الناس

عن الأزمة الحياتية في سورية – عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة هناك – مجموعة مقالات مختارة-

——————————–

أشهر أشد قسوة تنتظر السوريين/ إياد الجعفري

فيما يتم الترويج بكثافة لتبعات اقتصادية عاجلة لزيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق، في أوساط الإعلام الموالي للنظام، تتجلى أكثر فأكثر، ملامح أشهرٍ مُنتظرة أشد قسوة على السوريين، من التي سبقتها، إذ تبدو أن معيشتهم في طريقها للمزيد من التدهور في مدى زمني منظور لا يقلّ عن سنة من الآن، على أقل تقدير.

ومن المفهوم، لماذا يحاول النظام استغلال زيارة وزير الخارجية الإماراتي من زاوية اقتصادية ترويجية، فهو يحاول إطالة أمد “صبر” السوريين على معيشتهم المنهارة، عبر إقناعهم بأن “الفرج” الاقتصادي، قاب قوسين أو أدنى. لذلك نجده قد أوفد سريعاً، وزير اقتصاده على رأس وفد يضم رجال أعمال سوريين إلى الإمارات، علّهم ينجحون في جذب المستثمر الرسمي والخاص، إلى كعكة الاستثمار بسوريا المُدمّرة. في الوقت الذي يحاول فيه إعلامه الإيحاء بحراك اقتصادي إماراتي باتجاه سوريا، قد بدأ بالفعل، عبر الضجيج الذي أحاط خبر توقيع اتفاق بين مؤسسة توليد الكهرباء الرسمية وبين ما وُصف بأنه “تجمع شركات إماراتية” لإنشاء محطة توليد كهرضوئية، باستطاعة 300 ميغا واط، في ريف دمشق.

خبر الاتفاق، الذي حضر توقيعه، وزير الكهرباء بحكومة النظام، وفق الصور التي نشرها الإعلام الموالي، لقي استخفافاً من جانب مصادر إعلامية معارضة نظراً لأن المعلومات المتاحة عن الشركات الموقّعة على الاتفاق، تشير إلى أنها لا تملك خبرة سابقة في هذا النوع من المشاريع، كما أن ممثل الشركة ليس مسجلاً كرجل أعمال، ناهيك عن أن الحاضرين لتوقيع الاتفاق، وفق المصادر المعارضة، كلهم أشخاص سوريون بعضهم مقيم بالإمارات.

وبعيداً عن مدى أهمية الاتفاق، وهل يمثّل حقاً عودة للاستثمار الإماراتي إلى سوريا أم لا، يبقى السؤال الذي قد يشغل بال السوريّ العادي القابع تحت سيطرة النظام: متى ستُفرج هذه الضائقة المعيشية التي استحكمت بصورة خانقة في السنتين الأخيرتين؟ وفي محاولةٍ للإجابة، يمكن القول أنه حتى لو سايرنا بروباغندا النظام، بأن أموال الخليجيين بدأت بالتدفق على سوريا، فهذا يعني أن تباشير انعكاس تلك الأموال على عجلة الاقتصاد السوري، لن تبدأ في الظهور قبل سنة من الآن. يأتي هذا التقدير من خبرة قديمة. ففي مطلع القرن الحالي، وحينما كانت سوريا تتمتع بعلاقات إقليمية أفضل بمرات مما هي عليه اليوم، كان انتقال أي مشروع استثماري من مرحلة الاتفاق المبدئي إلى مرحلة “التشميل” –التنفيذ-، يتطلب في أدنى الحدود، عاماً كاملاً. ما سبق يعني أن الأشهر القليلة القادمة، وصولاً حتى خريف العام القادم على الأقل، ستكون أشد وطأة على السوريين، من سابقاتها، تحديداً، بعد موجة رفع أسعار حوامل الطاقة الأخيرة.

وكي نتمكن من تقديم صورة أكثر دقة لما ينتظر السوريين في المدى المنظور (خلال سنة من الآن)، من المفيد الاستشهاد ببعض المعطيات المثيرة للاهتمام التي قدمها موجز للسياسات صدر عن برنامج مسارات الشرق الأوسط، في تشرين الأول/أكتوبر الفائت، حول التبعات المترتبة على القطاعات الاقتصادية وعلى الأفراد في سوريا، جراء سياسة خفض الدعم على المشتقات النفطية.

الموجز الذي أعده جوزيف ضاهر، الخبير في دراسات التنمية، لفت الانتباه الى نقطة مهمة، كثيراً ما تغيب عن بال محللي السياسات الاقتصادية للنظام. وهي أن الأخير كان يخطط للتخلص من عبء دعم حوامل الطاقة، منذ نهاية العقد الأول من القرن الحالي، حينما أعلن المسؤولون السوريون في مناسبات عديدة أن معظم المشتقات النفطية ستُباع بسعر السوق بحلول العام 2015. لكن أحداث العام 2011، وما تلاها من تطورات، دفعت النظام إلى إبطاء هذا المسار، قبل أن يسرع الخطى باتجاهه مجدداً منذ أكثر من عامين، متذرعاً بآثار الحرب و”الحصار” والعقوبات الغربية ونقص النفط، بصورة جعلت الكثيرين ينسون أن رفع الدعم كان استراتيجية مُعتزمة لدى النظام منذ ما قبل العام 2011.

لكن، كيف انعكست سياسة خفض الدعم عن المشتقات النفطية في السنتين الأخيرتين، على حياة السوريين؟ في معرض إجابته، يقدّم موجز السياسات المشار إليه، أمثلة تفصيلية عن آثار كارثية على الزراعة والصناعة في البلاد. ذلك أن جزءاً كبيراً من المزارعين والصناعيين، خرجوا فعلياً من السوق، أو خفّضوا حجم إنتاجهم إلى أقل من النصف، جراء عجزهم عن تحمل تكاليف الإنتاج.

وقد تفيد بعض الأمثلة والأرقام في تقديم صورة أكثر دقّة عن المشهد الاقتصادي بسوريا، اليوم. فقد تراجعت مساحة الأراضي المزروعة بالتبغ في سهل الغاب (محافظة حماة) إلى أقل من النصف، خلال عامٍ واحدٍ فقط. فيما تراجعت زراعة الخضار والفواكه بنسبة 60 إلى 70%، وفق تصريحات لمسؤول نقابي رسمي.

أما انعكاسات رفع الدعم على تكاليف المعيشة فكانت أكثر وضوحاً. ففي تموز/يوليو الفائت، انعكس رفع سعر المازوت المدعوم على تكاليف النقل الشهرية للأُسرة المكوّنة من ثلاثة أفراد يستخدمون سيارات الأجرة والسرفيس في دمشق، بنسبة138%، لتصبح بحدود 100 ألف ليرة سورية شهرياً – الحد الأدنى للأجور 71 ألف ليرة سورية شهرياً-.

وأدى ارتفاع سعر المازوت وتضاعف سعر الخبز، في تموز/يوليو الفائت، إلى ارتفاع تكلفة سلّة المواد الغذائية بنسبة 40%، لتصبح بحدود 766 ألف ليرة سورية. فيما قفز متوسّط كلفة المعيشة للأُسرة المكوّنة من خمسة أفراد في دمشق، بين شهري تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر من العام الجاري –أي خلال شهرين فقط-، بنسبة تقارب الـ 50%، ليصبح بحدود 1.7 مليون ليرة سورية. فيما يغطي الحد الأدنى الشهري للأجور أقل من 4% من التكاليف المعيشية.

النتائج الموجزة آنفاً، والتي يفصّلها أكثر موجز السياسات المشار إليه أعلاه، تناولت بصورة رئيسية، نتائج موجة رفع أسعار حوامل الطاقة، وبعض المواد المدعومة كالخبز، في تموز/يوليو الفائت. هذه النتائج قد تتيح لنا تصور ما سيحدث لكلفة معيشة السوريين الشهرية في ضوء الموجة الأخيرة من رفع حوامل الطاقة، التي أطلقها النظام قبل عشرة أيام، حينما رفع الأسعار المدعومة للغاز المنزلي بنسبة 130%، وللغاز الصناعي بنسبة 300%، وللكهرباء بنسب تتراوح ما بين 100 و800%.

في ضوء ما سبق، لا يمكن للسوريين القابعين تحت سيطرة النظام، الرهان على تبعات اقتصادية إيجابية لانفتاح بعض الدول العربية على نظام الأسد، في وقت قريب. بغض النظر عما يروجه إعلامه بهذا الخصوص. بل على العكس من ذلك، عليهم أن يستعدوا لانخفاض جديد، وكبير، في قدرتهم الشرائية، ويعني ذلك، المزيد من انكماش الاقتصاد وتباطؤ عجلة الإنتاج، خلال سنة من الآن، في أقل تقدير.

كاتب سوري

المدن

——————————-

الأوضاع المعيشية المتدهورة في سورية/ جايد عزام

ترتفع الأصوات أعلى فأعلى من سوريين كانوا صامتين، وتزداد انتشارًا موجاتُ الشكاوى والاحتجاجات على تدهور الأوضاع المعيشية. وعناوين تلك الشكاوى والاحتجاجات متعددة أهمّها: الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية، والحاجات الأساسية الضرورية لاستمرار الحياة، ولو بالحد الأدنى: المازوت، الكهرباء والبنزين وشرائح النت… وكذلك على عدم كفاية المواد والموارد المهمة للحياة، كالماء والكهرباء والخبز… فضلًا عن طوابير الانتظار أمام منافذ وكوى استلام المخصصات التي باتت تتقلص شيئًا فشيئًا.

واللافت، اليوم، عدم اكتفاء العديد من المحتجّين بتوجيه الملامة على هذا المسؤول أو ذاك، سواء كان مديرًا عامًا أو وزيرًا أو حتى رئيس وزارة، فقد باتوا يوجّهون سهام نقدهم إلى رأس النظام، ويدعونه إلى ترك منصبه نتيجة فشله في إدارة الأزمة المعيشية الخانقة.

ويلجأ السوريون من أجل التكيف مع موجات الغلاء، والتضخم المرتفع مقابل انخفاض قيمة الليرة السورية وضعف الأجور والرواتب (متوسط الأجر الشهري 50 ألف ل.س، شهريًا، أي نحو 17 دولارًا)، إلى اتباع أساليب متعددة، منها على سبيل المثال: تقليل عدد وجبات الطعام في اليوم من ثلاثة إلى وجبتين، وأحيانًا إلى وجبة واحدة، والإقلاع عن شراء المواد مرتفعة الثمن، كاللحوم والحلويات وبعض أنواع الخضار والفاكهة، والاكتفاء بالمواد منخفضة السعر التي غالبًا ما تكون تالفة، وعدم شراء الجديد من الملابس والأحذية والاكتفاء بالمستعمل منها، وعند الضرورة القصوى.

ولا يقتصر سوء الأوضاع المعيشية على المناطق الخاضعة لسلطة النظام، بل تعدّاها إلى المناطق الخاضعة لسلطة قوى الأمر الواقع في الشمال السوري، سواء كان الشمال الغربي أو الشمال الشرقي، مع توجيه سهام نقد الجوعى من السوريين إلى السلطات التي تتحكم في العمليات الاقتصادية والموارد المتاحة، وخاصة رسوم المعابر والضرائب، واتباع أساليب الاحتيال والسلبطة من سرقة وإتاوات ومصادرة، بحق المنتجين الحقيقيين في تلك المناطق.

لماذا تدهورت أحوال السوريين إلى هذه الدرجة؟

لقد بدأت الأوضاع المعيشية في سورية تتدهور، منذ عقود سابقة، وأخذت بالتصاعد منذ العام 2003 مع سياسات حكومة الدردري النيوليبرالية المسمّاة “اقتصاد السوق الاجتماعي”، حيث بدأت رحلة ازدياد التفاوت الطبقي وزيادة ثروة الأثرياء، مترافقة مع زيادة عدد الفقراء والاتجاه للخصخصة ونهب القطاع العام وإهمال القطاعات الإنتاجية، وقد ضاعفت تلك السياسات من مفاعيل القمع والاستبداد والفساد الذي استمر طوال العقود الخمسة الماضية. وكانت من أسباب الانتفاضة والحراك الشعبي السلمي الذي بدأ في آذار/ مارس 2011، ومواجهته بالخيار العسكري الأمني، عبر استخدام القمع والاعتقال وكل أشكال العنف والتضليل، والعمل على تشجيع تشكل مجموعات إسلامية متطرفة مسلحة، وطلب التدخلات العسكرية الخارجية المباشرة، واشتداد الصراع المسلح على كامل المساحة السورية. لقد حوّل النظام الاقتصاد السوري إلى اقتصاد حرب، ورهن معظم موارد سورية ومرافقها للدائنين المساندين له في حربه.

فكان من نتائج سياسات وممارسات السلطة الحاكمة والحرب والتطييف والتدخلات الخارجية:

 * اتساع وتسارع الهوّة بين الإفقار والاغتناء، والخطورة تكمن في خصوصية الظروف والشروط التي نتج عنها هذا التسارع والتوسع، حيث إن النافذين في السلطة، وخاصة في الأجهزة الأمنية وكبار الفاسدين والمهربين وأمراء الحرب، وجدوا أن الظروف سانحة لمراكمة الغنائم والمنهوبات، ولتحقيق هذا الهدف تشكلت حولهم شبكات مافيوية من السماسرة والمجرمين والمجموعات المسلحة، ولم يتركوا وسيلة لإهانة الناس إلا استخدموها، من الخطف والسرقة والقتل والاحتيال إلى الاتجار بالمخدرات والسلاح والعملات والآثار.. وهكذا تكاملت كثير من السياسات والممارسات لتقذف أكثر من 85% من السوريين إلى ما دون خط الفقر والتشريد والتجويع.

* هبوط متسارع في قيمة العملة الوطنية، وغلاء جنوني شمل كل أنواع المواد الضرورية لاستمرار العيش، ونقص متزايد في الخدمات، وتقاعس النظام عن توفير أهمّها كالمحروقات والكهرباء والغاز…

وآخر موجات رفع أسعار كثير من المواد والخدمات الاساسية كانت منذ أسابيع قليلة، إذ أعلنت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك رفع سعر الغاز المنزلي (30600 ل.س) والمازوت المنزلي (500 ل.س) للتر الواحد، أما الصناعي والتجاري فقد بلغ (1700 ل.س) وربطة الخبر (7 أرغفة ب 200 ل.س)، مع تهديد برفعها أكثر بسبب ارتفاع تكلفتها الفعلية أكثر من ذلك. كما تم رفع أسعار سلع أخرى، مثل السكر والرز.

* إن الوضع السوري الحالي مع استمرار سيطرة نظام الاستبداد والفساد، ووجود كل أشكال التدخلات العسكرية الخارجية، جعل سورية أرضًا مستباحة، يشترك في نهب منشآتها وثرواتها وعرق وجهد كادحيها كبارُ اللصوص والسماسرة المحليين والإقليميين والدوليين، على حساب إفقار وتجويع السوريين ليصل انهيار الليرة اليوم إلى درجة أن الدولار بات على مشارف 4000 ليره سورية، والأسعار فلكية، ومتوسط الدخل لا يعادل أكثر من 5% من تكاليف المعيشة.

* إن تفشي الفساد والنهب والجريمة وكل أشكال وأدوات القمع والعنف والقتل، وترافقه مع غياب دولة القانون، والقضاء المستقل، أدى إلى سيطرة اللصوص والسماسرة، وبات قانون العصابات هو السائد.

* تدهور مريع في خدمات الحياة الضرورية، فالكهرباء شبه منعدمة، الوقود نادر، وخاصة المازوت، وهناك غلاء فاحش بسبب التهريب والاحتكار والفساد.. حتى الماء يتوفر بصعوبة، يجري كل ذلك في ظل الفوضى الأمنية السائدة، وخاصة في الجنوب، وفوضى السلاح والمجموعات المسلحة التي تقرر وتنفذ ما تشاء برعاية أمنية وانتشار الجرائم دون حسيب ولا رقيب، وبات الأمن يتدخل في كلّ شيء باستثناء أمن وسلامة الناس وضياع وانتهاك حقوقهم والاعتداء على ممتلكاتهم وحياتهم وكرامتهم. ولو كان لديك قطعة أرض صغيرة تريد بيعها، لدفع نفقات عملية جراحية في القلب، لا يمكنك بيعها بدون موافقة أمنية تحتاج إلى توفر شروط يصعب وجودها إلا بدفع مبالغ طائلة.

والمأساة أن بعض السوريين ما زالوا يتساءلون عن أسباب هذه الأوضاع الكارثية: هل هي المؤامرة الخارجية، أم العقوبات الاقتصادية؟ إنّ ما حصل ويحصل لسورية والسوريين من كوارث يتحمل مسؤوليتها النظام الحاكم، وهي أكبر بكثير من قدرة أي مؤامرة خارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية، أو حتى كونية. إن أوضاع سورية وأهلها باتت لا تطاق ولا تحتمل، وما يحصل هو سلخ لجلود من تم نهبهم وإفقارهم، في مقابل تسمين وإثراء الناهبين القدامى والجدد، فعلى سبيل المثال، إن أسرة مكونة من 5 أو 6 أفراد، بينهم فردان في المدارس، وإقامتهم في ريف السويداء ومتوسط دخلهم هو سبعون ألف ليرة سورية “عشرين دولارًا”، يلزمهم أجور نقل مواصلات للأب إلى مكان عمله في المدينة يوميًا 2500 ليرة، ونفس المبلغ 2500 ليره أجور نقل للطالبين، إذا كانت مدارسهم على بعد 10 كم. إذن؛ سوف تتكلف الأسرة يوميًا 5000 ليرة أجور نقل، أي يلزمهم ضعف دخلهم الشهري تقريبًا لتغطية أجور نقل بوسائل النقل العام! عندئذٍ، وسيكون لدى ربّ الأسرة خيارات إكراهية مثل:

– العمل بعد الظهر، وفي ساعات الليل أحيانًا، وأيام العطل، والإجازات في أي عمل قد يجده، عامل بناء أو في أي عمل آخر.

– أن يترك أبناؤه أو بعضهم المدرسة.

– أن يعمل مع إحدى العصابات في الممنوعات والإجرام، أو مع مجموعات مسلحة، فيرهن نفسه لقوى إقليمية تستخدمه لمصالحها مقابل حفنة من الدولارات.

– أن يبحث عن إمكانية السفر لبلد آخر بقصد العمل كي ينقذ أسرته.

– ومن لم يتمكّن من أي من الخيارات السابقة، وبقي في بلده، سوف يعيش معاناة نفسية وجسدية قاسية قد توصله إلى الموت، بسبب سوء التغذية أو السكتة الدماغية أو القلبية، لأن معاناته مع أسرته سوف تستمر، فالأعمال الإضافية -لو توافرت- لن تسدّ حاجة الأسرة بشكل لائق.

إن أوضاع سورية وأهلها باتت لا تطاق ولا تحتمل، والحل ليس بسَلخِ جِلود من تم نهبهم وإفقارهم حتى التجويع، بل بمكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة واستثمارها في تحسين مستوى معيشة الطبقات الشعبية، وهذا غير ممكن إلا في إطار تغيير سياسي وطني ديمقراطي.

مركز حرمون

——————————-

نُكات” السوريين..الأليمة/ إياد الجعفري

رغم حالة الإجماع في أوساط الموالين، على نقد المعايير التي من المرجح أن تعتمدها حكومة النظام في تحديد الفئات المُستثناة من دعم المحروقات والمواد الغذائية في سوريا، إلا أن الخطاب الإعلامي الموالي يوحي بأن حكومة النظام في طريقها لاعتماد معايير قاسية للمُحيّدين عن الدعم، في واحدةٍ من أخطر المنعطفات على صعيد الحياة المعيشية للسوريين الخاضعين لسيطرة النظام.

فصحيفة “الوطن”، التي أفردت مساحات واسعة لنقد خطة الحكومة المُسرّبة بهذا الخصوص، افتتحت واحدةً من موادها عبر استعراض أبرز النُكات التي استقبل بها السوريون هذا المنعطف الخطير في حياتهم. ولطالما كانت النُكات التي تنتقد حكومة النظام في أدنى الحدود، وتنال من رموز النظام في أقصاها، متداولة بكثافة في أوساط السوريين، في ظل حكم الأسدين. لذلك أفردت لها، الأكاديمية الأمريكية، المتخصصة في العلوم السياسية، ليزا وادين، هامشاً لافتاً في كتابها الشهير، “السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب، والرموز، في سورية المعاصرة”.

الكتاب المشار إليه، والذي صدر عام 1999، ويعالج حقبة حكم الأسد الأب، محاولاً شرح كيف تمكن النظام من إحكام السيطرة على السوريين، مفصّلاً في دور الخطاب والرموز، في تدعيم تلك السيطرة، أشار إلى ظاهرة النكات الممنوعة التي كانت مستشرية في تلك الحقبة، والتي تنال من ظاهرة تقديس الأسد الأب.

لكن الكتاب، أشار في موضع آخر، إلى أن الممارسات النقدية المسموحة، تعمل على إدامة السيطرة العميقة للنظام، بدلاً من تقويضها. إذ تعمل تلك الممارسات كصمام أمان يسمح للناس بأن تنفس عن إحباطها، وأن تخرج التوتر الذي قد يجد طريقه للتعبير في فعل سياسي. ولتجنب ذلك، يسمح النظام بممارسة أشكالٍ من النقد المسموح، والمضبوط، بغاية التنفيس. وهكذا كانت فلسفة النظام في السماح بإعداد ونشر أعمال نقدية تسخر من جانبٍ من سياسات النظام الداخلية، من قبيل مسرحيات دريد لحام، أو مسلسل “مرايا” الشهير، أو لاحقاً، مسلسل “بقعة ضوء”.. إلخ. وما ينطبق على الأعمال الفنية الناقدة، المضبوطة بالإيقاع الذي يريده النظام، ينطبق على ما تنشره الصحافة الرسمية والموالية، من نقدٍ للأداء الحكومي. وينطبق بطبيعة الحال، على ممارسات السخرية والتهكم حيال أداء النظام، التي يُتاح لها الظهور عبر الإعلام شبه الرسمي.

فاستعراض أبرز صحيفة مقرّبة للنظام – “الوطن”-، للـ “النُكات” التي يسخر السوريون بواسطتها من خطة الحكومة لاستثناء شرائح واسعة من الدعم، هو عملية تنفيس. وتفاعلُ السوريين الخاضعين للنظام، مع تلك “النُكات”، هو تعبير عن العجز والخضوع، وليس تعبيراً عن فعل متمرد. فالأفعال المتمردة تجد ترجمتها في الشارع، وعلى الأرض، وهو ما يبدو أن نظام الأسد لا يخشاه مطلقاً، لذا فهو يذهب بعيداً في خطته القديمة – الجديدة، للتخلص من عبء الدعم على الموازنة، على حساب السوريين الذين أفقرهم.

فالخطة الحكومية التي كان تسريبها مقصوداً لجس نبض الشارع، ومدى استكانته، ورغم أنها تستثني على الأقل، 25% من السوريين من الدعم، وفق مراقبين اقتصاديين موالين، إلا أنها لا تمثّل إلا المرحلة الأولى من مسار التخلص من عبء الدعم. إذ يشير الكتاب الصادر عن وزارة الاقتصاد بهذا الخصوص في بنده الثاني، إلى أن هناك برنامجاً زمنياً سيتم إعداده لاستبعاد شرائح أخرى من الدعم، وصولاً إلى مرحلة سيقتصر فيها الدعم على العاطلين عن العمل، ومن يقل دخلهم عن الحد الأدنى للأجور (71 ألف ليرة سورية).

وهذا يعني، أن كل الشرائح التي تحصل على دخول شهرية أعلى من 71 ألف ليرة سورية، لن تُعتبر، في وقتٍ قريبٍ، من الشرائح المستحقة للدعم. وهكذا يمكن تصور حجم الكارثة المرتقبة. فالحد الأدنى للأجور في سوريا، يغطي أقل من 10% من تكاليف الحد الأدنى لمعيشة أسرة مكونة من خمسة أفراد. أي أن الدعم في المستقبل القريب، سيشمل فقط من هم دون خط الفقر المُدقع. بينما سيُترك غالبية السوريين في حالة الفقر المُدقع، دون حتى أن يحظوا بفُتات الدعم الذي كان يخفف عنهم جانباً من بؤسهم.

وكيف يواجه السوريون الخاضعون للنظام، ذلك الواقع المرعب، والمُرتقب؟ بـ “النُكات”. هكذا يريد النظام أن يصوّر مدى البؤس والاستسلام الذي وصل إليه الخاضعون له. فهو بات يملك الجرأة للذهاب بعيداً في النيل من رغيف خبز السوريين، مهما كانت النتائج على معيشتهم، وخيمة.

الطريق

———————————-

المستبعدون من الدعم”..توجه مثير لحكومة الأسد و”برنامج زمني لاستبعاد شرائح” إضافية

يبدو أن حكومة الأسد تتجه جدياً لتطبيق قرار استبعاد شرائح مجتمعية من الدعم، وهو ما أثار جدلاً بين كثير من السوريين، إذ اعتبر بعضهم أن هذه التوجه سيؤدي لـ”تقسيم الشعب إلى فئات اجتماعية جديدة”، ورآى أخرون فيه “خلق فوارق طبقية بين الذي يستحق والذي لا يستحق”.

ونشرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، أمس السبت، قراراً يتضمن الشرائح الذي سيتم استبعادها من الدعم المقدم من قبل حكومة الأسد.

والشرائح المستبعدة وفق الوثيقة التي لم تنكر حكومة الأسد صحتها “كبار المساهمين في الشركات، أصحاب ومؤسسي المصارف، أصحاب ومالكي المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة، أصحاب السجلات السياحية عدا الأدلاء والمهن التراثية، المصدرين والمستوردين، المخلصين الجمركيين، وأصحاب المقاهي، وأصحاب المهن الحرة المسجلين لدى النقابات”.

إضافة إلى الأطباء المختصين والمحاسبين ممن يمارسون المهنة منذ اكثر من 10 سنوات، وأصحاب المشافي الخاصة، وأصحاب المراكز الطبية والمخابر ومراكز التجميل والمساهمين فيها، والصيادلة ممن يمارس المهنة من 10سنوات، ومستثمري الصيدليات، وأصحاب المكاتب العقارية، وأصحاب ومستثمري الكازيات والأفران الخاصة، وأصحاب السيارات الخاصة (سعة 1500 وما فوق) من موديل عام 2008 وما بعد”.

كما شملت قوائم الاستبعاد “الأسرة التي تملك أكثر من سيارة، والحاصلين على بطاقة فيميه، والمغتربين المغادرين منذ أكثر من عام، ومالكي ومستثمري مراكز تعليم قيادة السيارات، ومالكي اكثر من منزل بالمحافظة”.

الوزير يعلق

من جهته أوضح وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة الأسد، عمرو سالم، أن “ما يتم تداوله من شرائح يقال إنها ستحذف من الدعم، هو مجرد جمع معلومات للدراسة، ولم يتم اتخاذ القرار بمن سيستبعد من الدعم”.

وقال سالم، في حديث لإذاعة “شام إف إم”، اليوم الأحد، إن “خطوة حذف غير المستحقين من الدعم ليست جديدة والدعم ثابت، ولن يحذف أو يقلل على الإطلاق”.

واعتبر أن “الورقة التي تسربت كانت مسيئة، ولم تكن تقول أن هؤلاء سيحذفون من الدعم، ولكن بالنهاية من لديه مال ومقتدر لا يجب أن يكون مدعوماً”.

لكن سالم أكد أنه “من المتوقع أن يطبق القرار بداية العام المقبل، كما تتم دراسة زيادة المواد المدعومة للأشخاص المستحقين”.

وأوضح أن “كل حذف آلي ومحدداته يمكن أن يقع ببعض الأخطاء ولكن يمكن لأي شخص حذف بالخطأ أن يدخل إلى موقع ويب وسيكون هناك طريقة بتعبئة البيانات وإعادة الدعم له”.

وزير سابق: القرار فرصة لذل المواطن

ولاقت الخطوة استياء سوريين وجدوا أنها ستؤدي لـ”تقسيم الشعب إلى فئات اجتماعية جديدة” حسب ما قاله المحامي عارف الشعال.

ووجه الشعال، عبر حسابه في “فيس بوك”، رسالة إلى “مجلس الشعب” في دمشق، لكي “يصحو من سباته العميق، ويتذكر أنه ممثل للناس، ويرى ما تعتزم الحكومة فعله في موضوع رفع الدعم”.

واعتبر أن القرار يعمل على “تقسيم الشعب إلى فئات اجتماعية جديدة، غير تلك التي تحدث عنها الدستور، واعتزامها الإخلال بمبدأ المساواة بين جميع المواطنين الذي نص عليه الدستور”.

من جهته عدد وزير الاقتصاد الأسبق، نضار الشعار، سلبيات القرار، وهي “صعوبة الحصول على المعلومات وحصرها عمن يستحق ومن لا يستحق، وصعوبة توزيع المواد المدعومة لمن يستحق والتفريق ما بين من يستحق ومن لا يستحق”.

واعتبر الشعار أن من سلبيات القرار “خلق كراهية وعداء بين من تعتبرونه يستحق ومن لا يستحق، وتعيير المواطن الذي لا يستحق بالمواطن الذليل الذي برأيكم يستحق، وخلق فوارق طبقية بين الذي يستحق والذي لا يستحق”، إضافة إلى الفساد في تحديد المستحقين.

كما اعتبر أن الخطوة “فرصة للاسترزاق وذل المواطن ووهن عزيمته وكبرياءه وعزة نفسه”.

في حين ركز الصحفي السوري، نضال معلوف، على البند الثاني من القرار الذي تضمن وضع “برنامج زمني لاستبعاد شرائح أخرى من الدعم (..) وصولاً إلى مرحلة الاكتفاء بدعم المواطنين عن العمل والشرائج الاجتماعية الهشة اقتصادياً، والمواطنين الذين يقل دخلهم عن الحد الأدنى للرواتب والأجور”.

وأشار إلى أن كل السوريين سيكونون مستقبلاً “خارج الدعم”، مشيراً إلى أن “القرار واضح والوثائق أصدق من التصريحات”.

تصريحات سابقة

وصدرت تصريحات سابقة من قبل مسؤولي حكومة الأسد، حول تحديد فئات من المواطنين الذين سيستفيدون من الدعم.

وأعلن سالم، في مؤتمر صحفي الشهر الماضي، أن وزارته تنوي استبعاد أكثر من نصف مليون سوري من الدعم قبل نهاية العام الجاري.

وقال سالم أن “كل من سيستبعد من الدعم ستؤمن له المواد بالسعر الحر”.

كما أعلن وزير المالية في حكومة الأسد، كنان ياغي، الشهر الماضي “إعادة هيكلة الدعم” مطلع العام المقبل، عبر “استبعاد شرائح غير المستحقة للدعم”.

وتدعم حكومة الأسد، عبر ما يعرف “البطاقة الذكية”، بعض المواد الغذائية الأساسية مثل الكسر والأرز إلى جانب دعم مادة الخبز والمحروقات.

وتحدد حكومة الأسد سعراً عبر البطاقة مغايراً للسعر الحر، ويتم تحديد مخصصات لكل عائلة حسب عدد أفرادها.

———————

رفع الدعم الحكومي.. سياسة فائض القوة السورية/ وليد بركسية

بعد عقود من المطالب الشعبية، ومسلسلات أيمن زيدان الناقدة للترهل الحكومي، باتت الدولة السورية تتمتع بالشفافية مع المواطنين، ولم تعد الحكومة تخجل من تصدير قراراتها التي تتنصل فيها من مسؤولياتها كسلطة يفترض أنها تتمتع بالشرعية وفق الخطاب الرسمي، وهو ما يظهر بوضوح في القرار المرتقب لرفع الدعم الحكومي في البلاد عن شرائح واسعة من سكان البلاد الذين تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 85% منهم يعيشون تحت خط الفقر أصلاً.

وبعيداً من السخرية، يظهر السوريون شيئاً من اللامبالاة في وجه القرار الذي تحدث عنه أولاً وزير التجارة الداخلية عمرو سالم مطلع تشرين الثاني/نوفمبر ومن بعده رئيس الحكومة حسين عرنوس منتصف الشهر نفسه، من دون إحداث ضجة حقيقية، قبل نشر وثيقة، وصفت بـ”المسربة”، موجهة إلى وزير الاتصالات والتقانة إياد الخطيب، تفصل الشرائح التي سينقطع عنها الدعم مع مطلع العام الجديد، ومنها أصحاب المهن الحرة والأطباء والصيادلة وأصحاب المكاتب العقارية والمواطنون الذين يمتلكون سيارات سعة 1500 وما فوق ومن يمتلكون أكثر من منزل في المحافظة الواحدة وأصحاب المقاهي والكافيتيريات وغيرهم.

المضحك هنا أن النظام يرفع دعماً لا وجود له بالكاد، فأزمات الخبز والبنزين والكهرباء كانت حاضرة على الدوام في السنوات الماضية، ومع انهيار الاقتصاد وتدهور سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الرئيسية، كان النظام يمهد لهذه القرارات عبر حرمان المواطنين من الخدمات رغم إمكانية توفيرها لهم حسبما تقول تقارير ذات صلة. وبالتالي يصبح الوصول إلى الخصخصة الكاملة وتحول الدولة من النموذج الاشتراكي القائم منذ ستينيات القرن الماضي إلى النموذج النيوليبرالي الذي تم الترويج له من وصول بشار إلى السلطة العام 2020 وقوبل بالاستهجان، أكثر سهولة، لأن السوريين سيقبلون بأي حل يوفر لهم الخدمات مهما كان سعرها باهظاً ومهما كانت الجهة التي توفرها لهم.

ويروج النظام هنا لمقولات زائفة تتحدث عن أن رفع الدعم هو الخطوة الأولى لمحاربة الفساد وإصلاح الاقتصاد ومعالجة الترهل الرسمي، بشكل مشابه لفكرة الإصلاح الاقتصادي في السعودية التي قادها الأمير محمد بن سلمان والتي كانت ضرورية للمملكة التي يعاني اقتصادها من تبعات نظام التبعية القائم هناك منذ عقود ويقضي بتوزيع الثروات الآتية من النفط على السكان بما تبعاً لشرائح مختلفة كثمن لشرعية الأسرة الحاكمة. لكن الفارق هنا أن الإصلاح الموهوم في سوريا اليوم لن يحل أياً من المشاكل القائمة بقدر ما سيفاقم البؤس اليومي. على سبيل المثال، سيرتفع سعر جرة الغاز وفق السعر الرسمي من 11 ألف ليرة سورية إلى 30 ألف ليرة سورية. لكن الغاز نفسه لا يتوفر لمعظم السوريين المشمولين بالدعم، ويضطرون بالتالي لشرائه من السوق السوداء حيث يصل سعر الجرة إلى نحو 130 ألف ليرة سورية. ويصبح رفع الدعم مجرد البداية لتشريع الخصخصة ولا يمكن تقدير المدى الذي ستصل إليه الأسعار حينها.

ولا تعني الخصخصة وجود سوق ليبرالي حر يقوم فيه المدنيون بأعمال تجارية حرة وفق اقتصاد السوق، بل سيبقى النظام ومن يرتبطون به هم المسيرون للاقتصاد مع تحكم السلطة بمن يمتلك المشاريع ومن يحظى بالامتيازات، والتي تذهب في العموم إلى شركات إيرانية وروسية كما كان واضحاً في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى رجال الأعمال الأعمال والتجار وقادة الميليشيات والمسؤولين وأصحاب النفوذ ممن دعموا النظام وساندوه خلال العقد الماضي، وفي المقابل يحتفظ النظام بشرعيته كسلطة لكن الشرعية تنتقل من الشعب إلى النخب الاقتصادية، ومن هنا يمكن فهم الطريقة الوقحة التي يتم فيها تمرير القرارات الاقتصادية ذات الصلة إلى الناس، مع تجاهل الأصوات الناقدة من متخصصين اقتصاديين وصحافيين يتواجدون في مناطق النظام.  

هذا بالطبع ليس جديداً فمنذ العام 2016 على الأقل يمكن تلمس تصريحات لمسؤولين سوريين مختلفين من بينهم وزراء ومستشارون رئاسيون مثل بثينة شعبان، كرروا فيها أن الانهيار الاقتصادي “وهمي” وأن الأسعار لن تعود أبداً إلى حدودها القديمة مهما تحسن سعر الصرف الليرة السورية أمام الدولار ولو وصل إلى حد الخمسين ليرة المعتاد قبل العام 2011. وكان ذلك نتيجة طبيعية لانهيار بنية الدولة بعد الثورة السورية وانتهاء صلاحية العقد الاجتماعي الذي أعطى لسوريا هويتها كدولة منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة العام 1970 بانقلاب عسكري.

وفيما يجادل البعض بأن الثورة السورية التي قامت من أجل تغيير النظام السياسي في البلاد وتحقيق بعض الإصلاحات، فشلت في هدفها الأساسي، لكنها أدت إلى انهيار الدولة ومؤسساتها، لتصبح بالتالي مسؤولة بشكل مباشر على الخراب الحاصل اليوم رغم انحسارها نسبياً منذ دخول الروس إلى البلاد العام 2015 لدعم النظام عسكرياً، بطريقة أشبه لنظرية “تأثير الفراشة” (The Butterfly Effect)، لكن ذلك الجدال يتجاهل حقيقة أن مؤسسات الدولة كانت غير موجودة أصلاً وغير فعالة حتى في حال وجودها قبل الثورة. وبالتالي فإن تحول سوريا إلى نموذج الدولة الفاشلة لم يحدث بعد العام 2011، بل بات واضحاً للعيان فقط بعد ذلك التاريخ لا أكثر.

وبهذا فإن النظام السوري اليوم بتعامله مع ملف الدعم الحكومي يتجه لـ”الشفافية” ليس كإصلاح ديموقراطي طال انتظاره بل كأحد وجوه سياسة “فائض القوة”، حيث لا يملك السوريون سوى القبول بالواقع وإلا كان الاعتقال وغيره من الانتهاكات بالمرصاد لكل من ينتقد في مواقع التواصل، كما تصبح عبارات التخوين حاضرة في الإعلام الرسمي لكل من لا تعجبه القرارات الجديدة، لدرجة يصبح فيها السوريون أنفسهم هم من يعرقلون مسيرة الإصلاح التي بدأتها القيادة الحكيمة قبل 21 عاماً.

والتزمت الحكومات المتعاقبة، حتى في سنوات الثمانينيات الظلامية، بتأمين الأساسيات كالخبز والكهرباء والطبابة والتعليم، مهما كانت الجودة رديئة، مع منع السوريين من الانزلاق نحو الجوع رغم إبقائهم في حيز الفقر. وفي سنوات الثورة السورية الأولى، كان النظام مع طبقة التجار المرتبطة به يلعب على الخط الفاصل بين الجوع والفقر، لأن الفقر مبرر ضمن سياق الحرب المشتعلة في البلاد ويمكن ضبطه ومنعه من التحول إلى جوع خطير، عبر المعونات الاجتماعية والتعويضات التي يقدمها التجار على أنها أعمال خيرية “غير رسمية”، انتقلت مع مرور الوقت إلى المنظمات المرتبطة بأسماء الأسد مثل “الأمانة السورية للتنمية”، خصوصاً بعد عملية “قص أجنحة” رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، العام 2020.

في ضوء ذلك، تظهر السلطة في سوريا هزيلة ومهلهلة وعارية على الصعيد المدني والخدمي بقدر ما هي متوحشة على الصعيد الأمني. وإن كان هنالك رعب من البطش فإن ليس كافياً لإيقاف السخرية التي يتعامل بها السوريون في مواقع التواصل مع حياتهم بالدرجة الأولى وليس ما يجري حولهم من قرارات. ويصبح الرعب الصريح في التعليقات في “فايسبوك” و”تويتر” بالتالي رعباً لا يسكت أصحابه مثلما كان في سنوات الثمانينيات، بقدر ما هو رعب كوميدي بأبعاد عدمية فقد معها السوريون في مناطق سيطرة النظام الإحساس بقيمة الحياة التي يعتبرونها مرادفة لانتظار الموت لا أكثر. كما أنه رعب يسخر من نفسه بنفس الطريقة التي يسخر فيها من مسببه، في إدراك مذهل لتفاهة السلطة التي فقدت حتى القدرة على تكرار نفسها بنجاح.

وليس من المفاجئ أن يصل سوريو الداخل إلى قناعة جماعية متأخرة بأنه لا طائل من جَلد الدولة وتقريعها على تقصيرها المتعمد، لأنها كيان غير موجود أصلاً، وتوجيه انتقاد لها يعني الاعتراف بوجودها، هي التي توقفت عن الوجود بالفعل لصالح تحولها إلى كانتونات متصارعة إثنياً وطائفياً على المستوى السياسي العام، وإلى واجهة تمثل مصالح الآخرين، بداية من مصالح حلفائها الروس والإيرانيين على صعيد السياسة الخارجية، وصولاً لمصالح رجال الأعمال وقادة الميليشيات على صعيد السياسة الداخلية والقرارات الاقتصادية.

المدن

————————–

قصّة زيادة 4 دولارات على أجور السوريين/ إياد الجعفري

خلال الساعات القليلة الفائتة، بذل المشرفون على صفحة “رئاسة الجمهورية” السورية، على “فيسبوك”، جهوداً حثيثة، لحذف عشرات التعليقات التي شتمت حكومة النظام، وصولاً إلى النيل من رأس النظام شخصياً، بالتهكم والسخرية. وقد نجحوا أخيراً في تبييض تلك الصفحة من أي تعليقٍ ينتقد النظام. فيما لم تبذل صفحة “يوميات قذيفة هاون في دمشق” -الأكثر متابعةً لدى جمهور الموالين- الجهد ذاته، واكتفت بحذف التعليقات التي تنال من بشار الأسد، فيما أبقت على تلك التي تنال من حكومته، كإجراءٍ تنفيسيٍّ ضروري، بعد مراسيم الأسد الثلاثة بـ “زيادة الأجور”، مساء الأربعاء.

لكن المفاجأة كانت أن يتفاجأ موالو النظام من الزيادة الضئيلة للأجور، التي أصدرها الأسد، بعد أسابيع من “التبشير” بزيادة مُجزية، تقلل من آثار قفزات الأسعار الكاوية في الأسواق السورية، نتيجة قرارات رفع الدعم المتسارعة عن حوامل الطاقة، ومشتقات الخبز.

لا نعرف، هل صدّق الموالون أن الأسد سيستجيب لمطالب أعضاءٍ في مجلس الشعب، بزيادة الأجور بنسبة 300%!، أم أنهم توقعوا مثلاً، قفزة بنسبة 100%، كما روّج بعض المنظّرين الموالين عبر وسائل الإعلام؟! فنظام الأسد، خلال السنوات العجاف الأخيرة، لم يُقدم على سابقة كهذه، وكانت أعلى نسبة لزيادة الأجور، لا تتجاوز سقف الـ 50%، كما حدث في تموز/يوليو الفائت. لذلك، جاءت نسبة “الزيادة” الأخيرة -30%- منسجمة مع سياساته المعتمدة منذ سنوات، على هذا الصعيد.

وبطبيعة الحال، فإن حجم الألم والمرارة، المُعبّر عنه في التعليقات على الصفحات “الفيسبوكية” الموالية، مفهوم. فهذه مرة جديدة، يخيّب فيها الأسد آمال أنصاره، ويصدر “زيادة” في الأجور، كانت زيادات الأسعار قد التهمتها مسبقاً، بدفعٍ من قرارات حكومته، ذاتها.

وحسب أسعار الصرف الرائجة، مساء الأربعاء، فإن الحد الأدنى الجديد، للأجور في سوريا – 92970 ليرة سورية شهرياً-، بات بحدود 26 دولاراً. وبالمقارنة مع الحد الأدنى السابق للأجور -71515 ليرة سورية شهرياً-، والذي كان يعادل وفق أسعار الصرف الرائجة حين اعتماده –في تموز/يوليو الفائت- حوالي 22 دولاراً، فإن زيادة الأجور التي أصدرها الأسد، تعادل 4 دولارات. أي أن الزيادة الحقيقية للأجور -مع مراعاة تغير سعر الصرف خلال الأشهر الستة الأخيرة- كانت بنسبة 12% في أحسن الأحوال، وليست بنسبة 30%.

الدولارات الأربع تلك -أو الـ 12% زيادة حقيقية في الأجور- كانت مقابل رفع الأسعار المدعومة للغاز المنزلي بنسبة 130%، وللغاز الصناعي بنسبة 300%، وللكهرباء بنسب تتراوح ما بين 100 و800%، وللبنزين بنحو 46%، وللخبز السياحي بنسبة تتجاوز 40%.

الزيادات المشار إليها آنفاً، توالت خلال أقل من شهرين فقط –تشرين الثاني/نوفمبر، وكانون الأول/ديسمبر-. وتذهب تقديرات إلى أنها أنتجت ارتفاعاً في تكاليف المعيشة لأسرة من خمسة أفراد، بوسطي 600 ألف ليرة سورية. وإذا كان وسطي الأجور في سوريا، قبل “الزيادة” الأخيرة، بحدود 150 ألف ليرة سورية شهرياً، فإنه مع “الزيادة” الأخيرة، أصبح بحدود 200 ألف ليرة سورية شهرياً، في أحسن الأحوال. أي أن وسطي “زيادة” الأجور، كان بحدود 50 ألف ليرة سورية، فيما ارتفعت تكاليف المعيشة، بحدود 600 ألف ليرة سورية. لكن حتى لو رفضنا اعتماد الرقم الأخير، واعتبرناه، مبالغاً به، فإن التقديرات المتداولة لتكاليف الحد الأدنى لمعيشة أسرة من خمسة أفراد، تتراوح بين 1.8 مليون ليرة سورية شهرياً، في أعلاها، و1 مليون ليرة سورية شهرياً، في أدناها. فإذا اعتمدنا الرقم الأخير، أي أدنى التقديرات الرائجة، وقارناه بالحد الأدنى لتكاليف المعيشة قبل 3 أشهر فقط، والذي كان بوسطي 732 ألف ليرة سورية شهرياً، فهذا يعني، أن هناك زيادة في تكاليف المعيشة، نتيجة قرارات رفع الدعم الصادرة في الشهرين الأخيرين، لا تقل عن 260 ألف ليرة سورية شهرياً. مما يعني أن الـ 50 ألف ليرة سورية التي “زادها” الأسد على متوسط الأجور بسوريا، وفق قراره الأخير، تغطي أقل من 20% من ارتفاع تكاليف المعيشة المُستجد خلال الربع الأخير من العام الجاري.

لكن الأخطر مما سبق، هو أن النظام بات مولعاً باستراتيجيته الكارثية على معيشة السوريين، التي اتبعها خلال العام 2021. فبدلاً من ارتفاع الأسعار، الذي كان يلتهم زيادات الأجور بعد صدورها مباشرةً -وهي الاستراتيجية التي كانت سائدة طوال عقود من حكم “الأسدين”، بصورة جعلت زيادة الأجور، “فأل شرّ” يُنذر بارتفاع التكاليف الحقيقية للمعيشة- قرر النظام عَكْسَ ذلك. فهو يدفع نحو رفع الأسعار، قبل أن يُقدّم للسوريين “مُسكّناً” بهيئة “زيادة” في الأجور، تكون قد التُهمت مسبقاً، مرات عديدة.

ولا يخفي النظام ولعه باستراتيجيته الجديدة تلك، بل هو يصارح السوريين بها، في كل مناسبة، ويرد على كل من يتأمل “خيراً”، حتى من أنصاره. فحينما تحدث أمين سرّ مجلس الشعب، عن زيادة في كتلة الأجور بنسبة 56%، لُوحظت في موازنة العام 2022، التي أقرها المجلس مؤخراً، ردّ عليه وزير المالية، مباشرةً، بأن الموازنة لا تنص على وجود زيادة في الأجور. وأن أي زيادة مقبلة في الأجور، ستكون نتيجة “دخل غير ملحوظ” في الموازنة. وضرب مثلاً للتوضيح، أن الزيادة الأخيرة في أسعار البنزين أدت إلى “دخل غير ملحوظ”، يتيح زيادة في الأجور.

بكلمات أخرى، فإن “الزيادات” المقبلة في الأجور، خلال العام القادم، ستكون تالية لزيادات في أسعار المواد المدعومة، وفي مقدمتها، حوامل الطاقة، وربما الخبز أيضاً. وهذا يعني استمرارية الدوامة ذاتها. قرارات تدفع نحو تضخم الأسعار، تليها زيادة في الأجور لا تكافئ الارتفاع الحقيقي المُستجد في تكاليف المعيشة.

المدن

—————————–

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى