدادت فيها الحاجة بشكل غير مسبوق. جزء من الفنانين قرروا أن يستكشفوا وأن يبحثوا عن سبل المساعدة بالاعتماد على الفن الذي يستطيعون تقديمه أو يعرفونه. هل نجح هذا الشيء؟ بعضه نجح وبعضه لا. راودتْنا أسئلة من قبيل: هل المهم السيرورة أم عملية «المونتاج»؟ علام أركز عندما أعمل مع غير المحترفين؟ هذه أسئلة ما تزال مشروعة وضرورية».

تقديم الحكاية الشخصية

التغييرات العنيفة التي اختبرها السوريون بعد عام 2011 انعكست بشكل أوضح على مضامين الأعمال الفنية. فقد انشغلت هذه الأعمال بمجموعة من المواضيع مثل توثيق الحدث السوري سينمائياً، فخرجت مجموعة من الأفلام السينمائية التي وثقت الحرب ووثقت رحلة اللجوء ووثقت لحظات الموت؛ بالإضافة إلى سرد التجربة والحكاية الشخصية  أمام جمهور متنوع، وهو أمر ملحوظ في الأعمال المسرحية السورية المقدمة على المسارح الألمانية، والتي تحتل فيها القصة الشخصية للمؤدي أو الفنان مكانة مركزية.

في حديث عن بدايات مشاركة السوريين في الأعمال المسرحية في ألمانيا، تروي رانيا المليحي تجربتها عام 2015 في مسرح كامر شبيله في ميونخ، وتأسيسها فرقة «الحدود المفتوحة»، وعملها بعد ذلك مع اللاجئين السوريين. «صانعو وصانعات المسرح في ألمانيا هم الآن في مرحلة التعرف. هم بحاجة لمقدمة، وربما أخذت هذه المقدمة وقتاً أطول من المتوقع. لكن لهذا أسباب عديدة، منها حالة عدم الاستقرار على مختلف الصعد التي يعاني منها الفنانون والفنانات في ألمانيا، لكن السبب الأهم أن الحكاية السورية ما تزال مستمرة، وهناك عدد من الفنانين والفنانات الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية نقل الصورة والحكاية والتضحية من خلال «أنا» الفنان، وذلك لتوثيق قصص متعددة تواجه السردية الواحدة المجتزأة وغير الواقعية. وربما يمكن أن يساهم توثيق القصص الشخصية في أخذ أصحابها خطوة نحو العدالة».

تتذكر المليحي انحسار السرد والمونولوجات الطويلة في السنوات السابقة على الثورة في سوريا، فيما تلاحظ العكس في العروض السورية الأخيرة. «قد يكون البوح بالقصة الشخصية في المرات الأول تجربة صعبة، لكنه يصبح أسهل بعد حين. في هذا النوع من الأعمال، علينا أن نسأل أولاً من هو الشخص الذي يحتل موقع المسؤولية، وهل هو من خارج الحكاية السورية، وهل المسؤول عن العمل والمؤدي يتشاركان معرفة هذه الحكاية. بالطبع يمكن للمسؤول (دراماتورج أو مخرج) أن يقدم حلولاً، أو أن يقترح مثلاً تقديم الشخصية الذاتية من خلال شخصية متخيلة. لكن في النهاية ثمة حاجة ملحّة للسرد الذاتي والبوح».

ينطوي تقديم الحكاية الشخصية للمؤدي على المسرح على عدد من الإشكاليات، أهمها أن القصة الشخصية تصبح، بمجرد مشاركتها مع الجمهور، ملكاً لهذا الجمهور، ليس بالإمكان استعادتها. ناهيك عن إشكاليات أخرى تتعلق بجدوى البوح فعلاً في رحلة التعافي من الصدمات التي تعرض لها السوريون. من وجهة نظر المؤسسات، يشير عبد الله الكفري، «هناك إشكاليتان ظهرتا في العشر سنوات الماضية. أولاً هناك سؤال يتعلق بكيفية حماية الحكاية الشخصية، وكيفية الانتباه للحدود التي لا يجوز المساس بها. لقد انتشرت موضة اعتبار كل ما هو شخصي أقوى وأفضل، وبعد قليل بدأ هذا الأسلوب يتضمن بعض الفجاجة والمباشرة، أو بات من المعتاد أن ينزل أحدهم إلى ورشة ويصوِّر الناس. كان من سياساتنا كمؤسسة ثَني الناس عن العمل على الحكاية المباشرة والشخصية، فقد اعتبرنا ذلك إشكالياً ويحتاج إلى حساسيات وعمل مختص في مجال علم النفس ربما لا نمتلكه. أما الإشكالية الثانية فهي الغرق في الحكاية السورية، وهذا ما تحاول مؤسسة اتجاهات أيضاً الابتعاد عنه. ففيما يخص سؤال السنوات العشر المقبلة، نحن في اتجاهات نشتغل على ما نسميه «ما وراء سوريا»، أي الخلاصات والتجارب التي يمكن أخذها من التجربة السورية ومشاركتها مع سياقات أخرى».

التمويل والموضوعات الفنية

من المسائل الشائكة التي يضطر العاملون في المجال الثقافي والفني التفكير دائماً بها ارتباط موضوعات الأعمال الفنية بأجندات الجهات الممولة، خاصةً وأن تبدّل هذه الموضوعات غير مرتبط دوماً بأمزجة الجمهور وتفضيلاته واهتماماته. فالحصول على الفرص الفنية يبقى رهن الاهتمام الدولي والسياسي بالقضايا التي يتطرق إليها الفنان، وهو ما يهدد بحرف الاهتمام عن بعض القضايا وحرمانها من المعالجة الفنية.

تعمل رانيا المليحي في وزارة الثقافة بولاية نيدرساكسن في تحكيم العروض المسرحية التي تموّلها الدولة الألمانية، وفي الوقت ذاته تعمل مع عدد من المسارح والفرق المسرحية والفنانين السوريين. وهي تؤكد، بحكم تواجدها في المكانين، الأثر الكبير للموضوعات العريضة المختارة «من أعلى» على حرية الفنان. «على سبيل المثال، الموضوعة العريضة المحددة لهذا العام هي وباء كورونا، والسنة الماضية كانت الذكاء الصناعي. كذلك عند وصول اللاجئين السوريين إلى ألمانيا في 2015-2017، حددت وزارة الثقافة هدف انخراط الفنانين السوريين بالمشهد المسرحي الألماني، وعليه توجه الاهتمام لموضوعات اللجوء. هذه التوجهات عامة، لكن لا يجري فرض موضوعات بتحديد ودقة، ويُترك للفنان/ة حرية التناول، وهو ما سيعتمد على طريقة تحديد الأسئلة التي ستتم معالجتها. لكن في المقابل، كما لمست من تجارب شخصية، يوجد فعلاً جهات ومسارح تطلب بشكل مباشر تضمين مفردات محددة في الإعلان عن العروض – مثل مفردتَي اللاجئ أو اللاجئة – للتأكيد أن العرض سيتضمن بالضرورة ثيمة اللجوء».

مواضيع اهتمام جديدة

بحسب تجربة اتجاهات، هناك جملة من المواضيع التي ارتفع الاهتمام البحثي بها خلال السنوات العشر الأخيرة، على رأسها كما يشير الكفري فهم التاريخ ابتداءً من نقطة 2011. كان الباحثون والباحثات يذهبون غالباً إلى أن رؤية «ما بعد 2011» غير كافية، وأنه يتوجب العودة إلى ما قبل هذه اللحظة. «لفت نظرنا أيضاً الاهتمام المتزايد بسؤال العمارة وفهمها، بما يشمل مواضيع مثل المخيمات كفضاء جديد والعلاقات الاجتماعية الناشئة عنه. تفسيري لذلك أن العمارة في سوريا هي بمثابة الابن الضال، فلا هي محسوبة من الفنون ولا من الهندسة، لذلك عندما لمس المهتمون بالعمارة أننا نصنّفها بين الفنون، تشجعوا على تقديم أبحاث ذات صلة. كذلك لفت نظرنا الاهتمام بتحليل العلاقة بين الفنون والحاضنات الاجتماعية، بما يشمل مواضيع مثل حماية التراث والصناعات الإبداعية، بالإضافة لسؤال المؤسسة الرسمية وعلاقتها السلطوية مع المجتمع المحلي – مثل مشروع «مسار» التابع للأمانة العامة للتنمية برئاسة أسماء الأسد، وهو تصميم مستوحى من الوردة الدمشقية ويمثل نوعية المشاريع التي تصادر موضوعها».

استقطبت العدالة الانتقالية أيضاً اهتماماً متزايداً من قبل المنتجين الثقافيين السوريين، بحسب الحسيني، والتي لاحظت حضورها في الأعمال المسرحية والسينمائية على الأقل. شاهدت عرضَين في الفترة الأخيرة عن مسرحية «الموت والعذراء»، ويبدو هذا الموضوع حاضراً بشكل أكثف بعد عدة سنوات على الثورة.

النظر إلى الخلف بهدوء، والتفكير بما حدث في السنوات العشرة الأخيرة، مهمة شاقة تحتاج كثير من الشجاعة والتوازن والصلابة، فأغلبنا ما يزال يكتشف الجروح والتصدعات العميقة النفسية والعاطفية والهوياتية التي سبّبها تفكك المجتمعات، والتهجير القسري، واللجوء إلى الدول المجاورة وإلى أوروبا. ولا شك أن حالة الانقسام بين أهالي الداخل والخارج، والتي فرضها الواقع السياسي الراهن في سوريا، واختلاف السياسات والقوانين بين الدول التي لجأ إليها السوريون، هي التحدي المستقبلي الأعظم الذي يواجه كل من يعمل في المجال الثقافي والإبداعي، سواءً على مستوى الإدارة، أو على مستوى المضامين والأشكال الفنية، أو على مستوى تمويل المبادرات والمشاريع. هذا التحدي المستقبلي سيفرض نفسه على الأفراد العاملين في مجال الثقافة، وستكون المهمة الصعبة القادمة هي البحث عن إمكانات الوصول إلى داخل سوريا، وفتح معابر وقنوات تبادل بين جميع السوريين حيثما كانوا.

موقع الجمهورية

—————————–

أجمل الصداقات/ توماس ف. بروند

يركّز هذا المقال على «الصداقة الثورية» كأداة مهملة في السياسات الثورية، وهو يعتمد على عمل ميداني إثنوغرافي بين عدد من الثوار السلميين في سوريا. يتناول المقال ظهور الصداقات في لحظة الثورة، ويحلّلها بوصفها ميداناً أساسياً للسياسات الثورية، وجزءاً من التحولات الاجتماعية المرافقة للحروب والثورات، وحقلاً اجتماعياً يتّسم بـ«الجمال» ويتحدّى أشكال الصداقة التي كانت تشيع في ظل السلطوية النيوليبرالية.

نُشر المقال في مجلة ميدل إيست كريتيك في تموز (يوليو) 2017 بعنوان «أجمل الصداقات: الثورة والحرب ونهايات الثقل الاجتماعي في سوريا». تم اختصار الهوامش في النسخة العربية أدناه، ويمكن العودة إلى النسخة الأصلية للاستزادة والاطلاع على كافة المراجع.

Brønd, Thomas Vladimir. “The most beautiful friendship: Revolution, war and ends of social gravity in Syria.” Middle East Critique 26.3 (2017): 283-296

تعدّ مدينة حلب أكبر المدن السورية ومن أكثرها تعرضاً للدمار، وشهدت نزوح مئات الآلاف من بيوتهم. تركّز ذلك بشكل خاص في المدينة القديمة وحلب الشرقية، اللتين كانتا تحت سيطرة فصائل معارضة متنافسة بين تموز (يوليو) 2012 وكانون الأول (ديسمبر) 2016، وشهدتا دماراً واسعاً، في حين لم تتعرض مناطق سيطرة النظام في حلب الغربية إلى كثير من الضرر. عبر إعادة النظر في مأساة حلب، أقوم بتسلّيط الضوء على نمط «التآلف الاجتماعي» بالغ الأهمية الذي لاحظتُه في غضون عملي الميداني الإثنوغرافي بين الشباب السوريين الثائرين الذين كانوا جزءاً من حركة الاحتجاج السلمية الأولى في مختلف المناطق السورية في عامي 2011 و2012.1 تتبّعت مسارات هؤلاء الشباب على مدار عامين، وقد فرّ العديد منهم من العنف في سوريا إلى لبنان، ومن ثم إلى فرنسا وأماكن أخرى.

على مر العمل الميداني، أجريتُ أكثر من 160 مقابلة نوعية شبه منظّمة مع 70 شخصاً، تحوّل 30 منهم إلى مُحاوَرين رئيسيين، وجرت مقابلتهم مرتين على الأقل (أو ثلاث في بعض الحالات). وإضافة إلى ذلك، وثّقتُ محادثات واتصالات وتعليقات أخرى في ملاحظاتي الميدانية، مضيفاً 50 شخصاً على الأقل لتصبح العينة الإجمالية 120 شخصاً. كان أغلب الأشخاص الرئيسيين الذين قابلتهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى والشباب المدنيين، ودرسوا في جامعات حلب ودمشق وحمص. كان من بينهم أيضاً منشقون سياسيون وفنانون ومفكرون مدنيون في منتصف العمر. أما الانتماءات الدينية للمصادر فتمتد عبر الجماعات الإثنية والدينية المتنوعة في سوريا، بما في ذلك السنة العرب والكرد، والمسيحيون، والعلويون، ومختلف الطوائف الشيعية الأخرى مثل الإسماعيليين. يعتبر بعض من قابلتُهم أنفسهم متدينين، بيد أنّ أغلبهم يُعرّفون عن أنفسهم كعلمانيين، ويؤمنون بضرورة وجود شكل من الفصل بين الدين والدولة. وتم رفد المقابلات والملاحظات بكتابات متنوعة، تشمل منشورات لسوريين على الإنترنت.

لا يدّعي هذا المقال شموله أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان وفرنسا، أو كامل أطياف «المعارضة» المتباينة (بما فيها العناصر الأكثر تديناً أو تشدداً)، وإنما يتناول التجربة والذاكرة الثورية بين قطاعات الشباب الثوري السوري المذكورة آنفاً، ويهدف إلى المساهمة في جانب واحد من جوانب التجربة السورية بواقعها المعقد وحربها المدمّرة اليوم.

ورغم انكسار هذا النمط من التآلف الاجتماعي لدى شريحة الشباب، بفعل اليأس والمعاناة اللذَين يُعتبَران سمة للحاضر المدمِّر، أرى أنه كان منتشراً بين شرائح محدّدة جداً من الحركات الاحتجاجية، أي شريحة الشباب المدنيين والمتعلّمين من الطبقة الوسطى في الأيام الأولى من الثورة بين عامي 2011 و2012، وتجلّى على شكل صداقات ثورية. ولدى متابعتي لمسارات وتجارب هؤلاء الشباب الثائرين وهم يفرّون من سوريا إلى لبنان، ثم إلى فرنسا وأماكن أخرى، لاحظتُ أهمية الصداقات القوية والعاطفية الجديدة التي تشكّلت في لحظات الاحتجاج، وأثناء التجارب التي تماثل ما سمّاه فيكتور تيرنر بـ«المجتمعات». كان شخصان من الذين قابلتُهم، داليا ووسيم، زوجَين كان شملهما قد اجتمع للتوّ في فرنسا حين رويا لي تجربتيهما في الصداقة. شارك كلاهما في أعمال ثورية سلمية في سوريا عامَي 2011-2012، كالتظاهر والنشاطات الاحتجاجية الإبداعية. وعلى غرار جميع السوريين الذين قابلتُهم (معظمهم غادر سوريا أواخر عامي 2012 و2013) أُجبِرا على الفرار حين غرقت البلاد في حرب مدمّرة.

* * * * *

كانت داليا جزءاً من شبكة ثورية في جامعة حلب، تُعرف باسم «طلّاب الثورة» أواخر عامي 2011 و2012. وكانت حلب «متأخرة» عن ركب الثورة حينها، إذ شهدت المدن السورية الكبرى، مثل حماة وحمص، مظاهرات وحشوداً جماهيرية ضخمة. وفي واحدة من أكبر المظاهرات السلمية في 1 تموز 2011 في حماة وصل عدد المتظاهرين إلى 500 ألف شخص، وفقاً لثلاثة قابلتُهم وشاركوا في المظاهرة.2 كانت لجان التنسيق المحلية تتشكّل بصورة عفوية في كلّ أنحاء البلاد، وتنظِّم النشاطات الاحتجاجية وتنسّقها، لكن حلب ظلت هادئة. ورغم اندلاع احتجاجات صغيرة في المدينة في حزيران (يونيو) 2011، إلا أن مركزها (ومركز دمشق) كانا معقلاً لمسيرات كبيرة مؤيّدة للنظام، وكان ذلك مؤشراً واضحاً على أنّ النظام يحظى بدعم شرائح سكانية عديدة. عزا البعض هدوء حلب إلى هيمنة طبقة التجّار عليها، وهي طبقة ارتبطت مصالحها بشكل وثيق بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية للنظام السلطوي. وقد أشارت داليا ووسيم إلى أسباب مشابهة، مضافة إلى الذاكرة التاريخية الجمعية في حلب، عن حملة النظام لقمع التمرّد السابق في سبعينيات القرن الماضي، حين «أحرق أسواقاً بأكملها في المدينة» و«ورمى الناس في أفران المخابز».3

لكن مع حلول أواخر عام 2011، وباستخدام مؤسستهم التعليمية رمزاً وقاعدة انطلاق لهم، بدأت داليا وطلاب آخرون بتحويلها إلى «جامعة الثورة». وبذلك حولوا الجامعة رمزياً إلى مكان لتعليم الآفاق الثورية الجديدة، بعد أن كانت أداة أيديولوجية بيد الدولة.

نجح عناصر الجيش السوري الحر (الذي تشكّل في 29 تموز-يوليو 2011 من منشقين عن الجيش السوري بهدف الإطاحة بالنظام بعد حملته العنيفة على المحتجين السلميين) في طرد قوات النظام من معظم الأجزاء الشرقية للمدينة وبعض المناطق الشمالية والجنوبية الغربية، وأخيراً من المدينة القديمة. وفي نهاية المطاف أصبحت حلب، المدينة التي بدت هادئة جداً في البدايات، مركزاً ثورياً عام 2012، وضمّت مجالس محليّة وفصائل مسلحة من أبناء المدينة. وفي الأشهر الأولى القليلة بعد تموز 2012، بقيت هذه السلطات الجديدة منضبطة ومتوازنة إلى حد ما بجهود المجتمع المدني الحيوي الجديد، الذي كان مظلة للمجموعات الإعلامية والأنشطة الثقافية والفنية والمدارس وفضاءات التعبير، لتعزيز الشعور الثوري والتصوّر الأيديولوجي لسوريا الحرة والمدنية الجديدة التي تسود فيها كرامة الإنسان. وتُذكر على وجه الخصوص الأسابيع والأشهر القليلة الأولى في المناطق «المحرّرة»، كصلاح الدين وبستان القصر وأحياء أخرى كانت تحت سيطرة الجيش السوري الحر بعد تموز من عام 2012، بوصفها فترات مجيدة لذلك المجتمع المدني الحيوي الجديد.

إلا أن العنف تصاعد أواخر عام 2012 وبدايات عام 2013، وأصبحت المجموعات المتشددة المتزايدة (مثل جبهة النصرة، التي سُمّيت لاحقاً بجبهة فتح الشام) منافِسة لفصائل الجيش السوري الحر الأكثر اعتدالاً، والذي كان لواء التوحيد أكبرها (على الرغم من اسمه الإسلامي، اعتبره من قابلتُهم معتدلاً وغير متطرف). سرعان ما توقفت حيوية المجتمع المدني الجديد مع الآمال بثورة سياسية واجتماعية، لأن النشطاء السلميين شعروا بضرورة الخروج ومساندة القضية الثورية من البلدان المجاورة. غادر البعض إلى غير رجعة، بينما استمرّ آخرون بالسفر جيئة وذهاباً من البلدان المجاورة. وقد شدّد بعضهم على مسؤولية العنف عن انحراف مسار ثورتهم السلمية، فيما اعتبره آخرون نتيجة طبيعية لمجرى الأحداث. أمّا في الواقع العملي، فقد عنى ذلك أن عليهم معرفة كيفية التعامل مع الفصائل المسلّحة لمواصلة مبادرات المجتمع المدني الجديد في سياق الخطر المتصاعد للحرب الوحشية. ويشير الحضور الطاغي لذاكرة المجتمع المدني الجديد وعلاقات الصداقة الجميلة، رغم مسار الأحداث المأساوي، إلى أن آثار هذه الذكريات لم تتبخّر في دخان الحرب.

هذه التعابير غير المسبوقة للمجتمع المدني، والتي لم تقتصر على حلب والآفاق السياسية الجديدة، لم تزعزع النظام الاستبدادي وأبديّته («الأسد إلى الأبد») فحسب، بل خلقت أيضاً مراكز ثقل جديدة في المجالات الاجتماعية السورية التي تعرضت للاهتزاز، مدفوعة بنمط محدّد من التآلف الاجتماعي، وهو النمط الذي تذكّره وسيم وداليا في فرنسا، المتّسم بـ«أسلوبه المختلف» و«صدقه»، والذي أضحى «صداقة ثورية جميلة»:

    داليا: كان لدي صديق في الجامعة. لم أكن لأقف معه، إذ لم أرغب في أن يعرف أحد عن عملنا سوياً. كانت لدينا طريقة سرّية للتواصل.

    وسيم: العلاقات بين الناس في الجامعة تغيرت بعد الثورة. فعلى سبيل المثال، لم تعرف داليا هذا الشخص من قبل، ولكن بعد الثورة نشأت علاقات جديدة بين الناس.

    داليا (مقاطعة بحماس، ومبتسمة): نعم، علاقة «جديدة»!

    وسيم: أصدقاء جدد.

    داليا: أصدقاء جدد! ليسوا كالأصدقاء السابقين!

    وسيم: أصبح الناس يتقاربون بشكل أعمق.

    المؤلف: هل تعرفتِ على أصدقاء كثر؟

    داليا (مع ابتسامة حنين): نعم.

    وسيم: هو شكل مختلف، لقد كان شكلاً مختلفاً من الصداقة.

    المؤلف: أي نوع من الصداقة هو؟

    داليا: صداقة عمل، وأظن أنها كانت الصداقة الأجمل! لأننا جميعاً صادقون في عملنا ونهتم ببعضنا، ونخاف من حدوث شيء لأحدنا.

* * * * *

أريد في هذا المقال تناول الصداقة الثورية بوصفها نمطاً محدّداً من التآلف الاجتماعي. قد يبدو مفهوم الصداقة للوهلة الأولى عادياً ورومانسياً وغير مفيد في تحليل التعبئة الشعبية المرافقة للحركات الاجتماعية وكيفية تشكل الذوات الثورية في الثورات العربية. ولهذا السبب على الأرجح يتمّ تجاهله إلى حد كبير في المؤلفات المتعلّقة بالتعبئة الاجتماعية والثورة والأنثروبولوجيا السياسية (رغم أن الدراسات السياسية لأنظمة الاستبداد العربية تنظر إلى حد ما في روابط الصداقة). النتائج التي توصّلتُ إليها، مع ذلك، تشير إلى أنّ الصداقة كنمط اجتماعي لها دور أساسيّ في تشكيل الذاتية الثورية في سوريا بهدف التعبئة الاجتماعية وبلوغ الغايات الثورية. وعلاوةً على ذلك، أجادل بحاجتنا إلى التركيز على أهمية «الصداقة الجميلة» في صنع السياسة الثورية، بوصفها جزءاً من تحوّلات اجتماعية أكبر غالباً ما تحدث خلال الثورات، وقد وضعتُ هذه المحاججة في سياق الواقع المعقّد، وهو الحرب السورية اليوم. من وجهة نظر أكاديمية، لا يمكن بالتأكيد النظر إلى ما يجري في سوريا على أنه ثورة مكتملة قلبت النظام السياسي وأحدثت تحوّلات اجتماعية راديكالية. لكن من وجهة نظر الثوار السوريين المذكورين أعلاه، فهناك قيمة تجريبية وتحليلية في النظر إلى سوريا كمثال على ثورة جارية. ومن البديهي أن يكون توصيف الأهوال في سوريا محل خلاف عميق: فبالنسبة لبعض السوريين المتمسكين بنسخة النظام من الاستقرار، رُفِضت الثورة بشدّة واعتُبِرت تهديداً.4 أما بالنسبة للسوريين الذين عملتُ ميدانياً بينهم، فالقضية ليست واضحة؛ ذلك أن الثورة انتهت بالعسكرة والعنف وفقاً لبعضهم، في حين يُصرُّ آخرون بينهم على أنّ الثورات، تاريخياً، تميل إلى أن تكون طويلة الأمد، وتنطوي في الغالب على حرب أهلية عنيفة. وحتى تهميش حركة الاحتجاج السلمية السورية، يمكن وضعه في «دورة الحياة» الطبيعية للثورات، التي يُنحّى فيها الثوار الأوائل غالباً أمام «الراديكاليين».5

درج المؤرّخون وعلماء الاجتماع على دراسة الثورات بشكل رجعي، أي بعد وقوعها بسنوات عدة. لكن كيف يمكننا مقاربة الحرب السورية بوصفها ظاهرة اجتماعية جارية، شهدت لحظات ثورية؟ التركيز على التجربة الثورية في هذا المقال لا يوثق فقط مجموعة هامة من التجارب التي شهدتها الحرب في سوريا، وإنما يدفعنا للتفكير في أنواع التغيرات الاجتماعية اللاحقة للمأساة السورية: إذ لا تزال اليد السياسية العليا للنظام محصّنة إلى حد كبير، وإن كانت قد اتخذت أسلوباً سلطوياً جديداً. وعلى الرغم من عدم حصول تغيير سياسي، إلا أن النظام خسر السيطرة على مناطق واسعة، وخضعت هذه المناطق بدورها لأنواع مختلفة من السلطة السياسية لفترات زمنية مختلفة.6 لقد تغيّرت التركيبة السكانية جذرياً مع نزوح قطاعات واسعة من السكان، وتحوّلت التحالفات الاجتماعية بشكل جذري، فيما تزايد العنف مع الخطاب والنزاع الطائفيَّين. ومن المؤكد أنّ سوريا تتغيّر جذرياً وباستمرار منذ آذار (مارس) 2011.

ليست «الصداقة الثورية الجميلة» ميداناً رئيسياً للسياسة الثورية فحسب، وإنما هي مثال عن تغيُّرات اجتماعية راديكالية تجري كجزء من الحرب في سوريا. وفي حين يُمكن للصداقات أن تخلق الخلافات أو أن «تتحول إلى شيء قبيح»، يَكمُن جمال الصداقات الثورية في تجربة الشباب السلميين الثائرين في سوريا، والذين تذكّروها خلال عملي الميداني، بشكل رجعي وفي ظروف مأساوية. وانطلاقاً من روح القضية الخاصة التي بين أيدينا، استلهم مفهوم جاك دريدا عن «النهايات» بصفتها تأرجحاُ مستمراً بين الحائط المسدود والأهداف الطوباوية الأولى وأسأل: كيف بدأت وتطورت الصداقات الثورية التي تقع في سياق تغييرات اجتماعية أوسع في الحرب السورية، وأي «نهاية» وصلت إليها في مواجهة العنف المتزايد والحرب؟ سأوضح في الفقرات التالية كيف استُبدِلت علاقات «الجمال» الاجتماعية في سوريا السلطوية والنيوليبرالية ما قبل الثورة، بصداقات جميلة ثورية تغذّي ثقلاً اجتماعياً جديداً.

الصداقة والتعبئة وانعدام الثقل الاجتماعي

قبل العودة إلى داليا ووسيم والصداقات الجميلة الأخرى، ينبغي تسطير ملاحظات حول مفهوم الصداقة، لا سيما فيما خص علاقتها بالسياسة والتغيير الاجتماعي وكونها لا تفيض بالجمال الصافي على الدوام وإنما قد تكون ميداناً للاختلاف أيضاً. تعود مسألة تشابك الصداقة والسياسة إلى الفلسفة القديمة. فعلى سبيل المثال، عرّف أرسطو الصداقة في الأخلاقيات النيقوماخية بوصفها ميداناً أولياً للدولة-المدينة (بوليس-polis، التي لا يُنظر إليها كـ«دولة» فحسب، وإنما كـ«مجتمع سياسي»). أما بالنسبة لجاك دريدا، وهو مثال أكثر معاصرة، فالصداقة عالقة في تناقض داخلي (أبوريا-aporia)، تتغذى فيه على التوترات الكامنة داخلها. غير أن فكرة الصداقة، باعتبارها فسحة للممارسة والتنظيم السياسي، قد نُحّيَت في العلوم السياسية الحديثة، وبناءً على ذلك، فإنّ تجربة الصداقة مغيَّبة في التحليل السياسي. ورغم وجود اهتمام متجدد في الأنثروبولوجيا بالصداقة الخاضعة للتجربة ظواهريّاً، إلا أنها لا تزال «موضوعاً مُهمَلاً». وقد درجت الأنثروبولوجيا على تفضيل نظرية طبقات النسب والقرابة على تصنيفات تُعتبر «غربية» وحديثة كالصداقة، وأسباب ذلك عديدة، لكنها متصلة بالطرق التي نُظِّمت فيها العوالم السياسية والاجتماعية «المحلّية» في ما وصفه أريك ديفيس بالفئات «المحدودة». فمفاهيم مثل القبيلة، والقرابة، والعائلة، استخدمها الأنثروبولوجيون لشرح سلوك الناس – وفقاً لبيير بورديو ونظرية الممارسة السوسيولوجية – أو كيفية فهمهم لعوالمهم، وفقاً لكليفورد غيرتز. وبعد عقود من الأعمال الأنثربولوجية المبكّرة القليلة التي تناولت الصداقة بوضوح، تزايدت المؤلفات، لا سيما مع المساهمات التي حرّرتها ساندرا بيل وسيمون كولمان وأميت ديساي وإيفان كيليك، فيما لا تزال دراسات الشرق الأوسط قاصرة في تناول هذا الموضوع. ولاحظ ميشيل عبيد عام 2010 أن «المؤلفات المتعلقة بالصداقة بوصفها مفهوماً تحليلياً، فضلاً عن كونها موضوعاً إثنوغرافياً في السياقات العربية، تكاد تكون غير موجودة». حتى الأعمال الأكثر جدة حول ما يسمى «الترفيه الإسلامي» و/أو المتعلقة بتعبئة الحركات الاجتماعية في الشرق الأوسط لا تنظر إلى الصداقة كمفهوم تحليلي، في حين تركّز الدراسات السياسية للشرق الأوسط على الصداقات لشرح الروابط السياسية في كل من الأنظمة الجمهورية والملكية. بيد أنّه في جميع هذه المجالات، ربما كان من المفيد التفكير تحليلياً بما تعنيه الصداقة، بالنسبة للترفيه والأخلاق الإسلامية لدى الشباب الشيعة في جنوب بيروت، على سبيل المثال، أو بالنسبة لأساليب تعبئة الحركات الاجتماعية قبل الانتفاضات العربية وبعدها.

وبالتالي، هناك فراغ يجب ملؤه، لا سيما في الدراسات الأنثروبولوجية للشرق الأوسط، والأنثروبولوجيا الناشئة حول الصداقة. هذه الأخيرة تساعدنا على فهم تجربة الصداقة ومعناها ووظيفتها عبر الثقافات المختلفة، لكن دون تقدير الديناميات الكامنة بين الصداقة والثورة، التي تسلّط الضوء على تشكّل الصداقات الجميلة ودورها في العملية الثورية. ومن اللافت استدعاء الجزء الأساسي من شعار الثورة الفرنسية «الحرية، المساواة، الإخاء أو الموت!» إحساساً بالقرابة والرفقة. فـ«الإخاء» هنا هو مثال حول اعتماد الصداقة في سياق الثورة على استعارة القرابة، لتبيان الكثافة السياسية والعاطفية المعرّضة للخطر في لحظة ثورية. تُولِّد الاضطرابات الثورية، بمعنى ما، نوعاً جديداً من «الإخاء»، لم يتشكّل عبر المصادفة البيولوجية، بل كثّفته الخبرة الثورية والعاطفية والتضحية ومحاولة قلب النظام الاجتماعي والسياسي. إذن، يمكن فهم التبعية التبادلية بين القرابة والصداقة، بسبب ترابطهما الثقلي في اللحظة الثورية. وفي حالة سوريا، كما سنرى أدناه، أوجد الثوريون لأنفسهم فضاءات تملك، حسب غسان الحاج في قراءته لبيير بورديو، «ثقلاً اجتماعياً صفرياً».7 عبر إذابة ثِقَل «الحقول» المختلفة، أي القرابة والقبيلة والطائفة أو الدين، خلق الثوار خطوطاً جديدة من الثِقَل، تمثّل «حلم طيران اجتماعي»، في محاولة يائسة لتحدّي ثقل الحقل الاجتماعي. وقد خلقت هذه «المحاولات اليائسة» للثوار السوريين مراكز ثقل جديدة: هي الصداقات الثورية التي أضحت ميداناً للسياسة الثورية في عملية تغيير المجال الاجتماعي لسوريا السلطوية.

الاستثمار العاطفي والقيمة الإنسانية في سوريا ما قبل الثورة

لفهم هذا الميلاد للصداقات الجديدة، وخلق فضاءات ذات «ثقل اجتماعي صفري»، من الضروري إجمال موقع الصداقة بإيجاز في المجالات الاجتماعية في سوريا السلطوية ما قبل الثورة. واسمحوا لي هنا بالتأكيد على أنني لا أقدم محاججة واحدة تشمل المجالات الاجتماعية المعقّدة والمتعدّدة في سوريا. فهذا قد يحرّف التباينات الديموغرافية الضرورية بين البُنى الطبقية والحضرية والريفية، والحظوظ الأيديولوجية والاقتصادية. محاججتي تدور بشكل حصري حول شريحة معينة من السوريين، ألا وهي شريحة الشباب من الطبقة الوسطى والوسطى العليا، من المتعلّمين والمتمدّنين، مثل داليا ووسيم، الذين يشكّلون جزءاً من الحركة الثورية المتنوّعة في سوريا (والتي تشمل مجموعات متباينة). ورغم وجود ثغرة ينبغي ملؤها في التفكير حول الصداقة، كما ورد أعلاه، إلا أن الصداقة بوصفها فئة لم تُغفَل تماماً في المؤلفات المتعلقة بسوريا. ومن الأهمية بمكان ما توصّلت إليه كريستا سالامندرا في عملها الميداني الذي أجرته في تسعينيات القرن الماضي، والذي يُشير إلى استحالة وجود صداقات فاضلة وصادقة بين النخب في سوريا البعثية. ففي الدوائر النخبوية والتي يزداد تسليعها من المقيمين في دمشق «الجميلة كصورة على بطاقة البريد»، أصبح البحث عن الجمال والاستهلاك هو المألوف. وقد تختلف تركيبة هذا الجمال ووظيفته بشكل واضح عن سردية داليا، فالسيدات التي قابلتهنّ سالامندرا، وهنّ من أوساط نخبوية متمدّنة، يُخفين منافسة عدائية «ضارية» وضغينة تجاه بعضهن عبر المجاملات والتودد، في ظلّ «الضغوط على النخب التي تخاف السقوط من السلم الاجتماعي في الظروف المتقلبة على الدوام». وعبر التملّق السطحي ذي المعنى المُلتبِس (حين تقول إحداهن للأخرى على سبيل المثال: «لقد اكتسبتِ وزناً!»)، «تُحطّم» النساء النخبويات السوريات بعضهنّ، لترفع كل واحدة من شأنها، ولا تعرف أيهنّ موقعها نتيجةً لذلك. وبناءً على هذا، تُصبح «الصداقات» الجميلة في سوريا السلطوية النيوليبرالية «هشّة وقصيرة الأجل».8 تستعير سالامندرا تَصوُّر «سيدة عَلَوية» للحساسيات بين الدمشقيين «الأصليين» والدمشقيين «الوافدين». تقول السيدة: «إنهم (الدمشقيون الأصليون) يظنون أن الناس في دمشق تجرّدوا من إنسانيتهم، وفقدوا الانفتاح والقدرة على التواصل والثقة… لا يُمكنك بناء صداقات مع النساء أو الرجال. قد تتمكن من بناء صداقات، ولكنها في جوهرها ليست صداقات حقيقية». وينسجم تسليع دمشق ما قبل الثورة، المُستكشف في نُخَب سالامندرا التنويرية،9 مع دراسات متعاقبة أجرتها ميريام كوك وليزا ودين. تصف ودين، على سبيل المثال، ما تسميه «أحلام الترقي الاجتماعي» في سوريا النيوليبرالية عشية الثورة، قائلة إن «الاستثمار العاطفي اقترن بالرغبة في العائد المادي، ليس فقط للقادرين على تحمُّل كلفة ذلك، بل لغير القادرين أيضاً لكن المصرّين على الارتباط بوهم الملذات ومكانة المُستهلِك».

تشير هذه الملاحظات إلى أنّ النيوليبرالية الاستهلاكية السورية التي كان يروِّج لها نظام الأسد تتجاوز حدود دوائر نُخَب دمشق التي تتحدث عنها سالامندرا، وتكشف عن «استثمارات عاطفية» شخصية كالصداقات. ويتجلّى منطق المنافسة السوقيّة عميقاً في أوصاف ودين وسالامندرا، ما يترك مساحة ضئيلة لتشكيل صداقات فاضلة أو أخويّة أو قوية، ناهيك عن الصداقات السياسية. وبينما لا يمكن إنكار وجود مثل هذه الصداقات في سوريا، رغم مواجهتها أشكالاً مختلفة من انعدام الأمان الراسخ، إلاّ أنه لا ينبغي التقليل من تَبِعات ملاحظات ودين وسالامندرا المهمة: فقد شجّعت سوريا البعثية ما قبل الثورة نمط كينونة نيوليبرالي، تُغذّيه المنافسة و«أحلام الترقي الاجتماعي» والملذّات والاستهلاك. وقد تعزَّز هذا النمط من الوجود ضمن سياق سلطوي يشكّل فيه الفساد والمحسوبية «مُنتهى» الكفاح لتحقيق الترقي الاجتماعي حسب مفهوم جاك دريدا. ذلك أن المناطق الريفية كانت مُهمَلة إلى حد كبير من جانب النظام، الذي فشل في التجاوب مع سنوات من الجفاف والفقر، أو في تأمين فرص عمل وخدمات رعاية اجتماعية ملائمة.

وفي عشية الثورة، لم يشكل هذا السياق، المجرّد من الأمان الاجتماعي والمدعوم بالسلطوية النيوليبرالية، «معارضة شديدة» فحسب، كما أوضحت ودين، بل صار خلفية للثورة، وحفّز الرغبات في المزيد من العلاقات الشخصية «الجميلة» الأكثر صدقاً من تلك التي صوّرتها سالامندرا: «فالجاذبية، والمعاني الكامنة في حيازتها وامتلاك المساحة لاستعراضها، كل ذلك يتجاوز بأهميته مقاييس القيمة الأخرى لدى نخب دمشق». لقد كانت المعاني الثورية الجديدة لـ«قيمة» الإنسان – أي الحقول الجديدة للثقل الاجتماعي – في طور التكوّن.

صداقات عميقة وصادقة

فلنعد إلى السياق الإثنوغرافي لداليا ووسيم وأفراد آخرين من شريحة السوريين التي يركّز عليها المقال بشكل أساسي، ألا وهي الشباب المتعلّم والمتمدّن الذي شارك في الحركة الثورية السلمية في سوريا. قد يُنظَر إلى هذه الشريحة الثائرة على أنها «نخبوية»، رغم وجود اختلافات كبيرة في الحالة الاقتصادية والوضع الاجتماعي بينها وبين من تكتب عنهنّ سالامندرا. فهم أفراد من الثوار الأوائل المنتمين إلى شرائح الطبقة الوسطى السورية الأخرى، وليسوا من النخب «التنويرية». وقد شكّلوا خلال الثورة صداقات ثورية جديدة، مُواجِهين بذلك أثر التجريد من الإنسانية الذي تمارسه السلطوية النيوليبرالية. ويتضح ذلك حين نتذكّر المحادثة بين داليا ووسيم في المقطع الافتتاحي من هذا المقال. إذ اكتسبت داليا، بكونها جزءاً من «جامعة الثورة» في حلب، العديد من الأصدقاء الجدد. وقد كان اكتساب أصدقاء جدد، والتعامل والتواصل معهم بصورة سرية، مهماً في الأيام الأولى للثورة في حلب، حين حاولت الأجهزة الأمنية قمع المعارضة.

تُبيِّن المحادثة بين داليا ووسيم كيف ظهر نوع جديد من الصداقة لداليا خلال تلك الأيام الثورية في حلب في 2011-2012. وتُلاحَظُ حداثةُ هذه الصداقات الجديدة بشكل لافت في مقاطعتها الحماسية لزوجها حين تقول: «نعم! صداقة جديدة»، مما يشير إلى تمزُّق العلاقات الراسخة سابقاً، فقد قسّمت الثورة السوريين وعلاقاتهم الاجتماعية بشكل واضح، وافترق البعض بسبب الاختلافات في الرأي حول طبيعة التغيرات التي تجتاح البلد. سيجد البعض الآخر، كما في حالة داليا، أصدقاء جدداً يتميزون بما يمكن تسميته خصالاً أكثر جمالاً: هي صداقات جديدة، كانت بكلمات داليا «عميقة»، و«صادقة»، وتتميز بالعاطفة و«الاهتمام». أمّا التناقض مع الإطراء التنافسي والظاهري الذي يتخلّل الجمال النيوليبرالي لصداقات من قابلتْهن سالامندرا في سوريا البعثية ما قبل الثورة، فلا يمكن إلّا أن يكون لافتاً للانتباه. يبدو أن الفقدان اللاإنساني لـ«الثقة والتواصل»، الذي شُدِّد عليه في توصيفات إحدى من قابلتهنّ سالامندرا، واجه تحدياً من جانب صداقات «أجمل» وأكثر إنسانية وثقة.

والأهم من هذا كله هو ما تقوله داليا عن صداقات الثورة حين تصفها بـ«صداقات العمل». لم تُبنَ هذه الصداقات فقط حول مصالح أو هموم اقتصادية مشتركة، أو مساعٍ لضرب قدرة المنافسين في الجمال للنهوض بالذات، ولا يمكن اعتبار أي من الثوار الذين صادفتُهم خلال عملي الميداني ساعياً لتحقيق الرخاء الاقتصادي عبر ارتباطاته الثورية. فالصداقات الثورية لها هدف محدد، وتشكّلت واستدامت عبر الالتزام السياسي والأفكار السياسية المشتركة حول الثورة. وكانت أوصاف الصداقة التي ذكرتْها داليا شائعة جداً لدى الثوار الذين قابلتُهم، فهم غالباً ما يرْوُون كيف شعروا فجأة بأنهم «وُلِدوا مجدداً». يقول أحدهم: «كان لدينا قدر كبير من الطاقة. لأول مرة في حياتي كلها شعرتُ بالانتماء لشيء ما». كان الاحتجاج تجربة شخصية صاغت صداقات سياسية وقوية وجديدة، وقد تشكلت هذه الشبكات وأُضفي الطابع الرسمي عليها في لجان التنسيق المحلية، فيما أُنشئت مجموعات سرية على فيسبوك، كتعبيرات غير رسمية عن الصداقات المتشكّلة حديثاً. وبطبيعة الحال، ينبغي أن لا نُغفل أن هذه الصداقات الثورية لم تتشكّل جميعها في الوثبة العاطفية للاحتجاج والثورة، لأن بعض الصداقات كانت موجودة أصلاً، وكان ثمة دوائر للمعارضين السياسيين وصداقاتهم في سوريا بالتأكيد، بيد أنّ مجيء الثورة أدى إلى تغيير المشهد الاجتماعي في سوريا: فإما أن تكون مؤيداً للثورة، أو مؤيداً للنظام.

كان الحفاظ على رأي محايد أمراً صعباً للغاية، وقد عنى استهلال صداقات جديدة نهاية الصداقات القديمة أيضاً، بحسب من قابلتُهم. فالصداقات القائمة قبل الثورة، مهما كانت تركيبتها ووظيفتها، قد انتهت، وافترق من دعم الثورة عمّن عارضها. وروى أحد من قابلتهم، وهو مسيحي من حماة، مثالاً راديكالياً عن التجدد الكامل للدوائر الاجتماعية، قائلاً: «أنا لا أتحدّث مع أيّ من أصدقائي الذين عرفتُهم قبل الثورة!». كانت قضيته نموذجية إلى حدّ ما بين من قابلتُهم، غير أنها ليست شائعة إلى حد كبير. فغالبية من قابلتُهم تمسّكوا ببعض الصداقات القديمة، لكنّهم جميعاً بَنَوا صداقات ثورية جديدة.

حقول جديدة من الجاذبية الاجتماعية

التجربة العاطفية المكثّفة، التي اختبرتها داليا عبر تشكيل صداقات جديدة، يتردّد صداها في المحادثات التي أجريتُها مع من قابلتُهم. كان الموضوع المهيمِن لديها هو التجربة الجمعية المتمثّلة في المشاركة بالمظاهرات، وفكرة عيش «الحلم الجديد». تُمثِّل هذه الولادة الجديدة بداية صداقات جديدة بتحدّيها المباشر والعلني تماماً للنظام:

«شاركنا بالكثير من المظاهرات في الميدان وكفرسوسة… وكان تاريخ 15 آذار شبيهاً بعيد ميلادي، أشعر أنني فعلتُ شيئاً مهماً فيه… كان ثمة أشخاص يتشاركون الحلم، وأنا أفتقدهم بحقّ. وأظن أن خطأ حياتي الأكبر كان الرحيل عن سوريا، لأن هذا هو ما يريده النظام. أعتقد أن العيش في جوار الموت أفضل من الموت المعنوي في مكان بعيد».

أصبحت التجربة السياسية المتمثّلة في «الولادة الجديدة» و«مشاركة الحلم» مع الآخرين أحداثاً فاصلة في حياة الثوار السوريين، فهم لم يلتقوا خلال التظاهر فحسب، بل التقَوا أيضاً بعد المظاهرات وفيما بينها، وتناقشوا سياسياً بشأن الأحداث: «لقد أجرينا كثيراً من النقاشات العظيمة!»، بحسب ما أخبرني أحدهم، واصفاً كيف كانت مجموعة حديثة من الأصدقاء الثوريين تلتقي في شقة أحدهم لإجراء النقاشات المكثّفة والتشارك العاطفي. تحدّث بحماس عن «الليالي الصيفية الحارة» على شرفة صديق، وهي ليالٍ شهدت ولادة أفكار جديدة حول المجتمع السوري: كان هذا الثائر جزءاً من لجان التنسيق المحلية. كان كل شيء مفتوحاً للنقاش، وبعد شهر من الثورة، أصدرت لجان التنسيق المحلية البيانات الأولى التي تضمنّت «رؤية سياسية لسوريا». لقد تبلورت عبر الصداقات أفكار معينة حول ما سيشكّل المجتمع السوري. ومن المهم الإشارة إلى أن الإحساس العاطفي والصداقات الثورية وبلورة الرؤية السياسية أمور لا يمكن فصلها ببساطة، لأن هذا قد يؤدي إلى طمس الآثار السياسية لتلك الليالي الصيفية الحارة والاجتماعات الأخرى غير الرسمية بين الأصدقاء.

كان الأمر المصيري في تجمّعات كهذه بين الأصدقاء، كما أرى، هو تغيير في مجالات الثقل الاجتماعي في المجتمع السوري. ففي هذه المرحلة من أيام الثورة الأولى اهتزّت السلطوية السورية بطريقة غير مسبوقة تاريخياً، وبدا وجود أفق في المستقبل لمجتمع بديل أمراً ممكناً. لقد خلق الثوار السوريون عبر التجارب العاطفية المتمثّلة في الصداقة والاحتجاج «خطوطاً جديدة للثقل الاجتماعي» تنافس خطوط السلطوية النيوليبرالية الراسخة. «الثقل الاجتماعي»، كما يكتب غسان حاج متأملاً في كتابات بيير بورديو:

    «ليس الطريقة التي يسحبنا بها المجتمع إليه أو الطريقة التي نختبر بها جدّيّة الحياة فحسب، وإنما هو السبيل الوحيد لدينا لإثبات أنفسنا في الحياة الاجتماعية وإعطاء عالمنا الاستقرار والديمومة في مواجهة ’خفّة الكائن‘».

حين تترنّح أساسات السلطوية ويبدو المستقبل فجأة أكثر انفتاحاً، يدخل عدم-اليقين الثوري في المجال الاجتماعي. يُعَدّ هذا نوعاً آخر من عدم-اليقين الثوري، ويختلف عن ذلك الذي اكتشفَتْه ألبا شاه لدى الثوار الماويين في الهند. فبطل ألبا شاه الرئيسي، تشوتو روي، يقرّر أن يصبح ثائراً للبحث عن اليقين في المجال الاجتماعي، لأنه ليس متيقناً من كافة علاقاته الاجتماعية. وعلى النقيض من ذلك في سوريا، خلق الثوريون حقول يقين وثقة جديدة فيما بينهم. وقد بذلوا، في المقابل، قصارى جهدهم للتيقّن من هذه العلاقات:

    «يثق الناس بالقادرين على إيلاء الثقة، والأمر شبيه بالشبكة. فإذا عرفت شخصاً لخمسة أعوام وقال لي: ثق بهذا الشخص، سأثق به حينها».

كان هذا الثائر بالتحديد يعتمد بشدّة على ثقة الأصدقاء. وعبر دوائر الثقة غير الرسمية هذه، كان قادراً على توجيه المساعدات الإنسانية الضرورية إلى المناطق السورية التي تعذر الوصول إليها بعد «شهر العسل» الثوري في الأيام الأولى، والذي تحوّل إلى حرب مُدمِّرة. قد يجزم البعض بأنّ الثوار السوريين اعترفوا، دون وعي، بثقل الوضع الثوري الجديد. وعبر المغامرة بحياتهم، وتنحية الصداقات القديمة لصالح الصداقات الثورية الجديدة، وتغذية هذه الحقول الجديدة بالأيديولوجيا الثورية، بدأوا بالتعامل بجدية مع الثقل الاجتماعي، ففي ظل وجود عدم اليقين الثوري تأتي «خفّة الكائن» التي تجذب من فورها قوى ثقل جديدة لتجنّب الانعدام الكامل للثقل الاجتماعي.

وبناء على ذلك، قد يتساءل المرء ما إذا كانت خطوط ثقل اجتماعي جديدة كهذه محصورة في الفضاءات الثورية بطريقة مادّية كما يرد في الأدب المتنامي حول ميادين الثورة كفضاءات انتقالية. بالنسبة لمارك بيترسون، على سبيل المثال، كان ميدان التحرير في مصر فضاءً انتقالياً بمعنى مادي، يمكن الدخول إليه والخروج منه جسدياً، وقد لا يكون من السديد استخدام تفسير مماثل في السياق السوري. بل على العكس، هناك مؤشر لا يمكن إنكاره على دخول مراكز الثقل الاجتماعي الجديدة «حقلاً من النزاعات تواجه فيه احتمالات الحفاظ على هذه القوى أو تغيير كينونتها».

«يتزوجون بدعم من العائلة!»

لم تكن مسارات المراكز الجديدة للثقل الاجتماعي محصورة في الأوساط الثورية. فأثناء عملي الميداني في لبنان، تمت إحالتي إلى عدد من أصدقاء الأشخاص الذين قابلتُهم هناك، وقد أصبحوا في فرنسا. كان محمد واحداً منهم، وعمل في إحدى المؤسسات الثورية التابعة للجان التنسيق المحلية في دمشق. كان محمد جزءاً من دائرة الأصدقاء المستمرين بالتواصل الوثيق رغم تباعدهم المادي. وتُشير سردية محمد بوضوح إلى تجربة دخول الثقل الاجتماعي الثوري حقل النزاعات الاجتماعية في سوريا. ورغم أن هذه وجهة نظره الخاصة، إلا أنّها تعبّر عن موضوع وأحاسيس مشتركة بين من قابلتُهم، وهي أنّ العلاقات الاجتماعية في سوريا بدأت بالتغير.

    «أعتقد أنّ علاقتنا بالأصدقاء اختلفت عما كانت عليه في بدايات الثورة، فقد تغير المجتمع وتغيرت علاقتنا بأنفسنا، فضلاً عن تغيّر فهمنا وقدرتنا. يمكننا الحديث إذن عن تغيّر العلاقات حتى مع الأصدقاء. فقدنا كثيراً من الأصدقاء لأنهم اعتنقوا أفكاراً أخرى أو اختاروا جانباً سياسياً آخر، لكننا بدأنا صداقات جديدة بسبب تشارك المأساة والعمل السياسي والسجن والنفي إلى بلدان أخرى، كفرنسا وسواها، وهذا مهم جداً لأننا أمام خطوة جديدة. علاقتنا مع العائلة في الشرق الأوسط هي أمر في غاية الأهمية، ولكننا أمام خطوة جديدة نحو المجتمع المدني، تُبنى فيها علاقات مع أشخاص يحملون الأفكار السياسية ذاتها، ويعملون العمل ذاته، وهذا أمر مهم للمجتمع المدني في المستقبل، لأننا لم نعش في ظل مجتمع مدني في الشرق الأوسط سابقاً. وحتى في المدن، لدينا مجتمع العائلة، والدين، والطائفة، لكننا الآن أمام علاقة أخرى مع الأصدقاء. هل يمكنني الحديث عن الأصدقاء الكثر الذين ينتمون لديانات مختلفة وتزوجوا بعد الثورة؟ لقد حدث هذا في مجتمع الثورة، وليس في مجتمع النظام. أتفهم ما أعنيه؟ لقد تزوّج كثير من الأصدقاء من أديان مختلفة، ولم يكن هذا سهلاً من قبل، إذ لم يكن أمراً مقبولاً للعائلة، وهي إن قبلت ستكون قلقة مما قد ’يقوله المجتمع‘. لقد صار الأمر مختلفاً الآن، فهم يتزوجون بدعم العائلة: درزي تزوج سنيّة، أو درزي تزوج مسيحية، أو علوي تزوج سنية… في دمشق أيضاً، بدأوا يقبلون بالمُساكَنة بين الأصدقاء والصديقات. أعرف فتيات يرتدين الحجاب ويعشن مع شاب في الشقة ذاتها. وهذا مهم للغاية. حسناً، هذه تفاصيل صغيرة، لكنها قد تُمكّننا من بناء المستقبل».

لقد حدّد محمد ما هو الجديد بالتحديد في الصداقات الثورية، وهو أن الانقسام الناجم عن العمل الثوري يعطّل العلاقات الاجتماعية القائمة مع العائلة والأقارب والطائفة، وهذه جميعاً تُمثل مراكز خاصة من الثقل الاجتماعي. وبهذه الطريقة، لا يُزعزعُ تكوين حقول الثقل الاجتماعي الثورية استقرار الثقل النيوليبرالي القائم على الرغبة في الملذّات والترقي الاجتماعي فحسب، وإنما تؤدي هذه «القدرة الجديدة» و«العلاقات المتغيرة بين الناس»، إلى تعطيل الصداقات القديمة لأنّ الناس أُجبِروا على اتخاذ موقف مؤيد أو معارض للنظام. يرى الثائر هنا الصداقات التي شكلتها الثورة كـ«خطوة جديدة» للمجتمع السوري، حيث يتلاقى الأشخاص ممن يتشاركون «الأفكار السياسية» ذاتها ويتجمّعون لأجل «المستقبل» وبناء «المجتمع المدني». وقد أفسحت الفضاءات التي فتحتها هذه العلاقات الاجتماعية الجديدة المجال لحالات زواج عبر الطوائف بموافقة مفتوحة من العائلات، وهذا، وفقاً للشاب الثائر، مما لم يكن يمكن تصوُّره قبل الثورة. ويشير الاقتباس أيضاً إلى تشارك تجارب سياسية مشتركة، كالسجن و«المأساة المشتركة» والنفي. هذا «المجتمع المدني» الجديد الذي يذكره محمد في اقتباسه يدلّ على بداية دولة-مدينة جديدة، وفق تصور أرسطو، ذلك أن الحس السياسي الجديد أصبح ممكناً عن طريق الصداقة.

نهايات الصداقات الثورية

ليست نهايات الصداقات أمراً واضحاً، وقد ركّز المقال على نشوء الصداقات في التجربة الثورية وتطوّرها، وكيفية تشكّلها كحقول جديدة للثقل الاجتماعي. لدينا إذن توصيف معياري ومثالي لمجتمع سياسي جديد، يحاكي تصور الدولة-المدينة كما يراها أرسطو. بيد أنّ هذه، بالطبع، ليست القصة الكاملة، فالعنف والشقاق، حتى لو لم يكونا تناقضاً داخلياً بحسب ما يرى دريدا، إلا أنهما يعقّدان معيارية جمال الصداقات. وقد يتجلّى العنف بأشكال مختلفة، كما ذكر محمد سابقاً: كعنف السجن، و«المأساة» التي سبّبها العنف الجسدي، والعنف الذي يجبر الأصدقاء على الافتراق. ويعدّ التمسك بالفضيلة، أو الخير الإنساني المثالي الذي يراه أرسطو، صعباً للغاية، خاصةً في أوقات الحرب والعنف المُنفلت. وإلى جانب الاضطراب البنيوي الناجم عن العنف، شكّلت مسألة حمل السلاح، أو دعم مجموعات مثل الجيش السوري الحر، واحدة من الشروخ العميقة في الصداقات الثورية: فهل ينبغي الإصرار على فضائل الثورة والصداقات عبر استمرار الاحتجاجات السلمية ومواجهة الموت؟ أم يجب التكيّف وإعادة التنظيم بوسائل عنيفة؟ ما تزال مشاعر الذنب والخيانة للحركة السلمية الأولى، التي سبّبها العنف، مستمرة في مطاردة الثوار وعلاقاتهم الاجتماعية حتى هذه اللحظة، إذ تراجعت قوة صداقاتهم كحقول ثِقَل اجتماعي، بسبب التشتت القاسي للأصدقاء الثوريين. لا يزال الرابط العاطفي بينهم قوياً، ويستعين به أحد من قابلتُهم سابقاً حين يقول: «أنا حقاً أفتقدهم جميعاً للغاية». لقد عبّر المصدر عن العاطفة السياسية للهدف المشترك، والتي بُنيت على الصداقة، قبل أن يمزّقها العنف. ويدلّل هذا على تلاحم الصداقة بالثورة، والتجربة الحياتية بالهدف السياسي. لقد انتهت بعض الصداقات الثورية بسبب الخلاف المحتدم في الآراء حول حمل السلاح من عدمه. وليست الصداقات الثورية سوى شكل من أشكال الصداقات والعلاقات الاجتماعية التي تستغلها القوى السياسية المختلفة بقسوة، مضيفة المزيد من التعقيد على الصداقات في أوقات الاضطراب السياسي.

لا يبقى من الصداقات المستمرة الحنين وبعض الأسى فحسب، وإنما التبادل العميق للقيم والفضائل والأفكار والمسؤولية والأخلاق التي بُنِيت في الأزمنة الثورية. ولا تتبدّد خطوط الثقل الاجتماعي هذه بسهولة، رغم أنّ قيم الناس قد تتغير مع الأيام. وحين تتعثّر الثورات، إن لم تفشل أو تنتهِ بفعل الثورات المضادة، ما الذي يمكن أن نتعلمه من التركيز على الصداقات؟ تعدّ تجربة الصداقات الثورية «جميلة» بسبب كثافتها السياسية والعاطفية، وأيضاً بسبب ظروفها المأساوية، كالعنف والشقاق. وتُعلّمنا الصداقات الثورية كيف تساهم سياسات ثورية غير رسمية في التغيير الاجتماعي، وكيف تتزعزع حقول الثقل الاجتماعي السابقة (كالقرابة، والطائفة، والعائلة.. إلخ) بفعل الصداقة الجميلة.

1. هذا المقال نتيجة سبعة أشهر من العمل الإثنوغرافي في لبنان (في المقام الأول) وفرنسا، بين عامي 2013 و2015، عبر مقابلة الثوار السوريين الشباب الذين شاركوا في المظاهرات السلمية وغيرها من الاحتجاجات.

2. تتباين تقديرات عدد المتظاهرين. فبحسب هيومن رايتس ووتش، كان هناك «عشرات آلاف المتظاهرين، ومئات الآلاف حسب بعض التقديرات». وعلى الرغم من صعوبة تحديد العدد الفعلي، إلا أن المظاهرة كانت أكبر المظاهرات السلمية في سوريا، وأغلب من قابلتُهم يعتبرونها الأكبر.

3. ورد هذا ضمن مشهد في رواية الكاتب السوري خالد خليفة التي تحكي عن حلب في ذلك الوقت مديح الكراهية.

4. عدّ دعوة صامويل شيلكه لدراسة ما وصفه بـ«المقاتلين العقائديين» و«القومية العسكرية»، في مقالته في هذا العدد الخاص [من مجلة ميدل إيست كريتيك]، هامة للغاية ويمكن أن تنسحب على حالة سوريا أيضاً. لا يوجد «خير مطلق» بحسب شيلكه، ويجب علينا كعلماء اجتماع دراسة الأشكال المختلفة من «الرغبة في الدفاع عن الخير».

5. بعد عمل كرين برينتون المؤثر عام 1937، طورت التحليلات التاريخية والاجتماعية للثورات نماذج مرحلية للثورات السياسية والاجتماعية (تناولت معظم الحالات فرنسا وروسيا وإنكلترا والصين، إضافة إلى إيران.. إلخ). يقسم برينتون الثورات إلى مراحل تشمل: فترة سقوط النظام، وفترة شهر العسل (تشكيل حكومة معتدلة جديدة قصيرة العمر)، و«فترة الرعب والقوة» (يتراجع فيها نفوذ الثوار الأوائل لصالح «المتطرفين» الذين يكونون في العادة أفضل عتاداً، وأكثر استخفافاً بحياة الإنسان، وما إلى ذلك) ثم أخيراً «انعكاس ثرميدوريان» حيث يصل الطاغية إلى السلطة (ستالين في روسيا، بونابرت في فرنسا، كرومويل في إنكلترا).

6. تشمل الأمثلة مدينة منبج شمالاً ومخيم اليرموك في دمشق، إذ خضعت المنطقتان لنفوذ قوى مختلفة، من الجيش السوري الحر إلى جبهة النصرة إلى تنظيم داعش والفصائل الكردية (في حالة منبج).

7. أَدين لتعليقات غسان الحاج في تقديم مصطلح «مراكز الثقل الصفرية» في مؤتمر SIME الذي انعقد بعنوان «نهايات الثورات» في جامعة روسكيلدة السويدية في أيار 2015. وقد قدَّمتُ في المؤتمر ذاته نسخة سابقة من هذه الورقة برفقة مريم يونس، التي أَدين لها بالفضل أيضاً في التفكير بالصداقة والثورة.

8. تذكر سالامندارا في إحدى الحواشي فقط أن «الصداقات الحميمة» كان وجودها مُحتملاً بين الذكور الذين قابلَتهم.

9. غالباً ما تشير «تنويري» إلى نخبة دمشق المجتمعية والفنية على وجه الخصوص، التي تسعى إلى «تنوير» المجتمع السوري «المتخلّف» الذي «ليس جاهزاً» بعد للتغيير السياسي.

ترجمة: الجمهورية

موقع الجمهورية

———————————

الثورة السورية في آذارها العاشر/ عمر الشيخ

نضج جيل كامل من السوريين على الشّتات والصراع غير المتكافئ، بين الشعب والسلطة العسكرية التي تحكم في بلدهم، فآخر ما يهمّ النظام سلامة الأراضي ووحدتها، كرامة المواطن وحريته. .. ومنذ نفض السوريون عن أكتافهم عبودية بيت الأسد، كنّا نقدّر، آنذاك، أن الحوار سيكون بين الدبابة والصرخات، وأن النداءات والشعارات سوف تردّ عليها الطائرات الحربية.

تشتّتّ الشارع، القادم أساساً من بنية اجتماعية متنوّعة ومعقّدة، حرص نظام الأسد على تقوية تفكّكها وزرع الفوارق الاجتماعية في مفهوم المواطنة بين أبناء الشعب الواحد، بداية من ترتيب الأرقام “الوطنية” بنماذج مفتاحية على البطاقة الشخصية للسوريين، وكتابة مكان قيد نفوسهم، وصولاً إلى الفرز والتصنيف المباشر، وفق المناطقية والطائفة، منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث تحمل كل منطقة في سورية، تقريباً، هوية طائفية، كان قد أمعن نظام حافظ الأسد في إبرازها حسب الموالاة والمعارضة، وتوزيع الامتيازات الاقتصادية اعتماداً على الطبقية الاجتماعية والولاء للنظام.

هل كان للبلاد أصلاً فرصة لتكون في بنية دولة مدنيّة، ودولة مؤسسات وقانون وعدالة؟ ربما. ولكن سورية لم تشهد بعد الاستقلال، أواخر أربعينيات القرن المنصرم، سوى بضع سنوات من الحرية والعمل السياسي، قبل أن يتداول الحكم فيها جنرالات الانقلابات ثم تجربة “الوحدة” مع مصر، والتي توّجت دكتاتورية حزب البعث داخل الجيش في سورية، بعد إقصاء كل الأحزاب السورية وحلّها بحسب شرط الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من أجل “الجمهورية المتحدة”!

وطوال عقود، إذا استُثنيت تجربة الرئيس الراحل شكري القوتلي، لم تخرج سورية من البيت العسكري للحكم، وكلما كانت الولاءات الدولية والقبضة الحديدية لتلك الأنظمة أكثر عنفاً، قُدّمت لها الضمانات بالاستمرار لتبقى البلاد في تخلّف سياسي وفكري وثقافي وعلمي على مستوى المنطقة، مع حساب القرب الجغرافي لوجود الاحتلال الإسرائيلي على الحدود وتهديد وجوده بأي شكل.

لقد تبلورت في المخيلة فكرة أن “الجيش هو القائد والقائد هو الجيش”، منذ وعينا في المدارس. كان للتدجين الاجتماعي والحفاظ على القطيع دور أساسي في الأولويات “التربوية” خلال فترات الطفولة والمدارس والجامعات، كما فعلت الأنظمة الشمولية عبر التاريخ، إذا كُنتَ تريد القضاء على حرية مجتمع وسلب إرادة أفراده، عليك بتحويل المناهج التعليمية إلى منصّات لإدارة عقول الأطفال، ليكونوا قنابل موقوتة في خدمة القتل الذي تسميه الأنظمة “ولاءً”، إنما هو قتلٌ ذاتيٌّ لشخصية الإنسان، لحرية أفكاره، لمقدّراته ومهاراته وطموحاته.

وكان نظام الأسد الأكثر “براعة” في قتل السوريين، قبل ولادتهم حتّى، فدفع بهم إلى حروبه الداخلية ضد المعارضة، على اختلاف توجهها، وشيطن كل من تسوّل له نفسه التفكير خارج “منظومة البعث” وشعارها “إلى الأبد .. إلى الأبد يا حافظ الأسد”. ولن تكفي سنوات قليلة للقضاء على فكرة “الأبد” تلك. وتدرك مقاتلات جيش الأسد، الجوية، أنها وجدت لتردع كل أنواع الرفض الاجتماعي لسلطة الدكتاتور، فتزيل بسهولةٍ سلطة الأمر الواقع، الدموية، قرى ومدناً ومناطق عن الوجود، كما حدث في عقاب مدينة حماة في فبراير/ شباط 1982، بسبب تمرّدها وصدام حافظ الأسد مع جماعة الإخوان المسلمين.

كان أحد العاملين في التلفزيون السوري، زميل للكاتب، يردّد باستمرار “ما يتم تدميره الآن ليس سورية، إنما سورية الأسد”، قبل أن تخفيه مخابرات “الأمن السياسية” الأسدية، تحت الأرض بالفعل، كان الردّ الواضح على الثورة السورية “الأسد أو نحرق البلد” وقد تم تنفيذ الشعار بدقة، عمل عليه نظام الأسد عقودا، ونفذه في السنوات العشر الماضية.

في المقابل، حاول الشارع تنظيم صفوفه، بضعة أشهر. نشط الحراك الشعبي في كل مدن سورية، واستغربت سلطة الأسد من الانتفاضة، وردّت بمزيد من القتل، فكانت عسكرة الثورة، بداية للدفاع عن المظاهرات، ثم تحوّلت إلى مفهوم إسقاط المدن وطرد الموالين وعسكر الأسد. وليس المقام هنا الخوض في الفصائلية وطبيعة تلك التنظيمات العسكرية المحسوبة على الثورة، والتي كانت تدير المدن من دون دراية كافية، ولن تقارب المقالة نقدياً مدى فهم الأيديولوجيات ومدى تجربتها المتواضعة، في قيادة الحراك الشعبي، إنما سوف تقول إنها كانت فرصة ذهبية للنظام وحلفائه الدوليين لجرّ الناس إلى ملعبه: السلاح.

هل أدرك السوريون أن أغلب قطاعات الجيش وكل مخابراته هي من طائفة الطاغية؟ وأنه من المحال تحطيم ذلك كله ببضع بندقيات ودبابات؟ فيما يملك النظام، الجو والطائرات وعدداً من الأوراق السياسية والمعيشية، التي يحرّكها في الداخل والخارج، ليثبت أنه قادر على التدمير، وقبل كل شيء تدمير السوري أولاً، والتفاهم مع إسرائيل ثانياً ودائماً.

لاحقاً، جرّت حرب النظام ضد الشعب السوري، دولاً وجيوشاً، لتقتسم حصتها من الدعم، وتغيير موازين القوى واستغلال حالة التشقق الاجتماعي، والحاجة إلى أي سند خارجي مهما كان الثمن، فدخل الجميع من دون استثناء، كما نشهد اليوم، إلى “حربٍ إقليمية” أصبحنا مجرّد أدوات فيها أو بيادق! وحالت تلك “الحرب” دون الرغبة بالثورة على الطغيان إلى الرغبة بالتخلص من الاحتلالات والمليشيات الكثيرة، المقيمة على قطاعاتٍ جغرافيةٍ منفصلة من “سورية الأسد”.

خلاصة القول إن السوريين في الخارج الآن، قد يحملون في عقولهم فكرة أن العودة إلى بلادهم باتت شبه مستحيلة، وأن ثمن الحرية كان الصراخ بداية ضد الظلم، ثم تحوّل إلى فرصةٍ اجتماعيةٍ للبحث عن الذات والحقوق، كانت ثورةً من أجل الذات السورية المكتومة عقودا طويلة، وها هي اليوم بعد عقد من الثورة تقول كلمتها، وترفض الطغيان، وتبذل الجهود والأرواح من أجل الخلاص السوري – السوري، وليس إلّاه سبيلاً، على الرغم من الجيوش المتقاتلة على أرضنا وضد وجودنا.

وفي الداخل، يعاني ملايين الناس من أمر الخضوع لسلطة القوي والإفقار المعيشي وتحميل الشارع أعباء العقوبات الدولية على النظام. وبالتالي، توكيل جمهور الموالين والرماديين ومن سواه، بالرد على الثورة السورية ومن تبنّاها وقاتل من أجلها من دون أجندات خارجية، ليعتبروه مسؤولاً عما وصلوا إليه من غلاء وإذلال، على الرغم من هدوء وتيرة المعارك في قطاعات كبيرة من البلاد!

وعلى كلا الجانبين، في الداخل والخارج، يغيب الوعي السياسي وإدراك الحقائق لدى شريحة كبيرة من السوريين، سواءً في مناطق سيطرة الأكراد أو مناطق سيطرة المعارضة أو مناطق سيطرة النظام، ويمكن أن يضاف هنا إنها مناطق تحت وصاية دولية لكل حليفٍ يدعم قطاعاته على الأرض، والسبب الأساسي لذاك الغياب مرور عقود على الطغيان وتجذّره بقوى في بنية المجتمع السوري. وإذ يعوّل السوريون من كل بقاع الأرض إنما يعوّلون على الوعي والتفكر الذي منحتهم إياه هذه الثورة، وأعطتهم ثقته تلك الأرواح والدماء المبذولة من أجل حرية البلاد وخلاصها من هذا الطغيان العميل.

العربي الجديد

————————–

عشر سنوات على ثورة سوريا السلمية: رزان زيتونة… وجه الثورة السورية المُغيّب

نضالها ضد الظلم خلق لها أعداء كثر على عدة جبهات: عند النظام السوري وبعض فصائل المعارضة المسلحة. بعد عشر سنوات على الثورة السورية، أنجزت وحدة التحقيق الاستقصائي التابعة لمؤسسة دويتشه فيله التحقيق التالي حول الاختفاء الغامض للناشطة رزان زيتونة من منطقة كانت تحت سيطرة المعارضة السورية.

وجه رزان زيتونة كان مشعاً وهي وسط المحتجين. أخذها الحماس الثوري عندما انضمت لجموع الهاتفين ضد النظام السوري.

وعندما انطلقت شرارة الثورة، كانت رزان وكأنها تنتظرها طوال حياتها، فقد كانت من بين أوائل النشطاء السوريين الذين طالبوا الحكومة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وذلك في رسالة مفتوحة نُشرت بعد يوم من اندلاع الاحتجاجات الشعبية في الخامس عشر من مارس/ آذار عام 2011.

آنذاك، قالت رزان في مقطع فيديو: “نحن نواجه واحداً من أكثر الأنظمة وحشية في المنطقة والعالم بمظاهرات سلمية، وأغاني الحرية، وهتافات من أجل سوريا جديدة. أنا فخورة بكوني سورية وكوني جزءً من هذه الأيام التاريخية، وبذلك الشعور بالعظمة في شعبي”.

لكن ذلك لم يكن كافياً، إذ انخرطت المحامية البالغة من العمر آنذاك 33 عاماً في تنظيم الاحتجاجات في دمشق ومدن أخرى في البلاد. جهودها ساهمت في إنشاء لجان التنسيق المحلية، والتي كانت مكوناً أساسياً في الديمقراطية السورية الناشئة آنذاك.

معارضة رزان للمقاومة المسلحة ميّزتها عن الكثير من أقرانها، الذين قام بعضهم بعد ذلك بدعم العنف المنظم ضد النظام.

حول ذلك، يقول مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وهو الذي كانت تربطه برزان صداقة مديدة: “أهم ما يميز شخصيتها كان رفضها للظلم واستعدادها للقيام بأي شيء لمحاربة الظلم. لم يكن لرزان أي طموح بالوصول إلى السلطة”.

بذور ثورة

حتى قبل أن تتصدر هي وغيرها لقيادة الحراك الثوري في سوريا، كانت زيتونة محامية لحقوق الإنسان، ومدافعة صنديدة عن الفئات الأقل حظاً والمهمشين والأكثر عرضة للتهديد من قبل الأجهزة الأمنية الوحشية لنظام بشار الأسد.

وفي آخر مقال لها قبل اختفائها، كتبت زيتونة تقول: “حقوق الناس ومعاملتهم بشكل عادل ليس أمراً خاضعاً للتفسير والنقاش، وليس وجهة نظر”.

وفي قضية حصلت منتصف العقد الأول من القرن الحالي، أطلقت السلطات السورية حملة ممنهجة تستهدف السلفيين، شملت سجنهم لفترات طويلة بتهم ملفقة. كانت تلك حملة أمنية لم يُسمح لأحد بالحديث عنها، حسب ما يتذكر نديم حوري، مدير مبادرة الإصلاح العربي، وهو صديق أيضاً لرزان زيتونة. ويضيف حوري: في ذلك الوقت، رتبت رزان لقاء سري لي في مكتبها مع أمهات المعتقلين. لقد قامت بمخاطرة كبيرة من أجل شخص لا تعرفه بشكل جيد، ولكنها أرادت أن تنشر القصة وكانت مستعدة للمخاطرة بحياتها من أجل ذلك”.

اختفاء رزان وزملائها يبقى أحد أكثر الألغاز غموضاً في الثورة السورية. وبالنسبة لمازن درويش، الذي قام بتأسيس مركز توثيق الانتهاكات مع رزان، فإن اختفاءهم يأتي بالتوازي مع اختفاء الحركة الداعمة للديمقراطية في سوريا.

“شاهدة” على هجوم الكيماوي

لكن أكثر ما عُرفت به رزان زيتونة كان توثيقها لانتهاكات حقوق الإنسان. ففي أبريل/ نيسان عام 2011، بعد شهر واحد على المظاهرات ضد بشار الأسد، شاركت زيتونة في تأسيس مركز توثيق الانتهاكات، الذي ما زال يعمل حتى اليوم.

وجدت رزان أنها لم تكن تستطيع أن تواصل نشاطها في دمشق بسبب ملاحقة أجهزة الأمن والمخابرات لها. وفي مايو/ أيار عام 2011، اعتُقل زوجها من منزلهما واحتُجز ثلاثة شهور. وبسبب ذلك، تخفت رزان عن أعين السلطات لمدة عامين.

قررت زيتونة الفرار من دمشق إلى دوما عام 2013 بسبب الضغط المستمر على عملها في العاصمة السورية. تم تهريبها إلى معقل الثوار السوريين على تخوم العاصمة، وكان ذلك آخر مكان معروف لها.

استمر مركز توثيق الانتهاكات في تقصي جرائم الحرب، مثل الهجوم بالأسلحة الكيماوية في أغسطس/ آب عام 2013 في الغوطة الشرقية، والذي وثقته رزان وزميلها ثائر هـ. وسقط نحو ألف ضحية جراء الهجوم، من بينهم أكثر من 400 طفل، بحسب مصادر مستقلة.

كتبت رزان آنذاك: “كنت شاهدة على المجزرة. رأيت جثث رجال ونساء وأطفال في الشوارع. سمعت صراخ الأمهات عندما وجدن جثث أطفالهن بين الموتى”.

استقبال عدواني

شكل وصول رزان زيتونة إلى دوما تحدياً للبعض، فقد أدركت وزملاؤها بسرعة أنهم ليسوا موضع ترحيب، وذلك بسبب توثيقها لانتهاكات حقوق الإنسان على يد فصائل المعارضة المسلحة، بما فيها الفصائل الإسلاموية.

في مايو/ أيار 2013 كتبت زيتونة في رسالة بريد إلكتروني لنديم حوري، الذي عمل في السابق في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، قائلة: “لم نقم بثورة ونخسر آلاف الأرواح كي يقوم هؤلاء الوحوش بتكرار نفس تاريخ الظلم … يجب أن يُحاسب هؤلاء كما يُحاسب النظام”.

طوال عام 2013، شهدت دوما صراعات بين الفصائل المسلحة للسيطرة عليها، بما في ذلك تنظيم “الدولة الإسلامية”، و”جبهة النصرة”، و”جيش الإسلام”، الذي تمكن من إحكام قبضته على المنطقة إما من خلال احتواء منافسيه أو القضاء عليهم.

بحلول صيف ذلك العام، أصبحت زيتونة مستهدفة بسبب نشاطها. لكن رفضها ارتداء الحجاب أو الالتزام بالقيم الدينية المتشددة تسبب في ردود فعل عدوانية أيضاً من بعض الجماعات المسلحة. ففي إحدى المرات، أطلق مسلحون النار في الهواء وتركوا رصاصة على عتبة منزلها. وفي مرة ثانية، تلقت رزان رسالة تهديد حصلت مؤسسة دويتشه فيله  على نسخة منها. الرسالة حوت عبارة “سأقتلك” خمس مرات. قامت  دويتشه فيله بالحديث مع عدة مصادر فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم لأسباب أمنية، وكلهم أجمعوا على أن الرسالة جاءت من عضو في “جيش الإسلام”.

ويقول ثائر، زميل رزان في مركز توثيق الانتهاكات: “لقد أنشأت مبادرات للنساء وبدأت في توثيق الانتهاكات في سجون المعارضة وأماكن أخرى … كل ذلك جعلها خصماً لجيش الإسلام ونفوذه وأيديولوجيته ورغبته في تأسيس إمارة أو خلافة إسلامية”.

اختفاء بلا أثر

في ديسمبر/ كانون الأول عام 2013، قام مسلحون باقتحام مكتب رزان زيتونة في دوما واختطافها، بالإضافة إلى زوجها وائل حمادة وزميلها ناظم حمادي والناشطة السورية سميرة الخليل. بعدها عُرفوا باسم “رباعي دوما” عقب اختفائهم القسري.

أقارب الرباعي وزملاؤهم قاموا بتقديم شكوى قضائية في فرنسا ضد جيش الإسلام، الذي حملوه مسؤولية اختطافهم. على إثر ذلك، تم اعتقال قيادي في التنظيم المسلح على صلة بالقضية، وحصلت DW على حق وصول حصري إلى أهم استنتاجات القضية.

وتؤكد شهادات العيان التي جمعتها وحدة التحقيق الاستقصائي التابعة لمؤسسة دويتشه فيله  في تركيا وسوريا بعض تلك الاستنتاجات، وتشير بشكل قوي إلى أن رزان زيتونة ربما كانت في قبضة مسلحين إسلامويين ينشطون في دوما بعيد اختفائها.

وفي سؤال من وحدة التحقيقات الاستقصائية  عن ذلك، رفض قياديون في “جيش الإسلام” هذه الاتهامات، وأنحوا باللائمة على جبهة النصرة، المرتبطة بتنظيم القاعدة الإرهابي، أو على  نظام الأسد.

اختفاء رزان وزملائها يبقى أحد أكثر الألغاز غموضاً في الثورة السورية. وبالنسبة لمازن درويش، الذي قام بتأسيس مركز توثيق الانتهاكات مع رزان، فإن اختفاءهم يأتي بالتوازي مع اختفاء الحركة الداعمة للديمقراطية في سوريا.

ويقول درويش: “إن مصير رزان وزملائها يشبه مصير الحركة المدنية السلمية التي حاولت أن تخلق بديلاً أخلاقياً في سوريا. لقد تم سحقها ما بين النظام وتلك الجماعات (الإسلاموية)، التي لا تعدو كونها قمعية أيضاً”.

كتاب وكاتبات التحقيق: لويس ساندرز، بريغيتا شولكه-غيل، وفاء البدري، يوليا باير/ ي.أ

حقوق النشر: دويتشه فيله 2021

ملاحظة المحرر: وحدة التحقيقات الاستقصائية في DW ما تزال تحقق في اختفاء رزان زيتونة وزملائها. إذا كانت لديكم أي معلومات تؤدي إلى معرفة مكان تواجدهم أو ظروف اختطافهم، يمكن إجراء اتصال آمن على هذا العنوان  DW.tips@protonmail.com

 ————————–

تفكير بشأن ما بعد الثورة/ صادق عبد الرحمن

ليس انتصار الأسدية مضموناً حتى اللحظة، ولهذا بالتحديد يعتبر كثيرون أن الثورة السورية لم تُهزَم بعد. لكننا لا نستطيع اليوم أن نتصوّر وقائع تكون الثورة قد انتصرت حال وقوعها، في حين أن هناك أوضاعاً ممكنة تنتصر فيها الأسدية، يمكن تلخيصها في أن تستعيد قوات النظام السيطرة على كامل البلد عبر اتفاقات أو بالقوة، وتستعيد الدولة السورية علاقات معقولة مع العالم على المستويات السياسية والاقتصادية، مع بقاء الأسديين في السلطة. لا تحتاج الأسدية إلى انسحاب القوات الأجنبية واستعادة سيادتها على الأراضي السورية كي تستكمل انتصارها، ذلك أن انتصارها هو استعادة هيمنتها على حاضر السوريين ومستقبلهم، استعادة الأبد الأسدي الذي حطمه السوريون بلحم أجسادهم.

ليس كافياً أن يتم إجبار بشار الأسد وعائلته على التنحي للقول بانتصار الثورة اليوم، وإن كان كافياً للقول بهزيمة الأسدية. ليس كافياً، لأن الثورة السورية عندما قامت عام 2011 كانت تهدف إلى إسقاط النظام واستبداله جذرياً بآخر يقوم على أُسس ديمقراطية. هذا كان الهدفَ المُعلنَ المتّفق عليه بين المشاركين في الثورة، وقد بات تحقيقه مستحيلاً في المدى المنظور، حتى أن أقصى ما يمكن أن نأمله اليوم نظامٌ انتقاليٌ برعاية دولية، تتقاسمه قوى متعددة من بينها طبعاً بعض تشكيلات الأسدية السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، وجميع هذه القوى لديها سجلات إجرامية، وليس بينها قوة واحدة تتجاوز الديمقراطية عندها حدود العبارات التي تُكتَب في البيانات الرسمية. سيكون على السوريين الراغبين في نظام يقوم على أسس ديمقراطية أن يستأنفوا الكفاح في مواجهة النظام الجديد، والأرجح أنه سيكون كفاحاً بالغ الصعوبة ومفتوحاً على احتمالات دموية، يَسعُنا فقط أن نأمل أنه سيجري في ظل حدٍّ أدنى من دولة القانون، وحدٍّ معقول من الاتفاق على تجريم وتحريم القتل والتعذيب والتغييب.

وقد صعدت إلى قيادة الطور المسلّح من الثورة قوى إسلامية، بعضها سلفي وحتى قاعدي التوجهات، على نحو يدفع إلى التشكيك في مدى جدية الاتفاق على الديمقراطية خلال أطوار الثورة الأولى. لكن مع ذلك، فإنه حتى نهاية الطور المسلّح من الثورة، أي حتى الهزيمة العسكرية التي اكتملت في وقت ما بين أواسط 2016 وأواسط 2018، بقي الرجاء معقوداً عند قطاع عريض من السوريين على أن سقوط الأسدية يمكن أن يقود إلى تأسيس نظام سياسي يحتوي بُعداً ديمقراطياً صالحاً للتأسيس عليه، على نحو كان يسوّغ القول بانتصار الثورة. اليوم، لم يَعُد ثمة مسوِّغات معقولة للقول بأن تنحية بشار الأسد تعني انتصار الثورة، ولا للقول بأن ثورة 2011 مستمرة، إلّا في كلام شعري أشبه بالغيبيات والأساطير، من قبيل القول إن المعركة بين الحق والباطل مستمرة إلى يوم يبعثون. هذا ليس قولاً سياسياً، وهو لا ينفع في شيء إلا في شحذ الهمم.

وقد يقال أيضاً إن الثورة لم تُهزَم باعتبار أننا نعيش عملية ثورية تاريخية بدأت عام 2011، لها مراحل ومحطات وموجات، ولا يصحّ على ذلك القول بهزيمتها، ذلك أننا أمام فشل الموجة الثورية الأولى في إنجاز أهدافها فقط. يملك هذا القول قليلاً أو كثيراً من الوجاهة، خاصة إذا ما تأملنا في ما بدأ في الفضاء الناطق بالعربية عام 2011 ولا يزال مستمراً على شكل موجات متتابعة، أحرزت انتصارات هنا وإخفاقات وهزائم هناك، لكن هذا لا يغير شيئاً من حقيقة أن ثورة 2011 في سوريا هُزمت، أو فشلت في إنجاز أهدافها، أو أصبحت من الماضي، وأن ما نعيشه وسنعيشه في السنوات القادمة هو من آثارها وارتدادتها ونتائجها، سلباً وإيجاباً، لكنه ليس استمراراً خطّياً لها.

القول الواضح والمباشر بأن ثورة 2011 باتت من الماضي لا يهدف إلى تعذيب الذات ولا إلى استبعاد الأمل، بل إلى أن نرى واقعَنا بعيون مفتوحة، وأن نتدبّر في أساليب ممكنة لتغييره؛ أي من أجل سياسة الأمل. ولعلّ مصطلح الهزيمة يكون بالغ القسوة على النفس، خاصة عندما يُقال وفي وجدانِ قائلِه مئاتُ آلاف الشهداء والضحايا والمُغيَّبين والمُعتقَلين والمُعذَّبين، وملايين المهجَّرين والنازحين واللاجئين: هل يُعقَل أن يكون كلّ هذا من أجل لا شيء؟

فلنتحدث عن «ما بعد الثورة» إذن، بدل الحديث عن الهزيمة.

نحتاج إلى التفكير في إطار «ما بعد الثورة» لأن الانحباس في تصوُّرات عن ثورة واحدة مستمرة يعني انحباساً في زمن مضى، انحباساً في شعاراته وأدواته وتحالفاته ورؤاه، وانحباساً في فشله وفي أسباب هذا الفشل. والأهم أنه يعني انحباساً مع مؤسسات تابعة ليس لديها أبعاد تحررية من أي نوع، مثل الائتلاف وحكومته المؤقتة، ومع تشكيلات إجرامية مافيوية، مثل تلك التي تستبيح عفرين وأهلها، ومع فاشيات دينية مثل هيئة تحرير الشام. كيف يكون التعويل على انتصار الثورة اليوم تعويلاً على شيء غير انتصار هؤلاء؟ هل يمكن أن ينتصر هؤلاء أصلاً على الأسديين؟ وهل يمكن أن يكون انتصارهم انتصاراً لأي قيمة إيجابية حملتْها الثورة السورية؟

وليس القصد هنا أن ما بقي من الثورة السورية هو هؤلاء فقط، بل بقيت أشياء أخرى كثيرة، لعلّ أبرزها تجربة كفاحية استثنائية خاضها عشرات آلاف الناس، ومواصلة كثير من الثائرين والثائرات حياتهم وكفاحهم الفردي والجماعي مستنِدين إلى إرث الثورة وأحلامها. لكن غاية القول أن إطار ثورة 2011 لم يعد صالحاً لتعريف الذات ولا لصياغة التحالفات ولا لاختيار الاصطفافات، بل بتنا نحتاج أُطُراً أخرى لاستئناف الكفاح ضد الأسدية على نحو يكون فيه كفاحاً معلوم الأهداف، بما يتجاوز هدف الخلاص من قاتل متوحش هو بشار الأسد. سيكون الخلاص من بشار، بأي صيغة كانت، خبراً عظيماً ولحظة احتفالية مهيبة دون شك، وهو ممرّ ضروري لا بدّ منه إذا أردنا أن نتصور بلداً صالحاً للعيش والتقدّم في العقود القادمة، لكننا نحتاج اليوم أن نتحالف ونصطفّ حول قيم ومبادئ مشتركة، لا حول لحظة ماضية وذكرى آفِلة وهدف لم يَعُد يعني أشياء كثيرة في ذاته، وفوق ذلك بات تحقيقه مستحيلاً بقوى سورية. هل هناك من يشكّ في أن رحيل الأسد، إن تحقّق اليوم أو في المدى المنظور، إنما يتحقق بإرادة دولية لا تأثير تقريباً لأي سوريين عليها؟

أتحدّث هنا عن الأفكار النظرية الأيديولوجية التي أقصيناها طويلاً من أجل هدف مشترك هو إسقاط النظام، وعن القيم السياسية ذات البعد الأخلاقي اليومي. ما المعنى من استمرار اصطفافِ مَن يؤمن بحرية الاعتقاد والتعبير، إلى جوار من يرى وجوب معاقبة المرتدّين والمجاهِرين بالكفر؟ ما المعنى من اصطفافِ مَن يؤمن بالمساواة بغض النظر عن الجنس، إلى جوار من يدافع عن تحكُّم الرجال بالنساء؟ ومن اصطفافِ مَن يؤمن بحق الناس جميعاً في امتلاك أجسادهم، إلى جوار من يرى ضرورة تحكُّم السلطة بالأجساد بذريعة الدين أو قيم المجتمع والأسرة أو غيرها؟ ومن اصطفافِ مَن يطالب بحكم القانون واستقلال القضاء وشفافيته، إلى جوار من يجد مبرِّرات للتعذيب والتغييب والقتل؟ ومن اصطفافِ مَن يطالب بالديمقراطية، إلى جوار من يطالب بتحكيم الشريعة أو من يحرس بالسلاح شعاراته السياسية ومشاريعه التسلُّطية وصور قادته؟

أتحدّث أيضاً عن ضرورة تجاوز المنطق الائتلافي في العمل السياسي السوري المُعارِض، وتجاوز ما تركه من آثار على مستوى الثقافة السياسية، وعلى مستوى التمثيل السياسي، على ما يشرح ياسين السويحة باستفاضة. وبدلاً من المنطق الائتلافي الذي كان ابناً شرعياً لظروفه ومرحلته، آن أوان التفكير في تحالفات على أهداف وبرامج سياسية معروفة ومتفق عليها، لا ترمي جانباً كل شأن خلافي، مهما بلغت أهميته، من أجل الحفاظ على ائتلافات وتحالفات لم يعد منها فائدة سياسية تُرتجى. لم يَعُد مهمّاً أن نتحالف أو نأتلِف، بل الأكثر أهمية اليوم هو: على ماذا نتحالف؟ ولماذا نأتلِف؟ وطبعاً لا أعني ضرورة أن يكون التحالف بين متطابِقِين في كل شيء، بل أن يكون التحالف حول قيم معروفة جرى نقاشها علناً، ودون رمي المسائل الخلافية خارج السياسة والنقاش. هذا على أي حال كلام في التحالفات السياسية وكيفية عقدها، وللقول فيه مقام آخر.

كذلك أتحدّث عن ضرورة التفكير في جيل من السوريين والسوريات، ربما يبلغ عددهم الملايين، وسيكونون عماد البلد وقوته العاملة خلال العقدين القادمين، وقد تجاوزوا ويتجاوزون سنّ الطفولة منذ العام 2014، ولم يعرفوا شيئاً عن ثورة 2011 سوى أنها جاءت بعدها الحرب والدماء والتدمير، وجماعات مسلحة تفعل أشياء لا تختلف كثيراً عمّا يفعله النظام. كيف نتحدّث إلى هؤلاء اليوم؟ هل تصلح شعارات 2011 واصطفافاتها في مخاطبتهم؟ ألا نحتاج أن نقول لهم رأينا في كيف يمكن أن تصير حياتهم أفضل؟ ليس رحيل بشار الأسد جواباً كافياً على هذا السؤال على الإطلاق.

في زمن ثوري مضى، عندما خرج الملايين إلى الشوارع مُطالِبين بحقهم في امتلاك المصير والمشاركة السياسية، ردّ وحش الأسدية المنفلت بكل ما أوتي من سلاح وقدرة على القتل، وكان لا بدّ من خوض المواجهة مع شياطين الموت بأعلى قدر ممكن من الاتحاد. كنا نحتاج التكاتف في مواجهة النظام وحلفائه والباحثين عن أعذار له أو مبررات لأفعاله، بمن فيهم أولئك الذين ما برحوا منذ بانت تباشير المذبحة يمعنون في تحميل المسؤولية عنها لخصوم مرتكبيها. هذه طبائع الأزمان الثورية ومقتضياتها، لكن الزمن الثوري انقضى، ومن أبواب الوفاء له أن ندعه ينقضي بسلام وأن نودعه وداعاً كريماً لائقاً.

لم يكن مشهد عفرين، بالتزامن مع سقوط الغوطة ربيع 2018، وداعاً كريماً ولا لائقاً بحال.

نحتاج «ما بعد الثورة» من أجل كرامة الثورة وذكراها قبل أي شيء آخر، ومن أجل أن نصون بعضاً من أفضل وأكرم ما بقي منها: تراث كفاحي عظيم، ودروس يمكن أن نستفيد ويستفيد منها العالم كله، وشبكات من التضامن والتكاتف يمكن صيانتها والاحتماء بها والاتكاء عليها، وآلاف مؤلفة من السوريين والسوريات الذين تغيروا وتحرروا وامتلكوا مصائرهم. نحتاج إلى ما بعد الثورة من أجل صيانة هذا الإرث، وأيضاً كي لا تكون تضحيات الشهداء والجرحى والمعتقلين والمغيَّبين والمهجَّرين والمنكوبين من أجل لا شيء. إذا كنا متفقين على أن ثوار وثائرات 2011 قدّموا تضحياتهم من أجل الوصول بسوريا وأهلها إلى حياة أفضل، فإن الوفاء لهذه التضحيات لا يكون بتكرار شعاراتهم وأساليبهم وخطابهم إلى الأبد، بل في السعي إلى ألا يتكرر كل هذا؛ في العمل على إنتاج خطاب وشعارات وأساليب واصطفافات جديدة تحول دون تكراره.

نحتاج أن نلتفّ حول ما نؤمن به من قيم وأفكار لاستئناف كفاحنا من أجل حياة أفضل. وتزداد حاجتنا إلى التفاف كهذا لأن تحطيم بلدنا وثورتنا وحياتنا ليس شأناً سورياً خالصاً. في مصيرِ بلدنا تتكثّف صورة عن العالم وسياسات القوى التي تحكمه، وفي مواجهة هذه القوى وسياساتها نحتاج أن نُكسِب كفاحنا أبعاداً عالمية. يكاد العالم كله يحضر في سوريا عسكرياً وسياسياً، فيما يكاد شتات السوريين يحضر في العالم كلّه أيضاً. هذه كارثة، لكنها في أحد وجوهها فرصة لأن نكون فاعلين في العالم ومؤثرين في مصيره خلال العقود القادمة، ولن يسعفنا الانحباس في لحظة 2011 في اقتناص هذه الفرصة.

وليس الاعتراف بالهزيمة دعوة إلى الاستسلام بحال. الاستسلام هو القبول بأن الهزيمة والعيش تحت حكم القتلة واللصوص قدَر لا مفرّ منه، أما الاعتراف بالهزيمة، والتفكير ملياً فيها وفي ما أنتجته من ظروف، فهو شرط لازم لاستئناف الكفاح السوري من أجل عيش أكثر كرامة وحرية وعدلاً، بينما يُعيق الانحباس في ثورة 2011 هذا الاستئناف، إذ يصير معطلاً لاكتشاف مساحات الفعل الجديدة وإدراك معطيات اللحظة الراهنة. نحتاج، بكلمات أخرى، إلى تجاوز ثورة 2011 والذهاب إلى بناء القضية السورية على أُسُس أكثر اتّساعاً وجذرية، وهذا وحدَه ما يمكن اعتباره استئنافاً للثورة «بأدوات مغايرة وإيقاع مختلف ونطاق مختلف» على ما يقترح ياسين الحاج صالح؛ استنئافاً يصون كرامة ما انقضى من الثورة، ويضع ما بقي منها في سياق استمرار كفاح عموم السوريين.

لا يعني الحديث عن ما بعد الثورة القبول بالأسدية أو نُسَخها التافهة الصغيرة والكبيرة، بل يعني أن نستأنف كفاحنا بعقول مفتوحة على تغيُّرات الزمن، وقلوب مفتوحة على ذكرى الشهداء والضحايا وآلام الناجين، وعيون تُحدِّق دون أن ترمش في وجوه القتلة ورُعاتهم وحلفائهم وأتباعهم. يكاد يكون هذا كفاحاً بلا أمل، لكنه ليس كذلك، ونستطيع أن ننظر إلى 2011 كي نستعيد ثقتنا بأنه ليس كذلك. منذ عشر سنين، وقع المستحيل عندما حطّمت الحشود تماثيل الطاغية ومزَّقت صور وريثه وزلزلت أركان نظامه المخيف؛ نظامه الذي لم يفعل في مواجهة الحشود سوى ما يعرف أن يفعله: التعذيب والتغييب والقتل والمذابح وتوسيع نطاق الإبادة.

في مواجهة مُرتكِبي المذابح، وفي مواجهة سياسات دولية وأوضاع عالمية لم تمنع حدوث المذابح، لا نملك سوى الالتفاف حول قيم راسخة مشتركة تُعيننا على مواجهة الإبادة ومنطقها وأخلاقها.

موقع الجمهورية

—————————-

افتراسُ الثّورةِ السوريّة/ عبير نصر

منذ وصول بشّار الأسد إلى السّلطة، مرّت سورية بتحوّلاتٍ اجتماعيّة سياسيّة، وأخرى اجتماعيّة اقتصاديّة هائلة، ما سبّب تمزّقاتٍ طفتْ على السطح على نحوٍ مؤلم مع اندلاع انتفاضة عام 2011، إلاّ أنّه يصعب تحديدُ طبيعة تلك التحوّلات ومداها بما يلزم من الدقّة، فخلال حكم الأسد، وهو ابنُ حاكمٍ مستبدّ، كما هو وافدٌ حداثيّ متعّلم، كان التغيّرُ والاستمراريّة مترابطين على نحو معقّد، وما زال يصعبُ تعقبّهما وفهمهما، في وقتٍ حاولت الثورةُ فيه نسفَ المنظومة القيمية التي جذّرها النظام الحالي في المجتمع، لجعل كلّ النظم الأخلاقية للشعب السوري خاضعةً لمعاييرها، سيما بعدما انتشر فيه الوهنُ وضربتِ السلبيةُ أطنابها في نسيجه. وأهم القيم التي استهدفتها الثورة وكشفت زيفها هي القيم السياسية التي كرّسها النظامُ بالتخويف والترهيب، فقد أصبح المواطن يعرف أنّ الحريةَ تُنتزع ولا تُمنح، في مجتمعٍ أهليّ بطبيعته، تتداخل في مكوناته عصبياتٌ مختلفة الاتجاهات، فرض النظام فيه رؤيةً سياسية متخلّفة بالقوة، تضمن له البقاء والاستمرار، كما خلّف تركةً ثقيلةً من ظواهر الضعف في الوعي الوطني.

وكان من الصعب تغيير المجتمع السوري، أو تطويره، من دون أحداثٍ عظيمةٍ ترقى إلى مستوى انهيارات مجتمعية، هو الذي يرتبط بثوابت قوية، أبرزها المرتكزات الخطيرة التي رسمها حزب البعث، بمساعدةِ المدرسة الدينية التي رسّختْ أطرَ البيئة الاجتماعية الرافضة أيّة دعوى خارج مسلّماتها المقدّسة، محافظةً على أفكار التوحيد والتدين، ونبذ الحركات الداعية إلى أيّ فكرٍ خارج دائرة القيم المغلقة، فلم يُسجَّل أيُّ خروج قيمي أو أخلاقي في البيئة السورية، بأعدادٍ كبيرة أو ملفتة للنظر، في وقتٍ رعى النظام السوري في دمشق أكبر طفرة في بناء الجوامع، إضافة إلى إنشاء معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم. والأهم من هذا كلّه، أنه وبينما كان النظام يدّعي العلمانية، كان حريصاً في دستوره على النصّ أنّ دينَ رئيس الدولة هو الإسلام، وأنّ الشريعةَ الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، هذه البراغماتية أصرّت من موقعها في السلطة، على احتواء جمهور الإسلام الشعبي، عبر مؤسسات الإفتاء والأوقاف وخطباء الجوامع.

وأوّلُ ما تمخّض عن ثنائية الاستبداد الإقصائية آنفة الذكر انقسامُ المجتمع السوري على نفسه إبان الثورة السورية بين مؤيد ومعارض لها، وكانت المؤسسةُ الدينية قد أثرت لاحقاً على فرزِ كوادر الثورة، فمثلاً كان ظهورُ الجيش الحرّ مؤشّراً إيجابياً، ودلالة مهمة لتحرّر البيئةِ القديمة وانفلاتها من ثوابت النظام وتأطيراته، ومن مؤسساته السياسية والعسكرية، كذلك مدرسته الدينية، فمثّل نقلةً نوعية تجاه الانعتاق التحرّري. أما ظهور التنظيمات الجهادية الإسلامية المتطرفة، أهمها الدولة الإسلامية (داعش)، فقد مثّل نقطةً سلبية يمكن نسبها لبعض الرواسب العالقة من البيئة الاجتماعية السابقة، والمستمدة أساساً من المدرسة الدينية للنظام.

وبالتأكيد، عرف النظام جيداً أنّ آليةَ فصلِ الدين عن الدولة هي الهوّة السحيقة التي ستبتلع سلطته الثابتة، والتاريخ خير دليل، حيث عاشت المسيحيةُ الغربية صراعاتٍ دامية وانقساماتٍ مذهبية متعدّدة، قبل أن توقّع الإمبراطورية الرومانية المقدسة، في عام 1648، صلح وستفاليا، الذي أنهى حقبة الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك. وأهمية هذا الصلح أنه أرسى نظاماً جديداً في أوروبا، ما سمح لاحقاً بتطور أنظمة الحكم، والإدارة، والاقتصاد، بعيداً عن هيمنةِ النصّ الديني ومصالح الكنيسة. من هنا تأتي فرادةُ النموذج السلطوي في سورية الذي استطاع تسخيرَ كلّ شيء من أجل خدمةِ كرسيه المقدّس، وتحقيقِ ما يريده بغضّ النظر عن مصلحةِ المجموع. ولذلك كان من المتعذّر أن تتفهمَ السلطةُ مطالب السوريين، ما جعلها عاجزة بنيوياً عن أيّ إصلاح، لأنّ بنيتها لا يمكن أن تقبل ذلك، فهي ترى المواطنين مجرّد قطعانٍ مبرمجةٍ على السير وفق ما ترتئيه من خيارات، بدليل غيابِ مصطلح الشعب، مفهوما سياسيا وحقوقيا، عن خطاب السلطة لصالح مصطلح الجماهير الدوغمائي.

وبعد عشر سنوات على انطلاقِ الثورة السورية، والتي بدتْ، منذ البدايةِ، أشبه بديكورٍ باذخٍ في مسرحِ الوطن الفقير. وعلى الرغم من مآلاتها الراهنة، فقد نجحتْ بتعريةِ ثنائية الاستبدادين، البعثي والديني، فالأول دافع عن بقائه ضد الشعب من خلال إيجاد استقطاباتٍ مذهبية وإثنية ومناطقية، كما استقوى بدول ومليشيات ساهمت بتدمير المجتمع وبنى الدولة، فيما ذهب الإسلام السياسي إلى اعتماد الخطاب الطائفي والتقسيمي للسوريين، واستعان بقوى أشدّ تخلفاً ووحشية، في وقتٍ فشلت فيه آلافُ المنظمات والمؤتمرات في إحداثِ تأثيرٍ يتناسب مع حجمها وعددها وتمويلها، بل على العكس، أدى أغلبها إلى ترسيخِ المجتمع الأهلي ودعم البنى التقليدية القائمة. والحقيقة أنه بعد عام 2000، بدأت قوى معارضة تحاول مديَنَة المجتمع السوري. وعلى الرغم من جديّة بعض القوى، إلا أن كثيرا منها كانت تهدف، في جوهرها، إلى الدخولِ في النضال السياسي من بوابة المجتمع، غير أنّ كلّ تلك الأشكالِ الحداثية واللمساتِ الديمقراطية لم تغيّر من واقع ارتباطها بأشخاص لا يتغيّرون أبداً، أو تعود ملكيتها لعائلةٍ أو طائفةٍ أو جماعةٍ إيديولوجية. وعلى الرغم من أنّ للظروف الموضوعية التي مرَّ بها السوريون عموماً دور كبير في ذلك الفشل، إلا أنّ إشكالاتٍ ذاتية في بُنى تلك المنظمات وطبيعتها أدّتْ إلى تأكيد ذلك الفشل، وفتحِ الباب واسعاً أمام التيارات الارتدادية، فالمجتمع المدني ليس بهياكل منظمات قائمة، مثل اتحاد العمال والاتحاد النسائي، وغير ذلك من المؤسسات، والنقابات، والاتحادات، التي تلبس بهتاناً لبوساً حداثياً، ولم تتشكّل استجابةً للتحديات التي واجهت المجتمع السوري، بل كان تشكيلها سلطوياً فوقياً. وبالتالي لم تكن تلك المنظمات سوى كانتونات هزيلة، مهمتها تدعيم سلطة الاستبداد، وتحويلها إلى مداجن لتفريخ (الشبيحة) عند الحاجة.

مع هذا، كسرت الثورةَ احتكار “البعث” الحياة السياسية، كما ابتلعتْ شعاراتُها رهبةَ مؤسسات الروتين والبيروقراطية الحكومية، وحرّكتْ حسّ المسؤولية المجتمعية. ويمكن القول إنّ مساحةَ المشاركة التي توفّرت للسوريين في المؤسساتِ المدنية أو السياسية، إضافة إلى التخلّص من مخاوف الحديث في السياسية، أوجدت حالةً من التحرّر النفسي. ولم يعد بالإمكان الاستغناء عنها، بعد انفتاحِ الأفق السياسي وخروجِ المسكوت عنه، والمخبوء تحت قشرةٍ واهيةٍ من التفاهمات الموهومة. واليوم، يجب أن يدركَ الشعبُ السوري أنه يعيش مرحلةَ ما بعد الثورة، أيّ مرحلة الفوضى التي تعقب كل الثورات، وبالتالي مسؤولية النخب والمواطنين السوريين تكمن في الذهابِ مباشرة إلى إعادةِ تأسيسِ عقدٍ اجتماعي جديد، وليس إيجاد نظام حكمٍ مشوّه قائم على فكرة التشاركية بين المعارضة والنظام، بعدما تحوّل الوطنُ إلى مجرّد مسرحٍ يسمح للسلطات المتوحشة باستعراض قوتها، وسرد خرافاتها، عن طريقِ استعمالِ الوعود تارة، والوعيد تارة أخرى.

وفي الحقيقة، مأزق عسكرة الثورة السورية كان القشّةَ التي قصمتْ ظهرَ الحلم السوري، بينما نجح النظام، إلى حدّ كبير، في استدراج قوى كثيرة إليه من منطلقِ الدفاعِ عن الذات. وبالتالي، تبريرِ مزيد من القمعِ والعنفِ من جانبه، ومنحِ كلّ الذرائع والمسوغات لاستخدامِ ترسانته العسكرية الضخمة، في قتل شعبٍ أعزلٍ نفض عن أكتافه غبار الذلّ والصمت، وثار لأجل كرامته المهدورة منذ عقود خمسة. ومعروفٌ، في الأدب السياسي، أنّ الثورات يصنعها الشجعان، في حين يحصد ثمارها الانتهازيون والجبناء. ولهذا، ينبغي القبول بواقع أنّ الثورةَ السورية ستبقى رهنَ الاستلاب، ومعرّضة للقرصنة حتّى في لحظاتِ ذروة انتصارها.

العربي الجديد

————————

النسوية السورية بعد عشر سنين/ هبة محرز

كان الحديث المفتوح عن النسوية السورية – رغم الكم الهائل من المغالطات والسخرية السطحية – يُظهر اهتماماً متزايداً، ويقول شيئاً واضحاً، عن آنية الطرح، وعن أننا بشكل من الأشكال أصبحنا نخوض اليوم حديثاً عن نسويتنا كتفاصيل حياة وأسلوب عيش، وأنها ضمن أعمالنا وأفكارنا وحتى حياتنا الحميمية، وأنه لا يمكن للمجتمع تجاهلها أو تحجيمها.

شخصياً، بدأتُ منذ فترة أفكر/أكتشف كيف تتقاطع تفاصيل نسويتي مع كل شيء، وكيف تحضر بشكل أكبر في كل نقاش عن الهوية، عن الشتات، عن الثورة. تصبح النسوية بعلاقتها مع هذه الأفكار هي النقاش بعينه. ورغم ثقل الأحداث والتغيرات الكبيرة التي نعايشها، والخوض اليومي في جدالات عن الحياة والموت والعيش، إلا أنه لم يعد بالإمكان الابتعاد عن ساحة النسوية كنقاش مطروح دائماً على الطاولة، ويُعاد التفكير به، أو النقاش حوله، والتواصل معه. لذا بات واضحاً لي أن النسوية أصبحت اليوم للمجتمع، سواءً كممارسة أو اعتياد، لتخرج من أطرها كحركة نضاليّة أو فكرية أو كموجة تغيير فقط، ولتدخل بشكل مباشر في حديث المعاش اليومي.

لكن وإن كنا قادرات ضمن دوائرنا الصغيرة على إيجاد وامتلاك تقاطعات مشتركة كثيرة يمكن اعتبارها من المسلّمات، إلا أننا غدَونا نعاني في دوائر أكبر ومع شرائح متعددة من نقاش أولي ومرحلي، يصل حدّ الغوص في معنى المفهوم ومدى علاقته بمجتمعنا أو ابتعاده عنه. هكذا فإن فتح النقاش ومحاولة تسمية هذه الاختلافات والتضامنات يشكل فرصة تراكمية لهذا النضال/الحراك/الممارسة، ولنا أيضاً، نحن اللواتي في النهاية نعرّف أنفسنا كنسويات سوريات.

مقتنعةً بأهمية ربط السياق واللحظة بهذا الحراك/النضال/الممارسة، والتفكر بقدرتنا على الخوض فيه اليوم بعد عشر سنوات، وتلمُّس معالمه، قرّرتُ أنَّ أَفضل الطرق لبدء الحديث مع بعض النسويات السوريات هنا في هذه المقالة هو الغوص من الشخصي والفردي نحو العام. بالتالي، بدأت الأسئلة في المقابلات التي أجريتُها من تعريف النسويات لأنفسهن. في تعريفها الخاص لنفسها كنسوية، ركزت رولا أسد (صحفية نسويّة ومدرِّبة إعلامية، والمؤسسة الشريكة والمديرة التنفيذية لشبكة الصحفيات السوريات) على أنها نسوية لا-معيارية، ونسوية كويرية، وذلك للخروج من التصنيف نحو اللا-تصنيف. بالتالي فإن النسوية بالنسبة إليها تقوم على التغيير، ودائماً «في طور أن نصبح»، وذلك يفتح على حرية التفكير دوماً، أما عن تصنيفها لنفسها ضمن مدارس أو تيارات النسوية، فقد قالت أنها تجد نفسها أقرب لحراك النسويات الملوَّنات، ومن ضمنهن النسويات السوداوات، ما يشير للنسوية التقاطعية – مع التأكيد أنها أداة نسوية أكثر منها نظرية – ويقطع مع «الليبرالية البيضاء»، مع التركيز على أهمية السياق، والتجربة المادية، والتجربة الحياتية.

أما نسرين الزهر (لسانية، ومترجمة ومحرِّرة) فقد شاركتني تقديمها لنفسها كنسوية انطلاقاً من أن هذه النسوية «هي حساسية لعلاقات قوى أصبحت – في مرحلة ما – شبه بديهية». ومن هنا، ترفض نسرين هذه البداهة، وتركّز دوماً على أن تزيد حساسيتها لهذه العلاقات الظالمة جداً للنساء. في الحديث عن التقارب مع مدارس أو تيارات نسوية، رأت بأنها أقرب لنسوية كونية ناقدة وغير مقيَّدة، وذلك منبثق من إيمانها بالظواهرية – أي الانطلاق من الإحساس المرافق للمعاش ومن الجسد- لاستنباط الأفكار النظرية، وهي بذلك خليط من نسوية كونية ونسوية كويرية، رغم اعتراضها على بعض التفاصيل في كلّ منهما، وبالتالي فإن تعريفها لنفسها منطلق من المعاش، حيث إن وجود الإنسان الخالي من التناقضات برأيها «يكاد أن يكون فاشيّاً».

بدورها، كانت رند صبّاغ (صحفية، وباحثة وأخصائية بالمحتوى النسوي) أكثر اهتماماً بتقسيم المفهوم، وإعادة صياغة تعريفها الشخصي كنسوية. فهو في الأساس، بحسب صبّاغ، مبني على النسوية كحالة «فطرية»، بما تعنيه من وضوح وأحقية للقضية، وإن كانت تفاصيلها ما زالت تتكشف. صبّاغ تجد النسوية بفطريتها «هي حجر الأساس لأي تعريفات شخصية لاحقة، أو الثابت في هذه العلاقة»، وتشير إلى أن التحولات في التجارب الحياتية والشخصية والسياسية وغيرها عامل أساسي في بلورة هذه التعريفات والخوض فيها. حملها لصفة المهاجرة/اللاجئة اليوم، والقادمة من ذلك المكان في العالم، جعلها تخوض بشكل أكبر بالنسوية التقاطعية، والنسوية العابرة للأوطان والحدود، وصولاً إلى اللا-معيارية، لأنها عابرة للجندر والتصنيفات.

ثالث النقاط التي ناقشتها صبّاغ هي التغيير المستمر، فالمعرفة والتعاريف تتغير بتغيرنا كل يوم، وتجد لنفسها صيغاً وأفقاً مختلفاً ضمن تفكير أكثر عمقاً. بالتالي فإن الثابت الأساسي بالنسبة لها هو النسوية كمبدأ فطري تدافع فيه المرأة عن كونها كائناً كاملاً، لديه جميع الحقوق والواجبات التي من المفترض أن يتمتع بها الرجل. ورغم تلاقي هذا المبدأ مع حقوق الإنسان بشكلها الفضفاض، إلا أنه النسوية تتميز بحساسيتها الجندرية، ووعيها للامتيازات الذكورية وعدم التساوي في الفرص، وغيرها من العوائق الهيكلية وغير الهيكلية التي تقف في وجه النساء. هي نسوية مبنية على الحرية والمساواة والعدالة، وموجهة بشكل أساسي ضد النظام الأبوي الذي تسعى في نهاية المطاف إلى إنهائه، وهو ما يمكن تصنيفه بالنسوية الراديكالية.

من جهتها ناقشت نسرين ح. (باحثة نسوية) نسويتها بناءً على مراحل تطور رؤيتها الشخصية، منوهةً إلى تعرفها على مفهوم الجندر قبل التعرف على النسوية. فهي كانت ترى لفترة أن كلمة «نسوية» تكاد تكون إقصائية، فصارت تعرف نفسها على أنها «جندرية لا نسوية»، وهو ما يعود برأي نسرين ح. إلى جيل معيَّن من النسويات «كُنَّ نسويات إقصائيات»، على حسب تعبيرها، «ويمكن نسبهن إلى نسوية يسارية تضع معايير ما للمرأة كي تكون نسوية»، في حين أنها كانت ترى المشكلة الحقيقية في المجتمع ككل وموقعية المرأة داخل هذا المجتمع وضمن القانون، «ولحل هذه الإشكالية لابد من فهم الأدوار والمواقع للرجل والمرأة في المجتمع دون إقصاء للرجل». من خلال عملها مع النساء اللاجئات في لبنان والدخول في المجال الأكاديمي، أخذت تتوضح لها «النسوية كقوة»، فهنالك أفعال ونضالات نسوية تخرج من نساء حتى لو لم يعرّفن أنفسهن كنسويات، وبالتالي تنبع النسوية بالنسبة لنسرين ح. من الأرض، إذ يمكن للحراكات النسوية أن تخرج من المطالب المجتمعية بعيداً عن المصطلحات المفاهيمية.

من تلك الانطلاقة في النقاش المتبادل، بدت استعادة الحديث حول النضال/الحراك/الممارسة النسوية السورية مَعيناً لا ينضب، لما له من زوايا متجددة للنقاش والتفكير. وعلى الرغم من كونه شائكاً ومعقداً وحذراً، إلا أنه حديث مشروع وملحّ، بل وحاضر بكلّ صياغاته، حتى أنّ التعارضات على اتساعها تصبّ في النهاية في النهر نفسه، وتطبعه بألوان وأشكال مختلفة اختلافَنا نحن كأفراد، وتصبغه أيضاً بطموحاتنا وأفكارنا، ويصبح التحرك المستمر في تلمس معالمه حيوياً ومعاشاً في حين، ومتصلاً منفصلاً مع كل الأفكار الأخرى الحاضرة على ساحة المجتمع المدني السوري حيناً آخر، حيث تصبح هذه النضالات ممارسة وأكثر فاعلية كمحرك يقبع في اللب دوماً، ويمكن تتبعها ضمن صيرورة مستمرة كان لها إرهاصاتها حتى ما قبل الثورة.

النضال النسائي في ظل البعث

بعد سنوات من الركود في سوريا، بدءاً من أواخر الثمانينات حتى العقد الأول من الألفية الجديدة، كان النضال/الحراك النسائي السوري – الذي تمت «مأسسته» واحتوائه عبر الاتحاد النسائي بداية الستينات – قد خرج من الصورة تماماً، ليقتصر حضوره على بعض التجمعات والجمعيات التي رفضت الانخراط ضمن الاتحاد، وخاضت حملات على صعيد قانوني مثل رابطة النساء السوريات، وحملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي»، كما برزت أيضاً على الساحة شخصيات نسائية مستقلة نشطت بمثابرة وكفاءة، مثل د. جورجيت عطية والمحامية دعد موسى ود. مية الرحبي وغيرهن (كما ورد في تقرير الأمم المتحدة «تاريخ الحركات النسائية في العالم العربي»). هكذا كانت هذه الأنشطة والحركات، سواءً في سياق قانوني أو في سياق مكافحة العنف ضد النساء، تدور في فلك محفوف بالمخاطر ضمن حرية نسبية في حال كانت المواضيع بعيدة عن الحريات السياسية. وعليه يمكن عدّ محدودية النضال النسائي في تلك الفترة أمراً مبرَّراً ومفهوماً، بسبب اندثار أي مظهر من مظاهر المجتمع المدني في البلاد في ذلك الوقت، في ظل منع الأحزاب والجمعيات، وتطبيق قانون الطوارئ والأحكام العرفية، والمحاكم الاستثنائية.

ربما كان من الأصح تسمية الأنشطة في تلك الفترة من الزمن، وعلى اختلافها، بالنسائية لا النسوية، ونقصد هنا النسائي بما هو مبني على النوع البيولوجي، أي نشاطات قادتها نساء لمصلحة النساء، وبذلك نفرقه عن النسوي1 بما هو حركة وعي فكرية تستند إلى الاعتقاد بأن المرأة مظلومة أو محرومة مقارنة بالرجل، وأن اضطهادها بأي طريقة هو غير شرعي أو غير مبرر، ذلك حسب تعريف قاموس ستانفورد للنسوية. وهكذا يمكننا أن نقول إن النسوية تتضمن النضال النسائي ولكن العكس غير صحيح.

النضال النسوي السوري المعاصر في العقد الأخير

كل هذه الإرهاصات والنضالات التي تمّ ذكرها فيما سبق كانت حاضرة مع انطلاقة الثورة السورية، والتي شكلت بدورها لحظة مهمة لنواة تفكير حول المجتمع المدني السوري، بما يشمله ذلك من أفكار وتنظيرات، ومن ضمنها استعادة تعريفاته كساحة الحياة السياسية الوسيطة بين الدولة والأسرة، مع مراعاة خصوصية السياق السوري المتمثلة في غياب فاعلية الدولة أو حتى حضورها كفاعلية سلبية، وازدياد الاحتياج المتبادل مع الحاضنة الأهلية.

كانت للنسوية في هذا السياق فرصة تفكير وحضور واضحة، حيث سارعت النساء إلى إعادة تشكيل تموضعاتهن ضمن المجتمع، لتتزامن الثورة على النظام مع تصاعد وازدياد في تواتر الثورات الفردية على مفاهيم المجتمع التقليدية، مثل عمل المرأة، حقوقها، استعادة صوتها، حقها في الفضاء العام، إلخ.

البحث الذي خاضه جميع السوريين والسوريات عن ذواتهمن ضمن المعادلات الجديدة، صار بحثاً من عدة طبقات ومستويات تقاطعية. فمن جهة هي ثورة على النظام، ومن جهة أخرى هي مساحة للتفكر بالحقوق المدنية، ومن جهة ثلاثة هي فرصة ثورة على المجتمع وتقاليده وأفكاره. في تلك اللحظة، بدا أن هنالك اتفاق بين الثائرات/الثائرين حول مفهوم الثورة بما يخص النظام، واختلافات واضحة فيما تبقى من الأفكار، بين من يطالب بتأطير ما يحدث كأزمة، أو كمطالبة إصلاحية، وبين من يقف عند حدود الثورة على النظام كمؤسسة دولة، وبين من يخوض ثورة على التقاليد التي كرسها النظام، وبين من يثور على كل السائد منطلقاً من النظام السياسي والأبوي والديني التقليدي.

بدا أن النضال/الحراك النسوي السوري يقبع في مستوى تحدث فيه كل الثورات سويةً، وأنه لا بد لمن اختارت هذه الثورة أن تكون نصيرة كل الثورات الأخرى بشكل غير قابل للتشكيك. عليه، يمكننا إذا أردنا مَوقَعَة هذه الحركات النسوية السورية ضمن خريطة التعريفات والمفاهيم المتبعة، أن نرى تقارب للنسوية السورية في ذلك الوقت مع المنحى النسوي الراديكالي الاشتراكي. أقصد هنا ما يحضر من تعريف للحركة النسوية الراديكالية التي ترى الأبوية هي أساس التمييز ضد النساء، وطالما هذا النظام وهذه القيم هي التي تحكم المجتمع، فإن المرأة لن تتمكن من إنجاز أي تغيير هام في مسيرتها نحو المساواة. وأقصد بالاشتراكي ما يحضر من مطالبات النسوية الماركسية الاشتراكية التي تعمل من أجل حل عملي في القضايا الأساسية لحصول النساء على الرعاية الصحية، وتكافؤ الفرص في التوظيف والتعويضات، والتمثيل العادل في النظم السياسية والقانونية، وحماية المرأة في إطار الزواج والأسرة، وخدمات لرعاية الأمهات والأطفال، وتأمين وتوسيع نطاق الحقوق الإنجابية والحريات، وإعادة تشكيل القوانين المتعلقة بالاغتصاب والتحرش الجنسي، والتوعية والحماية للنساء المعنَّفات، وتعليم النساء الأميّات والمهاجِرات، والعديد من المجالات الأخرى التي أهملها المجتمع الأبوي وتجاهلها.

هذا النضال/الحراك، الذي نقول هنا إنه كان ذا منحى اشتراكي راديكالي، اضطُر في لحظات متتابعة أن يأخذ سياقات مختلفة. وبما أنه نضال منخرط أساساً في الثورة وابن اللحظة، فقد تفاعَل وتعقَّد وتحرَّك مع سنوات الثورة، ثم تصاعَد تعقيداً مع تزايُد العنف والبطش ثم العسكرة والتهجير والنزوح الداخلي والخارجي. كذلك بدأ ينسل هذا النضال/الحراك خارج البلاد مع الفاعلات والفاعلين اللاجئات واللاجئين إلى البلاد القريبة في البداية ثم أوروبا أو أميركا بشكل أقل.

هكذا انتقل الحراك/النضال إلى مرحلة مختلفة صارت فيه الحراكات والنضالات أقرب للفردية أو لمجموعات صغيرة، وعلى عكس النجاة الجماعية وفكرة التغيير الجماعي والجذري ضمن مساحة البلاد بأكملها، التي كانت تنادي بها الثورة وتحاول تحقيقها. هذا بالتزامن أيضاً مع تعقُّد واقع الحال بشكل كبير، ومقتل الكثير من الناشطات والناشطين، وازدياد التضييق، وتهجير جزء كبير من الباقين/ات، صارت النجاة فردية هي الحل الوحيد للكثيرين ومرتبطة بقدرة الإنسان على الهرب من الحرب والموت.

تغيرت نوعية الخطاب النسوي السوري وآلياته، وصارت لكل منطقة جغرافية خصوصيتها وفكرها الخاص بالنضالات النسوية في طرحها بالعلاقة مع حياة الناس فيها، مع القدرة المحدودة على التنظيم والعمل بسبب البطش المتزايد والتغيرات المتسارعة الدائمة. يمكننا ذكر أمثلة كثيرة لأفعال نسوية نوعية قامت بها النساء في كل مكان وقطعة من البلاد، مُنطلِقاتٍ من التغلب على المعاش اليومي الكارثي ضمن الحرب. والأمثلة على ذلك كثيرة. وإحداها بيان ريحان وعملها في دوما، أو المؤتمر النسائي الأول في إدلب والذي خرج بمشروع «حلقة سلام»، وطبعاً المشاريع التنموية التي تستنبط الفكر النسوي حتى وإن لم تُعلن أنها نسوية بشكل صريح. وربما يعود ذلك إلى تعقد حضور المصطلح في السياق المحلي السوري، وهذا الموضوع هو من أهم التقاطعات التي سبّبها الظرف العام تجاه الحراكات النسوية السورية، خاصة مع من غادرن من النسويات خارج البلاد، فأصبحن بشكل أو بأخر ضمن ارتباط بالبيئة الجديدة وبفكرة الشتات السوري، وهكذا صارت النسوية نضالات/حراكات فردية مبنية على مساحة القدرة على الفعل، والتصالح أو التكيف مع الواقع، ومع الفاعلية على الأرض.

بدت النسوية السورية في هذه اللحظة تقارب المنحى الفرداني والليبرالي نوعاً ما، وهنا يحضر تعريف النسوية الفردانية التي تؤكد على حقوق الإنسان الفردية والاستقلالية الشخصية. هي إذاً تدافع عن حقوق المرأة على أساس حق الإنسان في الاستقلال، وتعتبر النسوية الفردانية أن التحرر هو مسؤولية شخصية، وتتجاهل أهمية أي اختلافات «طبيعية» بين الجنسين وأدوار الجنسين التي تم إنشاؤها ثقافياً واجتماعياً باعتبارها غير ذات أهمية بالنسبة لمسألة المساواة بين الجنسين، لأن المرأة قبل كل شيء بشر. كذلك يحضر من النسوية الليبرالية تصُّورها للحرية على أنها استقلالية شخصية، واستقلال سياسي، مع التأكيد على أن الدولة هي العدو الأول، والضرر المؤسسي للمرأة موجود فقط في ظل اضطهاد تُجيزه الحكومة. هذه المقاربات، مع منهجيات نسوية معيارية غربيّة، لا تجعلني أبداً غافلة عن التأكيد أنه، حتى وإن استطعت رسم تغير منحى النضال/الحراك النسوي السوري، فلا يجب نقد هذه النسوية بمقارباتها، فهي تتقارب مع هذه المفاهيم وتتشابه مع بعض خصالها، لكنها تبقى ابنة سياقها وثورتها. هناك تجارب مختلفة ومتنوعة تحاول الخلط والابتكار ومقاربة سياقها الخاص من وجهات نظر مختلفة، وهي تحاول حتى اليوم إيجاد طرق للعمل المشترك والجماعي رغم الشتات والخطر، ورغم العقوبات الدولية التي أضرت تمويل ودعم العمل المدني المشترك بين الداخل والخارج.

بشكل عام، هناك كثير من الحراكات والتجمعات والمؤسسات التي تعمل ضمن كل المساحات الممكنة بين الداخل والخارج، وهي مساحات معقدة جغرافياً ومكانياً، وكذلك على مستوى القدرات. لذلك من الظلم ربط المنحى الذي أطلقتُ عليه «فرداني ليبرالي» هنا بالنقد الغربي اليوم للفردانية بوصفها الابنة المدللة للرأسمالية، دون وضع مفهوم أساسي وحاضر دوماً هو سياق النسوية السورية، والتي تعيش اليوم بلا بلاد. أعتقد أن هذا الأمر يبقى رغم الاختلافات الكثيرة في المعاش واليومي أمراً مشتركاً بين الداخل والخارج، طبعاً كلٌ ضمن البيئة والعوامل المحيطة والتجربة، ولكن بالتأكيد هنالك سقوط واضح للدولة بجميع أشكالها، وعليه ربما يمكن اعتبار النسوية السورية عابرة للقارات، وموجودة في كل مكان من هذا العالم نجد فيه رجلاً أو امرأة تعرف نفسها على أنها نسوية سورية. وربما يمكننا عبر تتبع هذه الإرهاصات في وقت لاحق تشكيل مفهوم خاص لهذه النسوية السورية بما هي عليه ضمن سياقاتها الداخلية المنفصلة وسياقها الكبير المتصل.

إذا كان ما خلُصنا إليه الآن هو تغيُّر خط الحراك/النضال/الممارسة النسوية السورية، من ميل نحو الراديكالية الاشتراكية في بداياتها، إلى اقتراب من الفردانية الليبرالية الحديثة اليوم، فإننا نطرح ذلك هنا ليخوض المراحل الذي يحتاجها أي افتراض. وبالتالي فإن الهدف الأساسي من هذا الافتراض هنا هو فتح نقاش مفتوح عن النسوية مع النسويات اللواتي قابلتهن خلال المقالة.

نقاش مفتوح عن النسوية السورية

ينطلق الافتراض السابق في جذره من معرفتنا الأساسية بأنه ليس من الضروري فعلاً تصنيف الحركات أو النضالات، ومن التأكيد أيضاً على مراعاة السياق السوري بالعلاقة مع أي تصنيف عالمي قد يكون «أبيض» قادماً من سياق مختلف ولحظة زمنية أخرى، ولا يمكن بأي شكل إسقاطه على الوضع السوري، بل يمكن الأخذ منه بما يتناسب معنا، وطرح افتراض لتشكيل معرفة عن النسوية السورية قد تجتمع في نقاط وتجارب مع نسويات أخرى من هذا العالم، وتنفرد أيضاً بما هي عليه من خصوصيتها. وإن وضعها ضمن معيارية ما هو محاولة تلمُّس لمعالمها وخلق خريطة للنظر إليها والتفكير بها، وهو ما أعتقد أنه واجب النقد الفعلي في كل لحظة زمنية، وهذا ما قادني إلى محاججة هذا الافتراض.

رأت نسرين الزهر أنه يمكن للافتراض أن يكون معقولاً إلى حد ما، مع توضيح أن حضور بعض الجوانب أوضح من جوانب أخرى في الحديث عن مقاربة النضال/الحراك النسوي السوري للمنحى الاشتراكي في بدايتها، حيث تجد الزهر أنه عبر متابعتها، يمكنها تحديد نضال حقوقي، وحقوق الأمومة وتقاطُعها مع حقوق العمل، بينما بشكل أقل الحديث عن مساواة الأجور، وبالتالي فإن هذه المقاربة جزئية، بحيث يمكن القول إنه لم يكن هنالك حديث واضح حول العدالة الاجتماعية الاشتراكية، وهذا يمكن رده إلى خلفيات وسياقات المشتغلات والفاعلات في الحراك في تلك اللحظة، مثل المشتغلات في النضال الحقوقي اللواتي كُنّ يساريات نوعاً ما. أما بالنسبة للتغير الذي حدث في خط هذا النضال/الحراك، فأيضاً تراه نسرين نابعاً من تقاطع البيئات الجديدة مع الفاعلات، وبذلك ترى أنه كانت هنالك مقاربة لمنحى ليبرالي كما يقول الافتراض، ولكن أيضاً منحى شديد الجذرية، وهي نابعة بشكل أساسي من التأثيرات الدراسية والحياتية وطبيعة العلاقات الاجتماعية للفاعلات. ورغم أنها متفقة مع الشق الثاني من الافتراض، إلا أنها طرحت فكرة أن التعمق الحقيقي في هذا النقاش يكون عبر سبر المحتوى المكتوب باللغة العربية، والذي يعبّر عن الفاعلات النسويات في هذه المرحلة، وأين يتم نشر هذا المحتوى، وكيف، وماذا يتناول؟ يمكن لهذا السبر أن يضيف دقة أكبر للافتراض، إلا أن انطباعها العام متوافق مع افتراض حراك فرداني متفاعل إلى حد ما مع البيئات المحيطة. كذلك اقترحت نسرين فكرة مَهنَنة النضال في هذه المرحلة، وتطرّقت إلى عدم الاتساق أحياناً بين نمط الحياة والخطاب، كأن يكون نمط الحياة شديد الليبرالية أو الاستهلاكية، بينما الخطاب أكثر جذرية، وتساءلت هنا عن النضال ضمن هذا الاختلاف.

أما رولا أسد فقد انطلقت في تعقيبها على الافتراض من سؤالها عن تعريف لأي حراك نسوي في العالم. وهي ترى الاهتمام بالتعريفات عبئاً يُلقى على ما أطلقت عليه العالم الجنوبي، وهو منطلق من ضغط العالم الشمالي للسؤال: من أنتمن؟ وفي حين أن الحراكات النسوية السورية ذات أبعاد مختلفة ولا تقع ضمن مفهوم واحد، إلا أن رولا تطرقت في حديثها إلى إمكانية مقاربة النسوية الاشتراكية بمعناها الاجتماعي في لحظة من لحظات بدايات الحراكات ضمن الثورة، مع توضيح أنه من المحتمل أن تكون هذه المقاربة اشتراكية/متدينة – بمعنى الإيمان – وذلك بما يتناسب مع السياق السوري للحراكات. أما بالنسبة للمنحى الليبرالي في لحظة لاحقة لهذه الحراكات، فتؤكد رولا وجود هذا المنحى داخل وخارج سوريا، بالرغم أنه لم يكن نابعاً من تفضيلات معينة، بل هو ناتج عن الاستعمار الجديد، وربطتْه بالتطورات الدولية وخاصة بما يتعلق بقطاع التنمية، وبالتالي تحوُّل الحراك إلى مؤسسات عاملة، وخضوع استمرارية المؤسسات للمفاوضات الدولية مع المموِّلين.

النقطة الثانية التي تطرقت لها رولا في مناقشة الافتراض كانت السؤال عن آليات ومحددات هذا الافتراض، فهل هو يقصد الداخل السوري وبالخارج السوري على حد سواء؟ وفي حال تضمن الخارج السوري فقط، فضمن أي سياق؟ وأي مكان؟ ومع موافقتها على الافتراض في حال تعريف الاشتراكية بمعناها الاجتماعي، والتي قد تعكس بالفعل مطالب جزء من الناس، إلا أن رولا أسد ترفض انطلاقاً من نسويتها التعميم، وتعيد الحديث عن النسوية السورية كمجموعة حراكات مختلفة، لها طبقاتها وظروفها وسياقها وهمومها التي تعاني منها، طبعاً مع رغبتها بمساحة نسوية سورية يمكن للنسويات الالتقاء فيها والتضامن معها بعيداً عن المؤسسات ومتطلباتها.

بينما ناقشت رند الافتراض منطلقةً من النسويات السوريات في الشتات، اللواتي كَوَّنَّ حسب رأيها هوية نسوية مختلفة سواءً على الصعيد الفردي أو حتى كيفية نظرهن للمجموعات. ذلك أن الشتات والمهجر خلق فرصاً وامتيازات سمحت للنسويات بالاطلاع بشكل أكبر على سياقات عالمية وإقليمية مختلفة، بالإضافة لتطوير خطابهن ونظرتهن لأنفسهن وللحراك النسوي السوري، وحتى حراكهن الفردي. ولكن في الوقت عينه كان الشتات سيفاً ذا حدين، فقد زاد غربتهن عن الواقع وعن الحركات على الأرض. تساءلت رند عن مدى فاعلية هذا الحراك الآن وهنا، وعن كيفية قياس أثره. فبناءً على أن ما يحكم آليات قياسنا في لحظة ما هو الفضاء الافتراضي، قالت أنه بمجرد الخروج من دائرة الفاعلات الصغيرة إلى دوائر أخرى ومختلفة على نفس الفضاء، يظهر خفوت صوت الحراك حتى يكاد يختفي حسب رأيها. ويعود ذلك إلى افتقاد الحراك المطلبي وغياب المقياس التي تعمل وفقه الحركات النسوية التقليدية، حيث يكون لديها فرصة النقاش أمام دولة تطالبها بتغيير أو سنّ قانون أو غير ذلك. وبالتالي فإن الحديث عن فاعليتنا كنسويات أمر صعب في ظل عدم امتلاكنا لمخرجات لنضالنا النسوي، ما يحبسه في مرحلة النضال المعرفي الذي يعني بشكل من الأشكال محاولة توعية مجتمعية، وهو عمل لا ينتهي أبداً وغير قابل للقياس في الحقيقة.

على جانب آخر، أكدت رند أن نقاشاتنا وفضاءاتنا ومنتجنا المعرفي الفكري الإعلامي كلها تطورت خلال هذا العقد، رغم ازدياد غربتنا عن الآخر، عن المجتمع الأهلي، عن السوريين والسوريات خارج دوائرنا، والذين حين يُفتح النقاش معهمن في لحظات معينة – مثل عيد المرأة – نكتشف أننا في نقاش أولي عن المفهوم نفسه.

وخلصت رند إلى أهمية التفريق بين الطموح لزيادة عدد النساء في الحركات والمطالب السورية كفعل نسائي، وبين زيادة عدد النساء النسويات، والفاعلات السياسيات. هذا مطب كبير نقع فيه مع فكرة تمثيل النساء في مطالبنا، فنحن فعلاً بحاجة إلى مثل هذه التمثيلات وإلى كوتا نسائية/نسوية، إلا أن ذلك شرط لازم وليس كافياً حين تكون المنظومة بجملها ذكورية.

رأت نسرين ح. أن السؤال الذي ينطلق منه الافتراض مطروح للنقاش دوماً، وردّت الأمر إلى أن الحراكات التي تحدث اليوم بدأت مع ثورة ضد نظام سياسي، حيث خلّفت هذه الثورة والحرب من بعدها سياقات مختلفة ونضالات متعلقة بها. وقد بدأتْ بتعليقين على الافتراض، الأول هو موافقتها على الافتراض بفكرته الأولية، أي البحث عن تصنيفات مع هذا الحراك النسوي السوري، إلا أنها أبدت تخوُّفها من اعتبار هذا الطرح غربياً، مُنطلِقةً من أن هذه اصطلاحات غربية أكثر منها اصطلاحات تشبه واقعنا نحن نساء الشرق الأوسط، أو حتى واقع النسويات الإفريقيات. وأوضحت أن فكرتها الأساسية تقول أن التغيير حدث بعد سنة 2011، وقد مثل نقطة محورية أنتجت حراكات نسوية، لكنها لم تنتج عن لحظة استقرار بمطالب اجتماعية سياسية في بلد مستقر وسياق واحد، بل ارتبطت هذه الحركات النسوية السورية بشكل لصيق بالهم الوطني والمطلب السياسي العام.

ثم عادت لتوضح في التعليق الثاني أن بعض الاصطلاحات أو المقاييس تأتي من فكرة المؤسسات غير الربحية وعلاقتها مع الممول الغربي، وفكرة التثقيف التي يتبناها، رغم وضوح جهله في سياقات الوضع السوري. وفي حديثها عن الافتراض، ومع تأكيدها أن الحراكات النسوية السورية لم تنطلق من مفهوم واحد، اتفقت نسرين ح. أن هذه الحراكات قد تكون قاربت في لحظة ما النسوية الاشتراكية أو الماركسية، ولكنها توضح أننا لا يمكن أن نُغفل النقد الأساسي لهذه النظرية التي أطّرت المرأة بمكان معين. وفي حالة النظرية الليبرالية، اتفقت مع الافتراض بأنه يمكن التفكير بمقاربات ما مع النظريات، مع ضرورة التفكير أيضاً باختلافاتنا معها أو تميزنا عنها، مع التأكيد أن الحراكات النسوية التي نشأت في سوريا وما زالت تتطور بدأتْ دون أن تلجأ لهذه المفاهيم كقاعدة، وخلصت إلى التقارب مع الافتراض من ناحية أهمية التفكير بسؤال اقتراب نسويتنا من المعيارية، وبالتالي فإن طرح الافتراض يجيب عن أسئلة تُراود الكثيرات: «أين نحن من النسوية؟».

التنوع والاختلاف في نقاش الافتراض قادنا بشكل سلس للحديث عن تموضع النسوية السورية اليوم على خارطة النسوية العالمية، وتوسيع هذا السؤال كان سبباً للاستفاضة في التشكلات النسوية السورية، وأبعادها، وقدرتها على صياغة نفسها، ثم لحديث آخر متشعب عن المستقبل. بدا النقاش – الذي يمكنه دوماً أن يستمر ويتوسع – وهو يلاحق كل التفاصيل ويربط السياقات والتشكيلات، وأن المشهد النسوي السوري اليوم غني بغنى فاعلاته وفاعليه، ويمكن الخوض فيه من زاوية جديدة كل مرة كأنه فعلاً نهر مستمر للأمام، ولا يمكن السباحة في المياه نفسها مرتين.

يمكن التفكير بجولة مفاهيمية تتطرق إلى تعريفات معيارية شديدة الغربية، وهي مرحلة نشتبك بها مع السائد لأجل الخروج منه دون الاضطرار لقفزات كبيرة تصنع صدوعاً في تطورنا الفكري حول النسوية السورية، وتساهم في جعل الأفكار والمفاهيم أكثر أُلفةً مع الواقع والمعاش. وإذا كنتُ انطلقتُ من إحساسي بأن هذا ضروري الآن، فقد زادت كل النقاشات هذا الإحساس بهذه الضرورة.

أؤمن أن إعادة التفكير والنقاش هو خطوة أولى نحو صياغة تفرُّد للنسوية السورية، ومنبع ذلك رغبة في إعادة التعريف والتفكير بـ«المجتمع السوري»، خاصة مع حضور ثقل الشتات والتهجير والنزوح، مما يجعل هذه المحاولات مُلحّة وآنية بعد عشر سنوات كاملة.

رغم ما قد يبدو عليه المشهد اليوم من شدة الدقة والحساسية، علينا أن نضيف ونؤكد أننا نعي أن البحث عن نتيجة اليوم قد يكون ضرباً من الجنون، فالنسوية السورية كما أسلفنا هي ابنة اللحظة التاريخية، وهي تعيش الآن وهنا، والتفكير بالتأكيد مستمرّ وجدلي وحيوي، وهي سمات نتفق عليها رغم اختلافاتنا ونحرص على نعيد دوماً تقليبها والبحث فيها عن الجديد.

1. من أجل تناول أوسع لهذه القضية، انظري القضية كتاب شيرين أبو النجا، نسائي أم نسوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2002.

موقع الجمهورية

————————-

الصحافة في لحظة تغيير/ عمر الأسعد

يبدو من المهم العودة إلى الذاكرة الشخصية، ورواية الأحداث كما عاشها أصحابها عند الحديث الدائر اليوم عن ذكرى الثورة في سوريا. ذاك أن التذكر وحكاية ما حصل حق لآلاف السوريات والسوريين الذين عاشوا السنوات الماضية بأملها وقهرها، خاصة وأن الروايات المضّادة للمطالب البديهية بالتغيير والديمقراطية والحرية لم تتوقف عن محاولة غزو المشهد.

يصلح الكلام الوارد أعلاه لتذكّر اجتماع جرى في نيسان/ أبريل 2011، في منزل أحد الناشطين المعارضين في مدينة الجديدة بالقرب من دمشق، بعض الحاضرات والحاضرين كانوا عائدين من سجن دام عدة أيام أو من توقيف سريع، بينما كان هدف الاجتماع هو العمل على إصدار جريدة مطبوعة تواكب ما يحصل. لكن السؤال لماذا الجريدة المطبوعة في زمن يمكن فيه استخدام الانترنت ووسائل التواصل وتأسيس مواقع إلكترونية؟

كانت الإجابة على مثل هذه التساؤلات حاضرة في ذهن من اقترحوا المشروع. ذاك أن جريدة مطبوعة لها حمولة رمزية وحضور فيزيائي ملموس في وجه نظام احتكر الصحافة والفضاء العام على مدى أربعة عقود، ثم إن الانترنت لم يكن متاحاً في كل المناطق السورية، وعدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لم يكن بالحجم الذي هو عليه اليوم، إذ كانت هذه الأخيرة محظورة، كما أن الكادر الأساسي لإصدار الجريدة من صحفيين ومصممين كان حاضراً، وإمكانية الطباعة أو التوزيع في عدة محافظات سوريّة لم تكن صعبة بوجود شبكة من العلاقات بين ناشطين/ات بدأت تقوى وتزدهر خلال الأشهر الأولى لانطلاق المظاهرات، ولا تخفى هنا الدلالة الرمزية لطباعة الجريدة في عدة محافظات في نفس الوقت، أمام نظام طالما منع قنوات التواصل بين الناس. في العموم، بدت الدوافع وراء تأسيس جريدة دوافع نضالية/سياسية أكثر منها إعلامية/إخبارية في تلك المرحلة.

لم يرَ المشروع النور بالشكل الذي خُطِّط له خلال عدة اجتماعات، إذ أفشلته حملات الاعتقال التي استهدفت الناشطين، ثمّ تغيّرت ظروف الصراع السياسي القائم، فخرجت مشاريع مماثلة استجابت للشروط التي فرضها تصاعد الأحداث من المظاهرات السلمية إلى الصراع المسلح.

هكذا، بدل أن نرى جريدة تُوزَّع في عدة مدن سوريّة، سنتعرف على ازدهار نموذج الجريدة المحلية التي تُنتَجُ في مدن وأحياء محاصَرة. أما من حضروا بعض تلك الاجتماعات، فمنهم من عاد والتحق بمشاريع صحفية أخرى، ومنهم من قُتل أثناء عمل صحفي، ومنهم من شردّه قوس المنافي الممتد من تركيا وحتى كندا.

كان يمكن للحاضرات والحاضرين في عدد من تلك الاجتماعات أن يُشكّلوا صورة لبلاد تطلب الحياة، فمنابتهم المتنوعة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وأفكارهم المتزاحمة، لم تكن تمنعهم من التفكير بمشاريع سياسية وثقافية تصلح لتشكل مُتّحَدَاً وطنياً جامعاً بين «مواطنين/ات»، على عكس ما تُصوّرهم كثير من المقالات الصحفية الدارجة والمؤتمرات التي تُصرّ على أن كل سوري/ة يقوم بتمثيل «مُكَوِّن».

قبل الحديث عن الصحافة، ربما يساعد الكلام السابق هُواة جلد الذات، وهُواة ربط مشاكلنا بـ«جواهر ثابتة في ثقافتنا»، على تذكّر أنّ مطالب التغيير ترافقت بمحاولات حقيقية لإنتاج مشاريع وأطر تنظيمية وسياسية موازية، كان يمكن لها أن تُثمر لو كان في البلاد سجون أقل من تلك التي ابتلعت السوريات والسوريين، أو لو سقطت عليها براميل أقل، أو لو قُدِّر لأهلها التظاهر واستنشاق الغاز المسيّل للدموع بدل الاختناق بالكيماوي، ثم لو أتيح لمن انتفضوا وتظاهروا وجازفوا أن يُنتِجوا ما يمثّلهم سياسياً قبل أن تملأ مكانَهم معارضات شديدة السفاهة والشعبوية والارتزاق.

بعد مقدمة طويلة وضرورية حول الذاكرة هذه الأيام، لنعد إلى الحديث عن الصحافة في لحظة التغيير، ولنحاول قراءة المشهد من خلال ظاهرة الصحافة المطبوعة التي نشأت في السنوات الماضية.

ثنائية المظاهرة والفيديو كوثيقة

ظهرت الحاجة الماسّة للمعلومات بعد انطلاق المظاهرات الأولى ضد النظام السوري في آذار (مارس) 2011، حيث شكّل الردّ الدموي على المتظاهرين في مدينة درعا، والذي أسفر عن سقوط أول الضحايا، نقطة التحول الأساسية لإدراك أن التغيير في سوريا لن يسلك طريقاً مشابهاً لغيرها من الدول العربية كمصر وتونس.

في السياق، جاء اعتقال الناشطين والصحفيين، ومن ثم منْع وسائل الإعلام من تغطية المظاهرات التي تصاعدت حدتها خلال الأسابيع الأولى، إضافة إلى البروباغندا الإعلامية ضد المتظاهرين من قبل وسائل إعلام النظام، لتشكّل دوافع أساسية للبحث عن مصادر بديلة للأخبار ووسائل بديلة للتعبير.

هكذا شهدت ساحة الأحداث السوريّة ظهور وسائل تعبيرية جديدة، ولأول مرة خارج سلطة الرقابة المطلقة للنظام، فلم يقتصر الأمر على محاولات التنظيم والحشد السياسي، بل ظهرت نصوص وكتابات جديدة، ورسوم وفنون الشارع، كما ازدهرت الأفلام الوثائقية لاحقاً، وعرفنا إنتاجات موسيقية وفنية وإعلامية، وبغض النظر عن اختلاف مستواها، إلا أنها ساهمت بشكل أو بآخر في صياغة مشهد بديل عن الرواية الأحادية التي انتهجها النظام، كما أنها أُنتِجَت خارج قنوات رقابته وفي الضد من روايته للأحداث منذ بداية حركة التظاهرات.

كما بدا واضحاً إدراك المتظاهرين لأهمية الوثيقة المصورة لدعم روايتهم، ما دفعهم إلى تصوير الاحتجاجات والمظاهرات الأولى، حتى باتت الثورة ومن ثم الحرب في سوريا من أكثر النّزاعات الموثقة والمصوَّرة عبر الفيديو في العالم، ولا يمكن اليوم حصر أو إحصاء الفيديوهات التي وثّقت الصراع، والتي تتناثر على شبكات التواصل وبالتحديد يوتيوب، على اختلاف أشكال هذه الفيديوهات وأنواعها وتطورها في سياق الزمن1، ما دفع كثيراً من النشطاء للقول أن الثورة في سوريا هي ثورة يوتيوب بأحد أشكالها2.

في المقابل، كانت رواية النظام تتحدث عن مؤامرة غربية يتعاون فيها الإرهابيون مع جهات عربية تمولهم لتنظيم المظاهرات3، ومع إحكام النظام سيطرته على وسائل الإعلام في البلاد، كان لا بد من البحث عن وسائل بديلة تشرح حقيقة ما يحصل، في ظل رواية رسمية أنكرت وجود أي حراك سياسي أو شعبي.

خلال الأسابيع الأولى للاحتجاجات، وفي ظل الحاجة الماسّة للمعلومات، ظهرت على ساحة الأحداث شخصية «الناشط الإعلامي»، وهؤلاء هم الناشطون الذين ساهموا في تصوير المظاهرات بهواتفهم المحمولة قبل أن يتطور عملهم ويصبح لديهم كاميرات، ومن ثم ساهموا بتحميل وبث الفيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولا سيما فيسبوك ويوتيوب4، إذ قاد اهتمام وسائل الإعلام بهذه الصور والفيديوهات واعتمادها كمصدر للمعلومات إلى تنامي الشعور بأهميتها في إطار الصراع الدائر. بهذا لعبت وسائل التواصل الاجتماعي في المرحلة الأولى للاحتجاجات دوراً أساسياً في بث الرواية المعارضة لرواية النظام، ما يفسّر ارتفاع شعبية فيسبوك ويوتيوب بين السوريين، حيث أتاحت خصائصهما التقنية – من قبيل سهولة الاستخدام وبث المعلومات – إمكانية كانت معدومة في سوريا للتعبير عن الرأي، وربما يفسّر هذا ارتفاع نسبة مستخدمي فيسبوك في سوريا بعد مرور أسبوعين على رفع الحظر عن الموقع في 8 شباط / فبراير 2011، إذ وصل عدد المستخدمين إلى 400 ألف5، وضمن هذا الإطار بات من الممكن لسوريين مهتمين بالشأن العام سواء كانوا داخل سوريا أو خارجها أن يتشاركوا النقاش والأفكار والتواصل خارج رقابة السلطة.

ظهور الجريدة المطبوعة

ضمن هذا السياق، وبعد ما يقارب 6 أشهر على انطلاق المظاهرات بدأت تظهر صحافة مطبوعة في سوريا. وتعدّ جريدة سوريتنا من أول التجارب الموثَّقة والتي حافظت على استمرارها لفترة طويلة نسبياً مقارنة بغيرها، فيما تعتبر كثافة تأسيس صحف مطبوعة واحدة من الظواهر المتفردة في الساحة السورية بالمقارنة مع غيرها من الدول العربية التي شهدت انتفاضات وثورات مماثلة. ويقف خلف هذا عوامل منها غياب أي صحافة مطبوعة معارضة عن ساحة الإعلام في سوريا طوال عقود، وهو ما بقي متاحاً إلى حد ما في بعض الدول العربية الأخرى. كذلك ساهم تصاعد العنف والحصار وخضوع مناطق متفرقة من البلاد إلى سلطات مختلفة في ظل انقطاع الانترنت والكهرباء إلى تنامي الحاجة للمعلومات والتواصل مع المجتمعات المحلية، فكانت العودة إلى الورق أحد الحلول المطروحة. كما ساهم توفّر الدعم المالي لمثل هذه المشاريع خلال مرحلة من مراحل الحرب في تصاعد عدد الجرائد وسنمرُّ على هذا لاحقاً.

هكذا تأسست خلال الفترة الممتدة من آذار (مارس) 2011 وحتى شباط (فبراير) 2012 ما يقارب 29 مطبوعة، بينما شهدت الفترة من آذار 2012 وحتى شباط 2013 ظهور 108 مطبوعات ما بين جريدة ومجلّة. في المقابل بدأت حركة الإغلاق بالتصاعد منذ عام 20146، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عامي 2013 و2014 كانا من أكثر أعوام الحرب دموية، وقد شهدا انقسام البلاد وخضوع مناطق واسعة منها لسيطرة فصائل وجهات عسكرية مختلفة، كما يتوجب التذكير بعدم قدرة ناشطين وهواة وصحفيين على الاستمرار بمشاريعهم ضمن ظروف العنف والاختطاف والاعتقال التي فرضتها الحرب، إذ تحتل سوريا منذ العام 2011 مركزاً متقدماً ضمن قائمة أخطر الدول على العمل الصحفي.

بالاستناد إلى ما سبق، يمكننا تتبع المسار الذي عاشته محاولات تأسيس صحافة مطبوعة معارضة في سوريا خلال فترة الثورة والحرب، حيث نشطت بعض هذه الصحف بشكل محلي في مناطق خرجت عن سيطرة النظام السوري، مثل جريدة عنب بلدي في درايا أو أوكسجين في الزبداني، إلا أن تصاعد وتيرة العنف أجبرت كل الصحف السورية على النزوح خارج سوريا، حيث استقرت منذ العام 2015 خارج الحدود، بالتحديد في مدينة غازي عنتاب التركية، التي باتت مركز تجمّع للناشطين والمعارضين السوريين، بالإضافة إلى المنظمات والمؤسسات الدولية وغير الحكومية الناشطة في مجال الإعلام، والتي عملت على تنظيم ورشات عمل ساهمت في امتلاك عدد من الناشطين الإعلاميين خبرات أكثر مهنية، خاصة مع طرح مسألة المهنية كهاجس أساسي مع طول فترة الصراع، وتعقد العلاقات ما بين جبهات القتال التي كانت تشهد تغيّراً يومياً. خلال هذه المرحلة بات تأسيس جريدة بداية لمشروع إعلامي يمكن أن يحقق بعض الاستقرار المادي والمعنوي لناشطين وصحفيين وجدوا أنفسهم في المنفى دون أعمال مستقرة، وهذا يفسر بعض الشيء أسباب زيادة أعداد الجرائد في الفترة الممتدة ما بين 2013 وحتى أواخر العام 20157.

اختفاء الجريدة

تراجعت حركة الإعلان عن تأسيس صحف ووسائل إعلام جديدة ابتداءً من العام 2016، مقارنة بالأعوام السابقة، يضاف إلى التراجع المذكور توقف العديد من الصحف خلال السنوات التالية، وبعد أن أُعلن عن تأسيس ما يقارب 300 مطبوعة في سوريا ما بين جريدة ومجلة منذ عام 2011، بقي 13 مطبوعة فقط تحافظ على صدورها وإن بشكل غير منتظم لغالبيتها في مطلع العام 2021، ولا يوجد بينها أي مطبوعة يومية8.

يمكن القول إن مشروع الصحافة المطبوعة قام به في البداية نشطاء معارضون سياسياً للنظام، تحوّل بعضهم إلى العمل الصحفي الاحترافي خلال سنوات الصراع، في المقابل كان هناك حضور لكتّاب وصحفيين محترفين في بعض هذه المشاريع الإعلامية، بينما ارتبطت غالبيتها بالتنسيقيات ومكاتبها الإعلامية في البداية. غير أن استمرارية بعض الصحف كان شبه مستحيل مع مقتل واعتقال وهجرة كثير من كوادرها، كما أن ظروف الاستقرار لم تعد متوفرة في الدول المحيطة بسوريا، والتي انتقل معظم الصحفيين إليها بالتحديد لبنان وتركيا، قبل أن يضطر كثير من النشطاء والصحفيين المرتبطين بهذه المشاريع إلى هجرة ثانية حملتهم في الغالب باتجاه الدول الأوروبية وكندا وأميركا.

بهذا يمكن تقسيم المراحل التي عرفتها الصحافة المطبوعة إلى ثلاث مراحل مرتبطة بتطور الصراع في البلاد:

تبدأ المرحلة الأولى من آذار 2011 وحتى خريف العام 2012. وهي مرحلة غلبت عليها التظاهرات والحراك السلمي وفيها ازدهرت الصحف الناشئة داخل سوريا، وبلغ عددها ما يقارب 25 إلى 30 صحيفة، لاقت بعض المساندة من سوريين في الخارج ومن مثقفين وناشطين سياسيين، وكان تمويلها في الغالب شبه ذاتي وقائماً على التبرعات الشخصية.

المرحلة الثانية تبدأ من خريف 2012 حتى خريف 2015. في هذه المرحلة تكرّسَ تحول الانتفاضة الشعبية نحو العمل المسلح، ثم اتجه الصراع الداخلي ليصبح صراعاً إقليمياً مع اشتراك الميليشيات الشيعية في الحرب إلى جانب النظام، ووصول الجهاديين للالتحاق بصفوف الجماعات الإسلامية المتطرفة، ثم أخذ الصراع طابعه الدولي إثر تدخل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2014 ضمن إطار الحرب على الإرهاب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ثم التدخل الروسي في أيلول 2015 إلى جانب قوات النظام.

خلال هذه المرحلة خرج كثير من الناشطين والصحفيين من البلاد، بعضهم نقل عمله الصحفي معه، وبعضهم أسس صحفاً خارج سوريا، وشهدت نهاية هذه المرحلة انتقال الصحافة المطبوعة بالكامل إلى المنفى.

المرحلة الثالثة، والتي شهدت تراجع الإعلان عن صحف جديدة وإغلاق عدد من الصحف التي كانت قائمة، تبدأ مطلع عام 2016، متزامنة مع تراجع الدعم الدولي والإقليمي، وظهور صراعات أخرى استقطبت تمويل المنظمات التي كانت تدعم بعض وسائل الإعلام السورية. إضافة إلى ما سبق، تقدّمَ النظام السوري عسكرياً، وسيطر على مناطق واسعة منها حلب وبعض أريافها بالإضافة إلى الغوطة الشرقية، وكامل محيط مدينة دمشق ومدينة درعا وريفها في الجنوب. الهزيمة العسكرية أمام النظام ترافقت مع تراجع الاهتمام الدولي بالملف السوري، والهجرة الثانية لصحفيين ونشطاء غيّروا أماكن إقامتهم من دول الجوار السوري إلى دول أوروبا وأميركا الشمالية. ضمن هذا السياق انتهى وجود عدد كبير من المشاريع الإعلامية، وما ينطبق على الصحف ينطبق على محطات الراديو وغيرها من المشاريع التي تعثرت أو توقفت في هذه الفترة.

كذلك شكّل سؤال الاستقلال المالي عن المؤسسات المانحة عقبة أساسية أمام استمرارية كثير من المشاريع الإعلامية، التي لم تستطع البقاء بسبب انقطاع التمويل أو عدم انتظامه، فعملية تأسيس جريدة، والتي كانت بشكل شبه كامل طوعية وتقوم على تبرع صحفيين وناشطين وجامعيين بالعمل والتكاليف، تطورت مع طول مدة الصراع، وخضعت هي الأخرى لشروط الحرب والتدخلات الإقليمية والدولية، قبل أن تصبح لاجئة خارج البلاد. مولت المشاريعَ الأولى التبرعاتُ المباشرة لبعض الناشطين والمعارضين، فخلال تلك الفترة كان الأمل بانفتاح الفضاء العام والتغيير السياسي يحدو الجميع، إلا أن حالة الأمل هذه انتهت عندما انفلت العنف ولم يحصل التغيير المأمول بقدر ما تعقّد الوصول إليه.

خاتمة

كان إنتاج رواية مضادة لتلك التي أصدرها النظام عن الأحداث عاملاً أساسياً وراء نشوء وسائل الإعلام خلال السنوات الماضية، سواء كانت جرائد ومجلات أو مواقع إلكترونية ومحطات راديو وتلفزيون أو حتى مراكز أبحاث، بينما يمكن اعتبار الصحافة المطبوعة «ظاهرة مؤقتة»، عرفها المشهد الإعلامي. ولا يحمل هذا التوصيف حكماً سلبياً ينتقص من قيمتها، بل يسمح بإظهار مدى الصعوبة التي يمكن أن يواجهها تأسيس صحافة مطبوعة في حالة الحرب وعدم الاستقرار، وضمن سياق الصراع السياسي والعسكري الذي أخضع جميع السوريين لشروطه.

بالرغم من ذلك، ربما ستقدم لنا الصحافة المطبوعة وثيقة هامّة في الأيام القادمة لدراسة بعض التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية الاجتماعية التي عاشتها سوريا، خاصة تلك التي اهتمت بتغطية الأحداث في بعض المجتمعات المحلية، كما ستسمح لنا هذه الصحف بمعرفة تطوُّر ما استمرَّ منها أو من سيحاول العودة للصدور في المستقبل.

1. Boëx Cécile, « Figures remixées des martyrs de la révolte en Syrie sur YouTube. Réinterprétations politiques et mémoires vernaculaires de la mort héroïque », Archives de sciences sociales des religions, 2018/1 (n° 181), p. 95-118.

2. Sahar Khamis, Paul B. Gold , Katherine Vaughn, Beyond Egypt’s «Facebook Revolution» and Syria’s «YouTube Uprising:» Comparing Political Contexts, Actors and Communication Strategies, March 28, 2012.

3. Ibid., Khamis, Gold, Vaughn.

4. De Angelis, Enrico, L’Evolution du journalisme citoyen en Syrie le cas des web radios.

5. مصطفى، حمزة، المجال العام الافتراضي في الثورة السوريّة، الخصائص الاتجاهات آليات صنع الرأي العام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، 2012،

6. DOLLET, Soazig, La nouvelle presse syrienne, Bilan, défis et perspectives, http://www.cfi.fr/sites/default/files/etude_presse_syrienne_VF.pdf

7. للاطلاع على حركة تأسيس الصحف وتوقف نشاطها وأعدادها يمكن العودة إلى أرشيف المطبوعات السورية على الرابط https://ar.syrianprints.org/

8. يمكن مراجعتها من خلال أرشيف المطبوعات السورية السابق ذكره.

موقع الجمهورية

——————————-

ماذا بعد احتفاليات الثورة؟ متى تصبح مبادئ الثورة السورية قضية؟/ ياسين عبد الله جمّول

لا يُخفي كثير من السوريين فرحتهم بالمظاهر الاحتفالية المميزة التي انتعشت بها النفوس في الذكرى العاشرة للثورة السورية؛ إذ لا مجال لإنكار الانتكاسات التي حصلت سياسياً وعسكرياً واقتصادياً خلال السنوات الأخيرة، حتى زُعزع الإيمان بالثورة وأهدافها.

وعلى التوازي نشطت أقلام كثيرة في تخليد الذكرى؛ ولعل مجلداً يضيق بما نُشر من مقالات ومدونات شرّقت وغرّبت في المراجعة والتحليل، وهذا مظهر إيجابي آخر بغضّ النظر عن تقييم المحتوى؛ لاسيما عند النظر إليه من زاوية قلة التدوين والتقصير بحق الثورة السورية في الكتابة والتوثيق الصحيح.

وجاءت أكثر التحليلات في اتجاه إصدار الأحكام فيما عُدّت مواطن خلل وقصور وخطأ؛ لكنها أحكام بطبيعة الحال والموقف غير مسلَّم بها، لأنها تنطلق من خلفيات أصحاب التحليل والمنصات الصادرة عنها، فلا تخرج عن الفرز والتصنيف بين أصحاب النعيم وأهل الجحيم!

ونحن – أعني السوريين – اليوم بأمسّ الحاجة للخطاب الجامع؛ وما أكثر الخطابات التي يُزعم فيها الجمع وهي في عنوانها ومحتواها أدوات تفرقة وهدم! وفي إطار الاستفادة من تجارب سبقتنا على طريق التحرّر المنشود؛ استوقفتْني ورقة صدرت عن “مركز الحوار السوري” بعنوان: نحو تحويل مبادئ الثورة إلى قضية في أذهان السوريين – دروس مستفادة من التجربة الفلسطينية.

ولعل أول ما يجذب فيها تقدُّم كلام غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” خلال محاولته دراسة سلوك المجتمعات بعد الثورات وتفسيرها؛ فهو يرى أنه يمكن للمجتمعات أن تتبنى أفكاراً جديدة وتتمسك بها، مثل الحريات، ثم تتمرد عليها لاحقاً؛ لأن أفكار التغيير الجديدة لم تترسخ لديها، ولم تغيّر وعيها تجاه الأفكار الراسخة المستقرة التي نشأت عليها دينياً أو اجتماعياً أو سياسياً.

فهذا تحليل دقيق لا يحتاج أمثلة تصدّقه، فهي طافحة في مسيرة ثورتنا خلال عشر سنوات؛ لكن الأهم أن هذا مما يُوجِب على قادة التغيير أو الفعل الثوري العمل على الاستفادة من الثورات – وهي أحداث خاطفة تترافق مع لحظات وعي مؤقتة – والعمل على الحفاظ على تلك الطبقة الهشّة من الأفكار الجديدة، وتعميقها وغرسها لتتحول إلى أفكار راسخة عميقة، وذلك للوصول إلى جيل تكون أفكاره الراسخة مزيجاً بين الأفكار القديمة والجديدة، وبالتالي تكون قابليته للتغيير أسهل وأسرع.

ودون الغرق في الإطار النظري والفلسفي لمعنى “قضية” و “مشكلة” نجد أن الثورة السورية تستحوذ الأركان التي ذكرها الباحثون للخروج بحالة ما من تِيه “المشكلة” إلى برّ أمان “القضية”؛ فالقضية كما تصفها الورقة المشار إليها: مشكلة تحمل بُعداً إنسانياً، وخرجت عن إطارها المحليّ، وغيّرت أوضاعاً معينة في المجتمع تحتاج إلى تصحيح، وتآزرت مع مجموعة أخرى من المشكلات حتى شغلت الرأي العام، وترسّخت في الوعي الجمعي وخلقت لحامليها حالة انتماء، وليس لها حلّ قريب؛ وما أكثر الشواهد على كل ما ذُكر!

ولعل أحداً يهزأ بالفروقات بين تصنيف “مشكلة” و”قضية” ويراها لغواً في ثورة تضجّ بالدماء والآلام؛ فلا يُجاب إلا بالتذكير أن مما أضاع التضحيات وبدّد الدماء والإنجازات عبث الفاعلين بنا وتضييع معارضتنا بين ألفاظ لم يدققوا في معانيها، حتى هوَينا من “هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات” عام 2012 في جنيف1، إلى “حكم انتقالي غير طائفي” في فيينا، وحتى حصر الحل السياسي بلجنة دستورية! وهوتْ أماني السوريين بعدالة انتقالية تُنصف الضحايا وذويهم إلى “عدالة تصالحية” لم تكن زلّة لسان من المندوب الأممي!

فَلْنرفضْ أي توصيف للثورة السورية بأنها “حرب أهلية” أو “حرب طائفية” أو “تمرّد مسلّح” أو “صراع على السلطة” أو “أزمة” أو “مشكلة”؛ فلكل توصيف منها ظلال تضيع فيها أهداف الثورة وتضحيات أبنائها.

لكنّ المشهد معقّد بلا شك، و”القضية الفلسطينية” التي لم نعرفها لعقود في مناهجنا وإعلامنا إلا أنها “قضية” تختلف عن “القضية السورية” في عدة نقاط؛ إلا أنها في المقابل تتفق معها في أمور كثيرة: التطلّع للتحرر، والتمرّد على القهر، والتضحيات الكبيرة، وفي الأدوات التي استعملها الطرف الآخر لمواجهتها من قتل وقصف وتهجير وتعذيب، وفي حالة اللجوء والتشرد، وفي أثر العامل الخارجي، وحالة التيه السياسي التي خلقت انقساماً حاداً اجتماعياً وسياسياً.

ومن أجود ما في الورقة التركيز على العمل الشعبي التعبوي الجماهيري في المقاربة مع القضية الفلسطينية لترسيخ مبادئ الثورة السورية قضيةً في أذهان السوريين.

فمما ذُكر فيها ضمن ملامح إستراتيجية العمل الشعبي للقضية؛ ونحن بأمسّ الحاجة إليه: ترسيخ حقّ المقاومة بأشكالها كافة، دون أن يعني الحرص على الحل السياسي تجريم العمل العسكري، لاسيما مع نظام مستبدّ جمع على الشعب السوري مجرمي العالم والمرتزقة من جنسيات شتى، ومن باب أَولى في الوطنية والصدق عدم تجريم العمل المسلح الذي دخله السوريون بالإكراه بسبب إجرام النظام وقمعه.

وإحياء مفهوم حق العودة؛ ولا عودة في ظل بقاء الأسد وزمرته، وهذا ثابت وطني ثوريّ يحفظ حقوق أكثر من 12 مليون سوري نصفهم مهجَّرون في الداخل ونصفهم الآخر لاجئون خارج سوريا.

والتركيز على الثوابت والأمور الجامعة؛ من نحو ما أصدره المجلس الإسلامي السوري في وثيقة المبادئ الخمسة ثم في ركائز الهوية السورية، بعيداً عن الهويات القاتلة التي تسعى جهات سورية وخارجية لتصديرها وتحميلها قسراً علينا.

وصناعة الكوادر؛ وهذا مما قصّرت فيه الجهات الثورية كلها عسكرية وسياسية وإنسانية، حتى بات تدول السلطة في المؤسسات الثورية بين أفراد معدودين وكأن الثورة السورية على عظمتها عجزت عن إنجاب غيرهم!

والتركيز على فئات المجتمع كلها؛ حتى لا يغيب عنا أن مصابي الحرب أكثر من مليونَين، وأن عدد الأطفال المحرومين من التعليم أكثر من 2.45 مليون، وأننا جميعاً نشعر بآلام المرأة السورية ونعي تضحياتها؛ وليس مَن يتاجرون بآلامها لتجريم المجتمع كله والمطالبة بالمروق التام عنه!

وكذلك ضبط الرواية حول القضية؛ وما أكثر الاختلاف في توثيق ما حصل! بل نختلف في تحديد منطلق الثورة فكيف في تفاصيلها؟! 

ومواكبة الحدث الميداني وصناعة الحدث السوري عالمياً؛ لنرى المظاهرات المؤيدة لمطالب الشعب السوري في شوارع العواصم العربية والغربية على نحو ما نراها لعقود تأييداً للقضية الفلسطينية.

لكنّ هذه الاستراتيجيات المهمة في العمل الشعبي لابد لإنجاحها من أدوات، وقد أجملته الورقة البحثية بالآتي: التوثيق؛ وهو على أنواع: توثيق عام لضبط رواية أحداث قضيتنا السورية، وتوثيق خاص للأحداث المهمة كالاستهداف بالكيماوي وعمليات التهجير القسري واستهداف المنشآت التعليمية والصحية وغيرها، وتوثيق التراث الذي تمتد إليه أيادي لصوص الحضارات للسرقة والتخريب والعبث، وتوثيق الانتهاكات لضمان تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب، وتوثيق ما في المخيمات تلك السجون التي حُشر فيها ملايين السوريين داخل سورية وخارجها، والتوثيق الشفوي الذي يجب الاهتمام به فكثير من شهود الثورة وأحداثها قضَوا دون تقييد ما عندهم فيها.

والكتابة الأدبية؛ ولا تزال أعمال كنفاني وغيره تخلّد القضية الفلسطينية على مدى التاريخ، وفي سوريا أدباء وكتّاب لابد من رعاية مواهبهم والعمل على نشر أعمالهم تخليداً لثورة الكرامة والقضية السورية.

والمناهج الدراسية؛ وقد آن منذ سنوات أوان الخروج بمناهج تليق بالقضية السورية، بعيداً عن اجترار مناهج الأسد والتعديلات التجميلية فيها.

والفن الشعبي؛ والفنون الفلسطينية تنتشر في دول العالم كافة، وعلى السوريين إظهار الفنون الشامية الأصيلة بمختلف أشكالها لإظهار وجه سورية الغنيّ المتنوّع الأصيل.

والإعلام الإعلام؛ وما نراه من قنوات حرّة تدعم القضية السورية لا يكفي، فأين قنواتنا الناطقة باللغات الأجنبية؟ وأين الصحف والمجلات بمختلف اللغات؟ وما الذي تشغله القضية السورية من مساحة في وسائل التواصل الاجتماعي؟ أسئلة تضع السوريين جميعاً في مواجهة عمل شعبي تعبوي كبير علينا النهوض جميعاً للعمل فيه.

ومن جميل ما جاء في الورقة استئناساً بالقضية الفلسطينية ثنائية “الداخل والخارج”، التي كانت خلال عشر سنوات أقرب للجدلية والضدّية منها للثنائية؛ مع أن عاقلاً لا ينكر أهمية نشاط “الخارج” في دعم “الداخل” منذ العام الأول للثورة، وهذا واجب لابد من متابعة الجهود وتكثيفها فيه، لضمان استمرار “الداخل” في اتقاد جذوة الثورة ودوامها؛ دون أن يتجاوز أهل “الخارج” حدود الأدب والوطنية في تعاملهم مع قضايا الثورة، ولاشك بوجود خلل لا يُعذرون فيه، فلابد من ضبط إيقاع العمل السياسي الوطني وفق أوجاع أهل “الداخل”، دون أن تصبح الزيارة للداخل لتبييض الصفحات وتزيين البروفايلات الشخصية بها فحسب على طريقة مرشحي الأنظمة المستبدة عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية.

ولا شك أن عوائق وتحديات كثيرة بسطت الورقة فيها الحديث تعترض طريقنا للوصول بالثورة السورية إلى أن تكون “قضية” لا تنمحي من أذهان السوريين؛ فالقضية الفلسطينية لم تصبح كذلك إلا بعد سنوات، وربما عقود.

لكنّ الثابت الأهم أن العمل وفق الاستراتيجيات المذكورة، والاستثمار الأمثل للأدوات المساعدة فيها؛ هو ما يجعلنا نقترب أكثر فأكثر من تأكيد عدالة قضيتنا السورية.

تلفزيون سوريا

——————————-

من غرنيكا إلى حمص ومن إسبانيا إلى سورية/ مروة شبنم أوروج

“حمل المتطوعون الذين قاتلوا في إسبانيا ذكرياتِ الحرب كجرح عميق في قلوبهم. ففي إسبانيا تعلّم الإنسان أنه قد يُهزم على الرغم من كونه على حقّ، وأن الاستبداد يمكن أن يُخضع الحَمِيّة، وأنّ الشجاعة لا تكافَأ أحيانًا”.

ألبير كامو

كانت الأغنية التي أصدرتها فرقة الروك الويلزية البديلة (Manic Street Preachers MSP) عام 1998، وهي تحمل اسم İf you tolerate this, your children will be next (إذا عفوتَ عن هذا، فسيكون أطفالك هم التالين)، مستوحاةً من الحرب الأهلية الإسبانية، وكان عنوان الأغنية التي تصف مثالية الشباب الويلزيين[1] الذين غادروا بلادهم للانضمام إلى الألوية الأممية (Brigadas internacionales) إلى جانب الجمهوريين، ضد الانقلابي القومي فرانثيسكو فرانكو، مقتبسًا من عبارةٍ كانت على الملصقات الجمهورية حينذاك. حيث كُتب أسفل الملصق الذي رُسم عليه صورة طفلٍ ميت تحت طائرات القوميين الحربية: “إذا عفوتَ عن هذا، فسيكون أطفالك هم التالين”.

وهذا ما حصل فعلًا، فما إنْ انتهت الحرب الأهلية التي أسفرت بين عامي 1936 و1939 عن مقتل 500 ألف شخص، وفق بعض التقديرات أو مليون شخص وفق تقديرات أخرى، بانتصار فرانكو، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح الملايين، منهم أطفال، بسبب عدم إيقاف فرانكو وبينيتو موسوليني وأدولف هيتلر.

أما عن جملة If I can shoot rabbits/then I can shoot fascists (ما دمت أستطيع أن أطلق النار على الأرانب، يمكنني إطلاق النار على الفاشيين) المذكورة في الأغنية، فكانت من أقوال مراهق ويلزي، كان يفسّر لأخيه سبب مغادرته ويلز، وانضمامه إلى الألوية الأممية ضد فرانكو. في الثلاثينيات من القرن الماضي، تحوّل دعاة السلام المناهضين للحرب إلى ناشطين ومتشددين ضد الفاشية، وذلك عندما أدركوا أنه لا يوجد ما يقومون به سوى النظر إلى جثث الأطفال الذين لقوا حتفهم. فأصبح من المنطقي أن تقتُل حتى لا تُقتَل. تمامًا كما تحوّل الشباب من مجرد ناشطين في بداية الثورة السورية إلى “جهاديين” اليوم، بحسب تعبير وسائل الإعلام الدولية.

بطبيعة الحال، إنّ أسرع أشكال التطرف يمكن أن يكون في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. والشعور بضرورة القيام بشيء، عند النظر باستمرار بوساطة شاشتك الصغيرة إلى صور الأطفال والرضّع ممزّقين ومتفحّمين الذين لو سُمح لهم بالعيش لكان لهم حياة وكبروا وتزوجوا وأصبح لديهم أحفاد، هو سببٌ كاف للتطرف، من دون الحاجة إلى العوامل الأخرى.

ألم يكن للصور الفظيعة التي تدفّقت إلى وسائل التواصل، طوال عشر سنوات من الحرب الأهلية سورية، تأثيرٌ أكثر من ملصقة في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، بمئات آلاف المرات؟ أكان هنالك بدائل، أمام المقهورين الذين يشعرون بأن عليهم القيام بشيء عند رؤية جثث الأطفال تحت أنقاض المباني التي تعرضت للقصف، تحُول دون تطرفهم؟

بينما كان فرانكو يتلقى الدعم بالمعدات والجنود والغطاء الجوي من النظام الفاشي الإيطالي، ومن ألمانيا النازية، كان الاتحاد السوفيتي والمكسيك يدعمون الجمهوريين. أما بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، فقد اكتفت بالاعتراف بالحكومة الجمهورية، وأخذت تراقب ما يحدث. وعلى الرغم من تطبيق الولايات المتحدة سياسة الحظر، كانت الشركات الأميركية، مثل فورد وجنرال موتورز وتيكسكو، تلبّي احتياجات فرانكو من آليات وشاحنات ونفط. وقد صرّح الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بالقول: “كانت السياسات التي اتبعناها في إسبانيا من أكبر الأخطاء”؛ إذ كانت الحرب الأهلية الإسبانية -كما قال السفير الأميركي في إسبانيا كلود باورز- بمنزلة تمرين للحرب العالمية الثانية.

بسبب المناخ السياسي الدولي في تلك الفترة، كان للحرب في إسبانيا العديد من الجوانب المختلفة، كما هو الحال في سورية. حيث وُصفت بتعريفات مثل: النضال ضد الدكتاتورية، والحرب من أجل الديمقراطية، وثورة ضد ثورة، والنضال ضد الفاشية والشيوعية والصراع الطبقي، وحرب دينية. بينما كان المحافظون والملكيون وبعض المجموعات التابعة للفلانخي الفاشية يدعمون فرانكو، جاء عشرات الآلاف من جميع أنحاء العالم للانضمام إلى الألوية الأممية في إسبانيا، على الرغم من سياسة عدم التدخل التي اتخذتها حكوماتهم.

وبالطريقة ذاتها، أثّرت وحشية النظام الطائفية والمجازر المروعة التي ارتُكبت، بدعم من إيران وحزب الله ولاحقًا روسيا، في مشاعر العديد من المسلمين في أنحاء العالم. كانت “متلازمة البطولة” هي حالة بين التطرّف نتيجة الشعور بالمسؤولية، في ظل صمت الأمم المتحدة والدول الكبرى والمنظمات الدولية حيال ما يجري من فظائع أو إسهام بعضها في ارتكابها أحيانًا، وبين السكوت والشعور بالمسؤولية. لكن من المؤسف أن عددًا كبيرًا من آلاف الشبّان الذين جاؤوا إلى سورية، للقتال ضد نظام الأسد المجرم، وقعوا في فخ المنظمات الإرهابية، مثل تنظيم (داعش)، بسبب طبيعة الحرب متعددة الطبقات، حتى أصبحوا دمى بيد تلك المنظمات. بينما تحوّل نضال الشعب السوري من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة، إلى حرب أهلية طائفية، نتيجة مصالح القوى الإقليمية والعالمية، وأصبح نظام الأسد “أهون الشرين” بنظر العالم، وذلك بفضل دعايته البارعة وبروز جماعات دينية متطرفة. وقد نتج عن ذلك مئات الآلاف من الضحايا، والملايين من المُهجّرين، وكان عدد هؤلاء أكثر من نصف السكان.

كان جورج أورويل، مؤلف كتاب “1984” و”مزرعة الحيوان”، وهو من أبرز المفكرين، من بين أولئك الذين لم يتمكنوا من البقاء غير مبالين بالحرب الأهلية الإسبانية. حيث ذهب إلى إسبانيا، وانضم إلى المتطوعين الذين يقاتلون ضد فرانكو، ثم وصف ما رآه وعاشه، في كتاب Homage to catalonia “تحية إلى كتالونيا”. أورويل، الذي أُصيب في حلقه نتيجة طلقة قناص ونجى من الموت بأعجوبة، تأثر بشدة من خيانة الثورة الإسبانية.

لم يكن هذان الكتابان المشهوران (اللذان طالما اقتبس منهما مَنْ يسمّون أنفسهم في تركيا بـ “المفكرين” الداعمين للأسد، بغية انتقاد سياسات أردوغان) ينتقدان فرانكو وهتلر وستالين، وأمثالهم (الأسد والمالكي وبوتين) فقط، بل كانا يحملان آثار ما حدث في إسبانيا، ومآسي الثورة والغباء واللامبالاة والأجندات الخفية التي تُفضي إلى الاستبداد.

وكذلك أصدرت الفرقة البريطانية للروك بانك The Clash، في عام 1979 أغنية Spanish Bombs (القنابل الإسبانية) ضمن ألبوم London calling (لندن تنادي)، حيث كانت الأغنية موجهة إلى وحشية نظام فرانكو، وأبطال الحرب الأهلية من الجمهوريين. لوحة الرسام بيكاسو الشهير (غرنيكا) أيضًا، صوّرت مدينة غرنيكا الباسكية التي تعرضت للقصف والتدمير، تمامًا مثل حمص، وذلك بمساعدة القوات النازية الألمانية والفاشية الإيطالية التي جاءت إلى إسبانيا لدعم نظام فرانكو.

كم تشبه أوروبا التي كانت موضوعًا لآلاف الرثاءات الفكرية والأعمال الفنية، بعد الحرب، الشرقَ الأوسط!! وكم تشبه الحرب الأهلية السورية التي لم تعد تنتهي منذ سنوات، الحرب الأهلية الإسبانية، بكل نواحيها الداخلية والخارجية، وكأنها نسخة مطولة عن الحرب الإسبانية.

لا شك في أن المثقفين سينتجون أفلامهم وأغانيهم وكتبهم وسيرسمون لوحاتهم، بعد سنوات، لتخليد ذكرى الحرب السورية، لكن الذين فقدوا أرواحهم في حماة وحمص ودرعا وحلب لن يستعيدوها. وعندما سيخرج أحدهم ليقول: سياستنا في الحرب الأهلية السورية كانت خاطئة، كما قال روزفلت، حينها ستتحول مأساة الملايين إلى وصمات عار في الذاكرة. ومع ذلك، فإن ما يميّز المعارضة السورية، من المقاومة الإسبانية، هو نظام الأسد، حيث إنه لن يستعيد مكانته أبدًا. وعلى الرغم من أن التضحيات كانت كبيرة، سيتخلّص أطفال سورية من أصفادهم بفضل النضال، حتى وإن كانت سورية بلدًا يمكن أن يُهزم الإنسان فيه، وهو على حقّ، ويمكن للاستبداد أن يُخضِع الحميّة، والشجاعة فيها لا تكافَأ”.

لم يبقَ لدى معظمنا الحبر لكثرة ما كتبناه عن سورية. في مكان بين الدعاء والتشدد، وبينما أكتب هذه السطور مع اقتراب الفجر وأنا أنظر إلى صور سورية في العشر سنوات الأخيرة، أغني بصوت هامس: “ما دمتُ أستطيع أن أطلق النار على الأرانب، يمكنني إطلاق النار على الأسد”.

حقًا! ما الذي يعوق ذهابنا -نحن الديمقراطيين والأحرار وناشطي حقوق الإنسان- إلى هناك، خاصة أن سورية فيها حقائق تزيد عن الحقائق التي جعلت جورج أورويل يذهب إلى إسبانيا.

[1] الغالِيّون أو الويلزيون (بالويلزيَّة: Cymry) هم أمة ومجموعة عرقية كلتيّة أصليَّة في ويلز، أو ترتبط بـ (ويلز)، من خلال الثقافة والتاريخ واللغة الويلزية. ويلز هي بلد جزء من المملكة المتحدة، وغالبية الأشخاص الذين يعيشون في ويلز هم مواطنون بريطانيون.

ترجمة فارس جاسم

————————–

==================

تحديث 05 نيسان 2021

————————-

الوجه غير المرئي للهزيمة السورية/ حازم نهار

لا تكون الهزائم التي تمنى بها الشعوب شيئًا مدمرًا على طول الخط، بل قد تكون فرصة لحياة أخرى مغايرة كليًا، ودافعًا لنهضة كبيرة، لكن هذا الانتقال من الهزيمة إلى التقدم مشروط دائمًا بمجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية، الخارجية والداخلية. وإذا كانت الأحوال الموضوعية والخارجية في لحظة ما تشير إلى استحالة أن تستطيع الذات (نحن) إنجاز شيء كبير، فإن قراءة التاريخ تخبرنا أن هذا العجز ليس حتميًا، وقد تتحول الذات إلى فاعل رئيس في الداخل، وإلى رقم مهم ومؤثر في العوامل الخارجية.

بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ذهب عبد الناصر في زيارة إلى الاتحاد السوفياتي في تموز/ يوليو 1968، وكانت زيارة حاسمة من حيث أهميتها في وضع النقاط على الحروف بشأن العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، وبناء تحالف متين في مواجهة إسرائيل وأميركا آنذاك، إذ طالب السوفييت بدعم سياسي وعسكري يساعد مصر في استعادة أرضها التي احتلتها إسرائيل، ويعيد ثقة العرب بأنفسهم بعد الهزيمة، تلك الثقة التي بُنيت على الوهم قبل حرب 1967، لتأتي صاعقة الهزيمة وتبدِّدها؛ دولة صغيرة مثل إسرائيل استطاعت خلال ستة أيام احتلال أراضٍ عربية تتبع دولًا ثلاث، الضفة الغربية والجولان وغزة وشبه جزيرة سيناء، بمساحة تعادل ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل قبل الحرب.

شارك كثيرون في اللقاءات بين الجانبين المصري والسوفياتي؛ عن الجانب المصري عبد الناصر وعبد المنعم رياض رئيس أركان الجيش المصري بعد الهزيمة، وعن الجانب السوفياتي بريجنيف، رئيس هيئة الرئاسة لمجلس السوفيات الأعلى، وغريتشكو، وزير الدفاع السوفياتي، وكوسيغين الذي أدى دورًا بارزًا على مستوى السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي. وفي اللقاءات هذه ضغط الروس كثيرًا على عبد الناصر للسير في طريق الحل السلمي، وتحدث عبد الناصر عن انسداد آفاق الحل السلمي، لكن من أجل إثبات صدقية توجهه نحو السلام، ترك عبد الناصر للروس التفاوض مع الأميركان للوصول إلى حل سلمي، شريطة ألا يطلبوا منه التنازل عن الأرض أو عن أي حق.

بعد عدد من اللقاءات، جاء عبد المنعم رياض إلى عبد الناصر، وقال له -بحسب ما يروي محمد حسنين هيكل في أحد لقاءاته: سيادة الرئيس أريد أن أقول لك شيئًا.. أن أقول لك شيئًا من قلبي.. أرجوك لا تقبل أيَّ حل سلمي. استغرب عبد الناصر، وقال له لماذا يا عبد المنعم؟ لو أنه فرصة لحل سلمي مشرف، وأنا عمومًا لا أجد أمامي هذا الحل، ما المانع في حال استطعت عبر الحل السلمي تحقيق ما نريده بالحرب، ووفرنا التكاليف الفادحة التي ستترتب على الحرب، أنا أريد توفير أي نقطة دم … إلخ.

تابع عبد المنعم رياض: أرجوك، من أجل الشباب، ومن أجل مستقبل هذا البلد، إذا مشينا في طريق الحل السلمي، حتى لو كان حلًا مشرفًا، سنجد في هذا البلد شعبًا متراخيًا… أنا أريد حلًا عسكريًا، حتى لو كان هناك حل سلمي، حتى لو أريقت دماء وكانت هناك ضحايا، لأنني أعتقد أن لا شيء سوف يبني هذا البلد، ولا شيء سوف يبني شبابه من جديد إلا إذا خاض هذا الشعب تجربة قتال حقيقية، أتمنى أن يدخل الشعب المصري في تجربة نار لكي يخرج من هذه النار وقد صلب معدنه.

لقد تعرف السوريون إلى مآسٍ كثيرة خلال العقد الفائت، وهُزمنا شرَّ هزيمة، لكن -في اعتقادي- يمكن تحويل الهزيمة إلى دافع ومحفِّز، وهذا له شروط عديدة؛ يأتي في طليعتها الاعتراف بالهزيمة أولًا. نحن نحتاج إلى الإقرار بهزيمتنا لكي نعرف كيف ننتصر، بل لنعرف معنى الانتصار وماهيته أساسًا. نحتاج إلى الإقرار بالهزيمة لنتعلم منها، ونتقن صناعة النصر بدلًا من إدماننا صناعة الهزيمة والفشل. إذا استطعنا الخروج من هزيمتنا سنكون أمام شعب آخر، لديه تجربته خصبة وغنية، يعرِّف نفسه بطريقة أخرى، وقادر على إنجاز الشيء الكثير. هذا هو الوجه غير المرئي للهزيمة.

تحدَّث هيكل في لقاء آخر مستذكرًا حالة المصريين بعد هزيمة حزيران/ يونيو، والمرحلة التي تلتها، ووصف عام 1969 بعام القلق بالنسبة إلى المصريين؛ حيث حرب الاستنزاف على الجبهة، والغارات الإسرائيلية أصبحت تصل إلى العمق المصري، وتطال مدنًا ومصانع مصرية، وثمة حركة سياسية دبلوماسية واسعة للوصول إلى حلّ سلمي بعد الحرب، لكن الأهم، كما يقول، هو ذلك الحوار الفكري الواسع الذي شارك فيه مثقفون من جميع التيارات حول الهزيمة وأسبابها وآليات مواجهتها.

على الرغم من الاعتقاد السائد بأنه عندما تتكلم المدافع يجب أن تخرس الألسنة، وأن الجدل الفكري بعد الهزيمة يبدو في نظر الكثيرين أنه بعيدٌ عن هموم الناس والمعركة الحقيقية، إلا أن ساحة الفكر والجدل والحوار تبقى أهم الساحات بعد أي هزيمة؛ لأنها تسمح لنا بأن نعي ما يجري، وأن نفكِّر بصورة عميقة في مشكلاتنا، ونغيّر في أدواتنا ووسائلنا وأدائنا. إنها الساحة التي يمكن أن تتشكل فيها ملامح المستقبل، لأن الحروب والهزائم مولِّدة للفكر والتفكير، لكنها ساحة تحتاج إلى الصبر وطرد الأوهام والاستغناء عن تلك الرؤى التي تهوِّن من مشكلاتنا وتقلِّل من شأن أخطائنا.

يتحدث سوريون كثيرون اليوم عن عددٍ من الأخطاء التي ارتُكبت خلال العقد الفائت، بعد أن أصبحت هذه الأخيرة واقعًا فاقعًا ومعروفًا. في الحقيقة لا توجد فضيلة في معرفة الخطأ بعد وقوعه، فكيف إذا كانت الأخطاء المرتكبة واضحة جدًا في وقت ارتكابها أصلًا لكل ذي بصيرة؟! على العموم ما يُطلق عليه اليوم أخطاء هو في الحقيقة أبعد من ذلك، إنها تدلّ، في الحدّ الأدنى، على طريقة تفكير خاطئة أصلًا، وتشير إلى نمط تفكير غير عقلاني، بسيط ومسطَّح. وعمومًا لا يغيب عن البال أن حديث البعض عن “أخطاء” فحسب يسمح لهم بالاستمرار في وجودهم ومواقعهم في الساحة من دون ضريبة كبيرة، إنما بالعقلية ذاتها المنتِجة للأخطاء دائمًا.

هناك موجة تفاؤل كبيرة يصدرها بعض من ساهموا فعليًا في إنتاج هزيمتنا أو أوهام الانتصار. هناك موجة تفاؤل استنادًا إلى أزمة الطرف الآخر، أي النظام السوري، وليس انطلاقًا من الإنتاج الذاتي، كمن يبني أمجاده اعتمادًا على عيوب الآخر ومشكلاته. هذا الخطاب مشابه تمامًا لخطاب النظام السوري نفسه الذي أعلن في مرات عديدة انتصاره، وفي الجوهر ينتميان إلى البنية الفكرية نفسها وإن اختلفا شكلًا وموقعًا وموقفًا. شعار “الثورة مستمرة” يماثل شعار “خلصت” أو “الانتصار” اليوم. طرفان مهزومان على الصعد كافة، وما زالا يعاندان الاعتراف بحقائق الواقع.

اليوم، لا قيمة لانتصار النظام السوري أو انتصار الثورة بالمعاني السائدة، لأن سورية على حافة الهاوية، ولأن السوريين، داخلًا وخارجًا، ليسوا بخير أبدًا، ولا وجود لخير حقيقي في الأفق القريب على أقل تقدير. أصلًا، هناك فهم ضيق ومغلوط لمعنى الانتصار نفسه. تُعلِّمنا حرب الاستنزاف بين 1967 و1970 كثيرًا؛ شكلت هذه الحرب بالنسبة إلى مصر المهزومة القاعدة الصلبة التأسيسية التي خلقت من الفشل العسكري الذريع في حرب 1967، احتمالات متعدِّدة لردٍّ ممكنٍ على ذلك الفشل، وأنتجت نصرًا نسبيًا في عام 1973.

جبهتنا الثقافية تكاد تكون فارغة، وهي أقرب إلى سوق الهال، كلٌّ ينادي ويرفع صوته لترويج بضاعته. لا يوجد حوار حقيقي أو جدال أو نقد أو تفكير نقدي. أصلًا لا توجد جبهة ثقافية. قد ينظر كثيرون إلى هذا الأمر، بناء الجبهة الثقافية، بوصفه عملًا فارغًا أو غير مهم في زمن الفقر والتشرد والرصاص، لكن العكس هو الصحيح؛ سنبقى فارغين إن لم ننتج الثقافة، وسنظل ننتج الأخطاء والأوهام دائمًا.

ما المقصود بالهزيمة والانتصار اليوم سوريًا؟ نحن مهزومون لأننا لم ننجح في السير خطوة في طريق التحول إلى شعب بالمعنى السياسي، ومهزومون أيضًا لأننا نفتقد إلى الآن القدرة على بناء الدولة الوطنية، الدولة التي من دونها سنكون مجموعة بائسة من البشر التائهين في القرن الواحد والعشرين. نحن لم ننتج إلى الآن إلا قوى وتشكيلات سياسية لا تزيد على كونها فقاعات، وبعضنا يحاول بما أوتي من قوة، إحياء الموتى من الأشخاص والقوى السياسية، وكأننا نقول في سرّنا نحن جيدون لكن الواقع كان أكبر منا.

للنصر النسبي في 6 أكتوبر 1973 مسميات كثيرة في الوعي المصري، لكن “يوم العبور” ظل أهمها تعبيرًا؛ كان العبور من الضفة الغربية لقناة السويس إلى ضفتها الشرقية عبورًا من ضفة اليأس إلى ضفة الأمل، من الهزيمة إلى النصر. لم يكن هذا العبور سهلًا أو مصادفة لفعل يائس، بل كان عملًا شجاعًا ومدروسًا، هو خليط من العزيمة والتصميم والإعداد الجيد وإعادة النظر في كل شيء. نحتاج، نحن السوريين، إلى روح حرب الاستنزاف، لعلها تدفعنا إلى التفكير في إعادة النظر في ثقافتنا وآلياتنا وأدواتنا، لنخطو أول خطوة، بعيدًا من اليأس، قريبًا من الأمل. النصر الذي يأتي مصادفة أو بسهولة لا يعلِّمنا ولا يترك أثرًا في فكرنا ووجداننا.

المدن

—————————-

السوريون والتقيّة البعثية/ عبير نصر

(لم يعدْ هناك وطنٌ)، هذا قول حقّ، بعدما تحوّل السوري إلى مجرد مفردة مُستَهجنة في بطاقة الهوية، أو تهمة مريبة في جواز السفر، بينما ملايين السوريين، وبعد عام 2011، اضطروا للخروج من بلدهم، خوفاً من التعرّض للاضطهاد بسبب انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو القومية أو الاجتماعية، أو بسبب توجهاتهم السياسية.

هجر السوريون وطنهم، أو بالحدّ الأدنى غادروا مناطقهم التي عاشوا فيها، بعدما يئسوا من إصرار البعث على تربيتهم كأولاد مطيعين في حضن الحزب الحاكم المتطرّف، فيما قسم كبير منهم كانوا يعتبرون تنظيمات البعث أداتهم الرابحة دائماً للوصول إلى السلطة والثراء والمتن العام، وبطريقة ما صاروا يربطون مصائرهم السعيدة وأشكال حياتهم بضرورة بقائه، ضامنين بذلك تفوقاً ومكانة متمايزة عن البقية، حيث كان التنافس على أشدّه، بين الأفراد، كذلك الشبكات، والمناطق، والقطاعات، التي تتزاحم على نيل استحسان القيادة، لقضم حصة أكبر من كعكة الموارد السورية، وهو ما عزّزها خضوع مؤسسات الحزب القيادية لهيمنة الأجهزة الأمنية، وتحوّل عناصر الحزب إلى أدوات لرصد الخصوم والإبلاغ عنهم، مقابل حصولهم على امتيازات ومكاسب مالية أو مناصب.

دراسة عميقة للحالة السورية منذ خمسة عقود، تقدّم تحليلاً موضوعياً لما وصل إليه حال الشعب السوري، الذي يعيش الشتات (بأقسى معانيه) داخل البلاد وخارجها، ولم يكن من المفاجئ وبعدما تبنّى المُحتجّون السوريون، الذين انتفضوا عام 2011، مقاربةً لاطائفية في البداية، أن يطغى الخطاب الطائفي على النزاع لاحقاً، ففي غضون شهر واحد من انطلاق الموجة الأولى من الاحتجاجات، باتت الهويةُ الطائفية عاملاً مهمّاً، في تصاعد النزاع كما في تفسير دوافعه، فالبعث طوال حقبته كان يتقصّد من وراء تغييب المسألة الطائفية إخفاء الطبيعة الطائفية للنواة الصلبة للنظام الأسدي، فأيّ حوار في هذا السياق، كان سيقود للسؤال عن تلك النواة، لذا كان الكبحُ المطلق لأي نقاش حولها، أداةً لطمر طبيعة وسلوكيات النظام الطائفية، وقد ساعد توقّع نشوب العنف الطائفي اليوم، الانقلابُ البعثي الشهير عام 1963، والذي على إثره اندلعت الصراعات الداخلية التي أغرقت البلاد دماً، على شكل حروب أهلية غير مُعلنة، تلك الحروب التي أفرزت إحداها الأخرى، حتى وصلنا إلى الحرب الأهلية السورية الصريحة طوال العقد الأخير.

وكان حزب البعث أداةَ النظام الفعالة لاحتواء السوريين بمختلف أطيافهم، ونجح إلى حدّ كبير في تحويل المجتمع السوري إلى حالةٍ متأصلة مع الأسس الإيديولوجية للنظام المستبدّ، كثيرة العنف، مفروضة على الذات الجمعية للسوريين، الذين كانوا في الحقيقة أطرافاً هامشية لكيانٍ لا وطني يشكّل الحاكمُ المطلق عقله المُدبّر، وهذا ما جعل العملة الأساسية الرائجة في هذا الحكم المُبعثر، والمفتاح الذي يفتح أبواب الامتيازات والموارد، هما الولاء الأعمى للنظام ومدى فائدة الأطراف المعنية في الحفاظ على السلطة، وليس تماماً الانتماء الطائفي، فتلك الديناميكية البعثية، التي لهثت دوماً لخلق توافقٍ ما بين خطاب سياسي رنّان وأفعال مناقضة له تماماً، أثبتت فعاليتها على الدوام، إذ كان كلّ مواطن سوري مبرمجاً بطريقة مُحكمة، أشبه برجلٍ آلي.

فالمواطن عضو في حزب البعث من المهد إلى اللحد، بدءاً بمنظمة طلائع البعث، التي تمثل المؤسسة الفكرية للطفولة التي يبثّ من خلالها أفكاره، مستغلاً غياب أيّ فكر منافس بحكم الدولة وسلطة القانون، ثم اتحاد شبيبة الثورة، لتكون المشرفة على جميع الأنشطة الطلابية للمرحلة الإعدادية، لإفقاد الجيل هويته الوطنية، وإشغاله بالثقافة القومية والشعارات الطنّانة الجوفاء ضد الاستعمار، وتخوين كلّ ما هو خارج عن سلطته ومنظومته، ثم تأتي عملية تنسيب طلاب المرحلة الثانوية بالإجبار لحزب البعث، وربط جميع المدارس بالنقاط البعثية المنتشرة في البلاد، وما إن يدخلَ الرفيق الحزبي الجامعة، وبعدها سوق العمل، سيكتشف أنّ الحزب متغلغل في قطاعات الدولة، من خلال ربط الوزارات الحكومية بالفرق الحزبية عبر المؤسسات العامة الحكومية، وهكذا يصبح تعبير (عضو عامل) هو كلمة السرّ السحرية التي يمكن من خلالها تجاوز الخطوط الحمراء، والتعدّي على الآخرين، والقفز من فوق القانون دون رقيب أو حسيب.

والبعثية السورية التي قامت على أساس هياكل محلية مُبعثرة سمحت للنظام بدمج، أو ترقية، أو تهميش، فئات تنتمي إلى طوائف مختلفة، وفقاً لمدى ولائها وفائدتها في خدمة الهدف المتمثّل بالحفاظ على السلطة، إلى جانب ضخّ العنف السياسي، الذي وصل ذرى شاهقة في حقبة الثمانينيات، ما فجّر نوابع الخوف في العلاقات الاجتماعية، فيما خدم الوجود الطاغي لأجهزة المخابرات كتذكير بأنّ احتمال القمع لا يزال موجوداً، وبالتالي، يمكن نقل المطالب والتظلّمات إلى القيادة ثم تنفيسها في وقت مبكّر، فيتم بذلك تجنّب تفاقم السخط والتوترات الاجتماعية التي قد يولّدها غياب المشاركة الفعلية، أما التفاوتات الفاقعة التي أفرزها نظام المحسوبيات وفق الهويات ما قبل الوطنية، فسمحت بالإدماج الانتقائي لقوى اجتماعية واقتصادية واختصاصيين لا غنى عنهم، من دون المسّ باحتكار القرار لدى القيادة “الحكيمة” أبداً.

وبعد عام 2000، شهدت تلك الفترة انحساراً واضحاً في سطوة الحزب لحساب تغوّل الأجهزة الأمنية، التي شرعت في التصدّي لحراك تمثّل في لجان إحياء المجتمع المدني، ثم إعلان دمشق في 2005 الذي ضمّ أهم قوى المعارضة السياسية بمختلف اتجاهاتها، ومثَّل ذلك تحدياً مباشراً للنظام ولحزبه المدلل، وأدى إلى تهيئة البيئة لانخراط سوريا في موجة الربيع العربي، والتي مرّ فيها حزب البعث بتحولات كبيرة كشفت ترهله وهشاشة بنيته التنظيمية، وهو الأمر الذي اعتبره رئيس النظام والأمين العام لحزب البعث، بشار الأسد، ظاهرةً صحية، ساعدت الحزب بالتخلص ممن وصفهم بـالانتهازيين، أبرز هذه التحولات كان انحياز الآلاف من أعضاء الحزب عن الرؤية الرسمية له، إلى جانب الانشقاقات الكثيرة التي طالته في الجيش والأمن.

وفي الحقيقة لم تندلع الانتفاضة السورية، في بدايتها، بسبب الطائفية، بل بفعلِ جُملة من التظلّمات السياسية والاجتماعية النابعة، أساساً، من فشل الإصلاحات الاقتصادية التي طبّقها نظام بشار الأسد، والتي عزّزها إرثٌ من العنف غيّر بسرعة مدهشة سردية هذا النزاع، وحزب البعث، لا شكّ، رسّخ أسس العبادة الكاريكاتورية للشخصية التاريخية الخالدة التي أحاطت بآل الأسد، ومضامين نزعاته الأسطورية، كانت حول وهم الأمة العربية المتسيّدة والرسالة الخالدة، والإيمان بالحركات الانقلابية، ومناهضة قيم المساواة الإنسانية، والحريات السياسية، ما شوّه شكل الوطن المُشتهى، الذي ربما لم يُوجد أساساً في ظلّ البعث الفاشيّ الذي غدا الفضاء العام لتغوّل السلطة الشمولية، والتي، بدورها، ما كان لها أن تكون بكلّ هذه القدرة على القمع العام والهيمنة المطلقة، لولا عقوداً طويلة من الخطابية والتربية البعثية، التي فرضها واجتاح بها كل أوجه الحياة، لتكونَ بؤراً محتقنة للفساد والانحلال الأخلاقي والمجتمعي، ونتيجة لذلك لا غرابة أن تُستبدل اليوم ديكتاتوريةُ الفرد أو العائلة بديكتاتورية العديد من مراكز القوى العالمية، التي راحت ترسم الخطوط الفاصلة بين المعارضين وبين الموالين للنظام السوري، بالمنطقِ الذي يتوافق فقط مع مصالحها الشخصية.

المدن

———————-

عشر سنوات على “الحرب” السورية

قبل عشر سنوات، أطلق جنود الأسد النار على ثلاثة أطفال، رسموا شعارات تدين النظام. واندلعت الاحتجاجات وسقط في الحرب الأهلية التي لم تخبُ نارها بعد نحو مليون شخص.

في مطلع آذار/ مارس 2011، أي قبل عشر سنوات بالضبط، أطلق جنود جيش الرئيس السوري بشار الأسد النار على ثلاثة أطفال كانوا يرسمون شعارات ضد النظام، في بلدة درعا جنوب سورية. عندما جاء ذوو الأطفال القلقون للاطمئنان على ما حدث لأبنائهم، قال لهم الجنود: “انسوا الأطفال. عودوا إلى المنزل لتنجبوا أطفالًا آخرين، وإذا كانت هناك مشكلات، فسنرسل إليكم جنودنا لينجبوا لكم أطفالًا من نسائكم”.

بعد أيام قليلة، في 18 مارس/ آذار، اندلعت تظاهرات احتجاجية في المدينة. أرسل الأسد جيشه لإعادة النظام والأمن في درعا، لكن أعمال الشغب استمرت. وقتل الجنود مئات المتظاهرين. امتدت أعمال الشغب إلى مدن أخرى في حوران، وبشكل تدريجي في جميع أنحاء سورية. ما بدأ أعمال شغب في مدينة واحدة تحول إلى انتفاضة شعبية في جميع أنحاء البلاد، وتحولت الاحتجاجات إلى حرب أهلية، بين نظام الأسد، ومعظم المواطنين السوريين الذين سئموا الحكم الاستبدادي لأسرة الأسد.

بدأ تسلل العناصر الأجنبية إلى سورية، بينهم متعصبون من الطائفة السنية، وفي مقدمتهم تنظيم (داعش) الذي كان يحاول السيطرة على سورية، إضافة إلى أكراد العراق وتركيا، بهدف تعزيز نفوذ الأكراد في شمال البلاد، وقوات حزب الله. من لبنان، بهدف تقوية الأسد. عندما كان نظام الأسد على وشك الانهيار، انضمت إيران وروسيا اللتان دعمتا الأسد إلى نظامه، واستطاعتا حمايته من الانهيار والسقوط.

عدد القتلى في الحرب الأهلية السورية غير معروف، لكن التقديرات تراوح بين نصف مليون ومليون شخص، وعدد أكبر من الجرحى، معظمهم من المدنيين والنساء والأطفال. فيما نزح أكثر من 13 مليون شخص من ديارهم، معظمهم نازحون داخل سورية وأكثر من 5 ملايين لاجئ خارجها.

في الحرب الأهلية السورية، أظهرت جميع الأطراف، وبخاصة نظام الأسد، قسوة مروعة، من دون أي خطوط حمراء. استخدم الأسد الأسلحة الكيمياوية ضد خصومه. اليوم، هناك وقف واضح لإطلاق النار، أدى إلى استقرار الوضع، مع سيطرة الأسد على معظم أنحاء البلاد، بإشراف الحراب الروسية والإيرانية التي تسيطر على ما يقارب ثلثي البلاد، لكن الحرب ما تزال مستمرة على نار هادئة، وبالتأكيد هناك جمر تحت الرماد في ظل انعدام أي حل سياسي في الأفق.

سورية ليست مصر

اندلعت الحرب الأهلية في سورية في خضم (الربيع العربي)، وهي موجة الانتفاضات الشعبية ضد حكام مختلف الدول العربية، بدأت في تونس، وانتقلت إلى مصر وليبيا، وانتشرت في معظم الدول العربية.

في مقابلة مع صحيفة (وول ستريت جورنال) الأميركية، في أواخر كانون الثاني/ يناير، قبل شهر من اندلاع الحرب الأهلية، أوضح الأسد أن الربيع العربي لن يصل إلى سورية. وأوضح أن (سورية ليست مصر). وأضاف: “على الرغم من حقيقة أننا نعاني مشكلات أكثر خطورة من البلدان الأخرى، نتمتع بالاستقرار. هذا لأننا أكثر انتباهًا إلى شعبنا، وأقرب إلى المواقف والتصورات التي يحملونها. عندما يكون هناك توتر، وعندما يكون هناك هوة بين سياسة الحكومة والمواقف العامة، يفتح باب لعدم الاستقرار والاضطراب. مصر تلقت مساعدات أميركية، وبقينا بلا شيء، وبقينا في عزلة دولية، ومع ذلك، لم ينزل الناس هنا إلى الشوارع للتظاهر، لأن ما يدفع الناس إلى النزول للشوارع ليس المطالبة بالإصلاحات، ولا المشكلات الاقتصادية، بل إيمانهم الأيديولوجي والعقائدي”.

وقدّر الأسد أن موقف سورية المتطرف من العلاقات مع إسرائيل، وتطرفه في الموقف الداعم للقضية الفلسطينية، سيعطيها حصانة من موجات الاحتجاجات الشعبية التي تجتاح العالم العربي، فهذه القضايا في نظره أساسية لفهم النفس والمواقف العربية في العالم العربي. وقال في حينها إن حكمه ملتصق بما يؤمن به شعبه، وأنه لا يوجد في سورية، سخط وغضب على الدولة، لذا لا داعي للخوف من انتشار الاحتجاجات فيها.

فوجئت إسرائيل بالحرب الأهلية السورية. في إسرائيل، صُوِّر نظامُ الأسد مستقرًا، وكان من المقدّر أنه في حالة اندلاع أعمال شغب ستقمع بسرعة وحسم وبكل وحشية، تمامًا مثل الانتفاضات التي شهدها الحكم في عهد حافظ الأسد (والد بشار). حين اندلعت الحرب وأصبح كرسي الحكم مهددًا، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك بأن “أيام بشار الأسد في الحكم معدودة”. وكان باراك قد تفاوض على تسوية للانسحاب الإسرائيلي من الجولان، في زمن حافظ الأسد، ووصفه بالزعيم الشجاع والذكي، وبأنه أبو الدولة السورية الحديثة.

سوريا خيال

عشر سنوات مضت منذ تصريح إيهود باراك حول الاحتجاجات في سورية، وما زال الأسد الابن مستمرًا في الحكم، ومن الواضح أن حكمه ليس على وشك الانتهاء. لكن ما الذي يسيطر عليه؟ هل يسيطر على البلاد؟ هل يتحكم في الناس؟ أعتقد أن أهمّ فكرة قدمتها الحرب الأهلية السورية هي أن سورية خيال ووهم، والشعب السوري أيضًا خيال. سورية دولة مصطنعة، تضمّ السكان الموجودين داخل حدود، حُدِّدت بشكل تعسفي، من دون أي منطق ديموغرافي أو جغرافي، من مسؤولي القوى الاستعمارية، بحسب مصلحتهم. وفقًا لهذه الحدود الدولية، كان من المفترض أن تكون الجولان جزءًا من سورية. في (الربيع العربي)، انهار المخطط العام الذي أنشئ في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في سورية. الفكرة الثانية المهمة هي أن حكم سلالة الأسد هو حكم أقلية صغيرة، تشكل نحو 10٪ من السكان السوريين (وبعضهم يدعي أنها أقل) أقلية طائفية من الشعب السوري، تحكم بالاستبداد والطغيان والقساوة منذ 1969، وتزداد الكراهية تجاهها، وتأخذ أبعادًا عدة تراكمت على مدار سنوات طويلة، وتنبع قسوة عائلة الأسد غير المحدودة، من كونها تدرك أن فقدان السلطة سيجعلها تتعرض لإبادة جماعية، وانتقامات قاسية، ليس ضد عائلة الأسد فقط، وإنما ضدّ الطائفة العلوية، لهذا يحاول الاحتفاظ بكرسي الحكم بكل ثمن، مهما كان باهظًا.

سياسة إسرائيل

 في ضوء الحرب الاهلية السورية، كانت سياسة إسرائيل ذكية ومتعقلة، على الرغم من بعض الأخطاء الإسرائيلية المحدودة في تعاملها مع الحرب السورية. وتمثلت السياسة الإسرائيلية، في خطوات عدة أبرزها:

أولًا، لم تتدخل إسرائيل في الشأن الداخلي السوري، لأن تحديد الحكم في البلدان العربية -وبخاصة في سورية- ليس من وظيفتها، على الرغم من المأزق الذي واجهته إسرائيل في تدخلها في الشأن اللبناني، خصوصًا أن الحرب تجري أيضًا بين حزب الله وداعش، فمن الصعب تحديد موقف داعم لهذه الجهة أو تلك.

ثانيًا، تقدّم إسرائيل دعمًا إنسانيًا وطبّيًا للسكان المدنيين في سورية، خصوصًا السكان الذين يعيشون بالقرب من الحدود.

ثالثًا، تدافع إسرائيل وتحمي أمنها وحدودها وسيادتها ضد أي اعتداء على أراضيها، من خلال إطلاق النار أو القذائف العشوائية التي تسقط من جراء الحرب السورية.

رابعًا، تدير إسرائيل معركة عسكرية وأمنيّة إستراتيجية، لمنع أي تهديد يمس مصالحها الحيوية، ومنع التموضع الإيراني في سورية، ومنع قوات منظمة حزب الله من الانتشار على الحدود الإسرائيلية، والتصدي لشحنات الأسلحة المخصصة لحزب الله عن طريق سورية، والقصد شحنات الصواريخ التي ترسلها إيران، أو تلك التي يحصل عليها من المخزون السوري، وهذه تشكل تهديدًا كبيرًا على إسرائيل.

خامسًا، التكتم الإسرائيلي على مختلف النشاط الإسرائيلي في سورية، وعدم أخذ المسؤولية عنها، لمنع الأعداء من استهداف إسرائيل، على الرغم من أن إسرائيل، مع الأسف، لا تحافظ دائمًا على هذه العقيدة في سياستها.

الوعي الإسرائيلي المهمّ، في الموقف من الحرب الأهلية في سورية، كان من خلال التعامل مع قضية الجولان، لأنه ضروري لأمن إسرائيل، في نظرة إلى الوراء، لو انسحبت إسرائيل من الجولان في السابق، لكان هناك كارثة وطنية، كان علينا أن نتعامل اليوم مع خطر قيام إيران بتثبيت قواعدها على ضفاف بحيرة طبريا، وإنشاء قواعد لداعش وحزب الله في الجولان المطلّ على إسرائيل.

اليد التي تجمدت

في الأسبوع الماضي، نشرت جريدة الشرق الأوسط السعودية مقالًا، لمبعوث الرئيس الأميركي لمفاوضات السلام السورية الإسرائيلية، قال السيد فريدريك هوف “في مرحلة الرئيس أوباما، وصلت المفاوضات بين إسرائيل وسورية إلى مرحلة متقدمة جدًا حتى اندلاع الحرب الأهلية السورية. حيث جرى التوصل إلى مقترح مفصل تقدّم به المبعوث الأميركي لبشار الأسد في 28 شباط/ فبراير 2011، قبل أيام قليلة من اعتقال الأطفال في درعا، يقضي الاقتراح بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، على أساس الانسحاب الإسرائيلي إلى خطوط 4 حزيران/ يونيو 1967.

وتشير الوثائق التي قدمها هوف “إلى أن المفاوضات استندت إلى رغبة نتنياهو في العودة، إلى حدود 4 حزيران/ يونيو، بموجبها تستطيع دمشق السيطرة الكاملة على الجولان، مقابل اتفاق سلام شامل مع إسرائيل، بما في ذلك توقع إسرائيلي بأن سورية ستقطع العلاقات مع إيران وتنهيها”.

أدى اندلاع الحرب الأهلية في سورية إلى وضع حد للمفاوضات الخطرة التي كانت مغامرة خطرة كُبرى، وأصبح واضحًا للجميع اليوم مدى خطورتها، إذا انسحبت إسرائيل من الجولان، فقط حفنة من الناس الذين خاب أملهم، ما زالوا يرفضون الاعتراف بخطئهم، لأن الانسحاب من مواقفهم السابقة، والاعتراف بالخطأ كلمة مفقودة من قاموسهم، إلا أنهم ما زالوا يعتقدون أنه كان يجب الانسحاب من الجولان، مقابل اتفاق سلام مع السوريين، ومن بين أولئك الرئيس السابق لهيئة الأركان الإسرائيلية أوري ساغي. وهو رائد التصورات الخاطئة الخطرة في التاريخ الإسرائيلي بل إنه كان من أصحاب الادعاء بأن حافظ الأسد “اتخذ قرارًا إستراتيجيًا لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، ولتحقيق هذه الغاية، من الضروري أن تنسحب إسرائيل من الجولان، حتى قبل حرب يوم الغفران 1973.

منذ ذلك الحين، كان أوري ساغي من أشد المؤيدين للانسحاب من الجولان. عندما حاول باراك تسليم الجولان للعدو السوري، جنده إلى تياره، على الرغم من العلاقة العدائية بينهما، منذ خدمتهما في الجيش الإسرائيلي، وأوكل إليه قيادة المفاوضات مع السوريين والتنسيق لها. في النهاية، بعد أن رفض الأسد اقتراح باراك بالانسحاب من الجولان بأكمله، بسبب الخلاف على بضع عشرات من الأمتار على شواطئ بحيرة طبريا، ألقى ساغي باللوم على باراك، واتهمه بأنه لم يتنازل بما فيه الكفاية إرضاءً للأسد والسوريين، ونشر كتابًا عن تلك المفاوضات بعنوان (اليد التي تجمدت). ولم يقصد يد باراك الذي بقيت معلقة في الهواء عندما رفض وزير الخارجية السوري فاروق الشرع، مد يده والضغط على يد باراك في قمة واشنطن، إنما قصد موقف باراك الذي لم يتخذ الخطوة الأخيرة، تجاه السلام مع سورية.

خلال الحرب الأهلية السورية، ابتكر ساغي نظرية وهمية، مفادها أن انسحاب إسرائيل من الجولان كان سيحول دون اندلاع الحرب الأهلية ، لأن سورية كانت ستتبنى خيار السلام والديمقراطية. والنهج الليبرالي، وكان الشعب السوري سيتقبل استمرار الحكم العلوي من دون تحفظ، وسيؤيد الأسد زعيمًا وقائدًا ورجل سلام، وبانِي الديمقراطية، لاقت أوهام ساغي -مع الأسف- بعض التعاطف من المؤيدين والأتباع الحمقى الذين يرددون هذا الهراء. قلت سابقًا إن ساغي مجرد وهم، وأكثر وصف ملائم له، هو ما حمله عنوان كتابه الأول (أضواء في الضباب). إنه بالفعل مثل من يقود في ضباب كثيف، ويضيء الأضواء العالية التي تبهره، ولا تسمح له برؤية الواقع حاضرًا.

لا تكن راضيًا

خلال الصراع على مرتفعات الجولان، في التسعينيات، إلى جانب حججنا الرئيسية -القيمة الصهيونية والاستيطانية لمرتفعات الجولان، والقيمة الأمنية لمرتفعات الجولان، وأهمية السيطرة على موارد المياه في البلاد- قدمنا ​​أيضًا طبيعة النظام السوري. لهذا، قيل لنا إن موقفنا منحاز، ولا ينبع من حكم مهني، لكننا تمسكنا بمواقفنا ودافعنا عنها، بما يتناسب مع رغبتنا في البقاء في الجولان.

إن عيشك في الجولان يجعلك خبيرًا مهنيًا في الشؤون السورية أكثر من قائد هيئة الأركان، وكثير من المستشرقين والخبراء المهنيين، الحقيقة أنهم كانوا جميعهم مخطئين، وكنّا على حق؛ إذ اتضح أنهم في حرصهم على اتفاقية سلام، بأي ثمن، فقدوا البوصلة الصهيونية وفقدوا الاتجاه، وقطعوا صلتهم واتصالهم بالواقع. واتضح أن موقفهم كان منحازًا إلى مصالح ضيقة، وكل توقعاتهم كانت أسرابًا من الخيال.

اليوم، تدرك الأغلبية العظمى من الجمهور الإسرائيلي أن الجولان يجب أن يكون إسرائيليًا، وأنه سيكون إسرائيليًا إلى الأبد. ومع ذلك، يجب ألا نتقاعس أبدًا، ويجب أن نستمر في تقويته وتطويره، لضمان أن الواقع الذي أنشأناه هنا لا رجعة عنه، بأي شكل من الأشكال.

ترجمة: أيمن أبو جبل

عنوان المقال الأصلي: عقد على الحرب الأهلية السورية

الكاتب: هيئة تحرير مجلة شيسي بغولان – اوري هيتنر

 رابط المقال: https://bit.ly/2PDWoqP

مركز حرمون

————————

عشرة أعوام: ما زال التعذيب والموت يلاحق المعتقلين/ ميشال شماس

مضت عشرة أعوام على اندلاع ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد الاستبدادي الإجرامي، جرت خلالها تحوّلات على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية، أدّت إلى تغيّر كبير في مسار العمليات العسكرية لصالح الطاغية بشار الأسد، وإلى ازدياد سوء الحالة المعيشية للناس في المخيمات وفي جميع المناطق والمدن السورية، وتفاقمت أوضاع المعتقلات والمعتقلين في السجون ومراكز الاحتجاز السرّية والعلنية، ولا سيّما في معتقلات وسجون الأسد، ففي كل يوم يمضي على احتجازهم، نفقد واحدًا أو أكثر منهم قتلًا تحت التعذيب.

لم يسبق في التاريخ الحديث أن شهدت سجون أي بلدٍ في العالم هذه الأعداد الهائلة من المعتقلين، فعلى امتداد السنوات العشر الماضية، تعرّض ملايين من السوريات والسوريين للاعتقال من قبل نظام الأسد وأيضًا من قبل الميلشيات المسلحة المناوئة له، وكثير منهم اعتُقل أكثر من مرة، بينما قُتل عشرات الآلاف تحت التعذيب، أكثرهم قُتل في مراكز الاعتقال التابعة للأسد. وما يزال عشرات الآلاف من المعتقلين مخفيين قسريًا، وفقًا لأحدث التقارير الصادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي وثقت مقتل ما لا يقلّ عن 14391 تحت التعذيب، واختفاء قسري لأكثر من مئة ألف معتقل، لدى مختلف الأطراف، ولا سيما في سجون وأقبية المخابرات السورية التي تخفي وحدها أكثر من ثمانين ألفًا من المعتقلات والمعتقلين.

وبالرغم من مأساوية قضية المعتقلين، فإنها لم تحظ بالاهتمام الكافي في جميع المؤتمرات والمحادثات الدولية المتعلقة بسورية، طوال السنوات العشر الماضية، وفشلت جميع المحاولات العربية والدولية في الإفراج عن المعتقلات والمعتقلين، التي بدأت مع عمل بعثة المراقبين العرب المرسلة من الجامعة العربية إلى سورية عام 2011، وكان من بين مهماتها العمل على الإفراج عن جميع المعتقلين، إلا أن اللجنة فشلت في ذلك كليًا، وانسحبت من سورية. وفي 16 شباط/ فبراير 2012، طالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم (66/253) بالإفراج عن جميع المحتجزين تعسفًا بسبب الأحداث التي تشهدها سورية، وصدر بيان جنيف، ثم تلاه صدور العديد من البيانات والنداءات والقرارات الدولية، وفي مقدمها بيان جنيف والقرار 2254، وقد شددت جميعها على ضرورة إطلاق سراح المحتجزين لدى الأطراف كافة، إلا أن الأطراف المتنازعة وخاصة “نظام الأسد” لم تكتف بعدم إطلاق سراح المحتجزين لديها وحسب، بل استمرت في حملات الاعتقال حتى ضاقت بهم أماكن الاحتجاز.

وفي العام 2014، تم تسريب 55 ألف صورة تعود لـ 11 ألف معتقل، قُتلوا “تحت التعذيب” في سجون ومعتقلات نظام الأسد، في ما بات يُعرف بملف قيصر 2014، وقد أحدثت تلك الصور ضجة كبيرة في العالم، واعتقدنا أنها ستؤدي إلى حلحلة في قضية الاعتقال والمعتقلين أو حتى التخفيف من آلامهم على الأقل، إلا أنّ الأمر انقضى كالعادة بإصدار بيانات إدانة واستنكار، لا تُسمن ولا تغني من جوع، بينما واصلت أطراف النزاع حملات الاعتقال والتعذيب والقتل تحت التعذيب، في مختلف أنحاء سورية.

وفي العام 2015، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا بعنوان “المسلخ البشري”، تحدثت فيه عن تصفية أكثر من 13000 معتقل حرقًا، في محارق بشرية أقامها الأسد خصيصًا لذلك في سجن صيدنايا. وعلى الرغم من وحشية ما جرى ويجري في هذا “المسلخ البشري”، فقد اكتفى المجتمع الدولي بإصدار بيانات إدانة واستنكار من دون أي تحرّك ملموس لإنقاذ المعتقلين من جحيم الأسد.

هكذا كان الأمر على الصعيد الدولي، أما على الصعيد المحلّي، فكانت الأوضاع أكثر سوءًا، حيث لم تلق قضية المعتقلين الاهتمام اللازم من أصحاب الدار والقضية، إلا ما ندر من بعض المحامين والناشطين اللذين أخذوا على عاتقهم موضوع الدفاع عن آلاف المعتقلين الذين تمت إحالتهم إلى المحاكم، ولا سيما أمام محكمة الإرهاب، فيما لم يتمكنوا من مساعدة المعتقلين المختفين في سجون الأسد وأقبيته، وهم الذين يعدون بعشرات الألوف. وكان المُفترض من الهيئات السياسية والعسكرية التي تشكلت، كالمجلس الوطني وائتلاف قوى الثورة والهيئة العليا للمفاوضات، أن تولي اهتمامًا أكبر بقضية المعتقلين، كإنشاء مؤسسة خاصة تُعنى بقضية المعتقلين وتقدّم الدعم للمنظمات السورية التي تعمل في هذا المجال، لكن لم يحصل شيء من هذا، وتساءل كثيرٌ من أهالي المعتقلين: أين ذهبت تلك المبالغ الطائلة المخصصة للدفاع عن المعتقلات والمعتقلين، وتلك المخصصة للدعم المادي والنفسي للناجين منهم؟ وأما الفصائل المسلّحة التي ادّعت وما زالت تدّعي أنها قامت وتشكّلت لحماية ثورة الشعب السوري، فلم تهتم بقضية المعتقلين، حيث كان اهتمامها منصبًا في الغالب حول الإفراج عن مقاتليها، وفرض الإتاوات على الأهالي ومصادرة الممتلكات واعتقال كل من يخالفها وربما قتلهم.

وبعد ظهور ما سمّي مسار آستانا، وما جرى تحت هذا العنوان من عقد اتفاقات سياسية وهدن عسكرية، أدت إلى تهجير متبادل للسكان من مناطق سكناهم، كما حصل في اتفاقية إخلاء كفريّا والفوعة، واتفاقية المدن الأربعة (الزبداني – مضايا، كفريا – الفوعة)، واستدراج المعارضة المسلّحة، وتشليحها معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها.

وبعد أن أتمّت روسيا سيطرتها على الأرض، اتفقت مع تركيا وإيران على سحب ملفّ المعتقلين من التداول في اجتماعات جنيف، ونقله إلى آستانا، وساعدها في ذلك المبعوث السابق “ديمستورا” الذي سبق أن حذّرنا -في أحد الاجتماعات في جنيف- من الحديث عن المعتقلين، مدّعيًا “أن المطالبة بهم قد تعرّض حياتهم للخطر”. وفي نهاية 2017، أعلنت روسيا مع شركائها الضامنين في آستانا تشكيل “مجموعة عمل خاصة للإفراج عن المحتجزين رغم إرادتهم”، كما سمتهم، ولم نعرف شيئًا عن طريقة عمل هذه اللجنة ولا عن آلية تشكيلها، وكل ما أنجزته هذه اللجنة كان عملية تبادل يتيمة، أسفرت عن إطلاق سراح حوالي 20 معتقلًا في سجون الأسد، مقابل الإفراج عن 20 عسكريًا أسيرًا للنظام، كانوا محتجزين لدى الفصائل المسلحة، من أصل عشرات الآلاف المختفين قسريًا في سجون الأسد.

ومع انتقال مسار آستانا إلى سوتشي، وابتداع ما سمّي “اللجنة الدستورية”، كمدخل للحلّ السياسي في سورية، هرولت المعارضة السورية -بشقيها السياسي والعسكري- وأعضاء من المجتمع المدني، للدخول في عضوية تلك اللجنة، حيث جاءت مشاركتهم في اجتماعات هذه اللجنة، لتعطي مشروعية للخطة الروسية ولتسهّل الطريق أمامها لتجاوز ما نصت عليه القرارات الدولية، وفي مقدمها بيان جنيف والقرار 2254 اللذان نصّا بالترتيب على وقف إطلاق النار وإطلاق سراح كل المحتجزين لدى أطراف النزاع، كخطوة ضرورية لبناء إجراءات الثقة بين الأطراف المتنازعة، ثم تليها مفاوضات لتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحية، تشرف على عملية الإصلاح الدستوري وتُعرض نتائجها على الشعب، ومن بعدها تجري انتخابات برلمانية ورئاسية على أساس قانون انتخابي لا يُقصي أحدًا.

لقد أخطأت المعارضة السياسية والعسكرية التي تدعي تمثيل الشعب السوري، عندما هرولت إلى اجتماعات آستانا، وأخطأت أيضًا عندما أعطت موافقتها المجانية على مخرجات سوتشي، هذه الموافقة التي سهلت الطريق أمام روسيا للسير بخطتها للحلّ في سورية، والالتفاف على ما نصت عليه القرارات الدولية بقصد استبعادها لإعادة تدوير نظام الأسد من جديد.

وعلى الرغم من أهمية ما تحقق، على صعيد الملاحقات القضائية ضد المسؤولين عن التعذيب والقتل في نظام الأسد الإجرامي، فإننا -أفرادًا ومنظمات- ما زلنا مقصّرين بهذا الشكل أو ذاك، تجاه قضية المعتقلين، إذْ لم نستطع الاستفادة من وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في أوروبا، بحشدهم لمناصرة قضية المعتقلين، ولم نستطع الخروج من آفة الشللية والفردية في العمل، التي نشأنا عليها على امتداد أكثر من ستين عامًا، منذ حكم الوحدة مع مصر، مرورًا باستيلاء عسكريي البعث على السلطة وصولًا إلى حكم الأسد الذي جعل سورية مزرعةً له، وحوّل السوريات والسوريين فيها إلى مجرد عبيد له.

عشر سنوات مرّت على اندلاع انتفاضة السوريات والسوريين ضد نظام الاستبداد والإجرام، تحمّلوا خلالها آلامًا لا تتحمّلها الجبال، وقدّموا تضحيات هائلة في سبيل نيل حرّيتهم وكرامتهم، ولم يعد بمقدورهم اليوم تحمّل مزيد من الآلام والتشرذم والانقسام، ولم يعد مقبولًا استمرار هذا الشكل من العمل الفردي والشللية، في أحزاب وكتل صغيرة وتجمعات (واتساب) متناثرة هنا وهناك، وبات الأمر يوجب علينا توحيد هذه الجهود والأشكال المتناثرة في تجمّع كبير، يستطيع فرض رؤيته على القوى المتدخلة في الشأن السوري، ويكون قادرًا على سحب البساط ممن ربط نفسه بأجندات خارجية ويدّعي تمثيلنا.

لقد طفح الكيل كثيرًا، وباتت قضيتنا اليوم بأمس الحاجة إلى قيام ذلك التجمع الكبير، الذي يتمتع بثقل وطنيّ، ويمثل جميع السوريات والسوريين، وينقل صوتهم، ويفرض نفسه متحدثًا باسمهم أمام جميع العالم.

———————————

الثورة السورية المهزومة/ سمير الزبن

التاريخ قاسٍ لا يرحم، ولا يتعامل بالرغبات والأحلام. والهزائم أبشع دروسه، لأن عشرات الآلاف، والملايين في الحالة السورية، دفعوا ثمن الهزيمة، ولم يحققوا أهدافهم. من الصعب الإقرار بأن سلطة حاكمة هزمت المجتمع الذي تحكمه وحطّمته. عادة ما تتحكّم السلطة بالمفاصل الأساسية للمجتمع، فتسيطر على البلد، وسرعان ما تتفكّك هذه السيطرة، عندما يثور المكون الأساسي للمجتمع في مواجهة السلطة، فتتفكك البنية الصلبة للسلطة. لم يجرِ هذا في التجربة السورية التي لها كثير من الخصوصية في سياق الثورات العربية، وتحتاج إلى دراسة.

هل كان الناس على خطأ، عندما قرّروا أن يكسروا حاجز الخوف، ويثوروا في وجه نظام ديكتاتوري، متعسّف، شمولي، دموي، طائفي؟ منذ عقود، هناك عشرات الأسباب التي تجعل الناس تثور عليه، بل تبدو الثورة السورية تأخرت، بالنظر إلى الحجم الهائل من الظلم والقمع الذي مارسه النظام، كقمع معمم، لم يدفع البلد إلى الإذعان لسلطته فحسب، بل وأعدم كل عمل سياسي فيها، حيث جفّف هذا النظام كل المنابع التي يمكن أن يتسرّب منها العمل السياسي، بحيث أصبح المجتمع غير قادر على قول: لا. .. لسلطةٍ اخترقته حتى العظم، وأعادت تصميم المجتمع وفق آليات سيطرة سلطوية، غير قابله للفكاك منها. لذلك، عندما ثار السوريون، كانوا يقومون بعمل أسطوري، مفاجئ، لأنفسهم قبل أي أحد آخر.

من المبكر الحديث عن آثار الثورة السورية، لأن الآثار التي تتركها الثورات المهزومة تكون أكبر وأكثر عمقاً من الثورات المنتصرة، لأن واحدا من الأشياء التي تفعل فعلها في المجتمعات بعد الثورات الكبرى، تفعل فعلها، ليس بقوة المعطيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فحسب، بل بما أطلق عليه هيغل “مكر التاريخ”، وهو ما يتجاوز كل المعطيات السابقة، أو يكون نتيجة تفاعل كل هذه المعطيات، بطريقةٍ ليس للمحللين القدرة على استنتاجها المنطقي، فيكون “مكر التاريخ” العامل الحاسم في إكمال الصورة التي رفضت أن تكتمل خلال الصراع نفسه. ويمكن قراءة نتائج هذا “المكر” في ما بعد الحدث، ولا يمكن اعتماده مسبقاً في التحليل لقراءة الصورة، وقد يأتي مكر التاريخ من تراكم عوامل مخفية، لسنا قادرين على رؤيتها، لكنها تفعل فعلها الحاسم، من دون أن تعطي مؤشّرات. إنه نوعٌ من السحر الموضوعي، وليس حلماً فارغا لرغبة التغيير.

لماذا “مكر التاريخ”؟ لأن حجم الوقائع والحوادث الكبيرة والصغيرة الهائلة التي وقعت خلال العقد الأخير من تاريخ سورية لا يمكن الإلمام به، تبدو سورية اليوم حطاما من وقائع وأحداث لا يمكن الإلمام بها أو جمعها والوصول إلى قراءة مطابقة، أو قريبة من مطابقة الواقع وقراءة المستقبل القادم. ولأنه تصعب قراءة الحاضر، يمكن النظر في الماضي لفهم كيف وصلت الثورة السورية إلى الهزيمة. قد يكون فهم الماضي مدخلاً لفهم الحاضر، وبالتالي خطوةً من أجل النظر إلى المستقبل.

شهدت سورية التي ثارت قبل عقد أكبر إهانة في تاريخها الحديث، بعملية التوريث، التي حل فيها الابن مكان الأب في رأس هرم النظام السياسي في سورية. وجاءت الإهانة من أن حافظ الأسد أنجز فراغاً سياسياً هائلاً في البلد خلال ثلاثة عقود من حكمه البلد، بفعل عامل التجريف السياسي الذي اتبعه خلال فترة حكمه، خصوصا في مطلع الثمانينيات، تركت البلد أرضاً محروقة بالمعنى السياسي، كتنظيمات سياسية ورجال سياسة. ولم تكن تعمل في هذه الأرض المحروقة سوى أدوات القمع، في مقدمتها الأخطبوط الأمني، بأجهزته المتعددة المربوطة بالرئيس نفسه. الفراغ الذي تم تكريسه في البلد هو الذي جعل عملية التوريث تسير بالسلاسة التي سارت فيها، ولم يصدر أي اعتراض في البلد. وإذا كانت قوى المعارضة محطّمة، بفعل القمع المديد، فلم يكن موت الأب مناسبة لتعبر في الشارع عن معارضتها التوريث. ومن الغريب أيضاً أنه لم يظهر رجل طامح من رجال السلطة نفسها للوصول إلى منصب الرئاسة، فتم تعديل الدستور، والبلد كله، على مقاس الولد، ليصبح مقاس الرئاسة يناسبه. كان واقع الحال يومها يقول إن البلد استمرت محكومةً بجثة الأب، وليس بنباهة الابن. وسيبقى البلد كذلك، حتى انطلاق الاحتجاجات، معلنة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011.

مع انطلاق الاحتجاجات، اهتز النظام السياسي في البلد، لكن النواة الأمنية الصلبة العاملة على حمايته بقيت متماسكة. وحدّدت هذه البنية الأمنية عدوها الرئيس، في الفعاليات المحلية في المدن والبلدات السورية، والتي باتت قوة محرّكة للاحتجاجات، والتي حازت احترام السكان المحليين. لم تأت هذه الشخصيات الفاعلة من أحزاب المعارضة، إنما جاءت على السياسة من واقع مكانتها الأهلية في أماكن سكنها. ومنذ البداية، تم تحديد هؤلاء بوصفهم العدو الرئيسي، والذين عمل النظام على تصفيتهم الجسدية أو اعتقالهم. تاركاً نماذج أخرى ولدت في سياق الثورة السورية، أو تم توليدها بفعل عوامل استخبارية وإقليمية، أكثر منها ولادة نتاج تفاعلاتٍ محلية. ما أعطى النظام الفرصة لتصوير الصراع في سورية أنه بين منظمات إسلامية إرهابية ونظام علماني. وبتسامح دول العالم مع الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام، وبالقطبة الإسرائيلية المخفية في الأزمة، تمت هزيمة الثورة. لم يكن العالم جادّاً في فعل شيء في مواجهة النظام وجرائمه، وتم الحفاظ عليه لعدم معرفة البديل وغموض مستقبل البلد في حال سقوط النظام. وبدخول روسيا من أجل حماية النظام، بعد أن أصبح الدعم الإيراني غير كاف وحده، أصبحت هزيمة الثورة السورية مسألة وقت.

الوضع اليوم في غاية الغرابة، هزمت الثورة ولم ينتصر النظام، تحطّم البلد، والنظام الذي هدّد بحرق البلد أو بقاء الأسد حصل على الاثنتين، حرق البلد ودمّرها وبقي الأسد بوصفه حجر القفل في قوس النظام، من دونه ينهار هذا النظام. من جانب آخر، انهار النظام بالمعنى الدولتي للكلمة. ولأن البلد تحطّم سياسياً وأمنياً وجغرافياً، أصبح الوضع في البلد نوعا من الأحجية غير القابلة للحل، بوجود نظام لا يملك أيا من مقومات البقاء، وهزيمة ثورة شعب، لم يعد قادراً على التحرّك، للخلاص من بقايا نطامٍ في بلد محطّم.

العربي الجديد

———————–

بعد عقد من عمر الأزمة.. لماذا لم تحققّ جنيف أهدافها بشأن سوريا؟/ وليد جولي

بدأت أولى اجتماعات جنيف بشأن الأزمة السورية في 30 حزيران – يونيو 2012، بناءً على مقترح من السيد كوفي أنان؛ المبعوث المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية حينها، وباستضافة من مكتب الأمم المتحدة في مدينة جنيف السويسرية، لـ”مجموعة العمل من أجل سوريا”، التي ضمّت كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والصين وروسيا الاتحادية، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وتركيا. جنيف

وكانت من أهم مخرجات جنيف التي كانت تعقد بشأن سوريا، وقف جميع الأعمال القتالية بين أطراف الصراع، وإطلاق عملية سياسية شاملة يقودها السوريون، والتوجّه نحو تشكيل هيئة حكم انتقالية؛ تتكفل بتشكيل لجنة دستورية من جميع السوريين، بغضّ النظر عن الانتماء العرقي والديني، ومن ثم إجراء انتخابات حرة برعاية ومراقبة دولية.

ولكن ظلّت قرارات جنيف تتمحور حول العموميات، دون التطرّق للتفاصيل أو المسببات الرئيسية للأزمة طيلة أعوامها العشر، إلى جانب الضعف في آلية التطبيق، بسبب الفيتو الروسي والصيني المتتالي على البعض من الخطوات الضاغطة على النظام السوري، خصّت جميع الجوانب، السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والقضائية، والإنسانية، إلى أن قدّمت الولايات المتحدة الأمريكية، مشروع قرار (2254) لمجلس الأمن الدولي، الذي تم تصديقه والتصويت عليه يوم 18 ديسمبر 2015، كخارطة سلام من أجل فضّ النزاع في سوريا، يتشكل من عدة بنود رئيسية، لتكون ركائز للخطوات التي سوف تتخذها الأطراف، والتي جاءت تأكيداً لمخرجات جنيف (1) وبيانيّ فيينا، التي استطاعت من خلالها الدول (روسيا – إيران – تركيا) الالتفاف بها على مسار جنيف الدولي، عبر سلسلة (أستانا).

مسار أستانا والالتفاف على جنيف

كان الالتفاف حول مقررات جنيف؛ الذي بدأ في أستانا بتاريخ 23 – 24 يناير 2017، بين الدول الثلاث، روسيا – تركيا – ايران، بناءً على قرار مجلس الأمن 2336، الذي أعدته روسيا بعد التباحث مع تركيا على خلفية وقف الأعمال القتالية وتطبيق القرار الدولي 2254. والتي بدأت منقوصة كونها باتت المعرقل الأكثر لمقررات جنيف، لأسباب عدة، من أهمها تعارضها مع البنود التالية:

1- عدم إشراك جميع السوريين في تلك المباحثات، بحيث اقتصرت على فئات محددة من المعارضة، إلى جانب استبعاد الكرد بإدارتهم في شمال وشرق سوريا، والذي يستشفّ من الفقرة الرابعة للقرار 2254 الذي يؤكد فيه على ضرورة إشراك جميع السوريين في المسارات السياسية بعيداً عن العرقية والطائفية.

2- عدم المشاركة الفعلية لأهم الدول والمنظمات الفاعلة في الشأن السوري، كالولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوربي، وجامعة الدول العربية، فضلاً عن مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات، والأردن (الدول التي تمحورت معظمها في إطار المجموعة الدولية المصغرة)، وحصرها بين ثلاث دول، لكل منها أهداف ومصالح خاصة في سوريا، روسيا – تركيا – إيران، والذي يتعارض أصلاً مع تداعيات جنيف1، الذي بادر بها غالبية من تم ذكرهم آنفاً.

3- الالتفاف حول القرار الأممي 2254، وبنوده، التي تخصُّ وقف الأعمال القتالية، واستبدالها بمناطق “خفض التصعيد”، التي توضّحت نتائجها في هلاك المعارضة في حلب، وجنوب سوريا، وريف دمشق، واحتلال تركيا لأراضٍ شاسعة من الشمال السوري، بدءاً من جرابلس وإعزاز والباب، وصولاً لعفرين،” تل أبيض”، “رأس العين”، إلى جانب محافظة إدلب، التي أصبحت منطقة نفوذ تركية بامتياز.

4- إهمال ما يخصّ عملية التسوية السياسية، وهيئة الحكم الانتقالية، كخطوة تسبق تشكيل اللجنة الدستورية، الأخيرة التي تشكلت منقوصة، بسبب هيمنة الدول الثلاث على شكليتها، وآلية تطبيقها، فضلاً عن تفرد الدول الثلاث بشأن التفاهمات بينها، دون الرجوع إلى أي طرف من أطراف النزاع السوري.

الأطراف المستفيدة والمتضررة من ازدواجية المسارات

مع صعود دور محور أستانا، بدى جلياً ضعف مسار جنيف بشأن الأزمة السورية أيضاً، وهذا بالتالي خلق نوع من الإرباك لدى الموقف الدولي الغربي، المتمثّل في الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي، وبعض الدول العربية كـمصر والسعودية، والإمارات، فمن جهة عملت روسيا على استخدام تركيا كورقة ضاغطة على المحور الغربي، ومن خلالها وسّعت من مناطق سيطرة النظام بشكل غير مباشر، من خلال تقويض أهداف المعارضة السورية الفعلية عبر أنقره، والتي كان من أهمها إسقاط النظام كمطلب رئيسي لهم، وجعلتهم مسلوبي الإرادة، لا تتخطّى مطالبهم المحاصصة في اللجنة الدستورية، بهدف تعديل الدستور مع التنازل من مطلب تشكيل حكومة مرحلية، ومن جانب آخر حققت أنقرة مكاسب كبرى على خلفية تعاونها مع موسكو في الملف السوري، والذي تطور إلى ليبيا، وشرق المتوسط، وأذربيجان لاحقاً، وكأنّ بالملف السوري أصبح البوابة التي انطلقت منها العلاقة الروسية التركية نحو التمحور الاستراتيجي، الشيء الذي وضع الحلف الغربي والناتو في حالة حرجة، سيما وأنّ امتلاك تركيا لورقة اللاجئين السوريين والمعارضة، فضلاً عن موقعها الجيوسياسي، سواءً من ناحية تشاركها بالحدود السورية الشمالية، أو باعتبارها البوابة البرية الوحيدة بين أوروبا والشرق الأوسط، وهذا ما جعلت من أنقرة العامل الأكثر فاعلية في عرقلة القرارات الدولية، التي كان من المفترض أن تنهي الأزمة السورية في بداياتها، أو على أقل تقدير عام 2015.

ومع ضعف دور القرار الدولي بشأن سوريا، استطاعت إيران من خلال التنسيق مع روسيا وتركيا في قمم أستانا، أن تأخذ حيّزاً واسعاً للتوغّل أكثر في سوريا، وجعلت من سوريا منطقة حرب بالوكالة ضد إسرائيل وأمريكا، ولكن الحالة التي اقتضت تعارض الوجود الإيراني مع السياسة الروسية فيما بعد، جعلت منها في الكثير من الأحيان هدفاً مشتركاً لواشنطن وموسكو في المنطقة، كاتفاقيّة الجنوب التي أقرّت بإبعاد الميليشيات الإيرانية إلى ما بعد 80 كم عن الحدود الإسرائيليّة، واستبعادها فيما بعد من قمم أستانا الثلاثية، وحصرها بين روسيا وتركيا، مما أدّى ذلك إلى حرمانها للكثير من الامتيازات السياسية في سوريا.

لهذا نجد أنّ أكثر الجهات التي وجدت مصلحتها في تحريف وإفشال مقررات جنيف الدولية، كانت تركيا – روسيا – ومن يدور في فلكهما، عدا المعارضة المتمثلة بالائتلاف السوري المعارض، التي وجدت نفسها في آخر المطاف تواجه الإفلاس التام، في ظل التحكم التركي في قرارها السياسي والعسكري.

ختاماً، يمكن القول إنّه من أسوأ المراحل التي شهدتها الأزمة السورية، كانت مرحلة ما بعد الـ2015، فيها صعد الثلاثي، روسيا – تركيا – إيران، من فاعليتهم في الشؤون الميدانية والسياسية، وكادت أن تؤدي بالدور الدولي إلى الاستسلام للواقع، وهذا ما توضّح في السياسة الأمريكية خلال هذه الفترة، والدور الانطوائي لرئيسها ترامب في تعامله مع ملف شمال وشرق سوريا، عبر موقفه بشأن تواجد القوات الأمريكية في شرق الفرات، وتواطؤه مع نظيره التركي أردوغان بخصوص شمال وشرق سوريا.

لهذا نجد البحث الأمريكي الأوربي عن بدائل تكون قريبة أكثر إلى القرار الدولي 2254 ومضامينه، وبعيدة في الوقت نفسه عن الهيمنة الروسية التركية، وهذا ما يتضح بوادره في الآونة الأخيرة، من خلال عودة دور المجموعة الدولية المصغرة ورؤيتها التي تشكل روح القرار الدولي 2254، سيما تلك التي تتعلق بضرورة إشراك جميع السوريين في العملية السياسية، بما فيها ممثلين عن شمال وشرق سوريا، وهذا من الصعب أن يتحقق ما لم يتم إعادة النظر في المعارضة المتمثّلة بالائتلاف وهيئة التفاوض، شكلاً ومضموناً، والعمل على تشكيل معارضة تكون مفاهيمها متّسقة بشأن واقع الأزمة السورية، وموقفها من السياسة الدولية والإقليمية، ومتفهمة لمسار جنيف الدولي وقراراته ذات الصلة، غير خاضعة للهيمنة التركية، وتأكيداً لهذا هو الموقف الأخير لبعض الدول العربية تجاه هيئة التفاوض والائتلاف السوري، سيما القرار الصادر من الخارجية السعودية بشأن إيقاف الدعم عن هيئة التفاوض والمعارضة السورية، وهذا بالتالي يثبت فشل مسار أستانا واللجنة الدستورية المنبثقة منها، وعودة مسار جنيف بقراراته كضرورة حتمية لتصحيح ما تم تحريفه وتجاهله. جنيف

ليفانت – وليد جولي

—————————

الثورة تجب ما قبلها وما بعدها/ غسان المفلح

الفعل جبّ.. لهذا الفعل معانٍ كثيرة، لكن المعنى الأكثر تداولاً هو ما ورد في الحديث الشريف “إِنَّ الإِسلام يَجُبُّ ما قبله”: أَي يقطع ويمحو ما كان قبله من الكفر والذنوب. لكن هذا الفعل يمكن أن يأخذ معاني أخرى، كالاستئصال والتلقيح والغلبة. سأحاول في هذه العجالة زحزحة المفهوم قليلاً باتجاه معنى أكثر رحابة، انطلاقاً من فعل الثورة عموماً، وفعل الثورة السورية خصوصاً. الإسلام في حينه كان ثورة في مجتمعه ذاك، هدمت ما قبلها، وولّدت ما بعدها.  الثورة

الثورة بوصفها بؤرة مولدة للحدث لما بعدها. وهذه الما بعد ليست شرطاً لتحقق العدالة، لكنها مشروطة للثورة- الحدث. في سياق المعنى المستخدم، هي تشكل حالة صفح عن أي سوري كان مسانداً للأسد، وأخذ موقفاً مع الثورة منذ انطلاقها. بالتالي تغفر له أسديته فيما قبل الثورة.

هنالك سياق تاريخي يحكم المفهوم، الثورة هي لحظة نادرة الحدوث من جهة، وهي لحظة انفجار من جهة أخرى، تدمر ما قبلها ويصير ما بعدها غير قادر على تجاوز نتائجها بالمعنى الرمزي للعبارة ولا بالمعنى السياسي، التدمير هنا هو إلغاء فاعلية النسق السياسي والمعياري الحاكم للمجتمع. المقصود هنا السلطة الأسدية بكل علائقها، التي أفضت خلال خمسة عقود ونيف من حكمها بتحويل البلد إلى دولة فاشلة وسلطة غاشمة وإبادية. نحن هنا لا نتحدّث عن وضع الأمر في سياق فرداني. بل وضعه في سياق جمعي. مجتمع عندما ينجز تسويته بعد الثورة، ينجزها بناء على معطيات تتجاوز الفرداني. تتكثّف في إنهاء الحالة التي سببت كل هذا القتل وانتظار العدالة. الانفتاح على العدالة والقانون، عندها من حق الفرد أن يتقدم ليحقق عدالته.

إنّها لحظة مؤسسة لما بعدها ولا يمكن تجاوزها وتجاوز نتائجها. بؤرة لماضيها ومستقبلها، تمحور حولها السابق وسيتمحور حولها اللاحق. أحاول أن أخرج الموضوع من سياقاته الفردية في الحكم على الأفراد الدارجة في خطابنا عنها. الثورة

من منظار العدالة الانتقالية، الثورة لا تجب قبلها ولا تجب بعدها. القانون قانون والحقوق حقوق. كلها تنتظر تحقيق العدالة. كل الضحايا تنتظر لحظة فارقة في تاريخ سوريا، وهي تحقيق العدالة. الاقتصاص من كل مجرم. من كل فاسد ومن كل قاتل لأسباب سياسية وغير سياسية. هذا حق لا يخضع للمساومات لو كنا بحالة طبيعية. نحن لسنا طبيعيين ولسنا في حالة طبيعة، كباقي دول العالم. هذا أمر علينا الإقرار به. بعيداً عن قصة المظلوميات، نحن تعرضنا لإبادة مادية ورمزية كسوريين. لم يعد مهماً في هذا السياق من المتسبب، مجتمع دولي، معارضة فاسدة، إبادة الأسدية وحلفائها. لكننا نعيش الإبادة كما أسلفت، مادياً ورمزياً.

ملايين من النازحين واللاجئين، مليون ضحية، مئات ألوف المغيبين في سجون الأسد والمفقودين، ومن قتلوا تحت التعذيب. من جهة أخرى انهيار الاقتصاد النسبي في مناطق سيطرة الأسد، طوابير أهلنا هناك على الخبز والغاز، الكهرباء باتت مشتهى، والقمع أسوأ من السابق، وانتشار المخدرات والعصابات والبلطجية المحركة مخابراتياً أو المدعومة أمنياً. مقابل هذه الإبادة المادية الجارية حتى لحظة كتابة هذه المادة، حيث قصف المجرم الروسي مستشفى الأتارب في ريف حلب. الإبادة الرمزية هي في تحميل الضحية مسؤولية قتلها، بحجج شتّى، ثقافية ودينية وسياسية.

الثورة لم تحاسب من انشقّ وليست بوارد ذلك عندما انطلقت في شوارع سوريا. الحساب والعقاب كما يقال في ملف السياسة والحقوقيين. ليس أبداً في ملف هذه الثورة. الثورة تريد سوريين لحظة انفجارها. على المستوى الفردي الثورة غفرت، الدليل أنّ منشقين كثراً نزلوا إلى الشارع، قتلهم الأسد في التظاهرات، أو غيبهم في السجون. على هذا الصعيد الثورة جبت ما قبلها. لكن أن تجب ما بعدها هنا الإشكالية. الثورة أنجزت ما هو مطلوب منها. دمرت النسق السياسي القائم قبلها. أنتجت وضعية جديدة، تحتاج لمستوى سياسي جديد. لم يعد هذا مهمة الثورة، إنما مهمة المعارضة ومهمة الدول التي قتلت السوريين، ومهمة الدول التي تدّعي صداقة الشعب السوري. أن تنهي هذا الفصل العار من تاريخ البشرية.

لهذا الثورة تجب ما بعدها. لأنها ليست إدارة سياسية أو حقوقية. ليست مصالح ودولاً. هي أنتجت وضعاً جديداً سيئاً أم جيداً، هذا ليس بأي حال من مهمة الثورة. كانت لحظة قطيعة مع الأسدية ونسقها وكل ما يتعلق بها، وكان موجوداً قبل لحظة الثورة. الآن نحن أمام وضع جديد. رغم هزيمة الثورة من منظور أنها لم ترَ حتى اللحظة شعاراتها في الحرية والكرامة تتحقق على كامل سوريا. هذا الوضع خلقته الثورة حتى في هزيمتها. أكبر جيشين في العالم وأكبر جيشين في الإقليم يحتلون سوريا. لم يعد للأسدية سيادة حتى فيما يعرف بمناطق سيطرته، تشاركه روسيا وإيران. النسق الأسدي انتهى إلى غير رجعة. الآن “الثورة المهزومة” غايتها لملمة البلد بدون الأسد، كي تسترد عنوانها “الشعب السوري واحد”. هذه أيضاً موكلة لمستوى سياسي يبدو أنّه غير قائم بالأفق الدولي أو الإقليمي أو المحلي. لملمة البلد بدون الأسد شعار سياسي. إذا كان هذا الشعار من أجل تحقيقه يتطلب تخلياً عن مبدأ العدالة الانتقالية. الضحايا يتحملون عندما يرون الأسد ساقطاً، لكن التخلي عن خطوتي الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية قبل ذلك، كما فعلت المعارضة الرسمية في سلال ديمستورا، وتبنت مشروع ديمستورا في اللجنة الدستورية لتمييع أهداف الثورة، إنها سقطة ساقطة لمعارضة فاشلة. حتى لو كان ميزان القوى لا يسمح دولياً يجب ألا نقبل. الآن يخرج علينا رئيس اللجنة الدستورية للمعارضة ويتبجح بمانشيتات خلبية، لا تقنع طفلاً في مخيماتنا. وفي كل تصريح كأنّه يقدم فتحاً في الدبلوماسية والفنتازيا.

لدي معادلة مشروطة بسقوط الأسد يجب أن نرى اللوحة السورية بعد الثورة. هذه المعادلة تقول إذا سقط الأسد يجب لملمة البلد وترك ملف العدالة الانتقالية. الزمن كفيل بحلّه. من هذا المنطلق قلت الثورة تجب ما قبلها وما بعدها. هذا اجتهاد ربما قلته وكتبته كي نجيب على سؤال كيف يمكن لملمة البلد بعد سقوط الأسد؟ لأنّه لا يمكن لملمة البلد في ظل الأسد، وهو سبب خرابها وتدميرها وبيعها بالمزاد العلني.

الثورة هويتها كانت شعاراتها الأولى كما ذكرت. ما لحق بها من هويات أخرى هذا فعل نخب سياسية. فعل دول ومراكز تمويل. فعل جماعات هوياتية، سواء بحجة أنّها مع الثورة أو أنها ضدها. الثورة لم تنطلق لكي تقسم البلد أو تهتك نسيجها الاجتماعي. بات لدينا إشكالية طائفية وإسلامية وقومية. وإن كانت قديمة ومغيبة بفعل القمع، لكن هذه المرة ظهرت إلى السطح محمولة على الثورة أو حملت للثورة. الثورة لا هوية لها سوى شعاراتها الأولى، وما تبقى هو هويات حملتها للثورة نخب مفلسة. هل رأيتم في قيادة المجلس الوطني والمجلس الكردي وقسد والإخوان المسلمين وهيئة التنسيق والائتلاف وهيئة التفاوض والمنصات كلها، شخص واحد كان يقود التظاهرات الأولى أو كان مشاركاً فيها إلا من رحم ربي، وكان ديكوراً للأسف. قيادة الإخوان ومعظم كوادرها خارج البلد، أعضاء المكتب التنفيذي للمجلس الوطني خارج البلد، أعضاء المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق خارج البلد أيضاً، سياسياً وفكرياً، المنصات لاحقاً.

سيرة مشعل التمو وعبد الباسط الساورت وفدوى سليمان توضح لك. سيرة اتحاد التنسيقيات ولجان التنسيق المحلية. هل تحكم الثورة على كل هؤلاء بالإعدام؟ الثورة التي أعرفها وعايشتها تريد لملمة البلد دون الأسد، بعد هذا الدمار والتهتك على كافة المستويات.

ليفانت – غسان المفلح

——————————-

==================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى