قصة

لا يعرفون أسماءنا.. من أدب المهاجرين في إيطاليا

ترجمة وتقديم: يوسف وقّاص

تقديم: مرآة الكتاب المهاجرين

المرآة تعكس خيالنا، وجهنا الحقيقي ونظراتنا التي تشي بصدق أو بزيف مكنوناتنا. ثمة من يخشى المرآة وثمة من يبحث عن مرآة يعتقد بأنها ربما أفضل من الأخريات، لأنها بطريقة ما، كما في الحكايات الشعبية، تظهره مختلفًا أو أجمل من المعتاد. تمكنت مراكز القرار، في أكثر من مرة، من العثور على هذه المرآة وتلميع خيالاتها إلى حد الاهتراء، لكن بلا طائل، فعمليات التجميل، مهما ارتقت، لا يمكنها أبدًا أن تخفي تجاعيد الرقبة أو تخفّف من حدّة الشعور بالذنب، كما في مرآة الكتّاب المهاجرين التي لا تخفي شيئًا، بل تُظهر كل ما يطفو على السطح وفي الأعماق. أكثر من كاتب وناقد إيطالي أشار إلى هذا الأمر، أي أن هذه الكتابات ليست سوى مرآة تعكس أحوالهم المجتمعية، بما في ذلك أفكارهم التي قلما تخلو من أحكام مجحفة، أو شفقة “ترهق الروح” حسب الشاعر الإنكليزي ويليام بليك.

القاسم المشترك في هاتين القصتين، اللتين ننشر ترجمة لهما هنا كنموذج لأدب المهاجرين الذي يُكتب في إيطاليا مؤخرًا، هو الخوف والترقب، بل والرعب أيضًا، كما في قصة المغربي فؤاد شاقي، لأن المصير هنا، لا يتعلق به فقط، إنما بزوجته وابنته والمولود القادم على الطريق. لا يخلو الأمر أبدًا، في مثل هذا الموقف، الذي عشته شخصيًا في الشركة التي كنت أعمل بها في ميلانو، من متطرف متهور، يبحث عن أي ذريعة لإرواء تعطشه للدماء. الراوي يتنفس الصعداء في النهاية ويتمكن من تناول قهوته بطمأنينة وسلام، ولكن بأي ثمن؟

“القاسم المشترك في هاتين القصتين، اللتين ننشر ترجمة لهما هنا كنموذج لأدب المهاجرين الذي يُكتب في إيطاليا مؤخرًا، هو الخوف والترقب، بل والرعب أيضًا”

تجري أحداث القصة تحت وطأة حادث اصطدام طائرتين، طائرة خاصة وطائرة تابعة للخطوط الاسكندنافية، وقع في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2001، في الساعة 08.10 بالتوقيت المحلي، وبلغ عدد القتلى النهائي 118، أي بعد شهر تقريبًا من حادث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. لقد كان أمرًا يهدد بالانفجار بين لحظة وأخرى، لولا ورود الأنباء المتسارعة عن حادث اعتيادي لا علاقة له بالإرهاب.

في قصة أنطونيو ديكيليه دي ستيفانو، الخوف لا ينتهي حتى بعد الوصول إلى إيطاليا، لأن ما وجده كان أقل بكثير مما كان يتصوّره، هو وآلاف من المهاجرين القادمين من عوالم الجنوب. ليس هذا فقط، فعلى الرغم من أنه يمتلك موهبة أدبية فذة، ونشرت أعماله دور نشر معروفة، إلا أنه يعرف في قرارة نفسه ما ينتظره في الخارج، إنه امتداد لذلك الخوف الذي جربه أثناء عبوره الصحراء الليبية، ومن ثم مغامرته على ظهر ذلك المركب المتهالك الذي غرق في منتصف البحر، ليشاهد بهلع زملاءه الذين يهلكون الواحد تلو الآخر. كان محظوظًا، لأن رجال الإنقاذ تمكنوا من انتشاله في الوقت المناسب، لكن ماذا عن الآخرين؟

“إنها تمطر في الداخل، وفي الخارج أيضًا”، انظروا جيدًا إلى وجوهكم، أنطونيو وآخرون، كما سيزيف، لن يملوا أبدًا من حمل المرآة ووضعها في طريقكم.

**********

فنجان قهوة بطمأنينة وسلام/ فؤاد شاقي

مهرجان من الألوان في أتون شمس حامية: في النسق الأوّل، أقمشة زاهية تلتفّ حول أجساد نساء مكتنزات. وجوه من الأبنوس هنا وهناك، رؤوس مغطّاة بعمامات من ألف طراز، يتجوّلنَ بين منصّات الفواكه والخضار، أطفال عُراة يُحرّكون بوضعياتهم ذلك اللغط من الألوان. كنتُ لا أسمع شيئًا. أحيانًا، كان يكفيني أن أبقى لبُرْهَة منغمسًا داخل ذلك الضوء الساحر، داخل رسم الأفريسكو الصامت ذاك، البالغ حجمه ثلاثة بأربعة أمتار، لكي يمكن تحمّل ضجيج الأطباق الذي يتناهى من مطبخ مطعم جيمي.

ضجيج الأطباق والملاعق كان قد أصبح أكثر إلحاحًا، والأصوات أيضًا أصبحت أكثر صخبًا وتشوّشًا بعد أن وصلوا هم أيضًا، عمّال شركة “لانيروسّي”. كان عددهم كبيرًا، ويتصايحون، كما لو أنهم دائمًا بين الأنوال الصاخبة، ويحافظون على تلك النبرة حتّى في المطعم، وبالتالي يتلهّون، ويستسلمون للتعب. وهكذا تلك الشمس الملتهبة تنتهي بأن تتحوّل إلى سِمَة باردة، وتلك الأجساد القاتمة تبتعد تاركة على الجدار بقايا من الألوان فقط، حيث تبدأ بالشحوب، لتتحوّل إلى نقطة في منتهى السواد فحسب، بل قاتمة تمامًا. كلّا، اليوم ليس نهارًا جميلًا بالضبط، لأنني مغتاظ فعلًا.

“هل قالوا بأنه كان عملًا إرهابيًا؟”

كان ذاك صوت عمر، الصديق الجزائري الذي كنتُ أتواجد معه في المطعم، لكي نتناول الطعام، ونتبادل الحديث. كان يشير بإصبعه إلى صورة حادث طائرة، نشرتْها الصحف المحلِّيَّة. كان عنوان المقالة المكتوب بخطٍّ عريض: سقوط طائرة في مطار ليناتِهْ. 118 قتيلًا. لم أكن قد سمعتُ عمر يتكلّم الإيطالية بتلك الطريقة السليمة. هو كان يُفضِّل الفرنسية، وأحيانًا العربية. أُصِبْتُ بالدهشة، وأجبتُهُ بالعربية، بلهجة حانقة تقريبًا:

“ما قالوش حاجة”(1)

“ربّما بنْ لادن”، أضاف عمر بالعربية، مُقلِّدًا صوتي تقريبًا. بدا لي، وكأن صدى ذلك الاسم يتردّد في المطعم، ومثل ترديد الكلمة من شخص لآخر، سمعتُهُ يرتدّ إلينا كصفعة قوية.

“أَنقِصْ من صوتكَ! ما زال ما عارفين شي” (2). وبينما كنتُ أهمس لعمر، بشكل خاطف تقريبًا، هذه الكلمات، كانت تزداد في نفسي الرغبة في الاختفاء، وفي أن أكون بعيدًا.

هنالك، بين أكياس الفُلفل وأكداس الموز (فلفل، موز، آه!) ثمّة طفل جالس على الأرض الحمراء، بجانب امرأة، ربّما أمّه.

فكّرتُ بزوجتي، التي وصلت إلى “سِكْيُو” منذ عام، وبابنتي التي تبلغ ستّة أشهر من العمر، وبابني الذي على وشك الولادة. هي قالت لي مندهشة إنهم – اللعنة على الحادي عشر من أيلول – منذ فترة، بدؤوا ينظرون إليها نظرة مختلفة في شوارع “سِكيُو”. كنتُ أرى تلك النظرات المُستفسِرة، المريبة أحيانًا التي تلاحقها، وتلاحق ابنتي، أنا كنتُ أعرف كُنْهَ تلك النظرات. بعد أن تعيش عشر سنوات في مكان ما، لا يخفى عليكَ أيّ شيء. بعد الحادي عشر من أيلول، كان شيء ما قد تغيّر. “ولكنْ، ما هو هذا الحادي عشر من أيلول؟”، كنتُ أسأل نفسي. هي محظوظة، لأنها تتكلّم الإيطالية قليلًا، ولا تفهم الأسئلة. على الأقلّ، لا يجب أن تردّ. الأمر مختلف معي. كانوا يحاذونني، والسؤال عاجلًا أم آجلًا كان يجد طريقه إلى الشفاه: “كونكَ عربيًا أو مسلمًا، ما رأيكَ بِبِنْ لادن؟”. أعتقد أن هذا الاستجواب كان قد تجاوز رَقْميًا الأسئلة الأخرى كلّها التي يجب أن يردّ عليها المهاجر: “ما هو اسمكَ؟ كم تبلغ من العمر؟ منذ متى تقيم في إيطاليا؟”. الآن، للوافدين الجدد إلى إيطاليا، سيُضاف أيضًا بشكل آليّ إلى القائمة، سؤال:

“كونكَ عربيًا أو مسلمًا، ما هو رأيكَ بِبِنْ لادن؟”.

مشهد الأمّ مع الطفل المرسوم على جدار مطعم جيمي كان قد حجبه الجسم الضخم لعامل، كان يستعدّ للجلوس على طاولة مقابلنا.

عدتُ أفكّر بزوجتي، المُحصّنة بجهلها للّغة الإيطالية، وربّما من أحداث هذه الأيَّام أيضًا، مسلوبة كالعادة من المسلسلات العربية. ربّما من الأفضل هكذا، أقلّ مشاكل، كما يدّعي مُواطِنيّ الذين غالبًا ما يتظاهرون أنهم لا يُتقنون الإيطالية، لكيلا يضطرّوا للإجابة.

عمر كان قلقًا جدًّا، وكان لا يتمكّن من البقاء صامتًا.

“إذا لم يُعلنوه حتّى الآن … إذنْ، ربّما لا يكون عملًا إرهابيًا. هل تذكر؟ في الحادي عشر من أيلول، أعلنوه فورًا … عمل إرهابيّ … بنْ لادن …”.

كنتُ حانقًا، وبدأتُ أتضايق من قلقه الذي بدأ يتحوّل إلى ثرثرة. كان يبدو لي بأنه يجب أن يلوذ الصمت قليلًا. أَضفتُ، لإرغامه على السكوت تقريبًا، أو ربّما لكي أُظهِر له صمتي، صمتي المؤلم:

“الأمر مختلف هذه المرّة”.

كنتُ أريد أن أقول له من خلال ذلك، إن الحادي عشر من أيلول كان، بلا شكّ، عملًا إرهابيًا، ولكنْ، ليس هنا، إنما في الولايات المتّحدة الأميركية، وإنني لم أزر قطّ الولايات المتّحدة، وربّما حتّى هؤلاء الموجودين حولنا. حتّى ماريو، ربّما دون أن يعرف ماذا كان قد حدث، بين فترة وأخرى، كان يدعونا بنبرة حميمة من الطاولة القريبة بجملته المعهودة “أنتم، أيّها الطالبان، تعالوا إلى هنا عندما تنتهون، لنشرب القهوة قبل أن نعود إلى الخنادق”.

هذه المرّة، كان الأمر مختلفًا. 118 قتيلًا في مطار ليناتِهْ، في ميلانو، في إيطاليا، في المطار المجاور، حيث كنتُ أذهب إلى هناك، لأستقبل زوجتي القادمة من الدار البيضاء، ومن هناك، كنتُ قد سافرتُ ورجعتُ أكثر من مرَّة.

“118 قتيلًا … ربّما الأمر يتعلّق بعطل ميكانيكي؟”.

كان يبدو وكأنّ عمر قد فهم لوعتي، ويبدو وكأنه قرأ في ذهني ثقل ذلك الخبر. 118 قتيلًا، في مطار ليناتِهْ، طائرة سقطت، ربّما عمل إرهابي!

مسلمون، عرب، إرهابيون، متطرِّفون، طالبان، حرب، سلام، عدل لا متناه. وفيما بعد، اعتقالات في معظم أنحاء العالم. نعم، في العالم، ولكنْ، ليس هنا في مقاطعة فينشينزا، في الشمال – الشرقي الأسطوري، في “سِكيُو”، حيث يُكَدّ بجهد، بمَنْ فيهم نحن المسلمون، العرب، الطالبان المزعومون. مع ذلك، أتذكّر الآن، أحدا ما كان قد وجد حتّى الوقت، ليكتب على جدران “سِكيُو”: “عرب أوغاد”. ولكن الهدوء عاد فيما بعد إلى داخل عجلة الإنتاج الضخمة للشمال الشرقي التي لم تتوقّف، كانت قد تباطأت قليلًا، لكنها عادت لتنطلق فيما بعد، وكان يجب أن تُساير إيقاع البائعات الحديثات، ولم يكن يوجد حتّى الوقت، لكي تتأمّل، لكي تغتاظ، لكي تكره… لكي تحبّ.

الأمر مختلف هذه المرّة.

لكنتُ فضّلتُ أن أكون بمفردي. كنتُ أخشى من أن أضطرّ للاختباء مع زوجتي وابنتي، أن أواجه، أن أتحاشى صدى ذلك الخبر الذي كان قد بدأ يُشكِّل في دماغي المتثاقل إعصارًا من النظرات العطوفة، من الكراهية، أو من الضغينة أو من الشّكّ.

الناس المتواجدون في الأطراف كانوا هادئين، لم يكن قد تغيّر شيء: “ولكنْ، كيف يمكن ترك ديل بييرو على مقعد الاحتياط؟”. “هيّا، اخرسْ، أيّها الطالباني الذي لا يفقه شيئًا في كرة القَدَم”.

التلفاز المُعلَّق في السقف كان يتكلّم وحده.

عمر أيضًا، مع غصّة في القلب، كان يتكلّم الآن بمفرده:

“ولكنْ، مع تلك المراقبة كلّها في المطارات!”.

بعد أن تزحزحتُ قليلًا إلى الجانب، كنتُ قد استعدتُ رؤية اللوحة على الجدار، النساء، الشمس، الطفل.

ماذا كان يحمل بين يَدَيْه ذاك الطفل؟ كنتُ لا أتمكّن من رؤيته، لا أتمكّن من سماع ضجيج ذلك السوق: ربّما حينذاك، لكُنتُ قد نجوتُ، لكُنّا نجونا جميعًا.

كانت تُسمَع أصوات العمّال فقط الذين انتهوا تقريبًا من تناوُل طعامهم، وبعد ذلك، إشارة أخبار الساعة الواحدة، ومن ثمّ الخبر الأوّل:

“افتراض هجوم …”.

ها هي النهاية، الهرب، الغوص، الاختفاء، هيّا، أيّها الطفل، افتحْ يدكَ، افتحْ يدكَ….

“تمّ استبعاده”.

“افتراض هجوم إرهابي تمّ استبعاده”.

“سبب الحادث مَردّه إلى التشغيل السَّيِّئ للرادارات، إلى الرؤية السَّيِّئة التي أعقبت الضباب”.

ضوء ساطع، متجانس، ناعم انتشر في الأرجاء.

“الرادار، وليس المغربي”.

“الضباب، وليس الجزائري”.

“الرؤية السَّيِّئة، وليس الطالباني”.

“سوء الرؤية …”.

نظرتُ في عينَيّ عمر، ثمّ في عينَيّ ماريو.

“هيّا، سأقدّم لكما فنجانًا من القهوة”، قلتُ.

انضمّ إلينا مورينو أيضًا، رئيس الورشة.

شربنا القهوة بطمأنينة وسلام.

***

هوامش:

1. لم يُبيّنوا الأمر بعد، باللهجة المغربية.

2. أَخفِضْ صوتكَ، لا يُعرَف بعدُ أيّ شيء محدّد.

العنوان الأصلي للقصَّة:

UN CAFFE’ IN SANTA PACE

Fouad Chaki

فؤاد شاقي، من مواليد البروج، المغرب، عام 1968. في نهاية الثمانينيّات، قطع دراساته الجامعية في كُلّيّة الحقوق في الدار البيضاء، لكي يسافر إلى إيطاليا. عمل في مصانع النسيج والمعدّات الميكانيكية، وفي الوقت نفسه، قام بوظيفة وسيط ثقافي في مدارس وتجمّعات مقاطعة “ڤينشينزا”، حيث كان يقيم. في عام 2004 قرّر العودة إلى المغرب.

*********

لا يعرفون أسماءنا، ويدعوننا مهاجرين/ أنطونيو ديكيلِهْ دي ستيفانو

أنا أيضًا كنتُ واحدًا من أولئك كلّهم الذين كانوا يفرّون من البؤس.

كنّا نملك في عيوننا كمهاجرين ذاك كلّه الذي يُجبرنا القَدَر على إظهاره. كانت تفوح منّا رائحة الفقر، جيوب فارغة، وخيبة مَنْ كان قد رأى خيالاته تنحسر.

تركتُ زوجتي وأولادي في مالي، لأن المكان الذي وُلِدْتُ فيه، مسؤولية العائلة تقع على عاتق الرجال، ولم تكن توجد فرص عمل في بلدي، ولا أيّ شيء يمكنني من خلاله مساعدة الأشخاص الذين أحبّهم.

عندما قلتُ لها بأنني سأسافر، ابتسمتْ زوجتي بطريقة مغايرة، وباعتراض مكتوم حاولت أن تُقنعني بأن لا أسافر. طلبت منّي أن أبقى، وقالت بأننا سنجد النقود، وإنها خائفة. معارفنا كانوا يروون حكايات، وأحدهم كان قد فَقَدَ قريبًا له خلال الرحلة إلى أوروبا، بينما آخرون كانوا يعيشون بطريقة أفضل، لأن أحدهم كان قد استطاع الوصول إلى الطرف الآخر من البحر الأبيض المتوسّط، وبعث إليهم نقودًا إلى البيت. في الليلة التي سبقت سفري، جادلتْني زوجتي بعنف مؤكّدة أنني لستُ مرغمًا على ذلك، بينما أنا كنتُ أكذب عليها بابتسامة مَنْ يملك تجربة كبيرة، وأنني كنتُ سأرجع في أسرع وقت ممكن، ولو لم أكن واثقًا من خطوتي، لما سافرتُ.

صعدتُ على متن حافلة متّجهة إلى بوركينا فاسو في صباح يوم من أيَّام حزيران، وأنا أملك في جيبي 1.600 فرنكًا، وقليلًا من الأشياء التي لم أكن بحاجة إليها، ولكنها كانت تلزم، لتُذكّرني من أين أتيتُ. كانت تلك صور أولادي، صورها هي، صورة أُمّي وشقيقاتي. كنتُ لا أملك صورة مع أبي، لأنه كان يعمل دائمًا، وأنا نشأتُ بإحساس أنني سوف أواجه مصيره نفسه.

المرحلة الأولى خدعتْني، لأنها كانت بسيطة. دفعْنا الرسوم في نقطة الحدود، عبرنا الساحل، ووصلنا إلى أواغا دوغوو بعد تسع ساعات من السفر. معظم المسافرين كانوا يملكون ثيابهم التي يرتدونها فقط، وكانت هنالك خشية من أنهم سيطلبون منّا نقودًا إضافية على الحواجز. في كلّ مرَّة، كان الجيش يُوقِفنا، كانوا يقولون لنا بلهجة تهديد يجب أن ندفع لكي نعبر، وإذا لم نفعل ذلك، لما كانوا أعادوا إلينا جوازات سفرنا.

في النيجر، تعرّفتُ على مطر، شابّ من مالي، مثلي. سافرنا معًا في جزء من الطريق، وأصبحنا أصدقاء بعد أن دعاني في إحدى الأُمسيّات، لنتعشّى معًا. حفنة من الرّزّ، قليلًا من البطاطا والبصل المقلي. كنّا نأكل بأيدينا من طبق في منتصف الطاولة خارج مقهى كان يبقى مفتوحًا طوال الليل. مطر كان يذوب في ابتسامات، تحمل أكثر من مغزى عندما كان يتذكّر الأسباب التي دفعتْهُ، لكي “يذهب ويموت في أوروبا”. هذا ما كان يقوله بالضبط، بينما يشعل سيجارته الوحيدة بحرص كبير.

طلبوا منّا جميعًا 800 فرنك آخر، لكي يسمحوا لنا بالوصول إلى الحدود الليبية، ثمّ حشرونا في سيَّارة بيك أب. كان عددنا كبيرًا، ولا أحد يتكلّم، ومَنْ يجرؤ، كان يفعل ذلك وعيناه منكّستان على الأرض. على الحدود، سلّمَنا السائق إلى أناس آخرين، والذين جعلونا نعبر الصحراء لغاية مدينة زوارة الليبية، حيث بقيْنا خمسة أيَّام على الشاطئ، بانتظار وصول أحد من أولئك يقومون بعمليات التهريب.

سافرْنا في اليوم السادس، وكان عددنا لا يقلّ عن 400 شخص، من بينهم نساء وأطفال. قارب الصيد كان يقوده أربعة “أشخاص”، اثنان يراقباننا، واحد على الدّفّة والآخر على المحرّك. قبل أن نصعد على القارب، انتزعوا منّا كلّ شيء، النقود، الحلي القليلة والملابس الموجودة في حقائب الظهر. كنّا مُكدَّسين الواحد فوق الآخر، الأطفال يبكون، ومَنْ كان يطلب الخروج من قعر القارب، لكي يتنفّس قليلًا من الهواء، كان لا يُصغَى إليه، ومَنْ يختلق المشاكل كان يُعاقَب بالضرب. رغم ذلك، كثيرون منهم كانوا يُصرّون على الخروج إلى السطح، لكي يشربوا قليلًا من الماء، ولكن هذا كان غير ممكن، لأن عددنا كان كبيرًا. قارب الصيد كان ينضح ماء، وأبحرنا على هذه الحالة لعدّة أيَّام. كنّا قد أضعنا مغزى الزمن على ظهر ذلك القارب، بلا طعام وبلا ماء، ودون شيء يقينا من المطر، ومن البرد. انتهى بنا الأمر في البحر بعد عاصفة شديدة. كنّا قد انتقلْنا جميعًا إلى جانب واحد من القارب، بسبب الخوف، وهو ما أدّى إلى قلبه. لم يكن القارب مزوَّدًا بأطواق نجاة، صراخ فقط. الشّبّان الذين كانوا لا يجيدون العوم، من بينهم مطر أيضًا، كانوا يختفون بسرعة في مياه البحر الباردة. كان الماء جليديًا، والكثيرون، رغم أنهم كانوا يُحرّكون أذرعهم، كانوا لا يصمدون، والبحر كان يبتلعهم. في تلك اللحظة، كنتُ لا أفكّر بأنني ربّما سأموت، بل كنتُ أفكّر بزوجتي وأولادي، والوعود التي قطعتُها، والكلمات التي استخدمتُها لإقناعهم. كان البحر يبدو وكأنه لا نهاية له، ولم نكن نشاهد اليابسة. عثرتُ على قطعة من القارب، وحاولتُ بقُوّتي كلّها أن أبقى عائمًا على السطح، أحدهم فعل الشيء نفسه، اثنان آخران كانا يتنازعان على قطعة من الخشب، إلا أنهما في النهاية غرقا معًا.

قبل عام بالضبط، وضعتُ قَدَمي للمرَّة الأولى في إيطاليا، بفضل هؤلاء الرجال الذين يرتدون بزّات حمراء، حيث ألقوا لي بطوق نجاة، ثمّ سحبوني من الماء.

لم أجد هنا الأشياء كلّها التي وعدتُ بها زوجتي. هذا المكان لا يشبه أبدًا تلك القصص كلّها التي كان يرويها لي والدي.

في إيطاليا، يدعوننا مهاجرين، كما لو أن مثل هذا الأمر ضروري لإسكات الألم، وتحويل صورة كارثة إلى موضوع اعتيادي، عابر. يدعوننا مهاجرين، كما لو أننا لا نملك اسمًا، مَلمحًا، كما لو أننا لا نملك أيّ ماض. يدعوننا مهاجرين، لأنه من الأفضل أن نبقى في بيوتنا، أن نموت في أرضنا، وليس في بحرهم الذي يُسمّونه “نوستروم”(1). يدعوننا مهاجرين، كما لو أننا طبقة، ولسنا أشخاصًا، كما لو أنه لم يمتْ أحد مُهمّ، كما لو أننا لا نملك عائلة. هم سمّوا أنفسهم مُسْتَعْمِرين، سيّاحًا، مستكشفين عندما جلبوا لأرضنا البؤس الذي يدفعنا الآن إلى الهرب. يدعوننا مهاجرين، لكي يُذكّروننا بأن في هذا العالم نوجد نحن وهم. هم الذين يملكون عائلة، بيتًا، وعندما يموتون ينتهون على صفحات الجرائد بأسمائهم الحقيقية، هم الذين يملكون كلّ شيء، ولا يحسّون بالخجل. يدعوننا مهاجرين، نحن الذين لا نساوي شيئًا، ولسنا الأوائل، ولا الأواخر.

لأن الأوائل كانوا قد سافروا من هنا، من إيطاليا، وكانوا يملكون ملامح أجدادهم، عيون أقربائهم، حقائب أصدقاء العائلة، وأمل المهاجر.

هامش:

(1) من اللاتينية، ملكنا أو خاصّتنا، وهو اسم كان الرومان يطلقونه على البحر الأبيض المتوسّط:

Mare Nostrum

***

العنوان الأصلي للقصَّة:

Ci chiamano immigrati

Antonio Dekile De Stefano

أنطونيو ديكيلِهْ دي ستيفانو: وُلد في إيطاليا من أَبَوَيْن أنغوليَّيْن. نشر روايته الأولى بعنوان “إنها تُمطر في الخارج، وفي الداخل أيضًا، هل أمرّ لآخذك؟”. وصدرت له مؤخّرًا رواية جديدة بعنوان “سوف نتعانق في يومٍ ما”.

المترجم: يوسف وقّاص

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى