نقد ومقالات

الصحافة العربيّة والسُلطة: المشكلة في الأنظمة ومفهومها للديمقراطية

أشرف الحساني

منذ اندلاع شرارة الموجة الأولى من الربيع العربي، في تونس ومصر وسورية، إلى حدود الموجة الثانية، في لبنان والعراق والسودان والجزائر، ظلّت تنانين السُلطة وأجهزة مخابراتها وأنظمتها السياسية القمعية تُمارس تنكيلًا وتضييقًا على حرية الصحافي، بُغية تخويفه ومنعه من الجهر بالحقائق، وكشفه للذي تتستّر عليه الأنظمة السياسية، حتى وصفت سنة 2019 في عدد من الجرائد والدولية بكونها سنة الاعتقالات والخسائر بامتياز، بحكم العدد الهائل من الصحافيين الذين اعتقلوا إبان الموجة الثانية من الربيع، والتي أكدت استمرار إرادة الشعوب في تحصيل حقوقها المشروعة في العيش والكرامة، والحق في التعبير عن رأيها تجاه أنظمة سياسية مستبدة. ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا في الدفاع عن مهنة الصحافة، وحقها المشروع في نقل الحدث ومجرياته اليومية على الساحة العربية والدولية.

في هذا التحقيق، نطرح إشكالية السُلطة الرابعة في مواجهة السلطة نفسها على طول المسار التحديثي والديمقراطي، الذي قطعته الشعوب العربية منذ اندلاع الموجة الأولى من الربيع العربي إلى موجته الثانية، وما ترتب عليهما من قهر وتأزيم لمهنة الصحافة، وتضييق الحدود على اشتغالها وممارساتها اليومية المشروعة في نقل وصناعة الحدث، وذلك مع مثقفين عرب لهم إسهامات في هذا الشأن، سواء داخل الجرائد، أو المجلات، أو المواقع الإلكترونية.

هنا الجزء الأول، ويليه جزء ثان وأخير:

علي سفر (سورية): أثر الربيع العربي واضح على الصحافة السورية

تختلف قصة اعتقال الصحافيين في سورية عن أي مكان عربي آخر، فقبل الثورة كان يمكن تمييز نمطين من الاعتقال: الأول هو اعتقال الصحافي المعارض الذي يكتب في صحف خارج البلاد، وقد يزعج النظام بمقالاته، أو بموقفه السياسي، فيتم سجنه ضمن سياق القمع وكم الأفواه، وهي سياسة النظام المعتادة طيلة عشرات السنين. أما الثاني فهو اعتقال الصحافي الذي يعمل في مؤسسات الصحافة التابعة للحكومة، أو المقربة منها، وهذا يجري ضمن صراعات مراكز القوى في بنية النظام ذاته. وقد حدث هذا مرات عديدة، وكان يتوضح مع كل حادثة أن لا حماية للصحافي، حتى وإن ظن أن علاقاته، أو قربه من هذا الضابط، أو ذاك، سيحميه!

وهنا يجب الانتباه إلى أن بلدًا عاشت صحافته مرحلة ذهبية طيلة عقود، قبل تولي البعثيين للسلطة في 1963، تمت مصادرة مؤسساتها الخاصة ومطابعها وتأميمها، فصار العمل الصحافي فيها متروكًا لتقديرات القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم، ومسؤولي الأجهزة الأمنية الذين يحددون معًا الخط العام للخطاب الصحافي، الذي جرى توجيهه منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي نحو تكريس عبادة الحاكم الفرد/ الديكتاتور، مع فتح المجال أمام الصحافة لتهتم فقط بالشؤون الداخلية الخدماتية، والتي لا تمس جوهر السيطرة السلطوية لنظام الأسد وطغمته! ولعل المضحك المبكي في ذلك الزمن هو أن أي خطأ لغوي، أو تقني، أو فني، في إظهار صورة “القائد الرمز” كان يعرض مرتكبه لخطر الاعتقال! كما أن هذه البيئة كانت المناخ الخصب لظاهرة “الصحافي المُخبر”، الذي يمارس عمله الصحافي في مؤسسته وهو عين لأحد الأجهزة الأمنية فيها!

“سورية بلد عاشت صحافته مرحلة ذهبية طيلة عقود، قبل تولي البعثيين للسلطة في 1963، تمت مصادرة مؤسساتها الخاصة ومطابعها وتأميمها، فصار العمل الصحافي فيها متروكًا لتقديرات القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم”

كل هذا أدى في المحصلة إلى هجرة مئات الصحافيين السوريين إلى بلدان عربية، وأخرى غربية، بعيدًا عن الزنزانة السورية الكبيرة!

النقطة الفارقة في السياق السوري هي الثورة السورية، في 15 آذار/ مارس 2011، إذ أن الاختبار المهني والأخلاقي للصحافي السوري قاده لأن يكون في مواجهة وحشية النظام التي قابل بها المتظاهرين السلميين، وحاول تغطيتها عبر منع الصحافيين من تغطية الحدث، في مسعى منه لفرض روايته عما يجري، بينما توجه الصحافيون الذين أخلصوا لأخلاقهم المهنية لأن يكونوا صوت الثائرين، فصار الواقع السوري أشبه بثقب أسود للصحافة، إذ لا يمكن التأكيد على مصير عشرات الصحافيين والمواطنين الصحافيين الذين تم اعتقالهم من قبل الأجهزة الأمنية والميليشيات الطائفية المساندة لها، وكذلك يصعب التكهن بمصائر العشرات ممن قامت الفصائل المسلحة، ولا سيما منها تنظيمي الدولة الإسلامية “داعش”، و”جبهة النصرة”، باعتقالهم وإخفائهم، وربما إعدامهم!

غير أن الثابت في السياق هو قيام النظام بتنفيذ عمليات إعدام لبعض الصحافيين، أو الناشطين الإعلاميين، حيث قامت قوة أمنية بإطلاق النار على الصحافي مصعب العودة لله أمام بيته في حي نهر عيشة في صيف عام 2012، كما تأكد موت البعض في السجون والمعتقلات بعد أن تم إبلاغ أهلهم بذلك!

الأثر الواضح للربيع العربي على واقع الصحافة السورية لم يقف عند الصحافيين الذين ذهبوا عميقًا في تأييد الحراك الثوري، ودفعوا بناء على ذلك الأثمان؛ موتًا وسجنًا وهجرةً، بل تعدى ذلك نحو بيئة العاملين في صحافة النظام ذاته، فمنذ تقدم قوات النظام مدعومة بحلفائها الإيرانيين والروس صوب المناطق التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، التفتت الأجهزة الأمنية إلى الخلف، وبدأت بمحاسبة صحافيين كانوا يحاولون فتح ملفات فساد محلية، فقامت باعتقال عدد غير قليل منهم، بعدما ظن هؤلاء أن عملهم ضمن بطانة النظام يحميهم، وإلى هذه اللحظة ثمة أسماء جرى اعتقالها من دون أن يعرف أحد مصيرها، بينما تداعى عدد من الصحافيين لإعلان انسحابهم من المهنة بعد أن صار واضحًا للجميع أن لا كرامة لأحد منهم على إيقاع “انتصار الأسد”!!

رفيق القسنطيني (تونس): عن بعض السلوك المنحط

في الواقع، هذا الموضوع هو على غاية من التعقيد، خاصّة إذا أردنا البحث فيه بأكثر واقعيّة، مقارنة بما كانت عليه حال سنوات التصحّر في حكم بن علي. ففي الفترة التي كان الرأي الواحد فيها سائدًا على أعمدة الصحافة، ووسائل الإعلام السّمعيّة والبصرية، فإنّ مصادر الأخبار هي كل ما تفضلت به مؤسسات الدولة، التي كانت بدورها ذات لون واحد، وكانت تحظى بكل أشكال الرضى، ما عدا بعض الحالات المنعزلة والقليلة التي يُسمح لها بنشر مادّتها الصحافيّة وفق حدود مضبوطة وشروط مُسبقة، فكانت بمثابة مرحلة إرهاب الدولة للمفكرين عمومًا تحت ما سُمِّي آنذاك بالتغيير، فالكل تقريبًا كان يتكلم بنفسجيًّا خيفةً من صانعه، وطمعًا في مكافآته، إلى غاية سقوط قَصْرَيْ قرطاج والقصبة تباعًا، ولا بد أن نستثني ثلة من المفكرين تتسم كتاباتهم بالأكاديمية الموضوعية.

وكما يَعْلَمُ الجميع، فمنذ هذا السّقوط المدوّي، وإلى حدود اليوم، تعدّدت الألوان، وتحرّرت الأقلام، وتغيّرت المفاهيم، واختلطت القيم المهنيّة، وكذلك انحدرت اللغة لدى البعض، وكثرت أشكال المحسوبية وأشكال الولاء للأحزاب والانتهازية الصحافيّة المتبادلة، خاصّة بين مختلف الأطراف النافذة. وبحكم غياب المعايير المهنيّة الرّاقية لمهنة الصّحافة، فإنّنا نلاحظ سلوكيَّات جديدة في القطاع السّمعي البصري بالذات من خلال برامج ومنوّعات يتخفى فيها الصحافي، أو مدير الحوار الإعلامي، تحت جبة الضيوف، ليستغل بعض المواقف الهدّامة، وليُمرِّر من خلالها ما بدَا له عن قناعة ودونها، من دون اكتراث للرأي العام، فتحوّلت “الديمقراطيّة” تباعًا إلى سلوك منحط أساسه خلق الفتنة والتفرقة، وهو ما جرّ الأحزاب إلى التنافس والتدافع التلقائي، وكذلك المتعمَّد، فارتفع منسوب الكراهيّة والحقد ونبذ الآخر، إلى درجة الانسياق إلى سلوكيّات متهوِّرة أساسها العنف والعنف المفرط فيه إلى حدّ تجاوز الحرمات الجسدية، وهو ما أفرز ما سُمِّيَ بإعلام العار كمصطلح جديد، وأصبح لكل طرف حرية استعماله وتوظيفه حسب المناسبات والسياقات، التي غالبًا ما تغيب فيها النقاشات الموضوعية، ولا يمكن أن تكون فاتورة الفوضى العارمة إلاّ باهظة وتُترجم بأي شكل كان. ومن الصحافيين من دفع ثمن كتاباته بالحجارة، ومنهم من دفعها بالسجن، ومنهم من قضى نحبه، أو اختفى بلا رجوع.

إنّ غياب الحرفيّة واغتنام الفرص، أكان في مستوى إدارة الحوارات السمعيّة البصرية، وإعداد البرامج، أم في مستوى كتابة المقالات، سبَّب بنوايا مبيتة، أو دونها تفاقمًا لأزمة الخلافات الأيديولوجية والتوجهات السياسية، إلى حدود تجاوزت فيها الدرجات الدنيا من الاحترام، هذا مع غياب القانون المنظِّم للقطاع الصحافي، أو عدم تطبيق أحكامه إن وُجِدَ، أو كذلك غياب المحاسبة نتيجة الانتماءات الحزبيّة، ونتيجة ما أسمية بـِ”المحاصصة الصحافية”، أو حتى تعدد الهياكل النقابية التي تخوّل حرية الرأي والتعبير لهذا دون ذاك، وهو ما ساهم في إدخال القطاع في حُمّى الانتقادات والهجمات اللفظية، الشيء الذي أثار حفيظة الأحزاب المسيطرة على المشهد السياسي التي تغوّلت بدورها إلى مستحوذ جديد على السلطة وأجهزة الدولة بعنوان الديمقراطية، لتتجلى صورة سياسة التغيير مجدّدًا. فالتفرد بالحكم، أو بنصيب الأسد منه، قاد إلى المعاملات والسلوكيّات ذاتها من جديد، لكنها في هذه المرة اتسمت بأكثر قسوة وتشف. في هذه المرة، أصبح يمكننا فرز أكثر من خمسة ألوان على الأقل يمكن حصرها في: يميني ويميني متطرف، يساري ويساري متطرف، ولون نقول عنه إنه معتدل أو محايد، والذي يبدي نوعًا من التحسن في مستوى الأداء والمحتويات.

خلود الفلاح (ليبيا): وصول ليبيا للمرتبة 162 في تصنيف الصحافة العالمية

هل تبدلت أحوال الصحافة العربية بعد الربيع العربي؟ في البداية، لوحظ تحسن في أوضاع الصحافة، ولعل ظهور عدد كبير من القنوات التلفزيونية، والصحف التي تمثل تيارات مختلفة، يسجل تفاؤلًا كبيرًا، خاصة وأن الطموح كان كبيرًا في أن يحدث هذا الربيع تغييرًا كاملًا في مختلف مناحي الحياة. وسأتحدث عن ليبيا. فبعد أن كان الإعلام يسيطر عليه التوجه الواحد، والرأي الواحد، حدث انقلاب كبير في هذا التوجه. مثلًا، كان من الصعب ملاحقة ومتابعة الصحف التي صدرت في بنغازي فقط، وهنا لا أتحدث عن جودة المحتوى الصحافي، وإنما عن الكم، وهذا يعد ظاهرة صحية. ولكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، خاصة بعد حالة الفوضى العامة في البلاد، وتعرض الصحافي للعنف والإخفاء القسري والقتل.

وبحسب التصنيف العالمي لحرية الصحافة للعام 2019، وصلت ليبيا إلى المرتبة (162)، بسبب الحروب والأزمات العميقة التي جعلت العاملين في الحقل الصحافي يئنون تحت وطأة الاعتقالات التعسفية، وعقوبات السجن. (ينشر التصنيف العالمي لحرية الصحافة سنويًا منذ عام 2002 بمبادرة من منظمة مراسلون بلا حدود، حيث يعمل على قياس حالة حرية الصحافة في 180 بلدًا، انطلاقًا من منهجية تُقيِّم مدى تعددية وسائل الإعلام واستقلاليتها وبيئة عمل الصحافيين ومستويات الرقابة الذاتية، فضلًا عما يحيط بعملية إنتاج الأخبار من آليات داعمة، مثل الإطار القانوني، ومستوى الشفافية، وجودة البنية التحتية).

صلاح بوسريف (المغرب): الصحافة العربية لم تكن يومًا في وضع مُريح

في الأنظمة الشمولية، يكون وضع الصحافة والإعلام محددًا، فالدولة هي من تتحكم في كل شيء، وهي من تصنع الأحداث، وتعمل على نشرها وإذاعتها، بما يخدم فكرها وأيديولوجيتها، وبما يجعل الشعب تابعًا، لا قرار له، والقرار هو ما يصنعه الإعلام. ولعل نموذج غوبلز، وزير دعاية النظام النازي في ألمانيا على عهد هتلر، كان الوجه المعبر عن هذه السيطرة المطلقة على العقول والأفكار والعواطف. لا مشكلة هنا مع الإعلام، لأنَّه إعلام موجَّه، ويعرف أين يريد أن يصل. المشكلة توجد في الأنظمة التي لا هي شمولية، بالمعنى المطلق، ولا هي ديمقراطية بالمعنى نفسه، بل هي نظام هجين، ديمقراطيته فيها من الشمولية ما يفضحها لأنها لم تنشأ على النقد والاختلاف، وعلى حرية الصحافة في التعبير، وفي كشف ما يجري من فضائح، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالدولة، أو ببعض مؤسساتها. وهذا ما نراه يجري في واقعنا العربي، عمومًا، وما يجري، عندنا في المغرب، في الآونة الأخيرة، حيث تعرَّض بعض الصحافيين، وبعض المدوِّنين، إلى الإعتقال والأسر، ليس لأنهم سُرَّاق، أو مفسدون يعبثون بالمال العام، بل لأنهم “تجاوزوا الخطوط الحمراء”، التي هي الوجه الشمولي لهذه الديمقراطيات الهجينة، التي تفقد صوابها كلما أحسَّت أن ثمة من ينتقدها، بل ثمة من يفضحها ويكشف المستور، كما يُقال. لم تكن الصحافة العربية في وضع مُريح، في أي وقت من الأوقات، فهي إما تتعرض للمنع في توزيعها، أو يتم حجبها ومصادرتها، أو يتم رفع دعاوى ضدها لَلَجْمِها، والحدّ من استقلاليتها وحريتها في النقد. وهذا يعود إلى طبيعة مفهوم الأنظمة العربية للديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، وهو، نظريًا، مفهوم رحيب واسع، في الدساتير والقوانين، لكن يتم التحايل عليه، بما في هذه القوانين نفسها من شروخ وثغرات، وُضِعَت أساسًا لجعل باب التأويل، وتكييف هذه القوانين مع هوى هذه الأنظمة، لأن القضاء فيها ليس مستقلًا، وهو الدولة نفسها، وهذا أكبر خلل في مفهوم الديمقراطية عند هذه الأنظمة، الشيء الذي يجعل من الصحافة، التي هي في واجهة الأحداث، تكون هي من ينزل عليه العقاب، باعتبارها مصدر إجرام، لأنها لم تحترم “الخطوط الحمراء” المرسومة، بشكل مُضْمَر، في ما على الصحافة أن تقوله، وأن تسكت عنه، أو تستأذن في قوله الصحافة. إذًا، بهذا المعنى، هي دائمًا في فوهة البركان، لذلك، فالصحافيون هم الأكثر عرضة للسجن والعقاب، وللمُحاكمات التي لا تكون عادلة، في أغلب الأحيان.

الحل، هو تربية السلطة على الديمقراطية، قبل الشعب، لأن الشعب مؤهل ليتربى على الديمقراطية وحرية الرأي والفكر، وقبول الاختلاف، لكن الدولة، تعتبر نفسها فوق القانون، وهي من تشرعه، فهي لا تستطيع قبول رأي من هم أقل منها سلطة ونفوذًا، وهذه معضلة أنظمتنا، من دون استثناء.

كه يلان مُحمد (العراق): خصوم الحرية يجربون أدوات لإقصاء الأحرار من المشهد الإعلامي

الصحافة الحرة تمثل رافدًا مهمًا للديمقراطية، وتدعمُ قيم المجتمع المدني، لذلك فمن الطبيعي أن تضيق السلطة الخناق على الصحافيين الذين يرفضون إملاءاتها، وبالتالي يستمرُ الصراع بين الطرفين. وعندما تتغوّلُ السلطة وتعوّلُ على تدجين الرأي العام، من خلال الإعلام الظل يتأزمُ واقع الصحافة أكثر إذ تفقسُ المواقع والمنابر عن الموالين للسلطة، وذلك المشهدُ لا يخلو من الخدعة، إذ يبدو في الظاهر أنَّ وفرة المنصات الإعلامية والمواقع الإلكترونية تكرس حرية الإعلام والتعددية في الآراء، وتكون السلطة على مرمى مراقبة عين الصحافة والإعلام، لكن في الحقيقة تنضمُ هذه الوسائل كلها ضمن ماكينة السلطة التي تروجها لمشاريعها الخادعة، وكلما علت أصوات حرة مطالبة بضرورة مواجهة الآلة التي لا تصنع إلا أوهامًا يتحركُ الموالون مطلقين العنان لشتى الإتهامات ضد الصحافي المُستقل، وهذا يعني أنَّ المناخَ المجتمعي والثقافي والفكري يبرمجُ بحيثُ يكونُ مواتيًا لتكميم الصحافة الحرة والتنكيل بالصحافيين. واللافتُ للنظر في ظل هذا الواقع المثقل بالقيود هو مساعي السلطة الدؤوبة لشراء ذمم كثير ممن كانوا في معسكر حرية الصحافة واستقلالها. ونجحت السلطة إلى حد كبير في تحقيق أهدافها على هذا الصعيد إذ تحول عدد من الصحافيين إلى أبواق الدعاية لأعوان السلطة، وتقتصرُ مهمتهم في إيجاد المسوغات لقرارات الحاكم، وإنْ كانت مخالفة لمبادئ حقوق الإنسان. ومما يزيدُ من مصاعب العمل الصحافي في واقعنا هو استمرار الحرب، ولا تتكفلُ أي جهة بحماية الصحافيين والبحث عن مصير من يختطفُ منهم، وطبعًا دفع الصحافيون الأحرار ثمنًا باهظًا خلال تغطيتهم للمظاهرات والإحتجاجات الفاسدة ضد الأنظمة الفاسدة، والغريب في الأمر هو تجاهل ضحايا حرية الرأي والصحافيين الذين تمكنوا بجرأتهم من كسر طوق العتمة على الجرائم التي ترتكبها أجهزة السلطة وكلفهم هذا أرواحهم، مثلما شهدنا ذلك مؤخرًا في العراق.

نحن لدينا فائض من القنوات الفضائية والمواقع والصحف، غير أن كل ذلك لا يضيفُ إلى مسار تطور حرية الرأي والانفتاح والديمقراطية بقدر ما يعمقُ الوهم بوجود الحرية، ويدعم عملية تزييف الوعي. وبالنظر إلى هذه الحقائق، ندركُ بأنَّ عناء العمل في الصحافة الحرة قد تعاظم في عصر الفضائيات والإعلام البديل، لأنَّ خصوم الحرية يجربون أدوات لا تحصى ولا تعدُ لإقصاء الأحرار من المشهد الإعلامي، كما أنَّ ازدياد القنوات الإعلامية أدى إلى خلط الأوراق، ومن الصعوبة بمكان تحديد الجهة التي تقوم بتضليل الرأي العام. وهنا يفرض السؤال نفسه: هل تختفي الصحافة الحرة، ولا يمكنُ للأحرار اكتساب مساحات للتعبير عن رؤيتهم طالما أصبح الفضاءُ مزدحمًا بالتابعين والموالين، والسجون مفتوحة للأحرار؟ يتطلبُ الوضعُ وعيًا وفهمًا دقيقًا لواقعنا الموبوء بثقافة العنف والإقصاء لإعادة الهواء إلى رئة الحرية المختنقة بالزيف، وأكثر من ذلك يجبُ الإقرار بأنَّ كثيرًا من العاهات المتفشية في مجتمعاتنا تتغذى بما ينتجه النظام الرأسمالي المتعملق من الأوهام.

سليمان الحقيوي (المغرب): الأنظمة العربية دعّمت الكثرة والتنوع في الجانب الشكلي فقط

علينا أوّلًا أن نتّفق حول حزمة أمور تتعلق بالرّبيع العربي، أوّلها أن كثيرًا من المثقّفين غيّروا من مواقفهم بخصوص الربيع العربي، وهناك ما يشبه الردّة السيكولوجية التي حصلت بعد الإخفاقات، بل هناك من وصف الحال بالخريف، وستجد البكاء على ما آلت إليه الأوضاع يملأ الصحف والمجلات والبرامج التلفزيونية، والقليل جدًا من لا يزال على موقفه الداعم للربيع العربي. وهو موقف سمح للأنظمة العربية بأن تربح كثيرًا في حربها ضد الصحافة.

يحق لنا أولًا أن ننطلق من السؤال التالي: لماذا تعادي البلدان العربية الصحافة إلى هذا الحد؟ ونقول إلى هذا الحد، لأن التضييق على الصحافة ظاهرة عالمية، لكن مستوياتها مختلفة. هنالك خوف عربي دائم من الرواية الثانية، الرواية المعارضة، هذه الرواية التي لطالما قامت بها الصحافة، وهي تحاول من داخل أسلاك شائكة أن تكذِّب بها روايات الأنظمة الممسكة بالإعلام الرسمي وغير الرسمي، والخائفة دومًا من الروايات التي تشاكسها.

وأمام حالة الإحباط من مآل الربيع العربي، نجحت كثير من الأنظمة العربية، متذرّعة بالحالة السورية، أن تعيد الزمن العربي إلى ما قبل 2011، فكان الخيار الوحيد الذي تقدّمه هو التخويف من الحالة السورية، مما فتح الوضع على كثير من الممارسات التي مسّت مباشرة حقوق الإنسان، والصحافة تحديدًا. فالصحافة على العكس مما يبدو عليه الأمر، في عدد الفضائيات المتزايد، وعدد المنشورات المختلفة والكثيرة، تفقد كل سنة مساحات الحرية، والأنظمة العربية دعّمت الكثرة والتنوع في الجانب الشكلي فقط، وأفرغتهما من التحرّر والاستقلالية، وهما سببان مهمان لاستمرار أيّ مشروع إعلامي حر.

كما أن الإطار التشريعي في العالم العربي لا يحمي الصحافيين من السجن والملاحقات القانونية، من دون أن نذكر الممارسات غير الرسمية التي تقوم بها أجهزة الأمن والمتمثلّة في الترهيب والتخويف والتهديد. وهناك سعي متزايد لتكميم الأفواه والأقلام معًا، بواسط خطوط تحريرية يضعها مُلاك المشاريع الصحافية والإعلامية الذين يفضلون صنع خطوط حمراء بدل الوقوف ضد أنظمة ديكتاتورية. وتعاني الصحافة اليوم من ظاهرة لافتة، وهي تبخيس دور الصحافيين، والتحريض ضدّهم، هذه الظاهرة التي تنامت مع بروز اليمين في العالم، وأصبحت تهدد الصحافيين في العالم أكثر من غيرهم، وهناك تقارير تؤكد إلحاق الأذى الجسدي واللفظي بصحافيين، ومنعهم من مزاولة مهامهم، وهو ما يفتح الباب أمام اعتداءات كثيرة واقعة ومحتملة تصل إلى القتل والتمثيل بالجثث، من دون تدخل من الأجهزة الأمنية لحمايتهم، وهذا يعني أنها قد تكون ضليعة في هذه الاعتداءات، وأصبحت مناطق كثيرة في العالم العربي، مثل ليبيا وسورية ومصر، فضاء لتداول الرواية الواحدة، رواية النظام، في ظل صعوبة عمل الصحافيين في هذه المناطق. ولا يكاد يخلو تقرير، أو دراسة، أو قائمة عن انتهاكات حرية الصحافة، أو التضييق عليها، من أسماء دول عربية، سنجدها دائمة الحضور في مراكز متقدمة، محتلة القمّة التي لا تحتلها في مجالات أخرى اقتصادية واجتماعية.

ضفة ثالثة

—————————–

الصحافة العربيّة والسُلطة: حرية التعبير شرط أساسي للديمقراطية (2-2)

أشرف الحساني

منذ اندلاع شرارة الموجة الأولى من الربيع العربي، في تونس ومصر وسورية، إلى حدود الموجة الثانية، في لبنان والعراق والسودان والجزائر، ظلّت تنانين السُلطة، وأجهزة مخابراتها، وأنظمتها السياسية القمعية، تُمارس تنكيلًا وتضييقًا على حرية الصحافي، بُغية تخويفه ومنعه من الجهر بالحقائق، وكشفه للذي تتستّر عليه الأنظمة السياسية، حتى وصفت سنة 2019 في عدد من الجرائد الدولية بكونها سنة الاعتقالات والخسائر بامتياز، بحكم العدد الهائل من الصحافيين، الذين اعتقلوا إبان الموجة الثانية من الربيع، والتي أكدت استمرار إرادة الشعوب في تحصيل حقوقها المشروعة في العيش والكرامة، والحق في التعبير عن رأيها تجاه أنظمة سياسية مستبدة. ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا في الدفاع عن مهنة الصحافة، وحقها المشروع في نقل الحدث ومجرياته اليومية، على الساحة العربية والدولية.

في هذا التحقيق، نطرح إشكالية السُلطة الرابعة في مواجهة السلطة نفسها، على طول المسار التحديثي والديمقراطي، الذي قطعته الشعوب العربية منذ اندلاع الموجة الأولى من الربيع العربي، إلى موجته الثانية، وما ترتب عليهما من قهر وتأزيم لمهنة الصحافة، وتضييق الحدود على اشتغالها وممارساتها اليومية المشروعة في نقل وصناعة الحدث، وذلك مع مثقفين عرب لهم إسهامات في هذا الشأن، سواء داخل الجرائد، أو المجلات، أو المواقع الإلكترونية.

هنا الجزء الثاني، والأخير:

نصير فليح (العراق): حرية التعبير شرط أساسي للديمقراطية والتحوّل الاجتماعي

لا يمكن القفز في هذا الموضوع فوق دور السعودية. فهي الجهة التي قادت الثورة المضادة لـ”الربيع العربي”، منذ بدايته عام 2011، ولا تزال، ساعدها في ذلك استخدام إمكانياتها المادية الكبيرة والسائرين في ركبها. وهي الجهة التي كرست قمع حرية التعبير والصحافة، هي وحلفاؤها، والأدلة على ذلك كثيرة، وصلت أفظع أشكالها في قضية جمال خاشقجي المعروفة جيدًا.

لكن المؤسف أنّ الصمت العالمي الكبير حول الموضوع خاضع لمنطق المصالح، أيضًا، سوى بعض الإشارات المتفرقة الخجولة التي تظهر هنا، أو هناك، وعلى استحياء، وبلغة لا تتناسب مع حجم هذه الانتهاكات.

إنّ الاحتجاجات التي عُرفت باسم “الربيع العربي”، التي انطلقت عام 2011، وضعت في أولوياتها حرية التعبير باعتبارها شرطًا أساسيًا قرينًا للديمقراطية والتحول الاجتماعي. فمن النافل تصور تحولاتٍ اجتماعية عميقة تفتح آفاقًا أمام الشعوب العربية، من دون رفد الممارسة الديمقراطية بنهر حرية التعبير والصحافة. كما إنّ لحرية الصحافة دورًا رئيسيًا آخر تلعبه في التغيير الاجتماعي المنشود، وهو محاربة الفساد وفضحه. فقد أصبحت آفة الفساد المتفشية لا تقل خطورة عن الاستبداد، بل إنها أكثر تواريًا وتسترًا ضمن بنى عميقة قد تتمظهر بواجهات ديمقراطية. وليس صدفة أنْ صارت شعارات الاحتجاج العربي، مع تقدم الحركة وتراكم تجاربها، تجمع بين مناهضة الاستبداد والفساد معًا، وأيُّ سلطة قادرة على لعب دور مركزي في هذا الكشف أكثر من سلطة الصحافة؟

عبداللطيف نجيب (المغرب): الإعلام البديل المتمثل بمواقع التواصل الاجتماعي له تأثير كبير

مما لا شك فيه أن “الربيع العربي” شكل سياقًا موضوعيًا لطفرة نوعية في مجال الإعلام بكل أنواعه، المرئي منه والمسموع والمكتوب، ومواقع الشبكة العنكبوتية، والتواصل الاجتماعي. وإذا ما سلمنا بأن ما شهده العالم العربي هو مناخ ورياح ثورية في سبيل البناء الديمقراطي، فإن أهم انتصار حققته هذه الهبات الشعبية، وهو كسر حاجز الخوف لدى المواطن العربي، وانتزاعه لزمام المبادرة من يد سلطة ظلت إلى عهد قريب تحتكر المعلومة، وتنفرد ببسط النفوذ وتوجيه الإعلام الجماهيري.

صيرورة هذا المناخ الثوري، كانت محدودة في الزمان والمكان، وبمجرد ما انفضت الجموع، وعادت أصوات الاحتجاج إلى حناجرها، توارى المشروع الديمقراطي، وإقرار الحريات، أما الترسانات القانونية المقيدة للحريات، فإن واضعها هي حكومات جاءت بعد هذا الذي اصطلح عليه بالربيع العربي. من هنا، نطرح السؤال الذي يبدو لي ملحًا في معالجة قضية هذا التراجع، ألم تفرز هذه المرحلة تعقيدات أرخت بظلالها على واقع الصحافة وحرية التعبير والإعلام؟ ألم يكن المهنيون باصطفافهم في انتماءات متباينة، قد ساهموا في تعبيد الطريق لقوانين تكمم الأفواه وتقيد حرية الإعلام؟ هذه بعض أسئلة تدلنا على بعض مكامن الخلل، في هذه المرحلة الانتقالية، بالعودة إلى تاريخ الثورة الفرنسية، الثورة التي كان فيها الحق في الحرية عاملًا محركًا لكل أطوارها، لما أقدم شارل العاشر على المساس بحرية الصحافة، وفرض رقابته وتراخيصه على الصحافيين، كان مآله إسقاطه من عرش، أُعيد نظامه على أساس التوافق بين الثورة وحقوق العهد القديم. فالصحافة كما هو معلوم مبنية على صدقية الخبر وقدسيته، فيما التعليق، مظلته التي تغطيه هي الحرية. لكننا في الحالة العربية نكتشف عمق التعقيد الذي يحيط بممارسة الحرية، والحق في الإعلام الحر. المؤسسات الإعلامية المكتوبة منها بالأخص، هي على الدوام محكومة بالولاءات. شغلها الشاغل الانصياع لأوامر صاحب النعمة والحماية، تبرر مواقفه أحيانًا، وتطلق العنان للخبر المضلل أحيانًا أخرى. في هذه الحالة، استقلاليتها ودفاعها عن الحرية، يبقى مشروطًا بموقع ولي النعمة في السلطة، أو في معارضتها.

ومع ذلك، وهذا من حسنات الرجة التي مرت منها بعض الدول العربية، فإن الإعلام البديل المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي أصبح لها تأثير بليغ في منظومة الإعلام، بل أصبح مصدرًا للخبر ونقل الحقيقة، مما يضع الإعلام الرسمي والمتداول في حرج مكشوف. وبرغم ذلك فهو سيف ذو حدين، لا سيما أنه يحتاج إلى بوصلة وفهم لخط تحرير، حتى يستطيع التمييز بين النقد والتشهير، التغطية والدعاية المغرضة. خطورة هذا الإعلام البديل، وأحيانًا منزلقاته، غير محسوبة العواقب، لأن الإفراط في الحرية قد يتسبب في الضرر للغير.

أستطيع القول إن مسألة الحريات، وحرية الصحافة على الأخص، مطلب أبدي مستمر ودائم، وسيظل محركًا لكل التغييرات التي ستطرأ على واقعنا العربي، لا لشيء سوى أن واقعنا يحتاج إلى نفس عميق من الحريات.

هند الزيادي (تونس): الصحافة كانت دومًا في واجهة أيّ تغيير

شكّل العقد الأخير بالنسبة للصحافة العربية عقد المفارقات المستحيلة بامتياز. ففيه اندلعت حراكات وانتفاضات تحرّر ضد معظم الأنظمة العربية التي حكمت المنطقة بالحديد والنار. وكان من المتوقع، ومن المنطقي، بعد تلك الأحداث، أن نطمح جميعًا لقيام صحافة شجاعة حرّة في هذا العهد الجديد، عهد الحريات والتحرّر، وعلا سقف تطلع المواطن العربي إلى قدرة مختلف الصحف على التعبير عنه، وعن شواغله أخيرًا. وهو ما حاولت بعض المؤسسات الصحافية القيام به في البداية. لكن ما حدث تدريجيًا جعلنا نستفيق على عمق الوهم الذي انسقنا إليه وانخرطنا فيه.

فالمنطقة العربية كمن يقف على صفيح ساخن لم يستقر فيها الوضع على نتاج إيجابي يُعتد به، بل أفرزت لنا تلك التحركات أنظمة أشد استبدادية، أو أنظمة سعت إلى إعادة استنساخ التجارب الديكتاتورية السابقة، وإن كان ذلك في ثوب ديمقراطي مموه. وبما أن الصحافة كانت دومًا في واجهة أي تغيير، فلم تسلم من نيران هذه الأنظمة الجديدة التي سعت إلى عرقلة عملها، وتكبيلها بقوانين، مرةً، وبالتضييق على نشاط الصحافيين مرات أخرى. وهكذا بقي الصحافيون عالقين بين يوتيوبيا الأحلام، ومرارة الواقع.

ومما زاد الوضع سوءًا أن تلك الأوضاع غير المستقرة التي صارت تعيشها الشعوب فرّخت ديكتاتوريات متنوعة (ديكتاتورية دينية، ديكتاتورية الكيانات الإقتصادية الكبرى التي تخاف على مصالحها، الديكتاتوريات الرياضية، الديكتاتوريات الفكرية والسياسية…) زادت في استهداف العمل الصحافي، وحالت بينه وبين تقديم دوره المنوط به كما تتطلب المرحلة. وتنوعت أساليبها بين الخطف والاعتقال والقتل والتهديد. فإذا بنا في وضع مربك ومخاتل جدًا يوحي ظاهريًا بالتحرّر والتطلع إلى بيئة صحية أكثر للعمل الصحافي، ولكنه في حقيقته وضع تتناسل فيه الموانع والعراقيل، وتصل إلى حدود تهديد حياة الصحافيين.

وهكذا، فلن نستطيع الإقرار بأن الصحافة، بما هي سلطة رابعة تقوم بدورها، وتدفع بعجلة التغيير الى أفقها المطلوب، إذ بالإضافة إلى كل ما قلناه سابقًا صارت تغييرات جذرية في الخارطة الجيوسياسية للعالم، ولمنطقتنا، جعلت من الصراع ضد الصحافة سافرًا جدًا، يعيش حالة استقطاب كبرى من القوى التي تملك المال، وتملك الأجندات المختلفة، مما يجعلها قادرة على شراء المؤسسات الصحافية، وتغيير سياساتها الإعلامية، وخطوطها التحريرية، وفق مصالحها.

ملخص الوضع أن الصحافة، مثلها مثل كل القطاعات الأخرى، بعد الانتفاضات التحررية، انتكست وتشتت جهدها، وقلّت فاعليتها، وهو أمر مفهوم ومتوقع، حتى نكون واقعيين من دون تشاؤم.

أسماء عزايزة (فلسطين): ظهور سلطات استبداديّة إلى جانب المحتل الإسرائيلي

لا تضعنا أسبقيّة فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ، كشكل متطرّف من أشكال الاستبداد، في عداد الضحايا الذين ضمنت مُسبقًا أماكنهم في مسالخ الحريّات السياسيّة. بل إنّ السنوات الأخيرة الماضية كشفت عن تطوير ملحوظ في أدوات الاستبداد، أوّلًا، وعن ظهور سلطات استبداديّة، إلى جانب المُحتل، في سلخ الفلسطينيّ عن فكرته ورأسه وآرائه ومبادئه، ثانيًا.

رغم الحاجة الدائمة لتذكير العارف، ولقطع شكوك المتردّد باليقين، إلا أنّ الكتابة عن ممارسات الاحتلال الإسرائيليّ في ما يتعلّق بحريّة التعبير تبدو هنا زائدة، سيّما حين يدور الحديث عن أشكال الاستبداد المتجليّة في الاعتقالات والنفي، وغيرها. فقبالة الحركة الصهيونيّة، من الأدقّ أن نتحدّث عن الاستبداد، الذي كما وصفه عبدالرحمن الكواكبي “يبلغ في الانحطاط بالأمّة إلى غاية أن تموت ويموت هو معها”. فهو قائمٌ بقيام الحركة الصهيونيّة وزائلٌ بزوالها، وليس في الإمكان نزعه عن منظومته كنزع قانونٍ، أو بند في دستور.

ولتذكير العارف، وإعلام الجاهل، فإنّ إسرائيل تعتقل سنويًّا آلاف الفلسطينيين، من بينهم مئات المعتقلين الإداريين، ومدافعين عن حقوق الإنسان، باستخدام قوانين النظام العام في الداخل الفلسطينيّ، والأوامر العسكريّة في الضّفة، وتعذّب نسبة عالية منهم بالضّرب، والتقييد، والحرمان من النّوم، وأشكال مُبدعة أخرى لا يمكن تخيّلها. لكن كلّ ذلك لا يمكن أن يُدرج ضمن الاصطلاحات التي يتحدّث بها المجتمع الدوليّ حين يتحدّث عن قمع الحريّات. فإسرائيل لا تقمع. بل تقتل. وإن كانت حريّة الفلسطينيّ الأولى هي أن يكون على قيد الحياة، فالقتل الذي تتعمّده إسرائيل، سواءً بالإعدامات الميدانيّة، أو بإهمال الأسرى حتّى الموت، أو بالقتل العشوائيّ في غزّة، هو خارج معجم الاعتقالات والقمع، كشكل من أشكال استبداد المنظومات السياسيّة الحديثة.

لكنّ كارثة الفلسطينيين، التي يبدو أنّ الانتهاء منها أكثر تعقيدًا، هي أنّ الجسم بدأ بمهاجمة نفسه، وليس هناك أمل قريب في أن تستطيع المضادات المُعارضة لهذا الهجوم الذاتيّ إحداث التئام حقيقيّ لمرض الاستبداد الذي تعمل به السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. فبعد موت منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وتحوّل السلطة إلى أردأ إدارة ممكن أن يحصل عليها الشعب الفلسطينيّ، اختفى العدوّ الإسرائيليّ، وخلقت السلطة أعداءً داخليين لها، هم المثقفون والمعارضون والصحافيون، وأصحاب الرأي الحرّ. فقبل ثلاثة أعوام، أقرت السلطة تشريعًا أخلاقيًا باسم “قانون الجرائم الإلكترونيّة”، لإحكام السيطرة على حرية وسائل الإعلام، ومنع التعبيروالرأي المعارض على شبكة الإنترنت، فتعتقل وتحجب مواقع إلكترونيّة، وتستجوب يمينةً ويسرةً. ولا تقل الحالة تردّيًا في قطاع غزّة الذي تحكمه “حماس”، فلا تتوقّف أجهزتها الأمنيّة عن اعتقال كلّ صاحب منشور لا يعجبها على فيسبوك.

إنّ آخر ما تمنّاه الفلسطينيّ، الذي يؤمن بعدالة قضيّته، ونقاء شعبه المُحتل، ومظلوميّته التاريخيّة التي تعلي من شأنها “قيادته الثوريّة” التاريخيّة، أن يجد في آخر نفق نضاله دولةً بوليسيّة تكتم فاه، وتحزّ عنق أفكاره الحرّة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ أسرى الحريّات عند إسرائيل، أو عند السلطة، أو عند “حماس”، أو عند أيّ قوّة مستبدّة، هم ليسوا أولئك الذين يجلسون في زنزانة، أو أمام مُحقّق، أو تحت زناد، وحسب، إنّما هم جميعنا، نحن الذين نجلس في مكاتبنا المكيّفة، ونهاب أن نكتب منشورًا على فيسبوك. هم كلّنا، الذين بدأنا نصير شيئًا فشيئًا كائنات مدجّنة في أقفاص ذات أكثر من قفل، وأكثر من بوّاب. يقول الكواكبي: “حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها، حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط، ولا علاقة لها بحفظ المزايا البشريّة، وبناءً على هذا، كان فاقد الحريّة لا أنانيّة له، لأنّه ميت بالنسبة لنفسه، حي بالنسبة لغيره. كأنه لا شيء في ذاته، إنما هو شيء بالإضافة”.

صالح لبريني (المغرب): السلطة ترى أن الصحافة ينبغي لها أن تكون في خدمتها

ثمة علاقة ملتبسة بين الصحافة العربية والسلطة، إذ من الصعب الفصل بينهما، ذلك أن الصحافة في بعض مراحلها كانت في خدمة السلطة، من خلال السعي دومًا إلى الاحتماء الأولى بالثانية، واستغلال السلطة وسائل الإعلام بشتى تمظهراتها للعمل على تكريس سياساتها المتبعة، وهذا لا يعني أنها خاضعة للسلطة كليّة، بل نجد الكثير من المنابر الصحافية تحاول أن تقف في صف الكشف عن الوجه القبيح لممارسة السلطة، الأمر الذي نتج عنه خصومة شديدة أسهمت في تأجيج الصراع بين إرادة سلطة تروم ترسيخ الواقع وتجميله بكل الوسائل.

في المقابل، نجد إرادة إعلامية الغاية من فعلها الصحافي العمل على الوقوف عند الاختلالات التي تعتور الواقع وسياسة الدولة، وهذا التجاذب بينهما راجع بالأساس إلى اختلاف المنطلقات وزوايا النظر لما يريده المجتمع. هذه الخصومة ستشهد أوجها، خصوصًا إبّان “الربيع العربي”، حيث دخلت الصحافة العربية في حرب سرية وعلنية مع السلطة، هذه الأخيرة التي اجتهدت في وضع كافة العراقيل التي في إمكانها الحدّ من طوفان إعلام مناهض لها ومؤيّد للاحتجاجات التي شهدتها بعض الدول العربية، فبدأ شد الحبل بينهما، ولعل الاعتقالات التي تعرض لها العديد من الصحافيين العرب في هاته البلدان تبرز مما لا يدع مجالًا للشك، الشراسة التي تم التعامل مع الصحافيين المعتقلين من خلال ممارسات أعادت الأذهان إلى السنوات المظلمة التي رزحت تحت نيرها الصحافة العربية، بل إن الأمر بلغ قمّته عن طريق التصفية الجسدية، والسبب يعود إلى هذه الخصومة المفتعلة بين الصحافة والسلطة، والاختلاف الحاصل في الفهم الدقيق لوظيفة الصحافة من لدن السلطة. فالسلطة ترى أن الصحافة ينبغي لها أن تكون في خدمتها، وأن تعمل على تلميع صورتها، وفي هذا ضرب حقيقي لأخلاقيات الصحافة ومبادئها التي تحث على ضرورة استقلالية الممارسة الصحافية عن أي سلطة، كيفما كانت، فالصحافي، في جوهره، يجب ألا يبقى تحت رحمة السلطة وإملاءاتها، وإنما الابتعاد عنها وأخذ المسافة منها حتى تكون ممارستها ذات فعالية في التأثير على الرأي العام وتشكيله. ولعل وسائط التواصل الاجتماعي، من الفيسبوك وتويتر، والمواقع الإلكترونية التي تندرج ضمن الصحافة، كان لها الفضل الكبير في إحداث وعي لدى الفئات الاجتماعية في العالم العربي، وتحفيزهم على الجهر برغبتهم في التغيير، مما أدى بالسلطة إلى العمل على تحجيم دورها، إما عبْر التضييق الممنهج، أو شراء ذمم بعض الصحافيين، واستغلال المنابر الرسمية لتشويه الصحافة المضادة، من خلال الحملات التشهيرية، وفبركة قضايا مفتعلة ضد الصحافيين، والزج بهم في السجون بواسطة تلفيق التهم ومتابعتهم قضائيًا. وما وقع في المغرب، مثلًا، من اعتقال صحافيين ينتمون إلى ما يسمى بـ”الصحافة المستقلة”، والحكم على بعضهم بأحكام ثقيلة توضح بالملموس أن السلطة الرابعة في العالم العربي تتعرّض لأكبر حملة لم تعهدها الصحافة العربية من قبل. ذلك أن السلطة غدت محرَجة أمام الملفات الضخمة المرتبطة بالفساد بشتى تلاوينه وتجلياته وتسمياته، التي تقوم الصحافة بفضحها وتناولها بالتحليل والمناقشة، تثير حفيظتها، وفي كثير من الأحيان دفعها إلى القيام بعمليات تشهيرية (نسبة إلى التشهير) ضد كل صوت صحافي حرّ، من أجل النّيْل من مصداقيته، والعمل على جعله كومبارس لخدمة أجنداتها التي ترسمها على مقاس مصالحها السياسية.

إن الخصومة بين الصحافة العربية والسلطة ستظل قائمة ما دامت السلطة تنظر إلى الصحافي بعين الريبة، وتعتبره نقيضًا لها، وما دامت الصحافة العربية لها الرغبة القوية في تحقيق الاستقلالية، بما تحمله الكلمة من معنى، ومن ثمّ العمل على أن تكون صوت المجتمع.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى