شعر

ذاك الذي يصل ويبتسم ويذهب/ ماتيو مانسيا مويا

■ ■ ■

نهر برابو

اعتدْنا المَشْي

على ضفّة النهر

من الجانب الذي تضِيع فيه رائحةُ أشجار البرتقال

مع رائحة الجُثث المتعفّنة

للخناجِر 

التي تركها الأطفال على

الرَّمل.

كانت الأيام

التي يَسْحل فيها مِلح الخليج

أُنوفَنا

وجلد السماء

يصبح لنا.

كنّا تعلّمنا أن نلعب مع الشمس

على الجانب الآخَر من النهر

حيث كان لا يزال بإمكاننا أن نسمع

أنّ شخصًا ينتظرُنا.

كنّا نعرف

لغةَ النباتات

لأنّنا تفرّجنا عليها

وهي تتحدّث مع ظلالها.

رغم أن ذلك كان يُريحنا 

ويشعرنا بأننا في البيت

كنّا أجانب 

في المكان الذي سمّيناه ذات مرّة:

وطناً.

■ ■ ■

هناك صُلبان خشبية

هناك صُلبان خشبية

لا يركع قدّامها أحَد.

صلبان صغيرة، صغيرة جدّاً، صغيرة جدّاً جدّاً

تتراكم

بلا نظام

فوق مُكعّب خرساني

حتى لا يفعل النهر بها

ما يفعله بالأسماء

التي يهمسُ بها التيار.

هناك صلبان خشبية

لا يزورها أحَد

لا أحَد يعُدّها

لأنّ قِصصَها

لا تسكن

أرض الأرقام.

هناك صلبان خشبية

تنتظر الكون:

تنتفخ بمِلح

هواء الخليج

وتتكدّس

فوق قاعدة خرسانية

على ضفّة النهر

الذي يعرف كلّ شيء.

■ ■ ■

أوقفتِ الشاحنة

حين أمرَتني مجموعةُ رجال مسلَّحين.

هناك سيارة مركونة قدّامنا

في الشارع

على طرف قناة “أنسالدوا”،

خيطٌ مائيٌّ طويل

حيث كان الأطفال يسبَحُون صوب الجنوب

والرجال يصطادون

ما سحبَه التيّار معه 

من نهر “برابو”.

المساء تفوح منه رائحة البرتقال

الفاسد

الذي لم يجمعْه الناس

في تلك الأرض بلا صاحب

السيارة كانت مُحاصَرة 

من أُناس يُغطّون وجوههم

بأقنعةٍ 

ويحفظون في صدورهم

الأحرُف الأُولى للمَوت

أصحابُ الوجوه المنعدِمة 

كانوا يصوِّبون بنادقهم 

نحو امرأةٍ 

وجهُها

يغرق في الرصيف.

شدّوها من الحَبْل

الذي يربط ذِراعيها خلْفَ ظَهْرها

وسحبوها إلى ضفّة القناة

أمام عينيّ

سقطتْ على ركبتيْها

في أرضٍ من العشب الجافّ

الشمس كانت تحرق الأفق

بالأحمر

حيثما توجّه النهر

مياهُه كانت تجرّ معها 

الموت.

■ ■ ■

الهجرة

رأيت ستّة رجال مسلّحين يصعدون شاحنةً

تتوجّه إلى شمال تكساس.

جالساً على مقعد في المحطة

رأيتُ الرجال الستّة يهبطون من دورية

ويدخلون موقف الشاحنات

وكأن شيئًا خطيرًا قد حدث.

كانوا يُسرعون الخُطى 

مرتدين لباسًا أخضرَ صنوبرياً 

وأيديهم جاهزة لإشهار

سلاحهم

وفي نظّاراتهم الداكنة

يُخفُون الغضب نفسه

الذي تجلد به الريح الحارقة

وجوههم المُحمَرّة.

لم يكن قد حدث شيء في المحطّة

لكنّ الرجال الغاضبين

كانوا يشقّون طريقهم

بكلّ سُرعة

بين الحقائب والركّاب

ونظرتهم شاخصةٌ في كَلْب سلوقيٍّ.

الشمس كانت تغرق في الزجاج الأمامي

عندما حاصروا الوحدة.

لحظاتٌ بعد ذلك

كما في موكبٍ

نزل الرجال الستة بزيّهم الرسمي

وهم يمسكون من ذراعها

سيدة صغيرة، صغيرة جدّاً 

كانت تبدو مثل طفل بجانبهم.

كان فصلُ الخريف.

غصن زيتون

انشطر نصفين.

■ ■ ■

حظر تجوال*

في ذلك الوقت

الليل كان صوته محرّك V8

لسيارة موستانغ قديمة

لونها أزرق

لوحاتها من تكساس.

الطنين الذي كان يبدأ

في طرَفِ الشارع

كانت تهتزُّ له شبابيك النوافذ

ويرفع الغبارَ الذي راكمه على جانبَي الطريق

مرورُ السيارات.

عندما كان البريق الأزرق لسيارة الموستانغ

يمرّ مثل شبح من خلال النافذة

وهو يخدش الريح

كنّا نطفئ الأنوار

وننتظر أن تضيع

في الطرف الآخر من الشارع

حيث الرصيف يفسح المجال لأكوام التراب

وتُرفع شواهد 

المقبرة القديمة للمدينة.

حينها كنّا نطلُّ 

من خلف طرف الستائر

ونكتشف ظلام السماء

ينزل في الغبار

حتى يستقرَّ

من جديد

على الرصيف.

لقد حان وقتُ النوم.

* كانت مجموعة من مروّجي المُخدّرات تُعلن عن حظر التجوال، من سياراتٍ تطوفُ كلّ شارع وكلّ حيّ في مدينة رينوسا. في ذلك الوقت، كان لا بدّ من إطفاء أنوار كلّ بيت ولم يكن الخروج آمناً. وإذا لم يُحترم القرار، كانت السيارات تتوقّف والرجال الذين يستقلُّونها ينهالون بالضرب على المخالفين.

■ ■ ■

كنّا شِعرًا

وهكذا أصبحنا حبرًا:

وسمْنا أنفسنا في أماكن

نحتنا أسماءنا في كهوف حضرية

تسلّلنا من خلال لوحات من الحجر والفولاذ

كانت تداعب السماء

وكنّا لا نُمحى.

فكّرنا وأعدنا التفكير في أنفسنا

وتحوّلنا

إلى خيالاتنا

وهكذا بنيْنا قصّتنا.

وعندما كان القمر

يعكس ضوء الشمس

كنّا نقلب الصفحات

ونملأ مساحات فارغة بين السطور

بالقصص

بلغةٍ مختلفة عن لغة العالم:

لغة وُلدت من ألستنا 

المبتلّة بشعاع القمر.

أصواتنا تحوّلت إلى ألحانٍ.

العبارات كانت آياتٍ

ونحن كنّا شِعرًا.

وحينها كنّا

حبرًا وورقًا وقصّة 

في الوقت ذاته

الذي كنّا نكتب أنفسنا فيه 

كنّا نقرأها أيضًا

كي لا نكون فقط

وإنما لنستمر

وأن يكون بإمكاننا أن نكون. 

■ ■ ■

جزء الثانية الذي يتحوّل إلى بطاقة بريدية

نسيم ورائحة شهاب:

الصورة التي تدوم

لذاك الذي

يصل

يبتسم 

ويذهب.

كلماتها

أصبحت أصداءً.

ضحكاتنا

أصبحت ذكريات.

حضورها

تحوّل إلى ظلٍّ

وصداقتنا

تحوّلت إلى ذكرى.

صوت الخطوات

التي تَرسم في الظلام

مسار الرقص.

ظلّ ابتسامة

تنعكس

من مكان غير مرئي.

إيقاع الصمت

الذي يصاحب

غيابك.

والنوتات 

التي أرقص معها

لامبالاتك.

الآن وأنا أستيقظ

أسمع صوتك يناديني

بعد الآن لا أستطيع رؤيتك. 

أغرق في قطرة المطر الساهرة

التي أحضرتْ 

النجمةَ التي عرفتكِ فيها

من السماء إلى نافذتي.

أغرق في دخّان السجائر

الذي يرقص سريعًا أمامي 

بينما السيجارة تتآكل.

أغرق في صوت ديلان الخشن

الذي يغنّي للكائنات الحرّة

من الجانب الآخر من الغرفة؛

بينما أنا معزول في الذكرى 

يناديني ارتطام 

الماء في الحديقة

أتآكل

وأنا أتعرف إليك

أنت النجم الذي

عبر النافذة

يهبط

في القطرة

إلى 

نهايته.

بطاقة 

Mateo Mansilla – Moya شاعر وكاتب مكسيكي من مواليد مكسيكو سيتي عام 1994، يعمل في مجال القانون. له في الشعر دواوين، منها: “موسم الباليه الكلاسيكي انتهى” (الغلاف)، و”أحلام محطّمة: وعُودٌ منسيّة ونهاية سعيدة”. يُعتبر من الجيل الصاعد من الشعراء المكسيكيّين، الذين تركوا حضوراً متميّزاً على المشهد الأدبي في السنوات الأخيرة. كما شارك في تأسيس مبادرات أدبية داخل المكسيك، وورشات شعر ومجلات أدبية.

 ** ترجمة عن الإسبانية: إبراهيم اليعيشي

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى