الناس

محاكمة “كوبلنز”: الشهادة الزائفة والتلفيق وحكائيّة “الحقيقة”/ عمّار المأمون

تظهر الإشكاليات حول التلفيق حين يتعلق الأمر بالأحداث الكبرى، أو الأحداث الاستثنائية التي تمسّ الجميع (حرب أهلية، إبادة، ثورة…)، هذه الأحداث التي يهيمن فيها الخطر على كل الموجودين، ويقسمون بسببه إلى أطراف تصل حدّ العداوة…

——————————————-

فتحت محكمة “كوبلنز” في ألمانيا الباب أمام السوريين، الذين هجّروا وتعرضوا للعنف المباشر، كي يقدموا شهاداتهم ضمن فضاء تحقيق العدالة.

الحكايات والنصوص التي شهدتها المحكمة وهي لا تساهم في إدانة النظام السوري دولياً و ملاحقة مرتكبي الجرائم، وحسب، بل أيضاً في تكوين جسد من الشهادات والحكايات يمتلك شرعيّة الإدانة، وتوجيه الاتهام، والأهم، تشريح بنية النظام السوري الداخليّة، وماكينة الموت التي يديرها، خصوصاً حين نتحدث عن شهادات الناجين. في هذا السياق، أكسبت الشهادة صاحبها شهرة ومكانة من نوع ما، وحتى قبل المحاكمة، أن يكون الواحد شاهداً وناجياً يعني حكايةً تستحق الوقوف عندها، مهما كان الشكل الذي ظهرت فيه، نص، فيلم، رواية.

غواية الشهادة ولو كان في الكلمة مبالغة، والرغبة بالانتماء إلى جسد الحكايات السابق، أشعلتا مخيّلة كثيرين، وظهرت شهادات أثيرت حولها شكوك كثيرة.

قبل سنوات انشغل سوريون بما فعله السوري محمد بيازيد الذي رتب محاولة اغتيال وهمية لأجل نيل الشهرة. وفي الفرة الأخيرة، وفي السياق ذاته، لاحقت الاتهامات أيضاً فراس فياض، المخرج المعارض المعروف الذي شهد ضد أنور رسلان أحد المتهمين الأساسيين في محكمة كوبلنز بارتكاب جرائم حرب.

ظهرت مقاربات لشخصيات حقوقية وازنة تتهم فياض بالكذب والتزوير، أي أن شهادته وما يدّعيه من حقائق حول اعتقاله وحياته الشخصية مجرد تلفيقات لنيل الشهرة.

هناك أيضاً “شهادات” هامشيّة، أعني تلك التي لا يُقدمها أشخاص ينتمون للفضاء العام، نصوص وحكايات ممن اختبروا الحدث الاستثنائيّ، والتي تشكل في مجموعها “الحقائق الكبرى”، ونستخدم صيغة الجمع للإشارة إلى الحقيقة هنا، لأننا أمام مجموعات من الحكايات قد تختلف وتتناقض بصورة جذرية، ولكل واحدة منها مكوناتها من خبرة شخصية ووقائع تاريخيّة، كما في حكايات الثورة في سوريا، وحكايات الحرب الأهلية في لبنان وغيرها من النصوص التي تدور حول الحدث الاستثنائي.

ضمن النصوص/ الحكايات السابقة تظهر الشهادات الزائفة تلك التي يقدمها أفراد يحاولون الانتماء إلى الحدث الجلل وخلق سيرة لأنفسهم ضمنه، أو إنتاج سيرة مغايرة لما شهده من كان حولهم أو من يدركون الوقائع وحيثيات هذا الحدث، ولا نحاول هنا أن نقارن بين الضحية والجلاد، أو بين القاتل والناجي، بل نناقش النوع الحكائي نفسه، الشهادة الوهميّة، وادعاء الحقيقة الصادر عن الشخص الذي  يقول إنه “رأى”  الحدث و”اختبره”، وقدم لاحقاً ما يراه “حقيقة”، كما لا نسعى إلى مواجهة “التلفيق” بـ”الوقائع”، أو كشف الزيف والكذب، بل فهم هذا النوع من النصوص وحركتها.

تتحرك الشهادات الزائفة بين الشخصي والعموميّ، وتدور حول الحدث الجلل الذي قسّم الناس، لتأتي الشهادة لترسيخ هذا التقسيم ورسم دور الفرد ضمنه. هي أسلوب يختزن الأيديولوجيا والمعرفة، كما أنها تداعب الضمير وتمهد الطريق نحو الخلاص الفردي، ما يعني أن هذه الشهادة ليست للتاريخ فقط، أو محاولة لتحديد الحقيقة الصرفة، أو العارية، بل تساهم في رسم وضعية الفرد كـ”ناج، ضحيّة، جلاد، قاتل متستّر، باحث عن الشهرة…”، كلها تعريفات تساهم “الشهادة” في نفيها أو تثبيتها.

غواية الحكاية ولا نهائية الاستثناء

تظهر الإشكاليات حول التلفيق حين يتعلق الأمر بالأحداث الكبرى، أو الأحداث الاستثنائية التي تمسّ الجميع (حرب أهلية، إبادة، ثورة…)، هذه الأحداث التي يهيمن فيها الخطر على كل الموجودين، ويقسمون بسببه إلى أطراف تصل حدّ العداوة، ولكل حكايته في علاقته مع هذا الحدث،  والمسافة التي يأخذها منه، نستخدم لفظ الأحداث الاستثنائيّة، كوننا أمام “حكايات” متعددة تنشأ بسبب غياب الإجماع حول ما حدث وأسبابه، لكن “الكل” ممسوس من قبله، كحالة الهولوكوست والثورة في سوريا والمجازر في لبنان. وكل فريق سواء كان مكّذباً أو مصدقاً على مسافة من الحدث الاستثنائي بصورة ما، هذه المسافة  تحدد تعريفه العلنيّ أمام الآخرين وأحياناً أمام السلطة، التي يصل بها الأمر حداً مأساوياً وساخراً حين تجبر البعض على تقديم شهادات تناقض ما حصل، وبثها على التلفزيون الوطنيّ بوصفها شهادة فرديّة رسميّة تنافي ما قاموا به أو ما قالوه سابقاً.

يظهر هنا الابتداع أو تلفيق حكاية شخصية ضمن الوقائع الكبرى، كجهد حكائي بامتياز، وهذا ما يشير إليه ميشيل أجير في كتابه “تعريف اللاجئين”. ففي سياق حديثه عن حكايات اللجوء، بصورة أدق، الحكاية التي يقدمها كل طالب لجوء إلى الدولة، على الفرد تقديم شهادة ذاتيّة، يوضح فيها الخطر الذي وقع أو سيقع عليه شخصياً دون أي شخص آخر، حتى لو كان يقف بجانبه، وهنا تظهر تقنيات السرد، كيف يثبت الفرد أن حياته في خطر مباشر يمسّه هو شخصياً فقط إلى حد يدفعه إلى مغادرة بلده؟

تتطلب هذه “الحكاية” التي تدّعي الحقيقة خلق سياق شخصي يظهر فيه الخطر العام كأمر آني وطارئ ومهمين ولا يمكن تفاديه، وهنا لا يمكن رصد الحقيقة من الوهم بدقة، ولا نحاول هنا التكذيب، لكن اللبس بين “الوقائع” و”الأوهام” واسع في بعض الحالات، وأحياناً لا يمكن التأكد منه، لأنه يرتبط بجسد الشخص وما رآه، وحسب، والأهم هو معيار مدى تطابقه مع “الحقائق” واختلافه معها. هذا اللبس يتحرك بين “التلفيق” و”خيانة الشاهد”، أي تلك اللحظات التي لا يمكن للشخص أن يتأكد منها، أو لم يشهدها بدقة، تلك الفجوات في الحكاية التي تخون فيها الحواس الفرد، ويقف محتاراً، هل فعلاً شهد لحظة القتل أو لا، هل كان متيقناً أن ذاك هو نفسه الذي عذبه أم لا؟

هنا تتفعل غواية الحكاية ضمن الشهادة، تلك التي تكسبها شكلاً وأسلوباً يجعلانها تنتمي إلى “الحقيقة”، وتظهر التقنيات السردية هنا بوضوح مع المحافظة على مركزية الحدث الاستثنائي وأسلوب تقديمه، كأن تملأ الفراغات في الشهادة بتفاصيل متعددة، وأن يقاس الزمن بأحداث شخصية ذات علاقة مع العمومي، لا عبر تدفقه اللانهائي الذي لا يمكن رصده أو ضبطه.

النذل البراغماتي

تفترض الشهادات الزائفة منفعةً ما، سواء كانت ذاتية، كتطهير الضمير أو الكسب المادي، أو الدخول ضمن تعريف مؤسساتي “لجوء، حماية… إلخ”، أو منفعة عامة، كتحقيق العدالة، أو كشف الحقيقة، وفي الحالتين يعاد رسم الصورة العلنيّة عن الشخص والمساهمة في إنشاء الحقيقة الجمعيّة، وهنا يظهر مفهوم براغماتية الحكاية، أي تصميم النص وما فيه من عناصر شخصية وعلنية لتتوافق مع الهدف، مع من يقرأ الشهادة، “محكمة، مؤسسة مسؤولة عن اللجوء، صحافي…”.

 هذا الأثر الواقعي هو ما يبيح اتهام صاحب الشهادة الزائفة بالنذالة، لا بسبب المنفعة التي سينالها وحسب، بل أيضاً بسبب التلاعب بالحكاية الكبرى، تلك التي يفرض الشخص ذاته ضمنها تلفيقاً، عبر ابتداع أحداث تنافي الحقيقة أو لا يمكن إثباتها، كما يحصل حين يدعي البعض أن النظام السوري اعتقله، في بعض الأحيان لا يمكن التحقق من هذا الادعاء، اختفاء أحدهم لا يعني اعتقاله والعكس صحيح، ويمكن إحكام حكاية ما لإظهار هذا الحدث كحقيقة لا يمكن الجدل بها، إلا ضمن الاتهام بالكذب من دون أي دليل.

الإشكاليّة أن صيغة الشهادة في هذه الحالة تفترض الحقيقة التي لا جدل فيها، لكنها أيضاً نداء، يُلبى إما بالتصديق أو التكذيب، وكل واحدة من هذه الجهود الحكائيّة تقدم حقائقها، لكن مع الإتقان (أو الحماقة) تختفي الحقيقة على حساب السرد، وهذا ما يتضح في الجدل حول المخرج السوري فراس فياض و”حقيقة” شهادته ضد أنور رسلان في المحكمة في كوبلنز.

القراءة المؤسساتيّة: الحقيقة كمنتج حكائي

تتعاظم الحكايات والشهادات حتى تكوَن الحقيقة، كحالة الهولوكست، هناك تواطؤ على “الحكاية” أنتج حقيقةً تاريخيّةً، يقاس عبره العالم لاحقاً ويقسم إثرها الأفراد،  ويتكرر الأمر الآن، “الحقائق” التي أنتجت من شهادات السوريين وشكلت حكاية الثورة، تنسحب خارج المحاكم وبعيداً مفاهيم العقاب والمحاسبة، نحو وضعية هؤلاء الناجين، حكاياتهم وتراكمها تشكل المعايير التي يعرفون ضمنها في البلد المضيف، أي أن تعاضد الحكايات المخابراتية وحكايات اللاجئين، يتحول إلى معيار لاحقاً لقياس مدى “حقيقة” الشهادة، وإن كانت وهمية أو لا. وهذا أيضاً ما يشير إليه أجير في الكتاب سابق الذكر، إذ يتحدث عن “اللاجئ الكاذب” أو “اللاجئ المزيف”، ذاك الذي قدم حكاية لا تتوافق مع “الحقيقة” أو تمتلك كل خصائص الحقيقة، لكن هناك شكّ حولها، يناقش أجير هذا المفهوم، كونه يهدد لاحقاً أعداد اللاجئين الذين يتم قبولهم، والاختلاف بين من ينال حماية أو لجوء سياسياً.

هنا يظهر أثر تراكم الحكايات وسياسيّة العلاقة بين “التلفيق” وبين “الحقيقة”، ليتحول إنتاج الشهادة إلى جهد سرديّ، يتطلب فهم الحقائق المتداولة وإنتاج “الأنا” ضمنها، تلك الأنا، التي لا تواجه/ واجهت الخطر وحسب، بل أيضاً تقف على مسافة من الحقيقة الجمعية، بل تلك المتداولة والمعترف بها، وهنا يمكن القول، إن الإتقان السرديّ عامل جوهري في إنتاج الشهادة كي تكون ذات أثر، إذ لا تكفي كلمات: “تم اعتقاليّ وتعذيبي وأريد طلب اللجوء”، هذه الجملة لا تعني شيئاً، (باستثناء الأقليات في حالة فرنسا).

المؤسسات التي تقرأ الشهادات تكوّن آراء قد تصل إلى حد قرار سياسيّ، وهنا نعود إلى ادعاء الصدق الذي لا يكفي في هذه الحالات، بل يجب أن تنتمي الحكاية إلى معايير الجماعة وما اتفقت على صدقه وتتبنى تقنيات سرديّة محددة، والزيف هنا يظهر كخيانة بمعناها المجازي، كونه يؤخذ في الاعتبار وتتحول الأرقام والإحصاءات التي تشير إلى الزائف إلى قرار سياسي، وتصريحات تتهم اللاجئين بـ”الكذب” وتدعو إلى إصلاح مؤسسة اللجوء كونها تمنح هذا الحق لمن لا يستحقه، العبارات التي يتغنّى بها اليمين المتطرف ويهدد بها الأجانب على أرضه.

نحن أمام صراع حكايات تكتسب أهميتها من تراكمها وتشابهها لا من فرادتها، خصوصاً أنها شهادات غير مصحوبة بأدلة دامغة في أحيان كثيرة.

المثير للاهتمام أن “الشكل” هو المهيمن، وعناصر السرد هي التي تكسب الحقيقة سطوتها، وهنا تظهر سذاجة بعض الملفقين، وأحياناً احترافهم، وهذا ما نراه في الجهد الذي يبذله بعضهم لإعادة النظر في تاريخهم الشخصيّ والعلنيّ، لضبط الوقائع وترتيبها ضمن الشكل الحكائي.

درج

—————————–

كوبلنز” هل هي بداية العقاب للنظام السوري؟/ أحمد الأحمد

بعد صدور هذا الحكم الأول من نوعه، طُرحت أسئلة جدلية حول المرحلة المقبلة، مثل مدى اعتبار هذا الحدث خطوةً على درب العدالة للمعتقلين السوريين، أو مدى اعتبار مدّة الحكم كافية.

“حدثٌ تاريخي” شهدته محكمة مدينة كوبلنز الألمانية، عندما حكمت ضد صف الضابط السوري “إياد أ” بعد أشهرٍ من الجلسات، وإياد هو واحد من متهمين اثنين إلى جانب الضابط “أنور ر” الذي كان رئيس فرع التحقيق في فرع الخطيب سيّئ الصيت في سوريا.

ويُعتبر هذا الحكم الأول من نوعه في العالم المتعلّق بانتهاكات النظام السوري، والقمع الوحشي في السجون السورية.

“إياد أ” أثناء المحاكمة

إياد (44 سنة)، أحد المتّهمين في القضية، انشق عن النظام السوري عام 2012، وخرج من سوريا في شباط/ فبراير 2013 ووصل إلى ألمانيا عام 2018، وأُدين بـ”المساعدة” في اعتقال وحبس وجلب ما لا يقل عن 30 متظاهراً إلى فرع الخطيب في الفترة الممتدة من أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر 2011، في حين أن التهم الموجّهة للضابط أنور ر، هي قتل 58 شخصاً، وتعذيب 4000 معتقل وممارسة عنف جنسي.

صدر حكم المحكمة بسجن إياد أربع سنوات ونصف السنة، في حين أن قضية أنور يفترض البت فيها في تشرين الأول المقبل.

بعد صدور هذا الحكم الأول من نوعه، طُرحت أسئلة جدلية حول المرحلة المقبلة، مثل مدى اعتبار هذا الحدث خطوةً على درب العدالة للمعتقلين السوريين، أو مدى اعتبار مدّة الحكم كافية، وحتّى جدلية أن المحكمة تحاسب “منشقّين عن النظام”.

الاعتراف بالجريمة أوّلاً

لم يتسنَّ للمدوّن السوري حسين غرير حضور جلسة النطق بالحكم، على رغم أنّه كان حضر جلساتٍ سابقة كأحد الشهود في هذه القضية، ولكنّه خلال النطق بالحكم كان يترقّب أي أخبار صادرة عن المحكمة.

اعتقل غرير في فرع الخطيب وعند صدور الحكم اجتاحته مجموعة من المشاعر المتناقضة لساعات، كان في حالة توتّر وهو ينتظر تفاصيل الجلسة حتّى أن المحامي الخاص به أرسل له كل ما حصل في الجلسة.

يقول غرير: “شعرت بارتياح عندما سمعت تعليل الحكم، وإقرار القضاء بأن ما يحدث في سوريا هو ارتكاب جرائم حرب ممنهجة”.

هل الحكم كافٍ؟ يجيب المدوّن السوري: “من وجهة نظري فإن التعاطي مع عدد سنوات الحكم هو أمرٌ تفصيلي، لقد استقبلتُ الحكم يوم أمس بالطريقة ذاتها التي يمكن أن أستقبلها بها لو كان الحكم 10 سنوات، ولن يُحدث الأمر فرقاً معي”، موضحاً أن كل ما يهم في تلك اللحظة هو أن المحكمة أقرّت بالجريمة، ووجهت إدانة مباشرة وإثباتاً مباشراً لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن أن العنصر في أسفل هرمية المسؤولية.

يقول غرير: “هناك كمٌ هائل من الأدلة عن ارتكاب الجرائم في سوريا، جمعتها منظمات سورية ودولية عملت على الأمر، وهناك أكثر من خبير قانوني دولي أكّد أنّه لم يسبق في التاريخ أن جُمعت أدلّة بهذه الكمية وهذا المستوى مثلما حدث في سوريا”، مبيّناً أن المهم هو أن محكمة رسمية أصدرت حكمها بناءً على هذه الأدلة، ما يعني أن هناك مستنداً قانونياً واضحاً للجرائم في سوريا.

“شعرت بارتياح عندما سمعت تعليل الحكم، وإقرار القضاء بأن ما يحدث في سوريا هو ارتكاب جرائم حرب ممنهجة”.

ويوضح أيضاً أن السوريين اكتسبوا خبرة في السياق السوري والنظر في الأدلة، وهذه خبرة لا تقدّر بثمن للاستخدام في محاكم مستقبلية في دولٍ أوروبية أخرى، أو إذا أحيل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية.

في الجدلية القائمة على “محاكمة منشقّين عن النظام” يوضح غرير أن الكثير من الجدل دار حول هذه النقطة، انطلاقاً من مبدأ أنّنا تركنا الجميع وقمنا بملاحقة المنشقّين عن النظام، وقال: “من الصعب أنّك كناجٍ وكضحية تعمل على تحقيق العدالة وتحصيل الحقوق، ولكن في الوقت نفسه يتم الطعن بأخلاقياتك واتهامك بأنّك تلاحق المنشقّين دوناً عن بقية الناس”، لافتاً إلى أن هذا الأمر أزعجه جداً.

يقول مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فضل عبد الغني: “هناك جدلية تتمثّل بأن هناك منشقين وأنّه تتم محاسبتهم ولكن هناك ضحايا لهؤلاء الاشخاص المنشقين ورفعوا دعاوى ضدهم وبالتالي من الضروري التحرك لأن الأهم أن محاسبة الجميع هي غاية من غايات الحراك ولكن هذا الأمر ليس بيد السوريين حالياً”.

في افتتاح الجلسة الأولى من المحكمة، التقى المدون غرير بالمتهم “أنور ر”، الذي كان حينها صامتاً، اقتصر حديثه على التعريف بنفسه.

يقول غرير: “حينها قابلته وهو كان بموقع المتّهم وشاهدت كيف فكّوا القيود من يده ووضعوه في مكان المتّهم، شعرت باسترداد جزء من الكرامة الإنسانية، لأنّنا عندما كنّا معتقلين كُنا منتهكي الكرامة بشكلٍ كامل، شعرت لحظتها انّني أخيراً صاحب الحق وبمكان المدعي، في حين أن المجرم هو من يقف داخل قفص الاتهام… إنّها لحظة أتمنّاها لكل ناجٍ”.

كانت نظرات الضابط أنور ر “اشمئزازية” وفوقية لكل من هم داخل المحكمة، بحسب غرير الذي أكّد أنّه حتّى آخر جلسة لم يغير أنور هذه النظرة السلطوية، وهو ما يؤكّد أكثر أنّه كان عضواً فاعلاً داخل النظام السوري.

ويشير غرير إلى أن تجربة الاعتقال، هي جرح عميق لا يمكن نسيانه بتقادم الوقت، ولكن ما يهم الآن هو الاعتراف بهذه الجرائم، والوصول بسوريا إلى أن من يرتكب جريمة هو شخص مدان قانونياً واجتماعياً ويخضع للمحاسبة، وفي هذه اللحظة سوف أشعر بأن اعتقال لم يذهب هدراً.

العدالة في محاكمة الأسد ومنظومته

خلال دراسته في كلية الطب في دمشق، اعتقل الشاب السوري وسيم المقداد في أواخر أيلول 2011 من مدينة دوما، ومكث لأيام في فرع الخطيب ثم في فرع المخابرات العام.

في إجابته على سؤال عن رأيه بمدّة الحكم الصادرة في كوبلنز قال المقداد: “لا يوجد مدّة حكم يمضيها المتهمون في السجن قادرة على إرجاع شهيد تحت التعذيب، لذلك فإن الموضوع بالنسبة إلي رمزي أكثر مما هو محدود بعدد سنوات، وتكمن أهميته في السير على طريق العدالة الطويل الذي لن ينتهي إلّا بمقاضاة بشار الأسد وقادة جيشه وأفرعه الأمنية أمام القضاء”.

في قضية كوبلنز، كان المقداد مدعياً ضد “أنور ر”، ولكنّه لا يعرف إذا كان قد التقى به في فترة الاعتقال في فرع الخطيب، لأن عينيه كانتا معصومتين طيلة فترة التحقيق.

المقداد موسيقي حالياً يعيش في ألمانيا، ويعرف جيّداً أن القضاء في سوريا معطّل بسبب سيطرة النظام السوري على المحاكم، في حين أن آلية المحاكم الدولية معطّلة بسبب “الفيتو” الروسي والصيني داخل مجلس الأمن، ولكنّه يؤكّد أن على السوريين طرق الأبواب الممكنة لمقاضاة المتورّطين بجرائم ضد المدنيين.

على رغم إقراره بصعوبة مثول الأسد أمام المحاكم حالياً، ولكن انطلاقاً من أن النظام السوري لن يستمر بالحكم، وأن الدعم الروسي له لن يستمر أيضاً، يبقى لديه الأمل في محاكمة الأسد، إلّا أن هذه المحاكمة قد لا تكون في المدى القريب.

خلال جلسة النطق بالحكم ضد “إياد أ” كان المقداد يشاهد الحكم هناك، ويقول إنّه ظلَّ يراقب القاضية وهي تتلو الحكم لمدّة ساعتين تقريباً، وكان يتذكر السياق الذي تمّت فيه الجريمة، والوضع في سوريا، ويستحضر مشاهد من الاعتقال: “لم يكن يغيب عن ذهني في تلك اللحظة أنه ما زال هناك معتقلون في سوريا يعيشون ظروفاً لا إنسانية، ويعانون من التعذيب والتجويع وسوء المعاملة وغياب التمثيل الحقوقي، إضافةً إلى الخوف من فكرة ألّا يخرجوا أحياءً من الاعتقال، بالنسبة إلي هذا الحكم هو أول اعتراف دولي موثّق بآلامهم”.

جدلية مدّة الحكم

يقول مدير الشبكة السوري لحقوق الإنسان فضل عبد الغني: “في القانون الدولي هناك عوامل تساهم في تخفيف الحكم وتنطبق بشكلٍ كبير على (إياد أ)، ومن هذه العوامل أنّه صف ضابط برتبة منخفضة وكانت تأتيه الأوامر من مرؤوسيه، ولكن هذا لا يعفيه من المسؤولية”.

ومن شروط الحكم المخفف أيضاً، أن إياد تعاون مع الادعاء بشكلٍ كامل واعترف بالانتهاكات التي قام بها وأظهر نوعاً من الندم، وهو في الوقت نفسه ليس مسؤولاً رفيع المستوى وقد انشق وانسحب من هذا العمل، والادعاء استند في إدانته إلى اعترافاته وهذه العوامل تسمى بـ”الظروف المخففة” وبالتالي صدر الحكم مخففاً.

وتابع: “إياد رتبته عادية فهو عبارة عن صف ضباط وهناك من هم أهم منه بكثير وبالتالي قبل الانتقال السياسي لن يكون هناك محاكمات ضد ضباط كبار، إذ لا تمكن محاكمتهم كونهم غير موجودين على الأراضي الأوروبية وبالتالي المسار طويل جداً”.

“طريق العدالة لا يمكن الوصول إليه إلّا بتحقيق انتقال سياسي، فطالما أن النظام السوري هو المسيطر لن تكون هناك عدالة انتقالية ولا محاسبة للمجرمين”

ولكنّه رأى في المقابل، أن هذه المحاكمة تعطي دفعة بأن هذا الحراك الديموقراطي يتابع حتى من ارتكبوا جرائم محدودة وبالتالي لن يتساهل مع الأسدية ومرتكبي الانتهاكات الأكبر.

ولكن هل تفتح هذه المحاكمة الباب أمام محاسبة مجرمي الحرب الرئيسيين في سوريا؟ يوضح عبد الغني أن ذلك لن يتحقّق على الأقل في المدى المنظور.

ويقول: “طريق العدالة لا يمكن الوصول إليه إلّا بتحقيق انتقال سياسي، فطالما أن النظام السوري هو المسيطر لن تكون هناك عدالة انتقالية ولا محاسبة للمجرمين، ولن تنتقل سوريا للاستقرار وبالتالي للتخلّص من الأسد ونقل البلاد إلى حكم ديموقراطي وهذا يتطلّب سنوات نضال طويلة وصبراً ومتابعة”.

آراء حقوقية حول القضية

تعقيباً على الحكم، صدرت آراء عدة من منظمات حقوقية سورية ودولية، كان أبرزها بيان “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” الذي يرأسه المحامي أنور البني.

واعتبر المركز في بيانٍ أن قرار المحكمة “”تاريخي” ونقطة مضيئة في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية.

وقال البيان: “نعتبر هذا القرار وإن كان خاصاً بمتهم واحد لكن حيثيات قرار الاتهام ومطالبة النيابة العامة تطاول نظام الجريمة المنظمة والممنهجة الذي يحكم سوريا بالحديد والنار والخوف والإرهاب، ذلك النظام المجرم بجميع أركانه وشخصياته كان حاضراً كمتهم بكل جلسات المحاكمة في قرار الاتهام وفي شهادات الشهود والضحايا والخبراء كما كان حاضراً بتهديد الشهود وتهديد عائلاتهم في سوريا”.

وأضاف المركز، أن تجريم المتهم إياد والحكم عليه لم يكن بسبب قيامه بجريمة منفردة من تلقاء نفسه، بل لكونه جزءاً من آلة جهنمية منظمة وممنهجة وبأوامر عليا لاعتقال المدنيين السلميين وإخفائهم قسراً وتعذيبهم وقتلهم تحت التعذيب وإخفاء جثثهم بمقابر جماعية وبطريقة مهينة جداً، وهذه المنهجية تخضع لسلسلة أوامر وقيادة تصل إلى رأس هرم الجريمة الممنهجة في سوريا مع كل أركانه. لذا فالحكم على إياد يعني الحكم هرم تلك الجريمة كله، وبما فيه رأسه وأركانه.

وقالت لين معلوف، نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “منظمة العفو الدولية“، تعقيباً على قرار المحكمة: “يعد الحكم التاريخي الصادر اليوم- وهو الأول من نوعه في ما يتعلق بالجرائم التي يرتكبها مسؤول حكومي سوري بموجب القانون الدولي- بمثابة انتصار رائع لعشرات آلاف السوريين، ضحايا التعذيب والاختفاء القسري، وكذلك للمنظمات السورية والدولية المعنية بحقوق الإنسان والدعاوى القضائية التي ناضلت معاً من دون كلل أو ملل من أجل الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة. فقد ساعدت هذه المنظمات على ضمان توثيق الجرائم، وإعداد ملفات قانونية للمحاكمة، ولولاها لما كانت هذه المحاكمة ممكنة”.

وأضافت أن هذا “الانتصار” يبعث رسالة واضحة إلى الحكومة السورية مفادها أن المسؤولين عن الانتهاكات المروعة سيتم تقديمهم إلى ساحة العدالة. ويأتي هذا الحكم بعد نحو 10 سنوات من اندلاع الاحتجاجات السلمية الأولى في سوريا، وهي سنوات استعملت خلالها الدولة آليتها الوحشية ضد شعبها في مختلف مراكز الاحتجاز والسجون.

————————————

هذا ما قلته في محكمة “كوبلنز”/ فايز سارة

لم أكن أول الشهود في محاكمة أنور رسلان، ولست آخرهم. فقبلي كان كثيرون ومثلهم سيأتون بعدي، وبين الأولين والآخرين سوق تستكمل المحكمة إجراءاتها في التدقيق بتفاصيل الدعوى…

أتيح لي في أيار/ مايو، أن احضر أمام المحكمة الألمانية في كوبلنز، التي تحاكم ضابط أمن الدولة السابق في سوريا العقيد أنور رسلان بتهمة ارتكاب جرائم ضد المعتقلين في أقبية فرع مخابرات أمن الدولة في دمشق التابع لنظام بشار الأسد. وعلى رغم صعوبات السفر في ظل جائحة “كورونا”، التي تعصف مرضاً وقتلاً بالناس من حولنا، فقد قررت الاستجابة لدعوة المحكمة والحضور أمامها، لما أراه فيها من مسعى قانوني دولي لتوفير العدالة للسوريين، بعدما عجز المجتمع الدولي عن وقف الحرب عليهم، وأخذ السوريين إلى حل سياسي يحقق أهدافهم الرئيسية، التي توافقت عليها الشرعية الدولية وفق القرار الأممي 2254، وإعادة بناء حياتهم على أساسه.

وقبل الحديث في بعض تفاصيل ما حصل هناك، سوف أسرد معلومات عامة، تتصل بالمحكمة وبعض ما حصل فيها. فهي أول محكمة في العالم، تتولى محاكمة مسؤولين بينهم مسؤولون سابقون في مخابرات نظام الأسد، متهَمون بارتكاب جرائم في سوريا، وتولت المحكمة منذ إطلاقها قبل عام وبضعة أشهر محاكمة شخصين من مخابرات أمن الدولة، أولهما اياد الغريب الذي أصدرت بحقه حكماً بالسجن أربع سنوات ونصف السنة، والثاني أنور رسلان الذي تتواصل محاكمته، وينتظر إتمامها قبل نهاية العام الحالي. وقد أثارت المحكمة نقاشاً واسعاً في أوساط السوريين، حول تقييم دورها ونتائجها. لكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنها أحد تعبيرات صراع قانوني مع نظام الأسد الذي يخوض السوريون ضده منذ عشر سنوات صراعات متعددة، لا سيما في المستوى السياسي، وهي في جانب منها، تمثل بوابة لملاحقة مرتكبي جرائم بحق المعتقلين في سوريا، وتقلل من فرص نجاتهم من العقاب.

لم أكن أول الشهود في محاكمة أنور رسلان، ولست آخرهم. فقبلي كان كثيرون ومثلهم سيأتون بعدي، وبين الأولين والآخرين سوق تستكمل المحكمة إجراءاتها في التدقيق بتفاصيل الدعوى، وتقيم التقاطعات بين ما ورد في الإفادات، أمام البوليس الجنائي الألماني، والشهادات، التي قدمت أمام هيئة المحكمة في كوبلنز، وتصدر حكمها في القضية.

وسط هذا المختصر من وقائع محيطة، جاءت شهادتي باعتباري أحد المعتقلين الذين حقق معهم أنور رسلان في العاشر من نيسان/ أبريل 2011، أي في الشهر الأول من ثورة السوريين، وكان من المهم لي التوقف عند أمرين اثنين عبر الرد على أسئلة المحكمة، أولهما إيراد وقائع ما حصل أثناء اعتقالي ولا سيما في خلال التحقيق، وثانياً تأكيد أن مشكلة الاعتقال وما يرافقها أثناء التحقيق من انتهاكات وجرائم ضد المعتقلين إنما هي جريمة النظام أساساً، ثم هي جريمة مرتكبيها في المرتبة الثانية.

ففي موضوع الوقائع كررت أقوالي، التي كنت أدليت بها أمام البوليس الجنائي الألماني في جلسة استجواب سابقة في العام الماضي، وأعدت كل ما ما تم سؤالي عنه في المحكمة، وبطبيعة الحال، فقد تجاوزت بعض ما قلته هناك ومنه عدم ذكر، ان ابني وسام قتل تحت التعذيب لدى المخابرات العسكرية لنظام الأسد، وهي جهة مختلفة عن التي كان يعمل فيها أنور رسلان، وفي ردي على أسئلة المحكمة، أنكرت ما يتصل بي مما ورد في إفادة أنور رسلان أمام البوليس الجنائي، باعتبارها مجريات لم تحصل أساساً.

وكان من المهم لي وفي معرض إجابته على أسئلة المحكمة، التركيز على أن كل ما وقع من جرائم على المعتقلين سواء في فرع الخطيب أو أي فرع مخابرات آخر في سوريا، إنما هو مسؤولية النظام أساساً، لأنه هو الذي يرسم سياسات أجهزته الأمنية ويدرب عناصرها، ويصدر التعليمات إليها مسلسلة من أعلى سلطة إلى أدنى مستويات التنفيذ. وهذا كله لا يعفي منفذي هذه السياسة والخطط من الذنب، بل هم يتحملون مسؤولية ما يقومون به من جرائم، وكنت في هذا أبين أنه في حال لم يكن النظام يبيح ارتكاب الجرائم ضد المعتقلين أثناء استجوابهم، فإن أياً من المحققين لن يجرؤ على تعذيب أحد أو انتهاك كرامته، لأنه سيعاقب، وسيتم تجريمه، وهذا ما يحصل فعلاً في دول عدة في العالم.

والنقطة الثانية التي ركزت عليها في خلال الإجابة على أسئلة المحكمة، هي أن جرائم التعذيب والإذلال وغيرها في فرع الخطيب أمر معروف، وكنت شاهداً عليه للمرة الأولى عند اعتقالي الأول هناك، قبل أكثر من 40 عاماً، بل لمست بعضاً منه في تجربة اعتقالي الأخيرة عام 2011 التي جعلتني شاهداً في هذه القضية، ما يؤكد الدور الإجرامي لفرع الخطيب وغيره بغض النظر عن الأشخاص الذين يكونون فيه.

وقد بدا لي أن من الضرورة الإشارة أمام المحكمة إلى جانب شديد الحساسية، وهو أن عموم السوريين هم ضحايا للنظام، وهذا لا ينطبق حصراً على معارضي النظام من أفراد وجماعات وحواضن شعبية، جعلها نظام الأسد بمثابة عدو، فاضطهدها ودمرها بشرياً ومادياً، بل إن بين ضحاياه أولئك الرماديين بما زرع فيهم من خوف ورهبة، حتى إن جزءاً كبيراً من المؤيدين هم من ضحاياه سواء بالرعب الذي يتحكم بهم عبره، أو من خلال ما يضخه من تضليل وأكاذيب وادعاءات، سلبت عقولهم وحولتهم إلى أدوات في يده، يرتكب فيهم ومن خلالهم جرائمه، لكن الأمر في كل الأحوال، لا ينبغي أن يكون سبباً في السكوت عمن ارتكبوا ويرتكبون الجرائم ضد أهلهم ومواطنيهم، فهذا أمر آخر، وستكون المحاكم ومنها محكمة كوبلنز مكاناً لشيء من العدالة والعقاب في هذا السياق.

درج

—————————–

مظالم النظام السوري: الضحايا يغيرون مشهد العدالة

فشلت جهود تحقيق العدالة للسوريين، مع إثبات الدول عجزها عن كسر حالة الجمود. بيد أن النشطاء السوريين ونشطاء العدالة واصلوا مقاومة الانهزامية.

حين اندلعت الثورة السورية عام 2011، تقدمت كل من العناصر الفاعلة السورية والدولية بنموذج العدالة الانتقالية ليواكب المرحلة الانتقالية المرجوة. وعندما تلاشى الأمل في تصور آفاق تلك المرحلة الانتقالية، واصل المجتمع المدني السوري استخدام النموذج نفسه لتحقيق العدالة في وضع يبدو فيه أن الإفلات من العقاب هو العرف السائد على نحو متزايد. بيد أن المجتمع الدولي لم يفشل في وقف سياسات الإبادة التي ينتهجها النظام السوري وروسيا فحسب، بل أثبت أيضاً فشله في إتاحة سبل العدالة للتحقيق في الجرائم التي تقع في سوريا ومحاكمة مرتكبيها. وقد قاومت منظمات المجتمع المدني السورية والدولية الموقف السلبي الذي يتبناه المجتمع الدولي تجاه الصراع السوري، وأطلقت مبادرات مبتكرة تُعنى بالعدالة، بهدف التصدي لهذه الانهزامية الراسخة إزاء استحالة السعي نحو تحقيق العدالة في هذا الإطار.

وفي حين ركزت معظم المناقشات المتعلقة بجهود العدالة الانتقالية في سوريا على عمل المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية القائمة، فإننا نؤكد أن ثمة أشكالاً أخرى من أنشطة المجتمع المدني تستحق مزيداً من الاهتمام والتركيز. فقد ساهمت مجموعات الضحايا في إتاحة مساحات وأساليب تمتد جذورها في مفاهيم العدالة عند الضحايا، ما أدى -بشكل ملموس- إلى تعزيز الجهود الرامية إلى إبراز الحقيقة وتوفير العدالة.

الضحايا السوريون بوصفهم فاعلين أساسيين في العدالة

يتسم مشهد العدالة السوري بوجود مجموعة شديدة التنوع من الفاعلين في مجال العدالة. تتنوع هذه العناصر الفاعلة في مجال العدالة ما بين الآليات التي أنشأتها الأمم المتحدة مثل “الآلية الدولية المحايدة المستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة وفق تصنيف القانون الدولي المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/ مارس 2011″، إضافة إلى دول مثل هولندا وكندا، التي شرعت في إجراء مفاوضات مع النظام السوري بموجب المادة 30 من “اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”. علاوةً على مجموعة كبيرة من العناصر الفاعلة في مجال العدالة الخاصة، على غرار منظمات المجتمع المدني السورية والمنظمات غير الحكومية الدولية التي تُكرِّس جهودها لتحقيق العدالة، غالباً بالتعاون مع نظيراتها من المنظمات السورية.

في واقع الأمر، كان المجتمع المدني السوري هو العامل الرئيسي الدافع للتغيير، بل ساهم في وضع نُهج مبتكرة من أجل التغلب على حالة الجمود التي شهدتها العدالة. أولاً، بذل المجتمع المدني الكثير من الجهود في عملية التوثيق، في سبيل إرساء الأساس لجهود المساءلة (في المستقبل) والحيلولة دون اختفاء الأدلة. ولأن السوريين وقعوا ضحايا لعنف الدولة منذ أكثر من 50 عاماً، فقد صاروا يقاومون إجبارهم على الصمت وتعرضهم مرة أخرى للإقصاء. ثانياً، أتاحت أنشطة المنظمات غير الحكومية السورية والدولية سبيلاً جديداً للمساءلة الجنائية، في ظل غياب السبل المحلية والدولية بسبب حق النقض الروسي والصيني في مجلس الأمن. فقد كرست منظمات غير حكومية جهودها حول التقاضي الاستراتيجي وطالبت بإنفاذ مبدأ الولاية القضائية العالمية للتمكين من الملاحقة القضائية لجرائم الحرب. وقد أسفرت هذه الجهود في نيسان/ أبريل 2020 عن إقامة المحاكمة الأولى في العالم حول التعذيب في سوريا، المعروفة باسم “محاكمة الخطيب” في ألمانيا. ثالثاً، أفضى ظهورُ الجمعيات التي يرأسها الضحايا أنفسهم، ومشاركتُها في عمليات التعبئة في المساحات غير الرسمية، إلى تسليط الضوء بشكل متزايد على أولويات المستفيدين الرئيسيين من العدالة، مثل الناجين من التعذيب وأسر المختفين وأسر المحتجزين.

ينصب جل اهتمامنا على الإبداع في هذه المساحات غير الرسمية، إذ إنها هي الأماكن التي تحدث فيها أكثر الإبداعات تميزاً. وفضلاً عن ذلك، نرى أن أنشطة مجموعات الضحايا جديرة بمزيد من الاهتمام وبدور مركزي أكبر في النقاش حول الحقيقة والعدالة في سوريا. وقد مكّن ظهور مجموعات الضحايا الناجين وأُسَرَهم من الاضطلاع بدور فعال في أنشطة الدعوة والتوعية. واستناداً إلى القناعة بأنه لا يمكن اختزال دورهم ليكونوا مجرد شهود، فقد وضعوا برنامجاً مستقلاً للنهوض بمبادرات الحقيقة والعدالة؛ إذ يستعيدون دورهم في إجراءات العدالة بينما يلقون الضوء على التهميش الذي عانوا منه حتى الآن. وقد أعربت فدوى محمود، التي يُحتجز زوجها وابنها في سجون النظام، خلال ندوة مشتركة على هامش فعاليات الجلسة الحالية الـ46 لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، عن أن “لنا دوراً يتعين علينا الاضطلاع به”. مُضيفةً أن “المجتمع الدولي يتحدث عنا وعن أبنائنا، بينما نعاني من التهميش”.

في هذا الصدد، ساهم التدخل الاستباقي في مشهد العدالة من جانب جمعيات الضحايا السوريين في تقديم وسيلة للمضي قدماً بهدف الحد من التوتر المتزايد بين المبادرات المختلفة التي نشأت في إطار العدالة الانتقالية. في حين مكّن حشد الضحايا من استحداث منظور جديد تشتد إليه الحاجة لتحديد أنسب أشكال العدالة في سوريا: وهي العدالة التي تتمحور حول الضحايا، وترتكز على الأهمية الرئيسية للضحايا واحتياجاتهم على النحو الذي يحدده الضحايا أنفسهم.

ميثاق الحقيقة والعدالة

تكللت جهود الحشد التي نمت بصورة منتظمة منذ عام 2017 وما بعده، بوضع “ميثاق الحقيقة والعدالة” وإصداره في  شباط/ فبراير 2021. وفي هذه المبادرة التي يقودها الضحايا أنفسهم، قامت خمس منظمات، هي “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” و”رابطة عائلات قيصر” و”تحالف أُسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية – داعش (مسار)” و”عائلات من أجل الحرية” و”مبادرة تعافي”، بوضع خارطة طريق شاملة تستند إلى آليات مجموعة أدوات العدالة الانتقالية لتحديد المراحل التراكمية الضرورية للوصول إلى الأولويات قصيرة الأمد ومتوسطة الأمد وطويلة الأمد للعدالة والحقيقة والحق بجبر الضرر والتعويض وتكريس ضمانات عدم تكرار الانتهاكات.

تبلورت الفكرة وراء الميثاق عام 2019، عندما بدأت مجموعات الضحايا السوريين في التعاون على نحو أوثق، وقررت أن تضع- بالتعاون مع خبراء العدالة الانتقالية من الدول الأخرى- وثيقة تتضمن وجهات نظرهم ومطالبهم وأولوياتهم. وقد تمخض عن تلك الجهود هذا الميثاقُ الموجَّه أساساً إلى الضحايا السوريين وأفراد أسرهم لوضع أرضية مشتركة لتنظيم جهود التعبئة الجماعية والتعاون، ولكنه موجه أيضاً إلى المنظمات غير الحكومية والدول والمؤسسات الدولية لتعزيز التزامها بالنهج الذي يركز على الضحايا والذي كثيراً ما لا ينال غير الاهتمام الظاهري.

نعتقد أن هذا الميثاق من شأنه أن يسد فجوة أساسية؛ إذ إنه يقوم على أساس رؤى الضحايا ومطالبهم واحتياجاتهم، وينطوي على تحول ثوري في الطريقة التي ينبغي بها النظر إلى الضحايا والناجين في إطار جهود العدالة في سوريا، بوصفهم خبراء يتمتعون بمعرفة واسعة ومتقدمة تمكنهم من العمل بأنفسهم سعياً للوصول إلى الحقيقة والعدالة. وعلى هذا النحو، يهدف الميثاق إلى ضمان اضطلاع الناجين وأسرهم بدور حقيقي أكبر. فضلاً عن ذلك، يقدم الميثاق أسباباً تدعو للتفكير، من خلال إدخال مفاهيم جديدة للعدالة، وتعزيز مشروعية مفاهيم العدالة التي ربما كانت موضع تجاهل أو تم التقليل من قيمتها إلى الآن.

يوفر الميثاق أيضاً طريقة للضحايا والناجين للتعبير عن آرائهم، ومواجهة محاولات الجناة إسكاتهم، وأخيراً يضمن الاعتراف بالحقيقة التي يحملونها. وقد أشار دياب سرية، أحد الناجين من الاعتقال والتعذيب التعسفي في سجن صيدنايا سيئ السمعة وأحد مؤسسي “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، خلال إطلاق الرابطة إلكترونياً، إلى الطريقة التي اعتاد حرس السجن السخرية والاستهزاء بهم بالقول “لن يصدقكم أحد حين تخرجون من هنا”. ومن ثم، فإن الضحايا السوريين يستخدمون الميثاق للتعبير العلني عن أنفسهم لا كأصحاب حقوق فحسب، بل الأهم من ذلك كخبراء وعناصر فاعلة من أجل العدالة يمكنهم -بل يجب عليهم- تقديم ردود على تلك المظالم الواقعة عليهم وعلى أحبابهم وحياتهم.

يمكن بالفعل تقييم التأثير الملموس الذي يمكن أن يحدثه ميثاق الحقيقة والعدالة، وما يمكن أن تحققه عناصره التي يقودها الضحايا من أجل النهوض بالعدالة، من خلال مراعاة القرار الأخير الذي تبنّاه مجلس حقوق الإنسان، التابع لهيئة الأمم المتحدة، في دورته التي عقدت في آذار/ مارس. فللمرة الأولى على الإطلاق يعترف قرار للأمم المتحدة بأهمية وإلحاح ضمان مشاركة حقيقية للضحايا وعائلاتهم في مبادرات المساءلة والعدالة الانتقالية وفي العملية السياسية، مع الاعتراف الضمني بالمشاركة المهمة التي بإمكان المبادرات التي يقودها الضحايا أن تقدمها في إطار أجندة العدالة والحقيقة والتعويضات في الصراع السوري. ومع أن القرار ليس ملزِماً من الناحية القانونية، لكنه يمثّل سابقة في تشكيل مقاربة تركز على الضحايا، في المستوى متعدد الأطراف.

من المقترحات الأساسية الأخرى التي أعدها الضحايا وقدموها هي إقامة آلية للكشف عن مصير المفقودين. تُعد حالات الإخفاء القسري من أبرز الجرائم التي تؤثر في حياة ملايين السوريين. فقد قام النظام السوري وأطراف أخرى في الصراع بإخفاء أكثر من 140 ألف شخص قسرياً. وقد دأبت مجموعات الضحايا على إثارة هذه المسألة أمام مجلس الأمن وأماكن أخرى متعددة الأطراف. غير أن هذه القضية لم تطرح بقوة وبشكل ملموس على أجندة العدالة الدولية، وبدأت جهود الأمم المتحدة تبدو وعوداً فارغة، ولم تؤدِّ الجهود المبذولة حيال هذه القضية على أجندة المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة إلى أي نتائج. لهذا السبب، قررت الجمعيات الانتقالَ إلى ما هو أبعد من مجرد الشعارات والأخذَ بزمام المبادرة في وضع خطة عمل لمواجهة حالة الجمود الراهنة وتقديم مطالب محددة وقابلة للتحقيق إلى المجتمع الدولي. دفع هذا بتلك الجمعيات إلى وضع آلية لإعمال حق العائلات السورية في معرفة الحقيقة، بناء على مقاربة إنسانية للقضية، تشبه في بعض الجوانب إطار عمل “لجنة مفقودي قبرص”، بدلاً من تسمية الجناة وفضحهم. وحقيقة أن جمعيات الضحايا وضعت إطار عمل كهذا بشكل مستقل -متبعةً نهجاً تدريجياً تجاه الحق في معرفة الحقيقة- يمثّل أوضح دليل على المساهنات المبتكرة والمتقدمة التي تقدمها تلك الجمعيات لمشهد العدالة (الانتقالية) في سوريا.

من محاكمة كوبلنز الالمانية

ما وراء العدالة الجنائية: أشكال ملموسة وتراكمية للعدالة

ركزت معظم الجهود المبذولة لتحقيق العدالة في السياق السوري حتى الآن على الملاحقات الجنائية، وذلك ناجم عن إصرار الجهات الفاعلة في مساعي العدالة السورية على اغتنام كل فرصة من أجل معالجة مسألة العدالة. مع ذلك، إذا أُهملت السبُل الأخرى، سيلوح في الأفق شبح تهميش وجهات نظر الضحايا. وفيما يدعم كثر من الضحايا السوريين محاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية، غالباً ما يكون فهمهم لمسألة العدالة أوسع بكثير. إذ لا يميلون إلى الاستناد إلى الأشكال القانونية والمعقدة للعدالة بقدر تركيزهم على الأثر الملموس على حياة الناس، من قبيل تسليم جثامين المعتقلين المتوفين وحق الأحياء في وجود قبر لأحبابهم. لقد “صار القبر حلماً”، كما قالت مريم حلّاق، والدة أيهم غزول، وهو شاب لقي مصرعه تحت التعذيب عام 2012. تعرفت إلى جثة ابنها بين ملفات قيصر، وهي مجموعة صور لنحو 6 آلاف معتقل سوري ماتوا تحت التعذيب بين عامَي 2011 و2013. علاوة على ذلك، يؤكد الناجون وأفراد من أسَر المعتقلين أن إطلاق سراحهم يجب أن يبقى أولوية؛ فخلال اعتصام أمام محكمة كوبلنز الألمانية تقول وفاء مصطفى، ابنة علي مصطفى الذي يخفيه النظام السوري منذ عام 2013، “لا أريد أن أنتظر مقتل أبي ثم أذهب بعدها إلى محكمة ألمانية للمطالبة بالعدالة”.

في هذا الصدد، لا يمكنأن تتجاهل الجهود المبذولة تحت مظلة العدالة الانتقالية مفهوم العدالة التعويضية. فأخيراً، وصف بعض أبرز العناصر الفاعلين في مجال العدالة من داخل المجتمع المدني السوري العدالةَ التعويضية بأنها “عدالة غير كافية”، وفي بعض الحالات عارضو كثيرون بشدة، بل أدانوها، باعتبارها محاولة لفرض الحصانة والإفلات من العقاب في سوريا. وقد أثير هذا الجدل بعد تصريح للمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، أشار فيه إلى مفهوم العدالة التصالحية/ التعويضية، ولاقى التصريح احتجاجاً وانتقاداً من قِبَل ممثلي المجتمع المدني السوري. إننا ندرك عدم وجود إجابة سهلة، مع تهميش العدالة التعويضية في الغالب لمصلحة العدالة الجنائية. غير أن الدول والمنظمات الدولية يمكنها أن تجعل الأولوية للحق في التعويض للضحايا مع استمرار السعي في الوقت نفسه نحو تحقيق المساءلة الجنائية. في هذا الصدد، يمثل الميثاق خطوة مهمة نحو الإقرار بقيمة التعويضات في السياق السوري على النحو الذي يعترف به الضحايا وعائلاتهم مباشرة. إذ يتناول الميثاق الحق في التعويض، إلى جانب جهود أخرى متواصلة من أجل تحقيق العدالة، بما يجعله شيئاً ملموساً وأكثر ارتباطاً بالضحايا الذين يشعرون غالباً بالاستبعاد من المبادرات الجارية.

لقد فشلت جهود تحقيق العدالة للسوريين، مع إثبات الدول عجزها عن كسر حالة الجمود. بيد أن النشطاء السوريين ونشطاء العدالة واصلوا مقاومة الانهزامية، وسعوا بلا كلل نحو فتح سبل جديدة لتحقيق العدالة وإثبات أن الإفلات من العقاب لا يمكن اعتباره أمراً مسلماً به. أدى هذا إلى ظهور المرحلة الأولى من النضال ضد مأزق العدالة. ونحن نشهد الآن بداية المرحلة الثانية، التي تتميز بعزم الضحايا وأسرهم على القيام بدور أوضح وأقوى في السعي نحو العدالة. إذ إنهم بحاجة إلى فرض وجهات نظرهم، وإلا سيتم تجاهلها والتغاضي عنها. إذا أمكن لمجتمع العدالة الذي يتسم بقدر كبير من الاستقرار، الإصغاء بصدق واستيعاب وجهات نظرهم، فيمكننا حينها -مثلما قالت حنة أرندت- أن نتوقع بعض النور في أوقات الظلام: نور تشعله النساء والرجال في الظروف العصيبة.

هذه المادة من إعداد:

[أحمد حلمي، أحد الناجين من التعذيب والاعتقال لمدة ثلاث سنوات في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري، ومدير وأحد مؤسسي مبادرة “تعافي”، التي يرأسها ويديرها الناجون أنفسهم بهدف مساندة الناجين الآخرين من الاعتقال وضحايا التعذيب].

[بريجيت هيرمانز، باحثة في مشروع “رؤى العدالة” (Justice Visions)، وهو مشروع تابع لمجلس البحث الأوروبي حول “مشاركة الضحايا في العدالة الانتقالية”، ويقام في مركز حقوق الإنسان بجامعة غينت البلجيكية].

[فيرونيكا بيلنتاني، مستشارة قانونية واختصاصية في شؤون العدالة الانتقالية، وتعمل حالياً محللة قانونية في “البرنامج السوري للتطوير القانوني”].

هذا المقال مترجم عن opiniojuris.org ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط  التالي.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى