من ذاكرة صفحات سورية

بمثابة وداع لـ “خيري الذهبي”

=====================

ملف أعده موقعنا “صفحات سورية” يتضمن حوارات مع الراحل، بعض مقالاته في الصخف العربية، رواية ” صبوات ياسين”، مقالات تناولت تجربته الكتابية، مراجعات لبعض كتبه، مقالات كتبت اثر رحيله، رابط واحد لتحميل بعض رواياته المتوفرة في الانترنت

——————————

وصيّة خيري الذهبي

عثر الكاتب فارس الذهبي على نصّ الوصية التي تركها والده الأديب خيري الذهبي، الذي رحل عن دنيانا في منفاه الباريسي في الرابع من شهر تموز/ يوليو الجاري عن 76 عاماً. وخلال تشييع الأديب والمفكر الراحل إلى مثواه الأخير، قام الممثل السوري مكسيم خليل بقراءة نصّ هذه الوصية:

” قلبي الآن يتحول من جوزةٍ خضراءَ يانعةٍ إلى خشبٍ صلبٍ بنيِ اللون..

فإن حصلَ هذا.. فاحرصوا على غسلِ جسمي بماءِ الفيجةِ البارد، وضعوا في عينيّ المُغمضتين برعمَي جوري يانعين أبيضين، وفي كفيّ المضمومتين، في اليمنى.. حبّةَ حصرمٍ شامي، وفي اليسرى.. حبةَ سكر..

قضيت عمري أسير في حواريها، وشوارعِها دون أن أدركَ أنها كانت تسير في عروقي ودمي..

سكنتني ولم أسكنها، أدهشتني و لم أدهِشها..

افرشوا فوق جسمي ورقاً من شجر الغوطة, و أسفلَه سجاداً دمشقياً مصنوعاً بأنوال القنوات.

وإن أردتم أطلقوا في جنازتي عصافيرَ أقفاصِكم.. الحساسين والكناري وعصافيرَ الجنة، أطلقوها جميعاً، من شرفاتكم، وأخبروا رعيانَ الحمائم، أن يفلتوا قطعانَهم في يوميَ الأخيرِ فوق الأرض، في سماءِ الشريفة، دعوهم يحومون ويحلقون، ليملؤوا ساحاتِ المدينةِ وشوارعَها وحدائقَها التي لا تطيق الأقفاص، ولتنثر كلُ سيدة بعضاً من القمح على رخامِ نافذتِها حصةً عن كل جمالِ طيورِ عشتار ..

في الشام لا تبكوا ولا تحزنوا.. بل ابتسموا وأنتم تتلون الرحماتِ وتقرؤون النعوات.. فلربما أكونُ مع الحمائم الحرةِ في سماء باب توما، أو في جسدِ حسونٍ يقفُ على غصنِ شجرةِ زيتونٍ في العمارة أو مشروع دمّر…

افتحوا مياهَ النوافير، ورشوا ياسمينَكم بماءٍ بارد، رشوا المياهَ أمامَ بيوتاتِكم وفي الأزقةِ والحاراتِ العتيقة.. وأنصتوا لرفيفِ اليمامِ في ساحاتِ الأموي في هنيهاتِ صمتِ الأذانِ المهيب.

فإن رأيتم عصفوراً صغيراً فوق فسيفساءِ الجنةِ في واجهةِ المعبدِ الأموي، فابتسموا واسقوني كأسَ ماءٍ بارد أو أطعموني حبةَ تينٍ انبلجت.. فهذا يكفيني بعدَ أن عشتُ عمري في حبِ بلادي وحبِكم.

*- السوري: خيري الذهبي.

من صفحة أصدقاء موقع ” شرفات سوريا” الثقافي

————————-

رحيل الروائي السوري خيري الذهبي في فرنسا عن عمر يناهز 76 عاماً

رحل في فرنسا الأديب والروائي السوري خيري الذهبي عن عمر يناهز 76 عاماً (مواليد العام 1946)، مخلفاً وراءه عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية المتنوعة، بين الرواية والمذكرات والنقد والسيناريو التلفزيوني والسينمائي.

درس الذهبي اللغة العربية في القاهرة، قبل أن يعود إلى دمشق ليكون أحد أبرز الناشطين في الحركة الثقافية السورية، بمختلف تفرعاتها.

من أبرز رواياته «ثلاثية التحولات» (حسيبة، وفياض، وهشام أو الدوران في المكان)، «فخ الأسماء»، «صبوات ياسين»، «لو لم يكن اسمها فاطمة».

ومن بين كتبه البارزة «300 يوم في إسرائيل» الحائز على جائزة ابن بطوطة، ويروي الكتاب حكاية اعتقاله لثلاثمئة يوم في إسرائيل.

قدمت بعض أعماله في مسلسلات تلفزيونية مثل «ملكوت البسطاء»، «لك يا شام»، «حسيبة»، «أبو خليل القباني»، وسواها.

كانت دمشق محوراً بارزاً في أعماله، وظل يكتب عنها حتى أيامه الأخيرة.

كان أحد الكتاب البارزين الذين حسموا أمرهم ضد نظام بشار الأسد من أيام الثورة الأولى، ما دفعه للخروج من دمشق حيث تعددت أماكن اللجوء، من عمّان إلى القاهرة وصولاً إلى فرنسا قبل أقل من عامين.

مؤلفاته

له مؤلفات عديدة [2]

    ملكوت البسطاء[9] ..رواية 1975 طبعتان…حولت للتلفزيون وللإذاعة في سورية.

    طائر الأيام العجيبة…رواية 1977 …حولت للتلفزيون وللإذاعة[10].

    ليال عربية [11]…رواية، طبعتان …الفارابي، بيروت …1980 .دار التكوين ..دمشق 2008.

    الشاطر حسن[12]…رواية … .. حولت إلى التلفزيون.وللإذاعة[13] .1982

    المدينة الأخرى[14] …رواية …اتحاد الكتاب العرب …دمشق .1983

    ثلاثية التحولات [15]

    حسيبة …رواية أربع طبعات ..1987 ..حولت للتلفزيون من بطولة أمل عرفة [16]واخراج عزمي مصطفى وللسينما ( الفيلم السوري حسيبة من بطولة سلاف فواخرجي[17] واخراج ريمون بطرس )

    فياض [18]….رواية اربع طبعات…1989 .

    هشام أو الدوران في المكان [19]رواية 1997 أربع طبعات 1997.

    الجد المحمول [20]…قصص …وزارة الثقافة ..1993 .

    فخ الأسماء [21]…رواية،طبعتان، دار الآداب …2003 ،دار التكوين 2009دمشق.

    سطوح جباتا والحمائم (قصص للأطفال)، وزارة الثقافة، دمشق، رسوم ممتاز البحرة، 1980.

    لو لم يكن اسمها فاطمة[22] …رواية 2005.ثلاث طبعات . .دار الهلال ..القاهرة ..دار الخيال بيروت2006،دار التكوين دمشق 2007.

    صبوات ياسين [23]…دار كنعان، دار الخيال،بيروت …رواية …2006 .

    التدريب على الرعب[24] …مقالات مختارة …2004 دار كنعان دمشق / سوريا.

    رقصة البهلوان الأخيرة[25] …رواية … ..دمشق دار التكوين 2008

    الاصبع السادسة[26] ..رواية ..دار ميريت \القاهرة ..2013،دار ممدوح عدوان للنشر \دار سرد للنشر ..2018.

    محاضرات في البحث عن الرواية[27] ..بحوث ..دار الشروق .رام الله 2016

    المكتبة السرية والجنرال [28] ..دار الأهلية ..رواية ..2018 .

    300 يوم في إسرائيل 2019 …يوميات عربية، جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، دار المتوسط للنشر، روما، دار السويدي، أبو ظبي .[29]

أعماله الدرامية

ساهم خيري الذهبي بالدراما السورية منذ الستينات

    ملكوت البسطاء..إخراج : سليم صبري.

    الشطار[13]…إخراج: علاء الدين كوكش.

    طائر الأيام…إخراج : سليم صبري[10].

    الوحش والمصباح(تيمور لنك) [30]إخراج علاء الدين كوكش.

    مسلسل أبو حيان التوحيدي[31]… إخراج: صلاح أبو هنود..

    البناء 22….إخراج : هشام شربتجي.

    لك يا شام… إخراج : غسان جبري.

    مخالب الياسمين…إخراج :يوسف رزق.

    وردة لخريف العمر (مسلسل)… إخراج : يوسف رزق.

    رقصة الحبارى…إخراج : يوسف رزق.

    حسيبة…إخراج : عزمي مصطفى.

    أمير الحلم… (ابن المعتز).

    ملحمة أبو خليل القباني[32].إخراج هيثم حقي-ايناس حقي. [33]

ومن الأفلام:

وجوه ليلي، العنوان القديم، حولت رواية حسيبة للسينما من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا وإخراج ريمون بطرس.[34]

كما أعد وقدم أحد عشر كتاباً عن وزارة الثقافة في سورية تحت عنوان سلسلة آفاق دمشقية عام 2008 هي;

    الرحلة الإمبراطورية في زيارة إمبراطور ألمانيا لبلاد الشام…تأليف : إبراهيم الأسود.

    عجائب المقدور في أخبار تيمور…تأليف : ابن عرب شاه.

    الدرة المضية في الدولة الظاهرية..تأليف : ابن صصرى.

    سيد قريش رواية تاريخية في ثلاث أجزاء..تأليف : معروف الارناؤوط.

    حوادث دمشق اليومية…للبديري الحلاق.

    منصور بن سرجون أو يوحنا الدمشقي أو الفتح السهل لمدينة دمشق..تأليف الاكسرخوس جوزف نصر الله.

    الروضة الغناء في دمشق الفيحاء..لنعمان القسطاكي.

    نهاية المماليك..ودخول العثمانيين إلى الشام (الرؤية الشامية)تأليف :ابن طولون الصالحي الدمشقي.

    نهاية المماليك (الرؤية المصرية)..تأليف ابن اياس.

    دمشق فترة السلطان عبد الحميد الثاني..تأليف :ماري دكران سركو.

    قلعة دمشق – تأليف : عبد القادر الريحاوي.

جوائز

    – وسام الشجاعة والشرف من الجمهورية العربية السورية 1975.

    – جائزة أدب الأطفال عن وزارة الثقافة و منظمة الطلائع ..المجموعة القصصية ( سطوح جباتا و الحمائم) -دمشق 1982-

    -جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات – 300 يوم في إسرائيل – 2019.

——————————–

الراحل “خيري الذهبي”

خيري الذهبي .. دمشق الرواية والتاريخ

“المثقّف يجب أن يكون على يسار السلطة” هذه هي الكلمات الأخيرة التي خطّها الروائي السوري خيري الذهبي في صفحته على موقع فيسبوك يوم 30 حزيران/ يونيو الماضي، قبل أن يرحلَ عن عالمنا، أمس الإثنين، عن عُمرٍ يناهز 76 عاماً.

وُلد الذهبي في دمشق عام 1946، حيث نال تحصيله العلمي في مدارسها قبل أن يُغادر إلى القاهرة متابعاً دراسته الجامعية ونال إجازة في اللغة العربية. وقد كشف مبكّراً عن موهبة وذائقة مكّنتاه لا من التواصُل بالحركة الثقافية النشِطة في مصر حينها، بل تلقّى  تلك التأثيرات مازجاً إيّاها بأسلوبه الخاص.

مع بداية السبعينيات، عاد صاحب “ملكوت البسطاء” (1975) إلى سوريّة، وتعرَّض للاعتقال من قبل “جيش الاحتلال الإسرائيلي” إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، لمدّة 300 يومٍ عندما كان يؤدّي خدمته العسكرية في أحد المواقع بالقرب من الجولان المحتلّ.

وبعدما نال حرّيته برزَ اسمُه في المشهد الثقافي كاتباً ومحرّراً لعدد من الدوريات، كما حصل على “جائزة أدب الأطفال الأولى”. وفي هذه المرحلة، كتب روايته “طائر الأيّام العجيبة” (1977) التي حُوّلت إلى مسلسل تلفزيوني.

دافع الذهبي عن ضرورة التحوّل الديمقراطي في مرحلة كان الاستبداد قد بدأ يُطبق على البلد بأسره، وقادته نشاطاته السياسية في المجتمع المدني إلى أن يتمّ تسريحه من العمل في “هيئة الإذاعة والتلفزيون السوريّة” سنة 1991. ورغم ذلك، لم يكن ميّالاً إلى الانخراط في أي عملٍ حزبي بمعناه المباشر أو الضيّق.

وبالتوازي مع ذلك النشاط، كانت كتاباته الأدبية تتوزّع ما بين الرواية والقصّة القصيرة والأعمال الدرامية والأفلام. إلّا أن “حسيبة” (1987) تبقى أشهر رواياته التي ارتبط اسمه بها، وتحوّلت لاحقاً إلى مسلسل تلفزيوني ومن ثمّ فيلم سينمائي.

ومع اندلاع الثورة في سوريّة عام 2011، لم تكن مواقفه المناصرة للشعب لتروق للسُّلطة، الأمر الذي اضطرّه بعد مضايقات أمنية تعرّض لها، أن يُغادر وطنه متّجهاً إلى مصر وعدد من البلدان العربية، قبل أن يستقرّ في فرنسا التي تُوفّي فيها.

في روايته الأخيرة “الجنة المفقودة.. من القنوات إلى كفر سوسة” (2021) عاد الذهبي إلى طفولته في دمشق خلال خمسينيات القرن الماضي، حين كان نهر بردى يفيض على بساتين المدينة، ويلهو أطفال بصيد أسماكه وظلّ ذلك حتى وقت قريب، قبل أن يجفّ ماء النهر في معظم أشهر السنة، موثقاً حياة مختلفة عاشها السوريون في جنتهم التي كانت غوطتها تحتصن ملايين الأشجار المثمرة، وتعيش الدببة والغزلان في القرى التي تحيط بالعاصمة السورية.

في كتاب يمزج السيرة الذاتية بالسرد الروائي، يواصل صاحبه التنقيب في تاريخ المكان على منوال أعمال سابقة متجولاً في أحياء الشام؛ حبّه الأول وهمّه الأول، ويتأملها بعد نحو أكثر من ستّة عقود، ليرصد علاقة الناس بمدينتهم المتعدّدة والماء المتدفق أنهراً صغيرة في حوارّيها وصولاً إلى “بحرات” بيوتهم، وينسجون حكاياتهم وأساطيرهم حولها.

ولا يغفل الذهبي كعادته فعل السلطة في حياة السوريين والتحوّلات التي عاشوها على مدار عقود من الطغيان والظلم، ودور أنظمة الحكم غير الشرعية المتعاقبة في محو ذاكرة المكان وانتهاك البشر والحجر في سبيل الحفاظ على سلطتها، كما يؤكد في مقابلة سابقة.

يُشار إلى أنّ الراحل ترك عدداً من الروايات أهمّها: “فخّ الأسماء” (2003) و”صبوات ياسين” (2006)، و”الإصبع السادسة” (2018) و”المكتبة السرّية والجنرال” (2018) وغيرها من القصص والمقالات والأعمال الدرامية.

—————————–

خيري الذهبي روائي من قلب المأساة السورية/ هيثم حسين

 كتب الرواية التي تتخذ من التاريخ مادتها وأدخل قارئه إلى قلب دمشق ببيوتها وحاراتها، تحول عمله الروائي “ملكوت البسطاء” إلى مسلسل درامي، كما تحولت روايته الشهيرة “حسيبة” إلى عمل سينمائي ودرامي.

الروائي السوري خيري الذهبي الذي يعيش بالقاهرة هذه الأيام، بعد أن نزح ككثير من السوريين، ينظر إلى دمشق بعين العاشق، يراها درّة المدن ويكتب لها وعنها، وصدرت له مؤخرا رواية “الإصبع السادسة” التي لم تخرج عن الشام بتاريخها وحاراتها ولامست حاضرها الغارق في الدماء.

الجزيرة نت التقت الروائي السوري وأجرت معه الحوار التالي حول هموم الواقع وهواجس الوطن والكتابة.

لديك اهتمام لافت بالتاريخ، ولا تكاد رواية من رواياتك تخلو من اشتغال تاريخي أو أبعاد تاريخيّة، ما سبب هذا الاهتمام؟

وهل الرواية إلا شكل من حبس العالم خارج السيرورة الزمانية المعيشة لتصبح “التاريخ” ولو راجعت كل الروايات التي كتبت، فسترى أنها التاريخ، تاريخ ما حدث، تاريخ الماء الذي انسكب وحالما انسكب، ومهما ادعيت أن انسكابه سيكون في المستقبل إلا أنه انسكب حسب النص وصار “التاريخ” وربما ماعدا روايات الخيال العلمي والتي يتواطأ فيها الكاتب والقارئ على أنها تجري في المستقبل، فإن كل الروايات هي “التاريخ” فأنت إما أن تكون مخلصا للفن فتخون التاريخ، وإما أن تخلص للتاريخ فتخون الفن، ولذا فليس هناك من رواية ليست “التاريخ”.

على أية حال فأنا لا أكتب الرواية التاريخية، ولم يسبق لي أن كتبت الرواية التاريخية بالمعنى الذي تقصده، فللرواية التاريخية شروط من أهمها أن تكون ملتزما بالحادثة التاريخية، فتصبح عبدا لما “حدث” وما حدث ملك للجميع يستطيع أي قارئ أن يكتشف مغالطتك فيه ولو كان ذلك لدوافع فنّية، فيتوقّف، ليقول لك بصوت جارح: توقّف فقد أخطأت. وبذا تسقط فنّيتك.

إن اعتبرت رواية “اسم الوردة” للإيطالي أمبرتو إيكو، تاريخية، فأنا أكتب الرواية التاريخية، وكذلك إن اعتبرت “ذهب مع الريح” للأميركية مارغريت ميتشل رواية تاريخية، وهاتان روايتان صنعتا من التاريخ مادة روائية، وكسالى النقاد ممن صنعوا وانتشروا بعثيا، يحبّون دوما الإجابات السهلة التي لا تسبّب لهم وجع الرأس، ولذا فهم يسمّون كل من يكتب عن التاريخ كاتبا تاريخيا، أما أنا فأكتب الرواية التي تتّخذ من التاريخ مادة للكتابة مستفيدا من التاريخ كما يستفيد البعض من علم النفس، ومن علم الجرائم “الكريمينولوجي” مادة للكتابة.

صدرت روايتك الأخيرة “الإصبع السادسة” بالقاهرة قبل أشهر وسط ضجيج المدافع وأزيز الرصاص ببلدك، إلى أي حد تجلت الحالة السوريّة الراهنة في روايتك، وإن كان التاريخ ركيزتك ومنطلقك بهذه الرواية أيضاً؟

في رواية “الإصبع السادسة” حاولتُ قراءة ما الذي جرى لأولئك الذين آمنوا بما بشّر به إبراهيم باشا من الحقوق والواجبات الثورية الفرنسية بعد انسحاب إبراهيم باشا من الشام

ما يجري الآن في سوريا هو شكل من أشكال خيبة الثورة البورجوازية الفرنسية التي حملها إلينا إبراهيم باشا عام1831، وكانت الأمل في إخراج سوريا من الحمأة الآسيوية التي غرقت فيها منذ الغزوات البدوية القادمة من عمق آسيا.

حين وصل إبراهيم باشا إلى الشام، كان معه عدد من ضباط بونابرت حاملي أفكار الثورة التي غيّرت مسيرة العالم، وكان أشهرهم الكولونيل سيف، الذي سنعرفه من الأدبيات المصرية تحت اسم سليمان باشا الفرنساويّ، وهؤلاء البونابرتيّون لم يكونوا عسكريّين محترفين فقط، بل كانوا رسل الثورة الفرنسية.

 وكان من أهم ما حاول إبراهيم باشا تغييره في الشام هو الفواصل ما بين الناس من مَوال وعرب، ومسلمين وذمّيين، ذلك حين ألغى البنى القديمة كلّها بما فيها الجِزية، وفرض المفهوم الفرنسيّ “المواطنة” بما لها من حقوق وعليها من واجبات.

في رواية “الإصبع السادسة” حاولتُ قراءة ما الذي جرى لأولئك الذين آمنوا بما بشّر به إبراهيم باشا من الحقوق والواجبات الثورية الفرنسية بعد انسحاب إبراهيم باشا من الشام، ووقوع الشام ثانية تحت “البسطار” العثماني، وكيف تعامل معهم المؤمنون بثبات التاريخ وقابلية ديمومته، وما المخاضات التي عاشوها حتى ظهر فيهم المسرح وأبو خليل القباني، وعبد الرحمن الكواكبي، وقسطاكي الحمصي، وأحمد فارس الشدياق، وفرانسيس مرّاش وغيرهم.

رواية “الإصبع السادسة” كتبت في قلب المأساة السورية التي استمرّت خمسين سنة، وكتبت قبل الثورة المعاصرة، وربما كانت تقرؤها قبل حدوثها، كيف تقرأ ما بين سطور الزمن الماضي وتداعياته على السوريّين راهناً ومستقبلاً؟

البيت الشامي بني زمن الرعب وزمن العساكر المنفلتين من كلّ عقال، وهو من الخارج لا يوحي أبدا بما اختفى في داخله من جمال وترف

لأننا نحن من في سوريا نعيش في بلد تاريخي، وليس في بلد حقّق جغرافيته السياسية يوما، فبلاد الشام كانت دائما بلدا ملعونا لعنة البلقان، وهما إقليمان مزّقتهما الجبال والوديان والبوادي والموقع الإستراتيجي المغري بالتسلط عليه، فالمتسلّط عليه يتسلّط على المحيط من خلاله.

وإذا ما فكرت يوما في قراءة التاريخ السوري، فأنت أمام شكلين من الجغرافيا المؤرّخة، فإما دويلات المدن: آرام دمشق، وآرام حماة، وآرام يمحاض “حلب”، وإما أن تقرأ تاريخ الدول الإمبراطورية الكبرى التي تحتوي الشام في إمبراطوريتها “آشور، الإخمينيين، الفراعنة، ثم السلوقيين، واللاتين، والبيزنطيين، ثم وأخيرا الإمبراطوريات الإسلامية.

والبعث الذي كان يرفض النظر عند موطئ أقدامه أصرّ على أن نعرف عن موريتانيا بأكثر ممّا نعرف عن دير الزور، والحسكة، وكان الفضل الكبير للثورة الآن أن أخذت بتعريفنا على الجغرافية السورية، فصرنا نعرف عن إدلب وعن عامودا، وغابت تطوان التي لا يعرفها المغاربة أنفسهم، وهذا من تناقضات البعث.

أدخلت القارئ من خلال رواياتك إلى قلب البيت الشاميّ الذي بدا مغلّفاً بالأسرار.. هل تشعر بأنّك أوفيت دمشق دينها وحقّها في أعمالك؟

ما يجري الآن في سوريا أحد أشكال خيبة الثورة البورجوازية الفرنسية التي حملها إلينا إبراهيم باشا عام1831

البيت الشامي بني زمن الرعب وزمن العساكر المنفلتين من كل عقال، وزمن انتشار المليشيات من إنكشارية محلّية، وقبا قولية، ويرلية، ودالاتية، وسباهية إلخ. هل تذكرنا هذه الأسماء بمليشيات معاصرة أدمت وأذلت السوريين للخمسين سنة الماضية من الحرس القومي، والجيش الشعبي، وسرايا الدفاع، وأخيراً الشبيحة..؟!!

هذه المليشيات التي سرقت من المواطن الأمان، فصار بيته الجميل ربّما الطريق لنهبه أو قتله، واختطاف حريمه. فكيف لجأ المواطن لإنقاذ نفسه وأهله وماله..؟ إنّها التقية، فالبيت من الحارة، من الخارج لا يوحي أبدا بما اختفى في داخله من جمال وترف، إنّها جنتي أنا التي أخافك أنت عليها، ومن العقل ألا تراها إلّا لو شئت أنا.

وهذا مختلف تماما عن المعمار الغربي حيث الجنّة التي يحميها القانون والثبات السياسي، ولذا كانت الجنّة من الخارج، إنّها جنّة التباهي، والتباهي في دولة المليشيات من القراصنة وقطاع الطرق أمر لا يجوز، وقديما قال السيناتور الأميركي “فولبرايت” للمتباهين بثرواتهم أمامه “لا يجوز للغزلان التباهي بطيب لحومها أمام الذئاب”.

المصدر : الجزيرة

===================

ملف مجلة “الجديد” عن “خيري الذهبي 2022

——————–

خيري الذهبي: القص ديوان العرب

• أجرى الحوار في تونس: أنطوان شلحت

أجرى هذا الحوار في تونس سنة 1993 الناقد الفلسطيني أنطوان شلحت، ونشر أول مرة في صحيفة الاتحاد الحيفاوية في الخامس من شباط من العام المشار إليه. “الجديد” تعيد نشر الحوار ليطلع عليه قراء الرواية في العالم العربي.

جاء في التقديم الذي وضعه الناقد الفلسطيني للحوار: في كتابته الروائية عموماً وتخصصاً في التحولات يتميز الكاتب بما يمكن توصيفه بـ”القلق من الصياغة”، وذلك على خلفية وقوفه أمام مشكلة الشكل واقترابه من الحد المفتوح لمساءلة صميمية تتلبسه. ومؤدى هذه المساءلة: هل يرضي ذوقه الفني الذي تربى غربياً – كما يوضح لنا – أم يُرضي حسه القومي والطبقي ويتوجه بالتالي، في كتابته، إلى الجماهير صاحبة الأمر مع ما يعنيه ذلك من تخل عن طموحاته الفنية الأنوية، إنها مشكلة تحتاج، برأيه، إلى محاولة لربط الحصانين إلى عربة واحدة. وهو منطلق يخوض غمار محاولة ربط هذين الحصانين. وحين يحاول الاستفادة من الشكل الروائي لـ”ألف ليلة وليلة”، ذلك الشكل الدائري الحلزوني البناء والمخالف للشكل الغربي الأوروبي الهرمي البناء، حيث البداية والذروة ثم النهاية، فإن أكثر ما یكترثُ له هو استعادة الشكل الفني العربي في عموميته ومنطقيته. وهو الشكل الذي يراه قائماً على الاستمرارية، إذ أن كل الأشياء تبدأ ولكنها لا تنتهي فهي تعطي البداية لغيرها.

                                                                                                قلم التحرير

أنطوان شلحت: سمعتك أكثر من مرة تعترض على مقولة “الشعر ديوان العرب”، باسطاً اعتراضك أيضاً على كل ما مضى..

خيري الذهبي: أعتقد بأن هذه الجملة “الشعر ديوان العرب” كرست لكثرة التكرار وعدم محاولة أحد التدقيق فيها واكتشاف مدی مطابقتها للواقع. وأنا حين أعود إلى الطفولة لا أذكر أن الشعر كان يوماً دیوان بیتنا، أو كان هماً أساسياً لجيراننا في الحارة حيث وُلدت. وكل ما أذكره هو القص الذي كان يحيط بنا من كل جانب، حكايات الجدة، السير الشعبية، كتب الأخبار.

أنا لا أتحدث عن الشعر المعاصر، ولكن لو عدنا مع التاريخ قليلاً ومستقرئين سنكتشف أن الشعر تراجع عن التأثير العام في جماهير الناس ربما منذ القرن الثالث أو الرابع الهجري، منذ أن بدأ الانفصال بين الخاصة والعامة.. لقد كانا كلاَ واحداً في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، ولكن الفوارق المالية والعلمية والقرب من السلطان ما لبثت أن جعلت الانفصال أمراً واقعاً. هذا الانفصال ترك للخاصة الاهتمام بالشعر وتناوله واللعب على تنويعاته حتى وصل الى الشكلانية الفارغة المحضة. شعر تكتب كلماته منقوطة كلها حيناً وغیر منقوطة كلها حيناً آخر. وشعر يُقرأ من البدء كما يُقرأ من النهاية. حاملاً المعنى الصغير نفسه إلى آخر تنويعات فراغ الروح ونهايات الحضارات.

أنطوان شلحت: وماذا عن القص؟

خيري الذهبي: في ذلك الحين أخذت العامة في البحث عن شكل يملأ فراغ جوعها للجمال والمغامرة، عن شكل يعبر عن طموحاتها في مجتمع أكثر عدلاً وأبطال أكثر نضارة ونساء أكثر حكمة وجمالاً ودهاء… فكان القصاصون. وربما كان أشهرهم في ذلك الحين الواقدي صاحب فتوح الشام، والزبير بن بكار، مخترع شخصية خولة بنت الأزور وعبدالله بن سبأ اللتين تحولتا إلى مثال وإلی رمز علقت عليه كثير من الأحداث والصراعات فيما بعد.

 ويحدثنا المسعودي عن قصة “دالة المحتالة” التي كان الشعب يتداولها والتي قرأناها فيما بعد في” ألف ليلة وليلة” تحت اسم دليلة وعلاقتها الصراعية مع علي الزيبق.

ثم تتقدم القرون ويبدأ الشعب بإبداع سيره الشعبية والتي ترفّع عنها الخاصة كثيراً واعتبروها من سقط العوام.. ولكنها كانت الشكل الأول لفن القص العربي والذي سيتجمد لقرون عبر روايات الراوين الذين لا يفعلون شيئا سوى إضافة بعض النكهات ما قاله المؤلفون الأوائل.

أنطوان شلحت: ما تتفضل به يفتح باباً للاعتراض بأن انتصارك للقص على حساب الشعر يأتي على خلفية حياتية أيضاَ؟

خيري الذهبي: هذا صحيح.. وتلك الجملة الاعتراضية على مقولة “الشعر ديوان العرب” ألحت عليّ أكثر شيء وأنا أتذكر أن قدري منذ البدء كان مع القص، فأنا لا أذكر أني بدأت الكتابة في الشعر كما يذكر الكثير من الكتاب، بل أذكر أن أول محاولة جادة لي في الكتابة، وكنت في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة كانت في الرواية. وحين أحاول التذكر واسترجاع الزمان والأحداث أتساءل عما دفعني إلى هذا الدرب فأذكر مكتبةً وأباً وكتباً مجلدة مديرة أقفيتها للناس. أذكر تحريض الأب لي على القراءة في مكتبته. فأقرأ رسائل إخوان الصفا، وحيوان الجاحظ والأغاني، ولا أزال الطفل. وأذكر مكتبة الحارة الشعبية التي كانت تؤجر روايات مغامرات وأسرار وبوليسيات بخمسة قروش للكتاب. أذكر ذلك النوسان بين متعة ورعشة إدغار والاس وموريس لوبلان وبين رعب وإجلال التسلل إلى عوالم الكتب الثقيلة المجلدة بجلود حيوانات ميتة.

مديرة ظهورها للناس. استمر ذلك النوسان حتى أخذتُ أتعلم الإنجليزية.. ثم إذا بعالم جديد يتكشف لي، عالم فيه جلال كتاب أخلاق الوزيرين ومتعة إدغار والاس، عالم بدأت أتعرف فيه على همنغواي وفوكنر ودوس باسوس وشتاينبك، عالم جعلني أدير ظهري تماماً للجاحظ والتوحيدي والأصفهاني، عالم مُمتع، مُشرق، آسر، ضاج بالحياة، وهذا جعلني أنظر إلى تلك المتع الجافة المحفوظة في المجلات برفض واشمئزاز وإحساس بضياع الزمن الذي أمضيته في جوارها. وأنا حين أستعرض تلك الفترة من العمر مع مجايّلي من المثقفين والكتاب أذكر معهم ذلك الرفض الذي عاشه جيلنا للتراث والفكر والكتب الصفراء، كما اعتدنا أن نسميها، واهبين أنفسنا تماماً لذلك الوافد الجميل المزين بالغلافات الملونة والمحلّى بعطور الكيمياء الجديدة. كنا راضين عن أنفسنا، نبني عالمنا الجديد، عالماً لم يتبق بيننا وبين تسنّمه إلا أن نقدم على الخطوة التالية.. فقط. وأقدمنا. وكانت هزيمة 67 فإذا بالحقيقة المرة تصفعنا، وإذا بالغرب – تلك الحسناء المزينة بأحدث مبتكرات الموضة والمعطرة بأحلى عطور القرن العشرين – يتكشف مرة ثانية عن الوحش ذي الأنياب الصفراء، وإذا بالعجوز الهاربة من عكا في أواخر القرن الـ13 ترجع ثانية عام 1967، وإذا بالفجيعة تحط وإذا بالضياع يحيط.. وإذا بنا علينا أن نكتشف الأرض التي علينا أن نضع أقدامنا عليها من جديد.. وكان علينا أن نعود ثانية إلى الكتب التي أسميناها فيما مضى صفراء، نبحث عن الإجابات. فلقد خان الغرب الوعد الذي وعد وأضاع الأمانة التي حمل، وكان علينا أن نبحث عن مصيرنا ثانية بأنفسنا.

أنطوان شلحت: هذا النوسان الذي تقول إن جيلك قد عاشه بين شرق شائخ وغرب خائن، كيف تم التمييز عنه أدبياً، كتابةً من طرفك؟

خيري الذهبي: في روايتي المطبوعة الأولى “ملكوت البسطاء” وهي رواية شديدة الخصوصية المحلية، مكانياً وزمانياً وعلاقياً، فهي تتحدث عن عائلة من ريف دمشق وكيف استقبلت المتغيرات الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، ولكن الكاتب الذي كان يعيش في عالمه الحداثي الروائي، اختار لهذه الرواية الشكل الأكثر حداثة في ذلك الحين: رواية الأصوات مع المونولوغ الداخلي الطويل، وكان نشر الرواية هو المحك، الذي وضعت عليه تجربتي كلها. خيري الذهبي كيف ستكون خطوتك التالية؟ هل ستستجيب للذوق الفني والمربى غربياً تماماً، وبذلك لن تجد قراء كثراً، فالمستوى العام لقارئينا كان لايزال يعيش في مرحلة ما بعد المنفلوطي، فإذا ما تشجع قرأ عبدالقدوس وعبدالحليم عبدالله، أم تستجيب للذوق العام وتصنع لنفسك القراء الذين تحتاجهم خاصة وأنت غير منتم لحزب سياسي يتبناك ويفرضك على الناس، ولست في الحين نفسه جزءاً من شلة ولا تستطيع بتركيبتك النفسية أن تكونه.

و.. كتبت رواية “طائر الأيام العجيبة”، محاولاً أن أربط حصاني الكتابة لمجموع الناس، والكتابة للذواقة. ولكني… حين أراجع نفسي لا أرضی كثيراً عن هذه التجربة. فيما بعد كتبت رواية ” ليال عربية”. في هذه الرواية حاولت أن أوجد شكلاً عربياً للرواية.. ونحن نعرف أن خلاصة الفكر العربي هو المنطق الأرسطي، المنطق النفعي، المنطق الذي يطلب منك أن توصلنا في كل شيء تفعله إلى نتيجة، مقدمة صغرى – كبرى…نتيجة عرض ذروة خاتمة وحل، فإذا ما تصورنا هذا المنطق هندسياً اكتشفنا أن له شكل الهرم.

أنطوان شلحت: ماذا عن المنطق العربي؟ هل يختلف شكل تصوره الهندسي؟

خيري الذهبي: الحق أنني حين استقرأت الفنون العربية وجدت ما يلي: ثمة تشكیل قائم على وحدة زخرفية تبلغ الكمال ثم.. تتكرر وتتكرر إلى ما لا نهاية. بيت الشعر يُكثف ويُجمل حتى يبلغ كماله الخاص ثم… ينتقل إلى بيت آخر لا علاقة له تقريباً بالبيت السابق. والغناء.. تكرار جماليات العتابا أو الـ “يا ليل” أو “يا عين” أو الموال.. سألت نفسي: لم هذا كله؟ وعندها اكتشفت أن المنطق العربي لا يرید الوصول بك أو معك إلى نتيجة.. إنه يريد أن ينقلك إلى حالة.. يحملك إليها فقط.. وعليك أنت أن تصل إلى النتيجة التي تريد: ينطبق هذا على “ألف ليلة وليلة”، و”المقامات”… رأيت الصورة الحلزونية التي تبدأ من نقطة، ثم تمضي متقدمة، متحلزنة إلى ما لا نهاية… أليست الصحراء لرائيها لانهائية أليست السماء وصانعها لانهائية.

 وكانت رواية “ليال عربية” بشكلها الحلزوني، التوليدي، مغامرة شخصية على صعيد الكتابة والبحث عن هوية. ثم كانت رواية “المدينة الأخرى”.. ثم توقفت عن الكتابة متضايقاً مُحساً بعبثية الكتابة وعدم جدواها. وانشغلت إلى حين في كتابة السيناريوهات للتلفزيون. شرعت حينها بقراءة التاريخ بحثاً عن إجابات لأسئلة كثيرة، كانت تلح عليّ أسئلة عن الانتماء والوطن، والمكان والتاريخ والتراث.

أنطوان شلحت: فترة توقفك عن الكتابة لم تستمر طويلاً، هل أسعفتك قراءة التاريخ وحسب في العودة إليها؟

خيري الذهبي: في الحقيقة إن عذاب الاسئلة ظل يلح عليّ حتى وجدت نفسي أبدأ مشروعي الجديد، وهو عدد من الروايات تحت اسم “التحولات”. ومنذ البدء كنت أقصد بـ”التحولات” الكلمة الغریكو لاتينية ميتامورفوزس، والتي كنت أنوي ترجمتها إلى التناسخات. ولكني استعجمت الكلمة.

 وبالمناسبة فإن أول ذكر لكلمة ميتامورفوزس، قرأتها عند المعري في رسالة الغفران،. لقد أصدرت الكتاب الأول من التحولات تحت اسم “حسيبة”، وهي الشخصية الإنسانية بل والمحورية للعمل ككل. إنها المرأة – الأم – الحبيبة – الزوجة – القوية القادرة على أن تمد اليد للعاثر عند عثوره وإقامته من عثرته. ولكنها أيضاً محاولة المدينة أن تصمد في زمن العثرات. تحدثت في هذا الكتاب عن مدن الواحات تلك التي لا تصنع قدرها، بل تنتظر القوافل تقدم وتحمل إليها قدرها، فإذا بها تخلق فلسفة الانتظار، وإذا بها تبتكر شخصية عيسى المنتظر والقادم في آخر الزمان حاملاً العدل والسلام رافعاً عن المدينة – العالم. “أليست المدينة في العالم؟” الظلم والجور والقحط والمجاعات والطغيان. ثم تطورت هذه الشخصية إلى المهدي المنتظر. وجعلوا لهذا الانتظار طقوساً وآمالاً وأفراحاً. ونحن في دمشق نعرف بالضبط أین سینزل عيسى المنتظر. إنه سينزل عند مئذنة العروس في الجامع الأموي.. ها قد عرفنا المكان.. أما الزمان فإن علينا الانتظار.

هذه المدن الواحات كانت قدراً وكانت حلماً، وكانت انتظاراً. ثم نشرت الكتاب الثاني وكان أيضاً تحت اسم “التحولات“، يحمل عنواناً فرعياً هو “فیاض“. في حسيبة قدمت الصوت النسائي، الأصل، المرأة. أما في فياض، قدمت الرجل، الرجل في صراعه مع التاريخ، مع السياسة، مع الحياة.

صراع يبدأ قبل ولادة فياض بقرون، صراع يبدأ تاركاً بصماته القاسية على ذاكرتنا وحياتنا منذ الحروب الصليبية على الأقل، صراع تشارك فيه الذاكرة والخيال والواقع “الواقعيين الراضيين بكل شيء”، صراع حاولت فيه نبش الذاكرة في صراع الشرق والغرب المعاصرين، صراع يقف فيه روجيه لوبلان فوق قلعة شيزر، قلعة أسامة بن منقذ، ليتذكر جده غلیام لوبلان قبل عشرة قرون عند أقدام هذه القلعة. صراع حاولت فيه أن أكشف عن رعب البندوق، والبندوق هو طائر يتولد عن زواج فاسد بين طائرین مختلفين حسون وكناری فيأتي البندوق – الهجين قوةً وجمالاً ولكن.. رعباً أیضاً فهو يدرك في عمق روحه أنه عقيم وأن حياته وجنسه سينتهيان بموته. ولنذكر كم من البناديق والبندقة والهجانة في حياتنا.

في هذه الرواية وضعت رهاني الأكبر في اللعب على اللغة ومستوياتها على الشكل والخروج والدخول من دهاليز الآن إلى الماضي والماضي البعيد ثم العودة. ولكن ظرفاً سياسياً وعسكرياً فظيعاً حط على الأمة العربية، ظرفاً جعل هذه الرواية لا تأخذ حظها كما أخذنه “حسيبة” من قبل.

 مشروع استكمال التحولات، لا يزال قائماً. ومسودة الكتاب الثالث منه لا تزال في الدرج تحتاج إلى إعادة كتابة وتبييض.

أنطوان شلحت: إذا عدنا إلى مفتاح هذا الحوار، كيف تلخص خيري الذهبي؟ تجربة حياة وحصيلة إبداع، التكوين والصيرورة؟

خيري الذهبي: خيري هو ذلك المزيج من كتب صفراء وكتب جميلة الغلاف وكتب طيبة الرائحة..

المزيج من حلم (باستحياء) الجاحظ والتوحيدي وابن بكار، وإعادة استنبات فوكنر وهمينغواي وبروست في الأرض العربية. ثقافتنا العربية تعيش حالة لااستقرار، إنها تعيش حالة استقرار يونس فوق ظهر الحوت.

• نشر أول مرة في صحيفة الاتحاد/ حيفا 5 شباط 1993

أنطوان شلحت

كاتب من فلسطين

الجديد،

————————

رفيق الطيور التي لازمته من بيته الشامي إلى قبره الفرنسي/ إبراهيم الجبين

خيري الذهبي الروائي السوري الأنيق والمختلف

باريس- لخيري الذهبي حضور خاص، لا مثيل له بين الكتاب السوريين والعرب، لا هو ذاك الحضور الصادم المشاكس، ولا الباهت الخافت معدوم التأثير. كان الموقع الذي احتله على خارطة الكتاب السوريين من صنع يديه، أنجزه بالكثير من العناء والتجربة الإنسانية قبل الجلوس إلى طاولة الكتابة والتدوين على الورق الأبيض.

متأفّفٌ ونزق، لكن لطيف العبارة والتصورات، رافض للواقع البليد الجامد، إنما ينطلق منه -لا من خارجه- للانتفاض عليه وتغييره. بدا ذلك عتيقاً لدى الذهبي، من قبل أن تكون لدى السوريين ظواهر صوتية تزعم أنها حققت منجزات على مستوى النص والصورة والسرد، ومن قبل أن يهيمن عليهم من دفع بهم اليسار الشيوعي والبعث السلطوي ليكونوا واجهة الرواية السورية وعلامتها، كحنا مينه والجيل الذي جاء بعده ولا يزال ناعور الإنتاج هذا دائراً بحرب ومن دون حرب، بموهبة أو من دون موهبة، وباتحاد كتاب يكرّس هذا الاسم أو ذاك لاعتبارات غير إبداعية، أو بروابط أدبية مشتتة لا تغني ولا تسمن من جوع.

ذهب المكان

استمد من مدينته عبقرية السرد طويل النفس، وأمدته دمشق بالمزيد من الزخرف منذ أن تفتح وعيه في حاراتها القديمة، وكان لحي القنوات وساروجة والسور وما وراءه من أسرار أن تفعل بوعي الذهبي ما لم تستطع التيارات السياسية والفكرية فعله، وجد نفسه طبيعياً في مكانه الطبيعي، وسرعان ما عاد من مصر التي رحل إليها للدراسة إلى الشام التي لم يغادرها بعد ذلك إلا قسراً.

شخصية الحكواتي التي تفتن أهل دمشق ومن خلالها يتفاعلون مع التاريخ واللغة والأفكار، لم تسحر الذهبي، إنما سحره ما رآه في مصر من قوة حضور الرواية، بينما كان الكتاب العرب يصارعون طواحين الهواء شعراً دون أن يصلوا إلى مستوى شعرية نزار قباني وشعبيته الساحقة.

اختار الذهبي ملكوتاً آخر، كان للبسطاء فيه عالمٌ من البهجة والحنين، البؤس واليوميات، والكثير من التوغل في أعماق الشخصيات، نفسياً وروحياً. وكان جريئاً في روايته تلك “ملكوت البسطاء” منذ البداية، مطالع السبعينات، حيث الحلاق والعامل والفلاح والكادح وتلك السلسلة الطويلة العريضة من القوالب التي كان على الذهبي التخلص منها وعدم الوقوع في إسارها.

كان التاريخ هو السيد من جديد، وهو الأول والآخر في كل عمل يريد أن يربط اللحظة بالقراء، وكان لدمشق زمن التحول من العصر العثماني إلى الدولة المستقلة، أو لنقل إلى الدولة، وتلك مشكلة الذهبي التي رافقته من البداية إلى لحظة رحيله قبل أسابيع في فرنسا؛ كيف يمكن أن تتشكّل في الشرق دولة؟ ومتى؟

بوسع عشاق المدنية من أمثالنا الاكتفاء بقوة حواضر مثل دمشق وبغداد والقاهرة، للقول إن المدنية باقية ومنها سوف تنشأ الدولة العربية التي لا يحكمها العقل الشيخ ولا الجندي، بل تؤسس فيها هياكل متقدمة تتسق مع طموحات البشرية كلها من أجل المستقبل، لكن الذهبي لم يكن قادراً على الاكتفاء بدمشق أو بغيرها، بل كان يشكو من غياب المشروع التحديثي العربي في كل شأن من شؤون الحياة، من الكتابة إلى السياسة إلى الحرب.

والحرب عرفها الذهبي جيداً، ووقع في الأسر جراءها. وستجد يومياته التي دونها عن فترات الأسر في كتابه “من دمشق إلى حيفا – 300 يوم في إسرائيل”، حيث يروي ابن العشرين عاماً ونيف كيف عاش تلك المغامرة في سجون العدو لعشر أشهر، ثم في مطار بن غوريون وقبل ذلك وبعده.

لم يكن في كتابته نحيب المستضعفين ولا متاجرة المرتزقة بآلامهم، كان آلة وعي تتنقل من الماضي إلى اللحظة وتصف بلاده وناسها بالكثير من الحرفة العالية الممزوجة بالشجن. ولا بأس أن يكون كل كتاب للروائي جزءاً من حياته، بدلاً من خديعة الخيال إن كان ضعيفاً، فالواقع أكثر إثارة من الخيال لمن يراه جيداً بعينين صافيتين.

حصل على جائزة “أدب الأطفال” الأولى مبكراً، وكانت أولى المرات التي سطع فيها اسمه، قبل أن يسهم في تحرير وإدارة المجلات الثقافية التي تصدرها وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب.

أستاذ اللغة العربية الذي درّس من سيصبحون لاحقاً علماء مشاهير وسياسيين حادي المزاج، في الشمال السوري حيث مدينة الحسكة، هناك رأى الذهبي السوريين على حقيقتهم، وعرف مثلما عرف من قبله العلامة محمد كرد علي كيف تشكّلت تلك المنطقة وكيف غزاها اللاجئون من كل حدب وصوب، لتصبح اليوم تحت احتلال قوى تريد أن تؤسس فيها كياناً عرقياً يقضمها عن سوريا الأم. كتب عنهم الذهبي آنذاك أنهم “مهاجرون مذعورون” قدموا من وراء الحدود، ليعيشوا بين العرب والسريان المسيحيين في مثلث سيصبح مثلث موت بعد عقود حين ستحكمه قوى التطرف والظلام ثم تهيمن عليه قوى ظلام من نوع آخر.

يقع الذهبي في الأسر بعد أن يتم فرزه كضابط ضمن فوج الأمم المتحدة التي تراقب اتفاقية فصل القوات على الجبهة السورية  – الإسرائيلية، وهناك سيكون عليه أن يواجه ما فكّر فيه من قبل، وما سيفكر فيه لاحقاً، حول العديد من القضايا؛ الحق والحق التاريخي، الحرب والسلام، الآخر وصورته في الوعي العام.

ستمرّ سنوات طويلة قبل أن يتجه إلى كتابة السيناريو بطريقة الروائي ومستواه، لا بالرخيص من المخيلة والحوارات، بل من “ليالي عربية” التي استنزل فيها من سماوات شهرزاد تشعبات الحكايات وسراديبها، وحين عاد تم منحه وسام الشجاعة والشرف الذي تمنحه الجمهورية العربية السورية من الدرجة الممتازة.

كان يرى أن الكتابة رغم أنها تستقي من التاريخ، إلا أنها تبقى فعلاً مضاداً له، حسب تعبيره. والتاريخ عنده هو “تلك الرواية الجمعية التي اتفق عليها المنتصرون وفرضت على من تلاهم، وتبناها من اتبعهم، تبنوها إلى درجة العبادة والتقديس. أما في عصرنا الحديث فصراع الإنسان مع ذاته ومع عالمه المحيط جعل وعيه يطور أساليب سردية غاية في المهارة والإبداع، جعلت وتجعل من كل فرد (منتصرا) بينه وبين نفسه على القدر، ويحق له بالتالي أن يروي للآخرين تاريخه كما يراه، وكانت بالتالي الرواية كفن سردي، توثيقي، تخييلي، مواز للحقيقة، وربما مجاور لها”. وبذلك كان يؤسس لفهم جديد للأدب لا يقوم على اعتباره مرآة للواقع ولا صورته الموازية، إنما ضديته للتاريخ تجعله قادراً على تحريك التاريخ ذاته، والتأثير فيه تأثيراً عميقاً وديناميكياً.

التحولات

بثلاثية التحولات، “حسيبة” و”فياض” و”هشام”، وبأعماله الأخرى صنع الذهبي لغته الخاصة، فرادته وعالمه الذي يعترف بأنه لم يختر له مكانه، استشهد مرة بمقولة نجيب محفوظ حين سُئل: كيف استطعتَ بناء هذه الهندسة الرائعة والمحكمة لروايتك؟ فقال: لا تنسَ أني حفيد أولئك المهندسين العظام الذين صنعوا الأهرامات.

هي عمارة إذاً التي ينظر إليها الذهبي والجيل الروائي الذي ينتمي إليه، الجيل العابر للأزمنة، تبنى فيها الحكايات وفق هندسة دقيقة، متأثرة بالسلالات المعمارية الحضارية التي سبقتها، في الأدب كما في الحجارة.

أما هو فقد استعار البيت الشامي ليكون مسرحه، دون أن يكون فلكلوريا ممسوخاً، تصبح بركة الماء والأسماء وشجرة التين عناصر فيه لها كياناتها وحواراتها وتأثيرها.

وفي مكان مثل هذا تكون المرأة مركزاً وجوهراً أساسياً تدور من حوله القصص، تبتعد وتقترب ثم تدور من جديد، كما يدور طفل في أرض ديار بيت شامي حول بركة الماء ذات الإنشاد الذهبي حسب تعبير نزار الذي شبّه الصوت بالمعدن في مرة نادرة في الشعر الحديث.

ذلك الخرير العميق، قاد الذهبي إلى صدامات مع السلطة التي قامت بسحب جواز سفره ومنعه من مغادرة البلاد، وطردته من عمله في الإذاعة والتلفزيون، إثر مواقف اتخذها للمطالبة بالحرية والديمقراطية. وبقي مستقلاً سياسياً، عروبي التوجّه مخلصاً لما علّمته إياه عاصمة الأمويين.

كائنات صغيرة

رافقت الذهبي أينما ترحّل كائناته الصغيرة ذات الريش، طيور شغف بها وراقب لحظاتها، الكناري والحسون…، ونباتات الزينة المعرّشة على الجدار، ومع تعلقه بها لم يتخل عن تأملاته حول القفص ومعانيه في ملامحها، بعضها ألف العبودية،  مثلما يقول، منذ مئات السنين، وبعضها الآخر يبقى يقاوم القضبان مهما جرى الاهتمام به والاعتناء بطعامه وشرابه.

في إحدى رواياته رسم عصفوراً هجيناً، ناتجاً عن الحسون والكناري، وصف ذلك في حوار أجرته معه الكاتبة والصحافية السورية تهامة الجندي، سمّاه “البذون”، وقال إنه “عصفور لديه مفاجأة الحسون وقوة الكناري، ولكنه للأسف عقيم كالبغل، وهذه هي عقوبة الطبيعة على الزيجات الفاسدة. لقد تحدثت عن هذا الزواج الفاسد بين الحسون والكناري، وكنت أقصد أن أتحدث عن ثقافتنا المعاصرة البندوقة الهجينة التي لم تتخذ قرارها بعد في أن تكون حسونًا أو كنارًا، وكان فياض أحد أشكال هذا البندوق الذي انتهى منبوذًا”.

غادر الذهبي دمشق سوريا بعد عام 2012 مترحلاً إلى مصر من جديد، ثم إلى الإمارات، ومنها إلى الأردن، وأخيراً حط رحاله في فرنسا التي مات فيها، أما منجزه وهو الذي ولد في دمشق أواسط أربعينات القرن العشرين، فلم يُقرأ بعدُ كما يليق به أن يُقرأ، رغم أن الملايين من المتابعين شاهدوه على الشاشة، واطلعوا عليه في كتبه المطبوعة، وكأن القدر اشترط أن يرفع إليه صاحبه، ويدع للقراء تراثاً كبيراً خلقه بمزاج خاص، وبلذعة طويلة المذاق، حافلة بالمعرفة والهدوء والعبارات ذات البصمات النادرة.

كاتب من سوريا مقيم في ألمانيا

———————–

يوميات في الأسر الإسرائيلي: عين بطل إشكالي على وطن متهرئ/ ممدوح فراج النابي

من الإشكاليات التي واجهت النظرية النقديّة وآليات القراءة والتلقي، والأخيرة صارت ميدانًا مفتوحًا لأنواع متعدّدة؛ مسألة تجنيس الأعمال الأدبية [1]، على الرغم من أنّ كل تعريف أجناسي  – كما يقول محمد آيت ميهوب – “يجب أن يتضمن وعيًّا بطابعه الزمني من جهة، وطابعه الحيوي الحركي الفاعل من جهة أخرى” [2]، وهذا راجع إلى طبيعة الأنواع التي تتسم بالميوعة وانفتاح حدودها وهو ما يسمح بتداخلها مع بعضها البعض، فالنوع عند أوستن وارين “جملة من الصناعات الأسلوبية” [3]، إضافة إلى أن عملية التجنيس ليست حكرًا على مؤلف العمل، الذي يعمد في الكثير من الأحيان إلى مراوغة القارئ بوضعه مؤشرا أجناسيا مفتوحا (أو مائعا) على أشكال متنوّعة، فهناك الناشر الذي يخضع لسياسات التسويق والتوزيع، فيقوم هو الآخر باستقطاب القارئ إلى العمل الأدبي بوضع مؤشر جنس رائج حتى ولو كان لا ينتمي إليه، وأحيانًا يلجأ إلى وضع مؤشر جنس مفتوح يُغري به القارئ، ثم يأتي في المرحلة الأخيرة  المتلقي/القارئ الذي يؤطر النص وفقًا لخبراته الأجناسية وثقافته، أو مدى استجابته للنص المنتَج، أو وفق محددات أفق الانتظار كما حددها ياوث وهي تشمل ثلاثة عوامل تتمثل في “المعايير الشائعة عند القراء عن خصائص الجنس، والصلات الضمنية التي تربط النص بآثار سابقة معروفة، وأخيرًا المقابلة بين المتخيّل والواقع، أو بين وظيفة اللغة الإنشائية ووظيفتها العملية” [4]، ومن ثمّ صارت فوضى عارمة في عملية التجنيس في ظل غياب المحددات الفاصلة بين النصوص، فالراوية على سبيل المثال في أحد تعريفاتها هي جنس لا قواعد له (أدوين موير) أو أنها “نوع غير منته” (باختين)، ومن ثمّ فهي قابلة للتداخل مع كافة الأشكال، وهو ما استوعبته الراوية داخل بنيتها، بأن حوت الكثير من الأجناس القريبة منها وغير القريبة، ومع هذا ظلت محتفظة بنوعها الأصلي الرواية.

قد يختلف الأمر – بنسبة ما – في كتابات الذات، التي اجتهد منظروها لضبط حدودها بوضع ميثاق (أو عهد بالتعبير الإنجليزي) يفصل كل ما هو سيري عن غيره، وإن كان يقع تحت دائرة الذات، فلعب الميثاق السيري الذي اقترحه فيليب لوجون، والذي ينص على تطابق الهويات الثلاث: الراوي/الشخصية/المؤلف [5]، في إبعاد أجناس كثيرة من الانتساب إلى دائرة جنس السيرة الذاتية، وإن بدت قريبة من الدائرة مثل “المذكرات واليوميات، والشهادات، ورواية السيرة الذاتية، وكتب الوقائع” [6]، لكن مع هذا التحديد المنضبط، فإن كثيرًا من الكتّاب سعوا إلى كسر هذا الميثاق بأشكال شتى بعضها يأتي عبر مؤشر العنوان، فيؤطرون نصوصهم بأنها رواية وهي تنتسب إلى دائرة رواية السيرة الذاتية، أو يعمدون إلى إغفال اسم العلم وغيرها من حيل في أصلها مغازلة القارئ، وهناك من يؤطر نصه باسم اليوميات وهو يقصد المذكرات، والعكس صحيح.

وفي نص خيري الذهبي (1946 – 2022) “من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل” [7]، وهو الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات 2019، تواجهنا إشكالية التجنيس للنوع الأدبي، فمفردة يوميات تحتل مكانة مميزة سواء على مستوى مؤشر عنوان النص الخارجي، أو على مستوى السلسلة الصادرة بعنوان “يوميات عربية”، وأيضًا على مستوى استهلال الناشر، ومع هذا الإلحاح على تصنيف العمل على أنه ينتمي إلى جنس اليوميات، إلا أن قارئ النص، يفاجأ بأن البنية الشكليّة المميزة لليوميات كما هي سائدة في أدبيات اليوميات، والتي تعني تسجيلا دقيقا لليومي والمعيش، مؤرخًا بالزمن والمكان، على نحو ما هو ظاهر – على سبيل المثال – في يوميات تولستوي [8]، حيث نجد تحديدًا دقيقًا لتسجيل حياته اليومية بالتاريخ والمكان، وهو الأمر الغائب في نص خيري الذهبي، الذي يشمل يومياته في الاعتقال في سجون الاحتلال الصهيوني، إلا أن اقتطاعات من السيرة الذاتية تخللت هذه اليوميات، فاندغمت اليوميات في بنية السيرة الذاتية، ولم يعد ذكر اليوميات حاضرًا إلى في الإشارات المتكرّرة برصد جولاته في دمشق بعد العودة، فيلح في استخدام الدوال الزمنية التي تشير أحيانًا إلى لحظات التسجيل، وفي الكثير منها تشير إلى استرجاع المواقف والأحداث، كما هو ظاهر [في اليوم التالي، بعد أسبوع، في تلك السنة، بعد عدة سنوات، في الليلة التي سبقت السفر، قبل بضع سنوات، بعد حوالي الأسبوعين من بدء العام الدراسي]، وغيرها من إشارات زمنية بعضها يسجل الحدث آنيًّا، والبعض الآخر يضرب في الزمن الماضي.

كما تختلف اليوميات عن سائر كتابات الذات، في أنها فعل يومي بامتياز، يوثّق للحدث، أحيانًا بعبارات موجزة، وأحيانًا أخرى بعبارات وصفيّة مطوّلة تصف ما تخلّل اليوم من أحداث وحوارات ولقاءات وأفعال، يدوّن فيها صاحبها في كل مرة ما وقع له في الفترة القصيرة التي تفصله عن التدوين السابق، ومن ثمّ تعتمد بنية كرونولوجية/تصاعدية في السرد، لا تلتفت إلى الوراء، وإنما تتصاعد بتوالي الأيام وتطوُّر الأحداث. وهذه البنية مختفية تمامًا في يوميات الذهبي باستثناء فترة الاعتقال التي يحرص فيها على رصد كل الأحداث، لحظة بلحظة وإن كان غير معتن بتأطيرها بتاريخ محدّد، بصفة عامة نحن أمام حالة بوح للأنا الموجوعة واستذكار لأحداث مضت سابقة لزمن عودته وبعضها يعود إلى زمن طفولته، في حين أن السيرة الذاتية “تشمل حياة المرء في مجموعها” والأهم أنها تكتب بعد أن يكون قد “انقضى من تلك الحياة شطر كبير”، وهو ما يجعل بنتيها تعتمد زمنًا ماضويًّا، لأن الذات في فعل استعادة. الاختلاف الثاني أن اليوميات تكتب بأسلوب حر، يخلو من التنميق البلاغي واللغوي، فالحالة الشعورية التي تكون عليها الأنا أثناء التسجيل تكون غير معنية بالبحث عن بلاغة أسلوبية أو رصانة لفظية، فهي تأتي كدفقة واحدة، محمّلة بكل ما تشعر به الأنا، لحظة تواصلها مع نفسها الداخلية/أناتها، كنوع من الاسترخاء، وهو ما يعمل على تهدئة النفس بمواجهتها بأناتها وكأنها أشبه بفعل المرآة.

ومع هذه الفروق الشكلية في بنية اليوميات والسيرة الذاتية، إلا أن هذا لا يمنع أن تتسرب اليوميات في بنية السيرة الذاتية، فيعتمد كاتب السيرة على ما دوّنه سابقًا في كتابة سيرته، والعكس تتسرب السيرة الذاتية إلى اليوميات، ولو بدا المؤلف في السيرة حريصًا على إغفال تدوين التاريخ، لكن يحدث التسريب، وتتخلل بنية اليوميات، فكما يقول جان ستاروبينسكي “تأتي اليوميات في هذه الحالة لتفسد على السيرة الذاتية أمرها، فيصبح مؤلف السيرة الذاتية أحيانًا كالعازف على وترين” [9].

هذا التداخل بين اليوميات والسيرة الذاتية، فرضته – في المقام الأول – طبيعة التجربة نفسها، وهي تجربة مريرة بطبيعة الحال، لما حاق بالذات من انكسار على المستوى الشخصي (بالفشل في تحقيق حلمه بدراسة الإخراج السينمائي)، ثم على مستوى الوطن (بحالة التراجع على مستوى الخدمات وتهالك البنية التحتيّة تارة، ثمّ الهزيمة واحتلال جزء من أراضيه تارة ثانية)، وهو ما انتهى بالوقوع في الأسر، لتصبح الذات المهشمة في مواجهة مع ذاتها الحالمة، بأحلامها التي كانت بحجم الأرض والسماء، ومع مواجهة الواقع المرير تتقلّص أو تختزل الأحلام إلى مهمة البحث عن عمل ليسدّ رمقه ورمق أمه، ثم يصبح أعلى طموحها بعد تهاوي الشعارات والخطابات التي تُبشِّر بالنصر، واستعادة الأرض، وصدمة الهزيمة المريعة، أن يفرج عنه باعتباره ضابطَ ارتباط في قوات الطوارئ الدولية، وليس جاسوسًا كما سعى العدو الصهيوني لإيهامه، أو تصوير الموقف، حتى يتلافى الخطأ الذي ارتكبه بأسر ضابط ضمن قوات الطوارئ الدولية.

فالمعاناة التي عاناها بعد العودة بحثًا عن عمل، وما شاهده من صورة مزرية على الأرض لسياسات حزب البعث، والهزيمة التي كان شاهدًا عليها، ثم العدو الذي لم يكن يعرفه، كل هذا يدفع الذات إلى أن تجترّ ماضيها بحثًا عن نقطة النور وبالأحرى عن الخلل أو لماذا يحدث ما يحدث؟ سواء في رحلة تمرده لتحقيق حلمه أو في تمرده على سياسات التدجين التي سلكها حزب البعث، ومن ثمّ تتقاطع اليوميات مع أطوار من حياته الشخصيّة، فثمة اقتطاعات عن حياته في القاهرة التي عاد منها خائبًا بخُفي حُنين، وهو الذي قصدها لدراسة الإخراج السينمائي، وبالمثل فرنسا، وإن لم تأت بصفة مستقلة وإنما جاءت عبر استدعاءات/استرجاعات على طول النص عبر منولوجات تارة، وتداعيات حرّة تارة أخرى، وتوازيات مع مشاهد جديدة تارة ثالثة كما هو في قصة إبراهيم اليهودي، وأيضًا اقتطاعات من طفولته البائسة وحياته مع أمه، وأهم طور – من حياته – شغلته اليوميات، هو عودته إلى دمشق وبدء رحلته في البحث عن العمل، ما بين الحسكة وأماكن أخرى، وثمة طور يتعلّق بفترة تجنيده كضابط ارتباط في الجيش السوري يعمل مع قوات حفظ السلام، ثم يأتي الطور الأخير والذي كشف عن صورة من صور المثقف الحقيقي الثوري المتشبع بالأفكار الثورية والمؤمن بقضيته، دون التنازل عن مبادئه التي يفرضها أولا ولاؤه للوطن، وثانيًّا تمثُّله لقيم المثقف العضوي – بتعبير جرامشي – الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته، ومن ثمّ لا ينعزل في برجه العاجي، ويعتقد أنه أعلى من الناس، بل يسعى لتغيير المجتمع بأفكاره وكتاباته.

عين على الداخل

يستغرق الذهبي الجزء الأكبر من اليوميات وفقًا لتمثّله لنموذج المثقف العضوي، في تفكيك أيديولوجيا البعث، تارة عبر صور صريحة مزرية لواقع سوريا تحت حكم البعث، أثناء رحلته للبحث عن عمل بعد عودته من مصر، فاكتشف أنه لم يتغير شيء من سوريا التي تركها قبل خمس سنوات “ماعدا الحفر الواسعة عمدًا والمقوّاة بأنابيب مجاري واسعة من الإسمنت في الشوارع، فضّل الناس استخدامها مكبًّا للزبالة بدلا من تركها مهجورة، رموا فيه فضلات منازلهم” (ص 13)، أهم شيء اتسمت به دمشق هو ازدياد البطالة التي “قد أمسكت في خناق السوريين في أواخر الستينات”، وعندما يحالفه الحظ بالعمل كمدرس في الحسكة، يصف بشاعة الطرق والاستراحات التي لم تكن آدمية بالمرة بل بعيدة عن كل خيال “فلم تكن مبنية من الإسمنت، أو من الطين، بل من أغصان الشجر اليابسة مع أغصانها الصغيرة وأوراقها المخشخشة، وبقايا البطاطين، وبقايا خيام الجيش التي طارت عن معسكرها حتى عثر عليها بعضهم” (ص 33)، بل إن المدينة نفسها الحسكة كما يصفها “متواضعة في كلّ شيء، متواضعة العمارة، ومتواضعة الأثاث، ومتواضعة الجوار”.

مثل هذه الصور البشعة والمقززة تنتشر على طول خط اليوميات، في إشارة إلى حالة الإهمال وعدم المبالاة من الحزب، لتطوير البنية التحتيّة للدولة، وانشغاله بسياسات القمع والترهيب، وهو ما عكسته مدينة الحسكة وأهلها، فهي “مدينة لمهاجرين مذعورين من القتل والقتلة الذين طردوهم من مرابع طفولتهم وقبور أهاليهم، فنجوا، وما صدقوا أن نجوا من الذبح والاغتصاب وقتل الأطفال أمام عيون والديهم، فصنعوا بيوتًا ناقصة من كل شيء إلا للخائفين من المطاردة والمطاردين” (ص 37). ولا يختلف الأمر في “جملة” القرية (المخفر الوحشي) التي ينتقل إليها للعمل مع قوات الارتباط الدولية على خط الهدنة بين سوريا وإسرائيل، فهي كما يقول “قرية في حوران، نسيها حتى جيرانها لبعدها عن مظاهر الحضارة كلها التي وصل إليها الإنسان منذ القرن التاسع عشر” (ص 68).

في مقابل حالة الإهمال التي توليها الدولة وأذرعها لقطاعات عريضة كالزراعة والصناعة والتعليم وغيرها، فثمة جهود فردية يقف أمامها بالانبهار والإدهاش كصورة نقيضة تكشف سياسات السُّلْطة الحاكمة، فعندما انتقل إلى مخفر جملة، هناك يلتقي بالفلاح الذي زاره فجأة، وبعدما يحدث التعارف بينهما، يذهب معه إلى مزرعته، فيفاجأ بما يرى “فهذا الفلاح المتواضع في ثيابه قد استطاع إنشاء مزرعة جميلة جدًا، وناجحة جدًّا، ولا مثيل لها في القرية، أو على الطريق إليها” (ص 70). هذا المشهد يأتي كتأكيد لإرادة السوري الذي إذا أراد شيئًا فعله، ونجح نجاحًا باهرًا، وهو ما يتكرّر مع صديقه عمر بواسير الذي بعد أن خرج من الوحدة، هاجر إلى فرنسا، وتزوج فرنسية، وعمل مبرمجًا في شركة كمبيوتر، وقد استعانت به الدولة السورية ليبرمج كومبيوتراتها كفرنسي مُرسل من الشركة التي يعمل لديها.

وتارة أخرى عبر صور صريحة، تعكس لنتائج هذه الأيديولوجيا القمعيّة المفروضة على المؤسسات التي عمل بها، من قبل أذرع الدولة الأيديولوجية (الشرطة والمخابرات)، سواء في التدريس أو في الجيش، فيكشف عن خلل جسيم في البنية الفكرية الحاكمة، ليس فقط في اعتمادها على الخلصاء من كتاب التقارير، وحالات الاستقطاب للأشخاص، ليقعوا في دائرة السلطة دون محاولة للفكاك منها، بغية الحصول على منافع شخصيّة، التي هي بمثابة ذهب المعزّ خوفًا من سيفه، وإنما في إدارة السلطة نفسها، التي أهملت كل شيء في سبيل تحقيق هدف وحيد، وهو الاستحواذ على السلطة، وضمان عدم الانشقاق عليها.

ترسم اليوميات صورة مزرية لحالة العنف المادي والمعنوي التي مارسته السلطة على كل المناهضين لسياستها (على اختلاف أيديولوجياتهم: دينية: إخوان مسلمين، سياسية: شيوعيون)، وهو ما دفع بتشويه الشخصية السورية في معظمها، وجعلها شخصية منبطحة للسلطة، فعل المقاومة أشبه بمستحيل من المستحيلات، كما تركز على جذور هذه المسألة “التي مكّنت مجموعة صغيرة من العسكريين من تبديل عقيدة الجيش الوطني السوري ليلعب بدلاً من دوره الأصلي المتمثل في حماية البلاد، دور الأداة الطيعة الغاشمة والعمياء في قمع الشعب، وحراسة نظام فاشي على الطريقة اللاتينية” وهو ما يظهر بجلاء إبّان حرب تشرين؛ إذْ كشفت الحرب عن ضعف هذا الجيش، وعدم قدرته الدفاعية؛ لاعتماده على عناصر غير مدربة، وغير صالحة للقيام بالمهام القتالية، كما في صور الطيارين الحاصلين على الثانوية.

الجولات التي قام بها الذهبي بعد عودته للبحث عن عمل، تكشف – دون عمد – حالة من الموت الإكلينيكي للحياة تحت حكم البعث، فسوريا صارت إلى موات، لا فقط في حالة استسلام الناس، ورضوخهم لسياسات الحزب، وإنما في تردّي الخدمات، وشيوع الوشايات بين العاملين من أجل تحقيق مكاسب صغيرة (منافع شخصيّة)، فصورة مدير مدرسة المنصور الذي بدأ رحلته التدريسية فيها، نموذج صارخ لما صارت عليه الدولة السورية؛ فالمدير الذي كان رجلاً عاميًا كما يصفه في أول يوم له، يخطب خطابًا مرتجلاً، عبارة عن ثرثرة مختلطة بتهديدات البعث لمن لا يسمع ويطيع، يكشف عن نماذج مماثلة في الكثير من المواقع في مؤسسات الدولة، لسياسة الدولة البعثية في اختيار موظفيها، فهم لا يعتمدون على الكفاءات، وإنما على الولاءات، فكما يقول “إن اختيار أغلب البعثيين للمناصب القيادية، يُوجب عليهم أن يكونوا من كتاب التقارير بزملائهم، ومن أعضاء الحزب الموثوقين” (ص 22 – 23).

سياسية البعث تتجلّى أنكى صورها في حالة الإقصاء والإبعاد للمختلِف في الديانة والعقيدة، فصورة إبراهيم الطالب اليهودي المنزوي في الصف، وحالة التنمّر التي مارسها عليه زملاؤه من الطلاب صغار السن، تكشف كيف نجحت هذه السياسة في الوصول إلى شرائح وطوائف مختلفة من الشعب وأتت ثمارها؛ فالعمر ليس معيارًا لتبنّي مثل هذه السياسات والترويج لها والدفاع عنها، وهو ما سعى الذهبي في أول يوم دراسي له أن يقوّضه ويفكّك هذه النظرة الإقصائيّة الرافضة للآخر بخطاب وإن بدا رومانسيًّا إلا أنه عاكس لدور المثقف النهضوي، في إزالة الخلل وإصلاحه، فجاء خطابه الذي هو في الأصل خطاب حماية للصبي إبراهيم من ممارسات العنف والتنمّر التي انغرست لا إراديًّا في نفوس أطفال بريئة جراء خطابات الكراهية والعنصرية التي يؤججها النظام في نفوس الشعب بكافة طوائفه، عاكسًا لأيديولوجيا ترفض العنف بكافة صوره، الماديّة والمعنويّة، وكذلك عاكسة لانفتاح العقلية وعدم جمودها فـ”الدين لله والوطن للجميع”، كما أراد أن يُعزّزها في نفوس الطلاب أثناء خطابه الرومانسي.

المثقف النهضوي

هذا المشهد على قصره ذو دلالات متعدّدة، تكشف عن سياسة الحزب في التحريض واستغلاله فزاعة الدين، لإحداث شروخ وانقسامات في النسيج الوطني، والأهم قصور دور المؤسسات التعليمية في القيام بأدوارها التربوية قبل التعليميّة، فصارت هذه المؤسسات بفضل هؤلاء الرجال المختارين لا حسب الكفاءات وإنما حسب الولاءات، مفرخة لتنشئة إرهابيين ومتطرفين كما حدث مع العملاق الأصهب، الذي كان متشدّدًا للدين، ثمّ في تحوّل مفاجئ انتسب إلى حزب البعث، وصار يدافع عن سياسته في عمى، إلى درجة أنه صعد المنبر ذات مرة، وسبّ النبي والدين الإسلامي فهاج عليه المصلون فتمّ القبض عليه، ودخل السجن، وبعد الحكم عليه للإساءة إلى الدين، قام بالانتحار. وهو ما سعى المثقف لعلاجه بهذا الخطاب الرومانسي. وهذه هي السياسة.

فكرة التعصُّب التي مارسها طلاب ثانوية القديس فنسان أو المنصور (بعد التأميم)، كانت لها تبعاتها أو آثارها في مؤسسات أخرى، وكانت تظهر عبر صور متعدّدة، أبرزها ما واجهه أثناء دراسته في كلية التربيّة، فطلاب كلية اللغة العربيّة، كانوا يرونه “أدني منهم علمًا وتعلمًا”؛ لأنه قادم من مصر، ولكن أبشع هذه الصّور كانت في حالة التشدّد والتزمت برفض الاختلاط بين الشبان والشابات أثناء الدراسة، إذ كان أنصار هذا الاتجاه يعلنون “أن الاختلاط مناف للدين والشرف” (ص 24).

تتوالى المشاهد الكاشفة لسياسة البعث المخرّبة للنفوس قبل العقول، والتي تعتمد اعتمادًا كليًّا على الشكل دون المضمون، ففي مشهد تصحيح أوراق طلاب الثانوية، وقدوم الوزير كي يطمئن على النتيجة، وما إن عَرِف نسبة النجاح الحقيقية (المتدنيّة) حتى ثار ثورة عارمة؛ ثورته لم تكن حرصًا على السياسة التعليمية، أو تحرّي الدقة في التصحيح والرصد، وإنما كانت دفاعًا عن سياسة الحزب، وخشيته أن تتشوّه صورته بعد الثورة، بهذه النتيجة الهزلية، فلم تهدأ ثورته إلا بعد أن تمّ تعديل نسبة النجاح المطلوبة. فهؤلاء في نظره هم أعداء الثورة، وعملاء الرجعية. ويجاوره في هذا المشهد مشهد حالة التغاضي عن الغش في لجان الثانوية للطلاب القادمين من العراق.

تكشف اليوميات عن صورة المتمرد، وهي السمة التي سيكون لها دور كبير أثناء اعتقاله، فجذور التمرد تمتد إلى طفولته، ورفضه الانصياع إلى قرار الأب بالتسجيل في كلية الشريعة، أو كلية الآداب فرع اللغة العربية في جامعة دمشق، وصمم أن يغادر ويذهب إلى مصر لتعليم الإخراج السينمائي. بذرة التمرد التي أخذت تكبر معه، ولازمته طيلة حياته، فما إن طرد من مصر لرفض إدارة المعهد الطلاب من الشرقيين على نحو ما أخبرهم مدير المعهد حسن فهمي والد الفنانة فريدة فهمي، حتى سافر إلى فرنسا ليلتحق بالـ”إيديك” معهد دراسة السينما، وأجبر نفسه على أعمال شاقة، إلا أنه انصاع لنداء الحب مع “ذسبينا” (الفتاة البوهيمية) التي كان حُلمها السفر والرحلات، فاستجاب لها وتخلّى عن حلمه في دراسة السينما، فهذه البذرة كان لها مردودها في رفض التعنت الذي عاملته (هم) به قوات الاحتلال في المعتقل، وراح يدافع عن حقه وحقوق الأسرى، شاهرًا في وجوههم ميثاق الأمم المتحدة، وطورًا آخر في رفضه أن يكون حمامة السلام كما أراده الضابط الإسرائيلي، على الرغم من الضغوط التي مورست عليه، وقبله رفضه الالتجاء إلى الخرافات داخل السجن، على نحو ما أشاع أحد زملائه بأن قراءة الصمدية ثلاثة آلاف مرة، تفتح أبواب السجون، وهو ما فتح عليه باب عداء ولو مستتر.

أهم مشهد يبرز صورة المثقف العضوي أو النهضوي، المشارك في البناء، والدعوة إلى الإصلاح تتمثّل في صورة الكتاب الذي قام بتأليفه، راصدًا فساد تجربة الإصلاح الزراعي التي اتّبعها حزب البعث، مقارنة بالتجربة الأولى في عصر الإقطاع، والذي “مكّن الدولة السورية لأربعين سنة من التفاخر بالميزان التجاري الرابح” في مقابل التجربة الجديدة التي فرضها حزب البعث والتي كان من نتائجها “انسحاب المصنعين الزراعيين من سوريا مع ثرواتهم وخبراتهم خارج البلاد” (ص 47). توزيع الأراضي الذي قام به الحزب على المحظوظين من عمال تلك الأراضي، خلقت منهم طبقة جديدة، طبقة محظوظة بقربها من الحزب، فهو الحزب الذي جعلهم “من الملاكين وجعلهم يشعرون بالتميز على من لا يملكون أرضًا أو مالاً، ولكنهم يملكون الرغبة في الربح السريع” (ص 48). تجربة الكتاب المفقود الذي ألفه بعنوان “بين تجربة التصنيع الزراعي في شمال سوريا والكيبوتز الإسرائيلي في فلسطين” لها دلالتان؛ الأولى كاشفة عن شخصية المثقف النهضوي الذي يؤرقه الهمّ العام وينغمس فيه بغية حلّ مشاكله، والدلالة الثانية كاشفة لآليات الدولة القمعية التي تصادر كل فكر حرّ خلّاق، فالكتاب بعد أن قبلت به دار النشر، رفضته، وعند إعادته فُقد، في دلالة إلى قوة الدولة المخابراتيّة.

تعتبر يوميات الذهبي سجلًا تاريخيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وأنثروبولوجيًّا لفترة تاريخيّة مهمّة من تاريخ سوريا لها انعكاساتها على حاضر سوريا الآن، بل ولو شئنا الدقة تُفسِّر الكثير من التساؤلات عمّا يحدث منذ وقائع الثورة السورية وانتكاساتها، وحالة اللجوء والهجرة التي وجد فيها الكثير من الشعب الخلاص (أو البديل) من قيود كثيرة، فإلى جانب الوضع الاقتصادي المنهار، والسياسي المشبّع بأيديولوجيا الحزب، والحربي المنكسر، فإنه يرصد عبر مشاهد دالة حالة التكوين الاجتماعي للمجتمع، فيستعرض لحالات الهجرة التي حدثت، وتأثيرها على ديموغرافية الدولة بما سببته من عنوسة تعرضت لها فتيات الحسكة بسبب هجرة الشباب إلى العاصمة وأماكن أخري للزواج، بسبب الحالة الاقتصادية وتكاليف الزواج حسب التقليد الريفي في ماردين أو في طور عابدين، فيقوم كاهن كنيسة السريان الكاثوليك بلعب دور محوري لتميزه بعقلية متحرّرة فكريًّا، في حلّ هذه المشكلة.

مدرسة هنانو

ولئن كان الذهبي في القسم الأول يفكّك أيديولوجيا البعث على المستوى الفكري والاجتماعي والاقتصادي، وهو ما كانت له نتائجه في حالة الركود التي عاشتها البلاد، وما صحبها من إهمال في كافة المرافق، وهيمنة طبقة جديدة على مفاصل الاقتصاد نشأت بحماية من الحزب بصفتهم أصحاب الولاء، فإنه في الجزء الخاص بفترة تجنيده في الجيش يفكّك منظومة الجيش والعقيدة القتالية التي نشأت في ظل هذه التوجهات البعثية، التي جعلت الجنود يكون ولاؤهم للأشخاص على حساب الأوطان والدفاع عنها. فيرصد منذ لحظة التحاقه بمدرسة هنانو، حالة التعبئة بالخطابات الجبهوية، التي تبثها القيادات المنتمية لحزب البعث، في مقابل إغفال مشاكل سوريا (الحقيقية)، والتحريض على الاشتباك مع العدو الصهيوني في الخطابات الثورية التي تلقى أثناء تمارين الصباح اليومية في فترة التدريبات، وإحلال فلسطين إلى الواجهة.

ففي هذه الفترة التي كان من المفترض أن يتعلّم فيها الانضباط العسكري، والتدريب على السلاح، لم يتعلم فيها سوى “وقفة الاستعداد”، اكتشف سوريا التي لا يعرفها “سوريا الريف المظلوم”، ففيها تعرّف على جوهر الدولة العسكرية المملوكية السورية، وما تنتهجه من عنصرية وفصل بين أبناء الوطن الواحد، بسبب سياسية التوصية، لمن ينتمون إلى الحزب والمواليين لسياساته. فالقيادة العسكرية لا تكترث إلا “لمجموعتها وعصبيتها، وبين أصحاب الحظوة” (ص 59). والأهم أنه يكتشف أن المسؤولين على النظام والدفاع عنه هم الذين يخرقون النظام، ويتحرشون بالشعب كما حدث في مدرسة المدرعات، حيث “تحرشت مجموعة من غوغاء سرايا الدفاع بامرأة عابرة، فهاج متحمسون من شبان الشارع، ومنعوهم من الخروج عن الانضباط، والأدب، فضربهم العناصر، واستدعوا كل لابسي الثياب المبرقعة (الزي الخاص لسرايا الدفاع)، وقطعوا الطريق، وكسروا المحلات التجارية.. وقبضوا على بعض المعتدين على المواطنين، وحملوهم في سيارات الشرطة.. حيث اعتقلوهم في السجن تمهيدًا لمحاكمتهم” (ص 66)، المشهد لم ينته عند هذه الصورة، بل امتداده يكشف عن صراع السلطة – السلطة داخل الأسرة الحاكمة، وهو ما يعني التفكك ليس على مستوى الخارج، فالتفكك داخل بنية الحكم، وهو ما ستكون له تبعاته على مستقبل سوريا كلها فيما بعد، فبعض الهاربين من الاعتقال “مضوا إلى ثكنة سرايا الدفاع، حيث أبلغوا السيد رفعت الأسد شقيق رئيس الجمهورية بما حصل، فأمر دورياته المحمولة على دبابات، فهاجمت سجن الشرطة العسكرية، وكسرت أبوابه، وانتزعت المعتقلين المشاغبين، ثم أطلقوا كميات هائلة من الرصاص، يتحدون من يفكر في مهاجمتهم واعتقالهم في قادم الأيام” (ص 66). هذا الفعل دلالته تتجاوز الانتصار للمظلومين، إلى أن هناك قوة تجابه قوة، ولكل قوة لها عناصرها الموالية لها، والقادرة على الرد بنفس الآلية والخشونة.

شاهد على الهزيمة

في كل مكان داخل وحدات الجيش كان الاكتشاف المميز له؛ اكتشاف التمييز الصريح (العنصرية) بين السوريين، وبعد انتهاء الشهور التدريبية له في معسكر طارق بن زياد، حيث تعلّم المشية النظاميّة، والاستعراض العسكري، عاد إلى دمشق حيث مدرسة المدرعات لاستكمال دورة تدريبية هناك. ومنها إلى مخفر جملة في الجولان. وعندما تحدُث الكارثة؛ أي العدوان، وسقوط الطيران، يُصاب بحالة من الدهشة لما يحدث، فالحرب المنتظرة، التي تحدثتْ عنها “كتب الآباء والأجداد، أو الحرب المشتهاة، كانت عبثية” (ص 95)، والجيش الذي كان يتصوّره قادرًا على التصدّي لجيش العدو، لا وجود له، وتسقط طائراته تلو الأخرى، وتحترق دباباته بمن فيها، وهو ما يكشف عن الفساد في الجيش، حيث الجنود وقادة الطائرات غير مؤهلين لمهاهم، بل في واقع مؤسف يسقط الجنود طائراتهم لا طائرات العدو.

كان موقعه في المخفر أشبه بشاهد عيان على هزيمة كبرى، وسقوط أحلام عريضة لجيل كامل، كان يأمل في الثأر للكرامة والشرف والأرض، وبعد أيام قليلة يحدث الأسر؛ الأسر الذي يكشف تواطؤ قوات الأمم المتحدة، وتسليمه إلى القوات الإسرائيليّة، فتبدأ رحلة مؤسفة ومضنية مع الأسر، كاشفًا عن تشوهات النفوس، وحالة الخواء الفكري التي جعلت مجموعة من الأسرى على اختلاف رتبهم ومكانتهم العلمية (دكتور/مهندس/وآخرين) يلوذون بأفكار أهل الخطوة، من أجل الخلاص، فالحلول العلمية قد تلاشت، ولم يعد أمامهم ملاذ إلا الالتجاء إلى الخوارق والمعجزات وقوانين السماء.

حالة الاجترار الجنائزي لوقائع الهزيمة وسقوط الحُلم، بقدر ما هي تصف حالة الضعف والتهاوي في صفوف القوات السورية، في تناقض تام مع الشعارات الحماسيّة من قبيل: “خسئ العدو حين اعتقد أن سورية قد هزمت حين سرقوا الجولان منها، ناسيا أن حلمه الكبير في هزيمة الثورة لم يتحقق فثورة البعث باقية وإلى الأبد”، والأهم سقوط هيبة الدولة السورية في الدفاع عن جنودها الأسرى، والمطالبة باستردادهم بل والتعويض، وفي الوقت ذاته تكشف عن مثقف ثوري أُجهضت أحلامه وآماله أمام عينيه، حالة قتل معنوي لذاته، ومن ثمّ جاء السّرد أشبه بمنولوج حزين، لذا لا نستغرب ثورته على المغاربة الماروكان والعراقيين، الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي، وقام بإعطائهم محاضرات عن التبشيرية. وهو في الأسر كان ثمة صراع بينه وبين الضابط حول إعادة تعريف اليهودي بعيدًا عن المحفوظات التي حفظوها من “قومية وأغنيات” عبدالناصر و”عنتريات” حزب البعث. كان الضابط “نهاري” يسعى لمعرفة صورة اليهودي وفي نفس الوقت يعمل على محو الصورة القديمة، لكن المثقف الثوري رافض لكل الحيل والضغوط بالتعاون بأيّ شكل من الأشكال، فراحت الذاكرة تستدعي صور القرى المهجّرة والدماء المسكوبة والطفل المهدّد بالقتل واليهودي يستحثه بألا يخاف وهو شاهر سكينه أمامه، كتأكيد لصورة اليهودي (الحقيقية) في مخيلته، المتمثلة في اغتصاب فلسطين على يد الإشكناز الغربيين، ومن جانب ثانٍ كحيلة ينجو منها من السقوط في فخ المراوغة، ويستجيب لأسئلة المحقق البروفيسور غيدو.

محاولات الضابط “نهاري” لمعرفة رؤية الجيل الجديد وخاصة المثقفين للحرب كان غرضها الاطمئنان على ضعف الإرادة العربية، ويأس الأجيال الجديدة التي سئمت الحرب، فسياستهم هي تمكين العسكريين من ركوب ظهر العرب المطالبين بالتحرير. أثناء التحقيق معه في سجن عتليت تظهر سياسة الاستفزاز، وتلفيق الاتهامات الكاذبة التي يُمارسها أفراد جيش الاحتلال، كورقة ضغط عليه، ولكن شخصية الثوري تأْبى أن تنصاع لهذه السياسة، فلم تجد نفعًا، ويصرّ على موقفه بأنه ضابط ارتباط يعمل في قوات الطوارئ الدولية، وليس ضابطَ مخابرات يتجسس على أصدقائه كما حاولوا أن يوهموه باختلاق اعتراف وهمي من شريك له مخترع. ومن ثم ظهرت سياستهم الحقيقية في التعذيب البشع الذي مورس عليه، حيث إنزال الإنسان إلى مرتبة الحيوان. كما كشف له وجوده في سجني عتليت ومجدو عن العنصرية الإسرائيليّة التي لا تقف عند حدود تعاملهم مع العرب، بل أيضًا ثمة عنصرية مع اليهود الشرقيين؛ فالوظائف الدنيا مثل الحارس والكنّاس وغيرها هي من نصيب اليهود الشرقيين بينما يتمتع اليهود الغربيون بالوظائف العُليا.

تنتهي يوميات – سيرة الذهبي بعودته إلى دمشق، بعد الإفراج عنه من المعتقل بعد 10 شهور إثر صفقة لتبادل السجناء بين السوريين والإسرائيليين، ومع آخر مشهد تسعى الإمبريالية الصهيونية لاستغلال المشهد لصالحها، بأن تلتقط له صورة وهو يتبادل التحية مع الجنرال غانوت في مطار بن غوريون، إلا أن شخصيته الأبيّة، وذكاءه يفوّت عليهم الفرصة بأن يظهر عبر صور الصحافة العالمية وهو يحيّي فيها إسرائيل على حُسن ضيافتها، فلم يرد التحية سوى بأن أحنى رأسه ردًا على التحية.

ومع الإباء والعزة والإرادة الحرّة وقوة الشخصية التي ظهر بها أثناء فترة الاعتقال، فإنّ اللعنة الوحيدة التي طاردته كما قال الكولونيل، وكانت أشبه بنبوءة ليس للذهبي وحده، وإنما لكل الذين يؤرقهم وطنهم “نحن لن نعاقبك هنا في إسرائيل، ولكنهم حكامك ورؤساؤك من سيحاكمونك ويعاقبونك بالنيابة عنّا”، وكأنها لعنة أصابت الجميع بلا استثناء.

في الأخير، نحن أمام نص على الرغم من أنه تجربة شخصية عانى صاحبها سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وكانت ثالثة الأثافي الوقوع في الأسر لدى جيش الاحتلال، إلا أنها كشفت عن جوهر المثقف الحقيقي، ودوره المنوط به بعيدًا عن الشعارات، في خدمة مجتمعه، والدفاع عنه، حتى في أشد لحظات الضعف والاستسلام، كما كانت رؤية مبصرة على واقع مجتمع، كان أسيرًا لسياسات براغماتية، لم يكن همها إلا خدمة مصالحها، دون التفكير في مشاكل الجماهير الغفيرة، التي صارت أداة طيعة في تحقيق أحلامها، ونفوذها وسطوتها، دون أن تنال شيئًا “من ذهب المعزّ” سوى العقاب بكافة أشكاله وصنوفه.

الهوامش:

[1] للمزيد من التفاصيل حول الأطروحات التي تناولت هذه المسألة، يمكن الرجوع إلى: رشيد يحياوي “مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية”، دار إفريقيا الشرق، المغرب، ط ثانية، 1994.

[2] محمد آيت ميهوب: “الرواية السير ذاتية في الأدب العربي المعاصر”، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الأردن، ط أولى، 2016، ص 31.

[3] أوستن وارين، ورينيه ويليك: “نظرية الأدب”، ترجمة: محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، دمشق، د.ت، ص 308.

[4] هانس روبيرت ياوس: “جمالية التلقي: من أجل تأويل جديد للنص الأدبي”، تقديم وترجمة: رشيد بنحدو، منشورات الاختلاف، ومنشورات ضفاف، دار الأمان، كلمة،تونس – الرباط – الجزائر، ط أولى، 2016، ص 55.

[5] فيليب لوجون: “السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي” ترجمة وتقديم: عمر حلّي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، ط أولى 1994، ص 29.

[6] يشير جورج ماي في “السيرة الذاتية” إلى التداخلات بين السيرة الذاتية والأجناس القريبة منها كالمذكرات، وكتب الوقائع، واليوميات الخاصة، والسيرة، والرواية، وإن كان يبدي فروقًا ملحوظة بين الأجناس، وأحيانًا يشير إلى انعدام الحدود الفاصلة بين الجنسين، على نحو ما رأى في تفرقته بين السيرة الذاتية والمذكرات فيقول “يندر ألا تطفو على سطح ذاكرة (أي مؤلف السيرة الذاتية) الأحداث العامة التي كان عاشها، بحيث يضطلع أحيانًا فيما يكتب بدور المدوّن لتلك الأحداث، وإن لم يكن متعمدًا” (ص 191)، ومرة ثانية يشير إلى تسرب بعض الأجناس داخل السيرة الذاتية على نحو اليوميات الخاصة، حيث تستعير السيرة الذاتية اليوميات الخاصة، راجع: جورج ماي: “السيرة الذاتية”، تعريب: محمد القاضي، وعبدالله صولة، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017، ص 223.

[7] الصادر عن دار المتوسط – إيطاليا 2019، وكل الاقتباسات الواردة في المتن، من ذات الإصدار.

[8] راجع يوميات تولستوي، 6 مجلدات، ترجمة يوسف نبيل، صادرة عن دار آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. [9]  راجع جورج ماي: “السيرة الذاتية”، مرجع سابق، ص229.

كاتب من مصر مقيم في تركيا

—————————–

خيري الذهبي مفكراً: الآفاق والروافد والقنوات/ محمد جميل خضر

أن يتناول أحدُنا خيري الذهبي (1946 – 2022) مفكرًا، يعني أن يغوص في الشام (دمشق) وتاريخها، وصبواتها، ومختلف تجليات حضورها في الزمان والمكان. يعني أن يسبر الأغوار التي يغرف منها روائيٌّ ما. أن يتبصّر روافع معارفه، ويعاين مداميك مواقفه، ويمضي معه في رحلة التحقق وترسيخ ملامح الذات، حتى مرتقيات شموخها، دون أن يغفل مطبّات تعثرها. خيري الذهبي الروائي العربي المهم، الذي تحوّل الكثير من رواياته إلى أعمال تلفزيونية، لم يبطن، ولا مرّة، مفردات فكره. لم يجعلها متوارية كرامةً لعينيّ الرقيب، أو خشية من غضب الغضيب.

وفكره، على وجه العموم، من النوع الأحفوريّ النابش في بطن الأرض، وتقلبات الأمم، النابض بمجسات الهوية العروبية الجامعة، المؤمن بالحق والعدل والمساواة، المميز بين غازٍ يحمل مع سيوف جنوده بعض ممكنات الحوار، وبين الغازيّ الهمجيّ، الذي لم يحمل معه سوى ويلات الخراب وأحقاد الدمار؛ بين الإسكندر المقدوني وبين هولاكو، أو جنكيز خان، أو تيمور لنك. وعلى (طاري) هذا الأخير، فقد حقق الذهبي في العام 2008، عندما كانت دمشق عاصمة للثقافة العربية، كتابًا مهمًا عنه وعن جرائمه وجبال جمائمه، “عجائب المقدور في أخبار تيمور”، وبعضهم يجعل العنوان “عجائب المقدور في نوائب تيمور” لمؤلفه شهاب الدين بن عرب شاه (1389 – 1450)، وهناك من يجعل اسمه شهاب الدين بن عربشاه (حيث عربشاه من مقطع واحد وليس من مقطعين). ولكن المحاكمة الأهم التي يجريها الذهبي لتيمور لنك، فهي التي تحققت عند كتابته في العام 1980، مسلسل “الوحش والمصباح”، والوحش في العمل التلفزيوني الذي أخرجه علاءالدين كوكش، هو تيمور لنك، والمصباح هو ابن خلدون، يومها سأل خيري نفسه سؤالًا وجوديًّا محيرًا، ربما ظلّ حتى مرتقى أنفاسه دون إجابة، وأما السؤال فهو: ما الحوار الذي يمكن أن يَجري بين صاحب عقل معرفي فكري بحثي من طراز ابن خلدون ووزن مقامه، وصاحب عقلية عسكرية دموية حيوانية الاندفاع على شاكلة تيمور وسلوكه التخريبيّ المقيت؟ وقد تفجّر السؤال في رأسه فجأة، عندما كان يكتب مشهد استدعاء تيمور لنك لابن خلدون بعد دخوله دمشق يتحضّر لتدميرها فوق رؤوس أهلها.

روافد مبكرة

شكّلت علاقة الذهبي الحميمة والعميقة مع مكتبة والده في حي القنوات الدمشقي، الروافد المبكرة لمنظومته المعرفية الفكرية. وهي العلاقة التي ما انفك يتطرّق إليها، ويشجن بها في أي حوار معه، أو مداخله له، أو استرجاع لذاكرته الشاميّة الحارّة والخاصة والمختلفة.

هناك في المكتبة السريّة في غرفة متوارية خلف حائط وتحت مرتبة، بدأت ترتسم في مخيلته، أولى ملامح الجنرال الذي يكره الشام وأهلها. ومع كتاب مثل “الروض العاطر في نزهة الخاطر” لصاحبه ومرتكب جناية تأليفه أبوعبد الله محمد بن محمد النفزاوي التونسي، بدأ الذهبي صاحب الرحلة التاريخية من دمشق إلى حيفا، يلتقط أولى إرهاصات الانحدار في سياق متوالية المد والجزر التي ظل التاريخ العربي الإسلامي يتأرجح بين طرفي بندولها.

منذ افتتاحية روايته “المكتبة السرية والجنرال”، في صفحتها الأولى، في فصلها الأول الذي يحمل عنوان “الجنرال يعثر على مكان ‘الجفر’ الضائع”، يكشف الذهبي عن الكثير من أفكاره المتعلقة بالعلاقة العكسية بين المكتبة والجنرال، فكلما اتسعت مكتبة معارف الشعب، تقلصت، بحسب الذهبي، قدرة الجنرال/السلطان، الزعيم/الدكتاتور على المناورة ومداورة أزمان حكمه واستبداده وتحكمه بمصائر البلاد ورقاب العباد: “فيعرفون بمكان المكتبة – السر، كنت أثناء ملاحقتي لأسرار الأسرة قد عرفتُ بما فعل ‘الجنرال الرابع’ بكبير الأسرة يريد تتفيهه أمام مريديه، ومنع خطبه المتحدية له، ولم ألُمه، فما أصعب أن تكون السلطان، وتعرف أن محكوميك يخفون عنك استعدادهم لحربك، وهزيمتك، والتحرر من شرعتك” (“المكتبة السرية والجنرال”، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، ص 5).

من بواكير وعي الذهبي، وعناوين فكره الأولى، إيمانه بضرورة تبنّي المحكومين سردية تواجه سردية الحاكمين (سردية مقابل سردية)، فهذا النهج الذي يتبناه الطغاة، ينبغي أن يكون نهج من يحاربون الطغيان، ففي حين يتنبّأ كتاب “الجفر” بانتهاء (دور) الجنرال الأكبر، فإن النظام قد واجه هذه النبوءة بنبوءة مضادة عن عودة العدل على يد الشهيد ابن الشهيد. وهكذا أصبحت نسخ كتاب “الجفر” الحقيقي فعلًا ثوريًّا سريًّا، و”اختفت حتى من البيوت والجوامع.. ما بين ضياع غير مفهوم، وتلف غير مقصود، وسرقة صريحة حينًا، واستعارة محرجة حينًا آخر! والخلاصة أن النسخ المبشرة بنهاية الدور.. اختفت” (الرواية ص 7).

النسخ المعدّلة بورقها الأنيق وطباعتها الفاخرة، باتت، كما اكتشف من يشترونها، نسخًا مخصية، لم تعد تسعد أحلامهم بنهاية عادلة لهذا الدور، “وانتشرت خيبة أمل الناس في كتاب كان يعدهم بالعدل والانتقام، فإذا به يتحوّل إلى أدعية ملالي مهزومين، وبكاءات لطّامين مقهورين لا أمل لهم إلا انتظار القيامة، وعندئذٍ أدار الناس ظهورهم للكتاب، وأخذوا في البحث عن أمل جديد وخلاص جديد” (ص 8).

ثمة، كما يتجلّى واضحًا، ربط في كل صفحة، وفي كل سطر، وفي كل حرف، بين الأدب الروائي، والوعي الفكري، الكفيل، إنْ حُمِلَ بوعي ضرورة جمعيّ، أن يقود خطى التغيير، ويبشّر بثورة المقهورين.

ربطٌ لا يقتصر على رواية بعينها من روايات الذهبي، بل هو فعل صيرورة ظل يتطوّر من رواية إلى أخرى، ومن محمولٍ دلاليٍّ إلى آخر، إلى أن تفجّر بطاقته القصوى بعدما تحرّر الذهبي من الرقيب إلى غير عودة، بعد مغادرته شامه وحارته وبستان خلوته.

كيف لا وخزّان فكره عندما كان ما يزال تحت عيني الرقيب، عمل باتجاهين متضاربين متعارضين: اتجاه تثوير وعي الناس، وترسيخ المعنى العميق والحقيقيّ لشامهم داخل وجدانهم، واتجاه القيام بذلك وفق مجسّات حذر رشيد منتبه، لا تلتقطه ريبة أزلام الطاغية في كل مؤسسة وهيئة وجامعة ومكان. تثويرٌ حذرٌ متوجّسٌ يدرك عدم تكافؤ أيّ معركة بين سلاح العلم والمعرفة، وسلاح القتل والسحل والخطف والاعتقال والدمار الشامل، ليس بمعنى شمولية قدرته التدميرية، بل بمعنى شمولية حكمه على موت الجميع إن كان هؤلاء الجميع ضدّه: “أنا ومن بعدي الطوفان”.

إن أي إزاحة، وفق هذه المعادلات القاتلة، عن سردية النظام، هي، بلا أدنى شك، إزاحة شجاعة، لا بل عميقة الشجاعة، راسخة التمسّك بالفكر بوصفه ساترَ دفاع أخير، موقنةً أن الفكر الثوري، هو ليس بالضرورة الفكر التخريبيّ الذي دعا إليه في مرحلة من مراحله الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 – 1980)، ولا الذي تبنّته الألمانية أولريكه ماينهوف (1934 – 1976) مؤسسة جماعة “الجيش الأحمر”، أو عصابة “بادر – ماينهوف”، حيث بادر هنا نسبة إلى مصمم شعار الجماعة أندرياس بادر (1943 – 1977)، متأثرًة، على ما يبدو، بأطروحات الروسي/السوفييتي ليون تروتسكي (1879 – 1940) حول الثورة المتوالدة بلا نهاية.

لا هذا ولا ذاك، إذ لا بد قبل كل رصاصة، وقبل كل فأس، وقبل كل مقصلة، من فكر يُنضج وعي الناس نحو حاجتهم العضوية الفطرية الجينية للحرية والكرامة والعدل. هذا ما عمل عليه خيري الذهبي ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وهذا ما تضمّنته كتاباته سواء الإبداعية منها، أو النقدية، أو المقالية، أو التأريخية، أو التأمّلية كما في “محاضرات في البحث عن الرواية” الصادر دار الشروق في عمّان عام 2016.

بواكير فكرية ذهبية بدأت تتبلوَر في الطريق اليوميّ إلى المدرسة، انطلاقًا من حي القنوات حيث بعض إغداقات بردى تصب هناك، مرورًا بقرية كفر سوسة، وليس بعيدًا عن بستان الحجر، ولا زقاق الجن، حيث الليل مساحة للسر والخوف والخيالات المسحوقة، وحيث السمكة الزرقاء تظهر وسواسًا، وتغيب كما تفعل لعنة الحلم الطويل، وحيث ساعة الحقيقة محبوسة في مطبعة الجريدة الرسمية، بدأت تنجلي أمام عيني بصيرة الذهبي، ملامح الخلل السوريّ الذي يرفض أن يصحح مساراته، رغم كل الثورات التصحيحية والقومية المبشرة ببعث جديد، ورغم كل الشعارات الندية.

بواكير لحقت بها ستينات القرن الماضي، بواكير أخرى، التقطها خيري الذهبي، هذه المرّة، أثناء إقامته في مصر للدراسة. إنها بواكير تعرفه على الثقافة الأخرى عبر اقتنائه لكتب مكتوبة بلغات أجنبية، تناثرت كيفما اتفق فوق سور الأزبكية.

في مصر أدرك الذهبي كم الاسكندرية، على سبيل المثال، وإلى حد ما القاهرة، مدنًا كوزموبوليتانية، وكم دمشق محبوسة في جوّانيات خصوصيتها. ومن على سور الأزبكية انفتح على عالم واسع، طوّر آفاق فكره، وربط شرق العالم بغربه، وجعله يتبنّى سردية جديدة في العلاقة مع الآخر، يقول في حوار قديم معه: “ما كنت أعيشه في تلك السن المبكرة من نظرة كان يعيشها المجتمع بشكل عام، نظرة الأنا صح مطلق، والآخر خطأ مطلق. الآن وبعد تجارب الأيام، وبعد القراءات الطويلة، وبعد الكتابات الطويلة، أصبحت أعرف أنني لا أملك من الحق إلا بعضه، والآخر لديه البعض الآخر. وعليّ أن أقبل الآخر كما أقبل الأنا، وعليّ أن أدرس الآخر كما أدرس الأنا، وعليّ أن أرى العالم بوصفه جزيرة لكل أبنائه، وليس حكرًا على عرق من الأعراق، أو مذهب من المذاهب، أو على دين من الأديان، أو على قومية واحدة فقط. كان عليّ أن أعاني كثيرًا، وأقرأ كثيرًا، وأطّلع كثيرًا، وأبني فكري وثقافتي على مهلهما، وكان عليّ أن أتعرّض لصدمات كبرى، حتى أستطيع أن أصل إلى ما وصلتُ إليه اليوم، أن هذا العالم مُلْكٌ لكلِّ أبنائه”.

في تلك البواكير أدرك فكر الذهبي أن دمشق لا بواكي لها، وأن المكان محنة إن لم يؤنسن، فما كان منه إلا أن أنسنها في ثلاثيته الكبرى فكرًا وسردًا وصيحةً ضد من يكرهون دمشق من قلب دمشق، ومن قلب الرعب الذي كان قد أمعن كرّاهها في زراعته داخل صدور الدمشقيين بشكل خاص، والسوريين بشكل عام.

في “حسيبة” و”فيّاض” و”هشام”، استعاد فكر خيري الذهبي دمشقه وقنواته ومكتبتي أبيه وحارته. كرّس مدنية الرواية مقابل غزوها الريفيّ (الفحوليّ)، ومقابل انحباسها بين ثنائية راقصات الناي (راقصات الأمفورا أو الأمبوبايا (الأنبوبة) باللغة الأرامية)، ولابسات السواد المنغلقات على أنفسهن، اللاطمات على موتاهن. أعاد المجد للبسطاء الذين تعلّم من الكاتب السوري المتمرّد فارس زرزور (1930 – 2003)، حقيقة حرارتهم الصادقة النّابضة الصادحة بطهارة الأرض والمعنى.

يقدح فكره فإذا به يستعيد تاريخًا دمشقيًّا سوريًا يسبق الدعوة الإسلامية، ويعود بأمكنته إلى الفترة الهلنستينية، حيث الفليسوف السوري لوقيانوس السميساطي (125 – 175م) سبق الجميع بكتابة الرواية، ومنه غرف السوريّ الآخر أبوالعلاء المعرّي (973 – 1057م) في “رسالة الغفران”، ومنهما غرف الشاعر والكاتب الإيطاليّ دانتي أليغييري (1265 – 1321) في “الكوميديا الإلهية”.

فكرٌ بحثيٌّ حفريٌّ رأى بعمق أن بحثه عن آباء حقيقيين قاده إلى أبي حيّان التوحيديّ، وإلى استنتاج مفاده أن كتّاب “ألف ليلة وليلة” والمخلوقات الخيالية التي ابتكروها فيها، مثل طائر الرخ، والحوت العملاق، والأشجار التي تنبت بشرًا يتدلّون منها ثمارًا، غرفوا من لوقيانوس، كما تأثر به كتّاب الرحلات مثل غليفر وغارغانتو وبانتا غرويل وغيرهم. (كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية”، ص 115).

خصوصية دمشق

الجمال المتواري خلف الحذر

لا يحتاج متأمِّلُ فكرَ خيري الذهبي إلى كبير عناء قبل أن يلتقط خصوصية دمشق داخل ثنايا وعيه، وإرهاصات فكره، ومخرجات معارفه. إنها الخصوصية التي جعلته، ومن دون أن تُفْتَح نوافذ الناس في حاراتها، وزواريبها، وأزقّتها، وبيوتاتها الكالحة من الخارج، يعرف معرفة اليقين، ما الذي يخفيه الدمشقيون خلف تلك الشبابيك: الجمال البهيّ المتواري خلفها، “الباحة المشرقة، البحرة الدافقة، الأشجار المترعة بالليمون والكبّاد والدرّاق الزهريّ. بشجيرات الورد والياسمين” (كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية”، ص 16).

فكره في هذا السياق جعله يستنتج أن النسوة الندّابات يخفين راقصات الأمبوبايا تحت ثيابهن السود، وأنهنّ لا يخشين الفرح، ولكن عليهن ألاّ يظهرنه لكل عابر سبيل، أو غاز مرّ من هناك، فذاكرة الدمشقيات والدمشقيين مروّعة: “الآشوريون وقسوتهم الدموية، العبرانيون ومدمويتهم المرعبة، الحثيون، الميديون، الإخمينيون الـ…. ما الذي كان على سكّان الواحة من الأمبوبايا فعله، هل يعرضون فرحهم وجمالهم وحبهم للحياة على هؤلاء الوحوش فيأكلونهم أحياء، أم يخفونها تحت قناع التقشّف والسواد والعزلة؟” (المحاضرات، ص 17).

خصوصية دمشق ليست حكرًا على فكر خيري الذهبي، والحقيقة أنها لورطة حقيقية لو بدأتُ تعداد من تغنّوا بدمشق شعرًا ونثرًا وبحثًا وتصويرًا ثابتًا ومتحركًا ونحتًا وإقامة، وهوى لا يموت ولا ينتابه الضمور، فهذا ما يحتاج إلى مجلدات وما سينتج عنه من أطروحات ينال عليها الناس أعلى الدرجات الأكاديمية.

ولكنني، ولتقاطعات عديدة بينه وبين خيري الذهبي في التباس العلاقة مع دمشق وحولها، سأعود لبعض شعر الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي له أكثر من خمس قصائد عن دمشق، أنا لا أقصد ورود دمشق في شعره، فهذا ما لا يمكن إحصاؤه، ولكن عن قصائد بأكملها موضوعها دمشق، أو موضوعها منذ عنوانها حول دمشق وحول علاقته بها، ومنها: “طوق الحمامة الدمشقيّ” آخر قصائد ديوانه “سرير الغريبة” (1999)، “في الشام”، وقصيدة “وفي الشام.. شام”.

في قصيدته “طريق دمشق” آخر قصائد ديوانه الثاني “محاولة رقم سبعة” الصادرة طبعته الأولى عام 1973، يرسم درويش صورةً مرتبكةً لعاصمة الأمويين. فأيّ استشراف قاده لهذه الحوارية العاتبة مع عاصمة يحبها، وينسج شعبه آمالًا عراضًا عليها، رغم أن تلك الحوارية العاتبة سبقت ما فعله النظام الحاكم في دمشق بتل الزعتر الفلسطيني في بيروت بسنوات عديدات:

“من الأزرق ابتدأ البحرُ../ هذا النهار يعود من الأبيض السابقِ../الآن جئتُ من الأحمرِ اللاحقِ../اغتسلي يا دمشق بلوني/ ليولد من الزمان العربي نهار”. (الأعمال الشعرية الكاملة، ص 190).

حتى يقول:

“دمشق، ارتدتني يداكِ، دمشق: ارتديت يديكِ، كأن الخريطة صوتٌ يفرّخ في الصخر”. (ص 191).

ويقول: “كوني دمشق فلا يعبرون./يا أيها المستحيل.. يسمّونك الشام/أفتح جرحي لتبتدئ الشمسُ، دمشق/وكنت وحيدًا./ومثليَ، كان وحيدًا هو المستحيل”. (ص: 192).

ويواصل رسم ملامح تلك العلاقة الملتبسة:

“هذا طريق الشام.. وهذا هديل الحمام/وهذا أنا، هذه جثّتي/والتحمنا/فَمُرُّوا../خذوها إلى الحرب كي أنهي الحرب بيني وبيني“. (ص 194).

وفي مرّة تتبدى دمشق كأنها ضياع:

“ويسألني المتعبون، أو المارة الحائرون عن اسمي/فأجهلهُ../اسألوا عشبة في طريق دمشق!/وأمشي غريبًا/وتسألني الفتيات الصغيرات عن بلدي/فأقول: أفتش فوق طريق دمشق،/وأمشي غريبًا./ويسألني الحكماء المملون عن زمني/فأشير إلى حجر أخضر في طريق دمشق.

وأمشي غريبًا./ويسألني الخارجون من الدير عن لغتي/فأعدُّ ضلوعي وأخطئ/إنَّي تهجَّيتُ هذي الحروف. فكيف أركِّبها؟/دال .ميم . شين . قاف

فقالوا: عرفنا – دمشق!/ابتسمتُ. شكوتُ دمشق إلى الشام:/كيف محوتِ ألوف الوجوه/ومازال وجهكِ واحدْ!/لماذا انحنيت لدفن الضحايا/ومازال صدركِ صاعدْ!/وأمشي وراء دمي. وأطيع دليلي/وأمشي وراء دمي نحو مشنقتي/هذه مهنتي يا دمشق…”. (ص 195).

وعمّا بناه وشعبه من آمال عريضات تحملها إلى تغريبتهم الكبرى دمشق، يقول:‏

“دمشق! انتظرناك كي تخرجي منك ‏/كي نلتقي مرّة خارج المعجزات ‏/انتظرناكِ.. ‏/والوقت نام على الوقتِ/والحب جاء، فجئنا إلى الحربِ ‏/ نغسل أجنحة الطير بين أصابعك الذهبيّةِ ‏/يا امرأة لوّنها الزبد العربيُّ الحزين. ‏/دمشق الندى و الدماءِ ‏/دمشق النداء ‏/دمشق الزمان. ‏/دمشق العرب!” (ص 198). ‏

إطالة في الاقتباس أعتذر عنها، ولكن، ربما كان لا بد منها، لسبر أغوار علاقة غريبة الأطوار بين فلسطيني وبين دمشق، علمًا أن سوريا وفلسطين تنتميان إلى وحدة قديمة اسمها بلاد الشام. واليوم تصل الغرابة ذراها، والغربة أوجع لحظاتها، حيث اضمحلّ القرب وأصبح بطعم الجفاء بعد سيطرة حزب البعث بنسخته الأسدية على الشام وكل سوريا، صاحب الشعارات البرّاقة حول أمّة عربية واحدة، وصاحب الأحلام القومية، والنزعات الثورية، وهذا ما يفسّر لنا كثيرًا من التباسات علاقة فكر خيري الذهبي، موضوعنا الأساسيّ مع شامه، فشامه لم تعد كذلك بعد الغزو الريفيّ البعثيّ الآتي من فقر الساحل وجوعه للسلطة والثروة والتاريخ، يريد أن يستحوذ على هذه الضرورات جميعها، ويغتصب أيّ مقاسمة بينه وبين أهل الشام أنفسهم على هذه المطالب وهذه الحقوق. يجتثها من جذورها. هذا ما أدركه الذهبي مبكرًا، وهذا ما جعله لا يترك فرصة سانحة مهما تجبّر الطغيان إلا وأشار إليه تورية، أو إيماء، أو تعبيرًا صادحًا صارخًا لا لبس فيه. أما اللبس فقد اعترى العلاقة نفسها مع مدينة طفولته وشبابه وشغف كل أيامه، فهل هذه شامه فعلًا؟ هل سرقوا منها بعض بهائها ومدنيّتها وعنفوان ضربها في التاريخ والعمارة والحياة؟

في هذه الزواريب العجيبة ظل فكر الذهبي مشغولًا، في البحث عن معادل معرفيٍّ يعيد له شامه وأيامه. في كتابه “التدريب على الرعب”، الذي يجمع داخل صفحاته الـ372، 62 مقالًا له، يحاول الذهبي الإجابة عن بعض أسئلة فكره القلقة حول دمشق وتاريخها؛ هذا ما يفعله وهو يكتب عن أحمد بن محمد بن عبدالله الدمشقيّ الأنصاريّ، الذي يكشف في مقاله “التدريب على الصمود” عن دوره الفذ في حض الدمشقيين على مواجهة الهجمة الغوغائية الوحشية لتيمور لينك وجيشه الحامل نذر الخراب:

“ومع الصباح سمع الناس قبل الأذان من يُنادي على مآذن المدينة: يا نِعاج المدينة أفيقي.. تذكّري أن حتى النعاج لها قرون تستطيع لو تجمّعت أن تبقر بطن الذئب. اختفى الصوت، بحث العسس عن المنادين ولا أثر لهم، وكان أشدّ الباحثين حماسةً مفتي المدينة تقي الدين بن الحنبلي؛ هذا الرجل الذي سنقرأ له فيما بعد كتابًا اسمه “البرهان على أن مصائب الإنسان من عمل الشيطان”، وكأنّ هنالك شيطانًا أشدّ أذى من الخائن لشعبه ودينه وجماعته، فابن الحنبلي هذا هو من سيذهب إلى تيمور مفاوضًا ومساومًا ومبايعًا ومشاريًا؛ شريطة أن يتسلَّم المدينة حاكمًا من تيمور، ووُعِد خيرًا ولكنه كان أول قتلى تيمور.

هذا الأذان الذي انطلق يستصرخ النعاج لاستنهاض قرونها، لم يلبث أن جعل صغار اللحامين والخبازين والمنجدين والنجارين والحدادين والرخامين والنحاتين والنساجين يتجمعون في نقاباتهم ويقرّرون المقاومة، وكانت الصدمة لتيمور حين رأى أبواب المدينة تنفتح، وحرافيشها تندفع مهاجمةً جيشه، طاردة له حتى الكسوة، ثم وفي اليوم التالي تهاجمه من باب آخر، وتطرد جيشه حتى سعسع” (كتاب “التدريب على الرعب”، ص 18).

فكر الذهبي في معظم مقالات كتابه “التدريب على الرعب”، يأخذ بعدًا حيويًّا منتجًا قادرًا على التقاطع مع رموز ومعانٍ وتجليّات تجعل دمشق أكثر إمكانية، وأرفع قيمة، وأعمق ضربًا في صخور التاريخ ورسوبياته وأوابده. الخيري الذهبيّ ينبّه دمشق أن مساومتها على فرادتها قد يؤدي إلى سقوطها مرّة أخرى، تمامًا كما سقطت في فخ المساومة مع تيمور. وهذا ملمح آخر من ملامح فكره الفذ: لا مساومة، دون أن يقصد المعنى الحرفيّ للمقاومة المسلحة، بل لعله يقصد لا مساومة فكرية معرفية ضاربة جذورها في التاريخ والجغرافيا والعزيمة الإنسانية التي لا تهزم ولا ينتابها الفتور. هذا لا يعني أن الذهبي ينكر على أصحاب الحق انتزاع حقوقهم بالقوّة، بل يسعى في أدبياته الفكرية إلى تحصين هذه المقاومة بالعلم والمعرفة والفكر الرشيد، وتجنيبها الجهل والعصبية والوقوع في فخ الإثنيات القاتلة.

شمولية التكوين وشمولية الطغيان

في سياق مواجهته شمولية الطغيان التي تحدث عنها المفكّر الفلسطينيّ الراحل سلامه كيلة (1955 – 2018) في كتابه “مصائر الشمولية/سورية في صيرورة الثورة” الصادر عام 2014، عن دار الريّس للكتب والنشر في بيروت، يطرح الذهبي معادلًا موضوعيًّا مغايرًا، يتمثّل بشمولية المرجعيات والصيرورات (التحوّلات، والمضي قدمًا، والتطوّرات الكميّة والنوعية) التي كوّنت سوريا عبر الأزمان، وشكّلت ملامح واجهتها الأشمل والأوجع: دمشق.

من هنا نجده مرّة يستنجد بلوقيانوس ابن حلب، ومرّة بزينون الرواقيّ الفينيقيّ ابن مدينة صور اللبنانية الشامية، ومرّة بالشاعر ملياغروس الجداريّ (ابن مدينة جدارا/أم قيس قرب الحمّة السورية – الأردنية)، ومرّة بأبي العلاء المعرّي ابن معرّة النعمان، ومرّة بتقاطعات الشتات السوري الجديد، مع الشتات الفلسطيني القديم المتجدد. فكر شموليّ يحتاج السوريون، كما يرى، كل تفصيلة من تفاصيله في سياق مواجهتهم كل هذا الطغيان الشموليّ الذي يحتكر المدنية والعسكرتارية والحركة الإعلامية واللحظة الإبداعية، ويريد أن يجيّر كل فعل ونأمة وتنهيدة شهيق لصالح تكريس أبديته. إنه شمولي إلى الدرجة التي اختصر بها بلدًا بحجم سوريا إلى اسم طاغية صغير فصار اسمها بحسب ما يكرّسه النظام ويزرعه في جينات التلقي: سوريا الأسد، تمامًا كما يريد أن يكرّس شعارًا آخر أكثر بشاعة: إلى الأبد يا حافظ الأسد، والآن يا بشار الأسد. إنها الأبدية الدهرية القدرية التي لا يجد الإنسان العاقل (كما هو حال رجلنا خيري الذهبي) منها فكاكًا إلا بالمزيد من الغوص داخل منعرجات التاريخ، والتبحّر في دروسه، وإلا بالعلم والمعرفة والفكر الحُر الأصيل.

فكر الرحلة

في كتابه “من دمشق إلى حيفا/ 300 يوم في إسرائيل” الصادر عام 2019، عن دار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي، وعن منشورات المتوسط في مدينة ميلانو الإيطالية، يتبنى خيري الذهبي وجهًا آخر من وجوه فكره؛ إنه فكر الرحلة. في الكتاب عدة فصول يبحر خلالها الذهبي في حوارات مرّة مع نفسه، ومرّات مع الآخر اليهوديّ/الإسرائيليّ، الآخر في الكتاب المتقاطع مع أدب الرحلات، حتى أنه نال جائزة عليه تتعلق بهذا النوع من الأدب، هو كولونيل (عقيد) إسرائيلي يُدعى نهاري، يساق إليه خلال أسره في فلسطين لمدة 300 يوم، عدة مرّات، وفي كل مرّة يتذاكى عليه هذا العقيد أنه ابن الشام، وأنه يعرف أكثر من غيره عن سوريا “الريفية التي تحوّلت إلى عسكرية متخليّة عن البرلمانية والحزبية وحرية الصحافة” (كتاب الرحلة، ص 125). يريد أن يجرّه إلى الحوار جرًّا، باحثًا عن نقاط التقاء بينه وبين الأسير لديه خيري الذهبي، من هنا تتشكّل لدى الأسير حوصلة دفاع مجسّاتية لا تريد له أن يقع في حبال خدعة حوار من طرف واحد حتمًا، فهل يعقل أن يقود الحوار، لو قرر الذهبي المضيّ فيه، إلى تخلّي العقيد عن فكرة أرض الميعاد، وعن حقوق أبناء دينه المدّعاة في فلسطين بوصفها أرض صهيون ويعقوب وأنبياء بني إسرائيل جميعهم؟

حقيقة خواء هذا الحوار، تقود الذهبي إلى حوار بينه وبين نفسه، يتخلص خلاله من عقد الخوف من الطغمة الحاكمة في بلده، كونه بعيدا عن الديار، والبعد هنا لا يقاس بالحسابات الجغرافية، بل بحسابات سيطرة العصابات الصهيونية على فلسطين التاريخية، سيطرة تجعله بعدًا لا يمكن تقدير مسافته المدججة بالدشم والحراسة والمنع الكامل.

الحوار الذاتي يقود الذهبي إلى المزيد من فكر التحرر من الطغيان والطغاة، وفيه يتطرّق للجريدة الرسمية وساعتها التي تدل على وقت غير صحيح، وفيه يعاين صورة اليهوديّ في الوعي العربي المتأثر بقومية مصر وبعثية سوريا، وعن أوجه الشبه بين اليهودي والمملوكيّ في وجدان الذهبي وفكره الخاص، فكر الثرثرة خوفًا من العتمة، الفكر الذي يميّز بين الأشكنازيّ والسفرديميّ. الذهبي تخيّل الحوار المفترض بين شخص يمثّل العسكرية السورية و(كولونيل) يمثّل العسكرية الإسرائيلية، بأسئلة استخبارية، وظروف غير طبيعية. أما الحوارات الأكثر تعقيدًا التي أجبر الذهبي على خوضها خلال تلك الأيام الثلاثمئة، فهي التي قابله لإجرائها البروفيسور الإسرائيلي غيدو (جدعون)، وفي تلك الحوارات، أو المقابلات، يجري التطرّق لمعنى كلمة فدائي، أو على رأي الذهبي فداوي، وفيه يبحر فكر الذهبي في تتبع الأبعاد التاريخية للمصطلح الذي يعود بجذوره إلى أيام الحروب الصليبية. حديث الفداوية حوّله الذهبي فيما بعد إلى واحد من مقالات كتابه “التدريب على الرعب”، وفيه يحمل نفسًا تفاؤليًا، يؤمن بالأمة، ويستبشر بشبابها وفداويتها خيرًا:

“ما لم يعرفه العدو، ولم يستطع التنبؤ به، هو أن الأمّة ليست هذا الفصيل ولا ذاك، ليست أولئك التّعبين، ولا أولئك السئمين، بل الأمّة بحر يزخر بالعجائب؛ فيومًا فدائيون فلسطينيون، ويومًا فدائيون سوريون، أو لبنانيون، ويومًا ليبيون، ويومًا سودانيون، أو مصريون، إنهم كل أولئك الذين يضعون لأنفسهم قضية، ولا يرون حاجزًا واحدًا لها إلا هذا المستوطن الأوروبي المتغلل بصليب سداسي يسميه صهيونية” (كتاب “التدريب على الرعب”، ص 93).

فكر الرحلة هو مرحلة من فكر خيري الذهبي طوّرها عبر التجربة، وصقلها بالصبر والتأمّل، واستنشاق فكرة وجوده في قلب فلسطين التاريخية، وخلُص فيها إلى أن الطغاة لا يختلفون عن الغزاة، بل إن وجود هؤلاء الطغاة هو أحد أهم أسباب قدوم الغزاة، فـ”الطغاة يجلبون الغزاة” كما تقول الحكمة القديمة المتجددة.

منمنمات تراكمية

على شكل منمنمات تراكمية بنى الذهبي منظومته الفكرية. جمّع شتاتها من قراءات غزيرة وكثيرة، لا يترك كتابًا يقع بين يديه إلا ويلتهم محتوياته، ويقلّب غاياته، ويعاين رسائله. تلك المنمنات انتشرت في رواياته، وفي مختلف مقولاته ولقاءاته وتنظيراته.

البذرة السوداء

في واحدة من المقابلات التلفزيونية التي أجريت معه، يسأله الشاعر السوري المخضرم شوقي بغدادي (1928)، عن أصول شخصياته الروائية ومدى واقعيتها الخارجية، أو أنها كاملة الخيالية. فإذا بِرَدِّ خيري الذهبي يتجلى بوصفه فرعًا جديدًا من فروع فكره؛ يشبّه الشخصيات بنوعٍ من نباتات الزينة الدمشقية يدعى “الشاب الظريف”، وبحسب الذهبي، يتكاثر هذا النبات بواسطة بذرة سوداء صغيرة، الذهبي يسأل بغدادي: “لو أمسكت بيدي هذه البذرة السوداء، فهل أستطيع رؤية الأوراق الخضر والورود الحمر التي ستنبثق عنها؟ إن هذه الأوراق والورود هي البذرة السوداء بعد دفنها في التراب وإعطائها بعض الماء، وبعض الدفء، وبعض الضوء، والكثير من الصبر والترقّب والحنان، فإذا بك تفاجأ بالتراب ينشق عن قلبيْن أخضريْن ما يلبثان أن يمتدّا ويكبرا ليصبحا نبتة تحمل الورود الحمر” (محاضرات في البحث عن الرواية، ص 119).

هكذا تولد شخصيات خيري الذهبي، وهكذا يرى الكون من حوله، ويفهم صيرورة الناموس. وأينما حلّ، يزرع نباتًا سريع النمو، هذا ما فعله في عمّان أثناء إقامته فيها محوّلًا فسحة صغيرة خلف بيته العمّانيّ، إلى واحة من الخضرة وحب الحياة والتمسّك بالأمل. مخطئ من يرى أن زراعة الحاكورة ليست فعلًا فكريًّا ناضجًا عميق الدلالات. مخطئ من يظن (وإن بعض الظن إثم)، أن عشق الذهبي للكثير من أنواع الطيور، هو ليس قدحًا فكريًّا وجوديًّا متناغمًا مع مفردات الكون وجماليات الوجود.

تخضيره البيئة من حوله فِكْر. قدرته على خلق لغة ما بينه وبين كائنات متناهية الوداعة فِكْر. حفره في أصول القوميات ودلالات المفردات فِكْر. ربطه بين تواريخ متباينة (قد تبدو متباينة)، واكتشافه الخيط الذي يربط دلالة بدلالة أخرى فِكْر. انحيازه النهائي لروح دمشق فِكْر. إيمانه أن الرواية ليست تأريخًا فقط فِكْر. دفقه الغزير حتى مرتقى الأنفاس من رواياتٍ وآراءً ومقالاتٍ وتبويباتٍ وحفرياتِ معرفةٍ فِكْر. فكرٌ نبت من حقول الإبداع، وإبداع تحصّن بالفكر، في جدلية خيرية ذهبية أصبح لها مع الأيام والأعوام والأحلام، نكهتها الخاصة، ومذاقها المختلف، وهويتها الفريدة.

قاص وصحفي من الأردن

——————————-

ذات يوم في كهف الرعب/ أحمد سعيد نجم

تعود معرفتي بخيري الذهبي وبمعظم الكتاب السوريّين، أقلّه المقيمون منهم في دمشق، إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي، عندما بدأتُ أكتب قصصاً قصيرة ومراجعات نقدية لبعض الإصدارات الأدبية، وأبحثُ لما أكتبُه عن نوافذ. وأيامها كانت المنابر الصحفيّة في دمشق معدودة، وبالتالي فلم يكن اختراقها هيّناً على المبتدئ، الذي عليه أن يصبر لسنوات، وعليه، إن لم تكن موهبته فاقعة أن يمرّ أوّلاً ببريد القرّاء، أو بصفحات أدب الشباب، قبل أن يرى اسمه إلى جانب الأسماء المهمة، والمعروفة.

وعام 1981 أصبحتُ، بعد نشر أوّل مجموعة قصصية لي، عضواً في اتحاد الكتاب العرب في سوريا، وهو عملياً مع استثناءات قليلة نقابة للكتاب السوريّين، ومَنْ في حُكمهم من الكتّاب الفلسطينيّين، الحاملين للجنسية السورية، فشكّلت عضويتي في ذلك الاتحاد نقلة نوعية مهمة جداً لي، رفعتني على الفور، من وضعية المتلقّي، واحدٍ من الجمهور المتابع للكاتب الفلاني إلى رفيق سهرات له. وعلى الفور، ودون مقدّمات، سأصير زميلاً، وشريك اجتماعات ومداولات دوريّة في اجتماعات الكتّاب، لكُتّابٍ ومبدعين سوريّين، كان لهم بصماتهم الأكيدة على خارطة الإبداع الأدبي السوري والعربي: كُتّاب من وزن: شوقي بغدادي وسعيد حورانية وممدوح عدوان وخيري الذهبي وعادل أبوشنب، وعدنان بغجاتي وحسيب كيّالي، وهؤلاء الذين أذكرهم الآن هم عيّنة مختارة من باقةٍ أكثر وأكبر، صرت منذ ذلك العام زميلاً لهم، أنا الذي كنت إلى قبل عامين أو ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ لا أجرؤ أن أخالطهم، أو أن أتسلّل إلى طاولاتهم، وأن أشاركهم نقاشاتهم الصاخبة في مقهى “اللاتيرنا”، في بوابة الصالحية، “الفانوس” الذي انطفأ لاحقاً، مثلما انطفأ قبله وبعده الكثير من فوانيس حياتنا التي ولا أحلى: اللاتيرنا، وحانة فريدي، ومقهى الحجاز ومقهى الروضة، النبتات الزاهية التي لن يجدها السائر هذه الأيام في شوارع وحارات دمشق مهما فتّش عنها، وقد يجدها فقط في بعض القصص وقصائد الشعر، وفي المذكّرات عندما يحين موعد كتابتها.

ثم تعمّقت العلاقات أكثر وأكثر بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، صيف عام 1982. ذلك الاجتياح الذي كان من نتائجه الفوريّة  انتقال أغلب التنظيمات الفلسطينية، هي وكوادرها وما لها من صُحُف وهيئات حزبية وعسكرية ومؤسّسات اجتماعية من “بيروت” إلى “دمشق”. ورغم كلّ ما قد يُحكى سياسياً عن ذلك الانتقال إلّا أن العقد الممتد من عام 1983 حتى عام 1993، برهة اتفاق أوسلو، كان في رأيي الشخصيّ من أزهى الفترات التي عاشتها الصحافة الفلسطينية، منذ انبعاثها من موتها مع انبعاث الشعب الفلسطيني من موته، ابتداءً من العام 1964، فور إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وما تبعها من نشوء العديد من التنظيمات الفلسطينية، سياسية أو مسلّحة.

والآن، فلو طُلِبَ مني أن أُعدّد الأسباب التي أراها تقف وراء ذلك الزعم؛ زعم ازدهار الصحافة الفلسطينية في تلك الحقبة تحديداً، وأن أرتبها بحسب أهمّيتها، ففي البداية، لن أقلّل أبداً من حجم الخِبْرة والحِرَفية التي كان قد اكتسبها الكادر العامل في المجلات الفلسطينية في عقد السبعينات، أثناء تواجدهم في بيروت، عاصمة الصحافة العربية، عاصمة الرأي والرأي الآخر، وشبكة العلاقات الواسعة التي كوّنوها مع المثقفين العرب قبل انتقالهم إلى دمشق، وبعض هذا الكادر ما يزالون حتى الساعة يتألّقون في التحليل السياسيّ على شاشات التلفزة العربية والدولية، ولكنني سأضع بعد هذا السبب، وعلى الفور، في رأس قائمة أسباب ذلك النهوض: المناخ الثقافي السوري، الذي صارت الصحافة الفلسطينية وبحكم انطلاقها من دمشق، جزءاً لا يتجزأ منه، اغتنت منه وأغنته، فأخذت صفحاتها الثقافية، وكانت هذه إحدى نقاط ضعفها خلال الفترة البيروتية، تكتنز بموضوعات ثقافية أعمق، ومشاركات شبه دائمة من المثقفين والكتّاب السوريّين، ومن المثقفين والكتاب الفلسطينيّين – السوريّين، وفيهم أسماء وازنة فكريا وثقافياً، مثل: يوسف اليوسف وفيصل دراج وأحمد برقاوي وفواز عيد ومحمود موعد، إلى آخره، وصارت لأغلبهم مساهماتهم الثابتة في تلك المجلّات. إنه المناخ الثقافي الذي لم يخلقه وجود تلك الصحافة في دمشق، بل وجدته في انتظارها، المناخ الفكري العام الذي لم يكن في حينها يعرف أو يعترف بأيّ فواصل أو تمايزات من النوع الحادّ بين الشأن الوطنّي والشأن القوميّ، بين ما لسوريا كقضية وطنية خاصة، وما لفلسطين كقضية عامّة، تخصّ كافة العرب، وفي مقدّمتهم السوريون.

وأعود الآن إلى الصديق خيري الذهبي، فقد طوّلتُ عليه. والواقع إنه وحتى أوائل التسعينات، وبرغم اللقاءات الكثيرة والسهرات العرمرميّة التي جمعتنا معاً طوال تلك الفترة، في هذه المناسبة أو تلك، إلا أنّ العلاقة بيننا ظلّت تراوح في الإطار الرسمي، العضوية المشتركة لكلينا في اتحاد الكتاب العرب، وزمالة الكتابة، الهاجس المؤرّق لكلينا. ففي القِسمة التي توازعتها الصحف الفلسطينية التي أخذت تصدر من دمشق ابتداءٍ من عام 1983: الهدف والحرية وفتح الانتفاضة وإلى الأمام ونضال الشعب، وغيرها، كان أبوفارس، في العلاقات التي طوّرها وارتاح لها مع الفصائل والصحف الفلسطينية، كان أقربَ إلى فتح الانتفاضة وصديقاً لأبرز قادتها، والأمر بالنسبة إليه ولغيره من المثقفين السوريّين كان الأمر وما فيه مجرّد صداقات واستلطافات شخصية، لا أكثر ولا أقلّ.

وكنت على معرفة تامّة بمواقفه السياسية المعارضة حتى العظم للنظام السوريّ ولكافة مفرزاته وأُطره، بما فيها اتحاد الكتاب العرب، الذي هو عضوٌ فيه. وكنت قد عرفت من تجربتي في العمل السياسي في سوريا مثل مواقف خيري، بل وما هو أشرس منها، غير أن الذي فاجأني فيه، وشاءت الصدفة المحضة أن أعرف ذلك الشأن عنه عام 1992، أن هنالك بشراً، وخيري واحدٌ منهم، يمكن أن يذهبوا في معارضتهم العلنية التي لا تعرف الهوادة ضد النظام السوريّ، الذي كان أيامها، أيام البيعات الأبدية، في أوج جبروته، إلى حدود خطيرة، مخيفة، حدودٍ تقرّب صاحبها من حدّ الموت، الاغتيال، كثيراً، كثيراً، أو إلى ما هو أقسى من الموت؛ الاختفاء إلى أبد الآبدين في أحد أقبية التعذيب في سوريا، وما أكثرها !

وكنّا أيامها، في أيّار 1992 على أن نذهب، هو وأنا إلى العاصمة الأردنية عمّان، لحضور مؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب المزمع عقده هناك في التاريخ المذكور، هو في عداد الوفد السوري، وأنا في عداد الوفد الفلسطينيّ، لنجد نفسينا بعد أن تقدّمنا كلٌّ على انفراد بطلبٍ الحصول على إذن سفر من دائرة الهجرة والجوازات، وهو إذنٌ إجباري على أيّ مسافرٍ سوري ذَكَرْ أن يستخرجه قبل أن يُقامر ويشتري تذكرة سفر، ربما يخسر ثمنها، وجدنا نفسينا مطلوبين لمراجعة الفرع الأمني المسمّى “فرع منطقة دمشق”، هذا الفرع سيء الصيت والسمعة، بل وأيّ فروع الأمن ليس سيء الصيت والسمعة؟

وهكذا، ودون أن يعرف أحدنا بما حدث مع الآخر وجدنا نفسينا معاً، صباح اليوم التالي، التاسعة صباحاً، في مكتب “علي عقلة عرسان” رئيس اتحاد الكتاب العرب، باعتبارنا عضوين في الاتحاد، نشكو له حالتنا، ونطلبُ حلّاً يقينا مخاطر ومفاجآت المراجعة الأمنية التي لا تسبقها أيّ اتصالات، أو وساطات من العيار الثقيل. ويومها قام الرجل باتصالاته، وبخاصة مع العميد هشام بختيار، رئيس فرع المنطقة، كان أيامذاك، الذي وعده خيراً، ولكنه ألّحّ على ضرورة رؤيتنا في مكتبه في تمام الساعة 12 من ظهر ذلك اليوم.

والذي حدث يومها، ودون الدخول بكثيرٍ من التفاصيل، لأنها قد تستغرق صفحات إضافيّة عديدة، أنّ خيري الذهبي، ومنذ أن وصلنا إلى بوابة الفرع، ثم ونحن في ديوان الفرع، ثم ونحن جالسان أمام ضابط التحقيق، لم يكفّ للحظة عن إطلاق الشتائم ضد النظام السوريّ بكافة رموزه ومؤسّساته، وماضيه وحاضره، شتائم بلغ من علوّ نبرتها أن أرعبتني أنا المطلوب مثله، وجعلتني أهتزّ فَزَعاً مثل قصبة نحيلة في مهب ريحٍ عاتية، قبل أن ترعب المخبرين وضابط التحقيق، وتضعهم هم لا نحن في دائرة التحقيق والتساؤل. واحزرْ أين حدث ذلك؟ حدث في مكانٍ لا يُسمح للداخلين إليه، إن كانوا مطلوبين للتحقيق، بالهمس. ما الهمس ؟ حتى الهمس غير مسموح به هناك، لا في فرع المنطقة ولا في غيره من الفروع !

وظللتُ طوال وجودنا داخل المبنى الرهيب لفرع المنطقة وإلى أن صرنا خارجه، وأنا على قناعة تامّة بأنه ما مِن قوة في العالم تستطيع بعد الآن أن تخرجنا من المكان الذي صرنا فيه. نعم، قد نخرج منه، ولكن إلى حتفنا. ويومها نجونا بجلدينا بأعجوبة، ولم يكن السبب الفعليّ وراء نجاتنا غير المهابة التي فرضها الحضور الطاغي لخيري الذهبي؛ والمكانة البارزة التي يحتلّها هذا الكاتب، المقتحم كأسد، والوديع كطفل، وسط خارطة الكتاب والمبدعين السوريّين، الذين ظلّ النظام السوريّ رغم كلّ ضراوته، يحسب لهم ألف حساب، وكان خيري أيامها، أوائل التسعينات، في أوج تألّقة وحضوره الأدبي، وبالأخصّ بعد رواية “حسيبة “، الصادرة عام 1987 وهي من العلامات البارزة في الرواية السورية.

ثم تشاءُ الصُدفة، ويبدو أن الصدفة هي التي تشاء لنا أغلبَ اختياراتنا وأحداثِ حياتنا، أن ألتقي خيري الذهبي، وأن نعيش معاً في الأعوام القليلة الماضية، ابتداءً من عام 2014، هنا في مدينة دبي، من الإمارات العربية المتحدة، في حيٍّ سكنيٍّ واحد. ففي هذه المدينة، الأنيقة من بين مدن العالم، جمعتنا الغربة الإجبارية عن سوريا، جمعنا المنفى والضياع، والسكنى في منطقة سكنية واحدة.

هنا اجتمعنا وعشنا معاً لسنوات لاجئين، منفيّين، تركا خلفهما الكثير الكثير، أو لنقلْ بشكلٍ أدق إنهما تركا خلفهما كلّ ما كان قد تجمّع لهما في كدّ الحياة من متاع الدنيا، تركاه نهباً للقذائف المدمّرة، وللمعفّشين، وحتى العالم الذي بتنا نعيش فيه هنا في دبي، فإنه بكلّ تأكيد ليس لنا، إنه بالأحرى لأبنائنا، ونحن عالة عليهم، إذ ما الذي قد يفعله رجلٌ على حيطان السبعين في دبي، مدينة الفُرص الجمّة والواعدة. بلى، فقد ظلّت لنا ذكرياتنا، وهي شيء كبير وكثير، مع أنها باتت هي الأخرى مهدّدة بالضياع، ذكريات كلّ واحدٍ منا على حِدة، والذكريات المشتركة لكلينا عن دمشق وأهلها والأصدقاء الذين تركناهم خلفنا، أو الأصدقاء الذين استبقوا الكارثة التي حلّت بسوريا، فاختاروا، دون أن ينسوا وطنهم، أوطاناً وهويّاتٍ بديلة.

هنا في مدينة دبي، جمعتني الجيرة أنا وخيري الذهبي في المنطقة السكنيّة المسمّاة: “حدائق” (الجاردنز) آخر دبي، على الطريق الذاهب إلى أبوظبي. وهي بحق، اسمٌ على مسمّى. فإنك وأنت تتمشى في شوارعها وملاعبها ومسابحها تحسب أن المكان، الذي بُني عليه هذا الحيّ السكنّي الفسيح، الدورة الكاملة حول محيطه كانت تأخذ مِنّا قرابة ساعتين، قد كان في أصله الأصلي غابة مدارية. ثم في غفلةٍ من الأشجار، دون إيذاء غصنٍ واحد، أو انقصاف وردة قبل أوان موتها الطبيعي، بُني ذلك الحيّ، لِتُصاب بعد ذلك بدهشة بالغة، عندما تعلم أنه وإلى عشر سنوات خلت، من تاريخ وصولنا، لم يكن في أرض ذلك المكان المسمّى “حدائق”، ولا عُشبة واحدة.

ثم إنّك إلى جانب تلك السكنى المشتهاة، بجوار واحدٍ من ألطف المولات التي قد يصادفها المرء في حياته: “مول ابن بطوطة”؛ ومكانُ سكن خيري كان أقرب إليه من مكان سكني، فإنّ بينهما “قَطْعَةَ شارع”، لا غير، المول الذي كأنك وأنت تتفتّل بين أجنحته المرتّبة على هيئة رقاع جغرافية متجاورة، لا تمشي على قدميك، بل في قلب آلة زمنٍ يأخذك فيها شبحُ الرحالة العربي الأشهر؛ ابن بطوطة في رحلة شيّقة إلى قلب حضارات العالم العتيق، مصر، فارس، الصين، الهند، وقد سكنت في ردهاتها آخر صيحات أوروبا، ما بعد الحداثة.

ففي شوارع ذلك الحيّ السكنيّ، وفي أغلب مقاهي المول، وبالأخصّ مقهى “تشي تشي”، ومقهى “حدّوتة مصرية”، وهذا الأخير كنتُ أفضّله على غيره من المقاهي لشبهه المذهل بـ”مقهى الحجاز”، أحد مقهيَيَّ المفضّلين  في مدينة دمشق هو و”مقهى الروضة”، وقد دثرا الآن، من جملة ما دَثَر من محاسن عاصمة الأمويّين. في تلك الشوارع والمقاهي تمشّينا، وجلسنا، وتحاورنا أنا وخيري الذهبي عشرات المرّات معاً، ومئات المرّات تمشّينا وجلسنا وتحاورنا كلّ واحدٍ منّا بانفرادٍ عن الآخر، يحكي مع نفسه، يسائلها، يُقلّب الدفتر الوحيد الذي ما يزال يملكه، أو يملك أغلب صفحاته: دفتر الذكريات !

لقد تحدّثتُ حتى الآن عن “ابن بطّوطة” الرحّالة و”ابن بطوطة” المول، ولكن “ابن بطوطة” هو أيضاً عنوان جائزة عربية مرموقة وفريدة من نوعها، تُمنحُ في العادة لأفضل الرحلات المحقّقة أو المترجمة، ثم توسّعت في الأعوام القليلة الماضية، لتشمل اليوميّات، أيْ لتشمل مادّة مشاويرنا ورياضتنا المسائية أنا وخيري الذهبي حول الحدائق وفي قلبها. وكان يندفع فجأةً، كأن القهر الذي يغلي في داخله ما عاد يحتمل أيّ تأخير، فيحدّثني أحياناً عن خدمته العسكرية الإلزامية، في أوائل السبعينات، وعن الفترة العصيبة التي قضاها في الأسر الإسرائيلي، 300 يوم، وكنتُ أندفعُ أحياناً، وغالباً بإلحاحٍ منه، أحدّثه عن “مخيم اليرموك”، وعن الأحداث والوقائع التي قادت لأن يتحوّل هذا المخيم الأيقونة من “عاصمة الشتات الفلسطيني”، إلى “عاصمة الخراب العربيّ”، وكأنّ ما كنّا نرويه لبعضنا البعض مجرد بروفة نهارية، لما سوف ندوّنه ليلاً، على اللابتوب، بعد أن يخلد أهل البيت للنوم. كنّا نكتب لنفرّغ على الورق جانباً من القهر – القيح، ونصفّي أرواحنا مما علق بها من خرائب وخيبات. وهكذا، تشاء آخر صدفة جمعتني بخيري الذهبي قبل موته أن يحصل كلانا على “جائزة ابن بطوطة” فرع اليوميّات، هو عام 2019 عن كتابه “من دمشق إلى حيفا/ 300 يوم في إسرائيل”، وأنا عام 2022 عن كتابي “خيمة من الإسمنت/صور، حكايات، يوميّات من الواحة المفقودة”. كتابُهُ، وكتابي، والكُتب التي كُتِبت، والتي لم تكتب بعد، إنْ ضُمّت بعضها إلى بعض، فستشكّل لوحة فسيفسائية لسوريا، التي كانت، وسوريا التي أمست !

والآن، وأنا، أتذكّر باشتياق مشاويرنا، ووقفاتنا لنستريح من المشي على أدراج البنايات، عندما كنا نتعب، أو عندما يحتدم النقاش بيننا حول أمرٍ من الأمور، وبالأخصّ عندما نجيء على سيرة بعض الزملاء الذين آثروا البقاء في سوريا، على التشنطط في بلاد الغربة، أتذكّر مع ذلك التذكّر أن مشاويرنا المشتركة في الحدائق، أو داخل المول، كانت، قياساً بعدد السنين التي أمضاها هنا، قبل أن يرحل إلى باريس ويموت فيها، أقلّ بكثير مما كان ينبغي. فقد كان ينبغي أن تكون أكثر، وأكثر، لأنه ما الذي قد تبقّى لكلينا من مِتَعِ الدنيا بعد هذا العمر وهذه النكبة التي حلّت بوطن السوريّين غير المشي والحكي، والكتابة، التي لم تعد شيئاً آخر غير استذكار الماضي، الماضي وقد صار الحاضر الوحيد لكلينا؟ وسنفتحُ صفحاته بالكثيرٍ من الرفق والتسامح، كمن يحاول انتزاع لقية أثرية من قلب الصخور، إن استخدم معها العنف تتمزقّ، وإلّا فعلينا أن نعود إلى الكثيرٍ من الوراء، إلى أكثر وراءٍ ممكن، هو إلى “حي القنوات” الذي ولد فيه عام 1946 وأنا بعده بأربع سنوات إلى “حي الميدان” الدمشقي.

***

ثم كنّا في غياباتنا، الحضور في الغياب، تمرّ علينا الشهور، لا نرى فيها بعضنا البعض. اتّكلنا على الفرص: إنْ لم أرَ خيري في هذا المشوار، فقد أراه غداً. اتّكلنا على الأيام، على وفرتها، كأن زمامها بأيدينا وحدنا. لماذا صدّقنا نحن الذين عركتنا تجارب الحياة تلك الأكذوبة الفاضحة؟ فها قد أتى غدٌ آخر، فماذا نفعل من أجل مشاويرنا؟ ومَنْ سوف يرثها؟

كاتب من فلسطين مقيم في الإمارات

—————–

الصديق والأسير/ عواد علي

التقيت الروائي الراحل خيري الذهبي، أول مرة، في الدورة الرابعة لمهرجان “العجيلي للإبداع الروائي” في مدينة الرقّة السورية عام 2008، وكان يومها مكرّماً في المهرجان إلى جانب الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد، والفنان التشكيلي علي منير، والكاتب إبراهيم الكبة، إضافةً إلى كونه كاتب مقدمة الكتاب الصادر عن المهرجان، والذي يتضمن الأبحاث والدراسات النقدية والشهادات المقدَّمة في أيام دورة المهرجان الثالثة، وأهداني أحدث رواياته في حينها “رقصة البهلوان الأخيرة”.

عقب أحد عشر عاماً تجدد لقائي به في عمّان، وكان قد قدِم للإقامة فيها معارضاً لنظام بشار الأسد الدموي، الذي قمع الثورة السورية بوحشية، وارتكب جرائم فظيعة ضد الشعب السوري، وتسبب في خراب البلد ودماره. حدث اللقاء بحضور ابنه الكاتب فارس الذهبي في فندق ريجنسي، حيث كان الشاعر نوري الجراح مقيماً فيه أثناء زيارة قصيرة له إلى العاصمة الأردنية، وكان خامسنا المخرج المسرحي الأردني نبيل الخطيب.

وبعد أسبوع زرت الذهبي، رفقة الخطيب أيضاً، في شقة استأجرها قرب الدوار الثاني في جبل عمّان، ثم صرنا نتواصل عبر الهاتف والماسنجر، وأخذت أدعوه للإسهام في بعض الملفات والاستفتاءات التي كنت أعدّها لمجلة “الجديد”. وأذكر أنه أجاب إجابةً طريفةً على أول دعوة وجهتها له تضمنت سؤالاً مفاده “ما هو الكتاب، أو الكتب الفكرية والنقدية العربية التي قرأتموها هذا العام وما تقييمكم لها؟”، حيث قال بالنصّ:

“عزيزي، قد تضحك لو أخبرتك عن عجزي عن الكتابة عمّا سألتني عنه لسبب بسيط، فأنا لا أعرف طريقة صنع صفحة للكتابة، وكان بإمكاني الاتصال بابني ليضع لي صفحة للكتابة، ولكن المؤسي هو أن القدرة على الكتابة لابني قد فشلت، فزاوية ‘الماسيج’ أو كتابة الرسائل قد ضاعت من صفحتي ولا أعرف لماذا.

اعذرني عن التشارك في الاستفتاء الذي ذكرت، رغم اهتمامي الشديد بالمشاركة. هل لديك حل ما؟ تحياتي”.

لكنه، رغم ذلك، أرسل لي بعد يومين إجابته، وكانت بعنوان “القراءة من منظور جديد”، وأظنه استعان بأحد الأصدقاء لحل المشكلة. وجاء في بدايتها “في هذا العام قرأت العديد من الكتب المتعلقة بأبي العلاء المعري. تلك الكتب فتحت لي باب الجدل الواسع في الستينات حول أبي العلاء ولوقيانوس السميساطي، منها كتاب بنت الشاطئ ‘رسالة الغفران’، وكتاب طه حسين ‘مع أبي العلاء المعري في سجنه’،”. وختم إجابته بقوله “اكتشفت أن المعري ما هو إلا ابن شرعي للوقيانوس، وهو ما أعمل عليه في كتابي القادم ‘فانتازيا ما وراء الموت’،”

وفي ملف حول الرواية والتاريخ دعوته للمشاركة فيه، كتب الذهبي مقالاً ثرياً بعنوان “فعل مضاد للتاريخ: الرواية حينما تكتب التاريخ وعن التاريخ حينما يصبح رواية”، نُشر في العدد (60)، يناير/كانون الثاني 2020، وجاء فيه “إن الرواية التي تستلهم التاريخ، إذ تستعير التاريخ، لا تفعل ذلك للاحتماء خلفه من أجل تمرير مقولات مّا يمكن إسقاطها على الراهن، بل هي تفعل ذلك لاستقراء ملامح التشابه العميق في سلوكيات القمع، تماماً كما في أحزان المقموعين، وهي في خلال ذلك كله قراءة روح الثقافة بصفتها أداة المقاومة الأبرز على مدار التاريخ العربي وما حفل به من أحداث شديدة السواد، موغلةً في الظلم والعسف. هنا تقدم الرواية الموازية للتاريخ أهم ما في فن الرواية وأجدره بالملاحظة، وأعني بنية الأبطال والشخصيات، الذين لا يهمنا بعد ذلك أنهم من نسيج الخيال، لأن حضورهم الآسر بتلك القوّة الجذابة من الإقناع، ينجح في استدراجنا إلى قبولهم ومحاولة التعايش معهم باعتبارهم جزءاً من وعينا الراهن في زماننا الراهن، ولعل هذه المسألة بالذات جوهر فكرة العودة إلى التاريخ لكتابة رواية، حتى وإن جاءت هذه العودة، من بوابة التصور الفانتازي وما يشتمل عليه هذا التصور من إقصاء مقصود، جميل ومبرر، للزمان حيناً، وللأمكنة المتنقلة أحياناً أخرى، خصوصاً وقد قدم الكاتب هذا النسيج الروائي كله من خلال معرفة صافية تشير إلى وعي الزمان في عتباته وتحولاته، وكيفيات تلك التحولات وأسبابها. وأنا في كتابة الرواية المستلهمة من التاريخ أخالف ‘العادة’ الأدبية السائدة في كتابة الروايات التاريخية، والتي تقوم على إعلان الكاتب منذ الصفحة الأولى لروايته أنه عثر على ‘مخطوطة قديمة’، تتحدث عن وقائع قديمة، وأن دوره يكمن فقط في نقل وقائع ونصوص تلك المخطوطات للقارئ، وهي الذريعة الفنية التي لجأ ويلجأ إليها عدد كبير من كتّاب الرواية التاريخية هذه الأيام، في محاولة لإضفاء الصدقية على أحداث صنعتها مخيّلاتهم الروائية في حين عمدت – منذ البداية- إلى استحضار التاريخ وزجّه في أتون المخيّلة الأدبية، ودفع المخيلة إلى مناوشته واستعصاء احتمالاته وتفاصيله”.

وفي ملف آخر عن “الشخصية الروائية: واقعها وحدودها وأنماطها”، نُشر في العدد 73 فبراير/ شباط 2021، كتب الذهبي رؤيته الخاصة لها، مبيناً أن “الشخصية الروائية معتدة بنفسها وباختلافها، وتمييزها، لا تشبه غيرها أبداً رغم أنها تبدو للوهلة الأولى مندمجة في محيطها بشكل كامل، تلك هي الشخصيات الأصعب، أما الشخصيات الروائية التي تنتج عن تلاقي الأضداد فهي سهلة وواضحة، رغم جاذبيتها أحياناً إن كان خالقها فناناً في نحت تفاصيلها، فمثلاً أن تُلقي رجلاً كحولياً في مجتمع متدين، أو أن تضع صبيا ملتزما بتعاليم دينية في مجتمع نسائي منفتح.. ذلك التناقض سيخلق حكايةً، وتلك الحكاية ستكون غايةً في الطرافة، ولكن ليست تلك هي الشخصية الروائية التي أبحث عنها.

فالشخصية الروائية تحرص على التخفي، وعلى عدم إظهار نفسها، متحفظة، وتمتلك من الخفر ما تملك، حذرة، عنيفة، يقظة، الشخصية الروائية لا ترغب مطلقاً في روي قصتها، بل ينبغي عليك أن تنتزع حكاياتها منها بهدوء وإقناع، هي تدرك اختلافها وهي غير مسرورة به، فجميع البشر يرغبون في النهاية في أن يكونوا متماثلين مع غيرهم، البشر العاديون يحبون الذوبان في المجموعة، ويخشون المنابر والأضواء لأنهم مشغولون بحلحلة مشاكلهم و قضاياهم الحياتية الكبيرة…

هذا الالتقاط لا يعني أبداً أن الكاتب يلتقط شخوصه ويرمي بها في رواياته دون بذل أيّ جهد، بل على العكس، فالعمل الحقيقي يبدأ من ها هنا، من لحظة رمي الشخصيات على طاولة العمل، وتشريحها وتزويدها بكمّ هائل من الأفكار التي تدور برأس الروائي، ولكن على لسان وبسلوكيات وحركات ومنطق تلك الشخصيات التي التقطتها… كتابة الرواية هي فعل يشابه فعل البناء الروتيني اليومي لمنزل كبير، كل يوم نرفع فيه سنتيمترات قليلة حتى ينتهي، والشخصيات الروائية هي أفكار وهواجس وتهويمات يعيشها الكاتب في وعيه وفي لاوعيه… في عقله الباطن ربما، يحشو بها الشخصيات التي وجدها متناسبةً مع أفكاره، وما يظنه مناسباً كي يقترب من الناس.. ولا يظنن أحد أبداً أن هنالك شخصيات في أيّ رواية في العالم هي ليست شخصيات كان قد رآها مسبقاً كاتبها في مكان مّا، حتى في روايات الواقعية السحرية والخيال العلمي والتاريخ المختلق، الكاتب خالق ولكل خالق أدواته، وتلك هي أدواتنا… يمكنك أن ترفع صروحاً من خيال، ولكن دون حجر أساس واقعي، تلتقطه من مكان ما حولك، فذلك مستحيل..”.

خيري الذهبي أسيراً

وقع العديد من الأدباء العرب أسرى في قبضة العدو، إبان أدائهم الخدمة العسكرية في الحروب، أو خلال اشتراكهم في مقاومة الاحتلال، خاصةً الفلسطينيين والمصريين والسوريين والعراقيين، وعاشوا تجارب قاسيةً وظروفاً سيئةً قاهرةً في السجون والمعتقلات وأقفاص الأسرى، وكتبوا عنها يوميات أو أعمالاً إبداعية، بعد إطلاق سراحهم أو أثناء وجودهم داخل الزنازين وخلف القضبان، وهرّبوها إلى الخارج، نذكر منهم، تمثيلاً لا حصراً: الروائي والقاص وليد الهودلي، الروائي والقاص والشاعر هيثم جابر، الروائي والشاعر باسم خندقجي، الكاتب والشاعر كميل أبوحنيش، الكاتب والروائي وليد دقة، الروائي أسامة الأشقر، حسن عبدالله، الشاعر المتوكل طه، الروائي أيمن ربحي الشرباتي،  الروائي شعبان حسونة، الروائي محمد حسين يونس، الروائي عمّار الزين (من فلسطين)، الروائي والقاص فؤاد حجازي (من مصر)، القاص والروائي عبدالجبار ناصر حسين، الروائي والناقد علي عزيز العبيدي، القاص والروائي علي عباس خفيف، الروائي علي حداد، الروائي إبراهيم الزيبق، الروائي محمود كاظم التميمي (من العراق)، والروائي السوري خيري الذهبي. وقد أُطلق على كتاباتهم التي تحكي عن الأسر “أدب الأسرى”، وهو “أدب الندرة والأسرار والمكاشفة، وبيان ما هو مستبطن داخل أمكنة مستبطنة هي السجون والمعتقلات”، كما يقول الروائي الفلسطيني حسن حميد.

لم تكن تربطني علاقة شخصية إلاّ بثلاثة من هؤلاء الأدباء هم خيري الذهبي، عبدالجبار ناصر حسين، المتوكل طه، وأجد في رحيل الأول ما يدعوني إلى الكتابة عن اعتقاله من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، وتجربة أسره في أحد المعتقلات قرب مدينة حيفا، حينما كان ضابط احتياط في قوّات حفظ السلام عن الجيش السوري، كونه يتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، على الحدود بين سوريا والكيان المحتل في حرب تشرين 1973، إضافةً إلى ما أسلفت عن علاقتي الشخصية به. وقد سرد الذهبي وقائع اعتقاله وأسره في كتاب “من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل” الذي فاز به بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، مشروع “ارتياد الآفاق” عن فئة اليوميات، التي يشرف عليها المركز العربي للأدب الجغرافي عام 2019، وصدر عن منشورات المتوسط.

يدور جزء من اليوميات في الأرض السورية، والجزء الآخر في فلسطين المحتلة، وهو الجزء الذي يعنينا هنا، ويروي قصّة اعتقاله،  بتهمة أنه ضابط مخابرات، في كثير من صور وحوادث التحقيق والتعذيب، ويشرح كيف حاول المحقِّقون تجنيده جاسوسًا، أو في الأقلّ استغلال كونه كاتبًا ومثقّفًا كي يكون وسيطاً مع النظام السوريّ، وتفاصيل مهمّة كثيرة، من بينها تخلّي الأمم المتحدة عنه، وهو أحد أفرادها، وكذلك تخلّي النظام السوري، في وقت كان يمكن مبادلته بأسرى إسرائيليّين لدى سوريا.

ومن بين ما يرويه الذهبي قصة إضراب الأسرى عن الطعام، للمطالبة بإدخال الصحف وتبادل الرسائل مع ذويهم، ويتحدث عن زيارة المطران “كبوشي” التي انتهت بتقبيله، بعدما أخبرهم بأنه حلبي المولد، وأنه يعتبرهم بمنزلة بذور القمح، التي طمرت بالوحل لتنتج السنابل.

ومن المواقف المهمّة التي يتطرق إليها ذلك الموقف الذي يحذّره فيه ضابط المخابرات الإسرائيليّ الجنرال “نهاري”، الذي يتولّى التحقيق معه، من مغبّة الاستمرار في عدائه لإسرائيل، قائلاً إنه، أي الذهبي، لو احتفظ بكل هذه الكراهية ضد إسرائيل، فسيعاني كثيرًا في حياته، ليس على يد الإسرائيلّيين، بل على يد حكومته نفسها! ثم يؤكد له “نحن لن نعاقبك هنا في إسرائيل، ولكنهم حكامك ورؤساؤك من سيحاكمونك ويعاقبونك بالنيابة عنا.. ستعاني كثيراً إن ظللت معادياً للإسرائيليين”.

كما يتحدث عن الشيخ “محمد علي الجعري”، الذي جاءت به إدارة السجن لتعليم المعتقلين أمور دينهم، وهو في الحقيقة عميل للاحتلال يحرّف النصوص الدينية لمصلحة إسرائيل، وقد انتهت مقابلته برميه بالأحذية لأنه نصحهم بمحاباة السجان، ثم يتطرق إلى الضغط الذي مورس عليه، بشكل أو بآخر، ليكون رسول سلام، حسب وصف “غيدو” أو “جدعون”، الأستاذ في جامعة هداسا، الذي التقاه في السجن، لكن الذهبي تنصّل عن هذه المهمة التي “لن تسمّى بأقل من الخيانة”. وكان أغرب ما في هذا اللقاء اعتذار “غيدو” من خيري لأنه لم يقرأ بعد النسخة التي يحتفظ بها عن كتابه “بين تجربة التصنيع الزراعي في شمال سوريا والكيبوتز الإسرائيلي في فلسطين”،  إذ كيف وصل الكتاب المفقود إليه؟ ويكشف الذهبي أن أسئلة المحققين معه كانت تصبّ حول مدى معرفته للغة العبرية، وما رأي الشباب المثقف في سوريا بدولة إسرائيل؟ وحين يغلق باب الحوار، وتقتصر إجاباته على اسمه ورتبته العسكرية وموقعه في قوات الطوارئ الدولية، يُتهم بالعمالة للمخابرات السورية، بناء على اعتراف أحد الأسرى بذلك بعد تعرضه للتعذيب. وبدوره يتعرض الذهبي للتعذيب، وينفي التهمة عنه، ثم يُنقل إلى سجن مجدو حيث بقية الأسرى العسكريين، وحيث يصف المكان والحياة بانتظار لحظة الحرية، بدءًا من الكيس الأسود على الرأس، والقيد البلاستيكي على الرسغين أثناء الانتقال، حتى الأحلام التي تغدو الصلة الوحيدة بالعالم الخارجي.

وكما بدأت يوميات خيري الذهبي بالعودة إلى الوطن بعد تخرجه في الجامعة، تنتهي بالرجوع إليه بعد عشرة أشهر خلال صفقة تبادل أسرى، وفي الطائرة المتجهة إلى دمشق يشعر بالتوجس وهو يتذكر تحذير ضابط المخابرات الإسرائيلي له أثناء التحقيق.

كاتب من العراق

—————————–

المعرفي لا الأيديولوجي/ خلدون الشمعة

في الساعة الخامسة والعشرين من تاريخنا السوري مازلت أردد بشهيقي وزفيري اليومي أن ثنائية المواجهة بين الأيديولوجي والمعرفي مازالت تطوّح بنا عائمين ببلبال الأمر الواقع. هذا البلبال يجتاحني كلما فكرت في صديقي خيري الذهبي (1946 – 2022) الذي أسهمتُ في فوزه بجائزة ابن بطوطة عن كتابه “من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل” الذي سجل فيه وقائع وقوعه في الأسر الإسرائيلي عندما كان عضواً في الوفد السوري للرقابة على الهدنة في مرتفعات الجولان.

لماذا أتوقف عند هذا الكتاب؟ ليس لأنه آخر ما أنجزه الفقيد فقط، وإنما لأنه يذكرني بأني كنت قبله بشهور عضواً في الوفد الانتحاري نفسه المؤلف من 12 عضواً، وإنني كلفت آنذاك بالتحقق من أن الإسرائيليين بعد حرب 1973 لم يتقدموا في جبل الشيخ أكثر مما فعلوه عند إعلان حافظ الأسد سقوط الجولان قبل أن تسقط! آنذاك أرغمني ضابط كندي برتبة نقيب يمثل الأمم المتحدة على وضع خوذة معدنية زرقاء عليها شارة الأمم المتحدة مكتفيا بوضع سدارة قطنية تحمل العلامات نفسها، لأنه حسب قوله “لا أريد أن أحمل جثتك إلى القبر”.

لدى لقائنا في الدار البيضاء، بعد عقود على آخر لقاء لنا في دمشق قبل مغادرتي في مطلع الثمانينات إلى لندن في مناسبة تسليم خيري الذهبي جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات، دار حوار بين منفيّين من الجنة السورية. لم أكن للأسف الشديد قد أتيحت لي قراءة روايات خيري، بل اطلعت على بعض دراساته وكتاباته غير الروائية، لأتوقف عند بحثه عن روائي سوري مغمور اسمه فارس زرزور. كان الأخير مؤسساً للرواية السورية شديد الفقر حد الإملاق. ولكن خيري، الذي سجل وقائع هذا الفقر غير المبرر، أثار في نفسي حوار طرفي الثنائية آنفة الذكر، ثنائية مجابهة مفترضة بين الأيديولوجيا والمعرفة.

خياري وخيار الذهبي انتصر للمعرفة على حساب الأيديولوجيا. لم نكن أيديولوجيين بل معرفيين. الأيديولوجيا كانت تعني لكل منا الاطمئنان للاستبداد، والمعرفة خوف ينتمي إلى ساحة الشعور باقتراب خطر، أو ألم محتمل.

في شهيق وزفير كل منا يتحول الخوف إلى خَواف (فوبيا). الفوبيا في جوهرها خوف غير عقلاني، شعور ملح ومستمر بخوف مقيم. الخوف حالة وجودية مسيطرة يتجاوز فيها المرء حد الألم إلى مجابهة الشرّ، مجابهة الإعصار، أو العاصفة في عينها، شاء الشهيق أم لم يشأ الزفير. ليس الخوف هنا بالنسبة إلى كلينا عصاباً أو حالة فردية أو مفردة شأن الفرد في ليبرالية بلد مفتوح على العالم، بل وضع محاصر، غَلْقَةٌ محكمة الإغلاق.

كان خيري الذهبي، منجز ما ينوف على عشرين كتاباً، والذي التحق بنا نحن المنفيين مع قيام الثورة السورية ليودع الحياة في باريس، يؤثر خوف الفوبيا على اطمئنان الأيديولوجيا. وكان كل منا عائما بلا أجنحة في ليل نسيان منفي طويل، الأول في دمشق المحتلة والثاني في لندن البعيدة.

ناقد من سوريا مقيم في لندن

——————

كينونة الدمشقي/ يوسف وقّاص

من البديهي أن تكون دمشق في قلوبنا جميعاً، إذ أنها كانت دائماً مآلنا وقمة ما نطمح إليه من آمال وأحلام. إلا أن دمشق تحولت على يد كاتبنا الكبير خيري الذهبي إلى شيء أكبر وأبعد من هذا كله، حتى أنها بدت تماثل الأسطورة وتتجاوزها في الكثير من الأحايين. فإذا كانت البيوت الشامية “قارورة من الياسمين” كما كان يسميها نزار قباني مجازاً، فلا شك بأن خيري الذهبي كان أول من اخترق مكنوناتها الحقيقية وقدم لنا ما يشدنا ويربطنا إليها دون أن نعرف من أين وكيف تنبع هذه الجاذبية الساحقة. فمن اللهجة، إلى النباهة والرقة، وفوق كل شيء إلى تلك العادات الحميمة التي تشعرك بالوقار أمام عظمتها وتقاليدها الراسخة في الزمن، تمكّن عبر رواياته أن يرسم لنا كل خفاياها وملامحها، وإن بدت أحياناً ملتبسة، مثل شبابيكها التي لا تنفتح على مدى ضوئي مديد. وما خطته السنين، جعله كاتبنا الكبير متواتراً يلج القلب دون أيّ وساطة. فأنت هنا أمام مقاربة تحتفي بحياة أقدم مدينة في العالم وبأناس حالما تسمع لهجتهم الرقيقة، يقفز بك الخيال إلى أسلوب حياة تتلهف إلى أدق تفاصيلها، والتوقف مطولاً أمام أسماء أطباقها الغريبة التي تشي بنوع من الغموض المحبب، لتحقق بالتالي انفلات خيالنا ومتعة الاندماج في عالم لم نشك أبداً أنه بعيد عنا. فهي منذ البداية، أي عندما كنا نصل متعبين إلى ساحة المرجة، في إجازة أو رحلة قصيرة إلى العاصمة، كنا لا نعرف من أين نبدأ، فسحرها سرعان ما يأخذ بتلابيبنا ويطغى على أفئدتنا، ومن كان يرجع إلى البلد دون علبة “برازق”، فكأنه لم يزر “الشام”، بل ارتكب خطأ لا يغتفر.

في تعاقب جمع بين السرد ورصد الواقع السوري القديم والمعاصر، بقيت أصابع خيري الذهبي مغموسة في الحبر لتؤرخ لنا سطراً في الأبدية، وتستعيد ما افتقدناه منذ عقود الهمجية عبر صفحات رواياته وكتاباته الصحفية. فهكذا من عاهد الكلمة وشرّع لها أبواب الضمير في عالم انحسرت فيه القيم واندثرت كل المعايير دون أن تترك حتى فسحة صغيرة للمجتمع المدني. هنا جسد احتضنه التراب، وهناك، أي بين أضلعنا وشفاهنا تراث يستمر في العطاء، لأجيال وأجيال ليظل يروي بغيابه الحاضر مأساتنا أو فلنقل حيواتنا التي هي امتداد لنبض حياته. يرحل الجسد وتبقى الكلمة عنواناً لكينونة جديدة. ينتظم في هذا النسق الوعي الجمعي، حتى لدى أولئك الذين لم يقرؤوا له حرفاً، فهم بفطرتهم يعرفون تماماً أن هناك من كتب حكاياتهم ورسم بكلماته ما كابدوه خلال فترة أشبه ما تكون بكابوس لم يتمكنوا بعد من استيعاب فظاعته المهولة.

• ميلانو 15-07-2022

روائي سوري يكتب بالإيطالية

—————————-

===============

————————————

الجنون ودمشق في القرن العشرين: ذكريات روائي/ محمد تركي الربيعو

في سياق حديثه عن إنثروبولوجيا المجتمعات المسلمة، لاحظ أرنست غلنر، أنه مع تشكّل الدولة القومية في العالم الإسلامي، كان الإسلام الطرقي يعلن عن تراجعه وهزيمته لصالح الإسلام السلفي/الإصلاحي، أو الإسلام العقلاني، كما يحلو للبعض قوله. وفي سياق تفسيره لهذا التحول، وجد غلنر أنّ مجال الدولة القومية لم يعد يتيح للصوفيين أداء وظائفهم الاجتماعية، وبالأخص على صعيد التوسط في النزاعات والأسواق، وهي وظائف ستتراجع مع قدوم موظفي مؤسسات الدولة.

أثبتت هذه الرؤية لاحقا عدم دقتها في تفاصيل عديدة. فعلى صعيد دمشق، سيلاحظ باحثون إنثروبولوجيون أنّ الطرق الصوفية في دمشق لم تتراجع، بالعكس نرى أنّ دورها الاجتماعي قد تصاعد مع الستينيات، سواء على مستوى الحياة الاجتماعية، أو الدينية، وحتى على مستوى الخدمات التي بقيت تقدّمها هذه الجماعات حتى يومنا هذا. ويكمن الإشكال في أنّ هذا التفسير، غلنر لن يقف عند هذا الحد، وإنما سنرى أنّ صورة العقلانية هذه ستطبع سلوك وقيم أهالي هذه المدن، فهم وفق هذه الصورة ليسوا سوى أصحاب محال ودكاكين. وهذا ما نراه مثلا في سردية اليسار السوري المقبل من الأرياف حول مدينة دمشق، فوفقا لسردياتهم فإنّ أهالي هذه المدينة ليسوا رواد مشاريع فكرية أو اهتمامات ثقافية، بل هم أصحاب مصالح وتجارة، ومحافظين تقليديين، لا يرون في الدين سوى طريق لتبرير مصالحهم. وهذا ما يلمّح إليه بالمناسبة سامي زبيدة في كتابه حول الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي، إذ يرى أنّ الفقه في الإسلام لم يتطور سوى في المدينة، جراء مطالب السوق ومعاملاته، ولذلك نرى أنّ مدينة دمشق وفقا للتفسير الجديد هي مدينة عقلانية، تسودها علاقات المصلحة وقيم السوق، وأهلها أصحاب أخلاق بروتستانتية (في إشارة لتساهلهم في قضايا الدين لصالح التجارة) ولذلك لم تتمكن (وفق سردية بعض المثقفين) من إنجاب مثقفين كبار. مع أنّ الباحث في تاريخ الأفكار في سوريا، سيلاحظ أنه خلافا لذلك، كانت دمشق في العقود الأخيرة شاهدة على بروز عدد من المثقفين المهمين، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، نجاة قصاب حسن وفواز حداد. وبالتالي فإنّ المدينة، وخلافا للصورة والسردية الدرامية عنها، كان أهلها أيضا مشغولين بعيد الخمسينيات بسؤال الثقافة والهوية والأفكار.

الجنون مدخلا آخر لدمشق

لكن رغم هذه الصورة الأخرى لدمشق، بوصف أهلها مشغولين بالأفكار والقيم وليس التجارة حسب، فإننا ربما لا نعثر على قراءة لهذا الجانب، وبالأخص في العقود الأخيرة. وإنما ستبقى صورة الأسواق وقيمه هي الطاغية أثناء تخيل صورتها. وربما سننتظر لسنوات طويلة، ليأتي لاحقا أحد مثقفي/حكواتي المدينة، ويعيد الاعتبار من جديد لمدينة بوصفها مدينة اللاعقلانية، خلافا للمدينة العقلانية التي حاولت الدولة القومية وبعض المثقفين رسمها عنها. هذا الحكواتي (والحكواتي هو مثقف مدن القرن التاسع عشر) هو الروائي السوري الراحل خيري الذهبي، إذ سيعمل قبل وفاته على عدد من المشاريع التي سترسم صورة عن دمشق بوصفها مدينة الجنون واللاعقلانية (الخيال الإيجابي). وهي مدينة لا يمكن اكتشاف مفاتيحها من خلال عدسات ماركس وماكس فيبر، بل تتطلب معرفة وأدوات أخرى قادرة على قراءة ليالي ألف ليلة وليلة الشامية، وعالمها المخفي والعجيب.

وسنعثر على هذا الطرح في أعماله الأخيرة (الجنرال والمكتبة السرية، رواية/ مذكرات الجنة المفقودة، التدرب على الرعب/الطبعة الثانية). إذ سيلاحظ القارئ في هذه الأعمال، أنّ شخصية المجنون وقصص العفاريت، ستحضر في أكثر من فصل، وبالأخص العملين الأولين. ففي روايته الجنرال والمكتبة السرية، يظهر الجنون تارة مرتبطا بالزواج، وتارة أخرى يتوزّع المجانين هنا وهناك في بيادر الرواية. وحتى عندما تختفي، تظهر عوالم الجنون واللاعقلانية من خلال سرداب المكتبة الذي سيقوده إلى «غرفة تحوي طاولة كبيرة، وقد أحيطت بالكراسي مملوكية الطراز، وعلى هذه الكراسي كانت هناك هياكل عظمية تضع العمائم والخوذات، وتتكئ جميعها بأكواعها على الطاولة». وفي هذا المشهد الذي يبدو غريبا وعجيبا أمام هياكل المماليك (أبطال الصوفية في دمشق) سيكتشف بطل الرواية (ابن الشيخ) أنه آخر اليازجيين الحافظين لقصص وأسرار المدينة؛ «أنا ابن الشيخ محيي الدين اليازجي». ولعلها إشارة إلى محيي الدين بن عربي، العالم الصوفي الذي دفن على أحد سفوح جبل قاسيون في دمشق، ليبقى دليلا على أنّ للمدينة تراثا فكريا وثقافيا عميقين.

سيتعمّق هذا الحضور للجنون (أو العالم اللاعقلاني في قصصه) أكثر مع عمله الآخر «الجنة المفقودة» الذي صدر تحت صنف رواية، وإن كان يحلو لنا القول إنها أقرب للسيرة الذاتية التي تتناول ذكرياته عن أحياء دمشق وقصص أهلها وحكاياتهم منذ الخمسينيات، وفي كل الأحوال، سيحدّثنا في هذا النص عن ولع الدمشقيين في الاستماع للقصص مثل، قصة سليمان والنملة، وعن عالم السيارين (الرحلات إلى بساتينها). وهي رحلات ربما تمثّل امتدادا لتقليد قديم عرفته المدينة وعبّرت عنه سيارين الشيخ الصوفي عبد الغني النابلسي وتلامذته في القرن الثامن عشر. وهي سيارين لم تكن تقتصر على بضع ساعات، بل عدة أيام، يقومون خلالها بالتنسّك، بينما يعمل مريدو النابلسي من التجار على زيارته مصطحبين أكياسا من القهوة، لتعينهم على السهر والتعبد. وربما بقي هذا التقليد سائدا، مع تغيّر شكله وأهدافه في يوميات النصف الثاني من القرن العشرين، التي عاشها الذهبي. مع ذلك ظلت بعض جذور هذا التقليد ماثلة من خلال عبارة دارجة «السير هو للروحنة».

كما يظهر عالم الجنون واللاعقلاني وقصصه لدى الذهبي في مكان آخر، عندما يروي لنا قصص الدمشقيين عن العفاريت في الخمسينيات والستينيات. فدمشق، ورغم أفكار العروبة واليسار المقبلة لاقتلاع البدع والأساطير، نراها هنا ما تزال تقاوم ومحتفظة بهذه الأساطير. وهذا ما نراه في قصة العجان أبو الخير، العامل في أحد أفران حي القنوات (أحد الأحياء القديمة في دمشق) إذ تقول إحدى القصص إنّه في أحد الأيام مضى إلى الدرويشية (مسجد وزاوية صوفية) ومنها انحرف إلى حارة أخرى، وسأترك القارئ هنا أمام الحكاية كما يرويها الذهبي «وهناكم شاهد قردا أسود صغيرا، أعجب به فحمله على رقبته، لكن القرد حاول التملص ونزل إلى الأرض.. نزل ليكلم أبا الخير، قال القرد لأبي الخير يطلب التحرير: اطلب وتمن؟ فقال أبو الخير: أريد ما يريحني من عمل الفرن، فقال القرد: لك ما تريد، وأعطاه كيسا كبيرا مملوءا بالذهب، ولما حاول القرد المضي، طمع أبو الخير وأمسكه، فتحول القرد إلى تيس صغير، فتكلم التيس قائلا: أنا الجنية الجميلة، إن أطلقتني فسأكون لك، فرح أبو الخير وحمل التيس.. ومضى إلى البيت مع كيس ذهبه، وحينما استيقظ في اليوم التالي، فتح الكيس فهربت منه الجنية، ليكتشف أنّ الكيس مملوء بقشر البصل أصفر اللون، ففقد عقله، ويقول أهل الخير في الحي: إنّ الجنية تلبّسته، وهي لا تزال تعيش معه، في بيته في آخر «زقاق مطرح ما ضيع القرد ابنه».

الجنون والمدن

وكما هو واضح، نحن أمام حكاية من حكايا ألف ليلة وليلة. لكن اللافت أنّ الحديث عن عالم الجنيات، لا نسمعه هذه المرة من روائي قادم من الريف أو المدن السورية الصغيرة، الذين عادة ما تفاخر أولادها بإرث جداتهم حول قصص العفاريت (السعلوات) وإنما نرى أنّ الذهبي ابن دمشق (العقلانية) عارفا بها. وقد يقول قائل إنها من صنع خياله الأدبي، لكن، حتى لو كان ذلك، فإنّ الخيال لا يمكن أن يتفتّق من العدم، بل لا بد من صور وحكايا أولية تسمح له بالولادة. ولعل هذه الصور الأولية في حالة الذهبي، هي عبارة عن عشرات القصص التي سمعها في طفولته وشبابه، وهي قصص تكشف أنّ خلف أسواق دمشق ومعاملاتها العقلانية اليومية، كان تختفي آلاف الحكايا عن العفاريت والعشاق والمتصوفة الذين يحمون أهل المدينة. لكن يبقى هنا سؤال وهو لماذا يقرّر الذهبي اللجوء إلى عالم الجنون واللاعقلاني للحديث عن مدينته؟

الراحل خيري الذهبي

تلاحظ الأستاذة وين جين أويان في كتابها «سياسة الحنين واتجاهاته في الرواية العربية» أنّ موضوع الجنون كان حاضرا في الرواية العربية، خاصة أنه يخبرنا عن الخبرات المعيشة التي مرت بها الأمة ـ الدولة، فالجنون في رواية «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ يمثّل دور الثورة ضد القوانين المرعية. وبما أنّ العقلاء يدون مترديين أمام الظواهر الثقافية والاجتماعية، يمكن للمجنون إشهار أسلوبه في رؤية الأشياء. ولعل هذه الملاحظة تنطبق قليلا على نوايا الذهبي في روايته ـ المكتبة السرية، فالحفيد لا يرى من حلّ في مواجهة الجنرال الذي يرغب بتدمير مكتب أجداده (تراث المدينة) سوى بالاستعانة بكرامات جده الصوفي (المجنون المقدس/أو المفكر اللاعقلاني وفق التعبيرات الحداثية) من أجل حمايته والدفاع عن المدينة. مع ذلك نعتقد أنّ مشروع الذهبي في إيقاظ مجانين المدينة وعفاريتها وحكاياها العجيبة لا يرتبط فقط بالحرب في سوريا، بل يأتي في سياق مشروع أوسع يتعلق بصورة دمشق وأهلها ومستقبلها أيضا، فقصة العجان مع الجنية لا تحتوي على حمولة ثورية، بل على عبرة اجتماعية وأخلاقية.

يبدو أن الذهبي كان يطمح من خلال إحياء هذه القصص وروايتها إلى خلق صورة أخرى عن المدينة وأهلها، أو ربما لإحياء خيال الدمشقيين. فهم، وكما تقول بعض الروايات، وافقوا بعد الثمانينيات على عهدة مع النظام السياسي تضمن لهم النشاط الاقتصادي والديني النائم/البعيد عن السياسة. وهذا ما انعكس على حياتهم وسلوكياتهم لعقود طويلة، قبل أن تأتي أحداث 2011، لتكشف عن جيل آخر من الدمشقيين يطالبون بالتغيير من الجامع الأموي، إلا أن الواقع سيجبرهم على التراجع والعودة للقواعد التقليدية، وهذا أمر مبرر ومفهوم. وهنا يظهر مشروع الذهبي في استعادة حكايا المدينة اللاعقلانية مشروعا بديلا، فقصص المجانين والعفاريت والمتصوفة هي نصوص رمزية مفتوحة دون منازع، وهي القادرة على توريط القارئ وأهل المدينة مرة تلو الأخرى على التخيل، ودونها يعني الموت الرمزي للدمشقيين (أداء دور التاجر فقط على مسرح الحياة اليومية/واستعير هنا مفهوم المسرح من أرفنغ غوفمان).

ولعل ما يدعم هذا الاستنتاج حول إحياء الجنون والتراثي في مشروع الذهبي، ما يذكره في إحدى مقالاته المنشورة عن إدوارد خراط. إذ يؤكد أنّ الأخير أسّس لفتح جديد في الرواية، من خلال نسف البناء الميكانيكي للرواية التي بناها كتّاب سوفييت، عندما حولوا العالم إلى قطبين مستغِل ومستغَل، أو (عقلاني أو لا عقلاني/ كاتب المقال) فأضاعوا الأدب، ولذلك نرى خراط يضمّن التراث في رواياته، سواء كان تراثا شعبيا (ألف ليلة وليلة) أو تراثا كلاسيكيا، مع حضور التراث الإنساني عامة. وسيبدو هذا الأسلوب واضحا في الأعمال السابقة للذهبي على أقل تقدير. إذ يكفي أن نقرأ صفحة فهرس كتابه التدرب على الرعب/ الطبعة الثانية الصادرة قبل أشهر قليلة، لنعثر عن عناوين ذات دلالة حكائية؛ مثل قصة «واعظ الشيطان» و»طائر الوقواق» و»حلاق المدينة» و»جوارب القراصنة في أحد بوتيكات دمشق» وغيرها من حكايا لا عقلانية أو لنقل عجيبة ومجنونة. وهي قصص حرص على قصها علينا مرار وتكرارا، لنكتشف معه أنّ دمشق وأهلها ليسوا أبناء سوق فقط، بل أصحاب إرث عجيب وغريب ولا عقلاني، وفي قراءة هذا الإرث وإعادة قراءته يمكن إعادة إحياء صورة المدينة وقيمها مرة أخرى، في زمن ألف مصيبة ومصيبة.

كاتب سوري

القدس العربي

————————–

حوارات الراحل “خيري الذهبي” مرتبة حسب تاريخ نشرها

————————–

خيري الذهبي: المكان هو الذي يختار الكاتب بقوانينه الخاصة

تهامة الجندي

دمشق 2000

في أحياء دمشق القديمة وُلد الروائي السوري خيري الذهبي، وفي بيت شامي يحتفي بجماليات خالصة وثقافة الأسلاف، عاش سنوات عمره الأولى وتفتح وعيه. في أوائل الستينات سافر إلى مصر ليكمل دراسته الجامعية، وحصل على إجازة في الأدب العربي، وبعد عودته إلى سوريا أصدر روايته الأولى “ملكوت البسطاء” عام 1974، وكان تأثره فيها واضحًا بمدارس الغرب الأدبية، إلَّا أنه مع روايته الثالثة “ليالي عربية” عام 1980 بدأ يسعى نحو خصوصية إبداعية ذات هوية عربية واضحة الملامح، نمت وتطورت مع ثلاثيته الأخيرة “تحولات”، حيث نلاحظ دلالات المكان والعلاقة مع الزمن وسير الشخصيات كأسس تخالف المفهوم الغربي للرواية، وتحمل خصوصية محلية تستمد جذورها من آليات القص المتداولة عبر التاريخ.

حول تجربته الإبداعية الخصبة كان لنا هذا الحوار:

*في ثلاثيتكَ الأخيرة “تحولات” ينهض المكان كقيمة دلالية، وكعنصر أساسي في البنية النصية العامة، كفضاء إيحائي متعدد المستويات، أو كذاكرة تفرز سير الشخوص والأحداث. فماذا تحدثنا عن مؤثرات المكان في التكوين العام للكاتب، وكيف تتجلى هذه المؤثرات في العملية الإبداعية؟

**ما الذي يدفع الكاتب لأن يختار هذا المكان أو ذاك كي يكون مسرحًا لأحداثه؟ هل الأمر انتقائيًا، أم أن ثمة قوانين خاصة تفرض نفسها على الكاتب؟ أعتقد أنه أمر يفرض نفسه بقوانينه الخاصة، وحين أفكر بتأثير المكان على الكاتب نفسه، أتذكر دومًا مقولة الروائي الكبير نجيب محفوظ حين سُئل مرة: كيف استطعتَ هذه الهندسة الرائعة والمحكمة لروايتك؟ فقال ببساطة وتواضع: “لا تنسى أني حفيد أولئك المهندسين العظام الذين صنعوا الأهرامات”. فرجل كنجيب محفوظ يتنقل يوميًا بين المساجد المملوكية والخانقاهات الأيوبية والآثار الفرعونية, هل يمكنه ألا يتأثر بهذه العمارة المعقدة؟ في المقابل لاحظتُ منذ فترة أن بعضًا من كتابنا السوريين أبناء المنطقة الشرقية، كيف يكتبون أعمالهم الروائية، لاحظتُ أن المناطق الشرقية كانت بدوية إلى وقت قريب، وأن البدوي يسكن عادة في الخيمة المؤلفة من شق للرجال وآخر للنساء، وبهو فُتحت جبهته الأمامية للفضاء يُستخدم للقيلولة والضيافة. هذا البدوي حين تحضَّر وبنى بيتًا من الإسمنت فقد بناه تمامًا كخيمة، وهذا الرجل نفسه حين بدأ يكتب الرواية أخذ ينتقي الشخصيات الجميلة واللغة الرائعة، لكنه لم يستطع أن يصنع عمارة روائية، وهو يكتب قصة جميلة، ثم يضع إلى جانبها قصة جميلة أخرى، قد تتصل مع الأولى ولكن من دون أن يخلق عمارة روائية، عمارة قوطية، فبيته ليس فيه أقبية أو عليات أو دهاليز، كل شيء في بيته مكشوف ومستو، وانعكس ذلك على كتابته.

فيما يتعلق بي فليس سرًا أنني حينما جعلتُ من البيت الشامي مسرحًا لأحداث ثلاثية “التحولات” كنت أتحدث عن بيتي الشخصي. هذا البيت الذي عشتُ فيه سنواتي الأولى من العمر، ومازلت أحتفظ فيه بذكريات جميلة، البحرة والأسماك والعصافير، شجرة التين العملاقة التي لا تحمل إلَّا ثمرًا مرًا، وإذا ما رأينا فراشة قالتْ أمي هذه روح جدتي. كنا نعيش في عالم مليء بالحياة، وربما  كان هذا هو ما جعل مؤثرات المكان تبدو واضحة في رواياتي، وحين استعرضت ثلاثية “التحولات” بعد أن أنجزتها, لاحظت كيف أني قسمتُ المكان إلى ثلاثة مستويات: “الفرنكة” أو العلية (الغرفة العالية) التي عاش فيها هشام وفياض وحنان، الرجلان اللذان حافظا على المثل، ثم الطابق الحياتي “الليوان” والغرف اليومية، هذه التي عاشت فيها حسيبة وزينب ومريم وكل الناس، ثم القبو الذي قضا فيه هشام في الرواية الثالثة معظم أوقاته، فتساءلتُ إن كنتُ لم أُقسم البيت تقسيمًا فرويديًا من دون أن أعي ذلك؟ بمعنى أن الفرنكة كانت هي الـ “سوبر ايغو” عالم المثل، والبيت العادي هو الـ “إيغو” عالم الحياة الجسدية، أما هشام المحكوم بالأشباح والأجداد فقد نزل إلى القبو أو “الهو” عالم الغرائز والأحلام. طبعًا حين كنتُ أكتب الثلاثية لم أفكر على هذا النحو، لكن من قال أن كل ما نكتبه هو ما نفكر به؟

*في روايتَيّ حسيبة وهشام تحضر نماذج نسائية في غاية الأهمية، نساء متمردات يصنعن أقدارهن، وإن كانت الخيبة هي الحصاد في نهاية المطاف. فكيف تبني نماذجك النسائية، وما هي ظلالهن في حياتك الشخصية؟

**منذ روايتي الأولى التي كتبتها كنتُ أحفلُ كثيرًا بالمرأة، ولنكن أكثر صراحة، ونحن نعيش في مجتمع رغم كل ما يُذاع عنه بأن الرجال هم الحاكمون فيه، إلَّا أن الحقيقة أن النساء هن اللواتي يحكمن، خصوصًا في البيت الشامي. لقد عشتُ طفولتي كلها في بيت نسوي، الرجل فيه ضيف مهمته أن يؤدي بعض الخدمات، مجتمع نسوي كامل، وكنتُ ألاحظ هؤلاء النسوة، وأرى نضالهن ومحاولتهن للوقوف على أقدامهن في ذلك الزمن الصعب الذي كان يصر على أنه ذكوري لكنه لم يكن ذكوريًا تمامًا.

كتبتُ مرة عن شخصية خالدية، وهي المرأة التي عشقتْ وخابت، أذكر أنها كانت جارة لنا، تأتي لزيارتنا فتشرب فنجانًا من القهوة، وتدخن سيجارة لف، وتتنهد ثم تطفئ عقب سيجارتها في الفنجان، وترمي محتوياته في بلوعة البحرة وترحل، وكنت أسالُ أمي عنها، فتقول “الله يعين الناس”، ثم سمعتُ شيئًا غامضًا عن حياة عشقية عاشتها، هذه المرأة كانت البذرة لصياغة شخصية خالدية، رغم أن خالدية بتفصيلاتها الروائية ليست حقيقية.

سُئلت مرة عن كيفية صناعة الشخصية الروائية، فتحدثتُ عن بذرة نباتات الزينة، وقلتُ إنها بذرة صغيرة سوداء لا توحي بأي جمال، لكن ما إن نضعها في التراب، ونضيف إليها بعضًا من الماء وضوء الشمس، حتى نرى كيف تتحول إلى وريقات خضر وورود حمراء خارقة الجمال. هل هذه الوريقات والورود هي نفسها تلك البذرة السوداء؟ بالطبع لا، إن معظم الشخصيات الروائية قامت على هذا الأساس.

*معروف عنكَ سعة الاطلاع والثقافة، قراءتك الغزيرة باللغتين الفرنسية والإنكليزية، فكيف تقيِّم نتاجنا الثقافي المعاصر، مقارنة مع ذلك الذين أبدعته الأمم الأخرى؟

**أنا رجل أحبُ تربية العصافير المُغردة، ربما ستجدين ذلك واضحًا في رواية (فياض) حينما تحدثت عن الحسون والكناري، والحسون طائر الحرية، هو طائر حر فعلًا، ومن الصعب أن يُؤسر، ولم يُعرف عنه أنه وُجد في قفص قط. أما الكناري فهو ابن الأقفاص منذ مئات الأجيال، إنه طائر العبودية الذي لا يملك أي مبادرة أو مفاجئة، إنه يحفظ أغانيه كاملة منذ البداية. ثم تحدثت في الرواية عن عصفور يمكن أن ينتج من تهجين الحسون والكناري واسمه البذون، وهو عصفور لديه مفاجئة الحسون وقوة الكناري، ولكنه للأسف عقيم كالبغل، وهذه هي عقوبة الطبيعة على الزيجات الفاسدة. لقد تحدثت عن هذا الزواج الفاسد بين الحسون والكناري، وكنت أقصد أن أتحدث عن ثقافتنا المعاصرة البندوقة الهجينة التي لم تتخذ قرارها بعد في أن تكون حسونًا أم كنارًا، وكان فياض أحد أشكال هذا البندوق الذي انتهى منبوذًا.

*إذا كانت السياسة في المرحلة السابقة قد ألقت بظلالها الكثيفة على الأدب. فكيف تقيِّم هذه التجربة، وكيف تنظر إلى علاقة الأديب بالسياسي؟

**منذ روايتي الأولى “ملكوت البسطاء” كنتُ مخلصًا للأدب، ولم أكن مهتمًا بالسجال السياسي، لكني بعد أن دخلت حياة المثقفين السوريين وأصابتي اللوثة التي لا فكاك منها، وهي الاعتقاد بأنك تستطيع بكتابة رواية ما أن تسقط نظامًا سياسيًا، وبديوان شعري أن تغيِّر مصير أمة، تورطتُ معهم بهذه الورطة، وبدأت كتابة بعض الروايات التي قامت أصلاً على السجال السياسي، لكني استطعت أن أكبح نفسي عن الاستمرار بهذا عائدًا إلى منطلقي الأول، لأُقدم شكلاً جديدًا في الأدب، أعتقد أنه مفيد للأدب والمجتمع أكثر من السجال السياسي، لأنه بعد ثلاثين عامًا في سوريا، شارك خلالها كل المبدعين من شعراء ومسرحيين وروائيين وقصاصين في السجال السياسي، ظنًا منهم أنهم سوف يغيرون مصير أمتهم في كتابة ما، اكتشفوا أنهم لم يغيروا إلَّا أنفسهم، ولم يفقدوا إلَّا شبابهم الإبداعي.

*لكن ألا تعتقد أن إبعاد المثقف عن الدائرة السياسية هي محاولة لتهميشه أولًا وقبل كل شيء؟

**نحن في العالم العربي لا نمارس السياسية، فنحن ننفذ ما يُطلب منا سياسيًا، وأنا رجل لدي أفكاري السياسية ومواقفي وطموحاتي وأحلامي، ولكنني أدرتُ ظهري لما يريدون مني أن أنفذه، أنا أريد أن أعيش الفكر السياسي من دون أن أمارس السياسة، بمعنى أني لا أريد أن أكون عضوًا في أي حزب من الأحزاب، ولم أكن كذلك في أي يوم من الأيام، وهذا أمر مشروع وموجود في كل أنحاء العالم، أما إذا تحدثنا عن التهميش في عالمنا الثالث الجميل! في عالمنا الثالث متاح لك واحد من اثنين، إما أن تكون بوقًا للسلطان، أو أن تكون مهمشًا، وأنا اخترت التهميش.

*قمتَ مؤخرًا بتحول روايتيّ “حسيبة” و”فياض” إلى سيناريو تلفزيوني، ماذا تحدثنا عن هذه التجربة، ولماذا الخوض في غمار السيناريو؟ **حين تتأملين مدينة ما، وترين الأعداد الهائلة من الهوائيات، وتتساءلين كم من الناس يتفرجون على أعمال درامية تفاهة تُضخ في عقولهم. وحين تعرفين في الآن نفسه أن أهم روائي عربي لم يستطع أن يصل إلى أكثر من عشرة آلاف طبعة في أهم رواياته، عندها ستشعرين بالفرق الهائل، وأنه من الحرام أن نترك أداة النشر هذه “التلفزيون” لأنصاف الموهوبين، ولصوص الأفكار يلعبون بها كما يشاءون. من الواجب أن نحاول الاستيلاء على هذه الأداة، حالمين بتحويلها إلى أداة تستطيع أن تحمل طموحات الروح وترانيم القلب، بدلاً من هذه الفظاظات الميلودرامية التي تُقدم مِلحًا يوميًا لهذا الشعب[1].

[1] نُشر في صحيفة “البيان” 8 يناير 2000 العدد 714

———————–

خيري الذهبي: أنصاف المتعلمين في الستينات نشروا الخواء بلا تراث ولا معاصرة

فاطمة عطفة

(سوريا)

كنت أعرف خيري الذهبي من خلال عدد من أعماله الروائية وخاصة ملكوت البسطاء و حسيبة و ليالٍ عربية في الماضي.. وأخيرا لو لم يكن اسمها فاطمة . ولكل من هذه الأعمال جمالها ومكانتها في رسم ملامح المرحلة التاريخية التي اختارها وبناء عالمها الروائي الواضح في شخوصه المتصارعة وأهوائهم ومصالحهم المختلفة، إضافة إلي لغة أدبية متميزة وأسلوب جذاب يزيد قارئه حبا بلغته العربية. وفي هذا اللقاء، تبين لي أكثر فأكثر جمال هذه اللغة من خلال تدفقه بالحديث ووضوح أفكاره ومدي تمكنه من أدواته التعبيرية مما يجعل حديثه لا يقل جمالا وسلاسة عن كتابته. وهذه المزايا تذكرنا بالسنوات العديدة التي أمضاها الأستاذ خيري الذهبي في تدريس اللغة العربية، وهو يتمتع بذاكرة قوية ومتابعة للتاريخ القديم والحديث، كما يهتم كثيرا بالعادات والنثريات أو المنمنمات الصغيرة التي يتداولها المجتمع السوري، والشامي بالذات، مثل نباتات الزينة، وأنواع العصافير، وألوان الأطعمة، وحتى أسماء الأقمشة والمنسوجات التي تدخل في تصميم الأزياء. ومن يستمع إلي حديثه يشعر أن هذا المبدع يتملكه فخر وثقة بنفسه، وهي ثقة لائقة بصاحبها وتظهر واضحة بنبرات صوته. وهو يتمتع بصوته المتميز في الساحة الأدبية العربية، إنه يبدو نسيج وحده، لا يستعير أقلام الآخرين ولا يقلد تجاربهم لأن له مشروعه الروائي الخاص والكبير الذي يمتزج فيه التاريخ بالجغرافيا والمجتمع، ذكريات الماضي بوقائع الحاضر وأحلام المستقبل. خيري الذهبي ابن دمشق وابن المجتمع الدمشقي الحميم، وهو المبدع الدمشقي الأول والأهم في كتابة الرواية العربية، في خصوصيتها السورية.

في ندوة تلفزيونية لي، كنت قد أقمتها في التلفزيون العربي السوري وكان شريكي فيها رئيس تحرير جريدة تشرين الدكتور خلف الجراد، كنت قد تعرضت إلي قضية أساسية موجودة في عالم الثقافة السورية، وهي أنه في بداية الستينات من القرن الماضي طرد جيل كامل من مثقفي سورية من الساحة الأدبية والإعلامية والأكاديمية، وجيء بجيل جديد من حملة الثانوية ودار المعلمين وفرضوا علي الساحة الإعلامية والثقافية والفكرية فصاروا هم المثقفين.. هؤلاء المثقفون الجدد كان واحدهم يجلس ويضع ساقا علي ساق ثم يقول: مالي والكتب الصفراء؟ مالي ولهذه الكتب العفنة؟ لقد انتهينا منها. من هو الجاحظ؟ ما هي الأغاني؟ من هو المبرد؟ من هو ابن كثير؟ وبضربة قلم واحدة تخلص هؤلاء المثقفون الجدد من التراث كاملا. وكانت النكبة أن مناهجنا التعليمية كانت أضعف من أن تعلم أبناءنا لغة أجنبية كافية لحملهم إلي القراءة والتوصل إلي التيارات العالمية في الأدب والثقافة والاجتماع والفلسفة. وبهذا ظهر إلينا جيل جديد لا علاقة له بالتراث ولا بالمعاصرة، هذا الجيل اعتمد في ثقافته الكاملة علي قراءة من سبقه من الكتاب، أو قراءة المترجمات النادرة والقليلة والهشة التي قد تصل إليه من القاهرة أو بيروت. وإذا ما عرفت نظام الرقابة السورية الصارم جدا والشديد الصرامة في إدخال الكتاب إلي سورية، كان لك أن تعرفي أن الكتب التي تصل مترجمة، حتى هذه الكتب كانت أندر من أن تكفي هؤلاء الناس، فوقعنا في هذا الخواء المرعب الذي يعيشه الجيل الجديد من المثقفين. الألعن من هذا كله أنه فجأة أو ليس فجأة، أنه منذ الخمسينات بدأ ضغط ما يسمي بالأدب الملتزم علي الناشئة من الكتاب والأدباء، وأدب الملتزم يعني شيئا واحدا في مدلوله الحقيقي وهو أن تحيل الأدب.. هذا الحصان البري الجامح المتهور المندفع بلا حدود.. إلي جحش مربوط في رباطات جيدة وبأرسان جيدة ليخدم القضية التي التزم بها. جاء الشيوعيون فقالوا بالأدب الملتزم فصار الأدب الملتزم عليه أن يكتب في موضوع واحد هو المستغل. وجاء البعثيون فجاؤوا بالأدب الملتزم ليصبح الأدب هو كيف نجحت الثورة وانتصرت علي الطغاة والبورجوازيين والرأسماليين والفاسدين كلهم ممن سبق الثورة ـ النور البعثي الذي جاء في أوائل الستينات. هذا الإرغام للأدب وتحويله أداة إعلامية، بالإضافة إلي ما قلناه سابقا في انقطاع الصلة ما بين التراث وما بين الأدباء الجدد، وانقطاع الصلة ما بين التيارات العالمية وما بين الأدباء الجدد، أوصلنا إلي هذه الحالة التي تجعل من كتابنا وأدبائنا يدورون في دوامة. وأنا حين قرأت سؤالك هذا أحسست بأني أحاور الآن كاتبة سورية عاشت في سورية العظيمة فيما بعد الستينات، أولئك الذين حفظوا الدرس جيدا فإذا ما سألوا سألوا بالتزام، وإذا ما أجيبوا أجيبوا بالتزام. الرواية بناء اجتماعي متخيل هدفه إضاءة الواقع في سبيل التغير. من قال هذا؟ من ادعي هذا؟ من دعم هذا؟

(كنت قد قدمت له أسئلة مكتوبة منها دور الرواية في إضاءة الواقع وتأثيرها في المجتمع وعملية التغيير. لكنه أبعد الأسئلة وقال دعينا نتحدث بعيدا عن الطريقة البعثية)

ثم تابع حديثه: الرواية، فن الرواية أدب ينتمي إلي عالم الجمال، لا ينتمي لا إلي علم السياسة ولا إلي علم أيديولوجيا الأفكار ولا إلي أدب التغيير ولا إلي كل هذه الحماقات التي بدأنا بتمثلها منذ أيام جدنوف وحتى أيام ناديا خوست. سيدتي الكريمة الأدب أدب والفن فن والجمال جمال، والسياسة دعيها للسياسيين وآثامهم، دعيها للمغيِّرين وآثامهم، دعيها للثوريين ولدفاعاتهم ونضالاتهم وليتركوا لنا هذه الزاوية الصغيرة التي اسمها الأدب.

هناك ملاحظة صغيرة هو أنك تسألين عن المدينة، والغريب أننا الآن نحن في سورية لا نعيش في مدينة، ولم يعد هناك في سورية من مدن. نحن نعيش في قري كبيرة، في اللغة العربية أصلا مكان الاستقرار البشري كان يسمي قرية، وقرية مشتقة من فعل قري (تجمع) أو القرى (الضيافة).. أو قر في المكان فهي قرية، أي مستقر، وأنا أعتقد أن أول قرية تحولت إلي مدينة حسب اللغة العربية هي يثرب، فهي أول قرية سميت بمدينة، ومدينة كلمة اشتقاقها من فعل دان، ودان يعني خضع للدين.. فدان يدين دائن ومدين ومدينة. فالمدينة هي المكان الذي خضع للدين الجديد أي القانون، والفارق ما بين القرية والمدينة هي أن القرية تتعامل مع الحياة حسب قوانين الطبيعة فهي تستيقظ مع الشمس وتنام مع الظلمة، تصغي للديك وتخاف من البرد حسب المطر إلخ. أما المدينة تلك التي تخضع للقانون الجديد، ويثرب خضعت للقانون الجديد: الدين.. الدين المحمدي، ثم فيما بعد أصبحت المتغيرات الكبيرة التي أسميناها مدنا تخضع للقانون الوضعي، ولكن للأسف الشديد نحن الآن في العالم العربي ومنذ سقوط ما أسموه بالبرجوازيات، أي منذ سقوط الرجال الذين حكموا هذه المنطقة مثل مصطفي باشا النحاس ومثل خالد العظم ومثل نوري السعيد وجاء هذا الجيل من العسكريين الذين حكموا هذه المنطقة وأصروا علي ترييف المدينة وإخراجها من قانون المدينة، وتحول النظام العالمي الذي يقوم علي تمدين الريف في بلادنا تحول إلي ترييف المدن، وهكذا لم يعد لدينا مدن في العالم العربي.

أنت إذا مضيت إلي القاهرة سترين كمية هائلة من القرى تتعايش مع بعضها اسمها مدينة القاهرة، وإذا ما جئت إلي دمشق تعيشين في كمية كبيرة من القرى المتعايشة مع بعضها ولكن يسمونها مدينة. لا قانون، لا أعراف تحكمها، لا شيء مما يمكن أن يعطي المدينة مدينة.

أنا أعيش الآن في حي يبلغ سكانه تقريبا ما لايقل عن ثلاثمئة ألف نسمة، وهذا الرقم يسجل من كبريات المدن في القرن التاسع عشر.. فباريس لم تكن تزيد عن ثلاثمئة ألف في القرن التاسع عشر، ومع ذلك أنا أعيش في حي ليس فيه ناد ثقافي، وليس فيه ناد اجتماعي، وليس فيه سينما، وليس فيه مسرح، ولا حديقة.. ليس فيه أي مكان للإنسان أن يقابل جاره ليحييه، المكان الوحيد المتاح للقاء الجيران هو في المسجد. هذا المسجد هو المكان الذي أجبرتنا القرية الجديدة علي اللقاء فيه، وبذلك تحولنا إلي هذه القرى المتعايشة. الناس تعرف بعضها في المساجد، وليس في المقاهي ولا النوادي ولا الكازينوهات ولا المسارح ولا السينمات، كل مظاهر المدينة الحديثة لا توجد في مدينتنا التي يسمونها مدينة الآن. أنت تسألينني عن المكان في الأدب السوري، منذ بداية القرن العشرين صُنِع شيء في بلاد الشام التي لم تعرف دولة سابقة اسمها سورية، واخترع شيء اسمه فلسطين ولم يكن ذا سابقة تاريخية، واصطنع شيء اسمه لبنان، ثم اصطنع شيء أسموه الأردن.. طبعا من صنع هذه الأسماء الأربعة والجغرافيات الأربع رجل بريطاني اسمه لويد جورج وأعطيت هذه التسميات فيما بعد إلي الموقعين علي الاتفاقيات الذين أسموها في ذلك الحين (سايكس الإنكليزي وبيكو الفرنسي). سورية التي اصطنعت بإرادة إنكليزية ـ فرنسية، كما تحدثنا لم يكن لها سابقة تاريخية. سورية، الاسم نفسه ليس اسما عربيا، بل هو اسم جيء به إلينا من التراث الغربي، من السلوقيين الذين كانوا أول من ابتكروه، ثم ضاع هذا الاسم مع مجيء العرب لتصبح منطقة اسمها بلاد الشام، ولما أراد الغرب أن يصطنع شيئا جديدا في المنطقة ويلغي أربعة عشر قرنا من الإسلام جاؤوا بشيء اسمه سورية. والغريب أن هؤلاء الناس الذين كانوا يسمون في هذه المنطقة الجغرافية المسماة بسورية، لم يقبلوا بسورية وطنا لهم وعبر مئة سنة منذ سقوط الدولة العثمانية إلي الآن لم يظهر حزب سياسي واحد في سورية يقول إن سورية وطني، فكل الأحزاب السياسية التي ظهرت في سورية ظهرت وهي تنظر إلي خارج سورية حلما وأملا. العروبيون كانوا يقولون نحن نطمح إلي وحدة الوطن العربي كاملا، طبعا حلم مبالغ فيه ولكنه حلم مشروع، القوميون السوريون كانوا يقولون نحن نطمح إلي سورية الكبرى، الإسلاميون كانوا يقولون إننا نطمح إلي الأممية الإسلامية كما وجدت أثناء العصر العثماني أو ما قبل العثماني، الشيوعيون كانوا يقولون نحن نطمح إلي الشيوعية الأممية الدولية…إلخ.

لكن حزبا سياسيا واحدا لم يظهر في سورية يقول سورية وطني الذي أقبل به إلي الأبد… هذه الفكرة الصغيرة انعكست علي الأدب. الغريب أن معظم الكتاب كانوا يهربون من الكتابة عن المكان، لأنهم يعرفون أنهم حين يكتبون عن المكان كانوا يظنون أنهم يخونون الحلم الذي يطمحون إليه، وهو الخروج من السجن الصغير المسمي الوطن السوري إلي الحلم الآخر، هم ابتعدوا عن الكتابة عن هذا الوطن الذي يعيشون فيه.. بدأت ترين اغترابا عن المكان في الكتابة واعتبار اللغة وطننا ومكاننا بدلا عن الوطن المكان، فصرت ترينهم يكتبون عن بغداد الحلم وعن إشبيلية الأسطورية وأحيانا عن (درسدن) كما فعل مصطفي الحلاج. المهم يكتبون عن كل شيء إلا عن الأرض التي يدرجون عليها. هذا الانفصال والذي شجع عليه كثيرا من قبل هؤلاء البروكستيون (ورثة بروكست قاطع الطريق المعروف وسريره العجيب) الذين يشرفون علي الكتابة في البلد أدي إلي ما ذكرت سابقا عن القطيعة مع التراث وعن التيارات المعاصرة، وعن الخوف من الحديث عن المكان، الآن أصبحت تستطيعين أن تري كيف يدور هؤلاء الكتاب في فقاعة من هواء صنعها لهم المنظرون الأيديولوجيون متوسطو الثقافة أصلا بدءا من ميشيل عفلق وحتى الآن.

متوسطو الثقافة ليسوا فلاسفة وليسوا مفكرين علي المستوي الذي يستطيعون فيه أن يصنعوا أيديولوجية حقيقية. تصوري علي عقلة عرسان يصنع أيديولوجية أمة. هذه كانت مأساة حقيقية عشناها ونري تأثيرها الآن في الكتابة بهذا الشكل المأساوي، أنا أقرأ مخطوطات حتى أصاب باحمرار في العيون من الهواء والهراء والإنشائيات، أنت تعرفين أنك لا تستطيعين أن تمسكي بالمادة الكتابية بيديك إمساك اللحم لكي تكتبي، أنت تكتبين فراغيات، هوائيات، إنشائيات، كلام لا معني له… وهذا هو المرعب في الكتابة السورية الآن. أنا أعرف كاتبة سورية، كتبت في السنوات الأخيرة مايزيد عن ألف، ألفي صفحة من الروايات وكلها هراء في هراء في هراء لأنها لا تعرف لماذا تكتب، ليس من رسالة، إنها تردد المقولات الإعلامية الصحفية في الكتابة، وهذا يصنع مدرسة من صغار الكتاب ومتوسطي الكتاب الذين يرون النجاح فيها، في هذا الاتجاه فيسرعون وراءهم وهكذا تدور الدوارة. نحن نعيش للأسف الشديد نتيجة أن انقطعنا مع التراث وانقطعنا علميا ودراسياً مع المعاصرة، وأبعدنا عن المتوسط لنقذف في الصحراء. نحن سرقت سواحلنا.. بعضها للأتراك في اسكندرونة (أنا لست قوميا سوريا حتى لا أريد أن أفهم بهذه الطريقة، ولكني أنظر إلي واقع سورية) أخذت الاسكندرونة وأعطيت للأتراك، وأخذ الساحل اللبناني منا، وأخذ الساحل الفلسطيني وأعطي لليهود، فأصبحنا قارة صحراوية ليس لها إلا ثمانون كيلومترا من الاتصال بالمتوسط، ثم جاء حزب البعث الصحراوي فكريا أصلا فأغرقنا في هوائيات من الألفاظ دون أن يكون لدينا مادة حقيقية للكتابة، ثم جاء علي عقلة عرسان فخرب وخرب وخرب… أنا أتمني من حسين جمعة وأنا متفائل به كثيرا لأنني أعتقد أن كل من يأتي بعد علي عرسان سيكون أفضل منه. في مراحل علي عرسان كان سوادا حقيقيا في تاريخ سورية. انتهينا منه الآن، الحمد لله. أنا أعتقد أننا قادمون علي مرحلة أفضل يتحرر فيها الكاتب من هرائيات وهوائيات علي عرسان الكاذبة.

في الستينيات من القرن الماضي كنت طالبا في مصر، وكنت علي علاقة طيبة بالكاتب الكبير يحيي حقي وهو أستاذ أفخر بشدة بأنه كان من أولئك الذين أحببتهم في صباي.. كان يملك شاعرية خاصة ولغة خاصة ورقة إنسانية خاصة. كان في ذلك الحين رئيسا لتحرير مجلة اسمها المجلة وهي كانت من أهم المجلات الأدبية والمتنوعة في مصر في ذلك الحين، وربما في اللغة العربية. وفي ذلك الحين ظهر كاتب جديد هو إسماعيل ولي الدين فقدم نوفيللا أو رواية صغيرة كان اسمها حمام الملاطيلي فأعجب بها يحيي حقي فتبناها وأخذ يكتب عن هذا الكاتب بأن له مستقبلا. وفي إحدى الزيارات التي قمت بها مع بعض الأصدقاء في مصر في ذلك الحين للأستاذ حقي بدأنا نعاتبه كيف تبني كاتبا نحن لم نعتقد أنه كاتب متميز، فنظر إلينا وقال: والله احترت معكم ياشباب، إذا تبنيناه تبنينا الشباب الجدد قلتم إنهم مثل اللبلاب، وإذا ما تركناهم دون تبنٍّ فسيصبحون شجر سنديان، ولكن من بين كل مئة بذرة سنديان ستنمو سنديانة واحدة، والتسعة والتسعون الباقية سوف يقتلها البرد والريح والجفاف والأقدام التي تمر فوق الموقع، احترنا معكم. فقلنا له: ولكن هذا لبلاب.. أتربون اللبلاب؟ فنظر إلينا في حنان وأبوة وقال: ولكن الحياة أيضا في حاجة إلي لبلاب. مقولة تلح علي كثيرا منذ ما يقارب الأربعين عاما وأنا أفكر فيها.. هل نتبنى كاملا كل النبتات الجميلة في الأدب أم نتركها للصراع مع الطبيعة حتى يتصلب عودها وتتحول إلي أشجار سنديان تستطيع أن تبقي علي الحياة كاملة؟ ثم أتذكر مقولة يحيي حقي بأولئك الذين كانوا يكافحون ويحاربون ويقاتلون ويقفون ضد التيار ولكنهم يصلبون ليصبحوا سنديانا للمستقبل. ولكن الحياة في الوقت ذاته مليئة بالشجيرات وباللبلاب الذي لا بد له أن يعيش أكثر، وربما لن يكون له مستقبل، ربما لا يستمر حتى السنة القادمة.. ربما لن يعيش حتى العقد القادم ولكنه يعيش. الحياة بحاجة إلي سنديان.. وإلي شجيرات.. وإلي لبلاب.

منذ بضعة عشر عاما كنت في رحلة صغيرة مع روائي كبير اسمه غالب هلسا ـ رحمه الله ـ كنا قادمين إلي دمشق فرأينا عن بعد البنايات المغلفة بالأنتينات والهوائيات الكثيرة الكثيرة، فنظر إليها بحسرة وقال أمامك الآن مئات الآلاف من القراء الذين يقرؤون أتفه الأدب تحت اسم المسلسلات التلفزيونية، هذه الأنتينات تسرقهم منا في قراءة أدبنا. فقلت له: هل يجوز أن نترك كل هؤلاء القراء لهؤلاء الكتاب من أنصاف المثقفين وأرباع المثقفين وممن يحومون حول السطح ولا يستطيعون الغوص عميقا بالروح البشرية؟ من هذا الحوار ظلت المسألة تتناوشني لفترة طويلة، وأنا بالحقيقة حاولت أن أركب الجوادين في وقت متقارب معا.. حاولت أن أصل إلي القارئ العريض قبل كتابة الأعمال التلفزيونية وحاولت أن أستجيب لنوازع روحي الطامحة جدا إلي سماوات لا يستطيع التلفزيون أن يصل إليها عبر فن الرواية، فكتبت الرواية وحاولت أن أخلص في كتابتي للرواية إلي أقصي مشاعر الحريات والمثقفة عالميا وليس محليا، وربما كان هذا مؤثرا علي جماهيريتي التلفزيونية.. فحينما أكتب بالتلفزيون لا أستطيع علي نقد ذاتي أن أنزل إلي مستوي الكتابة التلفزيونية الحقة.. يظل ذلك جزءا من الكاتب الروائي المتأنق، لابد أن يبدأ بالكتابة فالناس اعتادت علي السفاسف واعتادت أن تنظر إلي التلفزيون كفن راق يمكن أن يوصل فنا راقيا إلي القراء. مابين هذين القطبين لصت طويلا، وفي السنوات الأخيرة وبعد تجربتي حينما طلب مني أحد المنتجين التلفزيونيين أن أكتب له عملا تلفزيونيا عن الصراع مع الصهيونية، فقررت أن أكتب لأول مرة ليس عن القضية الفلسطينية كقضية لاجئين ومظلومين ومطرودين من بلادهم ومستعمرين… لا، قررت أن أكتب عن الصراع الأيديولوجي الأساسي ما بين الفكرة العربية والفكرة الصهيونية، أن أكتب عن الصراع ما بين الصهيونية واليهودية أصلا، وأنت تعرفين أن اليهود لم يقبلوا الصهيونية إلا كرها، وبعد انتصار الصهيونية التي استعانت بالغرب علي العرب وعلي اليهود. أنت تعرفين أن الصهيونية خدعت عشرات الآلاف من اليهود اليمنيين وانتزعتهم من فردوسهم وجاءت بهم إلي فلسطين، انتزعت الآلاف من اليهود العراقيين من فردوسهم البابلي التاريخي وجاءت بهم إلي فلسطين ليتحولوا إلي أيد سوداء تعمل في المهن التي لا يعمل بها الأشكناز البيض. ولكن وأنت تعرفين أن الصراع مابين الفقراء يحيلهم إلي أعداء، وهكذا تحول هؤلاء اليهود إلي أعداء. المهم ليس هذا، حينما دخلت في الجدي، فالصراع الصهيوني مع اليهود ومع العرب ومع المسيحية الصهيونية في صراعها أيضا ضد العرب وضد اليهود أخذ المنتج هذا العمل ودار به علي الأقنية جميعا فلم يجد من يرضي أن يذيع عملا كهذا.

هم يريدون البكائيات، يريدون الفلسطينية المسكينة المطرودة، المقاتل المهزوم، لكن لا يريدون أن يقرؤوا الحقيقة في الصراع الحقيقي الأيديولوجي الذي يتم بين حضارتين، بين القومية العربية والقومية المفترضة الصهيونية والتي لا علاقة لها حقيقة باليهودية. أنت تعرفين أن جماعة هالوت إسرائيل كانت ضد الصهيونية، نتركاتا كانت ضد الصهيونية وأتت عشرات الحاخامات والحركات اليهودية في أمريكا نفسها ضد الصهيونية، ولكن نحن لا نعرف هذا الأمر، نحن نضعهم كلهم في بلوك واحد ونبدأ في تكبيرهم فنصغر، فإذا ما صغرنا آمنا بأننا لم نستطيع أن نفعل ولا نستطيع أن ننتصر، فما علينا إذاً إلا أن نستسلم وأن نساير الواقع. فلنعد إلي موضوعنا الذي حدثتني عنه، الرواية أعذب من التلفزيون، لأنها فن الرمزية اللغوية، والرمزية اللغوية تجعل من كل قارئ مشروعية في قراءة النص كما يراه هو. فهو يري المكان بعينه الخاصة، ويري الشخوص بعينه الخاصة، ويقرأ الأفكار بعينه الخاصة. وحينما سمعت قراءتك لرواية لو لم يكن اسمها فاطمة سمعت قراءة غير التي أنا كتبتها، هناك عشرات القراءات للنص الروائي، ولكن حينما يكتب للتلفزيون أو للسينما تصبح قراءة واحدة هي قراءة السيناريو وقراءة المخرج للسيناريو تصبح قراءة محددة. السينما أرقي من التلفزيون بمئات المرات، التلفزيون والسينما فيها أعمال لخيال أحادي وليس لخيال جماعي أي خيال كل القراء المتعامل مع النص الواحد، السينما أو التلفزيون هي خيال القارئ الواحد السينارست المخلص.

***

في هذه الحلقة الثانية من الحوار مع خيري الذهبي يوضح الروائي السوري بعض الآراء النمطية السائدة عن المرأة كما يكشف الأسباب التي أدت الي سيادة الطغيان السياسي في البلدان العربية الحديثة.

من الأخطاء الشائعة، وهناك من يروج لها، أن المرأة العربية كانت دائما امرأة عاطلة عن العمل، امرأة متعلقة برقبة زوجها فقط ولا هم لها إلا أن تكون. أنا كرجل دمشقي عشت طفولتي بين نساء مكافحات، كن يعملن شريكات للرجل وأكثر من الرجل، ربما أوضحت هذا في رواية حسيبة حينما تحدثت عن المغامرة الرائعة التي قامت بها تلك المرأة المسماة حسيبة، والتي حين قصر الذكور عن القيام بواجبهم في الحياة تقدمت لتصنع مملكة من عاملات الجوارب، وتصنع مملكة تُشغل فيها عشرات بل مئات النساء، كل في بيتها تعمل علي صنع الجوارب، صناعة كاملة. فإذا ما تركن الجوارب، أنا أعرف أن في دمشق وحدها كان يوجد ما لا يقل عن عشرة آلاف امرأة يعملن في صناعة العباءات وتطريزها، وكانت هذه صناعة مهمة جدا تصدر إلي الخليج وإلي السعودية؛ كانت صناعة قائمة علي النساء وليس علي الرجال. وكان الرجال يعرفون أنهم لم يستطيعوا القيام بكامل أعباء أسرتهم، وأنت تعرفين أن المرأة حين تعمل تصبح منافسة ومشاركة للرجل، فيضطر الرجل إلي التخلي عن جزء كبير من عنفوانه، ومن نذالته، ومن تجبره، لأنه يعرف أن هذه المرأة مشاركة في الحياة وفي العمل وفي الجهاد. الصورة الشائعة عن المرأة، المرأة الشرقية، هي صورة مغلوطة كاذبة. أنا أعرف في مصر المرأة تعمل أكثر من الرجل في الريف، لدينا امرأة تعمل أكثر من الرجل، في البداوة، لا حول ولا قوة إلا بالله، المرأة تعمل كل شيء والرجل لا يعمل شيئا علي الإطلاق المرأة هي التي ترعي، وهي التي تحلب، وهي التي تصنع الجبن وتصنع الأقط، وهي التي تصنع البسط وتجز صوف الغنم وتبيع، والرجل لا يعمل شيئا بل يصرخ ويقول يا عيشة قومي اعملي الأكل للضيف ! هذه الصور الكاذبة لا أدري من صنعها للمرأة، ولكن أعتقد أن جزءا كبيرا منها صنعته الأفكار الغربية التي شاءت أن تعلن أن نساءنا جوار وأن رجالنا باشوات، وهذا شيء كاذب وغير حقيقي. المرأة مشاركة تعمل في كل شيء في المدينة، تعمل كل شيء في مساعدة زوجها، الرجل لا يستطيع أن يحمل الحمل كله، إن كان من الطبقات الفقيرة أو كان من الطبقات المتوسطة، يعملن موظفات ومعلمات وطبيبات ويشاركن الرجل في كل شيء.

من أين جئنا بهذه الفكرة أن النساء عالة على الرجال، هذه الصورة مغلوطة مثل الكثير من الأفكار التي يرتاح الناس إلي الإيمان بها. أنا أتمني لو كنت أعيش في هذا العالم الذي تقرره لنا ألف ليلة وليلة، والذي يقرره لنا الغرب، مثل أمير مدلل يضع ساق علي ساق ومن حوله عشرات الجواري والحسان اللاتي يقمن علي خدمته، هذا الشيء غير موجود ولم نسمع به إلا عبر الأدب. هذا الشيء غير حقيقي، المرأة مخلوق مكافح ومناضل وليست فقط تنجب الأولاد وترعاهم، بل تعمل. في معظم أعمالي، المرأة شخصية قوتها أكثر من الرجل، وفي كثير من الأحيان يكون الرجل تابعا للمرأة في نضالها وأعمالها، ليس في نضالها اللفظاني كما يشاء البعثيون وكتاباتهم، بل في نضالها الحقيقي واليومي.

في رواية لو لم يكن اسمها فاطمة حاولت أن أقرأ التحولات التي تمت علي مجتمعنا في الخمسين سنة الأخيرة، وكيف كانت البرجوازية تصعد صعودا هادئا في سبيل إفقار المجتمع المعاصر الحديث. حينما حدثوني عن قريبة لي (لن أحدد مدي القرابة)، حادثة عادية.. امرأة جميلة خرجت من بيتها تريد أن تشتري مواد ما، فمرت سيارة عسكرية فيها مجموعة من الجنود السنغال، وهؤلاء الجنود السنغال بحكم كونهم مسلمين لا يعرفون من أسماء المرأة المسلمة إلا اسم فاطمة، وكانت امرأة جميلة وصبية تمشي مشية رشيقة مثل كل الصبايا، فأخذوا يغازلونها بطريقتهم الفظة وهم يصرخون فاتيمة فاتيمة فغضبت هذه المرأة وعادت إلي بيتها ثم أقسمت متدللة أنها لن تخرج من بيتها ما دام في البلد سنغال. هذه هي القاعدة التي انطلقت منها الرواية، من هذه الحكاية التي قيلت لي. والغريب أن هذه المرأة التي حدثوني عنها قد برت بقسمها ولم تخرج من بيتها أبدا حتى خرجت فرنسا من سورية، رغم ضغط زوجها وأهلها وحميها، أقسمت ألا تخرج وبرت بقسمها فلم تغادر بيتها علي الإطلاق. وأنت تعرفين أنها حينما حبست نفسها في بيتها لا بد أن تشعر بالسأم، هذا السأم جعلها تتعلم التطريز، تتعلم تربية نباتات الزينة وتتعلم أيضا أن تتقن صناعة العطور والمراهم، أي كل الأمور السرية التي تتقنها النساء في منازلهن. من هذه الانفجارة الصغيرة والتي سمعتها أول مرة، مرت بذاكرتي كأنها حادثة عادية لا قيمة لها، ولكني حينما نضجت وفكرت بها اكتشفت أنني أدخل عالما هائلا، امرأة وحيدة تقرر أن تفعل ما لا يفعله الرجال: إني أتحدي وأثور ضد فرنسا المستعمرة فأقرر أن أحبس نفسي في بيتي ولا أخرج ما دام هنالك محتل. هذا شيء كبير. حين فكرت في هذا بدأت أصنع روايتي، هذه المرأة كيف عاشت حياتها.. من هو زوجها. ودخلت في عالم الصراع، ما بين فرنسا فيشي و فرنسا الحرة ، الذي وجدت نفسها فيه فاطمة وزوجها في هذا الصراع الذي لم يكن لهم يد فيه فدخلا هذا الصراع، وحاولت هذه المرأة المتنمرة المتمردة المبكرة تعلم سواقة السيارة، وتعلمت الرسم وتعلمت أشياء كثيرة، ولكنها حينما جاءت الثورة المباركة في أوائل الستينات بدأت عملية الإفساد، إفساد المجتمع كاملا، ثاروا علي ما سموه بالبرجوازية ولكنهم خربوا بنية المجتمع الصاعد، ثم ساقوه بقسوة حتى وصلنا به إلي الآن، إلي هذه الردة الدينية التي رأيناها لدي المجتمع السوري بكامله. نحن الآن رغم أننا عشنا أربعين سنة نصرخ بالعلمانية، لكن في نفس الوقت نعيش ردة دينية في حالة حرب حقيقية مع العلمانية. هذا الشيء لم نكن نعرفه في الخمسينات ولا في الستينات، ولكن الآن نعرفه ونراه ويمزق قلبنا ولا نعرف كيف نخرج من هذه الدوامة التي ساقونا إليها.

في رواية فخ الأسماء والتي صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 2003، كنت قد بدأت خوض مغامرة اكتشاف جذر الطاغية العربية التي نعيش بين ظهرانيها الآن من المغرب وحتى العراق. هذا الطاغية من أين جاء؟ ما جذره؟ ما المكون الأساس له؟ هل الإسلام هو ما يقودنا إلي هذا النظام الطغياني؟ أم العروبة البدوية القبلية؟ أم عطالة ما في كياننا الذي جعلنا جسما مختلفا عن العالم كله؟ نحن الآن في العالم العربي نختلف عن العالم كله في قبولنا للطغيان، هذا الشيء لا نجده في أمريكا اللاتينية، ولا في أفريقيا، ولا في آسيا. لماذا كنا علي هذا الشكل المرعب من الولع بالطغاة والطغيان؟ في رواية فخ الأسماء حاولت أن أرجع إلي هذا الجذر فوصلت إلي العهد المملوكي، وأنا أعتقد أن العهد المملوكي هو العصر الذي بدأ فيه تشكيل الطاغية الحقيقي لتاريخنا نحن. سأعود إلي ما قبل ذلك. في العصر الهلنستي، وهو العصر الذي تلا فتوح الإسكندر الكبير للمنطقة، عاشت المنطقة أجمل فترات تاريخها الديمقراطي، فقد كان الجميع متفقين علي حرية العقيدة، ولم لا يتفقون علي حرية العقيدة؟ في ذلك الوقت اختلطت الثقافات الغربية بالشرقية لتنتج المعجزة المسماة بالحضارة الهلنستية، تلك المعجزة التي أنتجت أعظم فلاسفة الشرق ومثقفي الشرق وكتاب الشرق. ثم جاءت البيزنطية. بدأت أول حرب بالتاريخ، حرب أيديولوجية حينما قررت البيزنطية إبادة الوثنية السابقة فقاموا بقتل الفلاسفة وتدمير المعابد وإحراق الكتب والمكتبات. كانت هناك حملة منظمة لتدمير حضارة سابقة كاملة هي الوثنية الهلنستية واللاتينية التي سبقت البيزنطية. والغريب أني سمعت أن الجلادين الذين يقطعون رؤوس الناس بأيديهم، حينما يكلفونهم بقطع رؤوس الناس يأتون بحراس يقفون من الخلف يحملون بنادقهم علي استعداد لقتل هذا الجلاد لأنهم حين يرون الدم أو الرأس المقطوع يصاب بنوع من جنون الدم فلا يكتفي بقتل الضحية، بل يهجم علي المتفرجين لقتلهم. هذه الحالة تسمي شهوة الدم. الحضارة البيزنطية حينما بدأت بقتل الحضارة السابقة الوثنية انقلبت فيما بعد علي المذاهب المسيحية الأخرى.. الأرنوسية والأبيونية والمرقيونية والنسطورية والسريعقوبية (السريانية)..إلخ، بدؤوا في ذبح المسيحيين الذين يخالفونهم في العقيدة، فعاش العالم في أسوأ مرحلة تاريخية له من الصراع الإيديولوجي. حينما جاء الإسلام، وهذا شيء لا نقف عنده طويلا، من مكوناته الأساسية في دكريتو الإيمان يقول عليك أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، أي لا يجوز إيمانك إلا أن تؤمن ليس بالقرآن فحسب بل بالإنجيل والتوراة وكتب الله الأخرى، وليس بمحمد فقط بل بمحمد وعيسي وموسي وإبراهيم وإسماعيل والأنبياء جميعا، أنت لا تستطيع أن تحصل علي الإيمان إن لم تؤمن بكل المنظومة الإيمانية. هذه الرؤية التعددية التي جاء بها الإسلام كانت ردا علي الأحادية المرعبة للبيزنطية، هذه التعددية الرائعة حملها الأمويون. الأمويون حينما جاؤوا إلي الشام لم يكونوا حجازيين حقيقة بل كانوا هم شاميين أصلا لأنهم كانوا التجار المقيمين في المنطقة والذاهبين الآيبين طيلة الوقت ويعرفون جمالية الهلنسكي. هؤلاء الأمويون ـ والكثيرون الذين يقولون إنهم لم يكونوا شديدي الإسلام يظلمونهم ـ كانوا قد فهموا الإسلام حقيقة، فهموه علي أنه ذلك الدين التعددي الذي جاء ليقف ضد الطغيان البيزنطي. ارتاحت المنطقة، ارتاحت تماما في العصر الأموي، ارتاحت من المذابح الطائفية التي كان يقوم بها البيزنطيون، فالإسلام عاد ليقول للجميع: عيشوا حياتكم الدينية والعقيدية والإيديولوجية كما تشاؤون . وظل هذا الأمر حتى جاء السلاجقة. القادة العرب الذين خرجوا من الجزيرة العربية كانوا كلهم تجارا، والتاجر يعرف كيف يستفيد من البضاعة التي يتعامل معها. وحينما نسمع خطاب أبي بكر الذي أعطاه لأسامة حينما قال: لاتقطع شجرة، لاتقتل راهبا، لاتدمر مصنعا.. إلخ إذا ما رفعنا القدسية عن هذا الكلام وفهمناه بمعناه الاقتصادي، هذا الرجل كان يقول له لا تدمر البنية التحتية للمناطق المفتوحة لأننا نريد أن نستفيد منها، وحينها لم يدمروا البنية التحتية، احتفظوا أيضا بالبنية الفوقية أي الأيديولوجيا التي كانت تسير المنطقة، فاختلط الإسلام الساذج المكي بهذه الحضارات السابقة كلها لينتج الحضارة العربية الإسلامية. لكن الأترك السلاجقة كانوا بدوا رعاةً. والرعاة نحن نعرف أنهم حينما يرون حلة الحليب يأخذون القشطة ثم يكبون الحليب لأنهم لا يهتمون في ما يأتي بعده. وهكذا ظهر لدينا لأول مرة فكرة الدين الواحد والعقيدة الواحدة والمذهب الواحد والفكرة الواحدة والرؤية الواحدة والرب الواحد والحاكم الواحد، وكل من عاداه فهو كافر يستحق القتل. منذ بدأت فكرة من يخالفني كافر يستحق القتل بدأ تغير الحضارة العربية الإسلامية من حضارة تعددية إلي حضارة أحادية، أي إلي حضارة بيزنطية ثانية تحت اسم آخر. منذ ذلك الحين بدأ يرد علي الإسلام أقوام ليسوا علي استعداد لامتصاص الثقافة الإسلامية، وكان أسوأهم هم المماليك، هؤلاء الناس الذين لم يتثقفوا بالثقافة العربية، ولم يتثقفوا بالثقافة الشامية ولا البابلية ولا المصرية… لم يتثقفوا بثقافات الحضارات السابقة، بل أخذوا قشرة الدين فجعلوها عقيدة وبدؤوا منذ ذلك الحين بإقامة الاشتراكية التي سنراها بعد عشرة قرون، وهي استيلاء الحاكم علي أملاك الشعب كاملة فاستولوا علي الأراضي كاملة، وعلي التجارة، وعلي الصناعة.. هذا الشيء الذي سنسميه فيما بعد الاشتراكية، استولوا علي كل شيء وأصبح كل شيء ملكا للسلطان، وعلي الرعية فقط أن تتسول ما يعطيه لها السلطان.

منذ وصلت إلي هذه الفكرة في روايتي فخ الأسماء بدأت أسير علي كتابة عدد من الروايات أحاول أن أقرأ فيها المأزق الحضاري الذي نعيشه الآن، نحن إلي أين نسير؟ ومن يسوقنا إلي هذا؟ وما نهاية النفق الذي نعيشه؟ ولماذا أصبحنا الأمة الوحيدة في العالم التي تقتل نفسها فداء للطاغية؟ وتميت نفسها إكراما للطاغية؟ ثم كلما داسها بقدمه أبدت له المزيد من العبادة والتكريم! هذه الحالة لا نجدها في أفريقيا ولا أمريكا اللاتينية ولا آسيا، فلماذا كنا نحن؟ ونحن من يقال عنا كنتم خير أمة أخرجت للناس، أتراهم كانوا يعنون أخرجت من التاريخ؟!

أعتقد أن لكل مبدع قدرة نبوئية ما، هي التي تجعله يستقرئ الأحداث، يستجمعها، ثم يري ما يمكن أن يتم في المستقبل. في رواية ليالٍ عربية تنبأت بالحرب الأهلية في لبنان وعشتها قبل أن تقع، بل تنبأت حتى بالغزوة الإسرائيلية لبيروت. في رواية المدينة الأخرى تنبأت بما سيجري لأولئك الناس العظام الذين بنوا في مدينة الطبقة أو الثورة، أولئك الناس الذين بنوا السد العظيم، سد الفرات وكيف سيرمون خارج جنتهم لأن طفيليين آخرين سيطردونهم ويحلون محلهم في مدينة الحلم التي بدؤوا.

ربما كانت تفسيرات لنبوءات، ربما كانت استقراءات لنبوءات، ربما كانت ادعاءات لنبوءات، المهم أنني أري هذه الأشياء. في رواية لو لم يكن اسمها فاطمة أنت الآن نبهتني إلي شيء مهم وهو أنني بدأتها بتلك العاصفة، لكن تلك العاصفة التي بدأت قام رجل اسمه أبو الشيما واحتج عليها بطريقة زرباوية جميلة، كما وصفت في الرواية. لقد أخذ يرقص ويجدف ويخاطب السماء غاضبا منها لماذا تخربين موسمي؟ لماذا تخربين حياتي، أيتها السماء؟ كان رجلا متمردا حقيقيا. هذا الرجل نفسه سنراه بعد بضع صفحات فقط، حينما يقف بين أيدي الرجال الأقوياء في هذا العصر (الذين قرأت عنهم في الرواية) يتحول إلي طفل وديع وإلي غنمة تضع إليتيها بين ساقيها لتأتمر حاضر سيدي، شو ما بتؤمر سيدي، أنا بخدمتك سيدي ؟ هذا الزوربا، كيف استطاع هؤلاء الأقوياء تحويله إلي هذا الذليل؟ لكن هذا التحويل سنراه في نهاية الرواية. أنا لم أكن أقرأ هذه القراءة، لكنك الآن فسرتها، أو حينما رأيتها وقرأتها بدأت أقرؤها بهذه الطريقة. الرواية تنتهي بعاصفة مرعبة تحول المدينة الحية إلي مدينة ميتة. الرواية تقوم أصلا علي مخرج سينمائي لم يستطع أن يجد عملا، يقيم عقدا مع شركة فرنسية لإنتاج عدد من الأفلام الوثائقية عن المدن الميتة في شمال سورية، وأنت تعرفين أن هنالك عددا من المدن الميتة في شمال سورية مثل الرصافة و تدمر و قلب لوزي ومثل سرمدا ومثل سرجللا ، عدد من المدن التي ماتت منذ العهد الهلنستي. لكن هناك المدن الحية التي يحكمها مدير الناحية وأمين الشعبة والرجل الغامض الذي يضع النظارات السوداء، هذه المدينة قد تحولت في نهاية الرواية إلي مدينة ميتة يمر بها البطل ويري الرمال وهي تسري فيها لا حياة لا شجر بالمدن خاملة المدن، قتلها أولئك الذين حولوا زوربا إلي هذا الذليل الخاضع الذي يضع يديه أمامه ويقول أمرك سيدي.

أولا ماركيز ليس أول من عمل علي هذا الحقل، فقبله كتب أستورياس روايته سيدي الرئيس والتي حاول أن يقرأ فيها صورة الطاغية الأمريكي اللاتيني ثم أكملها ماركيز بخريف البطريرك.

الحقيقة أن هنالك فارقا كبيرا بين المبدع في العالم العربي والمبدع خارج العالم العربي، أديبنا العربي لم يصل حتى الآن إلي أن يكون مبدعا فردا، أي يكتب صوته الخاص بل ترينه طيلة الوقت وهو يكتب معتبرا نفسه صوت القبيلة. هذه القبيلة قد تكون الطائفة، قد تكون المدينة، قد تكون الحزب، قد تكون أي شيء.. لكنه لم يستطع حتى الآن أن يكون الفرد مقابل الطاغية. هذا الشيء استطاع أن يصل إليه ماركيز ولم يستطع كاتب عربي حتى الآن أن يتجرد من طاغيته! أي الطاغية ليس هو الآخر بل مرآته فيّ، يعني المؤسف الشديد أن الطاغية في طغيانه وسطوته لا يصنع الطغيان فقط بل يصنع معارضه علي صورته، فيتحول المعارض نفسه إلي طاغية آخر! فلذلك ترين الكاتب في هذه الحالة حتى الآن. ربما سترين خلال عشر سنوات كاتبا عربيا بأهمية ماركيز يستطيع أن يكتب عن الطاغية كما كتب ماركيز.. لم تنته الحياة، لكن حتى الآن ما نزال نعيش حلم أن الطاغية مستبد عادل. شريحة كبيرة من المتعلمين، ولا أقول من المثقفين في العالم العربي، ما تزال تؤمن بحل المستبد العادل. طبعا هذه الصيغة، التي لا أذكر من أوجدها، هي صيغة مغالطة للمبدأ المستبد لا يمكن أن يكون عادلا لأن الاستبداد واقع والعدل اختيار، فلماذا يختار أن يكون عادلا؟

أولا النقد يعني قبل كل شيء حسا بالنزاهة، أي أنني أستطيع أن أتعامل مع الآخر بغض النظر عن قرابته الطائفية أو المذهبية أو السياسية منّي، أتعامل مع النص الأدبي المجرد، بالأصل أتعامل مع الفرد كفرد، ولكن في كل البلاد التي تحكم من قبل أيديولوجيا أحادية لا يكون هنالك نزاهة، إنما أنظر إلي الآخر هل هو معي أو ليس معي، فإن كان معي فأنا أقبله نقديا وأدافع عنه وإن كان ليس معي (ليس من ضمن حزبي، ليس من طائفتي، مذهبي، ديني..إلخ) فهو سيء ومرفوض.

مصر بلد متقدمة بمراحل علي العالم العربي أو بالأحرى المنطقة الشامية العراقية، في هذا السياق، فهناك يمكن أن تجدي كاتبا شيوعيا يكتب رأيا في كاتب إخواني ويمكن أن تجدي كاتبا إخوانيا يقوم بالعكس. مصر كيان مستقر فيه مؤسسات دولة عمرها 200 سنة (الدولة الحديثة طبعا التي أنشأها محمد علي)، الدولة المصرية عمرها 5000 سنة. مصر بلد فيها مؤسسات، فيها إحساس بأهمية الإنسان. هل الأمر قبل كل شيء علينا أن نتذكر أن عهد البرجوازي المصري كان عهدا رائعا، هو العصر الذي قدم لنا طه حسين وعباس محمود العقاد ونجيب محفوظ ومحمد فريد أبوحديد ويوسف السباعي، وكل هذه الأسماء الكبرى، وقدم لنا محمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش وأم كلثوم وأسمهان، كل هذه الأسماء الكبرى قدمت. ولكن العصر الثوري قدم لنا أحمد عدوية، شعبان عبد الرحيم. المشكل أن هذه الفترة التي نشتمها بقسوة والتي نسميها عهد البرجوازية، لكن العهد الثوري لم يقدم لنا أفضل، لم يستطيعوا أن يقدموا لنا ما يماثل تلك الفترة بكل أسمائها، ونجومها كانوا أحرارا، سأذكر لك مثالا بسيطا حتى تعرفي الفارق ما بين ذلك العصر والعصر الذي نعيش. محمد مندور وهو اسم كبير كان قد كتب مقالا ضد الملك فاروق فغضب الملك فاروق وطرده من جامعة فؤاد الأول، جامعة أبيه، التي اسمها جامعة القاهرة حاليا، طرده منها كأستاذ جامعي. تصوري هذه الحادثة، لو أن كاتبا يكتب مقالا ضد زعيم البلاد، لو أن هذا الحدث جري في بلد مثل ليبيا، مثل سورية، بلد عربي معاصر، ما الذي يجري لهذا الكاتب؟ سيختفي من الوجود، لكن في مصر البرجوازية الشريرة الرجعية تقدم حزب الوفد فأنشأ جريدة جديدة للسيد محمد مندور وجعله يقف علي رجليه دون أن يحني هامته أمام ملك البلاد. هذا المثال وحده يكفي حتى تعرفي الفارق ما بين قلة النزاهة الموجودة في بلاد الأيديولوجية الأحادية وبلاد الديمقراطيات. نجيب محفوظ كان يكتب لسنوات في مصر وقدم عددا مهما من الروايات، لكن النقاد لم يستطيعوا أن يميزوه عن كتاب عصره الأشد أهمية منه مثل محمد عبدالحليم عبدالله، إحسان عبدالقدوس، عبدالحميد جودت السحار..إلخ، حتى جاء سيد قطب، من سيد قطب؟! زعيم الإخوان المسلمين، فكتب عن نجيب محفوظ عن ثلاثيته ليقول هذا هو الروائي العظيم الذي تنتظره مصر فكرس نجيب محفوظ. هل يمكن أن تتصوري حالة مثل هذه تتم في سورية حيث لا نزاهة؟ طبعا، لا! هل يمكن أن تتصوري حالة مثل هذه تجري في العراق ؟! طبعا لا.. هذا هو اعتراضنا الأساسي علي بلدان الأيديولوجيات الأحادية والحزب الواحد الذي يلغي النزاهة، والذي يتعلق بالأنانية الحزبية فيجعلها أهم من الحس الوطني.

(قاطعني بحدة: أي إصلاح؟!

أنا لا أرى إصلاحا، حينما نكون نتحدث عنه.

هنالك رواية الآن سوف تصدر قريبا وهي تطبع في بيروت اسمها صبوات ياسين”. في هذه الرواية، كنت أقيم نوعا من الجدل ما بين كاتب انتهازي معاصر وما بين كاتب تاريخي وهو انتهازي كذلك. نحن نعرف أن الملك الظاهر بيبرس هو واحد من سلاطين المماليك، وهو من أسوأ الحكام في التاريخ الإسلامي، فهو قتل معلمه قطز الذي انتصر في عين جالوت. وكانت هذه أول جريمة أو أشهر جريمة ارتكبها في ذلك الحين. ومن المعروف أنه كان غلامي الهوى، وكان سكيرا يشرب خمر حليب الخيل، وكانت إنجازاته العسكرية متواضعة مقارنة بإنجازات نور الدين أو صلاح الدين أو حتى قايتباي أو قلوون ، لكنه كان ذكيا جدا بحيث أنه طلب من مثقفي عصره أن يكتبوا له سيرة ستصبح للمستقبل، إنه يريد أن يستولي علي المستقبل وليس علي الحاضر فقط. فتقدم عدد من الكتاب في ذلك الحين لكتابة سيرة هذا الرجل، منهم ابن عبد الظاهر ومنهم ابن شداد وأخيرا رفض السيرتين اللتين قدمتا له من قبل عبد الظاهر وابن شداد. أما رواية الدينوري فقد أعجب بها، ولكنه لم يعجب بها بشكل مطلق، بل كان يراجعها يوما بيوم، كلما كتب ذلك الكاتب فصلا راجعه وصححه. وهكذا ظهرت سيرة منقحة هي السيرة التي أرادها السلطان لنفسه لكي تكون كتاب المستقبل. وقد كانت لبضعة قرون هي كتاب اليوم لدي كل أسرة في الشام أو في مصر، يقرؤونها ويتميزون بها ويحكون بفخر عن سيرة البطل العظيم الملك الظاهر. ولكن إذا ما قارنا الملك الظاهر بصلاح الدين كان لا شيء، وإذا ما قارناه بنور الدين أو بعماد الدين أو خالد بن الوليد أو بأي من الأبطال الإسلاميين كان لا شيء، ولكنه كان أذكي منهم جميعا حينما طلب أن تكتب سيرته في حياته وبإشرافه وتمحيصه. هذا الموضوع بحد ذاته كان هو الموضوع الذي اشتغلت عليه في روايتي الجديدة صبوات ياسين ، السلاطين المعاصرين الذين يريدون أن يستولوا، ليس علي الحاضر، بل وعلي المستقبل أيضا عبر كتابة تاريخ منقح يختارونه بأنفسهم ويشرفون عليه بأنفسهم ويصدرونه للعالم لكي يكون رأيهم في العالم.

القدس العربي

14- 2005/12/13

—————————

خيري الذهبي: أكتب في رواياتي حكاية دِمشق/ حنان عقيل

الأحد 2020/03/22

الأديب السوري يؤكد أن الرواية هي سؤال الهوية وتاريخ المهمشين والمقموعين وعلى رأسهم المرأة.

ما بين حضارةٍ عريقة ووقائع راهنة دامية يُمكن للعمل السردي أن يضع تساؤلاته حول إشكالية التحولات والتبدُّلات، عن أزمة النكوص الحضاري والفكري، تصير الرواية حينئذٍ ضميرًا يُلهبه سؤال المصير والمآل بعدما تشرُع في دراسة وفحص التاريخ بُغية استنطاقه عن المآلات الراهنة وسؤاله عن آفاق مستقبل غائم، تستطيع الرواية آنذاك أن تُشكِّل مشروعًا فكريًا متكامل الأركان لاسيّما حينما يمتلك كاتبها ذلك الوعي الفني والفكري، وتلك التجربة الإبداعية الراسخة، وهو ما استطاع الروائي السوري خيري الذهبي تحقيقه عبر رحلة روائية امتدت لما يربو عن نصف قرن. منذ روايته الأولى “ملكوت البسطاء” التي نُشِرت في السبعينات وحتى اللحظة الراهنة، يُقدِّم الذهبي عبر أعماله الروائية فضلًا عن الأعمال الدرامية البارزة التي كتب لها السيناريو، بانوراما لبلده سوريا وتحوّلاتها ومُشكلاتها المُستعصيّة، ورغم رفضه المُستمِر والمُتكرّر من أن تُوصف رواياته بأنها “تاريخية”، فقد تمكّن الذهبي عبر تنقيبه في التاريخ السوري واستيعابه لمُعطيات الواقع الراهن من أن يُقدِّم حكاية دمشق خلال قرن من الزمان، لاسيّما في ثلاثية “التحولات”، وفي خِضم الحكاية السوريّة يحضر البحث عن الهُوية المُستلبة والحضارة المنهوبة والسؤال عن الخنوع للاستبداد والارتكان للضعف، تساؤلات عدة قدّمها الذهبي عبر أعماله الروائية التي جاء أحدثها بعنوان “المكتبة السريّة والجنرال” ليُقدم فيها رؤيته لما حدث في وطنه سوريا خلال السنوات العشر الأخيرة. تلك المسيرة الروائية الثريّة بما تطرحه من إشكاليات وقضايا على المستوى الفكري والفني كانت محورًا لهذا الحوار مع الذهبي في “الجديد” لاسيّما بعد أن نال مؤخرًا جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات عن كتابه “من دمشق إلى حيفا.. 300 يوم في الأسر الإسرائيلي” الذي كتبه بعد فوات ما يقرب من نصف قرن على تجربته في السجون الإسرائيلية، والذي يُقدِّم من خلاله صورة للفِكر الإسرائيلي أثناء الحرب الحاسمة بين العرب وإسرائيل؛ حرب أكتوبر/ تشرين الأول.

الجديد: تحمل العديد من أعمالك همًّا وسؤالًا حول علاقة المثقف والثقافة بالسلطة، في “المكتبة السريّة والجنرال” تُبنى الحبكة حول محاولات السُلطة استلاب الذاكرة والثقافة الأصيلة للشعب، وفي”صبوات ياسين” يأتي البطل المُثقف مشتتًا بين الإخلاص لمبادئه أو الاستجابة للسلطة، وفي “ليال عربية” هناك المثقف المنعزل والمهزوم.. كيف تشكّل لديك هذا الهم؟

خيري الذهبي: المثقف لا نيّة لديه مطلقاً إلا أن يكون مرآة لشعبه وهموم شعبه، نجد ذلك جلياً في كتابات الكُتَّاب الأوروبيين واللاتينيين والسوفييت… إلخ، فالمناخ العام الذي يعيش فيه الكاتب هو الذي يحدد قضاياه المُلِحّة والمصيرية في الكتابة. في “بلدان الموز العربية” أيّ شخص يفكر أكثر مما ينبغي خارج إطار كلمة “نعم” سيصطدم بقوة بجدار هيمنة الدولة الشمولية، سواء كان أستاذ جامعة أو عالما أو طبيبا أو لاعب كرة قدم، فما بالك بمثقف يقرأ معطيات التاريخ ويحلل الواقع ويبحث في آليات إنقاذ شعبه مما وقع فيه، الكاتب بشكل أو بآخر شاهد على عصره، ينقل نبض الناس وانكسارات الأمة ويُفلسِف وجهة نظره لتصبح وجهة نظر  جمعية، وليست فردية، لذلك لا يمكن أن يكون الكاتب منفصلاً عن الأزمة الأولية التي يصاب بها وهي وعي المثقف وعجزه أمام السلطة، لاحظي تجارب الكتاب السوفييت وتجارب الكتاب الأميركيين في نفس الفترة التاريخية، سنجد اختلافاً هائلاً في المواضيع والهموم، فحين نرى رواية “المعلم ومارغريتا” لبولغاكوف المترعة بالرمزية ومناهضة القمع والاستبداد، سنرى مسرح آرثر ميلر وكتابات وليم فولكنر الغارقة في الواقعية الاجتماعية.

في بلداننا أتمنّى لو كنت أكتب عن مجتمع صحيح ومعافى وعن قضايا واقعية ذات تخييل كبير، ولكن كتب علينا تحرير المثقف قبل تحرير كتاباته، لذلك كان التركيز على المثقف كرافعة للعمل الإبداعي قبل إكمال التجربة في الأعمال اللاحقة في تعرية مشاكل المجتمع والأمة.

الحضارة السورية

الرواية هي الفن الوحيد الذي يقف في وجه العولمة الرواية هي الفن الوحيد الذي يقف في وجه العولمة

الجديد: تُرسِّخ كتاباتك لتحولات وطنك سورية خلال خمسين عامًا لاسيّما في رواية “لو لم يكن اسمها فاطمة”، أيضًا ثلاثية التحولات: “حسيبة”، “فياض”، “هشام” نجد السؤال المؤرق عن تلك الحضارة القديمة التي انزوت وتوقفت عن العطاء.. ما الإشكالية الرئيسة برأيك التي تحكم الأزمة السورية تاريخيًا وحتى اللحظة الراهنة؟ كيف يمكن إعادة تلك الحضارة الأصيلة إلى رونقها من جديد؟

خيري الذهبي: مشكلة سوريا الطبيعية، أو بلاد الشام عموماً، والتي ورثتها بعد تقسيم سايكس بيكو، ما سميت لاحقاً بالجمهورية السورية، هي أنها كانت ممراً لصراع الأمم التي تعيش في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، سوريا الطبيعية بلد أنجب حضارات للعالم، أمّة كانت ممن أسهم في تكوين البشرية الأول، ولكن موقعها الجيوسياسي جعلها ساحة للصراع بين الفرس والروم والأناضول ومصر، ولعل تجربة دولة تدمر تدلل الكثير عن الحلم السوري، ولكن الأمة السورية لا تملك من مقومات الأمة/الدولة شيئاً، حدودها غير مُدرَكة مثل مصر أو الجزيرة العربية أو فارس، فيها تعدد عرقي ولغوي وثقافي وديني هائل، لذلك كانت كل تجارب الدول التي نهضت فيها تنتهي على يد الغزاة من جيرانها فيهدمون كل ما بناه السوريون، ولعل الصراع هذا يمتد حتى يومنا، ولا حل لتلك الأزمة إلا بالمواطنة والديمقراطية التي ستحمي حقوق الإنسان السوري وتشجعه على أن يسهم في بناء بلده بعد عقود من التهميش باسم القومية وشعارات لا دخل للسوريين بها، مغامرات القادة السياسيين الذين أودت بالبلاد إلى المجهول.

في رواية التحولات تحدثت عن ثيمة أساسية، ثيمة فلسفية وفكرية كانت نتاج تأمل وتمحيص في الحال السوري، فنحن في سوريا نعيش في مدن الواحات، أي تلك المدن التي نقضي عمرنا في الارتحال إليها وما هي إلا سراب، مدائن متفرقة متباعدة، ولننتبه إلى أن اسم الثلاثية الأساسي هو التحولات، تلك الكلمة المنحولة من الكلمة الإغريقية “ميتامورفوسيس” أي التناسخات، ببساطة الحضارة العربية المحلية كانت تتناسخ من بعضها البعض دون أيّ تجديد، أو تقدّم أو ولادة حقيقية جديدة، فأوروبا خرجت من الحضارة الإغريقية ومن الرومانية ومن العصور الوسطى الدينية ودخلت في ثورة حقوق الإنسان ومن ثم الثورة الصناعية والتكنولوجية وانتقلت إلى مرحلة جديدة بظهور أميركا، أما الحضارة العربية فقد دخلت المجمدة العثمانية، وبقيت هناك دون أيّ حراك مئات السنين، وأنا هنا ألوم شعوبنا على سلبيتهم، وعدم إدراكهم لأهمية الزمن والبقاء في خزائن التاريخ.

أمّتنا لن تتقدم إلا حينما ننسى أننا أبناء حضارة عريقة ونقف أمام مستقبلنا بكل وضوح، كفانا تباهيا بتاريخ أجدادنا ولنحاول لمرة واحد صناعة مستقبلنا ومواجهة حاضرنا، ولن يتحقّق ذلك برأيي إلا بدولة المواطنة المدنية التي تفصل الدين عن الدولة وتنتج تلقائياً ديمقراطية تحمي الناس وطموحات الناس، في رواية “لو لم يكن اسمها فاطمة” كانت فكرة المدن الميتة التي هي عليها بلادنا، المدن الميتة التي مر عليها غزاة الشرق والغرب، لن تنتهي هذه الفكرة إلا بقيامة بلادنا بقوانينها التي تحمي الإنسان أولاً وأخيراً.

سؤال الهوية

الجديد: تنشغل الرواية العربية منذ عقود بسؤال الهوية، وهو سؤال مُلِحّ لديك أيضًا، كيف يمكن أن تُفهم الهوية العربية في الوقت الراهن؟ وإلى أيّ مدى يُمكن التحكم في طبيعة العلاقة مع الآخر والانتقال من موقف الاستلاب والتبعية العمياء التي نخضع لها منذ عقود طويلة؟

خيري الذهبي: الهوية هي سؤال الرواية في العالم أجمعه، الرواية هي الفن الوحيد الذي يقف في وجه العولمة التي نعيشها اليوم، هي ببساطة محاولة لرواية تاريخ الشعوب وتاريخ البشر للآخر، الرواية المعاصرة هي تاريخ المهزومين، هي ذلك الفن الذي أتاح للمهزوم أن يكتب تاريخاً بديلاً، حقيقة أخرى، عالما آخر، أقل وطأة وأقل قسوة من الواقع الذي نعيش فيه، الرواية هي هوية المرأة المهمّشة في العالم، وهي صوت الضعفاء، من هنا تكمن أهمية إيجاد هوية حقيقية للرواية العربية، لولا روايات كتاب أميركا اللاتينية لما عرف العالم بهوية سكان البلاد الأصليين وقصصهم وأساطيرهم وهمومهم، ولما وصلنا على الأغلب سوى صدى العولمة الأميركية لديهم، كتّابهم أنفسهم يقاومون في سبيل تثبيت هوية تنجرف يومياً، جوزيه ساراماغو هو مسمار قوي أراد تثبيت هوية آيبيريا على حائط العالم، كذلك كتّاب الهند واليابان وتركيا وروسيا وأوروبا، وحتى كتّاب أميركا العظماء مثل وليم فولكنر  وسالنجر، حاولوا إضفاء صفة إنسانية على بلادهم، صفة تنبض بالحياة بعيداً عن صورة الكولونيالية والعولمة الحديثة، وهنا تكمن أهمية الروائي، الذي يتقاطع مع المؤرخ في تلك الصفة التي ذكرتها، أي كتابة التاريخ البديل عن الرواية الرسمية.

في رواياتي ستجدين حكاية دمشق خلال مائة عام، وحتى آخر القرن العشرين، متجسدة في رواية “التحولات” مثلاً، وما حصل في سوريا خلال العقد الأخير ستجدينه في رواية “المكتبة السرية والجنرال”، وقبلها ستجدين التاريخ البديل لبيروت الحرب الأهلية اللبنانية في رواية “ليال عربية” والتاريخ البديل لمدينة مثل الرقة مثلاً في “المدينة الأخرى”، ستعرفين أكثر عن فترة إبراهيم باشا في رواية “الإصبع السادسة” ولكن من خلال تاريخ شعبي، جميع أعمالي هي عالم مواز للعالم الذي نعيشه، روايات تتدفق من نبع الموروث الشعبي الذي ينهل من هوية تقاوم من أجل وجودها.

يوميات الأسر

الجديد: في كتابك “من دمشق إلى حيفا.. 300 يوم في الأسر الإسرائيلي” تسرد يومياتك في التنقل ما بين عدد من السجون الإسرائيلية.. كيف تعاطيت مع تلك الفترة من الأسر آنذاك لاسيّما وأنها كانت بعد فترة من الوهن والجرح النرجسي العربي؟

خيري الذهبي: أحداث كتاب “300 يوم في إسرائيل” جرت في العام 1974، أي تقريباً منذ 46 عاماً، وبقيت تلك التجربة أسيرة بداخلي، ولم أجعلها تسيطر على تفكيري ومحتواي الإبداعي، ولكن بعد نصف قرن تقريباً من الكتابة والعشرات من الكتب والعمل في الأدب والصحافة والدراما والمحاضرات، قررت أن أستعيد تلك التجربة لتكون الشهادة الأولى من كاتب سوري وأعتقد من كاتب عربي، على تجربة حرب تشرين، ولكن من دون عنتريات وأناشيد تجييشية وقومية، إنها شهادة من الداخل الإسرائيلي الذي يحتل الجولان وفلسطين، على ما جرى في تلك الحرب الحاسمة بين العرب وإسرائيل، هناك كان الواقع مختلفاً، حيث نبض الحرب يختلف عمن عايش الحرب في دمشق أو القاهرة أو باقي البلدان العربية، دون أناشيد حماسية وخطب رنانة وأكاذيب الإذاعات العربية.

هناك كنّا كأسرى نرى لأول مرة ما كنا نجهله عن “دولة إسرائيل” كنا نعتقد كما علّمونا في المدارس والإعلام بأن اليهود كائنات شيطانية قادمة من الفضاء، وإذا بنا فجأة وجهاً لوجه مع الأعداء في الأسر، تعرفنا عليهم وعلى قسوتهم في التعامل مع العرب والأسرى عموماً، ولكننا شاهدنا تنظيمهم وعرفت حينها سبب هزيمتنا وسبب انتصارهم علينا، إن أردنا ألا نستمر في الكذب على أنفسنا وعلى الأمة فيجب علينا معرفة ذلك المحتل لأرضنا عن قرب، ونحدد نقاط قوته، ونعزّز ديمقراطيتنا التي ستمنحنا يوماً ما القدرة على الوقوف واستعادة ما فاتنا.

هناك في معتقلات حيفا ومجدو واللد، شاهدت الأسرى السوريين والمصريين واللبنانيين والفلسطينيين، وتعرفنا على اليهود العرب وأسباب تخليهم عن بلدانهم ولجوئهم إلى إسرائيل، تعرفت على فكرة التخطيط التي اشتغل عليها الإسرائيليون، وعلى مفكريهم السياسيين وعلى سؤالهم المُلحّ الدائم: كيف ترون دولة إسرائيل، وما هي مشاعركم تجاهها. اليوميات داخل المعتقلات الإسرائيلية مترعة بالتفاصيل اليومية التي تعكس كيف كنا نفكر، وربما ما نزال، وبين كيف كانوا هم يفكرون، وغالباً ما يزالون.. إن الصراع إذن هو صراع آليات التفكير  بالدرجة الأولى.

حياة مُخططة

الجديد: كثيرًا ما يتحدث المُبدعون عن التأثير الطاغي لفترات الأسر والاعتقال على حياتهم بشكل كامل، إلى أيّ مدى أثّرت تجربة الأسر في السجون الإسرائيلية على توجهاتك وأفكارك ورؤيتك لحياتك المُقبِلة؟ هل غيّرتك أم عززت ووثقت ما رسمته لذاتك سلفًا؟

خيري الذهبي: على الإطلاق، لقد وضعت تجربة الأسر في إسرائيل والتي استمرت لمدة 300 يوم في صندوق رمادي، ودفنتها داخل أعماق صدري، وبدأت العمل على مشاريع روائية وأدبية وفكرية شغلتني في نصف القرن الممتد من الاعتقال وحتى اليوم، عملت على قضايا روائية غاية في الأهمية، كنت أؤرّخ روائياً لمدينة دمشق ومن ثم أرّخت لبلاد الشام والمنطقة روائياً، كتبت عن حياتي وعالمي الذي تربيت فيه، عن الناس وأحلامها وإحباطاتها وفرحها، ما قالوه وما لم يتسنّى لهم قوله، ومن ثم بدأت التنقيب في تاريخ المنطقة والبحث في الطبقات الجيوتاريخية التي شكّلت الإنسان العربي المقهور والمُعنّف حالياً، ووصلت لما وصلت إليه، ولو لم أقفل على تلك التجربة بالمفتاح، لكانت سيطرت عليّ بالكامل ولربما قضّيت عمري أسيراً لدى تلك التجربة، ولكنني صمّمت على تحرير نفسي من تلك التجربة تماماً حينما كنت أهبط سلّم الطائرة عائداً من حيفا إلى مطار المزّة العسكري، وحينما قلدت وسام الشجاعة من الجيش السوري وقتها، طلبوا مني الاستمرار في العمل في الجيش والترفيع العسكري، ولكنني رفضت رفضاً قاطعاً، كنت أريد بناء جدار بيني وبين تلك المرحلة التي فُرضت عليّ، وأعتقد أنني نجحت، رغم أن الكتاب حقق نجاحاً كبيراً حين صدوره بعد نصف قرن، ولكنني كنت مصمماً أن أقود حياتي كما خططت لها، وليس كما تريد الأهواء أن تتقاذفني.

روايات تتدفق من نبع الموروث الشعبي روايات تتدفق من نبع الموروث الشعبي

فيروس الحكي

الجديد: بدأت الكتابة باكرًا في عقدك الثاني من العمر.. ما الدافع الذي قادك نحو كتابة الرواية؟ أيّ المحطات في حياتك كانت مؤسسة لحسّك الحكائي لاسيّما وأن شغفك بالعودة إلى التاريخ قد بدأ مع عملك الأول “ملكوت البسطاء”؟

خيري الذهبي: في بداياتي كنت أعلم أنني سأكون أحد الناطقين باسم هموم الناس وأحلامهم، ولكنني كنت أبحث عن شكل هذا التعبير، أو شكل الأداة التي ستنقل هذا التعبير، ذهبت لدراسة السينما في مصر، ولم أكمل، وذهبت لدراسة السينما في باريس ولم أكمل، وكتبت المسرحية ولم تشبع شغفي في التفاصيل، ومبكّراً تذكّرت أن “ألف ليلة وليلة” كانت وما تزال ديوان حكايا العرب، وتذكرت أن الرواية المعاصرة هي ديوان العالم الحديث وأن الفن هو الأكثر قدرة على تطويع الفنون في داخله، واحتواء الكون في جله بداخلها، كان هذا السقف المرتفع بالنسبة إلى شاب صغير مثلي حينها، مغرِ جداً، فكتبت الكثير من الروايات وأتلفت الكثير من الروايات التي لم تسمعوا عنها مطلقاً.

أؤكد مجدداً أنني لا أكتب الرواية التاريخية مطلقاً، فالرواية التاريخية هي مشابهة لأسلوب جورجي زيدان مثلاً، أما أنا فأكتب الرواية التي تكتب تاريخاً موازياً للتاريخ الحقيقي، أكتب رواية تستند على جزء من التاريخ المتعارف عليه لأبني لنفسي عالماً آخر، ولشخوص رواياتي حقيقة أخرى مدهشة تختلف عن التاريخ، لا يمكن مطلقاً أن تقرأ رواية “فخ الأسماء” وتعتبر أن هذا هو تاريخ المغول في الشرق، لكنها رؤيتي للمغول في شرقنا، ولا يمكن أن نعتبر أن قتل الأهالي لمن يملك إصبعاً سادساً في رواية “الإصبع السادسة” هو حقيقي بقدر ما هو  مختلق وتخييلي.

يمكنني القول إن فن القص هو قدر من عاش قريباً من مقهى النوفرة في الخمسينات، لا يمكن لإنسان أن ينسى الدهشة والشغف والحب المرتسم على وجوه المستمعين للحكواتي في أزقة دمشق، أبوخليل القباني مثلاً هو حكّاء مدهش وروائي عظيم، اختلق القصص والروايات والحكايات ومسرحها، فهل نقول إن أبا خليل القباني ينتمي للمسرح التاريخي، الحكاية هي “DNA” متوارث في شوارع دمشق، وقد التقطت هذا الفيروس مبكراً، ربما هو الفيروس ذاته الذي أصاب أبا خليل القباني وحكواتية الشام عموماً.

توظيف التاريخ

الجديد: تؤكد دومًا أنك لا تكتب الرواية التاريخية لكنك توظف التاريخ روائيًا.. لمَ جاء هذا الخيار الدقيق في كتاباتك؟ هل هو محاولة لتجنب المُباشرة والمُحاسبة على دقة العمل من منظور تاريخي أم رغبة في مزج الواقعي بالخيالي تحقيقًا لقدر أكبر من الحرية لك ككاتب؟ وما رأيك في ذلك التوجه الكثيف من قِبل روائيين عرب نحو كتابة الرواية التاريخية خاصة بعد الثورات العربية؟

خيري الذهبي: التأمل في قصص الناس في المجتمع أمر مستمر، ولا يقتصر على الواقع، لكل حكاية وشخصية روائية بعد ملحمي، ألحّ في البحث عنه والتقصي فيه، من أجل هذا أعود إلى الأصول الحكائية، إلى جذر القضايا الاجتماعية التي أعمل عليها، في “صبوات ياسين” رجعت إلى جذر الطاغية المحلي، وحللت أصل مشكلة التبعية للمستبد، البعض يسمّي هذا غوصاً في التاريخ وأسميه عودة إلى الأصول من أجل إيجاد النبع الذي شربت منه كل الشخصيات التي أودّ الحديث عنها، السرد فعل عجيب، فما إن يفتح باب السرد حتى تتدفق قصص مترابطة عجيبة، هو مثل المشهد العجائبي في رواية “الدوران في المكان” حينما يفتح هشام الغطاء الحجري عن الفتحة في أرض المطبخ، ويشد الأوساخ فتخرج سلاسل غير منتيهة من تاريخ الأجداد، حكاياهم، سيئاتهم وحسناتهم، إنه تراكم يجب على أحد ما أن يفض تشابكه في كهوف نفوسنا، نحن مشبعون بالتاريخ، نحن شعوب تتفاخر بشجرة العائلة، وهذا تاريخ شخصي، وهناك من يتفاخر بالأنساب وهو تاريخ جمعي، التاريخ يتشعب ليصبح روايات متضاربة، أنا أسرد روايتي عن تلك الأحداث، لذلك هي ليست رواية تاريخية بالمعني التقني، بل رواية تستند إلى تاريخ ما.

 أما الحديث عن كتبة روايات تاريخية، فلا أعتقد أن هنالك من يكتب رواية تاريخية، لأن الرواية التاريخية انتهت مع جورجي زيدان وجيله، أما من يكتب عن حادثة تاريخية ويحلق في التخييل فيها فلا مجال أن نسمي منجزه بالرواية التاريخية.

كتاب نقدي

الجديد: هل يمكن اعتبار كتابك “محاضرات في البحث عن الرواية” في الجانب الأكبر منه محاولة لرصد تجربتك الإبداعية في كتابة الرواية في مسيرة امتدت لما يقرب من خمسة عقود؟ أهي تجربتك الذاتية أم أنه عمل نقدي تنظيري؟

 خيري الذهبي: كتاب “محاضرات في البحث عن الرواية” هو مجموعة من المحاضرات كنت قد ألقيتها في عدد من الدول في العالم، هي تجارب مختبرية كان يمكن لها أن تكون روايات عظيمة ولكن لم يقدّر لي أن أكتبها وأستكملها، مثلاً محاضرة “سيد حامد أبوزيد” الأسير المرافق لسيرفانتس في سجنه في الجزائر، هي رواية مكتملة الأركان، شخصيات مركبة وتملك فرادة عجيبة، هي رواية بديلة عن رواية سيرفانتس، رواية الشرق لذات القصة، لم أنجزها كعمل روائي، بل تركتها في مختبري المفتوح أمام الراغبين في معرفة آليات عملي الروائي، وتفكيري في صناعة الرواية، يجب على شخصيات الرواية أن تكون ذات همّ حقيقي.

البحث عن الرواية هو فعل سيزيفي، ننجزه كروائيين في كل مرة وكل رواية، نرفع فيها الصخرة للأعلى ونعيد رميها للأسفل من جديد، بحث عبثي عن فن عبثي، لكن بالطبع كتاب “المحاضرات” هو كتاب نقدي تنظيري، يبحث في الأصول الحضارية لفن الرواية، يبحث في مأزق الرواية العربية، ومكامن ضعفها، نقاط قوتها وأصولها، محاضرة “الأمبوبايا” مثلاً هي نموذج في البحث عن الهوية كما تفضلتِ، وهي تسلسل بحثي يصف الرّوي في بلاد الشام مثلاً.. وبالمناسبة الجزء الثاني من كتاب المحاضرات بات جاهزاً تقريباً.

الشكل الفني

الغوص في التاريخ عودة إلى الأصول الغوص في التاريخ عودة إلى الأصول

الجديد: مثلما نجد الاعتناء بالمضمون الروائي في كتاباتك، فثمة اهتمام مماثل بالشكل ممثلا في الاهتمام بتقنيات السرد وطرائقه سواء ما شاع منها غربيًا في البداية كتعدد الأصوات وتداعي الذاكرة أو الاهتمام بالتراث العربي في السرد والتأثر به بدرجة ما.. كيف تشكّل لديك هذا الوعي؟ هل جاء قصديًا أم نتاج تواشج غير واع بين روافدك المعرفية المتعددة؟

خيري الذهبي: المعمار الروائي أمر معقد وتفصيلي، وكما تولد الرواية يولد شكلها المعماري السردي، وتموضع الشخصيات. أنا أُقسِّم تجربتي الروائية إلى أربعة أقسام: في المرحلة الأولى جربت رواية الأصوات وتعددها: كما في “ملكوت البسطاء” و”طائر الأيام العجيبة” و”ليال عربية”، وغيرها. في المرحلة الثانية، جربت بالفعل تداعي الذاكرة والتدفق الأوتوماتيكي للحكاية الحدث، الزمن المتصل فنياً للقصة، كما في “حسيبة” و”فياض” و”الدوران في المكان”. في المرحلة الثالثة بدأت العمل على المونتاج الفني للزمن وعلى بنية الزمن المعقدة وتحقيق قفزات زمانية فنية في الحدث من أجل كسر إيهام القصة وفتح باب التأمل في الحدث واللغة قدر الإمكان بدلًا من انتظار التشويق والحبكة كما في “رقصة البهلون الأخيرة” و”فخ الأسماء”. أما في المرحلة الرابعة في الروايات المتأخرة عملت على الزمن الحلزوني المُعقد الذي قد يصل إلى نهاية وقد لا يصل إلى نتيجة متوقعة، بت أبحث عن معمار روائي يُلبي تعقيدات البنية السردية والتخييل، امتزجت الواقعية السحرية بالموروث الشعبي والقصصي كما في “صبوات ياسين” و”المكتبة السرية والجنرال” و”لو لم يكن اسمها فاطمة”.

أصف معماري الروائي حتى اليوم بالتجريبي، أحياناً أبني رواية بشكل هندسي بحت، متناظر ومتواز أدخل شخوصي من باب وأخرجها من باب آخر، وأحياناً أبني معماراً مشوهاً ولكنه متين، متناسب مع حدث القصة وحبكتها، ربما كان بالإمكان استنساخ معمار رواية سابقة لي، ولكن عشق التجريب يجعلني أبحث في كل مرة عن شكل جديد جداً علي، هنالك روائيون يعتمدون شكلاً روائياً واحداً ويسحبونه على مجمل أعمالهم، فيمكنك من خلالها معرفة اسم الكاتب من بداية الرواية، أما أنا فلا يمكنني أن أستنسخ نفسي مطلقاً في شكل الرواية، ولكنكم إن دخلتم إلى عالم روايات خيري الذهبي، ستجدون عمارات غير متناسقة منها المدبب ومنها المستطيل ومنها المدور، في تشكيل فني مدهش، ربما في عوالم روائيين آخرين، ستجدون أحياء سوفيتية مُسبقة الصنع متشابهة حد الملل.

قصدية الرواية

الجديد: في كتاب “التدريب على الرعب” تحدثت عن إنكار كثير من الكُتاب لمسألة القصدية في كتابة الرواية أو التخطيط المُسبق.. برأيك، ما السبب وراء كل هذا الفزع والإنكار الذي يمارسه معظم الكتاب في التعامل مع قصدية الكتابة؟

خيري الذهبي: في بلادنا كان وما يزال الفن الأكثر قرباً وسهولة من الراغبين في أن يكونوا كُتّاباً هو الشعر، وإذا ما فنّدنا أسماء الكثير من الكتاب وجدناهم بدأوا بكتابة الشعر ومن ثم انتقلوا إلى الرواية في مرحلة مُتقدمة، ربما هي الرهبة من دخول معمار هائل ومُنظّم هو الرواية، وربما كانت الرغبة في ألا يتلقوا نتيجة ما فعلوا إن هم اقتحموا عوالم الرواية، بالقول إنّ ما كنا نكتبه هو “نص مفتوح” أو تجربة روائية، الرواية فن بسيط يمكن لأيّ كان أن ينجزه، فتكون النتيجة بيتا بطابق واحد ونافذتين، كما في الأغاني الرعوية، ولربما وضع المتشبهون بالغرب فوقها قرميداً فأصبح بيتا مربعا بنافذتين، وفوقه مثلث أحمر اللون، فيكون بيتا، ببساطة روائية، مثل الرواية البسيطة، ولكن من الممكن أن تصبح الرواية معماراً عظيماً، ناطحة للسحاب مثلاً كأعمال بول أوستر، أو هرماً كما هي أعمال نجيب محفوظ، أو هرماً مدرجاً كأعمال ماركيز…  إلخ، من هنا يكمن الاعتراف بقصدية البناء، حسب النتيجة، أفق التوقع غالباً ما يكون أكبر من الرواية نفسها.

القدر الروائي

الجديد: إلى أي مدى من الممكن أن يتغير المعمار الروائي المُتخيل لديك قبل الكتابة لاحقًا؟ هل هو تغيير في التفاصيل أم من الممكن أن تتغير الأسس ذاتها المُخطط لها مُستقبلا؟

خيري الذهبي: غالباً لا تقود الرواية نفسها لديّ. في أعمالي كل شيء مُقدّر ومُنسّق قبل الكتابة، أنا أمشي كثيراً، وكل من يعرفني يعرف أنّي مشّاء صبور، وفي أثناء المشي أبني العمل الروائي، أفكر فيه طويلاً، أفكر في شخصياته ودوافعها وأماكنها وحظوظها وإحباطاتها، أبني كل شيء، لا يمكن أن يحيد النص عمّا رسمت له، ربما قليلاً في النهايات أتفاوض مع الشخصيات على مصائرها، ولكنني في النهاية، آخذها حيث قدّر لها خالقها أن تكون، وخالقها الذي هو أنا، يعرف بالضبط في كتاباته أين ستنتهي، رغم محاولات تلك الشخصيات التفلّت والتمرد ولكن القدر الروائي أكبر من طموحات شخصية منفعلة.

القارئ الواعي

الجديد: ما هو الشكل الذي يربطك بقارئ أعمالك؟ إلى أيّ مدى يشغل حيزًا من تفكيرك أثناء الكتابة؟ وما طبيعة التلقي الذي تنتظره لأعمالك؟

خيري الذهبي: أنا كاتب أُفكر بالقارئ في كل سطر أنهيه، القارئ الحقيقي، هو القارئ الذي أتوجّه إليه، لا أتوجه إلى قُراء الجوائز مثلاً، ولا يهمّني قُراء الكتب الأكثر مبيعاً، أنا أكتب لقارئ متأمل لديه وقت ليعيش معي رحلة فكرية سردية، ستأخذه بعيداً عن مجلسه، ولكن ما يشغلني على الدوام هو القارئ الذي ينتمي لجيل أحفادي، وأسعى بشكل حثيث لتطويع كتابتي كي أجذبهم، لرغبة متبادلة لدينا في الإفادة والاستفادة، لأن نصوصي تنتمي لسنوات قادمة وليست لأحداث آنية، تسعدني جداً الطفرة البسيطة في عدد القرّاء مؤخراً في العالم العربي، ويسعدني انبثاق عدد من دور النشر في سوريا ومصر وأوروبا، ممن يمشون ضد التيار ويسعون لتقديم كتاب بديل، حتى ولو كان صعباً، يسعدني إيمان بعض الناشرين بالرواية العربية وبأنها ليست أقل أهمية من الرواية الأوروبية على سبيل المثال، هذا الأمر مشجع، ولكن قلة دور النشر وقلة عدد الكتب المنشورة في العالم العربي أمر يخيفني، هنالك مليارات تُصرف على الجيوش في جميع البلدان العربية، بينما مدن قائمة بأكملها تعيش من دون مكتبات، ومن دون نشر حرّ مدعوم من الدولة، يجب على القمم العربية مثلاً، أو القمة الخليجية دعم الكتاب العربي، ما الضير في طباعة مليون كتاب عربي خلال عشر سنوات، هل تعجز الدول العربية مجتمعة أن تموّل مشروع نشر مليون كتاب عربي في عشر سنوات. إنها صرخة ربيب مكتبات عاش بين الكتب لنصف قرن.

قِبلة العرب

الجديد: تلقيت تعليمك الجامعي في مصر خلال فترة الخمسينيات.. لم جاء هذا الاختيار؟ وكيف أثرت تلك الفترة على تكوينك الفكري والثقافي خاصة وأنها كانت من الفترات التي شهدت ازدهارًا جليًا في الثقافة المصرية؟

خيري  الذهبي: في بداية الستينات كانت مصر قِبلة للعرب أجمعين، كانت تشهد في تلك الأيام ثورة ثقافية عارمة، أركانها عمالقة في البحث والاستقصاء، ثورة ثقافية مكتملة الأركان في المسرح والسينما والأدب والبحث والعمل الجامعي، والرواية والشعر والقصة القصيرة والأغاني، بينما كنا غارقين في انقلابات عسكرية لا تتيح للمجتمع أن يهدأ ويلملم نفسه حتى يعاود العسكر نسف كل شيء والبدء في بناء مجتمعهم من جديد، من اليمين إلى اليسار، ومن الرأسمالية إلى الاشتراكية، ضاعت الأجيال، دون أن يتسنّى للمدارس الأدبية أن تأخذ وقتها بالتشكل والازدهار، تجارب مسرحية هامة في المسرح الشعبي أجهضت، وأسماء هجرت من البلد، ومنع العمل في السينما إلا بأطر الدولة، والكُتّاب احتجزوا داخل نقابة وضع على رأسها ضابط مخابرات، وكذلك في كل الاتجاهات الثقافية، بينما في مصر تلك الأيام كانت قوة الدفع المنطلقة من الفترة الملكية ما تزال تدفع الحركة الفنية نحو الأمام بشكل قوي جداً.

 كنا كطلاب أمام أسماء من كبار مثقفي العالم حينها، طه حسين اسم كبير جداً في البحث الفكري والأدبي، لا يقل أبداً عن جان بول سارتر وأندريه جيد، زكي نجيب محمود ونجيب محفوظ ومحمود تيمور والعشرات من المفكرين المصريين كانوا ينشرون الوعي في كل أرجاء الحياة الثقافية المصرية، وكنت هناك ألتقط ما استطعت التقاطه من أفكار للكبار ومن كتب على الرصيف، بأسعار لا تذكر، بينما كنا في سوريا والعراق أمام مفكرين سياسيين، ما زالوا يبحثون عن شكل سياسي للبلد، ميشيل عفلق وصلاح البيطار والسباعي وأنطون سعادة وآخرين كانوا هم واجهة الفكر والعمل الجمعي، حينها لم تغرني السياسة أبداً، بل اجتذبتني الثقافة مثل فراشة تسير سيراً حثيثاً نحو النور.

تحولات دامية

الجديد: كيف تنظر إلى الوضع السوري راهنًا بعد ما يقرب من تسعة عقود من الثورة؟ ما المصير المُنتظر مُستقبلا برأيك في ظل تلك التحولات الدامية؟ وأيّ دور يُمكن أن يضطلع به المُثقف في تلك الأزمة؟

خيري الذهبي: لا مناص في المسألة السورية، سوى الديمقراطية، هي كلمة واحدة سحرية ستحلّ كل مشاكل البلد، الديمقراطية، التي ستولّد مجتمعاً مدنياً غير ديني وغير استبدادي، سيحمي الجميع. أما عن المثقف فهو زرقاء اليمامة الذي يتحدث بما يتوقعه ويراه  دون أن يلتفت إليه أحد.

موجة جارفة

تولد الرواية ويولد شكلها المعماري السردي تولد الرواية ويولد شكلها المعماري السردي

الجديد: في السياق، هناك العديد من الأعمال الإبداعية التي اتخذت من الثورة والأحداث التالية لها موضوعًا روائيًا.. كيف قرأت تلك الأعمال التي كُتبت أثناء فورة الحدث وطُغيانه؟ وهل تُخطط للكتابة عن تلك الفترة في وقت لاحق؟

خيري الذهبي: كل الأعمال التي خرجت عن الثورة، هي أعمال تناولت جانباً من تلك الموجة الجارفة، لكن التحولات التي تحدث لم تنته وبالتالي لا يمكن الكتابة بشمولية عن أمر غير منته التحقق، كل كتابة الآن هي فعل منفعل منطلق من مشاعر غضب أو إحباط أو دعم عاطفي، أو قهر أو ظلم، الرواية لا يمكن أن تبنى إلا على إلا على العقل، والعقل مغيّب تحت طبقات الغضب حالياً.

كتابة السيناريو

الجديد: ما الذي أضافته الدراما إلى مسيرتك الإبداعية؟ وإلى أيّ مدى يمكن اعتبارها قد عززت تواصل المُتلقي العربي مع أعمالك الروائية؟

خيري الذهبي: السيناريو فن مختلف عن الرواية جملة وتفصيلاً، حاولت في البداية أن أصنع دراما روائية، ولكن التيار جرف الجميع نحو الإبهار والسرعة، نحن في عصر سريع جداً، لا يؤمن بطول البال والتأني، ولكن فيما يخص السيناريو، وأنا قد كتبت ما يزيد عن 15 عملاً بين التلفزيون والسينما، فإني أفتخر بما أنجزته في هذا المجال، لأنني جئت إلى هذا العالم كي أروي قصصاً وروايات للناس، عن الناس، ومن أجل الناس.

مسيرة روائية

الجديد: كيف تُحاكم مسيرتك الروائية حتى اللحظة الراهنة؟ ما الذي ندمت على فواته؟ وما الذي يُشكِّل مصدر فخر بالنسبة إليك تعتز به دومًا؟

خيري الذهبي: لديّ رغبة أن أكتب عشرين كتابا في السنوات القادمة، أرجو أن يحالفني القدر والزمن والصحة في إنجاز ذلك، فأنا أملك العشرات من الروايات في عقلي والعشرات من الأبحاث والكتب في ذهني، لكنني فخور جداً بما أنجزت، لقد كتبت لنصف قرن، بين الرواية والقصة والصحافة والسيناريو والأبحاث ما يزيد عن وزني بضعفين من الورق، ولم أقل بعد نصف ما لديّ من حكايات.أعمل حالياً على كتابين “الجنة المفقودة” و”فانتازيا ما وراء الموت”. وأعتقد أنهما سيجدان طريقهما إلى النشر في 2020.

ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الثقافية اللندنية

كاتبة مصرية

العرب

—————————

خيري الذهبي: الديمقراطية والمواطنة هما البوابة الوحيدة لخلاص سورية

06 شباط/فبراير 2021

غسان ناصر

في حوار مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، مع المؤرخ والمثقف الموسوعي والكاتب والروائي السوري خيري الذهبي، نقف وإياه على صفحات من سيرته ومسيرته الإنسانية والنضالية والإبداعية، وسيرة توأمه (الجمهورية السورية) -كما يحلو له وصف علاقته الحميمية بالبلاد- التي شهدت ولادته مرتين: الأولى عام 1946، والثانية في منتصف آذار/ مارس 2011، يوم انتفض السوريون، بعد أربعين عامًا من حكم العائلة الأسدية الاستبدادي الوحشي الطائفي الفاسد، رغبة منهم في الخلاص والحرية والكرامة، وهي الرغبة التي رافقت صاحب (ثلاثية التحوّلات)، منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي.

غادر الذهبي دمشق إلى مصر، في بداية ستينيات القرن الماضي، وهناك تلقى تعليمه الجامعي في جامعة القاهرة، وتخرج فيها حاملًا الإجازة في اللغة العربية، حيث درس الأدب العربي، وتتلمذ أدبيًا على أيادي نجيب محفوظ وطه حسين ويحيى حقي، وغيرهم من كبار كتّاب المحروسة، ثم عاد إلى عاصمة الأمويين، ليعمل مدرسًا لمادة اللغة العربية في مسقط رأسه، ومن ثم في مدينة الحسكة (شمال شرق سورية)، إلى أن التحق بخدمة الجيش الإلزامية، حيث فُرز كضابط ارتباط مع قوات الطوارئ الدولية على خط الهدنة مع “إسرائيل” في الجولان المحتل، ووقع أسيرًا لدى جيش العدو الإسرائيلي، إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. واستمرت مدة أسره 300 يومًا، ليعود بعد تحرره من الأسر إلى دمشق مُسهمًا في حركتها الثقافية والفنية؛ قاصًا، وروائيًا، وكاتبًا مسرحيًا ودراميًا، ومترجمًا عن اللغة الإنكليزية، ومشاركًا في تحرير العديد من الدوريات الثقافية السورية.

ضيفنا الدمشقي، صاحب الذكريات الجميلة والثرية عن دمشق، وعن عموم سورية في الفن والثقافة والمجتمع والسياسة، صدر له -على مدار أكثر من خمسة عقود- عشرات الكتب، نذكر منها، من الروايات: (ثلاثية التحوّلات: «حسيبة» 1987، «فياض» 1989، «هشام أو الدوران في المكان» 1997)، «فخ الأسماء» 2003، «لو لم يكن اسمها فاطمة» 2005، «صبوات ياسين» 2006، «رقصة البهلوان الأخيرة» 2008، «الإصبع السادسة» 2013، و«المكتبة السرية والجنرال» 2018. ثم أصدر بعد عام كتابه «من دمشق إلى حيفا 300 يومًا في الأسر الإسرائيلي»، عن “منشورات المتوسط” في ميلانو، ونال عليه جائزة “ابن بطوطة لأدب الرحلات” عام 2019. ولضيفنا أيضًا، مجموعة قصصية موسومة بـ «الجد المحمول» 1993. ومقالات مختارة بعنوان: «التدريب على الرعب» 2006، وكتاب «محاضرات في البحث عن الرواية» 2016. ومن ترجماته: كتاب «قصص من بلغاريا». كما كتب العديد من الأعمال الدرامية للتلفزيون السوري، منها: «ملكوت البسطاء»، و«الشطار»، و«ردة لخريف العمر»، و«رقصة الحبارى». و«حسيبة»، و«ملحمة أبو خليل القباني». إضافة إلى مسلسلات إذاعية، وأفلام تلفزيونية، منها: «وجوه ليلى»، «العنوان القديم». وتحوّلت روايته «حسيبة» إلى فيلم سينمائي حمل الاسم نفسه، أخرجه المخرج السينمائي السوري الراحل ريمون بطرس.

هنا نص حوارنا معه، وفيه يستحضر الزمن السوري الماضي والحاضر والقادم..

بداية، كيف تُعرّفنا إلى نفسك؟ سيرتك؟ وكيف ذهبتَ إلى عالم السرد؟

ولدتُ في مدينة دمشق مصادفة، وربما كان يمكن لأسرتي أن تكون من حيفا أو أنطاكيا أو حلب أو بيروت، لكنني ولدتُ في دمشق في مصادفة قدرية، حيث كان والداي يخططان للانتقال من المدينة للعمل، ومصادفة كذلك ولدتُ في السنة التي وُلدت فيها سورية كبلد مستقل جديد، ناصع، تحت مسمى “الجمهورية السورية”، لذلك فإنّ سيرتي الشخصية تتقاطع مع سيرة الجمهورية الجديدة، بكل خيباتها وفرحها القليل واضطرابها وسكونها، ولذلك أشعر بالفعل بأنني إن لم أكن شاهدًا على مسيرة هذا البلد فأنا على الأقل في حالة توأمة مع هذا البلد الذي ولدت في قلبه وفي عاصمته التي تنافرت وتجاذبت وتخاصمت وتصالحت مع كل الدول حولها، ومن ثمّ لم تكن حياتي هذه إلا مرآة لما يحصل، كان كلّ جديد على حياتي الشخصية جديدًا على هذا البلد، التلفزيون والراديو والانقلابات والرواية والتكنولوجيا، كنا أنا والجمهورية السورية نكبر معًا، ونتعلم معًا، نرتكب الأغلاط ونتصالح ونتخاصم، في البداية، ولعل مصائرنا متشابهة، فأنا لم أعش مراهقة طائشة، بل كانت طفولتي ومراهقتي وشبابي متزنة ومستقرة تخللها كثير من العمل والأمل، مثل الجمهورية تمامًا، وإنما بدأت مرحلة الاضطراب متأخرة، كما حال البلد بعد الوحدة والانفصال الذي أثر فينا معًا عميقًا، حتى خوفنا المشترك من الانقلابات وانتظار المجهول القادم منها، وصولًا إلى سكونية الانقلاب الأخير الذي استمر حتى يومنا هذا، وبعثر حياتنا أنا والجمهورية خصوصًا في العشرية الأخيرة، بعد أن تركت بلادي، وتلك أطول مدة نفترق فيها أنا والجمهورية السورية بعضنا عن بعض، ولا أقول أنا إلا لأنني ابنٌ وديع لهذا البلد، ولا أريد له إلا الازدهار والخير والديمقراطية التي ستبني قبة من حديد تحمينا جميعًا.

وبما أنني والجمهورية توأمان، فقد كان في داخلي دومًا حافز أساسي يدفعني إلى الكتابة والإحاطة بها، كمن يكتب مذكرات شخصية عن شخص عرفه عن قرب، بعثراته وتلعثمه وعقوق أولاده وصلاح الآخرين منهم، عن أحلامها وأحلامي، عن جمالها وتأملي بها، لذلك فأنا أشعر بأني عشت لأكتب عنها، وتلك ربما مصادفة، اتخذتها دافعًا لي للتعبير عن الامتنان لها من صداقة رائعة عشناها في طفولتنا المشتركة، وعتب كبير نعيشه في يومنا هذا..

إنهاء تفرّد البعث بالسلطة وإجراء انتخابات حرة

من تريد أن تذكر من أصحاب التجارب الكتابية الإبداعية التي أَثَّرَتْ فيكَ، وأَثْرَتْكَ أيضًا في مرحلة البدايات؟

في طفولتي، اكتشفت مكتبة والدي الضخمة التي كانت مقفلة علينا، نحن أولاد العائلة جميعًا، بدعوى أنّ الكتب تفسد الأطفال، بما تحتويه من تنوع للكتب والروايات التي ستأخذنا من عالمنا الحالي، وتنقلنا إلى عالم الوهم غير الحقيقي، وكان الوالد يريدنا أن نكون أبناء الواقع، وألا نغرق في بحور الوهم، طبعًا المكتبة كانت تحتوي على كل أصناف الكتب التراثية والدينية، إضافة إلى الأدب العربي والأجنبي والمجلات، لذلك كانت هي الغرفة الوحيدة المقفلة في بيتٍ يحتوي على طفل مثلي، وضع نصب عينيه أن يقتحم تلك المغارة التي تحتوي كنزًا يخفيه والدي. بالطبع، استطعت في غفلة من الزمان اقتحام المكان، وبدأت أتردد عليه مثل طائر الستيتية الذي يدخل من كسر في النافذة العلوية، هو كان يعشش بين المجلدات في الرفوف العلوية، بينما أنا كنت أبني عشًا لي في أول كتاب اختاره القدر لي مصادفة أيضًا، وهو «ألف ليلة وليلة»، وحينما فتحت الكتاب كنت كمن يفتح صندوقًا من الذهب، أذكر سطوعًا في عقلي وعيني خرج من نسخة بولاق تلك، التي كانت تحتوي من المغامرات والحكايا ذات القدر الذي تحتويه من الغبار المتراكم فيها منذ عقود، ويمكنك القول إنّ ذلك الكتاب كان هو معلّمي الأول في الكتابة وفي القراءة، وإلى يومنا هذا لم أقرأ كتابًا بمثل جماله ومتعته، وكم كنت محظوظًا في تلك الأيام الطوال التي خضت فيها في مجلداته الأربعة، جيئة وذهابًا! وهل يحتاج أي أديب في العالم إلى معلّم أهمّ من العسل المقطّر المكنوز في ذلك الكتاب، الذي كنت أنهل منه في خلوتي في تلك المكتبة المغارة، كمن يشرب من ماء الحياة، تركت طفولتي وتركت الدراسة والشارع والجري خلف القطط والحمائم، وعشت هناك بين أوراق «ألف ليلة وليلة» وكتاب «الأغاني»، ولاحقًا بدأت أستكشف الروايات المدسوسة في ثنايا المكتبة، أرسين لوبين وأجاثا كريستي وسيّد قريش والمنفلوطي وتوفيق الحكيم وروايات نجيب محفوظ الذي التقيتُه لاحقًا في القاهرة، وانضممتُ إلى حلقته الكبيرة ومن ثَم الصغيرة، أستمع لحكاياه وجلساته النقدية، في القاهرة أيضًا انجذبت إلى عقل عربي هائل في الجمال هو العميد طه حسين، الذي كان عمودًا أساسيًا في الثقافة الجديدة في العالم العربي وأحد مجددي العقل العربي، كان طه حسين يفكر بطريقة غير تقليدية، بل كان يقلب لنا كل ما تعلمناه رأسًا على عقب، ومن هذين الرجلين تعلّمت أنّ الأصالة والتجديد هما أساس الثقافة العربية المعاصرة، وعلى ذلك بنيتُ فكري وأسلوبي الكتابي.

بالعودة إلى الوراء؛ كيف تتذكر سنواتك في الثلاثينيات من عمرك كاتبًا؟

السبعينيات كانت هي سنوات تمكين الخط الكتابي، كنتُ قد خرجت من تجربة الأسر في “إسرائيل”، وبدأت أكتب بكثافة في الرواية والقصة القصيرة والمسلسلات الإذاعية التي كتبت منها العشرات، وكذلك للتلفزيون.. تفرغت لدراسة التاريخ وتوضيح تشابكه مع الأدب العربي، كانت فترة التفريغ والتعبير عن سخطي على هذا العالم الذي لم يمنح أحلامنا القومية إلا الخيبة والهزائم، في الأسر الإسرائيلي انزاحت الغمامة عن عيني، وحينما عدت إلى سورية، كنتُ أمسك السكين من النصل محاولًا الاستمرار في كتابة رسالتي لهذا العالم البائس، لمساندة فقراء الروح والفؤاد، حاولت جاهدًا أن أنتصر للشعب، ولم أستطع فعل شيء إلا بقلمي الذي تكسّرت النصال على نصاله، في معارك لا تُعد ولا تحصى، دفاعًا عن حرية المواطن السوري وكرامته.

كيف تقيّم ما جرى ويجري في سورية اليوم؟ وأين تقف من ثورة شعبك ضد الظلم والاستبداد والطغيان الوطني؟

ما جرى في سورية أمرٌ طبيعي، كان الجميع يتوقع حدوثه حتى النظام الذي كان يضع خططًا للتعامل مع ما سيجري، لكنه بالطبع لم يكن يدرك التوقيت، في قوانين الفيزياء كلّ فعل له ردة فعل، تساويه في المقدار وتعاكسه في الاتجاه، وهذا بالضبط ما حصل نتيجة سنوات طويلة من تحديد حرية حركة المجتمع وضغط الشباب والبطالة، لذلك كان لزامًا أن تنفجر الأمور بشكل معاكس لكل ما كانت الدولة تُصر عليه من سيطرة الأجهزة الأمنية على المجتمع، وتقييد العمل وقوانين العمل.

بالطبع، كنتُ مع الحراك المدني الذي يدفع البلاد نحو الديمقراطية من قبل 2011، وكنت أشدد على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وعدم التلاعب بالدين وتوجيهه كخصم معاد للدولة، بل كان يجب احتضان الحركات الدينية ودمجها بهدوء في وسطية المجتمع السوري، وهذا هو بالفعل ما كان يحصل في سورية قبل الانقلاب العسكري في 1963، الديمقراطية والمواطنة هما البوابة الوحيدة لخلاص سورية. ويجب إنهاء تفرد حزب البعث بالسلطة وإجراء انتخابات حرّة تشارك فيها كل الأحزاب المدنية في سورية. كذلك يجب محاسبة كل من ارتكب جرمًا بحق المواطنين السوريين، أيًا كان.

بتقديرك، ما العطب الأساسي المسؤول عن المأساة السورية، التي يمكن اعتبارها أكبر مأساة بشرية عرفها التاريخ الحديث؟

الصراع في سورية بشكل أساسي هو صراع سياسي، بين القوى السياسية المتجاذبة، بين الشعب والسلطة، الشعب الذي يطلب الديمقراطية، ويطالب بإشراكه في الحكم وقيادة بلاده، فيما تُصر السلطة على الاستفراد في حكم البلاد، ومن جهة أخرى، هو صراع ثقافي.العطب الأساسي هو محاولة إقصاء الشعب عن قيادة مجتمعه. هذا هو السبب الرئيس، لا يمكنك أن تكذب على الناس طوال الوقت وتقنعهم بأنك تمثلهم وتمثل مصالحهم، وهم يشاهدون فقرهم وتكدس الثروة بأيدي البعض، ولا يمكنك أن تقنع الناس بأن قرارات وزارات غير منتخبة هي في صالحهم، وهم يشاهدون كل ما لا يروقهم يقود حياتهم.

مواجهة الفساد والاستبداد والطغاة بالقلم

قلت ذات يوم: “لو ارتدّ بي العمر لقلت كلّ ما كنت أشتهي كتابته”. هل هناك ما لم تقله روائيًا بعد نحو ستة عقود من الكتابة؟

بالطبع، في سورية انتشر مذهب الرمزية والترميز بشكلٍ لا نظير له في العالم، فكان الفنانون يلجؤون إلى حلول رمزية للتعبير عن معارضتهم أو انتقادهم للدولة ولفساد الحكومة. في السينما، ترى مشاهد رمزية، وفي الأغنية وفي المسرح وفي الأدب، حتى في جرافيتي الشوراع ترى ذلك في شعارات مشجعي كرة القدم والأعراس، وكنت أنا جزءًا أساسيًا من هذه المدرسة، أعدتُ كتابة كثير من الكتابات، خوفًا من الرقابة، ومن المنع الذي واجهته مرارًا وتكرارًا. في البدايات، لم نكن نملك سوى الاستجابة للحذف والتخفيف، ولكن حينما اشتد عودنا، كان الزمان قد تغيّر، ولو ارتدّ بي العمر لكتبت بالتأكيد كلّ ما كنت أرغب في كتابته، وإن لم ينشر، كان ينبغي أن نواجه الآلة العسكرية للانقلابات منذ الخمسينيات، ولو فعلنا لما استبد بنا العسكر حتى اليوم.. كان لزامًا علينا أن نواجه من يقبض على حرياتنا كلٌّ بمجاله، وسلاحي كان القلم.. ولقد واجهت الفساد والاستبداد والطغاة به بغزارة في أعمالي.

متى كانت مواجهتك لنفسك، تلك المواجهة التي جعلتك تكتشف خيري الذهبي “مقشرًا عن الرعب السوري والتهديد الأبديّ بالانتقال من السجن الكبير سورية إلى السجن الصغير في صيدنايا أو تدمر أو..”، وفق تعبيرك؟

لقد اتّخذ الأمر مراحل عدة، في العادة يحتاج هذا الأمر إلى سنوات كي يعرف الإنسان نفسه جيدًا، وبكل الأحوال، هذا هو السؤال الجوهري الذي يواجه الإنسان طوال حياته، مواجهة السلطة في الدول الاستبدادية هي كمواجهة كائن خرافي، لا يمكنك أن تدرك حجم أذاه وشكله، هذا ما حصل ويحصل في العراق وفي اليمن وليبيا ومصر منذ عبد الناصر، وهو بالتأكيد ما يحصل في سورية، كنتُ متمسكًا بالبقاء في سورية وعدم مغادرتها، ولكنني اكتشفت متأخرًا أنّ لا شيء يبدو مساويًا للشعور بالحرية حتى الاستقرار في بلدي، حرية التعبير بالنسبة إلي هي قُدس أقداس الإنسان العادي، فكيف إن كان يعيش على الكتابة والفن، لقد اكتشفت نفسي بضعفها وقوتها وجبروتها، خارج سورية، وهذا الأمرُ لا يخصني وحدي، بل هو شأن عام عبّر عنه السوريون في كل بقاع العالم، بعد أن نجوا من رقابة السلطة والتدين والملاحقة الأمنية… في الشرق بنى الناس للحرية معابد فارغة وتركوها وساروا في طريق قديم كان اسمه طريق الحرير، ولكن السوريين غيّروا اسمه إلى طريق الحرية، الذي يصل من سورية إلى قلب أوروبا.. وكل ما تراه من معارك وحروب تتعلق بجهات في الشرق تحاول قطع أو عدم إكمال طريق الحرية، الذي لا بدّ أن يسير فوق دروب قوافل طريق الحرير. في المنفى، تجوّلت في عدد كبير من البلاد، واكتشفت التغيير الكبير في البلاد العربية عن كثب، وعبر تلك المرآة خضت عميقًا في دواخلي ومخاوفي، قيمت تجربتي الممتدة منذ الستينيات حتى اليوم.

ما الذي تحتفظ به ذاكرتك عن أوضاع المثقفين السوريين في سبعينيات القرن المنصرم، في عهد حافظ الأسد؟

في السبعينيات، كان المدّ الديمقراطي لا يزال ممتدًا، بالرغم من تحكّم العسكر في الحياة في سورية في مناحيها كافة، وكانت قوة الحياة الحرة والديمقراطية وحرية التعبير قد اكتسبت في الخمسينيات والستينيات زخمًا كبيرًا، في الحياة الأدبية والصحافة والمجلات، وفي الحياة السياسية والبرلمان، ومن ثمّ، كانت فترة السبعينيات فترة مزدهرة، وبقي الوضع في انحدار حتى تلقت الجمهورية ضربة قوية وقاسية في معارك ومجازر عام 1982، حيث انكفأت الروح الوثابة للجمهورية إلى الداخل، خوفًا من لون الدم وأصوات المقهورين المعذبين في حماة وحلب واللاذقية ودمشق وبقية سجون سورية، وبقيت تلك الروح خائفة ومترددة حتى ربيع 2011، ولكن في السبعينيات تلك كانت الحياة الاجتماعية مزدهرة، وكذلك المسرح والسينما والرواية والشعر، وحُوّل عدد من رواياتي إلى أعمال تلفزيونية وإذاعية، وإلى عروض مسرحية، وكان هذا أمرًا طبيعيًا مع الأعمال الناجحة وقتها، مثل أعمال الأصدقاء حنّا مينا وصدقي إسماعيل وعبد السلام العجيلي… بينما كان تفاعل الشعراء مع الكتّاب والأدباء والرسامين والمسرحيين هائلًا، كانت مساحة الجدل المشترك كبيرة، والصحافة منبر حر للجدل والنقاش المسؤول، لم يكن هناك مكان للهواة، فقد كانت الأسماء كبيرة جدًا ومخيفة، في المسرح وفي السينما، كما في الشعر حيث الصراع كان على أشده، أما الرواية فكانت المجالَ الذي يخشاه الكتّاب لصعوبته وانكشافه أمام النقاد. وكانت الشام وقتذاك تضج بالحياة الثقافية، فبين زيارات كارلوس وجان جينيه ومثقفي الحركات الفلسطينية الثورية الرائعين، من محمود درويش وسميح قاسم وتوفيق زياد، ومثقفي المعارضة العراقية مثل الجواهري وعوني الكرومي ومظفر النواب وعبد الوهاب البياتي، أضف إلى ذلك زيارات غالب هلسا وأحمد عبد المعطي حجازي، إضافة إلى مثقفي سورية الكبار من جيل بدايات القرن، كانت هناك تقاليد في حقل الكتابة والأدب صارمة، ولم يكن هنالك فسحة لأنصاف المواهب، كان كل شيء يحمل طابعًا جديًّا، نقاش المدارس الشعرية ومدارس القصة والرواية، وتجارب المسرح التجريبي مع عادل قرشولي ونبيل حفار ووليد قوتلي وسعد الله ونوس وفواز الساجر وفرحان بلبل وممدوح عدوان، وكانت أشعار فايز خضور وأدونيس ونزار قباني وعمر أبو ريشة وشوقي بغدادي ونذير العظمة ومحمد الماغوط ومحمد عمران ونديم محمد، مع وجود نقاد بحجم خلدون الشمعة وصلاح الدين محمد، وتميزت الحركة التشكيلية بأسماء كبيرة مثل لؤي كيالي وفاتح المدرّس ونصير شورى وعبد القادر أرناؤوط، وكنتُ مع حنا مينا وهاني الراهب وعبد السلام العجيلي وحسيب كيالي وغادة السمان وغيرهم، نكتب بكثافة وفي تنافسية. كانت فترة السبعينيات فترة ذهبية في تاريخ الثقافة السورية، قبل فترة الصمت الطويل في الثمانينيات والتسعينيات التي أنجبت -على قسوتها- أسماء كبيرة جدًا ومهمة لا تزال حية إلى اليوم، مثل فواز حداد وممدوح عزام وحسان عزت ونوري الجراح وغيرهم الكثير الكثير.

ثلاثية التحوّلات هي درّة ما كتبت

ثلاثية التحوّلات: «حسيبة»، «فياض»، «هشام». أين تقع من مشروعك الكتابي الإبداعي بشكل عام؟

ثلاثية (التحوّلات) هي درّة ما كتبتُ، إنها واسطة العقد الذي لم تكتمل حباته حتى اليوم، فأنا ما زلت أكتب بكثافة، ولكن (التحوّلات) تلك كان لها متعة خاصة في الكتابة، إذ احتاجت مني على الأقل إلى سبع سنوات لإنجازها، في ألف صفحة تقريبًا، في (التحوّلات: «حسيبة»، «فياض»، «هشام»)،تلك الرواية الضخمة ذات الأجزاء الثلاثة أرّخت لمدينة دمشق روائيًا، عبر سرد قصة ملحمية من ثلاثة أجيال لعائلة واحدة في دمشق، منذ ما قبل الاستقلال حتى عهد الحكومات الوطنية، وصولًا إلى حكم العسكر وتسلط المخابرات على رقاب الناس. ووضعت في تلك الثلاثية نظريات فكرية في خضمّ قالب روائي، تكلمت على مدن الواحات السورية والبحث عن سراب الحكم، تكلمت على فلسفة الحضارة السورية المختفية خلف وجه الراعي الصغير في قلعة شيزر في حماة، تحدثت عن فلسفة العمارة والأرابيسك الدمشقي الذي التهم نفسه، تحدثت عن فلسفة البيت الدمشقي، بين الأنا والأنا الأعلى والهو، أي بين القبو وأرض الديار والفرنكة العلوية، البيت الدمشقي هو كائن حقيقي يتنفس مثل أصحابه، لديه شخصيته الاعتبارية التي تعكس أحيانًا شخصية أصحابه، وأحيانًا أُخر تسيطر عليهم… رواية (التحوّلات) بكتبها الثلاثة هي جرعة مكثفة وسريعة مما وددت قوله عن العائلة السورية التي سادت ثم بادت. في التحولات شرحت مقطعًا طوليًا للعائلة الدمشقية التي يمتد جذرها لمئات السنين.

أرّختَ روائيًا لمدينة دمشق، ومن ثم أرّخت لبلاد الشام والمنطقة. وأنت رافض عدّ أعمالك “روايات تاريخية”، فما هي الحدود الفاصلة بين الكتابة الروائية والتوثيق أو التأريخ؟ وهل يُمكن إدراج رواياتك ضمن “رواية الذاكرة” أم في موضع آخر؟

الكتابة الروائية هي فنّ الخيال، أي خلق عالم مواز للعالم الذي نعيش فيه، مع تقاطعات بسيطة مع الواقع، أما الكتابة التاريخية التي أجادها جرجي زيدان، فهي إمساك التاريخ وزجّه في ثنايا طبقتي الكتاب، من دون أي اختلاف، أي إن مَن يعرف مصير تلك الشخصية التي وُضع الكتاب من أجلها، فسيعرف كل تفاصيل القصة. في أعمالي الروائية، أستند إلى التاريخ ولا أعيد إنتاجه، أقتطع منه جزءًا، وأبني به وعليه شخصياتي وحكاياتي كي أضع القارئ في الظرف التاريخي والجغرافي والإنساني للقصة التي أريد سردها، لا أحبذ مطلقًا ذلك السرد الذي يشبه منطوقنا، أو تلك الشخصيات ذات البعدين فقط، أبحث دومًا عن شخصيات ثلاثية الأبعاد، وأتلاعب بالزمن كيفما احتاجت حكايتي، مرة بزمن عادي، ومرات بزمن استعادي، ومرات بزمن حلزوني، وأحيانًا بمونتاج متواز، التاريخ لا يؤمن بهذه التقنيات، التاريخ يمتد تصاعديًا مع السنوات، أما روايتي فهي تحتاج إلى قارئ غير كسول، قارئ يبذل جهدًا في استكشاف زمنها وشخوصها، والبحث في ثناياها، مدينة مثل دمشق لا يمكن التعامل معها ومع تاريخها بالشكل التقليدي، فهي مدينة متراكبة ومتراكمة وذات أوجه مختلفة، لذلك فإنّ الكتابة عنها تحتاج إلى جهد تقني غير تقليدي.

كتاب «من دمشق إلى حيفا… 300 يوم في إسرائيل»، هو أول شهادة لكاتب سوري، على تجربة حرب تشرين (1973). لماذا أبقيتَ تلك التجربة أسيرة بداخلك لأكثر من أربعة عقود؟ وممّ حررتك السجون الإسرائيلية؟

تجربة الأسر بحد ذاتها كانت تجربة أليمة بالنسبة إلي، حينما عدتُ في أوائل العام 1974 من مطار اللد، على ما أذكر، جرّبت الكتابة عنها، ولكنني مزقت الصفحات الكثيرة التي كتبتها، إذ كنتُ مشحونًا لدرجة كبيرة، عاودت بعدها الكتابة ففشلت، وقررت أن ألقي بتلك التجربة في زواية مظلمة من زوايا قلبي، كي لا تزعجني في حياتي اليومية، تسلّمت وسام الشرف، ورفضت العروض الكثيرة التي أتتني للعمل مع الأمم المتحدة ومع الجيش، لأنني كرهت كلّ ما له علاقة بالحروب وبالعنف، وعملت على تنظيف روحي من الآثار النفسية التي ألمت بها نتيجة ذلك الأسر وما تلاه من عقابيل في سورية أيضًا.

لقد كسرت تلك التجربة قناع الخشب الذي ألبسونا إياه، ليس هنالك من مكان أفضل من الآخر ومرآته كي تتعرف على وجهك، الضدّ يُظهر معنى الضد الآخر، وبالفعل تعرّفت إلى سورية الحقيقية، حينما نظرت إليها من هناك، في عيون الأسرى ، في عيون السجانين وعيون العدو، مثقفيه وكتابه وضباطه، في عيون ضباطنا المكسورين، وهم يروون مخاوفهم، مخاوف آخر العمر، كما كانوا يعتقدون، سقوط الأقنعة مكنني من رؤية الضفتين بشكل جيد، كل ضفة من شرفة ضفتها الأخرى، سورية كانت في أزمة حقيقية، و”إسرائيل” في أزمة حقيقية، الدولتان في أزمة وجودية حقيقية: الأولى تتصارع مع نفسها كي تأخذ شكلها، والثانية تتصارع مع الآخر لتجد لنفسها مكانًا. الحرب بالنسبة إلى سورية كانت مهربًا من واقع مضطرب لا حل له إلا الديمقراطية التي يكرهها العسكر ورجال الدين، والحرب بالنسبة إلى “إسرائيل” سببٌ للوجود، لأنها من دون خلق حالة خوف من الآخر لا يمكنها أن تعيش وتعتاش إلا في الدور الذي اختارته لنفسها في أن تكون ضحية.

في سورية يتعمّد المثقف بماء الحرية

هل غيّرت الثورة السورية من نظرتك إلى قضية فلسطين؟

لا، على العكس، فلسطين كانت ولا تزال جزءًا أساسيًا من وجدان سورية، فلسطين تحوّلت من قضية إلى أداة سياسية، وأنا لا يعنيني هذا، ما يعنيني هو شعب فلسطين الذي يختزن تاريخها وحضارتها وثقافتها، يجب على هذا الشعب أن يعيش وألا يخضع لقهر الزمان، يمكنهم سلب الأرض وسلب الماء والبيوت، ولكنهم لا يمكنهم سلب ذاكرة الشعب ورغبته في ترديد اسم بلاده وبناء دولة فلسطين، فحينما يكون الإنسان الفلسطيني بخير، ستكون دومًا فلسطين بخير.

البعض أراد فكّ الارتباط بين الشعب الفلسطيني وبين الشعب السوري، وهذا أخطر ما يمكن حصوله، حينما يصطف بعض أبناء فلسطين ضد حرية الشعب السوري، سيكون الرد باصطفاف بعض أبناء الشعب السوري ضد حرية الشعب الفلسطيني، وتلك هي الكارثة.

الثورة السورية جعلت الأمور تبدو بشكل أوضح، إذ فكّت ذلك التشابك بين الدكتاتورية والحرية، بين من يركب على القضية ومن يصارع فعلًا من أجل حرية القضية. الشعبُ السوري، لا النظامُ، هو أكثر شعب مرتبط بفلسطين، والجميع يدرك ذلك، وربما من أجل هذا حصل معه ما حصل من تهجير وتشريد وتنكيل..

ما واجب المثقف السوري، بخاصة من يعيش في المنفى الاضطراري، تجاه ثورة شعبه؟ وما الفارق الذي يمكن أن يصنعه مقارنة بسواه؟

لا يمكننا تحميل المثقف السوري الكثير، لأنه يمسك السكين من نصلها، كما ذكرت، إنه يقاتل بكل ما أوتي من قوة من أجل حرية بلاده، المثقف عصفور هشّ يطير في غابة ضخمة، وذلك العصفور يحتاج إلى الرعاية والعناية، كي يغرد بحرية وبجودة عالية، وحينما يتمكن من فعل هذا، فسيغرد بصوت عال جدًا من أجل باقي عصافير بلاده.

المثقفون السوريون يقاتلون منذ عقود من أجل حرية شعبهم في الداخل وفي الخارج، وجميعنا نعرف أنهم دفعوا أثمانًا باهظة لقاء مواقفهم، المثقفون هم من واجه سكونية مملكة الصمت، عبر بياناتهم المتتالية المعروفة، وقد اعتُقلوا ومُنعوا من السفر وحوصروا. في سورية، يتعمّد المثقف بماء الحرية فقط، وكل مثقف لا ينتمي إلى حرية الشعب لا يعترف به الشعبُ تلقائيًا، حتى لو اعترف النظام به دون الشعب، وحاول تسويقه عبثًا.

المنفى تجربة اعتادها المثقفون السوريون نتيجة مواقفهم، منذ انقلاب 1963، ولكن ما جرى بعيد 2011 هو أمرٌ مختلف، حيث خرج شعب بأكمله معترضًا على ما يجري في بلاده، ومنهم المثقفون الذين مارسوا ويمارسون دورهم القيادي التنويري لأول مرة منذ عقود بحرية كبيرة. شعب يقود رأيه المثقفون هو شعب وجد طريقه الصحيح، من أجل هذا يجب الاعتناء بهؤلاء المثقفين وإيجاد المنابر لهم على الدوام.

هل تعتقد أن أعمالك الروائية قوبلت نقديًا بما تستحقه؟ وإلى أيّ مدًى استطعتَ فعلًا أن تضيف جديدًا على التجربة الأدبية السورية المعاصرة؟

لقد أضفتُ الكثير جدًا على التجربة الأدبية السورية، كما أعتقد، وهذا أمرٌ سيحدده التاريخ، يمكن لمتتبع أعمالي منذ السبعينيات معرفة ما أقول، ولا يمكن أن تجد تجربة نقدية توفي الأدب حقه، حتى لو كُتبت عشرات من الدراسات عنه، فالنقد الجاد يجد على الدوام في الأدب الحقيقي شيئًا جديدًا، وهذا ما حصل في دراسات جامعية وندوات لا تُعدّ، عُقدت عن أعمالي في الدول العربية، بحيث يمكنك اليوم قراءة رواية «المدينة الأخرى» عن مدينة الطبقة في محافظة الرقة، وإيجاد تطابق مع الواقع الحالي، يمكنك قراءة «ليال عربية» لتعرف معنى الحرب الأهلية التي توقعتُها قبل حصولها في لبنان، و«الإصبع السادسة» و«صبوات ياسين» و«الدوران في المكان» بمتعة أدب معاصر بل مستقبلي، لكن ليس بالنقد وحده يعيش الأدب، نحتاج إلى أن نكون في يد كل سوري، يجب على القوى المدنية وقوى المجتمع المدني طباعة روايات الكتّاب السوريين وتوزيعها مجانًا في المخيمات والمنافي، في الداخل وفي الخارج، دواوين الشعر، الروايات والقصة القصيرة وو… تخيل كيف سيكون نقد شابة من مخيم الزعتري، لرواية «المكتبة السرية والجنرال» أو لرواية «لو لم يكن اسمها فاطمة»، هذا هو ما أريده.

الكاتب السوري من دون دعم حقيقي هو يتيم، والثقافة بشكل عام تحتاج إلى دعم من جهةٍ ما على الدوام، في سورية، بسبب خراب كل شيء، أنت لا تجد الكتبَ بسهولة أبدًا، وهذا أمرٌ مردّه أنّ الدولة تعدّ الثقافة أمرًا هامشيًا، ودعمها هو شكلي تجميلي، حتى حين تطبع وزارة الثقافة الكتب، لا تجدها، بسبب قلّة المكتبات ومنافذ التوزيع، أما بعد الثورة فقد انتشر الكتاب الإلكتروني، وهذا أمرٌ أسهم في ترميم العقل السوري العطش للقراءة، ولكن أين الكتب؟ الواقع الاقتصادي متردٍ وأسعار الكتب مرتفعة، لمن نكتب إذًا؟ نحتاج إلى طباعة مليون كتاب أدبي على الأقل في سورية، وتوزيعها مجانًا، أو بأسعار رمزية.

تريد نهضة في العقل، عليك إذًا أن تخاطب العقل، إن نزلت إلى شوارع المدن السورية، فأكثر ما يلفتك هو الكتب الدينية وكتب الأبراج، أما الأدبُ فهو نادر جدًا، جمال عبد الناصر -بالرغم من اختلافي مع منهجه الأمني- اهتمّ بهذا الجانب، كنّا في القاهرة نشتري روائع الأدب العربي والعالمي بأسعار بخسة، كنا نخجل من أنفسنا، إن لم نقم بشراء تلك الكتب، في الستينيات حين صدور كتاب لكاتب مصري مهم، كنت ترى قراءات ومقالات عنه ومعه وضده، في أغلب الصحف المصرية، وكنت ترى الكتابَ في كل مكان: في المكتبات وعلى أسوار الجامعة وفي يد طلاب الجامعة، بأسعار مختلفة، وهذا ما مهد لنهضة حقيقية في مصر، في السينما والأدب والصحافة والموسيقى.. القراءة. أما في سورية المشتتة، فأنت تبحث وتبحث عن رواية لفلان صدرت منذ سنة، فلا تجدها، وإن وجدتها فسيكون سعرها مرتفعًا جدًا، وهذا ليس ذنب الناشر، وإنما ذنب الجهات الداعمة التي تنفق ملايين الدولارات على مساعدات الأكل والشرب فقط، دون ضبط للسرقات، التي إن ضبطت، فهي تكفي لإحداث موجة من المطبوعات تغطي أعمال كل كتّاب سورية منذ 100 عام، لا أعتقد أنّ كاتبًا سوريًا سيرفض التبرع بحقوق كتابه من أجل مشروع طباعة شعبي، لقد انتهى عهد النقد الرسمي، وبتنا بحاجة إلى رأي الشارع.

حاز كتابك «من دمشق إلى حيفا.. 300 يوم في إسرائيل»، جائزة “ابن بطوطة لأدب الرحلات” في عام 2019. سؤالي: ما الذي تمثّله لك هذه الجائزة ككاتب؟ وما أهمية الجوائز الأدبية بالنسبة إلى الكتّاب؟

الجوائز بشكل عام لا تعنيني، أنا أكتب للإنسان، لا للمؤسسات أو الجوائز، ولذلك لم أسعَ لكتابة أدب الجوائز. لكن جائزة “ابن بطوطة” أتت تتويجًا لفكرة أجّلت كتابتها 40 عامًا، لذلك فقد أسعدني نجاح الكتاب عبرها. فقد كنت مترددًا في كتابة هذا الكتاب، وبعد نشره سمعت كثيرًا من الأصوات المشجعة على إخراج ما كنت أرميه في قلبي.. أهمية الجائزة الوحيدة هي لفت أنظار بعض القراء إلى الكتّاب، وهذا أمر جيد، ولكنها بالفعل لا تعطي حكم قيمة على الأفضلية، وهذا أمرٌ متفق عليه.

هناك كتابات واكبَت ثورات الربيع العربي، في موجتَيه الأولى والثانية؛ فهل يمكن الحديث عن “أدب الربيع العربي”؟ وهل لديك أعمال يمكن أن تُصنّف ضمن هذا النوع الجديد من الأدب؟

المثقف العربي يعيش ربيعه منذ عقود، وليس الربيع العربي بعد 2011، سوى تيمة جديدة بالنسبة إليه، لنسج كفاح الأدب العربي ضد قوى الظلم التي تستغله على الدوام، المثقف العربي مرآة لشعبه، وكيفما احتاجت القضية فالقلم العربي معها، أما أنا فإني أحتاج إلى مدة طويلة لأعرف مآلات الربيع العربي كي أكتب عنه، في جميع رواياتي، هنالك ربيع عربي يتمثل في شخصيات موجودة في الروايات.

برأيك، هل السبب السياسي هو ما لفت الأنظار إلى الرواية السورية في العشرية الأخيرة؟ وهل نحن أمام مرحلة جديدة للأدب السوري؟

لم يلتفت أحد إلى الأدب السوري بالشكل الكافي، حتى على صعيد الجوائز المؤسساتية لم تحظ الرواية السورية بما يليق بها، أما ما لفت النظر إلى الرواية في العقد الأخير، فهو حرية صوتها الذي ارتفع أكثر من غيره، الرواية السورية رواية حرة بالكامل، لا قيد عليها إلا العقل، وهذا ما جذب القراء إليها.

أخيرًا، ما الذي تعكف على كتابته في الوقت الحالي؟ ماذا تحدثنا عنه؟

أعمل على روايتَين جديدتين، فيما توقفتُ برهة من العمل على كتاب بحثي عن (فانتازيا ما وراء الموت). وأقوم بالعمل على الروايتينبالتوازي: الرواية الأولى موضوعها علاقتي مع نفسي وماضيي ومدينتي، وستصدر خلال هذا الشهر، وعنوانها «الجنة المفقودة» عن دار الفكر الدمشقية؛ والرواية الثانية ستكون الجزء الأول من ثلاثية جديدة، أقدّمها للقارئ العربي في السنوات القادمة، وستصدر عن دار سرد/ ممدوح عدوان. وستغطي الثلاثية الجديدة مرحلة حرجة من تاريخ سورية المعاصر، وستمتد إلى مستقبلها، وسأحاول أن أسكب فيها خلاصة معرفتي وتجربتي السردية.

مركز حرمون

صورة للراحل خيري الذهبي

=========================

بعض من مقالات الراحل “خيري الذهبي” في الصحف العربية

————————-

رفيق المدائن العربية كل مدينة منحته سحرا ومعنى جديدا في أعماله الروائية/ خيري الذهبي

ربما يكون هذا مقالي الرابع أو الخامس عن صديقي غالب هلسا، الذي لن أنسى سنوات الصداقة الطويلة التي جمعتنا، عبر عديد من مدن العرب، ولن أنسى كيف كانت صداقتنا تلك تأخذ في كل مدينة شكلاً مختلفاً عمّا قبلها، من القاهرة إلى بيروت ودمشق.. وأخيراً عمّان. فقد قضى غالب أيامه الأخيرة في مدينتي دمشق، وأنا أعيش الآن منفاي الثالث في مدينته عمّان، منتظراً الرحيل إلى منفاي الرابع.. تقاطعت بنا الأقدار وتبادلنا الأدوار: القوي والضعيف، المنفي والمستقر، الكاتب والقارئ… في عمّان التي أعيش بها منذ سنتين أتجول وأرى ما تبقى من عوالم غالب هلسا التي شاهدتها في كتبه، أنحني أمام أدراج عمّان التي وصفها في «سلطانة»، وأزور معين ومادبا والأغوار، تلك التي عرفها غالب الشاب وكتب عنها في منفاه.. وأبادله الأدوار؛ فأكتب في عمّان عن دمشقي وغوطتها وسوريا وتفاصيلها.

كنت أسمع عن غالب منذ دمشق، أي منذ كنت شاباً في بدايات معاركي مع القلم، كنت أقرأ كتاباته التي شارك بها في النضال ضد الاستعمار (وهو الاسم الذي كانوا يطلقونه على التدخلات العدوانية للغرب في الشرق الضعيف أضعفه طولُ الزمن الذي كان فيه الشرق يستعمر الشرق)!

كان وعي غالب كبيراً في معرفة مأزق الأمة الحقيقي وليس ما يحاول الحكام تضليلنا به عبر معارك جانبية تتمحور حول الطائفية والأديان والصراع الغبيّ على السلطة في البلاد العربية، كانت بغداد أولى محطات تغريبته، حتى كرّت سبحة علاقات غالب مع المدن العربية من بيروت إلى القاهرة ودمشق وبيروت مجدداً وصنعاء ثم دمشق حتى عودته الحتمية إلى عمّان مجلَّلاً بالعلَم الأردني ومنها إلى معين مسقط رأسه..

كانت كل مدينة تمنح غالب سحراً ومعنى جديداً للشرق، تجعله يتأمل في فلسفة وتقنية «حلم اليقظة» التي كان يعيشها شخصياً واعتمدها في أغلب أعماله الروائية كمفتتح للسرد، فمن بغداد شاهد العرب من منظار لا يشبه غيره أبداً، وبادل المدينة تلك، العشقَ نفسه، فأهداها روايته «ثلاثة وجود لبغداد»، تلك الرواية الجميلة التي شرّح عبرها غالب المجتمع البغدادي وأسئلته اللانهائية بحثاً عن أجوبة يعرفها الجميع ولا يقبلون بها، وكانت الصدمة في رفض الرواية من الجميع: النظام كما عرّته الرواية في ثناياها، والمعارضة القابعة في دمشق وقتها حينما رأت صورتها في ظلال شخصيات تمارس الأنانية على حساب مفهوم الوطن.

مفهوم الوطن ذلك الذي شربه غالب فيما بعد في مرحلة تثوير بيروت وتفجُّرها أمام غولَيْ حربها الأهلية واجتياح إسرائيل لها، ووقوف غالب اصطفافاً إلى جانب الثوار وتبنّيه هزيمتهم ورحيلهم عن بيروت وسط تواطؤ عالمي وعربي، كانت بيروت هي هزيمة غالب الثانية بعد بغداد، في القاهرة بعدها وكما رأينا في روايته الأثيرة «الروائيون» التي فصّل فيها مأزق مثقفي القاهرة عرباً ومصريين، واستعصاء المثقف أمام السلطة المتآمرة عليه، كانت هزيمته الثالثة التي قرر بعدها ألّا ينتمي لمدن عربية، فالرحيل إلى مسقط الرأس وقبوله الهزيمة هناك أخفّ وطأة من تعرُّضه لهزائم لا يقوى على تغييرها بقبضة يده.

وربما من هنا ننطلق لصداقة غالب مع «كارلوس» الذي تعرفتُ عليه عابراً برفقة غالب، فأثارت علاقة غالب به في داخلي استغراباً كبيراً، فأنا لم أكن أتخيل أن غالب المسالم يجالس أحد الرجال ممن يؤمنون بالتغيير بالقوة وحتى درجة ارتكاب العنف الثوري من أجل التغيير، هذا العنف الثوري الذي سموّه لاحقاً «الإرهابي». لم يكن غالب رجل تنظير فقط، بل كان يسعى للتأثير على من استطاع التأثير عليه من أجل التغيير، وكنا في دمشق التي احتضنتْه منهَكاً ومتعَباً من أسفار ونضال وخيبات كثيرة، اختبر عبرها مدائن العرب أغلبها وهو يبحث عن منصة لإطلاق أحلامه.. حيث لم يجبه أحد على «السؤال» الذي أطلقه في روايته التي حملت الاسم نفسه. غالب الذي حمل سلاح المقاومة حينما كانت المقاومة تقبل أمثال غالب أن ينخرطوا بها، بكامل حريتهم ووطنيتهم وسؤالهم الدائم عن العدالة الكاملة للشعوب كافة، فكان حَمْلُه السلاح في بيروت رمزياً بقدر ما كان مؤثراً، كانت صرخته في وجه ذلك الإحباط، وكذلك كان ارتحاله مع المقاومة الفلسطينية إلى اليمن تضامناً كاملاً منه، وتحمُّلاً هائلاً عبره لجزء من تلك الهزيمة، التي لو قُسمت على الجبال لخرّت الجبال تحتها.

تبقى «زنوج وبدو وفلاحون» هي جوهرة تأثر غالب بمسقط رأسه، وفيها فنّد المجتمعَ الأردني بمبضع جراح، وغاص في تفاصيل جمالياته التي لم يسبقه إليها أحد.

كان غالب هلسا قد درس في عمّان الدراسة الأولى ثم اضطر إلى الهرب إلى بغداد، بعد إصرار البوليس الأردني في ذلك العصر على مطاردته، ومحاولة اعتقاله مع الشيوعيين في ذلك الحين، والحق أنهم لم يكونوا جادّين في مطاردة غالب الشاب الثائر المتحمس، ولو جدّوا لقبضوا عليه، ولكنهم أغمضوا عيونهم، وتركوه يفرّ وهو الشاب المتحمس.. تركوه يفرّ إلى العراق رغم أن العراق في الوقت نفسه كانت تابعة بطريقة ما إلى البريطانيين، ولكنهم ربما كانوا يسعون إلى تجريده من الذراع الأردنية التي كان يحتمي بها، أيْ العشائر والقرابات القويّة، وقد حافظت الحكومات الأردنية المتعاقبة على حكم غالب بعشرات السنين من السجن. وكان غالب في منفاه البريطاني (مصر) ينتظر السماح له بزيارة الأردن، وكان كذلك حتى في المراحل الأخيرة في دمشق التي اعتاد فيها التفاخر بعضلاته أمامي متفاخراً بأنه سيعيش طويلاً، ثم يتحدث عن عمّه الذي قارب المئة من السنين وأبيه الذي عاش حتى السأم، وأخواله، وكنت أستمع إلى ماي قول في أسف غيور صامت، فأنا أنتمي إلى عائلة لم يعمّر أكثر الرجال فيها ما يزيد على الستين عاماً، وفيما بعد كنت أتأمل ما تبقى من «جبل مادبا» في المستشفى في حزن، فلم تتحقق رغبات غالب المدعومة بالسيرة العائلية، فقد توفي في منتصف الخمسينات من عمره، وكان يتوقع التسعينات، أو المئة، ولكن العودة إلى الأردن بقيت حسرة في قلبه وهو على مسافة ساعتين من ملاعب الصبا في الأردن، وكنت أرى حسرته وأساه، ولا أستطيع شيئاً لعونه، وكان في السنوات الأخيرة قد استطاع سراً ودون إطلاعي على ما صنع، الوصول بالاتفاق مع السلطات الأردنية إلى السماح له بزيارة الأردن، ورؤية الأهل، ولكنه لسوء حظّه وحظّ محبّيه، توفي قبل زيارته الأخيرة لـ»ماعين» مسقط رأسه، ودون أن ينال هذا الحق! بل توفي في دمشق.. وعندئذ قبلوا بدخوله إلى الأردن نائماً، نادمين على خسارة الوطن الأردني لقامة حقيقية مثّلها غالب.

في دمشق حيث كتب رواياته الأخيرة، بدأت نوبات طلب الراحة لدى غالب، وخاصة حين أخذ الحنين إلى الأردن يمزّقه، وكان أن نشر روايته الجميلة «سلطانة»، التي كانت سيمفونية الحنين إلى الأردن حين كان يعتصر كلّ ما يعتلج في فؤاده من أشواق إلى بلده، والغريب أنه في تلك الرواية قد ترك لمشاعره الانفلات لتعبّر عن حنين الفتى إلى المدينة التي هجرها وهجرته، فتخلّى عن عمارة المدينة الحديثة في الفصول الأولى، وجعل البنت «سلطانة» المعبرَ إلى ذلك العالم.

تُرى هل كان هذا الحنين مظهراً من مظاهر شهوة الموت التي تراكمت لديه، وخاصة بعد الخيبة الفظيعة التي أصيب بها بعد الضغوط العربية والأميركية من أجل ترحيل الفلسطينيين عن لبنان، وكانوا قد اختاروا إثارة النعرات الطائفية والدينية والمذهبية.

أفّ.. كم يوجعني قلبي حين أذكر تلك السنوات التي كرّسوا فيها نضالاتهم كلها من أجل طرد الفلسطينيين من لبنان ليخلو لهم وجه لبنان.

كانت «سلطانة» كما وصفها غالب، فتاة هي الجمال البرّي الذي يتقرب بغالب، ومَن قرأ الرواية لا شك يذكر تلك الخرابة (الهربج) التي كانت سلطانة تشدّه إليها، وكانت اللمسات الأولى والقُبل الأولى التي يذكرها غالب في تَشَهٍّ إلى ذلك الماضي البهيج!

كانت «سلطانة» هي المعادل الموضوعي لذكريات غالب عن «ماعين»، ولكنها كانت أيضاً تلك الذكريات التي جعلته يرى سقوطها في التعامل مع المخابرات الصهيونية، ولنا أن نذكر تشهّيه لفلسطين التي سيراها عبر البحر الميت وهي تسقط مجلّلة بخيانة الحلم.

وهنا يبدأ الكابوس أيضاً، فلقد انزلق غالب إلى تذكُّر خيانات الحلم لدى الكثيرين أو الكثيرات، كـ»سلطانة» التي تعلمت التجارة مع العدو الصهيوني، فيرى أشباحهم عبر البحر الميت وهم يبيعون ويشترون الأحلام والأمنيات التي حلم بها غالب الصبي قبل هروبه من «ماعين»، أو حتى من كل المدن التي ارتحل إليها ككل …

هل كان غالب يعرف أن رواية «سلطانة» ستكون وصيته التي سيتركها للأجيال التالية، وأن عليهم ألّا ينخدعوا بالجمال، فالجمال كثيراً ما يخفي شيئا آخر خلف قناع الجمال والرغبة.

وللحقيقة فقط، فقد كانت «سلطانة» روايته الأثيرة والجميلة بل الأجمل على كل الأصعدة، إلا في محاولته شرح المشروح في نهاية الرواية، وسينشر بعدها رواية مسرحُها مصر؛ ولكنها لن تكون أبداً كـ»سلطانة»، بل ستكون رواية من كتاباته القديمة وقبل معاناته في الأردن مأساته ومرآته!

إذ اتخذت رواية «الروائيون» من القاهرة مسرحاً استعادّياً لها، وكان يروي سيرته فيها بشخصية «إيهاب» الذي يقود الرواية بصفته «غالب» ذاته بدلالات لا تنتهي وإشارات كثيرة، ولكن «إيهاب» هذا مصري كامل، يتحدث اللهجة المصرية وينخرط في المجتمع المصري كما لو أنه منهم (رحّل السادات غالبَ من القاهرة عام 1977)، ولقد كان غالب بالفعل مصرياً في القاهرة، وعراقياً في بغداد، ولبنانياً فلسطينياً في لبنان، وسورياً في الشام، وأردنياً في كل حلم يقظة أو حلم نوم.. تنتهي رواية «الروائيون» بانتحار «إيهاب» بعد أن أخذ السُّمّ من ضابط مخابرات مصري، ينتحر «إيهاب» هكذا وبكل بساطة قبل أن ينهي روايته التي يكتبها.. ينتحر «إيهاب» بطل رواية غالب الأخيرة، «إيهاب» الذي هو غالب، قبل وفاة غالب بأشهر فقط!

فكان تماهي الشخصية مع الكاتب في أقصى حدوده.. غالب الذي أدرك نهاية رحلته مع المدن، قرّر العودة إلى بلده عبر موته، لتكون مدينته التي هي مسقط رأسه فصلاً أخيراً من حياته أيضاً، وكأن كل شيء كان مدروساً، إذ ولد غالب في 18 ديسمبر، وتوفي في 18 ديسمبر! من دمشق إلى عمّان امتد رفقاء السلاح والقلم والكتاب في جنازة ضخمة تكريماً لرفيق المدائن العربية وهو عائد إلى حبيبته مسجّى.

—————————-

يخشى الطغاة من الكتّاب والشعراء/ خيري الذهبي

لطالما كان الأدب السوري مواكبًا للحوادث العظمى في تاريخ الأمة السورية وتاريخ الأمة العربية، والشواهد على تلك المساهمات الخالدة حاضرة في أعمال أسامة بن المنقذ وأبي العلاء المعري والبحتري ومنصور بن سرجون وصولًا إلى شفيق جبري وعمر أبي ريشة وشوقي بغدادي ونزار قباني وبدوي الجبل ونديم محمد وعبد الكريم الكرمي… وكان الأدباء حاضرين كذلك في تخليد ذكرى الجلاء والنكسة والوحدة وغيرها من عظام الأحداث كما كتب عبد السلام العجيلي وفارس زرزور وحسيب كيالي وحكمت محسن وغيرهم كثيرون. وبقي الأمر على ما هو عليه من تفاعل بين الأديب والوطن حتى دخلنا عصر كمّ الأفواه عام 1963، حين بات الأديب الجيد هو من يشيد بعبقرية (الزعيم) والحزب القائد، وليس من يكتب أدبًا جيدًا، ويمكنكم مراجعة أقبية اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق، ومخازن وزارة الثقافة حتى تشاهدوا أطنانًا من الكتب التي تمجد الانتصارات التي قامت بها ثورة آذار/ مارس وعبقرية الحزب القائد، وكلها مكتوب من دون صدق أو حقيقة.. ولكن ما أنجزته ثورة 2011 حقًّا للكاتب السوري أنها أعادت قلمه إلى الهم الوطني وجعلت المسافة بينه وبين القارئ/ المواطن صفرًا بالمعنى الحرفي، بمعنى أنّ الكاتب السوري -وخصوصًا الروائي- بات يكتب عن هموم بلده وأبناء بلده من دون خوف من تهمة التزلف والكذب، لأنّ ما يحرّكه هو الألم السوري من دون أيّ مزاودات.

أما بالنسبة إلى التوثيق، فليس من مهمة الكاتب توثيق المرحلة، بل هي مهمة المؤرّخ والصحافي، ولكن الرواية مهمتها توثيق رؤية الروائي لتلك المرحلة، فهنالك من يرى الثورة السورية ثورة عالمية، ومنهم من يرى أنها كارثة أو أنها غير مكتملة أو متسرعة أو أنها ما تزال مستمرة، ولكلٍ أسبابه، ولذلك ستكون الرواية هي تاريخ الفرد ضمن المجتمع، هي صوت الفرد المعبر عن علاقته بما يجري حوله من عواصف، وهنا تتحوّل الرواية إلى فعل ديمقراطي، ويتحوّل الروائي إلى مؤرّخ يؤرّخ لنفسه قبل أن يؤرخ للآخرين، يؤرخ قصته وقصة عائلته وحارته ومدينته… لذا يجب على الروائي أن يكتب، أن يكتب بكثافة عن كل ما يلفت نظره، كما ينبغي على المصور حينما يسمع صوت سيارة الإسعاف أن يهرع بكاميرته إلى مكان الحدث، يجب على الروائي حينما يخفق قبله لحدث ما أن يهرع إلى الورقة والقلم، ويبدأ بإنشاء حكايته، وما الضير في أن تنتج سورية ألف رواية في السنة، إنّ إيطاليا وحدها تنتج نصف مليون كتاب سنويًا، ولكن المشكلة تكمن في أنّ الكاتب يجب أن يكون حريصًا على أن يكتب ما يُقرأ، لا أن يكتب لنفسه، وكلما ازداد الصدق زادت قابلية نجاح الكتاب.

في الحقيقة لن تغيّر الكتابة أيّ شيء في العالم، لم تغيّر ولن تغيّر، لكن الكتابة قد تتحوّل إلى تاريخ يصفع الظالم ويلعنه طوال الدهر، قد تتحوّل الرواية إلى تاريخ معلن، وإلى ما يشبه المنشور السري يتداوله الأحفاد جيلًا بعد جيل، لذا يخشى الطغاة من الكتّاب والشعراء، ويسعون لكتابة أدب يمجدهم، لأنهم يعلمون أنّ الأدب يتسلسل من بين قضبان السجون ومن الممكن أن تردده حكايات الجدّات للأحفاد قبل النوم، وحينما ينام طفل على قصة تتعلق بالظلم، تأكد أنّ الأرق سيقض مضجع الطاغية في تلك الليلة.

في أعمالي كلها تقريبًا كانت (تيمة) الثورة حاضرة، بل كانت تتجسد على الدوام في شخصية من شخصيات الروايات تلك، في رواية «هشام أو الدوران في المكان» كان هشام يقوم بثورته الخاصة على الظلم ورجال المخابرات الذين قمعوا حرّيته يومًا، وفي رواية «لو لم يكن اسمها فاطمة» كانت فاطمة تبحث عن ثورتها الخاصة. ولكن مؤخرًا في رواية «المكتبة السرية والجنرال» كانت الثورة السورية حاضرة بقوة في ثنايا العائلة والأحداث التي تجري في الرواية، وعلى الرغم من الثورة التي كانت تعم أحداث الرواية، فإنها تنتهي بزوال المكان الذي يحتضن الحبكة، بقصف روسيا للبيت الشامي الذي تجري فيه الأحداث.

في رواية «صبوات ياسين» كان المثقّف السوري المخصي هو بطل الأحداث في محاولته قراءة كيف يكتب الطاغية تاريخه الشخصي، وكيف يطلب من أدباء عصره أن يكونوا نسخًا منه، نسخًا تبيض صفحته. الطاغية الشرقي مفتون على الدوام بالأدب، وذلك لارتباط السلطة في المنطقة العربية عمومًا بالفن، وتلازمهما، بيبرس البندقداري، كان مهووسًا بمن سيكتب له سيرته، وكان قد أقام ما يشبه لجنة فاحصة لاختبار كتبة سيرته، حتى وقع اختياره على من أقنعه أكثر من غيره. هذا كله موجود في رواية «صبوات ياسين».

تعلمون أنّني خصصت كتابًا كاملًا عن الثورة والطغيان اسمه «التدريب على الرعب». كان هذا الكتاب شهادة حقيقية تربط التاريخ بالواقع السوري، حيث كنت متموضعًا في الزمان والمكان الذي أتاح لي أن أكون المثقّف العربي الوحيد ممن يخوضون حرب تشرين الأول/ أكتوبر، ويؤسر فيها، داخل إسرائيل، وهذا مذكور في كتابي «300 يوم في إسرائيل»، حيث كنت العين الواعية الشاهدة على تلك الأحداث كلها، كنت هناك أيضًا في الوحدة وفي الانفصال، وكتبت كثيرًا عن تلك المرحلة في روايتيّ «حسيبة» و«فياض».

كتبت عن المحرومين والمهمشين، وكنت أركز على التاريخ الذي تحاول الماكينة الرسمية تغييبه، وأحرص على توضيح دور المرأة في التاريخ السوري المعاصر، لأن ما هو أبعد من الظلم وقتل الضحية أن تخنق صرختها وتمنع قصتها عن التداول.

صرخات الضحايا في سورية تكفي لكتابة ملاحم أدبية كاملة، وجيلنا بأكمله لم يكتب سوى النذر اليسير، أما عن الثورة السورية، فأنا لم أستطع الكتابة عنها كما كانت وكما صارت، لأنّني لا أحبذ الكتابة الانفعالية لحدث غير منته حتى الآن، يمكنني ذكر تفاصيل عنها وأخذ خطوط منها، ولكن لا يمكنني حتى الآن أن أكتب عملًا ملحميًا عن ثورة سورية، ربما سأفعل حينما تنتهي الثورة بتحقيق أهدافها. ولكن بكل تأكيد فإنّ المأساة السورية قد هدمت جدار الخوف والمواربة والتورية التي كان يعتمدها الكتّاب السوريون قبل الثورة، فقبلًا كانت الرمزية سيدة الأساليب الأدبية في سورية، كان من الممكن أن نبكي ونصفق لقراءة قصة تتحدّث عن “سائس يجلد حصانه يوميًا ثم يفر ذلك الحصان في يوم ما نحو الحرّية”.

اليوم يمكننا الحديث بمباشرة ووضوح، ولا عزاء للمحورين في الحقيقة السياسية، فالرواية السورية غارقة حتى أذنيها في السياسة، من كل عشرة روايات يمكنك أن تجد رواية واحدة تبحث في الخيال غير السياسي، أو في الأدب البوليسي، أو الخيال العلمي، ربما يُصفي الروائيون حساباتهم مع التاريخ والمؤسسة الرسمية، ولهم الحق كله في ذلك، ولكن الجماليات العالية للرواية التي ميزت الرواية السورية في القرن العشرين، اختفت مع القمع السياسي الذي ضاعف رغبة الكتّاب في الغرق في كتابة رؤاهم السياسية لسيرهم الذاتية، وهذا مقتل للرواية السورية التي يجب عليها أن تكون متنوعة بالقدر الكافي لإنتاج أدب قابل للحياة في المستقبل. ربما سيستطيع كتّاب الجيل المقبل أن يتجاوزوا هذه المحنة وينظروا إلى الخلف بألم حين يقرؤون روايات العشرية السورية السوداء، وسيقولون في حينها إنه أدب الثورة والحرب، وهذا هو تاريخنا وهذه هي رواياتنا، وهذا أنا.

مركز حرمون

——————————–

هذه المقالة في معرض رده على تساؤلا مركز حرمون:

الرواية السورية عندما تواجه الاستبداد والطغيان

(حفريات سردية في عمق المأساة)

يُعدُّ سؤال علاقة النصّ الأدبي بالواقع من أقدم الأسئلة التي شغلت النقّاد والكتّاب على حدٍّ سواء في العصر الحديث، وكُتبت كُتبٌ كثيرة في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، وأيهما أكثر أثرًا في النصوص الأدبية: الواقع أم الخيال؟ ويكشف تأمل المدونة الروائية السورية في سنوات الثورة العشر أنّ هناك عشرات الروايات.

رأى نقّاد سوريون أنّ قراءة المدونة الروائية المتعلقة بالثورة السورية تكشف أنّ أهم الموضوعات التي عالجتها الروايات الصادرة هي: القمع والاستبداد، ومآلات الثورة، والتشدد الديني، واللجوء، والمنفى، العامل الطائفي، ومفهوما الهوية والوطن، والطائفية.

وشكّلت السير الذاتية لبعض الكتّاب والكاتبات مرجعية لافتة في عدد من الروايات. فأن يعيش الكاتب الحدث ليرويه، هو تحدٍّ بالغ الخطورة إذ هو أمام مواجهة حقيقية بين لحظة توثيق تاريخي ولحظة إبداع إنساني كليهما يجره إلى منطقته الخاصة.

وإذا كان للكتابة وأسئلتها في أزمنة السّلم تعقيداتها المتعدّدة، فكيف يكون الحال عندما يواجه الكاتب أسئلة الكتابة في أتون الحرب، وفي زمن الاحتراب والقتل والخطف والتدمير والعسف والقهر والحرمان والمآسي الكبرى في تاريخنا المعاصر؟

في محاولة من (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) للوقوف على مدى ما تركه الزلزال/ الثورة/ الانتفاضة/ الحرب، من أثر في الإبداع الروائي السوري في العشريّة الأخيرة. ولمعرفة ما إذا كان المشهد الروائي السوري في سنوات الجمر قادرًا على توثيق الفاجعة السورية أو تقديمها من خلال الأدب؟

توجّهنا إلى عدد من الروائيات والروائيين متبايني الأعمار والتجارب، ومن المكوّنات السورية المختلفة، من المنتشرين في أصقاع المعمورة، لنسألهم بداية، أيّ فعل بوسعِ الروائيّ فعله في زمنِ الحرب؟ ثم ما الذي يمكن أن تغيره الكتابة في واقع الحال والنار تأكل الأخضر واليابس في البلاد؟ وقبل كيف استحضرت الثورة/ الحرب في نتاجك الروائي؟ وإلى أيّ مدى استطعت أن تعري الطغاة والمستبدّين في كتاباتك، وأن تكون شاهدًا على مرحلة هي من أهم مراحل التاريخ السوري المعاصر وأخطرها؟

ثمّة أسئلة أخرى طرحناها في السياق مثل: ما أهمية أن ننقل حكايا الناس المظلومين وأوجاعهم وآلامهم إلى العالم؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن تكون هذه الروايات وثائق لقراءة التاريخ في المستقبل؟ وهل فعلًا كما يقال إنّ “الإبداع عمومًا يختمر داخل بوتقة المحنة”، أو كما يقول جان جنيه: “وراء كل كتابة جيدة ثمّة مأساة كبرى”؟

إلى ذلك، هل توافق الرأي القائل إنّ “الرواية هي التعبير الأوّل للهويّة الوطنية؟”، وإنّ “العملية الإبداعية لا تنفصل عن نزعة التمرّد؟”.

من ناحية ثانية، يرى نقّاد أنّ السواد الأعظم من الروايات السورية في العقد الأخير هي روايات سياسية؛ فإلى أيّ درجة برأيك يمكن لهذا الشكل من الكتابة أن يؤذي فن الرواية والتجريب اللغوي؟ وهل من جماليّات يمكن الحديث عنها في النتاج الروائي السوري في عشرية الثورة/ الحرب؟

أخيرًا، هل يمكن الحديث الآن عن أدب “الثورة السورية” أو أدب “الحرب السورية”؟

——————————–

لوقيانوس.. سِيرتنا التي ضاعت بين الحضارات/ خيري الذهبي

أثناء تصفُّحي لكتب لوقا السميساطي، و”سميساط” مدينة سورية قديمة تقع في الجزء السوري من تركيا الحالية قريباً من “منبج” المدينة السورية الواقعة في شمالي سورية المعاصرة… والسوريون المعاصرون ينطقون اسم سميساط بـ ” شميسات “، ولوقيانوس يدعى بالمنطوق المعاصر بلوقيانوس الشميساتي، وفي أثناء بحثي عن لوقيانوس عثرت على ما يشبه سِيرة حياته الأولى، ويبدو أن ذلك كان ضرورياً لنضعه في موقعه الديني، والثقافي، والتاريخي الصحيح…

 والحق أن كتب التاريخ المعاصرة للوقيانوس لم تذكر الشيء الكثير عن طفولة لوقيانوس أو حتى عن شبابه المبكر والأهم أنها لم تذكر شيئاً عن سنة مولده، ولكن ما كتبه عن طفولته، وولادته، وعن أبيه البسيط وخاله النحّات، وأمه الطامحة إلى خلافة لوقيانوس لخاله يُقرِّبنا من صورته فقد وُلد لوقيانوس فيما بين عامَيْ 120 ميلادية، و124 على الأكثر، وتاريخ ميلاده الحقيقي سيظل تخميناً…. وقد عرفنا هذا أو خمّنّاه من حديثه في مؤلفه “هيرمونيموس” الذي طرحه للقُرّاء في عام 165م، وكان كما يقول في العقد الرابع من عمره، أي في عهد الإمبراطور الروماني هادريان، وربما كما افترضنا أي فيما بين عامَيْ 124 و 120.

كانت “سميساط” تقع قريباً من منابع نهر الفرات، وكانت في ذلك الوقت عاصمة لولاية كوماجين، أو ديار بكر في قاموسنا الجغرافي المعاصر، وكان السكان فيها يتكلمون السريانية، وكان أبواه متواضعَي الحال، فرأت الأم أن يتعلم النحت على يد أخيها وهو نحّات مشهور حينذاك، فأرسلته إليه وأخذ في التعلم حتى اطمأنَّ الخال إليه، فأعطاه يوماً قطعة مرمر ثمينة، فضربها بمطرقته ضربة قاسية دمرتها، وغضب الخال كثيراً، ورفع العصا ليضربه، ولكنه هرب من أمامه، وغاب بين البساتين خائفاً من عَتْب أمه، وقسوة أبيه، وعقاب خاله، ولكنه ما إن حل المساء وجاع حتى رجع إلى البيتِ المرعوبِ على الصبي الغائب على غير سابقة له، حيث لم يعاتبوه كثيراً، بل صمم الأب على تركه العمل لدى الخال… وطالب لوقيانوس أبويْهِ بمتابعة دروسه ليتعلم الخطابة والفلسفة السفسطائية، ورضي الأبوان بتحمل عبء تعليم الولد الذي أخفق في تعلُّم المهنة الرابحة جداً في ذلك العهد، ولعله كما همست الأم في أذن الأب لم يكسر قطعة المرمر، بل الرب هو من كسرها لينصرف الولد إلى تعلُّم ما هو جدير به.

السؤال الذي يفرض نفسه على المتابع لسيرة لوقيانوس هو: أين تابع لوقيانوس دروسه وتعلُّمه؟ ولكن جواباً شافياً لن نحصل عليه كما في قصص كل الناجحين الذين يُخفُون ماضيهم عمداً إما لأنه لا يضيف إلى عملهم شيئاً مهمّاً، وإما لأنه غير مشرف… وربما كان ما تم هو أن الأب قد غامر، فأرسل لوقيانوس إلى “إيونيا”، و”إيونيا” هذه هي التي حرف السريان والآسيويون منطوقها لتصبح “يون” وحين يحيلونها إلى صيغة الجمع ستصبح يونان، فقد كان سكان “إيونيا” غالباً من الإغريق أو اليونان، ثم أطلقوا الاسم على بلاد الإغريق عموماً متخلين عن الاسم الذي اختاره الإغريق لأنفسهم “الهيلاس” ، والتي تعني الهيلينيين نسبة إلى هيلين الشخصية الشهيرة في ملحمة “الإلياذة”.

في “إيونيا” وجد لوقيانوس نفسه في جنة المعرفة، فمنذ زمن الحكام الأنطونيين عمّ السِّلْم والرخاء أرجاء الإمبراطورية الرومانية… وانتشر الوعي والرغبة في تعلُّم الفلسفة والتاريخ والبلاغة، وانتشرت المدارس واجتمع إليها أشهر أساتذة البلاغة أمثال “بوليمون” اللاذقي ، وسكولبيان “القلازومي”، وغيرهما من فحول الأساتذة وانتشرت الحماسة في نفوس الشبان المتعطشين للعلم والتعلم.

 كانت شهرة هؤلاء المعلمين والمغامرين بفتح أبواب المعرفة أمام شبان المتعلمين قد وصلت إلى “سميساط”، فعرف لوقيانوس طريقه إليهم لاستكمال معارفه في البلاغة، واللغة اليونانية.

 في محاولتي لمتابعة مسيرة لوقيانوس الفتى والدخول إلى قلب العلم عن طريق أساتذته تابعت ما كتبه عن تلك المرحلة لأكتشف أنه قد درس على معظم المعلمين الكلاسيكيين، وحفظ عن ظهر قلب أشعار هوميروس، وقرأ هزيود، وبندار، وسيموند، وقرأ معظم مسرحيات الكلاسيكيين، وخاصة يوريبيدس والكتاب الكوميديين كـ”أرستوفان”.

لم ينس لوقيانوس دراسة الفلاسفة كأفلاطون، وأرسطو، وكريسيب، وأبيقور.. وقرأ للمؤرخين هيرودوت، وتوسيديد، وتابع في إجلال مسيرة الخطيب المعروف.. ديموستين… وأنهى لوقيانوس مرحلة التعلم واختار لنفسه مهنة المحاماة، وراح يترافع في أنطاكية لفترة، وما لبث أن سَئِمَ هذا العمل، فسافر إلى عاصمة النور في ذلك الزمان “أثينا” جدة باريس المعاصرة اليوم، ومستبدلاً مهنة المحامي بمهنة السفسطائي، وكان السفسطائيون خطباء رائعين…. ينتقلون من بلد إلى آخر، فيلقون خطبهم أمام الأغنياء ليجنوا من عملهم المال الكثير المنهال عليهم.

شعر لوقيانوس أنه قد ملك زمام الخطابة، فمضى يقيم حفلات يكون فيها الخطيب المفوه الوحيد، وفي تلك الأثناء دهمه مرض في العيون جعل متابعته العمل صعبةً، فرأى أنّ عليه السفر إلى روما ليعرض نفسه على طبيب في العيون انتشر صيته إلى “إيونيا”، فلقي هناك الفيلسوف نيقرينوس الذي سبق له التعارف معه في “أثينا”، فتأثر بخطبه كثيراً حتى كاد أن يحول معارفه وشهوته من المعرفة الشاملة إلى… الفلسفة…. ولكن مَجْد الخطيب المفوَّه -المحاط بالمعجبين المتجمهرين من حوله بعد كل خطبة جميلة له- غَلَبَه، واستمر يعمل خطيباً سفسطائياً !.

 ولكنه بعد مجد طويل أخذ مردود العمل كخطيب سفسطائي يتراجع، فانتقل إلى العمل في محكمة يدير أعمالها الكتابية، وها هو يصفها فيقول:

“أُعيِّن الجلسات، وأحدد مواعيدها حسب الدور، وأمسك بسجلاتها، إذ يجب أن يكون في السجلات كل ما يقال، وما يحدث، وأرتب دفاعات المحامين وأحفظ حكم القاضي في تلك القضايا، ثم أودعها المحفوظات العامة”.

وكان يتقاضى لقاء كل هذه الأعمال أجراً كبيراً ، ولكنه كالمتنبي الذي سيخلفه بعد قرون كان يطمح إلى دور سياسي كبير كوالٍ على “بُخارى”، أو الشام مثلاً، أو حاكم مقاطعة إلا أنه تُوفِّي قبل أن يحقق أمنيته، فيسعد والديه في قبريهما، ويغيظ أبناء حارته !! الذين عرفوا طفولته القاسية في صعوده !!! حدد المؤرخون سنة وفاة لوقيانوس في حوالَيْ نهاية عهد كومودوس أي ما قبل عام 192 مما جعلنا نُثبت تاريخ وفاته قبيل عام 192 أي قبل بلوغه عمر السابعة والستين .

على أية حال فالعالم القديم لم يعرف لوقيانوس باسمه إلا بسبب طروحاته الجديدة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتابته عن الصعود إلى السماء وإلى ما تعذر الوصول إليه من الأرضيين، بل إن له غزوة لم نعرفها لغيره ثبتها في كتبه سأستشهد بها في هذا المقام، “النزول على القمر” فبعد رحلة صاخبة، هناك أي على القمر تم القبض عليه وعلى رفاقه الذين أخلصوا له، حينها سينجح لوقا في إنقاذ مجموعته التي سافرت معه إلى القمر، من العقوبات التي كان حاكم القمر سيفرضها عليهم حيث إن التسلل إلى القمر كان ممنوعاً تماماً، من قِبل حراس القمر، حتى يعرض عليهم حاكم القمر أن يروي لهم قصته، فيبادر أسرى الأرض إلى التهليل فرحين بأنهم سينتقلون من كونهم موتى مؤجَّلين إلى محكِّمين في الحكاية التي سيرويها.

يبدأ حاكم القمر يروي انتقاله، من الأرض إلى القمر حيث سينصبونه حاكماً غريباً عن القمر كعادتهم القديمة في جعل الحاكم من الغرباء ويحدثهم عن اختطافه من الأرض دون أن يجد مَن يدافع عنه، ولكن القمريِّينَ حين ينادون به حاكماً عليهم يوقف احتجاجاته، ويصمت قابلاً المُلْكَ، ليبدأ رحلة الحاكم العادل الذي سيواجه المعتدين، ولن يسمح لهم بإقامة مستعمرة على القمر، فيما بعد سيتأكد لوقيانوس، أنهم عائدون إلى الأرض فيهتف بأنه أول المتطوعين للدفاع عن القمر ضدّ الغزوة الجديدة والمعتدين من الغزاة الشمسيين، وحين تكون المعركة في اليوم التالي ينادي لوقيانوس رجاله للحماسة في الدفاع عن القمرِ المَغْزُوِّ من الشمسيين، وتكون المعركة لصالح القمريين لكنهم حينما يبدؤون في جمع ما تركه الغزاة يتنبه الحاكم الغازي المهزوم إلى القوات المساعدة التي وصلت لعونه ويهاجمون جامعي الغنائم فيهربون وهكذا تتحول الغزوة إلى معكوسها وينتصر الغازي على القمريين .

بعد استقرار المحاربين الغزاة والمهزومين، يبدأ الشمسيون بقطف ثمرة الغزو وتكون في إغلاق المتنفسات جميعاً وفي حبس القمريين ضِمن المدينة .

هذه الحكاية الطريفة عن غزو القمر وهزيمة سكانه الأقزام التي ما تلبث أن تتكلَّل بانتصارات وهزائم على الأرض حين يعود إليها ليصطدم بسيد الرجال والغزاة والقبض عليه، ولكنه ينزلق مع عدو من رجاله إلى أحشاء الغازي الضخم جداً حتى ليهزم كل مَن تعرض له وحكم العالم عن طريق أحشائه.

يبدأ لوقيانوس رحلته الجديدة ليفاجأ بسيد قبرص وابنه، وقد نجوا من موت محتوم وها هما يعتنيان بأرض من أراضي رجال الغازي ولا تكتمل سعادة لوقيانوس إلا حينما يفاجأ بمجموعة أخرى من الناجين المحافظين الراغبين في هزيمة الرجل الذي وقف في وجههم، ولكنهم ينهزمون ويُقبض عليهم وتعمّ المتدخلين فرحة الإفراج عنهم، وهنا يتحولون إلى ممنون عليهم من قِبل لوقيانوس ورجاله، ثم يقررون قتل حاكم المركبة التي يحتلونها ويقودونها وبهذه الطريقة وحدها ينجحون في قتل الطاغية الحاكم والنجاة من الحبس في سفينة القاتل العملاق والذي يقاسي من خيرات المغامرين عابري البحر.

إن عوالم لوقيانوس غرائبية بشكل لا يصدق، نهل منه العشرات من الكُتّاب والمفكرين، من مثل أبي العلاء المعري ودانتي أليغييري، وربما حتى ابن عباس في كتابه “المعراج”. ولكنه يظل أبا السرد السوري بلا منازع، روائياً وخطيباً ومحاوراً لا نظير له، ضاقت به الأرض السورية كثيراً، فأطلق العنان لمخيلته في الإبحار بعيداً جداً. لم يترك لوقيانوس مطلقاً أي أثر روائي واقعي يصف لنا به حال وأحوال سورية في ذلك الزمان، مثل أي رواية واقعية أو مسرحية يونانية تعكس رموزاً أرضية، لكنه حمل أحفاده بعيداً عن آلام تلك الأرض مُحطِماً بوابة الواقع بمِطْرَقة الخيال والحُلم.

————————–

حلب وإيطاليا/ خيري الذهبي

في مدينة حلب الشهيدة، التي لها معزة في قلبي تساوي محبتي وعشقي لمدينة دمشق، هنالك خان لفت نظري باسمه المُتَّقِد بالأسئلة، “خان البنادقة” وحينما سألت عن ماهية الاسم أجابني مضيفي، وكنا في ندوة فكرية في حلب مطلع التسعينيات، أن الاسم اتخذه أبناء حلب في القرن السادس عشر؛ لأن تجار مدينة البندقية كانوا ينزلون فيه، وكانت تجارتهم تتخذ منه منطلقاً في عموم حلب ومدن الشمال السوري، لقد تواصل أهالي حلب مع مدينة البندقية التي كانت عامرة وذات ازدهار كبير، فافتتحوا القنصليات ودُور رعاية التجارة بين المدينتين، لم تكن البندقية وحيدة في هذا بل كانت عموم مدائن إيطاليا ودوقياتها على صلة كبيرة بحلب ومينائها العظيم التاريخي ميناء مدينة أنطاكيا ميناء شمال سورية طوال الأعوام الألف السابقة، حيث كانت البضائع تنزل فيه وتتوجه إلى حلب والعكس صحيح، فقد كانت حلب نقطة تجمُّع وانطلاق لعموم قوافل تجارة التوابل والأغذية والأقمشة، الحريري منها والقطني، وكانت إيطاليا تزود مدائن الشرق عَبْر حلب، بكافة مستلزمات الحضارة وقتها، من زيوت واختراعات وتحف.

كانت حلب مدينة عالمية ذات شهرة كبيرة، وكانت العلاقة بين التجار الحلبيين وتجار البندقية وجنوى وبيزا، ذائعة الصيت، حتى أن الكاتب الشهير وليم شكسبير قد ذكرها في مسرحيته (عطيل) مستشهداً بخلاف حصل بين تجار، من المفترض أن الخلاف حصل في خان البنادقة:

“دموعاً سراعاً كما تدرّ أشجار العرب‏

صمغها الشافي هذا دونوه‏

وقولوا أيضاً إنني ذات مرة في حلب

.. ‏ حيث هوى تركي شرير مُعمَّم ‏ على بندقيّ

بالضرب وأهان الدولة

‏ أمسكتُ بالكلب من عنقه‏ وضربتُهُ هكذا “يطعن نفسه “

لقد أطلق العرب على مدينة فينيسيا اسماً مختلفاً عمَّا يسميه أبناء المدينة ذاتهم، فالمدينة وفي جميع لغات العالم تتسمى بـ “فينيسيا” نسبة إلى فينوس، أو نجم الزهرة ..لكن العرب أسموها كذلك لعدم تمييزهم الفروق في اللغة الإيطالية التي كانت تسبق اسم فينيسيا بلقب الدوقية الجميلة، والتي هي بالإيطالية  “Buena douchia ” والتي رددها التجار العرب على أنها البندقية وتناسوا الاسم الحقيقي للمدينة، فبقيت في أذهانهم حتى اليوم “الدوقية الجميلة لمدينة فينيسيا..”

وعَوْداً إلى حلب، كان خان البنادقة بؤرة علمية بقدر ما كان مركزاً تجارياً، فكما نقل التجار المسلمون رسالتهم إلى عموم آسيا وإفريقيا وبنوا المساجد والمدارس هناك، وكما فعل التجار الفينيقيون قبلهم من نقل لحضارتهم إلى عموم إفريقيا وأوروبا وجزائرها، تحت غطاء التجارة، كان يتسلل مع التجار الطليان العديد من الطلاب والثوار الهاربين من أحكام سجن، يتسللون خفية نحو الشرق البعيد، ليجالسوا شبان حلب وتُجارها ويحدثوهم عن الثورة والأفكار المتقدة في أذهانهم.. استمر هذا الحال تقريباً من القرن الثالث عشر حين عُقدت أول اتفاقية تجارية بين مبعوث البندقية بيترو مارينياني وملك حلب الظاهر غازي عام 1207م. وحتى سقوط الإمبراطورية العثمانية..

في مَقْلبٍ آخرَ كان السؤال الذي يُحيِّرني ولا شك أنه قد حيَّر الكثيرين من قبلي هو: كيف استطاع عبد الرحمن الكواكبي -وهو العبقري  ابن الثقافة العثمانية والشيخ المتنور المشبَع بالثقافة الإسلامية والعربية  التقليدية، ولم يطَّلع حسب ما يُصِرّ كاتبو سيرته والمتحمسون له على ما جرى في الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من هيجان فكري وفلسفي وسياسي كيف استطاع- صُنعَ كتابٍ في  غاية الأهمية مثل “طبائع الاستبداد”، وهو أيضاً الذي لم يطلع على الثورة البرجوازية الفرنسية التي هدمت البِنى الفيودالية (النبيلة) في أوروبا الفيودالية الكنسية (وليعذرني القُرّاء على استخدامي مصطلح الفيودالية بديلاً عن مصطلح الإقطاع والإقطاعية الذي دأب الكُتّاب السياسيون على استخدامه لما فيه من تضليل في مقارنة المصطلحيْنِ الغربي الفيودالية والشرقي المَقاطِعْجيَّة المملوكي والعثماني).

والثورة الفرنسية التي ما تزال أصداؤها تؤثر حتى في عالمنا المعاصر مع شعارها الرائع :حرية- إخاء- مساواة، إلى الديمقراطية التي طالبت بها والتعددية.

تلك الثورة لم تلبث بعد هزيمتها على أيدي الرجعية الأوروبية أن استيقظت ثانية في إيطاليا على أيدي الثوار المسمَّيْنَ في حينها بالكاربوناري أو الفحّامين والذين كان من أعلامهم غاريبالدي وماتزيني، ولكن هذه الثورة نفسها ما لبثت أن اغتِيلت على يدي الملك الذي سلموه إيطاليا بعد توحيدها ظانِّين أنه المُصلِح الذي سينقذ المشروع وربما يستطيع مده إلى أوروبا كما فعل نابليون قبل خمسين سنة، ولكنه ما إن تسلَّم إيطاليا حتى قلب للفحّامين ظهر المِجَنِّ، وأخذ في مطاردتهم وقتل مَن استطاع قتله، وسجن مَن استطاع سجنه.

حلب… وكانت المدينة الأكبر والأهم في بلاد الشام، بل كانت المدينة الثانية في الإمبراطورية العثمانية بعد إستانبول ثراءً وعلماً وتقدُّماً وخاناتٍ . والكل يذكر خانَ البيازنة، أي أهالي مدينة بيزا، وخان البيادقة :أي خان أهل مدينة البندقية.

وعَوْداً إلى الفحّامين المطاردين الهاربين من إيطاليا إلى فرنسا، ومن فرنسا نابليون الثاني لم يكن أمامهم إلا مصر و… حلب… حيث الصلات التاريخية التجارية وحيث خانات التجارة.  ونعود إلى السؤال: هؤلاء الفحّامون، هل صمتوا وخرسوا، وتناسوا ماضيهم الثوري بعد أن وصلوا إلى حلب وخان البنادقة، واشتغلوا محاسبين ومديري مكاتب تجارية، أم أنهم والتجارب تعلمنا أنهم على حدّ قول المثل (يموت الزمَّار وإصبعه يلعب).. عادوا إلى عقد اجتماعاتهم والبكاء على الجنة التي فقدوها في إيطاليا فيتوريو إيمانويل، وفي استدعاء الصحف والمنشورات التي كان الفوضويون “الأناركيست” ينشرون فيها أفكارهم وأمنياتهم واحتجاجاتهم على ما وصلت إليه إيطاليا وأوروبا الاستعمارية.

هذه الصحف والمنشورات والكتب، هذه القراءات والاجتماعات السرية، هل كانت مقصورة على الجالية الإيطالية، أم أنها كانت متاحة للمتنورين المحليين من بلاد الشام.

أنا شخصياً وحسب قراءاتي ومشاهداتي المعاصرة، أعتقد أنها لم تكن محصورة على الإيطاليين فقط، بل كانت متاحة للمتنورين الشاميين، وكان من أكثرهم انفتاحاً ورغبةً في تطوير وتحسين الدولة العثمانية، وأعني  المفكر عبد الرحمن الكواكبي، وإذا ما قرأنا كتابه “أم القرى”، ودعوته إلى مؤتمر يضم متنوري العالم الإسلامي لمحاولة إصلاحه، قرأنا إلماحة سريعة إلى تلك الندوات التي كان الفحامون وأيتام الثورة في أوروبا يعقدونها ويحلمون باستعادة التجربة في الإمبراطورية العثمانية.

ما دعاني إلى ذكرها هو إصرار كُتّاب الدراما في سورية تحديداً على جعل القرن التاسع عشر قرن عماء وانغلاق، علماً أن القرن التاسع عشر كان القرن الأكثر هيجاناً منذ الفتح الإسلامي، فالثورة البرجوازية الفرنسية وصلت إلى الشام مع إبراهيم باشا وضباطه البونابرتيين الهاربين إلى مصر وعلى رأسهم الكولونيل سيف، الذي سيُسلم ويتكنَّى باسم سليمان باشا الفرنساوي، ووصلت ابنة الثورة الفرنسية أعني الإيطالية على يد الهاربين من إيطاليا إلى حلب يبكون على ما كان ويحلمون بيوم أفضل للإنسانية.

وقد أثمرت هذه الاحتكاكات أعلاماً تفخر بهم بلاد الشام من أمثال أحمد فارس الشدياق وأحمد أبو خليل القباني وعبد الرحمن الكواكبي ونعمان القساطلي وفرنسيس مراش ومارون نقاش وابن أخيه سليم وإسكندر  فرح.

فهلا نعيد إلى هذا القرن بعضاً من حقه ولا نستسلم للفكرة الاستشراقية الكولونيالية التي يمنّ فيها الغرب علينا بأننا كنا جهلاءَ فجاء وعلَّمَنا وأنارَ حياتنا.

كان الكواكبي والقباني والأفغاني مشاعل محلية، ولكنهم كانوا أيضاً جزءاً من الثقافة العالمية، وكان هذا لحسن حظنا؟ ربما!.

مع مطلع القرن العشرين شُحن أجدادنا بفكر ثوري فأعلنوا الثورة، وما لبث أن خذلهم الغرب الذي بثَّ في وضعهم ورغبتهم في التقدم الأحلامَ، ومع مطلع القرن الواحد والعشرين، حصل نفس الأمر وعاد الغرب وخذلَنا من جديد بعد أن ساهم في إذكاء الحلم بالحرية والديمقراطية في عقولنا جميعاً، مع العلم أننا لسنا في حاجة إلى مَن يوجِّه ثوراتنا ورغبتنا في التقدم، ولكن العبث الدائم من الآخر ضدّ طموحات شعوبنا كان محبطاً وبائساً، وتذكروا على الدوام حال خان البنادقة في حلب اليوم.

————————-

طالبو حكم دمشق، الفرنجة والمماليك../ خيري الذهبي

حين احتل غورو سورية ولبنان وفقاً للقسمة الجائرة التي وهبت فيها الدولة الإنكليزية للدولة الفرنسية ما سيُسمى في ما بعد بجمهوريتي سورية ولبنان، فقام غورو بعد معركة ميسلون بحركة دراماتيكية حين قسم بلاد الشام حسب الخريطة التي تركها الفرنجة الصليبيون من خلفهم، فالفرنجة استسلموا إلى الواقع الجغرافي السوري فأنشأوا إمارات مثل إمارة أورفه، وإمارة أنطاكيا، وإمارة طرابلس الشام، وإمارة الكرك، ومملكة بيت المقدس، وكان للمسلمين إمارة حلب وإمارة دمشق، وكانت سورية الداخلية كحمص وحماة تتبع لواحدة من الإمارتين الإسلاميتين، فلما وصلت فرنسا إلى الشام قسمت البلاد حسب الخريطة الفرنجية، فإمارة أورفه أعطيت لأتاتورك التركي، وإمارة أنطاكية سموها دولة “جبل العلويين” وإمارة طرابلس الشام تحولت إلى دولة لبنان الكبير. وإمارة الكرك تحولت إلى دولة شرقي الأردن، أما مملكة بيت المقدس، فقد تحولت إلى الدولة اليهودية الموعودة “إسرائيل”، أما الإمارتان المسلمتان دمشق وحلب، فقد تحولتا إلى دويلتي دمشق وحلب.

 ولكن السنوات التالية لحملة غورو شهدت اتحاد الدويلات السورية في دولة واحدة هي “الجمهورية السورية” وشهدت قيام إمارة شرق الأردن التي تحولت فيما بعد إلى دولة مملكة الأردن.

 كانت أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي قد مرت بقرن لا طواعين، أو كوارث طبيعية فيه فازداد عدد سكانها في أوروبا، فلا مجاعات، والمطر منتظم، وأبناء الفلاحين يزدادون ويفلحون أرض السيد الإقطاعي، ويحصدون ما يكفي للسيد الإقطاعي ونزواته ومغامراته الحربية والغرامية.

وازداد السكان من إقطاعيين، وكهنوت، وفلاحين حتى أصبحت الأرض لا تكفي لإطعامهم، فكثر قطع الطريق، ونهب الكنائس، وما رواية “روبن هود” إلا الدليل على ما وصلت إليه أوروبا الغربية اجتماعيا واقتصاديا…..

 وصار أبناء النبلاء المحرومون، ممن لا يملكون أرضا، أو لقبا يضطرون إلى قطع الطريق ونهب الكنائس بعد أن امتلأت البلاد بالأولاد المحرومين من الميراث والألقاب الإقطاعية التي كانت لأبيهم، فاضطروا إلى دخول السلك الكهنوتي ليتحولوا إلى أمراء للكنيسة، وامتلأ الجيش بالضباط الكبار من أبناء الإقطاعيين… المحرومين من الميراث، وامتلأت بيوت النبلاء ممن لم ينجبوا أبناء، فورثت البنات.. الإقطاعيات، والألقاب، وتزوجن من واحد من الـ “سان كيلوت” أي الفقراء حتى من كيلوت يستترون به.

وكان القانون الإقطاعي في أوروبا كلها صريحاً في أن اللقب والأراضي الإقطاعية هي للبكر من الأولاد صبيا كان أم بنتا، وكان الابن الأصغر حين يأبى العيش عالة على البكر في القصر الإقطاعي، وليس أمامه إلا الكنيسة ليصبح بعد ترقٍ طويل واحدا من أمرائها، أو الجيش ليصبح واحدا من أمرائه، ولكن حين امتلأت المناصب الكنسية بالنبلاء الـ “سان كيلوت” كما امتلأ الجيش لم يعد أمام النبلاء إلا قطع الطريق بابا للرزق، وضج المجتمع من هذه الفوضى.

 وعندئذ تدخلت الكنيسة والبابا، فقرروا هجرة الفائض من النبلاء إلى الشرق مع الفائض من الفلاحين أيضا إلى الأراضي التي يحتلها الكفار المسلمون وهي الأراضي الغنية بالسمن والعسل، أي سوريا الكبيرة وفلسطين قلبها، وهكذا بدأت الحروب الصليبية كما دعاها الغرب، والحروب الفرنجية كما دعاها المسلمون على الجانب الآخر من الصراع أي الجانب الإسلامي الذي كان قانون الميراث فيه خاضعا للشرع، فقد خرب هذا القانون العادل بين الأفراد والدول التي خضعت لتقاسم الميراث من دول وإمارات بدءا من الإمبراطورية السلجوقية التي وصلت أيام انتصاراتها الكبيرة أي قبل الغزوات الصليبية بربع قرن فقط إلى إمبراطورية تمتد من أعماق آسيا إلى البحر المتوسط… هذه الإمبراطورية التي أنجز السلطان “ألب أرسلان” في معركة “ملاذكرد” أو”مانزيكرت” الانتصار الخارق فيها.. بين الشرق الإسلامي “السلجوقي” والغرب البيزنطي المسيحي، والتي يعتبرها المؤرخون المسلمون بأهمية معركة اليرموك في الشام التي أنهت الوجود البيزنطي في سورية، وبأهمية معركة الزلاقة في الأندلس والتي أعادت التوازن لعدة مئات من السنين بين إسبانيا الصاعدة، وبين المراكشيين الذين عبروا مضيق جبل طارق بقيادة يوسف بن تاشفين.

المهم هو أن الإمبراطورية السلجوقية قد حولها قانون الوراثة الذي لم يميز بين توزيع طناجر بيت المتوفى، وبين توزيع الأراضي والدول بين الأبناء من الورثة، فكان حين وصل الفرنجة إلى الشرق أن وجدوا الشام، وكل مدينة فيها يحكمها حاكم من الورثة، ولكل إقطاع حاكم يكره جاره “أخاه” الذي كان شديد القرب منه قبل موت الأب المورث، فمرّ الفرنجة في ما بينهم مرور السكين الساخنة في الزبدة، وكان عدد من وصلوا إلى القدس من الفرنجة وحاصروها لا يزيد على ألف فارس وعدد المشاة لا يزيد على تسعة آلاف، وهذا عدد مضحك أمام الجحافل المسلمة التي كانت تعيش على أكتاف الجياع من الوطنيين.

انتظر المسلمون المهزومون قيام حاكم مسلم ما لينقذ الشام الساحلية من الاحتلال الصليبي، انتظروه لأربعين سنة، وأخيرا ظهر زنكي الشامي كما كان يحب أن يدعى في الموصل، وهو الذي سنعرفه باسم “عماد الدين زنكي” الذي سينتقل بجيشه إلى الشام رافضا العودة إلى الموصل، وكان أهم إنجازاته العسكرية هو تحرير مدينة وإقليم أورفه، وكانت الإمارة الداخلية الوحيدة التي احتلها الفرنجة، ثم أسر الرعاة من التركمان حاكمها “جوسلين” مع المغامر اللص “أرناط” في منطوقه العربي، أو رينو دو شاتيون في منطوق الاسم فرنسيا، وهو.. السان كيلوت.. المغامر الذي انضم إلى جحافل الصليبيين لفقره، ودون إحساس ديني منه بأهمية الفعل الذي ساهم به، وكان حين أسره متزوجا من وريثة إمارة أنطاكية، وقد قرر يوما غزو ونهب جزيرة قبرص التي كانت تابعة لإمبراطورية القسطنطينية مذهبيا وسياسيا، ولكن الحملة كانت في حاجة إلى تمويل لا يملكه، فاستدعى كاردينال أنطاكية الكاثوليكي الذي كان قد قبل بطرد بطريركها البيزنطي أي الأرثوذكسي قبل سنوات، وحل محله، فطلب منه أرناط تمويل الحملة على قبرص، ولكن البطريرك رفض متحججا بالفقر، فأمر به، فحمل إلى سطح الكنيسة، وقادوه تحت أنظار الفرسان الساخرة، فقيّد وعرّي، ثم سكبوا عليه جرة من عسل في يوم شرق أوسطي قائظ، وتركوه فهاجمته الدبابير والزلاقط والنحل تسعى وراء العسل المغطي جسده العاري، فأخذ في العويل والصراخ مستنجدا بـ”أرناط” الذي حضر وقبل توبته وتمويله للحملة كاملة من كنوز الكنيسة، وعن هذه الحملة الغادرة يحدث المؤرخون أن جزيرة قبرص “جزيرة الربة أفروديت “لم تقم لها قائمة من بعد هذه الغزوة التي دمرت فيها كل حضارة وقدرة!

بعد مقتل عماد الدين زنكي، وتوريث أبنائه ما ترك من إقطاعيات وإمارات وسعي على غير طائل إلى ضم دمشق المحاذية للإمارات الفرنجية، وإخفاق الفرنجة في ضمها أيضا لسياسة التزمها معين الدين “انر” هو أنه إذا هاجمه عماد الدين مد يده للتعاون مع الصليبيين لتسليمهم المدينة، فيتراجع عماد الدين عن مهاجمة دمشق فأن تبقى مع حاكم مسلم خير من ضياعها في يد الفرنجة  ـ وإذا تقدم الفرنجة من دمشق طالبين فتحها مد يده إلى عماد الدين طالبا عونه فيتراجع الفرنجة، فأن تبقى المدينة محايدة خير من ضياعها النهائي على يد الحكام المسلمين.

وأخيرا قتل عماد الدين أثناء حصاره قلعة جعبر القريبة من مدينة الرقة، وكان وريثه نور الدين مخلصا لقضية التحرير، فاستطاع بالحرب حينا، وبالأموال والإغراءات حينا ضم معظم ما تركه أبوه من أراض، وأخيرا كانت دمشق التي عصيت على أبيه تتحداه، فحاول كثيرا جعل معين الدين أنر يتنازل عن دمشق مقابل إعطائه المدينة التي يشاء فرفض، وحاول قتله فأخفق، وكان على نور الدين انتظار موته وهو العجوز، فأخذ في مراسلة كبراء المدينة وفقهائها في انتظار اليوم الموعود.. ولكن أوروبا لم تكن لتنتظر أكثر فتشكلت حملة صليبية كبيرة تريد إنهاء الحرب في سورية لصالح أوروبا وأورشليم.

وكان في الحملة وعند أقدام دمشق إمبراطورا بيزنطة وروما، وكان فيها ملوك خمسة منهم ملك فرنسا وملك بيت المقدس، وكان فيها عدة كرادلة، وآلاف الفرسان وآلاف المشاة من السرجاندية والمشاة، فخاف معين الدين، وعرض الصلح ولكن الإمبراطور رفض إلا التسليم وتعيين حاكم صليبي جديد عليها وكانوا قد استقروا على تعيين كونت فرنسي على دمشق الشام عليها، فغضب ريمون كونت طرابلس الشام، فقد كان الأحق، فهو من الصليبيين البلديين “وهذا يعني قدماء الفرنجة الصليبيين” الذين تطبعوا بالطباع الشامية وتحدثوا باللغة العربية، فأتقنوها  بالإضافة إلى لغتهم الأصلية، ولكن كبراء النبلاء والكرادلة رفضوا، وفضلوا نبيلا فرنسيا عليه… وأسقط في يد المملوك الماكر معين الدين، وأحس أنه قد أوقع به، فأرسل إلى كونت طرابلس ريمون يعرض عليه مئة ألف بيزنته “دينار بيزنطي كامل” إن استطاع دفع الفرنجة عن إمارته بأية طريقة، وفكر ريمون طويلا فرأى أنه قد خسر إمارة دمشق، فلم لا يكسب مئة ألف بيزنتة دون تعب فأرسل إلى معين الدين أنه موافق، وأن يرسل معين الدين المبلغ أولا، وسارع معين الدين بإرسال الدنانير، ولكنه أرسل معها عدة رسائل جوية أي محمولة على أجنحة الحمام، وكان يقدر أن يراها بعض النبّالة الفرنج فيرمون واحدة منها ويحملونها إلى حضرة الأباطرة والملوك الصليبيين، فيغضبون ويهاجمون خيمة ريمون، ويعثروا على البيزنتات فيتأكدون من خيانة ريمون، فيقومون بمحاكمته أو قتله، فيثور أصدقاؤه البلديون وتقع الفتنة في المعسكر المحاصر لدمشق، وكان في الرسالة تحيات إلى الصديق المخلص ريمون يشكره على تعاونه المؤكد لمحبته لجيرانه من المسلمين، وفرح ريمون بالرشوة القادمة إليه دون تعب، فدفنها في أرض الخيمة وأخذ يحاول ثني الصليبيين القادمين لفتح دمشق وإهدائها إلى الكونت الفرنسي على طاولة الارتياح والرضا.

هاجم الصليبيون الأوروبيون خيمة ريمون، وعثروا على المحفظة الحاملة للدنانير البيزنطية، واشتعل الغضب في صدور القادمين الجدد، واختفى ريمون خيفة أن يقتله أحدهم في فورة الغضب، ويضيع دمه بين الفرنجة.

المضحك في الأمر أن الأباطرة والملوك اتفقوا على تقاسم الرشوة فيما بينهم واعتبارها تعويضا عن تكاليف الحملة الفاشلة، فاجتمعوا في القدس، وأمروا بفتح الحقيبة تمهيدا لعد الدنانير وتقاسمها فلما فتحوا الحقيبة وفحصوا الدنانير اكتشفوا أنها مزيفة، وأن ثعلب دمشق قد سخر منهم، وخدعهم، وانتصر عليهم من دون تكاليف.

عن أورينت نت صورة الراحل مع أغلفة بعض رواياته

=======================

مراجعات لروايات الراحل “خيري الذهبي”

————————–

ثلاثية التحولات الحب ودرامية المصائر الغريبة/ مفيد نجم

في رواية حسيبة – الجزء الأول من ثلاثية التحولات للروائي السوري خيري الذهبي تحل اللعنة على حسيبة بطلة الرواية، لأنها خرقت ناموس المدينة الاجتماعي السري ولذلك يكون عليها أن تواجه قدرها المأساوي ومصيرها المحتوم. وأن تتحمل نتائج ما فعلت عندما ارتدت ثياب الرجال وعاشت معهم في الجبل أثناء الثورة، وتتكرر مأساوية هذا القدر من خلال لعنة الحب التي تصيب أصحابها في مدينة محكومة بصرامة الواقع، وسلطة قيمه الاجتماعية السائدة، مما يعبر عن فداحة الشرط الوجودي والاجتماعي للانسان المحكوم بقدره الظالم، ويجعل قصص الحب تحمل هذا المضمون التراجيدي الحزين والقاسي بصورة دائمة تجعلنا نبحث عن إجابات واضحة لما تطرحه علينا هذه المصائر من أسئلة تخص مضمون الرؤية التي تجعل الكاتب يوحد هذه الحالات وهذه المصائر في خط درامي واحد، تجر هن الحب لعنة حقيقية » تجعل حياة من تصيبه سلسلة من التحولات الغريبة والمثيرة التي تنتهي في الغالب نهايات مأساوية فاجعة تعبر عن قدرية هذا المصير في مدينة محكومة بقانونها الخاص.

لاشك أن هذه التحولات التي تواجهها مصائر هذه الشخصيات تعمق الخط الدرامي لأحداث الرواية وتسهم في تصاعد حالة التوتر التي تخلقها من خلال الانتقال المفاجيء والمثير في حياة هذه الشخصيات، وإذا كان هذا الخط الدرامي المتوتر يحقق جوانب فنية تعمل على تنامي وتطور أحداث ووقائع القط الروائي، وتحولات شخصياته فإنها تكشف في نفس الوقت عن مضمون الرؤيا التي يقدمها الكاتب لعالم الواقع الذي يكتب عنه على ضوء خصوصية القيم والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بخصوصية المكان تاريخيا وذلك من خلال حضور صوت الراوي الذي هو صوت المؤلف عندما يعلق أو يتحدث عن مصائر شخصياته المستلبة والمهزومة في واقع حكمته سلطة الجغرافيا والتاريخ، وسلطة الانسان المحبط الذي فقد مس المغامرة، وروح الاندفاع والكشف عندما استراح الى ظلال هذه الواحة الممتدة على أطراف الصحراء – دمشق – الأمر الذي يكشف عن مضمون هذه التجربة الوجودية، وتأثيرها المباشر على حياة ومصائر هذه الشخصيات خاصة وأن المكان في ثلاثية التحولات يظل هو البطل الحقيقي للرواية الذي يحمل قيما الدلالية والايديولوجية باعتباره يمثل بؤرة سردية هامة، تتبادل التأثير مع شخصياتها، إن لم نقل إنها هي التي تصنع حياتهم، وتحدد مضمونها في الغالب بفعل التأثير الذي تمارسه عليها “لأن المكان الروائي هو الفضاء المعاش من طرف الانسان أولا وأخيرا” (1) ص 89 وذلك بعد أن “دخلت العلاقة بين الشخصية والمكان مرحلة جديدة، أصبح فيها المكان شرطا للوجود ذاته، وعاملا من العوامل بين الشخصية وتحديد استجاباتها” (2) ص 26 يعتمد الروائي خيري الذهبي في سرد هذه الحكاية على ضمير الغائب حيث يقوم الراوي الذي هو المؤلف العارف أكثر من شخصياته بتفسير وشرح أسباب هذه الحالات من الاحباط التي يعاني منها رجال هذه المدينة والتي تنعكس على علاقات الحب بين المرأة والرجل، وسلوك الرجل حيال المرأة إضافة الى دور ذلك في تكوين وصياغة منظومة القيم والأعراف الاجتماعية التي تفرض سطوتها على حياتهم، وتحرمهم من الحب والعاطفة، بعد أن تكاملت منظومة القيم المختلفة لتجعل من المرأة سلعة يكون عليها دائما أن تواجه قدرها القاسي الذي “اجتمعت فيه كل قنوات أولئك الرجال الذين حرموا من المغامرات الكبرى فتحولت ارادتهم للنضال إرث أجدادهم الفاتحين والمغامرين والتجار الى قسوة مع النساء فاختفت تلك الفروسية التي عرفوا بها في علاقتهم مع النساء وانتفت كل تلك القصص عن الحب الكبير، فالحب الكبير يحتاج الى رجال مغامرين كبار،. أما هؤلاء الذين ألفوا الواحة، والتقتير والانتظار، وحرموا المغامرة فما كانوا يستطيعون ذلك الحب الكبير، فاختفى لتحل محله القسوة،القسوة فقط. القسوة التي ينتقم بها الرجل المحبط من المخلوق الوحيد الأضعف منه في العالم المرأة فحولوها الى شيء الى متعة يتمتعون بها نضرة ثم ما أسرع ما يرمونها عند أول خصام”(3) ص 69. لكن هذه الرؤية التي يقدمها الكاتب لمضمون هذه العلاقة في رواية حسيبة عند حديثه عن تجربة خالدية إحدى الشخصيات النسوية في هذه الرواية، يحل بدلا منها رؤية وجودية تسم تجربة الحب عند المرأة، وعند الرجل، لتجعل مصائر ضحاياها مرتبطا بشرائطها الوجودية مما يجعلها تعبر عن قسوة وفجيعة هذا الشرط الذي يجعل الحب يتحول معه الى لعنة حقيقية تحل بأصحابها، وتدمر وجودهم بشكل مأساوي فاجع ومرير، ومع ذلك فإن رواية “هشام أو الدوران في المكان” التي هي الجزء الأخير من ثلاثية الكاتب، تعيد قسوة هذا الشرط وفداحته الى أسباب أسطورية تتصل بأسطورة عشتار، ولعنتها الأولى التي حلت على الرجل مما يكشف عن البعد الأسطوري لهذه الرؤية، والتي تختلف في مضمونها ودلالاتها مع الرؤية الاجتماعية التاريخية التي يحاول أن يفسر بها شرط المرأة في علاقتها مع الرجل. وواضح أن هذه الرؤية تتخذ من الثقافة الذكورية بمستوياتها الأسطورية والدينية مرجعية لها.

إن تجربة المرأة الوجودية،تكثف وتختزل تجربة الآخر- الرجل على المستوى السوسيولوجي والتاريخي في مدينة محكومة بصرامة قوانينها الاجتماعية السرية، لذلك يكون على المرأة التي تتمرد على هذه القوانين وتقوم بخرقها أن تدفع ثمن ذلك، خاصة وأن هذه القوانين هي قوانين سلطة الذكور من هنا فإن حسيبة التي تخرج مع والدها الى الجبل لتعيش مع الرجال من الثوار وتلبس لباسهم، تنال عقابها القاسي على فعلتها عندما تحرم من الأولاد الذكور على الرغم من كل الوسائل التي تقوم بها، وفي المشهد الذي يستخدم فيه شيخ الحارة صبيا لكي يتصل مع الجن، ويعرف أسباب موت أبنائها من الذكور، يعلن الصبي “بأنهم حاقدون عليها لذكورة كامنة فيها، وكانت تلك هي المرة التي لم تفهم تماما ماذا يريدون وأكمل الصبي : “خرقت النواميس وتحديت الشرائع، وخرجت الى الجبل خالطت الذكور، ولبست ثيابهم، وحملت سلاحهم، وشاركتهم طعامهم، لذا فالذكورة تحرمين امرأة تلد امرأة، وأنثى تنجب أنثى” (4) ص 93.

تقيم هذه الرؤيا تناصها مع الرؤيا الدينية التي تقدمها التوراة في قصة الخلق، كما أن اللغة هي الأخرى تتناص مع اللغة في تلك القصة عندما يطرد الله أدم وحواء من جنته، ويحكم عليهما بالموت والشقاء في الأرض عقابا أبديا على ما ارتكباه بعد أكلهما من ثمرة الشجرة المحرمة. وحسيبة في هذه الرواية تدفع ثمن خرقها لقانون المدينة السري القائم على الفصل الشديد بين المرأة والرجل في مدينة محكومة بسلطة هذه القوانين الشديدة، على الرغم من أن حسيبة تخرج الى الجبل لتقيم هناك وتعيش مع والدها، وليس بناء على خيارها الخاص، خاصة أن حسيبة عندما تنزل من الجبل لتقيم في بيت قريبها حمدان الذي ستتزوج منه فيما بعد تسعي الى التعرف على قوانين هذه المدينة السرية وحفظها من خلال الدروس التي تقلقاها من المرأة الأكبر، حي تكون مهمة المرأة أن تنقل هذه الخبرة والمعرفة الى من هن أصغر منها، لكي يكون مستعدات للدخول في حياة هذه المدينة الاجتماعية بسلام مما يكشف عن دور المرأة في تدجين المرأة واعدادها بشكل جيد للقيام بدورها الاجتماعي في هذه المدينة المحكومة بسلطة الرجال، لكن التزام حسيبة، وخضوعها لهذه القوانين لا يغفر لها خطيئتها الأولى في المدينة “التي تعلمت فيها حسيبة كيف تحب رجلها وكيف تجعل رجلها يحبها وكيف أنها بهذا تحترم المدينة وقوانينها السرية، كيف تقدم القرابين لشيخ البحرة، وشيخ البير، وشيخ الليل جميعا” (5) ص92. إن الرجل في المجتمعات الأبوية هو قدر المرأة الذي تحاول بكل ما تملك أن تتمسك به، لكن المفارقة الغريبة في حياتها أن عليها أن تقبل بهذا القدر وتستسلم لمشيئته وارادته والا تحاول الخروج عليه سواء بالتمرد أو الاسترضاء لأن مشيئة الرجل هي التي تحكم مصيرها، وما عليها إلا الرضوخ لهذه المشيئة الأمر الذي يجعل “علاقاتهن بالرجل خليطا من حلم وحزن، من أمل وجرح، يضربهن الرجل فلا يتألمن فهذا حقه. يهينهن فلا يجرحن، فهذا خير من فقده، يطلقهن فيسعين لاسترجاعه. بالأطفال الباكين يسعين، بالانتظار يسعين، بالسحر والمشائخ يسعين وحين تحاول الواحدة منهن مرة استرجاع قدرها تحاول القبض عليه بأصابعها تفاجأ بالمجتمع كله يقف ضدها” (6) ص 69، ومما يعمق مأساة المرأة وبؤس شرطها الانساني اضافة الى سلطة المجتمع الأبوي كثرة الحروب والأوبئة والمجاعات التي تدفع بعشرات النساء من البلاد الأخرى نحو مدن الواحات بحثا عن الأمان والخلاص والطعام مما يزيد في أعداد النساء ويخلق منافسة قوية بينهن للفوز بالرجل، وعمل كل شيء من أجل امتلاكا وعدم خسارته أبدا. إن مجتمع المدينة المحكوم بقوانينه الخاصة، وعلاقاته السائدة، ما هو الا نتاج واقع تاريخي اجتماعي طبعه بهذا الطابع الغريب من القسوة، وجعل نهايات الشخصيات التي تحاول أن تخرق هذه القوانين، وتتمرد على شرطها، تحمل هذا المضمون التراجيدي الحزين المعبر عن عمق الاحباط، وغياب الاحساس بالعاطفة في مجتمع لم يعد يقبل أو يعترف بها لأنها تمثل خروجا على رتابة الواقع والاستسلام لبلاد ته وبؤسه مما يفسر هذا الطابع المازوشي الحزين لحالات العشق التي تتحول الى لعنة قدرية تنتهي بتحطيم حياة أصحابها، وللتعبير عن الايقاع الخاص والتكثيف الموحي بدلالات الحالة وحضورها في الوجدان الشعبي يستخدم خيري الذهبي اللغة الشعبية في وصف علاقة الحب التي تجرد الانسان من أية قدرة على السيطرة على ذاته وتجعله أسير اندفاعه المجنون الذي لا يمكن السيطرة عليه من قبل المجتمع إلا بالقوة. ويكرر الذهبي هذه المقولة أكثر من مرة في ثلاثيته عند وصف المرأة نفسها لهذه العلاقة، بصورة توحي بالمصير المحزن والبائس الذي ينتهي اليه الرجل والمرأة من خلال هذه العلاقة التي لا يدركان معناها في مجتمع جردها من قيمتها الانسانية والعاطفية الكبيرة. تخاطب خالدية حسيبة التي اكتشفت خيبة أملها المريرة مع فياض الشيزري، حيث تعبر خالدية في الوصف القاسي للحب عن عمق احساسها الموجع والحزين به بعد ما عانته من الحب. الأمر الذي يجعل حديثه الى حسيبة حديثه عن تجربة ذاتية وعامة معا، ترتبط بمنطق هذه المدينة الغريبة “قالت: آه يا حسيبة، آه الحب، الحب كلبين علقانين ببعض بيركضوا في الحارات، علقانين ما بيخلصوهم إلا ضرب العصي وسطل المي، مساكين. بس بعدما بيخلصهم من بعض بيعرفوا قديش كانوا حمير وقديش الحب بيشرشح وبيضيع القيمة” (7) ص 70.

لكن خالدية التي تتحدث عن الحب بهذه اللغة الموجعة، وهذه الرؤية المأساوية، هي من تخرج على قانون المدينة وشرطها الاجتماعي مدفوعة بحاجتها الانسانية العاطفية الى الآخر – الرجل الذي يظل يخذلها باستمرار تاركا إياها لمصيرها المأساوي الحزين،. ويتعمق هذا الاندفاع في حياة خالدية معززا بوعيها الاجتماعي البسيه الذي ترى من خلاله المفارقة القائمة بين وضعها كأنثى محرومة من كل شيء ووضع الرجل الذي يفعل ما يشاء دون أن يدينه أحد، مما يجعلها تتساءل بأسى ومرارة لماذا يكون حبها لعبده الرسام خطأ تعاقب عليه، في حين يتزوج الرجل مرات ومرات دون أن يدينه أو يتهمه أحد. وتتعمق مأساة خالدية أكثر عندما يحاول زوجها الثري السابق الانتقام من عبده لأنه لا يسمح لرجل يعمل أجيرا أن يتزوج منها لأنها كانت في السابق زوجته حيث يشكل ذلك إهانة لشرفه، يسعى للانتقام له، وبالقدر الذي يكشف فيه هذا الموقف عن طبيعة القيم والأخلاق التي تحكم الواقع فإنها تعبر عن فجيعة المرأة وقدرها الظالم الذي تواجهه وتظل تدفع ثمنه من حياتها، وسعادتها وكرامتها وانسانيتها بسبب طبيعة التراتب الاجتماعي القائم على أساس جنساني وطبقي معا.

من لعنة الأنوثة الى لعنة عشقها

إذا كانت لعنة الأنثى تلاحق المرأة في عشقها وحياتها المحكومة بشرطها الاجتماعي في رواية حسيبة، حيث تغدو وهي السمة المميزة لمصائر وحيوات شخصياتها الأنثوية ذات النهايات الفاجعة والمأساوية، فإن ثمة تحولا آخر في رواية هشام أو الدوران في المكان، تنتقل فيه لعنة الحب من المرأة، الى الرجل الذي يعشقها، لتغدو لعنة – عشتار- هي القدر القاسي والمأساوي الذي يصيب من يعشقها من الرجال، وهكذا نجد أن لعنة حب لينا تحل على شوقي وكذلك لعنة عشق وداد تحل على الشيخ بهجت فتدمر حياتهما، وتدفع الى انتحار الأول، وتحول حياة الثاني الى سلسلة من الفجائع والآلام القاسية، دون أن يرق قلب المرأة، بل يظل رفضها لعشق الآخر وعدم استعدادها لمبادلته نفس المشاعر هو الموقف الذي يزيدهن اندفاع الآخر وتهالكه على عشقها، واستجداء ودها وقبولها على الرغم مما تعاني منه هاتان المرأتان على صعيد علاقتهما بالرجل في حين تعيش لينا في غربة حقيقية عن زوجها نتيجة رفضها الداخلي له، فإن وداد التي يموت حلمها مع موت خليل لا تستطيع أن تجد الحب الذي يعوضها عن حب خليل، فتظل تعاني من الحرمان والخواء العاطفي، وملاحقة الرجال لها بسبب جمالها ووحدتها اللذين يغريانهم بالبحث عن فرصتهم الخاصة لديها،ولم تكن لعنة عشقها التي تحل على الشيخ بهجت إلا واحدة من تلك اللعنات التي تصيب رجالها العاشقين، وتحول حياتهم الى سلسلة من الفواجع والآلام المبرحة. إن لعنة – عشتار – الأول التي تصيب الرجل هي لعنة عشق شوقي للينا زوجة سمير المحامي المعروف الذي يعمل شوقي في مكتبه كمحام متدرب، ويحاول شوقي أن يستغل كل الوسائل الممكنة للنفاذ الى قلب لينا، وجعلها تبادله الحب، إلا أن كل المحاولات تبوء بالفشل بسبب رفضها الدائم لهذا العشق، وعدم استجابتها له، وعندما يقتحم شوقي للمرة الأخيرة بيت لينا، ويتوسل اليها أن تستجيب لعاطفته، يصطدم بحيادية مشاعرها تجاهه، فيعود الى بيته يائسا محطما ليضع حدا أخيرا لعذاباته بانتحاره الغريب الذي تتناقله المدينة بسرعة وذهول. وتتكرر هذه اللعنة من جديد مع بهجت هذه الشخصية الغريبة العملاقة “ذات العين البيضاء” والفم الأدرد، عديم الرقبة أشبه بجبل بلا ساقين”، الذي يعمل أجير فران ونشهد صعود وضعه الاجتماعي المفاجيء السريع عندما يمرض الشيخ يوسف ولا يكون هناك بديل إلا بهجت الذي يبدأ نجمه بالصعود حتى يصبح أحد الشيوخ المعروفين بغلاظتهم وقسوتهم، مما يشكل تحولا كبيرا وسريعا ينقله من وضع الانسان المهمل والبائس الى مرتبة الشيخ المهاب. وكما كان هذا التحول سريعا ومفاجئا، فإن لعنة عشق وداد، تدمر كل شيء في حياته بصورة مفاجئة وسريعة هي الأخرى، بشكل تعبر عن دراسية الأقدار التي تتلاعب بحياته وتدفع بها صعودا وهبوطا بشكل غريب ومفاجيء.

والحقيقة أن شخصية بهجت تذكرنا كثيرا بشخصية أحدب نوتردام لفيكتور هوجو، فهذه الشخصية الغريبة التي يعبر بشكلها الدميم والخشن عن القسوة، تكشف في أعماقها عن عاطفة كبيرة، وحب مدهش للجمال، وهو ما يتناقض مع شكلها الخارجي الذي يكون سبب تعاستها ورفض وداد الدائم لعشقه المجنون لها، مما يعبر عن قسوة شرطه الوجودي والانساني، وعن المفارقة في تكوين هذه الشخصية التي ما إن ترى وجه وداد للمرة الأول وهي ترفع المنديل عن وجهها وتثرثر مع هشام بعد عودته الى بيته القديم حتى “يشهد شيء في القلب، في الكبد، في المعدة في الصلب، في ثنيات الأصابع، في تلويات الروح الممتزجة بالجسد” (9) ص 113.

إن هذه الصدفة العجيبة التي تزلزل كيان بهجت، وتقوده الى مصيره المأساوي الفاجع هي قدره الآخر، ولعنة عشق عشتار التي ستنهار حياته معها، وتتحول الى لعبة في يد هذا القدر الغريب، واذا كانت لعنة هذا الحب ستلاحق بهجت كما لاحقت شوقي ومن ثم صلاح في هذه الرواية، فإن على المرأة بسبب مأساوية شرطها الانساني أن تكرر في حياتها نفس المصائر البائسة والحزينة “وكان على وداد الجميلة أن تبدأ رحلة قاسية، تكرر فيها رحلة حسيبة ومريم الوحيدتين” (10) ص 82، مما يكشف عن الخيبة القاسية التي متبسم وجود المرأة ؤ هذه المدينة التي فقدت روح المغامرة والفروسية، واستسلمت للبلادة والسكينة بصورة جعلت مصائر هذه الشخصيات الأنثوية الدرامية المتوترة والحزينة تكشف عن الفجوة الدائمة بين الواقع والحلم وبين الرغبة والحرمان حتى يصبح ذلك هو المضمون المأساوي المميز لتجربة المرأة الوجودية. من جهتها تتميز شخصية الشيخ بهجت ببنيتها المتحولة والغريبة، هذه البنية التي تتناقض قسوتها ومظهرها الخارجي، مع اندفاعها العاطفي واستسلامها لهذه العاطفة على الرغم من المآسي المتلاحقة التي تحل بها جراء هذا الحب المجنون الذي يقابل بالرفض وعدم الاستجابة بصورة دائمة من قبل وداد، حتى نجده يتخلى عن وظيفته وعمله ويعتكف في داره “ليصبح طقسه اليوم الجلوس وراء الخص الخشبي” (11) ص 143 لكي يرى وداد من حيث لا ترده ويعلم بغياب مريم ليقتحم الباب عليها “يتوسل ويرجو ويبكي”، وعندما تصيب المجاعة المدينة، يبيع بهجت مدخراته كلها ويشتري اللحم والأرز والسكر لها، ثم يخوض معركة ضارية مع صعب الحداد يفقد فيها لسانه فينضاف عيب جديد الى عيوب شخصيته، يزيد من بؤس شرطه الوجودي والانساني.

ويتحول هذا الرجل القاسي الخشن الى عاشق رقيق يرمي بباقات الزهر يوميا الى أرض دار وداد حتى ينزلق في احدى المرات عن السلم ويسقط مغمى عليه، فيصاب بالغرغرينا في ساقه التي يقوم الطبيب بقطعها إلا أن كل هذه المآسي المتلاحقة والقاسية لا تحول دون استمرار تعلقه الشديد بحب وداد، والبحث عنها حتى تتزوج، وتغادر الحارة حتى يكتشف مكانها الجديد. إن هذا القدر الذي يحطم حياة بهجت، ويجعلها تدور حول فلك وداد، لن يستطيع الخلاص منه حيث يتحول الى لعنة تلاحقه باستمرار مما يكرر مأساوية هذا القدر في حياة صلاح أيضا، ويجعل عشق المرأة يتحول الى لعنة حقيقية يعبر عنها الراوي نقلا عن حديث صلاح الى ناديا التي ستتكرر مأساة حياتها أيضا من خلال عجزها عن التجاوب مع مشاعر عشاقها، وعواطفهم المجنونة حيالها، الأمر الذي يجعل صلاح يحاول أن يوجز هذه الحالة – المصيبة – “في أن من يصاب بلعنة عشق عشتار هي في أنه لن يكتشف أبدا أن ربه من مرمر.بل سيعتقد دائما وأبدا أنه المخطيء فهو الذي لم يستطع جعل المرمر ينطق ويدفأ ويتحرك وحين يعلق في هذه المتاهة، يكون قد حكم على نفسا بالدمار الأبدي لأنه سيظل يحاول، وسيظل يخفق، وسيظل يفقد شقته 0 بقدرته حتى يصبح كاهنا حقيقيا لعشتار

خصيا حقيقيا” (12) ص 159.

إن هذه الرؤيا الأسطورية لعشق الرجل للمرأة، تعبر في مضمونها الوجودي والنفسي عن ارهاب المرأة والخوف منها باعتبارها تمثل رمزية العدم، والخصاء الذي تحاول من خلاله أن تنتقم من ذكورية الرجل ممثلة برمز فحولته لكي يفقد عنصر التمايز، ويتحول الى عابد لها بعد ذلك، وهنا نتساءل ولكن ماذا عن عشق المرأة المجنون للرجل، وكيف يمكن أن نفسره، وعلى أي أساس كما هو الحال مثلا في عشق لينا لهشام ووداد لخليل؟ إن إضفاء هذا الطابع الأسطوري والغرائبي على عشق الرجل للمرأة، وما يمثله من ضياع في متاهة المرأة التي تطل تمثل لغزا مخيفا بالنسبة للرجل يكشف في دلالاته ومعناه وتوتره عن الخوف من المرأة الذي يفسر دراسية المصير المأساوي لهذا العشق في حياة الرجل وما يولده من صراع محتدم في داخله يؤدي به الى الهلاك، والاستسلام لمشيئتها، وقدره القاسي. لقد كان رفض وداد المستمر لبهجت نابعا من دعامة وقبح شكله، خاصة وأن صورة خليل الشاب المغامر والعصري ظل حاضرا في نفسها ووجدانها، وكانت ترى مفارقة كبيرة بين الصورتين مما جعل رفضها يعبر في مضمونه عن رفض استبدال صورة خليل بصورة الشيخ بهجت الأمر الذي يجعل كارثة بهجت ترتبه بشرطه الوجودي الخاص وليس بهذا المضمون الأسطوري المثير الذي يجعل من عشق الرجل للمرأة لعنة تتبدى بهذه الصورة المخيفة والقاسية جدا. وعلى الرغم من هذه الرؤيا تقدم الرواية من خلال مصائر وحكاية شخصياتها المختلفة صورا متداخلة، توحد المرأة والرجل في العذاب والحرمان، والبحث عن حب يظل دون اكتمال، أو تحقق حتى على مستوى شخصية وداد التي يتحول حب بهجت لها الى لعنة قاسية تدمر حياته (وفجأة أحست بالحزن، الحزن على العمر الذي قضته لم تعرف من الرجال إلا عبدالله وقسوته وانكساراته، وموته المضحك، لم تعرف الأرق، ولم تعرف السهر ولم تعرف التقلب ل السرير، ولم تعرف قاريء شعر على بابها ولا حامل ورد، كهذا الذي جاء به هذا العاشق بالأمل وسمعت خالدية تقول : الحب كلبين علقانين….) (13) ص 200 حيث يستعيد الراوي على لسان خالدية هذا الوصف الشعبي للحب كما تحدثنا عنه سابقا.

إن دراسية هذه المصائر تنبع من حالة الاختلاف والتباين التي تمثلها هذه الشخصيات في أبعادها النفسية والوجودية بصورة تسهم في خلق التوتر، وعدم التحقق والاشباع العاطفي والروحي في هذه العلاقة إضافة الى قدرية هذه المصائر المحكومة بشرطها الخاص وقوانين الواقع حيث تتقاطع المصائر وتتداخل ل حالاتها ومضامينها ودلالاتها لكي تعبر عن دراسية الواقع والتجربة، وبما ينسجم مع الرؤيا الى الواقع، والخط الدرامي للأحداث في هذه الرواية وبعلاقة هذه الشخصيات بعضها بالبعض الآخر بصورة تعمق الاحساس بالفجيعة والاحباط والخذلان في هذا الواقع القاسي، كما تكشف الشخصيات في تحولاتها، وفي التباين بين اسمها ومضمونها العاطفي، وصفاتها عن الجانب المركب في هذه الشخصيات، وعن الطابع الدرامي المثير فيها كما هو الحال بالنسبة لبهجت، هذه الشخصية القاسية أدت المظهر المنفر والغريب والتي ليس ثمة علاقة بين هذه الشخصية واسمها، ومن ثم بين هذه الشخصية وما تظهره في عشقها من شفافية وشاعرية تجلت في باقات الورد التي ظل يلقيها على بيت وداد، وف ترديد القصائد على بابها في حين أن اسم وداد لا يدل على تلك القسوة والصد الذي ظلت تواجه به اندفاع بهجت العاطفي المجنون نحوها. ويصح هذا المثال على لينا “ذات العينين الفولاذيتين” التي تنشأ دراسية حياتها من خلال مصائر عشاقها الذين دمرت حياتهم أو من خلال مصيرها المأساوي الذي انتهت اليه بعد خسارتها لغسان وصلاح وبقائها وحيدة حتى مجيء هشام الذي يشكل حالة التعويض التي تنقذها من عذابها وغربتها ومحاصرة شبحي غسان وصلاح لها في بيتها وحياتها كما أن اسمها لا يوحي بصفاتها لتظل مسافة التوتر والتناقض قائمة على مستويات هذه الشخصيات المختلفة. ويرتبط هذا الجانب الدرامي لمصائر ولمضمون هذه الشخصيات بتطور السياق الدرامي للرواية وأحداثها وبمحاولة المزج بين الرمزي والواقعي في السرد الروائي وبين العلاقة بين هذه الشخصيات وشرائطها الوجودية والاجتماعية والنفسية مما يجعل قدرية مصائرها وتحولاتها الدرامية تتصل بقدرية هذا الواقع الذي هو مزيج من الأسطورة والحلم والوقائع والتاريخ، والبحث عن الآخر الذي يصرعه القدر فجأة، أو يظل لا يأتي أو لا نجده كاملا في أحدهم فلا يملأ القلب والروح، أو أننا نجده ولكنه لا يعترف بعشقنا، حتى يقود مصائرنا الى الهلاك أو للجنون. وهنا تكمن دراسية هذه الشخصيات، وتوترها الذي تخلفه من خلال تحولاتها ومصائرها وهي دراسية الواقع المحبط والحزين.

المراجع:

1- بنية الشكل الروائي. حسن بحراوي – المركز الثقافي العربي. بيروت 1990.

2- قضايا المكان الروائي – صلاح صالح – دار شرقيات. القاهرة – 1997.

3- حسيبة (ا) التحولات – خيري الذهبي. منشورات مشرق – مغرب. دمشق 1996. ط 2.

4- حسيبة (1) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.

5- حسيبة (1) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.

6- حسيبة (1) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.

7- حسيبة (1) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.

8- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي. دار مشرق – مغرب. دمشق 1998 – ط 1.

9- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي. دار مشرق – مغرب. دمشق.

10- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.

11- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.

12- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.

13- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.

مفيد نجم (كاتب من سوريا)

——————————

خيري الذهبي يروي مأساة 300 يوم في سجون إسرائيل/ عمر شبانة

يوميات فازت بجائزة ابن بطوطة 2019

هي رحلة “يوميّات” غنية ومتعددة الجوانب، هذه التي يأخذنا فيها الكاتب الروائي السوري خيري الذهبي، في كتابه “من دمشق إالى حيفا _ 300 يوم في إسرائيل” (دار المتوسط) رحلة تبدأ في لحظة وصوله مطار دمشق، قادمًا من القاهرة، بعد رحلة اغتراب عسيرة، ليواجه في المطار، أوّل ما يواجه، شعار حزب البعث الشهير الذي أطلقه بعد هزيمة حزيران 1967، عن “ثورة البعث الباقية إلى الأبد”، وبعد هذا اللقاء المشؤوم، سنرى خيري وهو في أحضان أمّه المنتظِرة عودته منذ سنوات، وسنراه في مهنة التعليم التي يقول عنها “سأظل أكرهها حتى أنتقل الى مهنة أخرى، فلم أخلق معلّمًا ولا أحب التعليم”!

تنتهي بنا يوميّات الذهبي في مطار بن غوريون، استعدادًا لرحلة العودة من سجون الاحتلال الصهيوني إلى وطنه، بعد أن أمضى 300 يوم “رهيبة” في تلك السجون. هذا الاعتقال الذي يبدو واضحًا فيه إصرار الجنرالات الصهاينة على إذلال هذا السجين المثقّف الكاتب، وكسر معنويّاته، من جهة، ومن الجهة المقابلة يبدو إصراره هو، الكاتب خيري الذهبي، على عدم الرضوخ، وعلى رفض أي شكل من أشكال التعاون مع جلّاديه، محتفظًا بالمسافة التي أرادوا كسرها لدفعه إلى التفاهم، من أجل القيام بمهمّة “رسول” السلام بين اليهود والعرب/ المسلمين أو “الشرق” كما يتّضح في آخر “حوار” لهم معه، بوصفه مثقّفًا وصَيدًا ثمينًا. لكنّه يدير ظهره لهذه الدعوات والإغراءات جميعًا، متحمّلًا أصناف التعذيب الجسدي والنفسي والمعنوي.

كتاب خيري الذهبي هذا مزيج من ذكريات دمشقية وسورية عمومًا، تتداخل مع تأمّلات في الواقع السوري والعربي، وهذه تشتبك مع يوميّاته في سجون الاحتلال الإسرائيلي، صفد وعتليت ومجدّو. يوميّات تتضمّن رؤيته لصورة هذا الاحتلال وجنرالاته الممتلئين رعبًا تجاه مستقبل إسرائيل، كما سيتّضح له من لقاءاته مع عدد منهم، يصرّون على معرفة رأي المثقفين السوريّين الشباب من الجيل الجديد تجاه دولة إسرائيل. 

حكاية الاعتقال الذي جرى في حرب تشرين 1973، تبدأ من وجود الذهبي ضابطًا سوريًا وحيدًا بين ضبّاط الأمم المتّحدة الذين يراقبون الهدنة القائمة بين سورية وإسرائيل، وتخلّي الأمم المتحدة عنه، وتأخّر الدولة السورية في المطالبة به ومبادلته مع أسرى إسرائيليين لديها. وظلّ طوال الوقت يراهن على أن صفته “الأممية” يجب أن تحميه من الاعتقال، فضلًا عن التحقيق والتعذيب، لكنّ مراهنته كانت خاسرة، فقد جرى تعذيبه على نحو منهجيّ، لجعله يعترف بأنه ضابط في المخابرات السورية، مدسوس على قوّات الأمم المتّحدة. ولا بدّ من التذكير هنا، أنه بينما كان خيري يُمضى خدمته في مخفر “جملة” كضابط ارتباط مع قوات الأمم المتحدة للحفاظ على الهدنة، ويتعرف الرعاة والفلاحين والطبيعة، كان الضباط الأجانب، السويدي والإيطالي ثم الهولنديّ، قد أمضَوا أيّام الحرب “يسكرون” هاربين في الملاجئ، مردّدين بلا أي ضمير “هذه الحرب ليست حربنا”.

بدايات الرحلة

يعود الشابّ العشرينيّ (خيري) من مغامرته في محاولة دراسة فن السينما في القاهرة، وبعد نجاحه في امتحانات القبول، يجد مدير معهد السينما يجمع الطلبة العرب ليبلغهم أن المعهد لا يقبل “الشرقيين”. فيقرر خيري الرحيل إلى باريس لدراسة السينما أيضًا، ويجري قبوله، ويبدأ العمل في “أيّ عمل للعيش”، ثم يلتقي الفتاة المغامِرة بالترحال “ذسبينا”، ويقول “بعد رحلة حلمية تسكعنا فيها ما بين باريس ونابولي وروما وبيريوس في اليونان، قرّرتْ (ذسبينا) فجأة الرحيل إلى مصر حيث تقيم خالتها، وكان أن عدت ثانية إلى مصر”. فيقرّر دراسة الأدب العربي، والعودة إلى سوريّة.

في سورية، ستأخذه الحياة بحثًا عن عمل، وسنجده مُدرّسًا متنقّلًا بين دمشق والحسكة، في ظل قوانين وممارسات حزبية جائرة، وسيادة للفساد والقمع. متأمّلًا خلال جولاته في جوانب اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، مُبرزًا حجم البؤس الذي تعيشه سورية، والتراجع خصوصًا على مستوى التصنيع الزراعيّ، في الحسكة “كاليفورنيا الشرق”، كما يصفها خيري، التصنيع الذي مكّن الدولة السورية من التفاخر بالميزان التجاري الرابح للدولة السورية، لأربعين سنة، نتيجة لبيع منتوجات الجزيرة في السوق العالمية، قبل عمليّات التأميم للأراضي التي سيقوم بها حزب البعث لمصلحة قياداته وكوادره وأعضائه. هذا الحزب الذي كان “حزبا عشائريا”، لا يهتم للأفكار “الطوباوية”.

وعن تجربة التصنيع هذه كتب (خيري) كتابًا أعطاه عنوان “بين تجربة التصنيع الزراعي في شمال سوريا، والكيبوتز الإسرائيلي في فلسطين”، وأرسله لناشر لبنانيّ، لكنّ الناشر اعتذر عن النشر، وأخبره أنه سيعيد له المخطوطة، لكن المخطوطة لا تعود. وتشاء المصادفات أن أحد المحّققين الإسرائيليين يعرض عليه نسخة من هذه المخطوطة، ويسأله إن كان هو نفسه مؤلّفها، فيندهش ويستهجن كيفية وصولها إلى جهاز الإستخبارات الإسرائيلي، ويتمكّن من الحصول على صورة عنها!

من بين القضايا الحسّاسة التي يتناولها الذهبي، وهي كثيرة، قضية اليهود العرب، سواء من قابلهم في مصر وسورية، أو في سجون الاحتلال حيث سيتردّد ذكرهم، ومنهم المغربي والعراقي الكردي والمصري. ففي سورية سيظل يتذكر ويذكر أنه في إحدى مدارس دمشق كان يقوم بـ”حماية الطفل اليهودي إبراهيم، الذي صار همّي إبعاد الصِّبْية (المسيحيّين) الذين كانوا يتحرشون به طيلة الوقت، فيسارع إلى الاحتماء بي”. أما في مصر، فيتذكّر اليهود العجائز الذين يقضي الوقت، في أحد مقاهي القاهرة يستمع إلى أحاديثهم، ذكرياتهم المصرية، وأحلامهم أن ينهوا حياتهم في “أورشليم”.

من بين الأفكار المهمة في الكتاب، فكرة يرددها ضابط مخابرات إسرائيليّ محذّرًا خيري الذهبي من مغبّة الاستمرار في عدائه لإسرائيل “الكولونيل يقول بصوت متعب: لفتنانت… أحب أن أحذرك، فأنت لو احتفظت بكل هذه الكراهية ضد اسرائيل، فستعاني كثيرا في حياتك، ليس على يد الاسرائيليين، ولكن على يد حكومتك نفسها!”.

———————————

تاريخ سورية في “محاضرات” خيري الذهبي/ عمر شبانة

كانت رواية “التحوّلات”، بأجزائها الثلاثة، أوّل ما جذبني إلى عالم الكاتب العربي السوري خيري الذهبي، الذي يسعده كثيرا أن يصف نفسه بالقول “أنا ابن دمشق، وابن الجامع الأمويّ والزائر المداوم لمحاسنه”.. فقد كانت هذه الرواية، كما أعتقد، علامة مائزة، ليس فقط في مسيرة الذهبي الروائية، بل على صعيد التجربة الروائية السورية والعربية. وأذكر الدرجة العالية من اهتمام الكاتب بالمكان السوريّ عموما، والشاميّ القديم خصوصا، وبالبيت الدمشقيّ العتيق على نحو أشدّ خصوصية.

ولعلّني ما زلت أذكر، من بين مشاهد كثيرة تتعلق بالبيت الدمشقي القديم، ما بين الساحة والبحرة وبين الفرنكة، وبين الخارج والداخل، وبين الجمالي والوظيفي، أتذكّر مشهد انهيار عالم “خالدية” (إحدى أهم “بطلات” الرواية)، بالتوازي مع انهيار نباتاتها “سقطت عن الدرج وأسقطت معها عشرات أصص نباتات الزينة، كانت تتزحلق، وتُزحلق معها أفراح الأيام وألوانها وعطورها، حتى إذا ما وصلت إلى الباحة، وصلت ومعها الأصص تغطيها، وتجعل لها قبراً من الورود”.    

الكتاب الماثل بين أيدينا “محاضرات في البحث عن الرواية”، ليس مجرد “محاضرات” في المعنى العلمي للمحاضرة، وهو أيضا ليس بحثاً في الرواية فقط، فالعنوان يختزل كثيراً من المحتويات الحقيقية المتشعّبة للكتاب، ولو شئنا التمدّد والتوسّع، لكان الأصحّ ربّما أن نسميه كتاب البحث عن سورية أولا، “سورية العُظمى” في الرواية وفي التاريخ، وفي الأساطير والأديان والفلسفات وغيرها، فهذه العناصر جميعا تتداخل لتشكّل مادّته الأساسية، وتنسج خيوطه برؤية الكاتب الروائيّ، وبنكهته التي ميّزت كتاباته.

بدايات وتحوّلات 

في هذا الكتاب، بداية، نحن حيال خزّان ذاكرة للشام البصرية والسمعية والمقروءة والمحكية التي يمتلكها الكاتب، أعني ذاكرته في ما يخص العالم القديم والمعاصر، وحتى الراهن. خزّان يبدأ بالسؤال الملحّ دائماً حسب ما يقول خيري، وهو: لماذا كانت الرواية الأولى التي تحوز الشروط الفنية المعقولة في مصر هي رواية “زينب”، وهي رواية ريفية، عن علاقات ريفية، وفي بيئة ريفية، وشخصيات ريفية معاصرة أو تكاد؟ ولماذا كانت الرواية الأولى التي تحوز الشروط الفنية الأولى في سورية رواية تاريخية تدور أحداثها قبل أربعة عشر قرناً، رواية تتحدث عن مكان تاريخي متخيل، وشخصيات تاريخية متخيلة، وبيئة ومكان تاريخية متخيلين.. ويعني رواية “سيد قريش” لمعروف الأرناؤوط؟

سؤال خيري هذا ليس سؤالاً حول زمن انطلاقة الرواية وطبيعتها فقط، بل هو سؤال حول “هوية” الكتابة السورية، النابعة من هوية الدولة السورية. فحين نتابع قرءاة خيري، سنكتشف أن سؤاله يتعلق برؤيته للدولة السورية، فهو مقتنع، عن حقّ ربّما، أن ثمة خصوصية لهذه الدولة تجعل منها “لا دولة”، أو دولة غير مستقرّة، لا في حدودها، ولا في قناعة أبنائها بهذه الحدود “الآنية”. هذا هو السؤال الأول في الكتاب، سؤال سيتفرع ويتشعب إلى أسئلة وبحث وجدل تحتل مركز الكتاب، ومحوره الأساس.

ذاكرة ووطن غائبان

يتحدث خيري، في كتابه هذا، عمّا يسميه “ذاكرة نافية للمكان، ونافية للحكام الذين مرّوا على المكان”، ويرى أن هذه الذاكرة هي التي صنعت، وستصنع أهم تيّارين سياسيّين سيسيطران على المنطقة، ويعني التيار العروبيّ، والتيار الإسلاميّ، اللذين سينعكسان ويتمثّلان في أن سورية لم تصدر، طوال القرن العشرين وحتى الآن، حزباً سياسياً واحداً يعلن أن “سورية وطني”، فالكل يؤمن بأن “سورية المعاصرة وطن مؤقت على طريق تحقيق الوطن الكبير”.

في هذا السياق، يتحدث خيري عن علاقة الكاتب السوريّ بالمكان، وإذ نعود معه إلى بداياته، سنرى كيف اندمج هو نفسه مع الجوّ الأدبي الشعبوي الديماغوجي، وتنكّر للمكان كما تنكّروا، وكتب عدداً من الروايات تجاهل فيها المكان، هذا المكان الذي يقول إنه “كان أجمل ما اشتغلت عليه في روايتي المنشورة الأولى “ملكوت البسطاء”. وأخذت أكتب عن مدينة غير ذات اسم”. ويستكمل عن ذاته وهويته وتكوينه “راجعت نفسي متسائلاً: وما الذي يجبرك على التنازل عن مشروعك، وأنت- أدبياً- لم تتشكل في هذه القطرية، بل كنت في قراءاتك، وفي تربيتك العقلية، وفي رحلاتك، ابناً لكونيّة أخرى، فما الذي يجعلك تتنازل عن مشروعك، لإرضاء من ليس مهمّاً إرضاؤه. و… بدأت كتابة روايتي المطوّلة “التحولات” (ميتامور فوزيس، وأعني بها التناسخات)، في ثلاثة أجزاء هي  “حسيبة”، “فيّاض، و”هشام، أو الدوران في المكان”. في هذه الرواية كنت قد تعمدت فتح نوافذ الذاكرة كاملة.. كنت أعيد صوغ ذاكرتي الشخصية، وذاكرتي الأدبية والورقية في آنٍ واحد. أخذتْ دمشق تتكشّف أمام عينيَّ. مدينة- واحة واقعة على طريق الحضارات الكبرى المصرية، المقدونية، والفارسية، الرومانية، والعربية الكثيرة، و… الطورانية، بمختلف تسمياتها، بعد خروجها عن سد يأجوج ومأجوج الذي حبسها عن المنطقة لقرون”.

وفي سياق عنايته بالمكان الدمشقيّ وتفاصيله، يُعنى خيري الذهبي بـ”الجامع الامويّ”، بوصفه “رواية سورية”، معتبرا أنه “معجزة جمع الأديان والمذاهب جميعها في معبد واحد، إنه قبول الآخر، وقبول التعدّد وعدم رفض الآخر. إنه تراث بني أمية الذين دخلوا إلى مدينة يغلب على سكانها المسيحية، فتآخوا وتحابّوا، وأعادوا إلى المدينة تعددية الفترة الذهبية الرائعة في تاريخ البشر، وأعني الفترة الهيلنستية، فترة حكم ورثة الاسكندر الكبير، السلوقيين”.

وهنا علينا أن ننتبه إلى مدى اعتزاز خيري وولعه بالحضارة الهلنستية: أو الهيلنية الشرقية، التي- كما يقول “أنجزت أعظم فلاسفة ومفكري وشعراء وكتّاب العهد الكلاسيكي الشاميّ، ولنذكر منهم الكاتب الكبير جداً لوقا أو لوقيانوس بصيغته اليونانية من مدينة سميساط، ولنذكر ميلياغروس من مدينة جادارا الجولانية، ولنذكر أبوقراط، وأنتيباتر من صيدا، وزينون الرواقي الصيداوي، ولنذكر فلاسفة أفاميا الإشراقيّين”. ففي هذه المرحلة، عاش الشرق “فترة من التآخي والديمقراطية الجميلتين لعدّة قرون، حتّى جاء “البسطار” اللاتيني (روما)، فغيّر كثيراً من بنود المعادلة. فالحرب العنيفة التي شنّتها المسيحية “الدولتيّة” على الوثنية السابقة، من تدمير للمعابد ومن قتل للفلاسفة، ومن حرق للمكتبات، لم تلبث أن تحوّلت إلى كابوس”، وحينما وصل الأمويون إلى الحكم، استعادوا تلك الفترة الذهبية (الهيلنستية) إلى الشام”.

ولنختم رؤيته إلى الشام، نورد ما استعاره خيري من ياقوت الحموي في قوله “وجملة الأمر أنه لم توصف الجنة بشيء، إلّا وفي دمشق مثله، ومن المحال أن يطلب بها شيء من جليل أعراض الدنيا ودقيقها إلّا وهو فيها”. ويتحدّث عن الدمشقيّين الذين “ما تكاد هذه الحرب تهدأ لهدنة قصيرة، ويطلُّ الربيع، حتى يخرجوا إلى “السيران”، يستمتعون بالزهور والعصافير والفرح والأكل في الهواء الطلق والغناء والرقص”. ثمّ يقول إن “دمشق كان فيها ما يزيد عن العشرين نوعاً من المشمش”.    

اليوتوبيات

ومن بين فصول الكتاب الأهمّ، ربّما، فصل يعاين فيه المؤلف أنماطا من “اليوتوبيا”، عبر قراءته النقدية “المقارنة” لثلاث من الروايات، لثلاثة من كبار الروائيين العالميين، هم: الروسي زمياتين وروايته “نحن”، والبريطانيّان ألدوس هكسلي في روايته “عالم جديد شجاع”،  وجورج أورويل وروايته الشهيرة “1984”. فهو إذ يتأمّل في هذه الأعمال، على غير صعيد من موضوعاتها المتقاربة، يتوقف خصوصا على سؤال “الجنس والإباحيّة والحل العلمي لها”، وعند وسائل الإخصاب الحديثة، وإنتاج فئات من البشر بمستويات من الذكاء، بحيث تصلح كل فئة لوظائف معينة، من قادة المستقبل، سياسيا واقتصاديا وإدارياً واختراعات..وغيرها، وصولاً إلى فئة العبيد وعمال النظافة وغيرهم، كما تطرحهم رواية هكسلي تحديداً.

وإلى ذلك يتوقف خيري هنا ليؤكد أن القرن العشرين “هو قرن المحاولات المتطرفة للحصول على اليوتوبيا، وهو قرن الهزائم الكبرى للأحلام البشرية أيضاً”، وأن العالم لدى كل المفكرين الأوروبيين “هو أوروبا فقط، وماعدا أوروبا فهو البربرية”. كما يتوقف لدى ما يسمّيه “صدمة الحالمين والمفكرين والفلاسفة والكتاب والشعراء (الصدمة المرعبة) مما فعل ستالين بعد استيلائه على الحكم في روسيا”، حين أخذت الستالينية- حسب زمياتين- في التحول “إلى مؤسسة خارجة عن الناس، وصار همّ المؤسسة الدفاع عن المؤسسة لا عن الإنسان”، ويكمل زمياتين “الشيوعية صارت كنيسة جديدة، همّها حماية مصالح سادة المؤسسة، أكثر من العناية بالفقراء”.

دونكيخوتة وصلاح الدين

من خلال قراءته لرواية سيرفانتيس الشهيرة “دونكيخوتة”، قراءة تشريحية تقع بين السرد والنقد، كما لو أنه يعيد صَوغ الرواية من جديد، يقدم خيري رؤيته للرواية، وهي مرافعة جديرة بالاهتمام، حيال تاريخ العرب في الأندلس، فيكتب عن السنوات الخمس ما بين (1575 – 1580) حيث اجتمع سيرفانتيس مع سيدي حامد بن علي، سليل الغرناطيّين الإسبان المسلمين- الأندلسيين، الذين أخرج آباؤهم من أرضهم مع من أخرج بعد سقوط غرناطة، ليبدأوا رحلة الحلم والبكاء على أرض الميعاد والجمال التي طردوا منها. فيصنّف هذه الرواية ضمن أدب “سير الفرسان العظماء”، المقاتلين الذين سيهزمون المردة والجان والكفار، وينتصرون للضعفاء والمساكين. مقرّرا أن “الأدب الجميل هو أدب هزيمة الإنسان أمام قدره، وليس انتصاره، فلا انتصار للإنسان أمام القدر”. وفي مقابل نسخة سيرفانتيس هذه، التي أوحى له بها “سيدي حامد”، يعلن خيري في ختام قراءته “ما نزال ننتظر قراءة نسخة سيدي حامد بن علي التي وضعها على الجانب الآخر من المتوسط، ويقول فيها إن الموحي بوضع هذا الكتاب هو ميغيل دو سيرفانتيس”.

وعلى نحو مشابه، يعيد خيري كتابة شخصيات تاريخية شهيرة، فيقدّم شخصية صلاح الدين الأيوبي مثلا، لا كما يعرفه العامّة، مجرد ذلك البطل الأسطوري المحرر لبيت المقدس، بل هو “الإنسان” الذي يخضع سلوكه للتشريح السيكولوجي والاجتماعي والفكري، إذ يرسم المؤلف صورته من تفاصيل لا نجدها في “الرواية التاريخية” التمجيدية، تفاصيل تضعه في مصاف البشر لا الأسطورة، ترسم مراهقاته وأحلامه وفرص الحظ التي جعلت منه تلك الشخصية القيادية، على غير ما كان يحلم ويرغب ربما. وقريباً من هذا الأسلوب السرديّ الممتع في تقديم “شخصياته”، يختم خيري بمحاضرة عن شخصية الروائي السوري الراحل فارس زرزور، لنتعرف من خلال شخصه وتاريخه إلى محطات في تاريخ سورية الحديثة، سورية في زمن “البعث” وما اتّسمت به هذه الحقبة من سمات صنعت “مصير” البلاد.

يبقى أن خيري، وأثناء بحثه عن “آباء حقيقيين” له وللرواية عموما، وجدهم، كما يقول في أبي حيان التوحيدي وفي أبي العلاء المعري، وفي ألف ليلة وليلة، ثم تأتي مفاجأته “وحين أمعنت في الحفر، وجدتهم في الكاتب السوري العظيم الذي أدرنا له ظهورنا لأنه جاء قبل العربية، رغم أنه كان يفخر دائماً بالإعلان: نحن السوريين، وأعني به لوقا أو لوقيانوس، أو لوسيان السميساطي، ذلك الذي ترك لنا –بزعمي- الرواية الأولى في تاريخ العالم، والتي سيتأثر خطاها مؤلفو ألف ليلة وليلة، في المخلوقات الخيالية التي ابتكروها طائر الرخ، والحوت العملاق كجزيرة، والأشجار تنبت بشراً يتدلّون منها ثماراً، وسيتأثر خطاها مؤلفو رحلات غليفر وغارغانتوا وبانتاغرويل، والمعري في رسالة الغفران، ودانتي اليجيري في كوميدياه الإلهية”.

ضفة ثالثة

————————-

“صبوات ياسين” لخيري الذهبي.. في أعماقهن كنَّ بنات هوى

صدرت لدى منشوارت دارَيْ “سرد” و”ممدوح عدوان”، رواية “صبوات ياسين” للروائي السوري خيري الذهبي، هنا مقطع منها ننشره بالاتفاق مع الناشر…

كانت ليلى المرأة، ليست المرأة الحضارة، وليست المرأة الزينة، وليست المرأة الدين أو الثقافة، أو الموانع، أو المحرَّمات، أو الأخلاق، أو الخجل، أو التصنّع، أو التظاهر بعكس ما تشعر به.. لا، فليلى كانت المرأة.. كانت قد قالت بعد أن رمته عن ظهرها: الآن صرت لي! وكان قد ظنَّ الأمر كلمة اصطلاحية، أو تعبير تدلُّل، ولكنه أبداً لم يدرك أنها عنت كل حرف فيها. قالت: لقد حصلت عليك بذراعي، أنقذتك من أعدائك، ونشلتك من الماء، غسلتك من دنسك وعمَّدتك بالبياض بعد العماد بالسواد، وأخرجتك من ماضيك.. أطعمتك وسقيتك، وأرضعتك. فأنت لي!

كان يراقب شفاهها تتكلم، وكان بعد أن عرف أنها لا تعرف الكنايات والاستعارات والبلاغة، بل كانت تعرف المشاعر، وكانت تذيب المشاعر في كلمات.

قالت: حملتك على ظهري شبه ميت كما تحمل الأم جنينها شبه الميت، فأحييتك، ووضعتك في فراش كما تضع الأم جنينها في فراشها. قالت: عمَّدتك بيدي في النهر الأسود، ثم عمَّدتك من النهر الأسود بالماء الطاهر.. فأنت لي.

وعرف أنها كانت تعني ما تقول، كانت قد صادرت بدلته. وكان يشكّ في أنها فعلت ذلك من قبل، ولكنه عرف في ما بعد أنها صادرت بدلته، وصادرت حذاءه، وصادرت أوراقه وهويته وساعته وماله. لا، لم تكن قد شلَّحته كما ظنَّ أول مرة. لا، بل صادرتها تمنعه من مغادرة القرية ليخلو لها، ولا ينافسها عليه أخرى.

كان قد عرف النساء قبل ليلى، عرفهن المتصنعة المتظاهرة بالحب وجزء من عقلها خفيّ يعمل كالآلة الحاسبة: كم تكلّف الشهقة؟ وما ثمن الآهة؟ وهل سيستطيع الدفع كما يجب؟ كنَّ كثيرات، ولم يكنَّ بنات هوى، بل كنَّ المثقفات والمتعلّمات، والباحثات عن زوج، والباحثات عن مستقبل فني، والمتسلّيات، ولكنهن في أعماقهن كنَّ بنات هوى، من الذي صنع بنت الهوى؟ من أول من علّمها أن تحيل جسدها إلى آلة حيادية لكسب المال؟

كان في لحظات فراغه، ولا ورق لديه ليسكب عليه أفكاره، يكرر الفكرة ويكررها ليحفظها، فتبرد وتسخف، وتتحوّل إلى جيلاتين، فيكرهها ويحاول نسيانها، ولكنه كان كالساحر المبتدئ يلقي بتعزيمته يريد تحويل الهواء إلى ماء، فتقع التعزيمة عليه، فيتحوّل إلى ماء.

كان في لحظات فراغه حين يفكر في التاريخ يقول: كانوا يقولون التاريخ صراع الأفكار. وكانوا يقولون: التاريخ صراع الإرادات. وكانوا يقولون: التاريخ صراع الأقوياء بالضعفاء. ولكنّي بالأمس فقط فكّرت: التاريخ صراع الرجل والمرأة، وعلى المرأة، وبالمرأة!

ليلى.. كانت وجاءت وعاشت قبل هذا الصراع. كانت تعيش معه عيش العصفورة مع العصفور، والقطة مع القط، مع الحيوانين الأولين قبل اللغة – الندم، وقبل الكتابة – الندم، قالت: منذ أن علّمتم أنفسكم الكتابة لم تفعلوا إلا أن تكتبوا وصايا الأجداد للأبناء والأحفاد في كيف تذلّون أنفسكم في المرأة، وكيف تذلّون المرأة فيكم.

صدمه قولها، وحين غادرته للعمل، فكّر حائراً: أفتستطيع مثل هذه الأمّيّة أن تقول هذا الملخّص للحياة؟!

وحين أعاد التفكير في الأمر قال: هل العلم جلاء للعرفان، أم تركيم للجهل فوق القلب فيحجب المعرفة فيه؟!

زمن طويل انقضى وهو سيّد الجسد، وعبد الجسد، وأخو الجسد، وابن الجسد، وجسد الجسد. استطاعت ليلى حمله للمرة الأولى إلى خارج التعليمات والوصايا والتخويفات والتهديدات. استطاعت، وليس يدري من علّمها ولا يعتقد أن هناك من علّمها، استطاعت نقل الجسد من معدنٍ خامل، إلى ذهبٍ يحمل أدقّ الأحاسيس والرعشات والهمزات واللمزات والغمزات.. أعوذ بالله! حين كانت تمضي ويخلو بنفسه كانت كآبة كبيرة تحلّ عليه. كيف عاش كلّ أولئك النساء اللواتي مرَّ بهن: الجدّة التي عاشت مع الجدّ العاجز بعد الحرب، كما أكَّدت له كلّ الهمسات والإشارات التي ما كانت ترقى أبداً إلى المعلومات، فوهبت نفسها للأناشيد الدينية والصلوات الطويلة وقمع الفرح في كل من حولها.

الأم التي تخاف من الجسد وكأنه الشيطان. تخاف من الجسد وكأنه الغواية – القنبلة الموقوتة لا تنتظر إلا من يفجّرها، فكانت تخاف من جسد ابنها ومن جسدها، ومن.. وكانت تقول تسوّغ نفسها: السعيد من نأى عن حقل الشبهات.

أسيمة.. أكان خطئي أم خطؤها أن كان جسدها قمة لا تدرك، وسعادة لا يوصل إليها؟! كانت تتحنّن وتتفضّل حين تعطي نفسها. كانت تعطي وكأنها لا تأخذ، ولأنها كانت تعطي فقد كانت تطلب ثمن العطاء، وكان الثمن نشراً لقصة لها، أو تقريظاً متنكراً باسم آخر أو أخرى لقصة منشورة لها، وكان الثمن جمع عدد من الأصدقاء وتقديم عشاء وشراب ومنادمة لهم، ليقضوا الأمسية في إطراءٍ وتقريظ لِما أبدعت. وعندئذ.. وعندئذ فقط كان تتفضّل، وتتحنّن، وتتكرّم بهبة لا تشارك فيها، فما قرأ لها امتناناً، ولا سمع منها فرحاً، ولا شهد لها شكراناً، بل كانت المنتظرة، المتوقعة أن يقدّم الشكر والمديح لما تفضّلت به.

ليلى.. كانت مغايرة لكلّ هؤلاء، إذ كانت البسمة سعادة لها، واللمسة بركة، والحب نعمة، وكانت تقدّر النعمة تقدير من يعرف أن النعم لا تدوم.

كان أبوها كهلٌ ضخم، أصاب ياسين بالذعر حين دخل عليهما البيت وهو بالجلابية فقط، فقالت ليلى ببساطة: هذا أبي.

فالتفت إليها الأب وقال: أتريدينه؟ فقالت دون أن تلتفت: نعم.

التفت الأب إلى خارج البيت حيث اجتمع عدد من الكهول الذين لا يغادرون القرية كما عرف في ما بعد. رفع كفّه فوق مجلسهما مباركاً، وقال: ياسين ابن ناجية، وكان قد عرف اسم أمه من ليلى، زوّجتك ابنتي ليلى بنت حواء!

والتفت إلى الرجال، قال: سمعتم؟ فضحكوا، وقالوا: سمعنا.

وصار ياسين لليلى كما أعلنته ساعة أخرجته من المستنقع. حين صار لليلى ضحك في البدء، فلم يكن يفهم ما معنى أن يصير الرجل لامرأة.. ولكن ليلى.. المرأة قبل الأخلاق والأديان والمحرّمات استطاعت أن توقظ فيه جسداً كان يعتقد أنه حيّ حتى اكتشف معها أنه كان في سبات طويل. استطاعت أن توقظ لذّة اللمسة، ولذّة الفحّة، ولذّة الشهقة، ولذّة ما قبل الكتابة. قالت: أتمنّى ألا تندم!

هل كانت تعرف أنه ما إن يمسك بالقلم، ويماسك الورق، حتى يبدأ الندم، وتبدأ المعرفة، وتبدأ الرغبة في تغيير العالم، بعد أن عاشا زمناً طويلاً غاطسين، غارقين في العالم.

كانت القرية جزيرة أو تكاد، في المستنقع العظيم الذي صنعه النهر الأسود، وكانت هذه الجزيرة معزولة لا يعرف بها أحد، وكيف يعرفها والنهر يطرد من يقترب منه بروائحه وبعوضه وجرذانه؟ كان إشعال النار محرّماً في القرية، فإشعال النار لا يتم إلا لضرورة. والضرورة لا تزيد عن هداية ضالّ. أما الطبخ فلا ضرورة له، إذ كانوا يصحبون طعامهم من المدينة القريبة، وأما الخَبز فمحرّم، فالنار والرائحة مغناطيس الغريب والعدو، والتهديد بإزالة النعمة التي بها يحيون.


=====================

مقالات كتبت في رحيل الكاتب “خيري الذهبي”

———————————

خيري الذهبي كتب رواية التاريخ السوري بعين النقد/ نبيل سليمان

أحد مؤسسي الرواية الجديدة رحل عن76 في المنفى الباريسي

برحيل المبدع الصديق خيري الذهبي نطوي تصفحة جديدة في كتاب المأساة السورية التي يبدو معها كتابٌ مثل “العرب وتجربة المأساة” لصدقي إسماعيل (1924 – 1972) رجْعاً باهتاً، وربما شائهاً، على الرغم من التماعاته في تشخيص المأساة ووعيها، قبل ستين سنة. وطالما رددت في فقد رمز ثقافي، صديقاً كان أم لا، أن وعي المأساة بفقده إنما يكون بقراءة – وإعادة قراءة – ما أودعنا، وبخاصة أن تكون القراءة نقدية.

ولأن الجرح بفقد خيري الذهبي طريّ، فحسبي الآن أن أتأمله بين برزخ البداية، وهو رواية “ملكوت البسطاء” التي نشرها اتحاد الكتاب العرب عام 1976، وبين البرزخ الروائي الأكبر الذي تمثل في روايته “المكتبة السرية والجنرال” (2018).

بُعيد صدور “ملكوت البسطاء” كان لقاؤنا الأول، وكنت أعدّ العدّة لكتاب عن الرواية في سورية بين حربي 1967 و1973، ومن ذلك الإعداد كان سؤال عدد من الكتّاب عن مفهوم واحدهم للرواية. ولعل من الأهمية أن نقرأ اليوم جواب خيري الذهبي الذي كان في بداية الطريق، قد غادر الثلاثين للتو حاملاً روايته الأولى، وهذا المفهوم للرواية الذي ينمّ عن وعي نظري عميق، سوف يظل خيري مخلصاً له في كل ما أبدعه من الروايات. وقد ضمّ كتابي “حوارية الواقع والخطاب الروائي” جواب خيري، ومنه:

“لا شك أن الرواية كجنس أدبي معاصر، وبالنظرة الأوروبية للرواية فن حديث الورود إلى سورية. وقد يستطيع الدارس الأدبي العودة إلى الثلاثينيات سعياً وراء رواية نشرت في ذلك الحين مثلاً، ولكن هذا لا يعني أنها قد رسخت جذورها، أو أنها قد بدأت العطاء على الأقل. أما الرواية لدارس التاريخ الأدبي بمجمله فلها جذورها الطويلة والمتشكلة في حينها، ولكننا ربما لم نسمها رواية حسب مقاييس الجنس الأدبي المعاصر، ولكننا لو نظرنا إلى مقامات الهمذاني مثلاً أو الحريري، وانطلقنا من منظور أن البطل وظروف المجتمع وتركيبته المتنوعة المختلفة، لعثرنا على شكل جديد – قديم من اشكال البناء الروائي. الأمر الذي أدركه الشدياق جيداً، فكتب رائعته المعروفة – الساق على الساق فيما هو الفارياق – ولكنه أثقل كتابه بالاستطرادات والاستعراضات اللغوية فأضعف من إحساسنا بالتوتر الدرامي في الرواية، ثم جاء أميل حبيبي فوضع روايته المعروفة – المتشائل – والتي نهل فيها من المقامة نهلاً واسعاً وخلاقاً. وهنالك أيضاً ألف ليلة وليلة رواية العرب الأولى والأجمل، وهذا شكل جديد ورائع من أشكال البناء الروائي، ثم هناك الملاحم الشعبية. كالملك الظاهر وسيف بن ذي يزن، وحمزة البهلوان إلى آخر هذه الملاحم الروايات.

كل هذه الأشكال من البناء الروائي – وخاصة حين تقدم الغرب فنقض ما بناه في القرنين الأخيرين من إحكام بناء المعمار الروائي، إن في استخدامه تيار الوعي والتداعيات كما لدى مسز وولف وجويس، أو في تحطيمه البناء نهائياً كما في ما يسمى بالأنتي رومان لدى ناتالي ساروت، وآلان روب غرييه، أو في استخدام ما يسمى بنسبية النظرة إلى الحياة في الأدب، كما لدى لورانس داريل في “رباعية الإسكندرية”. كل هذه الأشكال تدعونا إلى محاولة البحث عن شكل أصيل للرواية في العربية مستفيدين من الأشكال التي قدمها الأجداد، ومن العلوم التي قدمها الغرب المعاصر، من استخدام لعلم النفس، وعلم دراسة أصول الأجناس، هذا بالإضافة إلى سكب هذا كله في إطار رؤية سياسية مستقبلية وواضحة”.

في البرزخ الأول رسمت رواية “ملكوت البسطاء” أجواء الحرب العالمية الأولى (السفر برلك) وسقوط العثمانية وقدوم الاستعمار الغربي. وكل ذلك عَبْر رسمٍ آسرٍ للشخصية الروائية، وعبر تلك اللعبة الروائية الحديثة التي كانت لا تزال في بداياتها، أعني لعبة تعدد الأصوات أو البوليفونية ، مما كانت قد قدمته رواية نجيب محفوظ “ميرامار” ( 1967) ورواية سليمان فياض “أصوات” (1972) ورواية “ثلج الصيف” ( 1973) لكاتب هذه السطور.

في “ملكوت البسطاء” كمنت لسنوات بذرة ثلاثية خيري الذهبي “التحولات”. ومن البرزخ الأول انطلق مشروعه في ما أسميه الحفر الروائي في التاريخ، وليس الرواية التاريخية. وقد توّج البرزخ الأكبر في رواية “المكتبة السرية والجنرال” هذا المشروع. جاءت هذه الرواية/ البرزخ في بناء معقد يلوح لثلاثة بناءات روائية عربية وعالمية كبرى، هي: البناء الملحمي، والبناء الألف ليليّ – نسبةً إلى ألف ليلة وليلة – وبناء الواقعية السحرية الوثيق الصلة بالبنائين السابقين.

تشتبك الأزمنة في هذه الرواية منذ الجد الشيخ شمس الدين قبل قرونإلى الشيخ محي الدين في زماننا. وفي هذا الاشتباك يتعدد السرّاد ولكل امتيازه، وليس ابتداءً بالحفيد نوري ولا انتهاء بآخر زوجات الشيخ إلهام التي  رطنت بالعامية.

قدرت بعض القراءات لهذه الرواية تحت وطأة الراهن السوري، أن ما كان فيها لكتاب “الجفر” هو الرهان الأكبر للرواية. لكن هذا الرهان ليس غير المكتبة الأسطورية بسراديبها وأنفاقها وأبوابها وطبقاتها وكنوزها ولعل أحداً يقوم بالمقارنة بين مكتبة خيري السرية ومكتبة المصري إبراهيم الفرغلي السرية أيضاً في روايته “معبد أنامل الحرير”(2015)، فلهذه الرواية مكتبتها الهائلة تحت الأرض، والتي تمور بالمعارضين للديكتاتور والديكتاتورية في الأعالي، ويتهيأون إلى يوم النشور.

أما مكتبة خيري الذهبي فليست لجمهرة إلا جمهرة خزائنها وكتبها التي تتحدى الديكتاتور والديكتاتورية: الجنرال مسعود الحسن. ويذكّر كتاب “الجفر” بمصحف فاطمة الذي تمحورت عليه الرواية البديعة لشهلا العجيلي “سجاد عجمي” (2011)، والتي تخاطب ما تفجر في سورية عام 2011، وإن كان زمنها يعود قروناً، ومكانها يتبأّر في مدينة الرقة. وكما خرجت شهلا العجيلي بمصحف فاطمة من الأسر الطائفي، خرج خيري الذهبي بكتاب الجفر إلى فضاء آخر ترامحت فيه العجائبية والإيروتيكية والأسئلة الروحية والفلسفية، وبدا خيري الذهبي كأنما يتلذذ بالسرد والتخييل، ولكن على إيقاع القنابل الفراغية التي تدمر أخيراً المكتبة، أي على إيقاع الاحتلال الروسي، وكذلك الإيراني. ولمن يتساءل عن الاحتلال التركي، يأتيه الجواب في البرزخ الأول (ملكوت البسطاء) كما يأتيه من مقالات سردية أخرى لخيري الذهبي، كما في كتابه “التدريب على الرعب” (2004).

بين برزخين تألقت روايات خيري الذهبي، وهو الذي لو لم يكتب إلا رواية “فخ الأسماء” لكفى. كما قدم الكثير في القصة والسيناريو والمقالة، وها هو أخيراً يفتح صفحته في كتاب المأساة السورية، فماذا لمثلي أن يقول: وداعاً يا خيري أم إلى اللقاء؟

——————————-

بعيداً من الجنة المفقودة… رحل خيري الذهبي/ علي سفر

لقد فعل ما كان يجب عليه فعله، أي نقل المواجهة من حيز التلقي

في رثاء روائي استثنائي، ومثقف يمتلك من الحساسية ما يدفعه دائماً لأن يكون في صف الناس والمهمشين منهم على وجه الخصوص، كخيري الذهبي(مواليد 1946) الذي باغت السوريين برحيله في باريس أمس الإثنين، من غير المجدي أن يذهب المرء إلى قراءة سيرته الإبداعية الشخصية، الممتلئة بالكتب، والحديث عنها، من دون أن ينظر إلى نهاية حياته، وكيف ذهبت به المنافي، بعدما أعلن موقفه واضحاً من ثورة السوريين، منتمياً إلى روحها، أحلامها، وطموحات شبابها.

الذهبي كان قد دوّن في وقت سابق في فايسبوك عبارات تختصر الحكاية التي عاشها بين الوطن والمنفى فقال: “في العالم كله يولد الناس أحراراً لكنهم في العادة لا يموتون أحراراً.. إلا في سوريا حيث يولد الناس مشاريع عبيد، لكنهم يرفضون هذا الشكل من الحياة فيموتون …. أحراراً”!

وفي المقابل الأدبي لحياة المنفي، لا بد من التوقف عند التزامه بالمدينة التي كرس لها غالبية رواياته. فدمشق الحاضرة ههنا، لن تضم جثمانه في حنايا ترابها، وإذا حدث هذا ذات يوم، فإن ذلك سيكون جزءاً أخيراً من رواية خيري التي لم يكتبها بقلمه، بل بروحه، وعصيانه، وتمرده على النظام.

لم يكن الراحل خيري الذهبي بعيداً من المنابر المتاحة في دمشق، قبل ثورة السوريين، بل كان وبِطاقَته المدهشة، واحداً من الفاعلين البارزين في كل المجالات التي خاضها، من الكتابة القصصية والروائية، إلى السيناريو التلفزيوني والسينمائي، وأيضاً الكتابة في التاريخ وحوله، لكن كل هذا الحضور لم يعن له شيئاً أمام الحدث الكبير الذي صنعه الشباب الثائر في 2011.

لم يكن الذهبي أبداً جزءاً من آلة النظام الثقافية أو الفنية، رغم نشره مؤلفاته في منابر كوزارة الثقافة واتحاد الكتّاب العرب. فتصوره للمسألة يجعله بعيداً من الوقوع في شرك محبة السلطة، أو التماهي معها، فقد كان يرى أن “المثقف يجب أن يكون على يسار السلطة مهما كانت تلك السلطة، وتلك اللحظة التي تتوافق فيها السلطة مع المثقف، يعني أن ذلك المثقف أصبح شاعر بلاط، يلتقط الدراهم جزاء أدبه المُرضي للسلطان، حتى لو كان أدبه عالياً”. ولهذا، فإن تعبيره عن رأيه في ما عاشه ورآه من تجاوزات الأدباء الموالين للنظام، قاده غير مرة إلى الصِّدام مع هؤلاء في وقائع لا تنسى، ومنها على وجه الخصوص شجار عنيف بينه وبين رئيس اتحاد كتّاب النظام الأسبق، علي عقلة عرسان، والذي صار اسمه السيد ع.ع.ع على يد الذهبي نفسه، بعدما اختصره بثلاث عينات في إحدى مقالاته.

تذكر خيري، قبل شهرين من الآن، روائياً سورياً مات مطروداً هو الآخر من “جنة” النظام، هو صديقه هاني الراهب، فاستدعى بما كتبه عنه تلك البيئة الفاسدة التي عاشها الرجلان مرغمَين، مثل كل المثقفين السوريين الأصيلين، وفي مقدمتها حثالة من الكتَبة الذين برعوا، ومن خلال مناصب محصنة بالسطوة الأيديولوجية والأمنية، في طرد الموهوبين، وإحلال عديمي الموهبة مكانهم، خصوصاً المخبرين الذين لا يبرعون في شيء قدر براعتهم في كتابة التقارير الأمنية بزملائهم.

المواظبة على التدوين اليومي في صفحته الشخصية في فايسبوك كانت ملفتة طوال سنوات، حاول خلالها ربط وقائع التاريخ الذي درسه بشكل مكثف، وحقق بعض كتبه لصالح وزارة الثقافة، بما حدث ويحدث في البلاد، وبشكل طبيعي استدعت تلك المدونات نقاشات مكثفة، قطعتها غيابات سرعان ما دفع الذهبي بعدها بعمل جديد من أعماله إلى القراء.

لقد فعل ما كان يجب عليه فعله، أي نقل المواجهة من حيز التلقي، والارتهان إلى الواقع بدمويته وخساراته، إلى حيز الفعل والدفع بأقصى الأسلحة فعالية في ساحة مواجهة النظام وجبروته وفظائعه. وأي سلاح أمضى في يدي الكاتب، من معرفته وثقافته وجدله مع الواقع والتاريخ؟ فمن هذه الزاوية رأى الذهبي نفسه منتصراً على الطغاة وأدواتهم القمعية، فكتب عن استراتيجيته الخاصة قائلاً: “لن يهدأ بالي حتى يُهدم آخر السجون في سوريا، ويُطفأ آخر ضوء في أبنية المخابرات”!

وفي بعض التفاصيل، دوّن الذهبي سيرة الأسر في السجون الإسرائيلية بعدما وقع بين أيدي المحتلين أثناء أدائه للخدمة الإلزامية، مترجماً مع بعض جنود الأمم المتحدة العاملين في الجولان العام 1973، الشهادة المهمة جداً التي دوّنها الذهبي والمعنونة “من دمشق إلى حيفا 300 يوم من الأسر في إسرائيل”، و حصلت على جائزة ابن بطوطة في العام 2019، وهي توثق تعامل النظام مع الجنود السوريين، وتفضح أساطير تصديه للعدو، وتكشف كيف نحر البعثيون والأسديون منهم على وجه الخصوص جيشاً كرست سوريا له كل مقدراتها، فلم يصنع سوى الهزائم أمام الأعداء، والانتصارات على شعبه!

وعلى الإيقاع ذاته، المتوثب نحو الكتابة بوصفها مركب النجاة، سيقدم الذهبي للقراء عدداً من المؤلفات الأدبية، ومعها سيكتب مرات عن دمشق، لا سيما في روايته الذاتية “الجنة المفقودة من القنوات إلى كفر سوسة”، التي يستعيد فيها تفاصيل مكثفة من طفولته الدمشقية، فيكتب في ذكريات “العيد في القنوات”: “كان الدب الذي رأيته في الحريقة، مختلفاً تماماً عن الدب الذي رأيته في القنوات منذ سنوات طويلة، فكأن بهذا الدب الذي كان شرساً أن روض، وحبس في القفص وجوّع حتى الإنهاك والذل، نظرت إلى ذلك الدب الذي أسموه بالسوري، كيف كان برياً حراً ومن ثم ساقوا عليه السلاسل وبعدها الأقفاص ومن ثم رحلوه إلى مصر ليوسم بالانفصالي، وبعدها سينقرض تماماً في سوريا ولن يظهر أيّ أثر له مجدداً إلا في سنوات الثورة الأولى في القلمون حيث لم يعد لسلطة الإنسان أثر في الطبيعة. لوهلة شعرت أن ذلك الدب هو كل شيء في سوريا”.

يرحل الذهبي بعيداً من وطنه، فتصبح حكايته وجهاً من وجوه البلّورة السورية التي تلمع بالمآسي، لكنها ترسل الضوء في العالم المعتم.

_________

خيري الذهبي:

كاتب روائي من مواليد دمشق 1946. غادر إلى مصر في بداية الستينيات وتلقى تعليمه الجامعي في القاهرة ويحمل إجازة في اللغة العربية. درس الأدب العربي وتتلمذ أدبياً على أيدي يحيى حقي ونجيب محفوظ وطه حسين. عاد إلى سوريا وساهم في الحركة الثقافية السورية. نال جائزة أدب الأطفال الأولى في السبعينات، وشارك في تحرير العديد من دوريات وزارة الثقافة واتحاد الكتّاب. صدرت أعماله الروائية في دمشق وبيروت وعمّان والقاهرة. وتحول عدد منها إلى أعمال درامية وسينمائية.

من رواياته: “ملكوت البسطاء” 1975، “طائر الأيام العجيبة” 1977، “ليال عربية” 1980، “المدينة الأخرى” 1983، “فخ الأسماء” 2003، وآخر رواياته صدر هذا العام في الأردن تحت عنوان “خرائب اليازجي الأخير”.

المدن

————————–

رحيل الكاتب والمفكر السوري خيري الذهبي: قبس من روح دمشق وخيالها الجامح/ محمد عبد الرحيم

«رحيل خيري الذهبي خسارة مؤلمة للسوريين جميعاً. كان شيخ الروائيين، وصاحب أفكار جدالية، ونظرات في التاريخ، ودمشقياً حتى العظم. كان معارضاً مبكراً، منذ كان في سوريا وبداية إسهاماته الثقافية، لم يتنازل عما يؤمن به، كانت مواقفه منسجمة مع ما كان يدعو إليه. اختار المنفى، ولم يتواطأ مع النظام تشهد بهذا رواياته ومداخلاته في وسائل التواصل. أراد سوريا للجميع حرة ديمقراطية، دولة يسودها القانون. هذا ليس رثاء.. خيري الذهبي باق بيننا، روحه رحلت إلى مدينته دمشق». بهذه العبارات على صفحته الشخصية في فيسبوك، يرسل الروائي السوري فواز حداد تحيته للكاتب خيري الذهبي (1946 ــ 2022) الذي تعددت مجالاته الإبداعية، ما بين الرواية والمقالات والنقد والتنظير الأدبي، وصولاً إلى كتابة السيناريو.

ومن خلال ما أصدره الذهبي منذ منتصف السبعينيات وحتى قبل رحيله بقليل، وكذا مداخلاته وحواراته الصحافية، نجده صوتاً معارضاً لم تتحول رؤيته ووجهته الانتقادية للنظام السوري الحاكم. وسنحاول استعادة بعض من هذه الآراء والأفكار، التي سنجدها رغم كونها تجسد المأساة السورية، إلا أنها تتجاوزها لتنطبق على الأنظمة العربية الحاكمة ككل.

الكتابة والتاريخ

يصف الكثيرون خيري الذهبي بكونه الروائي والمؤرخ، إلا أن الصفة الأخيرة دائماً ما كانت تزعجه، فيقول عن علاقة الأدب بالتاريخ.. أنا لا أكتب الرواية التاريخية، ولم أكتبها في يوم من الأيام، ولا أحب كتابة الرواية التاريخية. في سوريا، سيطر في الخمسينيات والستينيات ما يسمى بأدب الالتزام؛ الأحزاب السياسية في سوريا آنذاك ضغطت به علينا بشكل مرعب، حيث تحول الكتاب جميعا إلى أصوات للسياسة، فتحولت الكتابة إلى عمل، هناك مُستغِل ومستغَل، إقطاعي وفلاح، رأسمالي وعامل، فأصبحت الكتابة الأدبية ضعيفة، يسردونها بطريقة ميكانيكية، من خلال إحضار شخصية إقطاعي يقوم بظلم فلاح ما.

الرواية السورية والعربية

وعن الموجات أو الموضات الروائية يواصل الذهبي حديثه.. في الخمسينيات، تسلل السيد (غوركي) إلى سوريا، فصار عشرات الكتاب، يطمحون إلى تقليد السيد غوركي. ثم في أواخر الستينيات ترجم سهيل إدريس لنا أعمال سارتر وصاروا كلهم يريدون أن يكتبوا أدبا وجوديا. وفي أواخر السبعينيات أوائل الثمانينيات، تُرجم ماركيز، وصاروا كلهم واقعية سحرية. أما في التسعينيات، بعد أن ترجم ميلان كونديرا، وهو طبعا، من أهم مفكري الأدب في العالم، ولكنهم، أي الروائيين السوريين، لا يقرؤون كونديرا كما يجب. لأن الأخير يقوم بتكنيك ما، يعتمد على تمرير كمية هائلة من الثقافة، مضافٍ إليها كمية من الجنس. والجنس بالنسبة للحضارة الأوروبية ليس «تابو» أما قراؤنا الذين تحولوا إلى كتاب، فأخذوا من كونديرا الجنس فقط ونسوا كل عمارته الفكرية.

التحوّلات

ثلاثية «التحوّلات» هي درّة ما كتبتُ، إنها واسطة العقد الذي لم تكتمل حباته حتى اليوم، فأنا ما زلت أكتب بكثافة، ولكن «التحوّلات» تلك كان لها متعة خاصة في الكتابة، إذ احتاجت مني على الأقل إلى سبع سنوات لإنجازها في ألف صفحة تقريباً. تلك الرواية الضخمة ذات الأجزاء الثلاثة أرّخت لمدينة دمشق روائياً، عبر سرد قصة ملحمية من ثلاثة أجيال لعائلة واحدة في دمشق، منذ ما قبل الاستقلال حتى عهد الحكومات الوطنية، وصولا إلى حكم العسكر وتسلط المخابرات على رقاب الناس. ويوضح الذهبي المقصود بمُسمى «التحوّلات».. لم أكن أقصد بكلمة التحولات والتطورات، بل كنت أقصد فيها ترجمة الكلمة الإغريقية اللاتينية (ميتا مورفيس) التي تعني (التناسخات) لأني أرى أن الحضارة العربية قد توقفت عن كل عطاءاتها منذ القرن الرابع الهجري، ليس هنالك من اجتهادات فلسفية أو فكرية، وحتى المذاهب توقفت عن التشكل، ليس هنالك من مذاهب جديدة، وكل ما فعلتها هذه الحضارة أنها تقوم بنسخ نفسها ببلادة، وهذه كانت رسالتي في التحولات.

الثورة السورية ومأساتها

وعن رؤيته للثورة السورية يقول.. الثورة ثورة أخلاق قبل أن تكون ثورة لإسقاط النظام، الثورة هي تغيير واقع بواقع، وتغيير النظام الاجتماعي قبل السياسي، لقد أفسد النظام المجتمع السوري، وأغرقه في الرشوة والفساد الإداري والكذب، وكان المطلوب السيطرة على نقاط الضعف هذه، وإدراك أنهم سيقومون بضرب الحراك الديمقراطي عبرها، فتعثرت ثورة السوريين نحو الديمقراطية، عبر عدم إدراكهم ضرورة مخاطبة العالم بصورة حضارية، وبالسقوط الأخلاقي، وما تقارير السرقة والاختلاس والنهب والفساد في المعارضة، إلا انعكاس لما فعله النظام عبر 50 عاماً. كي تنجح الثورة، يجب أن ندرك أنها ثورة الجميع، ونحن لسنا محور مصالح الكون، أضف إلى وجود مصلحة لنا كشعب سوري، لدى الآخرين مصالح لدينا، ومصالحهم تلك هي التي استغلها النظام وبنى عليها انتصاره في الحرب، ولو أن النظام بذل مجهوداً في مصالحة شعبه وإرضائه، الطاقة نفسها التي بذلها لإحباط انتفاضة شعبه لكانت الأمور في مكان آخر تماماً.

من ناحية أخرى يرى خيري الذهبي، أن أعماله بكاملها تبحث في سبب وأصل المأساة السورية، فيقول.. كل رواياتي تتحدث عن المأساة السورية، لكنني آثرت الحفر عميقا في الحكاية وفي المجتمع من أجل إيجاد العطب الأساسي المسؤول عن المأساة السورية، فأنا كاتب معارض، ولدت ثقافيا كذلك، وسأبقى معارضاً للسلطات حتى يستقيم حال المواطن السوري في بلده.

حكاية لم تزل حيّة

ويذكر الذهبي عن كتابه «300 يوم في إسرائيل» وهو شهادة طويلة عن أجواء حرب 1973، حينما تم أسره وقضى في السجون الإسرائيلية ما يُقارب العام.. قررت أن أستعيد تلك التجربة لتكون الشهادة الأولى من كاتب سوري، وأعتقد من كاتب عربي، على تجربة حرب تشرين، ولكن من دون عنتريات وأناشيد تجييشية وقومية، إنها شهادة من الداخل الإسرائيلي الذي يحتل الجولان وفلسطين، على ما جرى في تلك الحرب الحاسمة بين العرب وإسرائيل، هناك كان الواقع مختلفاً، حيث نبض الحرب يختلف عمن عايش الحرب، في دمشق أو القاهرة، أو باقي البلدان العربية، دون أناشيد حماسية وخطب رنانة وأكاذيب الإذاعات العربية.

ونختتم بهذه الفقرة من الكتاب.. «فجأة أحسستُ بيد تلمس مؤخّرتي، فعرفتُ أن واحداً أو واحدة يحاول أن يُنفِّس هذا البالون (أنا) ودون أن أقرّر، أو أعزم، وجدتُني أضرب ما خلفي بشدّة، فدرتُ في المكان أكاد أسقط على الأرض، ولم أصبْ أحداً، وعَلَت القهقهات النّسائيّة والشّبابيّة. وأمسك العسكري المصاحب لي بي بشدّة، يمنعني من الحركة، وسمعتُهُ يهمس في توتّر إلى الفتاة: كفاكي يا فتاة… وشدّني الجندي المرافق بشدّة، يُبعدني عن القهقهات والمقهقهات… كان نوع من اضطراب يهزّني دون إعلان: أكانت هذه إذنْ نهاية العسكرية السورية؟».

بيبلوغرافيا

خيري الذهبي.. من مواليد دمشق عام 1946. تخرج في جامعة القاهرة، كلية الآداب قسم اللغة العربية. ثم عاد إلى سوريا ليعمل في التدريس، ويُساهم في الحركة الثقافية السورية، مشاركاً في تحرير العديد من الدوريات في وزارة الثقافة واتحاد الكتاب السوري. تم اعتقاله كأسير حرب من قِبل جيش الاحتلال الإسرائيلي وقت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، حصل على إثره على وسام الشجاعة والشرف من الجمهورية العربية السورية عام 1975. تفرغ بعدها للكتابة. وفي عام 1991 تم تسريحه من عمله في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، نظراً لتوقيعه على بيانات احتجاجية ومشاركته في الحراك السلمي المدني. مع ملاحظة أنه لم ينتم إلى أي تيار سياسي. غادر سوريا في 2012، متنقلاً بين عدة بلدان، حتى استقر في فرنسا، التي رحل بها في 4 يوليو/تموز 2022.

الروايات..

«ملكوت البسطاء» 1975، «طائر الأيام العجيبة» 1977، «ليال عربية» 1980، «الشاطر حسن» 1982، «المدينة الأخرى» 1983، «ثلاثية التحولات.. حسيبة 1987، فياض 1989، هشام 1997». «فخ الأسماء» 2003، «لو لم يكن اسمها فاطمة» 2005، «صبوات ياسين» 2006، «رقصة البهلوان الأخيرة» 2008، «الأصبع السادسة» 2013، «المكتبة السرية والجنرال» 2018، «الجنة المفقودة» 2021.

أعمال متنوعة.. «الجد المحمول» (مجموعة قصصية) 1993. «سطوح جباتا والحمائم» (قصص للأطفال) 1980. «التدريب على الرعب» (مقالات) 2004. «محاضرات في البحث عن الرواية» (أبحاث نقدية) 2016. «300 يوم في إسرائيل» (يوميات) 2019.

أعمال درامية.. «ملكوت البسطاء، الشطار، طائر الأيام، الوحش والمصباح، أبو حيان التوحيدي، لك يا شام، وردة لخريف العمر، رقصة الحباري، وملحمة أبو خليل القباني». ومن الأفلام.. وجوه ليلى، العنوان القديم. كما تحولت روايته (حسيبة) إلى فيلم أخرجه ريمون بطرس.

الجوائز.. جائزة أدب الأطفال 1982، وجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات 2019.

القدس العربي

—————————-

غلاف ” من دمشق إلى حيفا”

رحيل خيري الذهبي: نصف قرن من كتابة الرواية.. وقرون من معارضة الاستبداد/ أورينت نت –

محمد منصور

برحيل خيري الذهبي، يفقد الأدب الروائي السوري دعامة أساسية من دعاماته.. فقد شكّل حضور خيري الذهبي الروائي منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى عشرينيات القرن الحادي والعشرين، أي على مدار نصف قرن بالتمام والكمال، شكّل حضوره جزءاً من المشهد الروائي الذي لا يمكن التأريخ له من دون الوقوف باهتمام عند إسهامات خيري الذهبي الروائية، ناهيك عن مساهماته الأخرى في مجال كتابة المسلسلات حينا، وأدب الأطفال حيناً آخر، فضلاً عن القصص القصيرة والمقالات والدراسات البحثية.. لكن كل تلك الإسهامات على أهميتها، وأهمية حضوره الإشكالي فيها، لم تستطع أن تشوّش على الحضور الأساسي لخيري الذهبي: إنه الروائي السوري وكفى.

الاستقامة الشخصية والنزاهة الفكرية

إن المفتاح الحقيقي للدخول لأدب خيري الذهبي هو: الصدق الفني، فقد كان خيري الذهبي منحازاً على الدوام لخيار الصدق في تشريح الواقع والحديث عن صراعاته الحقيقية، لم يكتب يوماً عن صراعات زائفة، ولم ينجر يوماً وراء الكتابة عن موضة موضوع رائج.. وإنما اختار على الدوام الذهاب إلى الصراعات الحقيقية، الصراعات التي تعبر عن واقع معاش، وليس واقعاً مزيفاً.. وربما مردّ هذا أمران:

– الأول: هو الاستقامة الشخصية.. إذ لم تكن لدى خيري الذهبي أي رغبة في تزييف الواقع عبر التلهي بموضوعات زائفة.

– الثاني: الانتماء الأصيل لمفهوم المثقف المعارض، وخصوصاً حين يكون النظام الذي يعارضه منظومة متكاملة من الكذب السياسي والشعاراتي والأخلاقي.. ولهذا كان يجد خيري الذهبي نفسه في صف الحقيقة، لمجرد علمه أن كل ما يقوله النظام وما يفرزه إعلامه وما تروّجه آلته الدعائية والثقافية كتلة أكاذيب وتضليل وتزوير.

وربما كان كتاب السيرة الذاتية (من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل) الذي نشره عام 2019 ودوّن فيه جانباً هاماً من سيرته الذاتية، ومن تجربته في الأسر حين كان ضابط ارتباط في المنطقة المنزوعة السلاح بعد حرب 1973 وأُسر بعدما احتلت إسرائيل تلك المنطقة.. ربما كان هذا الكتاب نموذجاً عما كشفه الكاتب من أكاذيب وتضليل نظام البعث في المجالات كافة؛ فأثناء انتدابه لتصحيح أوراق الامتحانات العامة في مدينة حلب – وكان الذهبي يعمل في سلك التعليم – كانت نسبة النجاح ثلاثين بالمئة، ما أثار انزعاج وزير التربية البعثي فاتهم المصححين بالعداء للثورة، طالباً منهم أن يرفعوا نسبة النجاح حتى ولو بالتزوير كي لا يقال “إن التعليم في زمن الثورة انحطّ وتراجع بدليل نسبة النجاح المتدنية، كما قررتم في تصحيحاتكم”، وبالفعل رفعوا نسبة النجاح إلى ستة وستين بالمئة أي بزيادة واحد بالمئة عن السنة التي سبقت الثورة، أي انقلاب الثامن من آذار.

وأثناء وقوعه في الأسر في السجون الإسرائيلية ينقل خيري الذهبي عن الجنرال الإسرائيلي الذي خاطبه بالقول: “نحن لن نعاقبك هنا في إسرائيل، ولكن حكامك ورؤساءك من سيحاكمونك ويعاقبونك بالنيابة عنا.. ستعاني كثيراً إن ظللت معادياً للإسرائيليين، وستعاني ليس من إسرائيل، بل من حكامك في سوريا”  بهذا المستوى من الصدق والشفافية في نقل الحقائق التي عايشها أو خبرها في سجل مشواره الحياتي، كان خيري الذهبي يتعامل مع الواقع في رواياته، وكان يقول لنا ما يُشعر أن مسؤوليته كأديب تُملي عليه قوله.. ليكون جديراً بأن يكون أحد أدباء عصره، لا مجرد كاتب من الكَتَبة الباحثين عن مجدٍ أو شهرة.

رواياته الأولى: حكايا الناس البسطاء ونذر الصراع الطائفي

كان حلم خيري الذهبي المولود في حي القنوات بدمشق عام 1946 حين سافر إلى مصر في ستينيات القرن العشرين أن يدرس السينما، لكن إغلاق أبواب معهد السينما أمام الطلاب الشرقيين دفعه للسفر إلى فرنسا، ولما لم يتمكن من دراسة السينما هناك.. قفل عائداً إلى القاهرة ليدرس الأدب العربي، ثم يعود إلى وطنه سوريا ليدّرس اللغة العربية في المدارس الثانوية.

خسر خيري الذهبي حلمه السينمائي، لكننا كسبنا أديباً استطاع فيما بعد أن يدخل السينما والتلفزيون من بوابة الأدب.. ومنذ أصدر خيري الذهبي روايته الأولى (ملكوت البسطاء) عام 1975 لم يضل طريقه إلى مضمار الأدب الذي يبدو أنه خُلق له أبداً، كانت أحداث الرواية تدور حول عائلة (البسطا) التي تسكن ضاحية المزة في مدينة دمشق التي كانت في أوائل القرن الماضي أشبه بقرية ملتصقة بالمدينة، شأنها في ذلك شأن كفرسوسة التي بقيت كذلك حتى ثمانينات القرن العشرين.. ولما كانت أحداث الرواية تدور في فترة حرب السفربرلك في عشرينيات القرن العشرين.. فقد تابع خيري الذهبي تقديم بانوراما اجتماعية من خلال تتبع مصائر أفراد تلك العائلة التي ترملت الزوجة فيها بعد فقد زوجها في حرب اليمن.. وفي خضم حرب السفربرلك تتقاطع أحداث ومصائر أفراد هذه العائلة… إلى أن تنتهي نهاية تراجيدية يسلب فيها الأخ زوجة أخيه وابنه بعد أن يظن أن شقيقه قد مات في حرب السفربرلك، فيما هو قد وقع في الأسر لدى الإنكليز.. وتتعقد العلاقة بينهما ليعمل أجيراً في دكان أخيه، فتستبدل العلاقة الأسرية بعلاقة العامل ورب العمل، ما يشير إلى بروز فئة اجتماعية استطاعت أن تعبر عن تحولات اجتماعية وسياسية كبرى في ذلك الزمان والمكان.

وإذا كانت رواية (طائر الأيام العجيبة) لم تلق نجاحاً لا عندما صدرت كرواية، ولا عندما حوّلها خيري الذهبي إلى مسلسل تلفزيوني أخرجه علاء الدين كوكش لصالح تلفزيون دبي، فإن رواية (ليالٍ عربية) التي صدرت عام 1981 قد أشارت إلى قدرة خيري الذهبي أو ربما رغبته الصادقة في معالجة قضايا الواقع السوري والعربي وتشريح صراعاته الحقيقية، حين تناول المسألة الطائفية متحدثاً عن أجواء الحرب الأهلية في لبنان، بينما عينه على الواقع السوري الذي كان يعيش بدوره حرباً أهلية تحت السطح تقودها سلطة طائفية متوحشة.. متحدثاً عن قمع أجهزة الأمن، وسوء تطبيق الاشتراكية المزعومة في الواقع الزراعي.. وهي قضايا كلها لم يعانِها لبنان، وإنما كانت ابنة المعاناة السورية، وإن ألمح الكاتب أن الأحداث تدور في شقة سكنية في بيروت، أصابتها قذيفة أثناء وجود مجموعة من الشخصيات متباينة الانتماءات في جلسة سهر وسمر، فحبست الجميع بين السماء والأرض، وأخرجت تناقضاتهم وقصصهم المؤلمة في سجل حياتهم، وألمحت إلى أن هناك مدناً عربيةً أخرى تتهددها الحرب الأهلية، طال الزمن أم قصر، في ظل وجود صراعات البنى الطائفية واستعارها تحت السطح الهادئ ظاهرياً.

المدينة الأخرى وحسيبة: من العلاقة مع السلطة إلى العلاقة مع دمشق

ظلت العلاقة مع السلطة في أدب خيري الذهبي جزءاً من منظومة فساد، كلما توطدت كلما أوغل المرء بالسقوط.. ولعل هذا يتضح بشكل جلي في روايته (المدينة الأخرى) التي صدرت عام 1983.. التي تقوم على فكرة الحلم الحضاري المتجسد في مدينة جديدة في الصحراء، في أقصى شمال البلاد، يقوم على هندستها (أدهم الأدهمي) الذي يمثل سقوطه أو إسقاطه انهياراً لقيم النزاهة والاستقامة التي كانت تصنع الحلم الأفلاطوني في مدينته، كما يمثل الغضب الأمني عليه، نهاية لحلم المدينة بالنسبة له، حيث يعاد إلى العاصمة ليعيّن مراقباً في وظيفة هامشية. هكذا بقي خيري الذهبي مسكوناً بفكرة تشريح العلاقة مع السلطة من منظور معارض حقيقي وأصيل.. صحيح أنه اشتغل في المؤسسات الحكومية في أكثر من موقع، بدءاً من الإذاعة والتلفزيون، إلى وزارة الثقافة، إلى تجربته شبه النقابية في (اتحاد الكتاب العرب) الذي يُفترض أنه اتحاد لرعاية الأدب والأدباء فيما هو لمراقبتهم ومحاولة تدجينهم.. لكن خيري الذهبي في كل تلك المواقع لم يكن موظفاً ولا رجل سلطة، كان ذاك الكاتب صاحب الرؤية الذي يحاول أن يوسع هامشه الكتابي رضي من رضي وغضب من غضب.. وعندما يضيق الهامش لا مانع من تجاوزه.. ولنا في مشاداته وصراعاته داخل اتحاد الكتاب في تسعينيات القرن العشرين مثالاً ناصعاً على حيوية حضوره وإخلاصه لصفة الأديب المعارض لنظامٍ طالما وجد أنه لا يشبهه ولا يشبه الوطن الذي يحكمه.

في عام 1988 شرع خيري الذهبي في نشر الجزء الأول من ثلاثيته الروائية (التحولات) وكان بعنوان: (حسيبة) كان هذا العمل “حدثاً متميزاً في الرواية السورية” كما وصفته مجلة (العربي) الكويتية الشهيرة.. وأذكر وكنت طالباً في السنة الأولى من قسم الأدب والنقد في المعهد العالي للفنون المسرحية، أن الرواية كانت حدث الموسم الثقافي بالفعل.. توالت عنها الدراسات والمقالات في الصحف اليومية والمجلات الثقافية على مدار أكثر من عام، لدرجة غدت معها ظاهرة أدبية، ليس لمجرد أنها رواية لاقت رواجاً وانتشاراً وحظيت باحتفاء خاص في الوسط الثقافي والنقدي، بل لأنها رواية أعادت التفكير حينها بصورة دمشق في الرواية السورية، وقدمت تحولاً جديداً في معالجة مجتمعها وقضايا الصراع بين الزمان والمكان، وبين الثبات والتغيير، وبين الميلودراما التي كانت تجنح إليها أغلب الروايات التي تكتب عن دمشق وبين التراجيديا البطولية التي اتسمت بها هذه الرواية، وقد سطعت بطلتها النسائية في سماء الرواية السورية كواحدة من أبرز الشخصيات الروائية بقاء وأثراً وغنى.

في (حسيبة) قدّم خيري الذهبي نظرية جديدة عن دمشق باعتبارها واحدة من أبرز مدن الواحات على طريق القوافل التجارية، انتقد ركون أهلها للاستقرار وبعدهم عن المغامرة، وعاب أحلام “الدكنجية” الصغيرة، بعد أن نسي الأحفاد الأحلام الكبيرة. نظرية لم تكن منصفة تماماً، لأنه داخل ذلك الاستقرار عاش الدمشقيون مغامرة يومية لا تنتهي لابتداع نمط حياة مغرق بالتفاصيل والحساسية والزخرف والجمال.. لقد حولوا الجمال وإتقان مظاهره إلى قضية تشمل كافة مجالات وصور حياتهم ووجودهم.. بدليل ذلك الاستغراق البديع في وصف مفاتن البيت الدمشقي في الرواية باعتباره حاضنة لعلاقاتها الدرامية البالغة الثراء والمعبرة عنها.. لكن مهما يكن، قدّم خيري الذهبي في (حسيبة) نظرية تستحق أن تناقش وأن تكون زاوية اكتشاف عميقة لطبيعة مجتمع دمشق في أعمق تجليات سكونه.. زاوية اكتشاف مسكونة بفلسفة الرؤية لا ببساطة سرد الحكاية، مسكونة بالشغف والمشاكسة والتمرد من أجل التعبير عن أعمق حالات الانتماء لا الانسلاخ عن المدينة.

توالت أجزاء ثلاثية (التحولات) بعد ذلك: (فياض) 1989 (هشام أو الدوران في المكان) 1996 لتقدّم في مجملها إضافة هامة للرواية السورية، وهي تقرأ التاريخ، وتحاول أن تصوغ منه عوالم روائية جديدة، تمزج تطلعات الماضي بقلق الحاضر، ومغامرة التمرد عليه، وخلال إنجازه لتلك الثلاثية نشر خيري الذهبي مجموعته القصصية الوحيدة (الجد المحمول) التي صدرت عن وزارة الثقافة عام 1993 لكن كتابة القصة القصيرة كانت مجرد محطة عابرة في مساره الروائي الذي خُلق له.. فلم يكرر التجربة مرة أخرى.. وإن عاد للكتابة عن دمشق مرات ومرات، حتى ختم حياته الروائية بروايته العذبة (الجنة المفقودة: من القنوات إلى بساتين كفرسوسة) التي قال لي إنه كتبها أثناء وجوده في دبي بعد الثورة، وقبل أن تنشرها دار الفكر عام 2021  بسنوات عدة، وقد استحضر فيها جزءا من سيرته كطفل، ومن سيرة دمشق التي عاشها وسحر تفاصيلها المكانية وطقوس الاجتماعية،

الدراما التلفزيونية: مسلسلات ممنوعة من العرض!

كان خيري الذهبي أحد الأدباء الذين أسهموا في رفد الدراما التلفزيونية بنصوص وسيناريوهات شكلت إضافة هامة لهذا الفن الجماهيري البالغ التأثير والانتشار، الذي انتهى إلى أن يكون ملعباً لأنصاف الأميين والجهلة من كتبة الحكايات الساذجة بلا رؤية ولا عمق ولا حتى خيال.

عمل خيري الذهبي على تحويل رواياته بنفسه إلى مسلسلات تلفزيونية، فقد كتب روايته الأولى (ملكوت البسطاء) في خماسية تلفزيونية من إنتاج التلفزيون السوري بعنوان: (البسطاء) أخرجها سليم صبري عام 1976، وقدّم روايته (الشاطر حسن) في مسلسل بعنوان (الشطار)، مثلما فعل مع روايته (طائر الأيام العجيبة) وكلا العملين كانا من إخراج علاء الدين كوكش، وإنتاج تلفزيون دبي عام 1980 وقد استمرت شراكة خيري الذهبي مع المخرج المثقف والقارئ النهم علاء الدين كوكش في فترة ثمانينات القرن العشرين، حين قدّما مسلسل (الوحش والمصباح) الذي أنتجه تلفزيون دبي عام 1982، وكان دراما تاريخية من العيار الثقيل تتحدث عن غزو تيمورلنك لدمشق، في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، ولقاء هذا الوحش الذي دمّر حضارة الشرق، بمصباح العلم والفكر “ابن خلدون” الذي كان في دمشق خلال حصار تيمورلنك لها.

لم تكن أعمالاً كهذه تروق للرقابة البعثية، فمُنع مسلسلي (الشطار) و(الوحش والمصباح) من العرض في التلفزيون السوري، ورفضتهما الرقابة بسبب حساسيتهما التاريخية، لكن الحقيقة أن المنع كان بسبب ما ينطوي عليه العملان من صراع بين الفكر التنويري والقوة الغاشمة.. بين طبقة المسحوقين المتمردين على السلطة ودجلها، وبين السلطة التي تبدو في ممارساتها أقرب إلى العصابة.. وكان هذا في ثمانينات القرن العشرين، حيث يمارس نظام حافظ الطائفي أعلى درجات الشراسة والقمع ويعتبر هذا تحريضاً موصوفاً، هم بغنى عنه.

لم تقتصر شراكة خيري الذهبي على تعاونه مع المخرج علاء الدين كوكش، وإنما تعاون مع مخرج بارز ورائد آخر هو غسان جبري الذي قدّم معه مسلسل (لك يا شام) الذي أنتجه التلفزيون السوري وعُرض عام 1989. كان مسلسل (لك يا شام) صرخة احتجاج حادة على المخطط التنظيمي الذي التهم أحياء عريقة من أطراف المدينة، والذي غدا وسيلةً للإثراء غير المشروع والفساد على حساب هوية المدينة العريقة، وروحها الاجتماعي التي كانت تتعرض لأعلى درجات الاستهداف باقتلاع النمط المعماري الفريد الذي أبدعته وعاشت فيه.

في تسعينيات القرن العشرين بدأت فورة الدراما التلفزيونية بعد تطبيق الخليج حظراً على الإنتاج الدرامي الأردني الذي كان في معظمة إنتاجاً بدوياً رائجاً بسبب موقف الأردن المؤيد لنظام صدام حسين في غزو الكويت. أدى هذا إلى ارتفاع الطلب على الإنتاج الدرامي السوري وظهور العديد من شركات الإنتاج الخاصة، لكن في الوقت ذاته اختلفت معايير صناعة المحتوى وقيمة النصوص.. لم يعد لأدباء مثل خيري الذهبي وطروحاتهم الفكرية دور في ظل فوضى الإنتاج.. ولهذا تعرض نص (البناء 22) الذي قدّمه خيري الذهبي إلى كثير من التحويرات الكوميدية، كان خيري الذهبي يرمز من خلاله إلى الدول العربية.. لكن العمل بإضافات مخرجه هشام شربتجي الذي وضع اسمه في بند التأليف مع السيناريست مازن طه، تحول إلى كوميديا تهريجية بوجود الممثل الراحل عصام سليمان (صاحب شخصية بهلول) فبات عملاً لا يشبه فكر مؤلفه في شيء.

باستثناء مسلسل (أبو حيان التوحيدي) الذي أنتجه تلفزيون دبي عام 1993 بتوقيع المخرج الأردني صلاح أبو هنود، فإن خيري الذهبي لم يقدم فيما بعد أي عمل تلفزيوني ذا قيمة في فترة التسعينيات وخلال العقد الأول من القرن الحالي، وربما كان تعاونه مع المخرج والمنتج المتواضع الموهبة والأخلاق يوسف رزق في مسلسلات (رقصة الحبارى) 1999 و(وردة لخريف العمر) 2002 و(مخالب الياسمين) 2003  خير تعبير عن الحال التي آلت إليها الدراما التلفزيونية على يد أمثال هؤلاء المنتجين.. فقد كانت المبالغة الصارخة في لغة الإخراج والملابس والأزياء ومحاولة افتعال مشاهد الإثارة والآكشن المجانية ممزوجة بحلول ميلودرامية رخيصة هي مقتل تلك المسلسلات التي لم تقدم أي إضافة لمسيرة خيري الذهبي التنويرية مع الدراما التلفزيونية. ولكن يبقى مسلسل (أبو خليل القباني) الذي كتبه خيري الذهبي ورصد فيه مسيرة الرائد المسرحي الدمشقي الكبير وأنتج عام 2010 وعهد فيه المنتج المنفذ هيثم حقي بالإخراج لابنته إيناس حقي، عملا محترماً ومشغولا جدية وإتقان، وإن لم يحقق أي صدى جماهيري يذكر.. بسبب ضعف المعالجة الإخراجية.  

حسيبة.. الحظ العاثر سينمائياً وتلفزيونياً

حين تم تحويل رواية حسيبة إلى مسلسل تلفزيوني كتب السيناريو له الأستاذ خيري نفسه، وأخرجه الأردني عزمي مصطفى، ومن قبل إلى فيلم سينمائي كتب له السيناريو وأخرجه المخرج الراحل ريمون بطرس، وأنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 2008، قلت للأستاذ خيري الذهبي بعد أن شاهدت العملين وكتب دراستين عنهما:

” إن رواية حسيبة يا أستاذ خيري كان حظها في السينما والتلفزيون مثل المرأة الساحرة الجمال التي كثر خاطبوها وطالبو القرب منها، وتنافس على الاقتران بها الطبيب اللامع والمهندس الوسيم والصيدلاني المتميز والمحامي صاحب النسب العريق والشباب والبريق.. ثم انتهت إلى الزواج من رجل متزوج ولديه سبعة أولاد”

ضحك الأستاذ خيري وكانت ضحكته نوعاً من الموافقة والإقرار.. فلم يكن الفيلم السينمائي ولا المسلسل التلفزيوني بمثل سحر تلك الرواية على الورق، ولا حقق النجاح الجماهيري الذي يحكى عنه بالمقابل.

الكتابة للأطفال.. وفن فتح الأبواب الجديدة!

طويلة مسيرة خيري الذهبي مع الحياة والفن والسياسة ودمشق.. طويلة وزاخرة بما أنتجته وما ارتادته من آفاق. فقد كان خيري الذهبي عنواناً للحيوية الأدبية، لم يغلق باب في وجهه إلا قرر أن يفتح باباً آخر كي يكتب بحرية. هكذا كان اتجاهه للكتابة في مجال قصص الأطفال المصورة (الكوميكس) في نهاية سبعينيات ومطلع ثمانينات القرن العشرين، في مجلة (سامر) اللبنانية لصاحبها وليد الحسيني، والتي أسماها باسم ابنه، محاولة للخروج من التضييق الرقابي للسلطة في الثمانينات، ولغرس قيم الحرية والتمرد والنزاهة في نفوس جيل كان يرى فيه خيري الذهبي صورة أمل لا بد أن يأتي.. وهكذا كانت كتابته للمسلسلات التاريخية الهامة التي أنتجها تلفزيون دبي في الثمانينات أيضاً، شكلاً من أشكال البحث عن أفق جديد يهرب فيه من مقص الرقيب البعثي وجهله وريبته وشكوكه. وهكذا كان خروجه مؤيداً للثورة تتويجاً لكل معارضته الصادقة والسابقة. لم ينكث العهد، ولم يحنث بقسم الحرية، ولم يخلف موعداً من الناس.

عثرات مع التاريخ

حكى لي خلال لقاءاتنا في دبي عن ألمه لمغادرة دمشق، وعن ألمه الأكبر لخسارة مكتبته الزاخرة بكنوز المعرفة والمصادر التاريخية النادرة التي طالما خانته الذاكرة وهو يكتب من وحي بعض مصادرها الهامة على الفيسبوك في السنوات الأخيرة ملخصات تعوزها الدقة التاريخية أحيانا.. وعلى العموم كان تعامل خيري الذهبي مع التاريخ إحدى النقاط الإشكالية الأكثر إثارة للجدل في مسيرته، فقد أصر على التعامل مع التاريخ بمنطق الأديب.. ضارباً بعرض الحائط أساسيات التحقيق والتوثيق التي تستلزمها فحص بعض الوقائع والحالات، وربما هذا ما دفع وزارة الثقافة لسحب كتاب (منصور بن سرجون التغلبي) لمؤلفه الإكسرخوس جوزيف نصر الله، الذي حققه وقدم له خيري الذهبي، ونشرته عام 2008 أثناء احتفالية دمشق عاصمة ثقافية، حيث اعتُبر كتاباً ملفقاً ومسيئاً للأديان، وألف المؤرخ الفلسطيني شوقي أبو خليل، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة دمشق، كتاباً كاملاً لتفنيد الأخطاء التاريخية التي وقع بها المؤلف والمحقق معاً.

برحيل خيري الذهبي في الرابع من تموز/ يوليو الجاري، في منفاه الباريسي الذي لجأ إليه بعد سنوات من التنقل بين مصر والإمارات والأردن، تخسر الثقافة السورية برمتها عهداً من الوعي والنضج والإنجاز.. عهداً كان خيري الذهبي واحداً من صناعه الأساسيين، لقد شكل خيري الذهبي صورة (الأديب المعارض) مثلما شكل ميشيل كيلو صورة (السياسي المعارض) ومثلما شكل نبيل المالح وعمر أميرلاي صورة (السينمائي المعارض). لم يكن هؤلاء الوحيدين الذين عارضوا الطغمة الهمجية الحاكمة، لكنهم كانوا – كل في مجاله – الأقرب إلى الناس، والأكثر تواضعاً في التعامل معهم، وفي محاورتهم، والأكثر إخلاصاً للأعمال التي أنتجوها في كل فترات معارضتهم وسجلوا من خلالها شهادتهم المرة على كل شيء. كتب خيري الذهبي الرواية لمدة نصف قرن، لكنه عارض الاستبداد لقرون طويلة.. ونبش سير مجرميه وصراعات مستبديه في أكثر من عهد، ليقدّم في أكثر من مسلسل أو رواية.

وداعاً خيري الذهبي… لكنه وداع البقاء لا الرحيل. 

أورينت نت

صورة الكاتب الراحل “خيري الذهبي”

خيري الذهبي وداعًا.. الرواية جهد يكمّل التاريخ ويرمّم نواقصه/ محمد جميل خضر

هل هي مصادفة أن يرحل الكاتب والروائي السوري خيري الذهبي (1946-2022) في اليوم نفسه الذي انتصب فيه تمثال الحرية في مدينة نيويورك الأميركية (أُقيم تمثال الحرية في الرابع من تموز/ يوليو من عام 1886)؟

هل هي مصادفة أن يَتْرِكَ لي، إضافة إلى بعض كتبه، عددًا من أصص حديقته العمّانية التي كانت جرداء، فأصبحت بِلمسات روحه الشامية غنّاء، ويحمّلني، إلى ذلك، أمانة أن أواصل الاعتناء بما بقي في الحاكورة من زرع ونبات وزينات؟

حول المصادفة الأولى سؤال هو: كيف يمكن أن يحتفل المنتزعة من أرواحهم الحرية ومن أحلامهم ومختلف آفاق أيامهم، بحريّةٍ مزعومةٍ ترفع شعلتها بلاد ما انفكت تؤيد المحتل المعتدي سارق حرية شعب بأكمله، وأرضه وذاكرته وأحلام أجياله المقبلة، وتمنحه دعمًا غير محدود، بغطاءٍ مفتوحٍ ممدود؟

هم لا يحتفلون بها، بل يتركونها راحلين غير آسفين على أحوال الدنيا في المتعيّن من زماننا الراهن. هذا ما فعله، بالضبط، خيري الذهبي الذي يزرع، مثل شعبه، حيث يقيم نباتًا سريع النمو، ويحصد، ويحصد معه شعبه، في كلِّ وادٍ قتيلًا. رحل في يوم رَفْعِ التمثالِ الشاهقِ مثل جبلِ محامل، ليقول لا بوجهِ من قالوا نعم.

“منذ عمله معلمًا في مدينة الحسكة شرقيّ الفرات، كجزء من خدمته العسكرية، بدأ يفرغ شحنات معرفته بإصدار الكتب. فبدأ بكتاب زراعيّ بحت، طالع فيه تحولات المشهد الزراعي في محافظات الجزيرة السورية، وعموم التحولات الاجتماعية المرتبطة بتغيرات اقتصادية”

وفي أفق المصادفة المفترضة الثانية، فليست مصادفة أن يزرع السوريّ أرضًا، أن يبني بيتًا، أن يفتح مصنعًا، أن يجيد الطهي وأفضل أطايب الحلويات والمأكولات، فيؤسس مطعمًا، ويحيل الأسى فضاءً للتّجاوز والتّجدد والابتكار.

ليست مصادفة أن يتكيّف، وهو في قلب المحنة، مع مفرداتها، وأدوات بطشها، وأزلام تغوّلها، حتى ممن يسبقون أسماءهم بألقاب من مثل شاعر وقاص وفنان وقائمة تطول. هذا ما كان من أمر خيري الذهبي طيلة سنوات الصبر والرضى، منذ عودته نهاية ستينيات القرن الماضي، من مصر المحروسة، حاملًا درجة علمية في اللغات وآدابها. أدرك، بأقل، ما يقدح به رأسه العامر بالمعرفة والذكاء، أن (الشوام)، والسنّة منهم على وجه الخصوص، غير مرغوب بهم بالنسبة لجلاوزة النظام البعثيّ الطائفيّ الذي كان قد تمكّن، وأحكم قبضته، مع مطالع سبعينيات القرن الماضي، بعد مسلسل انقلابات في الشقيقة سورية استدعى إشارات في مسرحيات التفريغ إياها، على كل سورية، وفي المقدمة منها دمشقها.

فهم (أهل دمشق)، إضافة لِمذهبهم المرفوض المحقود عليه، يحملون جينات مدنية ممتدة في التاريخ المكتوب على أقل تقدير، وهي مدنية لم يكن قد طالها، أو تنعّم بوارف رفاهها، أبناء الريف ممن أصبحوا الطغاة الجدد لبلاد تبتلى، بين الفينة والأخرى، ومنذ مئات السنين، بهذا الصنف من الحكام.

ومنذ عمله معلمًا في مدينة الحسكة شرقيّ الفرات، كجزء من خدمته العسكرية، بدأ يفرغ شحنات معرفته بإصدار الكتب. فبدأ بكتاب زراعيّ بحت، طالع فيه تحولات المشهد الزراعي في محافظات الجزيرة السورية، وعموم التحولات الاجتماعية المرتبطة بتغيرات اقتصادية في مدن الوادي (وادي الفرات) وبلداته وقراه. خرابُ قيمٍ زراعيةٍ متوارثةٍ أسماه الحزب الإصلاح الزراعيّ. كتب عنه الذهبي ما كتب، قبل أن يحدث نقلته المفصلية الثانية مقتحمًا عالم الرواية من أوسع أبوابها.

مدنية الرواية

منذ شرع خيري الذهبي بكتابة أولى رواياته، كان قد حضّر وعيه الذهنيّ الإبداعيّ، مسبقًا، أن الرواية هي “فعل مدينيّ برجوازيّ بامتياز”، وهذا، على وجه العموم، ما قاله لي حرفيًّا في حواري معه الذي نشره ملحق “ضفة ثالثة” في الخامس من أيلول/ سبتمبر 2019، متناغمًا، هنا، مع طروحات الفيلسوف المجري جورج لوكاش (1885-1971) الذي يصف الرواية بأنها “ملحمة البرجوازية”.

متوافقًا مع هذه الرؤية، ومنسجمًا معها، شكّلت مدينة دمشق (حيث وُلِدَ وكَبُرَ ووقَعَ على مكتبة والده السريّة)، حقل كتابته الروائية، ومساحات صراعات شخوصه، وفضاء نزوعه نحو ليبراليةٍ منعتقةٍ من الأيديولوجيات الكبرى، منحازةٍ لبسطاء الناس في ملكوتهم المفتوح أمامهم، ليس مثل حقلٍ من الشوفان، ولكن بما يشبه ذاكرةً منقوشةً على مهْلِ حرفيٍّ بارع.

كان لا بد، إذًا، أن تطلّ، أخيرًا، “حسيبة” بثوبها الحامل آخر ملامح القرية، وأوّل مباهج المدينة. وأن يستعيد عبرها (“ثلاثية التحولات” التي استهلها بـ”حسيبة”، ثم “فيّاض” وأخيرًا “هشام”، أو “الدوران في المكان”)، دمشقه التي يريدها هو، لا التي يريدها كارهوها ممن باتوا يحكمون مصيرها ويكتمون أنفاسها.

خيري، ولأول مرّة، منذ أدرك حجم الصفعة التي تلقتها مدينته بعد انقلاب البعث، يشعر أنه استعادها عبر صفحات روايات ثلاث. وإذا بفن الرواية، وفعلها، يصبح هُنا: “الكتاب الذي تصف فيه الرواية نفسها، وتدوّن داخل طياته أحلامها، وتستعرض من خلاله ما حققته، مستشرفةً ما تودُّ تحقيقه”.

الذهبي لم يطبّق وعي الضرورة المتعلق بفن الرواية على نفسه فقط، فها هو في مقاله السخيّ النبيل البهيج حول الروائي السوري هاني الراهب “راهب الرواية السورية وشيطانها” في آن معًا، المنشور في ملحق “ضفة ثالثة” في الثاني من أيار/ مايو الماضي 2022، أي قبيل هجعته الأخيرة قبل الرحيل بقليل، يعاين مشروع الراهب الإبداعي من هذا المنظور على وجه التحديد: مدينية الرواية، عمق حفرها في الواقع المعاش، واستبطانها دهاليزه وأنّاته وتقلبات الأحوال فيه: “يطرح الراهب في “الوباء” استفهامات كبيرة وكثيرة لم يجد لها جوابًا في الواقع الحياتيّ، عن الديمقراطية، والحرية، وعن معنى الحياة، وموقع المثقف في المجتمع المدني، ودوره في عالم تنحسر فيه الثقافة، ويُقتل الوعي النقدي. تبدأ الحكاية هناك في قرية الشير، التي يسميها السوريون الجوبة، في تلك الفسحة المربعة بين كتلتين من الجبال. تنتهي آجال، وتولد أجيال، وما بين الولادة والموت فسحة الحياة التي تتلون بألوان يضفيها عليها المناخ والمسرح والآفاق” (خيري الذهبي، “ضفة ثالثة”، “عن راهب الرواية السورية وشيطانها”، 2 مايو 2022).

في “لو لم يكن اسمها فاطمة” الصادرة طبعتها الأولى عام 2005، لا يبتعد الذهبي كثيرًا، عن ثنائية الريف والمدينة، ولكن هذه المرّة، نحو ثنائية أخرى هي البداوة والمدنية. منتصرًا في نهاية المطاف للمدينة، حتى لو أدّى ذلك إلى ضياع فاطمة في باحات المدينة الخلفية، وهروبها، بنزعاتها وصراعات دواخلها، من قارّة إلى أخرى.

حتى “الإصبع السادسة”، ورغم أنها تمتح تشويق سردها من معتقدات شعبية، وموروثات طقوسية، هي للقرية أقرب، ولوحشة البوادي أوفى، إلا أن بؤرة الفعل فيها مدنية بامتياز، وكذا مشاغل أبطالها، ومحركات الصراع داخل تعاريجها.

أمّا “المكتبة السريّة والجنرال” الصادرة عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عام 2018، فهي مدنية بامتياز، ولكن هذه المرّة، من زاويةٍ دمشقيةٍ محضة، حيث القنوات دربه اليوميّ نحو كفر سوسة، وأسرار حارة اليهود، وأسواق الجامع الأمويّ، وكل عين ماء كانت ثم جفّ ضرعها بسبب السياسات والهزائم وخراب العمران.

عاشق التاريخ

ليست متعة السرد فقط ما تحققها عند مجالستك خيري الذهبي، بل ثمة متعة أُخرى تتعلق بتحليلاته لتاريخ المنطقة. تشعر وكأنه يعيش زمن الفيلسوف والحكّاء لوقيانوس السميسطائي، والشاعر ملياغروس المكيسي (نسبة إلى مدينة أم قيس في الأردن) والإسكندر المقدوني. وتدهش وأنت تسمعه يعاين الغزوات التي تعرضت لها منطقة بلاد الشام، ومَن مِن بينها فادت وأفادت، ومن تمثلت بوصفها فعلَ قتلٍ ودمارٍ فقط لا غير. في هذا الإطار يرى صاحب “صبوات ياسين” (2006)، أن غزوات المغول هي من النوع الثاني الفاقد لأي أهلية حضارية، ولم يتحقّق على مرّ عصور غزوهم للآخرين أي حوارٍ مثمرٍ، أو جدلٍ بنّاء.

عشق التاريخ جعله في بعض الأحيان يشعر بنفسه كأنه يقيم في الزمن الذي أقام فيه من قرأهم وقرأ لهم، وكتبهم وكتب عنهم. في محاضرة له قبل أعوام في مدينة أم قيس حول مفصلية الحضارة الهيلينستية في صناعة زمن عربيّ مشرق متعانق مع زمن هيلينيٍّ يونانيّ، يقول الذهبيّ: “لوقيانوس صديقي الذي أفخر به، إنه المؤسس السوري العظيم. صانع الدهشة التي شكّلت نواة كل دهشة بعدها. فن الرواية لم يبدأ من “دون كيخوته” ثيربانتس بل من لوقيانوس وروايته “قصة حقيقية” التي هي نوع من الفانتازيا الخيالية التي لم يسبقه أحد إليها، وشكّل الكتاب/ الرواية نواة لأعمال بعدها استفادت منها ونهلت من معينها الخصب الذكيّ. فلوقيانوس هو الرائد والمؤسس والسابق وليس المسبوق”.

ولهذا كان خيري من الحاملين بشدّة على الساهين عن المرحلة “الهيلينستية”، المتجاهلين لمنجزها الإنسانيّ المعرفيّ العظيم. كان يقول: “هذه مشكلتهم، وأنا أُدين نوسانهم عنها، وأحمل على إدارة الأدب العربي ظهره لها، وعدم إدراكه لأهميتها وما أنجزه أسياد تلك المرحلة السوريون “الشاميون” من أدب فذ ليست الفانتازيا سوى بعض تجلياته المدهشة”.

“الكتابة الروائية لا تستطيع أن تهرب من التاريخ، ولا تستطيع أن تعلو فوق التاريخ. هي تستخدم التاريخ لتكشف سوءات الحاضر ولتهرب من استحقاقاته”، قال لي، لروحه الرحمة، ذات سهرة وأحاديث.

وعليه، فإن الرواية، كما يرى، هي “ليست عملًا يستجيب لأزمة اللحظة، بل جهد يكمّل التاريخ ويرمّم نواقصه”.

وجع السوريين جميعهم

وجع خيري الذهبي الأكبر والأوّل والأهم هو وجع السوريين جميعهم. وجع سورية وقد استقوى فيها طاغية على شعبه. فأي بطولة بأن يقتل رئيس شعبه؟ وأي فخر ينتاب جنديّ النظام وهو يدبك فوق واحد من بسطاء الملكوت، ويصرخ بلهجة ساحلٍ دون غيره، يريده أن يقول إن (بشار ربّه)!!

لهذا باح خيري لي ذات مرّة، أنه لن يهدأ له بال حتى يُهدم آخر السجون في سورية، ويُطفأ آخر ضوء في أبنية المخابرات.

كم هي أحلامنا مدروجة في فلواتِ السّراب يا صاحبي. وكم هو صعب إخضار نبتةٍ يابسةٍ يا صانع الخضرة. رحلتَ دون أن تتقن فن “التدريب على الرعب”، وعشتَ حتى مرتقى الأنفاس في منفاك الفرنسي الأخير، وأنتَ لا تريد أن تتخلى عن حلم العودةِ لـِ”الجنّة المفقودة”. وحين نريد أن نعزّي أنفسنا نقول: لعلَّ بانتظارك الآن جِنان يا صاحب الرحلة الكبرى من دمشق إلى حيفا.

ضفة ثالثة

———————–

 خيري الذهبي… حكواتي الشام وراوي الهويات الممزّقة/ خليل صويلح

انطفأ الروائي السوري أول من أمس في منفاه الباريسي

انطفأ أول من أمس في منفاه الباريسي، خيري الذهبي (1946- 2022)، بعد رحلة مكابدات طويلة، من دمشق إلى القاهرة ودبي وعمّان وصولاً إلى باريس. كان الراحل واحداً من الروائيين السوريين الذين سعوا إلى تجديد الخطاب الروائي المحمول على تاريخ مهتزّ، وجغرافيا ممزّقة، محاولاً تصحيح خرائط بلاد الشام، من موقع المؤرّخ في المقام الأول، رافضاً التركة الاستعمارية من جهة، ومشكّكاً بالنبرة القومية في صناعة المكان المتخيّل من جهة ثانية، محاولاً إعادة تشكيل دمشق بوصفها جنّة منهوبة ومستباحة وعصيّة على الآخرين.

هكذا أنشأ مدوّنته الخاصة طوال أربعة عقود، مراكماً تصوّرات تاريخية تنطوي على أفكار أكثر من عنايتها بالجرعة التخييلية، رغم سعيه إلى خلخلة البنى السردية بين عملٍ وآخر، في حركة صعود وهبوط، تبعاً لقوة الفكرة والمخيال الروائي. وسوف تسجّل ثلاثيته «التحوّلات: حسيبة، فياض، هشام» (1987)، حضوراً نوعياً في الخريطة الروائية السورية لجهة التحديقة المختلفة لصورة دمشق بوصفها واحة وسط صحراء تحكمها قيم متشدّدة، برصد تحوّلات عائلة في فترة زمنية تمتد مما قبل الاستقلال وصولاً إلى الانقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد. هكذا تواجه «حسيبة» قدرها التراجيدي ومصيرها المحتّم، بعد ما خرقت «ناموس المدينة السرّي» بارتدائها ثياب الرجال والعيش في الجبل مع الثوّار، ثم ستدفع ثمناً غالياً لهذا التمرّد، فتُحرم من إنجاب الذكور.

لعنة العشق التي تلاحق حسيبة، ستصيب الرجل في «هشام أو الدوران في المكان»، ليعيش دماراً موازياً يصل إلى الانتحار، بالإضافة إلى فجائع متلاحقة أكثر مأساوية وإحباطاً وخذلاناً، بما يشبه حالة خصاء، ستتكرر في بعض أعماله اللاحقة. «التحوّلات» هي درّة أعمال هذا الروائي بوصفها جدارية ضخمة تنطوي على موزاييك دمشقي، وهواء مختلف لواحة تعرّضت لموجات من الغزوات المتعاقبة. وإذا بالمكان الروائي يتخذ هيئته الاعتبارية وفلسفته الخاصة بالاتكاء على هندسة البيت الدمشقي وثراء موجوداته الداخلية بالمقارنة مع المشهدية المتواضعة خارجاً، وهو ما ينعكس على لغته المتقشّفة من جهة، والزخم العاطفي من جهة ثانية. التحديق في خرائط بلاد الشام، سيتكثّف، عملاً وراء آخر، نحو تعزيز حضور دمشق أو الشام الصغرى، وما تعرّضت له من مصائب ومحن وأعداء، وفقاً لمرجعيات موازية للتاريخ الرسمي. حاول تفكيك ألغاز هذه المدينة وأعرافها، ونهوضها حقبة وراء أخرى رغم انكساراتها، بتمجيد المركز وهجاء الأطراف، منتصراً للحكواتي على حساب متطلبات السرد، استجابةً لتأريخ شفوي للمدينة تشبعه رؤية سيرية وموقف فكري مسبق. فيختلّ الفضاء الروائي حيناً، ويلتئم طوراً: «في أعمالي الروائية، أستند إلى التاريخ ولا أعيد إنتاجه، أقتطع منه جزءاً، وأبني به وعليه شخصياتي وحكاياتي كي أضع القارئ في الظرف التاريخي والجغرافي والإنساني للقصة التي أريد سردها، لا أحبّذ مطلقاً ذلك السرد الذي يشبه منطوقنا، أو تلك الشخصيات ذات البعدين فقط.

  أبحث دوماً عن شخصيات ثلاثية الأبعاد، وأتلاعب بالزمن كيفما احتاجت حكايتي» يقول. هكذا يلجأ في «فخ الأسماء» إلى لغة هجينة تستدعي الزمن المملوكي في ارتحالات بين فضاءات مختلفة، كمن يقلّب مخطوطاً مجهولاً وتحريره وفق رغبات المؤرّخ المعاصر، ولكن ببلاغة الأسلاف. وفي «صبوات ياسين»، يستعيد صورة المكتبة الضخمة التي أنشأها والده، بسياق آخر يفضح صورة المثقف وحيرته في كتابة سيرة الطاغية، معوّضاً خسائره بكتابة سيرة البطل الشعبي سرّاً، كحلم مؤجل. وسيستعيد الفضاءات نفسها تقريباً في رواية لاحقة هي «المكتبة السريّة والجنرال»، بتوسيع فتحة العدسة لتشريح زمنٍ راهن، معتبراً المكتبة ذاكرة الجموع. أمر يتيح له استخدام سرديات متجاورة ومتنافرة تمزج الحكاية بالسرد، والأسطورة بالوقائع اليومية، على خلفية فضاء بوليسي ونوستالجي لحطام البلاد. لا يمكن النظر إلى سرديات خيري الذهبي في محاولته ترميم هوية المكان بمنظار واحد. رغم شغفه بهندسة رواياته بأشكال مختلفة، إلا أن بعضها لا ينجو من سرد سكوني يأنس للأفكار أكثر من انخراطه بالمغامرة التخييلية، فيما تحلّق روايات أخرى عالياً، مثل «لو لم يكن اسمها فاطمة» إحدى أكثر رواياته شغفاً، مستنجداً بمعجم آخر أقل بذخاً وخشونة، وبجملة روائية بسيطة تواكب اليومي ومفرداته، في مشهدية تستمد عناصرها من مهنة الشخصية المحورية «سلمان». تنطوي الرواية على مفارقة سردية لافتة، يسعى عبرها إلى مقاربة منطقة روائية مختلفة عما أنجزه قبلاً، إذ طالما اهتمّ هذا الروائي السوري بتخوم التاريخ وتحوّلاته وعبوره إلى ضفاف شخصيات مأسورة في مصائرها الأكيدة. صورة فاطمة كما يرسمها كراوٍ إضافي لمجموعة رواة المخطوط، هي الوجه الآخر للوحات التي كانت ترسمها هذه المرأة مثلها مثل المدن الميتة، وما السيناريوات المتبدّلة التي يقترحها الراوي المجهول على عدسة المخرج، إلا إشارات للحال التي وصلت إليها البلاد اليوم. وبمعنى آخر هي صورة لمخطوط بحاجة إلى تنقيح وتصحيح، وإلى من يعيد كتابته على نحو مختلف: «كنت حريصاً على صنع لغة خاصة بي. هذه اللغة ليست متقعّرة وليست هشّة بل هي لغة روائية كما يجب لها أن تكون، ومن أحد الأخطاء التي يقع فيها السوريون تحديداً هو أنهم بالأصل صانعو لغة شعرية، والشاعر عادة يكون خادماً للغة فيحسنها فيضيع الهدف منها. اللغة خادمة للرواية لا العكس، وقد كتبت فصلاً كاملاً في روايتي بالعامية وأنا أتعمّد ذلك لأنّي أردت أن أقدّم الوجه الآخر للغة والشخصية والحس بما يجري» يقول.

من منفاه، سيستعيد دمشق بمنظار ذاتي، مرتدّاً إلى طفولته، وصورة دمشق الخمسينيات، ونهر بردى المتدفّق قبل أن يجفّ تماماً، فيمنحها اسمها المشتهى «الجنّة المفقودة… من القنوات إلى كفرسوسة». هنا تتناوب السيرة الذاتية بالتخييل الروائي، منقّباً فضاءت تلك الطفولة البعيدة التي تظلّلها أشجار الغوطة، ودفء البيوت الدمشقية وما تنطوي عليه من أسرار وأساطير وحكايات، كمن يلقي نظرة وداع أخيرة نحو المطارح الأولى التي لن يعود إليها ثانية.

الاخبار

————————

خيري الذهبي.. رواياته زاوجت رؤيةَ الأسلاف بعلوم الغرب وفنونه/ عمر شبانة

مع خيري الذهبي، يعني أنّنا مع روائي متفرّد، وحيال مثقّف رفيع الشأن متعدّد مصادر الثقافة، العربية والغربية، وهو ذو إطلالة واسعة ومعمّقة على تاريخ العالم وحضاراته وثقافاته، آدابه وعلومه وفلسفاته، ومُولع حدّ الولَه بتاريخ سوريّة وفلاسفتها الحاملين أسماء يونانيّة، خصوصًا الفيلسوف الشاعر والروائيّ، لوقيانوس السميساطي (مدينة سميساط على الفرات، شمال سورية)، مع كتابه “مسامرات الأموات، واستفتاء ميت”، الذي سبق المعرّي و”رسالة الغُفران”، وسبق دانتي في صعوده للسّماء. ويعده خيري الروائيّ الأول في التاريخ، وليس سرفانتس، ولا “دون كيخوته”.

عمّان التي جاءها “لاجئًا” من الرعب وتهديدات بالقتل لم تكن ملائمة لروحه الشاميّة، بطيورها ونباتاتها وأزهارها التي يحفظ أسماءها غيبًا. أقام معنا سنوات قليلة، مع ابنه الفارس لمدّة، ثم جاءت زوجته أمّ الفارس وظلّت معه حتى رحيلهما إلى باريس وريفها. وفي عمّان، كان ثمّة القليل من الأصدقاء السوريّين والأردنيّين يزورونه فيسهرون وبينهم الشأن السوريّ، يتابع ما يجري في العالم، ويمتلك القدرة على التحليل، وربط حوادث الحاضر بحوادث الماضي والحكايات التي يجيد سردها شفاهةً كما كتابة. ورسالته للجميع الثورة والتحرّر.

رحيل خيري الآن، وبالحال التي رحل عليها، خسارة كبيرة للأدب والثقافة السّوريّين والعربيّين. فبعيدًا عن حيّ القنوات الذي ولد فيه (1946) في دمشق/ه القديمة، وشام/ه الأليفة، وبعيدًا حتّى عن بيته في حيّ ركن الدين، حيث كنّا نزوره (البيت الذي تعرّض للاعتداء والنّهب).. يرحل خيري بعيدًا عن مقهى الروضة (شارع العابد في صالحية الشام)، حيث كانت لقاءاتنا (وقتَ إقامتي في دمشق ـ مخيّم اليرموك 1997 ـ 2000)، أو مطعم “لاتيرنا” في الصالحية، حيث نتعشّى ونحتسي المُسامرات مع حكاياته التي بلا نهاية، بعيدًا عن هذا كلّه، وغيره كثير، لم يعُد هو خيري، لكنّه يرحل تاركًا تراثًا أدبيًّا لا يمّحي مع الزمن. ومن هنا نبدأ الترحال مع سيرته ومسيرته.

قبل “التحوّلات”.. وبعدها

لعلّ من أبرز المحطّات التي رسمت معالم مشروعه الروائيّ، وحدّدت ملامح مسيرته الأدبيّة عمومًا، ثلاثيّته الروائيّة التحوّلات (The Metamorphosis)، فقد شكّلت هذه الثلاثية: حسيبة، فيّاض، وهشام: أو الدوران في المكان، نقلة نوعية كبيرة في تجربته، مع ما كان يحبّ أن يسمّيه الرواية التي تتكئ على التاريخ، أو تستثمر التاريخ، وموهبة الحفر في المكان، ويسمّيه البعض “الحفر الروائي في التاريخ”، وما أسمّيه “الرواية التي تقرأ التاريخ القديم والمعاصر”، لكنها ليست رواية تاريخية بالمفهوم المتداول الذي نعرف.. وللذهبي في هذا الإطار تنظيرات وقراءات خاصة جمعها كتابه “محاضرات في البحث عن الرواية” (2016).

كانت هذه الرواية ـ الثلاثيّة، التي قرأتُ ما كان صدر منها (حسيبة 1987، وفيّاض 1989، و”هشام” صدرت أواخر التسعينيات) فاتحة تعرّفي شخصيًّا على هذا الروائيّ السوريّ العربيّ، يوم (19 كانون الأول/ ديسمبر 1989)، بعد تشييع جثمان الروائيّ الأردنيّ غالب هلسا من دمشق إلى عمّان، وعلاقة شخصيّة استمرّت ما بين عمّان ودمشق، حتى اليوم، رغم انقطاعات في التواصل بعد رحيله إلى فرنسا، الرحيل الذي شعرتُ أن خيري يبدو مُكرَهًا عليه، وشعرتُ أعمق بأنه لن يعود منه هو الذي بات يعاني أوجاع الجسد والروح كما لم أعرفه من قبل، وغالبًا فإنّ ما جرى للثورة السورية من انكسارات، كان السبب الأساس في هذه الأوجاع، بل في هذا الرحيل الفاجع والمبكر (76 عامًا).

قبل “الثلاثيّة”، كانت كتابات خيري لا تزال في طور التجريب، لكنّه منذ البداية تجريب خاضع لوعيٍ روائيٍّ خاصّ، كان يبحث عن شكل أصيل للرواية العربية، وكما يقول في مقال له منشور في كتابه “محاضرات في البحث عن الرواية”، إنّ علينا ابتكار روايتنا العربيّة الخاصّة “مستفيدين من الأشكال التي قدّمها الأجداد، ومن العلوم التي قدّمها الغرب المعاصر، من استخدام لعلم النفس، وعلم دراسة أصول الأجناس، بالإضافة إلى سكب هذا كله في إطار رؤية سياسية مستقبليّة واضحة”.

ففي “ملكوت البسطاء” ولج باب “قراءة التاريخ روائيًّا”، خصوصًا تاريخ الدولة العثمانية. كما كانت له رؤيته الأدبية تجاه التراث، حيث تظهر في مجموعته القصصية الوحيدة “الجدّ المحمول”، بما يعنيه حمل (الجدّ وهو هنا هيكل عظميّ) مجسّدًا أعباء التراث، وما يحيل إليه من إشكالات وأسئلة. وحتّى في ثلاثية “التحوّلات”، حيث تحضر مقاومة الاحتلال الفرنسيّ، ونجد في الجزء الثاني “فيّاض”، خصوصًا، الاهتمام بالتاريخ من خلال الوقوف المتأمّل والعميق على قلعة “شيزر” وكتاب أسامة بن منقذ “الاعتبار”. ويتواصل هذا الانهماك بالتاريخ والهجس به حتّى رواية “المكتبة السريّة والجنرال”، من خلال رصد تاريخ دمشق، عبر مكتبة آل اليازجي ـ الترجمان، وربط ماضي المدينة بحاضرها.

هذه الرواية (صدرت في عمّان عام 2018) هي نتاجُ سنوات طويلة من التأمّل والتفكير في ما آلت إليه سورية خلال أربعين عامًا من حكم آل الأسد، باسم حزب البعث، لكنّها تفجّرت كعمل روائي مع “الثورة السورية”، فحملت كثيرًا من ملامح هذه المرحلة ـ الثورة ومآلاتها. كما كانت (الرواية) مثار جدل بيني وبين خيري، وخصوصًا عنوانها الذي اتّخذه خيري ابتداء “المكتبة المقاتلة”، وعناوين تداولناها مثل “المكتبة المتاهة والديكتاتور/ أو الجنرال”، وغيرها. وخيري كاتب يسمح لك بمناقشته حتّى النهاية، لكنه هنا كان يصرّ على عنوانه، فهو يراها مقاتلة، بما هي تعبير عن تاريخ وتراث سوريّين ـ دمشقيّين عريقين مُهدَدَين بالإبادة، وجرى بيننا جدل كبير، ثمّ استقرّ الرأي على العنوان الذي صدرت به.

فما سرّ هذه المكتبة، وما علاقتها بالجنرال، أيّ جنرال؟ ولماذا يريد مصادرتَها وإخضاعَها، أو حرقَها؟

هذه المكتبة، في الأساس، ليست مجرّد مكتبة، بل “ذاكرة بحجم مدينةٍ، متخفّيةً مستترة تحت الأرض، وخلف الجدران الساذجة”، وهي أيضًا تعبير رمزيّ عميق عن دمشق، بتراثها ومخزونها الثقافيّ والحضاريّ، والأهمّ هو وجود كتاب فيها يُدعى “الجَفر”، يتنبّأ بأن “الطائفة” الحاكمة سينتهي حكمها عند السنة الأربعين، لذا فالجنرال يريد هذا الكتاب، وهو يخاطب أحد أفراد عائلة اليازجي ورثة المكتبة، بقول مباشر يعكس ما جرى ويجري اليوم في سورية تحت شعار “الأسد أو نُحرق البلد”، يقول الجنرال لليازجي وهو يحقّق معه “المكتبة… كنوزُكم التي تعتزّون بها… إمّا أن تستسلم لنا فنتبنّاها، أو نحرقها حتى الرماد… هل فهمت؟ نحرقها”. وبعد كثير من المطاردة والملاحقات لورثة المكتبة، من قبل الجنرال وأزلامه، تنتهي هذه “الكنوز” بغارة من الطيران الروسيّ “تحرقها حتّى الرماد”، تمامًا كما هدّد الجنرال!

“التدريب على الرعب”

وبالوقوف مع كتابه “التدريب على الرعب” (صدر في دمشق 2004، وسلّمني قبل رحلته الفرنسية الأخيرة نسخة Word منه، لإعادة نشرها في طبعة جديدة من دار “العائدون للنشر”، ومعه سلّمني مخطوط كتاب بعنوان “التدريب على الحياة”، ولا أدري إن كان قد صدر من قبل)، نجد خيري يلتقط، عبر قراءاته وتأمّلاته، التقاطات ذكية ولمّاحة، ومرعبة في الآن نفسه، من ذلك هذه الوقفة:

يقول ابن الأثير وهو يستغفر ويسترحم ويتمنى لو أن بطن الأرض ضمّه فلم يعش ليشهد مأساة كهذه:

“وكان تتريٌّ سكران قصير أعزل يمشي في ميافارقين المهزومة المستسلمة، فطرق باب مسجد فوجده محتشدًا بالرجال المذعورين المهزومين المرتجفين المستسلمين لقدرهم، نظر إليهم، وكانوا عشرات أو مئات… فصرخ بهم التتريّ، فركعوا يطلبون الرحمة، فأمرهم بالاستلقاء ليذبحهم فاستلقَوا يستعدّون للذبح. بحث عن سكّين، سيف، نصل، فلم يجد، فأمرهم بالبقاء هكذا مستلقين حتى يعود بالسلاح. ويقول ابن الأثير: المرعب المُؤسي، ممزِّق القلب أنهم ظلّوا مستلقين على الأرض لم يحاولوا الدفاع، لم يحاولوا الهرب، لم يحاولوا شيئًا، ينتظرون عودة ذابحهم ومعه سلاح الذبح”.

وفي الكتاب نفسه، وبعد رسم مشهد الدجاجات عند ذبح واحدة منها “صراخ وقوقأة وهرب وذعر. اللحام يذبح الفرّوج، يضعه في النتّافة. الزبون ينسحب، الدجاج يتوقّف عن القوقأة، ينحني على طعامه الملوّث، يأكل، ينسى صراخ الدجاجة الذبيحة، تعود الأمور إلى طبيعتها”، فيستحضر خيري عام النكبة (1948)، قائلًا: حدّثونا عن مذبحة دير ياسين، فاقشعرّت أبداننا وصرخنا، وقوقأنا، وأقسمنا على الثأر، ثم ابتعدت اليدُ الملوّثة بالدم قليلًا فصمتنا عن القوقأة، ثم غرِقنا في معالِفنا ومناكِحنا، وكلّ منّا يُتمتم بينه وبين نفسه: الحمد لله لقد نجوت هذه المرّة..”.

ويواصل التساؤل: “الذابحون في صبرا وشاتيلا، الذابحون للأسرى في سيناء، أولئك الذين أمروا “دجاجاتهم” بحفر قبورهم بأيديهم قبل ذبحهم.. يا إلهي.. ما الذي حصل لهؤلاء الناس فجعلهم لا يحاولون حتى نقْر عدوّهم القادم لذبحهم. أيّ رعب، أيّ استسلام. أيّ تدريب طويل تم بينهم وبين حكّامهم، جلّاديهم لسنوات، لعقود، لقرون، أُجبِروا فيها على الانحناء، على التسليم، على الإيمان بحقّ الحاكم؟”.

ونختم مع كتابه الأخير (ربّما هو الأخير، إذ لم يُطلعني على غيره بعد ذلك، فقد فتَرت همّته وحماسته في آخر تواصل معه منذ آذار/ مارس الماضي)، الذي حمل عنوان “من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل” (حاز جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، وصدر عن دار المتوسط ـ روما، ودار السويدي، أبو ظبي)، وفيه قصّة اعتقاله وهو ضابط “لفتنانت” في قوّات حفظ السلام على الحدود بين سورية والكيان الصهيوني في حرب تشرين 1973، لكنّه يعود فيه إلى محطّات سابقة من حياته قبل الخدمة العسكريّة.

يروي كثيرًا من صور وحوادث التحقيق والتعذيب، ويشرح كيف حاول المحقِّقون “توظيفه” جاسوسًا، أو على الأقلّ استغلال كونه كاتبًا ومثقّفًا كي يكون وسيطًا مع النظام السوريّ، وتفاصيل مهمّة كثيرة، من بينها تخلّي الأمم المتحدة عنه، وهو أحد أفرادها، وكذلك تخلّي النظام السوري، في وقت كان يمكن مبادلته بأسرى إسرائيليّين لدى سورية.

لكن، من بين الأفكار المهمّة في الكتاب، ننتهي إلى فكرة يردّدها ضابط المخابرات الإسرائيليّ الذي يتولّى التحقيق معه، محذّرًا إيّاه من مغبّة الاستمرار في عدائه لإسرائيل.. “الكولونيل يقول بصوت متعَب: لفتنانت: أحبّ أن أحذّرك، فأنت لو احتفظتَ بكل هذه الكراهية ضد إسرائيل، فستُعاني كثيرًا في حياتك، ليس على يد الإسرائيلّيين، ولكن على يد حكومتك نفسها!”.

——————————

خيري الذهبي يلتحق بالراحلين/ خطيب بدلة

كان الروائي خيري الذهبي (1946- 2022) من أكبر عشّاق مدينة دمشق، المدافعين عنها تاريخياً وأدبياً وفنياً. نذكر، هنا، على الفور، أسماء كتّاب كثيرين فعلوا الشيء نفسه: قتيبة الشهابي، إلفة الإدلبي، نزار قباني، زكريا تامر، سهام ترجمان، نجاة قصاب حسن، عادل أبو شنب، شكيب الجابري، نصر الدين البحرة، شوقي بغدادي، فواز حداد. ومن كتّاب الإذاعة والتلفزيون الدمشقيين حكمت محسن ونهاد قلعي، ومن الموسيقيين رائدَهم الكبير أبا خليل القباني.

أن يكتب الأديبُ عن مدينته، أو أن يستمدّ أحداث رواياته ومؤلفاته الفكرية من بيئتها وتاريخها وطبائع أهلها، ليس ميزةً له، ولا مأخذ عليه، بقدر ما هو خيار فني، فالعبرة، في المحصلة، لقيمة العمل الأدبي المنجَز، وليس لبيئته.. وبما أن الرواية فنٌّ مديني بالأصل، فإن الأقرب إلى المنطق أن يتخذ أيُّ كاتب دمشقي، أو سوري، من دمشق ملعباً ومسرحاً لأحداث رواياته.. ودمشق، بالمناسبة، هي الوحيدة التي ينطبق عليها وصف “المدينة” في سورية، وإلى حد ما، حلب. ومما أشار إليه الناقد نبيل سليمان في مقالةٍ نُشرت في “إندبندت عربية” (5 يوليو/تموز الحالي)، أن خيري الذهبي كان يشتغل على الحفر في التاريخ، وليس على الرواية التاريخية.. وأعتقدُ أن هذا الرأي ينطبق على أعمال خيري الذهبي التلفزيونية ذات الطبيعة التأريخية أيضاً، كمسلسل “أبو خليل القباني” الذي أخرجته إيناس هيثم حقي، فهو لم يكن مسلسلاً تاريخياً موثقاً، بقدر ما هو مسرودة درامية مستمدّة من قراءة خيري الذهبي سيرة ذلك العبقري .. وهو، بالمناسبة، عملٌ درامي ممتع.

يعتقد كاتب هذه السطور أن حبّ خيري الذهبي دمشقَ هو أحد جوانب شخصيته، فقط. ومن الجوانب المهمة الأخرى أنه كان مناصراً للمرأة، حتى أنه ابتكر، في أحد مسلسلاته شخصية امرأة إقطاعية (الأغاية). ويتمتع، كذلك، بحس وطني عالٍ جعله بالغ الاستياء مما كان يجري في سورية، خلال حكم البعث وسلطة حافظ الأسد، من استبداد وتدليس وفوضى ومحسوبيات. ولذلك اعتبر من أوائل المعارضين لجماعة النظام، وبالأخص في اتحاد الكتاب العرب. وهناك حادثة شهدناها بعد سنة 2000، أن مشادّة كلامية جرت بين خيري ورئيس الاتحاد الدائم علي عقلة عرسان، تطوّرت إلى حد أن انجرد كاتبٌ مناصر لعرسان باتجاه خيري يريد أن يستعمل معه القوة البدنية. ومن أقوال خيري الذهبي الحالمة: لن يهدأ بالي حتى يُهدَم آخر السجون في سورية، ويُطفأ آخر ضوء في أبنية المخابرات.

كان ثمّة معارضون كثيرون لنظام الأسد، أولهم الأديب الساخر حسيب كيالي الذي اضطرّ، بسبب معارضته، أن يغادر سورية سنة 1981، إلى دبي، وأقام فيها إلى وفاته يوم 6 يوليو/ تموز 1993، وفاضل السباعي الذي بقي يعاني من الضغوط الأمنية إلى حين وفاته. وكان من المتوقع والطبيعي أن ينضم خيري الذهبي إلى ثورة 2011 منذ اليوم الأول لانطلاقها، ومن دون تردّد، كما أفاد الأديب والباحث تيسير خلف في مقابلة مع تلفزيون سوريا. وعن وقوعه في الأسر عند الإسرائيليين، يقول تيسير إن خيري كان يعمل، بعد حرب 1973، مع قوات الأمم المتحدة، بصفة مترجم، وأسره الإسرائيليون، وكان هذا موضوع كتابه “من دمشق إلى حيفا 300 يوم في إسرائيل”، وهو (تيسير) أقنعه بضرورة نشره في كتاب، وقد صدر الكتاب فعلا عن دار المتوسّط في ميلانو.

كان المرحوم خيري الذهبي غزير الإنتاج، أنجز، إلى حين وفاته الأسبوع الماضي، 20 كتاباً، وما لا يقل عن 40 عملاً إذاعياً وتلفزيونياً وسينمائياً، ما يعني أنه كان مشغولاً بالعملية الإبداعية على مدار الساعة. وهنا يمكننا أن نختم حديثنا بجانبٍ مهم آخر في شخصيته، إنه حبّ الناس، والتعامل مع الجميع برقي، وقد ظهرت نتائج ذلك في الحزن الذي استولى على كل مَن تلقى نبأ وفاته، وبضمنهم كتّابٌ يعيشون داخل سورية، وكذلك بعض الكتّاب المؤيدين لنظام الأسد.

العربي الجديد

———————————

خيري الذهبي… في الحديث عن الأدبي والعجائبي والتاريخي/ علاء رشيدي

“التاريخ هو العدو الذي لا تستطيع قتله، فحين تدب فيه الحياة تكون قد أصبحت تحت التراب، حيث لا رهبة لك، ولا رغبة فيك”، الجغتائي الأخير.

هذه الرسالة من رواية “فخ الأسماء” لخيري الذهبي، التي تقدمها دار النشر في إصدار الكتاب: “رسالة من السلطان المغولي إلى السلطان المملوكي تلهب خيال الكاتب، فيشرع في رحلة خيالية مجتازاً أعتاب الأمكنة، ومحلقاً وراء أزمنة غابرة، مستنطقاً التاريخ ومستدرجاً شخصياته إلى روايات ضجّ بها خياله، فأترعه بأحداث هي ربما من صنعه، كلها، أو ربما جزء منها، إلا أنه ومهما يكن من أمر؛ فإن خيري الذهبي أخذ بخيال القارئ ليرتحل في عوالم (فخ الأسماء)، وفي أطيافها التي تجره حيناً إلى عوالم ألف ليلة، وتارة إلى ما جاء في كتب التاريخ عند الغزو المغولي، وطوراً إلى عوالم دافئة من خلال استرسالات الكاتب الوصفية، وأطواراً إلى عوالم فلسفية يستطيع من خلالها قراءة الحاضر على وقع الماضي، وقراءة التاريخ بفكر الفيلسوف”.

وبذلك تحضر في الرواية أشكال من التأليف الأدبي والعجائبي والتاريخي، تهدف في تضافرها إلى معالجة موضوعات طالما عالجها خيري الذهبي في أعماله: السلطة والعامة، السلطان والسطوة، الفكر والثقافة في العلاقة مع المجتمع.

السلطان والسلطة المطلقة والخلود

في روايته الحالية، كما في روايته “المكتبة السرية والجنرال” يحضر موضوع السلطة، حيث يكثفها الروائي عبر الإمكانيات الفانتازية، فالشجر الفانتازي الذي يحمل جنوداً ونساءً بقدرات خارقة، نقرأ في الرواية: “ماذا لو استطاع السلطان استنبات شجرة لا تثمر إلا جنوداً بلا قلوب ولا عمل لهم إلا القتل والذبح بإشارة من السلطان، ثم هاجمته فكرة ماذا لو استنبت أشجاراً لا تحمل إلا النساء، سيختارهن الأجمل. كان السلطان قد استطاع وبصبر طويل أن يرتب مملكته كما ينسق الجنائني حديقته”.

إنها السلطة المطلقة التي يعالجها الروائي، التي تمتد عبر أشكال الأنظمة السياسية في التاريخ: “بأنه يحلم أن يضمن الجنة والغفران إنه يريد أن يضيف إلى أسمائه الكثيرة، سيد العالم، وخاقان البرور السبعة، وسلطان البحور السبعة، باعث الخوف في العناصر الأربعة، مركع الأنس والجن والطير… سليمان الزمان”، وكما كل قوة مطلقة، منذ جلجامش إلى أكثر الآداب معاصرة، فإن السلطان يواجه سؤال الخلود: “ظن السلطان نفسه بأنه لن يموت، وحتى لا يموت استدعى الفلاسفة والخيميائيين يسألهم ويستفتيهم عن سر الخلود”.

ما معنى السلطان؟ وما حاجة المجتمع للقيادة؟

لكن موضوعة السلطة والسلطان لا تعالج فقط بإطاره المثالي، فالمدينة مهددة من سطوة سلطة أخرى قادمة، فيبتكر الروائي صراع السلطات في معالجة لمسألة حاجة العوام إلى السلطة، يهددهم سلطان الجغتائيين: “ذكرى الجغتائيين كانت دائماً ذكرى الجماجم المكومة والرعب المقيم، كانت ذكرى الموت المجاني، والاغتصاب المجاني، والحريق والخراب المجاني. لم تتوقف المبارزة حتى امتلأت الساحة بجثث العوام من حي السلطان وجثث الجغتائيين باذلي أرواحهم”.

وتحتل المدينة موضوعة مركزية في أدب الذهبي، فكما تعالج السلطة بأبعادها الفانتازية، تصبح المدينة كياناً مستقلاً في حركتها داخل الزمان والمكان، فالتائهون يبحثون عن المدينة التي سقطوا منها، المدينة التي تستمر في حركة التاريخ، المدينة المثالية المنشودة، التي تقسم الرواية في رحلة الشخصيات في البحث عنها: “المدينة لا تقترب، احترقت العيون بالعرق المالح والمدينة لا تقترب، قال فيما يشبه الحدس: إن لم ندركها قبل العتمة فاتتنا إلى الأبد، هزوا برؤوسهم موافقين، كان كل همهم أن يدركوها، هذه المدينة المحلوم فيها أبداً، المدينة التي منها سيطعمون ويسكن الجوع، المدينة التي منها سيروون وتنتعش العيون”.

الكتاب الكون، المكتبات الحياة

“اكتشف الشيخ أن حلمه في الخروج من عالم التفاهة بوضع كتاب من خمسين حديثاً جيدة الرواية والأسانيد لن يخرجه من عالم التفاهة. فلكي تخرج منه عليك أن تضيف شيئاً إلى المكتبات التي رآها بعرض الأفق بأهمية البويطيقا، أو البيان والتبين، وصحيح البخاري، صحيح أن يبهر العوام وأنصاف العوام بهذه العناوين، ولكنه حين رأى نفسه في مدينة الكتاب عرف كم أضاع من عمره في الهواء”.

أيضاً في تقاطع آخر مع روايته “المكتبة السرية والجنرال”، يتفنن الروائي الذهبي في توظيف الفانتازيا والما فوق واقعي في تمثيل أهمية الكتب والمكتبات روائياً، حيث يشكل اكتشاف الشيخ أحمد للمكتبة كما هو اكتشاف الإنسانية جمعاء لأهمية الكتاب: “سيؤرخ الشيخ أحمد لحياته قاسماً إياها إلى شطرين، شطر عاشه قبل الوصول إلى الكتاب، والكتاب هذا معرفة بالجنس، وشطر سيعيشه بعد الكتاب”. 

وتحمل هذه الحكائية الروائية خطاً يمثل صراعات الفكر والشمولية عبر التاريخ، حيث تحرق المكتبات من قبل السلطات الجديدة في الوقت الذي يكتشف فيه فكر الشيخ أحمد أهمية القراءة: “كتب يكتب كتابة، كاتب، مكتوب كتاب، الكتاب الكتاب، وتنهد في حرقة، الكتاب تلك اللعنة التي دخلت حياتي لأكتشف أني لست الغارق في وهدة التفاهة فقط، بل لن أحظى بفرصة للخروج منها. فأين يمكن لك في هذا الزمن الأصعب بعد أن حرق الجغتائي الأول الكتب، وكتب الكتب، وشروح الكتب وتفاسير الكتب، والكتب عن الكتب فلم يتبق لنا إلا القشور”.

ويتساءل الشيخ أحمد كما يتساءل أي روائي أو كاتب: ما الذي سيضيفه إلى تاريخ طويل من المكتبات؟ إنه سؤال الروائي يتسلل إلى شخصياته: “صغر الحلم في قلبه فجأة، صغر وهو يرى المكتبات، المكتبات تمتد أمامه حتى آخر ما يمكن لعينه أن ترى، كيف يمكن لك أن تضيف شيئاً مهما صغر”. وتصبح القصيدة في الرواية تساوي الحياة والوجود: “انبثقت القصيدة أخيراً، القصيدة المنتظرة، القصيدة المختفية، القصيدة المتنكرة بقصائد حب تابع بالقطعة، القصيدة المسحوقة بخمريات لم يحبها”.

السلطان-السلطة أم المدينة-التاريخ؟

“كان يعرف أن هناك سلطاناً، وأنه إن هزم السلطان استسلمت المدينة، ولكن ها هو السلطان يهرب،  فلم لم تستسلم المدينة؟ ثم ماج السؤال: هل السلطان نعمة أم نقمة؟ غاب السلطان فتحولت الرعية إلى ذئاب، ولم تعد رعية ولا نعاجاً “.

لا تخفى الرمزية في معالجات خيري الذهبي للعلاقة بين السلطان والمدينة، فهو سؤال العلاقة بين القيادة والبلاد، بين النظام والمكان، فيفاضل المؤلف بين السلطان/السلطة من جهة، وبين المدينة/التاريخ من جهة أخرى: “السلطان يستطيع لو طلبت إليه أن يستدعي شجرة نسبه أن يجر شجرة ترجع إلى آباء أكثر احتراماً، ولكن المدينة خالية لا سكان فيها، وهو يعرف في ركن خاص بالحكايات في عقله أن المدينة تصاب بالرعب حين يموت السلطان، فكيف تعيش مدينة بلا سلطان”. كما يركز الذهبي دوماً على مظاهر التعذيب في التاريخ العربي، فيصف عملية التعذيب “السلخ حياً”، حيث تتسابق الجماهير للوصول إلى الصفوف الأولى في باحة التعذيب، بما يذكر بطقوس التعذيب في الحضارة الرومانية.

أصول الفانتازيا العربية

“يتحاور الشيوخ ألا بد من نار تطهر هذا الدنس، ويقترح أحدهم: “حريق المدينة ولا شيء أقل. التفتوا إليه جميعاً كأنما يستفتونه: فلتحترق المدينة، وأكسب الخلود في كتاب. أحنى رأسه العجوز في ضعف فوق كتابه، وتساءل في سخرية حزينة: أكان احتراق المدينة ضرورياً لأكتب هذا الكتاب إذن؟

وأكمل يتساءل، وقد صارت السخرية المرة سلاح العجوز لديه: ترى أكان أنا من أحرق المدينة بأمنياتي”.

يوضح د. جمال شحيد في كتابه “الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة”، عن حضور الذاكرة والتاريخ في أعمال الروائي خيري الذهبي، ويعتبر “ثلاثية التحولات” من روايات التذكر بامتياز، باعتبار التذكر علامة من علامات التاريخ الإنساني والشعور به وبالخيوط التي تحركه. في رواية “هشام أو الدوران في المكان” يعود هشام من ألمانيا إلى منزل العائلة القديم في دمشق، حيث يجده متهدماً ويكتشف فيه بلاطة في بيت المؤونة، وبعد رفعها بجهد جهيد، تخرج من تحتها أطياف أجداده وذويه بكل ما يحملون من أحداث واستيهامات وتداعيات: “فهاجت الذكرى واستعرت الذاكرة، وانصهرت أزمنة التاريخ وتشابكت. ويلعب الفصلان الأول والأخير من الرواية دوراً حاسماً في مسألة التذكر، يمثل الأول فيها هيجان الذاكرة بعد فتح باب الكهف، ويمثل الثاني محاولة طمس الذاكرة من خلال حرق الذكريات وطرد الأطياف المهيجة لها”.

“صرخت لينا: هشام، أنت من أخرجهم من كتف عتمتهم. أعدهم. قال: كيف. قالت: بإحراق كل ما يذكرنا بهم”.

يكتب د. جمال شحيد: “كأن الخلاص بالنسبة لهشام الذي بعد أن سجن لأفكاره اليسارية ويتعرض للاعتقال، فتقرر عندئذ الهجرة دون التفكير بالعودة ممزقاً جواز سفر، كأن هذا الخلاص يكمن في العودة إلى تاريخ عائلته وتاريخ وطنه الجمعي. ومع أن هشام يحاول التخلص من ذكرياته، إذ يقول: “أريد أن أولد من جديد، أريد أن أنسلخ من ماضي لأولد مخلوقاً جديداً بلا ماض ولا أحزان وذكريات”. ولكن مأساة هشام أنه لا يستطيع النسيان. وما الذكريات التي تهيج في ذهنه إلا ذكريات أليمة ومأساوية: “إنها مخزن للجراح والإهانات والإحباطات التي تراكمت في قلبه، وتراكمت حتى كتب في وصيته فيما بعد هناك البعيد: لا تدفنوني في الوطن ذلك الذي لم يعطني إلا الجراح”.

يتذكر هشام لقطات من أفلام السينما التي كان يهرب إليها صغيراً في طفولته، وتتداخل في ذاكرته تلك المشاهد مع ذكريات لجنة التأديب التي كان يخضعه إليها الشيخ بهجة ناظر المدرسة، وهو يهدد: “لابد أن الله سجعلك من الحطب الصغير في جهنم”. ويتذكر هشام أمام اللجنة لقطات من الأفلام التي رآها التي تتداخل أصوات أعضائها مع صوت أولغا التي تحاول القبض على هشام التائه بين أروقة الذاكرة. هذه التعددية في الأصوات هي التي تدفع بأولغا إلى التصحيح: “أرجوك دعنا نتفق. لنقم حداً واضحاً بين الذاكرة والذكرى والذاكرة المؤلفة”. ثم تنتقل ذاكرة هشام إلى الشيخ شكري الصوفي الذي يستميل الفتى هشام إلى تمارين الروح وحلقات الذكر.

بين التذكر والتحول

رواية هشام هي الجزء الثالث من كتاب “التحولات”، وبما أن التذكر مفتاح أساسي للرواية، وبما أنه قوة حتمية طاغية تسيطر على الشخصيات، يحصل انزياح نفسي فتنتقل الشخصية من إهابها لتحل في إهاب شخصية أخرى. وقد تسمى هذه الحالة تناسخاً أو تقمصاً، وسأسميها تحولاً. فبعد التذكر تعتقد الشخصية أنها تقمصت الشخصية التي تتذكرها أو تعيش حالة من حالاتها. وتتعجب أولغا المحللة النفسية من فكرة التناسخ التي تتنافى والمنطق الديكارتي والقانون العلمي، فتقول: “يا لكم ولتناسخكم أيها الشرقيون”.

في شهادة قدمها في ندوة “الرواية السورية المعاصرة، المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، 2000″، أوضح الروائي خيري الذهبي المصادر الأدبية العربية التي استلهم منها عالمه الفانتازي، ويقدم مداخلة تحت عنوان “لوقيانوس السميساطي وأصول الفانتازيا العربية” والسميساطي، الكاتب السوري الذي ولد على نهر الفرات، والذي كان فناناً ونحاتاً وكتب “مسامرات الموتى” و”الربة السورية” وما يصل إلى الثمانين كتاباً، لكن الذهبي يذكر أكثرها تأثيراً فيه، كتاب “قصة حقيقية”:

“حيث يحدثنا السميساطي عن رحلة قام بها مع عدد من أصدقائه حين انطلقوا من أعمدة هرقل أو مضيق جبل طارق إلى المحيط الهسبيري أو الأطلسي، ثم دفعت بهم العواصف، وتقاذفتهم الأنواء خلال تسعة وسبعين يوماً إلى جزيرة الكرمة البشرية، ثم صعدوا إلى القمر، وحاربوا أهل الشمس، وأقاموا في بطن الحوت، وتزودوا بالماء من جزيرة الأجبان، والتقوا بالرجال الفلينيين الذين يمشون فوق الماء بأقدام من فلين، ثم يزورون جزيرة السعداء وبلاد الأحلام”.

إن فانتازيا خيري الذهبي في أعماله الأدبية هي استلهام لما يطلق عليه “أصول الفانتازيا العربية” في شكل الرواية الحديثة المعاصرة: “قارئ كتاب ألف ليلة وليلة وسيرة الملك سيف بن ذي يزن، وسيرة حمزة البهلوان، وكتاب عجائب المخلوقات للقزويني والذي انحط فيما بعد في اعتقادي إلى كتاب خريدة العجائب لابن الوردي، لابد له أن يصل إلى منجزات الفانتازيا العربية”.

رصيف 22

————————–

========================

تحميل عدد من الروايات المتوفرة في الانترنت للراحل “خيري الذهبي” من رابط واحد

روايات خيري الذهبي

========================

صبوات ياسين/ خيري الذهبي

مجلة الكلمة العدد 13 يناير 2008

 (رواية)

(1)

انحنى بحركة يكرر فيها ما قام به عشرات المرات من قبل.. انحنى فوق بسطة بائع الجرائد، فاشترى الجرائد اليومية المعروضة. لم تكن كثيرة. كانت أربع جرائد فقط.

انتصب. نظر عبر الزجاج. حاول جعل تحركه عادياً..، ونظر.. رآهم. كانوا هناك متحلقين يثرثرون على عادتهم. كانوا، جابر ونمري وممتاز ومصباح و..  شهق. وكان.. ما يخافه أكثر من الموت. هناك في القلب من الشلة، يقص عليهم إحدى نكاته ويلوي حنكه وشفاهه. إنه يقلد واحدة من اللهجات المحلية ولا شك، كان يُرقص حاجبيه مستجيباً لطرافة النكتة، ووجد ياسين نفسه يتجمد يراقب المشهد مسحوراً ناسياً أنه يرى الآخر. يرى ياسين يقوم بدوره القديم. وفجأة انطلقت عاصفة من القهقهات، والطبطبات على الأفخاذ وعلى الظهور، وتلوِّيات الإعجاب، والتواءات الأحناك والشفاه والعيون.

لم يكن المشهد غريباً على ياسين رغم تجمُّده وانسحاره أمامه،  فلقد عاشه عشرات المرات، مئات المرات. يلقي بالنكتة ويقهقهون ويهنئون ويطبطبون، ويديرون وجوههم عن الرواد الآخرين في المقهى الذين يرمقونهم في غبطة وحسد. هنيئاً لهم. انظر إلى سعادتهم.. هذه القهقهات الصادرة من القلب. هذه التجربة عرفها وعاشها واستمتع بها كثيراً، ولكن كيف. كيف جاء هذا الآخر. كيف أتقن اللعبة، كيف استقطب الشلة. كيف أقنعهم أنه ياسين. أعوذ بالله. إن كانت أسيمة قد اقتنعت بأنه ياسين، فهل يعجب إن اقتنع الغرباء الآخرون، الخارجيون؟ ياسين بالنسبة لهم رجل الطرافة والظرف، رجل الميلان بجذعه مقرِّباً رأسه من أذن الآخر، ينقل إحدى الدسائس والأخبار السياسية التي لا تنشر ولا تعرف خارج كواليس السياسة. ياسين بالنسبة لهم هو الرجل الذي يهز رأسه في جد ووقار ليؤكد لهم أن النميمة التي رواها لهم لتوه هي الحقيقة المطلقة الخارجة  ساخنة من مطابخ السياسة التي لا يعرفها إلا الله والعارفون ببواطن الأمور.

اصطدم به مار متعجل، فكاد يرميه فوق بسطة الصحف، أحس بشذوذ وقفته وأنها ستلفت إليه الأنظار، فاختار أن يمضي. مشى إلى الأمام. قال: سأجلس في الحديقة أتشمس وأقرأ الصحف وأهضم هذه التجربة التي لم تكن على البال. لم يكن  له عادة الجلوس في الحدائق، ولكنه مضى إلى الحديقة. تأملها بعين تبحث عن مكان آمن، ووجد نفسه ينساق إلى شجرة صفصاف تطل على بحيرة اصطناعية، فيجلس تحتها. أمسك بالجريدة الأولى يقلبها، ولم يفاجأ حين رأى مقاله الأسبوعي على الصفحة الأخيرة متوَّجاً بصورته السعيدة يحمل الضحك والفرح وبهجة الحياة. كانت مقالة طريفة تستقبل الحياة بكل مفاتنها، تتحدث عن الحظ الذي يعيشه الناس في بلد سعيد وشعب سعيد وطبيعة سعيدة. كان كل ما في المقال ينضح بالسعادة. رفع حاجبه مستغرباً، لم يكن استغراب مادة المقال، فهو يذكر أنه كان يكتب شيئاً كهذا، ولكن الاستغراب كان في أن توأمه. هه وهل لمثله  توأم؟!. أناه الآخر. صورته التي لم تطارد. سمِّه ما شئت قد استطاع كتابة ما يقنع بأنه ياسين الكاتب.

كان قد أقنع ليلى بأنه يجب أن يقتلع جذوره من المدينة، فلقد اكتشف أن جذوراً غامضة ما تزال تربطه إلى المدينة، ولما لم تفهم تعبير «جذورٍ غامضة» حدثها عن الضرس المقتلع من الفك، ولكن المقتلع بطريقة قاسية، الكسر مثلاً. إنه دائماً ما يترك وراءه جذوراً متشبثة بالفك تسبب الالتهاب والألم. صحيح  أنها خفية لا ترى فهي مغروسة عميقاً في الفك، ولكن ليس المهم الرؤية، بل الفعل، فها هي الالتهابات والآلام تشير إلى وجودها، ولا بد من اقتلاعها. وفهمت أنه في حاجة إلى مراجعة نفسه، والمضي إلى المدينة لاتخاذ قراره النهائي بأن ينسى المدينة والقُبلان، ويعود إليها العاشق المختار. جاءته بثيابه، ونقوده، وسيكتشف في المدينة أنها ضاعفتها بنقودها، و…. اكتشفا فزعين أن أوراقه الأخرى، الهوية والصور وكل ما يدل على شخصيته قد ضاعت ملامحها وحبرها وألوانها في مستنقع النهر الأسود، فلم يكن في المحفظة إلا أوراق لا تقرأ، ومعلومات لا تفهم،…. أحنى رأسه في هزيمة فقد عرف أنَّ عليه أن يكافح منذ اليوم للحصول على هوية سبق أن حازها آخر.

نظر إلى صورته في الجريدة، ياسين الوسيم الضاحك، المشرق، حامل الفرح. تنهد. كيف استطاع أن يكون هذا الرجل، كيف استطاع أن يعيش كل هذه السنين ولا عمل له إلا أن يطبِّل ويغني ويزمِّر للأقوياء الماضين.. لِمَ فعل ذلك؟ أكل هذا ليثبت للخال والجدة والأم أنه نجح. أنه اختار طريقاً مخالفاً لهم.. ونجح. 

(2)

عاد إلى غرفته على السطح، وكان قد اشترى صحف اليوم. قال: أتابع ما يكتبون، وأعرف ما يجري في البلد. تناول مقالاً موقعاً باسم صديق العمر ممتاز الأسعد، قرأه وشهق مندهشاً، كان في المقال شيء غريب، شيء جعله يحتقن بإحساس أقرب إلى الحدس منه إلى المنطق الذي يمكن التثبت منه. أعاد قراءته، ولم يستطع التقاط الشيء الغريب في المقال الذي جعله يتوقف أمامه. كان  المقال ممتلئاً بالفرح والدعوة إلى السعادة، كان مقالاً يجسد البهجة والنصر، وضعه جانباً وحسٌ بالدهشة والاستغراب يتخلله. قرأ التوقيع ثانية؛ ممتاز الأسعد، الصورة الشابة الموحية بالثقة والتفاؤل، أمسك بالجريدة الثانية. قرأ التعليق وكان موقعاً باسم جابر عبد المولى، كان مقالاً حشدت فيه الأرقام والإحصائيات والمقتبسات لتؤكد صدق الموقف العام، والنجاح الهائل الذي أحرزته الحكومة في دفع البلد إلى الأمام. نظر إلى الصورة، إنه صديقه التاريخي جابر، ولكن، لا. ليس المألوف من جابر الاستشهاد بالأرقام والإحصائيات فكيف، ولماذا…. وما الذي تغيّر فيه؟

كان قد طلب صحف الشهر الماضي، أو ما يمكن توفره منها من بائع الصحف العتيقة، يبيعها بالكيلو، فقرأها، وأعاد قراءتها. قرأ مقالات موقعة باسمه وقد علتها صورته، قرأ مقالات أصدقائه مصباح  وجابر، ونمري، وقرأ حتى مقالات يوسف السعيد.

قصّ المقالات، جمعها في مجموعات. مقالات كل كاتب على حدة. أراد أن يتأكد من الحقل الذي يعمل عليه كل كاتب منهم، أعاد قراءتها محاولاً قراءة تبدلات وتطورات كل منهم في غيابه، ولكن المفاجأة كانت جارحة. صدمته القراءة الأولى، ثم لم يملك نفسه، فانطلق يقهقه. أهذا معقول؟ كان أصدقاؤه الأكارم، أصدقاء الشلة يلعبون لعبة الكراسي الموسيقية متنقلين بين صفحات الجرائد الداخلية والأخيرة. كانوا يتبادلون المواقع والمقالات والتواقيع والصور.. كانوا يكررون نشر المقالات نفسها بعد تغيير الأسماء والصور. أهذا معقول؟ صرخ غير مصدق: أين رؤساء التحرير. سكرتيرو التحرير، المحررون، القراء؟

ألم ينتبهوا إلى هذه اللعبة السخيفة، فمقال ياسين الذي قرأه لمن يفترض أنه ياسين، والمنشور يوم السبت ها هو ينشر مرة ثانية باسم جابر عبد المولى مع تغيير في السطر الأول من المقال فقط، أما مقال جابر الذي نشر يوم الأحد، فها هو ينشر باسم مصباح، ثم مقال مصباح باسم يوسف، ثم… أعوذ بالله. ما الذي يجري. أين القراء ليحتجوا. أليس من قارئ متابع يكتشف ما يفعلون. وضع الصحف جانباً مثقلاً بحيرة لم يختبرها سابقاً. مقالات لو قرأت كل واحدة منها على حدة، ودون أن  تنسبها إلى كاتبها أو إلى معيد كتابتها لما كان لك عليها أي لوم، ولكن. ما الذي أوحى إليه بتجميعها، وقصها، ومقارنتها. أي شيطان أشار عليه بهذه اللعبة المشؤومة التي وضعته فجأة على مفصل اللعبة.

اعتاد منذ اليوم الثاني لاستئجاره الغرفة بعد تخليه عن جنة ليلى التسلل عبر الحارات والجادات الملتفة إلى مقهى البرازيل ليراهم في جلستهم تلك متحلقين حول ياسين الآخر، كان يلقي نكاته وكانوا يقهقهون، ويتمايلون، ويطبطبون، ثم كان أحدهم يميل على الآخر المسمى بياسين، فيميل المسمى بياسين برأسه ويبدأ بالهمس ويبدأون بالميلان نحوه والاستماع في اهتمام، وحين يقول ما يتمنون سماعه كان إشراق عجيب يحل على وجوههم، لقد عرفوا السر الذي كانوا يتوقون إلى سماعه. ثم يميل جابر على المسمى بياسين، فيطلب إليه تغيير الجو وإلقاء نكتة ما، وهكذا يبدأ المسمى بياسين بإلقاء نكتة لم يكن لياسين أن يسمعها، ولكنه كان يستطيع أن يقدرها، ويقدر طرافتها من حسن الاستماع، ثم من الانفجار المقهقه السعيد بهذه النكتة التي ـ فكر ياسين لا بد أن تحوم على تخوم السياسة، فإن لم تكن السياسة، فهي تحوم على تخوم الجنس ولا شك.

أحسَّ في المرتين الأوليين وهو يراقب ياسين، ويراقبهم بشيء من الغيرة، بل ربما الحسد. إنهم سعداء. تمنى لو سمع نكاتهم ليقيّمها فهو خير من يحسن تقييم النكات، وتنهد. أتراه بعد كل هذا السواد والتشبيح والتخفي وسكنى المستنقعات، أتراه ما يزال القادر على إلقاء النكات وتفكهة الحاضرين. أحس بالغيرة والمرارة، فمن هذا الياسين الآخر. وكيف استطاع الحلول محله.

كان قد تسلل إلى حديقة الجيران، فالسور المطل على بيته.. بيته؟.. ورآه، ورآها، ورآهما. رأى الحركات الأليفة المملة، شطف بلاط باحة البيت. حمل الكرسيين والطاولة الصغيرة. دولة القهوة، كأس الماء البارد، الفنجانين. زهرة الفل في كأس الماء، السيجارتين تشعلان من جمرتيهما فيما يشبه قبلة السكائر. كل تلك الحركات الأليفة.. المعادة التي لم يكن يعرف متعتها حتى رأى الآخر يقوم بها، فانفجر فيه حنين غير مسبوق. وقد أكره نفسه أكثر من مرة على الرجوع عن القفز إليهما ليصرخ: أنا ياسين. ألا تريان. ما الذي يجري. كيف سرقتماني مني، ولكنه في جزء صغير منه كان يدرك أنه لو فعلها فلن يكون إلا المقدم بنفسه لأولئك الذين وضعوا الجوائز للقبض عليه. ولكن.. ها هو ياسين أمامهم. فلم لم يقبضوا عليه؟.

كان السؤال معجزاً محيِّراً، لا يملك جواباً عنه، ولا يملك سؤال أحد يجيب عنه.

في المرة الثالثة وهو يراقب المسمى بياسين وشلته لاحظ شيئاً مألوفاً يقومون به، يميل مصباح على المسمى بياسين ويسأله ـ ومن الواضح من تعابير الهم والاهتمام على وجهيهما، وياسين يعرف هذه التعابير جيداً ـ عن آخر أخبار ما يُعدُّ في مطابخ السياسة، وعندئذ يحل ما يشبه الوقار والإحساس بالأهمية على وجه المسمى بياسين، ويبدأ بالهمس، ويبدأون بإجحاظ العينين، وعقد الحاجبين، وتجعيد الجبين. أعوذ بالله: أي خبر سياسي هام جداً يلقي عليهم الآن، ثم.. يحلُّ عليهم ما يشبه آلام الهضم على من ابتلع طعاماً عسر الهضم، وها هو يستجمع كل قواه ليهضمه، ثم بعد اجتياز محنة هضم الخبر المزلزل يميل جابر على المسمى بياسين مداعباً وقد كسا وجهه بأرق تعابير التعاطف والرجاء أن يغيِّر الجو الكئيب ويسمعهم واحدة من نكاته الطريفة، ويستجيب المسمى بياسين ويتحفزون ويستجمعون الأنفاس، ثم ينطلقون في قهقهة مريعة تنفَّس كل حزن وكل خيبة وكل انكسار أدخله الخبر السابق في حياتهم، وكان ياسين عندئذ ينسحب من المقهى، ثم يحمل جرائده ويعود إلى غرفته.. ولكنه في هذه المرة قرَّر البقاء قليلاً. كان يعرف أن أحداً لن يتعرف إليه في جلسته المتطرفة في الركن نصف المعتم البعيد عن النوافذ والإضاءة، ومراقبة العابرين في الشارع، ومراقبة الداخلين إلى المقهى، والخارجين منه، والتسلي بالتعليق عليهم صراحة وضمنياً. كان في جلسته المنعزلة تلك يحقق هدفين مهمين له؛  العزلة عن رواد المقهى فهو يخاف التعرف عليه رغم تنكره الشديد، والقدرة على مراقبة شلته في نشاطها اليومي.

في هذا اليوم قرَّر ألا ينسحب، بل يكمل تدخين أركيلته التي كان يبرر بها دخوله للمقهى، وكان لا يدخِّن منها إلا بضعة أنفاس، ثم يتركها بعد قهقهات شلة ياسين ويمضي. في هذا اليوم وكان يشعر بقدر من السأم أكبر من المعتاد، فقرر تدخين أركيلته حتى النهاية حين رأى مصباح يميل على المسمى بياسين، ولدهشته رأى الوقار والإحساس بالأهمية الشديدة على وجه المسمى بياسين، ثم يبدأ بالهمس، ويبدأون بالانحناء قريباً من مهمسه، ويأخذون بإجحاظ العينين وعقد الحاجبين وتجعيد الجبين.. أعوذ بالله.. تمتم ياسين: كأنهم فعلوا هذا قبل قليل، ولم يكمل فكرته حتى رأى جابر يميل على المسمى بياسين مداعباً، كاسياً وجهه بتعابير التعاطف والرجاء لتغيير الجو الكئيب، ويسمعهم واحدة من نكاته الطريفة، ثم لدهشة ياسين الصارخة، رأى وجه المسمى بياسين وقد تحول فجأة من الوقار الصارم، وناقل الأخبار الخطيرة إلى وجه المهرج حامل النكات التي تغسل الهم عن القلوب، ثم رأى القهقهات ورأى الطبطبات، ورأى تعابير الهم وقد زالت عن وجوههم.

كان المشهد محيِّراً تماماً لياسين، فما الذي يجري. أهو سيناريو مكرر، أم هم يتناقلون بالفعل أخباراً سياسية خطيرة، ثم يتخلصون من تأثيرها الضار بهذه النكات. ونظر من حوله في رعب: أتراهم لا يخافون العيون المراقبة، أتراهم لا يخشون من الملاحقين والمطاردين والمهددين.. ما الذي يجري؟ أكان ما سمعه عن الهجمات الليلية، ومطاردات الفجر مجرد إشاعات، وهاهم يجرؤون الآن على كل محرم وليس من يتعرض لهم؟ أقام ياسين في المقهى لساعة أخرى، ليشهد مصباح يميل على المسمى بياسين مرتين، ويرى ياسين يلقي بقنبلته السياسية الخطيرة، فيخيفهم ويرعبهم ويهمهم، ثم يرى جابر يميل على المسمى بياسين، فيطلب إليه تغيير الجو وتلطيفه بنكتة وكان ياسين يستجيب وكانوا يقهقهون ويطبطبون ويسعدون. أسند ياسين ظهره إلى ظهر المقعد يفكِّر. مقالات يعاد نشرها مع تغييرات بسيطة في العناوين والمقدمات، وتغييرات أساسية في أسماء الكتّاب وصورهم، وكأن كاتب المقالات واحد، أو كأنهم لا علاقة حقيقية لهم بما ينشر باسمهم و.. جلسة في المقهى تشبه جلسات الأيام الخوالي، ونمائم عن أسرار سياسية، وهموم ثقيلة، ثم نكات طريفة تتلوها قهقهات وطبطبات وسعادة.

هتف غير خائف من أن يسمعه أحد، فقد كانت غرفته على السطح. ولا جيران قريبون. ولا بيوت قريبة، ولا عسس ولا متطفلون هتف: كأنهم غير حقيقيين. ما أرى غير معقول، ياسين الذي ليس أنا ولكنه يفعل كل ما كنت أفعل، وأسيمة التي لا أدري إن كانت أسيمة أو شبح لها كشبحي المسمى بياسين، ومصباح، وجابر، ويوسف.. أعوذ بالله. ما الذي جرى في غيابي عن العالم. دفع باب الغرفة دون قرع ولكن الباب العتيق لم يخيِّب ياسين، فصرَّ، والتفت ياسين مرعوباً، لم يكن الرعب، بل الهزَّة، فقد تصور أنهم قد وصلوا أخيراً. وها هم قد سمعوه يصرخ. التفت ياسين وربما لو شككته بإبرة في تلك اللحظة لما وجدت فيه قطرة دم. كانت امرأة محجبة بملاءة سوداء ومنديل بونيه، ولم يختف رعبه حين همست: أستطيع الدخول؟

انتصب من مجلسه على السرير الحديدي تاركاً قصاصات مقالات أصدقائه تتساقط على الأرض. انتصب لا يعرف إن  كان التهذيب ما نصبه، أم الخوف، أم المفاجأة. كان يتوقع أحداً ما وبطريقة غامضة كان يتوقع.. هم. ولكن امرأة؟ ومحجبة؟ دخلت دون أن تسمع إذنه بالدخول، ثم أغلقت الباب خلفها بإحكام، وكان يراقب ما يجري مدهوشاً متجمداً. رفعت المنديل ورأى وجه امرأة نَصَف قد تشوِّش حاجباها لقلة العناية، ونبت على شفتها العليا ما يشبه الشارب الخفيف. حدَّقت فيه طويلاً، وحدَّق متجمداً. كان صمت سحري قد حل عليهما لا يجرؤان على اختراقه، وكان يمكن لهذا الصمت أن يستمر لولا أنَّ بائعاً جوالاً أطلق نداءه، فانكسر جدار الصمت. قالت: ياسين الأرفعي؟ ولم تنتظر جوابه، بل تنهدت مسلّمة باستجابته. قالت: الحمد لله، وأخيرأً واحد من العهد القديم.

أعمل مخه، ذاكرته، واعيته، ولكنه لم يستطع مطابقتها مع أيٍّ ممن، أو ما يعرف. نزعت قميص الملاءة الأسود لتتبدى في قميص نسائي لم يكن تحته صدرية نسائية ولم يكن هناك ما يشي بأن أمامه امرأة، أم فتى متخف. قالت: أكل القط لسانك، لم لا تتكلم؟.

فتمتم بصوت حلقي جاف: من أنت. و..

أشاحت بيدها في غير اكتراث: هل تغيرت إلى هذه الدرجة؟ هيه. ربما كنتَ على حق. فما مررت به كفيل بتغيير كل شيء.

كرَّر وما يزال حلقه على جفافه: من أنت؟

فصرخت في نفاد صبر: غيِّر هذا السؤال إكراماً لله. ألم تعرف صوتي؟ أنا دلال الحلبي. أنسيتني؟

تسارع الوجه بلا مساحيق، والحاجبان المهوشان، والشاربان المهوشان إلى التطابق مع الوجه الجميل للديرية الحسناء التي طالما فتنته، وطالما تجاهلت مداعباته ومغازلاته الخفية. أعوذ بالله. دلال؟

هزت راسها في استسلام: نعم دلال.. ثم ضاحكة: ثم لا تتظاهر بالدهشة الشديدة لما وصلت إليه. انظر إلى نفسك. أليس لديك مرآة لترى ما فعل بك الزمان.

وفجأة تذكر. لا.. الأمر غير معقول. صحيح أنها تشبه قليلاً، بل ربما كثيراً دلال الأستاذة الجامعية، والمحللة السياسية، وصديقة السهرات التي كانت تهرب إليها من جفاف حياتها بعد طلاق استعانت إليه بالأصدقاء حتى نالته. ولكن. لكن.. لقد رآها منذ أيام، وكانت في كامل أناقتها ونداوتها وطراوتها وضحكتها المغناج. كانت أعوذ بالله كانت في السهرة الأسبوعية عند.. وضحك.. ياسين وأسيمة، فكيف..؟

جلست على الكرسي الوحيد المقابل للسرير. قالت: تابعت قدومك إلى الحارة، سكناك في هذه الغرفة منذ اليوم الأول. شككت كثيراً في هويتك. أتراك أحد المكلفين بملاحقتي، وهتف: ماذا.. أنا.. ألاحقك؟

تابعت دون اكتراث باعتراضه: لم أعرفك في البداية. ثيابك، طريقة مشيتك، الحزن الهابط عليك. كتفاك المتهدلتان. وكنت أستعد للانتقال إلى مخبأ آخر، أو قتلك لو اضطررت وحوصرت، فلم أكن على استعداد لجعلهم يقبضون علي.

كان يسمع ويسمع ولا يصدق.. أن هذه دلال رغم أن طريقتها في الحديث، وهذا التصميم والخوف يقول إنها صادقة رغم الإهمالات والانهيارات في مظهرها، ولكن.. الأخرى دلال السهرة، عند أسيمة والمسمى باسمي أكثر صدقاً وأكثر إقناعاً وأكثر شبهاً بدلال.

قالت: لم تكن أخرس. فما الذي يخرسك الآن.

قال محاولاً المزاح: طول لسانك يقول إنك دلال، ولكن أناقة الأخرى وضحكتها المغناج يؤكدان لي أنها أكثر منك دلالا.

ـ الأخرى؟ ما الذي تعني؟

وكان عليهما أن يشربا الشاي معاً، وأن يتغديا معاً، وأن يشربا القهوة مرتين، وهو يحدثها عن دلال الأخرى وياسين الآخر، وعن المقالات لا يعرف كاتبها والمتغيرة التوقيع والصور وبعض السطر الأول، أو الأخير منها. كان عليه أن يحدثها عن السيناريو الذي يؤدي به شلة الأمس حدث اليوم. ياسين الآخر مع الشلة، والنميمة السياسية لما يجري في كواليس البلد، ثم عن جابر وكيف يميل على.. يَّ، هـ طالباً تغيير الجو وترطيبه بنكتة، وعن قهقهاتهم للنكتة وطبطباتهم السعيدة، ثم عن تكرار المشهد بعد قليل في ميكانيكية نسخية غريبة.

كانت تسمع وتسمع حائرة مندهشة غير فاهمة، وأخيراً قالت:

ـ شيء غريب. هل تعرف أن جابر عبد المولى قد قتل في زوريخ منذ ثلاثة أشهر.

ـ ماذا.. قتل؟ أأنت متأكدة؟

ـ.. تأكدي من وجودك أمامي.

ـ ولكن ـ قال حائراً ـ.. ما معنى هذا؟

فأضافت: أما مصباح فقد لجأ إلى السعودية وهو مجاور في الحرم المكي لا يقابل أحداً، ويرفض التواصل مع الجميع.

ـ وماذا عن نمري وناديا وملك و..

ـ اختفوا جميعاً. عبروا الحدود. ماتوا، غيَّروا هوياتهم في البلاد الأجنبية. إن كل من عرفت اختفوا. أنت لم تستطع تقدير دهشتي حين رأيت كتفيك المتهدلتين وأنت تتسلل محاولاً التشبح في الحارة. أقول الحق. في البدء قلت إنهم وصلوا إلي وأنت الطليعة، ولكني حين رأيت بؤسك وتحديقك في الأرض والابتعاد عن الناس قلت إنه الخداع، ثم بدأت مراقبتك ومطاردتك وأنا أنتوي الشر، ولكن. قالت بعد نفخة سخرية: لأكتشف أن من كنت أطارده ليس إلا ياسين.

فقال في بؤس: أضعت أوراق هويتي، وكل ما يدل على شخصيتي.

ضحكت في حزن وقالت: الإنسان لا يُعرف بأوراق هويته.

وضحك في حزن أشد: حين تكون الحكومة صاحب الحق الوحيد في إعطاء الهوية، يصبح الإنسان الهوية ـ وأطلق نفخة سخرية ـ أنا الآن لا شيء، ويمكن لك، أو لهم إعطائي الهوية التي يشاؤون.

تشدَّدت دلال فجأة وقالت: هويتك ثقافتك، قلمك. استعدهما.

ولما أراد الإمعان في التباكي على النفس حدَّثته عن استعادتها هويتها عبر الكتابة: أنا أرسل ما أكتب إلى الصحافة العربية في الخارج.

ـ ويسمحون لك؟

ـ أرسلها إلى أصدقاء في الخارج، وهم يوصلونها إلى الصحف المقصودة.

ـ لا شك أنهم يبحثون عنك.

ـ أعرف، وأنا أيضاً طوَّرت أشكالاً كثيرة للتخفي.

تأمل الوجه الناشف بلا مساحيق ولا أصباغ ولا كحل على العيون ولا تسريحة شعر مجنونة مما كانت تفعل، تأمل الحاجبين المشوشين، والشاربين الخفيفين. ولاحظت بسمة التعاطف الساخر على وجهه. قالت: عند الطوفان عليك أن تحفظ رأسك فوق الماء. هذا هو المهم.

صمتا يجرعان قهوتهما، وينتظران هطول الليل، فقد وعدها أن يريها قرينتها وضرتها وبديلتها دلال.

على الطريق وكانا قد غيّرا ثيابهما بثياب شائعة لغلامين في البنطلون الجينز والقميص قصير الكم قال وقد أرهقه الصمت ليصدمها: إن كان لديهما الهوية تثبت شخصيتهما ولم يكن لدينا، وكانا يقيمان في بيتنا، ولم نكن نقيم، وكانا يفعلان كل ما يعرفه الناس عنا، ونحن لا نفعل، فمن الأصيل فينا، ومن الشبح؟

نظرت إليه مواجهة في حدة: إياك.. إنك إن بدأت التشكك تكون قد أوصلتهم إلى نصف ما يسعون إليه.

أعجبه تماسكها، وأحسَّ حسداً صغيراً يعتمل فيه، وصَغاراً كان يضايقه منذ إعجاب الجدة والأم بالخال قارئ المولد ومنشد الصلاة على النبي، الصَغار في أنه ينقصه شيء كان بإمكانه تداركه ولم يتداركه.

عبرا حديقة الجار مطأطئي الرأس مصاغري الظهر حتى وصلا إلى السور المطل على بيته، أرادت السخرية من فعلتهما: راشدان مثقفان يتحولان إلى مغامرين متسللين يتلصصان على الآخرين.

كانت الباحة مضاءة جيداً، وكانت طاولة مما يطوى كبيرة قد حملت إلى الباحة المبلطة، وكانوا قد اجتمعوا لسهرتهم الأسبوعية في ثياب السهرة، وكانت أسيمة في ثوبها الأسود مكشوف الظهر، ولكن، أين دلال الأخرى. كانوا جميعاً هناك، جابر. وهمست دلال: أعوذ بالله أنت على حق. إنه جابر، فكيف أبلغوني بمقتله في زوريخ. انحنى رجل على سيدة كانت ترشف من كأسها، ودعاها للرقص. فلبَّت، ودارا دورة وصلا بعدها إلى دائرة الضوء. أعوذ بالله قال ياسين وهو يلتفت إلى جارته. كانت الراقصة دلال. دلال التي يعرفها الجميع، دلال بظرفها واناقتها ورشاقة رقصها.

قالت تفِّح فحيحاً من الصعب تمييز مخارجه: من يصدق أني دلال، وأمامه دلال بكامل تفاصيلها.

وكان عليهما أن ينتظرا قليلاً ليريا ياسين وأسيمة ينضمان إلى الزوج الراقص لتشحب دلال حتى ما قبل السقوط في حديقة ياسين: لا أصدق، تمتمت منكسرة. وفجأة أحسَّا كفين قاسيتين تقبضان على ذراعيهما المتمسكتين بالسور قبل التدلي إلى حديقة ياسين. التفتا خائفين في وقت واحد، ولكن لم يتح لهما الاحتجاج، أو الصراخ، فقد ألبسا فجأة كيسين أسودين على رأسيهما، وحُملا بقسوة إلى حديقة الجار، فالشارع الخلفي فالسيارة المغلقة تنتظرهما. 

(3)

كانت العربة تتقلقل فيهما على الطريق، وكانت العتمة المسيطرة على أحاسيس ياسين، عتمة حمله إليها الكيس الأسود الذي ألبسوه له حالما قبضوا عليهما معاً عند السور المطل على حديقة بيته، وكانت رائحة عفونة رطبة تتسلل إليه، وكان السؤال يتردد: أهي عفونة الكيس، أم عفونة من ألبسوه الكيس قبل هذا، أم هي عفونة الخوف؟  كان يريد أن يتواصل مع العالم خارج عزلة الكيس الأسود غطى الرأس والرقبة وانغلق عليهما فقطع كل صلة لهما بالخارج. تقلقلت العربة ثانية، فمال إلى اليسار، وأحس فخذها إلى جواره، كانت فخذاً مشدودة طرية، وأدركته ضحكة حبستها عزلة الكيس: كم اشتهى لمس هذه الفخذ، كم اشتهى أن يربت عليها. كانت تتحدى كل رجال الشلة بمؤخرتها المشدودة الصغيرة.. المستفزة، ولكنها كانت تستطيع إيقافهم عن التمادي بنظرة متعالية واحدة.

كانت وهو يدرك ذلك الآن المشتهاة المستحيلة. اتكأ ثانية على الفخذ الطرية المشدودة إلى جواره. قال: لا بد أن كيساً يلف رأسها كما يلف رأسي الآن، وفجأة دهمته الفكرة: كيف، كيف وهو المختطف، المطارد، المطلوب، المحروم من حقوقه المدنية والعسكرية. ضائع الهوية والأوراق وكل ما يثبت أية هوية له. كيف وهو المغطى بكيس أسود ورعب لم يعرفه في حياته، كيف يمكن له أن يفكر في لحظة كهذه بامرأة؟ وشهق، ولكنها ليست أية امرأة. إنها دلال. ولكن. أنت محمول الآن إلى ما يمكن أن يكون الموت، فكيف تستطيع تجاهل ما أنت مقدم عليه لتفكر بفخذ امرأة وقعت يدك عليها بالمصادفة.

المصادفة؟ وهل تظن أن في الحياة مصادفة. هل تعتقد أن هناك ما يمكن تسميته بالمصادفة. كل شيء مدبَّر في هذه الحياة. كل شيء، وإلا، فهل كان لقاؤك بليلى مصادفة؟ هل كان عمادك بالسواد، ثم طهرك بالبياض مصادفة. هل تعتقد أن استئجارك لغرفة في حارة تختفي فيها دلال كان بالمصادفة. لا.. كل شيء مدبر. كل شيء مدبر، وإلا كيف لك أن تتأكد من أنك لست بالمجنون، وأن هناك ياسين آخر في الحياة يسكن في بيتك وينام مع زوجك لو لم تلاق دلال، وتقابلها بدلال الأخرى. ولكن. ما اللعبة؟ ما الغرض؟ من مدبر هذا الازدواج، ولماذا؟

إن كان جابر السهرة.. جابر آخر غير الذي عرفته وقرأت كتابته و.. هرب إلى الخارج، وقتل في زوريخ كما حدثته دلال، فمن هو جابر السهرة؟ وما الذي يكرهه على لبس هذا الثوب، وإن كان ياسين ساكن بيته ومساكن زوجه غيري أنا ياسين المحروم والمطارد، فلماذا يزعج نفسه بلبس هذا الثوب. وإن كان مصباح ونمري ويوسف وأسيمة، وملك، و.. آه.. أعوذ بالله.. كانت الأفكار المتخبطة في دماغه أكبر من احتماله.. كان يجب أن يصفي ذهنه ليعرف إلى أين يأخذونه، وما يريدون منه، ولكن لم يرد أن يستسلم إلى التفكير في موقعه، بل.. مال ثانية على فخذ دلال. كانت الفخذ دعوة وشهوة ورغبة وتحقيقاً لانتظار طويل. الآن فقط يكتشف كم اشتهى هذه المرأة، وتمناها، ولكنه كان الأجبن من التعرض لها وفتح قلبه، فقد كان يخاف أسيمة وغضبها. ودلال ورفضها، والشلة وسخريتها. ولكن، ها هي الآن ولا يفصله عنها شيء، القدر الواحد، والساق قرب الساق، والرغبة المتبادلة، وإلا فما أصمتها عن الاحتجاج على التصاقه بها وتحرشه بها. أتراها كانت تضمر له الشهوة كما أضمرها لها، وما كانت تنتظر إلا فرصة الخلوة به ولكن..

أحس بالسيارة تميل، وكأنها تنزل في واد، فتساءل إلى أين يحملونه إذن؟ وبهدوء استيقظ العقل الاستعاري فيه، وضحك. هذا العقل الذي فارقه منذ الآذن على الباب وممنوع الدخول، وقائمة المحرومين من الحقوق. كيف انحطَّ العقل كل هذا الزمان، ليصبح العقل المباشر، العقل الحيواني لا يشتهي إلا الفلاح في العيش والهرب منهم ومن الموت، وعيش اللحظة بتجربتها اليومية.. كيف استطاعوا قتل عقله الاستعاري والتشبيهي.. أين اختفى عقل المثقف والناقد والقادر على رؤية الحياة من عدة زوايا. أترى تجربة الحياة اليومية المستغرقة للحيوان تستهلك الهامش الذي يعيشه العقل المثقف، فيميل إلى ترف الاستعارات والكنايات. ودهمته الفكرة مخيفة.. أترى كل ما مررت به لم يكن إلا استعارة حياتية. أترى هناك لاعب كبير يلاعبه، ويلاعب دلال الآن، فصنع لكل منهما تشبيهاً واستعارة يقارن فيها ساخراً المشبَّه بالمشبَّه به.. وضحك. ياسين أنت تميل الآن إلى.. السفطسة حتى لا تجابه وجع ما أنت محمول إليه.. أنت تميل الآن إلى عبثيات العقل البيزنطي.

وصرخ غير مسموع: ولكن السيارة تهبط. وجاءه صوته غير المسموع: كما أهبط آدم وحواء من الجنة.

وأطلق ضحكته المجنونة غير مسموعة: ولكن عن أية جنة تتحدث. الغرفة على السطح.

وجاءه صوته الجدلي غير المسموع: نعم. جنة المعرفة. حواء ـ دلال.. أخرجتك من جنة السذاجة إلى دنيا المعرفة. أرتك أنك كنت تعيش تعاسة الظل دون أن تجرؤ على رؤية الحقيقة في النور لتعرف أنك الظل، وأن هناك من يعابثك، فيجعل من ظلك أصلاً ومنك ظلاً، وكما جرى لآدم وحواء ما إن وصلت إلى المعرفة حتى جاء من طردكما إلى الأرض التي يهبطونكما إليها.. أووف.. هز رأسه رافضاً: هذه الثرثرات. هذه الثرثرات. أي قدرة للعقل الخائف من مواجهة نفسه على صنع أوهامه وخيالاته. قال: لنعد إلى جحيم اللحم. ومال على فخذها بقوة. كان يتمنى لو أن يديه طليقتان لأمعن في العبث، ولكنه ما إن أمعن في الميل حتى سمع صرخة مزعجة كادت تتحول إلى لطمة: هيه. أيها المخنث الأحمق. ألا تستطيع التماسك.

كان الجالس ذو الفخذ الطرية المشدودة الحارس الذي ألبسه الكيس الأسود. وخرس ياسين. وكانت السيارة تهبط وتهبط دون أن تمكنه من التساؤل أو الحلم، أو شهوة المرأة التي طالما اشتهاها..

* * *

نظر إلى السجان يرفع عن وجهه الكيس الأسود، ليكتشف أن الكيس الأسود قد انتقل إلى وجه السجان مع إضافة ثقبين عند العينين ونظر من حوله في تساؤل مستسلم لكل الإجابات

(4)

كان المشهد ريفياً مألوفاً يداعب الذاكرة، جلس على الكرسي المرتجل يتأمل ما حوله. ألحت ذكريات الأيام الماضية حين كانوا يمضون وعائلاتهم إلى بستان مروان. الصديق القريب من الشلة، فينشرون السجاد والبسط بين الأشجار، وتهرع النساء في طفولة مستعادة إلى الأرجوحة المرتجلة من حبل مربوط إلى شجرة، بينما يندفع بعض المتحمسين إلى حوض الماء الكبير، فيسمونه مسبحاً، ويتحررون من ثياب الوقار، ويبدأون بالتخبط في الماء بينما يعمد البعض إلى تهيئة الموقد لشيِّ اللحم، ونشر جو النزهات العائلية.

كان مشهد الحديقة يذكِّر بذلك البستان القديم بقوة. ركَّز النظر يتفحص المكان، أعوذ بالله، كأنه هو ما عدا حوض الماء الذي زيِّن بالبط والإوز، وشجيرات المرجان التي نمت وسمقت، وشذبت لتشكل سور الممر. أعاد التحديق في المشهد بعد أن انتزع منه الرجال في الأكياس السود، ثم استبدلهم بجابر ونمري ويوسف وسعيد، ودلال وثريا وملك والأطفال. لكن المشهد ظل ناقصاً. أضاف إليه الضجيج والهتاف والقهقهات الخشنة والصهصلات الناعمة، وهدير مضخة الماء في الحوض الكبير. أعوذ بالله. لقد عادت الحيوية إلى المشهد.

انتصب في همة وفكر: سأجرب البحث عنهم. نظر إلى الرجال في الأكياس السود كأنه يستأذنهم، ولكنهم كانوا قد اختفوا منذ طردهم من المشهد. مضى بين شجيرات الورد وشجرة الجوز العجوز والسور من توت السياج. كانت الحديقة صغيرة، ولكنها كافية للاختفاء عن العيون. شدته ثمار التوت البري، فاقتطف اثنتين منهما. قربهما من فمه. كانت الرائحة الحامضة المحرشة شيئاً لا علاقة له بحاسة الذوق. دسهما في فمه. وما إن ذابت الحموضة الحلوة في فمه حتى رآها…. دلال…. أعوذ بالله من ألاعيب الذاكرة. توتتان بريتان استطاعتا استعادتها. قالت: يداي موحلتان. ضعهما في فمي.

نظر من حوله في خوف. كان يخاف أسيمة، وكانت الدعوة رغم براءة ادعائها دعوة إلى تخطي حاجز الرفقة والصداقة. شقت فمها المدهون بالوردي، فدسَّ التوتتين السوداوين، وحين أطبقت شفتها اعتقد أنها أطبقتهما على اصبعيه في مداعبة، أتراها فعلت ذلك، أم أنه أراد اعتقاد ذلك، ولكنه حين أرسل إليها في اليوم التالي سطلاً من التوت الشامي لم يتلق رداً، ولم يتلق شكراً، ولم يتلق إطباق شفتين على أصبعيه، فعاد إلى علاقة الشلة المحايدة التي تجعل الذكور يذكِّرون الإناث والإناث يؤنثن الذكور وصولاً إلى علاقة محايدة صداقية، أخوية وكأن لا وجود للجنس.

كان الوجه اللحيم يحاول لجم نفسه، ولكن غضباً عنيفاً كان يعتمل في داخله. قال من بين شفتين رقيقتين لا تليقان بالوجه اللحيم:  حاولنا كل شيء. جعلناهم يترقبون الإشارة منك لتتحول إلى الفعل. مكتبتك، ذكرياتك.. اسطواناتك. ما الذي تنتظر لتبدأ العمل.

أنصت ياسين الذي عاد إلى أناقته القديمة، ولحيته الحليقة، وشعره المقصوص، المثبت بالفيكساتور ليأخذ الوضعية المجنونة التي يريد. كانت شهوة تجميل الجسد والتأنق الحديثة التي تلبسته قد جعلته لا يهتم كثيراً بالمكتبة ولا بالأسطوانات التي طلب، ولا يفعل إلا الوقوف أمام المرآة يتأكد إن كان ياسين ياسين. إن كان هو نفسه، أم أن ياسين المقيم في بيته ومع زوجه هو ياسين الحقيقي.

كان ياسين البرازيل والميلان على جابر لإطلاق النميمة السياسية، ثم التخفف منها بالنكتة قد استطاع الحلول محل ياسين ليجد ياسين نفسه فائضاً لا هوية له، ولا بيت، ولا زوج، ولا عمل. ولدى الآخر كل شيء، بل حتى الشلة المؤمنة به. كان ياسين البرازيل قد استطاع جعل ياسين المحروم من الحقوق يشك في كل شيء حتى في جسده، والغريب ـ هو يذكر الآن ـ أن كل الأماكن التي تقلب ياسين فيها قبل القبض عليه لم يكن فيها مرايا حقيقية، مرايا تتيح له فرصة التوثق من جسده. أيكون المخدوع الذي ظن لوهلة أنه ذلك الشخص الشهير المسمى بياسين، وها هو يحاول إقناع الآخرين بأنه ياسين، وما ياسين البرازيل إلا ياسين الحقيقي. كان يقف أمام المرآة في الجناح الذي سيق إليه، ويسلط النور عليها، وعلى وجهه يريد التوثق والتحقق من جسده، ومن وجهه. كان شك صغير قد بدأ ينغل فيه: أفيمكن لياسين المتحرق للمسة الأم وقبلة الجدة أن يكون ياسين الشهير وزوج أسيمة بنت البندقدار. كانت وقفات المراقبة أمام، وفي مقهى البرازيل يراقب فيها ياسين والشلة قد فعلت فعلها. فجعلته يرى ياسين الآخر ومصباح وجابر ويوسف والآخرين الحقيقة.

ولكن.. دلال.. دلال التي رأى بعينيه ازدواجها والتي فاجأها حين أراها أخراها في السهرة عند ياسين البرازيل وأسيمة.. آه.. تأوه في ألم: أفيمكن لدلال أيضاً أن تكون فكرة.. فكرة خطرت في باله ولا جذر أرضياً لها، وما تحرشه بها تحت الكيس الأسود إلا واحداً من تطرفات ذهنه المشوش، وما صرخة الحارس يحذره من التمادي في مداعبة فخذه إلا الحقيقة الموقظة من الوهم. وتمتم على غير إرادة منه: أشتهي السيران. وعلى عادتهم الجديدة في الاستجابة لنزوانه اختفوا. سمع حركة في الحديقة. وكان التشوش قد بلغ منه المبلغ الذي يجعله لا يكترث لشيء. كان شوبان يداعب سمعاً لا يسمع، وكانت الصحف والمجلات المنشورة في المكان لا تحرض رغبة في القراءة، تساءل: ما الذي يجري. أين أنا. لماذا. ما حكاية ليلى. أهي حقيقة أخرى، أم وجه آخر من وجوه التشوش و.. دلال.. أف. وضع رأسه بين كفيه مستسلماً لحزن لا يعرف له تفسيراً.

علت الضجة من الحديقة، رجال يتمازحون ويقهقهون، ونساء يصهلن، ويضحكن، فيحركن في القلب نزعات غامضة، وثغاء أطفال. رفع رأسه من بين كفيه: ما هذا. ما هذه الضجة. ما الذي يجري. من هؤلاء؟

قام إلى النافذة الكبيرة، أطل على الحديقة ليراهم جميعاً في الحديقة، جابر ومصباح، ويوسف، ومصطفى، وسعيد، وليلى، وملك ودلال وأسيمة.

كان السيران القديم وقد أعيدت إليه الحياة، المشهد الرعوي الجميل يذكر بلوحات الهناءة والفرح التي حاول مونيه بها تثبيت لحظات السعادة في لوحة غداء على العشب. نزل.. وكانوا قد أنهوا السباحة لتوهم، فما تزال قطرات الماء على أجسادهم وتوزعوا في مجموعات. كان مصباح ويوسف يلعبان الطاولة في حماسة، وإلى جوارهم تماماً نمري وجابر يقرآن في صحيفة تقاسما أوراقها، فقد كانت صحيفة مهربة من الخارج، وكانت ملك وليلى تقطعان البقدونس، وثريا ودلال متواجهتين مستلقيتين تثرثران. دلال؟ لا. لم تكن دلال المتقشفة، ودلال العربة. لا. كانت دلال الصبا التي طالما اشتهاها.. ولكن أين أسيمة.. ورآها على عادتها منفردة بمرآتها تعدل حاجبيها وماكياجها وإلى جانبها راديو ترانزستور يطلق موسيقى خفيضة.

أحب المشهد، وأحب ألاّ ياسين آخر في المشهد، تسلل ليجلس إلى جوار مصباح ويوسف. كانا يلعبان بنشاط وحماسة، وكاد صوتهما يعلو حين حاول يوسف أن يغش في اللعب، فالتفت يوسف إلى ياسين يستنجد به ليعيد مصباح إلى جادة العقل، ولكنه حين رأى ياسين بهت قليلاً كمن فوجئ به، فالتفت مصباح أيضاً إلى ياسين، وبهت قليلاً، ولكنهما هزا رأسيهما كمن ينفض فكرة سخيفة، وتساءل ياسين: ما الذي أبهتهما؟ ألاحظا فيّ ما يريب؟ ولكنهما استعادا مرحهما، وقال مصباح: هه. ما آخر الأخبار؟  وقال يوسف في مرح: صحيح. لقد تأخرت في المجيء لا بد أن لديك أخباراً جديدة. هه.

واندمج ياسين في اللعبة، فانحنى عليهما، وما كان في حاجة إلى هذا الانحناء، ولكنها العادة، وما كاد حتى ترك نمري وجابر ما يقرآن، وتركت ثريا وملك شريكتيهما اللتين لم تشاءا أن تكونا خارج السر، فسارعن جميعاً إلى الانضمام إلى معرفة السر الذي طال انتظارهم له. وقبل أن يبدأ ياسين فضْح السر لمح من آخر المشهد نذير وسعيد يرميان ما في أيديهم من حطب، ويسارعان إلى الشلة قبل ضياع آخر الأخبار. انتبه ياسين إلى أن أسيمة لم تكترث لهذا الاجتماع الطارئ ففكر: إنها تعرف أن المصدر سيعود إليها، وسيحمل إليها كل الأسرار، فلم التعجل والازدحام.

قالوا جميعاً يستحثونه: هه.

همس: قبضوا الليلة الماضية على عشرين طياراً.

فأصدروا آهة ألم: لماذا.. وتفاصح جابر: والطيارون لا يمكنهم القيام بانقلاب.

فتابع: ويقال إنهم قد قبضوا على خمسة عشر ضابط مدرعات ومدفعية، فصرخت دلال في حرقة: لا. والتفت إليها الجميع يتساءلون عن سبب تحرقها الحاد على ضباط المدرعات، فارتبكت وقالت: وماذا أيضاً.. احكِ.  فحدثهم عن التبدلات المتوقعة في الإعلام. وأن.. هم ليسوا راضين عن أداء الإعلام، وهم يفكرون جدياً في تغيير الرموز المعروفة كلها. وحلَّ حزن عميق على المجموعة.. حزن جعل أيدي ملك وثريا الملوثتين بمزق البقدونس وعصيره تبدو وكأنها مبقعة بالبثور، فمسحتاها بثيابهما، بينما كتم سعيد دمعة كادت تنبثق من عينيه.

كان الحزن والأسى الحالاَّن على المجموعة كافيين لإفساد جو النزهة نهائياً حين التفت جابر إلى ياسين وقال: ما هذا يا جماعة.. نحن هنا للنزهة، للسيران. للبهجة، وليس للهم، لعن الله  السياسة وساعتها. ايه أخي ياسين. احك لنا نكتة. تبدلت وجوه المجموعة تبدلاً نهائياً، فقد تحولت إلى التشوق واللهفة والانتظار والتعلق بشفتي ياسين الذي سيحمل إليهم الفرح، وسيخرجهم من دائرة المقت والضيق بالسياسة التي لا تحمل لهم دائماً إلا الحزن والأسى.

ربت جابر على كتف ياسين، وربتت دلال على ركبته راجية. فقرر إفراحهم. قال يهمس وبسمة خبيثة على شفتيه: تزوجت مطلقة من رجل ليكتشف بعد ليلة الزفاف أنها ما تزال عذراء، فصرخ مندهشاً: متزوجة.. ومطلقة من ثلاثة رجال، وما تزالين العذراء! نظر إليهم وإليهن، كانوا جميعاً متوترين، مندهشين، متشوقين لسماع حل اللغز وتفسير كيف يمكن لامرأة أن تظل العذراء بعد زيجات وطلاقات ثلاثة.. كانت عيونهم تلحُّ، وشفاههم تصرُّ، وحركات أيديهم تتوسل. فلما حدثهم عن الزوج الأول الفرنسي، وعن الثاني العراقي، وعن الثالث قضى فترة الزواج كلها في الخطب والهتاف بالشعارات حتى انطلقوا في قهقهة مجنونة قهقهة كادت تمزق خواصرهم.. قهقهة كادت تجرح حلوقهم. كانوا يضربون أفخاذهم يستحثون البهجة، أو يهدئونها. كان جنون صغير قد حلّ عليهم جميعاً.

وفكَّر ياسين ولم يشاركهم في الضحك، فأصول الإلقاء تقضي بوجوب الحفاظ على الوقار والحياد، وكأن ملقيها لم يقصد أن يحصد كل هذا الضحك والفرح والبهجة؛ لقد فاجأتموني باستجابتكم هذه. فكَّر ياسين: ما الذي يجري. النكتة قديمة، قديمة حتى الرثاثة وهو يذكر أنه كان يلقيها منذ أكثر من عشرين سنة. أيعقل أنهم لم يسمعوا بها حتى الآن. ثم.. ليست النكتة على هذه الطرافة، فما الذي أبهجهم إلى هذه الدرجة.. تأملهم يقهقهون ويكادون يقفزون عن الأرض في بهجة. هو يعرف أن السامعين لو كانوا آخرين وكان سماعهم النكتة للمرة الأولى، فربما كانوا على حق، ففي ضحكهم  شيء من إشباع جنسي. إنهم من سيفتضون المرأة التي لم يفتضها الفرنسي، ولا العراقي، ولا مردد الشعارات، وفيها شيء من شماتة، فما هؤلاء الذين مضى عليهم في الحكم سنون إلا مرددو شعارات لم يستطيعوا تحويلها إلى وقائع وبرامج، ولو كانوا….

فوجئ ياسين بتوقف القهقهة والصراخ والمرح وعودة كل من الحاضرين إلى نشاطه السابق، لعب الطاولة، قراءة الصحيفة المجزأة، تقطيع البقدونس.. أعوذ بالله، كأنهم لم يقهقهوا وكادوا ينشقون بهجة منذ قليل. نظر إليهم وقد انصرفوا عنه تماماً لينغمسوا تماماً في نشاطهم السابق. حاول التحرش بهم، فحدّث جابر عن وزير الأشغال وإحالته إلى التحقيق، ولكن جابر أصمته بحركة مشيحة من يده، ليس الآن، ليس الآن. مضى إلى حيث دلال. قال: أسمعت بما يعدون لوزارة التعليم العالي؟ ولكنها انقلبت على جنبها مبتعدة عنه، لتتم ثرثرتها مع جليستها. كانت مؤخرة رائعة. فكَّر ياسين. بنت الكلب. من تحب في هذه الأيام. ثم أشاح بيده كمن يبعد فكرة سخيفة، ومضى إلى حيث أسيمة الغارقة في مطاردة آخر شعيرة تشوه خدها فقد أنهت كل ما يجب فعله للحاجبين. استلقى إلى جوارها يتظاهر بأن السنين لم تمرَّ على فراقهما منذ قائمة المحرومين والبيت الخالي من الأثاث. همس: أسيمة. أنا ياسين.

نظرت إليه من فوق مرآتها في غير اهتمام كبير، وقالت فيما يشبه السأم المتظاهر بالمرح: وأنا أسيمة.

كان الجواب مربكاً، محرجاً.. دلو ماء بارد على جسد لم يستعدَّ له.

قال متأتئاً: أعني أنا ياسين.. ياسين.. الحقيقي.

أعادت النظر غير المبالي إليه من فوق المرآة. وقالت تقلده متأتئة:

ـ وأنا أسيمة.. أسيمة.. الحقيقية.

ثم بلهجة جدية: ما قصتك اليوم، ولم تبدو مهموماً، وأنت تقدم نفسك إلي؟

كان هم ثقيل قد حط عليه، فما يقول؟ وكيف يقول؟ كيف يحدثها إنه الهارب، المختفي، المطارد، المقبوض عليه، والمختلي بها للمرة الأولى منذ سنين. فكَّر: ربما كانت الرفقة المشكوك في أصالتها ما يربكها.. فأمسكها من ذراعها. قال: دعينا نقم بجولة في البستان.. لديَّ مأ احدثك به.

ـ ماذا؟ تحدثني به؟ سر.. يعني؟ قالت تكاد تقهقه غير مصدقة، وفجأة صرخت تخاطب المجموعة: هنئوني. هنئوني يا جماعة.. زوجي يريد أن يغرر بي. يريد أن يجرني إلى ما وراء شجرة الجوز. قال: لديه سر يريد أن يحدثني به.

وكأن المجموعة ما كانت تنتظر إلا أن تسمع نداءها هذا حتى تنطلق في قهقهة مجنونة، قهقهة لاحظ ياسين أنها موقَّعة، فكأن المقهقه واحد بأفواه كثيرة وطبقات مختلفة، ولكنهم مدربون على توقيع القهقهة لتبدو موحدة وقالت دلال: هنيئاً لك.

وقالت ملك: ليت هذا البارد ـ تشير إلى زوجها ـ يعرض علي مثل هذا العرض.

وقالت ثريا: ياسين ألديك ما تحدثني به ـ ولكزت زوجها في استهانة ـ أنا أحسن الإصغاء.

كرههم فجأة، كرههم جميعاً. أهذا هو السيران الذي حلم به. أهذه هي النزهات التي حين يحرض ذاكرته لاستعادة لحظات البهجة في حياته كانت تقفز إلى المقدمة.. أهذه..؟ ونظر إلى أسيمة التي عادت إلى الاهتمام بالشعرات الزائدة في وجهها. أهذه هي أسيمة. أتراها أسيمة أخرى؟ كما أنا ياسين آخر. ودلال هذه التي يرى مؤخرتها في استلقائها المستفز.. أووف لم يعد رأسي يحتمل.

تركهم جميعاً، ومضى إلى المعتزل وراء شجرة الجوز.. عبر المضيق ما بين أفرع الجوز الواطئة والسور من توت السياج، والتفت بهدوء. قال:

ـ أراقبهم.. ـ تنهد ـ كيف لي أن أكذب عيني. كيف لي أن أعرف إن كانوا شلة الأيام الماضية، ولكن وذكر ما قالته دلال التي لم يبق منها إلا كلام لن يستطيع أن يعرف بعد زمن إن قالته، أم أنه اخترعه كما يخترع كتاباته، ذكر ما قالته: جابر قتل في زوريخ، والباقون مضوا، عبروا الحدود، اختفوا، غيَّروا أوطانهم، غيَّروا أسماءهم وهوياتهم. ببساطة.. اختفوا.. ثم تنهدت: ولم يبق غيري وغيرك.. أزاح أغصان الجوز يتأكد من وجودها. كانت ما تزال في استلقاءتها تعرض مؤخرتها المشدودة في البنطلون سعيدة بالنظرات المختلسة تطاردها.. كانوا جميعاً كما تركهم جزءاً من مشهد ثابت، مرسوم بدقة، ولو حمل كاميرا، وصوَّرهم الآن لكانت الصورة قطعة مرسومة للسعادة الإنسانية، فما الذي يريده المتنزهون في بلد مثل هذا البلد إلا المنضدة الكبيرة صفت عليها الفواكه وزجاجات الشراب وخضار السلطة، والمشواة القريبة، والطاولة يلاعبونها والجرائد يقرأونها والترانزستور يغنيهم. إنها صورة يمكن أن توزع على المجلات السياحية تستدعي السياح الحسودين لمشاركتهم هذه النعمة.

تأملهم يرمون النرد، يتبادلون أوراق الصحف، ومحطات الراديو، ووضعيات الاستلقاء، والنظرات المختلسة من الذكور للإناث، والإناث للذكور. تأملهم وذكر ما قالته دلال: مضوا، غيّروا هوياتهم.. اختفوا. أعوذ بالله.. لم تستطع أن تنكر أن هؤلاء هم جابر ونمري ويوسف ومصباح.. لم تستطع أن تنكر.. ثم.. ما يدريك.. لعلها كانت واهمة في افتراضها سفرهم.. لعلهم دخلوا في صفقة مع القادمين. لعلهم استدركوا مواقفهم وتنهد التي لم تستطع استدراكها وصنعوا صلحاً معهم.

ولكن.. حدق فيهم منقِّلاً بصره بينهم واحداً، واحداً باحثاً عن نقطة فيهم يستطيع الاعتماد عليها ليرى زيفهم، وفجأة تذكر: ولكن ما هذا الإصرار على المعارضة، على الرغبة في سماع أخطاء الحكومة، عن الحلم بأن  مجموعة ما، أناساً ما، سيقومون بالانقلاب المنتظر. إنَّ الخبر الذي نقلته إليهم فأكأبهم وكاد يبكيهم كنت أحدث به الشلة قبل سنوات وسنوات، وكان السامعون يبتئسون كما ابتأس هؤلاء.. أعوذ بالله، أفلم يشعر واحد منهم أن الخبر قديم، وأنه قد قيل مرات ومرات قبل هذا؟.

علا صوت الترانزستور وأسيمة تعابث الأزرار تبحث عن محطة موسيقية على عادتها. كان ياسين يستند إلى شجرة الجوز، وأمامه طعام يأكل منه في غير شهية. أما أسيمة، فقد صنعت لنفسها ساندويشاً حملته، وابتعدت لا تريد إفساد نظامها الغذائي. ترك الطعام، ومضى ثانية إلى المخبأ بين أفرع الجوز وسور توت السياج. كان لا يرى إلا أسيمة: أفيمكن لهذا الوجه الطفل، والجسد الطفل أن يعرف رجلاً آخر؟ وعاد الاعتراض، ولكنه ليس آخر. إنه ياسين. صحيح أنه آخر، ولكنه ياسين، وتساءل: ولكن، أين ياسين الآخر؟ تمنى لو كان موجوداً. وتساءل: أي حوار كان يمكن أن يقوم بينهما، وكيف ستستقبل أسيمة والآخرون وجود ياسينين. كانت تحتضن الراديو الترانزستور، وتتابع المطربة في غنائها فتكوِّر فمها، وتذبل عينيها: إلى من تتوجه بغنائها.

وبهدوء أحس إثارة هائلة تتفجر فيه. إنه أنا. حبيب العمر. والرجل الأول في حياتها. اندفع نحوها. أمسكها من ذراعها. وجرَّها، فانجرَّت وراءه بلا احتجاج. نظر إليهم مواربة. كانوا منشغلين بطعامهم وشرابهم. دفعها إلى الممر بين توت السياج وأفرع الجوز. كان في نظراتها بله مستسلم غير مصدق. لم تكن أسيمة المتكبرة المتمردة القادرة على الصفع  والخمش. أعوذ بالله. لقد تحولت إلى نعجة أخرى. ألقى بها على الأرض في خشونة لم يعهدها، ولم تعهدها فيه، ولكنها لم تقاوم، ولم تصرخ، والعجيب أنها كانت تمضغ علكة، وتنظر إليه في حياد، كما يمكن لك أن تنظر إلى حيوان غريب، أو مشهد غريب فأنت تراقبه بنصف اهتمام، ونصف إثارة تكاد تعرف ما الذي سيتم تماماً، ولكنك تنتظر بهدوء، فلعل شيئاً طريفاً يضفي شيئاً من الإثارة على المشهد.

كانت عيناها نصف غائمتين، غارقتين في لا اكتراثهما، وفكاها يمضغان العلكة في بلادة. فجأة أحس الإثارة تنسل منه، أحسَّ الشهوة تموت، ورآها، وكأنها ليست أنثى الشهوة القديمة. والتحدي القديم، والنصر القديم، فارتمى إلى جوارها. أخاً؟ ابناً؟ أباً؟ صديقاً؟ لا يعرف ولكن منكسراً. محايداً، مستسلماً ويكاد يكون معتذراً. استرخت قليلاً في اسلتقاءتها وكأنما تستمتع بانتصارها، ثم تحاملت على كوعيها، فانتصبت، ومضت إلى حيث الراديو الترانزستور دون حتى أن تلتفت إلى ياسين. وعرف ياسين أنها أسيمة.. الأخرى.

وحين قاربت الشمس الغياب دبَّت الحركة في الجماعة، وأخذوا يضبُّون، ويلمُّون أشياءهم، ويطفئون نارهم، ويعيدون الهدوء والسكينة إلى المكان، فقد كان هذا هو الاتفاق الضمني بينهم وبين صاحب المكان. كان ياسين  يراقبهم كمن يراقب فيلماً قبل وضع شارة النهاية، فهو يعرف أنها ستوضع. ولكنه يريد أن يراها، فلن ينتهي الفيلم بدونها، وأخيراً حين جهّزوا كل شيء وبدأوا الاتجاه إلى سياراتهم التفتوا فجأة إليه، وقالت أسيمة: ياسين مالك.. ألن تأتي؟

كان السؤال مفاجئاً.. يأتي؟ ويحق له؟.. إنهم.. إنهم الآخرون، وهل يجتمع الآخرون، الأشباه، مع الحقيقي، الأصل؟. تلفَّت من حوله حائراً، هو يعرف أنه محجور عليه في هذا البيت.. هو لا يعرف سبب الحجر عليه حتى الآن، ولا ما المطلوب منه. جاؤوه بكتبه، بأسطواناته، وبالصحف اليومية. وماذا بعد.. لم يطلبوا إليه شيئاً، ولم يعرضوا شيئاً، وحتى حينما تمنى وبطريقة طفولية السيران تحولت الحديقة إلى حديقة مروان، وجاؤوه بكل أصدقاء السيران. والآن.

هتفت أسيمة: ياسين. مصباح ينتظر. تعال..

وعرف أن مصباح قد شغَّل السيارة وهو ينتظر كالعادة فبيتاهما متقاربان.. تلفت ياسين من حوله، وكأنه يستأذن أحداً ما، ولكن لا أحد.. أمعن في التلفت يتوقع رجال الكيس الأسود، ولكن لا رجال للكيس الأسود. وإذن.. أهو حر..؟ أليس من مانع لدي.. همَّ في الانضمام إلى الشلة القديمة.. وهتف ساخراً: الشلة القديمة؟ وضربت أسيمة الأرض بقدمها في عصبيةِ طفلة: ياسين. يكفي. سينزل الليل.

انجرَّت قدماه مترددتين، خائفاً من كيس أسود ينبثق أمامه فجأة فيوقفه، ولكن كيساً أسود لم ينبثق، وحارساً لم يظهر.. ركب إلى جانب أسيمة في المقعد الخلفي، و.. مضت السيارة بهما. 

(5)

الحمد لله الحق المبين، المحسن البَرِّ الأمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وأصحابه وأزواجه وآل بيته الكرام الطيبين الطاهرين.. صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين في كل وقت وحين.. وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد فإني بعد أن استخرت الله ربَّ العالمين، وزرت قبر نبي الله يحيى سيد الحصورين، وحفيدة رسول الله زينب بنت أمير المؤمنين، فرأيت أن من واجبنا نحن الذين أنعم الله علينا بسيد العدل، سيف العروبة والإسلام تنِّين الزمان، وعنقاء الأيام، الخضر الأخضر، والوجه الأزهر، أبو المعالي والشرف، سيد الأيام عقلة بن نافع الزمان، فاجتمعت مع سيد الإعلام ووزيره، وكبير الأمناء والأسرار وخبيره، ومؤرخ البلاد وتحريره، فقررنا أن من الظلم أن يمر بالأمة مثل هذا العَلَم، ويرفع الحيف عنها مثل هذا القلم، ثم لا يخلده كتّاب عصره ومؤرخوه بسيرة تقل عن سيرة الملك الظاهر أبو الفتوحات الموعود من الله بالنصر والتأييد، رافع  راية العروبة والإسلام، ومحرر الديار من الفرنجة والأشرار، المغول والتتار.

أما بعد فإني بعد إعمال الفكر وتكثار الذكر، وسؤال عارفي فضل سلطاننا منذ نعومة أظفاره حتى حصوله على الوعد، وارتقائه سدة العرش الذي كانت الأمة تنتظره لاعتلائها، وكبار الملة يختزنون كنوزهم وسلاحهم وأموالهم ليستعين بها على تحقيق الغاية والوصول إلى الإرب والنهاية.

أما بعد فإني أنا العبد الفقير ياسين بن الأرفعي أقول إن ما وصلت إليه أثناء مذاكرتي مع الكبار والعظام ورفقاء السلطان في طفولته وصباه أن أمه الكريمة والسيدة العليمة قد ذهبت يوماً إلى الحقل تبحث عنه، فقد كانت قد فقدت جدياً من قطيعها ليبحث عنه، فوجدته نائماً تحت شجرة وقد انحسر ثوبه عنه. أرادت وكزه بالعصا ليستيقظ ويجد الجدي قبل أن يأكله الذئب، ولكنها فوجئت به نائماً وتحت كل شعرة من جسده نقطة دم.. أرادت أن تصرخ من الرعب، ولكن يداً كيد الملاك جبرائيل حطّت على قلبها، فأصمتتها. كرَّرت النظر إلى ابنها لتراه وقد جللته ظلال كظلال الدم، وهيبة كهيبة الموت، فتركته وهربت موكلة أمر الجدي إلى الله، ولكنها قرب نهاية الحقل تعثرت بصفيحة عتيقة، فقرقعت مصدرة صوتاً كصوت الطبل، فاستيقظ مولانا من نومه، ونظر إلى حيث الصوت، فرأى أمه تتحامل على نفسها تريد الوقوف، فعدا إليها يساعدها، وما إن مدَّ ذراعه يساعدها على الوقوف حتى نظرت إليه تتفحصه، لترى قطرات الدم وقد اختفت، والجسد المراهق قد عاد إلى نقائه حتى من الشعر فقالت لنفسها: لا بد أنه الخوف، أو الجوع، أو ظلال الشجر ما أوحى إليَّ بهذه الرؤيا، ولكنها لم تتمكن من الاحتفاظ بسرها، فمضت إلى الشيخ في اليوم التالي، وحدثته عما رأت.

أطرق الشيخ مهموماً حتى أصابها بالرعب، ولكنه بعد قليل رفع رأسه إليها يذكرها: أليس هذا هو الصبي نفسه الذي حدثتني أنه حين ولد نزل وكفاه مملوءتان بالدم. قالت: بلى.. ولكنك طمأنتني حينئذ بأن كفيه ستمتلئان بدماء أعداء الإسلام.. فأطرق الشيخ وقال: إن شاء الله.. إن شاء الله.. وصمت. حتى سئمت الأم وضجرت، ولكنها لم تجد في نفسها الجرأة على القيام والعودة إلى شؤون الدار، أصابها الظمأ وأصدعها الصمت الذي لم تعتده، وأخيراً رفع الشيخ رأسه وقال: أهذا هو الصبي الذي حدثتني أنك حين كنت حاملاً به رأيت ناراً تخرج من رحمك، فتحرق الشرق، وتحرق الغرب، وتمحو الليل. فهزت رأسها مطرقة وكأنها تعتذر لإثم لم تعرف أنها ارتكبته، وقالت: أجل. فقال بصوت جليل: إنه القدر، ولا ينفع الحذر من وقوع القدر. ما شاء الله كان. دعيه لقدره، ولعل الله يرفع به راية الفقراء والمستضعفين.

توقف ياسين عن الكتابة يحك سالفه، ثم أضاف: وكان هذا بدء ظهور السيد الخطير والزعيم الكبير معيد العزة إلى الضائعين، والسلام إلى الخائفين.

ضمّ ياسين الدفتر الكبير الذي عنون غلافه باسم سيرة مولانا ملك الزمان عقلة بن نافع الزمان. وضعه جانباً وتنهد، ثم نادى أسيمة فجاءت تحمل إليه صينية الشاي: هاه.. أبدأت الكتابة. قال: وسأقرأ عليك الآن ما كتبت، فإن وافقت عليه عرضته على اللجنة، فإن وافقت عليه جعلته المنوال، وبنيت عليه السيرة التي ستخلِّد اسم مولانا سيد الزمان عقلة بن نافع الزمان، ولكنها أخذت منه المخطوط، وقالت: دعني أقرؤه بنفسي، ولما لم يبد اعتراضاً استندت بظهرها إلى الكرسي الخيزران المريح، وأمسكت بالمخطوط تقرؤه، وتشاغل ياسين بتقليب الصحف اللبنانية والمصرية التي جاؤوا بها صباحاً، كان يحس بالقلق الحقيقي الذي يحسُّه كل مبدع حين يطلع قارئَه الأول على ما كتب. القلق، والترقب، والخوف و.. الأمل في أن قارئَه الأول سيكافئه بالثناء على ما كتب.

تأملها بجانب عينه، الوجه النحيل، العينان البنيتان. هذه الكبرياء الطبيعية، هذا الحس بالأهمية.. ما الذي وهبها هذا الحسَّ بالأهمية ولم يهبه إياه. ولكن أهي أسيمة، أسيمة التي أحبّ، وحارب، وطارد، وخاتل، وكاذب، وادعى حتى نالها.. أعوذ بالله. ولكن. كل شيء في مظهرها يقول إنها أسيمة. الرجل يعرف في أنثاه أسراراً لا يمكن لأخرى أن تخادعه بها، ولكن كل خارجي فيها يقول إنها أسيمة. أسيمة التي رآها أول ما رأى على المسرح، فرأى أودري هيبورن، الشعر الغلامي البني، العينين الواسعتين المداعبتين الغامضتين، الماكرتين، والجسد النحيل الطفلي المغري بالضم والإجلاس على الركبتين والطبطبة على الظهر رجاء عدم البكاء.

كل خارجي فيها يقول إنها أسيمة بنت البندقدار التي فاجأته بلكمة ما كان يعتقد أن امرأة تملك قوة لفعلها فتسقطه أرضاً، وتصيبه بارتجاج في الدماغ، فهي هي يعرف ذلك منذ رجوعه إليها واحتضانها له، وكأنهما لم يفترقا لشهور، أو لسنين، أو لزمن لا يستطيع تعيينه، فما كان يملك ترف حساب الزمن. ولكن.. أهي أسيمة فعلاً؟ فإن كانت أسيمة التي ترك، فماذا عن دلال الأولى ودلال الثانية، وماذا عن جابر ونمري ومصباح وممتاز الذين يعرف أنهم سافروا وغيَّروا أسماءهم، وهوياتهم، وأوطانهم، وها هو يراهم من حوله يقولون الكلمات نفسها القديمة، ويومئون الإيماءات القديمة نفسها، ويتمنون الأمنيات القديمة نفسها، ويتأوهون الآهات القديمة نفسها، ولكن أهم هم؟ أهم أنفسهم الذين عاشر، وجادل، وحابب، وكاره؟

أعوذ بالله.. ليتني أمسك بصخرة الحقيقة.

رفعت رأسها. أزاحت نظارتها الطبية وقالت في وقار:

ـ معارضة جميلة، ولكن. وترددت قليلاً قبل أن تطلقها: أهذا ما يريدون.

ـ تقصدين المعارضة؟

هزت رأسها موافقة: ما أعرفه أنهم قالوا إنك وأنت الخبير والدارس والناقد لسيرة ذلك السلطان المملوكي. فأنت خير من يكتب سيرة مماثلة.

ـ صح.

ـ ولكنهم لم يقولوا معارضة.

ـ وهناك مماثلة أدق من المعارضة؟

ـ لا أفهم.

ـ المعارضة الحقيقية تقوم على فهم دقيق للنص، فهم لأسراره اللغوية، وللغته السرية، على فهم الهدف الكامن، والهدف المعلن للنص الأول، وما عليك لتقديم معارضة أصيلة وحقيقية إلا أن تعيد بناء وتشكيل النص الجديد بحيث يكون مرآة للنص القديم، صحيح أن الانعكاس في المرآة ليس الأصل، ولكنه الانعكاس الأدق للأصل.

ـ وأنت تظن أنك في استهلالك للسيرة هذه تقدم المرآة ـ المعارضة.

ـ أنا أتمنى، وأنت القارئة الأولى تستطيعين الحكم قبل أن نحيلها إلى اللجنة، وإلى المولى عقلة بن نافع الزمان.

ـ أتعتقد أن هناك ضرورة لاطلاعه عليها. ألا يكفي رأي اللجنة ومبادرتك أنت؟

ـ وهل اكتفى الملك الظاهر برأي اللجنة، أو بمبادرة الديناري أو الدودار كاتبي السيرة.

ـ أتعتقد أن السلطان الملك الظاهر صاحب السيرة الأول كان يطّلع على النص؟

ـ طبعاً، وكان يضع ملاحظاته، ورأيه في كل فصل. وهذا ما جعل سيرة عبد الظاهر تختفي عن العامة، وسيرة ابن شداد تضمحل، فلا يتبقى بين أيدي الناس إلا هذه السيرة التي وافق عليها السلطان.

نظرت إليه طويلاً تتأمله وكانت تملك أن تحرجه لمجرد أن تحدِّق فيه، ثم قالت بصوت عميق وكأنه أخذ عمقه من ابتعاد الفكرة: أتظن اختيارك لهذه السيرة مصادفة؟

قال ينفض طوقه كمن يتبرأ من تهمة: تذكري أني لست من اختارها، بل هو من اختارها. وركَّز على هو،

ـ لا. بل أنت من اختارها منذ البداية. اخترتها حقلاً لدراساتك الطويلة عن السيرة الأكثر ذيوعاً في الحضارة الإسلامية، عن السيرة التي كانت كتاباً أساسياً في كل بيت في مصر والشام. عن السيرة التي كانت حلم كل الملوك كما ذكرت مرة. وأغمضت عينيها تردد من الذاكرة. كانت سيرة الملك الظاهر حلم كل الملوك المسلمين والولاة.

ثم واجهته: أفلم تكتب هذا؟

وهز رأسه موافقاً: صحيح قلت، ولكني قلت أيضاً في مناسبة أخرى: وكان الملك الظاهر حلم الشعب الضعيف المسكين المسلوب الحرية والكرامة والخبز. قرأ سيرته فآمن بأنه من سيعطيه الحرية والكرامة والخبز. وكان هذا الشعب كلما تقدم إليه حاكم قرأ السيرة وقال: ها هو الملك الظاهر يعود ثانية.

صمت ياسين، فاستحثته أسيمة ليكمل فكرته، ولكنه تشاغل بالصحف اللبنانية الممنوعة عن السوق والتي توَّزع على الموثوق بهم فقط، وابتسم. إنه الآن واحد من الموثوق بهم.

أطلقت همهمة مراضية، وانتصبت: حسن. أتحب أن أعرض ما كتبت على اللجنة.

رفع رأسه إليها، وقال: إن أعجبتك ووافقت عليها.

قالت وهي تهم بالانصراف: سأعرضها على اللجنة. 

(6)

اختفت.. غابت خطواتها على الدرج. تنفس في ارتباح. عاد إلى مكتبه في نشاط كان قد فارقه منذ الجزيرة والمستنقع. عمد إلى المكتبة الخشبية، فحرر مزلاجاً بها. كان هذا اختراعه الخاص السري الذي كان يخفيه لنفسه، وما كاد حتى دارت المكتبة على محورها، وأصبحت خلفيتها المقدمة، فاختفت الأغاني، واختفت مجموعة كتب الجاحظ، واختفى تاريخ الطبري، والمسعودي، وابن خلدون، اختفى السيوطي وابن عبد ربه، وتجلَّت المكتبة الأخرى مكتبته السرية. مجموعة البعكوكة المصرية، وحُطّ بالخرج السورية، المضحك والمبكي، وألف نكتة ونكتة. مكتبته، سلاحه، أداته لـ.. ولكنه لم يكترث بها، بل جرَّ دفتراً كبيراً مجلداً تجليداً منزلياً. حمله.. وعاد به إلى طاولته الصغيرة المريحة قرب ديوانه المنار من نافذة الحديقة. فتح الدفتر، وتنفس في ارتياح.. ثم.. بدأ الكتابة

قبَّلته مهنئة فنظر إليها في إعزاز: الرائعة دلال ما أحلاك، وحين ردَّ قبلتها على الخد شاكراً همس في ما بين المزاح والرسالة: أفلا يمكن صرف هذه القبلات على الخد بقبلة على الفم؟ لطمته مداعبة وهي تنصرف. رمق أسيمة من موقعه وكانت تعدُّ الشراب وهمس: العزيزة أسيمة. يا الله ما أحلى حضورها. كانت في ثوبها الأسود مكشوف بعض الظهر والكتفين خفيفتي السمرة فاتنة، وكان قذالها نصف المغطى بشعرها الغلامي حقلاً لشهوة لا ترتوي.

التفتت إليه من موقعها، وأشارت بشفاهها، وكأنها تصرخ: حبيبي ألا تساعدني في إعداد الشراب. وأسرع إليها يحمل سطل الثلج، ويوزعه على كؤوس الشراب. وما كاد ينتهي حتى اقترب جابر، وحمل صينية الشراب: اتركوني اتركوني. أنا من سيوزع الشراب. دعوني أحتفل إكراماً لله. أنا أنتظر وكل الحاضرين ينتظرون هذا اليوم منذ زمن طويل.

ضحكوا مؤيدين ولم ينتظروا جابر ليدور عليهم بصينيته، بل خطف كل منهم كأساً وقبل أن يرشفوا الرشفة الأولى هتف ممتاز: هيه. على مهلكم، ورفع كأسه وهو يهتف: في صحة حبيبنا وصديقنا مدير الدعاية والأنباء الجديد ياسين الأرفعي. صفقوا، رفعوا كؤوسهم، وقهقهوا.

كان مصباح مشاركاً ومفارقاً، مساهراً ومراقباً، كان سعيداً، وكان مستحلباً للسعادة. كان ينتظر نهاية الضجة كي يطلب إليه ياسين على عادته أن يغنيهم، وكان هذا أجمل ما في سهرات ياسين.. مصباح المحامي الجليل ونصير المستضعفين وهو في الآن نفسه مصباح المطرب المبدع.. مصباح الذي كان يمكن له ببضع ضربات على عوده وبإغماضة عين وابتعاد روحي عن المكان وضجيجه أن يقدم لك صالح عبد الحي، وكامل الخلعي، وسيد درويش بل ونجيب السراج. كان كنزاً من الأصوات الثرة، والعشق الحقيقي للغناء، وكان الصديق الأقرب والقريب من ياسين.

كانوا قد طلبوا هذه السهرة، وألحوا في طلبها، وحتى حين احتج ياسين بألا شيء رسمياً بعد، وأنه لم يبلَّغ باختياره لمنصب مدير الدعاية والأنباء، وأنه لم يستشر أو يطلب رأيه. إلا أنهم غمزوه ولكزوه مازحين: أعلينا؟.. هذه الألاعيب الدبلوماسية؟ اخدع بها غيرنا.. ولما أقسم لهم. أقسموا له بأن البلد كلها تضج وتعرف بأنهم اختاروه لمنصب مدير الدعاية والأنباء، وقال جابر: أخي. إن كنت تخاف أنا سنطلب منك منصباً، أو تسهيلات، فأرح نفسك، لسنا في حاجة إليك.

وقال له مصباح: إن كنت تعتقد أنا سنطلب إليك بعض التسهيلات في الإذاعة، فهذا ممنوع، فنقابتنا تمنع الجمع بين ممارسة القانون و.. ألحوا، ومازحوه، وداعبوه، وفرضوا عليه السهرة، وأكملت ثريا: وحتى لا تتعب الست أسيمة، فسيأتي كلٌ منا بطعامه معه. نحن نريد الاحتفال بحبيبنا فقط.

ولم يستطيعا إلا الرضوخ، وهيء البيت والباحة ـ الحديقة بالطاولات والكراسي والمظلة تستر الباحة عن الطوابق الأخرى، ونشرت مضخمات الصوت بين شجيرات التين الكاوشوكي والليمون.

كان البيت جنة أسيمة التي لا تعشق شيئاً عشقها للسهرات التي تبدع فيها وتزينها بطلّتها التي طالما فتنت ياسين، وأججت فيه شهوات كانت حريصة ألا تنطفئ أبداً ولا ترتوي.

وقال نمري في جدية غير مناسبة: إيه حبيبنا ياسين. أنت كمواطن مسؤول ومخلص للوطن، ما مشاريعك لتطوير المديرية؟ وقهقه الجميع للنكتة غير المتوقعة، وغير المضحكة، ولكن المزاج كان مزاج القهقهة والفرح.

كان اليوم يوم أسيمة، فهي التي قبلت الزواج من ياسين بعد طول تمنع عن الزواج أصلاً، ومن ياسين تحديداً، ولكنها حين قرأت كتاباته عن قصصها التي ما كانت صحيفة أو مجلة ترضى بنشرها، فأعاد كتابتها وصقلها وأسلبها، ثم كتب واستكتب عنها المقالات النقدية التي جعل فيها منها الواعدة والأمل في كتابة القصة، حين قرأت كتاباته هذه عرفت أن ياسين سيصل، فقررت أن تصل معه.

وكان اليوم يوم ياسين، هذا اليوم الذي سعى من أجله طويلاً، سعى يستخدم كل ظرف النديم، ورشاقة المثقف.. ليجعل من نفسه نجم السهرات، ولم لا يكون وهو من كان لا يمضي إلى سهرة إلا مصحوباً بنجمين ليس من باب يغلق في وجههما أسيمة، التي كانت تضفي بحضورها وإطلالتها ورشاقتها الطبيعية، وبأسطورة بنت البندقدار التي تخلت عن العائلة والثروة والجاه واختارت أن تعيش حياتها على طريقتها الخاصة، و.. مصباح المحامي اللامع الذي كان الغناء سعادته وبهجته حتى لكأن العمل محامياُ ما كان إلا خطأ من أخطاء الطبيعة، وقد فرض عليه تحمله.

كان اليوم يوم ياسين ويوم أسيمة الذي انتظراه طويلاً، وكان يوم الشلة كلها، التي كانت تراهن على ياسين فهو من سيفتح لهم الأبواب المغلقة.

قبَّلت دلال أسيمة مهنئة وقالت: لا حاجة كبيرة لتهنئته بهذا المنصب، وأضافت مجاملة: بل ربما كان المنصب من يجب تهنئته بوصول كفاءة مثل ياسين. وأحنت أسيمة رأسها موافقة، وكانت عيناها تتابعان ياسين الذي انخرط في حوار جدي مع جابر كان يشيح فيه بيديه بعصبية على عادته عند الانغماس في حوار لم يستطع تحويله إلى مزاح، وقالت لدلال ضاحكة: لا يستطيع حتى في وقت كهذا ألا ينخرط في حوار مع جابر.

صفقت ثريا، ثم صفرت بإصبعين في فمها في زعرنة تهريجية، فالتفتوا إليها، ودفعت أمامها طاولة كبيرة محمولة على عجلات صغيرة زيِّنت بالجاطات والزبادي والصحون الكبيرة وقالت: الجوعان يتفضل.  وما كانت في حاجة إلى أكثر من هذه الجملة حتى بتروا نقاشاتهم وحواراتهم الجادة، وجرَّت أسيمة ياسين إلى الطاولة وهي تهتف مازحة: كل.. كل.. أنت في حاجة إلى كرش الوجاهة حتى يحترمك الموظفون. فقهقهوا، وضحكوا، وهرَّجوا. ولكنهم في قهقهتهم، وضحكهم وتهريجهم لم يسمعوا رنين الهاتف، وكيف كان لهم أن يسمعوه واليالنجي ينادي، والكباب الهندي يغازل، والكبب المشوية والمقلية تغمز وتداعب. ملأوا صحونهم وكان الهاتف يرن. أخذوا في تذوّق الطعام، وكان الهاتف يرن.

وفجأة هتفت ثريا: يا جماعة.. التليفون. أصغوا، وكان الهاتف يرن. وبدا السرور المترقب على وجوههم، فليس من معنى لهذا الهاتف الملح في هذه الساعة إلا أنهم يبلغونه رسمياً بما كانت المدينة كلها تضج به وتعرفه. أسرعت أسيمة إلى الهاتف، رفعت السماعة، تنفست عميقاً لتهدئ توترها، وأخيراً همست: ألو.  زحفوا جميعاً بأقدامهم هادئين صامتين لا يريدون لأقدامهم أن تعكِّر سعادة اللحظة، ولكن تعابير وجه أسيمة لم تكن تعابير من تلقَّى الخبر الذي كانوا ينتظرونه. نظرت إليهم. كان التساؤل يرعد في وجوههم وإن لم تعلنه شفاههم، ونظرت إلى ياسين في اشمئزاز وهي تعطيه السماعة ليقول في ارتباك:

ـ خير.. ماذا..؟

ـ إنها لبنى زوجة أخيك.

تنهدوا في انزعاج، وتراجعوا إلى حيث صحونهم وكؤوسهم وحواراتهم، وتناول ياسين الهاتف، ففصله عن المقبس الداخلي، وخرج به إلى الباحة الحديقة البعيدة عن الساهرين، ثم وصله بالمقبس الخارجي وحشرج: ألو.

وصرخت لبنى: ياسين. تعال شف أخاك.. إكراماً لله. لم أعد أحتمل.

وتمتم متضايقاً: ما الأمر.. ما الحكاية.

وصرخت تكاد تسمع السهارى بصوت أقرب للندب: الحكاية العتيقة نفسها.. الحلم.. والسلطان.

ـ طيب. هذه ليست المرة الأولى.

ـ ولكنها المرة الأولى يقرر فيها اقتلاع بلاط البيت للوصول إلى قبر السلطان حيث تنتظر الوصية.

ـ ماذا؟

ـ تعال شف بعينيك. ياسين أنا خائفة عليه، تطورت الحالة معه.

ـ طيب.. طيب.. سأمر عليكم صباحاً.

وقالت في ضعف: ألا يمكن أن تمر الآن. اسمع.. اسمع..

وسمع صوت أداة حديدية تضرب البلاط..

ـ لا.. الآن صعب.. لدي ضيوف.. وأنا متعب وأنتظر هاتفاً ضرورياً. أقنعيه بأن يرتاح.. وسأمر عليكم.. مع السلامة. وأغلق الخط.

حدَّق في الحديقة نصف المضاءة مِنْ حوله في اشمئزاز: لن يدعوني في حالي، سيظلون يتعلقون بساقيَّ يُعثّرونني، ويعرقلونني.. أف.. كان يسمع ضحكهم وهرجهم وقهقهتهم، ويحس السعادة تنز منهم، وكان في الآن نفسه يتأمل نبتة الغاردينيا التي دلَّلها مع أسيمة كثيراً حتى يريا إزهارها، ولكنها بعد إزهار لفصل واحد توقفت عن الإزهار.

تأمل الياسمينة العراتلية كم اشتهى أن تكون دائمة الإزهار، ولكن. إنها شجيرة تزهر لأسبوع واحد أو أسبوعين، ولكن، لم كانت ياسمينة الجدة دائمة الإزهار، لقد اقتلع هذه الياسمينة واستبدلها عدة مرات، بل هو يذكر أنه قد اشترط على البائع في المشتل أن تكون دائمة الإزهار، وقد أقسم الرجل أنها دائمة الإزهار.. وأراه أخواتها المزهرات في المشتل. ولكنها ما إن زرعت في حديقة باحة البيت حتى تحوَّلت إلى ياسمينة فصيل واحد. أسبوع أو أسبوعين. ترى.. ما السبب؟ أهي كمية الضوء القليلة في الحديقة المحاصرة بالبنايات العالية، أم هو الهواء قليل الهبوب في الحديقة المحبوسة بين الأسوار.. أهي.

وفجأة صدمته الفكرة. ياسين مالك وللغاردينيا والياسمينة؟ ضيوفك في البيت ينتظرون انضمامك إليهم، والليلة ليلتك التي انتظرتها، وعملت من أجلها العمر تنتظر فيها النصر على الجميع، على الأم التي لم تحبَّك وعلى الجدة التي كانت ترى فيك خطايا الزمان، وعلى الخال الذي حاز كل الحب حتى لم يترك لك ولو حيِّزاً صغيراً تحبّ فيه، أو تحبّ؟

ياسين إنها ليلتك التي تنتظر منذ زمن: صوتك حلو، ولكن.. أين السكر من العسل.. ياسين.. إنها ليلتك. كان يعرف أنهم قد اختاروه لمنصب مدير الدعاية والأنباء، ولم يفاجأ حين أخبره الأصدقاء بهذا، فمن يستحق مثل هذا المنصب أكثر منه. الإسهام الصحفي حتى الإغراق، الاسم اللامع، الصداقات مع الأقوياء على مختلف مشاربهم.. إنه النجم الأكثر استحقاقاً.. ولكن.. لم لم يبلغوه بذلك بصفة رسمية حتى الآن. لم تركوا الأمر يتسرب إليه عبر الأقنية الخلفية، والأصدقاء يحملون الخبر إشاعة قوية، ولا يحملون القرار الصريح.. أهم يختبرونه؟ يختبرون ردود فعله.. يريدون منه التزامات معينة؟ لا.. لا.. لا.. ما الذي يريدون إذن.. ولكن ياسين. لم التعجل؟.. خلق الله العالم في ستة أيام. وخير ما تصنع هو الصبر والتظاهر بعدم الاهتمام. أفلم تسمع بالمقولة الشهيرة؛ طالب الولاية لا يُولّى. حسن. أنت لن تستطيع دفعهم إلى التعجيل بإصدار القرار بإبداء الكثير من الاهتمام، ولن تجعلهم يتراجعون إن أبديت عدم الاكتراث.. إنه كالقدر، والقدر لا يكترث لرفضك أو قبولك. دع الأمر يسوي نفسه.

نظر إلى شجيرة الورد التي لم يقلِّمها كما نصحه الجميع، بل تركها تطول ويطول جذعها. قال: سأجعل منها عريشة. قام إليها يتفحصها. وفجأة: ياسين لم تتهرب من الأمر.. ضيوفك في الداخل، وأخوك.. أخوك الوحيد يستنجد بك عبر زوجته، وأنت تتلهى بزهور لم تكن يوماً همّك. ياسين..

وانفتح باب الصالون المؤدي إلى الباحة، فاندفق النور واندفعوا.. وصاحت دلال: تجلس وحيداً؟.. يا مسكين..

وقالت أسيمة: من يرك في جلستك هذه يظنك العاشق. واقتربت منه وهي تكمل: إياك أن تقول إنك عاشق لغيري. سأغضب هه.. ولمّا وصلت إليه داعبته في أذنه ضاحكة، وهمست: الوضع خطير؟

فهمس: لبنى تقول: إن الحالة تتطور.

وهجموا: يلله يا جماعة. دعونا نكمل السهرة. وصرخت ثريا: الموسيقى

وقالت دلال: أشتهي أن أرقص، وتقدم نمري: أنا جاهز، ولكنها قالت ساخرة: الأزواج السابقون لا يراقصون!

وضحكوا جميعاً حتى نمري الذي كان عليه أن يتوجع من اللطمة.

انطلقت الموسيقى، وعلا الهرج والضحك والرقص المرتجل، ولكن سؤالاً ظل ينغل في أحشاء الجميع: لِمَ لم يتصلوا حتى الآن.  لم يستطع ياسين الاندماج في الرقص طويلاً، فقد كان السؤال يخزه أكثر مما يخزهم جميعاً: لِمَ لم يتصلوا حتى الان؟ لِمَ لم يتصلوا حتى الآن؟

رفع القلم مرعوباً: ياسين.. ما اللعبة التي تلعبها. أنا أعرف أنها مريحة لك.. أعرف أنك تظن أنك محرر ذاتك بهذه اللعبة. ولكن أتدرك ما تفعل. أنت تعابث الشفرة. تمازح نصل السلطان وأنت سيد من يعرف أن السلطان لا يمازح، ولا يعابث، فما مازحه أحد إلا هوى. أتريد مصيراً كمصير ابن المقفع، قد يغفر لك السلطان كل ذنب، السرقة، الاغتصاب، القتل.. فكلها ذنوب بشرية محتملة وضعف يمكن للسلطان أن يتجاوزه، ولكن.. أن تعابث السلطان.. تمازحه و.. تشرك به.

وصرخ ياسين كمن يرد ليفحم: ولكن من يعابث السلطان، أو يشكِّك به؟ كل ما أفعل هو أني أكتب الرواية الأخرى، روايتي أنا قبل أن يصير السلطان السلطان، وقبل أن أصبح الفريسة والغنيمة، ثم.. اكتفى بهزِّ كتفه والمضي بعيداً، فهذا الحوار مما لا خير فيه. كان ياسين منذ جيء به إلى بيته ومكتبته، وزوجه، بعد طول اختفاء، وقيل له: نريد منك كتابة سيرة لمولانا عقلة بن نافع الزمان، سيرة لن يستطيع كتابتها سواك ووافق، فقد كان الخيار الآخر أكبر من قدرته على الاحتمال، ولكنه حتى عند موافقته الأولى كان يحس ببذرة التمرد تُنتشُ في أحشائه ضئيلة، صغيرة، ولكنها موجودة. قال لدى خلوته الأولى مع تل الورق وكومة الأقلام أمامه: سأضع كتابين في آن واحد، كتاباً هو السيرة التي يريدون لسلطان الزمان، وكتاباً هو السيرة التي أريد. إنها سيرة الكاتب الممزق بين إخلاصه للكتابة والحلم بالخروج من وضاعة الرعية إلى جنة المواطنة، الحلم بكتاب لا يخضع فيه لما يريدون. ولا يبشِّر فيه بما يريدون. بل كتاب يتحدث فيه عن رحلة تمزق طفل غير محبوب من أهله سعى ليكون المحبوب، فلم يستطع تقبُّل نعمة الحب لأن من أحبَّه لم يكن الموازي للحلم، وطارد من لا يحبُّ وهو يعرف أنه أبداً لن يحبَّه.

كتاب هو السيرة التي أريد. إنها السيرة الأخرى، الفضاء المضاد. إنها رحلة البحث عن الحب والقبول والاعتبار في عالم لا يقيم.. الاعتبار إلا للشرطي ورجل الدين، في عالم لا يحترم إلا المخيف والمرعب ـ توقف يفكر ـ أعوذ بالله. إن مجرد التفكير في الكتابة عن الأنا بعيداً عن السلطان هو بداية التمرد.

ياسين. أيحق لك التمرد. وأنت من قضى الثلاثين عاماً الأولى من عمره يسعى وراء السلطان، ورضا السلطان، والفوز بقبول السلطان تغيظ به الأم والجدة والخال الذين رفضوك لأنك لم تكن العبد المؤمن المطيع.. أو.. أيحق لك التمرد، وقد دفع  السلطان أجرك لتكتب سيرته، وأنت حين تكتب سيرتك، فأنت تسرق السلطان.. و.. تظنه يغفر لك سرقته وهو الذي لا يغفر ما هو أقل من هذا.

تأمل الوريقات بين يديه. كان يعرف أنه بعمله هذا يخالف الرجل ذا الوجه اللحيم منقذه من الضياع الطويل، ويعرف أنه بعمله هذا يخالف ما يريد السلطان، ويعرف أنه بعمله هذا إنما يغامر بضياع أسيمة والبيت المريح والرفقة المريحة ودلال الممنية بعد طول تمنع و..

ولكن.. أنا إنسان، وكاتب، ومن حقي أن أكتب ما أشاء. فلم لم تكتب ما تشاء حين كنت في معتزلك مع ليلى.. ليلى؟

ويمكن لمن عاش في تلك الجزيرة أن يكتب، ولماذا؟ وليس من قارئ ولا ناقد ولا….

حسن.. سأفعلها، وليكن ما يكون. يريد سيرة للسلطان.. طيب. سأكتب سيرة للسلطان، ولكني سأكتب السيرة الأخرى أيضاً، سأكتب سيرة للطفل يمزق شرنقة العائلة بحثاً عن ذاته، وفرديته، والعدل في زمانه.

وجذب كومة الأوراق 

(7)

ترجَّل من سيارة التاكسي عند مفترق باب الشرق، فلم يكن من الممكن للسيارة أن توغل المزيد في حارات زقاق الخشب. نفث نفثة سخرية من أنفه: علاء ما الذي أرجعك إلى هذا البيت. وهذه الحمقاء لبنى ما الذي أغراها ببيع بيتها في شارع بغداد. الشارع المبلط الأرصفة، المشجَّر بالفلفل الكاذب والأكاسيا، ما الذي جعلها تنصت إلى هذا الأحمق الغارق في حنين لا معنى له. قال: أريد أن أسترجع البيت القديم.

كان علاء حين قرر استعادة البيت القديم قد رجاه أن يصحبه إليه يستنصحه في الأمر قبل شرائه.فكتب ياسين بعد الزيارة مقالاً طويلاً عن فساد الحنين إلى الماضي، هذه العاطفة المريضة التي تشوِّه المرأى، فلا ترينا ما فعل الزمن.. كان البيت القديم بيت الطفولة والحنين الذي كان يتذاكر أيام الطفولة فيه مع علاء قد تحول إلى معمل للأحذية الرخيصة والشحاطات، ومعمل للحقائب المصنوعة من قضبان خشبية وشرائح من صفيح.. كان البلاط الرخامي الأبيض قد تكسر، وتخلَّع في أكثر من مكان، أما البحرة ذلك المكان الذي حوّلته الذكرى والحنين إلى شوق وحنين صافيين فقد حولها الزمان والإهمال والسكان الجدد إلى حجارة سوّدتها الأشنات والقذر، وامتلأت حتى منتصفها ببقايا الشاي اليابس وقشور الفاكهة ومزق الجلد والصفيح والإهمال. تمنى ساعتئذ لو لم يطاوع علاء ويصحبه إلى مقبرة الذكرى هذه، ولكن ما كان قد كان.. وصف في مقالته الطوان الممزق، والجدران مقشرة الطينة، والإهمال المحيط بكل تفاصيل المكان، والغريب أن القذارة والإهمال والهجر الذي كان ياسين يراه ويزعجه كان علاء يراه بعين المهندس المرمم، فيبهجه، فلم يكن يراه إلا طريقة لبخس سعر البيت، وشرائه بسعر معقول تمهيداً لترميمه. قال: سأستعيد بيت الطفولة ما قبل الشقاق، وسأحوِّل بعض البيت إلى مطعم ومقهى تديرهما لبنى.

لم يقرأ علاء مقال ياسين، وإن كان قد قرأه وهو لم يقرَّ بذلك أبداً فلقد تجاهله تماما، واشترى البيت، ثم انقطع عن ياسين نهائياً، ولم يكن هذا غريباً على ياسين المنشغل بمشاريعه دائماً، ولم يكن غريباً على علاء الذي اعتاد الانقطاع عن أخيه كلما انشغل بمشروع جديد. كانت الدكاكين قد تغيرت، والوجوه قد تغيرت، فلم يعرف فيهم أحداً من حوله، وكيف كان له أن يعرفهم وقد فارقهم مع أمه وأخيه طفلين بعد أن خسر الأب البيت في ديون البورصة ومغامرات التجارة الفاشلة..، ورآها أمامه.. أعوذ بالله.. ما الذي أخرجها من دهاليز الذاكرة الآن. أغمض عينيه كمن يطردها، أو كمن يحثها على مزيد من الجلاء. ورآها. صينية كبيرة من النحاس، صينية العشاء التي كانوا يرصفون عليها الجبن والزيتون والبيض والمربيات للعشاء، ولكن ما كان مرصوفاً عليها هذه المرة لم يكن العشاء، بل كان تلاً من الليرات الذهبية، كم كان عددها. لا يعرف.. ولا يعتقد أنه يمكن له أن يعرف، ولكنه تل لا يمكن أن يعد أقل من ألفين، أو ثلاثة آلاف من الليرات الذهبية. قالت: تأملها جيداً حتى تذكر حين تكبر ما الذي تخليت عنه حتى لا أقع في الحرام!!

فقال في مرح ولم يفهم ساعتئذ ما الذي تعنيه تماماً: أكل هذه الليرات لبابا.

قالت وهي تنفض الغطاء القماشي الأبيض استعداداً لإعادته غطاء للصينية: نعم.

فقال في ارتباك طفلٍ لم تضرسه تجارب الحياة: فلم لا نأخذ بعضها. ماما الله يخليك.. دعينا نأخذ بعضها لتشتري لي ولعلاء الكرة والقطار التي وعدت بشرائها. ولكنها في صرامة أعادت الغطاء القماشي الأبيض إلى مكانه تغطي الليرات وقالت: لا.. ولكن، لم لا..؟ لأنه مال حرام.. إنه مال البورصة.. القمار.. وأنا لن أطعم أبنائي من مال حرام.

ـ ولكنه مالنا.

قالت: لا تجعلني أندم أن أريتك إياه.

كانا قد تسللا إلى غرفته الخاصة أثناء مضيه إلى الحمام العام مع أصدقائه، ويبدو أنها كانت تعرف بكنزه.. قالت: أريتك المال لتعرف أن الحفاظ على الأمانة والشرف يحتاج إلى الكثير من الصبر والمشقة. وهذا المال حرام.. أغنانا الله عنه.

شدته من يده وخرجا من غرفة الأب الخاصة، حلمه الدائم والمحرم عليه الاقتراب منها. كان قد سمع الكثير من شجاراتهما، ومن رفضها هداياه المشتراة بمال القمار، مال البورصة. كان قد رأى الثياب الجديدة الممزقة والمرمية في الباحة، فهي لن تلبس ثياباً مشتراة بمال حرام. كان رغم صغر سنه يعرف أنهم يعيشون على حافة الفقر.. فنفقة البيت كلها إنما كانت تأتيهم من حصة في وقف قديم تركه لهم أحد الأجداد، وما كانت هذه الحصة تتجاوز التسعين ليرة، كان يعرف المبلغ جيداً، فقد كان هو من يصحبها إلى مديرية الأوقاف، تحمل معها دفتر الاستحقاق والختم النحاسي الصغير تختم به على دفتر الصراف أنها قد قبضت اثنين وتسعين ليرة وخمسة وستين قرشاً، وكانت حصته من هذه الرحلة هي الخمسة عشر قرشاً بها يشتري على طريق العودة ساندويشاً أو بوظة، أو بعض الكاتو.. كان رغم صغر سنه الأكبر بين أخويه والذي كانت الأم تعوِّل عليه رجلاً للعائلة به تستقل عن الأب الغارق في البورصة والقمار والحرام وغضب الله.. ولكن الغريب ياسين يذكر الآن أنه كان مفتوناً بذلك الأب، مفتوناً بطوله الجميل، بأناقته المتحذلقة، مفتوناً بشاربيه الصغيرين المتغندرين فوق شفته، مفتوناً بمجيئه الدائم راكباً عربة يجرها حصانان، كانت السيارة قد بيعت قبل أن  يدرك ما السيارة. صحيح أنه كان يتمايل أحياناً في بضعة الأمتار التي يمشيها إلى البيت، والتي كانت تجعل الجيران يتمتمون ولا يجرؤون على التصريح فهو ابن الأرفعي: إه.. الله يمحو كاساته.

كانوا يعرفون أن هذا الجهل الذي يعوم فيه كاسات محكوم بها عليه وسيأتي الوقت الذي سيتوب الله عليه من هذا الجهل ويعود إلى العائلة المشهورة بتقاها وشرفها. فيما بعد وحين ستلجأ الأم مع ولديها إلى بيت أمها، وسيصبح الخال الذي يكبره بسنوات خمس فقط صديقه الإلزامي الوحيد،  وحين يخرجان في النزهات التي سيعلمه فيها الخال وأصدقاؤه السطو المسموح به على البساتين يتنزهون فيها ويسرقون المشمش والجانرك والباذنجان والبندورة ويأكلونها نيئة، يهاجمون أعشاش العصافير وأوكار السراطين، في تلك النزهات التي لم تطل لأكثر من موسم واحد فلقد عقل بعدها الخال، وتفرغ لقراءة مولد البرزنجي، ودلائل الخيرات. في تلك الغارات حدثه عن الفخر الذي كان يشعر به بين رفاق الحارة حين تصل سيارة الكاديلاك يسوقها الصهر الجميل ممشَّط الشعر إلى القفاشاليش، كيف كان يحس بالفخر والفرح بذلك الصهر الذي كان يأتي مصطحباً معه أخته والطفلين وأكياس الفاكهة والحلوى ونظرات التباهي في عيني الخال أمام رفاق الكريات الزجاجية.. ومباريات البلبل الخشبي.

قال: كنا جميعاً نحبه ونفخر به، وحين كان الأولاد يسألونني في خوف: ولكن ماذا يشتغل. كنت أحدثهم أنه تاجر سجاد عجمي.

وفي مرة تالية حدثه عن نزهة اصطحبهم فيها جميعاً إلى مصيف جبلي، الجدة والخال والأم والطفلين. قال الخال الصغير: كانت واحدة من فرحات الأيام.. كان خفيف الظل مرحاً.. يتوقف فجأة أمام بقالية، فيسأل صاحبها إن كان لديه زيت سيارات وحين كان وجه البقال يضطرب حائراً ومرتبكاً أمام الوجه الجاد للأب، والوجه المبتسم للأم، والوجه الساخر للجدة كان الأب يطلق قهقهته الماجنة تاركاً العنان للسيارة تشفط مبتعدة، حتى إذا ما وصل إلى دكان لحام سأله عن سكائر، ثم أطلق قهقهته. قال الخال الصغير: كانت النزهة مرحاً وضحكاً، وكانت أمك تضحك من عمق القلب.. وكان العالم فرحاً وبهجة.. ثم يتساءل في حزن: ما الذي جعله يتخلى عن التجارة التي أحلها الله ويتحول إلى البورص، وإلى المال الحرام.. ثم كان يواجهه في سؤال مباشر وكأن لديه الجواب: ما الذي غيَّره..

هذا السؤال: ما الذي غيَّره. لم يكن سؤال الخال فقط، بل كان سؤال الأم الدائم، وكان سؤال علاء، وكان سؤال الجدة، ما الذي غيَّره.. وكان ياسين ينظر إليهم في حيرة غير فاهم إصرارهم على السؤال عما غيَّره.. فلم يكن يرى في هذا التغير ما يكره.. كان أجمل منهم جميعاً، وكان أكثر أناقة حتى من الأم، وكانت عطوره تفتن الحارة، وكانت سيارته مثار حسد الجميع، وكان السؤال الذي لم يسأل: هو ما الذي غيَّر الأم فجأة فجعلها تبتعد عنه إلى غرفة الأولاد، وجعلها تنظر إلى ماله على أنه حرام وجعلها تنظر إلى صينية الذهب على أنها الطريق إلى جهنم، ثم تختصر حياتها بتلك الليرات القليلة التي كانت حصتهم من الوقف.

كان يحضر معه أنواع الفواكه والحلويات، ولكنها أعلنت أن كل ما يجلبه حرام من مال حرام، وحرَّمت على نفسها وولديها تذوقه، وأصرت على رميه إلى جانب البحرة احتقاراً ورفضاً. ولكنها لم تكن قادرة تماماً على ضبط الولدين اللذين كانا يتسللان إلى ما رمته إلى جانب البحرة إلى حيث الفاكهة والحلوى الٍرمية.. وكانت الصدمة قاسية حتى اٌجرح، الولدان يخينانها ويأكلان المال الحرام.. وكان الضرب الموجع، الذي سيجعل ياسين يكتب عنه في مجٍوعته القصصية الأولى: الشرخ الأول في الحب بينهما والذي سيمتد حتى ليعجزان عن ردمه ويصبح المرفوض منها،  فلقد ضبطته مرة وكان في جيبه كمية من الحلوى والنقود الصغيرة التي عرفت أنه يقبلها من(الأب الوالغ في الحرام..

وسيزداد هذا الشرخ اتساعاً حين تضبط في درجه  المخصص لكتبه عدداً من مجلات سندباد، والأسوأ عدداً من روايات أرسين لوبين، وستعلن أمام أمها وأخيها وعلاء أن ياسين قد فسد، وأن قدر أبيه البورصجي سيتكرر فيه، وألا أمل يرجى منه.. أفلا يقرأ روايات اللصوص والحرامية بدلاً من سير الأنبياء والصالحين.. وسيرة الملك الظاهر. وجد نفسه أمام الباب الخشبي المحفور والمؤطر بإطار من الحجر الأبلق والمزين بقبضتين ومطرقة من النحاس العتيق. قال ياسين: لقد استعاد علاء المشهد الأول للباب.. رفع  المطرقة وقرع بها الباب، فلم يزوِّد علاء الباب بجرس كهربائي قال: الجرس الكهربائي سيشوه تناسق وانسجام الباب مع محيطه. فتحت لبنى، وأشرق وجهها حين رأته. قالت: حمداً لله أنك جئت.

ـ كيف هو؟.

ـ تعال.. انظر بنفسك.

دخل.. وكانت المفاجأة؛ علاء في ثياب عتيقة موحلة غاطس حتى فخذيه في حفرة وقد قلع البلاط الرخامي الأبيض وإطار الغرانيت الذي كحل به الرخام الأبيض. كانت الباحة خراباً حقيقياً جعل ياسين يتوقف مشدوهاً: من صنع كل هذا؟ سمعه علاء فأشرق وجهه، وقفز من الحفرة ثم انقض عليه معانقاً:

ـ حمداً لله أنك جئت.

ـ ما الذي تصنع؟

وضع اصبعه على فمه آمراً بالصمت، فصمت ياسين، ولكن وجهه المتسائل ظل على سؤاله.

قال علاء: أتسمع؟

فقال ياسين في حيرة: أسمع؟ أسمع ماذا؟

كرر علاء: أنصت جيداً، وستسمع.

وقال ياسين في ضجر: ولكن ماذا تريدني أن أسمع.

ـ صوته.. صوته.. إنه قادم.

ـ من؟.

ـ الذي بشرت به في كل ما كتبت. أنسيت.

ـ من؟

ـ الملك الظاهر محرر الأرض، ومعيد السلام إلى البلاد.

تجمدت يداه، وأحس برودة وصقيعاً يدبان فيه.

ياسين. إكراماً لله، ما الذي يغريك بفتح الملفات القديمة.. ما الذي ستجني من نبش الماضي الذي لن يسعد أحداً.

ولكن إرادة لم تكن إرادته قطعاً كانت أقوى منه جذبته إلى الدفتر أمامه، فعاد إلى الكتابة كالمحموم

بدأ الأمر بسعلة قحة عادية، بدت وكأنها محاولة من علاء لتنظيف حلقه من قذاة علقت به، ولكن السعلة لم تخلصه  من تلك الحكة الشائكة التي علقت بحلقه، فأمعن في السعال، وارتفع صوت السعال، وانتبه ياسين إلى أن صوت السعلة يعلو، ويعلو حتى أخذ يهز جدران البيت.

خرجت لبنى من غرفتها مرعوبة: ما هذا. ما الذي يجري؟ كانت جدران البيت الحجرية ترتعش تحت وقع السعلات، وقال ياسين: أله عادة بهذا السعال القوي؟ ولكنها صرخت، فلم يسمعها، فلقد علا السعال، وصرخ يسألها: ما تقول، فصرخت وكأنها لم تسمعه. ترك علاء يسعل ومضى إليها. اقترب حتى كاد يلاصقها: ما تقولين. قالت: اسمع جيداً إنه ليس الوحيد الذي يسعل.

أصاخ. كان السعال العجيب ينطلق من البيوت المجاورة، ويتجمع إلى أن يتحول إلى صوت يهز جدران البيت. رأى علاء يمضي حتى الدرج الخشبي، فلحقا به. كان علاء يقفز على الدرج الخشبي، ولكن صوت قرقعات قدميه المفترضة على خشب الدرج لم تسمع، فقد كانت السعلات أقوى. لحقا به، لحقا به حتى السطح وهناك رأياه يسعل فتتجاوب معه الأسطح الأخرى، الشوارع الأخرى، البيوت، البنايات وحتى الجبل.

كانت المدينة كلها تسعل محاولة التخلص من حكة في الحلق، من حس بتشوُّك مؤلم في الحلق.. كانت تسعل سعالاً موقَّعاً مضطرباً، مهتاجاً. كانت المدينة تحاول التخلص مما يخنقها، ويضايقها، ويمنعها من التنفس الطبيعي. كان ياسين يراقب مذعوراً، متوقعاً حدوث شيء. كان يتوقع انهيار بيوت عتيقة، تحلّل مغائر الجبل وانهيار البيوت المبنية فوقها مجازفة حين رأى علاء يشير إلى السماء ويصرخ: انظر.. انظر. ونظر ياسين إلى حيث أشار علاء، ولكنه لم ير شيئاً، فنظر إلى لبنى مستنجداً. ولكنها أغضت في حزن، ولم يلاحظ علاء حوار العيون بين ياسين ولبنى، فتابع: اسمع.. اسمع.. ألا تسمع خفق الأجنحة.. لقد غطَّت الأفق.

ولكن ياسين رأى بدلاً من الأجنحة الخافقة بقعة دخان أبيض تتمدد وتقترب.. تتمدد حتى أخذت تغطي كل ما يمكن للعيون الوقوع عليه. كان دخاناً بلا رائحة. أكان ضباباً؟ ولكن الزمن كان الصيف، ولا مكان للضباب.

حسن.. إن لم يكن الضباب، ولم يكن الدخان، فما هذا العماء الأبيض الذي أرعب الساعلين والقاحِّين، والمحاولين إخراج القذى من الحلق، والشوك من الحنجرة، فغطى كل شيء.

سمعوا رنين الهاتف، وعجبوا كيف استطاعوا سماعه، ولكن ياسين انتبه إلى أن السعال قد توقف، فتساءل: ما الذي أخرسه. أهو الضباب الزيتي المائع قد منع وصوله، أم أنه أرعب الساعلين، فنسوا حكة الحلق والشوك في الحنجرة.

كان رنيناً عذباً إنسانياً واعداً بكثير من الود والعلاقات البشرية، فبعد ذلك السعال الذي يهز الجدران، وبعد ذلك الضباب المائع الذي يغطي كل شيء. ها هو الرنين يقول: إن هناك بشراً يريدون الاتصال بك. وتمتم ياسين في أمل ضعيف: أتراهم يتصلون؟.. أتراهم أصدروا قرار تعييني مديراً للدعاية والأنباء أخيراً؟

انتبهوا إلى أن السعال توقف، وربما كان هذا ما جعلهم يستمعون إلى الرنين.

قفزت لبنى إلى الدرج، وما كانت تحتاج إلى دليل يحميها من الانزلاق، أو الوقوع رغم الضباب، فلطالما تسللت إلى السطح في الليالي العاتمة تبحث عن عزلة، فلا تضيء المصابيح، ولا تريد لأحد أن يعرف معتزلها، فدربت قدميها على معاثر الطريق، ومهاوي الدرج. حاول ياسين أن يلحق بها إلا أن قدميه العمياوين خافتا، وترددتا، فأخذ علاء بذراعه، ومضى به إلى الدرج. كان يعرف الطريق.. وحين وصلا إلى الباحة سمعا لبنى ترد على الهاتف: نعم.. نعم.. إنه هنا.

وقال علاء: من؟

ـ إنه الدكتور سعيد صديق الأستاذ ياسين. قال إنه ينتظرك حسب الموعد ثم انقطع الخط.

وسمع ياسين علاء يقول مبرطماً: ها.. الدكتور سعيد. ما الذي يريد منك؟ ثم بصوت جلي: وكيف عرف أنك هنا؟.

ـ أنا من هتف إليه.

ـ خيراً؟..

كان علاء في حالة تريُّب شديدة من كل ما له علاقة بالطب والأطباء، وأدرك ذلك ياسين، فقال وكأنه يعتذر: كنت في حاجة إليه ثم استدرك كنت أريد الاعتذار عن دعوة غداء.

فقال علاء، وما زال صوته ينزُّ بالريبة: أكنت مدعواً لديه على الغداء؟

ـ نعم، وما الغريب في ذلك.

ـ ومع ذلك جئت لتزورنا ثم ازدادت نبرة الشك أتعرف؟ زيارتك اليوم غريبة.. أليس كذلك؟.

ـ وفي زيارة الأخ لأخيه غرابة؟

ـ يعني.. إن كان الوضع طبيعياً، ولكن وأشار إلى العالم من حوله خفق الأجنحة.. الضباب، ثم صرخ يا إلهي.. العالم يتمخض..

وقال ياسين مازحاً: وماذا تتوقع أن يضع؟

صمت علاء فجأة، فقد خاف من ياسين.. ثم استدرك: لا شيء. ثم وجه الحديث إلى لبنى: ياسين تخلّى عن غداء مع الدكتور سعيد ليزورنا. فماذا أعددت له على الغداء.

استدرك ياسين قبل أن ترد لبنى: لا.. الوضع كله مربك. السعال، وهذا الضباب الغريب. لا.. سأمضي إلى البيت وسأتغدى مع اسيمة.

وكأن علاء ما كان ينتظر إلا سماع هذا الجواب حتى يتنفس الصعداء.

ـ طيب.. سأصحبك إلى الشارع العام.

ـ أعرف الطريق. أنسيت؟ قالها يحاول المزاح.

ـ لا.. لا.. ففي مثل هذا الضباب ستكتشف أنك لا تعرف الطريق.

شدَّت لبنى على يده شاكرة.. متواطئة؟.. طالبة العون؟ لا يدري. ولكنه مضى مع علاء، وكان علاء على حق، فالطريق التي لم يمش عليها منذ سنين أنكرته، وكاد يتعثر أكثر من مرة لولا أن علاء كان يسنده.

قال: ها نحن على الطريق العام.  ولم يكن ياسين في حاجة إلى السؤال فقد كانت الأضواء المضادة للضباب تكشف عن جزء من الطريق، وكانت أصوات الزمامير قوية بحيث لم تترك مجالاً لخطأ. للمرة الأولى في حياته يرى المدينة بهذا الشكل. كانت مدينة مختلفة عن كل شكل سابق لها، فلقد تحولت إلى وعاء من حليب رصاصي لا شجر ولا بنايات، لا لوحات إعلانية ولا عسكر. كانت أضواء صفراء وزمامير مرعبة ومرعوبة تطلقها السيارات. أما الناس.. أين الناس.. ما الذي جرى للناس.. صمت السائق، فلم ينطق بكلمة، لم يلعن، ولم يشتم، ولم يصطدم بسيارة أخرى، ولم يسمح لسيارة بالاصطدام به، كيف استطاع العبور في هذه الغابة الحليبية المتسخة البياض.. لا يعرف، ولكنه سلَّم أخيراً أمره له. أغمض عينيه ليكتشف  أن الأمر واحد، ففي ضباب كهذا البصر والعماء واحد. نزل من السيارة، وما كاد حتى أمسكت يد قوية بذراعه، وسمع صوتاً يقول: الأستاذ ياسين؟ فتمتم: نعم.

ـ الدكتور سعيد أوصاني باصطحابك.

كانت قاعة الكشف مضاءة تماماً، فتساءل ياسين: كيف استطاع إبعاد الضباب. أفلت مرافقه ذراعه، وأشار سعيد إلى مقعد جلدي: تفضل. ثم عاد إلى مكتبه، وقرع الجرس: قهوة؟ فأشاح ياسين في سأم: لا.. أرجوك.. لقد شربت ليلة أمس وصباح اليوم من القهوة ما يكفيني لشهر. فقال سعيد في مواساة: لم يتصلوا؟

هز ياسين رأسه موافقاً دون رغبة حتى في الكلام. فأضاف سعيد: سيتصلون.. سيتصلون. الإجراءات البيروقراطية. أنت أعرف الناس بها.

أحس ياسين أنه لا يريد مزيداً من الحديث في هذا الموضوع، فلقد أسأمه وأمضه النقاش فيه مع نفسه، ومع أسيمة بعد مضي الساهرين، ومع دلال في هاتفهما الصباحي حين كانت أسيمة نائمة. قال: لا أريد الحديث في هذا الآن.

همهم سعيد: علاء؟

فقال ياسين في انكسار: علاء.

قلَّب سعيد في ملف أمامه، ثم انتزع قصاصة من صحيفة تأملها قليلاً، وقال: الغريب أن بعض المقولات التي نقولها أحياناً، ولا ندرك خطورتها أو مدى تأثيرها على الآخرين مزلزل. أنا أعرف أن شهوة الكتابة، شهوة أن تقول ما لا يعرفه الآخرون، شهوة كسر المألوف، وافتراع المجهول بالكتابة شهوة قوية، شهوة قد تغري المرء بالاندفاع وراءها، وقول ما لا يدرك مدى تأثيرها وخطورتها على الآخرين.

ـ ماذا تعني.

ـ إسمع. وأخذ يقرأ من القصاصة: كان الملك الظاهر حلم كل حكام ومحكومي العالم الإسلامي. كان حلم الصبيان ذوي الطموح لوضع بصمتهم على التاريخ. ولم لا يكون، وهو الصبي القادم من المجهول، لا عائلة تحميه، ولا حزب يدعمه، ولا طائفة تحتضنه، ومع ذلك يصل إلى مرتبة السلطان، ثم لا يكتفي بهذا، بل يقنع المثقفين بتأليف كتاب عنه يصبح كتاب كل بيت، كتاب يتحدث عن أمة لا عمل لها إلا أن تنتظره، عن تاريخ لا هم له إلا أن يعدَّ له كل ما سيمكنه من السلطنة.. عن..

رفع ياسين كفه يوقفه عن إتمام القراءة: ما الذي ذكَّرك بهذا المقال. لقد نشر منذ سنين، وسنين.

أراد سعيد أن يستمر في القراءة: ثروات الأمة..

وأصر ياسين على إيقافه: أنت تجتزئ ما تقرأ من سياقه.

فقال سعيد: لا بأس. سأعيده إلى سياقه.. إسمع.. أليس هذا حلم الحكام الدائم.. ليس أن يحكموا الحاضر فقط. بل المستقبل، ليس أن يصمت معاصروهم عن أخطائهم، بل يبرروها، ويجعلوها ضرورة. يقتل الملك الظاهر سلفه في الحكم، ولكن هذه إرادة الله، يستولي على أموال السابقين ولكنها المنذورة له منذ الكتاب المسطور. يحيل الأمة إلى مصفقين وهتافين، ولكنه.. استطاع هزيمة الأعداء.

وبينما أخذ سعيد يهدر ويقرأ كان ياسين يفكر في سؤال ملح لم يتوقف: لِمَ لم يتصلوا حتى الآن؟ ولكنَّ ما أثار دهشة ياسين حتى الحيرة هو أن السؤال قفز، وقفز الاعتراض عليه مباشرة: أكان السؤال عن عدم اتصالهم ليس إلا الهروب من متابعة الحوار مع سعيد. أصْمت الاعتراض، وانتصب واقفاً يقاطع سعيد: ممكن أن أستخدم الهاتف.  لم يندهش سعيد لتغيير ياسين محور الحديث، فأشار إلى الهاتف في كرم: تفضل.  طلب ياسين رقم بيته وهو يفكر: يا رب. دعنا ننهي هذه الفوضى، واجعلهم يتصلون. ولكن الهاتف رنَّ.. رنَّ.. ولا مجيب.

وضع السماعة حائراً، والتفت إلى سعيد: غريب.. كيف تخرج في يوم كهذا.

قال سعيد وهو يصب القهوة لهما: لا بد أنها سئمت البقاء وحيدة. قدَّم فنجان القهوة لياسين، ثم رشف من فنجانه رشفة، وتابع وكأن ياسين لم يقاطعه منذ قليل: قلة قليلة أولئك الذين يدركون تأثير الكلمة إن وقعت موقعها في الناس.

استند بظهره إلى المقعد يستريح: هل تتصور أن الرسام الفاشل أدولف هتلر كان يعتقد أن كتاباً ساذجاً على كل المستويات ككتاب كفاحي سيؤثر على البشرية هذا التأثير. هل خطر له ولو للحظة أن بضع الوريقات هذه ستجعل البشرية تقدم ما يزيد عن الخمسين مليوناً من البشر ثمناً لهذا الهراء.

قال ياسين في سأم: ما الذي تريد الوصول إليه.

تنهد سعيد ثانية: أنت ولبنى قلقان من أجل علاء وكوابيسه الليلية، ومشترياته العجيبة، وتخريبه بلاط البيت.

هزَّ ياسين رأسه موافقاً: ولكن علاء ليس الوحيد. ففي بحر السنة الماضية جاءتني عشرات الحالات وكلها إما أنها قد وصلت إلى الفصام الكامل، فآمن المريض بأن الملك الظاهر قد حلَّ فيه وهو يستعد لتجييش الجيوش والنصر على العدو، وإما أنه في حالة كحالة علاء أي من نسميهم بالموسوسين، أو من لديهم الوسواس القهري. فهو لا يعرف إن حاكم نفسه لِمَ يتعلق بالملك الظاهر هذا التعلق، ولكنه متعلق به، لأنه يعتقد أنه الأمل.. وتابع مغيِّراً لهجته: اسمع.. أتعرف كم مقهى شعبياً عاد إلى الحكواتي مهملاً التلفزيون ولعب الطاولة.

قال ياسين في ضعف: سمعت عنهم.

وتابع سعيد: أتعرف ما السيرة التي تعلق بها الجميع؟

ـ سيرة الملك الظاهر!.. قالها ياسين في استسلام. وهز سعيد رأسه مؤمناً، فانفجر ياسين

ـ ولكن هذا لم يكن ما انتويته من كتاباتي.

ـ صحيح. أنت كنت تتعجب كيف تعلقوا بالملك الظاهر فكتبوا سيرته، وحولوه إلى بطل وتاريخ وأمل.

فقال ياسين: مع أنَّ الكثيرين كانوا أهم وأعظم منه في التاريخ الإسلامي. فأين الملك الظاهر من صلاح الدين، من نور الدين، من عماد الدين يا سيدي، ولنكن أكثر جدية أين الملك الظاهر من الحجاج، باني دولة بني أمية؟ أين هو من عبد الملك بن مروان، من موسى بن نصير، من المعز الفاطمي.. وتوقف يتنفس مهدئاً نفسه من العصبية التي تملكته. أين هؤلاء كلهم وهم من بناة الدول الكبار ومن منقذي الأمة من العدو. فلم لم يكتبوا عنهم سيرة تصبح عماد كل مقهى، والكتاب الأول في كل مكتبة منزلية.

وتدخل سعيد مهدئاً: لقد كتبت ذلك في مقالاتك. أنسيت. إنه هو الملك الظاهر من طلب من مثقفي عصره، ومن كتّاب عصره أن يكتبوا سيرته ليس أن يكتبوها فقط، بل يقدِّموها له لينقحها ويراجعها، ويعطي موافقته أو اعتراضاته عليها.

ـ صحيح. هذا كله كتبته، ولكن ما الذي جعل علاء

ـ ليس علاء فقط، بل الكثيرين.

ـ »الكثيرون«.. ما الذي جعلهم ينسون ما كتبت عن قتله صديقه ورئيسه وبطل عين جالوت قطز غدراً.. نسوا ما كتبت عن محاولة قتله آخر الأيوبيين المطالب بالعرش.. نسوا ما كتبت عن دمويته وسكره و..

ـ لأنهم لم يكونوا يقرأون ماتكتب، بل يقرأون ما يتمنون أن يكون.. ـ تنهد سعيد ـ أنسيت الهزيمة التي وقعت على جيلنا فقصمت ظهره، وبددت حلمه.

(8)

كانت رائحة نتن عجيبة أشبه برائحة الكبريت، أو الفوسفور تغطي الشارع المضبَّب حتى الإعتام، فغمغم في أسف: أفليس كافياً.. كل هذا الضباب!

تحسس بقدمه الطريق بعد نزوله من التاكسي، ولحسن حظه فقد كانت قدماه تعرفان الطريق جيداً، البلاط المخلع، والحوض المكسور المحيط بشجرة الفلفل الكاذب، وسور البناية القريب، و.. الدرج.. نزل، ولم يكن النور مضاء أمام الباب، فتشاءم. هذا يعني أنها ليست في البيت. هو يعرف عادتها، إنها لا ترتاح إلا إذا تركت النور مضاء فوق باب البيت.. كانت تقول: يكفي أننا نسكن في قبو، ويكفي أنه القبو الوحيد في البناية، فهل تريد للمستديرة أن تكون عتمة تجذب اللصوص والمتلصصين.

زحفت قدماه على الدرج ببطء. لم يكن يستطيع تمييز الدرج عن أرض المستديرة عن الباب، فالعتمة المخلوطة بالضباب صنعت جواً زيتياً محيطاً ناشراً رائحة اختلطت فيها رائحة الضباب النتنة برائحة القبو الرطبة.. برائحة المطابخ ورائحة المجاري: أووف. متى نتخلص من هذا القبو كما اعتاد أن يقول، وسمع أسيمة تحتج على عادتها على تأففه من القبو. كانت متعلقة بالمكان

قالت: حين تفرج، ويكون لدينا بعض فائض من مال سنصلحه، ونحيله إلى ما يشبه فيلا في قلب البلد. لا تنسَ أنك الساكن الوحيد، صاحب الباب الوحيد، والحديقة الوحيدة، والباحة الوحيدة في البناية كلها.. أهذا قليل؟

ولما ذكَّرها بالروائح ضحكت وقالت: الأمر كله راجع إلى جهلك بالديكور وفراغ جيبك، وحين يمتلئ جيبك سنغيِّر هندسة البيت كلها، سنجعل الهواء يخلي المكان من كل فساد في دقائق، وسنجعل التيار يزيل الرطوبة في دقائق، وسنجعل النور يصل إلى كل أركان وزوايا القبو.. الأمر كله أمر نقود.. املأ جيبك وسترى كيف تستطيع أسيمة أن تحيل هذا القبو إلى فيلا يحسدك عليها الجميع.

كانت قدماه تتحسسان بلاط المستديرة الغامضة أغمضها الضباب والعتمة، ولكن حساباته أكدت له أنه قد وصل إلى الباب أو قارب الوصول، فمدَّ كفه ليكتشف أن حدسه صادق، فلقد اصطدمت كفه بالمطرقة النحاسية. تحسس الباب يبحث عن موقع القفل. ولم يجرب حتى أن يقرع الجرس، أو المقرعة النحاسية، وجد موقع القفل.. دخل.. كان الضباب الزيتي النتن قد تسلل إلى البيت.. أضاء النور، ولكن لا نور.. عجيب. أيعقل أن الكهرباء مقطوعة.. ألا يكفي الضباب.

نادى بصوت العاشق: أسيمة. ولكن الضباب امتص حتى الصدى، فأخذ يتمتم باللعنات. وكرَّر النداء هذه المرة بصوت أقوى: أسيمة أنا رجعت. ولكن لا رد. مضى إلى غرفة النوم، تحسَّس السرير البارد المرتب.. مضى إلى الصالون. كان أعمى يجرب عماه الجديد بالتلمُّس، ولكن المقاعد أكَّدت له أن أسيمة ليست في البيت. أي سوء حظ. أي سوء حظ.. مضى إلى التلفزيون في حركة آلية ليعمله، ولكنَّ صمت تكة التلفزيون ذكرته بألا كهرباء.. أي حظ هذا.. ضباب، وغياب أسيمة وانقطاع الكهرباء.

اقتعد كرسياً قريباً وأغمض عينيه، ولكنه ما كاد يغمضهما حتى أحس بالجوع، وتذكر أنه لم يذق طعاماً منذ الصباح، فمضى إلى المطبخ وصنع لنفسه ساندويشاً وكأس شاي. وفجأة انتبه إلى الصمت العجيب يرين على البيت. ما هذا الصمت. الوقت ما يزال مبكراً. أين صوت السيارات والزمامير.. أجهزة المذياع والتلفزيون.. صرخات الأطفال وشجارات الأزواج.. لا صوت.. صمت مطبق. شيء غير معقول.. ولكن أسيمة.. أسيمة.. أين مضيت في مثل هذا اليوم إكراماً لله.. لو تركت رسالة.

هو يعرف أن اليوم جمعة، ولا دوائر ولا موظفين، وليس من المعقول أن يكونوا قد اتصلوا لإبلاغه بقرار التعيين.. ولكن ماذا لو كانوا قد اتصلوا.. أنت تعرف سوء الحظ، وكيف يفعل.. لا بد أنهم اتصلوا اليوم فلم يجدوا من يردُّ على هاتفهم. ولكن.. ربما كانت موجودة وتبلغت القرار وها هي تبحث عنك الآن لتبشرك.

ابتلع اللقمة الأخيرة من ساندويشه، وقال: سأهتف إلى جابر لا بد أن لديه خبراً ما.

مضى إلى حيث الهاتف، رفع السماعة، ولكن الهاتف كان أخرس أصم كقطعة من الأثاث، شد السلك.. انحنى إلى حيث المقبس يتأكد من اتصاله، ولكنه كان أخرس، فارتمى على المقعد القريب، وأطلق ضحكة ممرورة.. هه.. الآن اكتمل السعد. ما الذي يجري. إنها المرة الأولى تجتمع فيها الكوارث كلها ضباب وكهرباء مقطوعة، وهاتف مقطوع وقرار لم يعلن و.. أسيمة غائبة..

استند برأسه إلى ظهر المقعد وتساءل: أين يمكن لها أن تكون في يوم كهذا. أين.. لو يستجيب الهاتف.. لو يستطيع سؤال واحد من الأصدقاء عنها.. تنهد.. الآن وأنا في أمس الحاجة إليها؟ الآن وأنا في أشد اللهفة إلى من أشكو إليه وحدتي، وخوفي وارتباكي.. وعلاء وهوسه، وسعيد وتذكيره لي بأن دراساتي عن الملك الظاهر نشَّطت هوس المهووسين الحالمين بالمستبد العادل يحمل عنهم الهم، ويقدم لهم النصر، ويأخذ عنهم فائض حريتهم ورزقهم.. المهم أن يكون الأب الصالح، وهل في التاريخ العربي الإسلامي سيرة لمستبد عادل كرسته السيرة تكريسها للملك الظاهر.

الآن وأنا أتمنى شخصاً أجادله، أحاوره، أبرئ نفسي أمامه، فأنا حين كتبت ما كتبت إنما كنت أحذِّر. كنت أنبِّه كما أعتقد إلى أن المستبد العادل لن يتبقى منه إلا المستبد، فالعادل اختيار، وعطاء ومنحة من المستبد، فإن كان يستطيع أن يكون المستبدّ، فلم يكون العادل. كنت أريد من أحدثه عن أسفي.. أنهم فهموني على عكس ما أردت إفهامه، ولكن اسيمة.. أسيمة.. الشعر الغلامي، والجسد النحيل كضوء، والعينان الواسعتان كسؤال. أسيمة. أين أنت الآن؟ ومن يستقبلك في ضباب كهذا، وانقطاع كهرباء وهاتف كهذا.. أين أنت أيتها اللعينة.. صبَّ لنفسه كأس شاي آخر، وأغمض عينيه، وما كان في حاجة حقيقية إلى إغماضهما، فلم يغمضهما، وكل شيء من حوله مغمض و.. رآها، كانت على الخشبة، وكانت مخلوقاً شهياً، نضراً جديداً. كان في الصف الثاني على عادته، وكان دفتره الصغيرة في حضنه، وقلمه المدرب على الكتابة في الظلمة يكتب، كان يكتب ما يخطر له، ولم يكن شديد الاهتمام لما يجري على الخشبة، ولكنه كان يكتب، وكان يعرف أن انطباعاته هذه ستكون القاعدة لما سيكتب الليلة أو غداً لصحيفته عن المسرحية.. كان قد حفظ الممثلين وأداءهم وخطبهم، يعرف ما سيفعلون، ويعرف كيف سيكون ردُّ فعلهم على حوار مخاطبهم، ويعرف صرخاتهم، وتغليظ صوتهم، أو ترقيقه. كان يحفظهم ولم يكن له فيهم مفاجأة، وفجأة صدمه صوت لم يكن مألوفاً، كان صوتاً فجاً صادماً غير مدرب، أو لم يروضه نمري فيجعله نسخة من أدائه الصوتي.

التفت ورآها.. كانت مخلوقاً شهياً في بقعة الضوء، نضراً، جديداً، مختلفاً بجدتها وتعثرها في التناغم التمثيلي مع أولئك الذين اعتاد أن يسميهم بينه وبين نفسه بالعجائز، الذين لم يكونوا قدامى ولا عجائز، ولكنه كان قد ألف أداءهم حتى لم يعد يرى فيه مفاجأة ولا دهشة.. كانوا كما كتب في واحدة من مقالاته اللاذعة مثل قهوة الصباح. أنت تعرف الفنجان، وتعرف القهوة، وتعرف طعمها، وتعرف دفئها، وتعرف نكهة الهيل فيها، ليس في ذلك من مفاجأة أبداً، فالمفاجأة الوحيدة الممكنة هي رداءة البن، أو قلة الغلي، أو انعدام الهيل، أو قذارة الفنجان.. أما إن اجتمعت الشروط الواجب اجتماعها، فلا مفاجئ ولا طريف فيها، لكنها كانت مختلفة لفتت نظره باختلافها، لفتته بفجاجتها، لفتته بزعيقها غير المدرَّب، لفتته بنضارة جسدها شبه الراقص على المسرح. فقرر أن يتعرَّف إليها. انتظر حتى انتهى العرض، ثم اخترق الخشبة إلى الكواليس كما يفعل الأصدقاء الحميمون والنقاد.

استقبلوه بترحاب ودفء وخوف خفي، فقد كان معروفاً بلسانه السليط وقلمه الجارح، وأنه لا يعجبه العجب، فكانوا، الكبار منهم قبل الصغار يتحاشون سلاطته بالتقرب منه والتودد إليه، ودعوته إلى حفلات الغداء والعشاء، وإبداء الود الشديد له، ولكنه كان يعرف أن هذا كله ليس إلا دفعاً للبلاء، فكان كما اعتاد القول يأكل الطعم، ويبول على الصنارة،. استقبلوه، وقبَّلوه، وقبَّلهم، وقبَّلهن، وهنَّأهم، وهنَّأهن، وما كان يريد إلا الوصول إليها لتحيتها وتهنئتها، ولكنها رمقته في تعال دون أن تكلف نفسها الشكر على تهنئته، رمقته في استعلاء رافعة واحداً من حاجبيها تعلن عدم اكتراثها بما قال، وتمضي إلى عمق المسرح، تركته وحيداً ماداً كفاً لم تستقبل للمصافحة. سارعت ممثلة عتيدة أدركت المصيبة التي ستقع على الفرقة كلها نتيجة لهذا التصرف. سارعت إلى استقبال كفه مصافحة وشاكرة ومتحدثة في إعجاب عن كتاباته، ثم تسأله مباشرة: لم لا يكتب للتلفزيون، فمجموعته القصصية التي قرأتها له منذ أيام كانت حافلة بالأحداث، حافلة بالدراما. ستكسِّر.. وشدّدت على السين. الدنيا. كان يحدق في عمق الخشبة حيث اختفت تلك التي سيعرفها فيما بعد باسم أسيمة حائراً من سلوكها، ولكنه وقد داعبت الممثلة المخضرمة غروره وهي تحتضن ذراعه إلى كتفها، وتشده إلى الكافتيريا اضطر إلى أن يعلن لها أنه غير مهتم بالتلفزيون، ولكنها وقد استطاعت شدَّه إلى الحديث تابعت: ولكن التلفزيون مهتم بك. نحن في حاجة إليك، وإلى قلمك، إلى.. وشرب قهوته معها في الكافتيريا، وعيناه تبحثان عن تلك التي ستسمي نفسها له باسم أسيمة، ولكنها كانت قد اختفت تماماً.

في ليلته تلك.. في ليلته التي أبت أسيمة فيها أن تغادره كما سيكتب لها بعد شهور في رسائل حبه الطويلة، في ليلته تلك قرر أن هذه البنت مدللة، وأنها قد تعوَّدت على المعجبين، وعلى المتزلفين، وكان حين سأل عنها قبل العودة إلى البيت أخبروه أنها البنت المتمردة على عائلتها الثرية المحافظة، وأنها حين هدَّدوها بالطرد من العائلة إن أصرَّت على التمثيل قررت أن تقوم هي بطرد عائلتها من حياتها، فكانت تقدِّم نفسها على أنها أسيمة أسيمة، ولا زيادة، وحين أعلنوا عن اسمها في قائمة ممثلي الفرقة اكتفوا باسم أسيمة.

أدرك أنها امرأة صعبة، وأنها اعتادت الحصول على ما تقرر الحصول عليه، لذلك رأى أن خير وسيلة لجلب انتباهها، ولجعلها تهتم به هو في شتمها، وفي اليوم التالي كان يسلم مقالته إلى الجريدة التي اعتاد الكتابة فيها، وكان عنوانه؛ أليس من فارق بين التلوي والتمثيل. وكان العنوان التالي؛ فتاة تعتلي خشبة المسرح وليس في جعبتها إلا مغص معوي.  كان المضحك الذي لم يتوقعه ياسين هو أنها كانت أصلب وأكثر ثقة بنفسها من أن يوقع بها مقال كهذا إذ هزَّت كتفها في لا مبالاة، ووضعت الجريدة بهدوء على الطاولة، وتابعت العناية بأظافرها.

مضى إلى المسرح يحضر العرض للمرة الثانية، ثم اندفع إلى الكواليس يريد أن يرى تأثير المقال عليها، ولكنا ما زادت على ان اخترقته بنظراتها، ثم مضت بهدوء دون أن تتقبل تحيته للمرة الثانية، لكن ما لم تعرفه أسيمة هو أن مقتله منذ الطفولة كان اختراق العيون له، كان هذا الاختراق ضربة تحت الحزام أحيت فيه أسيمة الخال الذي لبس العمامة والجبة مبكراً، وتنطَّح لخطبة الجمعة، فألقاها ارتجالاً دون ورقة، وكان هذا شيئاً جديداً على سكان الحارة الذين اعتادوا على الخطيب العجوز يحمل ورقته المجعدة، فلقد قرأها عليهم حتى جعَّدها.. بتلك الطريقة الرتيبة الداعية للنوم، وكانوا كثيراً ما يستجيبون، فينامون ولا يستيقظون إلا على نداء المبلِّغ: صلى الله على سيدنا ونبينا محمد، فيرتِّلون من ورائه: وعلى آل سيدنا محمد.

كانت خطبة الخال مفاجئة للجميع، فالفتى في الرابعة عشرة في الجبة البيضاء والعمامة المشدودة جيداً على الطربوش الأحمر. كان المشهد كله فتنة ظل أهل الحارة يتغنون بها لسنوات، وكانت النسوة يتمسَّحن به، ويصلين على النبي كلما مرَّ بهن، ويقلن لأمه: الله يحميه من العين.

في ليلته تلك قبل أن يحمل المقال الثاني في الليلة نفسها إلى الجريدة، ولم يغادر المطبعة قبل أن يتأكد من طبع مقاله الجديد، ولكن المقال الثاني لم ينفعه أيضاً، فلقد اخترقته بنظراتها، ورمت الجريدة بهدوء على الطاولة الصغيرة ومضت.

استمرت المعركة لأيام خمسة، كانت تنتظر فيها أن تنتهي ذخيرته من السباب والشتائم، أو أن تمتنع الجريدة عن الاستمرار في هذه المعركة غير المتكافئة، ولكن الجميع بدوا سعداء، فالجريدة وجدت مادة جاذبة للقراء. والكاتب الذي كان يرفدها بمقال أسبوعي، أو كل أسبوعين ها هو ينشط فيرفدها بمقال يومي، والقراء مبتهجون بقراءة إقذاع بهذه المهارة، والكاتب ينتظر تهاوي دفاعاتها، وكان على حق، فلقد تهاوت أخيراً، فما إن صعد إلى الخشبة حتى اتجهت إليه مبتسمة، وكان عليه أن يتظاهر بالثقل، فيلتفت عنها. كان يعرف أن المعركة في لحظة الحسم، وكان يعرف أن عيون الفرقة منصبة عليهما، ولكن ما لم يحدسه، ولم يدركه هو أن تلكمه تلك اللكمة الرجلية القاسية، فترمي به أرضاً يضرب العمود الجانبي للخشبة برأسه، ويصاب بارتجاج خفيف، ويغمى عليه، وتستدعى الإسعاف، وتقضي أسيمة ليلتها في المخفر رافضة الاستعانة بأهلها، أو بأخيها المحامي، ولما كان المجني عليه ما يزال في العناية المشددة، فلم يستطع المخرج أو الممثلون رجاءه أن يتنازل عن القضية لإخراجها من الحبس في النظارة.

ولما لم يكن ممكناً ترك صبية حسناء ـ بنت عيلة ـ في النظارة مع اللصوص والعاهرات لأكثر من هذا، فقد قام أعضاء الفرقة يرأسهم المخرج نمري بزيارة أخيها المحامي الذي تدخل، ودفع كفالة خرجت بموجبها من المخفر، ولكنها بدلاً من شكر أخيها رمقته باستعلاء، ومضت، فاشترت باقة ورد كبيرة وقامت بزيارة ياسين في المستشفى. ضحكا كثيراً فيما بعد؛ أكان لا بد من ارتجاج في المخ حتى يحبَّ كل منهما الآخر، وأجابت بلسانها اللاذع: وهل يمكن لغير مرتجّ بالمخ أن يحبني.

كان منظره برأسه الملفوف بالشاش ونظرته الغائمة ووجهه الشاحب مؤثراً إذ أيقظ فيها حساً قديماً هجرته منذ كانت تعتني بقطتها التي رجعت إلى البيت مهيضة القائمتين الخلفيتين بعد أن داستها سيارة، فبكت تحتضنها حتى اقترح أخوها معالجتها بدلاً من البكاء عليها. حملوها إلى الطبيب البيطري الذي أعلن لهم بأنها لن تشفى، وأنه ينصح بالتخلص منها واستبدالها بقطة جديدة، ولكنها بكت، وجعرت حتى سمحوا لها باستعادتها إلى البيت، حيث أخذت تمرضها، وتسقيها الحليب، وتغيِّر المناشف القديمة من حولها إلى أن ماتت، فحزنت عليها، وأقسمت أنها لن تنجب أولاداً حتى لا يموتوا.

كانت علاقة عجيبة ما قام بينها وبينه، علاقة بدأت بلكمة أدت إلى ارتجاج بالمخ، ونمت باستعادتها به حس ممرضة القطة إذ قامت على تمريضه بعد خروجه المبكر من المستشفى ليبدآ رحلة ثرثرة نثر فيها كل منهما أمام الآخر صورته الجميلة عن نفسه. حدثها عن جائزة السلام للشعوب في صوفيا للقصة القصيرة التي فاز بها، فأطَّر شهادة الجائزة بلغتها الأصلية، ثم ترجمها، وأطَّر الترجمة وعلقهما على الجدار الرئيسي لتقع عليهما عينا كل من يزوره ويعرف أن هذا الشاب في منتصف العشرينات كان الأول في الحصول على جائزة السلام للقصة القصيرة في العالم العربي.. ثم.. هه.. استحثته، فتابع.. اتجهت للنقد والدراسات.. لماذا؟.. سألت.. كان علي أن أنتظر أن أكتب شيئاً لم يكتبه الآخرون حتى أتفوق به على نفسي، وعلى جائزتي.

و.. حدثته عن أحلام النجمة السينمائية، كانت مدمنة على حضور كل أفلام السينما الجديدة، حدثته عن عشقها لصوفيا لورين، وجينا لولوبريجيدا، عن آفا غاردنر، وأودري هيبورن. كانت تعرف كل تفصيل عنهن، حبهن، عشقهن، هجرهن، أطفالهن، مغامراتهن، بكاءهن الحبيب الهاجر. كانت آسرة وهي تحدثه عن صديقاتها اللواتي تساهرهن يومياً. حدثته أن لديها ألبومات وألبومات لهن انتزعت من مجلات مصرية ولبنانية، وفرنسية. أدَّت أمامه أكثر من دور، والحقيقة أنها حين أدت هذه الأدوار أمامه كانت أكثر إقناعاً من أدائها على المسرح. كان في صوتها دفء، وكان فيه حنين.. كان في حلم كل منهما أنه قد عثر على العصا التي سيتوكأ عليها لبلوغ الأحلام. كان ياسين قد علَّق عليها، وعلى اسم عائلتها المهيب حلم الصعود من حفرة الأهل الذين لن يقبلوا به إلا التقي النقي الطاهر الورع، ولن يعترفوا إلا بمثال الخال نموذجاً للرجل الكامل، ولما لم يكنه، فقد ظل لديهم الشاة السوداء مهما حاولت أن تستكبش وتبيَّض، فستظل الشاة، وتظل السوداء.

كانت أسيمة كما عرف منكسراً فيما بعد قد علَّقت عليه الآمال في حملها إلى مصاف النجوم، وكانت قد حدثت دلال عنه: كنت قد أريته صوري أمثل في مسرحية ثمن الحرية في المرحلة الثانوية، وصوري في مسرحية أوديب بعد نيلي الشهادة الثانوية، وانضمامي إلى فرقة مسرحية للهواة، فأبدى إعجاباً شديداً بشكلي، وحركتي، وطلب مني أداء بعض الأدوار، فأدَّيت، فانهال على يديَّ يقبلهما، ويسميني سارة برنار.

سمع ياسين صوت المفتاح في باب الشقة، فنظر إلى ساعته مذعوراً: لقد رجعت. سارع إلى لملمة أوراقه، ثم إلى المكتبة، فأخفى دفتر السيرة الثانية فيها، وأدارها على محورها.

سمع الباب يفتح، وخطواتها تتقدم، فأعاد المكتبة إلى وضعها الأمامي، وعاد إلى مجلسه يقلِّب في الصحف الممنوعة إلا على الموثوق بهم.. و.. دخلت اسيمة. 

(9)

أعاد قراءة النص بتمعن. كانت اللجنة قد أعجبت بافتتاحية السيرة التي كتبها لمولانا عقلة بن نافع الزمان، عنقاء الأيام، ولكن سيد الإعلام اعترض اعتراضاً خفيفاً ورجا أسيمة أن تنقل إلى الأستاذ ياسين أن اعتراضه كان خفيفاً، خجولاً، ويتمنى ألا يزعج كاتبنا، فما المطلوب أخيراً إلا تقديم الأفضل. تأمل ياسين أسيمة وهي تنقل اعتراض سيد الإعلام، وكان الحرج يغطيها على غير عادتها وكأن حرج سيد الإعلام قد انتقل إليها، فهمهم يستحثها: ولكن ما الاعتراض.

قالت: أبدت اللجنة الإعجاب الهائل باللغة التي توحي وكأن السيرة قد كتبت لسلطان عاصر التاريخ، وعايش التاريخ، وخالد التاريخ.

فقال يستحثها في سأم: وماذا.. وماذا؟

قالت: ولكن قطرات الدم التي تغطي كل شعرة من شعرات مولانا السلطان الصغير.. يعني

فأكمل في سأم: هه.. وأيضاً؟

وتابعت: ثم تلك النار الحارقة تخرج من رحم أمه.

فصرخ في ضيق: ولكن ذلك كان في الحلم.

فقالت: ولكنهم يقولون حتى لو كان الأمر في حلم. وتأتأت قليلاً، وكان هذا ملاحظة كبير الأمناء. قال: لا بأس من كون مولانا هو الموعود بالنصر وحريق الأعداء. ولكن.. أليس من بعض الإشارات إلى الخير الذي حمله إلى الأمة، أليس من إلماحة إلى الفرح  الذي عمَّ الأمة لدى ظهوره. وأضافت راجية: إنهم يتمنون ألا تكون قد نسيت هذا.

أعاد قراءة النص بتمعن الغريب. كان النص يؤدي كل المراد نص ـ سيرة  ـ ملحمة يجب ألا تقلَّ إن لم تزد عن سيرة الملك الظاهر.. ولكن.. أضاف: ربما كانوا على حق.. صحيح.. ربما كانوا على حق.

مضت تعد الغداء، وتركته يعالج أوراقه، ربما كانوا على حق، فالسلطان الحلم ليس سلطان النصر على الأعداء، وليس سلطان الخوف فقط، فنحن في القرن العشرين حيث الأفكار الكبرى عن العدل والحرية والخبز. وسلطان الأمل، هو سلطان الخبز، وسلطان العدل.. صحيح. كيف لم يفكر في هذا.. ولكن.. السيرة ما تزال في بدايتها. فهل يقول كل شيء منذ الصفحات الأولى.

فتح السيرة المثال، السيرة التي قرَّر أن يعارضها وأخذ يقلِّب فيها. أعوذ بالله. كيف نسيت، فحتى مؤلفي السيرة الأوائل لم ينسوا هذا، فها هم يحدثوننا عن معاصر القصب، ومصانع السكر والدبس التي كان قد استولى على معظم أرباحها الفتى سرحان ابن الحرام ولكن محمود، وبالسلطنة موعود، يمضي إليه ليكتشف أنه ظالم وقاتل، ومغتصب نساء ولص.. ومرتكب لكل الجرائم، فيأخذ على يده، ويعيد الأمن إلى نصابه، والأموال إلى الدولة صاحبة الحق الأصلي في هذه المعاصر، ولكن السلطان الأيوبي المجذوب إلى حب الله نجم الدين أيوب يهبه خراج المعاصر والمصانع حلالاً زلالاً. وتتنازل الدولة عن حقها للرجل الموعود بالسلطنة والنصر ليستعين بهذه الأموال على تنفيذ الوعد وإحقاق الحق.

فكَّر ياسين. هه.. علينا أن نوجد معاصر قصب استولى على خراجها شرير، فحرم الدولة والشعب من مكاسبها وضرائبها، ثم يتحرك سلطاننا الموعود، فيطرده عن جنته، ويعيد خيراتها إلى الشعب، ولكن الشعب والدولة يصران على جعلها هبة خالصة للموعود بالسلطنة لا ترد، فبها يتقوى على الأعداء، ويحقق العدل والخبز. فكَّر، وفكَّر. كيف يعارض مثل هذا التفصيل المعبر، فكَّر بالإصلاح الضريبي، ولكنه وجده مزعجاً لكثير من أفراد الشعب المهمين. كما فكر، ولن يحس به العامة والفلاحون.. قلَّب ثانية في السيرة يبحث عن وحي للمعارضة، ولكن أسيمة فتحت الباب، وأطلت بوجهها المضيء تدعوه إلى الغداء.

* * *

في المساء قالت وهي تضيء جانب الحديقة المغطى بشرفة الجيران وترفع فنجان قهوتها إلى فمها: ساعة لربك، وساعة لقلبك. وهمهم يستفهمها وهو يرشف من قهوته: المعنى.

ـ إنهم يلحون. يريدون سهرة من سهرات الأيام الماضية..

حدَّق فيها مستفهماً، فلم يعد يفهم كلامها على معناه المباشر.. صار يحاول دائماً فهم ما تخفي وراء قناع الكلام.. أراد أن يسأل: من؟ يحاول معرفة إن كانت تعني أحداً غير  الشلة القديمة جابر ومصباح وممتاز ونمري وسعيد و.. دلال وثريا وملك. ولكن.. كم يتمنى لو كان واثقاً أنهم هم.. وذكر السهرة الأخيرة قبل الكارثة فاستحثته بهمهمة سريعة: همم. ثم فسَّرت: أصدقاؤك، الشلة. واضطر إلى الإجابة: طيب. كما تشائين، ولكن أمهليني بضعة أيام.

ـ لماذا؟.

ـ السيرة متعثرة، ولا أستطيع إدخال تجربة أخرى عليَّ الآن. يجب أن يستمر العقل مشغولاً بها. يبحث عن الحلول المناسبة.

ـ هه.. قالت وهي تعدل من جلستها لتنزع ورقة صفراء عن نبتة الخبازى البيضاء، إن كان الأمر أمر سيرة مولانا فلديك الحق كله. وقامت إلى الهاتف، فطلبت ثريا وبدأت الثرثرة. وتنفس الصعداء.

لبس ثياباً خفيفة، وحيَّاها باصبعين، ومضى يتمشَّى، فالمساء اللطيف يغري بالمشي. على الطريق كان يقدح زناد فكره بقسوة وصعوبة. كان عليه أن يجد معاصر قصب، ومصانع سكر ودبس استولى عليها شرير ليجعل الموعود بالسلطنة يقضي عليه، ويعيد الحق إلى نصابه. فكَّر بالأراضي الزراعية والاستيلاء عليها من أيدي الأشرار الذين حرموا الفلاحين منها، فكر بالمصانع والاستيلاء عليها من أيدي الصناعيين الأشرار، وإعطائها للعمال ينعمون بخيراتها، و.. توقف قليلاً، فلقد أعجبته الفكرتان، ولكن، ولدواع فنية محضة قرر أن يقوم بهما خطوة خطوة حتى يملأ صفحات أكثر في السيرة. قرر ولأن السلطان الموعود من أصول فلاحية أن يبدأ بالاستيلاء على الأراضي الزراعية، وتوزيعها على الفلاحين، و.. أعجبته الفكرة. أعجبته حتى الطرب، وقرر العودة إلى البيت ليبدأ كتابتها مباشرة، ولكنه حالما استدار هاجمته السيرة الثانية، سيرته هو، هاجمته على غير رغبة حقيقية منه، أو استدعاء لها، ولكنها ببساطة هاجمته. حاول طردها. وهز رأسه كمن ينفض ذبابة حمقاء، أو فراشة شريرة، ولكنها تشبثت تشبُّث العنكبوت.

هزَّ رأسه ثانية يريد طرد السيرة الثانية، فالسيرة الأولى هي من يدفع أجره، ويقيم بيته، ويرضي زوجه، ولكن السيرة الثانية لم تستسلم فـ.. استسلم، وما إن دخل البيت، واكتشف أن أسيمة لم تكن في البيت.. حتى أدار المكتبة على محورها، وانتزع دفتره السري، ووجد سيرة العذاب تحتل كل فراغ في البيت، وتابع من حيث توقف.

* * *

سمع.. الطرق القوي على الباب الخارجي، الطرق الشديد لا يخاف إزعاجاً ولا يرهب احتجاجاً، فتحامل على نفسه. كان نائماً على الديوان في الصالون، كان يسمع الطرق، ولكنه لم يكن في حالة تجعله قادراً على الاستجابة السريعة. تمتم: أنا في البيت.. طلع النهار.. الطرق على الباب يعني أن الكهرباء ما تزال مقطوعة، وفجأة هتف: أسيمة.. أسيمة، ولكن أسيمة لم ترد، والباب ما يزال يقرع بقوة. مشى حافياً إلى الباب، أتراهم جاؤوا يبلغونه بقرار تعيينه مديراً للدعاية والأنباء.. ابتسم في سعادة. ترى من القارع. جابر؟ لا بد أنه جابر، فهو الأنف القادر على الوصول إلى كل الخبايا والأدراج المغلقة. فإن لم يكن جابر. ألعلها أسيمة؟ لا، فأسيمة لديها المفتاح، وبفرح فكَّر، إنها دلال، وتمنى من كل قلبه أن تكون دلال.

تنبه بهدوء إلى أنه يرى ما حوله. إذن فالضباب انجلى، ورائحة النتن اختفت، ولكن الكهرباء ما تزال مقطوعة، وإلا لقرعوا الجرس. كانت الأفكار تتسابق متصادمة في رأسه المتعب.. الهاتف.. هل أعادوا وصل الهاتف. اتجه إلى الباب. فتحه، وما تزال الفكرة الوردية في أن الطارق دلال، فإن لم تكن دلال، فجابر يحمل إليه الخبر المنتظر، ولكن فتحة الباب كانت خالية. تطاول بنصف جسده إلى المستديرة يبحث عن الطارق، ولكن.. لا أحد. رمش بعينيه أكثر من مرة يحاول تنظيفهما وجلاءهما، ثم حدَّق يتفحص المستديرة نصف العتمة. كبس زر إضاءة مصباح فوق الباب آلياً، ولكن  المصباح لم يستجب، فتذكر: الكهرباء مقطوعة.. هتف: من قرع  الباب، وتنبه إلى زمامير السيارات في الشارع، إلى ضجة الشارع التي اختفت في الليلة الفائتة. هاه. إنه الضباب ما كان يحجز الأصوات. أراد أن يرجع: لا بد أنه ولد أراد أن يعابث أهل البيت، أو.. لعله رجل اكتشف أنه يقرع الباب الخطأ، فخجل وانسحب قبل العتاب والاعتذار.

أراد إغلاق الباب والعودة حين رآها. كانت ورقة كبيرة مطبوعة مثبتة على الباب بدبوس.. تساءل: ما هذه الورقة، وما المعنى.. ولِمَ لم يسلموها إليه مباشرة.. انتزعها مع دبوسها. وعاد إلى الصالون. حاول أن يقرأ، ولكن عينيه المغبشتين لم تُمكناه من القراءة. فرماها على الطاولة، ومضى يتنظف، ويصنع قهوته.

فيما بعد وبعد وقوع الكارثة التي أنهت كل وجود، وكل حلم، وكل خيال سابق سيتساءل كثيراً، في الكوخ المعزول في بستان الخال، وفي جزيرة المستنقع ورائحة زيت الغار تضمخه وتنشر فوعانها من حوله سيتساءل، وسيلح السؤال حتى الألم: أكان يعرف بشكل ما، بشكل غامض، بشكل لا واع، بواحدة من آليات الحدس مما لا علاقة له بالمنطق والعقل. أكان يعرف بوقوع الكارثة؟ فيما بعد وفي الليالي التي كان يتمنى فيها لو أن الأنتي دوهر ينغ كان قريباً، فيمكنه من النوم المحرَّم المستحيل كان يتساءل: أتراه فهم الإشارات التي أحاطت به وصدمته، أتراه فهم سعال المدينة تحاول تنظيف حلقها من الشوكة العالقة، أتراه فهم الضباب الزيتي غطَّى المدينة، فقتل زمامير سياراتها وشجار أزواجها وصراخ أطفالها وأحالها إلى قطنة كبيرة منقوعة بالزيت. أتراه فهم الإشارات تعلن له عن الكارثة التي أحاقت بأحلامه. أتراه فهم الإشارات تهدم كل ما بناه مع أسيمة ومصباح من سهرات للمرح والطرف والطرب والتقرب من الأقوياء.. أتراه وهو من كان يرفض دائماً الإصغاء إلى الغيبيات والحدس والتخاطر.. على أنها خزعبلات وأضغاث أحلام حمقى. أتراه فهم الإشارات كلها على أنها الإيذان بنهاية الأيام السعيدة التي عاشها مع شلته، ومع مجد الفائز بجائزة السلام في صوفيا، والناقد المرهوب الجانب في المدينة، بل في البلد كلها. ياسين الأرفعي الذي ما إن يدخل مطعماً حتى تهب أكثر من طاولة لاستضافته والترحيب به ومن معه. وما إن يدخل نادياً ثقافياً، أو تجمعاً ثقافياً حتى يجد الجميع يتقربون منه ويتملقونه.. أتراه حتى لو لم تثر إشاعة تعيينه مديراً عاماً للدعاية والأنباء، وظلَّ الصحفي الملاحق، والناقد المخيف، أفلم تكن جنة السعادة تلك كافية، ولكن.. إنه ابن آدم الذي لا يملأ عينيه إلا التراب، والطماع الذي ما فتئ يحرض ويرسل الرسائل الغامضة والسرية إلى الأقوياء حتى تسرب الخبر وعرف به كل الناس. ياسين الأرفعي سيصبح المسؤول الأول عن الصحافة والإذاعة والتلفزيون. سيصبح المسؤول عن السياسة الإعلامية للبلد كلها.. و.. سيجبرهم هناك على الجانب الآخر من المدينة.. هناك في بيت الجدة عند أطراف المدينة، هناك حيث النهر الذي طالما طارد ضفادعه وسراطينه، وحيث رأى الخال ينضج قبل الأوان ويتخلى عن مراهقته، ويرى الأم تغادر أنوثتها الجميلة لتدخل في إهاب الحاجة وملاءة الباحثة عن السعادة وراء الأفق بعد أن فقدتها مع الأب الذي لاحق أرضيته ودنيويته حتى لقي حتفه على طريق حلب في حادث سير كان يحاول فيه استعادة ماله من الحاج أحمد الذي شاركه في تجارة الفستق في ضربة أخيرة لاستعادة الحظ.. سيجبرهم على احترامه فهو الأول في العائلة كلها من ستتصدر صوره شاشة التلفزيون، وسيرونه بينهم يومياً، ويدركون أن طريقهم ليس الطريق الوحيد للوصول إلى السعادة. سيتنهد كثيراً ورائحة زيت الغار تغرق كل مسامَّة فيه، ويتساءل لم أصرَّ على عدم فهم الإشارات تعلنه بأنه على أول طريق الخراب.

تَنَظَّف. حمل دولة القهوة، عاد إلى مجلسه. كان يتباطأ في كل حركة يقوم بها.. أكان لا واعياً يؤجل لقاء المصيبة؟ لا يدري، ولكنه أخيراً وقد جرع نصف فنجان القهوة، وتأكد أن الهاتف ما يزال مقطوعاً، وأن الكهرباء ما تزال مقطوعة، وأن أسيمة لم تتصل به، ولم ترجع إلى البيت منذ الأمس. أمسك أخيراً بالورقة يقرؤها، ولم تكن مفاجأة شديدة الألم وهذا ما أدهشه. لم يكن تهاوي عالمه السابق صارخ  الوجع، فكأنه كان يعرف أن هذا ما يجب أن يكون.

كانت الورقة قائمة باسماء المحرومين من حقوقهم المدنية والسياسية، وكانت القائمة تضم بالإضافة إلى اسمه أسماء كثيرين، وعلى رأسهم أسماء شلته من الرجال والنساء من الكتاب والصحفيين والإعلاميين والمحامي المطرب مصباح، وكان التوقيع: لجنة الدفاع عن الثورة. الثورة؟.. تنهد وهو يرتشف رشفة أخيرة مثقلة بالطَفَل من فنجان قهوته، وتذكر.. كان يقطع عليه نوم ليله  السابق الذي استعان عليه بحبتي فاليوم طلقات رصاص كان يظنها حلماً، بل هو يذكر أنه استيقظ مرة على صوت انفجارات مدفعية لم يصغ إليها جيداً، ولم يهتمّ، فقد كان إثقال الفاليوم أقوى.. ولكن.. تنهد.. إذن فالإشارات كانت صحيحة.. تنهد.. إذن فالثورة التي كان الجميع يعرفون أنها واقعة، ويخافون وقوعها قد وقعت.. تنهد.. إذن فقرار تعيينه  مديراً عاماً للدعاية والأنباء لن يصدر.. تنهد.. طيب.. ولكن.. ما معنى هذا.. ما معنى الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية.

سمع صوت المفتاح في الباب الخارجي، فهبَّ إلى المكتبة تعرض قفاها السري ودفع سيرته في قاعها، واستعاد مجموعة الأغاني والطبري وأعمال ماركس و.. أنتي دوهرنغ.. ودخلت أسيمة.

كانت فَرَحاً وصباً وباقة ورد وكيساً فيه عشاء. قالت وهي تنظر إلى المكتب: كأنك تلهَّيت عن الكتابة.

قال:  لن أنام حتى أعطيك الفصل الجديد.

قالت: وإذن نتعشى عشاء خفيفاً، ثم تعود!.. قالت في تهريج مفتعل.. إلى العمل.

بعد العشاء الخفيف حمل دولة قهوته، ومضى إلى المكتبة ثانية. قلَّب في أوراق السيرة السلطانية، ثم قرأ من حيث توقف، و.. اكتشف أن لديه ما يكتبه. 

(10)

جرع جرعة من قهوته، وأغمض عينيه يتخيل مولانا الفتى يبحث عن قدره، وبهدوء تسللت حكاية رفيق صباه، الجنعال مسعود عن أول بطولة قام بها، ويعرف الجميع أنه قام بها. قال: الطاحون. وتذكر ياسين الطاحون الحجرية تقام على نهير مندفع فيحركها وتعيش القرية والقرى المجاورة عليها، فيها يطحنون برغلهم ودقيقهم وكشكهم وفكر.. لم أصف شكله حتى الآن. لم أقرر العمر الذي سنبدأ به السيرة. أهو منذ الطفولة المبكرة.. منظ المراهقة، الشباب؟.. فكَّر.. منظ الصفحات الأولى قررنا أنه ريفي، فهو نائم في الحقل، وقررنا أنه ضعيف الحال، فها هي أمه تريد إيقاظه ليبحث عن الجدي الضائع، و.. لكنه ليس شديد الفقر، فالأسرة التي تستطيع إضاعة جدي لا بد أن”يكون لديها قطيع من الماعز.. حسن.. ولكن الملامح. الملامح، فكَّر لا بد أن يكون وسيماً، فمن سيكون السلطان المنتظر والموعود بالفرح، لا بد أن يكون جميلاً. حسن. إنه أشقر. ليس شديد الشقرة، فشمس بلاد الشام لن تبقي عليه شقرته الشديدة، العينان؟ زرقاوان بالتأكيد. الطول.. هو هوه. لا بد أن يكون فارع الطول. فالسلطان صورة الكمال. القوة.. يجب أن يكون ليس قوياً فقط، بل أسطورة في القوة. تذكَّر حكاية حكاها عنه واحد من أصدقاء طفولته: كان يستطيع حمل ثور على كتفيه والمشي به مئة متر.. هه.. حكاية جميلة يمكننا إثباتها. وفي أحد فصول الشتاء الشديد جاعت الذئاب والضباع، فنزلت إلى القرية، وأخذت تهاجمها، فتخطف خروفاً من هنا وعجلاً من هناك، واستنفر أهل القرية ببنادقهم العتيقة وفؤوسهم، ولكن الوحوش لم ترعوِ، فطوَّرت أداءها حين حبسوا حيواناتهم، وأحكموا حراستها، فخطفت الضباع مؤذن القرية العجوز، ولم يهتدوا إلى هويته إلا من شرواله الأسود الممزق الملطخ بالدم.. استغاثوا بالدرك، بالشرطة، بالحكومة، ولكن من يطارد وحوشاً تختبئ في الجبل، وأخيراً جاء الفرج، لقد حضر مولانا الموعود بالسلطنة عقلة في إجازة من كلَته العسكرية.

شكوا إليه ما أصابهم، فرأوا معالم الغضب على وجهه، تلك المعالم التي سيذكرها الجميع لعقود. لقد عبس، فنفر في جبينه صورة سبع من لحم، وانتصب في حاجبيه سبع شعرات، فصار صورة للغضب والرعة، فخافوا قبل أن تخاف الضباع والذئاب، وابتعدوا من طريقه بهدوء، ولكن سلمى حضرت.. آه.. ياسين. ها هي عناصر الحكاية تتكامل. وفجأة اختفى السبع من لحم، ونامت الشعرات السبع، وعاد الموعود بالسلطنة الشاب الوسيم الأشقر ذا العيون الزرق، الفارع الطول الوسيم حتى لتعشقه أخته كما يقولون! في الأمثال. اقتربت سلمى منه في حياء، فاقتربوا منه، فلقد عاد ابنهم الذي يعرفونه ثانية. قالت: الوحوش قتلت المؤذن، وأكلت الراعي، وخطفت ستة جداء وتيساً، و.. قال يصمتها في وقار: لقد حدثوني عن كل هذا.. جهِّزوا الأفخاخ. وازرعوها حول القرية. قالت: وأنت؟ قال: سأمضي بنفسي إلى مغائر الوحوش، فلا يمكن تركها تضايقكم بعد اليوم.

ويكمل صديق الطفولة: حمل بندقيته وجعبة رصاصه، ورغيفين وقرصي شنكليش، ومضى إلى الجبل إلى حيث غاب لأيام ثلاثة. كان أهل القرية يسمعون فيها اصوات الرصاص، فيطمئنون. فالموعود بالسلطنة ابنهم الحبيب ما يزال حياً. اعترضت الأفخاخ بعض الوحوش الهاربة، ولكن رؤوس الوحوش الضخمة المؤذية كان عليهم أن ينتظروا ليروها محمولة على ظهر ضبع ملجم بسكين في فمه وما يزال حياً ليظل البرهان على بطولة مولانا ابن نافع الزمان.

نظر ياسين إلى الساعة، لقد قاربت منتصف الليل، ويجب أن ينام.. أعطى الأوراق إلى أسيمة تقرؤها، ومضى إلى غرفة النوم.

(11)

لم تستجب لندائه، وما كان لها بتجاهل ندائه عادة، فكرَّر النداء. كان يريد تأكيد عادته الجديدة في التدلل والتقلب، وشرب القهوة في السرير، ولكنها لم تستجب، فغضب، وقرر أن يجهر بغضبه، فقفز من السرير وهو ينادي غاضباً، ولما لم تجب عرف أنها ليست في البيت. فتنهد وقال: أصنع قهوتي بنفسي وأتنظف إلى أن تعود. تجول في البيت حاملاً فنجان قهوته وكأنه يتأكد من غيابها، أو يرجو أن يراها مختفية في هذه الزاوية، أو تلك، ولكنها كانت فعلاً قد غادرت.

وصل إلى غرفة مكتبه، و.. ذكر السيرة الأخرى، سيرته التي أخفاها في الأمس في قاع المكتبة السرية. وضع الفنجان على المكتب. استعاد دفتر حياته السري، ومضى به إلى الطاولة الصغيرة المريحة عند النافذة تضيئها الحديقة. قرأ ما كتب بالأمس في برود من يبحث عن خطأ يقوِّمه، أو انحراف في المسار يسويه، ولكن الأحداث استولت عليه، فوجد نفسه يكمل من حيث توقف قبل وصول أسيمة.

على غير توقع، وبلا أية مقدمات وجد ياسين نفسه عارياً أمام العيون الغريبة تحدِّق في عريه في شماتة، ثم في اشمئزاز، ثم في كراهية، وأخيراً في اختراق.. كان يحس بدرجات تغيرات علاقاته مع الآخرين منذ الرفض مروراً بالاشمئزاز والمقت، وحتى الشماتة والتي كانت كلها فعلاً إنسانياً. أما الاختراق، فكان خارجاً عن المعقول، كان أمراً لا سابقة له.

كان أصدقاء الشلة الذين استطاعوا تنظيم لقاء في بستان صديقهم مروان قد حدَّثوه، وسمعوا الآخرين يتحدثون عن الانقلاب الجديد من حولهم في أقربائهم وجيرانهم، تحدَّثوا عن الصعوبات مع الجوار، مع الأهل، مع زملاء العمل.. حدَّثوه عن المقت الذي قوبلوا به، حدثوه عن الكراهية والرفض منذ صدرت القائمة المشؤومة، ولكنَّ واحداً لم يستطع حتى الآن أن يحكي تجربة الاختراق، أن يمرَّ بك الجار، أو القريب فلا يرفض تحيتك، ولا يرمقك في كراهية، ولكنه ببساطة.. لا يراك.

بدأ الأمر مع ياسين في ذلك الصباح الذي قرر فيه المضيَّ إلى عمله مدرساً للتاريخ على عادته، ولكنَّ فجيعته كانت في أن الآذن، البواب، الحارس المتملق الذي اعتاد أن يحمل إليهم السندويشات وصحون الفول، ويقدم الشاي والقهوة. هذا الآذن يتنمر فجأة، ويقف ساداً الباب بجسمه حاملاً بندقية ليس له بها عهد: ممنوع.

ـ ما الممنوع؟ سأل ياسين غير فاهم يحاول تحويل الأمر إلى مزحة، إلى نكتة ما على طريقته التي طالما ساعدته على القفز فوق مطبات الحياة، ولكن الآذن الذي اكتسى وجهه طابعاً صارماً سيراه ياسين فيما بعد كثيراً على وجوه أولئك الذين سيسمون أنفسهم فيما بعد بالمسؤولين. سيراهم ياسين في كل زاوية، وركن، ومكتب، وسيشزرونه بنظراتهم. سيرفضونه بتحديقاتهم. وسيشمئزون منه بإيماءاتهم. وسيصلون معه إلى الذروة حين يخترقونه بعيونهم: نحن لا نراك، لا نسمعك، لا نشمُّك.. نحن نستطيع العبور من خلالك، فأنت لست إلا شبحاً قادماً من العالم القديم الذي أسقطناه.

نظر ياسين إلى الجسد الضخم، الجسد العريض. الجسد الذي كان وزملاؤه يجعلونه نكتتهم؛ بم يغذي هذا الـ.. برميل. ويضحكون غير حريصين كثيراً على ألا يسمعهم، ولكنهم تأدباً لم يكونوا يرغبون في سماعه نكاتهم عنه. أكانت نكاتهم هذه  تضمر غيرة ما، حسداً ما، من كل هذا الجسد الضخم والذي يعرفون بم يغذيه، فهو يعيش معهم في المدرسة أكثر بكثير من عيشه في بيته، وبين أهله ورفاق مقهاه.

قال: ممنوع. وسد الباب بجسده الضخم حتى الإسراف. ما الفائدة من جسد على هذه الضخامة لآذن. أليست نزوات الطبيعة مضحكة. كان يقول مازحاً: لو أنها منحته جسداً على قدر العمل الذي يقوم به لكان بربع هذا الحجم، أو ربما عشره. وكانوا يقهقهون. لم يكن يقصد سوءاً، فكل ما كان يقصد هو المرح، وإضحاك مجموعة المعلمين في دقائق الراحة ما بين تلاميذ، وتلاميذ. كانوا يقهقهون، ويسعدون بنكاته. بل كان منهم من يرجوه بإلحاح أن ينضم إليهم في سهراتهم الشهرية التي يقيمونها للترفيه عن أنفسهم، ولكنه كان يعتذر، فقد كانت أمسياته مليئة، ما بين المسرحيات الجديدة، والندوات الثقافية يغطيها، والسهرات مع الكبار يدعى إليها فيصحب حارسيه،  أسيمة ومصباح، وكان كل شيء هناك أفضل، المجلس، الطعام، حسن تلقي النكات والطرف، والأحاديث الشيِّقة و.. سماع آخر الشائعات السياسية عما يطبخ خلف الكواليس.

وكان ياسين يجهز عند مضيِّه إليهم كل أدوات الفرح، ولو عرف مساهروه أي جهد يبذل، وأي قدرات يشحذ ليكون النجم، ويكون المرح، ويكون القناع لسود الأيام، لو عرفوا ذلك  لأشفقوا عليه. كان لديه مكتبتان، مكتبة يعرفها الجميع ويراها الجميع، ومكتبة هي سره الخاص. كان قد اخترع، وكان يحب هذه الكلمة، يرددها مع نفسه اخترع مكتبته الخاصة التي كلَّف النجار حين صنعها أن يجعلها مكتبتين. المعروضة والسهلة، والتي كان طابقها الأسفل من الأدراج والخزائن الصغيرة، أما المكتبة الأخرى فكانت على الجانب الآخر، الخلفي، السري، وكان يرفع مزلاجاً من اليمين، وآخر من اليسار، فتتحرر المكتبة، ويديرها على محورها، فإذا بالوجه الآخر للمكتبة يتبدَّى، كانت كنزه الخاص الذي يحتفظ فيه بكل كتب الطرائف والنكات التي استطاع جمعها بدءاً من أخبار الحمقى لابن الجوزي، إلى أخبار هبنقة وأشعب، إلى مقتطفات جمعها بنفسه من كتب الأغاني والجاحظ والتوحيدي، إلى الكتب الشعبية، جحا وطرائفه، أخبار أبي نواس، وكتب تختصر بعناوينها، ألف نكتة ونكتة، واضحك تضحك لك الدنيا ومجموعة من صحيفة البعكوكة المصرية، وحط بالخرج السورية، والمضحك والمبكي، وجراب الكردي.

كان هذا كنزه الخاص، ولو عرف الساهرون والكبار أي جهد كان يبذل في كل صباح كان سيساهرهم فيه حين يحفظ النكات ويكررها، ويصنع لها السيناريو متى تقال، ورداً على ماذا، وكيف، وأي ملامح يضعها على وجهه وهو يلقيها، وبأي لهجة تلقى، وكان قد نمَّى لديه موهبة تقليد اللهجات بدءاً من لهجة الدروز في الجنوب، إلى لهجة فلاحي الجزيرة في الشرق، إلى لهجة علويي الساحل في الغرب، ولهجة أكراد ركن الدين في دمشق، وكانت مكافأته الكبرى حين يضحكون، وكان يتعمَّد استخدام اللهجة الدرزية إن كان في السهرة درزي، ويصمم على تقليد عجائز الأكراد إن كان في السهرة كردي، ليكون الكرديُّ الضاحك الأول على اللهجة المقلدة.

ولكن.. ها هو الآذن يسد الباب بجسده الضخم واضعاً القناع الصارم الجديد على وجهه قائلاً: ممنوع.

قال ياسين بلهجة مصالحة أقرب إلى الملاطفة أو الرجاء: ولكن لديَّ دروس. وما يزال هناك عشر دقائق قبل بدء الدرس.

ولكن الوجه القناع الذي ما كان يتخيل أن لمثل هذا البغل وجهاً على هذه الصرامة، فلم يكلف نفسه عناء قول غير كلمة واحدة: ممنوع.

عرف ياسين منذ قراءته القائمة المشبوكة بدبوس على باب بيته والتي وصلت في الوقت الذي كان يقدر أنَّ أوان قرار تعيينه مديراً عاماً للدعاية والأنباء قد آن. عرف ياسين أن أياماً سوداً على الطريق، فقدّر أنهم سينقلونه ولا شك إلى قرية نائية في حوران، أو إلى البادية، أو أنهم سيخفّضون مرتبته الوظيفية من ملاك الثانوي إلى الابتدائي، أو في نقله من وزارة التعليم إلى وزارة أخرى، التموين، أو الأوقاف.. ولكن أن تأتي العقوبة بهذه الطريقة، فيبلغه بها آذن يمنعه من الدخول إلى مقر عمله.

قال مماحكاً: أريد مقابلة المدير.

ولكن القناع الصارم ردَّد الجواب ثانية: ممنوع

قال: طيب. هناك أشياء لي في خزانتي الصغيرة، دفاتر. كتب. دعني آخذها.

ولكن الجواب جاء متوقعاً: ممنوع.

تأمل ياسين الجسد الضخم الذي كان مادة لسخريته فيما مضى، تأمل البندقية الرشاشة، وكاد يقتحم الباب بعنف، ولكن منظر الجسد المهدِّد، والقناع البارد للواثق من قدرته على الرد جعله يتراجع.

استدار بعصبية عائداً يريد من يشكو إليه الموقف الجديد، يريد من يبثه حزنه، والظلم الذي وقع عليه. تمنى لو يلقى جابر، أو مصباح، أو نمري آه.. أو حتى دلال.. ولكن هواتفهم جميعاً مقطوعة، وكان يعتقد أن عطلاً فنياً قطع هاتفه، ولكنه بعد أن عرف أنهم قد قطعوا الهواتف عن كل المغضوب عليهم والمحرومين.. فهم، وصمت.. كان أول ما خطر له هو المضي إلى مدير التربية، ولكنه تردد: لن يستقبلني، وسأقف على بابه إلى أن أحسَّ بالخجل، فأمضي بعد أن أعطي أولئك البيروقراطيين الصغار ممن كانوا يحسدونني على صوري المنشورة في الصحف، وعلى المنابر التي أعتليها، وعلى الكبراء الذين أساهرهم. سأعطيهم الفرصة الآن ليفعلوا ما حلموا به طويلاً إعادته إلى حجمه الحقيقي مجرد معلم صنع ضجة من حوله ببعض العلك والثرثرة في الصحف، وبسهرات مع كبراء.. أين التعب الذي تعبناه والسنوات التي انتظرناها لننتقل من المرتبة الرابعة إلى المرتبة الثالثة. كيف كيف ينتفخ علينا ويريد أن يتعالى على أصحاب المرتبة الثانية، والأولى الذين أفنوا عمرهم في هذه المهنة.. ولكن.. ما الحل الآخر؟ الصحف؟ لا يمكن الاعتماد عليها وسيلة للعيش.. أطرد من مدرستي؟ للاذنب؟ فكَّر.. سأرى بعض الزملاء أناقشهم وأستفيد من تجاربهم.

مضى إلى مقهى البرازيل، مقهى الشلة، شلة النكات والقفشات والسخرية من المارة، ومن السياسيين، ومن أنفسهم إن لم يجدوا من يسخرون منه.

فكر أن يمضي إلى البيت أولاً يفطر ويشكو لأسيمة ما فعلوا به في المدرسة، وكان قد ناقش معها هذه الاحتمالات، ولكنه لاحظ عدم تعاطفها مع مصيبته المحتملة، وذكر أنها قالت له: كنت نصحتك. السفينة غرقت فاقفز، ونظرت إليه في سأم يعرفه، ثم مضت إلى غرفة النوم وتركته مع التلفزيون وحيداً. ولما كان التلفزيون بمحاضراته التي لا تنتهي أشد إملالاً من الوحدة فقد مضى إلى غرفته المكتبة، وانتزع كتاب أنتي دوهر نغ، واستلقى على الديوان، وتغطى جيداً بالبطانية وترك السأم يقوده إلى عالم النوم.

كانت هذه وصفته الشخصية لاستدعاء النوم. جرَّب عدَّ الخرفان قبل النوم لينام، فازداد أرقاً. جرب عدَّ البشر في ساحات المسيرات، فازداد أرقاً، وأخيراً وجد دواءه الشافي بالصدفة المحضة، فما إن يستلقي، ويفتح الكتاب الذي لم يحبَّه، ولم يفهمه، ولم يعرف سبب ترجمته إلى العربية، ولكنه اقتناه، ووضعه في مقدمة المكتبة برهاناً على ثقافته المعاصرة، ومجاراته موضة العصر كما كان يحلو له القول.

وكان إذا ما استلقى، وقرأ نصف الصفحة الأولى، وليس مهماً أية صفحة يقرأ ثقلت عيناه، وتثاءب بنعومة، فوضع الكتاب جانباً، وأطفأ اللامباديرة القريبة، وغرق في نوم الأطفال.

لكن أنتي دوهرنغ لم يستطع إنامته هذه الليلة. اللعنة. من هو دوهرنغ؟ فكر: الغريب أن الكتاب الذي قارب الاهتراء لشدة ما تقلب بين أصابعي وحمل إليّ النوم أكثر مما فعل أي كتاب آخر لا أستطيع تذكر مؤلفه، لا.. أنا أعرفه.. من.. من هو المؤلف؟.. إنه ألماني.. ألماني بالتأكيد. ولكن من هو.

لاحظ النافذة الواجهة الكبيرة للمقهى، ورأى الوجوه، وبروفيلات الوجوه وريليفات الوجوه وراء النافذة، وخاف: أتراهم يحدقون بي؟ أتراهم عرفوا بما فعلوا بي في المدرسة؟ كيف سيفعلون. هل سيتعاطفون معي؟ هل سيشمتون بي؟ هل سيجاملونني، ويلعنون هذه القوة الغاشمة التي لا تميِّز بين المبدأي والمنافق المتظاهر بموالاتهم، ولا يريد إلا الكسب من الالتحاق بركب المنتصرين. إنه يعرف أنَّ كثيراً ممن يعرفهم قد مضى إلى المتنفذين في السلطة الجديدة ليعلنوا ولاءهم، وأنهم كانوا طيلة الوقت يؤمنون بأن الحق سينتصر، وها هو ينتصر، وهم يهنئونهم، ويهنئون أنفسهم بانتصار الحق بهم.

تمهل يستعرض الصحف المعلقة على جدار الرصيف يطالع العناوين والمانشيتات ولا يقرأ. بل.. لنقل الحقيقة. كان خائفاً.. مم؟.. من أصدقائه، من شركاء السخرية والتعليقات الجارحة على كل شيء، من أحبائه الذين طالما أقرضهم واقترض منهم.. الحق أن لقاء الآذن عند المدرسة قد أرعبه إذ قدم له بروفة عما يمكن أن يفعل من يكبرون الآذن.. ولكن.. سيلقى الأستاذ غسان على الأقل.. إنه معلم قديم، ونقابي قديم، وعضو لسنوات في نقابة المعلمين.

سيستشيره ويحاول الإفادة من سنه وعمره، ولا بد أن لديه جواباً ما على هذه الأحجية.. انقلاب تقوم به مجموعة عسكرية على مجموعة أخرى، لم يكن ياسين عضواً بالمجموعة السابقة كما لم يكن بالمجموعة اللاحقة، فلماذا حين يمضي إلى المدرسة يفاجأ بمنعه من الدخول؟ مذنب؟ ما ذنبه؟ كان يسهر مع كبرائهم، وما الخطأ في هذا؟ هم كانوا يحبون مساهرته. كانوا يحبون منادمته. كانوا يحبون نكاته وطرائفه وغناء مصباح الرائع، وحضور أسيمة النبيل، و.. لنقل الحقيقة، فياسين ومصباح وأسيمة كانوا أيضاً يحبون مساهرتهم. كان ياسين يحب أن يُرى معهم وبينهم. كان يحب أن يقال عنه، أو يقول هو بنفسه في اليوم التالي:.. أبو كفاح.. غليظ.. غليظ يا جماعة. أنتم لا تعرفون كيف يتجشأ على الطعام، وحين كان الجالسون يسألون متهيجين: من هو أبو كفاح؟ كان يشيح  بيده بلا اكتراث، وكأنه نديمه في الليل والنهار: أبو كفاح، أبو كفاح! وحين يعجزون عن التخمين عجزاً أو خوفاً كان يكمل باستهانة: وزير الداخلية! وكانوا يشهقون، وكانوا يصفُّرون، وكانوا يحيُّونه فيما بعد في احترام خاص، في خوف. وكان فيهم من يحمل إليه مظلمته في عريضة يضعها في جيبه الداخلي في دفء مع بسمة متفضلة: لا تهتم.. سنحلُّها.. اضحك يا رجل.. اضحك.. العالم لا يستحق مثل هذا العبوس، ويبدأ سرد عدد من النكات والقفشات يجعل أبطالها دائماً الأبو جهاد، والأبو كفاح، والأبو نضال، والأبو ثائر، فيضحكون بقوة حتى تدمع العيون، وكان يتساءل أترى النكتة كانت على هذا القدر من الطرافة، أم أن ضحكهم لم يكن إلا شماتة بهذا الأبو جهاد والأبو كفاح، وبهذا الموقف البائس الذي وُضِع فيه أشخاص مخيفون قادرون على الأذى، وليس فيهم من يجرؤ على الحديث عنهم حتى همساً، فكيف يأتي هذا.. ويعنون ياسين، فيطلق عليهم مثل هذه النكات.

كان هذا التساؤل، وهذا الإحساس بالأهمية مكافأته، ولا شيء آخر، وهو يقسم إنه لم يحصل منهم على أبيض، أو أحمر، لم يحصل على منصب، وكان أقصى منصب حصل عليه هو الإشاعة التي عاش بها وعاش أصدقاؤه بها قبل الكارثة. كانوا يتسلون معه و.. كان.. يتسلى معهم، و.. هل يمكن اعتبار شعور الزملاء في العمل، أو الجيران في الحارة باحترام بسيط له، أو خوف بسيط منه مكافأة.

كانت عناوين الصحف تتحدث في بلاغة عن انتصار الحق، وعودة الأمور إلى نصابها، وكانت العناوين الصغيرة تختصر برقيات التأييد ومسيرات الترحيب بعودة الحق إلى أهله، وزوال البغي والطغيان، تنهد في أسف: هه. تأخرت..

كان يعرف أن هذه خطيئته الأصلية، أنت تتأخر دائماً في اتخاذ قراراتك، كيف حزروا بأن الأمر انتهى، فاتخذوا قرارهم، وقفزوا إلى السفينة المبحرة، وتأخرت في اتخاذ قرارك وإعلان تأييدك، فغرقت مع الغارقين، وخسرت مع الخاسرين تنهد لو أني أصغيت إلى أسيمة. قالت منذ اللحظة الأولى بعد قراءتها قائمة المحرومين، اقفز تنج. لو طاوعتها، لو طاوعتها. كيف ملكتْ هذه الرؤية الواضحة في اتخاذ القرار الصحيح تنهد لا بد أنه الدم، العائلة، الأصالة وقدرتها على الطفو في الفيضانات..، وأنا؟ ابن كلب؟. ألست ابن عيلة ايضاً. صح. ولكن العيلة التي لم تستطع الطفو أبداً، بل كانت كلما طفت شدَّها تشتتها إلى القاع، وكان عليها أن تبدأ المحاولة من جديد. أما أبناء العيلة وتراث الدم القادرة على الطفو.. هه. قالت: اقفز تنج. ولكنك ترددت كترددك ما بين الأم المتشددة في طهرانيتها والأب البورصجي. ترددت، وتساءلت لحظتها: وماذا سيقول الناس عمن يبدل معطفه عند كل منعطف، وأول كل حارة، وطال التردد: وماذا إن أخفق القادمون، سيبطش بي القدامى ويعتبرونني الخائن، وربما الجاسوس، وستكون الخسارة والشماتة فظيعتين.

تمتم: إنها حيرة وتشتت المثقف. وذكر أنه كان قد كتب هذه الجملة مرة في مقالة نقدية عرض فيها لفيلم هاملت، حيرة وتشتت المثقف. حيرته وتمزقه، وعدم قدرته على اتخاذ القرار المناسب في الزمان المناسب.. هاه. ها أنت تضيف سبباً آخر لعدم قدرتك على اللحاق بالركب الصاعد.. تشتت المثقف، وتشتت الممزق في عائلة لا تراث لها بالطفو الدائم، فعل العائلات العريقة.

كانوا متحلقين حول طاولاتهم، اقتحم الباب، ونظر إليهم. رآهم خلف غشاوة الدخان والبخار المحبوسين. كانوا منحنين على طاولاتهم، على شطرنجاتهم، على صحفهم، ولكنه لسبب ما أحس بأنهم يتظاهرون بالانغماس فيما هم فيه حتى لا يرفعوا رؤوسهم ويروه. أكان مبالغاً في شعوره، أكان توتره بعد لقاء الآذن المسلح ما جعله يبالغ في رد فعله. سلَّم على عادته على جماعة الطاولة الأولى. السلام على القوم.. ولم يكمل بالكرام حتى يوحي لهم بمزحته المألوفة بكلمة اللئام بديلاً عن الكرام. ولكن واحداً لم يردُّ، وواحداً لم يرفع رأسه ولو ليصحح أو يكمل قولته، فاضطرَّ أن يكمل معيداً: السلام على القوم الكرام، ولكن حامل الزهر تابع لعبه ملقياً بزهره مبدياً بهجته الشديدة حين كان الزهر اثنين وواحد، فأخذ يفقش بأصابعه، ويرقص في سعادة. جرَّ كرسياً رصفه بين كرسيي اللاعبين، ولكن واحداً لم يتزحزح ليفسح له حسب العادة، فقال: إيه بني يكلب لم لا تفسحون، ولكن واحداً لم يفسح، وواحداً لم يردَّ على بني يعرب، ولا بني يكلب، وكَزَ الأستاذ نظمي ليلتفت إليه، ولكن الأستاذ نظمي لم يشعر بوكزته، فأحس ياسين بالحرج، أفلم يشعر بوكزته فعلاً؟ تطاول برأسه بين اللاعبين، ولكنهما تابعا لعبهما، وكأن رأساً لم يتطاول، وظلاً لم يحطَّ على الطاولة.

أحس بالارتباك. فهذه هي المرة الأولى لا يقفزون في فرح  وسعادة لمجالسته لهم. أخذت الأفكار تختبط وتتسارع: أتراهم عرفوا بما فعل الآذن، أو تراهم يعرفون بما هو أشد من ذلك..؟ تركهم، ومضى إلى الطاولة الثانية حيث الأستاذ جمال صاحب الجريدة الصغيرة، الذي كان يصل إلى أوج سعادته حين يقدم له ياسين مقالة ينشرها، فيسعد مرتين، واحدة لأن كاتبها ياسين، وأخرى لأن أكثر ما يدفع ثمناً لمقالة هو دعوة على عشاء، فإذا كان كاتب المقال والمدعو إلى العشاء هو ياسين، فالسعادة للأستاذ جمال إذ سيضمن عشاء ممتعاً، وندماء ظرفاء، وشراباً ظريفاً، وطعاماً ظريفاً، ومقالاً ظريفاً لا.. مكافأة عنه.

اقترب من طاولة الأستاذ جمال في دلال على عادته، وهتف: صبراً آل ياسر، ولكن ياسين لم يحصل على التفاتته، ولا على ابتسامته، ولا على الترحيب بمجالسته، بل لاحظ أن الأستاذ جمال حافظ على إطلالته المفكرة على الخارج، واستمر يدخن أركيلته بهدوء، وكأن أحداً لا يقف إلى جواره، فهتف ياسين: أستاذ جمال. نحن هنا.

لم يفده هذا التنازل، فمدَّ كفه أمام وجه جمال يلوِّح ليلفت انتباهه، ولكن يده عبرت كظل لا يرى، اندهش ياسين: ما الذي يجري. هل صرت الشبح؟!

التفت إلى الجميع، وقد واتته شجاعة لا تواتيه في العادة، وصرخ: مرحبا شباب.. أنا ياسين.. صاحبكم.. أنا عاتب.. ما فيه أهلين؟.. لكنَّ جواباً لم يتلقَّ، وترحيباً لم ينل، والتفاتاً إليه لم يبد. خجل؟ لا، لم يخجل. ارتبك؟ لا. لم يرتبك. الحيرة، ما أحس به كان الحيرة. آذن المدرسة سدَّ عليه باب المدرسة ملوِّحاً بطريقة ملتوية برشاشه وهو يقول: ممنوع. أما هؤلاء، أصدقاؤه، جلساؤه، ندماؤه، فهم لا يرونه. هل تشبَّح؟ فكر.. ربما.

مضى إلى طاولة خالية. جلس إليها، انتظر مرور سلامة خادم المقهى وصفَّق يلفت انتباهه، لكن ما صعقه حقاً هو أن الخادم لم يسمع تصفيقه، ولم يلتفت إليه، ولم يكن له بذلك عادة، كان يكتفي بالإشارة بجانب اصبعه ليكون الواقف بين يديه. فما الذي جرى، هل صُمَّ.. حسن.. إن كان قد صُمَّ، فهل عمي؟ لقد أشرت له بيدي كاملة الطول، ولكنه لم يرني.

أنتظرُ قليلاً. لا. إنهم لم يروني. الأستاذ غسان لم يحضر اليوم. شلة الطاولة لم يروه، ولم يسمعوه، الأستاذ جمال لم يره، ولم يسمعه.. الكرسون سلامة لم يره، ولم يسمعه. تمتم: ما يدريك.. ربما تشبحت، حين أدارت الدولة لك ظهرها اختفيت.. صرت الشبح.

أطرق قليلاً يفكر: يجب أن أرجع إلى البيت. هناك أخلو إلى نفسي وأفكر. لقد غادرت قبل أن تستيقظ أسيمة. كان فطوري خفيفاً جداً، فالعادة أن نفطر في الاستراحة الطويلة نسبياً ما بين الدرس الثاني والثالث. ولكني لم أدخل إلى المدرسة، ولم اقدم الدرس الأول ولا الثاني، ولم أفطر.. هه. تنهد.. نرجع إلى البيت ونتشاور مع أسيمة، ربما كان لديها فكرة صائبة ما، فكثيراً ما فاجأته هذه المرأة بأفكار ما كانت تخطر له على بال.

بدت الشمس أشد وضاءة حين وصل إلى باب المقهى، ولكنه قبل أن يخطو الخطوة الأولى سمع صوتاً مائعاً يهتف: واحد ملك ظاهر سكر زيادة. تجمَّد في موقفه، فقد عرف أنه المعنيُّ. ولكن أصوات المقهى المألوفة من رمي زهر، وطقطقة أحجار الطاولة ومضايقات اللاعبين لبعضهم البعض استمرَّت وكأن هاتفاً لم يهتف. تهيأ لإكمال خروجه حين سمع الصوت المائع يعلن: مرحبا ملك ظاهر ها ها هاه.

التفت كنابض يريد معرفة من يسخر منه، فمن الواضح أنه المقصود بهذه السخرية، فلقد ارتبط اسمه لسنين بدراساته وكتاباته عن الملك الظاهر وسيرته، ولكنه رآهم كما تركهم قبل ثوان منحنين فوق شطرنجاتهم، فوق طاولاتهم، فوق صحفهم، وفوق نمائمهم السياسية.. لم يلتفتوا إليه، ولم ير الهاتف ذا الصوت المائع.. حرج فاستدار ثانية، ومضى مسرعاً يخاف من تعليق جارح آخر.

توقف على الرصيف بعيداً عن باب المقهى.. تنفسَّ عميقاً، فبدا الهواء أكثر نقاء، فأغمض عينيه في استسلام، ولكنَّ دفعة من كتف كادت تلقي به أرضاً، فالتفت في غضب ليبادره الآخر بانحناءة اعتذار، ويمضي.. تابع ياسين مسيرته حين توقف فجأة: الرجل صدمني.. الرجل اعتذر. إذن أنا لست شبحاً، ثم ضحك في استخفاف: وتصدق أنك تتشبح؟ وتصدق أصلاً أن هناك أشباحاً.. ولكنهم لم يروني.. لم يسمعوني.. لم يلتفتوا إلي في المقهى.. هدأ نفسه: ربما كانوا خائفين، فالمقهى ممتلئ بالمخبرين ولا شك، وهم لا يريدون لأنفسهم أن يرتبطوا بك.

عبر الشارع إلى الجانب الآخر، قال: هذا موقف جديد لم أعرفه، ولم يعرفه غيري من قبل فأعرف كيف أتصرف. قال: خطوة خاطئة قد تعني الهلاك الدائم. قال: أمضي إلى البيت فأغيِّر ثيابي، ثم أحمل مقالتين إلى الصحف التي أتعامل معها. يجب أن أظل مرئياً في أيام التشبيح هذه. قال: لا.. لن أنشر مقال الإطراء بالشاعر الأحمق الذي ظهر اسمه في قائمة المحرومين، لا.. فهذا محسوب عليهم، على الماضي.. لا.. يجب أن أبتعد عما يثير الشبهات في هذه الأيام. فكَّر قليلاً.. صحيح.. لم لا أبدأ معهم صفحة جديدة. سأكتب سلسلة مقالات تعيد الاعتبار إلى أولئك المنسيين الذين ما كان ناقد أو صحفي يجرؤ، أو يتبرع بالإشارة إليهم، وها هم اليوم في المقدمة.. ألن تكون المجموعة الجديدة صوت الناقمين على الماضي والماضيين. حسن.. سأكون معهم. كل ما في الأمر أن علي أن أخلو مع مؤلفاتهم لبضعة أيام أقرؤها، وأضع الملاحظات تمهيداً لهجمة نقدية تعيد الاعتبار لهم.

قال: لم تدرك القطار راكباً أصيلاً.. ضيَّعك تشتت المثقف وعدم قدرته على اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب، ولكن.. ها هي الفرصة تدلي إليك برأسها. اغتنمها والحق بالقطار متعلقاً بهم، وسيفهم الفاهمون والقيِّمون أنك لست العدو.

أراحه القرار الجديد، وشكر الله،  والشمس الهادئة التي ساعدته على المشي واتخاذ القرار الذي سيعيد إليه مكانته، ولن يجعله موضوعاً للشماتة التي أبداها الجميع.

وصل إلى البناية وحمد الله أن هذا وقت العاملين في أعمالهم والطلاب في مدارسهم، فليس من متطفل في الطريق، أو جار يتظاهر بالتعاطف، ويكون قد قرأ قائمة المحرومين في الصحف ويسألني عما سأفعل، فأنا لن أعرف كيف أردُّ عليه ولا أنتوي الردَّ عليه، ولا يجب أن أضع أمامهم خططاً لا أعرف إن كانت ستنفذ.

لاحظ أن المصباح فوق الباب مضاء، وبدأ اللعن: هذه العادة الكريهة التي تكلفني كل شهر مبالغ أنا في غنى عنها. ما الذي يغريها بترك المصباح مضاء ليل نهار. يمكنها أن تصنع كباقي الجيران، تضيء المصباح على الباب ساعة يطرق الباب لتتأكد من الطارق، أما أن تتركه مضاء ليل نهار فهذا ظلم.

عرف أن أعصابه قد اهتاجت، وهو ليس في حاجة إلى الهياج الآن. البرود يا ياسين. البرود.. أنت في حاجة إليها، إلى حكمتها، إلى هدوئها، إلى اقتراحات منها يمكن أن تكون مفيدة. أنت الأضعف الآن، بل يمكن القول إن دمك حلال، فلو اعتدى عليك أحد، فلن تنصرك الحكومة، ولو اختصمت مع أحد، فأنت المخطئ والملوم، وعدو الحكومة لا دية له.

توقف قبل قرع الجرس.. ما هذا العلك البارد؟ عدو الحكومة؟ من قال إني أرغب أن أكون عدو الحكومة؟

فتش في جيوبه يبحث عن المفاتيح، ولكن.. أعوذ بالله.. المفاتيح.. أعاد التفتيش، ولكن لا مفاتيح.. كل المفاتيح، مفاتيح الباب الخارجي، مفاتيح المكتبة، خزانته الخاصة في المدرسة.. أف.. اللعنة، لا بد أني نسيتها في البيت عند تغيير ثيابي، ولكن.. تنهد وهو يقرع الجرس. قال: ليتني جئت معي ببعض الخبز الساخن. أريد فطوراً ثقيلاً، فطوراً أتلهى به عن الهموم الصغيرة هذه، وكاد ينسحب ليأتي بالخبز. ولكن.. الباب لم يفتح. لماذا.. أعاد قرع الجرس، وسمعه يصدي في الداخل قوياً، ولكن لا جواب. أين مضت والساعة الثانية عشرة ظهراً.. لا عادة لها بالخروج من البيت في ساعة كهذه.. أين يمكن لها أن تمضي.. أطال قرع  الجرس حتى خاف عليه الاحتراق. كان يقرع الجرس قرع طالب نجدة. قرع ضائع يطلب هادياً.. أحس بالتوتر والتعرق.. هل خرجت من البيت في هذا الوقت؟ وأنا في أمس الحاجة إليها.

رفع اصبعه عن الجرس. تنفس يهدئ نفسه، تنفس عميقاً لا بد أنها مضت لزيارة صديقة ما، أو لعلها خرجت تشتري بعض السكائر.. أو.. ولكن.. كيف يتم هذا في يوم واحد، آذن الممنوع، وتشبيح الأصدقاء والزملاء له في المقهى، نسيان المفاتيح النادر في البيت، خروجها في هذا الوقت تحديداً.. أووف.. لو أن لي عقلاً بوليسياً لقلت إنها مؤامرة كبرى تتم ضدي.

ضرب على الباب بكفه بقوة.. لعلها نائمة.. لعلها في الحمام. أعاد الضرب بقوة لم يكن يقصد بها تنبيهها قدر ما كان ينفس طاقة غضب تعتمل فيه.. لا جواب.

ضرب الباب بكتفه يريد خلعه، ولكن الباب قوي. قوي أكثر مما يجب وهو يعرف ذلك، فهو من كلّف نجاراً ودفع له الكثير حتى يقوّي الباب ولا يمكّن لصاً أو مغامراً من اقتحامه في غيابهما الذي يطول أحياناً عن البيت.

توقف يفكر.. أسيمة خارج البيت. إنها خارج البيت ولا شك، فلو كانت في الداخل لفتحت الباب، وأدارت ظهرها مباشرة دون تحية إن كانت غاضبة، أو بعناقة حنون إن كانت راضية.

جلس على الأرض مسنداً ظهره الذي اكتشف تعبه إلى الجدار، وفكر: كيف كانت صباحاً، راضية، أم غاضبة؟ ولكن.. كيف لي أن أعرف وقد تركتها نائمة، وتركتني أعدُّ قهوتي وإفطاري الخفيف جداً بنفسي. حسن.. بالأمس.. الأمس مساء.. كيف كانت.. غاضبة؟ هل أغضبتها.. لا.. على العكس.. قرأت عليَّ قصتها الأخيرة.. آه.. كانت غاضبة، لا بد أنها كانت غاضبة.. لم يعجبها رأيك في القصة. كانت القصة مليئة بالإنشائيات، والرومانسيات.. ولكن.. أكانت فعلاً مليئة بالرومانسيات والإنشائيات. أٍ أنك أنت من كنت المتوتر والغاضب، والمتحامل، فألقيت برأيك المتحامل عليها في فجاجة.

أغمض عينيه يستعيدها مفكراً.. لا.. لم تفاجأ بعأيك النقدي فلقد اعتادت عليك، وعلى آرائك المتشنجة كما كانت تقول.. كانت تعلن دائماً أنك تطلب أكثر من الممكن. أنك تريد الكتّاب جميعاً بمرتبة بلزاك ودويستوفسكي. ولكن العالم يستطيع احتمال وقبول من هم أقل من بلزاك ودويستوفسكي. وكانت ترضيك بهذه الملاحظات، فتبدأ في إعادة النظر فيما كتبت من وجهة نظر إصلاح ما يمكن إصلاحه في المعروض أمامك.

سمع حركة.. فتح عينيه.. الحركة في البيت؟ أصاخ جيداً.. لا.. ليست في الداخل.. انها في البيت الفوقي، أو ربما في الشارع.. لا.. لم تكن غاضبة. إنها تخزن الغضب الصغير، غضبة فوق غضبة ولا تتلف أعصابها في غضبات صغيرة. إنها تجمعها لتفجرها في غضبة واحدة كبيرة لا يستطيع الصمود أمامها. ابتسم.. الصغيرة الحلوة.. كان محظوظاً بالحصوٌ عليها، رغم أخطائها الكثيرة، أخطاء في الطبخ، في الكيِّ، وفي العناية بالبيت بشكل عام، ولكنها رائعة بالعناية بأزهار الحديقة، رائعة في تغيير أماكن الأثاث (تجدد الحياة) كما كانت تقول.

كان يحب فيها هذه الرغبة في التجدد، فقد كانت تغيّر كنبات البيت كل ستة أشهر أو سنة.. كيف.. لا يعرف. كانت تبيع الطقم العتيق، وتشتري طقماً آخر وتدفع الفارق أقساطاً، أو تشتري كنبات من الموزاييك، أو الجوز المحفور العتيقة، فتجددها أو تكتفي بتغيير قماش الكنبات والستائر.

كانت طاقة تتفجر، وكانت مشكلتها أنها تتفجر، فهي لا تعرف كيف تجري هذه الطاقة في قناة واحدة، كانت تكتب القصة وتكتب الشعر، وتكتب التمثيليات الإذاعية، وها هي تفكر في الكتابة للتلفزيون، كانت تمثل، وترقص.. ولكنها في كل هذا كما كان حريصاً على إبلاغها من النسق الثاني أو الثالث، وقد قال لها مرات: إن العالم لن يذكر إلا النسق الأول، وعليك أن تحاولي أن تكوني النسق الأول في فن ما، أي فن.. ولكنها.. أسيمة. قالها يبتسم في حنان.

انتصب ثانية. قال: أجرب القرع، فلعلها إن كانت في الحمام، ومنعها صوت الحمام من السماع أن تسمع، أو إن كانت في الحديقة تقتلع وتزرع، فلم تسمع القرع أن تسمع. قرع الجرس، وضرب الجاب بكفه وبقدمه و..

انسحب إلى الشارع. ما العمل؟ جائع.. أسيمة ليست في البيت، والنقود التي أحملها قليلة. تذكر.. له بعض النقود عند!جريدة الصرخة، سيمضي إليهم.. سيقضي بعض الوقت، يثرثر، و يحاول الحصول على ماله، سيحاول أن يفهم ما يجري في البلد.. سيتفق معهم على سلسلة المقالات التي يفكر في كتابتها و.. مضى.. وحين وصل إلى نهاية الشارع التفت إلى الوراء، إلى حيث البيت، فلعله يراها قبل أن يبتعد، و.. ابتعد.

كانت مفاجأة.. لا.. ليست بالقاسية. أعوذ بالله.. أهناك ما هو أكثر من القاسية. كانت صاعقة، كان باب الجريدة مختوماً بالشمع الأحمر مع ورقة معلقة عليه بشكل واضح تعلن إغلاق الجرائد كلها، وسحب رخصها، وعلى من يريد افتتاح جريدة أن يتقدم بطلب ستنظر الجهات المختصة في أمره. 

(12)

قالت وهي تسكب بعض الفاصولياء العريضة في صحنه، ثم تسكب بعض المرق فوق صحن رزه في تأني وإتقان ربة العائلة العتيقة: أعجبتهم الإضافات الجديدة إلى السيرة. تنهد وهو يرمق كفَّها الصغيرة تحمل قطعتي لحم كبيرتين في ملعقتها الكبيرة وتضعهما فوق الرز: طيب. ولكنها لم تتوقف.. أضافت: ولكن كبير الأمناء تساءل وأظنه على حق، فغمغم.. همم..

قالت: بالأحرى اندهش: سلطان عربي؟ وحلم عربي؟ و.. أشقر.. و.. عينان زرقاوان؟

قال: ولكن السلطان يجب أن يكون جميلاً، وهل يمكن للجميل أن يكون جميلاً إن لم يكن أشقر ذا عيون زرق.

نظرت إليه طويلاً تتساءل إن كان يسخر، ولكنه حافظ على وجهه الجاد. فقالت وهي تكاد تسخر: ولكنك لست أشقر، وليست عيونك زرقاً!

فأجاب متظارفاً على عادته قبل الكارثة: ولذلك لم أكن السلطان.

ابتسمت: وأنا لست شقراء، ولا ذات عيون زرق.

فقال: ولهذا أحببتك، وطاردتك.

ـ أهذا يعني أنك لا تحب السلاطين.

ـ لا.. ليس هذا ما عنيت، ولكنني لا أفضلهم على طاولة طعامي ولا في سرير حبي.. ضحكت.. رغم الصرامة التي كانت تضعها كثوب جديد. قالت: يجب أن تصغي إلى ملاحظاته. والأمر بسيط. مالك وللسلطان الأشقر والعيون الزرق.

ـ حسن.. أعطوني صورته.. صفوه لي.. كيف لي أن أعرف كيف يبدو.

ـ وهل تعرف كيف كان شكل عماد الدين، كيف كان شكل صلاح الدين، كيف كان شكل عبد الرحمن الداخل.. تخيَّل يا حبيبي.. تخيَّل.. أين خيالك الروائي.. تخيَّل.

ـ تخيَّلنا، فاعترضوا، لا.. أريد صورة له وإن أمكن، فمقابلة شخصية معه.

وشهقت مذعورة، فكأنما ارتكب المحارم كلها: مقابلة؟ شخصية؟ مع مولانا؟

ـ ولم لا.

ـ لا.. لا أعتقد.. فكرتْ قليلا ً.. اسمع. أكمل كتابة سيرتك عن مولانا ـ ثم متأنية ـ وقد اقترحوا. أن نكلف فيما بعد كاتباً آخر ينقِّح ما لا يوافقون عليه. هه ما رأيك.

انفجر ياسين فجأة فكأنما لم يكن يحتاج إلا إلى هذه الملاحظة حتى ينفجر.

ـ منقح؟ كاتب آخر.. رقيب؟ لا.. لا.. أفهميهم. هذا ما لن أقبل به أبداً. السيرة إما أن تحمل اسمي، أو لست على استعداد لكتابتها.

أصغت إلى ثورته، تأملته يثور، ويتهيج، وتنتفخ عروقه: ولكن حبيبي نسيت؟ أنت لست صاحب قرار كتابة السيرة.. أنت مكلف.

ـ مكلف؟ ما معنى هذا؟ عبد؟ لا رأي لي.. لا.. لا.. لن أكتب بعد الآن.

كان يعرف أن ثورته الطفلية هذه ليست إلا ثورة مسالمة، ثورة أمام زوجته، وليست أمامهم، ولن تصل إليهم، فلا مصلحة لها شخصياً بخراب المشروع.

انتصبت تستعد للمضيِّ، فصرخ مرعوباً: إلى أين.

ـ أعدُّ لك فنجان قهوة لتهدأ أعصابك، ثم نناقش الأمر بهدوء.. كراشدين.

أغمض عينيه يحاول تخيل شكل آخر للسلطان. فكَّر. يجب أن يكون مختلفاً، فلو كان يشبهه، أو يشبه جابر، أو نمري، أو.. هه.. مصباح.. فما المميز فيه ليكون السلطان. كانت حكايات الطفولة حين تصف الجميل، تصفه بالأشقر الأحمر أزرق العينين، فكيف يخالف هذه الوصفة الآن ليأتي بسلطان أسمر، أسود العينين، أو بنيهما. صغير العينين كثيف الحاجبين، أعوذ بالله، رجل كهذا يصلح ليكون بواباً للبناية أو سائقاً لسيارة، أما السلطان.

دخلت أسيمة تحمل صينية القهوة.. كانت رزينة أكثر مما يجب، ما الذي أثقل الرشاقة التي وعدت بإيزيدورا دونكان وسامية جمال. ما الذي أعبس هاتين العينين اللتين حلمت بهما أودري هيبورن.. ما الذي.. قالت: كنت أفكر.

فقال ممازحاً يحاول ترطيب رصانتها: عظيم.. شيء جديد.. تفكرين؟

لم تستجب لمزاحه إذ تابعت: أنت كما يبدو لا تدرك عظم المهمة التي كلفت بها؟

فقال في وقار: بل أدركها، ولذا فأنا أريد لها أن تكون الأمثل.

صبَّت لهما القهوة، وكانت شاردة طيلة فترة الصبِّ. أعوذ بالله.. لا.. لا يمكن لهذه أن تكون أسيمة الطيش ولكمة ارتجاج المخ.. لا يمكن لهذه أن تكون أسيمة الصوت الفج والحركات غير المنسجمة على المسرح. تنهد ولم يسمعها تنهده.

قالت: أكان اختيارك في دراساتك المواربة في رفضها للملك الظاهر وسيرته اختياراً بريئاً، أم كان رفضاً لأمك التي حدثتني عنها، وعن إدمانها قراءة السيرة، ولجدتك التي كانت تحفظ عن ظهر قلب أجزاء مهمة من السيرة، ومن الخال التحدي. أكان اختيارك دراسة السيرة ورفضها بريئاً، أم كان انسلاخاً من جلدة الماضي، محاولاً نفض تبعاته عنك كمن ينفض طوق ثوبه معلناً البراءة على عادتك التهريجية.

نظر إليها بإعجاب رغم أنه لم يوافقها على ما كانت تقول إلا أنه وجد التحليل معقولاً فقال يستحثها: هه تابعي.

قالت: وها أنت تصطدم بما يسمى بعلم الأدب بالتمنيع. إن جزءاً لا تملك السيطرة عليه في مخيلتك يرفض أن يمتثل إليك ويعيد خلق وتصنيع الملك الظاهر، المثل الأعلى لأمك من جديد.

أصدر آهه إعجاب داخلية وما يزال يحافظ على قناع الإنصات الهادئ، ثم همهم يستحثها: هه

ـ ولكنك مخطئ، فالمطلوب اليوم كتابة سيرة سلطان آخر.. سلطان ليس الملك الظاهر، بل لو كانت أمك حية لكان لها رأي آخر، فالناس يحبون سيرة الأموات أكثر مما يحبون سيرة الأحياء. وسارع إلى أوراقه، فكتب جملتها الأخيرة وقال: أسيمة أنت اليوم تقولين أشياء جميلة من أين لك بها؟

قالت: أريدك أن تواجه نفسك مواجهة حقيقية. إنها فرصتك لدخول التاريخ. اسمع أنت لم تكتب حتى اليوم الأشياء التي كنت تحلم بكتابتها، بتجاوز ما كتب قبل الآن. ولم يَردَّ، فقد كانت الملاحظة جارحة قالت: ها هي فرصتك. اركب جوادك. اكتب السيرة التي ستصبح نديم وسائد الشعب، اكتب الحلم الذي ينتظرونه منذ وفاة الملك الظاهر، وستصبح في أهمية الجاحظ والأصفهاني.

كانت تقول.. وتقول.. وكان يصغي مندهشاً: أكلّ هذا الكلام الكبير لها، أم أنهم جعلوها تحفظه لتلقيه أمامه؟

انتصب. قالت: إلى أين؟

فقال ضاحكاً: سأحاول هضم كل هذا الكلام الجميل الذي قلت.. سأتمشى وأفكر.

هزت برأسها توافقه وهي تلملم أدوات القهوة. 

(13)

اختار طريق البساتين لرياضته الماشية. قال: أخلو بنفسي بعيداً عن زمامير السيارات المطاردة. ما الذي يعجلها؟ كانت السيارات في تدافعها وتطاردها توتره، وتزيد في عصبيته، واعتبر نفسه محظوظاً حين غامر بالابتعاد عن طريق السيارات داخلاً بين البساتين، فهدَأ قليل من توتره. أمعن في اختراق الطريق سيئة التزفيت، ولكنها كانت خيراً من طريق ترابية، رأى قنفذاً داسته سيارة، فتساءل في أسف: أوقد طاردوها حتى إلى هذه الطرق الفرعية. تأمل النهير الصغير. تفحصه متوقفاً عن المشي. عم كان يبحث.. عم كان يبحث.. السراطين.. الضفادع.. حشائش الماء الخضر المنسابة كشعر امرأة بعد الحمام.. وبهدوء.. وجد نفسه يعيش ما سيكتبه في ليلته تلك كالمحموم، وعاد ليكتب

وقف أمام الباب الخشبي العتيق. تأمل المشهد من حوله في حنين، فلطالما خاض في هذا النهير، يبحث عن السراطين والماء يداعب أعلى فخذيه، فيشعر بمتعة حسية مبكرة ربما كانت ما جعله يكرر هذا الخوض حيث لا سراطين ولا ضفادع، كان يدس عوداً في الوكر الطيني في ممر يعرف أن السرطان سيلجأ إليه خوفاً، وكان ما خطط له وجرَّبه يتمُّ بالتفصيل الممل فها هو السرطان يفر من العود المهاجم إلى خارج الوكر لتكون أصابع ياسين المتوترة كالملقط مستعدة للانقضاض على ظهره الصدفي وإلقائه خارج الجدول ليضمه الأولاد إلى السراطين الأخرى في السطل حتى إذا ما اكتمل العدد بدأت حفلة التعذيب وانتزاع الأطراف، أو الدفن حياً في التراب حرقته الشمس، لماذا كانت هذه القسوة.. تنهد.. تأمل المشهد ثانية، ماتت أشجار الصفصاف، واقتلعت أشجار الحور عن الضفة، ويبست شجرة التين، ولم يستبق النهر على ضفته إلا جنبات الدفلي المنيعة على الموت وبعض النفنوفة.. والنسرين هنا وهناك.

كانت شلة من الصبيان يلعبون بالكريّات الزجاجية جاثين يقذفون بكريّاتهم، كأن الزمن لا يتحرك. وكأنه فارقهم بالأمس فقط، ولم يتغير فيه إلا هذا السواد فوق شفتيه، وهذه الخفة في شعر الجبين. أراد أن يقترب منهم، يعلمهم كيف يقذفون بالكريَّة الزجاجية، ولكن ثقلاً في القدمين وخزياً من موقف العائد إلى حيث كان يتمنى ألا يعود، ولكن ها هي المغامرة تنتهي، وعليه أن يكمن ها هنا حتى يرى ما تأتي به الأيام.

رفع كفه يريد المقرعة ولكنها تلكأت. وتنهد.. ما أصعب عودة الابن الضال ينتظر المغفرة، ويقدم التفاسير. أمسك بالمقرعة فالتصقت الأصابع اللحمية بالأصابع النحاسية.. توقف في خجل.. في.. ولكن ما الحل الآخر.. أسيمة لم تفتح الباب، والأصدقاء والزملاء والندماء شبَّحوه فلم يروه.. ها أنت وحيد يا ياسين، وحيد مثل ذلك اليوم الذي قررت فيه هجر الحارة والماضي واختراق المستقبل.. عزَّى نفسه. الحياة كالنهر مليئة بالانحناءات، والاستراحات.. المستنقعات، وبالانهيارات.. الشلالات. ولكن النهر لا يستطيع إلا أن يسير إلى الأمام.. سر يا ياسين.. سر ولا تخجل، فكثيرون أصابهم ما أصابك! تنهد.. أمراء وكبراء ووزراء و.. لكنني.. صرخ في لوعة.. لم أكن يوماً، ولم أرغب يوماً بأن أكون الأمير أو الكبير، أو الوزير. أنا لست إلا عشبة صغيرة داستها الأقدام لمئات السنين، وحاولت أن تنتصب. عشبة شاءت الانتصاب.. فلم أحاسب محاسبة شجرة الحور أو الجوز؟

دوَّى صوت المطرقة النحاسية على سندانها، دوَّى عالياً وهو لا يذكر حقيقة إن كان هو من أفلتها لتنقرع على السندان، أم أنها أفلتت نفسها، أو انزلقت على غير رغبة منهما معاً، ولكنها قرعت، وانتهى الأمر.

سمع حركة الأقدام في الدهليز الطويل، وسمع نحنحة الخال يتساءل في غير لغة عن الطارق، ولكنه بَكُم. كان من يسمى بالخال لا يستحق فعلاً كلمة الخال، فلم يكن ما بينهما من العمر يتجاوز السنين الخمس، ولكنها سنين فرضوها عليه جميعاً وقاراً واحتراماً وهيبة، وكانت الجدة التي كانت تستدعي الاحترام عنوة لابنها تصرُّ على أن ينادوه بالخال: فلم تحرموه حقاً وهبه الله؟ لم تريدون أن تصغِّروا من كبَّره الله؟ وهكذا كان ياسين وأخوه علاء يناديانه إرضاء للجدة وابنتها بالخال.

كانت هناك منافسة طويلة وعميقة بين ياسين وخاله، منافسة أشبه بالتنافس بين الأخوين المتقاربين سناً!

كانت المنافسة على قلب الأم ـ الأخت، ولكنها منافسة كسبت منذ البداية تقريباً. فالأم ـ الأخت المتعلقة حتى الانسحاق بأمها سرعان ما ضحت بالابن في سبيل الأخ، وكان لها للحقيقة مبرراتها الكثيرة، فالأخ ـ الخال كان مرضياً عنه تماماً، كان يصلي الصلوات الخمس في حينها، وكثيراً ما أمَّهما بالصلاة. كان قارئاً جيداً لمولد البرزنجي، فإذا ما أخذ بالقراءة تحوّل إلى ممثل أول، أو ممثل وحيد يحرك الحاضرات كما يشاء، وكان يحلو له أن يدس في قراءته بين الحين والآخر كلمة صلوا على النبي، فيندفع النساء جميعاً في نشيد واحد

صلى الله على محمد       يا رب صلِّ وسلِّم

فإذا ما صمتن أشار لهن ثانية بإصبعه الصغيرة: صلوا كمان على النبي العدنان فيندفعن يكررن:

صلى الله على محمد       يا رب صلِّ وسلِّم

ويظل يكرر حتى يسأم ويسأمن، فيكمل قراءة معجزات مولده صلى الله عليه وسلم. وفجأة يتوقف فيصمتن متوترات لينطلق وكأنه قائد الفرقة الموسيقية بصوته النحيل المسرسع: عطِّر اللهم قبره الكريم، فيكملن وهنَّ يمسحن على وجوههن في خشوع: بعرف شذي من صلاة وتسليم. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أحباب سيدنا محمد وعلى….

ابتسم ياسين في مرارة، كان يعرف كيف يستدرُّ حبهن، وعطفهن، ورضاهن. وكن يمطرنه بحبات الملبَّس والبسكوت والراحة، وكان لديه دائماً من هذه المدخرات ما يزيد عن حاجته، فكان يستخدمها في تشغيله مع أخيه الصغير للقيام بالمهام الثقيلة جلب الماء من الحنفية العامة شراء الخبز المبكر من الفرن، وكان لديه دائماً الأجر المغري، الملبس والبسكوت وراحة الحلقوم، وفيما بعد وحين كان يخلو بنفسه ويتذكر تلك الأيام في حنين وحنان كان يتساءل: ما الذي جعله يتعلق بروايات موريس لوبلان وآرثر كونان دويل مبكراً، وجعل الخال يتعلق بمولد البرزنجي. ما الذي جعله حتى حينما صودرت منه روايات أرسين لوبين التي تعلم اللصوصية والفساد، وروايات شرلوك هولمز التي لا تقل عنها سوءاً. ما الذي جعله يلجأ إلى سيرة الملك الظاهر، وسيرة الملك سيف، ولا يقرب مولد البرزنجي، ولا الإسراء والمعراج، ولا دلائل الخيرات. أهو الفساد المبكر في بذرته كما كانت جدته تعايره، أم هو هذا العلم الأرضي الفاسد الذي يعلمونه في المدارس؟ من تاريخ وجغرافيا وأشياء واضحة تتحدث عن كل شيء إلا عن المعجزات وقدرة الله الصانعة لكل شيء. وكانت الجدة تسأله أحياناً إن كان يعرف سر الفساد الكامن فيه، ولكنه لم يكن يحر جواباً إذ لم يملكه أبداً.

فتح الباب أخيراً، وتواجه الندان، الأخوان اللدودان، المتنافسان على قلب أم لم يعد لها قلب بعد أن طواها التراب، ولكنهما ما يزالان يتنافسان عليه. فتح الباب والتقت الدهشة الصارخة على وجه الخال بوجه البراءة المدعاة والصلف المتفضل على وجه ياسين. كان قناعاً لا يريد جلاء الانكسار الذي يعيشه من اضطر إلى التنازل عن كل إنجاز ونجاح حصل عليه منذ صارت صوره تتصدر الجرائد، وتزوج بنت البندقدار، وبدا أن العالم قد انفتح أمامه إلى نجاحات كان يمكن حسابها وتوقعها على وجوه الناجحين الآخرين.

بشَّ الوجه الملتحي، فقد كانت المفاجأة غير متوقعة، وأسعدت البشاشة الصلف المدعى على وجه ياسين، واستسلم لاحتضانه، ثم لجرِّه إلى الداخل، ولكنهما وقبل أن يجتازا منعطف الدهليز الأخير توقفا ليصرخ الخال منبهاً النساء في الداخل زوجه وابنته الكبرى إلى قدوم أجنبي عليهما أن يستترا منه: يا الله.. يا الله.. خذوا طريق.

وبعد توقف قصير سمعا فيه الحركة المتعجلة العصبية في الداخل.. وسمعا تصفيقاً يسمح لهما بالدخول تقدما في اتجاه غرفة الضيوف بعد أن عبرا الباحة الصغيرة، وتوقف ياسين قليلاً يتأمل شجرة النارنج. ألا يسأمون من تكرار هذه الشجرة التي لا تعطي إلا خضرة الورق وعطر الزهر أوان الزهر أما الثمر فمن يجرؤ على تذوق ثمر النارنج. والبحرة الصغيرة المصبوبة قطعة واحدة من الموزاييك. تذكير بماض كان فيه بحرة كبيرة وكانت تشرب من النهر وتعود بوسخ مائها إلى النهر. ولكن.. فسد النهر وأَسِنَ ماؤه، وماتت ضفادعه وسراطينه وحتى أعشابه.

رأى الوجه الملتحي للخال يشده إلى غرفة الضيوف، فمضى لاحقاً به، أخذ يرحب به، وكان الترحيب يتضمن تساؤلاً مضمراً عن سبب زيارة لا سابق لها منذ زمن طويل، وقبل أن يجيب ياسين كان الباب يقرع، ثم يفتح مواربة. وصينية القهوة تتطاول، فقام الخال بحملها وتقديمها لياسين. كان ياسين جائعاً، ولكن الموت كان أهون من الاعتراف بهذا الجوع، وكان مفلساً فالمصيبة وقعت في الثلث الأخير من الشهر، ثلث الاستدانات والقروض والشجارات مع أسيمة على هدرٍ لا مبرر له، الهدر في الطاقة الكهربائية، في المصابيح المنسية مضاءة طيلة الليل، والهدر في طبخ طعام لا يأكلونه، فطبخها لم يتحسَّن أبداً، وكانوا يرمون معظمه، أما في ثلث الشهر الأخير فكانا يأكلانه. فرميه كفر.. كما كان يعلن.

شربا القهوة، وكانت المفاجأة في أن الخال كان يعرف بقرار الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية الذي وقع على رجال العهد البائد ممن لا جريمة مباشرة تطالهم. كانت المفاجأة في أنه لم يشمت، ولم يعاتب، ولم يبد حكمته حيث لا لزوم للحكمة. قال:

ـ والآن. ما مشاريعك؟

كان لياسين حصة صغيرة في البيت، هي ميراثه من أمه في بيت أبيها، ولكنه لم يطالب بها أبداً، فقد كانت أتفه من أن يفكر بها رجل يسعى للمجد سعيه، أما الآن.. لكن واحداً منهما لم يناقش الأمر، علا أذان المغرب، وانتشرت حركة عصبية في البيت. سمع صوت طرطشة الماء، وسمع وقع القباقيب الخشبية على البلاط، ورأى تصبُّر الخال قليلاً حتى هدأت الضجة، ثم رآه يستأذن، ورأى واحداً من أبنائه يحمل له القبقاب الخشبي ومضى الخال، وكان الحرج الشديد على ياسين، الحرج من موقف لم يكن مستعداً له، أن يمضي الخال وأبناؤه إلى الجامع لصلاة المغرب. أفيبقى وحيداً في البيت مع النساء.. لا.. فهذا عيب، أيمضي إلى الصلاة معهم ولم يفعلها منذ سنوات، تردد،  وتردد، ثم رأى المجاملة، فتوضأ، ورأى سعادة على وجه الخال، أهي سعادة هداية الابن الضال، أم سعادة النصر. فها أنت ترضخ أخيراً للحق. بعد الصلاة كان الدرس الديني وقد قام به الخال كاملاً، وكان الدرس عن التوبة، وعن سعادة الله بعودة التائب إلى حماه ورشده وعن، وعن، وفي تلك الليلة وحين يحاول ياسين النوم، فيتأبى سيتساءل أتراه عنى بكل هذه الموعظة ما آل إليه وضع ياسين. كان عشاء متواضعاً، ولكنه كان دافئاً فتح من أجله بيت المونة وأخرج الزيتون النفيس زيتون المناسبات، والمكدوس واللبنة المحفوظة على شكل كريات، والبيض المقلي بالقاورما، وأكل ياسين، أكل أكل جائع لم يأكل منذ الأمس.

كانت سهرة مختلفة عن كل سهرة سهرها ياسين منذ أدار ظهره للحارة وأهلها شاقاً طريقه في مراقي المجد كما كان يفكر، سهرة أمسك فيها الخال كتاب تفسير الجلالين، كما أمسك ولداه الكبيران جزءين من القرآن الكريم وأخذوا يقرأون بهدوء، ولما لم يكن لديه ما يقرأ، ولم يكن لديه شهوة القراءة فقد أخذ بالتثاؤب، فساقوه إلى غرفة صغيرة نظيفة الفراش والشراشف، وسرعان ما غرق في نوم لم يستعن عليه بالأنتي دوهرنغ.

حين سمع الأذان، خال نفسه ما يزال في الحلم القديم، ولكن الأذان ألح.. كان قريباً، لم يكن أذاناً يتسرب من مسجد، بل كان شديد القرب، فتح عينيه، لم تكن أسيمة إلى جواره. كان الأذان قريباً جداً، مدَّ ذراعه يريد إشعال اللمباديرة، فاصطدمت بالجدار الخشن في قسوة. لم يكن اصطداماً، بل كان ضرباً خدش ظاهر كفه ولا شك، وأيقظه بحدة، تمتم يلعن، وقد استيقظ تماماً، لا.. ليست هذه غرفة نومه، ولا غرفة مكتبه التي يلجأ إليها هرباً من شجار، أو هرباً من أرق سيستجر الشجار.. لا.. وألح الأذان: الصلاة خير من النوم.. و.. عرف الصوت، وحين عرف الصوت عرف الغرفة، والوضع الذي آل إليه، فأحس بكآبة سريعة. كآبة أخرجته من نشوة أسيمة وكافتيريا النجمة وبسمة الوعد.. كان نداء الصلاة خير من النوم صريحاً واضحاً، كان للبيت قانونه الواضح، وعلى من يقيم فيه أن يخضع لهذا القانون، وهكذا انسلَّ من السرير وهو يتنحنح، ثم أعلن عن يقظته بـ: يلله يلله.

صلَّى الفجر والخال الإمام، وأبناؤه وبناته المحجبات وزوجه يأتمون به. صلى الفجر مستعيداً صباً قد انقضى، وتقى مفروضاً لم يكن جزءاً من مزاجه، ولكنه لم يستطع أن يمعن في الرفض، فقد كان الجميع متحدِّين في هذا الأمر، وكان قائد سرب الإيمان الجدة الأرملة، وفيما بعد وفي زمن إعداده لكتابة السيرتين. سيقرأ ما كان قد كتب عن تلك الفترة: ما الدافع الذي يقود الأرامل إلى التشبث بالدين بهذه الحدة، لم يكن تدينها، ولا تدين ابنتها تديُّن من يعيش أبداً، بل كان تديُّن من يموت غداً. كان الموت جارهم اليومي، وكنَّ يتحدثن عن يوم القيامة، وكأنه سيكون آخر الشهر، وكنَّ حين يتحدثن عن يوم القيامة وعذاب الجحيم يتبدين وكأنهن يتمنين أن يقع يوم القيامة غداً كي يعاقب الخاطئون والخاطئات، وكان في رغبتهن تلك شيء من خوف ألا يعاقب الخاطئون، وكان في ذلك الخوف شيء من شك، أكان الشك فعلاً، أم كان الخوف من ضياع جهدهم في العبادة، فيتساوين مع الخاطئات والخاطئين في الحظ، وكنَّ إذا سمعن الحديث عن التواب قابل التوبة يشعرن بشيء من الحزن. أهذا معقول. يقضي الخاطئ عمره في ملذات الخطيئة حتى إذا ما أدركته الوفاة تاب، فقبل الله توبته سعيداً بتوبته، فيكسب الحالين، ملذات خطيئة الدنيا، وملذات الغفران والتوبة، وكن يأسين حين  يفكرن في هذا. أسيعامل الله  الخاطئة.. التائبة معاملته للجدة التي قضت العمر في التهجد والتعبد وحرمان النفس من كل لذة. أسيعاملها الله معاملته للتائبة. وتكاد تشعر بالتمرد، ولكنها فجأة ترجع إلى الله، وتستغفره عن شرور ظنها، وعن إثم تفكيرها، وتعلن بصوت عال، وكأنها تعني أحداً ما ليسمعها: الله  قادر على كل شيء.. لله حكمة تقصر عنها أفهامنا. له البداية والنهاية، وهو الغفار الرحيم.

وكانت أحياناً تميل إلى التواضع، فتسأل: وهل أنت على ثقة من أنك الصالحة التقية مغفورة الخطايا؟ ما يدريك. وذنوب الشك والتمرد التي تهجس في فؤادك. أتظنيه يغفرها لك؟ بعد صلاة الفجر فرضاً وسنة، وقراءة أوراد كان ياسين يشعر اثناءها أن كل هذا ما هو إلا انتقام منه، وتبيان لخطل العنزة التي شطَّت عن الطريق، فهاجمها الذئب، وكان حظها الطيب أن نجت بتراء الذيل فقط. نجت لتعود إلى القطيع درساً لكل من تسوِّل له نفسه الضياع عن القطيع.

وجد في جيبه عند مغادرة البيت مئة ليرة، فأحسَّ بخجل عميق. لم يكن الامتنان، بل الخجل والحس بالعار. وتساءل: أي فارق كان بين الخال واستجابته، وعلاء ولبنى وتجاهلهما قرعه الباب، وصكَّهما الهاتف عند سماعهما صوته على الجانب الآخر. تنهد.. كانت الليرات المئة الجواب على المنافسة الطويلة على قلب الأم الذي صار تراباً، وكانت الردّ الصريح بأنَّ كل ما فعلت يا ياسين عبث وقبض ربح، فها أنت تعود الجريح المهيض الأعزل لم تُفد من تلك المغامرة إلا الجراح.. ترى.. هل عرف الخال بأنه قد صار لديهم الشبح. 

(14)

تأمل المدخل العتم، وانقبض قلبه، فليس لها عادة بتعتيم المدخل..

قرع الجرس، ولكن لا رنين.. ما معنى هذا؟ الكهرباء مقطوعة؟ رجع إلى مدخل الدهليز، وضغط زر المصباح الأوتوماتيكي، فأضاء المدخل، وإذن؟ الكهرباء مقطوعة في بيتنا فقط. ضرب على الباب بيده يريد رداً، ولكن لا رد. هتف: أسيمة.. أسيمة. افتحي الباب فلقد نسيت المفتاح، ولكن لا رد. دفع الباب عرضاً فهو يعرف حرصها وحرصه على الإغلاق الجيد للباب، فالقبو المنعزل مغر للصوص حيث لا جيران سواهم، ولكن الباب لدهشته انفتح.. أكمل فتح الباب كاملاً إلى الداخل، ولم يخطُ، فلقد أخافته المفاجأة. النور مقطوع، والباب مفتوح.

لعل هناك جريمة ما، وما كاد يذكر الجريمة حتى اندفع إلى البيت يخترق الصالون إلى الحديقة الباحة، فيفتح الباب المطل عليها ليضاء الصالون العتم، وحين أضيء الصالون العتم اكتشف أن الصالون عار من كل اثاث، لم يصدق عينيه، فاندفع إلى غرفة النوم، ولكن غرفة النوم كانت عارية تماماً. مضى إلى غرفة مكتبته ليجدها كاملة العري، لم ينطق بكلمة وهو يتنقل بين الغرف يبحث عن أسيمة. ترك المكتبة ـ المكتب بأقدام متعبة ثقيلة، واتجه لا إرادياً إلى المطبخ، وكان في ركن من دماغه أمر بأن يصنع لنفسه على عادته فنجان قهوة يصفي به تشوشات ذهنه، ولكنه في الطريق إلى المطبخ سمع الهاتف يرن. لم يذعره الرنين، وكان يجب أن يذعره، فرنين الهاتف العالي في بيت خال من الأثاث، ومن الناس، ومن النور يجب أن يذعر، ولكنه على العكس لم يذعر، بل أشعره الرنين بشيء من الحنين، من الألفة، فها هو البيت الرافض، العتم، الدافع بعيداً عن الألفة يتحول من مكان إلى بيت، إلى إنساني. الرنين يعني أن هناك آخر يسعى وراءك يريد الحوار معك. قال: أسيمة. واندفع إلى الهاتف، فرفع السماعة ليسمع صوتاً رجلياً هادئاً مألوفاً إلى حد ما آمراً يقول: اخرج من البيت حالاً.. اهرب إنهم يسعون وراءك للقبض عليك.

انقطعت المكالمة، فوضع السماعة لم تنتظر منه رداً. أكان المتكلم يعرف انه من سيرد. أكان يعرف أنه في البيت الآن، ولم يحذره؟ من هو؟

رن الهاتف ثانية، فرفع السماعة ليأتيه الصوت ثانية: أما زلت هناك. إنهم في الطريق إليك.

كالمنوَّم لم يقاوم، ولم يفكر، ولم يناقش الأمر. كانت الأشياء كلها متَّحدة لتقنعه بأن ما قام، وما قاموا به بالأمس سلسلة واحدة، وعليه أن يفرَّ إن أراد أن يبقى حراً. اندفع خارجاً من البيت. وأدرك عند مصافحته نور الشارع بأنه لم يقفل الباب، ولكنه سخر من الأمر، فماذا في البيت مما يخاف عليه. تأمل المارة، والمشاة، وركاب السيارات، وسأل في رعب: من فيهم المراقب، ومن هو المتكلم بالهاتف ثم صرخ: من يلاحقني؟ بدا الجميع متشابهين، كلهم رقيب، وكلهم لا رقيب.

قرر أن يقطع لحظة تشتت المثقف كما كان يحلو له التعبير، واندفع من الشارع الرئيسي إلى حارة جانبية، فحارة جانبية، فحارة جانبية، وضاع بين الحارات حتى تأكد ألا ملاحق يلاحقه. وما أن اطمأن إلى أن أحداً لا يلاحقه حتى استوقف سيارة تاكسي حملته إلى دكان الخال الذي قال يهوِّن عليه الأمر: أعتقد أنك تهوِّل الأمر على نفسك. وصرخ في لوعة: ولكنها ليست في البيت والأثاث اختفى.

فقال الخال مهدئاً: كثيرات من الزوجات الغاضبات يفعلنها، يحردن ويحملن الأثاث معهن، أليس ذلك من حقها.

وقال ياسين في حزن: ولكن لم يكن بيننا ما يغضب أو يسبب الحرد. فقال الخال: وهل كنت في قلبها لتعرف فيم تفكر،  وماذا تخفي في قلبها.

ـ والهاتف المحذر؟

ـ ربما كانت مزحة جار كان يراقب دخولك إلى البيت بعد أن رأى رحيلها.

أسند ياسين رأسه إلى كفيه وأخذ يفكر: في ما قال الخال صواب كثير، وفيه أيضاً خطأ كبير. باع الخال صحني فول وصحن حلوى الحبوب وعاد يشكر الله ويحمده. قال: كنت دائماً أقول الحكومة نار من اقترب منها أحرقته.

كان ياسين قد سمع هذه الحكمة كثيراً من خاله، ومن جدته، ومن أمه ومن حكماء العائلة جميعاً، ولكنه كان قد هيَّأ حكمته منذ زمن طويل، تلك الحكمة التي كان يرددها كلما ذكروا حكمتهم، أو ذكرها حين هجرهم قال: والبعد عن الحكومة صقيع من فارقه تجمَّد.

ضرب صبي على الطاولة بليرته المعدنية يستحث الخال، فالتفت إليه باشاً واستأذن من ياسين ثانية: طلب الرزق الحلال جهاد.

كان الخال قد اختار لعيشه مهنة بسيطة لا يقارب فيها الحكومة ولا مالها غير الطاهر. كان يقول: حين بنوا الكعبة بعد انهيارها بالسيل شرطوا ألا تبنى من مهر عاهر ولا مكس مكاس. ومال الحكومة مهور عواهر ومكوس مكاسين، فتخيل أي أبناء تربي وأنت تطعمهم من هذا المال. كان قد تخلى عن كل عمل فيه للحكومة يد، واختار دكاناً يبيع فيه الفول النابت وحلوى الحبوب شتاء، والمثلجات صيفاً، فإذا ما سئل عن حاله قبَّل يده ظهراً وبطناً، وقال: الحمد لله. كشف ياسين الغطاء عن حلة الفول مداعباً ليكتشف أن الحلة قد نفدت أو كادت، فضحك الخال: أتريد معاونتي.

وضحك  ياسين: وتقبل بي معاوناً؟ وما كاد ياسين ينهي جملته حتى رأى شاكر ابن الخال يقود دراجته النارية في اندفاع، توقف الرجلان يستكشفان سبب اندفاع شاكر، وما إن توقف حتى قال: سألوا عنك في البيت.

ولم يكن ياسين أو الخال بحاجة إلى سؤال من السائل، وتحرك الخال بسرعة، فأنزل الابن عن الدراجة النارية، وقال لياسين: اركب. فركب ياسين دون مقاومة على الدراجة وراءه. قال الخال للابن: أشرف على الدكان. ولم ينتظر جواب الابن، بل طار يحمل ياسين خارجاً من الحارة، كان لدى ياسين الكثير من الأسئلة ولكن الريح الصافعة أصمتته، كان الخال مستعداً لركوب الدراجة فقد انتزع نظارة الدراجات الخاصة من جيبه، ولبسها، أما ياسين فكان عاري الرأس والوجه والعينين.

بعد قليل انتبه إلى أن عينيه تذرفان الدمع بقوة، تذرفان حتى لا يستطيع حبسها، كان صفع الريح قوياً، ولكن مرض المهنة ألح عليه، فتساءل: أتراها دموع الندم، أم دموع الأسف على ما أضعت بالأمس. انحرفت الدراجة في طرقات ترابية متغلغلة بين البساتين، أراد أن يسأله إلى أين المسيرة. ولكنه فضل الصمت، فلن يجري أسوأ مما يجري.

لم تكن الرحلة قصيرة، ولكنه كان مطمئناً، والغريب أنه كان مسلماً أمره كاملاً للخال، لم يكن خائفاً، ولم يكن متشككاً. كان يعرف أن حلاً ما على الطريق، وكان الحل بستاناً وبيتاً ريفياً لم يكن يعرف أنه للخال، ولم يكلف الخال نفسه بشرح الأمر له. قال: ها هنا مكان أمين. فتح باب البيت الصغير. قاده إلى المطبخ. أراه مكان الشاي والقهوة والخبز ومؤنة البيت من زيتون وجبن وزيت.

قال: احتجب ها هنا حتى يأذن الله بالفرج.

قاده إلى غرفة أخرى ليرى سريراً خشبياً وفراشاً ومكتبة صغيرة قال: سيزورك شاكر كل يومين ليرى ما تحتاج إليه. أأنت في حاجة ماسة إلى شيء الآن؟ هز ياسين  رأسه نافياً، فغادر الخال، وبعد قليل سمع صوت الدراجة النارية تبتعد به. وضع رأسه فوق الطاولة منهكاً. كانت استعادة الحالة منهكة عصبياً ومرهقة روحياً. تنهد ورأسه بين يديه.. أيمكن للذكريات المستعادة أن تستعيد ألم اللحظة التي صنعتها.

لم يسمع صوت الباب يفتح، ولكن وقع عقبيها في الصالون جعله يقفز مذعوراً ليستقبلها وليسوقها إلى المطبخ معاتباً، وليطلب إليها تجهيز عشاء خفيف، فسيموت من الجوع، وما كادت تستجيب حتى اندفع عائداً إلى المكتب يخفي سره ومكتبته، وسيرته 

(15)

لم تكن في البيت، فمضى إلى المكتبة، ورأى أوراقه عن سيرة مولانا السلطان على المكتب. جلس. فكر، وضع الأوراق على المكتب رسالة تقول: عليك إنجاز المهمة جلس، وقفز السؤال: ما الذي جعل السلطان سلطاناً. هه. ما المميز فيه. قلَّب في مذكرات رفاق طفولته وفتوته الأولى يتساءل: هل يمكن الإجابة عن هذا السؤال؟ قلَّب الأوراق و.. توقف ملتفتاً بكليته إلى حكاية بئر البنزين.

كانت سنوات قحط ثلاثاً قد انقضت، فجفت العيون، وتقاعست الأنهار والجداول، ويبس الشجر حتى لقد قيل إن مئة ألف شجرة مشمش قد يبست في قرية واحدة. في ذلك الحين طرأت على البلاد موجة الآبار الارتوازية. كانت موجودة من قبل، ولكنها لم تكن منتشرة، فلم تكن الحاجة شديدة لها. ولكن سنوات القحط جعلتها ضرورة. وهكذا قرر أهل مولانا عقلة بن نافع الزمان أن يحفروا بئراً، فلم يعد هناك مكان للتأجيل، فماء الشرب نفسه صار ضرورة واحتياجاً.

في ذلك الحين، كان عقلة الذي سيغدو السلطان في الرابعة عشرة من عمره، ولكنَّ أعمار العظماء لا تقدر بالسنين، فكم من عظيم تجلَّت عظمته وهو في المهد صبياً، فصحب العاملين حين حملوا الحفارة إلى الحقل، صحب قضيب الرمان في تجواله في الحقل يبحث عن شرايين الماء في الجسد الناشف للأرض. كان عقلة يمشي ويتأمل حامل قضيب الرمان المنشغل عنه، المنغمس تماماً في مراقبة اهتزاز قضيب الرمان، كان يمشي ويرى عيون حامل قضيب الرمان الغائبة حتى الابيضاض، وكان يتساءل: أيستطيع قضيب الرمان أن يدلَّ على شرايين الماء. كان القضيب يميل إلى الأرض، وكان عقلة يستبشر، وكان الحامل يهزُّ رأسه في رفض. لا. الماء الموجود لا يستحق الحفر، وكان يمشي وكان عقلة يمشي، وكان الأمل ينوس ما بين ميلان القضيب وانتصابه، وفجأة، وقريباً من الطريق المعبَّد الواصل للمدينة انحنى القضيب حتى لمس الأرض، فجحظت عينا صاحب القضيب، أراد أن يرفعه، أن يغيِّر من موضعه، ولكنَّ القضيب تشبَّث وكأنه وجد أخيراً مبتغاه. ترك القضيب، فهوى ملتصقاً بالأرض. انحنى عقلة على القضيب يريد رفعه، ولكن القضيب التصق. قال صاحب القضيب: لا فائدة. لن تستطيع رفعه حتى يبتل بالماء الذي يشده إليه.

وضعا كومة أحجار يدلان فيها على مكان الماء، ومضى صاحب القضيب يأتي بالحفارة وسائقها وقد استغرقه البِشْر، فالمكافأة عادة على قدر الماء المستخرج من البئر. انحنى عقلة على القضيب يريد تفحصه، ولكن القضيب تململ لا يريد الافتراق عن الأرض، وفجأة تذكر عقلة أن عليه أن يستنجد بنسبه، بأصالته ليؤكد أنه الموعود.

وقف قرب القضيب، وتلا نسبه الكريم بدءاً من نافع الزمان حتى الجد الأكبر قابيل بن آدم. فهابيل قتل صغيراً قبل أن ينجب، ثم انحنى فلمس القضيب، وما كاد حتى قفز القضيب من مرقده إلى كف مولانا الذي لوَّح به كمن يلوِّح بسيف، وصل صاحب القضيب وسائق الحفارة، وفوجئا به يلوِّح  بالقضيب، فغضب صاحب القضيب: كيف فعلت هذا. سيهرب الماء الآن ويغور. لا يجب تحريكه حتى يغتسل بماء العِرق الذي دلَّ عليه. ثم استدرك: ولكن كيف استطعت رفعه؟ لم يجب مولانا، فقد أربكه هجوم حامل القضيب، سحب صاحب القضيب القضيب من يد مولانا عقلة، وما كاد القضيب ينفصل عن يد مولانا عقلة حتى انجذب إلى الأرض، والتصق بها. انحنى صاحب القضيب يريد رفعه، فأبى القضيب، انحنى سائق الحفارة فوق القضيب يريد رفعه، فأبى القضيب. وعندئذ نظر صاحب القضيب إلى مولانا عقلة في غضب، وقال لسائق الحفارة: هذا الولد نحس. يجب إبعاده عن البئر. من يحمل قضيب الماء بعد التصاقه بالأرض قادر على تهريب البئر وتغوير الماء.

رفض سائق الحفارة الحفر حتى جاء خال عقلة وأهله، فأبعدوه عن الحقل، وبدأ الحفر، ولكن مولانا عقلة كان يفكر في القضيب وسحره، وتساءل: السحر في القضيب أم في صاحب القضيب، أم في البئر الباحثة عمن يجدها؟ قال: أجرب، مضى إلى حقل الجيران، فاقتطع قضيباً من الرمان، وأخذ يذرع به الحقول التي جردها القحط من نباتها وشجرها وجنباتها، ولكن القضيب لم ينحن، والأرض لم تستجب. كان يسمع ضربات الحفارة تخترق الأرض، ويتساءل: إن كان القضيب الآخر أكثر صدقاً، أو أحسن تدريباً. ثنى القضيب، فانثنى. مضى به إلى بركة اصطناعية للماء، فانحنى فوق الماء في شهوة. قال: لا سرَّ يفصل بين القضيبين، ولكني عبرت حقولاً لا ماء فيها.

أخفى القضيب تحت ثيابه، ومضى يجرب الحقول، اقترب من حقلهم، وكانت ضربات الحفارة ترجُّ الأرض، جرَّب القضيب، فاهتزَّ قليلاً، مشى كمشية صاحب القضيب يجرب القضيب، فاهتزَّ القضيب ومال، ثم انحنى بعنف يكاد ينفلت من أصابعه ليلتصق بالأرض. تركه قالتصق بالأرض، وأدرك أنه قد عثر على موقع ماء جديد. جرَّب رفع القضيب، فأبى وكان قد عرف الحيلة، فقرأ نسبه، وحمل القضيب، فانحمل. وضع بضع حجارة مكان القضيب يعلِّم مكان الماء، ومضى يجرب بقية الحقل، وكانت المفاجأة أنه عثر على أحد عشر موقعاً علَّمها جميعاً، وكان لديه من الذكاء ما جعله يعرف أن لاكتشافه قيمة وثمناً، فلم يخبر باكتشافه أحداً، ومضى ينتظر مع أهله ظهور الماء.

كانت المفاجأة في اليوم الثاني للحفر إذ انبثق فجأة ومن موقع الحفر بدل الماء البنزين.. لا.. لم يكن النفط الخام، بل كان البنزين الصافي. سوَّر خال عقلة الحقل، ثم أعطى سائق الحفارة وصاحب القضيب مكافأتهما، وطرد الفضوليين من الجيران، وأضاف المضخة إلى البئر، وانتقلت الكازية من مفترق الطريق إلى القرية إلى حقل عائلة عقلة، فأخذوا يبيعون البنزين الصافي والأشد نقاء من بنزين الحكومة بسعر أقل، وطال طابور السيارات أمام الحقل يريدون البنزين الأنقى والأرخص، وقبل أن تعرف الحكومة، وتتحرك أجهزتها البطيئة في تحركها توقفت المضخة، ولم يعد في البئر بنزين. جاؤوا بالحفارة ثانية، حفروا.. أعادوا الحفر.. وأخيراً اكتشفوا أن ما ظنوه بئراً للبنزين لم يكن إلا خزاناً سرياً احتياطياً للقوات الفرنسية زرعته أيام الاحتلال تحسباً للطوارئ.

ضحك أهل القرية، ضحكت القرى المجاورة، وضحك رئيس المخفر، والحكومة، وانطفأت حكاية الكنز من بئر البنزين، ولكن عقلة لم ينس الآبار التي اكتشفها على طول الحقل الموازي للطريق المعبدة.

اتفق مع عمال من قرية مجاورة، وجعلهم يحفرون له آباراً عرف أن عمقها يجب ألا يتجاوز ما حفرته الحفارة أي ما يقارب الأمتار الخمسة عشرة حتى إذا ما اصطدمت معاولهم بصوت الخزان المعدني انتقلوا إلى الحفرة الثانية. وهكذا بدأت ثروة بيت نافع الزمان التي تركها الفرنسيون تحسباً للطوارئ، وكانت غنيمة غنمها مولانا عقلة، وهبة وهبها له الله استعداداً للمهمة التاريخية التي سيقوم بها في قادم الأيام في محاربة التتار والصليبيين. وضع ياسين القلم من يده. أعاد قراءة ما كتب، وسمع الباب الخارجي يفتح، فأدرك أنها قد عادت. انتصب قائماُ، تمطى، ورآها تدخل مبتسمة: هاه. تكتب؟ عظيم.

ومدت يدها تريد قراءة ما كتب. ولكنه همس: جوعان.

فأجابت في لهفة: لا عاش الجوع. من عيوني.. وجرت إلى المطبخ.

(16)

تقلَّب في سريره يتمطى.. كان الضحى، وكانت ظلال من نور أحمر تتسرب إلى غرفة النوم من الحديقة. تقلَّب في سريره، وتأوَّه في سعادة، فقد كان حلماً جميلاً ما عاشه في ترنيقة الضحى تلك. كان في غرفته على السطح حين فتح الباب، ودخلت دلال في ملاءتها المتنكرة. ولكنها لم تكن المرهقة، ولم تكن قد أهملت شاربيها وحاجبيها، بل كانت دلال الجميلة.. دلال التي لقيها في بستان مروان، وكانت الشهوة، وكانت الشباب، وكانت الرغبة. لم يخجل هذه المرة، فحدَّثها مباشرة عن عشقه القديم لها منذ المرة الأولى التي رآها. قال: شعرك الطويل السبط الأشقر كان غيمة من شهوة، ثم تنبه إلى أنه أخطأ، وكان يريد أن يقول من جمال، أراد أن يقول من سعادة، ولكنه قالها، والغريب أنه لم يخجل، والغريب أنها لم تدهش لتعبيره غير اللائق. حدثته عن عشقها القديم حتى قبل أن تطلق من نمري، فسألها معاتباً: ولم لم تصرحي؟ قالت: أنت تعرف النساء وخجلهن. ألم تربُّونا أنتم الرجال على هذا، ثم انطلقت وهي تنزع الملاءة عن ثوبها الذي لم يكن متقشفاً كثوبها أثناء رحلة التخفي، بل كان ثوب دلال الأنيقة الجميلة التي عرفها بعد عودته من محنة التخفي، ثم انطلقت متابعة، ففاجأته بأن في بعض المصائب فوائد، فلولا المطاردة التي أبعدتهما عن موقعيهما القديمين وعن شلتهما ـ المجتمع ـ الضمير المحاصر وعن أسيمة، وأدهشته رصانة تحليلها، وما وصلت إليه حين قالت: لما استطعنا اللقاء في هذا العش.

يذكر ثرثرتهما، ويذكر أنهما فجأة وعلى غير توقع، ومن غير تحضير حقيقي كانا قد انغمسا في عناق جنسي انفجاري.

تقلَّب في سريره، ولاحظ مندهشاً أنه كان سعيداً، وكان فرحاً. وأدركته الدهشة، فهو يعرف أنه والسعادة ليسا على ود، بل إن لعنة الكتابة والتهيؤ للكتابة التي عاشها وعاشته جعلته لا يعرف التفرغ والاستسلام للفرح حتى في أشد لحظات الفرح، فجزؤه المراقب للفرح كان يحرمه من بهجة الغرق والاستغراق التي يعيشها الآخرون، أما هذه المرة، فقد عاش السعادة، عاشها وها هو يحس بخفة آسرة تكاد تدعوه للطيران، وكان يعرف أنه لو شاء الطيران لطار.

أشعل اللامباديرة القريبة، وتأمل غرفة نومه المحسنة، والمجددة، والمزينة باللوحات المنسوخة، وفجأة هاجمه السؤال: أهذه هي السعادة إذاً. أنت تعرف أنك عشت لحظات من حلم، فأفقت سعيداً ناسياً كل ما حلَّ بك من مصاعب وخيبات.. لحظات من منام، من غياب عن الوعي، ولكنها كانت أكثر إفراحاً وإسعاداً من الحقيقة، من سهرات الشلة ومنادمتهم، من الغزل السريع المغطى والصريح مع نساء الشلة، أو مع صديقات العمل، ولكن، لا.. إنه لم يعش مثل هذه البهجة، لماذا.. حتى في أكثر لحظاته حميمية مع أسيمة كان فرحه مراقباً، كان مسوقاً بخطة. لم يستسلم للفرح أبداً، بل كان يتحرك وفقاً لخطة ربما لم يصارح نفسه بها، ولكنها كانت موجودة، كان يريد الحصول عليها، وكان على استعداد للتظارف، والتثاقف، والتشاهم، والتنابل، ولكن كان في طريقه إلى الحصول على أسيمة، وكان إدراكه أن الفرح الذي يعيشه ليس مجانياً، ولا حراً. كان هذا الإدراك بحد ذاته منغصاً.

أما في الحلم مع دلال، فقد كان الفرح حراً، مجانياً، هبة طبيعية، تنفساً لهواء لا يسائل فيه رئتيه عما تصنعان. هاجمه السؤال بهدوء: ياسين. أفلا يمكن إدامة هذه السعادة، إن هذا الفرح الذي تحسه الآن ربما لم تعشه إلا مرتين، أو ثلاثاً طيلة عمرك. وبالمصادفة المحضة التي لا رأي ولا إرادة لك فيها. حسن. أيمكن إطالتها أو استحضارها عند الطلب. أيمكن أن تقول: أريد اليوم أن أكون سعيداً، فتكون سعيداً؟ هذا ممكن؟ بعض المدمنين على المخدرات يقولون إنهم استطاعوا ذلك عبر الغرق في جنة الخَدَر، ولكن أتراهم صادقين. أهم يسعدون فعلاً لدى كل تعاطٍ، أم أنها لذة المرة الأولى، وربما الثانية فقط، وهذا ما يجعلهم يدمنون بهذه الحرقة آملين استعادة تلك اللحظة الوردية المشرقة التي عاشوها لدى التعاطي أول مرة. وإذن.. أين السعادة؟ لقد صحا اليوم سعيداً وكأروع ما يمكن للسعادة أن تكون. أتراه لأنه حصل على دلال التي قضى العمر يطاردها، وهي تمنّي وتمطل. تعد ولا تفي، توحي ولا تصرِّح.. ولكن.. هتف فجأة يواجه نفسه: ياسين.. ياسين. حتى في حوارك مع نفسك لا تريد أن تكون الصادق.. أأنت طاردتها بهذا الإصرار حقاً؟ لا أعتقد، ولو طاردتها بهذا الإصرار لأذعنتْ. ولكنك إنما كنت تسلي ضجرك، تحاول ادعاء العشق، والمطاردة، والتظاهر بأنك زير النساء.

سمع صوت المفتاح بالباب الخارجي، فانتصب شبه مرعوب من سريره يتفحص ثيابه. ثم ضحك من نفسه: أتراك تخشى أن تضبط بتهمة الخيانة. سمع صوتها من الصالون تهتف في رقة: ياسين. مون آمور. أين أنت؟ تذكر فجأة أنه لم يفطر، وتذكر أنه جائع، ولكنه أحس أنه يجب أن يشرب قهوة قبل ذلك. فهتف: هنا.. هنا. خرج إلى الصالون، فقدَّمت له خدَّها يقبُّله، وفوجئ قليلاً بحركتها، فمالها عادة بهذه الرقة، ولكنه قبّلها، ثم همس: ريحتك  صبارة. أكلت صبارة؟

ضحكت وقلت: يا شمام!

مضى إلى الحمام يغتسل، ومضت إلى المطبخ لتفاجأ بأنه لم يأكل: ما أكلت؟

ـ ما أكلت. قلت أنتظرك.

ـ ذوقاً، أم كسلاً؟

ـ الاثنان.

ـ طيب. القهوة، أم الإفطار أولاً؟

ـ لا. بل القهوة.

جلس في غرفة الجلوس يقلِّب في الصحف التي جاءت بها معها.

دخلت بصينية القهوة، أعطته فنجانه، وصمتت صمتاً صار معتاداً عليه في تعامله معها بعد الرجوع. لقد تحلَّت بوقار لم يكن لديها من قبل. رشف رشفة ورشفت رشفة. قالت: أعجبهم الفصل الجديد الذي أضفته إلى السيرة. صمت، ولم يبد شكر المجاملة، فلقد صار معتاداً عليها تبدأ بالإطراء، ثم تقدِّم الانتقادات والاعتراضات. رشف رشفة أخرى.

ـ إنهم معجبون، معجبون كثيراً بذكائه، وقدرته على الاستفادة من غنائم المستعمرين، وتحويلها إلى ما يفيد أبناء الوطن.

ـ طيب.

ـ و.. يتساءلون. ما الخطوة التالية؟. يعني، ما المعجزة، أو المأثرة التالية التي سيقوم بها مولانا.

ـ سيقوم باستعادة التاريخ بالمقلوب.

ـ المعنى.

ـ استفاد أولاً من غنائم الفرنسيين، ثم

ـ العثمانيين

ـ صح

ـ كيف؟

ـ لا. اتركيها مفاجأة.

فكرت قليلاً.. معك حق. لنتركها مفاجأة ـ ثم أكملت ـ أظنك جعت.

ـ جداً.

ـ سأضع الطعام. أنهِ صحفك وقهوتك.

مضت إلى المطبخ، ومضى إلى المكتب. أغلق الباب، ضغط المزلاج، انفتح قلب السر استخرج دفتر حياته الخاصة، قرأ آخر ما كتب و.. انفتح الكهف الأسود.

كان زمن طويل قد انقضى في ذلك البيت المعزول، في البستان المعزول حيث لا راديو، ولا تلفزيون، ولا تليفون، ولا صحافة، كان هو والطبيعة والمكتبة القسرية. حاول مقاومتها طويلاً، ولكن السأم وانعدام المحاور جعله ينزل إلى الطبيعة يحاورها ويستعيد زمناً كان على ودٍ فيه معها، حمل الفأس، وعزق حول شجرة المشمش، فقد أحس أنها تشكو كثرة الأعشاب حول ساقها، ثم حمل الفأس وعزق أحواض التفاح والكمثرى، والخوخ، ثم اللوز، وأخيراً الرمان ولم يطرق بابه طارق، ولم يخاطبه مخاطب، بل كان يتسلل كل بضعة أيام إلى كوخ معزول في البرية دلَّه عليه، كوخ أشبه بالعرزال، أو كوخ الناطور المرتجل ليجد هناك الخبز والبيض والجبن وما يحتاج إليه لبضعة ايام، لكنه أبداً لم يجد السكائر و.. في الحقيقة هو لم يطلبها، ولم يجد الكحول، فقد شعر برعب استقبالهم لطلب كهذا.

زمن طويل انقضى خلصته فيه العزلة من شهوة السكائر، ومن شهوة الكحول، ومن كثير من القلق والخوف. بدأ يقيم صداقة خاصة مع الشجر، مع الشحارير الوقحة، ومع الغربان اللصة، ومع طيور نسيها منذ ترك عادة التسكع بين البساتين وسرقة ما يمكن سرقته من ثمار السفرجل والمشمش والتوت الشامي. في أيامه المعتزلة الأولى هاجمته أسيمة، هاجمته بجسده المهتاج هيجته الوحدة والعوز إلى الآخر. ترى.. ألجنس حوار؟ أتراه الحوار الأعمق بين اثنين. أتراه الحوار النموذجي الأول. حاول فيه الفرد أن يصل بالحوار إلى الاندماج، فلم يحصل إلا على جوع لا يشبع. أتراه حاول بذلك الحوار امتلاك الآخر، والدخول إلى عمقه، فرض أناه على الآخر في توحيد مشتهى منذ تم الفصل والتمزيق بالولادة بين الأنا والآخر. كان يحس بالشوق إليها، وكان يخادع جسده في توحد خيالي معها، وكانت المخادعة تنتهي باسترخاء مشمئز، أو بحس بالإثم عميق.

حين حاور الطبيعة عبر إنهاك الأنا بالفأس والرفش نسي ذلك الحوار الأولي مع اسيمة، ولكنها لم تستسلم، فقد عاودت مهاجمته ليلاً، وأول الرقاد ومع أول دفء في الفراش، ولم يكن بالإمكان الخروج إلى الطبيعة والفأس والرفش، فتمنى لو أن أنتي دوهرنغ كان بالمتناول لاستطاع هزيمة أسيمة وحمله إلى ممالك النوم. كانت تلحُّ وتفحُّ وتتلوى، وكانت تطرد النوم عنه بعيداً، فقرر اللجوء إلى المكتبة التي لم يقربها منذ دخل البيت ـ المعتزل. قام إلى المكتبة، قلَّب في كتبها، فوجدها ما توقع دون زيادة ولا نقصان، فتساءل: أتراها المكتبة نفسها منذ أيام الطفولة، كانت تفسير الجلالين، وكتاب أوراد رياض الصالحين وسير الصالحين، وعلى رأسها جميعاً نسخة عتيقة من القرآن الكريم تمنى لو وقع عليها قبل التشبح الأخير لضمها إلى مكتبته في افتخار فقد كانت مطبوعة على الحجر وتعود إلى القرن التاسع عشر، أمعن في التقليب، فوجد نسخة من فتوح الشام للواقدي، ونسخة من سير الأنبياء، و.. وكانت المفاجأة نسخة من مجموعته القصصية الأولى والوحيدة، وكانت مجلدة بجلد عتَّقته الأيام، وربما كان هذا سبب عدم تعرفه إليها.

قلَّب في مجموعته القصصية في لهفة، ثم في رفض.. لا.. لن أحنَّ. وفجأة دهمه السؤال: إذن فقد قرأوه، كيف كان رأيهم فيما كتبت، وكيف قيَّموه. هل أحسوا بالفخر في أن ابناً لهم قد خرق جدار الخمول، وصار النجم، أم نظروا إليه الآبق والفاسق ينتظرون أوبته وتوبته. قلَّب في المجموعة، وفجأة قرأ تعليقاً على هامش إحدى القصص.. لا. ما هيك كانت الجدة حرام. كانت مرة قوية كافحت كتير لتخلي العيلة واقفة على رجليها بعدما الرجال هربوا، واحد على الفالج، والثاني أبوك.. على الموت. هه. رفع رأسه، هل قرأوها حكايات عائلية.. أعوذ بالله، أنا لم أنتو هذا أصلاً. كان ما حاولت هو نقل النموذج من الخاص إلى العام. كان ما حاولت قراءة قسوة المرأة إن صارت الحاكم أو الحكم، فإذا بهم يقرأونها سيرة عائلية لا. لا. لا.. نفض رأسه. هذا يجب توضيحه، ولكن.. كيف..؟ وأنت الناقد المحترف مرعب المبدعين. كيف ترى الآن.. ها هي رسالتك تستقبل بطريقتهم، وهل تملك أن تلقى القراء واحداً واحداً، وتفسر لهم الخطأ، أو تفسر لهم وجهة نظرك. وهل يستطيع الأدب تحمل رسائل التصحيح والتوجيه والتفسير إن لم يفسر نفسه بنفسه.

أعاد قراءة التعليق يحاول معرفة كاتبه، لا، فهذا ليس خط الخال، فهو يعرفه. إنه خط أكثر تأنقاً وأكثر تأنياً، وأكثر عناية بالأبعاد وجمالية الخط، فلقد درس الخط على يد الخطاط بدوي. لا.. هذا خط فيه تسرع، ولهفة، وبطء في الأداء. ترى.. خط من؟ خط من؟ أيعقل أن يكون خط أمه.. ولكن.. هي لم تعش إلا سنة وشهوراً بعد ظهور مجموعته. أفيعقل أنها قرأت المجموعة، واحتجَّت. فهذا ليس تعليقاً. إنه احتجاج ولكن.. إن كان احتجاجها، فلم لم تنقله إلي مباشرة، وقد لقيتني عدة مرات بعد النشر.

وضع المجموعة جانباً خائفاً من مزيد من التعليقات، والاحتجاجات، فلقد اعتاد على النقد المتهيب يخاف قلمه الجارح، ويجامل من يستطيع الجرح بقلمه، و.. كان مقتنعاً أنه كتب قصصاً متميزة. لقد أدرك ذلك بحسه النقدي وبآراء مَنْ حوله، ولكن ها هي الرسالة تصل إليك من وراء الأفق، من عالم لن تستطيع تبرير نفسك أمامه. ولكن. أليس من الخطأ التعامل مع الأدب على أنه مطابق، أو مجاف للحقيقة، الأدب أدب. تخييل.. هه.. وهذه رسالة أخرى عليك أن توصلها إلى القراء واحداً واحداً. لا تنس أن الأدب القصي فن جديد. لا.. لا ليس جديداً، فلقد تربى على سيرة الملك الظاهر، وتربت أمه وجدته والخال، كلهم قرأوها ولم يجادل واحد منهم في أنها حقيقة، أم تخييل رغم السحر والمعجزات، وهبَّ ثانية.. ها أنت تحاكمهم بعقلك أنت.. ومن قال إنهم لا يؤمنون، ولا يحبون السحر والمعجزات. أفلم تكن عزاءهم لقرون، أفلا ينتظرون المهدي المخلِّص لقرون، أفليس الملك الظاهر الذي ذكرته مهدياً خلَّصهم من الصليبيين كما آمنوا. أفليس الملك سيف المخلِّص الذي أنقذهم من الأحباش.

عاد إلى فراشه. أطفأ الفانوس، وطلب النوم، ولكن تعليق من افترض أنها الأم ظل يلحُّ ويلحُّ تفسيره للتعليق، حكمت رأيك وأدنت الجدة. هل كانت إدانتك بريئة، أم كانت تصفية لحسابات مريرة لم تكن فيها السعيد. لم تستطع إسعادهم، ولم تستطع جعلهم يسعدونك. وفجأة انتصب من مرقده مفزوعاً: لماذا.. لماذا لم يستطع إسعادهم، ولم يستطع جعلهم يسعدونه. لم استطاع الخال قراءة المولد لهم ولهن، فأسعدهم وكافأوه بحب لم يحصل عليه، وباحترام لم ينله. ولكن الناس الذين انتقلت للعيش معهم أحبوك، واحترموك. وتنهد.. كنت أشتهي أن يكون الاحترام هنا، بينهم، أولئك الذين رذلوني وأهملوني حين لم أقرأ لهم مولد البرزنجي، أو الإسراء والمعراج، وفتوح الشام.

تنهد في الظلام وهو يعود إلى الاستلقاء يطلب النوم حين ذكر فجأة: ولكن ما معنى وجود هذه المجموعة هنا.. في هذا البيت الذي سيق إليه ليختفي من أولئك الذين ترك الأهل والحارة لينضم إليهم. ما معنى وجود هذه المجموعة هنا في بيت لم تدسه الأم ولا الجدة. ما معنى هذا. من وضع المجموعة ها هنا، أهو الخال. تنهد.. لا بد أنه الخال.. كان يعرف أنك لن تستطيع مقاومة إغراء تقليب كتب في مكتبة مهما حاولت، فهو مرضك الذي يعرفه، ولكن.. إنَّ وضع المجموعة هنا رسالة.. حسن. ما هي الرسالة.. كرر السؤال، ولا جواب، كرَّره حتى تحول إلى رسالة يقرأها في الظلام تلوح وتختفي كقطيع الغنم الذي يعدُّه الأرقون طالبو النوم. ونام.

لم يكن لديه راديو، ولم يكن لديه تقويم، ولم تكن الصحف تصله. كان زمن طويل قد انقضى، زمن استطاع فيه طرد أسيمة من حياته، زمن استطاع فيه طرد السكائر والكحول أو إخراسهما على الأقل من حياته، زمن حاور فيه الطبيعة، فأرهقته بمطالبها التي لا تنتهي، ولكنها كانت السعادة في إخراس الأسئلة الكثيرة، كان التعب جواباً، وكان ألم المفاصل كافياً لجعل الحسد ينشغل بنفسه، بجوعه وظمئه، وبوله، وغائطه، كان الجسد ملكاً ومملكة عازلة عن كل الممالك، الأسئلة والتوقات، زمن كان يسقطه التعب فيستند إلى شجرة لا حول فيه حتى لصنع شاي جديد، ليكتفي بشرب ما تبقى من شاي بارد محلَّى..

زمن طويل انقضى على ياسين في معتزله، حين فتح الخال باب البستان بمفتاحه، فذعر ياسين الذي حولت الوحدة الطويلة الآخر لديه إلى تهديد وعدو، فاختفى عند سماع صوت إغلاق الباب، وسيكتب: اختفى كذئب متوحد، لكن نحنحة الخال وهتافه: السلام عليكم يا أهل الدار هدأت من روعه، فخرج للقائه.

نظر الخال إلى الأرض المعزوقة والأشجار المقلمة المعتنى بها، وضحك: لم تضع وقتك عبثاً. فضحك ياسين مجارياً: اليد العاطلة..

فقاطعه الخال: إلا إن كانت تسبح الله.

مضى الخال إلى المطبخ المرتجل، وكان يحمل صرة فيها غداء مطبوخ لم يأكل منه ياسين منذ العزلة. قال وهو يسكب الطعام: سألوا عنك هذا الأسبوع ثلاث مرات. وتوتر ياسين: في الأمر شيء!

ـ سألوني، وسألوا الجيران، ولهذا معنى واحد.

ـ سيصلون إلي قريباً.

مسح الخال الصحن بقطعة خبز ينظفه من آخر مرق فيه، وقال: فكِّر، وسأفكر، وسأعود في المساء، وأرجو ألا يحصل أذى قبل ذلك.

انصرف.. وترك ياسين الذي لم يجد لديه فائض قوة لوداعه حتى الباب، فلقد كان قدوماً كارثياً، سلام الطبيعة قد دمر، وعليه الآن أن يجابه مطارديه من جديد. شرب ما تبقى من شاي بارد. قضم ما تبقى على الطاولة من خبز. مسح صحنه من آخر نقطة مرق. مضى إلى شجرة اللوز ينقِّب فيها كلما أزّمه أمر عن لوزة منسية ها هنا، أو هنالك، وكثيراً ما استجابت لرغبته، فقدمت له بضع لوزات منسية يتلهى بكسرها وأكلها. نقَّب في شجرة اللوز ولم يجد لوزاً. نقب جيداً، بل تسلق نصفها يبحث عن لوز ولا لوز، وفجأة واجهه السؤال: ياسين. إلى أين المفر، ما الذي تفعله. لا مزاح في الأمر. سيصلون بين ساعة وأخرى. لقد شمُّوا رائحتك. والأمر أصبح أمر ساعات وتكون في أيديهم، وستؤذي ليس نفسك فقط، بل الخال الشهم الذي فعل كل ما يستطيع لحمايتك. ستؤذيه وتؤذي أهله.. افعل شيئاً واصرف الأذى عنهم. وعاد إلى غرفته دون لوز.. واستلقى على السرير مفتوح العينين يفكر في حل.

* * *

سمع صوت سيارة تقف أمام البستان حيث تركه الخال منذ يومين وقال: كن شديد الانتباه. البستان بعيد، ولن يستطيعوا القدوم إلا بسيارة، فإن سمعت صوت سيارة، فاهرب.

اقشعر جسده رعباً، ولكن الحس العملي جعله يضع المعطف المضطرب على كتفيه، ويقفز من الباب إلى الحديقة حيث سمع هرير كلب وعرف أنهم عرفوا طريقه، فانطلق إلى الجانب البعيد من البستان حيث السور الساقط. ركض كأرنب بري. اخترق الأعشاب والحجارة يعدو ولا ينظر إلى الخلف. كان القمر في محاقه، فحمد الله أن عتَّم عليهم، فلم يهتدوا إليه، وفجأة غاصت قدماه في طين مائي، وفغمت أنفه رائحة البيض الفاسد. إنه مستنقع، ولكن متى وجِد هذا المستنقع؟ هو لا يذكر وجود مستنقع كهذا من قبل، فكيف وجد؟.. شكر الله أن وضع المستنقع في طريقه فأبعد عنه الكلاب التي سمعها تنبح والتي رآها في نور ما قبل العتمة تتشمم، وتهر، وتنبح، رأى أشباحاً تحمل البنادق والرشاشات يحومون ويهمهمون، فعرف أنه الطريدة، ولكن من دلهم عليه؟ من هداهم إلى طريقه وعرَّفهم إلى ملجئه؟ أهو الخال؟ مستحيل. ولِمَ يفعل ذلك، وهو لم يقربهم، ولم يتقرب إليهم، ولم يتعرف إليهم. مستحيل. وهو الذي يرفض العمل لديهم. فمالهم دنس ما أتاهم إلا من مظالم. أو مآثم كما أعلن دائماً، مستحيل وهو من قدم إليه المأوى والمهرب.

كان الماء بارداً، وعرف أنه لن يستطيع البقاء طويلاً في المستنقع.. رأى ظلال مصابيحهم تنقب المكان من بعيد، وسمع هرير كلابهم ونباحها البعيد، فهدأ وجيب قلبه، ولكنه أبداً لم يطمئن، فقد كان يعرف معرفة أشبه باليقين أنه إن خرج من المستنقع فسيجدهم في انتظاره، وما كان على استعداد لجعلهم يقبضون عليه. كانت الأخبار والإشاعات الأقرب إلى الأخبار، والمعلومات الأقرب إلى الإشاعات تتحدث عن سجون لا ضوء فيها، وعن آبار حولت إلى سجون، وعن قتل لا معنى له و.. دماء لا لون فيها، وعرف أن الواجب يقول: إن دارت الطاحون ولم تستطع ركوبها فلا تقف في دربها.

سمع هريراً قريباً، ورأى مصباحاً يمسح وجه القصب، فتجمَّد لا يستطيع حراكاً، وفجأة سمع صوت الرصاص، رصاص كثير ينتثر فوق الماء وبين القصب، فغطس. لم يخطط، ولم يفكر أنه قادر على الغطس في الماء القذر.. الماء الأسود برائحة البيض الفاسد والكتل الطرية تموج من حوله. غطس ولو تنبأ له متنبئ بأنه يمكن أن يغطس في مغطس كهذا لقتله.

غطس حتى لم تعد رئتاه تحتملان، فرفع رأسه، وما كاد يشهق شهقته الأولى زارقاً الهواء الفاسد في رئتيه المتشنجتين حتى سمع صوتاً أشبه بالأنين. توقف يتسمَّع، فانقطع الصوت، ترك ثانية لرئتيه متعة شهيق الهواء الفاسد، وعاد الأنين. أكان أنيناً؟ توقف يتسمع. لا.. لم يكن الأنين، بل ربما كان النعيب. بل كان النعيب. توقف الصوت قليلاً ثم انطلق. كان نعيباً جميلاً. نعيباً أشبه بالهديل. كان المسلحون قد مضوا مصطحبين كلابهم الهارَّة معهم. قال: لولا ذلك لما نعبت البومة. فالبومة اشد حذراً من أن تنعب في مكان فيه إنسان.

تنصَّت متعمداً، متقصداً. فقد كان النعيب آنس إلى قلبه من هرير الكلاب المطاردة، ورصاص القصاصين يريدون رأسه، تنصَّت وانطلق النعيب. كان البوم يقلِّب فيه وينغِّم. كان عذوبة مطلقة. أتراه يطارد أنثاه بهذا النعيب. كان يعرف أن للمدينة نهرين، نهراً يحمل إليها الماء والنضارة والخضرة والحياة، ونهراً يحمل عنها وسخها وسوادها، وكانوا يسمونها قليط، ويسمونه نهر الجان. قال: حظي أن أغطس في قليط، ثم تنهد: ولكنَّ هذا خير من القبض عليك والسجن الأشبه بالموت.

علا النعيب حتى كاد ياسين يعتقد أنه في متناول اليد أو أقرب. تأمل القصب من حوله. قال: لن أعود إلى البستان، فلربما كانوا بانتظاري، بل سأخترق المستنقع إلى الجانب الآخر، لا بد أن هنالك منجى ما، وما كاد يتخذ قراره، ويتحرك من ملبده، حتى انطلق الرصاص قوياً منتشراً مبقبقاً الماء من حوله مصمتاً البومة عن النعيب، فغطس.

غطس حتى كاد ينشق صدره، تحسس جذور القصب تحت قدميه، وأحس بالكتل العائمة تصطدم به في حركة الليل المائي الغامض، ولم يعد يستطيع الصمود، فطفا غير عابئ بالرصاص، وفوجئ بالمستنقع الصامت. لا نعيب، ولا نقيق، ولا هرير كلاب: ولا طلقات رصاص. قال: يئسوا أخيراً ومضوا، وما كاد يتمُّ جملته حتى انطلق الرصاص يمشِّط المكان ويقصف أنابيب القصب فيساقطها، ويخرس الضفادع والبوم، ولكن أين اختفت الكلاب؟ وغطس، وحين غطى رأسه الماء القذر تساءل: ما الذي يريدون؟: القبض عليه، أم قتله؟

رفع رأسه ثانية، فرأى نوراً بعيداً على الجانب الآخر من المستنقع، نوراً يلوح ويختفي، نوراً يموج عرضاً، ويموج طولاً، وكأنه دعوة. قال: لا خيار. على هذا الجانب الرصاص والقتلة والكلاب الهارَّة، فما يمكن أن يكون على الجانب الآخر. سبح. سبح؟ لا. بالطبع، فالماء كان يراوح ما بين العجان والسرة. مشى.. مشى؟ لا. حتى المشي لم يكن التعبير الصحيح بل كان يتقدم في تحرك خليط بين السباحة والمشي، ولم يكن لهم ألا يلاحظوا حركة القصب في اهتزازه، فانطلق الرصاص، وغطس. وما إن هدأت البقبقة وانقصاف القصب حتى عرف أنهم توقفوا، فرفع رأسه.

تحوَّل الأمر إلى ما يشبه اللعبة. نور يلوح على الجانب الآخر يدعو، ورصاص وهرير على الجانب الأول، وغطس يتحاشى الرصاص الأعمى، تقدم والنور يتجلى والشاطئ يتضح، والماء يضمحل، والقصب يندر. تقدَّم وقد صار الماء إلى الركبة، ولم يتبق أمامه إلا أن يخرج إلى البر حين أحس يداً قوية تمسك به من الرقبة، وتغطسه في الماء. قاوم، ولكن مقاومة الضعيف، فقد كان الخوف والغطس ومطاردة الرصاص قد أنهكته حتى التهافت.

لم يطل به الغطس هذه المرة، فما كاد يشعر بالاختناق حتى ارتفعت اليد القابضة برأسه، ودفعته إلى الشاطئ.. أراد أن يلتفت، ولكن اليد استمرت بدفعه حتى خرجت به من المستنقع، والغريب أنه حين وضع  قدمه على الأرض الصلبة منصاعاً تهاوى متهالكاً. كانت ركبتاه قد انهارتا تحت رحلة الرعب والغطس والرصاص والهرير، وما كاد يصل إلى البر حيث النجاة حتى انهار، ولكن اليد القوية لم تسمح له بالالتفات، ولما لم يكن لديه الكثير من التصميم والعزم ليقاوم ويلتفت رفعته من سقطته، ودفعته إلى الأمام. ومشى يتعثر، وجاءه الصوت المبحوح: كدت تفسد كل شيء بتسرعك.

أراد أن يلتفت ليسأل عما أفسد، ولكنَّ اليد القوية ظلت تدفعه وتابع الصوت المبحوح: غطست ست مرات، ثم انطلقت ضحكة ماجنة: وكان يجب أن تغطس سبعاً.

فهمس ياسين حائراً: وكيف عددتهم؟

فقال الصوت المبحوح: كنت أعد الصليات، وأرى تموج الماء بعد كل غطسة.

فقال ياسين مستسلماً: وما الفارق بين ست غطسات وسبع؟

فقال الصوت المبحوح: لا بد لمن يعبر إلينا من العماد.

فالتفت ياسين مفاجأً: عماد؟

قال الصوت المبحوح وهو يدفعه بقوة إلى الأمام: على من يريد العبور إلينا أن يتعمَّد بالنهر الأسود ليطَّهر من الدم. والتعمد لا يكون إلا بسبع غطسات، وقد غطَّستك السابعة. لا تخف. أنت محظوظ.

عند سماعه هذه الجملة تهاوت ركبتاه ضعفاً؟ حيرة؟ أم استسلاماً؟ هو لا يدري، ولكنه انهار، وعرف صاحب الصوت، ألا مزيد من قوة فيه فانحنى عليه، وحمله بسهولة ملقياً إياه على كتفه.

ضحك ياسين في استخفاف: ما الذي يجري. ومن هذا الذي يحملني على كتفه كخرقة.

تحسس البطن الذي يحمله، فراعته صلابة، وضحكة خفيفة، وهمس: ما الذي تفعل؟

كانت الهمسة القريبة فحيحاً غير ذكري. ما هذا. تحسس أعلى البطن ليصطدم بثديين صلبتين كبيرتين، فانتفض مرعوباً، وسقط إلى الأرض يتمتم: ما هذا؟ ما هذا؟ من أنت؟

انحنى الشبح في الثياب الرجلية والثديين الصلبتين فوقه وقال: تعجلت الاكتشاف. هيا. قاوم ياسين الحمل هذه المرة، ويبدو أن السقطة أو الريح المجففة قد خففت من تأثير البيض الفاسد على أنفه، فشمَّ رائحة غريبة، رائحة أشبه،.. أشبه.. نعم.. أشبه برائحة زيت الغار. كانت الرائحة قوية. أراد أن يدفع الشبح عنه، ولكن الشبح لطمه على رأسه كمن يلطم طفلاً يهدئه قال: الآن صرت لي.

كل ما يذكر بعد ذلك كان رائحة زيت الغار القوية تفعم أنفه.. رائحة غريبة. كان يفكر والأرض تهتز أمام ناظريه، هو ما الذي جاء بزيت الغار إلى هذه المرأة.. أكانت فعلاً امرأة؟ حين يذكر أسيمة كان يذكر ثديين أشبه بتينتين جافتين معلقتين إلى صدر غلام.. كان النحول المشتهى قد جفَّف ثدييها، وفي ذلك الحين قال جملته العجيبة: أول فواكه المرأة عطباً صدرها، ولكنه أحبها حتى لم يعد يرى التينتين، ولا الخصر يكاد ينقصف لنحوله.

همس: من أنت؟

فهمست ولا يعرف لم تهمس: اسمي ليلى.

* * *

في البيت العجيب جدرانه من خشب عتيق مرتجل وأكياس خيش وسقف من بقايا صفيح وطين لازق.. في البيت العجيب فراشُه إسفنجة عليها بساط، ونوره مصباح كاز لا يشتعل. رمته على الفراش، وقالت: نم. أنت متعب، في الصباح نتحدث.  غادرت وما أن غادرت حتى غفا دون انتظار لأنتي دوهرنغ، وحين فتح عينيه، لم يكن بيده ساعة، ولا كان يلبس بدلة الأمس التي لبسها في بيت البستان، وكان قد أودع في جيوبها كل ماله..

أحسَّ بضيق صغير. لقد شلَّحته، فما كان عليه إلا كلابية عتيقة. قال يتنهد: طيب. لقد أنقذت حياتي.. وأخذتْ أجْرَها.. تقلَّب.. واندهش أنه لم يكن شديد القلق، وما كان هذا طبعه، فقد كان كل شيء يقلقه. نقْص الملح في البيت يقلقه، ومصباح الباب المنسي يقلقه، وغياب القلم عن موقعه على طاولة الكتابة يقلقه. كان قلقه قلقاً يبحث عن سبب، وما كان السبب الحدث، بل كان القلق روحاً تبحث عن قناع. عن مبرر، وما كان أكثر المبررات. ولكن ها هو الآن عار من كل شيء، من البدلة، ومن الساعة، ومن آخر نقود يملكها، ولا يحس بالقلق الذي كان يجب أن يعيشه.

تحسس جسده تحت الكلابية، ففاحت من الكلابية رائحة الغار. تشممها بلذة.. لذة ما كان يعرف أنها رائحة ستلتصق به طويلاً، فسيضيع عن ليلى، وستتقلب به الأيام، ولكن رائحة الغار ستظل لاصقة به. ما شمَّها في صابون، أو ثوب إلا حنَّ إلى ليلى.

ليلى.. ما حكاية العماد الأسود هذه، هو يعرف عن التعميد، الطقس القديم لدى كل الأديان منذ المعمدانيين ويحيى، إلى المسيحيين، والمانويين، ولكن.. من هذه الليلى، وما حكاية العماد الأسود في النهر الأسود. ضحك في استسخاف لا بد أنها نكتة.. أعجبه التفسير، فعاد إلى الغفو وغفا عميقاً. هل نام ليلة واحدة، أم ليلة ويوماً، أم ليلتين ويوماً، هو لا يعرف وليس من يخبره، ولا ساعة لتهديه، ولا عادة له بالنوم الطويل، فقد كان أرقه الأكبر الأرق نفسه، فكيف نام. انتصب من رقدته ونور حليبي يتسلل من شقوق العتمة، ما الذي أيقظه؟ الأذان؟ لا.. صياح الديك؟.. ربما ولكن.. أين أنا؟.

انسحب من مرقده يتأمل المكان بحذر وخوف، واصطدمت قدمه بشيء طري، فكاد يسقط، ولكن الشيء الطري تحرك، وسمع الفحيح: أفقت؟

استعاد كل شيء فجأة.. المستنقع، النعيب، الغطس في الماء القذر و.. ليلى.

جثا أمام الجسم الطري فجذبته إليها: صحوت؟

ـ من أنت؟

ـ ليلى.. أنسيت؟

تملص منها وقد عرف أنها ليلى، فرائحة الغار الواخزة، كانت صريحة الهوية، وأنا.. أين أنا؟

ـ جائع؟

وانتبه فجأة إلى أنه يتضور.

قالت: سأهيء لك ما تأكل.

واتجهت إلى الباب، وعند الباب استدارت: ربما تفضّل الاستحمام قبل الفطور.

تشمَّم جسده، وكاد يقيء، فرائحة جسده كانت اشبه بالجيفة. قال: نعم، ثم غشيه توهان ما بعد النوم.

حملت الصفيحة بمائها الساخن إلى داخل الغرفة، وضعتها أمامه: سآتي بمنشفة.

سكب الماء متسرعاً على جسده يريد التخلص من رائحة النتن العالقة فيه، وبادرته نشوة ما كان له بها عادة. نشوة مزيج من دفء ونعومة وانتعاش.

انفتح الباب، فالتفَّ يستر عريه، ولكنها ضحكت في لا مبالاة. قالت:

ـ سأفرك لك ظهرك. لن تستطيع تنظيفه بنفسك.

صمت، فقد كان يعرف أن رائحة المستنقع لن تفارقه بسكب الماء فقط. كانت قد جاءت بليفة وصابون. دعكت ظهره، كتفيه، ثم بحنان أم فركت رأسه. رقبته، وصدره، واسترخى مستسلماً: أعوذ بالله منذ كم لم تقرب جسمي يد امرأة. الأم تخلت عني منذ زمن طويل. منذ أن رأت أني صرت الكبير، فتركتني لقدري. تركتني أبني رجولتي وكبري كما كانت تسميه على طريقتي الخاصة، وما كنت تجاوزت السابعة. لم يكن هنالك من أب يقودني إلى دروب الرجل، ولم يكن هناك من جد، أو عم. والخال الوحيد كان قرين العمر، فما كان لديه ما يهدي به الآخرين.

تركته، فقد كان حراماً كما كانت تقول رؤية جسد الابن أو تنظيفه.. كانت ليلى تدعك رقبته، وكان مسترخياً يتركها تقلِّب في رقبته كما تشاء. منذ كم من السنين لم تقرب جسده يد امرأة. أسيمة كانت تؤمن أنها الأحق بالعناية، وأن واجب الرجل الأساسي خدمة المرأة، وكان مكلفاً بتقديم كل الخدمات في كل الحقول، وكانت مكافأتها الكبرى له الرضا. أعوذ بالله، ما اصعب رضاها.

سكبت طاساً من الماء الفاتر على جسده، وأحس قشور قسوة تتساقط عنه. من هذه المرأة؟ كيف دخلت إلى حياته؟ بل كيف دخل إليها؟ من هذه المرأة؟ وكيف سمحت لنفسها بملامسة جسده وهو الذي ربته امرأة كان مقتها الأكبر ملامسة الجسد؟ تنهد.. حين يذكر أمه لا يذكر ملامسة معها، احتضاناً أو قبلة.

كان اللمس الوحيد المقبول في العائلة قبلة اليد، دليل الاحترام والشكر والولاء، قبلة اليد اللمسة الوحيدة مع جسد الأم صبيحة العيد واللمسة الوحيدة مع الجدة عقب العودة من المدرسة، واللمسة الوحيدة مع كبار العائلة ذوي اللحى السود الطويلة.. لا احتضان، لا قبلة على الخد. فقد كانت قبلة الخد متهمة دائماً بالفساد إن كانت من امرأة، وبالشذوذ إن كانت من رجل، وحتى حينما كبر، ورشد، وصار المعلم، والكاتب، والناقد المخوف كان يكره قبل الأصدقاء والزملاء، وكان حتى حينما تقدم به العمر يخاف أن تكون القبلة الطريق إلى الشذوذ.

انحنت ليلى فوقه تحمل المنشفة تجففه، فانتصب مستجيباً لشدها، ورآها.. أهذا معقول؟ لم يرها حتى الآن.. كانت.. رائحة غار، وفحيح شهوة. أما الآن فقد رآها وعرف أنه سيحبها.

و.. سمع أسيمة تصرخ من المطبخ: حبيبي لا تتذمر.. أرجوك. الغداء الجيد مكافأة جيدة.

ولم يجب، فقد كانت ليلى قد احتلت كل فراغ فيه. 

(17)

كانت ليلى المرأة، ليست المرأة الحضارة، وليست المرأة الزينة، وليست المرأة الدين أو الثقافة، أو الموانع، أو المحرَّمات، أو الأخلاق، أو الخجل، أو التصنع، أو التظاهر بعكس ما تشعر به.. لا. فليلى.. كانت المرأة.. كانت قد قالت بعد أن رمته عن ظهرها: الآن صرت لي. وكان قد ظن الأمر كلمة اصطلاحية، أو تعبيرَ تدلُّل، ولكنه أبداً لم يدرك أنها عنت كل حرف فيها. قالت: لقد حصلت عليك بذراعي. أنقذتك من أعدائك.. ونشلتك من الماء. غسلتك من دنسك وعمَّدتك بالبياض بعد العماد بالسواد، وأخرجتك من ماضيك.. أطعمتك وسقيتك، وأرضعتك. فأنت لي.

كان يراقب شفاهها تتكلم، وكان بعد أن عرف بأنها لا تعرف الكنايات والاستعارات والبلاغة، بل كانت تعرف المشاعر، وكانت تذيب المشاعر في كلمات.

قالت: حملتك على ظهري شبه ميت كما تحمل الأم جنينها شبه الميت، فأحييتك، ووضعتك في فراش كما تضع الأم جنينها في فراشها. قالت: عمَّدتك بيدي في النهر الأسود، ثم عمَّدتك من النهر الأسود بالماء الطاهر.. فأنت لي.

وعرف أنها كانت تعني ما تقول، كانت قد صادرت ـ وكان يشك في أنها فعلت ذلك من قبل ـ ولكنه عرف فيما بعد. عرف أنها صادرت بدلته، وصادرت حذاءه، وصادرت أوراقه وهويته.. ساعته وماله. لا.. لم تكن قد شلَّحته كما ظن أول مرة. لا.. بل صادرتها تمنعه من مغادرة القرية ليخلو لها. ولا تنافسها عليه أخرى.

كان قد عرف النساء قبل ليلى، عرفهن، المتصنعة المتظاهرة بالحب وجزء من عقلها خفي يعمل كالآلة الحاسبة. كم تكلف الشهقة، وما ثمن الآهة. وهل سيستطيع الدفع كما يجب. كنَّ كثيرات، ولم يكنَّ بنات هوى، بل كنَّ المثقفات والمتعلمات، والباحثات عن زوج، والباحثات عن مستقبل فني، والمتسليات، ولكنهن في أعماقهن كنَّ بنات هوى، من الذي صنع بنت الهوى؟ من أولُّ من علمها أن تحيل جسدها إلى آلة حيادية لكسب المال.

كان في لحظات فراغه ولا ورق لديه ليسكب عليه أفكاره، كان يكرر الفكرة ويكررها ليحفظها، فتبهت وتسخف، وتتحول إلى هلام، فيكرهها ويحاول نسيانها، ولكنه كان كالساحر المبتدئ يلقي بتعزيمته يريد تحويل الهواء إلى ماء فتقع التعزيمة عليه، فيتحول.. إلى ماء. كان في لحظات فراغه حين يفكر في التاريخ يقول: كانوا يقولون التاريخ صراع الأفكار. وكانوا يقولون: التاريخ صراع الإرادات. وكانوا يقولون: التاريخ صراع الأقوياء بالضعفاء. ولكني بالأمس فقط فكرت: التاريخ صراع الرجل والمرأة، وعلى المرأة، وبالمرأة..

ليلى.. كانت وجاءت وعاشت قبل هذا الصراع. كانت تعيش معه عيش العصفورة مع العصفور، والقطة مع القط، مع الحيوانيين الأولين قبل اللغة ـ الندم، وقبل الكتابة ـ  الندم، قالت: منذ أن علّمتم أنفسكم الكتابة لم تفعلوا إلا أن تكتبوا وصايا الأجداد للأبناء والأحفاد في كيف تذلون أنفسكم في المرأة، وكيف تذلون المرأة فيكم.

صدمه قولها، وحين غادرته للعمل، فكَّر حائراً: أفتستطيع مثل هذه الأمية أن تقول هذا الملخص للحياة.

وحين أعاد التفكير في الأمر قال: هل العلم جلاء للعرفان، أم تركيم للجهل فوق القلب فيحجب المعرفة فيه.

زمن طويل انقضى وهو سيد الجسد، وعبد الجسد، وأخو الجسد، وابن الجسد، وجسد الجسد استطاعت ليلى حمله للمرة الأولى إلى خارج التعليمات والوصايا والتخويفات والتهديدات.. استطاعت، وليس يدري من علَّمها ولا يعتقد أن هناك من علَّمها. استطاعت نقل الجسد من معدن خامل، إلى ذهب يحمل أدق الأحاسيس والرعشات والهمزات واللمزات والغمزات.. أعوذ بالله.. حين كانت تمضي ويخلو بنفسه كانت كآبة كبيرة تحل عليه. كيف عاش كل أولئك النساء اللواتي مرَّ بهن، الجدة التي عاشت مع الجد العاجز بعد الحرب كما أكَّدت له كل الهمسات والإشارات التي ما كانت ترقى أبداً إلى المعلومات، فوهبت نفسها للأناشيد الدينية والصلوات الطويلة وقمع الفرح في كل من حولها.

الأم التي تخاف من الجسد وكأنه الشيطان. تخاف من الجسد وكأنه الغواية القنبلة الموقوتة لا تنتظر إلا من يفجرها، فكانت تخاف من جسد ابنها ومن جسدها، ومن.. وكانت تقول تسوغ نفسها: السعيد من نأى عن حقل الشبهات.

أسيمة.. أكان خطئي أم خطأها أن كان جسدها قمة لا تدرك، وسعادة لا يوصل إليها. كانت تتحنن وتتفضل حين تعطي نفسها. كانت تعطي وكأنها لا تأخذ، ولأنها كانت تعطي فقد كانت تطلب ثمن العطاء، وكان الثمن نشراً لقصة لها، أو تقريظاً متنكراً باسم آخر أو أخرى لقصة منشورة لها، وكان الثمن جمع عدد من الأصدقاء وتقديم عشاء وشراب ومنادمة لهم ليقضوا الأمسية في إطراء وتقريظ ما أبدعت. وعندئذ.. وعندئذ فقط كان تتفضل، وتتحنن، وتتكرم بهبة لا تشارك فيها، فما قرأ لها امتناناً، ولا سمع منها فرحاً، ولا شهد لها شكراناً، بل كانت المنتظِرة، المتوقِعة أن يقدَّم الشكر والمديح لما تفضلت به..

ليلى.. كانت مغايرة لكل هؤلاء.. إذ كانت البسمة سعادة لها، واللمسة بركة، والحب نعمة، وكانت تقدر النعمة تقدير من يعرف أن النعم لا تدوم.

كان أبوها وهو كهل ضخم أصاب ياسين بالذعر حين دخل عليهما البيت وهو بالكلابية فقط، فقالت ليلى ببساطة: هذا أبي.

فالتفت إليها الأب وقال: أتريدينه؟ فقالت دون أن تلتفت: نعم.

التفت الأب إلى خارج البيت حيث اجتمع عدد من الكهول الذين لا يغادرون القرية كما عرف فيما بعد. رفع كفه فوق مجلسهما مباركاً وقال: ياسين ابن ناجية، وكان قد عرف اسم أمه من ليلى، زوّجتك ابنتي ليلى بنت حواء.

والتفت إلى الرجال، قال: سمعتم؟ فضحكوا، وقالوا: سمعنا..

وصار ياسين لليلى كما أعلنته ساعة أخرجته من المستنقع. حين صار لليلى ضحك في البدء، فلم يكن يفهم ما معنى أن يصير الرجل ل.. امرأة.. ولكن ليلى.. المرأة قبل الأخلاق والأديان والمحرمات استطاعت أن توقظ فيه جسداً كان يعتقد أنه حي حتى اكتشف معها أنه كان في سبات طويل. استطاعت أن توقظ لذة اللمسة، ولذة الفحَّة، ولذة الشهقة، ولذة ما قبل الكتابة. قالت: أتمنى ألا تندم.

هل كانت تعرف أنه ما إن يمسك بالقلم، ويماسك الورق حتى يبدأ الندم، وتبدأ المعرفة، وتبدأ الرغبة في تغيير العالم بعد أن عاشا زمناً طويلاً غاطسين، غارقين في العالم..

كانت القرية جزيرة أو تكاد في المستنقع العظيم الذي صنعه النهر الأسود، وكانت هذه الجزيرة معزولة لا يعرف بها أحد وكيف يعرفها والنهر يطرد من يقترب منه بروائحه وبعوضه وجرذانه، كان إشعال النار محرماً في القرية، فإشعال النار لا يتم إلا لضرورة. والضرورة لا تزيد عن هداية ضال. أما الطبخ فلا ضرورة له إذ كانوا يصحبون طعامهم من المدينة القريبة، وأما الخَبز فمحرم، فالنار والرائحة مغناطيس الغريب والعدو، والتهديد بإزالة النعمة التي بها يحيون.

حين غادرته قائلة: الآن إلى العمل. تمدد وقال: أصيب بعض نوم، ولكن النوم حين تغادر ليلى يصبح أملاً، ولم يكن لديه الأنتي دوهرنغ، بل لم يكن لديه ما يقرأ أصلاً، فقد حرَّموا، وليس يدري كيف استطاعوا ذلك إدخال كل ما يقرأ من صحيفة أو كتاب، وحرَّموا كل ما يسمع من راديو أو غراموفون. وطبعاً لا كهرباء لديهم. فكان كل تحريم من تحصيل الحاصل.

في اليوم التالي وقد غادرت، ولم يتبق لديها حكايات يسمعها منها، ولم يتبق لديه حكايات يحكيها لها، قال أتمشى في القرية.. وتمشى ليكتشف ما كان يحدسه أن القرية جزيرة يصلها بالبر جسر من نفايات خشب وقصب، ما أسهل أن يُجرَّ لتنعزل الجزيرة عن العالم الذي لم تكن لهم به كبير حاجة.

لقي عجائز يتشمسون في استسلام، وكان يسلِّم، وكانوا يردون السلام في فرح، ثم يدعونه إلى مشاركتهم بهجاتهم، ولكنه كان يعتذر ويتابع سيره يتفحص القرية. هل كان يبحث عن مخرج، أو مهرب؟ ومن يبحث عن مخرج من السعادة؟ ليقع بين أيدي حاملي الرشاشات مصطحبي كلاب الهرير؟ ولكن جزءاً أحمق.. ولا شك…. كان يبحث.

في ذلك الحين اكتشف أن المستنقع الأسود كان يحيط بالجزيرة من كل النواحي، ولكنه اكتشف أيضاً أن الجزيرة لا حقول فيها، ولا زراعة ولا شجر إلا الصفصاف والطرفاء والقصب المغطي على بيوتها المتواضعة. فماذا يأكلون.

وجاء الجواب من ليلى: ألا ترى؟ أهل القرية يعملون، ويعملون بجد. تساءل ماذا تعملون؟ قالت وبسمة غامضة تداعب شفتيها: ستعرف! وكان يرى الكثيرات والكثيرين من الشبان يعودون ومعهم الطعام الجاهز والخبز والفواكه، وكل ما يحتاجون إليه، والغريب أنه لم يدهش لهذا كله، ثم بدأ يراه كما يراه الآخرون والعجائز من البديهيات المقبولة دون سؤال.

كان خطأ، أو سوء حظ ليلى هو أنها وقعت على ملوَّث، مريض بالمعرفة، بالثقافة، غير قادر على السعادة، أو غير قادر على قراءة كلمة السعادة على أنها سعادة.

في ذلك الحين، وقبل أن تأتيه بالورق والأقلام، وكان قد عاد إلى عادة تكرار وحفظ ما يقوله حتى لا ينساه، فلم يكن لديه من الورق ما يسجله عليه. في ذلك الحين قال ما سيظل يكرره لزمن طويل: السعادة هي الشبح لا اسم له، وإذا كان سوء حظك أن كنت لا تعرف قراءة ما لا اسم له، فستعيش تطارد الشبح وكان بين يديك فأفلتَّه.

كانت قرية بلا أحلام، وقال له عجوز منهم: الأحلام زاد البائسين وكانوا.. غير بائسين. وكانت قرية بلا أطفال، وقالت له عجوز: ولم ننجب الأطفال؟ ألنمكن القُبلان من قتلهم. وكانت تلك المرة الأولى يسمع فيها كلمة القُبلان، وكانت بضم القاف، وعرف فيما بعد أنها تعني أبناء قابيل.

قالت له سعاد وكانت قريبة من ليلى تعتني به إن ابتعدت ليلى أو مرضت: الأطفال ضمانة المستقبل لمن يؤمن أن له مستقبلاً. أما نحن..، وصمتت. فألح. فقالت: نحن الجيل الأخير.. وكل الإشارات تدل على أن القُبلان منتصرون. كان آباؤنا يؤمنون بأن رسولاً ما، رسالة ما، إشارة سماوية ما ستجعل القُبلان يتوقفون عن القتل، فتعود الأرض إلى ما كانت عليه قبل جريمة جدهم. ولما سأل من جدهم. صمتت، وانصرفت عنه باستخفاف.. باستخفاف؟ بازدراء، بازدراء؟ ليس يدري ولكن انصرافها كان فيه نوع من استغباء الراشد للطفل لا يريد أو لا يستطيع أن يفهم حكمة الكبار.

وسأل ليلى بعد ليلة حب ضمخته فيها برائحة زيت الغار: من أنتم؟ فأجابت: نحن؟ قال: نعم. فقالت ببساطة: نحن نحن. ألا يكفي؟ كانوا كما يبدو قد حددوا هويتهم في أنهم ليسوا القُبلان. فقط. نحن من ليسوا من القُبلان. ولكن من القُبلان؟

القُبلان هم القتلة أبناء قابيل، يقتلون الحيوان، ويقتلون النبات، والأنكى من ذلك كله يقتلون الإنسان. ألم تر أكوام القتلى على يد القُبلان. ألم تسمع بأخبار الملايين الذين قتلهم القُبلان.. وتنهدت وكررت حكمة سعاد، وكأنها الحكمة المنتشرة بينهم جميعاً: نحن الجيل الأخير.

في إحدى المرات عادت إلى القرية ترتجف.. من الرعب؟ من الاشمئزاز.. من الخيبة. لم يعرف، ولكنها كانت ترتجف. قالت:.. كنت أنقب في حقيبة سفر عثرت عليها بالصدفة، وما إن فتحتها حتى انفتحت عن جثة رجل.

وهتف: جثة رجل؟

قالت: نعم. كان محروقاً بالسكائر، ممزَّق الظهر بالسياط، ومقلوع الأظافر. وأخذت تبكي: إنهم القُبلان. لقد وصلوا. نحن الجيل الأخير. يا رب السماء صرخت إلى أين نرحل.

وفي إحدى المرات كان يتشمس مع عدد من العجائز، وكانت واحدة منهن تغني أناشيد ذكَّرته في إيقاعاتها بأناشيد الجدة التي كانت تتغنى بحب الله ورسول الله، وآل بيت رسول الله، ولكن العجوز ها هنا مستخدمة اللحن نفسه.. كانت تغني باكية على الجيل الأخير الذي انتقل، وانتقل، ورحل هارباً من القُبلان لا يريد أن يرفع السيف لأنه إن رفعه مرة مات، فقد تحول إلى قُبلان. وقال له عجوز إلى جواره جواباً عن سؤاله: نحن نعرف اللعنة.. ونعرف التعزيمة. السيف لعنة إذا ما وضعته في يدك مرة صرت منهم، من القُبلان، وتكون لعنة المحق قد حلت على الجيل الأخير منا، فانتصر القُبلان دون ذبحنا، وماتت رسالتنا في الحياة.

فسأل في نزق: ولكن ما رسالتكم؟

قالت: لا تقتل.

وصمتت. حاول كثيراً جرَّها إلى متابعة الحديث، ولكنها صمتت تماماً عن الكلام المنطوق، وتحولت إلى لغة زيت الغار يضمِّخ، وينقل الفرح والبهجة.

في الساعة نفسها التي كانت ليلى تدلِّك ظهره وأصابع قدميه، وكواحله.. في تلك الساعة التي كان المكان فيها يسبح في رائحة زيت الغار حضرت أسيمة.. ما الذي ذكَّره بها. ما الذي أيقظها في ذاكرته في الوقت الذي كان يسبح في بحر من ملذات الجسد. ما الذي جاء بأسيمة.

كان مغمضاً عينيه  وليلى تحمله إلى جنان خارج القدرة على الحلم حين قفزت أسيمة أمامه. لم تفعل شيئاً، لم تداعبه، ولم تقبِّله، ولم تدلِّكه، بل كانت تنظر إليه منحرفة الوجه وبسمة ازدراء على وجهها.. ازدراء.. من أعطاها الحق في ازدرائه. ألأنه يعيش في هذه القرية، ألأنه يعاشر هذه النافحة برائحة زيت الغار.

أحست ليلى ببروده وابتعاده عنها، فتوقفت، همست: ما الحكاية؟ ما يضايقك؟

لم يستطع أن يحدثها عن أسيمة، وترفّعها، وازردائها، وعتابها.. أعوذ بالله.. خلق الإنسان كنوداً، جحوداً، غير عارف بالنعمة. كيف يذكر عذابه ومعذبته وهو في حضن السعادة. كيف يذكر من سدَّت الباب بوجهه حين حاجته إليها وهو في حضن ليلى. كيف يذكر من هجرت البيت، وتركته ينعي من سكنه وهو عند من نشلته من نهر السواد، وعمَّدته بالطهارة والبياض، وأطعمته بعد جوع، وآوته بعد خوف، وضمَّخته بزيت الغار.. كيف.. تنهد..

خلق الإنسان كنوداً، وإلا فما الذي جعل رجلاً كآدم يغمض عينيه عن الجنة وأشجارها وأنهارها ونور قربها من رب العالمين وحوائها.. يترك هذا كله ويسعى إلى فاكهة الإثم والعصيان فيطرد من الجنة.. تنهد.. أهذا ما ورثت عن ذلك الرجل الكنود آدم.. منذ زيارة أسيمة له.. سكنته.. صار يراها من حوله.. يسمعها تلقي عليه بقصصها تطلب تقريظاً وتصحيحاً. صار يراها تتمطى في نحولها ورائحة عرقها خفيفة الحموضة تفوح  في المكان. وهو يقوم بطقطقة أصابعها لتستيقظ، فما تزيد عن المواء، والرجاء بتركها تنام ربع ساعة أخرى، ربع ساعة!.. ولكن الفطور جاهز.. سيبرد. دعه يبرد. سأسخنه بنفسي.. ربع ساعة إكراماً لله.

صار يراها وصفائح التراب المنكوتة أمامه على البلاط الأبيض تغيِّر نبتة بنبتة، وتراباً بتراب، ثم تترك هذا كله والبلاط الأبيض قد صار مَوحَلةً لو ترك كما هو لجعل سجاد البيت مَوحَلةً، كانت ببساطة تسقي الأصيص الجديد، ثم تمضي إلى غرفتها لتسمع الموسيقى. لم تكن تطلب إليه تنظيف البلاط، ولكنه من اعتاد السعي للحصول على رضا الأم في بسمة أو قبلة، أو نظرة رضا.. كان ينظف البلاط، ولم تكن أسيمة ترى في ذلك منَّة أو فضلاً، بل هو العمل الطبيعي يقوم به.

صار يراها في صالة البيت تلبس الأزياء الغريبة، وتمرِّن نفسها على الأدوار الغريبة في مسرحيات لم تمثلها، ولن تمثَّلها، ولكنها كانت العارفة أنها ستمثلها. صار يراها وهي تجلس أمام شاشة التلفزيون والدفتر في يدها تسجل الملاحظات والأفكار والانتقادات و.. عرف أنها ستكتب شيئاً للتلفزيون.

والغريب.. الغريب أنه لم يشعر بكراهية أو مقت لها، وهو يذكر كل هذا، بل كان الحنين.. أعوذ بالله.. أيحن الإنسان إلى جلاده.. ياسين كان يحن إليها..

صار يمشي في أطراف الجزيرة يتخيلها.. ذراعه على خصرها، ورائحة الحموضة الخفيفة المنبعثة منها مختلطة بمزيل العرق الذي ما كان يزيل رائحتها. صار يرى وجهها المزدري فيشوقه.. وتكبَّرها غير المعقول فيحسُّ بالتحدي.. صار يرى نظرات المجاملة واللهفة على وجوه الأصدقاء والزوار. فيحس بالفخر.. هذه المرأة لي.. لي أنا آه.. آه.. وهل يستطيع رجل في هذا العالم أن يقول إن هذه المرأة لي.. ما معنى.. هذه المرأة لي. هل عاش رجل يوماً في إهاب امرأة، فعرف كيف تفكر وما تشتهي. هل عاش رجل يوماً في عقل امرأة ليعرف كيف تنظر إليه وتراه خارج ما يقول اللسان المتلاعب.

أحست ليلى بتباعده، فزادت من عنايتها به. صارت تكثر من الفواكه، فقد عرفت أنه يحب الفواكه، صارت تتفنن في صنع السلطات، فقد عرفت أنه يحب السلطات، بل لقد تجرأت مرة، فجلبت معها فروجاً مشوياً لعله يرضى، وكانت تعرف أن اللحم لدى أهلها محرم، فاللحم يعني القتل. والقتل من شيم القُبلان، وليس من شيمهم. وكانت تنظر إليه وهو يأكل بلذة تساوي لذتها لو كانت الآكل، ولكنها رفضت مسَّه، أو أكل خبزه الغارق بالدهن رفضاً صارماً لم يترك له مجالاً للمجادلة أو المساومة.

في ذلك الحين لم تستيقظ أسيمة فقط، بل استيقظت الأم المرأة الأولى الرافضة، المتدللة المنبئة الأولى بفساده.. كان يحس برفضها حين كان يهرب من البيت ويتسكع بين البساتين يسرق المشمش والتوت والباذنجان والكوسا والبندورة، ويأكلها نيئة، وكان النواطير يرونه ويتجاهلون، فما يمكن لطفل أن يأكل، يذكر الأم وقد حمل لها المشمش والكمثرى والزهور البرية مرة، فلما رأتها عرفت أنها مسروقة من مال غير حلال كما أعلنت، فرمتها بعيداً، داستها بقدميها، ثم ربطته إلى شجرة النارنج الكبيرة ما بقي من النهار، وجزءاً من الليل كي لا يعيدها، ولكنه أعادها، فلم يكن هنالك من تسلية غيرها.

كان في التاسعة أو العاشرة، ولم يكن فيما فعل غريباً، فكل أولاد الحارة يقضون يومهم في البساتين في نبش أعشاش العصافير، ومطاردة الشحارير في شجيرات توت السياج، في مطاردة الضفادع والسراطين، وفي أكل ما قرب من باذنجان وكوسا وبندورة وفواكه لم تنضج. لم يكن في ذلك ما ينفِّر، ولم يكن لدى النواطير ما يجعلهم يمتنعون، إلا صرخة طويلة رتيبة يطلقونها بين الحين والآخر من عرزالهم العالي: ولو و و و و.. كان هذا كل احتجاجهم، ولكنها رأت في ذلك بداية الفساد، بداية السقوط وبداية اللحاق بأبناء عمه وأعمامه وعائلة أبيه اللصوص الفاسدين.. من أبناء الحكومة.

بعد أسبوع كانت جدته قد أودعته لدى خياط يتعلم الخياطة صيفاً، فما يدريك ربما لن يفلح في المدرسة. هل نضع البيض كله في سلة واحدة. هذا مستقبل، والولد يجب أن يعرف كيف يشق طريقه إلى المستقبل. أفئن فشل في المدرسة يتحول إلى عواطلي فاسد. وهكذا وزعت الجدة البيوض على سلتين، الخياطة في الصيف، والمدرسة في الشتاء. وخاب فألها في سلة الخياطة، فقد كان يقضي وقته في قراءة المجلات المصورة التي كان الخياط يرصفها على طاولة في منتصف المشغل يتسلى الزبائن بها افي انتظار دورهم في البروفة، أو يمضي لاستحضار الأزرار والبطائن بدلاً من تعلم الغرزة والحبكة.

يئس الخياط من جديته في التعلم، فحوَّله إلى العمل على جلب ما تحتاجه الورشة من إبر وخيوط وأزرار وعرى.. فكان يقضي الوقت في قراءة الصحف المعلقة على واجهات محلات بيع الجرائد، وفي ذلك الوقت بدأ العشق الغريب للأم. كان يراها في ثياب المانيكانات الخشبية في واجهات السوق، وكان يراها أجمل منهن.. أتراها كانت أجمل منهن فعلاً، أم أنه الصد والرغبة في الصادات؟ كان يشتهي لو يلمس المانيكان فلعلها تقرِّبه، أو لعلها تحتضنه، أو تقبِّله.

كان يشتري السكائر والعلكة والبسكوت بما يعطيه الزبائن من نقود للبقشيش، ولكنه لم يكن يأكلها، بل يحملها إلى المعشوقة الأم، فكانت تأخذها سعيدة، ولكنها ابداً لم تقرِّبه، ولم تحتضنه، ولم تقبِّله. كان حين يرى النشوة عليها بعد أناشيد ما بعد صلاة العشاء بقيادة الخال، فيرى الحب والإعجاب المبهورين، يتمنى لو يحصل على جزء منه، ثم.. اقتنع بأنه يستطيع أن يقرأ المولد كما يقرأ، وفاجأها مرة بتلاوة كشف فيها كل شهوته للإرضاء.. أكان صوته قبيحاً؟ كثير ممن سمعه يغني فيما بعد كان يحدِّث عن حلاوة صوته، فكيف لم تتذوق حلاوته. سمعت، وسمعت، وكأنها تتفحص ما تسمع، وأخيراً قالت: إه.. حلو.. ولكن.. أين السكر من العسل. وعرف من السكر، وعرف من العسل.

كانت المرأة الصدود الأول، وفيما بعد لقي صادَّات، ولقي راضيات، ولكنَّ واحدة منهن لم تشبع جوعه إليها، الصادة الأولى. ترى أيكون تعلقه بأسيمة تعلَّقه بالأم، وما كان صد أسيمة إلا الاستمرار لصدود الأم.

أتراه من علَّم أسيمة الصدود؟ أترى الإنسان يخلق عاشقه على قدِّه، ويخلق معشوقه على قدِّه، ويخلق صادَّه على قدِّه؟

خلق الإنسان كنوداً، وإلا فما الذي جعله يذكرهما، ويذكر الصدود ولا يرى الرضا، وليلى لا تشتهي إلا ومضة رضا لتعطي.

قدَّرت ليلى كما يبدو أنه سئم العزلة في الجزيرة، فعرضت عليه بعد إخفاقه في التضمخ بزيت الغار أن يصحبها غداً إلى العمل. العمل؟ هتف في شوق ودهشة ولا تصديق، فقال: نعم.

ثم انسحبت من مجلسها على الفراش لتسند ظهرها إلى الجدار وتشعل سيكارتين، كانت قد تعلمت التدخين لإرضائه. قالت: سيكون عملك في أرضهم، وعرف أنها تعني تلك النكتة التي لا يفهمها، والتي يصرُّون عليها »القُبلان« وأنا أخاف عليك منهم.

ضحك في استخفاف: ولم تخافين علي، ولا تخافين على نفسك.

وهنا فجرت قنبلتها إذ قالت: لأنك لم تحسم أمرك حتى الآن.. أنت على السراط.. عين عليهم، وعين علينا.. ما تزال تشتهيهم. أعرف ذلك.. طردوك، وطاردوك وأرادوا قتلك.. وما تزال تشتهيهم.. نشلتك من النهر الأسود، وعمَّدتك بالماء الأبيض، وغذوتك لو طلبت بدمي، ومع ذلك هذا حظي ما تزال تشتهيهم.. صمتت قليلاً، وصمت. فلقد أدرك أنها كانت على حق.

قالت: نحن نعرف أن من يصلنا منهم كبيراً يصعب عليه أن يصير منا، ـ ثم تنهدت ولكن كثيرين صاروا. فلم صاروا، ولم تصر وهتف كاذباً ولكني منكم.

تنهدت ثانية، وقالت: أتمنى. ثم بعد صمت أحرقت فيه السيكارة في نفسين طويلين أضافت: أنا أعرف أني أغامر مغامرة كبيرة، ولكن لا خيار. لا أستطيع الاحتفاظ بك ها هنا على غير رغبة منك. سأصحبك.. وسأجعلك تعمل معنا.

قال في بطء حذر: سنكون معاً؟

قالت: إن شئت، وإن شئت الانفراد، فلك ذلك، ولكن بعد قليل، بعد أن أعلِّمك العمل.

وهزَّ رأسه موافقاً، وأطفأت المصباح، وفي تلك الليلة تمنى لو كان لديه كتاب الأنتي دوهرنغ لأن الاستثارة والشوق حرماه تماماً من النوم.

كان نهاراً من تشوش وارتباك.. تركته يجول في القرية، وقامت ببعض الأعمال غير الضرورية.. جلس في مجلسه المألوف تحت الصفصافة الأخيرة. كتب ما ظنه أدباً، ولكن يا إلهي لم يعد يعرف ما الأدب. كتب أفكارأً، وكتب خواطر، وكتب ذكريات، وكتب تنكرات صاغها قصاً، وما يكتب إلا عنه، وعن أسيمة وأمه. ولكن.. كيف لك أن تعرف إن كان ما تكتب أدباً، ولم يقرأه أحد، وليس من نصوص أخرى لكتّاب آخرين تقارن معها، وتقيَّم.

ترى لو أمكن لحي بن يقظان، أو لروبنسون كروزو أن يملك وقتاً، وهذا مهم جداً، فالمنعزلون لا يملكون الوقت للتفكير، وتقطير التفكير، ثم صياغته أدباً.. لو أمكنهم هذا وملكوا الورق والقلم، فهل كانوا يكتبون الأدب.. ولماذا، ولا قارئ يمتعونه، ولا ناقد يجادلونه، ولا مجتمع يقدمون له الرسالة، أو الهداية كما يعتقد كل أديب.

أيمكن للأديب أن يكون أديباً خارج المجتمع، وخارج النشر، وخارج التبادل الاجتماعي؟ وقفز كافكا، ولكن كافكا كان يعيش في مجتمع، وكان يجادل المجتمع من خلال رفض التواصل معه. إنَّ رفض التواصل إقرار بوجود من ترفض التواصل معه، ولكن ماذا إن لم يوجد أصلاً.

أعوذ بالله.. الليلة سأخترق الأمكنة. سأمشي في طرقات الفرح. سأمر إلى جانب البيت القديم.. أيمكن أن يجدها.. أسيمة؟ يا للكنود.. أنت لم تخرج بعد من جوار ليلى، وها أنت تفكر في الخيانة.. الخيانة؟ من يخون من ؟ أخيانة أسيمة بليلى خيانة؟ أم خيانة ليلى بأسيمة الخيانة؟ ولكن من قال إن الخيانة فعل الجسد فقط، وماذا عن توق الروح.. أليس خيانة؟

قالت ليلى: أنت لم تحسم أمرك. صحيح. هذا صحيح.. لم يحسم  أمره وما يزال يحن إلى صادّته ومزدريته ومتكبرته و.. أوووف.. وماذا إن لقيها.. هل سيقول لها: أنا آسف أني افترقت عنك هذا الزمن الطويل، دعينا نجسره وننسى أنا افترقنا.

وهي. أتظنها وهي من هي.. أتظنها كانت تنتظره كل هذا الزمن واليد على الخد.. والدمع في العين تنتظر.. عودة الفارس الذي ما كان.. يوماً الفارس.

مع العتمة الأولى قالت: هيا.. ومضيا.

كانت نعمة الخروج إلى العالم كبيرة، وكانوا كثيرين بحيث لم ير في لباسه ما يعيب.. كانوا جميعاً كما كان.. في ثياب تستر العري ولا زيادة إلا في شحاطة أهدتها إليه فيما مضى، فلبسها.. تسللوا عبر الجسر الذي سرعان ما رفع بعد اجتيازهم له. كانوا وكانت يعرفون طريقهم جيداً، وكان يمشي على إثرهم، وحين كان يتعثر كانت يدها تسارع  إلى تقويم إعثاره.. كانوا وكانت وكأن لهم عيون القطط يرون في الظلام ويهتدون بضوء النجوم، وكان يرى الأشجار والتلال البعيدة والأشياء الكبيرة، وكانوا يرون الحجر، والعشبة، والبركة المائية الصغيرة و.. وصلوا إلى المدينة، فأخذوا يتفرقون.. كانوا يعرفون أحياءهم ومرازقهم، وفي أقل من أن يدرك ما يفعلون لم يكن قد بقي معه إلا ليلى. وقالت: هيّا..

توقفت عند أول منعطف راكم فيه أهل الحي زبالتهم فأخذت تنبشها نبش محترف، وأخذ يراقبها مدهوشاً: ماذا تفعل؟ كانت قد نشرت كيساً أخرجت منه أكياساً أصغر، وأخذت تختار من الزبالة ما ثمن منها،  الزجاج المكسور.. أسلاك النحاس، صحون الألمنيوم المهترئة، الخرق أو الثياب المهترئة إلى حد لا تلبس فيه، ولكنها كانت تعرف كيف يفيد منها آخرون.

كانت يدان محترفتان تعملان بسرعة، وتضعان الزجاج في كيس، والنحاس في كيس، والألمنيوم في كيس، والخرق، والبلاستيك والورق كلٌ في كيس. لم تنظر إليه، ولم تطلب عونه.. كانت الدهشة قد ملكته رغم أن شيطان شكٍ صغير في القلب كان يحدثه عن نوع عملهم، ولكنه حقيقة لم يسأل. وهم حقيقة لم يشرحوا.

كان يراقب مدهوشاً، وكانت تعمل مستغرقة حتى إذا ما نقبت الكومة حتى لم يبق فيها ما يمكن الاستفادة منه، ضمت الأكياس إلى بعضها وقالت: هيّا، فلحق بها.

نقبت خمسة أكوام من الزبالة قبل أن يحسَّ بالحرج من مراقبتها فانحنى، وأخذ ينقب معها، كان حظه طيباً، فقد كان أول ما عثر عليه ملعقة، فضحكت، وقالت: ستظل الجوعان.. الفجعان.

أخذت الأكياس تمتلئ، وصار من الصعب عليها حملها وحيدة، فتطوع لحملها معها، ويبدو أن الليل قد قارب الانقضاء حين نصبت ظهرها، وقالت: هيّا.. وعادا.

في المكان الذي افترقوا فيه وجداهم يتقاطرون، وكان هناك آخرون لم يرهم من قبل.. كانوا يفحصون الأكياس، يفحصون البضاعة، يجمعونها في عربات خاصة بهم، وكانت قطع نقدية تتنقل في صمت من أيدي اصحاب العربات إلى أيدي حاملي الأكياس التي أفرغت وطويت.. ثم انتقلوا عائدين.

وعلى الطريق وجدوا الباعة الذين يعرفون زبائنهم وما يريدون، وكانت النقود في الجيوب تتحول بسرعة إلى طعام وحلوى وهدايا صغيرة و.. رجعوا إلى الجزيرة ليناموا حتى منتصف النهار.

دخل دورة حياتهم، ولكنَّ شيطاناً صغيراً كان يهمس له في كل رحلة ليلية متى تذهب إلى حيك..، متى تحاول أن ترى بيتك..، متى تجرب أن ترى.. ها..، وكان يهز رأسه في عنف لافت للنظر. كان العنف أكبر من الخاطرة، فهل كان العنف في هزة الرأس الجواب على الاقتراح، أم الخوف من الضعف أمام الاقتراح.

لم يكن ينوي خيانة ليلى، فقد كانت نبعاً من عطاء، ولكن.. أيمكن أن يكون على مقربة من بيته، من أسيمة، من ذاكرته، من مكتبته من.. تلك الأيام الجميلة حيث السهر للصبح، والمعجبون والمعجبات والنكات والضحك، الضحك من قاع القلب، أو قاع البطن، أو قاع الروح.. الضحك.. صحيح.. هؤلاء الناس لا يضحكون كثيراً. إنهم مهمومون دائماً. أتراه قدرهم الذي يعرفونه ويعلنونه في أنهم الجيل الأخير ولكن.. ما له ولهذا.. ماله وللجيل الأخير..

أنا.. لا.. إياك أن تقولها، فأنت منهم منذ عبرت إليهم النهر الأسود، وغطست فيه سبع مرات، وتخلصت من أولئك المسمَّين بالقُبلان والذين طاردوك، طاردوك حتى لو أمسكوا بك لقتلوك، فما الذي يجذبك إليهم. ما الذي يغريك بهم.. أنسيت تشبيحك.. أنسيت حين مرورك بالمقهى، فلم يروك.. لقد غدوت الشبح منذ حرموك من الحقوق المدنية والسياسية.. أتظن أنك لو رجعت إليهم، فسيعيدون إليك حقوقك التي حرمت منها. عبث.. في هذا العالم ما مضى قد مضى، ولن تستطيع استعادته. وهؤلاء؟ أهل ليلى؟ إنهم لا يفكرون في نصر أو هزيمة. إن ما يفكرون به فقط هو ألا يتحولوا إلى عدوهم، ألا يتحولوا إلى قُبلان.

وإذاً. هل يمضي إليهم راكعاً يطلب الغفران، الغفران؟ عمَّ؟ عمَّ؟ عمَّ؟.. كان يفكر محزوناً.. ما الذنب الذي اقترفت فجعل أسيمة تقفل الباب في وجهه، ثم تهجر البيت وتختفي.

استيقظت أسيمة، واستيقظ الشوق، وبهدوء أخذت تتحول إلى كل شيء جميل عاشه. صارت أسيمة الأسطوانة الموسيقية تهدل في أوقات القيلولة في نعومة، وصارت أسيمة فنجان القهوة بين جنبات الغاردينيا والأرطاسيا. صارت أسيمة الجلسة على المنبر وهو يرتجل محاضرات يخلط فيها المزاح بالجد، بالشعر، بالحكمة، بالتصفيق المتحمس.

قال: يجب أن أزور البيت. يجب أن أمرَّ به، يجب أن أحاول.. لاحظ أنه يقول أحاول، ولم يقل يجب أن أراها. ترى هل غفرت؟ ولكن أي غفران، وعن أي ذنب؟ لا يعرف ولكنه يطمع إلى غفرانها. أووف الغفران. ذلك الحلم البعيد منذ ماتت الأم، ولم تغفر، ولم تصفح، ولم تستعد الابن المشتاق إلى حضنها.

كان يتقدم في العمل، ويقول سترى أنها كانت مخطئة في الإعراض عني، وهبة حبها لذلك الملتحي بائع الحبوب المحلاة المسمّى بالخال، ولكنها ماتت ولم تر خطأها، ولم تر تقدمه.

كان يرى صوره في الصحف ويتساءل: أتراها تتفاخر بين النساء من صاحباتها: هذا ابني الذي لم أعرف قيمته، ولكنَّ كلَّ ما وصله عنها قبل موتها دعاؤها: الله يهديه ويرجعه إلى الصواب. إذن فقد كان كل ما قمت به الخطأ، وهي..؟ وأخوها؟ والجدة؟ كانوا الصواب المطلق..؟

آه.. ولاحظ أن الغضب وتَّره.. أعوذ بالله. بعد كل هذه السنين أما يزال ذلك الهجر ينغل به هذا الغضب.

سمع نحنحة، فالتفت.. كانت ليلى، وكانت تحمل له بعض فواكه تسترضيه في جلسته المتوحدة مع الصفصافة والورق. قالت: هناك همٌّ يتأكلك. أتريد أن تحدثني به؟

وكيف يحدثها. يا إله  السموات. كيف يحدثها عن شهوة هجرها للالتحاق بعدوتها و.. من سدَّت الباب بوجهه وهجرته. كيف يحدثها عن شهوته إلى من حرموه من حقوقه المدنية والسياسية وشبَّحوه.. كيف يحدثها؟

ناولته خوخة.. قالت: كل.. وأكل يتلهى بالأكل عن الإجابة. تأمل ما عليه من جلابية عتيقة وشحاطة عتيقة، وما عليها من قميص بال وبنطال بال.. وفجأة قفزت الفكرة إليه: أية عجرفة، وأية حماقة يعيش هؤلاء الناس.. يرفضون القُبلان، يخطِّئونهم، ويرونهم الضد، ومع ذلك فهو لا يستنكفون عن العيش على فضلاتهم، بقاياهم.. ينقبون في زبالتهم، في مرمياتهم ليجعلوها لباسهم وطعامهم و.. أفكارهم.. نظر إليها ولم يجرؤ على القول: ولكن. ألا يحتاج الإنسان إلى وقاحة كبيرة حتى يجعل من نفسه الصواب، ومن مطعمه وكاسيه من فضلاته الخطأ.

قالت: ستمضي اليوم وحيداً.

التفت إليها مفاجأً مضطرباً والفكرة تنغل فيه: أهو الامتحان.

ولكنها تابعت: متعبة، ولا أرغب في العمل، ثم أضافت: لست مجبراً على المضي إلى العمل إن كنت لا تشتهي.

ولكنه في شهامة اعترض: ونفقات الحياة؟

قالت: لدي بعض المال سنتمكن لو شئنا من العيش أسبوعاً أو أسبوعين بلا عمل.. أخلو فيهما لك.. يبدو أني أهملتك حتى صرت تشرد مني.

قال: لا.. وحاول التفسير والاعتراض، ولكنها اقتنعت من طريقته بالحديث بالفكرة الأولى قالت: أستطيع احتمال مضيِّك. امض.. جرب أن تعمل وحيداً. أنت تعرف المنطقة المخصصة لنا.

هز رأسه إيجاباً. قالت: إنه الغروب. آن أوان مضيِّك، ثم في انكسار وهما يعودان إلى بيتهما قالت: لا ترهق نفسك. فوعدها بألا يرهق نفسه.

بدت المدينة له هذه المرة فردوساً. الطرق المزفتة المريحة للقدمين تمشيان فيهما وعليهما. بدت أضواء النوافذ والشرفات وعداً.. كانوا يتحاشون الطرقات الرئيسة. قالت مرة: من الأفضل ألا نراهم، ولا نلقاهم. ثم في خبث: ألاحظت أن لهم رائحة خاصة.. كريهة.. رائحة الدم.. وكان يتحاشاهم، يتحاشى شوارع النور والسيارات، وإذا ما مرت سيارة ناشرة نورها الفاضح كانوا يتحولون مباشرة إلى أشباح. كانوا يتنكرون، وكانوا يصدّقون تنكرهم. كانوا يتنكرون على شكل دهليز معتم، وعلى شكل باب مغلق، وعلى شكل ظل شجرة، وكان الآخرون عمياً.. لا يرون.. فلم يخطر لهم أبداً أن يروا ظل الشجرة عدوهم الذي يشتهي دمارهم، فهم النفي لهم.

وصل إلى الكومة الأولى للزبالة، وأخذ ينقِّب فيها، وجد إبريقين زجاجيين مكسورين.. ربطة أسلاك نحاسية عتيقة. كان حظه طيباً. ولكن فجأة ومن إحدى النوافذ اندفع صوت ممثلة، كان صوتاً يعرفه، صوت ممثلة صديقة كانت تهدر وتهدر في واحدة من الخطب الطويلة.

أنصت في متعة، في نشوة، في فرح.. كانت تهدر، وكان جسمه يرتعش.. لا.. ليس مبالغة، كان يرتعش.. ترك الكيس بما فيه، ودنا من مصدر الصوت يتسمع، ولكن صاحب الجهاز ولا يعرف إن كان مذياعاً، أو تلفازاً غيَّر المحطة فجأة إلى موسيقى.. إلى.. يا إلهي.. إنه يعرف هذه القطعة يعرفها.. إنها.. شوبان.

انهارت ركبتاه تحت ثقله، ووجد نفسه ينطوي على نفسه كطفل مهجور، مرعوب من العالم، وكانت موجة بكاء.. من أين يأتي البكاء.. بكاء حارق كان يخضه ويعتصره، ويحيله إلى خرقة.. أين أنت يا ياسين؟ أين أنت؟ وما فعلت بك الأيام؟ أنسيت السهرات والموسيقى والحوارات المثقفة، ونظرات الإعجاب؟ كيف انحططت إلى هذا؟ أية لعنة حلت بك حتى أوصلتك إلى هذا؟ أنسيت من أنت؟ أنسيت الوعود الكثيرة التي وعدتها لنفسك؟ كيف جعلتهم يخدعونك بتلك الجزيرة البائسة المحاطة بالنهر الأسود؟ كيف جعلتهم يقنعونك بأنهم الجيل البريء الأخير وأن هؤلاء.. هؤلاء كلهم في البيوت السعيدة، والسيارات الفارهة ومراكز الندوات والمحاضرات، هؤلاء الناس في مسارحهم ومغانيهم ومراقصهم وجامعاتهم ليسوا إلا الملعونين، القُبلان. هؤلاء الغارقون بالدم.

أنت أنت المثقف، أيمكن أن يبلغ بك الحمق حدَّ تصديق مثل هؤلاء الأميين العائشين على فضلات هؤلاء الناس، ثم يدعون أنهم الحق، وأنهم البراءة، وأنهم الموعودون برضا الرب، فلم يريقوا دماً، ولم يرفعوا سيفاً لدم.

ولكن.. فجأة رأى الآذن الضخم ورشاشه العسكري يهدد به: ممنوع.

وارتفعت الغصة في الحلق حتى الاختناق. أنا.. أنا ياسين الأرفعي يهددني آذن مسلح، ويطردني من مركز عملي. أغمض عينيه في عذاب.. وتقدمت مقهى البرازيل، ورآهم.. كان يمرق من بينهم كشبح،  كظلٍّ، كَلا مادة. كان يتحدث فلا يصغون، يلكزهم فلا يحسون، يهتف بهم، فيستمرون في ثرثرتهم ولَعِبِهم الطاولة، ولم يعد فيه طاقة على الاحتمال، فانتصب من جلسته، وعاد إلى حيث كوُم الزبالة ينقِّب وينقِّب، ويملأ الأكياس دون تمييز.

في اليوم التالي، وفي جلسته عند الصفصافة قالت ليلى: لا تبدو سعيداً.. فهز رأسه في لا مبالاة: ليس الأمر مهماً.

ـ أوجعتك المدينة؟

ونفى في قسوة: توجعني؟ لماذا.. مالي وللمدينة.. كنت مجرد منقِّب في زبالتها.

صمتت، فلقد فهمت أن غضباً ما كان يغلي فيه قالت: أتحب أن أصحبك اليوم.

قال: دعيني أجرب نفسي مرة أخرى.. وصمتت.

انفتح الباب وقالت أسيمة: هيا. قم. الغداء جاهز.

حاول القيام، ولكنَّ ساقيه كانتا منهكتين كمن مشى لأيام: ما الذي أنهكه وهو لم يمش،  ولم يعدُ، ولم يمارس أي جهد عضلي و.. كان الغداء

* * *

قالت: سأزور ثريا. أتريد اصطحابي.

ولكنه أشاح بيده في سأم، وتابع الفرجة على التلفزيون. انتظر يتنصت في حرص على وقع خطواتها على الدرج. انتظر حتى اختفى الوقع، ثم انتصب في همة، ومضى إلى المكتب، فالمكتبة، فالمزلاج، فالمكتبة السرية.. انتزع السيرة الأولى.. حملها كمن يزنها. قال في فرح منتصر: أنجزت جزءاً مهماً منها. قلَّب فيها قليلاً، قرأ بعض ما كتب، وفجأة حطَّ عليه رعب كان قد تخلى عنه منذ عودته إلى البيت. ياسين. أتعرف ما تصنع، أتعرف ما تصنع؟ أنت ترمي بنفسك إلى الذئاب. ما تقوم به ممنوع على الآخرين. فكيف وأنت المكلف بكتابة سيرة مولانا عنقاء الزمان.. كيف.. أطرق في حزن، فقد كان يعرف أن الاعتراض صحيح. كان يعرف أنَّ فيما يقوم به عجرفة كبيرة. فمن أنت في المحصلة الأخيرة. من أنت لتبتلي الناس بكتابة سيرتك. من أنت، وما قيمتك في هذه الحياة. ما الذي قدَّمت، أنت وألفٌ، مليون من أمثالك، من الرعية لو اختفيت واختفوا، هل تتغير مسيرة بني الإنسان. من أنت لتكتب سيرتك، وتريد أن تعارض فيها. لا.. صرخ.. لا.. أنا لم أتحدث يوماً عن المعارضة. لا.. أنا أكتب فقط سيرة الفتى المعذب الباحث عن حب لم ينله، وعن اعتبار لشخصه لم يحزه، وعن تقدير لمنجزه لم يحصل عليه.. لا.. وجاءه الصوت الداخلي هادئاً ليس فيه الثورة، ولا الحدة، ولا الغضب: ولكنك تعارض. أنسيت؟ تعارض سيرة الملك الظاهر، بسيرة مولانا عنقاء الزمان، و.. تعارض على غير وعي، أم عن وعي الله أعلم، سيرة مولانا بسيرة ياسين الأرفعي.

وضع رأسه بين كفيه مطرقاً على المكتب يكاد يخنقه الغضب ولكن.. أية معارضة. فحياة مولانا حافلة بالوعود والانتصارات والانتظارات، وحياة ياسين ليس فيها إلا الخيبة إثر الخيبة، الخيبة في نوال حب الأم، والخيبة في نوال رضا الجدة، والخيبة في الانتصار على الخال وعطِّر اللهم قبره الكريم بعرف شذي من صلاة وتسليم، والخيبة في جعل أسيمة تحبه  الزوج والعاشق، لا المؤسلب والمروِّج وخادم الغرام. الخيبة.. وقاطعه الصوت الهادئ: ولم نسيت ليلى.

صمت.. كان السؤال مفاجئاً، وأراد أن يردَّ متشكياً: ولكنها ليست من مستواي. صدمه جوابه.. وصدمها لو سمعته، ولكنه قاله.. تأمَّل المكان من حوله كأرنب في مصيدة، تأمل ما حوله يبحث عن مهرب.. لقد قالها.. قالها، هو من أخذ منها كل حب يمكن لامرأة أن تعطيه.. وأنكرها.. أهو الحب ما تبغي يا ياسين.. أهو الحب ما تبغي حقاً أم.. ووجد يديه تسارعان إلى إخفاء كل شيء في المكتبة السرية والاندفاع خارج البيت يمشي مشياً كالعدو لعله يُخرس السؤال الذي أخذ يتردد كصدى جرس بعيد.. أهو الحب ما تبغي أم.. أم.. أم..

هدَّأ من سرعته يلهث.. وتسلل إليه صوتها: امض يا ياسين.. امض.. جرِّب أن تعيش بعيداً عني، ثم إن رأيت الرجوع إلي خالصاً من كل شرك، فستجدني في انتظارك. و.. مضى.

(18)

نظر إلى السماء من موقعه، فلم ير إلا السقف المسوَّد ما بين العتمة وهباب الأيام، والمتقشر قشَّرته سنين الرطوبة. نظر إلى السماء.. وتنهد..

كان هنالك مزق من صوت، وهشيم من موسيقى تتسرب عبر شقوق الباب، وكانت هذه المزق والهشيم الفتنة التي طالما عاشها، ورتع في فرحاتها. من مجلسه على الدرجة الأخيرة الضائعة ما بين عتمة خارج البناية ونور المصباح البابي.

تمنى لو يمعن في الاقتراب، فينصت إلى ما يحدِّثون، وفيم يثرثرون.. ما الذي يلبسون.. و.. هي أسيمة. ما الذي تلبسه الآن، الثوب الحريري الأسود الذي يبرز جمال كتفيها النحيلتين،  وظهرها النقي، أم الثوب الوردي بكميه القصيرين، والرقبة المفتوحة توحي بالصدر الجميل. ترى.. لا.. لا بد أنه الثوب الأبيض السكري من الجورسيه المجعَّد قليلاً والذي يوحي بجسد أكثر امتلاء، وأشد إغراء.. و.. أووف أسيمة. أسيمة.. أعوذ بالله كم أشتهي رؤيتك الآن.. كم أشتهي.. شمَّ رائحتك الخليط ما بين الشانيل والحموضة الحلوة الخفيفة التي لا يخفيها عطر.. أسيمة.. وأخذ المشهد يتجلى ويتجسد. هو يعرف أن هذه ملكة لا يستطيعها إلا من عاش طويلاً على تخوم الخيال وملك ما أسماه ياسين القدرة على بناء العالم الاستعاري الموازي للعالم الحيواني الحياتي.

أخذ المشهد ينبني أمامه، الصالون المتوسط المضاء بمصابيح خفية تضفي الظلال على اللوحات الهدايا، فقد كان ياسين يكتب في نقد الفن التشكيلي،  وكانت كتابته تخيف، وكانوا يهدونه اللوحات. رأى على الكنبات الواطئة.. رآهم جميعاً مصباح، وجابر، ونمري، ويوسف، وملك، وناديا. كانوا مسترخين في جلساتهم المريحة، وبأيديهم كؤوسهم.. و.. سمع شوبان حبيبها يتسلل خفياً عبر مضخمات الصوت الموزعة في أركان الصالون. كان جابر يهذر ويثرثر وهو يتحدث عن الإبداع المتأنق، عن الرقة في رؤية الأشياء، عن الضبابية المتعمدة المضفاة على الحدث. هذه الخواص التي لا يتقنها إلا امرأة، وهذه  المرأة هي.. أسيمة.

كان ياسين يعرف طريقة جابر في التعليق على ما تقرأ امرأة. كان يعرف  الإنشائية السهلة التي يستخدمها لتبرير وتسويغ العشاء والسهرة المجانيين.

انتبه ياسين إلى أنه استحيا المشهد بمعظم تفاصيله ما عدا أسيمة.. أراد استحضارها. ولكنها كانت تتأبى. حاول ثانية مستدعياً الثوب الديكولتيه الأسود، ولكنها حافظت على تأبيها. استدعى الثوب الوردي، ثم السكري، ولكنها كانت تتأبى. كانت دهشة محبطة، فكيف استطاع استدعاء المكان، واستدعاء شلة الأيام القديمة كلهم ولم يستطع.. فجأة تذكر.. إنَّ كل من استدعاهم كانوا مدرجين في قائمة المحرومين من الحقوق المدنية والسياسية.. وتنهد.. أتراهم استطاعوا الاحتيال على هذه المصيدة والنجاة بأنفسهم فيما لم يستطع.. تنهد.. حسن، فإن لم يكونوا هم، وهم الأصدقاء شديدو الحميمية له ولأسيمة، فمن تكون الشلة التي يسمع الآن هشيم أصواتها مخلوطاً بشوبان.. من يكونون.. أتراها استطاعت اصطناع شلة أخرى في غيابه. أعوذ بالله. أتراها فعلت. فإن فعلت فهل اصطنعت شريكاً غيري.. أتستطيع.. أيمكنها فعل ذلك. إنه لم يطلقها.. ولكن.. من يتحدث عن الطلاق والزواج هتف في إشاحة الآن.. أسيمة وتعرفها. إنها لا تستطيع العيش وحيدة، ولا تستطيع العيش دون موجّه، ومصحح، ومروّج.. ومن يحملها إلى العالم.

سمع صوت المؤذن يذكّر بأن أوان الفجر قد اقترب، فها هو يصلي على النبي وآله وأحبابه و.. صدم ياسين. لقد مضى الوقت سريعاً، وها هو الفجر يهل.. إنه يعرف العادة. سيستأذنون الآن، وسيتركونها مع الكؤوس غير المغسولة والصحون المتسخة ببقايا ما أكلوا و.. سمع ضجة جرِّ الكراسي، وأدركه الذعر.. لن يروه في موقع الشحاذ هذا. يجب أن يختفي. ليس من أجل أسيمة، بل من أجله هو.. لن يسمح لهم بالمرور إلى جانبه وتجاهله، فما لهم ولزبال في كلابية قصيرة طحينية اللون، وشحاطة تكشف عن أظافر سود لم تقصَّ، ولم تنظف لشهور.

انتصب، وسمع ضجة ما قبل الانصراف، فهرب إلى الظلمة، إلى الشارع، كان برد آخر الليل منعشاً، فانتعش.

ازداد الصرير، وصوت جر الكراسي، والحركة، وعرف أن ما توقعه كان، وها هم ينصرفون، فتحول إلى ظل لعمود الكهرباء.. قال: سأراقبهم في خروجهم لأرى إن كان فيهم نمري وجابر ومصباح وممتاز.

أخذوا ينفصلون عن النور في الدهليز إلى العتمة في المدخل، فنصف النور في الشارع، رآهم كعادتهم يدخلون في سياراتهم الصغيرة يدعو مالكو السيارات الآخرين إلى الركوب لتوصيلهم، فيتدللون قليلاً. ثم يركبون.. أحدَّ النظر ورأى مصباح  يركب مع نمري، ورأى ناديا تركب مع مصطفى، ورأى جابر يركب مع ممتاز.. أعوذ بالله. إنها المجموعة نفسها، والسيارات نفسها، والدعوات نفسها، والتدلل نفسه، لا شيء يتغير، وأخيراً رأى دلال ورأى ثريا المتخلفتين دائماً، فلا بد لهما من دخول الحمام قبل ركوب سيارة ثريا التي توصل صديقتها إلى بيتها.

هبَّت الفكرة حية بينما كانت السيارات تختفي بركابها: لم لا أحاول رؤيتها، لم أستطع استحضارها واستحياءها رغم استخدامي لكل قوة الخيال. فلم لا أراها وأزوِّد نفسي بزاد جديد منها.

كان الدهليز المضاء داعياً. وكان المصباح فوق الباب متحدياً، وكان الباب بمطرقته النحاسية.. لقد أضافها إلى الباب قبل.. إنه يذكر. لقد اشتراها مرة من سوق الأشياء القديمة، أغرته بمنظرها. كانت تخالف المطارق المألوفة في أنها رأس لباشا بشاربين ضخمين التفا حول الرأس ليصنعا عقدة عند القذال. كان مصمم المطرقة ذا روح مرحة.. أعجبته المطرقة، فاشتراها بقروش، ولكنه ما إن غادر البائع حتى أصابه الخوف. لن تدعه يثبتها في الباب. ستقول له بثقة مهددة، الباب بسيط الخشب حديث التصميم، فكيف ستضيف له هذه المطرقة العتيقة، وسيرى أنها على حق، فقد كانت دائماً ذات أفكار صائبة عن التصميم والتناسق والديكور. هه.. كاد يرميها، فلم يكن على استعداد لشجار في العشر الأخير من الشهر، ولكنه لم يسْخَ برميها. قال:  سأضعها على رف في المكتبة. إنها قطعة جميلة بغض النظر عن مواءمتها للباب. لكن المفاجأة كانت في أن أسيمة هي من أعجبت بالمطرقة، فتبنتها، وغسلتها بالحوامض حتى جددتها، ثم جاءت بنجار، فثبَّتها على الباب، وكانت جميلة أضفت بغرابتها قيمة وندرة على الباب الساذج في صناعته.

أحسَّ شهوة للمس المطرقة، رغبة حارقة في الطرق بها على الباب، والتنصت إلى إيقاع النحاس المصدي داخل الباب، تخيَّلها تعدو بنصف ثيابها، فلا شك أنها تخففت من ثوب السهرة حالما غادر آخر الضيوف البيت، وها هي تجول في البيت بشلحتها القصيرة تكشف عن ساقيها النحيلتين و.. صدمه أن مجرد ذكره لساقيها النحيلتين حرَّك فيه إثارة ما كان يتوقعها.

انتصب من مخبئه، واتجه إلى الباب ذي المطرقة المضاء بمصباح ما كان له أن يترك مضاء، ولكنه ما إن وضع قدمه على الدرجة الأولى الهابطة إلى الدهليز، ورأى قدمه بأظافرها السود الطويلة والشحاطة البلاستيكية حتى ذعر.. لا.. لا يجب أن تترك لها فرصة رفضك.. لا.. لا يجب أن تترك لها فرصة ازدرائك لا.. فأنت تعرف. لم يكن لأسيمة يوماً قلب متعاطف مع الفقر أو الإهمال أو القذارة.

تجمَّد في موقفه.. كان يعرف أنه في رأيه فيها على حق. ولكن.. يجب أن أراها.. سأموت لو عدت إلى ليلى.. ولم أرها.. يجب.. يجب أن أراها.. لا يمكن..

وبهدوء ذَكَرها.. كانا قد أضاعا مفتاح البيت، وكانا قد عادا متأخرين من سهرتهما.. ولم يكن بإمكانهما العثور على مكان آخر لقضاء الليل. قالت: ياسين.. السور المطل على حديقتنا الخلفية واطئ.. يمكنك بـ.. بعض الصعوبة والمغامرة القفز، وفتح الباب من الداخل.. أجال الفكرة في رأسه ليجد ألا حل آخر. ولكن كان عليه أن يتسلل عبر حديقة الجيران على الجانب الآخر من الشارع، ثم أن يطل على حديقتهما الخلفية.

كانت الفكرة مثيرة، واعدة، جيدة، وسرعان ما انتقل إلى التنفيذ، دار حول الحارة كلها. اخترق حديقة الجيران التي لم تكن شديدة الصعوبة، ثم.. تسلل إلى حيث السور المطل على الحديقة الخلفية لبيت هـ. ها.. هما.. كان حظه طيباً، فقد كانت الحديقة معتمة، وكان نور الصالون ما يزال مضاء، وكانت المرأة في الشلحة السوداء والساقين النحيلتين تجول جامعة صحون السكائر لتفرغها في كيس قريب. كان يتوقع الحنين، الإثارة.. الرغبة في رمي نفسه إلى الباحة ليراها. كان لديه توقعات كثيرة، ولكن ما صدمه، فأوقف كل حنين أنها كانت تتحدث مع أحدهم. أعوذ بالله. أهناك آخرون ما يزالون في البيت.. من.. من..

انحنى بقوة يريد رؤية من في البيت، ولكنه لم يستطع أن يلتقط إلا صوتاً رجُلياً غليظاً يتسرب. أحدَّ النظر.. تطاول بجسده ليراه.. كان الآخر في بنطلون بيجاما وقميص شيال داخلي، وكان يساعد في جمع المحارم الورقية عن الأرض، في جمع الأطباق المتسخة. كان يقوم بعمل رب بيت، وشريك. أعوذ بالله. هل تزوجت.. ولكن.. لا.. لن تستطيع الزواج وما تزال على ذمته وإذن.. صديق؟ لا.. لا.. لن تجرؤ.. لن تكون على هذه القدرة من الوقاحة. فالشلة، أصدقاؤه كلهم كانوا هنا قبل قليل.. لا.. لن يحتملوا الفكرة.. يعرفهم. إنهم محافظون.

تطاول ثانية مرخياً جسده متعلقاً بذراع واحدة إلى السور.. كان يشبه قرداً متدلياً من شجرة.. كما علق ساخراً.. وفجأة كوفئ على إصراره، وعلى تضحيته، وعلى مثابرته، فلقد اقترب الرجل من بؤرة الضوء، ورآه ياسين. رآه…… وشهق في صمت.. وكاد يسقط من متعلقه.. كان.. الرجل في بنطلون البيجامة والشيال الداخلي…. ياسين.. أعوذ بالله إنه ياسين.. أيمكن.. ياسين آخر؟ فمن أنا إذن؟ وتحسس بيده الطليقة اللحية الطويلة المتسخة وسقط عليه بؤس مريع.

كان ياسين الآخر في بنطلون البيجامة والقميص الشيال يتمطى، ورأى أسيمة تقترب منه، فتنتزع السيكارة من فمه في دلال، ثم تمجُّ منها مجَّة طويلة، وتعيدها إلى فمه. كان المشهد مكرراً، مألوفاً. أيمكن للحياة أن تكون على هذه الرتابة والتكرار، هذا المشهد رآه قبل الآن. عاشه قبل الآن عشرات المرات ومئات المرات. كانت الألفة والمتعة والتوحد فيه مع الآخر شيئاً يعطي للحياة نكهة خاصة. كان يخطف السيكارة من فمها، فتحتج في دلال فما يزيد عن مجَّة منها يعيدها بعدها إلى فمها، وكانت تخطف السيكارة من فمه، فتمجُّ منها مجَّة تعيدها بعدها إلى فمه. كانت الحركة أشبه بقبلة بالواسطة، وكانا كثيراً ما يعمدان إلى التحول من السيكارة إلى التقبيل المباشر، بل كانت هذه الخطفة كثيراً ما تكون الإشارة المتخفية المتدللة منهما إلى ما يعمدان إليه بعد المجَّة، وكثيراً ما كانت مجَّة السيكارة الإشارة إلى ترك البيت على ما هو.. ناقص النظافة، ناقص الكنس، بل ناقص إطفاء المصابيح الكهربائية.

ما الذي يجري؟! لقد انسحبا خارج دائرة الضوء، أهي السيكارة؟ تدلى، وأمعن في التدلي، ولكنهما اختفيا عن المرأى، وكاد يقفز إلى الحديقة، فالباحة، فالبيت ليكشف ما يجري، ولكن اللحية الطويلة والكلابية الطحينية اللون جعلته ينسحب كسيراً إلى حديقة الجيران،  فالشارع الخلفي، فالحارات تتقاذفه كالسكران. 

(19)

اتكأ بظهره إلى شجرة الصفصاف، وكان يظن أنه سيحظى بخلوة يستحقها، فليلى لم تعاتبه على عودته خاوي اليدين. عرفت أنه لم يعمل، ولم ينقِّب، وأنه قد مضى يزور شبابه وعمره اللذين تخلى عنهما حين عبر إليها النهر الأسود. كانت أمها، وصديقاتها قد حذَّرنها حتى قبل عبور ياسين النهر الأسود إليها. قالت: إنهم يحنُّون، وحين يحنُّون يصابون بما يشبه الجنون. من الأفضل لنا أن نتعلق بأبناء جماعتنا، أما أولئك العابرون معلنو التوبة فكاذبون. نصف عمرهم معلق بالقُبلان، بأيام القُبلان، وبمتع القُبلان، وبأرضية القُبلان. إياك. ولكنَّ حظَّها كما أعلنت لنفسها حين عمَّدته بالسواد، ثم طهَّرته بالبياض كان الحظ الأسمى، فقد رأت نظرات الغيرة والحسد على عيون صديقاتها ورفيقاتها. فمن منهن حظيت بشاب كياسين. الوسامة، والنضارة، والقدرة على الحب. ولكن.. ها هو تحذيرهن يتحقق، وها هو الضياع يعصف به.. أتراها أخطأت حين صحبته إلى المدينة ينقب معها. أم تراها أخطأت حين تركته يمضي وحيداً إلى المدينة، ولكن.. لا.. كان عليه أن يجرب، أن يعرف، أن يتخذ قراره بالبقاء معها حراً دون خوف، أن يرى السعادة معها أمتع وأكثر بهاءً، من السعادة مع.. الأخرى.. الأخرى؟ أهناك أخرى؟ بالطبع. إنه لم يحدثها عن أخرى أبداً. ولكن، أيمكن لمن كان على وسامته ألا يكون لديه أخرى.

كانت في جزء من قلبها تتمنى، وكانت تعرف أن في أمنيتها هذه عجرفة كبيرة، كانت تشتهي، وتتمنى أن يفضلها على الأخرى مختاراً، أن يمضي إلى الأخرى أياً من كانت الأخرى والتي ربما لم تكن أنثى. بل ربما كانت المدينة نفسها، حياة القُبلان، ومتعهم الدنيئة. كانت تتمنى لو لم يجبره الرصاص على العبور إليها، لو لم تعمِّده بيديها، بل أن يخترق النهر الأسود إليها مختاراً، وأن يتعمَّد مختاراً معلناً أنه فضلها على العالم، على القُبلان.. ولكن.. كانت تعرف أن في هذه الأمنية عجرفة أكبر من حظوظها، فهي تعرف أن هذا لا يحصل إلا لامرأة واحدة في كل جيل أو جيلين، فلِمَ يحصل لها ولم يحصل لكل رفيقاتها؟

رأته يدخل متهدل الكتفين، فعرفت أنه مثقل بالهم، ففضلت ألا تسائله ولا تطلب تبريره، وتظاهرت بالإغراق في النوم. راقبته بنصف عين تغلفها العتمة يستلقي على الاسفنجة القريبة. أنصتت إلى تنفسه المضطرب، وكادت تتخلى عن تحفظها، وتسأله عما يعذبه، ولكنها تغلبت على ضعفها، وحافظت على استلقائها وانتظام تنفسها. راقبته ينتصب من رقدته، ينظر إليها متوسلاً، أكان متوسلاً فعلاً، أم حذراً من يقظتها. لا.. بل كان يتوسل أن تتحدث إليه. كان بحاجة إلى من يفتح له قلبه. يحدثه عن عذاب الشباب والماضي المهاجمين، عن المدينة، مدينة القُبلان بإغراءاتها تدعوه إليها. كانت تتشهى أن تسمعه، فتعرف ما الذي يشدهم إليها. مدينة القتل والدم والمطاردات والهجمات الليلية والسجون لا تعرف الضوء. ما الذي يشدهم إليها، مدينة العقوبة والأذى والألم. كانت في جزء صغير منها تتمنى أن تسمعه يتحدث عن دخائله ورغباته وإغراءات المدينة بدمها، وسيفها، وقتلها و…. تغلُّبه على كل هذا وتفضيله البساطة والحب الصافي معها.

قالت: لن أدفعه. سأتركه يتخلى عن تحفظه مختاراً. لن أعمَّده قسراً كما فعلت في المرة الماضية. سأتركه يتعمَّد من آثام المدينة مختاراً وراغباً ومعلناً أنه فضلني على القُبلان ومدينتهم.

ولكن.. كانت تتحفز متشهية سماع كلمة: ليلى. أأنت مستيقظة؟ لتندفع إليه معلنة أنها ليست مستيقظة فحسب، بل هي المتمنية المتشهية، المستميتة إلى سماع ما في قلبه، ولكنه.. لم يقلها. بل أكمل نهوضه.

كان نور حليبي خفيف يغلف النافذة، ويتسرب من فتحة الباب، ورأته يتجه إلى الباب، فتركته ينفذ اختياره. كانت تعرف أنه سيمضي إلى صفصافته. قالت: إنه مخاض المتردد، الواقع بين عالمين لا يعرف إلى أي منهما ينتسب.

تركته يمضي، سمعت دبيب خطواته على الحصى تبتعد، وما كادت تطمئن إلى ابتعاده حتى انسحبت من فراشها.

وقفت في فتحة الباب، ورأت شبحه يبتعد. هزَّت رأسها في ثقة: إلى الصفصافة. لا مكان آخر له.

كان السؤال الملح لا يتوقف عن الترداد. كيف. كيف. أأنا ياسين، أم الآخر ياسين؟ تحسس لحيته بما يشبه الرغبة في نتفها، إزالتها. لانتزاع ياسين من تحتها، ولكنها كانت كثيفة قوية متحدية.. كان في بيجامتي، وفي صالوني، يدخن، وتمد أصابعها المداعبة لانتزاع السيكارة من فمي.. فمي؟ فمه؟.. أي ارتباك؟ أي تشوش. أنا واثق أني ياسين. أنا أعرف أني ياسين. كل العالم يعرف أني ياسين، وإذن فمن هو. من الآخر. ولكنه في بيتي وثيابي، ومع امرأتي، ويستقبل أصدقائي. أعوذ بالله. إنه ياسين. وإذن، فمن أنا.. ألعله كابوس طويل. هذه الجزيرة، والمستنقع والناس، وليلى.. أكل هذا كابوس، وذلك المقيم في بيتي، مع امرأتي، يلبس بيجامتي، ويدخن سيكارتي، ويقرأ في مكتبتي، أهو ياسين. وأنا الظل الكابوسي، أم أنا ياسين وهو ظلي الكابوسي.. كيف؟

قرص نفسه، فصرخ متأوهاً. حكَّ ظهره بجذع الصفصافة فآلمته خشونتها على لحمه تحت الكلابية طحينية اللون. قال: يجب أن أحلق هذه اللحية وهذا الشعر. يجب أن أرى الرجل المختبئ تحتهما، فلعلي لستني. لعلي لست ياسين، لعلي خادع ومخدوع. يجب أن أحصل على ثيابي التي جئت بها وعلى أوراقي التي تثبت هويتي. يجب أن أخرج من هذه الدوامة..

وبعد تردد مرعوب قال: يجب أن أقابله.. ذلك الآخر. يجب أن ألقاه ليعرف، وأعرف من ياسين فينا. 

(20)

تنهد وهو يدخل البيت عبر الباب المنسي مفتوحاً. سمع حركة في المطبخ. فأدرك أنها أسيمة. مضى إليها ليفاجأ بأكوام المواد المشتراة لحوم.. مشروبات.. خضار سلطة.

وتمتم: ما هذا؟

ارتعبت لسماع صوته، فانطلقت تعاتبه: أرعبتني. لم لم تقرع الجرس؟ لم لم تتنحنح؟ كيف تدخل كالحرامي؟ كيف؟

ورفع كفه يوقف تدفقها: ما هذا؟

ـ هذا ما كنت أحاول إخفاءه عنك.

ـ ولماذا؟

ـ لأنَّه المفاجأة.

ـ هاه.. أخيراً قررت.

ـ ولن تمانع. هه.. نحن في حاجة إلى بعض المرح.

واستسلم كعادته، والتفتت عنه تتفحص ما اشترت، وفجأة انتصبت غاضبة: أرأيت. هذا ما كنت أخاف منه.

ـ خيراً ـ قال ببرود ـ ماذا نسيت لدى البائع؟.

ـ بهارات الرز بالكاري.. عن إذنك.

خرجت كالعاصفة، وأصغى إلى الباب ينصفق بعنف. مضى إلى غرفة النوم، وقف أمام المرآة يتأمل: من هي؟ من هي هذه المرأة. إنها ليست أسيمة التي لم تتقن طبخ طبق يوماً.. من هي هذه المرأة.. أسيمة لم تشتر رغيف خبز يوماً. فتح الخزانة.. أخذ يتفحص محتوياتها بحثاً عماذا.. عماذا؟ كان يقلب في ثيابها كالمحموم. ما الذي تسعى وراءه.. ما الذي تبغي. ووجد الجواب أثر.. أثر.. أي أثر يدلني عليها.. فتح الباب الثاني. كانت ثيابه المعلقة. وفجأة وجد نفسه يفتش في جنون، في الرف العلوي، في الأدراج السفلى، فـ: توقف. ياسين. هذه خزانتك. عم تبحث. حاول تجاهل السؤال، فابتعد عن الخزانة، ولكن السؤال استمر في الإلحاح. عم تبحث. عم تبحث. عن أثر للآخر. لياسين الآخر. هه. أنت أحمق لن يتركوا وراءهم أثراً، فهذا ليس من شيمهم. أنسيت؟

رنَّ جرس الباب الخارجي. أغلق أبواب الخزانة بسرعة: رجعت بسرعة.

فتح الباب و.. رآها.. كانت دلال. ليست دلال الأناقة، بل دلال الحاجبين الأشعثين والشاربين على الشفة. قالت وقد دلفت إلى الصالون: ياسين احذر. أنت آخر شاهد على عالمنا الذي يريدون أن يقولوا إنه اندثر.

أراد الرد، أراد سؤالها أين اختفت منذ هروبها، ولكنه سمع وقع خطوات تهبط الدرج، فشحبت حتى الموت، ودفعته إلى الداخل، ثم اندفعت كالمجنونة حتى الباحة. فتعلقت بالصقالة، ثم بالجدار، ثم قفزت كالقردة إلى سور حديقة الجيران المطلة على بيت ياسين. أخرسته بحركاتها غير المتوقعة، فاكتفى بالمراقبة غير الفاهمة، وحين كادت تختفي انطلق لسانه يريد سؤالها أين يلقاها إن أراد، ولكن الجرس الخارجي انقرع، واختفت دلال في حديقة الجيران، فعاد إلى الباب ليلقاه، ويفاجأ بالوجه الآخر للعالم. كان الوجه اللحيم والشفتين الرقيقتين، كبير الأمناء.

أحس ياسين بقلبه وقد توقف، ثم لم يكتف بالتوقف، بل أخذ في الهبوط والانحطاط حتى السرة، فالعجان. رعب بارد سرى فيه لم يكن له به سابقة، رعب أن اكتشف أن هذا الفردوس الذي عاش فيه خلال الأيام الفائتة مع أسيمة والمكتبة، والموسيقى، والنزهات إلى جانب النهر، ومناجيات الليل. كل ذلك لم يكن إلا سراباً، وهماً، أما الحقيقة، فها هي.. رجل الكيس الأسود، و.. الحرس الأسود، و.. ممنوع.

دفعه الوجه اللحيم بلطف، ودخل، فاندفع ياسين عاجزاً عن المقاومة أو التمنع. اتجه إلى الصالون، فباب الصالون المفضي إلى الباحة الحديقة، تفحَّصها بسرعة، وأدرك ياسين أن الرجل يعرف أن دلال مرت من هنا، وتنملت ساقاه وانكمشت خصيتاه. قال: الآن اطرد من الفردوس ثانية تنهد ما الخطوة التالية؟.. رآه يتفحص الصقالة، فسور حديقة الجار، ورأى ابتسامة غامضة على وجهه.. لقد عرف كل شيء.. التفت إليه ثانية، ثم في تهذيب بارد قال: الحمد لله. زوجتك  ليست في البيت.

وجامله ياسين مكرراً في بلاهة: الحمد لله.. الحمد لله.

وتابع الوجه اللحيم يحاول التلطف: لم تدعُني إلى الدخول، ولكني دخلت دون إذن منك.. أعتذر.

فقال ياسين في أريحية: لا.. لا بأس.. البيت بيتك.

تأمل المكتبة بنظرة شاملة سريعة: قال:  ها هي مكتبتك كاملة لم تنقص ذرة غبار!! ثم صفَّق في بهجة: ماذا تنتظر. هيا.. أرنا موهبتك أرنا عبقريتك. ثم همس بما يشبه التآمر: أنت تكتب سيرة ستخلدك. صدقني.

رأى شهادة جائزة القصة المعلقة في إطارها: أنت تحب الجوائز الأدبية؟ طيب.. سنعطيك أعلى الجوائز. فقط أقنعنا أنك تستحق.. اكتب يا ياسين.. اكتب.

نظر إلى ساعته: يجب أن أمضي. لدي اجتماع. ثم.. ربما لا تحب أسيمة أن تراني.. اقترب من ياسين متآمراً: ودلال.

فصرخ ياسين مفزوعاً: مالها دلال. لا أعرفها. لا علاقة لي بها. لم أرها.

ربت على كتفه مهدئاً: اهدأ.. اهدأ.. البنت متعلقة بك، وأنا أجزم أنها ستحوم وتحوم حتى تصل إليك.

تنفس ياسين في ارتياح؛ إذن فهو لم يرها تدخل.

وهمس بلهجة مغرية: أتعجبك؟ ورأى حاجبي الاستنكار على وجه ياسين، فقال: طيب.. طيب.. لا تنفعل إلى هذا الحد. إن كانت تعجبك، فأخبرني، وستكون تحت تصرفك. المهم أن تقوم بما خلقت له، وتكتب.

استأذن، واختفى بسرعة لا تتناسب مع وجهه اللحيم. لم يودعه ياسين، بل سقط على الكرسي الأقرب سقوطاً أشبه بالانهيار. كانت تجربة مروِّعة.. دلال وهروبها، واللحيم وعروضه.

* * *

و.. جاؤوا.. وامتلأ البيت ضجة خافتة، وهمسات لبقة، لم يكونوا قد شربوا بعد، فيسقطوا التحفظات، ويبدأوا الرقص، والغناء الخاص والحوارات المتشنجة. جاؤوا، ولبست أسيمة ثوبها الأسود عاري الظهر والكتفين، وجاءت دلال في بلوزة من الشيفون الوردي فوق بنطال سكري منفوخ يراوح بين البنطال والشروال. كانت دلال شهوة خالصة، تأملها من مجلسه في الكرسي الموريس الذي طالما حنَّ إليه أثناء مغامراته الاختبائية. تأملها، وقارنها بدلال الأخرى. إنه على ثقة بأن دلال الأخرى هي الحقيقية، ولكن دلال السهرة هي الأنضر، والأجمل. إنها دلال المثبَّتة كما عرفها منذ خمسة عشر عاماً. دلال التي قدمت تحذِّره قبل ساعات استجابت لبصمات الزمن، فكهلت، أو نَصَفَت. ودلال التي حلت محلها ثَبَتَت، وتوقفت عند السن التي يحلم الجميع بالوقوف عندها. وهناك ما هو أجمل من الاحتفاظ بنضارة وصبا أواخر العشرينات؟ كل شيء فيك شاب، العينان، والبشرة، والشعر، والأسنان، والفرح، والإقبال على الحياة.

ولكن.. دلال الأولى قالت: احذر.. أنت آخر شاهد على عالمنا الذي يريدون أن يقولوا اندثر. كانوا جميعاً يتعاملون معه على أنه الناقه يستحق العناية والرعاية، ولا يطلب منه بذل الجهد، أو التعب، ولكن دلال النضرة اقتربت منه، وقالت: ياسين أريد أن أرقص. تعال. لم يستطع الرفض. رمق أسيمة، فوجدها المتسامحة السعيدة. لا. ليست أسيمة الغيور التي يعرفها. اندفعت الموسيقى شابة قوية صاخبة تطالب كل عضو فيك بأن يندفع للرقص مستقلاً، و.. اندفع. كانت تلتصق به، فتثير شهوات غير محدودة، ثم تنفصل، فيذعره الخوف من أنه لن يمسها من بعد. كانوا يراقبونهما في جنونهما الرقصي، ولكنهم ما لبثوا أن اندفعوا يشاركونهما الجنون الجميل. في واحدة من الالتصاقات العنيفة عضَّت أذنه، ولم يصدق نفسه، دلال تجرؤ على هذا؟. ولكنه حين حدَّق فيها لدى اقترابها منه ثانية، رأى الشهوة تنزُّ منها. أفتشتهيه كما يشتهيها؟ ولكن، ياسين إكراماً للملائكة.. من تشتهي؟ وما هذا الجوع غير المحدود للنساء الذي لم تكن تعرفه.

أسيمة التي عشتَ معها جحيم اللذة منذ رجوعك وأنت تعرف في قرارتك أنها ليست أسيمة التي فارقت، وهؤلاء الذين ينطُّون ويحطُّون من حولك ليسوا من عرفت. وتوقف فجأة متجمداً. ودلال؟

وتسرب صوت الوجه اللحيم ذي الشفتين الرقيقتين: إن كانت تعجبك فأخبرني. ستكون تحت تصرفك. المهم أن تصنع حياتك وتكتب.

نظر إليها من مجلسه على الكرسي الموريس. كانت ترقص في اندفاع، في عصبية، في شباب، وحيدة، وتساءل: أتراها تنفذ تعليما… ته. واعتصر قلبه هم حزين: لا بد أنها تنفذ تعليماته. هو من قال: أشر، ولكني.. لم أشر. نظر إلى الآخرين. رأى فرحهم، رقصهم، انغماسهم الكامل في سعادة اللحظة، وتساءل: أتراهم ينفذون تعليماتـ..ـه. وتنهد في انجراح يرى اسيمة تحمل إليه كأس شرابه: وأنت أيضاً. أتراك لست إلا منفذة تعليمات ـه.

اسودَّ المشهد. انقبض قلبه. غرق في عالم من اشمئزاز. ها هي الأم الرافضة تعود ثانية.. أعوذ بالله.. إذن، فهو ليس الحب، ليست أسيمة الحب، ودلال الشهوة، ولا شلة الصداقة. ليسوا كلهم إلا منفذي تعليمات. الكورس المكلف بالغناء وراء المغني الكبير.. ليطربوني، أنا ياسين المسكين الحالم بمن يحبه لأنه يستحق الحب.. وقفزت ليلى إلى مقدمة الذاكرة. كانت تحدِّق فيه ونظرة عتب حزينة تدمع عينيها: أنت على الصراط.. عين عليهم وعين علينا. ما تزال تشتهيهم. نشلتك من النهر الأسود وعمَّدتك بالماء الأبيض، وغذوتك لو طلبت بدمي. ومع ذلك وهذا حظي ما تزال تشتهيهم.

انتصب ياسين وقد أحس أنه يجب أن يراها: لا.. هذا حرام. أراها مرة واحدة. أفسر لها ضعفي، أستغفرها عن هجري لها.. وأعود، فأنا أنتمي إلى هنا، إلى هذه الأضواء والموسيقى، والحوارات المثقفة. انتظرهم حتى انصرفوا جميعاً. ساعد أسيمة في جمع الصحون القذرة، في لمِّ المناديل الورقية، في كنس قشور البذر والفستق المرمية على الأرض. تخاطفا السيكارة أكثر من مرة. كانا يتظاهران وهو يعرف أنهما يتظاهران بالمرح القديم. قالت وهي تتثاءب: لن أغسل الصحون الليلة. تعبانة. غداً صباحاً أغسلها. قال: لا بأس. فتش في جيوبه. كان قد أخفى كل السكائر الموجودة في البيت. قال: يبدو أنها نفدت. سأمضي لشراء بعضها.

قالت: أجِّل ذلك حتى الغد.

قال: لن أستطيع النوم لو تركتها للغد.

مضى.. كانت ليلى تستدعيه إليها. مضى في بيجامة وشحاطة. ركب تاكسي حملته إلى حيث كانوا يجتمعون آخر الليل لاستبدال كنوز تنقيبهم بشيء من طعام وشراب وهدايا. لم يكونوا هناك.. اشترى علبة سكائر وكأس شاي، واقتعد حجراً قريباً، و.. انتظر

مع اقتراب الفجر أخذوا يتقاطرون، وكان اقتعاده الحجر البعيد حجاباً كافياً عن فضولهم. كان يراقبهم، يتأملهم، و..  ينتظرها، و.. جاءت.. رآها، شم رائحة زيت الغار، و.. اقتربت.. سلَّمت كنوزها تريد استبدالها حين اقترب، فشمَّت رائحة عطره، فالتفتت، والتفتوا، ورأته، فشهقت، ولم تستطع التماسك، فارتمت عليه. احتضنها طويلاً، ففغمت أنفه رائحة زيت الغار. داعبت أصابعه ثنيات شعرها المتلبد، وأخيراً انتبه إلى ارتعاشها بين ذراعيه، فعرف أنها تبكي، ولم يرها من قبل تبكي.. اعتصرها مهدئاً، فرفعت رأسها، وقالت: أشكر الله أن أعادك إلي. تعال.

رجعا إلى الجزيرة، رجعا إلى فراش الاسفنج المتيبس، و.. انقضت عليه، وعاد إليه حس أنه الرجل المطلوب المشتهى لشخصه  وليس الواقف على باب الأم يرجو عطفاً لا يعطى، وحباً لم يوجد. أحس أنه كبير، محبوب، مشتهى لشخصه، وليس تنفيذاً لتعليمات.

اخترق نور الفجر عليهما بيتهما من الشقوق والفتحات، وأدرك أنه لن يستطيع العودة الآن، فأغفى، ولم يصغ لتوسلاتها: عدت. قل إني عدت. إكراماً لله. قل إني فضلتك على العالمين. قل إني تركت الجميع واخترتك عليهم. قل…. ولكنه تظاهر بالانغماس في بئر النوم. لم يكن باستطاعته قولها، فقد كان ينتظر العتمة ليعود.. إليهم.

وعند الغروب. قالت: وأنا؟.. أنا من انتشلك من مستنقع السواد، وعمَّدك بالبياض. أنا من كنت وما أزال على استعداد لإرضاعك من دمي الأحمر لأكون أمك إلى الأبد. ماذا عني؟

كان حزن غريب يغصُّه، وكان ألم فظيع يعتصره، وكان تمزق محسوم يسوقه، وما كان لديه من جواب إلا الصمت، وأخيراً قال: دعيني أشرب آخر حصة لي من ماء لديهم. ما يزال لي ماء عندهم. دعيني أشربه وأعود. فالقلب هنا، ولكن الظمأ هناك.

قالت في حزن ينزُّ بدموع لا تنزف: طردوك، وطاردوك، وأرادوا قتلك وما تزال تشتهيهم ـ أطرق في أسى ـ أنا أعرف والجسد لا يمكن خداعه أنك تحبني وتفضلني على العالمين، ولكن.. ولكن.. ولكنَّك ما تزال تشتهيهم.

ابتعد قليلاً، فقالت: امض، فانزف اشتهاءك لهم حتى القطرة الأخيرة، وعندئذ ربما تشتهيني.

مضى. عبر الجسر، مشى في الدروب المتربة، سوَّد أصابعه في الشحاطة، غبَّر البيجامة الحريرية، وجد تاكسي حملته إلى البيت.

نظرت أسيمة إلى بهدلته في صمت، ولم تعلِّق. تركته يمضي إلى الحمام وينزع عنه البيجامة المتسخة، ورائحة زيت الغار، وسواد الأصابع.

استلقيا في سرير واحد، ولكنهما أدارا ظهريهما كلٌ للآخر. ناما في سرير واحد، وكانت ليلى بينهما. كان ياسين يعرف أن ليلى التي استطاع بصعوبة غسل زيت غارها عن جسده تستلقي بينهما، وكانت أسيمة تعرف أن.. امرأة.. تستلقي بينهما، وما كانت تجرؤ على السؤال. 

(21)

كان الصباح الباكر جداً، وكانت الشمس لم تبزغ بعد، أخذ يهرول سعيداً بالطرقات الخالية. كان العالم جميلاً، فلا سيارات ولا بشر، ولا عواء زمامير. هدَّأ من هرولته، مشى.. أجرى بعض التمارين السويدية. قال: سأحمل إلى البيت بعض الخبز الساخن والحمص أستعيد عاداتي القديمة مع أسيمة حين أنهي مشواري الصباحي. كانت سعادة غريبة تغمره. حاول أن يجد لها تفسيراً، ولكنه لم يجد لها مبرراً إلا أنه انسلَّ من البيت مبكراً قبل أن تصحو أسيمة. فهل هذا سبب كاف للسعادة؟ انسلَّ في ثياب خفيفة، فلم يكن لديه ثياب رياضة خاصة به. قال: أحاول التريض بعيداً عنهم، وعن رغباتهم، وعنقائهم.. وما.. كاد يلفظ كلمة عنقائهم حتى تغيَّر كل شيء فجأة. فالسعادة اضمحلت.. والشمس صهدت، والدرب ازدحمت بأوائل المشاة، والسيارات المبكرة تختصر المسافات، فتترك الطريق العام إلى الدروب والزواريب، فتضايق المشاة والمتريضين.

كيف حدث هذا بسحر كلمة واحدة؟ أكانت الكلمة السحرية «عنقائهم» كافية لإزالة سحر الصباح وبرد السحر، وهدأة المكان.

قال: أختصر التريض، فلم يبق له من معنى. استدار ليعود مغمضاً عينيه عن البساتين تستيقظ، والفلاحين يحصدون الأعشاب العطرية المبكرة، والنساء يسقن الأبقار إلى حقول الفصة والبرسيم. كان المشهد مبئساً.. فالفلاحون المنحنون فوق مساكب أعشابهم حزانى، والأبقار متسخة الأقفية بروثها، والأعشاب العطرية صفراً. أغمض عينيه مبتعداً عن المشهد برمته وتساءل: فما السعادة إذن. قدمت من غير مبرر، ثم اختفت للاسبب.. للاسبب؟ للاسبب؟ كرر.. أنسيت الكلمة السحرية؟ وقفزت أسيمة: السيرة، سيرة مولانا.

وتمطَّت دلال في غنج: المهم سيرة مولانا. ياسين. هيا. إكراماً لي.. ألا تعزُّني؟

وقال الرجل لحيم الوجه: سيرة مولانا.

أراد الهرب من حصارهم، ففتح عينيه على سعتهما، ورآه، ورآها، ورآهم، ورآهن. تنهد.. قال: لنعد إلى سيرة مولانا فلا خيار.

عاد إلى مكتبه، ولا خبز طازجاً، ولا حمص، ولا استعادة عادات قديمة. نشر الدفتر أمامه. كان مولانا قائد الفصيل والضابط الصغير ظاهرياً قد نُقل حديثاً إلى الإقليم الأنضر، وكان الجميع يقدرونه ويعرفون أنه الموعود بالسلطنة، فكانوا يوقّرونه، وينصتون إليه رغم صغر سنه، فقد كانوا يعرفون أنه الموعود. قال لسائقه.. ما اسمه؟ فكر ياسين. ما اسم السائق؟ هل نكتفي بكلمة السائق؟ لا.. سأسميه عتمان. عتمان، ولم لا.. إنه اسم سايس الملك الظاهر.. هاه.. عظيم.. ضربة معلم.. ولم لا.. عتمان ابن الحبلة؟.. لا.. لا يكفي عتمان.

قال لعتمان: أريد تقريراً كاملاً عن الإقليم، الزراعة، الفلاحين، الإقطاعيين.. كل شيء.. و.. استعن بالخبرات والخبراء الذين تستطيع الاستعانة بهم. ولكن.. تقريراً كاملاً. مضى عتمان و.. غاب أياماً انشغل عنه فيها مولانا حتى كاد ينساه. ولكن التقرير الذي جاءه به كان مذهلا،ً ولما راجعه مولانا في بعض التفاصيل قال، وكانوا كلهم يؤيدونه. قال: ولكنه.. والشهادة لله استصلح الأرض بعد هجرها وتعطيلها لمئات السنين. فأطرق مولانا يفكر وهو يرى مئات الشاحنات الضخمة تنقل القمح والقطن إلى الخارج.

قال عتمان: وعلينا أن نقرّ بأنه خبيث استغلالي يترك الفلاح يعمل لديه عشرات السنين ثم لا يترك معه ليرة واحدة من أجره. لقد أقام لهم في قريته سوقاً مركزية فيها كل مغريات الشراء. الثياب الأنيقة، وأدوات الحلاقة والعطور وأدوات الزينة، والأثاث الحديث، والدراجات الهوائية. والفلاح كما تعرف يا مولانا ضعيف أمام المغريات، فما إن يرى الأضواء في السوق، ويرى الباعة لا يطلبون نقوداً. لا يحملها أصلاً، ثم يعرضون عليه شراء ما يريد، وسيسجَّل الثمن على الحساب الذي سيقتطع من أجره حين يكون له أجر، فيفكر. فليقتطعوا ما يشاؤون إن بقيت حياً، أما الآن.. ويأخذ في الشراء وفي إشباع رغبات لم تشبع منذ قرون.

نزع مولانا قبعته عن رأسه، وأخذ يحك  شعره الذي تكاثف فيه العرق تحت القبعة، ويفكر.

أضاف عتمان: لقد ضحك عليهم بعدد من الممرضين وطبيب وطبيبة يقيمون معهم في القرية يعالجونهم من أدنى الجراح وحتى أخطر الأمراض، وليس عليهم أن يدفعوا. وليس في جيوبهم ما يدفع، وكل ما يترتب عليهم من تكاليف، وأثمان أدوية كان يضاف إلى حسابهم الذي يتضخم على الدفاتر، ويتضخم.

صفَّق مولانا يطلب من وصيفه تجهيز إبريق من الشاي الأسود الخمير المحلى كالدبس، فلا بد لابتلاع أخبار كهذه من شاي كهذا.

قال: كان لديه مشروعه الناجز منذ البداية، فهو يعرف أن أرضاً بهذه المساحة الهائلة والتي لم تزرع منذ قرون لا يمكن للأيدي الفردية ونصف البدوية والغشيمة أصلاً أن تزرعها.

وهمهم مولانا بصوت حلاَّه كأس الشاي الأسود: هه.

قال: استقدم عشرات التراكتورات ليفلحها، وعشرات من الحصادات لحصاد ودرس وتذرية وتكييس القمح بعد نضجه، وأقام لهم هذه القرية الملعونة بسوقها المركزي، ومستشفاها الدنيئة، ومدرستها المعادية للشعب والتاريخ.

قال مولانا عقلة: ولكن إدارتها ومعلميها موظفون لدى الدولة. وقال من سيصبح كبير الأمناء: صحيح، ولكن الخبيث أضاف إلى رواتبهم راتباً ليقبلوا بالغربة والإقامة في قريته، فمنع الأفكار التقدمية من الدخول إلى هؤلاء الفلاحين في مدارسهم، ومنع قوى النور من إنارة ظلام حياتهم، ونسي أن مولانا وعرف مولانا أن الرجل يحاول تملقه، فاشار بيده ليصمت، ولكنه أكمل مولانا قادم قادم، قادم ليعيد عجلة التاريخ إلى سكّتها، والحق إلى نصابه. جرع مولانا آخر جرعة من كأس شاي خمَّره  التاريخ وحلاَّه الأمل، ثم أشار إلى وصيفه فصبَّ كأساً ثانياً له ولضيفه.

تنحنح الخبير الذي سيصبح سيد الإعلام، وقال: ولكن هذه الأراضي تختلف عن باقي الأراضي يا مولانا، ولا يمكن تسميتها بأراضي الإقطاع، فهي أراض بكر استصلحها هؤلاء الناس بالتراكتورات والحصادات وهي تنفع الجميع. الفلاح نصف البدوي الذي رأى الآليات للمرة الأولى في هذه الأراضي، ورأى مضخات الماء العملاقة، ورأى المستشفى، ولكنَّ مولانا عقلة الذي كان ينظر إلى البعيد قال بحكمته اللانهائية: لا استثناءات.. الكل سيكونون سواسية. ما يصح على أراضي الإقطاع والملكيات الكبيرة سيصح على الجميع، والفلاح الذي سينصف وتوزع عليه الأراضي سينصف وتوزع عليه الأراضي في كل مكان.

فقال من سيصبح كبير الأمناء: ولكن هذه الأراضي المستصلحة شاسعة، ونصف البدوي حديث العهد بالفلاحة لن يستطيع استثمارها، فمن أين له بالتراكتورات والحصادات والرساميل المشغلة.

عندئذ قال مولانا بحكمة قاطعة لا تقبل الجدل: سننشئ مصرفاً خاصاً للفلاحة والفلاحين يقرضهم، فيشترون الآليات الضخمة، ويعيدون استثمار الأراضي التي ستوزع  عليهم.

صمت الجميع، فقد كان القول أحكم من أن يجادل.

قرأ ياسين ما كتب. صحَّح بعض الأخطاء فيه، وفكَّر: هذا فصل لا يمكن البت فيه دون عرضه على اللجنة.. هه.. وتنحنح منادياً أسيمة التي استجابت، وكأنها كانت تقف خلف الباب تنتظر الإشارة. 

(22)

انتفض من سريره بعد أن قلب فنجانه كاملاً في حلقه وقال: احملي لي الصحف إلى الحديقة.. و.. أشتهي فنجان قهوة آخر. نظف نفسه، ومضى إلى الحديقة ليرى صحفه وقهوته الجديدة وقد سبقته إلى مجلسه عند نبتة الغاردينيا. استرخى بمقعده إلى الخلف، وتنهد: الله.. ما أحلى العز. قلّب في الصحف.. لم يكن فيها ما يثير، أو يجعلها حراماً على الشارع, تنهد: إنها مظاهر السيادة، ثم ركبته لحظة تفلسف. الأديان ترتقي كلما ازدادت كمية المحرمات فيها. ترى ألسياسة تشبهها في هذا؟ ترتقي بقدر ازدياد المحرمات والممنوعات فيها؟

رنَّ الهاتف. واندهش كلاهما، فليس من المعتاد أن يهتف لهما أحد في هذا الوقت. رفعت أسيمة سماعة الهاتف، وصدمت حالما سمعت صوت الآخر، فحملت السماعة في احترام مرعوب إلى ياسين.

كان اللحيم على الجانب الآخر من السماعة، فحيَّاه في انشراح وتحبب، واستجاب ياسين بالانشراح والتحبب نفسه. كان يوماً بهيجاً. فكَّر ياسين، سأله عن صحته، وعن بهجته وعن قراءاته، وعن الصحف إن أعجبته، وأخيراً نقل إليه الخبر الهام. نقلوك أخيراً من وزارة التربية إلى وزارة الإعلام.

ـ هه.. قال ياسين.

لم تغمره الفرحة التي كان يتوقعها لو حملوا إليه هذا الخبر قبل مروره بكل هذه التجارب القاسية. وتابع اللحيم: إلى الصحيفة المركزية، ستكون المسؤول عن شؤون الثقافة فيها. وصفَّر ياسين صفرة داخلية في دهشة ليتابع اللحيم:  طبعاً. الكبار أصحاب المهمات الخطيرة لن يطلب إليهم الدوام ومتابعة الشؤون الصغيرة. يمكنك أن تمر على الصحيفة اليوم لترى مكتبك والخدمات والتسهيلات الموفورة فيه، ويمكنك أن تقابل الأصدقاء والمثقفين فيه، ولكن عملك.. هه.. أرجو أن تنتبه. عملك الأساسي سيكون في الكتابة الاستراتيجية. حلوة. الكتابة الاستراتيجية. قال مازحاً.. ولكن فكر فيها.. أتحب أن ألقاك اليوم في الصحيفة.

ووافق ياسين على أن يلتقيا ظهراً في الصحيفة.

كانت الشوارع مضاءة بشمس معذبة بالغيوم، فأحبها، وقرر المشي إلى الصحيفة. كان قد مضى عليه  زمن طويل لم يمش فيه في طرقات المدينة. قال: أتأمل الناس الحقيقيين بعد كل هذه السنين، أتأمل تبدلاتهم، ما الذي تغيّر فيهم. كانوا يتحاشون الشمس. يبتعدون عن السيارات. ينأون بأنفسهم عن المحارس المرصوفة أمام البنايات إشارة إلى أن رجلاً مهماً يسكن في هذه البناية. تأملهم يمشي، يحاول قراءة كيف يفكرون. ولكنهم لا يفكرون. إنهم يحاولون إنقاذ أنفسهم من الأخطار الخارجية، شمس حارقة، وسيارة داهسة، ومحرس مسلح، وعيون حاقدة.. فكَّر.. أيمكن لهذه الأفكار أن تكتب، ولكن اللحيم قال له: نحن لا نريدك للكتابة اليومية. أنت منذور للكتابة الاستراتيجية. هه.. الكتابة الاستراتيجية. وجاءه صوت اللحيم من الذاكرة. نعم.. نحن في حاجة إليك للكتابة الاستراتيجية. أنت قارئ التاريخ والكاتب الذي طالما حاور التاريخ.

وكانت المفاجأة التي تنتظره في مكتبه.. دلال.. لم يصدق عينيه، ولكنها انتصبت ترحب به. وعيناها تبرقان بآلاف الوعود، أرته جهاز الكومبيوتر والتلكس، والآلة الطابعة، والهواتف الكثيرة، قالت بوجه مشرق: أنا السكرتيرة الجاهزة لكل التعليمات. كان ما يراه أكثر مما يتمنى ويفكر، ولكن حساً داخلياً فيه طلب منه الترازن، فرزن. وفتح الباب الذي أشارت إلى أنه غرفة مكتبه، فدخل ليجد اللحيم في انتظاره. كان أمامه ملفات محتقنة بقصاصات الصحف الكثيرة التي لم يعرف ياسين سبباً لوجودها ها هنا. ولكن اللحيم الذي انتصب يحييه قال: ستسامحني إن طلبت قهوة في غيابك، ولكني سأشرب قهوة ثانية معك. لم يحتج الأمر إلا أن ينظر إلى دلال لتمضي لتجهيز القهوة. لاحظ اللحيم أن ياسين يتأمل الملفين أمامه، فقال: آه.. ستفاجأ.

وقال ياسين المتعب من مشي طويل لم يعتد عليه: بم؟

فقال اللحيم: إنها كل ما كتبت في الصحف قبل.. قبل.. الغياب.

وفهم ياسين ما يريد اللحيم قوله، فلم يستفهم.

شرب اللحيم قهوته التي قدمتها دلال المنحنية أمامهما لتكشف عن صدر عرم وابتسامة واعدة، ثم استأذن فقد كان ياسين المتعب عضلياً من مسيرته إلى الجريدة، وروحياً منذ مفارقته ليلى وزيت الغار، ولكنه قبل أن ينصرف قال: لم لا تراجع كتاباتك القديمة، وذكرياتك القديمة، فلعلها تشعل فيك الشرارة.. و.. مضى.

تناول ياسين الملفات.. قلَّبها واستيقظ ياسين الشاب محاور التاريخ ومسائله. قرأ عن الحكام الطغاة مماليك وعثمانيين، وقرأ عن الغطاء الديني والجهادي، ودهش ياسين من الموقف النقدي المبكر من كل هذا. اكتفى بقراءة العناوين وبعض سطور من بعض المقالات، ليكتشف أنه يذكرها كاملة. يذكرها، وكأنه كتبها بالأمس.

تناول الملف الثاني وضحك، فهذا هو الملف الذي جعل منه طاغية الصحافة، المقالات النقدية النارية التي كان يرفع بها قوماً، ويخفض آخرين، المقالات التي عوَّضته عن حياة التفاهة التي عاشها المدرس المغمور، والزوج المصدود، والعاشق لا يجرؤ على التصريح بعشقه، فأسيمة بالمرصاد. كانت مقالات ـ لنقل الحق ـ ليست نزيهة تماماً، فقد كانت وسيلته للتواصل الاجتماعي مع أناس لم تكن هناك وسيلة أخرى للتواصل معهم، وكانت مقالات للانتقام وتحقير أناس لم يكن لديه وسيلة أخرى يستطيع بها الانتقام منهم وتحقيرهم.

وضع الملف عابساً، سنوات الشباب.. ترى لو رجع العمر به إلى ذلك الحين. أكان يكرر ما فعل في ذلك الشباب.. تناول الملف الثالث وصدم. كان معظم الملف صوراً له.. صوراً مع الخال في دكانه، صوراً له يركب وراء الخال على الموتوسيكل. صوراً له ينقِّب في الزبالة، ورأى صوراً يحتضن فيها ليلى. في عودتهما من التنقيب. وضع الصور في الملف.. استند بظهره إلى المقعد. وانكفأ يفكر.

طرق الباب طرقات خفيفة، ودخلت دلال. قالت: هذا رقم هاتفي بالمنزل.. إن احتجت إلي في أي وقت، فأنا متفرغة تماماً للعمل معك.

نظر إليها صامتاً ودهشة خفيفة تسائله: ما الذي تريد هذه المرأة؟ إن كانت دلال النَصَف ما تزال تحمل الراية، وتصمم على اعتبار هذا الزمن أزيف.. فماذا تريد نظيرتها النضرة هذه.

قالت: انقضى وقت الدوام، وأنا مضطرة إلى المضي إلى البيت.. أأستطيع تقديم أية خدمة قبل رحيلي.

هز رأسه بالنفي، فاستدارت ومضت تهتز بكل أعضائها ورغباتها، وشوقه المرعوب منها.

تركها تمضي، ثم انتصب، فحمل الملفات، وحين حملها سقط مظروف منها، فانحنى يرفعه ليفاجأ بمحتويات الظرف.. قرأ بعضاً منها وشحب، ولكنه تماسك وحمله ومضى.. لم يكن من الممكن ركوب الباص.. فمضى يمشي إلى البيت.

كانت تقارير غريبة أذعرته حتى الخفقان قال: أعوذ بالله إنهم يعرفون كل شيء.. كانت تقارير تتحدث عن طفولته غير السعيدة، وتقارير تتحدث عن إصراره على الخروج من حفرة العائلة التي وهبت نفسها لحياة ما بعد الموت، فقد كانت هذه الحياة لا نصيب لها فيها، وقد صدمه اقتباس معدِّ التقرير عن ابن خاله الفتى وهو يقول متنهداً: إه.. عجَّل الله بيوم القيامة، فلقد سئمت من هذه الحياة. ثم اقتباس آخر: ممر صعب هذه الحياة.. متى ينتهي لنصل إلى ملكوت الله ونعيمه.

أرعبته دقة كُتَّاب هذه التقارير. سأل: كيف وصلوا إلى العالم الداخلي لهؤلاء الناس؟ أكان لديهم آلات تسجيل وكيف زرعوها، أم أنها تقاطعات التقارير وتحميل تقارير البعض على البعض الآخر، فالجميع سواسية ما داموا ينتمون إلى الثقافة نفسها والظروف الاقتصادية السياسية نفسها. كانت تقارير عن ظروف لقائه بأسيمة، وظروف لقائه بليلى، تقارير اعتقد للحظة وهو يقرأها أنها كانت أشبه بالمذكرات. إنها تقارير من كتابته هو، تقارير مكتوبة بضمير الأنا، وتتحدث عن لحظات طيشه، ولحظات تخطيطه للإيقاع بأسيمة.. وكان هنالك نسخ دقيقة عن مقالاته يهاجمها ممثلة، ونسخ عن مقالاته يمتدح كتاباتها القصصية، مقالات ـ يا لخجله، أوعرفوا ذلك أيضاً ـ موقعة بأسماء أخرى، أسماء ابتكرها ونسبها في حينها، وأسماء لنساء سعدن أن وقعت أسماؤهن مقالات ما كنَّ  يستطعن كتابتها وكلها تتغنى بإبداعات أسيمة.

لكن التقرير الذي صعقه كان تقريراً يتحدث عن ظروف تحوله من كاتب قصة  اتفق الجميع ـ خوفاً من لسانه السائط، وتقرباً من لسانه المطري ـ على أنه الكاتب الواعد، الكاتب الذي سيحمل فن القصة والقص عالياً، ولكنه تحول إلى ناقد. عاد إلى التقرير وأرعبه كتابته بضمير الأنا.. ترى أأكون كاتبه.. أأكون قد قدمت إليهم تقريراً عني أنا ـ ضحك في تسخيف، ولكن الضحكة باخت بهدوء: ما يدريك ربما كتبته في زمن لم تعد تذكره.

الكتابة ضعف، فهي التقدم بما كتبته للآخرين ترجوهم الموافقة عليها والقبول بها. الكتابة ضعف سيحرز قوته من تقارير الرقيب الذي سيضعها على سرير بروكوست ليرى مدى تطابقها مع الأهداف المحددة مسبقاً للكاتب.

الكتابة ضعف سيحرز قوته من قبول المحررين الموجودين لدى الناشر يضعون موافقتهم على نصك، ومباركتهم لك، وتطويبك كاتباً.

الكتابة ضعف بها تقدم نفسك بعد النشر والطبع إلى سلسلة من الصحفيين اللذين تنطحوا لعرض الكتب المنشورة حديثاً، وبعرضهم هذا يدخلونك إلى جنة القبول، أو جحيم الإهمال.

الكتابة ضعف يقويه رجل سمّى نفسه الناقد، رجل يحمل كل مظاهر الضعف البشري وعاهات بني الإنسان، رجل يحمل الحسد إن كان النص لخصم لا يقرُّه على رأي سياسي، أو ثقافي، أو مذهبي، أو ببساطة حسد أنه لم يكن كاتب ذلك النص، رجل يحمل الغيرة من نجاح الآخرين كأي بشري عادي.

وضع التقرير من يده يفكر: أيعقل.. أيعقل.. هذه أفكاري السرية.. لم أكتبها يوماً، ولم أُدِل بها لأحد، فكيف وصلت إليهم.. كيف؟ أأكون جاسوسهم عليَّ ولا أعرف؟

قلب الصفحة وقرأ: النقد قوة، النقد سلطة. النقد حكم وقضاء ومستبد عادل.

أحمق من يقبل أن يكون الكاتب، ويكون الرعية، ويكون طالب الرضا والقبول في الوقت الذي يستطيع فيه أن يكون الناقد والحاكم والقاضي والمستبد العادل.. المستبد العادل.. ما أجمل هذا التعبير. ترى من ابتكره.. من أدخله إلى معجمنا.. المستبد.. تعبير جديد؟ لا.. فالشاعر قال:

واستبدت مرة واحدة  إنما العاجز من لا يستبد.

العاجز من لا يستبد. العاجز هو الكاتب، هو المبدع، هو الفنان، والناقد هو المستبد.

هز ياسين رأسه في موافقة: التقرير على حق.

هو يذكر أنه رآهم في الندوات، في المحاضرات، في السهرات.. الكتّاب والشعراء والمبدعون يحومون حول الناقد حومان النحل حول السكر، والناقد يتدلل ويتغنج ويتعازز، ويترفع وكأنه الحسناء بين عشرات الخاطبين، ورأيتهم.. الكتاب الصغار والمبدعين الصغار ممن تأبّوا لعبة النحل والسكر. وقد أزيحوا جانباً وانغلقوا على أنفسهم بائسين حزانى متكبرين تكبر المجروح لا يطلب الشفقة.. ه ه.. سيظلون على تكبرهم وجرحهم حتى يتقدم بهم العمر والإبداع، وليس من معترف بهم. استعار مصطلح كاتب التقرير، فالمستبد لن يلحظهم ولن يرأف بهم.. فجأة هز ياسين رأسه رافضاً: أتراه القانون الأبدي في كل الثقافات.. في كل  اللغات.. في كل المجتمعات، أم هو ظاهرة خاصة بدول المستبد العادل.

نفض ياسين رأسه في خوف: أفلم يكن كافياً درس الجزيرة وليلى، والتشرد بعد؟ أفلم تنل كفايتك من الخوف والتخفي والقذارة والخوض في مستنقع الجنس الأسود. أما آن أوان العودة إلى العقل ومعرفة مركزك الحقيقي.

وضع التقرير جانباً وتنهد: صاحب التقرير بغض النظر عمن كتبه على حق، وأنا على حق حين تخليت عن كتابة القصة والدوران بها على المجلات فرادى لنشرها، ومجموعات تبحث عن ناشر يرضى بنشرها. كنت على حق حين قررت أن أكون القاضي والحكم والمستبد العادل، فإذا بالموازين كلها تنقلب، وإذا بي أصبح النجم بعد أن كنت النيزك، والتابع الباحث عن مقر له  ومعترف به.

* * *

كانت أسيمة قد قررت بعد زواجها بشهر واحد أن تضيف إلى أمجادها في الرقص والتمثيل مجد الكتابة، فبدأت كتابة القصة القصيرة، وهكذا كان عليه أن يبدأ يومه وقبل المضي إلى المدرسة وأثناء شرب القهوة بقراءة إبداعات يوم الأمس. كانت كاتبة مكثرة، وكانت تكتب قصة كل يوم، وإن كان الموضوع واحداً. كانت كلها تدور حول البنت الأرستقراطية التي تضحي بكل شيء في سبيل الحب، وكانت القصص تسجيلاً حياً لمشاعرها اليومية، فقد كانت في قصصها الأولى تهنئ بطلة القصة على شجاعتها في اتخاذ قرارها وتكافئها بسعادة لا تنتهي، ثم أخذ الشك في صواب القرار يعلو قصة.. إثر قصة. كان شكاً ينبع من توتر داخلي، من إحساس بمحدودية متع الحب والزواج واستشراف أحلام أخرى أكبر وأسمى.. ولكن الحب والزواج يضعان العوائق أمام الآفاق المرجوة.

وحين نشر لها القصة الأولى، وكان قد أجرى عليها عدداً من التعديلات البنائية واللغوية وهبته ليلة حب وفرح لم يذقها حتى في أيام زواجهما الأولى، وكان له أن يتساءل: أمتعة الإبداع تساوي متعة الحب، أم تفوقها؟ البعض يعتقد أنها تفوقها، وإلا فلم قرأنا وعرفنا الكثير عن الفنانين والكتّاب الذين تخلوا عن الحب في سبيل الإبداع. أتراها عرفت هذا الطريق وهذه المتعة، ولكن.. تنهد آسفاً.. أنا لم أعرف هذه المتعة.

أتراني لم أكن المبدع الحقيقي حتى تخليت عن الإبداع واخترت الاستبداد.. العادل.. النقد..

كان نشره القصة الأولى لها مجاملة، وكان نشره الثانية رشوة أراد بها استعادة ليلة الحب الخارقة التي وهبتها له، ولكن سيكتشف فيما بعد أن ليس كل ما يخطَّط له يُنال.

ولما سألها عما يحبطها. قالت: أفكر. قال: فيم تفكرين؟ قالت: في أسر اللحظة هذه للكتابة عنها غداً.! و.. صدم.. أفيمكن لأسيمة أن تفعل به هذا. أفيمكن لها أن تحوله إلى موضوع أدبي؟ أفيمكن لهاـ وقهقه حتى ما قبل الإغماء ـ أفيمكن للرشوة أن تكون قاتلاً للرشوة. صححت القصة، ونشرتها لأحصل على المكافأة ـ حبها. فأتحول إلى موضوع للكتابة جديد يجب علي أن أنشره، وأنتظر المكافأة. أعوذ بالله أيقتل الحبَ مراقبةُ الحب.. ما زال الوقت مبكراً عليك يا فتاتي حتى يقتل الإبداعُ فيك الحب.

أبعد التقارير مصفرَّاً يفكر..  نظر إلى فنجان القهوة المليء لم يذقه، وإلى دولة القهوة إلى جواره. أنا متأكد أني لم أكتب هذا رغم صدقيته العالية.. فكيف كتبوه؟ كيف كتبه من كتبه؟ كيف دخل إلى العمق من روحي، وكشف الغامض الذي لم أستطع مواجهت؟ أنا.. شخصياً كنت أتحاشى التفكير فيه حتى لا.. أصدم. فكيف كتبه من كتبه.. من؟

وسمع صوت الباب الخارجي يفتح، فأدرك أنها عادت من لدى اللجنة بعد أن أقرأتهم ما أضاف إلى السيرة، وفجأة فحَّ، أيعقل أنها من كتب كل هذا.. ولكن.. لا.. لا يمكن فأسيمة غير أسيمة.

فُتح باب مكتبه. فأغلق المصنف وانتظر خدها ليقبله، فقبله وقالت: جلبت معي بعض اللحم المشوي. قم نتغد.

وقام

(23)

كانت مفاجأة حقيقية لياسين، فهو حينما مضى للمشي بعد العصر يبحث عن وحي يكتبه لسيرة مولانا لم يكن يخطر بباله أن يرجع إلى البيت فيجدهم في انتظاره. كانوا جميعاً كبير الأمناء وسيد الإعلام ومؤرخ القصر، وأسيمة، وكان بين يديهم النص المنسوخ مما كتب من سيرة مولانا.. كانت مفاجأة لأنه حين وجد الباب مفتوحاً، والنور فوق الباب مضاء. امتعض، فها هي تعود ثانية إلى العادة المذمومة في ترك المصباح البابي مضاء. دخل عابساً، فقد تخلى عن الشجار منذ العودة، ولكن لا بأس ببعض امتعاض وعبوس، ولكن مفاجأته بوجود اللجنة جميعاً في انتظاره أنسته الامتعاض، ووضعته فجأة في حالة الرعب التي ما تمنى أن يعرفها منذ ركوبه على الموتوسيكل وراء خاله يتوقع إطلاق النار عليه في كل لحظة.

نظر إليهم في لحظة سيذكرها طويلاً، وسيتمنى لو يستطيع وصفها بالكلمات، فقد كانت زمناً إعجازياً، زمناً لو حسبته بالساعة الآلية، والزمن المحسوب بالدقائق والثواني لما تجاوز بضع ثوان، ولكنه في الآن نفسه وخضوعاً لبعد ثان غير بعد الساعة الآلية كان زمناً يحسب بالشهور وبالسنين وبالرعب، وبالدهشة. وبدفق الذكريات، زمناً رأى فيه المستنقع والقصب والطلقات تقصف القصب. وبرئتيه المتماسكتين تحت الماء القذر تحتميان به من الطلقات العمي، زمناً رأى فيه الآذن ممنوع، والأستاذ جمال المفكر عبر الزجاج لا يرى كفه تموج أمام عينيه  ترجوان الانتباه، زمناً رأى فيه الأم تقصفه بنظرات تبث الإخزاء والإخجال؟ ها أنت تأكل من مال البورصجي، فتختلس الفواكه والحلويات المرمية إلى جانب البحرة. زمناً سمع فيه سعال مدينة تحاول تنظيف حلقها من شوك طال لبثه، زمناً رأى فيه الضباب يغطي المدينة، ويفصلها عن العالم، زمناً كان يمكن له أن يستمر إلى الأبد مستدعياً كل لحظات الخوف والرعب والشك والريبة التي عاشها لو لم يقطعها الرجل ذو الوجه اللحيم: هاه الأستاذ ياسين. حمداً لله أن جئت.

همس في حشرجة: خيراً

ـ صمموا على السلام عليك. قالوا من يستطيع كتابة مثل هذا الجمال عن مولانا تنين الزمان وعنقاء الأيام لا بد أن نتعرف إليه.

قاموا جميعاً يصافحونه في حرارة: مبروك.. مبروك.

ـ ولكن.

لم يفهم ما الذي أعجبهم بالضبط، فما كتبه كان قليلاً بالنسبة إلى سيرة معارضة لسيرة الملك الظاهر، ثم هو لم يبالغ في المدح ولا الإطراء ولا صنع البطولة.. شدوه إلى الكرسي في صدر الصالون في احترام: تفضل.. تفضل.

ـ أهلاً أستاذ ياسين.

التفت، وكانت دلال، وكانت المفاجأة في اكتشافها بين الحاضرين تجلس في ركن نصف معتم.

ـ أصرَّت على اصطحابنا.

ـ أهلاً وسهلاً. رحّب ياسين بدلال في تهذيب.

قدمت أسيمة القهوة الجديدة، فكسرت الجو المصطنع للترحيب الاحتفالي. وقال سيد الإعلام: ولكن الصورة التي قدمتها عن الإقطاع ليست دقيقة أهي دقيقة؟

فقال ياسين: أنا لم أتحدث عن الإقطاع، والإقطاع كمفهوم عالمي لا وجود له في بلادنا، فلا سهول كبيرة يملكها إقطاعي واحد يديرها من قلعته المفارقة، ولا أسر إقطاعية تاريخية ورثت، وأورثت، فالأرض كانت دائماً لمولانا السلطان يهبها لمن شاء وينزعها عمن يشاء.

تبادلوا نظرات دهشة متعجلة، ثم تابع: أما هؤلاء الذين انقضّوا على الأراضي المهملة يستصلحونها ويستزرعونها بالآلات والتراكتورات والحصادات، فلا أدري إن كان يمكن تسميتهم بالإقطاعيين.

ـ ومن قال إنا نهتم بالتسميات. على العكس نحن سعداء أنك أوضحت هذه النقطة. أنت تعرف أن الهمَّ الأساسي في سيرة الملك الظاهر والذي أشرت إليه كثيراً في دراساتك السابقة واللاحقة هو أن الأمة وثرواتها وإمكاناتها كانت منذورة لشيء واحد، الملك الظاهر بطل حروب التتار والصليبيين.

غمغم ياسين وكأنه يوافق على ما قالوا رغم شدة انزعاجه من إصرارهم على فهمه على عكس ما أراد، فلجأ أخيراً إلى الاستسلام، فبما أنهم فهموا الأمر على هذه الصورة، فلا بد أنه على هذه الصورة. وتابع سيد الإعلام: وأنت في الفصل الذي قرأناه مؤخراً تحدثت عن الأرض المهملة البائرة غير المستزرعة منذ أيام مولانا الملك الظاهر.

وتدخل ياسين مندفعاً: أنا لم أذكر أنها مهملة منذ أيام الملك الظاهر. وهدَّأه الرجل ذو الوجه اللحيم: لا بأس.. لا بأس. ليس هذا هو المهم، ثم تابع سيد الإعلام: المهم أنها مهملة منذ.. زمن طويل.. أتعرف لماذا؟

فقال مؤرخ السلطان: لأنها منذورة لمولانا السلطان.

وقال سيد الإعلام: وتعرف لم تبرع هؤلاء الناس باستصلاحها واستخراج أفضل ما فيها.

فقال مؤرخ السلطان: ليستعين بها مولانا السلطان على الزمان، وليستطيع تحقيق مشاريعه الكبرى في رفع راية الوطن عالياً.

وقال سيد الإعلام: نشكرك. نشكرك يا أستاذ ياسين نريد أن نرى من هذا ـ ولوَّح بالوريقات في يده ـ الكثير. نحن بحاجة إليه والأمة والملة بحاجة إليه.

أصغى ياسين مفتوح العينين، ثرثروا، خطبوا، تهلل وجه أسيمة.. أشرق وجه دلال، وكان كل شيء يوحي بسعادة لا نهائية وكان ياسين ينصت. 

(24)

كانت الشمس مختبئة، وكان غيم خفيف لا يوحي بالمطر وإن استطاع نشر الظل والكآبة. كان ياسين يمشي باتجاه مكتبه الجديد. عرضوا عليه سيارة لتنقلاته، ولكنه رفض قال: أنا بحاجة للمشي. مشى، وكان يحاول هضم حوارات الأمس مع اللجنة الأقوى والأشد قدرة على النفع والضر في البلاد. كان يحس بنوع من الفخر أنهم جاؤوا لزيارته وإطرائه وشكره، ولكن شيطان المثقف كما اعتاد أن يسميه، والذي لا يترك له فرصة المتعة والاستمتاع بالمتعة كان يلكزه: لا ليس هذا ما أردت. أنت تفخر بمتعة مغشوشة. هم أرادوا شيئاً وأنت أردت شيئاً. لِمَ لم تقف في وجههم وتحتج: لا. ليس هذا ما أردت. على العكس لقد طنَّشت وبهجت وأخذت تستقبل نظرات دلال المعجبة والمهنئة والمتواطئة، وتأكل من الكاتو الذي قدمته اسيمة.. آه. صحيح. كيف حضر الكاتو؟ أكانت تعلم بقدومهم مسبقاً. هاه.. صحيح لا بد أنها كانت تعلم، ولكنها لم تعلمه.. صحيح.. لم تعلمه.. آه.. تنهد.. أسيمة الجديدة الماكرة المتكتمة المتواطئة.. لا.. أسيمة الأولى ما كانت تقدر على كتمان سر كهذا عنه. أسيمة الصدود.. والـ.. وفجأة لطمته كتف قوية أسقطت محفظته على الأرض، فالتفت ليحتج، ولكنها كانت قد ابتعدت، ورأى امرأة محجبة تبتعد بسرعة دون أن تمكّنه من الاحتجاج.

انحنى على المحفظة يرفعها، فوجد إلى جانبها ورقة لا بد أنها انزلقت منها. كاد يدسها في المحفظة وهو ينتصب حين خطر له أن يتفحصها، فنشر انثناءاتها وشهق. كانت رسالة من دلال، عرف ويعرف وسيظل يعرف الخط: ياسين. أنت آخر من نتكل عليه. ياسين إكراماً لكل الأيام الماضية الجميلة لا تسقط.. لا تعبث بالتاريخ.. ياسين.. أنا أعرف ما يجرونك إليه، أن تكون الشاهد من الماضي، والرسالة إلى المستقبل على عدالة ما يفعلون.. ياسين.. لا تسرق حلم الغد من أبنائنا. أرجوك.

ملاحظة: ياسين. يجب أن ألقاك. يجب أن نناقش الخطوة التالية. أنا أراك، وأنت لا تستطيع أن تراني، ولو رأيتني، وعرفتني لضيعوني. ارفع ذراعك محيياً لمن تشاء، وسأراك، وأعرف أنك تريد أن تلقاني، وسأتدبر كيف ألقاك.

لم تكن الرسالة موقعة، ولكنه عرفها. مزَّق الرسالة مزقاً صغيرة جداً و.. قرر أنه يريد أن يراها.

رفع ذراعه عالياً يحييها ويعلنها أنه يريد مقابلتها. تفحص الناس على الرصيف، وعلى الرصيف المقابل، تمعَّن فيهم يحاول تخمين من تكون دلال فيهم، ورآها، كانت في ملاءتها المتخفية تتظاهر بالوقوف عند الإشارة الضوئية المقابلة. أهي دلال فعلاً؟ نزل عن الرصيف مسرعاً يحاول الوصول إليها حين شحطت سيارة مندفعة بقوة جعلت قلبه يخفق، وعرقه يتصبب، ورأسه ينحني بين كتفيه كمن يتحاشى موتاً رآه رأي العينين. نظر إلى السيارة التي توقفت على مسافة شبر منه يريد الشجار، يريد العتاب، يريد الاحتجاج، ولكن باب السيارة انفتح، ونزلت دلال: أستاذ ياسين. أنا شديدة الأسف، شديدة الانزعاج، شديدة الخوف، ولكن.. يعني نزولك المفاجئ عن الرصيف.

كان اندفاعها في الحديث مخرساً، ولكنها دلال، دلال النضرة.. دلال المشعة، دلال الوعد بكل ما هو لذيذ في الحياة. تنفس يهدئ قلبه الجامح، ونظر إلى الجانب الآخر، إلى الإشارة، إلى المرأة في الملاءة السوداء، ولكنها كانت قد اختفت، فالإشارة الضوئية انفتحت، والزحام تلاشى.

جرَّته إلى السيارة، فانجرَّ فقد بلغ به الإرهاق والإعياء مبلغاً لم يكن يستطيع معه متابعة السير حتى الجريدة. مضى إلى مكتبه مستنداً إلى الذراع النضرة لدلال. كان عطرها يفعمه وكانت لدونة ذراعها وثديها يداعبانه. كانت متعة مؤجلة وقد أتيحت. قالت:

ـ إن شئت المضي إلى البيت لترتاح أوصلتك.

ـ لا. لا بأس. سأقرأ بعض الصحف أولاً.

فتابعت: وإن شئت الخروج إلى مقصف أو متنزه تروِّح عن نفسك، فأنا جاهزة لإيصالك.

نظر إليها، وقرأ المعنيين في كلامها، ولكن الرسالة الممزقة كانت ما تزال في جيبه: أن تكون الشاهد من الماضي، والرسالة إلى المستقبل على عدالة ما يفعلون. لا تسرق حلم الغد من أبنائنا.

وضحك في أعماقه: ليس لديَّ أبناء، وليس لديك أيضاً.

التفتت إليه دلال النضرة: آه. الحمد لله، لقد عادت إليك البسمة.. أتحب أن أعدَّ لك شيئاً تشربه.

كانت تتحدث وتثرثر بكل عضو من أعضائها، بعينيها، بخديها الضاحكين بحاجبيها المتراقصين، بفمها الوردي، بالوعود اللانهائية بالفرح والنشوة والشهوة. كانت تعرض عليه ما تمناه لسنين؛ أن يصحبها إلى المقصف و..

قالت: هه.. ما رأيك. أليس خيراً من المكوث في هذا المكتب المغمِّ.

ثم اقتربت منه في رفع تكلف شديد. اقتربت حتى كادت تلامسه قالت: أعرف مقصفاً هو الجنة على الأرض، نهيرات صغيرة تخترق المكان، وأشجار صفصاف منحنية وملتفة تكاد تصنع معتزلات لـ.. لـ.. وتابعت في خجل متأتئ ـ لمن يريد التفرغ للـ.. كتابة ما رأيك. هه.. كانت قد عثرت على الكلمة المناسبة ـ هل أدلك عليه.

كان الإغراء أقوى من احتماله. وما كان شديد الاهتمام بالمقاومة ولم يقاوم؟ ما مكسبه من المقاومة؟ المرأة تنز بالشهوة والوعد، وهو يشتهيها منذ دهور. صحيح أنه يعرف أنها ليست هي ولكن ما يدريك. فربما تكون الأخرى المتقشفة ذات الحاجبين المهوشين والشاربين غير النتيفين هي الدخيلة.. وهذه هي الأصل. تذكر جيداً. من دلال التي اشتهيت؟ النضرة هذه، أم المتقشفة تلك؟ كانت الأدلة مقنعة والإشارات هادية، وكان قد أخذ بالاستعداد للموافقة على المضي إلى المقصف حين انفتح الباب بلا استئذان، ودخل علاء الذي انقض عليه معانقاً ولائماً وعاتباً: فما هكذا تكون الأخوة، ولا كذا يكون الدم.. كيف.. كيف تتجاهل أخاك وتنساه، ولا تهتف بمكالمة صغيرة تسأله فيه عن حاله. كانت الأسئلة تأتي متلاحقة، رمق ياسين دلال بسرعة، فرأى الغضب والكراهية على وجهها، وأدرك أن دخول علاء هدم مشاريعهما، فتضايق ياسين لضيقها. تناسى.. تجاهل علاء له طيلة سني ضياعه وتوهانه، تناسى أنه قصده في بيته. بعد هجر أسيمة له لعله يجد نجدة، فلم يفتح الباب، بل تجاهل هاتفه، فلقد اصبح  طريد الحكومة.. كان قد عرف بأنه ممن حرموا من حقوقهم المدنية والسياسية. وصاروا الأشباح. لم يملك معاتبته، ولم يملك صده، فتنهد، واستجاب لعناقه فهو أخوه الأصغر. قال لدلال: أخي علاء.

فقالت في حياد أقرب إلى الجفاء: الأستاذ علاء معروفٌ في البلد.

طلب ياسين فنجاني قهوة، وأصغى لعلاء وثرثرته، فحدثه عن المطعم الناجح الذي تديره لبنى في بيتهم القديم، وحدَّثه عن مديرية الإسكان التي يرأسها.. مدير عام. ياسين.. تخيل.. مدير عام. ثم في مسارَّة مازحة: ولكن ليس مثل المدراء العامين الذين تعرفهم لا.. أخوك يعرف كيف يكون مديراً عاماً.. هه..

كم موظفاً لديك؟

قدمت دلال لهما القهوة، فأنقذته من حرج الاعتراف بأنه ليس مديراً عاماً، ولا موظفين لديه. طلب علاء من دلال في جفاء أن تضيف ثلجاً إلى كأس مائه. فحنت رأسها، وحملت الصينية والكأس لتضيف إليه الثلج، وكاد ياسين يعاتبه على طريقته في الحديث إليها لولا أن علاء هو من شرح له كيفية التعامل مع الموظفين تحت إمرتك. اترك فاصلاً من خوف بينك وبينهم. أشعرهم بأنهم مقصرون في كل ما يفعلون. لا تسمح لهم برفع الكلفة معك أبداً.. لا.. وعادت دلال ومعها الكأس المثلج، فأراحت ياسين من نصائح علاء.. رشف علاء من فنجانه في تذوق من يستعد لإبداء رأيه في القهوة وصنعها، و.. ولكن ياسين اختصر الأمر، فقال: اشرب قهوتك بسرعة فأنا في طريقي إلى مشوار هام.

ـ مشوار؟ ورأى دلال تحدق فيه في دهشة.

ـ اجتماع.

ـ هه.. قال علاء: طيب. وجرع قهوته: هيا بنا.

ولم يجد ياسين مفراً من اصطحابه.. قاما، ورمق ياسين دلال في خيبة فهزَّت رأسها في تواطؤ.

في الشارع المشمس ذكر دلال في الملاءة، فمسح الشارع بعينيه يأمل رؤيتها، ولكن الازدحام وحر الشمس منعا الناس من التريث لمراقبتهم.. فكر. لعلها تراني، فرفع ذراعه يحيي من لا يرى ولا يعرف، ونظر إليه علاء في استغراب: اثقل. اثقل.. من هذا الذي تحييه بهذا الاهتمام. ولم يجب ياسين، بل تابع التلويح بذراعه محيياً وهو يتمنى أن تكون هنا، وأن تراه. وأن تعرف أنه معها، وأنه لم يتخل عنهم. ولكن من هم؟ سأل نفسه في حيرة، ثم هزَّ رأسه لا مبالياً: معهم.. معهم.. مع الشلة القديمة.. مع دلال. ألا تكفي دلال؟ لقد أيقظت بحديثها القصير معه، ورسالتها المبتسرة كثيراً من الأشياء الحارة في أعماقه.

شدَّه علاء إلى المرسيدس: اطلع.

ـ ولكن..

ـ اطلع.. سأوصلك حيث تشاء.

ولما لم يكن لديه مكان حقيقي آخر للمضي إليه، فقد وافق بعد بضع مناورات لفظية صغيرة على اصطحابه إلى مديريته التي يرأسها مديراً عاماً، وكان حريصاً على تكرار هذه التسمية في كل مناسبة ممكنة. 

(25)

كان مبنى متواضعاً من الواضح أنه مستأجر من واحدة من البنايات السكنية، ولكن اللافتة المعلقة عليه كانت ضخمة مصنوعة من البلاستيك الأبيض المضاء داخلياً، وقد كتب عليها بالأسود الصغير وزارة الأوقاف، وكانت تقرأ بصعوبة، وتحتها بالأسود الكبير مديرية الإسكان، وأحس ياسين أن اللافتة ينقصها شيء. لم يعرف ما الناقص فيها.. ولكن السائق رصف السيارة في مكان خال وضعت إلى جواره شاخصه صريحة: المدير العام. نزل علاء، وأشار إلى ياسين بالنزول، ولم ينسَ أن يهمس في أذنه: ليتك لبست بذلة صيفية. وعندئذ فقط تذكر ياسين أن ما ينقص اللافتة كان؛ لصاحبها علاء الأرفعي. أمام مدخل البناء كان هنالك كشك صغير من الخشب المسقوف بالقرميد، وقد رأى موظف الاستعلامات في الكشك يرتبك لرؤيتهما، ويسارع إلى كبس عدد من الأزرار كما خمَّن ياسين، ثم فاجأه موظف الاستعلامات حين خرج من الكشك يحمل بندقية روسية، ثم انتصب أمام الكشك في احترام مشدود الظهر والصدر ينظر إلى الأمام، وما إن اقتربا حتى أدَّى لهما التحية العسكرية مقدماً السلاح، ضارباً الأرض بقدمه في قوة. نظر ياسين من حوله يتساءل: إلى من كانت تقدم التحية المسلحة هذه، ولكن لم يكن في المشهد رجل آخر غيرهما.

وكزه علاء يأمره بالصمت، فصمت، ودخلا إلى المديرية وكانت أبواب الغرف مفتوحة والموظفون يقفون في مداخلها في استعداد مشدودي الظهر والصدر ينظرون إلى الأمام دون أن ترف لهم عين.

همس ياسين: السلام عليكم. ولكنَّ واحداً منهم لم يجرؤ على ردِّ السلام بينما لاحظ ياسين ازدراء وجه علاء.

مضى علاء إلى الأمام يضرب الأرض بقدميه في مشية عسكرية لم يستطع ياسين أن يجاريها، ثم أدهش ياسين حين لم يصعد الدرج حيث وضعت لافتة صريحة تقول: مكتب المدير العام، بل نزل إلى الطابق السفلي، فتبعه ياسين ليرى الغرف مفتوحة الأبواب والموظفين في فتحاتها مشدودي الصدر والظهر، والعيون تنظر إلى الأمام بلا رفيف. تفحصهم علاء بعينيه بلا اكتراث أقرب إلى الازدراء، وبدا كمن يعدُّهم يتأكد من وجودهم جميعاً، ثم استدار. كان ياسين قد حفظ الدرس فلم يلق السلام، ولم ينتظر رداً على السلام، بل لحق بأخيه يتسلق الدرج في وقار إلى الطابق الثاني حيث مكتب المدير العام كما تشير اللافتة الضخمة.

فتح الآذن الباب بدلفتيه في احترام، ووقف، وقد ضم كفيه إلى بعضهما، وحنى رأسه في احترام، فدخل علاء دون تحية، ولحق به ياسين الذي أنهكته الدهشة والحيرة، فما الذي يجري، وما هذا الجفاء والتجاهل في العلاقة بين الموظفين. تبع علاء وكانت الدهشة الحقيقية. كان المكتب بمساحة طابق كامل. لا بد أن جدران غرف كثيرة قد أزيلت حتى ضمَّ المكتب هذه المساحة، وقد نشر في المكتب عدة أطقم من الكنبات، وطاولة اجتماعات تتسع لثلاثين مجتمعاً.

كان علاء قد اندمج في دوره الجديد، فقد تخلى عن مجاملاته لياسين، ومضى إلى مكتبه الضخم بحيث لا يستطيع علاء أن يتناول الهواتف الموجودة على أطرافه إلا لو مشى بكرسيه المدولب إليها. لم يشر لياسين بالجلوس. وتساءل ياسين:  شهدنا المسرحية وعرفنا أبطالها، أيريدني من الممثلين أيضاً. اختار الكنبة الأكبر متصدرة المجلس، فجلس، ووضع ساقاً على ساق، ثم ضحك لنفسه: ها أنت ترجع إلى مناكدات الأخوة فيمن تكون له الصدارة.

جذبت التماعة نور مفاجئة بصره، فالتفت ليرى مسطحاً عليه عدة شاشات تلفزيونية وقد اشتعلت، ثم أخذت الصورة بعد بعض تخبط في الاتضاح، واستطاع علاء إدهاشه هذه المرة، فلقد كانت الشاشات تعرض مكاتب المديرية كلها وموظفيها وما يفعلون، ورأى بعضهم يرمقه.. يرمقه، أم يرمق الكاميرا؟ في خوف وريبة، و.. ربما بعض كراهية.

ترك علاء ياسين يتمعن في المشهد جيداً وحس بالفخر يغمره، ثم أدرك أن المشهد قد استوفى دوره، فالتفت إلى مقعده الدوار في خفة، وقال:

ـ هه. ما رأيك.

ـ لم أفهم شيئاً.

ـ ستفهم الآن.

ثم ضغط على زر، فانفتح الباب بسرعة، ودخلت سكرتيرة شابة بدت دلال بالمقارنة معها متواضعة على كل المستويات. وقفت في استعداد.. فقال علاء دون أن ينظر إليها: ادعيهم إلى اجتماع.

ـ متى؟

ـ الآن.. وحالما ننتهي من شرب قهوتنا.

ـ حاضر.

دخل الآذن يحمل صينية القهوة، فقدمها في احترام متشنج، وكان الماء مثلجاً وحب الهيل يعوم فوق الفنجان. رشف علاء من فنجانه في احتفالية، فجاراه ياسين. لم يكن هناك كلام كثير بينهما، وفجأة خطر على باله سؤال لم يخطر له أن يسأله من قبل:  ترى ما أخبار الوسواس الذي ركب علاء قبل الكارثة حين صار يهجس بالملك الظاهر، ويتهم ياسين بأنه من أثار فيه هذا الهوس بكتاباته الكثيرة عنه. ولكن علاء لم يتح له أن يلقي بسؤاله، فالباب نقر والسكرتيرة دخلت تعلن أن المديرين ينتظرون الإذن لهم بالدخول لبدء الاجتماع.

* * *

دخلوا متسللين، واختاروا مقاعدهم في حزن.. كانوا غارقين في الخجل وربما الخوف الذي لم يحاولوا تغطيته. كانوا جميعاً شباناً في أواخر العشرينيات، أو أوائل الثلاثينيات. وكان هذا ما أدهش ياسين. إنهم المديرون، ولم يرهم في جولته مع علاء، أو لم ينتبه إليهم، فأولئك الواقفون على مداخل الغرف في استعداد مشدودي الصدور كانوا أكبر من هؤلاء بكثير، كانوا كهولاً في الخمسينيات، أو يزيد، أو كانوا على أبواب التقاعد، لكنَّ هؤلاء المديرين المستدعين للاجتماع كما أعلن علاء، رافضاً اعتذار ياسين للانسحاب من الاجتماع المفترض، أصرَّ على بقائه، وعرف ياسين أن علاء كان يريد استعراض مديريته العامة أمامه، وأنه يريد أن يريه كيف تدار المديرية، وكيف يدار الموظفون.

لم يقف علاء لتحيتهم، بل تجاهلهم متظاهراً بقراءة أوراق أمامه. كان وجهاً جديداً لعلاء أمام ياسين، وجهاً لم يألفه، ولم يعرفه، ولم يظنَّ يوماً أن علاء الخجول المهذب الطامح إلى رضا الأم والجدة كما طمح، وأخفق كما أخفق. لم يظن أنه يستطيع أن يكون على هذا الصلف، كان قد وضع قناعاً جعل ياسين نفسه يحسُّ بالحرج، فمن هذا الرجل إذن.. أخذ يراقبه وهو يقلِّب في الأوراق أمامه، ولاحظ بهدوء أنه قد سمن. كان وجهه قد أصبح مستديراً، ولاحظ أن هذه السمنة قد زادت في وسامته، وحار فيمن صار يشبه بهذه السمنة. كان الشبه  يلح.. لا بد أنه يشبه واحداً يعرفه، فالشبه صارخ وواضح.. من؟ من يشبه علاء في سمنته ووسامته الجديدة، وصرامته الصلفة هذه.. من..؟ كان يتساءل ويراقب جبينه المجعد وحاجبيه المعقودين وانشغاله الجديد فيما يقرأ.

وبهدوء لاحظ أن المديرين المجتمعين لم يصدر عنهم صوت، فالتفت إليهم. كانوا متجمدين، معلقي النظرات في الرجل الصارم الذي كان يعرف أنه أخوه الصغير والغارق في قراءة أوراقه، ودون أن يريد أو يطلب لعب ياسين لعبته الذهنية في تقمص الآخر، وتخيل كيف يفكر. فرأى نفسه بينهم، ورأى الخوف والارتباك يحلاَّن عليه، ورأى عينيه تتعلقان بالأوراق يقلبها المدير العام في الملف أمامه، وتساءل: أي تقرير يقرأ، وأي إدانة يتفحص، وأي مأزق سيجد نفسه فيه حين يبدأ التحقيق المحاكمة. ولم لم يستدعني على انفراد. أكان لا بد من الفضيحة، أكان لا بد أن يشهد الآخرون على مذلة هذا التحقيق ـ المحاكمة. ترى.. ما الذي بين يديه.. تقارير مالية؟ إدارية؟ وشايات سياسية؟

كان ياسين يتأمل وجوههم مسترجعاً ياسين، ثم يتقمص واحداً منهم محاولاً قراءة علاء، و.. الغريب أنهم لم يلمحوه، أو ينظروا إليه. كان ياسين أمامهم صفراً، فراغاً، لا شيء. فالموجود الأوحد كان سيدهم ومديرهم علاء، وكانوا منتحين باتجاهه انتحاء ورق الشجر إلى الضوء. تأملهم ياسين يراقبون وجه علاء، وتبدلات وجهه وهو يقرأ. الغضون المتحولة في وجهه، ولأول مرة استطاع أن يفهم التعبير العربي القديم: كأن على رؤوسهم الطير. فقد كانوا وكأن على رؤوسهم طير بري حذر يستعد للطيران عند أول نأمة، فتجمدوا خوف أن يطير.

وتساءل ياسين: ما الذي يخيفهم إلى هذا الحد؟ ما الذنب الذي ارتكبوا فهم يخافون الحساب والعقوبة؟ ما الذي جعله على هذه القوة، وجعلهم على هذا الضعف؟

وأجاب علاء على سؤاله حين رفع رأسه في بطء لئيم، وفحَّ:

ـ هاتوا المفاتيح.

التفت ياسين إليهم، ورأى الذعر الحيواني الأول لابن آوى صغير كان قد انفرد بأرنب بعد جوع شديد، فإذا بذئب صارم يقف أمامه ويشير إلى الفريسة في تعالٍ: هات الأرنب.

كان الارتباك والتعثر والأمل بتغيير الأمر القدري في آخر لحظة. وللمرة الأولى وفي بحثهم عن نجدة، عن منقذ، عن حبل يتعلقون به خارجين من بئر الرعب والإذلال الذي وجدوا أنفسهم فيه نظروا إليه، فرادى ثم مجتمعين. كان في عيونهم رجاء أشبه بالتسول، كان  في وجوههم تسول أشبه بالحبو، والتفت ياسين إلى علاء وكأنه يتوسط لهم عنده فيما لا يعرف. مفاتيح ماذا؟ ولماذا؟ وما الذي يعلقهم هذا التعلق بالمفاتيح، ولكن علاء لم يكلف نفسه عناء النظر إلى ياسين، أو التعليق على نظرته الراجية، بل وقف في ملوكية، ولم ينطق بكلمة. وفهموا وقفته على أنها الطرد، الأمر بالانصراف، فانصاعوا. ورأى ياسين: رزم المفاتيح توضع في احترام على مكتب المدير العام. رآها توضع على الزجاج دون صليل، دون ضجيج، دون صوت. كانت المفاتيح نفسها تهمس في خوف، وهي تستلقي على الزجاج المغطي للمكتب الكبير.

عاد علاء إلى جلسته، وإلى أوراقه، ولم ينظر في اتجاههم، فاتجه أولهم إلى الباب متهدل الكتفين معذَّب النظرات، بعد أن انحنى باحترام لم يره علاء، ومضى، وتبعه الآخرون واحداً إثر آخر، مجللين بالخيبة والانكسار.

انغلق الباب خلف آخرهم، فرمى علاء الملف من يديه وسقط قناع الصرامة عن وجهه، وعاد علاء الذي لقيه قبل ساعة في مكتبه، والذي قدمت له دلال الماء دون ثلج، والقهوة دون هيل يعوم على سطح الفنجان، فاحتج، وأصر على الكمال. تنهد وهو ينظر إلى ياسين في انشراح:

ـ هه. ما رأيك؟

وقال ياسين في حيرة حقيقية: رأيي؟ لم أفهم شيئاً.

جعل علاء كفه قائمة مع السطح الزجاجي، ثم جرف رزم المفاتيح إلى درج فتحه، فنزلت تصلصل، أقفل الدرج بالمفتاح، وانتصب: هيا بنا.

ـ إلى أين؟

ـ تعال. ولا تثرثر كثيراً.

ركب إلى جانبه في المرسيدس، وأحس برائحة الوثارة تطبق عليه.. نظر إلى المارة يتعثرون تحت الصهد، وتحت الوهج، يتعثرون بحقائبهم، وأكياسهم، وملفاتهم في وجوه جامدة لا تعبِّر.. وللمرة الألف تغلبه لعبته اللعينة، فيتقمص واحداً منهم متسائلاً”: كيف يُنظر إليه في المرسيدس الآن، ولكن علاء الذي حدس السؤال الدائر في واعية ياسين وهو يراقب الخارج في قلق قال:

ـ الزجاج مدخن. لن يروك في السيارة، ثم أطلق قهقهته: أنت تراهم، ولا يرونك، وانفجرت القهقهة ثانية: تماماً كالملائكة يرون ولا يُرون.

لم يضحك ياسين للنكتة التي جعلت علاء يقهقه، فالتفت إليه: اضحك.. اضحك.. أنت الآن مدير عام. أنت من النخبة. من المحسودين.. اضحك. وأراد ياسين الاعتراض بأنه ليس مديراً عاما ًولا.. ولكن علاء تابع: وحكاية أنك تمشي، ولست في حاجة إلى سيارة حكاية سخيفة

ـ ولكني أحب المشي!

ـ السيارة يا أبله ليست منافية للمشي، تستطيع أن تمشي بعد العصر، في النادي، بين البساتين، لكن السيارة قيمة. أنت تركب مرسيدس، فهذا يعني أنك من طبقة المرسيدسيين، أي الطبقة الأعلى، تركب بيجو، أنت إذن من البيجويين، سيارة يابانية، يعني ـ قالها في استهانة ـ أنت من الحائرين. ثم في صرامة: غداً. أتسمع. غداً.. تطلب مرسيدس اطلبها وهم في حاجة إليك، وسيعطونها، وحين تصبح من المرسيدسيين، فأنت اجتزت مرحلة لن يستطيعوا الرجوع بك عنها.. أتسمع.. ثم..

كانوا قد وصلوا إلى المقصف، لاحظ ياسين ذلك حين خفف علاء من سرعته منحرفاً إلى حارة جانبية مزنرة بأشجار الجوز.. زمَّر علاء، فانفتح باب المقصف الحديدي، ودخلوا.. كان الزوار قلة، فتساءل ياسين: أتراهم قلُّوا لعزلة المكان، أم لحجره على رواد معينيين، فما انفتح الباب إلا لزمور المرسيدس. مشى علاء بثقة إلى طاولة جانبية قريبة من النهر، ولحق به ياسين مبهوراً من الجو الذي لم يعتد عليه، كان يحس راحة ناعمة لم يعرف لها تفسيراً، ولكنه حين أسند ظهره إلى المقعد انتبه إلى موسيقى برامز المتسللة ناعمة بين الأشجار والمعلقة مضخماتها في سرية بين الأغصان. سمع همسة ناعمة، فالتفت. كان الواقف إلى جانبه امرأة حسناء لم يستطع إلا أن يحاول الوقوف لها تأدباً، ولكن علاء ضربه بحذائه على ركبته، فتأوه، وابتسمت، فاختفى ألم الركلة، قالت تخاطب علاء: المعتاد طبعاً؟

فهز برأسه إيجاباً دون أن يكلف نفسه عناء الرد، فالتفتت إلى ياسين مبدية بسمة متكلفة لم تكن أبداً كالبسمة المعطاءة المهداة إلى علاء، وهمست: والأستاذ؟ فأجاب آلياً: المعتاد.

وضحك علاء للمرة الأولى. قال: بيرة.. ألمانية.

فانحت انحناءة خفيفة ومضت.

استند علاء بظهره إلى المقعد، ومدَّ ساقيه طويلاً في ارتياح.. كان سعيداً، وكانت أسباب سعادته جلية، فها أخوه الكبير، نجم الأيام الماضية، والمرشح لكل جليل، ها هو يتجلى عن الريفي لا يعرف الخادمة من السيدة، ولا يعرف معاملة موظفيه كما يجب.. وصمت ياسين. صبَّت الخادم الحسناء البيرة لهما، ووضعت بعض المقبلات، ومضت.. تنهد علاء. قال: أتعرف.. وتنهد ثانية.. كم أتمنى لو كانت أمك حية، أو لو كانت الجدة ما تزال تعيش. وفهم ياسين ما يريد علاء قوله، فقال بعد رشفة كحسوة: لن تفيد شيئاً. واحمد ربك أنهما ماتتا، ولو كانتا حيتين لوبَّختاك.

ـ ولكن لماذا.. البلد كلها تحسدني أقصد تحسدنا.. نحن السادة الآن.

ولكنَّ ياسين ذكر له كيف حفظ مولد البرزنجي، وكيف قرأه لهما. وكيف نغَّمه وأنشده مؤمناً بأنه سيحصل على الرضا الذي حُرِمه طويلاً، ولكنه لم ينل إلا تنهدة من الأم وقول : إه.. حلو.. ولكن.. أين السكر من العسل. اربدَّ وجه علاء فجأة اربدَّ حتى لم يعد يستطيع الحديث فقلب كأس بيرته، ثم صبَّ أخرى، وفرقع بإصبعه للخادم التي كانت تراقبه فأتته بزجاجتين. شرب وشرب دون أن يعبأ بياسين، أو بالخادم، أو بمن يراقبه. كان كما سيكتب ياسين عن هذه الحادثة: يريد أن يطفئ ناراً ما تزال تشتعل في جوفه.

كان ياسين يراقب الوجه السمين الوسيم المربدّ لعلاء، وفجأة تذكر من صار يشبه. إنه الملك فاروق ملك مصر. قال:

ـ علاء. أنت تشبه الملك فاروق.

توقف علاء عن الشرب مفاجَأً بملاحظة ياسين، ثم ضحك في مجاملة: كانت صورته جميلة فعلاً في شبابه ـ ثم تنهد ـ قبل أن يسمن ويكرّش، ويصبح المقامر لا يفيق. رفع يده للخادم وما كاد حتى اندفعت تلبي طلبه.

ـ أمرك.

فقال في اختصار: الغداء.

حنت رأسها في استجابة،  ومضت، ولم يستطع ياسين إلا أن يبدي ملاحظته: ولكن لم الجفاء.. الفتاة جميلة، وكلمة حلوة لن تؤذي.

نظر إليه علاء ملوثاً نظرته ببعض سخرية، ثم تنهد وقال:

ـ أتعرف كيف صنعت مديريتي.. أظنك أعجبت بها.. إياك أن أسمع منك أنها لم تعجبك.

وهز ياسين رأسه موافقاً، وجرع بعض بيرة، لم يكن في مزاج المجادلة.

ـ عرفت أنهم كانوا يسخرون مني حين وصلت إلى مبنى المديرية التي جعلوني مديراً عاماً لها..هاه.. كانت هذه حصتي، كان الموظفون كهولاً فيهم المهندس والحقوقي والإداري، وكانوا معتادين على تغيير المديرين، ويعرفون أن مديرية مهملة في وزارة ثانوية مهملة لن يعيِّن فيها رجل مهم، فتهيأوا للتعامل معي على هذا الأساس.

وضعت الخادم الحسناء الطعام أمامهم، وكانت حريصة على إبداء كل ود ممكن لعلاء، وعلى تجاهل ياسين الذي سخر من نفسه داخلياً: ستظل الشبح يرون الجميع ولا يرونك.

انسحبت، وأشار علاء إلى الطعام في كرم: تفضل.

وتفضل ياسين، وكان اللحم شهياً، والسلطات رائعة. لم يكن هنالك ما يشكو منه. أقبل ياسين على الطعام بينما أخذ علاء يتلهى بالمكسرات والبيرة، وكأن الحديث الذي ذكَّره بالماضي قد حدَّ من شهيته للطعام، ولكن ليس لإعطاء الدرس الواجب إعطاؤه لياسين، فتابع!

عقد علاء اجتماعاً للموظفين، فجاؤوا متثاقلين، وحيَّوا ببرود.. وكان السأم سيد الاجتماع. خطب وذكَّر، ووعد، ولكن واحداً منهم لم يتأثر، بل لاحظ علاء أن كهلين منهم تجرآ فلفَّا سيكارتين، وأخذا يدخنان في سأم. انتهى الاجتماع، وغصة كبيرة في حلق علاء، ولكن علاء الذي لم يعتد الهزيمة قرَّر قبول التحدي، طلب هيكلية المديرية الوظيفية ليكتشف أنها تدار بالبركة، فليس من مدير معروف، وليس من موظف يحترم مديره، فقرَّر البدء بالعمل، وقسّم المديرية إلى عدد من المديريات، الإنتاج، المتابعة، التخطيط، المالية، الرقابة، ثم اخترع عدداً آخر من المديريات، ومضى إلى الوزير يطلب تعيين عدد من الكفاءات الشابة، ولما كان الوزير أكثر سأماً من علاء من وزارته المملة، فقد وافق على تعيين الشبان المطلوبين، الذين لم يلبثوا أن شُكلت منهم المديريات وعيِّنوا مديرين جدداً على كل منهم أن يحسن إدارة مديريته، ولما كان كهول المديرية أكثر سأماً من الاحتجاج، فقد صمتوا وإلى من يحتجوا. وما معنى تعيين مدير تخطيط في مديرية لا يزيد عملها عن مراقبة بيوت وقفية أثرية، وقرار إن كان من المناسب ترميمها، أم أن الأمر ليس ضرورياً، فالبيوت الرثة لا ريعية لها، ولكن علاء بذكائه العملي جعل المديرين يوظفون موظفين يراقبون البيوت الموقوفة، والجوامع الموقوفة، والمدارس الموقوفة، ويراقبون ترميمها، ويقررون ترميمها، وطلب الأموال من الوزارة لتغطية التراميم، ثم اكتشف واكتشفوا أن هؤلاء المديرين الذين صنع منهم مديرين في حاجة إلى سيارات تنقلهم إلى مراكز مراقبتهم وترميمهم، ولا بأس أن يستعيروها حتى الصباح التالي. وجاءت السيارات.

صنع علاء مديريته على شاكلته، بل لنقل الحق أنه اخترعها من حيث لم تكن، فأصبحت مثار الاهتمام والغيرة، يأتي المديرون الآخرون إليها ليتعلموا كيف تبنى المديريات. أهمل الكهول، وقال: سيحالون على التقاعد أو الموت قريباً، ولا حاجة إلى الاكتراث بهم. علينا الاهتمام بهؤلاء الشبان الذين سيكونون المستقبل، وصنعهم على شاكلة المستقبل. صنع منهم مديرين منذ التعيين الأول، فكان ولاؤهم لمن صنع منهم المديرين، ولكنه حين لاحظ أن المردود والأهمية لكلمة مدير لا تغري جاءهم بالسيارات، وفجأة أصبحوا مركزاً للأهمية ليس في المديرية بل في الوزارة، ولكنه كما سيقول لياسين كان حريصاً على أن يذكرهم بين الحين والآخر برب نعمتهم. الذي أخرجهم من الظلام، فعيَّنهم مديرين، ووهبهم السيارات، فكان ـ ونظر إلى ياسين نظرة متآمرة ـ يجمعهم بين الحين والآخر، ثم يأمرهم بتسليم مفاتيح سياراتهم، تلك السيارات التي جعلت منهم أشخاصاً مهمين، وكان يعرف أن من سيعاقبهم ويعذبهم ويجبرهم على الجثو، وليس الركوع فقط، هم نساؤهم وأطفالهم الذين تعودوا على التميُّز عن اقرانهم بركوب سيارات الحكومة، وكان يعرف أن مقاومتهم لن تزيد عن يوم أو يومين سيعودون بعدها إليه واحداً، واحداً يعتذرون عن ذنب لا يعرفونه، ويطلبون غفراناً سيحصلون عليه بعد بعض التذلل، وسيستعيدون قيمتهم ومكانتهم التي يعرفون أن نورها المضيء الوحيد هو المدير العام.

انتصب علاء بعد أن لاحظ أن ياسين قد أنهى غداءه، وأنهى استماعه إلى محاضرته.

قال: تعلَّم كيف تبني مديريتك، فحياتك، وقيمتك ومستقبلك مبنية على سمعة المديرية التي منحوها لك. هيا.

ولحق به ياسين إلى السيارة يفكر كيف يقول لعلاء إنه لم يعيَّن مديراً عاماً، ولكن علاء لم يترك له فرصة واحدة يقول فيها إنه ليس مديراً عاماً، وليس لديه موظفون، ولا مديرون، ولا حتى سيارات. 

(26)

قدمت له القهوة بعد أن رفعت الغداء الذي تركته في انتظاره. لم تعاتبه على تأخره. وحين اكتفت بساندويتش أكلته على عجل أحس بالخجل، فحدثها عن الدروس التي أصر علاء على تعليمها له في كيفية بناء مديريته، وصنع موظفيه ومديريه، ولكنها كانت من فاجأه حين قالت: هل أعجبتك.

فلما سألها عما تعني وقد قفز قلبه. أتراها تعرف بمحاولات الدلالين المتقشفة، والنضرة للاستحواذ عليه، ولكنها أضافت حين لاحظت عدم فهمه: السيارة.

فقال جاهلاً تماماً ما تعني: السيارة.. آه.. سيارة علاء.

ولما كاد يستطرد في الحديث عن سيارة علاء قاطعته: السيارة في الخارج؟

ـ ماذا تعنين؟

ومضى معها مجروراً إلى الخارج ليرى تلك الحسناء البيضاء الجديدة ما تزال، وقد رصفوها في ترفع على الرصيف. أشارت إلى الفرش الجلدي، والمسجلة الأنيقة، والزجاج المدخن. كانت كما لاحظ مثل دلاّل محترف يقدم بضاعة لمشتر متردد: أتحب أن نقوم بجولة؟

وكاد يوافق حين ذكر تعاليم علاء، المرسيدس للمرسيدسيين، والبيجو للبيجويين. إنها مقامات يا عزيزي، وعليك أن تعرف مقامك.

التفت ياسين إليها في ترفع فاجأه: لا.

ـ ولكن لِمَ لا.. قالت في رجاء متلهف: لا تخف. أنا من سيسوق. تعال دعنا نمض في جولة إلى المصايف القريبة.

ولكنه استدار عنها في ترفع سيحسد نفسه عليه فيما بعد، فكيف جرؤ على رفض الحسناء الفرنسية. وقال في ترفع وهو يمضي بعيداً عنها وعن السيارة وعن البيت: لا حاجة بي إلى سيارة.

اهتفي إليهم ليأتوا ويستعيدوها.. لن ألوث بنطلوني بركوب مثل هذه.. وأشار إلى البيجو في ازدراء، ومضى.

أحس بنظراتها تلاحقه، بل تخترقه من الخلف.. عرف أنها قد فوجئت بموقفه غير المتوقع. هو ياسين الذي كان يحلم معها في ليالي الصفاء، وقبل الكارثة بفولكس فاغن، أو حتى كانا يحلمان بصندوق على أربع عجلات كما كانا يقولان ضاحكين. المهم أن يجدا ما يحملهما بعيداً عن وسائل المواصلات العامة ورداءتها المفجعة، وعن سائقي التاكسي ورذالتهم غير المحدودة، ولكن.. يرفض مثل هذه السيارة؟

مضى مبتعداً على الطريق بين البساتين يبحث عن خلوة يفكر في أحداث يومه العجيب. دلال المتقشفة وطلبها لقاءه، ودلال النضرة وعرضها السخي، وعلاء واستعراضه الإداري، والغداء في المقصف المغلق.. وأخيراً اختتام اليوم بالسيارة البيجو. أي يوم عجيب. فعل خيراً برفضه السيارة.. لا شك أن علاء سيفخر به.. ولكن ـ توقف ـ أهذا ما تبغي؟ ياسين أهذا ما تبغي؟ أن تجعل علاء يفخر بك. وقفزت دلال أمامه فجأة كانت تتلو رسالتها غيباً: أنت آخر من نتكل عليه. ياسين إكراماً لكل الأيام الماضية لا تسقط. لا تعبث بالتاريخ. ياسين. أنا أعرف ما يجرونك إليه. أن تكون الشاهد من الماضي والرسالة إلى المستقبل على عدالة ما يفعلون. ياسين لا تسرق حلم الغد من أبنائنا.

أغمض عينيه كمن يفرُّ من المواجهة، ولكنها لاحقته وقد خلعت ثوب دلال المتقشفة لتضع دلال النضرة قالت تفحُّ: أعرف مقصفاً هو الجنة على الأرض.. نهيرات صغيرة تخترق المكان، وأشجار صفصاف منحنية وملتفة.. تكاد تصنع معتزلات.

فتح عينيه يهرب من دلال النضرة ودلال المتقشفة. وقال لنفسه: دعنا نهرب من هذا كله.. دعنا نفكر فيما يريدونك له، لكتابة السيرة المعارضة، سيرة مولانا عنقاء الزمان.استحضر السيرة الأولى في ذهنه، استحضر بيت ابن باديس الأسطوري في السيرة الأولى.. البيت الذي لم يستطع فتح بابه المطلسم أحد، فقد كان مرصوداً للموعود بالسلطنة. فكَّر ياسين بالمهندس الفقير عارف اسرار القصر وكنوزه، وكيف حطّ به الزمان حتى صار تلاميذه ومشدودوه، ومتعلموه يسخرون منه، ولكنَّ الموعود بالسلطنة فقط يعطف عليه، ويستميله، فيكشف له أسرار القصر وطوابقه تحت الأرضية، تلك المستودعات المليئة بالثروات، الذهب، والفضة، والماس، والزبرجد والياقوت. كل تلك الثروات الرائعة التي اختزنها ابن باديس طويلاً، ثم كنزها، ورصدها، وجعلها لا تنفتح إلا للموعود بالسلطنة الذي سيعيد العدل إلى المظلومين، والخبز إلى الجائعين، والإسلام إلى الجاهليين.

فكر ياسين بهذا النص الجميل، فكر في كيفية معارضته، فكر بالموعود بالسلطنة، عقلة الشاب الضابط الصغير يدخل إلى بيت الدبلوماسي الكبير تحسين باشا وليس لديه إلا بنات ثلاث.. رآهن فبهر. كنَّ جمالاً لم يعرفه في بنات الضيعة، ولم يعرفهن في مواخير المدن التي مرَّ بها. كن يتكسَّرن أمامه بمشيهن وغنجهن، ولثغتهن بالفرنسية. ترى.. أكان مولانا عقلة يؤمن بأنه الصياد حين دعي إلى العشاء في تلك الليلة ليجد ضابطين آخرين من بلدين مجاورين، ضابطين صغيرين لا يوحيان بأي وعد، قدَّمهم الباشا الرقيق إلى البنات. ترك الخدم يقدمون العشاء، وترك البنات الرقيقات يرحبن بالموعودين الثلاثة. ترى أكانوا يعرفون أنهم الصيادون، أم أنهم المصيدون. قال الباشا وكان يتقدمهم إلى الصالون الكبير يريهم كنزه من اللوحات الزيتية جمعها من باريس، ومن أمستردام، من لندن، ومن فيينا. كان الباشا مغرماً باللوحات الزيتية، فكَّر مولانا عقلة، ولكن الباشا تقدمهم إلى صالون آخر ليريهم ثروته الجميلة من الموزاييك، ورث بعضها عن الباشا الوالد كما أعلن، واشترى، وصادر البعض من أسواق المدن التي كانت تغادر موزاييكها، وخشب جوزها المحفور، وبروكارها.. وأراهم البيروهات، والخزائن.. وأرفف القناديل، أراهم المحاريب والبارافانات.. أراهم المشربيات والشناشيل، ولما كادوا يسحرون بجمال ما رأوا قادهم إلى الصالون التالي ليروا فيه السجاد العجمي الممدود على الأرض طبقات خمسة.. كشف لهم الطبقة الأولى وقال هذا سجاد تبريزي، ثم كشف الطبقة الثانية، وقال: هذا شيرازي، ثم كشف الطبقة الثالثة، وقال: هذا أفغاني، وكشف الرابعة، وقال: هذا بخاري، ثم في فخر قال: أما تحفة التحف، فهو الكشميري وكشف الطبقة الأخيرة. نصب ظهره في فخر، ثم أشار إلى السجاد المعلق على الجدران، كانت لوحات من صوف منسوج سجاداً، لم يكلف نفسه عناء شرح مصدرها، بل تركهم يغرقون في تحسسها وامتصاص جمالها. لم يشرح لهم عدد عقدها في الإنش الواحد، وكان خبيراً بذلك، لم يفسر لهم سبب نضرة الألوان فيها، وما المواد التي كان يستخدمها ليجعل من الألوان على هذه النضارة، بل قادهم إلى غرفة جديدة.

توقف ياسين يفكر: ما الذي يجب أن يكون في الغرفة؟ لا بد أن يكون تحدياً كالقنطارية التي لم يستطع حملها أحد، فحملها الموعود بالسلطنة، وربما كانت سيفاً غارقاً في صخرة لم يستطع انتزاعه أحد، فانتزعه الموعود بالسلطنة. فكان المفتاح، وكان الدليل أنه الموعود. ولكن.. لا.. وتذكر ياسين ما كتبه مرة عن السلطان وكيف حصل على حق: تفضل يا خوند، فأنت صاحب العرش.. تذكّر أن الموعود بالسلطنة وبعد إحراز النصر على التتار خرج مع السلطان المنتصر إلى الصيد، وكان قد اتفق مع أصدقاء له، فتظاهر الموعود بالسلطنة أنه يريد تقبيل يد السلطان المنتصر شكراً، فلما قبض على يده طعنه، ثم انقض مع رفقائه فأجهزوا عليه الإجهاز الكامل، ورجعوا بسرعة إلى السرادق المركزي، وصرخ من سيصبح السلطان: لقد قتلت السلطان. فقام كبير المماليك في وقار وقال: من قتله؟

فقال الموعود بالسلطنة: أنا من قتله.

فقال كبير المماليك وهو ينحني في إجلال ويشير إلى العرش:

ـ تفضل يا خَونَد.. يا صاحب الجلالة.. فالعرش من حقك..

توقف ياسين مذعورأً: لا.. لا يجب كتابة مثل هذا، وحتى كُتَّاب السيرة الأصلية لم يكتبوه، بل التفُّوا من حوله. أفتريد أن تجعل من السلطان غادراً يقتل رفاقه وأصدقاءه؟.. لا.. لا.. إياك يا ياسين. إياك.. أنا أعرف أنك تريد أن تلعب بالنار، ولكن.. تذكَّر. أنت الآن تعيش في منَّتهم، تذكَّر. أين اختفيت حين طاردوك، وأي عيش عشت.. تذكَّر. وإياك والخطأ.

نفض رأسه كمن يصرُّ جسدياً على الهرب من الفكرة تضغط عليه. قال: دعنا نهرب منها إلى ما هو أبهج. واستقدم دلال ولكن دلال المتقشفة همست: إياك. لا تسرق حلم الغد من أبنائنا. فنفض رأسه في كراهية، واستقدم دلال. دلال النضرة المشتهاة تنز شهوة وشبقاً وحباً، و.. 

(27)

كانت استجابتهم سريعة، وكانت مفاجأته كبيرة حين رآها مرصوفة على الرصيف، وكان لها أن تعلو الرصيف سوداء مدخنة الزجاج. تلمع وكأنها قد خرجت من المصنع لتوها، عرف أنهم استبدلوا البيجو بها، فلقد كانت مرصوفة في مكانها تماماً، ثم فجأة سخر من نفسه: ولم تعتقد أنها ما استبدلوا البيجو بها. لم لا تكون لأحد القاطنين في الجوار، أو لم لا تكون لضيف في انتظارك في البيت، فلقد كثر الضيوف الطارئون منذ عودته إلى البيت.

كاد يفتح بابها ليتأكد لولا أن تمالك نفسه وقال: إنهم يراقبونك لا بد أنهم يراقبونك. اثقل. و.. ثقل.. و.. نزل إلى القبو حيث أسيمة المنتظرة، ويبدو أنها كانت تتوقع عودته، أو أنها سمعت خطوه على الدرج، أو.. أن هناك من أبلغها بقدومه، فلقد فتح الباب قبل أن يقرعه وكان عليه أن يستقبل أسيمة في أحضانه تهنئه: لم أكن أعرف أنك على هذه القيمة لديهم. لم أكن أعرف.. تعال.. تعال. وجرَّته إلى الداخل ليجد دلال هناك: لقد أوصلت السيارة إلينا.. تصور.. وقامت دلال تحييه في ود، وأراد أن يمعن في ثقله فتساءل: أية سيارة.

ـ المرسيدس.. ألم ترها عند الباب.. ثم أطلقت صرخة نصر: لقد أصبحنا من المرسيدسيين.

وجاءه صوت علاء يصدي: المرسيدس للمرسيدسيين والبيجو للبيجويين.

ـ تعال.. تعال.. جرَّته من ذراعه، ثم أشارت إلى دلال.. تعالي. سنجربها، سنقوم بجولة في المدينة، ثم هتفت مداعبة: لا تقل لي إنها لم تعجبك.

كاد أن يندمج في اللعبة، ويمضي معهما في جولة في المدينة والمتنزهات المحيطة، فقد كان كل شيء بهيجاً حين رن الهاتف، وسارعت أسيمة للرد. وما كادت تسمع صوت المتحدث، وتقول: أهلاً.. حتى أعطت السماعة لياسين: إنه علاء.

وانطلقت الفكرة في ذهن ياسين كبرق. ما علاقة علاء بكل هذا؟ أيكون المسؤول عن استبدال السيارة؟ أتكون أسيمة من أخبره برفضه البيجو؟ ما علاقته بكل هذا؟ ولكن السماعة كانت بيده وكان قد رفعها إلى أذنه آلياً، وما كاد يقول: ألو.. حتى جاءه صوت علاء: الجماعة سعداء بك؟

ـ ماذا تعني؟

ـ ما قالوه عن تقدمك في السيرة جيد، وبالمناسبة، فحكاية الباشا وبناته الثلاثة مشوشة. اجعلها بنتاً واحدة، واجعل الضابط الشاب واحداً، وكأن علاء أحس باحتجاج ياسين فأضاف بسرعة: يجب أن يكون مولانا متفرداً.. ثم.. أضاف: سأتحول هذه المرة إلى ناقد. لا تنسخ الواقع.. اصنع واقعك الخاص، الأدبي.. لا تعتبر الواقع إماماً تقلده.. هه. ما رأيك.. أصلح ناقداً؟ وقبل أن يجيب ياسين المصعوق دهشة قال علاء: مبروك المرسيدس. إلى اللقاء. وضع السماعة. ناول ياسين السماعة لأسيمة. لاحظتا دهشته، حاولت أسيمة التغلب عليها، فأكملت ما كانت قد بدأته قبل هاتف علاء: هيا.. هيا.. السيارة والجولة. ولكن ياسين فحَّ: أقرأت ما كتبت في السيرة اليوم؟

ـ طبعاً. أفلم تطلب إلي ذلك؟!

ـ أنا؟ طلبت إليك ذلك.

ـ ليس اليوم، ولكنَّ بيننا اتفاقاً أنت من طلبه، أن أقرأ ما تكتب أولاً بأول.

ـ ولكني لم أُنهِ الفكرة.. تركتها لبعض الوقت في انتظار إكمالها.

قالت تغيِّر الموضوع: والآن؟ ألن نمضي في الجولة؟

مضى معهما، وحين اقتربوا من السيارة كادت أسيمة تسوق دلال إلى مقعد السائق لولا أن انزلق قبلها إلى مقعد السائق، فأعطته دلال المفاتيح، ومضوا بالسيارة. على الطريق تذكر علاء فجأة، وحين كانت المرأتان تشقشقان في سعادة.. ذكر أن كل ما يمكن لرجل أن يحلم به بين يديه، فها هي دلال المشتهاة تركب في سيارته.. ته؟..ته؟.. وضحك لقد صار صاحب سيارة. وها هي أسيمة بنت البندقدار إلى جواره.. بنت البندقدار.. أهي أسيمة فعلاً، بنت البندقدار؟ وصرخ داخلياً: ولكن لم تضع الشك والريبة في كل شيء. إنَّ كل ما يمكن له أن يبرهن على أنها أسيمة موجود لديها.. وهمس الشاكُّ فيه.. ودلال؟ فأخرسه: فلم يبق إلا أن تشكك في أن المرسيدس التي تركبها ليست بالمرسيدس، وأن لونها الأسود ليس بالأسود، وأن زجاجها المدخَّن ليس بالمدخَّن، وأنَّ…. ولمح امرأة في ملاءة سوداء تقف قرب الإشارة، وذكرها.. دلال الأخرى. قالت: لوِّح  بيدك لأعرف أنك تطلب لقائي، وسأتدبر طريقة ما للقائك.

ووجد يده تخرج من النافذة تلقائياً وتلوِّح للمرأة في الملاءة.. انتبهت دلال فهمست: ياسين إلى من تلوِّح؟ وقالت أسيمة: لا أرى أحداً ممن يمكن لك أن تلوِّح له.. إلى من تلوِّح؟

ضحك في ارتباك: ألوِّح؟ لا.. لم أكن ألوِّح.. كنت أجفف يدي المتعرقة. ثم أضاف: أتعرفان.. يبدو أن سواقة المرسيدس تربكني. أتريان كم أتعرق.

كان الليل قد حط، فاقترحتا المضيَّ إلى أحد المقاصف، ولكنه أجَّل ذلك إلى الغد.. وقال: نرجع إلى البيت.

كان منظر المرأة في الملاءة.. ـ أهي دلال فعلاً ـ قد نغص عليه بهجته. أمام البيت، وحين كان يرصف السيارة رآه، وصدم.. كان ابن الخال شاكر يقف في انتظاره. كان واضحاً أنه ينتظره، فترك المرأتين عند السيارة، ومضى إليه، وقبل أن يصافحه قال: لقد قبضوا على أبي..

ـ أبوك.. متى.. لماذا؟

نظر ياسين إلى المرأتين تتقدمان مندهشتين من وقفته مع شاكر في الثياب المهملة، رأتا حيرته، رأتا عناقه له، رأتا الكآبة تحل عليه، فتقدمتا، وعند تقدمهما استفاق ياسين من السحر، ومن تلويات الذاكرة. قال للفتى تعال، وشدَّه من يده ليبتعد به، ولكن دلال كانت أكثر جرأة من أسيمة: أكانت تعرف أن لها عليه دالة المعشوقة أكثر من أسيمة، صرخت: إلى أين؟ التفت إليهما وأشاح بيده أنه سيعود، ولكن دلال تعجَّلت، فصارت إلى جواره: وتتركنا؟ ما الحكاية؟

وصلت أسيمة، ولم تعرف الفتى، فلم يسبق لها أن لقيته. قالت بصوت خامد: ما الحكاية. إلى أين تمضي؟ ألم نكن نعدُّ لاحتفال؟

قال: لقد قبضوا على خالي.. ثم وضَّح الأمر: وهذا ابن خالي.

ـ هاه.. شهقت أسيمة. وقالت دلال: اعتقلوه؟ ثم متجاهلة: من؟ ولماذا؟

ـ سأرى الأمر.

وقالت أسيمة: لم لا تتصل بأصدقائك، أصدقائنا وهم يعرفون عن الأمر أكثر منك.. تعال..

شدَّتاه من ذراعيه، فاستسلم، ولكن حين نظر إلى شاكر، ورأى الخيبة والانكسار والحزن على وجهه ذكر قدومه المندفع على الموتوسيكل يعلن: لقد سألوا عنك.. ذكر اللهفة، وذكر التعاطف. وذكر الموتوسيكل والخال يخاطر بكل شيء وهو ينقله إلى بستان الأمان.. تصلَّب وقال للمرأتين: سأعود بعد قليل. لا بد ان أتحدث إليه.. ثم قال: وعلى أي حال اتصلا بأصدقائنا يستعلمون عما يعرفون عن القبض عليه. رأتا تصميمه، فوافقتا، ومضتا، وما كاد يتجه إلى حيث الفتى ينتظر حتى رأى على الجانب الآخر دلال في الملاءة السوداء، وكانت تلوِّح، فلوَّح، فانحدرت عن الرصيف لتقطع الشارع في اتجاهه. قال ياسين للفتى: انتظر هاهنا. سأتحدث إلى صديق، ثم أنضم إليك، ولوَّح لها لتنتظره على الرصيف، فعادت. اتجه إليها، وما كاد ينزل عن الرصيف حتى سمع عواء سيارات الشرطة، أعوذ بالله. من أين جاءت كل هذه السيارات، من الأمام، ومن الخلف، من اليمين ومن الشمال. طوَّقوا الرصيفين والشارع، واندفعوا وقبل أن يلتفت ليرى من يشده إلى سيارة الشرطة حيث كان ابن الخال ينتظره معتقلاً رآهم يعتقلونـ.. ها؟ لا يدري، فقد كان هناك عدد كبير من النساء في الملاءات السود ـ من أين نبعن، وقد أسدلن حجبهن؟ ولكنهم اعتقلوا كل من في الشارع، الرجال، النساء، السائقين، و.. الباعة الجوالين.

رمق المرسيدس المتوقفة على الرصيف وسيارات الشرطة تعوي به وبالمعتقلين الآخرين، ولم ير أسيمة ودلال. كان يتمنى لو أنهما رأتا ما حلَّ به، فلعلهما تتصلان بالأصدقاء لإخراجه من هذا المأزق. ولكنَّ الكيس الأسود تدلى على رأسه، وسمع صراخ ابن الخال الفتى يحتجُّ، فعرف أنهم ألبسوه الكيس الأسود، فعضَّه الأسى: لقد أرسلوا بابن الخال يستنجدون به لإنقاذ الخال الذي يعرف ياسين جيداً ألا ذنب له إلا أنه أخفاه وحماه فيما مضى، وها هو لم يكتف بأنه لم يستطع  إنقاذه، بل تسبب باعتقال الابن أيضاً، ثم دهمه السؤال الجارح: ودلال؟.. لم لوَّح لها لِمَ؟ ألم يفكر ولو للحظة أنه مراقب؟ ويمكن لمثله ألا يكون مراقباً؟ تدحرجت السيارة، وتدحرجت، وهو لا يعرف إن كان قد نام، أم أنه قد أغمي عليه.

توقفت السيارة بعنف. وجاء من جرَّه من ذراعه بقسوة، فمشى كالطفل مقوداً بيد الراشد ـ الحارس. كان معصوباً مكبَّلاً، عاجزاً عن أي فعل إلا أن يستجيب لأوامر الراشد: ارفع قدمك. درج.. انزل.. إلى اليمين.. توقف.

عرف أنه دخل إلى غرفة كبيرة، فقد كانت همسات كثيرة تتسرب إليه، عرف أنهم كثيرون، ولكن.. لم لا يسمع حديثهم؟

وقف مرتبكأً، حائراً.. والسؤال يلح: ما معنى هذا كله. ما معناه. أنا ياسين المدلل، مؤلف سيرة مولانا عنقاء الزمان هه.. لا بد أنها غلطة. سيدركون غلطهم سريعاً، وسيأتي كبيرهم يعتذر إلي.. ولكن.. دلال.. هل أستطيع التوسط للإفراج عنها، وخالك؟ وابن الخال؟ أعوذ بالله. كم من الناس عليك أن تتوسط للإفراج عنهم وأنت.. المكبل المعصوب.

سمع دبيباً قوياً يقترب منه، فتحفز: ماذا لو كانوا لا يعرفونك، فسلكوا معك كما يسلكون مع العامة، وضربوك؟ لا.. عليك أن تعرِّف بنفسك ولكن.. لمن؟ الجند العاديون؟ ولكن كيف يعرفونك، ولماذا؟ لست مطرباً، ولا ممثلاً شعبياً؟ وصرخ: ولكن يجب أن تعرِّف بنفسك قبل أن تمتد يد إليك.

سمع صوتاً قريباً منه يقول: فكوا قيوده.. وسمع صليل القيد الحديدي ينحلُّ عن رسغيه، ثم سمع الصوت نفسه يقول: الكيس! ورفع  الكيس الأسود عن وجهه، فصدمه الضوء الحاد، فأغمض عينيه وقد أوجعه الضوء. سمع الصوت يقول في حياد وعيناه مغمضتان: عطشان؟ فهز رأسه بسرعة، وما كاد حتى أحس يداً تضع في يده كأس ماء مثلج، فرفعه إلى فمه دون أن يفتح عينيه. كان الماء البارد سعادة عضوية محضة. سعادة تتسرب من الفم إلى الحنجرة، فالمري، فالمعدة، أعوذ بالله. كم مضى عليه في السيارة تتقلقل به حتى كان على هذا العطش.. ساعة؟ ساعتان؟ خمس ساعات.. سبعة؟.. ضيّق عينيه يخاتل الضوء المهاجم. كان ضوءاً مبهراً، ضوءاً جارحاً، ولكنه أكره نفسه، وتابع الفتح البطيء. إنه ضوء النهار. أهذا ممكن؟ لقد هاجموه واعتقلوه أول الليل، فكيف يكون الوقت الآن النهار؟ أتراهم سروا به الليل كله؟ أخذ الحارس الكأس الفارغ من يده، فاستطاع أخيراً أن يرى محدَّثه. كان ضابطاً صغيراً، ولكن الصرامة المرسومة على وجهه كانت تزيد في عمره. قال ياسين يحاول التعريف بنفسه: ياسين الأرفعي. ولكن الضابط انصرف عنه إلى آخرين عرف من بينهم ابن الخال شاكر المسكين. كان دامي الأنف.. أتراهم ضربوه؟ فتَّش بين الواقفين عن آخر يعرفه. الخال؟ ولكنه لم يكن بينهم.. وتمتم لنفسه: الخال في مجموعة أخرى.. هؤلاء هم القطفة الأخيرة. وفكر: دلال.. أتراهم اعتقلوها؟ وكأن الضابط عرف ما يدور في رأسه، فأشار إليه أن يتبعه، فتبعه.

قال ياسين: اسمع.. أنا لا علاقة لي بهؤلاء المعتقلين. أنتم ترتكبون خطأ. أنا ياسين الأرفعي. أنا مؤرخ السلطان وكاتب سيرة عنقاء الزمان.

ولكن الضابط الشاب استمر في تقدمه، ووجد نفسه مضطراً إلى اللحاق به. لم يستطع الصمت، فأكمل: ثم هذا الفتى، لم يفعل شيئاً. كان قادماً لزيارتي. فلم؟

التفت الضابط الشاب إليه في صرامة، ففهم أن عليه أن يصمت.. فصمت. كانا قد اجتازا القاعة الكبيرة بكل أولئك المعتقلين يحملون أكياسهم السود في أيديهم في انتظار وضعها حين يؤمرون بذلك. فتح الضابط باباً عبره، ثم توقف يدعوه للحاق به، فلحق به وهو يرمق ابن الخال شاكر في اعتذار. ولكنه ما كاد يعبر الباب حتى سمعهن. كن يشهقن ويبكين في صمت. كن عشرات النساء في الملاءات السود، ووجد نفسه يتفحصهن في حجبهن: ترى من هي دلال بينهن، وهل ستتعرف عليه. وصرخ الضابط: ارفعن المزابل السود عن رؤوسكن وشتمهن شتيمة قبيحة، فالتفت ياسين إليه يكاد يحتج، فمن أعطاه هذا الحق؟ من أعطاه حق شتيمتهن؟

رفع  البعض ملاءاتهن، وتململ البعض، ولكن زئير الضابط الشتّام جعلهن يرفعن حجبهن. تأمل ياسين المرأة الأقرب إليه منهن ورآها، فشهق جرح في القلب حزين، لم تكن دلال بل كانت…. ليلى. نظر إليها في الملاءة السوداء. من ألبسها هذه الملاءة، وما لها عادة بلبسها،  ومن أتى بها إلى المدينة في وضح النهار لتعتقل، وما لها عادة بدخول المدينة إلا ليلاً، نظر إليها، وكانت تحدِّق فيه في رجاء، في أمل، في عبادة، أتراها تنتظر الإنقاذ على يده أيضاً؟!!

تلفت ياسين من حوله يبحث عن دلال، ولكن ليلى في الملاءة السوداء شدَّته إليها. متى لبست الملاءة السوداء، كانت نظرة رجاء وشوق وحنين مذيبة تنسكب منها. كان نداء طويل خارج من عمق القلب يصرخ ياسين، ولكنها لسبب ما كانت تعرف أنها لا ينبغي أن تبادر بالتقرب منه، فالضابط والشرطيان والكيس الأسود ما يزال في يده يفسر كل شيء. بحث عن دلال.. أين هي؟ أين من كان السبب في كل هذه الفوضى والاعتقال؟ الآن فقط عرف أنهم ما كانوا يريدون سواها، الآن فقط أدرك أنهم جعلوه الطعم للقبض عليها. الآن فقط عرف أنهم فهموا التلويح أداة تعارف بينهما وكانوا ينتظرون تلويحته و.. كان ساذجاً، فلوَّح.. تنهد: يجب ألا يتعرف إليها. يجب ألا يدلَّهم عليها.. لا بد أنَّ لها شأناً كبيراً حتى طاردوها بهذه القوة.. وبآلية عجيبة كان مخه يعمل. إنها الوحيدة بين كل من يعرف التي تستطيع أن تعلن أنها مختلفة عن شبيهتها، وأنها الأصل وأن دلال النضرة التي طرحوها بين يديه دلال المزيفة وليست الأصلية، وماذا عن ياسين الآخر؟ لقد اختفى، ولا دليل لديك على وجوده، وأسيمة؟ أنت تعرف أن كل ملمح خارجي فيها يقول إنها أسيمة، ولكنك في الآن نفسه تعرف أنها ليست الأصلية. ليست الطائشة، ليست الفنانة، الكاتبة، الممثلة، الراقصة، فتلك كانت تفجُّر مواهب غير مكتملة، وأسيمة المعايشة، أسيمة الزوجة الراضية، المرضية، الـ.. سكرتيرة الملاحقة لإنجاز المطلوب منه في كتابة سيرة مولانا.

لقد اختفى الجيل كله، ولم يبق من دليل عليهم إلا هو ياسين، ودلال. أما ياسين غير المكلف بكتابة سيرة مولانا عنقاء الزمان، ياسين الشبيه اختفى، ولا يملك دليلاً على وجوده، وأما دلال؟ إنها الوحيدة التي استطاع رؤيتها ورؤية الشبيهة النضرة في وقت واحد. لذلك عرف لماذا يريدونها بهذه القوة، فهم يستطيعون إنكار وجود كل من يدعيهم، ولكنهم لا يستطيعون إنكار وجود دلالين.

لكزه الضابط بنعومة، فالتفت إليه، فأشار بذقنه يدعوه للسير إلى الأمام، فسار، وكنَّ قد رفعن حجبهن جميعاً، وكان بعضهن يعمد إلى رفع تنورة الملاءة تستر شعرها خجلاً، ولكن الحارسات كنَّ يسارعن إلى شدها إلى الأسفل. كان الضابط يمشي أمامه، والجنديان من ورائه. وكأنه في موكب تحرسه جوقة شرف، ولكن هذا الموكب كان يبتذله الكيس الأسود المتدلي من يده اليسرى.

كان بعضهن ينخدع بمشيته الواثقة، فينظرن إليه في أمل: ساعدنا أرجوك. والله لم أرتكب ذنباً، وكان بعضهن ينظر في تحد: افعلوا ما تشاؤون، فلن تروا عيني تدمع، وكان بعضهن تغضي خجلاً تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها، فلا يرى هذا الغريب عريها. وبآلية للذاكرة عجيبة رأى فيهن الجَدة، ورأى حرصها على ستر شعرها.. ورآها والخجل يذعرها حتى أمام حفيدها حين انكشف شعرها مختلط الملح بالفلفل، و..

كانت غارقة في مستنقع الموت، وكان يعرف ذلك، وكانت تعرف ذلك وكان كل المحيطين بها يعرف ذلك. كانت تُضرب عن تعاطي الأدوية، فلا فائدة منها إلا أنها تطيل عمراً لم يعد من فائدة في إطالته، كانت وقد انتفخت بالاستسقاء، وتفسخت بالأكزيما، وتساقط أكثر شعرها بتأثير الأدوية الكثيرة التي كانت تجبر على تعاطيها، فتمتنع عن تعاطيها، وفجأة يهاجمها خوف ما كانت ولا كانوا يعرفونه فيها، فتهجم على الأدوية تبتلعها في شهوة ونهم ومبالغة وكأنها تعتذر منها أن تشككت بفاعليتها وقدرتها على إنجائها من مأزقها الذي دفعت إليه. كانت تصلي جالسة، وتصلي مستلقية، وتتوضأ بأيدي ابنتها وابنها، وإن كان البرد تيممت فقط. كانت تصلي كثيراً، وكان يراقبها أحياناً يتظاهر بالقراءة، ويراقبها.. يالقسوة الكاتب. كان يريد تسجيل تلك اللحظة، كان يقول: سيأتي وقت أحتاج فيه إلى تلك اللحظة أكتبها.. يجب أن أسجلها، أسجل كل تفصيل، وكل تردد، وكل خوف يمر بها.

اعتادت على وجوده إلى جانبها في آخر الغرفة، واعتادت عدم مدِّه يد المساعدة لها في وضوء أو صلاة، أو تناول دواء. قالت: طفل يخاف من هذا الحائم من حولي.. ولم تكن تذكر اسمه، ولكن الجميع كانوا يعرفون من تعني، ولكن حضور ياسين الدائم كان يؤنسها.. ترى هل خطر ببالها للحظة أن الولد جاسوس يراقبها ليكتب تقريره للحياة عن الموت.

كان الجميع قد يئسوا منه الولد التقي، فقالوا: ستصفعه الأيام ويتوب، وكانوا جميعاً يرددون المثل الذي جعل الفول الطبق الأشد تنفيراً في حياته. كانوا يقولون: سيأكل الفول ويرجع للأصول.. وأصر على عدم أكل الفول.

كان يراقبها تغني أغاني ما سمعها من قبل، وما سمعها تغني أصلاً.. أكانت أغاني الطفولة تعيد الطفو بعد إغراق طويل. وكانت أحياناً تنشد أناشيد دينية سمعها كثيراً. أناشيد في مدح الرسول وآل البيت، أناشيد تخاطب الإله خطاباً أشبه بخطاب المعشوقين من البشر، وحين كانت تطلق أناشيدها هذه، كان يحس شفاهه تستجيب في آلية تردد ما كانت الجدة تقول، وكان يراقب نفسه، وكان فيه حتى في تلك المرحلة المبكرة تمرد كاف ليسخر من سقوطه هذا.

لكن المشهد الجميل كان حين تدخل الأم حاملة الدواء أو الحساء، فلم يكن للجدة من قوة على أكل شيء أقسى من الحساء، فكانت تشارك الجدة في أناشيدها العشقية، وفي ذلك الحين بدأ السؤال يلح: لماذا كانت الأرامل الأكثر تديناً بين النساء.

كن ينشدن كما عرف حين تقدم به العمر، البردة، وكن يغنين لابن الفارض، وكان العالم غريباً تموُّت وغناء. نزع وأناشيد.. لمن كانتا تغنيان؟ وكيف ملك القسوة في القلب فلم يشاركهما ذلك الغناء؟

كانوا جميعاً قد يئسوا من ضمه إليهم، أو إليهن، وكان كل انضمام إلى صلاة يعني شجاراً وبكاء، ودعوات بالموت، وتهديداً بالغضب، أو اللعن الوالدي، وكان يسايرهن حيناً ويتهرب كثيراً. أكان قلبه مصمتاً إلى هذا الحد.

استمر النزع لأسابيع كانت الجدة فيها تذوب، تنحل، وتتشبح، وكانت قد ضؤلت حتى أن الطبيب حين حاول زرقها بإبرة اضطر إلى شكها خمس مرات ليجد الوريد، وكان ياسين الجاسوس على الموت يراقب في برود، ولكن يبدو أنه لم يكن على كل هذا البرود المدعى، هو يقول إنه لم يشعر بتعاطف، ولم يحسَّ بألم، ولكن سيسأل نفسه فيما بعد، فلم أغمي عليه وسقط، فتركوا المريضة، وحملوه إلى الخارج؟ لم أغمي عليه وهو يرى الجلد الممطوط واليد النحيلة تتقلب بين أصابع الطبيب تبحث عن وريد للزرق فلا تجد.

كان النزع قد طال والغناء يخفت والأناشيد تتحول لتصبح سماعيات ينشدها الأم والخال، وتتمتم بشفتيها الزرقاوين تتابع اللحن والكلمات، وكانوا جميعاً واثقين أنها تعرف إن أخطأوا، أو تخطَّوا بيتاً أو شطراً، فقد كانت ترفع كفها المتعبة أو تزمُّ شفاهها المزرقة.

فجأة أخذت بالتحسن، فصارت تأكل، وصارت تتشهى، وصارت تطلب الطعام، وأيقن الجميع أن الله قد استجاب لدعواتهم، وأنه ردها إليهم بعد أن وضعت قدمها على الدرجة الأولى للسلم الصاعد إلى السماء. أخذت تتحسن وأخذ الازرقاق يختفي عن الشفتين، وبدأت تهمس لهم أسرارها الخاصة، فاستيقظت الطفلة فيها تتحدث عن الأسرار الأولى للجسد، وخجلت الأم، فطردتهما هو والخال عن سماع أشياء منفرة كهذه.

وسيكبر، ويكبر الحزن معه أن لم يستطع البقاء إلى جانبها يتسمع ويتجسس على هذه المرأة القوية المتكبرة وأسرارها الصغيرة التي كان الجميع يعتقدون أنها قد تخطت هموم الجسد منذ وفاة الجد. كان قد سمعها قبل الطرد تتحدث عن متعة الخوف المنتظر منها ومن أمها للطمث الأول، وكان عليه أن يسأل نساء كثيرات عرفهن فيما بعد عن متعة الخوف والفرح في الطمث الأول، ولكن واحدة منهن لم تعطه الجواب الذي كان ينتظر سماعه. كان الخجل من الآخر، من الخصم، من المنافس، من الرجل حاجزاً دون الانفتاح أمام سر كهذا.

في مجلسه في الدهليز مصراً على التجسس تاركاً الخال شاكراً طرده من عذاب كهذا يهرب من البيت سمع كلمات متقطعة عن الرجل العذاب، الرجل الألم، الرجل الضعيف بعد العودة من الحرب، الذليل لا يستطيع اعتلاء امرأة، وتساءل: أتراها عرفت رجلاً آخر غير الجد.

لم يطل التحسن، ولاحظ أن الأم كانت سعيدة بأن التحسن لم يطل، فالتحسن لم يصحب معه إلا الانكشافات والفضائح والطفولة الثانية، أو العري من الخجل قبل الموت، لم يطل التحسن إذ هجم الألم الفظيع، الألم القاسي.. الألم الصراخ لا يفيد معه المهدئات ولا المسكنات، وفي ذلك الوقت اتجهت الجدة إلى الخال الحبيب الدائم والصديق المقرب، وطلبت إليه إن كان يحبها أن يقتلها، فلم تعد تحتمل هذا الألم، والغريب أن الخال نفسه حدثه عن جوابه لها حين قبَّلت يده طالبة قتلها. قال: أنا على استعداد لإرضائك، على استعداد لإراحتك من الألم إن كان هذا ما تطلبين، ولكن.. أنت تعرفين.. لو فعلتها فسيكون مكاني جهنم خالداً فيها.. أتريدين لي أنا وحيدك المحب نهاية كهذه. وسيحدثه الخال أنها عندئذ ارعوت وتماسكت، وضمَّته إليها مقبلة، ولكن موجة ألم أشد وجعاً هاجمتها ثانية، فصرخت تخاطب الله والرسول والأنبياء والأولياء، تطلب الموت، ولا موت.

في تلك اللحظة دخل ياسين الغرفة.

نظرت إليه.. تأملته، ثم دعته إليها. اقترب.. طلبت إليه الانحناء ليسمعها، فانحنى. قالت: حبيبي. أريد منك معروفاً، فقال في أريحية: اطلبي.

قالت: أنت ماض إلى جهنم. ماض.. لا خيار لك في هذا فضحك..

قالت: لا تضحك. أنا أتمزق. الألم يعذبني. اقتلني إكراماً لله.

* * *

كان يستعرضهن وهو يعرف أنه سيجحد دلال لو رآها كما ستجحده، وكان يعرف أنه لا يجوز أن يقدِّمها لهم، فهي دليله الأوحد على أن عالمه السابق كان حقيقياً، وأنه ليس عالماً روائياً اصطنعه لإرضاء نزعة فنية فيه. لحق بالضابط يستعرضهن. كنَّ كثيرات فيهن الخارقة الصبا والجمال والخجل، وفيهن العجوز والنَصَف ولكن.. أعوذ بالله.. دلال لم تكن فيهن، لم تكن فيهن. فلم اعتقلوا كل هؤلاء النساء. إذن. إنها ليست فيهن، فمن تلك التي لوَّحت له، ومن تلك التي لوَّح لها، ومن تلك التي أرادت العبور إليه، ومن تلك التي أشار إليها أن تنتظر، فسيعبر الطريق إليها حين انبثقت سيارات الشرطة من حيث لا يدري أحد.

كان قد وصل إلى آخر الصف الطويل من النساء و.. لا دلال. استدار. كان الأمر شخصياً. صار الآن شخصياً. يجب أن تكون بينهن. سيجحدها، ولكن عليه أن يلقاها أولاً. كان يثاقل الخطا في عودته يستعرضهن ثانية، يستعرض خجلهن وتحديهن، وانكسارهن، وللحظة تساءل: هل يجرؤ على النظر في عيني ليلى حين يلقاها، وهي تطلب النجدة، وترجوا العون؟ هل يجرؤ. تسارعت خطاه يريد إلقاء نظرة عليها قبل أن يخرجوه من القاعة، فقد عرف أن دوره انتهى، وأنهم لم يعودوا في حاجة إليه. فلم يتعرف إلى دلال، ولم يستطع الدلالة عليها. اقترب من الموقع الذي رأى فيه ليلى، وأسدل على وجهه قناع البراءة واللامبالاة ولكن.. اقترب منها وتنحنح. فالتفتت المرأة في الملاءة السوداء إليه، و.. لم تكن ليلى.. غير معقول.. رآها.. منذ قليل، في التفقد الأول، فكيف اختفت.. سارع من خطواته يتفحص الباقيات، ولم تكن بينهن. التفت غير مكترث للضابط والحارسين، وعاد يتفقد النساء في الملاءات السود، ولكنها اختفت. تفحصهن جيداً. لم تكن فيهن دلال، ولا ليلى.

وأحسَّ يد الضابط الصغير تربت على ذراعه تطلب إليه اللحاق به إلى خارج القاعة، فتبعه كسيراً. حائراً. غير فاهم، أتراهم قبضوا عليها. كيف. كيف فعلوا ذلك، وهو من حاول التصامد، وهي؟ إنها لم تنطق بكلمة، بأنَّةٍ. فكيف عرفوها. أتراهم قبضوا عليها. أم.. أنها لم تكن موجودة أصلاً، وما كانت رؤيتها إلا وهماً.

عند الباب التفت مفاجئاً الضابط والحارسين بحركته غير المتوقعة يبحث عنها للمرة الأخيرة. تمالك الضابط نفسه فجأة، وأمره بوضع الكيس الأسود، وحين تردد قليلاً انقض أحد الحارسين، فألبسه الكيس الأسود وشدَّ رباطه حول رقبته، و.. اسوَّد العالم. 

(28)

كان فخاً حقيقياً، وكان عليه وهو يعرف الناس الذين يتعامل معهم أن يعرف أنه الفخ، ولكنه ببساطة وقع فيه. كان المكتب فخماً.. الأرض المفروشة بالسجاد العجمي. حتى في الصيف؟ ولكنَّ المكيف أحال المكتب من الصيف إلى الربيع، وبلمحة سريعة إلى المكتب عرف أنه من الخشب الماهوغنا.. هه.. إنهم يدللون أنفسهم، رمق الهواتف المنشورة فوقه واللوحات الزيتية على الجدران، تأملها بسرعة. إنها لأصدقائه.. إنه يعرفها، ويعرفهم، فلطالما كتب عنها، وعنهم.. وتنهَّد ركن في القلب: ما أخبارهم.. لِمَ لم يلتقِ بهم منذ عودته من المنفى. قال له الضابط الشاب وقد استحال وجهه إلى بشاشة واحترام وألفة. تفضل يا سيدي. إنك في مكتبك. ولم ينتظر جوابه، بل أدى التحية العسكرية، وانصرف.. مكتبي؟ مكتبي.. آه.. لقد عرفوا أخيراً.. اكتشفوا خطأهم.. هناك من اتصل بهم، وأخبرهم أنه ياسين الأرفعي كاتب سيرة مولانا تنين الزمان، وأن مثله لا يعامل بهذه الطريقة. أراد أن يسأله، أن يستفسر منه، أن يطلب إرسال شيء من القهوة، المياه الباردة.. آه.. الطعام.. هو لم يأكل من ذ.. منذ. أعوذ بالله منذ الغداء مع علاء.. ولكنَّ الباب انغلق دون صوت.. أسرع إلى الباب يريد اللحاق به، ولكن الباب كان موصداً بإحكام من الخارج.. ما الأمر.. (إنه مكتبك يا سيدي) ثم.. يتحول المكتب إلى غرفة سجن!!! ما الأمر. صرخ في غضب.

عاد إلى المكتب، ورأى أوراقاً وأقلاماً مرصوفة فوقه:

ـ هاه.. إنهم يريدونك أن تعمل.. ها هي الأوراق والأقلام.. أنت مكلف بمهمة، ولكنك لا تقوم بها، وها أنت تتلهى بملاحقة دلال.. و.. دلال.. و.. ليلى.. ليلى؟.. ليلى؟

تنهد وهو يجلس إلى كرسي المكتب.. ليلى.. قالت: أريدك.. خالصاً لي.. أرجوك.. كن لي.. خالصاً، كما أنا خالصة لك.. دع التفكير فيهم.. لن يجلب التفكير فيهم إلا التنغص والإحساس بالندم. واضطر إلى الاعتراف: أعطيني فرصة أخرى أراهم في مباذلهم وأخلص منهم لأخلص لكِ. قالت تتنهد وهي تعرف ألا خيار كبيراً أمامها: امض.. اختبر نفسك.. وحين تعود سأعرف أنك الخالص.. و.. مع الغروب مضى معهم، ومع العتمة.. مضى إلى.. البيت.

* * *

انفتح الباب دون صرير ولكنَّ هشيم صوت، أو اختلاط ضوء ما جعله يلتفت ليرى الضابط الشاب نفسه يدفع عربة صغيرة، وقد جللت بأطباق اللحوم والسلطات، و.. زجاجة وسكي. حاول ياسين أن يتثاقل، ويتجاهل، ولكن رائحة الطعام النفاذة بعد جوع اكتشف حدته الآن جعله يُخرِس احتجاجه وتثاقله. اقتربت العربة من المكتب. أزاح الضابط بعض الهواتف جانباً، ثم دفع الصينية حاملة الطعام عن العربة، فانزلقت إلى سطح المكتب.

ـ تفضل.

قالها الضابط الصغير، ثم انسحب كشبح، وانغلق الباب من خلفه كمزحة.

كان فخاً حقيقياً، ولكن كيف له أن يدرك أنه الفخ وهو من كان يعتقد أن كل ما جرى ويجري ليس إلا خطأ بيروقراطياً من أناس لم يعرفوا أنه ياسين الأرفعي كاتب سيرة مولانا السلطان، وها هم يعيدون إليه اعتباره: (إنك في مكتبك يا سيدي) آه.. كم حنَّ، واشتاق، وتشهّى، وانتظر أن يسمع مثل هذه الكلمات. قال له علاء: يجب أن تريهم كيف يكون المدير العام.

تأمل المكتب الفخم، إنه أكثر فخامة من مكتب علاء: (إنك في مكتبك يا سيدي).  جرَّب بعض الهواتف. فرنَّ واحد، وطقطق آخر، وسارع إلى وضع السماعة في مكانها: (إنك في مكتبك يا سيدي).

كانت الأطباق شهية، وكان الجوع قوياً، وكانت روائح المشهيات نفاذة، فانقض بشهية من لم يذق طعاماً منذ الأمس، أكل، وأكل، ولكنه لم يجهز على أكثر من ربع الطعام الفائض. رمقه في أسف، و.. لمح زجاجة الوسكي.. كانت تنتصب في إغراء.. نظر من حوله في ريبة: أهناك من يراقبه.. اطمأن.. لا رقيب. صبَّ لنفسه كأساً مضاعفة.. أضاف إليها الثلج.. جرع جرعة كبيرة، وشعر بالدبيب يغزوه مباشرة. فاسترخى ماداً ساقيه على طولهما. لمح علبة السيكار القريبة، ولم يكن من عادته تدخين السيكار إلا أنَّ الغرفة المكيفة والمقعد الوثير بعد يوم من سفر في سيارة مزعجة وكيس أسود يطبق على الروح، وبعد الطعام الشهي، ودبيب الوسكي جعله يتناول سيكاراً من العلبة الخشبية. أشعله وأمعن في استرخائه.. رشف رشفة طويلة من الوسكي، وأدركته سعادة أن العالم لذيذ ولا أهمية لشيء.. لا أهمية لوجود السجون والحراس والسجانين والكيس الأسود. العالم لذيذ.. تمتم لنفسه في متعة: العالم لذيذ، ورأى أن يلحِّن الجملة: العالم لذيذ، ثم تذكر مثيلتها: الحياة حلوة بس نفهمها. آه كم هو في حاجة إلى فهمها. ما له ولدلال، وللحمقاء ليلى.. عدوة القُبلان، وللخال الأبله رافض التعامل مع الحكومة بمالها الآثم من مهور العواهر ومكوس المكاسين. رشف رشفة أخرى، وشعر بالخفة تغزوه، خفة لم يعرفها منذ تلك الليلة البهيجة التي كان ينتظر فيها مع أصدقائه وصول القرار بتعيينه مديراً للدعاية والأنباء. إيه.. تلك الليلة التي تلاها كل سوء الحظ الذي عرفه منذئذ.

شهق نفساً من السيكار الغليظ، فاختلطت المتع معاً، الطعام الرخي، والشراب المدبُّ، والدخان المُرخي. وأعاد تمتمة الأغنية المعروفة: العالم لذيذ.. بس نفهمه. وأعجبه التحوير.. نعم.. العالم لذيذ إن فهمنا متعته، وفرحه، وبهجته، وسعادته. رشف رشفة كبيرة، ثم التقط قطعة لحم. يا إلهي.. ما أطرى هذا اللحم. كيف يجعلونه على هذه الطراوة.. كيف؟ قلَّب في الأطباق أمامه، ولم ينتبه إلى الباب يفتح، ولكن الحركة التي سببها الجسم الداخل في الضوء والظل لفتت نظره لأنه رفع رأسه ورآها.. كانت ليلى في ثياب دلال، وزينة دلال، وسفور دلال، و…. شهق: ليلى.

نظرت إليه من علٍ، نظرت في حزن لا ينسجم أبداً مع الثياب والزينة والبهرجة التي تضعها…. لم تقل شيئاً، ولكن النظرات كانت تقول كل شيء. أنت منهم إذن؟ وفهم ما معنى منهم. أنت من القتلة إذن. أنت من القُبلان، أنت من أبناء الدم؟ أنت من الذين سيجهزون علينا الإجهاز الأخير.

لسعه السيكار بين أصابعه، فطرحه على الصينية، وانتصب.. أراد أن يعتذر إليها، أن يشرح: أنا لست منهم.. صدقيني، ولكنه على عادته القديمة نظر إلى نفسه بعينها، فرآه كما تراه الآن وراء مكتبه الفخم، وأمامه اللحوم والسلطات والوسكي والسيكار الفخم. أراد أن يقول إن كل هذا مستعار.. لقد دفعوه إليه وهذا ليس مكانه، أراد أن يقول إنه معتقل مثلها، ولكنَّ نظرة الفجيعة والجرح والألم العميق في عينيها أخرسه، فمضى إليها. قال: لا تصدقي ما ترين.

ولكنها لم تجب، بل اتجهت إلى الستارة البيضاء فمسحت الألوان والأصباغ والأكحال عن وجهها، نزعت الثوب الفاضح عن جسدها غير مبالية بنظرات اللوم في عينيه، ولكنها قبل أن تكمل إزالة تنكرها الذي فرضوه عليها كما فهم منكسراً انفتح الباب، ودخل جنديان خشنان، فجرَّاها بقسوة. لم تصرخ، ولم تستنجد بزوجها، حبيبها الذي غذته بدمها كما كانت تعلن، لم تستنجد بمن عمَّدته بالبياض بعد غرقه بالسواد لتنقذه لها. بل رشقته بنظرة لوم مفجوعة، ومضت معهما في صمت.

لحق بها، ولكن الباب انقفل، تماماً كما توقع، وعاد إلى (إنه مكتبك يا سيدي).

(29)

نزل من السيارة مشفوعاً بابتسامة محايدة دون كلمة وداع. وما إن استقرت قدماه على الأرض حتى انطلقت السيارة لتختفي وكأنها لم تكن. تنهَّد، واتجه إلى البيت حائراً، وكانت المفاجأة أنه رآهما عند أول الدرج تماماً. أعوذ بالله.. أسيمة ودلال.. كانتا تتجهان إلى الدرج الهابط إلى البيت.. نظر إلى المرسيدس، ما تزال في موقعها سوداء لماعة منادية متطلبة كأنثى تضج بالإغراء. ما الذي يجري. تأمل الشارع.. الناس كما عهدهم دائماً في رواحهم وغدوهم يحملون أكياس خضرهم وفواكههم، يحملون مصنفات ودوسيهات شكاواهم وقضاياهم ومنازعاتهم، يحملون العبوس على وجوههم كهولاً مهمومين،  مفزوعين، منطوين على أنفسهم.

نظر إلى الرصيف ليرى ابن الخال. كان واقفاً في مكانه، فاتجه إليه يستفهم منه، ولكن الشاب انطلق مبتعداً وهو يشيح بيده، فصرخ: شاكر، شاكر، التفت الفتى إليه، ثم لوَّح  في سأم، وانطلق مبتعداً. حاول أن يجري ليستوقفه ويستفهمه، ولكن الفتى اختفى في الزحام. توقف حائراً، ما الذي يجري؟ كأن الزمن لم يتحرك.. كأن سيارات الشرطة لم تحاصر المكان وتقبض على الجميع، وكأنه لم يُحمل إلى التحقيق، ولم ير ليلى، ولم ترمقه بتلك النظرة المهينة الجارحة المدينة.

أهذا ممكن؟.. أكلُّ ما عاش في اليومين السابقين وهم؟ نظر إلى الجانب الآخر من الشارع مرعوباً، حذراً، متخوفاً من رؤية دلال على الجانب الآخر تلوِّح، و.. لكنها.. تنهد.. لم تكن هناك، ولم تلوِّح، ولم يلوِّح.. والسيارات تنساب، والزمامير تختلط، والغروب يحطُّ، فاتجه  منكسراً، حائراً، مشوشاً إليهما في البيت.

يقولون إن الفن يقلد الواقع، ولكن أيمكن للواقع أن يقلد الفن.. وتنهد.. ما يراه ويعيشه أشبه بفيلم سينمائي. إنه أشبه بما يسمّونه بلغة السينما بالستوب كادر، وقد عاش ليوم أو يومين في ذلك الفراغ المسمى بالستوب كادر. أهذا ممكن، أن ينزلق عبر الزمن بهذه الطريقة ليعيش حياة كاملة، ثم يكتشف أن الحياة خارجه لم تكن تسير على الوتيرة نفسها،  بل كانت متوقفة، متوقفة تماماً. فهذا ابن الخال الفتى شاكر ما يزال في موقفه. وقد سئم من قدرته على المساعدة، فمضى، وها هي دلال التي سئمت من تلويحته التي انتظرتها لتعبر إليه اختفت. وها هما المرأتان اللتان أحبَّ تنزلان الدرج وكأن الزمن لم يمض، ولم يتحرك.. تنهد.. وليلى؟ و(إنه مكتبك يا سيدي)؟.. والفخ الذي وضعوه فيه ليتعرف إلى ليلى.. أكان كل ذلك هلوسة، أم كان الفراغ المنزلق بين زمنين.

وصل إلى الدرج، نزل مهموماً، سمع شوبان ينزلق من الباب المفتوح. لم كان الباب مفتوحاً؟ أكانتا تنتظرانه؟ بالطبع.. أفلم يستأذن منهما للحظات حتى يكلم شاكر، ولكن.. تقدم.. المطرقة النحاسية تغريه بتحسسها والطرق بها على الباب، ولكنه أنزلها دون أن يقرع الباب المفتوح. شمَّ رائحة العشاء في الصالة، أهما تستعدان لاحتفال ما.. أهناك مدعوون آخرون؟ صحيح.. دلال قالت: سنقيم احتفالاً. ولكن.. وليلى؟ والغداء الفاخر؟ والوسكي؟ والسيكار؟ رفع إصبعيه فجأة إلى أنفه لتصفعه رائحة السيكار القوية. صدم. إذن، فلم يكن الأمر هلوسة، ولكن.. لقد كانتا واقفتين حيث تركهما. والمرسيدس في موقعها بالضبط، وشاكر.. المنتظر حتى السأم في موقفه. ما الحكاية؟ شمَّ إصبعيه ثانية.. رائحة السيكار النفاذة لا تخطئ، وانبثقت دلال في مدخل الباب بهجة وصبا ومتعة ونضارة.

قالت: هيا.. وشدَّته من ذراعه. ما الذي أغراها بإطفاء البيك أب. وتشغيل المسجلة ليسمع فريد الأطرش يغني الحياة حلوة، بس نفهمها.. الحياة غنوة.

ـ بس.. صرخ.

وكانت دلال تتمايل مع أنغام موسيقى الحياة حلوة، لم تعبأ بصراخه، فقد كانت تعرف أن لها عليه دالة، وأنه لن يغضب منها غضباً حقيقياً، بس صرخ في ضعف: كيف عرفت أنه كان يغني لنفسه هذه الأغنية قبل ساعات: بس.. همس، ولكنها شدَّته من يده ليشاركها الرقص

ـ لقد وعدتنا باحتفال.. هيا من شان الله. دعنا نحتفل. أنت اليوم تقوم بخطوة كبيرة في حياتك.. هيا.

رفع إصبعيه ليشمهما، ولكنها منعته، وهتفت: أسيمة.. ياسين يريد أن يغسل يديه.. تعال. وشدته إلى الحمام. حاول أن يقاوم:

ـ لا.. لا.. لا أريد غسل يدي.

ـ لا.. بل ستغسلهما. معك حق.. السواقة توسخ اليدين.

أراد أن يمتنع. كان جزء من عقله  يعرف أن رائحة السيكار في إصبعيه هي الدليل الأخير والوحيد على أن ما جرى بالأمس لم يكن هلوسة، سمعوا صوت الخطوات على الدرج، وصراخ علاء: هيه ياسين. هل بدأتم الاحتفال؟ لقد جئنا.

وانساق أمامها إلى الحمام حيث سكبت الماء على يديه، ووضعت الصابون في كفه ليغسلهما. كانت دافئة طرية مغرية، متطلبة، وكاد ينحني عليها يقبلها لولا أن ضجتهم أخجلته. كانت تغسل يديه. نظر إلى الماء ينسكب في المغسلة مع الصابون وعرف أن رائحة السيكار دليله الوحيد على ما جرى في اليوم السابق ينزلق إلى البالوعة مع الماء والصابون.

(30)

هدلت يمامة قريبة نبهته إلى أنه الصباح. فتح عينيه. كانتا مثقلتين بنوم لم يهنأ به، فعلى الرغم من أن السهرة طالت حتى ساعة الفجر، وأن الساهرين لم يمضوا إلى بيوتهم إلا بعد سماع الأذان، وعلى الرغم من نعاسه وتعبه، وتمنيه مضيهم إلا أنهم كان لهم مشاريعهم الاحتفالية الخاصة، فثرثروا حول كل شيء، حول التعديلات الوزارية المرتقية، حول التبادلات في مناصب المديرين العامين، حول صفقة السيارات الجديدة وعلى من ستوزع، وكان ممتاز غاضباً،  فعدد السيارات المستوردة لن يكون فيه حصة إلا للمديرين العامين الأقوياء، فهي لا تكاد تكفي الضباط الكبار، وبعض المديرين الأقوياء إلا بصعوبة.

حاول ياسين حرف الحديث إلى عملية الاعتقال الكبيرة التي كان أحد ضحاياها، ولكنهم قلبوا شفاههم في ملل، ولم يستجيبوا لتحريضه، بل صاح علاء ساخراً: أي اعتقالات. هذا جنون. لا اعتقالات في البلد. صدقني، وعاد الحديث إلى مجراه السابق حول أفضلية السيارات آلية التنقيل بين السرعات، والسيارات يدوية التنقيل، ثم إلى المكابح الآلية، وأكياس الحماية الهوائية. كانوا كنزاً من المعلومات، وأخذت دلال تتقرب منه بكرسيها، ثم همست: الجو حار. سأخرج إلى الحديقة. ولمست يده بخفة داعية. أعوذ بالله كم تملك النساء من آليات لإيصال الرسائل.

نظر إلى أسيمة في تأثم واعتذار إلا أنها كانت منصرفة عن الأمر كله في غير اكتراث. نظر إليها. كانت ما تزال تقف في المستطيل المعتم للحديقة مظللة بنور الصالون. التفتت في خفة، وكانت نظرة مشبعة بالدعوة، فخرج، والتفت إلى ملك، وإلى ثريا، وإلى.. ولكن واحدة منهن لم تكترث، وسيسأل نفسه: إن كنَّ جميعاً متواطئات على هذا، ولكنه ليبوسة في الرأس استرخى في مقعده، ولم يلحق بها. لم يكن التعفف ما منعه ولكنه الحس باللياقة. سيكون حديثهم بعد انصرافهم من بيته. سيصبح تسليتهم. بعد الكبرة جبة حمرا؟  نظر إليها في منامها. إنها أسيمة في كل تفصيل من تفاصيل الوجه والشعر والاسترخاء، بل التنفس الأقرب إلى الشخير الناعم، ولكن.. لا.. أسيمة كانت كتلة من نار وغيرة. كانت لا تستطيع تصور أن يخونها ولو في الحلم، كانت لا تحتمل نظرة، مجرد نظرة منه إلى امرأة أخرى، وكانت كثيراً ما تمسك بوجهه إذا لاحق امرأة بنظرة، فتعيده إلى الأمام متظاهرة بالمزاح، ولكنها كان يعرف ذلك كانت تعنيها. لم تكن تحتمل مجرد النظر إلى أخرى.. و.. كيف إذن تجاهلت دعوة دلال الصريحة للحاق بها إلى الحديقة الباحة و.. كيف سمحت لها بالنوم في بيتهم.

تنبه فجأة متوتراً.. تنبه بكامل توقد أعصابه.. إنها في البيت. عندهم. لم تستطع المغادرة، فقد شربت أكثر مما يجب،  وكان كل شيء يشي باستحالة مضيِّها إلى بيتها، فعرضت أسيمة عليها المبيت لديهم. تنهَّد مرعوباً. أعوذ بالله. إنها في البيت. في الصالون.. تهيَّج.. دلال الوعد المغري، المتشهي.. المتطلب.. تنام في بيته. و.. على مبعدة ذراعين منه. شكَّ في الأمر، لا بد أنها كانت مزحة، أو لعل الأمر واحد من هلوساته.. انسلَّ من السرير. راقب أسيمة. كانت ما تزال على استغراقها في النوم. وتنفسها الهادئ الخليط من تنفس وشخير ناعم. انسلَّ من الغرفة إلى الحمام، تعمَّد ألا ينظر إلى الصالون، تعمَّد ألا يتأكد إن كانت تنام في الصالون، كان يخاف المواجهة، ماذا إن كانت قد كشف النوم جزءاً من جسدها، وهذا طبيعي، كيف سيتصرف لو كانت في تقلبها قد كشفت جزءاً من ساقها، أو.. فخذها، أو صدرها. هل يستطيع تحمّل ذلك. دلال المشتهاة في بيته، صالونه، حاسرة عن بعض من أسرار جسدها.

تسلَّل إلى الحمام، أغلقه بإحكام. تنظّف، حلق لحيته، وضع بعضاً من سائل ما بعد الحلاقة و.. كان يعرف أنه قد أطال المكث في الحمام، ولا بد له أخيراً أن يخرج، فخرج. حاول أن  يتجه إلى غرفة النوم يتحاشى الصالون، ولكنه أحس بسخف ما يفعل، فلم يفعل ذلك؟ أهو فعلاً لا يريد رؤيتها نائمة. هه.. وماذا لو كان بعض جسمها الذي طالما اشتهاه مكشوفاً لناظريه.. هه.. سيكون في ذلك مزيد من البهجة. اتجه إلى الصالون، ليس بنظره، بل بكامل جسمه، ولم تكن مفاجأة كبيرة حين رآها نائمة.. كان الغطاء قد انحسر عنها، وسقط إلى الأرض، فتبدت في قميص نوم أسيمة الضيق عليها أكثر إثارة، كانت أعضاؤها.. البطن والصدر، والثديان متوثبة في قميص النوم الضيق. اقترب منها وهو يعرف أنها وقد غازلته بكل ذلك الإلحاح في الأمس لن تتضايق لو فتحت عينيها ورأته يحدق في عريها. اقترب منها، ورأى وجهها. لم تكن دلال النضرة.. إنها دلال المتقشفة.. البشرة الناشفة والعينان مجعدتا الزوايا وبعض الزغب على الشارب.. أيمكن.. أهي لعبة الكراسي الموسيقية، منذ ساعات قليلة كانت دلال النضرة، فكيف عادت دلال المتقشفة وإذا كانت دلال النضرة هي دلال المتقشفة، فمن هي تلك التي كانت في الملاءة السوداء، والتي دسَّت في يده الرسالة، وطلبت منه التلويح لها إن كان يريد لقاءها.

من.. من..

عاد إلى غرفة النوم، وكان التنفس الخليط بشخير خفيف، والشعر الأسود القصير المسترخي على الوسادة. كانت أسيمة، ولكن.. أعوذ بالله أأنا في طريقي إلى الجنون إذن؟ أسيمة.. دلال.. هاه ليلى.. إنها الوحيدة التي لم تتغير، ولا بديل لها.. فجأة انبثقت الفكرة.. ليلى والجزيرة ولكن.. ذكر أنها كانت معه في المعتقل، فهل أطلقوا سراحها كما أطلقوا سراحه. لا بد أن الأمر كذلك. يجب أن يكون كذلك. لا يمكن أن يكون غير ذلك. كان يكرر، ويلحُّ، وكأنه يقسر عقله على تنفيذ ما يرغب أن يكون.

تنهد.. قالت: تعمّدتَ بالسواد، فعمَّدتك بالبياض لتكون لي.

قال: لا بد من تعمُّد جديد بالبياض، فقد غرقت.. بالسواد.

قالت: تعال.. وسأغذوك بدمي الأحمر لتكون لي خالصاً.

قال: إنها الدليل الأخير لما قبل الجنون.

توقف. وماذا إن لم تجدها. كيف ستجيب على أسئلتهم لو سألوك عنها.

توقف حائراً، ولا جواب.

تأمل المرسيدس السوداء، كانت تدعوه، تنهّد ثانية. سأراها.. سأراها، ولكن.. ماذا إن لم تكن هناك؟ تنهد ثانية:  يكفي أن أراهم. أليس هذا كافياً. إن مجرد رؤيتهم دليل على أن عالم ليلى حقيقي، وأن ما أعيشه الآن ليس الحقيقة الوحيدة.

تقدم من المرسيدس.. لا.. لن يتفقا.. ليلى والمرسيدس متنافران. هنالك.. فاصل كبير بينهما.

ركب تاكسي، وطلب إليه المضي إلى الساحة المركزية. نزل في الساحة المركزية.. ركب تاكسي آخر، طلب إليه المضي إلى باب المدينة الغربي. نزل، استأجر تاكسي آخر، وكان يراقب في مكر السيارات من ورائه.. لا.. تنهد ليس هنالك من يلاحقه. نزل عند الباب الشرقي. ركب سيارة باص، وجلس في المقعد الأخير وعيناه على السيارات التالية. تنهد في ارتياح. لقد ضللتهم.. إن كانوا يلاحقونني. نزل من الباص. مشى على الطريق القديم الذي طالما مشى عليه مع ليلى يحملان طعامهما وفواكههما والسكائر التي تعلمت تدخينها مسايرة ومجارية له. مشى والشمس تتخذ طريقها إلى كبد السماء. فجأة انتبه إلى أنه مشى ما يكفي للوصول إلى المستنقع، ولكن لا رائحة للبيض الفاسد. ما الحكاية. أتراه أضاع الطريق؟ لا. لا يمكن.. لقد اجتازه مرات كثيرة معها، وبدونها.. ما الأمر؟

توقف قليلاً يتأكد من صحة اتجاهه.. لا.. كان على الطريق الصحيحة.. ها هي مزرعة الجوز هناك، وها هي السنديانة العجوز على الجانب الجنوبي. وإذن، فأين المستنقع، وأين الجسر؟ مشى.. ومشى.. وغابت مزرعة الجوز، واختفت السنديانة العجوز، ولكن لا مستنقع ولا جزيرة.. ما الحكاية؟ توقف.. نظر إلى الخلف، إلى حيث مزرعة الجوز، وإلى حيث السنديانة، إنها مسافة تزيد على الثلاث مئة متر.. يجب أن يكون المستنقع هنا، ويجب أن تكون الجزيرة هناك على بعد خمسين أو مئة متر. أمعن في السير. كانت الأرض قاسية، فحصها بقدمه. إنها تربة من حصى وركام، فحصها ثانية، أمسك بغصن شجرة ونكتها. لا.. ليست أرضاً زراعية، لا تراب، ولا أعشاب. إنها ركام ورديم بيوت قديمة، ولكنها قاسية، ألعلها ديست بالمداحل. مشى يميناً ومشى شمالاً، مشى إلى الأمام ومشى إلى الوراء، لا عشب برياً، ولا شوك، ولا شجيرات، بل مساحة من الردم الممهد، ولكن لا بيوت، ولا عشش، ولا خيام، ولا نحن أعداء القُبلان، ولا ليلى.. أيمكن هذا؟

أعاد السير، وابتعد عن مزرعة الجوز، كان يصر على اكتشاف أثر.. أي أثر لذلك المجتمع، لأولئك الناس، لتلك الحياة التي ضمته وليلى لشهور، ولكن لا أثر.. بلقع من ردم ولا شيء آخر، لا أثر ـ تنهد ـ لا أثر.. لقد اختفى كل شيء. اختفى آخر أثر يمكن أن يوصله لليلى. أعوذ بالله.. كأن هناك من يعابثني ويسرق مني كل أثر، أو دليل على حياة عشتها خارج إطار أسيمة والشلة وكتابة السيرة. انحنت الشمس للغروب، فاستند بظهره إلى صخرة قريبة، واسترخى يرتاح ويراجع ما مرَّ به منذ حصار سيارات الشرطة والقبض عليه فيمن قبض عليهم، وحمله إلى حيث النساء المحجبات، وإعادته وكأن شيئاً لم يكن. فهو لم يعتقل، ولم ير ليلى، ولم يحمل إلى (إنه مكتبك يا سيدي) ولم يشرب ذلك الوسكي، ولم يدخن السيكار.

رفع أصبعيه يشمهما، وأطلق نفخة سخرية: وتعتقد أن رائحة السيكار ما تزال على أصابعك! قبل أن يحل الليل بعتمته انتصب، قال: لا يجوز البقاء في هذا المكان المعزول. ومضى، وقبل أن يمشي مئتي متر تذكر. قال: أزور المزرعة والبيت حيث اختفيت حين كانت المطاردة، فلعلي أجد أثراً، شيئاً يؤكد لي أني لست بالمجنون. مشى،  ومشى، وصادفته البساتين المتطرفة. حاول أن يتعرف فيها على بستان الخال، ولكن عبثاً، فالليل ألقى بخيمته على المكان، ونباح الكلاب صار الصوت الوحيد، وظلال شجر الجوز العملاقة تُدِبُّ الرعب فيه في تحولاتها وتشكلاتها ما بين شرطة وحرامية، قطاع طريق وقوى تحمي الطريق. مشى حتى خاف الضياع، ولكن لا مزرعة، ولا بيت، ولا خال، قال: سأمر غداً في النهار، أما اليوم، فيجب أن أرجع إلى البيت. 

(31)

كان المشهد مروِّعاً، أصابه.. لا.. لم تعد كلمة الذهول كافية للتعبير. وحين يخلو بنفسه وبمراياه الكثيرة سيسأل في سخرية. أما زلت تستطيع الذهول؟ الحقيقة أنهم ما يزالون يستطيعون إذهاله، فبعد البلقع حل محل الجزيرة، والحديقة حلت محل بيت الخال، حديقة بأشجار عتيقة تسكنها العصافير، وبركة يسبح فيها البط والإوز، وأعشاب أيبسها طول العمر، والذهول الذي حاق به يفتش في الحديقة عن أثر لبيت الخال، لأصوات الأم، لأناشيد الجدة، فلا يجد إلا حديقة ليس من يعرف متى أنشئت، وأشجرت، واختفى النهير القديم منها بسراطينه وضفادعه وأعشابه الخضر الناعمة تموج مع الماء كشعر الأم عند تمشيطه.

نفض رأسه ينتزع نفسه من عذاب الذكرى، فقد كان المشهد مروِّعاً، وما كان يعتقد أن شيئاً سيروِّعه بعد كل الروع الذي حاق به. كانت أسيمة ودلال والمرسيدس السوداء اللماعة مفتوحة النوافذ، وكان وراء المقود يجلس في استرخاء والكوع على النافذة…. ياسين..

لم يصدق نفسه، فأغمض عينيه، ثم فتحهما بسرعة خيفة أن يفوته المشهد، ولكن المشهد استمر كستوب كادر طويل. كان ياسين الآخر كما يبدو يجهز السيارة للانطلاق، وكانت المرأتان تكركران في مرح، وكانت سعادة عجيبة تنبعث من السيارة كغيمة رقيقة من حلوى غزل البنات. كان المشهد مروعاً فاجأه.. فأنساه حزن تَبلْقُع المستنقع والجزيرة، وشعب خصوم القُبلان، و.. ليلى. أنساه تحول بيت الخال وابن الخال وبنات الخال إلى حديقة وأشجار عتيقة تسكنها العصافير، وبركة يسبح فيها البط والإوز.. و.. ها هو ياسين يسوق المرسيدس وإلى جانبه المرأتان الحبيبتان، بل الأكثر حبية في حياته.  قرَّر.. وليس يدري كيف واتته الإرادة والهمة أن يهشم زجاج التردد والوهم، وأن يهجم مرة واحدة، فيواجه توأمه، ونقيضه، ووهمه، و.. ياسينه، يواجه دلال النضرة، و.. يواجه أسيمة المتسامحة المتزنة الوقور.. قرر أن يفجِّر كل شيء مرة واحدة فيخرج من هذا التشتت والفوضى.

هجم على السيارة، ولكن السيارة وقد أنهت استعدادها للانطلاق انطلقت، فركض وراءها، ركض يصرخ، وليس من يسمع صراخه، ركض يلعن، وليس من يسمع لعنه، ركض.. يجب أن أفعل شيئاً.. لوضع حد لهذا التشتت، لهذه الفوضى.. لهذا الاضطراب. كيف يجري كل هذا، ولماذا؟ ابتعدت السيارة، وسمع أصوات الزمامير تركله وتشتمه.. فهو يقف في منتصف الطريق يتحدى السيارات، يقف كأحمق، كحمار، كأبله، يريد الموت؟ ابحث عن موتك الخاص، ولا تبتلنا بجريمتك.. كانوا يشتمونه ويزمِّرون، ويبتعدون.

جرَّ قدميه الثقيلتين عائداً إلى الرصيف، إلى الدرج يقود إلى البيت ـ القبو، إلى الدرجة المكسورة يتحاشاها، إلى الباب المضاء بمصباح يعلوه، إلى الباب المحلى بمطرقة نحاسية أنثوية الملمس باشوية المظهر. فتح الباب، وعلى غير إرادة منه همس: أسيمة.. أكان يتوقع وجودها في البيت.. تنهد.. ولم لا.. أفلم يكن ياسين في السيارة منذ الليل.. أفلم يختف بيت الخال ويستبدل بحديقة؟ أفلم تختف جزيرة اللاقُبلان ويحل محلها البلقع؟ أفلا يستطيعون صنع كل شيء؟ أفسيصعب عليهم وجود أسيمة في البيت؟

فجأة توقف: ياسين. ها أنت تحدِّد اتهاماتك وأسئلتك.. ها أنت تغيِّر منحى تفكيرك.. ها أنت تفترض أن هناك من يعبث بك ويعابثك، ويزاوج كل شيء من حولك. يزاوج ويضاعف دلال، وأسيمة و.. ياسين، وشلة الأصدقاء، فهو يطرح أحد الزوجين متى شاء، ويخفي الزوج الآخر متى شاء.. أعوذ بالله. أتراهم زاوجوا أيضاً شعب اللاقُبلان، فجعلوا منه وجوداً، وجعلوا منه عدماً، وكان حظك أن تلقى العدم اليوم، و.. بيت الخال؟ ربما.. كان حظك أن تلقى اليوم العدم. وصرخ فجأة في غضب: ياسين، فمن أنت إذن؟ أي الياسينين أنت؟ أيهما؟ الناقد اللامع المحروم من حقوقه المدنية والسياسية، أم ياسين العدم.. ومشاطر أسيمة السيكارة والبيت في غياب ياسين الآخر.

آه.. آه.. أخذ يهز رأسه فيما قبل الجنون. كان كل شيء يسوقه إلى الجنون، ولكنه وجد نفسه أمام المرآة في الصالون، المرآة المؤطرة بالموزاييك والتي اشترتها أسيمة في نوبة من نوبات سعيها إلى تجميل البيت ـ القبو، وتحويله إلى بيت لبنت البندقدار. كانت المرآة مضاءة بمصابيح كثيرة لا تترك مكاناً للظل، ورأى ياسين ياسين. كان ياسين حقيقياً في كل شيء. في الشكل والنظرة والتوق. ولكن التشتت لم يختف، فياسين في المرسيدس والكركرات من حوله كان أكثر صلادة.

سعى إلى الحمام، فاقتلع مرآته وثبَّتها على حامل يبدي قفاه فيجعل قذاله مجاوراً لوجهه، ووجهه مجاوراً لقذاله، ثم تلفَّت من حوله، فرأى على تسريحة أسيمة من خلال باب غرفة النوم المفتوح مرآتين صغيرتين، فجاء بهما، وثبَّتهما جانبياً على اليمين وعلى اليسار. قال: أريد أن أصل إلى المعرفة المطلقة، الصورة لا ظل فيها، ياسين الجوهر، الثابت، الحقيقي الأصلي بلا ظلال، ولا قذال. أكمل رصف المرايا الجانبية والخلفية وانعكاساتها، وفجأة دهمه السؤال وليلى؟ الآن فقط وهو ينظر إلى وجهه الحليق النضر يتساءل: أكانت ليلى حقيقة، أم أنها واحدة من شطحات خياله الكثيرة؟ أكانت الجزيرة والمستنقع وشعب اللاقُبلان حقيقة؟ أووف. كم يشتهي لو يجد الإجابات عن أسئلةٍ عرف اليوم فقط أنه لن يجد أجوبة لها!

أعاد النظر إلى المرآة.. الوجه ياسيني حقيقي. لا ريب ولا لبس، ولا وهم فيه.. ولكن.. ماذا عن هذا العدد الكبير من الياسينات، ياسين الوجه، وياسين القذال، وياسين اليميني، وياسين اليساري، وياسين القذالي في الوجه، وياسين اليميني في اليسار، وياسين.. أووف.. يا للتشوش. تسربت الفكرة جارحة: ها أنت ترى بكامل حريتك عدداً من الياسينات. تراهم، وتعرف أنهم موجودون، ولكن جرِّب لمسهم، حوارهم، جرِّب مشاجرتهم، ولن تحصل إلا على الفراغ.. والآخر؟ ياسين المرسيدس، ياسين البرازيل، ياسين مشاطرة السيكارة.. أتراه صورة أخرى كهذه الصور، أم أنه الأصل، ولست إلا الصورة،  صورة أخرى كهذه الصور. كانت الأسئلة أكبر من الاحتمال، وأكبر من قدرته على الإجابة.

حرَّك يده في عصبية كمن يريد طرد الأسئلة كلها، ولكن الحركة كانت خرقاء فحطمت مرآة الحمام، وشظَّت الصورة. هاجمته المرايا المحطمة، فجرحت يديه. نظر إلى الدم في رعب. دم حقيقي. دم حقيقي دون تشتت، دون لبس، دون أوهام، نظر إلى الشظايا في إطارها وعلى الأرض ورأى أجزاءه الموزعة بينها، وكان الدم، يقطر دون انعكاس في المرايا، كان يقطر على الأرض. تذوَّقه بطرف لسانه، كان مالحاً حديدي الطعم كما توقع. دم حقيقي لم يستطيعوا استبداله.. و.. اسودَّ كل شيء. 

(32)

قال الرجل اللحيم: يبدو أنَّ من الصعب أن تكبر لتجاري عصرنا يا أستاذ ياسين. كانت الكلمة قاسية، ولكنه رفاها حين صدَّر اسمه بكلمة أستاذ. نظر ياسين إلى المرأتين الحبيبتين في خجل، في رجاء أن تصنعا شيئاً لتخفيف الحرج الذي وضع فيه.

الرجل يقول إن من الصعب أن أكبر.. لماذا؟ كان يريد الاحتجاج، ولكنَّ وجه المرأتين الحبيبتين الصامت، الخامد، والصارم، ورافض التواصل أشعره أنه فعلاً صغير، ولا يريد أن يكبر. وتابع لحيم الوجه: قدمنا لك التسهيلات كلها، المراجع، الوثائق، و.. في الحقيقة.. كان تقدمك بعرض كتابة سيرة مولانا شيئاً مريحاً.

ـ ماذا.. أنا، ياسين من عرض كتابة سيرة مولانا؟

وكان ابتكارك لاسم تنين الزمان، وعنقاء الأيام مقنعاً بأنك حسمت أمرك أخيراً، وقررت الانضمام إلينا، ولكن.. واسمح لي أن أستعير واحداً من تعبيراتك، ونكت أوراقاً في محفظته  قرأ منها: للأسف ها أنت تعود إلى تشتت المثقف.

صعق ياسين.. ما الذي يجري.. ما الذي يقول هذا الرجل: أأنا من اقترح كتابة سيرة معارضة للملك الظاهر؟ ما الذي يدَّعيه هذا الرجل، أأنا من ابتكر تعبيري تنين الزمان، وعنقاء الأيام؟ شهق في صمت، فهو لم يعد يسمع ما يقول الرجل، ولا ما تؤمِّن عليه المرأتان. كانوا أوركسترا، جوقة متفقة على لحن واحد. وكان المستمع الوحيد. كان يسمع في غير ترابط: السيرة. مولانا نافع الزمان، العنقاء. السلطان الموعود. كان لحيم الوجه يلوِّح بالوريقات، وكان غضب على وجهه يلوِّح بتغير الأحوال، وكان وجوم على وجهي المرأتين يلوِّح بالطرد من فردوسهما، وكان.. كل شيء يتداعى، ولكن السؤال لطمه ثانية: ولكن من عرض كتابة السيرة.. من؟ أهو ياسين المنافي وليلى، ومطارد حبٍ لم يحصل عليه، أم ياسين الآخر، ياسين السيكارة المخطوفة، ونمائم السياسة في مقهى البرازيل.

كان كل شيء يتداعى حين قرر أن يكون ياسين الأرفعي بكل تفاصيله قال: سأكون خارج المرايا. لن أكون ياسين اليساري في اليمين، ولا اليميني في اليسار، لا القذالي في القدَّام، والقدَّامي في القذال. قال، ولا يعرف إن نطق لسانه بها، ولكنه قال: سأكون خارج مراياكم. سأعود إلى ليلى، إلى الخال، إلى الحياة خارج بيجواتكم ومرسيدساتكم. استدار على عقبه، عبر الصالون، فتح الباب غشيم الخشب، المحلَّى بالمطرقة النحاسية، عبر البسطة المضاءة بالمصباح البابي، صعد الدرج. كان في جزء صغير، خفي، راغب في قلبه يتمنى أن يستوقفوه. أن يلاحقوه، يرجوه الرجوع. ولكنهم لم يتحركوا، بل تركوه لقراره. صعد الدرج درجة درجة، قفز فوق الدرجة المكسورة، وصل إلى المدخل الرئيسي للبناية.

رأى المرسيدس تقف قريباً من الباب. تأملها في انكسار حاسد، راغب، ولكنه لدهشته رآها تشتغل، ورأى مصابيحها تنار. من يشغِّلها، من يركبها. نزل الزجاج الدخاني ورآه.. كان ياسين. هذه المرة، كان واضحاً، صريحاً بلا ضباب، ولا تنكرات. كان ياسين المتكئ على الباب بكوعه.

وفي لحظة تجلٍ عظيمة، في لحظة القرار الكبرى التي تحلُّ على الإنسان مرة في العمر قرَّر أن يواجهه، أن يتحدث إليه ويسأله. من أنت.. ماذا تفعل في وجهي؟ ماذا تفعل في سيارتي؟ ماذا تريد من امرأتي؟ ولكن السيارة تحركت بهدوء، ونزلت عن الرصيف، ومن الغريب أن ياسين الآخر لم يهرب، ولم يبتعد، بل نظر إليه مباشرة، وكأنه كان ينتظره، أكان يريد مواجهته وسؤاله عما يريد منه أيضاً، وتقاطرت الأسئلة مخلوطة بالسخرية. أكان يريد سؤاله عما أفعل في وجهه، وعما أريد من امرأته، وسيارته.

توقف ياسين متردداً، فقد خاف المواجهة، ولكنَّ ياسين الآخر لم يخف، بل زمَّر له، ولوَّح يدعوه للركوب.. و.. حسم ياسين تردده، ولم لا أواجهه مرة واحدة؟ وأحطم مرآة خوفي مرة واحدة؟ وأعرف  ما سر هذه التجليات والاختفاءات؟ وفي اللحظة التي حرَّك فيها قدمه يريد الخروج من فتحة البناية في اتجاهه رآهم يقتربون. لم يعرفهم في البدء، وظنَّهم عابري سبيل، ولكن نور سيارة سقط عليهم، فكشفهم له، كانوا ليلى ودلال، والخال، وشاكر.

وشهق ياسين: ما معنى هذا؟ من جاء بهم؟ ولكنهم لم يروه، ولم يكترثوا له، اقتربوا من ياسين في المرسيدس في خطوة موحَّدة صارمة. وما إن اقتربوا من المرسيدس حتى رأى الذعر على وجه ياسين الآخر، الذعر الذي تمنى ياسين طويلاً أن يراه على وجهه. فما اعتاد رؤيته إلا والبسمة الملقة على وجهه، البسمة المتبجحة الواثقة من امتلاكها للأجوبة والقرارات والصوابات كلها. حاول ياسين الآخر رفع الزجاج المدخن يختفي وراءه، ولكنَّ شاكر أمسك بمقبض الباب بقوة، وفتحه، ومدَّ الخال يده إلى ياسين، فجذبه من وراء المقود، والغريب أنه انجذب بسهولة، بطراوة، دون مقاومة، وما إن صار على الرصيف بعيداً عن قلعته المرسيدس حتى التفُّوا حوله مشكلين حلقة لا يرى ياسين منها إلا سبَّابات متهمة، ورعباً على وجه ياسين الجاثي على ركبته، كانوا يتهمون، وكان رأسه ينحني. كانوا يتهمون، وكان ياسين يبهت. هزِّ ياسين رأسه غير مصدق، ولكن ياسين الآخر كان يبهت، ويتضبب، ويغيم، ويرق، ويرق حتى شفَّ.

فرك ياسين أعلى الدرج عينيه لعلَّ فيهما دمعة أو قذاة، ولكنهما كانتا جليتين تريان كل تفصيل في ليلى، وفي دلال، وكلَّ شعرة بيضاء في لحية الخال، كل غضن في وجه دلال. وكل ظُليل في وجه شاكر، وكل عتب على وجه ليلى. أراد ياسين الاقتراب للتأكد من تحولات ياسين الآخر، ولكنه قبل أن ينقل قدميه خطوة واحدة كان الآخر يتبخر، حتى يختفي، و.. رآهم يبتعدون بالصرامة التي قدموا بها، وبالهدوء نفسه. انفتل على عقبيه، ورمى نفسه على الدرج. فتح الباب غشيم الخشب، المحلَّى بالمطرقة النحاسية نسائية الملمس باشوية المظهر. دخل مندفعاً يلهث، فرآهم ما يزالون في مكانهم، فأفأ، وتأتأ، وجمجم، ولكنهم كانوا ينظرون إليه في طيبة، وود. لم يعاتبوه، ولم يلوموه، لم يعذلوه أن تركهم وخرج، وها هو يعود ناظراً إلى وجوههم في إلحاح يريد عذلاً، غفراناً، ولوماً.

تركهم، واتجه مباشرة إلى المرآة المؤطرة بالموزاييك. أراد أن يتأكد أنه ياسين، أراد أن يتأكد أنهم لم يصطادوه في المرسيدس الفخ.  أغمض عينيه بقسوة، وفتحهما، فلم يصدق ما رأى. ولكنه حين فتحهما ثانية كان المشهد نفسه. فراغ. ليس من ياسين في المرآة، ليس من وجه مذعور يرجو الغفران. التفت إليهم.. أسيمة، ودلال والرجل لحيم الوجه، فقالت أسيمة هيا يا حبيبي. امض إلى مكتبك. نحن في انتظار دُرَّتك. وقالت دلال وهي تتمسح به: يكفي تدللاً. نحن نعرف أنك ستكتبها، ونحن كلنا في انتظار كتابتها، هيا. وقال الرجل اللحيم: الأستاذ ياسين معلمنا، ومثقفنا الكبير سيتجاهل، ونتجاهل سوء التفاهم المؤقت. هيا يا سيدي.. هيا.

أخذوا يدفعونه بلطف إلى مكتبه، وكاد يندفع لدفعهم لولا أن قرر فجأة إعادة النظر إلى المرآة. نظر، فرآهم جميعاً في المرآة، أسيمة ودلال، والرجل ذو الوجه اللحيم، ولكن.. لا ياسين. 

كتب صدرت للمؤلف

1ـ ملكوت البسطاء دمشق رواية ط1: 1975، ط2: 1984.

2ـ طائر الأيام العجيبة دمشق رواية 1977.

3ـ ليال عربية بيروت رواية 1980.

4ـ المدينة الأخرى دمشق رواية 1985.

5ـ التحولات 1ـ حسيبة دمشق رواية ط1 1987، ط2 1995، ط3 2003.

6ـ التحولات 2ـ فياض دمشق رواية ط1 1989، ط2 2003.

7ـ التحولات 3ـ هشام أو الدوران في المكان بيروت رواية  ط1 1997، ط2 2003.

8ـ الجد المحمول مجموعة قصص دمشق 1991.

9ـ التدريب على الرعب مقالات دمشق 2003.

10ـ فخ الأسماء رواية بيروت 2003.

11ـ لو لم يكن اسمها فاطمة رواية القاهرة 2005.

———————————-

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى