سياسة

هل سيحصل إنهيار وشيك في سورية – مقالات مختارة-

————————————

أي حلول لوقف الانهيار في سوريا؟/ عروة خليفة

يعيش السوريون اليوم في مناطق سيطرة النظام السوري أوضاعاً شديدة الصعوبة، حتى بالنسبة للذين يحققون دخلاً فوق المتوسط، إذ تضربُ البلادَ أزمةُ محروقات جديدة أدّت إلى شلل في قطاعات النقل والإنتاج الرئيسية. في قطاع الكهرباء تحوّل التقنين المُكثَّف إلى انقطاعات شبه دائمة في مناطق كثيرة، مع انهيار للخدمات البلدية والحكومية الأساسية، وعدم قدرة على تأمين أي من المتطلبات الرئيسية بشكل مستقرّ، مثل الخبز.

اقترح مسؤولون في النظام تعطيل الدوائر الرسمية والمدارس لتقليل استهلاك المحروقات، وعلى خلاف المرات السابقة التي أُطلِقت فيها وعود بوصول شحنات وقود جديدة ستنهي الأزمة الحاصلة، فإنّ التصريحات الحكومية الحالية بدأت ترفع عن نفسها المسؤولية، وتعطي صورة سوداء للوضع الذي لا تتحكم به، في غياب أي حديث عن أمل قريب بنهاية أزمات الوقود المتكررة.

الوضع مقلق للغاية في سوريا اليوم، وتُنبئ التصريحات الحكومية الأخيرة وطريقة التعامل مع الأزمة بمآلات كارثية، إذ إنّ الانهيار الحاصل في سعر صرف العملة السورية أمام العملات الأجنبية هذا العام، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات سعر الوقود الأحفوري عالمياً إلى مستويات عالية جداً، نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا وعوامل اقتصادية وسياسية أخرى، أمورٌ أدَّت إلى أن يصبح العجز الكبير أصلاً في الميزانية الحكومية أكبر.

وفي غياب أي اقتراح من حكومة النظام يمكن التعويل عليه لوقف التدهور، فإنه من غير الواضح ما هو الحل الذي سينجح في وقف هذه الأزمات المتتالية المتفاقمة وتحسين الوضع القائم. هناك اقتراحات من جانب النظام ومسؤوليه تتركز حول رفع العقوبات، وحديث عن فرص استثمارية. لكن، هل سيكون ذلك مجدياً فعلاً؟

لنفترض أنّ النظام الدولي، وتحديداً الدول الغربية، قررت تجاهل النظام السوري تماماً، أي رفع العقوبات عنه ورفع قيود التجارة معه نهائياً، بالتزامن مع بقاء نظام الأسد كما هو دون تقديم أي خطوات نحو حلّ سياسي حقيقي. لنفترض أن العلاقات عادت بين النظام السوري ودول الخليج بما فيها السعودية، بالإضافة تركيا، بطريقة شبه طبيعية، باعتبار أن هناك مؤشرات اليوم في هذا الاتجاه على صعيد العلاقات الثنائية، فهل سيقود ذلك إلى عودة الاستثمارات الخارجية إلى سوريا؟

أفقٌ مغلق للاستثمارات الخارجية

بحسب بيانات البنك الدولي، شهدَ العام 2009 أعلى معدّلات للاستثمار الخارجي في سوريا منذ أكثر من ثلاثين عاماً وقتها، حيث بلغت الاستثمارات الخارجية فيه 2.57 مليار دولار أميركي. تشير نظرة أكثر تفصيلية إلى أن جزءاً كبيراً من تلك الاستثمارات تركزَّ في قطاعي النفط والغاز والقطاع العقاري، فيما كانت القطاعات الصناعية والإنتاجية الرئيسية تعتمد على رأس المال المحلّي بشكل أساسي.

أُصيب قطاع النفط والغاز بضربات كبيرة خلال السنوات الماضية نتيجة العمليات العسكرية والقصف المباشر وإهمال الآبار، ما أدّى إلى تراجع الإنتاج وتوقفه في بعضها. كان إنتاج سوريا من النفط عام 2011 لا يتجاوز 385 ألف برميل يومياً، فيما لا يتجاوز الإنتاج المحلي حالياً نتيجة الأضرار التي أصابت هذا القطاع نحو 85 ألف برميل يومياً، يصل منها إلى مناطق سيطرة النظام حسب تصريحات حكومية 16 ألف برميل يومياً، في حين تقع الحقول الأكبر خارج سيطرته العسكرية المباشرة. أما القطاع العقاري، فقد أُصيب بضربات هائلة نتيجة العمليات العسكرية ونتيجة القصف الممنهج من قبل قوات النظام السوري وحَليفيه الإيراني والروسي، فيما لا تجد مشاريع التطوير العقاري التي بدأها النظام منذ سنوات مستثمرين كبار راغبين بالاستثمار في مناطق تشهد مطالبات حقوقية للمالكين تتعارض مع ما فرضته الحكومة من أمر واقع، فضلاً عن العمل في ظل قوانين مشكوك في مصداقيتها، وقبل كل شيء في ظل عدم وجود بنية تحتية مناسبة أو مصادر طاقة مستقرة بأسعار تنافسية.

لنفترض أنّ العقوبات توقفت، فهل ستصل الاستثمارات الخارجية بعد رفع العقوبات عن سوريا إلى 2.57 مليار دولار، وهو الرقم الأقصى الذي لم تتجاوزه مستويات الاستثمار الأجنبي في البلد قبل ذلك التاريخ ولا بعده. وحتى في حال حدوث ذلك، هل يمكن لمبلغ مليارين ونصف المليار أن يحلّ مشكلة بلد بلغت خسائره نتيجة الحرب 442 مليار دولار؟

إضافةً إلى ذلك، ما هي التنافسية التي يقدمها الاقتصاد في بلد مدمر حرفياً، لا توجد فيه مصادر طاقة رخيصة وتمّ نفي جزء كبير من الأيدي العاملة المدربة فيه كلاجئين حول العالم. لن تستطيع أي استثمارات في مجال الصناعة في سوريا أن تنافس الصناعات في المنطقة، أو في الأسواق الأوروبية التي كانت واحدة من أكبر أسواق التصدير السورية، أما الامتيازات التي حصل عليها الاقتصاد السوري نتيجة اتفاقات اقتصادية مع تركيا فقد انتهت مدتها الزمنية اليوم، ولا يمكن للصناعة في سوريا أن تنافس في السوق التركي الكبير.

أما بالنسبة للسوق المحلي، الذي يشهد عجزاً كبيراً في الطلب نتيجة انخفاض قيمة الأجور وانتشار الفقر، فإنه لن يكون مغرياً لأي مستثمر، إذ أين هي الأرباح من العمل في سوق بلد تعيش الغالبية العظمى من سكّانه تحت خط الفقر أو على مقربة منه. أما بخصوص الموارد الطبيعية، فإنّ سوريا بلد فقير بها أصلاً، إذ لا يوجد سوى مادة الفوسفات التي تسيطر عليها موسكو بالإضافة إلى النفط والغاز. وبالنسبة للموقع الجغرافي، فإنّه لا يقدم ميزة كافية أو حاسمة تجعل الاقتصاد السوري قادراً على المنافسة، عدا ربما على صعيد تجارة المخدرات.

في ظل مثل هذه الأوضاع، لن تُقدِّمَ الدول الغربية واليابان، وهي الدول المرشحة بشكل أساسي لتقديم منح إعادة الإعمار، أي مبالغ فوق تلك التي تدفعها حالياً لتمويل القطاع الإنساني، والتي تأثرت أصلاً بالأزمة الاقتصادية وجائحة كوفيد-19 والأزمة التي خلقها الغزو الروسي لأوكرانيا. في حين أنّ الصين، وهي الدولة الأكثر قدرةً بين الدول العالمية على تنفيذ استثمارات كبيرة في سوريا بوجود النظام السوري، فهي لم تقم حتى اليوم بتوقيع عقود أو تنفيذ أي مشاريع كبرى، وكان استثمارٌ صينيٌ سوريٌ مُشترَك هو الاستثمار الوحيد خلال السنوات الماضية لشركات خاصة صينية، ولم تتجاوز قيمة هذا المشروع 660 ألف دولار حسب بيانات هيئة الاستثمار السورية في العام 2019.

مشاريع البنية التحتية ستكون بدورها خاسرةً في ظل استمرار الفقر وانخفاض قيمة الأجور، إذ إنّ مشروعاً للنقل العام في العاصمة دمشق على سبيل المثال سيكون خاسراً اليوم نتيجة عدم قدرة السكّان على دفع أجور تضمن هامشاً من الأرباح، ناهيك عن قدرة مثل تلك المشاريع على إعادة قيمة تكاليفها. لن تُقدِّمَ الصين مشاريع استثمارية كهبات أو هدايا اليوم، خاصةً أنّ اقتصادها يعاني من صعوبات قد تؤدي إلى الانكماش وأزمات في قطاعات رئيسية مثل قطاع التطوير العقاري، دون الحديث عن عدم رغبة الصين الواضحة في الاستثمار في بلد غير مستقر مثل سوريا.

أما بالنسبة لحلفاء النظام الأقرب في طهران وموسكو، فإن إيران تعاني من مشاكل سياسية واضطرابات نتيجة الاحتجاجات المستمرة ضد النظام الحاكم بالإضافة إلى عقوبات أمريكية قاسية، في حين تعاني روسيا الأمرّين نتيجة العقوبات الاقتصادي القاسية التي تلت غزوها لأوكرانيا. الانقطاعات في توريدات الوقود القادمة من الدولتين، والتي تسببت بالأزمة الحالية وأزمات سابقة، مؤشرٌ على مدى قدرتهما على تقديم العون للنظام السوري اقتصادياً.

رجال الأعمال المحليون خائفون

قد يكون الخيار الأساسي بالنسبة لسوريا هو دفع الاستثمارات المحلية لتنمو بشكل مضطرد، في ظل جفاف الاستثمارات الخارجية أو عدم قدرتها على تحريك السوق السوري بشكل فعّال، لكن من أين ستأتي الاستثمارات المحلية؟

رجالُ الأعمال الكبار، الذين كانوا في الفترة بين 2000 و2010 أبرز المستثمرين في القطاعات الإنتاجية في البلد، مثل محمد كامل صباغ شرباتي وزهير غريواتي، خرجوا من سوريا بلا عودة ربما، إذ كيف ستقنع رجل أعمال بالعودة للعمل في سوريا المدمرة، حيث سيكون رأس ماله مهدداً بشكل دائم نتيجة وصول الفساد إلى مستويات غير مسبوقة في بلد كان يعاني أصلاً، في أوضاعه الأكثر استقراراً، من مستويات فساد عالية وسيطرة كبيرة من العائلة الحاكمة والمقربين منها على قطاعات الاقتصاد السوري. هذا بينما تحقق استثماراتهم أرباحاً مرتفعة في الخارج.

كذلك عانى قطاع المنتجين المتوسطين والصغار طوال السنوات الثلاث الماضية من عمليات ابتزاز واسعة ومن عدّة جهات، وأيضا ًمن ارتفاع تكاليف النقل والاستيراد نتيجة فرض الحواجز الأمنية وتلك التابعة للفرقة الرابعة خوّات عالية عند نقل البضائع محلياً أو خارجياً، ناهيك عن ارتفاع تكاليف الطاقة مؤخراً وارتفاع تكاليف المستوردات نتيجة تدهور سعر العملة المحلية وعدم وجود أسواق كافية للتصدير. كل ذلك أدّى بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى تراجع هذا القطاع. صورُ أسواق حلب القديمة، التي تمّ تجديدها وترميمها لكن دون عودة أصحاب المحال، مؤشرٌ على عدم رغبة التجار على العودة والاستثمار في البلد.

وفوق كل ذلك، لا يبدو أنّ عوائد تجارة وتصنيع المخدرات قد انتقلت كلّها أو بعضها إلى السوق السوري، وكانت التقديرات تتحدث عن عوائد بلغت 5.7 مليار دولار في العام الماضي 2021 لوحده كما أشار تحقيق لصحيفة دير شبيغل الألمانية، لكن تَحسُّناً في الاقتصاد السوري لم يحصل كانعكاس لتُوفُّرِ عوائد مالية كبيرة، وهو ما يعني انتقال معظم تلك العوائد إلى خارج البلاد وعدم مشاركتها في العملية الاقتصادية.

بلغ معدّل الاستثمار الأجنبي في سوريا عام 2019، وفق أسعار صرف العملة في ذلك العام، ما يقارب 52.5 مليون دولار حسب تقرير صادر عن هيئة الاستثمار الحكومية، ولا يبدو أنّ أحداً يريد أن يدفع أكثر من ذلك في بلد لم يستقطب في أحسن أحواله في ظل حكم نظام الأسد استثمارات أجنبية أو محلية كبيرة.

سياسات اقتصادية متعثرة

بالإضافة إلى كل تلك العوامل، فإنّ أسلوب إدارة البلاد الحالي لا يُنبئ أبداً عن أي تدابير صائبة أو دراسة حقيقية، فقد كانت القرارات الاقتصادية أحياناً تُنتِجُ أوضاع مضرة بنظام الأسد نفسه، مثل عمليات الابتزاز المالي المستمرة التي أخافت صناعيين وتجاراً استمروا في العمل في سوريا حتى سنوات قليلة مضت، وكذلك طريقة طرح المشاريع الاستثمارية في أُطُر قانونية غير واضحة وغير فعّالة، وتنجم عنها انتهاكات لحقوق الملكية على نطاق واسع كما في القانون رقم 3 لعام 2018 الخاص بتدوير الأنقاض، الذي عَمَّقَ انخفاضَ الثقة بالسوق السوري في ظل حكم النظام الحالي.

كما أدّت السياسات النقدية بشكل مباشر إلى زيادة التضخم بدل التحكّم به، وتغطية العجز بعجز أكبر منه، عدا عن ابتزاز رجال الأعمال الموجودين بمن فيهم المقربون من النظام في ظل انتشار غير مسبوق للفساد في الإدارات الحكومية، وانهيار الخدمات الأساسية دون أي اكتراث من الجهات الحكومية الفاعلة، وانتشار عصابات الخطف والسلب المدعومة من أجهزة أمنية ومراكز قوى في النظام.

ليس هناك حلّ ممكن في وجود النظام الحالي بالتركيبة وطريقة الحكم الحالية. لا يمكن للفساد المقترن بالدكتاتورية، بالإضافة إلى بلد مدمر بلا بنى تحتية وشعب يعيش تحت خط الفقر بعد أن هُجِّرَ أكثر من ربعه إلى الخارج، أن يُنتَجَ أي تحسن اقتصادي مهما كانت الظروف المحيطة. وحتى بوجود دعم دولي، فإنّ جزءاً غير قليل من تلك الأموال ستنتقل إلى الخارج مجدداً بسبب الفساد. في الحقيقة، إنّ الكشف المتكرر عن فساد كبير طال العمليات الإنسانية في مناطق سيطرة النظام سيؤدي تدريجياً إلى تراجع الدعم الإنساني الدولي، لا إلى زيادته.

منذ أسابيع، طلبت وزارة الخارجية في حكومة النظام من الأمانة العامة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية تغطية تكاليف سفر وإقامة الوفد السوري من أجل حضور اجتماع دوري حول عملية إزالة الأسلحة الكيميائية من سوريا بموجب قرار مجلس الأمن 2118، وهددت بعدم الحضور في حال عدم تغطية تكاليف تنقُّل الدبلوماسيين التابعين لها. حكومة الأسد مفلسة منذ الآن حرفياً، وغير قادرة على دفع تكاليف سفر وفد تابع لها إلى بيروت.

ستشهد الأزمة الحالية انفراجاً نسبياً قريباً مع وصول سفن التي تحمل النفط إلى ميناء بانياس، لكن الأوضاع تتجه في العموم إلى التدهور، ولا تنبئ طريقة تعامل النظام السوري معها بأي فرصة لإيجاد حلّ يوقف هذا التدهور. لم يقم النظام السوري، وتحديداً بشار الأسد ومحيطه العائلي، بتنفيذ أي استثمارات إنتاجية كبيرة في البلد، بل اعتمدوا دوماً على التحكم بالقطاعات الخدمية التي تدّرُ عائدات مضمونة دون أن تتطلّبَ رأس مال كبيراً، مثل قطاعات الاتصالات أو الوقود الأحفوري، بينما تُرِك رجال الأعمال المحليون ليبنوا المصانع القادرة على تشغيل أعداد كبيرة من السوريين. لقد تُرك هؤلاء لمصيرهم تماماً عند الأزمات، من دون أي دعم كما حصل في أزمة معامل الألبسة التي تسببت بإفلاس الكثير من المعامل في بداية الألفية، أو أنهم تُركوا ليَستثمروا في مشاريع كبيرة ثم تمّت محاصصتُهم في أرباحهم لاحقاً.

اليوم، لا يملك أحد من السوريين أو من غير السوريين القدرة أو الرغبة في ضخ مبالغ كبيرة في مشاريع البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية. يمكن لبشار الأسد وحده فعل ذلك، لكن التجارب عبر خمسين عاماً من حكم هذا النظام تقول بأنّه وعائلته فضّلوا دوماً الاحتفاظ بالأموال المنهوبة في الخارج، وتركوا السوريين يتدبرون أمرهم. في كثير من الأحيان، كانوا يمنعونهم حتى من تَدبُّرِ أمورهم.

لا يوجد أفقٌ واضح لأي حلّ سياسي في سوريا اليوم، وفي الوقت الذي تتالي فيه الأزمات الاقتصادية الخانقة، تُظهِر بنية الدولة انهيارات وفشلاً واضحاً عن أداء أبسط وظائفها. في العمق، فقدت هذه الدولة قدرتها على ذلك تدريجياً منذ وَجّهت أدوات العنف التي تمتلكها إلى صدور المتظاهرين العُزَّل، ومن ثمّ إلى بيوت ومدن السوريين ومعاشهم طوال العشر سنوات الماضية. لا يمكننا أن ننتظر تعافياً اقتصادياً إلى جانب ركام بيوت داريا وحلب ودوما ودير الزور وحمص. تقول لنا أبسط قواعد الاقتصاد إن نموذج الإدارة الحالي بكل ما فيه من فساد وديكتاتورية ودولة قائمة على جثث مواطنيها، لا يمكن أن يُنتِجَ ازدهاراً لا الآن ولا في وقت لاحق.

بالإمكان لوم العقوبات الدولية والقطيعة الدبلوماسية والاقتصادية من قبل أغلب دول العالم، بالإمكان الاستمرار في اجترار هذه الصيغة من الردود الجاهزة لسنوات، لكنّ هذه الردود لن تُوفِّرَ الوقود الذي ينقطع عن السوق المحلية كلّ بضعة أشهر، ولن تُوفِّرَ استقراراً في سعر صرف العملة المحلية. وحده التغيير السياسي الحقيقي في البلاد قد يفتح نافذة على أمل في تحسن الأوضاع، والأمر هنا لا يتعلّق بالآمال أو الرغبات السياسية، بل هي حقائق الاقتصاد والسياسة الصعبة التي تواجه السوريين اليوم، في حين لا يجد بشار الأسد نفسه معنياً بأيّ منها على الإطلاق.

موقع الجمهورية

——————————–

سوريا الأسد والسقوط في هاوية بلا قاع/ بكر صدقي

طوال السنوات السابقة قيل دائما عن الأزمة الاقتصادية والمعاشية في مناطق سيطرة النظام بأنها بلغت مستويات غير مسبوقة، وبدا كأن العبارة هذه فقدت معناها، لكنها كانت دائما تعكس أوضاعا حقيقية. فالأزمة المتجددة المتفاقمة هي دائما غير مسبوقة بالقياس إلى ما سبقها، ثم تتحرك الأوضاع هبوطا باطراد لتصل دركات جديدة غير مسبوقة بدورها وهكذا…

ما يصلنا من حشرجات الداخل السوري، وبخاصة في مناطق سيطرة النظام، مرعب حقا. فما معنى أن تعطل دوائر «الدولة» بسبب فقدان الوقود والشلل في خطوط النقل الناتج عن ذلك؟ ومثلها مدارس في العاصمة دمشق وغيرها من المدن؟ وما معنى عدم قدرة «الدولة» على استيراد الوقود وغيره من السلع الأساسية بسبب خلو المصرف المركزي من القطع الأجنبي؟ وما معنى الشلل الذي يضرب القطاعات الإنتاجية بما في ذلك المخابز؟ وما معنى هروب ما تبقى من رؤوس أموال خاصة نجت من «سلبطة» أمراء الحرب وأجهزة المخابرات وأذرع العائلة الحاكمة إلى الخارج؟

يظهر ممثل في مقطع فيديو قصير يرجو فيه و«يترجى» من يناديه بـ«السيد الرئيس» لإيجاد حل لأوضاع «لم تعد قابلة للتحمل» على حد تعبيره.

«وحدك تملك القدرة على الحل» يقول وضاح حلوم بصوت متهدج وأداء مأساوي، ولا نعرف ما الذي يأمله من «رئيس» سبق وأعلن منذ سنواته الأولى في الحكم أنه «لا يملك عصا سحرية» يحل بها كل المشكلات. لقد قال ذلك ولم يكن قد مضى على وراثته «السحرية» لمنصب الرئاسة بعد موت أبيه إلا سنة أو أكثر قليلا، وكان الاستقرار سائدا وربيع دمشق تم القضاء عليه.

كان في ذلك الوقت يملك عصا سحرية فعلا يستطيع بها أن يغير مجرى تاريخ سوريا، لكنه استخدمها في الحفاظ على أسس النظام الدكتاتوري الفاسد الذي ورثه من أبيه وفي قمع معارضة ديموقراطية بالكاد تنفست قليلا في الأشهر الأولى من عهده، وفي ابتلاع الاقتصاد السوري من خلال ابن خالته رامي مخلوف وآخرين. أما اليوم فكلمة حق يجب أن تقال: «سيده الرئيس» لا يملك الآن لا عصا سحرية ولا حتى زمام أمره الذي سلمه لروسيا وإيران، فكيف له أن يجد حلا لأزمات هي نتاج طبيعي لخياراته الأولى في مواجهة مطالب السوريين في الحرية والكرامة بحرب مفتوحة مستخدما كل الأسلحة التي في حوزته بما فيها السلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة. وحين فشل في القضاء على الثورة، على رغم كل المجازر التي ارتكبها، استعان بميليشيات تابعة لإيران، ثم بالجيش الروسي.

والنتيجة هي انقسام سوريا إلى مناطق محتلة منفصلة بعضها عن بعض، وقواعد عسكرية روسية في كل مكان. والنتيجة هي شلل شبه كامل في الاقتصاد وتدهور قيمة العملة المحلية في هاوية بلا قاع، بالتوازي مع تدهور أحوال الناس المعاشية في الهاوية نفسها إلى درجة أن 90٪ من الناس باتوا تحت خط الجوع أي غير قادرين على تأمين المواد الغذائية، ناهيكم من الخدمات الأساسية الأخرى كالصحة والتعليم والسكن وغيرها من أساسيات الحياة.

هل يؤدي ذلك، أي بلوغ أوضاع الناس الحياتية درجة «لا تطاق» على حد تعبير الممثل المشار إليه أعلاه، هل يؤدي إلى «ثورة جياع» تطيح بالنظام؟ لعل هذا ما يأمله ويتوقعه من أطلقوا دعوات للإضراب العام بالتزامن مع استمرار تمرد الأهالي في مدينة السويداء. وكأنهم لا يعرفون أن ثورة 2011 التي تمكن النظام من القضاء عليها شملت معظم المدن وشارك فيها ملايين السوريين لا يمكنها أن تتكرر بمجرد أن الحياة ما عادت قابلة للاحتمال. فالنظام العاجز عن إدارة الشؤون العادية كتأمين مستلزمات الحياة والخدمات الأساسية ما زال قادرا على قمع أي تمرد اجتماعي بداعي الجوع أو غيره من الدوافع. فجوهر النظام هو استعباد السوريين والسيطرة على حياتهم وقتلهم إذا اقتضت الضرورة. كل شيء قابل للتغير لدى النظام إلا هذا الجوهر الثابت وإلا لكان استجاب لمشاريع حلول سياسية عربية ودولية استهدفت بقاءه مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة. حتى مقاربة «خطوة مقابل خطوة» التي طرحها الملك الأردني ثم تبناها ممثل الأمم المتحدة بيدرسون، رفضها بصلف لأنه لا يستطيع تغيير جوهره. كثيرة هي أوضاع بالغة القتامة مرت بها شعوب ودول في التاريخ، فكان المعنيون ينتظرون ضوءا في نهاية النفق المظلم، وذلك لأن لا شيء يبقى في حالة جمود، فيتحرك القطار قدما في الظلام إلى أن يظهر الضوء في آخر النفق.

في حالة سوريا الأسد أيضا لا شيء يبقى ساكنا بلا حراك، لكن الفارق هو أن سوريا بنظامها وسكانها ليسوا في نفق مظلم لا بد أن ينتهي مهما بلغ طوله، بل بهاوية مظلمة لا قاع لها، سقوطا بلا نهاية، وإذا ظهر القاع أخيرا فسوف ترتطم به سوريا وتتحطم.

هناك من يشبّهون النظام بثمرة متعفنة ستسقط بذاتها لأن أحدا لم يقتلعها، لكن هذا النظام ليس ثمرة، بل هو العفن بذاته وقد سمم سوريا طوال ما يزيد عن نصف قرن من تاريخها، ولن يسقط إلا بعد سقوط سوريا لا قبل ذلك.

كاتب سوري

القدس العربي

———————

ثورة الجياع إلى أجل غير مسمّى في سورية؟/ سوسن جميل حسن

منذ ما يزيد على الثماني سنوات، وتحديدا في 22/ 10/ 2014، كتبتُ في “العربي الجديد” مقالة عنوانها “ثورة جياع تقترب في سورية”، ولكن هذه الثورة لم تحدث في أي من هذه السنوات، بالرغم من اشتداد الحصار على حياة السوريين، وتردّي مستواهم المعيشي إلى الدرك الأسفل.

في تلك السنة، كان سعر صرف الدولار دون الـ 190 ليرة، وكان راتب الموظف من الدرجة الأولى يعادل 250 دولارًا، مع الإشارة إلى أنه كان قبل العام 2011 يتراوح بين 800 و1000 دولار، بحسب سنوات الخدمة للموظف، وكان برنامج تقنين الكهرباء على شكل أربع ساعات وصل وساعتي قطع، وأحيانًا قد تمنّ الحكومة على الشعب بخمس ساعات وصل وساعة قطع. وكان سعر البنزين 140 ليرة لليتر الواحد، وقد جرى رفعه في نهاية ذلك العام إلى 150، أما سعر المازوت الذي يعدّ العنصر الأساسي للتدفئة والمصانع فكان حينها 80 ليرة، رفع في نهاية العام إلى 150، ما شكّل صدمة حينها للناس. أما أسطوانة الغاز فكان سعرها 1150 ليرة، مع الإشارة إلى أن كل هذه السلع الضرورية كانت في أزمةٍ لا يستطيع المواطن الحصول عليها إلّا بمشقة، لكنها متوفرة بأريحية بأسعار أغلى في السوق السوداء.

خلال ثماني سنوات، تفاقمت الأزمات مجتمعة، من يتابع الوضع الراهن للسوريين في الداخل يرى بوضوح إلى أي دركٍ انهارت حياتهم، وكيف صارت الأسعار أكبر من تصوّر العقل وأكبر من الفهم والاحتمال، فالمحروقات شبه مفقودة، إلّا في السوق السوداء التي يصل فيها ثمن ليتر البنزين إلى عشرين ألف ليرة، والمازوت كذلك، ما أدّى إلى شلل شبه كامل في الحياة، حيث لا مدارس، لا جامعات، لا موظفين يستطيعون الوصول إلى أماكن عملهم، لا تنقّل بين المدن والمحافظات، وأسعار النقل جنونية، في حال توفر الوقود، أفران كثيرة تصنع الخبز الشعبي مغلقة، وتلك التي تصنع الخبز السياحي أو المحسّن، لا أزمة تمر عليها، لأن زبائنها يدفعون، ولا تمرّ الأزمة بجانبهم، بل لا يشعرون بوجودها.

لا يمكن الحديث عن كل المجالات التي طاولها العجز بسبب هذا الانهيار، لكن من الطبيعي القول إن اقتصاد الدولة في أسوأ حالاته، والليرة أيضًا لم تعد قادرةً على الصمود، فسقوط قيمتها مريع بسرعته أمام الدولار، إذ تجاوز الستة آلاف ليرة واقترب من السبعة آلاف، والشعب المسكين ينام على جوع ويفيق على بطون فارغة وأجسام ترتجف من البرد، وأطفال يتضوّرون جوعًا ويستهلكون أعمارهم ويكبرون تحت ضغط الحرمان، من دون أن يعرفوا الطفولة.

لم تعد الظروف والمبرّرات التي دفعت الشعب إلى الانتفاض هي نفسها، فإن كانت انتفاضة 2011 هي انتفاضة كرامة بالدرجة الأولى، انتفاض على الظلم والفساد والمحسوبيات وكمّ الأفواه واعتقال أصحاب الرأي وما إلى ذلك، فإن الجوع كان في آخر دوافعها، فالجوع لم يكن متغوّلًا في حياة السوريين فيما مضى، كان هناك فقر، وكان هناك عدم مساواة في الاستفادة من موارد البلاد ومن الخدمات وغيرها، ما يعزّز القهر من انعدام المساواة، إنما الفقر لم يكن يصل بالشعب إلى الجوع الحقيقي كما هو حاصل حاليا، لكن الشعب ثار في وجه هذا كلّه، وكان مطلبه الأول الحرية، وسرعان ما انزلق الاحتجاج إلى العنف والعسكرة، ردًّا على العنف الذي واجه انتفاضتهم، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه من بلاد مقطّعة الأوصال تحت وصايات ونفوذ متعدّد، وانتهت بالشعب إلى مجتمعاتٍ ممزّقة متنافرة، مرهونةٍ حياتها للخارج، الذي لكل طرفٍ من أطرافه أجنداته ومصالحه يسعى إلى تحقيقها في هذه الحرب التي طالت وتطول، من دون أن يتقدّم الحراك السياسي بوصة واحدة إلى الأمام، فما المطلوب الآن؟

إن كانت الاحتجاجات مستمرّة منذ عامين في السويداء، فهل يمكن القول إنها ستمتدّ إلى باقي المناطق؟ وهل من المعقول أن تحمل السويداء، وحدها، عبء المقاومة في وجه هذه الظروف القاهرة للحياة؟ أليس من الضروري إعادة تقييم السنوات الماضية، والبحث عن بدائل أكثر نجاعة في توجيه بوصلة أي حراك؟ كتب في العام نفسه، 2014، الكاتب السوري خطيب بدلة “وأما أنا، فقد وصلت إلى قناعةٍ مفادها بأن أكبر خطأ ارتكبناه، نحن الثوار السوريين، هو إضاعة الوقت في الحديث عن إسقاط النظام، ولم نكلّف خاطرنا بمناقشة المسائل الأساسية الكبرى التي تعطي للثورة ملامحها، وترسم شخصيتها، وتوصلها إلى إسقاط النظام فعلاً، وهي المتعلقة بدستور الدولة المقبلة، بعَلمها، باسمها، بمصادر التشريع فيها، وبكل آليات تداول السلطة فيها”، فهل فات الأوان على مناقشة الأخطاء “الكبرى”؟

بدأت الثورة السورية على شكل بؤر، لم يكن هناك من يقرّر، فمن قرّر أن نذهب إلى السلاح مثلًا؟ وهذا ليس قرارا عفويًا، ولم يكن هناك تنسيق. كانت المشكلة، وما زالت، غياب السياسة، انفجرت الثورة السورية على شكل براكين صغيرة ليست منسّقة ولا ترتبط مع بعضها بشكل قوي، وإذا كنا أشحنا وجوهنا عن تلك الحقيقة، فلا مجال لعدم الاعتراف بها اليوم، وفي الوقت نفسه، لا بدّ من الإشارة إلى أنه لا يمكن لحراك شعبي أن يتقدّم ويحقّق أي هدف له من دون الاستفادة من الأخطاء القاتلة السابقة، ومن دون التنسيق والالتقاء على أهدافٍ جامعة أساسية، فهل يمكن للشعب السوري حاليًّا هذا الاجتماع؟ تحتاج الوحدة الوطنية إلى انتماء طوعي من مختلف المكونات، حتى مفهوم الوطنية صار نقطة خلافية، فماذا لو بقينا على حالنا من عدم الاجتماع؟ سيجري مزيد من التفكك والانقسام، وربما التنافر والمواجهة فيما بين المكونات، وهذا ما يضعف أي حراك.

كانت المشكلة، في البداية، مشكلة حربٍ وهروب رأس مال، أمّا خلال السنوات الثلاث الماضية فقد اختلف الوضع. إنه الآن في سورية أصعب بكثير من العام 2014، العقوبات أثرت بشكل أكيد وواضح، لكن المشكلة أكبر من العقوبات، هي في سوء الإدارة والفساد، وفي وضع الاقتصاد المنهك الذي تعد الدولة هي المخوّل الرئيسي لإدارته وحمايته، وفي الوضع الإقليمي الذي لم يعد كما كان، بل والعالمي أيضًا، حيث داعما النظام الرئيسيان، روسيا وإيران، في أزمة ولم يعد في خططهما الدعم كما كان في السابق، والنتيجة أن الشعب السوري تزداد معاناته يومًا بعد يوم، حتى وصل إلى شفير الهاوية. الدور الاقتصادي هو الفاعل في الوقت الراهن، في ظل الجمود السياسي، شبه المنعدم حاليًا، لو وجد أي تمثيلٍ سياسيٍّ قادر على إقناع البقية في الانضمام إلى صفوف المحتجين، لكن لا يوجد، فمناطق سيطرة المعارضة ليست أفضل حالًا، هم يسعون إلى تغيير واقعهم أيضًا، إنما بدون خطة ولا سقف سياسي فاعل.

بعد انهيار المجتمع، وتردي الوعي إلى الدرك الأخير، واستلاب الجوع للأجساد والنفوس، وتهديده حياة المواطنين السوريين، لن يكون هناك مفر من انتقام الجائعين، لن يكون مفرّ من هياج غريزتهم بأعتى صورها وممارساتها، هذا استنتاجٌ منطقي آخر، لكن الواقع يدفعنا أيضًا إلى سؤال استقرائي في المقابل: هل حاجز الخوف عاد وانبنى بقوة أكبر في نفوس الناس؟ هل بات الخوف أكبر من الجوع، وتخطّيه أقرب إلى الموت؟

وأخيرًا: هل كان ما كتبت في تلك المقالة نبوءةً خاطئة، تنمّ عن قصورٍ منّي في فهم ما يحدث على الأرض؟ أم استقراء خاطئ لما توهّمتُ حينها، وربما توهّم غيري أنها أسباب وجيهة لاندلاع ثورةٍ من هذا النوع، أم عدم فهم بما يكفي لما يخزّن التاريخ من تجارب مماثلة، ثورات الجوع في العالم، والتي من أشهرها الثورة الفرنسية؟ كثيرون، وكاتبة هذه السطور من بينهم، كانوا يحلمون بثورةٍ أخرى غير ثورة الجياع، ثورةٍ لها غطاء فكري يحميها ويدفعها إلى التقدّم. ومع هذا، يبدو أن ثورة الجياع تعاني في رحمها.

العربي الجديد

——————————-

تأثير الأزمة الاقتصادية السورية على العائلات.. “كيف لنا أن ننجو من هذا

ترجمة: أحمد عيشة

المحتوى

مقدمة

المنهجية

التدهور الاقتصتدي

معركة التكيّف

الاحتياجات الخمسة الأهم للسوريين الذين قابلناهم عام 2022

البنود المقننة

آثار أزمة أوكرانيا

الحلول

التوصيات

مقدمة

تدخل الأزمة السورية الآن عامها الثاني عشر، ولا يزال السوريون في جميع أنحاء البلاد يواجهون أزمات متعددة، إذ يخيّم عدم الاستقرار على السكان المتضررين من الصراع، ويعاني السوريون أسوأ التداعيات الاقتصادية منذ بداية الصراع. إن التدهور الاقتصادي الحاد الذي يمزق البلاد يعني أن الكابوس لم ينتهِ بعد بالنسبة للسكان الضعفاء. بعد معاناتهم من صراع مميت لأكثر من عقد، يواجه السوريون الآن ارتفاعات غير مسبوقة في تكاليف المعيشة وصعوبات في التأقلم والتكيف مع تلك الظروف. أدت آثار الصراع، مع فيروس (كوفيد -19) والعقوبات وجملة من العوامل الأخرى، إلى تدهور اقتصادي في جميع أنحاء البلاد. يشعر السوريون الآن أيضًا بالآثار المتتالية للأزمة الأوكرانية، مع ارتفاع أسعار الغذاء والوقود بسبب تعطل الواردات، وهي حالة ستزيد من حالة انعدام الأمن الغذائي الهشة في جميع أنحاء البلاد.

تسبب الانخفاض الحاد في مستوى المعيشة في سورية في حدوث تحول على مستوى البلاد، في الطريقة التي يعيش بها السوريون حياتهم. ويتعين على ملايين العائلات الضعيفة في جميع أنحاء البلاد اتخاذ خيارات صعبة، كجزء من هذا الكفاح المؤلم من أجل البقاء. أدى الارتفاع الكبير في أسعار السلع والخدمات عبر المحافظات إلى تحطيم سبل عيش الناس وتجريدهم من الخيارات القابلة للتطبيق. تواجه العائلات السورية المستضعفة الآن قرارات مستحيلة، مثل شراء الأدوية لأقاربها المرضى، أو وضع الطعام على المائدة، أو إرسال أطفالهم إلى المدرسة، أو العمل من أجل تغطية تكاليف المعيشة الأساسية. تحدّثْ إلى الناس في أي مكان في سورية، وسيقولون لك إن الحياة لم تكن يومًا بمثل هذه الكلفة الباهظة، وأن التكيف لم يكن قطّ بهذه الصعوبة، وقد عبّرت امرأة من الشمال عن ذلك، في مقابلة، بالقول: “كيف نتوقع أن ننجو من هذا!”. أدت الأزمة إلى سلسلة من الإجراءات التي لا مفر منها، والتي أصبحت روتينًا يوميًا؛ الذهاب إلى الفراش جائعًا، والوقوف في طوابير لساعات للحصول على ربطة من الخبز، وحرق البلاستيك السام كي تتدفأ.

أجرى المجلس النرويجي للاجئين (NRC) مقابلات مع مئات العائلات السورية النازحة داخليًا، ومع العائدين، لفهم تأثير الأزمة الاقتصادية على حياتهم في الأشهر الأخيرة. بخلاف الإحصاءات، من الأهمية بمكان إظهار ما يعنيه العيش في ظل هذه الأزمة الاقتصادية، في جميع أنحاء البلاد. ترسم الشهادات التي شاركها سوريون من الشمال إلى الجنوب، مرورًا بوسط سورية، صورة للمعركة، وتوضح الحلول المطلوبة. تظهر النتائج التي توصلنا إليها أن غالبية السوريين الذين قابلناهم اضطروا إلى ترشيد الطعام، وأن أكثر من ربعهم اضطروا إلى التخلي عن الأدوية المطلوبة بسبب التكاليف الباهظة. دفع فصل الشتاء القاسي الناس إلى أن يحرقوا الملابس القديمة والأكياس البلاستيكية للتدفئة، مع ارتفاع أسعار الوقود الكبير والمفاجئ.

يريد السوريون الخروج من أكثر من عقد من هذه المعاناة التي لا نهاية لها، ولكنهم يحتاجون إلى دعم ثابت من مجتمع المانحين الدوليين، وإلى حلول طويلة الأمد. يطالب السوريون الضعفاء بحلول طويلة الأمد، وبمساعدات مستدامة تدعمهم ليصبحوا معتمدين على أنفسهم وليعيشوا حياة كريمة.

مع استمرار انتشار الفقر في جميع أنحاء البلاد، يجب على صانعي القرار والمانحين والحكومات التي لها تأثير ونفوذ على الأزمة ألا يُحوّلوا انتباههم بعيدًا عن سورية. إن الحفاظ على المساعدة الإنسانية، وزيادة جهود التعافي المبكر والصمود في البلاد، سيساعدان السوريين في مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية. مع انتشار الأزمات الأخرى في العالم بسرعة، فإن سورية معرضة لخطر السقوط من قائمة الأولويات، عندما يتعلق الأمر بتمويل المساعدات الدولية والجهود الدبلوماسية، يجب على الحكومات المجتمعة في بروكسل، لحضور مؤتمر التعهدات الدولي المقبل حول سورية، أن تظل ملتزمة تجاه المحتاجين في جميع أنحاء البلاد، كما يجب زيادة الدعم للفئات الأكثر ضعفًا في سورية في هذا الوقت الحرج، لا تقليصه.

المنهجية

أجرى المجلس النرويجي للاجئين مقابلات مع (120) أسرة، في سبع محافظات سورية، في الفترة من كانون الثاني/ يناير إلى آذار/ مارس 2022. وتشمل النتائج التي توصلنا إليها أيضًا دراسات استقصائية أجريت على (406) أسرة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، في غالبية المحافظات في سورية. استنارَ هذا التحليل أيضًا بالخبرات والرؤى البرمجية للمجلس النرويجي للاجئين في جميع أنحاء سورية، وبمعلومات ثانوية من الهيئات الأخرى. إن عينة البيانات لا تمثل عموم السكان، إلا أنها توفّر لمحة دلالية عن تأثير التدهور الاقتصادي والاحتياجات المتزايدة لقطاع عريض من السوريين الضعفاء الذين يعيشون داخل البلاد. من بين المستجيبين لدينا عائلات سورية نازحة وعائلات عائدة. ولضرورة حماية الأشخاص، غيّرنا بعض الأسماء.

التدهور الاقتصادي

تزداد الحالة الاقتصادية في سورية سوءًا، يومًا بعد يوم. أخبر السوريون المجلس النرويجي للاجئين أنهم “انتقلوا من الحرب إلى الجحيم”. بعد عراكهم مع عقد من الصراع، يعانون الآن حالة تدهور اقتصادي حاد. أدت الآثار المجتمعة للصراع والفساد والعقوبات المفروضة دوليًا، وتأثير الأزمة المالية في لبنان، ووباء (كوفيد -19)، إلى دفع مزيد من السوريين إلى الفقر، وتركتهم بحاجة إلى مساعدات إنسانية بأعداد أكبر. أدى ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملة والديون الوطنية، إلى جانب الخسائر المتراكمة الشديدة في الناتج المحلي الإجمالي، إلى ضائقة اقتصادية شعرت بها العائلات في جميع أنحاء البلاد.

وقد أدى هذا الوضع إلى تآكل شديد في القوة الشرائية للأفراد، وتسبب في فقدان الدخل وسبل العيش، وزيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر. وفقًا للنظرة العامة للاحتياجات الإنسانية في سورية لعام 2022، هناك ما يقدر بـ (14,6) مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية في عام 2022، بزيادة قدرها (1,2) مليون، مقارنة بعام 2021 [1]. تنفق الأسرة المتوسطة الآن أكثر مما تكسب، مع وجود قصص عديدة لأشخاص تتراكم عليهم الديون بمقادير كبيرة. فقط (10) في المئة من الأسر لديها دخل يفوق الحد الأدنى لسلة الإنفاق في سورية [2].

مخيّم للمهجّرين في شمال سورية

“اعتاد طفلي الحصول على أفضل الدرجات في صفه، لكن كان علي أن أخرجه من المدرسة ليساعدني. ما هي الخيارات الأخرى لدينا”؟

 أب لأربعة أولاد من درعا

أدت الأزمة إلى ارتفاع تكلفة السلع الأساسية، مثل الغذاء والماء والوقود، وغدا من غير الممكن تحملها بشكل متزايد. أدى التدهور الاقتصادي إلى تدهور حاد في الظروف المعيشية للسكان النازحين داخليًا في سورية، وعددهم (6,9) مليون نسمة، والعائدين والمجتمعات المضيفة على حد سواء. وأدى الافتقار إلى الوصول إلى الخدمات الأساسية وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية وانعدام الأمن العام، إلى زيادة عدد الأشخاص العائدين إلى مخيمات النزوح، وإلى تدهور الأوضاع المعيشية. ينتقل النازحون السوريون أيضًا إلى القرى والمنازل المدمرة، لأنهم لا يستطيعون تحمّل نفقات الإيجار في مناطق النزوح، وهم يتنقلون بحثًا عن فرص مدرة للدخل [3]. توقع تحليل المجلس النرويجي للاجئين أن يؤدي التدهور الاقتصادي إلى مزيد من النزوح [4]. في حين أن التدهور الاقتصادي هو الآن محرك النزوح الداخلي وتحركات السكان، فإن الأزمة الاقتصادية محسوسة أيضًا في جميع محافظات البلاد، حيث يعيش أكثر من (90) في المئة من الناس في حالة فقر [5]. هناك زيادة في أولئك الذين يعيشون في ضائقة مالية تتجاوز الآن حتى السكان النازحين. تقلصت الطبقة الوسطى، التي كانت تشكل في السابق (60) في المئة من المجتمع السوري قبل الصراع، لتصل الآن إلى نحو (10-15) في المئة، وهو انخفاض أضرّ ضررًا كبيرًا بخلق فرص العمل، وما تبقى من الصناعات الباقية في البلاد [6]. كما تم تدمير بعض أشهر المناطق الصناعية المشهورة في سورية بشدة، نتيجة الصراع المستمر منذ عقد من الزمان. على سبيل المثال، في حلب التي تُعدّ المركز الصناعي لسورية، دمِّرت (70) في المئة من البنية التحتية في الصراع [7]. كما دمِّرت الخدمات الأساسية والبنية التحتية نتيجة للصراع [8]، وهو ما أدى إلى نقص المياه، والرعاية الصحية، وخدمات الكهرباء والتعليم [9].

هناك كثير من الأرقام الأخرى التي تذكرنا بأنّ سورية لا تزال تمثل أزمة إنسانية معقدة، وتوضح أن الاحتياجات آخذة في الازدياد. على سبيل المثال، يعاني أكثر من نصف السكان، أو (12,4) مليون شخص، حالة انعدام الأمن الغذائي، أي إنهم لا يستطيعون أن يضمنوا توفير وجبة الطعام التالية، فضلًا عن كونها وجبة صحية أو مغذية [10]. وراء الإحصائيات والأرقام، هناك العائلات التي تفتقر إلى الضروريات الأساسية اللازمة للتغلب عليها. هناك حاجة إلى فهم أفضل لما تعنيه هذه الأزمة الاقتصادية في حياة الناس اليومية.

“لا يمكنني تحمل التكاليف”

(رنا) من شمال سورية تكسب ما يعادل 10 دولارات أميركية من عمل أسبوع كامل، بمجالسة الأطفال. لا يكاد المال يغطي قيمة وجبتين. يجب تغطية بقية الاحتياجات اليومية بإحدى طريقتين؛ الاقتراض أو التقنين.

أطفال (رنا) الثلاثة، الذين تربيهم الآن بمفردها، “يكبرون جائعين، وليس لديهم مستقبل يتطلعون إليه”. آخر من بقي في المدرسة على وشك الانقطاع عن الدراسة، مع ارتفاع الرسوم الدراسية.

تقول (رنا): “علينا تقنين الطعام عندما يتعلق الأمر بما نأكل وكم نأكل. لقد استبدلنا زيت الزيتون والأرز ببدائل أرخص. في بعض الأحيان، نضطر إلى إلغاء اشتراكنا في مولد الطاقة، لأنني لا أستطيع العثور على المال، أفضّل شراء الحليب وحفاضات الأطفال.

“لديّ طفل واحد بقي في المدرسة، ولكني أعلم أنني قد أضطر لإخراجه قريبًا. لا أستطيع تحمل التكاليف؛ القرطاسية والملابس، وهذه نفقات كثيرة، بالقياس إلى ما نحصّله.

“لدي خبرة في الخياطة، وكنت أعتقد دائمًا أن امتلاك آلة يمكن أن يساعد في حل كثير من مشاكلي. إنه أمرٌ بسيط، ولكن يمكن أن تحقق نجاحًا نحو مساعدة عائلتي”.

معركة التكيف

توضح وجهات نظر السوريين مدى القلق بخصوص الاحتياجات اليومية. قال أحد الآباء:

“في الليل، أبقى مستيقظًا، أفكر كيف يمكنني توفير الخبز لأسرتي في الصباح”.

يُظهر بحثنا أنه حتى مع توفر الوظائف، لا يمكن للأسر السورية تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والوقود والدواء، فهي ما تزال تجد أنها بحاجة متزايدة إلى تأمين الضروريات الأساسية. شهدت العائلات في سورية تراجعًا حادًا في قوتها الشرائية. أظهر مسح أجراه المجلس النرويجي للاجئين في غالبية المحافظات، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أن متوسط ​​عائلة مكونة من خمسة أفراد في المناطق الحضرية، أو ستة في المناطق الريفية، تحتاج إلى ما لا يقل عن (515,000) ليرة سورية، ما يعادل (206 دولارات أميركية بالسعر الرسمي وقت كتابة هذا التقرير)، وذلك لتأمين الضروريات الأساسية: الطعام والملابس والإيجار والنقل والمرافق والفواتير والتعليم والنفقات المتعلقة بالصحة. ما يقرب من تسعة من كل عشرة أسر شملها الاستطلاع تتقاضى أجرًا ثابتًا لا يغطي التكاليف الأساسية. الحد الأدنى للأجور الشهرية في سورية هو (93,000) ليرة سورية، في حين أن تكلفة سلة الغذاء النموذجية -الحد الأدنى من المتطلبات الغذائية اللازمة- لأسرة مكونة من خمسة أفراد، قفزت بنسبة (24) في المئة خلال شهر واحد فقط، من (231,004) ليرة سورية في شباط/ فبراير، إلى (286,757) في آذار/ مارس 2022 [11]. وهذا يجعل الطعام الأساسي بعيدًا عن متناول الملايين. كما تأثر شمال غرب سورية بتخفيض قيمة العملة [12]. انخفضت قيمة الليرة التركية التي اعتمدت كبديل لليرة السورية في عام 2020 إلى أدنى مستوى لها مقابل الدولار، عند قيمة (14,634) ليرة تركية مقابل الدولار الأميركي، ابتداءً من نيسان/ أبريل 2022. تشعر المجتمعات بانخفاض قيمة العملة، حيث تشهد زيادات إضافية في أسعار السلع الأساسية، من ضمن ذلك الغذاء والماء والوقود.

لم يحصل أيٌّ ممن قابلهم المجلس النرويجي للاجئين، والذين قدموا معلومات عن دخلهم، على الحد الأدنى من المبلغ المطلوب للبقاء على قيد الحياة (206 دولارات). يتضح هذا أيضًا في البيانات الحديثة التي جمعناها في نظرة عامة على الاحتياجات الإنسانية للأمم المتحدة في سورية، التي تظهر نقص الدخل في جميع أنحاء البلاد [13]. وفقًا للمقابلات التي أجراها المجلس النرويجي للاجئين في عام 2022، يمثل الطعام الحاجة الأكثر إلحاحًا للناس في سورية، حيث قال (93) في المئة إنهم ليس لديهم ما يكفي من الطعام. يأتي وقود التدفئة والطبخ في المرتبة الثانية (63) في المئة، تليه المياه النظيفة (40) في المئة. وقالت أم لستة أطفال في ريف دمشق:

“الظروف المعيشية صعبة جدًا، لا تشبه أي شيء رأيناه. كانت (2,000) ليرة سورية تشتري الضروريات الأساسية، والآن لا تساوي أي شيء. بل إن (50,000) ليرة سورية، إن تمكنت من الحصول عليها، فلن تكفيك ليوم واحد”.

الاحتياجات الخمسة الأهم للسوريين الذين قابلناهم عام 2022

كان الافتقار إلى الوصول إلى الأطعمة الطازجة مثل الفاكهة والخضروات نمطًا واضحًا، تجلى بين أولئك الذين شملهم الاستطلاع. يعتمد غالبية الناس على نوع واحد من الطعام، مثل النشويات أو البقوليات، وهو ما يبدو أنه استهلاك/ تناول غير متوازن، يمكنه أن يسهم في نقص التغذية الجيدة. ويتسق هذا مع ارتفاع أسعار الخضار واللحوم المبلغ عنها في الأسواق السورية [14].

بالنظر إلى هذه الاحتياجات الأهمّ، هناك أيضًا غيابٌ واضحٌ لخدمات الطاقة الكافية، التي يبدو أنها أضافت نفقات إضافية على العائلات. قال عددٌ من الأشخاص الذين قابلناهم إنهم يفضّلون أن تقلّ مدة انقطاع التيار الكهربائي، على أن تزيد كميّة الوجبات. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الطاقة البديلة ومصادر التدفئة باهظة الثمن.

أجبر تضخم السوق وتضاؤل الدخل العائلات في سورية على ابتكار طرق جديدة للبقاء على قيد الحياة.

البنود المقننة

في بعض الحالات، وجد المجلس النرويجي للاجئين أنه يتعين على الأسر إرسال أطفالها للعمل، وتقليل كمية ونوعية الطعام المستهلَك، والاستغناء عن المساعدة الصحية العاجلة، وحرق الأكياس البلاستيكية للتدفئة، وهي مجموعة من التدابير المتخذة في وقت واحد.

كثير من العائلات التي قابلها المجلس النرويجي للاجئين قالت إنها تعتمد الآن على الطعام الذي يتبرع به الأقارب أو الجيران. قال أبٌ في شمال سورية إنه لا يشتري سوى الخضروات الرخيصة التي على وشك أن تفسد، لأنه لا يستطيع شراء الطعام الطازج.

أعربت أمٌّ لأطفال يعانون إعاقات في حماة، للمجلس النرويجي للاجئين، عن إحباطها من محدودية الإمدادات الغذائية، “نحن نستهلك فقط ربع ما نحتاج إليه. لذلك، نحدد أنواع الأطعمة التي نستهلكها؛ لا مزيد من اللحوم أو البيض أو منتجات الألبان أو الفواكه. لقد أثّر ذلك على صحة أطفالي العقلية. ابني يبلغ من العمر (10) أعوام، ولا يعرف طعم الفاكهة”. وقالت: “إنني أهرب من الواقع الذي نعيش فيه، لأنه لا يتناسب مع أحلامي”.

ماذا يقول السوريون عن الطعام؟

“ما دام لدينا خبز، يمكننا العيش”، “جيراننا يشاركوننا وجباتهم”، “الأسعار الباهظة تخنقنا”، “عندما لا يكون لديّ ما آكله على الإطلاق، أذهب إلى منزل والديّ، وأقول لهم (أنا وابنتي جائعان)، فنأكل ونعود إلى المنزل”، “في كثير من الأيام، يذهب أطفالي إلى الفراش من دون عشاء”.

لأجل الرعاية الصحية، يلجأ الأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف الأدوية باهظة الثمن إلى المسكنات أو الأدوية الرخيصة. ويؤجل آخرون العمليات الجراحية الحرجة التي لا يمكن تحمل تكاليفها إلى أجل غير مسمى. اضطر أبٌ في درعا إلى بيع أغراض منزله لشراء دواء لابنه. قالت مستجيبة أخرى إنها اضطرت إلى تطليق زوجها، لأنها لا تستطيع تحمل تكاليف رعايته الصحية. مثل هذه الحالات تقتحم منظور الحياة الواقعية، حيث يبلغ عدد السوريين الذين يحتاجون إلى المساعدة الصحية (12,2) مليون [15]. وهذا رقم كبير يتفاقم أكثر، لأن أكثر من نصف المرافق الصحية في البلاد قد تضررت أو دُمِّرت، مع نقص مزمن في الكوادر المؤهلة [16].

كان التأثير على الأطفال سلبيًا، وخصوصًا في خضم الأزمة الاقتصادية. من بين الذين قابلناهم، قال (50) من الأبوين إنهم اضطروا إلى إخراج أطفالهم من المدرسة حتى يتمكنوا من مساعدتهم في توفير الدخل. في كثير من الحالات، كان الطفل هو المعيل الوحيد في الأسرة. في استطلاع منفصل أجراه المجلس النرويجي للاجئين، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، قال (64) في المئة من المستجيبين إن الطلاب كانوا يشاركون في شكل من أشكال العمل اليومي خلال العطل، وهو علامة على أن الأطفال معرضون لخطر التسرب، إذا احتاجت أسرهم إلى دخل إضافي. قدِّرت التكلفة السنوية لإرسال الطفل إلى المدرسة سنويًا بـ (600,000) ليرة سورية (240 دولارًا أميركيًا). قال أحد الآباء في حلب للمجلس النرويجي للاجئين: “لكي يواصل أطفالنا تعليمهم، كان علينا بيع منزلنا”.

لم أجد أيّ جواب!

لا تزال فدوى تبحث عن وظيفةٍ في ريف دمشق، وتأمل العثور على عمل مناسب، ربما تجالس الأطفال. تذهب أموال فدوى وعائلتها بالكامل تقريبًا إلى الأدوية. شُخِّصت حالة ابنها البالغ من العمر 30 عامًا بكثير من الحالات العقلية، ويعاني زوجها مرض السكري وضغط الدم ويحتاج إلى مراقبة مستمرة عن كثب. وتعاني فدوى نفسها حالة صحية خطيرة، ولكنها لا تملك المال الكافي لسداد تكاليف الجراحة، التي تشتد الحاجة إليها.

تقول فدوى: “لا أجد مليون ليرة سورية لإجراء العملية، وبدلًا من ذلك، أتناول دواءً لوقف النزيف، لكن لهذا الدواء كثيرًا من الآثار الجانبية، مثل احتباس السوائل والسمنة والاكتئاب. من الساعة الواحدة إلى الساعة الخامسة، أقضي وقتي في النظر إلى السماء، أحاول التفكير في كيفية الحصول على المال، من دون أجد أي جواب”.. “نستأجر شقة في مبنى غير مكتمل. يلّمح المالك إلى أنه يريد زيادة الإيجار إلى (75) ألف ليرة سورية شهريًا”.. “نتمنى أن نتمكن من الحصول على الطعام الذي كنا نتناوله من قبل. منذ أسبوع، أحلم بتناول الزعتر، لكنني لا أستطيع الحصول عليه، لأننا نعطي الأولوية لدواء ابني على أي شيء آخر”.

بالنسبة إلى النازحين داخليًا في سورية، فإن استراتيجيات المواجهة، مثل تخطي وجبات الطعام وشراء المواد الغذائية الأقل تكلفة وعمالة الأطفال، هي الأكثر بروزًا. إن فرص كسب العيش المحدودة في المخيمات تجعل العائلات النازحة تعتمد على المساعدات الإنسانية، التي هي نفسها آخذة في الانكماش، إذ اضطر برنامج الغذاء العالمي في الآونة الأخيرة إلى تقليص كمية المساعدات في شمال سورية، بسبب تقليص التمويل وزيادة أسعار المواد الغذائية [17].

آثار أزمة أوكرانيا

إن الأزمات المتعددة التي يمر بها السوريون كل يوم ستتفاقم بسبب الصراع في أوكرانيا. تسببت الأزمة الأوكرانية في حدوث صدمة قوية من خلال نظام الإمداد الغذائي العالمي، مما حدَّ من الوصول إلى المواد الغذائية الأساسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة تعتمد بشكل كبير على نظام غذائي قائم على الدقيق والقمح [18]. تعتمد سورية على واردات القمح لتزويد العائلات بإمدادات الخبز الحيوية. وبحسب ما ورد، اضطرت البلاد إلى استيراد أكثر من (1,5) مليون طن من القمح سنويًا، تأتي غالبيتها من روسيا [19]. ارتفعت أسعار الخبز بالفعل في شمال سورية، بينما شهد زيت الطهي (القلي)، وهو سلعة حيوية أخرى توفرها روسيا وأوكرانيا، زيادة كبيرة أو اختفى تمامًا من السوق في مناطق أخرى من البلاد.

نتيجة لذلك، أصبحت القدرة على تحمّل تكاليف وتوفير القمح والوقود أكبر مصدر قلق للأسرة السورية العادية. تحدّث أولياء الأمور الذين قابلناهم قبل موسم رمضان عن الزيادات الصادمة في أسعار السوق. ذكرت أمٌّ في ريف دمشق أن تكلفة وجبة واحدة صغيرة لها ولأطفالها الخمسة الآن تصل إلى (7,500) ليرة، وهي لا تستطيع تحملها، وهذا يعادل نحو (7,5) في المئة من الحد الأدنى لمتوسط ​​الأجر الشهري. لقد فوجئت بأسعار زيت الطهي، إذ ارتفع سعر العبوة بنسبة (50) في المئة، عن سعرها في آخر مرة اشريتها.

في شمال البلاد، رُفِع الدعم عن الخبز، وانخفض وزن ربطة الخبز بمقدار (100) غرام. وقد أدى ذلك إلى حصول الناس على كمية أقل من الخبز بالسعر السابق. أضرَّ الجفاف في شمال البلاد في عام 2021 بالفعل بإنتاج القمح، وأثّر في إنتاجية المناطق الزراعية في جميع أنحاء سورية [20]. أخبر أحد الآباء المجلس النرويجي للاجئين أن أسرته بحاجة إلى خمس ربطات من الخبز يوميًا، بتكلفة إجمالية قدرها (1,7) دولار أميركي. تعكس هذه التجارب ارتفاعات الأسعار التي أبلغوا عنها أخيرًا من جميع أنحاء البلاد [21].

من المتوقع أن يؤدي تعطل واردات القمح إلى تفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي الشديدة بالفعل، في جميع أنحاء البلاد. ومع وجود (12,4) مليون شخص يعانون حاليًا انعدام الأمن الغذائي في سورية، قد يزداد الجوع، نظرًا لمستوى الضعف والأزمات المتعددة التي تضرب الأسر.

يلحظ عامل في شمال سورية بالفعل آثار الأزمة الأوكرانية، “كونك عاملًا بالمياومة يعني أن الوضع غير مستقر أبدًا. بمجرد اندلاع الحرب في أوكرانيا، لاحظنا تغير الأسعار. ساعدتنا دفعة المساعدة النقدية الأولى التي تلقيناها [قبل الحرب] إلى حد كبير في نفقات الطعام والماء. ولكن بمجرد اندلاع حرب أوكرانيا، لم يكن للدفعة الثانية أي قيمة تقريبًا في السوق. لم نكن قادرين على تحصيل نصف هذا المبلغ”.

لقد زادت أسعار زيت الطهي والطحين والديزل. قفزت أسعار النفط فزادت تكلفة الغذاء والنقل. كل شيء بات مكلفًا جدًا. ارتفع سعر عبوة الغاز في شهر واحد فقط، وتضاعف سعر علبة البيض ثلاث مرات. نحتاج إلى خمس ربطات خبز يوميًا، لكن الدعم قد رُفِع الآن. بالكاد يمكننا تأمين الحد الأدنى، نأكل نوعًا واحدًا من الطعام في كل وجبة”. عامل في شمال سورية.

الحلول

يجب أن تستند حلول الأزمات الإنسانية والاقتصادية في سورية إلى وجهات نظر السوريين المتضررين. تدرك العائلات التي قابلها المجلس النرويجي للاجئين أنه لا يوجد حلّ واحد للأزمة المعقّدة التي تمرّ بها البلاد. عندما سأل المجلس النرويجي للاجئين العائلات عن الحلول المناسبة لهم، قدمت الإجابات نظرة ثاقبة على المشتركات بين الأسر والمحافظات المختلفة.

عمومًا، جاء خلق فرص العمل على رأس الحلول طويلة الأجل، التي اقترحها ما يقرب من ثلاثة أرباع (73) في المئة من المستجيبين. ويرغب (60) في المئة آخرون في تقديم مساعدات نقدية للفئات الأكثر ضعفًا، في حين اقترح أكثر من الربع بقليل تقديم مزيد من المساعدات الغذائية لتعويض ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

إحدى المشاركات في الاستطلاع من حلب، قالت: “كل ما نحتاجه هو أن نكون قادرين على تحقيق دخل يمكن أن يساعدنا في العيش بكرامة”. وذكر من قابلناهم أن الحصول على وظيفة مستقرة يمكن أن يحقق حياة كريمة لعائلاتهم. ويعتقد معظم المستجيبين أن الدخل المستند إلى العمل سيساعدهم في استعادة التحكم بأولوياتهم، مثل تأمين التعليم لأطفالهم. وذكر البعض أنهم يرغبون في بدء عمل تجاري، مثل فتح متجر بقالة صغير. واقترح آخرون، ولا سيما أولئك الذين يقيمون في المجتمعات الزراعية، تقديم مزيد من الدعم للقطاع الزراعي. واقترحت مستجيبات عدة إجراء دورات تدريبية لتوليد سبل العيش، حتى يتمكنّ من تعلم مهنة جديدة.

“يمكن أن يكون حل الأزمة الاقتصادية الحالية من خلال توفير فرص عمل ومشاريع للشباب. في بعض الأحيان، أرى الشباب يعملون في وظائف صعبة تتطلب مهارات منخفضة، وأعتقد أنهم يستحقون فرصة للوصول إلى فرص أفضل”.

تتضمن استجابة المجلس النرويجي للاجئين في سورية تقديم التدريب المهني وبناء المهارات وفرص العمل للشباب والكبار. من خلال برامجنا، ندعم أيضًا، وما زلنا نساعد، الأشخاص الأكثر ضعفًا، الذين يحتاجون إلى مساعدة نقدية لتغطية الاحتياجات الأساسية الفورية، إضافة إلى التركيز على البرامج طويلة الأجل لتعزيز أنظمة الغذاء المحلية وتوليد الدخل وتقديم المنح التجارية.

 لم تتخل نجلاء من ريف دمشق عن البحث عن حياة أفضل، حتى بعد وفاة زوجها، إذ أمست تربّي خمسة أطفال بمفردها. نجلاء، البالغة من العمر 36 عامًا، تمضي قدمًا في حياتها. اشتغلت في كل الأعمال التي وجدتها في طريقها وهي تراقب دائمًا الفرصة التالية، وآخرها كان في دورة خياطة مع المجلس النرويجي للاجئين.

تقول: “قبل الأزمة، كان لدى كل منزل ماكينة خياطة. لقد خلقت هذه [الدورة التدريبية] وظيفة بالنسبة لي. وقد وضعت بعض الإعلانات، وبدأ السكان المحليون في المجيء إليّ بطلبات لتصليح الملابس. يأتي بعض الأشخاص لإصلاح ملابسهم الممزقة، بينما يأتي البعض الآخر لإعادة صنع قميص (تصغير) حتى يتمكنوا من إعطائه لأطفالهم. يمكنني أيضًا عمل الستائر والوسائد والمراتب. لقد كسبتُ سمعة طيبة في المجتمع”.

بدأت نجلاء العمل مع مصنع ملابس قريب، وهي تخطط بالفعل لتنمية أعمالها التجارية الصغيرة لإصلاح الملابس. تقول: “عندما توفي زوجي، تُركت وحدي لرعاية الأطفال. إنهم يحفزونني على الاستمرار. أشجّع جميع الأمهات مثلي، اللواتي لديهن أطفال أو النساء اللواتي ليس لديهن معيل، للتسجيل في هذه الدورات. إنها فرصة رائعة”.

كلما طالت فترة وجود الظروف الحالية وازدادت سوءًا، زادت احتمالية حدوث مزيد من عمليات النزوح وعدم الاستقرار الذي طال أمده واستراتيجيات المواجهة السلبية والفقر المتوارث بين الأجيال، في جميع أنحاء سورية. وإضافة إلى ذلك، ستقلّ احتمالات الحلول الدائمة والتعافي، يومًا بعد يوم.

يمكن للتمويل المستمر والمستدام والدعم الدبلوماسي لسورية أن يمنع عقدًا آخر من المشقة للسوريين المستضعفين. تدعم الجهات الفاعلة الإنسانية وغيرها من الجهات الفاعلة في مجال الاستجابة الحلول والاستجابات التي تعزز الاعتماد على الذات والمرونة والتعافي. هناك دعوة متزايدة من قبل الجهات الفاعلة الإنسانية من أجل استجابات مستدامة وطويلة الأجل للمساعدات في سورية، تساعد السوريين في إعادة بناء حياتهم وتطوير سبل عيشهم في جميع أنحاء البلاد. وهناك حاجة إلى مزيد من دعم المانحين الدوليين للمساعدة المستدامة التي تعطي الأولوية للتدريب المهني وخلق فرص العمل وبرامج سبل العيش الأوسع في جميع أنحاء سورية. يجب أن تكون الجهات الفاعلة الإنسانية أيضًا قادرة على الاستجابة للاحتياجات بطرق أكثر استدامة، مثل إنشاء أماكن مأوى انتقالية بدلًا من توزيع الخيام، وإعادة تأهيل شبكات المياه بدلًا من توزيع المياه.

على مدى العقد الماضي، حققت المساعدات الدولية استثمارات حيوية، لكن هذه الاستثمارات معرضة لخطر التراجع، إذا تم تخفيض المساعدات بشكل كبير. يعدّ الوصول إلى الخدمات أمرًا حيويًا أيضًا، ويجب على جميع الجهات الفاعلة العمل بشكل جماعي، لضمان الوصول العادل إلى الخدمات والمزايا والخطط لدعم السوريين المستضعفين الذين نزحوا والذين ما يزالوا ينزحون. أخيرًا، يجب أن تظل الحلول مراعية للصراع وغير تمييزية، ومستنيرة بآراء المتضررين من الاستجابات.

التوصيات

    في الفترة التي تسبق مؤتمر بروكسل السادس لإعلان التبرعات إلى سورية، يجب على المانحين التأكد أن جميع ركائز خطة الاستجابة الإنسانية في سورية سيتم تمويلها بشكل كافٍ، وألا يتم تخفيضها أكثر من تعهدات ومبالغ 2021. يجب على المانحين الحفاظ على مستويات المساعدة الإنسانية الحالية، خاصة للاستجابة لحالات الطوارئ، ومن ضمن ذلك المساعدات النقدية.

    يجب على المانحين ضمان زيادة التمويل من أجل التعافي المبكر وإعادة التأهيل، خاصة في ما يتعلق باستعادة الخدمات العامة وتعزيز المساعدة في سبل العيش، وزيادة برامج التعافي المبكر في قطاعات المياه والصحة والزراعة والتعليم. يجب على المانحين الالتزام بنهج البرمجة القائمة على السوق لدعم استعادة أنظمة السوق. هناك حاجة إلى مزيد من دعم الجهات المانحة للتمويل المرن متعدد السنوات، الذي يمكن التنبؤ به.

    يجب على الحكومات التي تفرض عقوبات على سورية ضمان ألا تعوق العقوبات الاستجابات الإنسانية في جميع أنحاء سورية، وألا تقوض وصول السكان إلى قطاعات الطاقة والصحة والتعليم. ينبغي الاستمرار في الاستثناءات الإنسانية، وتوسيع نطاقها لضمان تقديم المساعدة الإنسانية في الوقت المناسب.

    يجب أن تضمن الحكومة السورية الوصول العادل إلى الدعم العام، والمساعدات والخدمات الأساسية والأسواق.

    يجب على الحكومات المانحة والحكومة السورية والجهات الفاعلة غير الحكومية زيادة الحوار لضمان الوصول الإنساني المبدئي، والوصول العادل إلى الخدمات والاستخدام الفعال للتمويل والموارد في جميع أنحاء سورية.

    يجب على الحكومات المانحة والحكومة السورية والجهات الفاعلة غير الحكومية ضمان إعطاء الأولوية للحلول الدائمة، من خلال تخطيط السياسات والبرمجة، وعلى أساس رغبات وأولويات النازحين السوريين.

    يجب على جميع الجهات الفاعلة دعم جميع الأساليب الممكنة للوصول إلى السوريين المحتاجين، بغض النظر عن الموقع.

    يجب أن تدمج الاستجابة والجهات الفاعلة في المجال الإنساني دعم سبل العيش وبرامج الصمود والأنشطة التي تعزز الاعتماد على الذات كجزء من استجاباتهم.

    يجب أن تسترشد الحلول والسياسات والنهج لمعالجة الأزمة الاقتصادية في البلاد بآراء وتفضيلات السوريين المتضررين.

*– الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز ومواقفه من القضايا المطروحة

اسم المادة الأصلي      “How are we expected to survive this?”

الكاتب  المجلس النرويجي للاجئين، NORWEGIAN REFUGEE COUNCIL

مكان النشر وتاريخه      Relief web، 5 أيار/ مايو 2022

الرابط    http://bit.ly/3GJX4n2

عدد الكلمات     4953

ترجمة  وحدة الترجمة/ أحمد عيشة

[1] – “Humanitarian Needs Overview: Syrian Arab Republic 2022,” United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs، February 2022. http://bit.ly/3i5W0zL

[2] – Ibid.

[3] – FUTURE INTENTIONS OF SYRIAN IDPs 2021 IDP REPORT SERIES, Humanitarian Needs Assessment Programme Syria, September 2021

الدراسة مترجمة ومنشورة على موقع مركز حرمون بعنوان: المقاصد المستقبلية للنازحين السوريين، ومتاحة على الموقع: http://bit.ly/3h4T1XX

[4] – The Darkest Decade,” The Norwegian Refugee Council, March 2021. http://bit.ly/3OBdT5x

[5] – “Syria 11,” United Nations International Children’s Emergency Fund, March 2022. http://bit.ly/3GJAhry

[6] – “Employment and Livelihood Support in Syria,” United Nations Development Programme، July 2018. http://bit.ly/3gzFPu8

[7] – “The Toll of War: The Economic and Social Consequences of the Conflict in Syria,” The World Bank,10 July 2017. http://bit.ly/3gBnJYK

[8] – “SYRIAN CITIES DAMAGE ATLAS,” REACH, March 2019. http://bit.ly/3EEUpsc

[9] – The Toll of War: The Economic and Social Consequences of the Conflict in Syria,” The World Bank,10 July 2017.https://bit.ly/3gBnJYK

[10] – “Humanitarian Needs Overview: Syrian Arab Republic 2022,” United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs ، February 2022. https://bit.ly/3i5W0zL

[11] – وفقًا لنشرة مراقبة أسعار السوق للمكاتب القطرية لسورية الصادرة عن برنامج الغذاء العالمي، العدد 88، آذار/ مارس 2022، فإن السلة الغذائية تشمل 37 كغ من الخبز، و 19 كغ من الأرز، و 19 كغ من العدس، و 5 كغ من السكر، و 7 لترات من الزيت النباتي.http://bit.ly/3tYPYUj

[12]“ – Turkish lira slump hits displaced families in Syria’s northwest,” Reuters, 9 December 2021. http://bit.ly/3XIROGH

[13] – “Humanitarian Needs Overview: Syrian Arab Republic 2022,” United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs , February 2022. https://bit.ly/3i5W0zL

[14]“ – Ramadan in Syria: Rising food prices push basics out of reach,” World Food Programme, April 2022. http://bit.ly/3VkMKpI

[15] – Seven years of suffering: Syria facts and figures,” World Health Organisation, 2017. http://bit.ly/3gCl8Of

[16] – “WHO Emergency Appeal 2022,” , World Health Organisation, 2022. http://bit.ly/3F2vKQ0

[17] – “Families fearful as UN reduces food aid to northwest Syria,” Al Jazeera English, 15 April 2022. http://bit.ly/3XqGCON

[18] – “War in Ukraine pushes Middle East and North Africa deeper into hunger as food prices reach alarming highs,” World Food Programme, March 2022.

http://bit.ly/3XxFBEA

[19] – “Syria says no worries about wheat reserves -state news,” Reuters, March 19 2022. Agency. http://bit.ly/3gzST2K

[20] – “2021 FAO CROP AND FOOD SUPPLY ASSESSMENT MISSION TO THE SYRIAN ARAB REPUBLIC FAO,” December, 2021. http://bit.ly/3F03VYe

[21]“ – How does the unprecedented increase in food prices affect the tables of people fasting in the Arab region,” BBC Arabic, 3 April 2022. http://bit.ly/3AHYNpj

مركز حرمون

————————–

حصاد 22 سورياً: أعيدوا لنا الحرب فالجوع أقسى منها!/ طارق علي

لطالما اعتقد السوريّ أنّ كل عام مرّ عليه في الحرب كان الأسوأ، ليأتي العام اللاحق ويتبين أنّه كان أسوأ من سابقاته، هذا بالضبط ما يحصل في بلد أنهكه الجوع ومشكلات السياسة وتهاوي الاقتصاد وغياب الحلول، والتعنت الحكومي وضيق الفكرة والرؤية، وانعدام المقدرة على اجتراح الحلول.

انعدام يمكن فعلاً وصفه بالكيفي، ذاك أنّ نخباً من المجتمع السوري ما زالت تقدم حلولاً اقتصادية للحال المعيشية، بيدَ أنّ الحكومة ما زالت تصم آذانها عن الاستماع، ليبرز إلى السطح سؤال مفصلي يجوز طرحه في كل وقت، وهو: “من يدير شؤون بلد الحرب؟”.

إذا كانت الدولة بمفهومها العام ترتكز على المواطنة ومن تقوم عليهم من أفراد، فإنّ السلطة إذاً بالضرورة لا تمثلهم، وهذا ما خلق شرخاً واسعاً بين المفهومين، فالسلطة التي تنسلخ عن هموم شعبها ليس عليها أن تتوقع منه الكثير.

ولكن، هل يعني هذا أنّ الشعب بأكثره ضد السلطة؟ هذا سؤال يتطلب جواباً مركباً، فالناس هنا تنقسم إلى شرائح، قسم يحمّل الحكومة مسؤولية كل ما آلت إليه الأمور، وقسم آخر يحمّل الغرب وعقوباته المسؤولية الكاملة، وما بين القسمين قسم آخر يشبه التيار الفلسفي “اللا أدري”: وهو يريد أن يعيش فقط، وهو تيار وإن كان طاغياً ذات يوم، إلا أنّه اليوم بات الأقل، فأمام الجوع على الدولة التي ناصرها أبناؤها سلماً وحرباً أن تتحمل مسؤولياتها.

هل ثمة جملة أقسى من هذه: “أعيدوا لنا صوت الرصاص.. فصوت الجوع أشد فتكاً”، وهي جملة تداولها الناشطون في إطار واسع خلال الأسابيع الماضية، وتحمل ما تحمله معها من معان خطيرة تستوجب دق ناقوس الخطر، فأيّ حال هذه التي تجيء بتمني عودة الحرب بكل ما كان فيها من آلام، حرب في أعقد أيامها كان يتنفس السوريون بها، ففي أسوأ سنيّها لم يكن ثمة هذا الجوع، وكانت الموارد الأساسية متوفرة، من ماء وكهرباء وغاز ووقود.

أين الحلفاء؟

إذا ما سلمنا جدلاً بأنّ إيران تفعل ما تستطيع لتمدّ سوريا بالمقومات العسكرية واللوجستية والمعيشية وما إلى ذلك، بحسب ما هو معلن، وبحسب ما قاطعه “النهار العربي” غير مرة عبر مصادر مطلعة، ولكن أين روسيا؟

روسيا التي سيطرت على مطار حميميم العسكري في اللاذقية، وعلى موانئ سوريا على المتوسط في الساحل السوري، ورغم أنّها تدخلت في لحظة مفصلية ومصيرية “عام 2015″، في الجانب العسكري السوري لتقلب الموازين مجدداً بعد تمدد “داعش” على الأرض وسيطرته على المساحة الأكبر في سوريا، ولكن أين هي اليوم؟

لمَ لا تمدّ سوريا باحتياجاتها؟ وهي ثالث أكبر منتج للنفط في العالم، فعلام تترك حليفتها الشرق الأوسطية غارقة في الظلمة والطوابير والحاجة؟

علاوةً على ذلك، ماذا لو قلنا إنّ روسيا أيضاً لم تكتف بالأمر، بل قاسمت سوريا سيطرتها على آبار النفط والغاز المسترجعة من سيطرة “داعش” في محيط تدمر، فماذا ستشكل بضع آبار لدولة “عظمى” تتدخل في دولة صغيرة ينهشها الجوع وسوء الحال؟

ليس ثمة سوريّ لا يسأل اليوم عن دور الحلفاء، عن دور دولة عالمية مركزية كادت تخضع أوروبا عبر حرب أوكرانيا ـ بحسب آراء محللين ـ وواهم من يعتقد أن دخول روسيا في معركة أوكرانيا هو سبب تردي الحال في سوريا، فالأمر قائم منذ سنوات، وحليف الشام “أذن من طين وأذن من عجين”، فعلى أي جانبيها تميل سوريا؟

الشّهر الأقسى والبلد المشلول وموسم الهجرة

استفاق السوريون على يوميات هي الأقسى في حربهم خلال شهر كانون الأول الجاري، فجأةً وجدوا بلدهم صفراً في المشتقات النفطية والمتطلبات الحياتية الرئيسية، من دون سابق إنذار تعطل شكل الحياة، وتعطلت معه مصالح الحياة وأمورها البسيطة حتى.

ارتأت الحكومة أن تنفذ عطلة إجبارية لأيام الآحاد الأخيرة من الشهر الحالي، ثم قررت أن تكون هناك عطلة كاملة للأسبوع الأخير من العام، وذلك بغية توفير المشتقات النفطية، ولكن هل هذا هو الحل؟ قطعاً لا، هذا في الاقتصاد ليس إلا هرباً إلى الأمام ومقامرةً على الأيام والحلفاء في الوقت نفسه، ورهاناً على “صمود” شعب أنهكته المآسي فركب عباب البحر وغرق بين أمواجه بحثاً عن حياة أفضل، ولعلّ غرق قارب الهجرة مقابل طرطوس في شهر أيلول من العام الجاري كان أبرز صور المعاناة التي ألمّت بالمنطقة، والتي معها كان الضحايا قد وصلوا إلى نقطة “اللا عودة”.

واللا عودة هنا هي موجة الهجرة الثانية الأكبر التي تشهدها سوريا خلال حربها، باعتبار أنّ الأولى كانت في عز الحرب العسكرية، أما الثانية فجاءت هذا العام في ذروة الكارثة الاقتصادية، وما مشاهد المهاجرين بحراً، أو التائهين في غابات بولندا واليونان، أو أولئك الذين علقوا لأشهر على حدود بيلاروسيا، والذين تناول “النهار العربي” قصصهم – غير مرة – سوى أدق تعبير عن حالة التعب والإنهاك وربما “القرف”.

كيف لا يمكن وصف بلد بالمشلول وهو على الصعيد الداخلي لا حركة نقل فيه، وعلى الصعيد الخارجي يهاجر شبابه نحو بلدان بعيدة قاصدين حياة جديدة، لا ذلّ فيها، لا قهر، ولا درب مليء بالأشواك.

سأل “النهار العربي” عبير زيدان، وهي فتاة هاجرت إلى دبي بداية العام الحالي بحثاً عن حياة أفضل، عن حالها اليوم، وحال حياتها، قالت باختصار: “هذا بلد حقوقك فيه أكثر من واجباتك”، وفعلاً هذا جواب مختصر للغاية ولكنه يفسر الكثير، يفسر حال سوريين خارجين من بلد لا حقوق فيه، بيد أنّه مليء بالواجبات.

عبد الرزاق حمود شاب وصل إلى ألمانيا هذا العام بعد رحلة مليئة بالمخاطر والخوف والتعب والإرهاق عبر حدود بولندا، قال بكل بساطة: “هنا كهرباء 24 ساعة”، تخيلوا! هذا بات أقسى أحلام السوري، فحين نعلم أنّ الكهرباء تقطع في بلده أكثر من 20 ساعة وقد تصل إلى 22 أو 23 ساعة يومياً، فيصبح الأمر مبرراً، قليل من الكهرباء يساوي مجمل قضايا الانتماء والوطن.

القهر المشترك

المشترك في حكايات الجميع هو القهر، والقهر حين يسود، فإنّه يتسيد على الذوات والنفوس ويحول الحياة إلى جحيم يصبح الفكاك منه لزاماً لكل من استطاع سبيلاً.

قد نجد بعض المتفائلين، ولكنّهم قلّة، وهم بدورهم ينقسمون إلى فئات، فئة تبحث عن هجرة مستقبلية، وفئة مؤمنة بأن الحلول قادمة لا محال، وفئة ما زالت تؤمن أشد إيمان بالدولة، وفئة مسيطرة مستفيدة أفرزت معها طبقة من الوصوليين المنتفعين من السلطة الذين جنوا ثمارهم بكدّ غيرهم، والذين يسيطرون اليوم على مقدرات البلد المنهك، على ما بقي منها.

وهؤلاء، ربما، نجحت الحكومة في استثمار بعضهم للالتفاف على العقوبات غير مرة، ولكن ماذا حصل؟ كل مرة كان يعود الحصار أقوى وأشدّ، وتزيد ثروة هؤلاء أكثر وأكثر، والطامة الكبرى، أنّ بعضهم كان أمياً شبه معدم مادياً عشية الحرب، أما اليوم، فصاروا أسياداً يتطلب ذكر أسماء بعضهم “الهمس”.

الجباية

عام 2011، أول أعوام الحرب، كان يبلغ سعر ليتر البنزين 55 ليرة سورية، في عام 2012 بلغ 80 ليرة، في عامي 2013 و2014 و2015 سجل 160 ليرة، وفي الأعوام من 2016 إلى 2019 بلغ 225 ليرة، وفي عام 2020 كان 450 ليرة، وفي عام 2021 وصل إلى 2500 ليرة، وفي العام الحالي تم رفعه قبل أيام ليصل إلى 3000 ليرة.

ودائماً ما كان يسبق كل رفع انقطاع شديد للمادة من الأسواق النظامية، ثم يأتي الرفع لتتوافر المادة مباشرة ويكون الحل.

ورغم أنّ وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم نفى نفياً قاطعاً في شهر تشرين الماضي وجود أي نية لدى الحكومة أو الفريق الاقتصادي لرفع أسعار المحروقات، ما كاد ينقضي أقل من شهر حتى ارتفع سعر البنزين والمازوت.

بالتزامن، مرةً قالت الحكومة إنّ المشكلة في العقوبات وبقانون قيصر، ومرةً قالت إنّ المشكلة هي في قلة القطع الأجنبي، ما حدا بالكثيرين للطلب من الحكومة الثبات والاتفاق على رواية واحدة، في ظل تضارب التصريحات بين المسؤولين.

وأخيراً، قررت الحكومة أنّ ثمة تاجراً يستطيع الإتيان بالمحروقات من الدول البعيدة، ولكنّه سيبيعها للسوريين بالسعر العالمي المتبدل كل شهر، وغالباً سيبدأ مبيعه بسعر “4900 ليرة – أقل من دولار بقليل”، وسيتم الاستيراد لمصلحة شركة bs الخاصة.

بيد أنّ الحكومة نسيت أن تخبر شعبها كيف لتاجر محسوب عليها ومعاقب أن يستورد فيما هي عاجزة، بل من أين سيأتي بالقطع الأجنبي الهائل؟ علماً أنّه سيبيع للسوريين بالعملة المحلية، وقد يكون لدى الحكومة أجوبة منطقية ومقنعة، ولكنّها، كما العادة، لا تصارح شعبها، ولا توليه من وقتها ولو القليل لتشرح له ماذا يحدث من حوله. تاركة له الفضول وكل أنواع التكهن بمصيره.

كل ذلك جاء مع انهيار تاريخي وغير مسبوق في قيمة العملة المحلية التي سجل الدولار الأميركي الواحد أخيراً مقابلها نحو 6200 ليرة سورية في السوق السوداء.

ومن نكد الدهر على السوري أنّ كل المشتقات النفطية متوافرة بكثرة وعلى الطرق العامة وفي الأحياء بأسعار السوق السوداء التي تعجز الحكومة عن مواجهتها إلا بالتصريحات والتهديد والوعود، ولكن ماذا تفعل على الأرض؟ ربما لا شيء، هكذا تبدو الحال، سوى أنّها أقلقت الصناعيين أخيراً حين هددتهم بالعقوبات الصارمة إذا ما اشتروا المشتقات من السوق السوداء، وبالتالي هذا يعني تعطل المصالح والمعامل والمنشآت، وبالضرورة، توقف بقية ما كان يعمل ويدبّ الحياة في المجتمع.

الواقع الصّحي

تردى الواقع الصحي بدوره تردياً غير مسبوق خلال عام 2022، ففيما تراجع مستوى خطر فيروس “كورونا”، بدأت الكوليرا بالتفشي، في ظل تراجع واضح للدور الصحي الشامل الذي يستطيع معالجة كل الآفات والمشكلات الصحية.

فبين الداخل السوري والمخيمات الداخلية والخارجية ما زال يعاني السوريون أشدّ الظروف الصحية صعوبة وتعقيداً، إذ تفتك بهم الأمراض، في ظل عجز الأمم المتحدة عن تغطية الملف كاملاً، لا سيما بعيد اتهامات عديدة طالت مسؤوليها بسوء التصرف  بالأموال الممنوحة لها والمخصصة للشعب السوري، من جهة، ومن جهة أخرى، بات ارتفاع أجور معاينات الأطباء يعجز السوريين، ومعه الارتفاع المتتالي لأسعار الأدوية وأجور المستشفيات، فيكفي أن نعلم أنّ أجر عمليات القلب المفتوح وصل إلى حدود 25 مليون ليرة سورية في المشافي الخاصة (نحو 5 آلاف دولار).

عسكرياً

تتالت الغارات الإسرائيلية على مواقع متعددة في الداخل السوري، أبرزها كان على مطاري حلب ودمشق الدوليين، فيما سجلت جبهات إدلب في الغالب هدوءاً نسبياً وفق مسارات تفاهم أستانا وسوتشي والضامنين الدوليين لها، بينما شهدت المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات الكردية شمال وشمال شرقي سوريا موجات قصف عنيفة من الجانب التركي الذي ما زال يهدد بعمليات عسكرية برية واسعة، وسط تصريحات تركية متواترة، كان أبرزها من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نيته لقاء الأسد.

أشدّ العجاف

ختاماً، يمكن القول إنّ هذا أشد الأعوام العجاف في حياة السوريين منذ تأسيس جمهوريتهم الحديثة، واقع لا تبدو ملامح نهايته قريبة، وليس هناك أفق لحلول مقترحة، ولعلّ أكثر ما يقلق السوريين هو مقولة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: “حين تكثر الجباية، تشرف الدولة على النهاية”.

النهار العربي

—————————-

دولة العصابة/ يحيى العريضي

في القضية السورية والأحداث الداخلية والخارجية المواكبة لها والمؤثرة فيها، دار الحديث مؤخراً حول “الدولة” و”مؤسسات الدولة”. ولا نحتاج في هذا السياق لتعريف ابن خلدون للدولة كـ “امتداد زماني ومكاني يشير إلى مدى نفوذها واتساع رقعتها واستمرارها زمنياً ببداية وذروة ونهاية”، ولا إلى تطور مفهومها الحديث إلى “دولة المؤسسات الديمقراطية المبنية على عقود سياسية واقتصادية واجتماعية بين الحاكم والمحكوم على بقعة جغرافية تحكمها الضوابط القانونية في الحق والواجب”. الحديث ها هنا عن صنف نادر من “الدولة”، ألا وهو “دولة الأسد” و”مؤسسات دولة الأسد” التي طوّبت سوريا باسمها، والتي عاد وذكّرنا بها شبيحته عندما تظاهر سوريون من السويداء أمام مبنى “محافظته”.

ربما يكون آخر اهتمامات السوري، بسبب كثرة مواجعه، تعريف الدولة وغيرها من التعريفات. وفي هذا السياق، أنقل للقارئ ردة فعل بعض شبيحة نظام الأسد تجاه خروجي على منظومته الاستبدادية التي يسميها “دولة”، حيث قالوا: ” لك هنت (إنت)، كيف صرت دكتور؟! مو بفضل الدولي؟! مو الدولي اللي علمتك، وطعمتك، ووظفتك، وسويتك بني آدم!!!؟؟ لك كيف بتبصق بالصحن اللي بتاكل منو؟! معقول تكون عميل ضد الدولي؟؟!!!“؛ وكأن الذي يتحدثون عنه قد صَرَف عليه آل الأسد من جيبهم، ولم يدرس ويشقى ليحصل على دكتوراه بدرجة شرف من جامعة “جورجتاون” في واشنطن. خطابهم هذا تكرر تجاه صرخة الحرية والكرامة في وجه تلك المنظومة الإجرامية في انتفاضة السويداء.  وهذا هو موقف هذه “الدولة الأسدية” تجاه كل مَن خرَج عليها.

في دولة العصابة، المدرسة لتمجيد “الطالب الأول” و”المعلم الأول” و”الخريج الأول”، الأسد. إنها ليست للتربية والتهذيب والمناقبيات والتعليم والتفكير الحر. إنها المكان الأول لتكريس العبودية والقمع. والويل والثبور لِمَن يشير أو يلمّح لذلك؛ فسرعان ما ينقض عليه(ا) المخفر الأسدي الذي يدير هذه المؤسسة الأسدية.

منها يتخرج المحامي والقاضي؛ ليستمر الخراب في حقوق الناس وعجزهم عن نيل حقوقهم إلا بالرشوة والفساد. ومنها يتخرج الطبيب ليذهب إلى مشافٍ تديرها المخافر، وليتحكم الجاهل بالعالم، والممرضة التابعة للمخفر بأشرف طبيب أو عامل. ومنها يتخرج مربي الأجيال، الذي يريدونه أن يربي بالطريقة العبودية التي يشاؤون. والويل والثبور لمن يلفت الانتباه للفساد والخراب الحاصل، لأنه(ا) سرعان ما يُوصف بالمعتدي على “مؤسسات الدولة” أو المخرب أو حتى العميل لجهة خارجية. كذلك حال المهندس والفنان والتاجر والصناعي والحرفي وكل طاقة عاملة بـ “دولة الأسد”.

حتى بقاء أو عيش السوري في “دولة الأسد ومؤسساتها” كان منّة. حتى تَوفُّر الماء أو الكهرباء أو الغذاء كان مكرمة من “رئيس المخفر”. ومَن لا يذكر ويسبّح بذلك صبحة وعشية، يُعتَبر جاحداً أو غير سوي، لأنه يغفل أن “دولة الأسد” هي التي تطعمه وتعلمه وتوظفه وتجعله “بني آدم”. وإن حَدث ورفع صوته، حتى تلميحا، بأن ذلك حقّه الطبيعي، لا أن يخرّب شيئاً في “مؤسسات الدولة”، سرعان ما يجد أن جهنم الأسدية فتحت أبوابها عليه(ا).

الأهم بين “مؤسسات الدولة الأسدية” هي العسكرية والأمنية. تلك كانت المخفر على كل ما سبق. عقود وهي تلتهم ثلاثة أرباع موارد سوريا، تحت ذريعة حماية الحدود و”الإنسان”. وثبت أنها مكلفة بمهمةٍ معاكسةٍ للمُعلن. لقد كانت الأسرع باعتقال السوري وقتله وتدمير بيته وتشريده، والتعامل مع المحتل القديم والمستعمر الجديد الإيراني-الروسي. وتبقى المؤسسة الحالية في دولة العصابة مؤسسة الكبتاغون، ومؤسسة بيع مقدرات سوريا، ومؤسسة المعتقلات، ومؤسسة السطو على خيرات سوريا. ومن هنا كتب العبقري محمد الماغوط “سأخون وطني”؛ ولم تكن الخيانة إلا لدولة العصابة، والتي أتينا على ذكر مجرد بضع نماذج من بنيتها وطبيعة “مؤسساتها”،

في حالة شللها الآن، باتت دولة العصابة هذه تدرك أن مَن يحميها ليس بأحسن منها حالاً؛ فروسيا وعقودها ووجودها السياسي تغرق بحربها الأوكرانية وتناقضاتها مع الغرب والعالم؛ وإيران بعقودها ومطامعها ومشروعها النووي ووضعها الداخلي تتراقص على صفيح من نار.

من جانبه، السوري الآن يطالب هاتين القوتين أن تعلنا نفسيهما إما قوة انتداب (وهذا يرتب عليهما التزامات لا طائل لهما بها. وبإمكانهما سؤال الانتداب الفرنسي عن فعل السوريين تجاهه). وإن لم تكونا قوة انتداب، عليهما إعلام نفسيهما قوة احتلال؛ وعندها لن يكون السوريون أقل شكيمة من الأوكرانيين، وسيرى المحتل كيف تكون الهزائم. ولتعلم هاتان القوتان أن عقودهما مع دولة العصابة لم تُكتب بحبر، بل بما زُهق من دم سوري؛ وسيكون مصيرها مزابل التاريخ، بصحبة مَن وقّعها.

أما بخصوص القوة الثالثة على الأرض السورية، فيؤسفنا كسوريين تفكيرها بلقاء هذه العصابة الأسدية مع معرفتها وإقرارها وتصريحها بإجرامها. نقدر أن لها مصالح، ولكن ليس بالضرورة أن تتحقق بطريقة لا أخلاقية. ونحذّر بأن هناك “لعنة” خاصة لدولة العصابة؛ يعز علينا أن تصيبها؛ وخاصة إذا كان التفكير بأن هكذا خطوة قد تسهم بتحقيق مكاسب “انتخابية”؛ فقد يكون العكس؛ فالاستدارات اللاأخلاقية تؤدي إلى كوارث سياسية.

تجاه كل ذلك، ماذا علينا أن نفعل كسوريين؛ وكيف تكون استعادتنا لدولتنا؟ لا أريد رسم الصورة المثالية للدولة التي نريد؛ ولكن حتى لو أنشأنا دولة واحدة لكل أهلها- ولو بدائية- ولكن خالية من منظومة الاستبداد الأسدية وشبّيحتها، فستكون دولة محترمة كريمة.

تلفزيون سوريا

————————-

النظام السوري أمام خيارات أحلاها شديد المرارة/ بسام يوسف

ربما يكون من حسن حظ السوريين الذين جافاهم الحظ منذ زمن طويل، ووقف التاريخ والجغرافيا ومصالح الآخرين في وجههم، منذ أن وصل حافظ الأسد إلى موقع الرئاسة، أقول ربما يكون لمستجدات لا علاقة لهم بها دور آخر، فتسهم بإحداث نقلة نوعية في مسار الاستعصاء الطويل الذي فرض على ثورتهم، إذ تشاء الأقدار أن ينشغل الطرفان الأساسيان اللذان أنقذا نظام بشار الأسد من الانهيار، وتدخلا في الصراع السوري بكل ثقلهما، بمشكلات كبيرة متعلقة بهما، فروسيا التي أشعلت حربها مع أوكرانيا، بدأت تتخبط في تبعات هذه الحرب، وما خططت  له أن يكون سريعاً وحاسماً، انفتح على احتمالات متعددة، ومتشعبة ويصعب على بوتين وفريقه ضبط تداعياته، وإيران التي تغرق شيئاً فشيئاً في أزمة داخلية ليست كسابقاتها باعتراف رؤوس كبيرة في الدولة وفي الحرس الثوري، والتي وقفت مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا، مع ما يعنيه هذا من عداء لأميركا وأوروبا، تقف اليوم عاجزة عن الالتزام باستحقاقات وضعها الداخلي، واستحقاقات تمدّدها في أربع بلدان عربية غارقة في مشكلات وحروب بسببها.

لم تكن إيران لتتدخل بالشأن السوري بكل هذه القوة، لولا أن ما سعت إليه في تدخلها كان يرضي أطرافاً أخرى مثل إسرائيل وأميركا، ولم تكن روسيا التي تدخلت لاحقاً لتقدم على ذلك، لولا ما يشبه تفويضاً أميركياً، منحه أوباما لها بموافقة إسرائيلية، لكن ضمن محددات وضمانات قدمتها روسيا، وحاولت أن تعمل عليها ضمن رؤيتها الخاصة، فاخترعت لقاء سوتشي واتفاق سوتشي ومسار سوتشي، والذي استغرق أكثر من خمس سنوات، ليصبح بلا جدوى، وليموت بصمت حتى دون نعيه من أحد.

بانهيار اتفاق سوتشي، وبعجز روسيا عن تحقيق الضمانات التي قدمتها لإسرائيل وأميركا في الملف السوري، وبانتهاء الود الروسي الأميركي، والذي بدأت إرهاصاته الأولى في منتصف فترة رئاسة ترامب، وراح يتصاعد حتى وصل إلى ما يشبه المواجهة المباشرة بعد إعلان بوتين الحرب على أوكرانيا، وبتراجع قدرات إيران وحصارها، واشتعال داخلها بمظاهرات تجتاحها كلها، يبدو الملف السوري أمام تغيرات قد تكون  في غاية الأهمية، لا سيما أن النظام السوري الذي كان يعتاش على الحقن الروسية والإيرانية، يبدو اليوم منهاراً تماماً.

لم يعد بإمكان روسيا الاستمرار في سوريا بالصيغة السابقة، فأعباء الحرب الأوكرانية الباهظة واحتمالاتها الخطيرة على الاقتصاد الروسي، وعلى مجمل أوضاع الاتحاد الروسي، ترغم روسيا على الانكفاء في سوريا، وعلى الانسحاب من معظم مناطق وجودها في سوريا، وحصره في قواعدها العسكرية على البحر المتوسط، هذا الانسحاب لا يستطيع الجيش السوري المتهالك أن يسد الفراغ الناتج عنه، وهو على الأرجح ما ستحاول إيران أن تفعله، لكن تمدّد إيران ليس مسموحاً من عدة جهات وفي مقدمتها أميركا، وهي بوضعها الراهن لن تكون قادرة على تحمل أعباء أخرى، لا سيما أنها تنهار في أكثر من جهة.

في هذه اللوحة تبدو تركيا هي الدولة الأكثر قدرة على اللعب في الشأن السوري، فهي الآن الطرف المدلل الذي يحتاجه الجميع، تحتاجه روسيا في حربها مع أوكرانيا، وتحتاجه أميركا وأوروبا في حربهما مع روسيا، وبالتالي فهي الطرف الأكثر حظاً بالحصول على توافق حوله،  للقيام بدور أكبر في الملف السوري، لكن ليس الأمر بهذه السهولة لها، فتركيا أولاً قادمة على انتخابات صعبة، وأردوغان لا يريد أن يجازف بأي خطوة قد تؤثر على نتائجها،  وهو أيضاً لا يريد أن يزج بجنوده في مناطق خطرة، لذلك يحاول أن يرتب صفقة مع النظام السوري، أي مع بشار الأسد، قبل أن ينهار النظام بشكل تام.

يأمل أردوغان من لقائه ببشار الأسد أن يضمن نقل سلاح قسد إلى النظام السوري، وانتقال السيطرة في المنطقة الحدودية شرق الفرات إلى سلطة النظام السوري، وهو بهذا يكون قد أبعد السلاح “الكردي” عن حدوده، وترك مهمة هذا الإبعاد لطرف آخر، ويأمل أن يتفق مع بشار الأسد على إعادة قسم كبير من اللاجئين السوريين في تركيا، وهذا ما سوف يساعده على سحب ورقة تبتزه بها المعارضة التركية، وهو يأمل أيضاً أن يتمكن مع النظام السوري، وبمساعدة الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة والتابعة فعليا لتركيا، أن يبسط السيطرة على مناطق أخرى خارجة عن سيطرة النظام.

لا يبدو بشار الأسد متحمساً للقاء أردوغان، لأنه لا يثق به أولاً، ويعرف جيداً أن أردوغان يبادله عدم الثقة، ويعرف أن أردوغان لا يستطيع تعويمه حتى لو أراد ثانياً، خصوصاً أن قانون مكافحة تجارة المخدرات الذي وافق عليه الكونغرس الأميركي ومجلس الشيوخ، والذي اعتبر بشار الأسد طرفاً مهما في إنتاجها والتجارة بها، كان رسالة شديدة الوضوح، ويعرف بشار الأسد أيضاً، أن ما تبقى من جيشه قد أصبح عاجزاً عن القيام بما يطلبه أردوغان حول قوات سوريا الديمقراطية، وأنه لن يستطيع الوقوف في وجه إيران، فيما لو حاولت منعه من الالتزام بأي اتفاق مع تركيا، والأهم من كل هذا أن بشار الأسد لا يريد أن يساعد أردوغان في انتخاباته القادمة عبر إعادة اللاجئين، لأنه يعرف أن الورقة التي يستثمر بها خصوم أردوغان هي قضية اللاجئين، فضلا عن كون بشار لا يريد عودة أي لاجئ، سواء من تركيا أو من غيرها.

بتكثيف شديد تبدو اللوحة على النحو التالي:

    في مناطق سيطرة النظام، انهيار غير مسبوق للنظام ومؤسساته، انهيار اقتصادي شامل، عدم قدرة الدولة على ضبط عناصر الأمن والشرطة، ومنعهم من فرض الإتاوات ونهب المواطنين.

    روسيا تنسحب مرغمة من مناطق انتشارها في سوريا، ما عدا قواعدها الرئيسية.

    إيران التي اختارت الوقوف مع روسيا، وأمدّتها بالأسلحة في حربها مع أوكرانيا، لن تتمكن من معالجة مشكلاتها الداخلية.

    ما تطلبه تركيا من بشار الأسد لا يستطيع تقديمه.

كل هذا يضعنا أمام عدة احتمالات: فإما أن يترك النظام السوري ليتفسخ على مهل، مع ما يعنيه هذا من مرحلة قاسية جداً على السوريين في مناطق سيطرته، التي تشهد مرحلة انهيار شاملة تنعدم فيها شروط الحد الأدنى للحياة، وإما أن يتم الاتفاق على ترحيل بشار الأسد، والقيام بما يشبه انتقال سياسي بين أطراف من النظام نفسه، وإما أن يقبل بشار الأسد بما تطلبه تركيا منه، وهذا يعني تأجيل نهايته لكن لفترة قصيرة.

بسام يوسف

تلفزيون سوريا

—————————-

لماذا لا تنجد روسيا حليفها السوري من أسوأ أزمة طاقة على الإطلاق؟/ إياد الجعفري

استفز الوضع غير المسبوق، الذي تعيشه مناطق سيطرة النظام، الميكانيزمات النفسية لتوليد وتكثيف وتناقل الشائعات، بدءاً بشائعة إفلاس المركزي السوري، مروراً بشائعة اختباء بشار الأسد في قاعدة حميميم الروسية، وفرار عائلته وكبار ضباطه إلى خارج البلاد، وليس انتهاءً بشائعة نيّة إيران دعم شقيق الأسد، ماهر، لتنفيذ انقلاب عسكري، ينهي الترتيبات المزدوجة في السلطة الحاكمة بين جناحٍ موالٍ لروسيا، وآخر موالٍ لإيران.

ولا تتأتى هذه الشائعات من فراغ، إذ عادةً ما تنشأ وتتطور الشائعة، تزامناً مع ضبابية الرؤية حيال المستقبل القريب جداً. وهو أمر ينطبق على الحالة الراهنة في مناطق سيطرة النظام. إذ ورغم تعوّد سكان تلك المناطق على أزمات المحروقات والطاقة على مدار السنوات الأربع الأخيرة، إلا أن الأزمة الراهنة غير مسبوقة من حيث نوعيتها وامتدادها القطاعاتي والزمني، ورد فعل حكومة النظام العاجز، حيالها، بل والمقرّ بالعجز أيضاً، في سابقة غير معتادة في خطاب مسؤولي النظام. لذلك، نجد أن الشائعات المتتالية، تتولد من رحم الواقع. كشائعة إفلاس المركزي، التي نفاها مسؤولوه، قبل أيام. والتي هي نتاج عجز حكومة النظام الواضح عن توفير القطع الأجنبي لشراء المحروقات. وهو أمر أقرّ به وزراء التجارة الداخلية والنفط، على شاشات الإعلام الرسمي، أو شبه الرسمي. وكان لافتاً، أن شائعة إفلاس المركزي -وقد سبقتها شائعة مشابهة من حيث المضمون- تركزت تحديداً، على رفض روسيا مدّ حبل النجاة للنظام، ودعمه بقرض مالي. هذا التركيز على غياب الدعم الروسي في مضمون الشائعة، لا يتأتى من بنات أفكار مُطلقيها، بل هو اقتناص للعتب العلني الذي وصل حدّ اللوم، الذي أطلقه خبراء ومعلّقون موالوان للنظام، على شاشات الإخبارية السورية و”سما” الفضائية الموالية، حيال تقصير روسيا في دعم نظام الأسد، سواءً في ملف توفير المشتقات النفطية، أو في ملف تخفيف الضغوط على الليرة السورية، عبر إيداع وديعة مثلاً في المركزي السوري، أو تقديم قرضٍ لحكومة النظام.

وبطبيعة الحال، فإن لوم النظام العلني لروسيا، لعدم وقوفها معه في أسوأ أزمة طاقة تعيشها مناطق سيطرته مبرر. ذلك أن روسيا هي الأقدر على إنقاذ الأسد، بالفعل. خاصة في ملف إمداه بالمشتقات النفطية. ذلك أن النفط الخام وحده، لا يكفي لإنقاذ الأسد، من جراء تهالك البنية التحتية لمصفاتي النفط في بانياس وحمص، وعجزهما عن تكرير الكمية التي تستهلكها مناطق سيطرة النظام، يومياً. وروسيا، أكثر كفاءة من إيران في ذلك. لذا، فإن إشارة أحد المعلّقين الموالين للنظام إلى أن روسيا تستطيع “بإشارة” أن تغرق مناطق سيطرة النظام، بالبترول والكهرباء، في محلها تماماً.

على الضفة الأخرى، ورغم تراجع مستوى التوريدات النفطية الإيرانية في الشهر الأخير، إلى نصف ما كانت عليه قبل هذه الفترة، فإن تلك التوريدات ما تزال تصل تباعاً، إلى ميناء بانياس. إذ إن طهران تبذل قدر استطاعتها، لإبقاء حليفها على قيد الحياة، في الوقت الذي تتعرض فيه لضغوط كبيرة، داخلية، وأخرى تتعلق باحتمال تجدد حرب الناقلات بينها وبين إسرائيل، ناهيك عن مشكلاتها المتعلقة بتوفير ناقلات كافية لإرسالها إلى سوريا، في الوقت الذي تحتاج فيه لتلك الناقلات في إمداد مشترِي نفطها، لتوفير أعلى سيولة ممكنة في مواجهة الاحتجاجات الداخلية.

ورغم أن روسيا تقارع الغرب، وتتعثر في حربٍ مصيرية بالنسبة لها، في أوكرانيا، فإن ذلك لا ينتقص من قدرتها على إمداد النظام بالمشتقات النفطية، إن أرادت. إذ لم يسبق أن استهدفت البحرية الأمريكية مثلاً، ناقلة نفط روسية، فيما تبدو ناقلات النفط الإيرانية، هدفاً سهلاً ومُلاحقاً بشكل شبه دوري.

هل يعني ما سبق أن روسيا نفضت يدها من سوريا، من جراء انشغالها بالمعضلة الأوكرانية؟ لا يوحي الاهتمام الروسي عالي المستوى بتطورات الوضع في الشمال السوري، بخلاصة كهذه. إذ تبدو روسيا مهتمة، بالاتفاق مع تركيا على ترتيبات جديدة في المشهد السوري. ومنذ أيام فقط، أجرى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، مكالمة هاتفية، للبحث في هذا الشأن، تحديداً. فيما تتواصل الاتصالات بين وزارتي خارجية ودفاع البلدين، بصورة يومية.

إذاً، لماذا تترك روسيا حليفها لمثل هذا الضغط غير المسبوق، خدماتياً ومعيشياً، بصورة تهدد باهتزاز وضعه الداخلي؟ قد يتعلق الجواب بتعنت رأس هرم النظام، بشار الأسد، حيال ضغوط روسية للتفاهم مع تركيا، بصورة لا تتناسب مع تطلعاته. خطوط هذا التفاهم، توحي بها تصريحات لافتة لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قبل أيام، تتعلق بـ فرز فصائل المعارضة، حسب قبولها الحوار مع النظام. مما يعني أن موسكو تريد تسوية سياسية في الشمال الغربي من البلاد، تتيح دخول فصائل معارضة في شراكة ما، بالحكم، مع النظام بدمشق. وهو ما لا يريده الأسد، حسب ما توحي به المؤشرات التي يمكن التقاطها جلياً، على مدار الأشهر الثلاثة الفائتة.

بدأ الأمر منذ منتصف أيلول/سبتمبر، حينما تلقفت موسكو الاستعداد العلني الذي أبداه الرئيس التركي، للقاء بشار الأسد. وبدأت تعمل على هذا المسار. لكن لهذا اللقاء، أثمان، لا يريد رأس النظام، دفعها. أحد تلك الأثمان، تؤشر إليها زيارة أحمد العودة، قائد اللواء الثامن، إلى تركيا، في تشرين الأول/أكتوبر، بالتزامن مع نقل أنقرة المسؤول الأمني عن الملف السوري من منصبه ليتسلم مهام سفير تركيا في الأردن. ومن المعلوم أن العودة ولواءه، يمثّل شراكة غربية – إماراتية أردنية – روسية، أدت إلى اتفاق تسوية في الجنوب السوري في العام 2018. ومنذ ذلك التاريخ والنظام السوري يحاول لجم استقلالية هذا اللواء، والحد من ارتباطاته الخارجية. لكن لم تنجح تلك المحاولات حتى الآن، بل على العكس، اتسعت هوامش التحرك الحرّ للعودة، بين الأردن وتركيا والجنوب السوري، خلال الأشهر القليلة الفائتة. مما يؤشر إلى أن تركيا وروسيا تناقشان استنساخ تجربة تسوية الجنوب في الشمال الغربي، عبر إدماج فصائل “الجيش الوطني”، في “جيش” النظام، رسمياً. مع إبقاء هامش من الاستقلالية المحلية والارتباطات الخارجية لتلك الفصائل، كما في حالة “اللواء الثامن”. وهو ما لا يناسب النظام، في جناحه الإيراني بصورة خاصة، كما لا يناسب، رأس النظام، بشار الأسد، نظراً لأن المطالب التركية لقاء التطبيع معه، قد ترتقي إلى مستوى إشراك معارضة سياسية في السلطة، وهو ما يراه انتقاصاً مما يعتبره “انتصاراً” حققه، نال بموجبه حصرية التمثيل المحلي لمصالح القوى الخارجية. حصرية لا يريد خسارة المزيد من هوامشها، كما حدث في الجنوب السوري. فدخول شخصيات وقوى محلية على خط تمثيل مصالح القوى الخارجية في الساحة السورية، يهدد سلطته، على الأمد البعيد. لذلك لا يريد الأسد القبول بهذه المعادلة. كما ورفض سابقاً، معادلة مشابهة مع “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”.

وهكذا نفهم رد الفعل المتعنت من جانب الأسد حيال الانفتاح التركي على “التطبيع” معه. وهو ما تجلى بصورة خاصة في تصريحات مستشارة الأسد، بثية شعبان، في نهاية الشهر المنصرم، حينما هاجمت تركيا واتهمتها بالمراوغة. وقبيل ذلك، كانت “أسوشيتد برس” قد نقلت على لسان مسؤول لبناني، يبدو أنه مقرّب من الأسد، أن الأخير رفض استقبال وفد تركي رسمي في دمشق. وفي مطلع الشهر الجاري، كشفت “رويترز” نقلاً عن ثلاثة مصادر مطلعة، مقاومة الأسد لضغوط روسية تستهدف عقد قمة بينه وبين أردوغان. هكذا قمة إن حدثت في الظروف الراهنة، فهي تمثّل مكسباً انتخابياً لأردوغان، دون أن يحصل الأسد على شيء بالمقابل، وهو ما لا يريده الأسد. ومنذ ذلك التاريخ، مطلع الشهر الجاري، بالتزامن مع تفاقم أزمة الطاقة بصورة غير مسبوقة، وانهيار سعر صرف الليرة، غاب رأس النظام، تماماً عن المشهد. وكان آخر ظهور رسمي له، بالصور فقط، في 5 كانون الأول/ديسمبر الجاري، في أثناء تقبّل أوراق اعتماد سفير باكستان في سوريا.

وهكذا تبدو روسيا وكأنها تترك سلطة الأسد على حافة الانهيار، وتتمنع عن إنجاده، من جراء رفضه لمسار تسوية تريدها مع تركيا. وقد يكون للإيرانيين دور في تعزيز رفض الأسد لتسوية كهذا. لكن طهران عاجزة عن تقديم المزيد من المدد النفطي للأسد، من جراء الضغوط التي تواجهها على أكثر من صعيد، كما سبق أن أشرنا. نظام الأسد بدوره، قرر نقل الضغط إلى كاهل السوريين، ليعانوا واحدةً من أسوأ تجاربهم الحياتية، في حين يرفض هو تقديم أية تنازلات تتيح تحقيق انفراجة في أفق حياة هؤلاء، بغية الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من السلطة والنفوذ لصالحه.

تلفزيون سوريا

————————-

عن السوريين والخوف الذي لا يصنع المعجزات/ وفاء علوش

في بلاد كانت مهداً لحضارات قديمة تتوقف اليوم الحياة حتى إشعار آخر بانتظار معجزة تغير مجرى الأمور وتعيد للسوريين هيبتهم التي ضاعت منذ عقود.

مدن تسكنها الأشباح لا سيارات ولا مظاهر حياة ولا تجمعات بشرية تستطيع التجول فيها فتنقطع فيهم السبل في مكان ما بعيداً عن منازلهم.

أزمة الوقود الخانقة الأخيرة كانت فيصلاً في إطلاق رصاصة الموت على الذين ما زالوا يأملون بتحسن الأوضاع، لكن تلك الرصاصة لم تأتِ فجأة ولم تكن وليدة اللحظة ولم تشكل صدمة للعالم ولمن بقي من السوريين.

مجدداً عاد الغضب يسيطر على السوريين الذين يعانون من تبعات الأزمة الخانقة فبدأوا يدعون لإضراب عام وإغلاق احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية، على أمل أن يشكل ذلك ضغطاً جديداً على النظام بهدف إيجاد حلّ جذري للأزمة.

الثاني والعشرين من الشهر الجاري هو الموعد المنتظر على أن يشمل الإضراب ثلاثة قطاعات أساسية هي: المحال والشركات التجارية، والجامعات، والقطاع الحكومي باستثناء القطاع الصحي والطوارئ.

وعلى الرغم من أنه غضب الرمق الأخير ــــ إن جاز التعبير ــــــــ إلا أن الخوف من الأجهزة الأمنية ما زال في قوته وشدته المعهودة، وما زال قادراً على ضمان استمرارية مسلسل الرعب في نفوس رافضي الوضع وطالبي التغيير.

جزء كبير من السوريين أيضاً ما زال ينتظر معجزة تنقذه من براثن وأنياب النظام السوري، وإن اختاروا الصمت فذلك لأنهم لا يتجرؤون على الرفض والوقوف في وجه حاكم ظالم خشية بطشه وجبروته، وليس لأنهم غير معنيين بالتغيير وتواقين له، لكن السؤال هنا هل الخوف أمر طبيعي ومشروع؟ لا شك في ذلك غير أنه يصبح مهانة وذلاًّ ليس إلا، بعد أن يخسر الإنسان نفسه ويخسر كل ما بقي له من فتات يضمن له البقاء على قيد الحياة.

وفي حال افترضنا أن البقاء على قيد الحياة هدف بحد ذاته؟ فهل يستحق منا كل هذه التضحية بما نحلم وما نملك انتصاراً لغريزتنا حتى وإن كان الثمن إنسانيتنا؟

جلّ ما يميز الإنسان العاقل هو قدرته على التحكم بغرائزه وتغليب صوت عقله ومنطقه على غرائزه البدائية، ولهذا كان سباقاً في اختراع القيم ومنحها مكانة مهمة ضمن أولوياته، غير أنه يبدو أن هذا المنطق لا ينطبق على زمن الحروب ولا يخضع لقوانين الزمن الذي نحيا فيه اليوم، فقانون الغاب أصبح مسيطراً وبات من الطبيعي أن يلتهم القوي الضعيف حتى وإن لم يكن ذلك مشروعاً.

بلاد أُغلقت الأفران فيها أبوابها وأصبح رغيف الخبز حلماً بعيد المنال على فقرائها فيما طفت على السطح طبقة أثرياء جديدة من تجار الأزمات وأثرياء الحروب، وعادت إلى عصور الظلام في ظل انقطاع الكهرباء وإغلاق كثير من المصالح التجارية والمصالح الحكومية بسبب عجز الاستمرار، لكننا ما زلنا نأمل حدوث معجزة فيها، غير أن الخبر السيء أن ذلك لن يحصل وأن المعجزات التي ننتظرها لن تنجدنا إذا لم نفعل ذلك بأنفسنا، ولن نتمكن من مواجهة وحوش الجوع والموت بالإضراب فحسب في بلاد توقفت فيها عجلة الحياة منذ زمن.

مرة أخرى يعيد التاريخ نفسه ويمنحنا كسوريين فرصة الرفض والتمرد على واقع فرضه علينا استبداد لولا وجوده لكنا نعيش في نعيم ورخاء وفقاً لأرقام سوريا الاقتصادية، لكننا نعزف عن ذلك ونخشى قبضة الجلاد وسوطه ونكتفي بالامتعاض.

بعد سنوات من الثورة التي لم ينصفها أحد وبقيت يتيمة وحدها مثل خيمة في العراء، تنتفض السويداء مجدداً وهي ليست المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك وتطالب بأعلى سقف من الحريات بعد فشل لعبة الصبر وعض الأصابع التي فرضها النظام السوري على السوريين، لكنها تعود لتغرد وحدها خارج السرب فيما ينشغل الشعب السوري مجدداً بتفنيد أسباب الخوف ومبرراته وإثبات مشروعيته، بينما يموت الرافضون الذين وقفوا في وجه الظلم دفاعاً عن حقوق مشروعة هي الأخرى، فيسبب رد الأجهزة الأمنية العنيف خوفاً أكبر.

دائرة محكمة الإغلاق لكن الواقع يقول “إن سكت مت وإن نطقت مت”، ففي الحالتين نموت مع اختلاف الأسباب، فهل يعني ذلك أننا علينا أن نعيش نصف حياة مكتفين بفتات ما يرمونه لنا من زاد وحقوق إنسانية، أم أننا لن نخسر شيئاً في حال امتلكنا الشجاعة ورفضنا الاستمرار في الوضع ذاته؟

يتذرع كثيرون بأن المجتمع السوري لم يكن جاهزاً للثورة بعد، بسبب سنوات القمع والتغييب السياسي أو بسبب تركيبة الحياة في سوريا، وهذا قد يشكل سبباً مهماً إلى حد كبير لكنه لا يمكن أن يكون مبرراً لكل الطعنات التي قد نتلقاها أو يبرر التخلي عن أن نكون صفاً واحداً في مواجهة نظام لا يكيل لنا اعتباراً.

المشكلة الحقيقية أن الاستبداد عمل على تشتيت السوريين وحرص على تفتيت وجود هوية سورية جامعة مانعة، بمساعدة نظام أمني عمل على ترسيخ الفصل بين فئات السوريين، علاوة على أنه من المتوقع في المنعطفات المهمة في حياة الشعوب أن تنتشر أصوات متعددة توافق أو تخالف أو تتحفظ، وقد يعلو الصوت الغوغائي ليعتم على أصوات العقول التي قد تؤثر في المجتمع وقد يكون ذلك بحد ذاته عملا تحيكه سلطة الاستبداد ويساعدها في تحقيق مرادها لكنه قد يترك أثره على شرائح كثيرة بكل أسف.

قد نختلف مع البعض حول الأسباب الموجبة للثورات لكن ذلك لا يعني أن ننتقص من الأسباب التي قد تدفع الآخرين للثورة، وليس من حقنا إطلاق الأحكام على الثورات بأنها ثورة جياع أو ثورات مطالب سياسية، فما يمكن أن يكون لدينا أولوية قد يكون لدى الآخر رفاهية، خاصة في ظل التغييب السياسي الذي عاشه السوريون أو أبناء المنطقة بالعموم، وفي ظل تركيبة اجتماعية غير متماسكة، وباجتهاد أجهزة أمنية عملت على تفكيك عُرى المجتمع.

وعلى أننا لا يمكن أن نختلف بأحقية الناس في الثورات، فإن من حق السوريين اليوم أن يرفضوا واقع الحال ويقرروا الثورة عليه ولا يحق لنا محاكمة أسباب الثورة من عدمها، لكننا بات علينا لزاماً أن ندرك أهمية خياراتنا في تحديد مصائرنا وآلية تأثيرها على مصائر الآخرين وأن المعجزات لا تحصل من تلقاء نفسها بل علينا أن نصنعها ونستحقها.

—————————————

منحة الأسد.. حبة سيتامول لمرضى السرطان/ عبد القادر المنلا

تتصدر المنحة المالية التي قرر بشار الأسد صرفها للسوريين الخبر الأول في وسائل إعلام النظام، برامج حوارية تناقش أهميتها وتوقيتها وانتظار الناس لها ودورها في إنعاش السوريين، أخبار ومقالات في الصحف تحلل فلسفة المنحة وكرم مانحها وحرصه على تحسين أوضاع السوريين وإحساسه بمعاناتهم، ريبورتاجات ولقاءات مع المواطنين لإجبارهم على التعبير عن سرورهم وامتنانهم والإقرار بفضل السيد الرئيس وشكره على تلك المكرمة.

على الجانب الآخر، أثار مرسوم المنحة سخرية المعارضين وانتقاداتهم التي صبت جام غضبها على المبلغ الضئيل الذي لا يلبي شيئاً من احتياجات المواطن في الظروف الاقتصادية الخانقة التي يمر بها، فما الدور الذي ستلعبه تلك المنحة في تحسين الأوضاع المعيشية وأي حل ستشكله لمعاناتهم الصعبة ومشكلاتهم المالية المعقدة بل لمأساتهم التي لا يكفي أضعاف ذلك المبلغ الذي تفضل الرئيس بمنحه لمواطنيه لحل جزء بسيط منها، حيث لا يزيد مبلغ المنحة عن مئة ألف ليرة سورية؟

ذات المديح من قبل إعلام النظام، وذات الانتقادات من معارضيه تتكرر عند كل منحة يقرر الرئيس أن يصرفها لمواطنيه، غير أن السجالات حول المبلغ الضئيل، ومحاولة استرضاء المواطنين، أو حتى السخرية من كرم الرئيس ومن فكرة صرف المنحة وكأنها من جيبه الخاص، كل ذلك يبدو أبعد ما يكون عن جوهر المشكلة.

إن فكرة المنحة بحد ذاتها هي سبب كاف للثورة على أي نظام يضع نفسه في موقع المانح، فهي تؤكد على فردية القرار ومستوى الديكتاتورية والتأله، والنظر إلى المواطنين على أنهم مجرد عبيد تتحكم بهم السلطة العليا، تتحكم في قراراتهم وتفاصيل حياتهم وفي قوتهم اليومي.

مؤخراً، اجتاحت أوروبا موجة غلاء بعد الحرب الروسية على أوكرانيا وما نتج عنها من ارتفاع أسعار الطاقة، فقررت الحكومات الأوروبية صرف تعويضات للمواطنين تغطي الفارق الكبير بين الأسعار والدخول، ولكن تلك المبالغ لم تصرف للمواطن الأوروبي على أنها منحة، بل استحقاق وواجب من الحكومة تجاه مواطنيها، كما أن مبالغ تلك المساعدات استطاعت أن تردم الهوة نسبياً وأن تغطي عجز دخل المواطن الأوروبي عن تسديد فواتير الطاقة، والأهم أن قرار التعويضات التي صرفتها الحكومات الأوروبية لم ينسب لشخص بل للدولة.

من هنا يمكننا تناول “المنحة” كفكرة وآلية، فهي أولاً تنفي صفة الدولة وتختزلها في شخص، وهي ثانياً تنفي صفة المواطن والمواطنة أيضاً، فمن يقرر المنحة هو السيد، ومن يأخذها هو العبد، وهكذا تعيدنا تقنية المنحة إلى العصر الإقطاعي في أسوأ صوره وأشكاله، وهو العصر الذي ادعى النظام طيلة سنوات حكمه أنه يحاربه ويعاديه، ولكنه هنا يمارس شكلاً بهيمياً من الفكر الإقطاعي، حيث يعامل النظام المواطن على أنه أدنى من درجة العبيد بكثير ويعيد إلى ذاكرتنا وصف الأسد للشعب السوري على أنه مجموعة من الحشرات والجراثيم، وبالتالي فهو يتفضل على تلك الجراثيم بمنحهم فتات الفتات.

ورغم كل ما يعنيه مبلغ المنحة المخجل، إلا أنه لا يلعب دوراً هاماً بالمقارنة مع فكرة المنحة، فمن ناحية، لا يحق للرئيس صرف مبالغ من خزينة الدولة للمواطنين والادعاء أنها منحة منه، ومن ناحية ثانية، فإن المنحة ستبقى فعلاً معادياً لمفهوم الوطنية وفق الآلية الذهنية والأخلاقية التي تنتج عنها والتي تجعل من شخص الرئيس أهم من الوطن والمواطن معاً، حتى لو مبلغ كان المنحة قادراً على تحقيق كل احتياجات المواطن.

تكفي فكرة المنحة بالطريقة التي يروج لها النظام لتنسف كل روايته التي سعى لترويجها منذ سنوات عن السيادة والدولة والمؤسسات، فهي تؤكد على نهجه الشمولي وقمعه وديكتاتوريته التي كانت أحد الأسباب الرئيسية للثورة عليه، ودليلاً على فكر العصابة الذي يقود من خلاله مناطق نفوذه، كما أنها تنفي أية نية للنظام في الإصلاح أو التغيير أو في تقديم أي تنازل للشعب، بل هي (المنحة) نوع من الخطاب الذي لا يمكن تفسيره إلا على أنه تأكيد من العصابة على نظرتها الدونية للشعب، وتأكيد للعلاقة الفوقية مع المواطنين بمن فيهم الموالون والحاضنة.

لا يمكن لمنحة الأسد أن تكون نوعاً من الحرص على المواطن وقوته اليومي، ولا حتى بهدف استرضائه أو إعطائه أملاً مزيفاً، فذلك كله لا يعده النظام موضوعاً يستحق التفكير فيه، وإنما يريدها النظام نوعاً من الدعاية يؤكد من خلالها على أنه لا يزال كما كان، لم تهدده الأحداث، ولم تؤثر فيه الظروف التي يمر بها وأنه لا يزال كسابق عهده مهيمناً ومسيطراً، والرسالة الأهم هي تأكيده بأنه لن يتغير في المستقبل سواء في طريقة حكمه أو في نظرته للمواطن، وليس لديه أية نوايا لذلك..

تؤكد المنحة من زاوية أخرى ليس فقط على مدى إصرار النظام على إهانة السوريين القابعين تحت سيطرته، بمن فيهم أتباعه، من خلال المبلغ الزهيد الذي لا يقدم ولا يؤخر، وإنما على تحدي الشعب وتذكيره بعجزه وخنوعه، وهو الأمر الذي يُطرب النظام خاصة بعد إيمانه بالنصر المبين الذي حققه على السوريين، ولو كان للشعب أهمية ما، لخجل النظام من صرف هذا المبلغ، فالمغتربون الذين يساعدون أقرباءهم أو معارفهم أو حتى أولئك الذين يقدمون مساعدات شهرية أو شبه شهرية لمن لا يعرفونهم، يخجلون أن يقدموا مساعدة لا تتجاوز قيمتها الـ ١٦ دولاراً، بينما لا يخجل الرئيس الذي يتحكم بالمليارات التي يجنيها من تجارة المخدرات أن يقدم ذلك المبلغ لمرة واحدة ويعده فضلاً ومنة ويطلب من المواطن شكره والتعبير عن امتنانه على وسائل الإعلام.

يبدو أن بشار الأسد لم يتأخر في الاستجابة للرسالة المؤثرة التي وجهها له الممثل وضاح حلوم منذ أيام وناشده فيها التدخل لحل مشكلات السوريين وإنقاذهم مما هم فيه كونه الوحيد القادر على ذلك.

ولهذا فكر الأسد مباشرة بحل إسعافي وعكف على دراسة مرسوم طوارئ، بعدما نما إلى سمعه -عن طريق رسالة الممثل المذكور- أن شعبه يعاني من الجوع والبرد ونقص كل المواد الأساسية اللازمة للحدود الدنيا للحياة، ووصل إلى حل مثالي يمكنه من اقتلاع مشكلات السوريين من جذورها، وأصدر على وجه السرعة مرسوم المنحة المالية ليعوض السوريين من خلالها عن أيام العوز والجوع وينهي مشكلاتهم بالكامل ويجعلهم يعيشون في بحبوحة.

من الواضح أن بشار الأسد فهم توسلات الممثل وضاح حلوم بشكل خاطئ، لأن المعنى البعيد للرسالة، والذي ربما لم يقصده الممثل، هو أن الأسد يستطيع أن ينقذ سوريا فقط إذا قرر الرحيل، وهو الحل الوحيد الذي يمتلكه الرئيس للإفراج عن شعب كامل معتقل في السجن الكبير الذي يديره، وبالتأكيد لم يتوسل الممثل المعروف من أجل ستة عشر دولاراً، غير أن الأسد لم يجد أكثر من ذلك المبلغ ليرد من خلاله على توسلات السوريين، فكان كمن يصرف حبة سيتامول لمريض السرطان ثم ينتظر منه الاعتراف بالجميل.

تلفزيون سوريا

————————

وزارة الخزانة الأميركية تعرقل التفاف النظام السوري على العقوبات

أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية الأربعاء، تعليمات إدارية جديدة بخصوص تدفق المساعدات الإنسانية الداعمة للاحتياجات الأساسية، وجعلت هذه التعليمات الحسابات أكثر تعقيداً على الشركات الأجنبية والعربية التي تعمل في المجالات الإنسانية في مناطق سيطرة النظام بالشراكة مع جهات محلية، وتحديداً في المشاريع الإنسانية الأممية التي تشارك الولايات المتحدة في تمويلها.

وقالت مصادر أميركية ل”المدن” أن تعليمات وزارة الخزانة الجديدة تغلق ثغرة كانت الشركات تستغلها للالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة على النظام السوري، من خلال إغلاق المجال أمام التعاون مع الشركات المدرجة على لوائح العقوبات الأميركية، بغض النظر عن حجم المشاركة المالية.

ويوضح المعارض السوري المقيم في الولايات المتحدة أيمن عبد النور أنه رغم أن التعليمات الإدارية الجديدة لا تشمل سوريا فقط، وإنما تشمل كل قضايا المساعدات التي تشارك في تمويلها جهات أميركية حول العالم، إلا أننا أمام صفعة قوية للنظام ومنظومته الاقتصادية.

ويقول ل”المدن” أنه في السابق، كانت الشركات الأجنبية تستغل ثغرة حجم المساهمة للتعاون مع شركاء سوريين محليين مدرجة أسماؤهم على لائحة العقوبات، بحيث تستطيع الشركات الأجنبية أن تتعامل معهم شريطة أن تكون حصتها أقل من النصف.

ووفق عبد النور، فإن التعليمات الجديدة تُعرّض أي شركة أجنبية تتعامل مع الجهات السورية المعاقبة للمساءلة دون النظر إلى نسبة المشاركة في المشروع، ما يجعل من مخاوف الشركات الأجنبية وتحديداً العُمانية والإماراتية التي تساهم في تنفيذ مشاريع إنسانية في مناطق سيطرة النظام كبيرة، ما قد يدفعها إلى التوقف عن العمل خشية العقوبات.

وبذلك، يرجح المعارض السوري أن تُحجم الشركات العربية عن الدخول في أي مشروع إنساني في سوريا،يجري تنفيذه بالتعاون مع رجال الأعمال التابعين للنظام السوري، وكذلك مع المؤسسات الخيرية التابعة للنظام، مثل منظمة “الأمانة السورية للتنمية” التابعة لأسماء الأخرس، زوجة بشار الأسد.

وبطبيعة الحال، يحدّ الإجراء الأميركي الأخير من قدرة النظام السوري على التحكم بالمساعدات الإنسانية التي تصل إلى مناطقه، وتقلل من استفادته المالية منها، وتوزيعها على عناصر جيشه والميليشيات التابعة له.

وإلى جانب المساعدات الإنسانية، يؤكد الدبلوماسي السوري السابق في الولايات المتحدة بسام بربندي، أن مفاعيل التعليمات الإدارية الأميركية الجديدة، ستطال مشروع نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر خط الغاز الذي يمر بالأردن وسوريا.

ويوضح ل”المدن” أن المشروع يتم بالتعاون مع وزارة النفط والثروة المعدنية التابعة للنظام السوري، المدرجة على لائحة العقوبات الأميركية، وهذا يعني أن التعامل معها سيعرض الشركات المصرية واللبنانية والأردنية للعقوبات، مهما كانت حصة الوزارة السورية.

وكان مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية قد كشف في شباط/فبراير 2022، عن تلاعب النظام السوري بالمساعدات الإنسانية في سوريا بشكل متكرر من خلال منعها عن معارضيه ومنحها لآخرين، مبيناً أن نظام الأسد يتمتع بسلطة قوية على وصول منظمات الإغاثة، بما في ذلك من خلال الموافقات على تأشيرات الدخول، لدرجة أنه أصبح من الطبيعي بالنسبة لأقارب كبار مسؤولي النظام الحصول على وظائف داخل هيئات الأمم المتحدة.

ويقول التقرير إن ماهر شقيق بشار الأسد، ورجل الأعمال محمد حمشو، فازا بعقود مشتريات أممية لنزع المعادن في المناطق التي استعادها النظام وإعادة تدويرها للبيع في شركة حديد للصناعات المعدنية المملوكة لرجل الأعمال الذي سبق له أن شغل عضوية مجلس الشعب، وتضيف مؤلفة التقرير، ناتاشا هول: “لا توجد مواقف كثيرة في التاريخ لشخص يرتكب جرائم فظيعة ويبقى في السلطة ويسيطر على جهاز المساعدة، إنها حلقة فاسدة للغاية يتم إنشاؤها”.

المدن

——————————-

الليرة السورية تخسر نصف قيمتها في 2022.. “المركزي” غائب

عنب بلدي

سجلت قيمة الليرة السورية انخفاضًا شديدًا أمام العملات الأجنبية، خلال الأشهر القليلة الماضية، إذ خسرت نحو نصف قيمتها قياسًا بقيمتها مطلع العام الحالي، دون أي تحرك معلَن من قبل حكومة النظام أو مصرف سوريا المركزي لوقف التدهور المتسارع.

وبحسب موقع “الليرة اليوم” المتخصص بأسعار صرف العملات الأجنبية، سجل سعر مبيع الدولار اليوم، الأربعاء 21 من كانون الأول، 6300 ليرة سورية، وسعر شرائه 6230 ليرة.

بينما كان سعر صرف الدولار مطلع العام الحالي نحو 3600 ليرة للدولار الواحد.

وخلال الأشهر الأخيرة، بدأت قيمة الليرة السورية بالانخفاض، لتكسر حاجز أربعة آلاف ليرة سورية منتصف تموز الماضي، وتصل إلى 4500 ليرة للدولار الواحد منتصف آب الماضي، وتكسر حاجز خمسة آلاف مطلع تشرين الأول.

عدة عوامل اقتصادية

وحول أسباب التدهور، أوضح الباحث الاقتصادي زكي محشي، أن الاتجاه العام لسعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية هو الانخفاض، بسبب ارتباطه بالعوامل الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية الموجودة في سوريا، ما لم يحدث انتقال سياسي في البلاد.

وأضاف محشي لعنب بلدي، أنه في هذا السياق يمكن للحكومة والأجهزة الأمنية التدخل لوقف تدهور الليرة لفترة مؤقتة، ولكن لا يمكنها التدخل بشكل مستمر، لذلك ما يغلب على قيمة الليرة اليوم، تأثرها بالتدهور الاقتصادي بشكل عام.

ويرتبط سعر الصرف في ظل المعطيات الحالية في سوريا بعدة عوامل اقتصادية مجتمعة تؤدي إلى انخفاض قيمة الليرة، منها عدم وجود الإنتاج، ونمو الناتج المحلي سلبًا، والاعتماد على الأسواق الخارجية، بالإضافة إلى العجز الكبير في الميزان التجاري، وميزان المدفوعات، والموازنة العامة للدولة، فضلًا عن هروب الاستثمارات الأجنبية، ووجود سوق “سوداء” واسعة لتصريف العملة عبرها.

لا وجود للاحتياطي

منذ عام 2011، يعيش الاقتصاد السوري جملة من المشكلات التي تزداد سوءًا مع مرور الزمن، نظرًا إلى غياب قدرة الحكومة على حلها بل تفاقمها أكثر عبر قرارات تتخذها.

وأدت كل هذه المشكلات الاقتصادية التي لا تعتبر جديدة إلى تدهور قيمة الليرة سابقًا، مع محافظتها على استقرارها لفترة معيّنة لم تتعدَّ في أحسن الأحوال تسعة أشهر.

وحول تدهورها المتسارع خلال الفترة الأخيرة، قال الباحث زكي محشي، إنه من الواضح وجود ضغط جديد على الليرة، خاصة في ظل أزمة المحروقات الحالية، وفتح خط ائتماني إيراني مؤخرًا، الأمر الذي يراكم ديون الحكومة بالعملة الأجنبية، ما سيزيد من الضغط على الاقتصاد السوري حاليًا أو مستقبلًا لدفع هذه الديون.

وبحسب الباحث، تشير هذه المعطيات إلى أن حكومة النظام السوري لا تملك أي احتياطي بالعملة الأجنبي نهائيًا، كونها تعتمد بشكل كامل على الخطوط الائتمانية المفتوحة مع إيران، أو تلك التي يمكن أن تفتحها روسيا، وبالتالي فإن هذا الاقتراض ليس مجانيًا، إنما يتم دفعه عن طريق إعطاء ميزات إضافية لإيران، أو مستقبلًا بالعملة الأجنبية.

وفي 10 من كانون الأول الحالي، علّق المصرف المركزي على ما تناقلته وسائل إعلام محلية ونسبته إلى وكالة “أسوشيتد برس”، حول إفلاسه، وعدم قدرته على دفع الرواتب، بقوله، إن السيولة المتوفرة لدى المصرف كافية لسنوات، وليست فقط لأشهر، مؤكدًا “وجود مخزون كافٍ من القطع الأجنبي”.

اقرأ أيضًا: مصرف سوريا المركزي ينفي إفلاسه: السيولة متوفرة لسنوات

المركزي يتجاهل

لم تعلّق حكومة النظام أو مصرف سوريا المركزي بشكل رسمي على قضية تدهور الليرة، بينما نقلت وسائل إعلام محلية، مطلع الأسبوع الماضي، أنباء تفيد بتدخل “المركزي”، دون توضيح آلية التدخل، أو ذكر تفاصيل إضافية حول ذلك.

بدورها، نقلت صحيفة “الوطن” المحلية، في 13 من كانون الأول الحالي، عن مصدر في مصرف سوريا المركزي (لم تسمِّه) قوله، إن المصرف تدخّل في سوق الصرف في 12 من كانون الأول الحالي، وذلك ليوم واحد فقط، وحينها سجلت الليرة تحسنًا طفيفًا بمعدل 200 ليرة، فعادت إلى نحو 6025 ليرة، بعد أن كسرت حاجز 6200 ليرة.

ولكن بعد يومين من حديث المصدر، عادت قيمة الليرة للهبوط، دون أي تحسن حتى الآن.

ولم يوضح المصدر في حديثه للصحيفة آلية التدخل، مشيرًا إلى أن اختيار وقت التدخل يحدده المركزي الذي يتابع بشكل “آني” ما يحصل في السوق من مضاربات، ويتخذ قراره بالتدخل في الوقت الذي يراه مناسبًا.

واعتبر المصدر أن قيمة الليرة ستستمر بالتحسن طوال الفترة المقبلة، الأمر الذي لم يحدث.

الباحث الاقتصادي زكي محشي يعتقد أن الحكومة ليس لديها أي أدوات للتدخل لوقف تدهور الليرة، مشيرًا إلى عدم قدرتها على طرح الدولار في الأسواق، كونها استنفدت بشكل كامل الاحتياطي من العملة الأجنبية.

كما يبدو أن سيطرة أجهزة الأمن على “السوق السوداء” للعملة والتحكم بها تتراجع بشكل ما، أو أنها غير قادرة على السيطرة بشكل دائم، بحسب الباحث.

اقرأ أيضًا: الليرة السورية إلى التدهور.. إجراءات أمنية واقتصادية لا تحميها

وبحسب تقرير صادر عن مركز “جسور للدراسات” مطلع العام الحالي، تفتقد الليرة السورية لحدود المقاومة اللازمة للدفاع عن استقرارها، ومن الصعب أن تصمد أمام أي هزة مهما كانت صغيرة، ما يؤكد أنها عُرضة للانخفاض السريع.

وأضاف التقرير، الذي حاول توقع قيمة الليرة خلال العام الحالي، أنه غالبًا ما يكون أثر التحولات السياسية والاقتصادية في سعر صرف الليرة على شكل موجات ارتفاع واضحة، أي بانخفاض قيمة الليرة، الأمر الذي يجعل من الصعب تحديد المستويات التي يُمكن أن تحققها.

وينعكس انخفاض قيمة الليرة على المقيمين في مناطق سيطرة النظام بشكل مباشر، لما يرافقه من ارتفاع في أسعار المواد الغذائية و الأساسية، ما يفاقم من ضعف القوة الشرائية لديهم أكثر.

بالمقابل، تسعى حكومة النظام إلى ضبط الأسواق عبر تجفيف السيولة النقدية، ومصادرة كتل نقدية كبيرة بالليرة السورية، ما أدى إلى خروج عدد من صغار المستثمرين والتجار من الأسواق، نتيجة ضعف النشاط التجاري والصناعي.

———————————–

الأمم المتحدة: الاحتياجات تتزايد في سوريا وسط أزمة إنسانية واقتصادية متفاقمة

قالت الأمم المتحدة إن الاحتياجات الإنسانية في سوريا وصلت إلى أسوأ مستوياتها منذ اندلاع الصراع قبل ما يقرب من 12 عاماً، حسبما ذكر مبعوثين أميين في جلسة لمجلس الأمن الدولي خاصة بالشأن السوري مساء أمس الأربعاء.

وقام كل من مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون، ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، بإطلاع السفراء ومندوبي الدول على آخر المستجدات والأوضاع في سوريا، حيث شددا على ضرورة استمرار دعم السوريين.

ويحتاج حوالي 14.6 مليون شخص إلى الدعم ، بزيادة قدرها 1.2 مليون عن عام 2021 – ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 15.3 مليون في العام المقبل، وفق ما ذكر بيان للأمم المتحدة.

وحذر بيدروسن من “استمرار الصراع المسلح ومخاطر التصعيد العسكري، واحتمال حدوث تدهور كارثي أمر حقيقي للغاية”.

وقال إنه على الرغم من عدم قيام أي طرف بتنفيذ أي عمليات عسكرية واسعة النطاق، إلا أن “الديناميكيات الخطرة” لا تزال قائمة.

وأشار بيدرسون إلى “غارات جوية متفرقة موالية للحكومة في الشمال الغربي، إلى جانب الغارات الجوية التركية في الشمال، وضربات في دمشق والجنوب الغربي منسوبة إلى إسرائيل، بينما يواصل تنظيم داعش المتطرف هجماته ضد مختلف الأطراف”.

ودعت أولى النقاط التي شدد عليها بيدرسون خلال الجلسة إلى التراجع عن التصعيد واستعادة الهدوء النسبي على الأرض.

وحث المبعوث الدولي المجلس على تجديد إطار عمله لتوفير وصول المساعدات الإنسانية دون قيود لجميع السوريين الذين يحتاجون إلى المساعدة، وبجميع الطرق.

كما شدد على ضرورة استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية السورية وجعلها أكثر موضوعية.

من جانبه قال غريفيث، إن الغالبية العظمى من العائلات السورية إما تكافح أو غير قادرة على تلبية احتياجاتها الأساسية.

وأضاف أن 12 مليون شخص، أي أكثر من نصف السكان، يجدون صعوبة في وضع الطعام على المائدة. وما يقرب من ثلاثة ملايين آخرين قد يواجهون انعدام الأمن الغذائي.

وتسببت الحرب في نزوح ملايين السوريين ، يعيش مليونان منهم في خيام ومخيمات وملاجئ مؤقتة، حتى خلال درجات حرارة الشتاء التي تقل عن الصفر، بحسب غريفيث.

إعداد وتحرير: هوزان زبير

نورث برس

————————-

فهم الأزمة السورية المستمرة/ ميشيل دوكلوس

من الواضح أن الحرب الرئيسية في سوريا هي صراع يعارض النظام وشعبه، إلا أنها انتهت بعد انتصار الأسد رغم سيطرته فقط على ثلثي البلاد، حيث لا تزال هناك بعض جيوب المقاومة في جميع أنحاء البلاد بما فيها الجماعات السلفية في الشمال الغربي في إدلب والمناطق التي يسيطر عليها الكرد في الشمال الشرقي. ولا يدخل الأسد في حرب مباشرة مع الكرد، لكنه يواصل قصف إدلب التي تسيطر عليها الحركات السلفية.

لا تزال سوريا مسرحاً للمواجهة بين إيران وإسرائيل، وقامت روسيا بتنصيب نفسها كوسيط بين الدول المتحاربة، كما أن الجيش التركي يواصل حربه ضد الكرد السوريين (وحدات حماية الشعب). دعوناً أيضاً لا ننسى الصراع بين الولايات المتحدة (وحلفائها) وتنظيم الدولة الإسلامية في الشمال الشرقي من البلاد رغم أن مسلحي الأخيرة حديثي الولادة. تبقى الدولة الإسلامية السبب في نشر القوات الخاصة الأميركية والفرنسية في الشمال الشرقي من البلاد، وهذا ما أدى إلى حدوث توترات دائمة بين النظام السوري وروسيا (وإلى حد ما تركيا) من طرف والغرب من طرف آخر في سوريا، وأدى إلى تشابك الأطراف بشكل وثيق يدعمه التوترات المستمرة بين روسيا وتركيا وإيران من جهة والغرب من جهة أخرى، فضلاً عن الجهود الواسعة التي تبذلها جامعة الدول العربية لتطبيع العلاقات مع دمشق، وكانت رحلة الأسد إلى الإمارات العربية المتحدة في آذار/مارس 2022 أول زيارة رسمية له إلى دولة عربية منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011. بالطبع، إن إقامة أي علاقة مع سوريا يعتبر اعتراضاً لسياسة الغرب. فيما يتعلق بوجود الدولة الإسلامية وحلفائها، لم يتم القضاء على التنظيم في العراق، وهناك علاقة بين ما يحدث في العراق وسوريا فيما يتعلق بمسألة الإرهاب – ولا يمكن استبعاد عودة ظهور الدولة الإسلامية في سوريا.

ليست هناك أي بوادر حل للنزاع في سوريا في الوقت الحالي رغم تنفيذ السياسات الإنسانية. إن الغالبية العظمى من السوريين، سواء كانوا تحت سيطرة الأسد أم خارجها، يعيشون تحت خط الفقر ويعانون من المجاعة والأمراض المعدية. ووفقاً لآخر التقديرات، استمر عدد السوريين المحتاجين للمساعدات الإنسانية في الزيادة منذ كانون الثاني/يناير ليصل إلى 14.6 مليون شخص (من إجمالي عدد السكان البالغ 18 مليون نسمة). كما تفاقمت مسألة انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء سوريا بسبب الصراع في أوكرانيا الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والقمح.

للأسف، يقوم النظام السوري وبشكل روتيني بمصادرة الإمدادات القادمة من قوافل الإغاثة التي ترسلها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وحتى قبل بضع سنوات، كانت الأمم المتحدة قادرة على تجنب دمشق من خلال استخدام المعابر الحدودية لإيصال المساعدات الإنسانية إلى أن نجحت القوات الروسية في إغلاق جميع المعابر تدريجياً. وبينما لا تزال إحداها مفتوحة في الشمال الغربي، فمن المرجح أن تستخدم روسيا حق النقض لمنع تجديد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2642 الذي يسمح بوصول المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا.

بالإضافة إلى ذلك، إن عدد السوريين الذين يعيشون في منازلهم حالياً أقل من عدد الذين أجبروا على الفرار، سواء إلى أماكن أخرى في سوريا أو خارجها. وتشكل مسألة اللاجئين السوريين عبئاً ثقيلاً على دول مثل تركيا ولبنان والأردن، وقدمت هذه الحكومات جهوداً كبيرة لإعادتهم إلى سوريا، لكن ثبت أن هذا الأمر صعب نظراً لأن السوريين القلائل الذين اختاروا العودة إلى ديارهم إما تم اعتقالهم أو سجنهم أو تم اقتيادهم من أجل التجنيد الإجباري في قوات النظام السوري، ومع فشل محاولات الإعادة هذه، فشلت خطة روسيا الكبرى لضمان عودة النازحين السوريين بأعداد كبيرة مقابل تطبيع الأسد مع الغرب ودول المنطقة.

هناك أيضاً اتجاه باعث للقلق عندما تعتبر بعض البلدان، بما فيها فرنسا، أن البلد بات “مستقراً”، لإعادة طالبي اللجوء السوريين إلى سوريا. يجب إدانة هذا الاتجاه بشدة.

إن العقبة التي تحول دون حل النزاع ليست عدد الجهات الفاعلة بل طبيعة النظام نفسه. تعتبر سوريا فسيفساء من الأقليات الموروثة من العهد العثماني، وإن التركيبة السكانية “العثمانية” للبلاد إلى جانب طبيعة نظامها هي ما تجعل سوريا مميزة للغاية إلى يومنا هذا. إلا أن السلطة يمارسها ديكتاتور، وهذا الديكتاتور مدعوم من قبل سلالة، وهذه السلالة تسيطر على الأقلية العلوية، وتسيطر الأقلية العلوية على الأغلبية السنية من خلال تحالف مع أقليات أخرى واختيار بعض النخب السنية. إنه نظام سلطة غريب للغاية ومن الصعب إسقاطه، وكان تأليب الأقليات ضد الأغلبية السنية مجرد لعبة من أجل النظام، وسرعان ما تمكن الأسد من ترسيخ الرواية القائلة بأن الصراع كان بين طرفين، وأن هذا الصراع كان مدعوماً من الخارج، وهذا يجعل من الصعب الاتفاق على عملية تسوية، خاصة وأن النظام السوري وحشي ولا هوادة فيه ومرن بطبيعته.

المشكلة الحقيقية ليست في تعدد المصالح بين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، بل في حقيقة أن هذه المصالح لا تتماشى مع بعضها البعض. ففي البداية، شكلت إيران وروسيا تحالفاً لدعم النظام، في حين أرادت الدول الغربية والعربية الإطاحة به (أو على الأقل أن يخضع لتغيير جذري). ولكن في مرحلة ما، توصلت تركيا إلى اتفاق مع إيران وروسيا للانخراط في إدارة الصراع بدلاً من حله.

ومهدت مناطق خفض التصعيد المتفق عليها بشكل مشترك الطريق أمام تركيا لكسب النفوذ، ومهدت الطريق لروسيا وإيران لإحراز تقدم في استعادة البلاد لصالح النظام. وتمكن بشار الأسد من التشبث بالسلطة بسبب الكوكبة الميمونة التي شكلتها إيران وروسيا وإسرائيل، إلى جانب الأميركيين والأتراك المحايدين إلى حد ما الذين بدأوا يرون بعض المنطق وراء بقاء الأسد في السلطة.

هذا الخلط من الظروف لم يسمح للأمم المتحدة بإنشاء عملية لإيجاد حل، ويبقى السؤال الحقيقي ما إذا كان من المنطقي أن تحتفظ الأمم المتحدة بمبعوث خاص لها في سوريا، حيث من المفترض أن يجمع الدبلوماسي الأطراف المختلفة في جنيف، لكنها كانت استفزازية وتم تخريبها من الداخل من قبل روسيا ونظام الأسد. كما أن الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة وأوروبا لم تلتزم بإصلاح مسار الأمم المتحدة غير الفعال، وأطلقت روسيا مسار أستانا مع إيران وتركيا، ويجب أن نشير إلى أنهما فعلتا ذلك دون الحصول على أي شيء من النظام. وبالإضافة إلى ذلك، تضطلع الأمم المتحدة بدور كثيراً ما يكون موضع خلاف من خلال وكالاتها المختلفة التي تسهم إسهاماً كبيراً في إدارة الجهود الإنسانية للصراع.

لا يحظى النظام بشعبية كبيرة، لكن مرونته لا تعتمد على شعبيته، ومعاقل الأسد نفسها ليست محصنة ضد التمرد، كما يتضح ذلك من الانتفاضات في السويداء ودرعا وبعض المجتمعات الدرزية، بل إن الأقلية العلوية تضمر استياءً شديداً ضد عائلة الأسد وحلفائها في دمشق، وعانى العلويون أكثر من بقية السكان ولو نسبياً في بعض الأحيان.

وفي القرى العلوية الفقيرة، تم قتل العديد من الشبان وتشويه جثثهم أثناء دفاعهم عن النظام ضد التمرد. ومع ذلك، فإن القاعدة العلوية مقتنعة بأنه إذا سقط الأسد من السلطة، فإنها ستجد نفسها تحت رحمة سخط الأغلبية السنية. ويعتمد نظام الأسد على الإرهاب ودعم المجتمع له للبقاء على قيد الحياة، ومن غير المرجح أن يتغير الوضع ما دامت إيران وإسرائيل وروسيا تدعم الأسد.

اكتسبت تجارة المخدرات بما فيها الكبتاغون أهمية كبيرة. ارتبط هذا النوع من المنشط بجهادي تنظيم الدولة الإسلامية، وتوفر هذه الصناعة غير القانونية الدعم لنظام الأسد وللعديد من أعدائه أيضاً. وفقاً للتقديرات الأخيرة، فقد بلغت قيمة صادرات الكبتاغون 3.5 مليار دولار – في بلد يقدر إجمالي الناتج المحلي فيه بما يتراوح بين 20 و30 مليار دولار. وكان لتجارة الكبتاغون المتنامية تأثيراً على الأردن وتركيا والعراق، مع أنها كانت مخصصة في البداية للاستخدام في دول الخليج ومصر وأوروبا. ولتنمية هذه الصناعة، اعتمدت سوريا على إيران وخاصة جماعة حزب الله اللبنانية القوية والمدعومة من إيران، والتي لها تاريخ طويل في تهريب المخدرات. ويعتبر الكبتاغون الآن أكبر الصادرات السورية وأكثرها قيمة، حيث يتجاوز جميع الصادرات القانونية مجتمعة وفقاً للتقديرات. ويمكن القول إنه أصبح سمة مميزة لنظام الأسد.

هناك ثلاث سيناريوهات محتملة لآثار الحرب الروسية-الأوكرانية على الوضع في سوريا: الأول هو الوضع الراهن، حيث يحافظ الروس على وجود كاف في سوريا للحفاظ على استقرار النظام ونفوذ كاف في المنطقة لتجنب الإخلال بالتوازن بين تركيا وإيران وإسرائيل والغرب والدول العربية. والثاني يتعلق بنفوذ إيران الذي من المرجح أن يتصاعد بالنظر إلى أن روسيا لديها موارد أقل لدعم النظام وأن اهتمام موسكو قد تحول إلى أوكرانيا، ويمكن لتركيا أيضا اكتساب المزيد من القوة مع استعداد قواتها لاحتلال أراض أكثر في شمالي سوريا. والأخير يكمن في إمكانية تحديد مصير الأسد في خيرسون وماريوبول وشبه جزيرة القرم، فإذا تعرضت روسيا لهزيمة ساحقة في أوكرانيا، من الصعب التخيل أن يواجه الأسد أي شيء، خاصة إذا استمرت إيران في مواجهة التحديات الداخلية (في ضوء الاحتجاجات الواسعة التي أعقبت وفاة مهسا أميني) والتحديات الخارجية (فيما إذا اقتربت طهران من تطوير أسلحة نووية، مما قد يؤدي إلى رد من الولايات المتحدة وإسرائيل).

حتى قبل البدء بالتفكير في حل للحرب السورية، يجب أن تتغير المصالح الروسية والإسرائيل والعربية والأميركية والغربية. هل من الممكن لجميع هذه المصالح أن تتلاقى من أجل إيجاد وسيلة للخروج من الصراع وإزالة الأسد من السلطة? هذا السؤال يكمن في قلب الأزمة السورية.

الميزة الحقيقية الوحيدة التي تمتلكها الولايات المتحدة وحلفاؤها هي الحفاظ على وجودها في شمال شرقي سوريا، وإذا ظهرت منطقة مستقلة ومستقرة ومزدهرة هناك (تظهر ما يمكن أن يحققه السوريون عندما يتحررون من قبضة الأسد)، فإن هذا من شأنه أن يغير الواقع ويعطي المزيد من القوة التفاوضية للولايات المتحدة وحلفائها المشاركين في دعم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. من الصعب عرقلة إرادة الدول العربية الراغبة في تطبيع العلاقات مع دمشق. ولكن لا يمكن أن يطلب من الدول العربية تطبيع العلاقات إلا إذا قبل نظام الأسد وبشكل ملموس خطة اللامركزية التي تنطوي على الحكم الذاتي الكامل للمناطق المحررة.

قد تختار تركيا أيضا تطبيع علاقتها مع الأسد (وهو أمر تحاول روسيا تشجيعه) لإطلاق العنان في الشمال. فقد كان أردوغان واضحا بشأن نيته إبادة الكرد السوريين والحصول على منطقة نفوذ في سوريا ليتخلص من السوريين الذين التجأوا إلى الأراضي التركية. والأمر متروك لنا، نحن الغرب، لتوفير خيار بديل لأنقرة، حيث يتمتع شمال شرقي سوريا بالحكم الذاتي والاستقرار، ولا يمثل أي تهديد لتركيا.

المؤسسات الدولية لا تموت أبداً. ومع ذلك، هناك شيء فريد من نوعه حول القضية السورية، فقد كان للعرقلة الروسية خسائر متزايدة في مجلس الأمن الدولي منذ بدء الحرب. وتنتمي روسيا إلى هيئة مؤسسية تمنحها مكانة مميزة في العالم، لكنها لن تتردد في إعاقة أو إضعاف هذه المؤسسة على الرغم من كونها عضواً.

وأكدت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أن القرارات لم تعد تتخذ من قبل مجلس الأمن ولكن من قبل الجمعية العامة و”تحالفات الراغبين”. وإذا لم تثبت سوريا لمجلس الأمن أنها تمثل بداية النهاية، فستكون على الأقل قد أضعفت إلى حد كبير هذه الهيئة الرمزية.

أنشأت الأمم المتحدة والجمعية العامة “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة” لجمع الأدلة التي يمكن استخدامها يوماً ما في عملية قضائية ضد النظام والدولة الإسلامية. وتمثل الآلية خطوة إلى الأمام في مجال العدالة الجنائية الدولية، إلا أن هذا لم يكن كافياً لتحريك نزع الشرعية عن نظام الأسد ويبدو أن الرأي العام الدولي اعتاد على ندوب الجريمة.

هذا يقودني إلى إلقاء نظرة مختلفة على المسألة الأوكرانية، حيث يبذل الأوكرانيون جهودهم الخاصة لجمع أدلة حول جرائم الحرب التي ارتكبها الروس، لكن لن يكون هذا الجهد كافياً، فهو لا يغير وجهة نظر الجمهور ويحافظ على مظهر الشرعية في نظام إجرامي. وطالما لا توجد محكمة، فإن هذه الجهود ستبقى ناقصة. هذا يقودنا إلى طرح السؤال التالي: ألا ينبغي لهذه القضية أن تبرر لإقامة محكمة خاصة? لن يكون هناك شيء لسوريا (أثبتت القضية السورية أنها لن تحشد الاهتمام الكافي). بالنسبة لروسيا وأوكرانيا، يمكن إنشاء محكمة خاصة ولكن من المحتمل أن تنظر في جرائم “العدوان” التي لا يمكن الحكم عليها من قبل المحكمة الجنائية الدولية (تنظر المحكمة الجنائية الدولية في جرائم العدوان لصالح الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي فقط، والذي لا ينطبق على روسيا ولا على أوكرانيا). فإذا ما تم إنشاء محكمة خاصة في يوم من الأيام من قبل المجتمع الدولي لمحاسبة روسيا (أو على الأقل قادتها)، فقد نتمكن من أن نعكس اتجاه الإفلات من العقاب على جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد في سوريا.

المقال كتبه ميشيل دوكلوس لمعهد مونتين الفرنسي وترجمته نورث برس

——————————

سلة سوريا الغذائية” بين الهجرة الساحقة لأبنائها أو البقاء المفخخ لحياتهم/ شفان إبراهيم

بالرغم من مخاطر البحار في فصل الشتاء، إلا أنها لم تعد تقف عائقاً أمام من “تحتل” رغبة الهجرة عقولهم وقرارهم. ولم يعد غريباً أن تسمع القواعد الاجتماعية في عموم الشمال الشرقي لسوريا، عن أعداد من المفقودين في البحار والغابات، وبل أن تستنفر في استقبال جنازاتهم.

حيث تحول اليأس الجماعي لأبناء شمال شرق سوريا؛ نتيجة الوضع العام الفاقد لأيَّ آفاقٍ مستقبلية، إلى عقلٍ محرك ومحرض لكل فعل يقود للهجرة، يأسٌ يلعب الدور المدماك في التأسيس للسلوكيات والتطلعات صوب مستقبل واعد خارج البلاد. ومع أن الهجرة لم تتوقف عبر تاريخ سوريا، بل وتحولت إلى عنوانٍ عريض وعام؛ نتيجة للفقر والفقد والوضع الأمني. لكن أن تتصدر رغبة الهجرة حياة معظم قاطني “سلة سوريا الغذائية” -الجزيرة السورية- هو السؤال الوجودي لنمطية ونوعية الحياة الموجودة؛ في ظل مواردها المالية الضخمة، وخروجها عن سيطرة الحكومة السورية، وتحكم الإدارة الذاتية بكامل مقدراتها الاقتصادية، ووجود فرص حقيقية للاستقرار تتطلب تنفيذ شروطاً غربية – أمريكية على رأسها هويّة وشكل الإدارة الذاتية، وعلاقتها مع المكونات، لذا لا شبه بين الموجة الحالية للهجرة، ومثيلاتها عبر نصف قرن.

بالعموم توجد أربع عوامل مركبة تمنح موجات الهجرة الحالية لشمال شرق سوريا سياقاً مختلفاً عن المحافظات أو الموجات الأخرى للهجرة، أولها: الفقر، بالرغم من الموارد الاقتصادية الهائلة من كميات الطاقة، الأراضي الزراعية، المعابر ووارداتها الاقتصادية، والكتلة الكبيرة من الكفاءات والموارد البشرية الكفيلة بتوفير حمولات تشغيلية وتوظيفية ثابتة، لكن الجوع والخوف هما العنوان الأبرز لكل تفاصيل الحياة التي تدفع للهجرة. وثانيتها: صعوبة تصنيف أو فرز الهويّات الاجتماعية والسياسية للمهاجرين على أسس عرقية أو قومية، أو انتمائية؛ فالهجرة شكلت هويّة جامعة جديدة، وهي الانتماء الاجتماعي لمفهوم وفكرة الهجرة بأيّ وسيلة كانت. وثالثتها: اقتصرت الهجرة سابقاً بشكل عام على الشباب، أو الباحثين عن رفاهية العيش سواء للعاطلين عن العمل أو قسم محدد من ذوي التخصصات الطبية والعلمية المختلفة، أما حالياً تضاعفت رغبة عائلات بأكملها من نساء ورجال وقاصرين وعجائز وأصحاب الكفاءات وحاملي الشهادات العلمية، من أطباء وأكاديميين وكتّاب ومدرسين. كلهم يرغبون بالهجرة بكل أشكال الخطر التي تعتري طريقهم في غابات بلغاريا وصربيا أو البحار بين مختلف الدول، وبالرغم من زيادة عدد المفقودين والذين فقدوا حياتهم في تلك المناطق جراء التعب والإرهاق والخوف والجوع، لكنها لم تشكل مخاوف على قرارهم بالهجرة، وأشارت تقديرات غير رسمية إلى هجرة أكثر من 3100 عائلة من مختلف مكونات محافظة الحسكة وحدها، منذ بداية النصف الثاني لعام 2022.

ورابعتها: لم تعد الهجرة تعتمد على قوارب الموت للوصول إلى اليونان بتكلفتها المنخفضة، بل تم تحديث أسلوبين قديمين بآليات جديدة، بالرغم من التكلفة العالية، إحداها الوصول إلى تركيا عبر رأس العين بمبلغ يقترب من /3500$/ ثم تبدأ رحلة الوصول إلى اليونان وصربيا عبر التنسيق بين شبكات المهربين والإتجار بالبشر، والتي تقوم مهمتهم على إدخال المهاجرين إلى الاتحاد الأوربي، وخاصة دولتي النمسا وألمانيا لقاء مبلغ مادي يصل لأكثر من /14/ ألف دولار عن كل شخص، أو تكرار استخدام مطارات دول الجوار والاعتماد على جوازات سفر مزورة أو تأمين فيز للوصول النظامي لقاء أكثر من /22/ ألف دولار عن كل شخص. والأكثر غرابة في الأمر أن الدعاية للهجرة تتم بسلاسة وسهولة كبيرة، فمواقع التواصل الاجتماعي تساهم في التحريض على الهجرة عبر صور لعمليات هجرة غير نظامية، والعروض “المميزة” للهجرة مع خطابات تحفيزية للرحيل من البلاد، ووضع أرقام للمهربين للتواصل علانية، دون أي تدخل من أيّ جهة؛ خاصة وإنها عملية إتجار بالبشر. ويبدو أن الجميع مشترك بسياسة التطفيش والهجرة التي هي في صُلبها تهجير.

والحق يقال إن العيش في هذه المنطقة أصبح أشبه بالانتحار في الوعي الظاهر والعقل الباطن معاً، وأصبحت القواعد الاجتماعية تتعرض لما لا تتمكن من تحمله من هول صعوبة العيش. ومع تعدد الأسباب الدافعة صوب توسيع رقعة الهجرة، ما عاد ممكناً اعتبار أن الوضع المادي فقط هو المحرض للهجرة، وبمتوسط حسابي لعدد أفراد العائلة المكونة من أربع أشخاص متفاوتي الأعمار فإن عشرات الآلاف من الدولارات، ثمن الهجرة غير الشرعية، كفيلة بفتح مشروع صغير في المنطقة الغنية بمواردها، لكن القضية ما عادت متعلقة بتوفير لقمة العيش، بل إن غياب الأمن بالمفهوم العام والمتعارف عليه الأمن الوطني، وشعور الخيبة والخذلان من كافة الأطراف، وفقدان أي بوادر للعيش الكريم والآمن والاستقرار في ظل التشتت والضبابية التي تسيطر على الشأن العام، وتضخم الأزمات المعيشية والإذلال الحاصل لكرامات القواعد الاجتماعية، والتلاعب بمصير أبنائهم ومستقبلهم التعليمي، والإرهاق والخوف الذي نال من قاطني هذه المنطقة جراء الوعود والتبريرات الخطابية السلطوية الكاذبة تبقى العناوين الأبرز للهجرة، يُضاف إليها العمل على زيادة حجم الضرائب على الواردات من معبر سيمالكا الحدودي مع كردستان العراق، والتي ستشكل الضربة القاصمة للمعيشة والبقاء في هذه البلاد. كل ذلك خلق بيئة محفزة مناسبة للهجرة، وبل خلقت هزات اجتماعية محرضة ومحركة لمشاعر العشق للهجرة، خاصة ذات الطابع العائلي، غير آبهين بما تخلقه الهجرة من تغيير بيئة الانتماء الاجتماعي والهوياتي، وما يمكن أن تتسبب حالات فشل الاندماج في الفردانية والانعزال والاغتراب وغيرها من الأمراض النفسية للجوء، خاصة لأصحاب الكفاءات والشهادات الذين يعجزون عن توفير شروط تعديل الشهادة والعمل بمقتضاها، والتي تشير الاستطلاعات إلى أن أعداد كبيرة من أبناء المنطقة اللاجئين إلى أوربا من ذوي الكفاءات العلمية، إنما يتوجهون للعمل في المطاعم والفنادق وغيرها؛ كأقصر طريقٍ لجمع المال، وسداد الديون المتراكمة عليهم.

وصحيح أن الهجرة قرار شخصي وحق طبيعي، ومنذ فجر التاريخ لم تنتهِ ولم تتوقف موجات الهجرة حتّى من أعظم الديمقراطيات ودول الرفاه الاقتصادي، لكن المطلوب اليوم وليس غداً، الآن وليس بعد قليل إيجاد مناخ سياسي اجتماعي اقتصادي يساعد على الاستقرار أفضل بكثير من المتابعات الأمنية والمضايقات لعمل الصحفيين والمتاريس أمام أي عمل اقتصادي، وتوفير أبسط مستلزمات المعيشة والبقاء على هذه الأرض الملعونة والملوثة بداء قياداتٍ لم تجد في السياسية والإدارة سوى مسارات النفاذ للفساد المالي؛ لأن الهجرة هي إبادة للسوريين بمكوناتهم؛ فهي تخلق في نفسية الراغب بالهجرة نزعة عنيفة اتجاه كل شيء لأجل هدفه، وإن كانت الهجرة موجة عارمة في كل سوريا، وربما كانت أعداد المهاجرين من مطار دمشق أضعاف مضاعفة من مثيلاتها من الجزيرة السورية، سلة سوريا الغذائية، لكن عجز سلطة حاكمة بكل مقدراتها المالية والفرص المتاحة أمامها لنيل الاستقرار ولو جزئياً وهي المتعامية عنها، يزيد فوق الهمِّ منغصات إضافية.

بالمقابل يتفشى خطاب كلاسيكي ممل مصدره الأحزاب وهياكل الحكم المحلية المختلفة حول ضرورة التشبث بالأرض، وكأن الهجرة هي المتسبب الوحيد بأزمات البلد العميقة، دون البحث في أبسط آليات العيش، ويدرك أصحاب ذلك الخطاب أن الأرقام والحقائق تظهر عكس ما يذهب إليه المنافخون في تلك الخُطب، وخصوصاً أن من هاجر أو يود الهجرة في هذا العام، هم أساس الثبات والصبر لعقدٍ كامل على كل أشكال الفقر والإهانة، وسنوات التحمل ومواجهة الإرهاب والعنف، وظلوا متمسكين بالخطاب الوطني ضمن دوائر النار، دون أن يتلقوا أيّ تقدير أو اهتمام. وربما جاز الاعتقاد أن أعداداً ضخمة من المواطنين وبعد عقود طويلة، تحولوا إلى “لاجئين مؤقتي الإقامة” يتحينون الفرصة المناسبة للهجرة، لذا يبدو أن المشتركات بين الراغبين للهجرة إنهم ظلوا متمسكين بأمل مفقود، وحان وقت الاستدارة نحو جغرافية جديدة.

———————————-

الشعب السوري بين مطرقة الفيتو وسندان الضعف/ مروان عبد القادر

إن قوة الإرادة للشعب السوري، ابتداءً من أول صيحة للحرية، إلى كفاحه ونضاله ضد النظام و حلفائه، فصبره على مشقة الحياة و النضال من أجل البقاء، لم تضعف ولم تستكين، ولا يزال مصراً على مطالبه، مكافحاً للوصول إلى مبتغاه، و إن المحنة الكبيرة التي يعيشها الآن، بقرب التصويت على قرار التفويض من مجلس الأمن لإدخال المساعدات الإنسانية بعد أيام من السنة الجديدة، وما يحوطها من  مخاطر جسيمة قد تزيد ويلاته و معاناته، بسبب بوادر تعطيل روسي لدخول هذه المساعدات، تدفعنا لندرك خطورة المقبل من تلك الأيام، و أن يكون لدينا التفنيد الصحيح، لموقف روسيا القديم الجديد، في حصار الشعب السوري و إخضاعه، ودور المجتمع المدني السوري في إنقاذ ذاته وأخذ أدواره و مكافحة عيوبه و أخطائه.

إن “الفيتو” كحق قانوني في ميثاق الأمم المتحدة، وُضعَ بالأساس لحماية مصالح الدول الكبرى، لتكون أكثر فاعلية في حماية السلم والأمن الدولي، وحماية حقوق الإنسان الأساسية، لتظهر روسيا الأكثر استفزازاً وإساءة لاستخدام لهذا الحق، خاصة في الشؤون الإنسانية.

إن حاجة الشعب السوري المنكوب في شمال غربي سورية، للمساعدات الإنسانية، أصبح أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، في سياق التهجير والنزوح الكبير والانحشار في بقعة جغرافية ضيقة لأكثر من أربعة ملايين شخص، جلهم تحت خط الفقر، فهذه المساعدات وإن كانت لا تسد حاجة أولئك السكان، إلا أن تأمينها للمؤن الغذائية والمستلزمات الطبية بشكل أساسي، يحدث فارقاً كبيراً، من خلال رعاية 4.1 مليون مستفيد منها وفق  الإحصائيات، فتوقفها أو تعثر وصولها، في ظل التدهور الكبير للواقع المعيشي، ينذر بكارثة محتومة، تتمثل بزيادة المعاناة و تعطل الخدمات وتهديد للبقاء، و إن محاولات روسيا المستفزة في تعطيل دخول تلك المساعدات عن طريق الحدود، و جعلها عبر الخطوط، يضع حياة الملايين من السورين في المناطق المحررة، رهينة بيد روسيا و النظام اللذان هم بالأصل سبب معاناة أولئك السكان.

لا شك أن النظام بعقليته الأمنية المتوحشة، سيستخدم تلك المساعدات إن تحولت من “الحدود” لتكون “عبر الحدود” كسلاح للهيمنة و الإخضاع وتصفية الخصوم، وقد أثبتت التجارب السابقة نهج هذا النظام في ذلك، سواء في الغوطة أو حلب أو حمص وباقي المناطق، وإن تحويل دور المساعدات من دورها الإسعافي الإنساني لتجاوز الظروف الاستثنائية التي يمر بها أي شعب منكوب، إلى أداة ضغط و ترهيب، يعتبر بحد ذاته جريمة ضد الإنسانية،  وإن مواجهة روسيا بالطرق والحجج القانونية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لا يعني يقيناً إمكانية تحقيق إيجابية في التعامل مع الملف الإنساني السوري، خاصة أن طبيعة القانون الدولي وما يفرضه من ضرورة احترام مبادئه و قواعده القانونية من الدول، يختلف عن القانون الذي يحكم سلوك الافراد.

فوسائل الجبر والإكراه لاحترام تلك القواعد معقدة للغاية على المستوى الدولي، الذي يأتي أساساً من موازنة مصالح الدولة، ورغبتها أن تبقَ ضمن العمل الجماعي، والخشية من العزلة الدولية وقطع العلاقات، وما خلفته الحرب الروسية على أوكرانيا، من إضرار بمركز روسيا في المجتمع الدولي، يعطي مبرراً واضحاً، أن روسياً ستبقى معرقلة ومصرّة على عدم التراجع والتنازل، و هذا ما يضع  المجتمع المدني السوري في اختبار حقيقي لقدرته على تجاوز الأزمات والاستفادة منها، ليزيد من فعاليته و مسؤوليته، والبناء لمرحلة افضل.

فمن أهم مكتسبات الثورة السورية، اتساع الفضاء المدني، الذي يمكن للمجتمع أن يمارس فيه نشاطاته وفعالياته، حيث كان ضيقاً للغاية، في مرحلة ما قبل الثورة، وإن بيئة الصراع التي يعيشها الشعب السوري، و تقييد سلطات الأمر الواقع لنشاطاته، حتّم أن يكون هناك صعوبة على ذلك المجتمع أن يعرف أدواره بشكل دقيق، أو يبني نفسه بالطريقة الأمثل، أو تستطيع كياناته التعاضد و تنسيق الجهود بشكل يمكن البناء عليه للمرحلة المقبلة.

إن التحرر وتخفيف الاعتماد على المساعدات، من خلال مشاريع تنموية مستدامة في ظل الاستقرار النسبي للمنطقة،  وبعد أكثر من عقد من الصراع أصبح أمراً لا مفر منه، و أهمية دور المجتمع المدني في هذا السياق، يأتي من اهتمام الأمم المتحدة و الاتحاد الأوربي بإعطائه هذا الدور، متجاوزة في ذلك سلطات الأمر الواقع التي لا تملك الشرعية و لا الشفافية المثالية للعمل كشريك لها، ليكون ذلك دافعاً حقيقاً لإعادة النظر في تعريف المجتمع المدني السوري، وإعادة هيكليته، وخلق آلية تعاون مشترك بين كافة كياناته وعناصره، وإضافة مصادر تمويل سورية – سورية.

إن ضعف الشرعية والتمثيل، و الارتهان للسياسة و التمويل، و التخبط في التخطيط والتنفيذ، و كثرة الفاعلين دون تنسيق و مضاعفة للجهود، وانفصالية كيانات الخارج و الداخل،  لم يعد لها أدنى مبرر في هذا الظرف العصيب، ولا بد من معالجة نقاط الضعف تلك، من خلال خطوات ومبادرات تتبناها الكيانات السورية الأكثر فعالية، بإعطاء دور لكافة فئات المجتمع لمشاركتها لإعادة بناء تلك الأجسام،  موحدةً في الاختصاصات والاهتمام، وربطها بغرفة عمل مشتركة، تستقطب التمويل، وترسم السياسات وتحدد الأولويات، وتوجه وتراقب دورة التنفيذ، و تلزم نفسها بمبادئ الحكم الرشيد، فيكون التماسك والتعاون الذي يعطي القوة في المطالب و نوعية المنفَّذ، و قدرة الضغط على سلطات الأمر الواقع، و التفاوض مع الداعمين و الفاعلين الدوليين، أكثر فعالية ونجاعة،  لتحسين الواقع و تخفيف المعاناة،

فبكل سياق الأزمات التي يمر بها المشهد السوري، تبقى هناك الفرصة لاستعادة الدور الوطني من خلال منظمات المجتمع المدني، و قدرتها على مواجهة الضغط الروسي، وتخفيف المعاناة للشعب  السوري، سواء من خلال الحشد و المناصرة ضد أي تسييس للمساعدات، أو تكثيف الجهود في الاعتماد بشكل أكبر على مصادر التمويل الوطنية.

السورية.نت

منسق “مركز عمران للدراسات الاستراتيجيية” في الشمال السوري

—————————–

نصف الأفران معطلة والخبز السياحي ارتفع 40%.. كيف تنعكس الأزمات المتلاحقة على مناطق سيطرة النظام السوري؟

الجزيرة نت – خاص

دمشق- تستمر تداعيات أزمة شح المحروقات في مناطق سيطرة النظام السوري، منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري، بمفاقمة معاناة السوريين، إذ أدت الأزمة إلى شلل شبه تام في حركة المواصلات، وتسببت في زيادة ساعات قطع الكهرباء لتصل إلى 22 و23 ساعة يوميا.

وها هي الآن تتسبب في توقف نصف الأفران الخاصة بالعاصمة وريفها عن العمل لانخفاض مخصصاتهم الحكومية من مادة المازوت وندرتها وارتفاع سعرها في السوق السوداء، مما انعكس على أسعار الخبز السياحي والصمون التي سجلت ارتفاعا كبيرا.

وقال الرئيس السابق لجمعية حلويات دمشق بسام قلعجي إن نصف الأفران الخاصة في دمشق توقفت عن العمل، بينما تعمل 30% منها بشكل متقطع بحسب توفر مادة المازوت، وتظل باقي الأفران على رأس عملها عبر شراء المحروقات بأسعار مرتفعة، إن وجدت.

وأضاف قلعجي -في حديث ﻹذاعة “شام إف إم” المحلية، الأحد الماضي- أن الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية “سادكوب” توزع المحروقات على الأفران بما يكفي لنحو 5 ساعات عمل يوميا، وتسلم المحال كمية محدودة من المادة تتراوح بين 25 و40% من حاجتها.

وسجلت أسعار الخبز السياحي والصمون في دمشق وريفها ارتفاعا بنسبة 40%، وبلغ سعر ربطة الخبز السياحي 3500 ليرة بدلا من ألفي ليرة، بينما سجل سعر كيلو الصمون 6 آلاف ليرة (1 دولار) بدلا من 4 آلاف ليرة.

وتلجأ كثير من العائلات في مناطق سيطرة النظام إلى شراء الخبز السياحي، نظرا لانخفاض المخصصات الحكومية من الخبز المدعوم (3 أرغفة للفرد في اليوم) وارتباطها بآلية بيع تستلزم توفر “بطاقة ذكية” ووقوف المواطنين لساعات أحيانا للحصول على مستحقاتهم من الخبز، وهو ما يتعارض مع التزاماتهم في العمل أو الدوام الوظيفي.

ومع تفاقم الأزمات الخدمية وانعكاسها على مختلف القطاعات تصبح مهمة الشريحة الأكبر من السوريين في تحصيل قوت يومهم أكثر مشقة؛ حيث الانخفاض المستمر للقوة الشرائية لرواتبهم -التي بلغ متوسطها ما يعادل 25 دولارا- مع استمرار انهيار الليرة أمام العملات الأجنبية ليلامس سعر صرف الدولار عتبة 6 آلاف ليرة أمس الأربعاء.

فما دلالات تفاقم الأزمات في مناطق سيطرة النظام إلى هذا الحد غير المسبوق؟ وهل تخلت الدولة عن مسؤولياتها تجاه رعاياها؟

انفراج قريب أم تفاقم للازمة؟

وفي محاولة لاحتواء أزمة شح المحروقات والمشتقات، قررت حكومة النظام تعطيل جميع مؤسسات الدولة -باستثناء القطاع الصحي- يومي الأحد 11 و18 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ومع تفاقم الأزمة عادت الحكومة لإقرار عطلة تبدأ من 25 الشهر الجاري إلى نهاية العام.

ورغم عدم توفر المحروقات في محطات الوقود وتأخر صرف المخصصات من مادتي المازوت والبنزين للمنشآت العامة والخاصة وللمواطنين، فإن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك أقرت زيادة في أسعار المحروقات، الثلاثاء الماضي.

وسجل سعر لتر المازوت المدعوم 700 ليرة بدلا من 500، ولتر المازوت الصناعي 3 آلاف ليرة (نصف دولار) بدلا من 2500، ولتر البنزين 4900 ليرة بدلا من 4 آلاف.

وعن رفع الحكومة لأسعار المحروقات، علق رئيس مجلس الوزراء في حكومة النظام حسين عرنوس -في مؤتمر صحفي أمس الأربعاء- “كنا أمام خيارين إما فقدان المشتقات النفطية من الأسواق المحلية أو رفع سعرها وتأمينها ضمن الممكن”.

وفي ختام المؤتمر الصحفي، طمأن عرنوس المواطنين أنه خلال شهر ستكون هناك انفراجات وسيكون واقع المشتقات النفطية أفضل في الأسواق المحلية.

في حين يرى عادل العوا، الباحث والخبير الاقتصادي السوري، أن كلام عرنوس عن الانفراجات لا يعدو أن يكون “جعجعة بدون طحين” هدفها شراء بعض الوقت وامتصاص الغضب الشعبي.

وأوضح أن البنك المركزي السوري إن لم يكن مفلسا، فهو ليس لديه ما يكفي من العملات الأجنبية للمحافظة على استقرار توريدات المشتقات النفطية.

وأضاف العوا -في حديث للجزيرة نت- أن “سلاسل التوريد الخاصة بالمشتقات النفطية أو النفط الخام من شمال شرقي سوريا أو إيران إلى مناطق سيطرة النظام تتعرض لضغوطات ومعوقات كبيرة خارجة عن إرادة الحكومة، كتلك التي رأيناها مع ناقلة النفط الإيرانية لانا، التي تم توقيفها من قبل قاعدة أميركية لشهور في اليونان قبل أن تصل إلى الشواطئ السورية”.

ويتابع العوا “في حين لا يبدو أن حكومة النظام تملك ما يكفي من العملات الأجنبية للمحافظة على استقرار التوريدات من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تتعرض أساسا لضغوطات تركية، فحتى عندما تم تأسيس شركة “بي إس” (B.S) بغضون ساعات، قبل أيام قليلة، واختيرت كمتعاقد حصري لبيع مادتي المازوت والبنزين وتم رفع سعر المادتين، فإنها سرعان ما عادت وأعلنت عن عدم توفر ما يكفي من المادتين”.

ويرى العوا أن هذه الأزمات التي تعصف بمناطق النظام تختلف عن سابقاتها، “سواء على مستوى دعم حلفاء النظام (إيران وروسيا) الذي بات خجولا، ومنها ما يتعلق بالعقوبات الغربية، ومنها ما يتعلق بتعنت النظام إزاء الحل السياسي، وعلى مستوى الحلول الاقتصادية التي باتت محدودة جدا وستصبح أكثر محدودية مع تفعيل قانون “الكابتاغون” الأميركي وتطبيق إستراتيجيته”.

أزمات مركبة تفاقم المعاناة

وانعكست أزمة شح المحروقات على مختلف القطاعات العامة والخاصة في البلاد، مما أدى إلى جمود جزئي في بعض الأعمال وكلي في أخرى؛ وبالتالي التسبب في تسريح أعداد متزايدة من الأجراء والعاملين.

في حين يعاني الطلبة والموظفون والعاملون في القطاعين العام والخاص صعوبات بالغة في الوصول إلى أعمالهم وجامعاتهم ومدارسهم والعودة منها، وسط أزمة مواصلات خانقة ضاعفت من أجرة وسائل النقل.

كما طالت أزمة شح المحروقات المدن الصناعية الكبرى في دمشق وحلب وغيرها من المحافظات، حيث أقرت وزارة الصناعة بالتنسيق مع وزارة الكهرباء، أمس الأربعاء، نظام “تقنين كهربائي” على المدن الصناعية يمتد إلى 72 ساعة قطع أسبوعيا، في ظل ما سمته الوزارة قلة التوريدات وزيادة الضغط على منظومة الكهرباء.

وكان من تداعيات الأزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في الأسواق السورية بنسب تتراوح بين 30 و60% خلال الأيام القليلة الماضية.

ويقول الحاج أبو عمار (62 عاما)، متقاعد من دمشق، للجزيرة نت “لم يعد بالإمكان توفير الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية لمنزلنا في ظل هذه الظروف، إن راتب الـ93 ألف ليرة (15.5 دولارا) الذي أتقاضاه كمتقاعد لم يعد يكفي لإعداد وجبتي طعام، وراتب ابني البالغ 220 ألف ليرة (36.5 دولارا) تبخر في اليومين الأولين من هذا الشهر”.

ويشير أبو عمار إلى الصعوبات التي تواجهها أسرته في ظل انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة قائلا: “الاستحمام بات معضلة، والتدفئة معضلة، والطهي معضلة، لقد بات كل شيء يشكل لنا معضلة، ولا يبدو أننا سنجد لها حلا إن استمر الوضع على ما هو عليه”.

وإلى جانب أبو عمار، يعاني ملايين السوريين في مناطق سيطرة النظام من عجز في تأمين قوتهم اليومي، فضلا عن الأدوية الضرورية والمستلزمات الأساسية ووسائل التدفئة لمواجهة الشتاء القارس مع انقطاع التيار الكهربائي وتوقف شركة “محروقات” عن توزيع مخصصات المواطنين من المازوت.

في حين يرزح 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويعاني 80% منهم من انعدام الأمن الغذائي منذ عام 2021، حسب تقارير أممية.

احتجاجات ودعوات للإضراب

وتزامنا مع تفاقم أزمة شح المحروقات، خرجت مظاهرتان في محافظة السويداء (جنوبي البلاد)، خلال الأسبوع الماضي، تنديدا بالواقع المعيشي والسياسات الحكومية، وارتفع سقف المطالب ليردد المتظاهرون شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، في مشهد يعيد إلى الذاكرة مظاهر الاحتجاج في ثورة مارس/آذار 2011.

وعلى الرغم من الحزم الذي أبدته الأجهزة الأمنية في قمع الاحتجاج من خلال إطلاق أعيرة نارية تجاه المتظاهرين أدت إلى مقتل أحدهم، فإن مناف (39 عاما)، ناشط حقوقي من السويداء، يرى أن المحافظة لا تزال على صفيح ساخن، وأن المحتجين في هدوء حذر بانتظار “وضوح الرؤية” وحشد أعداد أكبر للعودة إلى ساحات التظاهر.

ولا يتوقع مناف، في حديثه للجزيرة نت، أن تمتد رقعة الاحتجاجات إلى مناطق أخرى في البلاد، حيث “إن للسويداء وضعا خاصا يميزها عن غيرها من المحافظات السورية، فكون المكون الرئيس فيها من الأقلية الدرزية، فإن النظام يتخوف من إطلاق عملية قمع واسعة تؤدي إلى تفجر الأوضاع في المحافظة، وهو ما يناقض سرديته القائمة في ركن أساسي منها على حماية الأقليات، بينما يمكنه ضرب أي منطقة أخرى بحجة مكافحة الإرهاب”

—————————-

حكومة الأسد تبرر رفع سعر المحروقات: 20 يوماً لتوقف عجلة الاقتصاد

برر رئيس حكومة الأسد، حسين عرنوس، سبب رفع أسعار المحروقات، قائلاً إن الحياة الاقتصادية ستتوقف خلال 20 يوماً حال عدم اتخاذ القرار.

وجاء ذلك خلال مؤتمر صحفي، أمس الأربعاء، وعد فيه بأن “واقع المشتقات النفطية سيكون أفضل في الأسواق المحلية خلال شهر”.

ولم يوضح عرنوس كيفية حل الأزمة التي تعصف بمناطق النظام والتي يصفها كثيرون بأنها الأسوأ من سابقاتها.

وقال إن “قرار رفع سعر مادتي البنزين والمازوت ليس سياسة اقتصادية تنتهجها الحكومة، لكن الظروف الإجبارية فُرضت علينا”.

واعتبر  أن الحكومة أمام خيارين “الأول إما أن تفقد هذه المواد من الأسواق، والثاني أن نسعى لزيادة سعرها بشكل مقبول وبسيط من أجل تأمينها في الظرف المناسب لاستمرار نشاط وعمل الدولة”.

وقال إن بعض الوزراء طلب تأجيل قرار رفع السعر إلى ما بعد أعياد الميلاد أو بعد فترة محددة، لكن “عدم اتخاذ قرار رفع سعر المحروقات، فإن الحياة الاقتصادية في البلد ستتوقف خلال 20 يوماً”.

وكان وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة الأسد، عمرو سالم، ألمح على وجود حل لدى الحكومة لحل الأزمة دون الإفصاح عنه.

وقال سالم لإذاعة “شام إف إم” المحلية، أمس الأربعاء، إن “الحل الذي وجدته الحكومة للمحروقات ترتبت عليه تكاليف زائدة، ما وضعنا أمام خيارين: إما استمرار الأزمة والوقوع بالعجز وقلة المادة، أو رفع السعر”.

ويأتي ذلك في وقت يعاني فيه النظام من أزمة اقتصادية كبيرة، نتيجة عدم توفر المشتقات النفطية والمحروقات، ما انعكس سلباً على الأوضاع المعيشية وتسبب بانخفاض قيمة الليرة السورية التي تخطت حاجز 6000 ليرة مقابل الدولار، وأدى لارتفاع الأسعار في الأسواق، وسط شخط شعبي.

وتسببت الأزمة الحالية بتعطل الكثير من المهن بسبب عدم توفر المحروقات، من بينها الأفران الخاصة التي توقف 50 % منها عن العمل، و30% شبه تعمل، و20% تشتري المازوت بأسعار مرتفعة دون النظر إلى السعر، بحسب تصريح الرئيس الأسبق للجمعية الحرفية لصناعة الحلويا، بسام قلعجي لإذاعة “شام إف إم”.

فيما أعلنت حكومة النظام عن تعطيل الجهات الرسمية في سورية يومي الأحد 11 و18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إضافة إلى عطلة من 25 من الشهر الحالي حتى رأس السنة الجديدة، بسبب عدم توفر المشتقات النفطية.

—————————–

أهالي دمشق يفكّون “حصار المحروقات”… بالطنبر والحنطور!/ أحمد رياض جاموس

بعربة يشدّها بغل، يلملم أبو بشار نصر الله(60 عاماً)، رزقه منذ طلوع الشمس وحتى غروبها، متنقلاً بين الأراضي الزراعية والأحياء السكنية لنقل محاصيل زراعية وبضائع وأمتعة، إذ يمضي نهاره على طنبره الذي بات وسيلة نقل مألوفةً في عموم المحافظات السورية، وجزءاً من تفاصيل اليوميات التي يعيشها السوريون، بعد أزمة المحروقات التي تعصف بالبلاد وتتفاقم أكثر فأكثر.

شوارع فارغة من السيارات، ومليئة بالدراجات الهوائية والمشاة والطنابر (ج. طنبر: مصطلح سوري عامي وهو عربة يجرّها حصان أو بغل)، بعد أن كان مشهد مرورها قليلاً قبل اندلاع الثورة في العام 2011؛ هكذا بدا المشهد في العاصمة دمشق وريفها الذي يتميز بمساحاته الخضراء، إذ يُعدّ سلّة دمشق الغذائية، ومورداً مهماً للمحاصيل والمنتوجات الزراعية والألبان والأجبان.

بدأ نصر الله عمله على الطنبر كاستعمال شخصي لنقل نتاج أرضه في أطراف مدينة دوما في ريف دمشق، إلى سوق الهال، ثم تحوّل إلى خدمة فلاحي الأراضي المجاورة لنقل محاصيلهم بسبب توقف سيارات النقل، كما يقول لرصيف22، ويضيف: “لقد أصبح الطنبر ذا أهمية وقيمة، فقد وصل سعره اليوم إلى أكثر من ثلاثة ملايين ليرة سورية (أي ما يعادل 500 دولار، حسب سعر صرف اليوم)، ومن دون دابة تجرّه يبدأ سعره من مليون ليرة سورية حسب جودته ومتانته، والعجلة الواحدة سجلت ما بين 350 و500 ألف ليرة سورية، إذ يكثر الطلب عليه بعد أن أصبح أهم من السيارة التي لا قيمة لها مهما ارتفع ثمنها من دون وقود يشغّلها”.

    منذ العام 2013 حتى 2018، عاد استخدام الطنابر البدائية بشكل واسع في الغوطة الشرقية جنوب سوريا

استعمال أنجبه الحصار

منذ العام 2013 حتى 2018، عاد استخدام الطنابر البدائية بشكل واسع في الغوطة الشرقية جنوب سوريا، بعد أن ضرب النظام حصاراً قاسياً عليها، وقطع عنها كل وسائل الحياة، ومنع دخول الوقود، عصب وسائل النقل، إليها، فراح الأهالي يعتمدون على الطنابر بشكل كبير في نقل أمتعتهم ومحاصيلهم وبضائعهم، بالإضافة إلى استخدامه في تنقلاتهم عبر البلدات والقرى.

ولم يستطع المدنيون الاستغناء عنها حتى بعد فك الحصار ودخول قوات النظام إلى الغوطة المحاصرة، في نيسان/ أبريل 2018، إذ يعود الحديث اليوم عن هذه الوسائل، بعد شلل شبه تام يجتاح مناطق النظام، نتيجة توقف حركة المواصلات بشكل غير مسبوق، وفشل مؤسسات النظام في تأمين الأساسيات اليومية وأولها المحروقات، إذ نشرت صفحات موالية على موقع فيسبوك صوراً للحنطور، الذي يُستخدم كوسيلة نقل مخصصة لنقل الركاب.

وكانت حكومة النظام، قد أعلنت في الـ13 من الشهر الحالي، عن فرض عطلة لجميع الجهات العامة والمدارس لمدة أسبوع كامل، نتيجة عدم وجود المازوت والبنزين في سوريا، لتكون العطلة الثالثة التي يفرضها النظام في ظل أسوأ أزمة محروقات تعيشها مناطق سيطرته.

“الحنطور” يلبّي الاحتياجات

يقول أبو منصور أكرم (47 عاماً)، من سكان الغوطة الغربية، في حديث إلى رصيف22، إن “الحنطور اليوم يُعدّ أهم وسائل النقل التي يستخدمها الأهالي في العديد من المحافظات، لقد كان محط سخرية عند الأهالي بالرغم من أنه وسيلة نقل مثله مثل أي وسيلة أخرى، لكن اليوم بات الاهتمام به أكبر، والدليل هو ارتفاع أسعاره وأسعار قطع تصنيعه”.

    لقد أصبح الحنطور أهم من السيارة التي لا قيمة لها مهما ارتفع ثمنها من دون وقود يشغّلها، فكيف عاد إلى الشارع ومن يستخدمه؟

ويعمل أبو منصور على نقل الركاب عبر الحنطور الذي ورثه عن والده، بأسعار مناسبة، تبدأ من 5،000 آلاف ليرة سورية وما فوق (سعر الصرف 6،000 ليرة للدولار الواحد حتى تاريخ نشر التقرير)، بحسب المسافة التي يريد الراكب قطعها، وهو ما خفف على المدنيين أعباء أجور التاكسي المرتفعة جداً، والتي تتجاوز 40 ألف ليرة لمسافة 3 كيلومترات، “كما اختصر ساعات انتظار مملةً للحافلات الممتلئة ريثما تُحلّ أزمة المحروقات التي يبدو أنها ستطول”، حسب تعبيره.

ويشير إلى أن “زيادة أجرة ركوب الحنطور لا يعود إلى جشع أصحابه، وإنما يعود إلى ارتفاع العلف المقدّم للدابة، فسعر كيلو الشعير اليوم يسجل 3،000 ليرة سورية، وهو في ارتفاع مستمر، كما أن الحنطور معرَّض لأعطال عديدة، والدابة معرضة للمرض، فأجرة معاينتها وأدويتها باهظة الثمن”.

بحسب أبي منصور، “العمل على حنطوره شرف كبير بالنسبة له، فبالرغم من أن قيادته متعبة خلال الساعات الطويلة، إلا أنه أفضل من مهن أخرى لا يستطيع اتخاذها بسبب آلام ظهره، كما أن هذا العمل يكفيه ذلّ السؤال ويوفّر له قوته اليومي، وقوت دابته”.

تاريخ “الطنبر والحنطور”

الطنبر، هو عربة مكشوفة بعجلتين كبيرتين من خشب مُلَبّس بالمطاط لامتصاص الصدمات، وثمة نوع منه بأربع عجلات إطارية مطاطية، أما الحنطور فيتضمن سقفاً ومقاعد للأشخاص وهو بأربع عجلات يجرّها مهر نشيط بهدف السرعة، وقد عرف السوريون الطنبر وارتبط استخدامه ببيع الكاز والمازوت والغاز والخضار من فترة الثمانينيات من القرن الماضي حتى أول الألفية الثانية، إذ يطوف عليه بائع متجول في الشوارع والحارات.

في المقابل، لم تعرف بلاد الشام عربات تجرّها الدواب قبل عام 1833، إذ كانت الجياد والبغال والجمال والحمير هي وسائل النقل المعروفة التي يتنقل الناس بها بين المدن، حتى أدخل قنصل بريطانيا في دمشق عام 1833، أول عربة تجرها الخيول إلى بلاد الشام، وكانت غرفةً خشبيةً صغيرةً مصنوعةً من ألواح متباعدة تثبت على أربع عجلات، ولها نوافذ وستائر، وتُغطّى بقطعة قماش عازلة تقي الراكب حرارة الصيف وبرد الشتاء، يقودها على مقعد أمامي مرتفع من يُعرف بالسائس أو العربجي.

    لم تعرف بلاد الشام عربات تجرّها الدواب قبل عام 1833، إذ كانت الجياد والبغال والجمال والحمير هي وسائل النقل المعروفة

ويُعدّ الإنكليز أول من استخدم الحنطور، وكان أحد مظاهر الترف ومرتبطاً بالأثرياء وميسوري الحال لأن أجرته عالية، وقد انتهى عصره مع وصول الترامواي بدءاً من عام 1907 إلى دمشق ودخول الكهرباء، ويوماً بعد يوم ونتيجة تطور وسائل النقل ودخول السيارات والدراجات، تحولت الحناطير بشكل عام إلى مقتنيات معروضة في المتاحف للدلالة على الإرث القديم.

دكاكين الحدادة

يقصد أصحاب الطنابر والحناتير دكاكين الحدادة لإصلاح أعطالها، فمع الأوزان التي تحملها تزداد أعطالها، فضلاً عن أن هناك مهناً تنتشر على حساب مهن أخرى، كما هو معروف في كل الحروب، وخاصةً في الأرياف ذات الطابع الزراعي.

والتقى رصيف22، بصاحب محل حدادة في المنطقة الصناعية في مدينة دوما شمال شرق العاصمة دمشق، وهو يعمل في المهنة منذ أكثر من عشرين عاماً، وأشار إلى أن المهن بشكل عام ومنها الحدادة تعاني من جمود واضح، بسبب الوضع المعيشي المعروف، فهناك نسبة كبيرة من أصحاب المهن اتجهت إلى الزراعة بسبب طبيعة المنطقة وتميّز أهلها بالزراعة، ومن جهة أخرى فإن الفلاح مهما قست عليه الظروف فهو قادر على كفاية أسرته يومياً بمنتوج أرضه، فمئات الآلاف من المدنيين عاشوا على الزراعة خلال سنوات الحصار.

ويلفت الحدّاد (الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية)، إلى أن “دكاكين الحدادة بدأت بتصنيع وسائل نقل كالعربات الصغيرة التي تجرّها الدراجات النارية، بالإضافة إلى الأدوات الزراعية اليدوية التي يستخدمها الفلاح كفؤوس الحراثة والمناجل والمجارف وغيرها، مع بداية الحصار بسبب الحاجة الملحة إليها، ثم توجهت إلى صيانة الطنابر والحناطير بعد أن انتشرت آنذاك وازداد الطلب عليها، لأنها استطاعت أن تلبّي احتياجات واسعةً، وعوّضت عن وجود السيارات التي ظلت مركونةً لسنوات بسبب الحصار على المحروقات”.

    دكاكين الحدادة بدأت بتصنيع وسائل نقل كالعربات الصغيرة التي تجرّها الدراجات النارية، ثم توجهت إلى صيانة الطنابر والحناطير بعد أن انتشرت آنذاك وازداد الطلب عليها، فكيف يبدو المشهد في العاصمة؟

لا نستطيع القول إن دكاكين الحدادة تصنّع تلك العربات بمعنى التصنيع، فالمشكلة الأولى تكمن في عدم توفر الكهرباء التي تعتمد عليها المهنة بشكل أساسي وعدم توفر المحروقات التي تشغّل المولدات الكهربائية، كما أن الأمر مقتصر على الطلب الذي يُعدّ قليلاً مقارنةً بالسنوات السابقة التي عشناها خلال الحصار.

وهذا ما يؤكده الحدّاد، قائلاً: “بصراحة، الأموال قليلة في جيوب الناس التي تعمل يوماً بيوم لتأمين رغيف خبزها فقط، كما أنه بالرغم من الاعتماد على هذه العربات مؤخراً، إلا أن الناس ما زالوا يعتمدون في تجوالهم على الدراجات الهوائية والتوك توك الذي انتشر مؤخراً (عربة بثلاث عجلات تعمل على الطاقة الكهربائية عن طريق شحن بطاريتها)، كما أن القطع المعدنية التالفة والقضبان الحديدية ونوابض السيارات (المقصّات) والسكك الحديدية، لم تعد متوفرةً كما قبل عشر سنوات، وإن توفرت فأسعارها لا تناسب السوق الذي يعاني من انكماش، لكن مع الأيام أستطيع القول إن الوضع المأساوي الذي نعيشه لو بقي على ما هو عليه، فسنرى الشوارع مليئةً بهذه العربات”.

ويبدو أن الطنابر والحناطير التي ارتبطت بالتراث باتت اليوم من المهن والحرف القديمة الخدمية التي أعيد إحياؤها، وحاجةً يوميةً لا غنى عنها، فيما سيبقى السؤال الأهم مطروحاً عن استمرارها كمهن مستدامة لتعلقها بالظروف التي تمر بها البلاد، فحتى لو توفّر الوقود تبقى تكاليف النقل والتنقل عبئاً مرهقاً على كافة شرائح المجتمع، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه متوسط راتب الموظف الحكومي 30 إلى 50 دولاراً شهرياً.

—————————

بعد تعطيله آلية دخول المساعدات.. نظام الأسد يفاوض العالم بأجساد السوريين

تشهد مناطق سيطرة النظام السوري السوري، أزمةً اقتصادية هي الأسوأ منذ اندلاع الثورة السورية، ورغم تمكن الدعم العسكري والسياسي من روسيا وإيران من تثبيت النظام السوري والحفاظ عليه بعد الحرب ضد الشعب السوري، إلّا أن ذلك لم يمنع حدوث أزمة اقتصادية هي الأسوأ، والتي دفعت حكومة النظام السوري إلى الإعلان عن أسبوع عطلة نتيجة الشح في المحروقات. ولم يفوت النظام السوري أيّ فرصة للضغط على الشعب السوري، من خلال رفضه تجديد آلية المساعدات الإنسانية العابرة للحدود، في محاولةً للضغط على العالم من أجل تقليل حدة الأزمة الاقتصادية في مناطق سيطرته.

وتترافق مع هذه الأزمة الاقتصادية مظاهرات شعبية وتحركات محدودة حتى الآن، تحديدًا في منطقة السويداء، والتي قمعتها قوات النظام السوري بالقوة. فيما أدت ندرة التوريدات النفطية إلى مناطق النظام السوري، إلى انعدام مادة الوقود وتعطل الكثير من الخدمات العامة، مثل وسائل النقل داخل المدن وبين المحافظات السورية، بالإضافة لتوقف عمل العديد من الأفران والأعمال الأخرى. 

وفي محاولة منه للتنصل من مسؤوليته عن هذه الأزمة، يحاول النظام السوري ابتزاز المجتمع الدولي عن طريق رفض تجديد آلية المساعدات الإنسانية للمناطق السورية عبر الحدود، والتي تشرف عليها الأمم المتحدة، مستندًا إلى الموقف الروسي الذي هدد بتعطيل الآلية لصالح خطة تزيد من نفوذ النظام السوري للتحكم في تلك المساعدات، وتقضي بالإبقاء فقط على ما يسمى بآلية “المساعدات العابرة للخطوط”، أيّ المساعدات التي تدخل من مناطق سيطرة النظام.

وفي هذا الإطار، بعث وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، أول أمس الأربعاء، رسالتين إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ورئيسة مجلس الأمن لشهر كانون الأول/ديسمبر الحالي، الهندية روشيرا كامبوج، رفض فيهما مساعي تمديد قرار مجلس الأمن “2642” الخاص بإدخال المساعدات عبر الحدود، وبحسب المقداد فإن القرار يندرج في إطار “الانتهاكات والإجراءات غير الشرعية التي تحدّ من فعالية أي جهود تهدف إلى تحسين الأوضاع الإنسانية والمعيشية، وتخلّف آثارًا كارثيةً على الحياة اليومية للمواطن السوري، وتحول دون حصوله على الخدمات الأساسية والوقود والغاز المنزلي والطاقة الكهربائية”.

وآخر قرار للمساعدات الإنسانية لسوريا، هو القرار “2642” الذي صدر في تموز/ يوليو الماضي، والذي جاء بعد ابتزاز ومساومات وشروط روسيا، والتي رفضت تمديد تفويض إيصال المساعدات الإنسانية الأممية إلى سوريا عبر الحدود لمدة عام، وأصرت على التمديد لمدة ستة أشهر فقط، على أن يتطلب التمديد لمدة ستة أشهر إضافية قرارًا جديدًا من مجلس الأمن.

وفي حين تدعم كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا الأعضاء في مجلس الأمن، زيادة عدد المعابر، تسعى روسيا إلى غلق معبر باب الهوى، الشريان الأساسي الذي تدخل عبره المساعدات الإنسانية للمناطق المحررة في الشمال السوري، بشكلٍ تام أو أن يُقدّم جزء محدود من تلك المساعدات عبره، والدفع بالعمل بآلية “المساعدات العابرة للخطوط” بشكلٍ رئيسي، فقد استخدمت روسيا في السنوات الماضية حق النقض “الفيتو”، ودعمتها الصين في أكثر من مناسبة، لمنع التجديد لتقديم المساعدات العابرة للحدود عبر معابر إضافية لمعبر باب الهوى، وتزعم موسكو أن المساعدات تصل للفصائل السورية المسلحة، في الشمال السوري، بالإضافة إلى أن العملية برمتها، “تنتهك سيادة سوريا” وفق تصور روسيا عنها.

وتتضح الرغبة من قبل موسكو في  كل مرة يحين فيها موعد تجديد آلية دخول المساعدات الدولية عبر الحدود، إلى استبدالها بآلية “المساعدات عابرة الخطوط”، أي تسليم المساعدات للنظام السوري، على أن يتولى “توزيعها على المحتاجين في مناطق سيطرته، وحتى في المناطق الخارجة عن سيطرته”. لكن المجتمع الدولي والشمال السوري، يرفضان هذه الآلية، لأنها تستبطن رغبة النظام في السيطرة على كل المساعدات الدولية، بغية احتكارها، وتوزيع بعضها على أنصاره وبيع الباقي، في محاولة لتجاوز الأزمة الاقتصادية التي تهدد مناطق سيطرته، مع حرمان المناطق الخارجة عن سيطرته منها.

ومع محاولات النظام السوري وروسيا تعطيل آلية دخول المساعدات، حذر الأمين العام للأمم المتحدة، في تقرير قدمه إلى مجلس الأمن قبل يومين، من أن “الوضع الإنساني المتردي بالفعل في سوريا يزداد سوءًا، في حال عدم التمديد لآلية إدخال المساعدات”، وأضاف أن “ملايين السوريين قد لا يستطيعون النجاة في الشتاء، إذا لم تُجدد شحنات المساعدات من تركيا إلى شمال غربي سوريا الشهر المقبل”، مؤكدًا أن “المساعدات عبر الحدود إلى الشمال الغربي لا تزال جزءًا لا غنى عنه من العمليات الإنسانية للوصول إلى جميع المحتاجين”.

وأشار غوتيريس إلى أن “وقف عمليات التسليم عبر الحدود في منتصف أشهر الشتاء قد يخاطر بترك ملايين السوريين من دون المساعدة اللازمة لتحمل الظروف الجوية القاسية”، متوقعًا أن يرتفع عدد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية في سوريا العام المقبل إلى 15,3 مليون شخص، من إجمالي عدد السكان البالغ 21,1 مليون نسمة، مقارنة بـ 14,6 مليون شخص في العام 2022، واعتبر أن هذا العدد هو “أعلى مستوى للأشخاص المحتاجين منذ بداية الصراع”.

وفي هذا الإطار، وضعت “لجنة الإنقاذ الدولية” سوريا ضمن المراكز العشرة الأولى لأكثر البلدان “إثارة للقلق في العام المقبل”، جاء ذلك في قائمة المراقبة السنوية التي تصدرها المنظمة الدولية، وتضم 20 أزمة إنسانية من المتوقع أن تتفاقم أكثر من غيرها خلال العام المقبل، وحذرت المنظمة من أن “توقف آلية المساعدة عبر الحدود في مناطق شمال غربي سوريا، يمكن أن يؤدي إلى تدمير الاستجابة الإنسانية، وتدهور أحوال الملايين ممن يعتمدون عليها”، وتوقع التقرير تواصل تدهور الأوضاع في سوريا العام المقبل، مع استمرار الأزمة الاقتصادية، وهو ما قد يجبر المزيد من الناس على الهروب من مناطقهم.

——————————–

======================

تحديث 24 كانون الأول 2022

—————————-

وتتفاقم الكارثة السورية!…/ أكرم البني

لم يعد توصيف الكارثة السورية كما كان، لقد أضاف العام الأخير، وللأسف، معالم جديدة أكثر إيلاماً، فشروط الحياة لم تعد تقتصر على الفقر والعوز وانهيار الليرة السورية وتفشي غلاء فاحش لا ضابط له، بل وصلت إلى الجوع، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وبات جل طعام ملايين السوريين كسرات من الخبز وبعض الخضار النيئ، لا يمتلكون القدرة على اقتناء أهم السلع الضرورية إن توفرت، ينام أطفالهم ويفيقون على بطون فارغة ووجوه شاحبة، عاجزين عن فعل أي شيء سوى انتظار المزيد من الحرمان كي يفتك بهم، يحدوهم انحسار متواتر للمعونات الغذائية الأممية التي كانت تقدَّم للفقراء والمحتاجين، والمهددة بالتوقف نهائياً بشمال غربي سوريا إن فشل مجلس الأمن، هذه الأيام، في تمديد آلية إيصال المساعدات عبر تركيا، ويحدوهم أيضاً عجز سلطة دمشق عن تأمين المستلزمات الرئيسية لإنتاج أهم الحاجات الحيوية، كالخبز، ما اضطر الكثير من الأفران إلى الإغلاق، وبات الحصول على ربطة خبز واحدة، يتطلب الانتظار في طوابير طويلة، لساعات وساعات، بينما لن تعوض زيادات الأجور المتواضعة أو المنح المالية الهزيلة التي تعلنها الحكومة الخسارة الناجمة عن تدهور القدرة الشرائية، كما لن يهدئ النفوسَ لومُ العقوبات الاقتصادية، التي وإن كان لها بعض الأثر، لكن جوهر الكارثة في مكان آخر، في فظاعة ما مارسه النظام من تدمير وفتك وإفساد وتفريط بالوطن وثرواته وعمرانه ومؤسساته.

هي الكارثة التي لم تعد تعني شح الوقود، بل أزمة محروقات تضرب البلاد برمتها، ما أدى إلى شلل شبه كامل في قطاعات النقل والإنتاج الرئيسية، فلا طلاب ولا موظفون ولا عمال يستطيعون الوصول إلى أماكن دراستهم أو مواقع عملهم، ما حدا بالسلطة لإصدار قرارات بزيادة تعطيل الدوائر الرسمية والمدارس لتقليل استهلاك الوقود، ويزيد الطين بلة الانقطاع شبه المتواصل للتيار الكهربائي، الذي لم يعد مجرد تقنين، بل غياب دائم، اللهم إلا لوقت قصير جداً، قد يصل في أحسن الأحوال إلى ساعة يومياً، ما أكره الكثير من العائلات على العودة لوسائل الإنارة المتخلفة وتحمُّل أضرارها، وإلى حرق النفايات وحتى البلاستيك السام للحصول على بعض التدفئة، عدا عن الاستغناء عن الأدوات الكهربائية المنزلية، والعودة لاتباع الطرق اليدوية المنهكة في التنظيف والطهي والغسيل.

تتفاقم الكارثة السورية طرداً مع تدهور الوضع الصحي، فبعد ما حصده فيروس «كورونا» من أرواح الناس البسطاء، يعود وباء الكوليرا لينال منهم، في ظل انحسار وسائط الوقاية، إنْ في سوء تصريف النفايات أو الصرف الصحي المفتوح على مستنقعات يزداد انتشارها في أماكن سكن ملايين النازحين واللاجئين، فكيف الحال مع ما حمله برد هذا الشتاء من انتشار لافت لالتهاب القصبات المصحوب بحرارة وسعال حادّين يُجبران المصاب على البقاء لأسابيع في الفراش؟! وكيف الحال مع عجز الكثيرين عن دفع كشفية الطبيب أو شراء الدواء وقد أصبحت أسعار غالبيته كاوية؟! وكيف الحال مع لجوء المرضى الذين لا يستطيعون دفع ثمن المعالجة المتقدمة لأمراضهم، أو تكاليف العمليات الجراحية مثلاً، إلى مسكنات الألم فقط بانتظار ما يحمله الغيب لهم؟!

ويعمِّق كارثة السوريين ما تشهده البلاد من تعاطٍ للمخدرات، حيث غدا إدمان الحشيش والحبوب المخدرة، كالكبتاغون وغيره، ظاهرة منتشرة بشكل خطير، وبات واحد من كل عشرة أشخاص، ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والثلاثين يتعاطون، مع ما يرتب على ذلك من اندفاعات عدوانية وإجرامية، كما من ارتفاع حالات الاكتئاب ونسب الانتحار بين الشباب، وإن اختلفت أشكاله من الشنق، إلى الطلق الناري، إلى السقوط من علوٍّ شاهق.

وللأطفال السوريين نصيبهم من تفاقم الكارثة، فالملايين منهم الذين باتوا منفصلين عن ذويهم وفريسة القهر واليتم والحرمان، يلوبون للبحث عن مأوى وعمّا يسد رمقهم، ويتعرضون لشتى أنواع الإذلال والاستغلال الجسدي والجنسي، والأسوأ أن أعداد من باتوا منهم خارج النظام التعليمي تزداد بوتيرة متسارعة، منذرةً بتكريس حالة مزمنة من الجهل والتجهيل للأجيال القادمة، وتدمير لحياتهم ومستقبلهم.

ومن وجوه تفاقم الكارثة السورية، سيف الترحيل القسري لملايين اللاجئين الذي بات مشرعاً في بلدان الجوار، فلم يعد ثمة ترحيب بهم أو رحمة وتفهم لما يكابدونه، بل توسل شتى أساليب الضغط، الصريحة والمضمرة، لمحاصرتهم ونبذهم، ووضعهم أمام خيار وحيد هو العودة لبلادهم، من دون اهتمام إنْ توفر الحد الأدنى من الضمانات التي تقيهم الاضطهاد والاعتقال وتؤمِّن لهم أبسط مستلزمات العيش بعد الخراب الرهيب الذي طال منازلهم وممتلكاتهم.

يزيد هول الكارثة، ليس فقط ارتفاع حمّة التنافس بين خمس دول إقليمية وعالمية تحتل أجزاء من الأرض السورية وتتحكم بثرواتها، وتجعل أهلها وقوداً للصراعات والمقايضات، أو استباحة البلاد من مختلف القوى الإرهابية والمتطرفة، أو شدة العجز والارتهان التي وصل إليها النظام والمعارضة على حد سواء… وإنما أساساً بتدهور الأمل بالخلاص، برسوخ ما تشهده الحالة السورية من إهمال واستهتار عالميين، ومن فشل مزمن في خلق فرصة جدية لمعالجة سياسية تُنصف السوريين المنكوبين، أينما كانوا، وتلبّي حقوقهم البسيطة، وتعيد لهم الثقة بوطنهم ومستقبلهم.

أن يعقد ناشطو مدينة السويداء العزم على مواصلة الحراك الاحتجاجي الذي بدأوه مطلع الشهر الجاري، وتنظيمه أسبوعياً كاعتصام سلمي، كل يوم اثنين، ودعوتهم المناطق الأخرى كي تحذوا حذوهم… أن ينبري أحد ممثلي الدراما السورية وينشر مقطع فيديو يشكو فيه من الجوع والفقر الشديد ويستجدي رأس النظام لإنقاذ الناس من وضع لا يطاق… أن تتداول وسائل التواصل الاجتماعي كلمة لأحد أعضاء «مجلس الشعب» يتجرأ فيها على الاحتجاج على ما صارت إليه أحوال البشر الذين انتخبوه ليمثلهم ويطالب بحقوقهم… هي ظواهر تشير، مع حفظ الفوارق بينها، إلى شدة القهر والألم والغضب التي تعتمل في نفوس السوريين مما آلت إليه حياتهم من تردٍّ وسوء… إلى المسؤولية الأساس للنظام، الذي آثر حرق البلد وتشريد ناسه كي يحافظ على سلطته وامتيازاته… إلى أن لا خلاص للسوريين من دون حل سياسي يستند للعدالة الانتقالية، كخطة طريق واجبة، لإنقاذ مجتمع طحنته الحرب الأهلية والاحتلالات، ومثقل بتركة كبيرة من الانتهاكات والمظالم.

الشرق الأوسط

————————–

دمشق غارقة… وعروض «مؤلمة» تنتظر الحسم/ إبراهيم حميدي

دمشق الغارقة في أزمتها الاقتصادية الخانقة، وسوريا الطاردة لأهلها، والمقسمة إلى 3 «دويلات» تفصل بينها خطوط أقرب إلى الحدود، وتقيم فيها ميليشيات وتنظيمات ومتطرفون وجيوش أجنبية متناحرة… تأتي إليها من دول إقليمية وكبرى، عروض متناقضة وشروط متباينة لبدء مسيرة طويلة ومعقدة للخروج من القعر والمنطقة المنبوذة،

لكن ما هي أهم الشروط والإغراءات؟

1- العرض الإيراني: سيصل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق في الأيام المقبلة. وقد عززت طهران، التي تقيم مع دمشق علاقة استثنائية منذ عام 1979، علاقتها بسوريا بعد 2011، وقدمت دعماً اقتصادياً ومالياً تجاوز 20 مليار دولار أميركي، كما قدمت الميليشيات والأسلحة والدعم العسكري لـ«إنقاذ النظام».

وتعتقد طهران أنه لولا تدخلها في سوريا نهاية 2012 وتوسطها مع روسيا للتدخل في سوريا نهاية 2015 «لكان الحليف تغير». النظام بقي، وأُبقي، وهي تريد ثمناً لذلك من الحليف. تريد تموضعاً عسكرياً استراتيجياً يعزز موقعها في الإقليم، وتريد موطئ قدم استراتيجياً على البحر المتوسط، وتريد تنازلات سيادية مالية في حقول النفط والغاز والفوسفات والمشاريع والاتصالات. وآخر الطلبات أنها تريد أن يعامَل الإيرانيون معاملة السوريين.

لا شك في أن زيارة رئيسي تأتي في هذا السياق، بعد انهمار العروض على دمشق للذهاب في الاتجاه الآخر، والإفادة من الانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية. استطراداً هنا، ماذا لو قصفت إسرائيل أطراف دمشق خلال وجود رئيسي في العاصمة السورية؟

2- العروض العربية: زار مدير مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، ومدير المخابرات العامة اللواء حسام لوقا، دولاً عربية وخليجية في الأسابيع الماضية، كان بينها، لأول مرة، زيارة حصلت فيها لقاءات مع قادة هذه الدول. فماذا يعرض العرب؟

مروحة العروض واسعة، بينها ثنائي مباشر، وآخر جيوسياسي كبير. القائمة تضم أموراً مباشرة، مثل وقف تدفق «الكبتاغون» عبر حدود الأردن، والتعاون لمنع تسلل المهربين والإرهابيين، وتضم أموراً جيوسياسية، مثل تغيير طبيعة العلاقة مع إيران، بحيث لا تكون سوريا موطئاً وممراً لدعم تنظيمات إرهابية وميليشيات تهدد الأمن العربي. وتشمل القائمة أموراً سورية، مثل الحل السياسي واللجنة الدستورية وضمانات لإعادة أو عودة اللاجئين. وهناك رهانات لبعض الدول على اقتراب دمشق من معايير «اتفاقات أبراهام» مع إسرائيل.

في المقابل، تعرض الدول العربية دعماً اقتصادياً واستثناءات من عقوبات «قانون قيصر» الأميركي، وعودة إلى الجامعة العربية والحضن العربي، ومساعدات وإعماراً.

3- العرض التركي: بفضل تدخل الرئيس فلاديمير بوتين، وافق الرئيسان بشار الأسد ورجب طيب إردوغان على اجتماعات أمنية بين رئيس مكتب الأمن السوري علي مملوك، ونظيره التركي حقان فيدان، في موسكو. وتمثل الطلب التركي في عملية مشتركة ضد «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» الكردية، وتعاون لإعادة اللاجئين السوريين، والعمل ضد الإرهاب. مقابل ذلك، تعرض أنقرة دعماً اقتصادياً وتمويلاً لمشاريع الإعمار واتصالات سياسية و«شرعنة» للنظام. الأسد لم يوافق على هذه العروض بعدُ، ويريد وقف أنقرة دعم الفصائل وتعاوناً ضد الإرهاب وإعلاناً بالانسحاب من سوريا. ويحاول الإفادة من ذلك للحصول على تنازلات إضافية من الأكراد… ومعاقبتهم على التعاون مع أميركا.

4- العروض الغربية: تختلف العروض الغربية من دولة إلى أخرى؛ فهناك قرار أوروبي يتضمن 3 لاءات: لا للمساهمة في الإعمار، ولا لفك العزلة، ولا لرفع العقوبات قبل تقدم في العملية السياسية. وهناك «قانون قيصر» الأميركي وعقوبات من واشنطن.

على الأرض، هناك الجيش الأميركي وحلفاؤه الأوروبيون للتعاون ضد الإرهاب و«داعش»، وسيطرة على الأرض تتعلق بالتوازن والتفاوض مع روسيا، ودعم إسرائيل وغاراتها ضد إيران في سوريا.

تحت هذه الأمور الجيوسياسية، هناك عروض صغيرة تخص قضايا إنسانية: أميركا تطرق كل الأبواب لمعرفة مصير الصحافي جوستن تايس، وتعرض مقايضة الحصول على معلومات مقابل وقف عقوبات على شخصيات نافذة، أو تقديم استثناءات في أمور إنسانية. وتعرض دول أوروبية دعم مشاريع «التعافي المبكر» في قطاعات الكهرباء والصحة والتعليم ضمن القرار الدولي لتقديم المساعدات العابرة للحدود (المقرر اتخاذ قرار في شأن تمديده قبل 10 من الشهر المقبل)، مقابل تقديم تسهيلات سياسية وفتح قنصلية في مدن أوروبية، أو زيارة وفد إلى دمشق.

5- الغارات الإسرائيلية: تراقب إسرائيل وتتابع بعض العروض وتُستشار فيها، لكنها تواصل غاراتها ضد «مواقع إيرانية» في سوريا، بدءاً من دمشق جنوب سوريا، إلى البوكمال في الشمال الشرقي، وإلى ريف طرطوس غرباً. وتطلب تل أبيب، عبر دول غربية أو عبر موسكو، تراجع إيران استراتيجياً في سوريا، والتزامها بالخطوط الحمر، وهي: وقف التموضع الاستراتيجي وإقامة القواعد جنوباً، ووقف تسليح «حزب الله» بصواريخ محددة، ووقف إقامة مصانع لصواريخ «باليستية» دقيقة وطويلة المدى في سوريا. وهي «تعرض» تسهيل مطالب دمشق في أروقة وعواصم ذات قرار، وقبولاً بالدور الروسي والوجود الروسي والقرار الروسي.

إذن، المعاناة السورية مستمرة والأزمة عميقة. وقائمة الشروط أو المطالب ليست طويلة فحسب، بل إنها متناقضة ومحيّرة، وتعبر عن مصالح يتطلب الجمع بينها حياكة سورية مستحيلة. وبالفعل، الحل السوري ينتظر ترتيبات إقليمية ودولية، وولادة النظام من هذا المخاض المؤلم، سورياً ودولياً.

الشرق الأوسط

———————-

الطعام أو الدفء… فقراء سوريا يواجهون أقسى موجة جوع!/ مناهل السهوي

بين الدفء والطعام، على السوريين اليوم أن يختاروا، ولا شك في أن الطعام في المقدمة، لكن هل اختيار الطعام يعني كفايته؟ البطون لا تشبع حين تأكل، ولا تتناول ما يخطر في بالها بل ما يتوفر أمامها وحسب.

في وقت الغداء، وبعدما وضعت حصتها من المربى جانباً من دون أن تأكلها، تذهب الممرضة سارة (اسم مستعار) إلى مطبخ المستشفى العام حيث تعمل في دمشق، وتطلب المزيد من مربى المشمش، فابنها الصغير يحبه ولا قدرة لها على شرائه. سارة واحدةٌ من آلاف الأمهات اللواتي يقفن عاجزات أمام أطفالهن بقليل من المال والكثير من الاحتياجات.

أفواهُ الأطفال المرتجفة

بين الدفء والطعام، على السوريين اليوم أن يختاروا، ولا شك في أن الطعام في المقدمة، لكن هل اختيار الطعام يعني كفايته؟ البطون لا تشبع حين تأكل، ولا تتناول ما يخطر في بالها بل ما يتوفر أمامها وحسب.

“الحياة صارت  سلسلة من الفساد، الكل فاسد حتى الوزراء وبتوصل للموظفين، بس الفرق أنو الموظفين بحاولوا يعيشو من ورا الفساد، أما الوزير بدو يزيد مصرياتو بس”، يتساءل تامر، الذي يخاف أن يدخل هذه الدائرة من الاستغلال، إن كان الفساد بهدف إطعام عائلتك يعتبر أيضاً فساداً، يقول: “هل الرشوة التي أستلمها من تحت الطاولة عيب؟” ويجيب سريعاً بأنه مجبر، وسواء كانت هذه الرشوة التي يتلقاها ويشتري بها طعاماً لأطفاله عيباً أو حقاً، فهو لن يتخلى عنها حالياً.

بحسب أحدث تقرير “نقاط الجوع” الصادر عن برنامج الأغذية العالمي، تضم سوريا سادس أكبر عدد من الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي على مستوى العالم.

الدكتور جوزيف ضاهر الباحث الاقتصادي، والأستاذ في جامعة لوزان في سويسرا، يوضح لـ”درج” أن “الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سوريا كارثي على جميع المستويات ويستمر في التدهور”. 

يجد ضاهر أن التدهور الحاد في قيمة الليرة السورية مؤشر على الدمار الذي لحق بالاقتصاد السوري، يزيد على ذلك النقص في العمالة الماهرة بسبب آثار الحرب والهجرة، يقول: “النظام المالي في سوريا ضعيف للغاية للعب دور في تفضيل بيئة أعمال مواتية وجذب الاستثمارات الأجنبية”.

 سارة واحدةٌ من آلاف الأمهات اللواتي يقفن عاجزات أمام أطفالهن بقليل من المال والكثير من الاحتياجات.

كفاح السوريين بين البرد والجوع

بات استخدام أرجل الدجاج في الطبخ عادة تنتشر رويداً رويداً في المجتمع السوري، وهو أمر مستهجن – بعد أن كانت ترمى سابقاً – إذ تقوم  العائلات السورية بشراء الأرجل بسعر قليل وتطعمها لأطفالها، تقول ريم، الاسم الأول لسيدة مقيمة في مدينة السويداء: “بس خبرتني جارتي إنها عم تشتري أجرين الفروج، لأن سعرها قليل ومفيدة، انصدمت، ما تخيلت نوصل لهون”. أما عامر فيضحك قائلاً: “كان بياع الدجاج يعطيني أجرين الفروج ببلاش، لطعميها  لكلب الحراسة عندي، بس هلق ما عاد عطاني لأن قال الإجرين صارت وجبة الفقرا”.

من السهل الاستدلال على مضاهر الجوع في بلد كسوريا، الوجوه الصفراء التي تقف أمام المحلات وتمضي، أكياس الخضار الصغيرة، النساء اللواتي يأتين مساءً لشراء ما تبقى من خضار تالفة بسعر زهيد. لكن ماذا عن ما تبقى من اللحوم والفاكهة والطبابة واللباس؟ إذ إنه وبحسب برنامج الأغذية العالمي، وخلال العامين الماضيين، ارتفعت أسعار المواد الغذائية أربع مرات بينما زادت تكلفة الديزل سبعة أضعاف، رافق ذلك ارتفاع التضخم وركود الدخل، ولا يمكن للأسر تغطية إلا أقل من نصف احتياجاتها الغذائية الشهرية. ونتيجة لذلك هناك مليون شخص في حاجة ماسة للمساعدات الغذائية في جميع أنحاء سوريا، هذا الرقم يعني آلاف الأطفال الجائعين وآلاف الآباء العاجزين، ثلاجات فارغة وبطونٌ خاوية، وبحسب كين كروسلي، ممثل ومدير برنامج الأغذية العالمي في سوريا: “بينما يكافح العالم مع الارتفاع العالمي في أسعار الغذاء والطاقة، لم يتبق للعائلات الضعيفة في سوريا أي شيء لمواجهة شتاء آخر، أولئك الذين يضطرون بالفعل إلى اختيار الطعام على التعليم والأدوية والملابس الشتوية والإقامة المناسبة، سيتعين عليهم الآن الاختيار بين الطعام أو الدفء”.

اللاجئون في لبنان يعيشون على الاستدانة

على رغم الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعانيه معظم العائلات، لكن ما زال السوريون قادرين على الشعور ببعضهم البعض، ومحاولة مساعدة الآخرين ولو بأقل الإمكانيات. تقول مريم (اسم مستعار) أن صديق ابنها في المدرسة يأتي للعب معه في المنزل، تعرف مريم وضع العائلة المزري، لذلك اعتادت على إطعام الطفل وإرسال بعض الطعام لعائلته لو أمكن، لكنها لم تكن تتخيل الوضع المأساوي الذي تعيشه تلك الأسرة حتى جاء في يوم الطفل وسألها إن كان بإمكانه أخذ ما تبقى من طعامهم!

ينتظر السوريون المساعدات من الخارج سواء من أبنائهم أو من فاعلي الخير، يخشون أن يعتادوا عليها وتنقطع فجأة، وحين تأتي مساعدة مالية للعائلات، ينتظرون موسم الأعياد عسى أن يحصلوا على مساعدات أخرى، دون أن يتأكدوا من ذلك، إلا أن الأمل بمبلغ جديد يبقى حلم الفقير.

وفي الجارة لبنان، حال اللاجئين السوريين ليس بأفضل، إذ أظهرت النتائج الأولية لتقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان بحسب الأمم المتحدة لعام 2022، تدهوراً حاداً ومستمراً في الظروف المعيشية لجميع اللاجئين، فحتى الاحتياجات الأساسية أصبحت بعيدة المنال بالنسبة إلى معظم هؤلاء، الذين يعمدون إلى تقليص وجباتهم الغذائية، ويتناول البالغون منهم كميات أقل من الطعام للسماح لأطفالهم بتناول الكمية الكافية.

ليس هذا وحسب، فقد تراكمت الديون على غالبية عائلات اللاجئين، نظراً إلى أن معظمهم يقترضون المال لشراء الطعام، كل هذا ينعكس بشكل قاس ومباشر على الأطفال، إذ يشير التقرير عينه إلى أن أقلّ من نصف أعداد الأطفال الرضّع الذين تقلّ أعمارهم عن خمسة أشهر يعتمدون على الرضاعة الطبيعية فقط، و11 في المئة فقط من الأطفال يتناولون الحد الأدنى من عدد الوجبات في اليوم.

بين الحلول واستحالتها

هذا كله وسط استحالة الانفراجات الاقتصادية، فبحسب جوزيف ضاهر: ” تُعدّ آفاق تحقيق عائدات وأرباح سريعة ومتوسطة المدى من الاستثمار في سوريا محدودة جدّاً في الوقت الراهن لأسباب سياسية واقتصادية، ما لا يولّد أي حوافز لإطلاق مشاريع استثمارية، سواء من داخل البلاد أو خارجه”. تساهم العقوبات الاقتصادية على سوريا في تعميق هذه المشكلات، أما عن التعافي الاقتصادي فهو صعب جداً على المدى المتوسط بحسب ضاهر: “ما نشهده هو مزيد من الإضعاف والتراجع لقطاعات الإنتاج، ما يعني المزيد من الإفقار لشرائح واسعة من المجتمع، والدفع باتجاه معدّلات ضخمة من البطالة والبطالة المقنّعة التي تترافق مع معدّلات للهجرة مرتفعة للغاية بين المتخرّجين الشباب”، يختتم صاحب كتاب “سوريا بعد الانتفاضات، الاقتصاد السياسي لمرونة الدولة”: “إن نموذج الانتعاش الحالي يبقى أبعد ما يكون عن ضمان نهضة القطاع في المستقبل القريب”. 

وفي سؤال عن الحلول التي من شأنها المساعدة في تحسين الوضع الاقتصادي في سوريا، يرى ضاهر أن تطوير القطاعات المنتجة يمكن أن يشكّل عنصراً أساسياً في استقرار الاقتصاد في البلاد، فقد يساهم في تعزيز الإنتاج المحلي، ويقلّل بشكل جزئي الضغط على الليرة السورية لتمويل السلع المستوردة. كذلك يمكنه أن يؤمن فرص عملٍ بديلةٍ عن تلك المرتبطة باقتصاد الحرب، ومن الحلول التي يقترحها ضاهر، استثمار الدولة في الصناعات العامة، ومنح قروض كبيرة بفوائد منخفضة للمؤسسات الصغيرة والمتوّسطة، ولصغار المزارعين لتحديث معداتهم وبنيتهم التحتية بالتقنيات الفعّالة والمتجّددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ما يخفّف استهلاكهم المشتقّات النفطيّة، وبالتالي انخفاض كلفة إنتاجهم.

كل ما قد يروى عن معاناة السوريين سيبقى قليلاً أمام الواقع المظلم، وأمام أفواه الأطفال المرتجفة وخوف الآباء وعجزهم، وأمام شتاء آخر لن يرحم، وحكومة تزيد المعاناة بلا مبالاتها وخططها الفاشلة وفسادها المستشري.

درج

—————————-

السوريّون بين أقفاص الخبز ودموع “الشاكرية”/ عبير نصر

يميل الطغاة، عموماً، إلى امتلاك مزيج من سِمَات اضطراب الشخصية النرجسية، مثل الافتقار إلى التعاطف والعظمة والتعطش للسلطة والسيطرة والخداع واللامبالاة بالقوانين أو بالأخلاق. هذا النوع من الأشخاص لقَّبه المحلل النفسي النمساوي، أوتو كيرنبرغ، بـ”النرجسي الخبيث”. فكل طاغية مصابٌ حتماً بمرض العظمة (ميغالومانيا). هو المركز وكل ما يدور حوله ينطلق من وجوده. وعليه، لا يتوانى بعض الطغاة عن إدخال بلادهم المزادَ العلني السياسي، معتمدين على الثالوث المقدّس خاصتهم: (عدو، مؤامرة، خيانة). ولنا في تصريح بشار الأسد أدلّ مثال: “سورية لمن يدافع عنها بغض النظر عن جواز سفره”. يدفعنا هذا الواقع المرير باتجاه تفسير اللغز المُحيّر للمازوخي الذي يقبل الإهانة والإيذاء على شعبه، بل ويستمتع بذلك أيضاً؟ فـ”العنجهية المازوخية” أصابت النظام السوري، لا شك، هو الذي يعتقد أنه ببقائه سيغير العالم لصالحه، بينما في حقيقة الأمر ليست تمنياته إلا من قبيل ما قاله جرير يوماً:

زعم الفرزدق أنْ سيقتل مربعاً/ أبشر بطولِ سلامةٍ يا مربع.

في المقابل، حلّل عالم النفس الألماني، أريك فروم، في كتابه “الهروب من الحرية”، شخصية الطاغية المازوخية التي تقوم أساساً على الخوف، ويملأها الرعب من الوحدة وعدم القيمة الذاتية، فيبحث عن شخصٍ ما أو سلطةٍ أو قوة يشعر بأنها تحتويه أو “تبتلعه” وتغمره بقوَّتها. ذلك أن المازوخي يعاني صراعاً وعذاباً كبيراً داخل ذاته. إذ يتأرجح بين رغبته في أن يكون مستقلاً وقويّاً وشعوره بالعجز والتفاهة، حتى يصل إلى مرحلة تحقير ذاته الفردية وتحويلها إلى لا شيء. وهل نحتاج إلى التذكير بأن رئيس مركز كارنيغي الروسي أليكسي مالاشينكو اعتبر أنّ سياسة الأسد الابن في التعاطي مع الروس تشبه محاولة “الذيل في التحكّم بالكلب”، إذ يحاول أن يوحي لموسكو، عبثاً، بأنه لن يكون هناك وفاق بينها وبين النظام السوري إلا بوجوده! في المقابل، كانت الشعرة التي قصمت ظهر الأسد ما حصل في قاعدة حميميم العسكرية، حيث نهرَه ومنعه هناك أحد الضباط الروس بقوة من اللحاق بالرئيس الروسين بوتين، في أثناء محاولته المشي خلفه بسرعة وارتباك ملحوظ! وليس نهاية فصول الذلّ المريرة، استدعاء بوتين الأسد إلى مقره العسكري في دمشق من دون سابق إنذار، رفقة وزير الدفاع السوري الذي تعمّد الروس إذلاله، من خلال إجلاسه على مقعد صغير، ما جعله يبدو بهيئة القزم والمسخ أمام الحاضرين وبوجود رئيسه “المفدّى”.

تأسيساً على ما تقدّم، يتضح أنّ شخصيةَ المستبد مطلقة تجتمع فيها كل المتناقضات، فبالرغم من قسوة جوزيف ستالين ومسؤوليته المباشرة عن قتل ملايين الناس، اختار لنفسه لقب “أبو الفقراء”، أما لقب كاسترو فهو “القائد الأكبر”، ولقّب معمّر القذافي نفسه “ملك ملوك أفريقيا”، واتخذ ماو تسي تونغ لقب “الموجّه الأكبر”. وبالطبع، اتخذ حافظ الأسد ألقاباً عدة أكثرها شيوعاً: “الأب المناضل” و”القائد الخالد”.. فكلّ شعور بالعظمة هو مركّب نقص مقلوب، إذ يعتقد الطاغية أنه ضحية مؤامراتٍ تحاك ضده وتريد النّيل منه باستمرار، أي أنه يستجيب على نحو عدواني اهتياجي مع طغيان مشاعر عارمة بالسطوة والجبروت، كردّ فعل دفاعي تجاه مشاعر النقص الشديدة لديه، حتى يحوّل الجموع الغفيرة إلى مسوخٍ تقبع في أقفاص، لا تملك مثقال ذرّة من حريتها. خذ مثالاً الصورة الصادمة التي أظهرت أقفاصاً من الشباك الحديدية مزدحمة بالأشخاص، وضعت أمام أحد الأفران الحكومية في دمشق لـ”تنظيم طوابير الخبز”! وفي الواقع، هذه صورة “سورية الأسد” الحقيقية، حيث الوطن، المُباع أصلاً، سجن كبير، والمواطن “حيوان ذليل” يعيش في القفص.

ولعل أبرز ظواهر الإذلال السوري اليوم برامج المسابقات التي يبثها إعلام النظام، والتي كانت تتّسم على الدوام بأنّ جوائزها المالية ضئيلة وغير مُغرية على الإطلاق. زاد الطين بلّة أن مقطع فيديو انتشر، أخيرا، وأثار غضب السوريين، تظهر فيه صحافية تسأل المارّة عن احتياجاتهم، وتهديهم كميات من المواد الغذائية، إلا أن الجزء المؤثر كان اللقاء مع رجلٍ دعته الصحافية لشراء طبخةٍ فاعتذر عنها مراراً، لكنها ألحّت في دعوته، وعدّدت له بعضاً من الوجبات التقليدية، ما دفع الرجل إلى البكاء بشكل عفوي بعدما سألته إن كان يحب “الشاكرية”، ملخّصاً معاناته بعبارة “الأوضاع صعبة”. إنها دموع تعكس العجز والذلّ الذي يعانيه السوريون، في وقتٍ ترسل فيه الحكومة السورية (طائرة مساعدات إنسانية!) إلى جمهورية لوغانسك الشعبية، والتي جرى توزيعها على مؤسّسات الأطفال في الجمهورية!

وليست المقالة هنا في مقام إجراء مفاضلة بين درجات العنف الرمزي، الذي تتصدّره أقفاص الخبز أو “دموع الشاكرية”، وإنما هي في معرض الحديث عن ظاهرة الإذلال التي يمارسها نظام ذليل أصلاً، والتي تعكس حالة شيزوفرينيا مخيفة، ناجمة عن مازوخية سياسية متطرّفة. ولا شك أن جنون العظمة هو الوجه الآخر لجنون الاضطهاد والإذلال، فقيام ثورة على أي طاغية يعني انهيار عالمه كله. وبسبب هذيان العظمة، لا يستطيع رؤية الحقائق كما هي في الواقع العياني الملموس، بل يراها من فوق عرش أوهامه. بمعنى أنه يعجز عن النظر إلى ثورة الفقراء والمسحوقين بوصفها حركةً شعبيةً عفوية، ويلجأ إلى فهمها فهماً تأويلياً في ضوء هذيان العظمة لديه. ولنا في خروج أبناء محافظة السويداء، أخيرا، لمطالبة الحكومة بتحمّل مسؤولياتها أبرز دليل على هذا. وكان الأمر ليمرّ مرور الكرام، لولا أنّ الشعارات تطوّرت شيئاً فشيئاً، لتصل، في آخر محطاتها، إلى المطالبة بإسقاط النظام السوري بعد حرق صور الأسد، ما دفع “الداخلية السورية” لإصدار بيان، وَصفت فيه من أقدم على ذلك بأنهم “خارجون عن القانون”. 

لنتفق إذاً أنّ الأنوية أساس الطغيان. والأنوية من الأنا، وتعني التمركز حول الذات وردّ كل شيء إليها، حتى تتطوّر إلى مراحل عمرية أعلى لتصير (نفاجاً)، ما لم تُهذّب وتُشذّب بالثقافة والعلم. و(النفاج) يعني المبالغة الخرافية في تقدير الذات حتى يغدو صاحبها كائناً مهووساً بالعظمة ورفعة الشأن. ردّاً على سؤال أحد الصحافيين عما إذا كانت التظاهرات التي عمّت مدن رومانيا ستؤدي إلى التغيير، أجاب رئيس رومانيا المخلوع، نيقولاي تشاوشيسكو، بعنجهية مستهزئاً: “لن يحدُث تغيير في رومانيا إلا إذا تحوّلت أشجار البلوط إلى تين”. بعد أربعة أيام فقط من التصريح، قُبض على الطاغية هارباً مع زوجته، وتمّ إعدامهما رمياً بالرصاص.

نافل القول إنّ مأساة “الأسد النفاج” أنه غدا سجين سلطته، لأنه ببساطة لا يحكم بل يتحكّم، ما يجعله يسير في طريقٍ ذي اتجاه واحد، لا يحتفظ لنفسه بخط رجعة. وهل ننسى إرادة شرح المفردات والتفلسف في لقاءات الأسد، التي كانت غالباً ما تظهره بمظهر الضائع المنفصل عن الواقع أو البلاهة؟ فصامٌ جعله يبدو أشبه بمن يجد نفسه فجأة على ظهر وحش كاسر مُمسكاً بلجامه، ويستخدمه في البطش بالآخرين، والتنكيل بهم بغية السيطرة والإخضاع، والطريقة الوحيدة لبقائه هي في الثبات على ظهر الوحش الذي لا بدّ سيأكله يوماً، لأن نزوله يعني “بالنسبة له” أنّ الآخرين سينقضون عليه انقضاض قطيعٍ من الضباع على غزالٍ جريح.

العربي الجديد

——————————

سورية: تفاقم أزمة النقل وارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية/ عدنان الأحمد

تشهد الأسواق في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري ارتفاعات حادة في أسعار مختلف المواد الغذائية، فيما تتفاقم أزمة المواصلات داخل المدن وبين المحافظات نتيجة ندرة الوقود. 

وأوردت صحيفة “الثورة” التابعة للنظام قائمة بأسعار بعض السلع الأساسية تشير الى ارتفاع أسعار لحوم الفروج والخروف والعجل، إضافة الى البيض، بسبب زيادة الطلب عليها مع اقتراب أعياد الميلاد وفق الصحيفة.  

وأعلنت محافظة حمص رفع تعرفة الركوب بنسبة 100%، وقالت المحافظة إن تعرفة نقل الركاب ضمن المدينة، أصبحت 400 ليرة سورية بدلاً من 200 ليرة، والخطوط الخارجية تم رفع تعرفتها بنسبة 25%، وسط استياء شعبي.

 وقال عضو المكتب التنفيذي لقطاع التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حمص عمار داغستاني، في إطار تبريره رفع تعرفة الركوب إنه “قبل رفع سعر المحروقات كان هناك دراسة لتعديل تعرفة نقل الركاب، على الخطوط الداخلية، ومع رفع سعر المازوت المدعوم 200 ليرة، تم تعديل التعرفة لتصبح 400 ليرة سورية لكل الخطوط الداخلية”، وفق ما نقلت مواقع موالية للنظام.

سورية: أزمة الطاقة تتحول إلى عطش وجوع

وأضاف أن “رفع تعرفة الخطوط الداخلية بنسبة 100%، كان بعد دراسة تكاليف الصيانة والإصلاح، وقطع الغيار، وارتفاع سعر المازوت، بما يضمن استمرار عمل الحافلات على خطوطها”، وفق تعبيره.

كما تشهد محافظة حماة أزمة نقل حادة وذلك بعد تخفيض مخصصات النقل بواقع 40% لخطوط النقل الداخلية والخارجية. وقد أدت أزمة النقل إلى عجز المواطنين عن السفر والتنقل بين محافظة حماة وباقي المحافظات، بمن فيهم العسكريون والمرضى والموظفون.

وارتفعت أيضا أجور الحافلات العامة والخاصة في دمشق وريفها على خلفية أزمة المحروقات الحالية. ورصد موقع “أثر برس” الموالي ارتفاع أجرة الراكب في الحافلات داخل مدينة دمشق على مختلف الخطوط التي تربط العاصمة بأطرافها مثل جرمانا وباب توما وجديدة عرطوز وصحنايا وضاحية قدسيا.

 ونقل الموقع عن أحد السائقين قوله إنه مضطر لرفع الأجرة لأن سعر ليتر البنزين في السوق السوداء وصل إلى 12500 ليرة سورية، بينما لم يتلق حصته من “البنزين المدعوم” منذ 15 يوما. وأشار سائق آخر إلى أن الربح من العمل بات محدودا جدا، لأنه إضافة إلى ارتفاع سعر البنزين، يأتي ارتفاع أسعار قطع الغيار.

وكان مدير الأسعار في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك نضال مقصود قد أعلن قبل أيام رفع تعرفة النقل العام بنسبة 10% للسيارات التي تعمل على البنزين، وبنسبة 20% للسيارات العاملة بالمازوت، موضحاً أن الزيادة على أسعار النقل جاءت نتيجة رفع سعر المازوت لوسائل النقل العامة والخاصة. 

الاستقالة أنفع من الوظيفة

ويشتكي الكثير من الموظفين من ان رواتبهم بالكاد تكفي لدفع أجور المواصلات بشكل يومي، وهذا ما دفع كثيرا منهم إلى تقديم استقالاتهم من العمل، لأنهم فعليا يعملون دون مقابل، غير أن طلبات الاستقالة تقابل غالبا بالرفض من جانب مؤسساتهم بسبب عدم توفر البديل عنهم.

ويقول أبو أحمد وهو موظف في قطاع الصحة يقيم في ريف دمشق وعمله في محافظة القنيطرة لـ”العربي الجديد” إنه قدم استقالته عدة مرات، لكن كانت ترفض في كل مرة. وأوضح أنه يدفع يوميا نحو 10 آلاف ليرة سورية كأجور نقل، أي ما يصل إلى 240 ألف ليرة شهريا مع احتساب أيام العطل، بينما راتبه لا يتجاوز 140 ألف ليرة. وأضاف انه اضطر إلى دفع رشاوى من أجل دفع إدارته والوزير المختص إلى قبول استقالته.

 ووفق قانون العقوبات السوري، فان الموظف الذي يترك عمله مدة تتجاوز 15 يوماً يواجه عقوبة تصل إلى السجن من 3– 5 سنوات، وغرامة مالية تعادل راتبه لمدة عام.

وتفاقمت أزمة المواصلات في مناطق سيطرة النظام السوري منذ مطلع الشهر الحالي، متأثرة بأزمة الوقود، ورفع أسعارها من جانب حكومة النظام، ما تسبب بتعطل معظم وسائط النقل العام في دمشق وريفها.

الحكومة تحاصر المواطن

من جهته، هاجم عضو “مجلس الشعب” التابع للنظام مجيب الرحمن الدندن، حكومة النظام السوري، أول أمس الأربعاء متهماً إياها بمحاصرة الشعب السوري، فيما يتعلق بمسألة توريد النفط والمواد الغذائية.

وقال خلال لقاء تلفزيوني على قناة “سما” التابعة للنظام، إن “الشعب السوري الذي صمد وصبر طيلة سنوات الحرب، يعاني من وضع اقتصادي سييئ، وسط عجز حكومي واضح” واتهم حكومة النظام بتعمد محاصرة الشعب السوري، عبر فرض رسوم على مرور النفط لصالح بعض الشركات (في إشارة إلى شركة القاطرجي)، متسائلاً: “إذا كان الجانب الأميركي يفرض الحصار على البلاد، فلماذا أحاصر نفسي أيضاً عبر هذه الضرائب والرسوم”.

كما انتقد حواجز النظام التي تفرض رسوما على مرور البضائع بين مناطق سيطرة النظام وقال إن هذه الرسوم “غير قانونية وغير دستورية، وهي جزء من الحصار الاقتصادي على سورية” معتبرا أن إلغاء حواجز الترسيم سيخفّض الأسعار ما لا يقل عن 25 بالمائة.

الى ذلك، احتشد آلاف الموظفين أمام الصرافات في مدينة السويداء ومحافظة دمشق أمس الخميس واليوم الجمعة للحصول على المنحة التي أعلن عنها رئيس النظام قبل أيام، والبالغة 100 ألف ليرة سورية، لمرة واحدة رغم أن قيمة المنحة لا تتجاوز 15 دولارا.

من جهتها، أعلنت وزارة المالية التابعة للنظام أن المصارف العامة في جميع المحافظات ستواصل تقديم خدماتها بشأن صرف الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والمنحة خلال فترة العطلة الممتدة من 25 من الشهر الجاري حتى مطلع العام المقبل.

———————————

مراسيم عفو الأسد… إجراءات شكلية لا تخفي غياب الدولة/ عدنان أحمد

تعيش مجمل المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، في سورية، حالة احتقان وتذمر، لأسباب تتعلق خصوصاً بالوضع المعيشي المتردي وغياب الخدمات الأساسية، وصلت حد دعوة البعض إلى تنفيذ إضراب شامل وإعلان العصيان المدني.

يتزامن ذلك مع مطالبات بإطلاق سراح المعتقلين في سجون النظام، أو الكشف عن مصيرهم على الأقل، خصوصاً بعد إصدار رئيس النظام بشار الأسد “مرسوم عفو” جديداً أول من أمس الأربعاء، رأت معظم الفاعليات المحلية والحقوقية أنه شكلي، وعلى غرار المراسيم السابقة، لن تكون له أي نتائج على أرض الواقع.

احتجاجات في السويداء ودرعا

وشهدت بعض مناطق الجنوب السوري الأربعاء، احتجاجات شعبية، وتحديداً في محافظتي درعا والسويداء، تطالب بإطلاق سراح المعتقلين، وتعبّر عن السخط من غياب دور “الدولة” في توفير الخدمات الأساسية، لا سيما الوقود والكهرباء، في ظل ارتفاع حاد في أسعار مجمل السلع، وهبوط مستمر في قيمة الليرة السورية (بلغ سعر الدولار في بعض المناطق بسورية خلال اليومين الماضيين بين 6590 و6800 ليرة).

وشارك العشرات من سكّان مدينة جاسم في ريف درعا الشمالي، أول من أمس، في تظاهرة دعا إليها ناشطون، وتجمّعوا بالقرب من المركز الثقافي في المدينة ورفعوا لافتات ورددوا هتافات تدعو إلى إسقاط النظام وتطالب بالحرية للمعتقلين في سجونه، والكشف العاجل عن مصيرهم.

كما رفع المتظاهرون أعلام الثورة السورية، بينما اعتلى عناصر الأمن العسكري التابع للنظام سطح المركز الثقافي، وراقبوا المتظاهرين من دون تدخل. وحثّ المتظاهرون بقية مدن وبلدات محافظة درعا على الخروج في تظاهرات شعبية نصرةً للمعتقلين، وللمطالبة بإيقاف الاعتقالات التعسفية التي تمارسها أجهزة النظام والمليشيات المحلية المدعومة من إيران.

كما أغلق عدد من المحتجين في السويداء، الأربعاء، الطريق المحوري وسط مدينة السويداء، وأشعلوا الإطارات، مطالبين بطرد المليشيات الإيرانية من المحافظة، ومحاسبة تجار المخدرات و”عملاء إيران”، إضافة إلى محاكمة الفاسدين، خصوصاً في الأجهزة الأمنية التابعة للنظام.

وذكرت مصادر محلية في السويداء، لـ”العربي الجديد”، أن المحتجين دعوا إلى إطلاق سراح المعتقلين من سجون النظام، وإلى عصيان في كل المناطق السورية احتجاجاً على تردي الوضع المعيشي في البلاد.

وتشهد محافظة السويداء، منذ مدة، احتجاجات شبه يومية ووقفات صامتة، اعتراضاً على غياب “الدولة”. وطالب المحتجون الإثنين الماضي خلال تجمّعهم في ساحة الكرامة، بمدينة السويداء، بتنفيذ القرار الأممي 2254 الخاص بسورية، ومحاسبة المسؤولين عن الدمار الذي لحق بالبلاد، وخروج كل القوات الأجنبية التي جلبها النظام السوري لحمايته. كما حثّوا كل المحافظات السورية على القيام باحتجاجات مماثلة لـ” إنقاذ ما بقي من سورية”، بحسب تعبيرهم.

ولفت الناشط المدني في محافظة السويداء، منيف رشيد، لـ”العربي الجديد”، إلى أن “المجموعة الشابة التي خرجت الأربعاء الماضي في السويداء، ورفعت لافتات عن الوضع المعيشي والسياسي، هي مجموعة جديدة على الساحة، مشيراً إلى أن رقعة الاحتجاجات تتسع ولم يعد أحد قادراً على الصمت والصبر على الخطابات الرسمية لموظفي النظام عن “الصمود والعقوبات والحصار”.

وطالب المحتجون في بيان، النظام “بالحفاظ على مؤسسات الدولة، وتطهيرها من الفساد حتى لا تظل تنهب المواد المخصصة للمواطنين وتحرمهم من جميع مستلزمات الحياة اليومية وتحولها إلى جيوبهم الخاصة، أو يتم بيعها إلى المقربين منهم، وإلى تجار محسوبين على النظام”.

وقالوا إنهم ينوون القيام بخطوات تصعيدية وصولاً إلى العصيان المدني في السويداء، حتى تحقيق مطالبهم في “تحسين الوضع المعيشي وتأمين المحروقات والكهرباء والماء، وإلقاء القبض على الفاسدين مهما كانت سلطتهم، وطرد الأجهزة الأمنية الداعمة لتجار المخدرات، وصولاً إلى الانتقال السياسي في البلاد”.

وأكد الصحافي محمد جزار، لـ”العربي الجديد”، أن مجمل مناطق سيطرة النظام تعيش أوضاعاً مزرية، لدرجة بات معها الراتب الشهري لا يكفي لسداد نصف إيجار المنزل، والراتب كله بالكاد يكفي لشراء وجبتي طعام أو ثلاث. ولفت إلى أن نسبة كبيرة من الناس باتت تعتمد على التحويلات التي يرسلها إليهم أقاربهم في الخارج، أو ما تجود به بعض الجمعيات الخيرية والإنسانية، ومن لم يحالفه الحظ في هذا أو ذاك، يعيش حالة مزرية من الحاجة والعوز.

واعتبر جزار أنه ليس لدى النظام أي حلول سياسية أو اقتصادية لمواجهة هذا الوضع والاحتقان الشعبي المتزايد حتى بين الموالين له، متسائلاً “هل سيُواصل (النظام) التمسك بالحلول الأمنية وحدها، وهل يستطيع اعتقال الشعب كلّه في حال تصاعدت هذه الاحتجاجات؟”.

مراسيم عفو شكلية

يأتي ذلك بينما أصدر الأسد الأربعاء الماضي مرسوم عفو جديداً يتعلق بشكل خاص بالمتخلفين عن الخدمة العسكرية، إضافة إلى جرائم أخرى، لكنه يتضمن الكثير من الاستثناءات ولا يشمل المعتقلين السياسيين. وتضمّن المرسوم عفواً عمّا سماه “الفرار الداخلي” إذا سلّم الشخص نفسه خلال 3 أشهر، و4 أشهر بالنسبة لـ”الفرار الخارجي”.

وأوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن المرسوم الأخير مشابه للمرسوم الذي أصدره الأسد مطلع العام الحالي والذي يشمل جرائم الفرار الداخلي والخارجي.

ورأى أن أخطر ما جاء في المرسوم هو استثناؤه لقانون الجريمة المعلوماتية، موضحاً أنه “منذ تطبيق هذا القانون، رصدنا عمليات اعتقال موسعة استهدفت مدنيين بينهم سيدات، قامت بمعظمها أفرع الأمن الجنائي المنتشرة في المحافظات السورية”.

وجاءت الاعتقالات وفق شرحه، “على خلفية انتقاد الأوضاع المعيشية المتدهورة أو الفساد الحكومي في مناطق سيطرة النظام على مواقع التواصل الاجتماعي، أو بسبب نقلهم أخباراً لجهات إعلامية خارجية”.

ولفت عبد الغني إلى أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان سجّلت اعتقال 124 شخصاً، بينهم 19 سيدة، على خلفية قانون الجريمة الإلكترونية، منذ دخوله حيز التطبيق في 18 مايو/أيار الماضي، وتراوحت العقوبات الواردة فيه من عقوبة السجن لمدة شهر واحد إلى 15 سنة، وغرامات مالية ما بين 200 ألف ليرة سورية إلى 15 مليون ليرة (حوالي 6 آلاف دولار) وكان أخطر ما في القانون المواد الخاصة بالجرائم الواقعة على “الدستور والنيل من هيبة الدولة والنيل من مكانة الدولة المالية” إذ يمكن من خلالها اعتقال وملاحقة فئات واسعة من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي والإعلاميين والنشطاء.

وحول أعداد المفرج عنهم بموجب هذه المراسيم التي يواظب النظام على إصدارها، لفت عبد الغني إلى أن كثافة المراسيم الخاصة بالعقوبات والجرائم العسكرية، تشير إلى حاجة النظام للعنصر البشري في قواته، لذلك يصدر كل بضعة أشهر عفواً عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية أو الفارين منها.

كما لفت عبد الغني إلى دراسة كانت قد أصدرتها الشبكة قبل حوالي شهرين، تضمنت تحليلاً لكل مراسيم العفو التي أصدرها النظام منذ عام 2011 (22 مرسوماً حتى الآن) والتي لم ينتج عنها سوى الإفراج عن 7351 معتقلاً، بينما لا يزال النظام يحتفظ بأكثر من 135 ألف معتقل في سجونه ومعتقلاته الأمنية.

ولاحظت الدراسة أن معظم مراسيم العفو تضمنت اشتراط تسليم المطلوب لنفسه للأجهزة الأمنية كشرط للاستفادة من العفو، خصوصاً بالنسبة للعسكريين. ودفع سوء الأوضاع المعيشية بسبب النزوح والتشريد، أو الملاحقة وعدم القدرة على العمل أو الحركة، مئات الأشخاص إلى تسليم أنفسهم على أمل أن يتم العفو عنهم.

لكن الكثير ممن سلّموا أنفسهم، تعرضوا للاعتقال من جانب الأجهزة الأمنية لأشهر أو سنوات وتعرض قسم كبير منهم للتعذيب، والاختفاء القسري، وتم تحويل غالبيتهم إلى المحاكم الاستثنائية. ووثّقت الشبكة اعتقال ما لا يقل عن 1867 شخصاً بينهم 1013 من العسكريين و854 مدنياً ممن سلموا أنفسهم على خلفية مراسيم العفو الصادرة منذ 2011، توفي العشرات منهم تحت التعذيب.

من جهته، ذكر مدير مكتب توثيق الانتهاكات في “تجمع أحرار حوران”، المحامي عاصم الزعبي، لـ”العربي الجديد”، أن النظام أصدر منذ 2018 مراسيم عفو عدة، سلّم بموجبها آلاف الشبان أنفسهم للشرطة العسكرية التابعة له، لكن جرى اعتقال ما لا يقل عن 400 منهم من أبناء محافظتي درعا والقنيطرة فقط.

وأضاف الزعبي أن 48 ممن سلّموا أنفسهم من أبناء المحافظتين، أو جرى اعتقالهم على حواجز النظام الأمنية، قضوا تحت التعذيب في سجون النظام، مشيراً إلى أن معظم الأشخاص الذين يطلق سراحهم، هم معتقلون جدد أو لأسباب جنائية، وليست سياسية أو من المنشقين عن قوات النظام. وحثّ الشبان على عدم تصديق مراسيم العفو، واعتبرها مجرد خدعة للإيقاع بالمطلوبين لدى النظام.

—————————-

موسكو تجدد السجالات حول إيصال المساعدات الإنسانية إلى سوريا

المبعوث الأممي طرح 5 أولويات لكسر الجمود

موسكو: رائد جبر

أطلقت موسكو معركة دبلوماسية جديدة في مجلس الأمن مع إعلان موقفها المعارض لتمديد الآلية الدولية لإيصال المساعدات الإنسانية لستة أشهر أخرى. وتزامن الموقف الروسي الذي ينتظر أن يعقد التوصل إلى اتفاقات حول الملف الإنساني، مع تصعيد من جانب دمشق التي عارضت بدورها تمديد العمل بالآلية الدولية. في وقت حذر المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، مساء الأربعاء، من تفاقم الوضع على الصعيد الإنساني، واقترح خطوات لكسر الجمود واستئناف المفاوضات السياسية.

ولم يكن الموقف الذي أعلن عنه مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا مفاجئاً للأطراف؛ إذ سبق أن انتقدت موسكو مسار العمل بالاتفاق الدولي الذي تم تمديده في يونيو (حزيران) الماضي، لمدة ستة أشهر على أن يعود مجلس الأمن لمناقشاته حول الموضوع مع حلول نهاية العام.

ودخلت النقاشات التي تجريها موسكو مع تركيا حول التحرك العسكري لأنقرة في مناطق الشمال السوري على خط ملف إدخال المساعدات، خصوصا أن المعبر الوحيد الذي وافقت موسكو على استمرار العمل به هو معبر «باب الهوى» على الحدود مع تركيا. ورأى محللون أن الموقف الروسي المعارض لتمديد الآلية الدولية يصب في اتجاه الضغط الروسي على أنقرة لحملها على عدم توسيع نشاطها العسكري في المنطقة.

وبرر نيبينزيا الموقف الروسي، خلال جلسة مناقشات في مجلس الأمن، بأن الوضع الإنساني الراهن في سوريا، «لا يوفر سياقاً مناسباً للمناقشات عن تمديد آلية إيصال المساعدات عبر الحدود».

وزاد أنه «من الصعب التخلص من الشعور بأن الجهود التي تبذل لتبرير عدم وجود بديل لآلية نقل المساعدات عبر الحدود، هي أكثر مما يبذل من أجل تنظيم التوريدات عبر خط التماس».

وأكد أن «القضية بالنسبة إلينا لا تتمثل في أننا نعارض تقديم المساعدات للسوريين البسطاء، مثلما سيحاول بعض الوفود تقديمه (…) نحن ندعو المجتمع الدولي لمساعدة جميع السوريين دون أي تمييز، وإلى أن يقوم بذلك بشكل صريح ومن دون أي تسييس. ونحن نقف بعيداً عن ذلك للأسف».

ورأى الدبلوماسي الروسي أن «الموقف المتحيز للدول الغربية من هذا الملف لم يتغير خلال نصف العام الأخير»، مضيفاً أن الوضع الخاص بنقل المساعدات عبر الحدود لم يصبح شفافاً على الرغم من 3 جولات من المشاورات غير الرسمية.

وأكد أن «الحجج لصالح تمديد آلية نقل المساعدات عبر الحدود غير مقنعة؛ لأن عدم وجود البديل لها أمر مفتعل»، مشيراً إلى أن هذا الوضع ناجم عن عدم وجود أي عمل من قبل الدول الغربية.

وبشأن الشق السياسي، قال نيبينزيا إن روسيا تشيد بجهود المبعوث الخاص للأمم المتحدة «لتخليص منصة جنيف من التسييس واستئناف الدورات المنتظمة للجنة الدستورية، والحفاظ على الاتصال مع السوريين بهذا الصدد، بما في ذلك في إطار زيارته الأخيرة لدمشق في ديسمبر (كانون الأول) الحالي».

وكرر الموقف الروسي حول أن «القرارات المبدئية عن أطر الجولات المقبلة من المشاورات السورية-السورية يجب أن يتخذها السوريون بأنفسهم، ومن دون أي ضغوط خارجي».

بالتزامن مع هذا الموقف، شددت دمشق على أن «آلية إيصال المساعدات عبر الحدود» كانت إجراء مؤقتاً فرضته ظروف استثنائية لم تعد قائمة، وقالت إن الإصرار على استمرارها يعكس انتقائية فاضحة وتمييزاً بين السوريين.

وفي بيان خلال جلسة لمجلس الأمن حول سوريا، قال مندوب دمشق لدى الأمم المتحدة بسام صباغ، إن «الإصرار على استمرار تلك الآلية التي تحيط بها الكثير من العيوب والمخالفات يعكس انتقائية فاضحة وتمييزاً واضحاً بين السوريين الذين يستحقون الحصول على المساعدات الإنسانية».

ورأى أن «السعي المحموم للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لتمديد هذه الآلية من خلال ادعائهم الحرص الإنساني على الشعب السوري يتناقض مع حصارهم غير الأخلاقي وغير الإنساني غير المسبوق المفروض عليه».

وكان المبعوث الأممي إلى سوريا قدم تقريراً في بداية الجلسة، أطلع فيه المجلس على نتائج زيارته إلى دمشق قبل أسبوعين. وقال إنه لمس «أزمة إنسانية واقتصادية خانقة تستمر في التفاقم»، وقال إن هذا الوضع يزداد صعوبة مع استمرار النزاع، ومخاطر التصعيد العسكري، مشيراً إلى أن الوضع لم يتحسن على هذا الصعيد مع تزايد التقارير عن استمرار الغارات التي تشنها القوات الحكومية على مناطق الشمال الغربي، والغارات التركية في الشمال، والإسرائيلية على دمشق ومناطق الجنوب الغربي.

ودعا المبعوث الدولي إلى «تغيير هذه الديناميكيات المقلقة»، مشيراً إلى خمس أولويات عمل عليها خلال تحركاته الدبلوماسية تتمثل في ضرورة ضمان التراجع عن التصعيد وإعادة الهدوء النسبي، والإجراء الثاني هو تحديد إطار العمل في مجلس الأمن على صعيد إدخال المساعدات الإنسانية إلى جميع السوريين المحتاجين. والأولوية الثالثة تتمثل في استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية، ملاحظاً أنه «لا يوجد أي جديد فيما يتعلق بالموقف الروسي حيال اجتماعات جنيف»، لكنه أضاف أنه يواصل «الجهود في هذا الصدد بما في ذلك عبر تذكير دمشق بالحاجة إلى الرد على الخطاب الذي أرسله قبل ستة شهور إلى الأطراف السورية بشأن تحسين أساليب العمل خلال جولات التفاوض».

وقال بيدرسون إن الأولوية الرابعة التي يركز عليها هي تنشيط النقاش حول ملف المعتقلين والمخفيين. وقال إنه يتطلع خلال العام المقبل لإنشاء مؤسسة معنية بالمفقودين تحت تكليف ورعاية الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبناء على توصيات الأمين العام للمنظمة الدولية في هذا الشأن.

وقال إن النقطة الخامسة المهمة تتمثل في تعزيز الحوار نحو تحديد وتطبيق تدابير بناء الثقة وفقاً لمبدأ خطوة مقابل خطوة، وأعرب عن قناعة بقدرة السوريين والأطراف الدولية على إيجاد طريق لاتخاذ «بعض الخطوات الدقيقة والملموسة والمتبادلة» التي من شأنها أن تضع مقدمات لتحرك إيجابي نحو تنفيذ القرار الأممي 2254.

———————————

سورية: أزمة الطاقة تتحول إلى عطش وجوع/ عدنان عبد الرزاق

تفاقمت أزمة شح الطاقة في سورية، والممتدة منذ الشهر الفائت، لتطاول قطع المياه عن ريف دمشق، بحسب تصريحات مدير مؤسسة المياه بالعاصمة السورية، محمد عصام الطباع، منتصف الاسبوع الجاري.

كما رفعت الأزمة من أسعار السلع والمنتجات الاستهلاكية بأكثر من 30% بحسب تصريحات عضو لجنة تجار ومصدري الخضر والفواكه في دمشق، محمد العقاد، ليأتي توقف النقل لكبرى الشركات السورية قبل أيام قليلة، على ما تبقى من قطاعات إنتاجية وخدمية، بعد أن طاولت آثار نفاد المحروقات، قطاعات الزراعة والصناعة وأدخلت البلاد في دوامة أزمات.

اضطراب الأسواق

“شلل تام اليوم بعد توقف النقل”، هكذا وصف التاجر، مأمون الريّس، من دمشق واقع الأسواق بمناطق سيطرة نظام بشار الأسد، كاشفاً خلال اتصال مع “العربي الجديد” إعلان أكبر ثلاث شركات نقل برى بسورية (الأهلية، السراج والقدموس) التوقف عن العمل لعدم توفر المازوت والبنزين.

وأشار التاجر السوري إلى أن توقف النقل البري “يعني عدم وصول العمال للمنشآت وتعطل وصول البضائع والسلع للأسواق”، مضيفاً أن “إيجار السيارة الخاصة، من مدينة حمص وسط سورية إلى العاصمة دمشق (نحو 150 كلم) وصل إلى 800 ألف ليرة سورية (الدولار = نحو 6200 ليرة)، فماذا يمكن أن يحقق التاجر أو الصناعي من أرباح بعد أجور النقل؟”. وأوضح أن الأسعار ارتفعت أكثر من 30% بعد رفع أسعار البنزين والمازوت.

وكشف الريّس لـ”العربي الجديد” أن سبب توقف التجار وبعض المنشآت الصناعية، عن الاستيراد هو توقف المصرف المركزي “كلياً” عن تمويل المستوردات أو منح قطع أجنبي للتجار.

وحول تحويل ثمن البضائع بالليرة ولشركات الصرافة حصراً، يجيب الريّس أن ختم إجازة الاستيراد من وزارة التجارة لا يتم، إلا بعد تحويل ثمن البضاعة بالليرة ووفق سعر الدولار بالسوق، الأمر الذي دفع التجار، إلى وقف الاستيراد.

وتطابقت الآراء حول “شلل الاقتصاد السوري”، إذ يؤكد أكثر من مصدر لـ”العربي الجديد” وصول الوضع الاقتصادي والمعيشي داخل سورية “إلى مرحلة العدم” بواقع ارتفاع الأسعار وانقطاع الكهرباء لأكثر من 22 ساعة يومياً، وندرة المحروقات ما أوصل سعر ليتر المازوت بالسوق السوداء لنحو 10 آلاف ليرة في حين تعدى سعر ليتر البنزين 13 ألفاً.

وليس توقف أكبر شركات نقل بري داخلي بسورية أو تهاوي سعر صرف الليرة إلى الأدنى بتاريخ سورية “هو كامل المشهد” بل هناك مؤشرات، يصفها الاقتصادي السوري، محمود حسين، بالأخطر منذ عام 2011.

وأشار إلى تمدد عطلة الأعياد وإغلاق المؤسسات الحكومية، لعدم توفر المشتقات النفطية والكهرباء، فهذا برأيه “مؤشر ينذر لما بعده”.

والقصة هذه المرة، ليست فجوة بين الدخل والإنفاق، بل شلل للأسواق بعد توقف منشآت صناعية وخدمية وانعدام القدرة الشرائية للسوريين حسب حسين.

ارتفاع الأسعار

بدّل قرار حكومة بشار الأسد، الأسبوع الماضي، برفع سعر البنزين من 2500 إلى 4900 ليرة لليتر ورفع سعر ليتر المازوت إلى 3000 ليرة، من معادلة تكاليف الإنتاج والسعر النهائي للمواد والسلع الغذائية والاستهلاكية.

وبلغ سعر كيلو البندورة “طماطم” بدمشق نحو 2500 ليرة وارتفع سعر كيلو البطاطا والخيار إلى 3500 ليرة. وسجلت اللحوم رغم تراجع المبيعات نحو 50 ألف ليرة للخروف و25 ألفاً لشرائح الدجاج.

ويقول الاقتصادي السوري، عبد الناصر الجاسم، إن لم نتوقف عند “كوراث سوء التغذية” جراء ارتفاع الأسعار وعجز المستهلك السوري، نسأل أولاً عن سبب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية بواقع تراجع سعرها العالمي.

وكشف لـ”العربي الجديد” أن الشحنات النفطية الإيرانية لم تزل تدخل الأراضي السورية، لكنها تدخل ليتم تكرير النفط الخام إلى مشتقات وتعاود الخروج والتصدير من الموانئ السورية. وأضاف: “يبقى جزء من حمولة البواخر تتحكم به الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد أو تعطى لشركة قاطرجي وباسل شوكت لتباع بالسوق بضعفي السعر الرسمي”.

وفي حين يصف الجاسم قرارات حكومة الأسد بـ”المتخبطة” التي لا تنظر سوى لتحصيل الأموال من جيوب المواطنين، يرى أن المشتقات النفطية هي عصب الاقتصاد غير مستبعد مزيداً من الشلل والأزمات، ليأتي “إضراب” شركات النقل الإثنين الماضي، نتيجة عدم توفر المحروقات، ضربة إضافية للاقتصاد السوري.

شلل النقل

يجمع سوريون أن تعطيل النقل العام وتوقف النقل الداخلي بين المحافظات، سيزيد من حدة الأزمة وانعكاساتها على العمل العام والاقتصاد الكلي، متوقعين تدخلاً حكومياً سريعاً “بشكل أو بآخر”، لأن الهروب وزيادة أيام العطل الأسبوعية أو عطل الأعياد، لن تحل الأزمة.

وحسب مصادر خاصة من دمشق، يعاني أصحاب السيارات من خسائر تتجاوز نصف مليون ليرة شهرياً، نتيجة تأخر رسائل استلام مخصصات البنزين واضطرارهم لشراء البنزين والمازوت من السوق السوداء.

وتؤكد المصادر، التي رفضت ذكر اسمها، لـ”العربي الجديد” تأخر وصول رسائل البنزين المدعوم من الحكومة للسيارات العامة إلى 12 يوماً بدلاً من 6 أيام، في حين بلغ التأخير 22 يوماً بدلاً من 10 أيام لأصحاب السيارات الخاصة.

وطاولت أزمة شح وغلاء الوقود الشاحنات المحملة من مرفأ طرطوس والمتوقفة عند مكتب الدور منذ أيام تنتظر المازوت بحسب ما نشرت صحيفة “الوطن” المقربة من النظام الإثنين الماضي.

ويقول مدير مكتب تنظيم نقل البضائع بطرطوس، محمد عبد الرحمن، خلال تصريحات أول من أمس، إن المشكلة كبيرة فعلاً، مشيراً إلى وجود نحو سبعمائة شاحنة محملة بمختلف المواد للقطاعين العام والخاص وكلها تنتظر مادة المازوت والكمية التي تأتي إلى محطة المكتب قليلة مقارنة بالكميات التي تحتاجها الشاحنات المحملة والتي لا تقل عن 240 ألف ليتر وأنهم يعطون الأولوية بتعبئتها للشاحنات المحملة بالقمح.

بدوره، أكد محافظ طرطوس عبد الحليم خليل مخاطبة وزير النفط قائلا: “وجهنا كتاباً للوزارة لشرح الواقع وطلب زيادة للمازوت لتعبئة هذه الشاحنات وتعبئة شاحنات أخرى يتم تحميلها في المرفأ حالياً”.

حصار الزراعة

تبقى الزراعة أهم عوامل قوة الاقتصاد السوري، كما يقول المهندس، يحيى تناري، لكن أزمة المحروقات بالتزامن مع مشاكل البذور ستؤثر على موسم الحبوب للعام المقبل، كما تلحق بالفلاحين الآن، خسائر فادحة جراء تشغيل المولدات والآلات الزراعية وارتفاع أجور العمال والنقل.

ولا يستبعد المهندس الزراعي خلال حديثه لـ”العربي الجديد” إحجام بعض المزارعين عن استئجار الأراضي، لأن تكاليف الإنتاج، من ارتفاع أسعار البذور والأسمدة والمحروقات، يجعل العمل الزراعي “مقامرة” بواقع تحديد الأسعار وإلزام الفلاحين على تسليم المحاصيل للمؤسسات الحكومية.

وفي حين يحذر المتخصص السوري من انهيار الإنتاج الحيواني نظراً لحاجة مزارع الدجاج للتدفئة وتراجع إنتاج الزراعة المحمية “بيوت بلاستيكية” نظراً لحاجة البيت الواحد إلى 1500 ليتر مازوت بالموسم، يضيف تناري أن الحكومة السورية، بقرارات الانسحاب من دعم المحروقات، تدفع المزارعين للخسائر، بدل من أن تدعم الإنتاج الزراعي لتأمين حاجة البلاد، خاصة من القمح بعد التراجع الكبير من نحو 4 ملايين طن إلى نحو 1.5 مليون.

بالمقابل، لم يستبعد عضو مجلس الشعب زهير تيناوي، رفع سعر مادة الخبز بعد زيادة سعر المازوت المدعوم المخصص للمخابز، مشيرا خلال تصريحات الإثنين الماضي، إلى ضرورة تعديل الرواتب والأجور للعاملين في الدولة من أجل تحسين الوضع المعيشي للمواطن الذي أصبح حالياً غير مقبول أبداً.

توقف آلات الإنتاج

تجلت أزمة ندرة المحروقات، بشكلها الأكبر على المنشآت الصناعية، بحسب ما يؤكد الصناعي السوري، محمد طيب العلو، لـ”العربي الجديد” لأن شراء المازوت بسعر 10 آلاف ليرة، لتشغيل الآلات أو الكهرباء بالمنشآت، سيرفع من تكاليف الإنتاج ويفقد السلعة السورية القدرة على المنافسة بالخارج أو وجود مستهلك محلي.

ويضيف العلو لـ”العربي الجديد” أن أزمة شح المشتقات النفطية أثرت على وصول المواد الأولية الداخلية بالإنتاج من مرفأ طرطوس، مشيراً إلى ما وصفه بتدمير ممنهج للصناعة وتهجير لما تبقى في سورية، بعد المعيقات والملاحقات والإتاوات، لتأتي المشتقات النفطية وقطع الكهرباء، كنهاية للصناعة السورية.

وكان الصناعي برهان عبود قد أكد خلال حديث سابق لـ”العربي الجديد” أن حكومة بشار الأسد لم تسلم المازوت للصناعيين وفق سعر 2500 ليرة، مضيفاً أن ظروف العمل “سيئة للغاية”.

الليرة حبل مشنقة

يبقى تدهور العملة السورية ربما، السبب الرئيس بتعرية الاقتصاد ومفاقمة معيشة السوريين، بعد أن هوت إلى أدنى قاع لها منذ 11 عاماً، مسجلة 6200 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، في حين لم يزد سعر صرف العملة الأميركية عن 50 ليرة قبل عام 2011.

ولم تجد حكومة الأسد التي توقفت عن التدخل المباشر بالسوق لوقف انهيار العملة الوطنية، سوى الملاحقات الأمنية للمتعاملين بغير الليرة، لتوقف، بحسب بيان وزارة الداخلية يوم الاحد الماضي، المتعاملين بالعملات الأجنبية، تطبيقاً لمراسيم نظام الأسد الصادرة عام 2020 بتجريم كل من يتعامل بغير العملة السورية.

ويرى المحلل المالي علي الشامي أن سياسة الملاحقة ستزيد من تدهور سعر الليرة وتحول دون وصول الحوالات الخارجية بالعملات الرئيسية لداخل سورية، بل ستذهب الحوالات، وهي ما تبقى للسوريين والاقتصاد برأيه، إلى أسواق الدول المجاورة وتعود بالليرة، ما يزيد التضخم وتهاوي سعر الصرف.

ويضيف الشامي لـ”العربي الجديد” أن قراري الرقابة على تمويل المستوردات “1070 و1071” ضربة أخرى للصناعة والتجارة والعملة الوطنية، لأن رجال الأعمال بالنهاية، سيذهبون للسوق لتأمين القطع الأجنبي لتسديد ثمن مستورداتهم، الأمر الذي يزيد الطلب على الدولار ويعيق عمليات الإنتاج.

ولا يستبعد الشامي استمرار تهاوي سعر صرف العملة السورية مقابل الدولار، والتي برأيه، لم يعد ما يسندها أو يدعمها، لا تجارة ولا احتياطي أجنبي لدى البنك المركزي ولا حتى قبول من المكتنزين.

——————————-

سورية في عز الانهيار ولا مؤشرات لتنازل النظام/ عماد كركص

يطرح استمرار انهيار الواقع المعيشي والاقتصادي في سورية، وغياب أي مخارج أمام نظام بشار الأسد، لا سيما مع انشغال روسيا وإيران بأوضاعهما، تساؤلات عن إمكان اتجاه هذا النظام لتقديم تنازلات سياسية حقيقية والذهاب نحو تطبيق القرارات الدولية للحل، وفي مقدمتها القرار 2254.

غير أن تجارب السنوات الـ11 من عمر الثورة، وما تخللته من إفشال أي مسارات للحل السياسي، تظهر أن هذا النظام ليس مستعداً لتقديم أي تنازلات حقيقية، مراهناً على قبضته الأمنية لمواجهة أي حراك.

ويستمر تراجع الوضع المعيشي في مناطق سيطرة النظام، مع الغلاء الفاحش وحالة شلل مؤقتة في الحركة، نتيجة عدم توفر المحروقات والإحجام عن الشراء بسبب ارتفاع الأسعار مع انهيار الليرة السورية أمام الدولار.

وأظهرت احتجاجات السويداء المستمرة تجاوز المطالب بتحسين الواقع المعيشي والأمني، نحو المطالبة بتطبيق القرارات الدولية وفي مقدمتها القرار 2254، إذ لا بد من الذهاب إلى الحل الشامل الذي ينهي العقوبات على النظام غير القادر على التواصل إلا مع حلفائه.

أما إجراءات النظام، ومنها إصدار مراسيم العفو العام، فلم تعد تقنع السوريين في ظل استمرار التهديد الأمني بالاعتقال والسوق للخدمة الإلزامية، ومع بقاء نشر مئات الحواجز الأمنية في مناطق سيطرة النظام، والتي لا يوجد رادع قانوني أو أمني يمنعها من اعتقال أو توقيف من تشاء بأي ذريعة أو حجة.

كذلك، فإن المنح المالية والزيادات في الرواتب، التي كان صدر آخرها قبل أيام بالتزامن مع مرسوم للعفو، فلم تعد قادرة على تحسين المعيشة إلا ليوم أو يومين على أبعد تقدير، بدولاراتها العشرة أو العشرين، التي تصطدم بقدرتها الشرائية مع انهيار الليرة.

النظام لا يبالي بالتحذيرات الأممية

ولا يبدو أن النظام يلقي بالاً للتحذيرات الأممية من الكارثة الحالية وتفاقمها مستقبلاً، لا سيما أن المسارات السياسية متوقفة، بعد أن عجز المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسن عن إعادة إحياء مسار لجنة إعادة صياغة الدستور.

وإن كانت اللجنة الدستورية توقفت على أبواب الجولة التاسعة، فإن جولاتها الثماني الماضية لم تفضِ إلى صياغة أو إقرار أي مادة من الدستور، نتيجة مراوغة النظام بإسناد روسي بالقفز على جداول الجلسات وتمييعها، فيما المسار السياسي العام، المتمثل بالقرار 2254، لم يُطبّق أي من مخرجاته فعلياً منذ إقراره قبل سبعة أعوام في مجلس الأمن.

ولفت بيدرسن في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، الأربعاء الماضي، إلى المخاطر الأمنية والإنسانية في ظل الوضع الحالي المعقد على المستوى المعيشي والسياسي والعسكري.

وتوقع مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، في الجلسة نفسها، أن يصل عدد السوريين الذين يحتاجون للمساعدات الإنسانية في العام المقبل إلى أكثر من 15 مليون سوري، وهذا تعداد السوريين الباقين في سورية بعد أن شردت الحرب حوالي 7 ملايين في بلدان اللجوء.

وتلك المساعدات مهددة بالتوقف، في حال أصر الروس على عدم تجديد آلية إدخال المساعدات إلى سورية أو التعديل عليها، كما حصل عند تجديدها في آخر مرة، أي أن النظام والروس سيسعون لتحصيل تنازلات غربية مقابل الموافقة على تجديد الآلية من دون “فيتو” روسي في مجلس الأمن.

أما اتجاه حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتطبيع مع نظام الأسد، فقد يحاول الأخير استغلالها لتحقيق مكاسب مرحلية على مبدأ خطوة بخطوة، في حال نجح الروس بترتيب لقاءات بين المسؤولين الأتراك والسوريين، بهدف الوصول إلى لقاء الأسد وأردوغان.

استبعاد تقديم النظام تنازلات

ورأى الباحث السوري رضوان زيادة، المقيم في واشنطن، أن النظام يدرك أنه وصل إلى طريق مسدود كلياً، وأن كل الخيارات أصبحت معدومة بالنسبة إليه، مستبعداً أن يقدّم النظام أي تنازلات سياسية حقيقية.

ولفت زيادة في حديث مع “العربي الجديد” إلى أن “النظام لا يزال لديه التفكير نفسه، بأن هذه الأزمة مؤقتة وستمر، وتحتاج إلى صبر ومقاومة، وبالنسبة له، فإنه تجاوز أصعب الظروف الأمنية بين العامين 2012 و2014، وبالتالي استراتيجيته تقوم على قمع الأصوات وتشديد القبضة الأمنية التي تعترض على الظروف المعيشية بقسوة أشد، والانتظار حتى تتغير الأمور”.

وتابع: “اعتدنا على رد فعل النظام، ولذلك بالنسبة للسوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرته، سيصبح الوضع أكثر صعوبة اقتصادياً وأمنياً”.

وحول مراوغة النظام للاستفادة من الحصول على تنازلات في ملفات مختلفة، لفت زيادة إلى أن “النظام دائماً يقوم على الكذب والاعتماد على حلفائه من أجل إنقاذه، لكن المشكلة لديه أن كل من روسيا وإيران في وضع صعب، وقد سئمتا من دعمه من دون عوائد، وعدم قدرة النظام على إطلاق عجلة الانتاج، وبالتالي، الطريق مسدود كلياً”.

وتابع: “ربما إيران ستستمر بدعم النظام وتمويله بالنفط، لكن ذلك لم يعد يكفي، وباختصار، طريق النظام مسدود وليست لديه خيارات، لكن الحل بالنسبة إليه المقاومة والانتظار، ولا أعتقد أنه يعول كثيراً على التطبيع مع تركيا لأن هناك شروطاً يجب أن يلبيها، ودائماً يريد دعماً غير مشروط”.

——————————

بوتين والأسد وخامنئي… عواصف تضرب “الرفاق” الثلاثة/ فايز سارة

العواصف التي تضرب التحالف الثلاثي في جملته وفي داخل كل طرف فيه، تحمل مقدمات لتحولات كبرى في واقع التحالف ولكل واحد من أطرافه، وتثبت أن هذا التحالف اعجز من ان يستمر، وان كياناته مرشحة للانهيار أو لتغييرات عميقة مؤكدة.

ليس من باب المصادفة، أن الحلفاء الثلاثة روسيا وإيران ونظام الأسد، يخضعون لظروف شديدة القسوة في وقت واحد، وان الاحداث المتلاحقة التي تشهدها دولهم، ويعيش في ظلها سكانها، بلغت مستويات عالية من التردي والتدهور سواء في صورتها الخارجية، او وقائعها الداخلية بما فيها من ازمات سياسية واقتصادية واجتماعية وامنية متصاعدة، يصعب حل ومعالجة بعضها، لكن جزءاً منها، صار من المستحيل أن  تعالج على نحو ما هو الواقع عند نظام الأسد، فيما بإمكان روسيا أن تعالج وتتجاوز معظم مشكلاتها، إذا رغب حاكمها.

 ولأن ما يحصل في بلاد الحلفاء من كوارث، لا يحدث بالمصادفة، فإن السؤال عن أسبابه أمر مفروض، لكن الاجابة مرهونة بصاحب الجواب. فالحاكم القابض على السلطة في البلدان الثلاثة، عنده جواب واحد في جوهره، وإن اختلفت المفردات، إذ يحيل السبب الى الخارج من دول ومنظمات وجماعات وأفراد، يديرون مؤامرات وتدخلات هدفها الانظمة الثلاثة وقادتها، والعمل على إلحاق الضرر بسمعتها ومصالحها في المحيطين الإقليمي والدولي، فيما يحيل خصوم الحلفاء وبخاصة الدول الداخلة معهم في مواجهات سياسية وعسكرية أسباب ما تعيشه أنظمة الحلفاء إلى سياستها وتعدياتها على الدول الأخرى وعلاقاتها بالإرهاب وجماعاته، التي تتجاوز دعم الارهاب الى ممارسة إرهاب الدولة، وهو من السمات المشتركة لإيران وروسيا ونظام الأسد في سوريا.

وللحق فإن الإجابات السابقة، تتجاوز وقائع تشكل الأسباب العميقة، لما صارت عليه أحوال الحلفاء من مشكلات وأزمات طاحنة، يقف خلفها اساساً النظام الحاكم بطبيعته الدكتاتورية المستبدة، مستنداً الى ايدلوجيا ماضوية فيها تعصب وتشدد، يقترن الاستناد إليها بهدف واحد وحيد هو دعم الحاكم المستبد والحفاظ على سلطته، وتشتق من  طبيعة النظام استراتيجية السلطة في المجالين الداخلي والخارجي، بحيث لا يكون لأحد منها تأثير في حدوث أي تبدل جوهري فيها، بل يتم التعامل معها، وكأنها مسلمات مقدسة لا تقبل التعديل ولا حتى النقاش. وهو ما يبيّنه النموذج الإيراني الخامنئي وعلى جانبيه في اليسار النموذج الروسي البوتيني والسوري الأسدي على اليمين.

أتت المشكلات والأزمات الاساسية من خاصرة نهج العسكرة والتسلح وسياسات التمدد الخارجي وخوض المعارك والحروب السياسية والعسكرية، بما فيها عمليات المخابرات والجماعات الإرهابية والشركات الامنية، فإنها ارتبطت في المستوى الداخلي بإمساك مفاصل السياسة، وحصرها بالأقربين إلى النظام وأدواته، وتبني أنماط محددة من التنمية، تقوم على سيطرة النظام على الموارد والمنتجات الرئيسية، والاستغلال الكثيف لقدرات المنتجين من الأفراد والمؤسسات، برغم تمايز الطرفين، وفرض سياسات شد الأحزمة إلزاماً على الفئات الأضعف، التي لا صوت ولا تمثيل بها، ما أدى إلى تعرضها لعملية سحق متعددة الأبعاد، أغلقت أبواب اى تغيير إيجابي بطريقة سلمية، فلا يعود أمامها غير الثورة على النظام. 

ليس من باب المصادفة، أن الحلفاء الثلاثة روسيا وإيران ونظام الأسد، يخضعون لظروف شديدة القسوة في وقت واحد، وان الاحداث المتلاحقة التي تشهدها دولهم، ويعيش في ظلها سكانها، بلغت مستويات عالية من التردي والتدهور.

التجسيدات العملية في واقع الاخوة المتحالفين كثيرة لجهة مؤشرات وصول بلدانهم وأهلها إلى حفرة عميقة وكبيرة. ولعل ابرزها عند أصغر الحلفاء ثورة السوريين على نظامهم، ورفض الأسد بموافقة أخويه في طهران وموسكو الذهاب الى حل سياسي في سوريا، والأسوأ تركيز جهود الثلاثة وتضافرها لوأد الثورة، وإعادة السوريين إلى حظيرة النظام، والسعي لإعادة الأخير إلى المحيط الإقليمي والدولي، وإعادة تطبيع العلاقات معه برغم كل ما ارتكبه مع حلفائه وبخاصة جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، وما خلفته الحرب من تداعيات وآثار في سوريا ومحيطها الإقليمي والدولي.

لقد سعى الإيرانيون والروس إلى تقديم كل المساعدات والعون لنظام الأسد دون تحقيق أي نجاح. بل إن النتيجة أتت معاكسة، ويواجه النظام اليوم مجموعة انهيارات سياسية واقتصادية ومالية وادارية، لا بد أنها ستكون بين عوامل اطاحته، وهي سوف تسرع عملية سقوطه على الأقل، إن لم تحدث تدخلات كبيرة وجدية لانقاذه على نحو ما فعل حزب الله وإيران وروسيا وغيرهم مرات في الأحد عشر عاماً الماضية.

وانتقالاً من حالة نظام الأسد إلى نظام الملالي، فان إيران تواجه مشكلات عميقة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لعل الأهم في مظاهرها الهبات المتلاحقة والاحتجاجات المتكررة، والتي لا تعدم سبباً للانطلاق، ثم تتواصل وهي تفتح كل ملفات النظام وسياساته، والمثال القريب، تعبيره “الهبة الراهنة للنساء الإيرانيات”، بسبب وفاة شابة في الاعتقال لـ”خلل” في حجابها، ثم كرت السبحة، فأخذت الهبة بعداً شعبياً، شمل انحاء ايران وارتفعت الهتافات ضد سياسات النظام، وطالبت بإسقاطه، و بـ”الموت للدكتاتور” في اشارة الى المرشد علي خامنئي.

وإذا كان من غير المعروف، ان نظامي بوتين والأسد قدما أي معونة لإيران في مواجهة الهبة الشعبية، باستثناء المساندة الدعاوية- الإعلامية، فإن نظام الملالي واجه الهبة بحذر شديد مقلباً السياسات بين حد العنف المفرط الذي دأب على ممارسته منذ وصول الملالي للسلطة عام 1979، والوعد بمعالجات واصلاحات، ظهر في تطبيقاتها الاولى الطابع التلفيقي للمعالجة، بالتزامن مع الكشف عن أنيابه في مواجهة الحركة الشعبية والمناهضين لسياساته وسلوكياته، واللجوء الى اعتقالات واسعة، واصدار احكام اعدام المشاركين في الاحتجاجات.

أكبر الحلفاء وأهمهم روسيا، التي تواجه مشكلات أشد وطأة من مشكلات العهد السوفياتي البائد والتي كانت اختلاطات التنمية الاقتصادية الاجتماعية وقضايا الحريات وحقوق الإنسان أبرزها، وأهم أسباب انهيارها، وعانت منها روسيا بزعامة بوتين، وأضافت اليها، مشكلة ناتجة عن نزعات التمدد الامبراطوري سواء امبراطورية القياصرة او الامبراطورية السوفياتية المغطاة بـ”الاممية البروليتارية”، وقد بدأ بوتين رئاسته الأولى عام 1999 على وقع الحرب بالتتابع في إقليمي داغستان والشيشان الانفصاليين التابعين لروسيا الاتحادية، في أقصى جنوب غربي البلاد، واستمر في حروب طوال العقدين التاليين في جورجيا وأوسيتنيا الجنوبية وأبخازيا والقرم، ثم سوريا، حيث أعطاه تدخله العسكري والسياسي العميق فيها إحساساً بالعظمة، جعلته يتطلع نحو شرق أوروبا، فاتجه إلى أوكرانيا معتقداً أنها ستكون لقمة سائغة، تمهد له تمدداً أكبر في أوروبا.

وبدل أن تعزز نزعة التوسع سلطة بوتين، وتغطي على مشكلات سياساته الداخلية وتردياتها، فإنها فاقمت أوضاع الداخل نتيجة فشل العمليات العسكرية، وتزايد الخسائر في أوكرانيا، التي تم تصويرها بمثابة نزهة للجيش الروسي مثل معركة حلب في سوريا عام 2015، وكان من الانعكاسات الداخلية للحرب تهرب الشبان الروس من حملة تجنيد ثلاثمائة الفاُ، ودفعهم الى اتون الحرب، وتزايد موجات التنديد بسياسات بوتين، وتوالي عمليات تخريب في أنحاء مختلفة من روسيا، مازالت الشكوك تحيط بالقائمين بها.

لقد حاول حليفا بوتين في ايران وسوريا مساعدته بصورة علنية، عبر الدعم الإعلامي وتقديم إيران طائرات مسيرة، تساعده في الحرب، وإرسال نظام الأسد مجموعات من المتطوعين للقتال الى جانب القوات الروسية، لكن أثر ذلك سيكون محدوداً على نتائج الحرب.

خلاصة الأمر، أن العواصف التي تضرب التحالف الثلاثي في جملته وفي داخل كل طرف فيه، تحمل مقدمات لتحولات كبرى في واقع التحالف ولكل واحد من أطرافه، وتثبت أن هذا التحالف اعجز من ان يستمر، وان كياناته مرشحة للانهيار أو لتغييرات عميقة مؤكدة، ولعلها قريبة بالنسبة إلى نظام الأسد، ومحتملة وان احتاجت بعض الوقت بالنسبة إلى نظام الملالي. أما في موضوع روسيا، فالأمر أكثر تعقيداً، وغالباً فإن العالم بما فيه خصوم بوتين على جبهات القتال، سيذهب الى تسوية، فروسيا دولة عظمى، ليست ايران الملالي ولا سوريا الأسد.

درج

—————————–

سعال في دمشق..حمّى في طهران وموسكو/ عمر قدور

تغري لعبة المقارنة بالقول أن أحوال سوريا اليوم كأحوالها قبل قرن، أي ما يُعرف بزمن سفربرلك الذي شهد أشدّ مجاعة عرفتها البلاد. لكن هذه المقارنة باتت مجحفة جداً بحق بؤساء اليوم، فالأسلاف عاشوا أهوال تلك الحقبة في سياق حيواتهم البسيطة عموماً، وقليلة المعرفة بأحوال العالم. السوري البائس حالياً يعرف جيداً كيف يمضي العالم بلا اكتراث بمعاناته، وعندما تحضر الكهرباء يرى بعينه على الشاشات مظاهر الحياة “الطبيعية”، يرى كل ما ليس له حقّ فيه، لا لذنب ارتكبه بل فقط لوجوده في بلده.

ومن مظاهر المقارنة التي قد تحضر مع سفربرلك اقتياد الشبان السوريين قبل قرن، كمحاربين للدفاع عن السلطنة العثمانية، وهناك حكايا عن عائلات فقدت أبناءها من دون معرفة شيء عن مصيرهم وعن أي بلد لقوا حتفهم فيه. اليوم صارت العائلات عموماً أكثر معرفة بأحوال الشبان المحاربين في بلدان أخرى، مثل أوكرانيا وليبيا وأذرييجان، رغم فقدان الأخبار عن بعضهم. 

وجه التشابه هذا يستحضر معه أفول السلطنة العثمانية، ومن ثم المقارنة مع رعاة الأسد في طهران وموسكو الذين تعاني بلدانهم من ظروف بالغة السوء، خاصة بالمقارنة مع الطموحات الإمبراطورية لحكام البلدين. على ذلك، يظهر كأن السعال في دمشق هو نتيجة لحمّى الأنفلونزا في طهران وموسكو، ففي ظروف أفضل للبلدين لم يكن حال سلطة الأسد ليبلغ هذه العتبة المتردية. للتأكيد، هذا الربط لا يبرّئ حكم الأسد من المسؤولية الأولى والأساسية عمّا آلت إليه أحوال السوريين، سواء تحت سيطرته أو خارجها.

بالتشبيه مع السلطنة العثمانية، لا نذهب إلى التبشير بانهيار تام وشيك للسلطة في طهران أو موسكو، لكن ما قصدناه بالحمّى المشتدة في بلدين يحتفظ بدلالته على أحوالهما الاقتصادية على الأقل. نحن إزاء قوتين “إقليمية ودولية” بدا لعقدين على الأقل أن لهما طموحات إمبراطورية قيد التحقيق، ورأينا في المثال السوري كيف حظي توسعهما بمباركة دولية. إلا أنهما، من دون هذه المباركة تحديداً، تعودان إلى حجمهما الطبيعي كبلدين يعتمدان على النفط والغاز للنهوض بالجانب العسكري الذي يخدم هيمنة السلطة داخلياً وخارجياً.

طوال عشر سنوات تقريباً ضخّت طهران في اقتصاد الأسد حوالى ملياري دولار سنوياً، ولا معلومات عن قيمة الدعم العسكري الروسي قبل التدخل المباشر، مع ترجيح شرائه بالديْن. لقد أنفق الطرفان الإيراني والروسي مبالغ ضخمة حقاً للإبقاء على الأسد، وشهدنا تنافسهما من أجل استردادها مستقبلاً بالسيطرة على مرافق سورية حيوية. من أمثلة السيطرة على القطاعات الحيوية تلك الأخبار الواردة مؤخراً عن تبعية المشغل الخليوي الثالث للحرس الثوري الإيراني، وفي كل الأحوال فإن سيطرة طهران وموسكو على مختلف القطاعات الرابحة تمنع دخول منافسين آخرين، وتزيد من قوة الارتباط بين الحمّى في كل منهما والسعال في دمشق.

قد تزيد موسكو من حدّة الجدل في الأيام القليلة المقبلة، على خلفية رفضها التمديد لدخول المساعدات الأممية إلى الشمال السوري من معبر “باب الهوى”، وستمارس مزيداً من الابتزاز لإدخال المساعدات وتوزيعها انطلاقاً من مناطق سيطرة الأسد، أو لتقايض إدخالها بإدخال مساعدات أكبر إلى مناطقه. في كل الأحوال، تريد موسكو من الأمم المتحدة “والدول المانحة” تحمّل نفقات بقاء الأسد بإنعاشه، والموقف الروسي ليس سياسياً فقط، ولا مرتبطاً بتردي العلاقة مع واشنطن بسبب أوكرانيا؛ إنه في المقام الأول ناجم عن تدهور الاقتصادين الروسي والإيراني وانعكاسه على اقتصاد الأسد.

لا يُستبعد نجاح الابتزاز الروسي، والتهويل بحجمه إعلامياً وسياسياً، أما تأثيره الفعلي فسيكون على الأغلب ضئيلاً جداً، فوق أنه لن يكون مستداماً. ما تطالب به موسكو علناً، وتشاطرها به طهران ضمناً، أن يتبرع العالم بإنقاذ الأسد المنهار اقتصادياً، لكي يبقى معافى تحت سيطرتهما. بل أكثر من ذلك، يطمح الوصيّان إلى مشاريع إنقاذ وإنعاش مبكّر ترجع عوائدها إليهما، بحكم سيطرتهما على مفاصل الاقتصاد السوري.

ما يهمنا في التأكيد على هذا الارتباط أن الأزمة المعيشية الخانقة تحت حكم الأسد سيبقى التخفيف منها مرهوناً بتحسن أحوال الاقتصادين الروسي والإيراني، أما الشروع في حلّ مستدام لها فلن يصبح ممكناً قبل الشروع في حل سوري مستدام. لذا تفتقر إلى الواقعية الشكاوى التي راحت تظهر في مناطق سيطرة الأسد، وترى في الفساد الحكومي سبباً لتردي الأحوال، سواء طاولت الاتهامات الأسد شخصياً أو توقفت عند المستوى الوزاري.

هذه الوضعية هي استكمال لإنهاء القضية السورية، بوصفها قضية مستقلة تتطلب حلاً يراعي أسبابها وجذورها العميقة. فالقضية السورية تم تحويلها، بأدوات سورية أو من دونها، إلى محرد ملفّ من الملفات العالقة بين القوى الخارجية المتنافسة في سوريا. نحن، بسبب ذلك، أمام إنذار شديد القسوة، مفاده استمرار التدهور الحالي، أو تفاقمه، وسط عدم اكتراث القوى المتصارعة التي لا تضع في قائمة أولوياتها البؤس السوري المتفشّي. لدينا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية العديد من “الملفات” التي بقيت طويلاً بلا حل، واعتاد العالم بيسر شديد على مناظر البؤس القادمة منها، مما لا يجعلنا نتفاءل بحل قريب لمأساة السوريين. 

بالعودة إلى حقبة سفربرلك، من الملاحظ أن السلطنة العثمانية كانت في طور النهاية عندما تسببت بتلك المجاعة التاريخية، وهذا ليس المثال الوحيد على اللجوء إلى الأسوأ في طور النهاية. الاستثناء السوري الحالي هو في بقاء الأسد الذي تصرف منذ عام 2011 على أنه في طور النهاية، وهو بالمعنى العميق لم يغادر هذا الطور رغم إنقاذه من السقوط. 

أفضل السيناريوهات الواقعية حالياً أن تقدّم الأمم المتحدة مزيداً من المساعدات الإسعافية، على شكل سلال غذائية ودوائية، وهو كما نعلم خيار بلا آثار اقتصادية مديدة. وربما يكون الخيار الوحيد، لأن عودة المساعدات الإيرانية والروسية مستبعدة، أقلّه بالزخم القديم الفعّال نسبياً. مع بقاء خريطة الهيمنة الحالية سياسياً واقتصادياً، لا تصعب على أحد المفاضلة بين احتمالين؛ تلبية مطالب الأسد وحليفيه بإنعاش اقتصاده وإعادة الإعمار بأموال غربية وخليجية، أو عدم الاكتراث جديّاً ببؤس السوريين، واستنتاج أيهما أقرب منالاً.

المدن

——————————–

=================

تحديث 28 كانون الأول 2022

———————-

هل يغتال بايدن اقتصاد الأسد؟/ سميرة المسالمة

تعيد العقوبات الدولية، وبخاصة الأميركية الجديدة، على النظام السوري، بتوقيتها الحالي، الأسئلة نفسها إلى أذهان السوريين، والمتابعين للملف السوري، الذي يُفتح ويُغلق حسب الضرورات الدولية، وتداخلات الصراعات في ما بينها على قضايا خارج الحدود السورية، لكن كما جرت العادة يتم تسديد فاتورة الوفاق أو الاختلاف منذ التدخل الدولي متعدّد الأطراف على حساب الواقع السوري، ولعلّ عديداً من التساؤلات، أو الإشكاليات، تأتي من الاختلاف في تقدير انعكاسات العقوبات الفورية على النظام كحلقة ضيقة، فثمّة من يرى أنّ مثل تلك العقوبات لا تؤثّر، على النحو المطلوب، على النظام، الذي يستحوذ على موارد البلد، وعلى مداخيل إضافية لدعمه، وتمكينه من تمويل آلته الأمنية عبر أنظمةٍ على شاكلة إيران وروسيا. وثمّة من يرى أنّ تلك العقوبات لم تثبت ذاتها إزاء أنظمة استبدادية، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، أو أنّ آثارها قد تفيد، لكن بعد آجالٍ تقدّر بعشرات السنين.

من ناحية أخرى، ثمّة من يرى أنّ مثل تلك العقوبات تفيد بالتضييق على النظام، وتسهم في عزله، وفي تجفيف موارده، ما يؤدّي إلى إضعاف قاعدته الاجتماعية، وإمكان تأليب المتضرّرين عليه، وربما خنقه، أو إجباره على الرحيل، في ظروفٍ معينة، وهو ما ثبت حتى اليوم (على الأقل) أنّها غير مُجدية، وكانت سلاحاً بيد النظام لمزيد من ترهيب الناس وربط مصيرهم به. هكذا ثمّة وجهات نظر مختلفة في هذا الأمر، وهي مشروعةٌ بالطبع، وتستحق التفحص والنقاش، بيد أن المسألة الأساسية هنا لا تكمن في وضع عقوباتٍ على النظام، وزيادتها، لإضعافه وعزله وإثارة الناس ضده، في وقتٍ غاب فيه مثل أفضل صنعته المعارضة في مناطق سيطرت عليها، أو هيأت لها الدول المتدخلة عسكريا وسياسياً في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، ما يضعف احتمالية أن الوضع الاقتصادي المتردّي مرتبط فقط بوجود زمرة الأسد الحاكمة. ذلك إن الأساس (لو أرادت الدول المساندة ثورة السوريين ضد الحكم الديكتاتوري في دمشق) يكمن في العمل الجدّي لإضعافه بوسائل الضغط السياسي، بأشكاله المختلفة، وهذا يتضمّن، مثلاً، فرض مناطق أمنية أو حماية دولية، في المناطق المدنية التي تتعرّض للحصار والقصف من النظام وشريكيه الإيراني والروسي، وهذا ليس أمراً متعذّراً، ذلك أنّ الولايات المتحدة فرضت، متأخّرة، ومن طرف واحد، مثل ذلك الأمر في شرقي الفرات، كما أنّها جرّبت ذلك في دولٍ عديدة. ويتضمّن ذلك التوجّه، أيضاً، إنهاء السماح الأميركي لإيران وروسيا بالوجود العسكري في سورية، وهي غلطة كبيرة، أو سياسة مواربة، انتهجتها الولايات المتحدة في المراحل الأولى للصراع في سورية، لاستدراج روسيا وإيران لاستنزافهما هناك، وأيضاً، لإيجاد وضع يتيح لإسرائيل بيئة أمنة في سورية، على المدى الاستراتيجي.

إضافة إلى ما سبق، يتطلب هذا الوضع التسهيل على السوريين، ودعمهم، بما يمكّنهم من إيجاد كيان سياسي جامع لهم، يعبر عن تنوّعهم وتعدّديتهم واملهم في بناء سورية دولة ديمقراطية لمواطنين أحرار ومتساوين، وهو الأمر الذي جرى تعطيله، ليس بسبب عدم أهلية من تصدّى لذلك من كيانات معارضة سورية، وإنما، أيضاً، بسبب المداخلات العابثة والمؤذية التي تعمّدت التخريب على ذلك من أطراف دولية وإقليمية.

في ما يخصّ العقوبات، ربما يفيد التذكير بأنّ ثمّة عقوبات أميركية على النظام السوري، قبل إصدار “قانون قيصر” وبعده، وكان يجرى تجاوزها تارّة بالاستثناءات، وتارة بغض الطرف وفق مصالح دولية وإقليمية، حيث تطبيقه كاملاً كان سيمنع التقارب مع النظام على عكس مجريات ما حدث من انفتاح عربي ودولي على النظام، وقانون مكافحة شبكات الكبتاغون، الذي وقعه الرئيس بايدن نهاية الأسبوع الفائت، والمتهم بالمتاجرة بهذا المخدّر أفراد متنفذون في النظام السوري وصولاً حتى رأسه، في محاولةٍ لاجتثاث منابع تغذية اقتصاده من جهة، وإرضاء دول الجوار “المتضرّرة” من جهة أخرى، ربما هو وسيلة جديدة أيضاً للضغط على داعميه الدوليين في وقتٍ تعاني روسيا فيه من حربها التي طالت ضد أوكرانيا، وتعاني إيران من تداعيات سلوكها الاستبدادي، ما يعني أنّ العقوبات بنصوصها، ما لم تهدف إلى توظيفها بالشكل الذي يحقق غايتها، تبقى مجرّد إجراءٍ هدفه الحقيقي ليس الضغط على النظام السوري، بل هي أداة جديدة من أدوات الابتزاز بين الدول المتصارعة خارج الحدود السورية، وتحديداً التلويح لروسيا وإيران بصفقات تفاوضية تخصّ ملفاتها الحربية والنووية.

أيضاً، ثمة إجراءات جديدة، أو تعديلات، على لوائح قانون العقوبات، ربما تكون هي الأشدّ حالياً، اتخذتها الخزينة الأميركية، أخيراً، لوضع حد للالتفاف على العقوبات المفروضة على النظام السوري، والتي مكّنته حتى من الاستفادة من المعونات الإغاثية المقدّمة للسوريين اللاجئين، أو الذين يواجهون صعوباتٍ في المناطق المحاصرة، بحيث باتت أيّ شركة أو شخص يشارك أو يساهم مع جهة خاضعة للمعاقبة، عرضة للعقوبات، بغضّ النظر عن نسبة المشاركة، بعدما كان سابقاً لا يتضرّر إذا كانت نسبة مشاركته أقل من 50%،  وهذا يشمل مشروع إيصال الطاقة من مصر والأردن إلى لبنان عبر سورية، وكذلك المساهمة الإماراتية أو الكويتية أو غيرها في الشركات السورية الخاضعة أو أصحابها للعقوبات.

منذ عام 1980 وسورية على قائمة العقوبات، لأسبابٍ مختلفة، أشهرها “قانون محاسبة سورية، واستعادة السيادة اللبنانية” (ديسمبر/ كانون الأول 2003)، في شأن ما اعتبرته الولايات المتحدة دعماً سورياً للإرهاب، ولإنهاء الوجود السوري في لبنان، ووقف تطوير سورية أسلحة دمار شامل، ووقف استيراد سورية غير المشروع للنفط العراقي، وإنهاء شحنات غير قانونية من المواد العسكرية إلى القوات المعادية للولايات المتحدة في العراق.

للتذكير، أدّت تلك العقوبات إلى تدنّي قيمة الليرة السورية، بشكل كبير، وتدهور أحوال القطاعات الاقتصادية، وتضاؤل المبادلات التجارية (الصادرات والواردات)، وحرمان سورية من السلع والتقنيات اللازمة لصناعاتها المحلية، وفرض حصار أو عزل على حركة المواصلات إلى الخارج، وعلى تبادل الأموال والمعاملات البنكية، لكنّها لم تنل من النظام السوري، ولم تقلل من حجم ثرواته، بل كانت وسيلة جيدة للاختباء خلفها وتبرير فساد حكوماته وفشل سياساته.

العربي الجديد

————————-

لا للمخدرات=لا للأسد!/ عمر قدور

ليوم الاثنين الثالث على التوالي، بعد الأحد الدامي، شهدت ساحة السير “الكرامة” وسط مدينة السويداء اعتصاماً سلمياً نفّذه عشرات الناشطين. اللافتات المرفوعة في الاعتصام حمل بعضها شعارات من نوع “تُحرس الأوطان بكرامة الإنسان”، وحمل البعض الآخر مطالبات من قبيل “أنقِذوا أطفالنا من الجوع والمخدرات”، وصولاً إلى المطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 الخاص بسوريا. مع الإصرار على الاستمرار في الاعتصامات، وعلى طابعها السلمي، من الواضح أن اللافتات تتدرج مما هو مطلبي معيشي، لتصل إلى المطالبة بتغيير النظام.

ربما سيصير في حكم المعتاد أن نشهد، في تظاهرة مناوئة للأسد كما حدث يوم الاثنين، لافتةً هذا نصّها: لا للمخدرات ولا لعصابات الكبتاغون وترويجه. ولن يكون من المستغرب أن يكون هذا واحداً من أشدّ المطالب جذرية، أو أن يتعرض حامل اللافتة إلى التعامل الأقسى فيما لو داهم عناصر المخابرات المظاهرة. فالقول لا للمخدرات صار مساوياً القول لا للأسد، ولا يُستبعد ضمّه إلى أدوات المؤامرة الكونية المزعومة على الأسد بما أن الرئيس الأمريكي وقّع مؤخراً ميزانية وزارة الدفاع لعام 2023 التي تتضمن قانوناً لمحاربة الكبتاغون الذي تصنّعه سلطة الأسد.

على سبيل المثال، أشارت صحيفة لوفيغارو الفرنسية إلى ضبط سلطات الجمارك في بلدان المرور والاستهلاك 250 مليون حبة كبتاغون خلال الشهور الثمانية الأولى من هذا العام، ولنا بناء على ذلك تخيّل العدد المهول من الحبوب المصنَّعة. كانت تقارير أخرى قد أوردت “خاصة خلال آخر سنتين” أرقاماً فاحشة عن إيرادات تجارة الكبتاغون، ولا يُعرف كيف تُصرَف مليارات الدولارات تلك، بما أن الأوضاع المعيشية المتردية تحت سلطة الأسد تشير إلى إنفاقها في نشاطات أخرى. 

تمرير القانون في الكونغرس وتوقيع بايدن عليه هما ثمرة أتت بعد فشل محاولات مماثلة في الكونغرس نفسه لتمرير تشريع منفصل خاص بكبتاغون الأسد، لكن المصادقة الأخيرة لها جانبها المعنوي، قبل ظهور نتائجها الاقتصادية. والجانب المعنوي هو ما نتوقف عنده أيضاً، إذ “بلا مبالغة” يجوز القول أن الأسدية انتهت إلى تجارة الكبتاغون فيما يشبه إعلاناً منها عن إفلاسها.

في حقبة مضت، كانت سلطة الأب قد اتُهمت أمريكياً بالإشراف على زراعة وتصنيع المخدرات في البقاع، جنباً إلى جنب مع تزوير الدولارات. حينها كان يمكن “مع تصديق الاتهامات” النظر إلى تلك الأنشطة في إطار إزعاج واشنطن، أو مساومتها سياسياً، وكان بيت القصيد هو الأذى الذي يسببه تزوير الدولارات وتجارة المخدرات، لا العائد المالي منهما. بصياغة أخرى، بالكاد أخذت تلك الاتهامات حيزاً من الانتباه، ولم يكن الذين صدّقوها ينظرون إلى الأب كتاجر مخدرات أو مزيّف عملة، ففي أسوأ الأحوال كان يُنظر إلى تلك الأنشطة كأدوات “قذرة” في صراع سياسي.

هناك هوة شاسعة بين كون تجارة المخدرات أداة سياسية، أو من أدوات شراء الولاء، وبين كونها النشاط الأهم للسلطة. كنا أيضاً شهدنا شراكات بين بعض مستويات السلطة وتجار مخدرات سوريين معروفين، وأثمرت الشراكة عن وصول البعض منهم إلى عضوية مجلس الشعب. مع ذلك لم يكن هذا هو الطابع العام للسلطة، ولم تكن المعارضة حينها “على ضعفها وقلة أفرادها” تضع موضوع وقف تجارة المخدرات في قائمة مطالبها أو تمنياتها كما يحصل حالياً في اعتصامات السويداء. 

كانت السياسة أو الشعارات لعقود هي التجارة الأهم لسلطة الأسد، فالأب قدّم انقلابه بديلاً معتدلاً ومنفتحاً عن رفاقه اليساريين، واستعار لهم من قاموس الماركسية نفسه وصف “الطفوليين اليساريين”. ثم، بدءاً من المواجهة مع الإخوان استعاد وراح يحتكر شعارات العداء لأمريكا، أما سيطرته على لبنان فشجّعته على طرح نفسه زعيماً قومياً عريياً، والتركيز على أحقيته بالزعامة مقارنةً مع رؤساء عرب آخرين.

مع فهمنا العميق لهاجس الإمساك بالسلطة، كان لدى الأسدية في مختلف الأوقات ذلك الادّعاء السياسي الذي يجمّله، من القومية العربية إلى الممانعة.. إلخ. وحتى مع إلحاح هاجس التوريث جرى البحث عن مشروع ما للوريث، فصُنعت أولاً صورة باسل بوصفه نسخة شبابية من أبيه، ثم صُنعت على عجل صورة شقيقه العائد من الغرب، مع وعد الانفتاح بعد عقدين من العزلة. كان لا بدّ من التزيّن بمشروع سياسي، مهما تدنّت مصداقيته، لتمرير التوريث البيولوجي.

بالقفز إلى عام 2011، اختصر الوريث مشروعه بما أشيع آنذاك عن كونه حامياً للأقليات، وهو مشروع متدنٍّ جداً على الصعيد المفهومي، وعلى صعيد الجمهور المستهدف. قد يكبر هذا الجمهور خارج سوريا، خاصة بعد أن تُضمّ المفاضلة الشهيرة “الأسد أو داعش”. لكن، مهما قلنا فيه، يبقى للمشروع الطائفي جمهوره، بل شهدنا خلال سنوات ارتفاعاً لمنسوب الخطابات الطائفية في عموم المنطقة، وعلى ذلك كان الأسد جزءاً من السياق العام لتلك المشاريع والأحلاف.

مع التدخل العسكري الروسي لصالحه، حاول إعلام الأسد تسويق الأخير شريكاً لموسكو من أجل عالم جديد متعدد الأقطاب، إلا أنها كانت بمثابة طرفة عابرة أجهز عليها بوتين ومسؤوليه الآخرين وإعلامه بالإهانات التي وجّهوها للأسد. عند هذه النقطة، ومع فقدان كل ما هو سيادي لصالح موسكو وطهران، أصبحت سلطة الأسد عارية من أي مشروع سياسي تتجمّل به، وتتهرّب عبره من واجباتها الأساسية تجاه محكوميه، أي على منوال ما فعلته خلال خمسة عقود.

أن يذهب شعار “لا للمخدرات” إلى صميم سلطة الأسد؛ هذا ليس بتفصيل أو جانب من جوانبها، هو بقدر ما يختزل مآلها فإنه يختزل جمهورها إلى تلك الحلقة الضيقة المستفيدة من هذه التجارة، أو من نشاطات أقل ربحاً مرتبطة بالعسكرة والتشبيح. وربما من الجيد، إلى جانب انحطاط هذا المآل غير المفاجئ، أن نلاحظ عدم حاجة السلطة إلى تقديم أي خطاب سياسي لجمهورها المفترض، بما أن بقاءها بات مرهوناً أولاً وأخيراً بالأجنبي. ربما يجدر القول أن سلطة لا تجد نفسها مطالبة بتقديم مشروع سياسي، مهما كان كاذباً، لن تجد نفسها مطالبة بتأمين الحد الأدنى من الخبز لمحكوميها. لذا، قد لا يكون بعيداً اليوم الذي يتكاثر فيه السوريون، في مناطق سيطرة الأسد، وهم يرفعون “في مشهد يختصر مطالبهم بالخلاص” شعارَ: لا للمخدرات.

المدن

——————————-

هل من حلّ في أوكرانيا؟ وماذا عن سورية؟/ عبد الباسط سيدا

المقارنة بين الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب التي شنتها السلطة الأسدية على السوريين المناهضين لاستبدادها وفسادها وإفسادها مشروعة، بل وضرورية. ويمكن إجراء هذه المقارنة من جهة الأسباب والأبعاد والمواقف الدولية والإقليمية والمحلية، إلى جانب التبعات والنتائج المباشرة والمستقبلية، المنظورة منها والمحتملة.

من بين الأسباب التي تجمع بين الحربين الاصطدام العنيف بين نزوع المستبد نحو التحكّم والسيطرة؛ ورغبة الضحايا في الحرية والكرامة ومستقبل أفضل للأجيال المقبلة. وما يضفي أهمية خاصة، إن لم نقل جاذبية، على هذه المقارنة، العامل الروسي المشترك بين الوضعين الأوكراني والسوري، فروسيا في الحالة السورية ساندت سلطة بشار الأسد عسكريا منذ البداية، وغطّتها سياسياً في مجلس الأمن، وعملت على المستوى الإقليمي لتأمين الحماية للسلطة المعنية عبر التعاون مع إيران، وإدخال المليشيات التابعة لهذه الأخيرة إلى سورية، وعقد التفاهمات، في الوقت ذاته، مع الجانب الإسرائيلي، وتقديم الضمانات المطلوبة منه. وأذكر في هذا المجال أنّنا في لقائنا مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافرورف، في صيف عام 2012 ضمن إطار وفد المجلس الوطني السوري، قلنا له صراحة: إنّ روسيا تتحمّل المسؤولية الأخلاقية والقانونية في تزويد سلطة بشار الأسد بالأسلحة التي تقتل السوريين… وكان جوابه أنّهم يلتزمون بالعقود القديمة. فكان ردّنا عليه: ولكنّ بشار الأسد اليوم يخلّ بتلك العقود، فهو يستخدم هذه الأسلحة لقتل السوريين، لذلك لا بد من إعادة النظر في الموضوع… ولم نحصل سوى على الصمت جواباً. 

لم يبدأ التزام موسكو بالمحافظة على سلطة بشار مع التدخل العسكري الروسي المباشر الذي كان في 2015، وإنما منذ اليوم الأول لثورة السوريين على السلطة المستبدّة الفاسدة المفسدة، بل ربما قبل ذلك وهذا هو الأرجح. في حين أنّ مجموعة أصدقاء الشعب السوري اكتفت بالشعارات، وبدعم مادي وعسكري محدوديْن لم يسهما في أيّ تغييرات نوعية على أرض الواقع. وفي هذا السياق، قد تكون مفيدة الإشارة إلى زيارتنا في خريف عام 2011 إلى نيويورك ضمن وفد المجلس الوطني السوري، حيث أجرينا لقاءات مع دول شقيقة وصديقة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان لنا لقاء مع سوزان رايس التي كانت مندوبة الولايات المتحدة في المنظمة الدولية. وتبين لنا أنّ الإدارة الأميركية لم تكن مستعدة لتقديم الدعم المطلوب للسوريين، رغم تصريحات كانت تُؤكّد ضرورة احترام إرادة السوريين وتطلعاتهم. مع العلم أنه كان قد مضى، حينئذٍ، على انطلاقة المظاهرات والاعتصامات السلمية في مختلف المدن والبلدات السورية نحو ثمانية أشهر تقريباً، تعرّض خلالها المتظاهرون للقتل والاعتقال؛ كما ارتُكبت جملة مجازر بغرض إرهاب الناس، وثنيهم عن التفاعل مع الثورة. وكان من الواضح أن الاستراتيجية المعتمدة من النظام تركّز على إلصاق تهمة الإرهاب بالثورة، وتشكيل انطباع زائف لدى الراي العام السوري والعربي والدولي مفاده بأن ما يجري في سورية إنما هو صراع بين السلطة “العلمانية حامية الأقليات” و”مجموعة من المتطرّفين الاسلامويين”، وذلك لوضع العالم أمام خيارين فاسدين: الاستبداد والاستقرار المفروض بالحديد والنار، أو الإرهاب المصطنع والفوضى الوظيفية المنظمة.

شرحنا لرايس مضمون استراتيجية السلطة الأسدية، وبيّنّا لها أنّ لدى هذه السلطة تجربة طويلة في ميدان استخدام سلاح الجماعات الإرهابية لتسويق نفسها ضحية الإرهاب؛ وهي سلطة خبيرة بتقديم نفسها، في الوقت ذاته، قادرة على مواجهة الإرهاب وتفكيكه. وكان رأينا أنّ مثل هذا الإرهاب سيجد التربة الخصبة طالما أن السلطة مستمرّة في ممارسة القمع المتوحش بحق السوريين، والمجتمع الدولي مستمرٌّ في صمته اللافت؛ لا يحرّك ساكنأ في مواجهة ما يتعرّض له السوريون. 

وفي لقاءات أخرى مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين، أكّدنا مراراً وتكراراً أن ما يحصل في سورية سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار والأمن الإقليميين، فسورية دولة مفتاحية في المنطقة، وما يجري فيها يؤثر مباشرة في العراق ولبنان ومنطقة الخليج. واستمرّ التصعيد، كما استمر تجاهل المخاطر، وحصل الروس في سورية على دور محوري عبر التفاهم مع الغرب وإسرائيل والإيرانيين. مع العلم أن روسيا، في ذلك الحين، لم تكن قد أصبحت روسيا التي أرادت ابتلاع أوكرانيا في أيام، ولا التي تطالب اليوم بنظام عالمي جديد ، تحظى فيه إلى جانب الأنظمة الاستبدادية الأخرى بدور فاعل في مختلف بقاع العالم.

ولبلوغ ذلك، لم تكتف روسيا  بدعم الأنظمة الاستبدادية وحدها، بل شجّعت أيضا التيارات اليمينية المتطرّفة في الغرب ودعمتها، وراهنت، وتراهن، على الثغرات التي تعاني منها الأنظمة الديمقراطية، خصوصا في أجواء تنامي النزعة الشعبوية، وغياب القادة الأوروبيين ممن كانوا يجسّدون في مواقفهم وسياساتهم مبادئ إنسانية، ويشدّدون على أهمية ضمان مقوّمات العيش الكريم لسائر الناس من دون أي تمييز.

واستمرّ قتل السوريين وتهجيرهم، وتوجهت قوافل المهاجرين قسراً نحو أوروبا، الأمر الذي أدّى إلى تداعيات سياسية داخلية، نجم عنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإلى تنامي النزعات اليمينية المتطرّفة في إيطاليا وفرنسا والمجر والسويد وغيرها. وأعلنت التيارات المعنية بوضوح عن مواقفها المناهضة لتزايد عدد المهاجرين، كما ارتفعت حدّة الإسلاموفوبيا التي استفاد مروّجوها من ممارسات (وتصريحات) مهاجرين ممن اعتمدوا الإسلاموية أداة تعبوية في أوساط المهاجرين المسلمين في الدول الغربية. 

وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتكشف عن نزوع واضح لدى حكم بوتين نحو محاولة استعادة تحكّم روسيا بالدول التي تعتبرها ضمن دائرة مجالها الحيوي، وفي المقدمة منها أوكرانيا. ولكن ما حصل في أوكرانيا أن بوتين أصطدم بموقف غربي متماسك قوي رافض لمشروعه الإمبراطوري. وقد تجسّد الموقف الغربي هذا في نهج فرض العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا، وتزويد أوكرانيا بأحدث أنواع الأسلحة والتقنيات الضرورية، والمعلومات الاستخباراتية، والدعم المالي الضخم، لتكون قادرة على مواجهة الغزو الروسي، والصمود أمامه؛ على عكس ما كان عليه الحال في سورية. وبعد أشهر من الضغط الروسي المستمر، تغيرت الموازين على الأرض، واستعاد الأوكرانيون عبر الهجمات المعاكسة مساحاتٍ واسعة من أراضيهم التي كان الجيش الروسي قد احتلها وضمّها بأساليب استفزازية عنجهية، الأمر الذي أثار تساؤلات كثيرة بشأن إمكانات روسيا الفعلية، ومدى تحمّلها عمليات الاستنزاف التي تعرّضت، وتتعرّض، لها.

ولتجاوز نتائج تراجعاته، لجأ بوتين إلى تكتيك آخر سبق له أن جرّبه في الشيشان وسورية، تكتيك التدمير والترويع باستخدام الصواريخ والطيران. وفي إطار هذا التكتيك، جاء قرار تعيين الجنرال سيرغي سوروفيكين قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا، وهو الذي عُرف باعتماده العنف المتوحش في سورية، وقبلها في الشيشان. ولم يكتف بوتين بذلك، بل دعا أيضاً إلى الاستفادة من خبرة العسكريين الذي كانوا في سورية، وهدّد باستخدام صواريخ فتاكة جديدة، وأشاد بالمسيّرات الإيرانية. وقد ألحقت الحرب الروسية على أوكرانيا، وستلحق إذا ما استمرّت، أشد الأضرار بالشعبين الأوكراني والروسي، بل والشعوب الأوروبية وشعوب العالم بأسره نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وانعكاسات ذلك على مختلف أوجه الحياة. ولذلك من الأفضل للجميع البحث سريعاً عن الحلول الممكنة التي من شأنها وضع نهاية واقعية لهذه الحرب المدمرة.

هل سيرضخ بوتين، في نهاية المطاف، لمنطق العقل، ويبدي استعداده الفعلي للإسهام في الوصول إلى حلٍّ ينهي محنة الشعبين، الروسي والأوكراني، ويطمئن الشعوب الأوروبية، ويبعد البشرية عن هواجس أفظع الكوارث، خصوصاً بعد ظهور إشارات أوحت باحتمالية وجود مقترح أوكراني للحلّ الممكن مع روسيا، ربما حمله معه الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، إلى واشنطن في زيارته قبل أيام؛ وهي إشارات تتكامل مع تصريحات أميركية سابقة عن استمرارية الاتصالات مع الجانب الروسي بخصوص الموضوع نفسه، وحتى مع تصريحاتٍ ضبابيةٍ روسيةٍ في الموضوع ذاته؟ هذا رغم الوعود الأميركية بتقديم مزيد من الأسلحة النوعية لأوكرانيا، بما فيها منظومة الباتريوت، ومزيد من الدعم المالي، إلى جانب وعود دول مجموعة السبع، وذلك مقابل التهديدات الروسية التي توحي بالإحباط قبل أي شيء آخر، باستخدام أنواع متطوّرة جداً من الأسلحة الفتاكة ضد الأوكرانيين، والتلويح حتى بالأسلحة النووية التكتيكية.

كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا، التي تقترب من نهاية عامها الأول، عن عقد كثيرة مكبوتة لدى الجانب الروسي الذي يشعر بالتضاؤل المستمر في حجمه ودوره مقابل التماسك الغربي، وتنامي النزعة البراغماتية في الجانب الصيني الذي من الواضح أنه اكتشف أن سر قوته يكمن في مد الجسور الاقتصادية والثقافية بعيداً عن الحروب التدميرية التي تهدّد بتحويل كلّ الإنجازات الحضارية إلى كومةٍ من الرماد في طرفة عين.

وتبقى الأسئلة المشروعة: ما موقع سورية من أي اتفاق محتمل حول الموضوع الأوكراني؟ وماذا عن خطر النظام الإيراني المستمرّ على دول المنطقة وشعوبها، بل على الشعب الإيراني نفسه، بعد أن تبين للعالم أجمع أبعاد الدور الإيراني في دعم العدوان الروسي على أوكرانيا؟ هل سيُنظر إلى الحرب الروسية على أوكرانيا بأنّها من نتائج تجاهل العالم لعدوانها على الشعب السوري؟ أم سيستمر التجاهل ليستمر العدوان؟ أسئلة مفتوحة تلخص مخاوف (وتطلعات) شعوب المنطقة التي عانت الأمرّين من الصراعات والحروب وقتامة المستقبل.

العربي الجديد

————————–

هل ثمة مستقبل لسوريا التي نعرفها؟/ د . منير شحود

يكفي أن ترى الأدوات التي يستخدمها أي حرفيّ أو بنّاء، لتخمِّن إن كان بوسعه القيام بعمله المفترض وبأية درجة من الاتقان. ولو طبقنا هذا المبدأ في ميدان السياسية، يمكن أن نستشرف إمكانية نهوض سوريا من جديد، ليس كما كانت عليه بالطبع، ولكن كدولة حديثة يسودها القانون. فماذا لدينا من سياسيين ومشاريع سياسية من أجل ذلك؟ الجواب حالياً، وببساطة، لا أحد ولا شيء. لكن ثمة ممكنات ولو ضئيلة، وهذا ما يجعلني ألاحق بصيص الأمل، قبل أن أكسر قلمي وأستريح!

تختلف سوريا المنهارة عن غيرها من الدول التي مرت بظروف مشابهة، بأنها لا تمتلك خريطة طريق تجعل الخروج من هذا الخراب مسألة وقت، فلا القوى القديمة، الحاكمة أو المعارضة، أثبتت أن لديها ما تقدمه بهذا الخصوص، والواقع يشهد على ذلك، ولا توجد قوى ثالثة تمتلك مشاريع جاهزة للتصدي لضرورات التغيير، مدفوعة بإرادة شعبية قوية. كما أن القوى الفاعلة في هذا العالم لا تبدو معنية بما يحدث، إلا بما يلامس مصالحها الخاصة.

وفي كل الحالات، لا عذر لهؤلاء الذين ارتضوا الاستقواء بالأجنبي والتبعية له، ولا يزالون يتكلمون بما يفرِّق، وأولئك الذين استخدموا ويستخدمون أدوات طائفية أو قومية أو فئوية، ويتبادلون الحديث عن المظالم التاريخية والمستجدة، ليس بهدف استخلاص الدروس، إنما ليجتروها ويتقاذفوها ككرة الطائرة.

لا نعذرهم لأنهم يدعوننا للغرق أكثر فأكثر في المستنقع السوري، بعيداً عن وطن ما زلنا نحلم به. لكن، وقبل أن نخطو في اتجاه الوطن، الحلم، لا بد من مراجعة بعض الأكاذيب التي صدقناها أو أُجبرنا على ذلك!

الكذبة الأولى، الأشهر والأعم في منطقتنا، هي أن الاستعمار وإسرائيل سبب تخلفنا، كأننا كنا في ازدهار ونعيم وجاء من يحطم حضارتنا وقيمنا! في الواقع، لم نكن نمتلك غير عصبيات موروثة يعود بعض جذورها إلى الصراع القيسي – اليماني، ولم نمتلك الإرادة يوماً لتغييرها بما يساير الحاضر ويتطلع نحو المستقبل، وقبلنا أن نعيش على فتات الآخرين، من لباس البالة إلى التقنيات المفصولة عن أدمغتنا العاجزة حتى عن التقليد، فماذا لو فكرنا بأن نستفيد من أعدائنا ونقلدهم في إنجازاتهم، ونحاربهم بأسلحة العلم والمعرفة، عوضاً عن سيوفنا الصدئة التي لم تربح معركة واحدة؟

الكذبة الثانية هي أن الماضي يمكن أن يعود، أو أنه يصلح لحياة هذه الأيام، باسم الشرائع وغيرها، فكيف لثبات أن يعبِّر عن تدفق نهر الحياة؟ لنتذكر، من الناحية الاجتماعية، كيف تم إجهاض قانون الأحوال المدنية ذي الصلة باتفاقية 1936 بين سلطة الانتداب والحكومة السورية، والاستعصاء الذي ما زال سارياً حتى الآن في هذا المجال، نتيجة إغلاق باب الاختيار، وقد سفّهنا شعار “الدين لله والوطن للجميع” بجهلنا وتعصبنا، فبقينا قبائل وطوائف وأديان وإن سكنا في أحياء مختلطة. أما السياسة، فلم نفهمها مصالح وإنجازات، وهللنا لكل زعيم، حتى قدمنا بلدنا للاستبداد على طبق من ذهب.

الكذبة الثالثة هي أن سوريا المتنوعة، بيئياً وبشرياً وثقافًة وأدياناً، يمكن أن تُحكم مركزياً وحسب. أليس من اللافت أن رفض الاعتراف بخصوصية ثلاث مناطق سورية، المنطقة الساحلية وجبل العرب والجزيرة السورية، وصولاً إلى ضمها قسراً من قبل حكومات الكتلة الوطنية بعد الاستقلال، أن هذه المناطق قد عادت لتعبر عن فرادتها بصورة ما بعد انفجار عام 2011، فضلاً عن نشوء كانتونات جديدة؟

الكذبة الرابعة هي الاعتقاد بأن الاستبداد والقمع يمكن أن يبني أوطاناً قابلة للحياة. فلو وجد المرء نفسه في مأزق وضاع طريق الحل أمامه، يمكن أن يستعين بأي مدّعٍ ليجرب حظه في إنقاذه. هذا ما فعله السوريون في عام 1958 بلجوئهم إلى عبد الناصر، وحين فطنوا بأنهم وقعوا في الفخ، انقلبوا عليه. لكن، ولأنهم لم يمتلكوا برامج لحل المشاكل الوطنية العالقة والملحة، وأهمها تنمية الريف والإصلاح الزراعي، جاء انقلاب البعثيين وحلفائهم الناصريين بتلك السهولة عام 1963، ليتابعوا عهد الوحدة المشؤوم، سياسياً واقتصادياً. ثم تتابعت التصفيات الداخلية في تموز 1963 وفي 1966 و 1970، وصولاً إلى ترسيخ حالة الاستنقاع وعبادة الفرد وتعميم القمع وإضاعة فرص التغيير وانفجار البلد.

مئة عام مضت من دون مشروع للتغيير قابلٍ للحياة في المنطقة عامة وسوريا خاصة، قرن من الزمن تكررت خلاله الأزمات والكوارث، والجميع مغتبطون بـ “نعمة” لا وعيهم، شعوباً ونخباً، ينتظرون منقذاً من الأرض والسماء ولا يأت، لتعود التناقضات والعصبيات بصورة أمرّ وأقسى مما كانت عليه، وبتعبيراتها الأكثر دموية بعد 2011.

إن مفتاح الحل هو الاعتراف بأن مشاكلنا داخلية وحلها بالأساس من الداخل، لكن بأدوات عصرية، على أن يتم توظيف كل العلاقات والمساعدات الخارجية لخدمة هذا النهج، حينئذٍ، نكون قد امتلكنا مشروعنا الخاص. أما الحديث عن المؤامرات والتدخلات والاحتلالات، قبل الاعتراف بمسؤوليتنا عما حدث، فمكانه سلة مهملات التاريخ المليئة بها.

عام آخر ينقضي وقد تحولت أحلام السوريين إلى أنقاض، ولا أمل يلوح في الأفق. لكن الأمور لن تبقى على حالها، ومساهمتنا فيها هو ما يجعلها تغييراً يمكن أن يكون في صالح بلدنا وخير أهله، حتى لا تنتهي أعمار أبنائنا وهم ينتظرون، كما ضاعت أعمارنا في الانتظار. وعسى أن يكون العام القادم أفضل حالاً للسوريين وللبشرية جمعاء.

—————————-

لا أفق لمصالحة سورية – تركية/ خيرالله خيرالله

مشاكل بشار الأسد تكبر كل ساعة فهو أصبح اليوم “جنرال نورييغا” القرن الحادي والعشرين بعدما صار متّهما بتزعم نظام مصنّع للمخدرات ومروّج وداعم لها في دول الإقليم والعالم.

تروّج دمشق عبر محلليها ومسؤوليها أن الرئيس رجب طيب أردوغان مستميت لمصالحة بشار الأسد وأن المستقبل السياسي لأردوغان وتركيا، كدولة، مرتبطان بتنازل بشار الأسد وقبوله عقد لقاء مع الرئيس التركي.

ثمة أمور في حاجة إلى إيضاح بعيدا عن المبالغات. سياسيا، سيفرض الصلح مع أنقرة على النظام السوري الإعلان رسميا الاعتراف باتفاق أضنة الذي علم الشعب السوري بوجوده عن طريق الإعلام الخارجي. بناء عليه، سيضطر نظام بشّار الأسد إلى الإعلان رسميا أمام “جمهوره” أن “القائد الخالد”، على العكس ممّا يروج له، تخلى رسميا منذ سنوات طويلة عن لواء الإسكندرون لـ”المحتل التركي”. كيف ستبرر دمشق ادعاءات تحرير كل شبر من الأراضي السورية من الاحتلال التركي، ودمشق محكومة من قبل النظام نفسه الذي تخلى عن تلك الأراضي بموجب اتفاق وقّعه من أجل وقف تهديد الاجتياح التركي لشمال سوريا في العام 1998 في ظلّ وضع جيوسياسي شبيه بالوضع القائم اليوم.

في أحسن الحالات، سيفرض تجديد اتفاق أضنة الحق المعطى للجيش التركي بدخول الأراضي السورية بعمق 30 إلى 35 كلم لملاحقة “إرهابيي” حزب العمل الكردستاني. بكلام آخر، سيتخلى النظام رسميا عن أراض سورية جديدة من خلال صراعه المستميت للبقاء على كرسي الحكم في دمشق. يأتي ذلك، في وقت يوجد الجيش التركي حاليا، عبر المعارضة السورية في الشمال السوري في العمق المطلوب من تركيا.

لا يختلف عاقلان على أنّ للرئيس التركي أطماعا وأهدافا سياسية شخصية تتمثل في دخول اللعبة السياسية الدوليّة. لذلك نراه يتوسط بين روسيا والغرب في أوكرانيا.

يبدو الحل السياسي للأزمة السورية المستمرة منذ أحد عشر عاما أحد تلك المداخل المهمة التي يريد أردوغان ولوجها. ستفرض أنقرة على دمشق، من ضمن ما يسمّى المصالحة، في حال حصولها، شروطها السياسية المتعلقة بالملف السوري، وأهم تلك الشروط تطبيق القرار الدولي 2254.

يأتي ذلك في وقت تبدو فيه أنقرة مصرّة على مشاركة المعارضة في الحكم عبر عملية سياسية تصل إلى التغيير الكامل في شكل النظام السوري وهيكله.

يعلم بشار الأسد وأفراد الحلقة الضيقة المحيطة به أن القرار 2254 هو بمثابة الفخ الذي نصب له عبر تفاهم روسي – أميركي آنذاك. أجبرت موسكو بشار الأسد على القبول بالقرار. لكنّ  بشار الأسد نجح في التهرب منه من خلال ممارسة ألاعيب سياسية استوعب من خلالها بحنكة وزير خارجيته الراحل وليد المعلم والمبعوثين الدوليين ستيفان دي ميستورا وغير بيدرسون من بعده، عبر إغراقهما بالتفاصيل، والانخراط في “سلال دي ميستورا”، ومتاهات اللجان الدستورية، ولقاءات لا تنتهي للمجتمع المدني…

على الرغم من كل تلك الألاعيب، تجد سوريا نفسها تغرق اليوم في الجوع والبرد والفقر في أزمة اقتصادية لم تشهد لها مثيلا. تشكل الأزمة الراهنة أكبر خطر وجودي على البلد في حدوده الراهنة منذ اتفاق سايكس – بيكو.

إضافة إلى ذلك، يعلم بشار الأسد والحلقة الضيقة المحيطة به أن بوتين  أصبح أضعف من أن يفرض أي قرار أو أي تغيير. الرئيس الروسي  يحتاج اليوم، في ضوء ورطته الأوكرانيّة، إلى بشار الأسد كي يحافظ على ما حققه من خلال التموضع في شرق المتوسط.

بالعودة إلى المصالحة، فأنقرة تصر على العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلدهم. هذه العودة سمتها أنقرة في شهر آب – أغسطس الماضي “مناطق تجريبية” في دمشق وحمص وحماة. هذا ما يرفضه بشّار شخصيا من منطلق أن المجتمع السوري أصبح “متجانسا” بخروج هؤلاء السوريين من مناطق سيطرته. ثمّ  كيف سيستطيع النظام السوري المفلس أن يقدم أبسط الخدمات إلى العائدين من تركيا ولبنان، وهو حاليا عاجز تماما عن دفع قسم من مستحقات ذوي قتلى الشباب العلويين ومداواة جرحاهم وتوفير التدفئة والغذاء بأقل حدودهما لأهل بيئته الذين ماتوا وأصيبوا دفاعا عن النظام؟

هناك عنصر مهم آخر لا يمكن تجاهله. يتمثل هذا العنصر في أن إيران التي تسيطر على قرار بشار الأسد لن تقبل أي مصالحة أو عملية سياسية تودي إلى عودة السوريين إلى ديارهم التي هجّروا منها. إن عودة الملايين من السنة إلى مناطقهم، كما تريد أنقرة، سيفشل مشروع التغيير الديموغرافي الذي رأى النور عبر تهجير ثمانية ملايين سوري سني إلى خارج سوريا وتهجير سبعة ملايين آخرين داخليا بما سهّل على إيران استكمال فتح طريق طهران – بيروت عبر العراق وسوريا.

إضافة إلى ذلك، تروّج جهات تابعة للنظام السوري أن تركيا ستقدم بعض الخدمات إلى سوريا مثل الكهرباء وفتح المعابر التجارية لفك الحصار الدولي في حال المصالحة. هذه مجرّد أوهام. الدليل أن  كل المحاولات لدعم لبنان لتأمين ساعات إضافية من الكهرباء بتمرير الغاز المصري عبر الأراضي السوريّة باءت بالفشل بسبب رفض الإدارة الأميركية أيّ احتمال لاستفادة دمشق من عبور الغاز. فكيف ستسمح لتركيا بأن تتعاون مع نظام بشار الأسد وتساعده على البقاء؟

تكبر مشاكل بشار الأسد كل ساعة، فهو أصبح اليوم “جنرال نورييغا” القرن الحادي والعشرين بعدما صار متّهما بتزعم نظام مصنّع للمخدرات ومروّج وداعم لها في دول الإقليم والعالم. يؤكّد هذا التوجه الأميركي التعديل الجديد لقانون العقوبات على سوريا (قانون قيصر). أصبح “قانون قيصر” أشدّ إيلاما لأيّ طرف يحاول تجاوز العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا. هل تخاطر تركيا أو أيّ دولة أخرى، غير روسيا وإيران وكوريا الشمالية، وتهدد اقتصادها وتتحايل على العقوبات الأميركية في سبيل مصافحة وصورة تذكارية لأردوغان مع بشار الأسد. لا مفرّ من العودة بالذاكرة دائما إلى أنّ الليرة التركية تلقت عدة ضربات مؤلمة في العامين الماضيين.

في نهاية 2022، يبدو أن دمشق ونظامها دخلا أمتارا إضافيّة في النفق الذي سيؤدي إلى نهاية تبدو معروفة بالنسبة إليهما. هل ستشهد السنة 2023  مفاجآت سورية كبرى من النوع الذي أشار إليه ابن خال بشار الأسد وشريكه السابق رامي مخلوف الموجود في نوع من الإقامة الجبرية منذ أشهر عدّة؟

إعلامي لبناني

العرب

————————–

كان القاع سورياً في 2022/ مروان قبلان

مع بلوغ نهايته، تتفاوت كالعادة تقييمات العام المنصرم، اعتماداً على الزاوية التي تنظر منها، أو المكان الذي تقيم فيه، فالدول المنتجة للنفط، مثلاً، يمكنها اعتبار عام 2022 الأفضل، على الأقل منذ 2014 عندما انهارت أسعار الطاقة. الولايات المتحدة يمكنها أيضاً اعتبار حصيلة العام المنصرم إيجابية، إذ نجحت خلاله في تأكيد قيادتها العالمية وحشد حلفائها وراءها وإضعاف خصومها. وفوق ذلك، يعد اقتصادها، رغم مستويات التضخّم المرتفعة، الأفضل أداء بين الاقتصادات العشر الكبرى. تقييم ناس كثيرين عام 2022 إيجابياً أيضاً، انطلاقاً من أنّه عام الخروج من أزمة كوفيد 19، إذ تفوّقت إرادة الإنسان وعلوم الطب التي طوّرها على وباء فتّاك، ما أعاد الحياة إلى طبيعتها. كثيرون آخرون، في المقابل، يعتبرون العام المنصرم صعباً، حالكاً، يمهّد لآخر قد يكون أكثر صعوبة. إذا كنت مواطناً أوكرانياً، مثلاً، الأرجح أنّك ستعتبر العام 2022 الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، إذ تعرّضت البلاد للغزو وتدمير جزء كبير من بنيتها التحتية، ونزوح الملايين من سكانها، قبل أن تتحوّل المواجهة إلى حرب وكالةٍ بين حلف ناتو وروسيا، قد تنتهي بتدمير البلد على نحو كليٍّ، وقضم أجزاء كبيرة من أراضيه. كثيرون آخرون يشاركون الأوكرانيين تقييمهم، فأوروبا عاشت هذا العام أوضاعاً صعبة وباردة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وبلوغ التضخّم مستوياتٍ قياسية، وفيها صار المواطن الأوروبي أقل غنىً وإحساساً بالأمان. وهناك دول أوروبية عديدة تستعد لأزمة طويلة، قد تنهار فيها قطاعات اقتصادية حيوية، إذا استمرّ الكباش الروسي – الغربي.

وإذا كانت هذه حال دول الشمال الغني خلال عام 2022، فالوضع في دول الجنوب كان أسوأ، إذ دفع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة والشحن والتضخّم والتغير المناخي، الذي تسبّب بموجات جفافٍ في بعض الدول وفيضانات في أخرى، فضلاً عن الفساد وسوء الإدارة، دفع ملايين العوائل المستورة إلى براثن الفقر. وقد جاءت هذه الأزمات، بعد عامين حالكيْن شلت خلالهما أزمة كورونا اقتصاد العالم، وقد نتج عن ذلك تفاقم أزمات الهجرة واللجوء وإعلان دول عن إفلاسها وأخرى عجزها عن تسديد ديونها.

جاء الأثر مضاعفاً في الدول التي تواجه عزلة وحصاراً، مثل إيران التي شهدت خلال عام 2022 أوسع وأطول موجة احتجاجات منذ عام 1979، وصار كارثياً في الدول التي تعيش صراعات وحروباً داخلية، وأكثرها في منطقتنا العربية، مثل اليمن والصومال والعراق والسودان وليبيا، إنما خصوصاً في سورية ولبنان. انهار الوضع الاقتصادي في لبنان تماماً، وأخذ معه العملة المحلية، محوّلاً أكثر من نصف اللبنانيين إلى فقراء. لكنّ القاع في العام 2022 كان سورياً بامتياز، لا يزاحمها على مكانتها فيه مزاحم، فمع طيّ صفحة المواجهات العسكرية الكبرى، وتقلص الدعم المقدّم من الحلفاء، نتيجة أزماتهم (روسيا وإيران خصوصاً) وتناقص حجم المساعدات التي تقدّمها المنظمات الدولية نتيجة عدم وفاء المانحين بتعهداتهم، أو تحوّل جهة الدعم نحو أزماتٍ أخرى، فضلاً عن اشتداد العقوبات الأميركية، دخلت سورية، في كلّ مناطقها، في حالةٍ من الانهيار الكامل، ما جعل 2022 أسوأ سنوات الأزمة، بما فيها سنوات الحرب. إذ انهارت العملة، وتعطّل النشاط الاقتصادي، بسبب ندرة مصادر الطاقة، وتوقفت خدمات الصحة والتعليم، وعادت أمراضٌ كنا نظنّها انقرضت (الكوليرا مثلاً)، وأغلقت المؤسّسات العامة والخاصة أبوابها لانعدام المواصلات. وقدّرت الأمم المتحدة أنّ 90% من السوريين باتوا يعيشون تحت خط الفقر و80% منهم يفتقدون إلى الأمن الغذائي ووسائل التدفئة، وهم على أبواب الشتاء. يحدث هذا كله والنظام ما زال يعيش في عالم من الوهم، صنعه لنفسه وبات حبيساً له، لا يغيّر ولا يتغيّر، إذ ما زال يصرّ على أنّه انتصر (معيار النصر كان دائماً يعني بقاءه، ولو على أنقاض)، وينتظر ما ينتظره المنتصر من خضوع المهزوم لإرادته، رافضاً الانخراط في أيّ تسويةٍ جدّيةٍ تخرج البلاد من واقعها الكارثي، مراهناً على الوقت وتغيّر الظروف، كما فعل دائماً لبلوغ مُراده، غير واعٍ أنه، وللمرّة الأولى ربما منذ وصوله إلى السلطة، تمضي “لعبة الوقت” في غير مصلحته، إلّا إذا استفاق فجأة من أوهامه، وتوقّف عن السير، آخذاً معه البلد، نحو حتفه.

العربي الجديد

———————-

لماذا فشل أردوغان في تحقيق مصالحة مع الأسد؟/ فاضل المناصفة

الدبلوماسية التركية كانت متسرعة عندما خاطبت الروس مباشرة ظنا منها أن الحل يأتي من موسكو وأن الأسد سيوافق على لقاء أردوغان دون تردد وأن سوريا تحتاج إلى تركيا أكثر من حاجة تركيا إليها.

خلال اتصال هاتفي جمعه بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن أنقرة لن تحدد جدولًا زمنيًا لعملياتها في سوريا وأن حربها ضد الإرهاب ستستمر بعزم. وتأتي المكالمة الهاتفية بعد أسبوع من استهداف القوات التركية لمعاقل حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في سوريا، ردا على التفجير المميت في شارع الاستقلال بإسطنبول في نوفمبر الماضي. يأتي هذا بعد أن فشل رجب طيب أردوغان في استمالة بشار الأسد نحو مصالحة لا يرى فيها الأسد أيّ فائدة في الوقت الحالي.

رفض الرئيس السوري اليد الممدودة التي تقدم بها أردوغان لطي خلافات الماضي والترتيب لعلاقات جديدة تماما مثلما تفعل أنقرة مع أعداء الأمس، وأقصد هنا السعودية ومصر والإمارات في إطار ما يطلق عليه “دبلوماسية صفر مشاكل”. والمؤكد أن هذا الرفض قد فوّت على أنقرة الحصول على تفويض سوري يعطي ضوءا أخضرا لعمليتها العسكرية في الشمال السوري من دون أن يتم اتهامها بانتهاك السيادة ومن دون أن تشوش هذه العملية المحدودة على مستقبل العلاقات بين البلدين، خاصة وأن تركيا تريد ضرب عصفورين بحجر واحد: المحافظة على متانة العلاقات مع روسيا التي تتواجد عسكريا في سوريا والتصالح مع نظام تأكد انتصاره على ثورة 2011 ولم يعد من المنطقي التعامل مع الملف بنفس الأسلوب الذي تعامل به أردوغان في بدايته.

وفي نفس التوقيت الذي جاءت فيه تصريحات من أنقرة تخطب ودّ دمشق من أجل ترتيب لقاء بين الأسد وأردوغان نشرت وكالة سانا السورية الرسمية للأنباء مقالا يتحدث عن الذكرى 83 لاحتلال تركيا لما يسمّى لواء إسكندرون، وهي منطقة تقع تحت السيادة التركية، كان الإعلام السوري يتجنب إثارة الحديث عنها أيام كانت العلاقات السورية – التركية على أحسن حال.

واتهم المقال تركيا بتزييف الحقائق والوقائع في تلك المنطقة، واختتم بعبارات قوية حيث وصفت الوكالة ما تقوم به تركيا منذ 11 سنة بالمجازر والجرائم الوحشية ضد الشعب السوري. هذا المقال والذي يأتي في خضم محاولات أنقرة لطيّ خلافها مع دمشق يعبّر بوضوح عن أن سوريا تريد اغتنام الفرصة لتضع مسألة لواء إسكندرون ضمن الملفات المطروحة على طاولة المفاوضات كشرط لتطبيع علاقاتها مع تركيا.

بشار الأسد وإن كان فاشلا في إدارة البلاد وعاجزا عن القضاء على فساد مسؤوليه الذي أكل الأخضر واليابس وساهم بشكل كبير في انتفاضة الشعب ضد حكمه، إلا أنه رجل يحسن قراءة الأحداث ويستعمل البراغماتية السياسية لتغيير مواقفه عندما يقتضي الأمر. ولعل قراره بعدم المضي قدما نحو العودة إلى الجامعة العربية كان نابعا من فكرة أن هذه العودة لن تقدم شيئا جديدا لسوريا ولن تكسبه شرعية دولية ولا إقليمية، بل ستدفعه إلى تقبل إملاءات خليجية تضع مصير علاقاته المتينة مع إيران على المحك، وهو أمر لا يمكن أن يحدث لاعتبارات عديدة من بينها الموقف الإيراني مما حدث في 2011 والدعم العسكري الذي ساهم في إنقاذ النظام من السقوط حين تنكر العديد من الأصدقاء له.

وفي الملف التركي يتعامل الأسد كذلك بالبراغماتية فهو يدرك جيدا أن تركيا تحتاج إلى التقارب للقضاء على الأكراد في شمال سوريا، وترغب في تمكين قواته النظامية من السيطرة بشكل جيد على الحدود المشتركة، وهي الخدمة التي لا يريد أن يقدمها الأسد دون مقابل، خاصة وأنه يعي جيدا أن تركيا وإن أرادت التقارب فهي تبحث عن مصالحها فقط وعن تطبيع أمني يضمن استقرار حدودها ويضيّق الخناق على الأكراد، إضافة إلى أنها ترغب في التخلص من موضوع اللاجئين السوريين فيها، بالمقابل سيكون هذا مكلفا للأسد الذي يتخبط في مشاكل اقتصادية وفي مجال الطاقة.

كان بإمكان أردوغان أن يستعمل بعضا من الإغراءات الاقتصادية ليبين حسن النية والمصلحة المشتركة التي يريدها من التصالح مع سوريا، كأن يعلن عن استعداد أنقرة رعاية مؤتمر إعمار سوريا، أو إغلاق الدكاكين الإعلامية الموجودة في بلاده والتي تمارس تشويشا على الأسد ونظامه، أو حتى تأجيل العملية العسكرية في شمال سوريا إلى ما بعد التقارب مع دمشق، حتى لا تتسبب في إحراج على المستوى الشعبي في سوريا.

كانت الدبلوماسية التركية متسرعة نوعا ما عندما خاطبت الروس مباشرة ظنا منها أن الحل يأتي من موسكو وليس من دمشق، وأن الأسد سيوافق على لقائه من دون تردد وأن سوريا تحتاج إلى تركيا أكثر من حاجة تركيا إليها. وبعبارة أدق كان من الخطأ التقليل من حجم الأسد ووضعه في ثوب الضعيف، والاعتقاد بأنه ينتظر طوق النجاة من أنقرة.

الفرصة لا تزال متاحة على الرغم من رفض الأسد للمصالحة، ولكن النشاط العسكري التركي في شمال سوريا ينبغي أن يكون في إطار مهمة محددة وسريعة وألا يتم التبرير من خلاله لانتهاك سيادة الأراضي السورية، كما يجب على النظام في تركيا أن يحدد موقفه وبشكل واضح من المعارضة السورية التي يرعى بعضها داخل أراضيه وأن يتم الفصل في المسائل الحدودية بالشكل الذي يضمن للأسد عدم تورطه في تطبيع قد يغيّر من جغرافية سوريا لمجرد ضمان أمن تركيا القومي، غير ذلك فإن تقارب النظامين سيبقى معلّقا إلى إشعار آخر.

كاتب فلسطيني

العرب

————————-

هل تتجه سوريا نحو التقسيم؟/ عدنان علي

مع حالة الانسداد السياسي الذي تعيشه سوريا، منذ سنوات، واتجاه الأوضاع المعيشية والاقتصادية إلى مزيد من التردي، يبدو الأفق مظلماً ولا أمل إلا في مزيد من الانتظار، عسى الله أن يقضي أمراً كان مفعولاً.

والحقيقة أنّ الصورة بقدر ما تبدو مربكة ومشوشة، إلا أنها واضحة إلى حد ما، حيث التراكمات السلبية، لا يمكن أن تسفر عن نتائج إيجابية، خصوصاً أنه لا يوجد أي مشروع استنهاضي قائم أو محتمل، مضاد للواقع الحالي، الذي تسير فيه الأوضاع ببطء، ولكن بثبات، نحو أفق لا تبدو ملامحه واضحة اليوم لكن مثاله ارتسم خلال العقود الماضية في بلد مجاور لسوريا، وهو العراق.

هذا الأفق، الذي يشكّل هدفاً بالنسبة للقوى الفاعلة، وتحديداً الولايات المتحدة (وخلفها إسرائيل) يتمثل في ترسيخ خريطة السيطرة الحالية، كإطار رسمي وقانوني مع بعض التعديلات الطفيفة التي تراعي مصالح هذا الطرف الخارجي أو ذاك، مع أدنى اهتمام بمصالح الشعب السوري نفسه، دون أن يغيّر في الأمر شيئاَ، بقاء سوريا موحدة شكلياً أو تحت علم واحد.

وكما هو معلوم، فإنّ البلاد مقسّمة اليوم إلى ثلاث مناطق سيطرة رئيسية وهي: النظام (نحو 63% تضم قرابة 9 ملايين نسمة) والمعارضة في شمال غربي سوريا (نحو 11% تضم أكثر من 4 ملايين نسمة) وقوات “قسد” المدعومة أميركياً في شمال شرقي سوريا (نحو 25% وتضم قرابة 3 ملايين نسمة).

وقد استقر هذا التوزيع، منذ عام 2018 تقريباً، مع سيطرة قوات النظام على الجنوب السوري وقبل ذلك الغوطة ومحيط العاصمة دمشق، ليضيف لاحقاً بعض المناطق في ريف إدلب.

ومن نافل القول، إنّ النظام مع داعميه من الروس والإيرانيين، استنفد قدرته على توسيع نطاق سيطرته، حيث بات عليه أن يصطدم بالجيش التركي والذي عزّز حضوره بشكل مكثّف شمالاً بالتكاتف مع فصائل محلية، أو مع القوات الأميركية شرقاً، التي تلتزم سراً وعلناً بدعم “قسد”، وعدم السماح بوصول قوات النظام أو الروس أو الإيرانيين إلى تلك المناطق.

وإذا أمعنا في الوقائع الماثلة على الأرض، وحاولنا قراءة سيروراتها الممكنة، لا بد الأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية:

    جميع الأطراف المحلية غير قادرة على توسيع نطاق سيطرتها الحالية، سواء لمحدودية إمكاناتها أو لاصطدام أهدافها بالمصالح الدولية.

    جميع الأطراف مأزومة سياسياً واقتصادياً ووجودياً.

    جميع الأطراف تستظل بحماية خارجية، والأطراف التي تحميها غير متوافقة على الحل حتى الآن.

    جميع الأطراف مستعدة فقط لتقديم تنازلات محدودة في سبيل الحل النهائي، وتراهن بهذا القدر أو ذاك على عامل الوقت الذي تعتقد أنه سيكون لصالحها. 

    اللاعب الأهم فيما سلف هو الأميركي الذي يعمل غالباً بوحي إسرائيلي. إنه يمسك بمفاتيح الحل كلها، تحت يده آبار النفط والغاز. وبإشارة منه تتحرك المساعدات الخارجية وأموال إعادة الإعمار والانفتاح السياسي الخارجي على النظام

وبهذا المعنى، فإنّ الارتهان لإرادة الأطراف المحلية لن يقود إلى حل، طالما أن كل طرف يعتقد أنه قادر على الحسم بمجرد أن ترفع إحدى القوى الخارجية يدها عن دعم الخصم. فالنظام وحلفاؤه كانوا يأملون أن تكمل الولايات المتحدة انسحابها من سوريا وفق ما أوشكت أن تفعل في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، لينقضّوا على شرق الفرات، أو أن تتغيّر الحكومة في تركيا، وتتسلم المعارضة التركية الحكم ليستعيدوا إدلب وجوارها. كذلك تراهن المعارضة و”قسد” على انسحاب روسيا وإيران من المشهد السوري في ضوء انشغالهما بأوضاعهما الداخلية وبالحرب الروسية على أوكرانيا.

غير أن الرياح لا تجري كما يشتهي هؤلاء. واللاعب الأهم فيما سلف هو الأميركي الذي يعمل غالباً بوحي إسرائيلي. إنه يمسك بمفاتيح الحل كلها، تحت يده آبار النفط والغاز. وبإشارة منه تتحرك المساعدات الخارجية وأموال إعادة الإعمار والانفتاح السياسي الخارجي على النظام.

لدى الولايات المتحدة كل المفاتيح لتعويم نظام الأسد لو أرادت، ويمكنها التخلّص منه أيضاً لو أرادت، ولديها كل الإمكانات السياسية والاقتصادية والعسكرية لفعل ذلك، لكنها لا تريد هذا أو ذاك، وهي ما زالت تواصل سياسة “إدارة الأزمة” دون غالب أو مغلوب لهدف استراتيجي تعمل عليه بهدوء وبطء بالتنسيق الكامل مع إسرائيل.

ما زالت ترى في سوريا ساحة لاستنزاف أعدائها وخصومها روسيا وإيران وتركيا، بينما هي وإسرائيل لا يدفعان تقريباً أي ثمن للمحنة السورية، ولم تستقبل إلّا قلة من اللاجئين السوريين، وتكاد مساهمتها تقتصر على بعض المساعدات الإنسانية، مع وجود رمزي غير مكلف لقواتها في شرقي سوريا، لكنه وجود فعال ورادع لخصومها.

والسؤال المطروح هو ماذا تريد الولايات المتحدة من سوريا؟ والجواب كما أسلفنا يأتي من المثال العراقي. حكم ذاتي للأكراد شرقي سوريا، وشيء يشبهه، ولكن بدرجة أقل في جنوبي البلاد (درعا والسويداء)، وضم بقية المناطق لحكومة مركزية في دمشق، تستطيع فقط تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة لشعبها، دون أن تشكل خطراً على أحد (إسرائيل) لعقود مقبلة.

لكن ما الذي يمنع واشنطن من تأكيد هذا الحل علناً؟ إنها فقط تحفظات بعض القوى الإقليمية، حيث تريد تركيا أن تتأكد من أن إدارة الحكم الذاتي شرقي سوريا، ستكون سوريّة بحتة وغير محكومة من رجال قنديل، وغير معادية تالياً لتركيا، أي على غرار إقليم شمالي العراق الذي تربطها به علاقات جيدة، كما أنّ إسرائيل تريد أن تطمئن إلى أن هذا الحل سيتضمن إخراج إيران وميليشياتها من سوريا. أما روسيا، فليس لديها اعتراضات جوهرية على هذا السيناريو، ما دام يُبقي نظام الأسد في الحكم، ما يوفر لها الادّعاء بتحقيق هدف تدخلها، وهو عدم الإطاحة به.

تبقى مسألة أن يوافق النظام السوري على هذا الحل، حيث ما زال يتوهّم بإمكانية السيطرة الكاملة على شرقي الفرات، خاصة الثروة النفطية دون شريك محلي. وتراهن واشنطن أن الأزمات الاقتصادية الحالية التي يتخبّط بها النظام، فضلاً عن “قانون الكبتاغون” الذي ستظهر مفاعيله قريباً على النظام، كفيلان بجعله يغيّر حساباته، وينشد السلامة ولو على دولة منقوصة السيادة، ما دام الخيار الآخر هو استبداله.

وفي طبيعة الحال، تدرك الولايات المتحدة أنّ نظاماً ضعيفاً ومهدّداً بالسقوط، هو المؤهل لتقديم تنازلات بهذا الحجم. وبعد أن ينجز مهمته الثانية في تقسيم البلاد (بعد تدميرها) ستكون مسألة التخلّص من النظام المدان بارتكاب جرائم حرب وبقيادة عصابة دولية لتجارة المخدرات، مسألة وقت وفقط.

تلفزيون سوريا

———————–

روسيا و2254/ جمال الشوفي

في الأمس، وفي 21 شهر كانون الأوّل الجاري، قدّم غير بيدروسون، المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا، إحاطته لمجلس الأمن، بدأها بعرض نتائج زيارته إلى سوريا ونقاش الحكومة السورية حول كيفية إحداث تقدم في العملية السياسية وتنفيذ القرار 2254.

وختمها بعرضه لقاءاته مع وزير خارجية النظام السوري، ورئيس هيئة التفاوض السورية، وضرورة استمراره في الاعتماد على مشورة المجلس الاستشاري النسوي الذي أسّسه سابقه دي ميستورا. ويبدو أن الحل السوري يُطهى على نار بلا وقود، كما هو الداخل السوري، ولا طعام يقدّم للسوريين الذين افتقدوا لكل مقومات الحياة، حسب إحاطة بيدرسون ذاتها، فالطبخة الدولية حول سوريا “حلة حصى” لم تنضج ويبدو أنها لن تنضج بعد!

مرّت سبع سنوات على القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، بتاريخ 18/12/2015. القرار الذي يعتبر لليوم البوابة الوحيدة للحل للسوري، لكنه في الوقت ذاته، الإشكالية المستعصية على الحل، حتى بدأت أطراف عدة ثورية أو معارضة، وحتى سلطوية، بغمز روسي من الخلف في الجهة الأخرى، تدعو للتخلي عنه واستصدار قرار جديد في طريقة الحل السوري.

ما يستلزم العودة لقراءة مضمونه وتحديد فقراته ودلالتها السياسية، خاصة وأن الوضع السوري اقتصادياً وسياسياً في رمقه الأخير، وبات كارثة إنسانية كبرى تفوق ما جرى في الصومال وربما أشد لعنة سياسياً على الهوية الوطنية السورية. فالقرار المتضمن 16 عشر بنداً، يشير في مقدمته وبنوده السبعة الأولى، حسبما وردت في نصه، إلى:

    عملية الانتقال السياسي وضلوع المجتمع الدولي بالعمل على تحقيقها بمرجعية بيان جنيف 2012، غير الملزم لأي طرف في سوريا، ومؤيداً لبياني فيينا بينهما، كأساس لانتقال سياسي بقيادة سوريّة. ودعوة ممثلي النظام والمعارضة السورية إلى الدخول في مفاوضات رسمية بشأن عملية انتقال سياسي مدتها ستة أشهر، تقيم حكماً ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولاً زمنياً وعملية لصياغة دستور جديد. تتبعها مرحلة لانتخابات حرة ونزيهة، في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة!  أجل هذا ما كان!

    العمل على محاربة الإرهاب المتمدد في سوريا، حيث جاء في فقرته الثامنة، وتنفيذاً للقرار 2249/2015، منع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها على وجه التحديد تنظيم الدولة (داعش) وجبهة النصرة، وسائر الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطين بالقاعدة أو داعش، وغيرها من الجماعات الإرهابية، والقضاء على الملاذ الآمن الذي أقامته تلك الجماعات على أجزاء كبيرة من سوريا.

    بناء الثقة بين جميع الأطراف السورية من أجل المساهمة في فرص القيام بالعملية السياسية وتحقيق وقف دائم لإطلاق النار، في فقرته العاشرة. فيما تأتي الفقرات التالية كفقرات متممة تسعى للحث على وقف إطلاق النار وتجميد العمل العسكري الدائر في جميع الأراضي السورية، والتوجه للمنظمات الإنسانية بتقديم المساعدات للداخل السوري، تمهيداً للحل المفترض. فهل ثمة حل تحقق؟

في قراءة لمضمون القرار هذا يمكن ملاحظة ما يلي:

    أتى هذا القرار بعد أربعة أشهر تقريباً من التدخل الروسي العسكري المباشر بدعوة من السلطة السورية.

    تم تخفيض مقررات جنيف 1، الذي يستند إليها القرار، من هيئة حكم كاملة الصلاحيات إلى عملية انتقال سياسي تفضي لحكومة انتقالية تتقاسمها كل من المعارضة والسلطة.

    إدراج محاربة الإرهاب في ذات القرار بجوار الانتقال السياسي، فيما تمت الإشارة الواضحة لكل من داعش والقاعدة وما يتبعهما، لكن تركت الفقرات المتعلقة بغيرها عائمة دون تحديد.

    الاعتماد على النوايا الحسنة عند طرفي المعادلة السورية (السلطة والمعارضة) في الدخول بالعملية السياسية، بحيث يتجنّب القرار في متنه تحديد أي طريقة ملزمة لكلا الطرفين للدخول فيها.

السؤال الذي يطرح نفسه وقتها واليوم، لماذا وافقت روسيا على هذا القرار، وهو الذي يفيد بالانتقال السياسي؟ وبالضرورة لماذا جمّدت مفاعيله بعمل لجنة دستورية وصياغة الدستور قبل تحقيق المرحلة الانتقالية؟ وهل تمت عملية بناء الثقة تلك؟ والأهم من هذا، هل انتهى المجتمع الدولي من محاربة الإرهاب في سوريا؟ وما دور روسيا فيها؟

أسئلة تبدو للوهلة الأولى واضحة وسهلة الإجابة، لكن في مضمونها والسياق التحليلي لمسار العملية السياسية وطريقة الحل السورية تبدو أعقد وأشد عمقاً من تأثيرات نصوص لا تفترض الإلزام بأي خطوة منها، لتتكشف من خلالها آليات الصراع الدولي من خلال سوريا وعليها بآن. تلك التي تشي بمعادلات الجيوبوليتيك الدولي التي دشنتها روسيا من خلال سوريا بدايةً وتتمها اليوم في المعادلة الأوكرانية، في مقابل التوجه الغربي في ذلك، وهذا موضوع يحتاج بذاته لدراسات وأبحاث.

حقق القرار 2254 لروسيا لأوّل مرة في تاريخها:

    تبرير عملها العسكري في سوريا بمرجعية دولية تستند إلى قرار مجلس الأمن. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي والتفرّد الأميركي في قيادة الدفة العالمية عولمياً، وخلافاً لحروبها الثلاث السابقة في جورجيا والشيشان وأرمينيا، تدخل في الخط الدولي، في موقع يشابه الحروب التي قامت بها أميركيا بمرجعية مجلس الأمن.

    أصبحت روسيا شريك في محاربة الإرهاب بمرجعية دولية، يؤهلها لتحقيق طموحاتها القيصيرية بالعودة للساحة الدولية كقطب عالمي منفرد من منظار دولي شرعي، ما يفسّر موافقتها عليه من خلال إدراج فقرة الحرب على الإرهاب بموازاة الانتقال السياسي في الفقرة الثامنة منه. الأمر الذي حوّل كامل الداخل السوري لساحة عمل عسكري واسع، وإسباغ كامل الجغرافيا السورية بالإرهاب.

    مارست روسيا دورها العسكري في تفريغ سكان المدن السورية مدينة تلو الأخرى، وأضافت له ومن خلال أستانا الجمع بين تركيا وإيران، كأهم الأطراف الفاعلة في الملف السوري عسكرياً، عنوان مناطق خفض التصعيد، والتي أتت على قضم مواقع الثورة السورية مدينة تلو أخرى، بدعوى محاربة الإرهاب دون التمييز بين السوريين في مطالبهم المحقة في التغيير السياسي والقوى الدخيلة عليهم من داعش وغيرها.

    في المسار الدبلوماسي، دخلت المسألة السورية ذاتها في بوابة العطالة المطلقة حين الحديث عن حسن النوايا وبناء الثقة، من خلال اللجنة الدستورية، والتي تفيد التقارير الأممية في تعطيلها دورياً، منذ العام 2019 لليوم. ما يعني بوضوح شديد الالتزام الشكلي للسلطة السورية ومن خلفها روسيا بقرار مجلس الأمن، وبالوقت ذاته التملص من أي استحقاق يمكن أن يشكل تقدمًا في مسار العملية السياسية، فلا ثقة اليوم تبنى سوى بتفكيك المسألة السورية وحلولها الممكنة.

استفادة روسيا من القرار 2254 هي الأوضح لليوم، في حين السوريون وقعوا في مخاض الإجحاف الاقتصادي بكل أشكاله، وفي فخ العطالة السياسية المطلقة. ويبدو أن الدفع الروسي بمسار جديد لطريقة الحل السوري لم تعد تكفيه مقررات سوتشي واللجنة الدستورية، بقدر ترسيمات الواقع العسكري في الشمال السوري مع تركيا، وليس مستبعداً أن يكون هناك سيناريو جديد للجنوب السوري يطبخ على مهل. ما يحيل كامل المسألة السورية تدريجياً من حل كلي في جنيف 2012، لجزئي في 2254/ عام 2015، إلى حلول تفكيكية عامة نهايات 2022. فهل هذا ما كان يأمله السوريون؟ وهل يمكن إيجاد الطرق الملزمة للانتقال السياسي السوري بعدما تكشف للمجتمع الدولي خطأه المرعب في إيلاء روسيا حق الاستفراد بالحل السوري على طريقتها، خاصة بعد تمددها لأوكرانيا وقلب أوروبا وتهديد السلم العالمي برمته.

السوريون ينتظرون، كما كل أطفال سوريا ينتظرون تلويحة من بابا نويل، فهل من فرج قريب على أبواب العالم والعام الجديد؟

———————–

ما تأثير قانون “مكافحة المخدرات” الأمريكي على اقتصاد النظام السوري؟

عربي21- يمان نعمة

ويحتم قانون تعطيل وتفكيك شبكات إنتاج المخدرات والاتجار بها المرتبطة برئيس النظام السوري بشار الأسد على الإدارة الأمريكية تقديم استراتيجيته بهذا الخصوص خلال موعد لا يتجاوز 180 يوما من تاريخ اعتماده.

وحسب مصادر أمريكية، فإن الاستراتيجية تتضمن استهداف وتعطيل وإضعاف الشبكات التابعة للنظام السوري، وتقديم معلومات متعلقة باستخدام السلطات القانونية، ومعلومات متعلقة باستخدام العلاقات الدبلوماسية العالمية المرتبطة بحملة الضغط الاقتصادي على النظام.

كذلك ينص القانون على تقديم استراتيجية لتنظيم حملة إعلامية عامة لزيادة الوعي لعلاقة ومدى ارتباط النظام بتجارة المخدرات غير المشروعة، ووصفا للدول التي تتلقى شحنات كبيرة من المخدرات أو تعبرها، وتقييم قدرتها على اعتراض أو تعطيل تهريب المواد الممنوعة.

وما إن دخل القانون حيز التنفيذ، حتى حذرت مصادر تابعة للنظام السوري من تأثر بعض الصناعات، وفي مقدمتها صناعة الأدوية.

وقال الصناعي السوري عصام أحمد، إن “العقوبات الجديدة التي تحضرها واشنطن ستكون أشد من قانون “قيصر” معتبرا أن “من الضرورة الملحة الآن التحوط من العقوبات الاضافية وخاصة في مجال صناعة الأدوية”.

ويقول الكاتب والمعارض السوري المقيم في الولايات المتحدة، أيمن عبد النور، إن الاستراتيجية التي تضعها الجهات الأمريكية المختصة، أي وزارة الخارجية والدفاع ووكالة مكافحة المخدرات، تهدف إلى ضرب شبكات المخدرات، بداية من مرحلة استيراد المواد الأولية اللازمة، وغالباً مصدرها الصين، مروراً بمرحلة التصنيع في الداخل السوري، وصولاً إلى مرحلة تهريب المخدرات عبر المنافذ البرية والبحرية السورية.

وأضاف لـ”عربي21″ أنه يمكن تقسيم الدول المُستهدفة إلى قسمين، فعلى سبيل المثال تعتبر الأردن وجهة عبور ومقصد للمخدرات في الوقت ذاته، أما تركيا تُعتبر دولة عبور، وكذلك العراق.

ولذلك، تحتاج متابعة كل ذلك، استراتيجية للمساهمة في تخفيض كميات المخدرات، وبالتالي تقليص مداخيل النظام السوري من هذه التجارة، ما سيؤدي بطبيعة الحال إلى تعميق أزمته الاقتصادية، كما يقول عبد النور.

مصانع أدوية وهمية

أما عن صناعة الأدوية في سوريا وتأثرها بمفاعيل القانون، يؤكد الكاتب أن “النظام السوري يستورد بالفعل بعض المواد الأولية الضرورية لتصنيع المخدرات، تحت ستار الصناعات الدوائية”.

وأوضح أن “النظام السوري بعض مصانع الأدوية بشكل وهمي، وذلك حتى يستطيع استيراد المواد اللازمة لصناعة المخدرات بطرق قانونية، أي استخدام اسم المصنع للتغطية على الكميات الهائلة من المواد الأولية التي يستوردها”.

من جانبه لا يستبعد الكاتب الصحفي الاقتصادي إياد الجعفري، أن تنعكس بعض آثار هذا القانون على الاقتصاد السوري، في حال قررت واشنطن زيادة قائمة المواد الأولية التي تدخل في الصناعات الدوائية، المحظور على سوريا، استيرادها، نظرا لتداخلها مع صناعة أصناف من المخدرات، وذلك سينعكس سلبا، بطبيعة الحال، على قطاع الصناعة الدوائية السوري.

تأثيرات القانون مرتبطة بجدية واشنطن

وفي حديثه لـ”عربي21″ يرى الجعفري، أن تأثير قانون مكافحة مخدرات الأسد، يتوقف على مدى رغبة الإدارة الأمريكية في تشديد الضغط على النظام، ويقول: “رغم كون القانون تشريعا ملزما لأية إدارة أمريكية، إلا أن السلطة التنفيذية هي التي ستحدد كيفية تنفيذه، كما حدث مع قانون “قيصر”، الذي تراجعت شدته، خلال إدارة جو بايدن”.

ويرجح أن تطال العقوبات بموجب هذا القانون شركات الشحن ونقل البضائع التي تتعامل مع موانئ طرطوس واللاذقية، نظراً لأن شحنات ضخمة من المخدرات انطلقت من تلك الموانئ، سابقا.

لكن، وفق الجعفري، من المستبعد أن يوقف هذا القانون تجارة المخدرات المنطلقة من الأراضي السورية تماما، لكنه قد يؤدي إلى تقليص عوائد هذه التجارة، بنسبة ما، حسب شدة التنفيذ، خاصة لو طال ذلك كافة المنافذ الحدودية والبحرية السورية.

————————–

اجتماع في موسكو يجمع وزيري دفاع تركيا والنظام السوري لأول مرة منذ عام 2011

ذكرت وكالة الإعلام الروسية، نقلاً عن وزارة الدفاع، أن وزراء دفاع روسيا وتركيا والنظام السوري أجروا محادثات في موسكو، اليوم الأربعاء. وهذا أول لقاء بين وزير الدفاع التركي مع نظيره في النظام السوري منذ عام 2011.

وأضافت أنه “تم بحث سبل حل الأزمة السورية ومشكلة اللاجئين والجهود المشتركة لمحاربة الجماعات المتطرفة في سورية”.

من جهتها، ذكرت وزارة الدفاع التركية، في بيان، أنّ الاجتماع الذي احتضتنه العاصمة الروسية موسكو، ضم وزراء الدفاع التركي خلوصي أكار، والروسي سيرغي شويغو، والسوري علي محمود عباس، بالإضافة إلى رؤساء أجهزة الاستخبارات في البلدان الثلاثة.

وأضاف البيان أنّ الاجتماع التركي الروسي السوري في موسكو ناقش الأزمة السورية ومشكلة اللاجئين والمكافحة المشتركة للتنظيمات الإرهابية في سورية.

وأكد اتفاق المجتمعين خلال اللقاء “الذي عقد في أجواء بناءة”، على استمرار الاجتماعات الثلاثية “من أجل ضمان الاستقرار والحفاظ عليه في سورية والمنطقة”.

    Moskova’da gerçekleşen toplantıda Suriye krizi, mülteci sorunu ve Suriye topraklarında bulunan tüm terör örgütleri ile ortak mücadele çabaları ele alındı.https://t.co/4VSHXmpR4W#MSB #HulusiAkar pic.twitter.com/iwU8axcwZa

    — T.C. Millî Savunma Bakanlığı (@tcsavunma) December 28, 2022

وكان نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف، قد قال، في 16 من الشهر الحالي، إنّ موسكو “تنظر بإيجابية كبيرة بشأن فكرة الرئيس التركي عقد اجتماع لقادة تركيا وسورية وروسيا الاتحادية”. ونقلت وكالة “سبوتنيك” عن بوغدانوف قوله: “نجري الآن اتصالات مع الأصدقاء السوريين” بشأن هذه الفكرة.

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قد قال، قبل يوم من تصريحات بوغدانوف، إنه اقترح على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “تشكيل آلية ثلاثية مع روسيا وسورية لتسريع الدبلوماسية بين أنقرة ودمشق”.

تقارير عربية

ارتياح روسي واحتجاجات سورية شعبية على لقاء محتمل بين الأسد وأردوغان

ونقلت مواقع تركية عن أردوغان قوله: “يمكن أن تجتمع وكالات استخباراتنا أولاً، ثم وزراء دفاعنا، ثم وزراء خارجية الدول الثلاث، وبعد ذلك يمكن أن نلتقي كقادة، وهو ما يمكن أن يفتح الباب لسلسلة من المفاوضات”، مشيراً إلى أن الرئيس الروسي بوتين رأى المقترح إيجابياً.

وقال أردوغان إنّ “هناك مشكلة يجب التعامل معها بشكل عاجل”، وهي “التنظيمات الإرهابية الموجودة في سورية، خاصة في الشمال السوري، التي تهدد وتستفز بلدنا من هناك، والتي تفعل كل شيء”.

(فرانس برس، رويترز، العربي الجديد)

——————————

ضغوط إيرانية لانتزاع «تنازلات سيادية» في سوريا

طهران تريثت في إرسال سفن نفط و«فاجأت» دمشق بـ«مسودات اتفاقات» قبل زيارة رئيسي

لندن: إبراهيم حميدي

عندما زار الرئيس السوري بشار الأسد طهران في مايو (أيار) الماضي، كان بين الطلبات العاجلة إرسال نفط ومشتقاته للمساهمة في حل الأزمة الاقتصادية؛ كما جرت العادة في السنوات الماضية، عندما كانت السفن «تخترق» العقوبات والممرات… إضافة إلى بحث قضايا إقليمية ودولية أوسع.

زيارة الأسد تلك كانت الثانية منذ 2011، بعد الأولى في 2019، للتعبير عن شكره طهران لوقوفها عسكرياً واقتصادياً ومالياً إلى جانب النظام منذ اندلاع الاحتجاجات والأزمة قبل أكثر من عقد. التقى خلالها «المرشد» والرئيس إبراهيم رئيسي، ونقلت وسائل إعلام رسمية عن الأسد قوله إن «العلاقات الاستراتيجية بين إيران وسوريا منعت إسرائيل من بسط سيطرتها على المنطقة»، وعن خامنئي إن «سوريا انتصرت في حرب دولية، ومصداقية سوريا أعظم بكثير مما كانت عليه في الماضي».

تلك الزيارة تناولت مسائل كبيرة؛ بينها الوجود الأميركي في سوريا، والتنسيق بين أنقرة وطهران وموسكو، والغارات الإسرائيلية المتكررة ضد مواقع إيرانية في سوريا، إضافة إلى الاتفاقات بين إسرائيل ودول عربية؛ إذ نقلت مصادر إيرانية عن خامنئي قوله إن «بعض قادة الدول المجاورة لإيران وسوريا يجلسون مع قادة إسرائيل، لكن شعوب هذه الدول يملأون الشوارع بالحشود والشعارات المناهضة (لإسرائيل)»، مما عُدّ انتقاداً ضمنياً لموقف دمشق التي لم تصدر بيانات نقدية لاتفاقات السلام بين تل أبيب وعواصم عربية، وحدوث لقاءات سياسية بين مسؤولين سوريين ونظرائهم من هذه الدول.

بعيداً من هذه العناوين الكبرى، كان هناك طلب عاجل من الأسد، خلال لقاءاته «المرشد» ورئيسي، يتعلق بإرسال نفط ومشتقات نفطية لإنقاذ الوضع الاقتصادي في سوريا. وكان الوعد «خيراً» وإرسال 3 سفن. لكن السفن لم تغادر إيران ولم تصل إلى سواحل سوريا. تكرر طلب دمشق لدى زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في يوليو (تموز) الماضي، وتكرر التريث الإيراني؛ بل إن السفير السوري في طهران حاول متابعة الموضوع كثيراً، لكن الجواب لم يأت من طهران.

الأزمة الاقتصادية في دمشق تتفاقم، و«المماطلة» الإيرانية تتواصل، وسط حيرة سورية حول أسباب التأخر على عكس ما جرت العادة خلال العقد الماضي، إلى أن حدث الرهان على زيارة رئيسي إلى دمشق التي حدد موعدها الأولي يوم أمس (الثلاثاء). وخلال الإعداد للزيارة، فوجئ الجانب السوري بسلسلة من الطلبات ومسودات الاتفاقات؛ بعضها يعود إلى اتفاقات سابقة وقعت خلال زيارة رئيس الوزراء السوري عماد خميس في بداية 2017، وبعضها الآخر جديد.

مسودة الاتفاق الجديدة التي فاجأت دمشق، تتعلق بأن يعامل الإيرانيون في المستشفيات، والمؤسسات العلمية، والملكية… وغير ذلك، كما يعامل السوريون. وفي حال ارتكب إيرانيون جريمة؛ فإنهم يحاكمون أمام القضاء الإيراني وليس القضاء السوري. وهذه المسودة مشابهة للاتفاقية القائمة بين دمشق وموسكو نهاية 2015 إزاء تأسيس قواعد عسكرية في حميميم وطرطوس، التي أعطيت امتيازات عسكرية وملكية ودبلوماسية واسعة، باستثناء القضاء. كما تشبه المسودة أيضاً تلك الاتفاقات التي كانت قائمة بين الدول الغربية والإمبراطورية العثمانية بعد انهيارها وقيام تركيا في عشرينات القرن الماضي.

كما ضغطت طهران لانتزاع «ضمانات سيادية» على الأموال التي صرفتها. دمشق فوجئت بعمق المطالب الإيرانية. وطهران فوجئت بالتريث السوري. ولا تزال الاتصالات قائمة بين الطرفين بحثاً عن مخرج لهذه «الأزمة الصامتة» ولترتيب زيارة رئيسي إلى دمشق. لكنها ليست المرة الأولى التي تمر فيها العلاقات بأزمة من هذا القبيل. وكانت طهران علقت الموافقة على تعيين سفير سوري جديد وجمدت إرسال مشتقات نفطية في 2017 بسبب انزعاجها من بطء دمشق في تنفيذ اتفاقات استراتيجية مع طهران وتسريعها مع موسكو.

وكان رئيس الوزراء السوري عماد خميس زار طهران في بداية 2017 ووقع اتفاقات استراتيجية تتعلق بعمل شركة إيرانية يدعمها «الحرس الثوري» الإيراني مشغلاً ثالثاً للهاتف الجوال، واستثمار الفوسفات السوري لمدة 99 سنة، والاستحواذ على أراض لأغراض زراعية وصناعية، وإقامة «ميناء نفطي» على البحر المتوسط، إضافة إلى توقيع خط ائتمان جديد من إيران بقيمة مليار دولار أميركي يُستخدم نصفه لتمويل تصدير نفط خام ومشتقات نفطية.

ومنذ 2013، قدمت طهران دعماً مباشراً وغير مباشر لدمشق؛ بين ذلك خطوط ائتمان تجاوزت 6.6 مليار دولار لتمويل تصدير النفط الخام ومشتقاته، علماً بأن دمشق فقدت السيطرة على آبار النفط والغاز شمال شرقي البلاد لمصلحة حلفاء أميركا، وانخفض إنتاجها الذي كان نحو 380 ألف برميل يومياً قبل 2011 إلى نحو 90 ألف برميل.

وإذ جرت خطوات بين رجال أعمال سوريين مقربين من السلطات وآخرين من إيران لتشغيل شبكة هاتف جوال ثالثة؛ لم تحصل إيران على ميناء طرطوس أو اللاذقية؛ بل إن روسيا سيطرت عليهما تجنباً للقصف الإسرائيلي المتكرر. كما سيطرت شركات روسية على استثمارات الفوسفات وسط البلاد، وتحاول الضغط على الأكراد للسيطرة على منشآت النفط، كما تحاول التمدد في مطار دمشق ومطارات أخرى… وكثير من المشروعات الاقتصادية.

ووفق دبلوماسي غربي يزور دمشق، فإن «الأزمة الاقتصادية هي الأسوأ على الإطلاق منذ عقد، وإيران تريد الإفادة من ذلك بجولة جديدة من الضغوطات». وزاد: «تريد طهران الحصول على تنازلات سيادية كبيرة في أوج حاجة دمشق لها حالياً وانشغال روسيا بحرب أوكرانيا، لسداد التكاليف التي دفعتها خلال الحرب والتي تصل إلى نحو 20 مليار دولار أميركي خلال العقد الماضي، وتثبيت نفوذها لأمد طويل أمام تصاعد الضغط العسكري الإسرائيلي في سوريا».

الشرق الأوسط

—————————

الليرة السورية “تدخل التاريخ” يوميا.. وذوبان القيمة يطلق “سؤال الحدود”

ضياء عودة – إسطنبول

“تسجّل أدنى مستوى لها في التاريخ”.. “هبوط تاريخي لليرة السورية”.. “انهيار تاريخي غير مسبوق”. هذه العبارات باتت أكثر ما يتداوله ويقرأه السوريون، وفي وقت يوشك العام 2022 على الرحيل، تشهد عملة البلاد ذوبانا في القيمة في سوق العملات الأجنبية، لتصل حتى ساعة إعداد هذا التقرير إلى حد 7100 مقابل الدولار الأميركي الواحد.

ورغم أن هذا التدهور في قيمة الليرة السورية ليس بجديد، بل يعود إلى سنوات مضت من عمر الحرب في البلاد، إلا أن المسار المتسارع الذي سجّله خلال الساعات الماضية أطلق تساؤلات، عن الأسباب التي تقف وراء ما يحصل، و”الحدود” التي قد يستقر عليها سعر الصرف، وما إذا كانت ستكون واضحة، على المدى المنظور.

ولطالما تحدث رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بلغة الاقتصاد، معتبرا أن ما وصفها بـ”معركة سعر الصرف النفسية تقاد من الخارج”، وأن حكومته حققت فيها “إنجازات غير مسبوقة”، لكن الأرقام التي أعلن عنها خلال السنوات الماضية قادت إلى غير ذلك، ليستمر عداد التدهور في قيمة الليرة، في وقت دخل فيه الاقتصاد بمحطات “على شفا الانهيار”، وفق مراقبين وباحثين.

ومنذ بداية ديسمبر الحالي خسرت الليرة، حسب المواقع المهتمة بأسعار سوق الصرف الموازي، 22 بالمئة من قيمتها، و93 بالمئة على أساس سنوي. وجاء ذلك بالتزامن مع أزمة محروقات ضربت المحافظات السورية، فيما تشير تصريحات مسؤولي الحكومة السورية إلى “حالة عجز” قد لا تسفر عن أي مخارج قريبة وإسعافية.

ودفعت أزمة المحروقات المرتبطة، وفق الرواية الرسمية، بـ”تأخر وصول التوريدات من إيران” حكومة النظام السوري إلى تعطيل عمل المؤسسات والمدارس لعدة أيام، وقبل ذلك كانت قد علّقت سلسلة من النشاطات الرياضية، بسبب شلل حالة النقل، التي تعتمد في الأساس على المازوت والبنزين.

“أسباب قديمة وجديدة”

ومنذ بداية أبريل 2021 وحتى أواخر العام ذاته كان سعر صرف الليرة قد استقر عند حاجز الـ3500 ليرة أمام الدولار الواحد، بعدما شهد تدهورا متسارعا في فترة زمنية قليلة.

لكن، ومع الدخول بعام 2022، عاد السيناريو السابق ليتكرر مجددا لكن بعيدا عن دائرة الضوء الإعلامية والرسمية، ليتجاوز سعر الصرف حد الـ4000، ومن ثم ليلامس حاجز الـ4500، ويدخل بنزيف مستمر حتى 7100، وفق السعر المسجّل في السوق الموازي ليوم الأربعاء.

وبتقدير عبد المنعم الحلبي، وهو دكتور في العلاقات الاقتصادية والدولية، وموظف سابق في مصرف سوريا المركزي فإن التدهور الحاصل في سعر صرف الليرة السورية في الوقت الحالي يرتبط بـ”سببين لا ثالث لهما”، الأول هو أحداث إيران والمخاوف والانعكاسات الناتجة عنها.

أما السبب الثاني يتعلق بـ”فرض التعامل بالدولار (كاش)، نتيجة المخاوف من سياسات التعقب والمراقبة المصرفية بعد تجدد تفعيل العقوبات”.

ويرى الحلبي، في حديثه لموقع “الحرة”، أن هناك ربطا بالتأكيد بين ما تشهده الليرة وأزمة المحروقات، موضحا بالقول: “حيث تضطر حكومة دمشق لدفع المستحقات نقدا بالكاش، ما يؤدي لزيادة سعر الدولار في السوق”.

ولم يصدر أي تعليق من جانب حكومة النظام السوري والبنك المركزي في البلاد بشأن التدهور الحاصل، على خلاف أزمة المحروقات، التي فسّر وزراء أسبابها بأنها ترتبط بـ”تأخر وصول التوريدات” من جهة، وبالعقوبات الغربية المفروضة على النظام من جهة أخرى.

بدوره يعتقد الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، مناف قومان، أن سبب التدهور في قيمة الليرة “قديم جديد”، إذ “لا يمكن أن أفصّل ما حصل لليرة خلال الفترة الماضية عمّا يحصل الآن، أو القول إن الليرة كانت مستقرة والآن هبطت”، وفق قوله.

وبالتالي، يضيف قومان لموقع “الحرة”، أن سبب التدهور يرجع إلى “إدارة النظام السوري للسياسة النقدية خلال السنوات الماضية، التي ساهمت في تراكم الأسباب، مثل عدم استخدام الأدوات النقدية على رأسها سعر الفائدة لامتصاص الفائص النقدي في السوق، واعتماد النظام على موازات تضخمية ساهمت في ارتفاع معدلات التضخم”.

علاوة على ذلك هناك أسباب مثل “عدم إيجاد مولدات دخل بديلة للنقد الأجنبي مقابل الاعتماد على لبنان وشبكاته الخاصة لتوفير الدولار، وفقدان المركزي السوري الملاءة المالية، وبالتالي عدم القدرة على توفير دولار للسوق لشراء المواد الأساسية”.

ويتابع الباحث الاقتصادي: “ترك هذه المهمة للسوق سيدفع الطلب على الدولار للأعلى وأمام عدم توفره سيرتفع سعر الصرف بطبيعية الحال”، مشيرا: “هذه الأسباب وغيرها رسمت المشهد القاتم لليرة على مدار الأعوام الماضية ولا تزال”.

“المركزي خارج اللعبة”

وأصبح الاقتصاد السوري، الذي أصابه الشلل منذ أكثر من عقد، معتمدا على الدولار بشكل متزايد إذ يحاول السكان حماية أنفسهم من انخفاض قيمة العملة والتضخم.

وأدى انهيار الليرة خلال الفترات الماضية إلى ارتفاع أسعار السلع، وفاقم المصاعب بينما يواجه السوريون صعوبة في شراء الطعام والكهرباء وأساسيات أخرى، لاسيما في ظل انعدام المحروقات وتضعضع الدعم المخصص لها، والذي تناقص بالتدريج خلال العامين الماضيين.

ويُستخدم سعر الصرف الرسمي (3015 ليرة للدولار) في التعاملات الرسمية وفي المبادلات المحدودة نسبيا التي تنفذها حكومة النظام السوري، بينما تحسب جميع الأعمال الأخرى بـ”دولار السوق السوداء”.

في غضون ذلك، يشير الدكتور في الاقتصاد عبد المنعم الحلبي، إلى أنه “لا نستطيع تسمية ما يجري لليرة السورية بالانهيار”، لكنه يقول: “هو انحدار شديد نعم”.

ومن جانب آخر، يضيف الحلبي أنه “لا يجب أن ننسى أن الانحدار يلبي مطالب الكثير من الصناعيين السوريين، إضافة إلى المكاسب التي يحققها النظام من زيادة قيمة ممتلكاته الدولارية”.

ويرى أن “الانحدار الحالي مسيطر عليه بالتأكيد، وربما ذاهب باتجاه سعر توازني هو العشرة آلاف ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد”.

في المقابل “يؤكد أن التدهور الشديد لليرة أن الجهاز المصرفي السوري المتمثل بالبنك المركزي لا يمتلك أي أدوات للكبح، وهو خارج اللعبة”، حسب الصحفي الاستقصائي السوري، مختار الإبراهيم.

ويقول الإبراهيم لموقع “الحرة”: “على العكس المصرف المركزي بات مضاربا وليس متحكما مثل باقي المضاربين في السوق، منذ منع التعامل بالدولار. بات هناك عدة لاعبين على الأرض وخصوصا الصيرفة في السوق السوداء”.

ويضيف الصحفي المهتم بالاقتصاد من جانب آخر لكن في ذات السياق بأن “لبنان الذي يعرف بالحديقة الخلفية لرأس المال السوري فتح منصة لبيع الدولار الواحد بـ38 ألف ليرة لبنانية”.

ويتابع: “هذه الخطوة ولدّت شعور لدى اللبنانيين بأن المركزي في البلاد قادر على إيجاد حلول ما أسفر عن ارتياح في الشارع، بينما المركزي السوري لا يمتلك هذه الأدوات أو القطع الأجنبي لاتخاذ ذلك”.

وأعلن مصرف لبنان المركزي، الثلاثاء، عن خفض حاد لقيمة الليرة إلى 38 ألف مقابل الدولار على منصته للصرافة (صيرفة)، في محاولة لتخفيف انخفاض العملة إلى مستويات قياسية في السوق الموازية.

وقال المصرف في بيان له: “يشتري مصرف لبنان كل الليرات اللبنانية ويبيع الدولار على سعر صيرفة (عند) 38 ألف ليرة للدولار، ويمكن للأفراد والمؤسسات ودون حدود بالأرقام أن يتقدموا إلى جميع المصارف اللبنانية لتمرير هذه العمليات، وذلك حتى إشعار آخر”.

وأضاف أن تخفيض قيمة الليرة، خلال فترة الأعياد، يرجع إلى “عمليات مضاربة وتهريب الدولار خارج الحدود”، وهو سبب اعتبره الصحفي السوري الإبراهيم أنه يفتح “إشارات استفهام”، وأن “خارج الحدود تعطي إشارة إلى سوريا. هناك ثقب أسود في السوق السورية يمتص كل الدولار وقد يمهد لحدث كبير ما سننتظره”، وفق تعبيره.

ما حدود التدهور؟

ونادرا ما تكشف حكومة النظام السوري الأسباب الحقيقية للأزمات الاقتصادية الحاصلة في البلاد ومن بينها أزمة العملة، فيما تحمّل كثيرا وباستمرار الدول الغربية والولايات المتحدة مسؤولية ما يحصل، وأن الأمر مرتبط بالعقوبات. 

لكن خبراء الاقتصاد يرون القصة بواقع مختلف، يتعلق بشكل أساسي ببنية النظام السوري، والسياسات التي يسير من خلالها لإدارة البلاد سياسيا واقتصاديا، فضلا عن مفاصل الاقتصاد السوري التي لم يبق منها أي شيء على حاله.

و”مادامت القبضة الأمنية هي من تحكم البيئة الاقتصادية سيبقى هناك حدود برأيي لأي انحدار في الليرة السورية”، وفق الباحث الاقتصادي مناف قومان.

ويقول قومان: “هذا ما يميز هبوط العملة في دولة تعتمد على مقاربة أمنية وبوليسيبة في إدارة الموارد والاقتصاد عموما عن إدارة اخرى”.

“هذا الأمر ما سيحدد السعر المدقع القادم، بمعنى إذا أخذ النظام منحة ومساعدة من حلفائه وتوفر الدولار في السوق قد يستقر عند هذه الحدود لفترة من الزمن”. ويضيف الباحث: “أما عن تحديد السعر القادم فلا يعنيني إذا عُرف أن قيمة هذه الورقة النقدية هبطت أمام الدولار بنسبة 99 بالمئة”.

ولا يعتقد الدكتور في الاقتصاد الحلبي أن “الأمر (التدهور) سيأخذ أبعادا أخرى غير معيشية، بشرط وجود سياسات ترميمية متعلقة بزيادة الدعم السلعي وزيادة الرواتب والتعويضات، مع زيادة المساعدات الأممية والعربية”.

ويرى الصحفي الاستقصائي، مختار الإبراهيم أن “التدهور سيتسمر ما لم يتم اتخاذ خطوات جذرية كبيرة”، منها “ضخ كميات كبيرة من الدولار في المركزي من قبل الدول الداعمة، أو إعادة مشاريع تعطي طمأنة بأن الليرة السورية ستنتعش من جديد”. 

ورغم ذلك، يضيف الإبراهيم أن “الضخ مستبعد من دول غير مؤهلة لهذا الأمر، مثل إيران أو روسيا، وكذلك إعادة المشاريع، في ظل الوضع السياسي والأمني والعقوبات، وما نسمعه مؤخرا عن الاستراتيجية الأميركية، لمكافحة وتفكيك شبكات الكبتاغون والمخدرات”.

من جانبه يعتقد الباحث مناف قومان أن “أي ضغط مالي على النظام السوري ينقل العبء نحو القطاع الخاص، وبالتالي قد نرى الفترة المقبلة خصخصة لقطاعات اقتصادية أكثر كما لاحظنا مع المحروقات”.

ويضيف أن “سلبية هذا الخيار يأتي من سوء الأوضاع المعيشية للسكان وشلل في كثير من جوانب الاقتصاد، ومن ثم الخصخصة ستخلق دوائر لرجال أعمال للانتفاع وتصيد الأرباح على حساب المواطن دائما”.

ضياء عودة

الحرة

—————————————

من ستختار دمشق.. أردوغان أم المعارضة؟/ فخري هاشم السيد رجب

صحيح أن سوريا تعاني الأمرين، وصحيح أيضا ان %20 من الأراضي السورية تعتبر فعليا تحت الاحتلال التركي المتمثل بالوجود العسكري من جهة، وبحماية العناصر المسلحة تحت رعاية تركية، ولكن الواقع التركي الداخلي يحمل اليوم الحل لإنهاء الحرب على سوريا، حيث إن الأطراف المتنازعة في الانتخابات والمتمثلة بالصراع السياسي ما بين أردوغان والمعارضة.. حيث بات عدو الطرفين المشترك هو الوقت، ذلك أن موعد الانتخابات اقترب كثيرا، فحوالي ستة أشهر فقط تفصل الأتراك عن تحديد هوية الواقع السياسي في السنوات المقبلة.

ويبدو جليا أن الورقة السورية هي الورقة التي سترجح كفة الفائز، ولم يعد خافيا على أحد ما كشفت عنه صحيفة تركيا المقربة من حزب العدالة والتنمية عن رسالة وجهها الحزب الجمهوري إلى الرئيس السوري بشار الأسد، كان الهدف منها عرقلة أي حالة من التفاهم أو التطبيع مع أنقرة تحت زعامة أردوغان، وفحوى الرسالة كان: إن حكومة حزب الشعب الجمهوري ستلبي جميع مطالب الحكومة السورية، بما في ذلك دفع التعويضات، إضافة إلى الانسحاب التام من الأراضي السورية التي احتلتها تركيا من سوريا، وقد سبق هذا الخبر معلومات مصدرها الخارجية السورية تم تسريبها إلى الإعلام، تفيد بأن حسن اكجول ومحمد غورال منصور من حزب الشعب الجمهوري قد بعثا برسالة إلى الرئيس بشار الأسد جاء فيها: أيام أردوغان معدودة، يمكن لأي مقابلة أن تؤثر في مستقبل الانتخابات، في ظل حكمنا ستتم تلبية جميع مطالب الإدارة السورية، بما في ذلك التعويض والتعهد بالانسحاب من الأراضي السورية، بما في ذلك إدلب.

والواقع أن القيادة السورية ربما لم ترد حتى اللحظة، لكنها ما زالت ترفض عروض أردوغان لعقد لقاء ثلاثي يجمع بوتين والأسد واردوغان.

جميع المعطيات تقول إن عمر الأزمة السورية لن يطول، وأن اللقاء الثلاثي قادم لا محالة، وبالرغم مما حصل، فإن لغة السياسة لها مفرداتها الخاصة المختلفة، فالرئيس السوري لا يستطيع إلا أن يتخذ قراره بالتنسيق مع روسيا وإيران لوقوفهما معه خلال الحرب وما تزالان إلى جانبه.

ما زال الجميع ينتظر القرار كمن ينتظر نتيجة امتحان، لأنه لم يعد يعني السوريين بعد كل هذا القهر والدمار والمرار إلا الخلاص. سواء أكان اردوغان أو المعارضة.. فالسوريون يبحثون اليوم عن الخلاص قبل أي شيء ولا مجال للتنازل عن أي حق، سواء في استرجاع الأراضي أو عودة الأهالي إلى مناطقهم وخروج المسلحين.

التراب اليوم سيد الموقف، والقرار قادم لا محالة.. والأكيد أن الوقت لا يخدم الأطراف التركية.

نقلا عن “القبس”

——————————–

الشرُّ الكامن وصحواتُ الموت السوري/ عبير نصر

بات تحديد مفهوم “الشرّ الكامن” في تركيبة الأنظمة الاستبدادية ضرورة حتمية، حتى وإن لم يتمكن من توفير تفسيرٍ مكتمل لأداء فعل ما، كما تقول المفكرة إيف جيرارد. في المقابل يبدو هذا المفهوم أكثر تعقيداً إذا ما تعلّق الأمر بنظام الأسد، فالجانب المخيف في استمرار وجوده، هو أنّ التشوّه الأخلاقي في المجتمع السوري قد بلغ حدّاً من التأزم، يقف فيه السوريون، على سبيل المثال، في أقفاص “مُعدّة لتنظيم توزيع الخبز”!، فيبدون أشبه بقطيع أعمى محشور في هاوية سحيقة، ولا يهتز لهم جفن!

واليوم، مع المعاناة العامة التي تلوك الجميع بنيرانها، ومع ارتفاع نبرة الغضب، يأمل كثيرون لو أنّ هذا السخط يُنتج شرخاً حقيقياً بين النظام وأنصاره، أو بين النظام وبقية الشعب الرازح تحت حكمه. وتبدو ملامح هذا الشرخ واضحة فعلاً، والتي يتمخض عنها يومياً ما سأسميه تجاوزاً بـ “صحوات الموت السوري”. لكن السؤال الجوهري يتمحور حول إمكانية قياس مدى فاعلية هذا الصحوات وعمقها وآثارها على المجتمع والنظام، خاصة عندما نراقب ونعايش عن قرب التفسخات والشروخ المجتمعية العميقة، وانعدام الثقة بين الجميع، والخوف من الأسوأ الذي يمكن أن يأتي بديلاً عن الحاضر السيئ أصلاً.

قد تفيدنا العودة إلى بداية محرضات القهر قبيل ثورات الربيع العربي. ففي تونس، كان العامل المحفز هو إشعال بائع الفواكه محمد البوعزيزي النار في نفسه، بعد إهانة “روتينية” من قبل الشرطة. في مصر، كان المحفز صور وجه خالد سعيد المشوه، الشاب الذي عُذّب حتى الموت. في سوريا، كان تعذيب أطفال كتبوا على جدران إحدى المدارس شعارات مناهضة للنظام. في ليبيا، كان اعتقال فتحي تربل، محامي ضحايا مذبحة سجن أبو سليم التي وقعت عام 1996. هذه الانتهاكات الصريحة قادت إلى ثورات شعبية، تحركها مطالبات بحكومات يمكن أخيراً أن تنتخبها شعوبها، تحترم حقوق هذه الشعوب، وتخضع لسيادة القانون.

لنعد بدورنا إلى أولى صحوات القهر السورية، لكن بعد عام 2011. ففي 21 فبراير/شباط من عام 2016، وبعد تفجيرين ضخمين طالا حياً موالياً للنظام في حمص، نزل العديد من الشبان الموالين الغاضبين، واعتصموا في أحيائهم وقطعوا الطرق، مطالبين بإقالة المحافظ واللجنة الأمنية. اعتبر كثيرون يومها أنّ ذلك أمر لافت، وحدثٌ يحمل رمزية “عدوى الثورة”، فالاعتصامات في النهاية كانت احتجاجاً على عدم قدرة الحكومة على حماية مواطنيها، وكانت أسلوباً ثورياً للتعبير عن الخوف وانعدام الأمان الذي يعيشه أهل هذه المناطق. لكن تلك الاعتصامات ما لبثت أن توقفت، والأصوات العالية خفتت بعد وعود وتطمينات، تبعتها إقالة بعض الشخصيات الأمنية والعسكرية. استطاع النظام وقتها لملمة الأمر سريعاً، وبدا أنه “اقتتال أهل البيت الذي يمكن احتواؤه”، لكن أسلوب الاحتجاج بقي في ذاكرة كثيرين، لا سيما عند الطرف الآخر المعارض المقهور، كما أنه أعطى إشارة غير مطمئنة للنظام.

واليوم لم تعد التفجيرات ولا فنون الموت المختلفة من يحرّك غضب السوريين. لنكن أكثر تحديداً ونجزم أنّ دموع العجز وحدها من بات يؤثر بهم. وأدلّ مثال على هذا مقطع فيديو غزا مؤخراً مواقع التواصل الاجتماعي، يُظهر صحافية تدعو رجلاً، في مناطق سيطرة النظام، لشراء طبخةٍ فاعتذر عنها مراراً، لكنها ألحّت في دعوته، ما دفع الرجل إلى البكاء بشكل عفوي بعدما سألته إن كان يحب “الشاكرية”، ملخّصاً معاناته بعبارة “الأوضاع صعبة”.

يقول أرسطو إن الغاية النهائية للطاغية كي يحتفظ بعرشه هي تدمير روح المواطنين وجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء إيجابي. لكن يبدو أنّ طاغية دمشق يفشل في رهانه مجدداً، بعدما راحت الصحوات تتفتح مجدداً بين أبناء حاضنته، ليس بداية بانتشار مقطع فيديو يظهر فيه ناشط محسوب على الطائفة الموالية، يقوم بفضح القصور التي يعيش فيها الأثرياء، بينما يفتقد أبناء الساحل لأدنى مقومات الحياة. معدداً أسماء الأشخاص الذين يتمتعون بغنائم “القهر السوري”، منهم أقارب الأسد وحاشيته وضباط ميليشياته وتجّار الحرب المقرّبين منه. شخصيات معدودة تعيش حياة رفاهية باذخة وتمتلك أحدث السيارات، من خلال تحكمها بعمليات التهريب وتجارة المخدرات والأسلحة، في ظل التغاضي المقصود عن جرائمها. خاتماً كلامه بعبارة “لهم القصور ولكم القبور”. والحقيقة لم يتوقف الأمر هنا. فيبدو أنّ سيناريو أطفال درعا يتكرر مجدداً. ففي منطقة كرسانا، وهي إحدى قرى اللاذقية في الريف الشمالي، كُتبت على جدارن مدرسة “كاسر داؤود” عبارات شُتم فيها رأس النظام وحكومته العتيدة، فقام عناصر الأمن بحذفها على الفور وتطويق المدرسة خوفاً من أيّ تحرّك مشابه.

على صعيد موازٍ. متفق عليه عموماً أنّ أكثرية مَن يتولّون مناصب ذات سلطة هائلة في سوريا، هم فاقدون للمبادئ الأخلاقية، يعتمدون خطاباً سياسياً مهندساً وفق نسقٍ ينسجم مع طبيعة أهدافهم ضمن الدولة التي هم فيها، ويحرصون على مواصلة حرف أنظار الجماهير عن شرّهم الكامن، ويوجّهون طموحاتهم الشخصية بما لا يتنافى مع هيكلية السلطة المتاحة لهم. ويبدو أن ثمة من ينحرف عن هذا المسار أحياناً، انحراف أشبه ما يكون بصحوة طارئة. لن يكون آخرها، بالطبع، تعرّض رئيس مجلس الشعب في حكومة النظام “حمودة الصباغ”، لحملةٍ من الانتقادات بعد ردّه على نائب ينتقد الحكومة، يدعى يوسف الناصر. وفي مداخلة له تحت قبة البرلمان، انتقد “الناصر” أداء الحكومة وعجزها عن تقديم أي شيء للمواطن، متسائلاً: “إلى متى سنبقى صابرين على الحكومة؟، حقاً لقد رفعنا العشرة”. ليدخل في سجال مع رئيس المجلس، الذي ردّ على الناصر بصفاقة مستفزّة: “أنت بتمثل حالك”. ورغم محاولة “الصباغ” مقاطعته لعدة مرات، أكمل النائب مداخلته، رافضاً الحصار الذي تمارسه الحكومة على السوريين، قائلاً: “وين بدنا نروح، وين بدو يروح الشعب، مارح نتهجر نحنا بسبب الحكومة”.

في كتاب “دولة الشرّ”، يقول الكاتب جون زافييه، إنّه يحق لكل مُستعبَد أن يقتـل سيّده، واعتماد جميع الوسائل المتاحة لتحقيق تلك الحرية. بالتالي، ينبغي أن يسري هذا المبدأ على النظام السياسي في سوريا. فالجميع لهم حق اقتلاع عرش حاكمٍ شرير، يقمعهم ويسلب حريتهم. وإذا كنّا نعي وجودَ مَظلمة، ولم نحرّك ساكناً لدرئها، فهذا يعني أنّنا راضون عنها وموافقون عليها.  نافل القول إن لم يكن ثمة شيء في حياتنا يستحق أن نصحو من أجله، إذن فنحن نعيش أسوأ حالات الموت، وإنّ الحياة الأبدية المجللة بالقهر ستكون أشبه بجحيم!..

في المقابل، كتب ويكتب كثيرون في صحف ومواقع إلكترونية عن ثورة جوع قادمة، لا هوية سياسية واضحة لها، وقد لا يصمد النظام أمامها ما لم يجد لها حلولاً. ولا نعلم إذا كانت هذه النبوءات قابلة للتحقق قريباً، لكن ما يمكن رؤيته بوضوح على المدى المنظور، هو أنّ هذه الإرهاصات والمناشدات، الأشبه بصحواتِ الموت، ليست سوى قطرات مياه رقيقة جداً وغير متتابعة تسقط على حجر صلد، ليس لها هذا الأثر المشاع المرجو منها اليوم، لكنها قد تحدث تغييراً في زمن ما، إذا ما استمرت، وتتابعت، وتكاثفت، واشتدت، حتى ينشقّ ذاك الحجر.

عبير نصر

تلفزيون سوريا\

—————————–

تحطيم قيد “السيطرة الغامضة” في البيئة الموالية لنظام الأسد/ بسام يوسف

في كتابها “السيطرة الغامضة” تحاول “ليزا وادين”، أن تقرأ ما حصل ويحصل في سوريا بطريقة جديدة، فهي تقرّ في أكثر من مكان في كتابها بصعوبة إخضاع الكثير من تفاصيل الواقع السوري، إلى أي من المفاهيم أو المعايير التي أنتجتها البشرية، عبر تجارب شعوبها المتنوعة والمتعددة، وربما تكون محقة في اختيارها قراءة سوريا بطريقة مختلفة، فهذا البلد المتخم بتلاوينه القومية، والدينية، والإثنية، والمتعدد الثقافات والبيئات، والذي يحظى بموقع جيوسياسي جعل منه عبر التاريخ ممراً لجيوش كثيرة، ووضعه تحت الاحتلال فترات طويلة جداً من تاريخه، وكان ولايزال يقول ما يريده الآخرون، أكثر بكثير مما أراد أبناؤه أن يقولوا، وخضع أفراده لمعادلات شديدة التعقيد، أنتجت في محصلتها أفراداً يصعب توقّع ردود أفعالهم، أو يصعب توقّع مواقفهم، كما في مجتمعات أخرى.

هل يمكن أن تشهد البيئات الموالية لنظام الأسد انتقالاً من تأييد النظام ودعمه، إلى الاحتجاج عليه ورفضه؟ كثيراً ما سألت هذا السؤال لنفسي، ولآخرين، وكثيراً ما تعرضت له، وفي كل محاولات الإجابة، كانت إشارة الاستفهام تبقى معلقة مثل جبل بلا أي إجابة.

من الطبيعي أن تصعب الإجابة على هذا السؤال، فبعد عشر سنوات من الأسئلة العميقة التي طرحتها الثورة السورية على كل السوريين ومن بينهم هذه البيئات، فإن الإجابة لم تتبدل كثيراً، وبقيت تحت عنوانها العريض المؤيد أو الداعم، وبالتالي يصبح القول إن انتظار تغيير عميق يقلب الإجابة إلى اتجاه آخر، قد يكون أقرب للوهم، لكن سرعان ما يتبادر للذهن أن انعدام الحد الأدنى من مقومات الحياة، وانغلاق الأفق تماماً، قد يدفع لانقلاب حقيقي في موقفها.

بتحديدنا للعوامل التي أدّت إلى انفجار الثورة السورية، يُمكننا مقاربة الإجابة الى حد معقول، لكن لا بدّ هنا من الإشارة إلى أن الاستناد إلى التحليل السائد حول أسباب التباين في الموقف مما جرى، قد يوقعنا في مطبات كثيرة، فليست الهوية الطائفية أو القومية هي حجر الأساس في هذا التباين، رغم حضورها القوي، لكن تشبيك هذه الهويات مع عوامل أخرى سياسية وثقافية، واقتصادية، وفهم بنية النظام والدولة وصيغة علاقتهما بالمجتمع، يتيح لنا أن نتلمّس الكثير من الإجابات، التي لاتزال عالقة في المشهد السوري.

بعبارة أخرى، لم يكن لكل من وقفوا مع الثورة دوافعهم المشتركة، وكذلك العكس صحيح بالنسبة لمن وقفوا ضدها أيضاً، وإن كانت هناك مساحة يتقاطع بها حملة كل موقف، هذا يدفعنا للبحث بشكل أعمق، وعدم الركون للتفسير السائد، أو بصيغة أخرى، علينا البحث عمّا هو أكثر عمقاً من الإجابات السهلة التي نتداولها عند نقاشنا حول تفسير الأمر.

في سعيه لتفتيت النسيج السوري، لم يستند النظام خلال عقود حكمه إلى العوامل الطائفية، والعشائرية، والمناطقية، والقومية والإثنية فقط، بل أضاف إليها عوامل اقتصادية، واجتماعية وسياسية، وعزّزها كلّها بأجهزة قمع تبطش بشدة بكل سهولة، وبلا أي مساءلة أو محاسبة، واستطاع بعد سنوات أن ينتج، وأن يوظف ما يمكن تسميته بالقمع الذاتي، والذي يمكن توضيحه على النحو التالي:

بعد سنوات من وصوله الى السلطة، وتحديداً بعد صراعه مع حركة الإخوان المسلمين، رسّخ حافظ الأسد آليات رقابة صارمة، يمارسها أفراد كثر في المجتمع على أنفسهم وعلى الآخرين، دون أن يطلب منهم ذلك، هذه الرقابة الذاتية، كانت محاولة من القائمين بها حماية أنفسهم بالدرجة الأولى، بعد معاينتهم لمدى وحشية العقاب الذي يتعرض له، من يشتبه بمعارضته للنظام، هذا الخوف من العقاب، خلق أفرادا مستسلمين حتى لو لم يتلقوا العقاب بشكل مباشر، لكن توقّعهم له، هو ما دفعهم للتماهي مع الجهة القامعة ولعب دورها.

أيضاً – وكما فعل هتلر – فقد عزّز حافظ الأسد من خنوع المجتمع وإرهابه، عبر استعراض حشود ضخمة مسيّرة، وترفع شعاراتها المتحدية، وكأنه يرهب بها من لا ينخرطون بها، كل هذا ترافق مع سعار إعلامي مدروس، وممنهج، يضخ يومياً ويعلي من قوة وقداسة الحاكم، وأصبحت صوره وتماثيله المنتشرة في كل الأمكنة، تقوم بتخويف وإرهاب المجتمع.

لم تلعب آليات القمع الذاتي التي رسّخها حافظ الأسد بعد وصوله إلى السلطة، دوراً قمعيا فقط، بل أتاحت له فسحة تجميل وجه نظامه القمعي بقوانين غير قمعية، وحتى بأن يظهر كنظام ديمقراطي، فلديه تحالف سياسي يقود البلاد (الجبهة الوطنية التقدمية)، ولديه دستور يحترم حق الأفراد في التعبير والرأي، وتأسيس الأحزاب و..و… الخ، لكن الإرهاب الشديد الذي تم ضخه في حياة السوريين، وسكن تفاصيل حياتهم اليومية، جعل من كل هذه القوانين أو المظاهر مجرد كلام بلا أي معنى، لا بل أصبحت هذه القوانين والمظاهر التي تدعم الديمقراطية، وحرية الفرد أداة أخرى من أدوات القمع، وراح السوريون المعارضون للنظام والذين قمعوا بوحشية، يتهمون من قبل سوريين آخرين بأن العمل المعارض مسموح بالقانون، فأنتم سجنتم أو قمعتم ليس لأن النظام قمعي وديكتاتوري، بل لأنكم خرقتم القانون.

تفاوت حضور القمع الذاتي بين تصنيفات المجتمع السوري، وهو انتهى فعلياً في البيئات التي ثارت على النظام، لكنه لايزال حاضراً في البيئات الموالية، ولايزال خوف الناس من بعضهم قائماً، لكنه يتهاوى شيئاً فشيئاً، رغم محاولة النظام تعزيزه والإبقاء عليه، يضاف إلى ذلك ما هو جدير بالتوقف عنده، فالتباين الذي قسم السوريين في بدايات الثورة، تقلصت حدوده وأسبابه كثيراً، بعد عشر سنوات من عمر الثورة، والأشخاص الذين مارسوا قمع الآخرين واستباحتهم، أدرك معظمهم أنهم كانوا مجرد أدوات استعملها النظام بلا مقابل، وعليه فإن الحلقة الأخيرة التي تقيد القسم الأكبر من الموالين، وتمنعهم من إطلاق صرختهم إنما تكمن في إحساسهم، أو في امتلاكهم ليقين الجدوى من صرختهم.

    كتاب “السيطرة الغامضة”، تأليف “ليزا وادين”، صادر عن دار الريس للكتب والنشر 2010، ترجمة نجيب الغضبان. 

بسام يوسف

تلفزيون سوريا

—————————–

هل باتت سورية في حالة مجمّدة؟ تقييم اللعبة وفُرص المشاركة

ترجمة: أحمد عيشة

في 14 أيلول/ سبتمبر، أصدر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بيانًا، يُحذّر من أن “سورية لا تستطيع تحمّل العودة إلى القتال على نطاق أوسع، ولكنها مكانٌ محتمل لتجدّد القتال”. تم تجميد الخطوط الأمامية في سورية منذ آذار/ مارس 2020، وبينما تستمرّ الهجمات عبر الخطوط مع المتمردين، بشكل شبه يومي، انخفض مستوى العنف انخفاضًا كبيرًا، مقارنة بالأعوام السابقة. ومع ذلك، أثار الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 شباط/ فبراير، تكهّنات بأن روسيا قد تسحب قواتها من سورية، إن لم تنسحب بالكامل، مما قد يخلق فراغًا في السيطرة يدفع القوات المتبقية المناهضة للنظام في البلاد إلى التصعيد، وإشعال فتيل قتال جديد واسع النطاق. ومع ذلك، تتجاهل هذه المخاوف من التصعيد التغييراتِ الكبيرة في ميزان القوى داخل سورية، في الأعوام الأخيرة، وتبالغ في تقدير مركزية القوة الروسية، وتقلل من أهمية القوة التركية والأميركية. إن دور روسيا في “تجميد” الصراع اليوم ضئيلٌ، في أحسن الأحوال، حيث إن تركيا والولايات المتحدة هما اللتان ضمنتا الاستقرار النسبي، في الشمالين الغربي والشرقي من سورية على التوالي. يكشف فهم الوضع الحالي لسورية والدور المتطور للجهات الفاعلة الدولية الرئيسة الثلاثة عن خيارات سياسية فريدة، لتعزيز وقف إطلاق النار الحالي، ولتمكين مشاركة أوسع لتحقيق الاستقرار ودعم ملايين السوريين الذين يعيشون خارج سيطرة النظام.

المساهم الأكبر الوحيد في الجمود السوري هو اتفاق وقف إطلاق النار في الشمال الغربي، الذي فرضته تركيا على روسيا، في آذار/ مارس 2020، إذ جمّد الاتفاق آخرَ جبهة رئيسة في البلاد. خلال ما يقرب من ثلاثة أعوام، منذ ذلك الحين، اقتصر القتال على خمس مناطق: 1) هجمات عبر الخطوط بين تركيا وحلفائها السوريين وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سورية. 2) قصف وتفجير عبر الخطوط الأمامية على امتداد جبهة إدلب. 3) الاقتتال الداخلي بين المتمردين في شمال غرب سورية، بين فصائل المعارضة المدعومة من تركيا المعروفة باسم الجيش الوطني السوري، وقد شهد في الآونة الأخيرة مشاركة هيئة تحرير الشام. 4) التمرد في جنوب سورية بين النظام والمتمردين السابقين وتنظيم داعش. 5) عمليات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ضد قوات النظام في وسط سورية وضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي.

تعريف التصعيد

عندما يتعلق الأمر بالتصعيد المحتمل، تكون هناك بعض المحفّزات الرئيسية. النقطة الأولى، وهي مرجحة، احتمال أن تشن تركيا هجومًا بريًا آخر ضد قوات سوريا الديمقراطية/ قسد، المدعومة من الولايات المتحدة، التي تُعدّ فرعًا لحزب العمال الكردستاني، الجماعة المصنفة إرهابية. منذ صيف عام 2022، أشارت تركيا إلى أنها تعتزم شن هجوم على المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، بالاشتراك مع النظام وإيران، في منطقتي تل رفعت ومنبج، التي أصبحت في الأعوام الأخيرة نقطة انطلاق لهجمات ضد القوات التركية، كما أصبحت منبج أخيرًا مركزًا اقتصاديًا مهمًا للشمال الشرقي. وأفصح رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، في الماضي أيضًا عن رغبته في الاستيلاء على عين العرب (كوباني) التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، لكنّ قرارات أردوغان ومصير الشمال الشرقي لا تحددهما الخطوط الحمراء الروسية.

نقطة الاشتعال الثانية المحتملة هي بين “هيئة تحرير الشام” والنظام في إدلب. ولا يزال خط المواجهة هذا مجمّدًا بسبب الانتشار العسكري التركي من جانب، والكبح الروسي لدمشق من ناحية أخرى. ومع ذلك، يتبادل المتمردون والنظام إطلاق النار بانتظام، على خط المواجهة، حيث يُقتَل مدنيون في إدلب، ومسلحون من الجانبين، كل أسبوع. في غضون ذلك، تواصل روسيا حملة القصف المتقطع لمنازل المدنيين. ولا يزال هناك احتمال بأن يؤدي هجوم كبير من قبل النظام أو من روسيا، في نهاية المطاف، إلى هجوم بري للمتمردين، وعند هذه النقطة، قد يتصاعد القتال، ويخرج عن سيطرة تركيا أو روسيا.

تفتقر حركات التمرد في جنوب ووسط سورية إلى القدرة على تغيير ميزان القوى في هذه المناطق، حتى مع التدخل الروسي الضئيل بالفعل في مواجهتها، ففي جنوب سورية أدى ذلك التدخل في الواقع إلى إحكام سيطرة النظام على المناطق التي كانت في السابق شبه مستقلة. وبالمثل، فإن تمرّد (داعش) في الشمال الشرقي، حيث تضعف تدريجيًا سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، في ريف دير الزور والرقة، يفتقر إلى القوة البشرية والعمق لإحداث انهيار كامل للحوكمة، وخلق فراغ كبير في السيطرة، مثل انسحاب قوات التحالف.

فراغ روسي!

السؤال المركزي هو كيف سيؤثر الغزو الروسي لأوكرانيا في سورية؟ هل يمكن لروسيا الضعيفة أن تشجع عمليات تصعيد جديدة للمعارضة أو لقوات سوريا الديمقراطية، حيث تسعى الجماعات المسلّحة إلى تعزيز مكانتها؟ هناك جانبان متنافسان في اللعبة هنا: ما يمكن للجهات الفاعلة في سورية المختلفة فعلُه، مقابل ما يَعدّون أنفسهم قادرين على فعله.

لم تعُد روسيا بمنزلة حصن عسكري لدمشق، كما كانت من قبل، بعد أن سحبت معظم قواتها المقاتلة من البلاد خلال عامي 2018 و2019. منذ استعادة النظام لجنوب سورية في ربيع 2018، ركّز الروس جهودهم على تدريب وتجهيز وإعادة بناء الجيش العربي السوري على وجه التحديد، بحيث لا تحتاج دمشق إلى تدخل عسكري روسي مباشر في المستقبل. اتبعت جهود إعادة البناء هذه مسارات متعددة، لكن الأهمّ من ذلك أنها أدت إلى تجديد القوات الخاصة التابعة للجيش العربي السوري، والتركيز على بناء مزيد من الوحدات المتنقلة وسريعة الاستجابة المقترنة بدعم مدفعي كبير. خلال هجمات النظام الأخيرة في عام 2019، وأوائل عام 2020، اقتصرت المشاركة الروسية المباشرة إلى حد كبير على توفير الدعم الجوي؛ حيث تركزت جهود روسيا على الإمداد والتخطيط والسيطرة على وحدات النظام المختلفة. بعد ما يقرب من ثلاثة أعوام، منذ ذلك الحين، واصلت روسيا بمنهجية تجهيزَ وتدريب مجموعة من وحدات النظام المتمركزة حول إدلب، بمدفعية (كراسنوبول) الموجهة بالليزر، حيث يشرف الضباط الروس بشكل روتيني على تدريب مدفعية الجيش العربي السوري في المنطقة. في هذه الأوقات، شرعت دمشق منذ عام 2018، في جهود متضافرة لإعادة بناء قوتها الجوية، التي حلّت ببطء محل دور روسيا في الحملة الجوية ضد (داعش) في وسط سورية.

كل هذه التغييرات تجعل خطر انهيار خطوط النظام في شمال غرب سورية أمرًا بعيدًا. قام الروس ودمشق ببناء جدار حماية ناري للنظام حول إدلب. لا يهمّ عدم تصدّي روسيا للفساد المستشري ونقاط الضعف الصارخة في الجيش العربي السوري، عندما تكون دمشق مدعومة في النهاية دعمًا فعليًّا على أرض الواقع، حيث لا يمكن لأي طرف غير قوات سوريا الديمقراطية أن يأمل في مضاهاتها. في حين أن القوات المتمردة ستنجح، بلا شك، في الاستيلاء على بعض الأراضي في هجوم افتراضي، لكن هناك احتمالًا ضئيلًا في الاحتفاظ بنجاحها هذا. وكذلك، فإن أي سيطرة للنظام على الشمال الغربي ستؤدي إلى تمرّد هائل في نطاق أكبر بكثير مما تعانيه دمشق حاليًا، في جنوب ووسط سورية. إن الجيش التركي هو الذي أنهى قدرة النظام على التحليق فوق إدلب، والجيش التركي وحده هو القادر على ضمان ربح المتمردين واستقرارهم في المستقبل.

ولذلك، فإن الخطر الأكبر للتصعيد يأتي من المبالغة في تقدير دمشق أو هيئة تحرير الشام لقوتهما. ربما لا تزال هيئة تحرير الشام تعتقد أن القوة الجوية الروسية هي الوحيدة التي تقف بينها وبين الانتصارات الجديدة، في حين أن دمشق قد تستخفّ بعزم تركيا على منع مزيد من التعديات على إدلب. وإذا اختبر أحد الطرفين هذا الجمود، فسيقع على عاتق تركيا الدور الأكبر في منع دوامة التصعيد.

دور تركيا

إن موقف تركيا هو الأكثر تأثرًا بالحرب في أوكرانيا. دخلت أنقرة وموسكو في توازن دقيق من الخدع والضربات، منذ التدخل الروسي في عام 2015. كان الهجوم التركي لعام 2020 أوّلَ تحوّل جاد في سياسة أنقرة تجاه روسيا، عندما فرضت بالعنف وقف إطلاق النار الذي تفاوض عليه البلدان قبل أعوام، والذي كانت روسيا تتجاهله باستمرار. التكاليف السياسية والمادية لاستمرار تركيا في تطبيق وقف إطلاق النار في شمال غرب البلاد ليست ضئيلة، وعلى رأسها المخاطر واستنزاف الموارد التي يتحملها الجيش التركي، مع حقيقة أن إدلب تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، وهي جماعة مصنّفة إرهابية. ومع ذلك، فإن العامل الوحيد الذي يحفّز على صنع السياسة التركية في شمال غرب سورية هو وقف تدفقات اللاجئين، وهي قضية محلية حساسة لكل من الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة. لذلك لا يمكن أن تسمحَ أنقرة بهجوم للنظام، يمكن أن يدفع ملايين السوريين الآخرين إلى تجاوز الحدود، وليس لديها أيضًا حافز كبير للمخاطرة بأرواح الجنود الأتراك، لمساعدة المتمردين في استعادة الأراضي من النظام.

وبالمثل، فإنّ السياسة الداخلية ومخاوف الأمن القومي المتصورة، وليس القوة الروسية، تُملي العمل العسكري التركي ضد قوات سوريا الديمقراطية أو عدم اتخاذ أي إجراء ضدها. لا تحتاج تركيا إلى ضوء أخضر روسي للاستيلاء على “تل رفعت”، ويشكّل الضغط الروسي عقبة أقل شرق الفرات، حيث تستهدف تركيا بشكل روتيني الخط الرفيع لقوات النظام المتمركزة على طول حدودها مع قوات سوريا الديمقراطية. بدلًا من ذلك، يتأثر صنع القرار التركي في الشمال الشرقي بدرجة أكبر بالضغوط الاقتصادية والسياسية الأميركية، وهجمات قوات سوريا الديمقراطية/ حزب العمال الكردستاني داخل سورية وتركيا. وبالتالي، فإن ما يحدث في أوكرانيا ليس له تأثير يُذكر على خطر التصعيد في الشمال الشرقي. إن الانتخابات التركية المقبلة في منتصف عام 2023، وخطر استمرار ارتباك الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، هما ما يخلق حالة من عدم اليقين، بخصوص قرارات أردوغان بصدد سورية.

الآثار المترتبة على المشاركة الأجنبية

على الرغم من الجبهات المجمّدة، لا يزال المدنيون في شمال غرب سورية يتعرضون لقصف أسبوعي، من قوات النظام، ويؤدي ذلك إلى نزوح الآلاف كلّ شهر. بينما استخدمت هيئة تحرير الشام الهدوء النسبي لقمع وتفكيك معظم الجماعات الجهادية العابرة للحدود التي تعمل هناك، تركت الظروف الإنسانية المتدهورة فرصة لخلايا (داعش) والقاعدة للاستمرار وإعادة البناء. تعاني المنطقة الشمالية الشرقية المخاطر نفسها، حيث التهديد المستمر بالاجتياح التركي، والمخاوف من انسحاب الولايات المتحدة وعودة النظام، وعثرات الإدارة التي يقودها الأكراد في الأمن والحوكمة، التي عززت بيئة مثالية لـ (داعش) للتجنيد وجمع الأموال والعمل.

توفر كلتا المنطقتين فرصًا فريدة لتحسين الظروف الإنسانية ومعالجة التهديدات المحتملة للأمن القومي لصانعي السياسات الراغبين في التفكير بشكل خلاق في الصراع. يجب السماح لمنظمات المعونة الدولية بالعمل، وتشجيعها على توسيع نطاق عملها بما يتجاوز المساعدات الفورية المنقذة للحياة في إدلب، والاستثمار في أعمال الاستقرار، التي ستوفّر فرص التعليم والعمالة للمدنيين في المنطقة البالغ عددهم ثلاثة ملايين مدني. قد تجد الدول الغربية عوائد مغرية للمشاركة الخاصة مع هيئة تحرير الشام، في موضوعات مختارة، مثل الضغط على المجموعة لاحترام حقوق المجتمع المدني والصحفيين، مع الاستمرار في قمع الجهاديين العابرين للحدود. في غضون ذلك، يشكّل وجود التحالف في شمال شرق سورية حصنًا أساسيًا ضد عودة (داعش)، ومحاولات أنقرة ودمشق للسيطرة على مناطق جديدة من قوات سوريا الديمقراطية. لعبت الضغوط السياسية والاقتصادية الأميركية -وليس الروسية- على أنقرة، دورًا كبيرًا في ردع هجوم جديد، في منبج أو عين العرب (كوباني)، في حين أن اللامبالاة بحملة الطائرات بدون طيار التركية أعطت أنقرة مساحة لإضعاف شبكات قيادة حزب العمال الكردستاني. ومع ذلك، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها استثمار مزيد من الموارد، والاهتمام بالأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تقوّض حملة مكافحة (داعش)، وتؤدي إلى شرخ بين العرب والإدارة التي يقودها الأكراد.

لقد تضاءلت مركزية روسيا، كعامل استقرار رئيس للنظام السوري في الأعوام الأخيرة. ويجب أن يدرك صانعو السياسة أن تركيا وأميركا أصبحتا ضامنتين لشبه الاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وأنهما وحدهما من يملك القوة لتعزيز مرونة الاتفاقات الحالية. يجب أن تستمر أميركا في الضغط على أنقرة ضدّ أي هجوم بري، مع العمل معها في نفس الوقت لضمان الحفاظ على وقف إطلاق النار في شمال غرب البلاد، أثناء وبعد انتخابات عام 2023. قد يكون من الصعب اتباع هذه السياسات، لكن تجاهل الأسباب الحقيقية الكامنة وراء “سورية المجمدة” اليوم، وهشاشتها كلّها، يضمن تصعيدًا في المستقبل. بدلًا من الشعور بالرضا عن الذات تجاه الهدوء العام، يجب على الدول الغربية إعادة النظر في اتساع الخيارات المتاحة لديها الآن، من أجل صنع سياسات إبداعية لزيادة الاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وتحسين حياة ملايين السوريين.

*- الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

اسم المقال الأصلي   Frozen Syria? Assessing the state of play and opportunities for engagement

الكاتب غريغوري ووترز، Gregory Waters

مكان النشر وتاريخه    معهد الشرق الأوسط، MEI، 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022

الرابط   http://bit.ly/3EXjAYu

عدد الكلمات   1910

ترجمة  وحدة الترجمة/ أحمد عيشة

مركز حرمون

—————————-

=================

تحديث 30 كانون الأول 2022

————————

حصاد سوريا 2022: مشاقّ وارتهان وعربدة إسرائيلية/ صبحي حديدي

أكثر من واجب واحد، أخلاقي أولاً لكنه أيضاً يخصّ السياسة والاجتماع الإنساني، يقتضي بدء حصاد سوريا للعام 2022 من تقارير منظمة «الدفاع المدني السوري»، أو «الخوذ البيضاء» في التسمية الأخرى: استشهاد 165 شخصاً، بينهم 55 طفلاً و14 امرأة، جراء أكثر من 800 هجوم على شمال غربي سوريا، شنته قوات النظام السوري والقاذفات الروسية ومفارز «الحرس الثوري» الإيراني و»حزب الله» والميليشيات العراقية والمذهبية الأخرى الموالية لطهران. وتنوعت الضربات بين 63 غارة جوية جميعها روسية، وأكثر من 550 هجوماً بالقذائف المدفعية، و54 هجوماً صاروخياً بينها 3 هجمات بصواريخ أرض ـ أرض محملةً بقنابل عنقودية، إضافة إلى 28 هجوماً بالصواريخ الموجهة؛ وحسب المنظمة، فقد تركزت الهجمات بشكل خاصّ على المراكز الحيوية والمنشآت المدنية ومقومات الأمن الغذائي. ارتُكبت، إلى هذا، 9 مجازر في أنحاء مختلفة من سوريا، راح ضحيتها 73 شخصاً بينهم 29 طفلاً و8 نساء، وأُصيب 174 آخرون؛ وهنا أيضاً تقصد النظام وحلفاؤه استهداف الأسواق الشعبية والمخابز والمباني العامة وبعض المشافي والمستوصفات، ومخيمات اللجوء.

الأشدّ قبحاً وبشاعة وانحطاطاً في الغالبية العظمى من هذه الهجمات أنها، على صعيد النظام، تسعى إلى شحن ما تبقى من قوّات تابعة لجيشه ببعض أسباب الوجود كوحدات عسكرية، فضلاً عن شحن النفوس التائهة المريضة بمزيد من الأحقاد الانتقامية والمناطقية التي لا يغيب عنها عنصر الشحن الطائفي. على الصعيد الروسي، ثمة استمرار لنهج وضع الأسلحة الروسية الفتاكة في حال من التجريب الميداني المفتوح، خاصة تلك الأصناف التي تستحدثها مصانع الجيش الروسي ولا تجد الساحات الملائمة لاختبارها، سواء في ميادين التدريب الروسية أو في جبهات أوكرانيا المختلفة. ولم يكن استثناء أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طالب جنوده، خلال اجتماع مع القيادات العسكرية الروسية، بأن يطبقوا في أوكرانيا ما تعلموه في سوريا. إيران والميليشيات تستأنف الخيارات ذاتها التي اعتمدتها منذ دخولها طرفاً مباشراً في القتال إلى جانب النظام السوري، وإلى جانب التوسع وإنشاء القواعد العسكرية الميدانية، لا يوفّر أتباع طهران جهداً في تفكيك ما تبقى من تماسك مجتمعي في قرى سوريا وأريافها بصفة خاصة، والسعي إلى التبشير والتشييع والتطويع.

طراز آخر من الهجمات وعمليات القصف تعرضت وتتعرّض له مناطق مختلفة في سوريا، تمثله هذه المرّة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على أهداف إيرانية مباشرة أو تابعة لميليشيات موالية لطهران؛ وبات من المعتاد أن تُنفّذ ضمن سياقَين من الصمت المشترك، سواء من جانب الرادارات الروسية، حتى حين تقترب الضربات من الساحل السوري والقواعد الروسية في مطار حميميم وميناء طرطوس؛ أو من جانب الصواريخ والمسيرات الإيرانية، المنتشرة داخل سوريا أو في عهدة «حزب الله». في أواخر كانون الثاني (يناير) أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على محيط العاصمة دمشق، وفي مطلع شباط (فبراير) أغار على مواقع في محيط دمشق وضرب بصواريخ أرض – أرض أهدافاً في الجزء السوري من الجولان المحتل، وبعد أيام قليلة خلال الشهر ذاته قصفت دولة الاحتلال نقاطاً في تخوم مدينة القنيطرة، وفي مطلع آذار (مارس) استهدفت محيط مدينة دمشق مجدداً، وفي 14 و27 نيسان (أبريل) تكررت الضربات قرب العاصمة وفي عمق الجولان.

وفي أواسط أيار (مايو) وأواخره كان القصف نصيب القنيطرة ومحيط مصياف في محافظة حماه، وفي 10 حزيران (يونيو) خرج مطار دمشق عن الخدمة نتيجة القصف الإسرائيلي للمهابط والصالة الثانية، وفي أواسط آب (أغسطس) وأواخره استهدفت الصواريخ الإسرائيلية ريف دمشق ونقاطاً في ريف محافظتَيْ حماه طرطوس، وفي مطلع أيلول (سبتمبر) وأواسطه التحق مطار حلب بمطار دمشق فخرج من الخدمة بعد القصف الإسرائيلي لمهابطه، وفي أواخر تشرين الأول (أكتوبر) قُتل 21 عنصراً من الفرقة الرابعة في قصف استهدف حافلة في منطقة الصبورة قرب دمشق، وبتاريخ 25 من الشهر ذاته نقلت صحيفة «جيروزاليم بوست» عن مصادر عسكرية إسرائيلية أنّ دولة الاحتلال دمرت 90% من البنية العسكرية الإيرانية في سوريا. وهذه ليست حصيلة إحصائية تامة، بل هي غيض من فيض ما وقع على الأراضي السورية من اعتداءات إسرائيلية، لعلّ أكثر ما يلفت الانتباه فيها أنها غالباً لم تستهدف جيش النظام مباشرة، أو الوحدات العسكرية المقرّبة من روسيا على شاكلة كتائب سهيل الحسن (النمر) مثلاً، بل اقتصرت على أهداف تابعة لإيران وميليشياتها.

من جانب آخر، اجتماعي – اقتصادي هذه المرّة، إذا كان ارتهان النظام إلى إيران وروسيا قد أعاد بعض المناطق إلى سيطرته، حتى بالمعنى الإسمي؛ فإنّ ذلك الارتهان عجز، ويواصل العجز، عن انتشال النظام من مشكلات اقتصادية بنيوية، ومن مشاقّ هائلة غير مسبوقة يعاني منها المواطن السوري على صعيد غلاء الأسعار، وندرة الموادّ الأساسية أو رفع الدعم عنها، وانحطاط الخدمات العامة على أصعدة الصحة والماء والكهرباء… ولعلّ المؤشر الأوضح جاء في ختام السنة 2022 حين هبط سعر صرف العملة الوطنية إلى 7000 مقابل الدولار الواحد، وذلك للمرّة الأولى في تاريخ الانهيارات المتعاقبة التي شهدتها الليرة السورية في أسواق العملات. مؤشر آخر هو أنّ معدلات توفير الكهرباء بلغت في بعض المناطق درجة ربع ساعة يتيمة مقابل 10 ساعات انقطاع، هذا عدا حقائق انعدام أصناف الوقود اللازمة لتشغيل المولدات؛ وباعتراف رئيس وزراء النظام، فإنّ سوريا بحاجة إلى 200 ألف برميل من النفط يومياً، بينما إنتاجها لا يتجاوز 20 ألف برميل. وكان النظام يعتمد على توريدات نفطية تؤمنها صهاريج «الحشد الشعبي» تهريباً من العراق، لكنّ عجز النظام عن سداد قيمة المهربات بالعملة الصعبة جعل الميليشيات الحليفة تتوقف عن التوريد، وكانت حال مشابهة قد اكتنفت صادرات إيران من مشتقات النفط إلى النظام.

وفي غمرة مشاقّ طاحنة تخنق حياة السوريين اليومية، وإمعان النظام أكثر فأكثر في الارتهان إلى رعاته الإيرانيين والروس، وعربدة الطيران الحربي الإسرائيلي في أجواء سوريا طولاً وعرضاً؛ أفلح رأس النظام بشار الأسد في «إنجاز» خطوتَين خارج عنق الزجاجة، تولت أجهزته الإعلامية التهليل لها، متعامية تماماً عما اكتنف الخطوتين من ملابسات فاضحة تضيف الإهانة إلى جراح السوريين. ففي مطلع أيار (مايو) قام الأسد بزيارة خاطفة إلى طهران التقى خلالها المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، وكانت الثانية بعد زيارة أولى في خريف 2019 (أسفرت، يومذاك، عن استقالة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بسبب عدم علمه بالزيارة)؛ من دون الإعلان مسبقاً، ومن دون رفع علم النظام لدى استقبال الأسد، وغمز خامنئي من قناة «بعض قادة الدول المجاورة لإيران وسوريا» الذين «يجلسون مع قادة إسرائيل». وليس أدلّ على هزال هذه الزيارة من حقيقة أنّ خامنئي كان يقصد دولة الإمارات التي طبّعت مع الاحتلال الإسرائيلي، ولكن تلك التي كانت «إنجاز» الأسد الثاني؛ لأنّ محمد بن زايد استقبل الأخير في أبو ظبي، لأغراض شتى قد يكون تعكير ارتهان الأسد لإيران في طليعتها!

وبين رحيل قَتَلة أمثال علي حيدر (قائد الوحدات الخاصة الأسبق)، وذو الهمة شاليش (المرافق الشخصي للأسدَين الأب والابن وأحد ضباع الفساد)، ومهازل عودة مجرم الحرب الأشنع رفعت الأسد إلى «حضن الوطن»، ومساخر فيديوهات تمساح الفساد رامي مخلوف؛ حملت سنة 2022 الكثير من العلامات الفارقة على اختتام آل الأسد 52 سنة من الاستبداد والفساد والإجرام والتبعية.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

—————————

عام الانهيارات السريعة في سورية/ سوسن جميل حسن

ربما فقد الفرد السوري قدرته على التذكّر تحت ضغط الحياة القاسية التي يعيشها، مثلما فقد قدرته على الحلم وتصوّر مستقبل لأبنائه، فكل المعطيات تشير إلى انغلاق الأفق أمام وجهه، وإلى انعدام الأمل في تغيير ظروفه وتحسينها قليلًا في المنظور القريب. لكن لو عزمنا على التأمّل في العام 2022 الذي يغادرنا إلى نهايته، وحاولنا الرجوع إلى الخلف والتمعّن في حياة السوريين، ليس أكثر، من دون استرجاع المفاصل الأساسية في السياسة والأحداث الكبرى، فسنرى هول الانهيار الذي وقع، فقبل عام، في مثل هذا الشهر من 2021، كان سعر صرف الدولار بالنسبة إلى الليرة السورية، التي أطلِق شعار “ليرتنا عزّتنا” مع بداية انهيارها، بحدود 3500 ليرة، أما اليوم فقد قارب السبعة آلاف. كان سعر الذهب عيار 21، الأكثر شيوعًا وطلبًا لدى السوريين، عندما كان بإمكانهم شراؤه في المناسبات الاجتماعية المهمة في حياتهم، كالزواج مثلًا، يعادل 182 ألف ليرة، بينما سعره حتى كتابة هذا المقال 325 ألف ليرة. وكان سعر البنزين المدعوم وفق البطاقة الذكية، بعد رفعه في مثل هذا الشهر من العام الماضي، 1100 ليرة، بينما سعره اليوم، وهو غير متوفّر إلّا في السوق السوداء، 4900، بينما وصل في هذه السوق إلى حوالي العشرين ألفًا. أما بالنسبة للمواد الغذائية فيكفي أن نعرف أن سعر كيلو الدجاج الحي كان 7200، قبل عام، واليوم بحدود العشرين ألفًا، أما طبق البيض فكان بحدود العشرة آلاف، وهو اليوم يفوق السبعة عشر ألفًا، وكيلو اللحم يتراوح بين الأربعين والخمسين ألف ليرة، بينما يحوم متوسط الرواتب والأجور حول المئة والخمسين ألفًا في الشهر.

يمكن عرض كثير من أسعار السلع الحياتية الضرورية للناس، واستخلاص نتيجة أن الانحدار بات متسارعًا بشدة، ما يجعل المواطن السوري يئنّ وهو على مشارف الهلاك جوعًا وعطشًا وبردًا، ففي عام فقط حصل انهيار الليرة بمعدل مائة بالمائة تمامًا، ولا تملك الحكومة أي قدرة على تنفيذ حتى الخطط العرجاء التي يبتدعها خيال المسؤولين القاصر. لذلك كان من الطبيعي أن تتعطّل الحياة تسعة أيام، بقرار حكومي، بين عيدي الميلاد ورأس السنة، بعدما وصلت أزمة المحروقات إلى حدٍّ شلّ الحركة بالمطلق، ليس بين المحافظات فقط، بل ضمن المدينة الواحدة. لا أحد يستطيع أن يصل إلى مكان عمله، ولا إلى مقصده، بالإضافة إلى شلل بعض القطاعات الحيوية، فهناك مشافٍ تعاني من النقص في كل شيء، من المحروقات والكهرباء والمواد الطبية، ومن الموارد البشرية، فكان أن أعلن مشفى التوليد، في دمشق، توقفه عن العمليات الباردة. وتوقفت أفران كثيرة بسبب غلاء المحروقات، وبسبب تقلّص هامش الربح إلى حد التهديد بالخسارة. توقف عاملون كثيرون في المداجن، وأغلقت منشآتهم. ولا بد من الإشارة إلى كمية النقد التي طبعت في هذه السنوات، من دون غطاءٍ من العملة الصعبة أو الاقتصاد.

لا يكفّ النظام عن إرسال الإرساليات التي ترمي إلى تجميل هذا الواقع، كتصوير حياة الناس المحتفلين بعيد الميلاد، والكاميرات التي تجول في بعض الأمكنة، حيث أقيمت بعض الزينة في الحد الأدنى، بإنارةٍ تعتمد على البدائل الأهلية، وليس على كهرباء الدولة، إذ إن الظلام واضح في محيط الصور، ومنها ما يأتي مثل صفعة على الأرواح برغم عذاباتها، وجديدها أخيرا عزم الحكومة على إعادة تشكيل ساحة السبع بحرات في قلب دمشق، التي عمرُها حوالي قرن، تبدّل اسمها من ساحة الكابتن ديكار بانتري، قائد فرقة الهجانة الفرنسية (حرس البادية)، الذي قتله الثوار السوريون في المكان ذاته عام 1921، إلى ساحة 17 نيسان، تخليدًا لذكرى الجلاء الفرنسي عن سورية 1946، ثم تكريمًا للكتيبة العسكرية المغربية، التي شاركت في حرب تشرين، سمّيت في العام 1973 “التجريدة المغربية”، لكنها بقيت في وجدان الدمشقيين والسوريين وعلى ألسنتهم “ساحة السبع بحرات”، وهذا يدلّ على أن ما يبقى هو ما يبدعه الشعب، هو ما يلتصق بالأرواح كجزء عزيز من الهويّة..

يعرف الدمشقيون تاريخ المنطقة، عندما كانت بساتين تحيط بدمشق، دمشق الواحة القديمة، والعاصمة التي لم تنقطع فيها الحياة على مرّ تاريخها، منذ أول بيوتٍ بنيت فيها، كانوا يقيمون سيراناتهم في بستان “عين الكرش” حيث توجد عين مياه عذية تسمى بهذا الاسم، تفيض مياهها وتغمر المنطقة مشكّلة بحيرات جميلة، والسيران بالنسبة لأهل الشام/ دمشق من مظاهر الاحتفاء بالحياة. دمشق التي توصف بأنها أقدم مدينة/ عاصمة ما زالت مأهولة، دوّنت تاريخًا غنيًّا، اقتصاديًّا وثقافيًّا، وكانت محطة مهمة في طريق الحرير، والقوافل المتجهة إلى بلاد فارس، وآسيا، ومصر، والجزيرة العربية، ومركز أكبر دولة إسلامية في تاريخ الإسلام، دولة الأمويين، اليوم هي أقل مدينة ملائمة للعيش في العالم، ليس بحسب المراكز البحثية العالمية، بل بحسب نبض الحياة فيها، وبحسب نفوس أبنائها المقهورين، الذين يضمرون عشقها المستحقّ في قلوبهم.

فما الرسالة التي يريد النظام إيصالها إلى هؤلاء المقهورين البائسين؟ لماذا الإصرار على تغيير وجه دمشق وطمس معالمها العريقة وهويتها التي تمسّك بها ساكنوها من دون أن يكونوا بعيدين عن مواكبة العصر، منها ما حصل أخيرًا بالنسبة لمنطقة محطّة الحجاز، وسوق الحرف اليدوية في التكية السليمانية؟ ما الغرض من إعادة تشكيل ساحة السبع بحرات وتحديثها، والتي لا تحتاجها في الأصل، بينما الشعب يجوع ويبرُد ويمرض من دون أن يلاقي الغذاء والدفء والدواء؟ ما الغرض من التجديد والتجميل، بينما البنية التحتية متهالكة في كل المستويات؟ لا ماء، لا كهرباء، ولا إنترنت، وصرّافات أكثر من ثلاثة أرباعها خارج الخدمة، فلا يستطيع الموظف الوصول إلى راتبه الهزيل إلّا بحرق وقته وأعصابه وعواطفه عدة أيام، الشوارع مليئة بالحفر، والأرصفة كذلك، والمدارس متهالكة، تحتاج صيانة جذرية، وغيرها الكثير، فالبنى التحتية، الاقتصاد، الصحّة، الخدمات في حالة عجز. والاقتصاد أيضًا، زيادة على تراجع الدعم الاقتصادي الروسي، ومطالبة الإيرانيين بالديون من خلال ثلاثة خطوط ائتمانية مفتوحة منذ العام 2011، وتم تجميدها، وعندما طلبت الحكومة قرضًا من الحكومة الروسية رفضت، فروسيا غارقة في حربها الأكبر، في أوكرانيا، وإيران تعاني من الحصار والعقوبات، ومن غضب الشعب والمظاهرات التي أربكت النظام بالرغم من العنف الذي يقابلها به.

في المقابل، ليس الوضع أفضل كثيرًا في شمال غرب سورية الذي يعتمد على الليرة التركية والمنتج التركي، إذ تنعكس عليه أزمة هذه الليرة والتضخم الذي تعانيه، بالإضافة إلى الفساد الذي يتفشى في مفاصل السلطة في تلك المناطق، عدا الضغط الذي تسبّبه الأزمة السورية على السياسة الداخلية التركية، والتنافس على الفوز في الانتخابات.

في العام الماضي إلى خواتيمه، ازدادت معاناة السوريين كثيرًا، تردّت حياتهم، ازداد انغلاق النفق المحشورين فيه، وصار اجتراع الحلول أمرًا إسعافيًّا. لكن هل تُمحى تضحيته وضحاياه بجرّة قلم، من أجل أن تسير السياسة وفق مصالح الأطراف التي أدارت الحرب على مدى السنوات الماضية، ويضمن كل طرفٍ حصته، بمن فيهم النظام؟ وكأن هناك شعوبًا عزيزة وشعوبًا يتيمة. أمّا شعوبنا، ومنها السوري، فيتيمة، وما أكثر اللئام حوله، من الأوصياء عليه بحكم الأمر الواقع، بين نظام ومعارضة، وصولًا إلى آخر ضالع في مأساته، فهل سيحمل العام المقبل بارقة أملٍ في أن يعي الشعب السوري يُتمَه، وينظر إلى واقعه بطريقة أخرى، علّه يدرك أن الطريق إلى الحرية تلزمه إرادة حرّة من الولاء والارتهان إلى إراداتٍ خارجية، وأن طلب الحرية من حقوقه، وليس مؤامرة كونية عليه؟

العربي الجديد

————————–

اعتقادات خاطئة للأسد/ بهاء العوام

جوهر الأزمة السورية بالنسبة إلى الداخل اليوم، هو غياب الأمن وضيق العيش. فلم يعد النظام قادرا لا على حماية الناس ولا على تأمين مستلزمات حياتهم.

ما حدث في محافظة السويداء مؤخرا يعكس واقع الحال ومآلاته، عندما تظل “الدولة” تتجاهل حاجة الناس إلى الحياة بالحدود الدنيا من الخدمات. وتستدعي العقوبات الغربية للهروب من كل مطلب اقتصادي أو خدمي. وكأنها أسقط في يدها ولا تمتلك من أمرها شيئا، فلا يسعها إلا انتظار رحمة المجتمع الدولي على الشعب الذي يتضور جوعا وبرداً.

الواقع أن نظام بشار الأسد يدعي العجز ليس فقط في إدارة شؤون الاقتصاد، وإنما في كل الجوانب السياسية والمدنية والعسكرية. لا أحد ينكر الضغوط الدولية التي تعيشها البلاد منذ سنوات، ولا أحد ينكر أيضا قيود العقوبات على حركة الاقتصاد بالنسبة إلى الأفراد والشركات والدول، ولكن هل يبذل النظام جهده لمساعدة الناس فعلا؟

الأسد الابن اختار الطريق السهل، وقرر تعطيل كل الحلول إلى حين حدوث تغيرات دولية تعيد واقع الحال إلى سوريا كما كان قبل عام 2011. لا حاجة إلى تغيير أو إصلاح رغم كل ما حدث في البلاد. وكأن الزمن سيعود إلى الوراء يوما، ليستيقظ السوريون على مدنهم وحياتهم ومؤسساتهم وليرتهم دون تشوه أو ضرر أو حتى تبدل.

في الوهم الذي يعيشه اليوم، يتمنى الأسد لو أن الشعب يغفو كأهل الكهف لسنوات، ثم يصحو وكأن شيئا لم يتغير، ولم تمس شعرة واحدة من محددات الدولة ولا حدودها. ولكن الواقع يقول إن كل شيء قد تبدل، والرهان على عودة الحياة إلى ما قبل 2011 هو مجرد حسابات خاطئة لا تعكس نضجا ولا تعبر عن دهاء سياسي.

قبل أيام نقلت وكالة رويترز عن مصادر سورية أن بشار الأسد يماطل في عقد لقاء مع نظيره التركي بوساطة روسية. وتبرر المصادر ذلك بأن الأسد لا يريد أن يمنح أردوغان “نصرا انتخابيا” مجانيا. لكن السؤال هو، من يحتاج إلى “انتصارات” تعينه على مساعدة نفسه وشعبه في الداخل والخارج، أردوغان أم بشار الأسد؟

كثيرة هي لاءات الأسد التي تعطل حل الأزمة السورية. رفض المصالحة مع تركيا واحدة منها. وكذلك عدم الجدية في مفاوضات جنيف الدستورية، بالإضافة إلى عدم الاعتراف بالخراب الذي جره ويجره تدخل إيران وذراعها حزب الله الإرهابي في الشأن الداخلي. وقبل كل هذا، رفض الاعتراف بحقيقة الأزمة الوجودية التي تعيشها البلاد في ظل انقسام الأرض والشعب بين دول عدة منذ سنوات.

لهاث النظام وراء أوهامه، وتمسكه بالرهان على عطف العالم وقبوله بمساعدة “الدولة العاجزة” في نهاية المطاف، يستند على 5 اعتقادات خاطئة تزيد من تعقيد الأزمة.

أول الاعتقادات الخاطئة، هو قراءة التغيرات الدولية كمؤشرات إيجابية يمكن الاستفادة منها. ومع مرور الوقت يكتشف الأسد أن إهمال تفاهماته الراهنة من أجل تبدلات لن تحدث يقود إلى خسارة أصدقائه وحلفائه الذين أرادوا سابقا مساعدته لتجاوز مشكلاته. فالدول تحتاج إلى علاقات حية تخدم مصالحها وتعزز نفوذها.

الاعتقاد الخاطئ الآخر هو توهم الأسد بالنصر على خصومه عندما يبدون مرونة تجاهه. ثم يتجاهل الرسائل التي تصله منهم بشكل مباشر أو غير مباشر، معتقدا أن التجاهل سيدفعهم إلى التنازل تلو الأخر من أجل إرضائه. ولكن الحقيقة هي أن الظروف تتغير والحاجة إلى الانفتاح عليه اليوم قد تنتهي غدا، ليعودوا إلى معاداته.

الاعتقاد الثالث لوهم الأسد يتمثل بالمبالغة في الاتكالية على الدول التي تريد مساعدته خدمة لمصالحها. فيعتقد أن هذه الدول يمكن أن تستنزف نفسها من أجله. ولكنها في الواقع ستفقد الأمل منه وتبتعد عنه، ثم تحاول تلبية مصالحها عبر بوابة أخرى. ولا مشكلة لديها من طرق أبواب تضر به إن اقتضت الضرورة.

الاعتقاد الرابع هو أن الدول تفضل التعامل مع حكومات ضعيفة وهشة لأنها تتحكم بشروط العلاقة بين الطرفين. ولكن الحقيقة أن البلدان التي تخطط لمستقبلها إستراتيجيا لا تفضل تقديم دعم مالي أو سياسي أو عسكري لدولة ضعيفة. فلا جدوى من الاستثمار بنظام زائل، أو قيادة لا تتحمل مسؤولياتها تجاه شعبها وجيرانها وحلفائها.

في الاعتقاد الخامس، يظن الأسد أنه يمثل عمقا دوليا وإقليميا لا يمكن تجاوزه، أو الاستمرار من دونه. ولكن التجربة أثبتت أن حتى الدول الكبرى لا تبالغ في تقدير مواطن قوتها. فهناك دائما من يتحكم بخيط من خيوط اللعبة، ويمكن أن يتحالف مع أعدائك من أجل أن يستفيد من خصومتك معهم، ويقدم لهم البديل عن خدماتك.

ما يهم في هذه النقطة أيضا أن تعرف كيف تحمي مواطن قوتك التي تتباهى بها. فكيف يمكن لدولة تزدحم الطائرات الحربية في سمائها، وأرضها تتقاسمها جيوش ودول، أن تقول إن المنطقة لن تعرف الاستقرار من دونها، وبيدها حلول الحرب والسلام. السيادة المنقوصة لا تقنع أحدا في الداخل والخارج، ولا تبعث الاطمئنان في فرد أو دولة.

لقد أمضى النظام السوري السنوات الثلاث الأخيرة وهو يعيش وهم الماضي وحلم استعادة حضوره في المنطقة، فقط عبر المماطلة بحل أزمته الراهنة إلى حين تبدل الظروف الدولية لصالحه. لم تحقق له هذه النظرية شيئا إلا مزيدا من العجز في الأداء، والقلق على مستقبل كان في الأمس ضبابيا واليوم قاتما.

يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا “إن الوهم أشد رسوخا من الحقيقة”. وهذا ما حدث في سوريا، توهم الأسد أن الثورة لم تقم أصلا، وجلس في انتظار غودو..

صحافي سوري

العرب

—————————

بداية جديدة في سوريا عام 2023؟/ عمر أنهون

انتقلت الأزمة السورية في عام 2022 إلى مرحلة جديدة، كما أكدتُ في مقالات سابقة متعلقة بسوريا، ويمكننا توقع المزيد في عام 2023.

وفي هذا الصدد، فإنَّ العلاقات مع تركيا جديرة بالذكر بصفة خاصة.

كشف الرئيس إردوغان، في النصف الأول من العام، أن جهاز الاستخبارات التركية ونظام الأسد دخلا في محادثات. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأمور أكثر تسارعاً.

ففي الآونة الأخيرة، طرح الرئيس إردوغان فكرة عقد قمة ثلاثية بينه وبين الرئيسين الأسد وبوتين، وقال إنَّه ينبغي أن يسبق هذه القمة اجتماعات لوزراء الدفاع والشؤون الخارجية.

وقد أسفرت الحرب في أوكرانيا عن نشوء نوع أكثر قوة وتنوعاً من علاقات العمل بين تركيا وروسيا.

وتريد روسيا من تركيا والأسد عقد مصالحة بينهما. ويبدو أن تركيا تقبلت بسرور أن تتولى روسيا دفة القيادة والمضي قدماً.

وفي 28 ديسمبر (كانون الأول)، اجتمع وزراء دفاع روسيا سيرغي شويغو، وتركيا خلوصي أكار، وسوريا علي محمود عباس في موسكو. وكان حقان فيدان، رئيس الاستخبارات التركية، حاضراً أيضاً. ويعد هذا أول اجتماع من نوعه منذ 11 عاماً.

في هذه المرحلة، دعونا نُلقِ نظرة موجزة على سوريا.

يسيطر الأسد، الذي انتخب رئيساً لولاية رابعة في انتخابات العام الماضي، على ما يزيد قليلاً عن نصف مساحة البلاد. ويشغل ممثله مقعد سوريا في الأمم المتحدة. ورغم ذلك ليس الأسد، في نظر الملايين من السوريين، أكثر من ديكتاتور متوحش، وسبباً رئيسياً للدمار في سوريا، وكثيرون في المجتمع الدولي يحملون نفس الرأي.

ويشهد الاقتصاد السوري تدهوراً منذ عام 2011. ومن أصل عدد السكان البالغ 23 مليون نسمة قبل الحرب، فرَّ أكثر من 7 ملايين سوري من بلادهم. وهناك ما يتراوح بين 7 و8 ملايين نازح داخلياً. وبحسب البيانات الرسمية لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، هناك 14.6 مليون شخص بحاجة إلى المساعدات، و90 في المائة يعيشون تحت خط الفقر، و80 في المائة آخرون يعانون من انعدام الأمن الغذائي. كما تراجعت الليرة السورية لتقترب من أن تكون ورقة نقدية عديمة القيمة. كما أن الكهرباء والوقود شحيحان للغاية. ويواجه الشعب السوري خطراً حقيقياً بوقوع المزيد من المآسي الإنسانية، بما في ذلك المجاعة والوباء.

وكان من بين الأسباب الرئيسية لانتفاضة عام 2011 في سوريا الفساد المستشري، واحتكار النظام للثروة الاقتصادية للبلاد. ولا يزال هذا الوضع قائماً، بل هو أسوأ اليوم.

وتحتاج سوريا إلى كل قطرة من نفطها للتغلب على الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها. لكن «وحدات حماية الشعب»، الجهة الفاعلة غير الحكومية، تتحكم في مواردها الطبيعية التي تشتد الحاجة إليها، وتستخدم عائدات النفط لتمويل عملياتها العسكرية والإدارية.

ويتحكم ثلاثي آستانة (روسيا، وتركيا، وإيران) في الواقع السوري على مدى السنوات القليلة الماضية.

ويدين الأسد باستمراره في السلطة لروسيا وإيران إلى حد كبير. ورغم أن روسيا منشغلة الآن بالحرب الدائرة في أوكرانيا، وأن إيران تواجه تحديات خطيرة في الداخل، فإن أياً من البلدين لم يتراجع عن مكانته كصاحب نفوذ في الشأن السوري.

وانخرطت تركيا في الآونة الأخيرة (ونجحت إلى حد كبير) في التطبيع مع عدد من بلدان المنطقة التي كانت علاقاتها معها سيئة، والآن، تحولت إلى سوريا من أجل التطبيع.

ولقضيتي «وحدات حماية الشعب» وعودة اللاجئين، تداعيات مباشرة على تركيا، وكلتاهما مشكلة متجذرة في سوريا. وقد أصبحت هاتان القضيتان أكثر أهمية مع الانتخابات المقبلة، حيث سيكون الرئيس إردوغان في حاجة إلى كل صوت. وقد انتقد العديد من الأتراك، بمن في ذلك أنصار الحكومة المخلصون، إردوغان بسبب سياساته في سوريا.

في ظل هذه الظروف، اختارت الحكومة التركية تحولاً سياسياً جدياً للغاية، من مقاربة عنوانها «ليس مع الأسد»، إلى مقاربة «ليس من دون الأسد». وإذا تمكن الرئيس إردوغان من التحدث مع الأسد وتحقيق أي شيء يمكن اعتباره إنجازاً، فإنه سوف يُحقق نجاحاً دبلوماسياً كبيراً آخر.

ولا يعرف أحد ما قد يجلبه الغد، لكن اعتباراً من اليوم، يبدو أن الخاسرين في هذه العملية هم: الولايات المتحدة وإيران و«وحدات حماية الشعب».

ولطالما قالت الولايات المتحدة إنَّ أولويتها في سوريا هي هزيمة تنظيم «داعش»، وضمان استمرار هزيمته. وكان الشريك المحلي للولايات المتحدة في حربها ضد «داعش» هو «وحدات حماية الشعب»، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية، وينظر إليها السوريون على أنها تهديد لوحدتهم الوطنية.

وفيما يتعلق بالموقف الأميركي من الأسد، من الواضح أن الولايات المتحدة لا تحبه. ولا يزال «قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا» نافذ المفعول. ومؤخراً، أدرجت الولايات المتحدة «مكافحة تجارة النظام السوري بالكبتاغون» ضمن قانون الإنفاق الدفاعي الذي وقعه الرئيس بايدن.

ومنذ بضعة أيام، رداً على سؤال لصحافي تركي، قال المكتب الصحافي التابع لوزارة الخارجية الأميركية إن «الولايات المتحدة لن ترفع من مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع نظام الأسد، ولن تدعم البلدان الأخرى في ترقية علاقاتها معه. وتحث الولايات المتحدة بلدان المنطقة على النظر بعناية إلى الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد ضد الشعب السوري خلال العقد الماضي. وتعتقد الولايات المتحدة أن الاستقرار في سوريا والمنطقة بأسرها يمكن تحقيقه من خلال عملية سياسية تمثل إرادة جميع السوريين».

على أي حال، ورغم كل ذلك، لا أشك في أن الولايات المتحدة إذا اعتقدت أن الأمر يخدم مصالحها، فإنها لن تمتنع عن التعامل مع الأسد.

ولم تكن تركيا مرتاحة للغاية لوجود «وحدات حماية الشعب» والدعم الأميركي الذي تتلقاه. وأقل ما تريده تركيا هو دفع «وحدات حماية الشعب» إلى مسافة 30 كيلومتراً على الأقل من حدودها، وإنشاء منطقة آمنة هناك.

وبُغية تحقيق أهدافها، تشير تركيا إلى عملية عسكرية جديدة منذ فترة. ولا تريد الولايات المتحدة، التي استثمرت الكثير في شريكتها المحلية «وحدات حماية الشعب»، أن تلحق الأضرار باستثماراتها. كذلك، فإن روسيا ولأسباب مختلفة، لا تريد عملية تركية أيضاً.

وفي ظل هذه الظروف، تبدو تركيا على استعداد للتوصل إلى حل من خلال المحادثات بدلاً من القتال.

وكان اجتماع وزراء الدفاع في موسكو نتيجة لكل هذه الاعتبارات والتطورات.

وقد غابت إيران عن الاجتماع في موسكو، لكنها لا تزال حاضرة إلى حد كبير في سوريا. وانتشر الإيرانيون ووكلاؤهم على طول الحدود العراقية السورية، وفي محافظة دير الزور، ومنطقة البوكمال الحدودية. وهذه هي المناطق التي توجد وتعمل فيها خلايا «داعش»، كما أنها من بين أكثر المناطق استهدافاً من قبل إسرائيل.

ولن تتخلى إيران عن الوضع من دون أن تحصل على حصتها من دعمها لنظام الأسد. ولا يزال الموقف الذي ستتخذه بشأن المحادثات بين تركيا والأسد تحت رعاية روسيا غير واضح بعد.

وبالعودة إلى المحادثات بين الأتراك والسوريين، أتوقع أن تطلب سوريا من تركيا الانسحاب من أراضيها (إدلب وما يسمى مناطق العمليات)، والتوقف عن دعم الجماعات المسلحة.

في المقابل، تصر تركيا على طرد «وحدات حماية الشعب» بعيداً عن الحدود. ومن المأمول أن يسفر استبدال جنود نظام الأسد بميليشيات «وحدات حماية الشعب» على طول الحدود، عن إضعاف «وحدات حماية الشعب» والوجود الأميركي، الأمر الذي من شأنه أن يكون مناسباً سواء للأتراك أو لنظام الأسد.

وما سيحدث مع «وحدات حماية الشعب»، وأين سيكون موضع الأكراد في مستقبل سوريا، أمر يحتاج إلى إجابة. وفي مرحلة ما، أتوقع أن تشارك «وحدات حماية الشعب» أيضاً في مكان ما ضمن الإطار العام للمحادثات والمفاوضات، الذي يعني إشراك الأميركيين أيضاً.

وستحرص تركيا للغاية على الاتفاق على خريطة طريق لعودة السوريين إلى وطنهم، ولكن قد يكون هذا معقداً للغاية بسبب عدد من الحسابات.

وهناك العديد من الموضوعات الرئيسية والفرعية التي يجب مناقشتها، والعديد من المشاكل التي يجب حلها.

وعلى سبيل المثال، من بين المشاكل الرئيسية التي ينبغي تناولها، ما يحدث مع «الجيش الوطني» السوري و«هيئة تحرير الشام»: هل يضمن النظام سلامتهم؟ هل سيصدر عفو من النظام؟ هل ستكون تركيا مستعدة لأن تصبح مضيفة مدى الحياة لمقاتلي المعارضة السورية الذين يرفضون الحياة تحت حكم الأسد؟

وينبغي أن نضع في اعتبارنا أن كل ذلك سيحدث في بلد مضطرب للغاية، يقع في وسط مضطرب للغاية، حيث يمكن لكل شيء أن يصبح متعلقاً به، حتى وإن لم يكن متصلاً به منذ البداية.

إن الاجتماع الثلاثي لوزراء دفاع تركيا وسوريا وروسيا لم يكن نهاية عملية صعبة للغاية، وإنما بداية لها؛ إذ تنطوي على مشاكل كثيرة تراكمت على مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية.

الشرق الأوسط

—————————

دمشق:شرطة النظام عاجزة أمام السرقات..بسبب شح المحروقات

رغم اعتياد قاطني المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري على ارتفاع معدلات جرائم السرقة مع الأزمات الاقتصادية في مناطقهم، إلا أن رفض مؤسسات النظام الأمنية وأجهزة الشرطة التجاوب مع شكاوى الأهالي وملاحقة المجرمين مؤخراً، أثار المخاوف من انهيار الوضع الأمني بشكل كامل.

وتشهد المناطق الخاضعة لسيطرة النظام ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات السرقة والسطو خلال الأسابيع القليلة الماضية، تتركز بشكل أساسي على الدراجات النارية وأجهزة الكهرباء وأجهزة الهاتف النقال، وصولاً إلى عمليات السطو على المنازل والمحال التجارية، فضلاً عن عمليات سلب المارة التي باتت من الظواهر المتكررة.

واستمرت سوريا في صدارة قائمة الدول العربية في معدلات الجريمة لعام 2022، بحسب موقع “Numbeo Crime Index” المتخصص بمؤشرات الجريمة حول العالم، وحلّت في المركز العاشر عالمياً بعد أن كانت التاسعة عام 2021.

المزيد من الفوضى

يوضح زاهر، من سكان العاصمة دمشق ل”المدن”، أن حوادث السرقة صارت جزءاً من حياة السوريين، إذ لا يكاد يمر يوم دون تعرض الشخص للسرقة أو محاولة السرقة، حتى وصل الأمر إلى السرقة من داخل المنازل التي اعتاد السكان ترك أبوابها مفتوحة.

ويقول: “قبل أيام سُرقت قنينة غاز من داخل منزل أختي في وضح النهار، بعد أن ترك أبناؤها باب منزلهم مفتوحاً أثناء لعبهم في الشارع، وقبلها تعرض منزل أحد أصدقائي لسرقة بعض الأجهزة الكهربائية من مطبخه”.

بينما يؤكد أبو أحمد، صاحب محل لبيع الألبسة في مدينة حلب، أن الأمن صار هاجساً يؤرق سكان المدينة، خاصة التجار الذين يتعرضون وبشكل يومي لعمليات سرقة البضائع من داخل محلاتهم.

مضيفاً أن “معظم عمليات السرقة لا يتم البلاغ عنها ويكتفي أصحاب المحلات بطرد اللصوص في حال كشفهم، خاصة وأن غالبية من يقوم بهذه الأعمال هم من النساء والأطفال ممن تظهر عليهم ملامح الفقر والعوز”.

سرقة تغذيها الأزمة

ومع اشتداد أزمة المحروقات المتفاقمة منذ أشهر، أخذت ظاهرة سرقة خزانات الوقود وتفريغها من السيارات بالانتشار على نطاق واسع في مختلف المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، بعد أن كان تفكيك قطع السيارات وسرقة محتوياتها هدف اللصوص الرئيسي على هذا الصعيد.

ويتحدث عبد الرحمن، صاحب سيارة شحن صغيرة، عن تعرض خزان سيارته الذي كان معبأ بأكثر من عشرة ليترات بنزين “للشفط” أثناء ركنها بجوار منزله ليلاً، بعد قيام اللصوص بخلع غطاء الخزان، مشيراً إلى أن “أغلب السيارات في المنطقة أفرغت من البنزين”.

ويقول إن “نوعية سيارته كانت بعيدة عن اهتمامات اللصوص الذين يفضلون السيارات الحديثة لسرقتها أو تفكيك قطعها، لكن أزمة المحروقات جعلت من البنزين هدفاً للصوص، بعد أن وصل سعر الليتر إلى 15 ألف ليرة في السوق السوداء”.

مؤسسات النظام

وفي سابقة غريبة عن السوريين، أكد من تواصلت معهم “المدن” من سكان مدينة حلب، تذرّع مراكز الشرطة بشح المحروقات لتغطية غيابهم الدائم عن العديد من الأحياء والمناطق السكنية التي تكثر فيها حالات السرقة.

وأوضح منير، وهو من سكان حي الشعار في حلب أن مركز شرطة الحي، وبعد تزايد الشكاوى المقدمة له من قبل الأهالي، أبلغهم بعدم قدرته على تسيير دوريات منتظمة لعدم توافر المحروقات بشكل دائم.

ويقول: “لم يعد آمناً الخروج من المنزل ليلاً بسبب انعدام الأمن في أحيائنا التي تعاني منذ سيطرة النظام عليها، وزاد الأمر بانتشار اللصوص فيها بشكل مخيف وكثافة نشاطهم مع انقطاع الكهرباء الدائم، إذ لا يكاد يمر يوم دون تسجيل حادثة سرقة لمنزل أو دكان”.

ويضيف: “مؤخراً، وبسبب تسجيل أكثر من حادثة نهب للمحلات في السوق، طلبنا من أحد الشبيحة المعروفين في المنطقة ليتحدث باسمنا أمام الشرطة، على أمل الاستجابة لطلبه بتسيير دوريات ليلية في سوق الحي لحمايته، لكنه أبلغنا بأن الشرطة غير قادرة على ذلك بسبب تقليص مخصصاتها من الوقود”.

ويؤكد أبو محمد، من سكان المدينة القديمة في حلب الشهادة السابقة، مشيراً إلى تنصل مراكز الشرطة من مسؤوليتها عن تسيير دوريات حيث أن “كل مركز شرطة يحمّل الآخر مسؤولية حماية المنطقة بحجة عدم تبعيتها لإدارته”.

ويقول أيضاً: “قبل أيام تعرض أحد المخازن لمحاولة سطو، رغم أنه لا يبعد سوى أمتار عن مركز شرطة باب النيرب، ولولا تدخل السكان الذين أجبروا اللصوص على الهرب لكان المخزن قد أفرغ تماماً”.

ومع ذلك، يضيف أبو محمد: “لم تصل الشرطة إلا بعد انتهاء المشكلة وكانوا ثلاثة عناصر مترجلين، وبعد أخذ ورد مع السكان أبلغوهم بتقديم شكوى لقسم شرطة باب النصر باعتباره المسؤول عن منطقة الحادثة”.

ويشكك السكان بذرائع الأجهزة الأمنية بتقليص مخصصاتها من المحروقات، خاصة وأنها تعد في صدارة سلم أولوياته، ويغذي هذه الشكوك الاعتقاد السائد بتسامح النظام مع استفحال ظاهرة السرقة والنهب في مناطقه وتحويلها إلى مصدر لأجهزته من أجل كسب المال، في ظل الأزمات المتفاقمة التي أنهكت الجميع.

——————————

سوريا في 2022.. “أدلة وشهود” يحركون جبهات “المعركة الطويلة

ضياء عودة – إسطنبول

لم يختلف عام 2022 عن سابقاته في سوريا من زاوية المسار السياسي المعطّل والميدان المقسّم والاقتصاد المتهالك، وبينما كان فيه السوريون يعيشون واقع “لا تحمد عقباه” ويترقبون مآلات القادم الأسوأ والمتوقع على كافة الأصعدة حرّكت أدلة وشهود جبهات “معركة” توصف بـ”الطويلة” وأنها حتمية ولازمة للمستقبل.

هذه المعركة لم تنخرط فيها أطراف عسكرية أو سياسية كما يشير إليه المصطلح العام، بل قادتها منظمات حقوق إنسان ونشطاء حقوقيون سوريون يقيمون خارج البلاد منذ سنوات، معتمدين على وثائق وأدلة وشهادات لأفرادٍ أرادوا البوح.

وعلى الرغم من أن عمل هؤلاء خلال عام مضى ثبّت أثرا على طريق المحاسبة الطويل، إلا أنه ومن جانب آخر فتح جروحا ومآسٍ، ارتبطت بتفاصيل جرائم حرب وضد الإنسانية ارتكبها ضباط ومسؤولون في نظام الأسد، وكانت تُحسب في “طي النسيان”.

من كوبلنز كانت البداية ومن ثم في فرانكفورت، إذ شهدت هاتين المدينتين الألمانيتين في الأيام الأولى من شهر يناير 2022 محاكمتين “تاريخيتين”، الأولى صدر بموجبها حكم بالمؤبد بحق العميد السابق في مخابرات النظام السوري، أنور رسلان، بعد إدانته بجرائم ضد الإنسانية.

أما الثانية استهدفت الطبيب السوري، علاء موسى، الذي يقبع حتى الآن خلف القضبان وينتظر حكمه المرتقب، بعدما تم اعتقاله بتهمة قتل وتعذيب معتقلين سوريين، في أثناء تلقيهم العلاج بالمشفى العسكري بمدينة حمص وسط البلاد.

“حفرة وما بعدها”

أشهرٌ قليلة فقط فصلت عن ما حصل في ألمانيا حتى كشف حقوقيون وصحفية تفاصيل مجزرة حصلت في الأعوام الأولى للثورة في حي التضامن بالعاصمة السورية دمشق، ضمن تحقيق بني على آليات دقيقة، وثّقت اسم المرتكب وصورته، فيما ذهبت بعيدا، للالتقاء به افتراضيا ووجها لوجه، ومن ثم سحب جزء من تفاصيل “اليوم الأسود” بلسانه واعترافاته.

ومنفذ المجزرة هو الرائد في مخابرات النظام السوري، أمجد يوسف، واستعرض التحقيق بالصور والفيديوهات كيف كان يقتاد مدنيين كالماشية معصوبي الأعين ومكبلي الأيدي، ليتجه بعد ذلك إلى إطلاق الرصاص بشكل مباشر على رؤوسهم وأجسادهم، ومن ثم ليلقيهم في حفرة ويخفي أثرهم بالحرق، وكأن شيئا لم يكن.

ولم يقتصر النشاط الحقوقي الذي كشف انتهاكات بالجملة للنظام السوري في البلاد، منذ مطلع أحداث الثورة على ما سبق، فسجن صيدنايا في العام 2022 لم “يعد ثقبا أسودا”، بعدما كشف حقوقيون سوريون أيضا هيكليته التنظيمية والإدارية، ضمن تقرير استعرض أهوال ما يدور خلف جدران بنائيه الأبيض والأحمر.

والتحقيق الذي عملت عليه “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” لعام كامل ونشرته، في أكتوبر، اعتبر خطوة هي الأولى في نوعها بشأن هذا المعسكر الأمني، والذي أطلقت عليه “منظمة العفو الدولية” قبل سنوات وصف “المسلخ البشري”، والسجن الذي “تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء”.

صورة جوية لسجن صيدنايا العسكري عام 2017. أرشيف

وكان أبرز ما كشفه التحقيق “غرف الملح”، وهي بمثابة قاعات لحفظ جثث المعتقلين الذين تمت تصفيتهم على يد الأجهزة الأمنية المسيطرة على “صيدنايا”، وقد بدأ استخدامها بعد 2011، مع ارتفاع أعداد الموتى داخل المعسكر.

وتتّبع الجهات الحقوقية في سوريا والأخرى التي تعمل على نطاق دولي آليات عدة لتوثيق الانتهاكات أو الكشف عنها، وإثبات الأطراف الضالعة بها، وكان لـ”المصدر السري” أو كما يعرفه حقوقيون بـ”كنز المعلومات” دورا كبيرا في توثيق سلسلة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبها النظام السوري.

وذلك ما تقمصته أولا شخصية “قيصر” الضابط السوري المنشق الذي سرب آلاف الصور لجثث معتقلين في سجون نظام الأسد، ومن ثم ليتعمم هذا المسار على قضايا وجرائم أخرى، كتلك التي اتبعها “المركز السوري للعدالة والمساءلة” في واشنطن.

وفي أكتوبر من العام 2022 كشف المركز السوري الحقوقي عن تفاصيل سلسلة فيديوهات تعود قصتها إلى الأعوام الأولى للثورة السورية، وتفضح “سلوكا ممنهجا” اتبعه ضباط وعناصر يتبعون لإحدى فرق النظام السوري ومخابراته بحق رفات مدنيين ومنشقين وأعضاء معارضة، بعد إعدامهم ميدانيا، بين عامي 2011 و2013.

وأثبت التحقيق الذي بني على التسجيلات المصورة أن “ضباطا رفيعي المستوى في المخابرات العسكرية السورية والجيش السوري شاركوا في التدمير غير المشروع للرفات”، في إحدى المناطق الصحراوية بمحافظة درعا. ولم تكن هذه الجريمة “فردية أو استثنائية”، بل فعلها هؤلاء ضمن “سلوك ممنهج، من خلال التصوير وبسياقات دقيقة”.

جنود من قوات النظام السوري في حلب. أرشيف

علاوة على ذلك وفي وقت كسر ما كشف عنه الحقوقيون جزءا من حالة السكون والسبات التي يعيشها الملف السوري اتجهت منظمات أخرى بالتوازي لدحض رواية النظام السوري ومراسيم العفو التي أصدرها تباعا خلال 2022، وعلى رأسها “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

ونشرت ذات الشبكة الحقوقية تحقيقا قبل أسابيع من نهاية 2022، كشفت فيه عن سلوك اتبعه النظام السوري خلال السنوات الماضية، بدفن الجرائم التي ارتكبها بـ”شهادات الوفاة”. وقالت الشبكة، في 20 من ديسمبر، إنها تمكنت من الحصول على قرابة 547 بيان وفاة لمواطنين سوريين مختفين قسريا لدى النظام السوري، في دليل على أن الأفرع الأمنية للأخير قتلتهم بصمت و”دون أي ضجيج”.

“وفرة أدلة وشهود”

ويقول مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، إن الخطوات والتطور الذي حصل على الصعيد الحقوقي خلال العام 2022 “هو نتيجة طبيعية لحجم الانتهاكات الكبير وخروج قسم من الأدلة خارج سوريا”.

“أصبح هناك وفرة بالأدلة ضد منتهكين وأدلة عن جرائم ارتكبت ليست بالضرورة عن منتهكين بالتحديد أيضا”، ويضيف العبد الله لموقع “الحرة” أن هناك أسباب أخرى تتعلق بالنزوح والتهجير القسري الكبير.

ويوضح بالقول: “أي تواجد عدد كبير من الضحايا في دول تسمح القوانين والقضاء فيها لهم بتسجيل شكواهم أمام السلطات. هذا الأمر يأتي نتيجة الفشل السياسي، ولذلك الضحايا والجمهور متجه أكثر نحو الوسط الحقوقي”.

بدوره يشير مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، إلى أن “التقارير الحقوقية التي صدرت مبنية على منهجية شديدة وصارمة ودقيقة، وأفضت عن أثر قوي، لأنها أدت إلى تغطية مناسبة وأخذت انتشارا واسعا”.

ويقول عبد الغني لموقع “الحرة”: “هذه التقارير تؤدي بشكل أو بآخر إلى إعادة وضع الملف السوري على الطاولة وعدم إبعاده، وتلفت الانتباه إليه أيضا”.

ويضيف أن “الأمر مهم كون الفترة الأخيرة يتم فيها تناسي الملف السوري على نحو كبير. هذا يؤدي بشكل أو بآخر إلى شعور قسم كبير من السوريين بالإحباط وعدم الجدوى”.

ولذلك يرى الحقوقي السوري أن التقارير الحقوقية التي تصدر “تلعب دورا محوريا في إخبار السوريين أنه مازال هناك اهتمام واسع في قضيتهم”، ومن جانب آخر تخاطب صناع القرار، وتسفر عن ردات فعل وإدانات ومواقف.

ويتابع عبد الغني: “هو أمر مهم وإن كان غير كاف. نحن نطالب بخطوات إلى الأمام. لكن في ظل التراجع في الاهتمام، هو إنجاز جيد يجب البناء عليه والمطالبة بالاستناد له بإدانة النظام السوري وممارساته، التي لم تتغير حتى الآن”.

هل كافية للضغط؟

وكانت فرنسا قد اتخذت، في شهر أغسطس 2022، خطوة هي الأولى في نوعها على المستوى الدولي حيال ملف “مجزرة حي التضامن”، وفي بيان نشرته وزارة الخارجية الفرنسية، حينها، قالت إنها أحالت إلى “مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب”، وثائق تتعلق بالجريمة، للتحقيق فيها.

وأضافت أن هذه الوثائق تحمل صورا وتسجيلات مصوّرة للمجزرة التي ارتكبتها القوات الموالية للنظام السوري في حي التضامن بدمشق عام 2013، فيما تعد نتيجة “جهد طويل للعديد من الأشخاص المدافعين عن حقوق الإنسان”، وفق ما ذكره البيان.

ولاقت التقارير والتحقيقات الحقوقية الأخرى إدانات من المجتمع الدولي لسلوك النظام السوري وجرائمه، لكنها لم تسفر عن أي تحرك سياسي من شأنه أن يغيّر المشهد الدموي الذي ساد قبل سنوات، وما يزال قائما إلى الآن.

وقد شكّل “الخذلان” الذي يعبّر عنه سوريون مناهضون للنظام السوري منذ سنوات حالةً باتت تقلل من أثر أي انتهاك يكشف عنه، سواء على المستوى السياسي أو القضائي، فيما يجادل حقوقيون بذلك في منحى آخر.

يقول الحقوقي السوري، محمد العبد الله، إنه “ليس هناك مصداقية في المعارضة السياسية، ولذلك فإن الثقة أكبر بالمنظمات والحقوقيين”، موضحا أنه وعندما ينشر تحقيق مثل “غرف الملح” ويأخذ صدى واسعا هذا يؤدي إلى تواصل معتقلين سابقين آخرين للإدلاء بشهاداتهم.

كما أن نشر فيديوهات التضامن يشجع آخرين للحديث والتواصل مع النشطاء، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تحقيق حرق الجثث في درعا، إذ شجع أشخاصا للتواصل مع “المركز السوري للعدالة والمساءلة”.

ويطلق تساؤل يتعلق بالعمل الحقوقي وكثافة التقارير الخاصة به، وما إذا كانت كافية لإنتاج ضغط سياسي يمنع التطبيع مع النظام السوري مع دول إقليمية وعربية.

ويجيب العبد الله أن “العمل الحقوقي معزول ومفصول، إذ أن الدول التي تعرف غرف الملح ومجزرة التضامن وتدينها في مرحلة من المراحل قد تطبع مع النظام لاحقا”.

ويوضح: “لذلك العمل الحقوقي لا يمكن النظر إليه كمواز وبديل للمفاوضات. هو عمل يرتكز على محاولة تحصيل حقوق الضحايا ومحاولة إنهاء فترة الإفلات من العقاب، التي باتت ثقافة في سوريا”.

كما يحاول العمل الحقوقي الخاص بسوريا “تأسيس وضع للمستقبل يرتكز على احترام حقوق الإنسان، على الرغم من أن هذا المسار يحتاج سنوات وأن المعركة طويلة”. ويتابع الحقوقي السوري: “لا ارتباط بين العمل الحقوقي والسياسي. بعض الدول مهرولة وأخرى لا مشكلة لها. لن تكون الأولى لكن لاحقا ستطبّع مع النظام السوري”.

من جهته يشرح علي الجاسم، وهو باحث مختص في الجماعات شبه العسكرية، أن أي عمل حقوقي يسير في خط المحاسبة والمساءلة “مهم جدا”، وخاصة أنه يؤسس لمرحلة الانتقال السياسي أو ما بعدها.

ويقول الجاسم لموقع “الحرة”: “هو جزء مهم من العدالة الانتقالية. العدالة لا يمكن أن تتحقق من دون إنصاف للضحايا وفي نفس الوقت محاسبة الجناة”.

ويؤسس النشاط الحقوقي مستقبلا لمسار يأخذ عدة مستويات: محلي وجغرافي وعابر للمجتمعات والمدن، ومستوى مركزي، أي محاسبة الأشخاص في مراكز القيادات العليا.

ويضيف الباحث السوري: “بالتالي ليس هناك مسار واحد للعدالة، وما شهدناه في العام 2022 من تحقيقات وتقارير هي عمل إيجابي يحفّز الناس لكي تخرج من قوقعة الخوف والإحباط. الحالات الفردية شجعت أناس على التحرك ولو ضمن تغيير بسيط”.

ويختلف الجاسم مع وجهة نظر الحقوقي السوري العبد الله، إذ يرى أن “المحاسبة والمساءلة أو كل شيء يتناول قضايا سياسية هو عمل سياسي في الجوهر”، وأنه “لا يمكن أن يكون النشاط الحقوقي حقوقيا خالصا، لأنه يترتب عليه تغييرا سياسيا”.

“النشاط الحقوقي سياسي في الجوهر قبل أن يكون حقوقيا”، ويتابع الباحث: “لا يمكن أن يحصل تغيير سياسي بدون أدوات حقوقية. الاختلاف قد يتعلق بصياغة التقارير والإرادة السياسية”. مع ذلك ورغم أن الطريق طويل “لكن الألف ميل يبدأ بخطوة. كسوريين ملتزمين بعملنا، واللحظة التاريخية ستأتي”، وفق تعبيره.

الحرة

————————————–

الأسوأ لم يأت بعد.. سوريا تودع 2022 بأزمات غير مسبوقة وانهيار تاريخي لليرة/ محمود الشيخ

لا يوجد موعد محدد أو جدول زمني لانتهاء أزمة المحروقات، إذ لا تستطيع “الدولة” استيراد النفط، كون الدفع بالقطع الأجنبي ونقداً، وحتى الكميات التي طُرحت خلال الأيام الماضية هي رافدة، ولن تؤدي إلى وفرة بالوقود، هذه ليست توقعات أو قراءات تحليلية بل تصريحات صادرة عن وزير التجارة الداخلية في حكومة النظام السوري عمرو سالم، لتكشف مدى عجز النظام عن إيجاد حل لأزمة واحدة متكررة منذ أعوام.

وتعيش مناطق سيطرة النظام السوري منذ أسابيع أزمة محروقات، هي الأسوأ على الإطلاق، بالنظر إلى حالة الشلل التام التي أصابت القطاعات كافة، حيث شُلت حركة النقل والمواصلات خاصة في العاصمة دمشق وريفها، ووصل التأخير في رسائل البنزين المدعوم إلى قرابة 40 يوماً، كما ازدادت ساعات القطع الكهربائي لتصل إلى 23 ساعة يومياً في جميع المناطق.

وبالتوازي مع أزمة المحروقات، تواصل الليرة السورية الخسائر مقابل الدولار الأميركي، مسجلة مستويات غير مسبوقة في تاريخها، وسط التدني الكبير في القدرة الشرائية للمواطنين نظراً لانخفاض الدخل، لينتهي العام الحالي بأسوأ أزمة اقتصادية ومعيشية على الأهالي في مناطق سيطرة النظام، الذين بات 90 في المئة منهم تحت خط الفقر، أي غير قادرين على تأمين المواد الغذائية، بحسب إحصائيات رسمية، بغض النظر عن الخدمات الأساسية الأخرى كالتعليم والسكن والصحة وغيرها من أساسيات الحياة.

الليرة السورية أمام العملات الأجنبية

أسباب أزمة الوقود في سوريا

ويرى خبراء اقتصاديون أن هناك عدداً من الأسباب لأزمة الوقود الحالية في مناطق سيطرة النظام السوري، منها داخلية وأخرى خارجية.

الأسباب الداخلية:

ومن أحد أهم هذه الأسباب، بحسب مراقبين للاقتصاد السوري، هي سماح النظام لشركة خاصة هي شركة “BS” التابعة لرجل الأعمال المقرب من رئيس النظام بشار الأسد حسام القاطرجي، بالدخول على خط توزيع المحروقات، وهو الخط الذي كان محصوراً بشركة “سادكوب” التي تعتبر شركة قطاع عام. أي أنّ عملية توزيع المحروقات قد بدأت خصخصتها لمصلحة الأسد، وبالأحرى بدأت عملية الاستيلاء الكامل عليها، أسوة بما جرى ويجري في معظم القطاعات الاقتصادية في سوريا. حتى إنّ بعضهم كان يطرح فرضية تقول إنّ هذه “الأزمة الراهنة”، بقسم منها على الأقل، هي أزمة مفتعلة وظيفتها تمرير موضوع الخصخصة هذا، والذي سيمثل واحدة من آخر خطوات عمليات رفع الدعم التي بدأت قبل الثورة بسنوات.

الأسباب الخارجية:

وتحدثت تقارير صحفية، قبل أيام، عن ممارسة إيران ضغوطات خلال الفترة الماضية على النظام السوري في مسعى للحصول على “تنازلات سيادية”، تتضمن امتيازات للإيرانيين الموجودين في سوريا، مقابل المساهمة في حل الأزمات الاقتصادية، وفي مقدمتها أزمة المحروقات.

وذكرت صحيفة “الشرق الأوسط”، نقلاً عن دبلوماسيين قالت إنهم زاروا دمشق أخيراً، أن إيران فاجأت النظام السوري خلال الإعداد لزيارة الرئيس إبراهيم رئيسي، التي كانت مقررة يوم الثلاثاء، بتقديم مسودات اتفاقات تتضمن إحداها “أن يعامل الإيرانيون في المستشفيات والمؤسسات العلمية كما يعامل السوريون”، أن يمثل الإيراني، في حال اتركب جريمة في سوريا، أمام القضاء الإيراني وليس القضاء السوري.

وكان وزير النفط والثروة المعدنية في حكومة النظام، بسام طعمة، أشار إلى ما يؤيد هذه التسريبات، إذ أكد خلال لقاء مع تلفزيون النظام في مطلع الشهر الجاري، أنه لم يكن متوقعاً تأخر التوريدات الإيرانية لذا كان هناك اضطرار لاتخاذ إجراءات أشد قسوة حيث يتم توفير مخزون من أجل الأولويات ولتغطية الاحتياجات الأساسية.

انهيار الليرة بنسبة 100 في المئة خلال عام

تواصل الليرة السورية انخفاضها المتسارع مقابل الدولار الأميركي، مع تسجيل سعر صرف الدولار الواحد 7150 ليرة، لتسجّل أدنى مستوى لها على الإطلاق.

وبحسب بيانات موقع “الليرة اليوم” فقد تراجع سعر الليرة السورية منذ مطلع العام الجاري بنسبة 100 في المئة على أساس سنوي، في حين تراجعت بنسبة 23 في المئة على أساس شهري.

ارتفاع أسعار المواد والسلع بنسبة 40 في المئة

وتعيش مناطق سيطرة النظام السوري منذ أسابيع، على وقع موجة غلاء حادة وغير مسبوقة في أسعار المواد والسلع الغذائية، وصلت إلى نسبة 40 في المئة، بسبب أزمة المحروقات في سوريا، وباتت الأسواق التجارية تعاني من ضعف حركة البيع والشراء، وسط التدني الكبير في القدرة الشرائية.

وكانت إذاعة (شام إف إم) المقربة من النظام، أكدت أن “هناك إخفاءً حكومياً متعمداً لما شهدته الأسواق المحلية من موجات غلاء وتدهور معيشي، فخلال جولة على أحد الأسواق الشعبية في دمشق، تبين أن زيادة جديدة طرأت على أسعار معظم السلع”.

وقبل أيام، قال عضو لجنة الخضراوات والفواكه في سوق الهال المركزي بدمشق، أسامة قزيز، قبل أيام، إن أسعار الخضراوات والفواكه ارتفعت في الأسواق لأكثر من 40 في المئة.

الرواتب لا تكفي أجور المواصلات

وتزداد الأوضاع المعيشية سوءاً في مناطق سيطرة النظام السوري بشكل يومي، مع اشتداد أزمة المحروقات، وارتفاع أجور النقل والمواصلات، حيث بدأت أصوات الموظفين تعلو متسائلة عن الجدوى الاقتصادية من عملهم إذا كان الذهاب إلى العمل وتكاليف النقل ستتجاوز قيمة الراتب.

ووصلت كلفة أجور النقل من مناطق الديماس وجديدة يابوس وعين الفيجة والقرى المحيطة إلى دمشق نحو 90 في المئة من راتب الموظف، بينما يدفع الموظفون في الضمير والمناطق المحيطة بها أكثر من 70 في المئة من رواتبهم، وينطبق الأمر على الموظفين القاطنين في مناطق طريق المطار، وكذلك خطوط جديدة عرطوز وقطنا والمناطق المحيطة بها أيضاً.

الأسوأ لم يأت بعد

ورغم ما يمر به السوريون من أوضاع مزرية، فإن مسؤولي النظام ما انفكوا يؤكدون أن الأسوأ لم يأتِ بعد على مستوى معاناة المواطنين من الغلاء الفاحش للأسعار، وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية مثل الطعام والتدفئة والنقل والإقامة.

وفي 12 من كانون الأول الجاري، قال رئيس لجنة الموازنة والحسابات في مجلس الشعب التابع للنظام السوري، ربيع قلعه جي، إن العام 2023 سيكون من أصعب الأعوام المالية في البلاد، كونه جاء بعد سنوات اقتصادية صعبة واشتداد العقوبات الغربية، ويضاف إلى ذلك النقص الحاد في المشتقات النفطية.

ويعاني الاقتصاد السوري شللاً كلياً بسبب الدمار الحاصل في قطاعي الصناعة والزراعة وانعدام السياحة، ودمار البنية التحتية، وتآكل الاحتياطي النقدي، ودائماً ما يحاول النظام السوري الإيحاء بالتماسك والوقوف على قدميه، غير أن الواقع الفعلي يشير إلى تفاقم الأزمات وتوسعها بشكل مستمر من دون توقف، وأمام هذه الأزمات المتراكمة، تعمل حكومة النظام السوري على إنتاج حلول مؤقتة “إسعافية”، في ظل غياب التغيير الحقيقي في السياسات الاقتصادية والمالية، رغم استمرار وعودها بانفراج الأزمات منذ سنوات.

———————————

“فايننشال تايمز”: أزمة المحروقات تضع سوريا في أسوأ عام على الإطلاق

نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” الأميركية تقريراً تحدثت فيه عن حالة الشلل التي أصابت المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري من جرّاء النقص الحاد في المحروقات، مشيرة إلى أن أزمة المحروقات الحالية تضع البلاد في أسوأ عام على الإطلاق منذ 2011.

وقال التقرير

إن “معظم البلاد في طريق مسدود، حيث لا يوجد وقود للمولدات لتوفير الكهرباء، وأوقفت المصانع عملياتها، وألغت الجامعات الفصول الدراسية، وأصبح انقطاع التيار الكهربائي لمدة تصل إلى 22 ساعة في اليوم هو المعيار السائد في دمشق والمناطق المحيطة بها”.

وقالت مديرة السياسة والاتصالات في مجلس اللاجئين النرويجي في دمشق، إيما فورستر، إن “الآثار المتتالية لأزمة الوقود كانت واسعة النطاق، ويخبرنا الناس إن هذا العام هو أسوأ عام حتى الآن”.

وأضافت فورستر أن “الوقود كان متاحاً في السابق، لكنه كان مكلفاً للغاية، إلا أنه الآن لم يعد متوفراً على الإطلاق، وله تأثير غير مباشر على كل جوانب الحياة في سوريا، والذي كان بالفعل صعباً للغاية بالنسبة للكثيرين”.

وأشارت المسؤولة في مجلس اللاجئين النرويجي إلى أن “نقص الكهرباء أثر على الرعاية الصحية والتعليم وشبكات المياه، ومع انخفاض درجات الحرارة يلجأ الناس إلى حرق أي شيء يمكنهم العثور عليه للتدفئة، الخشب إذا كان بإمكانهم تحمل كلفته، والقمامة، والأكياس البلاستيكية، والإطارات المطاطية، والملابس والأحذية القديمة”.

دفع ثمن الإمدادات من احتياطي العملات الأجنبية

من جانبه، قال رئيس تحرير موقع “تقرير سوريا” الاقتصادي، جهاد يازجي، إن “البيانات حول شحنات الوقود بين سوريا وإيران غير مكتملة، وليس واضحا سبب خفض طهران للإمدادات”، مضيفاً أنه “لا يوجد سبب لعدم تصديق الحكومة في هذا الشأن، خاصة لأنها تجني الكثير من الأموال في هذا القطاع”.

ووفق “فايننشال تايمز”، فإنه “عادة ما يتم شراء الوقود الإيراني عن طريق الائتمان، لكن النقص يجبر حكومة النظام على البحث عن إمدادات في مكان آخر، والتي يتعين عليها دفع ثمنها نقداً من الاحتياطيات الضئيلة من العملات الأجنبية، ما ساهم في وصول الليرة السورية إلى مستوى قياسي، بلغ 6000 ليرة مقابل الدولار”.

وأشارت الصحيفة إلى أن مسؤولي حكومة النظام “ألقوا باللوم في نقص المحروقات على العقوبات الأميركية، والعملية العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا، حيث دمرت الضربات الجوية البنية التحتية للطاقة، بما في ذلك المصافي ومحطات الطاقة، والغزو الروسي لأوكرانيا، مما ساهم في ارتفاع الأسعار”.

ولفتت إلى أنه “مع قلة الإيرادات، والفساد المستشري، خفضت حكومة النظام الإعانات التي تشتد الحاجة إليها، حيث فقد ملايين السوريين إمكانية الوصول إلى المواد الغذائية والنفطية المدعومة في وقت سابق من هذا العام، ويحق لمن لا يزالون مؤهلين للحصول على وقود مدعوم الحصول على 25 ليتراً من البنزين كل 10 أيام، إلا أن السكان يقولون إنه لا يمكنهم الحصول على الوقود إلا كل 20 يوماً”.

لا تداعيات للأزمة على النظام السوري

وفي مقابل ذلك، قالت “فايننشال تايمز” إنه “على الرغم من ذلك، فإنه من غير المرجح أن يكون لأزمة نقص الوقود تداعيات سياسية أوسع على النظام السوري”، مشيرة إلى أنه “بالنسبة للعديد من الناس، لم يؤد بدء فصل الشتاء إلا إلى زيادة حدة الأزمة”.

وأشار جهاد يازجي إلى أن “النظام السوري كان على استعداد لتدمير الدولة بأكملها للبقاء في السلطة، وأنا على ثقة من أن النظام سيخيف الناس بما فيه الكفاية ليخضعوا”.

————————

اقتصاد سورية خلال 2022: انفلات حاد في الأسعار بعد تهاوي الليرة/ عدنان عبد الرزاق

سجلت أسعار السلع الغذائية والوقود انفلاتاً حاداً في سورية خلال العام 2022، في أعقاب تهاوي سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، الذي وصل إلى 7300 ليرة، وسط مخاوف كبيرة من التداعيات، في بلد يشهد تفاقماً لمعدلات الفقر.

هذا الانفلات دفع السوريين لوصف العام 2022 بأنه الأسوأ معيشياً منذ محاولات نظام بشار الأسد وأد حلمهم بالدولة والعيش الكريم عام 2011، حيث تهاوى سعر صرف الليرة إلى المستوى الأسوأ بتاريخ البلاد، ونفدت حوامل الطاقة من الأسواق وارتفعت الأسعار خلال العام بأكثر من 150%، من دون تحسين الدخول.

“لعبة الليرة”

وصف أكثر من باحث متخصص تحدث إليهم “العربي الجديد”، تهاوي العملة السورية بـ”اللعبة”،  فالمحلل المالي علي الشامي يرى أنّ قائد اللعبة هو مصرف سورية المركزي، كما أن لديه لاعبين أبرزهم شركات الصيرفة، معتبراً أنّ “هذه اللعبة تعود بالفائدة على نظام بشار الأسد وتمده بسبل الاستمرار، لأنّ المصرف المركزي أكبر المضاربين بالسوق”.

ويرى الاقتصادي عبد الناصر الجاسم أنّ “اللعبة تتجلّى بتعدد أسعار الصرف التي تصل إلى أربعة”، مشيراً إلى “دور الحوالات الخارجية باللعبة التي نرى أبشع صورها اليوم، عبر ابتزاز التجار وإلزامهم بدفع ثمن الواردات مرتين”.

ولم يبتعد الاقتصادي حسين جميل كثيراً عن ذلك التحليل، وأضاف أنّ “هذه اللعبة عرّت النظام، وقلبت السحر على الساحر” حسب قوله، كما لم يستبعد أن يبدأ تهاوي الدولة وإفلاس المؤسسات، من بوابة الاقتصاد وتحديداً من الليرة السورية.

ويجمع هؤلاء المحللون على أنّ العملة السورية، وجراء “كثرة اللعب بها وعليها” فقدت قيمتها ولم تعد مقبولة للتعامل خارج حدود المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، لأنّ عوامل استقرار النقد، بحسب تصريح علي الشامي لـ”العربي الجديد”، “جميعها تلاشت في سورية، وربما أهمها وأكثرها دعماً للعملة، هو نفاد الاحتياطي من المصرف المركزي بدمشق”.

وبلغ الاحتياطي في مصرف سورية المركزي، عام 2011، نحو 18 مليار دولار، قبل أن يتراجع عام 2016، بحسب البنك الدولي، إلى 700 مليون دولار. وتنفد الاحتياطيات منذ عامين “إلا من بعض الإتاوات التي يفرضها النظام بالدولار على رجال الأعمال”، بحسب الشامي.

بدوره، يرى الاقتصادي عبد الناصر الجاسم أنّ “انقلاب الميزان التجاري” هو أهم أسباب تعرية الليرة، فبعدما كان النفط، على سبيل المثال، يعود على الخزينة بعائدات تصدير تبلغ نحو 150 ألف برميل نفط يومياً، تحوّل إلى أكثر مستنزف للقطع الأجنبي، مضيفاً لـ”العربي الجديد” أنّ “الأمر ينطبق كذلك على المحاصيل الزراعية والمواد الأولية، الأمر الذي أوقع التجارة الخارجية بعجز زاد عن 6 مليارات يورو عام 2021”.

بدوره، بسّط جميل الأمر بقوله إنّ “القصة بالنهاية عرض وطلب، فالليرة التي تطبع في موسكو من دون تغطية وإنتاج ومعادلات، أغرقت السوق، وذلك في وقت تزداد تهاوياً، ما دفع، حتى صغار المكتنزين لهجرتها إلى الذهب والعملات الرئيسية”، متوقعاً أن “يستمر الانهيار عام 2023 في ظل زيادة إنغلاق أي أفق واستمرار تدمير البنى الاقتصادية”.

عام الخسائر

هوت العملة السورية، نهاية العام، إلى أدنى مستوى على الإطلاق بعد تسجيل الدولار نحو 7300 ليرة، بعدما بدأت العام بنحو 3500 ليرة للدولار الواحد، في حين لم يزل مصرف سورية المركزي يثبّت السعر الذي رفعه في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2022، من 2814 إلى 3015 ليرة للدولار، ليبدأ بعد ذاك مشوار التهاوي السريع، إثر استشعار المتعاملين انسحاب “المركزي” من دعم الليرة وانقياده للسوق، بعد التوقف عن التدخل المباشر.

ويقول الاقتصادي عبد الناصر الجاسم إنّ “عام 2022 الذي شهد تهاوي سعر الليرة، هو العام الأكثر استيراداً للقمح والمشتقات النفطية، ما يعني تبديد القطع الأجنبي الذي كان قليلاً بالأساس في السوق والمصرف المركزي”.

ويضيف الجاسم لـ”العربي الجديد” أنه مقابل ذلك “لم تكن هناك مصادر للنقد الأجنبي مثل الصادرات أو السياحة تعادل فاقد العملات الأجنبية بالسوق، الأمر الذي أخلّ بالمعروض النقدي بواقع اكتفاء السلطة النقدية بالمراقبة وعدم التدخل، إلا من خلال قرارات القمع والملاحقة والتي تزيد مخاوف المكتنزين وتزيد العامل النفسي” الذي رآه الجاسم “حاسماً” ولا سيما في مراحل الانهيار.

بدوره، يرى حسين جميل أنّ “عوامل كثيرة اجتمعت عام 2022 منها سياسية واقتصادية محلية وحتى دولية”، مشيراً إلى دور ما نشرته وكالة أسوشييتد برس حول “إفلاس مصرف سورية المركزي، خلال شهر ديسمبر الجاري، وعدم قدرة نظام الأسد على تسديد الأجور خلال الأشهر المقبلة”، مستدلاً بأنّ “قفزات التهاوي الكبيرة جاءت بعد أنباء الإفلاس”.

ويذهب المحلل علي الشامي إلى ما وصفه “غياب مولدات القطع الأجنبي، من عدمية الاستثمارات الأجنبية، بالتوازي مع هروب الاستثمارات ورجال الأعمال وهجرة المنشآت، تزامناً مع زيادة المستوردات وتراجع الصادرات”.

ويلفت الشامي إلى دور ما أسماه “انسحاب حلفاء نظام الأسد من تمويله، سواء توقُّف خطوط الائتمان الإيرانية التي سندت المستوردات خلال السنوات الماضية، أو ما قيل عن امتناع روسيا عن إقراض الأسد، بل والمطالبة بضمانات القروض السابقة”، لأنّ ذلك، بحسب الشامي، “يعني مزيداً من تعاظم الأثر النفسي وبالتالي زيادة تهاوي سعر العملة”.

ارتفاع الأسعار

يضع سوريون سبب رفع حكومة بشار الأسد، أخيراً، أسعار المشتقات النفطية، بمقدمة الأسباب التي زادت ارتفاع الأسعار وساهمت بتهاوي سعر الصرف بنهاية عام 2022، معتبرين أنّ زيادة تكاليف الإنتاج الزراعي والصناعي، بعد رفع مكوّن الطاقة، ألزمت المنتجين برفع أسعار المنتج النهائي.

وأشار عضو لجنة تجار ومصدري الخضر والفواكه في دمشق، محمد العقاد، في تصريحات صحافية، أمس الثلاثاء، إلى أنّ أجرة نقل السيارة المحملة بالحمضيات والفواكه من الساحل إلى دمشق، وصلت إلى 1.2 مليون ليرة، في وقت لم يزد على 400 ألف ليرة قبل شهرين، نتيجة شراء المازوت من السوق السوداء بسعر تجاوز 10 آلاف ليرة سورية لليتر الواحد وهي بازدياد مستمر.

ولفت إلى أنّ هذه التكاليف بكل تأكيد ستضاف إلى سعر البضاعة، حيث أصبحت تكلفة نقل الكيلو الواحد منها تصل إلى 200 ليرة سورية وكل سيارة فيها 7 أطنان.

وفاقم استمرار شح المحروقات، وارتفاع سعرها في السوق الحر إلى ضعفه في السوق الرسمي، بزيادة الطلب والأسعار، لتبلغ نسبة ارتفاع الأسعار خلال شهر ديسمبر الجاري فقط، أكثر من 30%، بحسب المحلل علي الشامي، وتزيد نسبة ارتفاع الأسعار في السوق السورية عن 150% خلال العام.

ويلفت الشامي إلى زيادة ملامح الركود في السوق السورية بسبب تراجع القدرة الشرائية، لكن ذلك لم يكسر الأسعار برأيه، لأنّ العرض بالمقابل تراجع كثيراً، سواء الإنتاج المحلي أو المستوردات الخارجية، مشيراً إلى وصول سعر كيلو السكر إلى نحو 6500 ليرة، والأرز 6300 ليرة والجيد منه بنحو 17 ألف ليرة، وارتفاع أسعار مشتقات الألبان بأكثر من 40% خلال الشهر الأخير.

ونوّه بالتراجع الطفيف بأسعار الخضر والفواكه، بسبب تراجع التصدير جراء التعقيد الحكومي وشح المحروقات، مضيفاً أنّ الأسعار لم تزل أعلى من قدرة المستهلك الشرائية، فسعر كيلو البندورة نحو 2500 ليرة والبطاطا 2000 ليرة والكوسا 3500 ليرة، لتبقى أسعار اللحوم بخانة الأماني للسوريين، بعدما زاد سعر كيلو لحم الخروف عن 50 ألف ليرة، وشرحات الدجاج عن 25 ألف ليرة.

وزادت أيام نهاية العام من أسعار الفواكه في السوق السورية، فبحسب موقع “بزنس2 بزنس” المحلي، سجل سعر الموز 7600 ليرة، والفراولة 5500 ليرة، والتفاح 2500 ليرة، والرمان 3500 ليرة سورية.

فجوة الدخل والإنفاق

ويرى الجاسم أنّ تهاوي سعر صرف الليرة “ليس كل المشكلة، فانخفاض الدخل أيضاً عامل مهم، حيث إنّ متوسط الأجور لا يزيد عن 100 ألف ليرة في حين تصل المصاريف الشهرية للأسرة، إلى نحو 3 ملايين ليرة، الأمر الذي زاد نسبة الفقراء إلى أكثر من 90% من السكان”، موضحاً أنّ التحويلات الخارجية “هي الدخل الوحيد الذي يُبقي السوريين على قيد الحياة”.

في المقابل، يشير أمين الشؤون الاقتصادية في الاتحاد العام لنقابات العمال، طلال عليوي، في تقرير رسمي صدر قبل أيام، إلى أنّ هناك عدة عوامل أدّت إلى رفع مؤشر تكاليف الحياة إلى أكثر من ثمانين ضعفاً خلال سنوات الحرب، إذ باتت تحتاج الأسرة المكونة من 5 أشخاص إلى حوالى 1.5 إلى مليوني ليرة لسدّ نفقات معيشتها، في حين تراجعت القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود بنسبة تزيد عن 90% بسبب الارتفاعات الكبيرة في الأسعار.

أمل مفقود

يخيّم فقدان الأمل بأي انفراج على السوريين، ونقلت صحيفة “البعث” الناطقة باسم الحزب الحاكم بدمشق، إحباطات السوريين عبر سؤالهم “ماذا ينتظرنا في العام الجديد”، معتبرة أنّ “كل المؤشرات التي تتحفنا بها الجهات العامة والخاصة تبشرنا بأنّ ما ينتظرنا في عام 2023 ليس كما نشتهي”.

وقالت الصحيفة إنّ “العام الجديد سيكون في غاية القسوة والإحباط، طالما الشغل الشاغل لتلك الجهات (لم تسمها)، على مدار الساعة، رفع أسعار المحروقات وجميع السلع الغذائية من جهة، وتخفيض القدرة الشرائية للعاملين بأجر من جهة ثانية”، مبشرة بأنّ “عام 2022، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول لخلفه عام 2023: أسلّمك أمانة ملايين العاملين بأجر فلا ترحمهم”.

من جهته، يتوقع الشامي أن يشهد عام 2023 في سورية، انهيارات وإفلاس مؤسسات مالية وإنتاجية، مختصراً أسباب بقاء عجلة الاقتصاد بأبطء حركتها، بأنها “تعود إلى قرار سياسي دولي، وإلا وفق مؤشرات الاقتصاد والواقع، فإنّ سورية لا تمتلك أي مقوّم استمرار”.

وأشار في الوقت عينه إلى “تسريع حالات تعرّي نظام الأسد من خلال عودة خروج احتجاجات الجوعى في سورية”، متوقعاً تصاعد “انتفاضة السوريين” خلال العام الجديد.

—————————–

==================

تحديث 01 كانون الثاني 2023

———————-

نظريتان في انهيار الليرة السورية/ إياد الجعفري

شهدت الليرة السورية خلال كانون الأول/ديسمبر 2022، واحداً من أسوأ انهياراتها على الإطلاق. إذ فقدت نحو ربع قيمتها، خلال شهرٍ واحد. وهو ما يعادل مجمل خساراتها في العام 2021، بأكمله. 

وفي حصيلة شبه نهاية للعام 2022، خسرت الليرة نحو 98% من قيمتها. ورغم أن العام 2022 ليس أقسى سنة على الليرة، مقارنة بالعام 2020 الذي خسرت فيها الليرة نحو 218% من قيمتها، إلا أن تزامن انهيار الليرة الأخير مع انكشافٍ غير مسبوق للاقتصاد السوري على أزماتٍ، ظهرت خلالها مؤسسات الحكومة بمظهر العاجز، يؤشر إلى أن مسار انهيار الليرة في العام الجديد، قد يصبح أكثر تسارعاً، من سابقه.

لكن، ورغم المؤشر السابق، ما تزال شريحة من المحللين تؤمن بنظرية “الانهيار المُدار” في سعر الصرف. إذ يرى هؤلاء أن المركزي السوري ما يزال قادراً على لجم انهيار الليرة، حينما يريد. وانهيارها الأخير، يحدث بضوء أخضر من المركزي، نظراً لأنه يتناسب مع مصلحته في تعزيز قيمة ما يدخره من احتياطي بالقطع الأجنبي مقابل الليرة السورية، مما يعزز من قدرته على تمويل القطاع العام، من جانب. ويتناسب مع مطالب فئة من الصناعيين ورجال الأعمال بخفض قيمة الليرة لتتماشى مع سعرها “الحقيقي”، من جانب آخر. ومنذ آذار/مارس الفائت، كانت أصوات صريحة تظهر عبر وسائل الإعلام الموالية، لتقول إن سعر صرف الليرة –الذي كان حينها نحو 4000 للدولار الواحد- يجب أن يتراوح ما بين 5 إلى 6 آلاف. وأكثر تلك الأصوات جرأة، كانت لنائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، الدكتور علي كنعان، الذي نقلت عنه صحيفة “الوطن” الموالية، حينها، أن التجار يسعّرون بضائعهم بدولار يساوي 10 آلاف ليرة.

واستناداً إلى ما سبق، يذهب هذا الفريق من المحللين إلى الرهان على أن سعر صرف الليرة سيتوازن، كالعادة، بعد موجة الانهيار الأخير، عند سعرٍ تفضّله الجهات التي تدير المركزي السوري. وحينما يتجاوز الدولار هذا السعر، سيتدخل المركزي باستخدام القبضة الأمنية، لإعادة لجم الانهيار، والتحكم بمداه. وتتفاوت التقديرات حول السعر التوازني القادم، مع انعدام شفافية الجهات الحكومية. إذ أن هناك من يرى أن السعر التوازني تحقق بالفعل عند نحو 7000 ليرة للدولار الواحد، وسيعمل المركزي بالأيام القليلة القادمة على لجم انهيار الليرة، لتتوازن قريباً من هذا الرقم. وما يدعم هذا الرأي، أن الدولار أخذ يعكس اتجاهه بالفعل، وسجل سعر صرف أقل من 7000 ليرة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، مما يؤشر إلى أن الـ 7000 ليرة، هي السعر التوازني في المرحلة الحالية. فيما يذهب رأي آخر إلى أن السعر التوازني يجب أن يكون قرب الـ 10 آلاف ليرة للدولار الواحد، وهو ما يعني أن الليرة ستعاني من انهيار متواصل، مع بعض التذبذب، خلال الثلث الأول من العام الجديد.

لكن مقابل الرأي السابق، يذهب فريق آخر من المحللين إلى أن المركزي السوري بات خارج لعبة أسواق الصرف، تماماً، وأنه يفتقد للأدوات اللازمة لكبح انهيار الليرة. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى ما يعتقدون أنه شح غير مسبوق في القطع الأجنبي، المتاح لدى المركزي، بدليل انكشاف الاقتصاد مؤخراً أمام أزمة محروقات تاريخية، أقرّ مسؤولو الحكومة بأنها نتيجة عجزهم عن توفير قطع أجنبي كفيل باستيراد المحروقات.

وهذا ما ينقلنا إلى العوامل الجديدة التي ضغطت على سعر صرف الليرة خلال العام 2022، وأبرزها، تراجع حجم الحوالات الخارجية جراء التضخم العالمي. والحوالات الخارجية، هي مصدر المركزي في تأمين نحو 40% من القطع الأجنبي الخاص بتمويل المستوردات. أما المصدر الآخر، فهو الصادرات. هذه الأخيرة، انكمشت، وفق مصادر رسمية، إلى النصف، خلال العام الجاري. خاصة تلك الموجهة للأسواق الخليجية (السعودية، الإماراتية بالذات). ولهذا الانكماش جملة أسباب، أبرزها، شحنات المخدرات التي باتت ملازمة لشحنات الصادرات السورية. إلى جانب، ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي، بسبب رفع حكومة النظام للدعم عن المحروقات، بشكل متسارع خلال السنة والنصف الأخيرة، بحيث فقدَ المُنتَج السوري القدرة على المنافسة مع نظرائه من منتجات دول الجوار، وتحوّلت سوريا إلى بلدٍ تُهرَّب إليه البضائع، الأرخص ثمناً، من لبنان، بعد أن كان –طوال معظم تاريخه- مَصدَرَاً لتهريب البضائع. 

الأثر التراكمي لتخلي النظام، المتسارع، عن دعم المحروقات، على إنتاجية الاقتصاد السوري، والتي ظهرت جلية في مطلع النصف الثاني من العام 2022، وما نتج عنه من تراجع نوعي في كمية الصادرات السورية، مُضافاً إليه تراجع كبير في نسب الحوالات الخارجية، انعكسا بصورة تراجعٍ كبير في مدخلات المركزي السوري من القطع الأجنبي. وهو ما يجعلنا نميل للنظرية الثانية التي تقول إن المركزي بات عاجزاً عن كبح انهيار سعر صرف الليرة. ولا يبدو أن قنوات تهريب الدولار من لبنان، كفيلة بتحقيق الكبح المأمول، نظراً لإجراءات المركزي اللبناني المضادة لعمليات التهريب، والتي تستهدف جذب القطع الأجنبي للبقاء داخل السوق اللبنانية.

وهكذا يجب أن تتوافر مسارات بديلة للجم انهيار الليرة السورية في الفترة القادمة، غير تلك التي اعتاد المركزي السوري استخدامها في السنوات الأخيرة. وإلا فإن هذا الانهيار قد لا يكون قابلاً للكبح، هذه المرة. وتستند جميع هذه المسارات إلى العامل الخارجي. 

المدن

————————-

لماذا من المستحيل أن يخرج الأسد من أزمته؟/ رضوان زيادة

تمر سوريا بأكبر وأعمق أزماتها الاقتصادية والمالية على الإطلاق، البلد بكامله في عطلة إجبارية بسبب انعدام المحروقات والوقود والطاقة حيث أصدرت الحكومة قرارا بتعطيل مؤسساتها لعدم قدرتها على شراء الوقود بسبب انعدام العملة الصعبة لديها، حيث صرف الأسد كل احتياطي البنك المركزي بهدف تمويل حربه ضد السوريين عبر قصفهم وحصارهم وتجويعهم وتمويل شبيحته التي أمعنت في قتل السوريين بكل الطرق بما فيها استخدام السلاح الكيماوي، والآن يحصد الأسد نتائج قرارته حيث اعتقد أن حلفاءه في روسيا وإيران سيمدونه بالمال والدعم الضروري إلى ما لا نهاية.

لكن من الواضح أن هذه النهاية قد وصلت فقد دخلت سوريا مرحلة من التضخم الجامح، وعدم القدرة على السيطرة على الأسعار بشكل مخيف وهو يشل أية قدرة على التجارة والتبادل بين السلع فالسعر اليوم سيختلف بعد ساعة وفوقها انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، حيث وصل إلى رقم قياسي الدولار مقابل 7000 ليرة سورية بعد أن كان الدولار يعادل 50 ليرة سورية في عام 2011 قبل بدء الثورة السورية.

لكن، المهم هنا الإشارة إلى انعدام كل خيارات الأسد على الإطلاق في الخروج من أزمته الاقتصادية والمالية، ربما يحسن تأجيلها وتأخيرها شهور عدة قبل أن تعود وتضربه من جديد، من حيث انعدام الوقود والطاقة بأنواعها واضطراب سعر صرف الليرة، فلا البنك المركزي قادر على التدخل لوقف تدهور انهيار سعر صرف الليرة السورية حيث أفلس تماما كما نقلت وكالة الأسوشيتد برس الشهر الماضي، ولن يكون الحل بطباعة المزيد من العملة الورقية في روسيا بلا أن يكون لها أية قيمة وهو ما سيضاعف نسبة التضخم بشكل جنوني أكبر، فقد دخل الأسد في حلقة مفرغة لا مخرج منها، خاصة بعد صدور قانون جديد من الكونغرس الأميركي يحمل مسمى قانون الكبتاغون يطالب الحكومة الأميركية بتطوير استراتيجية خلال ستة أشهر تشمل وكالات الأمن القومي ووزارة الدفاع ووكالة مكافحة المخدرات بهدف منع الأسد من استخدام هذه التجارة من أجل الإثراء غير المشروع وتدمير المجتمع السوري عبر نشر المخدرات بين طبقات المجتمع المختلفة.

وبالتالي أصبح الأسد محاصرا دوليا بسبب جرائمه وتجارة المخدرات حيث قانون قيصر وقانون الكبتاغون وهو ما يضع ضغوطا كبيرة على الدول التي طبعت مع نظام الأسد، أو ترغب بالتطبيع معه خاصة الإمارات والأردن حيث يبدو الأسد قد انتهى سياسيا تماما بعد وصفه حكومته بأنها مركز عصابي لتجارة المخدرات في المنطقة، وعلى الدول الإقليمية التعاون من أجل محاصرته وجلبه للعدالة.

سيلجأ الأسد إلى حلفائه الذين يعيشون ظروفا أصعب حيث روسيا تعاني من هزائم متكررة في أوكرانيا وحيث المظاهرات المتصاعدة في إيران التي تفضح النظام بشكل يومي عبر جرائمه في قمع المظاهرات السلمية وإعدام المتظاهرين وقتلهم بشكل علني كما فعل الأسد مع بداية المظاهرات السلمية.

هل سيقود ذلك إلى تغيير في بنية أو سلوك نظام الأسد، من المستحيل توقع ذلك فالأسد طور نظاما يقوم على الإبادة والسياسات الطائفية والتي تركز بشكل رئيسي وأساسي على الحكم بالعنف والقوة وليس على مصالح المواطنين أو رعاية شؤونهم، ولذلك يجب ألا يتوقع أي شخص أن تغييرا ما يمكنه الحدوث في سلوك الأسد أو أن ينخدع بأية خطوة من الخطوات، وعلى تركيا مراجعة الخطوات والتصريحات التي قامت بها لأنها لن تقود إلى أي شيء يمكنه أن يفيد السوريين أو الأتراك بشيء، بل إنها تساعد في إبقاء الضغوطات على تركيا من قبل الولايات المتحدة.

بالنهاية نشهد أمام أعيننا تحلل سوريا قطعة قطعة فبعد تقسيم سوريا إلى أربع سلطات أمر واقع تحمها دول مختلفة يتحلل المجتمع السوري من الفقر والتهجير، إنها كارثة ولعنة الأسد التي ضربت سوريا على مدى نصف قرن.

تلفزيون سوريا

—————————-

آل الأسد والخديعة الكبرى/ فراس محمد

تشهد مناطق سيطرة النظام السوري أزمة غير مسبوقة، أرخت بظلالها على كل جوانب الحياة، خاصة بعد أزمة المحروقات التي شلت البلاد وتزامنت مع دخول فصل الشتاء، واستمرار الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بما تبقى من الدولة السورية، والذي انعكس بشكل كبير على المواطنين السوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام، ولم يستثن الانهيار هذه المرة المؤيدين، بل يمكننا القول إنهم في عين العاصفة هذه المرة أسوة بباقي شرائح المجتمع السوري.

وكعادته في التعامل مع هكذا أزمات لم تجد الطغمة الحاكمة من وسيلة سوى القفز عن الأسباب الموضوعية التي تتمثل بفشلها الذريع في إدارة الملف الاقتصادي، كما فشلت سابقاً في إدارة الملف السياسي والأمني، لتعيد أبواقه اجترار الحجج الواهية التي تسببت بهذه الأزمة من قبيل المؤامرة الخارجية والعقوبات الغربية وو.. إلى آخر هذه الحجج التي لم تعد قادرة على إقناع أي إنسان عاقل، في حين تتكفل المعاناة والفشل الذريع والإهمال المتعمد من قبل أركان النظام بإقناع من قبلوا بالزج بأبنائهم في المقتلة السورية إرضاءً للقيادة “الحكيمة”، بحجم الخديعة التي انطلت عليهم ودفعوا ثمنها أرواح آلاف الشبان من أبنائهم.

اليوم ونحن نقف على أعتاب سنة جديدة من المأساة السورية المتواصلة منذ وصول عائلة الأسد إلى سدة الحكم، هناك سؤال جوهري أصبحت الإجابة عليه ضرورة قصوى للسوريين بشكل عام والمؤيدين منهم على وجه الخصوص، “هل كان الأسد الأب وابنه طائفيين ويحبون طائفتهم”؟

فمنذ وصول الأسد إلى السلطة عام 1970 سيكون هذا السؤال الغريب عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي السوري أحد المحددات الأساسية لملامح سوريا خلال العقود الخمسة القادمة، وستتكفل الإجابات السطحية عليه بتشكيل واقع سياسي واجتماعي مأزوم سينسف ما تبقى من ملامح المجتمع والدولة السورية التي نخرت بها سياسات النظام الاستبدادي حتى النخاع.

    وفق هذه الإجابة تشكل وعي سياسي واجتماعي جديد وطارئ على المجتمع السوري قائم على الإقرار بأن هذا النظام هو نظام طائفي، وللقضاء عليه يجب ضرب أذرعه وأدواته الطائفية

أولى الإجابات السطحية كانت الإقرار من قبل غالبية المجتمع السوري بأن هذا النظام نظام طائفي، وارتكزت هذه الإجابة على الممارسات المتبعة من قبل النظام بتحويل أهم المؤسسات في الدولة السورية وبالتحديد الجيش والأمن والمخابرات إلى مؤسسات طائفية بامتياز، ووفق هذه الإجابة تشكل وعي سياسي واجتماعي جديد وطارئ على المجتمع السوري قائم على الإقرار بأن هذا النظام هو نظام طائفي، وللقضاء عليه يجب ضرب أذرعه وأدواته الطائفية.

ثاني الإجابات السطحية على هذا السؤال كانت من قبل شريحة واسعة من الطائفة العلوية والتي تبنت فكرة أن هذا النظام هو نظام طائفي، وأنه ممارساته الطائفية ما هي إلا تعبير عن انتماء أصيل للأسد الأب والابن إلى هذه الطائفة، وأن هدفه الأول والأخير هو حمايتهم من الأكثرية التي تريد الانقضاض عليهم في أية لحظة، وبسبب هذه الإجابة رهنت الطائفة دماء ومستقبل أبنائها خدمة لهذا النظام، والذي لم يتوان عن عسكرة هذه الطائفة والزج بالجزء الأكبر من شبابها في المؤسستين العسكرية والأمنية، وتحويل الذهنية الريفية البسيطة في هذا المجتمع من الخلاص عن طريق رفع السوية الثقافية من خلال التحصيل العلمي إلى مجتمع تسوده العقلية العسكرية، ما خلف واقعاً يتناسب تماما مع ما تم رسمه مسبقا من قبل آل الأسد.

واليوم وبعد أكثر من 5 عقود على هذا النظام تجب إعادة طرح هذا السؤال مجدداً والإجابة عليه وفق معطيات الواقع التي أفرزتها الأجوبة السابقة.

هل كان نظام الأسد نظاماً طائفياً؟ بمعنى أدق إلى أي حد كان انتماء النظام للطائفة حقيقياً وسامياً، وإلى أي حد سعى هذا النظام للنهوض بواقع طائفته وحمايتها من أي خطر يتهدد أبنائها، وهل كان مستعداً للتضحية في سبيل مستقبل الطائفة ومستقبل أبنائها.

واقع الحال اليوم يشي بأمور مختلفة تماماً عن كل ما حاول النظام تصديره للسوريين باختلاف انتماءاتهم ومشاربهم، فالواقع الطائفي الذي حاول النظام تكريسه طوال هذه العقود كشفت الثورة السورية قبحه وفظاعته، آلاف الشبان من الطائفة العلوية تم زجهم في محرقة عبثية لم يكن الهدف منها سوى بقاء الأسد في سدة الحكم، بالإضافة لآلاف المعاقين التي خلفتها حروب الأسد وهم في ريعان الشباب، ومن بقي حياً وسليماً من هذه المحرقة يطحن الآن بصمت تحت وطأة الواقع المعيشي والاقتصادي المزري، ومستقبل أقل ما يقال عنه بأنه مبهم ومخيف فيما تنعم عائلة الأسد وأبناؤها بخيرات البلاد المنهوبة.

    كانت أولويته بقاءه في السلطة ولو كلف ذلك إحراق الوطن بما فيه، بما في ذلك الطائفة العلوية

الشق الآخر للمأساة هي “خصومة الدم” التي وضع الأسد أبناء طائفته فيها من خلال المواجهة المفتوحة ضد كل أبناء الشعب السوري، حتى باتت هذه الخصومة تهدد بشكل حقيقي مستقبل الطائفة بشكل خاص ومستقبل الوطن السوري بشكل عام، مزعزعة حالة السلم الأهلي التي كانت عبر آلاف السنين هي الحماية الطبيعية لكل أبناء الوطن السوري، فهل كان نظام الأسد بما يملكه من دهاء وخبث غافلاً عما ستتسبب به سياساته من تهديد لمستقبل الطائفة العلوية في سوريا؟ الجواب بكل تأكيد لم يكن غافلاً، بل كان مدركاً تماما لحجم الكارثة، لكن كانت أولويته بقاءه في السلطة ولو كلف ذلك إحراق الوطن بما فيه، بما في ذلك الطائفة العلوية وهو ما عبر عنه بشكل صريح وواضح على لسان بعض الحمقى من أتباعه “الأسد أو نحرق البلد”، وهنا يحق لنا أن نسأل أليس العلويون من أهل هذا البلد؟

قبل عدة أشهر وخلال إحدى الأمسيات دار حوار حول الممارسات الطائفية لنظام الأسد، ومن بين الحضور كان معتقل سابق لدى نظام الأسد لمدة 30 عاماً، تحدث خلالها مستفيضاً عن الممارسات الطائفية خلال فترة الاعتقال، قاطعته قائلاً بأن آل الأسد لم يكونوا طائفيين وللأسف أقول “يا ليتهم كانوا طائفيين، بل كانوا أسوء من ذلك بكثير”.

استغرب الحضور كلامي لكني تابعت قائلاً: ما تسبب به حافظ الأسد ومن بعده وريثه القاصر بشار الأسد بحق سوريا بشكل عام وبحق الطائفة العلوية بشكل خاص، لا يليق به حتى أن ننعته بصفة الطائفي، فلو كان طائفيا ويحب طائفته لما ورطها بكل هذا الدم قبل أن يترك أبناءها بين قتيل أو معاق.

لو كان طائفيا لشعر ولو لوهلة بأن وجوده بات يهدد مستقبل أجيال قادمة من طائفته لن تجد من مستقبل لأبنائها سوى التطوع في ميليشيات إجرامية تحت مسمى “الجيش السوري” أو تجار مخدرات منبوذين دولياً، أو تائهين في وطن ينبذهم ويتهددهم بالفقر والمجاعة.

——————————-

إيران لسوريا: الأمر لي/ ابراهيم ريحان

تضاربت الأنباء حول زيارة الرّئيس الإيرانيّ إبراهيم رئيسي لعاصمة الأمويّين دمشق. بلغنا الثّلاثاء الموعود ولم يصل رئيسي إلى قصر المُهاجرين كما كان مُتوقّعاً. يدور الحديث عن أنّ الزّيارة لا تزال قائمة، لكن أُرجئت إلى “وقتٍ قريب” لم يُحدَّد. ووفق ما يتردّد فإنّ التأجيل مردّه إلى تباينات جدّيّة بين دمشق وطهران تتعلّق بمطالب إيرانية ترى سوريا أنّها لا تستطيع تحمّلها لأنّها تجعل اليد العليا لنظام الملالي. 

ماذا يريد رئيسي من زيارة دِمَشق؟

الرّئيس الإيرانيّ بنزوله على أرضِ مطار دمشق الدّوليّ يحمل “رسائل في عدّة اتجاهات إقليميّة ودوليّة”، وأبرزها أنّ إيران باقية في سوريا، وستشدّ قبضتها أكثر من أيّ وقتٍ مضى، على ما قال مصدر إقليمي رفيع لـ”أساس”.

الإرباك والارتباك اللذان طبعا الزيارة سببهما طلب إيران من سوريا عقد اتفاقيات مشتركة من طبيعة حسّاسة، من ضمنها مُعاملة الإيرانيين في سوريا مُعاملة المواطن السّوريّ في شتّى المجالات باستثناء المثول أمام القضاء. فقد طلبَ الإيرانيّون أن يُحاكمَ المواطن الإيرانيّ أمام قضاء بلاده في حال ارتكابه جرماً على الأراضي السّوريّة.

تسعى دوائر القرار في طهران إلى دمج الإيرانيين الموجودين على امتداد الجغرافيا السّوريّة بالمجتمع السّوريّ، ويشير المصدر لـ”أساس” إلى أنّ المسؤولين في دمشق يتحسّسون من المطلب الإيرانيّ الذي يُعتبَر “مُقدّمةً لتوطين الإيرانيين” في سوريا في إطار الحرب الدّيمغرافيّة التي يشنّها نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في مُدنٍ سوريّة أساسيّة أبرزها العاصمة دمشق ومحيطها، وحلب ثاني أكبر المُدن.

تعتبر طهران أنّ لها الفضل الأكبر في إنقاذ النّظام السّوريّ عبر تدخّلها العسكري المُباشر على الأرض السّوريّة، فضلاً عن الوساطة الشّهيرة التي قامَ بها القائد السّابق لـ”قوّة القُدس” قاسم سليماني مع الرّئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتين، ونتَجَ عنها التّدخّل العسكريّ الرّوسيّ في الحرب السّوريّة الذي قلبَ موازين القوى لصالح النّظام.

لا يقلق رئيسي من الموقف الرّوسيّ، بل على العكس. باتت إيران شريكاً مُباشراً في حرب بوتين على أوكرانيا، حيثُ تنهمر طائراتها الانتحاريّة “شاهد 136” على العاصمة الأوكرانيّة. وما يُعزّزُ الشّراكة الرّوسيّة – الإيرانيّة هو الموقف الإسرائيليّ المؤيّد لأوكرانيا ورئيسها فولوديمير زيلينسكي، ولا تجدُ موسكو ردّاً على تل أبيب أفضلَ من مشهد دخول إبراهيم رئيسي قصر المُهاجرين.

النّفط والاقتصاد

بحسب المصدر يطمح الإيرانيّون إلى تنشيط “خطّ الائتمان النّفطي”، الذي اتُّفِقَ عليه أثناء زيارة الرّئيس السّوريّ بشّار الأسد لطهران قبل أشهر. ويجد الطموح الإيراني هذا فرصةً سانحةً اليوم أكثر من أيّ وقت مضى في ظلّ ما تواجهه سوريا من أزمة مشتقّات نفطيّة غير مسبوقة وانهيار دراماتيكيّ للّيرة السّوريّة.

لكنّ تفعيل الخطّ اللوجستي النّفطيّ بشكلٍ فعّال مرهونٌ بموافقة دمشق على المطالب الإيرانيّة المُتعلّقة بالاتفاقيّات، وهذا ما يُفسّر تأخّر طهران المُتعمّد في إرسال 3 سفن مُحمّلة بالمُشتقّات النّفطيّة كانَ قد طلبها بشّار الأسد أثناء زيارته طهران، ولاحقَ أسباب تأخّرها وزير الخارجيّة فيصل المقداد واللواء علي مملوك من دون أن يحصلا على جواب من طهران.

في هذا الإطار، عَلِمَ “أساس” أنّ رجلَ أعمالٍ سوريٍّ مُقرّب من طهران اشترى مُعظَم محطّات الوقود في المناطق الخاضعة لسيطرة النّظام السّوريّ، على أن يُزوّدها بالمُشتقّات النّفطية الآتية من إيران، التي ستدخل عبر ميناء اللاذقيّة.

لا تهدف طهران من هذه الخطوة إلى دعم الاقتصاد السوري بقدر ما تريد إحكام قبضتها على الأمن الاجتماعيّ في مناطق النّظام، التي تشهد احتقاناً غير مسبوقٍ، ابتداء بالسّويداء جنوباً حيث الغالبيّة الدّرزيّة، وصولاً إلى المناطق ذات الغالبيّة العلويّة في اللاذقيّة وطرطوس وجبلة، مروراً بالعاصمة دمشق ومدينة حلب.

في السّياسة أيضاً، تضغط طهران على حليفها في دمشق عبر تعليقها العمل بخطّ تهريب المشتقّات النّفطيّة عبر الحدود العراقيّة، بعد الالتزام الإيرانيّ للأميركيين بوقف التّهريب إلى سوريا، الذي كان أحد الشّروط التي جاءَت بمحمّد شيّاع السّودانيّ رئيساً للوزراء في بغداد.

نعم لتركيا… لا للعرب

لن يقفَ الإيرانيّون عند أعتاب النّفط فقط. دخلوا على الخطّ لإقناع الرّئيس السّوريّ بضرورة الاجتماع مع الرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان، وذلك بهدف فرملة اندفاعة النّظام نحو فتح خطوط تواصل مع الدّول العربيّة، بلغ ذروته خلال الأسابيع الماضية.

تشير معلومات “أساس” إلى أنّ سلطنة عُمان لعبت دوراً بارزاً في إعادة فتح خطوط التّواصل بين دمشق وعددٍ من الدّول العربيّة، وذلك بعدَ الزّيارة التي قامَ بها وزير خارجيّتها بدر البوسعيدي قبل شهر لدمشق ولقائه الرّئيس الأسد.

في سياق محاولة الانفتاح على العرب، زارَ رئيس المُخابرات العامّة اللواء حسام لوقا المملكة العربيّة السّعوديّة لـ3 أيّام وعقدَ لقاءاتٍ مع عدد من المسؤولين الأمنيين البارزين، فيما زار مدير مكتب الأمن القوميّ اللواء عليّ مملوك دولاً عربيّة أخرى، وهذا يدحضُ الكلام عن إزاحة الأخير من المشهد السّوريّ، إذ تتوزّع الأدوار بينه وبينَ اللواء لوقا.

بحسب معلومات “أساس”، سمع لوقا ومملوك من المسؤولين العرب كلاماً واضحاً عن أنّ المدخل الرئيس إلى أيّ عودة سوريّة إلى الحضن العربيّ وانخراط الدّول العربيّة في إعادة إعمار سوريا هو تغيير النّظام السّوريّ لطبيعة العلاقة القائمة مع طهران. يُضاف إلى ذلك وقف كلّ محاولات تهريب المُخدّرات عبر الأراضي السّوريّة إلى الدّول العربيّة عبر الحدود الجنوبيّة مع الأردن.

لن تُعجِبَ طهران اندفاعة الأسد نحو الدّول العربيّة. ولذا ينوي رئيسي أن يقف في دمشق ويقول إنّ “أيّ حديثٍ بشأن سوريا ينبغي أن يكونَ عبر إيران وليسَ عن دورها”.

يُريدُ رئيسي أن يلعَبَ دوراً في تقريب وجهات النّظر بين الرّئيس السّوريّ بشّار الأسد والرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان. وكانَ الرّئيس الإيرانيّ أبلغَ نظيرَيْه الرّوسي والتركي أثناء القمّة الثّلاثيّة التي عُقِدَت في طهران في تمّوز الماضي أنّ بلاده تُشجّع أيّ اجتماعٍ مُحتمل بين الأسد وإردوغان.

كذلك، تؤكد المصادر أنّ اللقاء الذي أعلنت عنه وزارة الدفاع الرّوسيّة بين وزراء دفاع ومسؤولي الاستخبارات في تركيا وسوريا وروسيا في العاصمة الرّوسية موسكو تمّ بالتشاور مع إيران.

وبحسب معلومات “أساس”، فإنّ لقاء موسكو الثلاثي سبقه اجتماع بين الرئيس السوري بشار الأسد واللواء علي مملوك مع وزير الخارجيّة التركيّ مولود تشاووش أوغلو ورئيس الاستخبارات التركيّة حقان فيدان في مدينة اللاذقية على السّاحل السّوري.

يصف المصدر اللقاء بين الأسد وأوغلو وفيدان بالإيجابيّ جدّاً، وتناول تفعيل اتفاقيّة أضنة الموقّعة بين دمشق وأنقرة سنة 1998 وإجهاض أيّ محاولة كرديّة لإعلان “الحكم الذّاتي” شمال شرق سوريا.

“قسد” على المائدة

تعتبر إيران أنّ تقارب الأسد والرّئيس التّركيّ يُساهم في ضرب قوّات سوريا الدّيمقراطيّة ذات الغالبيّة الكُرديّة (قسد)، المدعومة من الولايات المُتحدة. وتجدُ إيران في هذا التّقارب فرصةً سانحة لـ”مُعاقبة” “قسد”، وشلّ اليد الأميركيّة في شرق الفرات، حيث الحقول النّفطيّة السّوريّة والحدود الواسعة مع العراق.

إنّ لدى إيران رغبة عارمة في تصفية حساباتها مع الأكراد، الذين تتّهمهم بإشعال التّظاهرات التي باتت تُغطّي معظم الجغرافيا الإيرانيّة. وقد ضربَت طهران إقليم كردستان العراقي مرّات عديدة، وضغطَت على رئيس الوزراء العراقيّ لإرسال الجيش إلى الحدود بين كردستان العراق وإيران. واليوم تسعى إلى عقد ائتلافٍ تركيّ – سوريّ – إيرانيّ تكون مهمّته غير المُعلنة ضربَ الأكراد من إيران إلى سوريا مروراً بالعراق.

إن حصلت زيارة رئيسي لسوريا فستكون متشعّبة وحمّالة أوجه. ستحطّ رسائل بالجملة في عواصم الإقليم وأبعد. لكنّ ردّة الفعل الإقليميّة والدّولية على محاولة إيران تعزيز نفوذها في عاصمة الأمويين ستكون هي الأخرى محطّ الأنظار بعد الزّيارة

————————-

الحل السوري يبدأ من الجنوب:منطقة آمنة أم اقليم إداري؟/ عقيل حسين

يبدو أن مشروع الأقاليم الإدارية قد تمكن من فرض نفسه كخيار للحل في سوريا، على أن تكون بداية التنفيذ من خلال العودة إلى الجنوب، المنطقة التي لطالما كانت مسرحاً لصراع مصالح اقليمية ودولية لا تقل في أهميتها عن الشمال.

معلومات ووقائع تقاطعت خلال الأسابيع الأخيرة الماضية، تؤكد ما تحدثت عنه مصادر من المعارضة السورية لـ”المدن” حول التوافق بين دول عديدة على انشاء اقليم إداري في الجنوب، بموافقة ومشاركة من حكومة النظام السوري.

وتقول المصادر إن “العودة إلى هذا المشروع الذي سبق وأن طُرح أكثر من مرة خلال السنوات الماضية، تمت قبل سبعة أشهر، عندما زار العاهل الاردني الولايات المتحدة في أيار/مايو الماضي، قبل أن تنطلق أولى مراحل التنفيذ في تشرين الثاني/نوفمبر 2022”. 

وحسب المعلومات، فإن الملك عبدالله بن الحسين قدم للإدارة الأميركية فكرة المشروع، وأنه نجح بإقناع البيت الأبيض بها كحل لتخفيف قبضة إيران على سوريا، مقابل اشراك النظام في المشروع.

وتقول المصادر: “إن واشنطن تعهدت بدعم الفكرة في حال توفر الغطاء السياسي المطلوب من جانب روسيا والنظام السوري، وكذلك الغطاء المالي الذي قال ملك الأردن إن عدداً من دول الخليج قد تعهدت به”.

منطقة آمنة أم اقليم إداري؟

وتتقاطع هذه المعلومات مع تقارير سبق وأن نشرتها وسائل إعلام أردنية في حزيران/ يونيو الماضي، تحت عنوان “منطقة آمنة في جنوب سوريا”، وأفادت حينها بوجود خطط “لإنشاء منطقة آمنة على الحدود السورية-الأردنية، بعمق يزيد عن 35 كيلومتراً، لمواجهة التغلغل الإيراني وتعويض الفراغ نتيجة الانشغال الروسي في أوكرانيا”. 

المصادر الأردنية قالت آنذاك إن “اجتماعاً جرى في الأردن بين ممثلين عن دول عربية وقياديين في المعارضة السورية”، وقالت إنه “تقرر في الاجتماع إنشاء المنطقة الآمنة بموافقة الإمارات والسعودية والأردن ومصر، وبمباركة أميركية، لوضع حد للنفوذ الإيراني في الجنوب السوري”. 

لكن مصادر “المدن” تكشف عن عقد لقائين آخرين في أيلول/سبتمبر الماضي، الأول في دبي في الإمارات، والثاني في جدة في المملكة العربية السعودية، وحضرهما ممثلون عن محافظة درعا من المعارضة السياسية، بالإضافة إلى قادة سابقين في الجيش الحر، بينهم عدد من الموجودين حالياً في مناطق التسويات الخاضعة لسيطرة غير مباشرة من النظام في درعا.

وقالت المصادر إن مندوبي الدول أبلغوا ممثلي المعارضة العسكرية أن المشروع يقوم على إجبار الميليشيات الإيرانية، وكذلك الميليشيات السورية المرتبطة بها، على مغادرة الجنوب الى مسافة 55 كيلو متراً (حتى بلدة كناكر بريف دمشق)، ولكن بعد أن يتم تنظيف المنطقة من جميع المسلحين غير المنضبطين بمن فيهم خلايا تنظيم “داعش”، وجمع السلاح الموجود بحوزة المدنيين، مقابل إعادة إعمار المنطقة وتسليم الإدارة فيها لسكانها المحليين تحت سلطة حكومة دمشق.

وبينما وافق الجميع على الفكرة، وانتقلوا بعد ذلك إلى مدينة جدة، رفض أحد العسكريين السابقين، وهو كنان عيد، الانخراط في المشروع، مشترطاً إخراج الميليشيات الإيرانية قبل ذلك من حوران، وقرر العودة مباشرة إلى درعا، ليقتل بعد يومين من وصوله على يد مسلحين اقتحموا منزله وأطلقوا عليه الرصاص.

وبينما وجه سوريون تهماً للقائمين على هذا المشروع بتصفية عيد، يرجح آخرون أن إيران هي من اغتالته، خصوصاً وأن رفضه لم يكن نهائياً حسب ما نُقِلَ عن مقربين منه، مدللين على ذلك بتبنى “داعش” للعملية، حيث يربط هؤلاء بين تحرك التنظيم الذي تزايد مؤخراً في منطقة حوران، وبين تسهيل الحرس الثوري انتقال مقاتلين وقادة من التنظيم إلى هناك لإفشال المشروع، بمن فيهم زعيم “داعش” الذي قتل في مدينة جاسم على يد المسلحين المحليين.

ويكشف هؤلاء عن تدفق العشرات من مقاتلي التنظيم عن طريق البادية، قادمين من مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” شمال شرق سوريا، وكذلك من منطقة إدلب، بتسهيل من الميليشيات الإيرانية، وأن تواجدهم الكثيف وظهورهم العلني خلال الأشهر الثلاثة الماضية كان لافتاً للجميع.

ثلاث محافظات

ويؤكد الناشط المعارض نور أبو الحسن، وهو من محافظة القنيطرة (جنوب سوريا) أن المشروع يشمل إلى جانب درعا، محافظتي السويداء والقنيطرة أيضاً، وأنه يحظى بموافقة النظام وروسيا بالفعل.

كما أكد أبو الحسن المعلومات التي تحدثت عن سفر ممثلين عن هذه القوى إلى الاردن والإمارات، كاشفاً في الوقت نفسه عن أن النظام يحضّر من جانبه قائد الفيلق الأولى في جيشه، اللواء مفيد حسن، الذي ظهر للمرة الأولى على الإعلام برفقة ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام وقائد الفرقة الرابعة، خلال مناورت للجيش قرب بلدة حران العواميد بريف دمشق، في تشرين الأول/أوكتوبر ٢٠٢٢.

ويضيف في حديث مع “المدن”: “اللواء حسن هو صنيعة روسيا، وسبق أن حضر اجتماعاً مع بعض الشخصيات المعارضة في العاصمة الفرنسية باريس وفي الأردن من أجل بحث هذا المشروع، وذلك بعد أسابيع قليلة من تصريح وزير الخارجية الأردني عن مبادرة عربية تدعمها السعودية وفرنسا للحل في سوريا، والذي أدلى به على هامش لقاءات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي”.

وعن الجهة التي تمثل السويداء في هذا المشروع، أكد أبو الحسن أن “حزب اللواء” هو الطرف المرشح للقيام بهذا الدور، وقد تم اللقاء بممثلين عنه، لكنه يقول انه ليس لديه معلومات إضافية حول ذلك.

“المدن” من جانبها تواصلت مع قياديين في الحزب الذي سبق وأن خاض مواجهات دامية قبل عدة أشهر مع الأمن العسكري المدعوم من إيران في ريف السويداء، لكنهم فضلوا عدم الحديث عن الموضوع في الوقت الحالي، وإن لم ينفوا المعلومات التي حصلت عليها “المدن” بهذا الخصوص.

ويرى العديد من المعارضين السوريين والمحللين الذين تواصلت معهم “المدن”، أن المؤشرات التي ظهرت أخيراً تمثل قرائن مهمة على صحة المشروع، بما في ذلك التصعيد العنيف في حوران بين القوى المحلية وخلايا “داعش”، بالإضافة إلى إيقاف الكويت تمويل 64 مشروعاً اسكانياً خيرياً في مناطق المعارضة في الشمال، وكذلك رفع علم سوريا الرسمي في حي السفارات بالعاصمة السعودية، خلال زيارة الرئيس الصيني لها، لكن بعضهم شدد على أن النظام لن يستطيع الاستمرار في المشروع حتى النهاية، بسبب تعارضه مع المصالح الإيرانية، حتى وإن كان مدعوماً من روسيا.

المدن

———————

حمام دافء وتأشيرة دخول… أمنيات السوريين للعام الجديد/ مرح الدخل الله

أمنيات السوريين واضحة لا تحتاج إلى قائمة، حلمنا نحن الشباب في الحصول على تأشيرة دخول إلى بلد أجنبي أو خليجي أما أمنيات المسنين فهي حضن أولادهم ببساطة، أمنيات تثير الحزن والبكاء لشدّة بساطتها.

احتفل العالم برأس السنة، ورقص الناس وغنوا وغطت الألعاب النارية سماء البلاد البعيدة، وملأت الأغنيات المنازل والشوارع. أما نحن السوريون على الضفة الأخرى، نقبع في بيوتنا حائرين ماذا نفعل بكل أحزاننا.

لم تعد  تغريني في دمشق قائمة الأمنيات الاعتيادية والمشاعر المبالغ بها كأن التغيير قادم لا محالة، ولا تستهويني فرضيات عن العام الجديد وما يحمله من أحداث ولحظات أفضل مما حملَ العام الذي قبله، على العكس أشعر بالسذاجة بعد كل ما مرَّرنا به في سوريا.

ما يتمناه السوريون لا يجوز وصفه بأمنيات، إذ لا تتعدى “أمنياتهم” الحصول على حقوقهم بالكهرباء والمياه ووسائل التدفئة. أمنيات أو حقوق لا فرق، إذ لن تتحقق في بلاد قاسية.

استيقظت في أول يوم من العام الجديد، وفكرت بأمنياتي الصغيرة، وكانت بالفعل بسيطة، كأن أقضي ليلة رأس السنة إلى جانب شجرة الميلاد المضيئة، إلا أن ذلك مستحيل وسط انقطاع الكهرباء شبه الدائم. أتمنى كذلك الحصول على حمام ساخن في وقت أحدده أنا وليس في السادسة صباحاً، موعد تغذية الماء في منطقتنا. أتمنى قضاء ليلة دافئة استمتع خلالها بالمدفئة الكهربائية التي تحولت إلى ديكور في المنزل. لحظة انتبهت إلى طبيعة أمنياتي، شعرت بالحزن على نفسي وعلى كل السوريين الذين يشاركونني ذاتها.

حولتنا هذه البلاد إلى بشر فارغين من الأحلام، نتعامل مع الأمل كأنه كذبة مصطنعة لا تليق بضحايا الحرب والفقر. أفكر لو سمع أشخاص يعيشون في الخارج قائمة أمنياتي، الأغلب لن يفهموها، ستكون غريبة بالنسبة لهم، وربما قد يضحك آخرون. 

احتفل العالم برأس السنة، ورقص الناس وغنوا وغطت الألعاب النارية سماء البلاد البعيدة، وملأت الأغنيات المنازل والشوارع. أما نحن السوريون على الضفة الأخرى، نقبع في بيوتنا حائرين ماذا نفعل بكل أحزاننا.

يتحول الألم حين يصبح جماعياً إلى عادة، بالإمكان ملاحظة  تراجع احتفال السوريين برأس السنة، لم يعد العشاء في هذه الليلة عادة السوريين، لأنه يعني ميزانية لا طاقة للعائلات عليها، فأجرة هذا اليوم السعيد تعني أياماً إضافية من العمل أو استدانة مبلغ ماليّ من ميسوري الحال. بعض العائلات أكثر حظاً،  يرسل لهم أبنائهم في الخارج مبلغاً يعينهم على قضاء يوم سعيد نهاية العام. لو يعلم المهاجرون أن غربتهم تساعدنا على البقاء أحياء!. حرمونا حتى حقنا في الحصول على يوم سعيد واحد في نهاية عام متعب.

تقارب تكلفة عشاء منزلي بسيط لأربعة أشخاص حوالى ٢٠٠ الف سوري أي ما يقارب 29 دولاراً أميركياً بينما متوسط راتب الموظف  ١٠٠ ألف ليرة سورية، إذاً فلنعتبر ليلة رأس السنة كأي ليلة أخرى ولا نفكر بالأمر كثيراً. وهكذا بات تراجع احتفالات السوريين برأس السنة واكتفائهم بالجلوس وحيدين داخل بيوتهم إثباتاً أن الفقر والأسى بات ذو صوت مسموع  تستدل عليه، تلمسه ويؤلمك.

ازداد شعور الوحدة وغدى أكثر حضوراً من الفقر والجوع مع احتفالات رأس السنة، خاصة لدى الآباء والأمهات وهم ينتظرون اتصالاً من ابنائهم المهاجرين. سافر أخي هذا العام، وترك فراغاً هائلاً، حينها أدركنا أن الحزن والشوق والوحدة أشدُّ ألماً من الضائقة المالية، شعور الوحدة في رأس السنة أكثر قسوة من برد ديسمبر.

لا يمكن تجاهل تفكك العائلات وتشتتهم في أصقاع الأرض، تفتقد كل عائلة أفراداً غادروا، يقبع المسنون وحيدين وسط عتمة الانتظار والشوق، وكأنهم أيضاً غريبون داخل بلدهم.

أمنيات السوريين واضحة لا تحتاج إلى قائمة، يمازحني صديقي في العمل فيقول: “أتمنى ألّا أراكِ هنا العام القادم” فأجيبه بحسرة: “آمين يارب”، نحلم نحن الشباب في الحصول على تأشيرة دخول إلى بلد أجنبي أو خليجي  أما أمنيات المسنين فهي حضن أولادهم ببساطة، أمنيات تثير الحزن والبكاء لشدّة بساطتها. 

ربما ينتهي هذا الألم يوماً، كما يقول الكاتب السوري سعد الله ونوس: “إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”، ربما لن تكون نهايتنا بهذه القسوة، وليست هذه نهاية السوريين، ربما يكون العام الجديد أكثر رحمة، تتحقق فيه أمانينا بأن نحصل على حمام دافئ، ونجلس قرب المدفئة ونتأمل أضواء شجرة الميلاد.

المدن

——————-

====================

تحديث 02 كانون الثاني 2023

——————————-

انعكاسات شحّ مصادر الطاقة على الأنماط المعيشية والاجتماعية في سورية (مناطق سيطرة النظام)

فريق البحث: طلال مصطفى- وجيه حداد

خلاصة تنفيذية:

 باتت سورية اليوم مقسّمة إلى أربع مناطق سيطرة، تقوم في كل منها حكومة غير شرعية: منطقة سيطرة النظام المدعوم من روسيا وإيران؛ ومنطقة سيطرة قوات PYD الكردية في شمال شرق سورية، المدعومة من أميركا؛ ومنطقة سيطرة هيئة تحرير الشام “النصرة سابقًا”، المصنّفة كمنظمة إرهابية؛ ومنطقة سيطرة فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا. وبات السوريون يعانون تداعيات الحرب على حياتهم وحياة أسرهم ومجتمعهم. وقد شكل تناقص مصادر الطاقة وندرتها في مناطق سيطرة النظام أبرز سمةٍ من سمات زمن الحرب وتداعياتها على السوريين وأسرهم ومجتمعهم في هذه المنطقة، حيث تعاني مناطق سيطرة النظام شحّ مصادر الطاقة أكثر مما تعانيه المناطق الثلاث الأخرى، التي يتوفر لها إما إنتاج محلي كاف مثل منطقة سيطرة PYD، أو استيراد من تركيا أو من منطقة سيطرة PYD، في حين تزوّد إيران حكومة النظام بمليون برميل نفط شهريًا، وهي كمية لا تسدّ سوى جزءٍ من احتياج الطاقة.

ومع ازدياد النقص وشدة التقنين وتراجع حصص الأفراد والعائلات من الطاقة الكافية لأداء الوظائف الضرورية للحياة؛ ظهرت تحولات تدريجية في أنماط الحياة الاجتماعية، أملتها ظروف التكيف القسري مع الواقع الجديد. وقد تناولنا في هذه الدراسة الميدانية، التي اعتمدت على 200 مقابلة ميدانية، واقع ندرة الطاقة وأثرها في السوريين ومجتمعهم في مناطق سيطرة النظام، وأخذنا منطقتي دمشق وحماة نموذجًا. وتصاعدت أزمات الطاقة بوضوح منذ عام 2012، لعجز النظام عن تأمين الكفاية، لأسباب عسكرية واقتصادية، وترافقت الأزمات مع تقنين حاد وانخفاض في كميات حصص الطاقة التي يمنحها النظام للأفراد والمؤسسات، وبدأ السوريون يخوضون حروبًا يومية لتأمين احتياجاتهم منها. وأُجبرت الشرائح الأضعف اجتماعيًا على تقليص استهلاكها للمشتقات النفطية، لغلاء أسعارها الرسمية وغير الرسمية، ولعدم توفر الكميات اللازمة، وبالنظر إلى تحكّم الحكومة السورية في آليات التوزيع، فإن أشكال التقنين يمكن تصنيفها ضمن ثلاث آليات رئيسية، هي: تخفيض الكميات والحصص الممنوحة للأفراد والمؤسسات، والتحكّم في آليات التوزيع ومواعيده، وارتفاع الأسعار الرسمي وغير الرسمي للمشتقات النفطية نتيجة هذا التحكم.

أظهرت الاستبانة الميدانية التي أجراها فريق البحث أن 3،5% فقط من أفراد العينة حصلوا على القدر الكافي من مصادر الطاقة، مقابل 96.5% أكدوا عدم حصولهم على حاجتهم الضرورية منها، وقال 37،5 % من هؤلاء إن “البطاقة الذكية” التي تحدد المخصصات الرسمية (المقننة) هي مصدرهم الرئيسي، علمًا أن البطاقة الذكية لا تغطي أكثر من 10% من الاحتياجات المطلوبة للعائلة، وشكلت البطاريات البديل الأعلى استهلاكًا، بنسبة 56،5%، تلتها نسبة 20% قالوا إنهم يرممون النقص من السوق السوداء، و19% أكدوا عدم وجود بدائل لديهم لتعويض نقص الطاقة، بسبب عدم قدرتهم على تحمّل تكاليفها، وشكلت ألواح الطاقة الشمسية بديلًا لـ 9،5% من أفراد العيّنة، يليها الحطب بنسبة 8،5%، (وبابور الكاز) بنسبة 4،5%، وأخيرًا مولدة الكهرباء بنسبة 1،5%.

وبالنظر إلى أن 17% من العينة أكدوا كفاية مدخولاتهم المادية للعيش، ومن ضمنها القدرة على تحمّل تكاليف مصادر الطاقة، فإن ارتفاع نسبة الذين أكدوا عدم كفاية مصادر الطاقة في العينة ذاتها إلى 96،5% يشير إلى تجاوز المسألة بعدها الاقتصادي -على الرغم من أهميته- إلى مسألتي تأثير ندرتها في أنماط العيش والقيم المجتمعية في سورية، وبخاصة في مناطق النظام.

طباعة  

تحميل الموضوع  

مركز حرمون

——————————

عن السياسة السورية التي “توقف بها الزمن”/ رستم محمود

شكلت أحداث السويداء خلال الأسبوعين الماضيين مناسبة لعودة الحياة إلى نوعية من الخطابات السياسية السورية التي يُمكن تسميتها بـ”الماضوية”: تلك المتخمة بطاقة متفجرة من الرومانسية الولهة بمخيلات وأحاديث مطولة عن الوطنية السورية ووحدة المجتمع السوري ونفي وجود أي تناقضات داخله، مع أعتاد كبير بالخطابية الفوقية، مستعينة بنكران الوقائع الميدانية في الحياة السياسية والعامة في البلاد، سواء في منطقة السويداء أو في عموم البلدان.

ومع كل ذلك، فإنها خطابات تتخيل وتفترض امتلاكها لحلول مُقتضبة ومقترحات جاهزة، بسيطة وناجزة، لكل المشكلات والتحديات التي تواجه المجتمع والحياة السياسية والاقتصادية في البلاد.

تكرار تلك الخطابات بشكل دوري، كلما عادت أحداث ما شبيهة بما يجري في السويداء راهناً، إنما يدل على وجود منبع ما جوهري، تصدر منه تلك الخطابات: هو مجموعة القوى السياسية والشخصيات النُخبوية السورية، التي تملك في ذاتها وآليات تفكيرها ترسانة من الثوابت المحكمة والمطلقة، كسبتها وراكمتها طوال تاريخها السياسي، منذ عقود سابقة كثيرة. ثم تمركزت حولها وجعلت منها مقدسات سياسية وفكرية وعقائدية، وقبل ذلك أدوات للمنطق والقياس، تحاكم حسبها كل حدث سياسي أو ظاهرة تتعلق بالشأن العام. ولأجل ذلك بالضبط، فإنها لا تتوقف عن تكرار نفسها لمرات لا تُعد.

ثمة ثلاثة منابع رئيسية لهذا النهر من الخطابية السياسية، التي تنتج على الدوام ذلك النوع من الوطنية السورية الفوقية، وما تزال:

شكلت القومية العربية المطلقة، بتراثيها القديم والحديث على حدٍ سواء، مصدراً أولياً وأساسياً لتلك الخطابية. فنكران هذه النوعية من القومية العابرة للحدود والمجتمعات للكيان السوري، منع مختلف المنتمين إلى تيارها الاعتراف بوجود تناقضات داخلية سورية، طائفية وقومية ومناطقية، على أشكال من الحساسيات والصراعات والمزاحمات، لكن أولاً منع الإقرار بوجود أنواع من القوميات المحلية، التي تملكها جماعة أهلية ما أو أخرى، لا تعتد بالبلدان والجغرافيات الكبرى، وتعتبر القومية العابرة للحدود مجرد فضاء ثقافي وروحي فحسب.

إلى جانب ذلك، كان الإسلام السياسي أصلاً ثانياً لتلك الخطابات الوطنية الفوقية. فنوعية التقية السياسية وتجيير العبارات لتكون ضمن “قاموس المكاذبة” الذي تعمل عليه، إلى جانب الفوقية الذاتية، المتمثلة باعتبار “العرب السُنة” هم الأمة، بينما الآخرون هم اللامرئيون. خلقت مجتمعة “إنسان الإسلام السياسي”، الذي لا يُمكن معرفته وكشفه أو القبض عليه، بمعنى ما. فهو كائن غارق في بحر من العبارات والخطابات الوظيفية، التي ليس لها أية مصداقية أو دلالة على الوقائع الميدانية.

اليسار السوري الماركسي، المعارض والموالي على حد سواء، كان ثالث مصادر تلك الخطابات. فذلك التيار السياسي الذي اجتاح طبقات واسعة من المثقفين والمتعلمين السوريين، خلق ثابتاً فكرياً دائماً، يعتبر أن التوزع والتناقض داخل سوريا هو طبقي فحسب، بين فقراء مقموعين ومستغلين قامعين، سواء أكان هؤلاء الأخيرين سياسيين أو أثرياء. وتالياً جرموا فعلياً أي مفاتحة للمواضيع الطائفية والمناطقية والقومية في البلاد، فاختصروا سوريا ببعض العبارات المبسطة تلك.

كانت نهاية السبعينات وبداية الثمانينيات مرحلة مهمة لانصهار تلك الخطابات الثلاثة فيما بينها، ومن موقع الهزيمة المشتركة التي طالتهم أجمعين.

فالقومية العربية الإطلاقية فقدت بريقها بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وما رافقها من أحداث. والإسلام السياسي شهد هزيمة مشابهة، حينما اكتشف هول مشروعه العنفي والراديكالي. فيما ذوت اليسارية الماركسية بفعل التقادم بالزمن، بالذات بعد مراحل تفكك مشروعها العالمي.

شكلت الوطنية السورية، الخطابية والمجردة، خيمة كبرى لكل هؤلاء، يحورون ويخبؤون في ظلالها “عورات” ما أعترى مشاريعهم السياسية والفكرية التي كانت.

لكن التحول من تلك المنابع نحو الخيمة الوطنية لم يمنع أياً منهم من الحفاظ على نفس الخطابات وآليات المنطق والتفكير في الحياة السياسية. لذا أفرزوا نخبة سياسية وثقافية “ماضوية”، توقف بها الزمن منذ أوائل التسعينات، كان أبناء المنابع الثلاثة هذه يعتقدون بأن كلمة واحدة اسمها “الوطنية”، قد تكون كافية لحل كل شيء. ولم يستطيعوا التحرر من ذلك الوهم، إلى الآن.

نورث برس

——————————

أحد أمرين”.. ماذا يعني قصف مطار دمشق في بداية 2023؟

تشي الضربة الجوية التي نفذتها إسرائيل على مطار دمشق الدولي، فجر يوم الاثنين، بأن الحرب التي تقودها منذ سنوات ما تزال متواصلة، لكسر التموضع الإيراني في المنطقة، حسب روايتها، وبينما يغيب الخط الزمني الخاص بما تعمل عليه اعتبرت صحف ومراكز أبحاث إسرائيلية أنا ما حصل في بداية 2023 يرتبط بـ”أمرين”.

وتقول صحيفة “جورناليزم بوست” في تقرير تحليلي لها، اليوم، إن الهجوم الذي استهدف مطار دمشق هو الثاني من نوعه منذ شهر يونيو 2022، وهو “تذكير بحادث آخر وقع في سبتمبر عندما استهدفت غارات جوية مطار حلب”.

وتضيف الصحيفة: “تستخدم إيران المطارات في سورية لتهريب الأسلحة، وغالباً ما تنقلها إلى سورية أو حزب الله في لبنان”.

وتعد الضربة “أمراً مهماً”، لأنها تأتي مع بداية العام الجديد وأيضاً مع وجود حكومة جديدة لإسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، وفق الصحيفة.

وأشار جيسون برودسكي، مدير السياسات في “متحدون ضد إيران نووية”، في تغريدة على “تويتر”، بقوله: “مع تأجيل زيارة إبراهيم رئيسي إلى سورية يوم الثلاثاء بسبب التوترات بين إيران ودمشق بشأن مطالبتها بتنازلات سيادية، تأتي الضربة في وقت لافت”.

وأضاف: “سيكون من المهم أيضاً مراقبة كيف ستؤثر الضربة على الزيادة الطفيفة في الرحلات الجوية التي تنقل الأسلحة إلى حزب الله باستخدام مطار بيروت بدلاً من مطار دمشق الدولي”.

    Will also be important to watch how this impacts the uptick in flights transferring arms to #Hezbollah using Beirut Airport in lieu of DIA. 2/2

    — Jason Brodsky (@JasonMBrodsky) January 2, 2023

وكان النظام السوري قد أعلن خروج مطار دمشق عن الخدمة لساعات، ليعود ويعلن استئناف الرحلات الجوية، في الساعة التاسعة من صباح اليوم الاثنين.

وتحدث النظام السوري عن مقتل عسكريين اثنين، وإصابة آخرين بجروح، وأضرار مادية في أبنية المطار الدولي.

في المقابل أشار مركز “ألما” الإسرائيلي إلى أن الضربة استهدفت المدرج الشمالي المدني والمدرج العسكري.

وذكر: “لإعادة فتحه اختصر السوريون المدرج (المدني) بمقدار 500 متر لمواصلة العمليات المنتظمة، بينما ما يزال العسكري الجنوبي معطل”، و”يحتمل أن تكون أهدافاً تعرضت أيضاً لهجمات قرب منطقة الغزلانية”.

    (3/3) the northern civilian runway was damaged at the front end. To reopen it the Syrians shortened the runway by 500 meters to continue regular operations. The southern military runway is disabled. It’s possible that targets were also attacked near the Al-Ghuzlaniya airport area

    — Israel-Alma (@Israel_Alma_org) January 2, 2023

من جهتها ذكرت صحيفة “Intelli Times” الاستخباراتية عبر “تويتر” أنه وعندما تستهدف إسرائيل مطاراً فهذا يعني “أحد أمرين”، الأول لـ”منع عمليات الإنزال بما في ذلك الأسلحة أو الفرق”، والثاني للرد “على تجديد نشاط إيران وحزب الله ميدانياً”.

    כשישראל משביתה שדה תעופה מדובר באחד משניים:

    1. מניעת נחיתות ובהם אמצעי לחימה או צוותים ייעודיים

    2. תגובה על חידוש הפעילות האיראנית / חיזבאללה בשדה.

    — אינטלי טיימס – Intelli Times (@IntelliTimes) January 2, 2023

وكان مطار دمشق الدولي قد تحول، وبشكل أساسي منذ 2022، إلى هدف رئيسي للغارات الإسرائيلية، في ظل معلومات استخباراتية تفيد بأنه تحول إلى محطة لوصول الأسلحة القادمة من إيران.

وجاء ذلك بعدما كثفت إسرائيل من قصفها للشحنات البرية التي تحاول طهران تمريرها إلى لبنان عبر سورية، ما دفعها للاعتماد على الخطوط الجوية، إلى دمشق ومطار حلب الدولي.

وعلى الرغم من أن الطائرات الإسرائيلية لم تغادر الأجواء السورية، على مدى السنوات الماضية، إلا أما اتبعته خلال 2022 كان مختلفاً، من زاوية كم الضربات وتوقيتها، والنقاط التي استهدفتها، إذ تركّزت بشكل أساسي، وخاصة في الربع الثاني من العام الفائت على المطارات (دمشق وحلب).

ولم تقتصر “الحرب الإسرائيلية” على ضربات الجو، بل تواصلت على البر، مستهدفة شحنات أسلحة إيرانية، في المنطقة الساحلية وفي محيط العاصمة دمشق، وأخيراً في معبر البوكمال الحدودي، في حادثة كانت هي الأولى من نوعها، من زاوية الإعلان الرسمي عنها.

—————————-

===================

تحديث 08 كانون الثاني 2023

————————

لماذا لا ينتفض العلويون ضد الأسد؟/ عادل حداد

لم تشهد مناطق العلويين في سوريا احتجاجات ضد الأوضاع المعيشية المتردية وغياب مقومات الحياة، ما يعني ضرورة إعادة النظر في علاقة النظام مع الطائفة في ظل المتغيرات الجديدة التي هددت فرضية تمثيل الأسد للعلويين.

تتكررُ أسئلة عدد من المعارضين السوريين حول غياب مظاهرات في البيئة العلوية ضد نظام بشار الأسد، رغم تدهور الأوضاع المعيشية وانهيار الاقتصاد السوري.  هذه الأسئلة مشروعة، وتنطلق من مسلمة مفادها أن الأسد يستغلُ العلويين ويحتمي بهم، لمنع نظام عائلته من السقوط، وسط تجاهل للجزء الآخر من هذه الحقيقة، المتعلق بالعلويين أنفسهم وطبيعة علاقتهم بالأسد. ما يحيل إلى ما هو أهم، أي علاقة الجماعات بممثليها في سوريا، ودرجات تخلخل أو تصلب هذه العلاقة على وقع الحرب الأهلية، وما تلاها من تداعيات ونتائج.

 التصور الشائع

هناك تصور شائع لدى نخب سورية معارضة، مفاده أن الجماعات لم تختَر ممثليها، أي العلويون لم يختاروا الأسد، والسنّة لم يختاروا “النصرة” والمليشيات الموالية لتركيا، والأكراد لم يختاروا “قسد”. هذه القوى نتاج “الأمر الواقع”، فرضت نفسها بالقوة والسلاح. هذا المنطق الذي يبدو بالشكل متماسكاً، بسبب غياب وجود صناديق اقتراع تفرز ممثلين عن الجماعات، ينقصهُ الاشتباك مع عدد من الإشكاليات، منها رهان هذه الجماعات على قضايا تتغذى من مظلوميات تاريخية أو راهنة، قضايا ذات مرجعيات متعددة تتبلور كطائفيةُ مضمرة (العلويين والأسد)، وقوميةَ (أكراد وقسد) وإسلاميةٌ معلنةَ (النصرة).

يهدسُ العلوي بحقبة ما قبل الأسد، وموقعه المهمش فيها، والسني مسكون بحقبة الأسد نفسها، فيما الكردي مسكون بالحُقبتين معاً. يندرج ممثلو الجماعات في سياق علاقة الأخيرة بقضاياها، بمعزل عن تفاوت تمثيلهم لها، وتفاوت خطاب التعبير عن هذا التمثيل. لا يقول الأسد عن نفسه أنه ممثل العلويين، مثلما تفعل “قسد” مع الأكراد، لكن النتيجة واحدة، والفرق هنا، بين ما هو ضمني، وما هو معلن. الإشكالية الأخرى التي يجب أن تشتبك معها نخب المعارضة، هي الحرب الأهلية وتأثيرها على الجماعات التي تصلبت قضاياها أكثر وأضافت إلى مظلومياتها التاريخيّة مادةً إضافية منتقاة من الراهن.

نقد التصور الكلاسيكي لعلاقة الجماعات بممثليها، بوصفها علاقة قسرية فقط، يمكن أن يتبلور أكثر، إذ تتداخل هذه العلاقة مع تطورات حكمت تاريخ سوريا الحديث، منذ استقلال البلاد وحقبة الانقلابات والديمقراطية الهجينة، مروراً بسطوة البعث فالأسديّة الدكتاتورية، وصولاً للثورة والحرب الأهليّة. السنّة في حقبة ما، مثّلهم الأعيان، والعلويين والدروز مثّلهم الإقطاع. ما يعني أن تمثيل الأسد للعلويين، أو علاقتهم به، مرتبطة بمسار تاريخي، يتعلق بالجماعة نفسها وبسوريا ككل. مسار تشوبه تناقضات (الريف والمدينة، الأكثرية والأقلية، المَركز والأطراف) لا يمكن فصل حافظ وبشار عنها وجعلهما حالة دخيلة على العلويين.

الإعجاب بالقمع

عقّدَ الأسدان المسألة أكثر بإضافة العائلي والمناطقي إلى الطائفي لبناء نظام سلطوي قمعي. وهنا يجب الأخذ بعين الاعتبار علاقة الجماعات بممثليها، وتحويل الممثلين هذه العلاقة إلى أداة تسلطيّة. يستخدم الأسد الدولة كجهاز قمع، وتفرض “قسد” رؤية حزب “العمال الكردستاني”، ولا جدل حول فرض “جبهة النصرة” للشريعة الإسلاميّة وفق تفسيرها الخاص. بكلمات أخرى، أن يكون للجماعات ممثلين عنها شيء، وأن يكون هؤلاء الممثلين قمعيين  شيء آخر.

يزيد القمع أحياناً إعجاب الجماعة بمن يمثلها، فالأسد “بطل” عند العلويين، كونه حارب “الإرهاب” و”انتصر” عليه، بمعنى أوضح حارب السنّة، وأبقى الجماعة في موقعها الامتيازي. الأمر قد ينطبق بالمبدأ على الجماعات الأخرى، لكنه يختلف بالدرجة، قمع الأسد لا يقارن بقمع الآخرين، فالنظام يستخدم براميل وتعذيب وإبادة ومعتقلات، القمع موجود عند “قسد” (ضد العرب) وعند “النصرة” (ضد الأقليات) لكنه أقل بكثير عن ذلك الذي يمارسه الأسد.

تلتصق الجماعات بممثليها أكثر كلما مارسوا القمع، لا سيما في الحروب الأهلية حيث التهديد الوجودي هو المحدد الأساس للمزاج العام داخلها. القامع هو المدافع الجماعة حتى لو كان قمعه موجه ضد الجماعة نفسها أحياناً، لكن يظل هذا القمع محموداً، كونه يأتي لتنقيتها وتصليبها ضد الخصم. يُفَسِرُ قمع بشار جزئياً التصاق العلويين به، كونه يلتبس مع القوة والسيطرة في وعي أبناء الجماعة، ليظهر كقادر على حمايتها، كونه الأكثر بطشاً، ويشاركها بشيء من قوته عبر الجيش والأمن. السيطرة على المناصب الحساسة في هذين الجهازين، كانت فعلياً لضمان الولاء، لكن من نتائج هذه الاستراتيجيّة إشراك الجماعة في عنف الدفاع عن نفسها.

التفسير الناقص

تفسّر غالباً علاقة العلويين بالأسد انطلاقا من ثلاثة عناصر، الزبائنية والتهديد الوجودي والقمع. بمعنى أن النظام، قّدم لأبناء الجماعة وظائف وأدخلهم بكثافة في قطاعات الدولة، كما قدم لهم الحماية من عدو مفترض، وفي الوقت نفسه، فرض عليهم الترهيب والقمع والخوف.

لو أعدنا النظر بهذه العناصر قياساً على الظرف الراهن، يتبين أن الزبائنية باتت بلا فعالية، بفعل الانهيار الاقتصادي، فما قيمة راتب موظف أمام الصعود الصاروخي للدولار. التهديد أيضاً لم يعد مقنعاً، لأن الأسد “انتصر” نظرياً والمعارضة انهزمت. أما القمع، وإن كان مفروضاً على جميع السوريين في مناطق سيطرة النظام، لماذا إذاً انتفض دروز السويداء رفضاً للأوضاع المعيشية ولم يفعل العلويون ذلك؟، ولماذا بالمقابل خرجت أصوات من الساحل السوري تهاجم الدروز وتتهمهم بـ”العمالة” لإسرائيل.

تفيد العناصر السابقة في تفسير ارتباط العلويين بالأسد شرط أخذها بعين الاعتبار حين الحديث عن العلاقة المركبة بين الطرفين، عندها تصبح الزبائنية امتيازات مقابل الولاء، والتهديد حماية مقابل المشاركة في تأمين الحماية، والقمع إعجاب بالقوة، لاتقاء خطر الخصم.

تعتبر علاقة العلويين مع الأسدين الأب والابن، جدلية ومتداخلة وتبادلية، تبدأ من مظلومية تاريخية، وتمر بإعادة تعريف الجماعة انطلاقاً من إدراجها ضمن مؤسسات الدولة والوظائف العامة وجهازي الأمن والجيش، وتصل إلى التهديد الوجودي على وقع الثورة وما تبعها من حرب أهلية. أي كلما تعقدت الشراكة اختلفت تجلياتها وفقاً للشرط التاريخي الذي يحكمها.

الإقرار بما سبق، قد يكون المدخل لفك علاقة الطرفين ببعضهما، أما الاسترخاء لمسلمات من نوع، أن الأسد يحتمي بالعلويين ويستغلهم، فهذا لن يساهم سوى بتعزيز التصاق الطرفين ببعضهما. على اعتبار أن هذه المسلمة تفصل الأسدين عن المسار التاريخي الذي صعدت خلاله الجماعة عبر رافعة العسكر بعد تهميش لسنوات طويلة.

درج

—————————–

احتجاجات شعبية وضرورة معارضة سورية جديدة/ عمار ديوب

تعدّدت أشكال الاحتجاجات في العام الذي انقضى (2022) في سورية، وتنوّعت بين رفضٍ للتقارب التركي مع النظام السوري، وهو ما شهدته مناطق سيطرة فصائل “الجيش الوطني”، ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، واحتجاجات ضد الانهيار الاقتصادي في مناطق النظام، حيث لم تعد أغلبية مواطني سورية قادرة على العيش؛ فتحرّكت السويداء ومدن أخرى، وعطّل النظام ذاته بعض أعمال مؤسّسات الدولة، بسبب عدم قدرته على تأمين المحروقات لوسائط النقل، وتدنّت قيمة الأجور، وهذا اضطرّه، أخيراً، إلى صرف أجور إضافية لمرة واحدة، ليتفادى الغضب الشعبي. 

تعدّى انهيار العملة عتبة الستة آلاف مقابل الدولار الواحد، يعني أن الأجور أصبحت لا تساوي أكثر من 20 دولاراً شهرياً، أي لا تفي بأبسط احتياجات المواطنين. وصدر قانون لمكافحة المخدّرات في الكونغرس الأميركي. وقبل ذلك، رفضت الولايات المتحدة حالات التطبيع مع النظام. وستكون مفاعيل القانون إغلاق منافذ النظام مع الدول المحيطة به أكثر فأكثر. لن ننشغل بالتسريبات التي تؤكّد “هروب” الشخصيات الرئيسة في النظام إلى الخارج في هذه المرحلة، فليس لها من مستند حقيقي، وكذلك القول إن إيران تلاحق رأس النظام، وهو متخفٍّ في قاعدة حميميم أيضاً.

ليست التطورات أعلاه مسبوقة، وهي تشير، على الرغم من توقف المعارك الواسعة ومنذ 2018، إلى أن النظام اكتمل تفسّخه الذاتي، بفعل آليات الفساد والنهب الناظمة له، وانغلاقه تجاه أيّة مبادراتٍ للإصلاح أو للحل السياسي منذ 2011، وليس فيه أيّة شخصيات قادرة على إيقاف التدهور، وإجراء الانقلاب العسكري. التطوّرات هذه جازمة لجهة المؤشّرات الواضحة على الانهيار في الأشهر المقبلة، لا سيما أن إيران وروسيا ليستا قادرتين على دعمه أو إيقافه على قدميه من جديد، وهل تعود الحياة للميت من أصله؟

السؤال الذي سيفكّر به أي عاقلٍ الآن هو: ما الحل؟ لم يعد لدى النظام، الذي هو أداة بين كل من روسيا وإيران أي حلٍّ، أو مدخل نحوه، وربما فقط تحاول تركيا ذلك في الأشهر الأخيرة، ولكن لا يصلح العطّار ما أفسده النهب. ولكن، ما أحوال الطرف الآخر في الصراع، ونقصد المعارضة، والأدقّ المعارضات، فهل من أملٍ يُرتجى منها، وقد قادت الثورة إلى أسوأ الخيارات، وما زالت مستمرّة في انتهاج الحوار مع النظام عبر مسار أستانة والدول الضامنة (تركيا، روسيا، إيران)، واللجنة الدستورية، واتفاقيات خاصة بين الرئيسين الروسي بوتين والتركي أردوغان، والخضوع الكامل للسياسات التركية، الخاصة بالوضع الداخلي التركي، وكذلك بالوضع السوري برمته. 

خيارات المعارضة تلك، أوضحت، وبعد الوصول إلى أستانة 19، والدستورية 8، أنّها كانت خاطئة بالكامل، والأسوأ أنّها رَفضت كل المناشدات الشعبية والاحتجاجات الرافضة لها، والمطالبة بإيقافها، وطالت الاحتجاجات التقارب التركي السوري. ومع ذلك، لم تهتم المعارضة، بكل مؤسساتها، بتلك الصرخات، واستمرّت في “انتهاج الحوار” والتبعية لتركيا؛ والأسوأ أنّها عطّلت ندوة الدوحة، التي عقدت في فبراير/ شباط الماضي، وتحت يافطة أنّها ستناقش هي أحوال المعارضة وستستجيب للمستجدّات، ولكنها همّشت البيان الذي صدر عنها. أهمية الندوة كانت في عدد الحضور وتنوّعه، وبالمسائل المطروحة حينها، وهي من أكبر الورش التي عُقِدت في السنوات السابقة لتدارس شؤون المعارضة، بينما بقية الورش، وعلى الرغم من ضرورتها وأهميتها لم تستطع تخطّي مشكلات المعارضة وانقساماتها، وظلّت تتحرّك تحت قيادة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ولصالحها، أو لصالح الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهكذا.

إذاً هناك عدم ملاحظة المعارضات التغيّرات الكبرى التي تتفاعل في سورية، مع خضوعها إمّا لتركيا أو لأميركا، وانتهاجها الحوار مع السلطة، والمشكلة أن الأخيرة رفضت ذلك بشكلٍ قاطع ومنذ 2011. ويُظهر غياب رغبة السلطة بالحوار الأزمة العميقة لخيارات المعارضة، وبالتالي، لماذا تستمر في سياساتها ذاتها؟ إنّها قضية تخصّ قادة تلك المعارضة، وتحوّلها إلى أدواتٍ لصالح هذه الدولة أو تلك، كما حال النظام مع روسيا وإيران.

مجدّداً، تقتضي التطورات أعلاه ضرورة بروز معارضة جديدة وصلبة، وطرح مشروع وطني يتجاوز المعارضة القديمة، والنظام ذاته؛ قلنا إن الأزمة الاقتصادية عنيفة، وليس من حلٍّ لها، والوضع الاجتماعي يتفاقم يومياً، وهناك احتجاجات، والنظام يعطّل مؤسسات الدولة. لقد هَجَرت أو هُجرت قيادات المعارضة والناشطين إلى خارج البلاد بعد 2011، وبالكاد، تجد بعض تلك القيادات في الداخل، وهي مكبّلة من الأجهزة الأمنية. وقطعاً لا يعوّل عليها بإنتاج معارضة جديدة، وقد حدث، وحاولت ذلك في السنوات الأخيرة عبر تجمّع “جود”، وفشلت بشكلٍ كامل. إذاً، لا خيار آخر لإنتاج معارضة جديدة إلّا خارج البلاد. تبعية “المجلس الوطني” و”الائتلاف” لتركيا أو دول الخليج تقول بضرورة أن تكون، الجديدة، في أوروبا، وبإبعاد كل الشخصيات التي كان لها دور كارثي في إنتاج معارضة لم تستطع تمثيل أحلام السوريين.

لا يمكن المصادرة على أيّة قوى أو شخصيات أو أفراد إلّا التي استَهلكت نفسها في المعارضات أعلاه، وكذلك في هيئة التنسيق الوطنية. وبالتالي، وترافقاً مع تأزّم الواقع والخطر الشديد من التقارب التركي مع النظام، وإعادة إنتاج الأخير، ولأن الأمر في غاية التعقيد، هناك ضرورة لبروز المعارضة الجديدة.

يقع على المعارضة هذه أن تترفّع عن عقلية الثأر أو الطائفية، وأيضاً عن سياساتٍ ليبرالية لا تستجيب لأوضاع السوريين والانهيار الحاصل في مؤسسات الدولة، وضرورة إعادة إصلاحها، وأن يكون لها وحدها صياغة الخطة الاقتصادية، وبإشراف القطاع العام للنهوض بأوضاع الاقتصاد وأحوال الناس. هذا ليس تفصيلاً، وهو ما يتم التبرّؤ منه من القوى السائدة في المعارضة، هذا أصل النهوض المستقبلي، ونقصد تبنّي رؤية اقتصادية تدعم الصناعة، والزراعة أولاً، وتأمين فرص عمل لملايين السوريين، وهي القطاعات الوحيدة القادرة على تأمينها، وضمن ذلك يجري إشراك القطاع الخاص، وبالخطة نفسها.

تقف أمام المعارضة أزماتٌ كبيرة، وترتبط بكل التعقيد الذي أصبحت عليه الأوضاع في سورية من احتلالات، وتشتّتٍ في الهوية، وخطاب طائفي أو قومي “مسعور” وإفقارٍ تعدى الـ 90%، وحروب طائفية ومجازر حدثت في المدينة والمنطقة الواحدة، وتقف أمامها أيضاً معارضة سابقة، فاسدة وتابعة، وطامحة لتكون أدوات الاحتلالات في أي حلٍّ سياسي.

هل تلتقط شخصيات المعارضة المستقلة خطورة اللحظة الراهنة، وتتحرّك بعيداً عن الارتهان، وتمنع تعفّن الوضع أكثر فأكثر! الآن “تعمل” تركيا من أجل إنقاذ النظام، وقد لا تنطلق من القرارات الدولية، بسبب ابتعادها عن أميركا، واقترابها من روسيا، وأيضاً قد تتمحور سياساتها في إطار اجتثاث تنظيم “قسد”، وتحجيم الدور الكردي على حدودها، وإعادة اللاجئين.

السوريون بحاجةٍ للعودة إلى بلداتهم ومدنهم، وهذا لا تحقّقه إلّا معارضة جديدة، تتبنّى خطاباً وطنياً والقرارات الدولية، ولا تخضع للدول والاحتلالات، وتقاتل في كل أروقة العالم من أجل انتشال سورية من التعفّن والتبعية للخارج، وإعادتها دولة لكل السوريين من غير المجرمين.

العربي الجديد

—————————–

10 تحديات ترسم مصير سوريا في 2023/ إبراهيم حميدي

10 أمور تجب متابعتها في سوريا وخارجها في سنة 2023، ستكون لها آثار كبيرة بدرجات متفاوتة، وستحدد مآلات هذا الملف ومصيره لسنوات أو عقود مقبلة، كما ستحدد مصير خطوط التماس بين «الدويلات» الثلاث في سوريا، بعد ثباتها لثلاث سنوات بفضل تفاهمات إقليمية ودولية خارجية:

1- التطبيع التركي: يتوقع أن يجتمع وزيرا الخارجية: السوري فيصل المقداد، ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو، في منتصف هذا الشهر، لاستكمال نتائج المحادثات العسكرية والأمنية في الأسابيع الماضية، للوصول إلى ترتيبات مشتركة برعاية روسية في الشمال السوري، بدءاً من «منطقة أميركا» شرق الفرات.

لا بد من متابعة خطوات «خريطة الطريق» التي وضعتها موسكو لدمشق وأنقرة، وصولاً إلى لقاء بين الرئيسين رجب طيب إردوغان وبشار الأسد، قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المقرر إجراؤها مبدئياً في يونيو (حزيران) المقبل. ولا شك في أنه ستكون لهذه الخطوات نتائج سياسية واقتصادية كبيرة في سوريا ومحيطها، حسب الحدود والعمق والسرعة التي ستنفذ بها. وهل تحصل مقايضات: تنازلات عن الجغرافيا مقابل مكاسب بالسياسة والاقتصاد؟

2- القلق الكردي: إحدى نقاط التقاطع الرئيسية بين دمشق وأنقرة وموسكو (وطهران)، هي إضعاف الكيان الكردي والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، واعتبار هذه المؤسسات «تهديداً وجودياً لسوريا وتركيا». وهناك خطط لعمليات عسكرية سورية – تركية مشتركة، وضغط روسي لتفكيك جميع المؤسسات الكردية، من مناطق بعمق 30 كيلومتراً من الحدود التركية.

من الضرورة بمكان متابعة موقف «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) و«مجلس سوريا الديمقراطية» (مسد)، وكيفية تعاطيهما مع هذه التطورات. «قسد» تقول إنها سحبت أسلحتها الثقيلة ومقاتلي «وحدات حماية الشعب» الكردية بعمق 30 كيلومتراً، بموجب اتفاق سوتشي الروسي – التركي، في نهاية 2019؛ لكنها ترفض سحب قوات الشرطة (أسايش) والمجالس المحلية. هي تراهن على خسارة إردوغان الانتخابات، ودعم أميركا ووجودها العسكري. وتصر أنقرة على تفكيك جميع المؤسسات، ولا تمانع وجود مؤسسات سورية وعلم سوريا وحرس حدودها.

3- الغطاء الأميركي: «قوات سوريا الديمقراطية» حليفة للتحالف الدولي بقيادة أميركا في الحرب ضد «داعش» منذ 7 سنوات. وقد نجحا سوياً في القضاء على التنظيم جغرافياً، وأقامت أميركا قواعد عسكرية تعطيها أوراقاً تفاوضية أساسية ضد روسيا، ولضبط وجود إيران وتقديم دعم لوجستي لإسرائيل.

وعلى العكس من قرار إدارة دونالد ترمب بالانسحاب المفاجئ في 2019، وفتح الباب لتوغل تركي، حافظت إدارة جو بايدن على بقاء قواته المستمر. لكن هناك إشارات توحي بأن أميركا، المنخرطة في أوكرانيا، بحاجة لدور تركيا وحلف شمال الأطلسي، ولن تخوض حرباً ضد أنقرة بسبب الأكراد.

ولا بد من متابعة تطورات الموقف الأميركي، وحدود التفاهمات العسكرية بين أنقرة وواشنطن في شمال شرقي سوريا، بعد بدء التطبيع السوري – التركي.

«الحضن العربي»

4- التطبيع العربي: خطوات التطبيع الثنائي بين عواصم عربية ودمشق من جهة، والجماعي بين الجامعة العربية ودمشق من جهة ثانية، وُضعت على نار هادئة في 2022. فلم تحضر سوريا قمة الجزائر بسبب وجود اعتراض من دول عربية وازنة. أيضاً، الدول التي بدأت مسار تطبيع ثنائي، مثل الأردن والإمارات وغيرها، بردت همتها في السنة الماضية، لأسباب مختلفة: التجربة المرة والمريرة مع دمشق في ضبط الحدود ووقف تهريب «الكبتاغون»، وضغوط أميركية وغربية لوقف التطبيع، إضافة إلى تشدد الكونغرس وإصداره قرارات جديدة ضد دمشق، وضعت سقفاً لحدود الدعم الاقتصادي وإعمار المدمَّر.

ومن الأهمية بمكان متابعة مآلات العودة إلى «الحضن العربي» في 2023، والموقف في القمة العربية المقررة في الربيع المقبل، في ضوء التغيرات الحاصلة في العلاقة بين دول عربية وأميركا والصين وروسيا من جهة، وخطوات التطبيع بين أنقرة ودمشق من جهة ثانية، وسلوك دمشق في ملفات إقليمية، والعلاقة مع إيران من جهة ثالثة.

5- حرب أوكرانيا: كان تأثير الانخراط الروسي في هذه الحرب كبيراً على سوريا في أكثر من جانب. فقد عززت الحرب التعاون بين أنقرة وموسكو، وبين الرئيسين بوتين وإردوغان؛ إذ صار الأول بحاجة للثاني، وباتت تركيا بوابة اقتصادية وسياسية لروسيا. ومن تجليات ذلك: ضغط بوتين على إردوغان والأسد للِّقاء، وطي صفحة الماضي، والحرص على فوز إردوغان في انتخابات الرئاسة.

أيضاً، كان هناك انعكاس اقتصادي وسياسي لهذه الحرب. فقد باتت سوريا قضية منسية في الأروقة الدولية، وباتت أموال المانحين تذهب لأوكرانيا بدلاً من سوريا. وظهر هذا بوضوح في تعميق الأزمة الاقتصادية في سوريا.

6- الغارات الإسرائيلية: دشنت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية السنة الجديدة، بقصف «أهداف إيرانية» في مطار دمشق الدولي، ما أدى إلى إخراجه لساعات عن الخدمة. في السنوات الماضية، شنت إسرائيل مئات الغارات ضد «مواقع إيرانية» في سوريا. وفي العام الماضي، اتسعت مروحة الغارات من أقصى شرق سوريا إلى غربها، ومن الجنوب إلى الشمال. وقال: «المرصد السوري لحقوق الإنسان» إنه أحصى 32 غارة إسرائيلية في 2022، أسفرت عن إصابة وتدمير نحو 91 هدفاً، ما بين مبانٍ ومستودعات أسلحة ومقرات ومراكز وآليات. وتسببت تلك الضربات في مقتل 88 من العسكريين، وجرح 121.

وبعد عودة نتنياهو بحكومة يمين اليمين، لا بد من متابعة انعكاسات ذلك في سوريا في 2023: كيف سيتعامل مع الملف النووي الإيراني؟ ما مصير التفاهمات السابقة مع بوتين، و«الخط الساخن» للتنسيق العسكري بين قاعدة حميميم الروسية وتل أبيب؟ كيف سينعكس في سوريا، موقف تل أبيب من حرب أوكرانيا، وتعاون موسكو وطهران العسكري هناك؟

«طلاق» سوري – إيراني

7- الحلف الإيراني: طهران التي تعتقد أنها ساهمت في «إنقاذ النظام» منذ تدخلها نهاية 2012، وقدمت كثيراً من الدعم العسكري والاقتصادي والأمني والمالي، تريد ثمناً لذلك. وهي تماطل في «إنقاذ النظام» من أزماته الاقتصادية مجاناً، وتريد الثمن بـ«تنازلات سيادية» تتضمن إقامة قواعد عسكرية دائمة، واتفاقات اقتصادية تخص النفط والغاز والفوسفات، واتفاقات لمعاملة الإيرانيين مثل السوريين، باستثناء مثولهم أمام القضاء السوري في حال ارتكابهم جرائم.

تستغل طهران تفاقم الأزمة الاقتصادية في دمشق، وانشغال موسكو في أوكرانيا، ورياح التطبيع التركي والعربي، والغارات الإسرائيلية، كي تحصل على امتيازات كبرى في سوريا.

ولا بد من متابعة تفاصيل هذا المسار، وموقف دمشق، وموعد زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي التي كانت مقررة الأسبوع الماضي، والتحقق مما يتردد عن مؤشرات لـ«طلاق» سوري – إيراني، أو إعادة تعريف العلاقة.

8- الأزمة الاقتصادية: بعد نحو 12 سنة من الحرب، تهتكت الأراضي السورية. وحسب الأمم المتحدة، فإن نصف السوريين (12 مليوناً) أصبحوا خارج منازلهم، وثلثهم (7 ملايين) خارج بلادهم، ونحو 90 في المائة منهم تحت خطر الفقر، و80 في المائة يعانون انعدام الأمن الغذائي، ونحو 14.6 مليون بحاجة لمساعدات، وسلة الغذاء ارتفعت كلفتها بنسبة 85 في المائة عن العام الماضي؛ إذ فقدت الليرة السورية أكثر من 80 في المائة من قيمتها.

المـأساة كبيرة. ولا بد من متابعة تمديد القرار الدولي لإيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود قبل 10 من الشهر الجاري، ولا بد من متابعة موقف روسيا في هذا الشأن؛ خصوصاً أن هذا القرار هو شريان الحياة لنحو 4 ملايين سوري في شمال البلاد، ويخفف العبء عن موازنة دمشق ومصاريفها.

9- الانهيار السوري: يقول سوريون في مناطق الحكومة إن 2022 الأسوأ منذ 2011. ولوحظ أنه كي تخفف الحكومة الكلفة الاقتصادية، مددت العُطلات، وأوقفت العمل في مؤسسات ومستشفيات.

هناك حديث عن شلل وخوف من انهيار كامل. ولا بد من مراقبة مآلات هذه الأزمة الاقتصادية، وكيف ستؤثر على عمل مؤسسات الحكومة والجيش والأمن، وعلى شبكات السيطرة والعمل. أيضاً، لا بد من متابعة انعكاسات التطبيع السوري – التركي على الأزمة الاقتصادية، وهل ستدفع الأزمة دمشق لاتخاذ تنازلات مؤلمة في المجال السياسي وتنفيذ القرار 2254، أو في المجال الجيوسياسي، بتخفيف جرعات علاقاتها مع إيران؟

10- «خطوة – خطوة»: كان هَم المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، في السنوات الماضية، عقد اجتماعات للجنة السورية، باعتبارها مدخلاً لتنفيذ القرار 2254. وكان هذا رهاناً روسياً – تركياً – إيرانياً، ضمن مسيرة مسار آستانا. وبعد حرب أوكرانيا، طالبت روسيا بشروط لوجستية، لترتيب عقد اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، ما جمَّد عملها في الأشهر الماضية.

عليه، أحيا بيدرسن مقترحاً قديماً يسمى مقاربة «خطوة مقابل خطوة»، يقضي بإقدام دمشق على إجراءات مقابل تقديم الدول الغربية إغراءات واستثناءات. الشيء الجديد هو أن دمشق باتت مهتمة بالمقاربة، وهذا ما بدا من لقاء المقداد وبيدرسن الأخير في دمشق التي تريد أن تعرف العروض المقدمة، والدول التي تقدم هذه العروض.

الحديث يجري عن أمور صغيرة وبسيطة: بدء دول غربية خطوات لحل مشكلة الكهرباء، أو منح تأشيرات لدبلوماسيين سوريين، مقابل خطوات من دمشق إزاء المعتقلين، والعفو، وإجراءات الملكية.

ولا بد من متابعة هذا المسار، واللقاء المقبل بين المقداد وبيدرسن، ومدى تأثره بالتطبيع بين أنقرة ودمشق، ومدى التزام دمشق بأن تكون خطواتها في سياق مهمة المبعوث الأممي.

الشرق الأوسط

—————————

روسيا وتركيا وسوريا… لعب في الوقت الضائع/ خيرالله خيرالله

تبدو اللقاءات التركية – السورية، برعاية روسية، أقرب إلى لعب في الوقت الضائع تفرضه موسكو على طرفين لا يمكن إيجاد أي نوع من التفاهم بينهما في أي مجال من المجالات. ليس الجانب التركي من الغباء كي يتفاوض مع طرف لا يمتلك قراره، بل لا يمتلك أي هامش للتحرك السياسي منذ هبّت “الجمهوريّة الإسلاميّة” لنجدة بشّار الأسد بعد ثورة السوريين على نظامه الأقلّوي قبل اثني عشر عاما.

تعلم أنقرة أنّ القرار في دمشق ملك طهران. تعلم أيضا أنّه في مرحلة معيّنة صارت موسكو شريكا لطهران في قرار دمشق بعد دخولها على خط المواجهة المباشرة مع الشعب السوري. حصل ذلك ابتداء من خريف العام 2015 عندما أرسلت روسيا قاذفاتها إلى قاعدة حميميم، قرب مدينة اللاذقية، لمنع سقوط الساحل السوري والمنطقة ذات الأكثريّة العلويّة… وكي يتمكن بشّار الأسد من البقاء في دمشق.

الأكيد أن تركيا لا تمتلك أي أوهام في شأن طبيعة تكوين النظام السوري وما يستطيع تقديمه، خصوصا لجهة مشاركة المعارضة في السلطة، على نحو فعلي، وتنفيذ القرار الرقم 2254 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أواخر العام 2015. ليس واردا، بأيّ شكل، قبول النظام السوري تنفيذ مثل هذا القرار الذي يتضمن خارطة طريق للتوصل إلى تسوية سياسية في سوريا، وهي تسوية مرفوضة أصلا من النظام.

لا يستطيع النظام الذي قام في العام 1970، والذي باتت تتحكّم فيه “الجمهوريّة الإسلاميّة” كليا منذ خلف بشار الأسد والده في العام 2000، القبول بأيّ شريك في السلطة. لم يشنّ النظام الأقلّوي حربه المشتركة مع إيران على الأكثرية السنّية والمدن السورية الكبرى من أجل أن يصل إلى مكان يجد فيه نفسه مضطرا إلى القبول بتغيير في العمق للنظام ولعلة وجوده. تتمثل هذه العلّة في تحكّم العلويين في مفاصل السلطة والدورة الاقتصاديّة من دون أي شريك فعلي من أيّ نوع كان.

أكثر من ذلك، يعرف الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يمتلك حسابات خاصة به مرتبطة بالانتخابات الرئاسيّة المقررة بعد نحو نصف سنة، أنّ ليس أمامه سوى المناورة. يناور أردوغان في الوقت الضائع لعلمه أنّ لقاءات من نوع ذلك الذي استضافته موسكو أخيرا بين وزراء الدفاع التركي والسوري والروسي وقادة الأجهزة الأمنيّة في البلدان الثلاثة ليست، في أحسن الأحوال، سوى تقطيع للوقت. في الواقع، يدرك الرئيس التركي أنّ لديه مصلحة، أقلّه في الوقت الراهن، في مسايرة الرئيس فلاديمير بوتين. يعود ذلك إلى أسباب عدة في مقدمها حاجة روسيا إلى تركيا في حربها على أوكرانيا. يرشح أردوغان نفسه للعب دور الوسيط في إنهاء هذه الحرب. يسمح له ذلك بتلبية طموحات ذات طابع شخصي تلمّع صورته في العالم. لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه، أن عين الرئيس التركي على علاقة متميّزة مع الإدارة الأميركية من جهة وعلاقة هذه الإدارة بالأكراد السوريين الذين تمثل “قسد” قسما كبيرا منهم من جهة أخرى. تعكس الاستجابة التركية لموسكو التي تعتقد أنّ دورها في سوريا ما زال حيّا يرزق، وهو أمر مشكوك فيه، محاولة تقوم بها أنقرة لإظهار أن لديها أوراقا تصلح في مساومات مع واشنطن.

لدى تركيا مصالحها ولدى أردوغان تطلعاته. لديه خصوصا الأزمة الاقتصادية التي يمرّ فيها بلده، وهي أزمة قد تحول دون فوزه في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة. يعرف الرئيس التركي أن أميركا وحدها يمكن أن تساعده في حلحلة الأزمة الاقتصاديّة التركيّة، التي يعبّر عنها تراجع سعر الليرة. هذا ما يفسّر، إلى حد كبير، الخطوات التي قام بها تجاه إسرائيل، وهي خطوات توجت بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وقبول أردوغان أوراق اعتماد السفيرة الإسرائيليّة في أنقرة حديثا. صارت المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة وحصار غزّة جزءا من الماضي التركي…

لم يعد سرّا أن الرئيس الروسي يضغط بشدة من أجل التوصل إلى اتفاق سوري – تركي بغية تذكير العالم بأن لديه أوراقا ما زال قادرا على لعبها. يرفض أخذ العلم بأنّه خسر الحرب الأوكرانيّة وأن الاتحاد الروسي ليس سوى دولة من العالم الثالث لا أهمّية لها خارج ما تمتلكه من نفط وغاز. كذلك، يرفض بوتين أخذ العلم بأن ورقته السورية باتت ورقة إيرانيّة منذ اللحظة التي كشف فيها ضعفه وأصبح مضطرا إلى الارتماء في أحضان “الجمهوريّة الإسلاميّة” والحصول على مسيّرات وصواريخ منها كي يتمكن من متابعة حربه على الشعب الأوكراني.

في النهاية، لا بدّ من التساؤل عن الموقف الإيراني؟ فأي اتفاق بين النظام السوري وتركيا سيسمح من دون شكّ باحتفاظ تركيا بمنطقة نفوذ تقع تحت سيطرتها العسكريّة المباشرة على طول الحدود الدولية بين البلدين وفي عمق 30 إلى 35 كيلومترا.

إضافة إلى ذلك كلّه، لا يستطيع النظام السوري سوى أن يسأل نفسه ما الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا، وهي دولة مفلسة، في إعادة إعمار سوريا… هذا كان واردا بأن تكون هناك عملية إعادة إعمار في يوم من الأيّام من دون تغيير في العمق لطبيعة النظام القائم.

لن يساهم أي اتفاق مع تركيا في إعادة إعمار سوريا ولا في عودة السوريين الموجودين في الخارج أو في مناطق سورية معيّنة إلى أرضهم. مثل هذه العودة مرفوضة من إيران التي تعمل منذ سنوات طويلة على تغيير ديموغرافي في سوريا يصبّ في مصلحة وضع يدها على البلد وثرواته. يحصل ذلك في وقت لا قدرة لدى النظام على إبداء أي اعتراض على ما تقوم به “الجمهوريّة الإسلاميّة” عن طريق ميليشياتها المذهبيّة العاملة في سوريا.

قبل أن تفكّر روسيا بقيادة فلاديمير بوتين في كيفية ترتيب الأوضاع بين تركيا والنظام السوري، لماذا لا تفكّر في كيفية الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، مأزق الوحول الأوكرانية التي غرقت فيها وحرب الاستنزاف الطويلة التي تبدو عاجزة عن خوضها!

إعلامي لبناني

العرب

—————————

مُتحفُ الذُل… سوريا/ سامي داوود

نحتُ الموت

دَبغت المهانة وجه #سوريا التي انتفضت لأجل كرامةٍ مُستباحة منذ عقود؛ فتكاتفت الأزمات محوّلةً الحياة فيها إلى آفة؛ وانفصل فعلُ التعذيب عن العلاقة المباشرة مع الجلّاد، ليغدو كلُّ ما في الهواءِ محضُ تعذيب؛ وانحدر المواطن في سوريا إلى شيء مُسخّر لخدمة نوازع شريرة منتظمة في كيان #النظام الحاكم، الذي دأب على التبخيس من قيمة الناس ومعاملتهم كأشياء عقائدية أو كقرابين ضعيفة، لا يترتّب على التضحية بهم أية أزمة ذبائحية ـ بتعبير رينيه جيرارد ـ وبالتالي سنًّ النظام لنفسه ترخيصاً مفتوحاً لحصر الناس في أقسى الظروف، والتلذّذ بإخضاعهم كغنائم حرب.

ثمة في اللغةِ خَدر ثقيل أمام الإذلال المتنامي كجسدٍ رديف لكلّ من تبقى قسراً في سوريا، إذ يخيّم الخرسُ على تجربة الحياة اليومية العصيةُ على التجسيد بالكلمات. يشلُّ الكربُ العام قدرة الناس على حفظ الذات. لا ينقلب اليوم على ما يليه من دون الذهول من كيفية البقاء حتى اليوم التالي. تتجلّى أقسى الأوجاع في الشعور المخزي بالعجز أمام الكآبة التي يحملها الأبناء إلى الآباء. في الصيف يقول الطفل: اشتقتُ إلى الماء البارد. في الشتاء يسكت على النخز القارس في أطراف أصابعه البيضاء من دون تغذية كافية بالدم. ثم يأتي نداءُ وطن الميلشيات، ليأخذ حصته ممّا ظلّ من الأبناء، أولئك الجنود الذين يقتلون وتُنسى أشلاؤهم في الجبهات، لتبقى الوالدة منتظرة أمام الباب كمومياء فارغة، وتجهل أنها ليست ميتة.

كانت الأحكام العرفية وحالة الاستثناء قانوناً دائماً لنظام البعث الذي نجح في أن يكون نموذجاً للقوى التي زعمت أنّها تعارضه. فتناسخ المسخُ ذاته في الأقاليم التي تحلّلت إليها سوريا، كأرخبيلات معزولة لحكم ميلشيات الموت. فتراكمت طبقات من الحكم الفاسد، ليُحصر الناس بدوامة الاستبداد المركّب من مستويات منفتحة على بعضها البعض، إذ أينما هربت نازحاً داخل سوريا، سيراقبك الأخ الأكبر، سواء ملتحياً، أو بشوارب كثّة، أو بعنقٍ طويل.

بالرغم من الضيم المتراكم تاريخياً كورمٍ ثقيل في الروح، رفض السوريون أن تُختزل انتفاضتهم إلى أسباب اقتصادية، فظهرت فكرة الكرامة كمفصل جوهريّ لاستعادة الحقّ في الاحترام والمعاملة الإنسانية التي يستحقّها كلّ مواطن رفض أن يكون موالياً، وبالتالي تابعاً لسلطةٍ تحكم رقاب الناس بالإرهاب المنظّم في هيكل الدولة. تقول سيمون فايل في” التجذّر” بأنّ الكرامة حاجةٌ جوهرية لوجودنا، بدونها، نفقد المغزى من بقائنا. وهكذا، في البدء كانت الكرامة. قبل أن يجنّدها العسكر لمنفعة العقيدة.

انقلبت سوريا على ذاتها بالاحتراب الهمجيّ، وكشفت ما اختزناه من عنف ونوازع مناهضة للحرية، ناهيك بالتنشيط لأثر العزلة الداخلية بين المجموعات الأهليّة، ودورها في شحذ كراهية السوريين لبعضهم البعض؛ فظهرت وفرة في المرتزقة الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية بحق غيرهم من السوريين؛ وظهرت الأحزاب الشمولية التي تجاوزت أساليب البعثيين في استعباد الناس بالعقائد الحزبيّة، والابتهالات المجنونة لطقوس عبادة زعيم الحزب؛ ودمغت الفضاء العام بالحضور الوحيد لشوارب الأخ الأكبر، إذ لم يُخلع المسمار الذي كان يحمل صورة آل الأسد، بل حلّت محلّها صور الزعماء الجدد.

انقلبت فكرة الكرامة إلى نقيضها، وغدا وجود السوريّ مشروطاً بالذُلِ أينما حلّ في محيط بلده. رافقه تخصيصٌ لغويّ لعزل السوري جسدياً، في تصنيفٍ مطابق للإذلال الذي كابده وظلّ يكابده في ظلّ النظام الحاكم بأذرعته المدرّبة على طعن الناس في كرامتهم؛ فتماهى حالُ المُهجّرين قسراً إلى الجوار غير الآبه سوى بثقل السوريّ على اقتصاده، مع حال النّاس المقيّدين قسراً بالبقاء في سوريا التي لا مهرب منها سوى مخرج الموت.

كانت فكرة الكرامة محاولة لقلب سوريا بجعلها كالحُلم، وطناً لأناس مختلفين وقادرين على العيش معاً في فضاء من التقدير المتبادل.

لكنّها انتهت إلى طوابير محنّطة أمام النوافذ الحديدية للأفران المعطّلة، محطات الوقود الفارغة، صنابير الماء الجافة، المدارس المختلطة بالثكنات، المخيّمات الموزّعة على الأراضي الموحلة، الأدوية المستبدلة بالتمائم، والأطفال الذين يختزنون الجوع تمهيداً لتقديمهم إلى الميلشيات. ثم عبرتها جائحة كورنا بفضل التعاويذ، غير أنها حصدت ما تسنّى لها من أرواح من دون أيّ اعتبار لأرقام الموتى. فالسوريُّ حصيلةُ موتٍ من دون جرد، أو كما يقول بعض رجال السياسية، إن لم يمت ابنك بالقصف سيموت بحادث سيّارة. إنها مرحلة الثورة، وعلى الأحياء أن يخرسوا ويتهيّأوا لمتطلّبات الثورة، تلك التي تضيئها صور الزعامات وشعاراتهم التي تُحنّطُ في ظلّها جُثثُ القرابين.

إنّ زَخم المعاناة يجعل التعبير عنها ناقصاً، وإهانتها تتأتّى من ركاكة الخطاب الذي يتناولها كأحداثٍ عادية في مجرى أشياء أخرى. على الإعلام أن يترك شاشته سوداء لبعض الوقت حتى تأخذ الفاجعة مساحتها العاطفية في الوجدان.

المفارقة أن كلّ ما يحدث يجري في مرمى هتافات المشجّعين الذين زاروا دولاً مجاورة لسوريا. تلك التي تضخُ الطاقة إلى القارات الأخرى، وتكتفي بمنح السوريين البنادق والجهل المُعمِّق لحاجة السوري إلى افتراش موته بالاقتتال الأكثر فتكاً.

سرعان ما تبدّلت اللغة. صارت المفردات التي تصف حال السوري تنتمي إلى قاموس الأمراض الجلديّة والأورام، ناهيك بالعبارات التي جمعتها الشوارع لحصر السوري في قفص الحيّ الذي يقطنه، والقاموس الشفهي الذي خالط التعابير الدونية بالسخرية. وباتت لغة السياسة مجازاً في المرض بينما خرجت مفردات القانون من بنية الحقوق. عموماً، لم يعد العالم محكوماً سوى بالغطرسة النووية، والشعوب عبارة عن وسائط رديفة لإضفاء المتعة على حياة النظام.

حتى في الأدعيّة. بات الناس يتأملون موتاً خاطفاً على البقاء في حالة النزوع المستمر. وعلى غرار أحد الأدعية العراقية التي كان الناس يتوسلون بها الله بأن يمنحهم موتاً عادياً قبل أن يُقتلوا كأضرار جانبية في الشوارع المخططة بالمفخخات، بدأ السوري بتوسّل الموت بأن يكون خفيفاً وعاجلاً. تعتّق اليأس كرغبة في مقايضة ما تبقى من العمر لقاء أجلٍ أقرب. سنوات العمر متاحة للتبرع. أيُّ شيطانٍ بوسعه أن يُخلص الناس من مهانة الحياة اليومية، سيبرم العقد الذي يريده. وهكذا بدأت السمسرة في الازدهار. الجسدُ مجزأً بالقطعة؛ الكلى أو العين مقابل تأشيرة الخروج من الموت. أو الأجساد بالجملة على #قوارب الموت. كلاهما يدرّان الأموال في جيوب المهرّبين.

بورتريه القسوة

على غرار عوامل الحتّ في الطبيعة، تحفر القسوة خصالها في الإنسان الخاضع لظروف الحرب والفساد. يأخذ غياب أو أدلجة التعليم دور الإزميل في نحت الميل إلى العنف والتطرّف. توفر المخيمات العزلة الكافية لتفكيك العُرى الاجتماعية وتوظيف ما ينتج عنها من حطام هويّاتي لشدّ خصالٍ متشنّجة بوجه المُهجرين؛ كتلقّي الإهانة في الدوائر الحكوميّة بغضبٍ لا يمكن تصريفه. لن نخرج أسوياء من دون اعترافٍ صريح باعتلال ما يؤسّس صفاتنا المتأتية من ضرورة النجاة بأيّ ثمن.

وككل حرب، ثمّة هندسة اجتماعيّة معادلة لمستوى الهمجيّة، التي يصل إليها العنف، تمثلها الهيكليّة القسريّة لتسنّم الأعنف سُلّم البقاء. في عفرين المحتلّة مثلاً، يُقاس الارتقاء في سلطة الفصائل الجهادية الحاكمة بالرذائل التي يرتكبونها بحقّ السكان الأصليين من الأكراد؛ وكذلك في تلك العودة المباركة لشخصيّة الواشي. فالوشاية جوهر سلطات الأمر الواقع لدى الأنظمة الحاكمة في الأقاليم السورية المتنابذة بشعاراتها، والمتماهية بجوهرها الهمجيّ المتسلّط.

الحصار في سوريا أشبه بلعبة الدمى الروسية، ينفتحُ الحصارُ على حصارٍ أكثر خناقاً. فالحدود المغلقة منذ عقوبات قيصر 2020، غذّتها عوامل أخرى للموت كقيام #تركيا بقطع مصادر المياه عن محافظة الحسكة الجافة أساساً، ونهبها للقمح السوري بعد احتلالها لمدينة رأس العين 2019، ليظهر شيء شبيه بالخبز، يأكله الناس لأنه الشيء الوحيد المتبقّي كأثرٍ للخبز هناك. وبالتالي، تغيّرت أشكال التبادل بين الناس، وباتت البيئة الاجتماعية في منتهى التناقض. هناك مَن يداري آلامه بالتمائم والصبر، مبتكرا ما يمكنه أن يحوّل الجوع إلى شيء أقلّ أثراً؛ وهناك تجّار الحرب، عديمو الضمير، الذين يفترسون الناس بتحديثٍ همجيّ لآكلي لحوم البشر. فقد وفّرت المجاعةُ فائضاً في الذرائع لبقاء البلد محكوماً بأعراف القتلة.

كانت الجغرافيا هي الدلالة الوحيدة المتاحة للترميز إلى سوريا كشيء جامع لأشياء متعارضة، إذ لطالما كانت سوريا كوطن امتيازاً لفئة دون غيرها. لذلك لم تصبح هذه المساحة الجغرافية يوماً وطناً لجماعات مختلفة. وقد تحلّل البلدُ إلى سورياتٍ لا يجمعها سوى القمع كسمةٍ مشتركة لدى القوى الحاكمة، ناهيك بتفويض مآلُ سوريا لأكثر القوى استبداداً في العالم ك#روسيا المتجدّدة بدماء قيصرية، وتركيا المنبعثة من فكرة الميثاق الملّي العثمانيّ، وايران المترامية بثورتها المصدّرة منذ أربعة عقود بالقتل؛ هؤلاء هُم المخطّطون الديموقراطيون لسوريا المستقبل.

كيف يمكن لنظامٍ فاسد أن يقترح إصلاحاً لغيره؟ كيف يمكن لأنظمةٍ قمعيّة أن ترسم تحولاً ديموقراطياً لبلد متجذّر في الاستبداد مثل سوريا؟ لم تعد هذه الأسئلة تُشغل أحداً في سوريا، ولا في خارجها أيضاً، فقد قُضي الأمر. نبحث اليوم عن شيء آخر، أقلّ تكلفة في الدم، الخروج إلى الشارع بمعدةٍ صامتة، عدم خسارة ما تبقى من العائلة، العمل ببطء على نزع ركام الأمراض النفسية التي خلّفتها الحرب في عواطفنا، حسر الكراهية إلى حدودها المعقولة، بعض الدواء لأمراضنا الكثيرة؛ والتعليم، التعليم، التعليم لأطفالنا الذين نريدهم يدخلون مدارس لا تُدار كأنها ثكنات عقائديّة!

الجسد وأقوال القائد

الجسدُ أرشيفُ ما يكابده. يلتوي برفق على أوجاعه ليحيلها رُقماً في جلده. يُؤرشِفُ ما كان يكابده أو يبتهج له بكثافةٍ حسيّة تنحتُ السّمات التي تعدل تصنيفاتنا الاجتماعية وفقاً لتراتبية جسمانيّة، تختزل وتُهيكل بها مظهرنا، كنشرة تاريخيّة حيّة من الهيئات المخصّصة للأفراد والجماعات على حدٍّ سواء. وعلى غرار الضحك، يحفرُ كلُّ انفعال أثره في الخطوط المنتهية إليها أجسادنا. وهكذا، يغدو كلُ وجهٍ بصمة. فالهيئة التي نظهر بها تدمغ وجودنا بأسباب التصنيف التي تفرزنا إلى جماعات يمكن التخلّي عنها أو تسخيرها لإمتاع جماعاتٍ أخرى. شيء أشبه بأفكار كوجييف حول السيادة و العبودية، والتي كنتُ أعتقد أنها مجرّد خزعبلات، غير أنها تُترجم إلى واقع مجرّدةً من كلّ فضيلة أو أخلاق، والمكثفة في خدعة العبودية النشطة.

لذلك، لا يعكس مفهوم الجوار معنى التعايش، بل الإذعان. هذا واقع الحال في سوريا، وفي علاقتها بمحيطها الجغرافي. فقد أظهرت الحرب إمكانية الوجود بالقرب من مجموعات مجرّدة من المعنى، تعيش كشخصية الزومبي الفلسفيّة، تدّعي التألّم أو الإحساس بشيء خارجها، لكنّها لا تشعر، ليس لأنّها تكذب فقط، بل لأنها تخلو من فكرة الضمير. أي الإحساس الجوهري لمشاركة الوجود مع الآخر. كان هؤلاء أساس فكرة النظام الحاكم ومعارضيه في آن.

تمَّ تنقية العنف من الأسباب في سوريا. عنفُ المؤسسة العامة يُنطَقُ الإذلالُ حسيّاً بتصنيفٍ جسدي، ويعيد هيكلة المجتمع وفقاً لتراتبية العنف المصفى؛ عنف الميلشيات التي تلعب بالبنادق وتدير حركة المال بالرصاص المتبادل.

تُضبط في المدارس السورية أجساد أطفالنا على الخنوع والاستعداد للموت في سبيل القائد الأزعر؛ وفي المحاكم التي استبدلت القوانين بالاجتهادات القضائيّة، لتكون العدالة محض عبارة فارغة؛ وفي طوابير الخبز المزنجرة بترنّح أمهاتنا فجراً أمام النافذة الحديدية لبائع الخبز، لئلا يبقى أطفالك من دون خبز. بينما يمضي قمح أرضك لتغذية أولئك الذين ينهبونك بقوة الهيمنة.

لذلك كرّم القتلة بتنظيمهم في سلك النظام. كانت تلك حيلة صدام حسين مع ما كان يُعرف في بغداد بعصابات “الشقاوات” الذين انتظموا في سلكي المخابرات وفدائيي صدام، ليتحوّلوا بمجرّد سقوط حكم هذا الأخير إلى المؤسسين الأساسيين لتنظيم داعش وفقاً للسردية التي أظهرتها مجلة ديرشبيغل الألمانية في الوثائق التي عثروا عليها في داخل منزل حجي بكر الذي قتل بمدينة “تل رفعت” السورية سنة 2014.

تناول البعث السوري الراية ذاتها عبر أجهزته الأمنيّة. وبالتالي، بات الإجرام والتلذّذ به مشاعاً أينما حضرت مؤسّسات الدولة. اقتبست المؤسّسات بمختلف اختصاصاتها صفة الأمن، لتغدو ـ على غرار قراءة فوكو للسلطة العقابيّة في مؤلّفه المراقبة والمعاقبة ـ كلّ مؤسسة امتداداً لسلطة العقاب، المشفى مشابهاً للسجن، وهكذا دواليك مع المدرسة والمحاكم والجامعات، حيث بدأت هذه الأخيرة في فرض أقوال القائد كمنهاج قسريّ في جميع الاختصاصات. فالقائد كالإله يفهم كلّ شيء. وإن اقتضت الضرورة يمكنه أن يتحوّل إلى أنثى أيضاً. القائد هو شيءُ الأشياء، ومن دونه لا تستقيم حياة المريدين.

وقد توارثت القوى التي ظهرت في سوريا بعد 2011 التركة ذاتها؛ إكراه الناس على الارتباط باحتياجاتهم الأساسية كأنها هبات سماوية تتوسط هذه السُلط في توفيرها، ولتبدأ مقايضة الأمن والغذاء مقابل الولاء. فالهراوات ظلّت وحدها لغةٌ للحكم.

النهار

—————————–

التضخم المفرط يهدد الاقتصاد السوري..والآتي أسوأ/ منصور حسين

تشير المعطيات إلى توجه الاقتصاد السوري نحو المزيد من التضخم في مناطق سيطرة النظام، مع استمرار الأزمات الاقتصادية المتتابعة التي زادها الانهيار الحر الذي تعيشه الليرة السورية، الأمر الذي ينذر بكارثة تنتظر السوريين وتفاقم أوضاعهم المعيشية القاسية.

ويعرف التضخم المفرط، بأنه الحالة التي يزيد فيها معدل زيادة الأسعار عن 50 في المئة شهرياً، وهو بشكل عام معدل مرتفع جداً للزيادة في أسعار السلع والخدمات، وعليه تصبح النقود بلا قيمة فعلية.

الانهيار الجامح

ورغم أن الاقتصاد السوري يواجه مخاطر التضخم الحاد منذ سنوات، إلا أنه ظل ضمن قدرات البنك المركزي والسياسات الحكومية على احتوائه، عبر تقنين انهياره وإبطاء التضخم خلال العامين الماضيين، مع إتباع البنك المركزي الهندسة المالية والتمويل، وتشديد النظام القبضة الأمنية وفرض سندات خزينته على البنوك، وغيرها من الإجراءات التي حافظت على زيادة منتظمة في نسب التضخم.

لكن ومع الانهيار غير المسبوق في قيمة العملة المحلية وتجاوزها عتبة ال7150 ليرة سورية لكل دولار أميركي خلال وقت قياسي، قبل أن تتعافى قليلا عند حدود 6500 ليرة، إضافة إلى تعاظم أزمة المحروقات التي انعكست على كتلة الأسعار في السوق المحلية، وما يرافقها من عجز حكومي عن التدخل، جميعها أسباب تؤكد دخول الاقتصاد السوري مرحلة السقوط الحر.

أمر يتفق معه الباحث والمستشار الاقتصادي يحيى السيد عمر الذي يعتبر أن كل الدلائل والمُؤشِّرات كانت تشير إلى حدوث الانهيار الحالي، إن كان على مستوى سعر الصرف أو على مستويات عجز الموازنة العامة، وصولاً إلى الشلل الاقتصادي.

ويقول ل”المدن”، إن “زيادة العجز في موازنة عام 2023، كان يشير إلى قُرْب انهيار الليرة، فقيمة العجز بلغت 8.8 تريليون ليرة، بزيادة قدرها 19.6% عن عجز موازنة 2022، هذه الزيادة كانت إشارة لاستمرار الاعتماد على التمويل بالعجز لتمويل النفقات العامّة، وهذا يعني انهيار الليرة المتوقع استمراره”.

وعلى مستوى توقّف الإنتاج والشلل الاقتصادي، يضيف السيد عمر أن “سيطرة قوات سوريا الديموقراطية على حقول النفط، إضافة إلى مفاعيل قانون قيصر وسيطرة أُمراء الحرب على موارد الدولة، يدل على استمرار الشلل الاقتصادي”.

ويشير إلى أن “اقتصاد النظام كان من المفترَض أن ينهار قبل سنوات، وذلك في ظل انعدام الإيرادات وانتشار الفساد، لكن الدعم الخارجي ساهم في صموده، ومن أشكال الدعم الخط الائتماني الإيراني الذي يمكن أن يتوقف مع أنباء عن خلافات سياسية بين النظام وإيران، وهو ما سبّب تراجعاً في فعاليته”.

السوريون ضحية

ويبدي اقتصاديون مخاوفهم على مستقبل السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في حال الوصول إلى مرحلة التضخم المفرط، خاصة وأن السكان يعانون ظروفاً معيشية قاسية وغلاءً غير مسبوق، في ظل تفشي البطالة وعدم القدرة على مغادرة الكثيرين منهم للبلاد.

وتشير إحصائيات رسمية إلى خسارة أكثر من 900 ألف عامل لوظائفهم في القطاع الخاص، وأكثر من 30 ألف موظف في القطاع العام، بينما ارتفعت نسبة البطالة إلى أكثر من 70 في المئة بين السوريين.

وبحسب السيد عمر، فإن أي تراجع اقتصادي يتحمّل تبعاته السوريون بشكلٍ مباشر، ويوضح أن “حكومة النظام غالباً ما تنجح في تحميل تداعيات الانهيار للشارع عبر رفع أسعار المواد الأساسية كالمحروقات والمواد الغذائية”، لافتاً إلى أن تراجع قيمة الدخول إلى ما دون 25 دولاراً أميركياً شهرياً، “ضاعف من مستويات الفقر والبطالة وصعّد التهديدات المرتبطة بالأمن الغذائي” .

وهو ما يتفق معه الباحث الاقتصادي الدكتور يونس الكريم، مشيراً إلى أن الاقتصاد دخل مرحلة التضخم الحاد وبات على أعتاب التضخم المفرط، من خلال جملة من التداعيات التي باتت تظهر في السوق المحلية، بالإضافة إلى سياسات النظام النقدية ومنها التبدل المستمر في كتلة الأسعار وآلية التعامل بالدولار.

ويقول ل”المدن”: “بناءً على الحالة السورية فإن تقييم السلعة وتوافرها يجري بحسب توافر الدولار إما بالشكل الفيزيائي كعملة، أو عن طريق تحديد إمكانية تغطية السلع المباعة وتوفيرها، ما يعني تعاظم الخطورة على الشكل الاقتصادي الذي يقود إلى المزيد من طباعة العملة المحلية وضخها واضطراره إلى طباعة عملات جديدة، وبالتالي زيادة التضخم الذي يؤدي إلى الفقر والمجاعة”.

هل من حلول؟

يعتقد الكريم، وهو مدير منصة “اقتصادي”، أن الحلول الوحيدة التي يمكن أن يلجأ إليها النظام هي تقليدية فقط، من استمرار رفع الدعم عن السلع وتوسيع الخصخصة، والعمل على الاستفادة من هذا الوضع لصالح بقائه في السلطة.

ويضيف أن “الخصخصة ونموذج التشاركية الحالي يهدف إلى تجاوز انهيار مؤسسات الدولة ولا يعني تخفيف الأزمة، لتجنب توقف المؤسسات عن تقديم خدماتها، بل يقوم بالاستفادة منه لإرسال رسائل بقرب انهيارها، وبالتالي الضغط على المجتمع الدولي والمؤسسات الأممية لإنقاذ الشارع السوري من المجاعة ومد العون للحفاظ على عمل هذه المؤسسات”. 

رغم المؤشرات التي تؤكد استمرار تدهور اقتصاد النظام، إلا أن هذا التدهور وبناءً على تجارب السوريين السابقة، سيكون مضبوطًا نسبياً من دون إيقافه، خاصة وأن الحلول الحقيقية لم تعد بيد النظام بعد خفض الدعم المادي من قبل حلفائه إيران وروسيا، ما يعني أن السوريين أمام معاناة أشد قسوة مما عايشوه خلال السنوات الطويلة السابقة.

المدن

————————

صحيفة: ارتفاع كبير بإيجارات المنازل في دمشق بنسبة 200%

ذكرت صحيفة “البعث” الرسمية أن إيجارات المنازل في المدن الكبرى الخاضعة لسيطرة النظام السوري، خاصة العاصمة دمشق، ارتفعت بشكل “غير مسبوق” وبنسبة وصلت إلى 200%.

ونقلت الصحيفة عن مصادر عقارية، أمس الاثنين، أن إيجارات المنازل ارتفعت بنسب عالية، وتحديداً في دمشق، إذ ازدادت بنسب تتفاوت بين 100 إلى 200%، مقارنة عما كانت عليه قبل وقت قريب.

وبحسب الصحيفة وصل إيجار شقة في حي راقي بدمشق إلى 2 مليون ليرة سورية شهرياً، فيما وصل إلى 500 ألف في بعض الأحياء الأخرى.

أما في مناطق ريف دمشق، وصل إيجار شقة صغيرة مساحتها 50 متراً إلى 200 ألف ليرة سورية، فيما يصل إيجار الشقة التي مساحتها 80 متراً إلى 500 ألف، بحسب ما نقلت الصحيفة عن أحد المكاتب العقارية في منطقة ضاحية قدسيا بريف دمشق.

وأرجعت الصحيفة سبب هذا الارتفاع، الذي زاد خلال العامين الماضيين، إلى أسباب عدة أبرزها زيادة الطلب من قبل بعض أصحاب الشقق وبعض المكاتب التي تمارس دور السمسار.

إلى جانب “قلة عرض الشقق الجاهزة من قبل بعض الجمعيات والمشاريع الحكومية، وتوقف بعضها وتباطؤ في الإنشاءات الجديدة التي أوقفت ظروف كورونا بعض أعمالها وتعثر بعض المنفذين في مشروعاتهم”.

ولفتت إلى أن التضخم الحاصل في الأسواق السورية وارتفاع الأسعار “الجنوني”، أثّر على سوق العقارات بشكل كبير، خاصة إيجارات المنازل.

ونقلت عن مكتب عقاري قوله: “أسعار العقارات لا توصف، فكل شيء تضاعف سعره مرات رغم حالات الجمود وتراجع حركة الشراء والمبيع، نظراً لارتفاع الأسعار وقلة السيولة”.

وأضاف: “أية شقة اليوم تتراوح قيمة ايجارها ما بين 300 ألف ليرة حتى نصف مليون على أقل تقدير، فمن يقدر على دفع ذلك إلا الأسر الميسورة أو التي تعتمد على حوالات تأتي من أولادهم من الخارج وسواه”.

وتشهد مناطق سيطرة النظام السوري جموداً في سوق العقارات، من ناحية البيع والشراء، تزامناً مع كثرة العرض وقلة الطلب.

كما شهدت الأشهر الماضية تضييقاً من جانب النظام السوري، فيما يتعلق ببيع العقارات في مناطق سيطرته، حيث أصدر عدة قرارات ضمن مساعيه لضبط سعر صرف الليرة السورية، والحفاظ على ما تبقّى من اقتصاده من الانهيار.

———————–

2023 عام آخر من الوجع السوري/ رياض معسعس

تميز عام 2022 في سوريا بمجموعة من الأحداث كان لها انعكاسات كبيرة على الشعب السوري. فمع بداية العام بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا الذي وضع سوريا في صلب الحدث إذ عانت كما عانى العالم أجمع من فقدان بعض المواد الأساسية كالقمح والنفط والغاز، ودفع النظام الذي كان أول من أيد الغزو مجموعة كبيرة من الشباب الموالي ليكونوا مرتزقة مقابل دراهم معدودات لقتل الأوكرانيين، وليقتلوا بدورهم هناك، وزادت الحرب الأوكرانية في الطين بلة على السوريين بشكل عام ففقدان السلع الأساسية كالنفط شل المواصلات، وأغلق أبواب شركات كثيرة، وأفران الخبز وحتى المستشفيات بسبب انقطاع الكهرباء.

انزلاق سعر الليرة

وجاء انزلاق سعر الليرة إلى مستويات متدنية مقابل الدولار (وصل سعر الدولار إلى 6500 ليرة) على حساب المواطن العادي الذي تآكل دخله الشهري الذي بالأساس لا يتعدى 20 دولارا، الأمر الذي دفع إلى احتجاجات ومواجهات عنيفة في منطقة السويداء وحوران بين السكان وقوات النظام.

ومع الخطر اليومي الذي تواجهه بعض دول الخليج والأردن وحتى بعض دول العالم من تهريب المخدرات وخاصة الكبتاغون الذي يصنعه النظام أصدر الكونغرس الأمريكي قانون “كبتاغون” ليضاف إلى قانون “قيصر” وزيادة العقوبات، ورغم ذلك قامت بعض الدول العربية بالانفتاح على النظام السوري والتطبيع معه، وخاصة دولة الإمارات العربية التي قام بزيارتها بشار الأسد في آذار/مارس الماضي، وانتهى العام ببداية عملية تطبيع تركيا معه.

هذا في الوقت الذي لايزال مئات آلاف السوريين تحت الخيام يقاسون شظف العيش وتقلبات الطقس وابتزاز روسيا في نقل المساعدات الأممية إليهم.

لم يكن مفاجئا أن يتم لقاء موسكو بين وزراء دفاع تركيا وروسيا والنظام السوري ورؤساء مخابراتهم في موسكو لوضع اللمسات الأولى لعملية تطبيع مع نظام بشار الأسد الذي كان يصمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “بالإرهابي” وبدا أن الضرورات التركية طغت على المواقف السابقة من النظام السوري خلال العقد الماضي، فالرئيس التركي الذي كان عازما على تنفيذ عملية عسكرية واسعة في شمال شرق سوريا لطرد وحدات حماية الشعب الكردي من مدن ثلاث (منبج، تل رفعت، عين العرب)، والتي ووجهت بمعارضة أمريكيةـ روسية ـ أوربية ثنت اردوغان عن المضي بها بعد إقناعه من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعملية التطبيع كبديل للعملية على أن يتولى النظام نفسه عملية إعادة سيطرته على المناطق التي تتواجد فيها وحدات حماية الشعب الكردي لتعود سيادتها له، مقابل انسحاب من المناطق التي سيطرت عليها تركيا التي تريد أيضا التخلص من اللاجئين السوريين عن طريق تنظيم عودة “آمنة” لهم إلى ديارهم، وحسب تصريحات وزير الدفاع التركي خلوصي أكار فإن تركيا ستلعب دور الوسيط بين المعارضة والنظام لإيجاد حل سياسي يقوم على مبادئ القرار الأممي 2254.

مواقف المعارضة

لم يتأخر الموقف الشعبي في المناطق المحررة من التعبير عن رفضه لعملية التطبيع من خلال مظاهرات عمت المدن التي تقع تحت سيطرة المعارضة (محافظة إدلب وريف شمال حلب) ثم المجلس الإسلامي السوري الذي أصدر بيانا يدين فيه عملية التطبيع: ” لقد أخذنا على أنفسنا العهد ألا نكون شهود زور على مشاريع تصفية الثورة السورية، وإننا إذ نرى دعوات المصالحة والتطبيع مع النظام المجرم تترى على قدم وساق فإننا نؤكد أن الموتَ ونحنُ نتجرَّعُ السُّمَّ أهونُ ألف مرّة من أن نصالح عصابة الإجرام الّتي دمّرت سوريا وأبادت أهلها”

وتبعه موقف هيئة تحرير الشام في كلمة لزعيم الهيئة أبو محمد الجولاني تحت عنوان “لن نصالح” أكد فيها “لا تحزنوا ولا تيأسوا فإن خذلكم القريب والبعيد فإن للثورة أبناءها وقادتها وجندها يصلون الليل مع النهار لحماية الثورة وخدمة أهلها..” وأضاف: “أن الهيئة تعد نفسها لأيام عظيمة مقبلة، ودعا للانضمام إليها لمواجهة التحديات ومواصلة العهد حتى إسقاط النظام”، أما الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية التزم الصمت ولم يصدر عنه أي موقف حتى الآن، وكشفت مصادر تابعة له طلبه عقد اجتماع عاجل مع مسؤولي الحكومة التركية “لبحث مسألة التقارب مع النظام السوري” واتخذ الجيش السوري الحر الذي بات تحت الهيمنة التركية نفس الموقف الصامت المريب.

حروب مقبلة

يبدو أن دول لقاء موسكو الثلاث لديها هدف مشترك هو القضاء على وحدات الشعب الكردية أولا، لتحقيق مصالحها التي تختلف من دولة إلى أخرى، فتركيا التي تخشى على أمنها القومي من قوات سورية الديمقراطية الكردية على حدودها وتحالفها مع حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) الذي تصنفه تركيا في قائمة الإرهاب تبحث عن إنهاء هذا الوجود المهدد لأمنها، بينما يتطلع النظام السوري إلى استرداد الأراضي التي تسيطر عليها الوحدات الكردية بدعم من الولايات المتحدة والاستفادة من الآبار النفطية المتواجدة فيها، والمناطق التي تسيطر عليها المعارضة بعد انسحاب القوات التركية منها، بينما تبحث روسيا عن مواجهة أمريكا بالوكالة وإضعاف وجودها في سوريا، كرد روسيا على دعم أمريكا لأوكرانيا في حربها ضد الغازي الروسي.

وحدات الشعب الكردية التي شعرت في الخطر الداهم نددت في بيان لمجلس سوريا الديمقراطية، الذراع السياسية لقوات سوريا الديمقراطية في عملية التطبيع وناشدت السوريين بـ”مواجهة هذا التحالف وإسقاطه” وأضاف البيان “ننظر بعين الشك والريبة إلى الاجتماع بين وزيري دفاع الحكومة التركية والسورية برعاية روسية”.

أما الولايات المتحدة فقد سارعت إلى اتخاذ خطوات سياسية وعسكرية من أجل مواجهة أي احتمال لمعركة إذ زادت من انتشارها العسكري في المنطقة، وقامت أخيراً بتجهيز الأرضية لإعادة قاعدتها العسكرية في الرقة بعد ثلاث سنوات من إخلائها.

وفي الوقت نفسه أرسلت جيمس جيفري مبعوثها السابق إلى سوريا في زيارة إلى تركيا قبل أسابيع قليلة لثني أنقرة عن المضي في مسار تطبيع علاقاتها مع دمشق، لكن أنقرة خيبت آماله وعاد خاوي الوفاض.

مصائب قوم

يبدو أن مصائب السوريين لن تنتهي في العام 2023 حسب ما وعد المسؤولون الأتراك عبر تطمينات مخدرة بالتوسط لإنهاء الأزمة السورية على أساس القرار الأممي 2254 فالنظام الذي رفضه منذ البداية لا يوجد أي مسوغ للقبول به اليوم وهو يبحث عن استرداد الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة وهذا ما ينذر بمعارك طاحنة في هذه المناطق أيضا، فكل المؤشرات تشير إلى أن جولة جديدة من المعاناة ستبدأ قريبا بمواجهات مسلحة عنيفة تقودها روسيا وأمريكا بالوكالة يكون وقودها أولا وأخيرا الشعب السوري الذي تجاهل العالم بأكمله مأساته الكبرى، فكل دولة لها ضلع في المقتلة السورية لا ترى سوى مصالحها ففي السياسة لا توجد عداوات ولا صداقات دائمة وإنما مصالح دائمة.

كاتب سوري

القدس العربي

——————–

أين أموالنا؟/ سوسن جميل حسن

هذا عنوان لمقال منشور حديثًا في صحيفة الوطن السورية في دمشق، إنما يمكن القول إن السؤال لا يبارح تفكير السوريين، ليس بعدما وصل الانهيار إلى حدّ مخيف شلّ الحياة بكل مفاصلها، بل قبْل العام 2011، عندما كان السوريون يعانون من تبعات الفساد “المبارك”، الذي يبدّد موارد الدولة المفترض أن تكون للشعب، ويتطاول على دخل الأفراد. كلنا يتذكّر تلك الفترة وما كان يلحق المواطن السوري فيها من الاعتداء على حقوقه واستباحة تعبه وجهوده، بالرشاوى والمحسوبيات واستغلال الحاجات وغيرها الكثير من أدوات الفساد. وزيادة على هذا القهر، كان هناك الترهيب والتهديد في حال تجرّأ أحدُهم ورفع صوته عاليًا مطالبًا بحقوقه ومدافعًا عن كرامته ووجوده الإنساني، فالقمع وكمّ الأفواه كانا دائمًا حاضريْن كسوط فوق رؤوس الناس، إلى أن صارت الصرخات تُخنق في الصدور، حتى انفجرت في لحظة ومضَ فيها الوعي بالذات الإنسانية، فانتفض الناس وصرخت الحناجر غاضبةً تطالب بالحرية.

بعد تراجع العمليات العسكرية الكبيرة في سورية، منذ العام 2018، وبعد المصالحات التي جرت بالتتالي، اعتبر النظام نفسه منتصرًا في معركته “الوجودية” أمام “المؤامرة الكونية”، وقضائه على “الإرهاب”، الذي نجم عنه، أي “الانتصار”، وطنٌ مقسّمٌ مدمّر، وشعبٌ موزّع بين مخيمات بؤس وظروف لجوء مهينة، وآخرون تبدّدوا في بقاع الأرض الواسعة البعيدة، ومن بقي في الداخل يعاني شظف العيش ومرارة البؤس في مناطق النظام ومناطق النفوذ الأخرى، فأي انتصار هذا؟ دأبت الحكومة السورية على إصدار القرارات والقوانين والمراسيم وغيرها الكثير، كلّها تصبّ في خانة واحدة وغالبة، جني الأموال ورفد خزينة الدولة، على حساب قوت المواطن وحاجاته الحياتية، فلم تترُك حيّزًا يخصّ المواطن إلّا وحاصرته بالقوانين التي تخوّلها السطو على دخله، مهما كان ضحلًا. ولم يعد الواقع في حاجة إلى تسليط الضوء عليه، فهو يضيء وحده بسبب النيران التي تلتهم كل شيء. ارتفعت فواتير الخدمات التي تقدّمها الدولة من ماء وكهرباء ومرافق وغيرها بشكلٍ يفوق التصوّر، في وقتٍ انعدمت هذه الخدمات، ازدادت رسوم البيوع، ارتفعت الضرائب حتى أن شركات صغيرة ومهنا أغلقت بالكامل. توسّعت رقعة الأنشطة التي تشملها الضرائب، ازدادت الرسوم التي تحصّلها الحكومة من بعض الخدمات التي هي من حقوق الأفراد، كرسوم جواز السفر على سبيل المثال. ازدادت رسوم جمركة الهواتف النقالة والأجهزة الذكية بنسبة مرتفعة جدًا، حتى أن أحدهم كتب على صفحته الفيسبوكية: أيهما أهون اليوم، أن تكسر ذراعك أم تكسر شاشة جوّالك؟ وفي جديد ما صدر، فرضت الحكومة على المحامي السوري رسمًا مقداره خمسمائة دولار عن كل سنة يمضيها خارج البلاد، وفي حال عاد إلى البلاد ورغب في تسوية وضعه، تنزل الضريبة إلى الثلاثمائة دولار. وهذا الرسم مفروض على الطبيب منذ سنوات طويلة، إلّا أن مهنة المحامي لم تكن من المهن المؤهّلة للخروج خارج البلاد، لصعوبات الحصول على تراخيص لمزاولتها في الدول الأخرى، بعكس الطب، كذلك هناك رسم الاغتراب الذي تطالب به المالية المقيمين خارج البلاد.

يتراجع الدعم الحكومي للمواد الأساسية بتسارع يزيد الحصار المعيشي على المواطن. تُبنى المقالة المذكورة على تصريح رئيس الحكومة الذي قال لصحيفة الوطن بالحرف: “إن إعادة هيكلة الدعم ستنعكس إيجاباً على المجتمع، وستخفّف من عجز الموازنة، وستؤدّي إلى تخصيص كتلة مالية لدعم الأسر الأكثر فقراً، ودعم الإنتاج، وكذلك العمل على تحسين القدرة الشرائية للمواطنين، ودعم ثبات سعر صرف الليرة”. وتتساءل: ما الذي نفّذ من التصريح السابق وصار واقعاً؟ هل انعكس إيجاباً على المجتمع؟ على العكس. هل خففت من عجز الموازنة؟ على العكس، فقد ازداد العجز في موازنة 2023 بنسبة 19.65% عما كانت عليه في موازنة 2022، وهذا كلام وزير المالية لصحيفة الوطن أيضاً بعد صدور الموازنة.

ومن ضمن ما وعد وصرح به أغلبية وزراء لجنة إعادة هيكلة الدعم، التي عملها الوحيد الأكيد الذهاب بالدعم إلى غاية صفر دعم، أن الوفر الحاصل من العملية سيذهب أولاً إلى بند رفع الأجور، فأيّ نبعٍ متدفقٍ يمكن أن يرفع الأجور إلى حد تأمينها حياة الأفراد بالحد الأدنى اللائق بكرامتها؟ إذا كان متوسّط الرواتب والأجور لا يتعدى عشرين دولارًا في الشهر. ربما يربك هذا الرقم مؤشّر خط الفقر العالمي، فهو خارج حدود عمله، بينما يلزم الأسرة السورية المكونة من أربعة أشخاص ما يفوق الثلاثة ملايين ليرة في الشهر، لتلبية حاجاتها الضرورية فقط، أي ما يقارب الخمسمائة دولار. هذا ما يزيد اليأس والقنوط والإحباط لدى الشعب السوري، ويجعله على يقينٍ بأن أمور حياته لن تكون بخير في المستقبل المنظور، طالما لا يوجد حلّ جذري لأزمته.

ربما لا يعرف الشعب السوري بغالبيته في السياسة، ولا يهمّه سوى التقاط بارقة أملٍ تعدُه بتحسين أوضاعه المعيشية في الوقت الحالي، إنما يمكن التقاط بعض التعليقات على ما يدور عن أزمة بلاده من حراكٍ حالي، تشفّ عن يأسٍ وعدم ثقة بكل النوايا، خصوصا لناحية التقارب التركي من النظام المطروح حاليًّا، ثم زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد، دمشق، ووقوفه على شرفة، مع الرئيس بشار الأسد، تطلّ على دمشق الحزينة، إذ تتضح من التعليقات على صفحات التواصل كمية السخرية المرّة من هذه الزيارة، وقبلها مدى الدهشة من التصريحات التركية وما نجم عنها، الدهشة الممزوجة بالرجاء المرّ لدى شريحة منهم بأن يكون هذا التقارب بداية حلٍّ لأزمتهم المعيشية. ويمكن أن يلمس المتابع ما يشي، في العقل الباطن، بأن هناك إحساسًا عفويًا بأن ما يجري لا يشير إلى حلّ مستدام للمشكلة، بل هو حراكٌ سياسيٌّ يصب في خانة الترتيبات التي تطمح القوى الإقليمية إلى تحقيقها.

تدور غالبية التعليقات “ساخرة” عن جدوى الزيارة، وما يُنتظر منها، ويشيد بعضهم في ردود على التعليقات بالانتصار الذي حققه النظام، “خيّو، خلونا خسرانين لحد الـ 2015، وقت كانت الكهرباء 3/3، والغاز والمازوت والبنزين متوفر والأسعار رخيصة… هيك انتصارات ما بدنا ياها”. وتعليق آخر “ليش شو صار وانتصرنا؟ بشّرونا”، بينما كتب أحدهم “يعني رح تيجي الكهربا؟ أو البيضة صارت 800 ليرة بحارتنا؟ شكلو ما سمع بالانتصارات الجديدة”. وتؤكّد تعليقاتٌ أن ما يجري من أداء سياسي في واد بعيد عن هموم الشعب وقضيته، لن ينتهي إلى حلّ يخدم في بناء وطن من جديد على أنقاض ما تهدّم، بل هناك، مثلما أسلفت، وعي بالفطرة ربما، وربما ناجمٌ عن موت الثقة بالمطلق من إخلاص أي جهة وصدق نواياها بالنسبة للشعب الذي بيّنت الحرب أن لا أصدقاء له، ومن ضمنها النظام، وأن ما يجري هو صراع على السيادة وتحقيق المصالح فقط، وعي بأن المطروح مريبٌ وبعيدٌ عن هموم الشعب وتطلّعاته، إذ يقول أحد التعليقات: “ما في أجمل من أنك تفتخر بالمنتصر وهو يصافح المطبّع .. شعور اعتزاز وفخر .. كبير الممانعين يستقبل كبير المطبّعين .. اعربلنا ياها”. هذا يدلّ على وعي، ربما غير ناضج تمامًا، بأن ما يجري من حراك سياسي ليس أكثر من ترتيب أوضاع المنطقة، وصفقات بين الأنظمة، تجري تحت غطاء عالمي من القوى الكبرى المتصارعة. أمّا الشعوب التي دفعت الثمن باهظًا، فعليها التفكير بمستقبلها من جديد، بعدما أوصلتها أنظمتها والتدخلات الخارجية إلى هذه الحالة من الإفقار والخسران، فأين أموال هذا الشعب المنكوب، التي تنهب من أجل سياسةٍ تعمل بعيدًا عن تطلّعاته؟

العربي الجديد

————————-

ماتَ الواقع … سورية في الـ”لا زمان”/ مضر رياض الدبس

نمشي، نحن السوريين، منذ حينٍ، في جنازة الواقع، فقد مات الواقع في سورية، ولم يبقَ أي معنى للحديث عنه إلا على سبيل الذكرى. مات النظام، وماتت المعارضة، وإذا أرادت كلُّ جماعةٍ أن تُكرِّم ميتها فلتدفنه، هذا أكرم له، ولنا. وفي الأحوال كلها، سيُنجز السوري العادي هذا الدفن بالنيابة، ومن دون مراسم، ومن دون تأبين. ومن أراد الموت له أن يندُب فوق قبريهما، ومن أراد الحياة سوف يساهمُ بحبٍّ في ولادة واقعٍ سياسي جديد، واقعٍ من رحم التنسيقية، ومن رحم عدالةٍ انتقاليةٍ قد تساهم في تبريد قلبِ الأمهات قليلًا. سورية اليوم من دون واقع، قتلَ المقلوبُ فيها كلَّ واقعٍ ممكن، والمقلوبُ هو الأيديولوجي مقلوبُ العادي. ولعل الحكاية السورية طوَّرت طريقةً أكثر دقة في سرد ذاتها كالآتي: ابتكر الشباب السوري مفهوم الثورة في 2011 بوصفها تنسيقية السوريين العاديين الكبرى، ثم صار التنسيق بين المُختلفين فنًا يُنتِجُ فائضًا تواصليًا إبداعيًا، وصار فائضُ التنسيق يعمل على الإنتاج السياسي للحياة. لأول مرة في حياة كثيرين يتم إنتاج الحياة في سورية سياسيًا، فقبل ذلك اعتاد السوريون على إنتاجها اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا على المستوى الأهلي، بل حتى رغبويًا على مستوى الأمل والانتظار وصناعة أفقٍ افتراضي لجمالٍ من النوع الذي يتمتع المقموعون بتخيله.

بهذا المعنى، كانت الثورة مشروع الشباب السوري المعاصر للإنتاج السياسي والمدني للحياة. وهذا، بطبيعة الحال، مفهومٌ صعبٌ إدراكه بمدارك (ومقدّرات) العقل السياسي السوري الكلاسيكي الذي ينتمي إلى ما قبل 2011، عقل النظام وعقل المعارضة معًا (وبطبيعة الحال، عندما نقول معارضة نقصد المعارضة السياسية الكلاسيكية وتفرّعاتها). قتلت المعارضةُ التنسيقيةَ ولم تحل مكانها، ولم تصبح هي واقعًا سياسيًا، ولن تصير؛ وقتل النظام كلَّ السوريين ولم يعد هو واقعًا سياسيًا، ولن يعود؛ فمات الواقع السوري، وكل ما يعانيه هذه البلد ليس إلا لأنه بلدٌ صار من دون أي واقع: سورية تواجه الزمن في غياب الواقع، والواقع نقيض العدم، فلا يعني غياب الواقع إلا واقعة العدم، يعني واقعة الموت فحسب، حيث يوجد الـ “لا زمان” والـ “لا جديد”. ولكن “إلى متى”؟ الإجابة النظرية عن هذا السؤال سهلةٌ جدًا وبسيطة: إلى أن يُولَد واقعٌ جديد. ولكن العملي أمرٌ آخر، بل ثمّة أسئلةٌ كثيرة من النوع المعقّد تتفرع من هذا السؤال الأولي: كيف نبتكر لأنفسنا واقعًا جديدًا نعيش فيه ويقينا الموت المبكر المستمر؟ يبدو التفكير في جواب هذا السؤال متطابقًا مع التفكير في إعادة تفعيل آليات الإنتاج السياسي للحياة التي بدأت بها ثورة 2011. يعني، بتكثيفٍ شديد، يمكن أن نقول إن الواقع الجديد يولد من التنسيق، ثم التنسيق، ثم فائض التنسيق، ثم إنتاج سياسي للحياة. والتنسيق يعني، بالضرورة، غياب الواحد في السياسة، فلا شيء في الدينا واحدٌ إلا الفرد، (بل قد لا يكون حتى الفرد واحدًا). وعليه، لا ينتج التنسيقُ جسمًا سياسيًا واحدًا كما يُقال غالبًا، بل تعاونية تقوم على مد جسور الثقة والمحبة والصداقة المدينية روابط، أي ينتج التنسيق تنسيقيةً، ولكنها أكثر راهنية من التي كانت في 2011. ما نريد أن نقوله يمكن تكثيفه في مسألتين: الأولى، موت الواقع، ويعني موت النظام زائد انتهاء صلاحية مفهومي الموالاة والمعارضة وانتشار الموت، والثانية ضرورة ابتكار واقعٍ جديد يمر بمساعي الإنتاج السياسي للحياة.

مات النظام أخلاقيًا وإنسانيًا لأنه مجرم، وأيضًا مات سياسيًا لأنه خصخص السياسة في سورية. والسياسة، بطبيعة الحال، عموميةٌ يمتلكها السوريون، ولكن النظام قسَّمها حصصًا ووزّعها على إيران وروسيا ومليشيات إرهابية أيديولوجية، حتى نفدت السياسة منه، فصار من دون عمومي، ونظامٌ من دون عمومي يعني عصابة في أحسن الأحوال ليس أكثر، أضاف إليها جرائمَه ومجازرَ كثيرة ارتكبها وتجارة الكبتاغون فصار عصابةً إرهابيةً. وماتت المعارضة أيضًا، لأنها خصخصت السياسة العمومية في سورية، فوزّعت حصصًا على الدول الإقليمية والجماعات الإسلامية والأيديولوجية، وصولًا إلى تحوّلها إلى مكاتبٍ ديكورية لا تمتلك أي نوعٍ من السياسة؛ فماتت. ويعني ذلك، بطبيعة الحال، إمكانية كتابة نعي مشترك لمفهومي الموالاة والمعارضة، الثنائية التي ولدت أصلًا مشوهةً.

لنسأل، ببساطة، من يعارض المعارضون اليوم؟! ومن يوالي الموالون اليوم؟! إذا كان المعارضون لا يزالون يعارضون النظام، فإنه قد مات وصار عصابة. ومن يُعرِّف نفسه مُعارضًا سياسيًا لعصابة غير سياسية لا يفعل شيئًا إلا أنه يُشرعن وجودها، ويعطي لمنافسيه فرصةً لإطلاق توصيفات قانونية مرعبة، مثل “الحرب الأهلية” و”التمرد” وما إلى ذلك. أما الموالاة فهي، في الأصل، مقولة أسّسها النظام استنادًا إلى ملء خزّان الخصوصية بالعلف الأيديولوجي، وقد انهارت أيضًا. لم يعد لهذه العصابة موالاة، وصار ممكنًا أن نسميهم “المتورّطين بخيارٍ مصيري غبي”. صار من الممكن القول إنهم الذين زرعوا الشوك في دروب بيوتهم، وزرعوا الرعب والموت والجهل في طريق أبنائهم، أو في طريق الباقي من أبنائهم. صار لصفة الموالي اليوم قيمةً ضئيلةً، بالنظر إلى أنه ذاك الذي دفع فلذات كبده إلى الموت في غفلةٍ من كل معنى، وفي زمن الـ “لا تفكير”. وكما لم يعد ملائمًا أن نقول إنه موالٍ بل متورّط، أيضًا لم يعد ملائمًا أن نقول إن له دينًا، أو طائفة، يحدّد بموجبها هويته، أو تنتج له تفكيرًا هوويًا من نوعٍ ما، فقد صار هذا ثانويًا أيضًا أمام الورطة. لم يبق له إلا لملمة ورطته. وفي أحسن الحالات، الاعتذار لإنسانيته والبكاء بندمٍ وحسرة على قبر ابنه الذي رحل فداءً لإجرام الأسد. لم يبق في ذهنه مكانًا للطائفية ولا لغيرها، بل علَّه يسأل نفسه في منتصف ليله البارد كالح السواد: إلى متى؟ قد تبدو الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال مخرجه الوحيد.

ثمّة مقولة رائعة للكاتب والروائي الأرجنتيني سيزار آريا: “يبدأ أي تغيير من تغيير الموضوع”. ويبدو لنا أن تغيير الموضوع هذا ليس عمليةً اعتباطية أو عرضية، بقدر ما يبدو سلسلةَ عملياتٍ معقّدة ومتداخلة تبدأ من تغيير طرق الفهم، والمقاربة، والتحليل، وزوايا النظر، تمهيدًا لوضع موضوعٍ أكثر ملاءمة يحمل إمكانيةَ تغييرٍ أكبر. موضوع المسألة السورية الجديد الذي يحمل إمكانَ تغييرٍ هو “موت الواقع”، ومن ثم ضرورة ابتكار واقعٍ جديد يستند إلى إنتاجٍ سياسي للحياة. تغيير الموضوع في العمق دعوةٌ إلى التفكير في المنطقة التي تقع خارج “الواقعية السياسية”، وهي تحيل دائمًا على السؤال الأهم: كيف نُنتج الحياة سياسيًا؟ إنه سؤال غير المرئيين في سورية، ويوجد الجواب عنه في منطقة عملهم، يعني هو سؤالُ السوريين العاديين الذي يوجد جوابُه في منطقة العمومي اليومي.

العربي الجديد

—————————-

دمشق:النظام يتلاعب بالدولار ليستولي على مزيد من المساعدات الدولية/ محمد كساح

يستمر النظام السوري في تجيير المساعدات الدولية لصالحه من خلال الفارق السعري الكبير لصرف الدولار بين سعره الحقيقي في السوق السوداء والتسعيرة الرسمية المفروضة على المنظمات الغربية المانحة.

ولم تحدّث الأمم المتحدة تسعيرة صرف الدولار أمام الليرة السورية على موقعها الرسمي بالرغم من رفع النظام السوري تسعيرة الصرف الخاص بنشرة الصرافة والمصارف إلى 4522 ليرة ما يجعل الفارق الكبير بين السعرين يصل إلى 50 في المئة.

ويشير مدير الملف السوري في مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية كرم شعار إلى أن سعر الصرف المفروض على الأمم المتحدة من جهة النظام لا يزال 3 آلاف ليرة. ويؤكد ل”المدن”، أن “هناك احتمالاً في أن يكون موقع الأمم المتحدة قد تأخر في تحديث السعر، لكن هذا لا ينفي تحقيق النظام لمكاسب ضخمة من الفوارق بين تسعيرة الصرف المتدنية المفروضة على المنظمات الدولية وسعر الصرف العادل والرائج في السوق السوداء”.

تدخل سلبي

ويمكن فرز التدخل السلبي للنظام في أموال المساعدات الدولية إلى نوعين: نهبٌ مباشرٌ مثل إجبار مؤسسة أممية على التعاقد مع رجال الأعمال المقربين من النظام، والنوع الآخر يشمل تغيير الاستخدامات المناطة بالمساعدات وتجييرها لصالح النظام.

ويلمح شعار إلى أن استفادة النظام من فوارق سعر الصرف هي خليط من هذين النوعين وتكمن المشكلة الأساسية في الغياب التام للشفافية عند المصرف المركزي فجميع التفاصيل المتعلقة بحركة الأموال غير متاحة للعامة.

ويفنّد شعار المزاعم التي يروج لها النظام والمتعاطفون معه داخل المنظمات الدولية والتي تتعلق بعدم الرغبة في الضغط لتثبيت سعر الصرف الحقيقي كون بعض العائدات الناتجة عن فوارق سعر الصرف تذهب للواردات، مؤكداً أن “هذا المنطق مرفوض مع غياب الشفافية عن مؤسسات النظام الذي تصنف حكومته ثاني أكثر حكومة فسادا في العالم”.

ويلاحظ حالة عدم الاكتراث من قبل الدول الغربية المتضررة من هذا الفارق بسعر الصرف بالتوازي مع غياب أي ضغط من جهة هذه الدول على الأمم المتحدة لتقوم بدورها بإجبار النظام على العمل بسعر الصرف الحقيقي.

لا رقابة بسبب المخاطر 

ويرى وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة عبد الحكيم المصري أن المنظمات الدولية تخشى من سطوة النظام لا سيما بعد وقوع ضحايا تابعين للأمم المتحدة في العام 2013.

ويضيف المصري ل”المدن”، أن العاملين في مناطق سيطرة النظام معرضون للخطر في حال حاولوا تغيير معادلة تجيير المساعدات الدولية التي تشكل مورداً كبيراً للنظام من خلال إصدار نشرات متفاوتة لسعر الدولار، تخلق فارقا سعرياً كبيراً.

ويصعب على الأمم المتحدة -بحسب المصري- القيام بإجراءات تتعلق بالرقابة على توزيع المساعدات في مناطق النظام، ويلاحظ أن الجمعيات التي تتولى توزيع هذه المساعدات تدور في فلك أسماء الأسد. 

ومن جانب آخر تحفّز المكاسب الكبيرة الناجمة عن تجيير المساعدات الدولية، روسيا على الضغط لحصر إدخال المساعدات عن طريق النظام السوري لأن هذه المساعدات تحول إلى أموال يتم صرفها حصراً في المصرف المركزي بالسعر الذي يفرضه على هذه المنظمات.

——————————-

في”معجزة” الليرة السورية..ومصدرها اللبناني/ إياد الجعفري

تحسّنٌ غريبٌ، وكبيرٌ، طرأ على سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، خلال الأسبوع الفائت. إذ تراجع الدولار في دمشق من 7200 إلى 5950 ليرة. أي أن الليرة استردت نحو ثلثي الخسائر التي مُنيت بها منذ بداية شهر كانون الأول/ديسمبر الفائت، حينما بدأت مساراً هابطاً انهارت معه إلى قاعٍ غير مسبوق في تاريخها.

أما وجه الغرابة في التحسّن، أن الأسباب التي أدت إلى الانهيار الأخير في سعر صرف الليرة، ما تزال قائمة. وما يؤكد هذه القراءة، أن أسعار السلع في الأسواق، لم تنخفض رغم تحسّن الليرة، بإقرار الإعلام الموالي. ناهيك عن قرارات المركزي السوري في الأيام الأولى من العام الجديد، والتي أقرّ فيها بانخفاض قيمة الليرة بنحو 50%، على الأقل، حينما رفع “الأسعار الرسمية” للدولار، بهذه النسبة.

والملفت أن تحسّن الليرة انسحب على أسواق العملة غير الخاضعة –بصورة مباشرة- لسيطرة النظام، كما في إدلب والقامشلي. مما يؤكد أن عرضاً للدولار، قد أُتيح، بالفعل. وهو ما يتوافق مع شهادات مطلعين قالت إن المركزي السوري ضخ عبر شركات صرافة، سيولة من الدولار في الأسواق. وقد عكست التغطية الإعلامية الموالية ذلك. إذ أخذت منذ الأيام الأولى للعام الجديد، تهلل لما وصفته بـ “المعجزة”، مع هبوط الدولار أكثر من 1000 ليرة. جاء ذلك بعيد بيانٍ خرج به المركزي عن صمته طوال فترة انهيار الليرة في الشهر السابق، ليقول إنه يقوم بـ “اتخاذ كافة الوسائل والإجراءات الممكنة لإعادة التوازن إلى الليرة السورية”. 

وفي معرض البحث عن أسباب التحسّن الأخير لليرة، يُستبعد عامل الدعم الخارجي، الإيراني أو الروسي. إذ لو كان قد حدث، لكانت الجهات الداعمة أعلنت ذلك، نظراً لفائدته السياسية بالنسبة لها، خاصة بعد أن دفع النظام –مؤخراً- محللين مقربين منه للمجاهرة بالعتب على روسيا، جراء عدم دعمها للنظام، اقتصادياً ومالياً، في واحدة من أسوأ أزماته على الإطلاق. 

كما لا يمكن الحديث هنا عن أثر ملحوظ للعامل النفسي المتأتي من مشاريع “التطبيع” التركي مع النظام، أو التحرك الإماراتي الأخير، نحوه. إذ يعلم التجار جيداً، وهم أكثر من يتسببون بالطلب على القطع الأجنبي في البلاد، أن أية نتائج اقتصادية إيجابية لهذه التطورات السياسية، ستكون بعيدة الأمد. هذا إن حدثت أساساً، قياساً على خيبات الأمل الاقتصادية من نتائج “الانفتاح” الذي أبدته بعض الدول العربية، على النظام السوري، خلال السنوات الثلاث الأخيرة.

وهكذا، تنحصر أسباب التحسّن الأخير لليرة، بنشاط “مضاربة”، تدخل فيه المركزي، واستند فيه على مصادره الخاصة بالقطع الأجنبي. وهي مصادر تنحصر في مسارين. الأول، الرسمي، الناجم عن حوالات المنظمات الدولية لموظفيها، والتي تُسلّم لهم بالليرة، فيما يحصل المركزي على الدولار. وكذلك حوالات السوريين المغتربين، التي تدخل البلاد عبر شركات صرافة مُرخّصة متعاونة مع النظام. وهي أيضاً، مصدر رئيس للدولار، بالنسبة للمركزي. وهناك المصدر المرتبط بإجراء إعادة قطع التصدير، بنسبة 50%، من جانب المستوردين، وفق تعليمات المركزي.

لكن حوالات السوريين تراجعت وفق مؤشرات عدة. فيما انخفضت الصادرات السورية إلى النصف، حسب مصادر رسمية. وهذان العاملان كانا من أبرز عوامل انهيار الليرة في الأشهر الأخيرة من العام الفائت. مما يعني أن المركزي لم يعتمد على مصادره “الرسمية”، من القطع الأجنبي، للتدخل في أسواق العملة. وهو ما يحيلنا للمصادر “غير الرسمية”. والتي هي في صميم عمل أسواق العملة في مناطق سوريا الثلاث، “شرق الفرات”، و”شمال غرب سوريا”، ومناطق سيطرة النظام، إلى جانب السوق اللبنانية. إذ أن بيع وشراء الدولار بين هذه الأسواق –الأربعة-، يشكّل رافعة التعاملات في تلك الأسواق. ومن بين أكبر المضاربين عبر الأسواق الأربعة تلك، يأتي المركزي ذاته، باستخدام مكاتب وشركات الصرافة والحوالات، المرتبطة به. 

لكن، من أية أسواق –من بين الأربعة- حصل المركزي على الدولار للمضاربة به، في مناطق سيطرته؟ يُظهر انخفاض سعر صرف الدولار في دمشق، دون نظيره في إدلب أو القامشلي، أن المركزي لم يستند على الأسواق في شرق وشمال سوريا، للحصول على الدولار، كما كانت العادة، في السنة الفائتة. وهو ما يدعم التفسير الرائج، أن النظام استند هذه المرة على السوق اللبنانية، بالتحديد. 

ما دلالات ذلك؟ أن المركزي يتعامل بعقلية المُضارب. وهو أمر ليس بالجديد، بل يعود إلى عهد حاكمه الأسبق، أديب ميالة، حينما وُصف المركزي من جانب أكاديميين متخصصين بالاقتصاد السوري، بأنه أكبر مُضارب في السوق السوداء للعملة في البلاد. 

لكن ما تبعات ذلك؟ التبعات تظهر جليّة في أسعار السلع، التي لم تنخفض بالتزامن مع استمرار ندرة بعضها. ويتفق التجار على أن سعر الدولار الحقيقي، الذي يتم بموجبه تسعير السلع الموردة إلى البلاد، هو 8000 ليرة سورية للدولار. فيما سعر السوق السوداء بات تحت الـ 6000، لكنه منفصل تماماً عن القوة الشرائية الحقيقية لليرة.

وفيما ينخفض سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ترتفع تكاليف الإنتاج، والرسوم المفروضة على التجار. فأسعار المحروقات وأجور النقل، ارتفعت بقرارات رسمية، مرتين على الأقل، خلال آخر 40 يوماً. وفي الأسبوع الفائت فقط، ارتفع الدولار الجمركي على المستوردين، ليعكسوه على أسعار المبيع للمستهلك.

أي أن “معجزة” الليرة، كما وصفها الإعلام الموالي، انعكست فقط، خسارةً لصغار المضاربين في السوق السوداء للعملة، الذين خسروا 17% من قيمة دولاراتهم، لصالح كبار المضاربين، الذين سيشترون الدولار من السوق في الأيام القليلة القادمة، قبل أن يعيدوا رفع سعره لاحقاً، وبيعه لذات المضاربين الصغار. كذلك انعكست “معجزة” الليرة، خسارةً لأغلبية السوريين في مناطق سيطرة النظام، الذين يعيشون –بنسبة الثلثين-، بالاعتماد على حوالات أقاربهم في الخارج، والتي سيستلمونها، في أحسن الأحوال، بدولار يساوي 6000 ليرة، فيما يشترون السلع من الأسواق، بدولار يساوي 8000 ليرة. أما المضاربون الكبار، وهم الرابحون مما حدث بالأيام القليلة الفائتة، فيأتي في مقدمتهم، المركزي السوري.

المدن

———————–

سوريا في 2023… حَدوَة الفَرَس!/ عبدالناصر العايد

في العام 2023، لن تسير الأمور في سوريا على المنوال الذي نشأ ابتداء من 2011، فالتناقض على طول الخط بين النظام والمعارضة لن يستمر في التباعد، ولن يتجاوز معدلاته الحالية، بل سيبدأ كلا الطرفين بالانحناء لبعضهما البعض، ويتقارب طرفاهما الأكثر تعارضاً ليدنوا من بعضهما البعض، كما تتقارب نهايتا حَدوَة الفَرَس، وليطغى توافق المصالح بالتدريج على تضارب الشعارات.

نظرية حَدوَة الفَرَس معروفة في الفلسفة السياسية، وأول مَن استخدمها الكاتب الفرنسي المعاصر جان بيار فاي Jean-Pierre Faye، وهي تجادل بأن أقصى اليسار وأقصى اليمين يشبه أحدهما الآخر، في الواقع، شبهاً كبيراً. وأن المنحى البياني للتموضع السياسي ليس خطاً مستقيماً يستمر في الابتعاد عن المركز. وأن نهايتيه، اليمن واليسار، يقتربان من بعضهما البعض في نهاية الأمر كما يقترب كل طرف من طرفي حَدوَة الفرَس من الطرف الآخر، أي أن المتطرفَين يشبهان بعضهما البعض. والمثال الذي تعتمده هذه النظرية في العلاقات الدولية هو اللقاء الشهير بين هتلر الفاشي وستالين الشيوعي، وتوافقهما في بداية الحرب العالمية الثانية من خلال ميثاق مولوتوف-ريبنتروب، لكن النظرية تستخدم أيضاً على نطاق واسع لتحليل وتفسير الكثير من الظواهر السياسية داخل البلد الواحد، وقد استخدمت بشكل ملحوظ في السياسة الفرنسية الراهنة، وفي حقبة ترامب في الولايات المتحدة الأميركية.

إن اعتقادنا بأن “حَدوة الفَرس” يمكن استخدامها لاستقراء الحالة السورية للعام المقبل ليس قراءة تأملية تثيرها مصادفة ما على صعيد المعرفة النظرية، وما يدفعنا إلى تبنيها حدث محوري قد يكون نموذجياً للتدليل على صلاحية تلك النظرية في مراحل معينة من التاريخ. والحدث هو الانعطافة التركية الحادة نحو نظام الأسد والمعسكر الذي ينتمي إليه، حيث لا بد من التساؤل حول المفارقات الأيديولوجية والأجندات المعلنة للطرفين، والتي تم تجاوزها بضربة واحدة، سواء لجهة الحقوق أو العدالة أو الموقف السياسي، أو حتى على صعيد الانتماءات بشقيها الديني/المذهبي والإثني، وأخيراً على صعيد المصالح الاجتماعية والسياسية للفئات التي يمثلانها.

ولأن المقام لا يتسع، سنكتفي هنا بتفحص حالة الطرفين الأكثر بروزاً في المشهد السوري، أي القوى السياسية والعسكرية المعارضة التي ظهرت على خلفية الثورة الشعبية السورية، والمدعومة من تركيا وبعض الدول العربية والعالم الغربي، والأسد ونظامه الحالي الذي تكوّن حول هدف قمع تلك الثورة، والمدعوم من إيران وروسيا وبعض الدول العربية. وبالنظر إليهما عن كثب نجد أنهما ربما لا يختلفان سوى في “الأيديولوجيا” التي يرفعها كل منهما كشعار معاكس للآخر، إذ أنهما يتوافقان في الواقع في أساليب العمل والتصورات كافة، سواء من حيث العنف، أو تبني مواقف ذات أبعاد طائفية ودينية وإثنية، والارتكاز في الحصول على القوة على حليف خارجي بالدرجة الأولى، يتجردان أمامه من كافة المبادئ والقيم الوطنية، كما يسعيان للهدف المركزي ذاته ألا وهو السلطة. ويقول المحللون المُعتقِدون بالنظرية المذكورة آنفاً، أن الرغبة في السلطة تقلل من الاختلافات بين أجندات الطرفين، وتجعل مصلحتهم الرئيسية، لا إفناء قوى بعضهما البعض في القتال، بل الحصول على القوة ومراكمتها لإخضاع المحكومين الواقعين تحت سلطتهم. 

وبطريقة عملية، سيجد نظام الأسد، والمعارضة المكرسة بالاعتراف الدولي أو بشرعية السلاح، أن كلاً منهما يمكن أن يكون مفيداً للآخر، وأن مصلحتهما الآن تكمن في توافقهما وسيرهما معاً، إن لم يكن على طول الخط، ففي هذه المرحلة على الأقل التي يستطيع فيها كل منهما إلحاق الأذى بالآخر، وأن الظروف مواتية لاقتسام جِلد الدب بدلاً من تمزيقه. فالمكاسب الاقتصادية على وجه التحديد تقتضي وقف النزاع العنيف، وتنمية السلطة السياسية تحتاج إلى الهدوء، وانحناء كل طرف للآخر والاعتراف به.

أما بالنسبة للقابعين في الوسط بين طرفي الحَدوَة، أي الكتلة العقلانية التي حافظت على الاعتدال طوال مراحل الصراع، وتمسكت بالسِّلمية، أو كانت أقرب إليها، وبالوطنية والحلول الراسخة المستدامة المستندة إلى الديموقراطية وتداول السلطة والانتخابات،.. فموقف هؤلاء اليوم ليس على ما يرام. الجزء الواقع منهم تحت سيطرة النظام والمعارضة، أُنهك إلى ابعد الحدود، وهو سيقبل الخلاص بأي ثمن. أما الجزء الآخر، وهو المهاجر أو اللاجئ، فسيكون موقفه غير مبال بهذا التحالف، على اعتبار أنه لا يؤذيه طالما أنه لا يقع تحت سلطة التحالف الناشئ. وبالتالي فإن العزوف والاستقالة من الشأن العام، والخروج الصامت من الصراع الاجتماعي السياسي، ستكون ردود أفعال الغالبية العظمى من السوريين.

لا بد من الإقرار بأن كثيرين ممن حاربوا نظام الأسد، لم ينضموا إلى صفوف الثورة لأنهم ضد الظلم والاستبداد والوحشية، ولا لأن لديهم رؤية أكثر تقدماً لبلادهم ومستقبلها، بل لأن مصالحهم اقتضت ذلك. وعندما يصبح النظام ومعارضته الحالية قطباً واحداً، فعلينا أن نتوقع انتقال الأوضاع من سيء إلى أسوأ على الصعد كافة، السياسية والاجتماعية والمعيشية، وما لم يُدمَّر في مرحلة تصادم الفاشيتين، سيدمره تحالفهما بالتأكيد، وستعود الكرة إلى ملعب الغالبية السورية ذات السِّمة الوطنية والتوجه الديموقراطي ليصبح البحث عن مَخرج عقلاني استحقاقاً لا مفر منه، إن لم يكن في هذا الجيل، ففي الجيل التالي.

المدن

————————

3 رسائل سورية من “الشيوخ الأمريكي”: لا تطبيع وقيصر حاضر

وجهت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي 3 رسائل تخص سورية، في اليومين الماضيين، وجاءت على لسان سيناتورين نافذين الأول جمهوري والثاني ديمقراطي.

وقال رئيس لجنة العلاقات الخارجية، السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز في تغريدة عبر موقع التواصل “تويتر”، اليوم السبت إن “انفتاح الإمارات وتركيا على نظام الأسد لا يخدم الأمن في المنطقة”.

وأضاف بأنه “يقوّض مساعي محاسبة النظام على جرائم الحرب التي ارتكبها بحق الشعب السوري”، مؤكداً: “لا تطبيع للعلاقات دون محاسبة حقيقية”.

    Turkey & UAE’s recent diplomatic outreach to #Assad:

    ➡️Fails to advance regional security

    ➡️Undermines efforts to hold the Syrian regime accountable for its war crimes against its own people

    There CANNOT be normalization without legitimate accountability. https://t.co/TCA4So8nQq

    — Senate Foreign Relations Committee (@SFRCdems) January 6, 2023

وجاء ذلك بعدما غرّد عبر “تويتر” أيضاً عضو اللجنة، كبير الجمهوريين السيناتور، جيم ريش بقوله إن “انفتاح الإمارات على نظام الأسد ينطوي على مخاطر كبيرة ويعرضها لعقوبات قيصر”.

وأضاف أن “الانفتاح أيضاً على الأسد يضر بجهود المساءلة عن جرائمه ضد الشعب السوري”.

    #UAE’s outreach to the #Assad regime provides little benefit to the Emirates. This carries huge risks to UAE’s reputation, exposes it to #Caesar sanctions, and hurts efforts to seek accountability for Assad’s crimes against the #Syrian people. https://t.co/DrMSkSVM7B

    — Senate Foreign Relations Committee Ranking Member (@SenateForeign) January 5, 2023

وفي تغريدة منفصلة أشار ريش إلى أنه “على مجلس الأمن تجاهل تهديدات بوتين باستخدام الفيتو، وتجديد الإذن للأمم المتّحدة لإدخال المساعدات الإنسانيّة الضرورية عبر الحدود إلى سورية مباشرة”.

وأضاف بأنه “على المجتمع الدولي تجديد التزامه لتخفيف ما يلقاه الشعب السوري من معاناة على يد الأسد”.

    The UNSC must ignore #Putin’s veto threats and renew the vital cross-border mechanism into #Syria for humanitarian access. The international community must recommit to alleviating the suffering of the Syrian people at the hands of #Assad.

    — Senate Foreign Relations Committee Ranking Member (@SenateForeign) January 7, 2023

وكان اللقاء الوزراي الأول من نوعه بين تركيا والنظام السوري في العاصمة الروسية موسكو قد أثار الكثير من التكهنات، في الأيام الماضية، واختلفت التحليلات بشأنه عما إذا كان خطوة “تكتيكية” من أنقرة أم “استراتيجية”.

وبعد اللقاء بأيام أجرى وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد زيارة إلى العاصمة السورية دمشق، إذ التقى رأس النظام السوري، في تحرك أثار مخاوف الشارع السوري المعارض من محاولات “إعادة تعويم الأسد”.

وحتى الآن لا يعرف بالتحديد ما ستؤول إليه العلاقة بين أنقرة والنظام السوري في الأيام المقبلة، بينما تتجه الأنظار إلى اللقاء على مستوى الخارجيات، بحسب ما أعلن عنه قبل أيام وزير خارجية تركيا، مولود جاويش أوغلو.

وذكرت وكالة “بلومبيرغ” في تقرير لها، اليوم السبت، أن هذين التحولين يدعمان روسيا، الحليف العسكري الرئيسي للأسد والإمارات التي سعت إلى تحسين مكانته في الشرق الأوسط للمساعدة في موازنة النفوذ الإيراني في سورية.

ولا يزال النظام السوري يخضع لعقوبات غربية صارمة ومعلق عضويته في الجامعة العربية.

وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، قال الخميس، عندما سئل عن اجتماع محتمل بين إردوغان والأسد: “لن نطبع ولا ندعم الدول الأخرى التي تطبع العلاقات مع نظام الأسد”.

وأضاف: “لقد رأينا تقارير عن اجتماعات محتملة، سواء كان اجتماعاً ثنائياً، أو ما إذا كان نقاشاً ثلاثياً يشمل روسيا أيضاً”.

————————–

لماذا وصلت الأزمة الاقتصادية السورية إلى مستويات متدنية جديدة؟

تحدثت وسائل إعلام غربية عن الأسباب التي أوصلت الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرة النظام السوري إلى ما هو عليه، إذ تعتبر الأزمة الحالية الأسوأ منذ استخدام الأخير القوة الأمنية والعسكرية لقمع الثورة السورية في مارس/آذار 2011.

وبحسب ما نقلته وكالة “أسوشيتد برس” عن محللين، فإن العامل الأهم أو السبب الرئيسي في الأزمة الأخيرة هو تأخر وصول شحنات النفط الإيرانية.

وتعتمد حكومة الأسد بشكل أساسي منذ سنوات، على التوريدات النفطية من إيران.

لكن هذه التوريدات تقلصت بشكل كبير منذ أكثر من شهرين، حسب ما أعلنت عنه وسائل إعلام النظام، مدعية أن ذلك بسبب تشديد العقوبات الأمريكية.

وتقع معظم حقول النفط السورية في شمال شرقي سورية بمناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المدعومة من التحالف الدولي، وهو ما أسفر عن حرمان حكومة النظام من الاستفادة من هذه الثروات.

“أسباب أخرى”

وكان الاقتصاد في مناطق سيطرة النظام قد تعرض لسلسلة صدمات، بشكل رئيسي منذ العام 2019، أولها انهيار النظام المالي اللبناني المتمثل بأزمة المصارف اللبنانية.

وقال وزير الاقتصاد اللبناني الأسبق، ناصر السعيدي، إن الحدود بين سورية ولبنان مفتوحة، وأسواقهما مرتبطة بشكل لا يمكن فصلهما عن بعضهما، وكلاهما يعتمد على النقد بشكل متزايد.

كما تضررت سوريا من الانكماش الاقتصادي العالمي الناجم عن “جائحة كوفيد –19”.

إضافة إلى الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية في شباط / فبراير 2022، والذي أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود العالمية.

كيف هو الحال الآن؟

ذكرت وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية أن الاقتصاد السوري وصل إلى أدنى مستوياته، مع تصاعد التضخم وهبوط العملة ونقص حاد في الوقود.

“وصلت الحياة في دمشق إلى طريق مسدود”. وتقول الوكالة: “الشوارع خالية تقريباً من السيارات، الكهرباء تأتي بضع ساعات في أحسن الأحوال، وارتفعت تكلفة الطعام والضروريات الأخرى بشكل كبير”.

وشهدت الليرة تراجعاً في سعر الصرف أمام العملات الأجنبية، وخسرت حوالي 100% من قيمتها خلال 2022.

وكان سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار مطلع العام 2022 حوالي 3600 ليرة مقابل الدولار، بينما سجل سعر صرف 7150 ليرة مقابل دولار واحد نهاية كانون الأول / ديسمبر 2022.

وسجلت الليرة اليوم الخميس سعر صرف 5950 ليرة مقابل دولار واحد للمبيع و5880 ليرة للشراء.

وجاء هذا “التحسن” بعد رفع المصرف المركزي السوري سعر صرف الليرة، “في محاولة على ما يبدو لإغراء الناس لاستخدام السعر الرسمي بدلاً من التجارة في السوق السوداء”، حسب “أسوشيتد برس”.

ورفع المركزي سعره الرسمي لصرف الليرة يوم الاثنين، إذ أصبحت 4522 ليرة مقابل الدولار للمصارف العاملة، وشركات ومكاتب الصرافة، و4500 للحوالات الشخصية الواردة من الخارج.

ويقول الباحث السويسري والأستاذ في معهد الجامعة الأوروبية، جوزيف ضاهر: “بما أن الأجور لا تقترب من تغطية تكاليف المعيشة، فإن معظم الناس يعيشون على التحويلات، وعلى وظيفتين أو ثلاث وظائف وعلى المساعدة الإنسانية”.

وأضاف ضاهر أن دراسة شملت استطلاع عدد من السوريين ستنشر لاحقاً أوضحت أنهم يتلقون وسطياً بين 100 إلى 200 دولار شهرياً من ذويهم في الخارج.

وذكر أن “الناس متعبون للغاية ويفكرون قبل كل شيء في البقاء على قيد الحياة”، مشيراً أنه “لا يوجد بديل سياسي لترجمة هذا الإحباط الاجتماعي والاقتصادي إلى سياسي”.

ومن المرجح أن تستمر البلاد في التعثر بمساعدة المساعدات والتحويلات المالية من الخارج، حسب الباحث.

———————–

===================

تحديث 12 كانون الثاني 2923

———————————

لو كنت من سوريي الداخل/ عمر قدور

يطالب سوريون وزارة الكهرباء بأن تعفيهم من الدقائق التي يحصلون على الكهرباء خلالها، كل خمس أو ست ساعات، عسى أن ينسيهم الانقطاع التام وجودَ الكهرباء من أصلها. المفارقة أننا نقرأ تلك المطالبات، التي لا تتعدى التذمّر، على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعني أن أصحابها قد حالفهم الحظ فحصلوا على الطاقة ليستخدموا الأنترنت وأجهزتهم الشخصية من كومبيوتر أو موبايل. أحياناً، على سبيل التعويض، يستغل البعض من هؤلاء الفرصة المحدودة زمنياً بنشاط أعلى من المعتاد، سواء بالنشر الغزير على حساباتهم أو الإفراط في التفاعل مع منشورات الآخرين.

الحديث في المقام الأول هو عن السوريين الواقعين تحت سلطة بشار الأسد، لكن البؤس بأشكال مختلفة موجود في مخيمات النازحين في الشمال السوري، والأوضاع المعيشية العامة لا تسرّ الخاطر في عموم المناطق الخاضعة للنفوذ التركي أو تلك الخاضعة للإدارة الذاتية الكردية. لو كان البؤس المعيشي مرادفاً للوطنية لكان أفضل جامع للسوريين في تلك المناطق، من دون أن يجمعهم مع سوريين آخرين يُظن أنهم نجوا من لعنة المكان.

مرّ المونديال الذي استمر شهراً، تلاه موسم أعياد الميلاد، ورأس السنة الذي له تقليدياً رمزية غير دينية. خلال شهر المونديال غرقت وسائل التواصل في الحدث العالمي وتفاصيله الرياضية وغير الرياضية، وحتى أثناء المباريات كان كثر من روّاد وسائل التواصل كأنهم يشاهدون المباراة على التلفزيون، بينما تمسك يدهم بالموبايل لتنقل حساباتهم انطباعاتهم المباشرة عن الحدث. لا نملك إحصائيات دقيقة، لكن نجزم بأن هذا أكثر مونديال شوهد عالمياً بواسطة الموبايلات أيضاً، بما يعنيه ذلك من تطور تقنية الاتصالات، أما توفر الكهرباء فهو بالطبع من البديهيات.

لا نريد بما يلي جلد الذات، ولا تقريع سوريين آخرين. لنفترض، وهذا ربما حصل آلاف أو عشرات ألوف المرات، أن سوريّاً من الداخل أتته نعمة الكهرباء والأنترنت لبعض الوقت، وفتح حسابه على فايسبوك مثلاً، ليجد فيه أصدقاءه من “سوريي الخارج” يتجادلون حول أحقية المنتخب الفرنسي بضربة جزاء لم يمنحها الحكَم في المباراة النهائية. أو، في دقائق مشابهة سابقة، وجد أصدقاءه يتغنون بأداء الفريق المغربي، ففرح للفريق المغربي، ليحزّ في نفسه “أكثر من المثال الفرنسي أو الأرجنتيني” أنه لم تُتَح له مشاهدة ذلك الأداء، وأن مقدار ما لديه من كهرباء وأنترنت لا يسمح بأكثر من قراءة ملخصات عن ما سبق.

لن يكون مهماً في مثالنا أن هذا السوري محب لكرة القدم أم لا، وربما “في ظروف مختلفة” كان ليشاهد أثناء مباراة المغرب برنامجاً على قناة أخرى عن عالم الحيوان، ثم يكتب على صفحته موبِّخاً الملايين على اهتمامهم بكرة تتناقلها الأرجل. ربما لم يعتد هذا السوري على الاحتفال برأس السنة، أو لم تكن ظروفه المعيشية تسمح له بالاحتفال، إلا أنه من قبل لم يكن يرى في صفحات سوريين آخرين مظاهر احتفالية من مختلف أصقاع العالم، حيث من المرجّح ألا يفكر بهم في تلك اللحظات بوصفهم لاجئين أُجبروا على مغادرة البلاد.

في حقبة انقضت كان يحدث شيء مشابه، عندما كان يوحِّد معظم السوريين إحساسهم بالعزلة والتأخر عن العالم. كان ثمة فرق بين الغالبية الساحقة والقلّة من الأثرياء الذين اكتسبوا الثراء بالسلطة أو بالتحالف معها، بمعنى أن الفجوة لم تكن كما هي اليوم بين ما نتحاشى تقسيمه إلى سوريي الداخل وسوريي الخارج. ولم يكن فيما مضى هناك هذا الارتباط الوثيق الماثل اليوم بسبب انقسام العائلات بين داخل وخارج، وهو ما يخفّف نظرياً وظاهرياً من وطأة الانقسام.

ضمن العائلة المنقسمة بين داخل وخارج، وضمن دائرة الأصدقاء المقرّبين، لن تظهر الآثار السلبية للانقسام بفضل طغيان المشاعر الإيجابية المتبادلة. إن سوريّاً يرى في عيش سوريي الخارج حيواتهم الطبيعية قلّةَ إحساس تجاه معاناته هو ذاته الذي يتمنى ذلك العيش وأكثر لمقرّبين من عائلته أو أصدقائه، إنه يستثني حصته من النقمة على الجهة الأخرى. شيء مشابه نراه من الجانب الآخر عندما يوبِّخ سوري أولئك الذين ارتضوا البقاء تحت حكم الأسد، وساهموا ببقائه، مستثنياً حصته من الأهل والأصدقاء الذين لا حيلة لهم إزاء الواقع!

المحصلة لن نجدها في مجموع الاستثناءات، بل هي فيما يترسخ تجاه الغالبية من الطرف الآخر. المحصلة هي في نظرة سوري من الداخل إلى عموم مَن هم في الجهة الأخرى، إذ يرى فيهم ناجين من المصيدة التي بقي عالقاً فيها، أو متسببين في مواجهة دموية ثم هاربين من عواقبها التي يواجهها من بقوا. وبالطبع تقدّم “معارضة الخارج” تبريرات أكثر من كافية لتُشتَم بوصفها ممثِّلة لسوريي الخارج، ولا نعني هنا أولئك الذين يبحثون أصلاً عن ذرائع خدمةً للأسد فواتتهم الفرصة.

دون إهمال عوامل الالتقاء العديدة بين الداخل والخارج، من الضروري الانتباه إلى التبعات الواقعية للانقسام. على سبيل المثال، اختلف سوريو الخارج في الرأي حول “قانون قيصر” الذي يفرض عقوبات أمريكية على سلطة الأسد، ولم يكن هناك اختلاف مماثل بين سوريي الداخل الذين من موقعهم يرون أنفسهم متضررين من العقوبات التي لن تؤثر على معيشة الأسد وبطانته. اختلافات من هذا القبيل أو سواه ستواجهنا أيضاً بين سوريي الخارج وسوريي الداخل تحت حكم قسد أو الفصائل الأخرى، وفي كل الأحوال لم يجعل تردي الأوضاع المعيشية الداخلَ أقرب إلى الخارج، وفي أحسن الافتراضات لم تحن تلك اللحظة بعد.

لاعتبارات أخلاقية ونفسية، تُطلَق أحياناً دعواتٌ على وسائل التواصل تحضّ على مراعاة مشاعر الأهل في الداخل، خاصة كلما تردّت أوضاع معيشتهم. لكننا نرى في تمرين من نوع “لو كنت من سوريي الداخل” مدخلاً لما هو أبعد من ذلك التبسيط الإنساني، نرى فيه مدخلاً للتفكير بما تسبب ويتسبب به على مختلف الصعد الافتراقُ بين داخل وخارج، وهذا مسار قد يطول زمنياً ليخلّف آثاراً يصعب محوها. هو تمرين فيه أيضاً بعض الأجوبة على التمرين المقابل، والذي لا يبدو مطلوباً: لو كنت من سوريي الخارج.

المدن

———————–

دفتر أحوال سوريا.. نتمنى نيزكاً!!/ ثائر الزعزوع

استأذنت صديقة عزيزة بأن أنقل محادثتها الأخيرة مع والدتها، التي ما زالت تقيم في دمشق، ورفضت محاولات بناتها للخروج، واللحاق بهن إلى منافيهن الجديدة، كانت المحادثة مشحونة بالألم واليأس إلى درجة أنها انتهت بأمنية وحيدة أطلقتها السيدة السبعينية، “نتمنى نيزكاً”…

الأوضاع المأساوية التي يعيشها السوريون، تحت سلطة نظام دمشق، نعجز حقاً عن تصورها، فأرقام سعر الصرف التي نراقبها، بشكل يومي، هي ليست مجرد أرقام، لكنها حياة ملايين البشر، العاجزين تماماً عن البقاء على قيد الحياة، في ظل الظروف المعاشية المهينة التي يعيشونها، فلم يعد القول إن الكهرباء صارت نادرة، أو إن المحروقات صارت حلماً فقط ما يؤرق السوريين، بل إن كيفية الحصول على الخبز من دون إهانات، وطوابير يعد تحدياً وجودياً، ولعل الكثيرين شاهدوا دموع ذلك السوري وهو يتحدث لإحدى وسائل الإعلام بقهر غير مسبوق، عن حلم الطعام، تقول والدة الصديقة، وهي موظفة متقاعدة، إنها باتت تشعر بالإهانة حين تقبض راتبها التقاعدي، فسنوات عمرها التي أفنتها في العمل في القطاع العام، لا تؤمن لها أبسط تفاصيل حياتها، الطعام مثلاً، ولولا ما ترسله لها بناتها من تحويلات، لوجدت نفسها تمد يدها للناس، لتتسول، أي قهر ذاك، ودائماً الكلام على لسان السيدة، الراتب هو عبارة عن كمية كبيرة من الأوراق اللامعة التي لا قيمة لها، نقول الحمد لله أن حالنا أفضل من غيرنا، لكن هذا الكلام مؤلم أكثر، فكيف نستطيع أن نمضغ طعامنا وغيرنا لا يجد قوت عياله!!! نحن نموت في اليوم الواحد ألف مرة، فلماذا لا يهبط ذلك النيزك، وينهي هذه الحياة؟

أتابع، شأني شأن الكثيرين، انهيار العملة المحلية السورية، لكن ذلك الانهيار الذي قد يشكل خبراً في نشرات الأخبار، أو يحتمل تعليقاً من خبير اقتصادي، قد يتضمن مقترحات خيالية للحل، هو أبعد من ذلك بكثير، فهو يخفي خلفه ملايين الجوعى والمحتاجين، الذين لا تفيدهم شيئاً أي تنظيرات، ولا أي اقتراحات، فالواقع مخيف، هكذا حرفياً، وليس مستغرباً أن يقدم أب أو أم على التخلي عن أبنائهما لأنهما، ببساطة، لم يعودا قادرين على إطعامهم، ولهذا فلم يعد مستغرباً أبداً أن يعثر عامل التنظيفات على رضيع في حاوية القمامة، يحدث هذا يومياً، لدرجة أن وسائل الإعلام لم تعد تكترث بنقل مثل هذه الأخبار لأنها صارت أخبارا مكررة، أو لأن أوامر سيادية منعت نشرها، فسوريا، وكما يعلم الجميع، بخير، والأزمة انتهت، كما تبشر بذلك بثينة شعبان المستشارة السياسية لرأس النظام، وهي تطل على الجمهور، وهي تتمتع بصحة جيدة، وقد أجرت على ما يبدو عمليات تجميل لتحافظ على منظرها الشاب، لتبارك لهم صمودهم، وانتصارهم على المؤامرة الكونية.

في التفاصيل أيضاً، أن تقرر الحكومة زيادة العطلة الأسبوعية يوماً، وأن تتوقف منافسات الدوري المحلي لكرة القدم، وهذا كله، للتقليل من استهلاك المحروقات، في حين _وهذا أمر لا يمكن مناقشته_ تواصل أساطيل السيارات التي يمتلكها المسؤولون وأبناؤهم التهام الطرقات، وتضيء المطاعم والفنادق الفاخرة أضواءها للسهرات التي يتم إنفاق ملايين الدولارات فيها، وكي لا يبدو الأمر وكأنه حسد، فإن أولئك المسؤولين مطلوب منهم تحديداً أن يجدوا حلولاً لذلك الخراب الذي يعيشه مواطنوهم.

وفي التفاصيل أيضاً، لا يكلف رأس النظام نفسه عناء مخاطبة مواطنيه، أقله ليشرح لهم أنه سوف يحاول إنقاذهم، أو تخليصهم من هذا الجحيم الذي يعيشون فيه، لكنه، ونظامه، ومع كل أنة تصدر من فم جائع، يصرخون بتعالٍ: هذا الجائع متآمر.. وهذا ما حدث حين ارتفعت أصوات الناس في السويداء، فلم يبحث النظام في ملفاته كثيراً، ولم يبتكر مصطلحات جديدة، بل استعاد المفردات نفسها التي أطلقها على أول صوت هتف مطالباً بالحرية: هذه مؤامرة، وهناك أياد خارجية، وهناك مندسون!!!

وهل يحتاج جائع لأوامر خارجية كي يشعر بجوعه؟

وهل يندس الجوع؟

ينظر السوريون بحسرة إلى القفزة الهائلة التي حققتها دول الخليج العربي، والبون الشاسع الذي بات يفصل بين بلدهم، وبين تلك البلاد التي يصفها نظامهم بأنها بلاد رجعية، ويتساءل مدون ماذا لو أن تلك الأموال التي أنفقت على كأس العالم، مثلاً، قدمت لسوريا؟ فيرد عليه معلق: كانوا سيسرقونها، ويبنون فيها معتقلات وفروع مخابرات.

يحق للسوريين أن يتمنوا نيزكاً ينقذهم من اللاحياة التي تحسب عليهم حياة، فهم لم يعودوا يبصرون ضوءاً في آخر هذا النفق المظلم الذي يعيشون فيه..

أخيراً، أستعير من الراحل رياض الصالح الحسين هذا التكثيف المدهش:

“يا سوريا التعيسة كعظمة بين أسنان كلب”.

تلفزيون سوريا

———————–

النظام السوري يجمّل وسط دمشق ومحيطها غارق في المستنقعات والنفايات

فيما البلاد تعاني من انهيار اقتصادي وظروف معيشية قاهرة

دمشق: «الشرق الأوسط»

في وقت تواظب حكومة النظام السوري على تقديم وتحسين الخدمات في أحياء وسط دمشق والأحياء القريبة منها، يعاني سكان مناطق محيط العاصمة من الإهمال، إذ تمتلئ شوارعها بالحفر ومستنقعات مياه الأمطار والصرف الصحي عند هطول أمطار غزيرة، عدا عن غرقها ليلاً بظلام دامس يُصعب على المارة السير فيها ويعرضهم إلى أخطار شتى.

وفي ظل غرق مناطق واسعة من العاصمة السورية في الظلام بسبب عدم توافر التيار الكهربائي، يكاد لا يمر أسبوع إلا وتعلن فيه محافظة دمشق، عبر صفحتها على «فيسبوك»، عن تركيب عشرات أجهزة الإنارة بالطاقة الشمسية في شوارع الأحياء الراقية، مثل باب توما، القصاع، أبو رمانة، المهاجرين، المزة، وتنظيم كفرسوسة والمزرعة والشاغور والميدان والزاهرة… والساحات العامة (الأمويين، العباسيين، التحرير، عرنوس، باب مصلى وشمدين وغيرها). إضافة إلى ذلك، تشمل خدمات المحافظة الدورية لتلك الأحياء إعادة تعبيد العديد من الشوارع الرئيسية والطرق الفرعية والجادات وتنظيفها بشكل يومي وشطفها مرات عدة في الأسبوع وتنظيف المصارف المطرية فيها، وصيانة أرصفتها عند الحاجة.

ولا يغيب عن محافظة دمشق الاهتمام بالجانب الجمالي والبيئي لتلك الأحياء والمناطق. فحفاظاً على المساحات الخضراء، تتابع ورشات مديرية الحدائق التابعة للمحافظة أعمال زراعة النباتات والتشجير للحدائق العامة والمساحات الخضراء وتقليم الأشجار والصيانة العامة للحدائق.

وفي الوقت الذي تعاني فيه البلاد من انهيار اقتصادي وظروف معيشية قاهرة لعدم توافر مواد الطاقة والمحروقات، واضطرار الحكومة إلى التعطيل لمدة 9 أيام مستغلة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، فاجأت محافظة دمشق السوريين، عشية عيد الميلاد، بإعلانها في بيان أنه ستتم إزالة ساحة «السبع بحرات» التي تعد إحدى أهم ساحات العاصمة، بزعم تجديدها وتحويلها إلى «شكل أكثر جمالية بمنظور حضاري حديث».

وأثار قرار المحافظة استياء وسخرية بعض السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأن تصميم الساحة كان جميلاً أصلاً، في نظرهم، كما أن تجديدها ليس من الأولويات في مدينة غارقة في الظلام، فيما الغلاء الفاحش ينهش سكانها ونقص المشتقات النفطية يشلل حركة السير فيها ويقطع أوصالها.

في المقابل، لاحظت «الشرق الأوسط» في جولة قبل أيام على عدد من أحياء محيط العاصمة أن شوارعها الرئيسية والفرعية وجاداتها تغرق بالوحول بسبب انسداد فتحات الصرف الصحي والمصارف المطرية وعدم وجود أرصفة يسير عليها المواطنون، إضافة إلى انتشار الحفر الكبيرة والمتوسطة فيها بكثافة وتحولها إلى مستنقعات من الأوحال. كما لوحظ تراكم القمامة في الحاويات وعلى جوانبها لدرجة أن بعضها لم يعد يُشاهد لكثافة القمامة التي تحيط بها مع انسياب مياه قذرة ذات رائحة كريهة إلى الطرقات من تحتها.

ورغم الانقطاع شبه التام للتيار الكهربائي عن تلك الأحياء، إذ يصل برنامج التقنين فيها إلى 10 ساعات فصلاً، ونصف ساعة وصلاً، تخلو طرقاتها من أجهزة الإنارة بالطاقة الشمسية ويخيم عليها ظلام دامس في معظم ساعات الليل.

«أ.م» وهو رجل في العقد السابع من العمر ويعيش مع ابنه لوحدهما في منزل يقع شرق دمشق، واعتاد أن يصلي صلاة الفجر في المسجد القريب من بيته، روى لـ«الشرق الأوسط» ويده مجبورة بالجص ومعلقة في عنقه، مدى الصعوبة التي يعاني منها للوصول إلى المسجد الذي لا يبعد عن منزله أكثر من 100 متر. قال: «في ساعات الفجر المرء لا يرى أمامه على بعد نصف متر من شدة الظلام، وكل يوم آخذ معي الموبايل لأنير أمامي، لكنني قبل أيام نسيته في المنزل وتابعت الطريق فعتثرت مرات عدة بالحفر، وكنت في كل مرة أتمكن من عدم السقوط على الأرض، إلى أن تعثرت بحفرة كبيرة مليئة بالوحل وسقطت على الأرض ولم أستطع الوقوف من شدة الألم في ساقي وساعدي… إلى أن جاء أحد المارة واستنجدت به وقام بإسعافي إلى أقرب مشفى ليتبين أن يدي اليسرى كُسرت بينما أُصيبت ساقي برضوض».

أما الشاب «س. ق»، فشكا من أنه «حتى في ساعات النهار لا يستطيع المرء السير بشكل عادي في شوارع وأسواق الأحياء» الواقعة جنوب دمشق، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن المارة أثناء هطول الأمطار الغزيرة «يجبرون أحياناً على الغوص في مستنقع كبير بعرض الطريق، وفي بعض الشوارع توجد في داخل المستنقع أحياناً حفرة أو حفر كبيرة لا يراها الناس وبالتالي يقعون بها»، يعلق الشاب على هذه الحال بالقول: «كلما يتقدم الأهالي بطلبات للمحافظة من أجل تحسين الخدمات يتحجج المسؤولون بعدم وجود ميزانية… على ما يبدو كل الموازنة يخصصونها للأحياء الراقية فهناك يعيش بشر ونحن هنا لسنا بشراً بنظرهم».

——————————-

=======================

تحديث 18 كانون الثاني 2023

——————————–

شرعية الأسد: منحة دولية أم نتيجة فعالية داخلية؟/ غازي دحمان

الأصل في شرعية أي نظام سياسي مقبولية المحكومين له، وهذه تتأتّى من فعاليته، التي بدورها حصيلة أدائه على أكثر من مستوى وقطاع، في مقدمها: تأمين الحماية والأمن للمحكومين، وتوفير الخدمات الأساسية والسلع الضرورية، بالإضافة إلى اعتباراتٍ معنويةٍ من نوع حفظ كرامة المواطنين بالابتعاد عن الاستبداد ومحاربة الفساد. .. وهذه قواعد معيارية للشرعية معروفة في كل زمان ومكان، تكاد تتفق عليها أغلب النظريات السياسية، والاختلاف أحيانا في ترتيب مصادر الشرعية، وليس في طبيعتها. وبناء على ذلك، أساس الشرعية داخلي، ودور المجتمع الدولي هو المصادقة على خيارات الشعوب وقراراتها، حتى الشرعية الثورية التي سادت في فترة معينة، وهي شرعية الانقلابات، جرى إخضاعها لقاعدة الفعالية، بمعنى أن الانقلابيين إما قدموا خدماتٍ لقيت صدى إيجابيا لدى قطاعات واسعة من المواطنين، أو قاموا بتغييرات كان لها مفعول مهم في تطوير المجتمع وتغييره، واستحقّوا، بناء عليها، الشرعية الدولية، وإنْ بحذر أحياناً كثيرة.

ما الذي يمتلكه بشّار الأسد من هذه المواصفات حتى يجري الحديث عن شرعنته، أو إعادة شرعيته، التي لم تكن في الأصل موجودة إلا بوصفها شرعية أمر واقع؟ الغرض مما يجري الآن من حراك باتجاه نظام الأسد بناء شرعية لا يستحقّها، فجميع المعطيات السورية تؤكّد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الأسد صانع الخراب الذي يحكمه ويتربّع على عرشه، وأن سورية تحوّلت، بالفعل، إلى نموذج بشع للدولة الفاشلة، وهو نموذجٌ غير مسبوق في التاريخ.

المفارقة في حالة نظام الأسد أنه نفسه تخلّى عن شرعيته الواقعية بملء إرادته وبوعي كامل منه، رفض إدارة الأزمة التي واجهته، والممثّلة بالثورة الشعبية ضدّه، بالمنطق السياسي، لم يبال بمسألة الشرعية، بل وضعها على الرفّ، لاعتقاده أن الأولوية للقضاء على الثورة الشعبية، وأنه يفضّل أن يكون نظاماً مارقاً على أن يُقدّم تنازلاتٍ للثائرين عليه تحدّ من سلطاته وتكبّل يديه في حكم البلاد، ولم يكن ذلك مخطّطاً سرّياً، بل كشفت عنه مستشارة الأسد، بثينة شعبان، منذ بدايات الثورة، حينما سُئلت عن تأثير الإدانات الدولية على النظام، قالت إن المهم الآن إنهاء هذه الأوضاع ثم سنجد الطريقة لتغيير الصورة.

إذاً، هذا النظام الذي تحوّل إلى عصابة، وكان ذلك من مستلزمات القضاء على الثورة، هل يواري سكاكينه خلف ظهره ويقدّم للعالم يدا بقفّازات حريرية تغطي آثار دماء الشعب السوري؟ المشكلة لا، ما زالت العصابة على السلوك نفسه ويستحيل أن تتغير، ما زالت تقتل في شمال سورية الأطفال، وفي جنوبها تغتال معارضيها وتتاجر بالمخدرات، وفي جميع أنحاء سورية تقتل، في أحيان كثيرة على الهوية، داخل سجونها كل من تشكّ بمعارضته لها، حتى إنها لا تكلف نفسها عناء التخفيف من ممارساتها الإجرامية ليستطيع الآخرون تجميل صورتها، أو على الأقل جعلها مقبولةً في الأوساط الخارجية.

تستند عصابة الأسد في إصرارها على موقفها الغريب هذا، على معطيين، تعتقد أنها يحكمان المعادلة السورية الحالية، ويشكّلان أساسا لمقاربة الأطراف الخارجية. الأول: انعدام البدائل الوطنية، بسبب اجتثاث القوى المدنية والسياسية، أو بسبب تشرذم المعارضة وضعفها وانعدام فعاليتها على جميع الصعد، وظهورها مجرّد ذراع لتركيا. الثاني: اضطرار العالم الخارجي الرضوخ للواقع الراهن في سورية عبر المفاضلة بين الأسوأ والأقل سوءا للمصالح الإقليمية والدولية.

ولكن المسألة لن تقف عند حد فتح قنوات تواصل مع عصابة الأسد، بل يستلزم الأمر إعادة بناء رواية جديدة للحدث السوري، إذ يصعب على العالم الخارجي الاعتراف بالهزيمة أمام نظام رفض جميع مطالب البيئتين، الإقليمية والدولية، وأجبرهم، في النهاية، على التعاطي معهم، سواء لأنهم وجدوا انه قد يحقّق مصالحهم، بطريقة أو أخرى، أو لأنهم يريدون الخروج من وضع مأزقي لم يستفد منه أحد.

بناء الرواية أيضا ضرورة لإدماج نظام الأسد في النظامين، الإقليمي والدولي، وتفكيك قوائم العقوبات ضده، وهذا يعني تحويل الصراع إلى مجرّد تمرّد وتحويل الارتكابات إلى مجرّد أخطاء صغيرة، وإذا كان من الصعب تصديق رواية العصابة، فقد يتم اللجوء الى اعتبار كل الروايات خاطئة، على اعتبار أن الظرف الذي صيغت فيه الروايات كان استثنائيا، ويستحسن عدم التوقف عنده. لكن ماذا عن نتاج هذه الروايات، ماذا عن ملايين القتلى والمهجّرين والمعاقين ودمار نصف البلاد، أليست هذه وقائع من دم وأجساد وعمران؟ أليست هذه تفاصيل الرواية ومداميكها؟

هل يملك الطرف الآخر، المعارضة السياسية، والنشطاء والمجتمع المدني، وجيوش الإعلاميين في الخارج التأثير على الحراك الهادف إلى صناعة شرعية للأسد؟ الواقع أن جميع الأطراف التي تسعى إلى شرعنة الأسد تُقبل على هذا الأمر بخفر، ولا تبدي اندفاعا صريحا لهذه المهمة. ومن المؤكّد أن إدراكها قذارة العصابة المارقة هو ما يخفّف من اندفاعها، لكن المشكلة أيضا أن الطرف المقابل، والمقصود به المعارضة، بائس إلى حدود غير معقولة، إلى درجة أن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عقد من المشاورات والاجتماعات بهدف استرجاع مخصصاته المالية أكثر بكثير مما صرفه من وقت لمواجهة التحولات الخطيرة في الملف السوري، كما أن مئات المنابر للمعارضة ليست سوى تجمّعات استعراضية، وربما كيدية، في مواجهة منابر أخرى.

العربي الجديد

————————

مصير العقوبات على سورية/ فاطمة ياسين

بانتهاء ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن الحالية ينتهي “قانون قيصر” تلقائياً، إذ يتضمن فقرة تفيد بأن مفاعيله ستتوقف بعد انقضاء خمس سنوات على تاريخ سنّه، وهو 20 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وقد التزمت إدارة دونالد ترامب بالقانون الذي صدر برعايتها، ثم جاء بايدن وبدا عليه الإصرار أيضاً على التمسّك به. وقالت إدارته، أكثر من مرة، إنها ستكون جادّة حيال الدول التي تخرقه، وكان الاستهداف، بشكل رئيسي، لجهود إعادة الإعمار التي حاولت روسيا إطلاقها، ونجحت في جرّ بعض الدول العربية إلى تبنّي الفكرة، وقد مشت بعضها خطواتٍ إلى الأمام في هذا الأمر، ولكن جدّية بايدن وتلويحه بتنفيذ القانون خفّفا من زخم المحاولات، من دون إجهاضها تماماً، خصوصاً أن خلافات خليجية أميركية قد طفت على السطح بشأن مواضع الطاقة، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، لكن إدارة بايدن تبدو (إلى حينه) رافضة دمج النظام السوري مرّة أخرى في المجتمع الدولي، كما تبدو راغبةً بالاستثمار في الضعف الاقتصادي السوري لاستنزاف روسيا أكثر، حيث تعتبِر روسيا سورية من مناطق النفوذ التي لا يمكن خسارتها، ونهضتها الاقتصادية وإعادة عمرانها تفيدان روسيا بشكل مباشر، وهي تتعهد ميناء طرطوس مدة طويلة، وهو منفذ تدخل منه نسبة كبيرة جدّاً من الواردات.

بادرت الولايات المتحدة إلى معاقبة سورية بشكل سريع، فقد كانت أول دولة تُعلن عقوبات على النظام بعد اندلاع الثورة، فأصدرت إدارة أوباما عقوبة ذات شكل رمزي في 29 إبريل/ نيسان 2011، وذلك بحظر ممتلكات بعض الشخصيات والكيانات السورية، ماهر الأسد وعلي مملوك وعاطف نجيب، وعلى إدارة المخابرات العامة، ثم توالت العقوبات بسرعة حتى وصلت، بحلول مايو/ أيار 2012، إلى خمس عقوبات، ألحق بها جداول شملت أسماء مسؤولي النظام وكياناته المختلفة، كما تضمّنت بعض كيانات المعارضة، وخصوصاً ذات الطابع الإسلامي منها. استطاع النظام، بمساعدة حلفائه في إيران، ابتلاع كل تلك العقوبات التي لم تؤثر بشكل حاسم، فالشخصيات والكيانات المذكورة لم تكن على علاقة مباشرة مع الولايات المتحدة، لكن الموقف الأميركي استمرّ واضحاً في تصريح أوباما الذي كرّره مرات عدة، أن الأسد فقد شرعيته وعليه المغادرة. رغم هذا التأكيد، وافق أوباما، بعد وساطة روسية، على تفكيك ترسانة النظام الكيميائية، بدلاً من ضربها، ما يعكس حيرة سياسية وإحجاماً عن المبادرة، وقد مدّ هذا في عمر النظام طويلاً، فالعقوبات كانت ذات طابع سياسي، ولم تؤثر كثيراً على وضعية النظام في الاستمرار بالحكم.

حين حلّ موعد تطبيق قانون قيصر، كانت خطوط التماسّ قد عرفت، وهدأت الجبهات، وكان على النظام وحلفائه التوقف للعق الجراح، الأمر الذي أربك الوضع الاقتصادي بشدّة، وتدهورت قيمة العملة السورية حتى وصلت قيمة الدولار إلى أكثر من ستة آلاف ليرة سورية، وما زال التهاوي مستمرّاً. ولكن ذلك كله لم يشكل خطورة حقيقية على بقاء النظام. أما قانون قيصر الذي سينتهي بحلول عام 2024، فقد أسهم في توقيف إعادة الإعمار، ومع انتهاء مفعوله سنكون في مواجهة ثلاثة احتمالات: أن يُعاد انتخاب بايدن، وهذا سيساهم في انهيار الاقتصاد السوري أكثر، من دون أن يؤثر على وضعية النظام، أو أن يأتي ترامب من جديد بما لديه من علاقات غامضة مع بوتين، مع إصرار على استمرار الضغط الاقتصادي على النظام الأسدي. كما يمكن أن تأتي إدارة جمهورية جديدة ترغب بتقليب الصفحات، وهذه ربما تمنح النظام فرصة أخرى، وخصوصاً مع موجات دفع عربية وإقليمية باتجاهه، من دون الوصول إلى مرحلة التطبيع الكامل معه. ويقع التعويل الحقيقي على السوريين إن كانوا قادرين على تحمّل المزيد، أم أن موجة جديدة من الانتفاضات في الداخل أو التحرّكات المختلفة خارجياً، يمكن أن تغير الأوضاع فعلياً.

العربي الجديد

—————————

إيران تهدد بشار الأسد بالصقيع/ أمل عبد العزيز الهزاني

أسوأ ما أصاب سوريا والسوريين هو التوغل الإيراني في بلادهم منذ حوالي عقد من الزمان. لمسات الإيرانيين في كل بلد دخلوا إليه لا تخفى على أحد؛ دمار وشراء ذمم وفساد، والأهم هي المحاولات المستميتة لاقتلاع الهوية الوطنية للأهالي، تجريدهم من الانتماء لأسباب عقائدية أو مالية. سوريا مسكونة بالإيرانيين والدواعش والروس والأكراد الأتراك، كل منهم يقف على جهة إنائه، لكن الوجود الإيراني هو الأسوأ نظراً لروابط التعاون التي تربطهم بكل الأطراف الدخيلة الأخرى.

كتبت صحيفة «وال ستريت جورنال» الأميركية عن موقف إيراني جديد وحاد ضد النظام السوري، يتمثل في: لا نفط رخيص، ولا نفط قبل الدفع مقدماً. شروط صعبة على النظام، ما سببها ودواعيها؟

كانت إيران تمنح نظام بشار الأسد النفط بنصف سعر السوق، 30 دولاراً للبرميل، وبتوقيت دفع مرن، ومعظمه بالديْن، الآن تحول الموقف اللين إلى الشدة. الدافع الاقتصادي حاضر بلا شك، لكن أيضاً هناك بداية خلاف في وجهات النظر للملفات الإقليمية. الجانب الاقتصادي بحكم الضغوطات الاقتصادية على إيران وأزمة الطاقة العالمية وحرب أوكرانيا وتراجع توقعات الحسم في ملف إيران النووي، كل هذه الأسباب التي أثرت على العالم من مخاوف عدم ضمان استدامة إمدادات الطاقة، انعكست بشكل أكثر تأثيراً على إيران التي تعاني أصلاً من العقوبات. ومع الاحتجاجات المستمرة منذ أشهر، يضيق الخناق أكثر على أصحاب القرار في طهران.

تقدم إيران لسوريا 2 مليون برميل نفط شهرياً، لا يسد كل احتياجاتها لكنه أساسي، خصوصاً خلال فصل الشتاء. كل نقص يؤثر في هذا التوقيت الصعب، لكن الضغط على الحليف الأسد إشارة إلى شرخ ما في العلاقة بين الحليفين التاريخيين. لنتذكر أن سوريا كانت مع الإيرانيين قبل بشار الأسد، وفي حرب أكثر شراسة كالتي دامت بين صدام حسين والخميني ثمانية أعوام، سوريا داعمة لإيران ضد العراق عسكرياً وإعلامياً. هذه استراتيجية حافظ الأسد الذي كان يعتقد أنه يرى ما لا يراه الآخرون في النظام الإيراني. لكن لا دوام لحال، بشار الأسد استمع من وزير الخارجية الإيراني أمير حسن عبد اللهيان إلى ما لا يسره، في زيارته لدمشق قبل يومين. ستمتنع طهران عن إرسال شحنات النفط الشهرية إلى دمشق ما لم يتم الدفع مقدماً، والدفع المضاعف، حوالي 70 دولاراً للبرميل. مع ذلك إيران تبدو أكثر غضباً على بشار الأسد، ومدفوعة لموقفها هذا بدوافع سياسية تتناول ملفات إقليمية. التقارب التركي السوري مؤخراً لم توافق عليه طهران، وهو تقارب بعد عداء لم يأتِ في صالح السوريين في المقام الأول، لأن الشمال السوري منذ سنوات وهو في حالة احتراب بين الأتراك والأكراد، وكأن النظام في دمشق غير معني. أساس فكرة غزو إيران لأي دولة هو تكبيل يدها عن اتخاذ أي قرار، محو سيادتها، اليمن ولبنان والعراق أمثلة واضحة.

بشار الأسد يحاول على أقل تقدير إبقاء الوضع على ما هو عليه من دون مزيد من الانهيارات، لذلك يبحث تسوية مع الأتراك بوساطة روسية، والاتفاق على محاربة عدوهما المشترك، في الشمال، وهي القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة. وقد يكون هذا التقارب السوري التركي دلالة على أن التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية تفرض مراجعة للعلاقات المتوترة منذ بداية الحرب الأهلية. وأيضاً لا ننسى أن الروس والإيرانيين لم يكونوا على ود خلال تقسيمهم للكعكة السورية، رغم أن موسكو أنقذت الاثنين؛ بشار الأسد والنظام الإيراني، من السقوط المحقق.

اليوم العلاقة الروسية الإيرانية تأخذ طابعاً مختلفاً بحكم الحرب الأوكرانية، فطهران تزود موسكو بطائرات من دون طيار، بالمقابل موسكو تبحث عن مشترٍ لطائرات «سوخوي»، وطهران مستعدة للشراء رغم سوء أحوالها.

ملفات متشابكة عنوانها العريض «عسكرة وسط نظام اقتصادي دولي متعثر».

في حال نفذت طهران تهديدها وأوقفت بيع النفط الرخيص لدمشق، ما الخيارات أمام الأسد؟ البحث عن مصدر آخر في المنطقة: تركيا، الجزائر، مصر، لديها مصادر طاقة، لكن اقتصادياتها غير متعافية لتقوم بالتضحيات. الدول التي تقاوم الضغوطات الاقتصادية، وتبدو أنها تقف على أرضية صلبة، هي دول الخليج، وربما الإمارات العربية المتحدة التي بادرت بتحسين علاقتها مع بشار الأسد يمكن النظر إليها كخيار له اعتباراته، رغم أنه أيضاً غير مرضٍ لطهران التي تهدد الأسد بالصقيع في العلاقة معها، والصقيع بشح الطاقة.

* نقلا عن “الشرق الاوسط”

————————

لماذا كل هذا الخوف عند المعارضين السوريين من “التعافي المبكر”؟/ عماد كركص

شهدت عمليات التجديد الأخيرة لآلية إدخال المساعدات الأممية إلى سورية، إقحام مصطلح “التعافي المبكر” أو “الإنعاش المبكر”، في نصّ قرار التمديد. وكان المصطلح حاضراً بالتشديد عليه في نصّ القرار الأخير الذي توصل إليه مجلس الأمن الدولي، ووافق عليه بالإجماع، الاثنين الماضي، عندما جدّد الآلية لمدة 6 أشهر، علماً أن مدة التجديد السابقة (التي كانت لستة أشهر أيضاً)، انتهت الثلاثاء الماضي، أي في العاشر من شهر يناير/ كانون الثاني الحالي.

“الإنعاش المبكر” عملية مستدامة من التعافي

وبحسب ما يشرح “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي”، على موقعه الإلكتروني، فإن مصطلح “الإنعاش المبكر” أو “التعافي المبكر”، هو مقاربة لمعالجة احتياجات التعافي التي تبرز خلال مرحلة الاستجابة الإنسانية لأي حالة طوارئ، من طريق استخدام الآليات الإنسانية التي تتوافق مع مبادئ التنمية.

ويسمح هذا النهج، بحسب البرنامج الأممي، للناس، بالاستفادة من العمل الإنساني، لاغتنام الفرص الإنمائية وتطوير نوع من المقاومة، وإنشاء عملية مستدامة للتعافي من الأزمة. وبحسب البرنامج الأممي، فإن التعافي المبكر هو في الوقت ذاته أمران: مقاربةٌ للاستجابة الإنسانية تُركّز عبر التنسيق المعزّز على تقوية القدرة على التكيف وإعادة التأهيل، وتعزيز القدرات، والمساهمة في حلّ المشاكل المزمنة التي فاقمت الأزمة، عوضاً عن زيادتها. كذلك إن مبدأ التعافي المبكر، بحسب برنامج الأمم المتحدة للتنمية، من ناحية ثانية، هو حزمة من الأعمال المبرمجة المحددة لمساعدة الناس في الانتقال من الاعتماد على المساعدات الإنسانية إلى التنمية.

ويشدّد البرنامج، على أن “التعافي المبكر ليس أبداً مجرد مرحلة، بل هو عبارة عن عملية تعافٍ متعددة الأبعاد تبدأ في الأيام الأولى من الاستجابة الإنسانية”. كذلك فإنها مقاربة “تعني التركيز على الملكية المحلية وتعزيز القدرات، واختيار التدخلات بناءً على فهم عميق لظروف الأزمة لتصحيح أسبابها ومكامن الخلل من الجذور، وكذلك النتائج المباشرة للأزمة، مع تقليص الأخطار والترويج للمساواة وتجنب التمييز من خلال الالتزام بمبادئ التنمية التي تسعى إلى بناء البرامج الإنسانية وتحفيز فرص التنمية المستدامة”، بحسب البرنامج.

ويهدف التعافي المبكر، أيضاً، إلى “خلق عمليات استجابة ذاتية مرنة وبملكية وطنية لمرحلة ما بعد التعافي من الأزمة، ووضع إجراءات استعداد للتخفيف من آثار أي أزمات مستقبلية”.

تأويلات واسعة لإدخال المساعدات إلى سورية

وبناءً على ذلك، فإن مصطلح التعافي المبكر، في قرار مجلس الأمن، يرمز إلى مبدأ واسع التأويلات ويملك مروحة من الخيارات والنشاطات التي يمكن تنفيذها تحت إطار تقديم المساعدات للشعب السوري أو الجزء الأكبر منه المتضرر من الحرب، ولا سيما في مناطق سيطرة المعارضة السورية في الشمال. غير أن أنشطة التعافي المبكر التي أصرّ الروس على تضمينها في قرارات التجديد الثلاثة الأخيرة، لا تزال تستهدف المناطق التي يسيطر عليها النظام، ما يسهم في تأهيل بعض المؤسسات الخدمية أو مشاريع تلك المؤسسات التابعة لبنية النظام ومؤسساته الحكومية بشكل أو بآخر. 

وينص قرار التمديد الأخير 2672 (2023) على أن مجلس الأمن “يرحب بجميع الجهود الجارية، ويحثّ على تكثيف ما يتخذ من مبادرات إضافية من أجل توسيع نطاق الأنشطة الإنسانية في سورية، بما في ذلك مشاريع الإنعاش المبكر الهادفة إلى توفير المياه وخدمات الصرف الصحي والرعاية والتعليم والمأوى والكهرباء، حيثما كانت ضرورية، لاستعادة إمكانية الحصول على الخدمات الأساسية التي تضطلع بها المنظمات الإنسانية، ويدعو الوكالات الإنسانية الدولية الأخرى والأطراف المعنية إلى دعمها”. 

وتكمن الخشية في أوساط المعارضة السورية من التشديد على إقحام التعافي المبكر في قرارات إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية، بكونه يشكل غطاءً لعملية إعادة الإعمار التي يسعى النظام للبدء بها وتأهيل مؤسساته الخدمية والحكومية من خلالها، والإيحاء بانتهاء الحرب السورية لصالحه. 

ولا تزال دول غربية، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، تصر على عدم البدء بعملية إعادة الإعمار في سورية حتى الانتهاء من الحرب وفق المخرجات الأممية للحل السياسي، ولا سيما بتطبيق القرار 2254 لعام 2015، الذي لم يتوصل المجتمع الدولي حتى الآن إلى تطبيق أي من بنوده الرامية إلى إنهاء الحرب، ما زاد معاناة السوريين طوال 12 عاماً من الحرب المستمرة. 

وكان مجلس الأمن الدولي قد اعتمد في عام 2021 مبدأ “التعافي المبكر” في سورية، أي “توفير المياه وخدمات الصرف الصحي والرعاية الصحية والتعليم والمأوى”، وهو ما يحاول الجانب الروسي الاستفادة منه للتحايل على العقوبات المفروضة على النظام. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، تخصص موسكو قسماً من المساعدات الدولية لدعم النظام اقتصادياً. 

وانتقد فريق “منسقو استجابة سورية” الذي يرصد الأحوال الإنسانية في الشمال السوري، مضامين قرار التمديد، معتبراً أن النظام “هو المستفيد الأكبر من زيادة أنشطة التعافي المبكر”. ودعا الفريق المنظمات الإنسانية والمجتمع الدولي إلى “إيجاد حلول بديلة إضافية خلال المرحلة المقبلة، وذلك لغياب أي حلول سياسية للملف السوري حتى الآن”. وأشار إلى أن استمرار دخول المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس هو بمثابة “إعادة الشرعية للنظام السوري ورضوخ للمطالب الروسية”. 

وأجاز مجلس الأمن الدولي في عام 2014 توصيل المساعدات الإنسانية إلى مناطق تسيطر عليها فصائل المعارضة في سورية من العراق (اليعربية) والأردن (الرمثا) ونقطتين في تركيا (باب السلام وباب الهوى)، لكن موسكو وبكين، اللتين تتمتعان بحق الفيتو في المجلس، قلّصتا ذلك إلى نقطة حدودية تركية واحدة (القرار رقم 2533 لعام 2020)، وهي معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا في شمال غرب سورية. كذلك نجحت روسيا بتفعيل آلية إدخال المساعدات عبر الخطوط، أي من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق سيطرة المعارضة، وهو ما يتيح أيضاً للنظام التحكم جزئياً بعملية تمرير المساعدات إلى مناطق المعارضة أو العبث بحجمها. 

البعد الإنساني أداة سياسية

يلفت المستشار الاقتصادي أسامة قاضي، إلى أن التعافي المبكر يأتي دوره عقب انتهاء الصراع أو الحرب الأهلية، بمعنى عند توقف فوهات المدافع، ولدى إقرار الحل السياسي يكون التعافي المبكر بديلاً لتقديم المساعدات للنازحين أو المتضررين من الحرب أو الصراع. ويشير قاضي، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن “التعافي المبكر جهد محلي ودولي لإعادة تأهيل البنية التحتية ووضع اللبنات الأساسية لإعادة بناء الدولة والمجتمع (بعد الحرب)، ولا سيما من الناحية المادية”. 

وبرأيه، إن البعد الإنساني للتعافي المبكر يستخدم منذ سنوات من قبل الأمم المتحدة كأداة سياسية لخدمة أهداف هذه المنظمة التي تريد تعويم النظام وإعلام العالم بأن الأزمة في سورية انتهت، وأن عمليات التعافي قد بدأت بانتهاء الحرب. 

ويؤكد قاضي أن التعافي المبكر لا يأتي والقصف الروسي مستمر، وقد استهدف معملاً للغاز قرب معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا (مارس/ آذار 2021). ويشدد المستشار الاقتصادي على أنه “لا يمكن اللجوء إلى هذا المبدأ مع القصف المستمر على مناطق إدلب وأرياف حلب، بما في ذلك مخيمات النازحين”، متهماً الأمم المتحدة بأنها “تتجاهل الكارثة الحالية والمستمرة لتذهب باتجاه البدء بالتعافي المبكر، لتبدو كما وأنها انتهت من الحل السياسي وعليها مساعدة الدولة القائمة في تعافيها المبكر”. 

ويكشف قاضي أن خطط التعافي المبكر شملت على سبيل المثال، بناء 40 بيتاً بلاستيكياً في طرطوس الساحلية، وهي منطقة لم تشهد أي تضرر من صراع الحرب السورية، وأساساً هي منطقة تقطنها غالبية سكّانية موالية للنظام، وبالتالي إن برامج التعافي المبكر يكون وسيكون للنظام قرار فيها بالإشارة إلى مناطق تنفيذها، وضمن شبكة الفساد سيكون تحديد الأولويات في تخصيص مساعدات التعافي المبكر بيد سلطات النظام. 

ويشير قاضي إلى أنه في ظلّ الدمار الذي تعرضت له مناطق سيطرة المعارضة وانتشار عشرات المخيمات في الشمال السوري، سيكون من الصعب الحديث عن البدء بعملية التعافي المبكر، معتبراً أن الترويج للتعافي المبكر، محض خيال ودعاية تخدم أهدافاً سياسية.

من جهته، يرى الخبير القانوني محمد صبرا، أن تمديد آلية إيصال المساعدات العابرة للحدود أمر حيوي وضروري لملايين السوريين الذين يعيشون في شمال سورية والذين يفتقدون أي تدفقات مالية مستمرة تكفي لسد احتياجاتهم الخدمية والمعاشية. ويعتبر صبرا أن “هذه الآلية التي استطاعت روسيا ابتزاز مجلس الأمن عبرها، وتقليصها من 4 نقاط وصول إلى نقطة واحدة، هي معبر باب الهوى، تبقى السبيل الوحيد والضروري لإرسال بعض المساعدات المعيشية”.

ويشير الخبير القانوني في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن محاولات الروس والنظام للاستيلاء على بعض الأموال المخصصة للمساعدات الإنسانية تحت مسمى “التعافي المبكر”، تأتي من حقيقة فقدان النظام للأموال اللازمة لتغطية تكلفة الخدمات وإعادة تشغيل البنية التحتية في المناطق التي يسيطر عليها. ويذكّر صبرا في هذا الإطار، بأن النظام يوجه كل الأموال المتاحة له للاستمرار في تغذية آلته العسكرية، بينما يترك المواطنين السوريين الذين يقطنون في المناطق الواقعة تحت سيطرته تحت سيف العوز والاحتياجات الأساسية من ماء وكهرباء ورعاية صحية. 

ويشير صبرا إلى أن تسويق روسيا لمصطلح “التعافي المبكر”، ارتبط بنهاية العمليات العسكرية الكبيرة في شمال سورية ووسطها وجنوبها، وذلك يعود في حقيقته إلى أنه على هامش العمليات العسكرية، كان النظام يستفيد من جزء كبير من الأموال، ولا سيما من العملة الصعبة (الدولار الأميركي)، التي كانت ترسل إلى الفصائل العسكرية، حيث يعلم الجميع وجود خطوط تجارة نشطة بين مناطق النظام ومناطق سيطرة الفصائل العسكرية في شمال سورية وشرقها وجنوبها.

ويلفت صبرا في هذا الصدد، إلى أن وقف التدفقات المالية للفصائل، أسهم إلى حد كبير بتقلص الأموال التي كانت تتسرب إلى النظام عبر خطوط القتال، ولذلك تحاول روسيا والنظام الاستيلاء على الأموال المخصصة لإغاثة ضحايا التهجير والقتل الذي مارسه النظام، وتحويلها لدعم قدرات النظام المالية على الاستمرار في معركته. 

ويشدّد صبرا على أن هذا الأمر “مشين”، لأن تخصيص جزء من أموال المساعدات الضرورية لحياة الناس، إلى مؤسسات النظام تحت عنوان التعافي المبكر، يمثل في جوهره تقديم مساعدة من الباطن للنظام، ليستطيع أن يبقي على الكتلة النقدية المتاحة تحت يديه في تمويل مجهوده الحربي، بينما تتولى الأمم المتحدة والمانحون توفير ما يلزم لتشغيل مؤسساته الخدمية. ولهذه الأسباب، يمكن، بحسب الخبير القانوني، اعتبار مصطلح التعافي المبكر وسيلة احتيالية لدعم قدرات النظام المالية، مشدّداً على أن “لا علاقة للتعافي المبكر بالحل السياسي أو بتوفير البيئة اللازمة لإطلاق عملية سياسية جادة”.

العربي الجديد

——————————–

تمديد المساعدات الإنسانية 6 أشهر…ماذا يفعل السوريون بعدها؟/ كارمن كريم

يبدو اسم معبر “باب الهوى” رومانسياً لو سمعه شخص لا يدرك أهميته بالنسبة إلى السوريين، وكأنه رمز لمكان يسوده الحب والراحة، لكن للأسف، باب الهوى هو المعبر الوحيد المتبقي لإيصال المساعدات الإنسانية للعالقين في سوريا.

“السوريون بحاجة إلى مساعدتنا أكثر من أي وقت مضى. يُرجى التبرع الآن”. العبارة التي ترد في نهاية صفحة برنامج الأغذية العالمي، أشبه بصرخة استغاثة أخيرة واختصار لمأساة الجوع التي تقف على أبواب السوريين، ويتأملها العالم عاجزاً أمام القوى السياسية المتصارعة.

معبر باب الهوى هو واحد من أربعة معابر حدودية إلى سوريا، لكنه الوحيد الذي تدخل عبره  المساعدات الإنسانيّة دون إذن النظام السوري، المعبر الذي كان محط اشتباكات لسنوات للسيطرة عليه، اتُفق على تحييده عن الصراع، ليخضع حالياً لسيطرة “المعارضة السورية”.

راهناً، قرر مجلس الأمن تمديد دخول المساعدات الإنسانية إلى سوريا عبر باب الهوى دون إذن النظام السوري لستة أشهر إضافية، القرار أشبه بنجاة موقتة لملايين الناس في الشمال، لكن ماذا بعد الستة أشهر؟ هل ستبقى حياة السوريين معلقة “بنعم أو لا” يقولها السياسيون؟

يرى رئيس النظام السوري بشار الأسد أن المساعدات تعرقل جهود حكومته في استعادة الأجزاء الأخيرة الخاضعة لسيطرة المعارضة، أما روسيا فتصرّ على ضرورة مرور المساعدات الإنسانية عبر دمشق، ما يتيح للنظام التحكم بالمساعدات وحصرها بمؤيديه، ما يعني زيادة الضغط المعيشي على جزء كبير من السوريين، بخاصة في إدلب والشمال السوري.

رحبت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد بقرار مجلس الأمن الدولي، وأشارت إلى أن مدة التجديد كان يجب أن تمتد لعام كامل، لا 6 أشهر فقط، موضحة أن الاحتياجات تعم جميع أنحاء سوريا، وهي الآن أكبر مما كانت عليه في أي وقت مضى،  فباب الهوى أشبه بشريان النجاة الأخير للسوريين، يستقبل شهرياً بين 600 إلى 800 شاحنة محملة بمساعدات إنسانية متنوعة مقدمة من منظمات دولية تدخل عبر تركيا إلى إدلب.

روسيا توافق على مضض

جاء مشروع القرار ضمن خطة الإحاطة بالملف الإنساني السوري لعام 2022 التي قدمها العضوان السابقان في مجلس الأمن، أيرلندا والنرويج، وبرغم حجم المأساة السورية، لا يناسب  تمديد المساعدات الجانب الروسي الذي وافق على مضض، إذ وصف المندوب الروسي فاسيلي نيبينزيا قرار التجديد بالصعب. وتدعي موسكو  أن الغرب يشيد بجهودها في إيصال المساعدات الإنسانية إلى سوريا، ويتجنب قضية أخرى مزعجة للغاية وهي العقوبات الأحادية التي تؤثر سلباً في السوريين العاديين.

يرى نيبينزيا أن العقوبات هي العامل الرئيسي وراء تدهور الوضع الإنساني. وعلى رغم استغلال الجانب الروسي العقوبات، ورمي كل المصائب عليها، لكن يجدر بالذكر أنها تمسّ السوريين، بينما لا تهدد النظام السوري بشكل جذري.

لا “حياة” في سوريا

جوع، برد، حصار، وافتقار لأبسط وسائل الحياة، هذا ما يعانيه جميع السوريين ببساطة، لا وقود للتدفئة ولا غاز للطبخ ولا كهرباء للإنارة، الليرة تنهار، المعابر مغلقة قسراً، تضييق هو الأقسى منذ سنوات، ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ارتفع عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية إلى 14.6 مليون شخص خلال عام 2022، بزيادة 1.2 مليون شخص مقارنة بالعام الماضي، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 15.3 مليون شخص في عام 2023.

تعزى هذه الزيادة في أعداد المحتاجين لمساعدات إنسانيّة  إلى أسباب منها  وباء “كوفيد- 19” وانخفاض قيمة الليرة السورية ونقص الوقود، فضلاً عن تحديات الوضع السياسي والاقتصادي. وقال مارتن غريفيثس، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ: “لم نرَ مثل هذه الأرقام منذ بداية الأزمة في سوريا عام 2011″، مشيراً إلى أن أكثر من 12 مليون شخص، أي أكثر من نصف السكان يكافحون من أجل وضع الطعام على المائدة، وحذّر من إمكانية أن ينزلق ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص إلى حالة انعدام الأمن الغذائي.

برنامج الأغذية عاجز أمام احتياجات السوريين

يحتاج برنامج الأغذية العالمي إلى 784.4 مليون دولار أميركي حتى أيار/ مايو 2023، هذا النقص في التمويل ينعكس على أرض الواقع، إذ ارتفعت قيمة سلة الغذاء التي يقدمها برنامج الأغذية العالمي بنسبة 8.5 في المئة في نهاية عام 2022، مقارنة بشهر أيلول/ سبتمبر من العام ذاته، لتصل إلى 357593 ليرة سورية أي نحو 118 دولاراً وفق سعر الصرف الرسمي. وليس هذا وحسب، إذ إن السلة الغذائية نفسها خضعت لتخفيضات بمحتوياتها على مدار السنوات الثلاث الماضية، ويأتي هذا التخفيض نتيجة محدودية الموارد وزيادة انعدام الأمن الغذائي. يذكر أن السلة الغذائية تحتوي على البرغل والأرز والحمص والعدس الأحمر والسكر والطحين والزيت النباتي والملح وكان يبلغ وزنها عام 2020 حوالى 77 كلغ، بينما أصبحت في أيار من العام الفائت نحو 44 كلغ بعد أربع مرات من التخفيض.

يعتبر الشمال السوري من أكثر المناطق التي تعاني، إذ تشير تقديرات مختلفة إلى أن عدد سكان إدلب يبلغ قرابة أربعة ملايين شخص، بينهم أكثر من 1.7 مليون شخص يعيشون في مخيمات النازحين، فيما يعتمد معظم السكان على المساعدات الإنسانية التي يأتي معظمها عبر معبر “باب الهوى”. تفاقمت الأوضاع سوءً مع تفشي الكوليرا في سوريا وسط انعدام الخدمات التحتية ووسائل النظافة.

 لا يبدو المستقبل أقل قتامة، إذ قال وكيل الأمين العام إن توقعات التمويل العام لسوريا غير مشجعة، وقد تلقت خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2022 تمويلاً بنسبة 43 في المئة فقط وهو أقل من نصف الاحتياجات.

طرحت منظمة “التحالف الأميركي للإغاثة من أجل سوريا” التي تضم منظمات الإغاثة السورية داخل الولايات المتحدة، ومجموعة المحامين البريطانيين المدافعين عن حقوق الإنسان التي يطلق عليها اسم “غيرنيكا 37″، مبادرة أشارت إلى أن حتمية الحصول على إذن من مجلس الأمن الدولي لإيصال مساعدات عبر الحدود، قضية قابلة للتأويل، إذ لا يوجد قانون إنساني دولي يمنع الوكالات الأممية من الانتقال عبر الحدود السورية إلى جزء غير خاضع لسيطرة الحكومة السورية.

درج

—————————

رئيسي في دمشق.. إيران لا تخشى على نفوذها/ إياد الجعفري

في حين يتم كتابة هذه السطور، تجري التحضيرات على قدمٍ وساق، لاستقبال الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في أول زيارة رسمية لرئيس دولة إلى العاصمة السورية دمشق، منذ اندلاع الثورة عام 2011. وباستثناء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى دمشق، في منتصف العام 2020، لم يسبق أن زار رئيس دولة، العاصمة السورية على مدار الـ 12 عاماً الفائتة. ولم تحظَ زيارة بوتين المشار إليها بالبروتوكولات المعتادة لزيارة رئيس دولة، إذ التقى بوتين رأس النظام السوري، بشار الأسد، في منشأة عسكرية، ولم يزره داخل “قصر الشعب”. ومن المرتقب أن يختلف المشهد في زيارة رئيسي، وأن تحظى هذه الزيارة ببروتوكولات الزيارات الرسمية لرؤوساء الدول، بطريقة ستعزّز من صورة رأس النظام، بدمشق، وتكون مثقلة بالرسائل السياسية لباقي اللاعبين الإقليميين والدوليين في الشأن السوري. وبالتزامن معها، سيزور رئيسي، العاصمة التركية أنقرة. وهناك سيطول النقاش، دون شك، ذاك المقعد الإيراني المُنتظر على طاولة “التقارب” التركي مع الأسد، برعاية روسية، وشراكةٍ إماراتية.

زيارة رئيسي المرتقبة إلى دمشق، تأتي فيما تواجه إيران جملة تحديات إقليمية. إذ يؤجج الدخول الإماراتي على خط “التطبيع” التركي مع الأسد، من المخاوف داخل النخبة الإيرانية، من أن تكون طهران في طريقها لخسارة “استثماراتها” القتالية لنحو عقدٍ من الزمن، في سوريا. يأتي ذلك، في حين تثقل الاحتجاجات الداخلية كاهل الإدارة الإيرانية، التي بدت عاجزة عن انتشال حليفها، الأسد، من أسوأ أزمة محروقات شهدتها البلاد، قبل أسابيع. ورغم استمرار التوريدات النفطية الإيرانية، إلا أنها أشبه بإسعافات أولية للاقتصاد السوري المنهار، وهو ما دفع محللين غربيين في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى للدعوة في تقريرٍ نُشر في 22 من كانون الأول/ديسمبر الفائت، إلى استغلال المشهد، والدخول على خط التعثر الاقتصادي الكبير للنظام السوري، بغية تحصيل تنازلات من الأسد، لقاء تخفيف أزمة المحروقات.

وينسجم المقترح المشار إليه مع جانبٍ من استراتيجية الإمارات حيال سوريا، والتي كانت بدورها، منسجمة مع خطة سابقة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، سبق أن طرحها وعمل على تجنيد موافقة مبدئية روسية – أميركية حيالها، منذ ثلاث سنوات. تقوم تلك الخطة على إعادة تأهيل النظام السوري، عبر مراحل. تبدأ بإصدار الأسد دعوةً لانسحاب كلّ القوات الأجنبية من سوريا. مقابل ذلك، سيستعيد الأسد مقعد سوريا في الجامعة العربية، وستفعّل دول خليجية، في مقدمتها الإمارات، استثماراتها في الاقتصاد السوري، بغية تخفيف النفوذ الإيراني في هذا المجال. وكان المسؤولون الإسرائيليون يدركون أن الأسد لن يستطيع إخراج إيران من سوريا، بقدراته الذاتية، لكنهم كانوا يراهنون على خليطٍ من التحرك السياسي، والضربات العسكرية، لدفع طهران إلى التراجع، خاصة إن نُزعت “الشرعية” عن الوجود الإيراني في سوريا. وقد حظيت خطة نتنياهو حينها، بدعم دول عربية لها علاقات مع إسرائيل، أبرزها، الإمارات.

لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي اللاحق، نفتالي بينيت، قرر تجميد العمل على تنفيذ الخطة، معتبراً إياها غير قابلة للتحقيق، لقناعته بأن الأسد ليس قادراً على طرد الإيرانيين من سوريا. وقد حاول الرئيس الإماراتي –ولي العهد في حينها- محمد بن زايد، إقناع بينيت في لقاء بشرم الشيخ، في ربيع العام الفائت، بإعادة إحياء الخطة ذاتها، بعيد استقبال الأسد في أبو ظبي. لكن بينيت بقي حيادياً حيال خطة إعادة تأهيل النظام السوري.

ومع عودة نتنياهو إلى سدة الحكم مجدداً، كان لافتاً زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق، بصورة مفاجئة، سبقها اتصالٌ عقده مع نظيره التركي، بعيد لقاء موسكو الذي جمع مسؤولي الدفاع والاستخبارات في نظام الأسد وتركيا، برعاية روسية. وبالإشارة إلى الرعاية الروسية، كان لافتاً أيضاً، أن وزير الخارجية في حكومة نتنياهو الجديدة، أطلق تصريحاً مفاده أن “إسرائيل ستكون أقل علنيّةً في الحديث بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا”.

وهكذا يتم إحياء المسارات السابقة ذاتها، فـ نتنياهو سيراهن على علاقته الشخصية المميزة مع بوتين، مجدداً، لترميم الفتور الذي اعترى علاقات بلاده بموسكو، خلال فترة غيابه القصيرة عن السلطة، في الوقت ذاته، الذي تقوم فيه الإمارات بتحركٍ نحو نظام الأسد، يراهن على انهياره الاقتصادي كرافعة لتقديمه تنازلات تتيح العمل على تنفيذ خطة إعادة تأهيله إقليمياً. ولا بد أن أبوظبي تراهن على الدور الإسرائيلي في تليين المعارضة الأميركية على هذا الصعيد.

لكن هل تملك حكومة رئيسي في طهران خطة سياسية لمواجهة هذا التحدّي الإقليمي الذي يشكل خطراً على مصالحها في سوريا؟ بخلاف المتوقع، ومن خلال الخطاب السياسي للرئيس رئيسي منذ وصوله إلى السلطة، والقائم على “ضرورة الارتباط والتنسيق مع دول الجوار ورفع التبادلات التجارية”، تراهن حكومة طهران، المدعومة من الحرس الثوري، على نهجٍ مخالف لحكومة حسن روحاني، السابقة. فالأخيرة كانت تراهن على اتفاق نووي مع الولايات المتحدة، وعلاقات مميزة مع الغرب، تتيح لإيران أن تتحول إلى قوة إقليمية تحظى بقبولٍ دولي. فيما يراهن رئيسي ورفاقه على التموضع إلى جانب كل طرف يناهض الغرب، وتحديداً، الولايات المتحدة الأميركية. لذلك يذهب الرئيس الإيراني نحو تمتين العلاقة مع روسيا. وكذلك مع الدول التي تبدي استقلالية وتريد العمل بهامش حركة أكبر، بعيداً عن “الهيمنة الأميركية”، وفي مقدمتها، تركيا، وكذلك الإمارات. الأخيرة تحديداً، تراهن على وضع قدمٍ مع “الشرق”، وآخر، مع “الغرب”.

وبناء على ما سبق، من المتوقع أن يسعى رئيسي في زيارته إلى أنقرة، للانسجام مع “التطبيع” التركي مع الأسد، بل ودعمه. وخلافاً لمن يعتقد أن ذاك “التطبيع” قد يأتي على حساب المصالح الإيرانية في سوريا، من المرجح أن تعمل طهران على استثماره بالاتجاه المعاكس. بل والانفتاح على الدخول الإماراتي على خط “التطبيع” مع الأسد، وانتشاله اقتصادياً. فالرئيس الإيراني يراهن على النفوذ الذي تملكه بلاده داخل “التركيبة” الحاكمة في دمشق. وهو نفوذ تجاوز خط العودة، ولا يملك بشار الأسد القدرة على عكسه، حتى لو أراد. وفي مواجهة التماشي الإيراني المرتقب مع مسار “التطبيع” والعمل على “إعادة تأهيل الأسد”، تبقى الممانعة الأميركية والأوروبية، وعدم الترحيب القطري – السعودي، عاملاً يطرح تساؤلات حول الأفق الذي قد يصل إليه، ذاك المسار. فهذه الأطراف لا تبدو مقتنعة مطلقاً، بأن إيران، قابلة للنزع من سوريا، في ظل نظام الأسد.

تلفزيون سوريا

—————————-

====================

تحديث 31 كانون الثاني 2023

——————————-

بعد كل ما حدث؛ بشار الأسد

ترجمة: نزار أيوب

انتهت الحرب في سورية، وخرج منها نظام بشار الأسد ممسكًا بزمام الأمور. لكن النظام منهك، ويفتقر إلى القوة والموارد، ويصعب عليه فرض سيطرته على البلاد. وفضلًا عن ذلك، لا يزال لحليفتيه روسيا وإيران حضور ونفوذ في البلاد.

لكن على الرغم من ضعف النظام السوري، لا يوجد بديل واضح للعيان له. هذا الأمر مسلّمٌ به من قبل جميع اللاعبين السوريين الداخليين، بالإضافة إلى الإقليميين والدوليين الذين باتوا مستعدّين الآن لتجديد الحوار معه، ومنحه الاعتراف والشرعية.

لن تستعيد سورية قريبًا مكانتها التي كانت عليها قبل اندلاع الحرب، في حين نجا بشار الأسد من الحرب، ويعمل على استعادة السيطرة على البلاد. وهذا يعني أنه سيكون على إسرائيل، وعلى اللاعبين الآخرين في المنطقة -عاجلًا أم آجلًا- إيلاؤه الاعتبار مجددًا، في رسم سياساتهم بشأن المسألة السورية، وفي ما يتعلق بتصرفاتهم على أرض هذه الدولة.

مقدمة

شكلت الحرب الأهلية الدموية التي اندلعت في سورية طوال العقد الماضي تهديدًا وجوديًا للنظام السوري، وهددت نظام بشار الأسد، ووجود الدولة السورية التي يرأسها. لكن في النهاية، بفضل انخراط روسيا وإيران في المعارك، نجا بشار الأسد من الحرب وبقي في كرسيه، في حين أن “معسكر الثوار”، وبشكل أدقّ، مئات مجموعات المسلحين الذين قاتلوه، وتقاتلوا في كثير من الأحيان مع بعضهم البعض، هُزِموا في ساحة المعركة، وتشتتوا في كلّ مكان.

لكن الانتصار الذي حققه النظام في دمشق هو انتصار منقوص؛ فالنظام السوري منهكٌ وضعيف، ويفتقر إلى القوى البشرية والموارد الاقتصادية، ويعتمد إلى حد بعيد على تبعيته لروسيا وإيران، اللتين تسعيان إلى ضمان وجودهما في سورية، ومواصلة التحكم فيها. وغنيّ عن الذكر أنّ عملية استعادة الأمن والاستقرار في جميع أنحاء البلاد، وكذلك عملية إعادة تأهيل الاقتصاد السوري التي ترتبط بالدرجة الأولى بقدرة نظام الأسد على ضمان دعم السكان على المدى الطويل، تبقى بعيدة المنال.

هل يسيطر بشار على سورية؟

يتمثل ضعف النظام السوري في حقيقة أن ربع الأراضي السورية تقع خارج سيطرته؛ ففي شرقي البلاد، حيث توجد معظم حقول النفط وحاضنات الحبوب، أنشأ الأكراد حكمًا ذاتيًا برعاية الولايات المتحدة، التي لها وجود عسكري أيضًا في منطقة “التنف” الواقعة في جنوب شرق سورية.

وتسيطر فصائل مسلّحة، معظمها تتبع للسلفية الجهادية بقيادة هيئة تحرير الشام، على محافظة إدلب شمال غربي البلاد، وهي تتمتع بحماية من تركيا. وفيما تحتفظ تركيا بوجود عسكري على طول الحدود المشتركة بين البلدين، فإنها تدعم الجماعات المتمردة التابعة للجيش السوري الحرّ.

أخيرًا، تواصِلُ خلايا تنظيم (داعش) نشاطها في أطراف المناطق السكنية، في جنوب سورية وشرقيها، وتواصل شن عمليات إرهابية ضد قوات النظام السوري. ويستدلّ من ذلك على أن هزيمة التنظيم وانهيار الخلافة التي أقامها لم تفضِ إلى القضاء على سلطته، ولم تؤدّ إلى اختفائه، بل أعادته على الأغلب إلى وضع ما قبل تأسيس نظام الخلافة.

يحتفظ النظام السوري بسيطرة جزئية وليست كاملة، حتى في أجزاء البلاد التي تخضع لسلطته قانونيًا. ويرجع ذلك إلى الوجود الروسي والإيراني على الأراضي السورية، فضلًا عن استمرار نشاط الجماعات المسلحة التي تعمل في معظم الأحيان تحت رعاية ودعم طهران وموسكو. وهكذا، يسيطر النظام على المراكز الحضرية الرئيسية، وعلى طرق المرور الرئيسية والمعابر الحدودية، فيما يواجه صعوبة في الحفاظ على السلطة الفعلية، في المناطق الريفية والنائية التي كانت بؤرة الاحتجاجات وأعمال الشغب ضدّه، على مدار العقد الماضي.

السؤال الذي يطرح نفسه بطبيعة الحال: هل يحكم بشار سورية ويفرض سلطته عليها، أم أنه حاكم لا حول له ولا قوة خارج حدود قصره، أم أنه حاكم دمية في يد روسيا وإيران؟! يُطرح هذا السؤال في إسرائيل بطريقة مغايرة قليلًا، وذلك انطلاقًا من المصلحة الإسرائيلية في ما يتعلق بهذا البلد: هل لدى بشار القدرة على دفع أقدام إيران ومنظمة “حزب الله” إلى خارج سورية، أو على الأقل الحدّ من أنشطتهما في البلد؟

الصراع على سورية على الساحتين الإقليمية والدولية وانعكاساته الداخلية

أدى التدخل الخارجي في الشأن السوري إلى استمرار الحرب الأهلية، وهو يُسهم حاليًا في تخريب جهود إعادة السلام والهدوء إلى البلاد وإعادة وقوفها على قدميها. وعلى عكس آمال النظام وحلفائه، أفضى الحسم في ساحات القتال في سورية، بدرجات متفاوتة، إلى زيادة التدخل الأجنبي فيها، واشتداد الصراع بين القوى الإقليمية والدولية العاملة على أراضيها في معرض سعي هذه القوى للسيطرة عليها.

الصراع بين روسيا والولايات المتحدة: يتجسد الصراع بين واشنطن وموسكو أيضًا على الأراضي السورية. وعلى الرغم من إعلان الرئيس ترامب عزمه سحب القوات الأميركية من سورية، فإنه تراجع عن هذا الإعلان، وحافظ على الوجود العسكري الأميركي في البلد. إدارة الرئيس الأميركي بايدن عبّرت عن موقفها بأنها ليست عازمة على إنهاء الوجود الأميركي في سورية، لكن سحب قواتها من أفغانستان، والانسحاب المتوقع للمستشارين العسكريين من العراق، يثيران الشكوك حول أن الانسحاب من سورية سيأتي في مرحلة ما. في غضون ذلك، يشكل الوجود الأميركي على الأراضي السورية مصدر احتكاك مع كل من روسيا وإيران. هذه الأخيرة كانت قد هاجمت بواسطة وكلائها (الميليشيات العراقية الشيعية الموالية لإيران) مواقع أميركية في منطقة التنف في جنوب سورية، وذلك كرد على عمليات القصف الإسرائيلي في المجال السوري العراقي.

تركيا: سعت إلى الاستفادة من الأزمة في سورية، وكذلك من ثورات الربيع العربي في تونس ومصر، ولاحقًا في ليبيا، لتصبح لاعبًا إقليميًا له مكانة ونفوذ في العالم العربي، ولهذا السبب ما زالت تقدّم المساعدة للجماعات الإسلامية، ومنها تلك التي تعمل في شمال سورية. ومع ذلك، يستهدف التدخل العسكري التركي في سورية بشكل أساسي منع إقامة منطقة حكم ذاتي على الحدود بين تركيا وسورية.

ولهذه الغاية، شرع الأتراك في سلسلة من العمليات العسكرية: درع الفرات في آب/ أغسطس 2016، وغصن الزيتون في كانون الثاني/ يناير 2018، ونبع السلام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتي كانت تهدف إلى منع الأكراد من تحقيق التواصل الإقليمي من الشرق حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وإلى إبعادهم عن منطقة عفرين في شمال غرب سورية، التي حوّلوها إلى شبه منطقة عازلة خاضعة لسيطرة الثوار السوريين الموالين لتركيا. في آذار/ مارس 2020، أطلق الأتراك عملية درع الربيع، وواجهوا قوات الجيش السوري ومقاتلي حزب الله الذين حاولوا السيطرة على محيط إدلب، بتشجيع من روسيا.

من هذا المنطلق، يمكن الافتراض أن تركيا ستواجه صعوبة في الحفاظ على وجودها العسكري على الأراضي السورية لفترة طويلة، لعدة أسباب، من بينها، عدم تلقي الدعم من الجمهور التركي في الداخل، إضافة إلى إمكانية التوصل إلى حل مرض بخصوص المسألة الكردية، مما سيفضي إلى تقليل الوجود التركي في سورية. ويشار إلى أن انسحاب القوات الأميركية من سورية قد يوقع الأكراد بين المطرقة التركية وسندان بشار الأسد، وقد يشجعهم على العودة إلى حضن النظام في دمشق، الذي لم يقطعوا صلاتهم به حتى في ذروة المعارك في البلاد.

الصراع بين إسرائيل وإيران: استغلت إسرائيل الفرص التي أتيحت أمامها خلال الحرب في سورية، لشن عمليات عسكرية لا ترقى إلى درجة الحرب، بمواجهة إيران وحزب الله، والتي درجت العادة على تسميتها في اسرائيل “الحملة بين الحروب”؛ إذ نفذت إسرائيل سلسلة طويلة من الهجمات الجوية، استهدفت عمليات نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله، ثمّ منع توحيد الحرس الثوري الإيراني والميليشيات السورية الشيعية الفاعلة على الأراضي السورية، إضافة إلى إفشال مشروع حزب الله إنتاج صواريخ طويلة المدى، أكثر تطورًا ودقة في الإصابة.

هذه الهجمات مستمرة حتى اليوم. وقد أكدت إسرائيل، مرارًا وتكرارًا، أن هذه التحركات تستهدف إيران، وليست موجهة ضد النظام السوري. ويبدو أن اسرائيل ما زالت “تؤمن” ببشار، بل إنها تعتبر استمرار حكمه خيارًا مفضلًا بالنسبة إليها، باعتباره “الشيطان المألوف”. كما تأمل إسرائيل أن يؤدي الضغط الذي تمارسه على بشار، من خلال الهجمات المتكررة على الأراضي السورية، إلى إرغامه على إخراج الإيرانيين من سورية بتشجيع من الروس.

روسيا وإيران – حلفاء أم أصحاب البيت؟

روسيا وإيران ليستا فقط جزءًا من حلّ أزمة النظام السوري، بل هما في الواقع جزء من المشكلة. ويرتبط وجودهما العسكري في سورية بتلبية أطماعهما ومصالحهما في البلاد، وبقدر ما ساعد هذا الوجود النظامَ في الاستمرار، فإنه أصبح عاملًا مثبطًا، يحول دون تمكن النظام من الوقوف على قدميه.

تسعى روسيا إلى جني مكاسب سياسية من وراء تدخلها في سورية، مما سيسمح لها بتعزيز مكانتها وصورتها، والحصول على أوراق مساومة بمواجهة منافسيها، وبشكل خاص الولايات المتحدة. لكنها تسعى أولًا وقبل كل شيء إلى تحويل سورية إلى قاعدة أمامية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى كسب أرباح اقتصادية من خلال السيطرة على مصادر الطاقة وحقول النفط والغاز الموجودة في البلاد.

وتأمل إيران في تحويل سورية إلى قاعدة أمامية ضدّ خصومها، وتحديدًا إسرائيل والولايات المتحدة، وهي ترى في سورية مركزًا مهمًّا في الجسر البري الذي تعمل على إنشائه من إيران مرورًا بالعراق ووصولًا إلى لبنان. وقد وضع الإيرانيون في سياق ذلك أنظمة قتالية، منها طائرات مسيرة وأنظمة دفاع جوي متطورة وصواريخ، على الأراضي السورية، واستقدموا ميليشيات شيعية (فاطميون، وحيدريون، وزينبيون) ممن جندتهم إيران في أفغانستان وباكستان والعراق. كان الهدف من وراء ذلك مساعدة النظام السوري في قتاله ضد المتمردين، ولكن الهدف من ذلك على المدى الطويل هو خدمة المؤسسة الإيرانية في سورية، بل هنالك من يزعم أن الإيرانيين يعملون على توطين مقاتليهم على الأراضي السورية، وعلى نشر التشييع بين العلويون في البلاد وبين السنّة أيضًا. ومن الأهمية بمكان التأكيد على حقيقة أن إيران تستهدف التحكم في الاقتصاد السوري، أسوة بالروس.

روسيا لا تخفي توجسها في ما يتعلق بالجهود التي تبذلها إيران لترسيخ أقدامها في سورية، والتي من شأنها أن تقوض الوضع الهش في البلاد، وأن تفضي إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل. ولا تخفي إيران بدورها شكوكها حول أن روسيا تتعمد تجاهل الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية على الأراضي السورية، أو حتى تمنح موافقتها الضمنية لتنفيذ مثل هذه الضربات، وأن موسكو قد تمدّ يدها إلى إسرائيل والولايات المتحدة في سياق خطوة سياسية تجبر إيران على الخروج من سورية.

هذا الواقع من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف النظام السوري، ويمنحه في الوقت نفسه القدرة على المناورة بين رعاته الروس والإيرانيين. ويبدو أنّ بشار يعطي أولوية واضحة للتحالف مع موسكو، إلا أنه مصمم على الحفاظ على حرية التصرف حيالها. وكدليل على ذلك فقد عوّق أو أفشل مبادرات طرحتها روسيا على الساحة الدولية، كانت تهدف إلى تحقيق تسوية سياسية، تملي عليه القبول بحلول وسط وتقديم تنازلات. في الواقع، لا يزال بشار بحاجة إلى إيران، ويعتبر أن من المهم الحفاظ على العلاقات معها، لأن الإيرانيين، إلى جانب حزب الله، كانوا أول من حشدوا لصالحه، عندما اندلعت الحرب في سورية. في الوقت نفسه، يسعى إلى تقليص الوجود الإيراني في سورية لعدة أسباب، منها الضغط العسكري الذي يمارس عليه من قبل إسرائيل في هذا الشأن. وعلى سبيل المثال، وردت تقارير من سورية مفادها أن بشار الأسد عمل على عزل قائد القوات الإيرانية في سورية جواد غفاري، بسبب “نشاطه المفرط” ضد إسرائيل.

جدير بالذكر أن الروس ليس لديهم مصلحة في السيطرة المباشرة على أراضي سورية، وكل ما يريدونه هو إعادة الاستقرار إلى البلاد، وتعزيز قوة النظام المركزي الذي يعوّلون من خلاله على تعزيز مصالحهم في سورية، دون الحاجة إلى وجود عسكري واسع، يمكن أن يغرقهم في المستنقع السوري. وعلى عكس الروس، تسعى طهران للسيطرة المباشرة على المنطقة نفسها، اعتقادًا منها أن الواقع الفوضوي السائد في سورية يخدمها فعلًا في سعيها لتحقيق هذا الهدف.

النظام السوري من الداخل – الحاضر الغائب: من علامات ضعف الجيش السوري، أن سيطرة النظام في عموم سورية هي فعليًا سيطرة بعيدة عن أن تكون كاملة، وفي أحيان كثيرة هي رمزية وناقصة. وبحسب التقديرات، فإن حوالى ثلث القوات التي خدمت فيه عشية القتال، أي أقل من مئة ألف جندي نظامي، يخدمون فيه اليوم. ويعمل العديد من حملة السلاح المدرجين في “قائمة متلقي الرواتب” من قبل النظام، كجزء من القوات شبه النظامية أو حتى الميليشيات، ممن يعتبر ولاؤهم للحكومة المركزية، ولمقر قيادة الجيش في دمشق فضفاضًا؛ إذ يتصرف العديد من قادة وحدات الجيش على أنهم “أمراء حرب” (warlords) منغمسون -الآن بعد أن انتهت الحرب ضد المتمردّين- في النضال، من أجل السيطرة والنفوذ في الأماكن التي يصطفون فيها ضد زملائهم وقادة وحدات الجيش والميليشيات الأخرى.

بذل الروس جهودًا كبيرة بهدف تحسين الكفاءة العملياتية للجيش السوري وتقوية سيطرته، فضلًا عن تجهيزه بأنظمة من الأسلحة المتطورة. وقادوا عملية إعادة تنظيم هيكل الجيش، وأنشؤوا وحدات جديدة تابعة مباشرة للقادة الروس الذين بإمكانهم التأثير فيها إلى حد كبير. لكن على الرغم من الجهود التي تبذلها موسكو، لا يزال الجيش السوري يفتقر إلى الكفاءة العملياتية للعمل ضد إسرائيل أو تركيا من ناحية، أو ضد خصومه في الداخل من ناحية أخرى، سواء كان تنظيم (داعش) أو الجماعات المسلحة الأخرى التي تواصل نشاطها في المناطق الخاضعة لسيطرتها الفعلية.

سورية – الصراع على الحكم: في مواجهة هذا الواقع المعقد، يعمل النظام بصبر وبتصميم، ليُحكم مرة أخرى قبضته على البلد بأكمله. مثال على ذلك جنوب سورية (التي تعتبر منطقة حساسة بسبب قربها من الحدود مع الأردن وإسرائيل). حيث هناك وجود روسي وإيراني في المنطقة، إضافة إلى وجود حزب الله، والجماعات المسلحة التي لا تزال تنشط هناك، كما الحال في مناطق شاسعة من سورية. قبِل النظام في البداية استمرار نشاط الجماعات المسلحة، التي غالبًا ما كانت تحظى برعاية روسية، ولكنه عندما شعر بأن الظروف مهيأة للعمل ضد هذه الجماعات، شرع في تحركات عسكرية مصممة لهزيمتها، بعد تلقي الضوء الأخضر والمساعدة من الروس. مثال على ذلك، عودة قوات النظام في صيف 2021 إلى مدينة درعا، التي انطلقت منها شرارة الأحداث قبل عقد من الزمن.

بعد كل هذا، ما زالت قوات النظام ضعيفة وتفتقر إلى القوى البشرية، فضلًا عن العزم والدافع للعمل على إعادة فرض سيطرة “اليد الحديدية” على المنطقة الجنوبية من سورية. وعلى الرغم من أنّ الجماعات المسلحة ألقت أسلحتها وتوقّفت عن قتال النظام، فإنها في نهاية المطاف انبثقت عن قوى اجتماعية محلية -عائلات وعشائر وقبائل- ما زالت تشكل مركبًا مهمًا في حياة المجتمع، حيث يتعين على النظام أن يأخذها على محمل الجد.

الدولة والمجتمع والاقتصاد: إلى جانب استعادة النظام قوته العسكرية والسيطرة على أراضيه، عمل على إعادة تأهيل مؤسسات الدولة، وبالتالي استعادة سلطته الأمنية، وبدرجة أقل النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي من خلاله يسيطر على السكان. إلا أن الموارد الاقتصادية لكل من النظام السوري وحلفائه روسيا وإيران شحيحة، ولا تتوفر لديهم الموارد المطلوبة لاستعادة البنية التحتية الاقتصادية للبلاد، ولا حتى لتلبية الاحتياجات المعيشية الأساسية لمواطنيها.

المعلومات المتوفرة تفيد بأن حوالى ثلثي السكان أو أكثر يعيشون تحت خط الفقر، وبمقدار 1.90 دولار في اليوم، أي أقلّ من دولارين، فيما نسبة البطالة بين السكان تفوق 50%. وقد أصبح الواقع الاقتصادي لهذه الأزمة أكثر حدة خلال عام 2020 في ظل أزمة كورونا، وكذلك العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الحكومة الأميركية (قانون قيصر في حزيران/ يونيو 2020). ولم تكن المساعدة التي قدمتها إيران وروسيا من النفط الإيراني والقمح الروسي كافية.

لكن الدولة السورية لم تنحدر إلى واقع الفوضى الكاملة، لأن مؤسسات الدولة لم تنهر، والنظام مستمر في الحفاظ على نظام خدمات في المراكز الحضرية الكبيرة بشكل خاص، حتى لو كانت ضئيلة، فيما تعمل مؤسسات الدولة بشكل جزئي. يجب أن نتذكر أيضًا أن سورية، حتى قبل اندلاع القتال، كانت دولة عالم ثالث ضعيفة، ودولة فاشلة، ذات مستوى معيشي منخفض، حيث كان معظم سكانها تحت خط الفقر.

وبالفعل، فإن الواقع الحالي -مهما كان صعبًا- أفضل في نظر الإنسان السوري العادي من واقع الخطر الدائم على الحياة الذي عاشه خلال المعارك. ومع ذلك، فإن استمرار الأزمة قد لا يؤدي على المدى الطويل إلى تخريب جهود النظام لاستعادة سيطرته على البلاد فحسب، بل يحمل معه أيضًا إمكانية أن يفضي ذلك إلى زعزعة الاستقرار الهش من جديد.

قضية اللاجئين: تجدر الإشارة إلى أنّ مصير الملايين من اللاجئين السوريين الذين فرّوا من بلادهم لا يؤرق النظام، ويبدو أنه مقتنع بأنه تخلّص من مشكلة اقتصادية، ومن الخطر المحدق بأمنه. وقد استغل النظام حالة الاستقرار النسبي ليمارس سلطته، لجأ إلى إصدار أوامر وتشريعات تعوق عودة اللاجئين إلى منازلهم، وتمنعهم من استرداد ملكياتهم. وكان الروس هم الذين سعوا دون جدوى إلى الترويج لإعادة اللاجئين إلى سورية، ربما بدافع الرغبة في محاولة كسب تأييد الولايات المتحدة والدول الأوروبية لتحركات موسكو في سورية من أجل ضمان الاستقرار في البلاد.

كل هذه الممارسات مرتبطة بالميزان الديموغرافي بين الطوائف في البلد، حيث إن معظم اللاجئين هم من المواطنين السنّة من أبناء المناطق الريفية والنائية، حيث اندلعت الاحتجاجات ضد النظام. وفقًا للتقديرات، ما زال في سورية اليوم ما يقرب من 17 مليون شخص: إذ يوجد حوالى 10 ملايين في الأراضي التي يسيطر عليها النظام، وحوالى أربعة ملايين في محافظة إدلب (معظمهم من السنة)، وثلاثة ملايين آخرين في مناطق الحكم الذاتي الكردي (معظمهم من الأكراد). هذا يعني أن نسبة السنة في سورية بشار الأسد انحدرت إلى حوالى 55٪ فقط مقارنة بنحو 70٪ قبل الحرب، فيما تضاعفت نسبة العلويين تقريبًا إلى حوالي 22٪.

بعد كل شيء، بشار الأسد: على الرغم من ضعف النظام السوري وواقع الفوضى السائدة في البلاد، تجدر الإشارة مرة أخرى إلى مصادر القوة الكامنة وراء نجاح بشار الأسد ونظامه في الاستمرار، وفي مقدمتها المرونة الشخصية، إضافة إلى التصميم الذي أظهره والاستعداد لقمع التمرّد ضده بوحشية، والدعم الذي تلقاه من قبل عائلته ومن الطائفة العلوية التي ساندته، والدعم الذي تلقاه من القوى التي تشكل قاعدة نظامه، كأبناء الأقليات المسيحيين والدروز ، وكذلك أعضاء النخب الحضرية، ومنهم أبناء الطائفة السنية، الذين دعموا النظام.

يضاف إلى كل ذلك اعتماد بشار الأسد على أجهزة الحكومة ومؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الجيش والأجهزة الأمنية الذين تلقّوا ضربات قاسية، لكنهم لم ينهاروا، وحافظوا على التماسك، واستمروا في تأدية مهامهم، مما ساعد الأسد في الحفاظ على هيكل الدولة السورية وأركان سلطته بطبيعة الحال.

في المقابل، فشل معسكر الثوار في جهوده لتوحيد صفوفه وتنشئة قيادة فاعلة ومتفق عليها قادرة على تحقيق النصر. إذ انتشرت المئات وربما أكثر من ألف جماعة مسلحة في جميع أنحاء سورية، في الريف وفي المناطق المحيطة، وغالبًا ما كانت على خلفية محلية -عائلة أو عشيرة- وعملت بطريقة منفصلة، دون أي تبعية للكيانات التي نشأت وعملت خارج سورية، وشكلت مظلة وهمية لهذه الجماعات مثل “الجيش السوري الحر” أو “المجلس الوطني” أو “الائتلاف الوطني”. وقد خدم ظهور (داعش) النظام في نهاية المطاف، حيث شوه تشدده معسكر المتمردين، وأبعد أنصاره من الداخل والخارج.

إضافة إلى كل ما قيل، يتعين التأكيد أن سورية تُحكم وفق المنطق السياسي من حيث التنظيم، ولا تشكل مجتمعًا عشائريًا تسوده الفوضى كعنصر أساسي فيه، وأنّ الطائفية في سورية، على عكس لبنان، ليست المفتاح، وبالتأكيد ليست المفتاح الدستوري والعام لتسيير القوى المختلفة العاملة في الفضاء السوري. منطق الدولة -سواء الحدود الإقليمية والإطار المفاهيمي الذي يحدد هيكل ووظيفة الدولة ومؤسساتها- مقبول على جميع الجهات الفاعلة العاملة في البلاد، الخارجية والداخلية السورية.

لذلك، ليس هنالك بديل للنظام السوري، ولا لبشار نفسه؛ فروسيا وإيران وقوات النظام وأمراء الحرب (warlords) وقادة الجماعات المسلّحة والميليشيات العاملة في خدمة النظام من تلقاء نفسها أو تحت إشراف القوات الأجنبية، جميعهم يرون في بشار أنّه رأس النظام السوري الذي عليه يعتمد وجودهم، حتى لو كانوا يسعون إلى الحفاظ على درجة من الاستقلالية تجاهه وتجاه مركز الحكم في دمشق، وبمواجهة القوات العسكرية والأمنية المتنافسة التي توجد في المناطق التي ينشطون فيها.

وليس لدى القوى الإقليمية والدولية الأخرى التي تدخلت في الصراع في سورية أيّ بديل للواقع الدموي في سورية، وبالتالي فهي مستعدة لمتابعة مسار الحلّ السياسي الذي يُبقي بشار الأسد في كرسيّه. لقد عاد العالم إلى سورية، وهو يجدد الحوار مع النظام في دمشق، ومن الصواب الاعتراف به وبشرعيته. هكذا هي الحال بالنسبة إلى الدول العربية التي تسعى إلى تطبيع علاقاتها مع دمشق وإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية، وفي مقدمتهم عمان، والإمارات، والجزائر، وأخيرًا الأردن ومصر، حيث يأمل بعضهم أن يؤدي ذلك إلى إخراج إيران من سورية. وكذلك الحال بالنسبة إلى الدول الأوروبية، وإنْ لم تكن منها بريطانيا العظمى أو فرنسا أو ألمانيا، التي استأنفت الحوار مع دمشق، وبعضها يُعيد فتح سفاراته هناك ويأمل واهمًا بأن هذه فرصة لعودة اللاجئين السوريين الذين فرّوا من البلاد في أثناء القتال، إلى بلادهم.

حتى واشنطن كانت قد أبدت استعدادها، في آب/ أغسطس 2021، للموافقة على مدّ مصر والأردن للبنان بالغاز والنفط عن طريق سورية. وتهدف هذه الصفقة إلى تسهيل الأمر على الحكومة في بيروت، لكبح خطط تنظيم حزب الله لاستيراد النفط من إيران، لكنها تشكل أيضًا اعترافًا من جانب الولايات المتحدة بالواقع السائد على الأرض في سورية، ويشمل ذلك القبولَ باستمرار حكم بشار الأسد، والاستعداد لمساعدته على ضمان الهدوء والاستقرار في لبنان المجاور.

ملخص

لن تعود سورية قريبًا إلى المكانة التي كانت عليها قبل اندلاع الحرب، على الرغم من أن بشار نجا من الحرب، ويعمل على استعادة السيطرة على البلاد. وتُظهر التقارير الواردة من سورية أن بشار بات أكثر جرأة تجاه الإيرانيين من ذي قبل، وهو يعمل على الحدّ من وجودهم في البلاد، مستغلًا دعم الروس له، ومستفيدًا من هجمات إسرائيل ضدّ أهداف إيرانية على الأراضي السورية.

هذا الواقع قد يضع إسرائيل أمام تحديات صعبة، كخطوة عربية وربما غربية في المستقبل لإعادة سورية إلى حضن العالم العربي، وإلى المجتمع الدولي، وبالتالي إعطاء النظام في دمشق شرعية من جديد، على أمل أن يُفضي ذلك إلى إخراج إيران من سورية. لكن من المشكوك فيه أنّ بشار يريد عزل نفسه عن إيران، لأنه بالنظر إلى تصوره للتهديدات التي تواجهه من الداخل والخارج، فإنه لا يزال بحاجة إلى مساعدة طهران، حتى لو كان يرغب في الحد من وجودها ونفوذها داخل سورية. لكن المحاولات -العربية والغربية- لاحتضان نظام بشار قد تكون لها عواقب على إسرائيل، إذ قد تضغط عليها للحدّ من أنشطتها على الأراضي السورية، أو حتى إعادة إحياء قضية مستقبل الجولان، الذي يبدو أنه تم التوقيع عليه وإغلاق ملفه في العقد الماضي.

في ما يتعلق بالعمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في سورية، يتعيّن افتراض أن بشار سيستمر في الامتناع عن أي رد على الهجمات الإسرائيلية على أراضيه، ولكن لا شك في أنه سيسعى -على المدى الطويل- إلى المطالبة بالعودة إلى واقع ما قبل اندلاع الحرب، عندما كان هناك توازن رعب بينه وبين إسرائيل، امتنعت بسببه الأخيرة عن العمل على الأراضي السورية، بل ربما قد يعود إلى ماضيه، ويعمل على تجديد مخزونه من الأسلحة الكيميائية.

بالمناسبة، لا تقتصر نافذة الفرص التي تنغلق تدريجيًا في سورية على إسرائيل، بل على إيران أيضًا. هذا من شأنه زيادة التوتر في طهران، وكذلك الرغبة في محاولة جني الثمار لأطول فترة ممكنة، مما قد يقود كلا الطرفين إلى القيام بتحركات من شأنها أن تزيد من حدة التوتر وتفضي إلى الاحتكاك بينهما.

بشكل أو بآخر، يجب على إسرائيل، وكذلك الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة، أن تأخذ بشار مرة أخرى في الاعتبار، وأن تفترض أنه سيعود للعب دور أكثر أهمية في سورية -داخليًا وخارجيًا- حتى لو تطلّب الأمر وقتًا طويلًا. في غضون ذلك، يجب على إسرائيل أن تبقي أعينها مفتوحة على إيران، وتعمل على تعميق الحوار مع موسكو حول هذه القضايا.

الكاتب  البروفيسور إيال زيسر: نائب رئيس جامعة تل أبيب (منذ 2015). وكان قبل ذلك عميدَ كلية العلوم الإنسانية في جامعة تل أبيب (2010-2015)، وكذلك رئيس مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا (2007-2010)، ورئيسًا لقسم تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا (2004-2008)

مكان النشر وتاريخه      التحديث الاستراتيجي – مجلة متعددة التخصصات للأمن القومي

آذار/ مارس 2022

الرابط    https://strategicassessment.inss.org.il/articles/bashar_al_assad/

عدد الكلمات     3511

ترجمة  نزار أيوب

مركز حرمون

————————-

الأسد يعبّد طريق طهران للمتوسط…حرفياً/ عبدالناصر العايد

تطنب وسائل اعلام مقربة من دولة عربية، في الحديث عن “تراجع” العلاقات بين نظام الأسد وطهران، وتحوّل نظر الأسد إلى الحضن العربي لموازنة علاقته المختلة بنظام الولي الفقيه. وتلمح التقارير المتتالية إلى ما يشبه الفرصة السانحة التي يتوجب على العرب انتهازها لانتشال سوريا من مخالب إيران، وهو ما قد يشير إلى تمهيد من طرف دولة أو أكثر لانعطافة نحو النظام وتبريرها مسبقاً، أو إلى وجود لوبي يحاول أن يدفع بقيادة بعض الدول العربية في هذا الطريق بحجج وذرائع يمكن للمرء أن يكتشف بسهولة زيفها، وأنها تستند إلى وقائع مختلقة وغير صحيحة.

والنصوص والمقالات المدبجة في هذا الإطار، لا تتضمن سوى تصريحات لمصادر غامضة رفضت الكشف عن نفسها، ولا تتحدث سوى لوسائل الإعلام إياها، أو تستند إلى شهادات مراقبين مجهولين، آخرهم في “البادية السورية”! أخبروها بمعطيات خطيرة، في أسلوب ولغة لا يخفى أنهما من أدوات أجهزة المخابرات. وترتكز الدعاية الموجهة تلك، إلى حجة وحيدة لإثبات فرضيتها، وهي تخلّي طهران عن نظام الأسد وعدم دعمه بالمحروقات والمشتقات النفطية في هذا الشتاء القارس، الأمر الذي صار يهدد بشَلل “الدولة” وانهيارها، وأن ذلك يأتي في سياق ضغط طهران وانتقامها من الأسد الذي لا ينصاع إليها ويحاول الحفاظ على استقلاله، لكنه، للأسف، لا يحظى بدعم أشقائه العرب، ليتمكن من الوقوف في وجه إيران ومخططاتها للهيمنة على المنطقة.

المفارقة، أنك تجد في وسائل الإعلام هذه ذاتها، كثافة من الأخبار التي تتحدث عن أزمة الوقود في إيران ذاتها في هذه الفترة، وعن وصول باخرة نفط إيرانية إلى الموانئ السورية، من دون أي ربط بين القضيتين، وكأن هذه ليست مؤشرات ولا علامات مثل تلك التي تتصيدها هذه الجهات الإعلامية وتضخمها عشرات المرات لتوكيد وجهة نظرها.

والحقيقة في ما يخص مسألة النفط، تكمن في أزمة إيران النفطية ذاتها، وهذه يمكننا أن نطالعها في وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، التي لم تتوان عن الحديث عن ذلك منذ أسابيع عديدة، ومنها صحيفة “اعتماد” المعروفة، والتي نشرت تقريراً مطولاً تتحدث فيه بالأرقام عن الأزمة التي تسبب فيها إغلاق تركمنستان لخطوط الغاز المتجهة إلى إيران، وتعطُّل أكثر من خمسين معمل للأسمنت ومنشآت صناعية أخرى عديدة، وفق الصحيفة، فيما يعاني السكان نقصاً كبيراً في وقود التدفئة، دفعهم إلى الوقوف في طوابير طويلة عند محطات الوقود. وترجع الأزمة في هذا البلد النفطي، وفق الإعلام الإيراني، إلى العجز الكبير في قطاع الغاز، والذي يحتاج إلى تقنيات حديثة تفتقر إليها طهران بسبب العقوبات الغربية وأموال غير متوافرة لإنعاشه، تبلغ وفق “اعتماد” أكثر 80 مليار دولار.

فالمسألة اذن تتعلق بنقص الغاز في إيران الذي يتم تعويضه من المشتقات النفطية الأخرى. وإذا كانت إيران تتألم من هذه الناحية، فمن الطبيعي أن يُسمع الصراخ في دمشق، لكن مع ذلك، وعلى الرغم من أزمتها، أرسلت طهران في الأسبوع الفائت وحده، ثلاث ناقلات محملة بالنفط والغاز لنظام الأسد، الذي يُعدّ منذ عشر سنوات الوجهة الثانية للنفط الإيراني بعد الصين، وفق تصريحات للمعارضة الإيرانية.

والجديد في الدعاية الفجة، عن تباعد نظام الأسد وإيران، هو تقارير غير منسوبة لأي جهة يمكن التحقق منها، حول مبادرة النظام إلى قطع طريق طهران إلى البحر المتوسط، من خلال انتزاع جزء من ذلك الطريق من المليشيات الإيرانية، والسيطرة عليه بقوات تابعة له. ونُقلت أخبار عن مراقبين في البادية السورية، وصفت الحدث بأنه دليل على تقويض النظام لحلم طهران بطريق بري يربطها بالمتوسط. ومن دون الإغراق في الجدل وعرض المعلومات المعتمدة على مصادر خاصة أو منحازة، يمكن للمرء أن يذهب ببساطة إلى موقع وكالة إعلام النظام الرسمية “سانا “، وهناك سيجد خبراً بارزاً عن إجراء رئيس مجلس وزراء النظام، حسين عرنوس، زيارة إلى البوكمال الحدودية، وهي رأس الطريق الإيراني إلى المتوسط، حيث أمر وعلى نحو فوري بصيانة الطريق الدولي من معبر البوكمال إلى مدينة الميادين، وهو الطريق الذي تستخدمه إيران ومليشياتها في العبور إلى محافظة دير الزور، ومنها تستكمل طريقها إلى حمص عبر الطريق الصحراوي، وصولاً إلى اللاذقية ودمشق ولبنان. فنظام الأسد يعبّد، حرفياً، طريق إيران إلى المتوسط، لا يقوضها.

إن السوريين ليسوا في موقع مَن يُملي المواقف على الأشقاء العرب، بل أن المعارضة الرسمية مُدانة بسبب جفائها مع هؤلاء العرب، وارتمائها في الحضن التركي على نحو يماثل ارتماء النظام في الحضن الإيراني. لكن هذا لا يمنع من تحذير الأشقاء العرب من الوقوع في الخداع الذاتي، أو في حيل وأحابيل النظام الذي لطالما كذب ودلس عليهم في أبسط القضايا. فهل يصدقونه وهو يدعي أنه قلب ظهر المجنّ لطهران التي تمده منذ عشر سنوات بأكسير الحياة، بعدما أنقذته من سقوط محتم؟

لعل الأجدر بمَن يصدق هذه المزاعم، من المسؤولين العرب، أن يزور الجامع الأموي أو سوق الحميدية في قلب دمشق القديمة أو ضاحية السيدة زينب، وأن يرى بعينيه مقدار السطوة والتغلغل الإيراني في سوريا، والذي لم يكن مستطاعاً سوى بدفعٍ كاملٍ من القوى القمعية للنظام وأجهزته، وضغطها على المجتمع السوري الذي يرفض بشكل قطعي ولأسباب معروفة للجميع، الهيمنة الإيرانية عليه. هذا من دون أن ندخل في خريطة الانتشار العسكري الإيراني الكثيف من أقصى الشرق إلى البحر المتوسط، ومن درعا إلى حلب.

في عود على بدء، لا يحق لنا أن نلوم العرب الذين لا بد أن تكون لهم كلمة في الشأن السوري. فالمعارضة الرسمية أصبحت مجرد جهاز وظيفي، ملحق بجهاز المخابرات الخارجية التركي، وهي تغرد بعيداً جداً من السرب العربي الذي كان السبّاق لاحتضانها، لكن المعارضة السورية ليست مجرد ائتلاف أو حكومة مؤقتة أو غيرها من المؤسسات الرسمية. ثمة معارضة وطنية ما زالت حرة، لكنها بليدة وقواها خائرة وخيالها مُجهض، ولا تعي أصلاً أنها قوية بما فيه الكفاية لتغيير اتجاهات الحدث السوري فيما لو بادرت وتحركت وغادرت عادتها البائسة بتسقُّط الأخبار و”الإشارات” وتحليلها والتكهن بأسبابها ونتائجها في غرف الواتسآب المغلقة. فقد آن للمعارضة الوطنية السورية أن تتقدم، وأن تصبح لاعباً سياسياً، ومن العمق العربي بالذات، ومن بوابة مناهضة المشروع الإيراني الإمبراطوري، وإلا ستسقط بلادهم بشكل كامل في قبضة الإيرانيين، الذين سيصبح هدفهم لليوم التالي هو الدول العربية الساعية اليوم في طريق التطبيع مع نظام.

المدن

—————————-

الأمم المتحدة شاهدة على موت السوريين/ عبسي سميسم

جاء تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (التابعة للأمم المتحدة) الجمعة الماضية، والذي دانت فيه النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيميائية في مدينة دوما بريف دمشق يوم السابع من إبريل/ نيسان عام 2018، بالتزامن مع تقرير صدر في اليوم نفسه لمنظمة أخرى تابعة للأمم المتحدة (برنامج الغذاء العالمي)، تعلن فيه أن معدلات الفقر والجوع في سورية قد وصلت لمستويات غير مسبوقة.

ومن بين أرقام برنامج الغذاء أن 12 مليون سوري لا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية، وأن 2.9 مليون آخرين معرضون للانزلاق للجوع.

ودانت الأمم المتحدة عبر منظمة حظر الأسلحة الكيميائية النظام للمرة الثالثة باستخدام السلاح الكيميائي المحرم دولياً.

ورغم اعتراف الأمم المتحدة، والدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة، بكل ما تعرض له الشعب السوري علي يد النظام من جرائم ضد الإنسانية واستخدام السلاح المحرم دولياً وعشرات المجازر، إلى جانب الإخفاء القسري والموت تحت التعذيب، مع عدم اكتراث النظام بمصير الملايين الذين يعيشون تحت سلطته والذين وصلوا إلى حد لا يتمكنون فيه من تأمين ما يسد جوعهم، يبقى الحل المتاح أمام الأمم المتحدة حتى الآن هو انتظار قبول النظام بالتفاوض على حل سياسي مبني على قرار لمجلس الأمن، واقتراح بعض المحفزات له من أجل هذا القبول.

كما لا يزال الحل المتاح لدى الولايات المتحدة والدول الغربية لوقف إجرام هذا النظام هو فرض العقوبات الاقتصادية التي تنعكس سلباً على المواطنين، من دون أن يتأثر بها النظام الذي ثبت لدى واشنطن أنه يمول نفسه من خلال تجارة المخدرات، وأن من يدفع ثمن تلك العقوبات هم ملايين السوريين الذين وصلوا حد الجوع.

ورغم إعلان واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي مراراً عن رفضهم التطبيع مع النظام وإعادة الإعمار في ظل الظروف الحالية، بالإضافة لرفضهم رفع العقوبات عنه، إلا أنهم يدركون أن كل تلك الإجراءات لن تؤدي لا إلى إسقاطه، ولا لتغيير سلوكه، ولا حتى لإجباره على الجلوس إلى طاولة مفاوضات الحل السياسي.

بل تزيد هذه الإجراءات من تعنته ومن إظهاره بمظهر المتحدي للإرادة الدولية، مقابل مضي روسيا قدماً في تعويمه وإقناع أطراف دولية أخرى بالتطبيع معه، بالتوازي مع تعطيل أي مشروع قرار دولي جدي قد يدينه.

الأمر الذي يلغي تقريباً فعالية القرارات الدولية ضد النظام المحصن بالفيتو الروسي، فيما لا تزال الولايات المتحدة والدول الغربية غير جادة باتباع وسائل بديلة من شأنها إسقاط هذا النظام المجرم بالأدلة والوثائق، أو على الأقل إجباره على تطبيق القرارات الأممية المتعلقة بالحل السياسي، في الوقت الذي يدفع السوريون ثمن هذا التراخي الدولي الذي حوّل الأمم المتحدة ومنظماتها، والدول الفاعلة فيها إلى مجرد موثّق لعذابات السوريين وموتهم الذي يبدو أنه سيتحول قريباً إلى الموت جوعاً.

العربي الجديد

————————–

في سيناريو “تدويل” النفط السوري/ إياد الجعفري

نظرياً، الطرح الجديد لشركة النفط البريطانية “غلف ساندز”، والقاضي بتدويل إدارة إيرادات النفط السوري، لا يخدم مصالح النظام الذي يعتبر استعادة آبار النفط في “شرق الفرات”، أعزّ أهدافه. لكن من الناحية العملية، قد يكون ذلك أفضل المتاح، بالاستناد إلى خبرة النظام في استغلال المساعدات الدولية، وتحويل مسار معظمها، لصالحه.

أحيت “غلف ساندز”، منذ أيام، جدلاً كانت قد تسببت به قبل ستة أشهر فقط. وللمرة الثانية خلال أقل من عام، تطلق الشركة “مبادرة” جديدة على أمل استعادة استثمارها النفطي القديم في “شرق الفرات”، والذي خسرته قبل أكثر من عشر سنوات، جراء تطور الأحداث الميدانية في سوريا، وانصياعاً للعقوبات البريطانية ضد نظام الأسد.

هذه المرة، حملت مبادرة الشركة اسم “مشروع الأمل”. وجاءت بدفعٍ من التحركات الإقليمية المحمومة حول سوريا، مؤخراً، والتي أعطت أسباباً للتفاؤل لدى مسؤولي الشركة، جعلتهم يتحدثون مجدداً عن حلٍ لأزمة السوريين المعيشية يستند إلى “تدويل” استثمار النفط السوري، بإدارة من الأمم المتحدة.

كانت الشركة قد أثارت جدلاً مشابهاً في تموز/يوليو الفائت، حينما طرحت مشروعاً مطابقاً لمشروعها الحالي، من حيث المضمون، لكنه شُبّه ببرنامج “النفط مقابل الغذاء”، الذي طُبّق أثناء العقوبات الدولية على نظام صدام حسين في العراق، خلال التسعينات. وكما هو معروف، فإن نظام صدام حسين استولى على المليارات من عائدات “النفط مقابل الغذاء”، مستغلاً انقسامات مجلس الأمن وفساد موظفين دوليين ومتواطئاً مع سماسرة عرب وشركات أوروبية وصينية. وهي خبرة يملكها أيضاً، نظام الأسد، وبكفاءة.

ولشركة “غلف ساندز” اهتمام خاص، عمره عقدين، بنفط سوريا. ففي خريف العام 2011، أقرت الشركة، بينما كانت تقاوم ضغوط الدول الغربية للخروج من سوريا، أن 90% من إنتاجها الإجمالي يأتي من حقولها بـ “شرق الفرات”. وحينما أصدرت بيان الخروج من سوريا، عام 2012، قالت إنها تملك سيولة تُقدّر بـ 120 مليون دولار أمريكي. وتكشف بياناتها في ذلك التاريخ، أن نحو ربع تلك السيولة، تأتي من أرباحها جراء استثمارها في سوريا، خلال النصف الأول من العام 2011، فقط.

وبقي اهتمام “غلف ساندز” منصباً على العودة إلى سوريا. إذ فشلت مساعيها للاستثمار النفطي في امتيازات حصلت عليها في المغرب وتونس وكولومبيا، جراء أزمة سيولة مالية عصفت بها عام 2015، قبل أن يقيلها، رجل الأعمال البريطاني – السوري، أيمن أصفري، من عثرتها، عبر شراء 10% من أسهمها، في صفقة تسببت في ارتفاع قيمة أسهمها بنسبة 70% خلال ثلاثة أيام، وذلك في العام 2016. يومها، فُسّر تحرك أصفري هذا، على أنه تعبير عن تكهنات باقتراب الحل السياسي في سوريا، أو على الأقل، رفع العقوبات النفطية عن الاستثمار فيها. وخلال ذلك العام، أصبح أصفري، شريكاً لمجموعة من رجال الأعمال الروس، المستثمرين في “غلف ساندز”، أبرزهم، ميخائيل كروبيف، الذي كان يوُصف بأنه من المقربين من الكرملين، إلى جانب وزير الطاقة الروسي الأسبق، يوري شافرانيك. وفي ذلك التاريخ، أصدرت “غلف ساندز” بياناً، قالت فيه إن مجلس الإدارة ما يزال مؤمناً بأنه سيتم رفع العقوبات الأوروبية عن سوريا في غضون 5 سنوات، وهو سيستمر في مراقبة جميع الأنشطة السياسية التي تركز على الأزمة السورية. لكن بعد خمس سنوات، من ذلك التاريخ، لم تُرفع العقوبات النفطية عن سوريا. وتخلى أصفري عن حصته في الشركة لصالح كروبيف، الذي أصبح يمتلك أكثر من 50% من أسهمها.

وقبل ذلك بعام فقط، كانت “غلف ساندز” طرفاً في صراع “حقوقي” مع شركة “دلتا كريسنت إنرجي” الأمريكية، التي كانت قد حصلت على استثناء من إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد ترامب، للاستثمار النفطي في “شرق الفرات”. وحينما اندلعت تلك “المشادة القانونية”، وصفت وسائل إعلام روسية الأمر، بأنه خلاف بريطاني – أمريكي على نفط “شرق الفرات”. لكن، لاحقاً، وتحديداً، نهاية العام 2021، ومطلع العام 2022، نشرت وسائل إعلام سورية معارضة، تحليلات وتسريبات، مفادها أن هناك صفقة بين إدارة جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مفادها، إتاحة المجال لعودة “غلف ساندز” للاستثمار النفطي في “شرق الفرات”، بوصفها تعبّر عن مصالح “أوليغارش” روس مقرّبين من الكرملين، مقابل موافقة موسكو على تمديد آلية تمرير المساعدات الدولية عبر الحدود التركية – السورية، في مجلس الأمن. 

تلك التفاهمات، تعرضت للانهيار مع بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، في شباط/فبراير الفائت. وهكذا أصدرت الخزانة الأمريكية، في أيار/مايو 2022، إعفاءً يستثني الاستثمارات في شرق وشمال سوريا، من عقوبات “قيصر”. لكنها لم تُدخل التعاملات النفطية ضمن هذا الإعفاء.

وفيما تراهن “غلف ساندز” على تحركات قوى إقليمية لتحقيق اختراق في الاستعصاء السوري، بدفعٍ من موسكو، وتنفي في الوقت نفسه، تبعيتها لمُشغلين مرتبطين بالكرملين، يبقى أمام الشركة تحديان من المستبعد تجاوزهما في وقت قريب. مصالح قوى الأمر الواقع في “شرق الفرات”، المستفيد الأول مما وصفته الشركة في بيانها بـ “سرقة” النفط. والذين سيعاندون أي حل سياسي يفقدهم ملايين الدولارات الداخلة إلى جيوبهم جراء تهريب النفط إلى “كردستان العراق” وإلى سماسرة مرتبطين بنظام الأسد. فيما التحدي الثاني يرتبط بموقف الولايات المتحدة الأمريكية التي لن تكون في وارد تخفيف الضغط الاقتصادي على نظام الأسد، قريباً، ما دامت في صراعٍ جيوستراتيجي مصيري مع روسيا والصين، وحليفتهما، إيران.

المدن

—————————-

ضحايا من جديد؟/ مارك بيريني

وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بلغ عدد اللاجئين السوريين المسجّلين في تركيا 3,535,898 لاجئًا حتى 31 كانون الأول/ديسمبر 2022. مع أنهم اندمجوا بطريقة جيّدة نسبيًا، يسود الآن “تململ من اللاجئين” في البلاد. تريد معظم الأحزاب السياسية، في الائتلاف الحاكم والمعارضة على حدٍّ سواء، إعادة اللاجئين إلى سورية، حيث لا اتفاق موافَق عليه دوليًا لإنهاء الحرب الأهلية. ولم يحدث تطبيع للعلاقات بين سورية وتركيا. يشكّل هذا الأمر مزيجًا سياسيًا سامًّا للاجئين.

حظيت السياسة التركية التي صبّت في مصلحة اللاجئين السوريين بإشادة دولية منذ العام 2015، ولكنها تشهد حاليًا تحوّلًا مفاجئًا. يُعزى ذلك إلى الأزمة الاقتصادية في البلاد، والانتخابات المقبلة، والعلاقات الروسية التركية المعقّدة.

بعد أن حاول الرئيس رجب طيب أردوغان، طوال عشر سنوات، الدفع باتجاه تغيير النظام في سورية، عمد مؤخرًا إلى تليين لهجته تجاه الرئيس السوري، معلنًا أن “ما من خلاف أبدي في السياسة”، وحتى إنه لمّح إلى إمكانية عقد اجتماع مع بشار الأسد. فردّ الأخير بحذر شديد، مذكّرًا بطلب بلاده من تركيا سحب قواتها من المناطق السورية الأربع حيث تنتشر. ثمة أسباب حقيقية خلف التغيير في المقاربة التركية.

على الرغم من الاندماج الناجح عمومًا للاجئين السوريين في تركيا، بمساعدة كبيرة من الاتحاد الأوروبي – تمّ الالتزام بمبلغ 9.5 مليارات يورو (10.2 مليارات دولار أميركي بحسب سعر الصرف الحالي) منذ العام 2016 – بات اللاجئون عبئًا على مَن هم في السلطة. ويتّهمهم المواطنون بصورة خاصة بـ”سرقة الوظائف من الأتراك”، ولا سيما في المدن الكبرى. فضلًا عن ذلك، يميل السياسيون من حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان إلى إلقاء اللوم على اللاجئين لأدائهم الكارثي في الانتخابات البلدية للعام 2019.

ثانيًا، أبدت الأحزاب المعارِضة للائتلاف الحاكم المؤلَّف من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية تأييدها الصريح لتجديد الروابط مع الأسد وإعادة اللاجئين. حتى إن الحزب المعارض الأكبر، حزب الشعب الجمهوري، قطع وعدًا في حملته الانتخابية بإعادة “الإخوة السوريين على وقع الطبول والأبواق في غضون عامَين”. وفي حين تعهّد أردوغان في ربيع 2022 بعدم إعادة اللاجئين، فإنه يصطف الآن إلى جانب الموقف الشعبي للمعارضة.

ثالثًا، قبل بضعة أسابيع فقط، حالت روسيا دون قيام تركيا بشنّ عملية عسكرية خامسة في شمال شرق سورية، فيما فرضت في الوقت نفسه على أنقرة المشاركة في اجتماع في موسكو ضمّ مسؤولين سوريين وأتراك في مجالَي الدفاع والاستخبارات، واستضافه نظراؤهم الروس. حتى إن اجتماعًا مرتقبًا بين وزراء خارجية الدول الثلاث قد يُسفر عن إحراز بعض التقدّم المؤقت. ولكن في هذه الاجتماعات، سيسعى كل طرف مشارك خلف أولويات مختلفة. فالهدف الذي تتوخّاه أنقرة هو الحصول على ضمانات أمنية من دمشق وموسكو في إطار تنفيذها لسياسة إعادة اللاجئين. وأهداف الأسد المعلنة هي الانسحاب التام للقوات التركية من سورية وعدم منح أردوغان زخمًا انتخابيًا. أما موسكو فتسعى إلى إعادة تأكيد قيادتها المتواصلة في سورية وقدرتها على التأثير في تركيا بطريقة حاسمة.

تتأثّر هذه الديناميكيات المحلية والخارجية المعقّدة بالضرورات الانتخابية للقيادة التركية، وبالسياق الدولي الراهن. لكن يجب على المجتمع الدولي أن يركّز، بدلًا من ذلك، على الجانب الإنساني للمسألة وأن يقلق بشأن مصير 3.5 ملايين لاجئ سوري في تركيا. قد يتحوّل هؤلاء السوريون إلى ضحايا المفاوضات السياسية بين ثلاثة أنظمة سلطوية يتخبّط كلٌّ منها في أوضاع صعبة جدًّا في الداخل والخارج.

المخاطر المُحدقة باللاجئين السوريين الذين يعودون إلى بلادهم كثيرة مقارنةً بالنزر اليسير من الحماية القانونية والاجتماعية التي يتمتعون بها راهنًا في تركيا.

تبرز أولًا مسألة العودة “الطوعية” مقابل العودة “القسرية”. لقد وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش، في دراسة حديثة، الانتهاكات التي ارتكبتها السلطات التركية في طريقة توقيع اللاجئين السوريين على وثائق العودة. وحدث ذلك على الرغم من أن تركيا هي “طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وفي الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وكلاهما يحظّران الاعتقال التعسفي والحجز الاعتباطي، والمعاملة اللاإنسانية والمهينة”، فضلًا عن التزامها بمبدأ “عدم الإعادة القسرية”.

يسود أيضًا التباس بشأن الطريقة التي ستعامل بها السلطات السورية اللاجئين عند عودتهم في ما يتعلق بسلسلة من الحقوق تشمل الاستحصال على وثائق ثبوتية وحقوق التصويت، والحصانة من الملاحقة، والخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى الوصول إلى سوق العمل.

المسألة الثالثة المطروحة هي ما إذا كان العائدون سيتمكّنون من استعادة أملاكهم التي تركوها في سورية، مثل المنازل، أو الأراضي أو الأعمال التجارية، والتي ربما تعرّضت للدمار أو الأضرار أو المصادرة أو جرى الاستيلاء عليها. بالإضافة إلى توثيق حقوق الملكية، تشمل المهمة الضخمة إعادة تأهيل المباني. وقد تعرّض 300,000 مسكن للدمار أو لأضرار فادحة، ولحقت أضرار متوسّطة بنحو مليون مسكن، وفقًا للتقييم الذي أجراه مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية. ومن المسائل المتفرّعة عن هذه القضيّة تعذّر استخدام الدعم المالي الذي يقدّمه الاتحاد الأوروبي لتركيا، من أجل التحضير لعودة محتملة للاجئين – بما يغطّي تأمين مساكن وبنى تحتية اجتماعية جديدة، مثلًا، بالإضافة إلى الدفعات النقدية – بسبب عدم توافر إطار قانوني للوجود التركي هناك.

في الوقت الراهن، تشمل الآلية الدولية الوحيدة القائمة المساعدات الإنسانية العابرة للحدود التي تقدّمها تركيا للنازحين داخل سورية. سيكون إرساء إطار قانوني فعّال للعائدين المحتملين مهمّة شاقّة في تركيا، أي البلد الذي يعودون منه، وفي سورية التي يتوجّهون إليها. على الرغم من الاندفاعة السياسية في تركيا لتسريع العودة، من الضروري اعتماد آلية مناسبة لضمان الطابع الطوعي لقرار اللاجئ بالعودة، وتسجيل بيان ملكيته وفقًا للأصول الصحيحة. وفي سورية، يجب وضع آلية منظّمة تسمح للعائدين باستعادة أملاكهم والحصول على ضمانات بشأن حقوقهم. وينبغي تجنّب الهندسة العرقية، مثل استبدال الأكراد السوريين في شمال سورية بأعراق أخرى. علاوةً على ذلك، يجب أن تخضع العملية برمتها لإشراف دولي. وما يزيد الأمور تعقيدًا هو غياب آلية سياسية فعلية في سورية لإنهاء الحرب الأهلية.

هذه المهام هي في غاية التعقيد، ولا يمكن تنظيمها بطريقة بعيدة عن التحيّز إلا من خلال وكالات الأمم المتحدة المتخصّصة، بدءًا من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. فعودة اللاجئين بطريقة متسرّعة وغير منظّمة تعني أن الطوارئ السياسية في أنقرة ودمشق وموسكو تفوّقت على مقتضيات الكرامة البشرية الأساسية وعلى القانون الدولي. لذا، يجب على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة التحرّك في الحال.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

—————————

الخروج من المأزق السوري/ أحمد وديع العبسي

يبدو العنوان حالماً جداً بالنسبة لمقالة واحدة، ولكنني أعتقد منذ فترة طويلة أنّ الخيارات غير التقليدية في السياسة هي خيارات بسيطة وناجعة، ذلك أنّ السياسة هي فن البحث عن المفاجأة وغير المتوّقع والجرأة والمبادرات المربكة. أمّا سياسة التحرّك وفق الأطر التقليدية والمبادرات المتوقعة، فهي سياسة تولد ميتة، ذلك أنّ ما يعيقها موجود بذات السهولة التي توجد فيها هذه السياسة، وأنّ الأطراف المتشابكة غالباً ما تكون جاهزة لهذا النوع من السيناريوهات التلقائية، التي تجعل كلّ فريق أكثر استعصاءً وثباتاً في الجهة التي قرّر أن يتخندق فيها، وعادة ما يكون هدف هذه السياسة هو إطالة زمن أي أزمة وتعميق المأزق الذي وصلت إليه، لا البحث عن حلٍّ أو عن مخرجٍ ممكن.

إنّ الخروج من حالة السكون والخنادق هو خروج يحمل خطورة كبيرة، ولكنه الأمل الوحيد في تحقيق تقدم ما تجاه التغيير والأهداف، بينما الإصرار على الانتظار و(الممانعة) والرفض والصراخ دون البحث عن بدائل ممكنة وحيوية، هو حالة من المنازعة السلبية في انتظار الموت. وإنني أعتقد (من وجهة نظر شخصية على الأقل) أنّ هذا الانتظار هو خيانة للوطن، وخيانة للقيم وخيانة لحركية الحياة، وخيانة لدماء الشهداء ولقضيتهم المقدسة، فالتضحيات العظيمة لم تُقدم في سبيل الانتظار، وفي سبيل السكون، بل من أجل العمل والدأب وتحقيق الأهداف وإحداث، ولو خطوة واحدة في طريق التغيير المنشود، وإن من الخيانة أن تكون هذه التضحيات قد أصبحت سبباً لتعاسة الناس ولمأساتهم بسبب تخاذل القائمين عليها، بدلاً من أن تكون سبباً لسعادة الناس وحريتهم وخلاصهم.

إنّ إيجاد حل للخروج من حالة الاستعصاء التي وصلت إليها القضية السورية هو فريضة العمل السياسي، وعلى السياسيين أن يعملوا من أجل فهم الواقع وإيجاد أي مخرج ممكن، عجزت عنه حتى الآن كافة الوسائل العسكرية والاجتماعية والسياسية السابقة. وإنّ السير خطوة واحدة هو عمل عظيم، ولو لم يوافق المزاج الشعبي العام، لكن يكفي أن يوافق الضمائر ويحقّق كسراً للجمود الذي نعاني منه، وإنّ هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر وباحتماليات التخوين، هي خطوة لن يقدم عليها إلا الصادقون، الذين يبحثون عن خلاص شعوبهم وأوطانهم، والسير في الطريق الشائك تجاه الأهداف، دون أن يكترثوا لسجلات التاريخ والبطولة، أو أن يفكروا في سمعتهم الآنية.

إنّ هذه المقدمة الطويلة تفضي بشكل مباشر لما بعدها، فالمأزق السوري أصبح يحتاج سياسيين يتمتعون بالشجاعة الكافية لكسر كل المُسَلَّمات عن القضية السورية، وللدخول في تحديات جديدة تشمل كلّ المبادرات الممكنة مهما كانت غريبة ومتطرفة سياسياً، ليس أولها الجلوس في حوار مباشر مع نظام الأسد بدون وسطاء، ولن يكون آخرها التفاوض حول بقاء الأسد لمرحلة انتقالية في سبيل تحقيق أهداف أكثر عمقاً وأهمية.

إنّ مواقف أقرب الدول للشعب السوري تتغيّر بتسارع لا تستجيب له المعارضة حتى الآن، وإذا لم تعمل المعارضة على الاستجابة لهذه التغيرات ومحاولة إيجاد موقع لها على الطاولات الجديدة فستبقى وحيدة بعد فترة قصيرة، معارضة متشتتة في المنافي لا تجيد إلا لوك الشعارات وتأبين الضحايا.

إننا اليوم نتعامل مع قضية إنسانية كبيرة تتمثل في وجود عشرة ملايين سوري نازحين داخل سورية ولاجئين في دول الجوار، تهدّد حياتهم اتفاقيات ربما لا تأخذ بعين الاعتبار أوضاعهم الأمنية الخاصة، وليس من الحصافة، ولا السياسة، أن يُتركوا لمصيرهم في الموت والتعذيب، حتى لو أبدوا الشجاعة لفعل ذلك من أجل حريتهم، لأنّ مهمة السياسي إنقاذ شعبه، لا الانسياق وراء العواطف الجياشة ودعوات الصمود والموت المجاني، أو النزوع نحو فقاقيع من أمجاد منفوخة بالتاريخ والتراجيديا والرومانسية، لا تحمل معها أي قدرة على التغيير.

إننا اليوم أمام تحديات قديمة جديدة، أضعنا ما يكفي من الوقت في عالم الأحلام بحثاً عن معجزة لا تضطرنا لأخذ مواقف قد تشوّه التاريخ الناصع الذي كنّا نبنيه لأنفسنا حجراً حجراً، ولكن الحقيقة التاريخية تخبرنا أنّ الإنجاز لم يكن يوماً مبنياً على أساسات ناصعة، لذلك علينا أن نكون شجعان بما يكفي لبحث جميع الخيارات المطروحة دون استثناء من أجل الوصول إلى حلّ (مرحلي) يمنحنا خطوة واضحة نحو الأمام، حتى لو كلفنا ذلك أن نضع أيدينا باليد الملطخة بدمائنا، سننجز هذه المهمة ثم سنتحمل آلام قطع تلك اليد من أجل خطوة أخرى.

العربي الجديد

—————————–

———————-

تقرير الأسلحة الكيميائية في سورية … جرائم مثبتة وعدالة غائبة/ بلال تركية

للمرّة الثالثة، تتأكّد مسؤولية نظام الأسد في استخدام الأسلحة الكيميائية المحرّمة دولياً ضد المدنيين العُزّل في سورية، وذلك بحسب التقرير الثالث لفريق التحقيق وتحديد الهوية (IIT) التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) والمعني بالتحقيق في حوادث استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، والذي صدر في لاهاي يوم الجمعة 27 يناير/كانون الثاني 2023. واستغرق العمل عليه عامين تقريبا، وركّز على الهجوم المرتكب في 7 إبريل/ نيسان 2018، الذي استهدف مدينة دوما المحاصرة، فقد خلص التقرير إلى أن طائرة هليكوبتر واحدة على الأقل تابعة لجيش النظام، والتي عملت تحت قيادة ما يُعرف باسم “قوات النمر”، أسقطت أسطوانتين تحملان غاز الكلورين السام بتركيز عالٍ على مبنيين سكنيين في وسط المدينة، ما تسبب في استشهاد 43 شخصاً تم توثيقهم بالأسماء، وإصابة عشرات آخرين.

خلص هذا التقرير (139 صفحة) إلى هذه النتائج بعد استيفاء التحقيق في كل الأدلة والنظر في شهادات الشهود، وبالاستناد إلى المنهجيات المعتمدة لدى المنظمة. ونظراً إلى محاولات التشكيك بهذه النتائج، فقد استرسل التقرير في سرد أدقّ التفاصيل عن آليات العمل والتوصل إلى الاستنتاجات. إذا ذكر التقرير أن آلية عمل الفريق (IIT) شملت التدقيق في المعلومات التي تم الحصول عليها من بعثة تقصي الحقائق (FFM)، والدول الأطراف في الصراع، والاستماع إلى إفادة 66 من الشهود، وتحليل بيانات من 70 عيّنة. كما شملت أيضا تحليلاً لصور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو والصور الموثّقة، وأجرت نمذجةً لمحاكاة سقوط الأسطوانات، فضلاً عن استشارة الخبراء والمتخصّصين في الطب الجنائي. وقد قام الفريق، بحسب التقرير، بمراجعة 19,000 ملف تجاوزت مساحتها 1.86 تيرابايت من البيانات. ويُشار إلى هذه المنهجيات والجهود المستفيضة بما لا يدع مجالاً للشك أو الطعن في دقّة مخرجات التقرير، الذي يمتلئ بإشارات واضحة إلى عدم تجاوب الجهات المعنية في نظام الأسد مع طلبات فريق التحقيق، وهي استراتيجية لطالما برع فيها هذا النظام، حيث يعمد إلى المراوغة والمماطلة، بغرض تعطيل المسارات القانونية.

وقد تأسّس فريق التحقيق وتحديد الهوية (IIT) في يونيو/ حزيران 2018، وباشر أعماله بعد عام من التأسيس تقريبا. وقد جاء هذا الفريق خلفاً لبعثة تقصّي الحقائق (FFM) التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) التي تشكّلت في عام 2014، وخلصت نتائج عملها إلى التأكيد على حدوث هجمات باستخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، إلا أنها لم تكن تملك صلاحية توجيه الاتهام لأي جهة، بل يقتصر دورها على التحقّق من وقوع الهجمات وتحديد نوع الغاز المستخدم. لذلك جرى تشكيل لجنة التحقيق المشتركة (JIM) بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة في 2015، وقد قدّمت اللجنة سبعة تقارير توجّه الاتهام بشكل واضح لجيش النظام الأسدي، ما دفع روسيا إلى استخدام حقّ النقض (الفيتو) ضد تجديد ولاية اللجنة في أواخر العام 2017. وكإجراء أخير، أسست منظمة حظر الأسلحة الكيميائية فريق التحقيق (IIT).

ولا يفوتنا، في معرض الحديث عن هذه الآليات الدولية، أن نتقدّم بالتقدير والاحترام للأبطال المجهولين من السوريين الذين عملوا وراء الكواليس لحفظ الأدلة ونقلها، إذ تعمّدت قوات النظام بشكل متكرّر طمس الأدلة وإخفاءها، إلا أن الفرق الطبيّة العاملة في الميدان تنبّهت إلى ضرورة توثيق الجرائم وجمع الأدلة، وخاطر أفرادها بحياتهم لنقلها معهم خارج مناطق الهجوم لتصل إلى أيدي المحققين الدوليين. كما لا يمكن أن تنسى جهود الشهود الذي تعرّضوا لضغوط شديدة لكي يعدلوا عن البوح بالحقيقة، إذا قام النظام مراراً وتكراراً بترهيبهم والضغط عليهم، مستخدماً في ذلك أساليب ابتزازهم بإلحاق الأذى بأحبّتهم من أقاربهم الذين ما زالوا في متناول أيدي عناصر مخابرات الأسد. وقد جاءت هذه الشجاعة المطلقة والجهود الفريدة إيماناً من السوريين بضرورة تحقيق العدالة والانتصار لإرادة الحرية والكرامة.

ويمكن اعتبار هذا التقرير الصادر حديثا خطوةً صغيرةً نحو تحقيق العدالة الدولية، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً. إذ إن ولاية، أو نطاق اختصاص، فريق التحقيق وتحديد الهوية محصورة بتقصّي الحقائق، فهو ليس هيئة ملاحقة قضائية أو كيانا قضائيا، كما أنه ليس مسؤولاً عن تحديد المسؤولية الجنائية للأفراد أو المنظمات أو الدول. ولذلك، يجب أن تكون الخطوات التالية، على الساحة الدولية، عبر تفعيل آليات المحاسبة الدولية، مثل محكمة العدل الدولية، في استخدام نتائج هذه التحقيقات، وتتبع سلاسل القيادة ضمن جيش النظام، والبدء بمحاكماتٍ ضد من تجاوزوا كل الأعراف والقوانين الدولية، وبصورة تثير الاشمئزاز في النفس البشرية السويّة. كما أن هذه النتائج يجب أن تعيد إلى الأذهان أن المجتمع الدولي يجب أن يحرص على مثول المسؤولين عن هذه الجرائم أمام القضاء، وتلقّيهم الجزاء العادل، وفاءً لأرواح الأبرياء التي أزهقوها، ولا تزال أيديهم تقطُر دماً. كما لا يمكن القبول بأي مبرّرات تدعو إلى إقامة علاقات مع مثل هؤلاء، فهم وصمة عار في جبين البشرية، وجرحٍ غائرٍ في ضمير الإنسانية.

لم تفاجئ نتائج هذا التقرير أحداً، فقد أعادت التأكيد على حقائق يعلمها الجميع منذ البداية، ووضعت ما هو معروف للجميع في إطاره الجنائي. وكان التقرير الثاني للفريق (12 إبريل/ نيسان 2021) قد توصل إلى أن طائرة خاضعة لسيطرة “قوات النمر” ألقت أسطوانة واحدة تحتوى غازاً ساماً على الأقل، في هجوم نظام الأسد على مدينة سراقب في 4 فبراير/ شباط 2018، مودية بحياة 12 شخصاً معروفين بالاسم. وبشكلٍ مماثل، حمّل التقرير الأول، الذي أصدره الفريق في 8 إبريل/ نيسان 2020، قوات جيش النظام مسؤولية ثلاث ضربات كيميائية في مدينة اللطامنة في ريف حماة، والتي وقعت في مارس/ آذار 2017. كما أن النتائج التي تمحور حولها التقرير لا تختلف جوهرياً عما توصل إليه تقرير المخابرات الفرنسية، والذي أتيح للعلن في 14 إبريل/ نيسان عام 2018، أي بعد أسبوع فقط من الهجوم.

لم يكن خافياً على أحد أن هذا النظام لم يتورّع عن استخدام شتى صنوف الإجرام تجاه الشعب السوري، في محاولة مستميتة لكسر شوكة الشعب، وخنق صوته الهاتف بالحرية، فقد حمل السوريون في ذاكرتهم، وعلى امتداد العقد الماضي، صورا عديدة مؤلمة، فما تكاد تنتهي مأساة حتى تبدأ أخرى. ولا يزال عديدٌ من هذه المشاهد حاضراً في أذهان السوريين، وهم يشاهدون طائراتٍ دفعوا أثمانها من جيوبهم لكي تحميهم، وهي تُغير فوق رؤوس الآمنين، وتتفنن في أساليب الدمار والتخريب. ومن بين تلك الجرائم الوحشية، احتلت مجازر الأسلحة الكيميائية حيزاً خاصاً من اهتمام المجتمع الدولي. إذ يتذكّر العالم بكل أسى صور الأطفال يختنقون بغازات سامّة، وسط ذهول الأمهات، وعجز الكوادر الطبيّة من هول الفاجعة. وقد بدأ النظام تنفيذ هذه الهجمات في 21 أغسطس/ آب 2013 على الغوطة، متحدّياً بذلك الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأميركي أوباما في حينه. ويمكننا القول إن غياب المساءلة عن مجزرة الغوطة أعطى إشارة بأن الخط الأحمر تحوّل إلى ضوء أخضر. فمنذ العام 2011، جرى تنفيذ أكثر من 336 هجوماً بالأسلحة الكيميائية في سورية، وفي هجمات الغوطة وحدها، ارتقى أكثر من 1,400 شهيد من المدنيين.

وعلى الرغم من أن مرتكبي هذه الجرائم ما زالوا طلقاء، إلا أن السوريون عازمون على مواصلة الجهود في سبيل تحقيق المساءلة، وأن يدفع هؤلاء المجرمون ثمن ما اقترفت أيديهم. وهنا نؤكّد على ما قاله المدير العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، السفير فرناندو أرياس: “يعرف العالم الآن الحقائق، والأمر متروكٌ للمجتمع الدولي لاتخاذ الإجراءات اللازمة”.

لقد أصبح نظام الأسد موصوما بكل الأوصاف التي تناسب المجرمين، حيث أصبح يُدعى “نظام الكيماوي” أو “نظام الكبتاغون”، فهو لم يكتف فقط بارتكاب الجرائم ضد أبناء سورية، بل وصل أذاه إلى كل شعوب المنطقة، حيث بات خبر القبض على كميات مهرّبة من المخدّرات بأنواعها الخبيثة متكرّرا على صفحات الأخبار. هذا النظام وعصابته التي باتت مصدر إزعاج وقلق للمنطقة والأمن والسلم الإقليميين، على الجميع ألا يدّخر جهدا في إيصالهما إلى منصّات القضاء الدولية، وبذل كل ما هو ممكن لزيادة عزلته ونبذه من كل منصّة وفضاء. ولا جدل بعد كل ما تقدّم أن التطبيع مع نظامٍ كهذا خطأ جسيم، ولا يمكن إلا أن يعود بالضرر والأذى للجميع. ويتساءل السوريون بدورهم: متى يتحرّك المجتمع الدولي لمحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة؟

وفي هذا الصدد، نعبّر عن شكرنا وتقديرنا لبيان وزارة خارجية دولة قطر، والذي عبّر عن دعم الدوحة الجهود الدولية لمحاسبة النظام الأسدي على استخدامه الأسلحة الكيميائية في دوما. ونحن على ثقة كاملة في ثبات الموقف السياسي والأخلاقي لدولة قطر وجهودها المستمرّة تجاه القضية السورية. وقد جدّد البيان التأكيد على المواقف الثابتة والمبدئية لدولة قطر في الوقوف إلى جانب أشقائهم في سورية، واتخاذ مواقف قاطعة ضد الجرائم المروّعة والمجازر التي ارتكبها نظام الأسد بحقّ المدنيين الأبرياء. كما عبّر البيان عن القيم الأخلاقية لدولة قطر التي تقف إلى جانب العدالة ودعمها جهود المساءلة الدولية. وندعو أشقاءنا وأصدقاءنا إلى تبنّي مواقف مماثلة لدولة قطر، والعمل على توحيد الجهود لضمان المحاسبة والمساءلة، والعمل من أجل حلٍّ سياسيٍّ في سورية وفقًا لبيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن رقم 2254. حيث إن السوريين عازمون على تحقيق مطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة في سورية موحّدة ومستقرّة وآمنة.

العربي الجديد

—————————-

الأيادي التي تعبث بالشعب السوري/ سوسن جميل حسن

متلازمة اليد الغريبة … ربما توحي هذه التسمية (أو التعبير) بمجاز أدبي أو دراسة في علم الاجتماع، لكنها في الواقع هي تسمية لأحد الأمراض العصبية التي تنجُم عن إصابات متنوعة على مستوى المراكز العليا في الدماغ، بشكل خاص، تصيب البالغين في العادة، مع تسجيل حالاتٍ نادرةٍ عند الأطفال على أبواب المراهقة، أكثر ما يميّز هذه الحالة المرضية أن اليد المستهدفة تنفصل عن إرادة الدماغ، وتصبح مستقلّة الإرادة، وهذا فظيع، لأن اليد ستتصرّف بلا عقل، بلا قيم، بلا عاطفة، بلا مشاعر، فهل يمكن إدانتها بما تقترف؟ أم تُحاكم على أنها فاقدة للأهلية القانونية، أو غير مسؤولة عن تصرّفاتها؟

أثارت أسئلة امتحان واردة بمقرر اللغة الإنكليزية لطلاب السنة التحضيرية في جامعة دمشق موجة من التعليقات والاستهجان والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، والسنة التحضيرية هذه تضمّ المتقدّمين لامتحان مفاضلة القبول في كليات الطب البشري وطب الأسنان والصيدلة، وكانت الأسئلة تدور حول أمور مثل: انفصال لاعب نادي برشلونة الإسباني المعتزل جيرارد بيكيه عن المغنية الكولومبية شاكيرا، ولون فستان “الفانشيستا” ماريا، بالإضافة إلى أسئلة عن جواز السفر السوري، وعن مدى شهرة رواية لمؤلف أميركي صدرت منذ أيام (لم تتعرف كاتبة هذه السطور إليها بعد)، وأيضاً عن كتاب الأمير البريطاني هاري الذي صدر أخيراً.

وأمام موجة السخرية والاستهجان، قال مسؤول في وزارة التعليم العالي، رداً على الأمر، لصحيفة الوطن، إنّ اللغة الإنكليزية الموضوعة كمقرّرات في السنة التحضيرية الطبية هي في مستوى الثانوية العامة نفسها أو أعلى منها بقليل! مضيفاً: بالطريقة نفسها، تشمل الأسئلة في اللغة بالثانوية مواضيع عامة كأن تكون عن ممثلين وفنانين. وتابع: من الطبيعي انتقاء نصوص عامة لقياس مهارة الطالب التي اكتسبها خلال الفصل، والتي كان هدفها الأساسي اكتساب القدرة على فهم الأفكار واستخلاصها من النصوص، ليستطيع بعدها الاستفادة من “الكتب المرجعية” بالشكل الأمثل.

فهل هذه هي الكتب المرجعية التي ينتظر طالب الطب أو الصيدلة، الرجوع إليها؟ وهل هذه المواضيع من الأمور المهمة بالنسبة إلى طالبٍ يصل إلى الجامعة وكأنه ما زال في سباق المسافات الطويلة، لا يعلم غير الله كيف مرّت الشهور عليه وعلى أسرته، وكم كابد أبواه وعاشا الحرمان، كي يسانداه في طريقه المليء بالأشواك والحجارة. من يقف خلف هذا القصور والتردّي، بل والعجز في إدارة أمور الناس، والذي يعتبر التعليم والعناية بالطلاب وتوفير ما يلزم العملية التعليمية من أدواتها ومتطلباتها الأساسية، حقًّا من حقوقهم؟ لمن تلك الأيادي المتخفّية في قفّازات، تعبث بكل القيم والقواعد؟ ليتها مصابة بمتلازمة اليد الغريبة، ربما كان علاجها أسهل وأجدى، لكنها أيادٍ خاضعة لإرادات فاعلة تسطو على المجال العام وتديره وفق أجنداتٍ وعملياتٍ دماغية أكثر تعقيداً وتركيزاً واستهدافاً.

أوشكنا على دخول السنة الثالثة عشرة من عمر الأزمة السورية، بغضّ النظر عن التسمية، ورغم كلّ العثرات والفشل والانزياح الذي وقعت فيه الثورة، يبقى الفعل الثوري مطلباً ومتغيّراً باستمرار، كما قال جيل دولوز: “فشل الثورات سيشعل شرارة صيرورة ثورية من جديد” لكنّ الحديث المجدي هو تسليط الضوء باستمرار على التغيّرات الدراماتيكية التي تحصل في بنية المجتمع/ المجتمعات السورية، وفي منظومة القيم والمعارف، وفي هبوط المؤشّرات كلها باتجاه الحضيض، مؤشّرات لها علاقة بالمعيشة والتعليم، والحريات، والثقافة، والاقتصاد، وكل ما يميز نشاط الشعوب وإنتاجها، فالوعي العام في تراجع، وإذا كان الشعب قد انقسم في بداية الانتفاضة على نفسه، بين مؤيّد ومعارض للحدث الكبير، فإن ما وقع في السنوات الماضية سلب القدرة على التفكير، بما أغرق الناس في مستنقعات الهموم المعيشية، وما تم من ممارساتٍ طمرت جمر الفتنة تحت رماد الواقع المحروق.

ليست أيادي مصابةً بمتلازمة الغربة والانفصال عن إرادة الدماغ، بل هي إرادة جبّارة أطلقت أياديها بكل خبراتها المكتسبة والمبتكرة لتقضي على ما بقي من واحاتٍ يمكن أن ينبت فيها العشب في أرواح شرائح المجتمع كافة، هي أيادٍ مرتبطة بالخارج، أيادٍ استباحت حياة هذا الشعب ونفوسه وكرامته وبلاده، قتلت فيه حتى روح التضامن، ماذا لو كانت النصوص المطروحة في الامتحان حول ما يجري في فلسطين المحتلة اليوم، هل يمكن لإنسان سليم المشاعر والعواطف أن يشيح النظر عنها؟ أليست فلسطين هي البوصلة، كما جرت العادة في تجريع هذا الشعب شعاراتٍ جوفاء حولها؟ ماذا لو كان نصّاً يحكي عن مراكب الموت التي تحصُد السوريين الهاربين من موت محقّق إلى موت شبه محقّق؟ ماذا لو كانت النصوص عن رغيف الخبز، والبرد وأحلام الأطفال؟

أي أيدٍ هذه العابثة بأمن الناس وعقولهم وكرامتهم؟ في الطب، تتصف متلازمة اليد الغريبة بانفصال الإرادة، حدّ أنها يمكن أن تشلّ اليد الأخرى عن أداء وظيفتها، فتعاكسها فيما تنوي القيام به، وهي أيضاً، يمكن أن تمتدّ إلى عنق صاحبها وتخنقه، ربما أصبح معظمنا لا يملك غير الدعاء مثل العجائز المقعدات، فندعو ليتها تفعل، لكن غربة الأيادي العابثة بمصير هذا الشعب من نوعٍ آخر، إنها أياد جبارة، تحرّكها إراداتٌ أكثر جبروتًا، إنها محصّنةٌ ضدّ أنواع العواطف والمشاعر النبيلة، ضدّ الرحمة، ضدّ الرأفة، ضدّ الحكمة، ضدّ العطاء، ضدّ كل ما هو نبيلٌ من صفاتٍ يمكن لليد أن تتباهى بها، محصّنة أيضًا ضدّ كل أشكال الأوساخ والجرائم، فتغوص فيها بنشوة مصّاصي الدماء، هي أيادٍ تجيد الخفاء مثلما تجيد الصراحة والفجور، تعرف متى تكشّر عن “مخالبها”، ومتى تلبس القفّازات، أياد تعرف ما تريد، وتفعل ما تريد، تعبث هذه الأيادي بأمن الشعب وأمن البلاد منذ عقودٍ خلت. ازداد جبروتها وازدادت جرأتها على اللعب المكشوف في العقد الأخير، والمصيبة الكبرى أنها صارت، بتعدّدها واختلاف أدواتها في الداخل، مباركةً لدى الشعب المنقسم أو المقسّم، الخاضع لاحتلالاتها، بل هناك، في كلّ المناطق من يتمسّكون بها وينحنون لتقبيلها، في أبشع صور الولاء الرخيص. هي ليست متلازمة اليد الغريبة، بل هي أيادٍ مصابةٌ بالثآليل التي تتكاثر وتتورّم مثل السرطان، تشيع المرض في جسد هذا الشعب المهجّر، المفقر، الرازح تحت الجوع والحرمان حدّ شلّ قدرته على التفكير، وأيديه عن العمل.

العربي الجديد

————————————

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى