صفحات الثقافة

قراءة في الجيوبوليتيك والسياسات الدولية العصرية: حواف حادة وزوايا هشّة/ جمال الشوفي

جدول المحتويات

الملخص

توطئة

هدف الدراسة وغرضها البحثي

أولًا: تسييل العولمة

ثانيًا: تصليب الجيوبوليتيك

ثالثًا: الزوايا الهشة وفرضيات الحلول والتماهي للدول الصغرى

رابعًا: الخطر على السلام العالمي

المراجع:

الملخص:

بينما يترقّب العالم بحذر وخوف مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا في قلب أوروبا، وما ستؤول إليه أحداثها، فإنه من الضرورة تفحّص السياسات الدولية التي باتت تنتج أقسى أنواع الحواف السياسية مهددة السلم العالمي.

دوامات الجيوبوليتيك الدولي يعاد إنتاجها روسيًا في القرن الحادي والعشرين، كنظرية سياسية رابعة تحمل الصلابة التي بدأها نظام العولمة وحيد القطبية، وإذا كانت العولمة نظامًا متكاملًا في سيلانه على سطح الكوكب؛ فإن الجيوبولتيك والعولمة كلاهما أقام الحواف الحادة والتصليب الجيوبوليتيكي العسكري الدولي، وكلاهما يُنذر بقضم الزوايا الدولية الهشّة واستقلال دولها.

أوروبا اليوم في قلب الحدث العالمي، وإمكانية تجاوز الحواف الحادة العالمية تلك، وتفادي الحرب العالمية الثالثة، تفرض على الفكر الإنساني نقد الجيوبوليتيك وتقييده، مع ضرورة فتح الحوار مجددًا حول الموقف الأوروبي من الربيع العربي وإنصافه، وخاصة في سورية.

توطئة وتمهيد:

بُعَيد نهاية النظام العالمي ثنائي القطبية، بدأت الرأسمالية العالمية، ببعدَيها التقني/الاقتصادي، والسياسي/العسكري، بفرض شروطها الدولية، متمثلة بنموذج عابر للدول والقارات، من خلال نظام عالمي جديد رائزه ومحوره منظومة العولمة وحيدة القطبية. العولمة بدأت بالتمدد والسيلان أفقيًا على سطح الكوكب، مع تراجع وانحسار كبير لنقيض القطب الرأسمالي وحدّها الدولي المتمثل بالقطب الاشتراكي. تمدد العولمة أخذ مسارات عدة متوازية منها: العسكرية والجغرافية الحادة، الانفتاح الاقتصادي والمالي العابر للحدود والمترافق مع ثورة التقنية الحديثة، الاستفراد بالشرعية الدولية متمثلة بقرارات مجلس الأمن، والتبشير بالديمقراطية كأرض ميعاد البشرية ونهاية تاريخها، حسب منظرها الأكبر فوكوياما.

اليوم، تبرز على سطح الكوكب سياسات ومحاور دولية تحاول كسر هيمنة النظام العالمي وحيد القطبية، متمثلة ببعدَين متجاورَين ومتوازيين: الأول البعد السلس وغير العسكري، والمتمثل بالتنافس التقني والهيمنة على أسواق التجارة العالمية والتفوق الاقتصادي متمثلًا بالصين بشكل رئيسي، ودول التقدّم التقني وفورة المعلوماتية العالمية التي تدور في فلك نظام العولمة كاليابان، والبعد الثاني يتّصف بحدّية حوافه القاسية وشدة صلابته ونزعته المهيمنة، من خلال استخدام البعد العسكري الكلاسيكي في إعادة فرض شروطه وحضوره العالمي؛ متمثلًا بشكل رئيسي بروسيا البوتينية (الروسبوتينية) القرن الحادي والعشرين. ومع أن روسيا من حيث الخلفية والمشهد الأولي تمثّل حدًا وكسرًا لنظام الهيمنة وحيد القطبية السابق، فإنها لم تمتلك القدرة على تجاوز نموذجها في الهيمنة المباشرة عسكريًا، بل إنها تستخدم أدواته العسكرية المدمّرة ذاتها، مستبعدة سيلان الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعة الدولية ودبلوماسيتها السياسية، ومهددة السلم العالمي على سطح الكوكب.

دون هذه الأبعاد، تظهر محاور الهيمنة الإقليمية المدعومة من هذه أو تلك، وأكثرها وضوحًا التمدد الإيراني في الشرق العربي، وما قابله من ردة فعل خليجية في حرب اليمن، والنزاع الدولي من سورية وعليها، وامتدادات المسألة الليبية والأرمنية، ومجموع هذه المجريات تشي بتشكيل أقطاب ومحاور وتحالفات عالمية جديدة قابلة للتبدل وفق خط سيرها ومصالحها المتباينة، نتيجتها الأولى تبدو في حدّة الحواف العالمية وشدة تنافسها الجيوبوليتيكي (الجيوسياسي) العام، وما يتبعه من عمليات عسكرية وارتدادات مالية واقتصادية أيضًا، قد تتطور إلى مواجهة عالمية كبرى في حدودها العليا، وقد تأتي على تفريغ حمولاتها الحادة تلك في المجالات الحيوية الضعيفة والهشة بتقاسم إدارة النفوذ العالمي من خلالها، وفق محاور وخطوط تماس زلقة تهدد بتقسيم الدول إلى دويلات صغرى، وسورية وأوكرانيا تبدوان أشهر الأمثلة المرجحة لذلك.

كتوطئة أولى، يمكن الحديث اليوم عن سياسات دولية تتصف بالميكانيكية الحادة والقاسية، تعود بالبشرية لما قبل الحرب العالمية الثانية، تبرز معها شدة التباينات العالمية، وفق دوامات عالمية من التحرك الجيوبوليتيكي متباين المحاور والمخاوف، قابلة لقضم الدول على خطوط امتدادها. هنا، تُبرز النظرية الرابعة في السياسة، كما يروّج لها الروسُ اليوم، أكثر هذه الحواف شدةً وخطورةً، وإن كانت تحمل في مؤشراتها الأولى وضع حد للهيمنة الأميركية المنفردة في العالم، وإقامة محور عالمي جديد لها يجمع بين أوروبا وآسيا، ومركزه روسيا، إلا أنها تهدد السلم العالمي بدءًا من الكارثة السورية، وصولًا إلى احتمالات أوسع في قلب أوروبا، في أوكرانيا.

فهل تمتلك أوروبا اليوم القدرة على خوض مجابهة مباشرة مع المحور الروسي الناشئ؟ أم أنها، كحاضنة تاريخية للدولة الحديثة وأفكار السلم العالمي وحقوق الإنسان، تستطيع استعادة دورها الحضاري، إذا ما تجاوزت الحواف الحادة للجيوبوليتيكا الأميركية والروسية معًا، وتوجّهت اتجاه الربيع العربي مرة أخرى، بما حمله في طياته الأولى من إعلاء لدور الدول الوطنية بنكهتها الدستورية والقانونية، وأسهمت في استعادة تموضعه السياسي، وما يحمله من بوادر مهمة في إذابة جليد سياسات الهيمنة تلك التي وقع بين فكّيها كما أوروبا.

-هدف الدراسة وغرضها البحثي

تهدف الدراسة الحالية إلى إعادة النظر في السياسات الدولية ورائزها العصري في نظام العولمة، والذي تجاوز حدوده النظرية والمعرفية المعلنة بدايةً في إنهاء الصراع العالمي ثنائي القطبية، والترويج لسيلان الديمقراطية وتعويم ثقافتها عالميًا كنهاية للتاريخ، وما يرافقها اليوم من تشكيل الحواف الحادة بين منحى الجيوبوليتيك الروسي كنظرية رابعة دخلت حيّز التطبيق الفعليفي السياسة، وأثرها العصري في الحالة الدولية، كردة فعل على ميكانيكية الهيمنة العسكرية التي فرضتها شروط النظام العالمي وحيد القطبية، ما أدخل الكوكب في دوامات نزاع جيوبوليتيكي ينذر شرًا بسطح المعمورة.

تبتغي الدراسة الإجابة عن سؤالها المعرفي للمحددات العالمية الممكنة لتجنب سيناريوهات الحرب الكبرى، وأثرها على زواياه الهشة سياسيًا، مع الاحتفاظ بحقّ الفرضية المطروحة في دراسات سابقة تناولت المسألة السورية وطرق حلّها[1]، وضرورة إنصاف دول الربيع العربي، التي انطلقت منها شرارة تمدد الحواف الدولية القاسية، بين التمدد الروسي العالمي وتراجع دول الديمقراطية والليبرالية العصرية أساسًا عن إنصافها الفعلي، والاكتفاء بدور المنساق في المعادلة العالمية الجيوبوليتيكية. ولو تم إنصاف الربيع العربي، دوليًا وأوروبيًا، لتم تجاوز حدة الحواف العالمية الحالية المنفتحة على حدّتها في أوكرانيا، وقابلية تمددها في قلب أوروبا، والذهاب باتجاه السلام العالمي. وتشير النتائج اليوم إلى تصاعد الصراع العالمي وقابلية تمدده إلى مناطق أخرى تنذر شرًا.

البحث عن نظام معرفي كوني يتجاوز الحواف الحادة بين الأقطاب العالمية المتنافرة، تحت عنوان عام هو مصلحة البشرية بالسلام، هو قيمة عليا عالمية ومهمة لدارسي السياسات الدولية حديثًا. وثمة قصور معرفي وخطر يهدد الكوكب ماثل اليوم، عنوانه الأبرز: عصر عدوى الشر والاستحواذ بالقوة. وأوروبا بحاضنتها التاريخية للدولة العصرية ومنارة ثقافتها العالمية هي المهددة أكثر من غيرها اليوم، خاصة أنها واقعة بين مختلف أنواع الحدود القاسية تلك، ما يستلزم البحث عن نظريات معرفية إنسانية، تغاير مسار الهيمنة والغطرسة، سواء كانت العولمة أو نقيضها الجيوبوليتيك الروسي، وتعيد للكوكب سلامه وأمانه، وهذه غاية الدراسة وتوصيتها. ولتحقيق هذا الهدف من الدراسة، سنعتمد التحليل المقارن منهجًا للدراسة.

أولًا: تسييل العولمة

التسييل، الامتداد العائم، هو الامتداد الأفقي الواسع والغامر للنظام العالمي الجديد، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية كقوة انفرادية عظمى، وصفها صمويل هنتنجتون بأنها “الدولة المتفوقة في مختلف ميادين القوة -اقتصاديًا وعسكريًا ودبلوماسيًا وأيديولوجيًا وتكنولوجيًا وثقافيًا- مع إمكانية الوصول والقدرة على تعزيز وتوسيع مصالحها في كلّ أنحاء العالم”[2]، ومن خلفها الدول ذات الإرث الليبرالي الرأسمالي، والمتحولة إلى دول عابرة للقارات على مستوى سياسات السوق العالمية، وصفها فوكوياما حديثًا بالقول: “انهار النظام العالمي الليبرالي، واستبدلت بالدولة الليبرالية الأدونية (قليلة التدخل بالشأن العام) دولة عالية المركزية والنشاط في معظم أرجاء العالم“[3].

تسييل العولمة أخذ أبعادًا متعددة عالميًا، يمكن تحديدها بمفاصل عدة:

    الترويج للديمقراطية كمحتوى عام للعولمة سياسيًا ونهاية للتاريخ، وبأنها النظام الأصلح للبشرية كمنظومة مكتملة كلية تصلح لأن تشكل نظامًا عالميًا بلا حدود كقرية كونية صغيرة[4]، ينتهي التاريخ عندها كما أرادها فوكوياما، فالديمقراطية الليبرالية هي “أرض الميعاد”، و”الأيديولوجيا التي يمكن أن يقنع العالم كله بصلاحيتها هي الديمقراطية الليبرالية”[5].

    محاولات توحيد الثقافة العالمية وتنميط الفكر البشري بلغة العولمة الاقتصادية تقنيًا وسوقيًا، وصناعة الرأي العام عبر الإعلام والقدرة على الوصول إلى كامل سطح الكوكب، مع تحقيق أهداف السوق العالمية بعالم بلا حدود، وقد وصف تشومسكي ذلك بالقول: “إن دل على شيء، فهو يدل على الطريقة التي يدار بها نظام جيّد لتصنيع الإجماع في نظام دعائي جيّد”[6].

    التوجه إلى لغة عالمية موحدة تمثلت بداية باللغة الإنكليزية، وتابعت مع لغة الاختصارات والتسميات الإشارية والدلالية ذات المعنى السوقي العام، بحيث لا يختلف عليها اثنان، مهما اختلفت لغتهم المحلية، فالرمز WWW.))، على سبيل المثال، بات رمزًا عالميًا تقنيًا ولغويًا وثقافيًا[7].

    الامتداد التقني العام والتحول إلى الاقتصاد الرقمي تدريجيًا، وغمر السوق العالمية بقدرات تقنية ورقمية. ومع أن هذه الثورة التقنية مكنت من استيعاب حاجات السوق العالمية، ماديًا وسلعيًا وتواصليًا أيضًا، فإنها تمددت في الوقت ذاته باتجاه الصناعات الحربية والعسكرية عالية الخطورة، ودعت مفكّري العالم للتحذير من خطر ثورة التكنولوجيا بذاتها على أهميتها في الجوانب الاخرى، خطر يهدد البشرية جمعاء، لما له من قدرات تقنية عالية على مستوى صناعة السلاح، حيث إن “القرن العشرين أنتج أسلحة قادرة، لأول مرة في التاريخ، أن تبيد كل أثر للمدنيّة على وجه الأرض”[8]، إضافة إلى البحث عن قدرات إنتاج مادية متقدمة تقنيًا وعسكريًا تشكّل أدوات سيطرة وهيمنة وتفوق، دون الحد النووي.

لم تكتفِ منظومة العولمة بالتعويم التقني الديمقراطي واللغوي والثقافي والإعلامي، فمع انهيار المعسكر الاشتراكي انفتح المجال واسعًا أمامها لإمكانية الهيمنة العالمية الوحيدة بالقوة العسكرية الصلبة، تلك التي تميزت بخطوط عامة أهمها:

    التحوّل من نظام ثنائي القطب إلى القوة الانفرادية، والتبشير بنظام عالمي جديد، فمع نهاية الحرب الباردة بين القطبين الرأسمالي والاشتراكي، نقل بيتر مارتين مجريات لقاء سان فرانسيسكو عام 1995 الذي ضمّ 500 من خبراء العالم وقادته في مجالات السياسة والمال والاقتصاد، والذي قال فيه غورباتشوف، آخر رؤساء السوفييت: “إن المطلوب من اللقاء بجمعه أن يكوّن هيئة خبراء جديدة، وأن يبيّن معالم الطريق للقرن الحادي والعشرين، والتي ستفضي إلى حضارة جديدة”[9].

    الهيمنة بفعل القوة العسكرية وتشكيل التحالفات العسكرية لها (البلقان والعراق وأفغانستان وغيرها) مسنودة بالشرعية الدولية المتمثلة بقرارات مجلس الأمن الدولية الملزمة بفصله السابع[10]. هذه المواقع التي تم غزوها عسكريًا تمثل خطوط تراجع المد السوفيتي السابق وتحجيمه داخل روسيا، وقضم محيطه الحيوي السابق مقابل تمدد حلف الناتو بشكله المعولم.

    الاستحواذ الاقتصادي وانفتاح السوق العالمية وتنامي التنافس التقني الواسع، وقمته العصرية ظهرت مع التنافس الأميركي الصيني على تقنيات الجيل الخامس[11].

يجوز القول في العولمة إنها التمدد المفتوح بلا روادع موضوعية أمامها، على خلاف ما كانت عليه ثنائية الرأسمالية والاشتراكية في ثنائية قطبية قبل 1991، التي شكلت في حينها معايير سياسية ودولية واقتصادية متوازية ومتناقضة ومتعادلة نسبيًا، وذلك بغض النظر عن أحقية إحداهما. وكانت أميز مؤشراتها توازن القوة وتحجيم السيطرة بالقوة العسكرية، والبحث فيما دونها من صفقات سياسية واقتصادية. فيما يعود العمل العسكري المباشر لواجهة الحدث العالمي، وحدّه الخطِر الزر النووي.

ثانيًا: تصليب الجيوبوليتيك

التصليب، زيادة الصلابة والمقاومة وردة الفعل، هو فعل ميكانيكي يعتمد ماديًا على شدة الفوارق بين حالين مختلفين، بغية تثبيت وجود مختلف عن الحالة الأولى سابقتها غير الفعالة.

إن استعارة الوصف الميكانيكي للمعادلات السياسية التي نحاول وصفها هو للقول إنها معادلات جافة تكاد تخلو من الأبعاد الإنسانية الفكرية والقيمية أولًا، وثانيًا لمقاربة المشهد العالمي الجارف والذاهب باتجاه قسوة الحرب مرة أخرى، بعد كل الجهود العالمية السابقة لتحجيم دورها في السياسة الدولية، والبحث في سيولة السوق العالمية، اقتصاديًا وماليًا وسياسيًا وثقافيًا[12]. ومع أن هذه السيولة محطّ نقد واسع، من حيث الثقافات المحلية، فإنها أقل كلفة من معادلات الحرب.

العودة لحدود الحرب الكلاسيكية وفرض إرادة التوسع العسكري في مقابل التوسع العولمي لنظام وحيد القطبية هو ما نطلق عليه حالة الصلابة والحدة الجيوبوليتيكية، سواء ما قام به نظام العولمة وحيد القطب سابقًا أو ما تقوم به روسيا اليوم، وربما يقوم به مستقبلًا غيرهم. والفارق الملحوظ في هذا هو محاولات روسيا للعودة للساحة العالمية مجددًا، كقطب أو محور مختلف عن المحور العالمي وحيد القطبية بزعامة منفردة أميركية. فروسيا هي وريثة الاتحاد السوفيتي في ما كان سائدًا بالنظام العالمي ثنائي القطبية ذي الندية العالية، وقد تحوّلت إلى التهميش والطرفية في المعادلة العالمية بعد تفككه. ومنذ بدء الالفية الثالثة، تعاود روسيا العمل على خطوط عدة، أهمها البعد العسكري، لإعادة فرض وجودها السياسي والعسكري في المعادلة العالمية وفق محاور جديدة التشكل، تقاوم وتمانع سيل العولمة الأول. فإن كان تمدد العولمة وتسييلها تقنيًا وثقافيًا ولغويًا يلحظ عالميًا، فإن تمددها العسكري الصلب والقاسي أفرز بشكل طبيعي ردة فعل سياسية عسكرية من جنس الفعل ذاته.

الجيوبوليتيك الدولي ودواماته العالمية، ومصدره روسيا، بشكل كلاسيكي عسكري، مع مراقبة النمو التقني والاقتصادي للصين واليابان، بطريقة مختلفة عن الروسية لليوم، كان مراقَبًا مبكرًا في تقارير الخارجية الأميركية. فـ”العام 2014 كان عامًا صاخبًا، حيث عصفت به عودة التنافس الجيوبولوتيكي وعودته لمركز الحدث، فالقوّة الروسية آخذة بالتزايد، وكذلك الصين، واليابان بدأت تميل بشكل متزايد إلى الخطط الاستراتيجية هي أيضًا، وإيران أخذت بالتمدد داخل سورية، بالتعاون مع “حزب الله”، وذلك للسيطرة على الشرق الأوسط، ما يظهر عودة القوة التقليدية للعب الدور الرئيسي في العلاقات العالمية”[13].

دوامات الجيوبوليتيك هي خلاصة ما سُمّي بالنظرية الرابعة سياسيًا، The Fourth Political Theory »”[14]، عنوان الكتاب الذي أصدره ألكسندر دوغين، المنظر الأكبر للجيوبوليتيكيا الروسية، ومن خلفه عدد من المنظرين الروس على المستوى الفكري والسياسي، خاصة مركز كاتخيون للدراسات، وتقوم النظرية على مجموعة من الأسس التاريخية والسياسية والسكانية/الاجتماعية والطرق التطبيقية في معادلات الواقع العالمي، اذ يقول فيه: “العالم من الممكن أن يحكم بالقوانين الاقتصادية وبالأخلاق الكونية لحقوق الإنسان، لكن كل هذه الحوارات السياسية تم استبدالها بالتقانات وفقط. عليه فالنظرية السياسية الرابعة صيغت ضد: الأزلية، النظرية الاجتماعية الصناعية، أحقية الفكر الليبرالي سياسيًا، والعولمة، كما هي قواعد لوجستية وعالمية، هذا ما يعيد التقليدية السياسية واللاهوتية الفكرية”[15].

هدف الجيوبوليتيك الرئيس هو بحث روسيا عن موقع عالمي لها، من خلال علاقات الصلابة والقوة المفرطة ذاتها التي كانت أداة نظام العولمة وحيد القطبية في الهيمنة العسكرية المباشرة على السطح الكوكبي، دون سيولتها العامة. اليوم، ثمة تصلّب في السياسات الدولية وتوجه إلى صراع جديد، فإن كانت جميع الدول تحاول تجنب الصدام المباشر الدولي فيما بينها، لما له من عواقب كارثية على سطح الكوكب، فحدتها الدولية تُفرَّغ في زوايا سياسية هشة متمثلة بدول قابلة للنهش والهيمنة وفرض شروط العسكرة بالقوة عليها.

الجيوبوليتيك ليس بالجديد، سياسيًا وعالميًا، فقد بدأ بدايات القرن العشرين، ونما وتقدّم بين الحربين العالميتين، وذلك حين أراد أدولف هتلر السيطرة على العالم، وتعويض خسارة ألمانيا في حربها الأولى. وقد تمثلت فرضيات الجيوبوليتيك الرئيسة حينها بالآتي:

    إمكانية توسع الدولة خارج حدودها الطبيعية الجغرافية والسكانية إلى محيطها الحيوي، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. فقد طور كل من فرديردك راتزل Friedrich Ratzel (1844-1904) من بعده تلميذه جون كيلينJohan Rudolf Kjellén[16] (1922-1864) مفهوم المجال الحيوي للدولة وتوسعها خارج حدودها الطبيعية؛ وقد “تنبّأ كيلين بزوال الإمبراطوريات البحرية، وانتقالها إلى الدول البرية التي سوف تسيطر بدورها على المسالك المائية”[17]. فبينما تحدد الدولة في علوم الجغرافية السياسية ككائن مستقل ومستقر بذاته في حدوده الطبيعية وبعلاقاته الدولية، تحدده الجيوبوليتيك ككائن حي ومتحرك خارج حدوده، يسعى لإنشاء التحالفات السياسية للدولة خارج حدودها الطبيعية. هذه التحالفات تضمن قوة الدولة في صراع الأمم العالمي معتمدة على سكانها وحضارتها واقتصادها وحكومتها وأراضيها.

    الامتداد العالمي للبحث عن السيطرة على الممرات المائية العالمية، الفكرة التي طورها كارل هوسهوفر Karel Haushofer (1869– 1946)، الذي عمل على توطيد العلاقات اليابانية الألمانية. حيث افترض تقلّص الدول ذات الهيمنة البعيدة البحرية، كبريطانيا وفرنسا، أمام القوى ذات البعد البريّ الباحثة عن الهيمنة على الممرات المائية، كألمانيا والاتحاد السوفيتي. وقد فعّل هذه السياسة هتلر، وبنى عليها تحالفاته السياسية مع اليابان قبيل الحرب العالمية الثانية[18].

    الاعتداد الكبير بالقوميات الأيديولوجية ودور القيادات الفردية الدكتاتورية فيها على مستوى المجتمعات، خاصة الأوروبية والآسيوية، فكان أدولف هتلر الألماني، وبينيتو موسيليني الإيطالي، وهيروهيتو الياباني، وجوزيف ستالين السوفيتي، واليوم يمكن القول بأن هناك فلاديمير بوتين الروسي، وكيم جونغ أون الكوري الشمالي..

    في القرن العشرين، اعتبرت علوم الجيوبوليتيك سمًّا فكريًا، لما أنتجته من حربين عالميتين، وجاءت مرادفة للنزعة العنصرية النازية، فتوقف تدريسها أكاديميًّا مع بقائها في المدارس الحربية وحسب، وقد “أثارت الجيوبوليتيكا عواطف شخصية وثورات فكرية منذ ظهور المصطلح في تسعينيات القرن التاسع عشر. وتأكد الرأي القائل بأن التفسير الجيوبوليتيكي كان مرادفًا للتوسع النازي. وخلال السبعينيات، بعيدًا عن الحساسية الأكاديمية، قام المفكرون الأمنيون ومستشارو السياسة الخارجية الأميركية بإعادة استخدام المصطلح”[19].

    اليوم، يعود الجيوبوليتيك مجددًا لمقدمة الحدث العالمي وبوابته العالمية روسيا؛ وهي الدولة الباحثة عن مكانة عالمية لها بالأدوات التي حاولتها النزعة العنصرية النازية سابقًا، سواء بفرض شروطها العالمية بالقوة أو تعويض خسارتها السابقة. روسيا اليوم تبحث عن قطبية عالمية ثانية مرة أخرى، عبر إعادة إحياء الجيوبوليتيك الدولي ومفاهيمه وطرقه الكلاسيكية في مواجهة منظومة العولمة وحيدة القطبية، ولكن بعد تحديث نظرياتها وفق ما أسمته بالنظرية الرابعة في السياسة.

تقوم النظرية الرابعة الروسية في السياسة على مجموعةٍ من المفاهيم النظرية والقواعد التطبيقية، تم تفصيلها في الكتاب الذي تناول المسألة السورية من منظار جيوبوليتيكي، وعنوانه (المسألة السورية ومرايا الجيوبوليتيك الدولي)[20]. وفي هذه الورقة، سنكتفي بتحديد أبرز سماتها العامة والتطبيقية، خاصة أن خلاصاتها الأولى توقّعت مجريات الحدث العالمي بنتائجه الصادمة الممتد من سورية 2015 إلى أوكرانيا في قلب أوروبا اليوم.

الأسس النظرية والتطبيقية للجيوبوليتيك الروسي ودواماته العالمية:

    اعتبار الجيوبوليتيك النظرية الرابعة في السياسة العصرية البديلة عن الليبرالية والشيوعية والنازية. فعلوم الاجتماع والتاريخ المشترك والتقارب الأنثروبولوجي السكاني أساسٌ في الفكر الجيوبوليتيكي الروسي سياسيًا، “بما أننا نتعامل مع مجتمع عالمي جديد نوعيًا لا يواجه أي معارضة، فقد فتح أفقًا جديدًا لعلم الاجتماع. ومن هنا، في الواقع، نواجه أيديولوجيات جديدة في العلاقات الدولية، تختلف عن أدوات المدارس التقليدية في العلاقات الدولية التي تفقد أهميتها تدريجيًّا، وبالتالي ضرورة إدراج نظريات اجتماعية جديدة”[21].

    رفض التوسّع والتمدد والهيمنة الأميركية على العالم، ومنها ثقافة الليبرالية، التي يراها دوغين “الشرّ الأكبر”، وروسيا هي الدولة الكبرى المرشحة للعب هذا الدور، “إن روسيا كقلب الجزيرة heartland الأوراسية استطاعت في الوضع الجيوبوليتيكي الحيوي، وبصورة أفضل من جميع الأقاليم الأخرى، أن تواجه الجيوبوليتيكيا الأطلسية، وأن تكون مركز المجال الكبير البديل”[22]. وهناك ضرورة للعمل على إنتاج شروط جديدة للعلاقات الدولية السياسية في ظل عالم مزدوج القطبية، لا عالم أحادي القطبية والهيمنة.

    إمكانية العودة للطرق الكلاسيكية في التوسع الإمبراطوري في المجال الحيوي للدول، من خلال عودة السيطرة على مثلث القوى العالمي الكلاسيكي[23]، بالطرق العسكرية المباشرة: السيطرة على الممرات البحرية وعقد اتصالها المائية، والوصول البري للمياه الدافئة، والتعامل على أساس فرضية علوم الأنثروبولوجيا التي تقوم على فكرة وجود اتصال تاريخي بين كل من أوروبا وآسيا، أسماها دوغين “الأوراسية” أو منظومة “أوراسيا الكبرى”، وهي مفهوم يتجاوز الجغرافية للمفهوم السياسي[24]. إذ تلعب روسيا فيها دور المركز وصلة الوصل الكبرى عبر دوائر متعاقبة مركزها روسيا، فدائرة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ومن ثم دول أوروبا الشرقية مرورًا بتركيا ووصلها بإيران في آسيا عبر سورية، حيث “إن إيجاد مخرج على البحار الباردة في الشمال والشرق يجب أن يُتمم بالانفتاح على البحار الدافئة في الجنوب والغرب، وفي هذه الحالة فقط تصبح روسيا مكتملة من الناحية الجيوبوليتيكية. وعندما يصبح الخط الساحلي حدودًا جنوبية وغربية لروسيا، يمكن الحديث عن الاكتمال النهائي لبنيانها الاستراتيجي”[25]، وهذا ما قد يفسر السعي الروسي الحثيث لضمّ جزيرة القرم الساحلية جنوب أوكرانيا منذ 2014، وبنائها قاعدة حميميم، والهيمنة على ميناء طرطوس على البحر المتوسط في سورية، وهي ترجمة تطبيقية لمقدمات دوغين النظرية في الهيمنة على مثلث القوة العالمي، فـ “القوة البحرية تمثل نمطًا لحضارة تقوم على أسس مغايرة. فهو نمط ديناميكي، نشيط الحركة، ميال إلى التطور التقني”[26]، وربطه بالخط البري الواصل من موسكو إلى طرطوس، عبر طهران وبغداد مرورًا بالبوكمال، ومحاولة إقفال الدائرة الجيوبوليتيكية تلك في المحيط الأوراسي. ما يجعل التمدد باتجاه أوكرانيا اليوم مفسرًا في السياق المرسوم لإقفال الدائرة الروسية في قلب أوروبا، وعلى حدود المياه الدافئة جنوبًا وغربًا.

    عدم الاكتفاء بالتقانات الحديثة، وتعويض النقص الروسي فيه عالميًا بمعادلتي سلاح الردع النووي العالمي كخط أحمر دولي يهدد الكوكب أولًا، يمنع إمكانية اشتباك الدول النووية بشكل مباشر فيما بينها، حيث إن “الواقع الآن أن العنصر النووي بشكل خاص يسيطر أكثر على العصر الذي نعيش فيه، ويبدو أن الدول لا تزال مصممة على عدم استخدام هذه القوة الرهيبة، بشكل كثيف على الأقل، في الحروب الشاملة”[27]. وثانيًا تغليب معادلة القوة العسكرية التقليدية دون مرجعية دولية، وفرض الشروط التفاوضية السياسية بعدها. وهنا يجدر التذكير بأن حروب روسيا، في كلٍّ من الشيشان وجورجيا وسورية واليوم في أوكرانيا، تشبه حروب التحالف الدولي في البلقان والعراق وغيرها من حيث طبيعة العمل العسكري المباشر، لكن أهم الفوارق بينها، هي أن الثانية تمت بمرجعية الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن، في حين أن الروسية ذاتية الفعل، إضافة إلى استعادة روسيا لأماكن نفوذها السابقة عالميًا، قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن ليس بالتحالفات السياسية السابقة، بل بالعسكرية المباشرة كقوى احتلال.

    التحوّل من سياسة التمدد العولمي بالاتفاقات المالية والسياسية، التي أسماها دوغين بـ “الرشوة السياسية”، إلى سياسات فرض القوة المباشرة في مناطق النفوذ الحيوي التي يمكن تطبيق فرضيات التوسع الجيوبوليتيكي، بغية مواجهة التمدد العولمي لنظام القطبية الوحيدة، و”المجال الكوني الكبير الوحيد لدارسي المستقبل العولميين سيعني الزوال الكامل حتى لأقل ظل من أي استقلال، مهما كان طفيفًا، لأن الضغط بالقوة (العسكرية أو الاقتصادية) على الآماد الصغرى المفتتة المذراة يغدو الوسيلة الوحيدة للسيطرة (وضرورات الرشوة تنتفي من تلقاء نفسها خلف غياب المنافس الجيوبولتيكي المعادي) ما يعني الأخذ بالقوة العسكرية المباشرة. الوضع العملي يطرح أمام كل دولة وكل شعب (وبخاصة أمام الحكومات والشعوب التي كانت قد دخلت في المعسكر الجيوبوليتيكي المعادي للغرب الأطلسي)، خيارًا ملحًّا: إما التكامل ضمن مجال كبير تحت قيادة الأطلسيين، وإما إقامة مجال كبير جديد قادر على مواجهة الدولة فوق العظمى الأخيرة”[28].

    التخطيط والتنفيذ المحكم وفق حزم متكاملة من الإدارة السياسية، والعسكرية، والدولية القانونية، والاقتصادية، وإبرام تحالفات قصيرة المدى، تتناقض مع بنيتها الفكرية بتغليب النمط العسكري الكلاسيكي لجني نتائج سياسية دولية، ما يجعلها تمارس سياسة الأمر الواقع أو المتعارف عليه بسياسة “حافة الهاوية”، مستفيدة من رعب الزر النووي العالمي، ولكنها تقع تحت قوس العقوبات الاقتصادية الدولية كآلية ردع دولية تقودها للتفاوض الجزئي والمرحلي كمرحلة من خطوات التوسع المرسومة[29].

    إقامة التحالفات المتوازية، سياسيًا واقتصاديًا، ببعدها العسكري المباشر، ولا تتم هذه التحالفات على أساس إنجاز الاتفاقات الندّية أو الأيديولوجية طويلة المدى، بقدر اتخاذها معيار المصلحة السياسية مقدمة ورائزًا فيها، وإن كانت قصيرة الأجل، وفق أحد أسلوبين: إما الأخذ بالقوة العسكرية المباشرة للآماد الصغرى، حسب ما أسماها دوغين، وسورية مثال واضح وربما أوكرانيا أو جزء منها قريبًا، وإما الرشوة الجيوعسكرية مع الدول ذات القدرات المالية الأعلى والاقتصاد الأقوى، كدول الخليج العربي وإيران وتركيا على تباين طرق التحالف معها.

    لم تنجح روسيا في كسب شرعية دولية لخطواتها الجيوبوليتيكية هذه، فاعتراف ترامب لبوتين، في لقاء هيلسينكي 2018، بأن روسيا باتت دولة منافسة، لم يؤهلها لكسب شرعية القانون الدولي في ذلك. وإن كان الاستثناء الذي حصلت عليه من خلال المسألة السورية المتجلي بدخولها الحرب على الإرهاب لأول مرة في تاريخها، من بوابة مجلس الأمن وفق القرار 2254/2015 في فقرته الثامنة[30]، لكن القرار ذاته في فقراته الأولى يشير إلى ضرورة تحقيق الانتقال والتغيير السياسي في سورية، وعلى روسيا أن تلتزم بتنفيذه. ما وضع المعادلة الدولية حول سورية موقع استعصاء عالمي لليوم، وجعلها ذات حدين متعارضين: لا إعادة إعمار بلا حل سياسي، في مقابل لا حل سياسيًّا بلا إعادة إعمار، كموقعة تفاوضية متعددة الأطراف، تعقّد المسألة السورية بذاتها، وتضع روسيا وسياساتها الدولية محط نزاع دائم مع كل الأطراف، حتى شركائها المرحليين الأتراك والإيرانيين.

    انتفاء القدرة السياسية على الاستقلالية الممكنة، وربطها بمعادلات القوى الجيوبوليتيكة، وتحقيق مبدأ ترابط القوى اقتصاديًا أو عسكريًا وبالنتيجة سياسيًا، وتحقيق نقاط التحالف العملية القادرة على تحقيق معادلة توازن القوى العالمي كلاسيكيًا، وبالتحديد الهيمنة العسكرية أولًا، والاتفاقات الاقتصادية ثانيًا، مع عدم الأخذ بثورة التكنولوجيا ومهماتها في إيجاد القرية الكونية الكبيرة عولميًا، كمنتج عصري حديث للنظام العالمي المعولم قبل النزعة الجيوبوليتيكية هذه.

الجيوبوليتيك هي مفهوم مادي للصلابة الكلاسيكية لنموذج العلاقات الدولية، وهو ذو قدرة على ممارسة الضغوط الكتلية العسكرية والسياسية، يمزج بين تحديد ميزان الثقل الراجح في السياسة العالمية، وفق عمل عسكري محدود النتائج والأهداف مرحليًا يترافق مع حيّز واسع من المرونة والمراوغة السياسية وخوض المفاوضات طويلة النفس. إضافة إلى العمل على تفعيل نقاط التحوّل، من البعد الكامن ضمن الدولة ذات الترسانة العسكرية وخطر امتلاك الزر النووي، إلى قوة عمل حركية مباشرة النتيجة سياسيًا، متجاهلة الاتفاقات الدولية التي تقر باستقلال الدول وحق تقرير شعوبها لمصيرها. مع البقاء والحفاظ على بعض نقاط الجذب السياسية أنثروبولوجيًا وسياسيًا، سواء بالهيمنة المباشرة أو بالرشوة السياسية. والجيوبوليتيك يعتمد مفاهيم العصر السابق ما قبل الثورة التقنية. وجد كقوة ردة فعل موازية لتعديل كفة القوة الراجحة، سواء أوائل القرن العشرين في ألمانيا، أو في الوقت الحالي في روسيا، والتي مصدرها الأساس النظريات التي أدت إلى الحربين العالميتين الكبريين، كما أشرنا بداية. فهل تستعيد القوى الكلاسيكية العسكرية حضورها العالمي، وتؤدي إلى حرب عالمية جديدة ثالثة، خاصة أنها تطرق قلب أوروبا اليوم؟

تصاعد المؤشرات الدولية باستنفار عالمي واسع ضمن دول حلف الناتو و/أو من دول أوروبا الحيادية، متمثلًا بسلسلة من العقوبات المالية والاقتصادية الكبيرة على روسيا، بغية لجمها وثنيها عن الحرب على أوكرانيا، هل سيلجم روسيا أم سنشهد تمددًا للحرب باتجاهات عدة تُدخل الكوكب في غمار حرب ثالثة لا ينجو منها أحد؟ أم ثمة قول آخر للتقنية أو للعصرية السياسية والصفقات البينية دونها تحدّ من هذه الحواف القاسية وتفرغ حدتها في زوايا عالمية هشّة سياسيًا؟

قبل الانتقال إلى مفرزات الجيوبوليتيك الروسي المتصلّب عالميًا، من الضرورة بمكان وضع مؤشرات عدة على رفضه كعلم سياسي دولي، وفضلًا عن إظهاره العداء العام للفردية الأميركية، هو:

    على الرغم من رفض الجيوبوليتيك الروسي للشيوعية والليبرالية والنازية، كأفكار كلاسيكية قديمة، فإنه يعيد إنتاج العصبية الأيديولوجية، لا بطريقتها الشمولية المغلقة السابقة، بل بطريقته الوحدانية وإثارة الاستعداء لكل الفكر البشري ومنتجه الحضاري السابق والحالي.

    يقوم على شروط يفترضها بالعلمية في إحداث المعادلات السياسية، ولكنه يفترض في الوقت ذاته حتمية تحققها، كما في الغائية الشيوعية سابقته التي أثبتت فشلها، أو كأنها قوانين فيزيائية. فإن كانت الشيوعية يوتوبيا فكرية، فالجيوبوليتيك ذاته يقع في مأزق الكلاسيكية العلمية التي تثبت الحقائق العلمية العصرية احتماليتها لا حتميتها الوضعية المستقبلية، هذا فضلًا عن خطرها على السلم العالمي برمته.

    على الرغم من ادعائه إيجاد المحيط الأوراسي بإحداث صلة الوصل بين أوروبا وآسيا، ومن تمكّنه -من خلال البوابة السورية وعلى حساب شعبها وكارثتها المحدثة اليوم- من فرض تلك المعادلة عبر البوابتين التركية والإيرانية في معاهدات آستانة بدءًا من العام 2017؛ فإنه يقيم كل أطر الاستعداء مع الاتحاد الأوروبي، من خلال مسألتي القرم وأوكرانيا عسكريًا، وممارسة الضغط والابتزاز السياسي من خلال موضوع الطاقة والغاز الذي تحتاج إليه أوروبا. ما يجعل تحقيق الدائرة الأوراسية الأوسع موضع خلل دائم، وذات نفور أوروبي واسع.

    تفترض النظرية الاعتماد على العلاقات الأنثروبولوجية التي تشير دراساتها إلى قبول روسيا العام، عند سكان الشرق الأوسط وآسيا، ونسبيًا في أوروبا أكثر من أميركا، ولكنها تمارس كل صنوف الاستعداء والغطرسة العسكرية في المواقع التي دخلت إليها، خاصة سورية واليوم أوكرانيا، ما يجعلها مساهمًا بشكل مباشر في تهجير الداخل السوري وإحداث كوارث إنسانية فيه، ومثل ذلك في أوكرانيا، وتغيير بنيته الديموغرافية، ومنع حق تقرير المصير للشعوب بالقوة العسكرية المباشرة.

ثالثًا: الزوايا الهشّة وفرضيات الحلول والتماهي للدول الصغرى:

من المثير للرعب، وليس ذلك مستغربًا، أن يتوقع أشهر منظري السياسة العالمية، على تباين مواقعهم، قرع طبول الحرب العالمية؛ فكيسنجر، أحد أباطرة النظام العالمي الجديد ومؤسسيه، في حديث له مع الديلي سكيب عام 2013، دقّ ناقوس خطر الحرب العالمية الثالثة، وقال إنها على الأبواب، و”مصاب بالصمم من لا يسمعها”[31]، ويجاوبه بذلك ألكسندر دوغين[32]، وذلك بعد أن قصفت القوات الأميركية موقعًا سوريًا لقوات روسية، في دير الزور في 17 أيلول/ سبتمبر 2016، بعد اتفاق كيري-لافروف حينها، وبررته الإدارة الأميركية لاحقًا بالخطأ، لتفادي الصراع المباشر الممكن بينهم.

إدارة العالم، سواء بالطريقة الأميركية المعولمة لنظام وحيد القطب، أو بالصعود الروسبوتيني الجيوبوليتيكي، بلغت حدّتها في قلب أوروبا اليوم، وتشكلت حواف عالمية حادة، ويحاول الطرفان تجنب صدامهما المباشر، ما فتح المساحة لتفريغ حدتها في زوايا هشة دوليًا، تمثل مناطق وخطوط تماس دولية لنفوذ كلا النموذجين.

في العقود الثلاث المنصرمة، أظهرت حروب الناتو في البلقان والعراق وأفغانستان أنها مواقع قضم لمناطق نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق، وأدت إلى انحسار روسيا داخل حدودها الدولية، وكانت حروب روسيا في جورجيا والشيشان نماذج استحواذ تعتبره موسكو محليّ الطابع.

منذ تدخّل روسيا عسكريًا في سورية عام 2015، وتحقيقها نصرًا عسكريًا واسعًا على قوات المعارضة العسكرية فيها، لم تستطع حسم معركتها السياسية، ولم تستطع تثبيت موقعها الدولي المنفرد، واحتفظت أميركا لنفسها بموقع المراقب والمتحكم في المعادلة، من خلال تمركزها في مثلث “التنف” الحدودي عسكريًا، وفرض حماية شرق الفرات السورية.

وشهد العام الماضي جملة من التحركات الدولية متعددة الأبعاد، كان أهمها انسحاب أميركا من أفغانستان، وطرحها سياسة خطوة مقابل خطوة لتقريب وجهات النظر بينها وبين موسكو في طريقة حل المسألة السورية، وتجدد المفاوضات النووية حول الملف النووي الإيراني، وإيجاد مقاربات حل في الملف اليمني، إضافة إلى جملة من التحركات العسكرية التي قادتها روسيا وبارتدادات تركية، في المسألتين الأرمينية والليبية.

الرؤية الجيوبوليتيكية للأحداث العالمية هذه قد تُفسر بداية بالجمل القصيرة محدودة الموقع للتمدد المفترض إقليميًا ودوليًا، لكن يمكن إيجاد روابط بينها، وتحديد خلاصتها واستخلاص نتيجتها في الحرب الروسية على أوكرانيا اليوم في قلب أوروبا، وفق خطوط عامة هي:

    ثمة محاولة دولية تقودها أميركا لاستيعاب الفورة الروسية في النظام العالمي، وكانت سورية هي الزاوية الهشة دوليًا، كهدية وإرضاء عسكري لروسيا بغية توقّفها عندها، مع إعادة ترتيب مناطق النفوذ العالمية فيها بالتقاسم السياسي ودون الاستفراد الروسي في طريقة الحل السورية.

    لم تكتفِ روسيا بموقعها على البحر المتوسط، بل تمددت لإحكام السيطرة المنفردة على تقاطع خطوط الغاز والطاقة العالمية، لمنع منافسيها في الوصول إلى الإمداد الأوروبي، ما يفسر توجهها نحو ليبيا وأزمة اليونان وأرمينية بطرق محدودة، دون تجاوز الخطوط الحمر مع جارتها تركيا، المنافس الجيوبوليتيكي الكبير إقليميًا، والذي تحاول كسبه في معادلتها الأوراسية لا استعدائه.

    لعبت أوروبا، ممثلة بفرنسا وألمانيا بشكل رئيسي، دور الوسيط العالمي، في جميع تلك الملفات، سواء السورية، الإيرانية، الليبية، اليمنية، وفي المسألة الصينية الأميركية حول ملفات الجيل الخامس تقنيًا. ما يفسر محاولتها الدؤوبة لتفادي التصعيد الجيوبوليتيكي الممكن دوليًا في مناطق قريبة منها.

    انسحاب أميركا من أفغانستان الذي يمكن تفسيره على أنه استقطاب جيوبوليتيكي معكوس على خطوط التماس البرية المحيطة في إيران من جهة والصين من جهة أخرى، واكتفاء أميركا عن الهيمنة العسكرية المباشرة، والعودة للعب دور ضابط الإيقاع العالمي تقنيًا وعسكريًا واقتصاديًا، خاصة بعد ظهور منافس عسكري كروسيا، إضافة إلى تمدد تقني اقتصادي صيني، ونمو المحاور الإقليمية التركية والإيرانية غير المنضبطة بالمعادلة العالمية، كما يريدها الجيوبوليتيك العولمي الأميركي. من هنا يمكن قراءة الانسحاب الأميركي من أفغانستان بأنه إعادة تموضع جيوبوليتيكي متعدد الأغراض[33]. وتعزز مجريات الحدث الأوروبي الحالي الفرضية الجيوبوليتيكية الأميركية بتجاوز خطوط التماس البرية المباشرة، بعكس التمدد الروسي المرتقب، الذي بدأ بايدن بتحديده زمنيًا قبل بدئه[34]، مع توقع تمدد صيني قادم في تايوان. في مقابل هذا، سعت أميركا لتعزيز اتفاقاتها المائية طويلة المدي مع كل من أستراليا وكندا وبريطانيا واليابان، لتجاوز الاحتكاكات البرية المباشرة، واستيعابها بالجيولوليتيكيا المائية المفتوحة، في حال مواجهة محتملة مع الصين، درس احتمالاتها مركز (راند) الأميركي وأعدها للجيش الأميركي مسبقًا[35]، حيث إن “التفكير الأميركي بشأن الحرب دائم التغير”.

    الدخول الروسي في أوكرانيا يُعدّ نتيجة متوقعة جيوبوليتيكيا، حيث تكتمل دائرة أوراسيا الجيوبوليتيكة، وإقفالها أمام تمدد حلف الناتو، ولموقعها على بحري أزوف والأسود، إضافة إلى أسباب زراعية وتقنية متعددة[36]. وتعدّ أوكرانيا منطقة هشة دوليًا، فهي ليست عضوًا في حلف الناتو، ولكنها في قلب أوروبا. وبالضرورة، تسعى روسيا لفرض شروطها الدولية على المنظومة العالمية بوجه تمدد الناتو من جهة، ويمكنها التحكم في أوروبا طاقيًا، وهذه ترفض الانجرار للحرب، بالرغم من استنفارها العام، فهل ستتمدد الحرب إلى قلبها؟!

    الزوايا الهشّة سياسيًا في المعادلة الدولية، تلك التي كان قد أسماها دوغين، كما أشرنا أعلاها، المناطق التي يمكن فرض شروط القوة العسكرية مباشرة عليها. وهي قابلة لإمكانية التمدد العسكري فيها، كليًا أو جزئيًا، وفرض شروط سياسية من خلفها، مع تفريغ حدة الاحتقان الحاد العالمي فيها وتجنب المواجهة المباشرة.

تاريخيًا، مثلت العراق والبلقان بعد العام 1991 زوايا هشة للأخذ بالقوة العسكرية لقوات حلف الناتو وبتحالف دولي واسع، وذلك في فترة انحسار المد السوفيتي وغياب المنافس الجيوبوليتيكي. واليوم، تمثل كلٌّ من سورية وأوكرانيا النموذج القابل للأخذ بالقوة العسكرية روسيًا، مع فارق مهمّ؛ فما يبدو أنه تراجع أميركي جيوبوليتيكي عن الاحتكاك المباشر، من مناطق الشرق الأوسط، ليس انحسارًا كليًّا، فمؤشرات الوجود الأميركي قائمة بقوة، كما ذكرنا أعلاه، أي لا وجود لمعادلة غياب المنافس الجيوبوليتيكي. وإذا ما أضفنا إلى ذلك محاولات ترويض واستيعاب روسيا في المعادلة الدولية القائمة وتحجيم نفوذها المنفرد، وما قد ينتج عنه من تداعيات دولية، فإن المرجح أوليًا أن فرضية الاستحواذ الكلي أقلّ احتمالًا من فرضية تقاسم النفوذ، وترسيم خطوط التماس عبر صفقات دولية، وصفها توماس فريدمان بـ “القذرة”، من بين ثلاثة احتمالات لمجريات الحدث الأوكراني، في مقال له بالنيويورك تايمز[37].

ويمكن أيضًا وصف الوضع اليمني بالمنطقة الهشة سياسيًا بين النفوذ الإيراني، ومقابله العمل العسكري لتحالف دول الخليج ومقدمتها السعودية. ويمكن إدراج الشروط ذاتها في أرمينيا وليبيا بعيدًا عن تفاصيلها الجزئية. أما سورية، وبعد تحوّل ثورتها السلمية لعمليات عسكرية واسعة ما بعد العام 2013، فقد بقيت مصنفة كمنطقة نزاع إقليمي، بأذرع محلية مدعومة إيرانيًا أو تركيًا وخليجيًا، لكنها بعد التدخل الروسي عام 2015 تحولت إلى منطقة هشة دوليًا، مع فرض شروط العسكرة والهيمنة شبه الكلية الروسية على الداخل السوري حتى الساحل، فيما بقيت منطقتا إدلب (في الشمال الغربي)، وشرق الفرات (في الشمال الشرقي)، مناطق خارج معادلة السيطرة الروسية، ما جعل المسألة السورية عقدة جيوبوليتيكية دولية غير محسومة سياسيًا.

تمثل قضية أوكرانيا، وفق الشروط الروسية المعلنة لوقف الحرب (حيادها العام ونزع تسليحها والاعتراف بضم شبه جزيرة القرم ومنطقتي دونتيسك ولوهانسك)، شروطًا تعجيزية وخطرة على أوروبا والناتو. لكنها ما زالت إلى اليوم، وفق مؤشرات دولية عدة، تنحو لأن تكون منطقة هشة سياسيًا في المنظار الجيوبوليتيكي، إذ ستتفادى أوروبا تمدد الحرب لداخلها، كما ستسعى أميركا لاستنفاد الروس عسكريًا فيها، وكلاهما، الأميركان والأوروبيون، باشرا بفرض العقوبات الشديدة المالية والاقتصادية المتتالية على روسيا، وفرض العزلة الدولية على مسؤوليها وعليها عامة، مع تعزيز الدفاعات الأوكرانية عسكريًا. ولكن في حال انتصرت روسيا، فهذا سيهدد الأمن الأوروبي واستقراره السياسي من خلال فرض شروط جديدة على أوروبا مع قابلية التمدد العسكري لجوار أوكرانيا. وفي حال انهزمت روسيا بريًا، فالتهديد بالسلاح النووي قائم ومحتمل. والسيناريو الجيوبوليتيكي المرجح هو ذاته السوري، مع رفع مستويات خطره، أي امتداد عمر العمليات العسكرية وعدم حسم ملفها سياسيًا، ليصبح تقسيم أوكرانيا احتمالًا مرجحًا، ولكنه محفوف بالمخاطر.

ثمة ما يمكن أن يصعد في المعادلات العالمية الجيوبوليتيكة، إذا ما انتقلت الصين إلى غزو تايوان، ومؤشرها القوي في هذا ربح روسيا الحرب الأوكرانية، ما يعني الانتقال إلى خطوط مواجهة جيوبوليتيكية مفتوحة الآفاق، عنوانها القادم الهيمنة على العالم، وفق مؤشرات الجيوبوليتيك المائي طويل المدى.

ما هو غير متوقع هو الأكثر توقعًا للحدث الأوروبي، وجميع الحسابات الجيوبوليتيكية العامة تشير إلى متغيرات كبرى دوليًا. فإن كانت قواعد الجيوبوليتيك ذاتها تقوم على محدودية العمل العسكري المرحلي والانتقال إلى أهداف سياسية أبعد دوليًا، فأوروبا ذاتها اليوم في مرماها المباشر، خاصة أنها على احتكاك مباشر بها، بينما ما زالت أميركا والصين على امتداد واسع جيوبوليتيكًا، عنوانه سيولة النزاع التقني والجيوبوليتيك المائي عبر المحيطات، وتلك معادلات أخرى.

رابعًا: الخطر على السلام العالمي:

من سورية إلى أوكرانيا في العمق الأوروبي، مسار واضح المعالم لتغيرات المشهد الدولي جيوبوليتيكًا، بحوافه الحادة وزواياه الهشة، وهو يعكس شدة وعمق الأزمات العالمية المالية والاقتصادية والسياسية وطرق الهيمنة والسيطرة. فإن كانت أوروبا وخلفها أميركا قد حاولت بمختلف الطرق تجنب المواجهة المباشرة الروسية، وترك سورية وملفاتها فريسة للروسبوتينة، كإحدى طرق ترويض نزعتها القيصرية في الهيمنة العالمية، فإنّ العالم اليوم، وخاصة أوروبا، في مواجهة الأسئلة الصعبة التي من غير الممكن الإجابة عليها بإدارة الظهر والاكتفاء بإدارة ملفاتها عن بُعد، كما الحالة السورية. وسؤال العالم اليوم: ما هي الخطوة القادمة لمنع تحول أوروبا إلى ساحة حرب واسعة تعود بالذاكرة للحرب العالمية الثانية وشدة أخطارها، ومن خلفها لعنات الجيوبوليتيك الدولي الذي بدأها وقتها، والعالم يخشى اليوم تكرارها، مهددة السلم العالمي والحياة كلها على سطح المعمورة.

في خلاصة الورقة أعلاه:

    بالرغم من سيولة منظومة العولمة تقنيًا وسياسيًا وثقافيًا وإعلاميًا لغمر سطح الكوكب، فإن أدواتها العسكرية في الاستحواذ والهيمنة شكلت ردة فعل مماثلة للهيمنة المقابلة، تمثلها صلابة الجيوبوليتيك الروسي الكتلي العسكري اليوم.

    النظرية الروسية الجيوبوليتيكية لا تمتلك مقومات النظرية، وتخلو من البعد المعرفي الإنساني، وتناقض مقومات فرضيتها في التقارب السكاني العام ووضع حد للتفرد الأميركي العالمي. بل إن المتغيرات الدولية تُظهر حاجة روسيا إلى إعادة النظر في نظريتها هذه، حيث إنها تمارس الأدوات والطرق العسكرية ذاتها في النموذج الأميركي المعولم، وتخطو بالتقليد الجزافي لتلك السياسة الأميركية، مع فوارق شاسعة في القدرات التقنية والاقتصادية، ما يجعلها محطّ نفور عالمي وإقليمي، مهما حاولت تلطيفه بطول النفس التفاوضي واستحداث الجمل الوصفية المنمقة التي لا تعكس حقيقة الواقع.

    التنامي المفرط لمعادلات العولمة والجيوبوليتيك الروسي يقود إلى توصيفهما بالمحتوى ذاته في موضوع الهيمنة والسيطرة المفردة عالميًا. ما يظهر عجز النظريات المعرفية الإنسانية، والدول الأوروبية ذات الإرث الليبرالي في الدولة الحديثة والسيادة والاستقلال، وضعف مواثيق العالم في حقوق الإنسان وحق تقرير مصير الشعوب، عن مواجهة نزعات الهيمنة الجيوبوليتيكية الدولية.

    تقع أوروبا اليوم أمام الخيار الأصعب: نموذج العولمة وردة الفعل الجيوبوليتيكية الروسية واحتمالات الحرب الكبرى، أو العودة لنبذ الحرب كلية بكل الطرق السياسية الممكنة. عالم السياسات المتوازية والدوائر المتقاطعة هذه، والتنافس العالمي على استحواذ القوة العالمية يضع أوروبا بين فكّي الطاقة والغاز الروسي، والتفوق التقني والعسكري الأميركي. وهنا، تصبح أطروحة الربيع العربي ضرورة نقاش مستحدث مجددًا خاصة في المسألة السورية. والفرضية تقول: إن إنصاف الربيع العربي في تحقيق دوله الوطنية بعيدًا عن الاستقطاب الدولي الجيوبوليتيكي الذي شاركت فيه أوروبا ذاتها، سيؤمن مناطق استقرار عالمية تُسهم في تنعيم الحواف الجيوبوليتيكية الحادة عالميًا اليوم. وهذه يجب أن تكون عنوان دراسات عدة، لا يكفي أن تكون فكرية وحسب، بل قابلة للتفعيل السياسي دوليًا أيضًا، هذا إذا ما انتهى الحدث العالمي بسلام اليوم!

وإضافة إلى الخلاصات أعلاه، على الفكر الإنساني وعلى روسيا اليوم، مفكريها ومنظريها، العودة مجددًا للبحث في الأطر السياسية والإنسانية والاقتصادية التي توطد سلام الكوكب وأمانه. وتجب إعادة رؤية الواقع العالمي، ونبذ سياسات الهيمنة المعولمة والجيوبوليتيكية وفحص نتائجها عن قرب، وحدّة حوافها المنذرة بشرّ عالمي. كما يجب نفي الجيوبوليتيك دوليًا، كما حدث في القرن الماضي، أكاديميًا وعسكريًا أيضًا.

ثمة مؤشرات عالمية طرحتها المسألة السورية في طريق إدارتها السياسية دوليًا. قدّمت إنذارات مبكرة لتهديد السلم العالمي وتراجع الفكر الإنساني ومحدودية المنظمات الأممية في تفعيل دورها العالمي في هذا الشأن، واليوم مسألة أوكرانيا أوضح من أن تُخطئها عين، وهذه مواضيع يجب فتحها بحثيًا في القراءات الفكرية والسياسية العصرية وتفعيلها دوليًا، عنوانها: السلم العالمي والتخلي عن نزعة الغطرسة والتفوق وتفعيل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والدول، وهذا مقام آخر ومقال آخر.

المراجع:

    هنتنجتون، صموئيل. القوة العظمى الانفرادية/ البعد الجديد للقوة، فلسطين: مركز فلسطين للدراسات والبحوث، 1999.

    فوكوياما، فرانسيس. بناء الدولة النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الواحد والعشرين. ترجمة مجاب الإمام، السعودية: العبيكان للنشر، 2007.

    فوكوياما، فرانسيس. نهاية التاريخ وخاتم البشر. ترجمة حسين أحمد أمين، القاهرة: مركز الأهرام للترجمة، 1993.

    تشومسكي، نعوم. السيطرة على الإعلام. ترجمة أميمة عبد اللطيف، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2003.

    معلوف، أمين. اختلال العالم/حضارتنا المتهافتة. ترجمة ميشال كرم، بيروت: دار الفارابي، 2009.

    بيترمارتين، هانس. وآخرون، فخ العولمة، الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية. ترجمة عدنان عباس علي، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، عدد 238، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998.

    آفاق الاقتصاد العالمي: تباطؤ في النمو وتحالف محفوف بالمخاطر، صندوق النقد الدولي، أبريل/نيسان (2019).

    سعودي، محمد عبد الغني. الجغرافية السياسية المعاصرة/ دراسة الجغرافية والعلاقات السياسية الدولية، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2010.

    دودز، كلاوس. وأتكنسوند، يفيد. الجغرافية السياسية في مئة عام/ التطور الجيوبوليتيكي العالمي، الجزء الأول، ترجمة عاطف معتمد و عزت زيان، ط 1، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010.

    الشوفي، جمال. المسألة السورية ومرايا الجيوبوليتيك الدولية، الإسكندرية: ليفانت للدراسات والثقافة والنشر، 2021.

    دلة، أمينة مصطفى. “المخيلة الجيوبولوتيكية الروسية والفضاء الأوراسي”، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، (2016).

    عبد الحميد، عمرو. “لماذا أوراسيا؟”، مجلة الشؤون العربية الأوراسية، عدد 1، (2021).

    دوغين، ألكسندر. أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، بيروت: دار الكتب الجديدة، 2004.

    سيليرييه، الأميرال بيير. الجغرافية السياسية والجغرافية الاستراتيجية. ترجمة أحمد عبد الكريم، دمشق: الأهالي للنشر والتوزيع، 1988.

    جومبرت، ديفيد. وآخرون، “الحرب ضد الصين التفكير فيما لا يتقبله عقل”، Rand cooperation، (2016).

    Dugin, Alexander. The Fourth Political Theory. Translated by: Mark Sleboda & Michael Millerman, 1st edition, ARKTOS Media LTD, London, 2012.

[1] للمزيد من التفصيل، ولتجاوز عدم إثقال الدراسة الحالية بتفاصيل بعيدة نسبيًا عن جوهر موضوعها، الرجاء العودة للمقترحات والتوصيات الواردة في الدراستين التاليتين:

    الدولة وانعقاد الهوية، مؤتمر الباحثين السوري الأول، مجلة قلمون، عدد 15، 2021.

    ما فوق سوتشي وما دون جنيف: وثائقي في قرارات الأمم المتحدة حول سورية، ليفانت للبحوث والدراسات، 2020.

[2] صمويل هنتنجتون، القوة العظمى الانفرادية/ البعد الجديد للقوة، (فلسطين: مركز فلسطين للدراسات والبحوث، 1999)، ص 8-9.

[3] فرانسيس فوكوياما، بناء الدولة النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الواحد والعشرين، ترجمة مجاب الإمام، (السعودية: العبيكان للنشر، 2007)، ص 44-43.

[4] Ohama K., Managing in a borderless world, Harvard business review, 5-6/1989. 

[5] فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة حسين أحمد أمين، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة، 1993)، ص52.

[6] نعوم تشومسكي، السيطرة على الإعلام، ترجمة أميمة عبد اللطيف، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2003)، ص 26-27.

[7] 10 Reasons Why The World is A Global Village, Bellafricana, June/2019. https://bellafricana.com/world-global-village/

[8] أمين معلوف، اختلال العالم/ حضارتنا المتهافتة، ترجمة ميشال كرم، (بيروت: دار الفارابي، 2009)، ص77.

[9]هانس بيتر مارتين وآخرون، فخ العولمة، الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية، ترجمة عدنان عباس علي، (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، عدد 238، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998) ص 21.

[10] تشكل التحالف الدولي مرات عدة وبتفويض من مجلس الأمن للحرب في هذه المناطق. قيادته العسكرية من حلف الناتو وعلى رأسه أميركا.

[11]  آفاق الاقتصاد العالمي: تباطؤ في النمو وتحالف محفوف بالمخاطر، صندوق النقد الدولي، نيسان/ أبريل 2019.

[12] آفاق الاقتصاد العالمي: التحديات أمام النمو المطرد، صندوق النقد الدولي، تشرين الأول/ أكتوبر 2018.

[13] Walter Russell Mead, “The Return of Geopolitics, The Revenge of the Revisionist Powers”, Foreign Affairs, May/June 2014.

[14] Alexander Dugin, “The Fourth Political Theory”, Translated by: Mark Sleboda & Michael Millerman, 1st edition, ARKTOS Media LTD, London, 2012.

[15] Alexander Dugin, The Fourth Political Theory, P 52.

[16] https://en.wikipedia.org/wiki/Rudolf_Kjell%C3%A9n.

[17] محمد عبد الغني سعودي، الجغرافية السياسية المعاصرة/ دراسة الجغرافية والعلاقات السياسية الدولية، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2010)، المقدمة.

[18] http://www.geopolitics-hadad.blogfa.com/category/1 .

[19] كلاوس دودز و ديفيد أتكنسون، الجغرافية السياسية في مئة عام/ التطور الجيوبوليتيكي العالمي، الجزء الأول، ترجمة عاطف معتمد وعزت زيان، ط 1، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010)، ص 9.

[20] جمال الشوفي، المسألة السورية ومرايا الجيوبوليتيك الدولية، (الإسكندرية: ليفانت للدراسات والثقافة والنشر، 2021)، الفصل الثالث، ص 73-145.

[21] نظريات العولمة، مركز كاتيخون للدراسات، 24/3/2016.

[22] ألكسندر دوغين، “المشاكل الجيوبولتيكية وقوانين المدى الكبير والعولمة والمفارقة الروسية”، مركز كاتيخون للدراسات، 14/10/2016.

[23] أمينة مصطفى دلة، “المخيلة الجيوبولوتيكية الروسية والفضاء الأوراسي”، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 9/2016.

[24] عمرو عبد الحميد، “لماذا أوراسيا؟”، مجلة الشؤون العربية الأوراسية، عدد 1، 9/2021، ص 15-19.

[25] ألكسندر دوغين، “القوة الأوراسية والبحار الدافئة والباردة”، مركز كاتيخون للدراسات، 12/8/2016

[26] ألكسندر دوغين، أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عماد حاتم، (بيروت: دار الكتب الجديدة، 2004)، ص 60.

[27]  الأميرال بيير سيليرييه، الجغرافية السياسية والجغرافية الاستراتيجية، ترجمة أحمد عبد الكريم، (دمشق: الأهالي للنشر والتوزيع، 1988) ، ص 11.

[28] ألكسندر دوغين، “المشاكل الجيوبولتيكية وقوانين المدى الكبير والعولمة والمفارقة الروسية”، مركز كاتيخون للدراسات، 14/10/2016.

[29] خلال سبع سنوات من العمل العسكري الروسي في سورية، خاضت موسكو 17 لقاء من لقاءات آستانة التفاوضية مع تركيا وإيران، وتابعت خلالها قضم المناطق السورية عسكريًا إلى حدود إدلب. ودخلت مفاوضات مباشرة مع أوكرانيا مع استمرارها في العمل العسكري فيها، والنتيجة قضم عسكري للأرض وفرض شروط سياسية نتيجتها.

[30] جاء في الفقرة الثامنة من القرار 2254: يكرر المجلس دعوته الواردة في القرار 2249 (2015) والموجهة إلى الدول الأعضاء لمنع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها على وجه التحديد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة، وسائر الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطين بتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية، وغيرها من الجماعات الإرهابية، على النحو الذي يعينه مجلس الأمن، وعلى نحو ما قد يتفق عليه لاحقًا الفريق الدولي لدعم سورية ويحدده مجلس الأمن. https://undocs.org/ar/S/RES/2254(2015)

[31] http://www.dailysquib.co.uk/world/3089.html .

[32] ألكسندر دوغين، “العالم أقرب إلى الحرب العالمية الثالثة من أي وقت مضى”، مركز كاتيخون للدراسات، 20/9/2016.

[33]  الانسحاب الأميركي من أفغانستان استقطاب جيوبوليتيكي معكوس، مركز أسبار لدراسات الشرق الأوسط، 8/2021. https://asbarme.com/4926/

[34] بايدن حدد موعد “الغزو الروسي” لأوكرانيا، Arabic.Rt ، 12/2/2022. https://2u.pw/PJhnn

[35] ديفيد جومبرت، وآخرون، “الحرب ضد الصين التفكير فيما لا يتقبله عقل”، Rand cooperation، 2016، ص 15.

[36] وفقًا لبيانات شركة أبحاث TrendForce فإن أوكرانيا تنتج حوالي 70% من النيون النقي المستخدم في أجهزة الليزر الدقيقة لصناعة الرقائق الإلكترونية عالية الدقة، ما يجعل صناعتها مهددة بحكم الغزو الروسي. https://autorecent.com/2022/03/05/russias-ukraine-invasion-could-trigger-a-second-microchip-crisis

[37] Thomas Fredman, I See Three Scenarios for How This War Ends, Nytimes, 1/3/2022. https://www.nytimes.com/2022/03/01/opinion/ukraine-russia-putin.html

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى