الناس

“اشتقنالك كتير بس ما ترجع”… بلادي التي تشطبني من ذاكرتها/ رمّاح زوان

مع اقتراب العام من نهايته، يراجع كلٌّ منا ما حدث خلاله، ويسأل ما هي التغيرات التي طرأت على المستوى المهني والأكاديمي والشخصي وغيرها. بالنسبة لي أيضاً، كان عاماً مليئاً بتغيّرات كبيرة، أهمها عبارة قد تبدو عاديةً، لكنها في الواقع ليست كذلك. بدأت بسماعها منذ لحظة سفري إلى الهند، وهي: “رح نشتقلك، وناطرينك ترجع”. مع مرور الوقت، وبطبيعة الحال، تغيّرت إلى “اشتقنالك وناطرينك ترجع”، لكن مع بداية هذا العام طرأ تغيّر غريب عليها حتى صارت اليوم: “اشتقنالك كتير بس ما ترجع!”.

أجزم بأن معظم الذين سافروا من سوريا قد سمعوها مؤخراً من بعض أصدقائهم، إلا أن سماعها من الجميع، بمن فيهم أمّي التي يوجعني شوقها إلى لقائي، تغيّر كبير وخطير حقاً. تدهورت الأوضاع المعيشية إلى درجة لا تطاق وسط غلاء فاحش من دون نجاح أي محاولة في ضبط حتى أسعار الفجل، مع تعتيم شبه تام في الكهرباء وأزمة محروقات وصلت إلى إيقاف الدوام الرسمي في الجهات العامة يومَي الأحد خلال أسبوعين متتاليين، الأمر الذي يدفع الجميع إلى السفر مهما كلف الأمر.

فكرة “لا ترجع إلى سوريا”، تعني أن أجمع ذكريات سبعة وعشرين عاماً، وأضع كومة قش فوقها وأحرقها حتى تتحول إلى رماد ثم أنفخ فيها لتتطاير وتختفي إلى الأبد وأُصبح بلا ماضٍ أو وطن، ولو أنّي فرضاً لا أفكر في العودة في المدى القريب على الأقل، إلا أنّ الفكرة موجعة وتسلبني انتمائي إلى كل شيء في بلادي؛ إلى باحة المدرسة الابتدائية التي تقاسمت فيها سندويشة الزيت والزعتر مع أصدقائي، والحديقة المجاورة التي كانت ملعب كرة قدم سجلت فيه أول هدف في حياتي، وإلى الحيّ الذي انتظرت فيه رؤية فتاة وكان ينتفض قلبي في كل مرة أرى فيها جدائلها، وإلى فيء شجرة زُرعت شتلتها في جبال كسب في ريف اللاذقية قبل عشرة أعوام خلال مشاركتي في حملة تشجير، والطريق البحري الذي حفظَت مقاعده كل أسراري، والمدينة التي أتغنّى بعشقي لها وأصف علاقتي بها بأنها أميرتي التي سأتزوج يوماً فتاةً تشبهها. هكذا باتت تصفعني الكرة على وجهي وتشنقني الجدائل الطويلة وتحرقني الشمس والفيء معاً، ويمزِّق الهواء البحري أشرعتي. هكذا تسلبني عبارة “لا ترجع عالبلد” شغفي الأول وعشقي الأول وبَوحي الأول وانتمائي الأول. إنها تؤلمني أكثر من أي شيء آلمني خلال سنوات الحرب.

وبالرغم من كل ذلك الألم، أحاول يومياً الحفاظ على صورتها في مخيلتي والكتابة عنها، إلى جانب البقاء على تواصل مع أصدقائي وغيرهم في سوريا عبر نشر فيديوهات ومنشورات ومتابعة ما يحدث. قبل أشهر عدة، حصلت على منحة تدريبية لإنشاء المحتوى، وكان على كل متدرب نشر ثلاثة فيديوهات أسبوعياً على مدار ثلاثة أشهر. قررت استغلال هذه الأشهر في صناعة محتوى عن الثقافة الهندية، وجاءت الفكرة من نية مسبقة بفتح نافذة للسوريين تطلُّ على كوكب الهند، وسرد تجارب جديدة بعيداً عن تجارب الحكومة وقراراتها برفع الأسعار بعد منتصف الليل وريبورتاجات الإعلام المحلي عن الصمود والتحدي والحلقة المغلقة التي يدور السوريون فيها منذ سنوات والتي تخلص إلى الدوار والسقوط.

حاولت اختيار مواضيع جديدة وقريبة من حياة السوريين، وكانت البداية تُظهر اهتماماً وحماسةً لمشاهدة المزيد. كان أحد أهداف الدورة التدريبية، تحديد نوعية المحتوى بدقة لكل متدرب، وكسب المزيد من خبرات المونتاج والتصوير وكتابة نصوص الفيديو والعناوين، وصولاً إلى معرفة مواعيد النشر المناسبة لتحقيق أكبر نسبة مشاهدات وفهم خوارزميات مواقع التواصل قدر الإمكان للتعامل معها.

نشرت خلال فترة التدريب 30 فيديو، مدة كل فيديو منها دقيقة واحدة، وجرّبت كل المواعيد، إلا أن نسب المشاهدات من سوريا على وجه الخصوص انخفضت مع تدهور الأوضاع المعيشية في الشهرين الأخيرين. حاولت تغيير النصوص والعناوين وطريقة العرض، لكنها لم تنفع، وبعد نقاش مع أحد المدربين في الدورة، وهو سوداني يدرس ويحضِّر لنيل درجة الماجستير في الممارسة الإعلامية في التنمية والتغيير المجتمعي في بريطانيا، أشار إلى أن المشكلة قد لا تكون في المحتوى بل في الجمهور المستهدف نفسه!

قصص المهاجرين وتفاصيلها تعكس حال بلادنا، كما تعكس ما كنا نسعى إليه في هذه البقعة من الأرض. توثيق التجارب سيتيح لنا بناء المجتمعات التي نرجوها. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!

ادعمونا

ذكر المدرب مازن.أ.، إحدى تجاربه في صناعة المحتوى عندما كان جمهوره المستهدف من السودانيين، في الوقت الذي يعاني السودان فيه من نزاعات وانقطاع التيار الكهربائي وضعف شبكة الإنترنت، ما أثّر سلباً على متابعتهم شبكات التواصل الاجتماعي وخاصةً الفيديوهات، زيادةً على فتور في المزاج العام. قرأت بعدها عن الاكتئاب الجمعي الذي يقتل الرغبة في التعرف إلى أشياء جديدة، ثم سأل كم ساعةً تُقطع الكهرباء في سوريا وعن حالة شبكة الإنترنت؟ صمتُّ قليلاً وقلت له: “هل تعلم أن آخر مرة تحدثت فيها إلى والدتي كانت قبل ثلاثة أيام لعدم قدرتها على شحن جوالها بسبب انقطاع الكهرباء لأكثر من 20 ساعةً يومياً؟”.

لم يجد المدرب نصيحةً سوى تقبُّل سوء الأوضاع في سوريا وتغيير الجمهور المستهدف وتحويله إلى الهنود عوضاً عن السوريين، لكن هنا بيت القصيد، إذ يكمن هدفي في تعريف السوريين على ثقافة جديدة، وليس العكس.

ما يحصل في سوريا من استحالة الحياة وانعدام كل مقوماتها، أمر جنوني وغير إنساني. ومن زاوية أُخرى يخسر السوريون وسط انشغالهم في تأمين ثمن رغيف الخبز والغبن الذي يتجرعونه في كل تفصيل، الكثير من المعرفة المتاحة والتعلّم من تجارب الشعوب الأخرى التي ينقلها صنّاع المحتوى السوريون عبر مواقع التواصل، وهذا سينعكس مع مرور الوقت بشكل كارثي على مستوى ثقافتهم وجودتها وقدرتهم على التعلّم في ما يتعلق بفهم الشعوب الأخرى وتقبّلها.

بالله عليكم… من يريد معرفة فوائد التأمل واليوغا وهو يستيقظ صباحاً ولا يجد ماءً لغسل وجهه؟ من يرغب في سماع ترانيم هندية ضاربة في التاريخ وصوت بكاء طفله يغطي الحي بعد انقطاع حليب الأطفال من الأسواق؟ من يريد مشاهدة حفل زفاف هندي كالذي يُعرض في أفلام بوليوود وهو يعمل عشر ساعات يومياً ولا يستطيع شراء خاتم خطوبة لحبيبته التي عرفها منذ ثمانية أعوام؟ كيف تستطيع أم سورية عاجزة عن شراء بسكويتة لطفلها في الروضة، أن تجرِّب وصفةً لطبق هندي؟ ماذا سينفع التعريف بالفن المعماري للمعابد وشكل الشوارع في الهند لمجتمع قد انتهى للتو من تأبين مهندسة لم تهنأ بعد بسنوات عمرها الخمسة والعشرين لتسقط في جورة صرف صحي بسبب الإهمال والاستهتار؟

حقيقةً، صرت أشعر بالحرج من نشر فيديوهات من الهند على فيسبوك، الموقع الذي ينشط عليه السوريون، أو على الأقل صرت أراجع الفيديو مئة مرة قبل نشره وأختار مواضيع لا تزيد الهموم ولو كان المحتوى سطحياً لا يرقى إلى ما أطمح إليه.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى