من ذاكرة صفحات سورية

من ذاكرة صفحات سورية: عن الزمن والكتاب: مدخل كتاب الإمبرياليون المقهورون/ ياسين الحاج صالح

صدر كتاب الإمبرياليون المقهورون: المسألة الإسلامية وظهور طوائف المسلمين في بيروت عن دار رياض الريّس للكتب والنشر، وهنا مقدّمة الكتاب واستعراض أبوابه وفصوله.

بينما تشير الظواهر إلى أن  «النظام» يفوز في سورية، فإن دوائر الفوضى في الأحوال والمدارك تتسع في العالم، وفي سورية نفسها. النظام الذي يفوز اليوم هو بنى سلطة وترتيبات اجتماعية وسياسية ودينية وإيديولوجية، محلية ومعززة دولياً، لا مكان فيها للسياسة ولا للحرية، ولا يشغل التفكير الحر والنقاش الحر موقعاً فيها. لكن ظاهرٌ منذ اليوم أن حكم القوة والقسوة هذا لا يستطيع تزويد نفسه بمعنى إيجابي، ولا هو يدعي ذلك، ولا ينفتح على فسحة للأمل. إنه مسعى للأبد، أي لإعدام التغيير والحرب المستمرة ضد المستقبل، لا يتحقق بغير اعتماد الإبادة منهجاً سياسياً. دولة الأبد والإبادة الأسدية عنصر فحسب في هذا  «النظام» الذي يقوم على الحرب والتمييز، وعلى أشكال فاجرة من النهب وتعبيرات فاجرة بدورها من الكراهية.

بيد أن أبرز ما يميز عالم اليوم، على ما ظهر في سورية، هو انتشار الإمبريالية أو لا مركزيتها المتصاعدة،  «سيلانـ»ـها، بلغة زغمونت باومان، خارج أي مركز بعينه، أو  «انبثاثـ»ـها في ثنايا العالم المعولم، مثل السلطة عند ميشيل فوكو ، وهذا مقابل تركزها في وقت سابق لم يتقادم به العهد في دول رأسمالية أو معسكر دولي، وربما في معسكر دولي مقابل. ومن سوء طالع سورية البلد أن تكون ساحة تجمع  «الامبريالية السائلة» على نحو يعاكس مسار الإمبرياليات المركزية التقليدية، حيث كانت المراكز قليلة ومساحات سيطرتها وانتشارها واسعة. الآن وهنا، في سورية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لدينا بلد واحد، صغير، تقاطرت عليه وتركزت فيه إمبرياليات متعددة، تحيل إلى مراكز قديمة ومراكز أحدث ومنظمات ما تحت دولة وشبكات إمبريالية. لدينا بداية أربع دول أعضاء في مجلس الأمن بقوات عسكرية على الأرض، أميركا ومعها فرنسا وبريطانيا، ثم روسيا. ولدينا مركز إقليمي توسعي، إيران، بقوات عسكرية على الأرض، ثم تركيا كذلك. ومع هذه الدول الستة وإلى جانبها ثمة إسرائيل التي تتنافس الإمبرياليات الصلبة القديمة على رضاها، وتتجنب المراكز الطامحة سخطها. وبين يدي سباعي الدول هذا وإلى جانبه، ثمة أحزاب-ميليشيات مسلحة تجمع بين التبعية لمراكز دولتية وبين النزعة التوسعية، مثل حزب الله وحزب العمال الكردستاني وميليشيات عراقية. ثم أن من هذه الإمبرياليات ما له تكوين شبكي ومُعولم مثل السلفية الجهادية، الطامحة إلى فتح العالم والمسكونة بخيال إمبراطورياتنا الإسلامية الآفلة، والتي جعلت بعد هذا وبالرغم منه من المظلومية دينأ. اسم الكتاب يحيل إلى هذا التكوين المزدوج، الامبراطوري والمقهور.     

أخذت  فكرة الامبريالية المقهورة تتولد في ذهني بفعل المعاينة المباشرة للواقع في كل من دوما والرقة عام 2013. كانت المدينة الأولى مسرح نفوذ غير حصري وقتها لجيش الإسلام، التشكيل السلفي المحلي الذي كان يفكر في الغوطة كـ«فسطاط للمسلمين»، مسرح معركة فاصلة، «يوم الملحمة الكبرى»، ضد عدو غير مسلم، مع حصر الإسلام بالإسلام السني ووضعه في تقابل ضدي مع الديمقراطية التي قال زهران علوش، مؤسس وقائد جيش الإسلام حتى مقتله في أواخر 2015، إنه يضعها  «تحت قدميه». هذا المزيج من الصلف والرثاثة، من مخيلة مسكونة بالحرب والسيطرة ومن تشكٍّ مستمر من تآمر العالم وعدوانه علينا (وتشويه صورة المجاهدين، على ما استطاع علوش نفسه أن يقول)، كان له نظير في الرقة التي كانت في ذلك الوقت مسرح نفوذ غير حصري هو الآخر لداعش. المعركة الفاصلة، المنتصرة بطبيعة الحال، مسرحها دابق شمال حلب، وكانت النية تتجه بعد ذلك إلى فتح روما. التنظيمان السلفيان أقاما جهاز حسبة لضبط الأجساد والسلوك، النساء بخاصة، وكان هذا التوسع في أجساد المحكومين هو النصيب الأبرز للإمبرياليين المقهورين من الإمبريالية.

ولعل الواقعة الأمثولية التي تصلح تعريفاً للإمبريالية المقهورة هي حدث 11 أيلول 2001. كانت  «غزوة مانهاتن» تلك ضربة عظيمة، بالغة الجسارة وعالمية المخيلة، استهدفت رمزاً للإمبريالية القاهرة، وتذرعت بمظلومية المسلمين، وتسببت في قتل نحو 3000 شخص لا يمكن اعتبارهم مذنبين جنائياُ ولا سياسياً ولا أخلاقياً، ولا حتى ميتافيزيقياً. لكن يبدو أنهم مذنبون أنطولوجياً في عين السلفيين الجهاديين، والعدالة هنا تتماهى بالإبادة.    

بيد أن فرص إمبرياليينا المقهورين في  «إدارة التوحش» تبدو محدودة بالنظر إلى أن النظام الدولي، وهو مكون من دول أساساً، يفضل إدارة التوحش الذي ينتجه عبر الدول ذاتها، وتجد حتى دولة مخصخصة ومنزوعة الوطنية مثل دولة الأسديين نفسها طبيعية فيه. حين كان الأميركيون يرسلون مشتبهاً بهم بأنشطة إرهابية إلى دول مثل  «سورية الأسد» أو مصر أو  أشباههما، كانوا يقولون عملياً إنهم يفضلون إدارات للتوحش يعرفونها، هي في أسوأ الأحوال  «شر أصغر» في نظرهم، على  «الشر الأكبر» الذي هو مشروع التوحش الخاص بالسلفية الجهادية المعاصرة.  «النظام» الذي يفوز اليوم في سورية هو إدارة توحش دولتية.

على أن  «سيولة» أو لا مركزية وفرط حركية الجهادية تبدو كأنها صورة المستقبل للنظام الدولي، بما يصادق على قول باومان نفسه بأنه في عالم ما بعد الحداثة ما يقدم صورة مستقبل العالم الأول هو العالم الثالث، بينما كان الحال عكس ذلك في زمن الحداثة، الذي هو زمن الإمبرياليات الصلبة المتمركزة، وزمن التقدم كاتجاه للتاريخ. 

في كل حال، ليست الإمبريالية المقهورة غريبة في عالم من  «النظام» والسيولة، من السلطة المحض ومن تداعي المركز . وجنوحها المعادي للعالم ليس غريباً عن تطور السياسة عالمياً باتجاه الجنوح والزعماء الجانحين، على نحو تتواتر مؤشراته في روسيا وأميركا، في أوروبا الشرقية وفي العالم العربي، وعلى مستوى الدولة والمنظمات والجماعات السياسية الدينية. 

*****

يمكن قراءة هذا الكتاب كجزء ثان لكتاب أساطير الآخِرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده الذي صدر غداة موسم الربيع العربي (دار الساقي، بيروت، 2011). كان  «أساطير الآخِرين» (بكسر الخاء) يتناول الإسلام المعاصر وتمثيلاته الفكرية، تلك التي يُقدمها ممثلوه أو خصوم لهم، وقد بدا لي فيه أن نقد الإسلامية الضروري يقتضي نقداً لضروب من النقد تمييزية، غير مستقيمة فكرياً، غير تحررية سياسياً، وضامرة البعد الأخلاقي، ذكرت أمثلة منها في متنه. أما الكتاب الذي بين يدي القارئ فيتناول الإسلاميين أساساً، وإطار إحالته الواقعي هو سورية في سنوات ما بعد الثورة. البدء هنا من الفاعلين، وإحدى موضوعات الكتاب الرئيسية هي أنهم ينتجون إسلامهم، بعكس ما يفكرون هم، وبعكس ما يعتقد معظم خصومهم. لقد وقعت تحولات كبيرة في الحقل الإسلامي خلال سنوات الثورة والحرب السورية التي هي مختبر هائل للنظر في الأفكار والتيارات وتقييمها، من أبرزها صعود الإسلام الحربي أو الجهادي أكثر من  «الإسلام السياسي»، ومنها تغير موقع الإسلاميين ككل من موقع الضحية إلى موقع المعتدي الأثيم أو المستأثر الأناني. ومنها تفاقم النزعة المحافظة العدائية التي تستحق نعتاً قديماً: رجعية، ظهرت بخاصة في مجالات التعليم والقضاء وأوضاع النساء. ومن هذا الباب فإن النقد هنا ينصب بصورة شبه حصرية على طوائف الإسلاميين، ونقد النقد أقل حضوراً.

لكن مثل سابقه، هذا الكتاب معني بإدراج نقد الشأن الديني في  «الثقافة». أعني من جهة أنه يريد أن يولّد أفكاراً، أن يغامر بأطروحات غير قياسية، وأن لا ينضبط بمنطق الاختصاص (الكاتب هاوٍ على كل حال، وليس مختصاً)؛ والثقافة التي أفكر فيها من جهة ثانية هي فضاء حرية، مساحة للنقاش، لتفكير جذري وملتزم سياسياً، لمخيلة تتحرر. تتقابل الثقافة في تصوري مع الإيديولوجيا كنسق مسبق التكون من الأفكار، يعلي من تماسكه الخاص على تمثيل التجارب المعاشة؛ تتقابل أيضاً مع السياسة حين تعني الأخيرة أولوية التعبئة على المعرفة، وتحكيم مقتضيات الفاعلية السياسية في عمل الفكر. ثم إن الثقافة تتقابل مع الدين ذاته، فلا تعترف في مجالها بسلطة تعلو سلطة التفكير الحر، وتنازع الدين النفوذ في مجال  «الروح».

في نشر هذه المواد في كتاب محاولة لمقاومة الشفاهة الغازية لشؤوننا العامة، الشأن الديني بخاصة. الشفاهة غير تحررية مهما أمكن لها أن تكون إنسانية. ليس كل كتابي تحررياً وجذرياً، بالمقابل، لكن الكتابي وحده مجال الجذرية والتحرر، والمسؤولية كذلك، و «الجمهورية» أو العمومية. ولا يزال الكتاب في رأيي هو وسيط الكتابي الأمثل. 

ولعله يمكن كذلك قراءة الصيغ المتاحة هنا للمواد التي تشكل متن الكتاب كـ  «طبعة ثانية مزيدة ومنقحة» لنشرها الأول، على النت (في مجلة الجمهورية الإلكترونية غالباً)، وهو ما يندر أن يوفر النشر العربي فرصاً له حتى حين يُعاد طبع الكتب، فلا يتاح للكتاب إعادة صوغ أفكارهم ومراجعتها وإغنائها، على غرار ما يفعل زملائهم في بلدان الغرب. هذا خطأ مؤسف، يحبط الكاتب ويُقرِّب عمل الكتابة من إشهار مذهب ثابت، ويحول دون اعتبار مراجعة الأفكار وإصلاحها عناصر مكونة لتعريفه ككاتب. يوفر لي الكتاب الحالي فرصة لإصلاح الخطأ فيما يخص المواد المدرجة فيه. التنقيح واسع في بعض المواد، في شكل إضافة أو حذف أو تعديل، وإن اقتصر على لمسات متفرقة بخصوص بعضها. والمأمول بمحصلة التنقيح أن فصول الكتاب صارت أكثر إحكاماً كأفكار وكبنية وتسلسل. 

*****

لقد كتبت فصول الكتاب السبعة عشر متفرقة خلال نحو أربع سنوات ونصف، بين 2014 و2018، وهي تتوزع على ثلاثة أبواب، يعرض أولها معطيات التكوين. يتناول الفصل الأول، المركزيات الإسلامية والتاريخ، معطيات التكوين التاريخي للإسلام عبر سبعة مراكز هي الله والدولة والرجل والدال الفصيح والصوتي- السمعي والماضي من الزمن و «مهبط الوحي» من المكان. ويهتم الفصل الثاني، في المسألة الإسلامية، بالإطار العالمي المعاصر للتكوين، ويرى الإسلامية وجهاً من وجهي مسألة عالمية، وجهها الثاني هو الإسلاموفوبيا. أما الفصل الثالث فينظر في تسنّن الشيعة وتشيّع السنّة في مسار الأربعين سنة الماضية كمعطى مكون إضافي للإسلامية المعاصرة. وما عدا هذا الفصل القصير فإن الإسلامية التي يتكلم عليها هذا الكتاب هي الإسلامية السنية.

الباب الثاني ينظر في تكوّن الضمير الإسلامي المعاصر، أو في المسألة الأخلاقية الإسلامية، ويحيل عنوانه، الضمير كأذن خارجية، إلى التمركز الصوتي السمعي للإسلام، وبالتحديد إلى أن الضمير هنا  «عضو» مخصص لسماع صوت المفتي أو  «الشرعي». يقول الفصل الرابع أن ضمير الإسلامية متكوّن حول المظلومية من جهة، والظالمية المتولدة عن مركب الاختصاص بالله والامبراطورية من جهة ثانية، وأخيراً الظلامية، أي الاكتفاء بما في اليد من عتاد فكري وأخلاقي، والاعتقاد الباطل بأن المسلمين لا يدينون إلا للإسلام وأن الإسلام لا يدين إلا لنفسه. ويتساءل فصل خامس قصير عمّا إذا كان هناك تكوين متسق للضمير الإنساني يمكن أن يختار حقاً الإكراه في الدين ضد الحرية الدينية، والتمييز بين الجنسين ضد المساواة، وعقوبات جسدية تمس بالتكامل الجسدي ضد عقوبات لا تفعل مثل ذلك، إلخ. ويستأنف فصل سادس، قصير بدوره، التساؤل، لكن المعرفي هذه المرة: هل هناك حوائل ابستمولوجية تعوق دراسة الشأن الإسلامي بالمناهج والأدوات التي تدرس بها المجتمعات والعقائد الأخرى؟ يتناول الفصل السابع  «اللباس الشرعي» الذي يضع عبء الحشمة على المرأة، ويرى هذا اللباس علاقة قوة محمية بالقسر، وليس بحال مسألة احتشام وتواضع. وينظر الفصل الثامن في العلاقة بين الخلق والأخلاق، وبين الطبيعة الدين، ويتساءل: هل تزودنا اعتقاداتنا، ومنها الدين، بقوة مادية أو بجسد ثان يضاف إلى أجسادنا، أم أنها تؤنسننا و«تُرَوْحِن» أجسادنا ذاتها، فكأننا نصير بروحين؟ ويقترح الفصل أن الخلق من الخالق الذي هو الله أو الطبيعة، وأن الأخلاق من الإنسان، وبالتالي كل ما هو أخلاقي ومعاملاتي في المتون الإسلامية إنساني، وبالتالي تاريخي، ومتغير، وبحكم اللاغي اليوم من وجهة نظر كرامة الإنسان وإنسانيته.

الباب الثالث والأخير ينظر في إسلام الحرب والظاهرة السلفية الجهادية. الفصل التاسع، يرى أن الإسلاميين ينتجون الإسلام الذي يستنتجون أنفسهم منه، وهو ما يتيح لنا تجاوز الطرح التحزبي الجزئي الذي يقول إن الإسلام هو داعش أو القاعدة، وكذلك الطرح المضاد، القائل أن الإسلام من ذلك براء. داعش والسلفية الجهادية شرعية الانتساب للإسلام، وإن كانت لا تستنفده. والأهم من النصوص هو النظر في الشروط الاجتماعية والتاريخية، والعالمية، التي تؤطر صنع الدين، الإسلام وغيره، بهذه الصورة أو تلك. ويلفت الفصل نفسه إلى أهمية المخيلة والذاكرة ومؤسسات التلقين الديني وأن النصوص تقرأ من خلالها. الفصل العاشر يرى أن القاعدة هي إمبراطوريتنا البديلة، وأنها متولدة عن التقاء متخيلنا الامبراطوري بعجز دولنا  «السيدة» عن الحرب، أي عن كونها منقوصة السيادة، وأن امبراطوريتنا البديلة شبكية دون إقليم لأنها لا تستطيع أن تدافع عن نفسها في حرب لا تملك شيئاً من اقتصادها وتكنولوجيتها. ويرى هذا الفصل أن اعتراضنا على الامبريالية متهافت حين لا نقطع مع نزعاتنا الامبراطورية في الثقافة والدين. وفي الفصل الحادي عشر أتكلم على الباراديغم السلفي الجهادي، المهيمن في أوساط الإسلاميين بمن فيهم من ليسوا سلفيين جهاديين، بل حتى من ليسوا سلفيين. هذا الباراديغم يتكون من نظرة إلى العالم تراه متآمراً على المسلمين، وتُعرِّف وحداته بأصولٍ وأديان قديمة، ثم من نظرية  «علمية» هي السلفية، ومن منهج عملي هو الجهاد، ومن هدف هو الدولة الإسلامية. ويقترح الفصل الثالث عشر أن السلفية الجهادية ليست التعبير السياسي الإيجابي عن بيئات سنية سورية بعينها، أياً تكن هذه البيئات، بل هو نتاج حرمان هذه البيئات من أي تعبيرات سياسية ذاتية، وكذلك تخلخلها كمجتمعات وهامشيتها. وينظر الفصل الرابع عشر في جينيالوجيا داعش أو طبقات كيانها التاريخية، فيميز بين ما قبل تاريخ أفغاني متنضِّد في طبقة أولى عميقة، وفوقه طبقة عراقية أخذت تتشكل بعد الاحتلال الأميركي للعراق، والطبقة الثالثة هي طبقة سورية أخذت تظهر عام 2013. في أفغانستان كان العدو هو الاتحاد السوفييتي ثم الولايات المتحدة، وفي العراق الأميركيون وحلفاؤهم من المنظمات الشيعية، وفي سورية كان العدو هو الثورة أساساً. من أفغانستان أخذت داعش تكوين المنظمة الإرهابية، وفي العراق اكتسبت العنصر المخابراتي الدموي، وفي سورية شكل الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. الفصل الرابع عشر يعمل على إظهار علاقة مرآوية بين العالم وداعش، تقوم على استبعاد السياسة وعلى إرادة الإبادة. الفصل الخامس عشر يرى أن الإسلام تحول على يد السلفية الجهادية إلى تكنولوجيا سياسية، أي وصفات مطبّقة للسيطرة، بعد أن كان إيديولوجية سياسية على يد الإسلام السياسي، ما يعني تقليصاً مضاعفاً لدين المسلمين، يعزز السياسي فيه ويضعف الروحي والاجتماعي والأخلاقي. أما الفصل السادس عشر فينظر في السلفية الجهادية كظاهرة مسرحية، أو إشباع للحاجة إلى دور في العالم، لكن المسرح هنا يحل محل الحياة، ولا يسمح لها أن تتسرب إليه. وفي  «المشرح» السلفي الجهادي تلزم أجساد حقيقية لقتلها وبترها من أجل شد الجمهور الذي لا يشده غياب الحب والجنس إلى أعمال الفرقة المسرحية العالمية الشهيرة، المسماة داعش. ويظهر فصل سابع عشر وأخير  أن إشكالية الإسلامية المُكوِّنة طالبة للسيادة وليس للسياسة، وأن الدولة المخصخصة والأبدية تثبت هذه الإشكالية وتعزز حضورها. وعليه يمكن التفكير في تعاقد اجتماعي وسياسي، يربط بين تأميم الدولة أو نزع خصخصتها وبين تخلي الإسلاميين عن أي تطلعات سيادية، ليصيروا قوية سياسية مثل غيرها في اجتماع سياسي يقوم على المساواة والمواطنة وعلى الحريات السياسية والدينية.

*****

لقد نُشر الفصلان الثاني: في المسألة الإسلامية، والرابع: المظلومية، الظالمية الظلامية… في الأصل كمقالتين ضمن سلسلة مقالات متنوعة المواضيع جمعت بينها ترويسة: مقالات إلى سميرة. أبقيت على هذه الترويسة هنا استذكاراً لامرأتي المغيبة التي خُتم النصان بكلمات عنها. 

اسطنبول وبرلين، خريف 2018

———————————

الفصل الثاني: في المسألة الإسلامية/ ياسين الحاج صالح

مقالات إلى سميرة (8)

في عالم اليوم مسألة كبيرة، عالمية الأصول والنطاق والآثار، بحيث يتحتم على التفكير فيها أن يكون عالمياً، تفكيراً في العالم، وأن تكون معالجاتها المُحتملة عالمية أيضاً. إنها المسألة الإسلامية. ولهذه المسألة وجهان: أولهما الإسلامية، مجموع التكوينات الدينية السياسية التي نطلق عليها اسم الإسلاميين، والوجه الثاني هو الإسلاموفوبيا، نزعة الاستبعاد حيال ما هو إسلامي، ديناً ومنسوبين إليه وإسلاميين. وستقول هذه المقالة إن أطراف المسألة الإسلامية ليست اثنين، «الإسلام» و«الغرب»، بل أربعة: الإسلاميون ونُظُم الأقلية الحاكمة في بلداننا والقوى الغربية وإسرائيل.

(1)

الإسلامية مذهبٌ مشتق من الإسلام، قام عليه فاعل انشقاقي، حديث ومعاصر، هو الإسلاميون، وهذا بعد أن كان عَرَفَ تاريخُ الإسلام والعالم المسلمين، المؤمنين بدين الإسلام. الإسلامية ظهرت مع تفكك صيغة التراكب الديني السياسي في عالم الإسلام بفعل مركب السيطرة الغربية/ الحداثة. كانت تلك الصيغة ضمنت رجحاناً حاسماً لرمزيات الإسلام السنّي على مستوى السلطة التي كان مضمونها سلطانياً عائلياً، قائماً على الملكية (النازعة إلى التوسّع) والغلبة (المقترنة بالعنف بطبيعة الحال). الإسلامية ظاهرة جمعية أساساً، سياسية دوماً فوق كونها دينية بطبيعة الحال، حديثة جوهرياً، لم يسبق أن ظهرت قبل القرن العشرين، وإن استصلحت لنفسها أصولاً وأسلافاً أقدم، بل وإن طابقت ذاتها مع الإسلام منذ نشوئه. تتمثل الإسلامية في طيف من منظمات إسلامية متنوعة، تُجسد وعي الإسلام بذاته في العالم الحديث والمعاصر، وتعترض اعتراضات متفاوتة الحدّة على العالم الحديث، تبلغ حد القطيعة الكاملة مع تنظيماته، ليس السياسية وحدها بل والثقافية والاجتماعية والحقوقية والجمالية والمعرفية، وربما الحرب الكلية معه.

بحكم «أسباب نزولها» قبل أقل من قرن، في زمن ما بعد تفكك آخر إمبراطوريات المسلمين والاستعمار الأوروبي وظهور الدولة الترابية الحديثة في مجالنا، تنزع الإسلامية إلى أن تُشخّصَ في الغرب المعاصر العدوَّ الديني والسياسي معاً. إنه في آن الصليبية القديمة والمعتدي الاستعماري الحديث. ويضفي تطابق العدو السياسي والديني طابعاً ماهوياً على العدو الغربي وحالة العداوة معه، ما يجعل الصراع مديداً ومستعصياً، وما يسوّغ الكلام على «مسألة» إسلامية. استناداً إلى سوابق تاريخية معلومة، مثل المسألة اليهودية والمسألة الشرقية، والمسألة الفلسطينية، واليوم المسألة السورية، المسائل أوضاع مديدة معقدة، مولدة للعنف ومقترنة به. يُفاقِم من تعقيد وإزمان المسألة الإسلامية أن طرفاها المباشران، الإسلاميون والقوى الغربية، يتوهمان النصر في معركة يُنذر خوضها بانحدار عالمي في بربرية قروسطية جديدة، فضلاً عن امتناع النصر فيها. لن يستطيع الإسلاميون هزيمة الغرب، وأقرب شيء إلى التحقق هو إيذاء الغرب مع تدمير واسع في مجتمعات المسلمين. لكن كذلك لا تستطيع القوة الغربية الاستمرار في حروب متنوعة ضد عوالم المسلمين، وهي تتسبب منذ الآن بأذى كبير لنفسها فوق ما تسببت به من أذى رهيب لمجتمعاتنا. ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى استعداد للتراجع أو تغيير المسار من أي من طرفي المسألة المباشرين هذين.

تتمرد الإسلامية على نفوذ الغرب العالمي دون أن تقترح صورة مغايرة للعالم (غير «فتح»ـه من قبل الإسلاميين). فلا هي تستطيع الخروج من عالم واحد يمكنه أن يكون مكسباً للجميع، ويمتنع الخروج منه إلا كآلية تَباعُدٍ وعداءٍ نفسية، ولا هي تُعيد تشكيل نفسها وتفكيرها على نحو يُتيح لها ولعموم المسلمين الانخراط في هذا العالم الواحد بخسائر أقل، ولا هي تحتجّ على هذا العالم الواحد الذي تعرض فيه أشكال متنوعة من التمييز واللامساواة احتجاجاً يُشرِك غيرها فيه، وباسم قيم أكثرَ عالمية وأَقبَلَ لاشتراك الغير. ولا هي بعد ذلك تنجح في توحيد جمهور المسلمين المؤمنين أو قطاعات مهمة منه، بل تتكثر منظماتها هي ذاتها وتتنازع فيما بينها، على نحو يعكس تعثراً متمادياً في صوغ استجابة حيوية مثمرة على تحديات العالم الحديث. الفاعل الانشقاقي الإسلامي ليس منشقاً عن العالم فحسب، لكنه منشق داخلياً كذلك ومنقسم على نفسه.

غاضبة من العالم، بما في ذلك مجتمعاتنا المعاصرة، ترى هذه الحركات لنفسها أحقية في الحكم في «البلدان الإسلامية»، إما لأنها تمثل «الأمة» (وهذا غير صحيح، حتى لو اختُزِلت «الأمة» إلى المسلمين السنيين)، أو لأن لها علاقة خاصة بالله، وهو من خصّها بالحكم (وهذه نسخة إسلامية من الحكم بالحق الإلهي)، أو لأن التاريخ أعطاها هذا الحق قبل أن تسلبه منها السيطرة الغربية (وهذا بدوره غير صحيح، فأقرب ما يمكن أن يكون استمراراً للحكم السلطاني هو دولة الأسديين في سورية، وليس مشاريع الإسلاميين الأقرب بنيوياً إلى الصيغ الشمولية للدولة السيدة الحديثة؛ وحدها رمزيات الإسلام السني ما ينقص السلطنة الأسدية، وهي لم تقصّر بقدر ما يسمح تكوينها في إبراز هذه الرمزيات).

الوجه الآخر للمسألة الإسلامية هو ظاهرة الإسلاموفوبيا في بلدان الغرب، وهي بلدان تسودُ تنظيماتُها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعلوماتية العالم، وتتشكل وفق تصوراتها ومصالحها ونماذج اجتماعها وسياستها المنظماتُ الدولية وقواعد عملها. وطيف الظواهر التي تقع تحت عنوان الإسلاموفوبيا يمتدّ من تغطيات في وسائل الإعلام تتساهل في الربط بين الإسلام والإرهاب، إلى تمثيلات غير إيجابية في الفن والأدب، إلى أوجه تمييز متنوعة في الحياة اليومية، إلى رعاية سياسية وعسكرية وعاطفية لإسرائيل، بالغة الانحياز ومتعصبة. ويتوحد أثرها في ديناميكية تمييز واستبعاد (أو إقصاء) يتأثر بها المسلمون بوصفهم كذلك.

مسرح الإسلاموفوبيا هو أساساً الغرب مثلما مسرح الإسلامية الأول هو مجتمعات المسلمين، لكن لا هذه ولا تلك تنفصلان عن مركب السيطرة/الهيمنة الغربية الحديث والمعاصر. الغرب ليس العالم، لكن العالم مُتشكِّلٌ بقدر كبير على صورة الغرب الحديث والمعاصر. ولذلك فإن ظاهرة غربية مثل الإسلاموفوبيا هي بقدر طيب ظاهرةٌ عالمية، حتى أنها ظاهرة إسلامية بصورة ما. بالمقابل، ظاهرة الإسلامية إسلامية (دون أن يكون هذا «بطبيعة الحال») وعالمية معاً.

وذو دلالة أن من يهتمون بالاعتراض على الإسلامية بيننا قلّما يجدون ما يقولونه عن الإسلاموفوبيا، وبالمقابل من ينتقدون الإسلاموفوبيا قلّما يمتد نقدهم ليشمل الإسلامية. ومن هذا الاعتبار يحوز تصور المسألة الإسلامية أهمية خاصة لكونه يتيح لنا نظرة عالمية ترى الشأنين معاً. إنها ما يفرّقُ بين عالمي متشابكين، وما يقرّبهما ويعمّق تشابكهما في آن.

أنوّه في ختام هذه الفقرة أني أفضل تعبير إسلامية على إسلاموية، هذا رغم أن «إسلامية» يمكن أن تكون نسبة مؤنثة إلى ما هو من الإسلام: عقيدة إسلامية، حركات إسلامية، و… مسألة إسلامية؛ وأن إسلاموية (أو إسلامانية) هي النسبة المضاعفة: نسبة إلى إسلامي أو إسلامية التي هي نسبة إلى إسلام. لكن المشكلة في تعبير إسلاموية أنه تبطنه شحنةٌ استخفافيةٌ أو هجائية من جهة، وأن استخداماته الشائعة على الأقل تخلق التباسين أكثر مما توضح إشكالاً لغوياً واحداً. يتمثل التباسٌ أول في تصوير أن المشكلة هي مع كاريكاتير ساخر للإسلام اسمه الإسلاموية، وهو ما يفتح باباً لجدال قليل الثمار في مدى مطابقة الإسلاميّة والإسلاميين للإسلام؛ والالتباس الثاني هو، على العكس، أن الإسلاموية هي الإسلام، وأن الإسلام بالذات هو الكاريكاتير الساخر. هذه المطابقة جدالية وقليلة الثمار بدورها.

الإسلامية في هذا التناول هي تشكيلٌ تاريخيٌ معاصر للإسلام، والإسلاميون هم وكلاء هذه التشكيل. إنهم مطابقون وغير مطابقين للإسلام، وهم صنّاعٌ لهذه المطابقة التي ينكرها في الوقت نفسه بعضهم على بعضهم. لا يكفّ الإسلاميون عن إعادة تشكيل الإسلام أو صنعه في صورة تضمن المطابقة وتجعل منهم ورثته الشرعيين، وإن انقلب ذلك إيديولوجياً في تفكيرهم لتكون وراثتهم الشرعية لدين المسلمين نتاجاً لكونهم صنائع له، لا صانعيه. لكن هذا ما يفعله معتنقو الأديان والإيديولوجيات في كل وقت. ليس هناك ما يُفرِدُ الإسلامية عن غيرها في هذا الشأن.

(2)

وجها المسألة الإسلامية هذان متصلان ومتفاعلان على نحو وثيق في العالم الحديث والمعاصر. وإذا عدنا إلى أطوار تاريخية أقدم قد نرى «المسألة الشرقية» تركيباً بين ظاهرتين، يمكن التفكير فيهما كسلفين لوجهي الظاهرة اليوم: اضطرابُ وضعِ القوة الإسلامية الأكبر في حينه، السلطنة العثمانية، في عالم كانت تتعزز سيطرة أوروبا فيه. أرنولد توينبي وصف المسألة الشرقية بأنها مسألة غربية، على نحو يُظهِرُ هذا الارتباط بين مشكلات عالم الإسلام وتحولات الغرب وأدواره التاريخية. الأمر لم يقتصر على عالم الإسلام وحده في واقع الأمر، فقد كانت أوروبا تُعولِمُ العالم الذي شغلت مركزه الإمبراطوري وموقعَ المبادر فيه. لكن القرب الجغرافي من جهة، وتقارب الأصول بين الإسلام والمسيحية (واليهودية) من جهة أخرى، ثم قيام كيان إسرائيل المعاصر في زمن أقرب إلينا، هي من الوقائع المديدة التي تفعم العلاقة بين العالمين بحساسية مستمرة، تُفاقِمها عوارض التاريخ بين حين وآخر. فإذا نظرنا عن كثب إلى هذه الوقائع الثلاثة (قرب جغرافي، أصول متقاربة، إسرائيل هنا في فلسطين)، تمثَّلَ لنا أن القرب هو ما يصنع البعد والاستبعاد.

في مرحلة لاحقة أُلغيت الخلافة الإسلامية في سياق تحول التنظيمات العثمانية إلى إيديولوجية دولة قومية، بل بالأصح إلى دين دولة على يد مصطفى كمال أتاتورك. التنظيمات كانت مسعى إصلاحياً عثمانياً للبقاء في شروط صعود الامبريالية الأوروبية، لكن المسعى خاب بفعل الإمبريالية ذاتها من جهة، ولكون التنظيمات استجابة جزئية لتحول تاريخي هائل، ثورات في العلاقة مع الطبيعة والمجتمع والنفس والتاريخ، تتجاوز ما كان في وسع عالمنا المطمئن إلى تقاليده (كما أي عوالم أخرى) أن يجد حلاً وسطاً معه على ما استطاع أن يفعل طوال أكثر من ألف عام قبل ذلك. كانت الخلافة مؤسسة غير فاعلة، لا تكاد تمثّلُ غير ضرب من الاستمرارية الرمزية. (لكن لعلّه لذلك بالذات كان أصوب لو نالت وداعاً أليق، كأن يُعمل على تحوّلها إلى مؤسسة دينية إسلامية عامة).

بفعل خيبة البقاء المستقلّ، وعلى خلفية انتظام الدولة والجيش والاقتصاد والتعليم، على أسس «غربية»، دون أن تصير دولنا الترابية الحديثة دولَ حقوق وحريات وسياسة مثل دول الغرب، أخذ المسلمون بالتحوّل إلى أقليات سياسية في دولهم رغم كونهم أكثريات سكانية. ظهور طائفة أو طوائف الإسلاميين هو التعبير السياسي عن هذا التحول الأقلّوي، وليس بحال معالجةً له يمكنها أن تكون أساساً لأكثرية جديدة. يقتضي ذلك استيعاباً فكرياً ونفسياً للمتغيرات الحديثة، وتوفير قاعدة تَمَاهٍ عام واسعة، يُقبِلُ عليها المسلمون على الأقل. لم يحدث قط. ظل منهج الإسلامية متجهاً نحو استعادة ماضٍ ميت، وليس استقبال حياة متغيّرة والاضطلاع بتحدياتها. وفي تقاطع تاريخي مصيري، كانت «حقوق الأقليات» و«حماية الأقليات» من العناصر المكونة لـ«للمسألة الشرقية»، في سنوات تقاسم تركة «رجل أوروبا المريض» بين القوى الأوروبية. أي وقت كان يتحول المسلمون إلى أقلية/ أقليات سياسية أخرى. وما يميز اجتماعنا السياسي اليوم، ومنذ بداية الطور العنيف الراهن من ظهور المسألة الإسلامية قبل نحو ثلاثة عقود، هو عدم وجود أية أكثرية بانية أو مُكوِّنة في بلداننا، وما سأسميه لاحقاً التحول الأوليغاركي للدول. حقوق الأقليات وحماية الأقليات هي من جديد بنود أساسية في جدول المسألة الشرقية الجديدة، أعني المسألة الإسلامية. وهي، مثل المسألة الشرقية القديمة، تفترض أن الأكثرية السياسية في بلداننا إسلامية، وهذا غير صحيح قطعياً.

كانت تركيا قد نجت من الاستعمار المباشر، خلافاً لمعظم البلدان العربية والإسلامية، لكن طوال ثمانية عقود أدارت ظهرها لـ«الشرق» والعالم العثماني السابق في ما صار يسمى «الشرق الأوسط». الاستعمار كان استمراراً للمسألة الشرقية، وفي الوقت نفسه حلٌّ من نوعٍ ما لها، دفعها إلى مستوى أعلى من التعقيد. حلّ المسألة اليهودية، وهي مسألة مسيحية وأوروبية أساساً، بإقامة إسرائيل في فلسطين، هو في آن «حلّ نهائي» لـ«الحلّ النهائي» النازي، وضربٌ من الإبادة الباردة للفلسطينيين، وكذلك طور جديد في مسألة سياسية دينية عالمية، أخذ المسلمون يحلون فيها محل اليهود بعد فاصل الحرب الباردة مباشرة.

من منظور تاريخي تبدو المسألة الإسلامية وضعاً متوتراً، يتفجر بعنف أحياناً، بين ممثلي إمبراطورية صاعدة وورثة امبراطورية آفلة. الإسلاميون هم الورثة النوعيون للإسلام الإمبراطوري الذي كان في موقع مسيطر خلال معظم تاريخه حتى قبل نحو قرنين من اليوم. وبحكم هذا التكوين المتأصل والمديد ينزعون إلى التفكير تلقائياً بمنطق جيوسياسي وجيوديني، تشغل وقائع السيادة الغربية وإسرائيل، ثم «الحرب على الإرهاب» مكاناً بارزاً فيه. وشعور الإسلامية بالغربة في تاريخ يسوده الغرب يكمن وراء نزوعها إلى التفكير بلغة الأديان والعقائد غير المتغيرة، لا بلغة السياسة والمصالح المتغيرة. في عالم الماهيّات هذا يرى الإسلاميون في إسرائيل العداء اليهودي الباكر لرسالة النبي، وفي الاستعمار الأوربي صليبية جديدة. وبالمقابل كلما كان المجال الإسلامي، وقلبُهُ العربي بخاصة، في وضع أكثر هشاشة أمام إسرائيل والقوى الغربية، كان هذا بيئة أنسبً لانتشار الإسلامية.

(3)

إسرائيل هي من ناحية استمرارٌ للاستعمار الأوروبي، ومن ناحية ثانية هي حلّ للمسألة اليهودية بتصديرها إلى عالم لا تقبله ولا يقبلها، مع جعل إسرائيل امتداداً لإمبراطورية الغرب. تاريخياً، كان لأوروبا عدوّان: داخليٌ (ولاهوتي) هو اليهود، وخارجي (وسياسي) هو الإسلام، حسب جيل أنيدجار في كتابه اليهود، العرب: تاريخ للعدو،1 وهي صدَّرَت العدوّ الداخلي بشرياً إلى عالم المسلمين، ثم احتضنته سياسياً. وأنيدجار يعتقد أنه جرى تصدير مشكلة أوروبا العربية أيضاً بإقامة إسرائيل، ويرى أنه لذلك اختيرت فلسطين «كوطن قومي لليهود»، وليس أوغندا أو الأرجنتين، وكانا بين الاقتراحات المتداولة لحلّ المسألة اليهودية حتى وعد بلفور 1917، وبعد.

1. Gil Anidjar. The Jew, The Arab: A history of the Enemy

كحلّ نهائي غربي للحلّ النهائي النازي، إسرائيل هي استمرار مغاير لـ «الحل النهائي». لدينا خفض قيمة حياة الفلسطينيين على نحو مديد، يتركهم مباحين للإبادة السياسية. حين تعني الإبادة السياسية Politicide إبادة السياسة أو الاستعباد السياسي للمحكومين أو قطاعٍ منهم (وليس قتل محكومين أو قطاع منهم فيزيائياً لأسباب سياسية)، أقترحُ لها اسماً يخصها هو الإبادة الباردة، وهذه لا تتعارض مع قتل ساخن مُقسّط، يذهب ضحاياه بالعشرات والمئات في كل قسط. عبر السنوات والعقود تُقتَلُ الصفة السياسية للفلسطينيين (والسوريين في ظل دولة الأسديين)، دون مخطط كلي لقتلهم فيزيائياً كما جرى لليهود في معسكر آوشفيتز وأشقائه. المخطط الكلي هنا هو قتل الهوية الفلسطينية أو إبادة الكيان الفلسطيني. لكن لا شيء يستبعد إفناء الفلسطينيين جمعياً حين تتقاطر الظروف المناسبة، ويلتقي الدينيُّ منها بالسياسي والمحليُّ منها بالدولي. إذا كانت الإبادة السورية ممكنة بفعل تلاقي ظروف ليست المسألة الإسلامية والإسلاموفوبيا بمنأى عنها، فلا شيء يكفل ألا تكون الإبادة الفلسطينية ممكنة.

جسّدَ قيامُ إسرائيل استبعادين بنيويين عميقي الأثر على المسألة الإسلامية والعالم المعاصر. استبعاد سياسي للفلسطينيين، ولمحيط عربي أوسع في مصر وسورية ولبنان والأردن، وأبعد، مع وضع الجميع تحت الرقابة الأمنية الغربية، ومنح إسرائيل ما يقارب فيتو على كمية ونوعية تسلّح الدول العربية؛ ثم استبعاد لاهوتي ورمزي تجسّدَ في بسط السيادة الإسرائيلية على مدينة القدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهذا بينما انطلقت في الوقت نفسه موجة إيديولوجية واسعة القاعدة تتكلم على الثقافة اليهودية المسيحية أو التراث اليهودي المسيحي. أتكلّمُ على موجة إيديولوجيّة لأن الأمر يتعلق بهوية مختارة ولها مضامين سياسية قوية، استيعاباً واستبعاداً. من يصدر عن تصور ثقافة يهودية مسيحية للغرب، يصعب أن يكون على مخاصمة سياسية لإسرائيل، ويغلب أن يعتبرها بالأحرى امتداداً للغرب، ورصيداً استراتيجياً له.

هناك اعتراض متسّع على الواقعة الإسرائيلية في الغرب، تزامنَ اتساعه مع صعود الموجة الإسلاموفوبية قبل أزيد من ربع قرن، لكن هذا الاعتراض لم يبلغ نطاق الفكر الأخلاقي والفلسفي إلى اليوم، ولا يزال أسير النطاق السياسي الإيديولوجي، مقصوراً على اعتداءات إسرائيل القاتلة على الفلسطينيين وليس على كيانها الإبادي. هذه شهادة غير طيبة بحق مثقفي الغرب. وما يبدو لي ناقصاً على نحو مشين في أدبيات الهولوكست الغزيرة هو توقف إداري عند ما جرى في المعسكرات النازية، وممانعة بالغة القوة للنظر في الحلّ النهائي للحلّ النهائي والإبادة الباردة. ولعل في خلفية ذلك رفضٌ عميقٌ للمساواة في الألم وفي الحق، للتفكير في مصير الفلسطينيين كاستمرار من نوع ما لمصير اليهود الأوروبيين على يد النازية، رفضٌ ثقافيٌ أعمق حتى من الرفض السياسي الخاص بالحكومات. كان يمكن لشجاعة أخلاقية من قبل المفكرين أن تسهم في الحدّ من انتشار الإسلاموفوبيا. ما جرى هو العكس، إذ يبدو أن الإسلاموفوبيا تتوافق مع ميل إلى التأمل بلا نهاية في الهولوكوست، مع توقف غريب عنده وتجاهل لما جرى بعده. ما لا يبدو أن مفكري الغرب يرونه هو أن الاستثناء الذي تجسّدَ في معسكرات الاعتقال والإبادة النازية استمرّ بصورتين مختلفتين في إسرائيل/ فلسطين: استثناء أعلى لإسرائيل واستثناء أدنى لفلسطين، استثناء من العقاب لإسرائيل واستثناء من الحماية لفلسطين، تدليلٌ لإسرائيل وإباحةٌ لفلسطين، استثناءٌ من المسؤولية للإسرائيليين واستثناء من «الحق في الحقوق» (حنة آرندت) للفلسطينيين، استثناء فوقَ سياسي لإسرائيل واستثناء تحتَ سياسي لفلسطين. وبقدر ما إن إسرائيل باراديغم شرق أوسطي للاستثناء، وأن حماية الأوليغاركيات العربية جنحت لأن تصير من مكونات الإسلاموفوبيا (كما سأُظهِرُ لاحقاً)، فإن نموذج الاستثناء الإسرائيلي صار مُتاحاً لتعامل دول أخرى في الشرق الأوسط مع محكوميها، الدولة الأسدية بخاصة.

من غير المتوقع أن تأخذ الفلسفة الغربية علماً بهذه العمليات والبنى، وتبني على العلم مقتضاه. التفكير في المسألة الإسلامية هي ما يقع علينا نحن القيام به، أعني الشركاء في العالمين والمخاصمين للقوى النافذة فيهما معاً. وقد نكون اليوم في وضع أنسب للقيام بذلك بالنظر إلى أننا ورثة صراعات وتجارب تتيح لنا الاعتراض على الإسلامية دون الاستناد إلى الاستبعادية الغربية، والاعتراض بالمثل على هذه الاستبعادية دون الاستناد إلى الإسلامية، القائمة على الاستبعاد والاستثناء بدورها. والاعتراض عليهما معاً على أسس تدافع عن المساواة محلياً وعالمياً، وتعترض على نظم الطغيان المحلية.

(4)

ما تقدّمَ عناصرُ مُحتّمة في أي جينيالوجيا للمسألة الإسلامية، وهي لم تستبعد يوماً تلاقيات سياسية ضد طرف ثالث. من هذه الأخيرة تغذية الأميركيين لـ«الجهاد الإسلامي» في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي في مطلع ثمانينات القرن العشرين، وقبلها أفكار مثل «الحزام الأخضر» الإسلامي حول الاتحاد السوفييتي، وجهد أميركي سعودي لاستخدام الرابطة الإسلامية ضد القومية العربية في ستينات القرن نفسه. إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بمبادرة سعودية عام 1968 كان يندرج في هذا السياق كذلك. وما تكلّمَ عليه وليّ العهد السعوي في آذار 2018 عن أن نشر الوهابية إنما جرى بطلب غربي في سياق الحرب الباردة يقعُ ضمن الإطار نفسه. ولا تزال اليوم أهم البلدان الإسلامية تابعة سياسياً واقتصادياً وأمنياً للمركز الإمبراطوري الغربي، فاقدة للاستقلالية والسياسة الذاتية على نحو يُنذرها بالتفجر إن حُرمت من التبعية.

إلا أن ما تُشير إليه تقاربات سياسية من فوق كهذه من ترابط غربي إسلامي مديد، لا يلغي أن وجهاً متفاوتَ الظهور من النفور والتباعد النفسي بين الغرب وعالم المسلمين صار ملمحاً ثابتاً للمسألة الإسلامية، يجعلُهُ محسوساً بصورة يومية واقعُ التفاعل الكثيف بين العالمين في عالم اليوم الواحد، بما في ذلك انتشار ملايين المسلمين في مجتمعات الغرب اليوم، في أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا، ومعاينة أعداد كبيرة من دبلوماسيين وصحفيين وخبراء وسواح وعسكريين من الغرب الأحوال عن كثب في عوالم المسلمين، وهي أحوال لا تغيظ عدواً.

هناك تقاربات سياسية بالفعل، لكنها لا تجري على أرضية من التحالف والاحترام، بل يبطنها احتقارٌ غير خفيّ من الجهة الغربية، وإن ظهر ذلك في وسائل الإعلام لا في تصريحات السياسيين. وقبل أن تظهر الإسلاموفوبيا مع نهاية الحرب الباردة، كانت هناك سابقة رضيّة تبدو منسية اليوم: الصدمة النفطية الأولى، 1974، التي تعممت إثرها المطابقة بين العربي والثري الخليجي، بزيّه الخاص وثرائه الفاحش وسفه إنفاقه وسقم ذوقه. الواقع أن هذا الأخير يصلح رمزاً لهزيمة العربي الذي كان يعرّف نفسه بصيغة قومية علمانية، وعلى يد إسرائيل والغرب بالذات، قبل سنوات قليلة فقط: حزيران 1967. «الصدمة» حاضرةٌ في الغرب، أما «الهزيمة» فلا. النسيان الإرادي والتذكر الانتقائي يقومان بواجبهما في صنع «الحقائق البديلة».

كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد يعرض استمرارية بعيدة الغور، عابرة للأزمنة، لجفاء غربي حيال الإسلام. قد يكون ذلك مُجادَلاً فيه، لكن نظرة غير وديّة لعالم الإسلام وجدت أسباباً للصمود والتجدد في حداثة أوروبا، لم يتحدَّها عصرُ التنوير وفكره وفلاسفته ولا القرن التاسع عشر، ولم تقاوَم إلا على نحو فردي ومتناثر. في زمن التنوير صار الإسلام عنواناً للتعصب والاستبداد الذي كانت أوروبا أخذت تتحرر منه، وفي القرن التاسع عشر، قرن التقدم، صار عالم الإسلام رمزاً للركود والتأخر و«الشرقية»، وسوَّغَت رسالة تحضيرية متعجرفة الغزوات الاستعمارية التي لم تكد صفحتها تبدأ بالانطواء حتى كان الحلُّ النهائي للحلِّ النهائي للمسألة اليهودية يُجدِّدُ شبابها على أسس جديدة. وخلال ثلاثة قرون تشرّب النظر الغربي إلى عالم الإسلام بروح تعالٍ جارحة (وإن تكن أحد أوجه التعصب الغربي العام الذي لا يفوقه تعصب)، كان لعدد محدود من المفكرين الغربيين اعتراضٌ مسموعُ الصوت عليها.

ومنذ نهاية الحرب الباردة هناك موجة عداء وتمييز لم تتأخر عن العثور على اسم: الإسلاموفوبيا. في جذور هذه الموجة تقاطعت تحولات متنوعة، منها صعود السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، وتراجع وظائف الدولة الاجتماعية وصعود سياسات الهوية؛ ومنها موجة إسلامية، «الصحوة الإسلامية»، كانت صاعدة وقتها، مطلع تسعينات القرن العشرين، وهذا في عالم عربي وإسلامي أخذت تحكمه، منذ سبعينات القرن نفسه، أي بعد جيل واحد من نزع الاستعمار ومن تحولات اجتماعية «تقدمية» وسيرورةِ علمَنَة، نخبٌ تجمع بين الطغيان والتخاذل والنهب الفاحش، منشغلة حصراً بدوامها الخاص؛ ولعلّ من تلك التحولات واقعةٌ مستجدة تتمثل في صعود الشعور الإسلامي بين مسلمي بلدان الغرب متزايدي العدد، ومنهم من كان بعضهم هناك طوال جيل أو جيلين وقتها، ومنذ أكثر من جيلين أو ثلاثة اليوم. امتزجت عند كثيرين منهم مشاعر التمييز بالغربة والاغتراب (بمعنى الاستلاب). المسلم المغترب بمعني الكلمة (الغريب والمغرَّب alienatedأو المُستبعد) في الغرب قد يتأسلم، يجد في الإسلام موطناً بديلاً.

يتمازج في مُدرَك الإسلاموفوبيا دالٌّ عائمٌ هو الإسلام مع انفعالات الكره والخوف. تعبير النفور بالعربية أوفى بالمراد من الكره والخوف، وبفضل ما يتضمنه من حركة ابتعاد وتجنّب، يحوز كذلك على بعد ديناميكي. لكن حتى لو أخذنا بالحسبان أن الابتعاد والتجنب غير ممكنين مكانياً في عالم اليوم، وأنهما يتحولان نسقياً إلى استبعاد وعزل، وإلى تراتب وتمييز متعدد الأوجه، فإن مفهوم الإسلاموفوبيا لا يفي بالغرض إلا كمنطلق. المشكلة في المفهوم أنه يُحيل العلاقة مع «الإسلام» إلى مجال السيكولوجيا الجمعية، ويُغفِل بنى مستمرة مديدة تتمفصل معها هذه الفوبيا. من هذه البنى النمط الحالي لسكنى العالم القائم على ترويض مُعمَّم للحياة والبيئة والأنواع الحيّة على الكوكب، حسب غسان الحاج الذي يرى أن الإسلاموفوبيا كأبرز أشكال العنصرية في عالم اليوم وأزمة البيئة وجهان لما يسميه أزمة نمط الترويض العام، تتصل بصور مختلفة ببنى الرأسمالية والاستعمار2. لكني أتكلّمُ هنا على بنى مديدة مختلفة، أقرب إلى عالم السياسة والصراع السياسي، سأتناولها في الفقرة التالية.

2. Ghassan Hage. Is Racism an Environmental Threat?

(5)

المسألة الإسلامية هي الترابط التاريخي بين الإسلامية (على نحو ما تتجسد في ظهور الإسلام السياسي، ثم الحربي أو «الجهادي»)، وبين الإسلاموفوبيا مفهومة كعنصرية ضد المسلمين حسبما عرفها تقرير3 أصدرته منظمة RUNNYMEDE البريطانية عام 2017.

3. Islamophobia still a challenge for us all. Edited by Farah Elahi & Omar Khan

والتقرير الذي لا يكاد يذكر الإسلامية بشيء يشير غير مرة إلى «الإرهاب»، ويطالب بسياسات منضبطة بشأنه لا تُفرد المسلمين عن غيرهم. لكنه يغفل الإشارة إلى الصراعات الحديثة الكبرى التي تبطن الإسلاموفوبيا والمسألة الإسلامية. وهو في ذلك وفيٌّ للتراث الذي تقدَّمَت الإشارة إليه: من يتناول الإسلاموفوبيا لا يتكلم على الإسلامية، والعكس بالعكس.

على نحو غير منعدم السوابق في تاريخ القوى الغربية المسيطرة، تضع المسألة الإسلامية هذه القوى في تقارب مع نُخَب حُكم محلية عرضت تحولاً أوليغاركياً عميقاً من سبعينات القرن العشرين في مواجهة كل أشكال الاعتراض الاجتماعي والسياسي، بما فيها نزعة إسلامية سياسية أخذت تجد صدى لدى قطاعات متنوعة من جمهور شعبي، احتجاجاً على التحوّل الأوليغاركي وطلباً للسياسة. للإسلامية عمقٌ اجتماعيٌ مُتبدل يتراوح بين قطاعات من السكان تبحث عن تعبيرات سياسية ولا تجدها في عالم الدولة فتجد أقرب بديل في عالم الدين، إلى قطاعات مهمّشة تحلم بالإمارة، وقد تُمِدُّ «إدارة التوحش» بما يلزمها من عتاد بشري. يبقى هذا العمق محدوداً في تصوري (سقفه دون 20% ممن يحق لهم التصويت من السكان على ما أظهرت الانتخابات المصرية بعد الثورة، وقبلها الانتخابات التونسية)، لكن الاستبعاد السياسي المنظم والمديد حال دون كشف هذه المحدودية، فأخذت الإسلامية تبدو شبحاً منتشراً، لا جسم له إلا أن يكون جسم «الأمة» على ما يفضّلُ الإسلاميون بالذات تصوير أنفسهم، وربما تشاركهم هذا التصوير نُظُم الأقلية وعملاؤها الإيديولوجيون، وعلى الأرجح أيضاً مُخاطَبوها من مبعوثين دبلوماسيين وأمنيين غربيين. هؤلاء الأخيرون يعتمدون في معلوماتهم على «الدولة» ولا يجدون في أنفسهم وفي مصالح بلدانهم ما يدعوهم للتشكك في روايتها. وما أخذت تجده الإسلامية السياسية والعسكرية من امتدادات في بلدان الغرب، أسهمَ في صنع قضية مشتركة مع الأوليغاركيات.

وترتسم على هذا النحو بنية سياسية ثلاثية، تتقابل فيها القوى الغربية (ومعها في هذا الشأن إسرائيل) والدول الأقلوية المحلية والمجموعات الإسلامية، وهو ما يُقصي غير الإسلاميين في مجتمعاتنا، فيصيرون غير مرئيين، بل غير موجودين.

وإنما لذلك يبدو أن مفهوم الإسلاموفوبيا لا يصلح للإحاطة بهذا الوضع، فهو يُخفي أبعاداً خارج الغرب للمشكلة. كان يمكن لتعبير مناهضة الإسلامية أو الأنتي إسلامية أن يكون بديلاً مناسباً لولا أنه قد يُفهَم كمناهضة للإسلاميين حصراً، مما هو موقف سياسي شرعي، وقد يكون موقفاً صائباً جداً. أفكّرُ في ثلاثة وقائع أساسية، يقتضي تمثيلها المفهومي شيئاً أقرب إلى أنتي إسلام مفهوماً كعالم اجتماعي وسياسي متطلع للاستقلال وتمثيل الذات. الواقعة الأولى هي الإسرائيلوفيليا، أي احتضان إسرائيل وحمايتها وكفالة أمنها وإعفاؤها من القانون الدولي وضمان حصانة مسؤوليها مما يرتكبون من جرائم. هذا تدليلٌ تستجيب له إسرائيل بمزيد من الدلال. ومن يدفع الثمن هم الفلسطينيون، لكن كذلك السوريون واللبنانيون ومحيطٌ عربيٌ أوسع وُضِعَ تحت الرقابة الغربية كيلا يهدد «أمن إسرائيل». الواقعة الثانية هي دعم الأوليغاركيات العربية، ليس حبّاً بها بالضرورة، ولكن ضبطاً للمجتمعات المحكومة وكرهاً لنزعات استقلالية غير مضمونة ولحياة سياسية تنقل العلاقة مع القوى الغربية من الأمني والسري إلى السياسي والعلني. هذه الواقعة الثانية وضعت القوى الغربية في موقع معادٍ للديموقراطية في بلداننا. فإذا أضيفت إليها عقيدة حماية الأقليات والإسلاموفوبيا، وضعتها كذلك في موقع داعم بنيوياً للطائفية ومُعادٍ من وجه آخر للديموقراطية. والواقعة الثالثة هي «الحرب ضد الإرهاب»، والعدو الشرير فيها هو الإسلامية تحديداً. لدينا هنا مثلثٌ رؤوسه قوة «خيِّرة وديموقراطية» هي إسرائيل، و«شرٌّ أصغر» أوليغاركي يتراوح بين أن يكون موالياً للغرب أو غير معارض له، و«شرٌّ أكبر» إسلاميّ.

وبالمضمون المُقترح لها هنا، تُبينُ هذه النزعة العدائية لماذا نعتبر أطراف المسألة الإسلامية أربعة اليوم: القوى الغربية، إسرائيل، أوليغاركياتنا الحاكمة والإسلاميون.

(6)

ليست الإسلامية حلاً للإسلاموفوبيا، وليس التمييز ضد المسلمين ومراقبتهم حلاً للإسلامية. لا تفكّرُ الإسلامية بنفسها كجزء من مشكلة أكبر، ويفضّلُ الإسلاميون التركيز على ما يتصل بالإسلاموفوبيا من ظواهر تمييز يطال مسلمين، لأنه يلقي كل مسؤولية خارجهم. هذا يحميهم من التفكير في نصيبهم من المسؤولية عن الأوضاع الكارثية الحالية في مجالنا من العالم، وفي رفع منسوب النزعة المحافظة عالمياً. التمييز حقيقي، لكن تواجهه الإسلامية بتمييزٍ مضاد، لا بدفاعٍ عن تصور مُتسق للعدالة أو بالشراكة مع آخرين مختلفين. ومرة أخرى أعتقد أن في جذر ذلك مُركّبُ المظلومية والإمبراطورية، حسٌّ بالعدالة الذاتية بسبب وضع الضحية وحسٌّ بالتفوق بفعل الدين التوحيدي والميراث الإمبراطوري، هما معاً سوران منتصبان يحولان دون التعلم من الغير وتقمّص الغير.

ومما يُفاقم خلوَّ تفكير الإسلاميين من الطرافة والابتكار القطيعةُ مع الفلسفة والإنسانيات، وبقدر كبير مع الأدب والفن (بقدر ما هما يدوران حول تجارب الذات وصراعاتها). توفِّرُ الإسلامية بالمقابل «علماً» ناجزاً يسهل «ختمه»، لذلك فهي تجتذب إلى عالمها الفكري والأخلاقي الضيّق من يرتاحون لعلم، وعالم، متناهيان، وليس من لا يكفون عن التعلّم فيوسعون عالمهم بلا نهاية. بعبارة أخرى، تجتذب الإسلامية من يختمهم «العلم» ويغلقهم عن العالم ويغنيهم عن تعلّمٍ مفتوح، وهذا من مصادر فقر الفكر الإسلامي، وأرجحية وزن «خاتمي العلم» المتعصبين على المتعلمين وطالبي المعرفة من منفتحي العقول. وبدل معرفةٍ تتجدد بعالم يتغير، تجمع الإسلامية بين الديْن الذاتي (لا ندين لغيرنا، فلا نشكر غير أنفسنا) وبين إدانة الغير. ومن إنكار الديْن الغيري وإدانة الغير يتكون دِينُ الإسلامية المعاصرة النرجسي والعابد للذات.

ولا يبدو أن هذه المشكلات الكبيرة تستوقف الإسلاميين الذين إذا انتُقِدوا انكفأوا على أنفسهم واعتبروا ذلك دليلَ عداء وإسلاموفوبيا، وإذا لم يُنتَقَدوا ثابروا على تكبّر جاهل تسبّبَ بكثير من الأذى في مجتمعات المسلمين، بما في ذلك لهم هم.

وبفعل هذا التكوين تَعرِضُ الإسلامية على اختلاف تياراتها نزعة انعزال ورهاب من العالم، تحمي بهما استقرار عالمها الضيّق، لكنه يحول دون أن تشعر بالغير وأن تشارك في نقاش مع أي غير حول مستقبل العالم. لا يستقيم نقد الإسلاموفوبيا دون نقد متكرر لغربوفوبيا الإسلاميين، التمييزية بدورها والعدائية وغير العادلة.

في الشأن الفكري والأخلاقي تعرض الإسلامية على نحو ما رأيناها في سورية ومصر، وقبلهما في العراق وأفغانستان، فشلاً كارثياً. ولعل من جذور ذلك أن التفكير الإسلامي فقد اتساقه السابق وتوازنه بأثر التجارب الحديثة الراضّة من استعمار ورأسمالية وحداثة تعليمية ومؤسسية وقانونية، دون أن يطوِّرَ بفعل نزعته الدفاعية وتكبّره اتساقاً جديداً. يقتضي ذلك من كل بدّ إعادة هيكلة المعتقد الإسلامي بما يصون قيمه الأساسية (التوحيد، العدل، الأخوة، عمران الأرض…)، ويُتيح للمسلمين الرسوخ في العالم إلى جانب غيرهم. لو حدث هذا، وما كان ممتنعاً كل الامتناع أن يحدث، لصارت الإسلامية قوة نهوض اجتماعي وأخلاقي وسياسي، ولأُعِيدَ تأويل تاريخ الإسلام كلّه وفق الهيكلة الجديدة التي كانت ستُرى بأنها تحقّقٌ أصيلٌ لوعود الإسلام التي لم تتحقق بفعل عوادي الزمن.

انهار عالم الإسلام التقليدي ولم تتجاسر الإسلامية على المبادرة الفكرية والأخلاقية في عالم مغاير ومتغيّر. ما فعلته هو إنكار الحداثة إيديولوجياً والتشكّل وفقاً لها واقعياً. من ذلك مثلاً تقرير أن القرآن هو الدستور (وليس أي دساتير تضعها جمعيات تأسيسية أو أطقم انقلابية، أو سلاطين محدثون)، الشريعة هي القانون («شرع رب العلمين» وليس «القانون الوضعي»)، الحاكمية الإلهية هي السيادة (وليس حاكمية البشر)، القرآن معجز علمياً (وفيه كشوف العلم الحديث قبل العلم الحديث)، الإسلام هو الحلّ (وليس «الحلّ الاشتراكي» أو «الحلّ الثوري»، وهي تعابير كانت شائعة في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، وعلى وزنها أيضاً كان رائجاً «الحلّ السلمي» المرفوض)، وقائدنا إلى الأبد هو سيدنا محمد (وليس «الأمين حافظ الأسد»)… وكلها مبنية على مقدمة كبرى مُضمرة مستمدة من تنظيمات العالم الحديث أو من سقط متاع الدولة السلطانية المحدثة. للوهلة الأولى، قد يبدو أن المُبادِرَ في هذه القضايا هو الشيء الإسلامي: القرآن، الشريعة، الله، النبي… ولا بحال من الأحوال. بل المبادرة لتنظيمات معاصرة لا يتجاوز فكر الإسلامية صبغها بصبغة إسلامية، إنقاذاً لكبرياء كُبرائه (وليس كرامة دين المسلمين، والمسلمين أنفسهم). في مواجهة إحراج الحداثة، يردّ الإسلاميون بمنطق فرويدي: أولاً، لا يلزمنا حكم دستوري وقوانين…؛ ثانياً لدينا كل ذلك سلفاً! ثالثاً، أصول الحكم الدستوري والقانون والعلم… كلها من عندنا! على هذا النحو التلفيقي، فَقَدَ التفكير الإسلامي كل أصالة، وإن ثابر على التغني بها، وصار مزيجاً من التحايل والحربائية، مع علو الصوت بغرض حجب التخاذل وانعدام الشجاعة. ودوماً مع انشغال مفرط بظواهر السلطة وليس بحياة الناس. لا يجري مثلاً التفكير في الغرب كمجتمعات مكونة من ملايين الناس المنشغلين بحياتهم، الذين طوروا مرافق كثيرة نافعة لجميع البشر، بل حصراً كقوة أو قوى معادية.

وبأثر تشكلها وفق الحداثة وفقدانها الجذري للأصالة، تُشكِّلُ الإسلامية ضرباً مما كان سماه أوزفالد شبنغلر «التشكُّلَ الكاذب»، تشكلٌ في قوالب خارجية ووفق منطق خارجي، يُفرِغُ الميراث الإسلامي من محتواه الرمزي والأخلاقي والروحي المتشكل عبر القرون، ويصبّه في قوالب السلطة التي هي الشكل المسيطر للحداثة في مجالنا. نحن هنا حيال ضرب من انسلاب الروح لا يُتيح للتفكير الإسلامي التطور ولا للروح الإسلامية السلام، ولا هو يضيف شيئاً إلى الحداثة الحقوقية والسياسية والفكرية الغربية.

وما يبدو لي مقياساً للتشكّل الكاذب هو امتناع التشكّل في تقليد أو تراث حي. الإخفاق الكبير لحداثتنا غير الدينية يتمثل في عدم تشكلها في تقاليد حية، في عوائد ومسالك تكرارية، في قوانين وأعراف وقواعد مستقرة، أي بكلمة واحدة ثقافةٌ من شأنها أن تُتيح لمن يتماهون بها تشكيلَ مجتمع وسكنى العالم. ليست هذه حال الحداثة في الغرب، فهي نظام وقواعد وتقاليد، ثقافة (تبدو اليوم في تخلخل وضياع). على أن الإسلامية تسجل لحسابها فشلاً مماثلاً لفشل حداثتنا، هو ما يسبغ عليها صفة الاعتباط المحض والعشوائية المنفلتة من عقالها. ليس أنه لا قواعد هناك، لكنه يجري التلاعب بها في كل وقت، وتقوم الأفعال على الاستثناء المستمر، على الانفلات النشط من قواعد يمكن أن يحتكم إليها الضعفاء. السنة التي يتكلم عليها عبد الله العروي في «السنة والإصلاح» لم تعد تطحن الحدث فتلغي حدثيته وتصون دورانها حول ذاتها؛ صار «السنيون» بالذات، أعني عاملو التسنين من شرعيين ومجاهدين ووجهاء الطائفة، حدثاً طاحناً لكل سنّة، لا تضبطه قواعد من أي نوع، إداريو توحش ومبدعو تعذيب وقتلةٌ سعداء، ولم تعد السنّة غير رمز أو ماركة تغليف لحدث «إدارة التوحش».

وفي أصل الاستثنائية المستمرة ذاتٌ ناميةٌ لا تطيق أي تقييد لسلوكها، طائفة الإسلاميين. وهي في ذلك مثل البرجوازية الجديدة الأسدية تماماً، لا يتعارض كيانها بالذات مع قواعد مطردة فقط، وإنما هي تحتاج إلى حالة استثناء ديناميكية، استثناء من الاستثناء، لا تكفّ عن انتهاك ما يحدث أن تضعه هي بالذات من قواعد. في الحالين هناك ذات سريعة النمو، غولية، فتّاكة، تستهلك البشر والحياة والعالم، دستورها الاعتباط، ويتعذّر أن تتشكل حياة قانونية على غير جثتها.

(7)

وبحكم «التشكّل الكاذب» والانفلات خارج وضد أي تقليد حيّ، تسهل معاينة ضمور مبدأ الأخلاقية في الإسلامية، والظهور الشحيح للفرد الأخلاقي على أرضية تكوينها. هناك من جهة جفاف في المنابع الروحية تحت وطأة إهمالها لمصلحة السلطة المعبودة، وهناك من جهة ثانية تحول إلى طائفة مغلقة في وقت ظهور العالم المفتوح على بعضه، والحاجة الملحة إلى أخلاقية عالمية والتزامات عالمية، أو أقله الانخراط في النقاش حول عالم اليوم.

دون أن يفكروا بالله أو يطوروا علم كلام جديد، الإسلاميون المعاصرون إلهيون وليسوا إنسانيين، يفكرون بأنفسهم كمنفذين لتكليف ربانيّ عالٍ على البشر، يسوِّغُ لهم إكراه الناس عليه إن لم يستجيبوا طواعية. والإكراه بأمر إلهي غير مُفكَّر فيه وغير مُساءَل لأنه مُشرّع لسلطة لا تُساءل هي ذاتها، هذا الإكراه يُبيح الحياة البشرية والكرامة الإنسانية على ما يصادق عليه سلوك إسلاميين متنوعين في سورية بين 2013 و2018. وما شُوهِدَ في سورية يبدو مندرجاً ضمن نسق متكرر، سبق أن شوهدت نظائر له في الجزائر والعراق وغيرهما، بما يسوّغ القول إن الإسلامية لا تضمن فعل الخير، وإنما هي توجه نحو فعل الشرّ بضمير مرتاح، أي بالفعل أسلمة الشرّ. أفعال القتل والاستيلاء على الملكيات والتعذيب والإذلال والخطف والتغييب والاستعباد والسبي والاغتصاب ومُلك اليمين تُباحُ بفتاوى دينية. أسلمة الشرّ على هذا النحو المتسق المتكرر والمديد تشرِّر الإسلام أو تجعل من الإسلام شراً، دون أن تُواجَه إلى اليوم بانتفاضة فكرية وأخلاقية كبيرة تتولد عنها إسلامية أخلاقية، تقتضي حتماً مواجهة دين الإكراه وإله الإكراه.

بل إن نموذج الإسلامي المنتشر الذي رأيناه في سورية يثير تساؤلات حول ما إذا لم يكن الضمير الشخصي تشكلاً تاريخياً محتملاً، يمكن أن يوجد أو لا يوجد. إسلاميو داعش وجيش الإسلام وجبهة النصرة وغيرهم يبدون متحررين كلياً من مُساءلة الذات، ومزودين بضمير خارجي، في صورة الشرعي أو المفتي، يسوِّغُ لهم جرائم متفننة. هذا تشكيل ممكن للإنسان، هو ما يصح تسميته هوموإسلاميكس، ومن هذا الكائن المكفهر تتشكل طوائف الإسلاميين العابدة للسلطة، والتي تستمر في التقاتل فيما بينها وتطهير مراتبها الداخلية إلى أن تقضي على نفسها والبيئات الاجتماعية لانتشارها.

لم تكن الإسلامية المحاربة، على ما شهدناها في سورية بخاصة، سنداً للمجتمعات المحلية، وعلاقتها بها لا تشبه بحال علاقة حزب الله مثلاً بالشيعة اللبنانيين، رغم أن هذا المثال بالذات كان حاضراً في تصور بعض تشكيلاتهم لنفسها ولدروها، جيش الإسلام في دوما والغوطة الشرقية مثلاً (كان زهران علوش يريد أن يحكم سورية أو أن يكون حسن نصر الله السوري). لكنه كان أقرب شيء إلى عصابة إجرام مؤذية، حطمت المجتمع الدوماني بالذات بسجونها التي يجري فيها التعذيب والقتل، وبنظام من التجسس والاغتيالات والخطف والتغييب تمرّست به. وفي مجملها ظهرت الإسلامية المحاربة آلة قارضة للمجتمعات، ضرباً من «عضّاضة» (كماشة معدنية) هائلة، من الصنف الذي استخدمته داعش لعض أثداء النساء وأقفيتهن في الرقة، عقاباً على أشياء متنوعة، منها إرضاع أطفالهن في أماكن يمكن أن يراها جواسيسها. العضّاضة الإسلامية أسهمت إلى جانب العضّاضة الأسدية في إنتاج مقادير هائلة من اليأس والكراهية والألم. ومثل الأسدية لم يخرج من صفوفها أصوات مُسائلة للنفس، تتساءل: ماذا فعلنا، وتتقصى أصول أفعال الإجرام في تكوين الظاهرة ووعيها لذاتها.

ونجازف بالتكرار بالإحالة مجدداً إلى مركب المظلومية/ الإمبراطورية، لكن هذه المرة من زاوية ما ينطوي عليه من مُجانبة هائلة للتوفيق. هذا المُركَّبُ المنحوس من جنون العظمة وجنون الاضطهاد ينبغي أن يدلّ على سحب الرضا الإلهي عن المسلمين إذا تكلمنا بلغة لاهوتية، بل على لعنة إلهية. ولقد فاقم المنزع التمييزي للإمبريالية الغربية الحديثة والمعاصرة فقدان الصواب في بيئات إسلامية، قادها الفشل المتكرر في الردّ على التفوق الغربي إلى مَنازِعَ انتحارية آذت الغرب بعض الشيء، وآذت مجتمعات المسلمين كُلَّ الشيء.

وبقدر ما إن الضمور الفكري للإسلامية متولدٌ عن مركب مظلومي إمبراطوري، وعن فقدان للشجاعة الأخلاقية أفقد بدوره الإسلامية الأصالة والطرافة، فقد تولّد عن ذلك مركب إضافي وخيم: الابتذال المأساوي أو التفاهة المأساوية، الخلو من الطرافة والاستعداد للإبادة، تفاهة التفكير ودموية الأفعال.

وما نحصل عليه من اجتماع دموية الأفعال وتفاهة الأفكار هو تبذيل الجريمة، وانعدام الخجل أو الحياء. لقد جعل إسلاميون كثيرون، منتشرون في بلدان كثيرة، من الشرّ ممارسة يومية مبتذلة. شرُّهم أقلّ بيروقراطية من آيخمان والنازيين دون شكّ، لكن مزيج اليقين الفقير والابتذال الوفير ينطوي على طاقة شرّ كامنة عالية جداً. المظلومية والشكوى من الاضطهاد والإسلاموفوبيا ضروريان جداً لتجنّب مُساءلة النفس عن هذا المركب الوخيم. لكنهما ضروريان أيضاً لاقتلاع جذور الخجل من النفس، وبالعكس الاعتزاز بالإثم. النفس التي صفّحتها المظلومية والعتو التوحيدي الإمبراطوري «طق شرش الحياء» عندها فلم تعد تستحي من شيء. لا التزام لديها إلا حيال الطائفة، وكل جريمة بحق الغير مُباحة.

وفي هذا ما لا يعطي غير صورة منذرة عن مآلات المسألة الإسلامية. كان يمكن للصراع بين الإسلامية و«الغرب العميق» أن يكون صراعاً بين باطلين، كوميديا في تعريفها الأرسطي، لولا أن هذه «الكوميديا الإبراهيمية» باهظة الكلفة منذ اليوم، ولا تبدو مرشحة لغير انحدار مديد في بربرية أشدّ كلفة.

(8)

تتراكب في الإسلام المعاصر مشكلات دينية غير طائفية ولا تعود إلى وضع جماعة أو جماعات المسلمين في الدولة والإطار الدولي الحديث، ومشكلات طائفية غير دينية تتصل تحديداً بهذا الوضع. من المشكلات الأولى ما هو أخلاقي حقوقي وسياسي، قائم في المعتقد الإسلامي بالذات، مثل أوضاع تمييزية شبه عبودية للمرأة، ومنها ما يتصل بحرية الاعتقاد الديني، ومنها ما يحيل إلى «الحدود» وعقوبات جسدية ماسة بالكرامة الإنسانية والتكامل الجسدي للمستهدَفين بها، ومنها ما يدعو إلى قتل «المشركين». هذا فضلاً عن مشكلات كلامية تتصل بتصور الله والوحي، ومشكلات أخروية أو مَعَاديّة تتصل بتصور اليوم الآخر والنعيم والجحيم. الفكر الإسلامي أظهر تخاذلاً مشيناً في تناول هذه المشكلات وتغطيتها فكرياً وقيمياً على نحوٍ كان يمكن أن يُتيح للمسلم المؤمن أن يعيش إيمانه دون تناقضات كبيرة. وبفعل هذا التخاذل يحتلّ التناقضُ كيانَ المسلمين. فإما يؤمنون بالمتوراث كما هو، ما يقتضي منهم مقاطعة عالم اليوم وتكفيره والرغبة في تدميره، أو ينفتحون على ثروات عالم اليوم الفكرية والأخلاقية والعلمية فينقلبون على عالمهم الاجتماعي والثقافي كله وليس على الدين وحده، أو أخيراً يجمعون بين هذا وذاك مُسلمين نفوسهم لازدواجية شالّة وغير أخلاقية.

ومما يثبت هذا الانقسام المشكلةُ الأخرى، الطائفية، أعني التنازع بين الجماعات الاعتقادية وتنافسها على السلطة والموارد، وهذا على النطاق المحلي والعالمي. الطائفية هي تمييز سياسي بين الجماعات في نطاق الدولة، يقترن بتراتب ضمني أو صريح بينها، وبأجواء من حرب أهلية باردة تتفجر ساخنة بين حين وآخر، ثم بكيد وعدم ثقة وسوء نية وقلّة احترام. وهو ما يوفر جسر اتصال متيناً بين الطائفية في بلداننا والإسلاموفوبيا. الظاهرتان من الصنف نفسه: التمييز المتصل بالدين أو المذهب، والمؤسس لتراتب يمتد إلى المجالين الاجتماعي والسياسي. فإذا كانت الإسلاموفوبيا هي العنصرية المضادة للمسلمين، وكانت الطائفية تمييزاً مرسخاً سياسياً، تحل فيه رابطة المعتقد محل العنصر، أمكن القول بالقدر نفسه من الشرعية إن الإسلاموفوبيا طائفية مضادة للمسلمين، وأن الطائفية ضرب من التمييز العنصري.

لكن أثر المشكلة الطائفية يتجاوز ذلك. وقد يتمثل أسوأ آثارها وأكثرها خفاءً في أنها تَحول دون الشغل على المسألة الدينية أو تغذي التخاذل في تناولها. في حقل سياسي يسوده سوء النية والتنازع والتنافس غير الشريف، تذهب معظم الجهود إلى الدفاع عن الرابطة المعتقدية للجماعة والتكتم على المشكلات العقدية المحتملة، أو التفرغ لإبراز المشكلات المعتقدية عند الجماعات المنافسة. ومع ترسّخِ هذا المسلك، ونحن في سورية ولبنان والعراق وربما مصر منذ عقود في مستنقع لا يغذي غير مسالك مماثلة، تتصلّب النفوس ضد بعضها، وتنحل المشكلات الدينية تماماً في المشكلة الطائفية. وقد ننتهي إلى نوع من النسبية الطائفية إن جاز التعبير، حيث يجري تمييع كل مشكلة يجري تناولها بالإحالة إلى مشكلة مقابلة عند الخصوم. فإذا ذُكِرت جرائم النظام في سورية جرى الرد بذكر جرائم إسلامية تاريخية أو معاصرة، وإذا قيل شيء بخصوص السنيين أو الإسلاميين جاء الرد بقول شيء عن العلمانيين أو عن المسيحيين أو العلويين، وإذا قيل إن فلان سيء، وُجد له مقابلٌ سيءٌ من طرف مقابل. يجري على هذا النحو تطبيع استقطاب عدائي سلبي، واستحالة قول شيء مفيد عن أي شيء، ويحل التعريض محل التفكير، والتعصب الطائفي محل التجرد والثقة، ويغرق النقاش كلياً في سوء النية وسوء الظن وقلّة الاحترام. هذا وجه من أوجه حربنا الأهلية لم يبدأ بالظهور مع الثورة، لكنه تكرّسَ بعدها وصارت الحرب منطق تفكير وسياسة وهوية ووجود.

هذا الشرط الطائفي ليس مستجداً بحال. لقد ولدت الإسلامية قبل أقل من قرن في حقل صراعي مستقطب بشدة، يسوده التنازع والصراعات السياسية على مستوى دولي متداخل مع المحلي، وضمور الديني ومعه الأخلاقي مدوَّنٌ في هذا الميلاد الذي قضى بالمقابل بصعود السياسي والطائفي. أتكلم على ضمور ديني مَنشئُهُ غلبةُ النزعة الدفاعية وتكريس جهود كبيرة لها، وضمور أخلاقي ناشئ من جعل المعتقد أو الناطقين باسمه ضميراً، والإشفاق في الحالين من تناول ما ينال من تماسك الجماعة التي تضعضعُ «الحداثةُ» تماسُكها. لكن هذا المسلك مرة أخرى متخاذل ومفتقر للشجاعة، ولا يصون التماسك المتضعضع فوق ذلك. كان ولا يزال من الأجدى التصدي للمشكلات الدينية كما لو أنه ليس هناك طائفية ولا إسلاموفوبيا، بل كان من شأن ذلك أن يُسهم في الردّ عليهما، وجزئياً على الأقل في إبطالهما. ولعلَّ أقرب مثال إلى ذلك ما يقوم به الدكتور محمد شحرور، وإن أمكن المجادلة بخصوص تعسّف تأويلاته وصدوره عن عدالة نهائية للنص الديني ومطابقته مع تصور ما هو عادل اليوم. (ليس كاتب هذه السطور مختصاً، لكن يبدو أن هناك منطقان جذريان صلبان للإصلاح الأخلاقي والديني في الإسلام. أولهما أن الخلق من الخالق والأخلاق من الإنسان، فكل ما هو أخلاقي في المتون الدينية يجب أن يعتبر إنسانياً، قابلاً بالتالي للتطوير والإلغاء والتجاوز، وكل ما هو خلقي لا يجوز المساس به كالتدخلات الجينية في تكوين الإنسان، والحياة؛ ويترتب على ذلك، وهنا المنطلق الثاني، أن ما في «الشريعة» من أحكام اجتماعية وقانونية وسياسية تاريخي كلياً، وبحكم اللاغي اليوم).

وبدروها تسهم المشكلات الدينية في الحيلولة دون تناول المشكلات الطائفية والإسلاموفوبية، وتحديداً عبر الميل إلى اشتقاق هذه المشكلات الأخيرة من المشكلات الدينية. كأن تُشتق الطائفية من حرية الاعتقاد الديني أو بالأحرى من غيابها، أو أن سبب الإسلاموفوبيا تديّنُ المسلمين أو حجابُ المسلمات. هذا بالمناسبة يقترب من تصور الإسلاميين أنفسهم من أن مشكلات الطائفية والإسلاموفوبيا هي كيدٌ للإسلام كدين، وليست شيئاً متصلاً بالصراع الاجتماعي والسياسي على النفوذ والسيادة والثروة والظهور العالمي. وفقاً لهذا التصور، وسواء كان منشأه «علمانياً» أم دينياً، لا تعود ثمة مشكلات تمييز محلية ودولية، ونغرق في صراع الأديان و«الحضارات»، ولا يكون الصراع الطائفي غير صراع بين أديان حقيقية وأديان باطلة.

(9)

قد يمكن تمثيل وجهي المسألة الإسلامية بشخصين رمزيين مجردين، لهما منذ الآن سجل رهيب: «المسلم» (Muselmann)، الجثة التي تسير على قدمين، في معسكرات الاعتقال النازية، ثم «الإرهابي الإسلامي» اليوم، الذي هو منذ ربع قرن على الأقل المعتقل السياسي العالمي (كان الشيوعي والمناضل ضد الامبريالية في وقت سبق). نذكر مَشاهد «الإرهابي» بزيّه البرتقالي وقيده الثقيل في سجن غوانتانامو الأميركي، بعد أن كان إخوانه قد أطاحوا ببرجي نيويورك. صنع الأميركيون رمزاً عالمياً. الأول، الموزلمان، لم يكن على دين الإسلام، كان يهودياً غالباً، لكنه كان في أوروبا رمز الاستسلام المطلق، ميت قبل أن يموت؛ والثاني مسلم وليس إلا مسلماً، وهو اليوم رمز التمرد المطلق، يعيش كي يموت. كان المسلم لا يكاد يوجد في آوشفيتز إلا كي «يُختار» بعد قليل، فيُقتَل بالغاز ثم تُحرق جثته، ولا يختلف عنه الإرهابي في قربه من الموت، لكن هذا يَقتل ويُقتل، وفي عمليته الرمزية الأكبر في نيويورك جعل من مقتله فعل قتل للعدو المتصوَّر. مسلم آوشفيتز هو المرحلة قبل الأخيرة من الإبادة، إنه «المنبوذ»، الرمز الأقصى لـ«الحياة العارية»، إن استعرنا من لغة جيورجيو أغامبن، والإرهابي منبوذٌ كلياً خارج السياسة، والإبادة هي النهج الوحيد المعترف به حياله4.

4. من أجل «الموزلمان»، يُراجَع كتاب أغامبن: Remnants of Auschwitz، ص 40-86.

وما سبق قوله عن أن من يعترضون على الإسلامية يتغافلون عن الإسلاموفوبيا، ومن ينتقدون هذه لا ينتقدون الإسلامية، نجد نسقاً محاكياً له هنا أيضاً: في سياق أوروبي وغربي، قلّما يُستذكَر «الموزلمان» حين يُفكَّر بالإرهابي، هذا المنبوذ المعاصر لنا، المنذور للإبادة، الذي لا يمكن إدخاله في السياسة. ثم إنه قلّما يُفكَّر بـ«الإرهابي» عند استذكار «الموزلمان». لعله يُخشى من إقامة صلات آثمة بينهما، رغم أنه في كليهما تتمازج الإسلامية والإسلاموفوبيا. يروي غيل أنيدجار الذي أشرت فوق إلى كتابه اليهود، العرب: تاريخ للعدو، أنه في العبرية لا تترجم كلمة muselmann الألمانية إلى مسلم، بل تنقل بصيغتها الألمانية المُعمّاة: موزلمان. ويروي أن طالبة إسرائيلية له عرفت من حديثه عن آوشفيتز عن «المسلم»، فسألت جدها، وهو ذاته ناج من آوشفيتز، عن «الموزلمان»، ولماذا لم يقل لها إن الكلمة تعني المسلم. الطالبة روت لأنيدجار أن جدها انفجر في نوبة حنق لم تشهد مثلها من قبل، وأصرّ بقوة على أن الكلمة لا تعني ذلك، وأنها لم تعن ذلك قط (تُنظَر مقابلتان مطولتان مع أنيدجار على هذين الرابطين: المقابلة الأولى، المقابلة الثانية).

أستعيرُ هذه الطُرفة المأساوية من أنيدجار للقول إن «مسلم» آوشفيتز موضع كبت اقتضته شرعية الكيان الإسرائيلي الذي يحيل كل مقاومة له إلى مجال الإرهاب، هذا الذي يواجَه حصراً بالحرب والإبادة، بالضبط بذريعة أن هذه المقاومة تهديدٌ بإبادة اليهود.

معلوم أن «مسلم» معسكرات الاعتقال النازية كان أحد «الآثار الجانبية» لإبادة اليهود التي كان يُفترض أن تقضي عليهم جميعاً، والتي انفتحت خلال سنوات قليلة على النكبة، وعلى «المعجزة الإسرائيلية». ومن المحتمل أن ما يخشاه الشيخ اليهودي الناجي من آوشفيتز هو أن معسكر الإبادة النازي جعل اليهودي مسلماً على المستوى الرمزي، أو جعل المسلمَ الاسمَ الرمزيَّ لليهودي الموشِكِ على الموت، بينما صار المسلم الحقيقي ضحية للضحايا السابقين على ما قال إدوارد سعيد يوماً. فكرة أن ذلك «المسلم» ظلَّ حيّاً رغم كل شيء، لكنه لا يزال يموت في فلسطين وإسرائيل، هي بحسب أنيدجار نفسه، مستحيلة ولا تطاق.

ثم لا ننسى أن «الإرهابي»، مُمثلاً بداعش، حرص على زي برتقالي لضحاياه من غربيين وقعت يده عليهم قبل قتلهم الشنيع. كان يقلب الأدوار، ويصنع غوانتاناموه الخاص. هو ذاته عدمي، رافضٌ للسياسة والنظام الدولي، والحرب منهج وجوده الوحيد.

في ذلك أيضاً ما يقيم استمرارية بين غوانتانامو وداعش، لا يريد كثيرون رؤيتها.

وتمثيل المسألة الإسلامية بكل من «المسلم» و«الإرهابي» الذي هو إسلامي، مناسبٌ للربط بين المسألة الإسلامية والمسألة اليهودية. «المسلم» هو اليهودي في معسكر الاعتقال النازي الذي كان مثال الإنسان المباح/ homo sacer5، وبعد حين وجيز غالباً الإنسان المُباد. من يشغل هذا الموقع اليوم السوري «الفاصل» الذي يتعرض لتعذيب نازع للإنسانية قبل أن يُترَكَ ليموت وتُرقَّمَ جثّته وتُرمى في قبر جماعي مجهول (ينظر بحثٌ لعبد الحي سيد يربط بين «الموزلمان» في معسكرات الموت النازية و«الفاصل» في معتقلات نظام الأسد)6، هذا إن لم تُحرَق في محرقة جثث قرب سجن صيدنايا، على ما أشارت تقارير أميركية في أيار 2017. ليس «الفاصل» إسلامياً بالضرورة، إنه من عامة السوريين المعترضين على الأوليغاركية الأسدية، والذي أُنكِرَ على موته وعلى حياته أي معنى بأثر المسألة الإسلامية. المسألة الإسلامية ليست مسألة إسلاميين، وإن كانوا وجهاً أساسياً لها.

5. صادرٌ بالعربية عن دار الجمل، بترجمة: المنبوذ.

6. Abdulhay Sayed: on the «Disconnected» Syrian: For the «Muselmannization» of the Syrian, Reflections on the Biopolitics of the Siege of Damascusuyyy

(10)

في موسم «الربيع العربي» ظهر وجها المسألة الإسلامية في صورة مجسمة أكثر من أي وقت سبق، وبخاصة في سورية. من جهة أولى ظهرت الإسلامية كطيف متسع نَزّاعٍ إلى القتامة، يمتد من الإخوان المسلمين إلى تنويعات سلفية محلية إلى السلفية الجهادية الأممية في صورة غولية، ومنها تكوين مهجن بالأجهزة الأمنية والإيديولوجية الأشد طائفية للبعثية العراقية المهزومة على يد الأميركيين، مركز قيادة إمبراطورية الغرب المعاصرة، أعني داعش التي هي أعلى مراحل النفي الإسلامي للعالم، أو العدمية الإسلامية؛ ويجمع الطيف كله مركب الابتذال المأساوي الذي تقدَّمت الإشارة إليه. ومن جهة ثانية بنية عنصرية إسلاموفوبية تتغذى من جرائم إرهابية لداعش في الغرب ومن موجة لاجئين، سوريين أساساً، لكن أيضاً عراقيين وإيرانيين وأفغان وغيرهم، ويتلاقى فيها انتخاب الأوليغاركيات لحكمنا كشرّ أصغر، مع «الحرب ضد الإرهاب» أو «الشرّ الأكبر»، ومع تدليل إسرائيل الدائم التي عادت تضرب في سورية كلما عنَّ لها دون أن تُواجَه ضرباتها ولو بكلام طقسي عن أن هذا «لا يخدم علمية السلام». ولسورية موقع خاص بسبب تكوين طائفي متأصل للدولة الأسدية، يضعها في ضرب من الاستمرارية مع الإسلاموفوبيا الغربية، يسهل من أمرها (الاستمرارية) تمثّل الظاهرتين البنيوي كتمييز اجتماعي وسياسي ديني. هنا في سورية، وقعَ لقاءٌ بين النفي الإسلامي لعالم مُتصوَّر كغرب واسع والنفي الغربي للإسلام كعالم اجتماعي عَمِلَ من أجل امتلاك السياسة والسيادة.

وقد يجب القول إن الابتذال يتقدم في الغرب أيضاً، ليس على المستوى السياسي وحده، ولكن على المستوى الفكري كذلك، حيث تتقدم المحلية الغربية أكثر وأكثر، ويترك على الهوامش أن تفكر تفكيراً عالمياً. العالم في أزمة تزداد عمقاً، والأفكار في أزمة وتزداد مركزية غربية واكتفاءً ذاتياً، أي بالفعل ظلامية. الغرب العالمي يتراجع لمصلحة «الغرب العميق»، وفي هذا موازين الدين والعداوة الماهوية ذات العمق «اللاهوتي السياسي» (بلغة أنيدجار) هي الأثقل. وأجازفُ بالقول إن رفض أخذ العلم بالمسألة الإسلامية والتفكير فيها بجدية من العوامل المؤثرة في تقدم الابتذال الفكري والسياسي في الغرب.

وبفعل التغذية المتبادلة بين وجهي المسألة الإسلامية، أمكنَ للإبادة في سورية أن تمرّ غير ملحوظة، وأن يُنتخب نظام بشار الأسد كمنافس وحيد لنفسه رغم استخدامه السلاح الكيماوي عشرات المرات. اليمين الغربي الأكثر إسلاموفوبية واضحٌ في هذا الشأن أكثر من الحكومات. بشار الأسد خط دفاع عن الحضارة الغربية في عين اليمين الإيطالي. ومنظمات اليمين المسيحي الفرنسية تُرسل متطوعين إلى سورية، تحت غطاء إنساني. في العلاقة بين منظمات اليمين الغربي، والغرب العميق عموماً، والدولة الأسدية في سورية، هذا المزيج الطبقي الطائفي، الذي كنتُ استعرتُ لتمثيله تعابير السوريين البيض والسوريين السود. اليوم من جديد تُقال أشياء كثيرة عن حقوق الأقليات وحماية الأقليات، ولا تقال أشياء كثيرة أيضاً. ومما لا يقال إن الإسلامية أقلية. من سيقول ذلك؟ الإسلاميون؟ الغرب؟ الدولة الأسدية؟

حيال سورية بالذات، الغربي المتوسط الذي لا يعرف شيئاً عن البلد، يعرف مع ذلك شيئاً ما ولا ينكر شيئاً آخر. ما يعرفه هو أن معارضي بشار الأسد إسلاميون، وما لا ينكره هو أن بشار دكتاتور واستخدم السلاح الكيماوي ضد محكوميه. وجدتُ نفسي مراراً أُسأَلُ بتشكك من ألمان حسني النية، يبادرون إلى القول إنهم لا يعرفون شيئاً عن سورية، عن وجود «أشخاص جيدين» في سورية، مع علم السائلين بأن بشار كيماوي. أتكلّمُ على أشخاص لا يعرفون شيئاً عن سورية لأن من لا يعرف عن الموضوع يقول ما تكونه الذات، ذاتُه، بحسب نتشه. هناك عنصر إسلاموفوبي قوي في بنية هذه الذات، فلا تجد نظام إبادة شيئاً سيئاً جداً إذا كان معارضوه إسلاميين، ولا تُسائِل نفسها: جيد لمن؟ وفي عمق هذه البنية المتعصبة تعريفٌ للعدو، وهو ليس بحال من يقتل محكوميه بالسلاح الكيماوي.

وهذا في الوقت الذي يُقال فيه الكثير عن ميل جنوب المتوسط وشرقه الفتيين إلى «استعمار» أوربا الشائخة، أو عن «فتح» المسلمين للمدن الأوروبية، شارعاً شارعاً، وصولاً إلى الترويج لخطر تحول أوربا إلى «أورابيا»، قارة يحتلها العرب من الداخل (تُنظر في هذا الشأن مقالة بانكاج مِشرا: A Culture of Fear).

أسوأ من أن تكون مجرد قلب للواقع الفعلي، «ثقافة الخوف» الهستيرية هذه التي يتكلم عليها مِشرا تعني أننا عالقون في أوضاع من قلّة الاحترام المتبادل والنرجسية وعدم الخجل من إشهار الكراهية.

(11)

غير أن ما أظهره «الربيع العربي» بوجه خاص هو ترابط التعقيدات الهائلة، المتصلة بوجهي المسألة الإسلامية. فقد عقدت الإسلامية مسألة التغيّر السياسي في مجتمعاتنا والتخلص من نظم الأقلّية، بما فيها ذلك حكم الأقلية المضاعف في بلد مثل سورية، حيث يظهر بجلاء هنا المستمر الواصل بين الإسلامية المحلية والأممية والإسلاموفوبيا الغربية والإبادية الأسدية والتفضيل الإسرائيلي لها. الطرح الديموقراطي التقليدي، ومن إشكاليته ينحدر كاتب هذه السطور، ظهرت تناقضاته ومحدوديته في زمن الثورات العربية، وصعود الإسلامية محمولة على موجات الاحتجاج الشعبي. بالمقابل، عقّدت الإسلاموفوبيا عمل الديموقراطيين العلمانيين ممن لا يريدون أن تلتبس قضيتهم بنزعة عنصرية، لها فوق ذلك قواسم مشتركة واسعة مع الطغيان الأوليغاركي الحديث في بلداننا. لقد مدّت الإسلاموفوبيا حبل النجاة لنظام تمييز طائفي إباديّ مثل دولة الأسديين.

بوصفها نظام ممارسات سياسية واجتماعية وقانونية تمييزية يقيم تراتباً بين الجماعات، يتأذى من الإسلاموفوبيا عموم المسلمين اليوم، وليس الإسلاميون حصراً. هؤلاء بالعكس يعتاشون من أوضاع التمييز، وبفضل الإسلاموفوبيا يظهرون بوصفهم الممثلين الطبيعيين للمسلمين. وهو بالمناسبة ما تفضله مؤسسات الدولة في الغرب كضرب من احتواء جمعي للمسلمين عبر من يُفترض أنهم قادتهم الطبيعيون. الإسلاموفوبيا بهذه الصفة وجه لنظام مِلل عرفي أو غير مقنن، يمثل فيه الإسلاميون «ملة الإسلام»، فيما يشغل مسلمو الغرب موقعاً عاماً ذمياً. إنها مزيجٌ من الاعتراف والتمييز، مثل نظام أهل الذمة الإسلامي القديم. ألمح عبد الله العروي إلى ذلك في كتابه «السنّة والإصلاح».

وبوصفها بنية عنصرية، تقع الإسلاموفوبيا على خط التمييز العنصري ضد السود ومعاداة السامية، أي بصورة ما للعبودية والهولوكست. وإنما لذلك لا يمكن للديموقراطي أو التحرري في مجتمعاتنا المعاصرة أن يجد نفسه في هذا الموقع، مهما أمكن له أن يكون على عداء مع الإسلاميين.

وللتركيب الطائفي للدولة الأسدية مفعول تعقيدي مماثل من حيث أنه يجرّد نقد الإسلاميين، والإسلام ذاته، من الشحنة الجذرية التي كان يمكن أن يحوزها لو كان الإسلاميون في الحكم أو أكثرية سياسية في البلد، أو لو لم يكونوا موضعَ تمييز ومعاداة. في مثل شروطنا السورية المعلومة تجنح إلى التشوش الفوارق بين نقد تحرري للإسلاميين ونقد مندرج في التنازع الطائفي. فإما يسكت النقد على الأسدية فيفقد محتواه الأخلاقي، أو يصون اتساقه بإدراج الأسدية فيخسر فرصه في الوجود ولو الهامشي في البلد. وحتى في «المنفى» لم تكد تتيسر عناصر لبناء موقع نظري وسياسي ملائم لنقد يفكفك قيود الإكراهات المزدوجة إلا بعد الثورة وبفضلها. والحال أن الموقع الوحيد لممارسة نقد جذري للإسلامية في سورية هو ما ينفتح على تغيير جذري للحكم الطائفي ومجمل البيئة السياسية في البلد. يمكن لبعضنا أن يكونوا «عادلين» ذاتياً فلا يقولون كلمة على الإسلاميين دون كلمة على الدولة الأسدية، والعكس بالعكس، لكن ليس هذا هو موقع النقد الجذري التحرري للإسلامية. نصير في موقع أفضل بما لا يُقاس لنقد الدين وأهله جذرياً بالتخلص من تركيب طائفي يجد نفسه في استمرار مغاير مع الإسلاموفوبيا العنصرية الغربية.

(12)

كل ما تقدم يبثّ في النفس الانطباع بأننا حيال أوضاع معقدة، بالغة التعقيد، عضال ومزمنة، ويرجَّحُ بقوة أن تكون وخيمة العواقب. هذا محزن ومحبط ومثير للغضب. فالتعقيد والعنف قرينان كما نعلم جيداً من المثال السوري الذي يُثابَر على نطاق واسع على إساءة فهمه، بصورة لا يبعد أن تكون متعمدة. ليس هناك عنف مهول في سورية لأن الأمور معقدة، ومن طبيعتها أن تكون معقدة في «الشرق الأوسط»، بل هناك تعقيد بأثر بنيات عنف وتمييز مديدة، لم يعالج ما يتولد عنها من انفجارات بغير مزيد من العنف والتمييز. هناك تعقيد في سورية و«الشرق الأوسط» لأن هناك مُعقِّدون وعنيفون يتحكمون منذ عقود وأجيال بمقادير عشرات ومئات ملايين البشر.

المسألة الإسلامية لغم هائل بالغ الخطورة، إن لم تكن أخطر ما في عالم اليوم فإنها أبرز المرشحين لإشغال هذا الموقع. إنها مصير العالم. فكيف يمكن التعامل معها؟ مع «مستمر» محلي دولي يعني مليارات الناس، وبصورة ما كل سكان الكوكب؟

انشغلَ جيلٌ كاملٌ في منطقتنا المعقدة العنيفة، «الشرق الأوسط»، بالتفكير في حلول لمشكلة الإسلاميين، أحد وجهي المسألة الإسلامية، ولم تتعدَ الخيارات واحداً من اثنين، نعبر عنهما بلغة مجردة بالاستبعاد أو الاستيعاب. لكن يمكن التنويع على هذه الخيارين العريضين، للتفكير في تنويعة استبعادية/ استيعابية، أُسمّيها سلطانية محدثة. كما يوجب التأزم الحالي للمسألة فتح التفكير، وتخيّلَ تجاوزٍ ثوري، يغيّرُ معطيات المسألة كلها ويتخطى الاستبعاديين والاستيعابيين، والإسلاميين أيضاً.

وبعد هذا كله لا بدّ من معالجة الوجه الآخر، الإسلاموفوبيا وما يتصل بها من مسائل إرهابية وإسرائيلية. ليس هناك حلول محلية لما هي مسألة عالمية جوهرياً.

لكن من باب تنظيم التفكير، نتناول أولاً الحلول والمعالجات القائمة والمتبناة والممكنة للإسلامية، ثم للإسلاموفوبيا، ونعود إلى الربط بينها في النهاية.

الاستبعاد أو الإقصاء هو النهج المُمارس من قبل أوليغاركيات الحكم القائمة في معظم الدول في مجالنا. هذه أطقمٌ غير مُنتخبة، غنية، تعيش حياة أرستقراطية، مندرجة في النظام الدولي، لا ضوابط مؤسسية أو قانونية أو زمنية لسلطتها من داخلها، ولا من النظام الدولي إن هي انضبطت في علاقتها بالنافذين فيه. وهي تجد في الإسلاموفوبيا سنداً لنهجها الذي ينكر السياسة والمساواة على محكوميها. ولا يقتصر الاستبعاد على الإسلاميين، فليس هناك مثالٌ واحدٌ لعدم استبعاد غير الإسلاميين في أي بلد جرى فيه استبعاد الإسلامييين. الاستبعاد بنيةٌ حصرية لنخب الحكم تمد جذورها في تكوينها، في غناها وأرستقراطيتها وكونها غير منتخبة من قبل محكوميها. ثم بخاصة لكونها «منتخبة» من قبل المركز الإمبراطوري من أجل ضمان الاستقرار والأمن في «المنطقة». كل طرف سياسي آخر خطر هنا، والاستبعاد بنيةٌ قارّةٌ تحرس نفسها بالعنف. لكن لذلك بالذات الاستبعاد مشكلة. فهو يبقي استقرار مجتمعاتنا غير الممثلة والفاقدة للتوازن مستوجباً لعنف يفتر حيناً ويشتد حيناً، لكن اتجاهه العام صاعد. بل هو انفتحَ بعد الربيع الديموقراطي العربي على أشكال من العنف الإبادي ندرت مثيلاتها حتى في الحقبة الاستعمارية. هذا التكوين الاستبعادي الإبادي هو أحد المنابع الغزيرة للمسألة الإسلامية. من جهة لأن هناك عنصراً احتجاجياً في الإسلامية المعاصرة على أوضاع مُستحِقة، منذ التحول الأوليغاركي، لما هو أكثر من الاحتجاج. ومن جهة ثانية لأن استبعاد الجميع يستبعد الإسلاميين أقلّ من غيرهم، حتى حين يكون استبعادهم أقسى من غيرهم لكونهم يعملون في مساحة اللاتمايز بين الديني والسياسي.

بين ثمانينات القرن العشرين واليوم كانت «الديموقراطية» هي الأرضية الفكرية السياسية للبديل الثاني: الاستيعاب. لا يستطيع أن يدافع عن تصور استيعابي متسق للدولة من يدافع عن استبعاد الإسلاميين، هذا يجد نفسه منساقاً إلى مساندة أطقم حكم تستبعده هو بالذات إن لم تستتبعه فتفرغه من الذاتية والمعنى. بعبارة أخرى، لم تكن هناك مساحة سياسية فكرية للدفاع عن استبعاد الإسلاميين لا تؤول إلى موالاة الأوليغاركيات الحاكمة، هذه التي عرضت قبل الثورات العربية تطوراً باتجاه عائلي، شكلت سورية طليعته المقاتلة والقاتلة. على هذه الأرضية الاستيعابية دافعتُ شخصياً عن حق الإسلاميين في العمل العام.

لكن تجربتنا السورية خلال سنوات الثورة السورية تُظهِرُ أن ما يتطلع إليه الإسلاميون ليس أن يكونوا طرفاً إلى جانب أطراف أخرى في عملية سياسية تستوعب الجميع، بل أن يكونوا هم الدولة. أي كل الأطراف مثل الدولة الأسدية تماماً. ما كان في الإسلامية من بعد احتجاجي أتاح لكثيرين امتلاك السياسة (الكلام في الشأن العام والاجتماع مع غيرهم والاعتراض)، كان يتداعى كل وقت تحت وطأة تطلع سيادي استبعادي هو ذاته. انفجر التناقض بعنف كبير في سورية حيث ظهر أن ما يريده الإسلاميون ليس السياسة (فضاء التعدد) بل السيادة (فضاء الواحد). هذا أصحّ على التشكيلات السلفية الجهادية ممن يصدرون عن نظرية الحاكمية الإلهية، أو يريدون تطبيق العقيدة إن جاز التعبير، لكنه صحيحٌ كذلك على الإسلاميين السياسيين ممن يريدون تطبيق الشريعة، أي أن تكون لهم ولاية عامة وأن يمارسوا العنف باسم شريعتهم، والعنف والولاية العامة وجهان أساسيان للسيادة.

لا الاستبعاد ناجعٌ ولا الاستيعاب ميسور، إذن ما العمل؟ طورت نظم الأقلية بالغريزة والخبرة ضرباً من استيعاب سلطاني، ينكر على المؤمنين بالدين/ الأديان ممارسة سياسة مستقلة، لكنه يوفّرُ لهم مساحة حرية تصرف في مجال الشعائر والأحوال الشخصية والتعبيرات الرمزية والاعتراف الرسمي. يختلف هذه الاستيعاب السلطاني المحدث عن الاستيعاب السلطاني التقليدي بأنه لا دين له غير السلطان ذاته. وهو إن منح الإسلام مساحة رمزية واسعة فمقابل سحق أي تعبيرات سياسية إسلامية مستقلّة. يسحق حافظ الأسد الإسلاميين، لكنه يؤسس «مدارس الأسد لحفظ القرآن الكريم»، وهي تحتكر التعليم الديني الذي يُمنع بالمقابل من الجوامع، ما يسهّل للنظام مراقبته والتحكم فيه. يمكن أن نتكلم هنا على استيعاب استبعادي، مُصمَّم بغرض حماية الاستبعاد السياسي مقابل «حراسة الدين» وفق النموذج السلطاني (تكلّمَ عليها محمد عابد الجابري في «العقل الأخلاقي العربي»)، أي حمايته (الانتقائية) من النقد والانشقاق، ثم الاحتراس منه ووضعه تحت الرقابة. بالمناسبة، ما يسميه غربيون ومحليون «علمانية» هو بالضبط هذا الاستيعاب السلطاني المحدث، الاستبعادي سياسياً وحقوقياً، والخاوي كلياً من أي قيم مساواتية وتحررية. ولعلهم يجدون سنداً لدعواهم في واقع أن العلمانية في الغرب بالذات تعرض حيال المسلمين ذلك المزيج من الاعتراف وخفض المرتبة، أي وجهاً ذمياً محدثاً.

«الجبهة الوطنية التقدمية» في سورية هي، بالمناسبة، ضربٌ من استيعاب سلطاني محدث، تتنازل فيه منظمات شيوعية وقومية عربية وقومية سورية عن السياسة، مقابل البقاء وبضعة مكاسب خاصة بخسة. ولا أستبعدُ في السنوات القادمة أن يمكن استيعاب إسلاميين بالذات في أطر سلطانية محدثة، لكن مع المثابرة على جوهر البنية الاستبعادية: التجريد السياسي لعموم السكان.

لكن أليس هناك حلّ ثوري، يتجاوز استبعاداً إبادياً هو جذرٌ أساسيٌ للمشكلة، واستيعاباً ديموقراطياً لا يبدو أن المعنيين به يريدونه، واحتواءً سلطانياً محدثاً هو في واقع الأمر تحديثٌ لنظام الملل، لا دين له غير سلطة لا تتبدل؟ ويتجاوز قبل الجميع الإسلاميين بالذات ويؤول بهم إلى قوى آفلة تاريخياً، تتغير كي لا تتلاشى؟ عملياً لا يبدو أن هناك أفقٌ لهذا الخيار اليوم، ولا أن هناك قوى تدفع باتجاهه وتبلور تفكيرها حوله. بيد أن الإمكانية النظرية لهذا الخيار مكتوبة في شيئين. أولهما في سابقة تاريخية جسّدتها المرحلة ما بعد الاستقلالية التي بدا فيها أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية «التقدمية» تُحيل الإسلاميين إلى قوى محافظة، بالكاد تنافس غيرها على النفوذ الاجتماعي والسياسي. الأفول التاريخي كان يبدو واقعاً يتجه إلى التحقق حتى سبعينات القرن العشرين، هذا قبل أن ينقلب الاتجاه فيأفل «التقدميون» وينفلون بفعل ازدهار نُظُم الأبد التي تغلق الأفق التاريخي، فلا تغيّرَ ولا تتغير، وفي ظلها شغلَ الإسلاميون موقع «المعارضة الموضوعية» وتحولوا إلى قوى تغيير. وثاني الشيئين هو تناقضاتُ الإسلامية التي بلغت ذرى سيكوباتية إجرامية في سورية بين عامي 2013 و2018، لم يستطع الأقل سيكوباتية بين الإسلاميين صوغ اعتراض واضح في شأنها. لا يتعلق الأمر بداعش التي إن لم تكن فريدة الأزمنة في الأجرام، فإنها من تُحفِه الباقية. «جيش الإسلام» الذي لم يعترض عليه أحد من الإسلاميين لم يقصر عن داعش في شيء تقريباً. هذا التشكيل السلفي مثالٌ مفيدٌ لأنه يُظهر أن داعشَ محلية أكثر تحفظاً، وهو ما كانه الفصيل السلفي الدوماني، يمكنها أن تحظى بتواطؤ واسع من الملأ الإسلامي (مشايخ، وجهاء، عاملين في مشاريع وأجهزة إسلامية…). وأرجّحُ أن الأصل في ذلك تكوين نخبوي وأوليغاركي متماثل، مضاد للنشاط السياسي للجمهور، متعال على العامة ولا يعترف لهم بحقوق ويبيح التعامل معهم بقسوة. جيش الإسلام في دوما فرض نظام حزب واحد وعمل على إثراء قادته وأذلَّ السكان المحليين. ولا يبدو أن في تكوين مشايخ «المجلس الإسلامي السوري» في اسطنبول ما يعترض على ذلك. جبهة النصرة كان يمكن أن تحظى بما حظي به جيش زهران علوش وسمير الكعكة لولا النَسَبُ القاعدي والنبذُ الدولي.

قد لا يمضي وقت طويل قبل أن يأخذ بالارتسام تجاوزٌ ثوري. الأرضية النفسية والأخلاقية مُهيئةٌ اليوم للسير في هذا الاتجاه بفعل خسارة الإسلاميين لوضع الضحية وظهورهم كقوى تقييد مكفهرة، كارهة للحياة وعاملة في خدمة للموت، ومتساهلة في قتل من عاشوا الاستباحة الأسدية لجيلين.

على أن فرص التجاوز تقتضي إدراك جذور فشل السياسة الديموقراطية. ليست المسألة إلا جزئياً أن الإسلاميين لا يقبلون الاستيعاب، أو أنهم سياديون وليسوا سياسيين. جذر المسألة بالأحرى، وجذر «الاستثناء الديموقراطي» العربي أو الشرق أوسطي، هو الثالوث الذي ترتكز عليه العنصرية الدولية التي تسمى الإسلاموفوبيا، وتجمع بين إعفاء إسرائيل من القانون، و«الحرب على الإرهاب» التي لا بداية لها ولا نهاية والمضادة للديموقراطية في كل مكان، وانتخاب الأوليغاركيات الأبدية في بلداننا. رأينا تشابك عناصر هذه البنية عياناً بياناً في سورية في سنوات ما بعد الثورة. هذه الثلاثة هي ركائز النظام الشرق أوسطي الذي هو فضاء استثناء دائم، تشكّلَ بعد حرب 1967، حيث استتب التفوق الإسرائيلي والأبد العربي، قبل أن تنضم لهما «الحرب ضد الإرهاب» منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. لا ديموقراطية ممكنة حين إسرائيل هي سيد كل سيد، وحين هناك بنية تكفل ألّا ينتخب المحكومون الحاكمين، وألا تكون هناك آليات تغيير من أي نوع، وحين هناك حرب مستمرة وهياكل حرب مستمرة متنقلة الجبهات. في سورية بلغت هذه البنية أقصى الكمال: دولة الأبد والإبادة الأسدية تنتخبُ شعبها الصحيح، بعد أن ضمنت انتخابها دولياً.

«الاستثناء الديموقراطي» المزعوم مبنيٌ على ما تقدّمَ ذكره من استثنائين بنيويين مديدين، أعلى وأدنى. استثناءٌ من العقاب، أعلى وسيادي، لمصلحة إسرائيل، يضعها فوق القانون الدولي، واستثناءٌ أدنى من الحماية ومن العدالة، ومن السياسة حتى، هو في واقع الأمر إباحة مفتوحة الأبواب على الإبادة، وهو نصيبُ الفلسطينيين كرمز لعموم السكان في مجتمعاتنا بوصفهم حَمَلة تطلّع إلى الاستقلال والسيادة. أما الشروح الثقافوية للاستثناء الديموقراطي فهي بمثابة شهادات زور، ومساهمة في الإباحة/الإبادة.

التجاوز الثوري هو التحدي المطروح على جيل ما بعد الثورات العربية. وأساس هذا الحل ضرورة فتح آفاق تغييرية تقدمية، اجتماعية واقتصادية وسياسية، تطوي الصفحة الأوليغاركية وعهد التمييز، وتُحيل الإسلاميين من جديد إلى «معارضة ذاتية»، تتشكل دونما صعوبة خاصة أكثرية اجتماعية وسياسية تستبعدها أو تشاركها على أرضية استيعاب ديموقراطي حقيقي. آفاق تطوي قبل كل شيء هياكل الاستثناء الشرق أوسطي المديد. الأبد من الصنف الأسدي وأشباهه لا يصلح علاجاً للإسلامية التي بالعكس تزدهر في ظله، وتصير قوةَ قطع. وهو بالعكس يحتاج إليها لترويج نفسه كواجهة للعلمانية.

(13)

الإسلاموفوبيا كنزعة استبعاد عنصرية منتشرة من أوجه أزمة الديموقراطية في الغرب وعالمياً، ومن مسوّغات الانبعاث الفاشي. الاستيعاب يتراجع، وليس الغرباء وحدهم من يُزاحون إلى الهامش وإن كانوا يُزاحون أكثر من غيرهم. الرأسمالية دون صناعة وطبقة عاملة صناعية، وبدولة أضعف بفعل العولمة، ودون منازعة محلية أو دولية من قوى اشتراكية أو ديموقراطية جذرية، تُضعِفُ المحليين أمام المؤسسات الكبرى من شركات ودولة ووسائل إعلام وتعليم، ويحتمون من هشاشة متفاقمة بزعماء تسلطيين. ترامب ليس الوحيد من هؤلاء، ولا يبدو أن هناك من يربط بين شكاوى جمهور أبيض يشعر بالانكشاف وبالعلوق في أوضاع متجمدة، لا تَعِدُ بالتحسّن بل بانحدار في القوة النسبية لأصحابها (غسان الحاج: Alter politics)، ويين شكاوى الملونيين، ومنهم معظم المسلمين، من التمييز والفقر. ولا يبدو أن مفكري الغرب الذين يزدادون محلية مدركون أن المسألة الإسلامية يمكن أن تكون مُدمرة للعالم ككل، أكثر بكثير من المسألة اليهودية وحلولها. كما لا يبدو أن أحداً في الغرب استوعبَ دلالة القصة السورية، والاستثناءات الكثيرة المتراكبة التي صنعت الحرب المستمرة في البلد المنكوب. ما يُرى من القصة السورية هو أساساً «حرب ضد الإرهاب»، هي على المستوى الدولي اليوم مقياس لللامسؤولية واللاقانون، راية حرب تساعد في منع التغيّر السياسي، وفضاء استثناء وإباحة يترك الضعفاء مكشوفين أمام الأقوياء المسلحين. «الحرب ضد الإرهاب» هي اليوم الأداة السياسية العسكرية لتمديد نظم الإبادة والطغيان في مجتمعاتنا، وإدامة أوضاع استثناء دولية لا تنتهي، وتناسب نخباً سياسية ينحدر مستواها، فضلاً عن عودة النهب المباشر على نحو ما يظهره تعامل إدارة ترامب مع السعودية ودول الخليج. وفي هذه الحرب تجد الإسلاموفوبيا الدولية جيوشها وحروبها وتحالفاتها السياسية وتشابكاتها الأمنية، وهنا الفرق الأدنى بين الغرب العميق والغرب العالمي، وبينهما معاً والأوليغاركيات الحاكمة في بلداننا.

«الحرب ضد الإرهاب» بعد ذلك مدخل إلى الاعتباط والمحسوبية، والتعقيد، في النظام الدولي. الإرهابي هو من يقاوم بالسلاح قوى غربية أو دولة من محاسيبها، وليس من يقتل المدنيين لأغراض سياسية. فإن كفّت الدولة أن تكون محسوبة على القوى الغربية أو عَرَضَ التشكيل الإرهابي استعداداً لأن يصير هو نفسه من المحاسيب، نالَ عفوا عملياً (وليس بالضرورة قانونياً) من تهمة الإرهاب، مثل الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا.

هذا التكوين المحاسيبي وفاسد الضمير لتعريف الإرهاب والحرب ضده يكمن وراء انتخاب أوليغاركياتنا واستثنائها من الديموقراطية. الدولة في مجالنا متراس ضد «الإرهاب»، ولم تعرض الدولة الأسدية نفسها للغرب إلا كمتراس ضد الإرهاب (وهو ما تقوله خطابات المحتلين الإيرانيين والروس كذلك)، ولا يقال شيء عن أن تكوين الدولة هذا هو منبع العدمية والعنف الإرهابي المميت.

وضمن هذه التركيبة إسرائيل نموذجٌ للاستثناء الأعلى، الموقع الامتيازي فوق القانون، ومنبعُ ضخ للتمييز وسياسات الهوية، ومصدرُ تغذية لصراعات لا تنتهي في المنطقة وفي العالم.

من المُستبعد أن تنفجر المسألة الإسلامية في حرب عالمية تقليدية. ليس هناك دول إسلامية تعلن الحرب أو تكون طرفاً فيها، والإسلامية التي يمكن أن تحارِب هي مُحاربة سلفاً وتُواجَه بحرب سلفاً. لكن نرى اليوم بأعيننا توسّعَ فضاء الاستثناء الشرق أوسطي وتعمقه، والصعود العلني للنزعات الإبادية وتقبّلها دولياً. هذه الحرب، ضمن ثلاثي الإسلاموفوبيا البنيوي، تقوّضُ أي تماسك أخلاقي باق في النظام الدولي، وتدفع الكوكب في منحدر قروسطي جديد.

(14)

كل ما يتصل بالمسألة الإسلامية من إسلامية غاضبة وعنيفة، ومن إسلاموفوبيا محبّة لإسرائيل وتفضيل شيطان أوليغاركياتنا الذي تعرفه على شياطين لا تعرفها وقد يضطرها التعرّفُ عليها إلى التكيّفِ معها، ومن حرب ضد الإرهاب، يعطي الانطباع بالعداوة والحرب، بقلّة الاحترام، وباللاعقلانية حين هذه تعني الميل إلى حلول سياسية، وتجنّب سياسة الأعماق، أي الدين. وأكثر حين يكون المقصود بالعقلانية الانضباط بقواعد لعب مطردة مقبولة من اللاعبين هم. لا شيء من ذلك هنا، لا قواعد مطردة ولا أصول مراعاة. نحن أمام فضاءات استثناء مسودة ومنزوعة السياسة، تتحرك بين الإباحة والإبادة، ولم يعد يُسوِّغُ أيٌّ من اللاعبين الأساسيين دوره، ولو من باب الدعاية، بالمساواة أو العدالة للجميع. أو بأي «رسالة حضارية».

على مستوى الرؤية، ليس هناك ما هو غامضٌ في عالم بلا مسألة إسلامية. إنه عالم اللاتمييز، اللااستثناء، السير نحو تمييز أقلّ ومساواة أكبر، ثم العقلانية: سياسة أكثر وقواعد مُتفق عليها أكثر، وحرب أقلّ ودين أقلّ. لا إمبراطورية ولا تبعية. لا استثناءات عليا مسلحة بالنووي ولا دنيا مباحة للإبادة.

مجالٌ إسلامي، وعربيٌ بخاصة، مستقلٌّ يمتلك زمام نفسه ولا يعاني من التمييز هو حاجة لنفسه وللعالم، وهو وحده ما يمكن أن يندرج بروح إيجابية في العالم. المسألة الإسلامية وليدة تراكب أوضاع تمييزية مركبة تعاني فيها أكثريات من المسلمين في مجالهم وفي العالم من مشكلات التبعية والإخضاع. والمسلمون في عمومهم يعرّفون أنفسهم كمسلمين أكثر كلّما تعرضوا لتمييز أكثر.

هذا قانونٌ عام، وسبق أن كان اليهود مثالاً له. تُميّزُ ضدي كيهودي، أصيرُ يهودياً أكثر. هذا ما يحدث في الواقع، وهذا هو الصحيح أخلاقياً وفق ما رأت بحقّ حنة آرندت. التمييز هو الذي يولّد تمايز الهويات وتفاصلها، وكلما اشتدّ التمييز تمسّكَ الأفراد والمجموعات أكثر بتمايزاتهم، بمعتقداتهم مناط كرامتهم. الإسلاموفوبيا كبنية دولية تنجح في شيء واحد فقط: إنتاج مسلمين أكثر وإسلاميين أكثر. في سجّل معاداة السامية «نجاحاتٌ» مماثلة.

وبالمقابل، يجنح الأفراد والمجموعات إلى التقارب والاسترخاء حين يتعرضون لتمييز أقلّ. اليهود المندمجون ظهروا في القرن التاسع عشر مع ما بدا من صعود الرابط القومي على حساب الروابط الدينية. لم يتخلوا بالضرورة عن يهوديتهم، بعضهم فعلوا، لكنهم ظهروا كألمان، مثلاً، أكثر مما كيهود. وانعكس المسار حين بدا أن الاندماج لا يحمي، بل قد يكون جريمة بحق الذات. وفي بلداننا عبّرت أكثريات كبيرة عن نفسها بلغة وطنية استقلالية أو قومية عربية بعد الاستقلال، حين بدا أنها سائرة إلى الأمام مثل غيرها. في شروط كهذه تقترب الهوية من الوجود في التاريخ، فيصير الإسلاميون مسلمين، وتسير المسألة الإسلامية نحو التلاشي.

(15)

منذ قيام إسرائيل، المسألة الإسلامية هي مسألة عربية بقدر كبير. هذا غير ظاهر اليوم بفعل هزيمة القومية العربية قبل خمسين عاماً، وميل الرابطة العربية إلى التحلل بفعل تعثر متكرر في معالجة مشكلات كبيرة موروثة ومعاصرة، ومنها بخاصة الإسلامية التي يلتقي فيه التراث بالعصر، والديني بالسياسي. وبقدر ما تكون إسرائيل هي «الآخر» فسيكون «الأنا» عربياً، ليس فلسطينياً فحسب، ولا إسلامياً. ولعله من هذا الباب تأتي المزايدة الإيرانية المعادية للعرب عداء ملموساً، ودموياً، ولإسرائيل بصورة مجردة. من موقع الغرب أيضاً، ليست إيران هي الآخر، وأن أمكن أن تكون خصماً سياسياً.

انتخاب الأوليغاركيات شأن عربي و«شرق أوسطي» بدوره أكثر مما هو إسلامي، وأولوية الاستقرار والأمن في المنطقة وأمنها متمركزة بينوياً حول سلامة إسرائيل وسلامة البترول، قبل أي «إرهاب» أو«حرب ضد الإرهاب».

أتكلّمُ مع ذلك على مسألة إسلامية ليس فقط بفعل ميل صاعد إلى هيكلة منطقتنا حول الحرب ضد الإرهاب (الإسلامي)، وليس فقط بفعل الإسلاموفوبيا النشطة، وإنما كذلك لأن هناك مشكلات كبيرة، أخلاقية وسياسية وحقوقية، في الإسلامية، يتحمل العرب قبل غيرهم وأكثر من غيرهم من المسلمين مسؤولية العمل على معالجتها والتقدم في حلها. مستقبل الثقافة العربية واللغة العربية والرابطة العربية مرهون بقدر كبير بالنهوض بهذا العبء الثقيل.

ثم إن هذه المسألة الإسلامية هي بقدر كبير أيضاً مسألة سنيّة. وليس الأمر كذلك إلا لأن المشكلات الكبيرة المشار إليها، الأخلاقية والسياسية والحقوقية، هي مشكلات في الإسلام السنّي أساساً، الذي هو الصيغة الأوسع انتشاراً للإسلام في العالم العربي. ما كان لروابط ميتة ورمزيات ميتة أن تنبعث إلى الحياة لولا موت سياسي وأخلاقي عاشه عالم العرب طوال نصف قرن. الإسلامية السنيّة المقاتلة في صيغها التي عرفناها في سورية بعد الثورة وُجِدت بفضل انمحاء الفرق بين الحياة والموت. هي نفسها حياةٌ ميتة أو موتٌ حيّ.

وأتكلّمُ على مسألة إسلامية، أخيراً، لسبب شخصي. فقد وقع أن نالني من إسلاميين يحملون كلمة الإسلام في أسماء تشكيلاتهم، «دولة الإسلام» و«جيش الإسلام»، أذيَيْن يحفران عميقاً في النفس ويُغيّرانها: خطف وتغييب أخي وأصدقائي، ثم وزوجتي وأصدقائي. خطفُ سميرة وفراس وأصدقاءٌ كرماء، وفي سياق تحطيم الثورة السورية المجيدة، هو تجربةٌ مكوِّنة تُضاف فيما يخصني إلى الطفولة الأولى، وإلى سنوات سجني الطويلة التي كنتُ أفكر فيها كطفولة ثانية، وتفوقهما معاً في الوقع والأثر والدوام.

أردتُ ذلك أم لم أرده، لقد اقترن اسم الإسلام بخطف زوجتي وأخي. هذا عبءٌ هائل، كان يتمنى المرء أن يُعفى من حمله. أمّا وأنه لم يعفَ، فهل من بديل عن طرح السؤال وصوغ المسألة؟

——————————-

الفصل الرابع: المظلومية، الظالمية، الظلامية: في شأن ظهور طائفة (طوائف) الإسلاميين وتكوين ضميرها/ ياسين الحاج صالح

مقالات إلى سميرة (4)

تحاول هذه المقالة المطولة تناول ضمير الإسلامية المعاصرة، أعني المركب الفكري النفسي الأخلاقي الذي يدرك الإسلاميون من خلاله العالم ويتفاعلون مع الغير فيه. في مقالة قصيرة سابقة ألمحتُ إلى تكوين أناني للإسلامية المعاصرة. هذه المقالة تتوسع في تقصي جذور هذا التكون، وتفترض أنها تجده في ظهور طائفة معاصرة لنا، طائفة الإسلاميين، التي تندرج تحتها طوائف فرعية متنوعة: إخوان، سلفيون، سلفيون جهاديون.

طائفة/ طوائف الإسلاميين

الإسلاميون طائفة من المسلمين حديثة النشأة، غاضبة من العالم الحديث، وتميل نسقياً إلى وضع الإسلام في مواجهته، مع جعل معتقدها الديني مستودعاً لانفعالات سلبية حيال العالم تتراوح بين النفور والتشكك، وتصل إلى العداء والحرب. ليس هذا خياراً بديهياً لعموم المسلمين، وقد اندرج أكثرهم في العالم الحديث دون إشكالات كبيرة، لكن كلما كانت علاقة مجتمعاتنا مع بيئتها العالمية أشد تعثراً، كان ذلك أنسبَ لطائفة الإسلاميين، يعود عليها بتوسع مراتبها ويقلل التمايز بينها وبين عموم المسلمين، فيحجب صفتها كطائفة.

هذا «العالم الحديث» ليس مُبرأً بحال من وقائع السيطرة والاستغلال والتمييز وعلاقاتها وهياكلها وعملياتها المستمرة، ليس «حداثة» محضاً تصدم غافلين فيداومون على الترنح بفعل الصدمة، ولا هو محض «أنوار» تخطف الأبصار، أو ثورات علمية وتكنولوجية تخلب الألباب، أو «تقدم» يخلّفُ الحسرة في قلوب المتأخرين، فيقضون أيامهم في التساؤل عن أسباب «تقدم الغرب» و«تأخر المسلمين»، إنه أيضاً استعمار وامبراطوريات تحتل وتتوسع وتستتبع، وتقتل وتبرر القتل بـ «رسالة تحضيرية».

لكن هذا «العالم الحديث» ليس مؤامرة، أو خطة محبوكة من وراء الستار، ولا يحركه عقل خفي شرير معادٍ للعرب المسلمين دوناً عن البشر أجمعين، يكيد لدينهم تحديداً على ما يتوهم الإسلاميون، مجاملين أنفسهم بما يُعينُ على تحمل بؤس الحاضر، لكن بما لا يُعينُ على الخروج منه.

تولَّدَت طائفة الإسلاميين من هذا التعثّر المستمر للعلاقة بين مجتمعات المسلمين والعالم الحديث، بما في ذلك وقوع مجتمعاتنا تحت السيطرة الاستعمارية لبعض الوقت، لكن كذلك من انزياح الإسلام عن موقع الهيمنة في التفكير في شؤون الدولة والتنظيم الاجتماعي والحياة الخاصة، وانكفاء رموزه عن تعريف مجتمعاتنا المعاصرة. ويتصل بهذا التعثّر دولةٌ طغيانيةٌ حديثة، تنتخب شعبها الصالح، وتنكر عليه انتخابها ومحاولة امتلاك السياسة (التجمع والكلام والفضاء العام)، ولا تعرض وجهاً سياسياً إلا نحو قوى عالمية نافذة، يتواتر أن تكون هذه القوى هي من انتخبت نخبنا الحاكمة، أو من تكفل الأوضاع التي تتيح لها انتخاب محكوميها.

طوائف الإسلاميين المنبوذة وليدة هذا الوضع المركب من دول محلية فاقدة للمشروع والمعنى، ومن أوضاع دولية تمييزية، وهي طورت عبر العقود حسَّ الأقلية المحاصرة، الميالة إلى الباطنية والانغلاق على النفس وإلى التوجس من الغير وعدم الثقة بهم. ويميّزُها ما يميّزُ الطوائف الصغيرة من حدة الوعي الذاتي بالاختلاف الطائفي، ومن حصر الالتزامات داخل الجماعة. وهو ما يدفع باتجاه أخلاقية طائفية، غير ودودة حيال الغريب، إن لم تكن عدائية تماماً. ولا يقتصر الأمر على أن الغيرية، الثقة بالغير والشراكة مع الغير والالتزام حيال الغير، ضعيفة الحضور عند هذه الطائفة الفتية، تبدو الغيرية بالأحرى أقرب إلى خيانة، أو كفر. الجماعة أقلّ استرخاءاً بكثير وأشد توتراً من بذل فضل حيال أي غير. اللاغيرية، أو انحصار فعل الخير بالجماعة، ليس عيباً على هذه الأرضية، بل هو فضيلة وسلامة اعتقاد. أو هكذا يجري تشريع الأنانية المتولدة هي ذاتها عن ديناميكية التحول الأقلّي للإسلاميين. عقيدة الولاء والبراء السلفية من العقائد التي ترفع حصر الخير بالجماعة وإيجاب الشر بحق غيرها إلى مرتبة دين. ولعلَّ من المناسب لذلك أن نتحدث عن طائفية مضاعفة، تتجاوز الامتناع عن فعل الخير للغير (أو حتى إيجاب إيذاء الغير)، إلى التوسع في تعريف الغير الواجب الإيذاء وتضييق المُستَحِقين للخير إلى العصبة أو المجموعة الضيقة، وإلى جَعلِ ذلك مقوِّمَ هويةِ الجماعة وأساس تفاعلها مع غيرها. وهنا المبعث الجوهري لما يمكن تسميته الظلم الإسلامي الحلال، أي العادل في نظر الإسلاميين. لكنه «ظلم» مع ذلك، لأنه عنيف ومحروس بالقسوة ولا يصلح أساساً لحياة عامة أو خاصة مستقرة. الطوائف الإسلامية تنتخب جمهورها بدورها، وتُبيح التمييز وسوء المعاملة لغير المُنتخَبين، فتعمل من هذا الوجه بآلية مماثلة لآلية عمل الدولة الطغيانية والنظام الدولي في منطقتنا، آلية الحرب المستمرة.

طوائف الإسلاميين والإسلام

تقترح هذه المقالة ثلاثة جذور للظلم الإسلامي المعاصر: المظلومية، الظالمية المتولدة عن مركب الواحدية والامبراطورية، ثم الاكتفاء الذاتي أو الظلامية. على أنه يلزم قول شيء في البداية عن العلاقة بين طائفة أوطوائف الإسلاميين وبين دين الإسلام. في مقالة سابقة (الإسلام، الإسلاميون والعنف، 2014) أظهرتُ أن الإسلاميين يعيدون تشكيل الإسلام بينما هم يخوضون صراعات سياسية واجتماعية في أوضاع عينية، فلا يتعلق الأمر بحال بإسلام يبقى مماثلاً لذاته في كل وقت، وإن قام وعي الإسلاميين الذاتي على ذلك، ولا هو يتعلق من وجه آخر بإيديولوجيا غريبة على الإسلام لَفَّقتها جهات أجنبية مغرضة بنية الكيد للإسلام (على ما يقول الإسلاميون كثيرون بخصوص داعش، وأحياناً القاعدة). وضربتُ على ذلك مثالين عاينتهما مباشرة. أولهما ما شهدتُه في مجلس الشورى في دوما في نيسان 2013 من تعليق آيات «العلم» في البهو الداخلي للبناء الذي كان المجلس يشغله: «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات»، «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»، «والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إننا لا نضيع أجر المصلحين»، «إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم». مجلس الشورى مكوَّنٌ من «علماء»، كانوا يعملون وقتها على تشريع سلطتهم متوسلين آيات القرآن التي تعود عليهم بشرعية أعظمية. هذا الجسم الديني السياسي المحدد يعيد تشكيل الإسلام في الصورة التي تجعل مشايخَ المجلس تعبيرَهُ الحقيقي. والديناميكية الاجتماعية السياسية الدينية التي ظهر هذا الجسم المطيّف فيها (خروج الغوطة الشرقية من سيطرة النظام قبل شهور قليلة وقتها، وصعود التيار السلفي) قادت هي ذاتها إلى انشقاق عمودي في المجلس في شهر نيسان ذاته، وخروج نحو نصف أعضائه منه. ديناميكية التطييف الانقسامية فاعلة ضمن الطائفة الإسلامية الناشئة، بقدر ما عملت في الأصل على تمايز هذه الطائفة وظهورها في شروط الصراع مع نظام يقوم على الحرب والتمييز الطائفي.

وأُتيحَت لي في صيف العام نفسه صحبةُ «مجاهد» من جبهة النصرة لبعض الوقت (ترك النصرة لاحقاً إن صَدَق، وانضم إلى جيش إدلب الحر). الرجل، في نحو الثلاثين من العمر وقتها، كان يقول إن سورتي الأنفال والتوبة محذوفتان من القرآن الذي تعتمده الدول العربية، وإن المنظمات السلفية الجهادية تعيدهما إلى القرآن. وبصرف النظر عن صحة ما يقول، فإن هيكلَةَ السلفيين الجهاديين للقرآن، وبناء تصورها للإسلام، متمركزٌ حول هاتين السورتين اللتين تضفيان شرعيةً أعظم على تصورٍ جهاديٍ للإسلام.

ويتذكر من هو من جيلي، بالمقابل، أن إسلام معظم أبناء الأرياف كان يعتمد على حفظ آيات القرآن القِصار، وهي أخلاقية أكثر وتشريعية أقل، ومكيّة النزول في غالبها. وهي تعطي صورة عن الإسلام مختلفة كثيراً عن الصورة التي طورها فقهاء في المدن، ورثوا فقهاء الزمن الامبراطوري.   

هذه الأمثلة تقول إن الإسلام يجري تشكيله وفقاً لمطالب وتطلعات وقدرات الجماعات المسلمة المختلفة في أوضاع عينية مختلفة بدورها. تقول أيضاً إننا حيال اختراع متجدد لدين المسلمين، تنطبق عليه نظرية إريك هوبسباوم الثاقبة عن «اختراع التقاليد» أو التراثات. فخلافاً للمعتقد الانطباعي الذي يرهن تأثير العقائد والعوائد في النفوس بقدمها السحيق، كأنما هي تنحفر في جينات الناس كلما كانت أصولها أقدم (وهو ما تضمره الكليشيه التي تتكلم على 1400 سنة من أنظمة تفكير واجتماع وسياسة يبدو أنها مشتقة من «الإسلام»، مُتصوَّراً كشيء لا يكف عن مشابهة ذاته عبر السنوات والقرون)، أقول خلافاً لذلك أنّ تقاليدنا «الأصيلة» وهويتنا «الراسخة» هي غالباً اختراعٌ عمره جيل أو جيلان أو ثلاثة، بما يعني أن المُسنين من الناس أكبر من تقاليدهم غالباً. نظرية الحاكمية التي يقوم عليها الفكر السلفي الجهادي اختُرِعَت في أربعينات القرن العشرين على يد مسلم هندي، أبو الأعلى المودودي. سيد قطب الذي تأثر بهذه النظرية أكبرُ منها بخمسة وثلاثين عاماً. لكن الرجلين عَمِلا على «تأصيل» و«ترسيخ» تقليد هما مُخترعاه.

والوجهة العامة لإعادة التشكيل التي يقوم بها الإسلاميون أو لاختراع التقاليد وفقاً لها هي اليوم إبراز الصفة السياسية والجهادية للإسلام، بحيث تحوز المطالبة بالسلطة على أكبر وجاهة ممكنة، وتهيمن في أوساطهم على الأقل، بما ينزع حجة من لا يوافق على هذا الاختراع أو لا يجاريه. إعادة التشكيل او الهيكلة هذه، أو التقليد المخترع، تاريخية وحديثة، وسأقول لاحقاً إن الإسلاميين يجدون في متناولهم من أجل تطلعاتهم المعاصرة تشكيلاً امبراطورياً للإسلام، يقوم على السيادة والعظمة والمجد، ويستثمر أكثر في القرآن المدني، القابل لاستثمار فقهي وسياسي أكبر.

ما جرى في الزمن المعاصر هو زوال آخر امبراطوريات المسلمين قبل نحو قرن، وتعثّرُ عملية التكيّف الإيجابي مع العالم الحديث. طائفة/ طوائف الإسلاميين وليدة هذا التعثر، وبنية إسلاماتها (وليس عناصر هذه البنية) وليدتُه كذلك.

والمأمول أن ما تقدَّمَ يؤسس لشرح واضح لأنانية الإسلاميين، يدرجها في تكوّن «أنا» حديثة، ليست آمنة على نفسها، وتخشى على ضآلة فرصها في البقاء، وترجو كل شيء لنفسها سعياً منها وراء ضمان بقائها.

يبقى من الضروري توضيح عنصر مهم بخصوص ظهور طوائف الإسلاميين. لا تطابق هذه الطوائف منفردة أو في مجموعها «الطائفة السنيّة»، وإن كانت كلها سنيّة في هذا التناول. بل هي متولدة، في سورية على الأقل، عن تعذّرِ تطييف السنيين، أعني تكونهم في ضرب من وحدة سياسية قد «تشذ» منها أقلية صغيرة من «المنشقين». فبفعل تعدد وتباعد بيئاتهم الجغرافية والسكانية والاجتماعية، استحال ظهور تماهٍ سني جامع أو غالب، ينشئ من السنيين طائفة أكثر تماسكاً. فإذا صح هذا التقدير فإن لدينا طوائف من الإسلاميين، سنيّة بطبيعة الحال، لأنه ليس لدينا طائفة سنيّة. كان «أهل السنّة والجماعة» هم المسلمون الذين يتماهون بيُسر أكثر من غيرهم مع الدولة والمدينة، ومع الإمبراطورية والفتوح الإسلامية، ومع «العلوم الإسلامية» المتكونة في ظل الامبراطورية. تتولد طوائف الإسلاميين المعاصرة لأسباب تحيل إلى انفكاك هذه التماهيات بفعل تغيرات تاريخية طالت الدولة والمجتمع والمعرفة مما لا تزال علاقتنا متعثرة به، وما خلَّفَ شعوراً منتشراً بالغربة والهامشية في أوساط مسلمة سنيّة واسعة هي التي تتكون منها طوائف الإخوان والسلفيين والجهاديين المعاصرة. يشبه الأمر بقدر كبير تشكل الطوائف الإسلامية في القرون الإسلامية الأولى، الاسماعيليون والعلويون والدروز، والشيعة قبلهم، من الجماعات الأدنى تماهياً بالامبراطورية، والأقوى شعوراً بالغربة والأشدّ عرضة للتمييز. وهو ما يكفي للقول إن علينا أن نولى اهتمامنا لبنى وديناميكيات الانقسامات والصراعات الاجتماعية والسياسية العامة، وليس حصراً إلى أشكال الوعي الذاتي للجماعات على ما يفعل كثيرون بيننا. يندرجون على هذه النحو في الديناميكيات الانقسامية المولدة للطوائف، بدل أن يعملوا على تغيير المسار أو محاولة التأثير عليه بما يحد من الانقسامات الاستبعادية (الإقصائية)، وربما يحفز ظهور ديناميكيات استيعاب وتقارب.

المظلومية أو وضع الضحية

تطورت في مدار القرن العشرين مظلوميةٌ إسلاميةٌ سنيّة، تحاكي بصورةٍ ما المظلومية الشيعية وتُعبّرُ في واقع الأمر عن فقدان عالم الإسلام السنّي المركزَ الحضاري والقيادةَ السياسية والوجهة التاريخية، وهذا خلافاً للإسلام الشيعي الذي تطور له مركز وقيادة ووجهة منذ الثورة الإيرانية قبل نحو أربعة عقود. في الخلفية تعثّرٌ أطول أمداً في انخراط مجتمعات المسلمين في العالم الحديث بأثر مركب من ركود مديد دام قروناً، ومن الرضة الاستعمارية، وتعثّرُ انتقال عالم الشرق الأوسط العربي والإسلامي إلى ما بعد الاستعمار بفعل تضافر كل من توضع الحوض النفطي في المنطقة، ثم الواقعة الإسرائيلية التي نالت رعاية غربية متعددة الأوجه، وألحقت بالمركز العربي للإسلام هزائم مشهودة. هزيمة القومية العربية في حرب 1967 وعلى مدار عقد السبعينات ثبتت الشرط الاستعماري القديم في صيغة مموهة، ووضعت الإسلاميين، السنيين بطبيعة الحال، في موقع منازع على القيادة الفكرية والسياسية في مجتمعاتنا.

اكتسبت المظلومية السنيّة زخماً أقوى بعد الاحتلال الأميركي للعراق وحلول حكم شيعي صريح محل حكم صدام، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، ثم الثورة السورية والاستهداف التمييزي للبيئات السنيّة على يد الدولة الأسدية.

السلفية الجهادية هي الطائفة التي وضعت يدها على هذه المظلومية وحولتها إلى حجر الأساس في نظرتها إلى العالم. وهذا لأنه تطور لدى السلفيين الجهاديين أكثر من غيرهم، ومنذ المختبر الأفغاني الذي التقى فيه إسلاميون من عشرات البلدان الإسلامية في ثمانينات القرن العشرين، ضربٌ من «وعي تاريخي» عالمي الأبعاد (الجهاد الأفغاني ظاهرة معولمة تكوينياً، أفغانستان ساحتها، أكثر مما هي ظاهرة أفغانية)، مع حسٍّ محتدٍّ بفقدان القيادة والمركز وبالحاجة إليهما، زاده حدة أن إيران بلد مجاور، وكانت شهدت ثورة ناجحة للتو، وقام الحكم فيها على المعتقد الشيعي؛ زاد من حدته كذلك واقعة أن الجهاد الأفغاني كان اندراجاً عنيفاً في العلاقة بين امبراطوريتين كبريين عنيفتين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. جرى مدّ المظلومية إلى الوراء في الزمان لتبدأ على الأقل من إلغاء الخلافة عام 1923، وجرى تشميلها المسلمين عموماً، والسنيين بخاصة. ومع ذلك المد وهذا التوسيع جرى توسيع الأعداء ليشمل دولنا المعاصرة كلها وعلى قدم سواء، وجميع التيارات الفكرية والسياسية غير الإسلامية، فضلاً بالطبع عن الغرب وروسيا. وفي الوقت نفسه جرى ركْزُ لواء العداء في الدين، فنحن مظلومون لا لشيء إلا لأننا مسلمون، وهم ظالمون يكيدون لنا، لا لشيء إلا لأنهم يهود وصليبيون أو عملاء لهم. صار الإسلام موقع التباعد الأقصى عن المركز الحديث للعالم، الغرب (هذا يفسر أن العدمية في مجالنا الجغرافي الثقافي تأخذ شكلاً إسلامياً: الإله الذي تتطلع إلى قتله ليس «الله»، ولا يقيم في السماء، بل في… البيت الأبيض). ولا يعود إشغال الإسلام موقع التباعد الأقصى عن الغرب إلى الإسلاميين وحدهم. الواقع أن الاستشراق، بعد كل تفهم محتمل، يجعل من الإسلام عالماً غريباً، آخر. إنه يصدر عن فعل إبعاد تأسيسي، سابق حتى لظهوره (ينظر مثلاً كتيب مكسيم ردونسون: جاذبية الإسلام)، متصل بواقعة القدوم المتأخر للإسلام إلى «العالم القديم». القرآن غير موجود في ما تسمّيه طُرفةٌ سورية «أعمال الله الكاملة»، التي تقتصر على التوراة والإنجيل، العهدين القديم والجديد. إسلامياً، يجري استبعاد العهدين من الأعمال الكاملة لله، بذريعة التحريف، ليكون القرآن كتاب الله الوحيد.

كان لمثقفين مسلمين دور في التفكير بالنهضة، أي محاولة فهم لماذا تعثرنا وكيف ننهض مثل غيرنا، لكن بفعل تراكم التباعد تغيب هذه الإشكالية عن تفكير الإسلاميين اليوم، بمن فيهم الإسلاميون السياسيون. قوة الغرب وتفوقه وتفتحه ليست موضع تفكّر، دع عنك أن تكون موضع تعلّم. مشكلات الغرب أيضاً (وعلائم انكفائه اليوم) ليست موضع تفكّر بفعل اعتبار الغرب ذاته، في كل أحواله وأطواره، هو المشكلة. هذا يضع الإسلاميين خارج أي جهود لإصلاح العالم، أو العمل مع آخرين لمقاومة الظلم ومن أجل عالم أكثر عدالة.

الخطاب السلفي الجهادي الذي مزج في الساحة الأفغانية بين الوهابية السعودية (معادية للشيعة) والقطبية المصرية (الشيعة غائبون من أفق تفكيرها)، يماهي بين السنيين وبين المسلمين ككل، فيُكفِّر الشيعة وأي مذاهب غير سنيّة أخرى. كما جرى اعتبار العالم كله شريكاً في الظالمية ضد المسلمين، وخصوصاً بطبيعة الحال «التحالف اليهودي الصليبي»، أي الغرب. وأضفى الجهاديون صفة نسقية بالغة الصلابة والاتساق على ظالمية أولئك الأعداء ومظلوميتنا، بما يرسخ يقين مستهلكي هذا الخطاب بأن العدو الغربي لا يفعل شيئاً غير الكيد لنا والعدوان علينا، وأن هذا نابع من تكوينه بالذات. وبالمقابل لا تكاد تكون لنا صفة أخرى، إلى جانب كوننا مجاهدين محتملين ضد الظلم، غير كوننا مظلومين. ثم أن معظم المسلمين بالذات متواطئون أو خانعون وفق هذه السردية، ليس حكوماتهم فقط، بل عامة المسلمين بالذات ممن ينبغي تعليمهم وتوجيههم و«سوقهم إلى الجنة بالسلاسل» (حسب أبي محمد العدناني، ناطق داعش الذي قتل عام 2016).

أما الظلم ذاته فلا يكون هنا تمييزاً محتملاً ضد المسلمين نعترضُ عليه باسم رفض التمييز، فينفتح على دعوةٍ إلى المساواة أو تصوّرٍ للعدالة عابرٍ للمجتمعات والأديان، بل هو وضعنا البائس الحالي، منظوراً إليه حصراً كفعل فاعلٍ واعٍ مغرض، معادٍ جوهرياً يستهدفنا كمسلمين: الغرب أو «التحالف اليهودي الصليبي».

المظلومية عنصر بارز في وعي الذات الخاص بالإسلاميين عموماً، وفي نظرتهم إلى العالم. وهو ما قد ينطبق على الإسلاميين السوريين أكثر من غيرهم. في المظلومية هنا عنصر واقعي يتمثل في النظام الأسدي وحربين كبيرتين كلفتا بيئات سنيّة الكثير، وفيها توسع الفقر وأوجه تمييز وحرمانات اجتماعية متنوعة، يضاعفها افتقار سكان هذه البيئات إلى شبكة محسوبية تسعف في تأمين خدمات وتسهيلات حيوية لمحتاجين لهما (الحصول على وظيفة، على رخصة سكن، على وثيقة سفر…). وهذا بخاصة في بلدات وأحياء مجاورة للمدن، يحتد وعيها بالفقر والحرمان مما قد تلحظه في مراكز المدن أو ضواحيها الميسورة من بحبوحة ويسر. بيد أن في المظلومية مكون خيالي كبير، يسند الظلم إلى عداوة «نصيرية» جوهرية للإسلام والمسلمين، ويستذكر وقائع من أزمنة الاستعمار، وعوْداً إلى زمن الحروب الصليبية، مع افتراض استمرارية جوهرية، فضلاً عن أمة مسلمين متخيلة، مستمرة بدورها. هذه العنصر الخيالي هو «الوعي» الذي ينتجه الإسلاميون كـ «طليعة» إسلامية أو نُخب تعمل على بناء مجتمعاتها الخاصة أو «انتخاب» فرقتها الناجية.

من غير المحتمل أن هناك جماعات دون سرديات مظلومية، بمكون خيالي كبير، وقد يكون هاذياً. النازيون بالذات طوروا سردية مظلومية ألمانية، أسندت «طعنة في الظهر» تعرضت لها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وتمخضت عن معاهدة فرساي التي نزعت سلاح ألمانيا، إلى تحالف يهودي بلشفي يذكر بتحالف السلفيين الجهاديين الصليبي اليهودي. وتعيش إسرائيل على مظلومية دائمة، وراثية بتعبير زغمونت باومان، تشغل هي، وليس اليهودية، موقع العقيدة المشرعة، أو «دين الدولة». ولعله يمكن القول استناداً إلى المثال الإسرائيلي إن المظلومية هي العقيدة المُشرِّعة لفرقة الإسلاميين، دين الطائفة أو الطوائف. ولعلَّ هذا العنصر الخيالي يساعد على تحمل وضعنا المذل الذي لا يُطاق ولا نعرف كيفية الخروج منه، وذلك عبر تحويله إلى لوم لغيرِ شرير متآمر وإلى تظلِّم منه. فإذا كان العالم كله شريراً متآمراً لا يكف عن الكيد لنا، كان حالنا البائس أقل إذلالاً مما هو في الواقع، فأنقذ ذلك شيئاً من كرامتنا.

أول مفعول للمظلومية هو الالتصاق بالذات وتعذّر مراجعة الذات أو العمل على إصلاحها وتغيير ما بها، والإحساس بغيرنا والتضامن معه. موت الضمير أو ضموره على ما حاولتُ أن أُظهِرَ في مكان آخر (مقالتي: «الضمير الخارجي»). تُولّدُ المظلومية في النفس استعداداً سلبياً عدائياً حيال العالم، وتُعفي النفسَ المظلومةَ من الالتزام بضوابط مشتركة للسلوك والتفاعل مع الغير. وربما نشمت بما يحدث من سوء لغيرنا، سراً إن لم يكن علناً، هذا حين لا نبادر نحن بالذات إلى إيقاع السوء. وبين الفرح بما يصيب الغير من كوارث، وبين العمل على إيقاع الكوارث بالغير، لا نكاد نفعل خيراً لغير أشباهنا. وهذا مناقض لمبدأ «مكارم الأخلاق». مكارم الأخلاق هي إعانة الغريب، عابر السبيل، أو ابن السبيل، حسب التعبير القرآني. فإذا استبعدنا إعانة الغريب فتحنا باباً لتغريب القريب، لاعتباره غريباً كي لا نُعينَه، فلا يبقى ثمة ما يعوق حجب العون عن القريب أيضاً بذريعة أنه ليس قريباً كفاية: ليس مسلماً حقاً، لا يقول مثل قولنا تماماً أو لا يفعل مثلما نفعل، ما يسوّغُ لنا استبعاده.

والواقع أن في أخلاقيات الجماعات كلها تناقض بين مبدأ «مكارم الأخلاق»، عون الغريب و«ابن السبيل»، وبين مقتضيات بناء الجماعة وتكاتفها وتمايزها المكوِّن عن الغير، الغريب. أياً يكن مبدأ تكوّنِ الجماعة، فإن أخلاقياتها توابع لمقتضيات تمايز وتماسك هذه الجماعة، ومواجهة ما تتعرض له ضغوط. فإذا تصورنا حزباً للحب وحزباً آخر للكره في مجتمع لا حرية للأحزاب العاطفية فيه، فإنه يرجح لمقتضيات وحدة كل منهما أن تدفع حزب الحب إلى تطوير حسٍّ بالكراهية لمن ليسوا منه (مناقضاً بذلك مبدأه المعلن)، بينما سيحتاج حزب الكره إلى رعاية الحب بين أعضائه كي يتماسك، ويكون فعالاً في أداء رسالته المتمثلة في الكره. وفي الحالين يُعاد تعريف الحب والكره على نحو يجعلهما متوافقين مع «خط الحزب»، مثلما يعيد الإسلاميون صنع الإسلام عل نحو يتيح اشتقاق أنفسهم منه اشتقاقاً منطقياً.

والمقصد من هذا المثال المفرط التبسيط أن المعنى الذي يفترض أن اجتماعنا قام عليه، لن يلبث أن يصير تابعاً للاجتماع ومقتضياته، وبخاصة في أوضاع صراعية يرتفع الطلب فيها على التمايز والتماسك. هذه نقطة أساسية في تصوري، تغيب عن تفكير معظم من يتناولون الحركات السياسية والاجتماعية، ممن يقعون ضحايا ما تقوله هذه الجماعات عن نفسها، أو يُحِلّونَ انجذابهم إلى عقائدها المعلنة أو نفورهم منها محلَّ الجهدِ اللازم لفهم ديناميكية الجماعات في أوضاع صراعية. وكمثال، فقد تسنى لي أن ألحظَ من تجاربنا الحزبية، وقد كنتُ ضمن بعضها لوقت لا بأس به، وعلى حوافها لوقت ما، أن حصر الخير بالجماعة فاعل هنا، وأن لدينا ضروباً من عقيدة الولاء والبراء تختلف باختلاف المنظمات والأحزاب. والأساس هنا أيضاً هو تغلب مقتضيات تمايز المنظمة وفاعليتها المفترضة على قِيَمها المعلنة.

الغرض من هذا الاستطراد فيما يخصّ الإسلاميين التحول عند النظر إليهم إلى ديناميكية تشكّلِ الجماعات الإسلامية، وشروط هذا التشكل وحقوله الفعلية، وليس حصراً إلى المبدأ أو المعنى الذي تفضّل هذه الجماعات تعريف نفسها به. في عين الناظر، هذا هو المعنى الخارجي إن جاز التعبير، فيما المعنى الداخلي يتصل بتصور هذه الجماعة أو تلك لذاتها وموقعها ودورها، فيختلف بين داعش وجبهة النصرة، وبين هذه وأحرار الشام مثلاً أو جيش الإسلام، وبين أي منها والإخوان المسلمين. تعمل كل واحدة منها على تبرير وجودها، وهو ما لا يمكن أن يقوم على المعنى الخارجي الواحد (الإسلام)، بالتركيز على فكرة تميزها عن غيرها، وتسوّغ لها حصر الخير في داخلها. وهذه الفكرة التي قد يستعصي إدراكها على غير شركاء التكوين والذاكرة، هي التي تصبح مبدأ التماسك الداخلي الذي قد يدخلها في حرب مع جماعة إسلامية أخرى. المجموعات التي تقدَّمَ ذكرها للتو كلها إسلامية، وسنيّة، و(باستثناء الإخوان) سلفية، وجهادية أو مجاهدة. وأقرُّ أني شخصياً لا أحيطُ بحقيقة اختلافاتها عن بعضها، وقد بلغت في حالات متعددة حدّ الحرب. ظاهرة كهذه سبق أن شوهد ما يشبهها في أواسط المنظمات الفلسطينية بين أواخر ستينات أواخر سبعينات القرن العشرين، وكذلك بصورة ما بين المنظمات الشيوعية السورية في الفترة نفسها.     

بيد أن هناك مشتركاً بين الجماعات الإسلامية يتمثل في «نظرة إلى العالم» تشكلُ المظلوميةُ حجرَ الأساس فيها. هذا الأساس جامع، عابر للجماعات، وهو دين طوائف الإسلاميين كما تقدم القول.

هنا، في الإسلام الحركي المعاصر، عند الطوائف الإسلامية وأمرائها وشرعييها، بلغ إخضاع المعنى الخارجي للمعنى الداخلي، أي التطييف، درجة متقدمة من المذهبة والانغلاق، تكرَّسَ في عقيدة الولاء والبراء السلفية. ولا يبدو أنه تعاكس هذه النزعة المذهبية المغلقة في أوساط الإسلاميين نزعة غيرية تعمل على فتح الجماعات على ما يغايرها، أو حتى على بعضها. بحدود ما أعلم ليس هناك نقد إسلامي لتكوين الضمير الإسلاموي المعاصر (إسلاموي هنا نسبة إلى إسلامي، التي هي نسبة إلى إسلام، وليست تعبيراً تحقيرياً أو مشككاً بنسبة الإسلاميين إلى الإسلام).

والواقع أننا في القرآن ذاته نتبين الأثر المتعاضد لكل من المظلومية («الذين أخرجوا من ديارهم») ومقتضيات بناء الجماعة في المرحلة المدنية من دعوة نبي الإسلام. في مكة لدينا دعوة أخلاقية تُعنى بابن السبيل، مدرجة في سياق واحدي ومَعادي، أما في المدينة فالكلام القرآني أميلُ إلى الغضب والنقمة، وإلى حصر الخير بالجماعة المسلمة الناشئة، واستبعاد من يُشَكُّ بتمام ولائهم: المنافقين. وآيات العذاب الأبدي والخلود في النار أكثر تواتراً في هذا الطور ما بعد المظلومي. (لعل في هذا ما يدعو إلى التفكير في أن إبراء هؤلاء المعذبين الأبديين شرط لازم من أجل استبعاد التعذيب الدنيوي وسلام إسلامي مع النفس ومع الغير. التوعد بعذاب أبدي لا يمكن أن يتوافق مع سلام النفوس، السلام فيها والسلام بينها).    

ويتصل بالالتصاق بالنفس، في المقام الثاني، التعارض الجوهري بين المظلومية والانعتاق، أي التحرر من قيودنا الداخلية. المظلومية تحتل النفس، تملؤها وتغلقها أو تُصمِّتها، فلا تنشغل بغير نفسها. الانعتاق بالعكس هو انفساح النفس وإعادة ترتيب البيت الداخلي على نحو أفسح، وهو ما لا يتأتي دون نزاع مع النفس ومساءلة لها وتفحص مستمر لما يعتمل فيها. ننعتق فقط بقدر ما ننازع أنفسنا، ونعمل على الترحيب بغيرنا في أنفسنا، وهو ما يقتضي ترحيب أنفسنا أو توسيعها. المظلوميُّ عبدٌ لمظلوميته، وهذه تقوده في اتجاه الانغلاق على النفس أو العدوان على الغير. فإذا كان التفكير الإسلامي المعاصر لا يعرض تجارب انعتاقية، فلأن ركونه إلى المظلومية يغذي فيه واحداً من هذين الميلين أو كليهما: الانغلاق و/أو العدوان. ما يغيب في الإسلامية المعاصرة هو، وينبغي لذلك أن يكون مفارقة كبيرة، التجربة الإيمانية، وما تبثه في النفس من صفاء وسكينة، وسلام. لا يصدر تفكير الإسلاميين عن صدور منشرحة، بل بالأحرى عن نفوس منجرحة. ومقابل «إدارة التوحش» التي تسند نفسها إلى دين المسلمين، لا نجد إرادة تأنسن إسلامية تُعرِّف نفسها بمواجهة تلك الإدارة.

وللمظلومية مفعول ثالث يتمثل في انعكاف المظلوميين على جماعتهم وانعزالهم عن غيرهم وعدم إحساسهم بغيرهم. يمكن أن تتشكل جبهات من المظلومين، لكن لا تتشكل جبهات من المظلوميِّين، فقط تنافسٌ على المظلومية، على من هو الضحية الحقيقية، ومن ناله الظلم أكثر من غيره. المظلوميون هم مظلومون تضخم العنصر الخيالي في ظُلامتهم إلى درجة الهذيان، فجعلوا من المظلومية هوية لهم أو تعريفاً لأنفسهم يبقى صحيحاً مهما فعلوا. جنون المظلومية هذا مُميِّزٌ للإسلاميين في عمومهم، وللجهاديين منهم بخاصة.

تتوحد هذه الآثار الثلاثة للمظلومية الإسلامية: الالتصاق بالذات، الانعزال عن الغير، تعذر الانعتاق، في مفعول واحد: الأنانية، «الأنانية الحلال» إن جاز التعبير. أنا مظلوم، أعرّفُ نفسي بمظلوميتي، إذن أندار إلى نفسي ولا أرجو الخير إلا لها، لا أشكر من يحسن إلي (كل ما أناله  حقي، بل بعض منه)، ولا ألوم نفسي على أذىً أُلحِقهُ بغيري (أنا عادلٌ مهما فعلت). أصير متوحشاً، وأدعو للتوحش، ولا أزال أراني أهدى الهداة.

وكلما ركنتُ بقوة أشد إلى المظلومية وسعتُ دوائر الغير الخارجي والغريب، لتشمل الغير المحلي غير المسلم، أو المسلم بصورة مغايرة، فضلاً عن جميع غير المسلمين، فضلاً كذلك عن العالم كله. فضلاً عن أولئك الذين يبدون ظاهرياً منا ومثلنا، لكنهم ليسوا في حقيقة الأمر مثلنا بقدر ما ينبغي أن يكونوا. بل إن هؤلاء أعدى علينا من الأعداء لأنهم «يُلبِسون» علينا، نحن المسلمين الحقيقيين، وعلى الناس. لذلك يجب أن «نطهر» صفوفنا أولاً. هنا نبلغ أعلى درجات الهذيان. وهنا تتلاقى الإسلامية المعاصرة كظاهرة انقسامية تطهرية، تمخَّضَ عنها عسر وجودنا في العالم الحديث، بتعريف النفس كنفس مظلومة يحدق بها الأعداء من الخارج والداخل. وهكذا ينزع الإسلاميون إلى التصرف كأقلية قلقة، مذعورة، بالغة الحساسية، ترى في كل حركة وسكنة انتهاكاً لها، لا تثق بنفسها ولا بأحد.

الظالمية والتألّه

يتمثل عنصر آخر في مساحة التقاطع بين ما تورثه عقيدة التوحيد من شعور بالاختيار والفضل، من اختصاص بالله، وبين المخيلة الامبراطورية والميراث الامبراطوري المدون في عقائدَ وشريعةٍ ورثها الإسلاميون.

رغم أن دعوة نبي الإسلام تدرج الدين الذي أتى به في سياق إبراهيمي، وتسند «كتاب الله»، مبدئياً، إلى كتبه السابقة ومرسليه المتقدمين على محمد، على ما سلسلهم كل من التوراة والإنجيل (الأعمال الكاملة للمؤلف السماوي)، إلا أن الله الواحد، خالق السموات والأرض والبشر، مالك يوم الدين، القوة المطلقة، القادرة على كل شيء، الفعالة لما تريد، اختراع إسلامي بقدر كبير. ليس من عدمٍ بطبيعة الحال، ولكن الهيكلة الإسلامية لتصور الله مختلفة عن إله اليهود الذي يميزهم عن غيرهم مبدئياً ونهائياً، ويقتصر عليهم، وعن إله المسيحية الذي افتدى البشر على الصليب. إله المسلمين لا يمكن أن يُصلب، وإن كان الإسلام هو الدين الذي ارتضاه للناس، فإن باب الدخول فيه مفتوح للجميع. وقد وعد الله المؤمنين وعوداً خاصة تميزهم عن غيرهم وتُفضِلهم على غيرهم، وبمكافآت لا تنقضي إن هم اعتصموا بحبله، وأرضوه (ورضاه ليس ميسور المنال)، واستشهدوا في سبيله. هذا الجانب يرفد البعد الخيالي للهوية الإسلامية فيفتحه على أفق أخروي. لدينا مثال عن القوة المطلقة، راسخ في عالمنا الثقافي والرمزي، معبر عنه بلغتنا، فهل يبقى بدون أثر على تصور القوي القادر بيننا، الحاكم؟ السيد؟

أجد مغرياً عند هذه النقطة التفكير، استناداً إلى مثال داعش المذهل، في تديين المفاهيم العلمانية في اتجاه معاكس لذلك الذي وصفه كارل شميت بخصوص كون مفهوم الدول السيدة علمنة لتصور الله. مفهوم الحاكمية الإلهية بالذات يتضمن تأثراً من قبل المودودي بالدولة السيدة الحديثة، وبخاصة بنموذجيها الشموليين، الشيوعي والنازي، وقد كانا ملء الأسماع والأبصار وقت طلع المودودي بنظريته عام 1941. المشترك بين نماذج الدولة هذه أنها «تنتخب» شعبها. ولعله يمكن تعريف السيادة بهذا الانتخاب الذي يتضمن تحديد من يجب قتله حسبما عرفها (السيادة) أشيل مبمبه. مفهوم النكروبوليتكس (سياسة الموت) المثير الذي بناه مبمبه على غرار مفهوم البيوبولتكس لفوكو (إحصاء السكان وتسجيلهم وضبط أجسادهم وتنظيم الصحة العامة والجنسانية… كمهمات لسلطة انضباطية منبثة في المجتمع، ولا تتركز حصراً في الدولة)، يحتاج إلى هذا البعد السياسي المتمثل في الانتخاب كمكمل للبعد القتلي للسيادة (فوكو يرفض مفهوم السيادة، ولا يرى السلطة مستقرة في الدولة). هذا أفق جدير بالاستكشاف في السياق السوري بخاصة، حيث تعرض الدولة والدين طاقات إبادية مميزة. في كل حال، تمسّ الحاجة إلى تفكير متجدد في العلاقة بين اللاهوت والسياسة إسلامياً.   

وفي تشابكه مع كلّ من المخيلة الامبراطورية الموروثة والمظلومية المعاصرة، يورث الاختصاص بالله استعداداً مميزاً للظلم، الظالمية العادلة في عين نفسها، أو الظالمية الحلال بدورها، المقدسة أو المكرمة. وهذا ضرب من الامبريالية المُحسِنة مع رسالة تحضيرية، من الصنف الذي برر الاستعمارُ الغربيُ الحديثُ نفسه به، وورثها ولم يرث غيرها الإسلام السياسي، وأكثر منه الإسلام الحربي أو الجهادي. ويثمر تفاعل المظلومية المعاصرة مع ما يبثه التوحيد من اختيار إلهي إقصاء العالمية كتنوع (مما خبرته امبراطوريات المسلمين مثل غيرها) لمصلحة العالمية كفرضٍ لواحد، وكاستغناء بما نملك، الله ذاته، عن كل شيء آخر، عن الناس كلهم. العدمية في صيغة «إرهاب» إبادي صارت ممكنة سلفاً على هذه الأرضية. هذا يتحقق عبر انقلاب الاختصاص بالله إلى ألوهية أو تألّه. يقين السلفيين الجهاديين بأن كلام الله واضح مباشر بسيط، وأنهم يعرفونه و«يطبقونه»، فيستنفدون الله ذاته في ما يقومون به من أفعال، وأنه لا يكاد يكون في الله فائض عما يقولونه ويقررونه هم، يضعهم هم في موقع الفاعل الحقيقي، إله الله نفسه، ويضع الله في موقع عبد عندهم. نحن حيال انقلاب تام هنا: بعد أن كان الله الذي ليس كمثله شيء (وإن يكن من جانب آخر خلق الإنسان على صورته) غير قابل للاحتواء، جرى احتواؤه في صيغة من الإسلام مفرطة التصلب، صار مسلماً كما سأقول للتو.

ونرى على هذا النحو إعادة تشكيل الله في صورة موازية لإعادة تشكيل الإسلام، وفي اتجاه انكفائي في الحالين يوافق حاجات ومطالب أقليات صغيرة هي طوائف الإسلاميين المعاصرة. الله الذي يمكن بناؤه من تألّه شرعيي منظمات الإسلاميين وأمرائها هو اختصاصيُ تعذيبٍ وقتل، أشبه بلواء في المخابرات الجوية الأسدية.

انقلاب الله إلى مسلم هو احتمال ممكن منذ وجدت صيغة من صيغ الإسلام تفترض علاقة مباشرة بالله بلا وسائط، فتنكر عملياً التأويل والتاريخ، والثقافة، وتفترض الله قريباً مقروءاً، ومنتهياً، نحيط بسيرته ونعرف ما يرضيه وما يثير غضبه، كأنما هو أكثر تناهياً من أي من الفانين من مخلوقاته. هذا أضيق بكثير من إله اليهود الطائفي، وإن ظل بلا ملامح خلافاً لإله المسيحيين المصلوب. أسلمة الله تكرست مذهبياً في الأشعرية التي جمعت، خلاف المعتزلة، بين إنكار خلق القرآن، أي رفض إدراج القرآن في التاريخية، والحد من تنزه الله وتعاليه عبر إنكار الأسباب وعقيدة التدخل الإلهي المستمر. وعبر حرفية الحنبلية ونزعتها التشريعية السلوكية الانضباطية، تطورت هذه الصيغة في الوهابية، قبل أن تبلغ أعلى مراحل التأله في السلفية الجهادية. ولأن هذه العقيدة منكِرةٌ للوسائط، أي للتأويل والثقافة والفن والتاريخ، ولأنه لا يقف بينها وبين الله المقروء المعلوم المحدود شيء، فإنها مهيئة للانقلاب من عبودية لله إلى استعباد الله، ومن طاعة للقدير إلى تطويع له. يبدو الإسلامي عبداً لله، لكن في الواقع يبدو الله والإسلامي معاً عبدين للإسلام، لإسلامٍ هو جسم محدود من معارف وقواعد يعرفها «الشرعيون» ويحيطون بها.

تتصل أسلمة الله هذه بدافع أساسي عند الجماعات: تكريم الذات أو تشريفها. وهو في تقديري السبب وراء انتصار الأشعرية على المعتزلة. إله المعتزلة دستوري (ألزم نفسه بالعدل)، وميثاقه مع المسلمين تاريخي (خلق القرآن)، فيما الميثاق أبدي وأزلي عند الأشعري، الذي لا يلتزم إلهه بشيء. 

كان من شأن الوسائط، الثقافة والفن، والتأويل والفلسفة، والإيمان ذاته كفعل ثقة حي، أن يكون مساحة توازن تحول دون انقلاب المعبود إلى عبد والعبد إلى معبود، مساحة تحول دون أسلمة الله ودون تألّه المسلمين، وتجعل الله أفقاً للتعالي والغيرية والارتقاء. حين يجعل الإسلاميون من معتقدهم مطلقاً فوق كل وسائط، أي فوق مجال الإنسان، إنما يؤلّهون أنفسهم، فيكونون تماماً مثل من لا يؤمن بأي شيء على الإطلاق. ويفترض أن هذا امتياز لله وحده، فهو وحده من لا يؤمن بأي شيء، هذا استثناء مُعرِّف له. وبقدر ما يؤلّه الإسلامي نفسه، يُنصِّبُ نفسه سيداً وديّاناً للناس، فإنه يضع نفسه في موقع السيد العام والمُبيد العام، من يعلو فوق الناس كثيراً، ومن تنخفض حياة الناس أمامه كثيراً جداً، إلى ما لا نهاية. بشار الأسد هو المبيد العام في سورية لأنه لا يتقابل معه إلّا «اللا أحد»، وهو ما يقتضي إبادة كل أحد كمنهج لإنتاج اللا أحد. ومثل ذلك الإسلامي الذي ينفي التاريخ والبشرية في علاقته مع الله فينتهي إلى أن ينفي الله ويتألّه هو ذاته. فتوح المسلمين وامبراطورياتهم توفر تخيلاً للسلطة العالمية يستعاد بلا نهاية كتحقق للسيادة والسيطرة، كتألّه على الناس.   

وعبر الإخلاص لحرفيات النص، ولقواعد وشكليات طقسية وسلوكية وكلامية وقيافية، ما اختنق ومات في النفس هو البيت الداخلي أو الروح، وما عاش هو «الهوموإسلاميكس»، المبرمج على «الشريعة» والفاقد للحرية جذرياً (يراجع الفصل المعنون هوموإسلاميكس في كتابي: أساطير الآخرين).

عن مثل هذا التكوين الآلي تكلم دستويفسكي في مذكرات من البيت الميت: «ولم يكن [أكيم أكيموفيتش، نزيل معسكر الأشغال الشاقة سيبيريا، مع دستويفسكي نفسه بين 1849 و1854] بالمتدين كثيراً، لأن خضوعه الدائم للشكليات قد خنق جميع مواهبه الإنسانية، وكل عواطفه وميوله، سواء كانت طيبة أم خبيثة». هذا شخص يُؤمر، وينفذ ما يُؤمر به، وإن أمكن وصفه في سياقنا الإسلامي المعاصر بأنه كثيرُ التدين قليلُ الإيمان. وعلى نحو يذكر بحنه آرندت وكلامها على التفكير كحوار مع النفس (في آيخمان في القدس)، وعلى انعدام التفكير كجذر للشر، يضيف الروائي الروسي في وصف الشخص نفسه: «ثم إنه لم يكن يحب التفكير كثيراً. ولم تخطر له أهميته على البال أبداً، في حين أنه كان ينفذ القواعد التي فرضت عليه بدقة متناهية». دون تفكير، لكن مع «إخلاص أعمى للمراسم»، على ما يستطرد دستويفسكي، نحصل على القاتل المطيع، على آيخمان، وعلى السلفي الجهادي النمطي، المفتقر إلى لغة شخصية، والذي لا يتفوه بغير كليشيهات وصِيَغ جاهزة، وبدوره أيضاً يطيع ولا يفكر.

هذا ليس لتقريب السلفي الجهادي على نحو خاص من النازي، بل للقول إن الاعتماد على «ضمير خارجي»، في صورة عقيدة أو حزب أو قائد…، يقود إلى قتل التفكير والحياة الداخلية، والتحول المحتمل إلى آلات للشر.

وتسهم المخيلة الامبراطورية في الإجابة على سؤال يتواتر طرحه: ليس المسلمون وحدهم من تعرضوا لمظالم متنوعة، فلماذا يبدو أنهم، خلافاً لكثيرين غيرهم، يتفجرون ضد العالم من حولهم عنفاً بالغ التوحش؟ أعتقد أن تمفصل المظلومية مع الامبراطورية أساسيٌ هنا. المظلومية تعطينا شعوراً بالعدل مهما فعلنا، ومخيلتنا الامبريالية تشرّع لنا الركون إلى العنف والإخضاع وتنسب إليه قيمة إيجابية. ومن تمفصلهما نحصل على ما يمكن تسميته الامبريالية المقهورة التي لا تستطيع مقارعة الامبراطورية القاهرة جبهياً، فتجنح إلى «الإرهاب»، وهو من أنماط الإبادة المميز للتابعين The subaltern genocide، بتعبير آدم جونز في Genocide, A Comprehensive Introduction. جونز يمثل على ذلك بهجمات 11 أيلول 2001. لكنه يذكر أمثلة أخرى على إبادات قام بها التابعون (عموم الإبادات قام بها السادة، الدول أساساً ومن في حكمها) منها مذابح سكان هاييتي الملونين ضد البيض الفرنسيين عام 1804.

وخلاصة هذه الفقرة أن طوائف الإسلاميين تقوم على تفوقية إسلامية لا تغاير في شيء التفوقية البيضاء في أميركا: White Supremacy، وتحمل مثلها طاقة عنصرية وبرنامج إبادة محتملاً. لكن بما أنها وليدة ديناميكية تطييف، مفتقرة إلى الهيمنة، فإن تفوقيتها تنقلب إلى تشريع لعنف أعشى، تضررت منه مجتمعات المسلمين أكثر من غيرها.

الظلامية والاكتفاء الذاتي

مزيجُ المظلومية والاختصاص بالله يقود إلى تركيب نفسي سياسي خاص يمكن تسميته بالديْن الذاتي، ألا نكون مدينين لغير أنفسنا، وأن نجعل من هذا الديْن للنفس دِيناً: هذا هو جوهر دين الإسلاميين اليوم. ودون دين لأي كان لا يمكن أن تقوم التزامات حيال أي كان. نكون هنا في عالم الأنانية المحض، عالم أنا-وحدي (سوليبسيست)، لا وجود فيه لغيرنا، فلا التزامات حيال الغير ولا بأس باستغلال الغير. لا صداقة ممكنة هنا.

وليس أفضل رد على ذلك أننا مدينون لغيرنا بالكثير، وهو صحيح قطعاً، ولكن أن العالم والوجود في هذا العالم كله دين ووفاء، وأن تكويناً نفسياً فكرياً أخلاقياً يقوم على أننا لا ندين لغيرنا هو طريق مستقيم نحو البدائية أو التوحش. والأمر مثير للسخرية، بل مهين، حين ننسب لأنفسنا أفضالاً، في عالم لا يكاد يكون لنا اليوم إسهام في غير رفع مستوى القسوة والتعصب فيه. المسلم الكريم هو من يتمرد على هذا التركيب الطائفي، الكاذب حتى قبل أن يكون منبعاً فياضاً للأنانية والقسوة.

الدين الذاتي هذا عنصر من عناصر مركب ثالث يمكن أن يساعد في شرح استحكام الأنانية بالإسلاميين: مركب الكبرياء ونزعة الاكتفاء الذاتي. جذور الكبرياء الإسلامية المعاصرة تمتد بدورها في تربة تتلاقى فيها أخيلة الامبراطورية مع الاختصاص بالله، وقد وجدت سنداً انفعالياً وتعزيزاً في المظلومية والنفس المُنجرِحَة. مظلومون ومستهدفون بالتمييز اليوم، نحن في الواقع «خير أمة أخرجت للناس»، أمة الله والمدافعون الوحيدون عن الله في عالم جاحد كافر. الله نفسه منا، هو ذاته مسلم. نحن الموعودون بوراثة الأرض، أو بِنِعمٍ لا تزول في السماء. وقد كنا بالفعل سادة العالم، وفتحنا أراضي واسعة بين الصين والأندلس، إلخ. فإذا استطعنا فعل ذلك يوماً، فلماذا لا نستطيع اليوم؟

ماذا يعني الاكتفاء الذاتي؟ يعني استغناءنا عن موارد فكرية وأخلاقية ورمزية مغايرة، كان يمكن أن تكون مُخصِبة ومُغيِرة. يعني بالضبط الظلامية. وهو يتحرك لدينا في مساحة تتجاوز تقرير أن كل ما لدينا خيرٌ إلى أن كل ما هو خيرٌ لدينا. التقرير الأول ضرب من التكريم الذاتي شائع بين الجماعات كلها، وإن اختلفت أسانيده بين السماء والأرض، أو الأسبقية والدم، أو التاريخ والقوة، فيما الثاني هو ضرب متوتر من الغرور والأنانية، يرفع الفروق بين الجماعات البشرية إلى مرتبة الفرق بين الإنسان والحيوان. العنصرية وحدها ما تقوم على أساس كهذا، وهي مفتوحة في كل أمثلتها المعروفة على الإبادة.

ظلامية الإسلاميين هي من صنف كل ما هو خير لدينا، أغنانا الله بالإسلام عن كل شيء سواه، على ما يقول الشيخ القرضاوي. غاية ما قد نأخذ من الغير هو تقنيات أو إجراءات. الإسلاميون إجرائيون متطرفون، يجعلون من «الإسلام» مبدأ الذاتية الوحيد، ويردون كل شيء آخر إلى إجراءات بلا روح. والمشكلة أن مبدأ الذاتية متشكل على يد هؤلاء الإجرائيين، الذين يراكمون  فقراً فكرياً وروحياً وأخلاقياً قاتلاً للذاتية. كان يمكن لإجرائيتنا أن تحظى ببعض الوجاهة لو كنا في نهوض فكري وثقافي، في إبداعية وتفتح آفاق. مزيج الإجرائية والفقر الفكري اليوم هو الطريق المَلَكية نحو البدائية والتوحش، وإن جاملنا النفس بأفضلية ذاتية لا يراها غيرنا.

ظلاميتنا كبرياء نفس جريحة، تخادع نفسها بالأفضلية لأنها لا تستطيع مواجهة بؤسها.

ليس هناك ما نحتاج إلى تعلمه من الغير. ما لدينا كاف، بل هو كل ما يلزم. هذه الظلامية قد تأخذ صيغة مقاتلة، فتحاول فرض ما لدينا على غيرنا، وهو منهج السلفية الجهادية. الاسم المستحق لمحاولة القوى الغربية المتفوقة فرض ما لديها على غيرها هو الامبريالية (واليمين الغربي المعاصر ليس بعيداً عن القول إن كل ما هو خير لدينا). ولا نحتاج إلى اسم آخر من أجل جهود الإسلاميين للقيام بالأمر نفسه، حتى لو كنا ننكر إن القوى الغربية متفوقة في الواقع في القوة والمعرفة الاقتصاد والعلوم المضبوطة والتكنولوجيا، والفنون، والفلسفة والتأمل الأخلاقي، خلافاً للإسلاميين. والحال أن إنكار ذلك كله صعب، بل مُهين.

والوجهة الوحيدة للاعتراض على هذا الواقع هي الدفاع عن الغيرية والمساواة، أي عن مستمر أخلاقي يتساوى فيه الناس كمختلفين وملتزمين حيال بعضهم، ويستطيعون العمل معاً من أجل رفع الظلم، عن الغير كما عن النفس. وهذا بالضبط هو ما يرفضه الإسلاميون. يواجهون امبريالية الغير بامبرياليتنا الخاصة، وليس بتحررية عامة وعدالة عامة.

ثم أن الاكتفاء الذاتي يحكم على تفكيرنا بأن يكون تكرارياً، نقول الأشياء ذاتها طوال الوقت. الثقافات تنتهي إلى التحجر حين تختار أن تكف عن التفاعل مع غيرها أو تضطر إلى ذلك. التفكير التكراري هو لا تفكير، وما نكرره ينقلب إلى كليشيهات خاوية من المعنى. وما كان فكراً رفيعاً يبتذل ويذبل إن لم ينعشه تفكير حي متجدد. الماركسية استعادت شيئاً من الجدة والحياة، بل من الكرامة، عندما لم تعد مفروضة كعقيدة رسمية ومختصرة في كليشيهات وأقوال محفوظة. لكن بالطبع لا شيء يقاوم فعل الزمن، وهو لن يعطي استثناءاً لشيء من معتقدات البشر، سواء عرَّفَت نفسها كدين أم فكر، ونسبت نفسها إلى السماء أم التاريخ.

ثم إنه يقترن بميلنا إلى تكرار الأشياء نفسها أن نتكرر نحن بالذات في نسخ متماثلة: فإذ كنا كلنا لا نكفّ عن قولِ وفعل ما يقرره قادتنا وعلماؤنا من مثال أصيل واجب التكرار، نؤول إلى نتماثل مع المثال ونفقد ما يميزنا، فلا تبقى فائدة في كثرتنا ولا ضرر من قلّتنا. على هذا النحو نحكم على أنفسنا بعدم اللزوم.

العدوان أو الظلم الحلال

الأثر الأهم للفعل المتعاضد لكل من المظلومية والاختصاص بالله والظلامية يتعدى ضمور حس الغيرية، إلى العدوان على الغير حيث أمكن، وإلى «إدارة التوحش»، على نحو أسهم بقوة في المحنة السورية المتمادية. من جهة ارتكب الإسلاميون (الذين يعيشون في عالم لا أحد غيرهم فيه) جرائم بحق جمهور الثائرين السوريين، رفعت عتبة التماهي بالثورة من قبل سوريين كثيرين يمقتون النظام. ومن جهة أخرى تسببوا بخسران الثورة السورية معظم المتعاطفين معها عبر العالم، وذلك عبر مثالهم العدائي المنفر، وعبر تهديداتهم الجوفاء للعالم (فتح روما…)، وقللت بشدة من حساسية كثيرين لما يصيب السوريين.

في سياق آخر كان يمكن الكلام على إسلاموفوبيا هي الشكل الأبرز للعنصرية في عالم اليوم على ما يقول بحق غسان الحاج في كتابه الأخير (Debating Race: Is racism an environmental threat?، 2017)، سهّلت التواطؤ مع مصاب السوريين المديد. لكن من يشغلون أسوأ موقع للتحفظ على الإسلاموفوبيا هم إسلاميون لا يشعرون بدين لأحد في العالم، ولم يعبروا عن احترام لأحد في العالم قط.

هذا تركيبة فاسدة أخلاقياً وسيكولوجياً وسياسياً، تسببت بشرّ كثير للمسلمين وغيرهم، ولا يرد عليها بقول مبتذل يُعفي قائليه من التفكير: «الإسلام من ذلك براء».   

«الإسلام» من ذلك براء حقاً، ولكن لسبب منهجي عام، لا يختلف في شيء عن أن الماركسية براء من الغولاغ، والقومية براء من الهولوكوست، واليهودية براء من الصهيونية، والمسيحية براء من الحروب الصليبية وإبادة السكان الأصليين في «العالم الجديد». هذا السبب يتصل بأن العقائد «معان خارجية» تتقدم عليها في التأثير المعاني الداخلية المتصلة بتشكل منظمات الإسلاميين (أو الشيوعيين أو القوميين) ودولهم المعاصرة.

وذو دلالة أن من يقولون إن الإسلام براء هم بالضبط من يصرون على نسبة جرائم أية جماعات بشرية أخرى إلى عقائدها الفاسدة حصراً. هذا «ازدواج معايير»، نفاقٌ ببساطة. فقط على أرضية تفكير علماني، دنيوي وتاريخي، يمكن أن يكون دور العقائد، كل العقائد، في جرائم البشر مندرجاً في شيء أوسع من هذه العقائد نفسها. أما على أرضية معتقدية، فلن نجد غير الشهادات الطيبة بالنفس والسيئة بالغير. نكون هنا في عالم الديْن الذاتي. وهذا عالم للأنانية والعنصرية والقسوة.  

أُلحُّ بالمقابل على فكرة المظلومية وما يتصل بها لأنها تنقل النقاش إلى الحاضر التاريخي وحقوله وصراعاته وتركيباته النفسية والاجتماعية، فلا تحصره في الماضي وما ورثنا من جهة، ولا في المعتقدات المجردة وتصور الجماعات عن نفسها من جهة أخرى. ذلك أن المظلومية هي مساحة نفسية اجتماعية متولدة عن تقاطع الشروط «الموضوعية» الراهنة مع الاستعدادات الفكرية والسياسية الموروثة. يقيم الإسلاميون في المظلومية، إنها غريزتهم الأساسية، التي يُعاد تشكيل المعتقد الإسلامي ذاته عبر ضغوطها وتُدرَكُ «الشروط الموضوعية» ذاتها عبر تحريفاتها. المعتقد الإسلامي المتشكل عبر المظلومية هو، أُكرّر، دين طائفة الإسلاميين.

ومزيج المظلومية والامبريالية والنفس الجريحة المستسلمة لكبرياءٍ أجوف يبدو أنه يَحولُ دون ظهور أصوات إسلامية قوية تعترض على موت الغيرية في بيئاتنا. لسنا حتماً أسوأ من غيرنا ولا أشدَّ أنانية، لكن غياب أصوات غيرية أو اعتراضات مسموعة الصوت على المقدار الكبير من الشر الذي نحدثه في العالم يضعنا في موقع فكري نفسي أخلاقي غير محترم، ومن الأسوأ في عالم اليوم.   

وليس لتفوق الدولة الأسدية في الإجرام والتدمير، وليس لما تعرَّضَ له السوريون من خذلان دولي، أن يخفف من مسؤوليات إسلاميين متنوعين عن جانب من المحنة السورية. هناك جرائم موصوفة معروفة، وهناك تقييد اجتماعي وسياسي منتشر في مناطق سيطرة الإسلاميين، وهناك قبل كل شيء محنة تاريخية كبرى تتصاغر أمامها مِحَنُ الجيل الإسلامي الأول وأي أجيال إسلامية أخرى. هذه أزمة تأسيسية، يَُّرجحُ أن تفضي ويجب أن تفضي إلى إعادة تشكّل الثقافة والنظام الاجتماعي والسياسي، والأخلاقي والحقوقي والديني. والأرجح أن تكون حاسمة في شأن مستقبل طوائف الإسلاميين الناشئة، ودين الإسلام القديم ذاته.

المنهج والتعميم

في النهاية، هذه المقالة تحاول الإجابة على سؤال: لماذا ظهر الإسلاميون في سياق الثورة السورية كقوى تمييزية أنانية يتعذر العمل معهم من أجل قضية عامة؟ ما أقوله هو أنهم طوائف تنعكف على نفسها بصورة متشنجة، تحت تأثير مظلومية يلتقي فيها الواقعي بالخيالي، وتتلقى رفداً من مخيلة امبريالية ومن تكبّر واكتفاء ذاتي موروثين. هذه بنية متصلبة، زادتها صلابة تجارب التاريخ الحديث القاسية. ويبدو الإسلاميون أسراها، لا يتحكمون بها. أُخِذَ على الإخوان المسلمين السوريين مثلاً أنهم يحاولون احتلال أوسع مساحة ممكنة في الأجسام المعارضة السورية التي ظهرت بعد الثورة. أعتقد أنهم يفعلون ذلك بتوجيه من «دين المظلومية» الذي يتحكم بهم أكثر من العكس. الجماعة مفتقرون إلى الرؤية لأنهم مدينون كل الدين لدينهم هذا، لا يستطيعون مساءلته أو أخذ مسافة منه، أو تقمص غيرهم ومشاركته، أو الدخول في صداقة. ولا يستطيعون مساءلة مبدأ «الديْن الذاتي» الانعزالي. هذا يقتضي تفكيراً متجدداً، ولا يبدو أنهم قادرون إلى اليوم على ما يقتضيه التفكير من حوار مع النفس (آرندت) ومساءلة النفس.

ومعلوم من جهة أخرى أن السلفيين الجهاديين مضادون لـ «الرأي»، أي للتفكير، وأن كلامهم العام تكرار لمحفوظات سابقة، وأن السياسة لديهم تكنولوجيا حُكم هدفها إنتاج أناس متماثلين، لا يكفون عن قول وفعل الأشياء نفسها مدى الحياة.

هذا يوجب تفحُّصَ أُسسِ الضمير الإسلامي المعاصر، وليس فتح باب لبراءات واستثناءات من إسلام مثالي صالح لكل زمان ومكان، على ما يفعل جميع الإسلاميين. وحده ما يتغير هو ما يصلح لكل زمان ومكان. وباب الاستثناءات الذي يفتح الإسلاميون كي يحموا عقيدتهم الثابتة يتسع ليخرج جميع الإسلاميين، مجموعة مجموعة (داعش، ثم القاعدة، ثم الإخوان، ثم الصوفية، ثم تديّن العامة…) ، فلا يبقى غير إسلام مجرد، عاطل عن الفعل، مرفوع فوق رؤوس الناس أو فوق أناس بلا رؤوس. وفي الحالة القصوى نحصل على مسلمين سيئين كل السوء يقولون عن دينهم إنه صالح كل الصلاح!

عبادة الإسلام هذه هي منهج الإسلاميين. وهذا المنهج إما أن يُرفض رفضاً خارجياً لا يؤثر عليه، أو يُعتنق من قبل الإسلاميين ويُطابَق مع الإسلام، كأنما هذا لا يتشكل بالتاريخ وتجارب المسلمين. وفي الحالين يبقى المنهج غير منقود.

وهذا ما حاول هذا التناول تداركه، بما قد يساعد على الخروج من تشكّي الإسلاميين من التعميم بحقهم باتجاه ما أرى أنه المنهج الجامع لهم. 

ما تريد هذه المقالة قوله هو أن المشكلة في المنهج، في تركيب نفسي فكري أخلاقي يشغل الدين الذاتي وعبادة الإسلام مركزه. أي عملياً عبادة الذات، والتقليل من شأن الغير جميعاً، عموم المسلمين مثل غيرهم.

وما يمكن استخلاصه من ذلك هو وجوب إعادة بناء الدين على الأخلاق، على ما ينسب إلى كانط فعله في إطار الفلسفة الأوروبية. أخلاقية كانط المجردة استبعدت السود، ولم تكن غيرية وشاملة بقدر ما تقول صيغه في نقد العقل العملي. هذه سمة عامة لليونيفرسالية (العالمية) الأوربية. مستعدة لفتح باب للاستثناءات، عملياً إن لم يكن نظرياً. لهذا فإن الدفاع عن الغيرية والمساواة معاً يبقى تطلعاً جامعاً، وأرضية أصلب لنقد وإدانة الطائفيين المبدئيين مثل الإسلاميين، والكونيين الزائفين مثل عموم الليبراليين الأوروبيين، وأكثر اليساريين.

في سياقنا المحسوس، تعني إعادة بناء الدين على أخلاقية الغيرية ثلاثة أشياء معاكسة للثالوث المظلم. أولها، التحوّل من اجترار المظلومية المتقوقعة على النفس إلى مقاومة الظلم وفق معايير عامة للعدالة ومناهضة التمييز. وفي هذا الشأن من المهم جداً تجنب صراع المظلوميات، والتنافس بين من منا هو الضحية أكثر من غيره، مما ينقل الصراع إلى أوساط الضحايا والمظلومين، بدل أن يصارعوا معاً ضد المعتدين والظالمين. وثانيها، تطوير مجال الإنسان الذي هو مجال الوسائط، مجال الثقافة والتاريخ، المتعدد والكثروي، والمتكون حول الأنسنة واستبعاد الظلم ومقاومته. ومن هذا اليوم حفزُ التفكير في قضايا الضمير وإعادة بناء ثقافتنا حول تجاربنا المعاصرة، وهي تصمد للمقارنة مع أي مواريث تاريخية، دينية أو غيرها، وتتفوق عليها. وثالثها المشاركة مع الغير والتعلم من الغير والأخذ والعطاء من الغير، ضداً على الامبريالية، والتألّه، وضداً على التبعية والعبودية والخضوع. الوجود في العالم هو دَين ووفاء، وأولئك الأخيار في عين أنفسهم، الذين لا يدينون إلا لأنفسهم، يتسببون بالأذى أكثر من غيرهم، وهم أجدر بالإدانة من غيرهم.

وفي النهاية نكون كغير إسلاميين في موقع أفضل بكثير لإدانة الظلم الإسلامي الحلال حين نقاوم ما يقع على الإسلاميين من ظلم، ونرفض المطابقة الحصرية بينهم وبين العدوان والتمييز، مما يبدو الطلب عليه مرتفعاً اليوم في دوائر يمينية ويسارية في الغرب. هذا خطأ، وهو يسهم في إغلاق دائرة الشر علينا جميعاً، نحن والإسلاميون والعالم. الاعتراض على نقد تمييزي للإسلاميين، وللإسلام، يبقى النهج التحرري الصحيح، وهو لا يقتضي بحال إغراق مظالم الإسلاميين وجرائمهم في نسبية مظلمة هي ذاتها. العنصرية هي استثناء الإسلاميين، وربما المسلمين، من مناهج الإنسانيات، وهي تمهد لإخراجهم من الإنسانية، وتالياً إباحتهم للإبادة. لكن ليس للاعتراض على ذلك أن يُميِّع الشكل الخاص للعداونية أو للظلم الإسلامي على ما حاولت هذه المقالة إضاءته، وتحديداً ما يتصل بتصوريّ الامبريالية المقهورة والديْن الذاتي. لدينا سلفاً تاريخ كاف وتجارب كافية لنقد جذري، لا يكون صوتَ نفس منجرحة أخرى.

السجين- السجّان

أختم بصورة يبدو لي أنها تمثل وضع الإسلاميين التاريخي المعاصر، صورة تشكيل جيش الإسلام في الغوطة الشرقية، السجين الذي هو سجان في الوقت نفسه. جيش الإسلام هو التشكيل السلفي العسكري أو «المجاهد» في الغوطة الشرقية المحاصرة. عمل على السيطرة على دوما وفرض صوته الواحد فيها منذ نشوئه على يد سجين سابق في صيدنايا، زهران علوش. شرعيُّه، سمير الكعكة، هو بدروه سجين سابق في صيدنايا.

وقت اختطف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي كانت الغوطة الشرقية محاصرة حصاراً كلياً مطبقاُ منذ نحو شهرين. كان هذا التشكيل سجيناً، وهو ما لم يمنعه أن يكون سجاناً. عامي 2015 و2016 هما عاما فجور السجان-السجين، اعتقل وعذب واغتال وقتل واعتدى على متظاهرين وأعدم بأسلوب داعشي مقاتلاً ضد النظام في ساحة عامة، وعرض أسرى في أقفاص حديدية. هذا أسوأ وضع ممكن أخلاقياً وفكرياً ونفسياً. هذا بينما كان النظام لا يتوقف (وإلى اليوم) عن قصف دوما والغوطة الشرقية فتنزف دماء سكانها، بمن فيهم مقاتلون في جيش الإسلام. فلا هو وضع سجين يحلم بالحرية ويعمل من أجل الحرية مع غيره، ولا هو وضع سجّان يحاول أن يكون السيد الوحيد، ولا يرضى بسجّان منافس. جيش الإسلام متعايش مع السجّان الأسدي الأقوى، ولو تركه هذا بأمان في إمارته لكان محتملاً جداً أن يرضى هو بسيادة المملكة الأسدية. 

هنا تعارض عميق بين الوضع الفعلي وبين وعي هذا الوضع وضميره، مما هو سمة جوهرية للإسلاميين في عالمنا المعاصر: مسودون، مقهورون، لكنهم يتصرفون كمستبدين قاهرين، يرفضون المساواة مع غيرهم ولا يريدون أن يكون لهم شركاء. خاسرون محترفون، يتسببون بالخسارات الأكبر لأنفسهم ولغيرهم، ثم يشكون من كيد العالم ومؤامراته.

السجين السجّان، المظلوم الظالم أو الامبريالي المقهور، هو وجه أساسي لوضع العرب والمسلمين المعاصرين في العالم. نجمع الأسوأين: المظلومية والعدوان. وهو ما يقتضي، بين أشياء أخرى، تصفية حساب نهائية مع الامبراطورية وأشباحها في تفكيرنا ومخيلتنا.

لدينا دليل رمزي نهتدي به: ننحاز نهائياً للسجناء المضاعفين، المحاصرين حصاريْن، لرزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي.

ولسميرة الخليل التي هي فوق الحصارين سجينة العهدين، الأسدي والإسلامي.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى