منوعات

قتل الآخر/ ممدوح عزام

لم يعُد بوسع أحد احتمال وجود آخَر مُختلِف؛ بات الآخر مكروهاً، ومرفوضاً بالمُطلق إن أبدى رأياً، أو وجهة نظر مختلِفة عن وجهة نظرِ السوري الآخَر.

ولأن الفضاء الإلكتروني مفتوح، فإنّ الجميع يخوضون حرباً ضدّ الجميع. وبينما سُمّيت تلك الوسائل أو المنصّات التي تسمح لملايين المُستخدمين بأن يقولوا ما يشاؤون، ومتى يشاؤون، بوسائل التواصُل الاجتماعي، فإنّ التواصُل نفسه فُقِد من مضمون تلك المنصّات، وحلّ محلّه، بقوّة شبه وحشية، نوعٌ من القطيعة الشاملة التي لم تعُد تؤمنُ بالآخر، ولا تسعى للحوار معه، ولا تريد وجوده أساساً.

واللّافتُ أن يكون أبناء التيّار الواحد قد أضحَوا أعداء لدودين، لا مجال للحوار أو الصُّلح أو التفاهم في ما بينهم. قل رأياً، وسوف تجد عشراتِ المستخدمين (يُفترض بحسب التسمية الفيسبوكية أنهم أصدقاؤك) يسفِّهون الرأي، أو يتهمونك بشتّى الاتّهامات. وسوف تكون حرّية التعبير هي السند الفكري الذي يتّكِئُ عليه الجميع: ألم نُناضلْ طوال سنوات من أجل حرّية التعبير؟

في الغالب كان الكلام عن حرّية التعبير يعني بالضرورة قضية المواجهة مع السُّلطة: السُّلطة السياسية، أي الأنظمة، والسُّلطة الدينية، أي سدَنة المؤسّسات الدينية، والسُّلطة الاجتماعية الممثَّلة بالقبيلة والعائلة والأسرة والأب، أو السُّلطة البطريركية بصورة عامة. غير أنّ الأمور تتغيّر بسرعة، وبالسرعة نفسها تفقد حرية التعبير المزيد من المواقع والمحطّات التي اعتقدنا أنّ الذين ناضلوا من أجلها قد وضعوها خلف ظهورهم.

واللافت أنْ ينخرط الأفراد هذه المرّة، عبر الوسائل نفسها، أي فيسبوك وتويتر وإنستغرام وغيرها من منصّات “التواصُل”، في الاعتداء على حرّية التعبير، أو على مضمون حرّية التعبير، ومعانيها، وذلك حين يحوّلونها في حساباتهم الخاصّة إلى قضية محسوبيّات. محسوبيّات سياسية ودينية واجتماعية وفكرية، ولكَ أن تعدّ ما تشاء من الحقول التي يشتغل فيها بنو الإنسان، ويتشاركون مع غيرهم من بني الإنسان.

ما يُعجبنا يمكن إدراج الكلام عنه في باب حرية التعبير، وما لا يُعجبنا يصبح ممنوعاً ومحظوراً. ويمكن أن يسبِّب للمُخالِف، أو الخصم، أو المُختلِف، سلاسلَ من الهجمات التي تطاول سُمعته عرضه وفكره وشخصه. وأيّ خلاف في الرأي، حول السُّلطة والمعارضة والشعب والجماهير، والمشاركة والمجتمع المدني والديمقراطية والعلمانية والدين والموقف من المؤسّسات ومعنى المظاهرات، يُحلّ بواسطة التجريم والاستبعاد والإقصاء والإلغاء. وقد كان الأسبوع الماضي مختبراً لاهباً لاستعراض عضلات الفردانية المتوحّشة.

قبل عقد من السنين، أو أكثر بقليل، كان “الآخَر” يُشبه الأيقونة، ففي كلّ محادثة يزعم أحدُهم أنه يبحث عن نقاط اللقاء مع الآخَر الذي كان المفتاح الفكري الذي يشتغل عليه السوري كي يُثبت فيه أنه ديمقراطي، أو من أنصار الديمقراطية والتعدّدية. غير أن الفكرة كانت أكذوبة. نُسي الآخَر هذه الأيام، وحلّت محلّه الأنا. فوسائل التواصُل -التي تشير إلى خلخلة السلطة القامعة وتحرير الكلمة المُختنِقة في لوائح الرقابة، والممنوع، والمُحرَّم- ليست للتواصُل، بل لإظهار الأنوات المُفردة التي تريد كلّها أن تقول، وتنفرد وحدها بالقول، وما يقبله هذا الآخَر، أو لا يقبله، لم يعُد يهمُّنا بتاتاً.

* روائي من سورية

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى