شعر

في وداع تشارلز سيميك -مختارات شعرية حديثة- لمترجمين عدة

 

رحل تشارلز سيميك يوم أمس عن 84 عاماً، قد يبدو الموت خبراً مألوفاً لعامة الناس، لكنّ فجيعة الشعر تكمن في موت الشعراء، لاسيما من هم بمنزلة سيميك، أولى ترجماتي له كانت عام 2012، وبعد ذلك تواصلت  قراءتي له وتواصلي الخجول معه، لذلك سأحتفي بذكراه هنا، عبر نشر مجموعة من النصوص التي ترجمتها في أوقات متفاوتة.

أحبُّ سيميك لأسبابٍ ذاتية تجعلني قريباً من نصوصه الشعرية، وتلك الأسباب هي ذاتها التي قادته الى أن يكون شعره وليد التجارب التي عاشها أو مرت عليه، بدءاً من هجرته صحبة والدته الى أمريكا، وذلك يعني فضاءً لغوياً جديداً عليه أن يغامر في السباحة أو السياحة في أمواجه، مغترباً عن لغة مسقط رأسه، الأمر الثاني هو الانخراط في الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي شابّاً، وهو نوع من الإكراه القسري الذي تفرضه قوانين الخدمة الالزامية، وما يصاحب هذه الخدمة بالنسبة لمهاجر، من صراعات نفسية بين الولاء للوطن الأم والوطن الحاضنة، والصمت الاجباري الذي قد يكون من هو بمثل سيميك عانى منه تبعاً لوعيه المبكر وشاعريته المبكرة، كذلك أجدُ فيما عاناهُ سيميك من عسر في الحياة وفقدان سكينة معيشة جعله يتنقل بين مهنٍ كثيرة لتأمين قوت أيامه، أجد فيه عاملاً آخر أسهم في تنوّع مواضيع قصيدته، الأمر الذي جعل بعض النقاد يصنفون بعض قصائده ضمن الشعر اليومي الذي يلتقط التفاصيل الصغيرة ويشعل في اهابها روح الشعر، لكنَّها روح سيميك التي لايمكنُ سبر أغوار لغتها بالسهولة التي تمتاز بها القصيدة اليومية، فهو أستاذ لغة، ويمكنني الاعتراف كذلك أنَّ ماقادني لمحبّة سيميك بشكل أعمق هو بعدُ قصائده عن الحشو اللغوي الذي تمتاز به بعض قصائد من جايلوه من الشعراء، ربّما لميل شخصي الى القصيدة التي تحملُ معاني مضلّلةً تصلح لتأويلات متعددة بعيداً عن سمة التطويل الذي يأخذك في رحلة متعبة لامعنى لها، من أجل الوصول الى قلب المعنى، وفي النهاية أجدني مشدوداً اليه شاعراً كبيراً يعمل بدون صخب أو ضجيج، بيدَ أن قصيدته تمضي بعيداً لتوقظ الغافلين عن الجمال …إنَّه انتصار المرء حين تكون حياته دافعاً لرسم صورة أخرى لحياته عبر النأي بذاته عن الادّعاء ،،

•تقديم وترجمة : عبود الجابري

(عيون مثبتة بدبابيس)

كيف يعمل الموت..؟

لا أحدَ يعلم

في أيِّ يوم طويل سيحطّ رحاله

الزوجةُ الوحيدة دائماً

تكوي غسيلَ الموت

البناتُ الجميلات

يقمن بأعداد طاولة عشاء الموت

الجيرانُ يلعبون الورقَ في الفِناء الخلفي

أو يكتفون بالجلوس على العتبات

ليحتسوا البيرة

وفي غضون ذلك

وفي جزءٍ غريب من المدينة

يبحث الموتُ عن أحدٍ يسعل بشكلٍ رديءٍ.

غير أن العنوانَ مضلّلٌ نوعاً ما

وحتى الموت لم يستطع الإهتداء إليه

بين تلك الأبواب المقفلة جميعها

وحيث يشرع المطر بالهطول

في ليلةٍ عاصفة

هكذا

يموتُ بدون حتى جريدة تغطي رأسه

ودونما قطعة نقدية تمكنه بالاتصّال بمن يغيثه

متثاقلاً يتعرّى على مهله

ويوثقُ عارياً إلى جهة الموت في السرير

——————————–

(ضـــد الشتـــاء)

الحقيقة داكنة تحت جفنيك

فماذا ستفعل بشأنها..؟

الطيور صامتةُ

وما من أحد تسأله

ستمضي طيلة النهار محدّقا بالسماء الرمادية

وحين تعولُ الريح

سترتجف مثل قشة

وسينمو لك صوف ،مثل حملٍ ذليل

منتظرا أن يطاردوك بمجزّاتهم الهائلة

الذباب يحوم حول فمٍ مفتوحٍ

وما يلبث أن يهوي

كما الأوراق

تتبعها الأغصان العارية

بغير جدوى

الشتاءُ.. يحلّ

مثل بطلٍ أسطوري في جيش مهزوم

بينما تظلّ في مكانك

كاشفا رأسك لنديف الثلج الأول

لحين وصول جارك

الذي يصرخ بك

أنت أكثر جنوناً من الطقس .. يا شارلي

——————————–

( يوم عاصف)

زوج ٌمن الملابس الداخلية

أحدهما أبيض والآخر وردي

يطيران صعوداً ونزولاً على حبل الغسيل

يخبران العالم كلّه

أنّهما يحبّان بعضهما بجنون

——————————–

(ثلج)

لاشيء أكثر هدوءًا

من تساقط الثلج بهدوء

ندفةٌ  تدلّل أختها

كي تتأكَّد

أنّها لن توقظ أحداً

——————————–

( شوكة Fork  )

لابدَّ أن هذا الشيء الغريب

قد تسلل الآن من الجحيم

إنّها تشبه قدم طائر

يضعه في عنقه آكل لحوم البشر

وعندما تحملها في  يدك

و تطعنُ بها  قطعة من اللحم

يمكنك  تخيُّل ما تبقّى من الطائر:

برأسٍ مثل قبضة يدك

كبيراً ، أصلعَ، بلا منقار ، وأعمى

——————————–

(كنتُ هناك)

لم  يرني أحدٌ  في شوارعكم

على الرغم من أنّني

 ما زلت هناك

أتسكّع

وأتوقّف  لإلقاءِ نظرة خاطفة

 على المتاجر الفارغة

وأتحدَّث إلى حمامة وحيدة

——————————–

( نوفمبر)

المتخاصمون جميعهم

رجالاً ونساء

يجب أن يحملوا الحياةَ إلى برّ الأمان

 ولو بطريقةٍ  أكثر وضوحاً

في هذه الليلة المظلمة، الممطرة

——————————–

(اللّا متناهي)

اللّا متناهي يتثاءب ويستمر في التثاؤب.

هل هو مصابٌ بالنعاس ؟

هل يفتقد فيثاغورس

الأشرعة على سفن كولومبوس الثلاث؟

هل  يذكّره صوت الأمواج بنفسه؟

هل يجلس مع كأس من النبيذ

ويتفلسف؟

هل يلقي نظرة خاطفة على المرايا في الليل؟

هل لديه حقيبة مليئة بالهدايا التذكارية

مخبأة في مكان ما؟

هل يحبّ الاستلقاء على أرجوحة

وتهمس الريح  في  أذنه بأشياء جميلة ؟

وهل يدخلُ الكنائس الفارغة

ويضيء شمعةً واحدة على المذبح؟

هل ينظر إلينا كزوجٍ من اليراعات

نلعب “الغمّيضة” في مقبرة؟

هل يجدنا صالحين للأكل؟

——————————–

(هجران الإنجيل)

ما قاله آدم لحوّاء

وهما يرقدان في الظلام

– حبيبتي

ما الذي يجعل ذلك الكلب

ينبحُ في الخارج ؟

——————————–

(العاشق)

عندما كنت أعيش في مزرعة

كتبتُ رسائل حب

لدجاجاتٍ يمارسن النقيق في الفناء

أو كنتُ أجلس في الغرفة الخارجية

 أكتب رسالةً لعنكبوت

تحوكُ شباكها  فوق رأسي.

كان ذلك عندما حلّقتْ زوجتي مع ساعي البريد.

الجيران كانوا  يغادرون كذلك

الخنازير وصغارها  تصرخ

راكضةً خلف الشاحنة المتحركة

وحتّى تلك الفزّاعة

التي ربطتُها ذات مرة بشجرة

لذلك يتوجّب عليها  أن تصغي إليّ

——————————–

.

(حيرة)

لقد شتمتُ شخصًا ما

أو شيئاً من هذا القبيل

كان يتطوّحُ ويتقلب طوال الليل

أو هكذا قيل لي ، على الرغم من عدم وجود ذاكرةٍ لديّ

من يمكن أن يكون ؟

لذلك حدَّقتُ

في الخارج  حائراً

كان الصقيعُ على الشجيرات جميلًا

مثل زينةِ شجرة عيد الميلاد

عندما  تسلَّلتْ إلى المشهد

سيارة ليموزين سوداء مثل النّسر

وتوقَّفتْ عند  كلِّ صندوق بريد

 كمن يبحث عن اسمٍ بصورة عاجلة

ولا يعثرُ عليه

إطاراتُها تصرخُ مثل خنزيرٍ صغير

يعلّقه  جزّارٌ في الهواء

——————————–

.

( الفقيدة)

الآن بعد أن أصبح الجو دافئًا

يصلحُ للجلوس على الشرفة ليلا

تصادف أن يتذكر شخصٌ ما

إحدى الجارات ،

على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عامًا

منذ أن ذهبت

 في نزهة قصيرة بعد العشاء

ولم تعد أبداً

لزوجها وأولادها

——————————–

( القاموس)

ربما هناك كلمة في مكان ما

لوصف العالم في هذا الصباح

، كلمة لوصف الضوء المبكر

سعيداً بمطاردة الظلام

ليقذفَ به

خارج نوافذ وبوابات المتجر

——————————–

( جنون)

ندفة الثلج ذاتها

ظلَّت تتساقط من السماء الرمادية

طيلة وقت ما بعد الظهيرة،

تتساقط وتتساقط

 ثمَّ تنأى بنفسها

بعيداً عن الأرض

، ثمّ تعاود السقوط

ولكنها الآن تمارس الكتمان

بحرص أكبر

كلَّما مرَّ الليل

لمعرفة ما يجري

——————————–

( إلى الملل)

أنا طفلُ آحادكَ المُمطرة

أرقبُ الوقت

زاحفاً على السقف

كذبابةٍ جريحة

يومٌ يدوم إلى الأبد

يعدُّ أقراصاً من الخبز

آملاً أن يتحرك غصنٌ على شجرة عارية

يتعمّق الصمت

والسماء تغدو  أكثر ظلاماً

كما لو أنها جدّةٌ

 تحوك كرةً من الحكايا السّود

وأنا أتخيّل الجنة كذلك

في دروس الخلود

حيث يجلس الملائكة

 مثل أطفالٍ ضجرين

مُطرِقي الرؤوس

——————————–

(عجوزان)

كانا ينتظران أن يقتلا

أو أن يتشردا عاجلا

كانا يتوقّعان ألا يجدا شيئاً يأكلانه

في غضون ذلك جلسا

كان وجع القسوة يدنو

وكانا يعتقدان

 أنّه يبدأ في القلب

 ثم يتسلّق إلى الفم

سوف يحملان على نقّالة

مولولين

في الليل كانا يراقبان النافذة

دون أن يتبادلا كلمة واحدة

كانت تمطر

وكانت توحي أنّها ستثلج قليلاً

رأيته ينهض

ليخفض “الأباجور”

مادامت نافذتهما ستبقى معتمة

أعرف أنّ يده

قد لمست يدها

كما لو أنّها

توشك أن تشعل الضوء

——————————–

(حجر)

أمضي إلى باطنِ حجرٍ

ذلك ماسيكون عليه طريقي

تاركاً لسوايَ أن يكونَ حمامةً

او صريراً في نابِ النّمر

و يسعدُني أن أكونَ حجراً

فالحجرُ في ظاهرِه أُحجيةٌ

لا أحدَ يستطيعُ الإجابةَ عنْها

مع ذلكَ

عليهِ أنْ يكون بارداً

وهادئاً

حتّى إنْ داستْ عليه بقرة ٌ

بكاملِ وزنِها

حتّى وإنْ طوَّحَ بهِ طفلٌ الى النهر

الحجرُ يغطسُ على مهلِه

إلى قاعِ النَّهر

دونما ارتباكٍ

حيثُ الأسماك التي تأتي

كي تربتَ عليه وتصغي

لقد رأيتُ الشَّرر يتطايرُ

من احتكاكِ حجرين

فلعلَّه بعد ذلك

 لايكونُ معتماً من الدّاخل

ربَّما يكونُ هناك قمرٌ يشّعُّ

في مكانٍ ما

كما لو أنَّهُ وراءَ التّلال

فقطْ مايكفي من الضّوءِِ

ليغازلَ الكتابات الغامضة

ومواقعَ النّجومِ

على الجدرانِ العميقة

——————————–

(القصيدة  )

قطعة من اللحم

يحملها لصّ

لصرف انتباه كلب الحراسة

(البطّيخ)

“بوذا ”  الأخضر

في ركنِ الفواكه

، نأكل ابتسامته

ثمَّ نبصقُ الأسنان

——————————–

( السير على الحبال)

ينتظرنا كثيرٌ من الحزن

أيّها الأصدقاء

  بدءاً من هذا اليوم

 سنختبرُ شجاعتنا

 متشبّهين بأولئك الرجال الذين يمدّون سلكاً

 بين ناطحتي سحاب

 ويمضون للسير عليه ،

 يحملُ كلّ منهم

 مظلةً مفتوحة

  قد تطوّح بها  الريح

 عندما يكونون

 في منتصف الطريق تماماً

فتذهب

وتسلّي نفسها

 بالسير على الجدران

في طريقِها إلى الأرض

 ، ونحن على الأرجح

سوف ننسى صديقاً

 يلوّحُ بذراعيه هناك

 مثلَ فزّاعة

 في عاصفةٍ ترابيّة

——————————–

( الدرس الأخير)

سيكونُ عن لاشيء

ليسَ عن الحبِّ

أو عن الله

لكنّه عن اللّاشيء

ستكون شبيهاً بطفلٍ مستَجِدٍّ في المدرسة

يخشى النظرَ إلى المعلّم

بينما يجاهدُ كي يدركَ

ماذا يقولون

عن هذا  اللّاشيء الماثل

——————————————

======================

الشاعر الأمريكي شارلز سيميك: “إحياء الصمت الأمّ”/ صبحي حديدي

«أنا نتاج المصادفة، طفل الإيديولوجيات، ويتيم التاريخ. هتلر وستالين تآمرا ليحوّلاني إلى مشرّد. حسناً، أيكون حالي مأساوياً؟ كلاّ. ثمة الكثير من المأساة هنا وهناك، بما يكفي لكي يشعر أيّ كان أنه هاملت. الأرجح أن حالي أقرب إلى الملهاة. إنها (دهشة الروح المتفكّرة في ذاتها) وفي معضلتها، أو هكذا قال شليغل»…

أو هكذا قال شارلز سيميك (1938-2023) الشاعر الأمريكي من أصل صربي وأحد أهمّ الأصوات العميقة في الشعر الأمريكي المعاصر. وبمعزل عن مبدأ «مغالطة القصد» الذي يجعلنا ننساق عادة إلي تعليق أهمية توثيقية ـ نقدية مفرطة على ما يقوله المبدع عن نفسه، فإنّ القسط الأعظم من التصريح أعلاه يبدو صحيحاً تماماً. لقد ولد سيميك في بلغراد (يوغسلافيا السابقة) عام 1938، وعاش أهوال الحرب العالمية الثانية هناك، واضطرته معادلات تقاسم أوروبا الشرقية إلي الهجرة مع أسرته إلي فرنسا أولاً ثم إلى الولايات المتحدة، حيث درس ومارس العديد من المهن المتنافرة (خازن كتب، وبائع قمصان، ومحاسب، ودهّان) قبل أن ينتمي نهائياً إلى المجتمع الأمريكي واللغة الإنكليزية، ويكتب الشعر بهذه اللغة دون أن ينفكّ عن لغته الأمّ الصربو ـ كرواتية، فيترجم الكثير من أشعار فاسكو بوبا وإيفان لاليش وآخرين.

ذلك بعض السبب في أننا قلّما نعثر على التاريخ في الشعر الأمريكي المعاصر، مثلما نعثر عليه في نتاج سيميك الشعري. إنه أيضاً بعض السبب في أن ذلك «التاريخ» قلّما يغادر دائرة التساؤل الفينومينولوجي التي تبدو ـ وحدها تقريباً ـ القادرة على إعادة تعريف تجارب الماضي عن طريق استكشاف مدي ما تختزنه من غريب عجيب عبثي؛ وليس عن طريق كشف الغطاء عن غموضها. وبهذا المعني تصبح واضحة تلك العبارة الصاعقة التي أطلقها سيميك ذات يوم: «أظن أنني شاعر واقعي Realist وشاعر سوريالي Surrealist، مشدود إلى القطبين في آن».

كان أيضاً مشدوداً إلى مارتن هايدغر، ليس لأسباب فلسفية أخرى غير تلك المتصلة بما عُرف به الفيلسوف الألماني من انحياز إلى «الأشياء في ذاتها» الأمر الذي يفسّر تلك الطائفة الفريدة من القصائد التي كرّسها سيميك للأشياء: الحجر، الحذاء، المكنسة، الملعقة، السكّين، والشوكة؛ هذه التي يصفها كما يلي:

لابدّ أنّ هذا الشيء الغريب قد تسلّل

من الجحيم مباشرة.

إنها تشبه قَدَم طائر

يطوّق عنق آكل لحوم البشر.

وإذْ تمسكها بِيَدكَ،

وإذْ تغرزها في قطعة من اللحم،

فإنّ في مقدورك أن تتخيّل ما تبقّى من الطائر:

رأسه الذي مثل قبضتكَ

ضخم، أصلع، أعمى، بلا منقار.

والناقد الأمريكي كيفن هارت يعتبر هذه القصيدة تمريناً على «نزع الألفة» عن الأشياء، وتحويل أشياء الحياة اليومية إلي موضوعات صانعة للغرابة، في مستوي الانطباع الأوّل علي الأقل. وبالفعل، نحن أوّلاً أمام الشوكة في صورة شوكة الشيطان دون سواها، ثم يتبدّل السياق سريعاً لكي تصبح الشوكة قدم طائر، وبعدها ينخرط القارئ ذاته في سياق جديد يجعله آكل لحوم بشر، ليس بسبب العبارة ذاتها أساساً، بل بوحي من ممارسة يومية آدمية هي غرز الشوكة في قطعة اللحم. وأخيراً، يتبدّل سياق القصيدة بأسره حين تختلط المقارنة بين الشوكة والطائر والآدميّ، عن طريق اختلاط الاستعارات بين الرأس والقبضة الضخمة الصلعاء العمياء بلا منقار.

وسيميك بين هؤلاء الذين يؤمنون بوجود العناصر السابقة على اللغة، بعكس الإجماع الشائع الذي يلحّ على وجود نوع من التكافؤ بين اللغة والفكر هو الذي يكفل إمكانية الصياغة اللفظية للأشياء التي لا يستطيع الإنسان صياغتها فكرياً. إنه واثق، كما يقول، من وجود مرحلة تسبق طاقات الصياغة اللفظية، مؤلّفة من أشياء يتمّ الوعي بها عن طريق سيرورة من التجارب الحسّية والشعورية المعقدة، والتي لا توفّرها اللغة (إذا وفّرتها) إلا بواسطة ضغط تعبيري داخلي خفيّ.

وفي نصّ شهير يكتب سيميك: «إنني أطلق اسم الصمت على كلّ ما يسبق اللغة: العالم، وإحساس المرء بوجوده في نفسه. ولطالما فكّرت بأنّ الكلام أشبه بالصفير في الظلام. العالم، في قناعتي المتواضعة، لا يقتضي منّي أن أقول أيّ شيء. حين أكون متنبهاً وصامتاً، فإنني أبدو أقرب إلى طبيعة الأشياء. وإنّ عدداً من قصائدي المبكّرة هي محاولات لتحويل هذا المأزق إلى أسطورة خَلْق». لماذا يكتب الشاعر إذاً؟ أليست كتابته بمثابة كسر لذلك الصمت؟ ربما لأنّ الشاعر يقول ويكتب بوصفه مترجم الصمت وليس كاسره، وربما لأنّ اللغة موجة واحدة في عباب البحيرة العارمة لصمت بلا كلمات.

«الصمت الأمّ» Maternal Silence، هو التعبير الذي يستقرّ عليه سيميك حين يتوغّل عميقاً في وصف الحياة قبل مجيء اللغة، حين تسمح شروط المكان بالإصغاء إلى صوت الجماد: «الشعر يتيم الصمت. الكلمات لا يمكن أن تتساوى مع التجربة الكامنة وراءها. ونحن دائماً في البدء، تلامذة إلى الأبد. وكلما كان الصوت القادم من ذلك الصمت الأمّ عميقاً، تردّد صداه أوسع فأوسع». وذات يوم لم يتردد سيميك في الإعلان عن أنّ بعض أجزاء نفسه قد تحوّلت إلى سكّين أو شوكة أو فأس، فكيف في وسعه بعدئذ أن يختال بما تملكه اللغة من معنى حين يكون في حضرة… الأحجار والأشجار والعظام؟

ولقد تنبّه مجايلوه من الشعراء إلي هذه المَلَكة الفريدة بالذات، في مشروع شعري ظلّ عارماً مضطرماً وامتد على أكثر من 15 مجموعة شعرية (أشهرها «ما قاله العشب» «في مكان ما بيننا، يدوّن الحجر ملاحظاته» «تفكيك الصمت» «العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب» «كوزمولوجيا شارون» و»رقصات في قاعة كلاسيكية»)؛ لكنه ظلّ مشروعاَ متجانس التطوّر، قلّما تقلّب أو شهد انقطاعات حادّة.

ومارك ستراند بين هؤلاء المجايلين الكبار، وعن شعر سيميك يقول: «قصائده تكشف، بوضوح جوهري، هيئة ومزايا عالم نبتكره سرّاً، ويطبع حيوّاتنا في ذرى توتّرها، وننكره غالباً لأنه أكثر واقعية من كلّ ما نعرفه. ثمة في قصائد سيميك إحساس بأنّ الصُوَر تسبق الأشياء، وأنّ العالم مخلوق الأسطورة، وأنه ما من شيء يتطابق مع الصورة التي نرسمها نحن له».

مختارات

قصيدة

في كلّ صباح أنسي كيف كانتْ.

أرقبُ الدخان يتصاعد

بخطوات واسعة، فوق المدينة.

ولا أنتمي إلى أحد.

وعندها، أتذكّر حذائي،

وكيف يتوجّب أن أنتعله

وكيف أنني، في الانحناء لعَقْد خيوطه،

سوف أتطلّع إلى الأرض.

٭ ٭ ٭

قصيدة رعويّة

جئتُ إلى مَرْج

كان العشب فيه صامتاً

وكانت الزهور

كلمات

رأيتُ أن البراعم

من لحم ودمّ

وأنها ترتعش وتفزع

وأنّ الريح كالسكّين

وهكذا جلستُ بين كلمة (حقيقة)

وكلمة (خرافة)

وأخرجتُ وعائي الفارغ

وملعقتي وسألتٌهما عن (الحُبّ)

وفي غمرة الصمت

وكان الظلام ينسدل

سمعتُها تناديني باسمي

بصقتُ علي راحتَيّ يدَيّ

لأقنص النجومَ فيهما

كالحُباحب

وأضيء طريق وصولها إليّ

٭ ٭ ٭

تفكيك الصمت

خُذْ أذنَيْه أولاً

بحذرٍ، لئلا تطفحا على الجانبين

وبصُفّارة حادّة شُقّ بطنه طولانياً.

فإذا وجدتَ فيها رماداً، أغمض عينيك

وذُرّه في أي اتجاه تهبّ نحوه الريح.

وإذا وجدتَ الماء، الماء النائم،

فاجلُبْ جذر زهرة لم تشرب منذ شهر.

وحين تبلغ العظامَ،

وليس إلى جانبك كلب،

وليس في حوزتك تابوت من الصنوبر

وعربة يجرّها ثوران صانِعان للصرير،

دُسّ العظام سريعاً تحت جلدك.

وحين تحدودب بكتفيك في المرّة القادمة

فإنكَ لا بدّ شاعرٌ بها تضغط علي عظامك.

الظلام الآن حالك.

ببطء وصَبْر،

فتّشْ عن قلبَه. سوف تحتاج

إلى الدبيب بعيداً في السماءات الفارغة

لكي تسمعه ينبض.

٭ ٭ ٭

بطيخ أحمر

بُوذاتٌ (1) خُضْرٌ

على منصّة الفاكهة

نأكل الابتسامة

ونبصق الأسنان.

قصائد نثر 

سرقني الغجر ذات مرّة. سرقني أهلي منهم وأعادوني. ثم سرقني الغجر ثانية. وتواصل الأمر بعض الوقت. فمرّة كنتُ في القافلة أرضع الشاي الأسود من يد أمّي الجديدة، ومرّة تالية كنت أجلس إلى طاولة الطعام الطويلة أتناول إفطاري بملعقة فضية. كان النهار أولّ أيام الربيع. أبي الأوّل كان يغنّي في حوض الاستحمام، وأبي الثاني كان يطلي قُبّرة حَيّة بألوان طائر قارّي.

الحَجَر مرآة رديئة الأداء. لا شيء في باطنه سوى العتمة. عتمتُكَ أم عتمتُه؟ مَن يدري؟ وفي السكينة يقرع قلبُكَ مثل جُدجُد أسود.

٭ ٭ ٭

يطلقُ على كلب اسم رامبو، وعلى آخر اسم هولدرلين. كلاهما مهجّنان. حِكمتُه المفضّلة: «الحياة التي لم تُختبر ليست جديرة بالعيش». زوجته تشبه المرأة نصف العارية في لوحة دولاكروا «الحرية». ترتدي جزمة الكاوبوي، وتجمع من الغابة فُطْراً خطير الملامح. والليلة سوف يشعلان شموعاً طويلة وسيحتسيان النبيذ. وبعدها، سوف يفتحان الباب ليدخل الكلبان ويأكلا الفُتات تحت الطاولة. Entrez, mes enfants (3) سوف يهتف في وجه الليل، منحنياً من خصره بجلال عميق.

٭ ٭ ٭

يخطو الرجل الميّت، هابطاً من منصّة الإعدام. إنه يحمل رأسه الدامي تحت إبطه. أشجار التفّاح مزهرة. إنّه يشقّ طريقه إلى حانة القرية والجميع يتابعونه بأبصارهم. وهناك، ينتحي مقعداً ويطلب بيرتَيْن، واحدة له وأخرى لرأسه. تمسح أمّي يديها بمئزرها وتخدمه. الهدوء التامّ يخيّم على العالم. وفي وسع المرء أن يسمع النهر العتيق، الذي يحدث أن تختلط عليه الأمور أحياناً، فينسي ويتدفّق عائداً إلى منبعه.

٭ ٭ ٭

يوشك إبهامي على الانخراط في مغامرة عظيمة. «لا تذهب، رجاءً» تقول الأصابع. تحاول احتجازه. هنا تصل ليموزين سوداء تجلس في مقعدها الخلفي امرأة مقنّعة، ولا أحد وراء المقود. وحين تقف السيّارة، تتناول المرأة من حقيبة يدها مقصّاً ذهبياً، وتبتر الإبهام. نسافر الآن إلى شيكاغو، والعِقْب الدامي لإبهامي في يدها، تستخدمه لطلاء شفتيها.

قرنٌ من تجميع الغيوم. سفن الأشباح تجيء وتروح. البحر أعمق، أوسع. الببغاء في قفص المامبو يتقن لغات عديدة. القبطان في الصورة الفوتوغرافية القديمة دَهنَ وجنتيه بالأحمر. جَلبَ امرأة نصف عارية من البلاد الاستوائية، فأبقوها مقيّدة بالأصفاد حتى بعد مماته. وفي الليل كانت المرأة تصدر أصواتاً قد تكون أغنيات. القبطان روي عن نسل من رجال بلا أفواه، يعيشون على أريج الزهور. ذلك دفع زوجته وأمّه إلى تلاوة صلاة من أجل خلاص جميع الأرواح غير المعمّدة. لكننا، ذات مرّة، داهَمْنا القبطانَ وهو يخلع لحيته. كانت مزيّفة! وكانت له، تحتها، لحية أخرى مضحكة بدورها. ذلك كان عصر نُزهات الأرملة المنهمكة. لُغات الحبّ الميّتة كانت ما تزال قيد الاستخدام، لكن كان ثمة الكثير من الصمت أيضاً، والكثير من الصراخ الصامت المكتوم في أعلى الرئتَيْن.

٭ ٭ ٭

من داخل قِدْرٍ فوق الفرن ثمة من يتوعّد النجوم بملعقة خشبية. وسوى ذلك، لا شيء سوى الهدوء الخالي من السُحُب. إنها ساعة الرعاة.

………………………………………………..

(1) جمع بوذا.

(2) بلا عناوين في الأصل، من مجموعته The World Doesn›t End، 1989، المكرّسة بأكملها لهذا النوع من القصائد.

(3) بالفرنسية في الأصل: (أدخلا يا طفليّ)

كلمات مفتاحية

=========================

 إمبراطوريّات *

إمبراطوريّات *

وكالة «غيتي»

لقد تنبّأت جدّتي بنهاية

إمبراطورياتكم أيها الحمقى!

كانت تكوي والراديو مفتوح

اهتزّت الأرض تحت أقدامنا

كان أحد أبطالهم يخطب

قالت عنه «وحش»

كانت هناك هتافات ومدافع تحيّي الوحش

أعلنتْ: «بإمكاني أن أقتله بيدي»

لم يكن هناك حاجة لذلك

فهم جميعاً

ذاهبون إلى الشيطان قريباً

لكنها أنذرتني:

«لا تثرثر بشيء عن هذا لأي شخص»

ثم جرّت أذني لتتأكّد من أنّي فهمت.

* قصيدة لتشارلز سيميك ــــ ترجمة الشاعر والروائي العراقي سنان أنطون

———————

تشارلز سيميك: عرّاف عاطل عن العمل *

اختيار وترجمة وتقديم: تحسين الخطيب

تحيا قصائد تشارلز سيميك (1938-2023) على الحافَّة، في الحواشي، وعميقاً حولها؛ في التُّخوم، دائماً، وعليها: «حيث كلُّ شيءٍ يترنَّحُ على حافَّة كلِّ شيء». على ذلك الحَرْفِ المعلَّق بين الزَّمن والتَّاريخ، وبين الزَّمن والأبديَّة. كما لو أنَّ اللغةَ، في جوهر وجودها المُعيَّن، حالةٌ مؤقَّتة لما لا يُوصَفُ أو يُقَال. كما لو أنَّ القصيدةَ، في كينونتها الدَّائخة، ليست سوى ذلك الصَّوت الهامس الذي نسمعه، عميقاً، في آخر اللَّيل. القصيدةُ-الظلُّ التي هي كلُّ شيء آخر. كلُّ ذلك الذي لا يتحقَّق إلَّا بأخرويَّة ما سواه. الأنا الغنائيَّةُ في مواجهة العالَم، بأقصى طاقاتها، ضدَّ شروره وفوضاه. كما أنَّ موضوعة الشِّعر، عند سيميك، هي «موضوعة الشِّعر في زمن الجنون»: أن «يُذكِّر النَّاسَ بمخيِّلتهم وإنسانيَّتهم». وليس الشَّاعرُ، عنده، سوى «ميتافيزيقيٍّ في الظَّلام». شاعرٌ يسعى، بالنَّظرة غير العاطفيَّة التي يمتلكها عن العالَم، إلى كتابة قصيدةٍ دنيويَّة أبديَّة؛ قصيدةٍ تتقبَّل التراجيديا، تلك «الكآبة اللَّذيذة»، تعيش فيها، ثُمَّ تمضي قُدماً. الواقعيَّة المتجهِّمة التي تُحوِّل التراجيديا إلى نوعٍ من الشِّعْر الذي هو السَّعادة: «السَّعادة القديمة وقد صارتْ سعادةً جديدة». تشريح الكآبة الذي يُفضي إلى الغُرَف الجوَّانيَّة للنَّفْس التي تَرى. وثمّةَ نظرةٌ مزدوجةٌ في القصيدة التي يكتبها سيميك. من المُتخيَّل والعاديِّ. عوالم سرياليَّة يتصادم فيها الميثولوجيُّ بالمُبتذَل، ويتصادم فيها اليوميُّ بما هو وراءه: يغمض الشَّاعرُ عينيهِ، على قَدْر استطاعته، «كي يرى العالَم على نحوٍ أفضل». كما أنَّ الهَزْل والظُّرْفَ وحضورَ البديهة والتهكُّمَ سماتٌ أساسيَّةٌ في بنية المشروع الشعريِّ الذي يشتغل عليه؛ لأنَّ «الهَزْل، كالشِّعْرِ، مُنتهِكٌ ومُحرِّضٌ». ولا يكفُّ تشارلز سيميك، في قصائده، عن العودة إلى أماكن طفولته، كأنَّه ما زال يحيا هناك. كأنَّ القصيدة، في حدِّ ذاتها، هي «فردوسه المفقود»، أو، بالأحرى، «إيثاكاه» التي يحرص على أن تظلَّ ماثلة في ذهنه. كأنَّه قد كُتب عليه أن يصل إلى هناك، كما يقول كفافيس في قصيدته ذائعة الصِّيت. لكنَّ تلك العودة أشبه ما تكون بالعزلة؛ عزلة المنفرد الذي يُطلُّ على نفسه من ثقب صغير في الذاكرة. عزلةٌ ليست هي عزلة الآخر— البعيد والقصيِّ والغريب والأجنبيِّ— بل هي تلك المرآة الوجوديَّة التي نرغب، نحن قرَّاء شعره، في القفز في أعماقها، وأن نكون جزءاً حيوياً من المشهد كلِّه. أن نفكك طبقات الصَّمت التي تلفُّ القصيدة، لنرى وجوهنا تشعُّ، بلا أيِّ أقنعة، ليس على السطح فحسب، وإنَّما عميقاً في وجود كينونتنا ذاته. أن نرى الكلمات، والصور الشعريَّة، والاستعارات، في كل أحوالها ومقاماتها، وقد أصبحت طريقاً منيراً، تأخذنا في رحلة «جوَّانيَّة»، لنعثر على المعنى؛ معنى وجودنا نحن. وجود الذي لا «يمتلك تاريخاً، بل نوستالجيا لا تنتهي». قِلّةٌ من الشُّعراء المعاصرينَ كانوا بمثلِ تأثير سيميك، أو في مثل فَرادته. وليسَ ثمّةَ، في أميركا اليومَ، شاعرٌ آخرُ يكتب بإحساسٍ عظيمٍ من وضوحِ الصُّورةِ، مثلما يفعلُ هُوَ

——————————

1. خوف

جاهلاً،

يعبرُ الخوفُ،

مِن شخصٍ إلى آخرَ،

مثلما تُمرِّرُ أوراقُ الشَّجرةِ رجفتَها

من ورقةٍ إلى أُخرى.

فجأةً ترتعشُ الشَّجرةُ كلُّها

ولا أثرَ للرِّيحْ.

——————————

2. قصيدة

تُغنِّي ابنتي الصَّغيرةُ في اللَّيلِ:

آه! آه! آه! آه!

لقد جاءت من أرضِ صَرَّاراتِ اللَّيلِ والمياهِ العميقةِ

وفي غنائها تعودُ.

——————————

3. الرِّيح

تلمسيني،

تلمسينَ الوطنَ الذي نفاكِ.

——————————

4. مزمور

لا بُدَّ أن تفهموا بأنَّني أكتبُ في اللِّيلِ ما أكتبُ

يطوِّقني نومُهنَّ مثلَ بحرٍ مُحيطٍ.

اسمُها مريمُ، أشدُّ النِّساءِ غموضاً.

هيَ غابةٌ، عندَ أوَّلِ الوقتِ تنتصبُ.

وأنا شخصٌ في ثناياها أرقدُ. هذا الضَّوءُ سائلُنَا المنويُّ.

الغابةُ عتيقةٌ، أعتقُ منَ النَّومِ،

واعتقُ من هذا المزمورِ الذي أنظمُهُ كُلَّما مضيتُ.

——————————

5. بطيخ

تماثيلُ بوذا خضراءُ

فوقَ بسطةِ الفاكهة.

نأكلُ الابتسامةَ

ونبصقُ الأسنان.

——————————

6. الأثداء

أُحبُّ الأثداءَ، الأثداءَ

المكتنزةَ، النَّاهدةَ، يحرسُهَا

زِرٌ وحيدُ.

تأتي في اللَّيلِ.

كتبُ القدماءِ عنِ الحيواناتِ الرَّامزةِ

التي تضمُّ وحيدَ القرنِ

أبقَتْها بعيداً.

لؤلؤيَّة هي الأثداءُ، كالشَّرقِ

قبلَ ساعةٍ من شروقِ الشَّمسِ،

لا شيءَ يستحقُّ العناءَ

سوى نهدَيْنِ أَتُونَينِ

لحجرِ الفلاسفةِ الوحيدِ.

تجلبُ حلماتِها؛

خَرَزَاتِ التَّنهيداتِ الخافتةِ،

حروفِ عِلَّةِ الوضوحِ اللَّذيذِ،

إلى مَدرسةِ أفواهِنا، المدرسةِ الحمراءَ الصَّغيرةِ.

وفي مكانٍ آخرَ، تُدوِّنُ العزلةُ

في دفترِ الأستاذِ

قَيْداً كئيباً آخرَ، والبؤسُ

يستقرضُ كُوباً آخرَ من الأرز.

تقتربُ الأثداءُ أكثرَ: حضورٌ

حيوانيٌّ. في الحظيرةِ

يرتعشُ في السَّطلِ الحليبُ.

أُحبُّ أن أصعدَ إلى النَّهدَيْنِ

مِن تَحْتٍ، كطفلٍ

يصعدُ فوقَ الكرسيِّ

كي يَطُوقَ جرَّةَ المُربَّى المُحرّمِ.

أفكُّ الزِّرَّ، على مَهْلٍ،

بشفتيَّ.

أجعلهُما ينزلقانِ في يديَّ

مثلَ قَدَحَيّْ بيرةٍ صُبَّتْ للتَّوِّ.

أبصقُ على الحمقى اللَّذينَ أخفقُوا في ضَمِّ

الأثداءِ إلى ميتافيزيقيَّاتهم،

وعلى الفلكيِّينَ، النَّاظرينَ في النُّجومِ، اللَّذينَ لم يعدُّوها

مِن بينِ أقمارِ الأرضِ…

تمنحُ الأثداءُ كلَّ إصبعٍ

شكلَهُ الحَقَّ، مسرَّتَهُ:

الصَّابونَ البِكْرَ، والرَّغوةَ

التي ننظِّفُ بها أيدينا.

وكيفَ يحتفي الفمُ

بهاتَينِ الكعكتَينِ الحامضتَيْنِ،

فالفمُ ريشةٌ

مغموسةٌ في صفارِ البيضِ.

أُصرُّ على أنَّ الفتاةَ

التي تعرَّت حتَّى الخصرِ،

هي المعجزةُ الأولى الأخيرةُ،

وأنَّ البوَّابَ العجوزَ الذي يطلبُ،

وهوَ على فراشِ الموتِ،

أن يرى ثديَي زوجتهِ

لآخرِ مرَّةٍ

هُوَ أعظمُ شاعرٍ على مرِّ العصورِ.

آهِ يا نَعَمِي اللَّذيذةُ، آهِ يا لائِيَ اللَّذيذةُ،

انظرا، كلُّ مَن في الأرضِ ينامُ.

والآنَ، في هذا السُّكُوتِ،

أجذبُ خصرَ

حبيبتي إلى خصري،

سوفَ ألقمُ كلَّ ثديٍ

مثلَ عنقودِ عنبٍ ثقيلٍ داكنٍ

في قَفِيرِ

فمي النَّاعسِ.

كولاج غلاف الطبعة الأميركية لديوان «العالم لا ينتهي» (1989)

——————————

7. تشارلز سيميك

تشارلز سيميك جُملةٌ.

جملةٌ لها بدايةٌ ونهايةٌ.

أَهُوَ جملةٌ بسيطةٌ أمْ مُركَّبةٌ؟

الأمرُ مرهونٌ بالطَّقسِ،

مرهونٌ بالنجومِ التي في الأعالي.

ومَن الفاعلُ في الجملةِ؟

الفاعلُ حبيبُكِ تشارلز سيميك.

وكم فعلاً في الجملةِ؟

الأكلُ والنَّومُ والمضاجعةُ بعضُ الأفعالِ.

ومَنِ المفعولِ بهِ في الجملةِ؟

المفعولُ بهِ، يا صغيراتي،

لم يظهر بَعْدُ.

ومَنِ الذي يكتبُ هذهِ الجملةِ السَّمِجَة؟

مُبتزٌّ، فتاةٌ عاشقةٌ،

وطالبُ وظيفةٍ.

وهل سيُنهونَ الجملةَ بنقطةٍ أَمْ بعلامةٍ استفهام؟

سينهونَها بعلامةِ تعجُّبٍ وبقعةٍ من الحبر.

——————————

8. عُزلة

هُنَاكَ في هذي اللَّحظةِ، حيثُ كسرةُ الخُبزِ

الأولى التي تسقطُ مِن على الطَّاولةِ

فتظنُّ بأن لا أحدَ يسمعُها

وهي ترتطمُ بالأرضِ،

بَيْدَ أنَّ النَّملَ في مكانٍ

قَدِ اعتمرَ للتَّوِّ

قُبَّعاتهِ التي يرتديها الصَّاحبيُّون

مُنطلقاً كي يزورك.

——————————

9. إمبراطوريَّة الأحلام

في الصَّفحةِ الأولى من كتابِ أحلامي

دائمًا هُوَ المساءُ

في بلدٍ مُحتَّلٍ.

ساعةٌ قبلَ حظرِ التجوالِ.

مدينةٌ إقليميَّةٌ صغيرةٌ.

واجهاتٌ المتاجرِ فارغةٌ.

وأنا في زاويةِ الشَّارعِ

حيثُ لا ينبغي أن أكون.

وحيداً بلا معطفٍ

خرجتُ أبحثُ

عنِ كلبٍ أسودَ يستجيبُ لصفيري.

لديَّ قناعُ عيدِ القدِّيسينَ

أخافُ أن أرتديهِ.

——————————

10. ملحوظة

ظهرَ جرذٌ على خشبةِ المسرحِ

في أثناءِ عرضِ

مسرحيَّةِ المدرسةِ في موسمِ عيدِ الميلاد.

صرخت مريمُ

فأسقطتِ الرَّضيعَ

على قدمِ يوسف.

ظلَّ المجوسُ الثَّلاثةُ

مُتجمِّدينَ

في أرديتهم الملوَّنة.

تستطيعُ أن تسمعَ دبوساً يسقطُ

والجرذُ يستكشفُ المِذوَدَ

قبلَ أن يواصلَ طريقَهُ إلى الكواليسِ

حيثُ خبطَهُ شخصٌ،

دُونَ تهاوُنٍ،

مرَّةً، ثُمَّ مرَّتَيْنِ،

بشيءٍ ثقيل.

——————————

11. طفولة پارمينيدس

إلى إلكترا هافياريس

ولأنَّهُ قد سألَ: لماذا يُوجَد شيءٌ

بدلاً منَ اللَّاشيء؟

أرسلَ المُدرِّسُ الوقحَ الصَّغيرَ

لرؤيةِ المدير.

لحسنِ الحظِّ، ليسَ لديهم مديرٌ بَعْدُ.

ليسَ إلَّا الملكُ مينوس ومتاهتُهُ.

وفيلمونُ، بالطَّبعِ، الذي على وشكِ أن يموتَ من الضَّحكِ

حينَ رأى حماراً يأكلُ التِّين.

——————————

12. كتابات الصُّوفيِّين

على المنضدةِ بينَ كتُبٍ

كثيرةٍ، مستعملةٍ جداً،

الكتابُ النَّادرُ الذي يتوجَّبُ أن تقتنيهِ

على الفورِ، الكتابُ

الذي يجعلُ خفقَ قلبكَ يتسارعُ

وأنتَ تنتظرُ فكَّةَ النقودِ

بابتسامةٍ سخيفةٍ

سوفَ ترافقكَ إلى الشَّارعِ،

ثُمَّ تمرُّ، لاحقاً، بصاحبةِ البنايةِ

التي تراقبُكَ وأنتَ تمسحُ حذاءكَ،

ثُمَّ تصعدُ إلى الشقَّةِ المستأجرةِ

التي تجاورُ شقَّةَ نادلةٍ تعملُ في ملهى ليليٍّ

تحلقُ ساقَيْها

والبابُ مواربٌ،

وحينَ تقلبُ الصفحةَ الأولى

التي تتحدَّثُ عنِ حُدوسِ

كينونةٍ ساميةٍ

في أشياءَ مألوفةٍ ومبتذلةٍ…

في منزلٍ سوفَ يُهدَمُ عمَّا قريبٍ،

عَمَّهُ الصَّمتُ فجأةً حتَّى كأنَّهُ قد باتَ في عالَمِ الغيبِ…

عليكَ أن تهمسَ باسمِكَ

وكلماتِ النَّاسكِ.

حيثُ لا بُدَّ أنَّهُ قد مرَّ وقتٌ طويلٌ على تناولِ العشاءِ،

العشاءِ الذي التهموهُ سريعاً،

سعيداً لأنَّ حصَّتكَ الصغيرةَ

كانتْ مِن نصيبِ الكلبِ ذي الأرجُل الثَّلاثِ.

——————————

13. العالَم لا ينتهِي: قصائدُ نثر

كانتْ أُمِّي جديلةً مِن دخانٍ أسودَ.

حملَتْنِي مُقمَّطاً فوقَ المُدُنِ التي تحترقُ.

كانتِ السَّماءُ رحبةً ومكاناً تعصفُ بهِ الرِّيحُ كي يلعبَ طفلٌ.

قابلنا آخرينَ كانوا مثلَنا تماماً. كانوا يحاولونَ ارتداءَ معاطفهم بأذرُعٍ خُلِقَتْ مِن دخانٍ.

كانتِ السَّمواتَ العُلَى طافحةً بآذانٍ صغيرةٍ منكمشةٍ صمَّاءَ بدلَ النُّجومِ.

■ ■ ■

الحَجَرُ امرأةٌ عقيمةٌ. لا شيءَ فيهِ سوى العتمةِ. عتمَتِكَ أمْ عتمتِهِ، مَن يدري؟ كصرارِ ليلٍ أسودَ يصخبُ قلبُكَ في السُّكونِ.

■ ■ ■

آلافُ الكهولِ، وقد أنزلوا سراويلَهم، ينامونَ في المراحيضِ العامَّة، أنتَ تبالغُ، أنتَ تهذي! آلافُ المَريَمَاتِ، آلافُ المَجدليَّاتِ ينتحبنَ عند أقدامهم.

——————————

14. بابل

كلَّما صلَّيتُ

يكبرُ الكونُ،

وأصغرُ.

كادتْ زوجتي أن تدوسَ عليَّ

رأيتُ ساقَيْها الهائلتَيْنِ

تصعدانِ إلى مرتفعاتٍ شاهقةٍ

ومثلَ لحيةِ إلهٍ

تلألأَ بينهما الشَّعرُ.

بابليَّةً تراءتْ.

«إنِّي أصغرُ، في كلِّ دقيقةٍ»،

صرختُ… فلم تسمعني

بينَ الزَّقُّوراتِ والأُسْدِ المجنَّحةِ،

والمُنجِّمينَ الصَّاخبينَ لعينَيْها المرسومَتْينِ.

——————————

15. في اللَّيل

كانتِ الرِّيحُ تُعِدُّ الحساءَ

للَّذينَ طارَ النَّومُ مِن عيونهم

حساءَ ديكِ الرِّياح

——————————

16. شطرنج مسائي

الملكةُ الغاضبةُ مرفوعةٌ عالياً

في يدِ أبي الغاضبة.

——————————

17. قِسطٌ منَ الرَّاحةِ في مستشفى المجانين

كانوا قد علَّقوا دموعَ المساءِ على زجاجِ النَّوافذِ.

كانَ الجنرالُ مشغولاً بمزرعةِ النَّملِ في رأسهِ.

وكانَ القدِّيسونَ الشُّفعاءُ يتحرَّقونَ في قبورهم، يتحرَّقونَ جميعاً سوى الذي كان سجينَ نجمٍ سينمائيٍّ أسودِ الشَّعرِ.

ارتدى موسى لحيةً مستعارةً وكذلك لِنْكِن.

أعادَ أحدهم إنتاجَ المنهجَ السُّقراطيَّ في الاستفهامِ بإظهارِ جهالةِ السَّقفِ.

أسرَّ آدمُ: «لقد سرقوا سرَّ علبةِ الثِّقابِ الموسيقيَّةِ منِّي».

قالت حوَّاءُ: «كانَ أكبرُ ديكٍ في العالَم سيجعلني مشهورةً».

يا للرَّكضِ عارياً فوقَ مرجٍ مُعتِّمٍ بعدَ حمَّامٍ بارد!

كانتِ الممرِّضةُ في الخيمةِ البيضاءَ تُحوِّلُ الماءَ نبيذاً.

أسرعي إلى البيتِ، أيَّتها الغيمةُ السَّوداءُ.

——————————

18. الصَّوت في الثَّالثة صباحاً

مَن أضافَ ضحكاً مُعلَّباً

في مشهدِ صَلْبِي؟

——————————

19. متجر الملابس العتيقة

مخزونٌ هائلٌ من حيواتٍ سابقةٍ

كي تُفتِّشَ فيهِ

عن تلكَ التي تلائمُك

نظيفةٌ، مكويَّةٌ للتَّوِّ،

رغمَ ياقاتها البالية.

تمثالُ عرض يرتدي ملابسَ سوداءَ

واقفٌ بالبابِ كي يخدمك.

عيناهُ عليكَ ولن يُفلِتك.

يبدو شاربُهُ مرسوماً

بطرفِ سيجارٍ مُطفَأ.

أبراجُ بناطيلَ تميلُ،

حينَ تستديرُ كي تهربَ،

وقبَّعاتُ الموتى تتدحرجُ

على الأرضِ، مسرعةً

كي ترافقكَ إلى خارجِ الباب.

——————————

20. عقولٌ مُطَّوِّفة

كانت جارتي تحدِّثني

عن قطَّتها العمياءَ

التي تذهبُ في اللَّيلِ

إلى أينَ؟ سألتُ.

حينئذٍ، تماماً، نادتني أُمِّيَ الميِّتةُ

كي أغسلَ يديَّ

العشاءُ جاهزٌ على الطَّاولةِ:

الفأرُ الصَّغيرُ الذي صادتهُ القطَّةُ.

——————————

21. في دكَّان الخردوات

سلَّةٌ قشٍّ صغيرةٌ

طافحةٌ بأوسمةٍ

تعودُ إلى حروبٍ نبيلةٍ قديمةٍ

لا أحدَ يذكرُها.

قلبتُ وساماً

كي أشعرَ بالدّبوسِ

الذي وخزَ ذاتَ مرَّةٍ

صدرَ البطلِ المنتفخ.

——————————

22. موسيقى ليليَّة

أيّها الجدولُ الصّغيرُ، يَا مَن تجري أمامَ بيتي،

أُحبُّ النّغمةَ التي تدندنُ بها لنفسكَ

حينَ يهبطُ اللّيلُ،

ولا أحدَ مستيقظاً إلّانَا.

ولأنّكَ تصاحبُني

فإنّني لا أخافُ

العتمةَ حولَ سريري

والأفكارَ في رأسي

وهي تتطايرُ محدودبةً كالخفافيشِ

بينَ الكنيسةِ القديمةِ والمقبرة.

——————————

23. صائدُ ذبابِ اللَّيل المُدلهِّم

سَقَفْتُ نَفْسِي

بالكلماتِ.

ليلةً إثرَ ليلةٍ

سَقَفْتُ نَفْسِي

ثانيةً ضدَّ

المِمْحَاةِ المُعَلَّقَة.

——————————

24. فطيرة الكرز

لَوْ صحيحٌ أنّ الشّيطانَ يضعُ إصبعَهُ

في كلِّ فطيرةٍ، فلا بُدَّ أنّه ينتظرُ

اللّيلَ كي يُرخِي سُدُولَهُ، والعتمةَ

كي تَجِنَّ في الفِنَاءِ، حتّى لا نراهُ

وهوَ يلعقُ الإصبعَ الذي غمسَهُ في فطيرتكِ،

تلكَ التي أخرجتِها من الفرنِ، يا حبيبتي،

وتركتِها كي تبردَ قربَ النّافذةِ المفتوحة.

——————————

25. خُطَّ خربشةً في العتمة

صرخةٌ في الشّارعِ.

شخصٌ يُجادلُ شيطانَهُ.

ثُمَّ، تعودُ السّكينةُ.

الرّيحُ تُشَعِّثُ أوراقَ الأشجارِ.

والطّيورُ في أعشاشها

مسرورةٌ إذْ تُهَدْهَدُ ثانيةً للنّومِ.

يَبْرُدُ اللّيلُ.

وجداولُ الدّمِ في المَجْرَى القديمِ

تنتظرُ شروقَ الشّمسِ.

——————————

26. درس في علم الفلك

الضحكةُ الصّامتةُ

للنجومِ

في سماءِ اللّيلِ

تُخبرنا

بكلِّ ما نحتاجُ إلى معرفته

——————————

27. بين زوَّاري المتأخِّرين

ثمّةَ بقرةٌ

اقتلعَ الجنودُ

عينيها بسكّينٍ

وأشعلوا القشَّ تحتَ ذيلها

كي تركضَ عمياءَ

فوقَ حقلِ الألغامِ

ومِن ثَمَّ في رأسي

بينَ حينٍ وآخر

——————————

28. الحلم الأميركي

حينَ تضعُ آرلِينْ البودرةَ على أنفها

في مرآةٍ على منضدةِ الزّينةِ

ثمّ ترمقُ نهدَيها العاريينِ

فتزلقُ منفخةَ البودرةِ إلى أسفلٍ

كي تلمسَ إحدى حلمتَيْها،

فيما أحدُ القساوسةِ على شاشةِ التّلفازِ

يطلبُ من المحتشدينَ الصّلاةَ

وإرسالَ الأموالِ إليهِ اليومَ،

هذا يُسمّى الحلم الأميركيّ.

——————————

29. كومة قشٍّ

أتستطيعُ أن تجدَ هناكَ

القشّةَ التي قَصَمَتْ

ظهرَ أمُّك؟

——————————

30. رأيتُ الرِّيحَ

تُقلِّبُ صفحاتِ

موسوعةٍ سميكةٍ

مرميَّةٍ معَ النُّفاياتِ،

في عجلةٍ مِن أمرها كي تعثرَ على إجابةٍ.

——————————

31. شجرة ضخمةٌ عجوز

ضاقَتْ ذرعاً بأوراقها الصَّاخبةِ

وطيورِها التي تغرِّدُ بصوتٍ رخيم،

وبنقَّارِ الخشبِ الصَّغيرِ

الذي يحفرُ بيتاً جديداً لِنَفْسهِ فيها.

——————————

32. وولت ويتمن

تحتشدُ العصافيرُ والحمامُ

حيثُ يستلقي وقدِ افترشَ الأرضَ،

بشعرهِ الطَّويلِ ولحيتهِ البيضاءَ،

مُسنِداً ظهرَهُ إلى جدارٍ

في هذا المربَّعِ السَّكنيِّ الآيلِ للسُّقوطِ،

حيثُ يأتي المُشرَّدونَ كي يموتوا

ويتوقَّفُ النَّاسُ كي يشهدوا

معجزةَ هذا الصَّباحِ،

صبيَّةٌ بكعبَيْنِ عاليَيْنِ

تقرفصُ فوقَ الرَّصيفِ

تُفتِّتُ رغيفاً منَ الخُبزِ

كي تُطعِمَ الشَّاعرَ العجوزَ الأَدْرَد.

——————————

33. في العالمِ كلِّهِ في هذي اللَّحظةِ

يُعرِّي العُشَّاقُ العُشَّاقَ

لاعنينَ الأزرارَ،

الكبيرةَ والصَّغيرةَ، والسَّحَّاباتُ

عالقةٌ، بعنادٍ،

نصفَ مفتوحةٍ.

——————————

34. لقد ماتتِ الرِّيحُ

فاحترسْ،

يا قاربي الصَّغير.

فلا

أرضَ تلوحُ في الأفق.

——————————

35. أَمِلتْ أُمِّي أنْ

تأخذَ ماكينةَ الخياطةِ

معها إلى القبرِ،

وأظنُّها قد فعلت ذلك،

فصوتُ الماكينةِ، مِن حينٍ لآخَر،

يُبقِيني مستيقظاً في اللَّيل.

——————————

36. للإيجار

غرفةٌ كبيرةٌ نظيفةٌ

زاخرةٌ بأشَّعةِ الشَّمسِ

وصرصارٌ وحيدٌ

كي تحكي لَهُ عن متاعبك.

– ولد تشارلز سيميك Charles Simic (واسمه الحقيقيّ: دوجان سيمتش) في بلغراد في يوغسلافيا السابقة عام 1938. غادر مسقط رأسه إلى باريس، وهو في الخامسة عشرة من عمره، مع أمّه وأخيه، قبل أن يلتحقوا بعد أشهر، بأبيه الذي كان يعمل في الولايات المتحدة منذ نحو ستّ سنين. تستقر العائلة، بدايةً، في نيويورك، ثم ما تلبث أن تغادر إلى شيكاغو حتى عام 1958، ثم تعود إلى نيويورك، فيعمل تشارلز نهاراً في وظائف مختلفة حتى يكمل دراسته في المساء. ثم يتحقق الحدث الأدبي الأول في حياته، حين تنشر مجلة «شيكاغو ريفيو» في عام 1959 بعض قصائده التي كتبها أثناء إقامته القصيرة في شيكاغو. بيد أنّ مفاهيمه الشعرية ونظرته الجمالية إلى الأدب شهدت تحولاً جذرياً خلال سنتي خدمته العسكرية، فعمد إلى تمزيق قصائده المبكرة، لأنها لم تكن، على حدّ قوله، سوى «قيء أدبي». وبعد عام على حصوله على درجة البكالوريوس من جامعة نيويورك، نشرت دار «كاياك» في سان فرانسيسكو، مجموعته الشعرية الأولى «ما يقوله العشب» (1967). كرّت أعماله الشعرية ومعها تتويجاته، إذ اختارته مكتبة الكونغرس عام 2007 ليكون «شاعر أميركا الرسمي» Poet Laureate الخامس عشر. كما نال جائزة «البوليتزر» في الشعر (1990)، و«جائزة الأركانة الدوليَّة» في المغرب (2019) وغيرها. من أبرز أعماله: «تفكيك الصمت» (1971)، «مدرسة للأفكار الشريرة» (1978)، «قصائد مختارة: 1963-1983 (1985 ـــ القائمة القصيرة لجائزة «البوليتزر» لعام 1986)، «أغنياتُ بْلُوز لا تنتهي» (1986 ــ القائمة القصيرة لجائزة «البوليتزر» للعام 1987)، «العالم لا ينتهي: قصائد نثر» (1989 ــ جائزة «بوليتزر» للشعر لعام 1990)…

– تحسين الخطيب: شاعر ومترجم أردنيّ. صدر له، في الترجمة: «إيروتيكا» ليانيس ريتسوس (المتوسط، 2017)؛ و«المسخ يعشق متاهته: يوميّات» لتشارلز سيميك (2016، الهيئة المصريّة العامة للكتاب)؛ و«الوصول الحُرّ» لبيتر سابر (2015، دار بلومزبري). وصدر له ضمن مشروع «كلمة» للترجمة: «أدب أمريكا اللّاتينيّة» لروبيرتو غونساليس إيتشيفاريّا (2019)، و«حدود المادّة: الكيمياء والتّعدين والتّنوير» ليلمار فورش (2019)، و«المجرّة: رسم خريطة الكون» لجيمز غيتش (2018)، و«المدرسة» لكاثرين بيرك وإيان غروس فينور (2013)، و«الجذور الثقافيّة للإسلامويّة الأميركيّة» لتيموثي مار (2011)، و«العالم لا ينتهي، وقصائد نثر أخرى» لتشارلز سيميك (2010)، و«كتاب القلق» لفرناندو بيسوا (2022). أصدر مجموعة شعريّة بعنوان «حجر النّدى» ( المتوسط، 2017).

* مادة هذا الملف مأخوذة من مختارات شعرية لسيميك مِنْ جُلِّ دواوينه، صدرت بالعنوان نفسه في جزأين عن «دار خطوط وظِلال» (عَمَّان ـــــ 2022)

ملحق كلمات

—————————–

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى