قصة

النخالة الوردية/ جوخة الحارثي

كنا جالِسَيْن على كرسيين متجاوِرَيْن.

كانا كرسيين من قصب، أو خشب، أو كرتون مقوى.

كنا في البيت، نجلس مُتجِهَيْن نحو الباب.

ولكن مقابلنا بابَيْن وليس بابا واحدا. كنا ننظر باستقامة نحو البابَيْن، وكان أمامنا منضدة صغيرة بها مفتاحان.

مدَّ يده، أمسك بالمفتاحَيْن، ثم ناولني واحدا دون أن يلتفت. أغلقتُ قبضتي على المفتاح، ثم نهضتُ. مشيتُ نحو الباب، الباب الذي كان مقابلي، وفتحته بالمفتاح فانفتَحْ، فخرجتُ.

رأيتُ هذا المنام قبل أن نفترق بسنتين وثلاثة أشهر.

هل بقي هو داخل البيت؟ جالسا على الكرسي نفسه؟ مواجِها الباب المغلق؟

إنَّ مفتاحه في يده، لقد كان دوما في يده. لكن الجلوس يليقُ به.

حتى إني لما خرجتُ من البيت أجرُّ حقيبتي الخضراء القبيحة، ذات الموديل القديم، الباهتة عليها آثار ملصقات المطارات، لم ينهض لتشييعي، ولم يحاذِ خطواتي.

لم يمشِ خطوة واحدة، حتى إنه نسي كيف يمشي.

إنه جالس في مقعده الأبدي. ربما يفكر في الثعلبة البهيَّة التي لمحناها في فناء البيت. رمقتنا بنظرتها النافذة للحظة وهي تحكُّ قوائمها في حصى الفناء ثم اختفتْ. كان الثلج يهطل، وقال لي إن هذا يحدث مرَّةً على رأس كل قرن. والآن فقط أفكر ما الذي يحدث مرَّة على رأس كل قرن؟ الثلج في هذه البلاد، أم الثعلبة في فناء البيت؟

دفَّأنا البيت بمنقل جمر، كان صغيرا ولم يستغرق وقتا طويلا لتتلاشى برودته، ولم يكن به بابان، وكان لبابه مفتاح وحيد. وقلتُ وأنا أناوله كوب الشاي الساخن: إن حديثنا في كل هذه الليالي عن الأساطير القديمة جلب الثعلبة. إنها تحمل رسالة، ألم تقل إنك ستُعيد كتابة الملحمة الضاربة في القِدم؟

فارتشفَ رشفةً وابتسم، كان وجهه الجدّي يتشكل على نحو متفرّد حين يبتسم، وهزَّ رأسه.

هل كان يقصد أنه سيبدأ فعلا في الكتابة؟ أم كان يهزّ رأسه لأنه لا يعرف.

أو ربما كان ينتظر معجزة تغيّر كل شيء، وتدفعه لكتابة الملحمة التي حلم بكتابتها.

كان الإيمان بأن المعجزات فقط يمكنها أن تحوّل أي شيء يخصّه نحو الأفضل إيمانا قارًّا في ضميره. لقد احتقر كل سعي، حتى سعيي.

في اليوم التالي لما فتحتُ عينيّ في الفجر، رأيتُ من النافذة أن الثلج قد توقف، ورأيتُ على حافة إفريزها العريض كوب قهوتي الساخن، البخار المتصاعد منه يتكاثف على زجاج النافذة، فعرفت أن مزاجه رائق. لم يكن ليصنع لي القهوة وأنا نائمة إلا إذا كان يريدنا أن نتحدث قبل أن ينكشف الصباح، فسألته: هل عادَتْ؟ عرف أني أشير للثعلبة، فهزَّ رأسه نفيًا.

أظن أننا تحدثنا كثيرا ذلك الفجر، وربما نمنا من بعد، ولم تظهر الثعلبة بعد ذلك أبدا.

وفي تلك الأيام، والبرد ما يزال قارسا، كان يرتدي بيجاما ثقيلة مقلمة، كنت أداعبه بأنها تشبه ملابس المساجين في القصص المصورة، خاصة عصابة القناع في مجلات بطوط، وكنت لا أخلع البلوفر الصوفي حائل اللون، حتى خلعه مرَّة ليكتشف بقعة بنية شبه دائرية على ظهري، قال بدهشة: هذه لم تكن موجودة.

كانت دهشته تشبه الاتهام.

ثم تكاثرت الأيام، وتكاثرت البقع، دون أن أنتبه، وقال ساهيا: كأن أحدا أطفأ سجائره على ظهركِ وساقيكِ.

قلتُ إنها تحكّني، فقال إن كريما مهدّئا قد يساعدني، ولكنه لا يستطيع الذهاب إلى الصيدلية آخر الشارع لأنه مَدين للصيدلاني، فذهبتُ أنا، ولم يساعدني الكريم.

هذا كل شيء بشأن ذلك الشتاء الغريب. رَمَيْنا منقل الجمر الحديدي في مكان ما كمَن يعرف أنه لن يحتاجه من بعد، وربطتُ بالبلوفر الصوفي الأغصانَ المعوجةَ بفعل الريح في شجيرة الفناء، واختفَتْ البيجاما المقلمة في قاع الدولاب، ولم يعد لإعداد القهوة لي في الفجر، ربما لم يعد إفريز النافذة يتسع للكوب، وربما فرغت علبة القهوة في الرفّ، كانت علبة معدنية جميلة عليها رسم المسجد الأزرق في اسطنبول.

ظلَّ صوت العجلات الصغيرة الصدئة لحقيبتي الخضراء وهي تخبط درجات البيت ثم تحتكُّ بحصى الفناء يصرُّ في أذني لسنوات، لم يتبع صوت العجلات أي صوت آخر، ظلّ صوتها مقرقعا ووحيدا وهي تحاول أن تُوازن ثقل حقيبتي الكبيرة الباهتة عليها، ظلّت الحُصيّات الصغيرة التي وقفت عليها الثعلبة ذات شتاء فريد تتناثر حول الحقيبة، ولم يخطر ببالي الحلم الذي رأيته قبل سنتين وثلاثة أشهر.

بالأمس رأيتُ بقعا بُنيَّة على ذراعَي صديقتي، فتذكرت البقع التي تلاشَتْ من جسدي بمرور الوقت، هتفتُ: أُصِبتُ مرَّة بمثل هذا! فردَّت بلامبالاة: نعم، قد تصيب أي إنسان مرَّة في العمر، خاصة الشابَّات، إنها تُدعى «النخالة الوردية»، البقعة الأولى، في الظَّهر غالبا، تُسمَّى بالبقعة النذير.

عندها رأيتُ البابَيْن المتجاوِرَيْن بوضوح. وفكرتُ أنه ربما كانا هناك، دوما.

نزوى

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى