قصة

صفحة من كتاب “كونشيرتو باروكي” لآلِخو كاربنتييه

وعندئذٍ، غيّر الجميعُ وجوهَهم. أقنعة من الأسبيداج، متشابهة، صبغتْ وجوهَ الرجال المهمّين بالأبيض وحوّلتها إلى حجر يمتدّ بين بريق القبّعات وياقات المعاطف القصيرة؛ أقنعة من مخمل غامق أخفتْ وجوهاً لا يُرى منها غيرُ الشفاه والأسنان، وجوهُ نساء مخمّرات ممشوقات القدمين. أمّا الشعب، أمّا البحّارة، أمّا بائعو الخضار والكعك والسمك، أمّا ناسُ السيف والقلم، ناسُ المجداف والعصا، فقد كانوا وقود ذلك التحوّل العام، الذي أخفى الجلود المشدودة أو المترهلة، وستر إيماءة المخدوع أو قلق الخادع، وموّه على شهوانيّة العضو وشبقه، بقطع من ورق مقوّى رُسمت عليه وجوهُ منغوليّ أو ميّت أو ملك وعل، أو وجوهٌ أُلصقتْ عليها أنوفٌ ملوّنة أو شوارب برابرة أو لحى تيوس أو قرون ديّوث. نساء وقورات محتشمات يغيّرن أصواتهنّ ويتلفّظن بكلّ ما كتمنَ في صدورهنّ طوال أشهر من كلمات بذيئة فاحشة، بينما المثليّون، بملابس الأساطير القديمة أو التنّورات الإسبانية الموسّعة، يتكلّمون بنبرة فيها من التصريح أكثر ممّا فيها من التلميح.

الكلّ يتكلّم، الكلّ يصرخ، الكلّ يغنّي وينادي ويشتم ويعرّض ويتملّق ويلمّح. بأصوات ليست أصواتهم، بين مسرح دمى ومسرح ممثّلين ومقصورة مُنجّم، أو معرض عيّنات من أعشابٍ لجلب الحبيب وإكسيراتٍ للتخفيف من آلام الخاصرة أو لإعادة شحن الشيوخ بالحيويّة والنشاط. ستظلّ المحلّات مفتوحة، طوال أربعين يوماً، حتى منتصف الليل، فضلاً عن محلّات أخرى كثيرة ستبقى مفتوحة ليل نهار؛ وسيواصل القرودُ الرقص على أنغام الأرغن؛ وستواصل الببغاواتُ المدرّبة التأرجح في أرجوحاتها المزركشة؛ وسيواصل البهلوانُ قطع الساحة مشياً على السلك؛ وسيتواصل عملُ العرّافين والمنجّمين والشحّاذين والعاهرات – وهنّ الوحيدات اللائي كنّ مكشوفات الوجه، وكيف للزبون أن يعقد الصفقة وهو لم يرَ وجه من ستصحبه إلى الخان القريب، في غمرة تلك الأجواء التي يزيّفُ فيها كلّ شيء: الهويّة والسنّ والسلوك والشكل. تحت أعمدة الإنارة في المدينة توهّجت قنوات الماء، كبيرها وصغيرها، فبدا وكأنّ مصابيحَ مرتعشة غارقة تتأرجح في أغوارها.

وشاء السيّد أن يستريحَ من ضوضاء الجمهور وتدافعه، ويبتعد عن زحمة الألوان، فدخل متنكّراً بزيّ مونتيزوما إلى مقهى بوتيغ دي كافيه، يتبعه الأسود، الذي لم يكن بحاجة إلى التنكّر، وأيّ قناع أفضل من وجهٍ أسودَ طبيعيّ بين كلّ تلك الأقنعة البيض التي حوّلت وجوهَ لابسيها إلى وجوه تماثيل. جلس هناك الراهبُ الأصهب1 عند طاولة في مؤخرة المقهى. كان يرتدي قفطاناً معمولاً من أجود أنواع القماش، وقد برز أنفه المعقوف من فوق طيّات شعره الطبيعيّ الذي بدا، مع ذلك، باروكة بلّلها المطر: «لقد ولدتُ بهذا الوجه، ولا أرى ضرورة لاقتناء وجهٍ غيره»، قال، وهو يضحك. «إنكا؟»2، سأل، وهو يتحسّس خرزات الإمبراطور الأزتيكي. «مكسيكي»، ردَّ عليه السيّد، وراح يحكي قصّة طويلة رأى فيها الراهب، الغارقُ في النبيذ، قصّة ملك لخنافسَ عملاقة –ففي مَن حكى له القصّة شيءٌ من الخنفساء: صدر أخضر، محرشف ولمّاع-، عاش في زمن ليس بالبعيد، بين براكين ومعابد وبحيرات وأهرامات أميركيّة، حاكماً على إمبراطوريّة انتزعتها منه حفنة من الإسبان المغامرين، بمعونة امرأة هنديّة وقعت في غرام قائد الغزاة.

«موضوع جيّد؛ يصلح لعمل أوپيرالي…»، قال الراهب، وهو يفكّر فجأة في مسارح ذكيّة وأبواب أفقيّة واسترفاعات ومكائن؛ حيث تشكّل الجبالُ التي ينبعث منها الدخان، والوحوشُ التي تصول وتجول، والزلازلُ التي تنهار لها المباني، أفضلَ المؤثّرات، فهذا موطنُ روّاد المؤثّرات المسرحيّة، وهم قادرون على محاكاة أيّ أعجوبة من أعاجيب الطبيعة، بل على تصوير فيل يطير، كما شاهدنا في عرضٍ كبير قُدّم مؤخراً. وواصل الآخرُ الكلام عن أعمال السحر والتعاويذ والقرابين البشريّة وجوقات المنشدين في الليالي الحزينة، حين ظهر السكسوني العجيب3، صديق الراهب الأصهب، وقد ارتدى ملابسه المألوفة، يتبعه شابٌّ من تلامذة غاسپاريني4 قادمٌ من نابولي5.

نزع الناپوليّ قناعه، وكان يتصبّب عرقاً، فأبدى وجهاً لطيفاً ماكراً ترتسم عليه ابتسامة كلّما نظر إلى وجه فيلومينو الغامق: «مرحبا، يوغرطة!»6. مع ذلك فقد كان السكسوني غاضباً، محتقن الوجه من حنق ومن شراب، فقد بال حقيرٌ تكسوه الجلاجل على جواربه ثمّ فرّ، وهكذا استطاع، في اللحظة الأخيرة، أن يتحاشى صفعةً وجّهها إليه، ولو أنّ تلك الصفعة مسّت لوطيّاً في أحد ردفيه لفسّرها إعجاباً ولتلقّاها مرتاحاً متلذّذاً، ولكان، مَن يدري، مستعدّاً لأن يدير له ردفه الآخر. «على رسلك! -قال الراهب الأصهب-: أعلم أنّ لاأغرپينا7 حظيت بنجاح منقطع النظير». «انتصار! –قال الناپولي، وهو يصبّ كأساً من الشراب في قهوته-: كان مسرح غريماني يغصّ بالجمهور». نجاح منقطع النظير، ربّما بالنظر إلى التصفيق والهتاف في ختام العرض، لكنّ السكسوني لم يكن يستطيع الوثوق بهذا الجمهور: «فما من أحد هنا يحمل الأمورَ على محمل الجد».

فبين غناء السوپرانو وإنشاد الكاستراتي8، كان المتفرّجون يروحون ويجيئون، يأكلون البرتقال ويشمّون النشوق ويعطسون ويتناولون المرطّبات ويفتضّون فلّين زجاجات الشراب، هذا إذا لم يلعبوا الورق والمسرحيّة في ذروتها. وكانت ممارسة الجنس في المقصورات -المليئة بالوسائد الوثيرة- من الكثرة، في تلك الليلة، أنّ ساقاً نسويّة ملفوفة بالجوارب أطلّت، أثناء أداء نيرون المؤثّر، من فوق أحد الدربزينات المخملية الحمر، وامتدّت بحذاءٍ سقط في وسط الأوركسترا، فثار حماسُ الجمهور وانشغلوا عمّا كان يجري على المسرح. لم يُعِر خورخي فيديريكو9 بالا ً لقهقهات الناپولي، بل راح يثني على بني وطنه، الذين ينصتون إلى الموسيقا وكأنّهم في قدّاس، فيتأثرون لنغمة «آريا» راقية البناء، أو يعظّمون، عن فهم كامل، «فوغا» حسنة الأداء.

الهوامش:

1. يريد به أنطونيو ڤيڤالدي Antonio Vivaldiم(1678-1741) الملحّن الباروكي وعازف الكمان الإيطالي الشهير.

2. يسأله ما إن كان من قبيلة «الإنكا» التي حكمت أجزاء واسعة من أميركا الجنوبية قبل العصر الكولومبي.

3. يقصد به جورج فريدريك هاندل George Frideric Handelم(1685-1759) المؤلّف الموسيقي، الإنكليزي، الألماني الأصل.

4. Francesco Gaspariniم(1661-1727) مؤلّف موسيقي من العصر الباروكي.

5. يقصد دومينيكو سكارلاتي Domenico Scarlattiم(1685-1757) مؤلّف موسيقي إيطالي من العصر الباروكي.

6. Jugurtha: من ملوك نوميديا القدماء.

7. أوپيرا لهاندل موضوعها محاولة Agripina والدة نيرون خلع الإمبراطور كلاوديو وتتويج ابنها محلّه.

8. في الغناء الأوپيرالي يطلق مصطلح الـ soprano على أعلى درجات الصوت النسائي، بينما يقصد بالـ castrati صوت المخصيّين، وهم الذكور الذين يُخصَون قبل البلوغ ليحتفظوا بحدّة الصوت وطفوليته.

9. هي الصيغة الإسبانية المقابلة لجورج فريدريك. المقصود به هاندل.

الغلاف الخلفي للكتاب

في كرنفال مدينة فينيسيا يلتقي ثريّ مكسيكي بشخصٍ متنكّرٍ بزيّ آخر ملوك المكسيك الأزتيك: مونتيزوما، الذي قُتل على يد الفاتح الإسباني إرنان كورتيس، كما يلتقي بثلاثة من عباقرة الموسيقا الأوروبيين ممّن ملؤوا تاريخ الموسيقا بأعمالهم الخالدة: الڤينيسي أنطونيو ڤيڤالدي، الناپوليّ سكارلاتي، الإنكليزيّ-الألمانيّ هاندل. فهل رجع هو إلى القرن الثامن عشر؟ أم تقدّموا هم إلى القرن العشرين؟

في هذه التحفة الفنية مزجٌ بين الحقيقة والخيال، وقفز بين التواريخ، خلطٌ في الشخصيات، وفي الأدوار، وتزييف للوقائع، وتشكيك بالتاريخ، يجمعها كلّها “آلخو كاربنتييه” ضمن كونشيرتو باروكيّ تتقابل فيه الموسيقا الأوروبيّة بالإيقاعات الإفريقيّة، ولكم أن تتخيّلوا الموسيقا التي تدوّي ضمن السطور، والأصوات التي تعلو، والأنفاس التي تتقطع…

آلِخو كاربنتييه ( 1904-1980): كاتب كوبي وُلد في سويسرا من أبٍ فرنسيّ وأمّ روسية، وتخرّج في جامعة هاڤانا مهندساً معمارياً. ثم تخلّى عن هذه المهنة ليعمل ناقداً فنياً. وسُجن عام 1927 ولمّا أُطلق سراحه رحل إلى أوروبا وعمل سنين طوالاً في فرنسا، كان فيها على اتصال بالفئات الطلائعية. وشارك بصفته ناقداً فنّياً في كثير من الصحف والمجلّات. وكتب أغاني وأوبريتات فُكاهيّة ونصوصاً للأوبرا. ثمّ أقام من عام 1945 حتى 1959 في كاراكاس عاصمة ڤنزويلا، وعاد إلى كوبا بعد انتصار الثورة الكوبية. توفي عام 1980

من أعماله: عصر الأنوار، المطاردة، كونشرتو باروكي، مملكة هذا العالم، الوتر والظلّ. إضافة إلى كثير من المقالات والبحوث.

بسام البزاز: مترجم وكاتب وأكاديمي عراقي، ولد في بعقوبة في العراق عام 1952م. يترجم الأدب من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية، ونقل الكثير من روايات وأعمال أدباء أمريكا الجنوبية إلى العربية.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى