من ذاكرة صفحات سورية

حوار مع د. غريغوار مرشو

من ذاكرة صفحات سورية

أجرى الحوار وحيد تاجا

المقابلة التي أجراها  الكاتب الصحفي وحيد تاجا مع غريغوار مرشو اوائل عام ٢٠١١ إي قبل أحداث ١١ اذار. الحلقة الأولى، حفريات في آليات احتلال العقل”.. في السطور التالية نسوق حوارنا معه

* لفتني كتابك “الفصام في الفكر العربي المعاصر”، والفصام كما هو معروف مرض نفسي خطير إذا ما أصاب الإنسان، فكيف به عندما يُصيب الفكر.. السؤال هل يمكن تشخيص حال الدول العربية بناء على ما ذهبت إليه في كتابك من وجهة علم الاجتماع السياسي؟

** إن اصطلاحي على مفهوم الفصام في الفكر العربي المعاصر لم يصدر عن عمل اختباري عيادي، وإنما جاء ثمرة مقاربة لمسيرة الفكر العربي الحديث والمعاصر، قرابة قرن ونصف، الذي لا يزال في معظمه مفصوماً عن واقعه على الصعيد الرسمي المؤسسي وأسيراً لمسألة المرجعية بشقيها: الأصالة/المعاصرة، الهوية/الحداثة، التراث والعصر. والمشكلة المركزية لا تكمن فقط في أنه لا يزال تحركه مرتهناً لهذا التجاذب وإنما تكمن في أن تحركه يُؤبدَّ أحد القطبين المرجعيين والانتصار له حتى بات التقاطب الفكري هنا يتجسد بين منافح مستميت عن الهوية والأصالة ضد التغريب والعروبة والإنمساخ الثقافي، وبين منافح عن الحداثة الوافدة ضد النكوص السلفي والتحجر العقائدي والانحطاط.

والإشكالية الكبرى لم تعد مقصورة فقط على أن يتمترس كل طرف في معسكر وإنما أفرزت مروحة من السجالات أشبه ما تكون بالحرب الفكرية، بحيث باتت الساحة الفكرية والثقافية غارقة في غمرة التغالط الإيديولوجي والتراشق التصفوي، وفي نوع من البلبلة في المفاهيم، وفي تصارع الرهانات. ولقد بلغ تصاعد الصراع الإيديولوجي بعد الحرب العالمية الثانية إلى مستويات الإرهاب الفكري السافر. بذلك تآكلت أية أرضية للحوار والتواصل وانتصرت لغة الإقصاء والتنابذ والاحتراب ما بين المعسكرين.

* وكيف انعكست هذه الحالة على الفكر السياسي العربي؟

** في خضم هذا الصراع صار من قبيل التحصيل الحاصل ألا يكون الفكر السياسي العربي مهتماً في إرساء قواعد لدولة القانون والحق والمواطنة، وإنما كان مهجوساً باستجلاب منظومات من التصورات النظرية المقتطعة من سياقها الاجتماعي التاريخي ـ سواء من الآخر الغربي أو الآخر السلفي المحلي ـ وإسقاطها بالقسر على الواقع العربي. فتجلى ذلك إما بالمنظومة الفكرية الليبرالية، حيث التبشير عن الدولة والقانون والبيروقراطية (المكاتبية).. أو المنظومة الماركسية، حيث الاستفاضة الكثيفة عن مفاهيم الطبقات والطبقة المسيطرة والمهيمنة.. أو منظومة الآداب حيث الكلام عن الرعية وأهل الحل والعقد، أو المنظومة الخلدونية حيث مفهوم العصبية. كل ذلك جرى في إطار إنكار أي مقاربة تحليلية جادة (الدول الوطنية) القطرية، لا بل الهروب إلى طوبى دولة الوحدة القومية الاشتراكية الشمولية تحت ذريعة أن هذه الدول هي ثمرة التقسيم (السايكس ـ بيكوي) ولها دور وظيفي استعماري، هذا الموقف يماثل موقف أصحاب دولة (الخلافة) على أنقاض الدولة القطرية بنفس المنظور الشمولي تقريباً، ولكن بتكفير هذه الأخيرة والمجتمع معاً. كل ذلك دون العمل على نزع فتيل قطرنتها الإثنية المصطنعة وتجسير الفجوات فيما بينها في إطار رؤية تضامنية تكاملية اقتصادية ثقافية تُمهّد إلى اتحادات مستقبلاً. باختصار كل هذه الأطروحات، على اختلاف تلاوينها، وبكل ما تحمله من حمولات مفاهيمية نظرية جاهزة الصنع ـ مستذكرة ومستقدمة ـ لتنزيلها، بالمطلق على الواقع، والتعامل معها كمفاتيح سحرية لحل مشكلات مجتمعاتنا، سوف تنعكس على أرض الواقع إلى نوع من الخلط بين السلطة وبناء الدولة. وهذا ما حدث حينما اتجه أصحابها إلى محورة تفكيرهم في اختزال الدولة إلى مجرد أداة للسيطرة والهيمنة، وإلى التفكير في السلطة من منظار ارتباطها بالدولة على أساس هذه الأخيرة ما هي إلا مماهاة مع تلك وتشخيص لها. ولما كان للسلطة بريقها وجاذبيتها عند الطامعين بها كغنيمة، ولما كانت الدولة هي المدخل الملكي إلى امتلاك هذه السلطة، أصبحت الإشكالية الكبرى في الفكر السياسي العربي تدور حول الدولة من حيث كونها آلة ترهيب وقمع لإقصاء المجتمع عن عمليات التفكير ومصادرة إرادته بغية تحويل أفراده إلى سلع للاستهلاك وضحية للابتزاز والإفقار.

* والى ماذا تؤدي استدامة هذه الآلية في نهاية المطاف؟

** إن استدام هذه الآلية يؤدي في نهاية المطاف إلى قسر شريحة كبرى من الناس على تسليم مصيرهم لأعاصير الأقدار وحتمية التفقير والركون إلى انمساخ عقولهم إلى أشبه ما يكون بمصير سكان الضيعة الضائعة. الأمر الذي يحدو بالمستبدين المتعالين المتحذلقين إلى

تسويغ القول: (هكذا شعب محكوم يحتاج إلى هكذا حكام)، وهكذا تدجين بالإكراه هو الذي يُمهد البيئة لقابلية الاستعمار.

ضمن هذا المنظور صار التفكير في تقنية الوصول إلى سلطة الدولة هو الهاجس المؤرق عند القومي والماركسي والليبرالي والسلفي. تبعاً لذلك ليس من باب المصادفة أن تُراكم حيل معرفية حول أساليب الانقلاب العسكري تحت شعار “الثورة” أو “الجهاد” ضد الأمة والدولة المكفَّرتين، وأن يراكم أيضاً جهاز من المفاهيم حول السيطرة والهيمنة والاستبداد والاستكبار وحول موازين القوى.. بصريح العبارة لقد تحول علم السياسة تدريجياً إلى علم عسكري حيث يكون التعلَّم فيه كيفية اقتناص السلطة.

* وهل هذا ما قصدته في تشخصيك لحالة الفصام في الفكر العربي المعاصر؟

** تماما، فما سبق يتبين أن الفكر السياسي السائد يعاني بمختلف صوره الشمولية والتبعية والارتدادية من فصام حقيقي مع الواقع الاجتماعي التاريخي الحي. فمن الطبيعي أن يكون ثمة علاقة مباشرة بينه وبين نظام السلطة المطلقة بكون هذا الأخير يعاني هو أيضاً من فصام مع المجتمع.

لا شك في وضعية كهذه لا يمكن أن تستقيم الثقة والتفاعل البناء بين الطرفين، لأن هذا مرهون باحتياج كل منهما إلى الآخر لإعادة إنتاج نفسه كي يستمر. وذلك من خلال تغيير قواعد ممارسة السلطة داخل الدولة وداخل الأحزاب وداخل المؤسسات الأهلية حتى الأسرة. أقول ذلك لأن كل ما اعتيد على تكريسه في السابق من نظام التلقين وعبادة شخصية القائد الملهم والهوس بالشعارات الجوفاء والمراقبة على الضمير والمعاقبة المشددة على حرية الرأي وفرض معتقدات بالإكراه هو الذي يُجبر الأفراد ضمن هذا الاحتقان على الرضوخ والانخراط في لعبة الغش والتدليس والكذب والممالقة والتحايل والمخادعة و الانتهازية والوصولية، بحيث يكون فن التشاطر فيها هو اتباع سلوكية ازدواجية لا أخلاقية تنتهي إلى ثنائية الرشوة والارتشاء المدمرتين لشراء الحقوق أو المناصب، مما يؤدي بالنتيجة إلى بعث وتأجيج الفوضى والاضطراب وتآكل أواصر التضامن والتواصل والثقة بين الناس إلى أن يُصبح كل فرد يفتش عن خلاص نفسه على حساب الآخرين. لعل هذا ما يفسر اليوم، تحت وطأة هذه الضغوط وانسداد الآفاق، التماهي الوطني يجري أكثر مع مكونات المجتمع الأهلي ما قبل القومي بدلاً من الدولة، بحيث صار في كل مكان تطرح مسألة الهوية يعود الوعي العربي الإسلامي إلى الاستنجاد بالسلف الصالح لينهل منه الإلهام والسند، بذلك باتت الدولة ليس محجوب الثقة عنها فحسب، وإنما مرفوضة بلا توقف والتعامل معها كغنيمة للهبش والنهش.

هذا ما يحل بالدولة حينما يتم تعطيل دورها كمرجع للرعاية الاجتماعية والموازنة بين الواجبات والحقوق وسند للحمة المجتمع، وتحويلها إلى مجرد أداة ردع، تفاقم هي بالذات أسباب التوتر على مستوى الحياة والوعي وتمزق المجتمع ودفعه نحو احتمالات تناسل مظاهر العداوة والعنف. ان مسخ الدولة على هذا المنوال لن تعد تتغذى هنا على فلسفة عقلانية منتجة، وإنما على العكس تعتاش من تعميم مشاعر الخوف والترهيب والاقتصاص الدائم والإحباط. هذا فضلاً عن الانشغال بمنطق إستزلام المحاسيب إلى طرفها للاستثراء وتعزيز سلطتها وهيمنتها بالامتيازات من جهة، ثم تضخيم أجهزتها الأمنية لصالح توسيع وتسليط آلات الرقابة والعقاب على المجتمع وتطفيل أفراده وهدر طاقاتهم من جهة ثانية. إلا أن هذا المآل لم يتأخر عن توليده، بالمقابل فئات تزعم الهيمنة في مملكة الحقيقة تحت رايات إيديولوجية مختلفة، بعضها من اليسار وبعضها الآخر من اليمين، الأول تحت راية (المالكة بالمطلق للحقيقة العقلانية والعلمية) والثاني تحت راية (الحاكمية لله) حيال هذا التضييق القاهر على المواطنين وخنق أصوات المطالبين صار من مصلحة معظم السلطات العربية الحاكمة التحديثية أن تُروَّج في أوساط البلاد والعباد مقدور الحديث القائل (كما تكونوا يولى عليكم) بدلا من قلبها إلى واقع الحال بالقول (كما يُولى عليكم يجب أن تكونوا). كما لو أن مقتضيات استمرار الحكم السليم مشروط بقبول المحكومين بالانصياع المستديم لكبار المستكبرين، تحت شعار (العقلانية الواقعية) الذائعة الصيت في أواسط الليبراليين الجدد العرب (يساريين الأمس)، حتى لن يتوانى البعض، في زمن العولمة، لتسويغ تقاعسه، من الاستعانة بالمقولة المعتادة لدى نخبة لبنانية (قوة لبنان في ضعفه ).

لا شك هذا المناخ يعطب سبل الممانعة والصمود تجاه التحديات الخارجية والداخلية المحدقة بنا. وخاصة حينما تُهدر كرامة وقدرات العباد وتُستباح ثروات البلاد بخروقات الفساد والإفساد التي تفشت في المؤسسات الرسمية حتى طالت سيادات الدول التي لا تكف سلطاتها عن المزايدات الخطابية بالدفاع عن وحدة وأمن الأوطان والمواطنين لتحريرها من قراصنة الاستيطان.

* تطرح علينا إجابتك هذه مسألة النهضة من جديد، وهي إشكالية عني بها الفكر العربي منذ القرن التاسع عشر، وقد أُعيد طرح هذه الإشكالية مجدداً منذ ستينات القرن العشرين. ما رأيك بالمسألة.. ولماذا بقيت أسئلة النهضة تطرح حتى الآن؟

لا شك بعد بيان بعض المعطيات الأساسية التي اعترضت الفكر العربي في إرساء شروط النهضة ومقتضيات تحولها إلى مشروع صار من الطبيعي أن تطرح من جديد كمسألة، لأنه منذ طرح النهضة كمشروع منجز يُماثل حركة (الإحياء) أو (الولادة الجديدة) في الغرب تحولت إلى إشكالية وتكررت المساءلات المتضاربة حولها بين التنديد وبين البناء على أساسها، بعد الحرب العالمية الثانية أي في بداية الستينات على وجه التحديد. وهذا تم تحت ذريعة لا حاجة للاستغراق في تفسير التاريخ بأسلوب ليبرالي تابع، وإنما بالانقلاب عليه باسم (الثورة) وباتجاه دولة الوحدة والاشتراكية والحزب الواحد للرد على التهديدات الخارجية والداخلية.

لكن لما جاء الحصاد بخلاف حساب البيدر، بعد الهزيمة المفجعة في حرب يونيو عام 1967، وحصل ما حصل من احباطات وتراجعات وانكفاءات أكثر قطرنة وانعزالاً، أصبحت الطروحات تنحو منحى أكثر اشتراكية ووحدوية أو أصولية وتطرفاً من أجل تحقيق (النهضة) الثالثة باسم الثورة أيضاً، على أنقاض النهضة الأولى والثانية.

الحلقة الثانية من المقابلة:

فراح أصحاب الدعوة القومية الماركسية العربية الوحدوية، لاستمالة الجمهور يفتشون في التراث، بكيفية انتقائية توفيقية ليسقطوا عليه مفاهيم الصراع بين المادية والمثالية واليسار واليمين ومقولة الصراع الطبقي، بحجة تقاطعها أو تطابقها مع السياق التاريخي الاجتماعي للنظام الغربي، كما فعل الاصلاحيون الإسلاميون والعلمانيون في القرن التاسع عشر، حينما حاول بعضهم يماهي عصر السلف الصالح بالمد الليبرالي العلماني في النظام الغربي، والبعض الآخر يماهي العصر العباسي بـ(عصر الأنوار) الغربي. إذاً ما تراءى لأصحاب النهضة الثالثة هو أنه على قاعدة المماثلة والتناظر، يمكن إنجاز المصالحة مع مجتمعهم وإرساء شروط النهضة.

* وكيف ترى موقف الأصوليين على هذا الصعيد؟

** أما الأصوليون المتشددون فراحوا بالموازاة إما تنصيب أنفسهم حرَّاس على التراث والتعامل معه ككتلة صلدة لا تمس في مواجهة الآخر الغربي، وإما تحت هذا الغطاء انتقوا منه بكيفية اختزالية، الجانب الإحترابي ليواجهوا خصومهم في الداخل على أن يُصدَّر فيما بعد للخارج، فإذا كان ديدن البعض من هؤلاء هو الصراع على السلطة واقتناصها من الداخل ثم إقامة “دولة الخلافة” فإن البعض الآخر جُنَّد عنفه لتصديره تحت شعار محاربة الملاحدة والكفار ضد الاتحاد السوفيتي في الثمانينات ضمن هذا السياق ذهب كل من هذين التيارين على اختلاف خياراتهما، إلى إلباس رهاناته على هذا النظام أو ذاك لضمان تحقيق طموحاته النهضوية. الأول بمدعاة أنه أكثر يسارية وأقل شمولية من غيره، والثاني بحجة أنه أكثر إسلامية ممن سبقه.

إلا أن هذه الرهانات لم تدم طويلاً، إذ تبين في الميدان أن مصائر الأمور تسير بخلاف طموحاتهما بكون النظام العربي الرسمي بوجه عام أصبح أكثر شللاً تجاه التحديات الخارجية المحدقة به وأغلب الحكومات التي في ظله أشد هرولة وتهافتاً، الواحدة تلو الأخرى للتطبيع علناً أو سراً مع كيان العدو، فهذا الأخير يزداد تشبثاً بالاحتلال وتوسعاً بالاستيطان، وتلك تزداد بالمقابل استقالة عن مسؤولياتها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتُفاقم تغييبها لحقوق المواطنة وتشتد تحديثاً لأجهزتها الأمنية لمواطنيها وتكريساً للعوازل فيما بينها على مختلف الصعد حتى بات معظمها لا يماري في المتاجرة بالوحدة والتضامن العربي ولإسلامي في المحافل الدولية.

حيال هذا المآل تحول قسم كبير من أنصار هذه الأطروحات إلى تعليق رهاناتهم بعد حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي على مشجب النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة على أساس أنه القاطرة الكفيلة لبلوغ العولمة. وبفضل هذه الأخيرة حسب زعمهم ستدك حصون الديكتاتوريات وتفترش الأوطان الديمقراطية وتلتحف الشعوب بسماء السلام والحرية. بذلك انتزعت (النهضة) المأمولة لدى اليساريين جداً من حضانة الايديولوجيا الماركسية ووضعت في حضانة الليبرالية الجديدة بقيادة الولايات المتحدة. فهؤلاء بعدما كانوا على نقيض النهضة في القرن التاسع عشر صاروا أكثر المزاودين في استدعائها والتبشير بها على أساس أنها حملت بذور العقلانية الليبرالية والتنوير، لكن غُدر بها حينما اغتيلت على يد النظم الديكتاتورية الشمولية، كما لو أن هذه النظم أنزلت من كوكب ثانٍ. إلا أن القسم الآخر من الماركسيين توزَّعوا بين مراجعة أدبياتهم بكيفية نقدية وبين الانكفاء على الذات والاحتفاظ بثوابتهم الأيديولوجية بطريقة صوفية يتحسرون على الزمن الضائع ويشتكون من غدر الأقدار. هذا فضلاً عن انحياز قطاعات يسارية كبيرة بعد ظهور (المد الإسلامي) إلى مسلكين متعاكسين، الواحد باتجاه صف السلطات القائمة وتأييدها في قمع المظاهر الدينية المتشددة في المجتمع واستئصالها بالقوة، والثاني باتجاه المصالحة مع المجتمع.

* وأين موقع الطروحات الإسلامية في هذا التحليل؟

** توزع أصحاب الطروحات الإسلامية بين مُهللين ومبجلين بـ(العولمة) بلباسها الليبرالي الجديد، ومتوقعين المكافآت العميمة نتيجة ما أسدوه من خدمات (جهادية) لمعلميهم الكبار ضد الملاحدة والكفار، وبين متوجسين حائرين لا يعرفون ماذا يُخبئ لهم المصير في المستقبل من مفاجآت وتحديات بأمل أن يخرجوا منها بإعادة اللحمة للأمة وهدايتها إلى الصراط المستقيم برعاية العناية الإلهية، وبين المقاربة النقدية لأدبياتهم الإيديولوجية بطريقة أكثر انفتاحاً واستنارة.

إن كل المراهنين على النظام الدولي الجديد وما بثه من وعود مجنونة حول انتشار الديمقراطية وعولمتها، سرعان ما صدموا حينما انقلبت الأمور رأساً على عقب باستبدال إمبراطورية الشر بعدو جديد أو اختلاقه كمشجب يعلق عليه كل المخاطر التي تتهدد التنامي الإمبراطوري لهذا النظام، ألا وهو الإسلام كبديل عن الخطر الشيوعي، حيال هذا التحول لم ولن تتردد امبرطوريات الإعلام على اختلاف أشكالها في الكتابة عنه لتسوَّقه على قاعدة الصورة النمطية السابقة وحاجات العولمة التي تسعى لسيادة نموذج واحد واحتقار ما عداه بكون الإسلام يُشكل راهناً بؤرة الممانعة. بذلك صار حلفاء الأمس القريب أعداء محتملين أو مفترضين أو فعليين وخاصة بعد حرب الخليج الثانية وما ألحقته من تدمير هائل للعراق دولة وشعباً وبيئة.

لا شك أن تسويد صورة الإسلام في مرآة النظام الغربي بقيادة الولايات المتحدة طرأ عليها عدة تنميطات سالبة سابقاً، لكنها لم تتكشف سلبيتها ومماهاتها بالإرهاب إلا بعد حادثة تفجير البرجين المدوي (11/9/2001)، وما تمخض عنها من احتلال لأفغانستان ثم العراق وحرب “إسرائيل” على لبنان ثم غزة وما إلى ذلك من إشعال حروب أهلية في مناطق أخرى من العالم العربي الإسلامي (السودان، اليمن، الصومال..) كل ذلك تم ولا يزال تحت شعارات تجفيف ينابيع الاستبداد والإرهاب واستغراس الديمقراطية. في الحقيقة لم تكن إلا مجرد سيوف ابتزاز للأنظمة القائمة من أجل انتزاع منها أكبر قدر ممكن من التنازلات لتأمين أمن الكيان الإسرائيلي الغاصب والتمهيد لغزوها واحتلالها وإعادة تقسيمها أو فرض الحماية العسكرية عليها في حال عدم الرضوخ للإملآت المُقبلة من الخارج.

* وماذا عن العودة وطرح أسئلة النهضة من جديد؟

** كل التداعيات المذكورة استدعت طرح الأسئلة من جديد حول النهضة المأمولة وحضَّت العديد من الباحثين والمفكرين ولو أنهم غير منتظمين في رؤية إستراتيجية متكاملة، على بيان المعوقات المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حالت دون إنجازها كمشروع ثم إستراتيجية. إلا أن التفكير بشأنها بصورة جادة وبعيداً عن صخب الأيديولوجيات المتصارعة حولها كان قد بدأ على نحو متوازن نسبياً في مطالع الثمانينات وما بعد على قاعدة النقد المزدوج. ولقد تم ذلك لبيان أن النهضة لا يمكن أن تستقيم إذا ظلت أسيرة إشكالية المعاصرة والأصالة والانشراخ الذي يعتورهما، وانفكاك غير المنخرطين في هذا الانشراخ لا يمكن أن يتم إلا بنقد حاسم لهذه الثنائية النهضوية كثنائية عقيمة ومدمرة, بتعبير آخر الانتقال بالنقد من حيث هو نقد لهذا الخطاب أو ذاك إلى نقد كل الخطابات المنزلقة في هذا السجال. أقول ذلك لأن وعينا بالهوية والإسلام والماضي لا يمكن أن يتم من خلال نقد الحداثة والغرب فقط. كما أن وعينا بالحداثة لا ينبغي أن يتم من خلال نقد الهوية والتراث فقط أيضاً. وإنما وعينا لهاتين الحاجتين الماستين ينبغي أن يُحلَّل عبر نقدهما وإعادة النظر فيهما معاً بما معناه إعادة بنائهما في وعينا انطلاقاً من منظور تاريخي اجتماعي.

ليصار إلى ذلك لا يعني التحرر من النص المرجعي ـ بشقيه التراثي المحلي والغربي ـ إهماله لا بل إعادة بناء العلاقة به انطلاقا من مرجع آخر ألا وهو الواقع الحي. بذلك تصبح قراءة النص قراءة واقعية لا قراءة الواقع قراءة نصية أي من خلال النصوص. ومن شأن هذا النمط من القراءة لا يساعد فقط المفكر على فهم مكنونات الواقع ومفاعيله جيداً دون وسائط مفارقة، لا بل يُساعده على إعادة فهم النصوص نفسها، أي إعادة قراءتها بالحفاظ على تاريخيتها الخاصة، وفي ضوء معطيات الواقع كل ذلك من أجل إعتاقها من عمليات التضخيم والتبشير والتبرير التي سار على منوالها معظم مفكرينا العرب على اختلاف تياراتهم ومذاهبهم وحسبنا التمعن في تجربة معظم التيارات الفكرية وإفرازاتها السياسية العربية المعاصرة وفي واقع إخفاقها حتى نصل إلى هذا الاستنتاج. لقد جرَّب الجميع أن يبني مشروعاً في غيبة جمهور حر، فاعل ومنتج، ولكن جاءت النكسة لتشي بمدى فصامية محاولته.إذاً إذا لم تتقدم النخب المثقفة الحية نحو ردم الفجوات وتغطية الثغرات المتسعة بينها وبين المجتمع فستظل تراكم الهزائم تلو الهزائم والخيبات تلو الأخرى. فليس من قبيل المصادفة حينما نرى الدول التي قامت بالرغم من إرادة شعوبها ودون التعبير عنها لا كمجتمع مدني ولا حتى كجماعة مجردة، لا يمكن أن تعيش إلا من نفي هذه الجماعة كوحدة وكإرادة وككرامة وكثقافة وكتراث وكمطامح وآمال تحررية وأمنية وقومية، وإنما أكثر من ذلك يتم تعويض النقص الوجودي في الدولة بتضخيم منقطع النظير للجهاز السلطوي الرقابي الأمني وللجزء الأكثر بدائية فيه، جهاز القمع والقهر، بذلك يصبح أمن وحراسة الفساد وتناميه هو الرابح وحصار المواطن بهدر طاقاته هو الخاسر.

* وبالتالي لماذا بقينا حتى الآن على ما نحن عليه؟ هل هناك خلل ما في العقل العربي؟

** إذا كنا قد بقينا حتى الآن على ما نحن عليه كما أسلفت فهذا لا يعود إلى مقدور بيولوجي أو خلل جوهراني في العقل العربي لطغيان المنطق البياني على المنطق البرهاني كما رُوَّج ويُروَّج البعض في تأصيله في الثقافة العربية، بالإطلاق، وإنما يعود إلى ضغوطات جيوسياسية واقتصادية واجتماعية، وإلى كيفيات تحديثية قسرية ثمرة اصطدامنا بالحضارة الغربية. الأمر الذي أدى إلى فصم الفكر عن الواقع الحي وجعله مهجوساً باستذكار معارف السلف الغربي أو السلف المحلي أو التوفيق بينما بطريقة انتقائية تلفيقية بدلاً من التفكر عليها ومفاعلتها مع مجريات الحاضر ومقتضياته من أجل تأسيس وعياً تاريخياً اجتماعياً فاعلاً حيالهما.

* كيف يمكن لعجلة التطور أن تتحرك في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية للوطن العربي؟

** لكي ندفع بعجلة التطور وتأمين بيئة لنشوء مشروع نهضوي متكامل ومتفاعل مع الحاجات الحيوية والتطلعات الحرة لمجتمعاتنا، ثم الخروج من المآزق والهزائم المذلة المتوالية التي تتهددنا لابد من العودة إلى الذات واستقراء واقعنا وما حكمه ويحكمه من تحديات خارجية وداخلية بكافة الصعد المعرفية والسياسية والاقتصادية والثقافية من أجل إجتراح أسئلة وأجوبة جديدة تتوائم مع حجم المسائل المطروحة علينا، فعلى ضوء هذه المسائل وغيرها علينا القيام أيضاً بمراجعة نقدية تاريخية اجتماعية ومعرفية لأسباب الردود العربية والإسلامية المنقوصة على هذه المشكلة. وهذا ابتداء بما يسمى بعصر النهضة من أجل استشراف رؤية واضحة ومقبولة لما يمكن أن تكون إستراتيجيتنا المستقبلية في مطالع الألفية الثالثة. وإلا أي استمرار في التقاعس على هذه الصعد سيؤدي إلى تلغيم القواسم المصيرية المشتركة الجامعة بيننا وتشظيها إلى أشلاء دويلاتية جديدة سائغة الابتلاع من قبل الإدارة الإمبراطورية الأمريكية الجشعة وحلفائها. وأن غزو بغداد ما هو إلا محطة تُنذر بنقل الكوارث التي حلت بها إلى المنطقة.

وما نحتاجه في نهاية المطاف هو عقد جماعي عربي للأمن والتنمية الإقليمية تشارك فيه كل الفعاليات السياسية والحقوقية والإدارية والفكرية والاقتصادية على اختلاف شرائحها وانتماءاتها. لكن على أن يُحدَّد هذا العقد التزامات ومسؤوليات وواجبات كل طرف في إطار مشروع تنموي موحد، وخطة إصلاحات اقتصادية وإدارية مشتركة لمحاربة كل خروقات الفساد التي طالت حرائقه حتى مؤسستي التعليم والقضاء، ولإزالة كل العوازل الاتنية والطائفية والمذهبية والدينية والثقافية والاقتصادية التي تفتك بها. كل ذلك ليصار إلى خلق مناخ جديد مُشجع على العمل والإنتاج والاستثمار بهذه وغيرها من الإعدادات تتمكن المجتمعات العربية والإسلامية من الخروج من موقع المنفعل والضحية المستجدية دائماً للحق من الشرعية الدولية إلى موقع الفاعل في الساحة الدولية.

Gregoire Marcho

المقابلة التي أجراها  الكاتب الصحفي وحيد تاجا مع غريغوار مرشو اوائل عام ٢٠١١ إي قبل أحداث ١١ اذار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى