سياسة

أسئلة الثورة السورية؟ في الذكرى السنوية الـ 12 لها -مقالات مختارة-

يتم تحديث هذا الملف دوريا، الأحدث في البداية

===============

تحديث 25 أذار 2023

———————-

الثورة السورية وتحرير الدولة/ راتب شعبو

إلى جانب الإحباط الذي يشملنا حين نتأمل الحال الذي صرنا إليه، نحن السوريين، بعد اثنتي عشرة سنة من انطلاق الثورة السورية، غالباً ما تسيطر على الذهن فكرة أنه لم يكن لنا أن ننجو من هذا المصير، في الشروط التي وجدنا أنفسنا فيها، أكانت شروطاً داخلية أم خارجية، وهي شروط قاهرة وخارجة عن إرادتنا. على هذا، كنّا محكومين لما هو فوق طاقتنا. لهذه الفكرة كثير مما يسندها في الواقع، لكنها تحيل السوريين الذين حاولوا استعادة دولتهم من يد طغمة حاكمة، إلى مجرد ضحايا وقعوا في شرّ أعمالهم. لكن كيف يمكن للسوريين أن يحرّروا دولتهم من يد السلطة الأسدية؟

خرجت أعداد كبيرة من الشباب في تظاهرات في معظم المناطق السورية، ضد السلطة الحاكمة التي ردّت على المتظاهرين بالنار والأكاذيب، ولم يكن في مقدورهم، بطبيعة الحال، مواجهة جهاز دولةٍ بكل قوته المادية والأمنية والإعلامية. والأهم أنه جهاز معبّأ سلفاً تعبئة مسمومة ضد كلّ من يخرُج على السلطة بوصفه عميلاً وخائناً أو مضلَّلاً وأداة. وفي كلّ الأحوال، لا يستحق سماعاً أو فهماً، فما بالك بالقبول أو بالمشاركة. وكأنّ مبدأ عمل السلطة الأسدية يأخذ التسلسل التالي: كلّ من يخرج على السلطة إنما يخرُج على الدولة، ومن يخرُج على الدولة يخرُج من الدولة.

لو افترضنا أنّ هؤلاء المتظاهرين فكّروا، أمام العنف المفرط الذي ووجهوا به، بالتوقّف عن التظاهر، لأنّهم أدركوا جدّية استعداد السلطة لتدمير البلد، لنفترض أنهم قبلوا العودة إلى بيوتهم مكتفين بأنهم عبّروا عن موقفهم وأوصلوا صوتهم، أو متذرّعين بالقول إنّ ما أقدمت عليه السلطة من تنازلات (زيادة الرواتب، تجنيس الكرد غير المجنّسين، إلغاء حالة الطوارئ والمادة الثامنة من الدستور…) كاف لوقف الاحتجاجات، ولنفترض أنّهم قبلوا أن يسكتوا عمن سقط منهم في التظاهرات بين قتيل وجريح على يد أجهزة “الدولة”، فهل كان في مقدورهم التراجع، أم كانوا سيقعون ضحايا انتقام رهيب من سلطة “تكفّر” من يخرج عليها، وتبيح ضده كلّ أشكال العقاب المتاحة بما فيها القتل، لكي يكون عبرةً لكلّ من يفكّر في الاحتجاج؟ ليس خافياً على السوريين أنّ مثل هذا المصير انتهى إليه، من قبل، إخوة لهم كان “ذنبهم” أنّهم كتبوا منشوراتٍ ينتقدون فيها السلطة، وربما لم يقرأها سوى بضعة آلاف، فكيف بمن خرج إلى الشارع يحتجّ ويوصل صوت احتجاجه إلى العالم عبر وسائل الاتصال الرقمية؟

لم يكن أمام المتظاهرين، والحال هذه، سوى الاستمرار وما يقتضي ذلك من الدخول في مساراتٍ متوالدة لم تكن في الحسبان. ولم يكن في حسبان الغالبية الغالبة من المتظاهرين أن يتحوّلوا إلى مقاتلين على النحو الذي صار، أو أن يضطرّوا إلى اللجوء خارج بلدهم. ولم يكن في حسبان غالبية المحتجّين أنّ السلطة الأسدية مستعدّة لزجّ الجيش في مواجهة الاحتجاجات، الفعل الذي من شأنه أن يغذّي المتطرّفين وذوي النزعة العنفية بين المحتجّين، كما يدرك الجميع. ولا شك أيضاً أنّ قلةً من السوريين كانت تصدّق أن الجيش كان مستعدّاً لاستخدام الأسلحة الثقيلة، بما فيها الطائرات والصواريخ بعيدة المدى، لقصف “البيئة الحاضنة”. وكان أن أفضى المسار الذي فرضته “الدولة” على المحتجّين، إلى ما نحن عليه اليوم بعد دزّينة من السنوات المرّة. ولسوف يتكرّر هذا المسار طالما بقيت الدولة السورية رهينة طغمة حاكمة، وطالما بقي العام (الدولة) مرهوناً أو مملوكاً للخاص (عائلة أو طغمة).

يستدعي الأمر التفكير في وسيلةٍ لاستعادة النسبيّة إلى صراعٍ ينحو، ما إن ينطلق، باتجاه التحوّل إلى صراع إبادةٍ سياسية أو، إذا اقتضى الحال، إبادة بشرية. هل يمكن إنقاذ الصراع السياسي من التحوّل إلى صراع إبادة؟ كيف يمكن الخروج من مجال سياسي مطلق لا يعترف بالصراع السياسي ولا يستوعبه إلى مجالٍ سياسيٍّ نسبي؟ في المجال المطلق، لا تعترف السلطة بوجود قوى سياسية خارجها. كلّ صراع سياسي في المجال المطلق يتّجه إلى أن يكون بدوره مطلقاً، أي صراعا من أجل التفرّد بالحكم على جثث الآخرين، فالصراع المطلق لا يناسبه سوى العنف، بوصفه صراع تفرّد. هذا ما يفسّر ميل الصراعات في بلداننا إلى العنف. هكذا، بدلاً من الديمقراطية السياسية تحلّ “ديمقراطية” القوة، أي الحكم لمن يمتلك القوة المادية القادرة على سحق الخصم (العدو). في ديمقراطية القوة هذه التي يفرضها المجال السياسي المطلق، تحلّ الحملات الأمنية والعسكرية محلّ الحملات الانتخابية، وتحصى الجثث بدلاً من الأصوات، وتظهر النتائج فوق ركام الدمار، و”تستقرّ” البلاد، إذا استقرّت، على ضيم ورغباتٍ دفينةٍ بالانتقام في جولاتٍ قادمة، يفصل بينها استقرارٌ مفخّخ، في حلقة جهنمية لا تنتهي.

لا تقود المواجهة الجبهية مع السلطات التي تستعمر الدولة وتجعلها ملكية خاصةً وأداةً إلى تأبيد سيطرتها، وتتوسّل كل أشكال التعبئة غير الوطنية لمنع تشكّل وعي عام وطني، إلا إلى الخراب. غالباً ما تكون هذه السلطات قادرةً ومستعدّة لارتكاب أبشع الجرائم دفاعاً عن ذاتها، وغالباً ما تكون نتائج هذا النوع من الصراع كارثيةً بالمعنيين، المادّي والسياسي. في تجارب الثورات العربية منذ 2011 ما يكفي للتدليل على هذه النتيجة. ما يقود إلى التفكير في العمل على مستويات أدنى لا تتضمّن “إسقاط السلطة”، بل تلامس الحاجات التي توحّد عموم الناس، الحاجات المادية والمعنوية، بالاستفادة من تقنيات التواصل التي تسهّل جمع المعلومات ونشرها، وابتكار أشكال الضغط والاحتجاج لاسترجاع حقوق، ولكسب مجالٍ أوسع وأوسع للحركة.

مضمون هذا النضال اليومي وطويل النفس ومتفاوت الشدة هو استعادة عمومية الدولة. ستواجه السلطات، لا ريب، كلّ محاولةٍ لتحجيم سيطرتها التامة، لكنّ فرصة نجاح هذه النضالات تبقى أوفر، ليس فقط لأنها لا تفرض على السلطة صراع كسْر عظم، بل أيضاً لأنه تصعُب شيطنتها لما لها من مقبوليةٍ عامة، ولأنّ نتائجها ملموسةٌ وقابلةٌ للقياس. كما أنها تساهم، مع الوقت، في تغيير الوعي العام، وتمهد لنجاح تحرير الدولة واستعادة عموميتها.

العربي الجديد

———————-

ملاحظات أساسية في مراجعة تجربة الثورة السورية/ ماجد كيالي

بعد 12 عاماً من الصراع العنيف والمدمر والكارثي، بات السوريون إزاء واقع مختلف، من أهم سماته أن تلك التجربة، المديدة والمؤلمة والباهظة، لم تولّد طبقة سياسية قد تشكل منبراً قيادياً لهم، ولا كيانات سياسية هم أحوج إليها وهذا إخفاق كبير للنخب السورية

يستحق الشعب السوري، بعد 12 عاماً من ثورته أو انتفاضته أو تمرّده على النظام، نوعاً من مراجعة جدية وعميقة وشاملة لتلك التجربة، بمساراتها المتنوعة والمعقدة، وبالتضحيات والبطولات المبذولة فيها، وأيضاً بمآلاتها المأساوية والكارثية على واقع الشعب السوري، وعلى رؤيته لذاته ولإجماعاته الوطنية، وهي المراجعة التي لم تحصل من الفصائل السياسية والعسكرية التي تصدرت تلك التجربة وتحكمت بها، للتهرب من مسؤوليتها عما حصل.

منذ البداية، كانت ثمة رؤى سياسية، متسرّعة وقاصرة وخاطئة، تأسّست عليها تلك التجربة، بحيث أخذتها إلى ما آلت إليه، يتركز أهمها في ثلاث:

أولاً، حتمية سقوط النظام وانتصار الثورة، علماً أن هذا اعتقاد إيماني ورغبوي، لا علاقة له بالمنطق والواقع والتجارب التاريخية، لأن ذلك يفترض أن ينبثق من المعطيات المناسبة، التي تتشكّل من موازين القوى، والظروف الدولية والإقليمية المواتية، والقيادة أو الإدارة الملائمة، وذلك كله لم يتوافر ولا في أي لحظة للسوريين منذ 12 عاماً، علماً أن الثورات قد تنتصر وقد تنهزم، كلياً أو جزئياً، كما قد تنحرف أو تدخل في مساومات.

ثانياً، التوجه نحو حصر الثورة بالعمل المسلّح، الأمر الذي أدى إلى موات، أو تضاؤل البعد الشعبي في تلك التجربة، فاقم من ذلك افتقاد السوريين كيانات سياسية وازنة، وتجربة كفاحية تاريخية، وخوضهم مغامرة العسكرة بطريقة غير مدروسة، ومن دون إمكانات، وبالاعتماد على أطراف خارجية، سرعان ما فرضت أجندتها؛ وفي النتيجة فقد انحسرت تلك التجربة سياسياً وعسكرياً وعلى المستوى الشعبي.

ثالثاً، التعويل على القوى الخارجية، وتالياً الارتهان لها، إذ باتت لتلك القوى (الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتركيا وبعض دول الخليج) الكلمة الأساس في تشكيل كيانات الثورة السورية، وصوغ خطاباتها، وتحديد مستوى صراعها ضد النظام وأشكاله السياسية والعسكرية في كل مرحلة. ويمكن ملاحظة مخاطر ذلك مع ارتهان المعارضة السورية لتركيا مثلاً، التي أخذتها، في ما بعد، نحو ما يطلبه محور أستانة (مع روسيا وإيران، شريكا النظام في قتل السوريين وتشريدهم)، كما أخذت فصائلها العسكرية إلى أجندتها في قتال قوى كردية في الشمال السوري، وفي ما يمكن أن تأخذها إليه بعد تحوّلها نحو التطبيع مع النظام.

هكذا، فعلى خلفية تلك الإدراكات الحاكمة، دخلت تجربة الثورة السورية في مسارات غير متوقعة، وخضعت لمعادلات لا يمكن لها التحكّم بها، أو تحمّل تبعاتها، يأتي ضمن ذلك، تفلّت النظام من أية قواعد، أو حدود، سياسية أو أخلاقية، في استخدامه القوة العسكرية الغاشمة لفرض سيطرته، في محاولته قتل تطلّع السوريين المشروع الى الحرية والتغيير السياسي. وقد يجدر التذكير هنا، بأنه منذ تموز/ يوليو 2012، مثلاً، بات عدد ضحايا القصف الجوي والمدفعي بين أربعة إلى خمسة آلاف قتيل، كمعدل شهري، علماً أن عددهم كان بين 600 و 800 قتيل في أول ستة أشهر من اندلاع الثورة، أي الأشهر السلمية، حيث لم يكن وقتها لا سلاح ولا مسلحون، وبالطبع لا “داعش” ولا “نصرة”.

وما فاقم من ذلك الوضع، أن السوريين، منذ البداية، لم يواجهوا النظام وحده، إذ وجدوا أنفسهم في مواجهة النظام الإيراني، وأذرعه الإقليمية (ميليشيات عراقية وأفغانية و “حزب الله”)، وفي ما بعد في مواجهة القوات الروسية (أيلول/ سبتمبر 2015)، وأيضاً في مواجهة “داعش” و”القاعدة” وأخواتهما، ناهيك باللامبالاة والتلاعبات بهم على الصعيدين الدولي والإقليمي؛ إلى درجة يصحّ معها القول إن ثورة السوريين كانت ربما ستكون في حال أفضل من دون هكذا “حلفاء” أو “أصدقاء”، باتوا يتحكمون بها وبخطاباتها وأشكال عملها.

على الصعيد الداخلي، فإن الإدراكات المذكورة أدت إلى انزياح الثورة السورية من كونها حالة صراع على السياسة والسلطة، إلى كونها بمثابة صراع على الوجود والهوية، إذ إن الانفجار الحاصل لم يطاول فقط علاقات النظام بالشعب، وإنما شمل، أيضاً، تضعضع التوافقات المجتمعية، أو تصدّعها، ما شكّل نجاحاً للنظام، وأكسبه عنصر قوة مضافة، في صراعه مع المعارضة، التي لم تدرك مخاطر هذا التحول في إضعاف طابعها كثورة وطنية ديمقراطية، وفي زعزعة الإجماع من حولها، وقد ساهم في ذلك ضعف الصدقية الكفاحية لكيانات المعارضة، وشبهة ارتهانها للخارج، وعدم حيازتها مكانة تمثيلها في المجتمع.

والحال، فإن كل ما تقدم تجلى في إخفاق تجربة المعارضة في ما سمي بـ”المناطق المحررة”، بسبب نزوع الفصائل العسكرية نحو التسلّط، وسعيها الى فرض أيديولوجيتها المغلقة والطائفية، وبحكم تحوّل تلك المناطق إلى بيئات محاصرة، وكحقل رماية للنظام، وكبؤرة لنمو الجماعات المتطرفة، والغريبة بمفاهيمها وسلوكياتها عن مجتمع السوريين (داعش وجبهة النصرة مثالاً).

في هذا السياق، فإن النظام نجح في سياسته حرق الأرض من تحت “أرجل” الثورة، وتصحيرها، وحرمانها من البيئات الشعبية الحاضنة لها أو المتعاطفة معها، بل وتحويل قطاعات واسعة من السوريين، تُقدر بالملايين، إلى حالة تثقل على الثورة بدل أن تكون حاملاً، أو حاضناً لها، وهو ما تُوّج بحرمانها من عمقها الشعبي، بإزاحة غالبية المجتمع السوري من المشهد، إن مع وجود “طوائف” الخائفين والحائرين والقلقين، أو بحكم استهداف البيئات الشعبية الحاضنة للثورة بالحصار والتقتيل والتدمير والتشريد، كما بحكم احتكار الفصائل العسكرية للمشهد، وكلها أمور لم تنتبه إليها القوى المتصدرة للثورة أو المعارضة.

طبعاً، ثمة ظروف خارجية أدت إلى تآكل الثورة السورية منذ السنوات الأولى، فإضافة إلى التدخل العسكري الروسي والإيراني، هناك تلكؤ من المجتمع الدولي عن تحمل مسؤولياته إزاء تحديد مستوى العنف، ووضع حدود للسيطرة عليه، أو إزاء إيجاد حل سياسي للمسألة السورية. ففي هذين الأمرين، تعرضت ثـورة السوريين لانتكاسة خطيرة، وربما إلى نوع من “خيانة”، سواء مع إيحاءات التدخل بمختلف الأشكال، أو مع تغذية الأوهام بشأن “الخطوط الحمر”، من نوع “حلب خط أحمر”، و “الكيماوي خط أحمر”، وصولاً إلى الحديث عن اعتبار النظام غير شرعي، وأن على الأسد أن يتنحى، مروراً بوعود الدعم المادي والتسليحي والسياسي، وهي وعود أو أوهام ساهمت فيها قوى دولية وإقليمية وعربية معروفة.

المشكلة هنا، أنه على ضوء تلك الوعود والأوهام، رُفع مستوى وتيرة الصراع في سورية، ليس من حيث مقاصده، وإنما من حيث أشكاله ووتائره أو الرؤية التي جعلته يسير على النحو الذي سار عليه، في حين أن السوريين، من دون تلك الأوهام، كان بإمكانهم أن يسيروا على نحو آخر، ربما أكثر تأثيراً وفاعلية، حتى لو كان أطول زمناً، لكن بأثمان وأكلاف وعذابات أقل، هذا بالقياس إلى الأهوال التي اختبروها.

الآن، بعد 12 عاماً من الصراع العنيف والمدمر والكارثي، بات السوريون إزاء واقع مختلف، من أهم سماته أن تلك التجربة، المديدة والمؤلمة والباهظة، لم تولّد طبقة سياسية قد تشكل منبراً قيادياً لهم، ولا كيانات سياسية هم أحوج إليها للتعبير عن ذاتهم السياسية والجمعية، لا سيما أن الوضع بات يسمح بذلك في بلدان اللجوء والشتات، وهذا إخفاق كبير للنخب السورية، مثقفين وسياسيين وأكاديميين ورجال أعمال وطبقة وسطى.

أيضاً، لا يبدو أن ثمة في الأفق ما يؤشر إلى إمكان حسم الصراع السوري، بل ثمة في الأوضاع العربية والإقليمية والدولية ما يؤشر إلى عدم السماح بذلك، أي إبقاء الوضع الراهن، ما يعني شيئين متفارقين، أولهما، إن الصراع في سوريا وعليها قد يمتد لسنوات مقبلة طالما لم يتم التوافق الدولي والإقليمي على الخريطة السياسية لسوريا المقبلة. وثانيهما، أن تقرير الأوضاع في سوريا لم يعد بيد النظام ولا بيد المعارضة، على اختلافاتها، وإنما بيد القوى الخارجية، الدولية والإقليمية.

درج

—————————–

كي لا تتحول ذكرى الثورة إلى حالة طقوسية/ حسن النيفي

اتسم شهر آذار لدى السوريين، ومنذ عقود خلت، بطابع طقوسي تحوّلَ بفعل التعاقب الزمني إلى حالة نمطية غالباً ما تتجسّد في سلوك الناس وردود أفعالهم. فمنذ ستين عاماً تحرص السلطات البعثية المتعاقبة على استيقاف الزمن يوم الثامن من آذار لتوقّر في أذهان السوريين أن هذا اليوم هو منعطف شديد الأهمية في حياة البلاد، ولئن لم تفلح السلطتان اللتان حكمتا البلاد من عام 1963 وحتى 1970 في تحويل مشاعر ومواقف المواطنين إلى أنماط سلوكية تجد تجلياتها في اللاوعي الجمعي للناس، وذلك بحكم الفترة الزمنية التي لم تكن كافية لهذا التحوّل، فإن الحقبة البعثية الثالثة المتمثلة بسلطة الأسد (الأب والابن معاً) والتي بات عمرها في حكم البلاد ثلاثة وخمسين عاماً، تُعدّ بحق هي الأجدر على إفراغ اللحظة الزمنية من محتواها الطبيعي وإعادة صياغتها من جديد، ومن ثم تحويلها إلى طقوس داعمة لكينونتها واستمرارها في البقاء.

يمكن استجلاء هذه الظاهرة من خلال الاحتفالات التي ترعاها السلطة، والتي يراد منها التعبير عن الولاء والإشادة بفرادة الحاكم أولاً، وليس التعبير عن الفحوى الحقيقي للمناسبة – بعيداً عن ماهيّة هذا الفحوى – ليحلّ محله المُنجز الثوري العظيم للقائد الفرد الذي بات يختزل بشخصه جميع قيم الوطنية والتميّز والفرادة. لعل ما بات يعرفه معظم السوريين، ومنذ عقود سالفة، أن التحضير لاحتفالات شهر آذار يبدأ قبل شهر أو اثنين، وخاصة في الدوائر والمؤسسات الحكومية، من جهة توزيع الأدوار للمتحدثين وتحضير اللافتات التي سترفع وطبيعة ما سيُكتب عليها من عبارات، وكذلك طباعة عدد كاف من صور الرئيس التي يجب أن تغرق بها الشوارع والجدران، ولكن مع مرور الزمن بات التحضير لهذه المناسبة – هو الآخر – يدخل في حيّز التنميط، إذ ما إن ينتهي شهر آذار وتنتهي الاحتفالات حتى تُطوى اللافتات والأعلام والصور، وتُحفظ في مكان ما، ليُعاد إخراجها في العام المقبل، ذلك أن ما تتضمنه من شعارات وعبارات تخص المناسبة هي صالحة لكل زمان، وربما انسحب ذلك على الكلمات والخطابات أيضاً، باعتبار أن ما سيقال أثناء هذه المناسبة يكاد يكون معلوماً من قبل الجميع سلفاً. وهكذا بات يوم الثامن من آذار لا تحمل تجلياته سوى الحضور المُركّز للسلطة المتمثلة بسطوة الحاكم، بعيداً عن أي جانب سياسي أو فكري آخر.

في آذار من العام 2011 انطلقت الثورة السورية، ومنذ ذلك الحين يحرص جمهور الثورة من السوريين سواء في داخل البلاد أو خارجها على إحياء ذكرى الثورة من خلال فعاليات متنوعة (سياسية وفنية – ندوات – محاضرات – لقاءات جماهيرية) وهذا سلوك في غاية المشروعية، بل ربما رآه البعض أمراً ينطوي على دلالات أخلاقية قبل أي اعتبارات سياسية أخرى، ولعل من أبرز تلك الدلالات الأخلاقية هي استحضار ذكرى الشهداء والمعتقلين والمفقودين والوقوف عند التضحيات الكبرى التي قدمها السوريون على مذبح الحرية والكرامة، وكذلك استلهام الأمل بالمستقبل حتى تبقى جذوة الثورة حيةً في النفوس والأذهان، لكن يرى آخرون أن حَصْر الاحتفاء بذكرى الثورة ضمن هذه المحددات والبواعث المذكورة ربما أدى مع مرور الزمن إلى تحوّلها نحو حالة طقوسية، بحيث يصبح حضور ذكرى الثورة مختزلاً باستدعاء الذكريات وتكرار الشعارات وإحياء الصرخات الغاضبة والتعبير عن الرفض، مجرد الرفض، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن هذه “الحالة الطقوسية” حتى تكون فاعلة ومؤثرة ومحتفظة بمضامينها القيميّة ودلالاتها الرمزية، يجب أن توازيها حالة أخرى تتمثل بمراجعات فكرية وسياسية معمقة لسيرورة الثورة منذ انطلاقها، وكذلك وقفات متأنية حيال المفاصل الأساسية والأحداث التي أدت إلى المآلات الراهنة، فضلاً عن إعادة النظر والمراجعة للسياسات الإقليمية والتبدلات في المواقف الدولية حيال القضية السورية، وهذا بالطبع لا يمكن تجسيده من خلال جلسات ولقاءات وندوات افتراضية ارتجالية قوامها إعادة سرديات قديمة واجترار خطابات إنشائية وتوزيع التهم والركون إلى نقاشات هي أقرب ما تكون إلى المهاترات العقيمة، بل يمكن التأكيد على أن شيوع حالة كهذه لهو دلالة واضحة على تفكير مهزوم ووعي بائس لا يقوى على مواجهة الواقع بغية السعي إلى تغييره.

كما يرى كثيرون أن استفحال حالة القنوط والإحباط في الأوساط العامة للثورة إنما مبعثها الأساسي هو العطالة الفكرية لدى معظم النخب السورية التي آثرت الركون والتسليم بمجمل المقولات والأفكار والممارسات التي أنتجتها مرحلة (2011 – 2012 – 2013)، ولم تستطع مغادرتها لعدم قدرتها على استلهام الكشوفات الفكرية والسياسية والثقافية التي لاحت إرهاصاتها تزامناً مع ثورات الربيع العربي، إذ ظلت معظم النخب تقارب القضية السورية بأدواتها الذهنية التقليدية، في حين أن الثورة هي عمل إبداعي متجدد على كل المستويات، بل غالباً ما يكون الوعي الثوري مهجوساً على الدوام بإيجاد وسائل نضالية جديدة من شانها أن تعيد الحياة إلى فكرة الثورة وتجلياتها في الواقع المعاش. واقع الحال يشير إلى أن قضية السوريين، وخلال اثنتي عشرة سنة، قد طرأت عليها تحولات كبيرة ومفصلية، سواء على المستوى المحلي السوري أو على المستوى الدولي الخارجي، ولئن كانت هذه التحولات حاضرة بقوة في أحاديث السوريين وهم يستحضرون ذكرى الثورة، فإن المواجهة الحقيقية لتلك التبدلات والملمّات توجب عليهم المزيد من التفكير والعمل لتجنّب الوقوع في الحالة الطقوسية والنمطية لذكرى الثورة.

تلفزيون سوريا

———————-

الثورات والانقلاب عليها من فرنسا إلى روسيا وصولا إلى سوريا/ فراس سعد

بعد عقد على اندلاع الثورة الفرنسية وفي التاسع من تشرين الثاني لعام 1799 قام نابليون بونابرت بالانقلاب على رفاقه القدامى في الثورة ليعلن نفسه ديكتاتورا ومن ثم امبراطورا لفرنسا ولدول أخرى غزتها جيوشه، فقتل نصف مليون في الحرب والتمرد الدموي، وسيطر نابليون على أوروبا ناشراً فيها أفكار الثورة بالقوة، كما فعل لاحقا كل من ستالين وماو والخميني، وخلال أكثر من 80 عامًا من عمر الحقبة الثورية الفرنسية قامت أكثر من انتفاضة على النظام الإمبراطوري ومن داخله أيضا، فارتكب كثير من المذابح على خلفية سياسية ودينية وطائفية.. وأخيرا بعد ما يقارب من قرن كامل تمكن الفرنسيون من بناء دولة الثورة والمواطنة والحقوق الاجتماعية.

أما ثورة 1917 الروسية فقد جعل منها البلاشفة خلال أيام انقلابا دمويا إذ ذبحوا الأسرة الحاكمة بالكامل، لكن ما يُسجل للينين وللبلاشفة أنهم قاموا بانقلاب-ثورة سياسية حزبية على جيش القيصر وأنهوا الحرب فكانت ثورة 1917 بذلك أول ثورة سياسية وجماهيرية في روسيا على العسكر.

لكن البعض لهم رأي آخر، يقول باحث أميركي: “في ثورة 1917 أمل المصلحون الليبراليون في أن تتمكن الثورة السياسية من استباق ثورة جياع يمكن أن تدمر البلاد. فوعدت الجمهورية الجديدة بمنح الحقوق السياسية للجميع؛ مع تأجيل العمل الصعب لإصلاح الأراضي إلى وقت لاحق. لكن في غضون أشهر، استولى البلاشفة على السلطة ثم حلوا أول برلمان ديمقراطي في روسيا. تلا ذلك حرب أهلية وحشية دمرت البلاد وشهدت ظهور ديكتاتورية. مع ذلك ثمة محللون يعتقدون أن الإنجازات التي تحققت في مجالات التعليم والعلوم كانت تستحق المجاعات التي ضربت البلاد، والمخيمات وفرق إطلاق النار”.

والحقيقة أن لينين مارس “ديكتاتورية ثورية” فراح يقنن الحريات السياسية ويحاصر خصومه السياسيين، وهو ما فعله ستالين لاحقا، بضراوة قل نظيرها، بحق رفقائه وخصومه في الحزب والدولة، وضد الشعب نفسه، إذ ارتكب مذابح وحشية لم تعرفها روسيا من قبل، فأرسل ملايين الروس للموت في معسكرات اعتقال سيبيريا القاحلة.

خارج روسيا انتشرت كتابات لينين وستالين على السواء، ولأنها تعطي إرشادات خاطئة للثوار خارج روسيا فقد حرصت أجهزة وأنظمة عربية عديدة على غض النظر عن تداول مؤلفات لينين وستالين السياسية في العالم العربي لغاية وحيدة، هي منع المثقفين المحليين من صنع فكر ثوري محلي حقيقي، وبالتالي منع أي ثورة حقيقية في البلاد العربية، وهو ما يمكّن العسكريين وجميع أنواع الانقلابيين والمغامرين والمهووسين من الاستيلاء على السلطة مرة بعد أخرى في معظم البلدان العربية (باستثناء الخليج المطوّب لأميركا حتى نهاية البترول)

في مصر وتونس:

تحولت الثورة في مصر خلال عام ونصف الى انقلاب كما جرى سابقا عبر التاريخ في كل مكان تقريبا.. جوهر الانقلاب كان عسكريا مخابراتيا بالطبع، لكن شكله شعبي ثوري – حركة “تمرّد”-أوصل مصر بعد سنوات إلى الكارثة فراح حاكم مصر المطلق يبيع أراضيها قطعة بعد أخرى، وأرهق الجنيه بالديون وبمشاريع غير منتجة وخلال عشرة شهور ما بين 2022 و2023 خسر الجنيه مئة بالمئة من قيمته، وخسر المصريون حريات نادرة لم يعرفوها إلا في زمن محمد مرسي.

أما الانقلاب في تونس على الثورة فقد استغرق ما يقرب من عشر سنوات حتى اتضح للعيان، وهذه المرة انقلاب دستوري برئيس مدني- وليس بانقلاب عسكري على الثورة كما فعل نابليون- تدعمه دولة عربية مسؤولة تقريبا عن معظم الانقلابات العربية وعن دعم الثورات المضادة في السنوات العشر الأخيرة.. والمفارقة أن هذه الدولة العربية يحكمها بشكل شبه كامل جهاز مخابرات إقليمي.

إجهاض الثورة المدنية في سوريا

على شاكلة الثورة الروسية التي حمت التطرف وقتلت مؤيدي التسوية والإصلاح، وسحقت أصوات المعتدلين، ورفعت السلاح بطريقة مؤذية ضد الجماعات الخطأ، اتجهت الثورة السورية بعد 2013 إلى العنف إذ أجبر النظام الناشطين السلميين على اللجوء إلى بلاد مجاورة، وقتل واعتقل البقية، وأطلق من سجونه سراح المقاتلين الإسلاميين الذين كانوا بتوجيه وحماية منه يقاتلون أميركا في العراق، وكذلك تقبل عودتهم إلى صفوفه عبر المصالحات الكثيرة منذ 2016.

في الحرب السورية التي ولدت من الثورة استخدمت جميع التكتيكات المعروفة في تاريخ الصراعات: المواجهات الكلاسيكية بين الجيوش، حروب العصابات بأنواعها، الحرب النفسية، الدعاية السوداء، المجازر المروعة على أسس سياسية أو مناطقية أو عرقية.

استخدمت المذهبية كأداة لإلهاب الحماس وسحق الخصم من قبل الطرفين المتصارعين، الميليشيات المتقاتلة في سوريا، ميليشيات الإسلاميين السوريين (المنقلبين على مبادىء الثورة السورية المدنية) ضد ميليشيات الإيرانيين المذهبية. انتهت الثورة بالنسبة للإسلاميين السوريين بإقامة إمارات مناطقية أشهرها إمارة إدلب بحكومتها التي يرأسها رجل دين عسكري (على شاكلة حكومة طالبان).

استئصال الثوريين في أوروبا:

لتحافظ أوروبا على استقرارها، بوجود أكثر من مليوني سوري في أراضيها، كان من المهم جدا للحكومات الأوروبية ضبط أي مجموعة ثورية سورية ومتابعتها لحظة بلحظة للحيلولة دون أي تواصل مع مجموعات ثورية محلية (ماركسية أو أناركية، أو حتى بيئية) لا سيما ألمانيا أو السويد كبلدين مستقرين لم يعرفا الثورات منذ قرنين تقريبا.. ومن المهم أيضا تشتيت أي مجموعة ثورية لا يمكن خرقها والسيطرة عليها والحيلولة دون اجتماعها وعملها بإغراق أفرادها بمتطلبات العمل والتعلم والسكن والإجراءات البيروقراطية، أو خرقها وتحويلها إلى خلية إسلامية يمكن استخدامها لاحقا عند أي استحقاق سياسي داخلي أو إرسالها إلى الشرق الأوسط في مهام قتالية واستخبارية كما جرت العادة خلال عقود.. في كلا المهمتين نجحت الأجهزة الأوروبية بشكل تام بل مثالي.. لكن الضمان الأهم والأكثر أمانا للمستقبل مما سبق هو منع نجاح الثورات في بلادها أي في مصر وسوريا والعراق والمغرب وتونس وإيران بأي وسيلة ومهما كان الثمن، فنجاح أي ثورة شعبية في العالم العربي هو كارثة حقيقية تهدد الأمن القومي لأي بلد أوروبي، ولأي بلد خليجي ولأي نظام حكم آسيوي، إن نجاح ثورة في بلد عربي يعني أن ثورات أخرى ستندلع في بلدان عربية، ونجاح ثورة أو أكثر في منطقة أو قارة يوحي لشعوب في قارات أخرى بالانتفاض والنزول إلى الشوارع لإسقاط نظام الحكم القائم.. وهذا ما لن يقبل به أي نظام حكم في الشرق أو في الغرب.

———————-

في ذكرى الثورة السورية مقابلة مع الدكتور حسام حافظ

مرَّ على انطلاق الثورة السورية المباركة اثنا عشرة سنة، حققت بها الثورة نجاحات، ومُنيت بإخفاقات عديدة. ومازال هناك الكثير من الأسئلة تدور في أذهان السوريين الذين لا ييأسون بحثاً عن أجوبة شافية لتلك الأسئلة. وبَيد أنه يوجد الكثير من أيقونات الثورة، من ناشطين ومفكرين، يستطيع السوريون من خلالهم إيجاد أجوبة لأسئلتهم، قام مركز مقاربات للتنمية السياسية بإجراء مقابلات صحفية، مرئية وسمعية، مع بعض تلك الأيقونات، وكان من بينهم د. حسام حافظ، قمنا بطرح عليه بعض الأسئلة المتعلقة بالثورة السورية، فكان جوابه كالتالي:

جدول المحتويات

    ماذا تعني لك الثورة السورية د. حسام؟

    كيف غيرت الثورة في حياة السوريين كما ترى؟

    هل تندم لأنك في صفوف الثورة بعد ما أصابها من نكبات على المستوى الداخلي والخارجي

    ما هي أهم الأخطاء التي حصلت بالثورة؟ وكيف يمكن تجاوزها؟

    برأيك ما هي سناريوهات الحل السياسي في سوريا؟

    ما هي أهم النجاحات التي حققتها الثورة السورية بعد ١٢ سنة من الثورة برأيك؟

    هل تعتقد أن مكتسبات الثورة السورية مستقبلا ستغطي خسائرها (ما دفع الشعب السوري من خسائر بالأموال والأرواح)

    كيف نربي أبناءنا على التمسك بمبادئ الثورة

    كيف يستطيع الشباب في الخارج دعم الثورة من الداخل؟

    ماذا تقول لأمهات الشهداء والمعتقلين في ذكرى الثورة؟

ماذا تعني لك الثورة السورية د. حسام؟

الثورة السورية تعني لي إرادة التغيير، التغيير السياسي والاجتماعي، الرغبة في الوصول لحياة أفضل، حياة أكرم، فيها احترام للإنسان ولكرامته، وفيها مستقبل أفضل للأجيال القادمة بعيداً عن حياة القهر والزيف السياسي التي أُجبرت الأجيال الحالية والسابقة على تحملها.

وإرادة التغيير تعني أننا لا نريد لأبنائنا، ولا حتى لأبناء غيرنا من السوريين (أبناء السوريين اينما كانوا ومهما كلنت انتماءاتهم) أن يعيشوا في نفس الظروف التي عاشها من قبلهم من السوريين، ظروف ظالمة وقهرية، ذات نمط بدائي في الحوكمة، وذات نمط بدائي في التعاطي مع الآخر، وبعيدة عن روح العصر، وبعيدة عن الاستجابة للحاجات الإنسانية الأساسية في هذا الجزء من العالم حتى بالمعايير البسيطة والشرق أوسطية.

إذن، الثورة السورية هي إرادة، هي قرار من السوريين لتغيير حياتهم وحياة أبنائهم، وحياة الأجيال القادمة نحو الأفضل.

كيف غيرت الثورة في حياة السوريين كما ترى؟

غيرت الثورة السورية حياة الناس من حيث التفكير وممارسة القناعات، أخرجتها من القوقعة والقوالب التي كانوا يعيشون فيها لأربعين سنة نحو فضاء أوسع بكثير. فضاء فيه الكثير من الحريات، وفيه الكثير من الاهتمام بالكرامة، في الفضاء الجديد لم يعد الإنسان يخاف التحدث عن حقوق الإنسان وعن الحقوق العامة، وأصبح التعبير السياسي، والتعبير عن الرأي، والمشاركة السياسية والممارسة واسعةً ومقبولة في مجتمع السوريين الأحرار، ولم يعد ثمة رقيب إلا ضوابط المجتمع، وهي ضوابط طبيعية أوسع بكثير من القوالب التي تفرضها الانظمة المستبدة كالنظام السوري.

غيرت الثورة السورية حياة السوريين أيضاً بأنها عرفتهم على بعضهم البعض، فطيلة العقود الماضية لم يكون يعيش السوريين إلا ضمن دوائر ضيقة إلى حد كبير. لأن الشأن العام في سوريا لم يكن متاحاً للجميع.

ولم يكن متاحاً التعاطي مع الآخر إلا ضمن هواجس قلقة، إلا ضمن أفكار مسبقة وتخوفات، لم يكن مسموحاً للسوريين أن يجتمعوا في مناسبات – غير الدينية أو الاجتماعية – أن يجتمعوا على قواعد جديدة، على تبادل أفكار، على قاعد التلاقي والاختلاف ضمن ضوابط قانونية محددة، لكنها واسعة وتسمح للجمعي بتبادل الرأي، لم يكن مسموح للسوريين أن يشكلوا أحزاباً أو يشكلوا فضاءات ضمن منظمات المجتمع المدني، إلا في أَضيق الاحتمالات والظروف.

هل تندم لأنك في صفوف الثورة بعد ما أصابها من نكبات على المستوى الداخلي والخارجي

لا أظن أن أي سوري ينضم للثورة يندم على ذلك، لأن الثورة هي تعبير عن الذات الجمعي. أعني أن السوريين في مجموعهم رفضوا أن يستمروا في الحياة تحت نيران الحكم الدكتاتوري، وبالذات بعد فترة الربيع العربي. ومنذ بدايات الثورة كان لدى معظم السوريين رغبة جامحة في الانضمام لأي حركة اجتماعية تخترق صفوف وضفاف وحواجز الطوائف والإثنيات. رغبة بأن تكون الحركة جامعة وأن تبنى على أساس المواطنة فقط، وعلى أساس حب في التغيير، وعلى أساس الحب في الوصول نحو سوريا أفضل.

هذه الرغبة الجامحة جعلت الثورة السورية بمثابة قدر ومصير لهذا الشعب، فلا أحد انضم للثورة السورية يندم على هذا القرار، حتى لو دفع أثمناناً كبيرة، حتى لو كان جزءاً من النجاحات ومن الفشل ربما، لكن هذه الجماهير الواسعة لا يمكن إلا أن تكون على حق وهي تستعيد ذكرى الثورة حتى هذه اللحظة بحب وشغف كبيرين…

ما هي أهم الأخطاء التي حصلت بالثورة؟ وكيف يمكن تجاوزها؟

حصلت في الثورة السورية أخطاء كثيرة جداً، أهمها هو عدم التعاطي بالحرفية المناسبة، عدم وجود قيادة موحدة، يعني ديمناميكية اختيار القيادة السورية لم تكن موجودة، لذلك كان البديل عن ذلك تصدر بعض متصدري المشهد من خلال آليات بهلوانية لعبت فيها الانتهازية حيزاً كبيراً، واستمروا بتصدر المشهد بدفع دولة هنا ودولة هناك، وكان تمثيلهم للثورة السورية على المستوى الدولي تمثيلاً كارثياً، في كثير من الأحيان.

ومن الأخطاء أيضاً عدم ربط السياسي بالمجتمعي بشكل مباشر، وأيضا الجانب العسكري كان له أخطاؤه، بداية عندما بدأ التحرك لحماية الثوار كان هذا الأمر مفهوماً، لكن في مسارات عسكرية كثيرة لم يعد الأمر مرتبطاً بالمجتمع والدفاع عنه وعن الثورة بروحها الوطنية الجامعة… هذا ما أدى الى نتائج سلبية لجمهور الثورة في الداخل، وللمراقبين في الخارج.

برأيك ما هي سناريوهات الحل السياسي في سوريا؟

السيناريوهات الباقية للحل السياسي في سوريا، هي سيناريوهات ضعيفة. أصبح الحل المرئي حلاً بعيداً عن الحل السياسي التقليدي الذي كان سائداً في جنيف، بل أصبح يرتبط بعودة السوريين إلى الداخل، وإحداث موجات من التغيير الداخلي، وفي نفس الوقت الاستفادة من مكتسبات الثورة على مستوى القرارات الدولية وعلى مستوى تنظيم الصفوف في المناطق المحررة وفي الداخل وفي المغتربات وفي أماكن تواجد اللاجئين والمهجرين في الخارج، لإنتاج قيادات جديدة تستطيع الاستمرار في رغبة في التغيير. إذ إن الارادة الصلبة المستمرة سوف تنتج سورية جديدة كما انتجت انساناً سورياً جديداً، ويبقى أن ينعكس ذلك بانتقال سياسي ناجز. الانتقال السياسي هي آخر ما يمكن التوصل إليه كنتيجة لأي تسوية سياسية، حتى لو لم يكن هناك حل سياسي شامل.

ما هي أهم النجاحات التي حققتها الثورة السورية بعد ١٢ سنة من الثورة برأيك؟

نجاحات الثورة السورية كما قلت، هي إخراج الإنسان السوري من الصندوق المغلق ….من الحيز الضيق جداً الذي فرضته عليه منظومة الحكم والسلطة الاستبدادية في سوريا لفترة طويلة….

من النجاحات أيضاً، أن هذا الخروج لم يكن خروجاً سياسياً، وإنما نجاحات السوريين حول العالم بالجانب الاجتماعي والجانب العلمي، خرج السوريين للعديد من الدول، لديهم منظماتهم ولديهم نجاحات في جميع أنحاء العالم

هل تعتقد أن مكتسبات الثورة السورية مستقبلا ستغطي خسائرها (ما دفع الشعب السوري من خسائر بالأموال والأرواح)

هذا سؤال جدلي، إذ إنه لا يمكن حساب مكتسبات وخسائر الثورة عبر جيل واحد، فالثورة السورية هي ثورة سورية مصيرية قدرية، لم يكن بالإمكان إلا الخروج لإرادة الجماهير بالتغيير، لكن هل هذا يعني أنه بالضرورة أن نشهد مكتسبات ونجاحات للثورة بمنطلق الأبيض والأسود الآن؟ لا أتصور ذلك، يعني، إذا أردنا أن نحسب نجاحات الثورة وتغطية الثورة، فيجب أن تكون على المستوى البعيد. ربما هناك خيبة أمل كبيرة وشعور بالمرارة والفشل. لكن أتصور أن هذا قد يكون مرحلي، فلا بد من الانتظار، ولا بد من المتابعة، لا يشترط المتابعة بنفس النمط ونفس الأفكار، ونفس الأهداف. لكن المتابعة يعني أن السوريين يُعادوا إلى نفس الطريقة القديمة بالتعامل، هذا يعني أن الأجيال القادمة سوف تعيش حياة أفضل

كيف نربي أبناءنا على التمسك بمبادئ الثورة

يجب علينا أن نربي أبناءنا على التمسك بمبادئ الثورة، فالنهوض ومحاربة الاستبداد هو أمر طبيعي فطري بالإنسان، لا يمكن للإنسان أن يستمر في ذلك.. أن يستمر بالحياة الذليلة، والحياة دون حريات، فهذا الأمر محسوم. إذن، نربي أبنائنا أولاً على سرديتنا للثورة، ماذا حصل ولماذا، ونربيهم أيضا على ضرورة وجود مبدئ للمراجعة دائماً، فلا بد للمراجعة الدائمة.

كيف يستطيع الشباب في الخارج دعم الثورة من الداخل؟

معروفة هي طرق دعم الثورة السورية بشكل عام، الدعم المالي، والتقني، ومنح مساحات كبيرة للنجاحات خارج سوريا وداخلها، ودعم التحركات السياسية، وتنظيم الصفوف سواء بالداخل أو بالخارج.

ماذا تقول لأمهات الشهداء والمعتقلين في ذكرى الثورة؟

أخيراً أقول لأمهات الشهداء والمعتقلين في ذكرى الثورة السورية، أنكم أيقونة ورمز هذا التحرك الشعبي الجماهيري التاريخي الذي سيذكره التاريخ. أبناؤكم دفعوا ثمن حرية هذا الشعب، لذلك سوف تظل تضحياتكم في صدر التاريخ مذكورة بالكثير من الإجلال والفَخَار. لن ينسى الشعب السوري الذين دفعوا هذه الأثمان لتخرج أجيال قادمة نحو حياة أفضل، ونحو حريات أكبر.

المعتقلين أيضا هم في قلب وفي صدر وفي عيون الجماهير السورية، على مسار التاريخ. المعتقلين كانوا الذين يدفعون من حياتهم وحرياتهم، ويدفعون الآلام والتعذيب ثمن حرية الآخرين وثمناً لمبادئهم، فلا يوجد أنبل وأطهر من الشهداء والمعتقلين في الثورة السورية.

————————–

==================

تحديث 20 أذار 2023

————————-

روسيا إذ تحتفي بالأسد في ذكرى الثورة/ طارق عزيزة

لا يحتاج المرء كثير عناء للجزم بأن اختيار روسيا ذكرى الثورة السورية موعداً لاستضافة بشار الأسد لم يكن من باب المصادفة. وصل رأس النظام السوري إلى موسكو مصحوباً بوفد رسمي، وأقيمت له التشريفات المتّبعة في استقبال رؤساء الدول، وهو نفسُه الذي أُحضِر إليها غير مرّة، على متن طائرة شحن عسكرية، بصورة مهينة، لا تقيم وزناً لأبسط قواعد اللياقة الدبلوماسية.

غير أنّ الابتعاد عن شكليات “زيارة الدولة” التي بدت في ظاهرها تكريماً روسيّاً للأسد، وقراءتها من زاوية حقيقة العلاقة بين الجانبين، يجعلان منها مؤشّراً إضافياً على ما انتهى إليه الديكتاتور الوريث، مجرّدَ تابع صغير يرعى مصالح داعميه الكبار، ويردّد ما يرغبون سماعه. لم يوفّر بشار الأسد جهداً في تأكيد هذه الحقيقة، من خلال تصريحاتٍ أدلى بها من موسكو، في اليوم التالي للقائه الرئيسَ الروسي، فلاديمير بوتين، أعرب فيها عن ترحيبه بوجود روسيا العسكري في سورية بصفة دائمة، واضعاً إياه في سياق “توازن القوى في العالم”، ومتوهّماً نفسه حليفاً لدولة عظمى، حيث “لا يمكن للدول العظمى اليوم أن تلعب دورها من داخل حدودها فقط، لا بد أن تلعب دورها من خارج الحدود، من خلال حلفاء موجودين في العالم”، وفق تعبيره. فأيّ عالم تافه هذا، حتى يكون نظام الأسد جزءاً من استقراره، وتوازن القوى فيه!

وروسيا، إذ تحتفي بالأسد في ذكرى الثورة ضدّه، تريد تأكيد انتصارها في سورية، على هامش تعثّرها في أوكرانيا، وإرسالَ إشارات إلى المعنيين في الإقليم والعالم بأنّها صاحبة الكلمة العليا في الملفّ السوري. لذلك، تحاول تقمّص دور الحكم الذي يضبط التوازنات ويدير صراع النفوذ والمصالح الإقليمية على الأرض السورية، مستفيدةً من تنسيقها المباشر والمستمرّ مع إسرائيل وتركيا وإيران، فتستضيف اجتماعات يشارك فيها ممثلون عن النظام وإيران وتركيا، وتتيح للأسد فرصة إعلان شروطه على تركيا للقاء الرئيس أردوغان، طالباً منها الخروج الكامل من سورية، وفي الوقت نفسه، الترحيب بتعزيز الوجود العسكري الروسي فيها.

من الصعب على روسيا تحقيق هذا الدور لأسباب عديدة، يأتي في صدارتها تعذّر التفاهم مع واشنطن والدول الأوروبية بشأن سورية في الوقت الراهن، فضلاً عن الشروط الواقعية على الأرض، سواء من حيث المعطيات الميدانية وتداخل مناطق النفوذ والسيطرة، أو نتيجة تناقض المصالح بين موسكو وشركائها، وما يترتّب عليه من ضعف الثقة بين الشركاء الاضطراريين. فالتحدّيات الداخلية التي تواجههم (الاحتجاجات داخل إيران، واستحقاقات الانتخابات التركية)، وتعمل روسيا على استغلالها لتحصيل اختراقاتٍ في الملف السوري على حسابهم، لا تبدو عاملاً كافياً أو حاسماً لدفعهم إلى التراجع عن أهدافهم لمصلحتها، أو تقديم تنازلاتٍ عن “مكتسباتٍ” راكموها على مدى سنوات انخراطهم المباشر في الحرب السورية.

أمام هذا الاستعراض الروسي المستفزّ، لا بأس من التذكير بأنّ القوى التي ادّعت قبل سنوات دعم الثورة ضدّ الأسد تحمل قسطاً وافراً من المسؤولية عن بقائه. لقد ارتضت سحب مسألة “مصير الأسد” من التداول نهائياً منذ عام 2015 على أقلّ تقدير، حين أصبحت أولويتها “محاربة الإرهاب” واستعادة “الاستقرار”، وهما من الكلمات السحرية الأثيرة في قاموس الحكومات عموماً، والمستبدّة منها على نحو خاص. ومعلومٌ أنّ تحقيق “الاستقرار” أو الحفاظ عليه، كثيراً ما يكون غطاءً للتعمية على الانتهاكات والجرائم المرتكبة، وذريعةً لتمرير صفقات وعقد شراكات قذرة مع أعتى الطغاة والمجرمين، إلى درجة تجعل من العدوّ صديقاً والصديق عدوّاً والسفّاح “صِمام أمان”.

جاء التدخّل العسكري الروسي المباشر في سورية، نهايةَ سبتمبر/ أيلول 2015، ضمن تلك الرؤية، بموافقة ضمنية، إن لم تكن صريحة، من واشنطن، وفق تأكيد الرئيس الإيراني (وقتذاك) حسن روحاني، في مقابلة مع شبكة سي إن إن، في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، حيث نقل عن بوتين أنه “تحدّث حتى إلى السيد أوباما عن هذا الموضوع، وأنّه يودّ أن يجدّد التزامه قتال داعش وهزيمتها. والسيد أوباما رحّب بتحليله وبخطّته. ولذا فحتى مسبقاً، أُخطرت الولايات المتحدة”. إذن، لم تقم روسيا بخطواتها في سورية منفردة، والترتيبات اللاحقة بشأن تنسيق العمليات الجوية، ما بين طيرانها وطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لم تكن سوى نقاشات في التفاصيل، بعد الاتفاق على الجوهر، تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، ومنع “انهيار الدولة” تجنّباً للفوضى.

أثبتت الوقائع أنّ بقاء الأسد كان الوصفة المثالية للفوضى وانهيار الدولة وليس العكس، واستمرار نظامه لا يعني مفاقمة مأساة الشعب السوري فحسب، بل ازدهار الجريمة المنظّمة في المنطقة، والسير نحو عالمٍ أقلّ أمناً وأكثر إرهاباً، واتّجاراً بالمخدرات.

العربي الجديد

——————————

ملاحظات أساسية في مراجعة تجربة الثورة السورية/ ماجد كيالي

بعد 12 عاماً من الصراع العنيف والمدمر والكارثي، بات السوريون إزاء واقع مختلف، من أهم سماته أن تلك التجربة، المديدة والمؤلمة والباهظة، لم تولّد طبقة سياسية قد تشكل منبراً قيادياً لهم، ولا كيانات سياسية هم أحوج إليها وهذا إخفاق كبير للنخب السورية

يستحق الشعب السوري، بعد 12 عاماً من ثورته أو انتفاضته أو تمرّده على النظام، نوعاً من مراجعة جدية وعميقة وشاملة لتلك التجربة، بمساراتها المتنوعة والمعقدة، وبالتضحيات والبطولات المبذولة فيها، وأيضاً بمآلاتها المأساوية والكارثية على واقع الشعب السوري، وعلى رؤيته لذاته ولإجماعاته الوطنية، وهي المراجعة التي لم تحصل من الفصائل السياسية والعسكرية التي تصدرت تلك التجربة وتحكمت بها، للتهرب من مسؤوليتها عما حصل.

منذ البداية، كانت ثمة رؤى سياسية، متسرّعة وقاصرة وخاطئة، تأسّست عليها تلك التجربة، بحيث أخذتها إلى ما آلت إليه، يتركز أهمها في ثلاث:

أولاً، حتمية سقوط النظام وانتصار الثورة، علماً أن هذا اعتقاد إيماني ورغبوي، لا علاقة له بالمنطق والواقع والتجارب التاريخية، لأن ذلك يفترض أن ينبثق من المعطيات المناسبة، التي تتشكّل من موازين القوى، والظروف الدولية والإقليمية المواتية، والقيادة أو الإدارة الملائمة، وذلك كله لم يتوافر ولا في أي لحظة للسوريين منذ 12 عاماً، علماً أن الثورات قد تنتصر وقد تنهزم، كلياً أو جزئياً، كما قد تنحرف أو تدخل في مساومات.

ثانياً، التوجه نحو حصر الثورة بالعمل المسلّح، الأمر الذي أدى إلى موات، أو تضاؤل البعد الشعبي في تلك التجربة، فاقم من ذلك افتقاد السوريين كيانات سياسية وازنة، وتجربة كفاحية تاريخية، وخوضهم مغامرة العسكرة بطريقة غير مدروسة، ومن دون إمكانات، وبالاعتماد على أطراف خارجية، سرعان ما فرضت أجندتها؛ وفي النتيجة فقد انحسرت تلك التجربة سياسياً وعسكرياً وعلى المستوى الشعبي.

ثالثاً، التعويل على القوى الخارجية، وتالياً الارتهان لها، إذ باتت لتلك القوى (الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتركيا وبعض دول الخليج) الكلمة الأساس في تشكيل كيانات الثورة السورية، وصوغ خطاباتها، وتحديد مستوى صراعها ضد النظام وأشكاله السياسية والعسكرية في كل مرحلة. ويمكن ملاحظة مخاطر ذلك مع ارتهان المعارضة السورية لتركيا مثلاً، التي أخذتها، في ما بعد، نحو ما يطلبه محور أستانة (مع روسيا وإيران، شريكا النظام في قتل السوريين وتشريدهم)، كما أخذت فصائلها العسكرية إلى أجندتها في قتال قوى كردية في الشمال السوري، وفي ما يمكن أن تأخذها إليه بعد تحوّلها نحو التطبيع مع النظام.

هكذا، فعلى خلفية تلك الإدراكات الحاكمة، دخلت تجربة الثورة السورية في مسارات غير متوقعة، وخضعت لمعادلات لا يمكن لها التحكّم بها، أو تحمّل تبعاتها، يأتي ضمن ذلك، تفلّت النظام من أية قواعد، أو حدود، سياسية أو أخلاقية، في استخدامه القوة العسكرية الغاشمة لفرض سيطرته، في محاولته قتل تطلّع السوريين المشروع الى الحرية والتغيير السياسي. وقد يجدر التذكير هنا، بأنه منذ تموز/ يوليو 2012، مثلاً، بات عدد ضحايا القصف الجوي والمدفعي بين أربعة إلى خمسة آلاف قتيل، كمعدل شهري، علماً أن عددهم كان بين 600 و 800 قتيل في أول ستة أشهر من اندلاع الثورة، أي الأشهر السلمية، حيث لم يكن وقتها لا سلاح ولا مسلحون، وبالطبع لا “داعش” ولا “نصرة”.

وما فاقم من ذلك الوضع، أن السوريين، منذ البداية، لم يواجهوا النظام وحده، إذ وجدوا أنفسهم في مواجهة النظام الإيراني، وأذرعه الإقليمية (ميليشيات عراقية وأفغانية و “حزب الله”)، وفي ما بعد في مواجهة القوات الروسية (أيلول/ سبتمبر 2015)، وأيضاً في مواجهة “داعش” و”القاعدة” وأخواتهما، ناهيك باللامبالاة والتلاعبات بهم على الصعيدين الدولي والإقليمي؛ إلى درجة يصحّ معها القول إن ثورة السوريين كانت ربما ستكون في حال أفضل من دون هكذا “حلفاء” أو “أصدقاء”، باتوا يتحكمون بها وبخطاباتها وأشكال عملها.

على الصعيد الداخلي، فإن الإدراكات المذكورة أدت إلى انزياح الثورة السورية من كونها حالة صراع على السياسة والسلطة، إلى كونها بمثابة صراع على الوجود والهوية، إذ إن الانفجار الحاصل لم يطاول فقط علاقات النظام بالشعب، وإنما شمل، أيضاً، تضعضع التوافقات المجتمعية، أو تصدّعها، ما شكّل نجاحاً للنظام، وأكسبه عنصر قوة مضافة، في صراعه مع المعارضة، التي لم تدرك مخاطر هذا التحول في إضعاف طابعها كثورة وطنية ديمقراطية، وفي زعزعة الإجماع من حولها، وقد ساهم في ذلك ضعف الصدقية الكفاحية لكيانات المعارضة، وشبهة ارتهانها للخارج، وعدم حيازتها مكانة تمثيلها في المجتمع.

والحال، فإن كل ما تقدم تجلى في إخفاق تجربة المعارضة في ما سمي بـ”المناطق المحررة”، بسبب نزوع الفصائل العسكرية نحو التسلّط، وسعيها الى فرض أيديولوجيتها المغلقة والطائفية، وبحكم تحوّل تلك المناطق إلى بيئات محاصرة، وكحقل رماية للنظام، وكبؤرة لنمو الجماعات المتطرفة، والغريبة بمفاهيمها وسلوكياتها عن مجتمع السوريين (داعش وجبهة النصرة مثالاً).

في هذا السياق، فإن النظام نجح في سياسته حرق الأرض من تحت “أرجل” الثورة، وتصحيرها، وحرمانها من البيئات الشعبية الحاضنة لها أو المتعاطفة معها، بل وتحويل قطاعات واسعة من السوريين، تُقدر بالملايين، إلى حالة تثقل على الثورة بدل أن تكون حاملاً، أو حاضناً لها، وهو ما تُوّج بحرمانها من عمقها الشعبي، بإزاحة غالبية المجتمع السوري من المشهد، إن مع وجود “طوائف” الخائفين والحائرين والقلقين، أو بحكم استهداف البيئات الشعبية الحاضنة للثورة بالحصار والتقتيل والتدمير والتشريد، كما بحكم احتكار الفصائل العسكرية للمشهد، وكلها أمور لم تنتبه إليها القوى المتصدرة للثورة أو المعارضة.

طبعاً، ثمة ظروف خارجية أدت إلى تآكل الثورة السورية منذ السنوات الأولى، فإضافة إلى التدخل العسكري الروسي والإيراني، هناك تلكؤ من المجتمع الدولي عن تحمل مسؤولياته إزاء تحديد مستوى العنف، ووضع حدود للسيطرة عليه، أو إزاء إيجاد حل سياسي للمسألة السورية. ففي هذين الأمرين، تعرضت ثـورة السوريين لانتكاسة خطيرة، وربما إلى نوع من “خيانة”، سواء مع إيحاءات التدخل بمختلف الأشكال، أو مع تغذية الأوهام بشأن “الخطوط الحمر”، من نوع “حلب خط أحمر”، و “الكيماوي خط أحمر”، وصولاً إلى الحديث عن اعتبار النظام غير شرعي، وأن على الأسد أن يتنحى، مروراً بوعود الدعم المادي والتسليحي والسياسي، وهي وعود أو أوهام ساهمت فيها قوى دولية وإقليمية وعربية معروفة.

المشكلة هنا، أنه على ضوء تلك الوعود والأوهام، رُفع مستوى وتيرة الصراع في سورية، ليس من حيث مقاصده، وإنما من حيث أشكاله ووتائره أو الرؤية التي جعلته يسير على النحو الذي سار عليه، في حين أن السوريين، من دون تلك الأوهام، كان بإمكانهم أن يسيروا على نحو آخر، ربما أكثر تأثيراً وفاعلية، حتى لو كان أطول زمناً، لكن بأثمان وأكلاف وعذابات أقل، هذا بالقياس إلى الأهوال التي اختبروها.

الآن، بعد 12 عاماً من الصراع العنيف والمدمر والكارثي، بات السوريون إزاء واقع مختلف، من أهم سماته أن تلك التجربة، المديدة والمؤلمة والباهظة، لم تولّد طبقة سياسية قد تشكل منبراً قيادياً لهم، ولا كيانات سياسية هم أحوج إليها للتعبير عن ذاتهم السياسية والجمعية، لا سيما أن الوضع بات يسمح بذلك في بلدان اللجوء والشتات، وهذا إخفاق كبير للنخب السورية، مثقفين وسياسيين وأكاديميين ورجال أعمال وطبقة وسطى.

أيضاً، لا يبدو أن ثمة في الأفق ما يؤشر إلى إمكان حسم الصراع السوري، بل ثمة في الأوضاع العربية والإقليمية والدولية ما يؤشر إلى عدم السماح بذلك، أي إبقاء الوضع الراهن، ما يعني شيئين متفارقين، أولهما، إن الصراع في سوريا وعليها قد يمتد لسنوات مقبلة طالما لم يتم التوافق الدولي والإقليمي على الخريطة السياسية لسوريا المقبلة. وثانيهما، أن تقرير الأوضاع في سوريا لم يعد بيد النظام ولا بيد المعارضة، على اختلافاتها، وإنما بيد القوى الخارجية، الدولية والإقليمية.

درج

———————

الثورة السورية لم تنته بعد/ وجيه قانصو

سواء نجحت الثورة السورية أم لم تنجح، وسواء استمرت أم أنها انتهت وأخذت مساراً آخر يختلف عن بداياتها. فإن من المؤكد أن هذه الثورة حركت الراكد وأنطقت الصمت وكابدت الخوف وكسرت رعب المحرمات والممنوعات وتجرأت على المستحيل.  نستحضر مناسبة انطلاقتها، لا لنحاكمها أو نعلن نهايتها، فهذا نتركه للسياسة والتاريخ وضمائر الموثقين.  وإنما لننعش ذاكرتنا بصرخات الحرية المنبعثة من جرح الكرامات المهانة، ونداءات الــ “سلمية” الصاعدة من جحيم الإذلال والترهيب اليوميين، وإرادة التحدي التي قمعت فزعها المزمن ورعبها الدفين، والإصرار العنيد على أن الحياة تستحق شروطاً أفضل لكي تعاش.

يكفي أن أكثر السوريين نزلوا إلى الشارع: ليعبروا عن وجعهم وأنين ظلاماتهم، ويحتفوا بحريتهم الموعودة ومستقبلهم المتخيل رغم رصاص جلاديهم الذي كان يمزق أجسادهم بلا شفقة، ويعلنوا عن أمالهم المتواضعة وأحلامهم البسيطة التي هي بمقاييس واقعهم الخانق وظرفهم المهين مستحيلة.  لم يكن لديهم رؤية سياسية أو خطة تغيير، ولا يحق لأحد أن يطالبهم بذلك أو يعيب عليهم ذلك.  فالمشهد كان مِيتا سياسي، أي يتجاوز السياسة ويجعلها تفصيلاً ثانوياً. كان مشهداً إنسانياً بإمتياز، يستمد قميته من ذاته لا من درجة نجاحه أو إخفاقه السياسي، هو تعبير عن أفق وجودي لحقيقة ومعنى أن تكون كائناً إنسانياً،  تطلعٌ وجِلٌ إلى تاريخ جديد وشرط إنساني مختلف، إظهار حقيقة واقع مزيف وكشف باطنه المتناقض وتعرية ظاهره الملفق ونعيمه المُدلَّس.

هذه الثورة،  لا تتحمل مسؤلية الإخفاق في تحقيق غرضها السلمي والديمقراطي، فتأسيس واقع جديد لا تكفي فيه النوايا والرغبات وحتى إرادة الداخل الشعبية، بحكم كثافة العوامل الخارجية التي مرجعها حسابات المصالح والتوازنات لا القيم والحقوق،  وعمق الرواسب الثقافية والذهنيات الدينية والبنى الاجتماعية، التي تحذر جميعها من التغيير ويقلقها التجديد، وتنسجم من حيث منطقها وطبائعها مع الشخصنة والاستبداد. ما يعني أن الثورة كانت حائزة على إرادة التغيير الضرورية لكنها فاقدة للشروط الموضوعية الكافية التي كان أكثرها خارجاً عن السيطرة والتحكم.

عدم تحقيق الهدف لا يعني الفشل. فالثورة، كشفت عن المسافة البعيدة والهائلة بين المبتغى والمتحقق، بين ما يجب أن يكون وما يمكن أن يكون، بين الرغبة بالتغيير والقابلية الذاتية للتغيير.  تعرفت الثورة إلى موانعها الموضوعية وموانعها الذاتية ومعوقاتها الظاهرة والخفية.  عرفت ما ينقصها ليس فقط من عناصر قوة مادية، وإنما ما تحتاجه من منظومات فكرية وذهنيات ودرجة وعي ونمط علاقات اجتماعية مغايرة جميعها لما هو سائد وراسخ.  فالثورة لم يحاصرها استبداد وقمع النظام فحسب، بل كان الفراغ الذي أحدثه تفكك النظام فرصة ثمينة لاستبدادات وأشكال طغيان كامنة داخل مؤسسات المجتمع عمدت بعد اقتناص فرصتها إلى الظهور إلى الالتفاف على الثورة نفسها، ليكون لها الدور الأكبر في الانقضاض على الثورة بإسم الثورة.

هذا لا يعني أن الثورة أنتجت نقائضها الذاتية، أو أنها كانت تحمل بذور فنائها وموتها من داخلها، إنما كانت ثورة مكشوفة الظهر، بعدما تبين عمق المأزق وغور الهاوية وركاكة الأرضية التي تقف عليها، وأن الاستبداد السياسي ليس سوى بعد واحد من أبعاد الاستبداد ووجوه الأزمة.  ما يعني أن طي صفحة الاستبداد عملية بنيوية وتكوينية ذات امتداد تاريخي  طويل لا تقتصر على إزاحة نظام والإتيان بنظام سياسي آخر، وإنما بإزالة مفاعيل ومولدات الاستبداد المنتشرة في أكثر مؤسسات المجتمع، والمنغرسة في الذاكرة وموجهات السلوك ومرجحات التفكير.

بهذا المعنى، كانت الثورة السورية بمثابة اختبار تاريخي ضروري ليس فقط لسوريا وإنما للمجال العربي بأسره.  فلقد عرَّفتنا على ما لم يكن بالإمكان التعرف إليه أو الكشف عنه لولاها، أزاحت الكثير من النرجسيات التي ظل العقل العربي أسيراً لها لما يزيد عن قرن،  أظهرت حجم السقوط الأخلاقي لدى النظام الإيراني (وأذرعه)، بالتالي حقيقة وأهداف حضوره في المنطقة، جراء تورطه بدماء السوريين، بيّنت النسبية المفرطة عند الغرب في التعامل الجدي مع القيم والحقوق الإنسانية، وأخيراً أثبتت عدم إمكان العبور إلى الديمقراطية الفعلية بأدوات وعدة وذاكرة وذهنية تناقض جميعها في منطقها ومبانيها مباديء الديمقراطية، إذ لا يمكن أن يكون هنالك ديمقراطية من دون ديمقراطيين. 

 لا يمكننا الحديث عن نهاية أو موت للثورة السورية، ولا أن نتحدث عن فشلها أو إخفاقها، بقدر ما نحن أمام مشهد من مسار طويل لم تنته فصوله بعد. صحيح أن الثورة لم تحقق أغراضها السلمية والديمقراطية، وأن كلفتها كانت باهظة، إلا أن التداعيات الموضوعية للثورة، المقصودة منها وغير المقصودة، قد أحدثت اهتزازات وارتجاجات مزلزلة لدى الدول المجاورة لسوريا والقريبة منها بالأخص إيران وتركيا ولبنان، وأنها غيرت تاريخ سوريا وراهنها بنحو جذري وفتحت مستقبلها على المجهول، بحيث بات من المؤكد أن سوريا لم تعد كما كانت من قبل ولن تعود.  

 المدن

——————-

النظام السوري يهاجم مؤتمر بروكسل للمانحين..بسبب عدم دعوته

ندّد النظام السوري باستبعاده هو ومنظمة “الهلال الأحمر السوري” من المشاركة في مؤتمر المانحين الدولي: “معاً من أجل الشعبين التركي والسوري”، المنعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل، من أجل دعم المناطق المتضررة بالزلزال الذي ضرب البلدين في 6 شباط/فبراير الماضي.

وقالت وزارة الخارجية في حكومة النظام في بيان، إن “سوريا تستهجن عقد ما يسمى مؤتمر بروكسل للمانحين لدعم متضرري الزلزال في سوريا وتركيا، من دون التنسيق مع الحكومة السورية الممثلة للبلد الذي حلت به هذه الكارثة أو دعوتها للمشاركة في أعماله”.

وأضافت أن “القائمين على المؤتمر استبعدوا أيضاً مشاركة أبرز الفاعلين الإنسانيين الوطنيين من المنظمات غير الحكومية السورية”، في إشارة الى استبعاد مدير الهلال الأحمر السوري خالد حبوباتي من تمثيل النظام خلال المؤتمر.

وجاء استبعاد حبوباتي نتيجة حراك حقوقي من قبل مجموعة من المحامين المعارضين للنظام في الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا، بعد ورود أنباء عن نية المفوضية الأوروبية توجيه دعوة لحبوباتي من أجل تمثيل النظام في المؤتمر، وذلك على خلفية ارتباطه والمؤسسة بالكامل بمخابرات النظام والعمل وفق توجيهاتها، بحسب قولهم.

واعتبر البيان أن “هذا النهج لمنظمي المؤتمر وتسييسهم للعمل الإنساني والتنموي قد تجلى أيضاً في مواصلتهم فرض تدابيرهم القسرية اللا شرعية واللا إنسانية واللا أخلاقية على الشعب السوري بما في ذلك الذين حلت عليهم الكارثة”.

وطالبت الوزارة برفع العقوبات المفروضة على النظام السوري “بشكل فوري”، معتبرةً أنها “الحد الأدنى من الارتقاء بالأوضاع الإنسانية والمعيشية للمتضررين من كارثة الزلزال”.

وكان من المقرر عقد مؤتمر المانحين في 16 آذار/مارس، لكن المفوضية الأوروبية قررت تأجيل المؤتمر إلى 20 آذار، بناءً على طلب تركيا بحسب ما جاء على لسان وزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو.

لكن مصادر “المدن”، قالت إن التأجيل جاء بعد الخلاف على دعوة ممثل عن النظام بين بعض دول الطوق المحيطة بسوريا ضمنها إسرائيل إلى جانب دول عربية وأوروبية، وبين الحلف المعارض لدعوته الذي تقوده السويد إلى جانب فرنسا وألمانيا.

ويغيب عن المؤتمر التمثيل السوري بشقيه المعارض للنظام والموالي له على الرغم من كونه سيخصص جزءاً من تبرعاته إلى المناطق المتضررة بالزلزال الذي ضرب المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في شمال غرب سوريا، والخاضعة لسيطرته، وأدّى إلى مقتل نحو 4 آلاف سوري.

وفي السياق نفسه، تعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين خلال افتتاح المؤتمر الاثنين، بتقديم 108 ملايين يورو من أجل إعادة إعمار المناطق التي ضربها الزلزال المدمر في سوريا.

وقدّر البنك الدولي حجم الأضرار بعد الزلزال بلغ 3 مليارات و700 مليون دولار أميركي بينما بلغت الخسائر ملياراً ونصف المليار دولار، مضيفاً أن احتياجات التعافي المبكر وإعادة الإعمار في سوريا، تُقدّر بنحو 7 مليارات و900 مليون دولار على 3 سنوات.

المدن

————————

الثورة والزلزال.. ما الذي بقي..؟/ محمد علاء الدين

اثنا عشر عاماً من ثورة شعب، وأربعون يوماً من الزلزال، عاشهما معاً ملايين السوريين في مواطنهم ومهاجرهم وأماكن النزوح، ومن لم يعشهما واقعاً لبعدٍ جغرافي عايش فيهما، وفي ارتداداتهما، كل عذابات القهر والقسر والعسف والخراب وآلام فقدان الأحبة، لم يخل منها بيت سوري حيثما كان في أرض تضيق عليه بما رحبت. ولكأنما الطبيعة أبت أن تتم الثورة السورية، فريدة الألفية الميلادية الثالثة، عامها الثاني عشر من غير أن تختمها بأربعين يوماً من الزلزال.

كارثة الطبيعة المتمثلة بزلزال هو في ذاكرة الأجيال الأعنف في المنطقة الممتدة جغرافياً من منتصف سوريا الشمالي إلى منتصف الجنوب التركي، ما زالت أرقامها الألفية غير نهائية، وستبقى كذلك ما دامت الأنقاض غير مزالة، والركام جاثماً فوق آلاف ممن ما زالوا في تعداد المفقودين، وإن تقوضت الآمال بنجاة أحد أو عثور على أحياء، لكن الإحصاءات ما زالت ناقصة الثبوت لضحايا زلزال كان أشد كارثية وضرراً منذ لحظته الأولى، ثم بما تبعه من زلازل عدة متقاربة الشدة، وهزات متراوحة، وارتدادات بلغت آلافاً، من غير أن تستقر صفائح أرض في الأعماق وما زالت إلى الآن بساكني سطحها تميد.

فجائعية كارثة الزلزال على السوريين أنها كانت في لحظة واحدة، فكان وقعها صاعقاً، لكنها على هولها وأرقامها المتصاعدة لا تشكل رقماً ملحوظاً كنسبة مئوية أمام أهوال ما تعرض له السوريون عبر سنوات ثورتهم من كل أشكال القتل والتنكيل والاعتقال والتغييب والترهيب والتخريب ومن ثم ما نجم عن كل تلك الأفعال الإجرامية من كوارث على الصعد كافة. إن أية مقارنة رقمية بين حصيلة كارثة الزلزال من ضحايا فاق عددهم من السوريين عشرة آلاف في كل من سوريا وتركيا، وضعفهم من مصابين، وآلاف البيوت المهدمة والمتصدعة وما استدعته من نوم في العراء وحركات نزوح جديدة، وما ستسجله من تبعات نفسية وصحية ومعيشية وتعليمية واجتماعية لأكثر من مليون متضرر، تبقى كنسبة رقماً أحادياً لا يبلغ في أي جانب منه عُشْر الكارثة الكبرى التي هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من فعل من ينتسبون إلى فصيلة البشر خَلْقاً في حين هم بعيدون عن كل فضيلةٍ خُلُقا.

كارثة الزلزلة على السوريين بأيامها الأربعين مضافة إلى مجموع الكوارث والنكبات التي حلت بهم نتيجة طغيان قاده عمى التمسك بالسلطة مدفوعاً بأجندات إقليمية تتخذ من ترسبات أحقاد باطنة ذريعة لمزيد من الإجرام المؤدلج، خدمةً لمشاريعها الاستراتيجية الطامحة إقليمياً، وشبه مسكوت عنه دولياً في إطار محاولات تشكيل جديد لعالم كاد أن يتعرى من الحدود الدنيا للأخلاق، تضعنا أمام سؤال أهم في ذكرى انطلاقة الثورة السورية، فبعد اثني عشر عاماً من عمر هذه الثورة وما صبت إليه (ما الذي بقي..)؟.

ما الذي بقي..؟

والثورة التي قامت انتفاضةً عارمة لشعب كسرت مجاميعُه في بارقة سانحة لربيع عربي كل قماقم الخوف، وحطمت كل جدران الصمت، لتزلزل عرش منظومة الطغيان في أيام معدودات امتدت فيه شعلتها من أقصى الجنوب إلى أقصى جهات الوطن، وكانت من غير أيديولوجيات ومن غير تحضيرات ولا تحريضات، ومن غير أي أثر فاعل لأحزاب أو تكتلات عملت منظومة الحكم على تصحيرها لعقود ونجحت، لكن الثورة فاجأتها من حيث لم تستطع المنظومات كبح جموح التطلع إلى دولة حرية وكرامة في عصر ما عادت فيه مقصات الرقاب، ولا المقاصل قادرة على وقف سيول المعلومات المتدفقة عالمياً، ولا اجتثاث الأصوات الهادرة بالتغيير وإن توحشت بالتنكيل اعتقالاً وقتلاً واقتلاعاً للحناجر. لكن أصحاب النداء المتصاعد حينذاك -لأجل أن تبقى الثورة من غير قيادات سياسية خوفاً عليها من انحرافات وانجرافات- وجدوا لاحقاً، بين ظهرانيهم وممن جاء من غياهب ليعتلي الظهور، من يحاول حرفها مستجراً خطاب متشدد ومتطرف يتخذ من عاطفة الدين الفطرية ستاراً لأجنداته، ليخلق واقعاً جعل الحاضنة الثورية في تخبط، وأمام أكثر من عدو قديم ومتجدد، ما زالت تعاني حتى في محررها من رواسبه وخلاياه السرطانية النشطة والنائمة، وليتخذ ذريعة من دول تبحث عن الذرائع وإن كانت من الصانعين.

ما الذي بقي..؟

وما استطاعت قوى الثورة المسلحة في سنواتها الأولى من فرضه على الأرض واعتبرته محرراً كان متصلاً من الحدود الأردنية جنوباً إلى التركية شمالاً ومتسع الأرجاء شرقاً وغربا، ثم بدأ الضمور والتقلص وقطع الأوصال بقعة بقعة ليغدو شريطاً في الشمال الغربي تتقاسمه قوتان في طيات كل منهما ما يبقي الاحتمالات غير مأمونة العواقب قائمة في كل لحظة، وخاضعة لضغوطات قوى نافذة، خارجية وداخلية.

ما الذي بقي.. ؟

وما زالت قوى الثورة على الأرض والحاضنة الشعبية بعيدة عن كل تنظيم مقنع لصفوفها، وفرز فاعل لنخبها، وقناعة بمن يدعي تمثيلها وهي عنه غير راضية، لا عن بنيانه ولا حقيقة تمثيله ولا أدائه السياسي الهزيل. في حين واقع الأمر داخلياً أفرز قواه النافذة بسطوة السلاح وفصائل غير منضبطة تحول بعض قادتها إلى أمراء حرب، وما يزال انضواؤها في هيكلية الجيش الوطني مثار أخذ ورد على الرغم من كل الجهود المبذولة التي قطعت شوطاً، وما زالت تسعى، لكنها لم تبلغ بعد ما يقنع التطلع. في حين المؤسسات الحكومية بإداراتها المدنية والخدمية وبمجالسها المحلية ما زالت تشكو من ضعضعة في الأداء نتيجة توازع التبعيات والولاءات غير المنضبطة في إطار حكومي يبقي مسمى (الحكومة) مظلةً راعية أكثر من كونها سلطة تنفيذية تمارس كامل مهامها ومسؤولياتها على الأرض، ويبقي صوت الحاضنة الذي ارتفع خلال الأشهر الأخيرة بضرورة التمكين مجرد صوت لا يجد منعكسه المرتجى.

ستكثر الأسئلة عما بقي، لكن ثمة أملاً لا يبرح كل نفس ثورية تؤمن في قرارتها بما قامت ثورة الشعب لأجله، وقدمت من التضحيات ما لم يعرفه التاريخ المعاصر في الثورات.  تلك الأنفس الحرة التي لم تتمكن كل النوائب والكوارث والجرائم التي شتتها في أصقاع المهاجر وأماكن النزوح ومخيماته من قهر إرادتها.

هل بقي رهاننا الأخير على تلك الروح الثورية؟ وهل تلك الروح بعد اثني عشر عاماً من زلازل الإجرام والطبيعة لم تتزلزل؟

من يستعيد اليوم ما كان قبل اثني عشر عاماً، وما فعلته آنذاك الروح الثورية الكامنة من زلزلة ما زال أثرها مستمراً وكل ارتداداته قائمة، يدرك أن تلك الروح قادرة على الانفجار في كل آن، وأنَّ روح الثورات تبقى مُزلزِلةً وإن اعترتها زلزلة.

———————–

في النقاش حول ديمومة الثورة وذكراها/ علي سفر

في مشهد لافت، وربما يكون جزءاً من ديناميكية روحها بوصفها فعل تغيير، طرحت مقالاتٌ مكرسة لذكرى الثورة السورية، أفكاراً حول واقعها الحالي، وآفاقها، وقد كان المشترك الغالب بينها، أن أصحابها لم يخفوا الأسئلة القاسية، عما بقي من النبض في عروقها.

نزعُ القداسة عن المكرس، قدرةٌ لا يمتلكها الجميع، لكنه توجّه حاضر لدى الأجيال الشابة، فإذا كان لابد من فعل ذلك من أجل النقاش حول المآلات التي انتهت إليها حالة الثورة، فإن جيل الشباب السوري يجد نفسه أمام مهمة مزدوجة، فهو مضطر للقيام بهذا، في الوقت ذاته الذي يحاول فيه أفراده صنع حيوات، أفضل مما شهدوه خلال العقد الماضي، وخاصة منهم أولئك الذين باغتت الثورة طفولتهم، فاضطروا إلى المضي مع أهاليهم في المسارات التي قادتهم إليها!

لو سألت أحداً من هؤلاء عن الثورة، لن يحدثك عن الشوارع الممتلئة بالحشود، بل سينتقل إلى المآسي، وأولها بقاء النظام يحكم البلاد بعد جرائم الإبادة التي ارتكبها، وثانيها حالة الشتات العامة.

ضمن هذا الإطار لن تعثر على صورة جميلة للثورة، وربما ستمضي قليلاً -إن تجرأت- صوب السؤال: هل ما زالت الثورة السورية على قيد الحياة؟

لن يستطيع أحد، حتى وإن استخدم أدوات تحليلية علمية، إثبات أن الثورة السورية التي انطلقت في شهر آذار عام 2011، ما زالت مستمرة، وأن عروقها تنبض!

ليس كافياً أن نشير إلى وجود مناطق خارجة عن سيطرة النظام، ووجود ملايين اللاجئين الذي يجهرون بمعارضتهم له، وكذلك وجود كم هائل من الصفحات والقنوات الحرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً عشرات الوسائل الإعلامية المعارضة، من أجل إطلاق حكم يقيني بأن هتافات الشهور الأولى لتلك السنة البهية، ما تزال تعتمل في الصدور، وتعيش حقاً في العقول.

الوقفات الدورية التي يصنعها الثائرون في المناطق “المحررة” كالمظاهرات والاحتفالات، تحاول الإبقاء على طقوس التظاهر الجميلة، وفي الوقت نفسه نرى كيف أنها تهدف إلى مناكفة الفصائل المسلحة المسيطرة، والاحتجاج على ممارساتها، طالما أن التجارب كشفت مقدار تشابه جوهر سلطتها مع كينونة النظام القمعية!

أما تلك التي تقام في المدن الأوروبية والأميركية، فقلّت الأعداد المشاركة فيها، ولا غرابة في الأمر بعد مرور كل هذا الوقت، وبعد أن تحول قسم كبير من جمهور المنتفضين ضد الأسد بحكم ظروفهم المكانية، إلى التركيز على شكل آخر من أشكال النضال ضده، كما يصرحون، هو صناعة الحياة البديلة عن تلك التي تُركت في سوريا.

سيحتاج معارضو هذه الفكرة جهداً كبيراً لإثبات عكسها، دون استخدام الإنشاء اللغوي والشعاراتي، وطبعاً بعيداً عن مصادرة الرأي الآخر، واتهامه بوهن نفسية الأمة وإضعاف شعورها الثوري.

موت الثورة إذا كان حقيقياً فهو صادم، وإذا اعتبرناه مجرد فكرة، فإنها تستحق النقاش وفتح ملفاتها الرمزية، وتحليل خطاباتها، غير أنها للوهلة الأولى تبدو معادية للثائرين أنفسهم، أو لنقل لبعض الناجين منهم، بعد أن انتهى الحال بالأغلبية، إما على قيد الحياة في الداخل مغلوبين على أمرهم وصامتين، أو سجناء ومفقودين مجهولي المصير، وإما تحت التراب، أو مهجرين ونازحين ولاجئين.

كثيرون ممن رهنوا حيواتهم للثورة السورية ضد نظام الأسد، انتابتهم خلال سنواتها التي تجاوزت الـ12 سنة أحاسيس التعب والقلق وأصابهم الشك وعدم اليقين، من مصيرها، فقاموا بمراجعة مسارها، وعادوا لقراءة الوقائع التي عاشوها، بغية معرفة الحقائق، والتأكد من أنهم لم يخدعوا أنفسهم حين انتموا لها، ولم يُخدعوا من قبل الآخرين الذين تولوا أمورها أو دعمها.

لهذا يجد المرء أن الصوت العالي لدى الثائرين، يحوم دائماً حول النقاء أو الطهرانية، كأساس للمسار الذي توجب على السوريين الخوض فيها للتخلص من سرطان الأسدية. ورغم ما يشوب هذا النبض العالي لدى البسطاء من رمي الاتهامات بكل الاتجاهات، يبقى أن العودة إلى تلمسه والإحاطة بتفاصيله، هي جزء من البوصلة العامة التي يجب ألا تنسى، وبالتأكيد لا يمكن لهؤلاء تقبل الأفكار الجدلية التي تدور حول الثورة.

الناجون يرون بأن الإقرار بانتهاء الثورة هو تصرف يستهدف وجودهم، لأنهم كما الآخرين، وربما أكثر من غيرهم يدفعون ثمن نتائج الحراك، فقد خسروا كل شيء ولم يبق لديهم سوى الإيمان بعدالة قضيتهم.

لكن إذا هدأ هؤلاء وانتظروا قليلاً، قبل أن يتحمسوا كثيراً في الرد على الفكرة، لأنها بذاتها لا تحمل أدوات مؤذية، فهي منطوق لفظي بخطاب مركز يخاطب العقل، أو بالأحرى طبقات مستقرة من اليقين، بأن الثورة مستمرة، وبأنها تنبض بالحياة! وبالتالي فإن النقاش إن تولد بعد هذا الطرح، يجب ألا يكون قطعياً، مبنياً على مسلمات غير قابلة للمراجعة.

يمكن للثورات أن تتكرر كسلسلة من الانتفاضات، لكنها لا يمكن أن تعيش على شكل واحد من خلال أدواتها الإجرائية ذاتها لزمن طويل، وإذا تعامل الجمعُ الثائر مع ثورته التي لم تنتصر، بقداسة، ونفخ في عمرها، فإنه سينتهي إلى منحها سلطة معنوية أولاً، ومادية ثانياً، بعد أن يبني لها مؤسسات طارئة، وربما في سياق تحولاتها، سيتمكن بعض من حمل السلاح من تشكيل سلطات قسرية أيضاً تحاسب الآخرين المختلفين، وتمنحهم صكوك البراءة، وكذلك عرائض الاتهام والإدانة.

كل الثورات التي طال زمنها انتهت إلى الهزيمة، ليس لأنها لم تنتصر، بل لأنها مع تقادمها أنتجت لوجودها شكلاً يشبه الأنظمة التي ثارت ضدها تماماً، وقائمة الأمثلة تطول.

لن يرى المعترضون على هذا الكلام أن الثورة التي يحملونها في رؤوسهم قد واجهت هذا المصير، وهم محقون في ذلك، لأن شعارات وأهداف انتفاضة سنة 2011، وخاصة تلك التي تستهدف إسقاط النظام، مازالت طازجة، وتستحق أن تبقى ماثلة وشاخصة أمام عيون الجميع، لكن السير على الأرض ربما يعطي قدرة أعلى على تلمس الواقع، والنظر في إمكانيات مختلفة، عن تلك التي مضى السوريون فيها طوال 12 سنة، لا سيما وأن كل المؤسسات السياسية التمثيلية الراهنة، تبدو بلا فائدة للثورة ذاتها، مع الانتباه إلى أن الفعاليات الأهم في حياة السوريين الثائرين في كل الأمكنة التي يعيشون فيها، تأتي منهم أنفسهم، ومن منظمات المجتمع المدني، بما فيها الروابط والاتحادات المهنية، وقبلها المنظمات الحقوقية التي تلاحق مجرمي الأسد، ومن يشبهونهم في ضفة الفصائل المعارضة.

وكما أن استخدام الأقدام في قطع المسافات يشعرنا كم هو متعب الانتقال من مكان إلى آخر، يمكن للتخفف من الأحمال أن يمنحَ من يحمل القدرةَ على المضي إلى حيث يريد بسرعة أكبر، وعليه، فإن إبقاء الثوابت بوصفها مرجعيات غير قابلة للنسيان إلا عبر تحققها، يجعل السوريين راسخين في المسار الذي يمضون صوبه، أي إسقاط الحكم الديكتاتوري الذي دمر البلاد وباعها لحلفائه، وهجر شعبها، لكن شكل النضال ضد هذا النظام، يجب أن ينتقل ليأخذ أشكالاً أخرى.

وكما بدأنا التفكير هنا بالحديث عن الشباب، الذي يبحث في آفاق مختلفة عما تفكر فيه الأجيال الأخرى، يمكن أن نطرح فرضية أن هؤلاء كأفراد، وربما مستقبلاً كجماعات، باتوا وبحكم المثاقفة مع البيئات الجديدة التي يعيشون فيها، يمتلكون أدواتٍ عصرية، يستطيعون من خلالها تلمس طرق مختلفة، في التعبير عن القضية الوطنية، وعن أنفسهم، وبهذا المعنى يمكن القول بأنهم يصنعون ثوراتهم الخاصة، تلك التي تحصنهم، في مواجهة الواقع أولاً، وتَخَلف الأدوات والوسائل ثانياً.

ثورة تموت، فيخلق من إرثها ثورات، أفضل من أن يتم النفخ فيها، فتعيش بالإجبار!

—————————————-

الأزمة السورية في بداية عامها الثالث عشر

لقد مرت انتفاضة الشعب السوري منذ انطلاقها في الخامس عشر من آذار لعام 2011 بستة مراحل رئيسة متمايزة، بدأت في أولها على شكل مظاهرات سلمية مدنية، ركزت راياتها على الوحدة الوطنية، وعبرت شعاراتها عن مطالب الشعب المحقة في الحرية والكرامة والديمقراطية. لقد استمرت هذه المرحلة نحو ستة أشهر على وجه التقريب، تخللتها بعض الحوادث العنيفة المتفرقة.

وفي المرحلة الثانية بدأ التمرد المجتمعي يزاوج بين المظاهرات السلمية وحمل السلاح بذريعة الدفاع عن النفس. خلال هذه المرحلة، التي استمرت نحو ستة أشهر أخرى، بدأت تتكثف التدخلات الخارجية لعسكرة انتفاضة السوريين مستفيدة من اعتماد الحل الأمني للنظام، واستعداد قوى الإسلام السياسي المختلفة للعنف.

في المرحلة الثالثة فإن الصراع المسلح بين قوى النظام العسكرية والأمنية وحلفائه من جهة وما سمي بالجيش الحر وكتائب المقاتلين المحليين والأجانب بتسمياتها المختلف وحلفائها من جهة ثانية، أخذ يرسم معالم المشهد السوري. خلال هذه المرحلة دخلت البلاد في حالة كارثية بكل المعاني الإنسانية والسياسية والأمنية والاقتصادية.

في خريف عام 2015 وتحديداً مع بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في الأزمة السورية بدأت مرحلة جديدة في مسار الأزمة. بالطبع كانت قد سبقت التدخل الروسي تدخلات مباشرة غير معلنة رسمياً لدول عديدة عربية وإقليمية، وأخرى بعيدة، ساهمت في تأجيج الصراع المسلح في البلد، وبعد ظهور تنظيم داعش على مسرح الأحداث في العراق وسوريا تشكل ما سمي بالتحالف الدولي بقيادة أمريكا كغطاء تدخلي.

أما بخصوص المرحلة الخامسة فيمكن القول أنها بدأت بعد هزيمة داعش وتحول الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ دولية. يغلب على هذه المرحلة الطابع السياسي، أي البحث عن مخارج سياسية من الأزمة، سواء عبر مسار جنيف أو مسار أستانا، لكن دون جدوى.

بدأت المرحلة السادسة عملياً بعد عام 2019 مترافقة مع التحولات في سياسة بعض الدول العربية (الإمارات العربية، والبحرين، والسعودية وغيرها) تجاه النظام السوري، وبصورة خاصة التحولات في السياسة التركية تجاه العديد من الدول العربية وتجاه الأزمة السورية بصورة رئيسة، ما أنعش بعض الآمال بقرب الحل السياسي للأزمة السورية الذي طال انتظاره.

على ما يبدو صارت الأزمة السورية عبئاً، ليس فقط على السوريين أنفسهم، بل وعلى العديد من الدول العربية والإقليمية والبعيدة، الأمر الذي استدعى إعادة قراءتها من زاوية تأثيرها على مصالحها المستقبلية. ورغم التردد والممانعة الخجولة لبعض الدول العربية تجاه الانفتاح على النظام أعادت أغلبية الدول العربية علاقاتها معه. وها هو مؤتمر القمة العربية في الجزائر يتخذ لأول مرة، منذ تفجر الأزمة السورية، قراراً بالإجماع للمساهمة العربية في حلها.

بدورها تركيا التي تتحمل المسؤولية الأكبر عن الأزمة السورية من خلال تأجيجها للصراع المسلح في البلد، وحشدها واحتضانها ودعمها لقوى إرهابية محلية وأجنبية، على أمل خلق مجال حيوي لها بفضاء إسلامي، تعيد النظر في الكثير من سياساتها الإقليمية تجاه بعض الدول العربية (مصر والسعودية والإمارات وغيرها)، وخصوصاً تجاه سوريا.

لقد شهد مسار السياسة التركية تعرجات كثيرة بحيث يصعب القول انها تخضع لمعايير مبدئية تسمح بقراءتها والتنبؤ بتعرجاتها، وذلك لتأثرها المباشر بمزاج أردوغان وبكيفية قراءته لمصالح تركيا. فمن سياسة “صفر مشاكل” مع الدول المجاورة إلى سياسة مشاكل كبيرة معها. واليوم يجري منعطف جديد في تركيا يحاول تسوية بعض مشاكلها. يبدو لي أن الطموح الأردوغاني بإعادة إحياء نوع من العثمانية الجديدة على شكل مجالات حيوية لتركيا في الدول الإقليمية، خصوصاً في الدول العربية، بفضاء إسلامي قد فشل وتسبب له بمشاكل في الداخل التركي أخذت تهدد جدياً مستقبله السياسي، لذلك بدأ تكويعته الأخيرة. تقول حكمة قديمة “من السهل جعل الأصدقاء أعداء، لكن يصعب بعد ذلك جعلهم أصدقاء”. ينطبق هذا القول على السياسة التركية أيما انطباق. لقد عادت تركيا جميع الدول العربية ما عدا قطر، وخصوصاً تلك التي تعد دولاً مؤثرة في المنطقة مثل السعودية ومصر والإمارات وسورية والعراق، واليوم إذ تحاول تطبيع علاقاته معها، فهذه الأخيرة غير مستعجله، ربما تنتظر نتائج الانتخابات التركية القادمة.

يجري الحديث هذه الأيام بكثافة لافتة في الإعلام عن تطبيع العلاقات السورية التركية، ويصدقها بعض اللقاءات بين مسؤولين من البلدين، مع ذلك ثمة تعقيدات كثيرة قد تحول دون ذلك على الأقل في المدى القريب المنظور. بطبيعة الحال ليس في السياسة عداوات دائمة ولا صداقات بل مصالح، لكن فيما يخص العلاقات التركية السورية يصعب التوليف بين مصالح الطرفين. بالنسبة لتركيا الأردوغانية تسببت سياسات حكومتها الخاطئة بأزمة اقتصادية عميقة وشاملة فيها، أخذت تستفيد منها المعارضة، إضافة إلى ورقة اللاجئين السوريين، لكن تبقى المسألة الأبرز في تحولات السياسة التركية تجاه سوريا هو الهاجس الكبير للحكومة التركية من تأثير طموح الكرد السوريين للفوز ببعض حقوقهم المشروعة، الأمر الذي قد يؤثر، بحسب المزاعم التركية على الأمن القومي التركي. للأسف الشديد الثابت الوحيد في السياسات التركية بغض النظر عمن في الحكم هو العداء غير المبرر للكرد.

على المقلب الآخر فإن الحكومة السورية تشرط انسحاب القوات التركية الكامل من الأراضي السورية، والتوقف عن دعم القوى الإرهابية، أو على الأقل وضع جدول زمني قصير الأجل لانسحابها، وهذا مطلب، على ما يبدو، لا تزال الحكومة التركية غير جاهزة له. ولتسوية هذه الخلافات العميقة بين الطرفين تحاول روسيا، التي لها مصلحة حقيقية بفوز أردوغان في الانتخابات القادمة، الضغط على الطرفين للقبول بحل “الخطوة خطوة “، وعلى ما يبدو قد حققت بعض النجاح، ساعدها في ذلك دخول إيران على الخط فهي بدورها لها مصلحة بفوز أردوغان في الانتخابات القادمة. مهما يكن مستقبل العلاقات السورية التركية فإن قسم كبير من الشعب السوري لن يغفر لتركيا دورها في تدمير سوريا.

——————————-

=======================

تحديث 18 أ1ار 2023

———————

كيف يدبّر الأسد الثورةَ المقبلة؟/ عمر قدور

هناك ثورة مقبلة في سوريا؛ لا نقول هذا لغرام بالثورات، ولا مدفوعين بـ”تفاؤل تاريخي”. ومع أن أوضاع السوريين الراهنة هي أبعد ما يكون عن الثورة، أو الانفجار أو الانتفاضة..، فإن أسباب الانفجار المقبل تتراكم يومياً، لتجبرهم في وقت ما “قد لا يكون بعيداً جداً” على تكرار الثورة.

ليس هناك من سوريين يحضّرون سرّاً للثورة المقبلة، فهذه مهمة يتولاها بجدارة الأسد نفسه. لقد كانت أسباب الثورة عليه من بين ما ورثه الأسد الابن، وهو لم يفعل سوى ما يعزّزها، وحتى عندما انتفض السوريون في آذار2011 لم يحاول نزع أي مبرر من مبررات غضبهم، بل فعل العكس تماماً. هو فعل ما كان يفعله دائماً، لكنه منذ آذار2011 صار مكشوفاً أكثر من قبل، وصارت أفعاله تحت المجهر.

في المستوى المباشر لما نذهب إليه، سادت طرفة في العام نفسه مفادها أن عاطف نجيب، ابن خالة بشار الأسد، هو القائد الفعلي للثورة السورية باعتقاله أطفال درعا وتعذيبهم، ثم بإهانته البذيئة أهاليهم الذين ذهبوا لمطالبته بإطلاق سراحهم. في خلفية الطرفة، وهذا ظنٌّ كان شائعاً، أنه كان في وسع الأسد معاقبة ابن خالته “ولو رمزياً” واسترضاء الأهالي الذين سيقدِّرون له لفتته. والفكرة ذاتها نجدها في ما كان يتداوله السوريون منذ عقود، وملخّصه قدرة الأسد “الأب ثم الابن” على كسب محبة السوريين بتخفيف القمع وإعطائهم بعض الحريات ومشاركتهم مستويات متدنية من القرار والسلطة. ذلك بالضبط ما لم يحدث لأن حدوثه مستحيل، لا لقصور في تقدير الأسد أو لطبعٍ من طباعه.

ما حدث منذ اثني عشر عاماً لا يُردّ فقط إلى أن الطغاة، عبر التاريخ، يتسببون في اندلاع الثورات. من المهم الانتباه في حالتنا، وحالات قليلة مشابهة، إلى نسخة مستحدثة فريدة من الطغيان تحت مسمّى “جمهورية وراثية”. أمامنا كلمتان لا يستقيم أن تتجاورا على هذا النحو بأي منطق كان، وإذا تأملنا هذا قليلاً فإن مخالفة المنطق تتطلب باستمرار استخدامَ العنف بكافة أنواعه من أجل الإبقاء عليهما متجاورتين في اللغة وفي الواقع.

من المستحسن عدم البحث عن بدائل لهذا التعبير أو اختصارات، فاقتراح كلمة “جملوكية” مثلاً، بدل جمهورية وراثية، يصلح للتندر إلا أنه يخفي التناقض الفظيع الموجود في التعبير الأصلي. الإبقاء على الأصل الفاجر ليس للتذكير فقط بفجور الطغاة في الانقلاب على الجمهورية، فهو أيضاً للتذكير بالكارثة المختزَنة فيه. إنه انقلاب لا يحدث لمرة واحدة، وإلا كنا إزاء تحوّل صريح واضح من الجمهورية إلى الملكية؛ هو انقلاب متواصل بما تحمله الكلمة من عنف ضد المحكومين.

إنه فوق ذلك عنف مضاعف، أو عنف فائض لا حد له، لأن غايته لا تتوقف عند الاحتفاظ بالحكم. الطاغية في حالتنا يستخدم العنف لحماية استبداده، ولحماية توريث الاستبداد؛ يستخدم منه ما يلزم راهناً ويستخدم الفائض منه استباقاً من أجل وريثه. لعل هذا الفائض، الذي لا يبدو مفهوماً أو مسوَّغاً في توقيته، بمثابة الميزة التي لا بد منها للجمهورية الوراثية.

يكاد العنف، بأشكاله المباشرة وغير المباشرة، أن يظهر كغاية بحد ذاته، لأنه يخدم في الجمهورية الوراثية نزوعاً لا حدّ له إلى الاستئثار بالسلطة. أيضاً، يجب عدم شخصنة هذا النزوع الاحتكاري بردّه إلى طبع شخصي، فالتوريث في هذه الجمهورية يقتضي إزاحة جميع المنافسين المحتملين، في السياسة والاقتصاد والعسكر والمخابرات.. إلخ، ويقتضي الرفض الجذري لمنطق الشراكة، ولو كان الشركاء في مرتبة متدنية لا خطر منها، باستثناء الشركاء المتورطين في ممارسة العنف.

كلّ ما صار مفضوحاً عن احتكار السلطة والثروة في سوريا غير طارئ على طبيعة السلطة نفسها، بمعنى أن ما يتسرب من أخبار عن تغوّلٍ مسفّ على صعيد الاقتصاد والمال “بعد تغوّل التشبيح” لا يعود إلى ظرف مؤقت، بل هو في منتهى الانسجام مع ذلك الجشع المتنامي إلى ممارسة السطوة المطلقة والعنف. في ظروف مختلفة، لو لم تندلع الثورة عام2011، كان شكل ما يمارسه الأسد اليوم هو الذي سيختلف، أما الجوهر فهو ذاته، أيْ هو الجوهر الذي سيضع السوريين أمام خيار وحيد هو الثورة.

قد يكون مؤسفاً القول أن الثورة المقبلة لن تكون “بالمعنى المباشر” انتصاراً لملايين السوريين الذين اعتقلهم وعذّبهم أو أبادهم أو هجرهم الأسد الابن ومن قبله الأب، وقد لا تكون استئنافاً لثورة2011 إلا لجهة بقاء الاستحقاقات والمطالب ذاتها ما بقي الأسد في السلطة. نجزم بأن محاولات تعويم الأسد، أو إعادة تدوير سلطته، لن تنجح في زحزحة نزوع جمهوريته الوراثية الأصيل إلى احتكار السلطة والثروة، وأي نجاح من هذا القبيل “إذا حدث” سيكون مؤقتاً وعلى سبيل المناورة قبل الاستئناف الحتمي لما هو جوهر التوريث.

والكلام السابق عن حتمية الثورة لا ينضوي في التغني بها، فالحتمية تعني دائماً استنفاذ الحلول الأخرى، وتعني غالباً أن كلفة الانفجار اللاحق ستكون باهظة. ما يدبّره نهج سلطة الأسد اليوم هو تلك الحتمية وجعلها باهظة الثمن في الوقت نفسه، وبالطبع ليس من شأنه فكّ التلازم بينهما. ولا بأس إذا كان الكلام عن الحتمية فيه شيء من السلوى للذين يعزّ عليهم التفريط بما يعتبرونه ثورة موجودة مستمرة، وإن كان من الأجدى منذ الآن الانتماء إلى الثورة المقبلة.

لن يدبّر الأسد كل شيء، وينبغي ألا يكون الحال كذلك مستقبلاً، بمعنى أن ينفجر الوضع مع عجز عن الانقلاب عليه. هذا واحد من دروس الثورة الفائتة، إذا توفرت النية للاستفادة منه، وهو يتطلب نقداً حقيقياً للسنوات الماضية. ربما يلزم أن يكون نقداً لا محابياً ولا ينطلق من عداء، وله القدرة على اختراق الاصطفافات والانقسامات الحالية بحيث لا يكون تحت وطأتها. من “كرَم” الثورة الفائتة أن فيها الكثير من الدروس، حتى لأولئك الذين عادوها، والذين لن يجدون مفراً” هم أو أولادهم” من الثورة، وليس قدراً مكتوباً لهم أن يضيعوا تلك الفرصة.

المدن

————————————

في ذكرى انطلاقة الثورة السورية/ بلال تركية

اثنا عشر عاماً مضتْ على ثورتنا المباركة منذ انطلاقتها منتصف آذار/ مارس من العام 2011. اثنا عشر عاماً وشعبنا السوري ما زال يقاسي مرارة التهجير والانتهاكات. اثنا عشر عاماً مضتْ، وما زِلنا نطالب بالحرية والكرامة والعدالة لكل أبناء سورية. اثنا عشر عاماً على الثورة التي بدأت سِلمية، لكن النظام ردّ على المتظاهرين العزّل بلغة السلاح والعنف، واتخذ قراره، منذ اليوم الأول، بوأد كل الأصوات المطالبة بالحرية، فأضحى الشعب السوري بين خيارين، الثبات على مطالبه المحقّة أو تجرع مرارة النزوح واللجوء والتشريد والموت والاعتقال. وكان خِيار الأحرار منذ البداية “الموت ولا المذلّة”. لقد واجه هذا النظام السوريين بجميع أصناف الأسلحة المحرّمة دولياً، والصواريخِ البالستية والسلاحِ الكيميائي واستعان بالمليشيات المأجورة. وعندما فشل في وأدِ الثورة، راح يُغذّي الإرهاب ويصنّعه، سعياً إلى تشويه الثورة وإلصاق الإرهابَ بها، لكن الثوار كانوا أول المتصدّين له والمحاربين لقوى الإرهاب والتطرّف.

واليوم، وبعد كلِ ما لاقيناه، بعد قرابة النصف مليون شهيد، وما يزيد على 300 ألف معتقل ومختفٍ قسريا، ودمارٍ طاول أكثر من نصف البنية التحتية لسورية، وتدهور في الأوضاع الاقتصادية، حيث بات ما يزيد على ثلثي الشعب السوري تحت خط الفقر، استطاع شعبُنا، رغم كل هذا الاضطهاد، أن يستمرّ في نضاله ويقدّم نماذجَ مضيئة أبهرت العالم داخل سورية وفي دول اللجوء.

تمرّ علينا الذكرى اليوم، وقد سبقتها كارثة إنسانية فاقت كل التوقعات، فقد اهتزّت قلوب السوريين في شتى أنحاء العالم جرّاء الزلزال المدمّر الذي ضرب مناطق الشمال السوري، وأودى بحياة آلاف وشرّدهم، وتسبّب بدمار هائل في البنى التحتية المتصدّعة أصلاً، جرّاء استهدافها بقصف النظام سنوات. صحيحٌ أن البيوت اهتزّت، ولكن القلوب ظلت ثابتة، وامتدّت الأكفّ ترفع الأنقاض وتبلسم الجراح، كما هي عادة السوريين دائما.

لم يتوان إخواننا في إنقاذ الشعب السوري المكلوم، فقد مدّت قطر يد العون منذ اليوم الأول للزلزال، حيث وجه أمير دولة قطر، سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، بإنشاء جسر جوي لإغاثة المنكوبين والمتضرّرين جرّاء تلك الكارثة وتقديم عشرة آلاف منزل متنقل ضمن جهود إغاثة المتضرّرين، وغيرها من المساعدات الإنسانية وشحنات الإغاثة والمواد الطبية والبطانيات التي ساهمت في تختفيف معاناة آلاف العائلات التي باتت بلا مأوى. كما وقف أصدقاء سورية الحقيقيون مع مطالبِ شعبها الحر، ورأوا ما يتعرّض له شعبنا من مآس وظُلم، فقدّموا ما استطاعوا من دعم سياسي وإنساني لن ينساه التاريخ.

وبهذه المناسبة، أتقدّم بالشكر لكل من ساند الشعبً السوري في محنته، ودعم مطالبه، وأخصّ بالذكر دولة قطر، أميراً وحكومة وشعباً، على مواقفها الثابتةِ والراسخة تجِاه الشعب السوري، وقضيته المحقّة، ومواقفها الثابتة والرافضة للتطبيع مع النظام في ظل استمرار إجرامه وانتهاكاته بحقّ السوريين، ودعمها اللامحدود في الملف الإنساني، والذي شمل مئات الآلاف من النازحين واللاجئين داخل سورية وخارجها، وساهم في دعم قطاعات التعليم والإيواء والدعم الاجتماعي وسبل العيش، وغيرها من القطاعات الإغاثية والتنموية.

وعلى المستوى الحقوقي، كانت قطر صوت الشعب السوري في مجلس الأمن وفي المحافل الدولية الإقليمية، من خلال تأكيدها على ضرورة تطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بسورية، ومحاسبة مرتكبي الجرائم. كما أننا مدينون لقطر باعترافها الكامل بالسفارة السورية ممثلاً شرعياً للسوريين، والتي تحلّ علينا ذكرى هذا العام بمرور عشر سنوات على افتتاحها، حيث افتتحت السفارة السورية في قطر أبوابها في 27 من آذار/ مارس بممثلين عن إرادة الشعب السوري، وما تزال تفتح أبوابها لكل أبناء الشعب، وتسعى إلى أن تقدّم نموذجا طيبا للمؤسّسات التي يطمح السوريون لها، والتي تحترم كرامتهم وتحفظ حقوقهم بعيداً عن الفساد. ونسعى بكل جهدنا لخدمة كل السوريين من الزائرين والمقيمين في دولة قطر، وتقديم نموذج حضاري عن المؤسّسات السورية الحرّة، يعبّر عن ضمير كل مواطن سوري حر.

وأخيراً، ما زالت الصعاب تواجه ثورتنا، لكن الشعب السوري عرف طريقه وسيستمر حتى تحقيق أهداف ثورته النبيلة، وسيضع أسس دولة المواطنة التي تحترم حقوق مواطنيها، وتوفّر لهم الكرامة والعدالة والعيش الكريم.

نطالب أحرار العالم بالانضمام إلى السوريين في دعم قضيتهم ونضالهم من أجل الحرية والعدالة والكرامة، وأن يثقوا بقدرة السوريين على إكمال ثورتهم التي أذهل شبابها العالم بشجاعته، وعلى العالم أن يُدرك أن واجبنا تجاه من ضحّى بحياته من أجل سورية يتمثل في بناء الدولة التي حلم بها هؤلاء الأبطال بعد الخلاص من نظام الظلم والاستبداد.

إننا نحيي في هذه الأيام الذكرى الثانية عشرة، وكلنا أملٌ أن يكون هذا آخر عام لنا نتجرّع فيه مرارة النزوح والاعتقال والتهجير والملاحقة والتعذيب، وأن تطلّ علينا الذكرى المقبلة للثورة وقد تحقّقت أهدافنا في الحرية والعدالة والكرامة، وأن نكون جميعاً في ساحات سورية نهتف للحرية.

الرحمة للشهداء الأبرار والشفاء للجرحى، والحرية للمعتقلين

العربي الجديد

————————-

قوانين ومتغيرات في حرب سوريا: لا المعارك انتهت ولا التسوية على الطاولة تمت والأزمة باتت أكثر عمقاً/ رفيق خوري

12 سنة على انتفاضة شعبية تطالب بتسوية للأزمة في سوريا، اعتبرها النظام “مؤامرة”، وتحولت إلى حرب تدخلت فيها مباشرة وبالواسطة قوى عربية وإسلامية وإقليمية ودولية. والمشهد اليوم أخطر من الدمار الذي خلفه الزلزال الأخير، فلا الحرب انتهت، ولا تمت التسوية على الطاولة، وباتت الأزمة أكثر عمقاً.

النظام ثبت في مكانه، لكن سوريا خسرت مكانتها قبل الحرب. والمعارضون ضعفاء ومنقسمون وأسرى الدول التي تمول وتسلح. خمسة جيوش تتقاسم الجغرافيا السورية. والموفد الدولي الثالث غير بيدرسون شبه عاطل من العمل السياسي، ويلعب دوراً يشبه دور الهلال الأحمر والصليب الأحمر.

رئيس النظام السوري بشار الأسد يسيطر على “قلب سوريا” والساحل، و”هيئة تحرير الشام” التي يتزعمها أبو محمد الجولاني تسيطر على إدلب وأجزاء من ريف حماة وحلب. وتركيا والميليشيات التابعة لها من سوريين وغيرهم تتحكم بالشمال، و”قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية تسيطر على ثلث مساحة البلد شرق الفرات بحماية قوات أميركية، وقوات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية التابعة لها تتركز في الميادين وأبو كمال وأجزاء من ريف دير الزور غرب الفرات ومناطق في حلب والسيدة زينب وأجزاء من ريف دمشق.

“حزب الله” أيضاً يسيطر على القلمون وأماكن أخرى، والقوات الروسية في قاعدتي حميميم وطرطوس، وخارجهما. أما “داعش” الذي خسر أرض “خلافته” في العراق وسوريا فمنتشر في البادية ويقوم بعمليات إرهابية. وإسرائيل تقصف من الجو المراكز وقوافل السلاح الإيرانية، فيما نصف السوريين بين لاجئ إلى الخارج ونازح في الداخل، و90 في المئة من النصف الآخر تحت خط الفقر.

تطبيق القرار الدولي رقم 2254 صار حلماً. وقضت روسيا على “مسار جنيف” للتسوية هرباً من الرعاية الدولية، وفرضت “مسار أستانا” الذي تديره هي وتعطي لتركيا وإيران دور الكومبارس. ولا أفق لخروج أي قوات أجنبية، سواء جاءت بدعوة من دمشق أو فرضت نفسها بالقوة.

أما القوات الأميركية فباقية بشرق الفرات وفي منطقة “النتف” على الحدود العراقية – السورية – الأردنية. والرهانات العربية والغربية على روسيا لإخراج القوات الإيرانية من سوريا بسبب تضارب المصالح بدت أوهاماً، لا سيما بعد حرب أوكرانيا وحاجة موسكو إلى المسيرات الإيرانية.

والخطة الأخيرة التي اقترحها بيدرسون تحت عنوان “خطوة مقابل خطوة” رفضها النظام والمعارضون. حتى محادثات اللجنة الدستورية لإعداد دستور جديد توقفت تماماً بعد أن عجزت عن التقدم خطوة واحدة.

الجديد في المشهد هو بدايات الانفتاح العربي على سوريا. وحتى اليوم، فإن الدول التي قررت تسوية العلاقات مع دمشق هي التي مارست الأمر ذاته مع إسرائيل: مصر، والإمارات، وسلطنة عمان، والسودان. وأخيراً أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد أنه يعتزم إرسال سفير إلى دمشق قائلاً “النظام مسألة تخص السوريين، ونحن نتعامل مع الدولة”. وقبله، وفي موسم المساعدات الإنسانية للسوريين ضحايا الزلزال، ظهر موقف سعودي جديد، إذ قال وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان إنه “في غياب سبل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حل سياسي، بدأ يتشكل نهج آخر لمعالجة مشكلة اللاجئين ومعاناة المدنيين بعد الزلزال عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما”. كذلك جرت محاولات لم تنجح لإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية.

لكن السؤال لا يزال كما كان من البداية: عودة سوريا إلى الجامعة والعرب أم عودة العرب والجامعة إلى سوريا التي وصفت بأنها “قلب العروبة النابض”؟ وهل هناك فرصة لأن يقود الاحتضان العربي لدمشق إلى خروجها من الحضن الإيراني؟

ولكل سؤال جوابان مختلفان، بحسب الجهة التي تجيب. ومهما يكن، فإن الانفتاح العربي على سوريا هو طريق في اتجاهين، لا في اتجاه واحد. ومنطق الأمور هو أن تغيير الموقف العربي يحتاج إلى تغيير في نظيره السوري، وبالعكس.

حتى الآن، فإن سوريا تخطت مخاطر الإسلام السياسي عبر محاولات “الإخوان المسلمين” والأصوليات الآسيوية أخذ السلطة، وإن بقيت إدلب تحت سيطرة الجولاني الذي كان في “القاعدة”، وتضاءل خطر الإرهاب الذي يمثله “داعش”. والباقي كثير، ولا مهرب من الدور السوري لاستقرار الشرق الأوسط.

————————-

في ذكرى الثورة… عن ثورتنا وثورتهم!/ موفق نيربية

كانت انتفاضة الشبّان السوريين في عام ٢٠١١، تحدّياً لجدار المستحيل نفسه، بشجاعة خارقة ونبل لا مثيل له، وخصوصاً حين رفعوا للحرية والكرامة رايات وهتافات، وأثبتوا قدرة عجيبة على الابتكار… كلّ التحية لذكرى الثورة السورية، ولشهدائها من الشباب الأبرار الذين كان يمكن أن يكون لهم مكان الصدارة في سوريا المستقبل، التي حرّك الحلم بها ذلك المستنقع وحوّله إلى نهرٍ جارف.

سوف يبقى السوريون لسنوات طويلة يحتفون بذكرى ثورتهم في آذار من ذلك العام أو يستحضرونها بغضب، ربّما لأنّهم ما زالوا يأملون أن تتحقّق أهدافها أو تتجدّد مرة أخرى، وربّما كذلك لأنّهم فقدوا أملهم بذلك، وأصبحت بالنسبة إليهم مجرّد حكاية لأطفالهم في البلاد أو المهاجر والمنافي. بعضهم يقول لنفسه أو لمن حوله: هل كانت تستحقّ كلّ ما حدث لنا؟! والبعض الآخر يتمسّك بها لأنها- على الأقل- مبرّر حياته الجديدة المختلفة جذرياً عن تلك السابقة، أو مبرّر حياته نفسها واستمرارها.

يردّ بعض المصرّين على أن الثورة الفرنسية الكبرى قد ” انتصرت” على خصومهم في الرأي، بأنّها قد حققت نجاحات ثلاثة على الأقل: حين أسقطت الملكية المطلقة، وأسست للدولة القومية، وفتحت الأبواب لازدهار الطبقة الوسطى ودورها المهمّ في مسار الحداثة. وتصلح هذه النقاط الثلاث لمناقشة الحالة السورية، مع بعض التعديلات الضرورية.

أسقطت الثورة الفرنسية الملكية، لكنّها أفسحت المجال للبونابرتية لاحقاً بعد عقدٍ من بدايتها. وحين نفّذ نابوليون انقلابه العسكريّ كان ذلك برغبة من الثوّار أو قوى الأمر الواقع وقتها، الذين تعبوا من تجاربهم وتحولّاتهم، لم يخن- نظرياً- مبادئ الثورة كلّها بل اعتبر نفسه رسولها في أوروبا والعالم، كما أصدر قوانين- لم ينفّذها تماماً- تضمن المساواة بين المواطنين، ودعم العلوم والثقافة والفنون والتعليم… والخدمة العسكرية الإجبارية والتعبئة العامة، ليؤدّي ذلك إلى خسارات أكبر مما حدث في مسار الثورة ذاته.

يمكن مقارنة ذلك قليلاً أو كثيراً بمسار عسكرة الثورة السورية، ودخولها التدريجي في نفق العنف، ميدان النظام الاستبدادي المفضّل: أرضه وملعبه، على الرغم من شرعيّته حين يكون دفاعاً طبيعياً عن النفس.

في العهد النابليوني، ساد الشعار الوطني:” تحيا فرنسا”، بعد أن كان شعار الثورة المثلث هو: حرية، إخاء، مساواة. وبطريقة أخرى انعطف خط التاريخ من حامل” الحرية” إلى” الوطنية”، أو القومية. كان الانعطاف العميق في الثورة السورية حين تراجعت كلمات” الكرامة” و” الحرية” إلى الوراء لتفسح موقعاً يتقدّم بالتدريج للكلمات والشعارات والتسميات الدينية، الكفيلة في المرحلة الأولى بمواساة الضحايا والمظلومين في الأرض، ثمّ نقلهم إلي حيّزٍ أبعد عن المفهومين الليبراليين الذين انطلقت ثورة شباب سوريا تحت رايتهما. وليس من عبث أن يحدث اختلاط ما بين” القومية” و” الإسلامية”، التّي مهّدت لها بالأصل تلك” القومية الإسلامية” التي روّجت لها السلطة وأطراف في المعارضة. لقد تراجعت مفاهيم جمال الأتاسي الديموقراطية والحداثوية مثلاً بين العروبيين لتفتح طريقاً لتغلغل الإسلاموية، القادرة بدورها أيضاً على تعزية المهزومين والمحبطين.

غزت تلك الإسلاموية عقول المعارضين السوريين. يمكن الإشارة خصوصاً إلى معارضين- ليسوا بالقلة- التزموا تلك المرجعية من دون اسمها، وأصبحت تجد يسارياً أو مسيحياً يردّد جوهر المفهوم، وتنعكس تجلّياته على سلوكه وطروحاته. ما كان يجمع هؤلاء كلّهم روح انتقامية تتملّكهم، أخرجتهم من دائرة الممارسة السياسية، وجعلتهم يرفضون أيّ مشروع للتسوية، كان معقولاً وممكناً آنذاك، يحظى بشروط أفضل وأكثر إمكانية للتطبيق في حينه. ضاعت فرص عديدة، كان ضياعها يشكّل في مجموعه ما يعادل الهزيمة، أو يعادل الفشل.

هل هنالك أسباب لدخول نابوليون العسكريّ على الخط في عصر الإرهاب الذي قاده روبسبيير؟! هل أوصل الأخير بمقصلته وغرائبه الناس إلى” التوبة”؟! أم هل استطاعت الفئات الإخوانية والسلفية المتشدّدة المتنوّعة أن تخلق الشعور بالإحباط والغدر في نفوس الثوار السوريين أو السوريين عموماً، بتصعيد مظاهر تطرّفها في حالة منافسة قيامية، جعلتنا نرى خلافة لداعش، وإمارة للنصرة، وهيمنة واسعة الانتشار لعقلهما المغلق الظلاميّ؟!

ما حدث في العقدين السابقين على الثورة الفرنسية في شمال أميركا درس مختلف يسمّيه بعض الباحثين ثورة سلمية، رغم حرب الاستقلال التي تداخلت معها. كان الحراك الثوري في البداية هناك في رفض أداء الضرائب التي يشرّعها البرلمان البريطاني، لأنه “لا ضرائب من دون تمثيل”، ما دام الأميركيون غير ممثّلين في ذلك البرلمان. اختارت الولايات الثلاث عشرة ممثلين لها، ابتدأوا معاً بإدارة شؤونهم بأنفسهم. وحين حاولت بريطانيا الاستفراد بمساتشوسيتس وعاصمتها بوسطن، التفّت الولايات الأخرى حولها وابتدأ مسار الاستقلال.

في منتصف ذلك المسار” الوطني”، أعلن المؤتمر القاري الأمريكي في الرابع من تمّوز ١٧٧٦ أن الملك البريطاني جورج الثالث طاغية، وأن المستعمرات دويلات حرة ومستقلة. أعلنت وثيقة إعلان الاستقلال أن جميع الناس متساوون، على الرغم من أن ما صدر عندئذ وبعده من التعديلات الدستورية والقوانين الفيدرالية لم تمنح تدريجياً حقوقاً متساوية للأمريكيين من أصل أفريقي، والأمريكيين الأصليين، والرجال البيض الفقراء، والنساء حتى قرنين لاحقين وأكثر.

على الرغم من اعتماد تعبير” الوطنية” لوصف أولئك الثوار أنفسهم ومقاتليهم، إلّا أنها كانت وطنية الانتماء والدفاع عن الانتماء أو حب الوطن، أكثر ممّا هي وطنية القومية المتميّزة، ولدينا خلط مستدام بين المفهومين. كان إعلان الاستقلال بدوره انعكاساً للفلسفات السياسية التي حملها” الآباء المؤسّسون” من الليبرالية والجمهوريّة ورفض الملكية والأرستقراطية. تجنّبت الثورة الأمريكية بذلك ما وقعت به الثورة الفرنسية من تعلّق بالدولة القومية وطموحاتها المتفرّعة عنها. وكان لمسار وضع الدستور ثمّ اعتماده عام ١٧٨٩(عام الثورة الفرنسية نفسه)، وما تلاه مباشرة من وضع للتعديلات العشرة الأولى التي أصبح مجموعها يشكّل لائحة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.

المهم لنا في هذا السياق هو تركيبة صانعيه، وقدرتهم على القيادة والبحث، وحصولهم على الثقة والتفويض من مواطنيهم، سلمياً. أي أن تلك الدولة قد تأسّست داخلياً بتفاعل نخبتها ونخب ولاياتها، وتأسست خارجياً بحرب الاستقلال. لم تكن هنالك حرب داخلية، إلّا التعارض مع” الموالين” الأقلية الذين والوا الملك البريطاني، وانسحب بعضهم إلى كندا- بمعظمهم- في النتيجة.

لم تكن الثورة الفرنسية عبثاً، بل كانت استحقاقاً في زمانه ومكانه الصحيحين، وبقي أثرها عميقاً يحدّد المتغيّرات اللاحقة، في ثورة ١٨٣٠ وثورة ١٨٤٨، ليبني الجمهورية الثالثة، ثمّ الرابعة، ثم الخامسة الحالية. ولا يمكن الحديث عن هزيمتها (وهزيمتنا ) من دون أن تهتزّ وترتجف اليد التي تكتب، قليلاً أم كثيراً!

يرتجف القلب أيضاً في ذكرى الثورة والشهداء الذين نعرفهم ولا نعرفهم…

نورث برس

————————-

هذا ما تحتاجه سوريا لتنهض ولن تحصل عليه/ د. فيصل القاسم

يعتقد بعض الحالمين المساكين، وخاصة السوريين الذين ضاقت بهم السبل داخل البلاد بسبب الوضع المعيشي الكارثي الذي لم تشهده سوريا في تاريخها، يعتقدون أن بوادر الانفتاح العربية الخجولة على سوريا في أعقاب الزلزال ربما تكون بداية الفرج لملايين السوريين الذين لم يعودوا قادرين على شراء بصلة، نعم بصلة، فقد وصل سعر كيلو البصل إلى أكثر من عشرين ألف ليرة سورية، أي ربع راتب الموظف السوري، ناهيك عن جنون بقية السلع الأساسية التي لم يعد أكثر من تسعين بالمائة من الشعب قادراً على شرائها، فالراتب الشهري لا يتجاوز مائة ألف ليرة، وأحياناً أقل، بينما يحتاج المواطن السوري أكثر من خمسة ملايين ليرة ليعيش بشكل بسيط. الحياة تحولت إلى جحيم حقيقي، وكل من يستطيع الهرب حتى إلى مجاهل أفريقيا يهرب، بمن فيهم الأطباء، لا عجب أن نقيب أطباء سوريا قال قبل فترة على شاشة التلفزيون الرسمي إن مئات الأطباء السوريين هاجروا إلى الصومال. كان النظام يحذر السوريين من الصوملة، فحصل في سوريا ما هو أسوأ بعشرات المرات، ألا وهو السوّرنة، بحيث صار الكثير من السوريين يحلم بالهجرة إلى الصومال، لأن الوضع هناك أفضل من الوضع السوري بكثير، ومن الظلم الفادح استخدام «الصوملة» كمثال للبؤس والانهيار، لأن الصومال نهض وصار حاله جيداً إلى حد ما مقارنة بالوضع في بعض بلاد الثورات العربية وخاصة سوريا ولبنان واليمن.

هل فعلاً أن بواد الانفتاح العربي والدولي على سوريا يمكن أن تكون الحل الناجع لنهوض البلاد وإغاثة العباد كما يأمل السوريون، أم إن مشكلة سوريا أصلاً لا علاقة لها مطلقاً لا بالعقوبات ولا بالحصار الدولي، ولننظر مثلاً إلى لبنان والعراق وحتى تونس، سنجد أن الانفتاح العربي وحتى الدولي على تلك البلدان لا يقدم ولا يؤخر ولا يساعد في تحسين الوضع فيها. لبنان مثلاً ليس محاصراً وليس عليه عقوبات كالمفروضة على سوريا، لكن الدولة اللبنانية انهارت وتجاوز سعر الليرة اللبنانية مائة ألف ليرة للدولار الواحد. وحتى العراق ثاني أغنى بلد نفطي بالعالم والذي تزيد ميزانيته السنوية على مائة وخمسين مليار دولار يعاني شر معاناة وليس لديه لا الكهرباء ولا الماء النظيف ولا حتى الوقود أحيانا، وصار ديناره برخص التراب مقابل الدولار بسبب الاضطراب والفساد في البلاد، فإذا كان ذلك وضع بلد نفطي غير مُحاصر كالعراق، فما بالك بوضع سوريا التي أكثر من نصفها تحول إلى ركام وتشرد معظم شعبها، وانهارت عملتها، وأصبح البنك المركزي خاوياً على عروشه.

هل أنقذ الانفتاح العربي على لبنان الشعب الذي بات معظمه يعيش على المعونات؟ بالطبع لا، لماذا؟ لأن لبنان كسوريا يواجه مشكلة مالية بالدرجة الأولى، ولا يمكن لأحد أن يساعده بعد أن توقفت المعونات الخليجية، أما استخراج الغاز فلن يبدأ قريباً. وحتى لو حصل لبنان على بعض المساعدات الخليجية كما يشاع، فهذا مجرد مسكنات مؤقتة، فلا يمكن الاعتماد على الإغاثة المالية لزمن طويل، ولا ننسى أن وضع لبنان أفضل من وضع سوريا بكثير، فبالإضافة إلى أنه غير محاصر، فلا يحتاج كسوريا إلى إعادة إعمار تكلف أكثر من سبعمائة مليار دولار حسب التقارير الدولية. مع ذلك، انظروا وضع لبنان المنهار الذي دفع السيد حسن إلى مناشدة دول الخليج كي تساعد لبنان بقليل من الأموال التي تنفقها على لاعبي كرة القدم. ولا تنسوا تونس التي باتت على كف عفريت مع أنها لم تعان خمسة بالمائة مما عانته سوريا على مدى العقد الماضي، فحتى أبسط أساسيات الحياة باتت معدومة في تونس ولا يجد الناس الحليب والخبز، وليس هناك أي بصيص أمل لتحسين الوضع إلا بالقروض الدولية التي تزيد الطين بلة. وحتى مصر اليوم رغم كل المعونات التي وصلتها وزادت على مائة مليار دولار تترنح تحت تأثير الانهيار المعيشي والاقتصادي، ولم يعد هناك من أمل في الحصول على مزيد من الرز الخليجي. وقد سمعنا وزير المالية السعودي وهو يقول إن دولته باتت تفرض ضرائب على الشعب السعودي، وليس من المعقول أن تبذر أموالها على مساعدة الآخرين، ويقصد طبعاً مصر وغيرها من البلدان العربية التي تواجه الإفلاس وتحولت إلى ثقوب سوداء تبتلع كل شيء. فإذا كان الخليجيون بدأوا يعاملون مصر بهذه الطريقة ويلجؤون إلى شراء الأصول المصرية بدل دعم الدولة، فهل يمكن أن يقدموا المليارات لسوريا مثلاً؟ من هي الدولة الخليجية التي ستقتطع عشرات المليارات من خزائنها لدعم إعادة إعمار سوريا في هذه الظروف الدولية المضطربة مالياً واقتصادياً؟ هل لاحظتم قبل أيام الضجة التي أثارها إيداع السعودية مبلغ مليار دولار في البنك المركزي اليمني؟ مجرد وديعة مالية صغيرة بالمقاييس الدولية لاقت اهتماماً إعلامياً كبيرة وطبل الإعلام وزمر لها طويلاً، مما يعني أن زمن تقديم المليارات الخليجية للدول المعوزة قد ولى إلى غير رجعة، نظراً لتغير الظروف العربية والدولية، فلا ننسى أن العالم أجمع يمر بأسوأ أزمة مالية واقتصادية ومعيشية منذ عقود، فحتى الدول الأوروبية باتت تئن تحت نير الصعوبات المعيشية، مما يعني أن السخاء الأوروبي بدوره قد ولى، ولا يمكن لسوريا أو غيرها أن تأمل تدفق المليارات عليها لإعادة إعمارها وإغاثة شعبها المنكوب.

ويجب أيضاً عدم التعويل كثيراً على الدعم الإماراتي، وبالمناسبة، فإن الإمارات لم تتوقف عن دعم النظام منذ عام 2014، حيث كان سعر الليرة مقابل الدولار ثلاثمائة ليرة للدولار الواحد، أما اليوم فتجاوز سعر الليرة سبعة آلاف ليرة مقابل الدولار، مما يعني أن الإمارات لم تُحدث أي فرق في الوضع الاقتصادي أو المالي السوري. ومعظم مساعداتها المالية تدور في فلك المائة أو مئتي مليون دولار وهي مبالغ تُعتبر مجرد «فكة» في لغة المال. ويجب ألا ننسى أن سوريا فقدت شريانها المالي الأول، ألا وهو لبنان بعد إفلاس البنوك اللبنانية وضياع عشرات المليارات السورية هنا. أضف إلى ذلك أن قرار مساعدة سوريا مالياً أو إعادة إعمارها ليس بيد الخليج ولا إيران ولا روسيا ولا الصين، بل في يد أمريكا حصراً، وكله متوقف على حل سياسي يبدو بعيد المنال في ظل الصراعات الدولية المتفاقمة.

القدس العربي

————————-

كيف تحولت ثورة 2011 إلى شهرزاد السرد السوري؟/ أحمد جاسم الحسين

فتحت ثورة 2011 في سوريا صناديق الحكايات السورية وصار لكل سوري سرديته. نلتقي بعد سنوات في بلاد مختلفة ليحكي كلٌّ منا سرديته، عن ذاته وخيباته ونجاحاته ومسارات حياته، يتحول كل منا إلى شهرزاد سردي على أمل أن نقاوم فعل التشتت والخسارات والقتل الشهرياري الذي أشْهِرَ في وجوهنا.

كانت حكاياتنا قبل الثورة هادئة، متشابهة، مشوبة بالتنميط والتكرار والتقليد والخوف، حولتها ثورة 2011 إلى حكايات غير تقليدية، حيث جعلتنا نجوب العالم من أقصاه إلى أقصاه على أمل أن نجد السردية الملائمة لنا. كشفت سنوات تلك الثورة طاقاتنا الكامنة، وأوهامنا كذلك، لم يعد الريب موجوداً فتشتتنا، أطلقت أحلام معظم نسائنا من قماقم مجتمعاتها؛ فوجدن أن هناك إمكانية ليبدأن بصناعة سرديتهن الخاصة بعيداً عن سلطة الرجل.

أوهام سرديتنا المتشابهة النمطية التي كنا نعيش فيها جعلتنا نحسب أننا منفصلون عن العالم، وأن العالم الصغير المسمى سوريا هو البداية والنهاية، وحين خرجنا إلى العالم حاملين أو صانعين لسردياتنا الجديدة وجدنا أن العالم واسع وكبير وجميل، وأن الآخر ليس بالضرورة هو العدو وأن المفاهيم إن طال سكونها ستتعفن وتخنق معتقديها.

لم تكتف سردياتنا الجديدة التي حملناها أو حملتنا أو صنعناها أو صنعتنا بالتعرف إلى الآخر خارج الحدود، بل تعرف السوريون إلى السوريين أنفسهم من محافظات وحارات وجماعات وأعراق، ومعتقدات أخرى أزالت سرديات وعززت سرديات، لكنها كانت فرصة لصنع سرديات جديدة، وكسر آفاق المتوقع والمعتاد والمكرر والنمطي. ها هو السرد أمامنا فلننسج سرديتنا الجديدة إن كانت لدينا الإرادة والظروف.

أتيح للفرد السوري لأول مرة في تاريخ تشكل دولته الخيار أن يجدد نفسه، وأن ينهض من سرده الذي شكله مجتمعه من قبل، فبقي يدور في عوالمه فترة طويلة، قد تكون الظروف هي التي تتحكم في السرد أحياناً لكن الفرصة متاحة أمام كثيرين ليعيدوا تشكيل سرديتهم في الحياة بدور أكبر لهم كأفراد.

ليس من السر القول: إن ثورة 2011 بصفتها حالة سياسية وعسكرية لم يحالفها التوفيق، أو خاب مسعاها مرحلياً، وليس من باب العزاء أن نقول: إن ما أطلقته من طاقات سورية كان مذهلاً وكبيراً. وليس من الحكمة القول: إنه “كنا عايشين” لأنه كنا عايشين، لكن نصف أموات، وبصفتنا بشراً معطلين، مسجونين. وقد لا يدخل بالحكمة قولنا: ماذا لو أننا لم نخرج؟ ولم نتظاهر ولم نطالب؟ لا يمكن لذلك أن يكون لأن الطقس الذي ولده الربيع العربي لا يمكنك إلا أن تكون جزءاً منه، وإلا فإنك ميت ولا روح فيك!

نبَّهتنا ثورة 2011 إلى أن المشكلة في سوريا ليست فقط في النظام السياسي، إذ كنا نصبُّ جام غضبنا على النظام فحسب، وهو نظام قمعي فاسد تخريبي لا يجب أن يستمر، بل كذلك في جوانب أخرى، حيث كنا نعده خراب العالم لنرتاح ولكي نعيش ككائنات طهرانية، ننتظر “غودو” الذي سيجلب لنا الحرية. لكن ثورتنا كشفت جوانب سردية غامضة فينا كجماعات وكأفراد: جوانب دينية إلغائية، وجوانب اجتماعية وقومية وطائفية وعرقية، وما كنا نعتقد أنه حقيقة في السويداء هو وهم في دير الزور، واليقين في القامشلي هو موضع تشكيك في دمشق، حيث كانت كل جماعة بشرية لديها يقينياتها الخاصة بها، مكتفية بها، ومتاحة في ظلالها ومتصالحة معها.

اكتشفنا في سوريا “العروبة” أن سوريا فيها قوميات أخرى لا تعنيها العروبة، وأن سوريا الجامع كذلك فيها أديان وطوائف لا توليها اهتماماً، وجدنا لأول مرة أن وضع سوريا معقد جداً بتشابكاته الإقليمية والدولية والديموغرافية، وأن ما كانت تعده الكتب المدرسية بالموقع الاستراتيجي وخصوصية سوريا قد يكون وبالاً عليها في مرحلة ما، وعامل إعاقة لنجاح ثورتها، التي علمتنا أن كل يقيننا بات يحتمل النسبية! وأن إسرائيل التي يريد النظام تدميرها منذ عشرات السنين في خطابات سياسييه، قد تكون هي ذاتها عامل إعاقة لعدم نجاح ثورتنا وعدم سقوطه.

كسر سردنا الثوري أفق توقع العالم، فقد كثير منا ماله أو خبرته أو عمله أو جزءاً من أهله، وكذلك البنى القارة التي كنا ننتمي إليها، لكن أتيحت لكثير منا إعادة تشكيل ذواتنا وحكاياتنا الجديدة في العالم، بحرية ومسؤولية، لم ننل الحرية داخل جغرافيتنا لكننا استنشقنا هواءها في جغرافيات أخرى، ولا بدّ أن تهب رياح السرد على جغرافيتنا في زمان لاحق.

انكسر جزءٌ من حلمنا في الشأن العام على المستوى الثوري، وانكسر كثير منا في الشأن الخاص والعام معاً، لكن كثيرين منا كانوا صانعين متميزين لسرديات وتجارب تجوب العالم، وتُعرِّف الآخرين إلى الشخصية السورية وتحديها ومغامرتها وخصوصيتها وقوة إرادتها ومحبتها للتجارة والبحث والعمل وفنون الطعام.

الجيل الأول من اللاجئين مثلاً انكسرت الكثير من أحلامه وطموحاته وكثرت خيباته، لكن الجيل التالي، جيل الأبناء يتغلغل في مسارات العالم الرقمية ويصنع سرديته الخاصة.

لم يشأ السوريون بعد 12 عاماً على بدء ثورتهم أن تتحول سورياهم إلى أربع سوريات لكل منها سرديتها الإدارية والإيديولوجية والفكرية، لكن ما المانع أن يكون ذلك كذلك ولماذا نفترض أننا في السرد يجب أن نتطابق؟ هل فاتنا أن السرد يحتاج إلى حكاية وشخصيات وصراع واختلافات ورؤى وتنوع وتعدد، لكن في النهاية لا بد من رؤية ناظمة لشؤون الدول، ولا بد من استراتيجيات فمن سيعيد تنظيم الحكاية السورية مرة أخرى وتقديمها للعالم؟ وبأي لغة سردية: سردية الكبتاغون أم سردية الحرية؟ سردية التشدّد أم سردية العصبية القومية؟ سردية التبعية للآخر أم سردية الاستقلال ضمن منظومة طبيعية للعالم الذي نتشابك معه ونتقاطع وليس بالضرورة أن نعاديه أو نتصارع معه.

أبناء ثورة 2011 في سوريا لن يسمحوا بأن يكونوا بعد اليوم خارج لعبة السردية السورية، وخسارتهم الجغرافية أو العسكرية لا تعني أبداً أنه لم يعد لديهم القدرة على التأثير بمجرى السرد السوري، فالجغرافيا الرقمية اليوم تعبر الحدود، وتهز عروش السرد التقليدي، السؤال الأهم: ما سرديتك؟ وما عناصرها؟ وما هي النواظم لها؟ وما هي المنظومة القيمية التي تحملها؟ وهل سيصدق العالم أخيراً شهرزاد أم شهريار، وهل أسلحة شهريار عابرة للأزمنة ومانحة للانتصار دائماً أم أنها ستصدأ وتتعفن؟ وكم ألف ليلة وليلة سنسردها على العالم وعلى أجيالنا اللاحقة عن: كان يا ما كان، كان هناك شعب خرج إلى الشوارع يطالب بحريته وكرامته فجوبه بالرصاص، وكلما خرج ثانية كانت البراميل تنهمر عليه، وحين استجار بالآخرين أرسلوا إليه أسوأ بضاعتهم المتطرفة، فاختلطت عوالم السرد ببعضها بعضا، لكن الحكاية بقيت هي هي: ثورة 2011 هي البوصلة وفاتحة السرد ومنتهاه في عالم ألف ليلة وليلة السوري.

تلفزيون سوريا

————————

العام الثاني عشر للثورة.. إصرار بلا حدود/ هادي البحرة

تدخل الثورة السورية عامها الثالث عشر، وما زالت مستمرة بإصرار الشعب السوري على العطاء والتضحية حتى تحقيق تطلعاته للحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والديمقراطية، هذه الأهداف هي التطلعات التي سعى ثوار سوريا ومناضلوها السياسيون لتحقيقها منذ عقود طويلة، من أجلها قضى السياسيون المعارضون للحكم الدكتاتوري الانقلابي سنوات طويلة في السجون. وكذلك بذور ثورة آذار/ مارس ٢٠١١ غرسها مناضلون وطنيون شرفاء طالبوا بالحريات وبالحقوق الإنسانية والدستورية للمواطن السوري منذ سنوات ما قبل العام 2011.

هؤلاء المناضلون كانوا من أوائل من وقف بوجه نظام الاستبداد، وكانوا يُمثِّلون شرائح الشعب السوري بطبقاته وأطيافه كافة، فقد كانوا يعانون كما غيرهم من عموم الشعب من الفساد وانعدام الحريات السياسية والفكرية وتجذُّرِ نظام الاستبداد وغياب الفرص الاقتصادية لنمو القطاع الخاص وعدم القدرة على تأمين فرص العمل المناسبة لشباب وشابات سوريا، كل تلك الدوافع والمسببات للثورة كانت تزداد عمقًا وانتشارًا إلى أن دفعت الشعب السوري للتعبير العلني والسلمي عن رفضه لهذه الأوضاع ومطالبته بإصلاح النظام وإحداث تغيير جذري في سياساته منذ بدء الانتفاضة الشعبية خلال شهر شباط/ فبراير 2011، التي قابلها النظام بالاستخفاف والتسويف، ومن ثم بتوجيه الرصاص إلى صدور المتظاهرين السلميين، حيث كانت شرارة انطلاق الثورة من درعا في آذار/ مارس 2011.

سنوات طويلة ومريرة، بل وكارثية مرّت على السوريين، فقدوا خلالها أحبتهم وبيوتهم وأرزاقهم وأمنهم واستقرارهم، لكنهم لم يفقدوا خلالها الأمل في تحقيق ما ثاروا وضحوا من أجله، عبر عملية الانتقال السياسي كسبيل وحيد ممكن لإنهاء الحرب وإحلال السلام، ولم يمت لديهم الحلم في العيش بدولة ينظم العلاقات بين سلطاتها دستور عصري يضمن عدم تغول أحدها على الأخرى ويكفل حقوق وحريات المواطنين ويحقق استقلال السلطة القضائية ويصون الكرامة الإنسانية، تنتج عنه تشريعات تحقق سيادة القانون والعدالة، ويتم التداول على السلطة فيها عبر نظام ديمقراطي قائم على التعددية السياسية.

مضت اثنتا عشرة سنة، تَعَقَّدَ خلالها الوضع المحلي والإقليمي والدولي، وتحوّلت سوريا إلى ساحة تنافست فيها العديد من الدول لتحقيق مصالحها، أو لتجنب المخاطر التي قد تُهدِّدُ أمنها، فمنها من ساندت الشعب الثائر لأن مصالحها لا تتحقق عبر النظام الذي بات يُشكِّلُ مصدر خطر لأمنها الإقليمي، ومنها من ساندت النظام كون مصالحها لا تتحقق ونفوذها الإقليمي والدولي لا يتوسع إلا ببقائه، كما أن جميعها ارتأت أن أفضل استراتيجية لها لزيادة نفوذها في سوريا هي عبر إضعاف النظام لكن دون إسقاطه، مما يتيح لها قدرة أكبر على السيطرة على قراراته، وكذلك في الطرف الآخر الذي منع قوى الثورة والمعارضة من الوصول إلى الأدوات التي تُقوّيها وتُمكّنها من تحقيق أهدافها وتطلعاتها، وفي الوقت نفسه عدم السماح بإنهائها، ومع مرور السنوات سيطرت مصالح تلك الدول على سياساتها وتحالفاتها في سوريا وباتت الدول الداعمة للنظام وتلك الداعمة لقوى الثورة والمعارضة تجتمعان بالتكتيك نفسه، وبات كل منها يسعى لإضعاف الطرف المساند له، وفي الوقت نفسه ضمان بقائه، كما انتقلت من دور المساندة والدعم إلى الدور المباشر بوجودها العسكري داخل الأراضي السورية، دون أن تضع هذه الدول في حساباتها حقوق السوريين وآمالهم ومصالحهم.

في عيد ميلاد الثورة الثاني عشر واستمرارها داخلة بوابة عامها الثالث عشر، تظاهر آلاف السوريين في الشمال السوري مجددين العهد على الاستمرار حتى تحقيق تطلعاتهم، وما نراه من نشاط شبابي ومجتمعي في هذه المناسبة يشير بشكل واضح إلى وجود ديناميكية ذاتية ولّدها مخاض ما زال مستمرًا منذ الاثني عشر عامًا الماضية، هذه الديناميكية غير مرتبطة بأي جهة قيادية سورية ولا بأي جهة أجنبية، وإنما ولّدتها تجربة ودروس مستقاة من هذا المخاض المستمر وقناعات شعبية راسخة بالحدود الدنيا التي يتوجب أن يُحقّقها أي حل سياسي لينال ثقة المواطنين ويُقنع اللاجئين والنازحين بالعودة إلى وطنهم وأماكن سكناهم الأصلية، والرأسمال الوطني للاستثمار في بلده، ودون ذلك ستبقى سوريا دولة متآكلة وضعيفة، لا يمكن توحيدها وتدوير عجلة اقتصادها ذاتيًا، بالتالي لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار المستدامين فيها.

إن أي تجاوز للبعد السوري الأساس في الصراع في سوريا، والاستعاضة عنه بتفاهمات واتفاقيات بين الدول والنظام، مستبعدين المصالح الوطنية للشعب السوري، لن يُكتب له النجاح، ولن يكون مستدامًا، لأسباب بديهة، كون مظلومية الشعب السوري ستبقى قائمة ومسببات الثورة مازالت مكانها، بل ازدادت تنوعًا وعمقًا وانتشارًا، حيث باتت تطول الغالبية الساحقة من الشعب السوري، وأي توافقات إقليمية ودولية تتجاوز ذلك ستضيف مظلومية جديدة.

حالم ومنفصل عن الواقع من يعتقد أن بإمكانه ادعاء الانتصار في سوريا أو حسم الصراع، بعد تدمير خمسة وستين في المئة من بناها التحتية، والتسبب بتهجير ونزوح ولجوء الملايين، ومئات آلاف القتلى من الأبرياء وعشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسريًا، وحالم من يعتقد أن أي اتفاق بين النظام وأي دولة كانت سيُنهي مسيرة نضال الشعب السوري وثورته، لأن أساس أي حل دولي أو إقليمي قابل للاستدامة يجب أن يُبنى على بُعده السوري أولًا، ثم على بعديه الإقليمي والدولي.

كما أن تجذُّرَ الفساد والجرائم والخسائر الاقتصادية الجسيمة، واستمرار تآكل مؤسسات الدولة، أكثر من كافية كأسباب بديهية تستوجب عملية انتقال سياسي جذري وشامل لبناء دولة جديدة، كل ذلك لن يتحقق دون التوصل إلى اتفاق سياسي بين السوريين يؤدي إلى إحداث تغييرات جذرية في نظام الحكم، ووضع دستور جديد، تليه انتخابات حرّة، كما نص عليه قرار مجلس الأمن 2245.

يستمر السوريون يعضّون على الجراح مواصلين نضالهم لاسترداد سيادتهم على كامل أراضي دولتهم وما سُلِبَ من حقوقهم وحرياتهم، حريصون على بعضهم البعض وعلى الحفاظ على تنوع أطيافهم، عارفين أنه لا سبيل لتحقيق ذلك إلا عبر الانتقال السياسي من نظام حكم الاستبداد والفساد إلى نظام حكم ديمقراطي قائم على التعددية السياسية وتحقيق دولة المواطنة المتساوية.

المراحل التي مرت بها سوريا خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية كانت الأشد وطأة وكارثية من أي مرحلة مرّت على سوريا، ويجب أن تبدأ بأسرع وقت مرحلة جديدة تعتمد على ما يريده السوريون، وما ضَحّوا من أجله، وما يستحقونه فعلًا، وستبقى مطالب السوريين بالتغيير السياسي الشامل هي الوسيلة  الوحيدة لتحقيق تطلعاتهم، وسيتم ذلك عاجلًا لا آجلًا، لأن سوريا لم تعد تحتمل سنوات مريرة عبثية دموية أخرى، ولأن إرادة السوريين على إعادة توحيد دولتهم أرضًا وشعبًا بمكوناته وأطيافه كافة مُطلقة وليس لها حدود، ولأن النصر الوحيد الممكن في سوريا، هو تحقيق العدالة وكسب السلام، وليس الفوز في الحرب، هذا هو النصر الوحيد الذي يمكن لجميع السوريين مشاركته وأن يكونوا جزءًا منه.

تلفزيون سوريا

—————————-

الدكتور برهان غليون، في حوار مع المرصد السوري لحقوق الإنسان

سورية في العيد الثاني عشر للثورة الشعبية

يرى المفكّر السوري الدكتور برهان غليون، في حوار مع المرصد السوري لحقوق الإنسان، أنّ الثورة لم تحقّق هدفها في إسقاط حكم الطغيان والانتقال إلى نظام سياسي جديد في مستوى تطلّعات السويين وبدل اعادة انتاج النظام وضعت الحرب على الثورة البلاد في فوضى عسكرية وإيديولوجية عارمة وامام تدخلات أجنبية متضاربة  لافتا إلى أن المعارضة لم تكن السبب في الثورة وما كان بإمكانها قيادتها بينما كانت متعلقة بوهم التدخلات الدولية.

المرصد: بعد 12عا من المقاومة، هل فشلت الثورة السورية؟

غليون: كان للثورة السورية هدفان مترابطان. الأول إسقاط حكم الطغيان الفردي والعائلي والعشائري القائم الذي ضحى بمصالح السوريين الجماعية والفردية وقوض اجتماعهم وقضى على تطلعاتهم السياسية والاجتماعية والإنسانية. والثاني الانتقال نحو نظام سياسي جديد يضمن هذه المصالح ويستجيب لتطلعات السوريين ويعمل على تحسين شروط وجودهم وأحوالهم. الهدف الأول تحقق جزئيا وبتكاليف باهظة لكن حال دون انجازه تدخل الدول الإقليمية والعالمية وفي مقدمها إيران وروسيا.

-مع ذلك هذا لم يسفر عن إعادة إنتاج النظام الذي أراد السوريون إسقاطه ولكنه أنتج فوضى عسكرية وسياسية وايديولوجية عارمة وتدخلات أجنبية متقاطعة ومتضاربة انتزعت من النظام استقلاله وسلطاته الرئيسية وحولته إلى خرقة تستر بها عورة الاحتلالات المتعددة وجهها السافر، كما أدى إلى تفكيك الدولة وقضى على سيادتها، ومزق المجتمع ودمر الاقتصاد ووضع البلاد أمام تحديات غير مسبوقة. بمعنى آخر لم يستطع النظام القضاء على الثورة الشعبية التي لم تكن سوى الرد الشعبي على انتهاكات الطبقة الحاكمة حقوقه وتقويض مستقبله إلا بالقضاء على نفسه حتى أصبح ألعوبة في أيدي الدول المحتلة التي تتقاسم المصالح في سورية على حساب شعبها بأكمله.  والأمر الأوضح اليوم في المسألة السورية هي ان النظام لم يعد قادرا على البقاء وليس على إعادة إنتاج نفسه فحسب بالرغم من ان قوى المعارضة لم تعد قادرة أيضا على تحقيق أي إنجاز. وهذا هو جوهر الأزمة المستفحلة منذ 12 عاما.

-أما هدف الانتقال السياسي الذي يعني إقامة النظام الجديد أو البديل فهو اليوم رهين صراعات الدول الإقليمية والعالمية وتنازعها على النفوذ والسيطرة، وما  يحول دون تحقيقه إلى جانب ذلك إخفاق الأمم المتحدة التي رعته ووسطائها الأربع حتى الآن في السيطرة على النزاعات والحروب بالوكالة التي تجري على الأرض السورية وعلى حساب السوريين، وفشلها في إيجاد الوسائل والاجماعات الدولية الضرورية لثني هؤلاء عن مشاريعهم التقسيمية وإجبارهم على الاعتراف بحقوق الشعب السوري وسيادته كما تنص عليه مواثيقها، ومن المؤكد أن السوريين غير قادرين وهم في الحالة التي صاروا عليها بعد حرب طويلة وشرسة شنها النظام وحلفاؤه عليه ودمروا مدنه وشردوا نصف أبنائه على تحقيق هذا الهدف لوحدهم، نحن هنا أمام سياسة انتحارية واضحة طبقها النظام واستفاد منها حلفاؤه: علي وعلى أعدائي. والنتيجة بالتأكيد خسارة جميع السوريين واستباحة البلاد من قبل القوى الطامحة في تحويلها إلى مناطق نفوذ ومسارح حروب لتحقيق مصالح غير مشروعة وأهداف استعمارية على حساب حياة السوريين ووجود سورية ذاتها كدولة، وهذا ما غير طبيعة المعركة أيضا فأصبحت وطنية واستقلالية بامتياز لا يمثل فيها الأسد سوى حصان طروادة الذي فتح الباب للقوى الأجنبية ولا يزال يحتمي بها.

س- ماهي أكبر أخطاء المعارضة الوطنية وهل حان وقت تشكيل هيكل آخر يطرح الحلول بقوة؟

ج: الواقع أن المعارضة لم تكن وراء الثورة وما كان بإمكانها قيادتها، التحق بعضها بالثورة بالتأكيد لكن متأخرا وبطريقة عرجاء، وليته لم يفعل، وساهم في تشتيت صفوفها بمقدار ما كانت المعارضة السورية، ككل معارضة تنمو في حجر نظام شمولي فاشي، مقسمة، مشتتة، متناحرة وعديمة الثقة بنفسها وببعضها. كانت الثورة شعبية بامتياز، خطأ المعارضة كان في عدم وجودها الفعلي أو في الوهم الذي صنعته لنفسها وعن نفسها، بالرغم من انعدام تجذرها وتشوش فكرها وافتقارها الشديد للقواعد الاجتماعية والسياسية نتيجة انطوائها الطويل على نفسها وعيشها المديد في أنفاق وأقبية تحت الأرض محرومة من أي نشاط حتى الفكري منه، بمعنى آخر كان الرهان عليها من قبل النشطاء وأنا منهم هو الخطأ.

-أما بخصوص الشق الثاني من السؤال فالجواب نعم. لكن نعم مشروطة بنضج النشطاء الذين عاشوا الثورة أو ناصروها، واستعدادهم لخوض غمار العمل السياسي والنضال الوطني على أسس وبوسائل ومناهج غير تلك التي اعتمد عليها جيل السياسيين السابقين الذين حطمت معنوياتهم وقلصت زاوية نظرهم وقيدت أياديهم السلطة الفردية المطلقة ونظامها العبودي، وهذا يعني عندما يتحررون من أوهامهم وتقاليد شيوخهم وتوجساتهم ويتغلبون على الشكوك المرضية وانعدام الثقة بالآخر ونفسية طريدي المخابرات وأجهزة الأمن الدموية. وأعتقد بالرغم من كل ما عشناه من مآسي وبسببه أيضا أننا في بداية الطريق لتدشين حياة سياسية وفكرية جديدة حيث يوجد سوريون قادرون على النشاط بحرية نسبية، ما ينقص حتى الآن لتبرز القوى الجديدة إيجاد النواة المحركة أو الدينامو الذي يستطيع أن يدفع هذه العناصر والجماعات الوليدة إلى الحركة ويوحد صفوفها وخططها وينسق جهودها ويبث الثقة والأمل من جديد بين أفرادها.

س: أخيرا، هل ماتت القرارات الدولية بعد سنوات من إعلانها وصعوبة مسار تنفيذها؟

ج- القرارات الدولية تبقى بحكم الميتة مهما كانت إن لم تجد القوى التي تستطيع وتريد تطبيقها، والخطأ الذي ارتكبناه أننا منذ البداية إعتقدنا أنّ وجود قوى دولية أو عربية مناصرة للثورة يعفينا من أن نسعى إلى تكوين قوتنا الذاتية التي من دونها لن تجد القوى الدولية وحتى العربية أي حافز للعمل لصالح شعب أو معارضة أو بلد لا تعرف من سوف يحكمه أو يتحكم بقراره، من هنا أعتقد أن أصل المشكلة كامن هنا أيضا فينا لأننا تأخرنا كثيرا في إنتاج هذه القوة الذاتية، واستسلمنا لفكرة انه لا حل ممكنا ألا باتفاق الدول الكبرى أو الإقليمية وأننا لا نزن أمامها شيئا، وهذا هو أكبر خطأ ارتكبته المعارضة وأقنعت به النشطاء منذ الأسابيع الأولى للثورة، والحال أن الدول التي تدخلت وزجت بقوتها العسكرية في الصراع كانت تلك التي أرادت أن تستغل الوضع لتحقيق مصالح إستراتيجية لها لا لمساعدة الشعب السوري على الانتصار أو حتى على الخروج من الأزمة، وهذا ما لا تزال تفعله إلى اليوم، أما تلك التي لم تعتقد أن لها مصالح كبيرة في التدخل فقد تراجعت عن التزاماتها الدولية بسرعة، والواقع ما كان من الممكن أن يكون لدى هذه الدول حافز للعمل على تحقيق حل سياسي في سورية لصالح السوريين والتضحية من أجلهم طالما لم تتعرض حكوماتها لضغوط قوية من قبل قوى سورية منظمة وفاعلة، أي ما لم يجبرها السوريون على ذلك. ومن الأنفع لهم في هذه الحالة التفاهم مع المسيطرين على الفريسة لضمان مصالحهم.

-باختصار لن يسلم لنا أحد ولا أي دولة عظمى أو صغرى عربية أو أجنبية سورية على طبق من فضة مهما كان إيمانه بحقوق الإنسان والشعوب، ولن تكون سورية لنا، أقصد للشعب الذي ثار من اجل الكرامة والحرية، إن لم نقاتل لانتزاعها من بين أيدي قاهريها ولن نستطيع ذلك إلا إذا نجحنا في ان نستعيد وحدتنا وتفاهمنا داخل قوى الثورة واليوم بين ابناء الشعب وأطيافه فيما وراء الموالاة والمعارضة لبناء حياة جديدة وتدشين سياسة وطنية افتقدناها لعقود طويلة.

-وهذه هي بداية الطريق للانتقال من نظام الحكم بالقوة والقهر الى نظام الحكم بالسياسة أي بالاعتراف المتبادل بحق جميع الأفراد في المشاركة ومن ثم بحريات الأفراد وحقوقهم الأساسية والمتساوية، والقبول بقاعدة الصراع السلمي على المصالح المختلفة في إطار سلطة القانون الواحد والمطبق بشكل واحد على جميع الأفراد، وإلغاء كل أشكال التمييز القبلي او الطائفي او القومي او الجغرافي أو المناطقي.

 وهذه هي السياسة العقلية التي تستطيع وحدها أن تضع حدا للسياسة الهمجية القائمة على العنف التي أودت بمجتمعاتنا الى الهاوية. وهي السياسة التي تنقلنا من عالم الصراع الوحشي وإنتاج الدول المتوحشة إلى عالم أكثر أمنا، نحل فيه نزاعاتنا والتضارب الطبيعي لمصالحنا في إطار سلمي، ونتعلم فيه سبل الحوار والتفاوض ومعنى الحياة القانونية والالتزامات الجماعية والتضامن وروح المسؤولية، عالم يحل فيه العمل على بناء المستقبل ومراكمة عناصر التقدم المادية والروحية بدل البكاء على الماضي والتعلق بأذيال احقاده والسير الحتمي نحو الحرب والدمار والخراب.

———————————–

عن الضمير السياسي الغائب/ حسن النيفي

ربما بدا -من نافل القول- أن منظومة المصالح باتت هي الموجّه الأقوى لسياسات الدول واصطفافاتها الإقليمية والدولية سواء في هذا الحلف أو ذاك المحور، وذلك في ضوء هيمنة معايير القوّة الاقتصادية وتسيّدها على أية اعتبارات قيمية أخرى، ولعل هذا المنحى في السياسات الحديثة لا يلبث أن يتحوّل في غالب الأحيان إلى استراتيجية نفعية تسهم في ترسيخ مفاهيم القهر والانسحاق وامتهان التسلّط على حقوق الشعوب من دون أي رادع إنساني أو أخلاقي، وهكذا تغدو مفاهيم الحريات وحقوق الإنسان ومجمل القيم الكونية التي يتغنى بها العالم الحديث مجرد شعارات تُخفي تحتها الكثير من مظاهر الجشع والتوحّش وابتذال كرامة البشر.

وليس من المستغرب –وفقاً لهذه البراغماتية الوقحة– أن تغدو الوضاعة القيمية ضرباً من الحكمة بفعل دوافع المنفعة والتعطّش الشديد لحيازة المال والقوّة. وفي ظل هذه الأنماط من العلاقات التي تحكم العالم يبدو أن القضايا العادلة للشعوب المُضطَهدة هي أولى الضحايا، باعتبار أن أصحاب القضايا على الغالب الأعمّ يستمدون مقوّمات وجودهم من عدالة قضاياهم، وقوتهم من إيمانهم وإخلاصهم لتلك القضايا، وهذه جميعها لا تجدي نفعاً من دون أن تنهض على مقوّمات القوة المادية على الأرض والقادرة على مقارعة مصالح الآخرين، أليس هذا هو حال القضية الفلسطينية على مدى خمسة وسبعين عاماً، ألم تتحوّل إسرائيل من كيان عنصري غاصب منبوذ في نظر العالم إلى دولة تكاد تكون مركزاً لاستقطاب العالم الشرق أوسطي، ومن كيان مُحتلّ تأسّس على مبدأ الاجتثاث والإرهاب إلى واحة يحاول الجميع التقرّب منها لالتماس الأمان والطمأنينة، وإلّا فما الدافع لهرولة العديد من الحكومات العربية لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل؟ هل لأن الكيان الصهيوني يجسّد ثقلاً اقتصادياً مفصلياً في حياة شعوب المنطقة؟ بل ربما يبدو العكس من ذلك، ولكن ما هو مؤكد أن الحاجة إلى إسرائيل لدى جميع الدول أو الأنظمة العربية المتهافتة إلى تل أبيب هي حاجة أمنية ذات صلة وثيقة ليس بمستقبل شعوب تلك البلدان وحيوات مواطنيها بقدر ما هي مرتبطة بالحفاظ على تلك الأنظمة واستمرار بقائها واستمراريتها في السلطة، وبهذا المسعى نحو أمن السلطات والحفاظ على ديمومتها تغدو إسرائيل المظلة الضامنة للأمن والاستقرار، فضلاً عن كونها هي الضامن الفعلي لسلامة الحكومات المنضوية تحت تلك المظلة، ألم تكن إسرائيل موضع استغاثة نظام دمشق منذ انطلاق الثورة السورية؟

يؤكّد السياق التاريخي للسياسات الأميركية أن إيران باتت على رأس (محور الشر) بعد زوال الاتحاد السوفييتي في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وذلك نظراً لما تجسّده إيران من تهديد وخطر لا يطول المصالح الأميركية فحسب، بل هو يُنذر بتقويض الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها، وكما بيّنت سيرورة نمو وتعاظم الكيان الإسرائيلي وتدرّجه من مصدر للتوحّش إلى ملاذ للأمان والديمقراطية، فإن التعامل الدولي مع إيران ربما يسير بالاتجاه ذاته، مع وجود فارق أساسي يتمثّل بكون التوحّش الإسرائيلي كان مثار عطف على الدوام من جانب الحكومات الغربية ومن الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، فيما كان سلوك إيران هو مثار ريبة وسخط دائمين من جانب العالم الغربي، إلّا أن جميع أشكال التعبئة الإعلامية الغربية ضدّ إيران لم تكن حائلاً دون سيطرة طهران وتحكّمها بمفاصل ومصائر أربع دول إقليمية – العراق – سوريا – لبنان – اليمن – وكلّما تعاظم الخطر الإيراني أُتيح لطهران مخارج أخرى ليس للانكفاء إلى الخلف بل للتمدّد من جهة، ولشرعنة هذا التمدد من جهة أخرى، هكذا تحوّل التدخل في شؤون العراق بعد عام 2003 إلى احتلال فعلي، وهكذا أيضاً بات الخطر النووي الإيراني مدخلاً لإقامة تفاهمات ذات منحى استراتيجي بين طهران والغرب، أمّا على مستوى دول المنطقة فقد أضحى الخطر الإيراني سبيلاً لتبدّل نوعي في السياسات العربية، إذ لم تعد المظلة الإسرائيلية هي الضامن الأوحد الذي يلبي الحاجة الأمنية لسلامة أنظمة الحكم، وذلك بوجود الشرطي الإيراني الذي أصبح صاحب العصا الأكثر هيبةً ومخافةً، فبعد أن كان الرهان معقوداً طيلة سنوات مضت على تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة عبر زوال مرتكزاته الطائفية والسلطوية سواء في سوريا أو لبنان على سبيل المثال، إلّا أن هذا الرهان بات مُوجَّهاً لطرق الأبواب العريضة لطهران، لرغبةٍ شديدة الوضوح بإقامة علاقات وطيدة مع إيران تفي بالحاجة الأمنية التي غالباً ما تبدو أنها ذات طابع مؤقت لا أكثر، نظراً لطبيعة الاستراتيجيات الإيرانية القائمة على التوسع المستمر والتي لم تتبدّل منذ مجيء الخميني إلى السلطة عام 1979 إلى الآن.

ما من شك بأن النفوذ الإقليمي المتزايد لإيران بات المحرّك الأكبر لسياسات الأنظمة العربية في المنطقة، وما من شك أيضاً بأن المشهد السوري كان المجال الأكثر وضوحاً لردّات الفعل العربية حيال سياسات طهران، فتارة يصبح نظام دمشق مصدراً للإرهاب والمخدرات لارتباطه العضوي بإيران، وبالتالي يجب العمل على محاصرته وتقويضه، إلّا أنه يصبح تارة أخرى بوابة عبور آمنة للوصول إلى المحجة الإيرانية لالتماس الأمان والطمأنينة، وربما جسّد التقارب الأردني مع نظام الأسد مثالاً واضحاً لذلك، وليس ببعيد أن تكون الخطوات المتتالية لدولة الإمارات في هذا المنحى ذاته، ويبدو أن تكرار هذا السيناريو الذي يلبي حاجات مُستعجَلة ولكنها مؤقتة، بات نهجاً مغرياً –بما يتيحه من براغماتية شديدة الميوعة- لدول ذات وزن إقليمي لا يقل شأناً عن إيران، كتركيا التي تتقمّص –حيال خطوتها التطبيعية مع نظام الأسد– خطاباً مكروراً ومُستهلكاً بهدف حشد المبررات لانعطافتها الراهنة، إذا يعيد هذا التبرير ما تعاورت عليه الأنظمة العربية التي استدارت نحو الأسد بحجة احتوائه وإبعاده عن السطوة الإيرانية، وكأن علاقة إيران بنظام دمشق حديثة العهد، وأن إيران قد تركت المزيد من المفاصل الفارغة التي تنتظر تركيا لتملأها أو تقبض عليها، أو كأن إيران قد تركت أمام رأس النظام الكثير من الخيارات في تحديد تحالفاته واصطفافاته، علماً أن أنقرة لا يغيب عنها البتة مدى استحكام القبضة الإيرانية بمفاصل نظام الأسد، بل هي أكثر دراية من غيرها بتموضع الميليشيات الإيرانية في الجغرافيا السورية ومدى النفوذ التي تحوزه تلك الميليشيات، والحق أنه كان حريّاً بتركيا وغيرها من الدول العربية الإنصات -ولو لبرهة-  إلى صوت الضمير، من أجل التفكير والمساهمة بحماية الشعب السوري من سطوة الأسد، قبل التفكير بحماية الأسد من سطوة إيران.

تلفزيون سوريا

——————————

في فشل الثورة/ إفشالها  وفي النقد الذاتي والآفاق المستقبلية/ حسام الدين درويش

قد يكون مبتذلًا القول بأنّ “الثورة السوريّة قد أُفشلت أكثر من كونها فشلت”. ولم تقم بهذا الإفشال الأطراف المعادية للشعب السوريّ فقط، ومن بينها النظام الأسدي والميليشيّات السوريّة وغير السوريّة المتحالفة معه، ودولتا روسيا وإيران خصوصًا، بل أسهمت في هذا الإفشال مجموعة “أصدقاء الشعب السوريّ” أيضًا. فهؤلاء الأصدقاء “المزعومون” كانوا أصدقاء مباشرين أو غير مباشرين لـ “داعش والنصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام” وغيرها من الفصائل الإسلامويّة، أكثر من كونهم أصدقاء للثائرين والناس المقصوفين والمحاصرين والمجوَّعين والمهجَّرين … إلخ. وكانوا حريصين على عدم سقوط/ إسقاط النظام أكثر من حرص بعض أقوى حلفائه. وإذا اتبعنا مبدأ “نصل أوكام” ربّما يكفي ذكر ما فعله الأصدقاء و/ أو الأعداء المذكورون لتفسير مسألة فشل أو بالأحرى إفشال الثورة السوريّة.

لكنّنا لا نعتقد بضرورة استخدام ذلك النصل في هذا السياق، بل نرى ضرورة ممارسة أشدّ أنواع النقد الذاتي لممارسات “المؤسّسات السياسيّة المعارضة”، وكل الأطراف المنتمية أو الممثلة للثورة السوريّة، بحقِّ أو بدونه، ولقيمها وأفكارها وإسهامها في تحويل مفهوم “المعارضة” من كونه شرفًا ليس سهلًا ادعاؤه أو نيله، إلى كونه وصمًا يتجرأ كثيرون على التبرؤ منه، بحجّة أنّ المعارضة أصبحت أقرب إلى أن تكون قفًا للسلطة بدلًا من أن تكون نقيضًا لها.

ومهما بلغت شدّة النقد الذاتي المذكور، ينبغي لنا ألّا ننسى أنّ الأداء الثوري للشعبين التونسي والمصري، على سبيل المثال، لم يكن أفضل من الأداء الثوري للشعب السوريّ الثائر، وأنّ ذلك لم يمنع من أن تفضي الثورة المصرية إلى إسقاط رأس النظام السياسي المصري، وأن تُحدث الثورة التونسية تغييرًا أكثر عمقًا وإيجابيةً في النظام السياسي التونسي، لم تقتصر على إسقاط رأس النظام فحسب، بل امتدّت إلى إنتاج مرحلة تحوّلٍ ديمقراطي، جزئي وبطيء، لكنه حقيقي وفعلي. في المقابل، لم تفضِ ثورة الشعب السوريّ إلى أيّ تغيير إيجابي في ماهيّة النظام السياسي السوريّ، لا بل إنّ إضعاف النظام الأسدي قد ترافق مع إضعافٍ للدولة السوريّة ذاتها. والخلاصة التي بيّنتها كثير من الدراسات والأبحاث، في هذا الخصوص، أنّ مسألة نجاح الثورة أو فشلها لا تتعلق، فقط أو بالدرجة الأولى، بممارسات الثائرين، وإنّما تتعلق، أساسًا أو خصوصًا، بطبيعة النظام السياسي/ الأمني/ العسكري، ومدى حصول انقسامٍ فيه بين أفراد أو أطراف نخبته، وماهيّة رد فعله على الثورة عليه.. إلخ.

بعيدًا عن لغة الفشل والإفشال، أفضت الثورة السوريّة إلى نشوء أوضاع جديدةٍ، أصبح من الضروري أخذها في الحسبان عند أيّ تفكيرٍ في “القضيّة السوريّة”. والمقصود بالأوضاع الجديدة حالة الشتات السوريّة وأوضاع ملايين السوريّين في المناطق الخاضعة للنظام الأسدي أو لميليشيّات “قسد” أو “الجيش الوطني”، أو في دول الجوار وفي مناطق شتاتهم أو لجوئهم الأخرى. هذه التغيّرات الكبيرة، والمأساوية في كثيرٍ من الأحيان، في أوضاع السوريّين تحتم تبني رؤى وإستراتيجيات جديدة لا تبحث عن تصحيح مسار الثورة وإعادة الروح لها، لأنّ العودة أو الإعادة المذكورة لم تعد أمرًا معقولًا أو ممكنًا أصلًا؛ بل تبحث عن أفكارٍ ورؤىً وإستراتيجيات ومؤسّسات جديدة تسعى إلى توحيد جهود السوريّين الساعين إلى التأثير الإيجابي في القضيّة السوريّة، وتحقيق الانسجام والتكامل بين هذه الجهود، في الشتات وفي الداخل، في الوقت نفسه.

يصعب على السوريّين المتبنّين لقيم ثورة 2011 تحمّل مسؤولية الحفاظ على الهويّة الوطنيّة ووحدة الجغرافيا السوريّة؛ لأنّ كل القوى السوريّة السياسيّة والعسكريّة الفاعلة أصبحت خاضعة خضوعًا جزئيًّا أو كاملًا لقوى أجنبية تتحكّم فيها وتفرض عليها أجندتها. ومع حالة التشظي والتفتت والتمزّق التي أصابت كلًّا من الهويّة الوطنيّة والجغرافيا السوريّة، أصبح ضروريًا امتلاك وعيٍ أكبر بماهيّة الوضع القائم والابتعاد عن اجترار لغةٍ لا تتناسب مع تلك الماهيّة ومتطلباتها. وفي انتظار أن تتضمن عقابيل ثورتهم وتداعياتها المستمرّة، حتّى الآن، ما يساعد في خدمة قضيّة هذه الثورة، من المفيد العمل على تقديم سردٍ ومراجعات نقدية لما سبق، من ناحيةٍ أولى، وعلى إنتاج قراءات وصفية وتقويميّة للواقع الراهن، من ناحيةٍ ثانيةٍ، وعلى استشراف آفاق المستقبل، والاستعداد له، والبحث عن سبل التأثير الإيجابي فيما هو أتٍ، من ناحيةٍ ثالثةٍ.

رأي منشور البارحة في حرمون في إطار ملفٍّ بعنوان “أسئلة الثورة السوريّة الملحّة في ذكراها العاشرة.. رؤى سياسيّة وشهادات حيّة”.

—————————

======================

تحديث 17 أذار 2023

———————–

أزمة الديمقراطيين السوريين/ ياسين الحاج صالح

أدخلت الثورة السورية الديمقراطيين السوريين، من ناشطين أفراد ومثقفين وشبكاتِ «مجتمع مدني» ومنظمات سياسية صغيرة، في أزمة عميقة لم يُستجب لها فكرياً ولو بالحد الأدنى. وهذا مَبْعث مفارقة كبيرة، تتمثّل في أن أكبر حضور للشعب في السياسة في مجتمعاتنا، بل أكبر ثورات اجتماعية سياسية في تاريخنا الحديث، تمخّضت عن أزمة في المجموعات التي تُعرّف نفسها بالديمقراطية (حكم الشعب)، وبالكتابة والتفكير في قضية الديمقراطية. الثورات العربية ديمقراطيةٌ جوهرياً من حيث أنها مسعىً شعبيٌ للتغيير السياسي، استهدف نمط ممارسة الحكم، ومرّ بامتلاك جمهور واسع بقدرٍ غير مسبوق للسياسة (التجمع والكلام في الشأن العام والاحتجاج)، فكيف حصلَ أن أفضت ثورات ديمقراطية إلى أزمة الديمقراطيين؟

لا يعود الأمر في السياق السوري إلى فشل الثورة، بل لعلّ فشل الثورة وأزمة الديمقراطيين يعودان معاً إلى عاقبة أساسية للثورة السورية، وبدرجات متفاوتة الثورات العربية الأخرى، أعني صعود الإسلاميين، بمن فيهم تشكيلاتٌ عدمية، جمعت بين مقاطعة العالم الحديث وتنظيماته وبين الوحشية في تعاملها مع السكان. وهو ما سهّل كسب نظامِ طغيانٍ للصراع ضد الجميع، وأدخل الجميع في أزمات وجودية. في سورية، بلغ الصراع من العنف أن البلد بالذات في أزمة وجودية. ستجري العودة إلى هذه النقاط، إلا أنه يلزم التنويه هنا أن هذه المناقشة تنطوي على نقد ذاتي وموضوعي إن جاز التعبير، نقد لمنظورات وحساسيات ظهرت بالتجربة محدوديتُها ونواقصُها، كما هو نقدٌ لأفكار وممارسات كانت ولا تزال تبدو لي قاصرة وعلى عداء مع الديمقراطية. هزيمة الثورة السورية أظهرت نواقصنا وأوجه قصورنا، ولا أرى بحال أنها تُظهر صواب أفكارٍ انتقدناها كديمقراطيين سوريين وخاصمناها. ستُذكر بعض هذه القضايا في سياق النقاش، بأمل أن تُتاح الفرصة لمناقشة مفصّلة لها يوماً. هذه المقالة تصرّ على صواب الموقع الأخلاقي والفكري للديمقراطيين السوريين وتفوّقه على أي منظورات أخرى. نتكلم على أزمة الديمقراطيين السوريين لأن تَفوُّقَ الموقع الأخلاقي والفكري لم يُترجَم إلى سياسة ديمقراطية مثمرة.

أي جماعة سياسية سورية؟

قد يمكن عزوُ فشل الديمقراطيين السياسي في سورية إلى جذر فكري سابق للثورة السورية، ويشمل المناضلين الديمقراطيين وغيرهم، وأعني غياب تصور مطابق للجماعة السياسية السورية. بقدر كبير، وُلدت الفكرة الديمقراطية في سبعينيات القرن العشرين في سورية في إطار تصور عروبي للذات، أخذ يُشحَن بمحتوى إسلامي في ثمانينيات القرن نفسه وبعد، على ما تشهد أعمال أبرز مثقف سوري تمحورَ تفكيره حول الديمقراطية، برهان غليون. تشهد عليه كذلك مؤتمرات كانت تعقد في ثمانينيات القرن العشرين، تجمع مثقفين عروبيين وإسلاميين، يتباحثون في واقع «الأمة» ومستقبلها، وتجمعهم فكرة الديمقراطية. وكان من أبرزهم إلى جانب غليون المرحوم محمد عابد الجابري، ومن مصر المرحوم طارق البِشري. ورغم أن المحتوى الإسلامي للذات في أعمال غليون هو إيجابية عامة حيال الميراث الإسلامي، وليس سياسةً إسلامية بحال، ولا تديناً إسلامياً كذلك، إلا أن تَصوَّر الذات هذا لا يوفر أساساً لسياسة ديمقراطية مميزة. ربما يوفر أساساً لسياسة قومية تحررية.  شخّصَ غليون في كتابه المحنة العربية مشكلةَ العرب السياسية في الدولة المعادية للأمة. لكن تعريفه للأمة ثقافوي، يُحيل ضمناً إلى العروبة والإسلام، ويوفر فرص تماهٍ أكبر للعرب والمسلمين في هذا التعريف، وتماهٍ أقل لغيرهم. وأُقرّ بأني كنت شريكاً في هذا التصوّر حتى قبل الثورة السورية بعامين أو ثلاثة1، ولم أبلور تصوراً إيجابياً للذات حين بدأتُ آخذُ مسافة نقدية منه.

المشكلة في طرح الديمقراطية استناداً إلى مفهوم الأمة تتمثل في أنه يجنح إلى إقامة أكثريات دائمة وأقليات دائمة، على ما يمكن أن يستفاد من محمود ممداني في كتابه لا مستوطنون ولا أصلانيون: في تشكل الأقليات الدائمة وتداعيها 2، وهذا نقيض مقاصدِ الديمقراطية التي تتوافق مع أكثريات وأقليات متغيرة، بحيث يمكن لمن هم في الأقلية اليوم أن يكونوا في الأكثرية غداً، والعكس بالعكس. الفرصة أكبر لقوميين عرب أو إسلاميين أو مزيج منهما في أن يشكلوا أكثرية دائمة في سورية ديمقراطية. ولماذا الديمقراطية أصلاً ما دامت الأكثرية معروفة سلفاً؟ الواقع أن الحكم البعثي نشأ وهو يفكر بنفسه كتعبير عن إرادة الأمة العربية، وإنْ في قطر محدد، «القطر العربية السوري»، وكان التصور القومي العربي مهيمناً بالفعل إلى درجة أغنت عن شكليات مثل حرية التنظيم والتعدد السياسي والانتخابات الحرة وصناديق الاقتراع. وحين يعترض إسلاميون سنيّون على أن السنيّين ليسوا طائفة، وإنما هم الأمة، فإن هذه القضية جزءٌ معرفي من كلٍّ سياسي مُوجَّه نحو تسويق أنفسهم كقادة طبيعيين لهذه الأمة، مما لا يحتاج إلى تحكيمِ أي عمليات ومؤسسات ديمقراطية. الفرق أن أمة الإسلاميين إسلامية فيما أمة القوميين العرب عربية، لكن التحول الذي جرى من واحدة إلى الأخرى في ثمانينيات القرن العشرين يحيل إلى بنية مشتركة، ربما تكثِّفها فكرة «الرسالة الخالدة» وتصور إمبراطوري للذات والتاريخ. وفي ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته تحللت العروبة السورية إلى «سورية الأسد»، وعمادها أسرة جانحة وأجهزة مخابرات مختصة بالتعذيب، وإلى أسلمة متسعة للأوساط السنّية. لم يكد يَبقَ عربٌ في «قلب العروبة النابض».   

مقابل طرح غليون، لم يكن ثمّة طرح ديمقراطي يقترح ذاتية سياسية مغايرة، سوريّة وقائمة على المواطنة، بل كان ثمّة تَشكك وعداء للديمقراطية باسم أولوية بناء الدولة مثلاً عند عزيز العظمة (وهو ما عمل المرحوم لؤي حسين على ترجمته إلى منظمة سياسية: تيار بناء الدولة)، أو باسم الخوف من طغيان الأكثرية الذي ستأتي به الديمقراطية على ما خشي المرحوم جورج طرابيشي (والعظمة كذلك). وعدا اللاتكافؤ السياسي والقيمي للطرحين، فليس ثمة تكافؤ بينهما على مستوى قابلية التطور. غليون هو من تناول في موسم «ربيع دمشق» القصير ما سماها في حينه أزمة الوطنية السورية، واقترح عقداً وطنياً جديداً يستوعب التعدد السوري، فيما تجمّد الطرح المعادي للديمقراطية على مقدماته النخبوية المتشائمة، ولم يستطع أن يُراجعها ولا أن يُضيف إليها شيئاً.

في «ربيع دمشق» كانت فكرة الوطنية السورية هي الركيزة الضمنية للتفكير والنشاط السياسي، وإن لم تكن موضوعَ نظر ونقاش كافيين. لم يجر اشتباك مباشر مع فكرة الجماعة السياسية السورية، ولا محاولة للتنظير في العلاقة بين الجماعة السياسية وبين كل من العروبة والإسلام. في سورية من هُم غير عرب من كُرد وأرمن وسريان وتركمان وشركس…، وفيها من هم غير مسلمين من مسيحيين وإيزيديين، وغير مسلمين سنيين من علويين ودروز وإسماعيليين وشيعة (وهم يتماهون أقل من السنيين بالتاريخ الإسلامي، والتاريخ العربي مثلما صاغه القوميون العرب في القرن العشرين)، وفيها بطبيعة الحال من لا يعرّفون أنفسهم بأيّ هويات موروثة. مفهوم الجماعة السياسية يشمل هؤلاء كلهم، ويشكل إطاراً للمساواة بينهم كمواطنين سوريين. هذا قلّما قيلَ بوضوح، وافتُرِض وفقاً لمنطق شائع أن الديمقراطية تحل التوترات المحتملة بين منحدرين من هذه الجماعات، وتُوفر إطاراً لتعايش الهويات المتعددة عند الفرد الواحد أو في المجتمع ككل. وبينما بدا أن الديمقراطية هي الفكرة المهيمنة على ما يشهد تأسيس «إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي» في خريف 2005، فإن الشغل الكتابي على الفكرة والشؤون السياسية السورية ظل محدوداً جداً، وتقريباً اقتصرت المساهمة فيه على بضعة أسماء، وأساساً من خلال مقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية. كان غليون نفسه والمرحوم ميشيل كيلو من أبرزهم.

«إعلان دمشق» ذاته يشهد على شيء آخر: أن أياً من المعارضين السوريين على تباين خلفياتهم لم يجعل من التقارب السياسي مع الإسلاميين، وكان المقصود وقتها الإخوان تحديداً، مشكلة. يمكن القول إن المعارضة الديمقراطية السورية كانت وفيّة لفكرة تحالفات سياسية عابرة للإيديولوجيات ولتصوّرٍ استيعابي لسياسة ديمقراطية لا تستبعد الإسلاميين، وهم الذين كانوا قد تعرّضوا لقمع ساحق في ثمانينيات القرن، وكان الناجون منهم يعيشون خارج سورية منذ ربع قرن وقتها. 

دخلنا الثورة السورية بهذا التصور الاستيعابي، «الوطني الديمقراطي»، للسياسة. كان لدى النظام تصور آخر للسياسة، استيعابي بطريقته الخاصة، يجمع بين «تحالف الأقليات» وبين تأليف قلوب نافذين في البيئات السنية المركزية، في دمشق بشكل خاص. العلاقة بين هذين الاستيعابَين علاقة استبعاد على مستوى الحساسية وعلى مستوى الأفكار. لكن حضور الأفكار كان محدوداً في الواقع بفعل قلة المشاركين في النقاش والشروط السياسية والأمنية للنقاش، وهي لا تسمح بتعبيرات حرة عن الرأي، ولا تُشجع أعداداً أكبر على المشاركة.

في المحصلة، لم يترافق تعمم الفكرة الديمقراطية في أوساط الطيف السوري المعارض بتعريف مطابق للذات السياسية السورية، يقوم على المواطنة، ويعمل على تحييد القومية والدين والطائفة. كانت لدينا فكرة ديمقراطية عائمة بعض الشيء. ثم تفجرت لدينا ثورة شعبية، ووجهت بالحرب، ولم تلبث دواعي الاستمرار أن ساقتها نحو التمفصّل مع ذات أو جماعة سياسية أخرى، الإسلامية السنّية التي تعرضت لبطش تمييزي من النظام، وليس الجماعة السياسية السورية المتصوَّرة إطاراً للديمقراطية والمواطنة. لكن بهذا الاستمرار انتقلت إلى ما دون السياسة، إلى الأهلي والديني. الديمقراطية لا تعمل على هذا المستوى. والديمقراطيون يتشتتون.

الطائفية

والمنبع الثاني لأزمة الديمقراطيين السوريين يتصل بالطائفية، وهي داء اتجه لأن يكون عضالاً ومُعنِّداً في الجسم السياسي السوري منذ ثمانينيات القرن العشرين وقبل. هنا أيضاً ثمّة مشكلة مطابَقة في التفكير السياسي. الطائفية إما أُنكرت كمشكلة كلياً، أو في أحسن الأحوال لم يجر نقاش مستقيم ومثمر بشأنها. وهنا أيضاً، تحُوْل الشروط السياسية للنقاش دون ظهوره بصور غير مواربة، وتُضيّق إلى أقصى حد دائرة المشاركين فيه. لكن الأمر يتعلق بتحدٍّ فكري وسياسي أساسي، لا تصون فكرة الديمقراطية كرامتها، بل شرعيتها ذاتها، دون الاستجابة النظرية والعملية له. لم يحدث هذا. الطائفيةُ التي لم نموضِعها، نجعل منها موضوعاً بالبحث والتحليل، مَوْضَعتنا هي، جعلت كثيرين منا حَمَلةً لها، متفرقين بتفرق حمولاتهم. وكان هذا التفرق ممّا أسهم في ضعف الطيف بمجمله وعزله اجتماعياً. ومن قد يُحسبون على طيف ديمقراطي سوري وقعت بينهم مخاصمات مسمومة تتصل بالموضوع الطائفي، وبصور مُعنِّدة هي الأخرى، تصمد للمقارنة مع أعتى نزاعات القبائل وأدوَمِها، لا حرب داحس والغبراء و«لا طل الخبر» بحسب تعبير شعبي شائع. وهو ما أسهم كذلك في توفير هامش مناورة واسع للنظام، أي زيادة حريته حيال الجميع.   

تعرِض الطائفية تكويناً خاصاً في سورية، لا يشبه في شيء لبنان أو العراق حيث الطائفية رسمية ومُدسترة. يتمثل تكوينها السوري الخاص في تطييف ما أُسميه الدولة الباطنة، العائلة الأسدية والأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية ذات الوظيفة الأمنية، أي مفاصل القوة والإكراه في البلد، أو مراكز السلطة الفعلية. الدولة الظاهرة بالمقابل، من حكومة وإدارات و«سلطة تشريعية» وحزب حاكم وشرطة، وحتى جيش نظامي، هي عامّة وغير طائفية، لكن يسري في مراتبها الحكومية والتشريعية تحاصٌّ طائفي ضمني تشرف عليه الأجهزة الأمنية، أي مركز السلطة المُطيَّف. ولأن الأجهزة الأمنية السرّية هي منبع التطييف العام، فإن كل ما يتصل بالطائفية أمني وسري بدوره، «تابو» ممنوعٌ من النقاش العام، لكن ليس من الممارسة الفعلية للمستولين على السلطة. ونحصل على وضع غريب كان منيف الرزّاز، وهو من الرعيل البعثي الأول، أشار إليه منذ ستينيات القرن العشرين: من يمارسون الطائفية ويَسوْسون بها ضمناً لا يؤاخَذون على شيء، ومن يتكلم بها هو من يُؤاخذ ويُتّهم بالطائفية، ومن قبل ممارسيها بالذات. كان الصمت السياسي العام ثغرة هائلة، لعبت أكثر وأكثر لمصلحة الإسلاميين الأكثر تشدداً، الذين يمارسون الطائفية ويتكلمون عنها دون تحفظ. لماذا يمكن أن يستمع أيٌّ كان لمن ينكرون وقائع الطائفية أو يجمجمون بشأنها، حين هي واقعٌ معاشٌ بكثافة يخبره المُعرَّضون للتمييز يومياً؟ سيُستمع إلى من يقابلون الطائفية بالطائفية. 

وخلال أكثر من نصف قرن بعد الرزاز، ترسّخت الطائفية في الوقائع والنفوس على نحو لا يجعل الدولة الوطنية مستحيلة، بل يجعل المجتمع مستحيلاً، والسياسة بالتالي. مقاطعة هذه البنية واقتراح سياسة أخرى لا تنبثق منها تبقى متروكة لخيالنا السياسي.

وسارت الطائفية مع خصخصة الدولة تدريجياً في الحقبة الأسدية، وهو ما تُرجم إلى واقع فعلي في التوريث عام 2000. خصخصة الدولة تعني نزع وطنيتها بطبيعة الحال، مثلما يعني التطييف تقسيمَ المجتمع وتقويضَ أسس قيام جماعة سياسية وطنية. لقد عشنا طوال عقود في ظل أزمة ثقة وطنية، عملت «الدولة» على مُفاقمتها لا على معالجتها، وهذا لأنها تجعل منها، أعني «الدولة»، مُطفئ الحرائق العام. جمعت بين العرب والكرد، خاصة في منطقة الجزيرة، مشاعر يتمازج فيها الخوف مع الكره؛ ومثلها تقريباً بين المسلمين والمسيحيين؛ ومثلها وأكثر بين عموم السنيين والعلويين؛ فصار النظام هو الحل لأزمة يحرص على تغذيتها واستحكامها. وهو ما سيَظهر بجلاء في انفجار هذا المجتمع المفخخ بالخوف والكره بعد الثورة. 

ولعله يمكن إجمال ما جرى للسوريين في الحقبة الأسدية بأنه تقويض الديموس؛ جمعية المواطنين التي يمكن أن تكون إطاراً لمداولات ديمقراطية، وفي الوقت نفسه تقويض القراطوس؛ بنى الحكم التي تستجيب لمداولات الديموس وتعمل على عقلنة الحياة العامة. وبذلك انهارت البنية التحتية لأي ديمقراطية ممكنة.    

من وجهة نظر النضال الديمقراطي، يبدو متعذراً جداً حل مشكلتَي الدولة منزوعة الوطنية والمجتمع المُطيّف والمنقسم، منزوع الوطنية بدوره بالتالي، والمحروم فوق ذلك من السياسة. التجربة بعد الثورة السورية أظهرت أن امتلاك السياسة قد يحدث عبر الدين، فتُترجم وقائع التطييف الاجتماعي إلى وقائع سياسية مباشرة. هذا وقع فعلاً. ما لم يقع هو نزعُ نزعِ وطنية الدولة، أو تأميمها. بالعكس، تَرجمت الدولة المخصخصة وطنيتها المنزوعة من تحت طائفياً إلى وطنية منزوعة من فوق بالاستعانة بقوى أجنبية ضد محكوميها الثائرين. وما لم يُقل هو أن المجتمع المطيَّف يشكل بيئة حرب جاهزة، وأن فرصتنا في تجنب الحرب الأهلية الطائفية محدودة دون نزع الطائفية المُطيِّفة إن جاز التعبير، أي طائفية الدولة.   

وهكذا واجهنا انتقال الطائفية إلى واقع سياسي مسلح ومقاتل بعد الثورة، مع بقاء طائفية الدولة المسلحة والمقاتلة، فحصلنا على الأسوأ من المجتمع ومن الدولة معاً.   

لم تكد تؤخذ هذه المعطيات بالاعتبار إلا على نطاق ضيق، ولم تتمفصل مع أي برامج سياسية كانت موجودة قبل الثورة أو مع أي وثائق سياسية صدرت بعدها. فلم يُقل شيءٌ عن وجوب تأميم الدولة، وعن ضرورة الحيلولة دون تطييف معاكس، وعن وجوب تجريم الحكم الأبدي والتوريث. أي لم يجر مَفْصلة المقترحات الدستورية المحتملة مع وقائع الدولة والسياسة والمؤسسات في سورية طوال أكثر من نصف قرن.

سورية في بداية الثورة لم تكن دكتاتورية وطنية مثل إسبانيا تحت سلطة فرانكو حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، أو مثل كوريا الجنوبية قبل نهاية الدكتاتورية بعد إسبانيا بنحو عقد، وقد يكون أقرب نموذج عربي إليهما تونس أيام بورقيبة. سورية في الحقبة الأسدية دولة طغيان سلطاني وراثي، ذي منازعَ إبادية، وليست بحال نظاماً دكتاتورياً. وبينما لا تحوز الدعوة إلى دكتاتورية وطنية، أي التفويض بحكم عسكري لبضع سنوات بغرض تحطيم الزُمر العسكرية الدينية والطائفية والجهوية، وإلغاء التنظيمات السلطانية بما فيها أجهزة المخابرات الطائفية، وتوحيد البلد وحصر السلاح بيد الدولة، لا تحوز أي فرصة في الواقع، فإنها قبل ذلك لا تكاد تكون مفهومة. في صيف 2013، وتحت حرارة التجربة في دوما والرقة، كتبتُ جملة واحدة على صفحتي على فيسبوك تتكلم عن حاجة سورية إلى دكتاتورية وطنية، فووْجه ذلك بعتاب ودّي وتسفيه عدائي في آن. هل يدعو ديمقراطي إلى دكتاتورية وطنية؟ لا يجب أن يكون ذلك ممتنعاً. المسألة مسألة شروط عينية، وليس تحكيمَ مبادئ مجردة. 

ودون تجاوز دكتاتوري للسلطانية المحدثة3، يبقى تجاوزٌ واحد: «ديمقراطية توافقية»، أي نظام تحاص طائفي مدسْتر، مثلما نعرفه في لبنان والعراق. وهذا نظام أزمة دائمة، ومفتوح على تبعيات خارجية متنوعة مثلما نعرف في البلدين الجارين.

جينوسايد؟

ويعود جانب ثالث من أزمة الديمقراطيين والطرح الديمقراطي إلى هذا التقاطع المميت بين الطائفية والطغيان، وما ينفتح عليه ذلك من تعريف للخصم السياسي.

يجري الكلام عموماً على نظام استبدادي، وأحياناً على نظام قمعي ودكتاتوري. وهذا بين عائم وغير صحيح، بل إن الكلام على دكتاتورية يُخفق في رؤية النزع الشامل لوطنية الدولة والمجتمع عبر التحول السلطاني والتطييف المديد، ويُخفق من ثم في فهم أسباب الدمار السوري. الدكتاتورية لا تؤدي إلى دمار واسع هائل كهذا. وعبارة الاستبداد أشد عمومية من أن تنفع في التحليل.

يتجاوز الأمر أن طائفية الدولة وتطييف المجتمع يُضعِف إلى أقصى حد فرص ظهور قوى ديمقراطية، إلى أن الدولة المخصخصة والمطيّفة تكون منزوعة الوطنية كما تقدم، أي أشبه بوكالة احتلال أجنبي أو قوة استعمارية، وهو ما تُرجم إلى واقع سياسي مباشر فعلاً بالدعم الإيراني للنظام منذ البداية، ثم التدخل الروسي بطلب إيراني أسدي، فيما لم يُعرض على الثائرين في أي وقت حل سياسي يقود إلى تغيير ذي معنى في البيئة السياسية السورية. ثم إنه ما إن نتكلم على طائفية الدولة حتى نتكلم على احتمال الإبادة أو الجينوسايد كشكل محتمل للصراع السياسي. وهو ما تحقق بدوره بعد الثورة 2011، وتلامحت إمكانياته منذ موجة الصراع الأبكر بين أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات. الديمقراطية يمكن أن تكون شعار تعبئة وبرنامجاً سياسياً في مواجهة نظام قمعي دكتاتوري في إطار بنية وطنية، ولكنها لا تكاد تعني شيئاً في شروط الإبادة والحماية الخارجية، ولا تملك ما تقوله في مثل هذه الشروط. فإذا كان قتل مئات ألوف البشر وتهجير الملايين واستخدام أسلحة الدمار الشامل منهجَ حكمٍ ممكناً، فليس من حل غير تدخل من خارج الإطار يحمي الضحايا ويعاقب المجرمين. ليس هناك نظام جينوسايد سقط بفعل نضال الديمقراطيين المحليين.

 والحال أننا حصلنا بالفعل على تدخلات خارجية كثيرة بدل تدخل واحد، جمعها تشخيص الإرهاب بوصفه الشرّ السياسي الأساسي، وليس الجينوسايد، فلم يمرّ الأخير دون عواقب فقط، وإنما مع مكافأة ضمنية للنظام القاتل الذي صار شريكاً في هذه الحرب ضد الإرهاب. لا ديمقراطية ولا اشتراكية ولا ليبرالية تنفع في مثل هذه الشروط، لا شيء ينفع، ولا حتى سياسة الأعماق الدينية، التي لا يعدو أثرها تعميم الشرط الجينوسايدي. وهو ما حصل فعلاً على يد المجموعات السلفية السنّية.

هناك نقاش مشروع، وضروري في واقع الأمر، حول صلاحية مفهوم الجينوسايد (الإبادة على الهوية)، لوصف الصراع السوري بعد الثورة، وبخاصة من جهة أن الأمر يتعلق بـ«حرب»، يحدث أن توصف بأنها أهلية، أي أن من يقتلون ليسوا «ضحايا أبرياء»، مثلما هو مقرّر في مفهوم الجينوسايد بأثر المثال النموذجي الذي صيغ المفهوم لتمثيله، الهولوكوست. يتعلق الأمر بمحاربين يقاتلون، ومن يقاتلون يُقتلون. لكن هذا وجيه بقدر محدود فحسب. طوال الوقت احتكر النظام الطيران وأسلحة الدمار الشامل والصواريخ بعيدة المدى، وموارد الدولة العامة. وهذا يسوّغ الكلام على حرب تعذيبية، شيء يقارب استهداف إسرائيل لغزة. هل هناك من يتكلم جاداً على «حرب» بين إسرائيل وحماس؟ الحرب التعذيبية هي تعذيب أكثر بكثير مما هي حرب، وضحاياها أقرب إلى «البريئين» منهم إلى محاربين4.

على أن صلاحية مفهوم الجينوسايد تبقى موضوع نقاش حتى لو أقررنا بفكرة الحرب التعذيبية، وبأن أكثرية الضحايا سقطوا على يد الدولة، وأنهم استُهدفوا تمييزياً لحيثيتهم السنّية، مما هو محقَّق بالفعل. فأكثرية ساحقة من الضحايا، ربما 90 بالمئة منهم سقطوا على يد «الدولة» فعلاً، وبيئات سنّية هي وحدها دون غيرها استُهدفت بالمجازر الكبيرة والصغيرة، ومنها الكيماوية، والقصف بالبراميل المتفجرة، وجميع من قتلوا بالتعذيب وتحت التعذيب تقريباً. لا يتعلق الأمر حتماً بِنيّة مُبيَّتة، مثلما يقرر ميثاق الأمم المتحدة الخاص بمنع ومعاقبة الجينوسايد، لكن للبنية السلطانية المهجوسة بالسيادة والأبد «نيّتُـ»ها، أو منطقها الترجيحي، الذي يُخفض عتبة استهداف البعض ويسهله، ويرفع عتبة استهداف آخرين ويصعبه.

ولا يضاد هذه المساجلة الوجيزة القول إنه جرى استهداف مدنيين علويين من تشكيلات مسلحة سنّية، وأن هذه أيضاً مجازر جينوسايدية. إنها بلا شك كذلك، وما فعله جيش الإسلام في عدرا العمالية5 في الشهر الأخير من 2013، أو جبهة النصرة في أرياف شمال اللاذقية، هو بالضبط مجازر جينوسايدية. ليس الغرض هنا بحال نفي الاستعداد الإبادي عن أي جماعات خارج النظام، الغرض بالأحرى تأصيل الإبادة في البنى الطائفية، أو رؤية الطاقة الجينوسايدية في التشكيلات الطائفية، سواء كانت حاكمة أم محكومة6.

هذا ليس لإغلاق النقاش حول الجينوسايد، فالمفهوم إشكاليٌ لأنه يفترض هويات مُعطاة سلفاً، سابقة للصراع، وليس تشكلها ذاته أحدَ أوجه الصراع. ثم لأنه يغلب أن يتوافق مع حلول هوياتية للصراعات الإبادية. أستخدمه أداتياً هنا لأنه يساعد في إضاءة جوانب مهمة من صراعنا، بانتظار تطوير مفاهيم وأدوات تحليل أفضل.    

على أي حال، حين تكون الحياة مستباحة إلى هذه الحدود الإبادية، فإن الكلام على الديمقراطية يصير غير ذي معنى.

أسلمة الثورة

ويتصل منبع رابع لأزمة الديمقراطيين السوريين بما تقدمت الإشارة إليه من صعود الإسلاميين على أكتاف ثورة أوسع طيفاً عند انطلاقها. لم يكن مسار الصعود على نحو ما شهدناه مذهولين عامي 2012 و2013 خطياً وحتمياً، ويُحيلنا تقصّي جذروه على تاريخ سورية خلال الحقبة الأسدية، وتاريخ الشرق الأوسط خلال العقود السابقة للثورات. لكن ذلك الصعود أخذ شكلاً منفراً إلى أقصى حد، يتجاوز أسوأ ما تخيّله أي ديمقراطيين سوريين، والأرجح أنه كذلك أسوأ مما تخيّله المحذرون من طغيان الأكثرية بالذات. الواقع أنه كان طغياناً فاشياً لأقليات أكثروية، طغت رمزياته ولُغته في الثورة السورية منذ عام 2013، وأَدخلَ غير الإسلاميين من الثائرين السوريين والمنحازين للثورة في أزمة فكرية وسياسية وأخلاقية عميقة. بل لقد بدا أنه يصادق على ما كان يقوله من كنّا ننتقدهم قبل الثورات من علمانيين تسلّطيين تتلّخص دعواهم في أن الدولة هي الحل، ومن ثقافويين علمانيين تتلّخص دعواهم في أن رؤوس عموم الناس هي المشكلة. ولم نستطع بغير مشقة كبيرة خلال السنوات المنقضية شقَّ درب يجمع بين اعتراض مبدئي على السلطانية المحدثة التي طوّرت منازع إبادية تجعل الكلام على الدكتاتورية والقمع متقادماً وغير ذي موضوع، وبين اعتراض سياسي وأخلاقي متّسق على الإسلامية التي طوّرت منازع فاشية بسرعة قياسية. وبعد أن كنا نناضل من أجل الحريات السياسية وحكم القانون، وجدنا المناطق التي يسيطر عليها الإسلاميون تفتقر إلى الحريات الاجتماعية: ما يتصل بكيف تأكل وتشرب وتلبس وتظهر في الشارع، وتُستباح حياة الناس وأملاكهم باسم الشريعة. عنف النظام الإبادي عزّز الإسلامية المسلحة التي لديها جواب على هذا العنف هو العنف المضاد. بالمقابل، حال هذا العنف بأشكاله البدائية وخطابه مفرط الطائفية دون أن تتآكل قاعدة النظام الاجتماعية، بل وأسهم في أن تتعزز بعد 2013 رغم المذابح الكيماوية والبراميل. والمقياس الأمين لذلك هو توقف ظاهرة الانشقاقات التي أوهنت النظام بالفعل خلال عامي الثورة الأولين، وإن لم تكد تمس الدولة الباطنة، المُطيّفة.

نحن في أزمة بسبب هذا العسر. حدث تنافر انفعالي خلال وقت قياسي بين الانفعالات الغاضبة المضادة لنظام دموي تمييزي وبين الانفعالات المُخْجلة التي تثيرها أسلمة مسلحة بالغة الرجعية، فكان صعباً الاستجابة المرنة لهذا التنافر على مستوى الانفعال، وليس سهلاً على مستوى الأفكار.

وفي الحيثية الخاصة بصعود الإسلاميين، يتجاوز الأمر سورية إلى مصر، وبصورة مختلفة ليبيا واليمن، وبصورة مختلفة أيضاً تونس. في مصر انتفضت قطاعات شعبية واسعة ضد حكم الإخوان ومساعي أخونة الدولة. انقلاب السيسي جاء على كتف هذه الانتفاضة، ووضع الديمقراطيين المصريين في أزمة وتخبط، يجد المرء مثالاً صادقاً عليها في كتاب علاء عبد الفتاح: شبح الربيع7(2022). في تونس لا يبدو أن حزب النهضة عمل على أخونة الدولة، لكنه مع ذلك أثار نفور قطاعات مهمة من المجتمع التونسي، من النساء ومهنيي الطبقة الوسطى المدينيين وعموم المثقفين والإعلاميين. لقد بدا كل ذلك بمثابة تزكية لنُظُم الطغيان الدولتي التي شبّت الثورات ضدها. وبينهما، لم يبدُ أن الديمقراطيين ينتفعون بشيء من مشكلات هؤلاء وأولئك. نحن في أزمة لذلك.

تختلف سورية عن البلدان العربية التي ذُكرت للتو في تمفصلٍ مضاعف للإسلامية إن جاز التعبير: تمفصلها مثلما في البلدان الأخرى مع الإفقار السياسي الجائر للسكان، وقيام الدين بدورِ حدٍّ لهذا الفقر السياسي، يوفر «رأياً» يستحيل قمعه هو النصوص المقدسة، و«تجمُّعاً» يستحيل فضّه هو تجمع المصلين في المساجد، ثم تمفصلها مع الحيثية الطائفية للحكم الأسدي الذي يتناسب ارتكازه على الجماعة العلوية طرداً مع طغيانه السلطاني وإرادة البقاء في الحكم «إلى الأبد». ليس الحكم الأسدي طغيانياً سلطانياً لأنه علوي على ما قد يُفضّل الإسلاميون الاعتقاد، بل بالعكس تماماً، طوّر بعده الطائفي العلوي لأنه طغياني. أياً يكن الأمر، تستمد الإسلامية السنّية السورية طاقتها الانفعالية والتحريضية من وقائع التمييز الطائفية المرسخة، وليس فقط الإفقار السياسي الشديد.

ثم كذلك من وَهْم أن السنيين هُم الأمة، وأن الأمر يتعلق بإعادة الأمور إلى نصاب صحيح لها بعد انحراف عارض، طال به الأمد. هذا الصلف السنّي باطل. إذ تفتقر المجموعات السنّية المسلحة إلى الهيمنة، الفكرة القوية المقنعة التي من شأنها أن تجتذب جمهوراً أوسع، وربما بعض غير السنيين، فتجعل منها شيئاً آخر غير طائفة. الإيمان الديني بحد ذاته ليس تلك الفكرة لأنه لا يقتضي تشكيلات دينية سياسية بعينها، ثم لأنه لا يُلزِم غير المؤمنين. ومقياس الافتقار إلى الهيمنة والقوة الإقناعية الرضائية هو اللجوء الواسع إلى العنف من قبل المجموعات الإسلامية، مع ما هو معلوم من تنازعها فيها بينها وتحاربها. فإذا كانت الهيمنة هي ما يجعل من جماعة صغيرة أمة أو نواة أمة، فإن غياب الهيمنة هو ما يحوّل جماعة كبيرة إلى طائفة، مجموعة منكمشة، تميُّزها حساسية ولغة خاصتين، لكنها بلا أفق عام. «القوم السنّي»، الأكثري، الذي أمل ياسين الحافظ تحديث وعقلنة وعيه في سبعينيات القرن العشرين، سار بتأثير الهزائم والنكبات والعنجهية في اتجاه معاكس.

والواقع أنه إذا كان ثمّة جماعة سورية كانت قريبة من أن تكون الأمة أو ركيزة لها، فهي العلويون السوريون بالذات. وذلك بفعل هيمنة محققة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته على الأقل، تقاطعت في تحققها القومية العربية الجامعة المتطلعة خطابياً على الأقل إلى تجاوز الانقسامات الأهلية، مع نزعة يسارية مساواتية تخاطب شرائح اجتماعية متسعة في الأرياف وأطراف المدن، ومع قدر مميز من ليبرالية اجتماعية في قضايا المأكل والملبس والاختلاط بين الجنسين والسلوك في الحياة اليومية، ومع صعود ثقافي مميز لجماعة كانت فيما قبل مهمّشة فليس لديها امتيازات تدافع عنها (خلافاً لما هو الحال اليوم)، وبالعكس يميل كثير من المنحدرين منها إلى اعتناق أفكار تقدمية وتحررية صاعدة عالمياً، وفوق هذا كله موقع قوي في الدولة التي لم تكن مخصخصة بهذا القدر. حدَّ من هذه الهيمنة بقوة، فأتى عليها بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، التكوينُ الاستئثاري والتمييزي للنظام، وشخصية حافظ الأسد الحقود والثأرية، ثم تطوُّر نزعاتٍ محافظة في الأوساط العلوية بفعل امتيازاتٍ سياسية ومادية ومعنوية طوال أكثر من جيلين8. ولهذا انعكاساته الفكرية التبريرية والمعادية للديمقراطية.

فكان أن حصلنا على وضع بلا دولة ولا أمة، ولا ركيزة في المجتمع لأي منهما. الإسلاميون بديل وهمي في شروط انعدام البديل، وليس الديمقراطيون الذين تقمعهم الدولة المخصخصة ويشتتهم المجتمع المُطيّف. نعرّف أنفسنا كديمقراطيين بدلالة مناهضة السلطة المضادة للحرية والعدالة، وذات الحضور العدواني، المباشر واليومي في حياة الناس، وقد كانت طوال عقود سلطة الدولة. لكن بينما نفعل ذلك نجدنا مباشرة متجاوَزين من قبل من يعارضون هذه السلطة مستندين إلى لغة ورمزيات مألوفة أكثر، مع استعداد للقتال بعد الثورات افتقرَ إليه الديمقراطيون، ولم يُسائلوا هذا الافتقار عن وجاهته، كأنه من البديهي ألّا يكون الديمقراطيون مسلحين، ألّا يقاتلوا ولو دفاعاً عن النفس.

تُرى، هل إننا بتسليط الضوء على تكوين الإسلامية الطائفي والاستبعادي نعود إلى مواقف عبّر عنها علمانيون تسلّطيون (الدولة هي الحل) وثقافويون علمانيون (رؤوس العموم هي المشكلة) قبل الثورات؟ ولا بحال من الأحوال. فنحن ننطلق من تراكم تجارب هائل، قبل الثورة وأثناءها واليوم، يضعنا في موقع سياسي وأخلاقي لا يستطيع الإسلاميون أو غيرهم المزايدة عليه، موقع يفتقر العلمانيون التسلّطيون والثقافَويون العلمانيون إلى مثله. لقد كان الديمقراطيون السوريون إيجابيين حيال حق الإسلاميين في العدالة والعمل العام حين كان الإسلاميون في ضيم، مهمشين ومسحوقين، وفي أوساط الديمقراطيين دون غيرهم ظهرت التعبيرات الأكثر نقدية للإسلامية حين صار الإسلاميون سلطة أو سلطات في 2013 وما بعد، واستناداً إلى تراث كفاحي ومشاركة فعلية في النضال ضد الحكم الأسدي طوال تاريخه. وراءنا سجلٌ متّسق قيمياً من الصراع من أجل الحرية والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانية، هو سندنا في النضال والنقد.

الديمقراطية في أزمة

ويتصل بمنبع خامس، دولي، لأزمة الديمقراطيين السوريين والعرب: أزمة عالمية في الديمقراطية، وضعف في الاستعداد القتالي دفاعاً عن الحرية وسيادة القانون (خلافاً لحال دوائر اليمين القومي والحضاري الغربي)، ومناخات فكرية قيمية تطلب منك أن تكون ضحية لا أن تكون مقاتلاً، كي «تتضامن» معك. سياسات التضامن هي إعادة إنتاج للضحايا، وعلاقات عدم التساوي بين المتضامنين والمتضامَن معهم.

ليس هناك، عالمياً اليوم، قوة دفع باتجاه الديمقراطية، وتجد التحركات الشعبية هنا وهناك نفسها معزولةً وبلا سند. بالعكس، يعرض عالم اليوم حالة من اللابديل، أي كذلك فقدان الوجهة والاستمرار السلبي لما هو قائم. دون بديل يعني دون مستقبل، يعني كذلك أننا نعيش عالمياً في حاضر مؤبد مثل «سورية الأسد»، أي في سجن زماني. وهذا يمكن أن يكون أخطر من السجون المكانية لأنه يحبس العالم ككل مع كونه، في الوقت نفسه، محسوساً أقل، ثم لأن شرط السجن الزماني لا يُبقي غير باب الرجوع باتجاهات قومية وحضارية ومعادية للديمقراطية مفتوحاً.  

وتتعزز أهمية هذا العنصر المتصل بأزمة الديمقراطية في الغرب وفي العالم بعنصر آخر، هو ما وفّر سنداً لنظام إبادي في سورية، أعني أمننة السياسة عالمياً، بأثر متضافر من «الحرب ضد الإرهاب» ومن صعود سياسات الحدود ومنظمات اليمين الحضاري والقومي. تضع سياسة متمركزة حول الأمن أجهزة الأمن، وهي أجهزة القتل لدينا، كشركاء لشاغلي المواقع العليا في العالم، ويجري تعريف الشر السياسي الأساسي بأنه الإرهاب الذي يبدو أنه ينبع من تكوين الإرهابيين المفترضين، وليس من علاقات السلطة والثروة والمعلومات الدولية. لا الاستعمار ولا الاستعمار الاستيطاني، ولا العنصرية ونظام التمييز العنصري، ولا الحرب العدوانية وغزو بلدان أخرى، لا تدمير البيئة ولا بالطبع الليبرالية الجديدة، ولا الجينوسايد، هي الشر السياسي. الشر هو الإرهاب، أي ما يستهدف الأقوياء، الدوليين والمحليين. هذا وفّر أرضية تأهيل واقعية للحكم الأسدي منذ عام 2013، وإن دون مودة. عنصر المودة الضعيف في العلاقة مع النظام، هو أضعف بعد في العلاقة مع السوريين الثائرين الذين وصفهم باستهانة أوباما بمزارعين وأطباء أسنان، فيما فكرت أجهزة إدارته فيهم كإرهابيين، أو كمجموعات غير موثوقة في أحسن الأحوال.

الحكم الأسدي تحول منذ 2013 إلى شريك في الحرب ضد الإرهاب لأن هذا ما يتيح له قتل محكوميه ويرفع عنه الحرج الدولي. بعد يومين أو ثلاثة من زلزال 6 شباط (فبراير) الذي أودى بحياة فوق 7000 سوري، زايد فيصل المقداد وزير خارجية النظام على الأوربيين والأميركيين بأنهم إن كانوا جادين في محاربة الإرهاب، فيجب أن يرفعوا العقوبات عن النظام وأن تمر المساعدات الإنسانية عبره. النظام الذي كان يطالب بمؤتمر دولي لتعريف الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، صار هو المحارب الحقيقي ضد الإرهاب اليوم.

والإرهاب المعني هو إرهاب منظمات إسلامية سنّية تحديداً، إلى درجة السكوت على منظمات لا تزال على قوائم الإرهاب الأميركية مثل حزب الله وحزب العمال الكردستاني، وكلاهما ضالع في حربنا السورية، واحد إلى جانب النظام وواحد ليس ضد النظام. والأصل في تحديد الإرهاب بتنويعته السنّية هو جناية القاعدة في الولايات المتحدة في 11 أيلول بخاصة، وعمليات قام بها قاعديون ودواعش في بلدان الغرب، استهدفت نسقياً المدنيين وحياة الناس العادية. هذا بالفعل إرهاب إجرامي مُستحِّقٌ لأشد الإدانة. لكن هذه الفئة من الإرهاب لم تَصِر كل الإرهاب فقط، وإنما كذلك صار الإرهاب يُشتق من العقيدة الدينية التي يرفع رايتها هؤلاء الإرهابيون. ولأن سبب الإرهاب هو الإرهابيون ودينهم، فلا حق لهم في العدالة ولا في السياسة، ويعاملون كمقاتلين غير شرعيين، لا معتقلين سياسيين ولا أسرى حرب. وبما أن هذا الإرهاب يصدر عن العنوان العقدي ذاته لأكثرية جمهور الثورة السورية، ونجح بقدر لا بأس به في الانتشار في البيئات السنّية المعارضة للنظام بعد 2012، فستخسر الثورة السورية قضيتها، وغاية ما قد يُعترف به هو المحنة الإنسانية للسوريين.

بالمقابل، ستكون الحرب ضد الإرهاب البيئة الأمثل لحياة نظام قتلٍ مثل الحكم الأسدي، لأنها حرب تعذيبية جوهرياً، ولأنها تشرعن التعذيب، ولأنها تعيد تعريف الدول لتصير أقرب إلى احتكارات للحرب المشروعة ضد الإرهاب (الإسلامي السنّي). ما كان يريده النظام يريده العالم كذلك، أليس هذا أفضل العوالم الممكنة إذن؟ قُل الإرهاب وانصب المشانق! قُل الإرهاب واقصف بالسارين! قُل الإرهاب ودمر بالبراميل!

الحرب ضد الإرهاب وأمننةُ السياسة مضادان للديمقراطية في كل مكان، بما في ذلك في دول الغرب نفسها، لأنهما يعززان الأجهزة السرّية والمكونات السرّية للسياسة، ويقويّان من هم أقوياء سلفاً من دول ونخب، ويُضعفان الضعفاء سلفاً من ثورات وحركات شعبية ومنظمات اجتماعية، ولأنهما يتوافقان مع حالة استثناء عالمية تطلق يد الأقوياء في مصائر المجتمعات. 

لقد صار العالم أشبه بـ«سورية الأسد» في زمن الحرب ضد الإرهاب. هذا هو الشرط الدولي البنيوي للملاءمة الجذرية لهذه الحرب للنظام. ملاءمة مضاعفة، ينبغي القول، إذ علاوةً على الشبه، كانت الحرب ضد الإرهاب هي النقاب الأنسب على وجه الإبادة.

في ديمقراطية ولا ديمقراطية الديمقراطيين

كان مما أسهم في تشتيت الطيف الفكري السياسي الحديث في سورية في نصف القرن الأسدي، انقسامُهُ إلى خائفين من الديمقراطية أو معادين لها، يصفون دعاتها بالشعبوية ودعوتهم بالديمقراطوية؛ وإلى منحازين للديمقراطية، لكن دون ممارسات ديمقراطية مميزة، أو حتى بميول استبدادية، على ما عرض برهان غليون في كتابه عطب الذات9. هذه النقطة مهمة ليس لأن فُرص الديمقراطية مرهونة حتماً بسلوك ديمقراطي وشخصيات ديمقراطية، ولكن لأن وجود أشخاص «ديمقراطيين» هو حظٌ طيب في مجتمع في أزمة مركبة كمجتمعنا. قلّما كان حظنا طيباً في واقع الأمر.

على أنه لا ينبغي المبالغة كثيراً في أهمية ديمقراطية الأشخاص، لأن المهم في الديمقراطية هو وجود حياة سياسية تعددية قائمة على المداولات المفتوحة والحرة، هي ما تدفع الأفراد والمجموعات إلى التطبُّع الديمقراطي. الديمقراطية مسألة تعلّم وتدرّب، وهي ليست نتاج وجود مسبق لديمقراطيين. الضروري هو وجود منظمات تدعو إلى الديمقراطية وتعمل من أجل حياة سياسية تعددية. أما وجود شخصيات ديمقراطية وذات صفات قيادية فهو توفيق من المقادير.

نتكلم على أزمة الديمقراطيين في سورية، وليس على غيرهم، لأن الأمر يتعلق بقوة حياة تعثرت كثيراً. أما الموتى فلا يعانون من أي أزمات.

في السنوات الاثنتي عشرة المنقضية تبدو كلمة الثورة وقد حلّت محل الديمقراطية. فهل في ذلك ما يشير إلى تكافؤهما الانفعالي، أو إشباعهما معاً انفعالاً عدائياً موجهاً ضد النظام، ما يعني، إن صح، افتقار الدعوة الديمقراطية إلى محتوى إيجابي؟ دون الاستهانة بحدّة الانفعالات السلبية التي أثارها الحكم الأسدي في قلوب ما لا يحصى من سوريين تعرضوا للإهانات المباشرة والتعذيب وضروب متنوعة من الإيذاء، ودون التقليل من شأن الانفعالات في التعبئة السياسية (التحريض وتسعير «الحقد الطبقي» مهمات أساسية في الحزب اللينيني) وفي تحديد مضمون الدعوات السياسية بالذات، فقد ساعدت الفكرة الديمقراطية دون غيرها في تسليط الضوء على نمط ممارسة السلطة في البلد، وعلى تدهور الحياة العامة وتحلل الرابطة الوطنية، وعلى الطائفية وأزمة الوطنية والمواطنة. ليس صحيحاً بحال أن الديمقراطية كانت مجرد تعبير سلبي عن رفض النظام. ولا الثورة. بل حفزتهما معاً تطلعات محقة نحو أوضاع أكثر حرية وعدالة.

ربما صارت إشكالية الديمقراطية، على نحو ما أخذت تهيمن في أوساط مثقفين وناشطين سياسيين، مُتجاوَزَة اليوم، وذلك بأثر متضافر من فشل الثورة السورية والأزمة الوجودية للكيان والمجتمع السوريين، ومن أزمة الديمقراطية في العالم. فلا ينبغي أن تكون غاية جهدنا الوفاء لما اعتنقنا من منظورات فكرية سياسية قبل الثورة، والبقاء هناك. فشلت تلك المنظورات في الامتحان العسير، حتى أنها لم تستطع الدفاع عن نفسها. ما لم يفشل هو الروح الديمقراطية، المتطلعة إلى مجتمع أناس أحرار ومتساوين، والمنحازة بخاصة إلى الفئات والشرائح الأشد بؤسأ وحرماناً من السوريين، وهم اليوم أكثريتهم الساحقة. هذه الروح يمكن أن تندرج في تراكيب فكرية سياسية مختلفة، على نحو ما كانت الديمقراطية اندرجت يوماً في الفكر والمنظمات الاشتراكية10.

ولعل الشتات السوري في وضع أنسبَ للمشاركة من موقعٍ فاعلٍ في النقاش العالمي حول راهن العالم ومستقبله. إن صح ذلك فسيكون تشتتنا ضرباً من «مكر التاريخ»، قد يُغير نسق تفاعلنا مع العالم الحديث لأول مرة منذ ما قبل نشوء الكيان السوري ذاته.

أزمة وجودية

والخلاصة أنه تواطأ قصورٌ جوهري في التفكير الديمقراطي في سورية مع شروط سياسية بالغة القسوة، تتعزز فيها الاستعدادات الإبادية لنظام قائم جوهرياً على التمييز الطائفي مع نظام دولي داعم بنيوياً للإبادة، وإن لم يكن مسانداً سياسياً لها، ومع أوضاع عالمية مُضعِفة للديمقراطية ومُلائِمة لدول الإبادة وللتشكّلات القومية والدينية، ومع أوجه من قلة الحظ.

هذا بالطبع يضع أي «وطنيين ديمقراطيين» سوريين في أوضاع بالغة العسر، تتحدى معناهم وبقاءَهم ذاته. لقد كنا طوال عقود في مشقة ونكد، من رضي منا بالحكم الأسدي، لم يرض هذا به إلا تابعاً بلا حدٍّ أدنى من الاستقلال والاعتبار. وإذ نسعى وراء طيف أوسع من أجل التغيير، يحفزنا تصور استيعابي للسياسة والدولة، قائمٌ على شراكة مديدة في الاستبعاد مع الإسلاميين، نجد هؤلاء يعملون من أجل نظام استبعاد جديد، يريد السيادة لا السياسة، والدولة العامة لا الحزب الخاص.

الوضع العضال لسورية اليوم يتجاوز أن يكون أزمةً للديمقراطيين إلى انهيار وطني واجتماعي وإنساني شامل، مفتوح على الكارثة، يتجاوز قدرات السوريين كلهم. سورية ذاتها في أزمة وجودية قد لا تنجو منها. وبقدر ما إن سورية هي إطار النضال الديمقراطي، فإن أزمة هذا النضال وجه من أوجه أَزمتها المستحكمة.

على أن هناك دوماً ما يمكن عمله حين يبدو أنه لا يمكن عمل أي شيء: فإذا لم نستطع تحقيق تقدم في التمثيل السياسي للسوريين، فلا شيء يمنع محاولة تمثيل سورية وصراعاتنا الاجتماعية والسياسية فكرياً. والعمل على بلورة تصوّر مطابق للجماعة السياسة السورية، وما يعترض هذا التصوّر من مشكلات (العلاقة مع العروبة، ومع الإسلام)، يمكن أن يكون ركيزة مهمة لتجدد التفكير السياسي اليوم. ولما كان التكوين الجينوسايدي للنظام هو المصدر الثاني لدخول الفكرة الديمقراطية «في الحيط»، فإن الاهتمام بأدبيات الإبادة وقضايا العنف السياسي عموماً مجالٌ أساسيٌ للمعرفة والنقاش في النطاق السوري. وبقدر ما إن الجينوسايد في سورية مؤسَّس على تمثيلٍ سياسي بالغ الاختلال للمجتمع السوري، فإن من شأن تصوّر جماعة سياسية سورية مطابقة أن يمهد على مستوى الأفكار لسورية دون إبادة. إلى ذلك، فإن العالم جزء لا يتجزأ من سورية، ما يقضي بأن نعتني بفهم أحوال عالم اليوم، أن نكون جزءاً من النقاش العالمي حول الحاضر والمستقبل، وأن نربط بين التغيير في بلدنا وفي عالم متأزم كل يوم أكثر من سابقه. سورية ليست عالماً مصغراً لمجرد أن كثيراً من العالم في سورية (إسرائيل وإيران وأميركا وروسيا وتركيا، والجهادية السنية المعلومة والجهادية الشيعية الأقل عولمة لكن المنضبطة بمركز سياسي في طهران)، وكثير من السوريين في العالم (نحو 30 بالمئة منتشرون في 126 بلداً)، بل لأن عالم اليوم بلا بدائل، أي بلا مستقبل، أي لأنه أسير حاضر أبدي مثل سورية. وباختصار: لأنه سورية مُكبَّرة.

التقدم في معركة الأفكار لا يضمن حسم معركة الوقائع، لكن إن كان للأخيرة أن تُكسَب يوماً، فلا بد من تقدّمٍ حاسمٍ على مستوى الأفكار. لقد دخلنا الثورة بنيّات طيبة وأفكار مشتتة، وخسرنا جزئياً لذلك.

أي سورية؟

عمِلتْ هذه المناقشة على بيان منطق المفارقة المتمثلة في أن أكبر ثوراتنا الديمقراطية أدخلت المجموعات الديمقراطية في أزمة عميقة، وحاولت توفير عناصر تحليلية للتفكير في أزمة وطنيةٍ ومواطنة، تُشكل أزمةُ الديمقراطيين أحد أوجهها. تنظر هذه المناقشة إلى الوراء، إلى السنوات الفظيعة الماضية، لكنها موجهة نحو المستقبل: أن نتعلم من التجربة وأن يؤسِّس هذا التعلُّم لذاتيات جديدة، أقل إعاقة وأكثر حرية.      

هناك في النهاية سؤال عملي شاق يواجهنا اليوم، يتصل بالتوتر بين وحدة سورية أسدياً أو دوام الانقسام الحالي. الجواب الشخصي لكاتب هذه السطور هو عدم عودة الحكم الأسدي ولو بثمن الانقسام ودوامه. ومعيارُ التقرير في هذا الشأن من وجهة نظر ديمقراطية هو الجماعات المحلية، التي يبدو أن أكثريات مهمة منها لا تريد عودة دولة البراميل والكيماوي والتعذيب والاغتصاب.

فإذا انطوت صفحة هذه الدولة، فربما يفضل المرء بلداً له سلفاً تاريخ يزيد على قرن، وله سلفاً قصة كفاح رهيبة ضد حكم الطغيان: سورية الموحدة. واستناداً إلى كتاب ممداني المذكور فوق فسنكون ناجين كلنا، بمن فينا الموالون للنظام، فقط حين يسقط حكم التمييز والإبادة، ونسير نحو جماعة مواطنين سورية، لا تُعرف بقومية أو دين أو طائفة. لا أحد ناجٍ ما استمر الحكم الأسدي. الكل ضحايا.

1.تنظر بشكل خاص مقالتي: مذاهب المفكرين السوريين في «الدولة العربية»، تفحّص نقدي، وقد نُشرت وقتها في مجلة كلمن البيروتية في ربيع 2010، وتتناول بالنقد أعمال جورج طرابيشي وعزيز العظمة، وغليون نفسه. أعيد نشر المقالة كفصل في كتابي: الثقافة كسياسة، بيروت، 2016. نقد الثقافوية، العلمانية والإسلامية، كان ثيمة أساسية في عملي في تلك الفترة، على ما هو ظاهر في الكتاب نفسه.

2.Mahmood Mamdani: Noether Settler Nor Native: The Making and Unmaking of Permanent Minorities. The Belknap Press of Harvard University Press, London, 2020.الكتاب متاح بالعربية من ترجمة عبيدة عامر، وبعنوان: لا مستوطن ولا مواطن، صنع أقليات دائمة وتفكيكها. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2022

3.الطائفية من تنظيمات السلطانية المحدثة، مثلما كان السير نحو بناء مواطنة عثمانية بين أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر وأواخر سبعينياته أبرز علامات التنظيمات وتحديث السلطنة العثمانية. لقد رجعنا في الحقبة الأسدية إلى ما قبل عصر التنظيمات العثماني. ناقشتُ النموذج السلطاني المحدث في كتابي السلطان الحديث: في الطائفية وخصخصة الدولة، وفي أزمة الوطنية والمواطنة في سورية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2020.

4.تولد تصور الحرب التعذيبية في إطار التفكير في العنف المهول الذي عرفناه بعد الثورة، وليس في سياق مناقشة مفهوم الجينوسايد، لكنه يبدو ملائماً لهذه المناقشة الأخيرة. وهو يقوم على تمييز بين ثلاثة عائلات كبيرة للعنف: الحرب التي تنشب بين أطراف متقاربة في القوة، والتعذيب الذي هو شكل العنف حين تكون القوى متفاوتة جداً، والإرهاب الذي هو عنف الضعفاء ضد الأقوياء. تنظر مقالتي: في العنف، في الجمهورية، 3 شباط 2021.

5.تنظر مقالة عروة خليفة: شتاء عدرا الأحمر، في الجمهورية، 13 كانون الأول 2021.

6.ليست نادرة في التاريخ إبادات قام بها «التابعون» حين تسنى لهم قدر من السلطة. ينظر في هذا الشأن كتاب:Nicholas A. Robins and Adam Jones: Genocide by the Oppressed, Subaltern Genocide in Theory and Practice. Indiana University Press, 2009

7.الكتاب مختارات من مقالات علاء وتدويناته وحواراته وأقواله أمام النيابات والمحاكم، وهو صادر عن جسور للترجمة والنشر، بيروت 2022. علاء معتقل في سجون نظام السيسي، بتقطع قليل، منذ خريف 2013.

8.في فيلم خطوة خطوة لأسامة محمد نرى تحول فقراء علويين ريفيين، عبر السلطة، إلى مستعدين لقتل الأخ وتدمير بيت الأسرة، دون أن يكفوا عن كونهم فقراء. الفيلم متاح هنا.

9.برهان غليون: عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل، سورية 2011-2012. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2019.

10.فإذا عرّفنا الاشتراكية بأنها شكل حضور الغائبين، من نساء وطبقات دنيا ومهاجرين وملونين وإطار بيئي للحياة، فهي الاتجاه الواجب لتطور تفكيرنا بالديمقراطية. على هذا الأفق تطل مقالتي: التفكير والغائب: في أنماط التفكير وتاريخيته، وتعلُّمه، الجمهورية، 15 تشرين الأول 2021.

موقع الجمهورية،

————————–

عن الحظ العاثر لسوريا وثورتها/ ساطع نور الدين

حتى في صيغة الماضي، بات استخدام عبارة الثورة السورية يحتاج الى جهد، يشبه العودة الى حدث جرى في أواسط القرن الماضي، أو حتى في أواخر القرن التاسع عشر، عندما لم تكن بلاد الشام قد ارتسمت على الخرائط، كدولة ثم دويلات، و عندما لم  يكن الطغيان  سوى عرفٍ مستوردٍ من الخارج، قبل ان يولد في ما بعد من رحمِ الوطنية المستحدثة..ويتحول الى قدر لا يُرد.

مراجعة تجربة السنوات ال12 الماضية، لا تزال تحتمل الإقرار أولا، بأن الحظ العاثر للسوريين كان له أثرٌ بالغٌ في سقوط ثورتهم من الواجهة ، ثم من الذاكرة، وبسرعة مذهلة، تفوق السرعة التي سقطت فيها بقية ثورات الربيع العربي. التدخل العسكري المباشر من الخارج، وتحديدا من الايرانيين ثم الروس، كان ذروة التعبير عن ذلك الحظ السيء، الذي سبقه التمسك الاميركي العلني بنظام الاسد والحرص الاسرائيلي الشديد على بقائه، وما أنتجه ذلك من تخل عربي ، وتركي أيضا عن دعم أي مسعى للتغيير في دمشق.

هكذا انتهت ومنذ أكثر من ثماني سنوات، قصة الثورة الشعبية، وسردية الصراع الأهلي مع النظام، الذي لا يزال يحتفظ ببعض أشكاله البدائية، الثأرية، في مناطق محددة من الجغرافيا السورية. وجرى في تلك الفترة الطويلة نسبياً، التسليم بأن سوريا شأن إقليمي ودولي أكبر من قدرة وإرادة أي تكوين سوري، وتحولت هزيمة الثورة، على يد النظام، قبل ان تكون على يد الايرانيين والروس، الى قضية من قضايا “النظام العالمي”، ينحدر ترتيبها على لائحة الاولويات العالمي بشكل يومي تقريبا.

مسألة الحظ العاثر واقعية، وليست مؤشراتها كلها خيالية. لكن ثمة ما يفندها دائماً وهو أن خللاً عميقاً في التكوين السياسي السوري يتجلى اليوم ، في ذكرى مرور 12 عاماً على الثورة، بشكل محزن جدا: طي فكرة الثورة، واختزالها فقط باستعادة ذكريات النظام الوحشي، صارت مملة، لا سيما وأنها تغيّب جانبا مهما من ذلك السرد هو ان ذلك النظام يقف عند أدنى درجات قوته منذ قيامه في العام 1970، وهو في حالة انحدار دائمة، نتيجة اهتزاز عصبيته المبنية على وجود دولة ومؤسسات ودورة اقتصادية وعملة وطنية، لا تستدعي التسول الدائم من الخارج، لكي تبقى على قيد الحياة، تماما مثلما هو حال الدولة اللبنانية المتهالكة.

نقطة أخرى تطعن سردية الحظ العاثر  اليوم بالتحديد، وهي أن الايرانيين والروس الذين تدخلوا عسكريا في سوريا في العام 2015 عندما لم يكن سقوط النظام سوى مسالة اسابيع حسب تعبير وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف والمستشار الايراني على اكبر ولايتي يومها، هم الآن في وضع سياسي وعسكري واقتصادي أشد صعوبة مما كانوا عليه قبل ثماني سنوات، وهو ما يتيح فرصاً سورية يمكن اقتناصها بسهولة، ومن دون حتى عناء التورط في قتال أو في أمن.

لكن فكرة الهزيمة المطلقة والنهائية للثورة السورية، لم تعد قابلة للنقاش حتى، ولو كان يستند فقط الى الحد الادنى الذي يوفره موقف غربي يصر على محاسبة النظام جنائياً وإصلاحه سياسياً ، وهو موقف ما زال يعرقل الى حد بعيد زحف الانظمة العربية الشقيقة على دمشق، من أي شرط أو مطلب مسبق.. كما يستند الى الحد الادنى من الالتزام التركي، العملي والطبيعي، بسوريا آمنة، وراغبة في استعادة نازحيها ال11 مليون نسمة.

في السنوات الماضية، كان هناك همٌّ سوري، نظري في الغالب، عنوانه تجديد الثورة، ولو من الشتات، ومن نقطة الصفر، على الاقل للاقتداء بتجربة الثورة الفلسطينية الاسطورية ضد المستعمر الاسرائيلي، أو للاحتذاء ب”الثورات” اللبنانية المتلاحقة على النظام اللبناني. اليوم، الهاجس السوري الوحيد، هو تحويل فرضية الحظ العاثر الى عقيدة لا يمكن نقضها، إلا بسقوط النظام الروسي والصيني والايراني..وتغير سلوك النظام الاميركي والاسرائيلي، مع أن ثمة دروباً أسهل وأسهل تؤدي الى التغيير في دمشق. 

المدن

————————

الثورة السورية وتعويم الأسد سياسياً/ حسن عبد القادر

منذ انطلاق الثورة السورية في منتصف شهر مارس/ آذار من عام 2011 أصبح حلم معظم الشعب السوري أن يتحرر من هذا النظام الذي كانت أولوياته تكميكم أفواههم، وفي الوقت نفسه جعل فلسطين شماعةً يعلقون عليها آمال ذلك الشعب بتحريرها تحت اسم محور الممانعة. ولكن ومع انطلاق الثورة السورية سقطت كل الأقنعة، فظهر رامي مخلوف، على سبيل المثال، وهو أحد أعمدة النظام السوري الاقتصادية وابن خال رئيس النظام بشار الأسد، ليقول في مؤتمر صحافي إن أمن إسرائيل من أمن الدولة السورية، والمهتم بالشأن السوري يدرك تماماً أن قصد مخلوف هو النظام السوري الذي كان حامياً لحدود إسرائيل، وعاد هذا النظام اليوم ليحمي تلك الحدود، ويكمل مهمته بكل إتقان بعد إحكام قبضته على الجنوب السوري.

واليوم ومع ذكرى انطلاق الثورة السورية يخرج تصريح علني بزيارة بشار الأسد لروسيا في منتصف شهر مارس، أي في توقيت الثورة قبل اثني عشر عاماً.

ربما هذا الإعلان لم يأت عن عبث، بل أريد به عدة أمور أهمها، إعطاء صيغة شرعية لزيارة الأسد لروسيا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن روسيا لا تعامل الأسد بصفة رئيس دولة، بل بصفة موظف لدى الكرملين وهذا ما ظهر جلياً عند زيارة بوتين لقاعدة حميميم العسكرية، ومنع الأسد من قبل أحد ضباط القاعدة من اللحاق ببوتين وهذا الإعلان أتى ليعطي انطباعا داخليا لدول العالم أن الزيارة هي زيارة رئيس دولة لدولة أخرى.

من جهة أخرى بعضنا يذكر جيداً كيف أن خامنئي مرشد الثورة الإيرانية، استقبل الأسد من دون اي مراسم، ومن الناحية الدبلوماسية لم يكن علم النظام السوري موجود في ذلك الاجتماع أي أنهم اعتبروا سوريا أو الأسد تابعاً لهم، ولا يتوجب وضع علمه في ذلك الاجتماع. إن محاولة روسيا وإيران وحلفائهما وبعض الدول العربية في تعويم الأسد على المستوى الدولي، ما هي إلا محاولات تشبه إلى حد كبير لعبة النرد، فقد تنجح إحدى هذه المحاولات ويصبح له قبول لدى بعض الدول ولكن من الناحية المنطقية، كل من يساهم في هذا الفعل السياسي ما هو إلا شريك في رمي البراميل فوق رؤوس السوريين شاء أم أبى. والنقطة الأهم هي في اقتصاد النظام السوري الذي بات شبه منهار، إن لم يكن قد انهار فعلاً، فالدول لا تقوم على الكذب، بل تقوم على السياسة التي تلعب بشكل قوي مما يعطي أماناً للشعب على المستوى الداخلي، وعلى اقتصاد يرفع أسهم تلك الدول على المستوى الخارجي وهذا ما يفقده النظام السوري. إن الزلزال الذي حدث مؤخراً في تركيا بتاريخ السادس من شهر فبراير/ شباط وامتدت شدته للشمال السوري ومدينة حلب كان عاملاً مساعداً في هذا التعويم، وفرصة مواتية لحلفاء الأسد لتقديم المساعدة له، والكل يعرف جيداً أن هذه المساعدات ذهبت لتجار الحروب لدى النظام، ليتم بيعها للسوريين الذي يعيشون حالاً هو أقرب للمجاعة، وقد شاهدنا بعض وسائل الإعلام الأوروبية أظهرت بعض أبنية مدينة حلب على أنها دمرها الزلزال وآثار القذائف كانت واضحةً على جدرانها، فالزلزال لا يثقب الجدران بشكل دائري كما تفعل القذيفة. اليوم ومع حلول ذكرى الثورة السورية كل ذئاب العالم، وفي مقدمتهم النظام السوري جميعهم يدرك أن الشعب السوري مهما حدث وإن تم تعويمه بشكل رسمي ودولي، لن يقبل هذا الشعب بأن يحكمه شخص دمر بلده وجلب المرتزقة ليقتلهم، وسمح بتجريب أسلحة الدول على أرضه وفوق رؤوس أطفال هذا البلد. الشعب حرٌ إن دعم حريته أحد أو تركوه وحيداً.

كاتب سوري

القدس العربي

————————

اثنا عشر عامًا ومازال السوريون وحدهم/ نبراس إبراهيم

قبل اثني عشر عامًا طالب السوريون بتطبيق المعايير الدولية للحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة وفصل السلطات والتداول السلمي للحكم، وقدّموا عبر سنوات صعبة الكثير من التضحيات، وخسروا ماديًا ومعنويًا من أجل ما طالبوا به، وعاشوا مأساة لم يجدوا من يُوقفها.

كان السوريون وحيدين في معاناتهم، تعاطفت معهم شعوب كثيرة، وكذلك حكومات دول عربية وغربية، وقدّم بعضها الكثير إنسانيًا وسياسيًا، لكن لم يكن هذا التعاطف بالمستوى الحقيقي المطلوب تجاه قضية كارثية بهذا الحجم، ولم يكن أحيانًا هذا التعاطف بالضرورة لصالح تطلعات السوريين من وجهة نظر استراتيجية واقعية.

تدخّلت في سوريا خلال هذه السنوات دول كثيرة، بشكل مباشرة أو عبر وكلاء ووسطاء، وبات هذه البلد مسرحًا لأطراف دولية وإقليمية عديدة، وأنشأت روسيا والولايات المتحدة وإيران عشرات القواعد العسكرية، ودخلت عشرات الميليشيات المتطرفة والمتشددة دينيًا وقوميًا وإثنيًا، الإيرانية والعراقية واللبنانية واليمنية وحتى الأفغانية، وانتشرت الفوضى وهُجر أكثر من نصف السوريين من وطنهم، وانهار الاقتصاد ودُمِّرت البنى التحتية، وتحوّلت سوريا إلى ما يُشبه دولة.

تضاربت مصالح السوريين المطالبين بالحرية – في الكثير من الحالات – مع مصالح الدول، وتضاربت مصالح روسيا وأميركا، واختلفت الدول العربية فيما بينها حول موقفها من القضية السورية، وتحدَّت دول إقليمية بعضها في الساحة السورية، وتعاملت الأمم المتحدة بخجل مع قضية القرن، وكل ذلك على حساب السوريين المكلومين الحالمين ببعض كرامة.

خلال هذه السنوات، تقدّم العرب بمبادرة للسلام والإصلاح السياسي، رفضها النظام السوري، وقطع علاقته بالكثير من الدول العربية، ثم تبنّت الأمم المتحدة القضية السورية، فقدّمت الكثير من المبادرات، كمؤتمر جنيف، والقرار 2254، وغيرها الكثير، ودعم المجتمع الدولي مخرجات العديد من المؤتمرات، لكن أيًا منها لم يُنفّذ أو يُطبّق، لأن أياً منها لم يحمل خارطة طريق واضحة ودقيقة و”إلزامية” لكل الأطراف، ففي سوريا التقت مصالح أميركا وروسيا في ضرورة إضعاف كل الأطراف.

رغم معرفة العرب والدول الإقليمية والمجتمع الدولي ويقينهم الكامل بأنه لا يُطبّق في سوريا حتى الحد الأدنى من معايير الدولة الحديثة، ومن قوانين حقوق الإنسان، وحيث تُصادِر السلطة الدولة والمجتمع، والإنسان مقموع ومسحوق، ومع هذا لم يقوموا إلا بإجراءات هزيلة لا تتناسب بالمطلق مع حاجة السوريين وتضحياتهم، ليس سياسيًا فقط، وإنما يندرج هذا الأمر حتى على الصعيد الإنساني.

أكدت الجهات المتدخلة والمتصارعة في سوريا التزامها بالحل السياسي، وتتفق فقط على ضرورة الحفاظ على الحدود السياسية للبلاد ووحدتها، وتختلف على كل ما عدا ذلك، وتُراهن على استنزاف الأطراف الأخرى في سوريا، حتى لو استمر هذا الاستنزاف لعقود.

تم تدويل الصراع في سوريا، واكتسبت الجهات الفاعلة الدولية – الدول والمنظمات الحكومية الدولية – نفوذًا، وضعفت المعارضة، وضعف النظام، ولم يعد أي منهما يملك القوة والقدرة الكافية لحكم الدولة بسيادة وحرية، ولا يتعامل الجميع مع النظام أو مع المعارضة إلا كأداة لتنفيذ مصالحهم فقط.

يقولون في السياسة إن المصالح هي التي تحكم لا مشاعر البشر، وربما هذا يُفسّر هذا الاستخفاف بالقضية السورية، وبملايين السوريين المنكوبين، الاستخفاف العربي والإقليمي والدولي.

منذ أوائل عام 2020، شهد الاهتمام الدولي – الخجول أساساً – تجاه القضية السورية شبه توقّف، بسبب عوامل خارجية وداخلية، ولم يعد السوريون يرون أي خطوات ملموسة، بل تصريحات لا قيمة عملية لها، وغاب طيف التسوية السياسية، الشاملة أو حتى الجزئية، واستمر الوضع السوري مُعقّدا، واستمرت الأزمة الدامية، كما استمر رفض النظام لأي تغيير مهما كان طفيفًا.

صورة الراهن السوري هي انعكاس مباشر وواضح وفج لعقود من الخلافات والتحديات الإقليمية والدولية، وحصيلة لتضارب مصالح الدول الكبرى، بل والصغرى أيضًا، وستمر السنوات كأرقام لا نهاية لها ما لم يتحرك السوريون، كل السوريين، لأن سوريا بأمس الحاجة لتحركهم الآن.

على جميع السياسيين السوريين التوقف عن الاستقطاب الحاد، والاقتناع بضرورة صناعة عقد اجتماعي جديد، وتعزيز شرعية مبادئ بناء السلام، ومبادئ حقوق الإنسان، والمضي بعملية توافقية تستند إلى قرار مجلس الأمن 2254 الذي يضمن الانتقال نحو دولة المواطنة، دولة ديمقراطية تنعم بالتعددية السياسية وبالتداول السلمي للسلطة، والتفكير في الدولة كدولة، كهيكل ومؤسسات وهيئات تعمل من أجل جميع السوريين، والوقوف بحزم ضد أي طائفية لمنع أي انتكاسة في المستقبل، ودون ذلك سيبقى طيف التسوية السياسية حلمًا بعيدًا.

تلفزيون سوريا

————————

العام الثاني عشر للثورة.. إصرار بلا حدود/ هادي البحرة

تدخل الثورة السورية عامها الثالث عشر، وما زالت مستمرة بإصرار الشعب السوري على العطاء والتضحية حتى تحقيق تطلعاته للحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والديمقراطية، هذه الأهداف هي التطلعات التي سعى ثوار سوريا ومناضلوها السياسيون لتحقيقها منذ عقود طويلة، من أجلها قضى السياسيون المعارضون للحكم الدكتاتوري الانقلابي سنوات طويلة في السجون. وكذلك بذور ثورة آذار/ مارس ٢٠١١ غرسها مناضلون وطنيون شرفاء طالبوا بالحريات وبالحقوق الإنسانية والدستورية للمواطن السوري منذ سنوات ما قبل العام 2011.

هؤلاء المناضلون كانوا من أوائل من وقف بوجه نظام الاستبداد، وكانوا يُمثِّلون شرائح الشعب السوري بطبقاته وأطيافه كافة، فقد كانوا يعانون كما غيرهم من عموم الشعب من الفساد وانعدام الحريات السياسية والفكرية وتجذُّرِ نظام الاستبداد وغياب الفرص الاقتصادية لنمو القطاع الخاص وعدم القدرة على تأمين فرص العمل المناسبة لشباب وشابات سوريا، كل تلك الدوافع والمسببات للثورة كانت تزداد عمقًا وانتشارًا إلى أن دفعت الشعب السوري للتعبير العلني والسلمي عن رفضه لهذه الأوضاع ومطالبته بإصلاح النظام وإحداث تغيير جذري في سياساته منذ بدء الانتفاضة الشعبية خلال شهر شباط/ فبراير 2011، التي قابلها النظام بالاستخفاف والتسويف، ومن ثم بتوجيه الرصاص إلى صدور المتظاهرين السلميين، حيث كانت شرارة انطلاق الثورة من درعا في آذار/ مارس 2011.

سنوات طويلة ومريرة، بل وكارثية مرّت على السوريين، فقدوا خلالها أحبتهم وبيوتهم وأرزاقهم وأمنهم واستقرارهم، لكنهم لم يفقدوا خلالها الأمل في تحقيق ما ثاروا وضحوا من أجله، عبر عملية الانتقال السياسي كسبيل وحيد ممكن لإنهاء الحرب وإحلال السلام، ولم يمت لديهم الحلم في العيش بدولة ينظم العلاقات بين سلطاتها دستور عصري يضمن عدم تغول أحدها على الأخرى ويكفل حقوق وحريات المواطنين ويحقق استقلال السلطة القضائية ويصون الكرامة الإنسانية، تنتج عنه تشريعات تحقق سيادة القانون والعدالة، ويتم التداول على السلطة فيها عبر نظام ديمقراطي قائم على التعددية السياسية.

مضت اثنتا عشرة سنة، تَعَقَّدَ خلالها الوضع المحلي والإقليمي والدولي، وتحوّلت سوريا إلى ساحة تنافست فيها العديد من الدول لتحقيق مصالحها، أو لتجنب المخاطر التي قد تُهدِّدُ أمنها، فمنها من ساندت الشعب الثائر لأن مصالحها لا تتحقق عبر النظام الذي بات يُشكِّلُ مصدر خطر لأمنها الإقليمي، ومنها من ساندت النظام كون مصالحها لا تتحقق ونفوذها الإقليمي والدولي لا يتوسع إلا ببقائه، كما أن جميعها ارتأت أن أفضل استراتيجية لها لزيادة نفوذها في سوريا هي عبر إضعاف النظام لكن دون إسقاطه، مما يتيح لها قدرة أكبر على السيطرة على قراراته، وكذلك في الطرف الآخر الذي منع قوى الثورة والمعارضة من الوصول إلى الأدوات التي تُقوّيها وتُمكّنها من تحقيق أهدافها وتطلعاتها، وفي الوقت نفسه عدم السماح بإنهائها، ومع مرور السنوات سيطرت مصالح تلك الدول على سياساتها وتحالفاتها في سوريا وباتت الدول الداعمة للنظام وتلك الداعمة لقوى الثورة والمعارضة تجتمعان بالتكتيك نفسه، وبات كل منها يسعى لإضعاف الطرف المساند له، وفي الوقت نفسه ضمان بقائه، كما انتقلت من دور المساندة والدعم إلى الدور المباشر بوجودها العسكري داخل الأراضي السورية، دون أن تضع هذه الدول في حساباتها حقوق السوريين وآمالهم ومصالحهم.

في عيد ميلاد الثورة الثاني عشر واستمرارها داخلة بوابة عامها الثالث عشر، تظاهر آلاف السوريين في الشمال السوري مجددين العهد على الاستمرار حتى تحقيق تطلعاتهم، وما نراه من نشاط شبابي ومجتمعي في هذه المناسبة يشير بشكل واضح إلى وجود ديناميكية ذاتية ولّدها مخاض ما زال مستمرًا منذ الاثني عشر عامًا الماضية، هذه الديناميكية غير مرتبطة بأي جهة قيادية سورية ولا بأي جهة أجنبية، وإنما ولّدتها تجربة ودروس مستقاة من هذا المخاض المستمر وقناعات شعبية راسخة بالحدود الدنيا التي يتوجب أن يُحقّقها أي حل سياسي لينال ثقة المواطنين ويُقنع اللاجئين والنازحين بالعودة إلى وطنهم وأماكن سكناهم الأصلية، والرأسمال الوطني للاستثمار في بلده، ودون ذلك ستبقى سوريا دولة متآكلة وضعيفة، لا يمكن توحيدها وتدوير عجلة اقتصادها ذاتيًا، بالتالي لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار المستدامين فيها.

إن أي تجاوز للبعد السوري الأساس في الصراع في سوريا، والاستعاضة عنه بتفاهمات واتفاقيات بين الدول والنظام، مستبعدين المصالح الوطنية للشعب السوري، لن يُكتب له النجاح، ولن يكون مستدامًا، لأسباب بديهة، كون مظلومية الشعب السوري ستبقى قائمة ومسببات الثورة مازالت مكانها، بل ازدادت تنوعًا وعمقًا وانتشارًا، حيث باتت تطول الغالبية الساحقة من الشعب السوري، وأي توافقات إقليمية ودولية تتجاوز ذلك ستضيف مظلومية جديدة.

حالم ومنفصل عن الواقع من يعتقد أن بإمكانه ادعاء الانتصار في سوريا أو حسم الصراع، بعد تدمير خمسة وستين في المئة من بناها التحتية، والتسبب بتهجير ونزوح ولجوء الملايين، ومئات آلاف القتلى من الأبرياء وعشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسريًا، وحالم من يعتقد أن أي اتفاق بين النظام وأي دولة كانت سيُنهي مسيرة نضال الشعب السوري وثورته، لأن أساس أي حل دولي أو إقليمي قابل للاستدامة يجب أن يُبنى على بُعده السوري أولًا، ثم على بعديه الإقليمي والدولي.

كما أن تجذُّرَ الفساد والجرائم والخسائر الاقتصادية الجسيمة، واستمرار تآكل مؤسسات الدولة، أكثر من كافية كأسباب بديهية تستوجب عملية انتقال سياسي جذري وشامل لبناء دولة جديدة، كل ذلك لن يتحقق دون التوصل إلى اتفاق سياسي بين السوريين يؤدي إلى إحداث تغييرات جذرية في نظام الحكم، ووضع دستور جديد، تليه انتخابات حرّة، كما نص عليه قرار مجلس الأمن 2245.

يستمر السوريون يعضّون على الجراح مواصلين نضالهم لاسترداد سيادتهم على كامل أراضي دولتهم وما سُلِبَ من حقوقهم وحرياتهم، حريصون على بعضهم البعض وعلى الحفاظ على تنوع أطيافهم، عارفين أنه لا سبيل لتحقيق ذلك إلا عبر الانتقال السياسي من نظام حكم الاستبداد والفساد إلى نظام حكم ديمقراطي قائم على التعددية السياسية وتحقيق دولة المواطنة المتساوية.

المراحل التي مرت بها سوريا خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية كانت الأشد وطأة وكارثية من أي مرحلة مرّت على سوريا، ويجب أن تبدأ بأسرع وقت مرحلة جديدة تعتمد على ما يريده السوريون، وما ضَحّوا من أجله، وما يستحقونه فعلًا، وستبقى مطالب السوريين بالتغيير السياسي الشامل هي الوسيلة  الوحيدة لتحقيق تطلعاتهم، وسيتم ذلك عاجلًا لا آجلًا، لأن سوريا لم تعد تحتمل سنوات مريرة عبثية دموية أخرى، ولأن إرادة السوريين على إعادة توحيد دولتهم أرضًا وشعبًا بمكوناته وأطيافه كافة مُطلقة وليس لها حدود، ولأن النصر الوحيد الممكن في سوريا، هو تحقيق العدالة وكسب السلام، وليس الفوز في الحرب، هذا هو النصر الوحيد الذي يمكن لجميع السوريين مشاركته وأن يكونوا جزءًا منه.

تلفزيون سوريا

————————

ما بين احتفاليتين.. ماذا على السوريين أن يفعلوا؟/ حسان الأسود

يحتفل كثيرٌ من السوريين في شهر آذار من كل عام بذكرى انطلاقة الثورة ضد نظام الأسد، وعلى اختلاف مشارب المحتفلين الذين يدور بينهم جدلٌ متكرر حول التاريخ الدقيق، أهو 15 أم 18 آذار، فإنّهم جميعًا يتمسكون بسرديّتهم التي تبرزُ الجوانب الأخلاقية للثورة، ومن خلالها يؤكدون على مشروعيتها واستحقاقها. يقف الأمرُ غالبًا عند هذا الحد، قد يتجاوزه قليلًا لتأكيد لا أخلاقية سرديّة النظام ومؤيديه، ولتأكيد جبن من لم يحسموا أمرهم بالانحياز لأحد الفريقين، مع تثقيلٍ لناحية اتهامهم بالتواطؤ الصامت أو انعدام الشرف والمسؤولية الوطنية حتى. لا يمنع ذلك من لحظ النقاشات الدائرة بين الأكثر انخراطًا منهم بالشأن العام حول أسباب الوصول إلى الوضع الراهن. وهذه النقاشات، وإن كانت تتمّ في غالبيتها العظمى افتراضيًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها حقيقيةٌ بدرجة كافية لصنع فارق معيّن في الصورة، ضمن ظروف التبعثر والتذرر والتشرذم الجمعي الراهن. وقد بدأت هذه النقاشات تخوض شيئًا فشيئًا في عمق حالة الاستعصاء محاولة تفكيكها لإعادة قراءتها بشكل مغاير، علّ ذلك يوصل إلى ضوءٍ ما في نهاية النفق المظلم.

لكنّ هذه النقاشات، وعلى الرغم من أهميتها الكبيرة، إلا أنها تبقى نظرية من جهة، وحبيسة الأطر الافتراضية من جهة ثانية. نادرًا ما تجد هذه الطروحات طريقها المباشر للتنفيذ على أرض الواقع، لكنها بالمقابل تأخذ دورها في تحفيز التفكير داخل المنظومات الأخرى المغلقة (المعادية والحيادية أو الرمادية بالأحرى)، وتجد طريقها بشكل أو بآخر للحاضنة الشعبية التي يُفترض أنها انطلقت منها وبنفس الوقت تعبّر عنها وتتحدث باسمها. هذا التأثير المديد لا ينتج تغييرات جذرية وسريعة، لكنه يبقى على كل حال ملحوظ الأثر والنتيجة. ومع امتداد الزمن، واتّساع رقعة الشتات السوري (استلهامًا من تجربة الأشقاء الفلسطينيين)، يبقى السؤال المطروح بلا إجابة، ماذا بعد، وما هو السبيل إلى هذا الجديد المنشود؟

يدرك أي عابر سبيل يمر جانب المشهد السوريّ مدى الانقسام السوري، سياسيًا، اجتماعيًا، عقديًا، فكريًا، ثقافيًا، قوميًا، طبقيًا وحتى مناطقيًا. يضاف إلى ذلك كلّه الانقسامات التي فرضتها الحرب المدمّرة، بين نزوحٍ داخلي ولجوءٍ خارجي وبقاءٍ تحت رحمة أجهزة النظام الأمنية والعسكرية. ولا ننسى هذه الثنائية الواقعية للداخل والخارج، والتي ما كان لأي من طرفيها أن يدرك كم يقدّم الصراع حولها وحول أولوياتها للآخر (العدو) من هدايا مجانية. يجعل هذا الانقسام الحاد والمزمن بنفس الوقت من مسألة التوافق على مشتركاتٍ بالحدود الدنيا، أو بناء هذه المشتركات من خلال التواصل والتنسيق، أمرًا في غاية التعقيد والصعوبة، خاصّة وأنّ انعدام اللقاءات الفيزيائية اليومية المباشرة، يفقد هذه الجهود حميميتها، ويحدّ من الأثر العاطفي الذي يعززه الاحتكاك اليومي الدائم والمكثّف، وكما يقول المثل الدارج (العين مغرفة الكلام)، وبدون هذا المنهل المباشر تتجلّد الحواسُ وتتقوقع الأفكار، وتخبو الحماسة وتفتر الهمم.

ما يغيب عن أذهان بعض المشتغلين في الشأن العام السوري، أو بالأصح ما يغيب عن طرحهم الدقيق، هو حسب رأي كاتب هذه السطور، التفكير بآليات جديدة لتقسيم اللوحة السورية، والعمل على الأجزاء المختلفة منها كلٌّ على حدة، مع مراعاة الغاية النهائية التي ينبغي الوصول إليها. ولتوضيح هذه الفكرة، سنأخذُ مثالًا بسيطًا ومهمًا في الوقت ذاته، ومن خلاله سنحاول تثبيت وجهة النظر المزعومة هذه. يستهدف هذا المثال شريحة واحدة من السوريين المهجّرين، وهي الأكثر استقرارًا من بين بقية الشرائح نسبيًا بالطبع، أي المقيمين في أوروبا الغربية وأميركا وكندا وما شابهها من دول ديمقراطية. سيكون علينا أيضًا تقسيم هذه الشريحة إلى ثلاثة أقسامٍ على الأقل، أولها الرجال والنساء الذين وصلوا إلى هذه البلاد وهم فوق الأربعين من العمر، والشباب الذين تراوحت أعمارهم بين الخامسة عشر والأربعين، والأطفال الذين قدموا وهم ما دون سن الخامسة عشر أو الذين ولدوا هنا.

تبقى فرص عودة نسبة كبيرة من أعضاء الفئة الأولى إلى سوريا بعد استقرار الأوضاع أمنيًا وحصول الانتقال السياسي (إن حصل أصلًا)، معقولة وراجحة، فهؤلاء يصعب عليهم الاندماج بشكل فعال وكبير في المجتمعات الجديدة، لأسباب يطول شرحها ولا مقام لها هنا. أما الفئة الثانية، وهي الأكبر عددًا، ففرص عودة نسب من أفرادها قليلة جدًا، وإن حصلت، فستكون على صعيدٍ متقطع بهدف العمل والاستثمار إذا ما كانت الظروف مؤاتية، أي لن تكون عودتهم للاستقرار النهائي. والفئة الثالثة والأخيرة، هي التي تضم أفرادًا لا يمكن أو لا يُتصوّر عودة أي من منهم لانعدام الروابط مع سوريا، اللّهم إلا من طيف ذكريات سمعوها من الأهل، لا تلبث أن تنقشع كغيوم الصيف في بلادنا. والسؤال المتكرر هنا، ماذا فعل المشتغلون بالشأن العام لهذه الشرائح الثلاثة، ناهيكم عن بقية الفئات التي تكلمنا عنها أعلاه؟

لو انطلقنا من فرضية قابلة للإثبات كما للدحض، تقول بأنّ الأسد ونظامه انتصرا على الشعب السوري، وأنّ المجتمعين الإقليمي والدولي أعادا تدويرهما وإدماجهما في هيكليتهما، وبالتالي تلاشت فرص العودة للغالبية الساحقة من هؤلاء المشردين واللاجئين إلى سوريا، فماذا نحن فاعلون؟ هل سيكون علينا أن نقرّ بهذا التغيير الديموغرافي الكبير وأن نستسلم له، هل يمكننا أن نفعل ذلك أساسًا؟ أم يتوجّب علينا العمل على بناء سردية خاصّة تجمع شتات هذه الفئات والشرائح المختلفة، لتصنع منها في النهاية قوّة حقيقية قادرة على التغيير ولو على المدى الطويل؟ وإن أردنا ذلك، فما هو السبيل إليه، ومن أين نبدأ، وكيف؟

الإجابة على هذه الأسئلة المستحقّة ليست بالمسألة الهيّنة، لكنّ كلمات مفتاحيّة قد تعطينا اتجاهات ممكنة لمؤشر البوصلة. من هذه الكلمات مجموعات الضغط مثلًا، والجاليات أيضًا، والمصالح المشتركة بين المجتمعات والدول المضيفة وسوريا المستقبل شعبًا ودولةً ونظامَ حكم. هذه الكلمات بحاجة لبحوث موسّعة، لكن لا يمنع ذلك، وريثما يتم، من التطرّق إليها بعمق أكثر في النقاشات الدائرة ما بين احتفاليتين، علّنا نصل إلى فعل مثمرٍ يمكننا البدء به ومتابعته، نحن المشتغلين بالشأن العام السوري، محبّة منّا تارة ورغمًا عنّا تاراتٍ أُخر.

————————-

بعد 12 عاماً.. لماذا تأخرت الثورة السورية في حسم نصرها؟

خاص آرام – بسام الرحال

دخلت الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد عاماً الثاني عشر، حاملة معها الكثير من الشوائب والمعوقات حالت دون تحقيق نصرها الذي كان يحلم به الثوار عام 2011، وجعلت المشهد ضبابياً غير واضح المعالم حول مدى وصولها لأهدافها.

حوّلت القوى الدولية والإقليمية الثورة السورية لساحة صراع فيما بينها، ما صعّب على السوريين حسم قضيتهم بعد وقوف هذه القوى في وجههم كل مرة، يقابلة تمزق البلاد بطولها وعرضها جراء الحرب، وما نتج عنه من آثار اقتصادية ومعيشية صعبة.

ما مصير الثورة ؟

بعد مرور هذه السنوات الطويلة يتساءل الكثيرين عن مصير الثورة السورية، وهو ما أجاب عليه الناشط “أبو البراء الحمصي” في حديثه لـ”آرام”، قائلاً: “عندما بدأنا في الثورة لم نضع في الحسبان أن تنتهي بوقت محدد، لأنها بمثابة قضية وجودية، والجميع سائر في تحقيق أهدافها مهما طال الزمن أو قصر”.

وأضاف الحمصي “على الرغم من مرور الـ 12 سنة والتي كانت قاسية علينا، إلا أننا نستبشر خيراً دائماً، فالصبح يطلع بعد أشد ساعات الليل ظلاماً، والفرج يأتي بعد أصعب الأوقات وأكثرها محنة، وما هذه السنوات التي مرّت إلا ليكون طعم النصر أقوى وأمتع”.

ويرى الناشط المهجر من مدينة حمص، أن “الثورة السورية حققت انتصارها من أول صرخة ثائر ضد نظام الأسد وأجهزته الأمنية قبل 12 عاماً، لأنه في تلك اللحظة تم كسر حاجز الخوف، وتمزيق هالة عائلة الأسد المرعبة التي أحاطوها بأنفسهم طوال نصف قرن، وتجلى ذلك من خلال مطالبة الشعب بحقوقه وكرامته وحريته”.

خطوات تحقيق النصر

من جهته، رأى رئيس المركز السوري للتنمية المجتمعية، رضوان الأطرش، أن مسألة النصر من عدمه هي منحة ربانية قبل كل شيء، لكن علينا الأخذ بالأسباب الموصلة إليه.

وتابع: “على أقل تقدير على النخب السياسية والثورية المتصدرة للمشهد السوري، أن تغير من آلية تفكيرها وتبحث عن الحلول المستدامة المتقاطعة مع مصالح الدول صاحبة النفوذ، لأن المصالح وحدها من تجعل الطريق قصيراً أو العكس”.

وأكد الأطرش على ضرورة أن “يصل الشعب السوري الثائر إلى قناعة تامة بأن خلاصه لن يكون إلا وطنياً، كما بدأ به”.

وشدد على أنه “لا يمكن لبشار الأسد وعصابته أن يحسم كفة الصراع لصالحه، وكل ما جرى في سوريا من ترتيبات وتغيير في خرائط السيطرة هو بترتيب دولي فقط على الأقل دول اتفاقية أستانا”.

ولفت إلى أن “مسألة بقاء الأسد في الحكم الانتقالي هي مسألة خلاف بين الدول فقط، أما الشعب الثائر لن يقبل بذلك ولو أراد ذلك لقبل الحوار الوطني من بداية الثورة”.

وفي ذكرى الثورة السورية الثانية عشرة دعا رضوان الأطرش، الشعب السوري إلى الصبر والصمود في كل مكان، داخل سوريا وخارجها وخاصة في مخيمات القهر والألم، موضحاً أن القادم وإن طال فهو أفضل بآلاف المرات من العودة إلى حظيرة نظام الأسد، ومؤكداً على أن إرادة الشعب لن تنهزم.

وكانت مظاهرات عديدة خرجت في عموم مدن وبلدات المناطق المحررة شمال غربي سوريا، إحياء للذكرى الثانية عشرة للثورة السورية ضد نظام بشار الأسد.

وهتف المتظاهرون الذي خرجوا في مدينة إدلب وأرياف حلب المحررة بإسقاط نظام الأسد ومحاسبة رموزه، وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين، مؤكدين على استمرارهم بالثورة حتى النصر.

تصحيح الأخطاء

تحل الذكرى الثانية عشرة لانطلاق الثورة، في الوقت الذي يعاني منه السوريون من أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة، إضافة إلى تدخل دول عدة في القضية السورية، نتيجة أخطاء ارتكبت جعلت القرار السوري مرهونا بمصالحها، ويخضع لإملاءات، قد لا يكون لصالح الشعب في كل مرة.

وقالت الناشطة الحقوقية، وعد القاضي، في حديثها مع “آرام”: “كنا نتمنى أن نرى المناطق المحررة، إنموذجاً مغايراً عن دولة الأسد، ومطابقاً لسوريا التي حلمنا بها، حتى لا نشعر أن الدماء التي سالت لآلاف الشرفاء في سبيلها، قد ضاعت سدى”.

وأضافت: “لقد عملنا بكل ما أوتينا من قوى لنجعل المنطقة مستقرة أمنياً ومنظمة قانونياً، ومدارة بكفاءة عالية، ووطنية، مع وضع المصالح العامة ومبادئ الثورة قبل كل شيء، ولكن للأسف، القادة الحاليين صنعوا منها نسخة ركيكة عن مناطق النظام، وهذه حقيقة لا مفر منها، وهي أحد أهم أسباب تأخر النصر”.

واعتبرت القاضي أن “الفرصة ما زالت سانحة لتصحيح أخطاء الثورة، وذلك عبر الاعتماد على الكفاءات وذوي الخبرة وعدم تهميشهم، بالإضافة إلى ضرورة العمل على تحقيق العدل بين السكان ومحاربة الظلم، والذي من شأنه أن يرفع من أخلاقيات الثوار، وإقصاء المستقلين الذين ظهروا مؤخراً وأساؤوا لسمعة الثورة”.

ويأتي هذا في الوقت الذي ما يزال نظام الأسد يعتقد فيه أن الحرب انتهت لصالحه، وأنه لم يعد وجود للثورة، وهذا ليس بغريب عليه، إذ إن وسائل إعلامه ما تزال تمارس لغة الإنكار وتزوير الحقائق منذ الساعات الأولى لانطلاقها وحتى يومنا هذا.

لكن الثوار ورغم كل المصاعب التي باتت تقف أمامهم، مصممون أكتر من أي وقت مضى على تحقيق النصر، والوصول إلى سوريا دولة العدل والكرامة، بعد زوال العصابة المجرمة الحاكمة في سوريا.

—————————

الثورة السورية في عامها الجديد.. التغيير البنّاء نحو مستقبل أفضل/ مصطفى الصباغ

تدخل الذكرى السنوية للثورة السورية عامها الثاني عشر، ونحن نقف على حقيقة ضرورة تجاوز كل الشكليات والشعارات إلى العمل الحثيث في البحث عن سبل تحسين أوضاع السوريين وظروفهم الحالية، وتجاوز جميع المعوقات التي حالت دون تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها ثورة 2011، وذلك من خلال العمل التشاركي على البناء من جديد.

دفع الشعب السوري ثمناً كبيراً وقدم تضحيات لم تنته خلال اثني عشر عاماً، لكنها لم تتناسب مع النتائج التي آلت إليها أوضاع بلادنا، فكانت المأساة السورية من أكبر المآسي منذ الحرب العالمية الثانية، أكوام من التعقيدات السياسية سدت كل الفرص في جنيف وأستانا وسوتشي، مما زاد خيبة آمال السوريين في الوصول إلى الحد الأدنى من مطالبهم في الانتقال إلى نظام سياسي بديل، لتزداد هذه التعقيدات مع محاولة بعض الدول إعادة العلاقات مع نظام الأسد مستغلة كارثة زلزال 6 من شباط الماضي لزيادة التطبيع وتوظيف الكارثة الإنسانية في إطار سياسي.

لكن هذه المحاولات العبثية في إعادة العلاقة مع نظام الأسد بحجة إيقاف الامتداد الإيراني في الشرق الأوسط لن تفلح في إعادته إلى الحضن العربي والدولي بعد عزلة طويلة، فهذا النظام الذي تسبب بأكبر كارثة إنسانية عرفها التاريخ بعد قتل وتهجير ملايين السوريين؛ غير قادر على إعادة ترميم نفسه أو إنتاج مؤسسات بديلة قادرة على احتواء الفوضى الكارثية التي تسبب بها للشعب السوري وللمنطقة ككل، مما يعني أن الدول الباحثة عن التطبيع لن تستطيع خلق معجزة تعيد إحياء هذا النظام الميت من جديد.

ضمن هذه المعطيات، هناك من يحاول ترحيل أسباب هذا الواقع السياسي شديد التعقيد إلى العوامل الخارجية فقط، عبر تحميل المسؤولية للمجتمع الدولي وخذلان دول أصدقاء الشعب السوري، خاصة الدول صاحبة التأثير الأكبر في الملف السوري، كالولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي وتركيا، باعتبارها الدول التي عملت على تدويل الملف السوري وتهميش الأطراف المحلية، ووضع مصالحها في سوريا أولوية دون أن تعبأ بمصالح السوريين.

ومما لا شك فيه أن للعوامل الخارجية تأثيراً سلبياً كبيراً على الملف السياسي والميداني طوال هذه السنوات، إلا أننا لا يجب ألا نغفل عن أن أساس العمل السياسي يرتبط بالعامل الذاتي وأداء المعارضة السياسية، بالنظر إلى نوع وحجم العمل المطلوب ليتناسب مع قضية بحجم الثورة السورية التي غيّرت تاريخ المنطقة بالكامل، في حين أن الأداء المترهل للمعارضة فسح المجال للوصول إلى النتائج الكارثية التي وصلنا إليها اليوم، الأمر الذي يفرض عدم الهروب من تحمل المسؤولية بل العمل بشكل شجاع لبناء الصورة الحقيقية والسعي نحو البدائل القابلة للتجسيد على أرض الواقع، من أجل العمل على تحقيق مطالب الثورة السورية.

مع كل ما رافق الثورة السورية خلال 12 عاماً من تطورات جيوسياسية ومختلف التطورات الميدانية، ومنها اتفاقية خفض التصعيد التي انبثقت عن أستانا وأسهمت بإيقاف مؤقت لإطلاق النار في شمال غربي سوريا، لم تستطع المعارضة السورية تطبيق نموذج يضمن العيش الكريم حتى ضمن الحدود الدنيا، ولم تعمل على بناء مؤسسات خدمية حقيقية تعكس النموذج المثالي في العمل الخدمي والإنساني والمناصرة للقضية السورية على جميع المستويات السياسية والحقوقية، ولا التأسيس لنموذج حوكمي جديد يضع أنظمة حوكمة مدنية هدفها مصلحة السوريين دون الاعتماد على ما تبقى من إرث نظام الأسد أو إعادة إنتاجه بصيغة أخرى رغم كونه أحد أسباب انطلاق الثورة السورية نحو التغيير، كما لم تعمل بشكل جدي على أساسيات التمكين الاقتصادي للنهوض بالواقع المعيشي في المناطق المحررة وتحسين حياة المدنيين بعد سنوات ليست بالقليلة أدمت قلوبهم فأصبحوا بحاجة إلى خلق فرص جديدة للاستمرار.

في الذكرى الثانية عشرة للثورة، تفرض علينا الوقائع أن نعمل بهديها ونستمر في العمل على الضروريات على جميع المستويات، وتتحمل منظمات المجتمع المدني السورية مسؤولية كبيرة في ظل غياب المؤسسات الوطنية الحكومية وعدم وضوح نموذج الحوكمة البديل الذي يحوّل المناطق المحررة شمالي سوريا إلى مناطق محررة بالفعل، وإلى نموذج ناجح ومثالي يتمناه كل السوريين، مع ضرورة ترسيخ التشاركية ضمن الفعاليات المدنية وفق مهام عملية قابلة للتحقيق وليست مجرد أحلام أو شعارات رنانة.

وقد أثبتت منظمات المجتمع المدني السورية بعد كارثة الزلزال المدمر أنها الحامل الأساسي للعمل الإنساني والخدمي والإغاثي، بما فيه تمكين المجتمع اقتصادياً وإعادة بناء الإنسان من جديد، وكل ما ظهر مؤخراً من محاولات إعلامية تهدف لتخوين تلك المنظمات والنيل منها إنما هي محاولات مكشوفة تخدم أجندة النظام في محاربة تمكين الإنسان ومحاربة النهوض بالمناطق الخارجة عن سيطرته.

في الوقت الذي جمع التحالف الإنساني شركاء العمل الإنساني من المنظمات والمجالس المحلية للاستجابة الطارئة، ما يزال هذا التعاون بحاجة إلى توظيف حقيقي بخطة عمل مستقبلية مبنية على أسس استراتيجية منبثقة عن أرض الواقع تنتقل أبعادها من العمل الإنساني والإغاثي وتتطور إلى تمثيل سياسي جديد يعبر عن أوجاع السوريين ويحمل مطالبهم إلى طاولة المفاوضات في جنيف، مع ضرورة السعي لبناء نموذج حوكمة مدنية ينتج نموذجاً ناجحاً يساعد المدنيين على تحسين حياتهم اليومية وأوضاعهم الاقتصادية والأمنية.

لقد فشلت المعارضة السياسية السورية حتى اليوم في التعبير عن مطالب الشعب السوري وفي تمثيله، كما فشلت في بناء مؤسسات وطنية بديلة في المناطق التي تخضع لها، وذلك بسبب ابتعادها عن جوهر وأساس العمل السياسي المتمثل في الانطلاق من الحاضنة الشعبية لاكتساب المشروعية منها، والعمل على إشراكها في القرار السياسي، وبناء العلاقات والتحالفات مع القوى والفعاليات الشعبية والسياسية داخل سوريا، والتقرب من منظمات المجتمع المدني التي حملت الشمال السوري إغاثياً وإنسانياً لسنوات طويلة رغم وجود محاولات تقارب لكنها ما تزال بعيدة عن المأمول، كما أن أجسام المعارضة السياسية ما تزال غير قادرة على إعادة ترميم وإصلاح نفسها مما يشكل العائق الأبرز أمام تطبيق شعاراتها.

ختاماً، رغم صعوبة الواقع الحالي وتعقيد الملف السياسي والكوارث الإنسانية التي زادت من حدة ألم الشعب السوري خاصة بعد الزلزال المدمر، إلا أن ذلك يفرض على كل أطياف المعارضة السورية مسؤولية العمل معاً وبشكل عاجل، لمواجهة كل الاستحقاقات السياسية والأمنية والاقتصادية القادمة بما تستوجبه من تغييرات ضرورية وواقعية في مختلف المجالات، وتعزيز مجموعة الأسباب الجوهرية لإنجاح العمل المتمثلة بالعمل الجماعي والتشاركي لتطبيق قيم وأهداف الثورة السورية في بناء المجتمع وتمكينه اقتصادياً وسياسياً وتنفيذ مشاريع التعافي المبكر، الأمر الذي سيرغم الدول على إعادة النظر في رؤيتهم المتغيرة تجاه أعظم ثورة شعبية سلمية عرفها التاريخ.

تلفزيون سوريا

——————–

اتحاد الديكتاتوريات العالمي/ عبد القادر المنلا

لم يستفق الأسد وأتباعه من نشوتهم بالانتصارات العسكرية المتوهمة، حتى دخلوا في نشوة جديدة طالما انتظروها لسنوات طويلة، وهي نشوة البراءة من دم مئات آلاف الضحايا وملايين المهجرين والمشردين، ولمَ لا وكثير من الدول تتوافد إلى دمشق تباعاً حاملة معها آليات حفر دبلوماسية ومعدات سياسية للمساهمة والمساعدة في دفن جرائم الأسد تحت أنقاض الزلزال.

صكوك براءة بالجملة، وعقود تعويم على بياض، لا يعكر صفوها سوى الدماء التي لا يمكن أن يجف لونها مهما اختلفت ألوان الطيف السياسي واختلطت وضاعت هويتها، فالدماء التي لا تزال تلطخ أيادي القتلة، وتظهر كشاهد إثبات على جبينهم، بقيت الحقيقة الوحيدة غير القابلة للطمس، وظلت العنوان الرئيسي لبلد اغتاله رئيسه وظل اثني عشر عاماً وهو يحاول إخفاء جثته وإخفاء الأدلة الفاقعة التي تشير مباشرة إليه، إلى أن قررت بعض الدول المساعدة في إخفاء الجثة والتخلص منها والمساهمة في تقييد الجريمة ضد مجهول، أو تحميلها لجهة أخرى لا تمت إلى الفاعل الحقيقي بصلة..

ولكن، هل يستطيع حفنة من فاقدي الشرعية أو من أصحاب الشرعية المزيفة إعادة الشرعية لمجرم لا تزال شواهد جرائمه وأدلتها غير القابلة للإنكار تفقأ عيونهم، وكيف يتجرأ هؤلاء على المشاركة في الجريمة بشكل تطوعي من خلال مد طوق النجاة للمجرم، متخذين من جثث الضحايا جسراً للعبور إلى جلادهم؟

ظاهرياً، يبدو اندفاع بعض الدول العربية على إنقاذ الأسد مكسباً للأخير، ولكن في العمق فإن مواقف هؤلاء غير الأخلاقية هي دليل جديد على إجرام الأسد، فاصطفاف الطغاة مع بعضهم هو نوع من تأكيد الجريمة وليس نفيها، وتأكيد على أن القتلة هم من تركيبة إجرامية واحدة، وهؤلاء بالطبع لا تحرك الجريمة شيئاً في مشاعرهم.. إنه باختصار نوع من تحالف القتلة، وليس لشهادة المجرم لصالح مجرم آخر أي وزن أو قيمة أو مصداقية.

إن حلفاء الأسد القدامى هم الدليل الأكبر على تورطه وإجرامه، إذ يكفي دعم بوتين لنظام أي بلد لإدراك أن هذا النظام فاسد وقاتل وقمعي وفاشي، فروسيا بوتين لا تدعم إلا المجرمين، وما علاقتها مع “فاغنر” إلا مثال ساطع ولا يحتاج للأدلة على نوعية حلفائها وأصدقائها، فما بالنا حينما تنضم الصين وإيران وكوريا الشمالية وبلاروسيا وأشباهها من الدول لدعم الأسد؟

لا يمكن لذلك الدعم إلا أن يُقرأ على أنه نوع من تكثيف الأدلة على إجرام الحليف، والفرق الوحيد يتجسد في الوقت وموازين القوى التي هي الآن في صالح القتلة وليست في صالح الإنسانية بحكم انحياز قوى كبرى للجريمة ودعمها وحمايتها، وهذا هو السبب الوحيد لبقاء الأسد مختبئاً في جيوب تلك القوى التي تلعب بهواجس بقائه في السلطة.

لقد شهدت السنوات الأخيرة تحولاً جوهرياً في إرهاب الدولة، فبينما كان ذلك الإرهاب يمارس سابقاً بنوع من الحياء المصطنع ويحتاج إلى الدبلوماسية والذريعة والغطاء والتحايل، بات اليوم يمارس علناً وبشكل مباشر، حيث تحولت الجريمة إلى مجال للمباهاة ولم تعد أمراً شائناً أو مخجلاً، من خلال الطغاة الذين لم يعودوا بحاجة للمبررات والذرائع وهم يمارسون إرهابهم وإجرامهم..

لقد وحدت الانتهاكات التي قام بها الطغاة أهدافهم وخطوطهم وقوّت العلاقة فيما بينهم، وإذا ما دققنا، سنجد أن الخلافات الروسية الصينية التي تمس مصالح الدول تراجعت واختفت، وكذلك الخلافات الروسية الإيرانية، وحتى خلافات لوكاشينكو رئيس بلاروسيا والذي تربطه علاقة كراهية عميقة مع بوتين تحولت إلى علاقة ودية وإلى نوع من الشراكة الاستراتيجية.

لقد طوت تلك الدول ملف خلافاتها السياسية تماماً وركزت على مصالح زعمائها، الأمر يشبه تماماً علاقة رئيس الوزراء العراقي الأسبق “نوري المالكي” ببشار الأسد، فقبل الثورة كان المالكي يتهم الأسد علانية بتصدير الإرهابيين إلى العراق، وقبلها كان جواز السفر السوري ممهوراً بمنع السوريين من السفر إلى العراق، ولكن ذلك كله تغير عندما تهدد وجود المالكي وبشار الأسد، فتجاوزا كل الخلافات السابقة وتوحدا برباط المصالح الشخصية ورغبة البقاء في السلطة.

لقد تعهد بوتين بحماية إرهاب الدول، وقد وفى بوعده، وكان نموذج حمايته لبشار الأسد الشكل الأوضح، ثم كانت تجربة ألكسندر لوكاشينكو رئيس روسيا البيضاء الذي قام بوتين بحمايته ومساعدته في إنهاء ثورة سلمية كانت على وشك الإطاحة به، وهو الأمر الذي أثار شهية صغار الطغاة الآخرين وأسال لعابهم للتقرب من بوتين ليس لأي هدف سياسي يتعلق بمصالح بلادهم، وإنما لضمان حمايتهم من أي تمرد شعبي مرتقب ضد عروشهم، ومن هنا فإن تقاربهم مع الأسد لا يحمل أي مصالح استراتيجية لبلدانهم، وإنما يتحدد في مجموعة أهداف لعل أهمها هو قتل حلم الشعوب بالتغيير وإنهاء أي خطر يمكن أن يواجهه الطغاة في حال قتل شعوبهم، وقتل أي مبادرة ثورية في مهدها من خلال إبراز الفشل الذي تعرضت له الثورة السورية رغم ما بذل فيها من تضحيات، فأن تفشل ثورة بعد ما يقرب من مليون شهيد، وملايين المهجرين، وأن يخرج القاتل منتصراً وبريئاً هو أمر يوحي بالعدمية، ويجعل الشعوب تقبل بالرضوخ بسبب انعدام أي أفق لتغيير أنظمتها إذا ما فكرت في ذلك، كما أن التقرب المبكر من بوتين يبعدهم عن الوقوع في الحرج إن احتاجوا مساعدته وقت الضرورة، فلا بد أن يمهّدوا لصداقة مبكّرة لحجز مقعدهم لديه وضمان دعمه لهم وقت الضرورة.

ومن هنا بات بشار الأسد -على ما يبدو- مفتاح الكنز بالنسبة للأنظمة القمعية في الدول العربية، فمن يضمن بوتين يضمن معه الصين وكوريا الشمالية وإيران وبلاروسيا، فضلاً عن الرضا الإسرائيلي عن هذا الحلف، والتذبذب الأميركي المطاط والذي أثبت من خلال موقفه من القضية السورية أنه لا ينتصر لحقوق الإنسان ولا للقيم الإنسانية كما كان يدعي على مدار عقود.

ما يحدث اليوم من تهافت بعض الدول على نظام الأسد لا يهدف إلى تعويمه بل إلى تعويم الجريمة والتطبيع معها وما اتفاق الداعمين للأسد إلا اتفاق على توحيد الديكتاتوريات حول العالم ضد مصالح الشعوب وضد القيم الانسانية الجوهرية التي تقف ضد طموحاتهم الخاصة ومشاريعهم في البقاء والهيمنة.

تلفزيون سوريا

————————

الذكرى الـ 12لثورة سوريا: نظام الأسد قتل 200 ألف وتظاهرات تطالب بإسقاطه/ هبة محمد

بعد 12 عاماً من بدء الحراك الشعبي في مارس/آذار 2011، ضد نظام بشار الأسد الذي مارس القتل والتعذيب واعتقل الآلاف، تحدثت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، أمس الأربعاء، عن مقتل 230 ألف سوري، وتشريد قرابة 14 مليونا.

وفيما قال مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسن، إن الوضع في سوريا “أصبح يفوق الاحتمال”، خرجت تظاهرات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، تجدد الدعوة لإسقاط الأخير.

وحسب تقرير الشبكة (غير حكومية) بعنوان “الانتقال السياسي الديمقراطي المطلب الأساسي للحراك الشعبي منذ 12 عاما”، فإن بين القتلى أكثر من 30 ألف طفل و16 ألف سيدة. وفيما أشار إلى الضحايا الذين سقطوا على أيدي أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا، أكد أن النظام قتل أكثر من 200 ألف منهم.في حين أكد بيدرسن أنهن “بينما يدخل الصراع في سوريا عامه الثالث عشر، نتذكر بمزيد من الأسف الخسائر البشرية الفادحة والانتهاكات التي تعرض لها الملايين”، واصفاً الوضع الراهن في سوريا بأنه “أصبح يفوق الاحتمال، والاستمرار بالأسلوب نفسه يجافي الإنسانية والمنطق”.

وبالتوازي، خرج الآلاف في مظاهرات حاشدة في إدلب والأرياف القريبة منها شمال غربي سوريا، إحياء للذكرى. وأظهرت صور ومقاطع مرئية مظاهرات حاشدة في ساحة “السبع بحرات” وسط مدينة إدلب، كما شهد ريف إدلب مظاهرات عارمة في كل من “كفرتخاريم – الدانا – سرمدا – أطمة – معرة مصرين – أريحا – سلقين – حارم”.

واحتشد الآلاف في ريفي حلب الشمالي والشرقي في كل من “الأتارب – اعزاز -عفرين- مارع – الباب – سوسيان – جرابلس – أختربن – دابق”، كما شهدت مدينتا رأس العين وتل أبيض شمال شرقي سوريا، مظاهرات مماثلة، رفع المشاركون فيها أعلام الثورة السورية، ورددوا شعارات جددوا خلالها مطالبهم بإسقاط النظام السوري، وسط أغان حماسية وهتافات تؤكد على الصمود واستمرار روح الثورة والإصرار على مبادئها.

وحمل المتظاهرون لافتات كتب على بعضها “البداية من الحكاية، الشعب يريد إسقاط النظام”، كما ردد المتظاهرون شعارات تطالب بإسقاط سلطة النظام الحاكم ورحيل بشار الأسد، وخروج الاحتلالات من البلاد.

ودعا المتظاهرون في شعاراتهم إلى خروج القوات الروسية والإيرانية، وعودة المهجرين إلى ديارهم، والإفراج عن مئات آلاف المعتقلين من سجون النظام.

إلى ذلك، استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نظيره السوري بشار الأسد، في موسكو، في ظل تكثيف الكرملين جهوده لتحقيق مصالحة بين أنقرة ودمشق.

وقال بوتين في بداية الاجتماع “نحن على اتصال دائم وعلاقاتنا تتطور” مرحّبا بـ”النتائج المهمة” التي حققتها موسكو ودمشق في “مكافحة الإرهاب الدولي”، حسب كلامه، فيما أعرب الأسد عن دعمه لما تسميه روسيا “العملية العسكرية” في أوكرانيا، وأكّد “أن هذه الزيارة ستمهد لمرحلة جديدة في العلاقات السورية الروسية على كل المستويات”.

ويبدو أن عملية المصالحة بين أنقرة ودمشق أحد المواضيع الرئيسية التي ستطرح خلال زيارة الأسد لموسكو.

وقال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف “العلاقات بين تركيا وسوريا ستتأثر بالتأكيد بشكل أو بآخر” بالمناقشات بين بوتين والأسد.

———————–

سينما الثورة السورية.. منذ أول هتاف/ مهند صلاحات

بعد سنوات من اندلاع الثورة السورية، والعدد الصادم من القتلى والجرحى، وتشرد ملايين السوريين الذين ازدحمت بهم مخيمات اللجوء ومحطات القطارات حول العالم، لا يزال كثيرون يتساءلون ما الذي حدث، وكيف تحول مسار ثورة شعبية أخذت منحى سلميا أسوة بثورات ربيعها العربي إلى ساحة معركة لمقاتلين من عشرات الجنسيات؟

هذه الأسئلة وأخرى تزداد يوميا مع تفاقم أزمة اللاجئين السوريين في العالم. وقد تكون السينما التسجيلية جوابا مباشرا وصادما ربما، خاصة لمن يطالبون السوريين اليوم -بدافع الخوف وأسباب أخرى- أن يقدموا شهادات خلوّ من التطرف، ومن أكثر من ألف فصيل مسلح يقاتل على أراضيهم من معظم جنسيات العالم.

ربما تكون الثورة السورية من أكثر ثورات العالم التي تم توثيق أحداثها بالصورة، لدرجة أن العالم شاهد قتل المدنيين في بث حيّ مباشر، وهي مسألة بقدر قوتها في كشف الفظائع التي ارتكبها النظام والمليشيات المسلحة، فإنها حولت مشهد الموت السوري اليومي إلى مشهد عادي، ولم تعد أرقام القتلى مفزعة.

وعلى الرغم من ذلك، لا تزال للصور الأولى قيمتها التي تزداد مع الوقت كشهادة عمّا حدث، وهنا تبرز قيمة الفيلم في إعادة سرد الحكاية من البداية، لأن الفيلم التسجيلي لا يُعيد إنتاج الحكاية، وإنما يقدمها بمواقعها وشخوصها الحقيقية ويكون مرجعا ووثيقة، وأعتقد أن أهم الأمثلة في هذا المجال قدمها اثنان من صانعي السينما التسجيلية السوريين، وكان لهما الريادة في تقديم أجوبة ضمن شهادات تسجيلية دقيقة عن البدايات.

باسل شحادة.. وثّق الثورة وقُتل فيها

أحد هؤلاء هو السينمائي الشاب باسل شحادة الذي قطع دراسته في كاليفورنيا ليكون من أبرز الموثقين بالصورة لثورة شعبه ولقصف قوات النظام السوري واجتياحها مدينة حمص، حتى قتل فيها إبان قصف حي الصفصافة في 28 مايو/أيار2012، قبل أن ينهي فيلمه “شوارعنا احتفال الحرية” الذي جاء قصيرا (24 دقيقة) وانتهى بموته.

لم يكن هذا الفيلم الوحيد الذي تركه باسل من دون استكمال، فقد أكمل المخرج دلير يوسف فيلم باسل الثاني “أمراء النحل” الذي صوره في فبراير/شباط 2012، ويعتبر وثيقة تسجيلية ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، يسجل فيها كذلك بدايات الثورة السورية ونشطاءها الميدانيين الأوائل وتشكُّل تنسيقياتها الثورية.

يعيد فيلم باسل للذاكرة الفيديوهات الأولى للثورة، حيث يُخفي الناشطون وجوههم أمام الكاميرا، ويبدأ بالتسلسل البسيط للحدث، فيقدمه عبر وثائق بصرية مهمة، منذ شرارة كتابات أطفال درعا على الجدران، مروراً بالمظاهرات الأولى لدمشق في 15 مارس/آذار 2011، وأول مظاهرة جمعة في درعا، وموثقًا أول هتاف وأول الضحايا في درعا ودمشق وحمص، وأول رصاص الثوار، وأول الانشقاقات التي أسست الجيش الحر. ذهب باسل شحادة إلى حمص ليكمل فيلمه لكنه لم يعد.

طلال ديركي.. حكاية “العودة إلى حمص”

المخرج الآخر هو طلال ديركي الذي كُتب له أن يعود مراراً ليصور فيلمه التسجيلي الطويل “العودة إلى حمص”، فيتتبع على مدار ثلاث سنوات من تاريخ الثورة السورية الحياة اليومية للاعب كرة القدم عبد الباسط الساروت، والذي صار حينها منشدا للثورة، وهو من أنشد في جنازة باسل شحادة قبل أن يوارى جثمانه في حمص.

من حيث الموضوع والزمكان وبعض الشخصيات، يبدو فيلم طلال وكأنه يكمل فيلم باسل الذي قدّم عبره شهادة تفصيلية عن ولادة الثورة في درعا ودمشق وصولاً إلى حمص، والتي بدأ فيلم طلال توثيقه لبداية الثورة فيها، متتبعا بذلك الترتيب الزمني التصاعدي للأحداث من خلال شابين تتجسد فيهما مراحل تطور الثورة في سوريا، وذلك منذ المظاهرات وحتى الحرب:

الأول هو عبد الباسط الساروت، حارس المرمى السابق لمنتخب الشباب السوري لكرة القدم، والذي أضحى أحد أبرز الأصوات التي تقود المظاهرات بالأناشيد، قبل أن يُدفع إلى التخلي عن الحراك السلمي ويحمل السلاح. والآخر صديقه أسامة الطالب الجامعي الذي أصبح من أبرز الناشطين الإعلاميين في توثيق يوميات الثورة، حتى اعتقاله وانقطاع أخباره.

يضع الفيلم مُشاهده في قلب المعارك الطاحنة والقصف والأوضاع الإنسانية المزرية، نتيجة للاحتجاجات السلمية التي تطورت إلى نزاع دموي مسلح ذهب ضحيته الآلاف، ودُمِّرت بسببه حمص والمدن السورية، ومعها أحلام هؤلاء الشباب بحياة أفضل وأكثر حرية، وتشوّهت نظرتهم لمستقبل بلادهم بعيدا عن عتمة الدكتاتورية التي سادت أربعة عقود.

الثورة السورية.. مرارة لا تخلو من أمل

أجابت هذه الأفلام على أسئلة كثيرة عن مصير الثورة السورية، وقد يكون أكثر أجوبتها تشاؤما هو النتيجة التي قادت بطل فيلم “العودة إلى حمص” ليطلب حماية تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف، معبرا بذلك عن حالة الخذلان الكبيرة للسوريين طوال خمسة أعوام، وعن الواقع المرير الذي واجه شبابهم في حمص وغيرها، حيث هرب الثوار من القتلة إلى القتلة الآخرين، يلوذون بالصمت، وما تبقى من أحياء يرقبون ثورتهم المغدورة.

إلا أن خروج من تبقى من السوريين إلى الشوارع بعد اتفاق وقف إطلاق النار وتصديهم للرايات السوداء، وإصرارهم على المطالب الأولى لثورتهم برحيل النظام؛ يعيد الأمل لتلك الثورة، الأمل الذي كان يبحث عنه باسل شحادة وطلال ديركي وشباب جيلهم ببلاد أكثر حرية.

————————

لوتان: في سوريا.. هذه أهم نقاط التحول في حرب منسية

قبل 12 عاما، تجمع متظاهرون في درعا جنوبي سوريا مطالبين بالديمقراطية تأسيا بما رأوه يحصل في تونس ومصر، لكن القمع العنيف الذي مارسه النظام جر البلاد إلى صراع مسلح دام، فما أهم محطات تلك الحرب الأهلية التي غدت الآن شبه منسية؟

سؤال ناقشته كاميل باجيلا في تقرير لها بصحيفة لوتان Le Temps السويسرية حددت فيه 6 تواريخ قالت إنها مثلت تحولات في هذه الحرب الأهلية:

أولا: 15 مارس/آذار 2011

يمكن القول إن ما حدث في هذا اليوم كان بمثابة الشرارة التي أدخلت سوريا الربيع العربي، إذ تحولت مدينة درعا إلى بؤرة لنشاط المؤيدين للديمقراطية بعد أن اعتقلت قوات الأمن السورية حوالي 15 مراهقا، لا لشيء إلا أنهم كتبوا شعارات معادية للرئيس بشار الأسد، فسجنوا وعذبوا لتتصاعد المظاهرات بعد ذلك وتطلق الشرطة النار على الحشود وتقتل شخصين وتصيب المئات بجروح، وقد أدى الكشف عن التعذيب الممنهج للمتظاهرين في السجن إلى صب الزيت على النار لينتشر بعد ذلك التمرد في البلاد.

ورغم بعض التنازلات الاجتماعية والاقتصادية، فإن نظام بشار الأسد واصل قمعه الشديد للثوار ليتجاوز عدد القتلى في يونيو/حزيران من العام نفسه ألف قتيل، وفي يوليو/تموز من السنة ذاتها، تحولت الحركة السلمية إلى تمرد مسلح.

وأصبح الجيش السوري الحر، المكون من منشقين عن الجيش النظامي ومدنيين وجماعات ذات تطلعات سياسية مختلفة، الجناح المسلح للمعارضة المؤيدة للديمقراطية وواجه نظام بشار، لتدخل البلاد في الحرب الأهلية.

ثانيا: 21 أغسطس/آب 2013

تم تجاوز الخط الأحمر، فقد أسفر هجوم كيميائي عن مقتل ما يقرب من 1500 شخص في الغوطة الشرقية، على مشارف دمشق.

وفي نهاية ذلك الشهر، قالت الحكومة الأميركية إن لديها دليلا على مسؤولية النظام عن الهجوم، وإنها بدعم من فرنسا تدرس توجيه ضربات انتقامية ضد بشار الأسد، ورغم أن ذلك كان خطا أحمر لدى الأميركيين، فإنهم اكتفوا في النهاية بتوقيعهم مع الروس على اتفاقية تقضي بتفكيك الترسانة الكيميائية السورية، ومع نهاية تلك السنة كان الصراع قد أودى بالفعل بحياة 130 ألف شخص.

ثالثا: 29 يونيو/حزيران 2014

صادف ذلك التاريخ اليوم الأول من شهر رمضان، وقد أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهو فصيل جهادي يدعي أنه سلفي، إقامة خلافة على الأراضي السورية والعراقية التي يسيطر عليها، وهكذا حكم هذا التنظيم بالحديد والنار المنطقة التي يسيطر عليها وهي بحجم بريطانيا، ويسكنها 7 ملايين نسمة، وقد انتهج فيها الإبادة الجماعية ضد الأقليات الدينية، كما شن حملة إرهابية في الخارج.

رابعا: 8 أغسطس/آب 2014

في هذا اليوم تدخل تحالف دولي مكون من 22 دولة، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ضد تنظيم الدولة الإسلامية وقصف مواقع التنظيم في العراق، ولاحقا في سوريا ليبقى عام 2014 هو الأكثر دموية في الصراع الذي المستمر بعد ذلك، إذ شهد مقتل 76 ألف شخص في 12 شهرا وأجبر ملايين السوريين على الفرار.

وبموازاة ذلك بدأت روسيا تنفذ تدخلها الخاص في سوريا منذ سبتمبر/أيلول 2015، ملبية بذلك طلبا من بشار الأسد للمساعدة في القتال على جميع الجبهات المعادية للنظام.

خامسا: 22 ديسمبر/كانون الأول 2016

بفضل الدعم الروسي في الجو والمليشيات الموالية لإيران على الأرض، استعاد بشار مدينة حلب التي كانت رمزا في أيدي الثوار، لكن ذلك النصر تحقق بثمن باهظ بعد ممارسة أعمال عنف لا هوادة فيه، فقد دمرت الطائرات الروسية والبراميل المتفجرة السورية جزءا من المدينة، ليصل عدد من قتلوا حتى بداية عام 2017 حوالي 300 ألف شخص ونزح 6 ملايين داخل البلاد، ويغادر 6 ملايين آخرون سوريا.

سادسا: 23 مارس/آذار 2019

أعلنت قوات سوريا الديمقراطية، وهي تحالف عربي كردي تدعمه الولايات المتحدة، في هذا اليوم تحرير الباغوز ليخسر بذلك تنظيم الدولة آخر قطعة أرض كان يسيطر عليها، وهي قرية مساحتها كيلومتر مربع واحد، ووفقا لمفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فقد قُتل ما لا يقل عن 306 آلاف و887 مدنيا منذ بدء الصراع في سوريا والذي لم ينته بعد.

المصدر : لوتان

————————

في ذكرى الثورة السورية.. مسار الصدمة الجماعية/ رائد وحش

وعلى هذا النحو من التفكير، وضِعت القيم التي هُزمت، قيم الثورة، إلى جوار كل القيم التي يدرك الجميع أن العالم أسوأ من أن يسمح لها بالتحقق. ظلّت الثورة منزّهَةً عن أي نقد، ولم تُدرس بالشكل الذي يجعلها توضع ضمن أطر مفهومة، بل ظلّت تغلب عليها سرديات الأسطرة التي تنظر إلى بطولات العاديين بتبجيل، وهذا أمر ضروري ومفهوم، لكنه ليس كل شيء. كما ظلت تنظر إلى انقطاع العالم عن السوريين كما لو أنهم مرض، رغم ارتباط ذلك بسياقات سياسية أكثر من كونه لعنات قدرية.

صارت الثورة في خيال كثيرين مثالًا للخير. بل صارت مجال الخيّرين. وانتهى بهذا النقاش المملوء الموتور، حيث لا أحد يسمع أحدًا مع أنهم يدّعون التحدّث باسم المنطق أو الحقيقة، أو يتحولون إلى الشراسة باسم الأخلاق.

بعد انتهاء تقسيم الوضع السوري إلى شرّ هو النظام وخير هو الثورة في المراحل الأولى، جرى تقسيم للقسم الثوري في مرحلة ما بعد الهزيمة، إذ انفصل إلى خير وشر، وشمل الشرّ الجديد ما كان خيرًا في السابق، أي المعارضة السياسية الرسمية، بينما ظل الخير المستمر متجليًّا في من ينتمون إلى الثورة، دون أن يحتاج ذلك إلى تفسير.

في البدايات الأولى كانت الثورة نقاشًا حيويًّا وصاخبًا يُعبّر عن اختلاف على كل شيء؛ على الماضي الوطني المسروق لصالح رواية بعثية، على النهب العام والفساد والتخلف وسوء الإدارة، على حكم المخابرات الجائر.. كان ذلك النقاش قابلًا ليقود نحو جردة حساب شاملة، إلى أن قطَعَه مشروع العنف الدموي الذي أطلقه النظام ليُحكم قبضته مُجددًا على ما يُفلت منها.

الثورة السورية العظيمة دائمًا

وظل النقاش يخفت إلى أن وصلنا إلى اللحظة التي باتت فيها المواجهة محصورة بين النظام وبين مجموعات ذات هوية دينية، إذ بدا الشعب السوري مجرد ضحايا علقوا بالخطأ عند خطوط تقاطع نيران، لكنّ تصاعد الوحشية الانتقامية للنظام دفعت كثيرين منا لدعم تلك المجموعات، انطلاقًا من نظرة براغماتية تؤمن أن أي وباء أهون من هذا النظام.

عندما بدا أن هذه القوى شكلٌ آخر للنظام الاستبدادي أضاف السوريون المتأملون بخلاص جرحًا إضافيًّا إلى جراحهم.

ومع اشتداد الشعور بالخيبة والخذلان، لا سيما مع انغلاق كل آفاق الحلّ السياسي، بدأت تعلو نبرة فردية، يُقدّم كل متكلم نفسه على أنه يتحدث عن الثورة والموت والخراب من زاويته الخاصة كفرد. لا مشكلة في ذلك. المقاربة الفردية مهمة. إنها التفصيل الذي يضاف إلى التفاصيل الأخرى لتبني الجدارية الكبيرة. لكن المشكلة العويصة هنا أن تُوضع الذات بموازاة الجماعة.

هكذا دخلنا رسميًّا في الصدمة الجماعية، فمن أعراضها أن يُسجل الجميع النقاط على بعضهم البعض، من قبيل: هذه لم تشارك في التظاهرات، هذا لم يعتقل، أنا أشرف منك، أنتِ متأخرة عني يومين في حسم الموقف من النظام.. إلخ.

ما يستوجب الانتباه ههنا أنّ الجرح هو الذي يتكلم، وأن هذه ليست آراءً عقلانية، إنما هي هلوسات ألميّة.

يفقد المهزومون الإيمان بالجماعة، ويرفضون الاعتراف بالهزيمة كمشكلة تشمل الجميع، ويسعى كل واحد منهم إلى رمي وزرها على الآخرين.

بهذا المعنى، الفردية التي علا صوتها في السنوات الأخيرة عارض من أعراض عدم الاعتراف، أو رغبة بالدفاع عن الذات وخياراتها الصائبة التي لا تقبل نقاشًا.

على هذا، وإن كانت ثمة هزيمة فهي هزيمة للثّوار لا للثورة. وهؤلاء هُزموا لأسباب تخصّهم هم، أو تخص ارتباطاتهم، ولا علاقة للفكرة الثورية النبيلة بذلك إطلاقًا. في نظرة قدسية تجعل من الثورة قضية بحد ذاتها لا طريقة لإنهاء الاستبداد.

بمثل هذه المبرّرات والرؤى العقيمة اتسعت الشروخ النفسية في البشر، وغدا أفق التفكير مغلقًا بالكامل.

وعلى كل قتامة المشهد بدأت بوادر الاعتراف بالهزيمة بعد التدخل الروسي لصالح نظام الأسد. وقتها وجد الرافضون للاعتراف في عامل القوة الساحقة التي يمتلكها الروس مبررًا مقبولًا، دون النظر في أن انتصار الثورة ما قبل هذا التدخل لن يكون انتصارًا أبدًا، بل دخول سوريا في متاهة أخرى.

حذفٌ لحذف قصة سوريا

ما يهم أن الهزيمة فتحت مساحة ملائمة للنقاش مرة أخرى، من خلال القبول العام بالفشل وإعلان التخلي عن الذين يُعلنون تمثيلهم للشعب السوري.

لا تعني الهزيمة زوالنا من الوجود، أو انقراضنا وانقطاع أثرنا، لأنه مهما بلغ حدّ هذه الخسارة لا يمكنه أن يكون مطلقًا، لأنّ الأمم أكبر من كونها كياناتٍ سياسيةً أو قوى عسكرية، بل هي ثقافة ومجتمع، وهذه تقبل التغيير والتطوير.

يمكن للهزيمة أن تكون دافعًا للنظر في الأسباب، ومواجهة الذات ووضعها أمام خيارات حاسمة، ما يساهم في استيلاد هوية جديدة، فبوسع للجماعة المهزومة أن تطور سردية أمة. وبعد قبول الهزيمة، والمواجهة مع الذات، والاختيار لشكل المستقبل، تبدأ ثقافة جديدة.

غير أن الإشكال يبقى في أن مجتمع الصدمة الجماعية يأبى أن يفهم ما جرى، ويَعلقُ في فخ آلامه. ومثلما تصبح لحظة إطلاق رصاصة عند شخص شهدَ موت عزيز عليه لحظةً أبدية، تصبح آلام الماضي والتجربة القاسية أطول وأوسع مما هي في الحقيقة. ويتفاقم ذلك بالطبع حين يحتاج الأفراد إلى بعضهم البعض، فيجدون أن المجتمع الذي يمثّل الوسادة المريحة والحضن العاطفي والسلوى اختفى، بسبب التمزق في الروابط النفسية، والاقتلاع من المكان، وهنا يغدو الأفراد مثل طوف خشبي يدور في دوامة مائية.

إلا أنه عندما يبدأ هؤلاء الأفراد بإدراك حقائق الحياة البسيطة مرة أخرى، يجدون أن المجتمع لم يمت تمامًا في عالم ما بعد الكارثة.

جاء القبول السوري بالهزيمة في النهاية، وإن مُتدرّجًا. حدث ذلك في لحظة تيه. وقتها بدأت بوادر علاقات الداخل والخارج تعود إلى شيء من التواصل. بعد فترة أقرب إلى الانقطاع ظهرت فيها الكثير من الاتهامات، من خارج يرى الداخل متخاذلًا لا يفكر بالكرامة، وداخل يرى الخارج متنصّلًا من كل مسؤولية.

المبشِّر في هذا أن الاعتراف بالهزيمة سيقودنا إلى المراجعة والمساءلة، لأن كل قول بأن الهزيمة لم تحدث ليس مجرد إنكار، بل دفع للتضحية بالمزيد من الناس، لا لشيء سوى أن الداعين إلى الثبوت حتى النصر الواثقين منه يؤجلون المساءلة الشعبية القادمة لا محالة.

في سوريا، انهارت الثقة وتقوّض التماسك الاجتماعي، والنتيجة الخطرة لهذا، فوق ما فيه من غضب وتوتر ورغبة في الانتقام، هو أنّ العنف وجد شرعية للبقاء، وأسبابًا للاستمرار في حلقات يصعب كسرها، ما يعني أن هذه الآثار القاسية ستمد لعقود بما يؤكد أن النفسية الجماعية ستورث صدمتها للجيل المقبل.

ولأنّ الحلم هو إعادة الثقة وبناء التفاهم والعلاقات السليمة بين السوريين، فإن الضروري والملحّ هو العمل على تعافٍ اجتماعي في عملية طويلة الأمد، تتطلب جهودًا متنوعة منا ومن الآخرين، في سبيل هيكلة نفسية سورية جديدة. والواجب على الذين يعون ذلك أن يبدأوا في التعافي والتخلص من آثار الصدمات النفسية، ليكونوا روّاد مرحلة إرساء التفكير والتعاون ونبذ التوتر.

ما نحتاجه في ذكرى الثورة هو فهم هذه الصدمة الجماعية التي نعيشها الآن، لأن ذلك سيكون خطوة أولى في التعافي والشفاء، فالمكابرة عليها تديم الشقاء وتمحو احتمال الشفاء.

ربما ما نحتاج إليه في هذه المرحلة هو ابتكار سرد جديد لقصتنا، وخلق معنى آخر لفكرتنا عن أنفسنا، وما نريده، ولتصورنا لهدفنا الكبير.

لا بد لنا من أجل الخروج من الصدمة أن نفهم ما جرى، فالصدمة، كما يقول المتخصصون في دراستها، قصةٌ لها بداية ووسط ونهاية. إذًا من يرو القصة يفهمْ نفسه، ومن يفهمْ نفسه يدركْ ارتباطه بالآخرين.

ما يجب أن نفعله الآن هو أن نروي ونفهم ونبني سردًا جديدًا، لئلا تستمر الصدمة.

الترا صوت

————————-

==================

هل كانت الثورة السورية طائفية حقا؟/ نيكولاوس فان دام

معظم تنظيمات المعارضة السورية العسكرية لم تكن طائفية التوجه بخلاف الجماعات الجهادية

تعتمد الإجابة على سؤال ما إذا كانت الثورة السورية التي انطلقت في 2011 طائفية أم لا، على الشخص الذي تسأله هذا السؤال. وتتمتع الآراء بأهمية في أي ثورة من الثورات، سواء كانت تلك الآراء موضوعية أم لا.

لكن بعض الآراء ترتكز على التصورات أكثر من ارتكازها على الحقائق الثابتة. ولكن حتى الحقائق الثابتة يمكن أن تحمل في جنباتها تفسيرات متعددة. ويمكن أن تولّد التصورات والأفكار السياسية حقائق وديناميكيات خاصة بها والتي قد تخرج عن نطاق السيطرة في بعض الأحيان.

أعتقد شخصياً ومن وجهة نظرٍ موضوعية، أن هذه الثورة ليست ولم تكن ثورة أو حربا طائفية، على الرغم من احتوائها على بعض المكونات الطائفية المهمة.

فالثورة السورية لم تقم من فراغ، بل قامت كنتيجةٍ لعقود من التطورات في ظل الحكم البعثي الاستبدادي. وحقيقة الأمر أن أشخاصا من الأقلية العلوية قد هيمنوا على النخبة الحاكمة في النظام السوري، هيمنةً مطلقةً على مدار الستين عامًا الماضية منذ وصول حزب البعث إلى سدة الحكم في عام 1963.

وكان هذا أحد تلك المكونات الطائفية للثورة السورية. فقد تمثّل العلويون تقليديًا في سلك الضباط السوريين على نحوٍ قوي شأنهم في ذلك شأن الأقليات الإسلامية الأخرى كالدروز والإسماعيليين لأسباب تاريخية مختلفة، والتي كان من ضمنها الترويج للأقليات خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، كجزء من سياسة “فرّق تسد” التي اتبعتها الإدارة الفرنسية. وتمتعت هذه الأقليات بتمثيلٍ بارز في النظام بعد عام 1963.

فعندما قمع النظام السوري الثورة السورية التي كانت سلمية في بدايتها، كان العلويون يسيطرون سيطرةً قوية على مؤسسات النظام القمعية، كوحدات النخبة في الجيش العربي السوري، والأجهزة الأمنية (المخابرات) وميليشيا الشبيحة، كان من المحتم أن يميل بعض الذين تعرضوا لذلك القمع الدموي، والذين ينتمون في أغلبيتهم إلى المسلمين السنة إلى النظر لهذه الوحدات على أنها تحمل طابعا طائفيا. على الرغم من ذلك، لم يكن النظام نفسه نظاما طائفيا بالمعنى الديني، ولو كان مرد ذلك لأيديولوجيته العلمانية فقط. بناء عليه يمكن وصف البعد الطائفي للنظام على نحوٍ أفضل على أنه نظام علماني يهيمن عليه العلويون، يقوم في تماسكه على الولاءات التي ترتكز على الروابط الإقليمية والقبلية والعائلية، وعلى شعورٍ جمعي يرتكز على التماسك الاجتماعي، أو “العصبية”. أو بتعبير أدق يمكن وصفه على أنه: شعور جمعي بين عدد محدود من العلويين ضمن جماعة العلويين، لكنه بالتأكيد لا يشمل جماعة العلويين كلها.

ففي ظل نظام دكتاتوري كذلك النظام الذي يحكم سوريا تُطبَّق سياسة الاستبداد والقمع على كل شبر من الأراضي خاضعٍ لسيطرته، بما فيها المناطق الريفية ذات الأغلبية العلوية. فالعلويون الذين يُشتبه في أنهم ضد النظام (ولا بد أن هناك الكثير) يُسجنون أو يتعرضون للقمع الشديد أو القتل على وجه العموم. وأحيانا كان المعارضون العلويون لنظامي حافظ وبشار الأسد في وضع أسوأ من معارضي النظامين من السنّة، لخشية النظام من أن يشكل المعارضون العلويون خطرا أكبر داخل جماعة العلويين.

دفع الجنود العلويون ثمناً باهظاً من حيث عدد القتلى خلال الحرب الأهلية السورية التي بدأت عام 2011. وشعر العديد من العلويين بأنهم مجبرون على الانحياز إلى جانب النظام خوفاً من انتقام العرب السنّة نتيجة للاستقطاب الطائفي الذي روج له النظام نفسه جزئياً، كما وروج له أعدائه الإسلاميين والجهاديين.

وبما أن تكوين الجيش العربي السوري يعكس تكوين سكان سوريا، فإن مجنديه هم من الأغلبية من العرب السنة، وقد استخدمهم النظام كطعمة للمدافع في الحرب. وأُجبر الجنود العرب من السنة (مثلهم مثل الجنود العلويين وغيرهم) على قمع الجزء الأعظم من السكان العرب السنة الثائرين.

البدايات خلت من الدوافع الطائفية

بالكاد تأثرت الثورة السورية في بدايتها بدوافع طائفية إن كان هناك من دوافع طائفية. كان الناس يريدون ببساطة التخلص من الديكتاتورية البعثية، سواء هيمن عليها العلويون أم لا. وتمثلت بعض دوافع المتظاهرين الرئيسية في الحصول على مزيد من الحرية والكرامة وتأمين مستقبل اقتصادي أفضل. كانت هناك عوامل اقتصادية محددة ساعدت في اندلاع الثورة، كالنمو السكاني السريع، والذي رافقه نقص في فرص العمل للجيل الشاب، ناهيك عن سنوات سابقة من الجفاف الشديد والذي دفع الكثير من الناس إلى الهجرة من الريف الفقير إلى عشوائيات المدن الكبرى. يضاف إلى ذلك الإلهام الذي قدمته النجاحات الأولية التي أحرزتها ثورات الربيع العربي في بلدانٍ كتونس ومصر وليبيا، حيث أطيح بقادتها أو قًضِي عليهم. ولو لم تحدث ثورة من ثورات الربيع العربي في بلد آخر، ما كان من المحتمل على الإطلاق أن تحدث ثورة مماثلة في سوريا.

شدد المتظاهرون السلميون في بداية الثورة السورية على أن كل السوريين هم شعبٌ واحد، وكان أحد الشعارات التي رفعوها يقول إنهم سوريون وليسوا أعضاء في جماعات دينية كالعلويين والدروز والإسماعيليين والسنة أو الأكراد.

مع ذلك لا تعني حقيقة أن القضية الطائفية بالكاد لعبت أي دور في بداية الثورة السورية، هذا إن هي لعبت أي دور فيها، عدم وجود تيار طائفي تحت السطح.

كان الصراع الذي دار على السلطة في سوريا في الفترة الواقعة بين 1963 و1970 صراعا بين البعثيين العسكريين العلمانيين أنفسهم إلى أن استولى أحدهم هو حافظ الأسد على السلطة بالكامل بعد القضاء على جميع منافسيه.

استخدام كلا من الضباط العلويين وخصومهم من الضباط السنة والدروز الطائفية بالمعنى المناطقي والقبلي والأسري والعصبي وتلاعبوا بها في الفترة الواقعة قبل عام 1970. شكّل ذلك صراعٍا “طائفيا” داخل حزب البعث والجيش على نطاق مصغر بطريقة ما، ولكن ليس على نطاق أشمل داخل المجتمع السوري ككل. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الميول التقليدية التي لا تزال قائمة في المجتمع السوري، فلم يكن من المستغرب أن يميل بعض المنافسين السنة وغيرهم من المنافسين غير العلويين داخل نظام البعث الذي يهيمن عليه العلويون علمانيا إلى استغلال موضوع الطائفية كسلاح في محاولة منهم لتقويض خصومهم العلويين أو القضاء عليهم.

لكن وبشكل عام ساعدت هذه الجهود المعادية للعلويين فقط في تحقيق نتيجة معكوسة، إذ قُضِي تدريجيا على هؤلاء الضباط الذين حاولوا تحدي سلطة خصومهم العلويين، الأمر الذي قوّى من موقف الضباط العلويين في السلطة وعزّز أكثر من ذي قبل ولائهم المتبادل.

حدث شيء مشابه خلال الثورة السورية وإن كان هذه المرة على نطاق أوسع عندما تعرض النظام الذي يهيمن عليه العلويون لتحدٍ من خارج النظام، بما في ذلك تحدي القوى الإسلامية المتطرفة. في هذه الحالة، لم يشترك في الصراع خصوم النظام الداخليين، ولكن حصلت مواجهة مباشرة بين النظام وجزء أوسع من المجتمع السوري.

كان بعض المحافظين من السكان السنّة في الماضي يشعرون بالاستفزاز من تجربة حكم البعث العلماني. وقد أدى ذلك إلى تطرف بعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين. وفي أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، استفزّ فصيل متطرف منشق عن جماعة الإخوان المسلمين السورية، أطلق على نفسه اسم المجاهدين وفيما بعد أصبح الاسم “الطليعة المقاتلة”، الأقلية العلوية المهيمنة على نظام البعث للدخول في مواجهة طائفية دامية، حين قام باغتيال شخصيات علوية بارزة أو شبه بارزةً ليس لكونهم بعثيين بالضرورة بل لكونهم علويين.

وقع أحد أسوأ الحوادث في يونيو/حزيران 1979 في مدرسة المدفعية في حلب، حين قُتِل ما لا يقل عن 32 طالبا وجرح 54 آخرين، وقد تعمّد مرتكب المجزرة اختيار غالبية الضحايا من العلويين. وبلغت تلك المواجهات ذروتها بتمرد الإخوان المسلمين في مدينة حماة عام 1982، والذي قمعته قوات ذات أغلبية علوية على نحوٍ دموي، الأمر الذي أودى بحياة عدد يتراوح بين 10000-25000 من سكانها الذين هم في غالبيتهم من السنة. لقد مثّلت تلك المواجهات نقطة تحول لا رجوع فيها في التاريخ السوري فيما يتعلق بالقضية الطائفية.

ما من أحد كان يرغب في تكرار سيناريو شبيه بتلك الأحداث الدموية، والتي خلفت ندوبا اجتماعية عميقة ستترك أثرها على الأجيال التالية. واتّصف الوضع في سوريا بالهدوء نسبيا على “الجبهة الطائفية” لما يقرب من 30 عامًا بعد “مجزرة حماة”. لكن هذا لم يعنِ أن القضية الطائفية لا يمكن أن تصبح قضية خطيرة مرة أخرى.

ففي البداية كانت المظاهرات السلمية ضد النظام واسعة الانتشار كثيفة لدرجة حملت المرء على تكوين انطباع بأن “مجزرة حماة” والمواجهات الدموية السابقة قد نُسيت. لأنه بدا أن مواجهة نظام أقوى بكثير، يحمل هذا التاريخ من العنف الطائش ضد أي شكل من أشكال المعارضة، أمر يتصف بالتهور أيضا. لكن يمكن تفسير ذلك على أنه جرعة زائدة من الأمل، حين اعتقد المتظاهرون أن بإمكانهم إسقاط النظام من خلال المظاهرات الجماهيرية، كما حدث في مصر وتونس. لكن كان من المتوقع أن تتصرف الدكتاتورية السورية بشكل مختلف تماما عما جرى في البلدين الآخرين، ولم يكن من العسير على أي شخص يعرف النظام معرفة عميقة أن يتنبأ أن رد فعل الدكتاتورية سيتصف بالدموية البالغة.

على أي حال، لم تكن القضية الطائفية على الإطلاق السبب الرئيسي لانطلاق الثورة السورية، رغم وقوع تجاوزات طائفية مختلفة خلال الحرب الأهلية التي تلت ذلك قوضت احتمالات المصالحة بين الأطراف المتحاربة. فسمعنا عن مذابح طائفية وعمليات تطهير طائفي وخطف وعنف جنسي جرت ضد العلويين والمسيحيين، وقام العلويون بالأمر عينه ضدّ السنة.

وفي حالات مختلفة، كانت الأطراف المتنازعة تؤكد أن فحوى تلك التقارير هي مجرد افتراءات تقدمها الأطراف المتنازعة. ومع ذلك، وعلى الرغم من أنه لا يمكن تأكيد تلك التقارير جميعا، فإن حقيقة أن ميل العديد من الناس إلى الاعتقاد بصحتها كانت كافية بالفعل لخلق جوّ واسع النطاق من الخوف الطائفي، لا سيما في بعض المناطق المختلطة حيث كانت الجماعات المختلفة تعيش معا في وئامٍ وسلام قبل الثورة السورية. فقد انتشرت بالفعل شعارات معادية كشعار (العلوي ع التابوت … والمسيحي ع بيروت) في بداية عام 2011. وربما كان لتلك الشعارات أيضا أثر مقوض للاستقرار وعززت الاستقطاب الطائفي في الحرب، مثلما كان لمحطات التلفزة الخبيثة والمعادية للعلويين والتي كانت تبث من الخارج، كالبرامج التي بثها الشيخ يوسف القرضاوي، والذي صرح في عام 2013 أن “النصيرية” هم “أشد كفرا من اليهود والنصارى”.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم تنظيمات المعارضة السورية العسكرية لم تكن طائفية التوجه وكانت تمثل غالبية تلك المنظمات بخلاف الجماعات الإسلامية والجهادية.

لكن كان للجماعات العسكرية الإسلامية السنية المتطرفة السيطرة العليا في مناطق مختلفة خلال الحرب. وتسببت تلك الجماعات جنبًا إلى جنب مع الأعمال المتطرفة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في زيادة الاستقطاب الطائفي بشكل أكبر.

ففي ذروة معركة حلب التي دارت في أغسطس /آب 2016، سمّى التنظيم الإسلامي المتطرف “جبهة فتح الشام” هجومه العسكري على أكاديمية المدفعية في حلب باسم النقيب إبراهيم اليوسف (غزوة الشهيد إبراهيم اليوسف) الذي كان مسؤولاً عن مذبحة الطلاب العلويين هناك عام 1979. بالإضافة إلى ذلك، سُمِّيت ثلاث كتائب محلية تتألف من المتطرفين الإسلاميين باسم الجناة الرئيسيين الآخرين في مجزرة أكاديمية المدفعية في حلب. كان ذلك بمثابة رسالة واضحة مفادها أن الجهاديين يهدفون لترهيب قوات النظام العلوية والقضاء عليها بشكل خاص.

من المهم أن نلاحظ أنه في بداية الثورة السورية لم يكن هناك انقسام ثنائي طائفي واضح المعالم في المجتمع السوري ككل أفضى إلى تقسيم البلاد إلى علويين وسنة وغيرهم. كما أنه لا وجود اليوم أيضا لمثل هذا الانقسام الطائفي العام. فالعلويون لم يحكموا سوريا على الرغم من أن عددا كبيرا من غير العلويين والسنة على وجه الخصوص يتصورون الأمر على هذا النحو.

كما ينظر العديد من السوريين إلى التعاون العسكري على الأراضي السورية بين إيران التي يحكمها رجال الدين ودمشق العلمانية على أنه يتمتع ببُعد طائفي شيعي. ولكنّ ديانتي العلويين السوريين وديانة الشيعة الاثني عشرية الإيرانيين ليستا متماثلتين، والعلاقة الإيرانية -السورية هي علاقة استراتيجية في المقام الأول من منظور الجانب السوري. ومع ذلك، يمكن أن يكون للتعاون المكثف مع دولةٍ دينية كإيران أن يحمل معه عواقب دينية طائفية إلى داخل سوريا.

إذا قبِل السوريون بأولوية الهوية الوطنية السورية العلمانية على جميع الهويات الأخرى في الدولة السورية، لأمكن أن ينشأ هناك وضع يوضع فيه جميع الجماعات كشركاء متساوين، سواء أكانوا عربا أم كردا أم سنة أم علويين أم مسيحيين أم دروزا وهلم جرا. لكن هذه الصيغة لم تلق بعدُ قبولا لدى الكثير من السوريين رغم أنها قد تخلق فرصة لإحلال السلام فيما بينهم.

ثمّة أمر آخر، حيث تعزّزت، كنتيجة من نتائج الحرب، قضية تطوير الهوية الوطنية السورية على حساب الهوية القومية العربية التي كان يروج لها حزب البعث في الماضي. لكن الظهور القوي لبعض الهويات الطائفية يعني تراجعًا في هذه العملية. كما تعزّزت الهوية الكردية أيضا، لكن هذا أمرٌ مختلف، إذ أنه ينطوي على صراعٍ عرقيً وليس على صراع طائفيً.

ختاما أقول: لم تكن الثورة السورية بالتأكيد ذات دوافع طائفية، لكن كان للطائفية التي شكلت أحد مكوناتها المختلفة تأثير مدمر ومُقوِّض لها.

المجلة

—————————

لماذا لا تُعلَن نهاية الثورة السورية؟/ عمر قدور

لئلا يبدو التساؤل المطروح أعلاه ساذجاً بالسؤال عمّا لا وجود له، نشير على سبيل المثال إلى هيئة باسم “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وهذه الهيئة تحظى ولو شكلياً باعتراف عشرات الدول، وعلى قاعدة أنها تمثّل الثورة. لدينا أيضاً، على سبيل المثال لا الحصر، مؤسسات إعلامية “تحت مُسمّى الإعلام البديل” مبررُ وجودها الأساسي هو النطق باسم الثورة، ومبرر وجودها لا ينفصل عن أسباب تمويلها من قبل الجهات المانحة الداعمة لها كمشروع ثوري. لدينا أيضاً منظمات فئوية معروفة وأخرى غير معروفة، كان يُفترض ببعضها أن تكون جاهزة لليوم التالي على سقوط الأسد، عندما كان إسقاطه بالثورة مطروحاً.

كان كثر قد أعلنوا فرادى انتهاء الثورة، ومنهم مَن عمل ضمن الهيئات المحسوبة عليها، وأعلن يأسه من تلك الهيئات التي تبدو صامدة وراسخة لا لأن لها رسوخ المؤسسات العريقة المحترمة، ولكن لأن اليائسين منها لا يملكون قرار حلّها. أما القوى الخارجية، ذات النفوذ على هيئات المعارضة، فقد احتفظت بها مع الحطّ منها وصولاً إلى تصفير قيمتها تقريباً. ساعدها ويساعدها في ذلك سوريون أظهروا استعداداً للعمل بموجب وصاية قوى الخارج، وتشبّثاً بالسلطة الرمزية لمناصبهم مهما تدنّت، وتشبثاً لا يقلّ ضراوة بالمكاسب المادية الآتية منها.

من الملاحظ أن الممسكين بهيئات تزعم تمثيل الثورة، وبكون الأخيرة مستمرة لأنهم يدّعون ذلك، لم يلقوا مقاومة من العدد الأكبر من السوريين الذين انتموا يوماً إلى هذه الثورة، وانتظروا منها أن تفتح للسوريين عهداً من الديموقراطية والمشاركة الفاعلة في الفضاء العام. بعبارة أخرى، استنكفت غالبية السوريين المعادين للأسد عن ممارسة السياسة، بل كان هناك تعفّفٌ عنها يعكس نظرة سلبية إلى الذين يمتهنونها ولم يخيّبوا أسوأ الظنون!

إذا تجاوزنا المنتفعين والمرتزقين من هيئات الثورة وملحقاتها فإن أصحاب أطيب النوايا، ممّن يعزّ عليهم إعلان نهاية الثورة، هم الذين يربطون تلقائياً بين الاعتراف بفشل الثورة والاعتراف بانتصار الأسد. هذا ربط ينقصه الانتباه إلى فشل الأسد الذريع، والذي تستحيل العودة عنه إلا بمعجزة، وهو بالتأكيد من إنجازات الثورة، وقد يكون إنجازها الوحيد في إطار الصراع مع الأسد.

لقد كانت الثورة لحظة اتفاق على معنى مشترك بين السوريين، وإذا أخذنا في الحسبان الأسبقية التونسية والمصرية والليبية فالثورة كانت بمثابة معنى مشترك لشعوب المنطقة التي تتشابه معاناتها، خاصةً في بلدان الجمهوريات الوراثية أو السائرة في هذا الاتجاه. نفترض، في سوريا تحديداً، أن مطلَبَي الحرية والديموقراطية يمثّلان ملايين الذين تظاهروا مطالبين بهما، ونسبة لا بأس بها من الذين لم يخرجوا للتظاهر، ولا نبالغ إذا ضممنا إليهم نسبة من الصامتين الذين حسموا لاحقاً مواقفهم بمعاداة الثورة.

من السهل تفسير انفضاض السوريين عن تلك اللحظة المشتركة بانقساماتهم الطائفية والإثنية، يعززها انعدام الثقة بينهم وانعدام المناخ الديموقراطي لبنائها. نضيف إلى هذا أننا لن نشهد خلال عشر سنوات لاحقة “على الأقل” بعد اندلاع الثورة محاولات حقيقية لإنتاج معنى سوري مشترك، يأخذ في الحسبان ما ظهر من انقسام وأسبابه المتنوعة. نقصد بالمعنى المشترك ذلك المعنى الذي يحظى بالانتشار بين سوريين يتبنونه، لا ذلك الذي ينتجه أفراد ويبقى ضمن دائرة ضيقة جداً حتى إذا نال بعض الاستحسان.

إن واحداً من أسباب البحث عن معنى مشترك “أو إنتاجه” هو الاعتراف بفشل الثورة، لو حدث هذا كعتبة اتفاق دنيا. إذ من دون الاتفاق على أنها انتهت، وفشلت إذا كان مهمتها فتح الباب أمام الانتقال الديموقراطي، لن يكون ممكناً التفكير العام فيما بعدها، أو الدعوة إليه على نحو مغاير للمبادرات الفاشلة التي بقيت في الحيز الضيق لانتقاد الهيئات “الثورية” الموجودة، على أرضية اتهامها بعدم تمثيل الثورة تمثيلاً صحيحاً محترماً.  

من المؤكد أن تدخل قوى الخارج قد تسبب بمزيد من اليأس، ومزيد من التسليم بأن الموضوع السوري خرج من أيدي السوريين جميعاً. إلا أن التدخل الخارجي يمضي بكل ارتياح لأن السوريين على هذا الحال من اليأس، ومن جهة أخرى يطرح الخارج تصوراته “أو يفرضها” في غياب تصورات ومشاريع سورية، أو ما أسميناه بالمعنى المشترك أو الذي يسعى ليكون كذلك. ولا مفر من أن يكون هذا المعنى مشتبكاً مع قوى الخارج، لوقوع سوريا تحت عدة احتلالات، ومن التبسيط والسذاجة الظن أن رحيلها جميعاً وكلياً مرتبط فقط برحيل بشار الأسد.

بالحديث عن المعنى المشترك، نعلم أن الأهداف الأكثر عمومية هي الأكثر قابلية للالتفاف حولها من قبل الطيف الأوسع. الثورة نفسها، بهذا المعنى، كانت عتبة متدنية من المعنى الذي التف حوله السوريون، ثم سرعان ما تفرّقوا عن المعنى المحمول على شعارين أو ثلاثة، وسرعان أيضاً ما تكشف الواقع عن تعقيدات لا ينفع معها التبسيط أو السذاجة في بعض الشعارات النبيلة حقاً.

الفكرة التي كانت سائدة إلى حد كبير أن الأولوية هي للشروع في التغيير الديموقراطي، وعندها سينتظم السوريون ويتصارعون صراعاً سلمياً يعبّر عن اختلافاتهم. هذا هو التصور الكلاسيكي عن الانتقال من الاستبداد أو الديكتاتورية إلى الديموقراطية، إلا أنه لا يلحظ خصوصية الانقسام السوري، ومن ضمنها أن يدافع عن الاستبداد متضررون منه. ولسنا أيضاً نجاري اللغة التبسيطية التي اختزلت الأمر مع مطلع الثورة بطلب تطمينات للخائفين، فهذا تعبير مخادع وغير حقيقي، ببساطة لأن التطمينات لن تطمئن أحداً، ومن المتوقع أن المبدأ الذي تقوم عليه سيزيد من خوف من يملكون الاستعداد لذلك.

ليس من ثورة تبقى لدزينة من السنوات، وتبقى معها مرجعيتها الأعلى عبارة عن بضع شعارات من النوايا النبيلة! هذا نوع من الأصولية الثورية في أحسن تقدير، ولا يندر أن يستفيد منها منتفعون صغار. الإخلاص للثورة يقتضي الإخلاص للمعنى المشترك الذي جمع ملايين السوريين، وهذا يكون بتوليد أفكار جديدة تصلح لتكون معنى مشتركاً راهناً، أو تحرّض باستمرار على إيجاده. لن يكسب الأسد إذا دُفنت جثة الثورة المغدورة، أما أيتامها فيخسرون فقط اطمئنانهم الزائف إلى وجودها، وهو للحق مكسب لهم ولذكراها التي تصادف الآن.

المدن

——————-

في الذكرى الـ12 للثورة السورية: لا تصافح!/ لين محمود

بعد 12 عاماً على انطلاق الثورة السورية، والتي تلتها حرب بين الكبار على أرضنا، أكتب لأقول إنني لم أقرأ في التاريخ عن شعب أكثر شجاعة من أولئك الذين نزلوا الى وسط المدن وهتفوا ضد رئيس أوهمهم مع أبيه أنه فرعون لا يُقهر.

أكتبُ بعد 12 سنة، على ثورة البلاد التي ولدتُ فيها. أكتب من خارجها، أنا اللاجئة إلى الأبد، بجانبي صوت لينا شماميان تغنّي للشام “فيا ليت قبري وفستان عرسي بفلّك يعمر”، أتذكر مي سكاف وخوفها من الموت خارج سورياها العظيمة التي لا تحمل اسم عائلة أحد، مي التي ماتت بعدما كتبت “عندي أمل”، لم يُعدها أحد الى بلادها لأنها تخيف الأجهزة الاستخباراتية حتى وهي ميْتة ولا حول لها ولا قوة. أنا لست مي، لكنني ورثت أملها وعنادها، لذا أكتب عن بلاد أعتقد أنني لن أراها مجدّداً.

عندما كنتُ صغيرة، كانت سوريا بالنسبة إلي شوارع واسعة مغبّرة، وأناساً أصواتهم عالية ولكنتهم حادّة، سيارات “تاكسي” صفراء لا تنتهي عند أي خط أفق، جدتي التي تنتظر زيارتي لتأخذني بجولة في الحي تنتهي بساندويش شاورما، أولاد خالاتي وخلّاني الذين علموني كيف نعيش الطفولة في الأحياء الفقيرة، البيوت المتلاصقة التي تحجب الشمس والسماء، جارتنا أم حسّان التي لا تتوقف عن الصراخ على زوجها طوال اليوم، أنفي النازف من شدة الحرارة، ومئة قصة روتها لي جدتي على السطح بعد الظهر وهي تحرك رُب البندورة. كانت سوريا زيارة جميلة لأسبوعين في السنة، حفظت عنها صورة البلاد التي لا تنام ولا تهدأ، فإذ بها تموت. كنت أشبه بالسياح الذين لا يرون من البلاد إلّا جمالها، لذا عندما بدأت الثورة السورية عام 2011، غضبت لأن أحدهم أفسد عطلتي الصيفية. كنت طفلة لا تفقه بالسياسة إلّا ما يبثه التلفزيون الذي يتحكم أبوها بقنواته. غضبت، مَن ذلك الأحمق الذي استيقظ فجأة وقرر أن يُحرق بلاده؟ أبي كان يقول إنها مؤامرة، وإنها ضمن خطة ممنهجة لتدمير سوريا، سوريا التي عرّفها أبي على أنها بلاد الخير والأمان، ولم يكن لي إلا أن أصدقه. تبنيت رأي أبي لأنه كان مريحاً، لا مسؤولية فيه أو ذنب شخصي، بل هناك متهم غريب لا نحمل عاطفة تجاهه، جاهز لتحمّل اللوم والشتائم. كبرت وأنا أحقد على أولئك الوحوش الذين اجتمعوا وحاكوا المؤامرة ودمروا عطلتي الصيفية.

أكتبُ بعد 12 سنة، على ثورة البلاد التي ولدتُ فيها. أكتب من خارجها، أنا اللاجئة إلى الأبد، بجانبي صوت لينا شماميان تغنّي للشام “فيا ليت قبري وفستان عرسي بفلّك يعمر”.

كان ذلك قبل أن أتعلم كيف تُقرأ السياسة بأعيننا لا بأعين الآخرين، بخاصة أهلنا. عندما أصبح البحث عن المعلومات يبعد مني بمقدار دقيقة وكبسة زر واحدة، جفلت. أن تتخذ القرار بالبحث عن الحقيقة وحدك، إنه أمرٌ مخيف لأنك بهذا القرار تشكك في رواية أهلك، التي كانت بمثابة الحقيقة المطلقة لسنوات طوال، أنت على وشك أن تخرج من معسكر كنتَ في خنادقه مذ بدأت الحرب لتزحف بين الرصاص وحقل الألغام، باحثاً عن الحقيقة خارجه وربما في خنادق معسكر آخر. لكنني أعرف أن الهروب لا ينتهي إلا بمزيد منه، وأنا لا أود إكمال حياتي وأنا أركض. دقيقة واحدة وكبسة زر واحدة، مصدر جديد للأخبار والمعلومات، مئات المقالات والوثائقيات، وبعدها لم أرَ سوريا كما كنت أراها في الصغر وفي تلفزيون أبي، وظللت حاقدة على الأشرار والمؤامرات، لكنهم هذه المرة زادوا واحداً، وحرصت على وضع اسمه في رأس القائمة وباللون الأحمر، حتى أتذكر دائماً أنه هو من خيّرني بين الأمان والحرية.

لم أتوقف مذاك عن قراءة الحقيقة، وفي الأيام التي حاول العالم طمسها، كنت أحفر الأرض وأبحث عنها، وعندما تعذر عليّ ذلك، كنتُ أكتبها أنا. سوريا ليست ما أتذكره عنها، وليست كما يعرّفها أبي ولا تلفزيونه، وليست بلد “المستشفيات والمدارس ببلاش”، سوريا بلد قوي قضمه نظامه ورؤوس الأموال المقربة منه، سوريا هي السبعة ملايين لاجئ في العالم، هي ضحايا مجازر الكيماوي والبراميل المتفجرة والإرهاب، هي شعبها الذي يعيش مجاعة ويموت من البرد والزلازل والإهمال.

أصدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان تقريراً جديداً في آذار/ مارس الحالي، يحدد بالأرقام من هو نظام الأسد، وإن كانت الآراء تختلف فالأرقام ثابتة ولا تحتمل تعدّد الوجهات، فبين عامي 2011 و2022 وصل عدد الضحايا السوريين الذين قضوا تحت التعذيب الى 14697، من بينهم 14475 قتلهم النظام السوري والميليشيات الحليفة له تحت التعذيب، من بينهم 182 طفلاً و94 امرأة. أما ضحايا الاختفاء القسري، فقد وصل عددهم الى 111907، منهم 95696 تم إخفاؤهم على يد النظام والميليشيات الحليفة له، من بينهم 3014 طفلاً و6642 امرأة. وبحسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان، فإن عدد ضحايا الاعتقال وصل الى 154398، منهم 135253 اعتقلهم النظام من بينهم 5161 طفلاً و10159 امرأة. وفي المجمل، فإن عدد الضحايا الأطفال في سوريا هو 22981 طفلاً، قضوا بين قصف واعتقال وتعذيب وتجنيد.

بعد 12 عاماً على انطلاق الثورة السورية، والتي تلتها حرب بين الكبار على أرضنا، أكتب لأقول إنني لم أقرأ في التاريخ عن شعب أكثر شجاعة من أولئك الذين نزلوا الى وسط المدن وهتفوا ضد رئيس أوهمهم مع أبيه أنه فرعون لا يُقهر، هتفوا ضده تحت أنظاره وأنظار عساكره، لم أشهد على ثورة أصدق من تلك التي خاضها أهل الأرياف السورية بوجه ديكتاتور ظنّ نفسه إلهاً، لم أبكِ في حياتي كما بكيتُ على السوريين الذي دفعوا كل الأثمان في سبيل الحرية. أكتب لأقول إنه من الإنسانية أن تكتب ضد هذا النظام وحلفائه، ومن العدل ألا تنسى من دفع دماً وقاتل وآمن بغد أفضل، من العدل أن تتذكر هذا كله في حين تذهب الدول الكبيرة لتجتمع مع رئيس النظام السوري بشار الأسد فوق الدمار والأنقاض.

درج

—————————-

الثورة في ذكراها الثانية عشرة/ حسام جزماتي

قبل أن ينتهي آذار 2011، وعلى طاولة كانت في حالة انعقاد دائم ضمّت مجموعة من الأصدقاء؛ قال أحدهم: «النظام سقط.. والباقي تفاصيل».

أعجبتني الجملة بسبب اختزالها واحترافها، نتيجة عمل قائلها لسنوات في الصحافة العربية، وأساساً لأنها جاءت على هوانا المتلهف إلى طيّ عهد الأسدين، دون أن نعرف أن «التفاصيل» ستطول كل هذه الأعوام وستكون على هذا القدر من التوحش والتعقيد والتشويش.

يبدو الإصرار على رفع الشعارات الأولى للثورة حتى اليوم نوعاً من المكابرة في نظر الكثيرين، وتثبتاً على زمن جميل لا يستعاد. فهل أصاب التخشب من لا يملون من تكرار أن «الثورة مستمرة» وأن «لا فناء لثائر»؟

للإجابة عن ذلك ربما ينفع أن نتذكر ظروف نشأة هذه الشعارات في حالة بكر من التعرف على الذات. فالسوريون، الذين لم يكونوا يتصورون أن الربيع العربي سيتجاوز حدودهم المسيّجة بالقمع، وجدوا أنفسهم وسط مظاهرات عنيدة كالنار، ما إن تخمد هنا موقتاً حتى تندلع هناك. وبهذا تقووا ببعضهم، أفراداً وجماعات. ولم يكن من اللائق، ضمن هذه النضالية، إلا أن تبرز شعارات تعلي من شأن التضامن الأهلي والوطني، وترفع الثائر إلى مصاف البطل الذي كان يتصدى للرصاص بالفعل. ولعله من العسير أن نجد سورياً معارضاً قاوم لحظة البكاء الحار حين شارك في أول مظاهرة، أو شاهدها على الشاشات.

وهكذا وقع جمهور الثائرين في أحابيل خدعة لم ينسجها أحد ولم يكن بالمستطاع تجنبها، لم يكونوا يعرفون أنفسهم ومجتمعهم/مجتمعاتهم بشكل جيد، فتصوروا أن السموّ الذي يعايشونه سيستمر إلى الأبد أو حتى لحظة سقوط النظام، وهو الأمر الذي بدا وشيكاً جداً وفق «حسابات» تفتقر إلى الخبرة بتعقيدات الوضعين الداخلي والخارجي.

في الواقع يمكن لوم القليلين فقط على «سوء التقدير» هذا، أو لا يمكن لوم أحد طالما أن ندرة من أقل القليلين حذرت من الإفراط في التفاؤل، لكن المشاعر العارمة تخطت تنبيهاتهم وحشرتهم في إطار من التوبيخ العام وربما التخوين. وهنا أيضاً يصعب اللوم، فالثورات حراك شعبي مكتظ بالانفعالات لا بالحسابات «الحكيمة».

ما حصل بعد ذلك معروف. ويمكن اختصاره في محاور ثلاثة؛ الأول هو انحياز قطاع واسع من السوريين للنظام أو حيادهم، والثاني انخراط حلفائه الخارجيين في دعمه إلى درجة غير مسبوقة، والثالث وقوع القضية السورية في زاوية من الاستعصاء الدولي. وقد أدت شبكة التفاعلات الناجمة عن هذه العوامل إلى تفكك الصورة المثالية البكر للثورة ووقوعها في شبكة إحداثيات مدوّخة، مما أفضى إلى انفراط عقد الثائرين، المتجمّعين على عجل أساساً، وتفرقهم على معايير شتى؛ إسلاميين وحداثيين، مناطقيين بحسب بلداتهم وعشائريين وفق قبائلهم، مدنيين وعسكريين، فصائل وكتائب وألوية، لاجئين ومهجرين ومتشبثين بأرضهم، دواعش وجيش حر وما بينهما، مصابين وسكان خيام، متضررين ومستفيدين..

لا يشبه هذا في شيء ذلك المشهد الأول البسيط الذي ينقسم فيه السوريون إلى ثوار وشبيحة، حيث ينفصل العالم إلى معسكرين من الخير والشر. ولا يمثل الثورة كما يصفها الشعراء، بوصفها تسامياً أخلاقياً مستداماً ونبعاً لا ينضب من فداء المجموع. وربما بالنظر إلى هذه المقارنة يرى الكثيرون أن الثورة انتهت.

وفي الواقع أن أي ثورة لا تشبه الصورة التي يقدمها الخطباء، فهي انتفاض مجموعة من السكان على ظلم مديد، بما يملكونه من تدرج مستويات الوعي وما يفرق بينهم من تباينات وما سينشأ في نفوسهم من مخاوف ومطامع. وهي نشاط مضطرب يسم مراحل انتقالية دموية من التغيير، ولذلك حملت ندرة منها وصف «الثورة البيضاء» حين لا يقع فيها عنف، بخلاف المعتاد. والأصل في البشر، وثوراتهم، أن يميلوا إلى البحث عن خلاصاتهم الفردية حين يتعثر الطريق. وفي حالة مرور أكثر من عِقد من القتل والجرائم المختلفة فإن ما نعاينه اليوم من فوضى هو نتيجة «طبيعية»، وإن كانت مأساوية ولا تسر الخاطر بالطبع.

ما يؤذن بنهاية ثورة هو استعادة الوضع الذي كان قبلها، وهو ما يسعى إليه بشار الأسد بكل قواه الكليلة دون جدوى. ففي الشمال المحرر تسكن خلاصة من اعترضوا عليه وتصلب عداؤهم له، وفي المناطق التي يسيطر عليها يسود تذمر غير مضمون النتائج في ظل وضع معيشي مختل لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، في حين تسير «الإدارة الذاتية» في دربها الخاص الذي لا يستطيع إعاقته ولا التصالح معه. يعاني حلفاؤه الخارجيون من مصاعبهم الذاتية ومع المجتمع الدولي ومن علاقتهم الشائكة معه وفي ما بينهم. خصومه في العالم عنيدون وإن كانوا غير فاعلين مباشرة، وهم ينتظرون سقوط ورقته التي تصفرّ وتشحب يوماً بعد يوم. بينما تطرد التعقيدات أي دولة تضجر من الجمود وتحاول الانفتاح عليه.

ليس مصير نظام كهذا إلا السقوط «في النهاية». مشكلتنا أن هذه النهاية ابتعدت كثيراً عما كنا نأمل ونتوقع، وأن تناوب الأمل والإحباط أطفأ في نفوس الكثيرين طاقة الحلم. لا سيما أن رحيل نظام الأسد، على أهميته، لم يعد باباً واعداً بمستقبل سهل ومشرق، بل خطوة في طريق طويل وصعب. لكنه سقط، وإن لم يكن ما جرى وسيجري تفاصيل.

تلفزيون سورياً

——————————

الثورة المغدورة … محاولة التغيير في سورية/ علي العبدالله

تأتي الذكرى الثانية عشرة لثورة الحرية والكرامة، والشعب السوري قد زادت جراحُه وآلامه، فبعد القتل والتدمير والنزوح والتشتت في جميع أرجاء المعمورة، جاء الزلزال المدمّر ليعمّق مآسيه وقلقه على مستقبل أبنائه وأحفاده في ضوء انسداد الأفق وعدم رؤية ضوءٍ في نهاية النفق. وقد جدّد الاستعصاء القاتل الذي يخيّم على المشهد السياسي أسئلة الوجود والمصير على خلفية سلوك النظام وسياساته التي لا تشير إلى تغيير في المقاربة والتوجّه، فما زال ردّ فعله العنيف على تظاهرات المواطنين المحتجّين على سلوك رئيس فرع الأمن السياسي في محافظة درعا، عاطف نجيب، خيارَه الوحيد، وتوسّعه في استخدام العنف بكل الوسائل المتاحة، بعد أن قاد ردّه العنيف على متظاهرين سلميين إلى خروج تظاهرات تضامنٍ مع أهالي درعا في محافظات سورية عديدة، رافعين شعاراتٍ مصوغةٍ بلهجة درعاوية “درعا حنّا معاك للموت”. وأدّى التوسّع في استخدام العنف إلى تواتر الاحتجاجات وتناميها وتحوّلها إلى ثورة شعبية عارمة شملت جميع المحافظات.

جاء رد فعل النظام على التظاهرات السلمية عنيفا، لأنه لا يرى أن من حقّ الشعب التعبير عن رأيه وإرادته، فليس من حقّ الشعب في عُرفه الاعتراض على سياساته، ولا المطالبة بتغييرها أو المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن أخطائهم؛ فذلك تجرّؤ على الهيبة المطلقة التي سعى إلى إرسائها لتأبيد حكمه. وهذا ما أكّده ردّ فعله على اتساع نطاق التحرّك الشعبي ضد سياساته وشمول التظاهرات معظم المحافظات السورية؛ وعجز قواه الذاتية على مواجهة الموقف؛ بتسليم سورية لإيران وروسيا، ووضع مصير البلاد ومستقبل أجيالها بيد قوى خارجية لها أهدافٌ ومصالحُ لا تتفق بالضرورة مع تطلعات الشعب السوري ومصلحته الآنية والمستقبلية؛ مع أنه كان قادرا على تلافي حصول الثورة بالاستجابة لمطالب معتدلة نقلت إلى قيادته.

مع أولى التظاهرات الشعبية، أطلق النظام روايته للحدث، وقامت على زعمين متناقضين: أن هدف التظاهرات إقامة إمارة إسلامية، وأن التظاهرات وليدة مؤامرة كونية على نظامه الممانع. الغرض الداخلي للزعم الأول تخويف أبناء الأقليات الدينية والمذهبية لضمان تأييدها، أو حيادها، أما الغرض الخارجي فاستثمار المناخ الدولي المعادي للحركات الإسلامية، على خلفية تنفيذها عملياتٍ إرهابية في عدة دول، لقطع الطريق على التعاطف أو الدعم الخارجي لثورة شعبية. والغرض من الزعم الثاني إنكار وجود مبرّر داخلي للتظاهر، واستدراج تأييد قوى إقليمية ودولية تعارض التغيير بدفع خارجي.

جسّدت رواية النظام طبيعة خياره في مواجهة مطالب شعبية محقّة، خيار أساسه رفض الإصلاح وإجراء أي تغيير في بنيته وسياساته، مهما كان ضئيلا، ومهما كانت نتائج الرفض وتبعاته السلبية على الدولة والمجتمع. رواية هدفها تبرير استخدام العنف ضد مواطنين مدنيين خرجوا في تظاهراتٍ سلميةٍ دعما لمطالب معتدلة تتعلّق برفع يد أجهزة المخابرات الثقيلة عن أعناق المواطنين، ورفع حالة الطوارئ والإفراج عن معتقلي الرأي، وما يؤكّد صحة هذا الاستنتاج عدم ظهور حركات أو جماعات إسلامية تنادي بإقامة دولة إسلامية طوال السنة الأولى من عمر الثورة الشعبية، حتى أن عدنان العرعور، الذي استخدم النظام اسمَه لوصم الثورة بوصف المتظاهرين بالعراعرة، سبق ودان التظاهرات في رسالة مصوّرة بثت على عدة محطات تلفزيونية عربية؛ واعتبرها محرّمة إسلاميا، لأنها خروج عن طاعة ولي الأمر. كما أكّد النظام صحة هذا الاستنتاج بإطلاقه عشرات الإسلاميين من سجونه ومعتقلاته، بمن فيهم قيادات وكوادر خطرة، كي يدفع إلى حصول ما يبرّر زعمه.

أما زعمه الثاني، المؤامرة الكونية، فليس أقلّ تهافتا من زعمه الأول، حيث كانت مواجهة المؤامرة الخارجية، في حال وجودها أو توقّعها، تقتضي قطع الطريق عليها، عبر إزالة أي سببٍ أو مبرّر يمكن أن يدفع قوى محلية إلى الانخراط فيها، أولا. وحشد كل طاقات الدولة والمجتمع في مواجهتها، ثانيا، وهو عكس ما فعله باستخدامه القوة العارية وتدميره حياة المواطنين وممتلكاتهم وتشريدهم في كل بقاع الأرض وتفكيكه الدولة والمجتمع بتمزيق كيانه ووحدته الوطنية، ما كان لمؤامرة كونية، مهما عظمت، تحقيقه. لو كان الأمر مؤامرةً كونية، كما في هذا الزعم، لكان الردّ المنطقي والعملي هو التوجّه لداخل السوري واحتواء أسباب التوتر والاحتقان بإزالة أسباب الشكوى من المظالم والغبن الذي يمكن استثماره من القوى الخارجية التي تتآمر على البلاد، أو الوعد بذلك في الحد الأدنى، وتعزيز تماسك الشعب وحشده في مواجهة المؤامرة الكونية المزعومة، لكنه السلطان والتشبث بالصولجان الذي جسّده شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي كتبه موالو النظام على الجدران في الشوارع الرئيسة للمدن السورية.

لقد أحدث انفجار ثورة الحرية والكرامة هزّات زلزالية وارتدادات محلية وإقليمية ودولية هدّدت بضرب معادلاتٍ سائدة في العمق، معادلات استثمرت فيها قوى إقليمية ودولية كثيرا، ما أثار هواجسها ومخاوفها من التغيير السياسي الآتي على التوازنات الجيوسياسية القائمة، ودفعها إلى التحرّك لحماية استثمارها والتحكّم بتطوّرات الحدث وتداعياته ونتائجه، فقد دعمت إيران توجّه النظام إلى رفض مطالب المواطنين واستخدام القوة لسحق الاحتجاجات. وسعت تركيا إلى إقناع النظام بالاستجابة لمطالب التغيير وإجراء إصلاحات، بما في ذلك إشراك المعارضة في صياغة القرار الوطني. واستثمرت إسرائيل الحدث لتدمير إمكانات سورية مع العمل على عرقلة التغيير، باعتباره كارثيا على مصالحها، ووظّفت نفوذها الدولي للإبقاء على المقتلة والتدمير مستمرّين. ورأت دول في الخليج في الثورة فرصة لإخراج إيران من سورية، وخطرا لاحتمال قيام نظام ديمقراطي في سورية يمكن أن تنتقل عدواه إلى حياضها، فتحرّكت على خطين: الضغط على النظام للابتعاد عن إيران، وتهجين الثورة بمد الحركات السلفية التي تشكّلت بالمال والسلاح والعمل على تحقيقها الهيمنة والسيطرة على الثورة، واستبعاد الخيار الديمقراطي، من جهة، والاستقطاب داخل مؤسّسات المعارضة لصياغة توازن قوى يعيق وحدتها على برنامج محدّد وواضح، عبر بذر مشاريع متناقضة ومتصارعة داخلها.

اعتبرت روسيا إسقاط النظام خسارة جسيمة لوجودها في المياه الدافئة، وخطرا داهما قد يحرّك أحجار الدومينو في محيطها القريب، خصوصا إيران، فاستنفرت إمكاناتها الدبلوماسية والسياسية والخبرات التقنية والعسكرية لدعم النظام وتثبيته، حتى لو أدّى ذلك إلى تفكّك المجتمع والدولة السوريين. أراد الغرب، بجناحيه، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إغراق إيران وروسيا في المستنقع السوري، وعرقلة التغيير في سورية، خدمة لإسرائيل وخوفا من تداعيات انتصار الثورة على دول الجوار (لبنان والأردن ودول الخليج)، وعمل على إنضاج شروط عقد صفقةٍ بين النظام والمعارضة تحت سقف “لا غالب ولا مغلوب”، وإقامة نظامٍ جديدٍ في سورية قائم على المحاصصة بذريعة التعدّدية القومية والدينية والمذهبية والخوف على الأقليات وحقوقها، نظام رخوي ضعيف التماسك وسهل الانقياد أو التفجير، ما يجعل سورية في حالة ضعفٍ بنيويٍّ دائم في مواجهة التحدّيات الإقليمية والدولية.

قاد الانخراط الإقليمي والدولي في الصراع في سورية؛ وتحويله إلى صراع على سورية؛ إلى تعدّد الخيارات وتناقض المصالح وتعقّدها، وتراجع فرص الحل وامتداد الصراع عبر تغذيته بعوامل الاستمرار. انعكس ذلك سلبا على المجتمع والدولة السوريين، فعلاوة على مئات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين، وملايين النازحين واللاجئين، والدمار الهائل في المدن والبلدات والقرى، وانهيار الصناعة والزراعة وتهتّك البنى التحية والخدمية (مدارس، مستشفيات، كهرباء، مياه، نفط، طرق، جسور) والخسائر الاقتصادية الضخمة، طفت على السطح عوارض ضعف الاندماج الوطني وهشاشة الوطنية السورية، وبرزت الخلافات القومية والدينية والمذهبية وانبعثت الولاءات العرقية والمذهبية والدينية والجهوية، وتباينت الرؤى وتعدّدت الخيارات في المجتمع، وانقسمت بين دعوات ومشاريع متضاربة من الفدرالية إلى اللامركزية الإدارية إلى دولةٍ إسلامية، ومركزية تسلطية إلى دولة مواطنة وديمقراطية ومساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

وقد كان لافتا أن أحزاب المعارضة ومثقفيها تعاملوا مع الحدث ونتائجه الكارثية بانتهازية فجّة، عبر ربط المحصلة المأساوية للثورة بما سموها أسلمة الثورة، وقد تعسّف بعضهم أكثر بربطها بما سماه تسننها. زعمٌ زائفٌ غرضه التهرّب من تحمّل مسؤولية الفشل، فأحزاب المعارضة فشلت قبل الثورة في استقطاب قوى شعبية واسعة، وعلى امتداد الأرض السورية، وبناء أطر وكوادر فاعلة، ما كان سيتيح سهولة العمل على تعزيز الحراك الشعبي وترابطه وتماسكه، وهذا جعلها غير قادرة على رفد الحراك بخبراتٍ وقدراتٍ وازنة وضبط خياراته، ما رتّب تحوّل الحراك الثوري إلى تحرّك محلي ضعيف القدرات؛ ضعيف الخبرات، وفشلت خلال الثورة في التعاون والتشبيك الوثيق بين بعضها بعضا، وزاد الطين بلّة تنافسها ومهاتراتها حول تمثيل الثورة والتحدّث باسمها والسعي إلى التفاوض نيابة عنها.

يثير ادّعاء المعارضة ومثقفيها بمسؤولية الأسلمة عن فشل الثورة أسئلة محرجة: لماذا فشل العلمانيون والديمقراطيون في قيادتها، وهل كانت الثورة ستنتصر لو قادوها، وماذا كانوا سيفعلون في مواجهة استخدام النظام القوة العارية، وماذا كانوا سيفعلون مع قوى الثورة المضادّة في الإقليم التي تحرّكت لإجهاض ثورات الربيع العربي أو توجيهها وحرفها عن سياقها الثوري، ومع القوى الإقليمية والدولية، التي انخرطت في الصراع على سورية تحقيقا لمصالحها الخاصة، ما قاد إلى التغطية على السبب الأصلي لانفجار الثورة: نظام قمعي وفاسد وقوى مجتمعية تسعى إلى الحرية والكرامة، خصوصا وأن طرفي الصراع المحليين هما الأضعف في معادلة الصراع؛ وأن الأطراف الإقليمية والدولية قادرةٌ على السيطرة على تطوّرات الحدث وتوجيهه أو عرقلته وحرف الثورة باتجاه خططها هي وأهدافها ومصالحها.

العربي الجديد

————————

في ذكرى الثورة السورية… مراجعة الأولويات ضرورة للاستمرار/ غسان هيتو

دخلت الثورة السورية عامها الثاني عشر، تاركة خلفها سنوات طويلة غيّرت وجه سوريا والمنطقة، بل والعالم أيضاً، وقد مرت على السوريين سنوات مليئة بالمصاعب والتحولات والتعقيدات الكبيرة، اختبروا فيها القتل والإرهاب والتهجير والاعتقال والكوارث الطبيعية والإجرام بمختلف أشكاله، لكن صمودهم وإرادتهم بالاستمرار ظلت الثابت الوحيد، وعلى الرغم من الاختلافات والآراء المتنوعة على صعيد المعارضة السياسية والحراك الثوري، إلا أن هامش الاتفاق الذي طالما التقت تحت ظله جميع الغايات وتلاشت عنده كل الخلافات، كان ولا يزال وسيبقى متمثلاً بالتمسك بمبادئ الحرية والعدالة والكرامة لكل أبناء الشعب السوري.

مسيرة الثورة التي بدأت في العام 2011 لا تزال مستمرة ولن تتوقف أو تنتهي قبل تحقيق أهدافها، قد تتغير الوسائل أو الوجوه السياسية، قد تتعرض خلال مسيرتها لانتكاسات أو خذلان أو تحولات سياسية، إلا أن انتصار الشعب -كحال سائر الشعوب- هو حتمية تاريخية لا يمكن الالتفاف عليها، كما أن سقوط الظالمين والمستبدين والطغاة جزء لا يتجزأ من تلك الحتمية.

وللوصول إلى الحرية والعدالة والكرامة التي تمثل عناوين الثورة ومبادئها الأصيلة، يجب علينا تجاوز العقبات التي تقف في وجه تحقيق تلك الأهداف، إذ لا بد من إعادة تنظيم أنفسنا، ورفع الوعي المجتمعي بخطورة المرحلة الحالية والقادمة، والعمل معاً بشكل منظم وعملياتي للمساهمة في تحويل المناطق التي عانت طيلة سنوات إلى مناطق يحلم بها جميع السوريين، مع نبذ الخلافات الآنية ووضع حد لكل ما يشوه مستقبل سوريا وكل من يضع مصلحته وأجندته الخاصة فوق مصلحة القضية الوطنية التي ثار من أجلها ملايين السوريين.

أما عن المجتمع الدولي، فيواجه اليوم امتحاناً حقيقياً في مخاطبته الشعب السوري، حيث لا تزال فاتورة الفشل السياسي وفشل مفاوضات جنيف منذ عام 2014 تسدد من دماء السوريين الأبرياء، بينما تستمر السياسة الدولية في التحرك بما يخدم مصالحها قصيرة الأمد، حتى فيما يخص ملف المساعدات الإنسانية الذي يديره مجلس الأمن الدولي عبر قرار لا حاجة له عملياً يتم تجديده كل ستة أشهر، رغم قدرة الأمم المتحدة ووكالاتها على تقديم الخدمات الإنسانية لملايين السوريين المقيمين في شمال غربي سوريا بشكل مباشر وضمن إطار القانون الدولي الإنساني من دون الحاجة لقرار من مجلس الأمن، وذلك حسب دراسة قانونية أجراها التحالف الأميركي من أجل سوريا بالتعاون مع مؤسسة جورنيكا 37 القانونية البريطانية.

ولا بد من التنبيه إلى أن الابتزاز السياسي الذي تمارسه بعض الأنظمة في مجلس الأمن الدولي، والمقايضات السياسية المنفذة على حساب الشعب السوري بهدف الحصول على مكاسب سياسية ومحاولة تعويم نظام الأسد من جديد، باتت أموراً واضحة وجلية للشعب السوري، خاصة بعد محاولة تسييس المساعدات الإنسانية في ظل كارثة الزالزال المدمر، وانتظار الأمم المتحدة موافقة نظام الأسد على دخول المساعدات عبر الحدود من معابر لا يتحكم بها، وعلى المجتمع الدولي أن يدرك مقدار الخطر الذي سيترتب عليه وعلى المنطقة في حال الخضوع لهذا الابتزاز.

إن مواجهة الأزمات والمشكلات التي تعترض طريق البشرية ليست مهمة اختيارية بل مصيرية، تتطلب بذل كل الجهود الممكنة لإنجاحها في أسرع وقت، حتى لا تستحيل الحياة في الغد إذا لم تتم مواجهة وقائع اليوم بعقل ووعي.

ولذلك؛ نبدأ اليوم عاماً جديداً من ثورة أسطورية، مؤكدين من جديد أننا لن نيأس وسنستمر في عملنا بدعم الشعب السوري في كل المناطق التي نستطيع أن نعمل بها، من خلال تقديم الخدمات الإنسانية والتمكين الاقتصادي وتمكين الأسرة والمجتمع ومشاريع الحماية، وصولاً إلى عملية بناء الإنسان السوري عبر دعم مشاريع التعليم بكل مستوياته ومراحله.

ورغم كل الظروف السيئة التي تحيط بالسوريين، خصوصاً بعد كارثة الزالزال التي أثرت بكل السوريين في كل المناطق وبالمنظمات الإنسانية السورية التي تعمل في شمال غربي سوريا بشكل خاص، لم يعد هناك شيء خارج إطار الممكن، فمساعينا كسوريين داخل وخارج سوريا أثبتت أننا قادرون على النهوض من جديد وعلى مساعدة بعضنا البعض في كل المحن والكوارث مهما بلغت شدة قوتها على نفوسنا ومجتمعنا، كل الخيارات والوسائل ستكون خياراً مطروحاً للعمل من جديد، وسنسعى في الفترة القادمة لتحقيق المستحيل بالتعاون مع جميع شركائنا في العمل الإنساني من منظمات سورية ودولية ومجالس محلية، وبدعم من كل الجهات التي لا تزال تؤمن بقدرة الشعب السوري على النهوض من تحت الأنقاض من جديد.

تلفزيون سوريا

—————————

12 عاماً بلا حل.. تقسيم واقعي لتركة دولية يعيش بها السوريون أسوأ أيامهم/ عبد الناصر القادري

لم تعد سوريا التي نعرفها كما هي فقد تغيرت ملامحها خلال 12 عاماً مضت، وقُسّمت بشكل غير رسمي مناطق نفوذ وسيطرة أمر واقع مع تدخلات دولية جمدت الحلول السياسية التي كان من المؤمل أن تؤدي لتحقيق العدالة الانتقالية وعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم والبدء في لملمة الجراح وبناء البلد على هدى وأهداف الثورة السورية في الديمقراطية والمواطنة.

ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 230224 مدنياً بينهم 15272 بسبب التعذيب واعتقال تعسفي أو إخفاء قسري لـ 154817 شخصاً وتشريد قرابة 14 مليون سوري، معظمهم على يد قوات النظام السوري.

سوريا.. حدود داخلية ومعابر

وعلى الخريطة السورية حواجز ومخافر ونقاط تفتيش وحدود ومعابر وإتاوات وضريبة عبور من أي نقطة في شماليها إلى أي نقطة في جنوبيها، وكذلك الحال من غربيها إلى شرقيها، والعكس في كل الحالات صحيح.

وتعيش سوريا بعمومها أزمات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية غير منتهية المعالم، شديدة القسوة على المواطن السوري الذي فقد إيمانه بهذا الكيان لنقص كل معايير المواطنة والحياة فيه، مع الفشل البارز للنظام السوري الذي أذكى نار الحرب – باعتباره المسؤول الأول – وتسبب بتمددها من لحظة رفضه إطلاق النار على المتظاهرين العزل إلى وقت تدخل الدول القريبة والبعيدة والقوى العظمى فيها، إلى جانب الميليشيات الطائفية التي استوردت لتزيد الطين بلة في حرب شاملة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.

نحن في سوريا اليوم أمام خريطة نفوذ جُمدت منذ شباط عام 2020 حين سيطرت قوات النظام السوري بدعم وغطاء روسي على مساحات واسعة من ريف إدلب وريف حماة تلاها اتفاق خفض تصعيد بين أنقرة وموسكو في 6 آذار من العام نفسه، ما زالت حدوده ذاتها مع خروقات بين الحين والآخر من قبل النظام السوري وروسيا.

بشار الأسد يلوح لمؤيديه أمام مركز انتخابي في عام 2021

نسب السيطرة

وفي الوضع الحالي ترزح سوريا تحت حكم سلطات الأمر الواقع الممثلة في مناطق سيطرة النظام السوري وهي الأكبر مساحة بـ  (63.38%) بعدد سكان بلغ 9.4 ملايين نسمة، تليها مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بـ (25.64%) بعدد سكان بلغ 3.050 ملايين نسمة، ثم المناطق التابعة لسيطرة المعارضة السورية بـ (10.98%) بعدد سكان بلغ 4.025 ملايين نسمة، بحسب مركز جسور للدراسات.

وتمثل هذه الخرائط أوضاعاً متباينة في ظل عدم الاستجابة الكافية للأزمات التي تطرأ عليها – كان آخرها في الزلزال المدمر – بعد 12 عاماً من قيام الثورة السورية وعدم نجاحها حتى الآن (لأسباب وظروف كثيرة لا يتسع التقرير لذكرها) في تحقيق أهدافها في الحرية وبداية عهد جديد ينهي عقوداً طويلة من الاستبداد.

في المقابل فشل المجتمع الدولي بعد 12 سنة ممثلاً بالولايات المتحدة والدول الغربية وتركيا من جهة، والإصرار الروسي الإيراني المتمسك بالنظام من جهة أخرى في عدم الوصول إلى أي حل سياسي ينهي الأزمة السورية عبر حل توافقي، مع الإشارة إلى الانكفاء العربي والدور غير الخفي لإسرائيل، في ظل موقع سوريا الجيوستراتيجي على خريطة الصراع الدولي.

النظام السوري.. فشل استثنائي

تشهد مناطق سيطرة النظام السوري فشلاً استثنائياً يزيد يومياً خصوصاً بين عامي 2018 -2023، فالوضع الاقتصادي وفق المعطيات التي تُدار بها الأمور عبر إعادة حكومة النظام تدوير المشاكل؛ فإن حُلت مشكلة الكهرباء بدأت أزمة المحروقات والوقود، وإن وقف الناس على دور الخبز صباحاً تأخرت رسالة الغاز المتوقعة في المساء لشهر أو شهرين. إن انخفض سعر السماد للفلاحين اختفى من الأسواق، إن زادت الرواتب المقدرة حالياً بمتوسط 13 – 15 دولاراً أميركياً بالشهر، ارتفعت الأسعار أضعافاً مضاعفة، وعلى هذا المنوال يعيش الناس في سوريا في معادلات مستحيلة الحل.

وأخيراً كانت أزمة البصل دليلاً على فشل النظام في تأمين أدنى مقومات الحياة للسكان القاطنين في مناطق سيطرته، إذ سمح بتصدير البصل للحصول على القطع الأجنبي فإذا به يستورده بأسعار أعلى بعد أشهر.

كما تكمن أساسيات الأزمة لدى النظام في حجم الفساد المفتوح لرجالاته وقواته وموظفيه، إذ لا تخلو مؤسسة مهما كبر حجمها أو صغر من الفساد والرشا والمحسوبيات والسرقة العلنية ما وسّع من حجم الأزمات.

ومثّل انتشار وباء الكوليرا ما يشبه الفضيحة بالنسبة لوباء انتهى في معظم دول العالم، وأدى لوفاة المئات وإصابة الآلاف حيث تقدر الأمم المتحدة أن ثلثَي محطات معالجة المياه في سوريا، ونصف محطات الضخ، وثلث أبراج المياه في سوريا تضررت منذ عام 2011، ولم يقم النظام بإجراء صيانة لازمة لها.

ومع فقدان الليرة السورية لقيمتها أمام الدولار بقيت السلع تبتعد عن متناول الأسر السورية التي لا تعرف كيف تعثر على الوجبة التالية، مع الإشارة إلى أن 90% من السوريين تحت خط الفقر وفق أرقام الأمم المتحدة لعام 2022.

استغلال الكوارث

وكان الزلزال مثالاً واضحاً على استغلال النظام السوري لأي مصيبة قد تحدث للسوريين، فعمل على إرجاع الأزمات التي تعاني منها مناطق سيطرته إلى العقوبات الغربية المفروضة عليه، وهو عكس الحقيقة لأن العقوبات لا تشمل أي مواد غذائية أو أدوية أو نقل مساعدات.

ورغم ما تم نقله عن دبلوماسية الكوارث التي حاول النظام استغلالها ليعود من الباب الإنساني إلى “الحضن العربي”، فشلت الإمارات وغيرها في إحداث أي شرخ حقيقي حتى الآن، كما أن جميع الوفود العربية التي زارت دمشق هي على علاقة به وتزوره من حين إلى آخر.

ولم يكن الوضع الأمني أفضل حالاً، حيث ما زالت القبضة الأمنية التي يفرضها النظام على السوريين في مناطق سيطرته كما هي، ويقوم النظام باعتقال أي شخص من بيته أو من حواجزه المنتشرة في مداخل ومخارج المدن، إلى جانب استمرار عمليات ابتزاز ذوي المعتقلين عبر شبكات نصب على صلة بالأجهزة الأمنية.

ولم يفرج النظام السوري في جميع مراسم العفو التي أصدرها بين آذار 2011 وتشرين الثاني 2022 سوى عن 7351 معتقلاً فقط، وما زال في سجونه أكثر من 135 ألف معتقل ومختف قسرياً، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

ورغم مزاعمه بالسيطرة على درعا فإنها سيطرة هشة تفتقر إلى جميع معايير الاستقرار الأمني حيث لا تتوقف عمليات الاغتيال والاعتقالات والتفلت الأمني وانتشار السلاح في ظل وجود مجموعات عسكرية تنشط ضده منذ عام 2018، وهذا ينطبق نسبياً على محافظة السويداء.

الشمال السوري.. استقرار منقوص

بالمقارنة مع الأوضاع المعيشية مع مناطق النظام السوري تبدو مناطق شمال غربي سوريا، ومناطق تل أبيض ورأس العين في الرقة والحسكة، وفي منطقة “الزكف” و”التنف”، الواقعة جميعها تحت سيطرة قوى المعارضة السورية، أفضل حالاً اقتصادياً من عدة نواح، ولكنه يبقى استقراراً منقوصاً للعديد من الأسباب والتحديات.

واستطاعت الجهات العسكرية والمدنية المسيطرة على محافظة إدلب وأجزاء واسعة من ريف حلب بشكل خاص تأمين معظم المستلزمات المعيشية من كهرباء وماء ووقود واتصالات بسبب قربها من الحدود التركية، كما أدى فك ارتباط تلك المناطق بالليرة السورية المنهارة إلى شيء من الاستقرار النسبي، لكن استخدام الليرة التركية التي فقدت كثيراً من قيمتها جعل الأسعار في مناطق شمال غربي سوريا خاضعة لفوضى التضخم وارتفاع الأسعار بشكل مستمر.

ويبلغ متوسط الأجور في مناطق شمال غربي سوريا بين 100 و125 دولاراً أميركياً، في الوقت الذي يبلغ الحد الأدنى للأجور في تركيا 8500 ليرة تركية (450 دولاراً).

كما أن انقسام مناطق شمال غربي سوريا إلى منطقتي نفوذ زاد من السلبيات، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام على مركز محافظة إدلب وما حولها، في حين يسيطر الجيش الوطني السوري على مناطق ريف حلب الشمالي ومنطقتي تل أبيض ورأس العين بريفي الرقة والحسكة.

وتكمن المشكلة كذلك في وجود حكومتين: “حكومة الإنقاذ” في إدلب، و”الحكومة السورية المؤقتة (منبثقة عن الائتلاف الوطني)” في اعزاز، وأدى ذلك خلال سنوات إلى غياب التنسيق في مختلف القطاعات والمجالات.

وعلى سبيل المثال تزيد الأسعار في شمال غربي سوريا بسبب الضرائب المفروضة من قبل جميع المعابر التي تمر بها شاحنات الاستيراد، فأي سلعة يزيد سعرها بشكل كبير حتى تصل إلى المستهلك.

ويقدر عدد المعتقلين في سجون هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري بـ 7 آلاف معتقل تقريباً وفق أرقام الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

اقتتال فصائلي يؤرق المدنيين

وأدى الاقتتال الفصائلي في ريف حلب في محاولة من هيئة تحرير الشام لزيادة نفوذها إلى حالة من الفلتان الأمني، وشيوع عمليات الاغتيال والسرقة، في اقتتال يفقد خلاله المدنيون حياتهم واستقرارهم.

وفي أزمة الزلزال المدمر التي أثّرت بشكل كبير على مناطق شمال غربي سوريا، كانت الاستجابة التي أبدتها فرق الدفاع المدني السوري والمنظمات سريعة وعلى درجة عالية من الاحترافية رغم قلة الإمكانيات وعدم دخول أي مساعدات حتى اليوم الرابع من الكارثة.

ولم تستطع كل المؤسسات العاملة في مناطق شمال غربي سوريا أن تنهي أزمة المخيمات رغم الجهود المدنية التي تبديها الجمعيات والمنظمات الخيرية لبناء مساكن من أموال المتبرعين إلا أن بقاء مئات آلاف الأشخاص في الخيام بعد 12 عاماً ينم عن فشل كبير في طريقة إدارة الأزمة.

وتؤدي الغارات وعمليات القصف الممنهجة التي تقوم بها قوات النظام السوري بدعم روسي إيراني، وعمليات القصف المشابهة من قبل قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على مناطق شمال غربي سوريا إلى مقتل كثير من المدنيين، الأمر الذي يمنع حالة الاستقرار والشعور بالأمان، بحسب الشبكة السورية.

الجزيرة السورية.. مخاوف أمنية مختلفة

يعد الوضع الاقتصادي في المناطق التي تسيطر عليها “قسد” في شمال شرقي سوريا، أفضل أيضاً من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فهي تسيطر على معظم آبار النفط السورية، وسلة الغذاء الزراعية، ومناطق الرعي، إلى جانب الماء والسدود التي تولد منها أجزاء من الكهرباء، ومع ذلك فنسب الفقر والعوز كبيرة جداً.

وما زالت “قسد” تتعامل بالليرة السورية، وهو ما يجعل السكان في حالة من عدم الاستقرار المادي، وإن كان معدل الرواتب أفضل حالاً مما هو لدى النظام حيث يبلغ متوسط الأجور نحو 60 دولاراً، خصوصاً مع انخفاض سعر المحروقات للتدفئة والمواصلات والصناعة، وهو ما ينعكس على السلع الأخرى مقارنة مع مناطق النظام.

ويعاني السكان في مناطق سيطرة “قسد” من حملات التجنيد الإجباري في قوات الإدارة الذاتية التي تعلنها بين الحين والآخر لمواليد محددة، تشمل الرجال والنساء والشباب وحتى القصر، بلغت أخيراً من يتجاوز عمر الـ 40 عاماً، وسط إدانات من منظمة حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية.

كما تشن قوات “قسد” حملات اعتقال واسعة للرافضين للتجنيد الإجباري، يضاف إلى ذلك الاعتقالات التعسفية لأسباب سياسية وما يتعلق بتهم “الإرهاب”، حيث بلغ عدد المعتقلين في سجون “قسد” ما لا يقل عن 4224 شخصاً بينهم 751 طفلاً و523 سيدة، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي استطاعت الشبكة توثيقهم من دون المخيمات التي يحتجز بها عشرات آلاف الأطفال والنساء.

وتشهد مناطق دير الزور والرقة وريف الحسكة مظاهرات مستمرة ضد ممارسات قوات سوريا الديمقراطية، تشمل قطع طرقات وإحراق إطارات السيارات وقمعاً من قبل “قسد”.

https://www.youtube.com/watch?v=U9bDSO8vAcs&ab_channel=SyriaTV%D8%AA%D9%84%D9%81%D8%B2%D9%8A%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7

تلفزيون سوريا

———————–

أسئلة السوريين.. بين وهم التطبيع وحقيقة الثورة/ يحيى العريضي

مع حلول الذكرى الثانية عشرة لثورة السوريين على منظومة إجرامية، وبعد سنين من مواجع لا يحتملها إلا الجبابرة، وبعد حَدَث طبيعي كارثي فاقم تلك المواجع؛ تتعافر جهود لإعادة تكرير الإجرام، والتطبيع معه. هناك أسئلة للمطبِعين المطبَعين تدور في أذهان السوريين: {مع مَن تطبعون؟}، {لماذا تطبعون؟}، {ما مآلات ما تفعلون؟}، {ماذا نحن فاعلون؟}

مع مَن تطبعون؟

إنكم تطبعون مع من قتل الحياة السياسية في سوريا؛ مَن لم يحتمل رأياً آخر؛ مَن اعتقل مئات الآلاف وقتل الآلاف تحت التعذيب؛ مَن استخدم الطائرات والصواريخ والبراميل المتفجرة لتدمير الحواضر السورية وإفناء ساكنيها؛ مَن استخدم حتى السلاح الكيماوي ضد السوريين؛ مَن شرّد أكثر من نصف سكان سوريا؛ مَن استدعى الميليشيات والاحتلال؛ مَن رهن سوريا وخيراتها ومقدراتها لعقود للمحتل؛ مَن يرضخ لكل إملاء خارجي، ولا يسمح بكلمة للسوريين؛ مَن أفقر وأذل وأهان، حتى الذين وقفوا معه في جريمته؛ مع مَن كانت فرحته لا تُوصف بالزلزال الذي ضرب سوريا، كي يغطّي به بعضاً من التدمير الذي خلّفته آلته الحربية، وكي ينهب ما أتى من مساعدات، والأهم، كي يركب كارثة الزلزال ويطوي صفحات ما حدث. وكل ما ذُكِر أعلاه موثق وحتى مشهود.

لماذا تطبعون؟

لا تغيب عن أحد ذرائعكم وحججكم الظاهرة: – جمود القضية السورية، – عدم تطبيق القرارات الدولية، – الإهمال الأميركي، – ارتهان مجلس الأمن لموسكو، – الوضع المتردي للسوريين حياتياً، – منع إيران من ابتلاع سوريا. وهناك بالتأكيد الأسباب الخفيّة، وعلى رأسها محاولات الظهور، ونكاية بعضكم ببعض، والمطامع المادية عند البعض، حيث مليارات آل الأسد بحوزتهم. ويبقى الأهم من كل ذلك خدمة إسرائيل؛ فبعض الدول العربيّة التي طبّعت مع إسرائيل بحاجة إلى غطاء “ممانع”، ووجدت في ضعف بشّار الأسد ضالتها. من جانب آخر بعضكم يريد وضع خاتمة للمسرحية التي قدمتموها لـ”شعوبكم” كدرس في مصير مَن يعصى أو يثور على حاكمه. وتريدون الخاتمة أن تكون: في النهاية، وبعد كل ما يحدث، يعود الحاكم معززاً مكرماً إلى الساحة العربية والدولية ناصع الصفحة، وكأن شيئًا لم يكن.

مآلات خطواتكم؟

إذا كان استهداف الوجود أو الهيمنة الإيرانية على سوريا ذريعة استراتيجية لخطوات التطبيع؛ فالمآل سيكون عكس ما يتطلّع إليه المتحمسون؛ فإيران تعلن الترحيب بالتقارب والتطبيع. فعندما أعدتم العراق إلى الجامعة العربية لم تُخرجوا إيران منها؛ وما أثّر اقترابكم من لبنان على سيطرة ميليشياتها على لبنان. وفي الحالة السورية، ستجدون خطوتكم تخفّف على إيران المصاريف، فما تدفعون لجيب منظومة الاستبداد بحجة الزلزال يذهب آلياً لجيوب الملالي. والأخطر مؤخراً، هل سيعيد الاتفاق السعودي- الإيراني تلك العواصم العربية إلى العروبة، أم سيحشرها أكثر في القبر الإيراني؟!

وفي الاتفاق الأخير أيضاً، والذي يتبادر لأي عربي أن يباركه، عندما ينص على {عدم جواز التدخل في شؤون الدول الأُخرى} هل ستتوقف إيران عن التغيير الديمغرافي في سوريا، أو دعم نظام الاستبداد بميليشيات القتل والتدمير؟ وهل تُخرج أو أخرجت قواعدها العسكرية من سوريا وغيرها؟  وهل تتوقف عن الأخذ من سوريا قاعدة لتصنيع وتوريد المخدرات باتجاهكم؟! وفي هذا السياق، إذا كانت منظومة الاستبداد الأسدية ونظام الملالي في طهران كالتوأم السيامي؛ أليس التطبيع مع إيران تطبيعاً مع هذه المنظومة الأسدية؟!

واضح أن أهم مآلات ما أنتم فاعلون يتمثّل بقلب الصفحة. ومسح جرائم نظام الاستبداد، وقفل باب الخلاص أمام المواطنين السوريين، وقبول التدخل الروسي والتدخل الإيراني، وشرعنتهما، وتسويق ما حصل عليه البَلَدان من امتيازات في الأرض السورية، واستمرار المأساة وتعميمها إقليمياً. إنها الخطيئة الكبرى التي قد تدفع فيها المنطقة أثماناً باهظة لم يجر حسابها من أي طرف! هل ستنجحون؟ ربما؛ لكن، هل سألتم عن المصير؟!

ماذا نحن فاعلون؟

بناء على حال السوريين هذا، قد يصعب عليكم تصوّر ما يمكن أن يفعلوه. صحيح أن فيهم من النبل والأخلاق الرفيعة ما يجعلهم يترفعون عن أي أمر يشبه أفعال منظومة الاستبداد التي تعاضدون؛ إلا أنهم في النهاية ككل البشر. فما المُتَوَقَّع ممن فقد وطناً، أو مِن ذاك الذي يوجد في الجغرافيا السورية، ولكن لم يعد يشعر بأنها وطن. ومعروف أنه عندما يفقد المرء وطنه الخاص، يفقد وطن الآخر معناه أيضا؟

الويلات التي شهدها السوري بكل أصنافه ستجد ترجماتها مسلكيا بطريقة ما. لقد أخذته أنظمتكم نموذجاً لتأديب شعوبها؛ والكل يساوم ويصافح ويحقق مصالحه على حسابه؛ حتى الأمم المتحدة خذلته. الكل، باستثناءات بسيطة، أجرم بحقه؛ ولم يبق لديه ما يخسره. إن لم يكن هناك إنصاف وعدالة؛ فلن يكون هناك حلٌ، ولن تكون هناك راحة لأحد.

الذكرى الثانية عشرة لثورة السوريين تحل هذه الأيام؛ وليعلم الجميع أن الثورة السورية شعلة لا تنطفئ. ومَن يظن أن القصة “معارضة” مغلوب على أمرها، إقصائية، ركيكة، مسلوبة الإرادة؛ فهو واهم. إنها الثورة التي ما كان أحدٌ ليتوقعها. إنها الطلقة التي لا تعود. إنها دعوة المظلوم، التي لا بد تصيب. إنها صوت وفكر وفعل الخروج إلى الحرية. إنها فعل التغيير، الذي وإن طال، قادمٌ حتماً.

سوريا المغصوبة الذليلة الموجوعة المريضة المستعبَدَة ذهبت إلى غير رجعة؛ وذاك الذي يأخذها رهينة، من جحر المهاجرين للخيانة والعمالة، إلى زوال؛ ومن يحميه إلى خزي وعار وجلاء. حركة مقاومة مدنية قادمة بفكر وتخطيط وعمل؛ فلا يتوهمنَّ أحدٌ بأن حق السوريين يضيع.

تلفزيون سوريا

——————————-

في ذكرى ثورة الحريّة/ أحمد البرهو

بعد أشهر من بدء الثورة السوريّة تفاجأت مثل كثير من السوريين بتحوّل المنطق المدني السوري إلى منطق آخر بطريقة مقحمة بشكل واضح بالنسبة للإنسان السوري العادي، حتّى أصبح “الأستاذ” – وهو اللقب المدني المستخدم عادة في حواراتنا كسوريّين – “شيخا” أو “حجّي” خلال فترة وجيزة!

في أثناء مقابلة عمر رحمون مع معاذ محارب – المقدم المميّز في قناة تلفزيون سوريا – تفاجأت من جديد بتحوّل “الشيخ عمر رحمون” إلى “الأستاذ عمر” فتساءلت عن فرق الدّلالة بين أن تكون “شيخاً” في ثورة حريّة و”أستاذاً” بعد المصالحة مع نظام الأسد!

لعلّ مجمل منجز الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو كان يدور حول البحث في موضوعة “الحقيقة” فعالج فوكو موضوعته من خلال نقد الخطاب، ليس ابتداء من الفعل بل من الحدث؛ فالخطاب جملة رسائل  ودلالات مرهونة بسياقه.

ولمعرفة الحقيقة نصح فوكو بـ”إعادة صبغة الحدث إلى الخطاب، ورفع سيادة الدّال”، فلا يمكن أن تكون الذقن الطويلة مثلاً دليلاً على الإيمان لدى تصوّر ما والإيمان خير؛ ودليلاً على الإرهاب لدى تصوّر مقابل والإرهاب شر؛ وكلا التصوّرين يستندان إلى الدليل ذاته في اللحظة ذاتها؛ فالذقن بذاتها ليست دليلا إلّا ضمن سياق!

أمّا المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد فيميّز بين مجالين للحقيقة:

    – مجال سياسي  برغماتية: الحقيقة حقيقة لأنّها نافعة.

    – مجال فكري: الحقيقة نافعة لأنّها الحقيقة وهي ثابتة.

في الشرق عموماً وسوريا على وجه الخصوص، ظل الوعي المدني والحداثي محط جذب بين تشكيك الاستشراق وبين سلطات أقامت شرعيّتها على التشكيك باستحقاق النّاس الطبيعي لحريّتهم المدنيّة ولعلّ شعار بشّار الأسد في “التطوير والتّحديث” يوم توليه السلطة وريثاً لأبيه، عام 2000، كان ينطوي ضمناً على مثل ذلك؛ إذ الحداثة ممارسة شعب لحقوقه المدنيّة لا برامج توعوية تمارسها السلطة!

في غفلة ما عن أعين النّظام تعرّض الجيل السوري الشّاب لـ”رياح العولمة” فلم يتمكّن ذلك الجيل من الصبر على الذل كسابقه؛ فخرج الشباب بثورة آذار 2011، معلناً “إسقاط النّظام” ومطالباً بـ”الحريّة والكرامة” وأعلن النظام الحرب على الشّعب السوري؛ وهدّد مؤيّدو النظام بـ”الأسد أو نحرق البلد”، فردّ متظاهرون الحريّة بـ”عاشت سوريا ويسقط بشّار الأسد”!

“تنبّأ” بشّار الأسد بالإرهاب وقدّمت وسائل إعلامه “الدليل تلو الدّليل” على وجود الإرهاب، عبر إجبار معتقلين لدى أجهزة النّظام الأمنيّة على الاعتراف أمام شاشة التلفزيون الرّسمي بأنّهم “إرهابيّون تعاطوا كبتاغون مع سندويشة فلافل وتقاضوا مبلغ 500 ليرة سوريّة؛ ليخرجوا بمظاهرة ويهتفوا للحريّة”!

بعد أشهر من بدء الثورة أعلن النّظام عن “عفو” أخرج بموجبه ثلّة من المساجين سيقودون – بعد أشهر قليلة أيضاَ – حراكاً مسلّحاً باسم الثّورة وسيضعون “الديمقراطيّة تحت أقدامهم”، ثمّ أعلن حلفاء النظام دعمه ضد (الثّورة- الإرهاب) وأعلنت دول أخرى دعمها لـ”الثّورة”!

ثورة الحريّة خطاب مغاير له سياقه ودلالاته؛ لكن أصبح من “يضع الدّيمقراطيّة تحت قدمه” ثورة” وفي حين لم يتمكّن “ثوّار الحريّة” من بناء مؤسّساتهم فقد أسهم الدعم الدولي لمعارضة خارجيّة وسلاح إلى الدّاخل في ترسيخ  ائتلاف بين المعارضة و”قادة الجيوش” ضمن مؤسّسات قيل إنّها ممثلة لقوى “الثّورة والمعارضة”؛ وكيف لا يكون أولئك ثوّاراً وقد خرج كثير منهم من سجون النّظام!

في الوقت الذي جرى تغييب ناشطي الثّورة السّلميّة باكراً كـ”رزان زيتونة ورفاقها مثلاً”، ظلّت الذقون الطويلة ولغة التكفير والشّعارات التي تتخطّى حدود الوطن والكثير من الأدلّة التي تثبت للخارج أنّ السوريين إرهابيّون، وللسوريين أنّ الاستبداد خير وأنّ الحريّة شر.

لعلّ السوريين سيظلّون إلى وقت طويل يشكّكون بحقيقة الإرهاب الذي لم يظهر طوال عقود طويلة من استبداد الأسد فيما ظهر بعد أشهر قليلة من ثورة الحريّة؛ فقتل الثّوار لأنّهم مرتدّون يتوجّب قتالهم قبل قتال النّظام “الكافر”!

ظل “الأسد” يقصف المدنيين السّوريين بوصفهم حاضنة “الثّورة-الإرهاب” ويكسبون المتشدّدون أنصاراً بالفعل من بين السوريين المكلومين الموتورين والسّاعين -لا للحريّة- بل للانتقام، حتى اختلطت السّياقات على السّوريين وأمست “ثورة الحريّة” تبدو لمن لا يعرفها كجماعات من أصحاب “الذقون” المتطرّفة فتنفّس النّظام المجرم الصعداء بعد نجاحه أخيراً من دمج حربه على ثورة الحريّة بحرب العالم على الإرهاب!

لكثرة ما تعرضت ثورة الحريّة للخلط بينها وبين سياقات أخرى، ربّما سيظلّ كلام من نجا من ثوّارها عن “الحقيقة” طابعا يميّزهم لأجيال قادمة خاصّة تلك الحقائق المقترنة بأدلّة كثيرة؛ أو بتنبّؤات!

على مشارف العام 2023 وكارثة الزلزال الذي ضرب شمال غرب سوريا وجنوبي تركيا أبدى كثير من السّوريين حذرهم تجاه “التنبّؤات” عن الزلزال؛ وفي حين أنّ الطبيعة المادّية يمكن دراسة قوانينها وتوقّع مستقبلها بالفعل، فإنّ الإنسان –ذلك الكائن الحر بطبيعته- هو ما لا يمكن لجهة بشريّة التنبّؤ بأفعاله في المستقبل إلّا إن كانت تلك التنبّؤات مخطّطا سيدفع الإنسان دفعاً إلى فعل ما هو مخطط له!

على مشارف الزلزال والذكرى الثانية عشرة لإرادة الحريّة، يشهد الحراك السياسي الإقليمي نشاطاً متزايداً قد يدفع إلى السّوريين بحقائق جديدة من مثل: تحوّل النظام المجرم إلى نظامٍ وطنيٍّ يحمي وحدة بلاده؛ بما أنّ العلاقات المصريّة التركيّة تشهد تقاربا وأنّ تلك الحقيقة السّياسيّة الجديدة ستريح تركيا من “مشكلة اللاجئين”  وأنّ النظام سيضمن حماية الحدود الجنوبيّة لتركيا.

وقد تتغيّر حقيقة النظام المجرم على محور آخر ليصبح: النّظام العربي الذي دافع عن سيادة الجمهوريّة العربيّة السّوريّة وعن كرامة العرب كما قال أحد أعضاء وفد البرلمانيين العرب في أثناء زيارته إلى دمشق، فلا بد إذن من إعادة النّظام ليشغل مقعد سوريا في الجامعة العربيّة ويحضر القمّة القادمة في الرياض؛ بما أنّ العلاقات بين السّعوديّة وبين إيران تشهد تقاربا!

بل ربّما تغيّرت حقيقة النّظام المجرم لدى أمريكا ذاتها إنْ “غيّر من سلوكه” فابتعد عن محور إيران ليتحوّل من نظام مجرم قصف شعبه بأسلحة محرّمة دوليّا إلى شريك في الحرب على الإرهاب!

أمّا سوريّاً فإن حقيقة النّظام المجرم الذي استدعى الإرهاب وغذّاه لسحق إرادة السّوريين وتشويه ثورتهم، وقصف المدن والبلدات والقرى السّوريّة، وقتل وشرّد ملايين السّوريين، ومزّق سوريا دولة وشعباً وجغرافيا حتّى أنتج مشكلات سياسيّة وأمنيّة للدول المجاورة وللعالم ثمّ طرح نفسه كضرورة لا بدّ منها للمشاركة في حلّ تلك المشكلات – إنّ حقيقة ذلك النّظام المجرم  ليست مجرّد حقيقة سياسية براغماتيّة بالنسبة إلى السّوريين!

للأسف لا يمكننا الاتفاق مع “الشّيخ عمر رحمون حتى عام 2015″ و”الأستاذ عمر بعد مصالحة الأسد” من أنّ حرب النّظام على السّوريّين إنّما كانت حرباً على “الإرهاب” لا على الحريّة والديمقراطيّة؛ لأنّا كسوريين أصحاب قضيّة الحريّة متأكّدون من أنّ النظام هو من صنع الإرهاب وأنّ حرب النظام الحقيقيّة لم تكن إلّا على الحريّة والديمقراطيّة!

في المقابل وعلى مشارف الذكرى الثانية عشرة لثورة الحريّة لابد لنا -نحن السوريين- من إعادة قراءة جادّة للسياقات التي جرى إقحامها في ثورة الحريّة؛ ونسبة كل توجّه سوري إلى الحريّة إلى الثورة باعتبارها خطاباً متكاملا، وبالمقابل نسبة كلّ استبداد وقتل وإرهاب إلى النظام الذي لابدّ من إسقاطه لأنّه هو الذي حال بيننا وبين أن نكون أحرارا كأي شعب حُر آخر!

تلفزيون سوريا

———————

الحرب السورية… اثنا عشر عاماً وما يزال الفيل تحت السجادة!

بادئ ذي بدء لعل فضولك استدرجك بعدما لفت العنوان انتباهك أن تسبر أغوار هذا التقرير، على أننا لم نتعمد الأسلوب الغرائبي أو العجائبي في صياغته للترويج بل الأمر أعمق من ذلك، وهو حقيقة أن الفيل لا يزال مختبئاً بانتظار من يجلو عنه السجادة على الرغم من أن الجميع يراه، فعادة ما يستخدم هذا التركيب للدلالة على عظمة أمر الفيل “التمييز العنصري الطائفي” الذي يريد أحدهم إخفاءه تحت السجاد عبثاً.

لربما يقول قائل إنه كثر ما تداول الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة التمييز العنصري الطائفي على مدار اثني عشر عاماً من عمر الحرب السورية، لوهلة يبدو هذا صحيحاً، ولكنه لم يعدو في أغلب الأحيان تبادل للسباب والشتائم أو مهاترات بين محللين تستضيفهما قناة تلفزيونية؛ لتزيد من الشرخ أمتاراً وفي الصدع شقوقاً، دون مقاربة واقعية أو استشراف لما ستؤول إليه أوضاعنا نحن السوريين مع الخطاب المشبع كراهية.

تحاول هذه القراءة مع دخول الحرب السورية عامها الثالث عشر مراجعة الممارسات التمييزية القائمة على العنصرية الطائفية من قِبل الفواعل السورية (حكومة ومعارضات)، الناتجة عن الخطاب النخبوي من خلال تصريحات رسمية وسياسية عبر وسائل إعلامية وانعكاسه على الخطاب الشعبوي، واستقراء التشظي الهوياتي الطائفي بين عامة السوريين بعد عقود من الادعاء بوجود أطياف سورية لا طوائف دينية مذهبية، وما آل هذا الصراع الذي أفرغ حمولته أخيرًا في الشمال السوري، حيث أوجدوا تمييزًا عنصريًا عرقيًا قوميًا من نوع جديد.

“الحكومة السورية.. تكتيكات التطييف”

بداية في حال إن سلمنا جدلًا أن ما وصلت إليها الأزمة السورية من عنصرية طائفية، هي جزء متعمَّد من استراتيجية “فرّق تَسُد”، التي تعتمدها الحكومة السورية وتهدف إلى إذكاء التوترات الطائفية من أجل شق صفوف المعارضات، والحصول على دعم الأقليات الدينية التي تمثل مجتمعة ما يصل إلى ثلث الشعب السوري، والتي غالباً ما يُقدَّر أن التركيبة السكانية في سوريا تتألف من 64٪ من السنة، و12٪ من العلويين، و9٪ مسيحيين، و3٪ دروز، و1٪ شيعة، و1٪ طوائف الأخرى.

عمدت الحكومة السورية بناء على ذلك إلى استهداف مدنيين “سنّة” في المناطق المتنوعة دينيًا بغية ترحيلهم أو تهجيرهم ودفعهم إلى العنف والتطرف، بالمقابل سلّحت مجموعات من الطائفة “العلوية”، والتي تتحدث تقارير عن تورطها في عمليات قتل في مناطق عديدة في سوريا منذ ألفين وأحد عشر.

بالتزامن مع ذلك، حينما كانت الأزمة السورية في مهدها في شهر آذار/ مارس عام ألفين وأحد عشر، أي بعد أيام قلائل من بدء الاحتجاجات، أطلقت الحكومة سراح مئتي سجين من “متشددين إسلاميين سنة” من سجن صيدنايا سيئ الصيت، وهي الخطوة التي سرّعت من تواتر “الجهادية والطائفية” في صفوف قوات المعارضة منذ بداياتها.

وسرعان ما انخرط معظم هؤلاء الذين أُطلق سراحهم في عمليات تشكيل أو انضمام إلى بعض الجماعات الأكثر عنفًا وطائفية مثل “جبهة النصرة”، فرع تنظيم القاعدة في سوريا حينها، أو أحرار الشام وهي جماعة سلفية تتبنى خطابًا طائفيًا ولا ترتدع عن انتهاج السلوك العنفي في مقاربته لبقية الطوائف في الجغرافية السورية.

فيما بعد، عملت ھذه الفصائل الجهادية في صیف ألفين وثلاثة عشر علی الاندماج فيما يبنها لتشكل غرف عمليات وتجتاح مناطق ذات غالبية علوية بريف اللاذقیة شمال غربي سوریا، مما أسفر عن مقتل مئة وتسعين مدنیًا علويًا بحسب تقديرات وثقتها منظمة ھیومن رایتس ووتش الحقوقية، لتعزز –بطبيعة الحال- ھذه النوعية من العمليات من الدعم العلوي للحكومة السورية والاصطفاف وراءها.

“المعارضات… تطويف التطييف”

الواقعة الأخيرة أبرزت أيضًا وبشكل جلي حصة المعارضة السورية من المسؤولية في دفع الأزمة السورية نحو تمييز عنصري طائفي، وعليه فإن غض المعارضة مثل المجلس الوطني السوري أو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عن التطرف المتنامي، الذي أخذ منحى متصاعدًا بين مقاتلي فصائلها، قد طال وامتد حتى العام ألفين وأربعة عشر مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”؛ ليتماهى خطابهما فيما بعد تجاه الحكومة السورية أو الكرد على حد سواء.

حينئذٍ كان الوقت قد تأخر جدًا، خاصة بعد هيمنة الجهاديين الإسلاميين بشكل واضح على مفاصل فصائل المعارضة المقاتلة على الأرض، وارتكابها ممارسات عنفية على أساس تمييز عنصري طائفي، وصلت إلى حد عُرفوا بـ”أكلة الأكباد” إثر الحادثة الشهيرة عام ألفين وثلاثة عشر، ولعل النشاط التطرفي هذا قد تكون له رواسب مجتمعية أو محلية قلما ظهر على السطح، إلا أنه في الوقت نفسه يأتي من خلفية تنافس جيو سياسي أكبر يضع السعودية في مواجهة إيران مباشرة.

تدخّل الأخيرة في مرحلة مبكرة من الصراع في سوريا، كان بداية عن طريق تقديم ما يقرب من أربعة مليارات دولار من المساعدات الاقتصادية للحكومة السورية، وثانيًا، وهو الأهم والذي صعّد من وتيرة التمييز العنصري العنفي الطائفي، بإرسال ثلاثة آلاف عنصر من الحرس الثوري الإيراني، وأيضًا من خلال جلب خمسة عشر ألف عنصر من مقاتلين شيعة من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان لرفد القوات الحكومية السورية بالكادر البشري.

أجج التوافد المستمر والحضور الهائل لمقاتلين شيعة أجانب في سوريا مشاعر الامتعاض السنّي المحلي، وحفّز دول الخليج السنّية على معارضة النفوذ الإيراني المتنامي سريعًا في سوريا؛ لتبدأ رحلة التمويل السخي من قبل رياض والدوحة للعديد من الجماعات الجهادية المتطرفة. وأصبح فيما بعد فصيل “جيش الإسلام” الحليف المقرب للرياض، إلا أن المحاولات الحثيثة لنشر الوهابية وخطابها الطائفي ساهم في تنفير السوريين، بما فيهم السنة أنفسهم.

“تقعيد التمييز العنصري الطائفي”

بحسب استطلاع أجرته منظمة “اليوم التالي” غير الحكومية استهدفت أكثر من ألفين وخمسمئة سوري من مختلف الانتماءات الدينية والسياسية والاجتماعية، وسلطت الضوء فيه على حجم التحديات التي تنتظر سوريا في حال توقف الحرب فيها، أكد أن ثمّة خطر متنام يكمن في توجهات التمييز العنصري الطائفي العنفي يتجذر في المجتمع بطرق وأساليب من الصعوبة بمكان التغلب عليها في المستقبل القريب أو حتى البعيد.

وفي وقت أشار فيه استطلاع المنظمة إلى أن غالبية السوريين ينظرون بالفعل إلى المعضلة الطائفية في البلاد على أنها ذات جذور سياسية حديثة ولا تأتي من أحقاد متوارثة، الأمر الذي يفتح الباب فيما بعد نظريًا للحد من تلك التوترات العنصرية الطائفية الرائجة بمجرد معالجة جذور الصراع، إلا أنه من جهة أخرى كشف أيضًا ذهاب سوريا مستقبلًا نحو مصير مقلق، ما يجعل الباب مشرعًا أمام تقعيد الانقسامات التمييزية العنصرية الطائفية ومأسستها.

أكثر ما يستدعي الوقوف عنده أن اثنين وسبعين في المئة من السوريين أفادوا بأنهم وقعوا ضحايا للتمييز العنصري الطائفي، وهي نسبة عالية جدًا بما ينبئ بأن هذه المشكلة، إن لم يتم معالجتها بشكل عاجل، قد تؤسس لعقود مظلمة من الكراهية والعداوة تجاه “الآخر” ليس من طائفة محددة فقط بل “الآخر” الديني والعرقي والسياسي، حتى يمكننا القول “الآخر” من المذهب الواحد، ولعل التباين فيما بين المذهب الواحد إن كانت سنية أو شيعية أو علوية، أبرز مثال على ذلك.

“إعلام الأطياف أم الطوائف”

ينبري الإعلام السوري (حكومة ومعارضات) ليلَ نهارَ؛ ليعلن نفسه بأنه لسان حال الشعب السوري بكل أطيافه، إلا أن الواقع يجافي ما يتداوله من خطاب عنصري تمييزي، ومن حيث لا يدري فإنه يفضح -لا يفصح- توجهاته وأجنداته بترسيخ التمييز بين الطوائف السورية؛ لتُترجم هذه العداوة على أرض الواقع إلى انفصام مجتمعي أكبر بينها، والتي لا تزال إلى الآن (الطوائف) تعيش جنبًا إلى جنب، ولعل إحدى الطرق البسيطة لقياس هذا الانفصام هي رصد متابعي وجمهور الوسائل الإعلامية وعلى رأسها القنوات التلفزيونية.

وتظهر دراسات أنه في الوقت الذي يشاهد فيه غالبية “العلويين” قناة “سما” الفضائية، التي تعد القناة الناطقة بلسان الحكومة السورية، فإن ما نسبته اثنين في المئة فقط من “السنة” يتابعون الفضائية ذاتها، في المقابل يقول السنّة إنهم يفضلون مشاهدة قناة “أورينت” المحسوبة على المعارضة، وهي ذات القناة التي يتابعها ما نسبته صفر فاصلة أربعة في المئة فقط من “العلويين”.

هذه النسب المئوية ليست مجرد أرقام؛ إذ تلعب وسائل الإعلام والفضائيات دورًا رئيسًا في ترسيخ السرديات ذات التمييز العنصري الطائفي وتوجيه العقل الجمعي للمجتمع، والتي ما تزال تعمل على تعميق الهوة من خلال توصيفات ينعت بها كل طرف الآخر حكومة ومعارضة: (شبيح، مرتزق، إرهابي، نصيري، مندس، خونة)، أم الكرد فلهم نصيب الأسد من الطرفين إن كان على المستوى الديني/ الطائفي (كفار، ملحدين، زنادقة…) أو المستوى العرقي/ القومي (انفصاليين، عملاء، بويجية…)، وكان بودنا ألا نذكر هذه الأمثلة؛ كيلا لا نساهم بشكل أو بآخر في إعادة إنتاجها.

كل هذا عدا عن التصريحات السياسية ذات البعد التمييزي العنصري الطائفي من مسؤولي الطرفين وعلى أعلى المستويات، وعليه يمكننا أن نعزو تصاعد مستويات العنف بناء على التمييز العنصري الطائفي إلى سببين رئيسيين، يقفان وراء هذا التدهور المتزايد في العلاقات بين الطوائف السورية، السبب الأول هو القوة المتزايدة للجماعات الجهادية المتشددة، ومن بينها ممارسات وانتهاكات فصائل المعارضة، وأيضًا فظائع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في محاولة إبادة الآخر طائفيًا بل وعرقيًا أيضًا.

وحتى مع هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في آخر جيوبه في الباغوز شرقي دير الزور عام ألفين وتسعة عشر، فإن الفصائل التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا تواصل نهوضها المستمر ولو بمسميات تغيّرها بين الفينة والأخرى، مثل هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” سابقًا، والتي لا تخفِ استعدادها لقتل مدنيين “علويين وشيعة” ثأرًا لقتل الحكومة السورية لمدنيين “سنة”.

السبب الثاني يتمثل في محاولات الحكومة السورية في إعادة التركيبة السكانية في العديد من المناطق السورية، والتي تُعرف بـ”الهندسة الديمغرافية” قد بدأت تسفر عن نتائجها، بتواطؤ تركي وإشراف روسي من خلال تسيير قوافل الباصات الخضراء من وسط سوريا (حمص وحماة) وجنوبها (ريف دمسق والغوطة)، تحمل فصائل المعارضة السنية وعوائلهم إلى شمال سوريا.

الأمر الذي لا يؤدي إلى ازدياد وتنامي أنماط التمييز العنصري الطائفي فحسب بل يصعّب أيضًا من احتمالية عودتهم، بما يؤدي إلى تغيير خريطة سوريا الديمغرافية في الواقع، وكل ذلك على حساب مئات الآلاف من الكرد بالتحديد، بعد تهجيرهم من منطقة عفرين في أقصى شمال غربي سوريا عام ألفين وثمانية عشرة، وما تلاه بعد عام واحد فقط بتهجير الكرد من منطقتي سري كانية/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض عام ألفين وتسعة عشر.

عملية إعادة ترتيب الخارطة السورية ديمغرافيًا بتواطؤ تركي – سوري (حكومة ومعارضات) وبإشراف روسي، لم ولن تتوقف عند الانقسام التمييزي العنصري الطائفي، بل يتعداه إلى تمييز عنصري عرقي قومي عربي/ كردي -ما لبث وأن ظهرت نتائجه على الأرض- بعد محاولات إنشاء ممر على طول الحدود السورية التركية من خلال تهجير الأخيرة للكرد منه، عبر الاحتلالات المتتالية منذ ألفين وثمانية عشر بدءًا من عفرين، وتاليًا عبر التهديدات المستمرة بشن عدوان جديد بين الفينة والأخرى و”على حين غرة”.

وإلى حينها نتساءل… هل سيبقى الفيل تحت السجادة؟

إعداد وتحرير: فاضل محمد

نورث برس

————————–

في الذكرى الـ12 للثورة السورية… من يعلن نهاية معارضة سياسية “غير شجاعة”؟/ علي الدالاتي

لم تعِش المعارضة السورية في السنوات الأخيرة للثورة السورية “حياةً مستقرةً”، ولم تتمتع حتى بظروف الحد الأدنى من الحياة المؤسساتية وجوانب عملها السياسي، على أبسطها؛ “كيفية التعاطي مع مسألة التمثيل السياسي”، لكن في الحقيقة، تأثرت قوى هذه المعارضة بالظروف التي عاشتها البلاد، والمنعطفات الشديدة التي مرّت على سوريا خلال السنوات الماضية، والتغيّرات على صعيد الساحة السياسية الإقليمية والدولية ما جعلها تقف عاجزةً عن الاستجابة للحد الأدنى من متطلباتها.

لم تنحصر عوامل فشل مؤسسات المعارضة السورية وأجسامها السياسية في عامل أو عاملين فقط، فلقد كانت كثيرةً ومتشعبةً، ولعلّ ما شهدناه مؤخراً في عامي 2022 و2023 اللذين اتّسما بمتغيرات وأحداث سياسية عدّة، كان له الأثر الكبير على الساحة السورية ككل، بأبعادها المختلفة واتجاهاتها المتعددة، وأبرزها الانعطافة التركية الأخيرة باتجاه تطبيع العلاقات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية والسياسية مع نظام الأسد، وسط صمت تام من قبل المعارضة السورية السياسية المتمثلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وهيئة التفاوض، والعسكرية المتمثلة في الجيش الوطني السوري.

يقول رئيس أحرار – الحزب الليبرالي السوري، بسام قوتلي، في حديث إلى رصيف22، إن “اعتماد المعارضة السورية على الدعم الخارجي وعدم اعتمادها على الزخم الداخلي للشعب السوري، بهدف إيصال صوته إلى المجتمع الدولي، خلّف حقيقةً، معارضةً تابعةً لجهات إقليمية ودولية، لا شعبية لها على الأرض وعاجزة عن تحريك الشارع السوري، وهو ما انعكس عليها، فأصبحت أداةً منفذةً لرغبات الجهات الداعمة، بدلاً من أن تكون أداةً لإيصال الضغط الداخلي إلى الخارج”.

برأيه، “هذا الأمر بدأ في مراحل عدّة، بدءاً من طريقة تشكيل القوى السياسية الرئيسية الثلاثة وهي الائتلاف الوطني، ووفد أستانة واللجنة الدستورية”، فتشكيل الائتلاف جاء بأمر خارجي وبقي إلى اليوم يمثّل في خارج سوريا، وليست له أي حاضنة شعبية على أرض الواقع، ومن ثم وفد أستانة الذي جاء تلبيةً للجانب التركي بعيداً أيضاً عن الحاضنة الشعبية، ولا يختلف الأمر عن اللجنة الدستورية التي تشكلت وفق رغبة الدول والداعمين الإقليميين”.

مراحل السياسة وتدرجها

منذ اندلاع الثورة السورية في 15 آذار/ مارس 2011، بدأت فكرة الأجسام السياسية الجامعة التي توّجت جميع تلك المبادرات بعد الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، في إسطنبول في تركيا، تحت عنوان توحيد المعارضة السورية وكان يضم كافة الأطياف السياسية من ليبراليين وإخوان مسلمين ولجان تنسيق وأكراد وآشوريين وغيرهم.

مع استمرار الثورة وتحوّلها نحو السلاح وتشتت المعارضة، ظهر جسم جديد نتيجة المشاورات والاجتماعات بين أطياف المعارضة ودبلوماسيين عرب وغربيين، هو “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، الذي أُعلن عن تأسيسه في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012. وتولى الائتلاف الوطني منذ تشكيله مهمة التفاوض، وتولّى تمثيل المعارضة في “مفاوضات جنيف 2″، التي بدأت أعمالها في 22 كانون الثاني/ يناير 2014، وشهدت للمرة الأولى والأخيرة حتى الآن، تمثيلاً متساوياً ومباشراً بين طرف معارض والنظام السوري. كما شهدت تلك الجولة حضوراً دولياً لم يتكرر بعد ذلك، بما سمح للائتلاف يومذاك بتحقيق إنجاز سياسي قد يكون الأهم في مسيرته.

لكن أداء الائتلاف السياسي تعرّض لحالات مدّ وجزر، تبعاً لحالات التجاذب بين مكوناته، إلى أن وصل إلى حالة استدعت من المجتمع الدولي الدفع باتجاه سحب الملف التفاوضي منه، إذ شكّل رفض الائتلاف التجاوب مع “مسودة الإطار التنفيذي لتطبيق بيان جنيف 1″، التي قدمها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا في مطالعته أمام مجلس الأمن بتاريخ 29 تموز/ يوليو 2015، نقطةً مفصليةً، على ما يُعتقد، في خسارة الائتلاف لورقة الملف التفاوضي.

وكان دي ميستورا قد التقى بالائتلاف في إسطنبول في شهر أيار/ مايو 2015، وقال في ذلك اللقاء إنه سيقوم بالتشاور مع عدد من الشخصيات والكيانات السورية في المعارضة والنظام، وشخصيات مستقلة، لكتابة مسودة لخريطة طريق لتطبيق بيان جنيف، وإنه يرغب في مناقشة هذه المسودة مع الائتلاف بعد الانتهاء منها مطلع تموز/ يوليو من العام نفسه. لكن الائتلاف رفض العرض، وأصدرت الهيئة السياسية قراراً يمنع رئيس الائتلاف وأعضاءه من لقاء دي ميستورا قبل عرض المسودة على مجلس الأمن.

كذلك، رفض الائتلاف مقترح دي ميستورا الذي قدّمه لمجلس الأمن في 30 تموز/ يوليو 2017، وأسماه “وثيقة حقائق”، والتي قال فيها إنه يرغب بمزيد من المشاورات لمدة ستة أشهر مع السوريين من أجل الحصول على وثيقة قد تكون نهائيةً وأكثر شمولاً وتفصيلاً وتوافقاً، من خلال إنشاء أربع مجموعات عمل بينية، غايتها تقديم آلية يتمكن من خلالها السوريون من تعريف وتوضيح مفاهيم أساسية لاتفاق جنيف، والتي تم إقرارها في المرحلة الأولية من المشاورات في الفترة الواقعة ما بين أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 2015، واشتملت على لقاءات منفصلة مع سوريين بلغ عددهم 216 شخصاً، وفاعلين دوليين وإقليميين.

يُذكر أن نهاية شهر أيلول/ سبتمبر 2015، شهدت تغيراً دراماتيكياً في المشهد السوري، بعد أن قامت روسيا بالتدخل العسكري المباشر هناك، ما غيّر قواعد اللعبة السياسية والعسكرية، وفرض شروطاً مختلفةً على الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، وانعكس هذا التغير في قرار مجلس الأمن رقم (2254)، الذي صدر في نهاية العام نفسه، وأصبح مرجعيةً للحل السياسي في ما بعد.

وشكّلت المعطيات السابقة مجتمعةً دوافع مهمةً لتشكيل جسم جديد قادر على التعاطي مع الملف التفاوضي بشكل أكثر مرونةً وواقعيةً، وهو الأمر الذي أفضى إلى الدعوة إلى انعقاد مؤتمر الرياض الأول التي نتج عنه تشكيل الهيئة العليا للتفاوض في كانون الأول/ ديسمبر 2015.

معارضة بلا أسنان

يعتقد قوتلي، بأن كل هذه المراحل أدّت إلى “معارضة لا أسنان لها فعلياً”، وليس وراءها زخم شعبي، وهو ما عكس ضعفها، وبكل أسف فإن الدول لا تتعامل مع الضعيف إلّا بتوجيه الأوامر إليه، وهذا ما حصل مع المعارضة الرسمية السورية خلال السنوات الماضية.

أكثر من الزخم الشعبي، تحوّلت هذه الأجسام لتكون محل انتقاد لدى المجتمع السوري، خاصةً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والتي للناس فيها القدرة على التعبير عن سخطهم مما يجري، وبرز ذلك بشكل كبير حين هاجم محتجون رئيس الائتلاف سالم المسلط، في أعزاز، كتعبير عن اعتراضهم على موقف الأخير من التطبيع التركي مع النظام.

يقول قوتلي: “لعلّ موقف السوريين السلبي وعدم ثقتهم بالمعارضة السياسية التي تمثلهم، ليسا جديدين، بل هما قديمان قدم ارتهانها لإملاءات الآخرين، وتأكيد عجزها عن لعب دورها المفترض في قيادة السوريين والدفاع عن أبسط حقوقهم والاهتمام بشؤونهم، والقصد هنا أنه ليس أمراً مفاجئاً حين لا يكون قادتها موضع قبول وترحيب شعبيين، فكيف يمكن أن يثق الشعب السوري بمعارضة وضعت نفسها في دور المنقذ، وهي أساساً انصاعت لأوامر الخارج وبدأت تسير وفق حساباته وتوقيتاته، ضاربةً بعرض الحائط الجهود التي بذلها السوريون خلال السنوات الماضية للخلاص من المستعبدين، والتأكيد على أن الحلول لا تُنجَز إلا بأيادي السوريين أنفسهم؟”.

من جهته، يرى الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان، في حديثه إلى رصيف22، أننا “إذا أردنا الحديث عن فشل المعارضة بشكل موضوعي، فقد كانت هناك مسؤولية في أدائها في إدارة خلافاتها، وطريقة فهمها للسياسة وتعاطيها مع السياسة وفهمها للمصالح الدولية وطريقة تعاملها مع الدول؛ وهذه مسؤولية كبيرة بالتأكيد، إلى جانب عوامل أخرى خارجية تتعلق بمصالح الدول ذاتها”.

من هذه الدول والمصالح وأهمها، برأيه، “الولايات المتحدة التي أرادت لسنوات الثورة أن تطول وأرادت عن طريق فاعلين محليين أن يُنهكوا ويُستنزفوا وأن يوصلوا الساحة السورية إلى حالة لا غالب فيها ولا مغلوب، وأن تكون في الخريطة السورية مناطق كما نراها اليوم، تفصل بينها خطوط تماس، وتحكمها موازنة المصالح الإقليمية والدولية وتوازن الضعف ما بين الفاعلين مع عدم قدرتهم على الاستغناء عن الحاجة الكاملة أو عدم استغنائهم عن الإطارات الدولية والإقليمية التي أصبحوا مرتهنين لها”.

ويضيف: “المعارضة السورية بأجسامها الرسمية باتت اليوم خارج نطاق أي تأثير سياسي أو غير سياسي. هم وُضعوا على الرف منذ سنوات في انتظار أن يتبلور تفاهم ما بين الدول الراعية لهم وبين الدول الراعية للنظام، حينها قد يحتاجون إلى توقيعهم، علماً أنه سيكون كشهادة الزور ولن يعترف به السوريون”.

الجسم المنهك

يسود اعتقاد ليس بجديد لدى السوريين، مفاده أن أحد أسباب تأخر سقوط نظام الأسد، هو عدم اقتناع المجتمع الدولي بوجود بديل قوي ومنظم يمكن أن يكون قادراً على ملء الفراغ، وهو الأمر الذي ما زال النظام وحلفاؤه يستغلونه لتكريس فكرة غياب البديل، وضرورة التعامل مع هذا النظام كأمر واقع، ولعلّ الأمر الذي أثار مخاوف أوساط المعارضة الداخلية والخارجية مؤخراً، المساعي التركية للتقرب من الأسد، على الرغم من تأكيد الجانب التركي على أن أي تقارب أو تطبيع مع النظام السوري لن يكون خارج المرجعيات السياسية للقضية السورية.

تستبعد الكاتبة السياسية عالية منصور، في حديثها إلى رصيف22، أن “تجد المعارضة مخرجاً لتشتتها وعبثها في جسمها المنهك منذ سنوات، فبعض الشخصيات عسكرية بالأساس وبدأت تتكلم سياسياً باسم المعارضة وبعض الشخصيات أيضاً سياسية، باتت الناطقة العسكرية لبعض التجمعات العسكرية وهكذا، فالرجل المناسب في المكان غير المناسب، وتستمر هذه التركيبة إلى اليوم، وعليه من الصعب الوصول إلى حل يرضي التكتلات السياسية المعارضة بعد ما يزيد عن عقد من التشتت والفوضى”.

وتستشهد بحادثة دخول المساعدات الأخيرة بعد الزلزال، حينما ظهر رئيس هيئة التفاوض بدر جاموس، في تصريح صحافي أكّد فيه أن “المساعدات ستدخل في اليوم الثاني لوقوع الزلزال، وفعلياً لم تدخل المساعدات حتى اليوم الخامس، بالإضافة إلى حادثة جديدة وهي اعتداء عناصر الجندرما التركية على سوريين، ما أسفر عن مقتل أحدهم، وهي حادثة لم تتطلب من ممثلي المعارضة الردّ، ما يعني أنهم مستعدون لأن يغضّوا الطرف عن آلام السوريين مقابل إرضاء داعميهم، فهم ليسوا سوى موظفين يأخذون رواتبهم الشهرية ويعملون بما يريد مموّلهم”.

وتخضع اليوم المعارضة السورية التي انحصر وجودها في شمال سوريا بشقيها العسكري والسياسي، لتفاهمات روسية-تركية بدأت باتفاق أستانة ثم اتفاق سوتشي ومن ثم اتفاق موسكو، الذي أنهى هجوم قوات النظام السوري وحلفائه من القوات الروسية والإيرانية على إدلب عام 2020، ولكن الجديد اليوم هو إشراك النظام في تلك الاتفاقات ضمن ما يُسمّى الاجتماع الرباعي الذي يبدأ اليوم في موسكو، والمعارضة تتفرّج.

رصيف 22

—————————

كيف صارت سوريا بلا ثورة وبلا نظام/ عمر قدور

لن نعدم في هذه الأيام، لمناسبة ذكرى انطلاق الثورة السورية، أصواتَ المتحمّسين الذين سيرددون أن الثورة مستمرة. ثمة كليشيه جاهزة، لطالما صادفناها هنا أو هناك، مفادها أن “الثورة فكرة والفكرة لا تموت”. ولا يصعب على شخص متوسط النباهة اكتشاف ما في العبارة الأخيرة من إنشائية جوفاء، ومن خلطٍ بين سعيٍ بشريٍّ مستدام “إلى الحرية أو العدالة…إلخ” وبين الثورة كفعل ملموس، يأتي دائماً على هيئة قَطْعٍ عنيف مع الواقع السائد؛ غالباً بعد استنفاذ ممكنات الأخير.

قد يقول ما تبقى من أنصار الأسد أن الثورة فشلت وانتهت بدليل بقائه في كرسي الرئاسة، ووفق هذا المنطق تكون الكارثة السورية في مناطق سيطرة الأسد نفسه مجردَ ثمن مقبول من أجل بقائه. وتكون سوريا ذاتها بموجب منطقهم هي تلك المساحة التي تنتشر فيها قوات الأسد وحلفاؤه، لتُستثنى تلقائياً مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية ومناطق سيطرة فصائل معارضة، وليكون هناك اعتراف ضمني بأن رئيسهم هو رئيس قسم من السوريين، ليس من ضمنهم الباقون مكرهين تحت حكمه.

كان بشار الأسد، وفي العديد من المناسبات، قد قدّم نفسه رئيساً لجزء من السوريين فقط. منذ إطلاق الثورة، دأب إعلامه على تقديم إشارات يفهم منها السوريون المعنى الطائفي الضيق، ثم جرى تقديم معنى طائفي أوسع قليلاً بتقديمه حامياً للأقليات. هو نفسه، بحديث شهير، تباهي بأن مناطق سيطرته صارت أكثر انسجاماً بعد إبادة وتهجير الملايين. في الواقع لا نحتاج الإشارة إلى إتيانه بالإيرانيين وميليشياتهم ثم بالروس لإثبات عدم وطنيته، فالأخيرة يقرّ بها عندما يفرح بالتخلص من حوالى نصف السوريين.

ينبغي أن نتوقع فوراً هذا السؤال المضاد: وهل “ثورتكم” أحسن حالاً منه؟ من الواقعية أن تكون الإجابة بـ”لا” كبيرة، وبأن الثورة مشت في طريق مشابه للطريق الأسدي. أيضاً، لسنا بحاجة للتدليل على ذلك بالإشارة إلى تبعية الهيئات الناطق باسم الثورة لجهات خارجية، أو بتبعية ما تبقى من الفصائل العسكرية كافة لتركيا. الدلائل الواضحة على أن “الثورة” تدنّت عن أفقها الوطني نجدها لدى الذين ظهروا أكثر تمسكاً بأن الثورة مستمرة، ومن خلال خطاباتهم الإسلامية “السُنّية” أو من خلال خطابات عروبية تكاد لا تتمايز عن البعث إلا بتمايز أصحابها الطائفي أيضاً!

لقد شهدنا خلال سنوات مَن يدافع مثلاً عن جيش الإسلام الذي جهرَ قائدُه بعدائه للديموقراطية، واليوم لا نفتقر إلى من يدافع عن الجولاني علناً أو ضمناً بمختلف الذرائع، وما بينهما كثرٌ يعتبرون الفصائل المسيطرة على “المناطق المحرَّرة” ممثلةً لقيَم الثورة، ولا يشوبها سوى بعض الانتهاكات هنا وهناك، وهي انتهاكات بموجبهم يمكن مصادفتها في جميع الثورات، بما أنه لا ثورة نقية عبر التاريخ! إذا شئنا تعداد الذين اعتُبروا جزءاً من الثورة، وعبّروا كلاماً أو سلوكاً عن ازدرائهم الحرية والديموقراطية، سيلزمنا الكثير من الوقت والمساحة. ما يهمنا أن هؤلاء وأتباعهم قد انحدروا بالثورة من مطلب وطني إلى مطلب فئوي، لا يغيّر من الواقع أن يكون البعض منهم قد انحدر كردّ فعل على ممارسات الأسد.

لإعفاء الثورة من هذا الانحدار يمكن القول أن الذين يتحدثون باسمها هم بالأحرى يستخدمون منطق الحرب الأهلية بوعي أو من دونه، وكان ذلك ليوفّر الكثير من الإنشاء “الثوري” والإنشاء المضاد له لو اعترف أصحاب الأول بأن السنوات العشر الأخيرة هي سنوات حرب، بما قد يتضمنه هذا التوصيف من تفضيل للسيء على الأسوأ أحياناً، ومن الانصياع للضرورات في معظم الأحيان. والأقرب إلى الصواب وصفها بالحرب الثلاثية في شقها الداخلي، إذ من الضروري احتساب قسد بطموحاتها التي تكبر وتصغر حسب موازين القوى في الميدان.

من المفهوم أن الأخيرة “قسد” ذات مشروع يطالب بالفيدرالية، مع قلة اكتراث بتحقيق الديموقراطية، وهي بهذا تنصرف إلى تحقيق مكتسبات خاصة تحت وحدة سوريا نظرياً، لكنها عملياً ليست ضمن الأفق الوطني، وغير مطالَبة من جمهورها بذلك. هذا التوضيح يهدف إلى القول أن القوى الثلاث الأساسية المسيطرة في سوريا ليست ذات أفق وطني، وأن الانقسام الموجود على الأرض تقابله مشاريع غير وطنية.

قد يكون من الضروري في هذا السياق الإشارة إلى الخطأ الشائع بوصف سلطة الأسد بـالنظام”، فالوصف ربما ينطبق عليه إلى حد ما قبل اندلاع الثورة، وقبل أن يُطرح الأسد رئيساً لقسم من السوريين. إن من خصائص النظام أن يتحلى بقليل من الوطنية، وبشيء من شبهة الدولة. نقصد بالوطنية أن يقدّم النظام خطاباً جامعاً، ولو كان يفرضه على محكوميه، أو يمنع صدور خطابات منافسة. لقد سعى الأسد الأب فيما مضى للارتقاء إلى مصاف الأنظمة باختياره ديكتاتوراً صغيراً مثل تشاوشيسكو كمثلٍ يحتذي به، قبل أن ينحدر مثَله الأعلى لاحقاً إلى النموذج الكوري الشمالي.

من دون مساواة بينها، لدينا ثلاث قوى محلية مسيطرة في سوريا، لا يقدّم أيّ منها خطاباً وطنياً قادراً على اختراق الانقسام الحالي. بالطبع تتحمل سلطة الأسد المسؤولية الأكبر بلا منازع عمّا وصلت إليه الأحوال، بدءاً بإيصال السوريين إلى الثورة كانفجار لا بديل عنه، مروراً بالإبادة والتهجير وجلب قوى الاحتلال، وصولاً إلى إنزال محكوميها إلى ما دون خط المجاعة. لكننا نعلم أن القوتين الأخريين، في أحسن أحوالهما ومع حفظ الفوارق بينهما أيضاً، لا تقدّم أي منهما نموذجاً يبعث على الأمل لدى عموم السوريين من حيث السلوك أو من حيث الخطاب.

بعد اثني عشر عاماً على انطلاق الثورة، يكاد اليقين الوحيد الذي يتعزز يوماً بعد يوم هو أن هذه السلطة لا تصلح حتى لتكون نظاماً ديكتاتورياً، إن كان من معنى محترم قليلاً للنظام الديكتاتوري! أما الهيئات والقوى المتبقية على أنقاض الثورة فميؤوس منها، إلى درجة اليأس من قدرتها على جعل تلك السلطة نظاماً في حال دمجهما ضمن تسوية ما. فوق ذلك كله، لا يسع القوى الثلاث إلا أن تكون قوى تفريق، بينما تُبقي الإرادة الدولية على سوريا موحدَّة نظرياً وقانونياً، وكأن الخارج بديلٌ عن الخطاب الوطني الغائب. 

المدن

————————–

في الذكرى السنوية الـ13.. أسئلة الثورة السورية؟/ حسين عبد العزيز

اثنا عشر عاما كانت كافية لأن تتحول الثورة السورية إلى قضية خاسرة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، بعد سنوات من الصراع السياسي-العسكري العقيم.

محليا، سيطرة مطلقة للنظام على مناطق سيطرته لا تسمح بنشوء أي شكل من أشكال المقاومة أو العصيان رفضا للواقع السياسي والاقتصادي المزري، يقابله انصياع تام لقوى المعارضة المسلحة للقرار التركي الناجم عن تفاهمات إقليمية ودولية، بعدما خرج الشمال السوري المحرر بشقيه العربي والكردي من ثنائية النظام/ المعارضة إلى ثنائية الصراع الإقليمي/ الدولي.

إقليميا، بدأ الانزياح العربي نحو النظام السوري منذ نهاية عام 2015، ثم تصاعد تدريجيا ليتحول إلى مطالبة بعض الدول العربية بإعادة المقعد السوري في الجامعة العربية للنظام، ومطالبة البعض الآخر بإعادة تأهيل النظام السوري من أجل القيام بمهامه العربية.

وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية وراء التحول العربي، فإن هذا التحول الذي بدأ بشكل خجول، تحول إلى مسار سياسي منظم بعدما قدم الملك الأردني مقاربة جديدة للتعامل مع النظام السوري والانعطاف السياسي الذي قام به أردوغان تجاه النظام لأسباب تتعلق بالانتخابات التركية المقبلة.

هكذا، أصبح تجول الأسد في عواصم عربية من نافلة العمل السياسي الطبيعي، على اعتبار أن حالة القطيعة السياسية كانت حالة استثنائية وضارة سياسيا بالنسبة لهذه الدول، التي تبني سياساتها على أساس مصالح النخب الحاكمة فيها لا على أساس مصالح شعوبها.

جاء الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا ليعطي دفعة للمسار التصالحي، وتحت حجة العمل الإنساني بدأت شخصيات سياسية رسمية بزيارة دمشق، سبقتها مساعدات إنسانية مباشرة للنظام السوري.

دوليا، منذ عام 2015 اتخذ قرار على المستوى الدولي برعاية أمريكية بضرورة تحجيم الصراع في سوريا بعدما تحقق الهدف بتدمير البلاد وإضعاف القوة العسكرية للنظام السوري بشكل كبير.

كان لا بد من حصر المعارضة في بقعة جغرافية موحدة وتحت هيمنة دولة واحدة (تركيا)، في تقاسم إقليمي ـ دولي لمناطق الصراع، ما يسمح بنشوء مسار سياسي ـ دستوري يمهد للحل النهائي.

لكن، منذ انتهاء المعارك الكبرى عام 2018، أخذ الملف السوري يدخل في ثبات سياسي، ويتحول بسرعة إلى ملف إنساني محض، من خلاله ولأجله تحدث التسويات السياسية والعسكرية.

هل فشلت الثورة؟

قد يبدو هذا السؤال بسيطا والإجابة عليه أبسط، في ظل الواقع الاجتماعي السياسي العسكري القائم.

غير أن حركة التاريخ في الظاهر لا تسير بشكل خطي جلي، وما يبدو أنه انتكاسة قد يحمل في طياته معامل التغيير المستقبلي.

ـ ما تزال فكرة الثورة ماثلة في وعي جزء لا يستهان به من السوريين مما يجعلها فكرة حية ذات كينونة تاريخية، وإن بقيت على مستوى الوعي، فالثورة لا تصبح واقعا إلا عندما تتشكل في الوعي، وإذا كان الواقع الحالي لا يسمح بانتقالها من القوة إلى الفعل بعد الانتكاسة التي تعرضت لها، إلا أنها باقية كفكرة وتنتظر لحظة الإمكان التاريخي.

ـ على الرغم من أن الشروط الذاتية للثورة غير متوفرة لدى معظم السكان في مناطق سيطرة النظام، إلا أن الواقع الاقتصادي ـ السياسي القائم ليس وضعا طبيعيا قابلا للاستمرار إلى أجل غير مسمى، بل هو وضع قائم بفعل عطالة الاستبداد والخوف القابع في النفوس، ومثل هذه الحالة لا تتصف بالديمومة وإن طالت إلى حين.

ـ بقاء المعارضة كهيئة سياسية، وبقاء فصائل المعارضة كتشكيل عسكري، مع تقسيم جغرافي ما يزال قائما بين المعارضة والنظام، وهذا الوضع على سلبياته يحول دون إنهاء فكرة الثورة ومطالبها لدى المجتمع الدولي على الرغم من التراخي الحاصل في مواقفه منذ سنوات عدة.

إن الأزمة السورية مهما طالت، ومهما حاول النظام الظهور بمظهر المنتصر، فإن حلها لا بد أن يكون ضمن ثنائية النظام والمعارضة في نهاية المطاف، حتى لو كان الحل ضمن ترتيبات ثنائية المستويين الإقليمي والدولي.

ليس من الحصافة القول إن الثورة فشلت وأن النظام نجح، فهذا توصيف غير دقيق للواقع ولعجلة التاريخ، فالاستمرارية الاجتماعية والسياسية العميقة تجري من تحت الاضطرابات الثورية.

ومهما حاولت الأنظمة الاستبدادية والشمولية إبقاء الوضع القائم، فإنها لن تنجح في النهاية، لأن الأنساق السياسية التي يمكن فرضها تتناقض مع الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة تناقضا عميقا، في مرحلة التغيير الاجتماعي والواقع السياسي الجديد الذي أفرزته الحركة الاحتجاجية، وساهمت بحدوث تحول بنيوي تمثل بدخول الجماهير الحيز العام الذي ظل لعقود مغلقا أمامها.

—————————————

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى