تقنية

عن “تويتر” ثلاث مقالات تناولت الأمر

ما بعد “تويتر” إيلون ماسك: أيّ “ما قبل”؟/ صبحي حديدي

قد يساجل البعض بأنّ الآثار السلبية (وثمة مَن يتحدث عن العواقب الكارثية) الناجمة عن استيلاء الملياردير الأمريكي إيلون ماسك على منصّة “تويتر” لن تتضح على المدى القريب والمباشر؛ ومن الخير، استطراداً، انتظار مفاعيل هذا التحوّل في مؤشرات أخرى فاعلة مثل البورصات ومصارف الإقراض الكبرى (خاصة تلك التي أكملت التغطية المالية لصفقة الـ44 مليارا التي تكفل ماسك بسدادها ثمناً للمنصّة). هنالك وجاهة، وإنْ بدت نسبية من حيث المبدأ، خلف هذه المساجلة؛ التي لا تلغي في المقابل تقديرات أخرى تحرص على وضع الواقعة ضمن سلسلة نظائر فارقة، أقرب إلى منعطفات كبرى، في حياة النظام الرأسمالي المعاصر إجمالاً، واقتصاد السوق والليبرالية الهوجاء بصفة خاصة.

وبمعزل عن مآزق اهتزاز العلاقات التعاقدية بين مواطن العالم المعاصر، في مغارب الأرض ومشارقها، مع شركات كونية كبرى على غرار “يوتيوب” و”أمازون” و”غوغل” و”أبل”، أو حيث تتجلى عصبة الـPayPal Mafia في فاشية رقمية تجمع أمثال ماسك مع دافيد ساكس (Geni) ورايد هوفمان (LinkedIn) وبريمال شاه (Kiva) ورولوف بوتا (Sequoia)؛ هنالك ما هو أدهى وأعمق على صعيد مؤسسات رأسمالية عتيقة نافذة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقيات الـ GATT ومنظمة التجارة الدولية. الطرفة السوداء هنا أنّ هذه، وما يتماثل معها أو يتكامل ضمن أعرافها، ما تزال قائمة وفق الوظائف ذاتها التي سنّها لها حكماء الاقتصاد الرأسمالي قبل سبعة عقود ونيف، بل هي اليوم أعلى شراسة وأشدّ جبروتاً ونفوذاً؛ لأنّ روحية اتفاقيات بريتون وودز، حيث انعقد مؤتمر النقد الدولي سنة 1944 وأنشأ هذه المؤسسات، هي ذاتها التي تتعرّض اليوم لارتجاج بنيوي عميق، يبرّر تلك التوصيفات الكابوسية للمآزق الراهنة، في أنها أشبه بـ 11/9 أو بيرل هاربور على صعيد البورصات والأسواق.

وفي إسار هذا المشهد بمعطياته كافة، ما بان منها علانية وما احتجب لأسباب لا صلة لها بالخشية من الإعلان، لسنا نفتقد منظّراً هنا، أو متفلسفاً هناك، يطالبنا بأن نعيش حقبة ما بعد سقوط منصّة “تويتر” في قبضة ماسك؛ تماماً كما طولبنا بأن نعيش ما بعد انهيار مصارف “وول ستريت” وبورصاته، وما بعد هزّات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وما بعد الحرب الباردة، وما بعد الحداثة، وما بعد المجتمع الصناعي، وما بعد الإيديولوجيا، وما بعد التاريخ، وما بعد السياسة… كأنما بات من النافل الحديث عن أيّ سابق على الـ”ما قبل”، أو كأنّ كل شيء حدث لتوّه، كما استغرب الباحث الأمريكي دافيد غريس في كتابه المثير “دراما الهوية الغربية”: يريدون من العالم أن يخلع أرديته واحدة تلو الأخرى، من العقلانية والرومانتيكية والثورية، إلى تلك الرجعية والوثنية والمحافظة، مروراً بالليبرالية والرأسمالية والاشتراكية، فضلاً عن الأصوليات والعصبيات والهمجيات.

ولكن إذا توجّب، بالفعل، أن نعيش في أحقاب الـ”ما بعد”، المتغايرة المتتابعة هذه، فلماذا يتوجّب ألا تكون هذه حقبة التبدّلات الكبرى التي تطرأ، أيضاً، على ملفّات لاح أنها استقرّت أو رسخت أو “انتصرت” نهائياً؛ مثل بداهة العولمة، وحتمية اقتصاد السوق، وقدرية انكماش العالم إلى محض “سيليكون فالي”؟ ولماذا لا تكون حقبة ما بعد انهيارات “وول ستريت”، أسوة بشقيقتها ما بعد 11 أيلول، نذيراً باقتراب مراحل الـ “ما بعد” في هذه الأقانيم التي يتغنّى بها الغرب كلّ يوم: العولمة، اقتصاد السوق، العالم في هيئة قرية صغيرة؟

ألا يبدو التبشير هذا أشبه بصيغة مستحدثة، ولكن على عجل وخفّة وضحالة، لليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة التي اتخذت هيئة “خاتم البشر” كما بشّر به فرنسيس فوكوياما (قبل أن يتراجع ويعدّل ويطوي…)؛ حيث لا أزمات ولا هزّات ولا انكسارات؟ ألا يلوح عندهم، أو كما يريدوننا أن نبصر، وكأنّ التاريخ لم يعرف فترات الركود الرأسمالية الطاحنة، أو كأنّ اقتصاد السوق الحرّ في إنكلترا (مهد ولادة هذا الاقتصاد، وميدان تطبيقه الأوّل) لم يشهد شظف العيش اليوميّ في إسار سياسات مُفقِرة وظالمة اجتماعياً، من اللورد بالمرستون وصولاً إلى مارغريت ثاتشر؟

وفي حقبة غير بعيدة، حين تبدّت أولى مظاهر التأزم في الاقتصاد اليوناني، كانت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية سبّاقة إلى كشف النقاب عن تواطؤ كبرى بيوتات المال الأمريكية، وعلى رأسها مصرف “غولدمان ساكس”، في صناعة الأزمة. فعلى امتداد عقد كامل، وبالأحرى منذ دخول اليونان في منطقة اليورو، أغدقت تلك البيوتات قروضاً سخية على حكومات أثينا المتعاقبة، وكانت تموّه عمليات الإقراض تحت بنود شتى ومسمّيات مختلفة، تسمح في المقام الأوّل بالتملّص من القيود التي كان الاتحاد الأوروبي قد فرضها على سقوف التضخم الحكومي.

وتلك، على مأساوية عواقبها بالنسبة إلى المواطن اليوناني، كانت فرصة لاكتشاف جديد حول معضلات النظام الرأسمالي، ممثلاً في فرعه الأبرز الأمريكي: أنّ مجموعة “غولدمان ساكس” ليست قصة نجاح رأسمالية باهرة تعود إلى سنة 1869 فحسب، بل هي “أخطبوط عملاق يمتصّ الدماء” في تعبير مجلة “رولنغ ستون”. وعلى نقيض المبدأ الشهير “دعه يمرّ، دعه يعمل”، بوصفه أحد أكثر أقانيم اقتصاد السوق قدسية وعراقة، كانت المجموعة تعتمد مبدأ النقيض الأقرب إلى هذا الشعار “لا تدعه يعمل، إلا إذا مرّ من هنا”؛ أي من تعاملات الزبائن مع مصارف المجموعة. الأمر الذي لم يوقف، في كلّ حال، العزف المديد على نغمة انتصار اقتصاد السوق، والتنظير المكرّر المملّ حول عبقرية النظام الرأسمالي.

قبلها، في حقبة غير بعيدة بدورها، نشبت معركة قانونية ضدّ قصة نجاح رأسمالية ليست أقلّ بريقاً، بل لعلّها أكثر كونية وانضواء في حاضنة العولمة؛ أي قضية وزارة العدل الأمريكية (ومن ورائها أكثر من عشرين ولاية، وعشرات شركات الكومبيوتر الصغيرة والكبيرة) من جهة أولى، ضدّ الملياردير الأمريكي بيل غيتس وشركة “ميكروسوفت” العملاقة من جهة ثانية. وفي الجوهر الأعمق من تلك المواجهة الضارية، كان مبدأ “دعه يمرّ، دعه يعمل” يتعرّض للمساءلة والمراجعة، ليس في ميدان التنظير الفلسفي او الاقتصادي كما جرت العادة، وإنما في خضمّ السوق، وفي ظلّ قوانين العرض والطلب دون سواها.

وتلك، من جانب آخر، معركة أطلقت شرعية التذكير بأنّ هذا الطراز من المواجهات سوف يشكّل بصمة الأيام القادمة من أزمنة الرأسمالية الكونية، وأطوار العولمة، وحصيلة إغلاق “قرن أمريكي” وافتتاح آخر لا كما حلم الفرقاء الكبار الذين صنعوا منعرجات الماضي. كان ثمة، غنيّ عن القول، الكثير من المغزى في أن تهبّ الرأسمالية ضدّ واحد من خيرة أبنائها البرَرة، غيتس؛ وضدّ واحدة من كبريات معجزاتها، “ميكروسوفت”؛ كي نقتبس تشخيص أسبوعية الـ”إيكونوميست” العليمة بأسرار الآلة الرأسمالية.

وهكذا فإنّ “ما بعد” استيلاء ماسك على “تويتر”، غير البعيدة عن أن تكون المنصّة الأهمّ والأخطر ضمن وسائل التواصل الاجتماعي على أصعدة سياسية واقتصادية وفكرية، لا يصحّ أن يُجرّد، أو يُسلخ حرفياً، عن الـ”ما قبل” في ظواهر التأزّم سالفة الذكر، وفي الكثير سواها، شابهها أو تماثل معها أو دانى عواقبها. وإذا كانت البورصات “فاتيكان اقتصاد السوق” حسب تعبير الاقتصادي الأمريكي المعروف كنيث غالبرايث، فإنها بدرجات أعلى بمثابة متحف الذاكرة الرأسمالية، ومستقرّ الأفراح والأتراح، الأرباح والخسائر، والدموع التي تنهمر حزناً أو تفيض غبطة.

وها هنا ميدان ما بعد “تويتر” الذي في قبضة ماسك، لا لأيّ اعتبار آخر يسبق حقيقة أنّ البورصة هي ميدان الـ”ما قبل”؛ أو، ببساطة أكثر: حلبة المعترك… من قبل ومن بعد!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

——————————

«حرية التعبير» على تويتر: هل ستغيّر خوارزميات إيلون ماسك ذواتنا؟/ محمد سامي الكيال

أثار شراء إيلون ماسك لموقع تويتر كثيراً من ردود الأفعال المتناقضة، وأعاد طرح المسائل المتعلقة بـ«الحروب الثقافية» التي تشهدها الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة. فالملياردير متعدد الجنسيات، الذي يشبهّه البعض بنمط متكرر في قصص الكوميكس الأمريكي عن الأبطال الخارقين، أي الثري العبقري غريب الأطوار، الذي من السهل أن يصبح شريراً، لم يعتبر شراءه لأحد أهم مواقع التواصل الاجتماعي مجرد صفقة ناجحة، بل تحدث عن أهمية هذه الخطوة لحرية التعبير والديمقراطية، لأن تويتر هو «الميدان الرقمي العالمي، حيث تتم مناقشة القضايا الحيوية لمستقبل البشرية».

ما يريده ماسك إذن هو السيطرة على ما يشبه الحيز العام الكوني، الذي يتم فيه تداول الأفكار والرموز والخطابات. وهذا يعني أنه سيصبح المشرف على الخوارزميات المتطورة، القادرة على لفت الانتباه لقضية معينة، وجعلها «ترينداً» متداولاً بين الناس. وتوجهه واضح، فهو يريد أن يواجه «ثقافة الإقصاء الجديدة»، بعد تأكيده، في تعليقه حول خسارة شبكة نتفليكس لعدد كبير من مشتركيها، أن «فيروس الووك Woke لم يعد من الممكن مشاهدته». مبدياً تأييده لاعتباره «أكبر تهديد للحضارة الإنسانية».

من الصعب تحديد ما يزعج ماسك في أيديولوجيا «الووك»، أي الأفكار المرتبطة بسياسات الهوية، وتغيير الخطاب العام بما يتناسب مع «الصواب السياسي»، وحماية الذوات الفردية من أي عدوان كبير أو مصغّر، ولكن من الواضح أنه استطاع بهذه التصريحات، استقطاب فئات كثيرة، خاصة المحافظين الأمريكيين، الذين اعتبروا تويتر دائماً متحيزاً للحزب الديمقراطي الأمريكي. ترامب نفسه أبدى تفاؤله من استملاك ماسك لتويتر، رغم رفضه العودة للموقع، الذي تم حظره فيه سابقاً. يمكن ملاحظة أن ماسك لم ينتصر لـ«حرية التعبير» بعد فوزه بمعركة أيديولوجية طاحنة، أو بنضال خاضه أمام سلطات قمعية تسكت مخالفيها بالعنف والإرهاب، بل بمجرد توقيعه عقداً «حراً» مع من يفترض أنهم خصومه الأيديولوجيين، من مالكي تويتر السابقين، المناصرين لـ «الووك». والأهم أن المتفائلين به يدركون أنه بمجرد استملاكه للموقع الشهير، وسيطرته على خوارزمياته، سيتمكن من تغيير جانب كبير من الشرط الأيديولوجي المعاصر، دون الحاجة لكثير من الجهد الثقافي أو النظري. يبدو «نضال» ماسك الأيديولوجي فارغاً من المحتوى، ويشبه كثيراً ثروته نفسها: فقاعة مالية، لا يوجد في ما تُنتج شركاته من سلع وخدمات فعلية ما يسندها، بعد أن تضخّمت بشدة نتيجة المضاربات والتأثير في حركة البورصات. فما تأثير سيطرة سيد الفقاعات المالية والأيديولوجية هذا على جانب مهم من التواصل الافتراضي؟ وماذا سيحدث عندما يصبح ملايين البشر متصلين بشبكة يحدد ماسك خوارزمياتها؟

على شبكة ماسك

يبدو مآل شبكات التواصل الاجتماعي مخيباً للغاية، بالقياس إلى الآمال التي علقت عليها مطلع العقد الماضي: فرصةً للتحرر من الرقابة السياسية والاجتماعية، خاصة في الدول التي تعاني من الاستبداد؛ وأسلوباً لإنتاج شكل جديد من التنظيم «الأفقي» بين البشر، يتجاوز النموذج التقليدي للتنظيم الهرمي. أي أن الأفراد، وفق هذا المنظور، سيتواصلون بحرية، ويبتكرون شبكاتهم الخاصة، المتسمة بالمرونة والانتشار، والقادرة على إحداث تغيير جذري في الشرط الاجتماعي والسياسي، بعد أن كسروا احتكار النشر، والأطر المكانية والتقنية المحدودة للتواصل، وباتوا قادرين على ابتكار عدد لا محدود من التعبيرات السياسية والثقافية، التي لا يمكن رقابتها أو السيطرة عليها. وإذا كان تعميم الصحافة هو الوسيط التقني لثورات القرن التاسع عشر؛ وانتشار التسجيلات المصورة والمسموعة، عاملاً مساعداً في ثورات القرن العشرين (أشرطة الكاسيت في حالة الثورة الإيرانية مثلاً)، فإن وسائل التواصل الاجتماعي هي وسيط ثورات القرن الحادي والعشرين.

مدينة غوثام في «الكوميكس الأميركي»

بعض الفلاسفة المتفائلين بهذا التغيير تحدثوا عن تبدل جذري في نمط الذاتية، فلم يعد من الممكن إنتاج الذات أيديولوجياً عبر صياغة سلطات معينة لدلالات ومعانٍ ثابتة، يتم تلقينها للبشر، مثل القومية والنوع الجنسي وقيم العائلة والدين، بل سيخلق الناس بحرية تركيباتهم الخاصة، ويصبحون جمهوراً من التفردات غير القابلة للاختزال، التي تعمل معاً نتيجة تواصل غير مؤطر سلطوياً، وتتفلّت دوماً من كل تحديدات السلطة.

بعد تجارب متعددة، خاصة الانتخابات الأمريكية عام 2016، ظهر أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست «حرة» للغاية، ولا يمكن تشبيهها حتى بشرائط الكاسيت، التي كان يمكن لأي شخص أن يسجّل ما يشاء عليها في غرفة مغلقة، فهي متعلقة بخوارزميات شديدة التعقيد، تبتكرها شركات تتربّح مما يسمى «اقتصاد لفت الانتباه». لا يتداول البشر الرموز والأفكار والدلالات بحرية، بل يتم إثارة انتباههم عبر نوع من البرمجة العصبية والنفسية، ودفعهم إلى استقبال وإصدار العلامات، بعد وصلهم بشبكة هائلة، يزداد ربحها كلما أنتجت مزيداً من العلامات. يصبح المحتوى التواصلي بهذا المعنى فارغاً، فليس مهماً ما الذي يتداوله الناس، بل تكثيره ومضاعفته بلا نهاية، ولذلك تصير العلامات اللافتة للانتباه، أياً كان محتواها، المنتج المفضل على هذه الشبكة.

البشر بهذا المعنى ليسوا منتجين لمعانٍ وأفكار، بل «ماكينات سيميائية»، تُحفّز لإنتاج أكبر قدر ممكن من العلامات، حسب تعبير الفيلسوف الإيطالي موريتسيو لاتسراتو، ويزول لديهم أي فرق بين الخارج والداخل، فأفكارهم لا تنبع من إعادة صياغة داخلية للمؤثرات الاجتماعية والثقافية العامة، بل نتيجة ضغط خارجي من مئات المؤثرات و»التريندات»، التي تخترق إشعاراتها حياتهم اليومية في كل مكان. هذه «العبودية الآلية»، دفعت المفكرة الأمريكية جودي دين للتأكيد أن وسائل التواصل ليست حيزاً عاماً، ولا حتى بالمعنى الافتراضي، لأنها لا تحوي لغات مشتركة أو فاعلين اجتماعيين أو خطابات موجّهة، وليست أكثر من مجال لتداول علامات فارغة، ضمن حيز من الامتيازات الخاصة، مملوك لهذه الشركة العملاقة أو تلك. ويشبه، رغم كل تطوره، الإقطاعيات القروسطية، التي كانت تُباع وتُشترى مع الأنفس التي تعمل فيها. بهذا المعنى فإن إيلون ماسك لم يستول على «ميدان رقمي عام»، بل اشترى ماكينة هائلة، بالأنفس الموصولة بها، أي نحن، مستخدمي تويتر وغيره من وسائل التواصل.

تجارة الذوات

ولكن كيف تخلّى أنصار أيديولوجيا «الووك» و«العدالة الاجتماعية» (على النمط الأمريكي) بهذه السهولة عن تويتر لخصمهم المُتهم بالشعبوية؟ قد يكون الجواب في زوال الفارق بين الأيديولوجي والاقتصادي، في عصر تسليع المنتجات اللامادية من علامات ورموز: بما أن محتوى التواصل فارغ على وسائل التواصل الاجتماعي، والمهم هو إنتاجه لبيانات وعلامات قابلة للتسويق، فإن نمط الذاتية الذي خلقه قابل للبيع بالتأكيد، أي الذوات الهشة منتزعة التوطين من أي سياق اجتماعي صلب، الغارقة بالاستياء والشعور بالتعرّض للأذى والعدوان، والمستغرقة في تريندات لا تنتهي من اللغط. لا أحد يناضل كثيراً للاحتفاظ بأيديولوجيا ذات محتوى فارغ، ومهما كانت أيديولوجيا «الووك» مفيدة للحزب الديمقراطي الأمريكي، فهي في النهاية ذات قيمة سوقية يمكن تداولها والتنازل عنها، إن حققت ثمنا مجزياً، فليتعامل ماسك مع ملكيته الجديدة كما يشاء، وسيتأقلم الديمقراطيون مع الشرط المستجد.

ليس من الواضح بعد إن كان تويتر سيصبح مجالاً مفتوحاً لـ«التفوق الأبيض»، كما يحذّر بعض المرتاعين من استيلاء ماسك عليه، ولكنه بالتأكيد سيصبح أكثر لفتاً للانتباه بما يحويه من علامات وتعبيرات متحررة أكثر من الرقابة، ومثيرة للغط أكبر، بما يتناسب مع الشخصية الإشكالية لماسك نفسه، الذي حقق شهرته أصلاً عبر كثير من اللغظ. ربما يكون لهذا نتائجه على نمط الذاتية المعاصر، ولكن من المستبعد أن يؤدي لتغيير جذري، فالذوات/الماكينات الموصولة على الشبكة العملاقة ستبقى هشة وغير قادرة على إنتاج المعنى، و «ضحية» أبدية لكل أشكال العدوان.

غوثام الجديدة

بالعودة إلى الكوميكس الأمريكي يبدو العالم اليوم أشبه بديستوبيا «غوثام»، المدينة السوداوية الفاسدة، التي باتت شهيرة في الثقافة الشعبية، والتي يسيطر عليها أثرياء مخبولون ومجرمون متوحشون، ولا أمل فيها إلا «الرجل الوطواط» (ثري آخر غريب الأطوار) الذي يحاول إصلاح المفاسد اللانهائية لمدينته.

أشرار غوثام الجديدة هذه ليسوا فقط أثرياء اشتروا المدينة مع أنفسها، مثل إيلون ماسك، بل أيضاً سلطات قمعية تعمل على الانفصال عن إقطاعية التواصل الاجتماعي المعولمة، لإنشاء وسائل تواصل محلية، تمزج بين خوارزميات اقتصاد لفت الانتباه؛ والتحكم الاستبدادي والرقابة التقليدية. شبكات التواصل الصينية والروسية خير مثال عن ذلك.

قد يلجأ الناس إلى الشبكات الهامشية، والإنترنت العميق والمظلم، والمبادرات التقنية الحرة، للهروب من هذا الشرط الخانق، ولكن التجربة أثبتت أن كل هذه الحلول يتم الهيمنة عليها في النهاية، واستيعابها في التيار الأساسي، أو تصبح مجالاً لمجموعات الجريمة المنظمة والإرهاب. لا يوجد بطل خارق في الأفق يمنح الأمل في هذا الشرط الديستوبي، وربما الأجدى انتظار تغيير قد يأتي من خارج الشبكة وخوارزمياتها.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————-

إيلون ماسك.. “الثورة الأميركية”/ بيار عقيقي

يشبه إيلون ماسك “أميركا الجديدة”، تلك التي تجدّد نفسها كل عقد أو اثنين، وكأنها مولودة حديثاً بين الأمم. تطلّعه إلى غزو الفضاء، قبل سيطرته على “تويتر”، يحاكي “ثوراتٍ” أميركية دفينة، برزت في هوليوود بشكل خاص، وفي انتشار ثقافة الرأسمالية الاستهلاكية. غزت هذه “الثورات” العالم أسرع من غزو الجيوش الأميركية لعشرات البلاد، بعد النصف الثاني من القرن العشرين. هي نفسها الثورات أخرجت أفراداً ومجموعاتٍ معارضة لها، وكأنه كُتب أن أميركا لا تُحَارَب إلا من أميركا، والباقي كومبارس أو معارضون لمفهوم وجودية هذه الدولة من دون قدرة على مواجهتها، أو أنصار لها يؤيدونها كيفما اتفق، أو متفرّجون يعلمون أن ما باليد حيلة.

أرض الميعاد للغزاة الأوروبيين لم تكن يوماً في خطر، ومساحة الحرية التي صاغها نظامٌ يعدّ نفسه الأمتن في الكوكب، ويرتكز على عملةٍ تسوده، لا يُمكن نقاشها مهما كان سليماً ومنطقياً. إيلون ماسك يجسّد أميركية الثورات التي أخضعت وسائل الإعلام ثم الفضاء الإلكتروني. تريد تسجيل موقف ضد أميركا؟ لن يحصل الأمر إلا عبر منصّةٍ إلكترونية أميركية. تريد شراء معدّات عسكرية لمواجهة أميركا في حرب عصاباتٍ ما؟ ستشتريه بالدولار الأميركي. تريد نبذ النفوذ الأميركي في العالم؟ لن تستخدم وسيلة تواصلٍ لربط شبكات مقاوماتية إلا باستخدام أنظمة أميركية. وهنا لا يمكن القول: “إنني أستخدم سلاحها ضدها”، بل عليك الاقتناع بأن السيطرة الأميركية على الفضاء الإلكتروني لا تسمح لك بتجاوز ما يمكنه أن يهدّد أمنها فعلاً. الأمر لا يتعلق بـ”نظرية مؤامرة” غريبة، بل تحدّث جوليان أسانج وإدوارد سنودن مراراً عن هذه السيطرة.

هل يجعل من ذلك كله “أميركا أمة عظيمة”، أو يدفعك إلى السعي خلف “الحلم الأميركي”؟ طبعاً لا، ليس المطلوب من أي فردٍ أو مجتمع التماهي مع آخرين فقط لأنك تظن أنهم “أفضل منك”. لأميركا مساوئ لا تعدّ ولا تُحصى، وسلبيات عانت وتعاني منها دول وشعوب، والعنصرية في الداخل الأميركي أكبر بكثير مما يتخيّل أي إنسان خارج الولايات المتحدة، غير أن “الواقعية السياسية” الأميركية المبنية حصراً على المصالح، بإيحاء من رأسمالية استهلاكية، تكرّس هيمنة هذه البلاد على الكوكب حتى إشعار آخر. إيلون ماسك سيقود قطاراً “ثورياً” جديداً، وسنخضع لشروطه على “تويتر”، كما خضعت “ناسا” لشركته الفضائية الخاصة. أبدى الرجل رغبته في ترك مساحة الحرية على “تويتر”، بل وزيادتها تحت عنوان “حرية التعبير”، قبل التراجع عنها لاحقاً، لأسبابٍ لن تتضح إلا مع الزمن. سينساق كثر خلف “الجديد على تويتر”، وسنرسخ بنقرة انتصار ثورة أميركية جديدة. وبعدها، سنراقب ثوريّاً آخر بعد عقد أو أقل، ينافس إيلون ماسك أو يزاحمه، وسننقسم إلى معسكراتٍ مؤيدة وأخرى معارضة، فيما قطار “الثورات” الأميركية يواصل سيره نحو عالمٍ يتفق كثر على وصفه بـ”الجديد”.

المجانين يصنعون العالم والعقلاء يعيشون فيه، هذا واقع تشهده البشرية منذ نشوئها. السؤال الأهم: ما الذي يريده ماسك؟ شخصٌ مثله يظهر عدم رغبته في شيء، ويسعى إلى كسب كل شيء، حتى إنه عبّر مرّة عن رؤيته السياسية بأنه “نصف يميني ونصف يساري”، رغم أنه نشر تغريدة فحواها أنه “بات أقرب إلى اليمين”. وكأنه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لكن بنسخة أكثر أميركية. ربما رحلة البحث عن “شيء ما” بالنسبة إلى ماسك قد تبدأ بتحوّله إلى “ناخب” رئيسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2024، لما لـ”تويتر” من تأثير في جماهير الناخبين الشبّان، ولم لا يتوّج رحلته الزاخرة بالضجيج بإعلان ترشّحه للرئاسة الأميركية في عام 2024. لن يكون الأمر مفاجئاً إذا فعلها، فالرئيس السابق دونالد ترامب أتى من العدم السياسي مثله، وجوبه من “الاستابلشمنت” وتحدّث بلغة الريف الأميركي، ونجح في إسقاط خصومه في الحزب الجمهوري ثم الديمقراطي، والبقية للتاريخ.

العربي الجديد

——————————

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى