نقد ومقالات

إذا كنت تكتب لتعيش دع الكتابة فورا، اصبر لا تنتظر الإلهام والشهرة اكتب باستمرار.. وصايا إلى الكتاب الشباب/ ممدوح فراج النابي

لا تتوقف نصائح الكتاب ذوي الخبرة الموجهة إلى الكتاب الناشئين أو الشباب، نصائح يحاول كل منهم من خلالها تقديم رؤيته للأدب ولطريقة الكتابة، وإن كان فيها من الإفادة الكثير فإن فيها أيضا تعسفا على من يريد أن يصبح كاتبا، إذ تمثل كل نصيحة رأي صاحبها ولا يمكن الالتزام بها، وحتى وإن قارنا بين نصائح الكتاب قد نجد تضاربا، كما نجد توافقا في بعض النقاط.

يعدُّ فعل الكتابة واحدة من الظواهر التي شغلت المهتمين بأمرها على مر العصور، فقديما كان الشاعر إذا أراد أن يقول الشعر، طُلب منه أن يحفظ ألفَ بيت من الشعر، ثم يعود لينساها وبعد ذلك يبدأ في كتابة الشعر، بعد أن تخلّص من تأثير السّابقين عليه، وامتلك صوته المستقل، وهو الأمر الذي أثبتت الدراسات النقدية الحديثة استحالة حدوثه، فميراث الأسلاف هو الباقي، على نحو ما ذكر هارولد بلوم عن قلق التأثير، حيث يعاني الشاعر اللاحق من تأثير الشاعر السابق، فيسعى لممارسة نوع من الأُودِيبِيَّة ضدَّه في صورة “قتل الأب الشعري“.

وهو ما أكده من قبل الشاعر إليوت بقوله “إن الموهبة الفردية لا بد أن تجرّ معها تراث الأجيال المبدعة السابقة عليها، ربما من دون وعي غالبا وهي تخطو في دروب التاريخ بحثا عن صوتها الخاصّ بها“.

قوة التأثير

تأثير السّابقين على اللاحقين لا يتأتى عبر التأثر بآثارهم الأدبيّة وفقط، ثمة تأثير آخر يتمثّل في تلك النصائح أو الوصفات الإرشادية التي يذكرونها بين الحين والآخر للأجيال الحديثة عن شروط الكتابة وطرائقها، وهذه النصائح أو الإرشادات (التي تأتي أحيانا بناء على طلب من الشعراء أنفسهم، أو من قبل الكُتّاب، كنوع من نقل الخبرة والتجربة للأجيال اللاحقة) بمثابة خارطة طريق تأخذ بيد الكاتب إلى الكتابة الصحيحة.

قد يعتبرها البعض وصايا أدبية– غير ملزمة– تقدم من قبل الكبار للمبتدئين. وهو ما يقودنا إلى الاعتراف بأن مهمة الكتابة مهمة شاقة وعسيرة، تحتاج إلى دربة وصبر وأناة، فكما يقول همنغواي “إن الكتابة تبدو سهلة غير أنها في الواقع أشق الأعمال”، وكذلك تحتاج إلى خارطة إرشادية تُعبّد المسالك الوعرة، وتقوّم الأساليب وتنقح الأفكار، ومن ثم ظهرت كتب كثيرة تشير إلى هذا المعنى منها “الصناعتين” لأبي هلال العسكري، و”عيار الشعر” لابن طباطا العلوي وغيرها من كتابات رسمت المنهج والآليات للمبدعين كي يتقنوا صنعتهم.

صعوبة الكتابة التي ذكرها همنغواي تتفق مع سؤال الشاعر القديم عن كيف أقول الشعر؟ وطلب الشاعر الحديث أو الكاتب نصائح من السابقين عليه، وهو الأمر الذي يدلف بنا إلى إشكالية صعبة ترتبط بالكيفية والصنعة، تتمثّل في سؤال: هل الكتابة صنعة أم فن؟ صنعة بمعنى أن ثمّة آليات معينة يتبعها من يغوى الكتابة، تكون المحصلة النهائية إذا التزم بهذه المعايير، أن يصير كاتبا أيّا كان جنس الكتابة، أم هل الفن لا يحتاج إلى صنعة وتجويد، وإنما هو سليقة وابتكار ذاتي.

الغريب أن الالتزام بالصنعة يضع الكاتب وكتابته موضع اتهام وتهكم، ومن ثمّ نتساءل: هل هذا الالتزام بالصنعة و/ أو التجويد ينحرف عن السَّليقة والإبداع؟

نصائح الكُتَّاب الكبار إلى الأجيال الجديدة جاءت إما بطلب من مجلات أدبية أو بشكل تلقائي ودافع نقل الخبرة

في الحقيقة هذا ما واجهه الشاعر ابن سناء الملك، قديما، فالمعروف عنه أنه كان يميل إلى الصنعة في كتابته، وهو ما حدا بالدكتور عبدالعزيز الأهواني في كتاب “ابن سناء الملك: ومشكلة العقم والابتكار في الشعر” إلى أن يضع شعره أمام ثنائية: الصنعة أم الفن. وقد انتهى بعد اختبار القصائد إلى أن ابن سناء الملك مع اجتهاده العنيف، حسب وصفه، في نظم القصائد ومحاولته البلوغ بها إلى ما لم يبلغه أقرانه من الشعراء، انتهى به هذا الجهد إلى العقم، وأن ما حرص عليه أشد الحرص من الابتكار والاختراع كان انحرافا في فهم الشعر وخطأ في إدراك مهمة الشاعر. الغريب أن هذا العقم والجمود والتكلُّف اللفظي لا يخصُّ به ابن سناء الملك وحده، بل يجعله سمة لشعراء عصره، بل يسم العصر، العصر الأيوبي، بالعقم والانحراف.

وفي العصر الحديث كان الكاتب الإيطالي إيتالو كاليفينو يُعتبر، عند أغلب النقاد، فنان الصنعة لا الطبع، مبتكر الغرائب الماورائية والصناعة المحكمة، فالنقاد الإيطاليون يرون أن كتبه ذات “كمال شكلي فذ، إلا أنها بلا أهمية ملموسة، ولا تتجاوز كونها كلمات تحمل ذروة الخيلاء والبهرجة الفكرية” وهو ما يشاركهم فيه عدد من النقاد الإنجليز، فيصفون كتابته، وهم من المعارضين للكتابة التي تحتفي بأدبيتها الخاصة، بأنها “تفوح برائحة قويّة من إعمال الفكر والذكاء، أي الصنعة“.

التوجيه الأدبي

الكتابات التي تتوازى مع كتابات التوجيه الأدبي إن جاز الوصف، تتخذ أشكالا عديدة منها ما يميل إلى طابع الرسائل مباشرة من الكتاب (الشعراء والروائيين) إلى المبتدئين في حقل الكتابة الإبداعية (الشعرية والروائية) على نحو ما فعل الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه في “رسائل إلى شاعر شاب”؛ حيث طلب منه أحد الشعر اء الشباب أن يقيّم أشعاره، فجاءت الرسائل العشر وكأنها خارطة للكتابة الرشيدة من قبل الشاعر الكبير إلى الشاعر الشاب، فالرسائل استثارت في داخله أشجانا قديمة تمتد لفترة المراهقة، وهو يَحُثُّ الخُطى ليكون كاتبا، وفي نفس الوقت هو حائر لا يعرف مِن أين يبدأ خطواته، ليبلور أعماله الأدبيّة، بحثا عن هذا الوهج الذي يُبهر القارئ، وهو ما دفعه لأن يتخيّل ماذا لو تواصل، عبر الرسائل، مع مَن وضعهم على مذبح مقدساته كفوكنر وهمنغواي، ودوس باسوس، وكامو وسارتر، طلبا للتوجيه حول كيف يصير كاتبا، لكنه لم يتجرأ.

وأهم نصيحة يوجهها لهذا الكاتب الذي غامر ونجح فيما فشل هو فيه، وراسله طلبا للتوجيه، قائلا “أتجرأ على نصحك بألا تثق بذلك كثيرا، وألا تبني أوهاما كبيرة بشأن النجاح، مع أنه ليس هناك، بالتأكيد، سبب يمنعك من تحقيقه، ولكنك ستكتشف سريعا أن الجوائز والاعتراف العام، ومبيعات الكتب، والسّمعة الاجتماعيّة للكاتب، لها مسار من نوعها، مسار تعسفي إلى أبعد الحدود؛ فهي تتجنّب بعناد أحيانا مَن يستحقها بجدارة كبيرة، وتحاصر مَن يستحقها أقل، وتثقل عليه، وهكذا يمكن لمن يعتقد أن النجاح والشهرة هما الحافز الجوهري لميوله الأدبية، أن يرى انهيار حلمه وإحباطه، لأنه يخلط بين الميل الأدبي والميل إلى بريق الشهرة والمنافع المادية التي يوفرها الأدب لبعض الكتاب (وهم محدودون) والأمران مختلفان“.

ريلكله لم يضع الشاب فقط أمام أساسيات الكتابة على نحو ما سيأتي، بل وضعه أيضا أمام إشكالية الاعتراف والجوائز والمبيعات، وكأنه يريد أن يخلّصه من الأوهام التي تقتل الإبداع قبل أن تقتل صاحبها. ثم دلف إلى جوهر النصائح، قائلا “عليك بسبر أغوار ذاتك، عليك بالبحث في السبب الذي يدفعك إلى الكتابة، انظر إذا كانت جذوره متوغلة في أعمق مكان في قلبك، واسأل نفسك إذا كانت الكتابة بالنسبة إليك دونها الموت، والأهم اسأل نفسك في أكثر ساعات الليل سكونا: هل عليّ أن أكتب؟ وإذا كان الرد بالإيجاب، فعليك أن تبني حياتك تبعا لتلك الضرروة، يجب أن تصبح حياتك، حتى لحظاتها التي لا تكترث لها تماما، تعبيرا عن هذه الضرورة الملحة وشاهدا عليها“.

الغريب أن دعوة ريلكه للشاعر بأن ينظر إلى داخله ويتعمق في ذاته في وحدته، لم تكن سوى فخ، كي يصل إلى الحقيقة ألا وهي: أن يتخلى عن فكرة أن يصبح شاعرا.

وبالمثل فعل ماريو بارغاس يوسا في “رسائل إلى روائي شاب”، فتجاوز النصح الشخصي للكاتب الذي أراد أن يعرف كيف يصير كاتبا، إلى ما يشبه المانيفيستو الذي يدشن الطريق الصحيح للكتابة الجيدة عن الأسلوب والصياغة واختيار الموضوعات والخيال، والقدرة على الإقناع  والمعلومة المخبأة بالإضافة إلى تقنيات الرواية وغيرها، فقدم الروائي البيروفي يوسا نصائح متعددة لخص فيها تجربته في الكتابة، ومن جملة النصائح التي ذكرها أن الكتابة فعل حياة، ومن ثمّ، فعلى الروائي أن يعيش ليكتب وليس العكس، الكتابة عنده “ليست تزجية للوقت، وليست رياضة، ولا لعبة راقية تمارس في أوقات الفراغ. إنه انكباب حصري وإقصائي لما عداه. وشأن له أولوية لا يمكن أن يقدم عليه أي شيء آخر، وعبودية مختارة بحرية، تجعل من ضحاياها (من ضحاياها المحظوظين) عبيدا“.

 محاضرات تشارلز

هناك نوع من الإرشادات موجّه إلى طلاب الكتابة الإبداعية الدارسين في برامج جامعية، حيث تدرج مادة الكتابة الإبداعية ضمن المقررات الأكاديمية المعتمدة في برامج الجامعات والمعاهد المعنية بدراسة الآداب والعلوم الإنسانية. وهو برنامج معمول به في كبريات الجامعات الكبرى، تأتي من خلاله دعوة كِبار الكُتّاب للاستفادة بتجاربهم التطبيقية في الكتابة، ونقلها إلى الطلاب، على نحو ما رأينا لدى إيتالو كالفينو في “ست وصايا للألفية القادمة”، وأورهان باموق في “الروائي الساذج والحساس”، فالاثنان كتبا هذه النصائح لصالح محاضرات نشارلز إليوت نورتون التي تقيمها جامعة هارفارد.

كتب كالفينو هذه الوصايا بعد أربعين عاما من كتابة الرواية، وهو ما يعني أنه كان يريد أن ينقل خبرته الطويلة للأجيال الشابة، وبالفعل كتبها لكنه، مع الأسف، مات قبل أن يذهب ليلقيها في الجامعة. وقد استجاب كلفينو في كتابته إلى ذاتيته التي تميل إلى الصنعة، فركز على مسائل التقنية المحضة، كما هو واضح في تدقيقه في الصّور البصرية، ودقة التعبير والإيجاز وأشكال السرد.

أما أورهان باموق فيقول عن كتابه “هذا الكتاب هو كلٌّ مكتمل يضمُّ كل معظم الأشياء المهمة التي عرفتها وتعلمتها عن الرواية” وكأنه ينقل عبر تجربته للقارئ/ طالب الكتابة الإبداعية أساسيات الكتابة التي صاغها في شكل أسئلة هكذا: كيف يخطط الروائي لروايته؟ كيف يختار محور روايته؟ موضوع روايته فكرة الرواية وعلى أساس؟ أي أجزاء الرواية حقيقة وأيها خيالية؟ مَن هو الروائي السّاذج ومن هو الروائي الحساس؟ لكن الشيء المهم الذي توقف عنده باموق هو حديثه عن الهدف من قراءة الرواية، وهو توجيه غير مباشر للكُتّاب للاهتمام بالقارئ، فكما يقول “الهدف من قراءة الرواية يختلف من قارئ إلى آخر، فكل قارئ يتخيّل صوره الخاصّة عن الرواية“.

الشكل الثالث يأتي عبر صور نصائح مباشرة من قبل الكُتَّاب الكبار إلى الأجيال الجديدة، وهي تأتي دوما بناء على طلبات المجلات الأدبية التي تستغل أسماء الكبار في حوارات عن أعمالهم أو تقديم وصفات الكتابة للشباب، أو في سياق الحوارات الصحافيّة، حيث دائما يتعرض الكاتب إلى أسئلة من قبيل ما هي طقوس الكتابة عنده؟ وما يشغله في الكتابة، أو عبر سؤال مباشر: بماذا تنصح الكُتّاب الشّباب؟ فلنتأمل القواعد التي وضعها الكتاب، التي يجب على المبتدئين أن يسيروا عليها، يجمل الكاتب البريطاني جورج أورويل نصيحته هكذا “النثر يجب أن يكون مثل النافذة، يجب أن يكون واضحا قدر المستطاع وألا يحول شيء بينك وبين القارئ“.

أما همنغواي فقد عبّر عن كيفية صناعة العمل الأدبي، في سياق إشارته إلى عملية المراجعة وإعادة الكتابة التي يخضع كتاباته لها فكما يقول إن عمله الأهم “وداعا أيها السلاح” أعاد كتابته خمسين مرة قبل أن يدفع به إلى المطبعة، ولذا تأتي نصيحته هكذا “اعمل على كتابك بجدٍّ، فالكتابة الأفضل تعني صعوبة أكثر؛ ذلك لأن على كل قصة أن تكون أفضل مما قبلها، وهنا مكمن الصعوبة”، النصيحة الأهم عند همنغواي كانت متجهة لأثر الكتابة على القارئ، فيقول “إن استطعت أن تُمتّع من يقرأ لك ولا تستمتع أنت بما تكتب، فذلك هو الاختبار الحقيقي للكتابة”.

ولئن ابتعد همنغواي عن تقديم إرشادات مباشرة أو محددة، تخص عملية الكتابة وأسرارها، مكتفيا بالتركيز على فكرة التجويد، وصقل العمل، فإن الكاتبة التركية أليف شفق تضع عشر قواعد للكتابة من أبرزها: اقرأ كثيرا، مع الأخذ بفكرة التنوّع في القراءة، فلا تقتصر القراءة على كاتب بعينه، ومع ما ذكرته من نصائح إلا أنها تنتهي بنصيحة مهمة بأن على الكاتب أن يؤمن بأن ليست ثمة قواعد للكتابة، وذاك هو الجمال الكامن في فعل الكتابة، وتلك هي “الحرية الثمينة التي لها امتياز امتلاكها والتي ينبغي عدم السماح لكائن من كان أن ينتزعها“.

الصبر واحدة من الخصال التي حرص معظم الكتاب على أن يتمثلوها أثناء الكتابة، بل وطالبوا مَن يرغب في امتهان الكتابة أن يتحلّى بها، فالبرت مورافيا يعترف بأن مهنة الكتابة صعبة ومرهقة، لذا فالكتابة “تحتاج إلى عمل وصبر” وهو ما يشترك فيه مع الكاتب دونالد ري بولوك، فهو يوصي بالتحلي بالصبر، فتعلم الكتابة عنده مثل تعلم العزف على آلة موسيقيّة يتطلب من خمس إلى عشر سنوات على الأقل من الممارسة اليوميّة، وما دام الأمر يحتاج إلى الاستمرار اليومي في الكتابة، فينصح أن تكون الكتابة أشبه بالوظيفة دون الانتظار لهجوم الإلهام. أما الكاتب الياباني هاروكي موراكامي فيربط بين الكتابة والموسيقى وهذا الربط نتاج لشغفه بالموسيقى، لذا يقول “اكتب كأنك تعزف” المعنى المستشف من عبارته المختزلة، أنك عند الكتابة يجب أن تتحلى بالإيقاع وهو ما استمده من الموسيقى في كتابة عمله الأول، فهو لم يكن يعرف شيئا عن تقنيات السرد الروائي.

ديمومة الكتابة إلى حد أن تصبح روتينا يوميّا هي إحدى النصائح المتكرّرة من قبل الكتاب للراغبين في الكتابة سواء أكانت في صورة مباشرة أو في صورة غير مباشرة عبر الحديث عن طقوسهم في الكتابة، فتولستوي يتحدث في يومياته “يجب أن أكتب كل يوم بلا فشل، ليست الجودة ما يهمني بقدر ما يهمني الالتزام بالروتين”، وهو الأمر الذي كان يفعله فلاديمير نابوكوف، وأورهان باموق وفرانز كافكا الذي كان لديه هاجس الوقت، وسيلفيا بلاث، وهو بذلك يتفق مع الكاتب الأميركي دونالد ري بولوك في جعل الكتابة أشبه بالوظيفة وليس مجرد هواية. وهناك من رأى ضرورة الحرص على كتابة اليوميات، وهو ما تكون بمثابة المادة الخام، في ما بعد، لإنتاج عمل ما، أيًّا كانت هويته ونوعه.

 الفائز بجائزة نوبل 2021 عبدالرزاق جرنح، في سؤال عن روتين الحرفة باعتبارها روتينا، يجيب وكأنه يوجه إرشادات للكتاب المبتدئين قائلا أن “يجعل الكتابة روتينه يوميّا، لا تنتظر الإلهام، جاء أم لم يأت، فلا بد أن تجعل من الكتابة عادة يومية”. كما أنه في قرارة ذاته يؤمن أيضا “بأن الكُتاب يتوصلون إلى الكتابة عبر القراءة، عبر عمليات التراكم والنضج، عبر الأصداء وتكرارها، التي تشكل ذخيرةً تسمح لهم بالكتابة” وكأنه عبر التمثيل بذاته يقول للكتاب عليكم بالقراءة. فالقراءة، في رأيه، هي أحد المصادر التي يعثر  من خلالها الكاتب على الذخيرة الكتابية.

ولا تقف حدود النصائح والإرشادات عند الشعر أو الرواية، فالقصة القصيرة، أيضا، شملتها هذه النصائح، فالكاتبة جويس كارول أوتس تقدم نصائح ممتازة في كتابة القصص القصيرة، لا تقصرها على الكيفية أو التقنيات والأدوات التي يجب أن يتقنها الكاتب كي يصقل قصته، وإنما تتعدى هذا إلى الموضوعات والأفكار فتقول مثلا: الكتابة عن الموضوعات المحظورة والمحرمة والشائكة طريقة مضمونة لجذب وتحفيز القُراء، فمن أقوى دوافع الكتابة أن تتحدث عوضا عمن لا يستطيعون ذلك. وتحث الكتاب على أن يكون صوتا لمن أرغموا على السُّكوت، ومن أجمل النصائح التي ترشد بها الكاتب أن يتخذ من رفض نشر نتاجه وسيلة للتجويد والتنقيح وتحسين العمل لا أن يجعله رمزا على الفشل. ولا تنسى أن تلفت لأهمية الكتابة فتقول: قراءة الأعمال المذهلة من أهم المفاتيح لكتابة أعمال مذهلة وتواصل تأكيدها على أهمية القراءة، وأنها المعمل الحقيقي الذي تنتج عنه كتابة عظيمة بقولها “القراءة هي الطريق المعُبد للكتابة، وجودة ما تقرأه ستحدد جودة ما تكتبه“.           

ورشات الكتابة

 هناك شكل آخر رابع مستحدث يتمثّل في ورش الكتابة التي صارت موضة ثقافية في الوقت الحاضر، إذْ يحرص كبار الكتاب على إقامة ورش كتابية يتم فيها تدريب أصحاب المواهب على الكتابة الصحيحة، وتشذيب أساليبهم عمليّا، فالقائمون عليها يروجون أن الموهبة، وحدها، لا تصنع كاتبا، وإن كان المعارضون لها يقولون في المقابل “إن ورش الكتابة لا تصنع مبدعا“.

المقالة بعيدة عن تقييم ورش الكتابة وآثارها على فعل الكتابة، الغرض الأساسي من ذكرها هو الاستئناس بها كشاهد، في خطوات صناعة الأديب، خاصة بعدما صارت فعلا واقعيّا ملموسا في منتوجها من إبداع لأدباء شقوا طريقهم من أبوابها، وهي في هدفها المهم غير الربحي (الذي لا يمكن إنكاره)، لا تختلف من حيث الهدف عن تلك الإرشادات التي كان يقدمها كبار الكتاب للمبتدئين، ومن أشهر هذه الورش محترف نجوى بركات للكتابة الإبداعية، وهو بعنوان “كيف تكتب رواية؟” ومنحة آفاق للكتابة الإبداعية والنقدية، إضافة إلى ما يقوم به كمال الرياحي في تونس وأحمد السعداوي في العراق، وأيضا إشراف الروائي السوداني أمير تاج السر على إحدى هذه الورش، والنتيجة أن كثيرا من الكتابات خرجت من معامل الكتابة (WritingLab) والنماذج كثيرة مثل رواية “صابون” لرشا الأطرش، و”في غرفة العنكبوت” لمحمد عبدالنبي، و”مقهى سيليني” لأسماء الشيخ، و”التي تعدُّ السلالم” لهدى حمد، وغيرها الكثير والكثير.

 الشاعر تشارلز بوكوفسكي له قصيدة بعنوان “تريد أن تصبح كاتبا” سرد فيها المحاذير التي يجب ألا يقع فيها مَن يريد أن يمتهن الكتابة، فيقول: إذا لم تخرج منفجرة منك/ برغم كل شيء/ فلا تفعلها/ إذا لم تخرج منك دون سؤال/  من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك/  فلا تفعلها/ إذا كان عليك أن تجلس لساعات/ محدقا في شاشة الكمبيوتر/  أو منحنيا فوق الآلة الكاتبة/ باحثا عن الكلمات/ فلا تفعلها/ إذا كنت تحاول الكتابة مثل شخص آخر/ فانس الأمر/ إذا كان عليك انتظارها لتخرج مدويّة منك/ فانتظرها … بصبر“.

قصيدة بوكوفسكي تنحاز إلى الطبع والسّليقة، وترفض رفضا باتا التكلّف والصَّنعة، وهي الأخرى تقدم نصائح مباشرة لهؤلاء الذين يريدون أن يصيروا كتابا، فتشدد على الصدق والبساطة وعدم التقليد وأن يكون الإنسان ذاته فقط، ولكنها تكاد تستثني الذين ليست لديهم الملكة، يخاطبهم محذرا: لا تفعلها.

العرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى