سياسة

دوافع الاتفاق السعودي – الصيني – الإيراني وآفاقه -مقالات مختارة-

يتم تحديث هذا الملف دوريا، الأحدث في البداية

==================

تحديث 30 أذار 2023

———————–

إيران ومحاولة الخروج من عنق الزجاجة/ علي العبدالله

لم يكن إعلان الاتفاق الإيراني السعودي على إعادة العلاقات الدبلوماسية خلال شهرين مفاجئا، إلا في صدوره وتوقيعه برعاية صينية، حيث سبق وحصلت لقاءات أمنية وسياسية إيرانية سعودية في العراق وعُمان، بحثت نقاط الخلاف وهواجس الطرفين الأمنية والسياسية وسبل إزالتها. وكان دافع الطرف السعودي احتواء المخاطر واستغلال الفرص في ضوء حاجته لتحقيق تطلّعات وبرامج وطنية في مجالات التنمية والتطور الاقتصادي لمواجهة احتياجات المجتمع عبر توفير شروط تنمية مستدامة لا تعتمد على النفط ومشتقاته. في حين كان دافع الطرف الإيراني كسر العزلة والانفتاح على دول الجوار، لاحتواء التطوّرات الأخيرة وما تنطوي عليه من أخطار.

انخرطت إيران مع السعودية في حوار أمني، على ضوء التطورات التي حصلت في الإقليم في السنوات الأخيرة، بدءا باتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والإمارات والبحرين؛ والتنسيق الأمني الإسرائيلي مع دول عربية وضم إسرائيل إلى ساحة عمليات القيادة المركزية الأميركية؛ وتصاعد الحديث عن تشكيل تحالف عربي إسرائيلي لمواجهتها؛ يبدأ بإقامة شبكة دفاعية مخصّصة لمواجهة صواريخها البالستية ومسيّراتها؛ ونجاح إسرائيل في تأسيس قواعد تجسّس في أذربيجان؛ واختراقها الأراضي الإيرانية وتنفيذها عمليات اغتيال وتفجير دقيقة وخطيرة؛ وتصاعد التنسيق الأميركي الإسرائيلي ضدها الذي جسّدته المناورات الكبيرة متعدّدة الأهداف والاتفاق على تزويد إسرائيل بأربع طائرات لتزويد الطائرات بالوقود في الجو للتغلب على بعد المسافة التي ستقطعها الطائرات الإسرائيلية خلال عملية قصف محتملة ضد منشآتها النووية، خصوصا أن هذه التطورات جاءت بعد توقف المفاوضات بشأن برنامجها النووي واستمرار فرض العقوبات الأميركية، وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي نجمت عن هذه العقوبات، وانهيار سعر صرف العملة الوطنية، إذ بلغ الدولار 580000 ريال وتراجع بعد الاتفاق مع السعودية إلى 501300 ريال، والتضخّم والانكماش وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين؛ وعدم نجاح الاتفاق الاستراتيجي مع الصين في تفعيل الاقتصاد الوطني، حيث لم تستثمر الصين في هذا الاقتصاد سوى 185 مليون دولار منذ وصول الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى سدّة الرئاسة قبل عامين؛ ولم تفرج عن الأموال الإيرانية المجمّدة في مصارفها، 20 مليار دولار، استجابة للعقوبات الأميركية وتخفيضها كمية النفط التي تستوردها منها، وانفجار الاحتجاجات الشعبية الكبيرة والواسعة على خلفية مقتل المواطنة الكردية مهسا أميني على أيدي شرطة الأخلاق، وما كشفته الاحتجاجات من احتقان اجتماعي وقومي ضد النظام، عبّر عن نفسه باستهداف القيادة العليا، رفع شعار الموت لخامنئي، ورموز النظام، تكسير وحرق صور مؤسّس الجمهورية الإسلامية، الخميني، وإلقاء قنابل مولوتوف على منزله، وتمزيق صور خامنئي وقاسم سليماني وإسقاط عمائم رجال الدين في الطرقات وخلع النساء الحجاب الذي اعتبرته السلطة رمزا لنظامها، وحرقه، وحصول انقسامات سياسية عميقة داخل الطبقة السياسية بشأن سبل التعامل مع الاحتجاجات وإجراء تغيير في السياسات استجابة لمطالب المحتجين.

وقد زاد الطين بلّة الدفع نحو تصوير الاحتجاجات مؤامرة قومية، يقف الكرد والبلوش وراء انفجارها، لشدّ العصب الفارسي، وانعكاس التصوير السلبي على صورة الإجماع الوطني على النظام الإسلامي وهشاشة الاندماج الوطني، وصدور عقوبات أميركية وأوروبية جديدة، على خلفية القمع الشديد الذي استخدمته ضد المحتجّين، قتل في الشوارع واعتقالات واسعة ومحاكمات وأحكام بالإعدام، وخسارتها التعاطف الأوروبي مع مطالبها وشروطها وتوسّطها لحل الخلافات مع الإدارة الأميركية في المفاوضات النووية، على خلفية اعتقالها إيرانيين يحملون جنسياتٍ أوروبية، وإعدامها الإيراني بريطاني الجنسية، علي رضا أكبري، الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع الإيراني عام 2019، بتهمة التجسّس لصالح المملكة المتحدة.

وقد أضافت عودة بنيامين نتنياهو، المعروف بتوجّهه إلى مواجهة برنامجها النووي بالطرق العسكرية، إلى منصب رئاسة الوزراء الإسرائيلي، وتشكيله وزارة مع أحزاب صهيونية شديدة التطرّف، عاملا إضافيا يُنذر باحتمال إغلاق فرص العودة إلى المفاوضات بشأن برنامجها النووي وبقاء العقوبات، إن لم تُضف إليها عقوبات جديدة، بما في ذلك العودة إلى عقوبات الأمم المتحدة التي رُفعت بُعيد عقد اتفاقية العمل المشتركة الشاملة.

أدركت القيادة الإيرانية حجم (وطبيعة) المخاطر التي تحيط بها، فلجأت إلى الرد بخطة مركّبة، هدفها تخويف الولايات المتحدة من نتائج التضييق عليها ومحاصرتها اقتصاديا وعسكريا؛ وذلك لدفع الأخيرة إلى العودة إلى المفاوضات، والقبول بالمطالب والشروط الإيرانية، بدءا بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60%؛ ومراكمة كميات منه، بات لديها 70 كيلوغراما منه. ولمّا لم تفلح المحاولة في استدراج الإدارة الأميركية للعودة إلى التفاوض، لجأت إلى تخصيب كمية صغيرة من اليورانيوم إلى نسبة 83.7%، نسبة تنذر باقترابها من تحقيق تخصيب بنسبة 90% اللازمة لإنتاج سلاح نووي، ووضع الكمية تحت أنظار مراقبي الوكالة الدولة للطاقة الذرية، لرفع درجة التوتر وتسريع العودة إلى المفاوضات، وعقد اتفاق يرفع العقوبات الاقتصادية. وكانت خطوتها الثانية للضغط على الإدارة الأميركية للعودة إلى المفاوضات النووية والقبول بمطالبها وشروطها الانخراط في دعم الجهود العسكرية الروسية في عدوانها على أوكرانيا بتزويدها بمسيّرات انتحارية، استخدمت في ضرب المدن والبنى التحتية الأوكرانية، محطات إنتاج الكهرباء والطرق والجسور والمشافي. هذا بالإضافة إلى العمل على تعزيز العلاقات مع روسيا والصين، لإعطاء دور أكبر للتنسيق الثلاثي في مواجهة الولايات المتحدة ونظامها الدولي، والعمل على إقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب.

لم تحدث الخطة الأثر المطلوب، أثارت رد فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودفعتهما إلى فرض عقوبات إضافية، فلجأت القيادة الإيرانية إلى اعتماد سياسة التهدئة باستقبال مدير وكالة الطاقة النووية، رافائيل غروسي، والاتفاق معه على السماح بإعادة تركيب كاميرات المراقبة وعودة المفتشين الدوليين للكشف على المواقع، وتقديم تفسير لوجود ذرّات يورانيوم عالي التخصيب في منشأة فوردو، والدعوة إلى ترسيم الحدود البحرية مع الكويت، والاتفاق مع السعودية على إعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات ضمن اتفاق سياسي شامل، اعتبره الناطق باسم الحكومة، علي بهادري جهرمي، تراجعا عن السياسة العدائية تجاه السعودية وتصحيحا لخطأ استراتيجي في سياسة إيران الخارجية، مدخلا لكسر الجمود وتحفيز التحرّكات الدبلوماسية والسياسية مع اعتماد مقاربة لحفظ ماء الوجه، قائمة على تضخيم النتائج المترتبة على الاتفاق مع السعودية، واعتباره انتصارا على المحور الأميركي الصهيوني، عبر كسر الحصار واحتواء موجة التطبيع الخليجي مع إسرائيل، وقتل فكرة التحالف العربي الإسرائيلي في مهدها، وأعلنت عن استعدادها لتوسيع نطاق التطبيع بإعادة العلاقات مع البحرين ومصر، والعمل على الوصول إلى بيئة إقليمية آمنة، تدفع إلى المطالبة بإخراج القوات الأميركية من الشرق الأوسط.

غير أن الشيطان يكمن في التفاصيل، كما يقال، والعقدة الرئيسة أمام تحقيق أهداف إيران بكسر الحصار واحتواء التطبيع الخليجي الإسرائيلي وإخراج القوات الأميركية من الشرق الأوسط هي النظام الإيراني ذاته، فهذا النظام، بتوجهاته القومية العنصرية المغلفة برداء إسلامي مهلهل، وتركيبته السياسية والعسكرية المتشدّدة غير قادر على الوفاء بتعهداته بموجب الاتفاق مع السعودية والتراجع عن سياسات اعتمدها واستثمر في تنفيذ خططها المال الكثير، عشرات المليارات، والرجال، وتأسيس بنى عسكرية مليشياوية وفتح جراح قديمة بين السنة والشيعة في دول الجوار، لتفكيك مجتمعاتها وتمزيق استقرارها الهشّ من أجل بسط نفوذه وهيمنته عليها، خصوصا إذا اكتشف أن اتفاقه مع السعودية لن يؤدّي إلى تمهيد الطريق لعودة المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي ورفع العقوبات الاقتصادية، فالعقوبات لن تُرفع من دون تحقيق المطالب الأميركية التي نقلها وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، إلى القيادة الإيرانية بعد عودته من واشنطن، وخصوصا الالتزام بمسوّدة اتفاق مارس/ آذار 2022 بشأن البرنامج النووي في فيينا، والتفاوض في الخلافات غير النووية، وخفض التعاون العسكري مع روسيا والصين، والالتزام باستئناف الحوار مع دول مجلس التعاون الخليجي، وتبادل السجناء مع الولايات المتحدة. طلبات تؤدّي، في حال الالتزام بها، إلى إضعاف النظام وتشجيع قوى المجتمع الإيراني على المطالبة بتنفيذ تغيير سياسي واقتصادي عميق تحت ضغط احتجاجاتٍ جديدةٍ أسبابها قائمة. فتنفيذ الاتفاق مع السعودية، وخصوصا بند “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، سيعني خسارة النظام الإيراني ورقة القوة الرئيسة، الأذرع الشيعية التي أسّسها ودرّبها وموّلها وسلّحها في عدة دول عربية تحت راية محور المقاومة، التي منحته قدرة على الضغط والابتزاز ليس ضد دول الجوار فقط، بل وضد الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، وتنفيذ الطلبات الأميركية سيفقده بقية أوراق القوة، الصواريخ البالستية والمسيّرات والظهير الدولي.

تشير المعطيات السابقة إلى الموقف الدقيق الذي دخله النظام الإيراني بتوقيعه الاتفاق مع السعودية برعاية صينية وخطورة تنفيذه بنوده على إنجازاته السابقة واستثماراته الضخمة في بنى سياسية وعسكرية في دول الجوار، فرعاية الصين الاتفاق جعلتها ضامنة له ما سيفرض عليها مراقبة تنفيذ بنوده، حفاظا على صورتها ونفوذها في الشرق الأوسط ومصالحها مع دول الخليج العربية، وعدم تنفيذه أو التلاعب في تحديد مضامينه سيضعه في مواجهة مع الصين وخطر خسارة علاقته مع القوة الرئيسة في الترويكا التي جمعته مع الصين وروسيا.

العربي الجديد

————————–

بدايات تحرك جيوبوليتيكي عربي!/ جمال الشوفي

شهد العالم في عقده الأخير عودة بروز الجيوبوليتيك الدولي، وتحكمه بمسارات التحالفات الدولية وتغيير محتوياتها، هذا مع اشتداد الصراع الدولي في الهيمنة على محاوره المتعددة مائيًا وبحريًا وعسكريًا. وإذ يبرز في هذا السياق الجيوبوليتيك الروسي الأشد خطرًا ووضوحًا على السلام العالمي لليوم، خاصة في تمحوره في قلب أوروبا عبر أوكرانيا. لكن ثمة أطر جيوبوليتيكية مرقوبة التحرك في الوقت ذاته كالتحرك الإيراني الواضح في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية في العراق وسوريا واليمن. ومع أنه دون مستوى الجيوبوليتيك الروسي لكن له من الآثار الجسيمة والكارثية على المنطقة، فهل يقود هذا لتشكيل مقابل عربي له؟ وهل تمتلك الدول العربية مقومات العمل الجيوبوليتيكي وأسسه النظرية والتطبيقية؟ وهل يعتبر هذا التحرك العربي قابلاً لأن يكون محوريًا أو طرفيًا في المعادلة العالمية اليوم؟

عدة أسئلة وإجاباتها لليوم غامضة، خاصة وأن تحركات العمق العربي لليوم تخضع لردة الفعل أكثر منها للمبادرة والتحرك الأولي. كما أن معادلات الجيوبوليتيك الدولية تحتكم لقواعد عمل تطبيقية يمكنها التمييز بين التحالف الطويل الأمد، وبين سياسة الإرضاء والتجنب أو ما سمّاه دوغين الرّشوة الجيوبوليتيكية، وبين الزوايا الهشة (الأماد الصغرى) القابلة للقضم من قبل الآماد الكبرى بحسب مصطلحات دوغين ذاتها. فأيّ المحاور يمكن أن تنطبق على التحرك العربي في الآونة الأخيرة؟ وهل هي بصدد تشكيل محور جيوبوليتيكي قابل لأخذ زمام المبادرة في المنطقة؟ أم مجرد رد فعل على مجريات الحدث العالمي وتعقد مشكلاته سواء الإقليمية المتأزمة في العراق واليمن وسوريا، ودوليًا في أوروبا؟ خاصة مع اتضاح بوادر أزمة عالمية اقتصادية متعددة المستويات ماليًا وغذائيًا وعلى مستوى الطاقة، وقابلة للتحول لحرب عسكرية واسعة!

من حيث المبدأ، من المستغرب الحديث عن جيوبوليتيك عربي، تفتقد مراكزه البحثية وصناع قراره لنظرياته التطبيقية والعلمية. كما أن المنطقة لليوم تعرف بالساحة العربية المنفعلة بالأحداث، والتي تُنفذ على ساحتها العديد من المخططات الدولية، منها ما كان موصوفًا بأنه فعل جيوبوليتيكي مباشر كامل المعالم. كما حدث في غزو العراق أميركيًا وبتحالف دولي واسع عام 2003 دون الحديث عن سياسات جيوبوليتيكية حينها، أو بعودة روسيا للفعل الجيوبوليتيكي المباشر والمحدث في سوريا عام 2015 وبدء الحديث الدولي عن عودة الجيوبوليتيك للساحة العالمية؛ مقابل الحديث عن صفقات سياسية دونها، كانت تعتبر نماذج علاقات دولية تدرس من بوابة السياسات الخارجية وتقاطع المصالح وحسب.

في الأعوام المنصرمة، شهدت المنطقة العربية عدة متغيرات في مستويات تفاعلها مع الأحداث الجارية على الساحة المحلية في الشرق الأوسط، تلك التي واكبت ثورات الربيع العربي وتحول مناطق عربية واسعة لساحة حرب متعددة الأطراف، بدأت توصف بدوائر فعل جيوبوليتيكي تتغير معه قواعد التحالف العسكري والأهداف الراهنة والاستراتيجية وما تؤول إليه من نتائج، كما حدث ويحدث في ليبيا واليمن وسوريا. وتبدو المسألة أكثر وضوحًا في سوريا وذلك لاتضاح الدور الروسي العالمي فيها وتوسعه لليبيا نسبيًا، ومن ثم امتداده لأوكرانيا ومحاولته الهيمنة على البحار الدافئة والممرات البرية الواصلة اليها، وفتح بوليفار روسيا حسب تصريحات منظريها، وعودة روسيا للقطبية العالمية. فيما برز الدور الإيراني المباشر إقليميًا والمتوسع في اليمن وسوريا وقبلها العراق.

العمق العربي المتمثل بدول الخليج العربي، بادرت برد الفعل الأولي في معادلة اليمن عسكريًا من خلال إعلانها الحرب المباشرة على قوى الحوثيين الخارجة عن الشرعية اليمنية في 25/3/2015 تحت عنوان عاصفة الحزم، وذلك استجابة لطلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي عند هجوم الحوثيين على العاصمة عدن. في حين بدت بقية التحركات العربية في المسألة السورية والليبية تحركات سياسية غير مباشرة الفعل.

العمق العربي اليوم يجد نفسه أمام نتائج خاسرة على مستويات متعددة، فبعد أعوام على استنقاع الواقع العربي، وعدم إحراز نتيجة محددة في استقراره، تتضح بوادر فقدان المبادرة والقدرة على التحرك العربي في شتى ملفات المنطقة. فاليمن لم تحرز به نتيجة لليوم، وليبيا في السياق ذاته، فيما سوريا وقبلها العراق انفتحت على ساحة متداخلة من النزاعات البينية تتحكم فيها إيران وميليشياتها بشكل أوضح من غيرها بحكم الوجود على الأرض. بينما تمسك كل من أميركيا وروسيا ملفات المنطقة بطريقة اليد العليا، تدير ملفاتها بحسب مصالحها، والأهم من هذا ترسيم وتحديد نقاط التمركز الجيوبوليتيكي ذات الأثر الفعال في المعادلة الإقليمية والشأن الدولي في آن. فروسيا تتمركز في سوريا وعلى ساحل المتوسط مباشرة، وأميركيا في نقاط متعددة أهمها نقطة الوصل العراقية السورية، هذا عدا العديد من الصفقات على مستويات الأسلحة والبترول والاقتصاد والسياسية، بينما تفقد الدول العربية أية قدرة على الفاعلية إزاء كليهما.

يبرز في الآونة الأخيرة الدور الصيني، الذي لم يتخذ لنفسه دورًا جيوبوليتكيًا واضحًا بعد في المعادلة العالمية، ويبدأ بتحريك ملفات المنطقة على قاعدة المصالح المشتركة بتخفيف حدة النزاع الإقليمي وتخفيض أدواره لمستوى العلاقات السياسية، وهو ما يبدو أنه قراءة أولية للاتفاق السعودي الإيراني والمبادرة العربية تجاه سوريا، فهل يشير ذلك لبدء حلول ما في المسألتين اليمنية والسورية من بعدها؟ وهل يخرج هذا عن مصالح أي من روسيا وأميركيا؟

تشير القاعدة الجيوبوليتيكية الروسية التطبيقية إلى أنه حين التمركز في محور دولي بعيد المدى ثمة طرق متعددة للعمل: فالفعل العسكري المباشر للمنطقة الهشة سياسيًا وعسكريًا كسوريا، وتحييد الفاعلين المحيطين بها بالصفقات السياسية والعسكرية كما حدث مع دول الخليج ومصر. لكن عينها بالنتيجة على تشكيل محور تحالفي واسع قابل للتحكم بأدواره في المعادلة العالمية. وبينما تدرك أميركيا هذه المعادلة جيدًا، حاولت في المقابل الحفاظ على مسافة قريبة من المحور الخليجي العربي، ولكن النتيجة المقروءة عربيًا اليوم خسارة عمومية للمنطقة لعدم تقدم أميركيا في المساهمة الفعلية بحل أي مشكلة عالقة فيها، ما يفقد العمق العربي توازنه العام!

الطرق الجيوبوليتيكية سيئة السمعة، وتنذر شرًا بالمنطقة والعالم، لكنها باتت مفروضة في محاور متعددة فيه، خاصة مع احتداد شدة التحالفات الدولية. لتقع المنطقة العربية بين عدة متناقضات تؤدي بالنتيجة لضرورة تحرك عربي خارج حدود ردة الفعل والأخذ بالمبادرة على مستوى التحالف والجدية في إرساء الحلول والوضوح فيها، خاصة بعد استفراد إيران في محاورها الحيوية المحيطة بالعرب، مقابل مواربة تركية بين الروس والأميركان. فهل تتشكل بوادر جيوبوليتيك عربي على أساسه؟ سؤال يفتح البوابة على تحديات جديدة من حيث القدرة والإمكانية أولاً، والمحاور المترسمة ثانياً، والأمن الإقليمي وخاصة الخليجي ثالثًا، والنتائج والأهداف رابعًا وخامسًا… ويضعنا أمام دراسات ومقالات قريبة تحاول الإجابة الأولية عليها..

تلفزيون سوريا

—————————-

الاتفاق السعودي-الإيراني… الممكن والمستحيل/ د. خالد محمد باطرفي

نعود الى الأسئلة المطروحة حول الاتفاق السعودي ال#ايراني، التي أجبنا عن بعضها في المقالين السابقين، لنجيب عن التساؤل حول هوية صاحب القرار، هل هو السيد علي خامئني، المرشد الأعلى، الذي يملك مفاتيح السلطة في بلاده؟ أم الحكومة، التي كأي حكومة قبلها، توقع على اتفاق مع القوى العظمى، والأمم المتحدة، وتقبل بتطبيق قرارات مجلس الأمن على الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي، وتحصل على فوائد الاتفاق، ثم تنقلب عليه، عندما تتعارض إرادتها مع الإرادة العليا؟

وما موقف الحرس الثوري والقوى المتطرفة والجماهير المؤمنة التي تدين بالولاء والطاعة للإمام المعصوم، نائب الإمام الغائب، والتي خربت وعطلت وأعطبت اتفاقات سابقة، أممية، وثنائية مع #السعودية كالاتفاق الشامل في 1998 والأمني في 2001؟

الإرادة المعصومة

الإجابة عن هذا السؤال العريض، نعم عريض. فصاحب القرار هو صاحب الإرادة، وأمره مطاع عند كل من ينتمي إليه ويواليه ويطيعه بلا أدنى شك أو تردد. قرار كهذا لا تتخذه حكومة أو برلمان، ولا ترفع به وزارة خارجية.

ولهذا وقع الاختيار – من طرفي الاتفاق – على مفاوض قوي، وشخصية مقربة من الإمام، وهو علي شمخاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي شغل منصب وزير الدفاع من 1997 حتى 2005، بشخصيته الأمنية والعسكرية، وعرقه العربي وثقافته العربية.

أيتام الوفاق

والسؤال الذي لا يقل أهمية، يدور حول الساحات والجماعات التي ستتأثر حتماً بأي توافق بين أعظم قوتين في المنطقة، السعودية وإيران. فمن الواضح من ردود الفعل وتخبّطات الخطاب الإعلامي لهذه القوى أن الاتفاق كان نازلة لم يحسبوا لها حساباً. فكل المؤشرات السابقة كانت توحي بتباعد المسافات وغياب التوافقات.

والميليشيات والأحزاب التي تشكلت لهدف واحد ومهمة واحدة، مواجهة خصوم إيران، داخل وخارج حدود الدولة الوطنية، والتي زودتها طهران بفائض القوة السياسية والعسكرية والاستخباراتية والأمنية، ووفرت لها ما تحتاج إليه من سلاح ومال ونفوذ. هذه القوى ستصبح بلا شعار ولا مشروع ولا أنياب بعد الاعتراف بإسرائيل، والتوافق مع دول الخليج والرضوخ لمطالب القوى العظمى والمجتمع الدولي في ما يتعلق بالبرامج العسكرية والعلاقات العضوية مع الجماعات الإرهابية، والتدخلات السياسية والأمنية في المنطقة العربية.

المشروع الإمبريالي

إذن، وهذا سؤال وجيه، بغياب المهمة والهدف في المرحلة الآنية، والمصلحة الاستراتجية، على المدى المنظور، هل ستواصل إيران تمويلها السخيّ ودعمها السياسي والاستخباراتي والعقدي لأحزابها وأتباعها، حفاظاً على نفوذها الديبلوماسي، ومصالحها البينية، وتحسّباً لاحتياجاتها المستقبلية وخططها المبيّتة؟ أم تتركهم لقدراتهم المكتسبة ومواردهم الذاتية يشقون طريقهم بأيديهم ويصنعون مكانتهم بأنفسهم؟

في تصوّري، إن إيران الإمبراطورية، وإيران التاريخ، وإيران العقيدة، لن تتخلى عن مشروعها الأبدي في التوسع والهيمنة ونشر المذهب وتمكين الطائفة. فوراء هذا المشروع قناعات إيمانية ومرارات تاريخية ومخططات أزلية.

الظاهر والمستتر

إلا أنها، على الأقل في المرحلة الحالية، ستوقف الظاهر من النيّات والسياسات المرفوضة في الداخل والخارج، والتي أدّت الى طرق مسدودة واضطرابات وطنية وصدامات خارجية وإفلاس وعزلة. وستمضي على جلّ ما تتفق عليه، مع بعض التحايل و الخروقات، والحفاظ على الحد الأدنى من الصلات بمواليها في الخارج، مع توفير الدعم لهم للصمود وتحقيق الذات.

وستعمل في نفس الوقت على إصلاح البيت الداخلي، وترميم الجسور مع الجيران، وخفض سقف التصعيد مع القوى العظمى. وقد تمتد الهدنة سنوات حتى تتمكّن من تحقيق الاستقرار وتمكين الدولة وتسكين الثورات وحل المعضلات الاقتصادية والإدارية والإنمائية. وبعدها … يكون لكل حادث حديث.

إيران وجيل الألفية

إلا أن قطار التاريخ لن يتوقف بانتظار هذه اللحظة، فقوافل التنمية والتطوّر تتسارع في الدول المجاورة، وفائض القوة الخليجية يبني كل يوم قلعة في مشروع السور العظيم. والمسافة التي قطعها الجيران، والتي ضاعفتها أربعة عقود من الهدر والتراجع، تزاداد كل عام مع الرؤى والخطط التنموية الطموحة.

وعندما يقرّر صانع القرار في طهران أن الوقت قد حان لاستعادة زخم المشروع الإمبريالي، يكون جيل الألفية قد تمكن وتلهّف للحاق بالقطار السريع الذي سبقتهم إليه شعوب المنطقة. ولا عودة عند أبناء المستقبل لأوهام الماضي وأشلاء مشروعه المهزوم.

المشهد العربي

وأخيراً، يبقى السؤال الأوسع: هل ستتغيّر إيران حقاً، وتتحوّل الى دولة مدنية، وجارة مسالمة، وشريك تنمية؟ وهل يعني ذلك، في نهاية المطاف، انسحابها العسكري والاستخباري والميليشياوي والعقائدي من الداخل العربي، ولو تدريجاً؟

هل سيتلاشى وجودها في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن؟ أم تحافظ على العلاقات الخاصة بدون التدخلات المباشرة؟ والى أي مدى سيؤثر ذلك على الساحة السياسية والأحوال الاقتصادية والمعيشية والعلاقات الخارجية لهذه البلدان؟

أسباب التغيير

أحياناً تكون الإجابة عن أسئلة الحاضر أصعب منها عن أسئلة المستقبل! ومع ذلك تبدو ملامح التغيير مبشّرة، ويسهل تفسير أسبابها. فالخزينة الإيرانية لم تعد تستطيع اليوم مواصلة الإنفاق على الأتباع والموالي فيما يتضوّر أهل الدار جوعاً. والصراعات مع المحيط الممتدّ من بلوشستان وأفغانستان الى أذربيجان وكردستان، والمواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وحلفائهما. وثورة الحرية المستمرة منذ شهور بلا نهاية منظورة.

والقائمة تشمل الصراعات مع الجيران العرب، والرفض من الشعوب العربية، والتمرّد حتى من الطائفة الموالية. والعقوبات الاقتصادية الدولية الخانقة، والتهديد بضربات قاصمة للمشروع النووي، والخلافات البينية المستعرة بين الميليشيات العربية، والتدافع على السلطة بين مراكز القوى الإيرانية، والتذمّر المتصاعد من البلدان العربية المستعمرة.

كل هذه أسباب منطقية كافية تدفع بسادة طهران للبحث عن مخرج وخلاص. وباب يفتحه الاتفاق مع أكبر دول المنطقة وأغناها قد يشكل طوق النجاة المرتجى، ليس فقط مع البلدان، ولكن أيضاً من خلالها الى العالم بأسره. ومهما كان الثمن الذي ستدفعه اليوم لتحقيق هذا الاختراق للحصار الخانق، فسيكون أهون بكثير من الموت البطيء أو الانهيار المفاجئ.

تصفير أم خفض

الى أيّ حدّ ستذهب إيران لتصفير المشاكل مع العرب، إذن؟ لا أعتقد أن القرار وصل الى حد التفاصيل. لكنه، باعتقادي، قد لا يذهب الى ما ذهبت إليه تركيا من مسافة. فتركيا، رغم كل شيء، لم تصنع ما صنعته إيران، كمّاً وعمراً. وتركت دوماً خطّ رجعة.

وليس سهلاً على من أنفق في أربعة وأربعين عاماً مئات المليارات ومئات آلاف الأرواح لتحقيق حلم تاريخي عظيم، وتصفية حسابات عمرها مئات القرون، أن يدفن مشروعه كله، الى الأبد. لذا علينا أن نتأهّب لمراجعات جزئية، وتراجعات مرحلية، ومصالحات ثنائية لا تحقق كل الوعود ولا تلبّي كل المطالب. وأن نتسلح بسياسة “خذ وطالب” التي نصح بها الملك عبد العزيز الثائر الحبيب بورقيبة ورفاقه في التعامل مع المستعمر. وأن نسعى لتحقيق ما لم يعطَ لنا بإرادتنا، فـ”ما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا”.

* أستاذ بجامعة الفيصل

النهار العربي

—————-

أحداث وفقّاعات ومؤشّرات/ كمال عبد اللطيف

ليس كل ما يحصل في المجال السياسي وفي العلاقات الدولية اليوم، وتتداوله وكالات الأنباء، قابلاً للفهم والتعقل. إنه في كثير من أبعاده يشير إلى جملةٍ من المعطيات، ما تزال في أطوار تشكّلها، رغم كل ما تستوعبه من تصوُّرات ومواقف. ونَفترض أن تسمح صيرورة تطوّره بإدراك بعض أبعاد ودلالات ما يحمله من معطيات. كما يُمكن أن يسمح بإمكانية ذوبانه واندثاره، أو اتّخاذه مظاهر وأوجُهاً أخرى مختلفة عن الوِجهة التي كان عليها. ولهذا السبب، اعتبرنا، ونحن نُواجِه بعض الأحداث السياسية الجارية في مجال العلاقات الدولية، أننا بصدد وقائع سيكون لها ما بعدها في النظام الذي يحكم العالم اليوم. وتحمل هذه الأحداث العلامات الأولى التي يمكن أن تُولِّد، بالفعل، مؤشّرات مُحدَّدة، في دوائر الصراع المشتعلة في عالمنا، كما تحمل جوانب أخرى، منها طابع الفُقاعات والبالونات المستخدمة لقياس مستويات الوعي المرتبطة بها، إذ لم يعد من السهل في عالم مركَّب من عوالم متعدّدة ومتصارعة، ولم تعد تحكمُه ضوابط متوافَق بشأنها، إصدار أحكام قاطعة في موضوعات تتسم بكثير من التعقيد السياسي والتاريخي، وترتبط بأنماط من الصراع السياسي الدائرة اليوم في العالم.

الإشارة هنا إلى الأحداث والتعليقات، التي أُثيرت بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أخيراً، إلى بعض البلدان الأفريقية، وكذلك إلى ظاهرة هجرة أو تهجير بعض الأفارقة من جنوب الصحراء إلى بعض الدول في شمال أفريقيا، والنقاش الذي فَجَّره هذا الموضوع في فضاءات التواصل الاجتماعي، في كل من تونس والمغرب والجزائر، عن السكان الأصليين لشمال أفريقيا. ويرتبط الموضوع بأفق مشروع النهوض الأفريقي، كما يرتبط بالبحث في كيفيّات التخلص من الميراث الاستعماري، الجاثم فوق القارّة الأفريقية بأشكال وصور جديدة. أما الحدث الثاني الذي تريد هذه المقالة التوقف أمام بعض الإشارات التي يحملها، فيتعلق بالمبادرة التي أقدمت عليها الصين في ملفٍّ للمصالحة بين والسعودية وإيران، ونضيف إليها الخطاب الذي ألقاه الرئيس الصيني، شي جي بينغ، عن بعد، يوم 15 مارس/ آذار الحالي، في اجتماع ضَمَّ عديدين من قادة الأحزاب والمنظمّات السياسية لأكثر من 150 دولة، وذلك لمناقشة مشروع الطريق نحو التحديث ومسؤولية الأحزاب السياسية.

ويرتبط الجامع المركزي بين هذه الأحداث بمسألة التحوّلات الجارية في العلاقات الدولية. ونتصوَّر أنه يمكننا ربطها أيضاً بمجموع الأسئلة التي أثارتها وما تزال تثيرها الحرب الروسية على أوكرانيا، وقد دخلت سنتها الثانية، رَاسِمَةً أسئلةً عديدة في مجال تحوّلات النظام العالمي وكيفيات تطوُّره. ففي مختلف الأحداث أعلاه، نقف على أحداث وفقّاعات، كما نعثر على ملامح عامة لمؤشّرات مرتبطة بنظام التحوُّل الجاري في ميدان العلاقات الدولية.

إذا كنا نعتقد أن التحرّكات السياسية الصينية أخيراً ترتبط بالحرب الروسية على أوكرانيا بطابعها المُركَّب، فإنها، قبل ذلك، ترتبط بحضورها الاقتصادي الكبير في العالم اليوم، وسعيها إلى بلوغ مكانة تُناسب هذا الحضور، الذي يشمل كُلّاً من أوروبا وأفريقيا وأميركا. وترسم تحركاتها هذه شكلاً من أشكال مواجهتها أميركا، وهي تعبّر بواسطته عن حاجتها للمشاركة في بناء بعض أوجُه النظام الدولي الجديد. إنها عندما تُشرف على المصالحة الإيرانية السعودية تواجه التصعيد الأميركي ضد طهران، وتزاحم الولايات المتحدة في مواقعها في الخليج العربي، وتنطلق من وعيها بالدور الإقليمي لطرفي النزاع ومكانتهما في المشرق وفي الخليج.

تَرتَّب على المصالحة بين السعودية وإيران الحاصلة في اللقاء الثلاثي في مارس/ آذار الحالي بيان ثلاثي أعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران خلال الشهرين المقبلين، كما عمل على تفعيل بنود اتفاقية التعاون الأمني المعطّلة بينهما منذ 2001. ونفترض أن يشرع الطرفان في بناء علاقات جديدة، من أجل المساهمة في تطوير نظام العلاقات الدولية في عالم مُتغيِّر، عالم متعدِّد الأقطاب يسمح بفتح الأبواب أمام أنماط جديدة من العلاقات الدولية.

نجاح الصين اليوم في القيام بتحرّكات سياسية عديدة، مع روسيا ومع دولٍ عديدة في كل من أوروبا وأفريقيا، ونجاحها اليوم، في الإشراف والعناية بتدبير وساطة جغرافية سياسية، ذات صلة بالنفوذ الأميركي والصراع الإقليمي في المشرق وفي الخليج العربيين، دليل على فعالية الخطوات التي تمارس من أجل موقع في دوائر الصراع العالمي. أما تطوير علاقاتها مع إيران فيتمثل في الاتفاقية التي أبرمت معها في موضوع التعاون الاستراتيجي في قطاع الطاقة، الأمر الذي يساهم بدوره في تقليص الدور الأميركي في هذا المجال بالذات.

لم تكتف الصين ضمن تحرّكاتها السياسية أخيراً بما ذكرنا، بل انخرطت في تقديم تصوُّرها للتحديث، حيث رسمت في خطاب التحديث الذي قدّمه رئيسها أمام عديد من قادة الأحزاب السياسية وممثليها في العالم، تصوُّرها للتحديث والتنمية والشراكة والتقدّم، إذ أعلن أنها لن تسلك طريق النهب التي اختارت الدول الاستعمارية في القرن 19، واقترح مبادرة الحضارة العالمية، مؤكّداً أن عقلية الحرب الباردة متواصلة، وأن تحديث البشرية يقف اليوم أمام مفترق طرق، حيث تُظهر أحداث اقتصادية وسياسة ومالية أننا في بدايات عالم جديد، رغم كل الفجوات التي تتّسع كل يوم في مجال التنمية، ورغم مختلف مظاهر التدهور الإيكولوجي الناتجة عن أشكال تطوّر الصناعات، وتطوُّر علاقة الإنسان بالطبيعة في عالم متغيِّر.

لا يتردد الخطاب في استعمال مفردات مألوفة في تاريخ التمهيد للهيمنة الأميركية والغربية على العالم، رغم أنه يتوخّى إصلاح ما يسميه “نظام الحكم العالمي” وتطويره. يتعلق الأمر بالحديث عن “نظام دولي أكثر عدلاً وإنصافاً … يدفع عجلة تحديث البشرية في بيئةٍ تسودها المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص والقواعد المنصفة للجميع”. وهو لا يتردّد، أيضاً، في اقتراح حلول لتضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، وتحقيق التنمية المشتركة. إلا أن ما نُعاينه خارج الخطاب المعلن وحوارها المتواصل مع روسيا وإيران، واستمرار مواجهتها للمصالح الغربية، وسعيها إلى مزيدٍ من تعزيز علاقاتها السياسية والدبلوماسية في أفريقيا وفي الخليج العربي، وقيامها اليوم بمصالحة إيران مع السعودية، إذ تتغنّى بالتحديث والتسامح والتعايش والتبادل، وتقترح مبادرة الحضارة العالمية! فهل نقف اليوم أمام أحداثٍ أم أمام خطاباتٍ تمهّد لما نقترب من رؤيته فعلاً في عالم متغيِّر؟

العربي الجديد

—————————-

أسواق النفط بعد الاتفاق السعودي الإيراني/ فيصل الفايق

يستدعي إتفاق استئناف العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وإيران بعد وساطة الصين، تحليلا واستشرافا للمتغييرات التي يمكن أن تطرأ على صناعة الطاقة وأسواقها، خصوصا أن البلدين عضوان مؤسسان في منظمة “أوبك” ومن منتجي النفط في منطقة الخليج. يأتي الاتفاق في وقت تشهد فيه أسواق النفط أعلى مستويات الضبابية لتوقعات توازن العرض والطلب مع التراجع الكبير في استثمارات المنبع (الاستكشافات والتنقيب)، يُقابلها ازدياد مضطرد في الطلب على النفط إلى مستويات تخطت تلك ما قبل جائحة كوفيد-19، مما يُثير تساؤلات حول مدى توافر إمدادات نفطية كافية في المدى المتوسط والبعيد.

بعيداً عن بعض اطروحات الإعلام الغربي التي تناولت عودة العلاقات الديبلوماسية السعودية الإيرانية مع تقديم بعض التنازلات الاستراتيجية، وبعيداً عن النظريات التي أشارت إلى توظيف الصين لمصالحها في المنطقة كأكبر مستورد للنفط في العالم، واستثماراتها، في لعب دور الطرف الضامن لهذا الإتفاق، إلا أن أبعاد الإتفاق أوسع بكثير لما يعود به من مردود على الاستقرار السياسي والأمني لكل دول المنطقة والعالم، وهذا يشمل توازن أسواق النفط وأمن الطاقة العالمي واستقرار الاقتصاد الدولي.

كان لافتا أيضا تمركز روسيا كأكبر مصدري النفط الخام إلى الصين في الشهرين الأولين من عام 2023 وفقا لبيانات الادارة العامة لجمارك الحكومة الصينية، التي أظهرت متوسط شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط لواردات الصين من النفط الروسي عند 1,94 مليون برميل يومياً، بزيادة 24 في المئة من 1,57 مليون برميل يوميا في الفترة المقابلة لعام 2022، بينما كانت روسيا ثاني أكبر مورد للنفط إلى الصين العام الماضي بعد المملكة العربية السعودية.

كان لافتا أيضا تمركز روسيا كأكبر مصدري النفط الخام إلى الصين في الشهرين الأولين من عام 2023 وفقا لبيانات الادارة العامة لجمارك الحكومة الصينية، التي أظهرت متوسط شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط لواردات الصين من النفط الروسي عند 1,94 مليون برميل يومياً، بزيادة 24 في المئة من 1,57 مليون برميل يوميا في الفترة المقابلة لعام 2022، بينما كانت روسيا ثاني أكبر مورد للنفط إلى الصين العام الماضي بعد المملكة العربية السعودية.

وحلت المملكة العربية السعودية كثاني أكبر مورد للنفط إلى الصين في شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط من السنة الجارية، وصدرت 1,72 مليون برميل يوميا، وكانت السعودية أكبر مورد للنفط الى الصين في عام 2022 بتصدير 1,75 مليون برميل يوميا (كمعدل وسطي).

علما بأن روسيا تملك خط أنابيب يمتد من شرق سيبيريا الى المحيط الهادئ بطول 4800 كيلومتر، تورد من خلاله النفط الى الصين، بينما ينقل النفط السعودي إلى الصين بحرا من طريق ناقلات النفط العملاقة. مع ذلك، فإن الفرق لا يُذكر بين أكبر منتجَي النفط في العالم، السعودية وروسيا، في التنافس في السوق الصيني.

خلال عام من العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا جرّاء حربها على أوكرانيا، تغيرت ديناميكية أسواق النفط وموسميتها، وتكونت شراكة قوية بين روسيا، كأحد أكبر منتجي النفط في العالم، وثاني وثالث أكبر مستهلكي النفط في العالم، الصين والهند، مما قد يأخذ السوق إلى دهاليز مجهولة يتقوقع معها السوق أكثر. الجدير بالذكر أن الهند تستهلك أكثر من 5 ملايين برميل يوميا بينما تستهلك الصين اكثر من 15 مليون برميل يوميا.

دينامكية أسواق النفط المرتقبة

الإتفاق السعودي الإيراني قد يدفع إلى تغيير خريطة أسواق النفط مع التغيرات الجيوستراتيجية في منطقة الخليج العربي. وإيران في حاجة الى عودة العلاقات الطبيعية مع محيطها في ظل اضطراب الداخل الايراني، وعجزها عن احتواء أزمتها والحصار الدولي الذي تعيشه بسبب العقوبات. لذلك، فإن عودة العلاقات الديبلوماسية السعودية الإيرانية تثير العديد من التساؤلات المتعلقة بمستقبل صناعة النفط وإنتاجه في المنطقة:

– هل سنرى سوق نفط مختلفا مع تغير ديناميكية السوق بتغير موسمية الطلب وتغير التأثيرات على الإمدادات (العرض)؟

– هل الممرات المائية لأكبر صادرات نفطية في العالم (مثل مضيق هرمز) ستصبح أكثر أماناً مما سوف ينعكس ايجاباً على استقرار أمن الطاقة والاقتصاد العالمي، حيث يمر ما يقرب من 20 في المئة من جميع تدفقات النفط الخام والمنتجات البترولية المكررة المنقولة بحراً في العالم عبر مضيق هرمز كما ذكرت إدارة معلومات الطاقة الأميركية؟

– كيف ستتأثر كميات النفط الموجودة في السوق الفورية التي هي أكثر عرضة للعقوبات الاقتصادية والمالية كونها خاضعة لسيطرة الدولار؟ يباع النفط الخام إما بعقود بيع طويلة الأجل من شركات النفط الوطنية في الخليج العربي، خاصة “أرامكو” السعودية، لذلك هي بعيدة عن عوامل المنافسة السعرية لأن كميات بيع البراميل ثابتة ولا تتأثر بتقلبات أسعار النفط ولا بالتغير في هوامش ربح مصافي التكرير. أما البراميل التي تباع في السوق الفورية (المادية) فمعرضة لتقلبات أسعار النفط، هذا بالإضافة إلى عنصر التنافسية.

– هل سنشهد عودة شركات النفط العالمية الى استثمارات المنبع في ايران؟

 منذ منتصف السبعينات، خلال فترة حكم شاه إيران، لم يتم تطوير البنية التحتية لصناعة النفط في إيران نتيجة غياب استثمارات المنبع. ومنعت البنية التحتية المهترئة لصناعة النفط الإيراني ومرافق التصدير القديمة طهران من رفع انتاج النفط لأكثر من 3,8 مليون برميل يومياً منذ رفع العقوبات الإقتصادية مطلع عام 2016، لينخفض الإنتاج الى مليوني برميل يوميا، بحسب صندوق النقد الدولي، بعد عودة العقوبات الاقتصادية مع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

الجدير بالذكر أنه حتى مع تهاون الإدارة الأميركية الديموقراطية الحالية حيال فرض عقوبات اقتصادية قاسية على طهران، إلا أن إنتاج النفط لم يتجاوز 2,5 مليون برميل يوميا في ظل عزوف شركات النفط العالمية عن استثمارات المنبع وخروجها من إيران، الأمر الذي يعكس عجز إيران عن العودة بقوة لرفع الإنتاج في المستقبل القريب.

يتوقع أن يساعد الاتفاق الديبلوماسي السعودي الإيراني في تأمين أمن الطاقة العالمي بعد سلامة أهم الممرات المائية لصادرات النفط من العمليات الإرهابية من جهة، ومن جهة أخرى سوف يشجع على عودة استثمارات المنبع بعدما شهدت المنطقة عزوف بعض شركات النفط العالمية اثر جائحة كوفيد-19، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى استكشافات نفطية جديدة يمكنها تعويض النقص في الإمدادات النفطية الناتج من نضوب حقول النفط التقليدية.

 وأخيرا، هل ستتم عرقلة الفوائد الاقتصادية والأمنية للإتفاق السعودي الإيراني من أطراف غربية تحاول إعاقة أي ازدهار وتقدم للمنطقة؟

 المجلة

 ————————

مصالحات إقليمية بالجملة: أوهام وصراعات على وقع الغياب الأميركي/ هلا نهاد نصرالدين

ممّا لا شكّ فيه أنّه ليس من مصلحة أميركا وجود تعاون عميق بين الصين وإيران والسعودية ومن خلفهم روسيا، إنّما تصنيف هذه الاتفاقية كضربة طويلة الأمد للدبلوماسية الأميركية أمر سابق لأوانه.

أصبحنا على موعد يومي مع مفاجأة إقليمية.

مصالحات بالجملة شملت أقطاب الصراعات التي حكمت المنطقة في العقد الأخير. الخصومة التي سيطرت على توازنات المنطقة بين إيران والسعودية، تأخذ اليوم منعطفاً جديداً بعد إعلان التقارب بين البلدين.

قبل ذلك، شهدنا مصالحات عربية وإقليمية بين مصر وقطر وتركيا، كما برز تقارب خليجي- خليجي وانفتاح على روسيا والصين.

على جبهة الإمارات- سوريا نشهد غزلاً مفرطاً وحفاوة إماراتية تحديداً من الشيخ محمد بن زايد، في رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي زار أبو ظبي راهناً، وهي أول زيارة له إلى دولة عربية منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011.

طائرات حربية إماراتية وطلقات مدفعيّة رحّبت بالرئيس المحتفى به، بشار الأسد، في مشهد أقلّ ما يقال عنه أنّه غرائبي.

أمّا السعوديّة، فتستعدّ لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد، فهناك مفاوضات سعودية سورية لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد انقطاع دام أكثر من عقد، في ظلّ موقف أميركي “لم يتغيّر” من التطبيع مع الأسد، بحسب وزارة الخارجية الأميركية.

سنوات من الحروب، آلاف الضحايا، الكثير من الدم والتهجير والعنف والتعذيب والتطرّف، انتهت وكأنّ شيئاً لم يكن! وحدها أعداد وعائلات الضحايا والمقابر الجماعية وظواهر النزوح واللجوء والدمار والخسائر الاقتصادية، تذكّر بالمجازر التي وقعت والأرواح التي أزهقت والعائلات التي تشتتت والبيوت التي قُصفت ودُمّرت على رؤوس ساكنيها. وها هم قادة الحروب والأزمات والاستقطابات اليوم يتصالحون، يتصافحون ويحتفلون. الطائرات الحربية الاماراتيّة التي استُخدمت في الحرب في اليمن، هي نفسها احتفلت بوصول الأسد.

لكن بعيداً من مشهد زعماء يلتقون ويتصافحون ويبتسمون، ما هي الكلفة الحقيقية لصراعات حكمت المنطقة وتسببت بالكثير من المعاناة للملايين في سوريا واليمن، وأي أثمان تكبدتها تلك المجتمعات؟

“لا يوجد عصر ذهبي في العلاقات السعودية- الإيرانية… أي شخص يعتقد أننا على أعتاب عصر ذهبي بين طهران والرياض عليه أن يستلقي وينتظر بهدوء حتى يمر الشعور”

مآسي الحرب السورية

سنوياً تمرّ ذكرى اندلاع الثورة السورية في 15 آذار/ مارس 2011، بالمزيد من اليأس والحزن، أما هذا العام فقد تُوجت بتعويم نظام الأسد الهائل من مختلف الأطراف. فزلزال 6 شباط/ فبراير 2023 استُخدم ذريعة للكثير من الدول من أجل التضامن مع الأسد، ودعم النظام وإعادة بناء الجسور والعلاقات المنقطعة منذ ندلاع الثورة السوريّة.

بحسب تقديرات الأمم المتّحدة، تسبّبت الحرب السورية بشكل مباشر بمقتل أكثر من 300 ألف شخص على مدى 10 سنوات، أي  1.5 في المئة من سكان سوريا. أمّا المرصد السوري لحقوق الإنسان، فوثّق مقتل 389 ألف شخص.

“شهدت سوريا أضخم أزمة نزوح في العالم، إذ اضطر أكثر من 13 مليون شخص إما للفرار خارج البلاد أو النزوح داخل حدودها. لا يزال أكثر من 6.9 مليون شخص في عداد النازحين داخل البلاد، ويحتاج 14.6 مليون شخص إلى مساعدة إنسانية وغيرها من أشكال المساعدة”، وفقاً لأرقام المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR في آذار 2022.

آثار الحرب اليمنيّة

أمّا الحرب اليمنيّة، فبحسب تقديرات منظّمة الأمم المتّحدة، تسبّبت في مقتل  377 ألفاً حتى أواخر عام 2021. ما يقرب من 60 في المئة من تلك الوفيات- أي 223 ألفاً- هي وفيات غير مباشرة وناجمة عن قضايا مرتبطة بالنزاع مثل عدم الوصول إلى الغذاء، المياه والرعاية الصحية.

قال مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أخيم شتاينر: “في حالة اليمن، نعتقد أن عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم نتيجة النزاع يتجاوز عدد الذين لقوا حتفهم في ساحة المعركة”.

من المرجّح أنّ المصالحة السعوديّة – الإيرانيّة ستضمن تمديد الهدنة في اليمن وترسيخها، بعد الحرب التي بدأت عام 2014، وتدخّلت السعوديّة بعدها مع عدد من الحلفاء في ما عُرف بعاصفة الحزم التي انطلقت في آذار 2015 واستمرت لسنوات.

لكن برغم الهدنة، “لا ينبغي لأحد أن يتوهم أن استئناف العلاقات الدبلوماسية سينهي كل الصراع بين السعودية وإيران… الاتفاق خطوة إيجابية وضرورية، لكنه خطوة صغيرة يمكن التراجع عنها بسهولة. ومع ذلك، فإن المزيد من التواصل بين إيران والمملكة العربية السعودية قد تتجنب حدوث صراع أكبر”، بحسب مقال تحليلي على مجلّة Foreign Policy، خصوصاً أنّ طموح إيران النووي ما زال يشكّل تهديداً للمنطقة والمملكة على وجه الخصوص، وبالتالي ما زالت الثقة مفقودة بين الطرفين.

أمّا في خصوص الجماعات المسلّحة التابعة لإيران في المنطقة، كـ”حزب الله” اللبناني، و”حركة أنصار الله” في اليمن (الحوثيين)، و”الحشد الشعبي العراقي” وغيرها، فيرى الباحث السياسي ومدير التواصل في “مركز كارنيغي الشرق الأوسط” مهند الحاج علي في مقابلة مع موقع “درج”، أنّ أياً من البلدين لن يتخلّى عن مواقعه أو يسلّم أسلحته وجماعاته، وقد تكون هذه الفترة فرصة لتعزيز المواقع وإعادة ترتيب هذه الجماعات وتنظيمها، وهذه ليست المرّة الأولى التي نشهد هذا النوع من جولات التهدئة.

المصالحة الإيرانيّة – السعودية

على خلفية اتفاق المصالحة بين البلدين في 10 آذار 2023، أرسل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز دعوة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة الرياض والأخير رحّب بها. حصل ذلك بعد انقطاع دام سبع سنوات منذ عام 2016، عندما هاجم محتجون إيرانيون البعثات الدبلوماسية السعودية في أعقاب إعدام السعودية رجل الدين الشيعي نمر النمر، وبعد اشتداد حدّة التوتّر بين البلدين.

غرّد محمد جمشيدي نائب رئيس ديوان الرئيس الإيراني للشؤون السياسية على “تويتر”، “في رسالة إلى الرئيس رئيسي… رحب ملك السعودية بالاتفاق بين البلدين الشقيقين (و) دعاه إلى الرياض”، و”رئيسي رحب بالدعوة”. تهدف اتفاقية المصالحة إلى إعادة فتح سفارتي الدولتين والبعثات الدبلوماسيّة في غضون شهرين، إضافة إلى إعادة إحياء اتفاقيات التعاون الأمني والاقتصادي الموقّعة منذ أكثر من 20 عاماً.

إلا أنّ أهميّة الحدث لا تكمن بالمصالحة وحسب، بل بظروفها، ورعايتها الصينيّة، فهذه المرّة الأولى التي تلعب فيها الصين دور وسيط لاستعادة علاقات دبلوماسيّة تحديداً في الشرق الأوسط، في خطوة اعتبرها محللون سياسيون ضربة قويّة للنفوذ الأميركي في المنطقة.

بحسب مقال على الـ CNN، بعنوان “حطمت الصين فرضية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط” (China has shattered the assumption of US dominance in the Middle East)، إنّ إعادة إحياء العلاقات الدبلوملسيّة بين الرياض وطهران هو نتيجة “تراكم منطقي لمحدوديّة القدرات الدبلوماسيّة الأميركيّة وسعي الصين المتزايد لتغيير العالم في مدارها”.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصين هي أكبر مستوردي النفط السعودي لذا فهناك الكثير من المصالح المشتركة على المستوى المالي والاقتصادي. فأظهرت بيانات جمركية أن المملكة العربية السعودية شحنت نحو 87.49 مليون طن من الخام إلى الصين في عام 2022.

تظهر بيانات الحكومة الصينية أنّ روسيا كانت المورد الأكبر للنفط في أول شهرين من عام 2023، بنحو 15.68 مليون طن وبزيادة 23.8 في المئة من الفترة نفسها عام 2022، وذلك بسبب تراجع الخصومات الكبيرة على النفط الروسي المعاقب دولياً، يليها السعودية بـ13.92 مليون طن، بحسب موقع “الجزيرة” إنكليزي. علماً أنّ السعودية كانت المورد الأكبر للنفط الخام للصين عام 2022 بحيث باعتها 87.49 مليون طن خلال العام.

تراجع الدور الأميركي؟

بحسب مقال الـ CNN، فإنّ المملكة العربية السعودية وتحديداً محمد بن سلمان

يئس من تقلّب السياسة الأميركيّة وعلاقتها بالمملكة. فأدّت التناقضات إلى تركيز السعودية على مصالحها على حساب المصالح الأميركية في المنطقة.

وفي الأشهر الأخيرة الماضية، كثرت التصريحات عن احتمال عودة إيران إلى الاتفاق النووي، خصوصاً بعدما أعلن رئيس الوكالة النووية التابعة للأمم المتحدة في أوائل آذار 2023 أنّ إيران تعهدت بإعادة الكاميرات ومعدات المراقبة الأخرى في مواقعها النووية والسماح بمزيد من عمليات التفتيش في منشأة تم فيها الكشف عن جزيئات من اليورانيوم المخصب إلى درجة قريبة من إنتاج الأسلحة.

في مقال تحليلي على مجلّة Foreign Policy بعنوان: “كيف يمكن للصفقة الصينية الإيرانية أن تخدم المصالح الأمريكية”، يناقش المحلّلان مايكل ماكفول، مدير معهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد، وعباس ميلاني، مدير الدراسات الإيرانية في جامعة ستانفورد، أنّه بالرغم من أنّ ظاهر الاتفاق هو انتصار صيني على حساب الولايات المتّحدة الأميركيّة، وقد يضرّ موقتاً ببعض مصالحها في المنطقة، إلا أنّه على المدى البعيد، قد تخدم هذه الخطوة المصالح الأميركية وتحقّق عدداً من الأهداف الأمنية الأميركية في المنطقة، لا بل على المدى الطويل، يمكن أن تعيق الأهداف الصينية. ففي نهاية المطاف، تريد أميركا شرق أوسط أكثر استقراراً، والاتفاقية الجديدة- بغض النظر عمن توسط فيها- هي خطوة إيجابية نحو هذا الهدف، وفقاً للمقال.

ممّا لا شكّ فيه أنّه ليس من مصلحة أميركا وجود تعاون عميق بين الصين وإيران والسعودية ومن خلفهم روسيا، إنّما تصنيف هذه الاتفاقية كضربة طويلة الأمد للدبلوماسية الأميركية أمر سابق لأوانه، بحسب تحليل الكاتبين اللذين يرون أنّه لا يجب على أميركا، ولا يمكنها، احتواء الصين في شتى أصقاع العالم، لا بل عليها انتقاء معاركها والتركيز على أولويّاتها تحديداً في آسيا.

وفي هذا السياق، يقول الحاج علي إنّ “الولايات المتّحدة هي التي خطت الخطوة الأولى” في الابتعاد عن الشرق الأوسط خصوصاً بسبب تبعات التدخّل الأميركي في دول المنطقة وعدم أخذ مصالح الخليج في عين الاعتبار، ممّا دفع السعودية إلى التركيز على مصالحها وتنويع علاقاتها.

يتّفق الحاج علي مع ماكفول وميلاني في أنّ الولايات المتّحدة حقّقت أرباحاً ومصالحاً في تدخّلها في الشرق الأوسط، الّا أنّها أيضاً تحمّلت فاتورة وأعباء هذا التدخّل لعقود، وبالتالي لا بدّ أن تبدأ الصين اليوم بتحمّل تبعات سياساتها الاقليميّة، وهنا يرى الحاج علي أنّ هذه الخطوة الصينيّة تعني تغيّر دور الصين من “الـ free-rider of the international system أي راكب بالمجّاني ومستفيد من الاستقرار الاقليمي العالمي دون أن تدفع الفاتورة”، إلى دور أكثر نشاطًا.

“بعد هذا الاتفاق، ستشارك الصين الآن بعبء الحفاظ على السلام في الشرق الأوسط. هذه ليست مهمة سهلة، كما تعلمت الولايات المتحدة بمرارة على مدى عقود. يمكن أن تفشل الاتفاقية الجديدة بسهولة”، بحسب مقال الـ Foreign Policy.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ السعودية لن يمكنها الاستغناء عن الولايات المتحدة الأميركية وستستمر في الاعتماد عليها في الجانب الأمني لعقود قادمة، وستبقى أميركا أيضاً وسيطاً أساسيّاً بينها وبين إسرائيل.

رغم أنّ الرئيس جو بايدن أعلن خلال اجتماع مع قادة الشرق الأوسط في السعودية في عام 2022 أنه “لن ننسحب ونترك فراغاً تملأه الصين أو روسيا أو إيران [و] سنسعى للبناء على هذه اللحظة”، الّا أنّ الحرب الأوكرانية أظهرت أن واشنطن لا تستطيع الاعتماد على تحالفاتها في المنطقة دون تعزيزها بشكل دائم. فكما قال وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتز “إذا زرعت حديقة وذهبت بعيداً لمدة ستة أشهر ، فما الذي ستحصل عليه عندما تعود؟ الأعشاب. وأي بستاني جيد يعلم أنه يجب عليك إزالة الأعشاب الضارة على الفور. الدبلوماسية تشبه ذلك”.

في أعقاب السياسة الخارجية الأميركية القائمة على عدم التدخل واستراتيجية التوازن الخارجية offshore balancing، التي اعتمدتها إدارتا أوباما وبايدن، والحدّ من الاهتمام بالشرق الأوسط من قبل إدارة بايدن منذ كانون الثاني/ يناير 2021، بدا أن نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة انحسر ممّا خلق مجالاً لقوى أخرى للتدخل في شؤونها، ممّا غيّر موازين القوى في المنطقة وأدّى لانحسار القوة الأميركية، وصعود نظام متعدد الأقطاب.

وفي هذا السياق، يقول أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة هارفارد، ستيفان والت، في مقال له على مجلّة Foreign Policy، أنّ هذه الاتفاقية هي دعوة لاستيقاظ إدارة بايدن، لأنها تكشف عن شلل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، مقابل محاولة الصين تقديم نفسها كقوة لتحقيق السلام، وهي عباءة تخلت عنها الولايات المتحدة إلى حد كبير في السنوات الأخيرة.

الدرس الواضح لإدارة بايدن، بحسب والت، هو “تكريس المزيد من الاهتمام لنزع فتيل التوترات، ومنع الحروب، وإنهاء النزاعات، بدلاً من تحديد نجاح السياسة الخارجية من خلال عدد الحروب التي نربحها، أو عدد الإرهابيين الذين نقتلهم، أو عدد الدول التي نغيّرها”.

أمّا الباحث مهند الحاج علي فيعتبر أنّ الدور الصيني في هذه الاتفاقية مضخّم، “خصوصاً أنّ الصين ليس لديها أدوات النفوذ الّا أنّه هناك تحوّل داخل الصين فهي تريد التحوّل إلى قوّة أكثر اندفاعاً في اقتناص الفرص”، فاستفادت من بعض الفراغات الأميركيّة في المنطقة.

المصالحة – والمناكفة- الخليجية

في كانون الثاني/ يناير 2021، أعلنت الدول الخليجية عن عودة العلاقات والمصالحة بين قطر ودول المقاطعة الأربع: أي السعودية والامارات ومصر والبحرين وذلك بعد أن انقطعت العلاقة منذ عام 2017، عندما اتّهمت دول المقاطعة قطر بدعم الإرهاب.

على المقلب الآخر، تظهر معالم انقسام جديد في العالم العربي ودول الخليج على وجه التحديد، بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة. كتبت جريدة الـ Wall Street Journal أنّّه أكبر اقتصادَين في العالم العربي كانا يوماً أصدقاء الّا أنّهما اليوم في تنافس متزايد على المال والسلطة. فعندما استضافت أبو ظبي قمة لقادة الشرق الأوسط في كانون الثاني/ يناير 2023، كان هناك غياب صارخ لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. قبل شهر من ذلك، لم تحضر الإمارات قمة صينية عربية رفيعة المستوى في الرياض. فتختلف القوتين الإقليميتين على أصعدة عدّة، أهمّها حرب اليمن وتتنافس على الاستثمار الأجنبي والنفوذ في أسواق النفط العالمية.

يربط الحاج علي كل هذه التغيّرات في فترة توطيد سلطة ولي العهد محمد بن سلمان. وهنا يرجّح الحاج علي أنّ المناكفات بين الدولتين لم تتخطّى كونها منافسة اقتصادية خصوصاً وأنّ الإمارات كانت سبّاقة في التطوّر الذي حقّقته الّا أنّ رؤية 2030 لبن سلمان تشكّل منافسة شرسة للإمارات. إنّما الحاج علي لا يرى في الأفق أي توتّر مقلق أو صراع بين الدولتين بل “حساسيّات بسيطة على الأرض”.

“لا يوجد عصر ذهبي في العلاقات السعودية- الإيرانية… أي شخص يعتقد أننا على أعتاب عصر ذهبي بين طهران والرياض عليه أن يستلقي وينتظر بهدوء حتى يمر الشعور”، بحسب مقال “4 استنتاجات رئيسية من الصفقة السعودية الإيرانية التي توسطت فيها الصين” على مجلّة الـ Foreign Policy. المبدأ نفسه ينطبق على الدور الصيني مقارنة بالدور الأميركي في المنطقة، فمن يعتقدون أنّ الصين سوف تحلّ مكان الولايات المتّحدة الأميركية كقوة دبلوماسيّة أساسيّة في المنطقة في العقود المقبلة، فهم بعيدون جدّاً من الواقع إذ إنّ الوجود الأميركي ما زال قويّاً جدّاً في الشرق الأوسط. أمّا بالنسبة إلى تبعات هذه التغيّرات الكبيرة، فعلينا أن ننتظر حتى تتبلور الصورة الواضحة لكيف سينعكس كلّ هذا على موازين القوى الإقليمية والدوليّة في الشرق الأوسط.

——————————–

عودة الرياض إلى دمشق “الإيرانية”… انقلاب تام أم خلف الأكمة ما خلفها؟/ عمار جلّو

“مباحثات الرياض ودمشق، حول استئناف الخدمات القنصلية بين البلدين، خطوة كبيرة تقرّب دمشق إلى الصف العربي، بعد أكثر من عقد على القطيعة بينهما”، هكذا تختصر الأمر فرانس24. فـ”في إطار حرص المملكة على تسهيل تقديم الخدمات القنصلية الضرورية للشعبين، فإن البحث جارٍ بين المسؤولين في المملكة ونظرائهم في سوريا حول استئناف تقديم هذه الخدمات”، وفقاً لقناة الإخبارية الحكومية السعودية.

قبلها، صرّح وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، بأن “إجماعاً بدأ يتشكل في العالم العربي حول لا جدوى عزل سوريا، وأن الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما”، مضيفاً: “لذلك، ينبغي أن يمر ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما، بما يسمح على الأقل بتحقيق الأهداف الأكثر أهميةً، خاصةً في ما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين وما إلى ذلك”، رابطاً الأمر بغياب سبيل لتحقيق “الأهداف القصوى”، على طريق الحل السياسي، فـ”بدأ يتشكل نهج آخر، خاصةً بعد الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا”.

وكانت العلاقات الدبلوماسية قد انقطعت بين الجانبين في آذار/ مارس 2012، بعد أن سحبت الرياض جميع الدبلوماسيين والعاملين في سفارتها لدى دمشق في ذلك التاريخ، رداً على السلوك الوحشي لنظام الأسد ضد المنتفضين على نظامه، وتفريغه للمبادرة العربية-الأممية من مضمونها. بعدها دعمت الرياض جهود المعارضة الهادفة إلى إسقاط الأسد.

وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، فإن الوقود الروسي يُسيّر قطار المصالحة السعودية-السورية، إذ تقول في تقرير مطوّل لها إنّه “في حال التوصل إلى اتفاق، سيتم وضع عودة النظام السوري على جدول أعمال القمة العربية المقبلة المتوقعة في أيار/ مايو المقبل، في السعودية”، ووفقاً لمسؤولين حكوميين في كلا البلدين، يقترب الجانبان من التوصل إلى اتفاق ترعاه موسكو، إذ شهدت الأسابيع الماضية جولات عدة من المفاوضات في موسكو والرياض لتقريب الأخيرة من دمشق.

وكانت الصحيفة قد تحدثت سابقاً، عن عروض عربية من شأنها إعادة العلاقة مع دمشق، بدايةً بالعرض الأردني، وتضمن محفزات بمليارات الدولارات لإعادة بناء سوريا، مع تعهد بممارسة الضغط على واشنطن وبروكسل لرفع عقوباتهما المفروضة على الأسد، مقابل انخراط الأخير في العملية السياسية مع المعارضة السياسية، وقبول قوات عربية لحماية اللاجئين العائدين، مع وضع قيود صارمة ضد تهريب المخدرات، وتوقف إيران عن توسيع وجودها في البلاد.

والنقطة الأخيرة تشكل مشجب العروض العربية لإعادة التطبيع من الأسد، بحجة “الحد” من النفوذ الإيراني، وهي افتراض خطأ، كما يقول الباحثان علا الرفاعي وهارون زيلين في تقرير لهما في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. إذ يدين الأسد ببقائه في الحكم إلى روسيا وإيران والميليشيات التابعة للأخيرة. وعليه، هل يثق الأسد بالدول الساعية إلى تطبيع علاقاتها معه، وهي التي كانت تسعى إلى إسقاط حكمه؟ وما هي آليات إخراج إيران من سوريا بالتعاون مع الأسد، في ظل مساعدته لطهران في السيطرة على العديد من مفاصل الدولة السورية وأراضيها؟

ما بعد الزلزال، أم …؟

استغلّت حكومات المنطقة كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا مطلع شباط/ فبراير الماضي، كغطاء سياسي لتعميق علاقاتها مع الأسد، كما تذكر منى يعقوبيان، في تقرير لها في معهد السلام الأمريكي.

وزار دمشق خلالها وزراء خارجية مصر والأردن والإمارات. كما قام الأسد بزيارة لسلطنة عمان. وهبطت طائرة سعودية محملة بالمساعدات في مطار حلب لأول مرة منذ عام 2011. وفي وقت سابق، أعرب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن اهتمامه بالاجتماع مع الأسد، بعد لقاء جمع وزيري الدفاع السوري والتركي في موسكو أواخر العام الماضي. وكان من المقرر أن يجتمع نواب وزراء الخارجية السورية والتركية والإيرانية في موسكو هذا الشهر، للتمهيد لاجتماع وزيري خارجية البلدين، في إطار الجهود الرامية إلى التطبيع الكامل بينهما.

وخلال شهر آذار/ مارس الحالي، أجرى الأسد زيارتين إلى الاتحاد الروسي والإمارات، استُقبل خلالهما استقبالاً رسمياً لأول مرة منذ عام 2011.

يقول جيل كيبيل، في المونيتور إن “صفة المنبوذ، التي دمغتها الأنظمة الغربية على الأسد، أصبحت على المقعد الخلفي لدول المنطقة، نتيجة تفسّخ العلاقة مع الحلفاء الغربيين التقليديين، لا سيما لدى الرياض وأبو ظبي. وفي هذه البيئة، أصبح الأسد رمزاً لسياسة عربية حديثة وحازمة، تتنافس خلالها دول الخليج الغنية مع شركائها العالميين على أساس تعاقدي لا ينطوي على التبعية، ضمن طموحاتها لارتقاء المقاعد العالمية للقوة الاقتصادية الخاصة بها”، مشيراً إلى الاتفاق الإيراني السعودي بوساطة صينية، والذي وفّر ضمانات أمنيةً للرياض لم تكن لتحصل عليها من الغرب.

تطاولُ الزمن، عامل أساسي، وفق منظور الكاتبة السياسية عالية منصور. تقول: “بعد 12 عاماً على انطلاق الثورة السورية والحرب المفتوحة من قبل نظام الأسد على السوريين، لا حلول تلوح في الأفق، مع غياب موقف أمريكي فاعل وتداخلات إقليمية ودولية. وهذه جميعها عوامل دفعت بالمملكة إلى التحرك، خصوصاً في ظل وطأة أزمة اللاجئين على عدد من الدول المتواجدين فيها، بالإضافة إلى عمليات التهريب التي تتم بإشراف نظام الأسد، في مجالي المخدرات والسلاح، وهو ما شهدناه مرات عدة في الأردن”.

وتضيف: “السعودية كغيرها من الدول، رأت أن ثمة ضرورةً للتحرك لإحداث مسار حل لبعض الملفات. ولكن باعتقادي لا أظن أن هناك إمكانية حل للمسألة السورية من دون موافقة أمريكية، وهذا على افتراض تمكّن الدول العربية والإقليمية من إيجاد أرضية مشتركة مع الأسد لحل بعض الملفات ووقف نشاطه التخريبي ضدها”.

ترى منصور في حديثها إلى رصيف22، أن “إيران دولة إقليمية لها أذرع وتهدد أمن المنطقة، والخلاف مع السعودية هو على نقاط محددة بين البلدين، من ضمنها أمن الحدود السعودية-اليمنية، والملاحة البحرية، والصين صاحبة مصلحة في التهدئة. بينما في الوضع السوري الأمر أكثر تعقيداً، ولا يرتبط فقط بما يسببه نظام الأسد من مشكلات لدول الإقليم، بل هناك عامل سوري داخلي، والعلاقة مع بشار الأسد قُطعت بسبب ارتكابه جرائم وحشيةً بحق السوريين”.

وتضيف: “مع ذلك، من الممكن أن نشهد مصالحةً مع نظام الأسد كالمصالحة التي تمت في قمة الكويت 2009 (مصالحة رعاها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، ونشأت على إثر قمة الدوحة ومطالبة إيران ونظام الأسد بسحب المبادرة العربية ودعم “المقاومة” الفلسطينية)، ولكن هل يلتزم الأسد بأي مصالحة إن تمّت؟ لدي فائض من الشك في ذلك”.

دور الاتفاق السعودي-الإيراني

في تغريدة على حسابه على تويتر، كتب رئيس تحرير إندبندنت عربية، المقرب من الحكومة السعودية، عضوان الأحمري: “مؤشرات عودة العلاقات السعودية-السورية بدأت منذ عام 2015، حين زار رئيس مخابرات دمشق علي مملوك المملكة. غضب إيران على الزيارة دفعها إلى تسريبها لإعلام حزب الله في لبنان، ثم تلت هذه الزيارة زيارة لمسؤول سعودي في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وجرت عمليات صيانة لمقر سفارة الرياض في سوريا. كانت العقبة إيران، وانتهت العقبة بالاتفاق برعاية الصين. والآن أصبحت المحادثات السعودية-السورية علنيةً”.

ووفقاً لدبلوماسي خليجي، تحدث إلى وكالة رويترز، فإن “الاختراق المفاجئ مدفوع بالاتفاق السعودي الإيراني، والذي قد يرخي بظلاله على أزمات أخرى شكلت ساحةً للتنافس بين طهران والرياض سابقاً”، مشيراً إلى زيارة مسؤول المخابرات السورية، حسام لوقا، إلى الرياض، التي مكث فيها أياماً عدة، ناقش خلالها مع المسؤولين في الرياض الأمن على الحدود السورية-الأردنية، وتهريب الكبتاغون. وتوصل في ختامها إلى اتفاق فتح السفارات في القريب العاجل.

“لنتفق أولاً على أن السعودية دولة صاحبة وزن وتأثير في المنطقة والعالم”، يقول المحلل السياسي العراقي، المقيم في بلجيكا، ربيع الشعار، لرصيف22، ويضيف: “وعليه، من حقها أن تعقد الاتفاقات وتقيم العلاقات مع من تشاء من الدول، خاصةً تلك التي تؤثر على مصالحها القومية والإقليمية والإستراتيجية، ومن هنا كان اتفاقها مع إيران لإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ سبع سنوات، على خلفية تدخّل إيران في الشؤون الداخلية السعودية واقتحام السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران ومشهد، وفق شروط أمنية معينة”.

ويتابع: “من هنا نفهم التفاهم السعودي مع نظام الأسد المجرم لإعادة افتتاح القنصليات، والتي هي ضرورية لتقديم خدمات إنسانية للمواطنين المغتربين، ففي السعودية ثلاثة ملايين ونصف مليون سوري محرومون تماماً من الخدمات القنصلية عكس إخوانهم في تركيا وأوروبا، برغم قطع العلاقات الدبلوماسية بين هذه الدول وحكومة الأسد”.

من جهة أخرى، فإن “التركيز الأخير من قبل ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة، على إصلاح الخلافات مع الجيران، يعكس رغبته في التركيز على التغييرات الاجتماعية والاقتصادية المحلية”، وفقاً للباحث في مجموعة يورو آسيا أيهم كامل، لأن “أجندة التطوير الاقتصادي المحلي تتطلب بيئةً أكثر استقراراً”.

خمسون عاماً ولم يتغير

بجهود بطيئة ومتقطعة، شرعت الحكومات في المنطقة في التطبيع مع نظام الأسد على مدى السنوات القليلة الماضية. ويرجح القادة الإقليميون، وفقاً ليعقوبيان في معهد السلام الأمريكي، أن الأسد باقٍ في السلطة في المستقبل المنظور. لذا، يسعون إلى دمج سوريا في المنطقة وفقاً لشروطهم. فبالنسبة إلى بعض البلدان، يُنظر إلى التطبيع على أنه ثقل موازٍ لتعميق النفوذ الإيراني في سوريا، في حين تتطلع دول أخرى إلى إعادة بناء العلاقات الاقتصادية إذ تعاني اقتصادات بلدانها من انكماش كبير.

في المقابل، يرى مسؤول مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، ومركزه واشنطن، جون ألترمان، أن التطبيع الخليجي، والقائم على تحفيز الأسد على الابتعاد عن إيران، سيقيّد الأموال الخليجية المنسابة بموجبها إلى سوريا ضمن القيود الكافية لتقويض قبضة إيران، من دون توسيع تدفقها ليشمل إنقاذ سوريا، مشيراً إلى خطأ الولايات المتحدة الأمريكية، في عدم لعب دور كبير في كيفية حل الصراعات العديدة في سوريا، مع أنها تنفق مليارات الدولارات على إغاثة اللاجئين السوريين، ويبدو أنها مصممة على هذا الخطأ.

ووفقاً لمنصور، فإن “أمر حضور الأسد للقمة العربية غير محسوم بعد، فقد تم تأجيل انعقاد القمة التي كان من المفترض أن تُعقد نهاية شهر آذار/ مارس إلى شهر أيار/ مايو، وهذا يعطي مزيداً من الوقت لترتيب عودة الأسد إلى الجامعة، وبالتأكيد هناك شروط لعودته، ولا أعرف إن كان من الممكن تلبيتها قبل موعد انعقاد القمة في الرياض”.

خلال خمسين عاماً لم يغير نظام الأسد سلوكه بناءً على الدبلوماسية الخارجية، بحسب الرفاعي وزيلين، فحتى في أضعف لحظاته، خلال الصراع العسكري الداخلي، بقي الأسد مخلصاً لسبب بقائه في السلطة، ويشيران في تقريرهما إلى “تآكل معايير الشرعية الدولية، جراء عمليات الانفتاح على الأسد، فأي شكل من أشكال التطبيع معه سيقوّض إمكانية تقديمه إلى العدالة بسبب جرائمه المستمرة، ويمدّه بجرأة أكبر على الاستمرار فيها، مما يجعل الدول الساعية إلى الانفتاح عليه متواطئةً في هذه الجرائم، نتيجةً لدعمها المالي له”.

وبحسب جيل كيبيل في المونيتور، بإمكان الرياض، إبقاء نظام الأسد في مأزق وانتظار تنازلات كبيرة في لبنان، حيث عزز التحالف الإيراني السوري حزب الله على حساب شركاء الرياض السنّة. وأما عن الإمارات، فإن ضخّ أموال المساعدات هو تذكير لنظام الأسد بأن إيران التي تعاني من ضائقة مالية لا يمكنها فعل الكثير في هذا الصدد. وعليه، فإن إعادة سوريا إلى الحضن العربي وسيلة لإضعاف “سياسة الهلال الشيعي” الإيرانية، مشيراً إلى أن سياسة إحراج الشركاء العرب في اتفاقات حفظ السلام الإقليمية التي تتوسط فيها الولايات المتحدة، أفضل سبيل للتحول عنها، استقبال الأسد.

وخلال حديثه إلى رصيف22، يُشير مدير مركز نورس للدراسات، إياد حمود، إلى أن سياسة النأي بالنفس التي تنتهجها الرياض على الصعيد الخارجي، نابعة من رغبتها في تحقيق الأمن والاستقرار الداخليين، بمعزل عن المنافسة والصراع الإقليميين. لذا، تسعى إلى اتفاق مع حركة أنصار الله اليمينة (الحوثيين)، يوقف الحرب في اليمن، التي بدأت تُشكّل ضغطاً كبيراً على المملكة، مقابل تنازلات لإيران في ملفات أخرى في المنطقة.

يضيف: “ومن إيقاف الحوثيين عند مكتسباتهم، وتوقّف إيران عن إمدادهم بالسلاح، تلاقت مصالح الرياض مع طهران، على مساحة تجريبية لشهور عدة، وقد قابلت الرياض ذلك بتطبيعٍ مع نظام الأسد، مع تنازلات أخرى في لبنان”.

برأيه، “تصاعد أولوية التنمية، وتراجع الأولوية الجيو-سياسة لدى المملكة، مع ما تعنيه من تجنّب المنافسات/ الصراعات الإقليمية، يؤديان بالضرورة إلى تثقيل وزن اللاعبين الإقليميين، إسرائيل وإيران وتركيا، على حسابها”

رصيف 22

——————————

===================

تحديث 27 أذار 2023

——————–

مصالحات إقليمية بالجملة: أوهام وصراعات على وقع الغياب الأميركي/ هلا نهاد نصرالدين

ممّا لا شكّ فيه أنّه ليس من مصلحة أميركا وجود تعاون عميق بين الصين وإيران والسعودية ومن خلفهم روسيا، إنّما تصنيف هذه الاتفاقية كضربة طويلة الأمد للدبلوماسية الأميركية أمر سابق لأوانه.

أصبحنا على موعد يومي مع مفاجأة إقليمية.

مصالحات بالجملة شملت أقطاب الصراعات التي حكمت المنطقة في العقد الأخير. الخصومة التي سيطرت على توازنات المنطقة بين إيران والسعودية، تأخذ اليوم منعطفاً جديداً بعد إعلان التقارب بين البلدين.

قبل ذلك، شهدنا مصالحات عربية وإقليمية بين مصر وقطر وتركيا، كما برز تقارب خليجي- خليجي وانفتاح على روسيا والصين.

على جبهة الإمارات- سوريا نشهد غزلاً مفرطاً وحفاوة إماراتية تحديداً من الشيخ محمد بن زايد، في رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي زار أبو ظبي راهناً، وهي أول زيارة له إلى دولة عربية منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011.

طائرات حربية إماراتية وطلقات مدفعيّة رحّبت بالرئيس المحتفى به، بشار الأسد، في مشهد أقلّ ما يقال عنه أنّه غرائبي.

أمّا السعوديّة، فتستعدّ لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد، فهناك مفاوضات سعودية سورية لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد انقطاع دام أكثر من عقد، في ظلّ موقف أميركي “لم يتغيّر” من التطبيع مع الأسد، بحسب وزارة الخارجية الأميركية.

سنوات من الحروب، آلاف الضحايا، الكثير من الدم والتهجير والعنف والتعذيب والتطرّف، انتهت وكأنّ شيئاً لم يكن! وحدها أعداد وعائلات الضحايا والمقابر الجماعية وظواهر النزوح واللجوء والدمار والخسائر الاقتصادية، تذكّر بالمجازر التي وقعت والأرواح التي أزهقت والعائلات التي تشتتت والبيوت التي قُصفت ودُمّرت على رؤوس ساكنيها. وها هم قادة الحروب والأزمات والاستقطابات اليوم يتصالحون، يتصافحون ويحتفلون. الطائرات الحربية الاماراتيّة التي استُخدمت في الحرب في اليمن، هي نفسها احتفلت بوصول الأسد.

لكن بعيداً من مشهد زعماء يلتقون ويتصافحون ويبتسمون، ما هي الكلفة الحقيقية لصراعات حكمت المنطقة وتسببت بالكثير من المعاناة للملايين في سوريا واليمن، وأي أثمان تكبدتها تلك المجتمعات؟

“لا يوجد عصر ذهبي في العلاقات السعودية- الإيرانية… أي شخص يعتقد أننا على أعتاب عصر ذهبي بين طهران والرياض عليه أن يستلقي وينتظر بهدوء حتى يمر الشعور”

مآسي الحرب السورية

سنوياً تمرّ ذكرى اندلاع الثورة السورية في 15 آذار/ مارس 2011، بالمزيد من اليأس والحزن، أما هذا العام فقد تُوجت بتعويم نظام الأسد الهائل من مختلف الأطراف. فزلزال 6 شباط/ فبراير 2023 استُخدم ذريعة للكثير من الدول من أجل التضامن مع الأسد، ودعم النظام وإعادة بناء الجسور والعلاقات المنقطعة منذ ندلاع الثورة السوريّة. 

بحسب تقديرات الأمم المتّحدة، تسبّبت الحرب السورية بشكل مباشر بمقتل أكثر من 300 ألف شخص على مدى 10 سنوات، أي  1.5 في المئة من سكان سوريا. أمّا المرصد السوري لحقوق الإنسان، فوثّق مقتل 389 ألف شخص.

“شهدت سوريا أضخم أزمة نزوح في العالم، إذ اضطر أكثر من 13 مليون شخص إما للفرار خارج البلاد أو النزوح داخل حدودها. لا يزال أكثر من 6.9 مليون شخص في عداد النازحين داخل البلاد، ويحتاج 14.6 مليون شخص إلى مساعدة إنسانية وغيرها من أشكال المساعدة”، وفقاً لأرقام المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR في آذار 2022.

آثار الحرب اليمنيّة

أمّا الحرب اليمنيّة، فبحسب تقديرات منظّمة الأمم المتّحدة، تسبّبت في مقتل  377 ألفاً حتى أواخر عام 2021. ما يقرب من 60 في المئة من تلك الوفيات- أي 223 ألفاً- هي وفيات غير مباشرة وناجمة عن قضايا مرتبطة بالنزاع مثل عدم الوصول إلى الغذاء، المياه والرعاية الصحية.

قال مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أخيم شتاينر: “في حالة اليمن، نعتقد أن عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم نتيجة النزاع يتجاوز عدد الذين لقوا حتفهم في ساحة المعركة”.

من المرجّح أنّ المصالحة السعوديّة – الإيرانيّة ستضمن تمديد الهدنة في اليمن وترسيخها، بعد الحرب التي بدأت عام 2014، وتدخّلت السعوديّة بعدها مع عدد من الحلفاء في ما عُرف بعاصفة الحزم التي انطلقت في آذار 2015 واستمرت لسنوات.

لكن برغم الهدنة، “لا ينبغي لأحد أن يتوهم أن استئناف العلاقات الدبلوماسية سينهي كل الصراع بين السعودية وإيران… الاتفاق خطوة إيجابية وضرورية، لكنه خطوة صغيرة يمكن التراجع عنها بسهولة. ومع ذلك، فإن المزيد من التواصل بين إيران والمملكة العربية السعودية قد تتجنب حدوث صراع أكبر”، بحسب مقال تحليلي على مجلّة Foreign Policy، خصوصاً أنّ طموح إيران النووي ما زال يشكّل تهديداً للمنطقة والمملكة على وجه الخصوص، وبالتالي ما زالت الثقة مفقودة بين الطرفين.

أمّا في خصوص الجماعات المسلّحة التابعة لإيران في المنطقة، كـ”حزب الله” اللبناني، و”حركة أنصار الله” في اليمن (الحوثيين)، و”الحشد الشعبي العراقي” وغيرها، فيرى الباحث السياسي ومدير التواصل في “مركز كارنيغي الشرق الأوسط” مهند الحاج علي في مقابلة مع موقع “درج”، أنّ أياً من البلدين لن يتخلّى عن مواقعه أو يسلّم أسلحته وجماعاته، وقد تكون هذه الفترة فرصة لتعزيز المواقع وإعادة ترتيب هذه الجماعات وتنظيمها، وهذه ليست المرّة الأولى التي نشهد هذا النوع من جولات التهدئة.

المصالحة الإيرانيّة – السعودية

على خلفية اتفاق المصالحة بين البلدين في 10 آذار 2023، أرسل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز دعوة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة الرياض والأخير رحّب بها. حصل ذلك بعد انقطاع دام سبع سنوات منذ عام 2016، عندما هاجم محتجون إيرانيون البعثات الدبلوماسية السعودية في أعقاب إعدام السعودية رجل الدين الشيعي نمر النمر، وبعد اشتداد حدّة التوتّر بين البلدين.

غرّد محمد جمشيدي نائب رئيس ديوان الرئيس الإيراني للشؤون السياسية على “تويتر”، “في رسالة إلى الرئيس رئيسي… رحب ملك السعودية بالاتفاق بين البلدين الشقيقين (و) دعاه إلى الرياض”، و”رئيسي رحب بالدعوة”. تهدف اتفاقية المصالحة إلى إعادة فتح سفارتي الدولتين والبعثات الدبلوماسيّة في غضون شهرين، إضافة إلى إعادة إحياء اتفاقيات التعاون الأمني والاقتصادي الموقّعة منذ أكثر من 20 عاماً.

إلا أنّ أهميّة الحدث لا تكمن بالمصالحة وحسب، بل بظروفها، ورعايتها الصينيّة، فهذه المرّة الأولى التي تلعب فيها الصين دور وسيط لاستعادة علاقات دبلوماسيّة تحديداً في الشرق الأوسط، في خطوة اعتبرها محللون سياسيون ضربة قويّة للنفوذ الأميركي في المنطقة.

بحسب مقال على الـ CNN، بعنوان “حطمت الصين فرضية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط” (China has shattered the assumption of US dominance in the Middle East)، إنّ إعادة إحياء العلاقات الدبلوملسيّة بين الرياض وطهران هو نتيجة “تراكم منطقي لمحدوديّة القدرات الدبلوماسيّة الأميركيّة وسعي الصين المتزايد لتغيير العالم في مدارها”.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصين هي أكبر مستوردي النفط السعودي لذا فهناك الكثير من المصالح المشتركة على المستوى المالي والاقتصادي. فأظهرت بيانات جمركية أن المملكة العربية السعودية شحنت نحو 87.49 مليون طن من الخام إلى الصين في عام 2022.

تظهر بيانات الحكومة الصينية أنّ روسيا كانت المورد الأكبر للنفط في أول شهرين من عام 2023، بنحو 15.68 مليون طن وبزيادة 23.8 في المئة من الفترة نفسها عام 2022، وذلك بسبب تراجع الخصومات الكبيرة على النفط الروسي المعاقب دولياً، يليها السعودية بـ13.92 مليون طن، بحسب موقع “الجزيرة” إنكليزي. علماً أنّ السعودية كانت المورد الأكبر للنفط الخام للصين عام 2022 بحيث باعتها 87.49 مليون طن خلال العام.

بحسب مقال الـ CNN، فإنّ المملكة العربية السعودية وتحديداً محمد بن سلمان

يئس من تقلّب السياسة الأميركيّة وعلاقتها بالمملكة. فأدّت التناقضات إلى تركيز السعودية على مصالحها على حساب المصالح الأميركية في المنطقة.

وفي الأشهر الأخيرة الماضية، كثرت التصريحات عن احتمال عودة إيران إلى الاتفاق النووي، خصوصاً بعدما أعلن رئيس الوكالة النووية التابعة للأمم المتحدة في أوائل آذار 2023 أنّ إيران تعهدت بإعادة الكاميرات ومعدات المراقبة الأخرى في مواقعها النووية والسماح بمزيد من عمليات التفتيش في منشأة تم فيها الكشف عن جزيئات من اليورانيوم المخصب إلى درجة قريبة من إنتاج الأسلحة.

في مقال تحليلي على مجلّة Foreign Policy بعنوان: “كيف يمكن للصفقة الصينية الإيرانية أن تخدم المصالح الأمريكية”، يناقش المحلّلان مايكل ماكفول، مدير معهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد، وعباس ميلاني، مدير الدراسات الإيرانية في جامعة ستانفورد، أنّه بالرغم من أنّ ظاهر الاتفاق هو انتصار صيني على حساب الولايات المتّحدة الأميركيّة، وقد يضرّ موقتاً ببعض مصالحها في المنطقة، إلا أنّه على المدى البعيد، قد تخدم هذه الخطوة المصالح الأميركية وتحقّق عدداً من الأهداف الأمنية الأميركية في المنطقة، لا بل على المدى الطويل، يمكن أن تعيق الأهداف الصينية. ففي نهاية المطاف، تريد أميركا شرق أوسط أكثر استقراراً، والاتفاقية الجديدة- بغض النظر عمن توسط فيها- هي خطوة إيجابية نحو هذا الهدف، وفقاً للمقال.

ممّا لا شكّ فيه أنّه ليس من مصلحة أميركا وجود تعاون عميق بين الصين وإيران والسعودية ومن خلفهم روسيا، إنّما تصنيف هذه الاتفاقية كضربة طويلة الأمد للدبلوماسية الأميركية أمر سابق لأوانه، بحسب تحليل الكاتبين اللذين يرون أنّه لا يجب على أميركا، ولا يمكنها، احتواء الصين في شتى أصقاع العالم، لا بل عليها انتقاء معاركها والتركيز على أولويّاتها تحديداً في آسيا.

وفي هذا السياق، يقول الحاج علي إنّ “الولايات المتّحدة هي التي خطت الخطوة الأولى” في الابتعاد عن الشرق الأوسط خصوصاً بسبب تبعات التدخّل الأميركي في دول المنطقة وعدم أخذ مصالح الخليج في عين الاعتبار، ممّا دفع السعودية إلى التركيز على مصالحها وتنويع علاقاتها.

يتّفق الحاج علي مع ماكفول وميلاني في أنّ الولايات المتّحدة حقّقت أرباحاً ومصالحاً في تدخّلها في الشرق الأوسط، الّا أنّها أيضاً تحمّلت فاتورة وأعباء هذا التدخّل لعقود، وبالتالي لا بدّ أن تبدأ الصين اليوم بتحمّل تبعات سياساتها الاقليميّة، وهنا يرى الحاج علي أنّ هذه الخطوة الصينيّة تعني تغيّر دور الصين من “الـ free-rider of the international system أي راكب بالمجّاني ومستفيد من الاستقرار الاقليمي العالمي دون أن تدفع الفاتورة”، إلى دور أكثر نشاطًا.

“بعد هذا الاتفاق، ستشارك الصين الآن بعبء الحفاظ على السلام في الشرق الأوسط. هذه ليست مهمة سهلة، كما تعلمت الولايات المتحدة بمرارة على مدى عقود. يمكن أن تفشل الاتفاقية الجديدة بسهولة”، بحسب مقال الـ Foreign Policy.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ السعودية لن يمكنها الاستغناء عن الولايات المتحدة الأميركية وستستمر في الاعتماد عليها في الجانب الأمني لعقود قادمة، وستبقى أميركا أيضاً وسيطاً أساسيّاً بينها وبين إسرائيل.

رغم أنّ الرئيس جو بايدن أعلن خلال اجتماع مع قادة الشرق الأوسط في السعودية في عام 2022 أنه “لن ننسحب ونترك فراغاً تملأه الصين أو روسيا أو إيران [و] سنسعى للبناء على هذه اللحظة”، الّا أنّ الحرب الأوكرانية أظهرت أن واشنطن لا تستطيع الاعتماد على تحالفاتها في المنطقة دون تعزيزها بشكل دائم. فكما قال وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتز “إذا زرعت حديقة وذهبت بعيداً لمدة ستة أشهر ، فما الذي ستحصل عليه عندما تعود؟ الأعشاب. وأي بستاني جيد يعلم أنه يجب عليك إزالة الأعشاب الضارة على الفور. الدبلوماسية تشبه ذلك”.

في أعقاب السياسة الخارجية الأميركية القائمة على عدم التدخل واستراتيجية التوازن الخارجية offshore balancing، التي اعتمدتها إدارتا أوباما وبايدن، والحدّ من الاهتمام بالشرق الأوسط من قبل إدارة بايدن منذ كانون الثاني/ يناير 2021، بدا أن نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة انحسر ممّا خلق مجالاً لقوى أخرى للتدخل في شؤونها، ممّا غيّر موازين القوى في المنطقة وأدّى لانحسار القوة الأميركية، وصعود نظام متعدد الأقطاب.

وفي هذا السياق، يقول أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة هارفارد، ستيفان والت، في مقال له على مجلّة Foreign Policy، أنّ هذه الاتفاقية هي دعوة لاستيقاظ إدارة بايدن، لأنها تكشف عن شلل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، مقابل محاولة الصين تقديم نفسها كقوة لتحقيق السلام، وهي عباءة تخلت عنها الولايات المتحدة إلى حد كبير في السنوات الأخيرة.

الدرس الواضح لإدارة بايدن، بحسب والت، هو “تكريس المزيد من الاهتمام لنزع فتيل التوترات، ومنع الحروب، وإنهاء النزاعات، بدلاً من تحديد نجاح السياسة الخارجية من خلال عدد الحروب التي نربحها، أو عدد الإرهابيين الذين نقتلهم، أو عدد الدول التي نغيّرها”.

أمّا الباحث مهند الحاج علي فيعتبر أنّ الدور الصيني في هذه الاتفاقية مضخّم، “خصوصاً أنّ الصين ليس لديها أدوات النفوذ الّا أنّه هناك تحوّل داخل الصين فهي تريد التحوّل إلى قوّة أكثر اندفاعاً في اقتناص الفرص”، فاستفادت من بعض الفراغات الأميركيّة في المنطقة.

المصالحة – والمناكفة- الخليجية

في كانون الثاني/ يناير 2021، أعلنت الدول الخليجية عن عودة العلاقات والمصالحة بين قطر ودول المقاطعة الأربع: أي السعودية والامارات ومصر والبحرين وذلك بعد أن انقطعت العلاقة منذ عام 2017، عندما اتّهمت دول المقاطعة قطر بدعم الإرهاب.

على المقلب الآخر، تظهر معالم انقسام جديد في العالم العربي ودول الخليج على وجه التحديد، بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة. كتبت جريدة الـ Wall Street Journal أنّّه أكبر اقتصادَين في العالم العربي كانا يوماً أصدقاء الّا أنّهما اليوم في تنافس متزايد على المال والسلطة. فعندما استضافت أبو ظبي قمة لقادة الشرق الأوسط في كانون الثاني/ يناير 2023، كان هناك غياب صارخ لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. قبل شهر من ذلك، لم تحضر الإمارات قمة صينية عربية رفيعة المستوى في الرياض. فتختلف القوتين الإقليميتين على أصعدة عدّة، أهمّها حرب اليمن وتتنافس على الاستثمار الأجنبي والنفوذ في أسواق النفط العالمية.

يربط الحاج علي كل هذه التغيّرات في فترة توطيد سلطة ولي العهد محمد بن سلمان. وهنا يرجّح الحاج علي أنّ المناكفات بين الدولتين لم تتخطّى كونها منافسة اقتصادية خصوصاً وأنّ الإمارات كانت سبّاقة في التطوّر الذي حقّقته الّا أنّ رؤية 2030 لبن سلمان تشكّل منافسة شرسة للإمارات. إنّما الحاج علي لا يرى في الأفق أي توتّر مقلق أو صراع بين الدولتين بل “حساسيّات بسيطة على الأرض”.

“لا يوجد عصر ذهبي في العلاقات السعودية- الإيرانية… أي شخص يعتقد أننا على أعتاب عصر ذهبي بين طهران والرياض عليه أن يستلقي وينتظر بهدوء حتى يمر الشعور”، بحسب مقال “4 استنتاجات رئيسية من الصفقة السعودية الإيرانية التي توسطت فيها الصين” على مجلّة الـ Foreign Policy. المبدأ نفسه ينطبق على الدور الصيني مقارنة بالدور الأميركي في المنطقة، فمن يعتقدون أنّ الصين سوف تحلّ مكان الولايات المتّحدة الأميركية كقوة دبلوماسيّة أساسيّة في المنطقة في العقود المقبلة، فهم بعيدون جدّاً من الواقع إذ إنّ الوجود الأميركي ما زال قويّاً جدّاً في الشرق الأوسط. أمّا بالنسبة إلى تبعات هذه التغيّرات الكبيرة، فعلينا أن ننتظر حتى تتبلور الصورة الواضحة لكيف سينعكس كلّ هذا على موازين القوى الإقليمية والدوليّة في الشرق الأوسط.

درج

———————

الاتفاق السعودي الإيراني… رهانات كثيرة وآمال قليلة/ بشير البكر

أكثر من شهر بقليل يتبقى على بدء مسيرة تطبيق الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين السعودية وإيران في العاصمة الصينية بكين في 10 مارس/آذار الحالي.

وأول خطوة مرتقبة هي عودة العلاقات الدبلوماسية، التي توقفت بين البلدين في يناير/كانون الثاني عام 2016، بعد اعتداءات قام بها متظاهرون إيرانيون على المقار الدبلوماسية السعودية في إيران، ومنها حرق القنصلية في مدينة مشهد، وذلك على أثر إعدام السعودية رجل الدين الشيعي نمر النمر.

ومن المنتظر قريباً، حسب نص الاتفاق والاتصالات الجارية، انعقاد اجتماع بين وزيري الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، والإيراني حسين أمير عبد اللهيان، من أجل بحث التفاصيل التنفيذية للاتفاق الذي وضعه أرفع مسؤولين أمنيين في البلدين، من الجانب السعودي مستشار الأمن الوطني في المملكة مساعد بن محمد العيبان، ومن الجانب الإيراني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني.

مراحل الوصول إلى اتفاق

جرى النظر إلى تكليف شخصيتين من هذا الوزن بإدارة مفاوضات ذات طبيعة حساسة، على أنه دليل رغبة مشتركة لدى الرياض وطهران لإنجاز اتفاق، بعد فشل المحاولات السابقة التي جرت خلال العامين الماضيين، بدءاً من مارس 2021 في بغداد بمعدل خمس جولات، وثلاث جولات أخرى في مسقط.

ومن المعروف أن كلا من العيبان وشمخاني صاحب دور في صناعة القرار في بلده، وعلى صلة ومتابعة دقيقة لملفات الخلاف، التي يعود تاريخها إلى نحو خمسين عاماً، منذ الثورة على شاه إيران عام 1979 وموقف الرياض منها، مروراً بالحرب العراقية الإيرانية، واحتلال العراق، والثورة السورية، وسيطرة الحوثيين على صنعاء.

الجولة الخامسة من المفاوضات انعقدت في بغداد في إبريل/نيسان الماضي على مستوى استخباراتي رفيع، وترأسها عن الجانب السعودي رئيس جهاز أمن الدولة الفريق خالد الحميدان، وعن الجانب الإيراني مساعد الأمين العام لمجلس الأمن القومي سعيد إيرواني.

وأعلن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن الطرفين توصلا إلى “مذكرة تفاهم”، تتضمن مجموعة نقاط من أجل خريطة طريق تقود إلى ترميم تدريجي للشرخ الكبير بينهما.

وكانت التصريحات العراقية والإيرانية تؤكد على نقطة أساسية وهي أن المفاوضات التي دامت عاماً انتهت بالاتفاق على المستوى الأمني، والاهتمام ينصب على تحويل المفاوضات إلى المستوى السياسي، تمهيداً لاجتماع مسؤولين من وزارتي خارجية البلدين من أجل انعقاد جولة في بغداد على مستوى وزيري الخارجية السعودي والإيراني، ولكن ذلك لم يحصل.

وفي الوقت الذي أبدى المسؤولون العراقيون والإيرانيون عجالة لتتويج المفاوضات، فقد برز التريث بوضوح في الجانب السعودي، وجرى تفسير أسباب ذلك بتجربة عام من الحوار، لم يكن فيها الطرف الإيراني على مستوى واحد من التناغم، بل كان الإيقاع متذبذباً، يعلو ويهبط، ويتراوح في مستوى المرونة، وغلب عليه التشدد وطرح الشروط المسبقة، التي أدت إلى تأجيل الجولة الخامسة أكثر من خمسة أشهر.

المؤشر المهم هنا هو أن المباحثات منذ الجولة الرابعة جرت بعد تسلم حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي المحافظ الحكم مطلع أغسطس/آب 2021. وهو أمر كان يحتاج إلى اختبار من الطرف السعودي، الذي واجه عملية الشروط الإيرانية المسبقة، في ما يخص الوضع في اليمن ولبنان.

ومنذ ذلك الحين لم تحصل لقاءات من أجل متابعة المباحثات أو تفعيل نتائجها. وفسّرت بعض الأوساط الجمود الذي خيم على الملف بالتطورات التي شهدها الوضع في العراق لجهة انهماك المسؤولين العراقيين بتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، وامتحان وقف إطلاق النار في اليمن الذي جرى التوصل إليه في شهر رمضان من العام الماضي.

دور الوساطة الصينية

جاءت الوساطة الصينية كي تبني على نتائج عام من المفاوضات في بغداد ومسقط، ولم تنطلق من الصفر، ولذلك يعد اتفاق بكين نسخة مطورة عما جرى التوصل إليه في جولة بغداد الأخيرة، في المضمون والآليات التنفيذية، التي وضعت مدة شهرين أمام وزارتي الخارجية للانتقال نحو الخطوات الملموسة، التي تشير التصريحات والاتصالات إلى أنها قد تنطلق بين لحظة وأخرى.

شكل إعلان الاتفاق مفاجأة، ومع أن التفاؤل يطبع حديث الجانبين الإيراني والسعودي، والوسيط الصيني، ودول عدة في الإقليم وخارجه، فإن هناك شكوكاً ومخاوف وحالة من عدم الرضى في الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا. وأحدث الاتفاق حالة من الصدمة في وسط هذه الأطراف، التي لم تكن تحسب أن بكين ستقوم بخطوة من هذا القبيل في هذا الظرف بالذات.

ومنذ الإعلان عن نص الاتفاق، تنهمك الأوساط المعنية والدوائر المختصة في دراسة وتفسير النتائج المترتبة على تنفيذه، وحساب الأرباح والخسائر التي سيجنيها الطرفان المباشران وانعكاساته الإقليمية والدولية، خصوصاً أن هناك قضايا شائكة وصعبة لا يمكن حلها على مستوى ثنائي، وتحتاج إلى توافقات إقليمية ودولية، مثل أمن الخليج، وملف الطاقة، والتدخلات في شؤون الدول الأخرى، والنشاطات الإيرانية المزعزعة للاستقرار.

من جانب إيران، يبدو أن المنتظر من الاتفاق هو أمني وسياسي واقتصادي، في وقت تواجه استحقاقات مهمة داخلية، خارجية، وإقليمية. ويأتي في الصدارة الحراك الاجتماعي السياسي المعارض للنظام، والذي يتواصل منذ عدة أشهر على خلفية وفاة الشابة الكردية مهسا أميني. ولم تثمر محاولات السلطات الإيرانية عن احتواء هذا الحدث، الذي لا يزال ينذر بأن يتطور، وما تعمل عليه الحكومة هو عزل التطورات عن التدخلات الخارجية.

وتواجه إيران وضعاً اقتصادياً صعباً من جراء تشديد العقوبات الاقتصادية عليها، وانعكس ذلك بارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية، واستمرار انهيار العملة الوطنية، وكانت تعول على إحياء الاتفاق النووي، والإفراج عن مليارات من الدولارات مجمدة في الغرب، كي تعالج مشاكلها، ولكن هذا الأمر غير وارد حالياً، وصارت حظوظ إحياء الاتفاق متدنية.

ومن المؤكد أن تعثر المباحثات حول إحياء الاتفاق النووي، يحمل تبعات سلبية كبيرة لإيران، وما هو ملحوظ هو عودة التوتر والتهديدات بتوجيه ضربة عسكرية لإيران.

وقد كانت تل أبيب تعمل على حشد بعض دول المنطقة معها، وذلك من خلال اتفاقات التطبيع، ومجرد وقوف السعودية خارج هذه الدائرة يرفع عن إيران عبئاً كبيراً، وهذا مكسب تحصل عليه طهران، ومن البديهي أن تقدم مقابله تنازلات سياسية في أكثر من ملف.

وفي حسابات الربح والخسارة هناك أولويات بالنسبة لكل طرف، ومن الجانب السعودي يأتي الوضع اليمني في الصدارة، لجهة تثبيت وقف إطلاق النار عن طريق التزامات تقبل بها كل الأطراف وتضع أرضية لحل شامل. إلا إن المسألة ليست يسيرة كما يتصور البعض لأن 8 سنوات من الحرب فتحت جراحاً كثيرة، يتطلب علاجها وقتاً وتنازلات واستعداداً من الجميع.

ويبدو أن هناك صعوبة في الذهاب بعيداً أكثر من تثبيت وقف النار، إلا أنه من المرجح أن تقوم إيران باستخدام نفوذها من أجل اقناع الأطراف بالدخول في تسوية سياسية، وستلجأ إلى استخدام هذه الورقة من أجل عدم الخوض في الملفات الأخرى بالعمق، كما هو الحال في سورية والعراق ولبنان. ولكن ستواجه بصعوبات تتعلق بشروط الأطراف اليمنية.

وعلى عكس الانطباع السائد، فإن السعودية ليست في موقع ضعف أمام إيران في اليمن، وتدرك طهران أكثر من غيرها أن إمكانية الذهاب بالحرب إلى الأمام باتت مستنفدة كلياً، وأي جولة جديدة لن تكون لصالح المشروع الحوثي، الذي تلقى ضربات كبيرة بطرده في العامين الأخيرين.

الملف اليمني اختبار للطرفين

ويرى خبراء أن الملف اليمني سيكون هو الاختبار للطرفين، وبقدر ما هو صعب للسعودية، فهو معقّد من زاوية إيران التي يرفع أنصارها في اليمن سقف مطالبهم، في ما يتعلق بالتسوية السياسية.

ويأتي في المقام الثاني الملف اللبناني. وهناك تقديرات بأن اتفاق الطرفين على إخراج انتخاب رئيس للجمهورية في بيروت خلال الفترة المقبلة، سيكشف عن مدى قدرتهما على إنجاز تفاهمات مرضية بعيداً عن منطق القسمة والمحاصصة.

أما بالنسبة للشأن السوري، فيبدو أنه مطروح بقوة، ومن الناحية المنطقية تبدو نقاط الافتراق أكثر من نقاط اللقاء، ولكن احتمال التقاء الطرفين في منتصف الطريق وارد جداً.

ومن خلال المواقف والتصريحات الصادرة عن المسؤولين السعوديين، لا تبدو الرياض متشددة في تطبيع علاقاتها مع النظام السوري تدريجياً، وتراجع حذرها للانفتاح عليه في الآونة الأخيرة. وخطت عدة خطوات مهمة في اتجاه النظام من خلال تقديم مساعدات إنسانية أثناء كارثة الزلزال، حطت في مطاري دمشق وحلب، ومن ثم الاتفاق على استئناف العلاقات القنصلية والتمهيد لافتتاح السفارات.

وحينما طرح على وزير الخارجية السعودي موضوع عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية قال: “في الوقت الحالي أعتقد أن من السابق لأوانه مناقشة هذا الأمر”، وربط ذلك بمعالجة بعض “المخاوف”.

ولم يتطرق للأسباب التي تم على أساسها تجميد عضوية النظام في الجامعة عام 2011، وهي تورطه في إطلاق النار على المتظاهرين السلميين. وهذا يعني أن رئيس النظام بشار الأسد ربما يشارك في القمة العربية في الرياض المقررة في مايو/ أيار المقبل، وإذا تم هذا الأمر فسيشكل مكسباً لإيران تقدمه السعودية.

من الواضح أن هناك رغبة مشتركة من جانب الرياض وطهران بحلحلة الموقف وتبريد الأجواء والبدء تدريجياً بمعالجة الملفات. قد لا يتحقق شيء من الرهانات الكثيرة على إحداث تحول في المنطقة، ويكتفي الطرفان بوضع حد للحروب الإعلامية ويعيدان العلاقات الدبلوماسية، وفتح القنصليات، واستئناف موسم الحج للإيرانيين بصورة عادية ومن دون توترات.

العربي الجديد

———————-

سلام بارد في الاتفاق بين السعودية وإيران/ يقظان التقي

يفتح الاتفاق بين السعودية وإيران نافذة جديدة بين الخصوم القدامى، وقد يطوي صفحة عقود من انعدام الثقة بين البلدين، وهو اتفاق التزام تجاه الصين، المتغيّر الأساسي في لعبة تبرز فيها دبلوماسية ناشطة سعوديا (براغماتية)، بعد حزمة من القرارات التي أعلنتها المملكة على مدى الأعوام العشرة الماضية، والتي عكست شكلا من مفاهيم السيادة الخارجية المستحدثة. يعزّز الاتفاق الآمال في إنهاء الصراع في اليمن، إذ يعرب الفريقان عن “الرغبة في بناء علاقة جيدة وإيجابية”، لكن الصحافة الغربية رأت خلف ظهور هذه الدبلوماسية صعود “القومية السعودية أولا”، والتي يشجعها ولي العهد محمد بن سلمان. ولا يتعلق الأمر فقط بالعودة المرتقبة للعلاقات الدبلوماسية مع إيران بوساطة صينية صارت تلعب دورا في أمن استقرار منطقة الخليج، ما يعني وجود الأخيرة في حديقة الولايات المتحدة التي كانت وما زالت الحامي التقليدي العسكري في شبه الجزيرة العربية. بدا مسار التنويع الاستراتيجي السعودي واضحا أخيرا في محطّات عدة، انتهى إلى تقديم هدية للصين، لكن خلف الاتفاق مناخ آخر أمني/ استخباري، وسبقت الاتفاق بأشهر تهديداتٌ مباشرةٌ من خطر هجوم إيراني يستهدف المملكة، استدعى تحليق طائرات أميركية فوق الخليج لتحييده، وكانت إشارة إلى تصاعد التوترات بين القوى المتنافسة في الشرق الأوسط.

مردّ الترحيب الدولي الحذر التحول الكبير الذي يمثله الاتفاق بين “عدوين تاريخيين”. لا يزال السعوديون حذرين بشأن ما سيُنتجه الاتفاق، لكنهم يريدون محاولة تحسين العلاقة بأي طريقة ممكنة، ورأوا بوضوح في الوسيط الصيني فرصة جيدة (لم تصل إليهم عبر الحليف الأميركي)، لدعم اتفاقٍ تشعر طهران بنوع من الإذعان له بسبب علاقتها التجارية والنفطية مع بكين. بدأت تباشير الاتفاق في لقاءاتٍ عقدها مسؤولون في المخابرات السعودية والإيرانية، في محادثاتٍ مباشرةٍ لإصلاح ذات البين منذ أوائل عام 2021. تلتها جهود دبلوماسية عراقية، توقفت العام الماضي، بعد اندلاع موجاتٍ من الاحتجاجات النسائية في إيران، ألقت طهران اللوم فيها على القوى الأجنبية، بما في ذلك العربية السعودية. عبرت إيران عن غضبها من “قناة إيران الدولية”، وهي قناة تلفزيونية فضائية تعتقد طهران أن الرياض تموّلها، ومن القنوات الفضائية العربية الفاعلة في تغطيتها الحدث الإيراني.

ضغطت إيران أخيرا من أجل إعادة فتح السفارات، لكنها لم تكن جادّة في معالجة مخاوف الرياض، لجهة استخدام نفوذها على الحوثيين في اليمن، والمساعدة في إنهاء الحرب المستمرّة منذ ثماني سنوات، ووقف الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة. ولطالما اتهمت الرياض إيران ومليشياتها بتزويد الحوثيين بتلك التكنولوجيا منذ تدخلها في الحرب اليمنية عام 2015. تدخل الصين وسيطا، وعاملا ضامنا. السعودية تؤكد أن ذلك “ليس مؤشّرا على أي محور بعيدا عن الغرب”، وأن الصين أعربت عن استعدادها للعب دور في صنع السلام، وإعادة وصل العلاقات التي انقطعت بعد اقتحام المتظاهرين الإيرانيين سفارة المملكة، وتدهورت أكثر في عام 2019، إثر الهجوم الصاروخي والطائرات من دون طيار، والذي أدّى إلى توقف نصف إنتاج النفط السعودي مؤقتا.

يقول دبلوماسيون إن ولي العهد السعودي أصبح أكثر جدّية في مسألة الخروج من الحرب في اليمن، وحيث تمضي الحكومة السعودية في خطط الإصلاح الاقتصادي، وتطوير مشاريع سياحية ضخمة على البحر الأحمر، هو الذي شبه مرة المرشد الإيراني خامنئي بهتلر، لكنه بدّل لغته قبل عامين، مشدّدا على بناء علاقة جيدة وإيجابية مع الجمهورية الإسلامية التي تملك القدرة على تهدئة الوضع في اليمن، في طموح إرساء هدنة ووقف شحنات نقل الأسلحة (أوقف الأميركيون والبريطانيون خمس ناقلات منها)، ما يسمح بالانصراف إلى تدبير شؤون الداخل في المملكة، في الاقتصاد، وتعزيز الهدوء والاستقرار، ولأسباب داخلية تتعلق بجيل جديد في السلطة، يحتاج إلى جو أمني آخر ممسوك، يخفّف الضغوط على ولي العهد السعودي نفسه، لإنجاز مشروعه 20 /30، وعلى نحو ما غلّفه تصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان عن أن “دول المنطقة تشترك في مصير واحد، والسعودية مستعدة للتحدّث مع الجميع”.

وقد رحبت إيران بالاتفاق، واعتبرته نجاحا دبلوماسيا، وهي قوة عسكرية كبيرة، تتطلع إلى تطوير علاقاتها الإقليمية للتعويض عن الضغط المتزايد عليها من الغرب، وتحتاج إلى تهدئة الأوضاع على المدى القصير. لذلك تعطي الاتفاق مع المملكة طابعا أمنيا عسكريا، بخلاف الأولوية الاقتصادية التي أعطتها زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، أبوظبي بعد الاتفاق مباشرة، على خلفية أهداف إيران الاقتصادية والتنموية. وقد سلطت الصفقة الضوء على تراجع نفوذ الولايات المتحدة، واعتبر المستشار العسكري للمرشد الأعلى في إيران إنها كانت “زلزالا سياسيا ونهاية للهيمنة الأميركية، ما يعني أن حقبة ما بعد الولايات المتحدة في الخليج قد بدأت”.

وبالفعل، شكّل الاتفاق أول تجربة سياسية خارجية للصين على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر عن أراضيها، تواكب قوتها الاقتصادية وحجمها، وهي تستفيد من فرصة لعب دور دبلوماسي على خلفية عزلة روسيا في حربها على أوكرانيا. لم يتم الكشف عن كل نقاط الاتفاق، غير أن المعاهدة التزام ثنائي تجاه الصين. إما أن تجعلهم يتصرّفون جيدا معا، أو يفقدون ماء الوجه مع الخارج، لكن الصين لا تملك آليات تنفيذية، لا قواعد على الأرض لها، ولا تستطيع ضمان أمن الخليج عسكريا. وثمّة عناصر دينية هي جزء من جيوبولتيك مؤثّر في مصير الاتفاق.

سينتقل الاهتمام إلى اليمن، حيث الأمل أن يساعد التقارب في إنهاء واحدةٍ من أسوأ الكوارث الإنسانية. المحاذير كثيرة، منها عدم تأمين تسوية مع سيطرة الحوثي على شمال اليمن، المكتظ بالسكان والفصائل المتعدّدة، غالبا ما تتنافس مع بعضها بعضا في الجنوب. اليمن بلدٌ متعدّد الطبقات، ثم هناك عمق انعدام الثقة بين البلدين. مع ذلك، سيضمن الاتفاق هدنةً في صراع طويل، غير مستقر من ضمن تحوّلات تصيب حالة من العداء غير المباشر، وتخفّف منه. ومخاوف السعودية من اليمن المجاور مبرّرة من قوىً تدعمها إيران بقوة، من بينها حزب الله اللبناني، وفصائل عراقية لا تُحصى. يُضاف هذا إلى خوفها من برنامج طهران النووي. سيكون إذاً سلاما باردا، والتوترات ستتقلص، ستتحسّن الأمور قليلا، لكن الأشياء لن تتوقف هنا.

تقول إيران إن هدفها تحقيق الأمن الخليجي بأيادٍ خليجية، هي تملك جهوزيّتها، وطرد القواعد الأميركية هدف أساسي لها. مع أن كلا الجانبين أظهرا قدرة على تشغيل نوايا مخادعة، مثل العقد الضخم لإصلاح العلاقات السعودية الأميركية (لن يكون كافيا)، بعدما طلبت شركتا الطيران السعودي 39 طائرة خاصة بالمسافرين، وأجهزة إضافية من واشنطن لطمأنة الأميركي الذي يشعر بوطأة الحضور الصيني في منطقتي أفريقيا والشرق الأوسط، وقد يؤدي ذلك مع الموقف الإسرائيلي المراقب، إلى انتكاسات عنيفة، ومتهوّرة.

العربي الجديد

————————–

تقارب الرياض ودمشق: هل هناك ملف معتقلين سعوديين؟/ أمين العاصي

العديد من الملفات يُتوقع أن تحضر على طاولة التفاوض بين النظام السوري والسعودية، بعد مؤشرات حول استعداد الرياض لاستئناف علاقاتها مع هذا النظام، إثر قطيعة دامت 12 عاماً، وإن كانت العلاقات الدبلوماسية ستبقى على نطاق محدود في البداية، يقتصر على الجانب القنصلي.

وبرز ما ذكرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، الخميس الماضي، نقلاً عن “مستشارين للحكومة السورية”، لم تسمهم، من أن الرياض تريد حل قضية المعتقلين السعوديين الذين تم أسرهم بعد انضمامهم إلى الجماعات الجهادية المتورطة في الحرب السورية.

هذا الأمر يفتح الباب أمام التعامل مع هذا الملف الشائك، فمعتقلات النظام تضم آلاف المعتقلين العرب قبل الثورة السورية في عام 2011 وأثناءها، وفق تقارير حقوقية وشهادات معتقلين ناجين.

وكان رئيس إدارة المخابرات العامة لدى النظام السوري حسام لوقا قد زار الرياض أخيراً للاتفاق على خطوات تطبيع العلاقات، ومن المرجح أن مسألة المعتقلين السعوديين كانت في صلب محادثاته مع المسؤولين الأمنيين في المملكة، وسط ترجيحات بافتتاح القنصلية السعودية في دمشق، بعد عيد الفطر (في الأسبوع الأخير من شهر إبريل/نيسان المقبل).

المعتقلون السعوديون والعرب في سجون النظام السوري

لا توجد إحصائيات يمكن الركون إليها لعدد المعتقلين السعوديين والعرب في سجون النظام السوري، إلا أنه من المؤكد أن معتقلات النظام تضم المئات من لبنانيين وفلسطينيين وسعوديين، بعضهم كان معتقلاً قبيل انطلاق الثورة السورية والبعض الآخر أثناءها.

من جهتها، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 2887 شخصاً ممن يحملون الجنسيات العربية، بينهم 19 طفلاً و28 سيدة، ومنهم 58 شخصاً يحملون الجنسية السعودية، لا يزالون قيد الاعتقال أو الإخفاء القسري لدى قوات النظام منذ مارس/آذار 2011.

وفي السياق، توقع مدير الشبكة فضل عبد الغني، في حديث مع “العربي الجديد”، ألا يتعاون النظام السوري “مع ملف المعتقلين العرب في سجونه”، مضيفاً: هؤلاء رهائن لديه، من المرجح أنه سيحتفظ به لمراحل متقدمة من المفاوضات مع مختلف الأطراف.

وتابع أن “النظام السوري لديه خبرة في الإرهاب مع مختلف الدول، عبر ابتزازها بالمعتقلين لديه، وعبر المخدرات مثل الكبتاغون وغيرها من المواد المخدرة. ووصف عبد الغني اعتقال العرب من قبل النظام بـ”التعسفي”، مشيراً إلى أنهم يندرجون ضمن “المختفين قسرياً”، موضحاً أن التواصل مقطوع معهم.

وكان السفير السعودي في الأردن فهد بن عبد المحسن الزيد قد أكد، في تصريحات صحافية عام 2013، أن عدد السعوديين في سورية بعد مرور عامين من بدء الثورة بلغ 2500 سعودي، مشيراً إلى أن عدد السجناء منهم “قليل”. وأكد أن عدم خروجهم من سورية يأتي بسبب استيطانهم هناك منذ قرابة 60 عاماً، إضافة إلى وجود استثمارات لهم وعلاقات نسب تربطهم بعائلات سورية.

وقال إن السفارة السعودية لم تتأكد من سجن السعوديين بسبب جنسيتهم في سورية، مؤكداً أن السفارة تلقت من أهالي السجناء معلومات تفيد بأن أبناءهم سجنوا بسبب جنسيتهم.

ولفت الزيد إلى أن سفارتي السعودية في عمّان وبيروت تسعيان إلى إطلاق السجناء السعوديين من السجون السورية. وكان النظام السوري اعتقل في عام 2011 عدداً من المقيمين العرب والأجانب، من أجل الضغط على حكوماتهم في سياق محاولاته القضاء على الثورة.

من جهته، أوضح مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “هناك معتقلين سعوديين في سجون النظام السوري، ولكن لا توجد إحصائيات دقيقة عن عددهم”.

وأشار إلى أن “جل المعتقلين السعوديين قبل الثورة في عام 2011 كانوا جهاديين قصدوا سورية للعبور إلى العراق وجرى اعتقالهم”، مضيفاً: لدينا معلومات مؤكدة عن وجود معتقلين أردنيين وفلسطينيين في سجن عدرا (ريف دمشق) منذ 40 سنة.

وفي السياق، أوضح الناشط الحقوقي السوري عبد الناصر حوشان، في حديثٍ مع “العربي الجديد”، أنه “لا يمكن التحقق بدقة من عدد المعتقلين السعوديين في سجون النظام، نظراً لصعوبة التواصل مع ذويهم”.

غير أنه أشار إلى أن العدد التقريبي يصل إلى نحو 700 معتقل. وكانت السعودية قد أغلقت سفارتها في سورية في مارس 2012، وقد سبقها تجميد عضوية النظام في الجامعة العربية أواخر عام 2011.

وقادت الرياض الدول العربية الرافضة لأي عودة للنظام إلى “الحضن العربي”، ولكن تغييرات طرأت على السياسة السعودية في العام الحالي، ومنها التقارب مع الجانب الإيراني، ربما تدفع الرياض إلى مراجعة موقفها حول عودة النظام إلى الجامعة العربية في القمة العربية المقررة فيها في مايو/أيار المقبل.

النظام مستعد لمناقشة كل شيء مع السعودية

وعلى الرغم من أن الرياض قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع النظام، إلا أنها أبقت على قنوات اتصال استخبارية معه، إذ تحدثت وسائل إعلام تابعة له عن زيارة قام بها في مايو 2021 رئيس المخابرات السعودية، خالد الحميدان، إلى العاصمة السورية دمشق.

ويرجح أن يكون النظام مستعداً لمناقشة كل الملفات مع الجانب السعودي، بما فيها ملف المعتقلين السعوديين، لأنه يعتقد أن عودة “الدفء” إلى العلاقة مع الرياض مقدمة لإعادة تأهيله إقليمياً وربما دولياً، على الرغم من الاعتراض الأميركي.

من جهته، رأى غزوان قرنفل، مدير تجمع المحامين السوريين، وهي منظمة حقوقية، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “النظام جاهز للمساومة بملف المعتقلين السعوديين لديه، إن وُجدوا، لتحقيق أعلى مستوى من المكاسب السياسية”.

وحول خشية النظام من تبعات قانونية في حال فُتح هذا الملف، أعرب عن اعتقاده أن “النظام لا يخشى شيئاً في هذا الملف”، مضيفاً أنه “سيجد دائماً ما يبرر اعتقالهم من قبيل أنهم جهاديون أو أنهم دخلوا البلاد بطريقة غير مشروعة وقدموا الدعم للعصابات الإرهابية… وإن اقتضى الأمر سيغطي اعتقالهم الطويل بأحكام قضائية صادرة عن محكمة الإرهاب، أما من قضى منهم فسيجد لهم تقريراً طبياً يبيّن أنهم ماتوا باحتشاء عضلة قلبية أو سينكر وجودهم لديه أصلاً”.

وكان الصراع الدائر في سورية اجتذب آلاف الجهاديين العرب للانضمام إلى تنظيمات متشددة من قبيل “جبهة النصرة” ولاحقاً تنظيم “داعش” وسواهما من التنظيمات. ومن المرجح أن قوات النظام اعتقلت العديد منهم خلال المعارك الكثيرة التي دارت في عموم سورية بينها وبين هذه التنظيمات.

ولعل عبد الله المحيسني من أبرز السعوديين الذين ظهروا في المشهد السوري، إذ كان من أبرز “الشرعيين” في “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقاً) مع مواطنه مصلح العلياني.

العربي الجديد

————————-

تعهدات بإصلاحات”.. صحيفة سعودية تكشف تفاصيل المباحثات مع نظام الأسد

كشفت صحيفة “عكاظ” السعودية تفاصيل “المباحثات” مع النظام السوري، بعدما أكدتها الرياض بشكل رسمي خلال الأيام الماضية على لسان مصدر دبلوماسي في وزارة الخارجية.

وقالت الصحيفة في تقرير لها، اليوم الاثنين، إن “رئيس الأمن الوطني في سورية علي مملوك ومدير المخابرات العامة حسام لوقا قد زارا الرياض مطلع الأسبوع الماضي، وأجريا محادثات مع مسؤولين سعوديين حول العودة التدريجية للعلاقات بين البلدين”.

وتابعت: “وذلك بعد أن تتعهد دمشق بحزمة من الإصلاحات على مستوى الوضع الداخلي والعلاقة مع المعارضة السورية، إضافة إلى تعهدها ألا تكون مصدراً لتصدير الكبتاغون إلى الأردن ودول الخليج”.

ووفق الصحيفة فقد بدأ النظام السوري “على أرض الواقع بملاحقة خلايا تعمل في مجال صناعة وتصدير الكبتاغون إلى الأردن، وأحبطت سلطاته عدة عمليات الأسبوع الحالي في بادرة حسن نية لتحسن العلاقات مع الرياض”.

وكان مصدر في الخارجية السعودية قد أكد، الأسبوع الماضي، أن الرياض والنظام السوري يجريان محادثات لاستئناف الخدمات القنصلية، بعد قطيعة دبلوماسية دامت 12 عاماً.

وجاءت ذلك بعدما كشفت وكالة “رويترز” عن هذه المباحثات، وأنها بدأت بزيارة أجراها رئيس مخابرات النظام، اللواء حسام لوقا إلى المملكة العربية السعودية، فيما قضى عدة أيام، والتقى مسؤولين.

وستمثل إعادة العلاقات بين الرياض ودمشق أهم تطور حتى الآن في تحركات الدول العربية لتطبيع العلاقات مع الأسد، والذي نبذته العديد من الدول الغربية والعربية بعد حملة القمع الدامية التي شنها ضد المنتفضين على حكمه، وفق “رويترز”.

وتحدثت “عكاظ” أنها علمت من مصادر خاصة أن القنصلية السعودية في دمشق بدأت بأعمال ترميم مقرها الكائن في مزة فيلات شرقية في دمشق.

وقالت إن إن “المحادثات السعودية السورية قد تمهد الطريق للتصويت على رفع تعليق عضوية سورية خلال القمة العربية القادمة المتوقع عقدها في السعودية في أبريل القادم”.

وكان الأمين العام المساعد المشرف على شؤون مجلس جامعة الدول العربية، حسام زكي قد صرّح، الأحد، أنه من المنتظر انعقاد القمة العربية في دورتها الـ32، في المملكة العربية السعودية، في 19 من أيار المقبل.

وذكر الموقع الرسمي للجامعة العربية أن تحديد الموعد جاء بعد مشاورات أجراها الأمين العام للجامعة، أحمد أبو الغيط، مع الحكومة السعودية، والتي رحبت بعقدها في التاريخ المذكور.

ومن المقرر أن يسبق القمة اجتماعات تحضيرية على مستوى كبار المسؤولين والوزراء تمهيداً لانعقادها على مدار خمسة أيام.

وحتى الآن لا يعرف المسار الذي قد تتخذه الرياض حيال النظام السوري، وما إذا كانت مباحثاتها ستفضي إلى إعادة تطبيع العلاقات بشكل كامل أم جزئياً.

وكانت العلاقات بين نظام الأسد والسعودية شهدت توتراً وقطيعة دبلوماسية منذ آب/ أغسطس 2011، عندما أمرت الرياض بسحب سفيرها من دمشق، بسبب تصاعد المجازر التي كان ارتبكها نظام الأسد ضد المدنيين في المناطق السورية التي ثارت لتغييره.

ومنذ تلك الفترة لم يطرأ أي تغير على موقف الرياض من النظام، مؤكدة على لسان مسؤوليها أنها تؤيد حلاً سياسياً في سورية بموجب قرار مجلس الأمن 2254، إلى أن جاءت كارثة الزلزال المدمّر لتتلوها سلسلة تصريحات ومواقف حملت نبرة مستجدة من جانب الرياض اتجاه نظام الأسد.

——————————

==================

تحديث 25 أذار 2023

———————-

القراءة الأميركية للوساطة الصينية في الاتفاق السعودي – الإيراني

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

أثار إعلان كل من السعودية وإيران، في 10 آذار/ مارس 2023، توصّلهما، من خلال وساطة صينية، إلى اتفاقٍ يقضي باستئناف قريب للعلاقات الدبلوماسية بينهما نقاشًا مستفيضًا في الولايات المتحدة حول أهمية الاتفاق وتداعياته على المصالح الأميركية. وفي حين مالت المعارضة الجمهورية إلى اعتبار الاتفاق نكسة للسياسة الأميركية، ودليلًا على تراجع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط لمصلحة الصين، رفضت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هذه القراءة، معتبرةً أن تخفيف حدّة التوتر في منطقة الخليج يصبّ في المصلحة الأميركية. وفي مقابل ذلك، يطرح أغلب الخبراء الأميركيين بالشرق الأوسط مقاربةً مفادها بأن ثمّة تحوّلات إقليمية حقيقية ومنافسة صينية، وبدرجة أقل روسية، للولايات المتحدة في المنطقة، من دون أن يعني ذلك أن الولايات المتحدة فقدت أفضليتها فيها.

الموقف الرسمي الأميركي

حرصت إدارة بايدن على تجنّب إظهار القلق من الاختراق الذي حقّقته الصين في منطقة الخليج، وحاولت الموازنة بين ثلاثة مستويات في تعاملها مع المسألة؛ إذ يتمثّل الأول في التقليل من أهمية أي حديث عن تدهور العلاقات الأميركية – السعودية، عبر تأكيد أن المملكة العربية السعودية كانت على اتصال وثيق مع الولايات المتحدة بشأن المحادثات مع إيران في بيجين. أمّا المستوى الثاني، فهو يتمثّل في الترحيب بالاتفاق السعودي – الإيراني، بغضِّ النظر عن الطرف الذي قاد جهود الوساطة، على أساس أن ذلك يسهم في خفض التصعيد وحدّة التوتر في المنطقة. ويقول مسؤولون أميركيون إن لدى كل من الولايات المتحدة والصين مصلحة في شرق أوسط مستقر، لأسبابٍ منها ضمان تدفق إمدادات الطاقة العالمية. في حين يتمثّل المستوى الثالث في رفض أيّ إشارةٍ توحي بتراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أو تآكل نفوذها فيه، وتحديدًا منطقة الخليج العربي، وتأكيد أن الولايات المتحدة لا تزال منخرطة على نحوٍ مكثف فيها، مع الإشارة في هذا السياق إلى التدريبات العسكرية الأخيرة المشتركة في آذار/ مارس مع كل من الإمارات والسعودية.

حقبة جديدة في الشرق الأوسط؟

على الرغم من تأكيدات للولايات المتحدة أن نفوذها في منطقة الشرق الأوسط لا يتعرّض للانحسار حاليًّا، فإنّ إجماعا بين الخبراء الأميركيين على أن النظام الإقليمي آخذٌ في التغير فعلًا، وأن الولايات المتحدة، وإنْ لا تزال الفاعل الدولي الأهم في المنطقة فإنها لم تَعُد الفاعل الوحيد. وكانت روسيا قد دخلت “خط المنافسة” في المنطقة عبر البوابة السورية في عام 2015. ومنذ عام 2019، تحوّلت الصين إلى أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وكان الافتراض السائد أميركيًّا حتى الإعلان عن إبرام الاتفاق السعودي – الإيراني بوساطة صينية أن الصين مهتمة بتأمين مصالحها الاقتصادية في المنطقة فقط، وليست مهتمةً بمزاحمة الولايات المتحدة في النفوذ السياسي والدبلوماسي. لكن ثمَّة تساؤلات اليوم في هذا الشأن، خصوصًا في ضوء المناورات المشتركة التي أجرتها الصين مع كل من إيران وروسيا في المحيط الهندي، خلال مطلع عام 2022، وقد تكرّرت مثل هذه المناورات في عام 2023.

وتَعدّ الولاياتُ المتحدة الصينَ التحدّي الأكبر لها ولحلفائها. وبحسب المقاربة الأميركية، “الصين هي الدولة الوحيدة التي لديها نية إعادة تشكيل النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، في الوقت الذي تتعاظم فيه قدراتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك”. وتؤكّد “استراتيجية الدفاع الوطني” الأميركية أن الصين تعمل “على إنشاء بنية تحتية خارجية وقواعد أقوى للسماح لها بإبراز قدراتها العسكرية على امتداد مسافات أبعد”. ورغم أن “استراتيجية الأمن القومي الأميركية” تفصّل في التهديد الروسي لقوانين وقواعد النظام الدولي وقواعده، خصوصًا في أوروبا، فإنها لا ترى فيه تحدّيًا يوازي التحدّي الذي تمثله الصين؛ ذلك أنّ الصين “تستخدم قدراتها التكنولوجية وتأثيرها المتزايد في المؤسسات الدولية لخلق ظروف أكثر ملائمة لنموذجها الاستبدادي الخاص بها، ولصياغة أسس استخدام التكنولوجيا العالمية ومعاييرها من أجل تعزيز مصالحها وقيمها”. ثمّ إنّ الصين “تستخدم قوتها الاقتصادية لإكراه الدول […] وجعل العالم أكثر اعتمادًا عليها”. وهي كذلك “تستثمر […] في جيش يجري تحديثه بسرعة […] في الوقت الذي تسعى فيه لإضعاف التحالفات الأميركية في المنطقة، وفي سائر أنحاء العالم”.

ورغم أن الرئيس الأميركي، بايدن، شدّد في القمة التي جمعته في مدينة جدة السعودية، خلال تموز/ يوليو 2022، بقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الستّ (السعودية، وقطر، والإمارات، والكويت، وعُمان، والبحرين)، إضافةً إلى قادة مصر والأردن والعراق، على أن الولايات المتحدة “لن تنسحب، ولن تترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”، فإن التأثير الصيني في المنطقة أصبح واقعًا يصعب احتواؤُه. وبعد مرور خمسة أشهر على قمة جدة، حلَّ الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في الرياض، حيث عقد ثلاث قمم مع السعودية، ثمّ مع دول مجلس التعاون، وبعد ذلك مع الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية، باستثناء سورية، ووقّع اتفاقات وشراكات مع دول الخليج العربية تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار.

بناءً على ذلك، يحذّر خبراء أميركيون من إفراط إدارة بايدن في التركيز على منطقة المحيطين الهادئ والهندي لاحتواء الصين، وفي التركيز على أوروبا لاحتواء روسيا، وترك فراغات في مناطق أخرى من العالم، مثل الشرق الأوسط. ورغم أنه يوجد اتفاق بين الخبراء الأميركيين على أن الولايات المتحدة ستبقى الفاعل الأبرز في المنطقة، أمنيًّا واستخباراتيًّا وعسكريًّا، وحتى من ناحية صادرات السلاح، مع احتفاظها بنفوذ اقتصادي كبير فيها بعد الصين، فإنّ مقاربات جديدة تتبلور بشأن علاقات القوى الإقليمية في المنطقة بالقوى الكبرى. فإيران، مثلًا، تحاول كسر طوق العزلة والعقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة والغرب بسبب برنامجها النووي، عبر تطوير علاقاتها بالصين التي تُقدّم لها سوقًا مهمّة لنفطها. وتعاني إيران أوضاعًا اقتصادية صعبة، وارتفاعًا في معدّلات التضخّم، واضطرابات شعبية من جرّاء ذلك، ومن العنف في التعامل مع المتظاهرين المدنيين السلميين، فضلًا عن استنزاف مواردها نتيجةً لدعمها صراعات ينخرط فيها بعض حلفائها الإقليميين؛ مثل الحوثيين في اليمن، والمليشيات المحسوبة عليها في العراق وسورية ولبنان. ومن ثمَّ، يمثل الاتفاق مع السعودية عبر الصين محاولة لتخفيف الضغوط عليها. وتعاني السعودية، أيضًا، استنزافًا كبيرًا بسبب الحرب في اليمن، واستهداف الحوثيين مدنها ومنشآتها الحيوية، على نحو متكرّر، وخصوصًا منشآتها النفطية. وفي ظل امتناع إدارة بايدن عن مساعدتها لحسم هذه الحرب، وعدم قدرة الولايات المتحدة على جلب إيران إلى المفاوضات، ومن ثمّ الضغط على الحوثيين للتوصل إلى اتفاق، فإن الصين كانت هي الحل الأمثل بالنسبة إليها.

معضلة العلاقة مع السعودية

تميل القراءة الأميركية إلى تفسير لجوء السعودية إلى الصين لتطبيع العلاقة مع إيران بأنها “خطوة تكتيكية” أكثر منها مقاربة استراتيجية تستهدف إدارة بايدن؛ فالسعودية ما زالت مهتمة بالحفاظ على العلاقات الوثيقة التي تربطها بالولايات المتحدة، ومن غير المرجّح أن تسعى إلى المسِّ بها من أجل علاقات أوثق مع الصين، لا سيما بالنظر إلى الشراكات العسكرية القوية التي تربطها مع الولايات المتحدة. وتحاول السعودية، على الأرجح، توظيف تقاربها مع روسيا والصين لدفع الولايات المتحدة إلى إقامة علاقاتٍ أمنيةٍ أوثق معها. وتشترط السعودية، مثلًا، للانضمام إلى “الاتفاقات الإبراهيمية” مع إسرائيل، بحسب وسائل إعلام أميركية، ضمانَ الإمداد الأميركي المستمرّ لها بالأسلحة، من دون خضوع ذلك للخلافات الحزبية، وتعزيز الضمانات الأمنية الأميركية لها أيضًا، كما أنها تريد من الولايات المتحدة مساعدتها في بناء برنامج نووي سِلمي، وهو أمرٌ يتردّد الأميركيون في الموافقة عليه، لأنهم يعتقدون أن السعوديين يمكن أن يسعوا إلى تطوير أسلحة نووية لاحقًا، في حال تمكُّن إيران من إنتاج قنبلة نووية. ويؤيد هذا الاتجاه إتمام السعودية مؤخرًا صفقتين مع شركة بوينغ الأميركية لشراء 121 طائرة ركاب من طراز “بوينغ 787 دريملاينر” بقيمة 37 مليار دولار، وهي خطوةٌ أشاد بها البيت الأبيض. وكانت السعودية أعلنت قبل ذلك عن تقديم حزمتين من المساعدات الإنسانية لأوكرانيا بقيمة 410 ملايين دولار، وهو أمرٌ رحّبت به الولايات المتحدة. وبحسب هذه القراءة أيضًا، لا يعني استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، على الأرجح، تغييرًا كبيرًا في الوضع الأمني في الخليج العربي؛ ذلك أنّ الطرفين سيبقيان، لأسبابٍ تتعلق بالمنافسة الجيوسياسية بينهما، في حالٍ من الترقّب والحذر؛ إذ لم تَنتهِ الخلافات بين الطرفين، ولم يتضمّن الاتفاق حلًّا لأيٍّ منها، ولكنه ترك أجواءً جديدة للحوار حولها بطرق سلمية.

وتبقى حاجة السعودية إلى الولايات المتحدة كبيرة، خصوصًا أن الصين ليس من المرجّح أن تقدّم ضمانات أمنية للسعودية في المدى المنظور، وتحديدًا ضد طرفٍ آخر ترتبط بعلاقة شراكة معه، هو إيران. ولا يوجد بديل من الولايات المتحدة بوصفها حليفًا استراتيجيًّا. ولكن دول المنطقة شرعت في تنويع علاقاتها منذ تبيّن في عام 2011 عدم تمكّن الولايات المتحدة من ضمان مستقبل الأنظمة، على الرغم من التزامها للدول بذلك. ومن ضمن أهداف هذا التنويع الضغطُ على الولايات المتحدة لتحصيل دعمٍ أكبر، وأكثر التزامًا، ثمّ إن الهجمات بالمسيرات والصواريخ على منابع النفط في الخليج، التي وقفت خلفها إيران، بيّنت أنه لا يوجد بديلٌ من علاقات جوارٍ سلمية إنْ لم تكن علاقات حسنة. وبحسب قائد القوات الجوية المركزية الأميركية التي تغطّي منطقة الشرق الأوسط، الجنرال أليكسوس غرينكويتش، فإن “الاضطراب في العلاقات (الأميركية – السعودية) على المستوى السياسي لا ينسحب البتّة على المستوى العسكري”. ومع ذلك، دعا غرينكويتش إلى ضرورة مراقبة الولايات المتحدة دولَ منطقة الخليج التي تشتري أسلحة من الصين وروسيا، أو تسعى إلى تنويع علاقاتها الدفاعية، مع الانتباه إلى أن الولايات المتحدة تتمتّع بميزة في هذا الشأن؛ من حيث جودة المواد، والتدريب، والدعم الذي تقدمه إلى تلك الدول.

خاتمة

مع أن الوساطة الصينية الناجحة في الاتفاق السعودي – الإيراني تؤكّد رغبة دول المنطقة في تبنّي مقاربات جديدة، فيما يتعلق بعلاقاتها البينية أو بخصوص تنويع خياراتها وتحالفاتها الدولية، فإن من غير المرجّح أن يؤدي ذلك إلى إضعاف دور الولايات المتحدة في المنطقة. وعلى عكس ذلك، قد يكون الهدف نقيضًا لذلك تمامًا؛ أي الضغط على الولايات المتحدة لأداء أدوار أكبر في المنطقة، خصوصًا أن الصين وروسيا غير قادرتيْن على تعويض الولايات المتحدة شريكا أمنيا أساسيا في المنطقة.

العربي الجديد

————————

واشنطن واتفاق بكين/ مروان قبلان

رغم أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في بكين لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، في وقت سابق من شهر مارس/ آذار الجاري، يبدو للوهلة الأولى وكأنه يخدم المصالح الأميركية، إلا أن نظرة أكثر تفحّصا تفيد بأن واشنطن لم تكن سعيدة حقا بهذا التطوّر، فهو يمثل، من جهةٍ، نكسة لجهود احتواء نفوذ خصمها الأبرز على الساحة الدولية (الصين) في منطقةٍ ذات أهمية استراتيجية للمصالح الأميركية، ومن جهةٍ ثانيةٍ يمثل فشلا لجهود عزل إيران ومراكمة الضغوط عليها، في تغير واضح للسياسة التي كانت سائدة مطلع عام 2021، عند وصول إدارة الرئيس بايدن إلى الحكم. في ذلك الوقت، شجّعت الولايات المتحدة حلفاءها في المنطقة، خصوصا السعودية، للانفتاح على إيران بما يساعد في وقف حرب اليمن وتخفيف حدّة التوترات التي تصاعدت في الخليج خلال فترة حكم إدارة دونالد ترامب. كانت هذه السياسة قائمة عندما كانت واشنطن لا تزال تأمل بإحياء اتفاق 2015 النووي مع إيران، وتريد التفرّغ لمواجهة الصين، لكنها تغيّرت في الشهور الأخيرة، خصوصا بعدما اتجهت إيران نحو دعم روسيا في حرب أوكرانيا، ما دفع واشنطن نحو ممارسة مزيد من الضغوط على طهران، سواء لجهة تشديد العقوبات ضدها أو إحياء محاولات إدارة ترامب إنشاء تحالف شرق أوسطي لاحتواء نفوذها وطموحاتها الإقليمية والنووية.

بخصوص الصين، تمكّنت الولايات المتحدة خلال العام الماضي من احتواء صعودها المتسارع على الساحة الدولية، إذ أغرقت حليفتها روسيا في وحول أوكرانيا وشدّدت من إجراءات محاصرتها إقليميا، فأنشأت تحالفا ضدّها يضم إليها بريطانيا وأستراليا (أوكوس) وقوامه تزويد هذه الأخيرة بغواصات تعمل على الطاقة النووية، في تحوّل نوعي لموازين القوى في شرق آسيا، كما أحيت واشنطن تحالف الكواد (الرباعي) الذي أنشأته عام 2007 مع الهند واليابان وأستراليا، وأقنعت اليابان بتغيير عقيدتها الدفاعية، بما في ذلك المادة 9 من دستور 1947 التي حرمت اليابان من حقّها السيادي في إعلان الحرب، وخصّصت مبالغ إضافية للدفاع والتسلح تصل إلى 320 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، بحيث غدت اليابان ثالث أكبر منفق عسكري في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. فوق ذلك، زادت الولايات المتحدة من دعمها قدرات تايوان العسكرية لصد أي هجوم صيني محتمل عليها، في حين عادت إلى شغل قواعدها العسكرية السابقة في الفيليبين وضاعفت عددها من خمس إلى تسع قواعد. ولعبت واشنطن دورا مهما في تذليل الخلافات بين اليابان وجارتها كوريا الجنوبية، بحيث صار ممكنا إنشاء تحالف بين الخصمين التاريخيين لمواجهة الصين. ونتيجة ذلك، غدت الصين محاطة بمجموعة من الخصوم يمثلون طوقا أميركيا يمتد حولها ويشمل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وفيتنام والفيليبين وأستراليا والهند. وفيما تتولى واشنطن محاصرة الصين إقليميا تزيد من حدّة الضغوط عليها اقتصاديا ودبلوماسيا، إذ أقنعت حلفاءها في حلف الناتو بتصنيف الصين كتهديد أمني عالمي، يسعى إلى تقويض النظام الليبرالي الدولي، وهي تدفع حاليا إلى إشراكهم بمحاصرتها تكنولوجيا بما في ذلك مقاطعة الشركات الصينية الرائدة في هذا المجال، مثل هوواي وتيك توك، التي أعلنت نيوزيلندا قبل أيام عن قرار حظر تطبيقاتها.

في هذا الوقت تحديدا، وفيما كانت الولايات المتحدة منهمكةً بإطباق الحصار على الصين، صدر الإعلان من بكين عن اتفاق إيراني – سعودي لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين اعتبره وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في حديث مع ديفيد أغناطيوس في صحيفة واشنطن بوست، بمثابة اختراق استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة سعودية للعب الولايات المتحدة ضد الصين.

بموافقتها على الوساطة الصينية مع إيران، تعتبر الولايات المتحدة أن السعودية تقوّض سياسة الاحتواء التي تمارسها ضد الصين، وتفتح لها بابا واسعا للعب أدوار في منطقة مرشّحة لأن تلعب دور المرجّح في التنافس الدولي الذي يستعر بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والصين وإلى جانبها روسيا ودول أخرى تتفق في رغبتها إسدال الستار على حقبة الهيمنة الأميركية. هنا، يبدو الرهان الأميركي قائما كليا على عجز إيران عن تغيير سلوكها، وبالتالي إعادة السعودية إلى المعسكر الأميركي، فهل تسدي إيران هذه الخدمة لواشنطن؟

العربي الجديد

———————

الاتفاق السعودي الإيراني.. “قليل من الأوكسجين حتى لا يختنق النظام

الحرة / ترجمات – واشنطن

قالت صحيفة “وول ستريت جورنال”، السبت، إن الاتفاق الذي وقعته إيران مع السعودية لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ربما ينهي سنوات من العداء بين الخصمين في الشرق الأوسط، لكنه لن يكون كافيا لدعم اقتصاد طهران المتعثر.

وأضافت الصحيفة أن إيران كانت تعاني بالفعل قبل توقيع الاتفاق من أزمة اقتصادية حادة، حيث فقدت العملة الإيرانية خمس قيمتها خلال الأسبوعين الأخيرين من فبراير لتصل إلى مستويات تراجع قياسية، وزاد من المشكلات التي تواجه حكم رجال الدين في هذا البلد.

وأشارت الصحيفة إلى أن التضخم مرتفع أيضا وبلغ 59 في المئة في أواخر العام الماضي، في ظل انعدام فرص إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 والحصول على بعض التخفيف من العقوبات الأميركية.

وبينما ساعد الإعلان عن الصفقة مع السعودية في تخفيف الضغط قليلا عن الريال على المدى القصير، لكن العملة الإيرانية استمرت في التراجع بعد ذلك.

وتنقل الصحيفة عن خبراء اقتصاديين وتجار القول إن السعودية وجيران إيران الآخرين من غير المرجح أن يضخوا مبالغ كبيرة من السيولة لاستثمارها في الجمهورية الإسلامية على الرغم من استعادة طهران العلاقات الدبلوماسية مع الرياض.

ويقولون هؤلاء أيضا إن المملكة العربية السعودية سترغب في معرفة ما إذا كانت طهران ستلتزم بالاتفاق من خلال وقف شحنات الأسلحة السرية التي ترسلها لحلفائها الحوثيين في اليمن.

وتبين الصحيفة أن العقوبات الغربية المفروضة على إيران ستشكل عقبة قوية أمام انخراط تلك الدول في الاقتصاد الايراني.

يقول مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط بواشنطن أليكس فاتانكا “إن الوضع الاقتصادي هو جزء رئيسي من سبب قرار الإيرانيين إبرام اتفاقية خفض التصعيد مع السعوديين”.

تقول الصحيفة إن رجال الدين في إيران وعدوا من قبل بمعالجة التضخم لكن من دون جدوى.

فعندما تولى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي منصبه في عام 2021، تعهد بخفض التضخم إلى أقل من 15 في المئة في عام 2023 وإلى أقل من ذلك في عام 2024، لكن الأسعار لا تزال تواصل الصعود، مما زاد الضغط على الحكومة.

لا تزال نسب التضخم مرتفعة جدا بأكثر من 50 في المئة، مع ارتفاع تكلفة اللحوم بنسبة 90 في المئة خلال العام الماضي، وفقا لوكالة أنباء الطلبة شبه الرسمية.

وقال الزميل الأقدم في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى هنري روم إن “التضخم، وخاصة في أسعار الغذاء، مرتفع للغاية ومتصاعد، والحكومة لا تحرك ساكنا للتدخل”.

وأكد مستشار الشركات الأجنبية المقيم في طهران مصطفى باكزاد أن توثيق العلاقات مع دول ذات ثقل كبير مثل الصين والسعودية لن يعوض البلاد عن سنوات من سوء الإدارة والعقوبات.

وقال باكزاد إن “الصفقة السعودية تطلق القليل من الأوكسجين حتى لا يختنق النظام”.

وكانت السعودية وإيران اعلنتا في العاشر من الشهر الجاري الاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ عام 2016، وفقا لبيان مشترك صدر عن البلدين.

وأُعلنت الصفقة بعد محادثات استمرت أربعة أيام في بكين ولم يكشف عنها في حينها بين البلدين الخصمين، بعد قطيعة استمر أكثر من سبع سنوات.

الحرة / ترجمات – واشنطن

————————

سوريا ودينامية المحاور.. شروط السعودية وتصعيد إسرائيل/ صهيب جوهر

على هامش المسارات الإيجابية التي تلف المنطقة منذ أسابيع، كان لافتاً الحديث عن ليونة سعودية تجاه النظام السوري، وغزل سوري تجاه المملكة، في محاولة من النظام لكسر حلقات العزلة العربية والإقليمية عنه، وهذا المؤشر تزامن مع ما نشر منذ أيام في صحيفة خليجية عن لقاء ضم ماهر الأسد مع مسؤولين سعوديين في الرياض، وهذه الزيارة في حال حصولها تأتي في لحظة إقليمية داهمة ومتسارعة وعنوانها ترقب إعادة تشكيل النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، مع دخول العنصر الصيني إلى المعادلة السياسية.

وزيارة الأسد أو أي مسؤول سوري إلى الرياض يحمل الأطراف المراقبة في المنطقة على قراءة هذا المسار على أنه قبول سوري على بعض الشروط التي قدمتها السعودية للنظام لإعادة الاعتراف به عربياً وخليجياً، ووسط ما تسرب من معلومات عن لقاءات مسؤولين في النظام مع نظرائهم في الرياض، عن تعهد سوري للسعوديين بشكل شفوي على جاهزية النظام في وقف عمليات تهريب المخدرات والتي باتت سوريا منطلقها الأساسي باتجاه دول الخليج وتحديداً السعودية، على اعتبار أن النظام بات يعتاش على أرباح هذه التجارة، مقابل تأمين مداخيل مالية أخرى للنظام المتآكل عبر مشاريع دعم القطاع العام والأجهزة الأمنية.

وثمة من يضع أي زيارة متبادلة بين الرياض ودمشق، في خانة مناقشة شكل المرحلة السياسية القادمة في سوريا انطلاقاً من حاجة النظام لإظهار البراغماتية في ملفات المشاركة السياسية والمعتقلين ومصير المعارضة المسلحة والمدنية، وهذا السياق ترجمه حديث الأسد الإيجابي تجاه الرياض في أثناء استدعائه لموسكو منذ أيام وإظهاره إيجابية تجاه الطروحات العربية والتي سمعها من مسؤولين عرب عن ضرورة فتح ثغرة تجاه المعارضة السياسية، في حين لا يعول العديد من الأطراف على أي إيجابية استراتيجية بسبب التجارب المريرة والمليئة بالتنصل والكذب من بشار وكل أركان نظامه.

بالتوازي كان لافتاً الموقف السعودي والقطري حيال لبنان منذ أيام والمرتبط بشكل فعلي بقطع أي طريق محتمل لعودة النظام السوري إلى لبنان بأشكال مختلفة، وتجلى هذا الموقف أولاً بالاجتماع الفرنسي-السعودي منذ أيام حيال رئاسة جمهورية لبنان، لمنع أي مقايضة تأتي بسليمان فرنجية إلى الرئاسة، والقول إن الاتفاق السعودي-الإيراني والمحادثات الاستكشافية بين الرياض ودمشق لا يعني بتاتاً القبول بتمرير وصول فرنجية وذلك منعاً لتسلل الأسد إلى لبنان عبر صديقه وإفشال كل المساعي والتحركات والتي تهدف لوضع لبنان على سكة التعافي المالي والاقتصادي والتي لا طاقة “لمحور المفلسين” عليه بأي شكل من الأشكال.

وثانيا خلال جولة الموفد القطري لبيروت ولقائه الكتل البرلمانية والقوى الفاعلة ومرشحين محتملين لرئاستي الجمهورية والحكومة دون أن تشمل الجولة فرنجية أو كتلته، ما يعطي إشارة إلى أن الدوحة ثابتة في موقفها تجاه رفضها منح الأسد هدية جديدة في لبنان على حساب المصلحة اللبنانية والعربية.

وعلى عكس ما باتت تعتقده أطراف لبنانية وعربية أن الاتفاق السعودي-الإيراني سيحمل معه تنازلات في لبنان وسوريا واليمن، ظهر عكسه في الأسبوع الأول للاتفاق مع زيارة موفد عماني إلى بيروت ولقائه حزب الله لمناقشة ما خلص إليه الاتفاق في بكين حول انسحاب عناصر الحزب وخبرائه من المناطق اليمينة تمهيداً لانطلاق ورشة جديدة من المسار السياسي والاجتماعي في اليمن، إضافة إلى أن الموفد ناقش مع نصرالله بشكل جدي انكفاءه التدريجي من سوريا وتحديداً من مناطق الجنوب السوري لفتح الباب أمام وجود عربي كثيف في سوريا وتحويل النقاشات إلى أفعال، وهذا ما ربطه نصرالله بطلب النظام وليس بقرار ذاتي من الحزب.

وفي الواقع السعودية وقطر تقاربان الأزمة الرئاسية في لبنان والحل السياسي في سوريا من منظار الصراع العريض مع إيران وتوازناته في المنطقة بألا يشكّل ترسيخ نقاط متقدمة وثابتة لصالح طهران والحرس الثوري على الرغم من الحوار القائم،

في حين الجانب الأميركي ينظر له من زاوية أبعد وأشمل متعلقة بموقع الساحل السوري واللبناني في الصراع المحتدم والدائر مع الوجود الروسي والنفوذ الإيراني، والذي أصبح شريكاً عسكرياً لروسيا في أوكرانيا وفي الشرق الأوسط أيضاً مع السماح لطهران بتشغيل منظومة دفاع صاروخي في سوريا خلال أشهر قادمة.

وربطاً بهذا الأداء والصراع، بدا واضحاً في كلام بشار الأسد خلال وجوده في موسكو تركيزه على نقطتين: الأولى أظهرت تشدداً في موضوع انسحاب تركيا الكامل من سوريا قبل فتح قنوات التحاور مع أردوغان، وهو ما يعني تفاهماً كاملاً مع إيران لجهة قطع الطريق على دور تركي مهمته مواجهة نفوذ إيران في سوريا، وفي الوقت نفسه انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية التركية المنتظرة في أيار القادم.

في حين أن النقطة الأهم حديث رأس النظام عن تأييد نظامه لتوسيع موسكو لوجودها العسكري في سوريا من خلال قواعدها البحرية والجوية والنقاط البرية، ما يسمح لبوتين ونظامه بتعزيز مراقبته لجزء كبير من الحركة البحرية في البحر المتوسط، إضافة إلى رصد لجانب أساسي من الحركة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، وفي هذا الجانب أيضا ترجمة للشراكة العسكرية الإيرانية – الروسية. وهو ما يعني تشدد أميركي مقابل تجاه قطع أي طريق على حضور روسي- إيراني في الساحل اللبناني ولو بشكل غير معلن.

لكن وأمام تلك المعطيات هناك من يركز في مقارباته على خطورة الداخل الإسرائيلي وتحديداً إيران وتركيا، وثمة معطيات جدية تؤكد أن لقاءات نصرالله مع أمين عام حركة الجهاد زياد النخالة ونائب رئيس حركة حماس صالح العاروري تهدف لإطلاق غرفة العمليات المشتركة بين الحزب والجهاد وحماس، إضافة للحرس الثوري الإيراني، وهذا التطور ينطوي على مواكبة حثيثة لكل التطورات الحاصلة في الضفة والداخل الإسرائيلي إضافة للأزمة السياسية التي تواجه حكومة اليمين الفاشي بقيادة نتنياهو.

وهذه اللقاءات هدفها توحيد الموقف والصفوف، وترتيب الوضع في البيت الداخلي لفصائل إيران الإقليمية، لمواكبة أي جديد يمكن أن تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والتحضر لأي محاولة إسرائيلية للهروب من الأزمة الداخلية بالتوجه نحو ضربات للبنان وإيران وسوريا وقطاع غزة لاحتمال لجوئها إلى الخارج للالتفاف على الأزمة الداخلية.

كذلك لا يمكن فصل الإعلان الإسرائيلي عن حادثة التسلل لعنصر حزب الله للداخل وتفجير العبوة والتعامل السياسي المبالغ معها، بالإضافة لعملية الاغتيال المباشر للقيادي الأمني في حركة الجهاد علي الأسود وسط دمشق بعملية نوعية فتحت الباب أمام تساؤلات حول أداء الأمن السوري وتعدد ولاءاته والخرق الإسرائيلي لأكثر المناطق حساسية في العاصمة السورية، وعليه فإن سقف المواجهة مستمر وسيبقى مسرحه الرئيسي هو سوريا.

تلفزيون سوريا

———————————-

معنى استعادة العلاقات السعودية-الإيرانية بالنسبة للشرق الأوسط والعالم

هل يمكن أخيرًا جسر الفجوة المريرة عبر الخليج؟ في يوم الجمعة 10 آذار/ مارس الحالي، أصدرت إيران والمملكة العربية السعودية، الخصمان الإقليميان منذ فترة طويلة، إعلانًا كبيرًا: إنهما سيعيدان العلاقات الدبلوماسية، في صفقة توسّطت فيها الصين.

خبراء المجلس الأطلسي يعرضون رؤاهم عن الأخبار العاجلة وأهميتها لواحدة من أكثر المنافسات أهمية في الشرق الأوسط، بالنسبة إلى المنطقة، والعالم الأوسع.

هناك تحذيران كبيران لخفض التصعيد الواضح هذا.

وليام ف. ويشسلر: المدير الأول لمركز رفيق الحريري وبرامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي، ونائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق للعمليات الخاصة ومكافحة الإرهاب.

تصبح المصالح الأميركية في الخليج أكثر أمنًا، إذا كانت الدول المحيطة به تعمل بنشاط على تهدئة التوترات المتبادلة. كان هذا هو الحال عندما ساعدت اتفاقية أمنية عام 2001 بين المملكة العربية السعودية وإيران في منع الصراع النشط لمدة عشرة أعوام، على الرغم من انعدام الثقة المتبادل العميق، ولا يزال هذا هو الحال اليوم. لذلك يجب أن نرحّب بأخبار إعادة العلاقات الدبلوماسية بين هاتين الدولتين، بعد الاتفاق العام الماضي بين الإمارات العربية المتحدة وإيران لتبادل السفراء مرة أخرى.

ومع ذلك، تحمل الصفقة هذه المرة تحذيرين، يثير كل منهما أسئلة استراتيجية مهمة للولايات المتحدة. الأول، وهو الأكثر وضوحًا، أن الصين هي التي جمعت الجانبين معًا، مع إعلان تم توقيته ليتزامن مع بداية ولاية الرئيس شي جين بينغ الثالثة. بعد سنوات عديدة من التصريحات من بكين، بأنها تريد بناء علاقات اقتصادية في الشرق الأوسط ولا تسعى إلى أي نفوذ سياسي، يمكننا أن نرى بوضوح أن مثل هذه التصريحات خاطئة. والواقع أن الصين كانت تعمل باطراد لزيادة نفوذها السياسي الإقليمي، على مدى عقدَين من الزمان، وبرز ذلك أخيرًا من خلال زيارة قام بها شي إلى الرياض في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وزيارة إبراهيم رئيسي، الرئيس الإيراني إلى بكين الشهر الماضي. بالأمس، وعدت الصين بأن مصالحها في المنطقة كانت اقتصادية فقط، ولا تريد أن تكون لاعبًا سياسيًا رئيسًا. واليوم، ستعدُ الصين بأنها تريد فقط النفوذ الدبلوماسي، وليس الوجود العسكري الإقليمي. ما كان ينبغي للعالم أن يصدّق أبدًا وعود الأمس، وبالتأكيد لا ينبغي أن يصدّق وعود اليوم.

والتحذير الثاني أنّ هذا الإعلان يأتي في الوقت الذي تنسّق فيه الولايات المتحدة وإسرائيل عن كثب، بخصوص الردود المحتملة على برنامج إيران النووي المستمرّ، مع مناورات عسكرية مشتركة، ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي يزور البيت الأبيض هذا الأسبوع، قبل زيارة بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء إلى أوروبا حول هذا الموضوع. وفي حين أن البيت الأبيض قد يرحّب بخفض التصعيد، فإن الحكومة الإسرائيلية لن تفعل ذلك، لأنها ستفسّر هذه الخطوة على أنها خطوة محسوبة لتقليل التهديد بعمل عسكري ضد إيران. لن يكون من المستغرب أن يكون الإعلان التالي بمنزلة تجديد للمناقشات الأميركية الإيرانية، حول خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، التي توسطت فيها الصين مرة أخرى. وفي حين أنني ما زلت متشككًا في كون مثل هذا الاتفاق محتملًا (أو حتى مستحسنًا) في الظروف الحالية، فإن مثل هذا الإعلان سيكون موضع ترحيب في واشنطن، ولكن ينظر إليه في القدس على أنه يقلل من الردع الأميركي الإسرائيلي ضد إيران.

دور الصين تحذير للولايات المتحدة بعدم التخلي عن الشرق الأوسط

جوناثان بانيكوف: مدير مبادرة سكوكروفت الأمنية للشرق الأوسط في برامج الشرق الأوسط، وهو نائب سابق لرئيس الاستخبارات الوطنية للشرق الأدنى في مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي.

قرار إيران والمملكة العربية السعودية استئناف العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء قام على المشاركة الهادئة المستمرة منذ أعوام، وعلى النمو الكبير في التجارة بين البلدين في عام 2022. ومع ذلك، فإنه يعكس أكثر من أي شيء آخر رغبة المملكة العربية السعودية في خفض التوتر مع إيران. وعلى الرغم من كل التقارير حول العلاقات الأمنية والتجارية المتنامية، والتطبيع المحتمل، بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، فإن التركيز الاستراتيجي الأساسي والوحيد للرياض هو تنويع اقتصاد البلاد بعيدًا عن النفط. ولتحقيق ذلك، تنظر الرياض إلى أمنها على أنه أمرٌ بالغ الأهمية لضمان عدم تعطّل عمليات التنقيب عن النفط ونقله ومبيعاته، وأن ينظر إلى البلاد على أنها مكان آمن للاستثمار الأجنبي المباشر طويل الأجل. ويمكن بسهولة تقويض هذين الأمرين، من خلال الهجمات الإيرانية أو الهجمات بالوكالة، وهو احتمال يتضاءل بموجب هذا الاتفاق.

في الوقت نفسه، يأتي هذا التقارب في وقتٍ يزداد فيه الوضع مع إيران سخونة، بالنسبة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. إن تخصيب إيران لجزيئات اليورانيوم إلى نسبة (83,7) في المئة -وهو أقل من نقاء (90) في المئة- يثير قلقًا واسعًا بين صانعي السياسة الإسرائيليين والأميركيين. وربما تعدّ طهران إبرامَ هذه الصفقة مع المملكة العربية السعودية الآن، فرصةً لإبطاء العلاقات المتنامية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. ومن المرجّح أن تواصل الرياض التعاون الأمني والاستخباراتي مع تل أبيب، لكن طهران تراهن على الأرجح على أن نظراءها السعوديين سيكونون أقلّ ميلًا لتمكين إسرائيل و/أو الولايات المتحدة من القيام بعمل عسكري ضد إيران.

ومع ذلك، قد يكون الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في هذا التطور هو الدور الذي لعبته الصين في المساعدة على التوسّط في الصفقة. الخلاف الواسع في الشرق الأوسط، كما يرى كثيرون في الولايات المتحدة، هو أن الصين ليس لديها سوى مصلحة اقتصادية سلبية في المنطقة، وأنها راضية بأن تستفيد بالمجان من الضمانات الأمنية الأميركية. بعد أن شاركتُ بالأمس في مؤتمرٍ حول العلاقات بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الدوحة، يمكنني أن أؤكد أن هذا الموضوع كان وفيرًا كجزء من آراء الخبراء هنا. لكن العلاقات الاقتصادية والتجارية غالبًا ما تفسح المجال للمشاركة السياسية، التي يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى التعاون الاستخباراتي والأمني. ربما نشهد الآن ظهور دور سياسي للصين في المنطقة، ويجب أن يكون تحذيرًا لصانعي السياسة الأميركيين: غادروا الشرق الأوسط وتخلّوا عن العلاقات مع حلفاء محبطين في بعض الأحيان، وحتى بربريين، ولكن حلفاء مديدين، وسوف تتركون ببساطة فراغًا للصين لملئه. ولا ينبغي لنا أن نخطئ، فالشرق الأوسط الذي تهيمن عليه الصين من شأنه أن يقوض بشكل أساسي أمن التجارة والطاقة والأمن القومي للولايات المتحدة.

هذه ليست نهاية حقبة ولا بداية لحقبة

– توماس س. واريك: زميل غير مقيم في ممارسة الدفاع المتقدم في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن ومبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.

على واشنطن ألا تبالغ في ردة فعلها أو تقلل من ردة فعلها على إعلان اليوم، أن الصين لعبت دورًا في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران. وتوسّطت دول أخرى أكثر صداقة للولايات المتحدة، ولا سيما العراق، في تبادل الزيارات بين دبلوماسيين ومسؤولين أمنيين إيرانيين وسعوديين. إن الدور العلني الذي لعبته الصين في إعلان اليوم يُظهر اهتمامها بالقيام بشيء لم يكن بوسع سوى عدد قليل من البلدان الأخرى القيام به: كسب ثقة الجانبين.

من غير المرجّح أن يؤدي استئناف العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض إلى تغيير كبير في الوضع الأمني في الخليج. بشكل عام، يجب على العالم أن يشيد بانخفاض التوترات بين إيران والمملكة العربية السعودية، وهي التوترات التي أدت إلى استمرار العنف وعدم الاستقرار في اليمن والمياه المحيطة بشبه الجزيرة العربية. لأسباب جيوسياسية أكثر منها دينية، ستنظر إيران والمملكة العربية السعودية دائمًا إلى بعضهما البعض بعين حذرة. لذلك لا تحتاج واشنطن إلى رؤية إعلان اليوم على أنه نهاية حقبة أو بداية حقبة أخرى.

ومع ذلك، يجب أن يدفع هذا كلًا من الكونغرس وإدارة بايدن إلى التحقق لمعرفة مقاربة واشنطن تجاه النموذج الأمني في الخليج: هل تعمل لصالح مصالح الولايات المتحدة الأمنية طويلة الأجل أم لا! هذه تختلف عما كانت عليه قبل أربعين أو حتى عشرين عامًا. الصين هي مستهلك رئيس للنفط السعودي والإيراني. لا تحصل الولايات المتحدة على النفط من إيران والقليل نسبيًا من المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، فإن طبيعة أسواق النفط العالمية تعني أن الولايات المتحدة لا تزال لديها مصلحة اقتصادية وأمنية في ضمان التدفق الحر للنفط من البلدان غير الخاضعة للعقوبات إلى الأسواق العالمية.

إن التقرير الذي يفيد بأن المملكة العربية السعودية عرضت على واشنطن شروطًا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل هو أمرٌ يجب أن يكون محور الدبلوماسية الأميركية في الوقت الحالي. قد لا تكون شروط الرياض شيئًا تتمكن واشنطن من الوفاء به، لكن الإعلان عن مشاركة الصين في استعادة العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية يُظهر أن دبلوماسية الشرق الأوسط حية وجيدة، ولا تمر دائمًا عبر واشنطن.

لن تغيّر إيران هدفها الاستراتيجي المتمثل في الهيمنة الإقليمية

– دانيال ب. شابير: مدير مبادرة N7، وزميل متميز في المجلس الأطلسي وسفير أميركي سابق في إسرائيل، شغل هذا المنصب من عام 2011 إلى 2017.

يمكن لواشنطن أن ترى كلًا من النصف المليء والنصف الفارغ من الكأس، في الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية الإيرانية السعودية، بوساطة صينية. يتمثل النصف المليء بـأن الحد من التوترات الإيرانية السعودية هو هدف أيّدته الولايات المتحدة، بعد أن قدّمت دعمها لجولات سابقة من هذه المحادثات في العراق وعُمان. إذا تمّ تنفيذه -وهو تحذير رئيس- فقد يساعد في إنهاء الحرب في اليمن، كما سعت الولايات المتحدة، والحد من التوترات في العراق التي أدت إلى استهداف القوات الأميركية. والنصف الفارغ: إن رؤية نفوذ الصين يتصاعد، من خلال إظهار قدرتها على الاستفادة من علاقاتها البناءة مع جانبي صراعات الشرق الأوسط، أمرٌ مقلق، وهو دليل آخر على الشكوك في المنطقة، حتى بين شركاء الولايات المتحدة، حول قدرة الولايات المتحدة على البقاء.

لكن كلًا من الصين والسعوديين يقامرون بشكل كبير هنا، مما يضع غشاوة كبيرة على النيات الحسنة الإيرانية. وفي حين اختارت إيران في أوقات مختلفة تصعيد التوترات أو تهدئتها مع جيرانها، فليس هناك ما يشير إلى حدوث تغيير في الأهداف الاستراتيجية للنظام الإيراني، التي تشمل الهيمنة الإقليمية المدعومة ببرنامجها النووي، الذي يستمر في التوسع؛ وتوسيع نفوذها من خلال وكلاء إرهابيين في لبنان والعراق واليمن. والعداء الصريح لإسرائيل، الشريك الرئيس لدول الخليج العربي، حتى لو كان ذلك بشكل غير رسمي في حالة المملكة العربية السعودية. هل سينجو التقارب السعودي الإيراني من أوّل ارتداد لتشكيله من قبل إيران لتنفيذ رؤيتها الاستراتيجية التي لم تتغير؟ وما هي الأدوات التي يمكن أن تجلبها الصين إلى الطاولة، عندما تنتهك طهران شروط الاتفاقية وروحها؟

وعندما يحدث ذلك، سيكون تذكيرًا قويًا للرياض بأن بكين، على الرغم من نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي الآن، شريكٌ غير موثوق به لضمان أمن المملكة. قد يأمل السعوديون أن يمنحهم تحولهم نحو الصين نفوذًا في المطالبة بمزيد من الأسلحة والضمانات الأمنية والتكنولوجيا النووية المدنية من الولايات المتحدة، التي يتم طلبها كتعويض عن صفقة التطبيع مع إسرائيل. لكن حاجتهم إلى دعم الولايات المتحدة لن تتضاءل، وستتطلب منهم أن يُظهروا للإدارة المتشككة والكونغرس والجمهور الأميركي أنهم لا يتحولون إلى تكييف مصالحهم مع الصين أكثر من الولايات المتحدة.

قامت الصين بأول غزوة كبيرة لها في دبلوماسية الشرق الأوسط

جوناثان فولتون: زميل أول غير مقيم لبرامج الشرق الأوسط ومبادرة سكوكروفت الأمنية للشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.

ثمة افتراض ظهر منذ مدة طويلة بأنّ مضاربة الصين على جانبي الخليج لا يمكن الدفاع عنها على المدى الطويل، وأنه في النهاية سيتعين على بكين أن تتصرف مثل الدول الأخرى وتختار جانبًا. وهذا يُغفل أسس دبلوماسية الشراكة الاستراتيجية، التي تقوم على المصالح، وتركز على تطوير العلاقات الثنائية بدلًا من التوازن ضد طرف ثالث. تمكنت بكين من تكثيف العلاقات على جانبي الخليج، مع بناء رأس المال الدبلوماسي بطريقة لا تستطيع القوى الأخرى خارج المنطقة القيام بها. التناقض الواضح هو الولايات المتحدة، التي ليس لديها نفوذ إيجابي في طهران؛ بينما تمتلك الصين عصًا، لكنها تستخدم الجزرة التي تركز على الاقتصاد والتنمية، في حين أن الولايات المتحدة تحمل العصا فقط.

قد يؤدي هذا الانخراط بين المملكة العربية السعودية وإيران إلى شيء إيجابي، وقد يتلاشى. من السابق لأوانه إعلان أي شيء آخر غير الخطوة الأولى الجيدة. ومع ذلك، فهي مهمّة بكونها أول غزوة كبرى للصين في الدبلوماسية الإقليمية. كانت بكين تشير منذ كانون الثاني/ يناير الماضي، على الأقل، إلى أنها مستعدة للترويج لرؤية غير أميركية للشرق الأوسط، وهذه علامة على أمور مقبلة.

الصين هَزمت الولايات المتحدة في الخليج

أحمد أبو دوح: زميل غير مقيم في برامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي.

ليست الطموحات الصينية للتوسط بين المملكة العربية السعودية وإيران جديدة؛ فالخطط الصينية المؤلفة من خمس نقاط، التي تباهى بها الدبلوماسي الصيني الكبير وانغ يي قبل عامين، حددت رؤية صينية للأمن الإقليمي، وكشفت لمحة عن هدف بكين في أن تصبح لاعبًا إقليميًا.

بالنسبة للصين، يعزز الاتفاق شرعيتها كوسيط دبلوماسي من الوزن الثقيل قادر على حلّ المنافسة الجيوستراتيجية الأكثر عدائية في المنطقة. ويمكن للاتفاق أن يخلق الظروف الأولى لحدوث تحوّل في التوازن الاستراتيجي في سياق التنافس مع الولايات المتحدة في الخليج. إن طموحات الصين في موضعة نفسها كصانع سلام ذي مصداقية لها نطاق أوسع يُغطي الصراعات في سورية وليبيا واليمن، خاصة بعد هذا الاتفاق. قد يكون هذا إشكالية في واشنطن. يُنظر إلى تردّد الولايات المتحدة في إنفاق مزيدٍ من رأس المال السياسي، على التوسّط في الصراعات في الشرق الأوسط، كدليل على تراجع قوة الولايات المتحدة، وتركيزها على المنافسة مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. كما يمكن أن يوفّر الاتفاق للقيادة الصينية مزيدًا من الخيارات الاستراتيجية، لأن تخفيف حدة التوترات بين الرياض وطهران يخلق طبقة رقيقة من الأمن والاستقرار الضروريين لصادرات النفط المتجهة إلى الصين، وخطوط الاتصال البحرية التجارية، واستثمارات الحزام والطريق الصينية.

وبالنسبة للمملكة العربية السعودية وإيران، فإن التزام الصين الظاهري بمبدأ “عدم التدخل”، وسياسة “عدم الانحياز” الإقليمية، أضفى صدقية كبيرة على موقفها كوسيط. ولكي نكون واضحين، يبدو أن كلا البلدين متّحدان في مظلوميتهم تجاه إدارة بايدن، وإن كان ذلك على مستويات مختلفة. وعلى الرغم من استضافة العراق للمحادثات في معظمها، فإن رغبة الصين في أخذ زمام المبادرة قد لاقت رغبة الرياض وطهران في منحها انتصارًا دبلوماسيًا، وهو مؤشر صارخ على نفوذ الصين المتزايد على أكبر قوتين في الخليج. ويبقى أن نرى مدى صمود الوساطة الصينية في المستقبل، وفي الواقع، ستغطي صراعات إقليمية أخرى. ومع ذلك، هزمت الصين الولايات المتحدة في الخليج.

خرجت الصين بطريقة ما وكأنها صانعة سلام

كيرستن فونتنروز: زميلة غير مقيمة في مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي في برامج الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي.

الاتفاق السعودي الإيراني ليس شراكة، إنه اتفاق عدم اعتداء. لا يتنازل أي من الطرفين عن أي شيء في هذه الصفقة. وما فتح السفارات إلا وسيلة لتوسيع فرصهم للتجسس على بعضهم البعض. لكن مع الأسف، يمكننا أن نتوقع أن يصاب السعوديون بالإحباط. لا تزال إيران تسلّح الحوثيين في اليمن، منذ انتهاء وقف إطلاق النار في الخريف الماضي. وترى إيران أن الحوثيين يمكنهم استئناف الهجمات ضد المملكة العربية السعودية، ويمكن لإيران أن تُنكِر، وبالتالي فلن يكون هناك انتهاك للصفقة.

لا ينبغي أن تشعر إسرائيل بالقلق من أن هذه الصفقة تُقلل من فرصتها في تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، في نهاية المطاف. إن أولويتي للمملكة هما تأمين نفسها ضد التهديدات الإيرانية، وتوسيع قاعدتها الاقتصادية. الاتفاقات مع كلٍّ من إسرائيل وإيران حاسمة بالنسبة للأولى. لكن إيران لا تستطيع أن تُسهم بشكل هادف في الثانية، في حين تستطيع إسرائيل ذلك. وأي ضغط إيراني لعدم متابعة العلاقات مع إسرائيل سيتم تجاهله تمامًا من قبل وليّ العهد الذي يُركز على أهداف التنمية. الصين هي الفائز في هذه الصفقة. البلد الذي باع كل جانب الأدوات اللازمة لمحاربة بعضهم البعض خرج بطريقة ما، وكأنه صانع سلام.

ما الدور الذي لعبته محطة تلفزيونية في الشتات الإيراني في الصفقة؟

هولي داغريس: زميلة غير مقيمة في برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.

في أعقاب زيارة رئيسي التي استغرقت ثلاثة أيام إلى بكين، في شباط/ فبراير -وهي الأولى لرئيس إيراني منذ عشرين عامًا- ثمة تحول غير متوقع للأحداث: استئناف العلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية بعد سبعة أعوام. قُطِعت العلاقات بين الجارتين في الخليج “الفارسي” بعد أن اقتحم متظاهرون البعثات السعودية في طهران ومشهد، ردًا على إعدام نمر النمر، رجل الدين الشيعي والناقد السعودي، في كانون الثاني/ يناير 2016.

منذ نيسان/ أبريل 2021، توسطت بغداد في محادثات في محاولة لاستئناف العلاقات الثنائية بين اللاعبين الإقليميين. كان من المقرر استئناف المحادثات في جولتها السادسة، في الوقت الذي بدأت فيه الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للحكومة في إيران بسبب مقتل مهسا جينا أميني في أيلول/ سبتمبر 2022. وبحسب ما ورد، فقد توقفت المحادثات بسبب تغطية قناة الشتات الإيرانية الفضائية “إيران إنترناشيونال” للاحتجاجات، التي تعتقد المؤسسة الدينية أنها ممولة من السعودية، ومسؤولة عن إثارة الاضطرابات في جميع أنحاء البلاد خلال الأشهر الخمسة الماضية. ذكرت صحيفة الغارديان في عام 2018 أن المنفذ/ القناة -الملقب عند بعض الإيرانيين باسم “السعودية الدولية”- يموّل من قبل شركة يملكها رجل أعمال سعودي له علاقات وثيقة مع محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي. ومع ذلك، وفقا لوكالة أسوشيتيد برس، فإن ملكية القناة، فولتانت ميديا Voltant Media، لم تعد مملوكة لمواطن سعودي.

يتساءل بعض الإيرانيين: كيف سيؤثر استئناف العلاقات الثنائية على إيران دوليًا. منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2022، فرضت طهران عقوبات على المنفذ/ القناة الناطقة باللغة الفارسية، إلى جانب (بي بي سي) الفارسية، بسبب اتهامات لا أساس لها، بـ “دعم الإرهاب” و “التحريض على أعمال الشغب”، بسبب تغطيتها المستمرة للاحتجاجات، لدرجة أن وزير الاستخبارات الإيراني أشار إلى القناة على أنها “منظمة إرهابية” سيتم التعامل معها.

وقام صحفي مقيم في إيران، من دون تقديم أي دليل (ظهرت تغريدته على قناة تلغرام التابعة لـ “الحرس الثوري الإسلامي”)، بالتغريد بأن الرياض ملتزمة بعدم إثارة التوترات، عبر القناة الفضائية الناطقة بالفارسية. وكان من الممكن أن يكون هذا أحد شروط إيران لاستئناف العلاقات.

في نهاية فبراير/ شباط، اضطرت القناة التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرًا لها إلى تعليق عملياتها في لندن، والانتقال إلى واشنطن بعد تهديدات عديدة من الأجهزة الأمنية للجمهورية الإسلامية ضد صحافييها، وعقب حادثة دفعت إلى اعتقال مواطن نمساوي في مقرّها، بتهمة “جمع معلومات من النوع الذي يحتمل أن يكون مفيدًا لشخص يرتكب عملًا إرهابيًا أو يُعِد له”.

السعودية تلعب بأوراق عديدة في وقت واحد

كرميئيل أربيت: زميل غير مقيم لبرامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.

من السابق لأوانه الحُكم على عمق أو ديمومة التقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران. لكن من المهم أن نأخذ الأمر في سياقه: هذه المداولات مستمرة منذ بعض الوقت، وجرت مع المداولات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. السعوديون انتهازيون في كلّ منعطف: فهم يتعاملون مع التوترات المتصاعدة في الداخل، وتراجع النفوذ في العالم الإسلامي، والعلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة. ولذا فهم يتحوّطون.

لقد أظهرت الإمارات أنها تستطيع إيجاد توازن دقيق، من خلال الحفاظ على علاقات باردة وودّية مع الإيرانيين، وعلاقات دافئة مع الإسرائيليين في وقت واحد. يفهم الطرفان ويقدران المصالح الجيوسياسية لجيرانهما. لذا كونوا مطمئنين، لن تعترض إسرائيل في مغازلتها للسعوديين نتيجة لهذا الإعلان.

يقدم السعوديون مطالب ضخمة مقابل التطبيع -من ضمن ذلك الضمانات الأمنية والتكنولوجيا النووية المدنية- ولم تقدم الولايات المتحدة حتى الآن أي مؤشر على استعدادها للوفاء بهذا الثمن المرتفع، من دون تغييرات كبيرة من المملكة العربية السعودية. والسعوديون يعرفون ذلك. لذا فهم يلعبون بأوراق عديدة في وقت واحد، فالصفقة الإيرانية تساعدهم في التقرب أكثر من الصينيين الذين تفاوضوا على الاتفاق. يمكن أن يُعزز ذلك صورتهم في العالم الإسلامي (الأمر الذي يمكن أن يساعد بدوره في تعويض آلام التطبيع). كما أنه يعزز دور المملكة العربية السعودية كقائد في منطقة ديناميكية بشكل متزايد تبحث عن مزيد من الاستقلال عن الولايات المتحدة.

المملكة العربية السعودية تتخذ مواقف جريئة بالنسبة للولايات المتحدة

علي باكير: زميل غير مقيم في مبادرة سكوكروفت الأمنية للشرق الأوسط في برامج الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي.

هذا التطوّر في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران ليس صادمًا في حد ذاته، بالنظر إلى أن الرياض وطهران تتفاوضان على هذه القضية منذ بعض الوقت، برسالة واضحة من الإيرانيين بأنهم يرغبون في رؤية هذا يحدث. ويؤكد هذه الفكرة حقيقة أن هذه الجولة من المحادثات استغرقت أربعة أيام فقط.

بعد قولي هذا، لا ينبغي للمرء أن يتوقع أن المشاكل المزمنة في العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران ستنتهي تمامًا في أي وقت قريب، نظرًا للطبيعة المعقدة لهذه العلاقة، فضلًا عن المستوى العالي من الأمننة securitization. وبطبيعة الحال، من المرجح أن نشهد مزيدًا من خفض التصعيد، لكن النتيجة الإجمالية ستعتمد بشكل كبير على الطريقة التي يرغب فيها اللاعبان في المضي قدمًا، ابتداءً من هذه النقطة، وهل يرغبان في البناء على الإعلان. ومن الواضح أن الدولتين الإقليميتين الوازنتين تحتاجان إلى بعض الوقت للتركيز على التحديات والأولويات الداخلية والإقليمية الأخرى.

يسلط هذا التطور الضوءَ أيضًا على استراتيجية التنويع للمملكة العربية السعودية التي اتخذت فيها الرياض مواقف جريئة تجاه الولايات المتحدة بصدد القضايا الحرجة أكثر على روسيا والصين، على الرغم من معرفتها الجيدة بالعواقب المحتملة لأفعالها. ومع ذلك، فإن الجانب الأكثر لفتًا للانتباه في الصفقة هو وجود الصين. وعلى الرغم من أن ذلك قد يكون منطقيًا، فإن بصمة الصين في هذا الاختراق الدبلوماسي تُعزز التصور بأن دور الصين في الخليج والمنطقة يتزايد بشكل كبير، بطريقة ستترك تداعيات تتجاوز العلاقات التجارية النموذجية. كما يسلط الضوء على غياب الولايات المتحدة كلاعب رئيس في المنطقة، دبلوماسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.

إن تقريب المملكة العربية السعودية وإيران خطوة واحدة من بعضهما البعض ليس بالضرورة أمرًا سيئًا بالنسبة للولايات المتحدة، نظرًا لتركيز واشنطن على الحرب الروسية على أوكرانيا والتوترات الإقليمية المتصاعدة الناتجة عن قيام إيران بتجهيز مستويات التخصيب النووي بما يقرب من (90) في المئة من الدرجة العسكرية. ومع ذلك، يجب أن يفتح هذا التطور أعين واشنطن على أمرين: الأول يجب على الولايات المتحدة ألا تقلل من أهمية هذه المبادرة، وأن تولي مزيدًا من الاهتمام لمثل هذه التطورات، نظرًا لتداعياتها المستقبلية على مصالحها وعلى المنطقة. والثاني أن الاتفاق سيعطي الصين دفعة ناعمة في المنطقة. حتى الآن، فازت الصين بالمنطقة اقتصاديًا. وإذا عززت وجودها الدبلوماسي والسياسي، فهذا يعني أنها تقترب خطوة واحدة من أن تكون لاعبًا صاعدًا في المجال الأمني في المنطقة في المستقبل.

الخاسر الأكبر في كل هذا قد تكون روسيا

مارك ن. كاتز: زميل أقدم غير مقيم في برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.

إن مساعدة الصين في استئناف العلاقات الدبلوماسية هي خطوة دراماتيكية. ومع ذلك، فإن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران بعيدٌ كل البعد عن التوصل إلى اتفاق سلام أو تسوية أي من الخلافات العديدة بينهما. فهل مشاركة الصين ضرورية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية؟ هذا غير واضح. ومع ذلك، فإن نظرتها تثير احتمال أن تلعب الصين دورًا أكثر فعالية، من قيام الولايات المتحدة بحل الخلافات بين هؤلاء الخصوم في الشرق الأوسط. على أقل تقدير، سيُنظَر إلى الصين كبديل للولايات المتحدة كوسيط في الشرق الأوسط.

قد يكون أحد التأثيرات المباشرة لدور الصين في تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية هو تعقيد آمال أميركا في “اتفاق أبراهام” آخر، يعمل على تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. وهذا لن يؤدي إلا إلى تعزيز صورة تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، قد تستفيد الولايات المتحدة فعليًا من استعادة العلاقات السعودية الإيرانية (بغض النظر عن دور الصين في تحقيقها) إذا أدى ذلك إلى تحسين فرص حل أو على الأقل تعافي الخلافات السعودية الإيرانية، في اليمن والعراق وأماكن أخرى. وقد تستفيد إسرائيل حتى إذا أصبحت المملكة العربية السعودية الآن في وضع أفضل للعمل كوسيط بين طهران وإسرائيل.

وسواء حدث هذا أم لا، فإن الخاسر الأكبر في كل هذا قد يكون في الواقع روسيا. تُروّج موسكو لنفسها منذ فترة طويلة كبديل لواشنطن كوسيط فعال في الشرق الأوسط، لأن روسيا تتعامل بفعالية مع إيران، على عكس الولايات المتحدة. لكن من الواضح أن الصين تستطيع ذلك أيضًا.

التقارب الإيراني السعودي لا يمكن فصله عن حركة “المرأة والحياة والحرية” في إيران

– نادرة شاملو: زميلة غير مقيمة في مبادرة “مكنوني empowerME” التابعة للمجلس الأطلسي ومستشارة تنمية دولية.

بالنظر إلى السخط الداخلي المستمرّ، وتدهور الاقتصاد، والمشاعر العالمية السلبية المتزايدة تجاه الجمهورية الإسلامية، فإن تقارب إيران مع المملكة العربية السعودية هو محاولة، من قبل الخبراء المطلعين على النظام، للحد من واحدة على الأقل من الأزمات العديدة التي خلقتها إيران لنفسها في العقود الأربعة الماضية. أرسلت زيارة شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج “الفارسي” الأخرى إشاراتٍ إلى أن الصين عازمة على تعزيز العلاقات مع مجلس التعاون الخليجي -الذي كان عادة متحالفًا مع الولايات المتحدة- وإنْ كانت هذه العلاقات الأقوى لا تُبشّر بالخير مع إيران. كانت زيارة رئيسي إلى بكين في شباط/ فبراير أقل من مقبولة، وفقًا لمعظم المقاييس، إذ عاد خالي الوفاض إلى حد ما، مع بعض التصريحات والوعود الغامضة. ومن المرجح أن تكون الرسائل الصادرة عن بكين، التي تعدّها إيران أقوى داعم لها، قد دفعت النظام إلى تحسين العلاقات مع الرياض.

قد تكون النقطة الثانية المتعلقة بهذا التقارب هي مخاوف إيران، بخصوص محطة الأخبار الإيرانية الدولية التي يقودها الإيرانيون في الشتات، ومقرها لندن. ومن المفترض أن تموّلها المملكة العربية السعودية، حيث كانت في طليعة المعارضة للنظام، وتحظى بمشاهدة واسعة داخل إيران وبين المغتربين. وإدراكًا من النظام الإيراني لتأثيرها، هدد المحطة، لدرجة أن محطة إيران الدولية اضطرت إلى نقل مقرها من لندن إلى واشنطن. ويُشكل كبح جماح تمويل المحطة مصدر قلق كبير للنظام.

ثالثًا، التزمت الدول الإسلامية الصمت بشكل مفاجئ في ثورة مهسا -“المرأة والحياة والحرية”- باستثناء عدد قليل من المنظمات غير الحكومية التركية والتونسية. كوني هنا في لجنة وضع المرأة في الأمم المتحدة في نيويورك، أسمع من النسويات والناشطات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنه مع اعتماد بلدانهن المتزايد على الدعم المالي السعودي، فقد أُعطين رسالة هادئة لتوخي الحذر في دعمهن للحركة النسائية الإيرانية. إن الحصول على مساعدة سعودية لتثبيط صدى ودعم حركة مهسا بين الدول الإسلامية سيكون مفيدًا لطهران.

مكاسب للعراق والصين، وجرس إنذار للولايات المتحدة

أندرو بيك: زميل غير مقيم في برامج الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي.

إن تطبيع العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية هو نتيجة أخرى لبحث الخليج عن الأمن، في منطقة ما بعد الولايات المتحدة. قُطِعت العلاقات بين البلدين عام 2016، بعد سلسلة متتالية من الأزمات التي ظهرت في أعقاب مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة، وهي مفاوضات عارضها السعوديون وحلفاء إقليميون آخرون بشدة، معتقدين أنها ستؤدي إلى قيام الولايات المتحدة بتخفيف توازنها الإقليمي مع إيران. هذا التوازن أمرٌ حيوي للشرق الأوسط الحديث، الذي تتمثل السمة المميزة له في المنافسة، بين الكتل السنيّة والشيعية، فضلًا عن أن القوة الأكبر للكتل الشيعية. كان انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان الحدثَ الأخير في سلسلةٍ من القرارات الاستراتيجية التي زادت من قوة إيران، بدءًا من حرب العراق. إن ميزان القوى الإقليمي يكون مستقرًّا، عندما تكون الولايات المتحدة حليفًا فعّالًا، ولذلك خشي السعوديون (والإسرائيليون) من أن موجبات خطة العمل الشاملة المشتركة لن تُبقي الحال كذلك.

نشأت “اتفاقيات أبراهام” من بحث مماثل عن الأمن وتصوّر بأن الولايات المتحدة كانت تبتعد عن المنطقة. وهناك، سعت دول الخليج السنيّة الأكثر انكشافًا إلى استبدال بعض وسائل الردع الأميركية التي اعتمدت عليها بالردع الإسرائيلي، والحفاظ على التزام الولايات المتحدة كفائدة إضافية لعملية السلام. وفي مقابل هذا الإطار الاستراتيجي، تهدف إعادة العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية إلى تهدئة التوترات على المدى القصير. بغداد هي أحد الفائزين المحتملين في هذا التطور، حيث يمكن القول إن المحادثات التي استضافتها أسهمت في ذلك على المدى القصير. أما الصين فهي دولة أخرى: وأول مساهمة صينية كبيرة أحادية الجانب في دبلوماسية الشرق الأوسط، على الإطلاق، يجب أن تكون جرس إنذار لدور الولايات المتحدة في المستقبل.

مصداقية الولايات المتحدة كصانع سلام في المنطقة تعرضت للخطر

مسعود مستجابي: مدير مشارك لبرامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.

يمثل الإعلان عن اختراق دبلوماسي بين جمهورية إيران الإسلامية والمملكة العربية السعودية، بوساطة صينية، إنجازًا مهمًا في الدبلوماسية الإقليمية، ويمكن أن يشير إلى عهد جديد في الشرق الأوسط. ويؤكد هذا التطور، الذي يجمع بين لاعبين إقليميين رئيسين بعد أعوامٍ من العداء، الوجودَ الصيني المتنامي في المنطقة، ويشكل تحديًا للولايات المتحدة، التي من المرجح أن تحاول تقويض هذه الجهود.

وعلى النقيض من “اتفاقيات أبراهام” التي توسطت فيها الولايات المتحدة، والتي سعت إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، من ضمن ذلك الإمارات العربية المتحدة والمغرب، ظلت الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل بعيدة المنال. ومع ذلك، استمرت الولايات المتحدة في جهودها لتحقيق هذا الهدف. لسوء الحظ، تعرضت مصداقية واشنطن كصانع سلام في المنطقة للخطر، بسبب عدم موثوقيتها المتصوّرة وميلها إلى الانحياز إلى أحد الجانبين في الصراعات، كما هو الحال في اليمن وسورية. في المقابل، ينظر إلى الصين على أنها وسيط مرن يتجنب الانحياز إلى أي طرف.

وإذا استمرّ هذا الاتجاه، فقد يلجأ مزيدٌ من الجهات الفاعلة الإقليمية إلى الصين كوسيط، حيث يُوثق بها أكثر من الولايات المتحدة. إن هذا التطور إيجابيّ، لمنطقة تحتاج إلى مزيد من الدبلوماسية والحوار بين الخصوم التقليديين. ستستفيد إيران من مزيد من السبل لامتصاص العقوبات الأميركية، في حين يمكن للمملكة العربية السعودية التحوط في رهاناتها، في حالة فشل التطبيع مع إسرائيل. وتستفيد الصين بدورها من العلاقات الاقتصادية الموسعة والبيئة التجارية الأكثر أمنًا في الشرق الأوسط.

الصين تتبع السيناريو الذي كتبته روسيا مع تركيا في سورية

– ميشال دوكلو: زميل غير مقيم في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط وسفير فرنسي سابق في سورية.

من وجهة نظر باريس، يمثّل هذا الحدث نجاحًا حقيقيًا للدبلوماسية الصينية. فمن ناحية، من الواضح أن هذه غزوة للصين، كوسيط قوة وصانع قرار في منطقة اعتادت أن تكون حكرًا على الولايات المتحدة، وأحيانًا على حلفائها. ومن ناحيةٍ أخرى، تُظهر الصين مهارة في الوساطة التي لم يكن لها سوابق حقيقية.

من الواضح أيضًا أن الخطوة الصينية، واستجابة كُلٍّ من المملكة العربية السعودية وإيران، تتناسبان تمامًا مع السردية التي تحاول الصين تطويرها، كقوة مسؤولة وإيجابية وسلمية تسعى جاهدة لإيجاد حلول بناءة، ولأن تكون أكثر فأكثر في وضع يمكّنها من تحريك الأمور. بطريقة ما، يمكن عدّ الوساطة الصينية خطوة مكمّلة لما يسمى “خطة سلام”، أو بشكل أكثر دقة “ورقة تقدير موقف” لبكين، بخصوص الحرب الأوكرانية. السمة اللافتة للنظر بالطبع هي أن الصين وقوى الجنوب العالمي لم تعد بحاجة إلى الاعتماد على بعض الإجراءات من الغرب. وبهذا المعنى، تتبع الصين السيناريو الذي كانت روسيا نفسها أوّل من خطّه بتنظيم تعاون مع تركيا وإيران، من خلال عملية آستانة حول إدارة الأزمة السورية.

وفي هذا السياق، هناك سؤالان: الأول هل هناك متابعة للصيغة الصينية السعودية الإيرانية؟ وهل هذا “الانقلاب الدبلوماسي” الصيني هو بداية مشاركة سياسية أعمق لبكين في المنطقة؟ والسؤال الثاني: هل يمكن أن تصبح هذه الوساطة الصينية الناجحة الأولى نموذجًا لدبلوماسية صينية أكثر حزمًا، ليس في الشرق الأوسط فقط، بل على المسرح العالمي؟

الجواب الحكيم هو القول إنه سيكون من السابق لأوانه صياغة تقييم نهائي. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يقول: مِن المعقول تمامًا أن كثيرًا من البلدان في الشرق الأوسط تتوقّع نوعًا من الوساطة الخارجية التي لا تأتي من الغرب، بسبب خيبة الأمل تجاه السياسات الأميركية والغربية؛ ولا تأتي من روسيا، بسبب أوكرانيا. ويبدو أن الصين في وضع جيد لسدّ هذه الفجوة.

*- الآراء الواردة في هذا التحليل لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز

اسم المادة الأصلي      Experts react: Iran and Saudi Arabia just agreed to restore relations, with help from China. Here’s what that means for the Middle East and the world.

الكاتب  مجموعة خبراء

مكان النشر وتاريخه      المجلس الأطلسي، Atlantic Council، 10 آذار/ مارس 2023

الرابط    https://2u.pw/03Jyqc

عدد الكلمات     5370

ترجمة  وحدة الترجمة/ أحمد عيشة

مركز حرمون

————————-

أول رد فعل أمريكي بشأن المباحثات بين السعودية والنظام السوري

أبدت الولايات المتحدة الأمريكية أول رد فعل بشأن المباحثات التي تم الكشف عنها بين السعودية والنظام السوري، وبينما قالت إنها “لا تشجّع على التطبيع” حثّت من يُقدم على هذه الخطوة بأن يفكر بعدة مسائل.

ونقل صحفيون في واشنطن عن الناطق باسم الخارجية الأمريكية، اليوم الجمعة، قوله: “نواصل حث أي شخص يتعامل مع دمشق على التفكير في كيف يمكن لمشاركته أن تساعد في توفير احتياجات السوريين المحتاجين، وكيف يمكن أن تساعدنا في تقريبنا من حل سياسي لهذا الصراع”.

وأضاف: “نحن نحث شركائنا على الدعوة إلى وصول إنساني مستدام ويمكن التنبؤ به ومستقل، وعلى سبيل المثال بما في ذلك من خلال الاستخدام الموسع للمعابر الحدودية”.

وأكدت الخارجية على لسان الناطق باسمها أنها “لن تطبع العلاقات مع نظام الأسد، ولن تشجع الآخرين في ظل غياب تقدم حقيقي ودائم نحو حل سياسي يتماشى مع قرار الأمن الدولي 2254”.

وتابعت: “لقد كنا واضحين بشأن هذا الأمر مع شركائنا”.

    1st reaction by the Biden administration on the talks between #SaudiArabia & #Syria :

    We continue to urge anyone engaging with #Damascus to consider how their engagement can help provide for Syrians in need & how it can help get us closer to a political solution to this conflict.

    — Hiba Nasr (@HibaNasr) March 24, 2023

وكان مصدر في الخارجية السعودية قد أكد، أمس الخميس، أن الرياض والنظام السوري يجريان محادثات لاستئناف الخدمات القنصلية، بعد قطيعة دبلوماسية دامت 12 عاماً.

وجاءت ذلك بعدما كشفت وكالة “رويترز” عن هذه المباحثات، وأنها بدأت بزيارة أجراها رئيس مخابرات النظام، اللواء حسام لوقا إلى المملكة العربية السعودية، فيما قضى عدة أيام، والتقى مسؤولين.

وستمثل إعادة العلاقات بين الرياض ودمشق أهم تطور حتى الآن في تحركات الدول العربية لتطبيع العلاقات مع الأسد، والذي نبذته العديد من الدول الغربية والعربية بعد حملة القمع الدامية التي شنها ضد المنتفضين على حكمه، وفق “رويترز”.

لكن وحتى الآن لا يعرف المسار الذي قد تتخذه الرياض حيال النظام السوري، وما إذا كانت مباحثاتها ستفضي إلى إعادة تطبيع العلاقات بشكل كامل أم جزئياً.

وكانت العلاقات بين نظام الأسد والسعودية شهدت توتراً وقطيعة دبلوماسية منذ آب/ أغسطس 2011، عندما أمرت الرياض بسحب سفيرها من دمشق، بسبب تصاعد المجازر التي كان ارتبكها نظام الأسد ضد المدنيين في المناطق السورية التي ثارت لتغييره.

ومنذ تلك الفترة لم يطرأ أي تغير على موقف الرياض من النظام، مؤكدة على لسان مسؤوليها أنها تؤيد حلاً سياسياً في سورية بموجب قرار مجلس الأمن 2254، إلى أن جاءت كارثة الزلزال المدمّر لتتلوها سلسلة تصريحات ومواقف حملت نبرة مستجدة من جانب الرياض اتجاه نظام الأسد.

———————–

==================

تحديث 20 أذار 2023

————————-

الانكفاء الأمريكي… يقود لنظام متعدد الأقطاب!/ د. عبد الله خليفة الشايجي

دشّن تراجع وانسحاب بريطانيا العظمى من منطقة «شرق السويس» بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم الرئيس جمال عبدالناصر قناة السويس عام 1956 بتدخل وضغط من إدارة الرئيس أيزنهاور ضد العدوان الثلاثي بقيادة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، لانسحاب بريطانيا من منطقة الخليج العربي والمنطقة كلياً عام 1971، ومعه نهاية قرنين من الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب الشمس عنها، لتخلفها أمريكا!

وبرغم رفض دول الخليج العربية منح أمريكا قواعد عسكرية في الحرب الباردة متبعة الحياد الإيجابي بين القطبين الرئيسيين ـ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وحلفائهم، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال اللاعب في أمن المنطقة.

شكل الغزو والاحتلال الروسي لأفغانستان تحدياً لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المنطقة، وخاصة بعدما أسقطت الثورة الإسلامية في إيران نظام الشاه عام 1979، وإعلان مبدأ الرئيس جيمي كارتر عام 1980 لحماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي والتحذير باستخدام القوة العسكرية لحماية المصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة.

بلغ الوجود العسكري الأمريكي أقصاه بقيادة أمريكا تحالف عاصفة الصحراء العسكري لـ33 دولة، وتحرير دولة الكويت عام 1991 بقواعد عسكرية دائمة، وتوقيع ترتيبات واتفاقيات أمنية وصفقات عسكرية تجاوزت مئات المليارات من الدولارات مع دول مجلس التعاون الخليجي الست.

سقوط نظام الشاه أنهى استراتيجية الرئيس نيكسون»العامودان التوأمان» السعودية وإيران ـ الذي كان غارقاً في حرب فيتنام، وتحوّل إيران للمعسكر المعادي لأمريكا «الشيطان الأكبر» وقطع العلاقات الدبلوماسية وفرض عقوبات.

واشتبكت الولايات المتحدة مع النظامين الإيراني والعراقي وحاصرتهما بالعقوبات. ردت إيران بدعم أذرعها في المنطقة لتعزز مكانتها ودورها كفاعل مؤثر في أزمات وملفات المنطقة. من أفغانستان والأمن الخليجي ومصادر الطاقة إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان والصراع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ومشروع إيران التوسعي بذراعها فيلق القدس، ودعم التنظيمات من غير الدول حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي وحماس والجهاد الإسلامي، حيث صاروا دولا داخل دولهم، بل أقوى من الدول المركزية. ما أضعف وزاد من هشاشة تلك الدول وهدد الأمن!

نجحت أمريكا بفرض وتكريس نظام أحادي القطبية يقصي القوى العالمية عن منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، من المتوسط إلى غرب آسيا وصولاً إلى باكستان وأفغانستان. واشتبكت في حروب استباقية بهندسة «المحافظين الجديد» في إدارة بوش الابن ـ بعد اعتداءات القاعدة في سبتمبر 2001 ـ ضمن الحرب العالمية على الإرهاب ـ والتي تفرغت لحروب أفغانستان والعراق وعلى طالبان والقاعدة ـ وخاصة فرع القاعدة في شبه الجزيرة العربية، ولاحقاً على داعش وحركة الشباب في الصومال وغيرها.

لكن بسبب انكفاء إدارة الرئيس باراك أوباما وسعيه لإنهاء الحروب الدائمة في الشرق الأوسط وانسحابه من العراق عام 2011 ـ واغتياله بن لادن والاستدارة شرقاً هرباً من مستنقع «الحروب الدائمة» ـ كما وصفها الرئيس دونالد ترامب لاحقاً، وجد بوتين منفذاً لعودة روسيا إلى الشرق الأوسط بالتدخل العسكري لدعم نظام الأسد في سوريا وحليفه الإيراني عام 2015، لمقارعة إدارة الرئيس أوباما المتراجعة، وإبقاء بشار الأسد ونظامه كموطئ قدم، بعد فشل إيران وحلفائها بتلك المهمة!

واليوم تدخل الصين إلى الشرق الأوسط بعد روسيا، بمبادرة وساطتها بين السعودية وإيران، ولا تلوم الولايات المتحدة إلا نفسها على اختراق الصين منطقة نفوذها في الخليج العربي، وذلك بسبب الانكفاء والتردد والانكفاء الأمريكي، الذي يفسر تراجعاً وانكفاءً خاصة بعد الانسحاب من أفغانستان.

كيف يمكن للصين التي بقيت لعقود على هامش الأحداث والأزمات والحروب الشرق أوسطية وأولت الاقتصاد والتجارة والطاقة أولوية، أن تحقق اختراقاً غير مسبوق وتتوسط بين الخصمين التاريخين بمشروعيهما المتضادين وتحالفها مع روسيا؟ وعلى حساب نفوذ وهيمنة أمريكا في منطقة الخليج العربي!

يُدخل التقارب الإيراني ـ السعودي بمبادرة ووساطة صينية عنصرا جديدا لمعادلة القوى الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي ويعزز تحول المنطقة للتعددية القطبية ليس على المستوى الدولي فحسب، ولكن حتى على المستوى الإقليمي. ويأخذ في الحسبان دور الصين القوة الصاعدة والشريك التجاري الأول في إمدادات الطاقة للسعودية والصين-ولدول الخليج العربي مجتمعة. بعدما أصبحت الصين الدولة الأولى المستوردة للنفط والغاز.

ما قد يعزز النظرة إلى الصين كصانعة سلام ووسيط في أزمات المنطقة. وكما علق هنري كيسنجر مؤخراً-بات على خطط إسرائيل مراعاة مصالح وحضور الصين في الشأن والأمن الخليجي ومع إيران، إذا قررت القيام بعمل عسكري ضد منشآت إيران النووية، لمنعها من امتلاك القنبلة النووية!

كما أن تحالف الصين-وروسيا، وامتناعها عن التصويت لإدانة الحرب على أوكرانيا، خاصة في أعقاب انتخاب الرئيس الصيني تشي لفترة ثالثة في سابقة بتاريخ الصين بعد تعديل الدستور مؤخراً، يجعله رئيسا مدى الحياة، ويعزز دوره كأقوى زعيم للصين منذ ماو تسي تونغ، ويوثق التحالف الصيني-الروسي. سيتجلى ذلك بزيارة الرئيس الصيني تشي لموسكو هذا الأسبوع. ما يعمق التحالف الاستراتيجي بين خصمي الولايات المتحدة، ويسّرع بتحول النظام العالمي لنظام متعدد الأقطاب. وهو بدأ يتشكل منذ أكثر من عقد.

يصف الكاتب المخضرم ديفيد أغناطيوس في مقاله في صحيفة واشنطن بوست ـ «أن مواقف أمريكا وانكفاءها وتراجعها ساهم بتقدم الحضور الروسي والصيني-وأن الصين من استفادت من الانكفاء في المنطقة بحضورها ودورها في الوساطة بين السعودية وإيران».

ما تحقق بالاختراق الصيني في الخليج وما قد يتبعه بتجرؤ الصين على تكرار ذلك، يحوله لنهج مستقبلي. خاصة إذا نجحت وساطة الصين كضامن لبنود الاتفاق. وفي حال صح تقرير وول ستريت جورنال بتعهد إيران بعدم تزويد الحوثيين بالسلاح واحترام سيادة السعودية وعدم التدخل بشؤونها الداخلية وعدم شن اعتداءات، يساهم بالوصول لاتفاق وقف إطلاق نار دائم، وينهي الهدنة غير المعلنة منذ أكتوبر. ويؤمل أن يقود ذلك لإنهاء الصراع في اليمن ومناطق الصراع الأخرى، ويبني الثقة. سنرى!

أستاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت

القدس العربي

————————

لا خطة صينية لوراثة أميركا/ مهند الحاج علي

لافتة جداً التعليقات العربية على دور الوساطة الصينية في الإتفاق السعودي-الإيراني، ومنها تعابير  كبيرة مثل “الاختراق الاستراتيجي” و”الموعد الصيني”، واستبدال النفوذ الأميركي. لكن مثل هذا الطرح المبني على الفوز والخسارة، يفوته معنى هذا الدور الصيني وسياقه، وما نوع السياسة التي سيُؤسس لها في المنطقة.

بداية، يأتي الدور الصيني في المنطقة في ظل تحول بطيء لكنه جذري في السياسة الخارجية الصينية. نظراً الى التركيز على النمو الاقتصادي والمالي، كانت بكين، وفقاً لوصف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، “راكباً بالمجان” في السياسة الدولية، أي أنها تستفيد من الاستقرار الإقليمي من دون أي استثمار فيه. أساس السياسة الصينية هو اقتناص “الفرص الاستراتيجية”، وليس صناعتها. حين تطل فرصة استراتيجية برأسها، تتقدم السياسة الصينية باتجاهها. لا منافسة شديدة في هذه المقاربة، بل مجرد ملء لبعض الفراغات (وليس جميعها).

لكن مثل هذه المقاربة أيضاً تختزن احتمالات صدام مع واشنطن، وهذا التنافس بيّن. والتوترات بين البلدين وصلت الى ذروتها مع أزمة بالون التجسس الصيني الذي أسقطه الطيران الأميركي مطلع الشهر الماضي. الخبير الأميركي في الشأن الصيني جيمس كرابتري كتب مقالاً في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية تحدث فيها عن احتمالات الصدام الصيني-الأميركي وتصاعد التوترات بين البلدين. أشار الى كلمة للرئيس الصيني الحالي شي جينبينغ تحدث فيها عن تطبيق الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة سياسة احتواء وحصار وقمع للصين، انعكست في “تحديات شديدة وغير مسبوقة لنمو بلدنا”. إدارة الرئيس جو بايدن قررت تعزيز موقعها في مواجهة الصين في أكثر من محور، بدءاً بتقارب مع الهند (مبادرة مشتركة في مجال التكنولوجيا)، وسياسة دفاعية جديدة مع اليابان (تعزيز القدرات اليابانية بشكل أثار حفيظة الصين).

لهذا علينا طرح سؤال عن ماهية الردود الأميركية حيال الدور الصيني المرتقب في إطار الاتفاق السعودي-الإيراني. هل تسمح الولايات المتحدة للصين بدور ريادي في الحفاظ على استقرار المنطقة؟ صحيح أن واشنطن تتهم بكين بأنها “راكب مجاني”، لكنها في الوقت ذاته لا ترغب في دور قيادي صيني في هذا السياق. لهذا السبب، تنتقد الإدارة الأميركية مبادرة “الحزام والطريق” الصينية المعروفة في العالم العربي باسم “طريق الحرير”، ومعها الاتهامات بـ”فخ الديون” الصينية. ذاك أن المبادرة باتت تُنافس المؤسسات الدولية في مستوى انفاقها، وفقاً للأكاديمي يونغ دينغ في كتابه “الفرصة الاستراتيجية للصين” الصادر العام الماضي عن دار جامعة كامبردج. الكاتب يُدرج رقماً مصدره معهد “أميركان انتربرايز” (جمهوري الهوى في واشنطن)، ومفاده أن الصين أنفقت بين كانون الثاني (يناير) عام 2014 وحزيران (يونيو) عام 2018، مبلغ 255.5 مليار دولار على مشاريع الإعمار، و148 ملياراً إضافية على قطاعات أخرى. يُقارن الكاتب هذه الاستثمارات بخطة مارشال لإعادة اعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كلفت الولايات المتحدة 12.5 مليار دولار، أي ما يُعادل 110-130 ملياراً اليوم مع احتساب تطور قيمة المال خلال العقود الماضية. بكلام آخر، أنفقت الصين في مشروعها الإقليمي-الدولي أكثر من ضعفي ما أنفقته الولايات المتحدة في حقبة تأسيسية لنفوذها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبات مشروع “الحزام والطريق” (طريق الحرير) بمثابة مؤسسة دولية تُؤخذ في الحسبان. في الشرق الأوسط على سبيل المثال، استثمرت بكين حوالى 123 مليار دولار في سياق “الحزام والطريق”.

دينغ يُشير أيضاً الى نمو نفوذ الصين في المؤسسات الدولية، أكان في الأمم المتحدة أو غيرها من المؤسسات الدولية. شكت الولايات المتحدة مثلاً نمو نفوذ الصين في منظمة الصحة العالمية، وقطع عنها الرئيس السابق دونالد ترامب التمويل. الصين كذلك ضاعفت مساهمتها في “صندوق النقد الدولي” وتُحاول الحصول على حقوق أكبر داخله للتأثير في قراراته. لكن بكين نفسها من الجهات المانحة للقروض دولياً، إذ باتت في جعبتها قروض للدول النامية تتجاوز قيمتها 135 مليار دولار (الرقم من عام 2019).

لكن هذه العلاقات الاقتصادية والمالية والنفوذ المرتبط فيها، غير كافية للعب دور رئيسي في الشرق الأوسط وغيره. ذاك أن الصين لا تملك وجوداً عسكرياً، وليس لديها قدرات دبلوماسية وعلاقات وشبكات داخل هذه الدول على قدر يسمح بهذا التنافس. واستبدال الولايات المتحدة في المنطقة يحتاج الى سنوات من العمل الجاد، وما نراه اليوم لا يُوحي حتى بالمحاولة. القواعد والعلاقات العسكرية والمدنية وشبكات النفوذ والتجسس الأميركية على حالها في المنطقة، وهذه الخطوة الصينية ستستدعي مقاربة أميركية مختلفة قد تحيك بنفسها شكل المنطقة مجدداً. اللعبة في بدايتها، وهذا الاتفاق حركة أولى غير كافية لبناء كل هذه الأوهام.

———————–

هل سيكتب للاتفاق السعودي الإيراني النجاح؟/ شفان إبراهيم

تقول الأخبار إن السعودية وإيران، وعبر وساطة الصين، أعلنتا التوصل لاتفاق لإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ 7 سنوات. انتهى الخبر، لا تفاصيل ولا شروحات إضافية، وكأن القصة هي فقط بين البلدين ولا أحداث وقضايا كبرى تتعلق بهما ومواقفهما ودورهما في سوريا والعراق ولبنان واليمن. بما للدولتين من دور وحركية وفاعلية بمختلف المستويات في كل تلك البلدان، ولا سر في القول إنه جزء من الصراع والانقسام السني الشيعي في العالم الإسلامي والعربي. وأمام سيولة المشهد والخلافات التي تهدد الدول العربية، جاء الاتفاق بالإعلان عن تبادل السفراء بين البلدين، والواضح أن لكل دولة منها أسباب تتعلق ببنية مصالحها الحالية والمستقبلية.

فالصين تسعى للدخول في حلبة أقطاب العالم، ولها شراكات اقتصادية متينة مع السعودية وإيران، ومن مصالحها تمتين الاستقرار في الشرق الاوسط وضمان دول محورية مركزية إلى جانبها، لضمان مشروع الحزام والطريق. لكن لماذا وقعت الدولتان على الاتفاقية، والراجح أنه لن يستمر ولن يأتي بالثمار المرجوة. رُبما تكون الظروف التي تعيشها السعودية وإيران من حيث الضغوط السياسية والعسكرية وغياب الاستقرار في كامل المنطقة، تكون قد ساهمت في تسريع إعلان الاتفاق. فطهران التي تعيش ضغوطا داخلية مختلفة، وعقوبات خارجية أرهقت الاقتصاد والصناعة والتجارة، وكله ينعكس سلبا على حياة المجتمع المحلي في إيران، ويحفز من ديمومة التظاهرات، فضلا عن تعثر المفاوضات مع مجموعة 5+1 في فيينا بخصوص البرنامج النووي، واصطفاف إيران إلى جانب روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وتهديد إسرائيل لاستخدام القوة ضد مشروع إيران النووي، جميعها مهددات لنظام الحكم في طهران وهي بحاجة ماسة لقوة الصين، وضمان عدم اصطفاف سعودي لجانب أيّ معسكر ضد طهران، ورغبة من الأخيرة في شق وحدة الصف الخليجي.

أما الرياض الغارقة في حرب اليمن دون معرفة النهايات، خاصة أن الكلفة البشرية والاقتصادية باهظة لتلك الحرب، تمنع التمويل عن العديد من مشاريع التنمية والاقتصاد وحياة المواطنين السعوديين، وزيادة مخاوفها من تكرار التهديدات على منشآتها الحيوية الصناعية والنفطية، والتي كانت تتهم طهران بالوقوف خلفها، ولم تتمكن واشنطن من حمياتها. لذا جاء الاتفاق “الأمني” بين الطرفين تتويجاً لحاجات تكتيكية للطرفين، لكن لا نفاذ لأحدهما في مناطق سيطرة الآخر أو وجوده في الدول العربية، خاصة أن إيران تستمر بمنح نفسها الحق الكامل للنفاذ إلى دول عربية تحتاج، وفقاً للسردية والمزاج الإيراني، إلى دور طهران فيها ونفوذها لضمان أمنها. لكن هل يمكن للرياض  إنقاذ طهران من أي حربٍ أو معارك قادمة؟ بالتأكيد لا.

غياب الحلول النهائية للوضع الكارثي في سوريا والعراق ولبنان واليمن، عن ذلك الاتفاق يعني أن السعودية ترغب بتفكير جديد في طبيعة علاقاتها الدولية والإقليمية، لكنها تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ جداً، لن تكفي بضعة أيام من الحوار بينها وبين طهران من إيجاد الحلول لكل تلك المشكلات. وما يشد الانتباه أكثر في البيان السعودي الإيراني الصيني كانت عبارة “تأكيدَهما على احترام الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية”. هل فعلاً إيران ستنسحب من لبنان واليمن وسوريا والجزر الإماراتية.  وسنجد أن الفصائل المسلحة مثل العصائب والحشد الشعبي وغيرهم يختفون من العراق، وأن حزب الله سيقول للبنانين تفضلوا انتخبوا من ترونه مناسبا رئيساً لكم، هل ستتحول إيران إلى دولة صديقة للسعودية، وستبدأ بتغيير سلوكياتها وتتغير وتعيد ما أخذته من الدول العربية التي تقول السعودية إنها الأحق بها حتّى نتفاءل بهذا الاتفاق؟

الواضح أن المال والاقتصاد الصيني في هذه الحالة غير كافٍ لخلق توازناتٍ سياسية جديدة، أو ضمان الاستقرار والأمان، كما يتم الترويج له عبر ذلك الاتفاق. فالشقاق الأهلي وصل لمستوياتٍ عميقة يصعبُ أن يلتئم بمجرد التبادل الدبلوماسي، خاصة أن عقدًا كاملاً مر وكانت مصالح الحرب أقوى من التفاهم والاتفاق. وبكين بالرغم من ثقلها الاقتصادي، لكنها أقلُ حضوراً من واشنطن في الثقل السياسي، وتفاصيل الصراعات الدموية لا يمكن ترميمها بالشراكات الاقتصادية وحدها. بل ماذا تشكل الصين في رتق العلاقات الدولية المتعلقة بمسارات الحل السياسي في بلدان الربيع العربي والصراع. وهل يمكن للرياض أن تتبرأ من علاقاتها وحساباتها مع واشنطن والدول الأوروبية وتركيا والإمارات والبحرين، أو هل يمكن لهذا الاتفاق أن ينقذ طهران المأزومة داخليا بفعل الاضطرابات والتظاهرات، وخارجياً بسبب العقوبات الاقتصادية الغربية عليها؟

لا أعتقد أن لبكين أذرعا أو تأثيرا على ملفات وخطوط المواجهات والنزاعات بين السعودية وإيران في عموم مناطق المواجهة. فلا يمكن للصين أن تأتي بالحلول لأبرز المشكلات العالقة بين الطرفين، بدءاً من معضلة انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان،  ثم المقتلة السورية، مرورا بالأزمة العراقية المستفحلة، وقضية الجزر الإماراتية العالقة بين أبو ظبي وطهران، ولجم تمدد الأخيرة في الدول العربية ومنها التهديدات على الأمن القومي السعودي، هذه أبرز وأهم القضايا العالقة بين الدولتين، وهي بحاجة إلى سنوات من الحوار وتشكيل هيئات وفرق ولجان وتفاصيل وحوارات للوصول إلى تسوية سياسية، ولن يكفي أن تقول الرياض وطهران إنهما ستتفقان، لا، لا يكفي أبداً؛ فدوائر المواجهة أكبر من قدرة الطرفين على القول وتنفيذه، فضلا عن أن غياب واشنطن عن الصفقة يعني أنه اتفاقٌ من طرف واحد، خاصة أن لأميركا قدرة على تحريك القاهرة وأنقرة وأبو ظبي وعمان بالضد من “الحركة الصينية” وسرديات الاتفاق بين الدولتين، حيث لكل واحدة من تلك العواصم قصص وقضايا سياسية واقتصادية وجغرافية عالقة مع إيران.

علماً أن  السعودية وإيران تعيشان عوالم متشابهة من حيث الخلافات بين الرياض وواشنطن، وطهران مع الغرب، ولم تستقر الأمور لكلا العاصمتين بعد، بل إن الخيار الأكثر ترجيحاً أن تستمر الحروب أكثر، رُبما ستشهد المنطقة بعض الهدوء، لكن النار المستعرة بين الطرفين لن تخبو ولن تنطفأ هكذا بكل سلاسة وسهولة. فلن تقبل السعودية بوجود الحوثيين على حدودها في اليمن، كما أن إيران لا ولن تقبل أيَّ مسٍ بحزب الله في لبنان. وهل كانت الصين نائمة طوال كل هذه العقود، وخاصة السنوات العشر الأخيرة، واستفاقت لتطيح بأميركا من الشرق الأوسط كله، وقدمت الحلول لكل مشكلات الشرق بجلسة واحدة. بكين “المسكينة” لا يمكنها حصار واشنطن في الشرق، ولن تتمكن من إخماد الحروب، وإن كانت تصعد اقتصادياَ بشكل سريع جداً، لكن تفاصيل النزاعات والمواجهات لا تزال بيد واشنطن ليس إلا.

————————-

تراجع الدور الأميركي عالمياً ودوره في التقارب السعودي – الإيراني/ مصطفى إبراهيم المصطفى

لم يكن تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991 إيذانا بنهاية الحرب الباردة فحسب إنما هو تحول دراماتيكي ومفاجئ من نظام دولي ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية تتربع على قمة هرمه الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها القوى الغربية بشكل عام، إلا أن هذه الحالة لم تستمر طويلا، وسرعان ما بدأت تظهر معطيات جديدة جعلت موازين القوى غير واضحة تماما، وحلّ الشك مكان اليقين حول فكرة القطب الأوحد، وبشكل عام، يمكننا أن نقسم الفترة الممتدة من عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفييتي حتى الآن إلى مرحلتين متمايزتين بشكل واضح؛ تبدأ المرحلة الأولى من تاريخ تفكك الاتحاد السوفييتي 1991، وتمتد حتى أحداث الحادي عشر من أيلول وما تبعها من غزو لأفغانستان والعراق. أما المرحلة الثانية، فهي الفترة التي تلت هاتين الحربين.

بعد أن وصفت المرحلة الأولى بمرحلة التفرد الأميركي أصبح كثير من المراقبين والمحللين السياسيين يفضلون أن يعتبروا المرحلة الممتدة من أحداث 11 أيلول حتى يومنا هذا مرحلة انتقالية من نظام دولي أحادي القطبية إلى نظام دولي آخر لم تتضح معالمه بعد، وقد أدلى كثيرون بدلوهم في هذا الشأن محاولين استشراف مستقبل النظام الدولي، وذهب بعض الباحثين في العلاقات الدولية إلى وصف طبيعة النظام الدولي الحالي “باللاقطبية”؛ أي توزع القوة بين الفاعلين في النظام الدولي بدلا من تركزها، ولكن مع قدرة الولايات المتحدة على إدارة الأمن العالمي. لذلك، يمكن القول إن صانعي السياسة الأميركية أصبحوا يواجهون بيئة استراتيجية أشد غموضا وتعقيدا وإثارة للهواجس من البيئة التي واجهها أسلافهم.

بينما كانت الولايات المتحدة منهمكة في حروبها الطويلة كانت بعض القوى الأوراسية تبني قوتها بخطى متسارعة وراسخة، وهو ما اصطلح بعض الباحثين على تسميته بـ”الصعود الأوراسي”، ومع نهاية سنة 2007، صار هناك حديث متداول حول مسألة الانحدار الأميركي، وشكوك بخصوص التخمينات الطويلة المدى لبقاء الدولار باعتباره عملة الاحتياط الأساسية في النظام الدولي. جرى أيضا حديث خافت بخصوص النظام المتعدد الأقطاب في مراحله الأولى، وكلها مواضيع بدأت تأخذ مكانها في نقاشات السياسة الخارجية الأميركية بين الرسميين والأكاديميين على حد سواء. وفي كتابه “عالم ما بعد أميركا” تحدث فريد زكريا عما سمّاه “نهوض البقية”، وجاء تحت هذا العنوان: “لا يظهر هذا الكتاب انحطاط أميركا بقدر ما يظهر عن نهوض الآخرين”.  ويحاجج بالتراجع الملحوظ في مصادر القوة الأميركية منذ بداية القرن الجديد. وسواء تعلق الأمر بانحطاط أميركا أم بصعود الآخرين فالنتيجة هي تراجع القوة النسبية للولايات المتحدة الأميركية. وبالنتيجة: لا بد لهذا التراجع أن يلقي بظلاله على السياسة الخارجية الأميركية.

تعتبر نظرية السياسة الخارجية: “نظرية السلعتين” من أكثر النظريات العامة للسياسة الخارجية دقة وعمقا، وتنطلق هذه النظرية من فكرة أساسية تتلخص بأن الدول من خلال سياستها الخارجية تسعى وراء شيئين وهما تغيير وضع ما والحفاظ على وضع ما. ومن ضمن ما تطرقت إليه النظرية: أثر تناقص قوة الدولة على سياستها الخارجية، يقول المؤلفان بهذا الخصوص: “ولنتحول إلى تأثيرات تناقص القدرة النسبية على السياسة الخارجية الأميركية. تتنبأ النظرية، مع تنحية السياسة الداخلية جانبا، بتخفيضات ملحوظة في السياسات الرامية للتغيير وانتقاص محدود في السياسات التي تنشد الحفاظ على الوضع القائم.. ونتوقع أيضا أن نرى سياسات أقل سعيا للتغيير؛ فسوف يتم تجنب التحالفات غير المتكافئة وهي تلك التي تتم بين الولايات المتحدة ودول أضعف كثيرا، لصالح تكوين ارتباطات أوثق مع دول قوية. وطبقا للنظرية سوف تخفض الولايات المتحدة الالتزامات القائمة، وذلك من أجل توفير الموارد المطلوبة لإنجاز الحفاظ الناتج عن تلك السياسات، ولنا أن نتوقع أيضا معدلا منخفضا من مبادرات إثارة النزاع، وهي سياسة أخرى تعد الأكثر ارتباطا بالسعي إلى التغيير، وفي أثناء فترات تناقص الإمكانات النسبية، حيث ينبغي أن يوجد تقدم تكنولوجي أبطأ في المجال العسكري؛ نتوقع مستوى منخفضا من المعونة الخارجية، وتخفيضات في استخدام النشاطات السرية للتأثير على الدول الأخرى وينبغي الإقلال منها كذلك”.

بدأت مظاهر تراجع القوة النسبية للولايات المتحدة الأميركية منذ إدارة الرئيس “أوباما”، وتجلت بالتدخل الخجول في ليبيا والنأي بالنفس عن التدخل الفعلي في سوريا، بل هو أعلن بوضوح أن الولايات المتحدة سوف تبدأ بالتخلي عن التزاماتها في منطقة الشرق الأوسط لصالح مناطق أخرى، وهو ما كان يعني أن الموارد التي تستطيع الإدارة الأميركية توفيرها لا تكفي للانخراط الفعال في كل القضايا الأمنية حول العالم. لكن التراجع الأميركي في إنتاج سياستي “التغيير” و”الحفاظ” ازداد وضوحا بعد أن سحبت الولايات المتحدة بطاريات صواريخ “باتريوت” على إثر التوتر الذي حصل بين تركيا وروسيا في سوريا بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية. وكانت تركيا أول الحلفاء الممتعضين من الإستراتيجية الأميركية الجديدة، إذ برهنت الولايات المتحدة أنها لم تعد ذلك الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه.

ضمن السياق ذاته؛ لم تعد المملكة العربية السعودية ومعها معظم دول الخليج العربي ترى في الولايات المتحدة سوى ليثٍ تلاشت أنيابه وأظافره، وبدأت تبحث لنفسها عن تحالفات أخرى تضمن مصالحها، من هنا يعتبر الإعلان المفاجئ عن اتفاق سعودي – إيراني برعاية صينية نتيجة طبيعية للفراغ الذي أحدثه تراجع الدور الأميركي الناتج عن تراجع قوتها النسبية. وفي مجمل الأحوال؛ سواء نجح الاتفاق أم لم ينجح، فإن الصين نجحت باستمالة السعودية. لكن الأهم من ذلك أن تلك المفاجأة لن تكون الأخيرة، وأن تلك التحولات والتقلبات لن تمر بهدوء وسلام.

——————————

سورية في الاتفاق السعودي- الإيراني.. ملف أولوي أم ثانوي؟

يسود تفاؤل حذر في الشرق الأوسط بعد الاتفاق السعودي- الإيراني برعاية صينية وعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، عقب سنوات من العداء والتنافس على النفوذ والتأثير في ساحات المنطقة.

الاتفاق بين الغريمين الإقليمين، الذي جاء بشكل مفاجئ وُوصف بأنه “زلزال بالساحة السياسية” و”أهم حدث سياسي وإقليمي بالآونة الأخيرة”، فتح باب التحليلات والتساؤلات حول تأثيره على أزمات دول الشرق الأوسط، خاصة وأن كلا الدولتين يمتلكان من النفوذ ما جعلهما على صراع مستمر خلال السنوات الماضية.

ملفات كثيرة استعصت في المنطقة يُنتظر حلحلتها بعد الاتفاق بين الرياض وطهران، على الرغم من عدم وجود أي رؤية واضحة حتى الآن، إلى جانب أنه ما زال مبكراً الحديث عن تأثيرات فورية للاتفاق على المنطقة، حسب ما يرى محللون.

“اتفاق مفاجئ”

بعد جولات تفاوضية خلال الأشهر الماضية في العراق وعمان لم يكتب لها النجاح، فاجأ الراعي الصيني، الأسبوع الماضي، بالتوصل إلى اتفاق بين السعودية وإيران في خطوة لاقت ترحيباً عربياً ودولياً مقابل قلق أمريكي وإسرائيلي.

ونص الاتفاق على خمسة بنود هي “الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران”، و”احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، و “تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما الموقعة في 2001”.

إضافة إلى “بذل كافة الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي”، والاتفاق على عقد وزير خارجية البلدين اجتماعاً لتفعيل بنود الاتفاق وترتيب تبادل السفراء.

وكان التركيز على الاتفاقية الأمنية الموقعة في 2001، والتي نصت آنذاك على “مكافحة الإجرام والإرهاب وتبييض الأموال، ومراقبة الحدود والمياه الإقليمية بين البلدين لمنع التهريب”.

الاتفاق المفاجئ، الذي قد يخفف حدة التوتر بين البلدين، دفع محللين سياسيين لتحليل الأسباب التي دفعت الرياض إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية مع عدوها اللدود في المنطقة.

يعتبر الباحث السياسي المختص بالشؤون الإيرانية، محمود البازي، أن السعودية درست جدوى تطبيعها مع إيران وإسرائيل، التي تحشد وتصرح دوماً بإمكانية شن حرب عسكرية ضد طهران لإيقاف برنامجها النووي.

ويقول البازي لـ”السورية. نت” إن السعودية وجدت في تطبيعها مع إسرائيل “سباق تسلح وموازنة عسكرية بمليات الدولارات، والدخول في نزاع لا ناقة للسعودية فيه ولا جمل، ولا مظلة حماية أمريكية سواء ديمقراطية أو جمهورية وذلك استناداً إلى تجربة 2019 عندما رفضت إدارة ترامب الرد على ضرب منشآت أرامكو”.

أما على الطرف المقابل فإن تطبيع الرياض مع طهران يعتبر “نقل مساحة الصراع والتنافس من البعد العسكري إلى البعد الاقتصادي، والمضي قدماً في مشروع التنمية الاقتصادية والبشرية، والتحول إلى مكان آمن للاستثمار الخارجي، وتحول السعودية إلى مركز لتبادل الطاقة، وحل الملفات الخلافية في لبنان وسورية والعراق واليمن”.

“بيان مبهم”

وعلى الرغم من أن بنود البيان الثلاثي مبهمة ولم تتطرق إلى بؤر التوتر في المنطقة، إلا أنه تكشف لاحقاً عن إلقاء الاتفاق ظلاله على الملف اليمني، إذ نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن مسؤولين سعوديين وأمريكيين قولهم بإن “إيران وافقت على وقف إرسال شحنات الأسلحة إلى حلفائها الحوثيين في اليمن”.

واقتصر الحديث عقب الاتفاق على الملف اليمني فقط دون الملف السوري الذي اعتبرت وسائل إعلام وصحف أجنبية بأن الاتفاق سيلقي بظلاله على سورية.

وتعتبر إيران الداعم الأبرز لنظام الأسد منذ 2011، عسكرياً عبر زج ميليشياتها للقتال إلى جانب قوات الأسد، وسياسياً من خلال الدخول بمنصة “أستانة”، واقتصادياً من خلال تقديم الخطوط الائتمانية والمحروقات.

أما السعودية فكانت داعمة في وقت من الأوقات لفصائل المعارضة السورية، كما دعمت المعارضة سياسياً من خلال اجتماعات الرياض التي انبثقت عنها “هيئة التفاوض”، إلى جانب مطالبتها دائما بإيجاد حل سياسي وفق قرار الأم المتحدة 2254.

ورحب نظام الأسد بالاتفاق واعتبره، في بيان لوزير خارجيته، أنه “خطوة مهمة ستقود إلى تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة”.

من جانبه رحب بشار الأسد، في مقابلة مع وكالة “روسيا اليوم”، بالاتفاق ووصفه بـ”الخطوة الإيجابية ومفاجأة رائعة”، معتبراً أنه “لا بد أن تنعكس إيجاباً على المنطقة”.

وقال المتحدث باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية، جمال رشدي، في تصريحات للصحفيين، إن “الجامعة تعتبر الاتفاق بين السعودية وإيران سيكون له انعكاساته على الوضع الإقليمي كله بما فيه الوضع في سورية”.

وكالة “فارس” الإيرانية في تقرير لها ذكرت أن إيران أخذت مصالح من تسميهم “محور المقاومة والممانعة”، واعتبرت أن “حلفاء طهران في سورية واليمن سيرون “فرصاً جديدة أمامهما من الآن فصاعدا في عملهما لتحقيق المصالح الوطنية”.

من جانبها اعتبرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أن الاتفاق يمثل “خبراً رائعاً” لبشار الأسد وحزب الله اللبناني، قائلة “إن “الأسد وحزب الله يقومان حالياً بدراسة كيفية تحقيق مكاسب من هذا الاتفاق”.

أولوي أم ثانوي؟

ورغم توجه الأنظار إلى انعكاسات الاتفاق على ملفات المنطقة ومنها الملف السوري، إلا أن محللين قللوا من أهمية التأثير.

وحول تأثير الاتفاق على الملف السوري، اعتبر الأسد أن “السياسة السعودية اتخذت منحى مختلفاً تجاه دمشق منذ سنوات، ولم تتدخل في شؤون سورية الداخلية كما أنها لم تدعم أياً من الفصائل”.

الباحث السياسي المختص بالشؤون الإيرانية، محمود البازي، اعتبر أن هناك ثلاثة ملفات أهم من الملف السوري، كونه “ملف ثانوي للعديد من الدول”، ما يعني أن “أبعاد المصالحة الإيرانية السعودية على الملف السوري ستأخذ وقتا أطول”.

والملفات الثلاثة هي الملف اليمني وهو أولوية وضروري من أجل التفاهم والتوصل إلى حل نهائي، لأن “ذلك يؤثر على الأمن القومي السعودي”، والملف الثاني هو “الملف اللبناني في مسألة اختيار رئيس للبلاد”، ثم “الملف العراقي وضرورة ترسيم خريطة النفوذ”.

وأشار الباحث إلى أن الملف السوري يقع في النهاية، حيث “ستسعى طهران لتطبيع العلاقات السورية- السعودية، ومحاولة كسب الضوء الأخضر السعودي، لعودة سورية إلى الجامعة العربية”.

بدوره قال المحلل السياسي محمود علوش لـ”السورية. نت” إنه “من المبكر الحديث عن إمكانية أن يؤدي الاتفاق إلى تحول كبير في الوضع الإقليمي وحتى في العلاقات بين البلدين”.

واعتبر أن الاتفاق بين البلدين سيكون تأثيره محدود على الملف السوري لسببين: الأول أن السياق السعودي- الإيراني بالتأثير على المسألة السورية أضعف بكثير من السياق الأخر المتمثل بالسياق التركي- الإيراني- الروسي.

أما السبب الثاني يعود إلى أن دور السعودية في سورية ضعيف مقارنة بالدور الإيراني، مؤكداً أن “مثل هذه التحولات في العلاقات السعودية الإيرانية، لا يتوقع منها أن تؤدي إلى تغير جذري بالصراع في سورية”.

هل يقرب الاتفاق الرياض من دمشق؟

بعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية في 6 من فبراير/ شباط الماضي، كان واضحاً التقارب العربي حيال نظام الأسد المعزول دولياً، كان أبرزها الموقف المستجد للسعودية التي ألمحت إلى إمكانية الحوار مع نظام الأسد.

وصرح وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، أكثر من مرة إنه “لا بد أن نجد مقاربة جديدة في سورية، وهذا سيتطلب لا محالة حوار مع الحكومة في دمشق”، في إشارة للنظام السوري.

واعتبر أن “زيادة التواصل مع سورية قد يمهد الطريق لعودتها إلى جامعة الدول العربية”، “لكن من السابق لأوانه في الوقت الحالي مناقشة مثل هذه الخطوة”.

وجدد الوزير السعودي التأكيد على أن الإجماع يتزايد في العالم العربي على أن “عزل سورية لا يجدي”، وأن “الحوار مع دمشق ضروري خاصة لمعالجة الوضع الإنساني هناك”.

وسلط الاتفاق بين السعودية وإيران الضوء على إمكانية تسريع تقريب الرياض من طهران، وفتح أبوب الحوار مع نظام الأسد بعد سنوات من القطيعة الدبلوماسية، الأمر الذي يقلل من الهيمنة الإيرانية.

ويرى المحلل السياسي محمود علوش أن استعادة العلاقات الدبلوماسية ومحاولة بناء علاقة جديدة بين الرياض وطهران، قد تدفع بمسار المصالحة بين الرياض ونظام الأسد.

لكن هذا المسار قائم ما قبل الإعلان عن الاتفاقية، حسب علوش، إذ “شهدنا تحول في الخطاب السعودي تجاه دمشق، كما أن هناك رغبة للحوار مع دمشق ضمن بيئة متحولة عربية، تسعى لإعادة تشكيل الموقف في سورية”.

وحول تأثير لاتفاق السعودي الإيراني وانفتاح الرياض على دمشق على هيمنة طهرات وتواجدها، يرى البازي يرى أن سورية تعتبر “بعد استراتيجي” لإيران التي تحملت نفقات عالية جدا تقدر بنحو 30 مليار دولار بحسب عضو لجنة الأمن القومي بالبرلمان الإيراني، فلاحت بيشه.

واعتبر أن طهران أنفقت كل هذه الأموال من أجل الاقتراب أكثر من الحدود الإسرائيلية، و”تحقيق معادلة الردع ومنع إسرائيل من استهداف الأراضي الإيرانية، لأن سورية ولبنان وفلسطين هي مساحات للرد على أي اعتداء يمارس ضد الأراضي الإيرانية”.

أما المحلل السياسي حسن النيفي، اعتبر أن تخلي الأسد أو انفكاكه عن إيران هو “ضرب من الوهم”، بسبب العلاقة العضوية بين الطرفين من جهة، ولقدرة إيران على التحكم شبه المطلق بقرارات الأسد من جهة ثانية.

من جانبه يرى المحلل السياسي محمود الأفندي أن التخلي عن طهران يمكن أن يكون “تدريجياً” مثل سياسية حافظ الأسد الأب، الذي كان يعمل على الموازنة بين العلاقات العربية في سورية وبين التواجد الإيراني، مشيراً إلى أن الوجود الإيراني سيبقى موجوداً في سورية والخروج سيكون جزئياً وليس نهائياً.

————————–

فوكس نيوز: عروض بشار الأسد لروسيا تهدد أمن أميركاترجمة: ربى خدام الجامع

التقى في الكرملين يوم الخميس الماضي أشد حاكمين استبداداً في العالم، وهما رئيس روسيا فلاديمير بوتين، ورئيس النظام في سوريا، بشار الأسد، الذي يعتبر مسؤولاً عن أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وذلك ليناقشا مسألة توسيع الوجود العسكري الروسي في سوريا.

بيد أن الاتفاق بين أهم عدوين لأميركا أثار تساؤلات حول ما إذا كانت إدارة بايدن قد اتخذت وضعية الدفاع وفقدت نفوذها بسرعة على منطقة تعتبر إحدى المناطق الحساسة في العالم.

في مقابلة أجرتها وكالة RIA للأنباء التابعة لدولة روسيا، قال الأسد: “نرى بأن توسيع الوجود الروسي في سوريا أمر جيد، فالوجود العسكري الروسي في أي دولة يجب ألا يقوم على أي شيء مؤقت”.

تضارب في المصالح

عندما تدخل بوتين بالحرب السورية في عام 2015، ساهم بذلك في قلب الموازين لصالح الأسد، ما ضمن بقاء هذا المستبد على الرغم من مطالبة الدول الغربية بإسقاطه، وذلك لأن الأسد شن حرباً على شعبه نجم عنها قتل أكثر من 500 ألف إنسان بينهم الضحايا الذين أعدموا في حرب كيماوية.

إن هذا التوسع المرتقب لوجود القوات الروسية وقواعدها العسكرية في سوريا لابد وأن يفرض تحدياً جديداً على إدارة بايدن وسياستها في الشرق الأوسط، إذ يرى خبراء في الأمن القومي الأميركي بأن الصين وروسيا باتتا تتفوقان على الولايات المتحدة في المنطقة التي أقامت واشنطن لنفسها فيها نفوذاً كبيراً على مر التاريخ.

ترى ريبيكا كوفلار وهي محللة سياسية سابقة لدى وكالة استخبارات الدفاع الأميركية بأن بوتين بدأ في التفوق على الولايات المتحدة في الشرق الأوسط  منذ أيام الرئيس أوباما، أي مذ كان بايدن نائباً للرئيس، وتضيف: “لقد خدع بوتين أوباما ونائبه عبر السماح للروس بإخراج الأسلحة الكيماوية من سوريا، إذ في عام 2013، اكتشف الروس وجود انفراجة في ذلك، فاستغلوا الفرصة لزيادة نفوذهم العسكري هناك، كما حاولوا قلب الموازين لصالح روسيا في الشرق الأوسط، ثم صار بوتين يسعى لتشكيل تحالف مناهض للولايات المتحدة يتألف من روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وسوريا”.

وتابعت كوفلار، مؤلفة كتاب: (دليل عمل بوتين)، بأن هذا الرجل: “يرغب بجعل إدارة بايدن تعتقد بأنه بوسعه المساعدة في عقد اتفاق نووي مع إيران، وفي إجراء تسوية من أجل إحلال السلام في سوريا، ولكن الحقيقة هي أن بوتين لن يفعل أي شيء يمكن أن يصب ضمن المصالح الاستراتيجية الأميركية، خاصة في الوقت الحالي الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بدعم أوكرانيا، ما جعل مصالح الأمن القومي لدى روسيا والولايات المتحدة تتضارب بشكل كبير”.

سياسة التحالفات

هذا ولقد كشفت فوكس نيوز خلال هذا الأسبوع بأن ألد ثلاثة أعداء لأميركا، أي روسيا والصين وإيران، يخططون لإجراء تدريبات عسكرية بحرية مشتركة في خليج عُمان، وقبل أسبوع على ذلك، توسطت الصين في اتفاقية تقارب بين العدوتين اللدودتين: السعودية وإيران.

فيما ذكر ناطق رسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية بأن: “الأدلة التي تدين روسيا واضحة، ولا يهم أين تورطت عسكرياً، لأن المدنيين هم من يدفعون ثمن دليل العمل المدمر الذي ينتهجه الكرملين والذي يعمد إلى قتل المدنيين لصالح بوتين، وهذا ما اتضح خلال الحملات العسكرية الروسية في سوريا وليبيا وأوكرانيا، حيث استخدم الروس قواتهم العسكرية والرديفة لاستغلال المدنيين في مناطق النزاع، ولتعزيز المصالح الأنانية لموسكو”، وأضاف: “لقد تسببت الحملة العسكرية الروسية في سوريا التي أتت لتدعم نظام الأسد بدمار كبير، بالإضافة إلى القتل والتشريد الذي طال الآلاف من المدنيين. وهذه العمليات العسكرية تقوض شروط الحل السياسي للنزاع السوري، كما أن روسيا لم تبذل أي جهد حقيقي للدفع نحو ظهور تغيرات حقيقية في السلوك المريع الذي تبديه الحكومة السورية تجاه شعبها”.

وأكد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية على أن: “تركيز روسيا يجب أن ينصب على تعزيز التوصل لحل سياسي في سوريا بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2254، بدلاً من التسبب بالمزيد من المعاناة للشعب السوري”، والقرار رقم 2254 الذي صدر قبل ثماني سنوات يرسم مسار عملية سلمية لوقف سفك الدماء في سوريا.

في حين ذكر مايكل روبين، وهو عضو رفيع وخبير بشؤون الشرق الأوسط لدى معهد المشروع الأميركي، بأن: “الوقوف مع الحلفاء مهم، فقد وقفت روسيا بجانب حليفها دون أن يرف لها جفن، ولهذا فإن ما قدمه الأسد ليس بمكافأة لبوتين فحسب، بل إنه أرسل عبر هذه الحركة إشارة لكل زعيم ورئيس في المنطقة، وهذا لا يتصل فقط بتبني روسيا لسوريا، بل يتعلق أيضاً بمغازلة روسيا لمصر والسعودية”.

وأضاف روبين: “علينا أن نقيس السياسة بحسب هذا الواقع، فالكرد السوريون حلفاء وأصدقاء، وإذا كانت تركيا تدعم وكلاءها، وروسيا تراهن على الأسد، فعلينا أن نراهن على الكرد، فهم تقدميون أكثر، ولديهم مقاتلون أشداء، ويرغبون بالالتزام بتوجه مؤيد للغرب، أي أن القضية لا تتصل فقط بما ينبغي على الولايات المتحدة فعله، بل أيضاً بما يجب ألا تفعله أيضاً”.

الدمار في حي الأنصاري الذي كان بيد الثوار في حلب الشرقية – التاريخ 20 كانون الثاني 2017

تطبيع عير مشروط.. انحسار الأمل بإعادة إعمار سوريا مع دخول الثورة عامها الـ 13

ثم إن سوريا بلد مقسم، حيث تسيطر تركيا على أجزاء منه، وكذلك الكرد، وروسيا، فيما يسيطر الأسد على ما تبقى.

لا مجال للسذاجة وإعادة الإعمار

وتعليقاً على ذلك يقول روبين: “إن ذلك ما يؤكد بأن سوريا لن تتوحد، بل في أحسن الأحوال، ستصبح سوريا مثل الصومال خلال حقبة التسعينيات، بوجود تركيا التي تسيطر على منطقة فيها، وتوسع النفوذ العسكري الروسي فيها اليوم، أي أنها ستنقسم إلى مناطق نفوذ يحكمها أمراء حرب محليون مختلفون”.

كما حذر روبين من مخاطر إرسال المساعدات للنظام السوري، حيث قال: “إن أي تمويل نقدمه للمنظمات الدولية تحت ستار مساعدات إعادة الإعمار في سوريا سيتحول بلا شك إلى مكافأة لوكيل روسيا على قتله للناس بصورة جماعية، والمال يمكن الاستعاضة عنه بأشياء أخرى، ثم إن ما نقدمه باسم إعادة الإعمار يساعد الأسد وبوتين على إقامة قاعدة عسكرية بصورة أساسية، وإن تقديم الأسد لعروض [لصالح بوتين] يكشف عن أولوياته، ولهذا ينبغي علينا أن نبتعد عن السذاجة هنا”.

عروض لروسيا تهدد أمن أميركا

قدم الأسد لموسكو العديد من المكافآت المادية خلال زيارته لروسيا، حيث قال لبوتين: “نؤمن بأن لدى روسيا رغبة بتوسيع قواعدها أو زيادة تعداد جنودها، وهذه مسألة تقنية أو لوجستية”.

ولهذا تحذر كوفلار بالقول: “من المفيد لروسيا زيادة قواعدها في سوريا، ولهذا من المرجح أن يوافق بوتين على هذا العرض، وبما أن القوات الروسية والأميركية تعمل في أماكن تتاخم بعضها البعض في سوريا بالأصل، لذا فإن توسيع موطئ القدم الروسية في المنطقة سيمنح بوتين مزيدا من النفوذ وسيقدم للقوات الروسية مزيدا من الفرص في جمع المعلومات الاستخبارية حول التكتيكات الحربية القتالية للجيش الأميركي، وحول العتاد العسكري وغيرها من الأمور، فالروس يدرسون أساليب الحرب الأميركية بشكل كامل، بحثاً عن مواطن ضعف، بهدف الخروج باستراتيجيات مضادة”.

وقف النظام السوري إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، كما أعلن الأسد، عندما قال لبوتين: “بما أن هذه هي زيارتي الأولى منذ بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، أود أن أكرر موقف سوريا الداعم لهذه العملية الخاصة”، وذلك بحسب ما ورد في النسخة الصادرة عن الكرملين.

كما اعترف النظام السوري بالأقاليم التي انتزعتها روسيا من أوكرانيا على اعتبار أنها روسية، حيث قال الأسد: “أقول بإنها أراض روسية، وحتى في حال عدم قيام الحرب، ستبقى هذه الأراضي روسية على مر التاريخ”.

بوتين يستقبل الأسد في موسكو.. والنظام يعرقل التطبيع مع تركيا

الأسد وبوتين يرحبان باستئناف العلاقات السعودية الإيرانية

لقد حدد النزاع السوري سنوات الأسد كرئيس، وذلك مع اندلاع الاحتجاجات السلمية في عام 2011 قبل تدهور الأمور ووصولها إلى نزاع دخلت فيه أطراف عديدة، وتسبب بتدمير ذلك البلد الشرق أوسطي، كما جاء بالغريب من الأصدقاء والأعداء إلى البلد.

استطاع الأسد استعادة الكثير من أجزاء سوريا بمساعدة روسيا وإيران، وهو يؤمن بالفكرة القائلة إن حلفاءه أشد تمسكاً ببقائه مقارنة بإصرار أعدائه على هزيمته.

إلى جانب قاعدة حميميم الجوية التي تشن روسيا منها غاراتها الجوية التي تدعم من خلالها الأسد، تسيطر موسكو أيضاً على مرافق بحرية عسكرية في طرطوس التي تحولت إلى موطئ قدم بحرية لها على ساحل المتوسط، والتي بقيت تحت إمرتها منذ أيام الاتحاد السوفييتي.

ولهذا أعلنت وزارة الدفاع الروسية في كانون الثاني الماضي عن استعادة روسيا وسوريا لقاعدة الجراح العسكرية الجوية في الشمال السوري وذلك حتى تقوم كلتا الدولتين باستخدام تلك القاعدة سوية، وهذه القاعدة العسكرية الصغيرة التي تقع شرقي حلب قد انتزعت من يد مقاتلي تنظيم الدولة في عام 2017، غير أن الحكومة الروسية لم ترد على الأسئلة التي أرسلت إليها للتعليق حول هذا الموضوع.

المصدر: فوكس نيوز

————————————–

=======================

تحديث 18 أ1ار 2023

———————

سياسة الصين الخارجية بين التغير والاستمرارية/ حسن نافعة

فجّرت الصين مفاجأة من العيار الثقيل، حين استيقظ العالم على وقع دوي سياسي هائل أطلقه بيان ثلاثي يعلن عن “توصل المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران”. حمل البيان توقيعات ثلاث: وانغ يي، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني ومدير مكتب الشؤون الخارجية في لجنته المركزية، والأدميرال علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، والوزير مساعد بن محمد العيبان، وزير الدولة ومستشار الأمن الوطني السعودي. لم يكن توصل إيران والسعودية إلى اتفاق بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ سبع سنوات السبب الرئيسي في هذه المفاجأة المذهلة وما صاحبها من دوي، فالعالم كله كان على علم بمفاوضات بين الدولتين منذ أكثر من عام، بوساطتين، عراقية وعُمانية، وأنها قطعت أشواطاً متقدّمة تنبئ بقرب التوصل إلى اتفاق، لكن أحداً لم يتوقع أبداً دخول الصين على الخط، وإقدامها ليس على وضع لمساتها النهائية فحسب، وإنما التوقيع على بيانها الختامي، ما يعني قيامها بدور الراعي والضامن أيضاً. ضاعف من وقع المفاجأة أن أحداً لم يكن يعلم قط أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، هو الذي وجّه الدعوة بنفسه إلى الوفدين، الإيراني والسعودي، للحضور إلى بكين، وأن المفاوضات التي جرت هناك من 6 – 10 مارس/ آذار الحالي جرت في سرّية تامة. ولأن السعودية تعد أهم حليف للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، بعد إسرائيل طبعاً، فقد فسّر النجاح في تحقيق إنجازٍ بهذا الحجم أنه يعني أمرين متلازمين: تمكّن الصين من إحراز هدف خاطف وسريع في المرمي الأميركي، وبداية تحرّكها العلني والرسمي للولوج إلى حلبة المنافسة على قيادة النظام العالمي، وهو ما اعتبره بعضهم نقطة تحوّل في مسار السياسة الخارجية الصينية.

في وسع كل متأمل لمسيرة السياسة الخارجية الصينية في العصر الحديث أن يدرك أن الصين لم تكفّ عن إدهاش العالم قط في كل مراحل تطوّرها، فهذه الدولة، والتي يشكّل سكّانها سدس سكان الكرة الأرضية مجتمعين، ظلت، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ضعيفة، إلى حد وقوعها فريسة للأطماع الاستعمارية وتعرّض أجزاء واسعة منها للاحتلال الياباني المباشر بين الحربين. وحين نجح الحزب الشيوعي في حسم الحرب الأهلية التي اندلعت في هذه الفترة، وتمكّن من السيطرة على السلطة عام 1949، تصوّر كثيرون أن النظام الشيوعي الذي استقرّ في الصين الشعبية لا يمكن إلا أن يكون تابعاً للحزب الشيوعي السوفييتي، ودائراً في فلك المعسكر الاشتراكي الذي يقوده، وهو ما بدا واضحاً إبّان الحرب الكورية التي اندلعت عام 1950، وأسهمت في إنقاذ النظام الشيوعي في كوريا الشمالية، غير أنه ما لبث أن تبيّن أن النظام الشيوعي الصيني شديد الحرص على المحافظة على استقلاليته، السياسية والعقائدية، حتى لو تسبّب هذا الحرص في اندلاع أعمق الخلافات السياسية والأيديولوجية مع النظام السوفييتي، والتي أدّت بالفعل إلى اندلاع اشتباكات مسلحة على حدود أكبر بلدين شيوعيين في نهاية ستينيات القرن الماضي، وتمكّنت الولايات المتحدة من استغلالها لإحداث تقارب تاريخي مع الصين. وقد تابع العالم في ذهول مشهد ماو تسي تونغ، زعيم “الثورة الثقافية البروليتاريا الكبرى”، والذي يتهم النظام الاشتراكي السوفييتي بـ”التحريفية”، وهو يصافح ريتشارد نيكسون، زعيم “الإمبريالية العالمية” في قلب بكين في أثناء الزيارة التي نجح هنري كيسنجر في ترتيبها عام 1972، ثم تابع في ذهول أيضاً كيف تمكّن الجيل الجديد في الحزب الشيوعي الصيني من تصفية “عصابة الأربعة”، عقب رحيل ماو عام 1976، والانطلاق بالصين نحو عملية إصلاح اقتصادي ضخمة، تمكّنت من نقلها عبر مراحل متدرّجة إلى مصافّ الدول الأكثر تقدّماً.

من عجائب الصين الكبرى أن الحزب العقائدي الذي قاد عملية تحوّل نظامها السياسي والاجتماعي، اعتباراً من عام 1949، إلى نظام شيوعي ستاليني شديد الدوغماتية، سيكون هو الحزب الذي سيقود عملية إصلاح كبرى تُفضي إلى تحول نظامها الاقتصادي، اعتباراً من 1978، إلى أكثر النظم ديناميكية، من دون أن يغير كثيراً من بنيته السياسية والاجتماعية. وهو الحزب نفسه الذي سيبلور سياسة خارجية شديدة البراغماتية تستهدف، أولاً وقبل كل شيء، توفير المقومات والشروط اللازمة لازدهار الصين ونهوضها، والدفع بها نحو احتلال المكانة التي تليق بها في النظام العالمي، وهي سياسة ترتكز على مجموعة من المبادئ، في مقدمتها المحافظة على وحدة تراب “الصين التاريخية”، وعدم التفريط في أي جزء منها، وهو ما يفسّر تمكّن الصين الشعبية من استعادة سيادتها على هونغ كونغ، ثم على جزيرة مكاو، وإصرارها الذي لا يتزحزح على استعادة سيادتها على جزيرة تايوان مهما طال الزمن. وثانياً، عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو الانغماس في صراعاتها السياسية، أو المشاركة في سياسة المحاور والأحلاف العسكرية، مع التركيز، في علاقاتها مع جميع الدول الأخرى، على تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. وثالثاً، رفض كل مظاهر الهيمنة في النظام الدولي، والعمل على تثبيت قاعدة المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، باعتبارها القاعدة الرئيسية التي ينبغي أن تسود العلاقات بين الدول كافة، وهو ما يفسّر نجاحها المذهل في صياغة (وتنفيذ) مبادرة الحزام والطريق التي رصدت لها مئات المليارات من الدولارات، واستهدفت الاستثمار في تطوير البنية التحتية للدول المشاركة فيها بما يعود بالنفع على الطرفين، ما مكّنها من أن تصبح الشريك التجاري الأول لمعظم الدول. ويجمع المراقبون على أن هذه المبادرة أصبحت أداة الصين الرئيسية في بناء نفوذها السياسي في العالم.

إذا كان الانفتاح على الولايات المتحدة في منتصف سبعينيات القرن الماضي قد ساهم في تمكين الصين من استيعاب التكنولوجيا المتقدّمة، ودفعها إلى الاندماج في النظام الرأسمالي المتعولم، فإن انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات ساهم في التطبيع التدريجي لعلاقة الصين بروسيا الاتحادية، ومكّنها من تصفية الخلافات القديمة بينهما، وفي مقدمتها الخاصة بترسيم الحدود، ومهّد الطريق نحو تمكينهما من إبرام اتفاق لإقامة شراكة استراتيجية عام 1996. وبعد تسلم بوتين زمام الحكم في روسيا تكشفت آفاق جديدة للتعاون، عبر سعيهما المشترك إلى وضع حد للهيمنة الأميركية المنفردة على العالم، ما مكنهما من عقد اتفاقية “حسن جوار وصداقة وتعاون” عام 2001. ولا جدال في أن التقارب بين البلدين ساعدهما معاً على تحقيق جانبٍ من أهدافهما المشتركة في مراحل مختلفة، فعندما أقدمت روسيا على ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية عليها، أصبحت الصين الداعم الأكبر لروسيا، وساعدتها في التخفيف من عبء هذه العقوبات. وفي المقابل، استفادت الصين من تنازلات وامتيازات كبيرة قدّمتها روسيا لتشجيع الاستثمارات الصينية فيها. وعندما بدأت الولايات المتحدة تستشعر المخاطر الناجمة عن تنامي النفوذ الصيني على الساحة الدولية، وراحت تسعى إلى تحجيم القدرات الصينية وعرقلة تقدّمها على مختلف الأصعدة، خصوصاً عقب وصول ترامب إلى السلطة، وجدت الصين في روسيا وفي بعض دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، بديلاً يعوّضها عن خسائر ناجمة عن اشتداد الحصار الأميركي المضروب حولها. وقبل أسابيع من اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتحديداً في 4 فبراير/ شباط عام 2022، تمكّن البلدان من عقد قمة ثنائية، تحت شعار “نحو عهد جديد في العلاقات الدولية”، عبّرا خلالها عن إصرارهما على وضع نهاية للهيمنة الأميركية المنفردة، وإقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب، يحترم سيادة الدول، ولا يسمح فيه بفرض الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات والقيم قسراً على الدول الأخرى. وقد لوحظ أن حجم التجارة بين البلدين قد حقق زيادة قدرها 27.8% في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية، لتحلّ الصين محلّ الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا.

تدرك الصين جيداً أنها وصلت إلى درجة من التقدّم الاقتصادي والتكنولوجي بات من الصعب معه على الولايات المتحدة (أو غيرها)، عرقلة تقدّمها أو منعها من المنافسة على صدارة النظام الدولي. صحيحٌ أنها تدرك جيداً أنها لم تصبح بعد القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى، لكنها تعي، في الوقت نفسه، أن الوقت يعمل لصالحها، خصوصاً أنها تمثل الثقل الديمغرافي الأكبر في العالم. وفي هذا السياق، يمكن فهم التحرّك الصيني لتطبيع العلاقات بين إيران والسعودية، أهم دولتين منتجتين للطاقة في الشرق الأوسط، ما قد يفتح آفاقاً غير محدودة لتغيير موازين القوى، ليس في هذه المنطقة فحسب، وإنما في العالم بأسره، خصوصاً إذا نجحت في رعاية الاتفاق الإيراني السعودي حتى النهاية، ووقفت في وجه المحاولات الرامية إلى إفشاله. وقد نشرت تقارير صحافية أخيراً تؤكّد أن هذا الاتفاق يتضمّن بنوداً سرّية تتعهّد بموجبها كل من السعودية وإيران بعدم القيام بأي نشاط يؤدّي إلى زعزعة استقرار أي منهما، على المستويات الأمنية أو العسكرية أو الإعلامية، حيث تعهدت السعودية بعدم تمويل الوسائل الإعلامية التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار في إيران، كقناة “إيران إنترناشيونال”، وبعدم تمويل المنظمات التي تصنّفها إيران إرهابية، مثل “مجاهدي خلق” والمجموعات الكردية التي تتخذ من العراق مقرّاً لها، أو التي تعمل انطلاقاً من باكستان، في مقابل تعهد إيران بضمان ألا تستهدف التنظيمات الحليفة لها الأراضي السعودية بأي سوء، وسعيهما معاً إلى بذل الجهود الممكنة لحل النزاعات في الإقليم، وفي مقدمتها النزاع في اليمن، بما يؤدّي إلى تأمين حل سياسي يحقق السلام الدائم في هذا البلد. كما أكّدت هذه التقارير، في الوقت نفسه، أن الوفد السعودي شدّد في أثناء المباحثات على أن بلاده متمسّكة بالمبادرة العربية للسلام مع إسرائيل، وأنها لن تذهب إلى التطبيع مع تل أبيب قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. وإذا صحّت هذه التقارير، ونجحت الصين، في الوقت نفسه، في تعهد الاتفاق السعودي الإيراني بالرعاية، إلى أن يصل إلى غاياته النهائية، فإنها ستتمكّن من توجيه ضربة قاصمة للمحاولات الأميركية الرامية إلى عزلها، والحيلولة دون فوزها بالجائزة الكبرى، قيادة النظام العالمي، طال الزمن أم قصر.

العربي الجديد

——————-

السعودية – إيران: مسار الاتفاق الطويل/ أحمد جابر

فاجأت الصين الشعبية غير العارفين بمسارات المنطقة السياسية، فابتسم الممسكون بزمام اللعبة الدولية، ومعهم قهقه أرباب السياسات والتوازنات والتفاهمات، التي تأخذ من الجميع، ثم تعطي بمقادير محسوبة، لمن جاء إلى طاولات التفاوض الخلفي، حاملاً ما جمعه من موازين ثقيلة أو خفيفة، فيكون لكل شريك من هؤلاء، “مثقال ذَرَّةٍ” يراه بأُمِّ العين، ويلمسه لمس اليقين.

لبنانيّاً، وحسب السيرة “التعالمية” المحليّة، أقبل جَمْعٌ غفير على نقاش التفاهم الذي رعته الصين، نقاش العارف ببواطن الأمور، وعلَّق على الحصيلة الحوارية جَمْعٌ غفيرٌ آخر، فبارك ونبّه، وبادر تفاؤلاً وتحفَّظ استدراكاً، أمّا الجامع المشتركُ بين الجَمْعَين، فهو الحفاظ على الافتراق بين المواقع السياسية لأبناء النظرات، والشرح المختلف والمخالف، الذي يقتضيه الافتراق السياسي الأصلي. هكذا انكشفت القراءات، كما هي الحال، عن نظرة أحادية قصْدِية لمن قادته “نواياه” السياسية، وهكذا تلمّس المختلفون نقاط استقواء محورية في الداخل، تأتي من جهة المحاور المختلفة في الخارج، والتي قد لا يلائم حساب حقلها، حسابات بيادر أكَلَةِ جبنة الداخل، وأَكَلَةِ أجبان الخارج.

في البدء

تعيين عنوان لبناني لنقاش الاتفاق السعودي – الإيراني، أمر هامّ ليكون أداة قياس لما يُريدهُ اللبنانيون أوَّلاً، ولما يرونه متناسباً وممكن التحقيق مع ما يريدونه، من كل حدَث سياسي، إقليمي أو دولي. في هذا السياق، يتقدم عنوان الاستقرار الداخلي العام على كل ما عداه من العناوين، فالاستقرار المتعدِّد الجوانب والركائز، هو مفتاح البحث في ما يليه من مسائل وطنيّة عامّة. الإلحاح على الاستقرار، وجهه الآخر التسليم بأن الواقع اللبناني يعاني من اهتزاز خطير يبدأ من “فالق” السياسة العامة، ولا ينتهي مع ما توالى حتى الراهن، من هزّات ارتدادية، تنذر بانهيار الأسُس التي كانت متينة، ثم تآكلت صلابتها تحت وطأة ضربات “مطارق” التوليفة السياسية، الحاكمة والمتحكّمة.

انطلاقاً من مسألة الاستقرار السياسي، وتأسيساً عليها، نغلّب وَصْفَ التطور الإقليمي الذي عنوانه اتفاق الجارين الخصمين، بأنه محطّة تهدئة تفتح مساراً متعرِّجاً طويلاً، يشبه مَسَارَ الخصومة السياسية، المتعرِّج الطويل.

في التمييز

لقد وضع توقيع المسؤولين السعوديين والإيرانيين، حدّاً لخلط سياسي أساسه الأخذ بالصراع الدائر بالواسطة، وتداعيات هذا الصراع الذي جعل استخدام جملة “العدو الإيراني” مُسْتَساغةً، وأباح الجمعَ السياسي البائس، بين العربية السعودية والصهيونية العدوانية. من خارج التبسيط العدائي لإيران، وبعيداً من الشعارية العشوائية التي أُلْصِقَتْ بالسعودية، كان استخدام جملة “الخصومة السياسية” هو الأقرب إلى السياسة، وإلى منطوق صراع المصالح، وإلى سياسات توسيع مساحات النفوذ، والتأكيد على ثباتها. في السياق هذا، ينبغي تذكير من نالَ من ذاكرته النسيان، أن ما يجوز في الحالة الإيرانية ساقط من الحسابات في الحالة الإسرائيلية، فإذا كانت إيران خصماً سياسيّاً، فإن إسرائيل كياناً عدوانياً غاصباً، وإذا كانت سياسات حسن الجوار مطروحة على إيران، فإن سياسات حفظ حقوق الشعب الفلسطيني، وسياسات السعي إلى فرض انبثاق وطنه المستقلّ، وسياسات الاعتراف بالشعب الفلسطيني… هي الملقاة في وجه العدوّ الإسرائيلي، الذي لن يتحوّل إلى موجود “طبيعي” في المنطقة، إلاّ إذا ارتضى الشعب الفلسطيني ذلك، أي إذا قبل الفلسطينيون بحَلٍّ مجحِفٍ الآن، وأحالوا إلى السيرورة التاريخية أمر إنصافهم البعيد.

إذن، وعلى وجوه مختلفة، يعيد الاتفاق النقاش إلى بعض من صوابه، وعلى الصواب الإجمالي، تُبنى بعض المقارَبات التي تنتسب إلى عالم هذا الصواب.

مسارات

للاتفاق الموقّع بين الدولتين، العربية والإيرانية، مَسَارٌ محدّدٌ، وهذا ينتمي إلى مساراتٍ متعدّدة، تجتمع في محور واحد اسمه التنافس على النفوذ في المنطقة. تدور المنافسة الأساسية بين قوى إقليمية ثلاث، إيران وتركيا وإسرائيل. مسارح النفوذ معلومة، من اليمن إلى لبنان ففلسطين، وأشكال النفوذ وأساليبه، تحمل سِمات وطابع كل قوّة إقليمية على حدة. تختلف وضعيات الدول فتتراوح بين حالتي الدفاع والهجوم، لكن ما يمكن الانتباه إليه، هو أن “الهجوم” يلازم التدخل العدواني الإسرائيلي في الإقليم، في الوقت الذي يلازم فيه الدفاع والهجوم الحالة التركية.

التدخلان الآنفان تلتصق بهما صفة “الخارجية”، بينما يحمل التدخل الإيراني صفة الهجوم من الداخل، في مواجهة الداخل، متَّخذاً من الجمهور المذهبي “حليفاً” رئيسيّاً، وفق ما تنبئ به الأوضاع في اليمن وفي العراق وفي لبنان، وإلى حدٍّ ما في سوريا. تشذّ الحالة الفلسطينية عن المذهبية الخاصة، بسبب من خصوصية المسألة الفلسطينية، لكنها تلتقي مع العامل الإيراني فوق أرض “الأصولية” العامة.

التنافس الذي يدور في الإقليم، وعلى تخومه، تديره قوى دولية، تتصدّر الموقع الأول بينها الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلفها، أو إلى جانبها يحضر الدور الروسي المُصاب حالياً بالخطيئة الأوكرانية، والدور الصيني، راعي الاتفاق الحالي، الذي أسلوبه “الدخول الناعم”، على حاملة الاقتصاد، وعلى قاطرة التزام وتنفيذ المشاريع الحيوية.

التقديم الآنف، ضروري لأنه يساعد على فهم السير في معارج المسارات التي هي في الوقت ذاته مسالك المصالح، المتباعدة والمتقاربة والمتقاطعة، وهو ضروريّ لأنّ سلوكات الأطراف ستكون حاضرة على طول خط رحلة تنفيذ الاتفاق الإقليمي الذي بات سطوراً مقروءة. بناءً على ذلك، ما الذي يمكن قوله استشرافيّاً، في أمر الحالة اللبنانية، وفي أمور سواها من الحالات التي ما زالت تشكّل موضوعاً لإعمال بنود الاتفاق ومقاصده في مجمل أوضاعها؟

نُسُخَاتٌ محْتَمَلَة

لأن الأمر أمر موازين قوى، ولأن كل جغرافيا وطنية لها جغرافيا اجتماعية محدّدة، سيكون الأقرب إلى الواقع القول إنّ المنطقة ستكون في إزاء أكثر من نُسْخَة نفوذ، أو هيمنة، وذلك بالتناغم، أو بالانسجام، مع حقيقة بنيتها الداخلية، ومع حقيقة ما يَعْتَمِلُ ضمن هذه البنية. عليه من الحقيقي الترجيح اختلاف النُسْخَة اليمنية عن شقيقتها العراقية، واختلاف هاتين عن باقي الشقيقات العربيات، السورية واللبنانية والفلسطينية.

إذا جاز الحديث عن الأولويّات، وهو جائز في مقام الاتفاق، سيكون المتوقع المرجّح سعوديّاً وضع نقطة ختام للحالة اليمنية المتفجّرة، وتأمين الهدوء في أرجاء ما بات معروفاً باسم “الحديقة الخلفية” للمملكة العربية السعودية. ما المقرّر في الحالة اليمنيّة؟ ليس سوى التوازن المتجسّد على الأرض، وذات التوازن ينسحب على العراق وسوريا ولبنان، فما هو المقرّر ضمن كلٍّ من هذه التوازنات؟ الجواب الأول تختصره جملة “الوطنية الداخلية”، وهذه عند التدقيق في تاريخها، وفي عناصر تكوينها، يُرجَّح أن يكون العراق وسوريا متقدِّمين على الحالة اللبنانية. قياس ردّ المشتركات إلى تعريفاتها، يقدم دليلاً على دقّة الحكم الصادر بحق “الوطنية” اللبنانية، التي لمّا يتفق أطرافها على تعريف جامع مانع، للأساسيات التي تشكل قاعدة الوطنية الداخلية، وفي سياق عدم الاتفاق “التعريفي”، يحضر الانشقاق “التفسيري” في كل محطّات الخلافات الداخلية. حقبات من عمر الكيان تشهد لثبات الخلافية، ولاهتزاز الوطنيّة الطريّة البنيان.

خلاصة لبنانية

يتحمل المختصمون اللبنانيون مسؤولية مراجعة ما أدلوا به من مطوّلات ظَنّوا بها ديمومة وثباتاً، فأطاحت بها رياح السياسة التي تضرب في الجهات الأربع. المراجعة منطلقها الهدوء وطلب تحقيق الاستقرار السياسي الذي هو الممر صوب كل استقرار. إلى ذلك، لا بديل من أن يرافق المراجعة ابتكار مطالعاتٍ تسووية، تنطلق من محطة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تمهيداً للمرور بكل محطات مصالحة الداخل مع الداخل، ومصالحة “الداخِلّيْن” مع الخارجَيْن الإيراني والسعودي. هذا يتطلب بداهة، الإقرار المسبق بخطأ خطاب النفس الأقصى، وبخطيئة التمسك بأوهام التغلّب، بقوة حسابات الداخل، أو بقوة المراهنات على حسابات الخارج. يقتضي ذلك، مواكبة إعلامية تقصي فطريات التحليل الاستراتيجي والتكتيكي التي استنبتتها ورَعَتْها “خِفّة” الطوائفيات السياسية المتصارعة. هذا دور وسائل الإعلام، المرئية والمسموعة والمكتوبة، أن تكفّ عن الترويج لشخصيات “مُسْبَقة التنميط” فتكرّسها كمرجعيات لمواقف لبنانية عامّة.

الالتفات إلى الداخل، بكل شؤونه وشجونه، هو الأجدى، وهو العمل التحضيري الواجب، لكي لا يكون لبنان “نُسْخَة” نفوذ توزيعية، بسببٍ من قلّة كفاءة بنيه أوّلاً، وبسبب من استمرار تشظّي سياق بناء “وطنيةٍ” يجب أن تكون فوق كلّ خلاف.

لِيَدَعِ اللبنانيون “ما لقيصر الدولي، لقيصر”، وليكُنْ مآلهم مآل الإبن “الذي كان مَيْتاً فعاش، وكان ضَالاًّ فوُجِدَ”… فهل يعيش لبنان؟؟

المدن

——————-

فورين بوليسي: انحياز واشنطن لإسرائيل نزع عنها أي مصداقية في الشرق الأوسط و”اختراق” الصين يحرجها

أكد هوارد دبليو فرينش في مقال تحليلي بعنوان “مساعي الصين الحميدة” في مجلة “فورين بوليسي” أن معظم التعليقات الغربية الفورية على الوساطة الصينية بين طهران والرياض، ركزت على أن الخطوة تعكس الطموحات الصينية العالمية المتنامية، حيث يرون أن أي تقدم للصين يخصم من نفوذ ورصيد الولايات المتحدة الأمريكية.

واعتبر المحلل أنه على الرغم من ذلك فإن الاختراق الصيني بإعادة العلاقات بين خصمين شرسين مثل الرياض وطهران أسيء فهمه على عدة مستويات.

وشدد على أن فهم الآثار المترتبة على نجاح الوساطة الصينية يتطلب رؤية أعمق وأكثر انفصالًا عن العاطفة، منتقدا التحليلات التي ترى أن التقدم الصيني في الشرق الأوسط يعني بالضرورة تراجع النفوذ الأمريكي.

واعتبر الكاتب أن وساطة الصين التي نجحت في إعادة العلاقات بين إيران والسعودية، أظهرت المساعي الحميدة لبكين، مشيرا إلى أن الدور الآن على واشنطن لإعادة تفعيل قدراتها الضامرة لحل النزاعات الخطيرة حول العالم.

ولفت إلى أن الصين كان لديها حس انتهازي للبناء على مساعي الرياض منذ سنوات لإيجاد طرق لخفض درجة التوتر مع طهران، حيث عملت الرياض بشكل ملحوظ – ولكن دون جدوى – من خلال وسطاء عراقيين لتحقيق ذلك.

وشدد الكاتب على أن الدبلوماسية الأمريكية كانت مهووسة لفترة طويلة بالاستجابة للتهديدات وتحديد الفاعلين السيئين الأمر الذي كان يخرج واشنطن من مسار دبلوماسيتها القديمة التي تظهرها حريصة على خفض التوترات حول العالم.

وأوضح المحلل أن “كونك الحكم النهائي على الخير والشر هو امتياز لهذا النوع الاستثنائي من القوة التي تمتعت بها الولايات المتحدة لفترة أطول مما يتذكره العديد من القراء، ولكن يمكن أن يكون إدمانًا يؤدي إلى تآكل مصداقية القوة التي تستخدمه بشكل روتيني”.

واستشهد بموقف واشنطن في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي طويل الأمد، حيث تحالفت واشنطن مع الطرف الثاني لدرجة أنها لم تعد تستطيع توجيه النقد الهادف له أو تمارس الضغط عليه لتحسين سلوكه، كما في مسألة بناء المزيد من المستوطنات في الأراضي التي يطالب بها الأخير.

وشدد المحلل على أن هذا هو نمط السلوك الذي حرم واشنطن في نهاية المطاف من المصداقية أمام الفلسطينيين وكذلك الدول العربية التي تحرص على إيجاد حل لهذه الأزمة المعقدة.

وأشار إلى أنه في المقابل فإن الصين ليس لديها نفس شبكة التحالفات الكثيفة التي طورتها الولايات المتحدة حول العالم على مدى عقود، ورغم ذلك فقد حققت نجاحات دبلوماسية أحرجت واشنطن.

وذكر أنه باستثناء تايوان، فإن الصين لا تتجول حول العالم لتعلن عن أعداء أو تضع البلدان في قوائم، وإخضاعهم لعقوبات سريعة، لكن بكين تستخدم ثقلها الاقتصادي، الذي من خلاله تكتسب الآن القدرة على تصعيد مساعيها الحميدة لجسر خطوط الصدع الكبيرة والخطيرة بين الدول، وكان ذلك واضحا في حالة السعودية وإيران.

وأضاف أن الصين تتجنب الفصل بين الأخيار والأشرار وتساعد على إنشاء أقل قاسم مشترك يمكن على أساسه مساعدة الآخرين على التعايش.

واعتبر أن الأشخاص الذين شغلوا أنفسهم بالقلق بشأن تأثير الوساطة الصينية على نفوذ الولايات المتحدة في العالم لا يمكنهم توضيح سبب كون السلام بين قوتين مدججتين بالسلاح ليس شيئًا جيدًا في حد ذاته.

القدس العربي

—————————

الصين والأمد الطويل والشوق إلى النسق/ وسام سعادة

يغري نجاح المبادرة الصينية المفضية إلى استئناف العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وإيران بالذهاب في التحليل إلى اتجاهات وأبعاد شتّى. بعضها يزيد على ما يمكن افتراضه في اللحظة الحالية من حمولة ودلالات.

فالمبادرة بحد ذاتها تظهر ولوج الصين من الباب الواسع ديبلوماسياً، إلى منطقة الشرق الأوسط، وعدم الاكتفاء بزاوية الاعتبارات والمصالح الاقتصادية البحت.

في الوقت نفسه، إذا كانت المبادرة مثمرة بالفعل، وبالتالي صار من الممكن أن يتحادث ويتفاوض الجانبان السعودي والإيرانيّ بهدوء وبمكاشفة وحرص على عدم العودة إلى الوراء مجدّداً انتفت الحاجة الى مرجعية راعية لكل هذا، وعاد الدور الصيني بالنتيجة الى ما كانت عليه الحال قبل استئناف العلاقات بين البلدين، إلا من ناحية ما تكون قد جنته الصين من خبرة تفاوضية وسمعة ومعنويات.

لكن المبادرة هي جزء من مسار صيني «اهتمامي» بشكل منهجي متنام بالشرق الأوسط، وهي انعكاس لمسار تراجعي نسبي للهيمنة الأمريكية على المنطقة دون أن يعني ذلك في الوقت نفسه أن الاهتمام الصيني تعدّى تماماً مرحلة «الاستكشاف الجيوبوليتيكي» للمنطقة.

ولا يستفاد من تراجع الهيمنة الأمريكية اندثارها. وما من قوة أجنبية أخرى – أجنبية هنا بمعنى من خارج الشرق الأوسط – قادرة في الأمد المنظور على أن تقف ندّاً أو تفرض نفسها كشريك أساسي للهيمنة الأمريكية على هذه المنطقة الغنية – بشكل متفاوت بين بلدانها بطبيعة الحال – بمخزونها وانتاجها النفطيين.

هو اهتمام صيني بمنطقة لم تكن الصين مهتمة فيها بهذا القدر من قبل أبعد من العلاقات الاقتصادية – التجارية. لا هذا الاهتمام الحالي في الوقت عينه إلى ما توليه الصين من عناية بما هو أقرب إليها على الصعيد الجغرافي من تخوم وأمصار وحدائق خلفية وامتدادات لها توسع اليها النفوذ الإمبراطوري الصيني بالفعل أو بالخيال أو بطرق التجارة على امتداد العصور. في المقابل، للصين علاقات شائكة مع معظم جيرانها الأقربين، وخاصة مع الهند وفيتنام. ونفوذها في آسيا الوسطى عليه أن يتكامل مع النفوذين الروسي ومن ثم التركي. الشرق الأوسط يفتح لها مجالاً أكثر تعقيداً وأكثر رحابة في آن.

ولهذا خلفية مساعدة من زاوية تاريخ الطويل الأمد. حيث ظلت الصين «حضارة برانية» بإزاء الحضارة الإسلامية. هذا بخلاف الحضارة الهندية التي تحول الإسلامدار إلى حضارة خارجها وداخلها، يكاد يكون بنفس القدر.

تاريخياً، ينظر الى «لحظة» معركة نهر طلاس التي وقعت صيف العام 751 في قرقيزيا بين جيوش العباسيين – المنتصرين لتوهم على الأمويين – وحلفائهم التيبتيين والترك من جهة، وبين الجيش الصيني لسلالة تانغ وحلفائه من الترك من جهة ثانية، على أنها رسمت حدّاً فاصلا بين الحضارتين، وإن سمحت بتنمية التبادل بينهما، ومعه مدّ الحضارة الإسلامية بأثمن ما قدم من الصين باتجاه عالم الإسلام: صناعات الورق والبارود والحرير.

ساهم أيضاً هذا النصر العباسي على الصينيين بدخول الإسلام شيئاً فشيئاً في عمق آسيا الوسطى، والانتشار في مختلف شعوب العائلة التركية – المغولية، ناهيك عن اعتماد الدولة العباسية تدريجياً على العنصر التركي في بناء جيوشها.

لاحقاً، تمكنت الصين وروسيا من تقاسم هذا المدى الإسلامي الآسيوي الأوسط، وصارت بلاد الأويغور، التركستان الشرقية، جزءاً من الامبراطورية الصينية، علماً أن معظم مسلمي الصين هم من إثنية أخرى، أي من قوم «الخوي» الأقرب إثنياً الى الأكثرية الإثنية في الصين، المكونة من قوم «الهان». بالتالي، بات الإسلام واحداً من التراثات الدينية والروحية الأساسية بين سكان الصين، أضف الى الطاوية والكونفوشية والبوذية وما يوصف على أنه الديانة الشعبية «الخليط» من دون أن تعيش الحضارة الصينية تمزّقاً داخلياً حول الإسلام يمكن أن يقارن بما عاشته وتعيشه الحضارة الهندية.

علاقة الصين مع الإسلام، ومن خلاله مع مجتمعات وثقافات آسيا الوسطى وإيران ثم الشرق الأوسط، بقيت على رغم من زخم التبادل التجاري والثقافي علاقة برانية الى حد كبير. وليست هي حال الهند، ولا حال أوروبا أيضاً، التي شكلت المرحلة الإسلامية جزءاً معتبراً من تاريخ شبه جزيرتها الإيبيرية ذات حقبة مديدة، وجزءاً معتبراً من تاريخ حوض الدانوب في مرحلة تالية، والتي تحول فيها الاشتراك في التيمات الدينية بين المسيحية وبين الإسلام الى فضاء مرير وخلاق من فضاءات الصراع.

مع الصين حضر بالأحرى مفهوم التوازي. عالمان متوازيان. عالم الصين وعالم الإسلام. شبه متاخمين وغير مقفلين في الوقت نفسه الواحد عن الآخر. جمع بينهما «السلام المغولي» في القرنين الثالث عشر والرابع عشر في مدى امبراطوري واحد لم يعمّر طويلاً. ثم عادت كل حضارة من بعده إلى الانطواء والتوازي، الواحدة بإزاء الأخرى.

هذا التوازي الحضاري الصيني – الإسلامداري ليس بمعطى يمكن إخراجه من الحسبان بسهولة عند طرق باب الصين اليوم وعلاقتها بآسيا الوسطى ثم بالشرق الأوسط. وحتى لو أن قضية الأويغور، هي بمعنى من المعاني، قضية تحريكية لوجدان «الجامعة الإسلامية» بإزاء الهيمنة الإثنية الهانية في الصين، إلا أنها، على كثرة الظلم اللاحق فيها بقوم الأويغور، مسألة تتساكن بحذر، مع المحددات الطويلة الأمد للتوازي الحضاري بين عالم الصين وبين عالم الإسلام، الإسلامدار الأوسع.

في مقابل هذا التوازي المديد، وهذه العلاقة البرّانية بين الحضارتين، رغم أهمية التبادل بينهما، ليس من اليسر توصيف ما تريده الصين من منطقة الشرق الأوسط «جيوبوليتيكياً» اليوم، بشكل يميز فيه عما تريده اقتصادياً.

هذا لأن مصدر قوة وضعف الدور الصيني في هذه المنطقة الآن هو في جدّة هذا الدور. في أنه دور جديد للغاية، يكاد يكون بلا ماض، لقوة قديمة للغاية. دور جديد يريد شيئاً أكثر من الاكتفاء بالتوازي بين حضارتين واحدة مركزها في شرق القارة والثانية في جنوب ووسط وغرب القارة الآسيوية نفسها.

يمكن في المقابل البناء على أن دور الصين الراهن والمستقبلي في الشرق الأوسط لم يعد يختزل في الجانب الاقتصادي البحت لأن الصين تجد نفسها أكثر فأكثر في موقع القوة المؤهلة أكثر من سواها لحجز الموقع الثاني لها على الصعيد الاستراتيجي العالمي، أي على مستوى الاستقطاب الهيمني والهيمني المضاد.

وهذا الموقع شاغر منذ زوال الاتحاد السوفياتي. فمن يومها، يمكن الأخذ والرد لمعرفة من هي القوة الثالثة والرابعة والخامسة في العلاقات الدولية والتراتبية الهيمنية العالمية، لكن المرتبة الثانية «محجوزة للمجهول». مع بقاء روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي النووية، هي الأقرب إليها، وهو ما قد تكون روسيا متجهة الى تبديده في حربها الأوكرانية الآن. أما أوروبا، التي كانت تجربتها «الوحدوية» تمني النفس في وقت سابق، بأن يكون لها عملياً، الموقع الثاني في المراتب الاستراتيجية على الصعيد الكوكبي، فهي لم تستطع التأليف بشكل موقف بين مصالح أقطابها الرئيسيين، وهؤلاء تراهم حائرين الى العودة للتصرف كل واحد منهم على حدة كدولة قومية، وبين القناعة بأن أحجامهم متواضعة ومتوسطة في عالم اليوم ان هن لم يتصرفوا كقوة فوق قومية. الصين في المقابل، لها قوة أنها في الوقت عينه دولة – أمة، ودولة – امبراطورية، ودولة – حضارة. لكن هل يمكن ترجمة كل هذا باباً للتحول الى لاعب دولي أساسي في الشرق الأوسط، أي في البلدان التي تشكل قلب حضارة الإسلامدار، وحيث لم يعد هناك رابطة امبراطورية جامعة، لا عباسية ولا عثمانية ولا تعاضدية من أي نوع؟ هنا، التوازي بين حضارتين صار يعقبه التفارق بين ما هو أقرب ما يكون الى «النسق» الصين، وبين أقرب ما يكون الى «التشظي» الشرق الأوسط. فهل تحضر الصين في الشرق الأوسط كباعث أو مشجع على «إعادة التنسيق»؟ على إعادة اتخاذ منطقتنا شكل النسق؟

أم أن الاستثمار في التشظي هو ما يدفعها مثلها في ذلك مثل سواها؟ جواب من الآن؟ بالمطلق هذا أمر ممتنع. لكن بلى، يمكن، اعتبارياً على الأقل، تعلّم شيء ما من الصين كنسق. هذا لأن منطقتنا باتت أشبه ما تكون بالصفر نسق، وفي وقت هناك في ميل إلى نمو الأقلمة في معظم مناطق العالم الأخرى. هل تحيي الصين فينا نسقاً؟ أم هذا إسراف في التفاؤل بلا رصيد؟ بل يمكن أن تحيي فينا الشوق الى النسق.

كاتب من لبنان

القدس العربي

———————-

هوامش على الاتفاق الصيني/ عبد الحليم قنديل

سال حبر كثير، وتدافعت آلاف الكلمات ومئات الأصوات على الهواء، كلها تبشر أو تنفّر من تغيرات دراماتيكية متوقعة في مشاهد المشرق والخليج العربي، بعد عقد اتفاق سعودي إيراني برعاية صينية، يعلن عودة الطرفين لإقامة علاقات دبلوماسية وقنصلية كاملة بعد نحو شهرين، وتفعيل اتفاقات سابقة في السياسة والتعاون الأمني، عقدت على مشارف القرن الجاري عامي 1998 و2001، قبل أن تتأزم العلاقات، وتصل للحائط المسدود عام 2016، ثم عودة التواصل والتفاوض السري وشبه العلني في سبع جولات في العراق وسلطنة عمان، وإلى أن جرى تتويج الاتفاق الأخير في العاصمة الصينية بكين.

وما من شك في إيجابية الاتفاق الصيني، وإن كانت المفاجأة اللافتة فيه، ليست أولا في سلوك الرياض وطهران، والميل إلى تفاهم رشيد، بدت بوادره قبل نحو عام في استدامة الهدنة في اليمن، ووقف غارات الطائرات المسيرة والصواريخ، وهو ما زاد منسوب وفرص التهدئة والتطبيع الإيراني ـ السعودي، الذي احتاج الدفعة الكبرى من الصين، بعلاقاتها الوثيقة عبر عقود مع طهران المحاصرة أمريكيا وغربيا، وبعلاقاتها الجديدة مع السعودية، التي شهدت أواخر العام الماضي، اندفاعا للذروة، عبر ثلاث قمم سعودية وخليجية وعربية مع الرئيس الصيني في الرياض، بعدها ذهب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين للقاء الرئيس شي جين بينغ، الذي ينوي جمع قادة إيران ودول الخليج العربي للقاء قريب في بكين، توضع فيه اللمسات المتممة لضمان هدوء منطقة، يعتبرها صانع القرار الصيني عظيمة الأهمية لمصالح الصين، كونها الشريك التجاري الأول للأطراف كلها، والمشتري الأول لموارد الطاقة الغنية فيها، إضافة لموقعها الجغرافي المميز على خرائط «الحزام والطريق» الصينية، ورغم أن اهتمام الصين بالمنطقة ونزاعاتها ليس جديدا تماما، فقد سبق لها أن دعت لتفاهم عند شاطئي الخليج منذ عام 2017، إلا أن النشاط المبادر المتحمس للصين بدا جديدا، وفي سياق ظاهر، يواكب التغيرات الدراماتيكية حقا في موازين القمة الدولية، والانفكاك النسبي لدول خليجية من أسر القبضة الأمريكية، وتزايد رغبات بعض قادتها في تغيير معادلات قديمة، كانت تعطي الولاء الحصري لواشنطن مقابل حماية السلاح، وهو افتراض تآكلت جدواه مع التغيرات المتسارعة في توزيع قوة السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا، ثم خروج الصين من كمونها الاستراتيجي إلى فضاء الحضور العالمي، وترجمة قوتها الصناعية والتجارية والتكنولوجية المتفوقة إلى دور سياسي، بدا فيه إنجازها لاتفاق طهران والرياض، كأنه أولى أمارات فاعلية تحول العالم إلى حالة تعدد الأقطاب على حساب عالم القطبية الأحادية الأمريكية، ولا يزال التحول جاريا باطراد، وعلى وهج نيران حرب أوكرانيا، التي استعادت لموسكو بمعية الصين دورا متزايد الأثر في المنطقة، وهو ما يثير حنق واشنطن، التي حاولت ابتلاع الضربة الصينية، وادعاء الترحيب بالاتفاق السعودي الإيراني، ربما لكسب وقت إضافي، تحاول فيه جبر ما انكسر، في منطقة تعدها أمريكا من مراكز امتيازاتها الخاصة احتكارية الطابع.

وفوق حنق أمريكا المغلف دبلوماسيا، يبدو غضب «الكيان الإسرائيلي» المذعور بلا رتوش، فالاتفاق الإيراني السعودي يمضي في عكس الاتجاه السابق، الذي سعى إليه العدو بتمكين من واشنطن، وبتوالى عقد ما يسمى «اتفاقات إبراهام»، التي جعلت للكيان الإسرائيلي مواطئ قدم عسكرية على حافة الحدود الإيرانية، وبدت كتمهيد متلاحق الخطى، يهيئ المسرح لضربة عسكرية لإيران، تحلم «إسرائيل» بها، وتحث واشنطن على المشاركة، وربما قيادتها ميدانيا، وبدمج دول خليجية فيها، بدعوى أولوية خطر البرنامج النووي الإيراني، وتصوير طهران كأنها العدو المشترك، والعمل لتوريط السعودية نفسها في الضربة، وفي تحمل تبعاتها، وهو ما يبدو أن السعودية قررت باتفاقها مع إيران، أن تتخارج من خططه ومن ترتيباته الجارية، ومن التجاوب الموارب السابق مع محاولات فرض التطبيع مع كيان الاحتلال، وهو ما قد يؤثر إيجابيا في طبائع العلاقات على مواقف دول خليجية أخرى، ربما باتت تدرك الطبيعة التدميرية لعلاقات التحالف مع إسرائيل، المنهمكة في حروب توحش إجرامي دموي ضد الشعب الفلسطيني، والممزقة داخليا على نحو غير مسبوق في تاريخها الاحتلالي، والمواجهة ليقظة الشعب الفلسطيني ومقاومته الصاعده بإطراد، وكلها تطورات تجعل التعامل مع إسرائيل رجسا من عمل الشيطان، فما بالك بمد أواصر التنسيق والتحالف الضمني ثم الظاهر معها، وتحمل عواقب الصدام مع رأى عام عربي، تطفو موجات تعاطفه وتضامنه مع كفاح الشعب الفلسطيني، ويمقت سيرة التطبيع «الملوث» مع كيان الاحتلال، وتتزايد مشاعر ازدرائه للسياسة الأمريكية وقواعدها العسكرية، ورعايتها غير المقدسة لكيان الاحتلال وجرائمه، وسعيها لتكريس الأولويات الإسرائيلية في قصور الحكم العربية، وبدعوى بناء تحالف اليهود مع السنة ضد خطر الشيعة، وهو طعم مسموم، جرى ابتلاعه للأسف على مدى عقود الهوان العربي، ودفعت فيه عشرات بل مئات مليارات الدولارات، وصدرت له مئات الفتاوى السامة، وقامت لأجله عشرات التنظيمات الإرهابية السنية والشيعية، ولم يكن حصاده إلا وبالا داميا، مع حروب تكفير عبثي متبادل، حطم دولا عربية، وأهلك حرثها ونسلها، وسقطت فيه مئات آلاف، بل ملايين الضحايا، وبعشرات أضعاف تضحيات العرب في الحروب مع كيان العدوان والاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك اندفاعا إلى جحيم، صنعته أياد مجرمة، تصورت أنها تصد الخطر الإيراني بتكفير الشيعة عموما، بينما كان الأزهر الشريف قد حسم الخلاف قبل ما يزيد على ستين سنة من اليوم، وأفتى شيخه الجليل الراحل محمود شلتوت بإنهاء الفرقة المذهبية، وبجواز التعبد الإسلامي على مذهب الشيعة الجعفرية (الاثني عشرية)، تماما كما صحة التعبد على المذاهب الفقهية السنية الأربعة وسواها، كان ذلك في زمن صحوة القومية العربية الجارفة، ومع انزلاقنا إلى انحطاط تاريخي بعد نصر أكتوبر 1973، وخذلان السياسة لنصر السلاح، واتخاذ «العدو» الإسرائيلي صديقا وخليلا، دخلنا في عصر انهيارات، واقعا وفكرا وسلوكا، وتجنيدا لحركات «دينية» في خيام المخابرات الأمريكية والغربية، واستعادة جهولة لسياسة «فرق تسد» الموروثة عن الاستعمار البريطاني القديم، وتفرقة وفتنا طائفية بين مسلمين ومسيحيين عرب، ثم فتنا «مذهبية» بتكفير الشيعة العرب، اشتعل أوارها بعد ثورة الخميني الإيرانية، ولم تكن لها من نتائج واقعية بعد خراب الأوطان، سوى دفع الشيعة العرب إلى أحضان إيران الشيعية، وكملجأ وملاذ بديل إجباري، وتضخم قوة إيران مقابل تفتيت نسيج مجتمعات عربية مجاورة، أي أن مجد إيران ـ للمفارقة ـ بني جله على نفقة العرب التطوعية، إضافة لما نعرفه من أدوار عربية في تسهيل احتلال أمريكا للعراق، ومسخ دولته، وفسح المجال لتمدد القوة الإيرانية، التي لن تتأثر سلبا بتوابع الاتفاق الصيني الأخير .

يبقى بعد ذلك كله، أن آثار الاتفاق الإيراني السعودي، مما يصح النظر له بإيجابية عموما، ولكن من غير تهويل ولا تهوين، فهو قد يغير طبيعة العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد يبدأ عهد جديد، قوامه حالة من التطبيع البيني، والسعي لإزالة عناصر التوتر، ولكل طرف مطالبه الملحة في تفكيك الاحتقان، فإيران تهدف لوقف ما تسميه الدعم السعودي لفئات المعارضة الإيرانية، والسعودية تريد الهدوء عند حدودها اليمنية، ووقف الاستنزاف في حروب اليمن، والبحث عن صيغة مصالحة ما، لا تبدو طرقها سالكة تماما، مع تعدد مصادر التدخلات، وتعقيد الكوارث التي حلت باليمن، وتنامي فصائل ودواعي التفكيك، بينما تريد إيران بالطبع، أن تضفي حالة من الشرعية على تغول الحوثيين عسكريا، وحيازتهم الواقعية لأغلب مناطق شمال اليمن، وقد لا تكون مهمة إعادة توحيد اليمن واردة قريبا، بل مجرد إزاحة المخاطر عن الجوار السعودي، وشيء من ذلك التجميد قد يمتد إلى البحرين شرقا، أي التهدئة، من دون زوال دواعي التربص، وإلى لبنان بتسهيل ما في معضلة انتخاب رئيس، قد لا يكون بالضرورة اسمه سليمان فرنجية، مرشح الثنائي الشيعي المدعوم إيرانيا، وفي العراق بطبائع التوازنات، تبقى الأوضاع على حالها، مع تلطيف في الألفاظ وإبداء لروح التعاون، وفي سوريا، قد يفيد التفاهم الإيراني السعودي، بالذات في دعم الرياض لأطراف عربية كثيرة، تريد إعادة الدولة السورية لمقعدها الرسمي في الجامعة العربية، والمعنى باختصار، أن اتفاق السعودية وإيران يبقى ثنائيا في الأساس، وإن صح توقع أن تكون له آثار جزئية محسوسة في ملفات المنطقة عموما، ولكن بغير مزايدات ولا مناقصات، فتوازن القوى يحكم علاقات الحرب كما علاقات السلام.

كاتب مصري

القدس العربي

————————–

الاتفاق السعودي – الإيراني … تشييع للنفوذ الأمريكي في المنطقة/ وائل عصام

يعلق ترامب على الاتفاق السعودي الإيراني قائلا، إننا لم نعد نقود العالم في عهد بايدن، «هذا ما نراه بعد أن قامت السعودية بعقد اتفاق مع إيران، برعاية الصين وليس الولايات المتحدة، من كان يتصور ذلك؟». أما هنري كيسنجر الدبلوماسي الأمريكي المخضرم فعلق في السياق نفسه: «على المدى الطويل، فإن ظهور بكين كصانعة سلام يغير شروط المرجعية في الدبلوماسية الدولية، فلم تعد الولايات المتحدة القوة التي لا غنى عنها في الشرق الأوسط – الدولة الوحيدة القوية أو المرنة، بما يكفي للتوسط في اتفاقيات السلام، لقد أعلنت الصين في السنوات الأخيرة أنها في حاجة إلى أن تكون مشاركا في إنشاء النظام العالمي، والآن قامت بخطوة مهمة في هذا الاتجاه».

أما الصحافي الأمريكي ديفيد أغناتيوس فقد كتب في صحيفة «واشنطن بوست»: «الصينيون انتهازيون، لقد استفادوا من الجهود الدؤوبة لأمريكا لدعم السعوديين (من دون شكر من السعوديين طبعا) في مقاومة وكلاء إيران في اليمن والعراق وسوريا، لقد بنت أمريكا طريق التقارب، لكن الصينيين قصوا الشريط».

هكذا إذن، قص الصينيون الشريط بدل الأمريكيين، لماذا؟ ببساطة لأن دول المنطقة الحليفة لواشنطن، أيقنت ولو متأخرة كالعادة، أن أمريكا لم تعد قادرة على دعمها في مواجهة حلفاء طهران وروسيا، كما كانت في العقود الماضية، فالخصم الإيراني لم يعد لقمة سائغة، وباتت تكلفة مواجهته أعلى من أرباحها، تدرعت إيران بحلف دولي من الصين حتى روسيا، وحلف محلي مترابط يطوق دول المنطقة الحليفة لواشنطن، مكون من شركاء الحرس الثوري، من القوى الشيعية وفروعها العلوية والحوثية من بغداد حتى دمشق وبيروت وصنعاء، الذين لديهم أسبابهم المحلية القديمة للتنازع مع جيرانهم السنة، وخاضوا نزاعات مذهبية قبل حتى وصول الخميني للحكم في طهران، عندما كان الخميني يتلقى مساعدات مالية خلال لجوئه إلى حوزة النجف في العراق، وعندما وصلنا إلى عام 2019، وقت توجيه ضربة لمنشأة النفط السعودية في أرامكو/ بقيق، التي اعتبرت بمثابة إعلان تحد من طهران في مواجهة دول المنطقة المتحالفة مع واشنطن، لكن الرد الأمريكي جاء باهتا، على الرغم من أنه حصل في عهد حليف الرياض الأقوى ترامب، حينها أيقنت الرياض من أن نجم أمريكا في أفول، وأن عهد الاتكال على حمايتها ولى، وأن عليها البحث عن منظومة جديدة بديلة، ونسج علاقات تقيها شر ضربات شبيهة بضربة أرامكو، وطبعا كانت الوجهة الأقطاب الدولية الصاعدة في وجه واشنطن، موسكو وبكين، لكن هؤلاء هم أنفسهم حلفاء طهران الذين اعتمدت عليهم إيران لعقود في بناء منظومة إقليمية جديدة مناهضة لنفوذ واشنطن في المنطقة! فأمطرت الغيوم على أرض بلاد فارس مجددا!

تأخرت دول المنطقة المتحالفة مع واشنطن كثيرا في إدراك تغيرات توازن القوى في العالم، وفي المنطقة، وأدى اتكالها على واشنطن في خسارتها لكل ما بنته من نفوذ بالتعاون مع واشنطن لعقود، في كبرى عواصم المشرق العربي، ومنذ سقوط النظام العراقي قبل عشرين عاما، جرت معارك طاحنة سياسيا وعسكريا، بين قوى حليفة أو مقربة من واشنطن وحليفتها الأكبر السعودية، والقوى الشيعية الموالية لطهران، انتهت بهيمنة مطلقة لحلفاء طهران في صورة غير مسبوقة منذ بدء النزاع السني الشيعي قبل قرون، لدرجة أن أقلية كالحوثيين أحكمت قبضتها على عاصمة اليمن، على الرغم من حرب ضروس تشنها السعودية بدعم أمريكي استخباراتي منذ سنوات، وفي خاصرة بالغة الأهمية جيوسياسيا للسعودية. هذا الواقع الذي يؤشر إلى خسارة الرهان على القوة الأمريكية، باتت نتائجه ماثلة للعيان أكثر من أي وقت مضى، بعد ضربة أرامكو/بقيق عام 2019، التي أوقفت إنتاج نصف النفط السعودي، واعتبرت إعلانا لاكتمال التحول الفارق في توازنات المنطقة، وأعتقد أن الاتفاق السعودي الإيراني برعاية بكين، ما هو إلا «تشييع» للنفوذ الأمريكي في المشرق العربي، الذي دخل مرحلة الوفاة السريرية مباشرة بعد الورطة التي علق فيها الأمريكيون بعد غزو العراق، إذ أخفق الأمريكيون وتحول مشروع الشرق الأوسط الأمريكي الجديد إلى الشرق الأوسط الإيراني.

القدس العربي

———————

قراءة في الاتفاق السعودي ـ الإيراني/ محمد الرميحي

كمٌّ كبير من التعليقات التي أعقبت إعلان الاتفاق السعودي – الإيراني، الذي وُقّع بمشاركة نشطة من الصين. ومن الطبيعي أن يجلب هذا الاتفاق كل هذا الكم من التعليقات، بعضها تشعر أنه محاولة للشرح، وبعضها الآخر تشعر أنه محاولة للتضليل.

من لديهم المعرفة استقبلوا الاتفاق بقبول متحفظ، وأشاروا إلى أن المنتظر هو خطوات إيجابية من قِبل النظام الإيراني، المتفق عليه أنَّ المملكة العربية السعودية ليس لها أطماع في إيران أو غير إيران، وكل ما يقال عن تدخلاتها جهراً أو غمزاً، هو تخرصات وتزييف للحقائق، وأصبح المتابع الفطن محصناً ضد تصديقها.

على الجانب الآخر، ليس سراً ولا هو حتى مخفياً تدخل الجارة إيران في العديد من الدول العربية، الظاهر منها اليمن ولبنان وسوريا، والباطن عدد آخر من الدول، من بينها دول الخليج، بل في بعض الأوقات جهراً بالفخر لبعض السياسيين الإيرانيين أنهم على مقبض من عدد من العواصم العربية!

إنما السؤال (الذي هو سؤال المليون)، إن صح التعبير، هل تُغير إيران توجهاتها وتبدّل وجهة أشرعتها، بعد أن وجدت صعوبة في تغيير اتجاه الريح؟

البعض يرى صعوبة في ذلك، لأسباب أصبحت معروفة، أن لإيران شهية إلى الجانب الغربي (العربي)، إلا أن ذلك التصور أو الاستنتاج ربما يكون متسرعاً، فمهما قيل عن «تصلب النظام» وهو صحيح لأسباب تاريخية وآيديولوجية، إلا أنه في الوقت نفسه إذا وجد أن الربح في خطوة ما مهما عظمت، أكبر من الخسارة، فليس صعباً عليه.

والعالم يحبس أنفاسه في عام 2002 وتتصاعد نسبة الصراع بين نظام صدام حسين وقراءته العمياء للتطورات العالمية، وبين التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، توجس النظام الإيراني شراً، وكانت الحكمة السائدة لديه أن الولايات المتحدة وحلفاءها في ذلك الوقت، «سوف تتغدى بنظام صدام حسين، وتتعشى بالنظام القائم في طهران»، بل إن مبادرات صدام حسين في ذلك الوقت تجاه إيران كانت باتجاه التحالف ضد «العدو المشترك»! فكان أن بادرت شخصية دبلوماسية خليجية بالتوجه إلى طهران وشرح مهمة القوات الدولية، والطلب من إيران أخذ موقف «محايد إيجابي» من التطورات المتوقعة في المنطقة، مع التأكيد من خلال عدد من «الإثباتات» أن نظام طهران لن يُمس و(القصة طويلة وليس الوقت لكتابة التفاصيل)، إلا أن نظام طهران عندما تأكد، وقُدمت له الدلائل الحسية القاطعة، تحول إلى ما اقترح عليه بأن يأخذ «الحياد الإيجابي» في الصراع، بل وصرف النظر عندما بدأت المعركة عن طلعات طيران من خلال أجوائه.

في وقت لاحق استفادت إيران من إطاحة نظام صدام حسين حتى أكثر من استفادة معظم العراقيين.

الافتراض الذي يتبع تلك القصة ونتائجها في عام 2002 «أنه إن وجد النظام الإيراني فائدة ما في اتخاذ خطوة سياسية» قام بها؛ لذلك فإن الوفاق مع المملكة العربية السعودية وتبريد الساحات العربية ولو تدريجياً هو كما يراه النظام قد يصبّ في صالحه، حيث إن الخسارة في المشروع الآخر باتت بيّنة. ولم يعد فيها متسع من أوراق المناورة.

مثلاً، السباق نحو تسلح نووي، لقد وجد النظام حتى (في حصوله على سلاح نووي) لن يفيد مشروعه، بل على العكس يفتح باباً لمعظم دول العالم لعدائه، عطفاً على استحالة واقعية لاستخدام ذلك السلاح، فلن يستطيع استخدامه ضد إسرائيل مثلاً؛ لأن ذلك سوف يقيم «القيامة» في المنطقة، كما أن وجود ذلك السلاح لا يعني بقاء النظام أو تغييره.

الاتحاد السوفياتي كان مسلحاً حتى أسنانه بالنووي وبعد هزيمة أفغانستان بسنتين تغير النظام.

باكستان نووية لم يمنع ذلك من تغير النظام، وأخيراً الاتحاد الروسي وحربه في أوكرانيا لم يستطع، رغم الصعوبات، أن يستخدم شيئاً من ذلك السلاح.

بجانب ذلك، فإن ملف الوضع الاقتصادي في الداخل وصل إلى المنحنى الخطر، وسقطت شريحة واسعة من الشعوب الإيرانية تحت خط الفقر، وتعثرت مستويات المعيشة للباقين إلى حد السُّخط، بجانب أن المشاركة بالسلاح في حرب أوكرانيا جلبت الغضب الأوروبي، حيث إن ذلك تدخل في أمن القارة.

في العراق واضح أن هناك تياراً يتسع لمقاومة النفوذ الإيراني، ولم يبق إلا القليل من العراقيين المنحازين، ورغبة واسعة في بناء عراق مستقل وأيضاً غير معادٍ، ولكن معتمد على عمقه العربي.

أما في سوريا ولبنان، فقد تبين لشرائح واسعة من السوريين واللبنانيين كم حجم الأكذوبة في موضوع «المقاومة»!

تلك بعض الملفات الشائكة والتي لا شك تنظر إليها المجموعات العقلانية في طهران، ويتساءلون بعد أربعين عاماً وأكثر: ماذا تحقق للشعوب الإيرانية؟ كما ينظرون إلى الجوار فيجدون الكثير مما تحقق ويتحقق في محالات التنمية المختلفة، وعمارة الأرض.

فمن الطبيعي بعد أربعين عاماً أن تجري المراجعة، وفي الحقيقة فإن البعض مثل رفسنجاني وخاتمي حاولا ولكن التيار المتشدد أفشلهما، على أساس أن لديه «خطة أفضل»، وتبين أن تلك الخطة هي الأسوأ ليس للمجتمعات التي تم التدخل فيها، ولكن وهو الأهم للمجتمعات الإيرانية التي تنامت لديها النزعة إلى الرفض ووضعت المشروع برمته موضع التساؤل.

الوفاق والسلام واحترام استقلال الدول وعدم التدخل في شؤونها، سوف يعود على إيران بأكثر كثيراً مما حصدت من فكرة «تصدير الثورة»، مواطنوها يمكن أن يدخلوا مرحلة الاستقرار، كل ما عليها تغيير اتجاه الأشرعة، حيث ثبت بما لا جدال فيه أنها لا تستطيع تغيير اتجاه الريح.

آخر الكلام:

كتب أحد المنشقين السوفيات قبل سقوط الاتحاد السوفياتي بسنوات قليلة يعجب أن بلاده تصنع الصواريخ وتخزن الرؤوس النووية، ولكن ما زال فلاحوها يحصدون غلتهم بالمنجل! ما أشبه ذلك بما يحدث في إيران!

الشرق الأوسط

———————–

شمخاني وتطبيع العلاقات مع دول عربية.. خلاف في المؤسسات الإيرانية أم تموضع لتجاوز ضغوط خارجية؟

رسول آل حائي

طهران- بعد أسبوع من تمثيله طهران في محادثات بكين التي أسفرت إعلانا عن قرب استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، أجرى أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، مباحثات رفيعة المستوى في الإمارات، ما طرح تساؤلات كبيرة عن تقاطع مهامه مع عمل وزارة الخارجية الإيرانية.

وعلى ضوء التقارب بين إيران ودول خليجية، أفادت وكالة “إرنا” الرسمية بأن شمخاني سيزور العراق خلال الأيام القليلة المقبلة، ما سلّط الأضواء على أمين المجلس الأعلى للأمن القومي كمهندس لتطبيع علاقات طهران مع الجوار العربي.

في غضون ذلك، تساءلت صحيفة “آرمان ملي” المحلية عما إذا تم تفويض مجلس الأمن القومي بالسياسة الخارجية الإيرانية، مؤكدة أن المهام الموكلة إلى شمخاني تكمن في صلب مهام وزارة الخارجية، ما يشي بعدم الرضا عن أداء الوزارة، وما أدى بالسلطات العليا أن توكل مهمة تطبيع العلاقات مع الدول الإقليمية إلى سياسي محنك.

تقاطع المهام

وفي افتتاحيتها تحت عنوان “من يمسك بزمام السياسة الخارجية؟”، نوّهت الصحيفة الإيرانية إلى أنه خلافا لمساعي صقور المحافظين الرامية لإقالة السياسي المحسوب على التيار الإصلاحي خلال الأشهر الماضية، فإن شمخاني تمكّن من حلحلة أكثر الملفات تعقيدا في سياسة إيران الخارجية على المستوى الإقليمي.

وبالرغم من تأكيد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، أن لا خلاف بشأن سياسة بلاده الخارجية، فإن مهمة شمخاني الأخيرة تلقي بظلالها على مكانة وزارة الخارجية، وفق الصحيفة التي تذكّر بأن الوزير السابق محمد جواد ظريف، لم يكن يقبل بسياسة موازية تتقاطع مع مهام وزارته.

وردا على بعض التساؤلات التي أثارتها الصحافة الفارسية بشأن غياب الخارجية الإيرانية عن مباحثات شمخاني الإقليمية، نفى عبد اللهيان وجود أي خلافات على سياسة البلاد الخارجية، وكتب في تغريدة على تويتر أن زيارة شمخاني إلى الإمارات والعراق تأتي في إطار العلاقات الأمنية القائمة وليست ظاهرة جديدة، مؤكدا أن “التنسيق في السياسة الخارجية قائم وكل شيء يتم بنظام وتحت إشراف رئيس الجمهورية”.

من ناحيته، يرى الدبلوماسي الإيراني والسفير الأسبق في بريطانيا، جلال ساداتیان، أن تخويل مجلس الأمن القومي للقيام بالمهام التي تندرج في صلب عمل وزارة الخارجية يقوّض مكانة الأخيرة، مؤكدا أن تقاطع المهام بين مؤسسات الدولة يكشف عن إخفاق المؤسسة الأولى في إنجاز واجباتها.

الثقافة واللغة

وفي حديثه للجزيرة نت، يقرأ ساداتيان زيارات شمخاني الدبلوماسية في سياق القرارات التي تتخذها السلطات الإيرانية العليا لتجاوز المرحلة الدقيقة الراهنة حيث تتزايد الضغوط الخارجية على طهران، مؤكدا أن وزارة الخارجية لا تنفرد بسياسة البلاد الخارجية، وأن لمؤسسات الدولة باعا طويلا في تقويم السياسات الحكومية.

ويوضح ساداتيان، أن من وصفهم بـ”المتطرفين” الذين قاموا بمهاجمة مقر السفارة السعودية في طهران قبل 7 سنوات يتمتعون بنفوذ كبير في التيار المحافظ، وأن تخويل مجلس الأمن القومي بملف تطبيع العلاقات بين طهران والرياض قد أبعد الضغوط عن وزارة الخارجية وحكومة إبراهيم رئيسي.

ولدى إشارته إلى زيارة شمخاني عام 2000 إلى السعودية ونتائجها الإيجابية على تعزيز العلاقات الثنائية، خلص ساداتيان إلى أن شمخاني يتمتع بطاقة كبيرة على تذليل العقبات في العلاقات الإيرانية العربية، نظرا إلى لغته العربية وخبرته بالثقافة العربية.

السياسة الخارجية

في المقابل، يرى السفير الإيراني الأسبق في ليبيا جعفر قناد باشي أن مهمة شمخاني تتوافق مع سياسة بلاده الرامية إلی تحييد حقائب الخارجية والأمن والداخلية عن المنافسة السياسية وإخضاعها لمؤسسات الدولة، مؤكدا أن لدى مجلس الأمن القومي سلطة دولة وليس تابعا للحكومة شأنه شأن وزارة الخارجية، مستدركا بأن مؤسسات الدولة تتعاون وفق تنسيق مسبق على أعلى المستويات.

وأوضح قناد باشي -في حديثه للجزيرة نت- أن ممثل الخارجية الإيرانية يواكب شمخاني في زياراته، وأنه لا يوجد بروتوكول موحد لتطبيع العلاقات بين الدول من بوابة وزارة الخارجية فحسب، وقد تكون الأولوية للأوساط الأمنية أو الاقتصادية إذا اقتضى الأمر.

وقال إن سياسة البلاد الخارجية على تنسيق مستمر مع مكتب المرشد الإيراني الأعلى آية الله خامنئي، وإن شمخاني يمثل مكتب المرشد الأعلى في مجلس الأمن القومي الإيراني.

موانع وتحديات

ووفق افتتاحية صحيفة “آرمان ملي”، إذا صحّت التقارير عن تكليف شمخاني بمهمة تطبيع علاقات بلاده مع دول الجوار إثر إخفاق وزارة الخارجية الإيرانية في حلحلة القضايا الشائكة، حينها ستكون الحكومة أمام 3 تحديات كبرى خلال الفترة المقبلة، كالتالي:

    وزارة الخارجية إحدى الواجهات الرئيسية للحكومة، لكن انتماء الوزير حسين أمير عبد اللهيان إلى التيار المحافظ وقربه من “جبهة الصمود” سيصعّب على الرئيس إبراهيم رئيسي تغييره خشية تزايد الانتقادات لحكومته.

    قد تكون هناك خيارات أقوى من عبد اللهيان تفرض على رئيسي أن يأخذ الطاقات السياسية لدى القوى الأخرى بعين الاعتبار.

    الحكومة قامت بدعاية كبيرة بشأن إنجازاتها على صعيد السياسة الخارجية، وقد يشوّه تغيير عبد اللهيان نتائج تلك الدعاية، مما يوجب إبقاءه على رأس حقيبة الخارجية على أن يقوم شمخاني ببعض المهام الإقليمية.

المصدر : الجزيرة

————————-

إحاطة في سياقات وعقبات الاتفاق السعودي الإيراني/ حسن الشاغل

توصلت المملكة العربية السعودية وإيران إلى عقد اتفاق لعودة استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وعلى أن يتم إعادة فتح سفارات الدولتين خلال مدة شهرين كحد أقصى لتجهيز اللوجستيات واعتماد السفراء والموظفين الدبلوماسيين، وليس كما يشاع على أنها فترة تقييم لنوايا الدولتين. وجاء الاتفاق بين الدولتين بعد عامين من المفاوضات شملت خمسة مراحل قادتها العراق في عهد الرئيس السابق الكاظمي، كما شاركت سلطنة عمان في عملية الوساطة بين البلدين بشكل متواصل، حتى دخلت الصين كضامن للاتفاق بين البلدين. والاتفاق الموقع بين السعودية وإيران ليس بالجديد بل هو إعادة العمل باتفاقيات وقعتها الدولتين: الاتفاقية الأولى اقتصادية تم توقيعها عام 1998، والثانية أمنية وقعت عام 2001.

وما إن تم توقيع الاتفاق بين الدولتين حتى بدأت تعلو الأصوات بين داعم للاتفاق وأنه سيجلب السلم والأمن للمنطقة، وبين أصوات أكدت على عدم جدية إيران وتاريخها في التملص من الاتفاقيات الدولية. وانطلاقا من حالة التخبط في التحليلات حول جدية وأهمية الاتفاق بين الدولتين سنناقش بشكل عميق بعض الشيء الصعوبات التي قد تواجه تطور العلاقات السعودية الإيرانية في المستقبل على أساس الاتفاق الموقع مع الضامن الصيني.

معوقات تطور العلاقة بين الدولتين على أساس الاتفاق

بحسب نص الاتفاقية الموقعة بين السعودية وإيران تم الاتفاق والنقاش حول قضاياً أمنية تلزم الدولتين في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، إضافة لقضايا تخص العلاقات الاقتصادية، فيما لم يتم النقاش في قضايا مصيرية شكلت النواة الأساسية للعداء بين الدولتين، ويمكن مناقشتها على الشكل الآتي:

التحدي الأول، سياسة الحرس الثوري الإيراني في المنطقة: فقد تم تشكيل فيلق الحرس الثوري في مايو 1979، مع بداية إعادة تأسيس الدولة الإيرانية، ويتبع مباشرة إلى الخميني في الوقت الحالي، ولا يخضع للرئيس المنتخب. وتحول الحرس بعد الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) إلى قوة قتالية تقليدية لها قواتها البرية والجوية والبحرية والقوات الخاصة وأجهزة مخابرات منفصلة تماماً عن مؤسسات الدولة الرسمية، بالإضافة إلى سيطرته على الصواريخ الاستراتيجية والقوات الصاروخية الإيرانية. ويملك الحرس الثوري سلطة كبيرة على مؤسسات الأمن الداخلي والمؤسسات السياسية والاقتصادية للمجتمع الإيراني رغم عدم قانونية ذلك، وكذلك السياسة الخارجية لإيران. ويدير الحرس الثوري فيلق القدس، وهو المخول في إدارة البعثات والعمليات الخارجية وتقديم الاستشارات والتمويل والتوجيه والتدريب والأسلحة لأذرع إيران في المنطقة مثل العراق وسوريا واليمن. وقد مارس الحرس الثوري منذ تأسيسه سياسة تؤدي إلى عدم الاستقرار منطقة الشرق الأوسط وخاصة في دول الخليج العربي، وعدم الاتفاق بين الدولتين على سياسة الحرس الثوري ضمن الاتفاق قد تشكل ثغرة. ويصنف غالبية أفراد الحرس بالمتشددين حيث إنهم يمارسون السياسة الحالية التي تتبعها إيران في المنطقة من نشر التشيع، وتصدير الثورة، ومد النفوذ. وقد يكون للحرس دور كبير في عودة التوتر في العلاقات بين الدولتين في المستقبل من خلال القيام بعمليات استخباراتية ضد مصالح السعودية أو الدول الأخرى في مياه الخليج العربي، كضرب ناقلات النفط عبر طائرات مسيرة.

التحدي الثاني، البرنامج النووي الإيراني: بدأت إيران في صناعة الطاقة النووية في خمسينيات القرن الماضي للاستخدام السلمي وبمساندة الولايات المتحدة الأميركية، وبعد الثورة الإسلامية عام 1979 أصبح هدف البرنامج امتلاك السلاح النووي، وهو هدف إيران لامتلاك عناصر القوة الشاملة. ووصول طهران للسلاح النووي سيحقق لها في المستقبل الهيمنة والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط، ووسط آسيا، ويعطيها تفوقاً على حساب توازن القوى الإقليمية وخاصة على دول الخليج العربي. وقد وصلت إيران إلى معدلات عالية من نسبة تخصيب اليورانيوم، بنسبة أعلى من التي كانت عليها وقت توقيع الاتفاق عام 2015، ففي تقرير لمنظمة الطاقة النووية الأخير ذُكر فيه أن إيران ضاعفت إنتاج اليورانيوم المخصب أكثر بـ 18 مرة من النسبة المخصبة في عام 2015، ومن المحتمل أنها تجاوزت نسبة التخصيب لـ 80 في المئة، بمعنى أصبحت إيران قريبة جدا من امتلاك السلاح النووي، والذي يشكل عقبة كبيرة في إخلال أمن السعودية ودول الخليج الأخرى، وأي اتفاق مجد بين الدولتين من الناحية الأمنية لابد أن يضمن الاتفاق النقاش حول السلاح النووي.

التحدي الثالث، امتلاك إيران ترسانة الصواريخ الباليستية متوسطة وبعيدة المدى، استطاعت إيران صناعة أسلحة بالستية طويلة المدى، بمساندة خبراء من كوريا الشمالية وروسيا، وتتمكن هذه الصواريخ من الوصول إلى نقاط بعيدة قد تصل إلى 2500 كم، وبحسب العديد من التقارير تمتلك إيران آلاف الصواريخ. وتشكل هذه الصواريخ -والتي تصنف كهجومية- تهديدا ليس لدولة السعودية فحسب بل لكل دول المنطقة. ولضمان السعودية أمنها لابد من التفاوض حول هذا النوع من الصواريخ من حيث إبعاده عن المناطق القريبة من مياه الخليج العربي وما شابه.

التحدي الرابع، سيطرة الجناح المتشدد على السلطة في إيران: يوجد في إيران جناحان، إصلاحي يحاول تحقيق سلام نسبي مع دول المنطقة لتحقيق المنفعة المتبادلة ولكن بدون التنازل عن ملفات قومية مثل الملف النووي، ويمثل هذه الجناح الرئيس الإيراني السابق رفسنجاني الذي وقع الاتفاقية الأممية والاقتصادية مع السعودية في عامي 1998 – 2001، والجناح الآخر متشدد يمثله الخميني وأتباعه والحرس الثوري والذين يسيطرون على كل أجهزة الدولة، وهم أصحاب استراتيجية التوسع في السيطرة على عدد من الدول العربية في سوريا ولبنان والعراق واليمن، نقض الاتفاق متوقف على مواقف هذين الجناحين وسياساتهم المستقبلية في المنطقة.

التحدي الخامس، الضامن الصيني: في الحقيقة لا يوجد دافع قوي يجبر الصين على إلزام السعودية وإيران على العمل بالاتفاقية الموقعة بينهما، فالصين لا تمتلك قوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، وكل ما تمتلكه  عبارة عن علاقات اقتصادية قوية مع الدولتين، وإذا ما وضعنا سيناريو إخلال إيران بالاتفاق مع السعودية ماذا سيكون الرد الصيني؟ هل ستقطع الأخيرة علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع إيران؟ الجواب لا، فهذا أمر مستبعد لأن الصين لا تبحث إلا عن منفعتها الاقتصادية وهي غير مستعدة للتخلي عن تبادلها التجاري مع إيران في سبيل عدم توافقها مع السعودية.

وبعد الخوض في كل هذه التحديات نخرج بنتيجتين رئيسيتين: الأولى، هذا الاتفاق لن يؤخذ بجدية وسيبقى محدودا على العلاقات الدبلوماسية وبعض التبادلات التجارية بمعنى العودة للعلاقات إلى ما قبل عام 2016، أي قبل إغلاق سفارات البلدين. الثانية، هذا الاتفاق قد يكون مرحلي لتبريد الجبهات وتهدئة المنطقة في مرحلة يشهد فيها العالم حراكاً كبيراً، ولا أستبعد أن يكون هناك شراكة وتعاون أميركي مع المملكة العربية السعودية لاحتواء إيران خلال الفترة الحالية، لأن طهران وأذرعها في اليمن وسوريا واليمن والعراق تشكل أدوات في نشر عدم الاستقرار في المنطقة، وتحقيق تهدئة معينة في المنطقة يكسب السعودية الوقت لتحقيق التنمية الشاملة المتمثلة برؤية 2030 التي طرحها ويقودها  “ولي العهد السعودي محمد بن سلمان” والتي تستهدف النهوض بالدولة لتوطين كل القطاعات الصناعية والعسكرية، والتكنولوجية، وتحقيق تنويع في اقتصاد البلاد مما يعطي الرياض دوراً مستقبلياً أكبر في قيادة المنطقة، فيما تحقق أميركا من تبريد الملف الإيراني الالتفات بشكل أكبر لمواجهة الروس في أوكرانيا.

تلفزيون سوريا

—————————

تحوّلات المنطقة تحت العين الأميركية… كيف يُترجم الاتفاق السعودي – الإيراني في سوريا ولبنان؟/ ابراهيم حيدر

فتح الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية ملفات المنطقة على مصراعيها. بدأت ترتسم ملامح تسويات في عدد من الجبهات الساخنة، تؤشر الى إمكان اجتراح تسويات حولها من دون أن يعني ذلك أن كل الخلافات وضعت على بساط الحل.

الأهم أن الاتفاق انعكس تهدئة يمكن التأسيس من خلالها على انطلاق حوار جدي يمهد الطريق للعودة إلى المفاوضات حول الملف النووي الإيراني مثلاً، وإحراز تقدم في الأزمة اليمنية امتداداً نحو العراق الذي يشهد انفراجات سياسية، وصولاً إلى بحث ملف سوريا الذي يبقى الأصعب نظراً للتداخلات الإقليمية والدولية التي تعصف بساحتها، من الدور الروسي إلى التمركز الإيراني الشديد. فيما يبقى لبنان الغارق في أزماته المستعصية على وقع انهيارات متسارعة في بنيته السياسية والاقتصادية والمالية، الحلقة الأضعف والذي يبدو أنه آخر الملفات التي قد تُبحث باعتبارها ليست أولوية سعودية، أو أن مشكلته عصية على الحل.

وعلى الرغم مما أحدثه إعلان الاتفاق على صعيد المنطقة وحتى العالم، إلا أنه من المبكر الجزم في أن الملفات وضعت كلها على سكة الحل، إذ إن الأمور تحتاج إلى وقت لمعرفة ما سيتيحه الاتفاق وحدوده وإمكانات التأثير من دون رافعة دولية كبرى لعدد من الملفات الإقليمية الشائكة، ومن بينها الاستحقاقات اللبنانية، ذلك أن الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية يحتاج إلى الكثير من القراءة والتقييم في ما إذا كان اتفاقاً يشمل كل المسارات أم أن له وظائف ترتبط بمصالح آنية، من دون استبعاد ما يمكن أن يواجهه من معوقات أو يتضارب مع مصالح دولية أخرى، على الرغم من ظهور الصين لاعباً في المنطقة يمكنها التأثير في مختلف المسارات. لكن الرافعة الصينية المؤثرة وحدها لا تستطيع أن تبلور حلولاً في المنطقة، في ظل تعطّل المفاوضات النووية بين أميركا وإيران، واشتداد الحرب الأوكرانية، والأهم التباعد بين السعودية والولايات المتحدة أو التوتر الذي دفع الرياض إلى البحث عن منافد أخرى لحماية مصالحها.

الاتفاق يعيد السعودية بلا شك إلى تأدية دور مهم في ملفات المنطقة، لكنه ينسجم مع أولويات الرياض وحسابات مصالحها القريبة والبعيدة، إضافة إلى اعتبارات حتمت عليها السير لإنجاز الاتفاق وفق تصورات وضعتها حول العلاقة مع إيران وانعكاساتها على ملفات ترتبط باليمن والعراق وسوريا وأخيراً لبنان. سبق الاتفاق تحرك سعودي على مستوى عواصم العالم لاستكشاف إمكان تولي دور في حلحلة بعض الأزمات في العالم ومن ضمنها الحرب الروسية – الأوكرانية وترقب رد الفعل الأميركي على التقدم بخطوات تتناسب مع الانفتاح على إيران، وظهر أن الموقف الأميركي إيجابي من خلال الترحيب الأولي بما حصل وترجم فعلياً بإقرار تعيين سفير أميركي جديد في الرياض، من دون أن يعني أن الأميركيين يدعمون الاتفاق وأن المفاوضات النووية ستعود سريعاً للتوصل الى اتفاق. لكن واشنطن فهمت أن سياساتها تجاه السعودية وفي منطقة الخليج أوصلت الأمور الى نقطة ساهمت بتقدم الصين لتأدية دور وساطة كان في الأساس خطاً أحمر للأميركيين.

التطورات المتسارعة على وقع الاتفاق، وإن كانت ترسم ملامح تحولات في المنطقة، ومن بينها الحديث السعودي عن إمكان الاستثمار في إيران، لا تعني أن الطريق سالكة بلا معوّقات أو عقبات، خصوصاً في الملفات الإقليمية الساخنة. ويبدو أن الملف الأول الذي سيكون سالكاً هو اليمن، وهو ما يظهر في المفاوضات التي تجري للبحث عن حل سياسي، من خلال اجتماع يُعقد في السعودية بين الحوثيين والحكومة اليمنية، إضافة إلى المفاوضات الجارية لإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين. الملف اليمني هو الأقرب إلى الحل أو التسوية وهو في المدى الأمني السعودي، وسيخضع الأمر للتقييم لتهدئة هذه الساحة، خصوصاً أن الإيرانيين باتوا على قناعة أن الحوثيين لن يستطيعوا القيام بأكثر مما حققوه على الأرض وبالتالي لا يمكنهم السيطرة أكثر على المجال اليمني الأوسع.

وفي ما يتعلق بسوريا هناك شروط سعودية لعودة العلاقة إلى طبيعتها وعودة دمشق إلى الجامعة العربية، علماً أن الإيرانيين يعانون الكثير من المشكلات في الداخل وفي المناطق التي يعتبرونها ساحات نفوذ لهم، وهم يبحثون عن منفذ لرفع الحصار المحكم عليهم أوروبياً وأميركياً. النقطة الثالثة المهمة تتعلق بالموضوع الإسرائيلي حيث بدا لافتاً التوتر والاستياء في موقف الإسرائيليين من الاتفاق، وما إذا كان الأميركيون سيضعون حداً لأي محاولات إسرائيلية للتخريب، وحتى التقدم نحو ترتيب علاقة تصل إلى تطبيع معين بين السعودية وإسرائيل. وهنا يترقب الجميع كيف ستتعامل واشنطن مع حكومة المتشددين الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو حول ملفات المنطقة والتطورات في فلسطين، وما إذا كانت ستفرض على حكومة نتنياهو، تقديم تنازلات تؤدي إلى حلحلة الملفات بما فيها الملف الإيراني أو أن الأمور ستذهب الى انفجارات تطيح بكل التقدم الذي حدث في المنطقة وتحولاته السياسية الإيجابية.

وعلى هذا يبدو لبنان في آخر الملفات، انطلاقاً من أن السعودية غير مهتمة ببحثه كأولوية، وان كانت تريد أن تكون لها كلمة فيه بفعل مشاركتها في اجتماع دول باريس. لكن على الأرض تبدو الأمور مختلفة، إذ إن التفكك الذي أصاب البيئة السنّية في لبنان وتشتت مرجعياتها لا يجعلان من السعودية طرفاً مباشراً في التفاوض حول الحل اللبناني وليست أيضاً حتى الآن في وارد تسييل المساعدات لانتشاله من أزماته.

 وبينما يترقب الفرقاء ما سيحمله الاتفاق حيال الاستحقاقات الشائكة، بدا في المقاربة اللبنانية للاتفاق أن البعض استسهل التقييم أو استعجل في قراءة مندرجاته، وكأنه اتفاق إيراني – سعودي حول لبنان سينعكس سريعاً على حل ملفاته، ويمكّن اللبنانيين من إنجاز الاستحقاق الرئاسي، إلى حد أن “الثنائي الشيعي” الذي رحب بالاتفاق قرأه وكأنه انتصار لمحور الممانعة سيؤدي إلى إيصال سليمان فرنجية للرئاسة. لكن الوقائع تشير إلى أن الأمور لا تعكس إيجابيات مباشرة على لبنان، إذ إن ملفاته لا ترتبط حصراً بالسعودية، وإن كانت إيران تعتبر البلد ساحة لنفوذها.

المشكلة تبقى في الرهانات اللبنانية المتسرعة، فإذا كان “حزب الله” يعتبر أن الأمور ستصب في مصلحة مرشحه للرئاسة وبالتالي مشروعه، فإن القوى المقابلة تراهن على تقديم الحزب تنازلات بما يتناسب مع البوصلة الإيرانية الجديدة التي كرّسها الاتفاق، من دون الأخذ بالاعتبار أن هناك قوى دولية مؤثرة وأساسية تتابع الملف اللبناني، من اجتماع باريس إلى توجهات الولايات المتحدة، حيث الاهتمام بلبنان لا يزال في مرتبة متأخرة أمام التطورات الدولية والإقليمية، فضلاً عن فكفكة الاستعصاءات الداخلية، وهذا يعني أن قراءة المتغيرات الدولية والإقليمية تنطلق من أوهام لبنانية وحسابات قاصرة.

لا مجال للمقارنة أيضاً بين الاتفاق الإقليمي السعودي – الإيراني اليوم، وبين الاتفاق النووي قبل ثماني سنوات. لا تبدو ملفات المنطقة محسومة على قاعدة التوافق بين الطرفين، والتي تحتاج إلى رافعة دولية تتجاوز الدور الصيني الجديد والذي يشكل العلامة الفارقة الأساسية في المسار الجديد. والأمر يستلزم وقتاً قبل تعرض الاتفاق لضربات أو تخريب أو تنصل من البنود خصوصاً في ملفات سوريا ولبنان. ولذا سنشهد في لبنان مزيداً من الكباش في ضوء الرهانات المتسرعة للقبض على البلد وإحكام السيطرة عليه إضافة إلى الصراع على هويته في ظل اختلال موازين القوى القائمة.

دفع الاتفاق في إعلانه الأولي “حزب الله” إلى الاحتفال بنشوة الانتصار. وبعد مجاهرته بترشيح سليمان فرنجية، سيضغط أكثر لإيصاله كمرشح وحيد وخيار أخير. الإصرار على فرنجية هو أكثر من التمسك بميشال عون في 2016، كون الترشيح سياسياً تحت عنوان حماية المقاومة، خصوصاً أن الحزب يعتبر أن السعودية ستقدم من خلال الاتفاق تنازلات كان يراهن عليها تبعاً لموازين القوى، وبالتالي إذا لم تعقد جلسة نيابية لانتخابه فإن الشغور سيطول بفراغ سيضطر القوى الأخرى للحاق به وسيكون الوقت كفيلاً باستسلام الآخرين كما حدث في مسار 2016. السيناريوات كثيرة في الملف اللبناني، إلا أن الحل بالنسبة إلى الدول لا يزال غير ناضج، فيما الاستعصاءات الداخلية تزداد حدة. وما لم تصل القوى إلى تفاهمات للتسوية سيبقى الملف الرئاسي في حالة انسداد، وستستمر الضغوط في ظل انهيار مالي متسارع مع تلاشي معالم الدولة، خصوصاً إذا وصلت الأمور إلى مرحلة شغور منصب حاكم مصرف لبنان وبعدها قائد الجيش، ما يفتح على فوضى وانفجارات أهلية وفرز مخيف

النهار العربي

————————

عن الضمير السياسي الغائب/ حسن النيفي

ربما بدا -من نافل القول- أن منظومة المصالح باتت هي الموجّه الأقوى لسياسات الدول واصطفافاتها الإقليمية والدولية سواء في هذا الحلف أو ذاك المحور، وذلك في ضوء هيمنة معايير القوّة الاقتصادية وتسيّدها على أية اعتبارات قيمية أخرى، ولعل هذا المنحى في السياسات الحديثة لا يلبث أن يتحوّل في غالب الأحيان إلى استراتيجية نفعية تسهم في ترسيخ مفاهيم القهر والانسحاق وامتهان التسلّط على حقوق الشعوب من دون أي رادع إنساني أو أخلاقي، وهكذا تغدو مفاهيم الحريات وحقوق الإنسان ومجمل القيم الكونية التي يتغنى بها العالم الحديث مجرد شعارات تُخفي تحتها الكثير من مظاهر الجشع والتوحّش وابتذال كرامة البشر.

وليس من المستغرب –وفقاً لهذه البراغماتية الوقحة– أن تغدو الوضاعة القيمية ضرباً من الحكمة بفعل دوافع المنفعة والتعطّش الشديد لحيازة المال والقوّة. وفي ظل هذه الأنماط من العلاقات التي تحكم العالم يبدو أن القضايا العادلة للشعوب المُضطَهدة هي أولى الضحايا، باعتبار أن أصحاب القضايا على الغالب الأعمّ يستمدون مقوّمات وجودهم من عدالة قضاياهم، وقوتهم من إيمانهم وإخلاصهم لتلك القضايا، وهذه جميعها لا تجدي نفعاً من دون أن تنهض على مقوّمات القوة المادية على الأرض والقادرة على مقارعة مصالح الآخرين، أليس هذا هو حال القضية الفلسطينية على مدى خمسة وسبعين عاماً، ألم تتحوّل إسرائيل من كيان عنصري غاصب منبوذ في نظر العالم إلى دولة تكاد تكون مركزاً لاستقطاب العالم الشرق أوسطي، ومن كيان مُحتلّ تأسّس على مبدأ الاجتثاث والإرهاب إلى واحة يحاول الجميع التقرّب منها لالتماس الأمان والطمأنينة، وإلّا فما الدافع لهرولة العديد من الحكومات العربية لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل؟ هل لأن الكيان الصهيوني يجسّد ثقلاً اقتصادياً مفصلياً في حياة شعوب المنطقة؟ بل ربما يبدو العكس من ذلك، ولكن ما هو مؤكد أن الحاجة إلى إسرائيل لدى جميع الدول أو الأنظمة العربية المتهافتة إلى تل أبيب هي حاجة أمنية ذات صلة وثيقة ليس بمستقبل شعوب تلك البلدان وحيوات مواطنيها بقدر ما هي مرتبطة بالحفاظ على تلك الأنظمة واستمرار بقائها واستمراريتها في السلطة، وبهذا المسعى نحو أمن السلطات والحفاظ على ديمومتها تغدو إسرائيل المظلة الضامنة للأمن والاستقرار، فضلاً عن كونها هي الضامن الفعلي لسلامة الحكومات المنضوية تحت تلك المظلة، ألم تكن إسرائيل موضع استغاثة نظام دمشق منذ انطلاق الثورة السورية؟

يؤكّد السياق التاريخي للسياسات الأميركية أن إيران باتت على رأس (محور الشر) بعد زوال الاتحاد السوفييتي في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وذلك نظراً لما تجسّده إيران من تهديد وخطر لا يطول المصالح الأميركية فحسب، بل هو يُنذر بتقويض الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها، وكما بيّنت سيرورة نمو وتعاظم الكيان الإسرائيلي وتدرّجه من مصدر للتوحّش إلى ملاذ للأمان والديمقراطية، فإن التعامل الدولي مع إيران ربما يسير بالاتجاه ذاته، مع وجود فارق أساسي يتمثّل بكون التوحّش الإسرائيلي كان مثار عطف على الدوام من جانب الحكومات الغربية ومن الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، فيما كان سلوك إيران هو مثار ريبة وسخط دائمين من جانب العالم الغربي، إلّا أن جميع أشكال التعبئة الإعلامية الغربية ضدّ إيران لم تكن حائلاً دون سيطرة طهران وتحكّمها بمفاصل ومصائر أربع دول إقليمية – العراق – سوريا – لبنان – اليمن – وكلّما تعاظم الخطر الإيراني أُتيح لطهران مخارج أخرى ليس للانكفاء إلى الخلف بل للتمدّد من جهة، ولشرعنة هذا التمدد من جهة أخرى، هكذا تحوّل التدخل في شؤون العراق بعد عام 2003 إلى احتلال فعلي، وهكذا أيضاً بات الخطر النووي الإيراني مدخلاً لإقامة تفاهمات ذات منحى استراتيجي بين طهران والغرب، أمّا على مستوى دول المنطقة فقد أضحى الخطر الإيراني سبيلاً لتبدّل نوعي في السياسات العربية، إذ لم تعد المظلة الإسرائيلية هي الضامن الأوحد الذي يلبي الحاجة الأمنية لسلامة أنظمة الحكم، وذلك بوجود الشرطي الإيراني الذي أصبح صاحب العصا الأكثر هيبةً ومخافةً، فبعد أن كان الرهان معقوداً طيلة سنوات مضت على تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة عبر زوال مرتكزاته الطائفية والسلطوية سواء في سوريا أو لبنان على سبيل المثال، إلّا أن هذا الرهان بات مُوجَّهاً لطرق الأبواب العريضة لطهران، لرغبةٍ شديدة الوضوح بإقامة علاقات وطيدة مع إيران تفي بالحاجة الأمنية التي غالباً ما تبدو أنها ذات طابع مؤقت لا أكثر، نظراً لطبيعة الاستراتيجيات الإيرانية القائمة على التوسع المستمر والتي لم تتبدّل منذ مجيء الخميني إلى السلطة عام 1979 إلى الآن.

ما من شك بأن النفوذ الإقليمي المتزايد لإيران بات المحرّك الأكبر لسياسات الأنظمة العربية في المنطقة، وما من شك أيضاً بأن المشهد السوري كان المجال الأكثر وضوحاً لردّات الفعل العربية حيال سياسات طهران، فتارة يصبح نظام دمشق مصدراً للإرهاب والمخدرات لارتباطه العضوي بإيران، وبالتالي يجب العمل على محاصرته وتقويضه، إلّا أنه يصبح تارة أخرى بوابة عبور آمنة للوصول إلى المحجة الإيرانية لالتماس الأمان والطمأنينة، وربما جسّد التقارب الأردني مع نظام الأسد مثالاً واضحاً لذلك، وليس ببعيد أن تكون الخطوات المتتالية لدولة الإمارات في هذا المنحى ذاته، ويبدو أن تكرار هذا السيناريو الذي يلبي حاجات مُستعجَلة ولكنها مؤقتة، بات نهجاً مغرياً –بما يتيحه من براغماتية شديدة الميوعة- لدول ذات وزن إقليمي لا يقل شأناً عن إيران، كتركيا التي تتقمّص –حيال خطوتها التطبيعية مع نظام الأسد– خطاباً مكروراً ومُستهلكاً بهدف حشد المبررات لانعطافتها الراهنة، إذا يعيد هذا التبرير ما تعاورت عليه الأنظمة العربية التي استدارت نحو الأسد بحجة احتوائه وإبعاده عن السطوة الإيرانية، وكأن علاقة إيران بنظام دمشق حديثة العهد، وأن إيران قد تركت المزيد من المفاصل الفارغة التي تنتظر تركيا لتملأها أو تقبض عليها، أو كأن إيران قد تركت أمام رأس النظام الكثير من الخيارات في تحديد تحالفاته واصطفافاته، علماً أن أنقرة لا يغيب عنها البتة مدى استحكام القبضة الإيرانية بمفاصل نظام الأسد، بل هي أكثر دراية من غيرها بتموضع الميليشيات الإيرانية في الجغرافيا السورية ومدى النفوذ التي تحوزه تلك الميليشيات، والحق أنه كان حريّاً بتركيا وغيرها من الدول العربية الإنصات -ولو لبرهة-  إلى صوت الضمير، من أجل التفكير والمساهمة بحماية الشعب السوري من سطوة الأسد، قبل التفكير بحماية الأسد من سطوة إيران.

تلفزيون سوريا

—————————–

===================

تحديث 17 أذار 2023

———————-

الاتفاق السعودي الإيراني وأبعاده الاقتصادية/ جواد العناني

لما نشر بيان رسمي سعودي وآخر إيراني يوم الخميس الموافق التاسع من شهر مارس/ آذار، أو قبل أسبوع من اليوم. كانت المفاجأة كبيرة، والخبر الطارئ دفع الخبراء والمحللين إلى حك رؤوسهم وإعمال ذهنهم لكي يفسروا ما حصل. وبالطبع هناك دوافع محلية في كلا البلدين وإقليمية ودولية. لكنّ كليهما سوف يستفيد من تبادل السفراء خلال شهرين، وسوف يدخلان عبر التفاوض المستمر في اتفاقات سياسية في اليمن ولربما سورية والعراق، ولبنان.

سنركز اليوم على تحليل الدوافع الاقتصادية لكلا البلدين، والتي لا ترقى، على أهميتها، إلى درجة الأبعاد السياسية والدوافع العسكرية نفسها.

لقد بدأ البلدان التفاوض بترتيبات في دول المنطقة من أجل التفاوض. ومن أهم الدول التي وضعت وسائلها تحت تصرف الطرفين لكي يتفاوضا فيها كل من سلطنة عُمان، والجمهورية العراقية ودولة قطر. ومع أنّ إعلان الوصول إلى تفاهمات ملموسة لم يأت من أي من هذه الدول، بل من الصين، إلّا أنّ هذه الدول كانت الأسرع في إعلان تأييدها للاتفاق ومكوناته، وتلاها عدد من الدول العربية، مثل الأردن، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، ولبنان، وسورية. أما الولايات المتحدة، فلم ترد أن تظهر كأنها كانت منسية. فصرح الناطق باسم الخارجية الأميركية بأنّ الولايات المتحدة كانت على علم بالمفاوضات الجارية في الصين، لكنّها لم تشارك فيها.

ولبحث الدوافع الاقتصادية دعونا نمهد لذلك ببعض الحقائق الأساسية: الأولى هي زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية قبل ثلاثة أشهر، والتي مهدت لمؤتمري قمة خليجي وآخر عربي. والصين أكبر مستورد للنفط في العالم، وخاصة من السعودية.

والثانية هي قيام وزير الخارجية السعودي بزيارة أوكرانيا، ودفع 400 مليون دولار كانت الحكومة السعودية قد وعدت بدفعها، واستطاع الوزير فيصل بن فرحان أن يتجنب الوقوع في شرك الانحياز إلى أي من طرفي الحرب على أوكرانيا. واكتفى بالدعوة إلى التفاوض وإنهاء تلك الحرب.

وبعدها وقبل أسبوعين تقريباً، زار الوزير السعودي روسيا، واجتمع بوزير الخارجية الروسي (لافروف) واتفقا على تنسيقالجهود للحفاظ على سعر النفط، رغم الاتفاق الأميركي الأوروبي على وضع سقف لسعري النفط والغاز الروسيين. وكذلك اتفق وزيرا الخارجية الفرحان ولافروف على استمرار التنسيق بينهما في سورية، وعلى زيادة التبادل بينهما. وقد شكر لافروف نظيره السعودي على موقف بلاده المحايد من الحرب الأوكرانية.

وهكذا استطاعت الدبلوماسية السعودية أن تنظم أمورها في مجال النفط عرضاً مع روسيا وطلباً مع الصين، وأن تمنح الصين فرصة الاجتماع الناجح الذي أدى إلى الاتفاق مع الجمهورية الإسلامية في إيران. وهكذا، حافظت السعودية، إلى أعلى درجة ممكنة، على مصالحها الاستراتيجية الاقتصادية من دون أن تعطي مبرراً للولايات المتحدة لكي تغضب، حيث وصفتها الدبلوماسية السعودية بأنّها الشريك الاستراتيجي الذي لا انفكاك عنه.

أما الجمهورية الإيرانية، فقد قدمت البراهين في الشهر الماضي على قدراتها العسكرية، من خلال إطلاق صاروخ بعيد المدى وعابر للبلدان، ما أغضب الأميركيين والأوروبيين، وأهاج نتنياهو، ودفع كلاً من وزير خارجية أميركا (بلينكن) ووزير دفاعها (لويد أوستن الثالث) لأن ينددا بإيران وبمحاولاتها تطوير أسلحة نووية، خاصة بعد زيارة أمين عام وكالة الطاقة النووية الدولية لإيران، واكتشاف (بالصدفة) كتلة يورانيوم مخصبة إلى درجة 84%. ومن الواضح أن هذا يعني أن إيران إما صنعت قنابل نووية قذرة (dirty bomb) والتي يمكن تصنيعها بتخصيب 60%، أو قنبلة نظيفة بنسبة تخصيب 80% أو أكثر.

لكنّ إيران واجهت تظاهرات ضخمة في شوارعها أدت إلى ردود فعل كان بعضها عنيفاً ضد المتظاهرين، خشية أن يكونوا من أقطاب المعارضة الإيرانية (مجاهدي خلق مثلاً) في باريس. والسبب الكامن وراء كلّ هذه التظاهرات هو تبرم الناس وشكواهم من تردي أوضاعهم الاقتصادية وارتفاع الأسعار حيال تردي سعر صرف الريال الإيراني بشكل كبير أمام الدولار والعملات المرتبطة به. ولعلّ من أهم أسباب ذلك هو كبر الإنفاق العسكري الإيراني، وإنفاقها على حلفائها في بعض الدول العربية، والأمر الثاني هو كلفة المقاطعة الاقتصادية الصارمة ضد إيران كدولة وضد بعض مؤسساتها ومسؤوليها، والتي بدأت تعض بأنيابها في جسم الاقتصاد الإيراني.

والأمر الثاني الاقتصادي المهم هو أنّ جزءاً من التكاليف الكبيرة التي يتكبدها البلدان (السعودية وإيران) ناتج عن الخلافات الحادة بينهما. فالحرب في اليمن، والتنافس داخل العراق، وسورية، ولبنان، بات يكلف الطرفين مبالغ هائلة، فيما تسكين الحروب، وفتح باب التفاوض حول الإشكاليات المختلفة لن ينهي التنافس بين البلدين، ولكن قد يجد الطرفان أن من الأجدى لهما أن يتخليا عن قاعدة الصفر في التعامل ويتحولا إلى معادلة (اكسب- اكسب).

وهكذا يستطيع كل بلد، بما لديه من ثروات أن يقلل من الإنفاق العسكري وتحويله إلى الجهد التنموي الذي يحتاجه البلدان من أجل تحديث اقتصاديْهما، وتنويعهما، وبناء مشروعات إقليمية تحيد الصراع وتعود بالنفع عليهما.

ولم يأتِ الاتفاق بين البلدين مصادفة، بل أتى بعد جلسات طويلة معظمها كان بعيداً عن رقابة الإعلام وكاميرات المصورين. لكن رأينا أنّ السعودية وصلت إلى حالة فصل مع الوهابية التي طالما اتهمت بالتطرف. وكذلك سمحت السعودية للحجاج الإيرانيين بالحج بأعداد أكبر هذا العام. ورأينا عودة رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري إلى بلده ما أثار الكثيرَ من الضجة الإعلامية.

لكن الأهم من ذلك كله هو التهدئة السعودية مع قطر وعمان والكويت والتي كانت لها تحفظات على التصارع مع إيران، ذلك بسبب مشاركة قطر لإيران في حوض الغاز الخليجي، ولأنّ عُمان قريبة من مضيق هرمز ولديها جالية إيرانية مؤثرة، ولأنّ الكويت صارت في موقف متأزم بسبب وقوعها بين جنوب العراق وإيران.

أمام هذه الحقائق وغيرها. نرى أن الإشارات للمضي في التوافق بين السعودية وإيران كانت كثيرة، ودالة على أن المفاوضات بينهما أفرزت نتائج. ولا يمكن لأحد أن يصدق أن الولايات المتحدة كانت في غفلة عما يجري.

ومن المثير أن صحيفة إسرائيلية بارزة (هارتس) قد وصفت الاتفاق الإيراني السعودي بأنه فشل ذريع للسياسة الخارجية الإسرائيلية. وهو كلام ينطوي على ثقة زائدة بالنفس، لأن الإسرائيليين الذين استخدموا إيران فزاعة للعرب لتطبّع مع بعضهم، كانت تنظر إلى المملكة العربية السعودية بأنها جائزتها الكبرى. والتطبيع معها هو درة ذلك الجهد الإسرائيلي، ولكن السعودية ليست بحاجة إلى ذلك الآن.

وما يجرى داخل إسرائيل من تظاهرات ضد حكومة نتنياهو وإجراءاتها المرفوضة ضد الشعب الفلسطيني ومزارعه ومؤسساته وشبابه وأطفاله وزيتونه قد بدأت تضع رئيس وزراء إسرائيل في الزاوية. وأعطت للمتطرفين فرصة لكي يظهروا مدى حقدهم على المواطن الفلسطيني.

لا بد من تضافر الجهود لكي نوصل القضية الفلسطينية إلى حل عادل. والتطرف الإسرائيلي المقزز الرافض للسلام والمدعي بملكية القدس وما حولها قد وصل إلى أعلى موجاته، والتراجع قادم. وتهديد إيران بحرب على قدراتها النووية سيبقى موضوعاً حياً في الإعلامين الغربي والإسرائيلي. ولكني أكاد أجزم بأن رسالة أوستن وزير الدفاع الأميركي إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي لما التقيا في مطار بنغوريون الأسبوع الماضي كانت: “اهدأ وتعقل، فالأمور صارت أصعب بكثير مما تعتقد أيها المغرور”.

ونحن الآن أمام ثلاثة ملفات مهمة في مشروع المصالحة، الأول هو ماذا عن مملكة البحرين؟ وهل سيصل الطرفان إلى اتفاق واضح يمنح هذه المملكة فرصتها للتوافق المجتمعي بين المعارضة التي غالبيتها من الشيعة والحكومة هناك؟ ومثل هذا التوافق يفيد مملكة البحرين اقتصادياً، ويقلل من احتمالات التصعيد في منطقة حساسة من الجزيرة العربية.

والملف الثاني هو ملف لبنان الذي يحتاج إلى تفاهم حول رئاسة الجمهورية، وتحديد هوية الرئيس القادم، وأسس المصالحة اللبنانية، لكي يتمكن هذا البلد من استعادة قدراته على الإنتاج وتوفير الخدمات العامة.

والثالث هو موافقة السعودية على دعوة الرئيس السوري بشار الأسد للمشاركة في القمة العربية القادمة المزمع عقدها في الرياض؟

هذه أسئلة برسم الإجابة.

العربي الجديد

————————

هل بدأت إيران الانسحاب من الحلم الإمبراطوري/ معقل زهور عدي

توحي المؤشرات التي تخرج من إيران في العامين الأخيرين بتغيّر في المزاج العام للدولة الإيرانية، فهناك أزمة اقتصادية يظهرها تدهور قيمة العملة الإيرانية. فوفقا لبيانات البنك المركزي الإيراني هبطت قيمة التومان الإيراني من 143 تومانا للدولار عام 2001 إلى 3230 تومانا للدولار عام 2016 أما اليوم فقد هبطت قيمة التومان إلى 4275 للدولار.

يرافق تدهور التومان تضخًّم غير مسبوق. فوفقا لتقرير مركز الإحصاء الإيراني، بلغ معدل التضخم خلال شهر “بهمن” الإيراني (ينتهي 21 فبراير) 52.7 في المئة، بزيادة 1.2 في المئة مقارنة بالشهر السابق. كما بلغ معدل التضخم السنوي 47.7 في المئة، حيث ارتفع بنسبة 1.4 في المئة مقارنة بالعام الماضي.

ويعني ذلك هبوط القوة الشرائية لقطاع واسع من الشعب بذات النسبة السابقة، وتجد إيران نفسها مثقلة بالعقوبات الاقتصادية التي أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فرضها، وحسب تقديرات مجموعة البنك الدولي فسيظل متوسط نمو الإنتاج المحلي متواضعا لأسباب متعددة في مقدمتها تقييد صادرات النفط واشتداد التوترات الجيوسياسية وارتفاع أسعار الغذاء العالمية التي تستوردها إيران.

وهناك سبب آخر لتغير المزاج العام في الدولة وهو سقوط هيبة المؤسسة الدينية التي تعتبر أحد الدعائم الرئيسية للنظام. فرغم أن المظاهرات المتكررة والتي تكاد تصبح ظاهرة مزمنة لم تنجح في زعزعة النظام السياسي لكنها نجحت في إسقاط الكثير من هيبة رجال الدين وما يعنيه ذلك بالنسبة إلى المؤسسة الدينية كلها والتي اضطرت لتقديم التنازل فيما يتعلق بملاحقة النساء غير المحجبات في الشوارع.

صحيح أن النظام السياسي تمكّن بأدواته الأمنية المتمرسة من احتواء المظاهرات إلى حد كبير لكن المظاهرات كشفت عن وجود حالة واسعة من الإحباط والتذمر لدى الجيل الجديد في إيران. وفي أثناء تصاعد تلك المظاهرات كانت الهتافات التي تدعو لوقف التدخلات الإيرانية في الخارج والتي تستنزف موارد الدولة والالتفات للداخل الإيراني تحمل مغزى لا يمكن تجاهله.

أما التدخلات الخارجية التي ظل النظام يعوّل عليها لخلق الشعور بالعزة القومية واللعب على وتر استعادة المجد الإمبراطوري الفارسي فقد بدأت تفقد بريقها مع النفقات الكبيرة التي تتطلّبها ومحدودية مردودها الواقعي.

لا شك أن الكثيرين في إيران يفكرون بانعدام أيّ ضرورة عقلانية لتلك التدخلات، فإيران دولة كبيرة بموارد طبيعية وشعب حضاري قادر على الدفع بها لتكون دولة رفاه اجتماعي بدلا من أكوام السلاح والانشغال بالميليشيات هنا وهناك.

بل ماذا أضافت تلك التدخلات إلى قوة الدولة الإيرانية ووزنها الدولي في حين ما زالت إيران تحت العقوبات الغربية والتهديد بالتدخل العسكري؟

وخلاصة القول إن تغيرا في المزاج العام للدولة الإيرانية يرافقه شعور بالتعب والحاجة إلى مراجعة الإستراتيجيات القديمة ربما يكون قيد التفاعل بصمت وبالكثير من التكتم كما هو معتاد في طهران.

فهل بدأت إيران بالانسحاب من الحلم الإمبراطوري نحو حلم أكثر واقعية في أن تكون دولة إقليمية رئيسية في هذه المنطقة؟

العرب

—————————

هل من المبكر التفاؤل بنجاح التقارب بين السعودية وإيران؟/ فيصل ج. عباس

ولّد الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه بشكل مفاجئ الأسبوع الماضي بين #السعودية و#إيران، بوساطة صينية، الكثير من الأحاديث والتحليلات، إلّا أنه على المحللين أن يتذكّروا أن الاتفاق، الذي بموجبه استأنف الطرفان علاقاتهما الدبلوماسية وتعهّدا بعدم التدخل في شؤون بعضهما، لم يمضِ عليه سوى أيام قليلة. فلا يمكننا أن نتوقع، بين ليلة وضحاها، اختفاء أربعة عقود تمادت خلالها إيران بتبنّي سياسات عدائيّة واستثمرت في زعزعة الأمن الإقليمي.

وعلى الرّغم من ذلك، قرّرت القيادة السعودية منح فرصة للسلام من منطلق المسؤوليّة والمنطق، إذ ما هو على المحكّ في هذا الصراع بالنسبة لها يفوق ما هو على المحكّ بالنسبة للقيادة في طهران. وإذا ما أرادت إيران البقاء في عام 1979، فإنّ هذا الخيار يعود لها. أمّا في بلادنا، تضع قيادتنا رؤية 2030 نصب أعينها، كما أننا نسعى لتنويع اقتصادنا وإنشاء قطاعات جديدة والترحيب بالسيّاح واستضافة فعاليات رياضية وترفيهية عالمية. وبالتالي، لا نمانع أبدًا في الاستغناء عن التهديدات اليومية الآتية من هذا الجار المزعج.

ويبعث ما برز من أخبار خلال الأيام القليلة الماضية على الاطمئنان، حين قالت وزارة الخارجية الإيرانية إنّ الأجواء الإيجابية مع الرياض قد تؤدي إلى حلّ في اليمن، البلد الذي منه تستهدف ميليشيا الحوثي المدعومة من طهران مدن السعودية وسكّانها. ونعتبر أن هذه الأخبار إيجابية ونُرحب بها.

وكشفت مصادري أن المبادرة الصينيّة ولدت خلال زيارة الرئيس شي جين بينغ للمملكة في شهر كانون الأول الماضي. لذا، فإن بكين تستحق الثناء لا على إنجازها هذا الاتفاق فحسب، بل على إنجازها إياه في فترة قياسية امتدّت ثلاثة أشهر، وفي ذلك تأكيد على أن الصينيين يستحقون سمعة الكفاءة والفاعلية التي يتمتعون بها.

وقيل لي إن حديثاً جرى على مستوى القيادة، وتمّ خلاله تسليط الضوء على الطرق التي من خلالها يهدّد النشاط الخبيث لإيران الأمن القومي للصين ومصالحها الأخرى.

وتُصدّر السعودية أكثر من 1,7 مليون برميل نفط إلى الصين يومياً. وتُعدّ كميات النفط هذه ضروريةً للصين، إذ تمكّنها من متابعة أعمالها وتشغيل مصانعها. وبالتالي، عندما تستهدف إيران أو ميليشياتها البنية التحتية النفطية للسعودية، تكون الصين من المتأثّرين أيضاً. وعندما تهدّد نشاطات إيران أمن الملاحة البحرية، لا تستطيع الصين الحصول على النفط الذي تحتاجه، ممّا يقوّض قدرتها على إيصال منتجاتها إلى الأسواق الضخمة في الشرق الأوسط.

وتبرز في هذا السياق أيضًا فرصة ضائعة أخرى بالنسبة للصادرات الصينية ومبادرة الحزام والطريق. فتخيّلوا لو أن بلدان سوريا ولبنان والعراق واليمن كانت تستهلك المنتجات الصينية بكثرة، ثم عوضاً عن ذلك نجد أنها بفضل التدخّل الإيراني باتت دولاً فاشلةً ومضطّربةً.

وكما سبق لي أن ذكرت، تحتلّ الصين أيضاً موقعاً محايداً في المنطقة، حيث لا تاريخ استعمارياً أو عدوانياً لها. فقد حافظت بكين على حيادها حيال معظم صراعات الشرق الأوسط، وتركّزت سياساتها على التجارة.

وإذا ما كان هناك من جهة قادرة على الضغط على إيران، فهي الصين، حيث تعهّدت بكين باستثمار 400 مليار دولار في إيران على مدى 25 عاماً، سيذهب 280 مليار دولار منها نحو تطوير قطاع النفط والغاز. وتُعتبر الصين الشريك التجاري الأكبر لإيران، وتصدّر التكنولوجيا النووية والعسكرية إليها. وبالتالي،تضع الصين صورتها كقوة عُظمى على المحكّ عبر تأديتها دور الضامن لهذا الاتفاق. ولكن لديها أيضاً الكثير لتكسبه إذا ما احترم الإيرانيون التزاماتهم.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا سيفعل الإيرانيون ذلك؟ باختصار، الوقت وحده كفيل بالإجابة عن هذا السؤال. أمّا الجواب الذي يطول شرحه فهو أنّ الجانب المتفائل في داخلي يودّ أن يرى هذا الاتفاق يتحقّق على أرض الواقع، ممّا من شأنه أن يضع حداً للأنشطة الخبيثة التي تضطلع بها جهات مدعومة من طهران في بلدان مثل العراق ولبنان وسوريا. أمّا الجانب الواقعي في داخلي، فينذرني بأن سجلّ إيران، من حيث التزامها بالاتفاقيات، لا يبعث على الاطمئنان. فلا عجب أن المسؤولين في الرياض تريّثوا أكثر بكثير من المسؤولين في طهران ليقتنعوا بالصفقة، وهذا بحسب الأصداء التي سمعناها خلال الأيام القليلة الماضية.

لكن ما يعصى عليّ فهمه هو الموقف السلبي لبعض النقاد الأميركيين إزاء هذا الاتفاق وتشكيكهم به. يحتاج هؤلاء الخبراء المزعومون في واشنطن إلى من يُذكّرهم بأنّه إذا ما ترسّخ هذا الاتفاق وتمّ المضي قدمًا به، فإنه، في الواقع، سيخدم المصالح الأميركية. فلنأخذ أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر والخليج مثلاً وكم سيُسهم ذلك في خفض تكلفة العمليات الأمنية والعسكرية الأميركية مع زيادة عدد الأسواق التي للمصنّعين الأميركيين وصول إليها، فسيُسهم في توفير وظائف إضافية للأميركيين.

يبدو أن هؤلاء المشككين قد نسوا أن باراك أوباما – وهو رئيس ديمقراطيّ تماماً مثل جو بايدن – هو من صرّح خلال مقابلته الشهيرة مع مجلة “ذي أتلانتيك” في عام 2016 قائلاً إن السعودية وإيران يجب أن تتعلّما “التعايش معاً”. لذا، يبدو أن السعودية لا يمكنها أن تنجو من انتقادات أشخاص كهؤلاء، سواء قرّرت الاستماع إلى نصيحة الولايات المتحدة أم لا.

ولكن هذا لا يهمّ حقاً، إذ يتوجّب على الولايات المتحدة وباقي المجتمع الدولي أن يدعموا هذا الاتفاق بكافة الطرق الممكنة بهدف إنجاحه. فاتفاق كهذا يُمكنه أن يُحدث تغييراً جذريّاً، وأن ينعكس إيجاباً لا على هذه المنطقة فحسب، بل على العالم بأسره. وإذا ما نجحت هذه الجهود، فيجب أن يُنسب الفضل إلى القيادة في الرياض، لكونها أظهرت مهارةً عاليةً في طريقة لعبها أوراقها، ونجحت في تطبيق نصيحة الاستراتيجيّ الصيني العظيم “سون تزو” التي ذكرها في كتابه المُعنون “فن الحرب”، حيث قال إنّ “إخضاع العدو من دون قتال يشكّل ذروة المهارة”.

*الكاتب هو رئيس تحرير “عرب نيوز”

النهار العربي

————————–

الصين تدخل الشرق الأوسط من بابه الكبير/ خليل العناني

فجأة وبدون مقدمات، وقعّت السعودية وإيران يوم الجمعة الماضي اتفاقا لاستئناف العلاقات المقطوعة بينهما منذ حوالي سبع سنوات. لم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة في إعلان هذا الاتفاق، ولكن المفاجأة الأبرز، ولعلها الأهم التي تحدث في المنطقة منذ نصف قرن على الأقل، أن الاتفاق تم توقيعه في العاصمة الصينية بكين، ومن خلال وساطة ورعاية صينية كاملة. ولذلك لا تزال أصداء هذه المفاجأة تتردد في العواصم العالمية الكبرى، خاصة في العاصمة الأميركية واشنطن.

من منظور جيوستراتيجي، فإن الاتفاق بين الرياض وطهران هو بمثابة زلزال سياسي ضرب منطقة الشرق الأوسط وقلب موازين وحسابات اللعبة الإقليمية رأسا على عقب. فالتوترات بين البلدين لعبت دورا مهما في تشكيل خارطة الصراعات الإقليمية على مدى العقد الماضي.

حيث سعى كل طرف إلى تحقيق مصالحه على حساب الطرف الآخر، ولو كان من خلال الحرب واستخدام القوة، وذلك على غرار ما شهدناه في حرب اليمن خلال السنوات الثماني الماضية، وذلك قبل أن تهدأ الأمور قليلا بعد توقيع اتفاق الهدنة بين الحوثيين والسعودية العام الماضي. كما أن الصراع بين كلا البلدين، ومحاولات البحث عن النفوذ تمتد من العراق شمالا إلى اليمن جنوبا، مرورا بدول أخرى في المنطقة مثل لبنان والبحرين.

ولذلك، فإن توقيع الاتفاق هو بمثابة حدث كبير لا يختلف كثيرا عن الأحداث الكبرى التي وقعت في المنطقة خلال العقد الماضي، مثل الربيع العربي والحرب في اليمن والتطبيع مع إسرائيل وحصار قطر. وهي أحداث كان لها ما بعدها في رسم السياسات الإقليمية والدولية للأطراف المنخرطة فيها.

وبغض النظر عن دوافع كلا الطرفين السعودي والإيراني بشأن توقيع الاتفاق، وما إذا كان الاتفاق اتفاقا تكتيكيا أم إستراتيجيا، إلا أنه يمثل اختراقاً كبيراً وتحولاً مهما في البيئة الإقليمية والدولية سيكون له ما بعده.

فمن جهة أولى، من شأن هذا الاتفاق تهدئة التوتر والصراع بين أكبر دولتين وذلك في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية، وهي منطقة الخليج العربي ذات الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية الكبرى.

ومن جهة ثانية، سوف يدفع هذا الاتفاق بإعادة ترتيب خارطة الصراعات والتحالفات في المنطقة، وسوف يعيد كل طرف حساباته بما قد يؤدي إلى إعادة رسم خطوط الصراعات والتحالفات بما يتماشى مع ما جاء بالاتفاق.

ومن جهة ثالثة، فمن شأن الاتفاق إرباك الحسابات الإسرائيلية فيما يخص صراعها الوجودي مع إيران. فعلى مدى الأعوام الأخيرة سعت تل أبيب بكل قوة من أجل تشكيل تحالف إستراتيجي مع بعض الدول العربية، خاصة في منطقة الخليج من أجل مواجهة ما تصفه بـ”الخطر الإيراني”.

لذلك، فلا عجب أن نسمع انتقادات داخلية لاذعة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تحملّه المسؤولية عن هذا الاتفاق بسبب انشغاله بالمعركة القضائية والسياسية داخليا. فقد قال زعيم المعارضة يائير لبيد عبر تويتر إن “الاتفاق السعودي الإيراني هو فشل تام وخطر لسياسة الحكومة الإسرائيلية الخارجية”.

ومن جهة أخيرة، فإن الاتفاق يمثل كسرا لمحاولات العزلة الإقليمية والدولية التي تحاول تل أبيب وواشنطن فرضها على إيران، وهو ما قد يدفع واشنطن إلى العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني.

أما الملمح الأكثر أهمية وبروزا في اتفاق طهران والرياض فهو ما يتعلق بالصين. فالاتفاق بين البلدين قد تم بوساطة ورعاية صينية كاملة، وقد وُضعت بذور هذا الاتفاق قبل شهور، حين طرح الرئيس الصيني تشي جين بينغ أثناء حضوره القمة العربية الصينية بالرياض في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فكرة عقد قمة رفيعة المستوى تجمع قادة دول الخليج العربي مع إيران، وذلك أواخر العام الجاري.

وفكرة “القمة” لاقت قبولاً واستحساناً من الطرفين السعودي والإيراني. ولا يمكن عقد هذه القمة دون تصفية الأجواء بين طهران والرياض، لذلك فقد تواصلت بكين مع كلا الطرفين السعودي والإيراني اللذين أبديا استعدادا للتفاوض، وهو ما شجّع بكين على استضافت عدة جولات من الحوار الثنائي بين المسؤولين من كلا البلدين، وذلك بما مهّد الطريق لتوقيع اتفاق الجمعة الماضي.

استغلت الصين علاقاتها الاقتصادية الوثيقة مع كل من طهران والرياض، وكلاهما مورد مهم للنفط لثاني أكبر اقتصاد في العالم، من أجل رعاية المفاوضات بينهما. وهي المرة الأولى التي تتدخل فيها بكين بشكل مباشر على خط الصراعات السياسية في الشرق الأوسط.

ولذلك فإن ما قامت به الصين من رعاية وهندسة للاتفاق بين طهران والرياض، وذلك بغض النظر عن مدى صموده واستمراريته، يمثل اختراقاً وتحولاً نوعياً، ليس في بنية النظام الإقليمي فقط ولكن النظام الدولي أيضا. وهو اختراق سُمعت أصواته في العاصمة الأميركية واشنطن التي لا تزال في حالة دهشة وقلق مما جرى يوم الجمعة الماضي. فأميركا تمتعت، ولا تزال، بنفوذ كبير في منطقة الشرق الأوسط، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتكاد تكون هي اللاعب الدولي الوحيد الذي لديه القدرة المباشرة على التأثير في سلوك وإستراتيجيات اللاعبين المحليين والإقليميين.

لكن دخول الصين على خط الصراعات في المنطقة، ومن باب أكبر دولتين في منطقة الخليج العربي (السعودية وإيران)، يعني تدشين نظام إقليمي وعالمي جديد ليس لواشنطن اليد العليا -كما كانت عليه الحال طوال أكثر من نصف قرن- في رسم ملامحه وتحديد دينامياته ووزن أطرافه، وهو ما يمثل أيضا تهديداً مباشراً لنفوذ الولايات المتحدة ليس فقط في المنطقة وإنما حول العالم.

وليس من قبيل المبالغة القول إن الدور الذي لعبته الصين في توقيع الاتفاق الأخير بين الرياض وطهران قد يكون شبيهاً لذلك الدور الذي لعبته أميركا في حرب السويس عام 1956، والذي نجحت من خلاله في وقف العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، ولكن الأهم أنه كان بمثابة إسدال الستار على إرث الإمبراطورية البريطانية الذي امتد لأكثر من قرنين، ومن يدري فلربما يعيد التاريخ نفسه من جديد.

كاتب وباحث مصري

————————–

فايننشال تايمز: تقارب السعودية مع إيران تعبير عن براغماتية في السياسة الخارجية

إبراهيم درويش

ت صحيفة ” فايننشال تايمز” مقال رأي للكاتبة كيم غطاس، قالت فيه إن التقارب السعودي مع إيران هو مجرد تمرين في كسب الوقت، وإن واشنطن محقة في براغماتيتها بشأن الدور الصيني في الصفقة.

وقالت الكاتبة وهي مؤلفة كتاب “المد الأسود” إن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، حث في مقابلة مع مجلة “ذي أتلانتك” السعوديين والإيرانيين على حل خلافاتهم، والبحث عن “طريقة فعالة للتشارك في نفس الحي وبناء نوع من السلام البارد”، وجاء حديث أوباما بعد توقيعه اتفاقية تاريخية مع طهران تتعلق ببرنامجها النووي.

وشعرت الرياض في حينه بالغضب من ذلك التعليق، فقد كانت عدوتها اللدودة إيران صاعدة، وسقطت العاصمة اليمنية صنعاء بيد الحوثيين عام 2014. وبعد عام، أصبحت السعودية في حالة حرب، وكان جنودها يموتون على الحدود مع اليمن.

وكانت واشنطن قد طرحت في السابق فكرة احتواء طهران من خلال زيادة دول الخليج تحدّيها غير المتكافئ لتأثير طهران في المنطقة. ومن هنا، كان لافتا إعلان الصين عن عودة العلاقات الطبيعية بين السعودية وإيران.

ويُفهم من تغريدة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أن البلدين “سيشتركان في نفس المصير ونفس الصفات”، بشكل يجعل من التعاون بينهما في مجال الاستقرار والازدهار ضروريا.

وتضيف غطاس أن المملكة وبعد سنوات قليلة من التفاخر والمغامرة من الحرب المدمرة في اليمن، إلى الحصار العبثي على قطر، عادت على ما يبدو للبراغماتية المحسوبة التي طبعت السياسة الخارجية السعودية في أوقات سابقة. وتقوم في الوقت نفسه بـ”توازن متطرف” حسب إيميل هوكاييم من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية.

ففي الشهر الماضي، كان الأمير فيصل أول مسؤول عربي يزور أوكرانيا منذ بداية الحرب عليها، ولقيت الزيارة ترحيبا من واشنطن، ثم زار روسيا. وفي كانون الأول/ ديسمبر، استضافت الرياض أول لقاء بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي. وأعلنت شركة بوينغ الأمريكية، هذا الأسبوع، عن صفقة طائرات مع السعودية بقيمة 37 مليار دولار.

 وجاء استئناف العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض في الوقت الذي وضعت فيه المملكة شروطها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بما في ذلك ضمانات أمنية ومساعدة أمريكية في برنامج نووي للأغراض المدنية.

وتقول غطاس إن الصفقة في بكين حدثت بعد عامين من المحادثات التي رعاها العراق وعُمان، وبعد مستويات لا تُحتمل من التوتر والتهديدات الإيرانية التي كادت تودي بالنمو الاقتصادي السعودي.

وقال مسؤول سعودي للكاتبة في العام الماضي، إنهم باتوا واضحين حول أهمية بقاء أي اتفاق، ولم يكن لديهم أي خيار سوى التواصل مع طهران.

 وعليه، فالسعودية تشتري الوقت وتفتح نافذة للتنفس. وبغض النظر عن ردود الفعل المبالغ فيها، لأننا شاهدنا أمورا كهذه من قبل، فبعد أعمال الشغب الإيرانية في مكة أثناء موسم الحج في عام 1987، قطعت السعودية علاقاتها مع إيران. وعندما اجتاح صدام حسين الكويت في آب/أغسطس 1990، أعادت المملكة علاقاتهما مع إيران نظرا للاشتراك ضد عدو الواحد، مما فتح الباب أمام عقد من الانفراج في العلاقات. وكان السعوديون راغبين في الحفاظ على التقارب لدرجة أنهم تباطأوا في التعاون مع محققي “أف بي آي” بتفجير مبنى في الخبر عام 1996 والذي تورطت فيه إيران.

وهذه المرة، تريد طهران فك العزلة والحصول على الشرعية، وغير ذلك سيكون صعبا. فلن يجلب الاتفاق مع السعودية قبولا واسعا لها، في وقت تستمر أجهزة الطرد المركزي بالعمل.

وكان ولي العهد السعودي واضحا بأنه لن يأخذ الوعود الإيرانية على محمل الجد. ففي فترة التقارب، قامت إيران ببناء مشروعها النووي، ووسّع الحرس الثوري تأثيره في المنطقة. وفي الوقت الذي يُنظر فيه للوساطة الصينية بأنها وخزة في عين واشنطن، إلّا أن الصين هي الدولة الوحيدة التي تمتلك التأثير الكافي على الطرفين.

وفي البداية، قلقت واشنطن من دور الصين، لكنها تبنّت موقفا براغماتيا. وأخبر مسؤول أمريكي الكاتبة: “نتعامل معه، إنه أمر إيجابي”. ولو أدارت الولايات المتحدة العلاقات مع المملكة بشكل جيد، لأخبرتهم بالمحادثات في وقت سريع، ولم تكن لتنتظر حتى الساعات الأخيرة.

وهو درس يدعو واشنطن لإدارة العلاقات بشكل جيد كي لا تخسر مجال تأثير جديد في الشرق الأوسط، وفق رأي الكاتبة.

————————–

إيران والخوف من عمل عسكري/ خير الله خير الله

تُعتبر العلاقة الأميركية – الإيرانية منذ أيام الشاه، علاقة مرتبطة بمصالح استراتيجية غير مُعلنة تضيق وتتوسع حسب الحاجة لكل طرفّ من الطرفين.

كانت واشنطن، ولعقود طويلة، تستخدم إيران لترهيب الدول العربية وابتزازها، بغية دفعها لشراء الاسلحة وإنشاء القواعد العسكرية وتأمين نوع من الحماية الأميركية لمنابع النفط والتحكم بالسعر العالمي للذهب الأسود بحجم الإنتاج.

اما العلاقة بين السعودية وإيران، فهي علاقة تنافسية تاريخية. وأخذ هذا التنافس بُعداً جديداً مع انتصار «الثورة الإسلاميّة» في ايران في العام 1979 ورفعها شعار «تصدير الثورة» مع تركيز خاص على إثارة الغرائز المذهبيّة.

هل تساهم النقاط التي يفترض أن تكون أساساً لإعادة العلاقات الديبلوماسية بين الرياض وطهران في إيجاد صيغة تعايش بين البلدين؟

كان لافتاً توقيع البيان الثلاثي السعودي – الصيني – الإيراني في بكين في وقت بدأ النظام في ايران يشعر بمخاطر حقيقية تتهدده.

هذه المخاطر داخلية ناجمة عن ثورة شعبية على نار هادئة. بدأت الثورة في 16 سبتمبر الماضي إثر مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق في طهران.

في أساس الثورة الشعبية، التي تقودها المرأة، الفشل الاقتصادي الذي يُعاني منه النظام. وهو فشل ذو طابع حضاري أيضاً.

توجد ايضاً المخاطر الخارجية على النظام، خصوصاً في ضوء اقتراب «الجمهوريّة الإسلامية» من امتلاك سلاح نووي من جهة وتحولها طرفاً مباشراً في الحرب التي تستهدف أوكرانيا، أي أوروبا، من جهة أخرى.

في مرحلة معيّنة، استضافت المملكة أول قمة عربية – صينية وكان ذلك تحولاً لافتاً في السياسة السعودية بشكل عام أدى الى قرع أجراس الإنذار في واشنطن.

انعقدت القمّة في خضم تعالي وتيرة التصريحات الأميركية المحذرة من التمدد الصيني والتخوّف من اجتياح تايوان.

ثمة مؤشر آخر أزعج واشنطن تمثّل في إعلان السعودية انها تدرس تنويع سلة عملات بيع النفط لتشمل اليوان الصيني.

استغلت إيران في الماضي الهامش المسموح به اميركياً، عندما تمددت، عبر ميليشياتها في اتجاه اليمن والعراق وسورية ولبنان وغزة.

ظهرت أخيراً لدى طهران شهية مفتوحة لابتلاع ما تستطيع ابتلاعه إقليمياً.

هدّدت الأردن انطلاقاً من الجنوب السوري وبلغت بها الوقاحة تهديد المغرب عبر طائرات مسيّرة أرسلتها إلى الجزائر وأداتها المسماة «بوليساريو».

تجاوزت إيران دورها المرسوم عندما جاهرت بقدراتها النووية وبدأت تتحدى الغرب عبر تصنيع القنبلة النووية «الشيعية».

سمح الغرب، على رأسه الولايات المتحدة، لطهران بالتهديد، لكنّه لم يسمح لها بالتنفيذ.

بلغت واشنطن ساعة الحقيقة. باتت تجد نفسها في مواجهة موقف خطير بعدما بدأت تفقد حلفاءها التقليديين في الخليج لمصلحة عدوها الاستراتيجي الصيني.

سيترتب عليها اتخاذ قرارات صعبة قد تكون مصحوبة بخطوات سياسية وعسكرية.

في الواقع، تدفع أميركا حالياً ثمن استخفافها بالتهديدات الإيرانيّة التي تتعرّض لها دول الخليج.

قد يكون اللجوء إلى عمل عسكري ما، الطريق الذي يضمن لأميركا استعادة هيبتها في الخليج من جهة، والعودة إلى استخدام ايران «بعبعاً» لدول المنطقة من جهة أخرى.

هل يكون ذلك عبر اطلاق يد إسرائيل، فتوجه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية الايرانية وتدميرها؟

لا تستطيع إسرائيل القيام بمثل هذه الضربة من دون أن تكون اميركا في الخلف كي تؤمن لها المعلومات الاستخباراتية والدعم اللوجستي وما هو اكثر من ذلك بكثير.

كان يمكن أن يبدو هذا السيناريو من نسج الخيال، لولا أن واشنطن ماضية فعلاً في الخيار العسكري، وفي التلويح الجدي به، بالاتفاق مع إسرائيل.

ما لا بدّ من ملاحظته في هذا المجال تصريح سفير إسرائيل في واشنطن مايكل هيرتسوغ بأن «إسرائيل وأميركا لم تكونا في يوم من الأيّام في حال توافق في شأن ايران، مثلما هي الحال اليوم».

إضافة إلى ذلك، هناك حالياً مناورات أميركية – إسرائيلية تجري في صحراء نيفادا، وفي ظروف شبيهة بطبيعة إيران والخليج.

وقبل شهرين، كانت هناك مناورات بين الجانبين في إسرائيل نفسها في ظلّ زيارات متبادلة وعلى أعلى المستويات للمسؤولين العسكريين الأميركيين والإسرائيليين.

اكثر من ذلك، زار الأراضي السورية حديثاً للمرّة الأولى، الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأميركية، لتفقد القواعد العسكرية الأميركية. حصل ذلك في قت سقط في الكونغرس مشروع قرار يقترح سحب القوات الأميركية من سورية.

لا شكّ أن إيران تعي خطورة الوضع، وتعي خصوصاً أن الوضع الداخلي المتأزم في إسرائيل يُمكن أن يدفع حكومة بنيامين نتنياهو إلى مغامرة.

لذلك سمحت للجان التفتيش التابعة لوكالة الطاقة النووية بزيارة منشآتها وزيادة الرقابة عليها.

إلى ذلك، سربت طهران أنباء عن إرسالها، عبر وسيط أوروبي قد يكون سويسرياً، رسائل الى الدولة العبريّة تتحدث عن امتلاكها لإحداثيات المنشآت الأساسية الحيوية والاستراتيجية ولبنك أهداف في داخل إسرائيل.

هدّدت إيران بقصف هذه الأهداف في حال تعرّض المنشآت النووية فيها لأيّ هجوم.

راهنت إيران طويلاً على الموقف الأوروبي المعتدل تجاه برنامجها النووي. لكن هناك حالياً تشنجاً أوروبياً بسبب تزويد «الحرس الثوري» الجيش الروسي طائرات مسيرة (درونز) في أوكرانيا.

في ظلّ هذه الأجواء يحضر سؤال مهمّ: لماذا الحاجة إلى شهرين لاستئناف العلاقات الديبلوماسية بين الرياض وطهران؟

الأكيد أنّ المملكة تريد اختبار النيات الإيرانية من جهة، وربّما تريد من جهة أخرى اختبار الولايات المتحدة وإدارة بايدن بالذات في كلّ ما له علاقة من قريب أو بعيد بالتعاطي مع إيران ومشروعها التوسعي.

الواضح أن المطلوب أكثر من أيّ وقت معرفة هل تستطيع الصين توفير الضمانات المطلوبة التي تجعل من إيران دولة طبيعية لا أكثر.

* نقلا عن “الراي”

———————

خلفيات الوساطة الصينية في الشرق الاوسط/ رمزي عز الدين رمزي

على مدار العام الماضي، بدأت الصين تدريجيا تنفيذ مرحلة جديدة من سياستها الخارجية انتقلت بموجبها من دور المراقب إلى لاعب مؤثر.

في البداية، أعلن الرئيس شي جينبينغ العام الماضي في منتدى بواو الآسيوي المبادرة الاستراتيجية العالمية، ووصفها بأنها “رؤية صينية للأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام”. ومن ثم اغتنم بينغ مؤتمر الحزب الشيوعي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لإعلان سياسة خارجية أكثر حزما.

جاء مؤتمر ميونيخ للأمن بعدئذ في فبراير/شباط الماضي ليكون أصدق تعبير عن هذه السياسة الجديدة عندما اتخذ عضو مجلس الدولة وانغ يي موقفا فيه تحدٍّ واضح للغرب عموما، والولايات المتحدة بشكل خاص.

أشار إلى أن صبر الصين بدأ ينفد من أزمة أوكرانيا، وأنها تمثل أكثر المشاكل تأثيرا على علاقة الغرب ببقية دول العالم. وأعلن عزم بكين على طرح أفكار حول التسوية، وفي الوقت نفسه لم يدحض ادعاءات الولايات المتحدة بأن بلاده ستوفر “أسلحة فتاكة” لروسيا. باختصار، أظهرت بكين أمام الغرب بما لا يدع مجالا للشك، أنها لن تقبل هزيمة روسيا، وفي الوقت نفسه أبلغت موسكو بأنها لن تقبل صراعا مفتوحا في أوكرانيا.

بعد أيام قليلة أصدرت الصين ورقة مفاهيمية حول “مبادرة الأمن العالمي” وأخرى تتحدث عن موقفها “حول الأزمة الأوكرانية”. وفي حين لم تأت الأخيرة بجديد، وكانت غالبا أشبه بتكرار لمواقف بكين منذ بداية الأزمة، وربما – كما قال البعض – لا يعدو الأمر كونه مرتبطا بتايوان وليس أوكرانيا، إلا أنها أشارت للعالم إلى جاهزية الصين للتوسط في الأزمة. يكمن بيت القصيد في موعد اتخاذ الصين لهذا القرار. جل ما في الأمر هو أن كيفية الإعلان وتوقيته مرتبطان بالموعد الذي ترى فيه بكين أن التدخل لحلّ الأزمة سيصبّ في مصلحتها.

في حال قررت الصين استغلال أزمة أوكرانيا للإيذان بمرحلة جديدة أكثر حزما في سياستها الخارجية، فإنها في الوقت نفسه قد اختارت الشرق الأوسط لإضفاء مضمون على سياستها الجديدة.

قبل الخوض في التغير الذي طرأ على السياسة الصينية في الشرق الأوسط، يجدر بنا أن نعرج برهة على الأزمة الأوكرانية. نظرا إلى التأثيرات الكبيرة للأزمة على البلدان النامية، ربما تفضل الصين قيادة مجموعة من البلدان النامية يتقدمها أعضاء مجموعة دول مجموعة “البريكس” لطرح مبادرة للتسوية. لكن هذا الأمر سيتطلب تحضيرات هائلة، ووقتا طويلا قد تبرز الحاجة إليه في ظل الترجيحات بعدم استجابة أوكرانيا (بدعم من الولايات المتحدة) أو روسيا للتسوية في هذه المرحلة من الصراع. وربما يتعين أن تدور رحى جولة أخرى من الأعمال العدائية الكبرى قبل اقتناع الطرفين بأن استمرار الحرب لن يعود على مصالحهما بأي نفع.

عندما أشير هنا إلى التسوية، فأنا لا أقصد بالضرورة التسوية السياسية التي تُفضي إلى إنهاء الحرب رسميا. وقد تعكس النتيجة الأكثر احتمالًا الوضع الكوريّ: إنهاء الأعمال العدائية وإبقاء الوضع الميداني على حاله دون اتفاق سلام رسمي، وتأجيل قضية الأرض إلى المستقبل.

بالنسبة إلى الوضع في الشرق الأوسط، نأت بكين في الغالب بنفسها عن معترك سياسات المنطقة لينصب اهتمامها على بناء علاقات اقتصادية مع جميع اللاعبين بمن فيهم الدول العربية وتركيا وإيران وإسرائيل. بدا كأن بكين تنظر بعين الرضا تجاه ترك إدارة أمن المنطقة إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا. لكن استمرار الوضع الراهن من عدم الاستقرار في المنطقة سيعود بأثر سلبي على مشروعها الاستراتيجي المتمثل في “مبادرة الحزام والطريق”.

كان الباب مفتوحا على مصراعيه لتنتقي الصين وتختار ما شاءت من نزاعات المنطقة للتوسط فيها، فما كان منها إلا أن اختارت بعناية ووفق نظرة إستراتيجية ثاقبة. وقع اختيار الصين على العلاقة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ذلك أنها العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تقلب المشهد السياسي في المنطقة رأسا على عقب. وعلى الرغم من أن الأمر محفوف بالأخطار، إلا أن الصين ستلتزم كعادتها جانب الحذر، فليس لديها الكثير لتخسره، بينما قد يعود عليها الأمر بمكاسب كبيرة.

في حين تواصلت المحادثات السعودية الإيرانية منذ فترة، إلا أنها لم تُظهر أي بارقة أمل في شأن إحراز تقدم ملحوظ. وخلافا لذلك، ظلت الرياض وطهران على طرفي نقيض حول لبنان وسوريا، والأهم من ذلك: اليمن.

جاءت الصين لتثبت قدرتها على دفع الطرفين إلى تخطي ما تبقى من عقبات، وإعلان استئناف العلاقات في بكين في العاشر من مارس/آذار الماضي بعد قرابة سبع سنوات من القطيعة.

من السابق لأوانه تقييم أثر هذا التطور المهم بالكامل، إلا أنه لن يكون من قبيل المبالغة أن نقول بأنه سيترك أثرا هائلا على عملية إعادة تنظيم العلاقات التي يشهدها الشرق الأوسط. ليس ذلك فحسب، بل سيتخطاها إلى العلاقات بين المنطقة والعالم الخارجي وربما الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.

على صعيد إعادة رسم معالم المشهد الإقليمي، يرجّح أن تتسارع خطى العمليات الحالية. في المقابل، من شبه المؤكد أن تتباطأ وتيرة “الاتفاقات الإبراهيمية” وملحقاتها المتمثلة في “منتدى النقب”، بعدما كانت آخذة في التوسّع والتجذر. يرجع ذلك إلى أن الهدف الأسمى لكل من إسرائيل والولايات المتحدة المتمثل في وضع ترتيب أمني إقليمي موجه ضد إيران ما عاد قابلا للتحقيق.

أما الآن، ومع جنوح الرياض لاستئناف العلاقات مع طهران بدلا من مواجهتها، فقد أصبح هذا الاحتمال بعيد المنال. بالإضافة إلى ذلك، فإن سعي الولايات المتحدة إلى تحقيق التطبيع بين تل أبيب والرياض صار محطا للشكوك.

باختيارها الوساطة بين الرياض وطهران، أكدت بكين عدم رضاها عن الوضع الراهن السائد، الذي يحوز، بحسب ما يبدو، رضا الولايات المتحدة وروسيا إلى حد ما. أما الاتحاد الأوروبي، فقد استكان واكتفى بلعب دور هامشي في وضع حد للصراعات العديدة في المنطقة.

السؤال الآن: هل ستُتبع بكين وساطتها بين الرياض وطهران بمبادرات أخرى حول اليمن وسوريا ولبنان؟ تلك هي الجوانب الثلاثة التي تتعارض فيها مصالح السعودية مع إيران.

لطالما أشارت الرياض إلى أن التدخل الإيراني في اليمن وسوريا ولبنان يمثل مصدر قلق كبير لها، لا سيما اليمن. لذلك ليس من المرجح أن تقبل الرياض استئناف العلاقات مع طهران دون تفاهم على الأقل على خريطة طريق لمعالجة مخاوفها الأمنية وبالتحديد في اليمن وسوريا. وفي حال انتخاب رئيس في لبنان، فسيمثل ذلك مؤشرا مبكرا إلى التفاهم بين الرياض وطهران.

أما بالنسبة إلى اليمن، فبينما أعلنت الولايات المتحدة صراحة عدم ارتياحها، إلا أنها قدمت المساعدة للرياض في الدفاع عن نفسها ضد الحوثيين. كما دعمت الولايات المتحدة جهود الأمم المتحدة للوساطة، لكن هذه السياسة لم تكن مرضية للرياض. لطالما تمثلت مشكلة الرياض في التدخل الإيراني، وبدا أن الولايات المتحدة غير قادرة على المساعدة. وعلى ما يبدو، تحركت الصين لملء الفراغ، وستثبت الأسابيع المقبلة ما إذا كانت بكين قد تمكنت من انتزاع التنازلات التي كانت الرياض تسعى منذ سنوات للحصول عليها من إيران والحوثيين.

الوضع أكثر تعقيدا على الساحة السورية، فالولايات المتحدة لا تكترث بالتوصل إلى تسوية في هذا الشأن. في الوقت نفسه، توقفت جهود الأمم المتحدة للوساطة نتيجة لتوقف عمل اللجنة الدستورية زهاء عام تقريبا، ولا تلوح في الأفق احتمالات لعقدها من جديد. كما لن يحوز اقتراح النهج التدريجي الذي دعا إليه المبعوث الخاص بيدرسن الزخم بدون مشاركة عربية، وفي الأخص من الرياض.

في غضون ذلك، فإن أهم التطورات التي قد تؤثر على فرص التسوية في سوريا هي التقارب بين دمشق وأنقرة والتطبيع بين الدول العربية وسوريا.

النفوذ الإيراني

تنشط موسكو على محور أنقرة – دمشق، فليس على بكين إذا سوى لعب دور داعم في هذه العملية. في الوقت الحالي انضمت طهران إلى الدول النشطة في المشهد السوري بعدما أقنعت روسيا بإدراجها في الاجتماع المقبل في موسكو الذي سيعقد على مستوى نواب الوزراء. ولكن من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت ستتمخض عن الاجتماع أي نتائج بالنظر إلى تردد دمشق في منح الرئيس أردوغان فوزا معنويا قبل الانتخابات في مايو/أيار دون انتزاع مكاسب ملموسة كبيرة على الأرض في المناطق التي تمارس فيها تركيا سيطرة فعلية في شمال سوريا.

تتوقف احتمالات تطبيع السعودية مع سوريا إلى حد كبير على علاقات الأخيرة مع إيران، حيث كان تقليص النفوذ الإيراني في سوريا مطلبا قديما على المستوى العربي عامة والسعودي خاصة. فهل ستتمكن بكين من النجاح فيما جَانَبَ العرب فيه التوفيق، وهل ستقدر على المساعدة في التفاوض على خريطة طريق بين دمشق والرياض يتقلص بموجبها النفوذ الإيراني مع مرور الوقت؟ هل ستكون بكين في وضع يتيح لها طمأنة إيران إلى قدرتها على الاحتفاظ بمصالح اقتصادية مهمة دون نفوذ سياسي متكافئ، وتقليل مخاوفها من فقدان نفوذها بالكامل في سوريا؟

تُعرف عن طهران براعتها في التكتيكات، فهل لا تعدو التنازلات التي قدمتها إلى الرياض كونها خطوة تكتيكية لكسب الوقت والتمكّن من إعادة تجميع صفوفها من الاضطرابات الداخلية والشكوك المحيطة بمصير خطة العمل المشتركة الشاملة؟

من غير المحتمل أن تكون الصين قد انضمت إلى غمار المعركة السياسية الشديدة التعقيد في الشرق الأوسط إذا لم يكن هناك قدر معقول من أسس النجاح في التأثير على عملية إعادة رسم ملامح المنطقة. وإلا ثبُت الانطباع القائل بأن سياسة الصين مجرد شعارات لا ترقى إلى المستوى العملي.

جاء إعلان التطبيع بين الرياض وطهران بعد أيام معدودة من تسريب أنباء حول ما وصف بأنه شروط سعودية للتطبيع مع إسرائيل، وهو أمر مثير للاهتمام، على أقل تقدير.

في الوقت ذاته، تُشير الظروف المحيطة بالتسريب وتوقيته إلى احتمال أن يكون خدعة من السعوديين لصرف انتباه الولايات المتحدة وإسرائيل عن أولوية أكثر أهمية يعارضها الطرفان، ألا وهي التطبيع مع طهران.

في مقدور واشنطن التعايش مع الوضع السائد في سوريا. أما موسكو، وعلى الرغم من تحول انتباهها تجاه أوكرانيا، فإنها سعت بدأب إلى ترجمة مكاسبها العسكرية في سوريا إلى تسوية سياسية. فتلك هي الطريقة الوحيدة لإعلان نجاح تدخلها العسكري.

بالنسبة إلى اليمن، وفي حين لا تنظر واشنطن وموسكو بعين الارتياح تجاه الوضع، إلا أنهما مستعدتان على ما يبدو للتعايش معه طالما لا يشكل ذلك مصدر تهديد جدّي لأمن السعودية واستقرارها.

من ناحية أخرى، تملك الصين مصلحة مباشرة في استقرار الشرق الأوسط، نظرا إلى مشروعها الاستراتيجي/ “الحزام والطريق”. وتُمثل المنطقة عقدة وصل حيوية لما تتمتع به من ممرات برية وبحرية تربط آسيا بكل من أفريقيا وأوروبا.

من المحتمل جدا أن تشير الصين بوساطتها بين المملكة العربية السعودية وإيران إلى استعدادها لدعم مشروعها بدور سياسي نشط في تسوية النزاعات في المنطقة.

وإذا ما كتب لبكين مواصلة هذا المسار والنجاح في المساعدة على تسوية بعض النزاعات في المنطقة، ولا سيما اليمن وسوريا، فقد يتغير المشهد السياسي في المنطقة برمته. وفي خضم هذه العملية، ستعزز الصين مكانتها ونفوذها، ليس فقط في المنطقة ولكن في العالم بأسره.

—————————

صعوبة “الطلاق” مع أميركا/ ساتوشي إكيوتشي

كيف تنظر اليابان إلى المنافسة الأميركية- الصينية على السعودية والخليج؟ هل يمكن اعتبار الولايات المتحدة والصين في سباق على الخليج؟

سؤال أثارته زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ للسعودية في ديسمبر/كانون الأول الماضي مع جملة من التكهنات الأخرى.

الحال أن العلاقات الاقتصادية بين دول مجلس التعاون الخليجي والصين في تزايد، سنة إثر سنة، ولا ريب في أن المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي رحّبت بالرئيس شي جينبينغ بحرارة وتقدير. ولا ريب أيضا في أن دول مجلس التعاون الخليجي باتت تعلّق أهمية أكبر على العلاقات بينها وبين الصين، ولا سيما في المجال الاقتصادي.

أما هل ستتوسع هذه العلاقات المعزّزة لتشمل مجالات أخرى أبعد في مجالي السياسة والأمن، فأمر لا يزال من المبكّر تقديره.

ثمّة تقارير تقول إن العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة قد فترت بسبب الخلافات السياسية حول الوضع في أوكرانيا وإنتاج النفط، وبنيت هذه التقديرات على المعاملة الفضلى التي أبداها القادة الخليجيون للزعيم الصيني والتي تفوّقت على المعاملة التي أبدوها للرئيس الأميركي جو بايدن.

ولكن من الناحية العملية، كان ترحيب دول الخليج بالزعيم الصيني قائما على الاحترام الواجب وحسن الضيافة أسوة بقادة العالم الآخرين، بمن في ذلك قادة الدول الشقيقة المجاورة.

لا شكّ في أن شهية الولايات المتحدة لانخراطها في الشرق الأوسط قد تراجعت بشكل عام مقارنةً مع ذروة الحرب على الإرهاب، وخفّت ثقة دول الخليج في الضمان الأمني من الولايات المتحدة عن ذي قبل، بعدما رأت تردّد إدارة بايدن في مواجهة الاعتداءات المباشرة.

مع ذلك، فإن العلاقة مع الصين لم تحلّ، ولو جزئيا، محلّ العلاقة مع الولايات المتحدة. وسوف يعوَّض الضعف الجزئي في العلاقات مع واشنطن ويستكمل من خلال تعزيز العلاقات مع الحلفاء المقربين منها، مثل دول “حلف شمال الاطلسي” (ناتو) وإسرائيل أو بعض الدول الإقليمية المحايدة مثل الهند، وليس مع تلك الدول المتنافسة مع الولايات المتحدة، مثل روسيا أو الصين.

إن تعزيز العلاقات مع الدول التي لديها صلات عدائية أو تنافسية مع الولايات المتحدة لن يؤدّي إلا إلى تدهور الوضع الأمني الأساسي لدول الخليج بدل تحسينه.

إلى ذلك، فإن وجود الصين في دول الخليج لن يؤثر كثيرا على هيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد السياسي الدولي.

إن أهم ركيزتين للتنافسية الأميركية في القرن الحالي هما العملة والتكنولوجيا المتقدمة. وفي كلا المجالين، لم تحقّق الصين الكثير لمواجهة الهيمنة الأميركية.

صحيح أن الرئيس شي جينبينغ أعلن، خلال اجتماعه مع قادة دول الخليج، أنه سيعزز التعاون في شأن تنفيذ التسوية التي وضعها اليوان الصيني لتجارة النفط والغاز، لكن ذلك لم ينعكس كما رأينا في البيان المشترك بعد الاجتماع. وقد وردت تقارير عن إدخال “الرنمينبي” (عملة الشعب) لتسوية تجارة النفط والغاز وزاد الحديث عنه كثيرا منذ عام 2016 تقريبا، لكن ذلك لم يتحقق مطلقا. هناك فجوة كبيرة بين مواقف الجانبين. ولأن لدى دول مجلس التعاون الخليجي فائضا تجاريا كبيرا، مقارنة بالصين بسبب تصدير النفط الخام والمنتجات البترولية، فإن استخدام الرنمينبي سيكون محدودا.

كما تم التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي منذ عام 2004 التي لم توقَّع بعد.

وسيكون من شأن اتفاقية التجارة الحرة الشاملة مع إلغاء التعريفات أن يتسبب في تدفق المنتجات الصينية إلى السوق المحلية والإقليمية، الأمر الذي يمكن أن يعيق بشكل كبير تنويع الصناعة في دول مجلس التعاون الخليجي.

الواقع أن الصين لا تملك القدرة على تطوير تقنيات متقدّمة يمكن أن ترفع من قدرتها التنافسية الاقتصادية وأمنها في المستقبل، مثل أشباه الموصلات المتقدمة. ومن المتوقع أن تتسع هذه الفجوة أكثر في ضوء تنفيذ قرارات أكثر صرامة تعقّد نقل التكنولوجيا من الولايات المتحدة إلى الصين، في ظلّ زيادة الفصل بين الدولتين. لقد انتهت أيام “تقديم الهدايا” إلى الصين التي لم يعد يمكنها استخدام التكنولوجيا المتقدمة للولايات المتحدة والدول الحليفة لها والإفادة منها بحرية. تعطي الولايات المتحدة الآن الأولوية لـ”الأمن الاقتصادي” حيث توجد رقابة صارمة على نقل التكنولوجيا المتقدمة إلى الدول التي لا تشاركها معايير سيادة القانون والتجارة الحرة نفسها.

أعلنت الصين العديد من أشكال التعاون الشامل بما في ذلك المجالات السياسية والأمنية بالإضافة إلى المجال الاقتصادي، مثل اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة في طهران في مارس/آذار 2021. مع ذلك، لم يسفر هذا التعاون عن أي نتائج محددة حتى الآن على الرغم من الإعلان أن تنفيذ ذلك سيبدأ في يناير/كانون الثاني 2022.

إن أي كلمات وتعابير مثل تعاون “شامل” أو “استراتيجي” ليست ولن تكون بدائل للعلاقة الطويلة والمؤسسية القائمة على القيم المشتركة والثقة، وكذلك المصلحة.

المجلة

————————

الاتفاق السعودي الإيراني بانتظار التنفيذ/ بشير البكر

الاتفاق الجديد بين السعودية وإيران مفاجأة بكل المقاييس، ولجميع الأطراف المعنية بالمنطقة، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل. وأحد عناصر المفاجأة أنه تجاوز إعادة العلاقات الدبلوماسية إلى تفعيل الاتفاق الأمني بين البلدين، والاتفاقية العامة للتعاون في المجالات كافة. وجرى ذلك بعد قرابة عامين من المفاوضات بين الطرفين بدأت في بغداد في أبريل/ نيسان 2021، ولم تسفر خمس جولات عن التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات، ولكن أسبوعاً من مباحثات أمنية عالية المستوى سعودية إيرانية في بكين حسم خلافاتٍ كثيرة وقاد إلى صيغة الاتفاق. وهذا يعني أن المنطقة تقف أمام مرحلةٍ جديدة، وإذا سارت التفاهمات حسب الأصول، يمكن أن يتغيّر المسار العام، بعد أن فشلت كل الرهانات، منذ عقود، على بناء فضاءٍ خالٍ من المخاوف والشكوك. وحسب وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، يشكّل تفضيل الحلول السياسية لمشكلات المنطقة جوهر الاتفاق. وفي حال تمكّنت الرياض وطهران من ترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس، سوف تتوقف المنطقة عن السير في الاتجاه الراهن، الذي يقوم على سياسة المواجهة بين الأطراف كافة، ولا يعني ذلك أن كل شيءٍ سوف ينقلب إلى ضدّه خلال فترة قصيرة، ولكن هناك مراجعات مرتقبة للمواقف والسياسات الثنائية والإقليمية والدولية، من دولتين أساسيتين في الشرق الأوسط.

من السابق لأوانه الحديث عن مكاسب كل طرف قبل بدء مرحلة الاختبار، التي حدّدها الطرفان بشهرين لمراجعة السياسات القديمة، ومحاولة وضع خطوط عريضة لتفاهمات المرحلة المقبلة، في حين أن هناك شكوكاً في أوساط واسعة في العالم العربي بأن تتغيّر السياسات الإيرانية في المنطقة. وتسود تقديراتٌ بأن تحويرات تكتيكية قد تحصل في بعض الملفات، ولكن المسائل الأساسية في سورية والعراق واليمن ولبنان لن تعرف تحوّلاً أساسياً، الأمر الذي يطرح أسئلة كثيرة بشأن مدى التزام طهران بالتفسير السعودي للاتفاق، وهل يقود ذلك إلى تخلّيها عن سياساتها المذهبية في المنطقة، وهل في وسع الصين التي رعت الاتفاق أن تشكّل ضامناً لالتزام إيران؟ وتبدو هذه الأسئلة مشروعة بالنظر إلى أمرين مهمين. الأول عقود من التدخلات السياسية والأمنية والاقتصادية في المنطقة العربية، تمكّنت من خلالها أن تحقق نفوذاً كبيراً داخل هذه البلدان. والثاني أن تقرّر الرياض السير في عكس الاتجاه الأميركي الإسرائيلي الذي يحشد للمواجهة مع إيران. وهذا موقفٌ تاريخي ليس قليل الأهمية، ويجب ألا يحصل من السعودية من دون مقابل من إيران، لأن وقوف السعودية خارج الاصطفاف المعادي لإيران لا يقتصر على توظيف ثقلها فقط، بل ينزع أوراقاً كثيرة يتسلّح بها خصوم طهران من أجل عزلها، وتقويض نظامها في مرحلة لاحقة، وهذا صار واضحاً خلال العامين الأخيرين.

والجديد أن العالم بدأ يشهد دوراً سياسياً صينياً مباشراً في الشرق الأوسط، في ظل تنامي دور بكين الاقتصادي في قارّة أفريقيا ومنطقة الخليج، وهو هنا يأتي في مرحلة حسّاسة جداً تمر بها السياسة ثنائية القطبية لكل من روسيا والولايات المتحدة، والتي تأرجحت علاقات دول المنطقة بينها منذ الحرب العالمية الثانية. وإذ تنشغل موسكو حالياً في حرب أوكرانيا، فإن جهد واشنطن يتمركز من حول رعاية إسرائيل. وفي غياب دور أوروبي، تحاول الصين تحقيق اختراقاتٍ قويةٍ في المنطقة، من خلال النافذة التي فتحتها لها القمم الثلاث مع الدول الخليجية والعربية والإسلامية خلال زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الرياض في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وفي الختام، يمكن القول إن الصين سجلت من خلال الاتفاق هدفاً في مرمى الولايات المتحدة، وهي تتقدّم بسرعة على الأرض التي تعدّها ملعبها المفتوح منذ 70 عاماً.

العربي الجديد

——————

كيف يستقرئ خبراء كارنيغي تأثير الاتفاق السعودي الإيراني على مجالات تخصّصهم؟/  مايكل يونغ

عمرو حمزاوي | مدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

اكتسب تنامي الدور الصيني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما يشبه فعل “المعمودية السياسية” أو “الإعلان الأول” عنه، إذ أفضت وساطة الدبلوماسيين الصينيين إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. منظورًا إليه من منطقتنا، ترحّب معظم القوى الإقليمية، وهي جميعًا تتمتّع دون استثناء بعلاقات اقتصادية وتجارية وطيدة مع بيجينغ، بالانخراط الصيني المتزايد في المساعي الرامية للتوصّل إلى حلول سلمية لنزاعات المنطقة وإرساء ترتيبات أمنية دائمة فيها. ويستحوذ هذا الأمر على أهمية خاصة، من جهة، لكونه يأتي بعد عقدٍ كامل (منذ العام 2011) تخلّلته حروبٌ بالوكالة ونزاعات أهلية وصراعات حدودية مديدة فشلت الجهود الأميركية والأوروبية في إنهائها. من جهة أخرى، تقف الوساطة الصينية بين السعودية وإيران عنوانًا على أول تدخّل منفرد لقوة كبرى غير الولايات المتحدة الأميركية منذ انتهاء الحرب الباردة في العام 1990 لإعادة ترتيب أوراق الشرق الأوسط الأمنية واحتواء صراعات المنطقة.

واقع الحال أن الخصومة الإقليمية بين السعودية وإيران رسمت معالم معظم الصراعات التي دارت رحاها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ العام 2011. فقد خلّفت كارثة إنسانية كبرى في اليمن بعد اندلاع الحرب بين ميليشيات الحوثيين الموالية لإيران والقوى والقبائل المتحالفة مع السعودية في العام 2016، وتسبّبت أيضًا بحالة مزمنة من انعدام الاستقرار في العراق، وأشعلت أزمة مديدة في لبنان، وحالت بالتزامن مع عوامل أخرى دون التوصّل إلى حل سياسي تفاوضي للنزاع في سورية. وإضافةً إلى مفاقمة الأزمات في هذه الدول التي تمزّقها الصراعات، هدّدت الخصومة بين السعودية وإيران الاستقرار الأمني الهش في منطقة الخليج وأظهرت محدودية فاعلية الضمانات الأمنية التي توفّرها الولايات المتحدة لحلفائها العرب حين شنّ الحوثيون، حلفاء إيران، هجمات بالطائرات المسيّرة والصواريخ على منشآت نفطية ومواقع استراتيجية أخرى في السعودية في العام 2019 – فضلًا عن شنّهم هجمات على الإمارات العربية المتحدة.

وفي حال تم تطبيق هذا الاتفاق الذي أُبرم بوساطة الصين بحسن نية، فيمكن توقّع جني منطقتنا مكاسب مباشرة وسريعة، وتصاعد فرص تحقيق نتائج استراتيجية إيجابية بعيدة المدى. ومن المكاسب التي يُحتمل أن تتحقّق في القريب العاجل تحويل الهدنة الراهنة في اليمن إلى حل سلمي دائم. أما النتائج البعيدة المدى المُحتملة فتشمل تسهيل حدوث انفراجات سياسية تدريجية في كلٍّ من العراق ولبنان، وتمهيد الطريق أمام عودة سورية إلى كنف جامعة الدول العربية، وإفساح المجال أمام إيران ودول الخليج للتفاوض الجاد حول الترتيبات الأمنية في الخليج.

على كافة هذه الأصعدة، تفتح الوساطة الصينية وما أفضت إليه من اتفاق بين السعودية وإيران أبواب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمام مرحلة نوعية جديدة من التنافس بين القوى الكبرى وأمام تبلور ترتيبات أمنية جديدة وتغيير محتمل لحقائق التعاون والصراع بين القوى الإقليمية.

آرون ديفيد ميلر | باحث أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، حيث يركّز على السياسة الخارجية الأميركية.

لقد ثبُت أن وزير الخارجية السعودي السابق سعود الفيصل أصدر تصريحًا نافذ البصيرة حين قال ممازحًا في إحدى المرات إن السعودية لم تعقد زواجًا كاثوليكيًا مع الولايات المتحدة، بل زواجًا إسلاميًا يسمح بتعدّد الزوجات. فالمملكة لا تريد الطلاق من واشنطن، بل ترغب فحسب في إقامة علاقات مع دول أخرى. وتجلّى هذا التصريح لسعود الفيصل بأبهى صوره في الوساطة الناجحة لتي أدّتها الصين مؤخرًا وتكلّلت بإبرام اتفاق مصالحة بين إيران والسعودية. لكن نظرًا إلى العداوة الطويلة بين طهران والرياض منذ عقود، قد يكون تأثير الاتفاق أقل بكثير مما يبدو عليه للوهلة الأولى، أي أنه قد يشكّل تغييرًا جزئيًا تجاري الطابع بدل أن يكون تغييرًا جذريًا تحوّليًا في علاقاتهما. مع ذلك، فهو ينطوي على تأثيرات ثلاث بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية.

أولًا، أدّى قرار الإدارات الأميركية المتعاقبة بتقليص انخراطها في المنطقة، أو في أفضل الأحوال إعادة توجيه أولوياتها نحو منطقة الهندي الهادئ، إلى إفساح المجال أمام الصين وروسيا لاغتنام فرص جديدة. على الرغم من ذلك، قد تبقى الولايات المتحدة الشريك الأمني المفضّل والأهم لدول الخليج. لكن حين يتعلق الأمر بالقضايا السياسية والاقتصادية، بتنا نشهد على نحو متزايد بروز أقطاب عدّة في العالم. من هذا المنطلق، ليس قرار السعودية التعامل مع الصين كما تفعل اليوم، مجرّد خطوة تكتيكية لتسجيل النقاط في وجه واشنطن بل هو قرار استراتيجي.

ثانيًا، تواجه الولايات المتحدة راهنًا واقع أن للصين أوراقًا ضعيفة في الشرق الأوسط، إنما تلعبها ببراعة محاولةً تحقيق مصالحها. والمفارقة أن قوات البحرية الأميركية تعمل على ضمان أمن الممرات البحرية في الخليج، ما يحمي الصادرات الهيدروكربونية المتجهة إلى الصين (التي تستورد حوالى 40 في المئة من النفط الذي تستهلكه من منطقة الشرق الأوسط)، فيما تسعى بيجينغ إلى توطيد علاقاتها مع دول الخليج، في خطوة قد تثبت على نحو متزايد أنها منافسة ذات حصيلة صفرية مع الولايات المتحدة.

ثالثًا، قد يؤدي الاتفاق السعودي الإيراني إلى تهدئة وتائر التوتر في اليمن، ما يشكّل نقطة إيجابية للسياسة الأميركية. لكن من المرجّح أن يقوّض في الوقت نفسه الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لعزل إيران في المنطقة. لطالما كان احتمال قبول السعودية بأن تصبح رأس الحربة في المساعي الإسرائيلية أو الأميركية الرامية إلى ردع إيران، يفتقر إلى الواقعية نوعًا ما. أما الآن، فيعمد “حليف” أميركي مُفترض له ثقل كبير في المنطقة والعالم الإسلامي، إلى إضفاء الشرعية على نظام إيراني يقمع شعبه ويساعد روسيا في حربها الشرسة ضدّ أوكرانيا. لذلك، لا يمكن اعتبار هذا الاتفاق نتيجة سعيدة لصنّاع السياسات في واشنطن.

بول هاينلي | مدير مركز كارنيغي–تسينغوا، وزميل أبحاث زائر في معهد شرق آسيا في جامعة سنغافورة الوطنية.

من المرجّح أن تقدّم الصين دور الوساطة الذي أدّته في استئناف العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية مثالًا على مدى فعالية مبادرة الأمن العالمي الجديدة التي أطلقتها. فهي تسعى إلى تصوير نفسها كطرف مساهم في إرساء الاستقرار العالمي، لتفادي الانتقادات القائلة إنها تستفيد من الاستقرار الذي يوفّره النظام الدولي من دون أن تسهم فيه، وللتخفيف من وطأة الضغوط التي تعرّضت لها على خلفية موقفها الملتبس من الحرب في أوكرانيا.

كذلك، ستحاول الصين أن تظهر اختلاف نهجها الدبلوماسي إزاء التوترات في الشرق الأوسط عن النهج الأميركي الذي تصفه بالعسكري العدائي. ففي الواقع، تشكّل منطقة الشرق الأوسط جزءًا لا يتجزّأ من مبادرة الحزام والطريق الصينية، وقد تلجأ بيجينغ إلى الاستفادة من وساطتها في التقارب السعودي الإيراني لتعزيز علاقاتها في مجالَي التجارة والطاقة في جميع أنحاء المنطقة. وإذا تمكّنت الصين من التعويل على هذا الزخم من خلال إقناع إيران بتجميد اتفاقها النووي أو الإسهام في عملية سلام أوسع في الشرق الأوسط، فسيحظى تنامي نفوذها الإقليمي بترحيب كثرٍ في المجتمع الدولي. لكن، إذا سعت بيجينغ إلى الاستفادة من اهتمامها الجديد بالتوسط في النزاعات فقط لتلميع صورتها على الساحة الدولية، فلن يدوم طويلًا دورها كمساهم حقيقي في إرساء الاستقرار العالمي.

كريم سجادبور | باحث أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تركّز أبحاثه على الشؤون الإيرانية والسياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط.

يشكّل الاتفاق الذي أُبرم لاستئناف العلاقات بين السعودية وإيران بوساطة صينية على الأرجح الحدث الدبلوماسي البارز الأول من نوعه في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الانكفاء الأميركي. فكما أخبرني أحد الوزراء العرب: “إن القصة الأهم لا تتمحور حول الخطوة التي أقدمت عليها السعودية وإيران اليوم، بل حول حجم النفوذ الكبير الذي تتمتّع به الصين في المنطقة”.

في الواقع، تحتاج الصين، وهي أكبر مستورد للطاقة في العالم، إلى الاستقرار في الشرق الأوسط لضمان التدفق الحرّ لموارد الطاقة من المنطقة. ويُعتبر خفض حدّة التصعيد بين القوتَين الإقليميتَين الأساسيتَين المنتجتَين للطاقة ضروريًا لتحقيق هذه الغاية. لكن لم يتّضح بعد إلى أي حدٍّ ستنخرط بيجينغ في تفاصيل هذا الاتفاق وحيثيات تنفيذه. ويبقى السؤال المطروح كيف سيكون الردّ الصيني في حال أقدم أيٌّ من الطرفَين على انتهاك بنود الاتفاق؟

تُعاني إيران من عزلة دولية شديدة، وتؤرقها منذ أشهر الاحتجاجات المناهضة للحكومة، وتعتمد بشكل كبير على الصين استراتيجيًا واقتصاديًا. ولا شك أن هذا الاتفاق يسهم في التخفيف من عزلتها، ويُضفي شرعية على نظامها، ويعزّز نفوذ الصين الإقليمي على حساب الولايات المتحدة. لكن من غير الواضح بعد ما إذا كانت الجمهورية الإسلامية على استعداد لإدخال تغييرات يُعتدّ بها على سياساتها الإقليمية القائمة منذ فترة طويلة.

أما السعودية، فقد علّمها الهجوم الذي نفّذته إيران في العام 2019 على منشأة تابعة لشركة النفط الوطنية السعودية “أرامكو”، أنها لم تعد قادرة على التعويل على الولايات المتحدة لحمايتها من إيران. ونظرًا إلى تأثير بيجينغ الكبير على طهران والمصالح الاقتصادية التي تجنيها الصين من الاستقرار في الشرق الأوسط، تأمل السعودية على الأرجح أن يكون هذا الاتفاق بمثابة درع صيني يحصّنها ضدّ أي عدوان إيراني. لكن الوقت وحده كفيل بإظهار مدى فعاليته.

إضافةً إلى ذلك، ترى المملكة أن الدور الذي تلعبه إيران في اليمن يشكّل تهديدًا وجوديًا لها، فيما يعتبر المسؤولون الإيرانيون أن قناة “إيران إنترناشيونال” الناطقة باللغة الفارسية والمدعومة من السعودية، والتي تُعدّ إحدى أهم القنوات الإخبارية الإيرانية، تشكّل مصدرًا أساسيًا لإثارة الاضطرابات الداخلية. لكن من غير الواضح إلى أي حدّ سيؤثّر الاتفاق على هاتَين المسألتَين.

في أفضل الأحوال، سيرسي الاتفاق نوعًا من السلام البارد جدًّا. وإذا أردنا استخلاص العبر من اتفاقيات أوسلو للعام 1993 والاتفاق النووي الإيراني للعام 2015، فلا بدّ من أخذ الحيطة والحذر حيال مدى تأثير واستمرارية اتفاقيات السلام التي تُبرم بين خَصمَين – هما في هذه الحالة السعودية وإيران – لا يثق أحدهما بالآخر.

عبد الله باعبود | باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.

بعد عقود من التنافس السعودي الإيراني على زعامة منطقة الشرق الأوسط، والذي اتّخذ منحىً عنيفًا أحيانًا، يشير استئناف العلاقات بين الجانبَين برعاية الصين إلى أن المنطقة تشهد عملية إعادة ترتيب، مؤقتة على الأقل، للتحالفات والخصومات القائمة. ويُعدّ هذا الاتفاق من أبرز التحولات التي خاضتها دبلوماسية الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة.

لا يزال من غير الواضح مدى التقارب الذي سيحدث فعليًا بين السعودية وإيران، إلا أن قرار إعادة فتح سفارتَيهما خلال مهلة أقصاها شهران وبعد قطيعة دامت سبع سنوات يمثّل خطوة أولى إيجابية. بُعيد الإعلان عن استئناف العلاقات، سادت أجواء التفاؤل الحذر حيال تجديد زخم العمليات الرامية إلى خفض وتائر التصعيد في بعض النزاعات الإقليمية، وتخفيف التشنجات في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج الأوسع. كذلك، يُرجَّح أن يهدّئ الاتفاق المخاوف بشأن تدخّل إيران في المنطقة ودعمها لمجموعات وميليشيات شيعية. وسيدفع أيضًا دول الخليج الأخرى التي لديها أساسًا علاقات دبلوماسية مع إيران إلى العمل على تعزيزها من دون التخوّف من نتائج ذلك، فيما سيشجّع الدول المتردّدة على بناء علاقات مع إيران بدورها.

ومن شأن هذا الاتفاق أن يسهم في بناء أواصر الثقة المتبادلة، ويقلّل من احتمال حدوث سباق إقليمي على التسلّح، متيحًا لدول الخليج فرصة التركيز على تحدياتها المحلية والتنمية الاقتصادية. وقد يساعد أيضًا على تيسير مسار المحادثات المتعثّرة حول البرنامج النووي الإيراني، وربما حتى على التوصّل إلى اتفاق في هذا الشأن. إضافةً إلى ذلك، سيبني الاتفاق على المفاوضات المتواصلة بين السعوديين والحوثيين بشأن وقف إطلاق النار في اليمن ليفضي على الأرجح إلى بلوغ حل سلمي للصراع، ما من شأنه أن يسمح بتدفّق المساعدات الإنسانية إلى اليمن الذي تمزّقه الحرب ويطلق عملية إعادة الإعمار هناك. وقد يسهم التقارب السعودي الإيراني أيضًا في حلحلة مشاكل شائكة في كلٍّ من العراق وسورية ولبنان، لكن من غير الواضح بعد ما سيكون تأثيره على مسألة توسيع الاتفاقيات الابراهيمية لتشمل السعودية.

ياسمين فاروق | باحثة غير مقيمة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

يشكّل اتفاق السعودية وإيران على استئناف علاقاتهما الدبلوماسية تطوّرًا مرحّبًا به. لكن حتى لو نُفِّذ، لن يتمكّن من تسوية جميع المسائل الخلافية بين البلدَين أو إنهاء خصومتهما، ناهيك عن استباق محاولات بعض القوى الإقليمية إفساد الأمور. في هذا الإطار، ثمّة أربعة عوامل أساسية تسهم في شرح سبب موافقة الرياض على اتخاذ خطوة علنية مماثلة مع طهران بعد عامَين من المفاوضات الدبلوماسية العسيرة خلف الكواليس.

يتمثّل العامل الأول في وساطة الصين، إذ إن تأثير بيجينغ على طهران، ورغبتها في إقامة علاقات جيدة مع الرياض، وتفهّمها لمخاوف السعوديين، شجّع هؤلاء على إعطاء هذا الاتفاق فرصة. وسمحت المملكة للصين، من خلال إبداء تجاوبها مع مبادرتها، بتسجيل نقطة لصالحها في حلبة المنافسة على النفوذ في وجه الولايات المتحدة. ويأتي الاتفاق في وقت يشكّل النفط الروسي الرخيص الثمن تهديدًا لحصة السعودية في السوق الصيني، فيما لم تعد واشنطن تؤدّي دور الضامن لأمن السعوديين كما كانت تفعل في السابق.

ثانيًا، تبنّت السعودية بالكامل نهجًا براغماتيًا حيال سياستها الخارجية، يتيح لها إمكانية الرجوع عن السياسات التي تثبت عدم جدواها. ويندرج توصّلها إلى هذا الاتفاق مع إيران تمامًا ضمن هذا النهج.

ثالثًا، كانت إيران في وضع ضعيف مقارنةً مع السعودية التي يحظى سعيها إلى الاضطلاع بدور على الساحة الدولية بزخم متزايد. لكن طهران كثيرًا ما تتّخذ وضعية دفاعية حيال جيرانها حين ترزح تحت وطأة الضغوط، ولا سيما أن السعودية استثمرت في زعزعة استقرار إيران من خلال دعم التعبئة ضد النظام.

رابعًا، ستحقّق السعودية منافع كبرى من خفض وتائر التصعيد في المنطقة وإنهاء الحرب في اليمن، إذ ستتمكن من العمل على تنفيذ أهداف رؤيتها للعام 2030. لكن ليس كل شيء إيجابيًا بالنسبة إلى المملكة بعد. فالبيان الثلاثي الذي صدر في 10 آذار/مارس لم يأتِ على ذكر خطوة إيرانية محدّدة بشأن اليمن، ولم يكن واضحًا حيال حجم الدور الذي ستؤدّيه الصين في سائر فصول عملية المصالحة. كذلك، سيتعيّن على السعودية التوفيق بين خفضها وتائر التوتر مع إيران من جهة، وتصعيد شركائها الغربيين حيال إيران من جهة أخرى. تشرح هذه الأسباب جزئيًا لماذا أبدى مسؤولون سعوديون تفاؤلًا حذرًا حيال الاتفاق الجديد.

مهنّد الحاج علي | مدير الاتصالات والإعلام وزميل أول في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.

قد يُساعد الاتفاق السعودي الإيراني على كسر حالة الجمود التي تعتري ملف انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان، إذ تُفضي مثل هذه الاتفاقات والتفاهمات الإقليمية غالبًا إلى فكفكة العقد التي تعطّل العملية السياسية، وإلى توفير الحوافز المالية اللازمة والمُسهّلة لذلك. فهذا ما حدث عام 2009 عَقِب التقارب السعودي السوري، لكن اندلاع الانتفاضة السورية سُرعان ما قوّض النتائج السياسية التي أفرزها الاتفاق آنذاك.

إلا أن التوصّل إلى حل في لبنان هذه المرة قد يتطلّب وقتًا أطول مما هو متوقَّع، وذلك لأسباب ثلاثة. أولًا، باتت السعودية جزءًا من مجموعة خماسية تُنسّق مواقفها بشأن الأزمة اللبنانية، وتتألّف من خمس دول بينها الولايات المتحدة وفرنسا، وبالتالي ينبغي أن تمرّ أي سياسة جديدة ضمن هذا الإطار. وينطبق ذلك على الحوافز الاقتصادية التي من شأنها أن ترافق الإصلاحات المؤلمة التي تجنّبت الطبقة السياسية اللبنانية تطبيقها منذ عام 2019.

ثانيًا، وبعد سنوات طويلة من النزاعات والصراعات بالوكالة، على إيران والسعودية اتّخاذ إجراءات لبناء أواصر الثقة بينهما وإطلاق عملية تدريجية لخفض التصعيد. وقد يعتمد التوصّل إلى اتفاق في لبنان على الملف اليمني الذي يُعدّ أولويةً أهم للسعودية، نظرًا إلى الصراع الدائر هناك والقرب الجغرافي بين اليمن والمملكة. ومن شأن ربط التوصّل إلى حلٍّ للأزمة اللبنانية بالحل في اليمن، أن يُؤخّر إحراز تقدّم تشتدّ الحاجة إليه في ملف الانتخابات الرئاسية.

وثالثًا، يتطلّب الانقسام الداخلي الحاد في لبنان ومجلس النواب المعلّق (حيث لا غالبية واضحة لفريق دون الآخر) اتّفاقًا أوسع على المرشّح الرئاسي، وبرنامجه، والحكومة الجديدة. حتى الآن، لم ينخرط أيٌّ من خصوم “حزب الله” معه في عملية جادّة تهدف إلى بلوغ هذه النتيجة، ولم يبادر “حزب الله” إلى ذلك أيضًا. لا شك أن الاتفاق السعودي الإيراني سيُسهّل هذه العملية، لكن على خلاف عام 2009، لم يعد للرياض وحدها اليد العليا في لبنان، حيث باتت تتشارك النفوذ مع قوى أخرى. لكل هذه الأسباب إذًا، قد لا تنعكس نتائج الاتفاق السعودي الإيراني بسهولة على المشهد السياسي اللبناني.

حارث حسن | باحث أول غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.

انطلق الحوار بين السعودية وإيران من بغداد، برعاية رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي. وربما يكون العراق من أبرز المستفيدين من التقارب السعودي الإيراني لسببَين واضحَين هما: أوّلًا، يتمتّع العراق بموقع جغرافي فريد، إذ تجمعه حدودٌ برية مع كلٍّ من السعودية وإيران. وثانيًا، اعتمدت الدولتان أجندات متضاربة في العراق، وفاقمت الخصومة الطويلة بينهما حالة انعدام الاستقرار هناك.

وعلى الرغم من أن الاتفاق السعودي الإيراني سيواجه امتحانه الأول في اليمن على الأرجح، فإن العراق سيشكّل حقل الاختبار الأساسي لهذا التقارب على المدى الطويل. لقد حصدت طهران نفوذًا ملحوظًا في بغداد، الأمر الذي أثّر ليس فقط على المصالح السعودية في الآونة الأخيرة، بل أيضًا على أمن المملكة. ويُعتقد أن الطائرات المسيّرة التي استهدفت منشآت نفطية سعودية في العام 2019، والقصر الملكي في الرياض في العام 2021 قد انطلقت من داخل العراق. يُضاف إلى ذلك أن شبكة الميليشيات والمجموعات المسلحة التي أنشأها ودرّبها وجهزّها الحرس الثوري الإيراني في العراق هي في صدد الانتشار بقوة على مقربة من الحدود العراقية السعودية، رافعةً شعار “نقل المعركة إلى أرض آل سعود”، على حدّ تعبير أحد قياديي ميليشيا كتائب حزب الله العراقية.

لذا، لا بدّ من الانتظار لنرى ما إذا سيعدّل الحرس الثوري الإيراني سلوك المجموعات المسلحة الحليفة حيال السعودية، وإذا سيعمد إلى إعادة نشرها خارج المنطقة الحدودية العراقية السعودية، وهو مطلب أبلغته المملكة إلى الحكومة العراقية. مع ذلك، سيشكّل هذا الاتفاق اختبارًا للحكومة العراقية التي يمارس حلفاء طهران نفوذًا كبيرًا عليها، والتي يمكن أن تستفيد من هذا التقارب من خلال تحقيق توازن بين علاقاتها الخارجية واكتساب هامش أوسع لاعتماد سياسات مستقلة.

خضر خضّور | باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، تركّز أبحاثه على سورية.

في حالة سورية، ستوفّر المصالحة السعودية الإيرانية فرصة أمام نظام الأسد لإعادة ترتيب بيته الداخلي وإقامة علاقات إقليمية جديدة. فقد ساهمت الحرب السورية إلى حدٍّ بعيد في عزل النظام عن سائر العالم العربي، ما دفعه إلى التقرّب أكثر من إيران، فتوطّدت العلاقة بينهما بشكل كبير ولا رجوع عنه. هذا التحالف مبنيٌّ على الدم، إذ حارب الإيرانيون إلى جانب قوات النظام السوري لما يربو على عقد من الزمن. لذا، لن يأتي الاتفاق السعودي الإيراني على حساب حليف طهران الأساسي في سورية، أي النظام السوري، بل على العكس، سيفسح هذا الاتفاق المجال أمام النظام للمشاركة على الصعيد الإقليمي من خلال نسج علاقات جديدة مع مجموعة من الدول العربية.

واقع الحال أن العلاقات الجديدة التي سيقيمها النظام السوري خلال السنوات المقبلة ستكون ثمرة هذا الاتفاق. فقد شكّلت السعودية العقبة الأساسية في وجه عودة النظام السوري إلى كنف الإطار العربي الإقليمي. وإذا كان التحالف السوري مع إيران أحد الأسباب الرئيسة وراء قطع السعودية علاقتها بدمشق، فقد تبدّد هذا السبب الآن، وأصبحت عودة النظام إلى الحضن العربي مسألة وقت ليس إلا. لكن حتى هذا الإنجاز الإقليمي الكبير ليس كفيلًا بحل معضلة سورية المتمثّلة في مجموعة من القضايا الشائكة الناجمة عن الحرب، ومن ضمنها إعادة الإعمار، والأمن، والديموغرافيا – أي عودة اللاجئين السوريين والسكان النازحين داخليًا إلى ديارهم.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

—————————

أخرجوا من بلادنا/ فواز حداد

شكل الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين خطوة مهمة إلى الأمام على طريق طويل، لو تحققت لها عوامل النجاح، لانتهت مشكلات المنطقة كلها من خلال مساعي البلدين، يُمكن البناء عليها نحو مستقبل بعيد. في الوقت نفسه، يبدو اتفاقا، مخفقاً، ولم يجف بعد الحبر الذي وقع عليه، ويمكن الرجوع عنه خلال أمد لن يطول.

بيد أن له ضرورات تفرضها ما وصلت إليه المنطقة من نزاعات وفوضى، تبشر بالمزيد من الخراب وحروب أشبه بحروب السبعين عاما الأوروبية. وهي تعني بالدرجة الأولى

إيران والسعودية، وفيما بعد العراق وسوريا ولبنان، أي أن بلدنا على لائحة الأزمات،

لكننا لن نتفاءل، ولو أوحى الاتفاق بانتهاء عذابات العرب وإيران أيضا، وفتح صفحة جديدة، من خلال بندين عمليين هما الوصول إلى تسوية في العراق وسوريا ولبنان والعمل على خروج الميليشيات الأجنبية منها، ونزع سلاح ميليشيات الداخل بإشراف مباشر من الصين.

فمثلاً، سيشمل نزع سلاح الميليشيات تجريد حزب الله من أسلحته وكذلك الحوثيين وعشرات من عصابات الشبيحة في سوريا والمتطرفة في العراق، وإيقاف الدعم الإيراني عنها، أي إنها بالنسبة لسوريا سقوط النظام. بالمناسبة، روسيا لن تقف في وجه هذا الحل ما دام أن امتيازاتها مضمونة، مع قواعد عسكرية، وإيجاد مخرج مما سيصبح المستنقع السوري لو حاولت البقاء، أما إيران فسوف تلتفت إلى شعبها، وتعالج مشكلات هي الأجدر بالتصدي لها من أجل رفاهيته بدلا من المغامرات خارج حدودها. إذا عناصر التوافق متوافرة من حيث الفوائد.

يعتمد نجاح تسويق الاتفاق في أنه يضع بنودا مثالية لحل الصراعات والخلافات في المنطقة، فالداء معروف والعلاج معروف. أما فشل الاتفاق نفسه، فيعود إلى العمل على إنجاحه باعتماد الضغوط خلال المفاوضات، إذ لا يمكن إحداث تقدم إلا بالقبول بمساومات وتنازلات، كذلك فيما بعد على الأرض، ثم ما تمارسه أجهزة مخابرات الدول الإقليمية والكبرى، والشطارات المخابراتية التي ستبتدعها، ذلك ليس في علم الغيب، بل ما حدث مرارا من قبل.

اللافت ذلك النشاط الذي لا يفتر في ترسيخ النفوذ الإيراني قبل الرحيل، هذا إذا أحسنا النية، وتوقعنا خروجها من سوريا، فالمتوقع بقاء نفوذها فعالا في الداخل، وكأنها لم تخرج، خلايا وتشييع وتطبير وعملاء، كما حدث عندما خرج الجيش السوري من لبنان، وكأنه لم يخرج، فالنفوذ السوري ترك وراءه أحزابا موالية ومخابرات وعملاء.

لا بأس من طرح مخاوفنا وهي مخاوف حقيقية ومن قبيل العمى عدم طرحها.. فأزمات المنطقة الرهيبة التي لم تجد حلا لها طوال عقود بقدر ما كانت تتأزم وتتفاقم، إلى حد تدخل دول وجدتها فرصة للاستثمار على أراضي الآخرين، باعتبارها ساحة صالحة للحرب، وتصفية حسابات، واستعادة إمبراطوريات مضى عليها قرونا، والتفاخر بتجربة فاعلية أسلحتها، بينما ستستغلها الحكومات الدكتاتورية، تحت غطاء التعاون للوصول إلى اتفاق، في تكريس النهب، ولن تعدم فرصا ذهبية لتكريس سلطات القمع والقتل، وكالمعتاد، لا من حساب ولا مساءلة. مقابل التخلي عن أية مسؤولية وطنية، فالنظام القائم زج سوريا بأربعة احتلالات من أجل بقائه. هل هناك سابقة شبيهة؟ وضحايا لا أقل من مليون قتيل، مورس خلالها عنف قل نظيره، وهناك أكثر من نصف شعبها مهجر ونازح.. هل هناك مأساة شبيهة بها؟ وفي الداخل سلطة كاريكاتورية تستثمر في الضحايا، الهدف منها تبييض جرائمها بالمظاهر الإنسانية والكلام المعسول، وهي مجرد تهريج، لكنها أشد من القتل.. إنها جريمة ضد الإنسانية. إضافة إلى تمزيق النسيج المجتمعي، وإحداث شرخ بين مكونات الشعب السوري. إلى حد بات استمرار النظام مديناً للعصابات، وتحويل الجيش إلى عصابة للنهب وحماية صناعة الكبتاغون.

أما عن الاتفاق، فليس من العبث القول إن الحل معروف منذ سنوات، لكنه عسير، طالما المستفيدون منه، لا يريدون التخلي عن أنظمة دفعت شعوب المنطقة إلى الجوع والبؤس. وإذا كان هناك من حل فسوف يكون على حساب الشعوب، وهي الطرف الأضعف، وغير الموجود على طاولة المفاوضات، وإذا افترض وجوده، فكي تكون التنازلات على حسابه، وإلا لم يكن هناك وفاق ولا توافق، لماذا؟ لأن الصين نفسها بلد دكتاتوري، لا يعترف بما يدعى “ديمقراطية”، فلماذا تطالب بها دكتاتوريات تافهة ومنحطة، لن تطلب منها سوى العمل على دكتاتورية مثالية، ولو كان بقتل مليون آخر من البشر، وتهجير المزيد من الملايين.

إذا أرادوا حلا سريعا ومضمونا، فليسمعوا أصوات السوريين تقول: اخرجوا من بلادنا وخذوا معكم هذا النظام الفاسد، ودعوا هذا الشعب يضمد جراحة ويبني دولته، طبعا هذا مستحيل، لكن لا حل من دونه.

هذا ما هو مطلوب من السوريين، لا من دول الاحتلال الأربع، ولا الدول الإقليمية، ولا من الصين، هؤلاء لا يفكرون إلا في مساعدة الدكتاتور على ممارسة صلاحياته كاملة.

تلفزيون سوريا

————————-

الاتفاق السعودي – الإيراني: التداعيات والمتطلبات/ هدى رؤوف

على طهران أن تعيد تموضع دورها في المنطقة للخروج من العزلة الدولية والإقليمية والاستفادة من الاتفاق مع الرياض

في الـ10 من مارس (آذار)، أعلن اتفاق السعودية وإيران على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد محادثات بوساطة الصين، سبقتها جولات عدة من الحوار بين الطرفين برعاية العراق وسلطنة عمان. ولا شك في أن إعلان الاتفاق له صدى كبير في منطقة الشرق الأوسط وخارجها، ويمكن كتابة كثير من التحليلات حول دلالاته، فالبلدان يمثلان قوى إقليمية في المنطقة.

صحيح أن السعودية أعلنت أن الاتفاق، وفقاً لوزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان، لا يعني حل الخلافات القائمة بين البلدين، إنما يعكس الرغبة في الحوار والتهدئة وانتهاج مسار تسوية الخلافات سلمياً. وفي ظل ما تتسم به بيئة الشرق الأوسط من أنها صراعية تنافسية وليست تعاونية، مثل بعض النظم الإقليمية الأخرى، فإن السؤال: ما تأثير الاتفاق السعودي – الإيراني في الأمن الإقليمي للمنطق؟ وما المطلوب لإنجاح الاتفاق واستمراره؟

وأشاد عديد من الدول بإعادة التواصل بين البلدين، فقد لقي الاتفاق استحساناً من قبل عديد من الدول الإقليمية، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة وعمان وقطر والعراق ومصر والبحرين وتركيا، وبالمثل أعرب حزب الله والحوثيون والسلطة الفلسطينية عن تفاؤلهم بالاتفاق.

وإذا استمر الاتفاق من خلال التزام الأطراف ببنوده، فسيكون له تأثيره الإيجابي في الأمن الإقليمي واستقرار المنطقة، لا سيما النزاعات الإقليمية، مثل الحرب اليمنية. فقد صرح المندوب الإيراني الدائم لدى الأمم المتحدة بأن “الاتفاق بين إيران والسعودية سيساعد في تحقيق هدنة في اليمن”. ويبدو أن استئناف العلاقات السياسية بين إيران والسعودية يسرع من تحقيق وقف إطلاق النار في اليمن، وبدء حوار شعبي، وإنشاء حكومة وطنية. وسينسحب الاتفاق كذلك على تسهيل العودة السورية للحاضنة العربية، وتهدئة أمن الخليج من خلال توقف التهديد بإغلاق مضيق هرمز، أو تهديد الملاحة في كل الممرات البحرية.

وربما تشهد المرحلة المقبلة دعوة الصين إلى منتدى أمني إقليمي لإيجاد آليات لحل وتسوية النزاعات. ويمكن القول إن الخطوة السعودية منحت الفرصة لدول المنطقة للتعاطي مع التغيير الجديد ومع إيران كذلك.

أما عن تأثير الاتفاق في الملف النووي الإيراني، فليس من الواضح هل يمكن أن يدفع الاتفاق إيران لتهدئة مخاوف جيرانها من أجل التعايش السلمي بالتالي توقف تطوير قدراتها النووية؟ هناك عدد من الأسئلة يجب الانتظار للإجابة عنها، فالوقت هو ما سيوضح ما يمكن أن يطرأ خلال الأيام المقبلة.

كذلك فإن الاتفاق لا يشير فقط إلى القطبية التعددية الإقليمية، حيث تتعدد الأطراف الإقليمية به، التي تتبع سياسة خارجية نشطة، بل يشير إلى المشهد المتغير في الشرق الأوسط، الذي تميز بتعدد الأطراف الخارجية المرتبطة به، فلم تعد المنطقة حصراً على الوجود الأميركي الذي شهد انسحاباً من المنطقة لصالح سياسة التوجه نحو آسيا، فاليوم نجد الصين طرفاً اقتصادياً مهماً له علاقات بدول المنطقة، وضامناً لأهم اتفاق بين أهم طرفين به، ولا يخفى أيضاً الدور الروسي في كثير من ملفات المنطقة.

وحيث إن بناء الثقة لا يمكن أن يتحقق بسهولة، فلا بد من شروط عدة تتوافر لاستمرار نجاح الاتفاق، فعلى إيران إدراك أن للخروج من العزلة الدولية والإقليمية وللاستفادة من الاتفاق مع السعودية أن تعيد تموضع دورها في المنطقة على النحو الذي يخدم مصالحها، فكثير من المسؤولين الإيرانيين صرحوا بأنهم يتوقعون فوائد اقتصادية من التقارب مع السعودية في وقت تشهد عزلة سياسية ومالية شديدة.

كما أن من شأن الاتفاق تحسين صورة النظام الإيراني داخلياً وإبراز نيته للتعايش السلمي والاتجاه نحو التعاون لتنمية الموارد الإقليمية لمصلحة الجميع، بمن فيهم الإيرانيون. فقد صرح وزير النفط الإيراني جواد أوجي، بعد يوم من إعلان بكين، بأن إيران حددت عديداً من المشاريع الاقتصادية الكبرى مع الصين، وتوصلت إلى عقود واتفاقات جيدة مع شركات صينية كبيرة، سيتم إعلانها في المستقبل.

إن السعودية اختارت الموافقة على الخطوة الأخيرة من التحاور مع إيران واتخاذ طريق الدبلوماسية، بدلاً من الصراع والتوترات. وقد صرح وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان بأن اتفاق السعودية مع إيران على إعادة العلاقات الدبلوماسية لا يعني أن كلا البلدين توصلا إلى حل لجميع الخلافات بينهما. وأكد أن الاتفاق يؤكد الرغبة المشتركة لكلا الجانبين في حل الخلافات من خلال التواصل والحوار، وجدد الأمير فيصل تأكيد أن بلاده تمضي قدماً في مسار التهدئة الذي اختارته، بسبب إحساسها بالمسؤولية في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.

الاتفاق أكد ضرورة احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ومن ثم لأجل الحفاظ على استمرار الاتفاق لا بد من توافر التوقف عن الأنشطة التي تعتبرها دول الخليج من مهددات الأمن الخليجي، ومن أجل إنشاء ترتيبات أمنية إقليمية فعالة لا بد من بناء تدابير بناء الثقة لتسوية النزاعات وردع الصراع.

لقد خلق الاتفاق مساراً جديداً في منطقة تعيش طويلاً في اضطرابات وصراعات وحروب أهلية في بعض دولها، ومن ثم نأمل استمراره لتنتقل المنطقة إلى مرحلة من البناء والتنمية الإقليمية.

اندبندنت عربية

————————-

إيران والسّعودية من حروب الكرتون إلى سلام صُنع في الصين!/ عادل بن حمزة

سنة 2016 نشرت قوات الحرس الثوري الإيراني شريط فيديو من 5 دقائق يحمل عنوان “حرب الخليج الثانية”. يبدأ الشريط بتسجيل صوتي يتضمن خطبة بالفارسية فيها بعض الكلمات بالعربية للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وفي الخلفية تظهر صورة بانورامية للعاصمة السعودية الرياض مع صورتين كبيرتين للملك سلمان وولي عهده الأمير محمد. وسائل إعلام تابعت إصدار ذلك الشريط، أكدت أن كلمة خامنئي تضمنت هجوماً على من وصفهم بأعداء الثورة.

 الشريط يكشف سيناريو هجوم عسكري إيراني بالصواريخ البالستية على مناطق حساسة وحيوية في السعودية، منها قاعدة الملك خالد الجوية، إضافة إلى تدمير الدفاعات الجوية السعودية، بخاصة بطاريات باتريوت مع قصف عنيف للرياض. عرف الشريط انتشاراً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك على صفحات وسائل الإعلام الإيرانية.

السعودية انتظرت سنة كاملة لترد منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2017 على الشريط الإيراني، وذلك بشريط آخر من المدة نفسها، أي 5 دقائق تظهر فيه القوات المسلحة السعودية وهي تقوم بتدمير الجيش الإيراني بقواته البرية والجوية والبحرية والمحطة النووية بوشهر، إضافة إلى عدد من القواعد العسكرية الموزعة على كامل التراب الإيراني، هذه العملية العسكرية، وكما يُظهر الشريط، تتم بتوجيه وإدارة من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان شخصياً، ينتهي الشريط بلقطة ذات دلالات عميقة، وذلك عند اعتقال القوات السعودية الخاصة، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني الذي قتل فعلياً بعد ذلك في غارة أميركية قرب مطار بغداد…

الشريط ظهر على صفحة “قوة الردع السعودي” على “تويتر”، وهي صفحة تتابع مستجدات القوات المسلحة السعودية، وعن الصفحة نقله عدد من الصحف السعودية والمواقع الإلكترونية العربية والدولية، وكان فرصة لاستعراض القوات التي تملكها السعودية في مواجهة التحدي الإيراني في المنطقة، هكذا تضمن الشريط استعمال القوات المسلحة السعودية لمنظومة الصواريخ الاستراتيجية “رياح الشرق”، ودبابات أبرامز والمقاتلات العسكرية من طراز “التورنيدو” و”ف 15″ و”التايفون” و”الأواكس”، والقوات البحرية العالية الكفاءة، والدفاعات الجوية المتمثلة ببطاريات “الباتريوت”.

حرب الكرتون تلك، كان يُنظر إليها بوصفها مقدمات لدفع منطقة الخليج إلى الدخول في حرب إقليمية ضخمة بين كل من إيران والسعودية، ومعها الإمارات العربية المتحدة والبحرين، إذ إن درجة العداء كانت قد تضاعفت، بخاصة في ظل وجود ترامب في البيت الأبيض، لكن القناعة التي كانت سائدة لدى كثير من المحللين والمتابعين، كانت تخلص إلى أن مواجهة بين الرياض وطهران لن ينتصر فيها أي طرف، بل إن الجميع سيخرجون خاسرين من تلك الحرب التي ستظهر الثمن الذي سيدفعه العرب والفرس، نتيجة غياب نظام إقليمي واضح، يراعي مصالح الجميع من دون الانجرار إلى الحرب والسقوط في حسابات الآخرين الجيوستراتيجية.

إيران منذ إسقاط نظام الشاه، وهي تنتج خطاب التخويف من استهداف الثورة، فعل ذلك آيات الله مع الماركسيين والليبراليين وأنصار الشاه، وهو منهج التزمت به القيادة الإيرانية وظلت تعتقد بجدواه، لذلك ظلت فكرة الثورة بدل الدولة، أصلاً تجارياً للنظام الذي انشغل طويلاً بفكرة نشر الثورة والرهان على الأقليات الشيعية أينما وُجدت، هكذا أضاع نظام آيات الله أكثر من أربعة عقود على الشعب الإيراني الذي انتفض في السنوات الأخيرة برغبة في إسقاط النظام الذي أصبح عصياً على أي إصلاح، ففي الوقت الذي كان البلد بحاجة إلى استثمار عائدات النفط والغاز، استثماراً أمثل، بخاصة بعد رفع العقوبات عنها عقب الاتفاق النووي في صيغته الأولى، سعى النظام في طهران، على العكس من ذلك، إلى إذكاء نار الصراعات في المنطقة من اليمن إلى الصحراء المغربية مروراً بالعراق ولبنان.

ومن جهتها، تمكنت السعودية من التوظيف الناجح لسياسة الجزرة وتحقيق السلم الداخلي بعد الربيع العربي، لكنها في ظل تراجع أسعار النفط والاحتياطات، أضحت ملزمة بالبحث عن بديل لما بعد حقبة النفط، يتزامن ذلك مع تحولات جذرية في طبيعة النظام السياسي يقودها عملياً ولي العهد محمد بن سلمان الذي، رغم الانتقادات التي وجهت إليه في البداية، يقود بلاده وفق رؤية جديدة كلياً على البيئة السعودية المحافظة، هذه التحولات والمشاريع، لا يمكن أن تتحق في ظل أجواء الحرب والتهديدات المتكررة بها، بخاصة مع خصم من حجم إيران، علماً أن كثيراً من الأطراف الدولية، بخاصة واشنطن وتل أبيب، لا ترى مانعاً في اندلاع مواجهة بين الإيرانيين والسعوديين، أو على الأقل استمرار منطق القطيعة والمواجهة، وهو منطق لا يهم فقط السعودية وإيران، بل يشمل كل دول المنطقة، بحيث تصبح المواجهة والقطيعة بينها هو ما يخدم المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية والأميركية، لذلك ليس من باب الصدفة أن يُنقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن تصريح يعلق فيه على اندلاع الحرب الإيرانية العراقية سنة 1980 قال فيه: نتمنى من الحظ أوفره للطرفين في هذه الحرب…

كتبت في نيسان (أبريل) 2016 أن “التحولات التي تعرفها السعودية منذ تولي الملك سلمان الحكم، تؤشر إلى تغيير جوهري في السياسة الخارجية السعودية، بخاصة في بناء الندية في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، وفي عدم الارتهان للإدارة الأميركية مستقبلاً، سواء تعلق الأمر بالسياسة أم بالاقتصاد أم بالحرب…”، الندية التي أظهرتها السعودية تجلت بصورة واضحة عندما أعلنت رفض زيادة إنتاج النفط لخفض الأسعار، رغم أن الرئيس الأميركي قام بزيارة خاصة للسعودية وطلب بوضوح خفض الإنتاج في لحظة كان يواجه فيها هو وحزبه ضغوطاً كبيرة بمناسبة التجديد النصفي، لكن الأمير محمد بن سلمان كان واضحاً أنه مستوعب جيد لحجم التحولات التي يعرفها العالم، وفي صلبها عدم ثبات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بخاصة بعد ما عرف بعقيدة أوباما التي تميزت بنظرة سلبية إلى الأنظمة الحاكمة في المنطقة في مقابل التقرب من طهران، وبعد مرحلة ترامب التي تميزت بكثير من الابتزاز لدول المنطقة في مقابل توقيف العمل بالاتفاق النووي مع إيران، معنى ذلك أن دول المنطقة كانت بحاجة إلى أن تفكر خارج الصندوق وأن تبحث عن مصالحها الوطنية والقومية بعيداً من وصاية أي طرف.

الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية يوحي بكثير من الفرضيات التي قد تسعف في بناء فكرة واضحة حول ما يجري، لكن الأكيد هو أن حجم الخلافات بين طهران والرياض عميق جداً، بحيث يصبح من الصعب الجزم بأن الاتفاق الحالي كفيل وحده، بهدم إرث من العداء والمواجهة في مواقع مختلفة، سواء بصفة مباشرة أم بصفة غير مباشرة من خلال مس إيران بوحدة دول صديقة وشقيقة للمملكة العربية السعودية، إذ إن عدم النجاح على تلك الواجهات قد يجعل الاتفاق بلا قيمة، لأنه بذلك ينفي عن السعودية صفة القوة الإقليمية ويجعل منها مجرد لاعب محلي… فهل تكون الصيغة التي تضمنها الاتفاق والتي جاء فيها عدم المس بأمن الدول ووحدتها بصورة عامة وليس فقط أمن طرفي الاتفاق ووحدتهما، هو أحد أبعاد الدور الإقليمي للسعودية؟ أم أن الأيام المقبلة ستكشف مدى التزام عملاء إيران في كل من لبنان واليمن والجزائر والعراق وسوريا بالتزامات طهران في ظل عزلة دولية استمرت لسنوات طويلة؟

النهار العربي

————————-

تحييد نظام الأسد والحرب القادمة ضد إيران/ شادي علاء الدين

احتل الاتفاق السعودي الإيراني المرعي صينيّا واجهة الأحداث، وأطلق موجة  قراءات تنظر إليه بوصفه مدخلا لمرحلة جديدة من التسويات والتهدئة، ستنعكس على كلّ المنطقة، وتنتج حلولا تطول كل الملفات الكبرى، وتبعد شبح الحرب والتصعيد.

ولكن رياح الأمور لا تجري بما تشتهيه سفن المتفائلين والمحللين والمتشائمين، بل تخضع للعناوين التي ولد الاتفاق تحت ظلالها والمرتبطة بثنائية الأمن والاقتصاد.

تسعى السعودية لتمكين نوع جديد من الاقتصاد القائم على الاستثمار في التكنولوجيا الفائقة ما يتطلب الانكفاء عن خوض الحروب الخاصة، وعدم التدخل في أيّ من الصراعات القائمة في المنطقة.

 ظروف قبول إيران للاتفاق تحكمه أولويّة أمنيّة تجبرها على تقديم تنازلات كبيرة في سبيل المحافظة على نظامها، إذ يقدم لها إمكانية اقتصاديّة قد تتيح لها الحصول على عائدات مالية جيدة، وتسهم في الإفراج عن أموالها المحتجزة في مقابل تيسيرها للحلول في اليمن.

كل ذلك من شأنه أن يحولها من دولة تتصل مصالحها بالمشاغبة وتعطيل حركة الاقتصاد في المنطقة إلى دولة مشاركة في حفظ أمن الاقتصاد والمساهمة في تسييله.

لا يعني ذلك تغييراً في طبيعة النظام الإيراني، ولكنّه يعني خضوعه لتنازلات إجباريّة في مقابل الحفاظ على نفسه.

الصين تنظر إلى الموضوع برمته على أنه توسيع لدائرة نفوذها وتمتين لعلاقاتها الاقتصادية مع أكبر موردي النفط، ما يمنحها القدرة على خوض الكباش مع أميركا في المجال الوحيد الذي يهمها فعلا وهو التكنولوجيا الفائقة المتمثلة في تايوان التي تجتهد لإحكام سيطرتها الاقتصادية والعسكرية عليها.

كل هذا المناخ لا يؤثر على ما يجري من استعدادات إسرائيلية لخوض حرب ضد إيران برعاية أميركية.

الظروف الداخلية الإسرائيلية التي تشهد احتجاجات كبيرة ضد حكومة نتنياهو لجمت هذا التوجه مرحليّا، ولكن توالي العمليات العسكرية ضد إيران في سوريا وارتفاع وتيرتها، يقول إن هذا التوجه لم يخرج من التداول، بل قد يكون الدرب الذي ستسلكه حكومة اليمين المتطرف للخروج من أزماتها، وخصوصا أنه كان عنوان حملتها الانتخابيّة وتحالفاتها.

الحديث عن لجم مشروع إيران الخارجي كنتيجة مباشرة لمفاعيل الاتفاق السعودي الإيراني أو كصيغة متضمنة فيه يجافي الواقع، بل فقد يكون الأقرب إلى الصواب، التأكيد أن بنية الاتفاق تنطوي على نزعة سعودية وصينية في تحييد نفسيهما عن الحرب القادمة والتركيز على مشاريعهم الخاصة.

عدم ممانعة أميركا للاتفاق بالتوازي مع استمرار التنسيق العسكري والمناورات العسكرية مع إسرائيل والتي تحاكي حربا شاملة ضد إيران، يقود إلى التأكيد أن التسويات المنتظرة ستكون مسبوقة بحروب تنهي الحالة الإيرانية في المنطقة أو تلجمها إلى حد بعيد.

الميدان الأوسع لتلك الحرب المنتظرة يبقى في سوريا، ولعل الإشارات التي تؤذن بقرب انفجار هذه الحرب قد وصلت إلى رئيس النظام السوري الذي يحاول اعتماد سلوك المشاغبة والتشويش على أي اتفاق، ومحاولة فرض شروط على القوى الفاعلة والمؤثرة في الميدان السوري، والاستفادة من الإشارات العربية الموحية بنضوج جو التقارب معه وإعادة تعويمه والاعتراف به، بينما تخاض الأمور عبره وليس معه.

استدعاؤه إلى روسيا يتخذ طابع تبليغه بضرورة القبول بالاشتراطات الجديدة التي تتضمن شروعه في التفاهم مع تركيا في إطار الاجتماع الرباعي الذي يشمله مع روسيا وتركيا وإيران.

لعل توقيت الدعوة الروسية إلى عقد مثل هذا الاجتماع في هذه اللحظة بعد الاتفاق السعودي الإيراني الذي كانت الصين مرجعيته، يوحي بالرغبة في إقامة توازنات تتطلب فرض تنازلات على النظام السوري وعلى إيران التي تساعدها في حربها على أوكرانيا مقابل الحفاظ على الحياد العربي في هذا الشأن.

وكان لافتاً أن استهدافات إسرائيل في سوريا في الفترة التي سبقت هذا الاجتماع شملت مناطق ومنشآت خاضعة للنظام السوري، وكأنها تطلق رسالة مفادها أنه قد بات محسوبا على إيران، وأنّ عليه الانفصال عنها إذا شاء أن يكون طرفا مقبولا في الفترة القادمة.

ظروف الحرب ضد إيران تنضج، ولعل روسيا تدرك أنها لا تستطيع لجمها، كما لا ترغب في تحمل أعباء الدفاع عن إيران التي انتعشت علاقتها معها بعد إقدامها على مدها بطائرات مسيّرة من دون طيار استعملتها في أوكرانيا.

خريطة انتشار إيران المتوسعة في سوريا ليست أمرا مرغوبا فيه بالنسبة لروسيا، التي يمكنها بيع الموافقة على ضربها باتفاق يناسب مصالحها مع أوكرانيا، وتفعيل علاقاتها مع جل القوى الفاعلة والمؤثرة في المنطقة، وخصوصا الدول العربية التي ستكون الممول الأكبر لمشروع إعمار سوريا.

من هنا فإن ضرب إيران في سوريا وفي إيران والمنطقة بات محل التقاء مصالح عريض إقليمي ودولي يرجح أن تنطلق شراراته الأولى من سوريا ومن لبنان حيث يجد أبرز استثمار إيراني خارجي، أي حزب الله، نفسه غارقا في دوامة الانهيار الاقتصادي الضخم، وعاجزا عن التغطية عليه بمشروع خارجي.

الدفاع عن إيران يستوجب إعادة تفعيل العنوان العقائدي واستخدامه للتغطية على كل شيء.

اللامبالاة التي تسم التعامل العربي والدولي معه في موازاة الانفتاح العربي على الأسد ليست سوى عناوين الحرب على إيران التي تقول إن ترك البلد الواقع تحت سطوة حزب الله يختنق سيحوله من ميزة تفاوضية إلى أزمة مفتوحة تنفجر في وجهه، وتفرض عليه تنازلات كبرى أو تمهد لإخراجه من الساحة.

لا يريد الحزب فتح حرب مع إسرائيل، ولعل إسرائيل كذلك حين تنظر إلى الوضع اللبناني تجد أن تدخلها قد يتخذ طابع إنقاذ للحزب، ولكنها من ناحية أخرى ترى الوضع سانحا ومناسبا لخوض حرب ضد إيران تعاد بعدها رسم خرائط منطقة لا يوجد فيها دول أو كيانات معادية لها.

بعد أن ضمنت تفوقها التكنولوجي والعسكري قد يكون ضرب إيران مدخلها الأساسي لتكريس دورها في المنطقة، والتفرغ لقمع داخل إسرائيل غاضب من ممارسات اليمين، والاستمرار في ارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين من دون أن يرف للعالم جفن.

تلك الحرب القادمة تؤدي وظيفة ضبط الإيقاع قد نكون بعدها أمام تسويات تبقي الأسد في الواجهة في سوريا أو تستعيض عنه بصيغة ما توازيه، وتخرج إيران من معادلات التأثير والفعالية في المنطقة، ولكنها في الآن نفسه تجعل منها المنطقة التي لا وزن لها في العالم، والتي يمكن إنقاذها وضبط الأمور بفتات موارد النفط والتكنولوجيا.

زمن الصواريخ سيأتي مكانه زمان الإحسان العربي والدولي الذي يعني استدامة المرض وتقنين العلاج، والاكتفاء بمنح جرعات محدودة منه تكفي لإدامة الاحتضار الطويل من دون أمل في الشفاء.

تلفزيون سوريا

————————–

حقبة صينية جديدة/ جمانة فرحات

فاجأت الوساطة الصينية بين السعودية وإيران كثراً، ليس من بينهم طبعاً صناع القرار في الدول الكبرى، أقله بحسب ما تفيد تسريباتٌ تتوالى من مسؤولين سعوديين وإيرانيين عن كواليس الاتفاق، إذ أبلغت الرياض واشنطن قبل سفر الوفد السعودي إلى بكين، وتولّى أمين عام المجلس القومي الإيراني، علي شمخاني، إطلاع موسكو على الموضوع. وإذا كانت التحليلات تتركّز على مدى إمكانية صمود الاتفاق بين الرياض وطهران، والدور الذي يمكن أن تؤدّيه بكين لمنع انهياره في ظل تنامي علاقتها مع الطرفين، واحتفاظها بأوراق تأثير وضغط، فإن تساؤلاتٍ أخرى تتعلق بمرحلة ما بعد الاتفاق، وتحديداً دور الصين، على الصعيد العالمي في الفترة المقبلة.

ليس ما جرى معزولاً عن تبدل مقاربة الصين، إن في ما يتعلق بالتعاطي مع الملفات/ الأزمات السياسية الدولية، أو بمدى رغبة بكين في الانخراط بها. انتقلت الصين، في السنوات الأخيرة، من التركيز على توسيع النفوذ الاقتصادي فقط إلى محاولة مراكمة النفوذ السياسي أيضاً. لم يكن الوصول إلى هذا الوضع سهلاً لولا سلسلة من التحولات الداخلية في الصين من جهة، والتراجع في دور الولايات المتحدة في أكثر من منطقة أيضاً.

الصين اليوم هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مع ما يعنيه ذلك من دور في التجارة الدولية والاستثمارات والقروض، ناهيك عن مبادرة “الحزام والطريق”، وما تتضمّنه من مشاريع للسكك الحديد والموانئ والطرق السريعة، وحتى الطاقة، في نطاق واسع يمتد من الصين إلى غرب آسيا وأوروبا. ولذلك ركّزت الصين على الاستثمار في البنى التحتية في عشرات الدول الواقعة ضمن مخطط “الحزام والطريق”، في موازاة تعزيز علاقاتها السياسية في محاولةٍ لتطبيق هذه الرؤية.

التحرّكات الصينية في الآونة الأخيرة، سواء في ما يتعلق بملف التقارب بين الرياض وطهران، أو بالمبادرة التي اقترحتها بكين بشأن الملف الأوكراني، وزيارة الرئيس شي جين بينغ المرتقبة إلى موسكو، وحديثه المنتظر مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، تدلّ على أن الرئيس الصيني، الذي لم يُخف طوال أكثر من عقد طموحاته في نيل زعامة دولية تقارع الولايات المتحدة، قد انتقل من مرحلة التعبير عن طموحاته إلى محاولة تطبيق ما أمكن منها على أرض الواقع. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن يترافق الاختراق الصيني والإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني من بكين مع تكريس شي نفسه زعيماً أوحدَ للصين بعد انتخابه لولاية ثالثة أخيراً، وكأنه إيذان بحقبة صينية جديدة بقيادة شي.

يمكن لمن يتصفّح وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) بين حين وآخر أن يلاحظ عدد التقارير عن أهمية العلاقة بين الصين والعالم، وكيف يركز شي تحديداً على تقديم مقاربةٍ مختلفةٍ للعلاقات الدولية والنظام العالمي عما هو سائد حالياً، بما في ذلك قوله الأربعاء الماضي، خلال لقائه افتراضيا نحو 500 من قادة الأحزاب والمنظمات السياسية من أكثر من 150 دولة لمناقشة فكرة “الطريق نحو التحديث: مسؤولية الأحزاب السياسية”، إن “الصين، في سعيها إلى التحديث، لن تسلك طريق الاستعمار والنهب، ولا المسار الملتوي الذي سلكته بعض الدول للسعي إلى الهيمنة بمجرّد أن تصبح قوية”، قبل أن يقترح ما سمّاها “مبادرة الحضارة العالمية”.

وإذا كانت بكين تمتلك رؤية واضحة لأهدافها للمرحلة المقبلة، إلا أنها تعي أيضاً أن تحقيقها لن يكون سهلاً. يثير تصاعد النفوذ السياسي للصين مخاوف ليس فقط الولايات المتحدة أو حتى أوروبا، بل أيضاً روسيا، فكل اتساع للدور الصيني على الصعيد العالمي يعني عملياً قضماً من نفوذ الأطراف الأخرى المهيمنة.

العربي البجديد

——————————–

واشنطن بوست: كيسنجر يرى الوساطة الصينية في الشرق الأوسط بداية لعبة جديدة بمخاطر مختلفة

إبراهيم درويش

نشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالا للمعلق ديفيد إغناطيوس، قال فيه إن الصين تبشّر اليوم بشرق أوسط متعدد الأقطاب، في تعليق على الإنجاز الدبلوماسي الذي حققته بكين بالتوسط بين السعودية وإيران، لاستئناف علاقاتهما الدبلوماسية بعد انقطاع لسبعة أعوام.

وقال الكاتب إن وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر، كان لديه حس “دي جافو” ( الشعور بأنك عشت تجربة اليوم سابقا)، حيث كان السياسي العجوز يراقب الصين وهي ترعى تقارب السعودية- إيران. فقد كان المثلث الدبلوماسي مشابها لما أنجزه كيسنجر في 1971. وقال كيسنجر في مقابلة مع الكاتب هذا الأسبوع: “أنظر إليه كتغير جوهري في الوضع الإستراتيجي بالشرق الأوسط”.

مضيفا أن “السعوديين يحاولون موازنة أمنهم من خلال اللعب بورقة الولايات المتحدة ضد الصين”. وبطريقة مقارنة قال كيسنجر إنه كان قادرا مع الرئيس ريتشارد نيكسون على اللعب بالتوتر بين بكين وموسكو في اتفاقهما التاريخي. وعليه، فخفض التوتر في منطقة الخليج هو في مصلحة الجميع على المدى القريب. ولفت: “لو أراد الرئيس شي جين بينغ لعب دور مَن يحاول ضبط إيران وتطمين السعودية، فحظا سعيدا له، فالولايات المتحدة تحاول عمل هذا منذ عام 1979 وحرف قوس الثورة الإيرانية نحو الاستقرار”.

على المدى البعيد، يقول كيسنجر إن ظهور بكين كصانع سلام “سيغير شروط المرجعية الدبلوماسية الدولية”، فلم تعد الولايات المتحدة القوة التي لا يستغني عنها أحد بالمنطقة، أي الدولة القوية أو المرنة بدرجة لكي ترعى اتفاقيات السلام، وقد طالبت الصين بحصة من هذه القوة. ويعلق كيسنجر قائلا: “أعلنت الصين في السنوات الماضية عن حاجتها لأن تكون مشاركة في خلق النظام الدولي”، و”تحركت خطوة مهمة الآن بهذا الاتجاه”.

ويرى الكاتب أن الدور المتزايد للصين سيعقّد من قرارات إسرائيل، وما يراه قادتها حول شن حرب وقائية ضد إيران كخيار أخير، في وقت تتحرك طهران باتجاه التحول إلى قوة نووية. ويرى كيسنجر أن “الضغوط على إيران يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المصالح الصينية”.

ويعتبر إغناطيوس أن الصينيين طالما اتسموا بالانتهازية، واستثمروا الجهود الأمريكية الحثيثة (التي لم تشكر عليها) لتقوية السعودية كي تكون في وضع لمقاومة الجماعات الوكيلة لإيران في اليمن والعراق وسوريا. وبنت الولايات المتحدة الطريقة للتقارب السعودي- الإيراني، ولكن الصينيين هم من قصّوا الشريط.

فقد بدأت المحادثات السعودية- الإيرانية قبل عامين في بغداد برعاية رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، شريك الولايات المتحدة. وعقدت بعض المحادثات في عُمان، الحليفة لأمريكا. وفي ست جولات من المفاوضات، اتفق الممثلون السعوديون والإيرانيون على خريطة طريق تقود لاستئناف العلاقات بين الدولتين. واشترطت السعودية قبل إعادة فتح السفارات، أن تعترف طهران بدورها في دعم الحوثيين والحد من هجماتهم على أراضيها.

وأشار الكاتب إلى أن الولايات المتحدة هي التي عبّدت الطريق نحو تسوية للحرب الفظيعة في اليمن. فقد ساعد تيموثي ليندركينغ، مبعوث وزارة الخارجية الأمريكية لليمن، في التفاوض على وقف إطلاق النار في نيسان/ أبريل الماضي. وبدأت الطائرات بالتحليق من مطار صنعاء، وتدفقت البضائع من ميناء الحديدة، وكلاهما تحت سيطرة الحوثيين. وأعلنت السعودية في الفترة الأخيرة عن إيداع مليار دولار في المصرف المركزي اليمني لبناء الاستقرار في البلد.

ثم جاءت الصين لتحصد كل جهود حسن النية الأمريكية. وعندما زار الرئيس شي السعودية في كانون الأول/ ديسمبر، تعهد باستخدام تأثير بلاده على إيران لإتمام الصفقة. وعندما التقت الأطراف الثلاثة في بكين هذا الشهر، اعترف مستشار الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني بدعم إيران للحوثيين، وتعهد بوقف إرسال الأسلحة إليهم، بحسب مصدر مطلع. وتعهدت إيران أيضا بأنها لن تهاجم المملكة مباشرة أو عبر جماعات وكيلة.

وبعد شهرين من الآن، وعلى افتراض سيطرة إيران على الحوثيين والحدّ من نشاطاتهم، فستعيد الرياض وطهران فتح السفارات. ويمكن للمبعوث الأمريكي التفاوض على اتفاقية لتسوية الحرب في اليمن أيضا. ولكن “الفيل في الغرفة” يظل هو البرنامج النووي الإيراني. فمع انهيار الاتفاق النووي عام 2015، زادت إيران من عمليات تخصيب اليورانيوم. ويقول الخبراء إنها قد تقوم باختبار أسلحة نووية بسيطة في مدى أشهر لو أرادت ذلك. وهنا تعرف إيران أنها تقترب من الحافة، فقد تعهدت بأنها ستسمح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية باستئناف عمليات التفتيش لمنشآتها النووية.

ويعلق الكاتب أن النظام الإيراني في تراجع، عملته انهارت، نساؤه الشابات تحدين قوانين الحكومة في ارتداء الحجاب، ويتساءل السكان عن طبيعة البلد الذي سيظهر بعد وفاة المرشد العجوز، آية الله علي خامنئي.

وتحول الشرق الأوسط من مكان المواجهة إلى منطقة توازن القوة، فالسعودية تتعامل مع الصين وإيران، وتقدم 400 مليون دولار لدعم جهود الولايات المتحدة في أوكرانيا، إلى جانب إنفاق 37 مليار دولا على 78 طائرة بوينغ.

وتتعاون الإمارات مع الصين مع احتفاظها بالعلاقات الدفاعية مع الولايات المتحدة، وتسوية خلافاتها الإقليمية مع قطر وتركيا في ليبيا. وبدلا من أن تكون “إسبرطة الصغيرة” كما وصفها وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس، تتحول إلى “سنغافورة الصغيرة”. وعندما كان الشرق الأوسط منطقة هيمنة أمريكية، شجع ذلك السياسات الصدامية من حلفائها السعوديين وإسرائيل ولم يكن مستقرا أبدا. في المقابل، فشرق أوسط متعدد الأقطاب، بعمليات تحوط وتوازن مستمرة، سيجلب معه مخاطره، ولكنه سيفتح المجال أمام قواعد لعبة جديدة كما يقول كيسنجر.

القدس العربي

—————————

=======================

دوافع الاتفاق السعودي – الصيني – الإيراني وآفاقه -مقالات مختارة

—————————–

دوافع الاتفاق السعودي – الصيني – الإيراني وآفاقه

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

بعد مفاوضات سرّية استغرقت خمسة أيام (6 – 10 آذار/ مارس 2023) استضافتها العاصمة الصينية، بيجين، وقادها مستشارَا الأمن القومي في البلدين، توصلت المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتفاق نصَّ على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ كانون الثاني/ يناير 2016، وإحياء الاتفاقات الأمنية والتجارية الموقّعة بينهما. وقد مثّل الاتفاق مفاجأة كبيرة، نظرًا إلى عمق الخلافات بين البلدين، وكونه جاء نتيجة وساطة صينية غير معلَنة من قبل. وهو نتاج سلسلة متعاقبة من محاولات حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة تنويع علاقاتهم من خلال تطويرها مع الصين وروسيا.

تفاصيل الاتفاق

أُعلن عن الاتفاق في بيان ثلاثي مشترك صدر عن الدول الثلاث، الصين وإيران والسعودية، في 10 آذار/ مارس 2023، وورد فيه أن المفاوضات جاءت استجابةً لمبادرة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، وبناءً على اتفاق مع قيادتَي السعودية وإيران بأن تستضيف الصين المباحثات بين البلدين ورعايتها لحلّ الخلافات بينهما بالحوار والدبلوماسية. بناءً عليه، جرت في الفترة 6 – 10 آذار/ مارس 2023، في بيجين، مباحثات بين الوفدَين برئاسة مساعد بن محمد العيبان مستشار الأمن الوطني في المملكة، وعلي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران.

وقد أعلنت الدول الثلاث أنه جرى التوصل إلى اتفاقٍ يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران “وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران، وتأكيد احترامهما سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واتفقا على أن يعقد وزيرا الخارجية في البلدين اجتماعًا لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما”. واتفق البلَدان على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقّعة في 17 نيسان/ أبريل 2001 والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، الموقّعة في 27 أيار/ مايو 1998. كما أعربت الدول الثلاث عن حرصها على بذل كافة الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي، بحسب نص البيان المشترك.

وكانت السعودية وإيران خاضتا قبل ذلك خمس جولاتٍ من المفاوضات غير العلنية بوساطة عراقية خلال الفترة نيسان/ أبريل 2021 – أيار/ مايو 2022، إضافةً إلى ثلاث جولات أخرى استضافتها سلطنة عُمان، لكنها لم تسفر عن نتائج؛ بسبب التعقيدات التي تسود العلاقات بينهما وخلافاتهما بخصوص جملة من القضايا الإقليمية والدولية.

جذور الخلاف السعودي – الإيراني

تعود جذور الخلافات السعودية – الإيرانية إلى عام 1979، حين أعلنت الرياض دعمها نظام الشاه محمد رضا بهلوي في مواجهة موجة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت ضده أواخر عام 1977، وانتهت بإطاحة نظامه عام 1979. وازداد التوتر مع إعلان النظام الجديد في طهران عن نيته تصدير الثورة إلى دول الجوار، وإطاحة الأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة في منطقة الخليج. وعندما اندلعت الحرب بين العراق وإيران عام 1980، وقفت السعودية إلى جانب العراق حتى نهايتها عام 1988. كما حصلت مواجهاتٌ عسكرية مباشرة بين الرياض وطهران. ففي حزيران/ يونيو 1984 أسقطت السعودية طائرتين إيرانيتين اخترقتا مجالها الجوي. وبلغ التوتر بين الطرفين ذروته خلال موسم حج عام 1987، عندما أدّت احتجاجات لحجاج إيرانيين رفعوا شعارات سياسية، إلى مقتل أكثر من 400 شخص بينهم 275 حاجًا إيرانيًا، و85 شرطيًا سعوديًا.

ورغم أن العلاقات بين البلدين تحسّنت في عهد إدارة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997-2005)، حيث جرى خلالها توقيع الاتفاقيتين المذكورتين في بيان بيجين الخاص بإعادة العلاقات الدبلوماسية (اتفاقية التعاون الاقتصادي لعام 1998، واتفاقية التعاون الأمنية لعام 2001)، فإنها توتّرت من جديد بعد الغزو الأميركي للعراق، وخصوصًا في عهد إدارة الرئيس محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، حيث اتهمت السعودية إيران بمحاولة السيطرة على العراق من خلال المليشيات والقوى السياسية حليفتها. كما اتهمتها بمحاولة الهيمنة على سورية بعد تدخّلها لدعم نظام بشار الأسد ضد الثورة التي حاولت إطاحة حكمه، وبدعم التمرد الحوثي في اليمن، الذي سيطر على العاصمة صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014، ما دفع السعودية إلى التدخّل عسكريًا في آذار/ مارس 2015، لقطع الطريق على زحف الحوثيين في اتجاه عدن بعد إطاحة حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي في صنعاء. ورغم أن المملكة لم تعلن صراحةً رفضها الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إدارة الرئيس باراك أوباما مع إيران عام 2015، فإنها عارضته ضمنًا، خصوصًا أن الاتفاق لم يأخذ في الاعتبار برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية، وقد نظرت إليه الرياض باعتبار أنه يعزّز الوضع السياسي والاقتصادي الإيراني.

وفي مطلع عام 2016، قرّرت السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، بعد أن اقتحمت حشود غاضبة السفارة السعودية في طهران، وأحرقت القنصلية السعودية في مدينة مشهد؛ ردًا على إعدام السلطات السعودية رجل الدين الشيعي، نمر النمر، الذي اتهمته الرياض بإثارة النعرات الطائفية والخروج على النظام العامّ. ومثّل وصول الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم في واشنطن عام 2016 عاملَ توتّر إضافيًا في العلاقات بين الرياض وطهران؛ إذ أبدت السعودية ارتياحًا لمواقف إدارة ترامب نحو إيران، بما في ذلك قراره الانسحاب من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات على طهران، والتي شملت حظر تصدير النفط الإيراني وعزل إيران عن النظام المصرفي العالمي. وفي أيار/ مايو 2019، سعت السعودية إلى حشد العالم الإسلامي وراءها من خلال استضافتها ثلاث قمم متزامنة خليجية وعربية وإسلامية في مكّة؛ لمواجهة إيران بعد أن استهدفت هجماتٌ، يُعتقد أن إيران تقف وراءها، مصالح نفطية سعودية، بما فيها ناقلات تحمل النفط السعودي في الخليج العربي وبحر عُمان. وتتهم المملكة إيران أيضًا بالوقوف وراء الهجمات التي تعرضت لها منشآت أرامكو في بقيق وخريص في أيلول/ سبتمبر 2019، وأدّت إلى خروج نصف إنتاج السعودية من النفط من الخدمة، وتعدّه جزءًا من حرب وكالة تخوضها إيران ضدها عبر حلفائها في اليمن والعراق.

دوافع التغيّر في الموقف السعودي من إيران

أخذت السعودية تميل إلى التهدئة مع إيران منذ أواخر عام 2019، وذلك بعد الصدمة التي أحدثها رد فعل الرئيس ترامب على الهجمات التي تعرّضت لها منشآت أرامكو لتبرير غياب رد فعل تجاهها بقوله “هذا هجوم على السعودية وليس على الولايات المتحدة”. وقد ازدادت قناعة السعودية بضرورة تغيير مقاربتها العلاقة بإيران مع وصول إدارة الرئيس بايدن إلى الحكم مطلع عام 2021، وقرارها مراجعة العلاقات مع الرياض التي أخذت طابعًا شخصيًا خلال رئاسة ترامب. بناءً عليه، أعلن بايدن في شباط/ فبراير 2021 قرارًا يقضي بـ “إنهاء كل أشكال الدعم الأميركي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة” لكل من السعودية والإمارات، وسعي إدارته إلى إيجاد حلٍّ دبلوماسي للصراع الذي قال إنه “خلق كارثة إنسانية واستراتيجية”. وكانت إدارة بايدن أعلنت سابقًا تعليق صفقات الأسلحة التي كانت أقرّتها إدارة ترامب للرياض وأبوظبي، ومراجعتها.

وبالتوازي مع حجب الدعم الأميركي لأغراضٍ هجومية عن السعودية في حرب اليمن، أخذت الحرب نفسها تمثل استنزافًا كبيرًا للمملكة من الناحيتين المادية والسياسية في ضوء الكارثة الإنسانية التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ في العالم. وتذهب تقديراتٌ إلى أن السعودية تكبّدت ما يزيد على مائة مليار دولار بسبب هذه الحرب. وقد دعاها ذلك، في آذار/ مارس 2021، على لسان وزير خارجيتها، فيصل بن فرحان، إلى إطلاق مبادرةٍ لوقف الحرب في اليمن، تضمّنت وقفًا شاملًا لإطلاق النار في جميع أنحاء البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة، وإعادة فتح مطار صنعاء واستئناف المفاوضات السياسية بين حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي والمتمرّدين الحوثيين. ورغم أن هذه المبادرة لم تحظ بفرصة للنجاح فإنّ طرفَي الصراع في اليمن توصّلا إلى هدنةٍ لوقف القتال في رمضان عام 2022؛ وذلك بعد فشل آخر هجوم حوثي كبير للسيطرة على محافظة مأرب الغنية بالنفط. ورغم عدم الاتفاق على تجديد الهدنة فإنها استمرّت، ما أحيا الآمال بإمكانية وقف هذه الحرب. وفي الوقت نفسه، أرسلت إيران، التي أخذت تتطلّع في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي إلى تحسين العلاقات مع السعودية للخروج من عزلتها الإقليمية وتخفيف الضغوط الغربية عليها، إشاراتٍ تعبّر عن استعدادها لتقديم المساعدة في وقف حرب اليمن من أجل تحسين العلاقات مع الطرف الخليجي وتقليص سرعة انجرافه نحو التقارب مع إسرائيل.

رغم فشل عقد جولة جديدة من المباحثات الإيرانية – السعودية في بغداد، بعد رحيل حكومة مصطفى الكاظمي وتشكيل حكومة محمد شيّاع  السوداني التي اعتُبرت أقرب إلى طهران، وتصاعد الضغوط الأميركية على إيران، بعد أن اتخذت الأخيرة قرارًا بمساندة المجهود العسكري الروسي في حرب أوكرانيا، وردّ واشنطن بالتقارب مع الرياض واستئناف جولات الحوار الأمني والدفاعي معها، فإنّ السعودية قررت تلبية دعوة الصين لعقد مباحثات سرّية مع إيران على مستوى مستشاري الأمن القومي، أسفرت عن الاتفاق على استعادة العلاقات الدبلوماسية.

دوافع إيران للتقارب مع السعودية

تمثّلت أبرز الأسباب التي دعت السعودية إلى تغيير موقفها من العلاقة مع إيران في رغبتها في الخروج من المستنقع اليمني، والشكوك المتصلة بالتزام الولايات المتحدة بأمنها. أما الأسباب الرئيسة التي دفعت إيران إلى الانفتاح على أي محاولةٍ سعوديةٍ في اتجاه التفاهم معها، فتمثلت في تدهور العلاقة مع الغرب وزيادة الضغوط بسبب ملفها النووي، وتزايد احتمال وقوع هجوم على برنامجها النووي، واستمرار موجة الاحتجاجات فيها، وتداعيات موقفها من الحرب في أوكرانيا.

لقد أبدى إبراهيم رئيسي، عندما وصل إلى الحكم في آب/ أغسطس 2021، رغبة واضحة في الانفتاح على دول الخليج العربية، وخصوصا السعودية، بديلًا من فشل مقاربة التفاهم مع الغرب التي انتهجتها إدارة سلفه، الرئيس حسن روحاني. وكان الاعتقاد السائد في دوائر السلطة في طهران أنّ تفاهمًا مع السعودية يمكن أن يُثمر دعمًا سعوديًا لإحياء الاتفاق النووي الذي يعدّ شرطًا لرفع العقوبات غير المسبوقة التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب على إيران. لقد ألحقت العقوبات الاقتصادية أضرارًا بالغة بالاقتصاد الإيراني الذي يعتمد بصورةٍ كبيرةٍ على تصدير النفط. وتذكُر تقديراتٌ إيرانية أن خسائر إيران بلغت 150 مليار دولار بسبب هذه العقوبات. كما ألحقت العقوبات أضرارًا كبيرة باقتصاد الحرس الثوري، الذي صنّفه الرئيس ترامب عام 2018 منظمة إرهابية. ويعتمد هذا الحرس بصورةٍ رئيسةٍ على تجارة النفط للحصول على تمويله الخاص من خارج ميزانية الحكومة.

لكن الحسابات تغيرت بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وبعد أن اتخذت إيران قرارًا بدعم روسيا فيها، فقد أدّى ذلك إلى تعقيد الخلافات المعقدة أصلًا مع الولايات المتحدة، وإضعاف فرص إحياء الاتفاق النووي، ومن ثم، رفع العقوبات الأميركية التي أضيفت إليها حزمٌ جديدة. وزادت فرص المواجهة العسكرية أيضًا، خصوصا بعد إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه لم يعد باستطاعتها تأكيد سلمية البرنامج النووي الإيراني، بعد أن تحلّلت إيران من كثيرٍ من التزاماتها بموجب الاتفاق، في إثر انسحاب إدارة ترامب منه، بما في ذلك نزع كاميرات مراقبة من مواقع نووية، وعدم إجابتها عن مصدر لليورانيوم المخصّب في ثلاثة مواقع نووية لم يسبق لها أن أعلنت عنها. ويبدو أنّ إحساس إيران بالخطر ازداد أكثر مع تصاعد التنسيق العسكري الأميركي – الإسرائيلي بخصوص التعامل مع البرنامج النووي في الآونة الأخيرة، خصوصا بعد إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها وجدت مادّة اليورانيوم المخصّب في منشأة فوردو النووية بنسب تقترب من النسبة اللازمة لصناعة سلاح نووي، فضلًا عن زيادة حجم الاختراقات الإسرائيلية للداخل الإيراني وتضاعف مداها. وتقدّر إيران أنّ تفاهمًا مع السعودية سوف يُضعِف بالتأكيد أيّ تحالف إقليمي ينشأ ضدها بقيادة أميركية، خصوصا بعد أن تمكّنت إسرائيل من تحقيق اختراقات مهمة في علاقاتها العربية، في الخليج خصوصًا مع الإمارات والبحرين. وهذا يفسّر احتفال إيران بالاتفاق مع السعودية.

دوافع الوساطة الصينية

مثّل إعلان استئناف العلاقات الإيرانية – السعودية من بيجين مفاجأة كبرى، لا تقلّ عن مفاجأة التطوّر الذي طرأ على العلاقات بين الجارين الخليجيَين؛ فالصين التي لم تكن ذات نفوذ مهم في المنطقة حتى وقت قريب تمكّنت من القيام بوساطة ناجحة في منطقةٍ كانت تاريخيًا محسوبة على النفوذ الأميركي. وخلال السنوات الأخيرة، أخذت بيجين تبدي اهتمامًا بالغًا بهذه المنطقة التي تؤمّن لها نحو 40% من احتياجاتها من النفط، ومن ثمّ، أخذت تطوّر علاقتها بها على نحوٍ مطّرد. ففي آذار/ مارس 2021، وقّعت الصين وإيران اتفاقية للتعاون الاستراتيجي تبلغ قيمتها نحو 450 مليار دولار يُرصد الجزء الأكبر منها لتطوير قطاع الطاقة الإيراني، بدءًا بحقول الإنتاج وصولًا إلى بناء المصافي ومصانع البتروكيماويات. في المقابل، غدت الصين الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، منذ عام 2019، متجاوزةً بذلك الاتحاد الأوروبي بإجمالي مبادلات تجارية زادت على 180 مليار دولار، استأثرت المبادلات السعودية – الصينية بنحو نصفها. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2022 استقبلت الرياض الرئيس الصيني استقبالًا مميزًا، حيث جرى تنظيم قمة عربية – صينية وصينية – خليجية. وقد مثّلت الزيارة قفزة في العلاقات بين الصين والسعودية التي تعدّ حليفًا تاريخيًا للولايات المتحدة.

تعدّ منطقة الخليج مهمةً بالنسبة إلى الاقتصاد الصيني، ومن الضروري الحفاظ على استقرارها، كما أن العلاقات المميزة التي تربط بيجين بضفتَي الخليج، ورغبتها في الظهور بمظهر صانع السلام والقادر على حل أعقد المشكلات الدولية، بما فيها الإيرانية – السعودية، كلها عوامل دفعت الصين إلى عرض وساطتها في قلب المنطقة التي مثّلت تاريخيًا دائرة نفوذ أميركية، في مرحلة بلغ فيها التنافس الصيني – الأميركي ذروته.

خاتمة

لم تتضح بعد الحيثيات التي أدّت إلى نجاح الوساطة الصينية، ولا التفاصيل أو التنازلات التي قدّمها الطرفان الإيراني والسعودي لتسهيل استئناف العلاقات بينهما. لكن من خلال ردود الأفعال التي صدرت في المنطقة، ربما تظهر ترجمة ذلك في اليمن أولًا وفي لبنان لاحقًا. لكن واقع المشكلات المعقّدة التي جعلت العلاقة بين البلدين تتأزّم، ووجود أطرافٍ عديدةٍ غير راضية عن المسار الجديد، خصوصا إسرائيل والولايات المتحدة، أقلّه بسبب دور الصين، قد يجعلان تسوية المشكلات أشدّ صعوبة مما تبدو عليه في الوهلة الأولى. كما أن الاتفاق، في حد ذاته، لا يدلّ على أيّ تغيير في موقف أيٍّ من الطرفين بشأن القضايا موقع الخلاف، والذي يمكن أن يستمرّ بوتيرة وبأشكال أخرى. فهل سيضفي هذا الاتفاق أجواء إيجابية تمكّن من تسوية الخلافات، إن لم يكن حلّها؟

العربي الجديد

——————————-

دمشق تحت سلطة طهران طالما بقي الأسد/ العقيد عبد الجبار العكيدي

اتسمت العلاقة بين السعودية وإيران بتوتر شبه دائم منذ وصول المرشد الإيراني روح الله الخميني إلى السلطة عام 1979، وذلك كانعكاس مباشر للسياسة الإيرانية القائمة على التوسع والهيمنة والتدخل في شؤون دول الجوار. وقد تعزّز هذا التنابذ طيلة الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) نتيجة لانحياز الرياض إلى جانب العراق انطلاقاً من اعتقادها بأن العراق هو حائط الصدّ الذي يجب أن يبقى حائلاً دون اختراق إيران لدول الخليج برمتها.

ولكن نهاية الحرب بين بغداد وطهران لم تؤذن بنهاية القلق السعودي من المدّ الإيراني المدفوع بسياسات “الولي الفقيه” التي لم تتغير على الرغم من تعاقب الحكومات الإيرانية، ومن جهة أخرى لم يعد العراق هو الممر الوحيد للاختراقات الإيرانية، بل استطاعت طهران إيجاد أذرع لها في أكثر من دولة عربية، الأمر الذي جعل العلاقة بين الحكومات الخليجية، والسعودية على وجه الخصوص، وبين إيران في حالة من الريبة الدائمة، ثم تطورت هذه الريبة إلى قطيعة تامة عام 2016 على إثر الاعتداء على السفارة السعودية في طهران.

لعله من نافل القول إن الاستراتيجيات الدفاعية التي اتبعتها السعودية كانت متماهية إلى حدّ بعيد مع الموقف الأميركي حيال إيران، وذلك نظراً لغياب منظومة أمن قومي عربي أولاً، ولعمق التفاهمات السعودية-الأميركية التي جعلت إيران ترى في السعودية منطقة نفوذ أميركية يمكن التلويح باستهدافها إذا ما راودت واشنطن فكرة الحرب على إيران، وربما كان هذا هو السبب في ارتفاع حدّة التصعيد السعودي تجاه إيران أو خفوته موازياً لسخونة التصعيد الأميركي أو برودته.

لعل المفصل الأهم في العلاقات الإيرانية-الأميركية، يتمثل بالاستراتيجية التي كرستها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما حين انتهجت سياسة احتواء إيران بدلاً من التصادم معها، وقد تجسد هذا النهج الجديد من خلال الاتفاق النووي بين الطرفين عام 2015، وعلى الرغم من تنصل إدارة ترامب من الاتفاق المذكور، إلا أن حكومة الرئيس جو بايدن أرادت تعزيز نهج الحزب الديمقراطي في واشنطن، والذي ينهج باتجاه الحدّ من التدخل العسكري المباشر خارج الحدود الأميركية والاعتماد على قوى محلية للدفاع عن المصالح الأميركية، الأمر الذي عزّز القناعة لدى دول الخليج عموماً بضرورة إعادة النظر باستراتيجياتها الدفاعية التي ينبغي أن تواكب المستجدات الدولية والإقليمية، والتي بلغت ذروتها في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا، ولعل أبرز تلك المستجدات:

1 – إصرار حكومة بايدن على استكمال التفاهمات مع إيران بخصوص ملفها النووي، الأمر الذي قد يفضي إلى ظهور عهد جديد أكثر إيجابية بخصوص العلاقات بين الطرفين.

2 – عدم قدرة السعودية على حسم النزاع في اليمن والقضاء على نفوذ الحوثيين على الرغم من مرور ثماني سنوات من الحرب.

3 – حرص واشنطن على عدم زوال نظام الأسد من خلال إتاحة المجال لروسيا كي تتدخل عسكرياً لحماية النظام، ما يعني أن واشنطن ليس لديها أي مسعىّ جدّي لمحاربة أذرع إيران في المنطقة، سواء تمثلت تلك الأذرع بالحوثيين في اليمن أو نظام الأسد في سوريا أو حزب الله في لبنان.

وفي موازاة ذلك، لا يمكن تجاهل نشوء محور دولي جديد قوامه روسيا والصين وإيران، وفي ظل استراتيجية إدارة بايدن حيال حلفائه الخليجيين، فإن الخشية السعودية من غياب المظلة الأمنية الأميركية تدفعها لمواكبة تلك المتغيرات من خلال إعادة النظر في علاقاتها عامة، ومع دول المحور الجديد على وجه الخصوص، وربما هذا ما دفع بالرياض إلى عدم مواكبة الموقف الأميركي من روسيا حيال حربها على أوكرانيا، وكذلك سعيها إلى تمتين علاقاتها مع الصين من خلال إبرام عدة اتفاقيات اقتصادية، ربما وفّرت المناخ المناسب لأنْ ترعى بكين مصالحة سعودية-إيرانية في 10 آذار/مارس.

ما من شك أن الاستدارات الراهنة في السياسة السعودية إنما تنبثق من سعيها لمجاراة مصالحها الأمنية والاقتصادية بالدرجة الأولى، ولعل منطق المصالح الذي بات هو الناظم الأساسي للعلاقات بين الدول قد يؤدي إلى تغيّرات جديدة ، بل ربما تكون مباغتة للسوريين، ونعني بذلك انعطافه خليجية، بل سعودية على وجه التحديد باتجاه نظام الأسد، ليس لمصلحة مرجوة من نظام الأسد كنظام متهالك أشبه ب”جثة متفسخة”، ولكن باعتبار أن الطريق إلى إيران توجب المرور بدمشق، ولو على مستوى شكلي لا أكثر. ولئن استفزّت هذه الاستدارة مواجع السوريين وعزّزت لديهم الشعور بتنصل ما تبقى من الحلفاء العرب للثورة السورية، إلا أن هذا الشعور، وعلى الرغم من مشروعيته، فإنه لا يبدو كافياً لإقناع الحلفاء بالاحتفاظ بمواقفهم السابقة في ظل كل هذه المتغيرات الدولية.

من المؤكد أن الملف اليمني والحرب التي استنزفت الجانبين السعودي والإيراني لها الأولوية في على طاولة المفاوضات، ولكن من المؤكد أيضاً أن القضية السورية لم تكن ثانوية في تلك المفاوضات التي رعتها بكين، ولكنها ليست بعيدة عن نظر واشنطن التي تسعى الى التهدئة وإطفاء جميع الحرائق في المنطقة للتفرغ لملفات أخرى أكثر أهمية بالنسبة لها من الشرق الأوسط والمنطقة العربية التي لم تعُد تحظى باهتمام أميركي كبير.

لربما يكون تخوف السوريون من هذا التقارب نابع من مشاعر الخذلان وتخلي الشقيق والصديق عن قضيتهم التي يظنون أنها باتت في الأدراج المنسية للدول، واعتقادهم بانه سيتم مقايضتها على حساب قضية ميليشيا الحوثيين في اليمن، الا أن هذا التخوف لا يعكس حقيقة الاتفاق لأنه لا يمكن لحكومة المملكة أن تكون غافلة عن حقيقة نظام الملالي المخادع  والذي من المستحيل أن يتخلى عن سياسته القائمة على أيديولوجيا توسعية تهدف للهيمنة على بلدان المنطقة بل واحتلالها إن استطاع، ومن غير الممكن تخليه عن أدواته التي يستخدمها لتنفيذ هذه الأجنداتـ والمتمثلة بميليشيا حزب الله ونظام الأسد والحوثيين والحشد الشعبي وفاطميون وزينبيون، وغيرهم من الأدوات التي يهيمن من خلالها على أربع عواصم عربية.

ما سبق يقودنا الى إمكانية ان يؤدي هذا التقارب إلى بعض التفاهمات في جميع الملفات الشائكة بين الجانبين حسب الأولويات، تقود إلى حلول توافقية في القضايا الخلافية بين البلدين، ومن المحتمل أن يتم ترحيل تلك القضايا الخلافية ومنها القضية السورية ومصير نظام الأسد إلى حين حصول توافق دولي وبرعاية دولية.

ما يأمله السوريون أن يدرك العرب وخاصة اللاهثين منهم للتطبع مع نظام الأسد بذريعة سحبه من الحضن الإيراني، أن العلاقة بين نظام الأسد ونظام الملالي في طهران علاقة عضوية ومن المستحيل فصلهما عن بعضهما البعض، وأن شوكة إيران وأذرعها ستبقى قوية طالما بقي الأسد في عاصمة الأمويين.

المدن

—————————

الرابح والخاسر في الاتفاق السعودي الإيراني/ أحمد رحّال

بعد جولات تفاوضية في بغداد لم يُكتب لها النجاح (وقد تكون تمويهية) بين مفاوضين إيرانيين وسعوديين، وبرعاية من رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي، نجح الراعي الصيني، عبر مفاوضات سرّية في بكين، في تحقيق اختراقٍ سياسيٍّ كبير، عبر التوصل إلى اتفاق سياسي بين طهران والرياض، ينهي حالة القطيعة والصدام العسكري غير المباشر بين الطرفين، ويمهّد، بعد فترةٍ تجريبيةٍ تمتد شهرين، لعلاقات دبلوماسية ولقاءات بين وزراء الخارجية في محطتها الأولى، وقد تصل إلى زيارات على مستوى أعلى رأس الهرم السياسي بين البلدين.

ربما ساهمت، بشكلٍ ما، الظروف السياسية والعسكرية غير المريحة التي يعيشها الطرفان بتشكيل ضغوط ايجابية على كلا المتفاوضين، وأسهمت بالتوصل إلى هذا الاتفاق، فإيران تعيش تحرّكات شعبية داخلية أرهقت الحكومة والقوى الأمنية، تُضاف إلى اقتصاد منهكٍ بعقوبات غربية شلّت عجلة الصناعة والتجارة والدورة الاقتصادية، وانعكست سلباً على حياة المجتمع الإيراني الذي يرزح أساساً مع حكومته تحت ضغوط غربية، إثر تعثّر المفاوضات النووية مع مجموعة 5+1 في فيينا، ومع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وزادت الضغوط عندما لوّحت إسرائيل باللجوء إلى القوة لوقف المشروع النووي الإيراني ومشروع الصواريخ الباليستية والطيران المسيّر الذي دخل الحرب الأوكرانية إلى جانب الروس، الأمر الذي زاد من غضب الغرب المتحفّز لفرض عقوبات جديدة على إيران.

تشعر السعودية على الضفة الأخرى أيضاً بأنها غرقت بأوحال حرب استنزاف في اليمن غير معروفة النهايات، وأن ما تصرفه آلة الحرب في جيشها دعماً للشرعية اليمنية ولمتطلبات الأمن القومي السعودي، كان يجب أن يُصرف على مشاريع اقتصادية تنعكس على حياة مواطنيها، وتساهم بتحقيق خطة 2030 التي طرحتها القيادة السياسية السعودية. وزادت التعقيدات من خلال التهديدات المباشرة التي طاولت منشآتها النفطية والصناعية، خصوصاً بعد تعرّض منشآتها النفطية، وبعض المواقع الحيوية والخدمية داخل المملكة لعدة هجمات، أخطرها الهجوم على منشآت أرامكو عام 2019، الذي وُجّهت الاتهامات في حينها لإيران بأنها الفاعل أو الموجّه أو الداعم.

الاتفاق السعودي الإيراني يعني، في أهم تفاصيله، خروج المملكة ومعها معظم دول الخليج، من دائرة الاستهداف الإيراني، إذا ما كانت هناك حرب أميركية – إسرائيلية على إيران، أيضاً الاتفاق يحقّق هدفاً مهماً لإيران بوقف أي هجمات صاروخية أو عبر الطائرات من قواعد أميركية تتموضع في دول الخليج العربي. وبالتالي، تبقى للولايات المتحدة القدرة على استخدام أسطولها البحري مع حاملات الطائرات والغوّاصات والقدرات السيبرانية والإلكترونية، إضافة إلى أعمال مفارز التخريب داخل الأراضي الإيرانية وخلف خطوط القتال، فهل يمكن للجيش الأميركي تنفيذ مهام الحرب المخطّطة على إيران بتلك القدرات والإمكانات؟

قبيل إعلان الاتفاق في بكين، كانت هناك جولات متزامنة لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، ورئيس أركان جيشه على عواصم أوسطية وعربية ومواقع ساخنة، أهمها تل أبيب وعمّان والقاهرة وقاعدة التنف ومناطق قوات سورية الديمقراطية في شرق الفرات، وقدّم فيها رئيس الأركان، الجنرال مارك ميلي، وعوداً للحلفاء بزيادة أعداد الجنود الأميركيين في سورية، ورفع عدد النقاط القتالية المشتركة مع التحالف الدولي في شرق الفرات، على أن تترافق تلك الإجراءات مع زيادة الدعم اللوجيستي والقتالي من واشنطن، تسبقها إجراءات تنظيمية، تشمل إعادة هيكلة قوات الحلفاء المحليين، بما ينسجم مع تنفيذ مهام جديدة ستوكل لهم، منها مهمة مواجهة مليشيات إيران في سورية عند الضرورة. وقد تكون مهمة إغلاق “الكوريدور الإيراني” بين البوكمال وقاعدة التنف المهمة الأكبر التي بحث عنها الجنرال مارك، لكن ما لم تُفصح عنه الزيارة، هو ما إذا يمكن أن تكون مناطق شرق الفرات بديلاً من قواعد أميركية باتت معطّلة في الخليج لاستهداف الشمال الإيراني، باعتبار أن المسافة بين شمال شرق سورية والأراضي الإيرانية عبر سماء كردستان أقلّ من المسافة التي تفصل بين الأراضي السعودية وإيران عبر مياه الخليج العربي؟

نقلت إسرائيل، قبل أقلّ من عام، بعض غواصاتها وسفنها الحربية إلى بحر العرب. واشتركت مع القوات البحرية الأميركية بعدة مناورات وتدريبات على مقربة من الشواطئ الإيرانية. وشملت التدريبات محاكاة هجوم مشترك على منشآت إيران الحيوية ومفاعلاتها النووية ومصانع صواريخها الباليستية وطيرانها المسيّر ومقرّات القيادة وعقد الاتصال، فهل كان للقوات الإسرائيلية في بحر العرب علم مسبق بالمصالحة السعودية الإيرانية، وشكلت بوجودها هناك تعويضاً عن قواعد الخليج التي خرجت من الحسابات العسكرية الأميركية العملياتية في الحرب المقبلة على إيران (إذا ما تمّت)؟

بتسريبات أميركية، كشف النقاب عن خطة حرب عسكرية للجيش الأميركي أطلق عليها اسم عملية “دعم الحارس”، وضعتها وزارة الدفاع الأميركية بالتنسيق مع إسرائيل، ورصدت لها ميزانية للتخطيط والتدريب، لتطبق في حال فشل المفاوضات السياسية مع إيران حول مشاريعها النووية والباليستية والطيران المسيّر، وإن عملية “دعم الحارس” تستند إلى معلومات استطلاعية جوية وفضائية، أميركية وإسرائيلية، جمعت واستطاعت تشكيل بنك أهداف حيوية يحوي 600 هدف داخل إيران وخارجها. وإن الخطة إذا ما اتُّخذ القرار بتنفيذها، لا بد من أن تحقق هدفين: الأول، شلّ القدرات العسكرية الإيرانية شللاً تاماً، عبر أمواج من الضربات الجوية والصاروخية المتلاحقة التي تكبّل إيران، وتمنعها من إمكانية القيام بأي ردود عسكرية على القوات الأميركية في البحر أو القواعد العسكرية على البرّ، وكذلك تمنع مهاجمة الحلفاء. الثاني: إنهاء الحرب بسرعة، بعد تدمير الأهداف المطلوبة وعدم إطالة زمن الحرب وترك الفرصة للروس بالتدخل إلى جانب إيران، والثأر لما فعله الغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا.

لكن الجيش الأميركي يقول إن روسيا استطاعت، خلال الحرب على أوكرانيا، اغتنام أسلحة غربية ضخمة من حيث الكمّ والنوع، من مستودعات الجيش الأوكراني المنسحبة من مناطق في الجبهات الجنوبية والشرقية، وإن روسيا قدّمت تلك الأسلحة المتطوّرة للحرس الثوري الإيراني، كمقابل للطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية التي دخلت الحرب على جبهات أوكرانيا إلى جانبهم، وإن الروس تعمّدوا نقلها إلى إيران، لأسباب ثلاثة: لإهانة الغرب عبر تدمير بعض مواقعهم بسلاح غربي. لتستفيد الصناعات العسكرية الإيرانية من التقنيات الغربية ومحاولة تقليدها. ولتصنيع مضادّات لتلك الأسلحة بعد معرفة ميزاتها القتالية والتعبوية.

بالعودة إلى ملفّ المصالحة السعودية الإيرانية، يتضمّن الاتفاق الابتعاد عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لكن معضلته تكمن في التطبيق، رغم التعهد الصيني بالإشراف على التنفيذ، باعتبار أن إيران تعتبر أن مراكز نفوذها الخارجي في بعض الدول هي خط الدفاع الأول عن نظام ولاية الفقيه، وأنها توجد في تلك الدول بناءً على تفاهمات وطلبات من حكومات تلك الدول التي تخضع لمشيئتها، وهذا ما ترفضه معظم شعوب المنطقة.

بموازين الربح والخسارة، يحقق الاتفاق مطالب الطرفين، وينزع فتيل الحرب بينهما، ويمهد لاستقرار المنطقة، إذا ما نُفّذت بنوده بحذافيرها من دون لفٍّ أو دوران أو مماطلة، فهل توافق الدولة الإيرانية العميقة ممثلة بالمرشد الإيراني، خامنئي، ومجلس الشورى لديه، على الاتفاق الذي وقّعته حكومة إيران الرسمية في بكين؟ وبالتالي تُمهد الطريق لرسم خريطة تفاهمات جديدة تعزّز الأمن والسلام، وتُبعد شبح الحرب عن منطقةٍ بات حلمها العودة إلى العيش بسلام؟ أم أن تشابك المصالح في الخليج وتعقيداتها لا تُفك شيفرة رموزه إلا عبر فوهات البنادق؟

—————————–

اتفاق طهران- الرياض… سنتسلى قليلاً قبل أن تداهمنا الحروب مجدداً/ حازم الأمين

“السعودية وإيران أعلنتا، عن توصلهما لاتفاق لإعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين والمقطوعة منذ 7 سنوات وذلك بوساطة صينية”! ولكن هل شمل الاتفاق الحروب الأهلية في اليمن ولبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى فلسطين؟ الدولتان، مشعلتا الحروب الأهلية، وقعتا اتفاقاً سترسلان بموجبه سفيريها إلى عاصمتيهما. وفي هذا الوقت ارتفع منسوب التفاؤل على طرفي خط الانقسام السني- الشيعي الذي يشطر الإقليم.

الصدوع الأهلية أعمق من أن تلتئم في أعقاب اتفاقٍ، الأرجح أنه عابر، فالشقاق وصل إلى مناطق تقدمت معها المصلحة بالحرب على المصلحة بالتسوية. والصين أقل حضوراً في التفاصيل من واشنطن، والشراكات الاقتصادية على أهميتها، لا تكفي لرأب صدع أهلي لطالما استُحضر من قرون غابرة، ولنا بمسلسل معاوية مثال ونموذج.

 الاتفاق برعاية صينية ولد من لا شيء! من هي الصين لكلا البلدين؟ شريك تجاري. هل هذا يكفي؟ الأرجح أن على المسارعين إلى التفاؤل، أن يتحلوا ببعض الروية. للسعودية حساب مع واشنطن، وفي الفترة الأخيرة مع أبو ظبي، وطهران مأزومة بسبب العقوبات الغربية. الصين ليست مخرجاً من الاختناقين، ولا تملك دالة على معظم خطوط النزاع.

المحتفلون الممانعون بالاتفاق، وغير الخجلين مما سيفضي إليه خطاب شيطنة آل سعود، يعتقدون أن ما حصل هو انتصار لـ”خيار الشرق”، أما المرحبون بـ”الإنجاز الصيني” من الجهة الأخرى، فهم لطالما غرقوا في “شبر من الماء”، وعادوا بعد غرقهم إلى مواقعهم خائبين.

على ماذا اتفقت السعودية وإيران؟ على إنهاء الحرب في اليمن؟ أم على رئيس للجمهورية في لبنان؟ ماذا عن الانقسام الفلسطيني، أم الاستعصاء السوري، وهل العراق جزء من الصفقة؟ هذه قضايا تحتاج إلى سنوات من التفاوض وإلى فِرق ووفود وتفاصيل ومباحثات تعقب إعلان الرغبة في تسويتها. لا يكفي أن تعلن دولتا الحروب الأهلية عن نيتهما في حلها. وغياب واشنطن عن الصفقة تبقيها أحادية. فهذا الغياب يعني غياب تل أبيب والقاهرة، ناهيك بأبو ظبي وعمان.

على ماذا اتفقت السعودية وإيران؟ على إنهاء الحرب في اليمن؟ أم على رئيس للجمهورية في لبنان؟ ماذا عن الانقسام الفلسطيني، أم الاستعصاء السوري، وهل العراق جزء من الصفقة؟

الاتفاق كما أعلن، لا يعدو كونه لحظة شعرت فيها الدولتان بأنهما تريدان الالتفاف على ما هما فيه من تخبط، الرياض في علاقتها غير المستقرة مع واشنطن، وطهران في مواجهة الحصار الغربي. لكن الحاجة إلى الحروب ما زالت قائمة، وهياكل الصدام حصل استثمار هائل فيها. قد نشهد هدنة على بعض خطوط المواجهة، لكن الأمر لن يتعدى ذلك. هل ستقبل السعودية بدولة يتصدرها الحوثيون على حدودها؟ وهل ستفكك ايران “حزب الله” في لبنان؟ وأي وهم يمكن أن يمثله حل من دون هذه الشروط؟

هكذا وعلى حين غرة استيقظت صين أطاحت بأميركا في الشرق الأوسط، وأنجزت ما عجز عن إنجازه الغرب مجتمعاً! الاعتقاد بذلك يشبه الاعتقاد بالزراعة على شرفات المباني بوصفه حلاً لانهيار الاقتصاد اللبناني. الشرق وقد جاء ليطيح بسنوات من التفوق الغربي. وعلى طرفي هذه الأوهام تقيم نيات أخرى. وحده خطاب الصدام سيرتبك، لكن الصدام نفسه لن يجد بما حصل ما يبدده. المصلحة في الحروب أعمق بكثير من الرغبة في إرباك أميركا، والصين الصاعدة اقتصادياً غائبة عن تفاصيل النزاع. والشيطان مقيم في التفاصيل، على ما خبرنا. فأين الصين من منازعات الرئاسة في لبنان… وأينها في اليمن وغزة؟

لطالما شهدنا في هذا الشرق البائس لحظات مشابهة اعتقدنا فيها أن النزاعات، وهي عميقة وجوهرية، سيتم تجاوزها بصفقات. هل تذكرون صفقة الـ”سين سين” بين السعودية وسوريا بعد سنوات من الاحتقان في أعقاب اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، وبرعاية فرنسية؟ حينها صدق السعوديون أنهم بهذه التسوية سيستعيدون بشار الأسد. وبعدها تمت الإطاحة بالـ”سين سين” وبلبنان وبسوريا.

في إيران وفي السعودية أنظمة ولادة للحروب في بلاد الآخرين. اتفاق عابر لا يكفي لتغيير طبيعة هذه الأنظمة. مركزا الصدع المذهبي هناك، ورأب هذا الصدع يبدأ من تغيير في طبيعتي النظامين. بكين، وقبلها واشنطن، وظفتا هذه الحقيقة في نفوذهما في الشرق. أما السبيل الفعلي لرأب الصدع، فيبدأ من تغيير في طبيعتي النظامين، وهذا ما لا يبدو أنه في المتناول اليوم.

يبقى أن ثمة ما سيكون مسلياً في موازاة الاتفاق. إنه خطاب الصراع الذي تم على هامشه بناء هياكل هائلة للمواجهة الإعلامية بين البلدين. فماذا سيحل بوسائل المواجهة الإعلامية وبوجوهها ومفوهيها؟ كيف ستصدر افتتاحيات “عكاظ” السعودية، و”الأخبار” اللبنانية. لن يطول الارتباك بانتظار انهيار وشيك للاتفاق، لكننا سنتسلى قليلاً قبل أن تداهمنا مجدداً حروب طهران والرياض في بلادنا

درج

——————–

خريطة مناطق في الشرق الأوسط قد تتأثر بالاتفاق السعودي الإيراني

لا تزال المنطقة تترقّب مفاعيل الاتفاق السعودي الإيراني الذي تمّ بوساطة صينية، لا سيما أن أكثر من ساحة في الشرق الأوسط ظلّت موضع تنافس وصراع، أحيانًا بالوكالة، بين البلدين الجارين.

وفي ما يلي ملخص للوضع في بعض مناطق الشرق الأوسط التي يمكن أن تتأثر باتفاق استئناف العلاقات بين القوتين الإقليميتين الذي أُعلن عنه يوم الجمعة بوساطة صينية.

اليمن

تدخلت الرياض في اليمن على رأس تحالف في 2015 لمواجهة جماعة الحوثي، بعد أن أطاحت الجماعة المتحالفة مع إيران بالحكومة المعترف بها دوليا في العاصمة صنعاء.

وتعتري الحرب بين الجانبين حالة من الجمود العسكري منذ سنوات. ودأب الحوثيون، الذين يمثلون سلطة الأمر الواقع في شمال اليمن، ويسيطرون على مناطق على الحدود اليمنية السعودية، على شن ضربات متكررة بالصواريخ والطائرات المسيرة على المملكة.

واستأنفت الرياض وجماعة الحوثي محادثاتهما المباشرة العام الماضي بدعم من سلطنة عمان بعد هدنة توسطت فيها الأمم المتحدة. وانتهت الهدنة في أكتوبر/تشرين الأول، لكنها صمدت إلى حد بعيد.

ومن شأن استئناف العلاقات بين الرياض وطهران أن يسهل من إبرام اتفاق بين السعودية والحوثيين.

وتمثل حرب اليمن أحد أسباب توتر العلاقات بين السعودية وإدارة الرئيس جو بايدن، التي فرضت قيودا على مبيعات الأسلحة الأميركية للرياض.

سورية

تقدم إيران دعما عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا لرئيس النظام السوري بشار الأسد منذ أن أدى قمع الثورة في عام 2011 إلى فرض عزلة عليه.

ووفرت الصين أيضا غطاء لسورية في الأمم المتحدة وحافظت على علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع دمشق.

وفي بداية الأزمة، دعمت الرياض قوات المعارضة في محاولاتها الإطاحة بالأسد بهدف إضعاف طهران. لكن في الوقت الذي ساهم فيه دعم إيران للأسد في عدم هزيمته، تضاءل الدعم السعودي للمعارضة.

ويأتي الاتفاق السعودي الإيراني في وقت تتقلص فيه العزلة العربية المفروضة على الأسد. وصرّحت السعودية بأن زيادة التواصل مع سورية قد يؤدي إلى عودتها إلى جامعة الدول العربية.

ورحبت وزارة خارجية النظام بالاتفاق ووصفته بأنه “خطوة مهمة” من شأنها تعزيز الاستقرار الإقليمي. ولم تعلق جبهة المعارضة على الأمر.

تقارير دولية

وزير خارجية باكستان يرحب باستئناف العلاقات السعودية الإيرانية

لبنان

انقسمت السياسة اللبنانية على مدى سنوات بين تحالف مؤيد لإيران يقوده “حزب الله” صاحب النفوذ، وتحالف مؤيد للسعودية.

وفي 2021، سحبت السعودية ودول الخليج العربي سفراءها بسبب ما قالت إنها سيطرة لـ”حزب الله” على الدولة، عقب انتقادات وزير الإعلام السابق في الحكومة، جورج قرداحي، للحرب السعودية في اليمن.

واستأنف السفراء عملهم بعد ذلك، لكن لبنان يعاني في ذلك الوقت من انهيار مالي حانق، وهو الآن يواجه أزمة سياسية غير مسبوقة مع عدم وجود رئيس منذ شهور وحكومة تعمل بصلاحيات محدودة.

وأثار التقارب بين طهران والرياض الأمل في انتهاء حالة الشلل هذه. وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري إن “القراءة الإيجابية” للأنباء يجب أن تدفع السياسيين اللبنانيين إلى انتخاب رئيس على وجه السرعة.

ووصف “حزب الله” الاتفاق بأنه “تحول جيد”، لكنه حذر من أن تداعياته الكاملة لا تزال غير واضحة. ودعم الحزب سليمان فرنجية لمنصب الرئاسة، لكن مصدرين يقولان إن السعودية ترفض ترشيحه.

العراق

بعد الإطاحة بصدام حسين في الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، عمقت إيران نفوذها السياسي والأمني والاقتصادي في العراق، مما أثار قلق السعودية.

وفي 2019، شنت إيران هجوما بطائرة مسيرة حلقت فوق الأجواء العراقية واستهدفت منشآت نفطية سعودية. وفي العام التالي، أدى إعادة فتح المعبر الحدودي بين السعودية والعراق، بعد أكثر من عقدين، إلى زيادة الآمال في تحسين العلاقات.

واستضافت بغداد محادثات مباشرة بين جارتيها، لكنها توقفت العام الماضي بعد أن واجه العراق أزمة سياسية.

ووصفت بغداد الاتفاق الذي أبرمته السعودية وإيران بأنه وسيلة “لفتح صفحة جديدة”. ويأمل العراقيون في حدوث انفراجة في المنطقة بما يسمح بإعادة بناء بلادهم بدلا من حالة عدم الاستقرار التي يشهدها العراق بسبب الصراع بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي وإيران.

الأمن البحري

حدثت مناوشات بين إيران والغرب في مياه الخليج، التي تمر عبرها كميات كثيرة من شحنات النفط حول العالم.

ووقعت عدة هجمات على ناقلات النفط هناك في 2019، بعد أن أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خروج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران وعاود فرض العقوبات عليها. وفي محاولة لتهدئة التصعيد، بدأت الإمارات والسعودية التعامل مباشرة مع إيران.

وصادر الأسطول الأميركي الخامس المتمركز في البحرين شحنات أسلحة يُشتبه بأنها جاءت من إيران. وتتبادل إيران وإسرائيل الاتهامات بمهاجمة سفن إحداهما الأخرى في السنوات القليلة الماضية.

(رويترز)

دلالات

——————————-

الاتفاق السعودي الإيراني: انتكاسة لإسرائيل؟

يمثل الاتفاق السعودي الإيراني انتكاسة لمساعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لعزل طهران، ولكن الزمن وحده سيثبت ما إذا كان ذلك سيعرقل أيضا محاولاته للتواصل مع الرياض أو تخطيطه لتوجيه ضربة عسكرية في نهاية الأمر للمواقع النووية الإيرانية.

ويقول خبراء إن أكثر ما يقلق إسرائيل هو أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بوساطة صينية، يوم الجمعة، بين السعودية وإيران، يشير إلى أن الولايات المتحدة “تقدم تنازلات” في المنطقة في وقت تشتد فيها حاجة حكومة نتنياهو إليها.

ووصف مسؤول إسرائيلي، طلب عدم ذكر اسمه، الاتفاق السعودي الإيراني بأنه “عملية متوقعة وتمهيدية يجب ألا تعرقل أي تقدم مواز نحو تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية”. وعلى أية حال، فقد تقاربت إسرائيل مع الإمارات رغم علاقات أبوظبي مع طهران.

في غضون ذلك، تواصل إسرائيل حملة من التهديدات غير المباشرة بمهاجمة إيران وحدها إذا وصلت الدبلوماسية النووية إلى طريق مسدود.

ولكن كل السيناريوهات لا تزال تتوقف على واشنطن التي ترعى اتفاقات تطبيع بين دول عربية وإسرائيل وتشجع عليها، والتي تمثل أيضا حليفا قويا، والتي إذا أبدت اعتراضها على القيام بعمل عسكري فلن تقدم إسرائيل عليه.

وقال مارك دوبويتز، الرئيس التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن: “هذه خطوة ذكية من الصين وإيران لتقويض التطبيع السعودي الأميركي والسعودي الإسرائيلي. إنها تساعد على عودة طهران إلى الساحة مرة أخرى، وتقوض الجهود الأميركية والإسرائيلية لبناء تحالف إقليمي لمواجهة إيران التي تقترب من تطوير أسلحة نووية”.

ولكن التحالف الإسرائيلي الأميركي يشهد توترا ليس له صلة بالاتفاق السعودي الإيراني. وأبدت إدارة الرئيس جو بايدن، التي لم تدع نتنياهو بعد لزيارة البيت الأبيض، قلقها الشديد بشكل غير معتاد من ائتلافه المكون من أحزاب يمينية متطرفة.

ويواجه نتنياهو أيضا تظاهرات حاشدة غير مسبوقة في إسرائيل احتجاجا على خطة الإصلاح القضائي. وشملت الاحتجاجات تعهدات من جانب بعض جنود الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي بعدم حضور يوم تدريبي، وهو ما يشير إلى وجود هزة في الاستعداد القتالي والروح المعنوية.

جرس إنذار

وقال عاموس يادلين، رئيس جهاز المخابرات العسكرية السابق في عهد نتنياهو، إن الاتفاق السعودي الإيراني “يجب أن يمثل جرس إنذار”.

وكتب يادلين على “تويتر”: “تركيز الحكومة على الإصلاح القضائي، الذي يمزق الأمة ويضعف إسرائيل من جميع النواحي، يعكس انفصالا عميقا بين نتنياهو والتوجهات الجيوسياسية الدولية”.

ووجه يادلين اتهامات إلى نتنياهو بـ”التسبب في ضرر غير عادي بأمننا القومي”. وطلب منه ضرورة إلغاء الإصلاحات التي يصفها المعارضون بأنها محاولة لبسط الحكومة نفوذها على المحاكم، إلى جانب توثيق العلاقات مع بايدن حول كيفية إقامة علاقات إسرائيلية سعودية، ومعالجة برنامج إيران النووي بصورة مشتركة.

وكان يادلين من بين الطيارين الذين قصفوا مفاعلا نوويا عراقيا في عام 1981، وأحد كبار القادة في أثناء هجوم إسرائيل على مفاعل سوري مشتبه به في 2007. وتشير تصريحات يادلين إلى أنه لا يعول كثيرا على قدرة إسرائيل وحدها على مواجهة إيران، التي تمتلك مواقع نووية نائية ومتشعبة ومحمية.

فيما وصف إيهود باراك، وزير الدفاع السابق في حكومة نتنياهو، والذي تحول إلى منتقد سياسي، إيران بأنها “تسير بثقة نحو أن تصبح بحكم الأمر الواقع دولة على عتبات التحول إلى قوة نووية”.

وكتب في صحيفة “يديعوت أحرونوت”: “يبدو أن التنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل قوي في مجال الدفاع، ولكنه ضعيف في مجال الهجوم، ويحتاج إلى تغيير”. وتنفي إيران سعيها لامتلاك أسلحة نووية.

وقال إيتان بن دافيد، النائب السابق لمستشار الأمن القومي لنتنياهو، إن إسرائيل تبني قدرات للقيام بعمل عسكري من جانب واحد بوصفه أمرا ضروريا، مع إعطاء الشراكة الأميركية والتحالفات مع دول عربية محتملة أولوية ثانوية.

وقال إن السعودية لا تزال على دراية بالدور الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة.

وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، في مطلع هذا الأسبوع، أن الرياض تريد تطوير برنامج نووي مدني وتقليل القيود المفروضة على مشترياتها من الأسلحة الأميركية، في مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

تقارير دولية

العلاقات الإيرانية السعودية.. تاريخ مشحون من التوتر وعدم الثقة

وحذر يادلين نتنياهو، الذي يواجه تحديات سياسية في الداخل، إلى جانب خلافه مع البيت الأبيض، من النظر إلى مثل هذه المطالب “باعتبار التوصل لخطة سلام سعودية إنجازا”.

ولم يرد المكتب الإعلامي للحكومة السعودية بعد على طلب “رويترز” للتعليق على تقرير “نيويورك تايمز”. وربطت السعودية باستمرار أي تحرك من جانبها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية.

من جانبه، بدا أن البيت الأبيض يقلل من أهمية مشاركة الصين في الاتفاق الذي توصلت إليه طهران والرياض، يوم الجمعة. وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي إن البيت الأبيض يرى أن الضغط الداخلي والخارجي، بما في ذلك الردع السعودي الفعال للهجمات القادمة من إيران أو وكلائها، أدى في النهاية إلى جلوس طهران على طاولة المفاوضات.

(رويترز)

——————————

إيجابيّات ومخاطر بعد “اتّفاق بكين”/ عبدالوهاب بدرخان

لا تزال الأسئلة أكثر من الإجابات في شأن اتفاق معاودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، فهو لا يعني أن الخلافات حُلّت، بل إن الحوار الذي دار خلال العامين الماضيين في بغداد ومسقط ثم أثمر في بكين، سيُستكمل لاحقاً للبحث في مختلف الملفات، بداية بالعلاقة الثنائية على قاعدة اتفاق التعاون الأمني (2001) واتفاق التعاون التجاري (1998) وما قد يستجدّ. ومن الطبيعي أن تكون هناك عناوين عريضة وُضعت للتعامل مع النزاعات الإقليمية، خصوصاً بالنسبة إلى اليمن وإنهاء الحرب فيه، ما دامت الرياض قد تحادثت أخيراً مع الحوثيين، ثم إن وقف إطلاق النار لا يزال صامداً نسبياً ويقترب سريعاً من الذكرى السنوية الأولى للاتفاق عليه، ولو من دون تطبيق بنوده كافةً ومن دون إعلان واضح لتمديده أو تجديده. وبناءً على التقارب السعودي – الإيراني، ليس متوقّعاً أن يعود الحوثي إلى الأعمال القتالية، بل أن يوافق تدريجاً على الانخراط في محادثات الحلّ السياسي.

الأسئلة الأكثر عمقاً، وربما خطورةً، تتعلّق بالوساطة الصينية نفسها، فلولاها لما كان لهذا الاختراق أن يحصل بين الرياض وطهران. دول كثيرة عرضت التوسط وحاولت، وإدارة باراك أوباما تهيّأ لها أنها تأهّلت للخوض في وساطة بعد مساهمتها الرئيسية والحاسمة في إنجاز الاتفاق النووي (2015) حينما لم تكن القطيعة الدبلوماسية قد حصلت بين البلدين، لكن طهران استبعدت أي دور أميركي. وأهم الأسئلة، بعد “اتفاق بكين”، كيف ستتفاعل واشنطن معه؟ الأرجح أنها لم تُحَط علماً بما يكفي، ولم تعرف المدى الذي بلغته بكين في إنضاج الاتفاق، لذا يصعب أن تتعايش معه. بل الأرجح أن موسكو كانت أكثر معرفة في السرّ بحكم تواصلها مع أطرافه الثلاثة، وأشار ميخائيل بوغدانوف إلى أن روسيا “ساهمت في العملية” مع عُمان والعراق “على سياق السياسة الروسية الداعية إلى حسن الجوار وضمان واحترام السيادة والاستقلال”، مستخلصاً: “على هذا الأساس نشجّع أصدقاءنا في أنقرة ودمشق على تطبيع العلاقات”، وهو هدف الاجتماع الرباعي (روسيا وتركيا وإيران والنظام السوري) في الأيام المقبلة.

لطالما روّجت إيران طوال أعوام لـ”الانفتاح على الجوار” بوصفه من ركائز سياستها واستراتيجيتها، غير أن سلوكياتها وعدم تعاونها مع مبادرات مجلس التعاون الخليجي لم تؤكّد أنها ساعية فعلاً إلى ذلك الانفتاح. ورغم أن علاقاتها مع دول الخليج حافظت على مستواها أو تحسّنت، إلا أنها اعتبرت دائماً أن استمرار القطيعة مع السعودية يحول دون تحقيق هذا الهدف. وبعد خوض جولات الحوار في بغداد ومسقط، كانت طهران هي التي بادرت إلى إعلان أن تبادل فتح السفارتين والممثليات الأخرى هو “الخطوة الأولى المطلوبة”، لكن من الواضح أن السعودية كانت تطالب بـ”ضمانات” قبل الإقدام على هذه الخطوة، ولم يكن في إمكان الولايات المتحدة أن توفّر أي ضمان. في هذا السياق قدم الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرته خلال زيارته للرياض، انطلاقاً من أن “الاتفاق الاستراتيجي” الذي وقّع مع السعودية لا بدّ من أن يشكّل “ضماناً” يمكن تطويره.

في المقابل، هناك “اتفاق استراتيجي” بين الصين وإيران، ولكي تتمكّن بكين من تطبيق الاتفاقين الاستراتيجيين معاً، فإنها تحتاج إلى علاقات مستقرّة بين الرياض وطهران. هذا يحقق مصالح الأطراف الثلاثة، وإنْ لم تكن أهدافها بعيدة المدى متطابقة. فالسعودية باتت تتحدث بلغة واحدة مع العالم لتقول إنها معنية بالأمن والاستقرار في الشرق الأوسط كجزء حيوي من أمن العالم واستقراره، وبالتالي فإنها مستعدة للحوار ولا تبحث عن أي صدامٍ مع الغرب أو مع الشرق. أما الصين فتسعى إلى تعزيز موقعها الدولي من خلال دبلوماسية التجارة ومشروع “الحزام والطريق”، لكنها تصطدم بالنفوذ الأميركي- الغربي الذي صنّفها منحازةً إلى الجانب الروسي في حرب أوكرانيا. وإيران تتطلّع إلى الحفاظ على نفوذ إقليمي استثمرت فيه كثيراً ولم تتردد في إطاره من تقويض أربع دول عربية بجيوشها ومؤسساتها، لكن العقوبات الأميركية أضعفت اقتصادها ولا يزال برنامجها النووي مصدر مخاطر تنذر بإشعال المنطقة، خصوصاً بعدما حققت تقدماً نحو امتلاك سلاح نووي ولم تعد مهتمّة بإحياء الاتفاق مع الغرب ما دامت حرب أوكرانيا قد حجّمت الموافقة الصينية والروسية على وقف برنامجها النووي أو الحدّ منه.

في الأساس، ليس سهلاً التموقع الحيادي الذي تنهجه السعودية حتى لو كان بداعي المصلحة الوطنية، وفي الظروف الدولية الحالية بات البحث عن “توازن” أكثر صعوبة، وإنْ لم يكن مستحيلاً. قد تكون الولايات المتحدة في صدد استيعاب التصويب السعودي لنمط العلاقة الثنائية الذي ساد طوال سبعين عاماً، لكن عدم اعترافها وعدم معالجة أخطاء سياساتها على مرّ العقود، كذلك عدم إدراكها أن الحروب المتناسلة أنهكت منطقة الشرق الأوسط والخليج، ساهمت في تغيير وعي الدول لأمنها واستقرارها. فالماضي القاتم أصبح مرتبطاً في الأذهان بـ”الحقبة الأميركية”، أما المستقبل فلا يزال يتخلّق من خلال الخيارات المتوفّرة على الساحة الدولية. والأهم أن السعودية برهنت تمسّكها بالعلاقة الإيجابية مع أميركا بمقدار ما تتطلّع إلى البحث عن مصالحها مع أطراف أخرى، مؤهّلة نفسها للعب دور دولي قد يحتاج إليه الجميع في المقبل من الأيام. وفي ضوء ذلك، فإن الرياض لا تقدّم تطوير علاقتها مع الصين انحيازاً إلى محور ما، ولا تعتبر “التطبيع” مع إيران تغاضياً عن سياساتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار أو دعماً لها، وإذا واظبت طهران على تلك السياسات، فإن الأمر لن يتعدّى استئناف العلاقات الدبلوماسية، والأكيد أنه لن يتجاوز العقوبات الأميركية أو يتمرّد عليها. 

لا شك في أن الصين حققت إنجازاً دبلوماسياً إقليمياً وربما تستند إليه للتوسّط في النزاع الأوكراني. ومن شأن الولايات المتحدة أن ترى، كما رأت إسرائيل، أن “اتفاق بكين” يمثل فشلاً لدبلوماسيتها. لكن واشنطن لن تتمكّن من تجاهل ما أحرزته الصين أو من التعايش معه في ما لا تزال تعتبرها “منطقتها”، وبالتالي فإنها لن تتقبّل إخراجها منها على هذ النحو. لذلك ينبغي الحذر من ردّ الفعل الأميركي – الإسرائيلي، فرغم الخلافات بين إدارة جو بايدن وحكومة المتطرّفين في إسرائيل، سيستخلص الطرفان مما حدث أن الاتفاق النووي “مات” فعلاً وأن المفاوضات النووية لن تستأنف قريباً، بل إن توجّه إيران نحو سلاح نووي بات “حتمياً”، بحسب محللين غربيين، ما يعزز في رأيهم “منطق الخيار العسكري” ضد إيران، بكل ما يعنيه من مخاطر إقليمية.

النهار العربي

——————–

صعوبة فهم الاتفاق السعودي ــ الإيراني/ أرنست خوري

إن وُجد متابع توقّع حصول الاتفاق السعودي ــ الإيراني، فهو إما خارق القدرات وصاحب حاسّة سادسة، أو لديه وصول إلى معلومات استخبارية يتمنّى أي صحافي أو سياسي الحصول عليها. حتى حسن نصر الله، الذي يُوهم الجماهير بأنه يعلم ما لا يعلمه غيره، تبيّن أنه جاهل بمسار الاتصالات بين البلد الذي يعتبر نفسه جندياً في جيشه، إيران، والسعودية التي تنافس إسرائيل في منسوب العداء الذي يكنّه لها. ففي 6 مارس/ آذار الحالي، أي قبل أربعة أيام فقط من إعلان الاتفاق من بكين بوساطة صينية، أفتى نصر الله في خطاب بأنّ “من ينتظر تسوية إيرانية ــ سعودية سينتظر طويلاً”. إسرائيل كذلك بدت مصدومة بالحدث. كانت تسنّ أسنانها على اتفاق تطبيع علاقاتها مع السعودية، ليكون أكبر إنجاز دبلوماسي لها منذ اتفاق كامب ديفيد مع مصر، فأتاها النبأ الذي “يهدّد إسرائيل” على حد تعبير رئيس الحكومة السابق نفتالي بينت في وصفه التفاهم السعودي ــ الإيراني. أما الإعلام الأميركي، ملك التسريبات في العادة، فلم يُصب شيئاً هذه المرّة. نشرت صحيفتا “نيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال”، قبل يوم من وصول الخبر من الصين، تقريرين يسردان تفاصيل المفاوضات الأميركية ــ السعودية بشأن شروط الرياض لتطبيع علاقاتها مع تل أبيب، وفات الصحيفتين أنّ الخبر الطازج سيُعلَن من الجهة الأخرى للعالم، وبمسلك مناقض للعلاقات السعودية ــ الإسرائيلية.

فهم أسباب التفاهم وموجباته لا يقلّ صعوبة عن توقع حصوله. ما الذي تغيّر بالنسبة للعاصمتين لكي تقرّرا السير في خطوة بهذا الحجم، من شأنها أن “تغير وجه الشرق الأوسط”، بحسب تعبير مديرة مكتب الخليج في “نيويورك تايمز” فيفيان نيريم؟ ما الذي طرأ منذ خمس سنوات، حين قال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إنّ المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي “يجعل هتلر يبدو شخصاً جيداً” في حال المقارنة بينهما، حتى تصبح بلدان المنطقة اليوم “تتشارك مصيراً واحداً” مثلما تردّد في مؤتمر إعلان الاتفاق على لسان ممثلَي البلدين، مستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان، وأمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني؟

لم يحصل شيء علني من النوع الذي يدفع الدولتين إلى اتخاذ قرار استراتيجي معاكس للمسار الذي تسلكانه الواحدة تجاه الأخرى. لم يحصل هذا الشيء الكبير لا في الرياض ولا في طهران ولا في العالم. لا هي خطوة تلي انتخابات أميركية وتسلُّم إدارة جديدة السلطة مثلاً، ولا تغيير حصل في الطاقم الحاكم للبلدين. أي من الدولتين لم تغيّر نظرتها إلى الأخرى ونظامها. خرجت السعودية منذ زمن من عزلة ما بعد جريمة قتل جمال خاشقجي. اقتصادياً، هي في أحسن أحوالها مع فورة أسعار النفط والغاز، وصارت في موقع يسمح لها برفض طلبات أميركية بزيادة الإنتاج لينخفض السعر وتجاهر بعلاقاتها الممتازة مع بكين وموسكو. إيران بدورها ارتاحت نسبياً من ضغط الداخل وانخفاض حدّة احتجاجات الحرية. لا تكفّ قيادتها عن الاحتفاء بتحسّن مبيعاتها من النفط والغاز مع تخفيف أميركا الرقابة على عقوباتها ضد طهران، لأنّ كلّ برميل إضافي من الذهب الأسود يجري بيعه في السوق قد يساهم في تخفيض الأسعار عالمياً، وهو ما تريده أميركا بشدة. ما يتردّد أن الرياض تريد الاتفاق لتضمن عدم تعرّضها لقصف انتقامي من إيران في حال تعرّضت الأخيرة لهجوم إسرائيلي كلام ضعيف في التحليل. أساساً، لا أجواء لضربة إسرائيلية أو أميركية، وإيران لا تحترم أي اتفاقٍ في حال حصول هجوم عليها من هذا النوع. الرغبة السعودية بإنهاء حرب اليمن غير كافية لتفسير التحوّل، فآخر مرة تعرّضت فيها السعودية لهجوم حوثي (إيراني بالواسطة)، كانت قبل عام. العدوانية الإيرانية والرغبة بالتمدّد في المنطقة العربية تسلكان منحى تصاعدياً. ما سبب الاتفاق وموجباته إذاً؟ هل هو من جهة السعودية مجرّد نكاية بأميركا نتيجة رفضها تلبية شروط المملكة لتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية مثلاً؟ أم بالعكس تماماً، بمعنى أنّ تطبيعاً سعودياً مع إسرائيل لا بد من أن يسبقه تطبيع سعودي ــ إيراني؟

خبر اليوم بفلوس، بكره ببلاش.

العربي الجديد

———————————

إعادة التشكل الجيوستراتيجي الإيراني السعودي … قراءة مغربية/ عبد الحميد اجماهيري

تعلمنا علوم البيولوجيا وقوانين الوراثة، قبل التحليل الجيوستراتيجي، أن “وقوع شيء لم يكن من المتوقع حدوثه يعني أن تحولاً كبيراً قد حدث”، وهو المبدأ الذي يفسّر جزءاً مهماً من التقارب السعودي الإيراني المفاجئ مفاجأة مزلزلة، مثل هزيم الرعد في سماء صحوة!

في محاولة الفهم، لا بد من الرجوع إلى الأساسيات، منها أنّ المبادرة هي الخطوة الأولى بعد إبرام الشراكة الاستراتيجية مع الصين الموقّعة من إيران في 2021، وجعلت الصين بمثابة خلفية للجوء الاستراتيجي بالنسبة لطهران. وعناصر التفاؤل ربما نجدها في المناخ الخليجي العام المتصالح مع الفكرة، والذي دشّنه التقارب الإماراتي الإيراني، بعد زيارة مستشار الأمن الوطني، طحنون بن زايد، طهران، في ديسمبر/ كانون الأول 2022.

بيد أنّ نجاح الصين في الوصول إلى مصالحة سعودية إيرانية، في عز التصعيد في المواجهة الغربية مع إيران، حقق لها   موقع قدم استراتيجياً في الشرق الأوسط، باعتبار أنها أفلحت في ما لم تفلح فيه وحدة الخريطة الترابية (الخليج) والوحدة الروحية (الإسلام) والوحدة المصلحية (النفط والغاز). والملاحظ كذلك أنّ هذا الفوز الصيني الذي يحوّل “إمبراطورية الوسط” إلى فاعل قوي في المنطقة الأكثر التهاباً في الكوكب، يأتي في سياق ما أفرزته الحرب الروسية الأوكرانية من تقلبات جيوسياسية في العالم برمته. كما أنه يدخل في نطاق حدوث  تغيرات محايثة للحرب، جعلت دولاً كان كل شيء يدفعها إلى الدخول في حالة نزاع قوي، تقترب بعضها من بعض. من ذلك ما هو مثير مثل الحدث المعلن عنه في البيان الثلاثي الصيني السعودي الإيراني، علاوة على ما تابعناه من تقارب تركي إماراتي مصري سعودي، باعتبار أنقرة فاعلاً إقليمياً مركزياً زادت هالة تأثيره، ونجح في وساطاتٍ لم تستطعها دول أخرى، بشأن الغاز والقمح في غضون الحرب الجارية في أوكرانيا. وكان أحد تعبيرات النزاع الصراع المسلح بواسطة المنظمات التابعة لهذه العاصمة أو تلك، في ليبيا وفي اليمن وفي سورية وفي لبنان… إلخ. ومن بين كلّ النزاعات والصراعات، بقيت الحرب اليمنية ساحة الحرب المفتوحة بين الطرفين، والوحيدة التي لم تفقد الكثير من شراستها ورهاناتها، عكس ما يجرى في ليبيا كما في سورية، إذ اتضح أنّ الهدير الكبير للحرب الأوكرانية الروسية قد طغى على أصوات المدافع في الجبهتين العربيتين.

ومن باب الواقعية السياسية، لا يمكن تصوّر انقلاب جذري وراديكالي في الوضع، يجعل السلام يعمّ كلّ خريطة التنافس، ومن هنا يكون السؤال: هل نرى في الاتفاق حلاً من نوع الحلول السياسية القادرة على الاستمرار؟ أي أنّ الراهن يطغى على الاستراتيجي، بحيث يكون التوقيع إعلان هدنة رسمية وتخفيف حظوظ الحرب على إنهاء التنافس الممكن بين الرياض وطهران؟ تصعب المغامرة بالإجابة الإيجابية عن السؤال، لتعقد المعادلة وتعدّد قواعد التشابك بين البلدين.

ومن تعقد قواعد التشابك الخارجية، حصلت قناعاتٌ لدى العواصم المعنية بأنّ لا أحد يمكنه أن يكون المؤثر الوحيد، بل بالأحرى الفاعل الإقليمي الوحيد الذي يمكنه أن يحقّق الاستقرار الذي تطمح إليه المنطقة… علاوة على حصول القناعة ثانية  بـ “توقيف الديناميات غير المنتجة التي أفرزت الصراع (قبل إيران، كانت هناك تركيا وقطر)” وبأنّ “التفاعل مع الغرب، ولا سيما واشنطن، لا يمكن أن يكون المبتدأ والخبر” في العلاقات الدولية وتداعياتها الإقليمية (انظر التقرير الصادر عن معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، ومديره باسكال بونيفاس، سنة 2023).

ومما يزيد في استثنائية الحدث أن الوضع الداخلي في إيران لم يكن يبشّر به، بعد انتصار المحافظ إبراهيم رئيسي، بل كانت التوقعات أنّ النزاع سيزداد حدة. وعليه، بدا أن التعبير الذي ينسب إلى هيغل في أنّ “التاريخ قد يتطوّر من أسوأ جانب فيه” يصلح للوصف الاستراتيجي هنا. ولعلّ رقم معامل النفط موجود كمصلحة في تفسير بعض من التقارب، لكنه أيضاً موجود كدليل سياسي علي الابتعاد عن المقاربة الأميركية والغربية في تدبير ظروف الإنتاج والتسويق في زمن الحرب. وبالنسبة للدول في غرب العالم الإسلامي يُطرح سؤال أكثر تدقيقاً: هل سيكون للاتفاق ما بعده، ويمكن انتظار تداعياته السلمية على مناطق التنافس، في شرق أفريقيا وغربها وشمالها، وفي غيرها من المناطق التي تشكل خريطة السياسة في العالم اليوم، والتي تَعْني الدول العربية بالأساس؟

رحّب المغرب بالبيان الصادر عن اللجنة العربية الرباعية، لجامعة الدول العربية، التي تأسست بشرعية المجلس العربي المنعقد في أبوظبي في 2016، على خلفية الشرعية الدولية النابعة من القرار 2216 الصادر عن الأمم المتحدة في 2015، ويمنع تسليح المليشيات، وهو البيان الذي دان تسليح جمهورية الملالي مليشيات البوليساريو، لزعزعة استقرار المملكة  المغربية، وكان تاريخ صدوره مثيرا من حيث إنه تزامن مع إعلان البيان الثلاثي، السعودي الإيراني الصيني. وتتموقع طهران والرياض على طرفي نقيض من الوضع في شمال أفريقيا، ولعل التساؤل حالياً لدى الرأي العام المغربي: هل سيساعد التقارب الثنائي في حلحلة الجمود البنيوي الذي تعانيه منطقة المغرب الكبير وتلطيف الجو فيه، كما قد يحدُث في الخليج العربي؟ لقد ترسّخ في العلاقات المغاربية أنّ إيران فاعل زعزعة للاستقرار بالنسبة للمغرب الذي قطع علاقته مع طهران في سياق تدريب “بوليساريو” وحديث مطرد عن تسليحها بالمسيّرات (الدرون) الإيرانية التي عادت بقوة مع الحرب الروسية الأوكرانية. وقد وضع المغرب الأمر لدى الأمم المتحدة، عبر ما صرّح به ممثله عمر هلال، الذي تحدّث عن تورّط إيران “في تسليح بوليساريو بأسلحة متطوّرة من بينها طائرات من دون طيار” وقال إنّ ايران وحزب الله موجودان في تندوف (حيث توجد مليشيات بوليساريو) وشمال أفريقيا. وكان ذلك كافياً لكي يشدّد على أنّ “المملكة ستتصرّف بقوة وستكون عواقب وخيمة على الجبهة” في حالة استعمال الطائرات المسيّرة وفي السجل نفسه، كان وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، قد صرّح أنّ طهران صارت “الراعي الرسمي للانفصال ودعم الجماعات الإرهابية في عدد من الدول العربية، عبر تسهيل حصولهم على أسلحة متطوّرة، فضلاً عن تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق جماعات إرهابية مسلحة”.

سيكون هذا التحوّل الهائل في توقعات الرياض وطهران في المجال الخليجي حاضراً أيضاً في القمة العربية المقبلة، في السعودية في مارس/ آذار الجاري، حسب ما تم تحديده في قمة الجزائر الماضية. والرياض مطالبةٌ بإقناع العرب به، إذا لم تكن قد فعلت ذلك من قبل بكلّ سيادية، سيما وأنها أكثر الدول التي نالت حظها الدموي من تأثيرات التدمير بواسطة المسيِّرات نفسها!

العربي الجديد

————————-

التقارب السعودي الإيراني: استراتيجيا أم تكتيك؟/ حسان الأسود

بحكم التاريخ أولاً، والجغرافيا ثانياً، وبما توفره لها من إدارة لأهم المقدّسات الإسلامية وما يترتب عليه من إرثٍ رمزي هائل، تتزعّم السعوديّة العالم الإسلامي دينياً. لكنها تطمح لأكثر من ذلك سياسياً، وليس فقط على مستوى منطقة الشرق الأوسط، بل هي تسعى إلى لعب دور عالمي بين العشرين الكبار. فنظراً إلى ما تتمتع به المملكة من مكانة اقتصادية، سببها الرئيس الثروة النفطية، وبتأثير النهضة البنيوية الهائلة (فكرياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً) التي بدأها محمد بن سلمان بمجرّد تعيينه ولياً للعهد، وباعتبار أنها تقع في القلب من مناطق التنافس الاستراتيجي بين المشاريع العالمية المختلفة، فإنّها تجد نفسها في خضمّ صراعٍ محمومٍ لإثبات الذات والتصدّر للقيادة.

في المقابل، تجد إيران ذاتها في تناقض مباشر مع السعودية، فهي تدرك تمامًا أنها لا يمكن أن تنافسها على الزعامة الدينية باعتبار أنّ الغالبية الساحقة من المسلمين هم من السنّة، وبالتالي، لا سطوة لولاية الفقيه عليهم. جعلها هذا ترفع شعار تحرير فلسطين. وبالتالي، تجادل في قضية مركزية طالما كانت ذات أبعاد متعدّدة، منها الإنساني والديني والقومي والوطني. لكنّ إيران، ذات التاريخ العريق والموغل في القدم، باتت منذ استيلاء الملالي عليها حبيسة ضيق الأفق الذي يولّد الأنظمة الأوتوقراطية بطبيعتها المنغلقة المتعصّبة، فتبدو إيران هذه كأنها تعرّف ذاتها بالتناقض مع الآخرين، لا بما تقدّمه عن ذاتها من محتوى إيجابي مشرق نافع وحضاري.

جعل هذا كلّه المنافسة بين السعودية وإيران على أشدّها، وانعكس على المنطقة خراباً وتدميراً. وبينما تتجه المملكة إلى الاندماج ضمن المنظومة الدولية الفاعلة، وبعد أن قفزت أشواطاً بعيدة في التأسيس للدولة بمفاهيمها الحديثة، أي بالقطع التدريجي مع الموروث القبلي/ العائلي والارتكاز على أسسٍ متينةٍ من المؤسسات المختلفة (وهي بالمناسبة في الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل)، نجد إيران تسير في الاتجاه المعاكس. لا يغيب عن عين الناظر للأمر في إيران وجود برلمان وانتخابات ومؤسسة رئاسية وصحافة وغيرها من عناوين الدولة الحديثة، لكنّ ذلك لا يحجُب أيضاً وجود إرادة طاغية تتمثل بالمرشد والحرس الثوري الإيراني. وبحكم التصادم الدائم بين القوى الشعبية والليبراليين من الطبقة السياسية الحاكمة، الساعين إلى الانفتاح على العالم، مع إرادة المرشد المنفردة، مدعوماً من المتشددين قومياً وأيديولوجياً من الراديكاليين ومن الحرس الثوري، تتّجه إيران باستمرار نحو التعصّب والانغلاق، ولا تجد من مشاريع خارجية تقدّمها سوى تفتيت بنى الدول المجاورة بهدف استبدالها بعصاباتٍ ومليشيات تتبعها وتخضع لتوجيهاتها.

لكنّ مصالح الدول الكبرى لا تتحقق بالحروب والدمار دوماً، بل هناك من يسعى منها إلى مدّ جسور التعاون الاقتصادي بعيداً عن الخراب والقتل، مثل الصين والهند والبرازيل وألمانيا. هذه الدول، ولأسباب كثيرة ليس أولها بالطبع القناعات الأخلاقية بعدم جدوى الحروب، بحاجة للسلام والتعاون خارج منظومات القسر العسكري الذي مارسته الدول الاستعمارية في القرون السابقة. جعل هذا من بعضها، وهي هنا الصين، صاحبة مبادراتٍ ملحوظةٍ لحلّ الصراعات وتخفيف حدّة التوترات. جاءت المبادرة الصينية لحلّ الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا خجولةً وعلى استحياء. ولهذا أسباب كثيرة، يقصر عن الحديث بها المجال الراهن. ثم كانت المبادرة الجريئة للتقريب بين السعودية وإيران، وهي اقتحامٌ دبلوماسي كبير طالما حاولت الصين تجنّبه. لكنّ الاقتصاد يفرض شروطه على السياسة في النهاية، فهذا العملاق الاقتصادي يحتاج، بشكل متزايد، أذرعاً سياسية وثقافية تسنده وتوجّه بوصلته، وسيكون قريباً بحاجة لعصا عسكرية قوية تساعد الجزرة في عملها. هذا كلّه ليس إلّا مقدّمة لنظامٍ عالمي جديد بدأ يتشكّل، منذ فترة وجيزة، قد يكون عنوانها الأبرز الانسحاب الأميركي من أفغانستان.

وبالعودة إلى مربّع العلاقات السعودية الإيرانية المتشابكة، نجد أنّ إعلان الاتفاق الذي تمّ برعاية صينية، يثير من الأسئلة أكثر بكثير مما يطرح من إجابات. ليس مردّ ذلك إلى طبيعة منظومتي الحكم في البلدين فقط، ولا إلى طموحاتهما الكبيرة في قيادة المنطقة، بل لكثرة الملفات بينهما وتشعّبها أيضاً، فاليمن الذي يشكل جزءاً أساسياً من ملف الأمن القومي السعودي، وسورية ولبنان والعراق التي باتت أراضيها مسرحاً للتخريب الإيراني، والتجارة في الخليج العربي وخليج عُمان، وصناعة المخدّرات وتهريبها، والتدخل المباشر في القضية الفلسطينية من إيران من خلال دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من التنظيمات المسلّحة، جعلا نقاط الشقاق والخلاف أكثر من نقاط الوفاق والتعاون. لا ننسى أنّ السعودية قد أعلنت عزمها امتلاك السلاح النووي حالما تتمكن إيران من ذلك، وهذا بحدّ ذاته يفتح أبواب جهنّم على المنطقة بعمومها.

هل يمكن مثلاً اختصار هذا الاتفاق برغبة السعودية بتجنّب آثار حرب إسرائيلية وشيكة على إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، خصوصاً أنّ أذرع إيران في المنطقة قادرة على إيذاء السعودية وتعطيل مصالحها كما فعلت المليشيات الحوثية بقصفها المنشآت النفطية مراراً، أم إنّه ما من مجال لقيام هذه الحرب أساساً في ظلّ إدارة الديمقراطيين التي طالما لهثت باتجاه اتفاق مع إيران بخصوص برنامجها النووي؟ ثم ما هي الفوائد التي يمكن أن تجنيها السعودية من هذا الاتفاق غير هدوء الخاصرة اليمنية، وهل ستكون إيران فعلاً في وارد تغيير سلوكها التخريبي في المنطقة، وما هي ضمانات ذلك، وهل يمكن للصين أن تضغط بهذا الاتجاه بدافع تمرير مصالحها الاقتصادية العابرة بين الجارين اللدودين؟ ما انعكاس ذلك على الملفين السوري واللبناني، وما هي آثار هذا التقارب في العراق الذي بدأ يصحو رويداً رويداً من كبوته بعد عشرين عاماً على إسقاط نظام صدّام حسين؟

وحدها الأيام كفيلة بإظهار مدى التزام إيران بهذه التفاهمات، فهي وإن كانت مصلحتها في الاستقرار وفكّ العزلة الدولية كبيرة جدًا، إلا أنّ طبيعة نظام الحكم المتطرّف فيها لا يمكن أن يترك لإيران الدولة ولإيران المجتمع أي دورٍ في إتمام هذه المصالحة مع دول الجوار. إنّ نظاماً مأزوماً قام على أساس الهدم والتخريب لا يمكن أن يُضمن جانبه في أي اتفاق إقليمي أو دولي. فصل المقال إذاً في الانتظار والتجربة، وما ستنتجه الأسابيع المقبلة سيدلّنا على الخطوة السعودية الإيرانية هذه، أهي خطوة تكتيكية لكليهما أم مشوار استراتيجي طويل؟

العربي الجديد

———————————-

الاتفاق السعودي الإيراني إنقاذ لمن؟/ إياد الدليمي

يصعُب التكهن بتفاصيل الاتفاق السعودي الإيراني برعايةٍ صينيةٍ لإعادة العلاقات وفتح السفارات بين البلدين في مدّة أقصاها شهران، فكل ما نشر وتسرّب من معلوماتٍ لا يعدو أن يكون كلاماً إنشائياً دبلوماسياً في مثل هذه المناسبات، أو أمنياتٍ بما يريده بعضهم لهذا الاتفاق انطلاقاً من حاجاته أو تطلعاته، لتبقى الحقيقة طيّ الكتمان وطيّ الأوراق التي تبادلها رئيسا الوفدين، السعودي والإيراني، بحضور الراعي الصيني الذي بدا كأنه الرابح الأكبر من صفقةٍ كان الجميع يعتقد أنها غير ممكنة في ظل تصاعد التوتر والتصعيد في المنطقة.

في ظل مثل هذا التكتّم وعدم الشفافية في ما جاء في هذا الاتفاق، يجدُر بنا أن نحاول استقراء ما جرى التوصل إليه في بكين، ومحاولة فهمه بعيداً عن لغة التخوين أو لغة الأمنيات، فالسعودية وإيران دولتان إقليميتان، لهما أجندات ومصالح في المنطقة والعالم، وكُلٌّ يسير باتجاه تحقيق تلك المصالح بالطريقة التي يراها مناسبة.

لعلّ اليمن هو عقدة المنشار في أي مفاوضات سابقة جرت على مدار عامين في بغداد ومسقط بين ممثلي الرياض وطهران، فالسعودية ترى أن الدعم الإيراني لجماعة الحوثي وصل إلى مستوياتٍ خطرة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن أي تهدئة أو اتفاق بين البلدين من دون التوصل إلى حلحلة مناسبة في هذا الملف، والذي يبدو أن السعودية حصلت على ما تريده في الصين وهو ما دفعها إلى القبول بإعادة فتح السفارات وتطبيع العلاقات مع إيران.

يضاف إلى ذلك أن المتابع للشأن السعودي منذ تولّي فيصل بن فرحان مقاليد الدبلوماسية السعودية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، يلحظ تغييراً جذرياً في تعاطي الرياض مع مختلف الملفات الخارجية وتحولاً دفع السعودية إلى انتهاج سياسةٍ أكثر انفتاحاً على الجوار الإقليمي، وتسير بخطوات حذرة وواثقة في الوقت ذاته، وهو ما يمكن أن يفسّر لنا أيضاً قبول السعودية تطبيع العلاقات مع إيران، والتي بدأتها بحوارات ثنائية برعاية عراقية تارة وعُمانية تارة أخرى.

نقطة أخرى يجب الانتباه لها ونحن نحاول أن نحلل طبيعة الاتفاق السعودي الإيراني، أنّ الرياض تريد أن تضع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في موقف حرج، وهو ما حصل من خلال اختيار الصين راعياً للاتفاق، وذلك رداً على تجاهل بايدن السعودية والفتور الذي أصاب هذه العلاقة منذ توليه السلطة قبل أكثر من عامين، وهذا ما جرى فعلا، فالعناوين التي خرجت بها الصحافة الأميركية في اليوم التالي للاتفاق تظهر هذا الشعور جلياً، فالكل هناك يتحدّث عن مساحة جديدة كسبتها الصين ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما أيضاً على المستوى السياسي في منطقة كانت تُعتبر تاريخياً من الخطوط الأميركية الحمراء التي يصعُب تجاوزها.

وأيضاً، لا يجب أن ننسى الرسائل التي حملها وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، إلى طهران عبر بغداد، والتي تشير المصادر إلى أنها كانت تحذيرية لإيران من ضربة إسرائيلية كبيرة، طالباً في حينها من بغداد ألا تكون طرفاً في مثل هذا النزاع، وأن تعمل على حماية المصالح الأميركية خشية تعرّضها لضربات انتقامية.

وصلت إلى إيران التحذيرات الأميركية، وهي تدرك أن الانفتاح على السعودية في هذا التوقيت قد يسهم في دفع تل أبيب إلى إعادة النظر في عمليةٍ من هذا النوع، خصوصاً أنّ التقارير الأميركية كانت تشير إلى أن رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، كان يراهن على تطبيع كامل للعلاقات مع السعودية خلال فترة قريبة، لتأتي الخطوة الإيرانية بالانفتاح على السعودية لسحب البساط من تحته، وأيضاً محاولة إرسال رسالة إلى الولايات المتحدة أنّ أقرب حلفاء واشنطن في المنطقة، الرياض، باتت تقيم علاقات طبيعية مع طهران. وهنا يجدر بنا أن نتساءل، ونحن نحاول أن نفهم ما جرى، خصوصاً أنه لم يكن مفاجئاً بالكامل لمن يعرف تفاصيل المفاوضات التي احتضنتها بغداد طوال عامين تقريباً بين السعودية وإيران؛ هل سيشمل الاتفاق السعودي الإيراني تفاهمات أخرى تتعلق بالوجود الإيراني المليشياوي في كلّ من العراق وسورية، أم أنّ المصلحة السعودية بالدرجة الأولى تقتضي حلحلة المسألة اليمنية فقط؟

لا أحد يتوقع أنّ إيران يمكن أن تتخلى عن نفوذها في العراق وسورية ولبنان، فهي من خلال هذا الوجود المليشياوي، نجحت في الحوار وإدارة ملفها النووي مع الدول، وهي بهذه القوة الخشنة لاعبت السعودية سنوات. وبالتالي، من غير المنطقي أن تتخلّى عن هذه البيادق وأوراق اللعب. لكن وجود علاقة طبيعية بين السعودية وإيران قد يسمح للرياض بأن توجد في تلك الدول، من باب المنافسة مع النفوذ الإيراني، اقتصادياً، بمعنى أنّ طموحات سعودية كثيرة إلى الاستثمار في العراق قد تجد لها منفذاً عبر هذا الاتفاق، أما في لبنان، فالحال بالتأكيد مختلف، وأيضاً في سورية.

تبقى الأوراق التي جرى التوقيع عليها في بكين بين الرياض وطهران أوراقاً، ما لم تتحوّل إلى واقع، ومدة الشهرين لإعادة فتح السفارات قد تكون فترة اختبار نيات، بعدها وفي حال وقعت الضربة الإسرائيلية التي تهدد بها تل أبيب، قد تبعثر أوراق اتفاق بكين، أو قد تضاف لها ملاحق أخرى تجعلها أكثر قدرة على الصمود بوجه نيران منطقةٍ لا تعرف أن تخمد.

——————————–

«بكين» هل ينهي نزاع 40 عاماً؟/ عبد الرحمن الراشد

-1-

مثل القنبلة، اتفاقُ بكين السعودي – الإيراني حدثٌ كبيرٌ بكل المعايير. صداه يتردَّد وتأثيراتُه المستقبلية قد تكون أكبرَ من كل توقعاتنا. إنَّما علينا أن ننتظرَ لنرى عمقَه، وأبعادَه، والاحتمالات المكملة له في المستقبل القريب، من يدري قد يفتح أبواباً أوسعَ للنظام الأمني الإقليمي. وبالطبع، لا بدَّ أن نتفاءلَ بحذرٍ شديدٍ لأنَّه النظامُ الإيراني.

كثيرٌ من الإجابات مطلوب، عن أسئلة ملحة، ولا نعرف الكثير بعد. على ماذا الاتفاق؟ ولماذا الصين؟ ومن المستفيد؟ وما مواقفُ الآخرين المعنيين مباشرة، الأميركيين، والإسرائيليين، واليمنيين، والعراقيين، واللبنانيين، والسوريين، والقوى الإسلاموية المسلحة، والمنطقة عموماً؟

أولُ نتيجةٍ وُلدت في اتفاق بكين، عودة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين منذ عام 2016، وإدارة القضايا المعلَّقة التي أدَّت إلى القطيعة. في شهرين يفترض عودة البعثات الدبلوماسية، وإحياء اتفاقية التعاون القديمة التي وقعت عام 1998.

الكثيرون، وعن حق، يشكّكون في جدية الجانب الإيراني الذي سبقَ وتصالح مع السعودية نفسها 2001، وسرعانَ ما انتكست المصالحة، لأنَّها قامت على «حسن النية». أمَّا هذا الاتفاق فإنَّ ما يميّزه عمَّا سبقه هو الوسيط، الصين. الرئيسُ الصيني شخصياً هو من دعا السعوديةَ وإيران إلى بكين. والحقيقة بخلاف ما كتبه البعض متسائلاً، من أقنعَ طهران بالقبول، كانت المهمة الصعبة هي إقناع الرياض. فقد سبقَ وكرَّرت إيرانُ علانيةً منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي دعوةَ السعودية للتصالح، وإعادة العلاقات، وأن يزورَ مسؤولوها السعودية. جرت خمس جولات من التباحث بوساطة عراقية وعمانية، ولم تفلح في تحقيق التقدم.

لماذا الصين؟ لسببين مهمين؛ الأول إنَّها الدولة الوحيدة في العالم التي لها ميزة ذات قيمة كبيرة على البلدين معاً، leverage، الشريك التجاري الرئيسي لكل من السعودية وإيران. وهي وسيط مختلف عن العراقي والعماني بقدرتها على تقديم نفسها ضامناً. لا تستطيع حتى الولايات المتحدة أو روسيا ضمان الوعود الإيرانية. السبب الثاني أنَّ للصين مصلحة كبيرة في إنهاء النزاع السعودي – الإيراني، والتوصل إلى أمن إقليمي يحمي مصالحها. الصين تحصل على نصف وارداتها البترولية من المنطقة، نسبة هائلة، لا يمكن لاقتصادها أن يدورَ من دونها. أمَّا واردات واشنطن وموسكو من هنا فمحدودة. وغني عن القول أنَّه يندر أن يجدَ السعوديون والإيرانيون «صديقاً مشتركاً» مثل الصين، يمكن أن يثقوا به معاً.

لهذا رأينا الوسيطَ الصيني كان داخل الغرفة، مشاركاً في الأيام الأربعة، وليس دوره مقصوراً على تهيئة التباحث، كما فعل الوسطاءُ السابقون. يجلس بين الوفد السعودي برئاسة مستشار الأمن الوطني مساعد العيبان، يملك خبرةً طويلة في المفاوضات، ونظيره الإيراني علي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي.

دخول الصينِ لأول مرة في تاريخ الترتيبات الأمنية الكبرى في المنطقة قد يفتح الباب لإنهاء «الحالة الإقليمية الإيرانية»، التي بدأت في مطلع الثمانينات وتوسعت بعد اضطرابات ربيع 2011. خطوة كبيرة ومهمة، ولا بدَّ من القول إنَّ أسلوبَ إدارة ولي العهد السعودي الأزمة مع إيران في خمس سنوات، بما في ذلك في مراحلها الخطيرة، هو الذي أوصلنا إلى نتيجة واقعية مقنعة للإيرانيين بأنَّ خيارَهم هو التصالحُ وليس التهديد والفوضى. ونحن متفائلون بأن تقودَ وتكمل السعودية المصالحة، إقليمياً ودولياً، لكن من المبكر استقراء الوضع أبعد من هذا الاتفاق. الملفات الأخرى مترابطة ومتفجرة؛ أهمها مشروع إيران النووي لأغراض عسكرية، وهيمنة طهران على أربع عواصم عربية.

الامتحان الكبير هو اليمن. لطهرانَ دورٌ كبير في إدارة التمرد الحوثي، ولو تمكَّن الجانبان، برعاية الصين، من تهيئة الوضع لحل سلمي نهائي يوقف الحربَ، ويرمّم الشرعية، لكان ذلك وحدَه كافياً لإعلان نجاح اتفاق بكين. اليمن قضية تهمُّ العالمَ، حربها تهدّد ممرَ التجارة الدولية البحري، وتستوطن أرضَها تنظيماتٌ إرهابية، وتهدّد الحرب أمنَ السعودية. وفوق هذا، اليمن مأساة إنسانية مستمرة منذ احتلال صنعاء، وإسقاط الشرعية. إن نجحَ الطرفان في إحلال السلام باليمن، هذا سيعني وجودَ فرصة ثمينة لنسج نظام أمني إقليمي جديد، يُسهمُ في إنهاء أزمات العراق، ولبنان.

لا يمكن أن نتجاهلَ العوامل الأخرى المحيطة، مستفيدة أو متضررة. واشنطن أعلنت في اليوم نفسه عن إفراجها عن نصف مليار دولار «مستحقات» مالية إيرانية على العراق، ربما كانت خطوة مبرمجة سابقة للاتفاق، لكن للولايات المتحدة دورٌ مهمٌّ في هذا التطور الجديد.

مقالي المقبل عن الاحتمالات لاتفاق بكين وإشكالات الصراع الأخرى، تحديداً المعضلة الرئيسية؛ السلاح النووي.

———————————–

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

لنفترض أنَّنا نجلسُ في المكتب البيضاوي للرئيس جو بايدن، ونسمعُ النقاشَ الدائرَ حول اتفاق بكين. يتَّفقُ الجالسون على أنَّ هذه المرة الأولى التي تتجرَّأ فيها الصينُ على خوض مياه منطقة الشرق الأوسط، ونزع فتيلِ الخلافِ بين أكبرِ دولتين على ضفتي الخليج، السعودية وإيران.

هل سيراها البيتُ الأبيضُ فرصةً ذهبيةً لتخفيض التوتر، ويبنِي عليها خطواتِه المقبلةَ في منطقة الشرق الأوسط؟ أم سيعتبرُها «فتحاً صينياً» لمنطقة طالما كانت تُعتبر ضمن النفوذ الأميركي؟ تمَّ إخراجُ البريطانيين في الخمسينات في أزمة السويس، ثم إنهاء «الحماية» في الستينات والسبعينات.

الصين تستورد مليوني برميل يومياً من السعودية وحدَها، وستزداد. وأميركا تستورد منها 300 ألف برميل خام يومياً فقط، نحو 7 في المائة من حاجتها، وستتناقص. وهي نسبة قليلة إذا قارناها بأكثر من 50 في المائة تستوردها أميركا من جارتها كندا. واشنطن تستطيع أن تعيشَ من دون نفطِ السعودية والخليج. الصين لن تستطيعَ. نظرياً، يفترض ألا يشكل النجاح الصيني في التقريب بين الرياض وطهران أزمة.

إنَّما الأمر ليس بهذه البساطة بسبب التنافس المحموم بين القوتين العظميين. هنا، الأرجح، أنَّنا سنسمعُ أصواتاً أميركية ناقدة. «الصين تريد إدخال السعودية في فضائِها»، والخليج كلُّه يُعتبر منطقة نفوذ أميركية. «الصين تريد فكَّ الخناق عن حليفتها إيران». «إيران تريد تحييدَ السعودية، والتمدُّدَ في بقية المنطقة».

أولاً، لماذا تقبل السعودية بالوسيط الصيني؟ ليس طارئاً الحضور الصيني في قضايا المنطقة، بكين كانت، ولا تزال، بمباركة واشنطن، عضواً في مفاوضات JCPOA، الاتفاق الشامل مع إيران، في فيينا. وتمَّ إشراكُ الصين مراتٍ في مفاوضات السلام الفلسطينية.

والأهمُّ للسعودية، أنَّ الصين شريكٌ تجاريٌّ كبيرٌ لها ولدول المنطقة، والصين نفسُها متضررةٌ من النزاع. أمَّا واشنطن فليس بوسعها أن تكونَ البديلَ للصين، تحديداً في شراء النفط، شريان الحياة لاقتصادات دول الخليج، ولا أن تلعبَ دورَ الوسيط مع إيران.

مع هذا ستظلُّ الولاياتُ المتحدة لاعباً مهماً… الأخ الأكبر والشريك العسكري لدول الخليج، الذي سيمدُّ في عمر نفوذِها إلى عقد آخر، على الأقل.

هل وساطة الصين هي الحبل الذي سينقذ إيرانَ من الغرق من العقوبات والاحتجاجات؟ بدلاً من النظر للموضوع من الزاوية الإيرانية لننظر إليه بطريقة مختلفة. فاتفاق بكين يفترض أنَّه خبرٌ سعيد لواشنطن، لأنَّها كانت تعتبر مطالبَ دولِ الخليج المتكررة بشراكة أميركية أو ضمانات أمنية، ضد تهديدات إيران، تضع عليها عبئاً ليست متحمسة له. هذا العبء سينخفض في حال نجح الاتفاق. ليس من المتوقع في الاتفاق ملاحق عسكرية، تعطي الصينَ قواعدَ أو بوارجَ لحماية الممرات وضمان عدم اعتداء إيران على جيرانها. المصالحة تقوم على المصالح للدول الثلاث، السعودية وإيران والصين. فالاعتداء الإيراني المباشر أو غير المباشر، من خلال ميليشياتها في العراق أو اليمن، على ناقلة أو منشآت سعودية، مثلاً، هو اعتداء على الصين، صاحبة الاتفاق.

ماذا عن مفهوم تحييد إيران للسعودية؟ إيران خلقت لنفسها عداواتٍ كثيرة، لا علاقة لها بخلافاتها مع الرياض. وعلى العكس من سياسة عزل السعودية عن قضايا المنطقة، قد يفتح الاتفاقُ للإيرانيين فضاءً عربياً جديداً يقوم على المصالحات، وليس عبر السلاح والميليشيات.

تركيا كانت إلى قبل أشهر قليلة متورطة في نزاعات مع نحو نصف دول المنطقة، واليوم على وفاقٍ معها جميعاً، بما فيها إسرائيل، ممَّا حسّن اقتصادها، وأوضاعَها السياسية الداخلية، وعلاقاتها الخارجية. على أي حال توسيع دائرة المصالحات، شأن يخصُّ إيران، وقد يكون «تحييد السعودية» حافزاً لها على السير بقية الطريق، وإنهاء أربعين عاماً من التوتر الإيراني العربي.

سمعت الكثيرَ من المشككين في قدرة بكين على ضمان سلوكِ إيران تجاه السعودية وإنجاح الاتفاق. نقول: نحن واقعيون، وفي الوقت نفسه متفائلون. لا ندري على وجه اليقين، لكن علينا أن نعطيَ السلام فرصة. ونتطلع إلى أن تجرب الصين في بقية النزاعات مع إيران، في العراق ولبنان، ومهادنة إسرائيل. وربما تشترك في إيجاد حل لمشروع التسلح النووي الإيراني، القضية الأهم دولياً. ومن المؤكد أنَّ الولايات المتحدة، وأوروبا، سترحبان بدور صيني، إن اتضح أنها قادرة على إنهاء هذا الملف، الخلاف السعودي الإيراني الصعب.

الشرق الأوسط

————————-

 بين طهران والرياض: حلحلة وحلول أم إدارة للتنافس والصراع/ فاطمة الصمادي

يتعلق الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية بدولتين إقليميتين متنافستين، ويطال بصورة أساسية الجوار الخليجي وملف نفوذ كليهما في أكثر من مكان. فإذا نجح الاتفاق، سيسجّل كواحدة من الصفقات الكبيرة الناجحة بالنسبة إلى الصين، أما إذ عاد الصراع ليحكم العلاقة بين الدولتين – ولذلك سوابق – فإنه سيعود بصورة أكبر، وستدرك الصين حينها أنها أفرطت في التفاؤل، وعرّضت تقاليدها في السياسة الخارجية لمقامرة.

إن كان التطور الذي حدث في العلاقات بين إيران والسعودية صفقة، فهو يتعلق بدولتين إقليميتين متنافستين، ويطال بصورة أساسية الجوار الخليجي وملف نفوذ كليهما في أكثر من مكان. وإذا نجحت هذه الصفقة فستكون واحدة من الصفقات الكبيرة الناجحة بالنسبة إلى الصين، وذلك لأسباب كثيرة. أما النجاح والفشل فهو مرتبط باللاعبين الأساسيين وقدرتهما على إجادة اللعب في ملعب مليء بألغام التنافس والصراع. إن تحقيق نجاح، ولو متوسط المستوى، في حلحلة ملفات الخلاف بين إيران والسعودية سيمكّن الصين من تحقيق قفزة دبلوماسية غير مسبوقة في سياستها الخارجية ما سيجعلها أكثر جرأة في المستقبل في ملفات أخرى.

أما إذ عاد الصراع ليحكم العلاقة، ولذلك سوابق وأسبقيات، فإنه سيعود بصورة أكبر، وستدرك الصين حينها أنها أفرطت في التفاؤل، وعرّضت تقاليدها في السياسة الخارجية لمقامرة، وأنها فشلت في أن تكون ضامنا حقيقيا للاتفاق.

صحيح أن ما حدث في بكين كان استكمالا لمحادثات جرت في عمان وكذلك في بغداد بين عامي 2021 و2022 بوساطة رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي. لكن لا يمكن اختزال الدور الصيني في مجرد قطف الثمار، وهو ما يعتقده علي هاشم في مقالة تحليلية نشرها على موقع “جاده ايران”. فهو يرى أن الصين أخذت على عاتقها كسر ما تبقى من عوائق أمام سياستها الخارجية. وهي تسعة لأن تكون وسيطا لا ينتهي دوره مع إعلان الاتفاق، إذ كان لا بد من ضامن يصونه مع بروز عوائق مستقبلية. هنا دخلت بكين بوزنها كشريك اقتصادي وعسكري للجارتين اللدودتين، لتحقق أول إنجازاتها الدبلوماسية في منطقة لطالما عُرفت بحجم التأثير الأميركي فيها، وتزاحم نفوذا أميركيا يتجاوز عمره ستين عاما.

بالنظر إلى المصالح الاقتصادية، تشكل الدولتان المتنافستان المصدر الأساسي للطاقة بالنسبة إلى الصين، فضلا عن مشاريع اقتصادية أخرى كبيرة. فقد وقّعت إيران مع الصين اتفاقية استراتيجية تصل إلى 25 عاما، واتفقت مع السعودية على مشاريع اقتصادية تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار.

تشكل الصين بالنسبة إلى إيران الشريك الاقتصادي الأول، فيما تحتل السعودية مرتبة الشريك الاقتصادي للصين في المنطقة بتبادل تجاري يتجاوز  الـ87 مليار دولار سنويا. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين إيران والصين خلال العام 2022، مع أخذ العقوبات بعين الاعتبار، ما يصل إلى 14 مليار دولار.  وإن كان هذا الرقم يقل كثيرا عن حجم التبادل في سنوات ماضية، منها 2017 على سبيل المثال حين وصل إلى 33 مليار دولار. وفي العام 2014، كانت الشريك التجاري الأول للصين في المنطقة، بتبادل تجاري وصل إلى 51 مليار دولار. لكن المهم في معادلة اليوم أن الصين كانت هي الوجهة الأساسية في بيع النفط الإيراني وتحييد تأثير العقوبات بصورة أفشلت الهدف الأميركي بأن تصل مبيعات إيران إلى صفر برميل. بالمقابل، دعمت الصين عضوية إيران الكاملة في منظمة شانغهاي للتعاون، وهي عضوية تعد بالكثير بالنسبة إلى إيران اقتصاديا وعسكريا وأمنيا.

أما فيما يخص طرفي المعادلة والعلاقة بينهما، فحتى اليوم لا يستطيع البعض تصور هذه العلاقة دون تأثير اللاعب الأميركي، وهو لاعب شديد التأثير سياسيا واقتصاديا وعسكريا. فقد كانت الجمهورية الإسلامية، ومازالت تعتقد أن الحلول لمشكلات المنطقة يجب أن تتم بعيدا عن التدخل الأميركي. وكان ذلك عنوانا رئيسيا عندما أعلن إبراهيم رئيسي عن “أولوية الجوار” في سياسته الخارجية. و بعد انتخابه، أكد رئيس في اتصال مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أن “الأمن الجماعي” يشكل الجزء الأساس من “عقيدة السياسة الخارجية الإقليمية” لإدارته.  على اعتبار أن “عقيدة الأمن الجماعي” يمكنها أن تجلب “السلام والاستقرار” للمنطقة و”الهدوء والرخاء” لشعوبها.

فتحقيق الأمن الجماعي، من وجهة نظر إبراهيم رئيسي “رهن بخفض تدخل القوى الأجنبية في علاقات إيران وجيرانها إلى الصفر”. وهذا الموقف ليس خاصا برئيسي دون غيره، بل هو من ثوابت السياسة الخارجية الإيرانية. وقد سبق لروحاني أن دعا إلى أن تتولى دول الخليج أمنها بنفسها دون “تدخل أجنبي”. هذه السياسة تجعلنا نتساءل عن إمكانية تحقيق ذلك في منطقة تحتل المركز الثاني من حيث تعداد الوجود العسكري الأميركي بعد الأراضي الأمريكية وترتبط حكوماتها بعلاقات قوية مع واشنطن، فيما تشهد العلاقات بين طهران وواشنطن أزمة مستمرة. يرتبط ذلك بصورة جوهرية بالهدف الإيراني المعلن، وهو اخراج القوات الأميركية من المنطقة عقب اغتيال قاسم سليماني مطلع العام 2020.

من الواضح أن العربية السعودية تجري إعادة تقييم شاملة لرهاناتها الخارجية، ويبدو أن التقييم السعودي خرج بنتائج سلبية تتعلق بالدور الأميركي بعد أن كان ينظر إلى واشنطن بوصفها حليفا يمكن الاعتماد عليه. ولكن هذا الرهان واجه خيبات كبيرة، وهو ما أشار اليه عبد العزيز بن صقر في مداخلته خلال منتدى الجزيرة الرابع عشر.

وقد يؤشّر هذا التقييم السعودي إلى تغيير في سياسة المملكة الخارجية، وربما يكون من تجلياته تعزيز العلاقة مع الصين والدفع بها إلى مستويات غير مسبوقة، وكذلك السعي لانتهاج سياسة متوازنة مع روسيا رغم الضغوط الغربية.

إن نجاح الاتفاق الإيراني السعودي رهن بكيفية إدارة ملفات العلاقة بين إيران والسعودية، وهي ملفات لا يجادل عاقل في تعقيدها وتشعبها. كما أنه اختبار لقدرة الصين على أن تكون ضامنا لاتفاق بين دولتين شهدت العلاقات بينهما من التنافس والصراع أكثر مما شهدته من الاستقرار والتفاهم. يجدر بالذكر أن دولا خليجية، في مقدمتها السعودية، بدت غير راضية عن اتفاقية الـ25 عاما بين الصين وإيران، التي أبدت بدورها غضبا شديدا إزاء توقيع الرئيس الصيني علي البيان الختامي للقمة المشتركة التي جمعته بقادة دول مجلس التعاون. فقد أكد البيان “مشاركة دول المنطقة في معالجة أزمة الملف النووي الإيراني، والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار، والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية والتنظيمات المسلحة غير الشرعية، ومنع انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة”. كما أكد على دعم “الجهود السلمية كافة، بما فيها مبادرة ومساعي دولة الإمارات العربية المتحدة للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى…”.

ولعل السؤال يتعلق بقدرة الصين على الوقوف على مسافة واحدة بين أطراف المعادلة إذا أرادت أن تكسب سياسيا، وما إذا كان القرار سيُتخذ بناء على الكفة الأرجح في معادلة المال والتجارة.

ما بين النجاح والفشل

    إن أبرز ملمح للاتفاق الإيراني السعودي هو أنه يأتي بعيدا عن التدخل الأميركي، وجاء من بوابة أكبر منافس لها وهو الصين.

    لا يمكن لهذا الاتفاق أن ينهي حالة التنافس بين البلدين لكنه قد يفلح في إدارتها بأقل الخسائر للجانبين.

    من عوامل نجاح الاتفاق أن يتم الإقرار بأن عودة الأمن والسلام إلى سوريا والعراق واليمن ينبغي أن يكون عملًا جماعيًّا ضمن آليات جديدة يكون لإيران فيها دور أساسي.

    من المرجح أن تكون اليمن هي مدخل اختبار نجاح أو فشل هذا الاتفاق. فإيران تريد مساحة أكبر للدور السياسي لأنصار الله في مستقبل اليمن وحكومته إذا ما جرى التوصل إلى حل سياسي. لذلك، فإن الحل السياسي المنشود في اليمن تشترط فيه إيران جلوس اللاعب الحوثي عضوًا أساسيًّا وليس “محاربًا بالوكالة”. فالاستراتيجية الإيرانية تجاه اليمن تقوم على شقين: الأول، تقديم نفسها دولةً قادرةً على لعب دور بنَّاء ومؤثر في صياغة حل سياسي في اليمن. والثاني، دعم وحماية حلفائها وتمكينهم بشتى الوسائل للحيلولة دون إقصائهم من الساحة السياسية بالقوة.

    في المقابل، تحتاج إيران إلى تقديم ما يثبت حسن نواياها وجديتها في طرح “أولوية الجوار”. وتحتاج السعودية إلى تقديم ضمانات بعدم استهداف إيران ضمن مشاريع معادية مع اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

    هذا الاتفاق لن يجعل إيران تتنازل عن نفوذها الإقليمي، بل سوف تسعى إلى توظيف هذه المحادثات لتعزيز مواقع حلفائها، وقد يكون القبول بالنظام السوري وإعادة العلاقات معه أبرز ملامح هذا التوجه.

    سيكون على السعودية أن توقف دعمها لمحطات فضائية ممولة من قبلها كان لها دور تحريضي في المظاهرات التي حدثت في إيران في الأشهر الماضية، وهو ما بدأ يحدث فعلا.

    إن الانسحاب الأميركي المتدرج من المنطقة قد أحدث ارتباكًا لدى حلفاء واشنطن الذين ربطوا أمنهم، على مدى عقود، بالعلاقة معها، ما جعلهم اليوم أمام تحدي إعادة تعريف علاقاتهم الإقليمية بناء على هذه التطورات. ومع ذلك، ستبقى أزمة العلاقات الإيرانية – الأميركية وتطوراتها مؤثرة على طبيعة علاقات إيران والسعودية، سواء جرت العودة إلى المحادثات النووية وإحياء الاتفاق النووي أو تعثرت تلك المحادثات وأفضت إلى تصعيد بين الجانبين.

    قد يقود نجاح الاتفاق الإيراني السعودي إلى مراجعة مسار التطبيع والحد من الحضور المتزايد لإسرائيل في منطقة الخليج، وهو الحضور الذي ترى فيه إيران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.

    قد يكون ربط الاتفاق بمصالح اقتصادية للبلدين مدخلا لإنجاح عودة العلاقات الإيرانية السعودية.

    ليس مؤكدا أن تقود عودة العلاقات الدبلوماسية إلى إيجاد حلول لكل ملفات الخلاف، وقد لا يتعدى إنجاز هذا الاتفاق مساحة “السلام البارد” بين البلدين. لكن الخطير سيكون في حال فشل الاتفاق، لأن الفشل سيقود إلى مستويات من التوتر تتجاوز التنافس نحو الصراع.

فاطمة الصمادي

باحثة وأستاذة جامعية أردنية مختصة في الشأن الإيراني، حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة علامة طباطبائي في إيران. لها عدد من الكتب والأبحاث المتعلقة بالشأن الإيراني. تعمل حاليا باحثا أول في مركز الجزيرة للدراسات وتشرف على الدراسات المتعلقة بإيران وتركيا ووسط آسيا.

—————————

الصين تبادر لـ”ملء الفراغ” الأميركي/ بيكي شين

كان اتخاذ القرارات بناء على منظور استراتيجي، الميزةَ الرئيسة للصين. كان هذا فعالاً وحاسماً بشكل خاص في عقود التنمية المطردة على الرغم من تعقيدات المشهد الدولي. إذا وضعنا تفكير الصين ورؤيتها الاستراتيجية في السياق الصيني – العربي الذي أبرزته زيارة الرئيس تشي جينبينغ على رأس وفد كبير للسعودية في نهاية عام 2022، لأمكننا أن نرى أن الموقع الاستراتيجي للمملكة في العالم العربي لدى الصين ارتفع إلى مستوى جديد. هدفت الزيارة إلى حضور قمة ثنائية والقمة الصينية – العربية والقمة الصينية – الخليجية، ومثّلت أكبر وأعلى وفد صيني يزور العالم العربي منذ عام 1949.

جاءت القمّتان وزيارة الدولة للرياض، في وقت مثالي تتصاعد فيه العلاقة بين الصين والدول العربية، بينما يتراجع الوجود الغربي وتأثيره. وستسعى الصين والسعودية، على وجه الخصوص، لإظهار كيف يمكن للاستراتيجيات القائمة على البراغماتية أن تكون حجر الزاوية للاستقلال الفعال والسيادة.

استفادت الصين من عقود الإصلاح والانفتاح مع سياسة خارجية مستقلة ومسالمة وفق مبادئ التعايش السلمي. محليا، عزّزت التنمية الاقتصادية القوية والمطردة في الصين تشكيلا قويا للاستقرار الاجتماعي والأمن، فيما تمكّنت الصين على الصعيد الخارجي من الحفاظ على دور لها في قوات حفظ السلام في إطار الأمم المتحدة، وبالتالي ساهمت في منع الحروب أو صراعات الاستنزاف. ذلك لأن الصين واعية تماما أن إعطاء الأولوية للتنمية الخاصة بها، مع وضع الأمن كأساس، هو مفتاح بناء الروافع الاستراتيجية.

ترى الصين أن السعودية تقف الآن عند مفترق طرق، حيث تتمتع الدولة بوضع متميز لتعزيز استقلالها واستقلاليتها في صنع السياسات المحلية والخارجية. كانت المملكة، ومنذ عام 1932، تضع الولايات المتحدة أو الغرب بشكل عام في صدارة علاقاتها الخارجية. لكننا حين نتأمل الماضي، نرى أن إطار النفط مقابل الأمن كان نهج الولايات المتحدة لتعزيز مصلحتها في المنطقة على حساب أمن الدول الإقليمية وفرص التنمية. لكن السعودية ترى اليوم كيف أن تركيزها غير المتوازن على الولايات المتحدة أو مجموعة بعينها من الدول، لن يؤدي إلا إلى عدم الفاعلية في صنع السياسات.

نتيجة لذلك، عندما بدأت الولايات المتحدة تلوم المملكة لخفضها إنتاج النفط، حيث قدّم السعوديون مصالحهم الخاصة على مصالح الولايات المتحدة، أدركت المملكة بالفعل أن إعطاء الأولوية لمصالحها التنموية سيكون سياسة أكثر براغماتية وخيارا أكثر فائدة. في هذا الصدد، بات خيار الصين في التنمية الاقتصادية، سواء في أشكال التنمية الصناعية الخاصة بها أو في الشركات التي تذهب إلى الخارج في إطار “مبادرة الحزام والطريق”، مثلا حيا يحتذى.

استطاعت الصين أن تكيّف استراتيجياتها في كل من التنمية المحلية والعلاقات الخارجية على أساس التغيرات في الديناميكيات الإقليمية، وهذا ما يعكس إنشاء إرادة قوية للسيادة والاستقلال. من جانب آخر، تعزز قدرات الصين مستوى السيادة والاستقلال الذي يجب على الدولة أن تبنيه. لا بدّ أن تُظهر هذه القدرات، بشكل خاص، إمكانات الدولة في توفير الأمن والمصالح التنموية لشعبها.

وفي حالة المملكة تمرّ البلاد في مرحلة تحول عميق وإصلاح وانفتاح، لذلك من المتوقع ان تتجه أهدافها نحو الاعتماد على الذات بدرجة كبيرة في مجالي الأمن والتنمية الاقتصادية. وبديهي ألا تتبع السعودية بشكل صارم مسار الصين بسبب تباين الظروف الوطنية الخاصة بكلّ منهما، لكن نتائج القمّتين وزيارة الدولة التي قام بها الوفد الرفيع المستوى، تبيّن أن الإجماع على بناء مجتمعات ذات مصير مشترك بين الجانبين سيربط القوتين الصاعدتين بشكل أعمق على أساس تفاهم مشترك أمتن.

“حزام وطريق”

احتلّت المملكة مكانتها كأكبر شريك تجاري للصين في منطقة غرب آسيا وأفريقيا في السنوات الأخيرة على الرغم من كون العلاقات التجارية بين البلدين لا تزال حديثة العهد. اليوم، مع تقدّم مشروع رؤية المملكة العربية السعودية 2030 القائم على قدم وساق، غدت الدولتان قادرتين على إيجاد المزيد من الفرص للعمل معا في مجالات التجارة والتمويل وبناء القدرات والبنية التحتية وغيرها. في هذه الأثناء، يمكن لتجربة الصين في مجال بناء البنية التحتية وتطوير التكنولوجيا المتقدمة أيضا، أن تكون دليلا للمملكة العربية السعودية لتطوير صناعاتها بطريقة أكثر استقلالية.

لكن طموحات الصين لبرنامج البنية التحتية العالمية، المعروف باسم “مبادرة الحزام والطريق”، قد أسيء تقديرها في أنحاء كثيرة من المجتمع الدولي.

فقد أساء الغرب الحكم على مبادرة الحزام والطريق ووسمها بأنها قضية سياسية وأمنية بحتة، وخصوصا في أوروبا. ربما يكون من المفيد تذكر بعض الأسماء البديلة التي فكر برنامج الاستثمار الدولي لبكين في اعتمادها – “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”. فكما هو واضح، فإن طموح المبادرة متجذر في التنمية الاقتصادية، لأنها تسعى إلى تحسين الطرق من الصين إلى أوروبا، برّا بوساطة شبكة السكك الحديد، وبحرا – وهذا كان أكثر إثارة للجدال – عبر الممرات المائية الدولية. إنها ليست طريقة لتحقق بكين نفوذا سياسيا في بروكسيل أو واشنطن.

الدول الأخرى التي لديها نزاعات إقليمية مع الصين، وخاصة حول الممرات المائية التي تغطيها “مبادرة الحزام والطريق”، أعربت أيضا عن شكوكها، ليس أقلها اليابان وفيتنام والولايات المتحدة وأوستراليا. تميل هذه الدول إلى تحديد علاقتها مع الصين من خلال المنافسة والمواجهة. وهي ترى أن موجة الاستثمار الدولي لمبادرة الحزام والطريق في الموانئ والبنية التحتية تمثل عرضا للطموح العسكري وتهديدا استراتيجيا وأمنيا محتملا على المدى الطويل.

لكن ذلك ينطوي على عدم احترام نيات الصين المعلنة، التي تعتبر أساسية في تقرير الحكومة عن “مبادرة الحزام والطريق” حين أطلق المشروع في عام 2017. فهي تريد أن توفر مصالح أمنية مشتركة ونظاما بحريا مستداما مع الدول على طول طريقها. تتعارض الرواية السائدة في الغرب حول مبادرة الحزام والطريق والتصور الذي تخلقه، مع استراتيجيا الصين الطويلة الأمد ومبدئها – التنمية السلمية والديبلوماسية.

يعود سوء التفاهم إلى العديد من الاختلافات الجوهرية بين الغرب والصين. بعض هذه الاختلافات بيّن وجلي، ليس أقلها أنظمتها السياسية المختلفة ومواقعها العسكرية. هناك المزيد من المجالات حيث يمكن لوجهات النظر المتناقضة أن تؤدي إلى تصورات متعارضة مع النيات وإلى سوء فهم أعمق. لكن هناك أيضا عوامل أخرى تؤدي إلى نتائج مماثلة. وهي تشمل أنماطا مختلفة من التفكير واللغات والثقافة. التاريخ مهم أيضا، ولا سيما طريقة تذكر الحرب وإدراك الصراع. يمكن أن يكون هذا هو العامل الأساسي في خلق الفجوات واستدامتها في الإدراك الدولي، لكنه يمكن أن يكون أيضا الطريق الواعد لردم هذه الفجوات من خلال فهم دولي أفضل.

مع هذا التقدم أو بدونه، من المحتمل أن يكون هناك مزيد من الاحتكاك في تطوير مبادرة الحزام والطريق، التي ستستمر في تلقي النقد ومواجهة التحديات. لكن مشروع طريق الحرير البحري الحادي والعشرين سيظل من أهم الاستراتيجيات الخارجية للصين وسياستها البحرية الأكثر حيوية، حيث يحقق غرضين رئيسيين فوريين: تأمين مكاسب اقتصادية وحماية أفرادها وأصولها على طول الممرات البحرية الرئيسية وخارجها. وستواصل الصين مهمتها للاستثمار في مشاريع البنية التحتية البحرية والموانئ في الخارج.

منظوران للأمن

مع ذلك، لا يزال احتمال سوء الفهم الدولي لـ “مبادرة الحزام والطريق” قائما، ويمكن أن يكون له تأثير مهم على كيفية تطورها. إن تتبع جذور “المبادرة” من منظور الصين، وتخطيط تطور سياستها الخارجية واستراتيجيتها البحرية، لا يمكن إلا أن يساعد العالم في تبيّن الوضوح في شأن التنمية الدولية خلال العقود المقبلة.

فالصين تتمتع، بادئ ذي بدء، بثقافة أمنية داخلية تعطي الأولوية لاستقرار المجتمع من أجل تعزيز مصالح شعبه. وهي، كدولة نامية ذات عدد سكان يصل إلى 1.4 مليار نسمة، يبقى الحفاظ فيها على مستوى عالٍ  من الأمن العام أمرا أساسيا لتأسيس الأمن القومي وأمن الدولة في نهاية المطاف. يتصدر أمن الصين نفسها قائمة مصالحها الجوهرية. وهي تعتقد أن البيئة المتناغمة شرط أساسي لتنميتها الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. هكذا قادت الصين، في المجال البحري، ثقافة مماثلة للحوكمة التعاونية في خططها التنموية مع الدول الشريكة على طول طرق مبادرة الحزام والطريق.

ولكن على الضدّ من ذلك، ثمة لدى الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ثقافة أمنية خارجية، حيث يأتي إحساسها بالأمان من إبقاء التهديدات المتصورة خارج البلاد أو بعيدا عن تحالفاتها. بهذه الطريقة، يمكن لمثل هذه الدول أن تخطئ في قراءة رغبات الصين في فتح الطريق أمام تنميتها الإقليمية الدولية باعتبارها تهديدا خارجيا محتملا جديدا لها. يعرّف هذا المنظور مسبقا الصين على أنها تنافسية ومتحدّية، ما يؤدي إلى التوتر والعداء المحتمل في أعالي البحار. ولا يساعد في أن تجربة الولايات المتحدة الخاصة في إدارة مصالحها البحرية تأتي من مياه غير مدوّلة، على عكس العديد من تلك الموجودة في جميع أنحاء الصين.

“إدارة” أو “سيطرة”؟

لا تشاطر الصين الغرب ذكريات الحرب نفسها وفهم الصراع نفسه. فالصين التي لم تبادر إلى شن أي حرب على الإطلاق، هي في واقع الأمر أكبر مساهم في عمليات حفظ السلام بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعدد جنودها البالغ أكثر من 2000 جندي، يقومون بمهام نشطة في حفظ السلام. هذه العوامل هي التي تحدّد وجهة النظر الصينية. وسيظل مفهوم “الوئام” الثقافي جزءا لا يتجزأ من سعي الصين الى تطوير ممراتها وقواعد دعمها البحرية في الخارج، في الوقت الذي يجري فيه إنشاء طريق الحرير البحري الحادي والعشرين، المترافق مع تطورٍ تدريجي في قوة الصين البحرية في إطار استراتيجيتها التي تهدف لبناء دولة بحرية قوية. كل ما سبق، يشكل ركنا من أركان استراتيجيا الصين الديبلوماسية الشاملة التي ترتكز على الازدهار والتنمية القائمين على السلام.

فثقافة الأمن الصينية لا تعكس بيئة واقعية وحالة وطنية ذات خصائص صينية فحسب، بل تعكس أيضا العقل الاستراتيجي الذي يوجه حكومتها، والذي يمكن أن يعمل على نحوٍ مختلف بسبب الفروق الدقيقة التي أوجدتها اللغة الصينية. إذ يمكن لذلك العقل أن يوفر طريقة تفكير أكثر شمولاً وعمقًا في ظل توفر إطار أوسع مناسب طبيعيا لتشكيل اعتبارات على المستوى الشامل. إن ذلك الإطار مناسب تماما لتطوير الاستراتيجيات والأهداف العامة.

تفضل اللغة الإنكليزية التفاصيل، الأمر الذي يشكل تناقضا صارخا مع اللغة الصينية. فالإنكليزية تشجع الناس على تبسيط أساسيات أي قضية. ويمكن لذلك أن يفضي إلى ميل الولايات المتحدة إلى أن تقصر قرارات هيئاتها التنفيذية على أهداف صغيرة ومحددة. في المقابل، تشير الآثار المترتبة على هذه الاختلافات الثقافية واللغوية في المجال البحري، إلى تركيز الصين على الأهداف الكبرى مثل إقامة شراكات جديدة مع الدول على طول الطرق، بينما تظل الولايات المتحدة حبيسة التفكير في تركيزها على استخدام أسطولها البحري في بحر الصين الجنوبي أو في مضيق ملقا أو قناة بنما لمواجهة الصين.

تؤدي هذه الفروقات في التفكير تدريجيا وفي نهاية المطاف، إلى توسيع فجوات الإدراك بين البلدين وقد تخلق إمكانا متزايدا لنشوء سوء تقدير جيوسياسي وأمني. ويمكن إدراك تلك الفروقات أثناء العمل عندما تحدد الصين أدوار تلك الموانئ أيضا على أنها “مراكز بحرية” أو أماكن يمكن أن توفر الدعم اللوجستي اللازم للسفن العابرة الممرات البحرية لطريق الحرير. وينظر البعض إلى هذا الطموح على أنه ستار للقدرات العسكرية الصينية لأن مثل هذا التطور على طول طريق الحرير البحري سيمكن الصين من السيطرة على الممرات البحرية والرد على التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية بطريقة أكثر كفاءة وفعالية.

لكن بهذه الطريقة يُساء فهم مفهوم “السيطرة” في السياق الاستراتيجي الصيني. إذ تتعارض دلالة المصطلح باللغة الإنكليزية مع مبدأ الصين الأساسي المتمثل في التعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ذات السيادة. هناك كلمة تعبّر عن الفكرة على نحوٍ أفضل ألا وهي: “الإدارة”. فكلمة إدارة تعبر على نحوٍ أفضل من  كلمة “السيطرة” عن نهج الصين تجاه مصالحها والاخطار التي تتعرض لها تلك المصالح.

يتجلى ذلك على نحوٍ واضح في الحالات التي تمثل فيها الشركات التي تملكها الدولة، على نحوٍ رئيسي الموانئ المعنية، والتي تلعب دورا داعما وبنّاء في التنمية الاقتصادية وتوفير الأمن عندما يتعرض الموظفون والأصول الصينية إلى خطر. ويعتبر ميناء جوادر في باكستان مثلا على كيفية مساعدة الصين في تعزيز التنمية الاقتصادية المحلية من خلال الدمج الفعال بين الممر الاقتصادي والميناء مع توفر إمكان الافادة من نقطة وصول أفضل إلى مضيق ملقا، الذي يلعب دورا مهما في واردات الصين من الطاقة والموارد الآتية من الشرق الأوسط وأفريقيا.

تُظهر القاعدة الصينية في جيبوتي أيضا كيف أن نيات الصين تتمثل في “الإدارة” بدلا من “السيطرة”. فهي تدعم البحرية الصينية في عمليات الحراسة المنتظمة وفي عمليات مكافحة القرصنة والتهديدات الأخرى العابرة للحدود. كما تم استخدامها في إجلاء المدنيين الصينيين.

شأن داخلي…وموانئ تجارية

تمثل تايوان جزءا مهما من الجغرافيا السياسية المتعلقة بكل ذلك، إذ أن إعادة توحيد البر الصيني الرئيسي مع الجزيرة لم تتمّ بعد.

ويمكن أن يؤدي توسع نفوذ الجيش الصيني وتمتع الصين بقدرة أعمق على الصعيد الدولي إلى ما يمكن أن يُعتبر تدخلا أجنبيا في شأن داخلي. وستظل سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ركنا أساسيا من أركان العلاقات الدولية وسيكون من مصلحة الصين الأساسية من جميع النواحي التزام مثل هذا المبدأ في سياستها الخارجية. وتتوقع الصين من الدول الأخرى في مقابل ذلك أن تفعل الشيء نفسه.

بناء عليه، فإن تحويل الموانئ التجارية إلى موانئ ذات طبيعة عسكرية واضحة أو زيادة القوة البحرية الصينية إلى حد كبير سواء في غرب سنغافورة أو في القرن الأفريقي لن يكون مطروحا على جدول أعمال الصين على الأقل في المدى المنظور.   

وسيظل التطوير التجاري والدعم اللوجستي الوظيفة الرئيسة للموانئ والقواعد البحرية الصينية الواقعة على طول الطرق البحرية. وتتمثل الاستراتيجيا الصينية من منظور اقتصادي ومنظور خط التوريد في إقامة تواصل عالمي بين الصين والدول الواقعة في جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا والمحيط الهادئ وأميركا الشمالية والجنوبية وغرب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. يتمتع ذلك بأهمية حاسمة للتنمية المستدامة في الصين. كما يشكل اقتصاد الصين الأزرق (استخدام الصين للمحيطات ومواردها) نحو 10 في المئة من الناتج الاقتصادي القومي. ويعتمد ما يقرب من 90 في المئة من حجم تجارة البلاد الخارجية على النقل البحري أو الشحن. كما تحتاج الصين إلى خط إمدادٍ آمن. فأهم وارداتها النفط الخام الذي يأتي عبر الطرق التي تمر ببحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي آتيةً من الشرق الأوسط وأفريقيا. وسيستمر الطلب على النفط في النمو خلال العقد المقبل.

ينبغي توفير الطعام لسكان الصين البالغ حاليا 1.4 مليار نسمة. لذلك تتمتع طرق الشحن الآمنة والمستدامة بأهمية بالغة. بلغت قيمة واردات الغذاء أكثر من 100 مليار دولار في عام 2021. وستستخدم الصين في المدى القريب وفي المدى المتوسط الشركات التي تملكها الدولة لتطوير وإدارة موانئ “مبادرة الحزام والطريق” ونقاط المؤازرة التي تقيمها جنبا إلى جنب مع ممرات الطرق البرية والممرات البحرية بهدف خدمة المصالح الاقتصادية والأمنية. وستحصر البحرية الصينية دورها في حماية مصالح الصين الخارجية من خلال تخفيف الاخطار الأمنية التقليدية وغير التقليدية في البحر وإقامة شريان حياة يمكن استخدامه عند الحاجة. يذكر في هذا الصدد، واستنادا إلى خبرة المؤلف في هذه المجال، أن القطاع الخاص قد يلعب دورا أكبر في إدارة الأخطار وحماية المصالح الخارجية على طول “مبادرة الحزام والطريق”، الأمر الذي سيؤدي إلى عدم إضفاء الصبغة السياسية على جهود الصين الخارجية.

ثنائية عالمية… وتعددية

من غير المحتمل أن تنتهي الفروق في طبيعة السرد بين الغرب والصين، فهي ضارية الجذور في الاختلافات الجوهرية الكامنة في اللغة والثقافة والرؤية. ومن المرجح أن يستمر الحديث عن “المواجهات” وعن “الحرب”.

يمر العالم بفترة تتصف بانعدام ثقة عميق على المستوى السياسي. فالثنائية القطبية تتمتع بزخم يفوق زخم تعدد القطبية في تأمين الاتفاقات المتعلقة بالسياسة والمصالح الوطنية. نحن نعلم أيضا كيف يمكن للتحالف الغربي أن يتّحد بسرعة عندما يشعر بحاجة إلى ذلك. وليس هذا أمرا سيئا في الضرورة بالنسبة الى الصين، التي تتعامل مع الدول بروح من الاحترام المتبادل ومن خلال آليات في إطار أطر الأمم المتحدة لتعزيز السلام والازدهار الدوليين.

تتمتع الصين أيضا بسياسة طويلة الأمد. فقد اختتم المؤتمر الوطني العشرون أعماله قبل زمنٍ قصير وستواصل القيادة التزامها الكامل تحديث قدرات الصين بالإضافة إلى استراتيجيا خارجية ترتكز على البراغماتية. يجب أن يأتي تطوير وتحديث قواعد الاشتباك باستمرار على أساس إقليمي بين الصين والغرب في مقدمة جدول الأعمال، كي يظل كلا الجانبين في أفضل حالٍ من الناحيتين الديبلوماسية والعملية.

 إن تطوير واستدامة طريق الحرير البحري الحادي والعشرين سيكون دليلا واضحا ليس فقط على قدرة الصين وحسن نيتها السياسية، بل أيضا على إقامة هيكل حكم عالمي مناسب لعالم متعدد الأقطاب تنضم إليه كل القوى الناشئة والمتقدمة.

قاعدة جيبوتي:

للإدارة أم السيطرة؟

تُظهر القاعدة الصينية في جيبوتي كيف أن نيات الصين تتمثل في “الإدارة” بدلا من”السيطرة”. فهي تدعم البحرية الصينية في عمليات الحراسة المنتظمة وفي عمليات مكافحة القرصنة والتهديدات الأخرى العابرة للحدود. كما تم استخدامها في إجلاء المدنيين الصينيين في سيناريوهات في غاية الخطورة كأزمة اليمن في 2015.

تجدر الإشارة إلى أن جيبوتي لا تستضيف فقط قوات عسكرية صينية بل أيضا قوات من دول أخرى بما في ذلك الولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، وستنضم السعودية وتركيا إلى قائمة الدول التي تحتفظ بقوات هناك في المستقبل.

ثمة افتراضات بأن هذا الشكل من الإدارة على طول طرق “مبادرة الحزام والطريق”، سيؤدي إلى سيطرة صينية فعالة وإلى زيادة محتملة في ميزة الصين التنافسية، وإلى نيتها في أن تصبح قوة بحرية قوية أو مهيمنة من خلال بناء قدرات عسكرية في الموانئ. لكن هذا يعتمد على عقلية الولايات المتحدة في استخدام الأمن كحصن في مواجهة التصورات بالتهديدات الخارجية. وهذا ما يتناقض مع ثقافة الأمن الداخلي في الصين.

إن الخطأ في قراءة كل الظروف المحيطة بهذه الموانئ وقراءة نيات الصين، يسيء أيضا فهم ما هو في مصلحة الصين حقا.

أولا: تعني زيادة تطوير القدرات العسكرية زيادة الإنفاق، الأمر الذي يتعارض مع سياسات الإنفاق الصينية أيضا. فالصين تخصّص قدرا منخفضا نسبيا من ناتجها المحلي الإجمالي لتمويل التحديث العسكري.

ثانيا: تعرف الصين تمام المعرفة النتائج الإقليمية المترتبة على اتباع سياسة العسكرة نظرا لحقيقة أن تحقيق أي هيمنة على النمط الأميركي لن يؤدي إلا إلى تعزيز حساب القوة المحتملة على حساب الوسائل الديبلوماسية المفضلة لدى الصين للحفاظ على موقعها في النظام الإقليمي، وهذا من شأنه أن يتسبب بزعزعة الاستقرار، التي لن تفيد مصالح الصين في أي حال من الأحوال.

ثالثا: قد يؤدي بناء قدرات عسكرية أقوى أو التحسب لضرورة القيام بدور الشرطي في المنطقة إلى طمس معالم أفضلية الصين البادية للعيان التي تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. ويمكن توسيع إطار حد حفظ السلام في ظل الأمم المتحدة مع كل ما يترتب على ذلك من اخطار قانونية دولية.

المجلة

——————————

اتفاقٌ ثوري؟/ مهى يحيَ

توصّلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية إلى اتفاق قضى باستئناف علاقاتهما الدبلوماسية بعد قطيعة دامت سبع سنوات. وانطوى هذا الاتفاق على مفاجأتَين هما أولًا الوساطة الصينية في إبرامه، وثانيًا توقيته في هذه المرحلة بالذات. فهذه هي المرة الأولى التي تتدخّل فيها بيجينغ بهذه القوة في دبلوماسية الشرق الأوسط، وتزامن ذلك مع مساعٍ أميركية لزيادة الضغوط على إيران من خلال توسّطها بين السعودية وإسرائيل تمهيدًا لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما.

صحيحٌ أن المصالحة السعودية الإيرانية فاجأت معظم الحكومات، لكنها في الواقع أتت نتيجة مفاوضات طويلة امتدّت عامَين على الأقل، ورعاها في البداية رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، واستضافتها أيضًا سلطنة عُمان. يُشار إلى أن الجانبَين قطعا علاقاتهما الدبلوماسية في العام 2016 بعد أن أقدم متظاهرون غاضبون على إحراق السفارة السعودية في طهران احتجاجًا على تنفيذ الرياض حكم إعدامٍ بحقّ رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر. ومنذ ذلك الحين، تدهورت الأوضاع بينهما، ولا سيما بعد الاشتباه بضلوع إيران في الهجوم الذي نفّذته طائرات مسيّرة على منشأة نفطية تابعة لشركة أرامكو في بقيق في أيلول/سبتمبر 2019.

وقد أكدّ الطرفان السعودي والإيراني، في البيان الثلاثي المشترك الذي أعلن استئناف العلاقات بينهما، على “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”. وأشار البعض إلى بنود أمنية سريّة مُلحقة بالاتفاق، شملت، كما يُزعم، التزام الجانبَين بالقرارات التي توصّل إليها السعوديون مع حركة “أنصار الله” (المعروفة بالحوثيين) حول الملف اليمني خلال المفاوضات المباشرة، إضافةً إلى تعهّد السعوديين بعدم تمويل الوسائل الإعلامية التي تسعى إلى زعزعة استقرار إيران، واتفاق الطرفَين على الإحجام عن دعم أي أنشطة من شأنها تقويض الطرف الآخر. كذلك، قرّرت الدولتان إعادة فتح سفارتَيهما وممثلياتهما خلال مدّة أقصاها شهران، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، فضلًا عن اتفاقية أخرى بشأن التعاون في سائر المجالات.

يبدو جليًّا أن السعودية ستحقّق مكاسب عدة من هذه الخطوة. فمن شأن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران أن يفتح باب التفاوض من أجل التوصّل إلى تسويات عدة في أماكن تحتّل أهمية جوهرية للأمن القومي السعودي، وأبرزها اليمن. كذلك، عزّزت السعودية علاقتها مع الصين، شريكتها التجارية الأكبر، من خلال منحها انتصارًا دبلوماسيًا. فخلال العقد الماضي، فاقت التجارة السعودية مع الصين حجم تجارتها المشتركة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما ساهم في توطيد علاقات بيجينغ مع دول المنطقة بشكل عام، ولا سيما بعد الزيارة الناجحة التي أجراها الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى المملكة في كانون الأول/ديسمبر 2022.

إضافةً إلى ذلك، يُفسح هذا الاتفاق المجال أمام تنويع الشراكات الأمنية والاقتصادية السعودية، فيما ينتقل العالم ببطء نحو حقبة ما بعد المواد الهيدروكربونية. في غضون ذلك، تفيد تقارير بأن الصين تساعد المملكة على بناء مصنع للصواريخ وتوسيع قدراتها العسكرية. ومن شأن تخفيض حدّة التوترات في المنطقة أن يسمح للسعودية بالتركيز على سياساتها المحلية وتنفيذ رؤيتها للعام 2030، بهدف التحوّل إلى مركز مالي واقتصادي وسياحي إقليمي ودولي، وتنفيذ تغييرات اجتماعية واقتصادية أساسية على المستوى المحلي.

على صعيد آخر، صدرت تقارير في صحيفتَي وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز عن سعي الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة إلى تسهيل إبرام اتفاق بين السعودية وإسرائيل لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما. ومن ضمن الشروط التي تطلبها المملكة حصولها على ضمانات أمنية أميركية، ومساعدتها في تطوير برنامج نووي مدني، وتخفيف القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة الأميركية إلى السعودية. وفي مؤتمر ميونخ الأمني الأخير، ربط وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان فشل الاتفاق النووي مع إيران برغبة المملكة في بناء برنامجها النووي الخاص. يُشار أيضًا إلى أن التقارب السعودي الإيراني يُحصّن الرياض من التداعيات الإقليمية الناجمة عن أي هجوم قد تشنّه إسرائيل على المنشآت النووية الإيرانية.

أما توقيت الاتفاق فقد كان مثاليًا لإيران، إذ إنها ترحّب حتمًا بتهدئة وتائر التوتر في خضم الأزمات التي تعصف بها، بدءًا من تدهور أوضاعها الاقتصادية، ومرورًا بالضغوط الدولية المتنامية التي تثقل كاهلها، خصوصًا بعد فشل محادثات إعادة إحياء الاتفاق النووي والتقدّم الذي تحرزه في تخصيب اليورانيوم، ووصولًا إلى الاحتجاجات التي عمّت البلاد طوال أشهر. إذًا، لم يكن مستغربًا أن يسجّل الريال الإيراني ارتفاعًا قاربت نسبته 21 في المئة عَقِب الإعلان عن المصالحة مع السعودية. كذلك، نقترب من مرحلة ستُستأنف خلالها رحلات أداء مناسك الحج، بمشاركة إيرانية أكبر هذا العام. يُشار إلى أن الإيرانيين نسبوا الفضل إلى الصين في تحقيق هذا الانتصار الدبلوماسي في إطار مساعيهم الأوسع الرامية إلى إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة، ولا سيما أن بيجينغ تساعد طهران أيضًا في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأميركية.

لا شكّ أن هذا التقارب أثار توجّسًا كبيرًا في الأوساط الأميركية والإسرائيلية، على الرغم من تصريحات واشنطن المُرحِّبة به. في الواقع، وجّه الدور الصيني في هذا الاتفاق صفعةً لإدارة بايدن، وقوّض مساعي إسرائيل الهادفة إلى إقامة تحالف إقليمي ضد إيران. ويتّسم ذلك بأهمية خاصة على ضوء هدف إسرائيل المعلَن بتوقيع اتفاقية سلام مع المملكة، على الرغم من التصريحات الواضحة الصادرة عن وزير الخارجية السعودي ومفادها أن هذا الأمر لن يحدث من دون التوصّل إلى حلٍّ في فلسطين، استنادًا إلى مبادرة السلام العربية التي أطلقتها المملكة عام 2002. يُشار إلى أن إسرائيل تنسّق عن كثب مع الولايات المتحدة بهدف التصدّي إلى إيران التي توشك على تطوير أسلحة نووية، حتى إن الجانبَين أجريا مؤخرًا تدريبات عسكرية مشتركة لهذه الغاية.

إذًا، تمكّنت الصين من تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير في الشرق الأوسط وسط حالة الجمود التي تهيمن على المنطقة، ونجحت في فرض نفسها كقوةً مؤثّرة على الساحة الدولية، وأظهرت أنها لن تتوانى عن التدخل سياسيًا حين تُملي مصالحها الاستراتيجية ذلك، وخفّفَت من وطأة الضغوط الممارَسة على حليفتها إيران. مع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت بيجينغ ستقدّم أي ضمانات في حال أقدم أحد الجانبَين على خرق بنود الاتفاق، ولا سيما البند الذي تعهّدت إيران بموجبه باحترام سيادة الدول العربية ووقف التدخل في شؤونها الداخلية. لكن، ونظرًا إلى انتشار وكلاء طهران في كلٍّ من العراق وسورية واليمن ولبنان، يُعدّ التدخل الإيراني في هذه الدول أمرًا واقعًا. لذا، يبدو أن الضمانة الوحيدة هي ربما عدم رغبة أيٍّ من الجانبَين في إثارة حفيظة الصين عند هذا المنعطف الدقيق.

أما السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو ما إذا سيؤدّي التقارب السعودي الإيراني إلى إبرام اتفاقات أخرى هدفها خفض التصعيد في المنطقة. فعلى وقع المفاوضات الدائرة بين السعوديين والحوثيين، هل يفضي الاتفاق الحالي إلى محادثات مباشرة بين المملكة والقوى غير الحكومية الموالية لإيران، مثل “حزب الله” في لبنان، كما ألمحت بعض التقارير الصحفية؟ وكيف سيؤثّر التقارب السعودي الإيراني على المفاوضات بشأن البرنامج النووي؟ وكيف سينعكس كل ذلك على الملف اللبناني؟ هل سيساعد الاتفاق في انتخاب رئيس للجمهورية ينال رضى إيران، أم سيتوصّل الجانبان السعودي والإيراني إلى تسوية ما في هذه المسألة؟ وماذا عن الشأن السوري؟ هل ستُدعى دمشق إلى حضور القمة العربية التي تستضيفها الرياض هذا العام؟ وهل من المتوقّع أن يجري فيصل بن فرحان زيارة إلى دمشق قريبًا، ما ينهي فعليًا عزلة سورية الإقليمية؟ وضمن أي شروط قد يحدث ذلك؟

لا يشير الاتفاق السعودي الإيراني فحسب إلى تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، بل ينبئ أيضًا بحدوث تحوّل كبير في الأوضاع الجيوسياسية الإقليمية، ويجسّد حالة الإعياء السائدة في المنطقة من النزاعات التي تمزّقها، ورغبة القوى الإقليمية في تولّي دفة القيادة من أجل رسم معالم مستقبل الشرق الأوسط. إلامَ ستؤول كل هذه المساعي؟ لا بدّ من الانتظار لمعرفة ذلك، ولكن للمرة الأولى منذ سنوات طويلة يبدو أن المستجدات الإقليمية تحمل بشائر تغيير ما..

——————————-

ماذا تعني الاتفاقية السعودية الإيرانية لسوريا؟/ محمود علوش

أحدثت الاتفاقية التي أبرمتها السعودية وإيران لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما بوساطة صينية هزة في الجغرافيا السياسية الإقليمية.

وبالنظر إلى أن البلدين انخرطا منذ عقود في صراع على النفوذ بالمنطقة، فإن أي تحول في العلاقات بينهما من شأنه أن يؤثر على مسار القضايا الإقليمية التي يلعبان دوراً بارزاً فيها.

قبل كل ذلك، من غير الواقعي الاعتقاد بأن الاتفاقية ستُحدث تغييراً جذرياً وفورياً في العلاقات السعودية الإيرانية لاعتبارين أساسيين:

    أولاً، نصت الاتفاقية على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض في غضون شهرين، ما يعني أن مُهلة الشهرين ستكون اختباراً لحسن النوايا بين الطرفين.

    ثانياً، ركزت بنود الاتفاقية بشكل أساسي على الأبعاد الثنائية في العلاقات كمسألة العلاقات الدبلوماسية والتعاون الثنائي في مجال الأمن والاقتصاد والتجارة من دون أن تتطرّق بوضوح إلى الأبعاد الإقليمية الأكثر تأثيراً على ديناميكية التوترات بينهما.

على سبيل المثال، أعرب البلدان عن حرصهما على بذل كل الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي، لكنّهما تجنّبا الخوض علناً في قضايا حساسة كمستقبل البرنامجين النووي والصاروخي لإيران وعلاقة طهران بوكلائها الإقليميين كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق. مع ذلك يُنظر إلى النقطة المتعلقة بالأمن الإقليمي على أنها إشارة لرغبة الجانبين في التعاون لتهدئة الخلافات الإقليمية وإدارتها بما يعود بالنفع على كليهما.

على افتراض أن البلدين سينجحان في اختبار الشهرين لتفعيل بنود الاتفاقية، فإن الآثار الإقليمية المترتبة عليها ستكون كبيرة. يُمكن توقع أن أكثر التأثيرات المتوقعة ستبرز في ملف اليمن.

من المرجح أن تنخرط الرياض وطهران في مساع مشتركة لإنهاء الحرب في اليمن بما يشمل ممارسة إيران ضغوطاً على الحوثيين لإقناعهم بإبرام اتفاق سلام يُنهي الحرب ويُعالج التهديدات التي يُشكلها الحوثيون للأمن السعودي والخليجي عموماً.

بدرجة أقل، يُعتقد أن تحوّل العلاقات السعودية الإيرانية سينعكس انفراجاً على الأزمة السياسية في لبنان. وفي العراق بطبيعة الحال، فإن تقارباً سعودياً إيرانياً سيُساعد بغداد في تكريس العلاقات المتوازنة التي تسعى لإقامتها بين جيرانها العرب وطهران.

مع ذلك، فإن تساؤلاً مهماً يدور حول التأثير المحتمل للتقارب الإيراني السعودي على مسألة إقليمية مهمة هي سوريا. هناك سببان رئيسيان يدفعان للتقليل من تأثير أي تحول سعودي إيراني على مسار الصراع السوري:

    أولاً، على عكس القضايا الإقليمية الأخرى كاليمن ولبنان، والتي تلعب فيها إيران والسعودية دوراً رئيسياً، فإن الدور السعودي في سوريا يبدو محدوداً مقارنة بالدور الإيراني.

    ثانياً، يلعب السياق الإقليمي والدولي المرتبط بإيران وتركيا وروسيا دوراً رئيسياً في تشكيل خريطة التأثير الإقليمي والدولي في سوريا.

وبالتالي فإن هذا السياق سيبقى مؤثراً بشكل أكبر على ديناميكية الصراع بمعزل عن السياقات الإقليمية الأخرى كالعلاقات الإيرانية والسعودية والانفتاح العربي المتزايد على نظام بشار الأسد.

مع ذلك، يُلاحظ أن السياق الإقليمي الجديد الذي ينشأ في سوريا والمتمثل بالتحولات التي تطرأ على مواقف الدول العربية تجاه نظام الأسد، يعمل على خلق هامش له لمنافسة السياق التركي الروسي الإيراني.

في ضوء ذلك، فإن التأثيرات المحتملة للتقارب السعودي الإيراني على سوريا يُمكن أن تظهر بشكل جزئي في السياق الإقليمي الجديد. قبل إبرام الاتفاقية السعودية الإيرانية، كانت الرياض قد بدأت بالفعل في إعادة تشكيل سياستها في سوريا وأعربت عن رغبتها في الانفتاح على الحوار مع النظام السوري لمعالجة الجوانب الإنسانية المرتبطة بالصراع وهو الدافع الرئيسي الذي قدمته المملكة العربية السعودية لتبرير تغيير سياستها تجاه النظام.

وبالتالي، فإن مسار الانفتاح السعودي على دمشق يمضي بمعزل عن الحالة الجديدة في العلاقات السعودية الإيرانية. ويرجع ذلك إلى اعتقاد الدول العربية بما فيها السعودية بأن الانكفاء العربي عن سوريا خلال السنوات الماضية أدى إلى تهميش الدور العربي ومساعدة القوى الإقليمية المنافسة كإيران في تعزيز حضورها السوري.

في ضوء التحولات الجذرية التي طرأت على العلاقات التركية العربية في العامين الأخيرين، فإن الأولويات العربية في سوريا باتت تتركز بشكل أساسي على كيفية الحد من التأثير الإيراني في سوريا ودفع الأسد إلى تقليص اعتماده على طهران، ومن غير المرجح أن يدفع التحول الجديد في العلاقات السعودية الإيرانية بالرياض إلى قبول التعايش مع الدور الإيراني في سوريا على المدى البعيد.

في غضون ذلك، فإن تركيز الأولويات السعودية على إنهاء الحرب المنهكة لها في اليمن، يجعلها أكثر اهتماماً بأن تلعب إيران دوراً لمساعدتها في دفع الحوثيين إلى طاولة المفاوضات لإبرام اتفاق سلام، وهو ما يُشير إلى أن طهران لن تجد حاجة إلى تقديم تنازلات للسعوديين في سوريا من أجل إصلاح العلاقات.

كما أنّه على عكس الصراع اليمني الذي تعاملت معه إيران كفرصة لممارسة مزيد من الضغط الإقليمي على السعودية، فإن سوريا تكتسب أهمية كبيرة للمشروع الإقليمي الإيراني كونها تُشكل أحد وصلات الممر البري للوصول إلى البحر المتوسط وتزويد حزب الله بالأسلحة، وبالتالي، فإن النفوذ الإيراني في سوريا لن يكون مطروحاً على طاولة التفاوض الإقليمي مع السعودية. ومع ذلك، فإنه سيكون بمقدور الرياض اشتراط مساهمتها في إعادة إعمار سوريا وإعادة تأهيل نظام الأسد عربياً بتوافق مع الإيرانيين على تقاسم النفوذ في سوريا بعد الحرب.

وكما أدى التعاون السعودي السوري إلى إبرام اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، فإن تعاوناً سعودياً إيرانياً في سوريا يُمكن أن يؤدي إلى نتيجة مشابهة. لكنّ حقيقة أن السياق التركي الروسي الإيراني يبقى مؤثراًُ بدرجة أكبر في ديناميكية النفوذ الإقليمي على سوريا، تجعل من الصعب على إيران والسعودية الوصول إلى تسوية لتقاسم النفوذ في سوريا بمعزل عن مصالح اللاعبين الآخرين كتركيا وروسيا.

    من غير المرجح أن تتأثر خريطة النفوذ الإقليمي على سوريا بشدة فيما لو نجحت إيران والسعودية في ترجمة الاتفاقية بينهما إلى إقامة علاقات ودية والتخلي عن سياسات التنافس الإقليمي السابقة. لكنّ ذلك، يُمكن أن يُساعد نظام الأسد في إقامة علاقات متوازنة بين طهران والدول العربية

من غير المرجح أن تتأثر خريطة النفوذ الإقليمي على سوريا بشدة فيما لو نجحت إيران والسعودية في ترجمة الاتفاقية بينهما إلى إقامة علاقات ودية والتخلي عن سياسات التنافس الإقليمي السابقة. لكنّ ذلك، يُمكن أن يُساعد نظام الأسد في إقامة علاقات متوازنة بين طهران والدول العربية.

في الواقع، لن تؤدي مثل هذه النتائج سوى إلى إعادة تأهيل نظام الأسد والحد من أي فرصة لإحلال سلام حقيقي في سوريا. علاوة على ذلك، فإن حدود الانفتاح السعودي والعربي على النظام السوري ستبقى مكبلة بالموقف الأميركي والغربي الرافض لإعادة تعويم نظام الأسد دولياً، ما يُقلص من قدرة الدول العربية على القيام بمبادرات عملية يُمكن أن تؤدي إلى إحداث تحول كبير في ديناميكية الصراع السوري والموقف الإقليمي. ومن غير المرجح أن تُقدم الدول العربية على الانخراط في جهود إعادة إعمار سوريا في حال استمرت العقوبات الأميركية والغربية على نظام الأسد.

أخيراً، فإن حقيقة أن الأسد لا يمتلك القدرة على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا حتى لو امتلك الرغبة تجعل الرهان العربي في الانفتاح عليه محفوفاً بمخاطر تُبدد بشكل كبير أي فوائد محتملة تتطلع إليها الدول العربية. ومن المفارقات أن الانفتاح العربي على الأسد، وإن كان دافعه الرئيسي تقليص اعتماد الأسد على طهران، يُساعد في الواقع إيران في الحفاظ على دورها في سوريا من دون أن تضطر إلى تقديم تنازلات مقابل إعادة تعويم الأسد.

تلفزيون سوريا

—————————-

البحث عن نفوذ دولي.. هل تصعد “عقيدة شي” المواجهة بين الصين وأميركا؟

الحرة – واشنطن

حين حطت طائرة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في السعودية، وحظي باستقبال ملفت من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في ديسمبر الماضي، بدا واضحا أن بكين ترسل إشارات لواشنطن، عن دور جديد يطمح إليه شي الذي فاز، الجمعة، بولاية رئاسية ثالثة.

الزعيم الصيني، البالغ من العمر 69 عاما، يعلم تماما أهمية الدور السعودي في الشرق الأوسط الملتهب، وأهمية المملكة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تعتبرها شريكا استراتيجيا في الحرب على الإرهاب، ودعامة استقرار للمنطقة.

ويبدو أن الرئيس الصيني بدأ فعليا في التحرك على الساحة الدولية بشكل مختلف يترجم ما يعرف بـ”عقيدة شي”، إذ استهل ولايته الثالثة بتتويج اتفاق يعيد العلاقات بين الرياض وطهران، بعد سنوات من القطيعة بين العدوين اللدودين.

وفي أهم الاجتماعات السياسية السنوية التي عقدت، الاثنين، في الصين، كشف شي عن توجه لمواجهة علنية مع الولايات المتحدة على الساحة الدولية، تحت ذريعة ما تروج له بكين من “ضرورة إصلاح النظام الدولي”.

وحين خطب شي، بعد أن أعلن فوزه بولاية ثالثة بإجماع الحزب الشيوعي، قال إن الصين “لا يمكن أن تتطور من دون العالم”، وأن العالم “بحاجة إلى الصين”.

ماذا يريد شي؟

يقول تحليل نشره موقع بلومبرغ إن الرئيس الصيني يرسم صورته كـ “رجل دولة عالمي”. وبعد ساعات من حصوله على فترة رئاسية ثالثة، رعت حكومته توقيع اتفاق تاريخي بين السعودية وإيران لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وسرعان ما عزا قادة الدبلوماسية الصينية نجاح أربعة أيام من المحادثات السرية في إحياء العلاقات الدبلوماسية بين الخصمين الرئيسيين إلى قيادة شي، قائلين إنها تظهر “تأثير قوة عظمى”.

ويقول موقع بلومبرغ إنه على الرغم من عدم وضوح تفاصيل الدور الذين لعبته بكين في هذا الاتفاق، فإنه يقدم دعما لمحاولات شي التوسط بين روسيا وأوكرانيا للوصول إلى اتفاق سلام ينهي الحرب التي أنهكت موسكو، ودمرت البنية التحتية في أوكرانيا.

لكن رغم أنه ليس من السهل اقناع الغرب الداعم لكييف بدور صيني حقيقي في التوسط لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، إلا أن شي قد يلتقي بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو، وقد يجري أول اتصال له مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي.

لكن الطموح الصيني للقيام بدور فعال عالميا، وخاصة في التوسط لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، يتطلب تفاهما قويا وواضحا مع الولايات المتحدة، وهو ما يشكل تحديا حقيقيا أمام طموح شي، خاصة أن الملفات العالقة بين واشنطن وبكين معقدة، ولن يتوقع الرئيس الصيني الحصول تنازلات أميركية، خاصة في ما يتعلق بملف تايوان، لأن شي يروج نفسه كقائد لدور صيني ينافس أميركا على زعامة العالم.

وكانت الصين كشفت الشهر الماضي عن خطة من 12 نقطة لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وهي وثيقة رفضتها معظم الحكومات الغربية، لكن زيلينسكي قال إنه مستعد للقاء شي لمناقشة الأمور بشكل أكبر.

الموقف الأميركي

ورغم أن واشنطن رحبت بالاتفاق السعودي الإيراني، إلا أن سياسييها لا يرون في ذلك دليلا على قدرة الصين في تبوء مكانة دولية تمكنها من قيادة مبادرات عالمية. فقد قال مسؤولون أميركوين إن ما جرى يرتبط بمصلحة الصين الاقتصادية، ولا يترجم إلى تحالفات دولية طويلة الأمد. وأي شيء يساعد على تهدئة المنطقة هو في مصلحة أميركا.

يشير هذا الموقف “اللامبالي”، بوصف مجلة بوليتكو، إلى أن الإدارة الأميركية حريصة على تجنب المخاوف من أن الصين تعمل على تآكل النفوذ الأميركي العالمي، في وقت تسعى فيه إدارة بايدن إلى تعزيز العلاقة مع الشركاء والحلفاء لمواجهة ما يسميه وزير الخارجية أنتوني بلينكين تهديد بكين لقواعد النظام الدولي.

ويؤكد مسؤولون أميركيون أن الاتفاق السعودي الإيراني الذي رعته بكين، لا يعني تراجع دور واشنطن في الشرق الأوسط، بل إن الولايات لمتحدة لا تزال منخرطة بشكل فعال في المنطقة.

ويشير المسوؤلون تحديدا إلى التدريبات العسكرية الأخيرة، وزيارات الدبلوماسيين الأميركيين للمنطقة، ومكالمة الرئيس بايدن مع سلطان عمان، في وقت سابق من هذا الشهر.

وبالنظر إلى الخطاب المتزايد حول الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين، فمن المهم الإشارة إلى أن لكل من واشنطن وبكين مصلحة في شرق أوسط مستقر، لأسباب ليس أقلها مركزية المنطقة في احتياجات الطاقة العالمية. كما أن للولايات المتحدة مصلحة أمنية أكثر، في حين أن للصين مصلحة اقتصادية أكثر.

إشكالية العلاقة مع واشنطن

يحاول الرئيس الصيني تحدي الولايات في ساحة المجتمع الدولي، وأن يقدم بكين كلاعب منافس لواشنطن. لكن شي يعي أن أي دور للتوسط في الحرب الروسية على أوكرانيا، لن ينجح من دون المرور عبر المكتب البيضاوي، حيث يجلس الرئيس الأميركي، جو بايدن.

وسيكون على الرئيس الصيني أن يتحدث مرة أخرى مع بايدن، في محاولة لوضع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين على أسس أكثر استقرارا.

في نوفمبر الماضي، وبعد سنوات من العزلة بسبب وباء كورونا، تمكن الرئيس الصيني من لقاء أكثر من 10 زعماء لأكبر اقتصادات العالم في قمم مختلفة في جنوب شرق آسيا.

وخلال اجتماعه مع بايدن في منتجع جزيرة بالي الإندونيسية، قدم شي نفسه على أنه “رجل دولة”، يجب أن “يفكر ويعرف كيف يتعامل مع البلدان الأخرى والعالم الأوسع”.

وتوقع العالم أن مرحلة ما بعد اجتماع بالي سيشهد تقاربا أميركا صينيا في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية، لكن هذا لم يحصل، بل ساءت الأمور أكثر من المتوقع.

ففي فبراير الماضي، رصدت الولايات المتحدة بالون تجسس صينيا في أجوائها، ما دفع بايدن لإصدار أمر بإسقاطه. وتبادلت واشنطن وبكين تصريحات متشنجة حول هذا الحادث، إذ اعتبرت الإدارة الأميركية أن الصين تنتهك السيادة الأميركية، وتحاول التجسس على مواقع حساسة، في حين اعترضت الصين على إسقاط البالون الذي قالت إنه أطلق لأغراض علمية وخرج عن السيطرة ليدخل أجواء أميركا.

لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل ما زاد الطين بلة، أن الولايات المتحدة عززت جهودها لمنع الشركات الصينية من الحصول على التكنولوجيا المتقدمة، وحذرت مرارا من أن بكين تدرس تزويد روسيا بالأسلحة التي يمكن أن تستخدم ضد أوكرانيا، وهو ما اعتبرته واشنطن تورطا صينيا مباشرا في الغزو. وهذا سيقوض جهود بكين لتصوير نفسها على أنها جهة فاعلة ومحايدة ويمكنها التوسط في السلام في القضايا الدولية.

معركة على النظام الدولي

تحمل الصين رؤية مختلفة للنظام العالمي، تقوم على أساس عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، خاصة ملفات حقوق الإنسان، وهي رؤية تعارض الفلسفة الأميركية للنظام العالمي الذي يجب أن يراعي حقوق الإنسان كأساس للعلاقات بين الدول.

ويقول، يون صن، مدير برنامج الصين في مركز ستيمسون، وهو معهد أبحاث في واشنطن، لصحيفة نيويورك تايمز، إن ما يجري الآن هو “معركة على مستقبل النظام الدولي”. مبينا أن الصين تقول إن العالم “في حالة من الفوضى لأن القيادة الأميركية فشلت”.

ومن خلال الاتفاق السعودي الإيراني، يقدم شي القيادة الصينية كبديل للنظام الذي تقوده واشنطن، إذ تروج بكين أن واشنطن “تقود العالم نحو حرب باردة جديدة”.

ويقول تقرير صحيفة نيويورك تايمز إن الرؤية التي وضعها شي هي تلك التي تنتزع السلطة من واشنطن لصالح التعددية، وما يسمى بعدم التدخل، وهي كلمة تستخدمها الصين للقول إنه لا ينبغي للدول أن تتدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، من خلال انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان.

ولا شك أن الاتفاق السعودي الإيراني يعكس هذه الرؤية الصينية. ويكشف عن تبدل كبير في دور الصين في المنطقة الذي كان متجذرا في تقديم المنافع الاقتصادية المتبادلة، بغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان، والابتعاد عن المثل الغربية لليبرالية، التي ترى بكين أنها عقّدت قدرة واشنطن على توسيع وجودها ونفوذها في منطقة الخليج.

نبرة الخطاب الصيني تجاه واشنطن

وفي الآونة الأخيرة، يبدو أن بكين اتخذت نهجا مختلفا في نبرة الخطاب تجاه واشنطن، فعلى الرغم من تدهور العلاقات الثنائية، عادة ما يتجنب الزعيم الصيني مهاجمة الولايات المتحدة بشكل مباشر، ويشير بشكل عام فقط إلى “الدول الغربية” أو “بعض الدول المتقدمة” بدلا من ذلك، وفق سي أن أن.

لكن عندما انتقد شي الولايات المتحدة أمام مجموعة من المستشارين الحكوميين يمثلون الشركات الخاصة، الأسبوع الماضي، أطلقت تصريحاته الحادة جرس إنذار للعلاقات المشحونة بالفعل بين الولايات المتحدة والصين.

وقال شي: “لقد احتوتنا الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وقمعتنا بطريقة شاملة، الأمر الذي جلب تحديات خطيرة غير مسبوقة لتنميتنا”، حسب زعمه.

وتشير انتقادات شي المباشرة بشكل غير عادي إلى تصعيد ملحوظ في بكين ضد واشنطن. وما يعزز ذلك أيضا، تصريحات وزير الخارجية الصيني الجديد، تشين جانج، التي حذر فيها من أنه إذا لم تتوقف الولايات المتحدة عن احتواء وقمع الصين، فمن المؤكد أن القوتين العظميين ستندفعان نحو “الصراع والمواجهة”.

وفي علامة أخرى على الموقف الصيني المتشدد، عينت بكين الجنرال لي شانغفو، وزيرا للدفاع. وهو شخصية كانت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، قد فرضت عليه عقوبات عام 2018، لدوره في  شراء أسلحة روسية، بما في ذلك طائرة مقاتلة من طراز Su-35 ونظام صواريخ أرض-جو أس -400.

عقيدة شي

منذ قدومه إلى السلطة، ركز الرئيس الصيني في كتاباته، وأفكاره على الترويج لعقيدته القائمة على أساس استعادة ما يعتبره “ثروة وقوة” الصين دوليا، حتى وإن شكل ذلك تحديا للغرب الذي يسيطر في العصر الحديث على الساحة الدولية.

وفي دراسة بعنوان “عقيدة شي جين بينغ للعلاقات الدولية للصين”، نشرتها مجلة سياسات آسيا عام 2019، حلل الباحث، فنغ تشانغ، تفكير الصين بشأن العلاقات الدولية من منظور عقيدة شي، آخذا بعين الاعتبار الآثار المترتبة على مشاركة الصين في النظام الدولي.

وتوصل  تشانغ  إلى أن عقيدة شي التي تشكل الفكر المتجسد في ملاحظاته وكتاباته وتعليماته، تعد مدخلا لتفكير الصين العميق حول العلاقات الدولية في المستقبل.

وبين أن شي والحزب الشيوعي الصيني اعتمدا على ثلاثة أطر معرفية أعمق بشأن دور بكين عالميا. أولها، ما يعرف بـ “التجديد الوطني” الذي يركز على استعادة “ثروة الصين وقوتها”. وأن الإطاران الثاني والثالث هما “المجتمع العالمي” و”المساهمة الصينية”، ويهدفان إلى تعزيز المصالح المشتركة، والمساهمة في الحوكمة العالمية، على التوالي.

وهكذا فإن عقيدة شي، بحسب الدراسة، تلقي بظلالها على تحديات العلاقات الخارجية للصين في القرن الحادي والعشرين، خاصة في ظل الدور الأميركي المسيطر على العلاقات الدولية.

وتشير الدراسة إلى أن الإطار المرجعي لما يعرف بـ “التجديد الوطني” ، والهادف إلى السعي إلى استعادة مكانة الصين الدولية، يتصادم مع الهيمنة الراسخة للغرب منذ فجر العصر الحديث. وهو ما قد يخلق توترا دوليا.

وثيقة من 36000 كلمة

بالعودة إلى الوراء قليلا، وتحديدا في نوفمبر 2021، أصدر الحزب الشيوعي الصيني علنا وثيقة طويلة مكونة من 36000 كلمة، مهدت الطريق للرئيس شي ليكون قادرا على تحقيق حلمه بحكم الصين مدى الحياة، وهو الهدف الأكبر بالنسبة للرجل الذي يسيطر على البلاد.

نشر الحزب الشيوعي الصيني النص، وهو قرار تاريخي أقره كبار المسؤولين في الجلسة العامة السادسة شديدة السرية للجنة المركزية التي عقدت آنذاك في بكين.

كانت الوثيقة عبارة عن مشروع قرار بشأن الإنجازات الرئيسية والتجربة التاريخية لمساعي الحزب الشيعي الصيني خلال 100 عام. وكانت أول إعلان رسمي عن التاريخ الصيني منذ أربعة عقود، شي نفسه سلم الوثيقة للحزب معتبرا أنها تمثل استراتيجيته لترسيخ الصين كقوة عالمية رائدة.

في تاريخ الصين، لم يكن هناك سوى شخصين آخرين قاما بكتابة وثائق تاريخية، هما ماو تسي تونغ، ودنغ شياو بينغ، واستمر كلاهما في الحكم بقية حياتهما، وهو مؤشر على أن شي يحذو حذوهما في الظفر بالسلطة مدى حياته.

كانت تلك اللحظة، أقوى إشارة يقدمها شي بأنه يطمح لفترة ولايته ثالثة، وهو ما حدث بالفعل، الجمعة، أي بعد نحو عام ونصف العام من إصدار الوثيقة.

ومنذ نشر وثيقة الـ 36000 كلمة، كرر الرئيس الصيني في أكثر من مناسبة مصطلح “إصلاح وبناء نظام الحوكمة العالمي”، وأعاد التأكيد على ذلك بعد الاتفاق السعودي الإيراني لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وفي خطاب ألقاه، الاثنين، أمام الهيئة التشريعية في الصين، دعا شي إلى تغييرات في نظام صندوق النقد الدولي، وكيانات دولية أخرى، قال إنها لا تعكس رغبات الدول النامية.

وقال شي إنه يتعين على الصين “المشاركة بنشاط في إصلاح وبناء نظام الحوكمة العالمي” وتعزيز “مبادرات الأمن العالمي”، وأكد أن ذلك سيضيف “طاقة إيجابية للسلام والتنمية في العالم”، حسب زعمه.

الرد الأميركي

تعتبر الولايات المتحدة الصين منافسها الرئيسي، وتسعى لثنيها عن القيام بأعمال عسكرية لا سيما في ما يتعلق بجزيرة تايوان، التي تطالب بها بكين، وتعتبرها جزءا من أراضيها.

وبحسب مسؤولين أميركيين، فإن الصين تريد أن يكون جيشها مستعدا للاستيلاء على تايوان، بالقوة إذا لزم الأمر، بحلول 2027.

ولمحاصرة خطط الصين، أعلنت الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة شراكة تاريخية لبرنامج الغواصات العاملة بالدفع النووي، وهي خطوة مهمة في مواجهة طموحات الصين العسكرية.

وقد أثارت الشراكة قلق بكين التي نددت ببرنامج التعاون محذرة من سلوك هذه الدول “طريقا خاطئا وخطرا”.

ويقول، راين هاس، وهو زميل أول في السياسة الخارجية بمركز دراسات سياسة شرق آسيا، الزميل غير المقيم في مركز بول تساي الصيني في كلية الحقوق بجامعة ييل، إن الصين واحدة من العديد من التحديات الملحة التي تواجه إدارة بايدن عام 2023.

ويضيف، في تحليل نشره معهد بروكنغز، إن البيت الأبيض يتعامل الآن مع تحديات لا تعد ولا تحصى، مثل الوباء، والهجرة الجماعية، والركود العالمي، والاحتباس الحراري، والحرب على أوكرانيا، ونقص الغذاء والطاقة، وتطلعات كوريا الشمالية وإيران النووية. لكن إدارة بايدن ستكون في وضع أقوى لإدارة تلك التحديات.

ويؤكد هاس أن الصين تقع ضمن تلك المجموعة من التحديات العالمية التي يجب أن تتصدى لها إدارة بايدن. مشددا على أن هذا الكم الهائل من المشكلات العالمية لا يعني منح الصين فرصة، أو التنازل عن القضايا الحساسة مثل تايوان أو التكنولوجيا أو حقوق الإنسان.

ويؤكد أنه يجب أن تظل واشنطن ثابتة في الدفاع عن المصالح الأميركية والقيم التي تشاركها مع أقرب شركائها.

ويوضح هاس أنه وفي نهاية المطاف، ستدخل الولايات المتحدة والصين في منافسة طويلة الأمد لتحديد نموذج الحوكمة الذي يمكنه حل المشكلات العالمية بشكل أفضل وتحسين حياة البشر.

ويشير إلى أن أميركا ستكون الأقوى عندما تقوم بتحسين وضعها في الداخل، وتحشد الجهود العالمية لمواجهة التحديات المشتركة، وهو نهج يختلف عن الصين التي تبحث عن المواجهة بغض النظر عن التبعات على العالم.

مخاظر بحاجة لتفاهم أميركي صيني

يعتقد هاس أنه من الأفضل لأميركا والصين اتخاذ خطوات عملية لتقليل المخاطر العالمية بدلا من النهج الذي تتبعه بكين في المواجهة والتنافس.

ويقترح أن يشمل ذلك التوصل إلى اتفاق حول حدود استخدامات التقنيات الجديدة والناشئة في المناطق التي يكون فيها كلا الجانبين عرضة للخطر، ولا توجد فيها قواعد في الوقت الحالي.

 وقدم هاس مثلا بالقول إن من مصلحة واشنطن وبكين الاتفاق على وضع قيود على استخدامات أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل. كما يمكن للجانبين الاتفاق على أن البشر يجب أن يكونوا مسؤولين عن جميع القرارات المتعلقة بالسلاح النووي.

كما أن كلا البلدين عرضة للأوبئة في المستقبل، ولديهما مصلحة ذاتية مشتركة في إنشاء شبكة عالمية لمراقبة الأمراض للكشف عن تفشي الفيروسات في المستقبل قبل انتشارها.

ويرى هاس أن هناك منطقا مماثلا ينطبق على ملف تغير المناخ، إذ يلعب الميثان دورا رئيسيا في ارتفاع درجات الحرارة. كما ستستفيد واشنطن وبكين من تجميع القدرات لتطوير البحث في تحديات وحلول الحد من انبعاثات الميثان.

ويعتقد هاس أن هناك مجالات حرجة دوليا يجب أن تفرض فيها المصلحة الذاتية المتبادلة أهدافا مشتركة، مثل الحد من القدرات النووية الإيرانية، وضمان تدفق الطاقة من دون عوائق، وزيادة الأمن الغذائي، ومكافحة تلوث المحيطات، والتنسيق بشأن أزمة الديون في العالم النامي.

ويؤكد أن النقطة الأهم هي أن هناك قائمة من القضايا حيث يمكن للجانبين اتخاذ إجراءات موازية أو منسقة بشأنها خدمة للمصلحة المشتركة بدلا من توتير الأجواء الدولية بالمنافسة وتعريض العالم للخطر.

الحرة – واشنطن

——————————

هآرتس”: الأسد و”حزب الله” ينتظران جني ثمار الاتفاق السعودي- الإيراني

قالت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إن الاتفاق الإيراني- السعودي على استئناف العلاقات الدبلوماسية، هي أخبار “عظيمة” لرئيس النظام السوري بشار الأسد، و”حزب الله” اللبناني.

وأضافت في تقرير لها، أمس الاثنين، أنه بينما تمضي إسرائيل في موقف دفاعي على الساحة الدولية ضد إيران في سورية، ينتظر الأسد و”حزب الله” جني ثمار هذا الاتفاق، واصفةً إياه بـ “الاتفاق الدراماتيكي”.

واعتبر الكاتب والمحلل الإسرائيلي، زيفي باريل، في تقريره أن ترحيب الأسد و”حزب الله” باستئناف العلاقات الإيرانية السعودية، هو “دليل حاسم” على أن الهدف الأساسي من الاتفاق هو “إلحاق الأذى بإسرائيل”.

كما أن ترحيب واشنطن ودول أوروبية بذلك يشير، بحسب المحلل السياسي، إلى “مؤامرة دولية تسببت بها الاحتجاجات ضدّ مشروع التعديلات القضائية، التي تريد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إنجازها”.

وأضاف: “بينما تحاول إسرائيل لعب دور دفاعي على الساحة الدولية حالياً منتقدة الاتفاق، فإن الأسد ونصر الله ينتظران جني ثماره”.

وحول الفوائد التي سيجنيها النظام السوري، قال باريل إن أبرزها هو عودته للساحة العربية والدولية، خاصة أن بعض الدول العربية ومن بينها مصر وتونس والإمارات، تتجه لتعزيز علاقاتها مع النظام السوري مؤخراً.

أما الفوائد التي سيجنيها “حزب الله”، تتلخص في أن الاتفاق الإيراني- السعودي قد يُسهم بتعجيل انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، يكون داعماً للحزب وموالياً للنظام السوري، وسط تسليط الضوء على سليمان فرنجية الذي طُرح اسمه من قبل “حزب الله”.

وتطرقت “هآرتس” في تقريرها إلى المحادثات التي تجري بين تركيا والنظام السوري، بوساطة روسية، واعتبرت أن التوصل لاتفاق بين الطرفين قد يعطي نفساً اقتصادياً للسوريين، ويؤمن لتركيا “جداراً أمنياً” ضد الكرد في سورية.

كل ذلك، بحسب المحلل الإسرائيلي زيفي باريل، يضع إسرائيل أمام واقع جديد بصورة جديدة ومختلفة تماماً.

وكانت إيران والمملكة العربية السعودية أعلنتا الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2016، بوساطة صينية، بحيث تعيد إيران والسعودية فتح السفارات في البلدين في غضون شهرين.

كما اتفق البلدان على إعادة تفعيل اتفاقية تعاون أمني منتهية – وهو تحول يأتي بعد سنوات من استهداف الميليشيات المدعومة من إيران في اليمن للسعودية بهجمات بالصواريخ والطائرات بدون طيار – بالإضافة إلى الاتفاقات التجارية والاستثمارية والثقافية القديمة.

ومن المتوقع أن تتأثر دول عدة بهذا الاتفاق، الذي جاء في وقت مفاجئ وغير متوقع، ومن بينها: سورية واليمن وإسرائيل ولبنان والولايات المتحدة.

وقطعت السعودية علاقاتها مع إيران في يناير/ كانون الثاني 2016، بعد تعرض سفارتها في طهران وقنصليتها في مشهد، لاعتداءات من قبل محتجين على إعدام الرياض رجل الدين السعودي الشيعي المعارض نمر النمر.

—————————-

التقارب السعودي- الإيراني.. إسرائيل تبحث عن “أمنها” وإيران عن “فك عزلتها

لا تزال تبعات الاتفاق السعودي- الإيراني حول استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة 7 سنوات، تستولي اهتماماً عالمياً في الصحف ووسائل الإعلام، في خطوة أقر محللون بتأثيرها على ملفات إقليمية ودولية.

وتتسع دائرة تأثير ذلك الاتفاق، لتشمل “أمن إسرائيل القومي”، بحسب تقارير، في ظل ترحيب أمريكي وصمت أوروبي تجاه الاتفاق، خاصة أن الغرب كان الداعم الأساسي لإسرائيل في المنطقة منذ عقود.

“أمنها خط أحمر”

صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، قالت في تقرير لها اليوم الأربعاء، إن أمن إسرائيل هو “مسألة اتفاق وخط أحمر ثابت ودائم”، مع وجود حليف استراتيجي لها مثل الولايات المتحدة.

وأضافت أنه بالرغم من ذلك، فإن الضمانات التي حصلت عليها إسرائيل حول أمنها القومي تخضع حالياً لعمليات تقييم مختلفة بعد الاتفاق السعودي- الإيراني، خاصة أن حكومة نتنياهو تركز على ملف حلفاء إيران في سورية ولبنان، ووضعته على رأس أولوياتها.

وأردفت: “لقد أكدت (حكومة نتنياهو) مراراً على الخطوط الحمراء لإسرائيل فيما يتعلق بتعزيز النفوذ الإيراني في سورية وسلوك حزب الله اللبناني”.

وبحسب الصحيفة، فإن الهدفين الاستراتيجين المهمين لإسرائيل يتمثلان في منع الوجود العسكري لإيران في سورية، ومنع وصول المساعدات الإيرانية لـ”حزب الله” في لبنان.

وبالتالي، فإن هذين الهدفين يفوقان من حيث الإلحاح والتأثير الفوري ملفات أخرى بالنسبة لإسرائيل، مثل القدرات النووية لإيران، بحسب الصحيفة.

وأضافت: “تمثل الميليشيات الإيرانية ومواقعها في سورية ولبنان ذراعاً ممتداً، يمكن للنظام الإيراني الاعتماد عليه لضربة ثانية محتملة، أو الرد على عملية عسكرية إسرائيلية ضد إيران”.

وتواجه إسرائيل، بحسب “جيروزاليم بوست”، مهمة صعبة طويلة المدى تتمثل في إخراج إيران من سورية وإبعادها عن حدودها، مشيرة إلى أن هذه المهمة يصعب تحقيقها من خلال المواجهة العسكرية وتتطلب عملاً دبلوماسياً مع ضغط عسكري مستمر.

فك عزلة إيران

رئيس مركز تحليلات الخليج في واشنطن، جورجيو كافيرو، قال إن استعادة العلاقات بين السعودية وإيران هو “دليل نجاح” بالنسبة لطهران، بعد وعود قدمها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بتحسين علاقات بلاده مع دول الجوار، حين تسلمه الحكم.

وأضاف في تقرير نشرته شبكة “الجزيرة” باللغة الإنجليزية، أن إيران تحاول من خلال هذا الاتفاق التخفيف من عزلتها الإقليمية، دون أن تضطر إلى تغيير سياستها الخارجية، وهو ما يُنظر إليه في إيران على أنه “نجاح”.

    My latest @AJEnglish piece, featuring quotes from @aronlund, @RamiKhouri, @tparsi, @AmbGordonGray, @CarolineRose8, and @NoeNicholas. https://t.co/FtqWkVlf0X

    — Giorgio Cafiero (@GiorgioCafiero) March 14, 2023

من جانبها، قالت كارولين روز، كبيرة المحللين في معهد “نيو لاينز للاستراتيجيات والسياسات”، إنه بالرغم من أن إيران لا تزال تخضع لعقوبات شديدة من قبل الولايات المتحدة، ومعزولة عن معظم أوروبا بسبب دعمها لروسيا في الحرب الأوكرانية، فلا يزال من الممكن القول إن الاتفاقية بين الرياض وطهران هي “خطوة نحو الاتجاه الصحيح”.

وأضافت لشبكة “الجزيرة” أنه بالرغم من أن السعودية تلقت ضمانات من إيران بعدم تشجيع الحوثيين في اليمن على شن هجمات ضد المملكة، فإن الرياض وعواصم خليجية عدة ستواصل اعتبار إيران “تهديداً” لها.

إلى جانب ذلك، قال جوردن غراي، سفير الولايات المتحدة السابق في تونس لـ “الجزيرة”: “من الصعب تصور إنهاء إيران دعمها لحزب الله في لبنان أو بشار الأسد في سورية، وستسعى إيران دائماً إلى عراق مطيع”.

فيما اعتبر أرون لوند، زميل في مؤسسة “سينشري انترناشيونال” أن تحسن العلاقات السعودية الإيرانية يمكن أن يخلق فرصاً لنظام الأسد، فقد يُصبح مقبولاً بالنسبة للرياض إضفاء طابع رسمي على علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق.

وبحسب تقرير كافيرو، لن تحل الاتفاقية الدبلوماسية بين الرياض وطهران على الفور جميع مصادر التوتر في العلاقات الثنائية، ناهيك عن كل صراعات الشرق الأوسط.

—————————

اتفاق إيران والسعودية.. دلالات إقليمية

بعد سنوات من القطيعة والتوترات بين السعودية وإيران، تم الاتفاق بين البلدين على استئناف العلاقات وتجاوز الخلافات، وذلك بعد مباحثات سرية عقدت برعاية صينية استمرت لمدة أربعة أيام.

وصدر بيان ثلاثي مشترك عن السعودية وإيران والصين، أعلن فيه عن استئناف العلاقات الدبلوماسية والعمل على افتتاح السفارات، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ونص الاتفاق على إعادة تفعيل الاتفاقية الأمنية المبرمة عام 2001، والمرتبطة بمراقبة الحدود ومكافحة الإرهاب، والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة المبرمة عام 1998. وفي تعليقهم على الاتفاق، قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، إن “استئناف العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وإيران يأتي انطلاقًا من رؤية المملكة القائمة على تفضيل الحلول السياسية والحوار”، فيما أشار وزير الخارجية السعودية إلى أن الاتفاق لا يعني حل كافة الخلافات القائمة، وإنما هو دليل على الرغبة بحل جميع الخلافات عبر الحوار.

أما وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، فقال، إن “سياسة حسن الجوار التي تنتهجها حكومة إبراهيم رئيسي تسير في الاتجاه الصحيح”. واعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، أنّ الاتفاق مع السعودية سيعود بالنفع على الأمن والاستقرار في المنطقة وقضاياها.

ترحيب وحذر

وحصل الاتفاق على ترحيب واسع عربيًا، وأشادت به كافة الدول العربية، نظرًا لانعكاساته على المنطقة والاستقرار فيها. كما رحب فيه الاتحاد الأوروبي، باعتبار أنه سينعكس أيضًا بشكلٍ كبير على الاستقرار في الشرق الأوسط. من جهتها، هنّأت روسيا على لسان نائب وزير خارجيتها، ميخائيل بوجدانوف، “إيران والسعودية والصين على التوصل إلى اتفاق عودة العلاقات بين الرياض وطهران”، وأضاف بوجدانوف أن “عودة العلاقات تتماشى مع المبادرات الروسية الرامية إلى إنشاء منظومة للأمن في منطقة الخليج ذات الأهمية الاستثنائية على المستوى الاقتصادي العالمي”.

أما الولايات المتحدة التي رحبت بالاتفاق، فقد شككت في “رغبة إيران بالمشاركة فعليًا في خفض التصعيد”، وقال الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، “سنرى إذا كان الإيرانيون سيحترمون جانبهم من الاتفاق، فهذا ليس نظامًا يفي بكلامه عادةً”. أما المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير، فقالت خلال مؤتمر صحفي، “نحن على دراية بالتقارير بشأن الاتفاق بين إيران والسعودية، وبشكل عام، نحن نرحب بأي جهود للمساعدة في إنهاء الحرب في اليمن وتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط”.

قلق إسرائيلي

وفي أول رد فعل رسمي إسرائيلي على الاتفاق، اعتبر مسؤول إسرائيلي في تصريح رسمي أن “الاتفاق بين الطرفين سيؤثر على إمكانية تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب”، وأضاف أن “قوة الغرب في موقفه من إيران ستقلل من أهمية تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران”. ووصف زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد، الاتفاق بأنه “فشل ذريع وخطير للسياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية التي يتزعمها بنيامين نتنياهو”.

أما رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق نفتالي بينيت، فأكد أن “تجديد العلاقات بين السعودية وإيران، هو تطور خطير بالنسبة لإسرائيل وانتصار سياسي بالنسبة لإيران”، معتبرًا استئناف العلاقات الإيرانية السعودية يشكل “ضربةً قاضيةً لجهود بناء تحالف إقليمي ضد إيران”، وشدد على أن ذلك “فشل ذريع لحكومة نتنياهو، نجم عن مزيج بين الإهمال السياسي والضعف العام والصراع الداخلي في البلاد”.

ووجه نتنياهو اللوم على الاتفاق إلى الحكومة السابقة، التي لم تتخذ موقفًا واضحًا من المفاوضات بين إيران والسعودية عندما بدأت في وقت سابق من العام الماضي. وينظر إلى اتفاق طهران والرياض، بأنه قوض أحلام تل أبيب في إقامة تحالف أمني واسع من أجل مواجهة إيران.

تنامي نفوذ الصين

بحسب صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، فإن الصين تخطط لعقد قمة إقليمية خلال العام الحالي في بكين، وهذه إشارة جديدة إلى تنامي نفوذ الصين، التي تصبح لاعبًا بارزًا في المنطقة. وتشير الصحيفة الأمريكية إلى أن حراك الصين الدبلوماسي في المنطقة يظهر أن شي جين بينغ يرى أن للصين دورًا مركزيًا في المنطقة، باعتبارها وسيطًا جديدًا، ويتحدى النفوذ الأمريكي الحصري لسنوات طويلة فيها.

ويقول خبير في شؤون الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جون ألترمان إن الصفقة تسمح للقادة الصينيين “بتطوير تصوراتهم لدورهم العالمي، وهم يقوضون زعم الولايات المتحدة بأن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة هو الخيار الوحيد الذي يمكن للحكومات اتخاذه، والطريقة الوحيدة لتعزيز الأمن”، بحسب ما جاء في وول ستريت جورنال. وحول دوافع الصين، قال الباحث في برنامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي بواشنطن جوناثان فولتون، “الصين تريد الاستقرار في المنطقة، حيث يحصلون على أكثر من 40% من طاقتهم من الخليج، والتوتر بين إيران والسعودية يهدد مصالحهم”.

وقالت نائبة مدير الأبحاث في مشروع الشرق الأوسط للديمقراطية إيمي هوثورن: “لا توجد طريقة للالتفاف حولها- إنها صفقة كبيرة. نعم، لا يمكن للولايات المتحدة أن تتوسط في مثل هذه الصفقة الآن مع إيران على وجه التحديد، حيث لا توجد لدينا علاقات. ولكن بالمعنى الأكبر، فإن الإنجاز المرموق للصين يدمجها في اتحاد جديد دبلوماسيًا ويتفوق على أي شيء تمكنت الولايات المتحدة من تحقيقه في المنطقة منذ أن تولى بايدن منصبه”، بحسب تصريحات لـ”نيويورك تايمز”.

ويرى السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل ومصر والذي يعمل في جامعة برينستون حاليًا دانييل كيرتزر، خلال حديثه لـ”نيويورك تايمز”، أن الديناميكيات المتغيرة التي يمثلها الاتفاق الذي توسطت فيه الصين تشكل تحديًا لإدارة بايدن عندما تفضل التركيز على مكان آخر، مضيفًا “أنها علامة على خفة الحركة الصينية للاستفادة من بعض الغضب الموجه للولايات المتحدة من قبل السعودية والقليل من الفراغ هناك”.

وتعتبر غالبية التحليلات أن الاتفاق الذي رعته الصين يظهر تناميًا في نفوذها بالمنطقة، وتحديًا للنفوذ الأمريكي فيها الذي استمر لسنوات طويلة، فيما ستظهر قيمة هذا النفوذ الفعلي مع التطورات التي ستنتج عن الاتفاق الذي رعته بكين، ومدى تقدمه على صعيد التطبيق.

انعكاسات الاتفاق

يتجاوز الإعلان عن استئناف العلاقات بين طهران والرياض البلدين بشكلٍ كبير، ومن المتوقع أن ينعكس على عدة دول في المنطقة، خاصةً تلك التي كانت مناطق صراع بالوكالة بين طهران والرياض. وتشير التوقعات إلى أن الاتفاق سيمضي بشكلٍ بطيء نسبيًا، لكنه سيسفر عن تحقق انفراجات متنوعة، على المدى الأطول.

كانت اليمن هي أبرز المناطق التي ظهر الحديث عنها عقب الاتفاق، حيث تخوض الرياض حربًا فيها منذ 2015، لمواجهة الحوثيين الذين يحصلون على دعم إيراني. وكان التوتر في اليمن من أبرز نقاط المواجهة المتبادلة خاصةً مع شن الحوثيين هجمات متكررة بالصواريخ والطائرات المُسيّرة على السعودية، استهدفت منشآت إنتاج النفط عام 2019. ومع استمرار الجمود على جبهات القتال، عقدت الرياض والحوثيين محادثات مباشرة نهاية العام الماضي بدعم من سلطنة عُمان بعد هدنة توسطت فيها الأمم المتحدة، وانتهت الهدنة في تشرين الأول/أكتوبر، ولا زالت صامدة رغم بعض الخروقات وعدم تجديدها بشكلٍ رسمي.

ومن شأن عودة العلاقات بين الرياض وطهران أن تسهل من إبرام اتفاق نهائي بين السعودية والحوثيين، خاصة بعد ترحيب الجماعة بعودة العلاقات بين البلدين. كما أن البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة اعتبرت أن الاتفاق “سيسرع التوصل إلى وقف إطلاق النار في اليمن، وإطلاق الحوارات اليمنية، وتشكيل حكومة يمنية شاملة في هذا البلد”. فيما أشار وزير الخارجية الإيرانية إلى أن الاتفاقية ستنعكس على اليمن.

في سياق آخر، يترافق الاتفاق مع سعي عدة دول عربية لتعويم نظام الأسد، وإعادة تطبيع العلاقات معه، وبالأخص من جانب الجزائر والإمارات. وقبل أيام قال وزير الخارجية السعودي إن “زيادة التواصل مع سوريا قد يمهد الطريق لعودتها إلى جامعة الدول العربية”. وفي السياق نفسه رحبت وزارة خارجية النظام السوري بالاتفاق ووصفته بأنه “خطوة مهمة من شأنها تعزيز الاستقرار الإقليمي”.

وفي ساحة أخرى، يتوقع أن ينعكس الاتفاق على لبنان، ولو بدرجة أقل من المناطق الأخرى، خاصةً بعد الأزمة السياسية التي ضربت علاقة السعودية ولبنان عام 2021، بعد تصريحات وزير الإعلام اللبناني السابق جورج قرداحي عن الحرب في اليمن. ورغم انتهاء الأزمة قبل أشهر، واستقالة قرداحي تمهيدًا إلى حلها، لكن جوهرها كان الحديث السعودي عن هيمنة حزب الله، المدعوم إيرانيًا، على الدولة في لبنان. ويترافق الاتفاق مع أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، مما يفتح السؤال حول إن كان التقارب الإقليمي سيساهم في حلحلة هذا الملف. وقد صرح رئيس مجلس النواب نبيه بري بأن “القراءة الإيجابية للأنباء يجب أن تدفع السياسيين اللبنانيين إلى انتخاب رئيس على وجه السرعة”، فيما وصف حزب الله الاتفاق بأنه “تحول جيد”، لكنه حذر من أن “تداعياته الكاملة لا تزال غير واضحة”.

عراقيًا، ساهمت بغداد على مدار الأشهر الماضية في جهود الوساطة بين طهران والرياض، كما أنها استضافت جزءًا من المحادثات، ورحبت رسميًا بالاتفاق، بالإضافة لشكرها ضمن البيان الثلاثي الذي صدر بعد الاتفاق في الصين، على جهودها بالوساطة.

ورغم المواقف العراقية المتباينة داخل الأحزاب المتنوعة، والتي تمتلك إيران نفوذًا واسعًا في بعضها، إلّا أن التحليلات تشير إلى أن الاتفاق قد يساهم في التقليل من حدة الاستقطاب، وإن بشكل محدود

————————-

ترتيبات إقليمية.. تفادياً لمواجهات عسكرية/ منير الربيع

هل تقف المنطقة على شفير توتر كبير؟ السؤال أكثر من ضروري في ظل تضارب الحسابات والمواقف لدى أكثر طرفين متقابلين ومتوترين في هذه المرحلة، أي إسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى. الطرفان في وضع حرج بالاستناد إلى وقائعهما داخلياً وخارجياً. وعندما تصل جهة ما إلى مثل هذا الحرج تستسهل الذهاب إلى خيارات أمنية أو عسكرية خارجية في سبيل البحث عن إعادة تشكل مقومات وحدة داخلية للالتفاف على الصراع الداخلي. أكثر من يقرأ في حراجة الموقف هي الولايات المتحدة الأميركية. والتي سارعت إلى إرسال وفود عسكرية إلى المنطقة، من شمال سوريا إلى العراق وإسرائيل، مع خروج مساعدة وزير الخارجية الأميركي باربارا ليف بموقف سياسي واضح حول الوجود الأميركي في المنطقة وإنشاء شبكة أمان مشتركة والتعزيز مع الحلفاء.

في مقابل هذا الموقف السياسي، تعمل أميركا على دوزنة أي تطور عسكري يمكن أن يقود إليه جنون أحد الطرفين. فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعيش خطراً وجودياً، وهو مطوق بمجموعة نزاعات أو تطورات، أولها النبض الفلسطيني المستمر في تنفيذ عمليات ضد قوات الاحتلال وضد مستوطنين. ثانيها، الانقسام العمودي الحاد داخل إسرائيل المعطوف على تظاهرات ضخمة جداً بفعل الاعتراض على كل ما تقوم به الحكومة. ثالثها، تسارع وتيرة إيران في عملية تخصيب اليورانيوم وسط تهديدات إسرائيلية مستمرة في إمكانية اللجوء إلى استهداف مواقع نووية إيرانية وهو ما لا تريده واشنطن على الإطلاق. رابعها العمليات الأمنية الإسرائيلية المستمرة ضد مواقع إيرانية في سوريا.

على الجانب الإيراني، أيضاً الحرج قائم، بفعل انسداد مسار المفاوضات النووية بين إيران والغرب، التوتر الإيراني الأميركي المستمر، والتوتر الإيراني الأوروبي بفعل انخراط طهران إلى جانب موسكو في الحرب على أوكرانيا وهو ما سيكون له تبعات سياسية خطرة، كذلك فإن طهران تحتاج للالتفاف على كل الواقع السياسي والاجتماعي المتضعضع في الداخل. وهي راقبت عن كثب جولة المسؤولين الأميركيين في المنطقة، لتثبيت الوجود في سوريا تحديداً وهذا لا ينفصل عن الموقف الأميركي الذي هدف إلى لجم أي محاولة للانفتاح العربي على النظام السوري.

عملياً، لا تريد واشنطن حصول تدهور عسكري كبير في المنطقة سيكون قابلاً لأن يؤدي إلى حرب واسعة، إلا أن الأميركيين يغطون مسألة “حروب الظل” أو المعارك بين الحروب من قبيل العمليات الأمنية الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية، وتحاول واشنطن حصر تركيز العمليات الإسرائيلية في سوريا وتجنّب الداخل الإيراني لمنع تدهور الأوضاع، فيما إسرائيلياً لا يمكن لأحد أن يتوقع ما يمكن أن يقوم به نتنياهو. كل هذه التطورات ترجمها تهديد لبناني من قبل أمين عام حزب الله حسن نصر الله لإسرائيل أيضاً يضاف إلى التهديدات التي يطلقها مسؤولون إيرانيون، تهديد نصر الله جاء من بوابة إعادة التلويح باستهداف حقل كاريش الذي بدأت إسرائيل تستخرج منه الغاز وتصدره. وإشارة نصر الله هنا ترتبط بمعادلة “ترابط الجبهات” بين أركان محور المقاومة.

على وقع هذه التطورات، ثمة نقلة أخرى تعيشها منطقة الشرق الأوسط في العلاقات بين الدول، أبرزها استمرار إيران بالسعي إلى تجديد الحوار مع المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى زيادة منسوب التنسيق والتكامل والتطابق بين السعودية ودولة قطر، وهذا تنسيق يطول مختلف الملفات وصولاً إلى الملف اللبناني الذي يعتبر آخر ملف يحتلّ سلّم الأولويات. من هنا لا يمكن إغفال التقارب الخليجي الكلّي مع تركيا، بناء على التحالف الاستراتيجي الثابت بين قطر وتركيا، بالإضافة إلى التحسن في العلاقات السعودية التركية والإماراتية التركية والتي تترجم بإيداع ودائع مالية في المصرف المركزي التركي، وهذا الدعم له سياقه السياسي المتعلق بدعم الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل أو بآخر على مشارف استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية. في المقابل أيضاً، فإن التنسيق القطري المصري يتزايد أيضاً ما يثبت حصول هذه التطورات الإيجابية في المنطقة في سبيل تحصين المواقف والمواقع في مواجهة أي أخطار أو تداعيات قد تنجم عن أي تصعيد قد يحصل بين إسرائيل وإيران.

تلفزيون سوريا

——————————

================

دوافع الاتفاق السعودي – الصيني – الإيراني وآفاقه

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

بعد مفاوضات سرّية استغرقت خمسة أيام (6 – 10 آذار/ مارس 2023) استضافتها العاصمة الصينية، بيجين، وقادها مستشارَا الأمن القومي في البلدين، توصلت المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتفاق نصَّ على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ كانون الثاني/ يناير 2016، وإحياء الاتفاقات الأمنية والتجارية الموقّعة بينهما. وقد مثّل الاتفاق مفاجأة كبيرة، نظرًا إلى عمق الخلافات بين البلدين، وكونه جاء نتيجة وساطة صينية غير معلَنة من قبل. وهو نتاج سلسلة متعاقبة من محاولات حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة تنويع علاقاتهم من خلال تطويرها مع الصين وروسيا.

تفاصيل الاتفاق

أُعلن عن الاتفاق في بيان ثلاثي مشترك صدر عن الدول الثلاث، الصين وإيران والسعودية، في 10 آذار/ مارس 2023، وورد فيه أن المفاوضات جاءت استجابةً لمبادرة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، وبناءً على اتفاق مع قيادتَي السعودية وإيران بأن تستضيف الصين المباحثات بين البلدين ورعايتها لحلّ الخلافات بينهما بالحوار والدبلوماسية. بناءً عليه، جرت في الفترة 6 – 10 آذار/ مارس 2023، في بيجين، مباحثات بين الوفدَين برئاسة مساعد بن محمد العيبان مستشار الأمن الوطني في المملكة، وعلي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران.

وقد أعلنت الدول الثلاث أنه جرى التوصل إلى اتفاقٍ يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران “وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران، وتأكيد احترامهما سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واتفقا على أن يعقد وزيرا الخارجية في البلدين اجتماعًا لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما”. واتفق البلَدان على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقّعة في 17 نيسان/ أبريل 2001 والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، الموقّعة في 27 أيار/ مايو 1998. كما أعربت الدول الثلاث عن حرصها على بذل كافة الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي، بحسب نص البيان المشترك.

وكانت السعودية وإيران خاضتا قبل ذلك خمس جولاتٍ من المفاوضات غير العلنية بوساطة عراقية خلال الفترة نيسان/ أبريل 2021 – أيار/ مايو 2022، إضافةً إلى ثلاث جولات أخرى استضافتها سلطنة عُمان، لكنها لم تسفر عن نتائج؛ بسبب التعقيدات التي تسود العلاقات بينهما وخلافاتهما بخصوص جملة من القضايا الإقليمية والدولية.

جذور الخلاف السعودي – الإيراني

تعود جذور الخلافات السعودية – الإيرانية إلى عام 1979، حين أعلنت الرياض دعمها نظام الشاه محمد رضا بهلوي في مواجهة موجة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت ضده أواخر عام 1977، وانتهت بإطاحة نظامه عام 1979. وازداد التوتر مع إعلان النظام الجديد في طهران عن نيته تصدير الثورة إلى دول الجوار، وإطاحة الأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة في منطقة الخليج. وعندما اندلعت الحرب بين العراق وإيران عام 1980، وقفت السعودية إلى جانب العراق حتى نهايتها عام 1988. كما حصلت مواجهاتٌ عسكرية مباشرة بين الرياض وطهران. ففي حزيران/ يونيو 1984 أسقطت السعودية طائرتين إيرانيتين اخترقتا مجالها الجوي. وبلغ التوتر بين الطرفين ذروته خلال موسم حج عام 1987، عندما أدّت احتجاجات لحجاج إيرانيين رفعوا شعارات سياسية، إلى مقتل أكثر من 400 شخص بينهم 275 حاجًا إيرانيًا، و85 شرطيًا سعوديًا.

ورغم أن العلاقات بين البلدين تحسّنت في عهد إدارة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997-2005)، حيث جرى خلالها توقيع الاتفاقيتين المذكورتين في بيان بيجين الخاص بإعادة العلاقات الدبلوماسية (اتفاقية التعاون الاقتصادي لعام 1998، واتفاقية التعاون الأمنية لعام 2001)، فإنها توتّرت من جديد بعد الغزو الأميركي للعراق، وخصوصًا في عهد إدارة الرئيس محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، حيث اتهمت السعودية إيران بمحاولة السيطرة على العراق من خلال المليشيات والقوى السياسية حليفتها. كما اتهمتها بمحاولة الهيمنة على سورية بعد تدخّلها لدعم نظام بشار الأسد ضد الثورة التي حاولت إطاحة حكمه، وبدعم التمرد الحوثي في اليمن، الذي سيطر على العاصمة صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014، ما دفع السعودية إلى التدخّل عسكريًا في آذار/ مارس 2015، لقطع الطريق على زحف الحوثيين في اتجاه عدن بعد إطاحة حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي في صنعاء. ورغم أن المملكة لم تعلن صراحةً رفضها الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إدارة الرئيس باراك أوباما مع إيران عام 2015، فإنها عارضته ضمنًا، خصوصًا أن الاتفاق لم يأخذ في الاعتبار برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية، وقد نظرت إليه الرياض باعتبار أنه يعزّز الوضع السياسي والاقتصادي الإيراني.

وفي مطلع عام 2016، قرّرت السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، بعد أن اقتحمت حشود غاضبة السفارة السعودية في طهران، وأحرقت القنصلية السعودية في مدينة مشهد؛ ردًا على إعدام السلطات السعودية رجل الدين الشيعي، نمر النمر، الذي اتهمته الرياض بإثارة النعرات الطائفية والخروج على النظام العامّ. ومثّل وصول الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم في واشنطن عام 2016 عاملَ توتّر إضافيًا في العلاقات بين الرياض وطهران؛ إذ أبدت السعودية ارتياحًا لمواقف إدارة ترامب نحو إيران، بما في ذلك قراره الانسحاب من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات على طهران، والتي شملت حظر تصدير النفط الإيراني وعزل إيران عن النظام المصرفي العالمي. وفي أيار/ مايو 2019، سعت السعودية إلى حشد العالم الإسلامي وراءها من خلال استضافتها ثلاث قمم متزامنة خليجية وعربية وإسلامية في مكّة؛ لمواجهة إيران بعد أن استهدفت هجماتٌ، يُعتقد أن إيران تقف وراءها، مصالح نفطية سعودية، بما فيها ناقلات تحمل النفط السعودي في الخليج العربي وبحر عُمان. وتتهم المملكة إيران أيضًا بالوقوف وراء الهجمات التي تعرضت لها منشآت أرامكو في بقيق وخريص في أيلول/ سبتمبر 2019، وأدّت إلى خروج نصف إنتاج السعودية من النفط من الخدمة، وتعدّه جزءًا من حرب وكالة تخوضها إيران ضدها عبر حلفائها في اليمن والعراق.

دوافع التغيّر في الموقف السعودي من إيران

أخذت السعودية تميل إلى التهدئة مع إيران منذ أواخر عام 2019، وذلك بعد الصدمة التي أحدثها رد فعل الرئيس ترامب على الهجمات التي تعرّضت لها منشآت أرامكو لتبرير غياب رد فعل تجاهها بقوله “هذا هجوم على السعودية وليس على الولايات المتحدة”. وقد ازدادت قناعة السعودية بضرورة تغيير مقاربتها العلاقة بإيران مع وصول إدارة الرئيس بايدن إلى الحكم مطلع عام 2021، وقرارها مراجعة العلاقات مع الرياض التي أخذت طابعًا شخصيًا خلال رئاسة ترامب. بناءً عليه، أعلن بايدن في شباط/ فبراير 2021 قرارًا يقضي بـ “إنهاء كل أشكال الدعم الأميركي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة” لكل من السعودية والإمارات، وسعي إدارته إلى إيجاد حلٍّ دبلوماسي للصراع الذي قال إنه “خلق كارثة إنسانية واستراتيجية”. وكانت إدارة بايدن أعلنت سابقًا تعليق صفقات الأسلحة التي كانت أقرّتها إدارة ترامب للرياض وأبوظبي، ومراجعتها.

وبالتوازي مع حجب الدعم الأميركي لأغراضٍ هجومية عن السعودية في حرب اليمن، أخذت الحرب نفسها تمثل استنزافًا كبيرًا للمملكة من الناحيتين المادية والسياسية في ضوء الكارثة الإنسانية التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ في العالم. وتذهب تقديراتٌ إلى أن السعودية تكبّدت ما يزيد على مائة مليار دولار بسبب هذه الحرب. وقد دعاها ذلك، في آذار/ مارس 2021، على لسان وزير خارجيتها، فيصل بن فرحان، إلى إطلاق مبادرةٍ لوقف الحرب في اليمن، تضمّنت وقفًا شاملًا لإطلاق النار في جميع أنحاء البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة، وإعادة فتح مطار صنعاء واستئناف المفاوضات السياسية بين حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي والمتمرّدين الحوثيين. ورغم أن هذه المبادرة لم تحظ بفرصة للنجاح فإنّ طرفَي الصراع في اليمن توصّلا إلى هدنةٍ لوقف القتال في رمضان عام 2022؛ وذلك بعد فشل آخر هجوم حوثي كبير للسيطرة على محافظة مأرب الغنية بالنفط. ورغم عدم الاتفاق على تجديد الهدنة فإنها استمرّت، ما أحيا الآمال بإمكانية وقف هذه الحرب. وفي الوقت نفسه، أرسلت إيران، التي أخذت تتطلّع في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي إلى تحسين العلاقات مع السعودية للخروج من عزلتها الإقليمية وتخفيف الضغوط الغربية عليها، إشاراتٍ تعبّر عن استعدادها لتقديم المساعدة في وقف حرب اليمن من أجل تحسين العلاقات مع الطرف الخليجي وتقليص سرعة انجرافه نحو التقارب مع إسرائيل.

رغم فشل عقد جولة جديدة من المباحثات الإيرانية – السعودية في بغداد، بعد رحيل حكومة مصطفى الكاظمي وتشكيل حكومة محمد شيّاع  السوداني التي اعتُبرت أقرب إلى طهران، وتصاعد الضغوط الأميركية على إيران، بعد أن اتخذت الأخيرة قرارًا بمساندة المجهود العسكري الروسي في حرب أوكرانيا، وردّ واشنطن بالتقارب مع الرياض واستئناف جولات الحوار الأمني والدفاعي معها، فإنّ السعودية قررت تلبية دعوة الصين لعقد مباحثات سرّية مع إيران على مستوى مستشاري الأمن القومي، أسفرت عن الاتفاق على استعادة العلاقات الدبلوماسية.

دوافع إيران للتقارب مع السعودية

تمثّلت أبرز الأسباب التي دعت السعودية إلى تغيير موقفها من العلاقة مع إيران في رغبتها في الخروج من المستنقع اليمني، والشكوك المتصلة بالتزام الولايات المتحدة بأمنها. أما الأسباب الرئيسة التي دفعت إيران إلى الانفتاح على أي محاولةٍ سعوديةٍ في اتجاه التفاهم معها، فتمثلت في تدهور العلاقة مع الغرب وزيادة الضغوط بسبب ملفها النووي، وتزايد احتمال وقوع هجوم على برنامجها النووي، واستمرار موجة الاحتجاجات فيها، وتداعيات موقفها من الحرب في أوكرانيا.

لقد أبدى إبراهيم رئيسي، عندما وصل إلى الحكم في آب/ أغسطس 2021، رغبة واضحة في الانفتاح على دول الخليج العربية، وخصوصا السعودية، بديلًا من فشل مقاربة التفاهم مع الغرب التي انتهجتها إدارة سلفه، الرئيس حسن روحاني. وكان الاعتقاد السائد في دوائر السلطة في طهران أنّ تفاهمًا مع السعودية يمكن أن يُثمر دعمًا سعوديًا لإحياء الاتفاق النووي الذي يعدّ شرطًا لرفع العقوبات غير المسبوقة التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب على إيران. لقد ألحقت العقوبات الاقتصادية أضرارًا بالغة بالاقتصاد الإيراني الذي يعتمد بصورةٍ كبيرةٍ على تصدير النفط. وتذكُر تقديراتٌ إيرانية أن خسائر إيران بلغت 150 مليار دولار بسبب هذه العقوبات. كما ألحقت العقوبات أضرارًا كبيرة باقتصاد الحرس الثوري، الذي صنّفه الرئيس ترامب عام 2018 منظمة إرهابية. ويعتمد هذا الحرس بصورةٍ رئيسةٍ على تجارة النفط للحصول على تمويله الخاص من خارج ميزانية الحكومة.

لكن الحسابات تغيرت بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وبعد أن اتخذت إيران قرارًا بدعم روسيا فيها، فقد أدّى ذلك إلى تعقيد الخلافات المعقدة أصلًا مع الولايات المتحدة، وإضعاف فرص إحياء الاتفاق النووي، ومن ثم، رفع العقوبات الأميركية التي أضيفت إليها حزمٌ جديدة. وزادت فرص المواجهة العسكرية أيضًا، خصوصا بعد إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه لم يعد باستطاعتها تأكيد سلمية البرنامج النووي الإيراني، بعد أن تحلّلت إيران من كثيرٍ من التزاماتها بموجب الاتفاق، في إثر انسحاب إدارة ترامب منه، بما في ذلك نزع كاميرات مراقبة من مواقع نووية، وعدم إجابتها عن مصدر لليورانيوم المخصّب في ثلاثة مواقع نووية لم يسبق لها أن أعلنت عنها. ويبدو أنّ إحساس إيران بالخطر ازداد أكثر مع تصاعد التنسيق العسكري الأميركي – الإسرائيلي بخصوص التعامل مع البرنامج النووي في الآونة الأخيرة، خصوصا بعد إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها وجدت مادّة اليورانيوم المخصّب في منشأة فوردو النووية بنسب تقترب من النسبة اللازمة لصناعة سلاح نووي، فضلًا عن زيادة حجم الاختراقات الإسرائيلية للداخل الإيراني وتضاعف مداها. وتقدّر إيران أنّ تفاهمًا مع السعودية سوف يُضعِف بالتأكيد أيّ تحالف إقليمي ينشأ ضدها بقيادة أميركية، خصوصا بعد أن تمكّنت إسرائيل من تحقيق اختراقات مهمة في علاقاتها العربية، في الخليج خصوصًا مع الإمارات والبحرين. وهذا يفسّر احتفال إيران بالاتفاق مع السعودية.

دوافع الوساطة الصينية

مثّل إعلان استئناف العلاقات الإيرانية – السعودية من بيجين مفاجأة كبرى، لا تقلّ عن مفاجأة التطوّر الذي طرأ على العلاقات بين الجارين الخليجيَين؛ فالصين التي لم تكن ذات نفوذ مهم في المنطقة حتى وقت قريب تمكّنت من القيام بوساطة ناجحة في منطقةٍ كانت تاريخيًا محسوبة على النفوذ الأميركي. وخلال السنوات الأخيرة، أخذت بيجين تبدي اهتمامًا بالغًا بهذه المنطقة التي تؤمّن لها نحو 40% من احتياجاتها من النفط، ومن ثمّ، أخذت تطوّر علاقتها بها على نحوٍ مطّرد. ففي آذار/ مارس 2021، وقّعت الصين وإيران اتفاقية للتعاون الاستراتيجي تبلغ قيمتها نحو 450 مليار دولار يُرصد الجزء الأكبر منها لتطوير قطاع الطاقة الإيراني، بدءًا بحقول الإنتاج وصولًا إلى بناء المصافي ومصانع البتروكيماويات. في المقابل، غدت الصين الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، منذ عام 2019، متجاوزةً بذلك الاتحاد الأوروبي بإجمالي مبادلات تجارية زادت على 180 مليار دولار، استأثرت المبادلات السعودية – الصينية بنحو نصفها. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2022 استقبلت الرياض الرئيس الصيني استقبالًا مميزًا، حيث جرى تنظيم قمة عربية – صينية وصينية – خليجية. وقد مثّلت الزيارة قفزة في العلاقات بين الصين والسعودية التي تعدّ حليفًا تاريخيًا للولايات المتحدة.

تعدّ منطقة الخليج مهمةً بالنسبة إلى الاقتصاد الصيني، ومن الضروري الحفاظ على استقرارها، كما أن العلاقات المميزة التي تربط بيجين بضفتَي الخليج، ورغبتها في الظهور بمظهر صانع السلام والقادر على حل أعقد المشكلات الدولية، بما فيها الإيرانية – السعودية، كلها عوامل دفعت الصين إلى عرض وساطتها في قلب المنطقة التي مثّلت تاريخيًا دائرة نفوذ أميركية، في مرحلة بلغ فيها التنافس الصيني – الأميركي ذروته.

خاتمة

لم تتضح بعد الحيثيات التي أدّت إلى نجاح الوساطة الصينية، ولا التفاصيل أو التنازلات التي قدّمها الطرفان الإيراني والسعودي لتسهيل استئناف العلاقات بينهما. لكن من خلال ردود الأفعال التي صدرت في المنطقة، ربما تظهر ترجمة ذلك في اليمن أولًا وفي لبنان لاحقًا. لكن واقع المشكلات المعقّدة التي جعلت العلاقة بين البلدين تتأزّم، ووجود أطرافٍ عديدةٍ غير راضية عن المسار الجديد، خصوصا إسرائيل والولايات المتحدة، أقلّه بسبب دور الصين، قد يجعلان تسوية المشكلات أشدّ صعوبة مما تبدو عليه في الوهلة الأولى. كما أن الاتفاق، في حد ذاته، لا يدلّ على أيّ تغيير في موقف أيٍّ من الطرفين بشأن القضايا موقع الخلاف، والذي يمكن أن يستمرّ بوتيرة وبأشكال أخرى. فهل سيضفي هذا الاتفاق أجواء إيجابية تمكّن من تسوية الخلافات، إن لم يكن حلّها؟

العربي الجديد

——————————-

دمشق تحت سلطة طهران طالما بقي الأسد/ العقيد عبد الجبار العكيدي

اتسمت العلاقة بين السعودية وإيران بتوتر شبه دائم منذ وصول المرشد الإيراني روح الله الخميني إلى السلطة عام 1979، وذلك كانعكاس مباشر للسياسة الإيرانية القائمة على التوسع والهيمنة والتدخل في شؤون دول الجوار. وقد تعزّز هذا التنابذ طيلة الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) نتيجة لانحياز الرياض إلى جانب العراق انطلاقاً من اعتقادها بأن العراق هو حائط الصدّ الذي يجب أن يبقى حائلاً دون اختراق إيران لدول الخليج برمتها.

ولكن نهاية الحرب بين بغداد وطهران لم تؤذن بنهاية القلق السعودي من المدّ الإيراني المدفوع بسياسات “الولي الفقيه” التي لم تتغير على الرغم من تعاقب الحكومات الإيرانية، ومن جهة أخرى لم يعد العراق هو الممر الوحيد للاختراقات الإيرانية، بل استطاعت طهران إيجاد أذرع لها في أكثر من دولة عربية، الأمر الذي جعل العلاقة بين الحكومات الخليجية، والسعودية على وجه الخصوص، وبين إيران في حالة من الريبة الدائمة، ثم تطورت هذه الريبة إلى قطيعة تامة عام 2016 على إثر الاعتداء على السفارة السعودية في طهران.

لعله من نافل القول إن الاستراتيجيات الدفاعية التي اتبعتها السعودية كانت متماهية إلى حدّ بعيد مع الموقف الأميركي حيال إيران، وذلك نظراً لغياب منظومة أمن قومي عربي أولاً، ولعمق التفاهمات السعودية-الأميركية التي جعلت إيران ترى في السعودية منطقة نفوذ أميركية يمكن التلويح باستهدافها إذا ما راودت واشنطن فكرة الحرب على إيران، وربما كان هذا هو السبب في ارتفاع حدّة التصعيد السعودي تجاه إيران أو خفوته موازياً لسخونة التصعيد الأميركي أو برودته.

لعل المفصل الأهم في العلاقات الإيرانية-الأميركية، يتمثل بالاستراتيجية التي كرستها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما حين انتهجت سياسة احتواء إيران بدلاً من التصادم معها، وقد تجسد هذا النهج الجديد من خلال الاتفاق النووي بين الطرفين عام 2015، وعلى الرغم من تنصل إدارة ترامب من الاتفاق المذكور، إلا أن حكومة الرئيس جو بايدن أرادت تعزيز نهج الحزب الديمقراطي في واشنطن، والذي ينهج باتجاه الحدّ من التدخل العسكري المباشر خارج الحدود الأميركية والاعتماد على قوى محلية للدفاع عن المصالح الأميركية، الأمر الذي عزّز القناعة لدى دول الخليج عموماً بضرورة إعادة النظر باستراتيجياتها الدفاعية التي ينبغي أن تواكب المستجدات الدولية والإقليمية، والتي بلغت ذروتها في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا، ولعل أبرز تلك المستجدات:

1 – إصرار حكومة بايدن على استكمال التفاهمات مع إيران بخصوص ملفها النووي، الأمر الذي قد يفضي إلى ظهور عهد جديد أكثر إيجابية بخصوص العلاقات بين الطرفين.

2 – عدم قدرة السعودية على حسم النزاع في اليمن والقضاء على نفوذ الحوثيين على الرغم من مرور ثماني سنوات من الحرب.

3 – حرص واشنطن على عدم زوال نظام الأسد من خلال إتاحة المجال لروسيا كي تتدخل عسكرياً لحماية النظام، ما يعني أن واشنطن ليس لديها أي مسعىّ جدّي لمحاربة أذرع إيران في المنطقة، سواء تمثلت تلك الأذرع بالحوثيين في اليمن أو نظام الأسد في سوريا أو حزب الله في لبنان.

وفي موازاة ذلك، لا يمكن تجاهل نشوء محور دولي جديد قوامه روسيا والصين وإيران، وفي ظل استراتيجية إدارة بايدن حيال حلفائه الخليجيين، فإن الخشية السعودية من غياب المظلة الأمنية الأميركية تدفعها لمواكبة تلك المتغيرات من خلال إعادة النظر في علاقاتها عامة، ومع دول المحور الجديد على وجه الخصوص، وربما هذا ما دفع بالرياض إلى عدم مواكبة الموقف الأميركي من روسيا حيال حربها على أوكرانيا، وكذلك سعيها إلى تمتين علاقاتها مع الصين من خلال إبرام عدة اتفاقيات اقتصادية، ربما وفّرت المناخ المناسب لأنْ ترعى بكين مصالحة سعودية-إيرانية في 10 آذار/مارس.

ما من شك أن الاستدارات الراهنة في السياسة السعودية إنما تنبثق من سعيها لمجاراة مصالحها الأمنية والاقتصادية بالدرجة الأولى، ولعل منطق المصالح الذي بات هو الناظم الأساسي للعلاقات بين الدول قد يؤدي إلى تغيّرات جديدة ، بل ربما تكون مباغتة للسوريين، ونعني بذلك انعطافه خليجية، بل سعودية على وجه التحديد باتجاه نظام الأسد، ليس لمصلحة مرجوة من نظام الأسد كنظام متهالك أشبه ب”جثة متفسخة”، ولكن باعتبار أن الطريق إلى إيران توجب المرور بدمشق، ولو على مستوى شكلي لا أكثر. ولئن استفزّت هذه الاستدارة مواجع السوريين وعزّزت لديهم الشعور بتنصل ما تبقى من الحلفاء العرب للثورة السورية، إلا أن هذا الشعور، وعلى الرغم من مشروعيته، فإنه لا يبدو كافياً لإقناع الحلفاء بالاحتفاظ بمواقفهم السابقة في ظل كل هذه المتغيرات الدولية.

من المؤكد أن الملف اليمني والحرب التي استنزفت الجانبين السعودي والإيراني لها الأولوية في على طاولة المفاوضات، ولكن من المؤكد أيضاً أن القضية السورية لم تكن ثانوية في تلك المفاوضات التي رعتها بكين، ولكنها ليست بعيدة عن نظر واشنطن التي تسعى الى التهدئة وإطفاء جميع الحرائق في المنطقة للتفرغ لملفات أخرى أكثر أهمية بالنسبة لها من الشرق الأوسط والمنطقة العربية التي لم تعُد تحظى باهتمام أميركي كبير.

لربما يكون تخوف السوريون من هذا التقارب نابع من مشاعر الخذلان وتخلي الشقيق والصديق عن قضيتهم التي يظنون أنها باتت في الأدراج المنسية للدول، واعتقادهم بانه سيتم مقايضتها على حساب قضية ميليشيا الحوثيين في اليمن، الا أن هذا التخوف لا يعكس حقيقة الاتفاق لأنه لا يمكن لحكومة المملكة أن تكون غافلة عن حقيقة نظام الملالي المخادع  والذي من المستحيل أن يتخلى عن سياسته القائمة على أيديولوجيا توسعية تهدف للهيمنة على بلدان المنطقة بل واحتلالها إن استطاع، ومن غير الممكن تخليه عن أدواته التي يستخدمها لتنفيذ هذه الأجنداتـ والمتمثلة بميليشيا حزب الله ونظام الأسد والحوثيين والحشد الشعبي وفاطميون وزينبيون، وغيرهم من الأدوات التي يهيمن من خلالها على أربع عواصم عربية.

ما سبق يقودنا الى إمكانية ان يؤدي هذا التقارب إلى بعض التفاهمات في جميع الملفات الشائكة بين الجانبين حسب الأولويات، تقود إلى حلول توافقية في القضايا الخلافية بين البلدين، ومن المحتمل أن يتم ترحيل تلك القضايا الخلافية ومنها القضية السورية ومصير نظام الأسد إلى حين حصول توافق دولي وبرعاية دولية.

ما يأمله السوريون أن يدرك العرب وخاصة اللاهثين منهم للتطبع مع نظام الأسد بذريعة سحبه من الحضن الإيراني، أن العلاقة بين نظام الأسد ونظام الملالي في طهران علاقة عضوية ومن المستحيل فصلهما عن بعضهما البعض، وأن شوكة إيران وأذرعها ستبقى قوية طالما بقي الأسد في عاصمة الأمويين.

المدن

—————————

الرابح والخاسر في الاتفاق السعودي الإيراني/ أحمد رحّال

بعد جولات تفاوضية في بغداد لم يُكتب لها النجاح (وقد تكون تمويهية) بين مفاوضين إيرانيين وسعوديين، وبرعاية من رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي، نجح الراعي الصيني، عبر مفاوضات سرّية في بكين، في تحقيق اختراقٍ سياسيٍّ كبير، عبر التوصل إلى اتفاق سياسي بين طهران والرياض، ينهي حالة القطيعة والصدام العسكري غير المباشر بين الطرفين، ويمهّد، بعد فترةٍ تجريبيةٍ تمتد شهرين، لعلاقات دبلوماسية ولقاءات بين وزراء الخارجية في محطتها الأولى، وقد تصل إلى زيارات على مستوى أعلى رأس الهرم السياسي بين البلدين.

ربما ساهمت، بشكلٍ ما، الظروف السياسية والعسكرية غير المريحة التي يعيشها الطرفان بتشكيل ضغوط ايجابية على كلا المتفاوضين، وأسهمت بالتوصل إلى هذا الاتفاق، فإيران تعيش تحرّكات شعبية داخلية أرهقت الحكومة والقوى الأمنية، تُضاف إلى اقتصاد منهكٍ بعقوبات غربية شلّت عجلة الصناعة والتجارة والدورة الاقتصادية، وانعكست سلباً على حياة المجتمع الإيراني الذي يرزح أساساً مع حكومته تحت ضغوط غربية، إثر تعثّر المفاوضات النووية مع مجموعة 5+1 في فيينا، ومع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وزادت الضغوط عندما لوّحت إسرائيل باللجوء إلى القوة لوقف المشروع النووي الإيراني ومشروع الصواريخ الباليستية والطيران المسيّر الذي دخل الحرب الأوكرانية إلى جانب الروس، الأمر الذي زاد من غضب الغرب المتحفّز لفرض عقوبات جديدة على إيران.

تشعر السعودية على الضفة الأخرى أيضاً بأنها غرقت بأوحال حرب استنزاف في اليمن غير معروفة النهايات، وأن ما تصرفه آلة الحرب في جيشها دعماً للشرعية اليمنية ولمتطلبات الأمن القومي السعودي، كان يجب أن يُصرف على مشاريع اقتصادية تنعكس على حياة مواطنيها، وتساهم بتحقيق خطة 2030 التي طرحتها القيادة السياسية السعودية. وزادت التعقيدات من خلال التهديدات المباشرة التي طاولت منشآتها النفطية والصناعية، خصوصاً بعد تعرّض منشآتها النفطية، وبعض المواقع الحيوية والخدمية داخل المملكة لعدة هجمات، أخطرها الهجوم على منشآت أرامكو عام 2019، الذي وُجّهت الاتهامات في حينها لإيران بأنها الفاعل أو الموجّه أو الداعم.

الاتفاق السعودي الإيراني يعني، في أهم تفاصيله، خروج المملكة ومعها معظم دول الخليج، من دائرة الاستهداف الإيراني، إذا ما كانت هناك حرب أميركية – إسرائيلية على إيران، أيضاً الاتفاق يحقّق هدفاً مهماً لإيران بوقف أي هجمات صاروخية أو عبر الطائرات من قواعد أميركية تتموضع في دول الخليج العربي. وبالتالي، تبقى للولايات المتحدة القدرة على استخدام أسطولها البحري مع حاملات الطائرات والغوّاصات والقدرات السيبرانية والإلكترونية، إضافة إلى أعمال مفارز التخريب داخل الأراضي الإيرانية وخلف خطوط القتال، فهل يمكن للجيش الأميركي تنفيذ مهام الحرب المخطّطة على إيران بتلك القدرات والإمكانات؟

قبيل إعلان الاتفاق في بكين، كانت هناك جولات متزامنة لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، ورئيس أركان جيشه على عواصم أوسطية وعربية ومواقع ساخنة، أهمها تل أبيب وعمّان والقاهرة وقاعدة التنف ومناطق قوات سورية الديمقراطية في شرق الفرات، وقدّم فيها رئيس الأركان، الجنرال مارك ميلي، وعوداً للحلفاء بزيادة أعداد الجنود الأميركيين في سورية، ورفع عدد النقاط القتالية المشتركة مع التحالف الدولي في شرق الفرات، على أن تترافق تلك الإجراءات مع زيادة الدعم اللوجيستي والقتالي من واشنطن، تسبقها إجراءات تنظيمية، تشمل إعادة هيكلة قوات الحلفاء المحليين، بما ينسجم مع تنفيذ مهام جديدة ستوكل لهم، منها مهمة مواجهة مليشيات إيران في سورية عند الضرورة. وقد تكون مهمة إغلاق “الكوريدور الإيراني” بين البوكمال وقاعدة التنف المهمة الأكبر التي بحث عنها الجنرال مارك، لكن ما لم تُفصح عنه الزيارة، هو ما إذا يمكن أن تكون مناطق شرق الفرات بديلاً من قواعد أميركية باتت معطّلة في الخليج لاستهداف الشمال الإيراني، باعتبار أن المسافة بين شمال شرق سورية والأراضي الإيرانية عبر سماء كردستان أقلّ من المسافة التي تفصل بين الأراضي السعودية وإيران عبر مياه الخليج العربي؟

نقلت إسرائيل، قبل أقلّ من عام، بعض غواصاتها وسفنها الحربية إلى بحر العرب. واشتركت مع القوات البحرية الأميركية بعدة مناورات وتدريبات على مقربة من الشواطئ الإيرانية. وشملت التدريبات محاكاة هجوم مشترك على منشآت إيران الحيوية ومفاعلاتها النووية ومصانع صواريخها الباليستية وطيرانها المسيّر ومقرّات القيادة وعقد الاتصال، فهل كان للقوات الإسرائيلية في بحر العرب علم مسبق بالمصالحة السعودية الإيرانية، وشكلت بوجودها هناك تعويضاً عن قواعد الخليج التي خرجت من الحسابات العسكرية الأميركية العملياتية في الحرب المقبلة على إيران (إذا ما تمّت)؟

بتسريبات أميركية، كشف النقاب عن خطة حرب عسكرية للجيش الأميركي أطلق عليها اسم عملية “دعم الحارس”، وضعتها وزارة الدفاع الأميركية بالتنسيق مع إسرائيل، ورصدت لها ميزانية للتخطيط والتدريب، لتطبق في حال فشل المفاوضات السياسية مع إيران حول مشاريعها النووية والباليستية والطيران المسيّر، وإن عملية “دعم الحارس” تستند إلى معلومات استطلاعية جوية وفضائية، أميركية وإسرائيلية، جمعت واستطاعت تشكيل بنك أهداف حيوية يحوي 600 هدف داخل إيران وخارجها. وإن الخطة إذا ما اتُّخذ القرار بتنفيذها، لا بد من أن تحقق هدفين: الأول، شلّ القدرات العسكرية الإيرانية شللاً تاماً، عبر أمواج من الضربات الجوية والصاروخية المتلاحقة التي تكبّل إيران، وتمنعها من إمكانية القيام بأي ردود عسكرية على القوات الأميركية في البحر أو القواعد العسكرية على البرّ، وكذلك تمنع مهاجمة الحلفاء. الثاني: إنهاء الحرب بسرعة، بعد تدمير الأهداف المطلوبة وعدم إطالة زمن الحرب وترك الفرصة للروس بالتدخل إلى جانب إيران، والثأر لما فعله الغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا.

لكن الجيش الأميركي يقول إن روسيا استطاعت، خلال الحرب على أوكرانيا، اغتنام أسلحة غربية ضخمة من حيث الكمّ والنوع، من مستودعات الجيش الأوكراني المنسحبة من مناطق في الجبهات الجنوبية والشرقية، وإن روسيا قدّمت تلك الأسلحة المتطوّرة للحرس الثوري الإيراني، كمقابل للطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية التي دخلت الحرب على جبهات أوكرانيا إلى جانبهم، وإن الروس تعمّدوا نقلها إلى إيران، لأسباب ثلاثة: لإهانة الغرب عبر تدمير بعض مواقعهم بسلاح غربي. لتستفيد الصناعات العسكرية الإيرانية من التقنيات الغربية ومحاولة تقليدها. ولتصنيع مضادّات لتلك الأسلحة بعد معرفة ميزاتها القتالية والتعبوية.

بالعودة إلى ملفّ المصالحة السعودية الإيرانية، يتضمّن الاتفاق الابتعاد عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لكن معضلته تكمن في التطبيق، رغم التعهد الصيني بالإشراف على التنفيذ، باعتبار أن إيران تعتبر أن مراكز نفوذها الخارجي في بعض الدول هي خط الدفاع الأول عن نظام ولاية الفقيه، وأنها توجد في تلك الدول بناءً على تفاهمات وطلبات من حكومات تلك الدول التي تخضع لمشيئتها، وهذا ما ترفضه معظم شعوب المنطقة.

بموازين الربح والخسارة، يحقق الاتفاق مطالب الطرفين، وينزع فتيل الحرب بينهما، ويمهد لاستقرار المنطقة، إذا ما نُفّذت بنوده بحذافيرها من دون لفٍّ أو دوران أو مماطلة، فهل توافق الدولة الإيرانية العميقة ممثلة بالمرشد الإيراني، خامنئي، ومجلس الشورى لديه، على الاتفاق الذي وقّعته حكومة إيران الرسمية في بكين؟ وبالتالي تُمهد الطريق لرسم خريطة تفاهمات جديدة تعزّز الأمن والسلام، وتُبعد شبح الحرب عن منطقةٍ بات حلمها العودة إلى العيش بسلام؟ أم أن تشابك المصالح في الخليج وتعقيداتها لا تُفك شيفرة رموزه إلا عبر فوهات البنادق؟

—————————–

اتفاق طهران- الرياض… سنتسلى قليلاً قبل أن تداهمنا الحروب مجدداً/ حازم الأمين

“السعودية وإيران أعلنتا، عن توصلهما لاتفاق لإعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين والمقطوعة منذ 7 سنوات وذلك بوساطة صينية”! ولكن هل شمل الاتفاق الحروب الأهلية في اليمن ولبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى فلسطين؟ الدولتان، مشعلتا الحروب الأهلية، وقعتا اتفاقاً سترسلان بموجبه سفيريها إلى عاصمتيهما. وفي هذا الوقت ارتفع منسوب التفاؤل على طرفي خط الانقسام السني- الشيعي الذي يشطر الإقليم.

الصدوع الأهلية أعمق من أن تلتئم في أعقاب اتفاقٍ، الأرجح أنه عابر، فالشقاق وصل إلى مناطق تقدمت معها المصلحة بالحرب على المصلحة بالتسوية. والصين أقل حضوراً في التفاصيل من واشنطن، والشراكات الاقتصادية على أهميتها، لا تكفي لرأب صدع أهلي لطالما استُحضر من قرون غابرة، ولنا بمسلسل معاوية مثال ونموذج.

 الاتفاق برعاية صينية ولد من لا شيء! من هي الصين لكلا البلدين؟ شريك تجاري. هل هذا يكفي؟ الأرجح أن على المسارعين إلى التفاؤل، أن يتحلوا ببعض الروية. للسعودية حساب مع واشنطن، وفي الفترة الأخيرة مع أبو ظبي، وطهران مأزومة بسبب العقوبات الغربية. الصين ليست مخرجاً من الاختناقين، ولا تملك دالة على معظم خطوط النزاع.

المحتفلون الممانعون بالاتفاق، وغير الخجلين مما سيفضي إليه خطاب شيطنة آل سعود، يعتقدون أن ما حصل هو انتصار لـ”خيار الشرق”، أما المرحبون بـ”الإنجاز الصيني” من الجهة الأخرى، فهم لطالما غرقوا في “شبر من الماء”، وعادوا بعد غرقهم إلى مواقعهم خائبين.

على ماذا اتفقت السعودية وإيران؟ على إنهاء الحرب في اليمن؟ أم على رئيس للجمهورية في لبنان؟ ماذا عن الانقسام الفلسطيني، أم الاستعصاء السوري، وهل العراق جزء من الصفقة؟ هذه قضايا تحتاج إلى سنوات من التفاوض وإلى فِرق ووفود وتفاصيل ومباحثات تعقب إعلان الرغبة في تسويتها. لا يكفي أن تعلن دولتا الحروب الأهلية عن نيتهما في حلها. وغياب واشنطن عن الصفقة تبقيها أحادية. فهذا الغياب يعني غياب تل أبيب والقاهرة، ناهيك بأبو ظبي وعمان.

على ماذا اتفقت السعودية وإيران؟ على إنهاء الحرب في اليمن؟ أم على رئيس للجمهورية في لبنان؟ ماذا عن الانقسام الفلسطيني، أم الاستعصاء السوري، وهل العراق جزء من الصفقة؟

الاتفاق كما أعلن، لا يعدو كونه لحظة شعرت فيها الدولتان بأنهما تريدان الالتفاف على ما هما فيه من تخبط، الرياض في علاقتها غير المستقرة مع واشنطن، وطهران في مواجهة الحصار الغربي. لكن الحاجة إلى الحروب ما زالت قائمة، وهياكل الصدام حصل استثمار هائل فيها. قد نشهد هدنة على بعض خطوط المواجهة، لكن الأمر لن يتعدى ذلك. هل ستقبل السعودية بدولة يتصدرها الحوثيون على حدودها؟ وهل ستفكك ايران “حزب الله” في لبنان؟ وأي وهم يمكن أن يمثله حل من دون هذه الشروط؟

هكذا وعلى حين غرة استيقظت صين أطاحت بأميركا في الشرق الأوسط، وأنجزت ما عجز عن إنجازه الغرب مجتمعاً! الاعتقاد بذلك يشبه الاعتقاد بالزراعة على شرفات المباني بوصفه حلاً لانهيار الاقتصاد اللبناني. الشرق وقد جاء ليطيح بسنوات من التفوق الغربي. وعلى طرفي هذه الأوهام تقيم نيات أخرى. وحده خطاب الصدام سيرتبك، لكن الصدام نفسه لن يجد بما حصل ما يبدده. المصلحة في الحروب أعمق بكثير من الرغبة في إرباك أميركا، والصين الصاعدة اقتصادياً غائبة عن تفاصيل النزاع. والشيطان مقيم في التفاصيل، على ما خبرنا. فأين الصين من منازعات الرئاسة في لبنان… وأينها في اليمن وغزة؟

لطالما شهدنا في هذا الشرق البائس لحظات مشابهة اعتقدنا فيها أن النزاعات، وهي عميقة وجوهرية، سيتم تجاوزها بصفقات. هل تذكرون صفقة الـ”سين سين” بين السعودية وسوريا بعد سنوات من الاحتقان في أعقاب اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، وبرعاية فرنسية؟ حينها صدق السعوديون أنهم بهذه التسوية سيستعيدون بشار الأسد. وبعدها تمت الإطاحة بالـ”سين سين” وبلبنان وبسوريا.

في إيران وفي السعودية أنظمة ولادة للحروب في بلاد الآخرين. اتفاق عابر لا يكفي لتغيير طبيعة هذه الأنظمة. مركزا الصدع المذهبي هناك، ورأب هذا الصدع يبدأ من تغيير في طبيعتي النظامين. بكين، وقبلها واشنطن، وظفتا هذه الحقيقة في نفوذهما في الشرق. أما السبيل الفعلي لرأب الصدع، فيبدأ من تغيير في طبيعتي النظامين، وهذا ما لا يبدو أنه في المتناول اليوم.

يبقى أن ثمة ما سيكون مسلياً في موازاة الاتفاق. إنه خطاب الصراع الذي تم على هامشه بناء هياكل هائلة للمواجهة الإعلامية بين البلدين. فماذا سيحل بوسائل المواجهة الإعلامية وبوجوهها ومفوهيها؟ كيف ستصدر افتتاحيات “عكاظ” السعودية، و”الأخبار” اللبنانية. لن يطول الارتباك بانتظار انهيار وشيك للاتفاق، لكننا سنتسلى قليلاً قبل أن تداهمنا مجدداً حروب طهران والرياض في بلادنا

درج

——————–

خريطة مناطق في الشرق الأوسط قد تتأثر بالاتفاق السعودي الإيراني

لا تزال المنطقة تترقّب مفاعيل الاتفاق السعودي الإيراني الذي تمّ بوساطة صينية، لا سيما أن أكثر من ساحة في الشرق الأوسط ظلّت موضع تنافس وصراع، أحيانًا بالوكالة، بين البلدين الجارين.

وفي ما يلي ملخص للوضع في بعض مناطق الشرق الأوسط التي يمكن أن تتأثر باتفاق استئناف العلاقات بين القوتين الإقليميتين الذي أُعلن عنه يوم الجمعة بوساطة صينية.

اليمن

تدخلت الرياض في اليمن على رأس تحالف في 2015 لمواجهة جماعة الحوثي، بعد أن أطاحت الجماعة المتحالفة مع إيران بالحكومة المعترف بها دوليا في العاصمة صنعاء.

وتعتري الحرب بين الجانبين حالة من الجمود العسكري منذ سنوات. ودأب الحوثيون، الذين يمثلون سلطة الأمر الواقع في شمال اليمن، ويسيطرون على مناطق على الحدود اليمنية السعودية، على شن ضربات متكررة بالصواريخ والطائرات المسيرة على المملكة.

واستأنفت الرياض وجماعة الحوثي محادثاتهما المباشرة العام الماضي بدعم من سلطنة عمان بعد هدنة توسطت فيها الأمم المتحدة. وانتهت الهدنة في أكتوبر/تشرين الأول، لكنها صمدت إلى حد بعيد.

ومن شأن استئناف العلاقات بين الرياض وطهران أن يسهل من إبرام اتفاق بين السعودية والحوثيين.

وتمثل حرب اليمن أحد أسباب توتر العلاقات بين السعودية وإدارة الرئيس جو بايدن، التي فرضت قيودا على مبيعات الأسلحة الأميركية للرياض.

سورية

تقدم إيران دعما عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا لرئيس النظام السوري بشار الأسد منذ أن أدى قمع الثورة في عام 2011 إلى فرض عزلة عليه.

ووفرت الصين أيضا غطاء لسورية في الأمم المتحدة وحافظت على علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع دمشق.

وفي بداية الأزمة، دعمت الرياض قوات المعارضة في محاولاتها الإطاحة بالأسد بهدف إضعاف طهران. لكن في الوقت الذي ساهم فيه دعم إيران للأسد في عدم هزيمته، تضاءل الدعم السعودي للمعارضة.

ويأتي الاتفاق السعودي الإيراني في وقت تتقلص فيه العزلة العربية المفروضة على الأسد. وصرّحت السعودية بأن زيادة التواصل مع سورية قد يؤدي إلى عودتها إلى جامعة الدول العربية.

ورحبت وزارة خارجية النظام بالاتفاق ووصفته بأنه “خطوة مهمة” من شأنها تعزيز الاستقرار الإقليمي. ولم تعلق جبهة المعارضة على الأمر.

تقارير دولية

وزير خارجية باكستان يرحب باستئناف العلاقات السعودية الإيرانية

لبنان

انقسمت السياسة اللبنانية على مدى سنوات بين تحالف مؤيد لإيران يقوده “حزب الله” صاحب النفوذ، وتحالف مؤيد للسعودية.

وفي 2021، سحبت السعودية ودول الخليج العربي سفراءها بسبب ما قالت إنها سيطرة لـ”حزب الله” على الدولة، عقب انتقادات وزير الإعلام السابق في الحكومة، جورج قرداحي، للحرب السعودية في اليمن.

واستأنف السفراء عملهم بعد ذلك، لكن لبنان يعاني في ذلك الوقت من انهيار مالي حانق، وهو الآن يواجه أزمة سياسية غير مسبوقة مع عدم وجود رئيس منذ شهور وحكومة تعمل بصلاحيات محدودة.

وأثار التقارب بين طهران والرياض الأمل في انتهاء حالة الشلل هذه. وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري إن “القراءة الإيجابية” للأنباء يجب أن تدفع السياسيين اللبنانيين إلى انتخاب رئيس على وجه السرعة.

ووصف “حزب الله” الاتفاق بأنه “تحول جيد”، لكنه حذر من أن تداعياته الكاملة لا تزال غير واضحة. ودعم الحزب سليمان فرنجية لمنصب الرئاسة، لكن مصدرين يقولان إن السعودية ترفض ترشيحه.

العراق

بعد الإطاحة بصدام حسين في الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، عمقت إيران نفوذها السياسي والأمني والاقتصادي في العراق، مما أثار قلق السعودية.

وفي 2019، شنت إيران هجوما بطائرة مسيرة حلقت فوق الأجواء العراقية واستهدفت منشآت نفطية سعودية. وفي العام التالي، أدى إعادة فتح المعبر الحدودي بين السعودية والعراق، بعد أكثر من عقدين، إلى زيادة الآمال في تحسين العلاقات.

واستضافت بغداد محادثات مباشرة بين جارتيها، لكنها توقفت العام الماضي بعد أن واجه العراق أزمة سياسية.

ووصفت بغداد الاتفاق الذي أبرمته السعودية وإيران بأنه وسيلة “لفتح صفحة جديدة”. ويأمل العراقيون في حدوث انفراجة في المنطقة بما يسمح بإعادة بناء بلادهم بدلا من حالة عدم الاستقرار التي يشهدها العراق بسبب الصراع بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي وإيران.

الأمن البحري

حدثت مناوشات بين إيران والغرب في مياه الخليج، التي تمر عبرها كميات كثيرة من شحنات النفط حول العالم.

ووقعت عدة هجمات على ناقلات النفط هناك في 2019، بعد أن أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خروج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران وعاود فرض العقوبات عليها. وفي محاولة لتهدئة التصعيد، بدأت الإمارات والسعودية التعامل مباشرة مع إيران.

وصادر الأسطول الأميركي الخامس المتمركز في البحرين شحنات أسلحة يُشتبه بأنها جاءت من إيران. وتتبادل إيران وإسرائيل الاتهامات بمهاجمة سفن إحداهما الأخرى في السنوات القليلة الماضية.

(رويترز)

دلالات

——————————-

الاتفاق السعودي الإيراني: انتكاسة لإسرائيل؟

يمثل الاتفاق السعودي الإيراني انتكاسة لمساعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لعزل طهران، ولكن الزمن وحده سيثبت ما إذا كان ذلك سيعرقل أيضا محاولاته للتواصل مع الرياض أو تخطيطه لتوجيه ضربة عسكرية في نهاية الأمر للمواقع النووية الإيرانية.

ويقول خبراء إن أكثر ما يقلق إسرائيل هو أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بوساطة صينية، يوم الجمعة، بين السعودية وإيران، يشير إلى أن الولايات المتحدة “تقدم تنازلات” في المنطقة في وقت تشتد فيها حاجة حكومة نتنياهو إليها.

ووصف مسؤول إسرائيلي، طلب عدم ذكر اسمه، الاتفاق السعودي الإيراني بأنه “عملية متوقعة وتمهيدية يجب ألا تعرقل أي تقدم مواز نحو تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية”. وعلى أية حال، فقد تقاربت إسرائيل مع الإمارات رغم علاقات أبوظبي مع طهران.

في غضون ذلك، تواصل إسرائيل حملة من التهديدات غير المباشرة بمهاجمة إيران وحدها إذا وصلت الدبلوماسية النووية إلى طريق مسدود.

ولكن كل السيناريوهات لا تزال تتوقف على واشنطن التي ترعى اتفاقات تطبيع بين دول عربية وإسرائيل وتشجع عليها، والتي تمثل أيضا حليفا قويا، والتي إذا أبدت اعتراضها على القيام بعمل عسكري فلن تقدم إسرائيل عليه.

وقال مارك دوبويتز، الرئيس التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن: “هذه خطوة ذكية من الصين وإيران لتقويض التطبيع السعودي الأميركي والسعودي الإسرائيلي. إنها تساعد على عودة طهران إلى الساحة مرة أخرى، وتقوض الجهود الأميركية والإسرائيلية لبناء تحالف إقليمي لمواجهة إيران التي تقترب من تطوير أسلحة نووية”.

ولكن التحالف الإسرائيلي الأميركي يشهد توترا ليس له صلة بالاتفاق السعودي الإيراني. وأبدت إدارة الرئيس جو بايدن، التي لم تدع نتنياهو بعد لزيارة البيت الأبيض، قلقها الشديد بشكل غير معتاد من ائتلافه المكون من أحزاب يمينية متطرفة.

ويواجه نتنياهو أيضا تظاهرات حاشدة غير مسبوقة في إسرائيل احتجاجا على خطة الإصلاح القضائي. وشملت الاحتجاجات تعهدات من جانب بعض جنود الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي بعدم حضور يوم تدريبي، وهو ما يشير إلى وجود هزة في الاستعداد القتالي والروح المعنوية.

جرس إنذار

وقال عاموس يادلين، رئيس جهاز المخابرات العسكرية السابق في عهد نتنياهو، إن الاتفاق السعودي الإيراني “يجب أن يمثل جرس إنذار”.

وكتب يادلين على “تويتر”: “تركيز الحكومة على الإصلاح القضائي، الذي يمزق الأمة ويضعف إسرائيل من جميع النواحي، يعكس انفصالا عميقا بين نتنياهو والتوجهات الجيوسياسية الدولية”.

ووجه يادلين اتهامات إلى نتنياهو بـ”التسبب في ضرر غير عادي بأمننا القومي”. وطلب منه ضرورة إلغاء الإصلاحات التي يصفها المعارضون بأنها محاولة لبسط الحكومة نفوذها على المحاكم، إلى جانب توثيق العلاقات مع بايدن حول كيفية إقامة علاقات إسرائيلية سعودية، ومعالجة برنامج إيران النووي بصورة مشتركة.

وكان يادلين من بين الطيارين الذين قصفوا مفاعلا نوويا عراقيا في عام 1981، وأحد كبار القادة في أثناء هجوم إسرائيل على مفاعل سوري مشتبه به في 2007. وتشير تصريحات يادلين إلى أنه لا يعول كثيرا على قدرة إسرائيل وحدها على مواجهة إيران، التي تمتلك مواقع نووية نائية ومتشعبة ومحمية.

فيما وصف إيهود باراك، وزير الدفاع السابق في حكومة نتنياهو، والذي تحول إلى منتقد سياسي، إيران بأنها “تسير بثقة نحو أن تصبح بحكم الأمر الواقع دولة على عتبات التحول إلى قوة نووية”.

وكتب في صحيفة “يديعوت أحرونوت”: “يبدو أن التنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل قوي في مجال الدفاع، ولكنه ضعيف في مجال الهجوم، ويحتاج إلى تغيير”. وتنفي إيران سعيها لامتلاك أسلحة نووية.

وقال إيتان بن دافيد، النائب السابق لمستشار الأمن القومي لنتنياهو، إن إسرائيل تبني قدرات للقيام بعمل عسكري من جانب واحد بوصفه أمرا ضروريا، مع إعطاء الشراكة الأميركية والتحالفات مع دول عربية محتملة أولوية ثانوية.

وقال إن السعودية لا تزال على دراية بالدور الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة.

وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، في مطلع هذا الأسبوع، أن الرياض تريد تطوير برنامج نووي مدني وتقليل القيود المفروضة على مشترياتها من الأسلحة الأميركية، في مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

تقارير دولية

العلاقات الإيرانية السعودية.. تاريخ مشحون من التوتر وعدم الثقة

وحذر يادلين نتنياهو، الذي يواجه تحديات سياسية في الداخل، إلى جانب خلافه مع البيت الأبيض، من النظر إلى مثل هذه المطالب “باعتبار التوصل لخطة سلام سعودية إنجازا”.

ولم يرد المكتب الإعلامي للحكومة السعودية بعد على طلب “رويترز” للتعليق على تقرير “نيويورك تايمز”. وربطت السعودية باستمرار أي تحرك من جانبها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية.

من جانبه، بدا أن البيت الأبيض يقلل من أهمية مشاركة الصين في الاتفاق الذي توصلت إليه طهران والرياض، يوم الجمعة. وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي إن البيت الأبيض يرى أن الضغط الداخلي والخارجي، بما في ذلك الردع السعودي الفعال للهجمات القادمة من إيران أو وكلائها، أدى في النهاية إلى جلوس طهران على طاولة المفاوضات.

(رويترز)

——————————

إيجابيّات ومخاطر بعد “اتّفاق بكين”/ عبدالوهاب بدرخان

لا تزال الأسئلة أكثر من الإجابات في شأن اتفاق معاودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، فهو لا يعني أن الخلافات حُلّت، بل إن الحوار الذي دار خلال العامين الماضيين في بغداد ومسقط ثم أثمر في بكين، سيُستكمل لاحقاً للبحث في مختلف الملفات، بداية بالعلاقة الثنائية على قاعدة اتفاق التعاون الأمني (2001) واتفاق التعاون التجاري (1998) وما قد يستجدّ. ومن الطبيعي أن تكون هناك عناوين عريضة وُضعت للتعامل مع النزاعات الإقليمية، خصوصاً بالنسبة إلى اليمن وإنهاء الحرب فيه، ما دامت الرياض قد تحادثت أخيراً مع الحوثيين، ثم إن وقف إطلاق النار لا يزال صامداً نسبياً ويقترب سريعاً من الذكرى السنوية الأولى للاتفاق عليه، ولو من دون تطبيق بنوده كافةً ومن دون إعلان واضح لتمديده أو تجديده. وبناءً على التقارب السعودي – الإيراني، ليس متوقّعاً أن يعود الحوثي إلى الأعمال القتالية، بل أن يوافق تدريجاً على الانخراط في محادثات الحلّ السياسي.

الأسئلة الأكثر عمقاً، وربما خطورةً، تتعلّق بالوساطة الصينية نفسها، فلولاها لما كان لهذا الاختراق أن يحصل بين الرياض وطهران. دول كثيرة عرضت التوسط وحاولت، وإدارة باراك أوباما تهيّأ لها أنها تأهّلت للخوض في وساطة بعد مساهمتها الرئيسية والحاسمة في إنجاز الاتفاق النووي (2015) حينما لم تكن القطيعة الدبلوماسية قد حصلت بين البلدين، لكن طهران استبعدت أي دور أميركي. وأهم الأسئلة، بعد “اتفاق بكين”، كيف ستتفاعل واشنطن معه؟ الأرجح أنها لم تُحَط علماً بما يكفي، ولم تعرف المدى الذي بلغته بكين في إنضاج الاتفاق، لذا يصعب أن تتعايش معه. بل الأرجح أن موسكو كانت أكثر معرفة في السرّ بحكم تواصلها مع أطرافه الثلاثة، وأشار ميخائيل بوغدانوف إلى أن روسيا “ساهمت في العملية” مع عُمان والعراق “على سياق السياسة الروسية الداعية إلى حسن الجوار وضمان واحترام السيادة والاستقلال”، مستخلصاً: “على هذا الأساس نشجّع أصدقاءنا في أنقرة ودمشق على تطبيع العلاقات”، وهو هدف الاجتماع الرباعي (روسيا وتركيا وإيران والنظام السوري) في الأيام المقبلة.

لطالما روّجت إيران طوال أعوام لـ”الانفتاح على الجوار” بوصفه من ركائز سياستها واستراتيجيتها، غير أن سلوكياتها وعدم تعاونها مع مبادرات مجلس التعاون الخليجي لم تؤكّد أنها ساعية فعلاً إلى ذلك الانفتاح. ورغم أن علاقاتها مع دول الخليج حافظت على مستواها أو تحسّنت، إلا أنها اعتبرت دائماً أن استمرار القطيعة مع السعودية يحول دون تحقيق هذا الهدف. وبعد خوض جولات الحوار في بغداد ومسقط، كانت طهران هي التي بادرت إلى إعلان أن تبادل فتح السفارتين والممثليات الأخرى هو “الخطوة الأولى المطلوبة”، لكن من الواضح أن السعودية كانت تطالب بـ”ضمانات” قبل الإقدام على هذه الخطوة، ولم يكن في إمكان الولايات المتحدة أن توفّر أي ضمان. في هذا السياق قدم الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرته خلال زيارته للرياض، انطلاقاً من أن “الاتفاق الاستراتيجي” الذي وقّع مع السعودية لا بدّ من أن يشكّل “ضماناً” يمكن تطويره.

في المقابل، هناك “اتفاق استراتيجي” بين الصين وإيران، ولكي تتمكّن بكين من تطبيق الاتفاقين الاستراتيجيين معاً، فإنها تحتاج إلى علاقات مستقرّة بين الرياض وطهران. هذا يحقق مصالح الأطراف الثلاثة، وإنْ لم تكن أهدافها بعيدة المدى متطابقة. فالسعودية باتت تتحدث بلغة واحدة مع العالم لتقول إنها معنية بالأمن والاستقرار في الشرق الأوسط كجزء حيوي من أمن العالم واستقراره، وبالتالي فإنها مستعدة للحوار ولا تبحث عن أي صدامٍ مع الغرب أو مع الشرق. أما الصين فتسعى إلى تعزيز موقعها الدولي من خلال دبلوماسية التجارة ومشروع “الحزام والطريق”، لكنها تصطدم بالنفوذ الأميركي- الغربي الذي صنّفها منحازةً إلى الجانب الروسي في حرب أوكرانيا. وإيران تتطلّع إلى الحفاظ على نفوذ إقليمي استثمرت فيه كثيراً ولم تتردد في إطاره من تقويض أربع دول عربية بجيوشها ومؤسساتها، لكن العقوبات الأميركية أضعفت اقتصادها ولا يزال برنامجها النووي مصدر مخاطر تنذر بإشعال المنطقة، خصوصاً بعدما حققت تقدماً نحو امتلاك سلاح نووي ولم تعد مهتمّة بإحياء الاتفاق مع الغرب ما دامت حرب أوكرانيا قد حجّمت الموافقة الصينية والروسية على وقف برنامجها النووي أو الحدّ منه.

في الأساس، ليس سهلاً التموقع الحيادي الذي تنهجه السعودية حتى لو كان بداعي المصلحة الوطنية، وفي الظروف الدولية الحالية بات البحث عن “توازن” أكثر صعوبة، وإنْ لم يكن مستحيلاً. قد تكون الولايات المتحدة في صدد استيعاب التصويب السعودي لنمط العلاقة الثنائية الذي ساد طوال سبعين عاماً، لكن عدم اعترافها وعدم معالجة أخطاء سياساتها على مرّ العقود، كذلك عدم إدراكها أن الحروب المتناسلة أنهكت منطقة الشرق الأوسط والخليج، ساهمت في تغيير وعي الدول لأمنها واستقرارها. فالماضي القاتم أصبح مرتبطاً في الأذهان بـ”الحقبة الأميركية”، أما المستقبل فلا يزال يتخلّق من خلال الخيارات المتوفّرة على الساحة الدولية. والأهم أن السعودية برهنت تمسّكها بالعلاقة الإيجابية مع أميركا بمقدار ما تتطلّع إلى البحث عن مصالحها مع أطراف أخرى، مؤهّلة نفسها للعب دور دولي قد يحتاج إليه الجميع في المقبل من الأيام. وفي ضوء ذلك، فإن الرياض لا تقدّم تطوير علاقتها مع الصين انحيازاً إلى محور ما، ولا تعتبر “التطبيع” مع إيران تغاضياً عن سياساتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار أو دعماً لها، وإذا واظبت طهران على تلك السياسات، فإن الأمر لن يتعدّى استئناف العلاقات الدبلوماسية، والأكيد أنه لن يتجاوز العقوبات الأميركية أو يتمرّد عليها. 

لا شك في أن الصين حققت إنجازاً دبلوماسياً إقليمياً وربما تستند إليه للتوسّط في النزاع الأوكراني. ومن شأن الولايات المتحدة أن ترى، كما رأت إسرائيل، أن “اتفاق بكين” يمثل فشلاً لدبلوماسيتها. لكن واشنطن لن تتمكّن من تجاهل ما أحرزته الصين أو من التعايش معه في ما لا تزال تعتبرها “منطقتها”، وبالتالي فإنها لن تتقبّل إخراجها منها على هذ النحو. لذلك ينبغي الحذر من ردّ الفعل الأميركي – الإسرائيلي، فرغم الخلافات بين إدارة جو بايدن وحكومة المتطرّفين في إسرائيل، سيستخلص الطرفان مما حدث أن الاتفاق النووي “مات” فعلاً وأن المفاوضات النووية لن تستأنف قريباً، بل إن توجّه إيران نحو سلاح نووي بات “حتمياً”، بحسب محللين غربيين، ما يعزز في رأيهم “منطق الخيار العسكري” ضد إيران، بكل ما يعنيه من مخاطر إقليمية.

النهار العربي

——————–

صعوبة فهم الاتفاق السعودي ــ الإيراني/ أرنست خوري

إن وُجد متابع توقّع حصول الاتفاق السعودي ــ الإيراني، فهو إما خارق القدرات وصاحب حاسّة سادسة، أو لديه وصول إلى معلومات استخبارية يتمنّى أي صحافي أو سياسي الحصول عليها. حتى حسن نصر الله، الذي يُوهم الجماهير بأنه يعلم ما لا يعلمه غيره، تبيّن أنه جاهل بمسار الاتصالات بين البلد الذي يعتبر نفسه جندياً في جيشه، إيران، والسعودية التي تنافس إسرائيل في منسوب العداء الذي يكنّه لها. ففي 6 مارس/ آذار الحالي، أي قبل أربعة أيام فقط من إعلان الاتفاق من بكين بوساطة صينية، أفتى نصر الله في خطاب بأنّ “من ينتظر تسوية إيرانية ــ سعودية سينتظر طويلاً”. إسرائيل كذلك بدت مصدومة بالحدث. كانت تسنّ أسنانها على اتفاق تطبيع علاقاتها مع السعودية، ليكون أكبر إنجاز دبلوماسي لها منذ اتفاق كامب ديفيد مع مصر، فأتاها النبأ الذي “يهدّد إسرائيل” على حد تعبير رئيس الحكومة السابق نفتالي بينت في وصفه التفاهم السعودي ــ الإيراني. أما الإعلام الأميركي، ملك التسريبات في العادة، فلم يُصب شيئاً هذه المرّة. نشرت صحيفتا “نيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال”، قبل يوم من وصول الخبر من الصين، تقريرين يسردان تفاصيل المفاوضات الأميركية ــ السعودية بشأن شروط الرياض لتطبيع علاقاتها مع تل أبيب، وفات الصحيفتين أنّ الخبر الطازج سيُعلَن من الجهة الأخرى للعالم، وبمسلك مناقض للعلاقات السعودية ــ الإسرائيلية.

فهم أسباب التفاهم وموجباته لا يقلّ صعوبة عن توقع حصوله. ما الذي تغيّر بالنسبة للعاصمتين لكي تقرّرا السير في خطوة بهذا الحجم، من شأنها أن “تغير وجه الشرق الأوسط”، بحسب تعبير مديرة مكتب الخليج في “نيويورك تايمز” فيفيان نيريم؟ ما الذي طرأ منذ خمس سنوات، حين قال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إنّ المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي “يجعل هتلر يبدو شخصاً جيداً” في حال المقارنة بينهما، حتى تصبح بلدان المنطقة اليوم “تتشارك مصيراً واحداً” مثلما تردّد في مؤتمر إعلان الاتفاق على لسان ممثلَي البلدين، مستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان، وأمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني؟

لم يحصل شيء علني من النوع الذي يدفع الدولتين إلى اتخاذ قرار استراتيجي معاكس للمسار الذي تسلكانه الواحدة تجاه الأخرى. لم يحصل هذا الشيء الكبير لا في الرياض ولا في طهران ولا في العالم. لا هي خطوة تلي انتخابات أميركية وتسلُّم إدارة جديدة السلطة مثلاً، ولا تغيير حصل في الطاقم الحاكم للبلدين. أي من الدولتين لم تغيّر نظرتها إلى الأخرى ونظامها. خرجت السعودية منذ زمن من عزلة ما بعد جريمة قتل جمال خاشقجي. اقتصادياً، هي في أحسن أحوالها مع فورة أسعار النفط والغاز، وصارت في موقع يسمح لها برفض طلبات أميركية بزيادة الإنتاج لينخفض السعر وتجاهر بعلاقاتها الممتازة مع بكين وموسكو. إيران بدورها ارتاحت نسبياً من ضغط الداخل وانخفاض حدّة احتجاجات الحرية. لا تكفّ قيادتها عن الاحتفاء بتحسّن مبيعاتها من النفط والغاز مع تخفيف أميركا الرقابة على عقوباتها ضد طهران، لأنّ كلّ برميل إضافي من الذهب الأسود يجري بيعه في السوق قد يساهم في تخفيض الأسعار عالمياً، وهو ما تريده أميركا بشدة. ما يتردّد أن الرياض تريد الاتفاق لتضمن عدم تعرّضها لقصف انتقامي من إيران في حال تعرّضت الأخيرة لهجوم إسرائيلي كلام ضعيف في التحليل. أساساً، لا أجواء لضربة إسرائيلية أو أميركية، وإيران لا تحترم أي اتفاقٍ في حال حصول هجوم عليها من هذا النوع. الرغبة السعودية بإنهاء حرب اليمن غير كافية لتفسير التحوّل، فآخر مرة تعرّضت فيها السعودية لهجوم حوثي (إيراني بالواسطة)، كانت قبل عام. العدوانية الإيرانية والرغبة بالتمدّد في المنطقة العربية تسلكان منحى تصاعدياً. ما سبب الاتفاق وموجباته إذاً؟ هل هو من جهة السعودية مجرّد نكاية بأميركا نتيجة رفضها تلبية شروط المملكة لتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية مثلاً؟ أم بالعكس تماماً، بمعنى أنّ تطبيعاً سعودياً مع إسرائيل لا بد من أن يسبقه تطبيع سعودي ــ إيراني؟

خبر اليوم بفلوس، بكره ببلاش.

العربي الجديد

———————————

إعادة التشكل الجيوستراتيجي الإيراني السعودي … قراءة مغربية/ عبد الحميد اجماهيري

تعلمنا علوم البيولوجيا وقوانين الوراثة، قبل التحليل الجيوستراتيجي، أن “وقوع شيء لم يكن من المتوقع حدوثه يعني أن تحولاً كبيراً قد حدث”، وهو المبدأ الذي يفسّر جزءاً مهماً من التقارب السعودي الإيراني المفاجئ مفاجأة مزلزلة، مثل هزيم الرعد في سماء صحوة!

في محاولة الفهم، لا بد من الرجوع إلى الأساسيات، منها أنّ المبادرة هي الخطوة الأولى بعد إبرام الشراكة الاستراتيجية مع الصين الموقّعة من إيران في 2021، وجعلت الصين بمثابة خلفية للجوء الاستراتيجي بالنسبة لطهران. وعناصر التفاؤل ربما نجدها في المناخ الخليجي العام المتصالح مع الفكرة، والذي دشّنه التقارب الإماراتي الإيراني، بعد زيارة مستشار الأمن الوطني، طحنون بن زايد، طهران، في ديسمبر/ كانون الأول 2022.

بيد أنّ نجاح الصين في الوصول إلى مصالحة سعودية إيرانية، في عز التصعيد في المواجهة الغربية مع إيران، حقق لها   موقع قدم استراتيجياً في الشرق الأوسط، باعتبار أنها أفلحت في ما لم تفلح فيه وحدة الخريطة الترابية (الخليج) والوحدة الروحية (الإسلام) والوحدة المصلحية (النفط والغاز). والملاحظ كذلك أنّ هذا الفوز الصيني الذي يحوّل “إمبراطورية الوسط” إلى فاعل قوي في المنطقة الأكثر التهاباً في الكوكب، يأتي في سياق ما أفرزته الحرب الروسية الأوكرانية من تقلبات جيوسياسية في العالم برمته. كما أنه يدخل في نطاق حدوث  تغيرات محايثة للحرب، جعلت دولاً كان كل شيء يدفعها إلى الدخول في حالة نزاع قوي، تقترب بعضها من بعض. من ذلك ما هو مثير مثل الحدث المعلن عنه في البيان الثلاثي الصيني السعودي الإيراني، علاوة على ما تابعناه من تقارب تركي إماراتي مصري سعودي، باعتبار أنقرة فاعلاً إقليمياً مركزياً زادت هالة تأثيره، ونجح في وساطاتٍ لم تستطعها دول أخرى، بشأن الغاز والقمح في غضون الحرب الجارية في أوكرانيا. وكان أحد تعبيرات النزاع الصراع المسلح بواسطة المنظمات التابعة لهذه العاصمة أو تلك، في ليبيا وفي اليمن وفي سورية وفي لبنان… إلخ. ومن بين كلّ النزاعات والصراعات، بقيت الحرب اليمنية ساحة الحرب المفتوحة بين الطرفين، والوحيدة التي لم تفقد الكثير من شراستها ورهاناتها، عكس ما يجرى في ليبيا كما في سورية، إذ اتضح أنّ الهدير الكبير للحرب الأوكرانية الروسية قد طغى على أصوات المدافع في الجبهتين العربيتين.

ومن باب الواقعية السياسية، لا يمكن تصوّر انقلاب جذري وراديكالي في الوضع، يجعل السلام يعمّ كلّ خريطة التنافس، ومن هنا يكون السؤال: هل نرى في الاتفاق حلاً من نوع الحلول السياسية القادرة على الاستمرار؟ أي أنّ الراهن يطغى على الاستراتيجي، بحيث يكون التوقيع إعلان هدنة رسمية وتخفيف حظوظ الحرب على إنهاء التنافس الممكن بين الرياض وطهران؟ تصعب المغامرة بالإجابة الإيجابية عن السؤال، لتعقد المعادلة وتعدّد قواعد التشابك بين البلدين.

ومن تعقد قواعد التشابك الخارجية، حصلت قناعاتٌ لدى العواصم المعنية بأنّ لا أحد يمكنه أن يكون المؤثر الوحيد، بل بالأحرى الفاعل الإقليمي الوحيد الذي يمكنه أن يحقّق الاستقرار الذي تطمح إليه المنطقة… علاوة على حصول القناعة ثانية  بـ “توقيف الديناميات غير المنتجة التي أفرزت الصراع (قبل إيران، كانت هناك تركيا وقطر)” وبأنّ “التفاعل مع الغرب، ولا سيما واشنطن، لا يمكن أن يكون المبتدأ والخبر” في العلاقات الدولية وتداعياتها الإقليمية (انظر التقرير الصادر عن معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، ومديره باسكال بونيفاس، سنة 2023).

ومما يزيد في استثنائية الحدث أن الوضع الداخلي في إيران لم يكن يبشّر به، بعد انتصار المحافظ إبراهيم رئيسي، بل كانت التوقعات أنّ النزاع سيزداد حدة. وعليه، بدا أن التعبير الذي ينسب إلى هيغل في أنّ “التاريخ قد يتطوّر من أسوأ جانب فيه” يصلح للوصف الاستراتيجي هنا. ولعلّ رقم معامل النفط موجود كمصلحة في تفسير بعض من التقارب، لكنه أيضاً موجود كدليل سياسي علي الابتعاد عن المقاربة الأميركية والغربية في تدبير ظروف الإنتاج والتسويق في زمن الحرب. وبالنسبة للدول في غرب العالم الإسلامي يُطرح سؤال أكثر تدقيقاً: هل سيكون للاتفاق ما بعده، ويمكن انتظار تداعياته السلمية على مناطق التنافس، في شرق أفريقيا وغربها وشمالها، وفي غيرها من المناطق التي تشكل خريطة السياسة في العالم اليوم، والتي تَعْني الدول العربية بالأساس؟

رحّب المغرب بالبيان الصادر عن اللجنة العربية الرباعية، لجامعة الدول العربية، التي تأسست بشرعية المجلس العربي المنعقد في أبوظبي في 2016، على خلفية الشرعية الدولية النابعة من القرار 2216 الصادر عن الأمم المتحدة في 2015، ويمنع تسليح المليشيات، وهو البيان الذي دان تسليح جمهورية الملالي مليشيات البوليساريو، لزعزعة استقرار المملكة  المغربية، وكان تاريخ صدوره مثيرا من حيث إنه تزامن مع إعلان البيان الثلاثي، السعودي الإيراني الصيني. وتتموقع طهران والرياض على طرفي نقيض من الوضع في شمال أفريقيا، ولعل التساؤل حالياً لدى الرأي العام المغربي: هل سيساعد التقارب الثنائي في حلحلة الجمود البنيوي الذي تعانيه منطقة المغرب الكبير وتلطيف الجو فيه، كما قد يحدُث في الخليج العربي؟ لقد ترسّخ في العلاقات المغاربية أنّ إيران فاعل زعزعة للاستقرار بالنسبة للمغرب الذي قطع علاقته مع طهران في سياق تدريب “بوليساريو” وحديث مطرد عن تسليحها بالمسيّرات (الدرون) الإيرانية التي عادت بقوة مع الحرب الروسية الأوكرانية. وقد وضع المغرب الأمر لدى الأمم المتحدة، عبر ما صرّح به ممثله عمر هلال، الذي تحدّث عن تورّط إيران “في تسليح بوليساريو بأسلحة متطوّرة من بينها طائرات من دون طيار” وقال إنّ ايران وحزب الله موجودان في تندوف (حيث توجد مليشيات بوليساريو) وشمال أفريقيا. وكان ذلك كافياً لكي يشدّد على أنّ “المملكة ستتصرّف بقوة وستكون عواقب وخيمة على الجبهة” في حالة استعمال الطائرات المسيّرة وفي السجل نفسه، كان وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، قد صرّح أنّ طهران صارت “الراعي الرسمي للانفصال ودعم الجماعات الإرهابية في عدد من الدول العربية، عبر تسهيل حصولهم على أسلحة متطوّرة، فضلاً عن تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق جماعات إرهابية مسلحة”.

سيكون هذا التحوّل الهائل في توقعات الرياض وطهران في المجال الخليجي حاضراً أيضاً في القمة العربية المقبلة، في السعودية في مارس/ آذار الجاري، حسب ما تم تحديده في قمة الجزائر الماضية. والرياض مطالبةٌ بإقناع العرب به، إذا لم تكن قد فعلت ذلك من قبل بكلّ سيادية، سيما وأنها أكثر الدول التي نالت حظها الدموي من تأثيرات التدمير بواسطة المسيِّرات نفسها!

العربي الجديد

————————-

التقارب السعودي الإيراني: استراتيجيا أم تكتيك؟/ حسان الأسود

بحكم التاريخ أولاً، والجغرافيا ثانياً، وبما توفره لها من إدارة لأهم المقدّسات الإسلامية وما يترتب عليه من إرثٍ رمزي هائل، تتزعّم السعوديّة العالم الإسلامي دينياً. لكنها تطمح لأكثر من ذلك سياسياً، وليس فقط على مستوى منطقة الشرق الأوسط، بل هي تسعى إلى لعب دور عالمي بين العشرين الكبار. فنظراً إلى ما تتمتع به المملكة من مكانة اقتصادية، سببها الرئيس الثروة النفطية، وبتأثير النهضة البنيوية الهائلة (فكرياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً) التي بدأها محمد بن سلمان بمجرّد تعيينه ولياً للعهد، وباعتبار أنها تقع في القلب من مناطق التنافس الاستراتيجي بين المشاريع العالمية المختلفة، فإنّها تجد نفسها في خضمّ صراعٍ محمومٍ لإثبات الذات والتصدّر للقيادة.

في المقابل، تجد إيران ذاتها في تناقض مباشر مع السعودية، فهي تدرك تمامًا أنها لا يمكن أن تنافسها على الزعامة الدينية باعتبار أنّ الغالبية الساحقة من المسلمين هم من السنّة، وبالتالي، لا سطوة لولاية الفقيه عليهم. جعلها هذا ترفع شعار تحرير فلسطين. وبالتالي، تجادل في قضية مركزية طالما كانت ذات أبعاد متعدّدة، منها الإنساني والديني والقومي والوطني. لكنّ إيران، ذات التاريخ العريق والموغل في القدم، باتت منذ استيلاء الملالي عليها حبيسة ضيق الأفق الذي يولّد الأنظمة الأوتوقراطية بطبيعتها المنغلقة المتعصّبة، فتبدو إيران هذه كأنها تعرّف ذاتها بالتناقض مع الآخرين، لا بما تقدّمه عن ذاتها من محتوى إيجابي مشرق نافع وحضاري.

جعل هذا كلّه المنافسة بين السعودية وإيران على أشدّها، وانعكس على المنطقة خراباً وتدميراً. وبينما تتجه المملكة إلى الاندماج ضمن المنظومة الدولية الفاعلة، وبعد أن قفزت أشواطاً بعيدة في التأسيس للدولة بمفاهيمها الحديثة، أي بالقطع التدريجي مع الموروث القبلي/ العائلي والارتكاز على أسسٍ متينةٍ من المؤسسات المختلفة (وهي بالمناسبة في الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل)، نجد إيران تسير في الاتجاه المعاكس. لا يغيب عن عين الناظر للأمر في إيران وجود برلمان وانتخابات ومؤسسة رئاسية وصحافة وغيرها من عناوين الدولة الحديثة، لكنّ ذلك لا يحجُب أيضاً وجود إرادة طاغية تتمثل بالمرشد والحرس الثوري الإيراني. وبحكم التصادم الدائم بين القوى الشعبية والليبراليين من الطبقة السياسية الحاكمة، الساعين إلى الانفتاح على العالم، مع إرادة المرشد المنفردة، مدعوماً من المتشددين قومياً وأيديولوجياً من الراديكاليين ومن الحرس الثوري، تتّجه إيران باستمرار نحو التعصّب والانغلاق، ولا تجد من مشاريع خارجية تقدّمها سوى تفتيت بنى الدول المجاورة بهدف استبدالها بعصاباتٍ ومليشيات تتبعها وتخضع لتوجيهاتها.

لكنّ مصالح الدول الكبرى لا تتحقق بالحروب والدمار دوماً، بل هناك من يسعى منها إلى مدّ جسور التعاون الاقتصادي بعيداً عن الخراب والقتل، مثل الصين والهند والبرازيل وألمانيا. هذه الدول، ولأسباب كثيرة ليس أولها بالطبع القناعات الأخلاقية بعدم جدوى الحروب، بحاجة للسلام والتعاون خارج منظومات القسر العسكري الذي مارسته الدول الاستعمارية في القرون السابقة. جعل هذا من بعضها، وهي هنا الصين، صاحبة مبادراتٍ ملحوظةٍ لحلّ الصراعات وتخفيف حدّة التوترات. جاءت المبادرة الصينية لحلّ الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا خجولةً وعلى استحياء. ولهذا أسباب كثيرة، يقصر عن الحديث بها المجال الراهن. ثم كانت المبادرة الجريئة للتقريب بين السعودية وإيران، وهي اقتحامٌ دبلوماسي كبير طالما حاولت الصين تجنّبه. لكنّ الاقتصاد يفرض شروطه على السياسة في النهاية، فهذا العملاق الاقتصادي يحتاج، بشكل متزايد، أذرعاً سياسية وثقافية تسنده وتوجّه بوصلته، وسيكون قريباً بحاجة لعصا عسكرية قوية تساعد الجزرة في عملها. هذا كلّه ليس إلّا مقدّمة لنظامٍ عالمي جديد بدأ يتشكّل، منذ فترة وجيزة، قد يكون عنوانها الأبرز الانسحاب الأميركي من أفغانستان.

وبالعودة إلى مربّع العلاقات السعودية الإيرانية المتشابكة، نجد أنّ إعلان الاتفاق الذي تمّ برعاية صينية، يثير من الأسئلة أكثر بكثير مما يطرح من إجابات. ليس مردّ ذلك إلى طبيعة منظومتي الحكم في البلدين فقط، ولا إلى طموحاتهما الكبيرة في قيادة المنطقة، بل لكثرة الملفات بينهما وتشعّبها أيضاً، فاليمن الذي يشكل جزءاً أساسياً من ملف الأمن القومي السعودي، وسورية ولبنان والعراق التي باتت أراضيها مسرحاً للتخريب الإيراني، والتجارة في الخليج العربي وخليج عُمان، وصناعة المخدّرات وتهريبها، والتدخل المباشر في القضية الفلسطينية من إيران من خلال دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من التنظيمات المسلّحة، جعلا نقاط الشقاق والخلاف أكثر من نقاط الوفاق والتعاون. لا ننسى أنّ السعودية قد أعلنت عزمها امتلاك السلاح النووي حالما تتمكن إيران من ذلك، وهذا بحدّ ذاته يفتح أبواب جهنّم على المنطقة بعمومها.

هل يمكن مثلاً اختصار هذا الاتفاق برغبة السعودية بتجنّب آثار حرب إسرائيلية وشيكة على إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، خصوصاً أنّ أذرع إيران في المنطقة قادرة على إيذاء السعودية وتعطيل مصالحها كما فعلت المليشيات الحوثية بقصفها المنشآت النفطية مراراً، أم إنّه ما من مجال لقيام هذه الحرب أساساً في ظلّ إدارة الديمقراطيين التي طالما لهثت باتجاه اتفاق مع إيران بخصوص برنامجها النووي؟ ثم ما هي الفوائد التي يمكن أن تجنيها السعودية من هذا الاتفاق غير هدوء الخاصرة اليمنية، وهل ستكون إيران فعلاً في وارد تغيير سلوكها التخريبي في المنطقة، وما هي ضمانات ذلك، وهل يمكن للصين أن تضغط بهذا الاتجاه بدافع تمرير مصالحها الاقتصادية العابرة بين الجارين اللدودين؟ ما انعكاس ذلك على الملفين السوري واللبناني، وما هي آثار هذا التقارب في العراق الذي بدأ يصحو رويداً رويداً من كبوته بعد عشرين عاماً على إسقاط نظام صدّام حسين؟

وحدها الأيام كفيلة بإظهار مدى التزام إيران بهذه التفاهمات، فهي وإن كانت مصلحتها في الاستقرار وفكّ العزلة الدولية كبيرة جدًا، إلا أنّ طبيعة نظام الحكم المتطرّف فيها لا يمكن أن يترك لإيران الدولة ولإيران المجتمع أي دورٍ في إتمام هذه المصالحة مع دول الجوار. إنّ نظاماً مأزوماً قام على أساس الهدم والتخريب لا يمكن أن يُضمن جانبه في أي اتفاق إقليمي أو دولي. فصل المقال إذاً في الانتظار والتجربة، وما ستنتجه الأسابيع المقبلة سيدلّنا على الخطوة السعودية الإيرانية هذه، أهي خطوة تكتيكية لكليهما أم مشوار استراتيجي طويل؟

العربي الجديد

———————————-

الاتفاق السعودي الإيراني إنقاذ لمن؟/ إياد الدليمي

يصعُب التكهن بتفاصيل الاتفاق السعودي الإيراني برعايةٍ صينيةٍ لإعادة العلاقات وفتح السفارات بين البلدين في مدّة أقصاها شهران، فكل ما نشر وتسرّب من معلوماتٍ لا يعدو أن يكون كلاماً إنشائياً دبلوماسياً في مثل هذه المناسبات، أو أمنياتٍ بما يريده بعضهم لهذا الاتفاق انطلاقاً من حاجاته أو تطلعاته، لتبقى الحقيقة طيّ الكتمان وطيّ الأوراق التي تبادلها رئيسا الوفدين، السعودي والإيراني، بحضور الراعي الصيني الذي بدا كأنه الرابح الأكبر من صفقةٍ كان الجميع يعتقد أنها غير ممكنة في ظل تصاعد التوتر والتصعيد في المنطقة.

في ظل مثل هذا التكتّم وعدم الشفافية في ما جاء في هذا الاتفاق، يجدُر بنا أن نحاول استقراء ما جرى التوصل إليه في بكين، ومحاولة فهمه بعيداً عن لغة التخوين أو لغة الأمنيات، فالسعودية وإيران دولتان إقليميتان، لهما أجندات ومصالح في المنطقة والعالم، وكُلٌّ يسير باتجاه تحقيق تلك المصالح بالطريقة التي يراها مناسبة.

لعلّ اليمن هو عقدة المنشار في أي مفاوضات سابقة جرت على مدار عامين في بغداد ومسقط بين ممثلي الرياض وطهران، فالسعودية ترى أن الدعم الإيراني لجماعة الحوثي وصل إلى مستوياتٍ خطرة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن أي تهدئة أو اتفاق بين البلدين من دون التوصل إلى حلحلة مناسبة في هذا الملف، والذي يبدو أن السعودية حصلت على ما تريده في الصين وهو ما دفعها إلى القبول بإعادة فتح السفارات وتطبيع العلاقات مع إيران.

يضاف إلى ذلك أن المتابع للشأن السعودي منذ تولّي فيصل بن فرحان مقاليد الدبلوماسية السعودية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، يلحظ تغييراً جذرياً في تعاطي الرياض مع مختلف الملفات الخارجية وتحولاً دفع السعودية إلى انتهاج سياسةٍ أكثر انفتاحاً على الجوار الإقليمي، وتسير بخطوات حذرة وواثقة في الوقت ذاته، وهو ما يمكن أن يفسّر لنا أيضاً قبول السعودية تطبيع العلاقات مع إيران، والتي بدأتها بحوارات ثنائية برعاية عراقية تارة وعُمانية تارة أخرى.

نقطة أخرى يجب الانتباه لها ونحن نحاول أن نحلل طبيعة الاتفاق السعودي الإيراني، أنّ الرياض تريد أن تضع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في موقف حرج، وهو ما حصل من خلال اختيار الصين راعياً للاتفاق، وذلك رداً على تجاهل بايدن السعودية والفتور الذي أصاب هذه العلاقة منذ توليه السلطة قبل أكثر من عامين، وهذا ما جرى فعلا، فالعناوين التي خرجت بها الصحافة الأميركية في اليوم التالي للاتفاق تظهر هذا الشعور جلياً، فالكل هناك يتحدّث عن مساحة جديدة كسبتها الصين ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما أيضاً على المستوى السياسي في منطقة كانت تُعتبر تاريخياً من الخطوط الأميركية الحمراء التي يصعُب تجاوزها.

وأيضاً، لا يجب أن ننسى الرسائل التي حملها وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، إلى طهران عبر بغداد، والتي تشير المصادر إلى أنها كانت تحذيرية لإيران من ضربة إسرائيلية كبيرة، طالباً في حينها من بغداد ألا تكون طرفاً في مثل هذا النزاع، وأن تعمل على حماية المصالح الأميركية خشية تعرّضها لضربات انتقامية.

وصلت إلى إيران التحذيرات الأميركية، وهي تدرك أن الانفتاح على السعودية في هذا التوقيت قد يسهم في دفع تل أبيب إلى إعادة النظر في عمليةٍ من هذا النوع، خصوصاً أنّ التقارير الأميركية كانت تشير إلى أن رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، كان يراهن على تطبيع كامل للعلاقات مع السعودية خلال فترة قريبة، لتأتي الخطوة الإيرانية بالانفتاح على السعودية لسحب البساط من تحته، وأيضاً محاولة إرسال رسالة إلى الولايات المتحدة أنّ أقرب حلفاء واشنطن في المنطقة، الرياض، باتت تقيم علاقات طبيعية مع طهران. وهنا يجدر بنا أن نتساءل، ونحن نحاول أن نفهم ما جرى، خصوصاً أنه لم يكن مفاجئاً بالكامل لمن يعرف تفاصيل المفاوضات التي احتضنتها بغداد طوال عامين تقريباً بين السعودية وإيران؛ هل سيشمل الاتفاق السعودي الإيراني تفاهمات أخرى تتعلق بالوجود الإيراني المليشياوي في كلّ من العراق وسورية، أم أنّ المصلحة السعودية بالدرجة الأولى تقتضي حلحلة المسألة اليمنية فقط؟

لا أحد يتوقع أنّ إيران يمكن أن تتخلى عن نفوذها في العراق وسورية ولبنان، فهي من خلال هذا الوجود المليشياوي، نجحت في الحوار وإدارة ملفها النووي مع الدول، وهي بهذه القوة الخشنة لاعبت السعودية سنوات. وبالتالي، من غير المنطقي أن تتخلّى عن هذه البيادق وأوراق اللعب. لكن وجود علاقة طبيعية بين السعودية وإيران قد يسمح للرياض بأن توجد في تلك الدول، من باب المنافسة مع النفوذ الإيراني، اقتصادياً، بمعنى أنّ طموحات سعودية كثيرة إلى الاستثمار في العراق قد تجد لها منفذاً عبر هذا الاتفاق، أما في لبنان، فالحال بالتأكيد مختلف، وأيضاً في سورية.

تبقى الأوراق التي جرى التوقيع عليها في بكين بين الرياض وطهران أوراقاً، ما لم تتحوّل إلى واقع، ومدة الشهرين لإعادة فتح السفارات قد تكون فترة اختبار نيات، بعدها وفي حال وقعت الضربة الإسرائيلية التي تهدد بها تل أبيب، قد تبعثر أوراق اتفاق بكين، أو قد تضاف لها ملاحق أخرى تجعلها أكثر قدرة على الصمود بوجه نيران منطقةٍ لا تعرف أن تخمد.

——————————–

«بكين» هل ينهي نزاع 40 عاماً؟/ عبد الرحمن الراشد

-1-

مثل القنبلة، اتفاقُ بكين السعودي – الإيراني حدثٌ كبيرٌ بكل المعايير. صداه يتردَّد وتأثيراتُه المستقبلية قد تكون أكبرَ من كل توقعاتنا. إنَّما علينا أن ننتظرَ لنرى عمقَه، وأبعادَه، والاحتمالات المكملة له في المستقبل القريب، من يدري قد يفتح أبواباً أوسعَ للنظام الأمني الإقليمي. وبالطبع، لا بدَّ أن نتفاءلَ بحذرٍ شديدٍ لأنَّه النظامُ الإيراني.

كثيرٌ من الإجابات مطلوب، عن أسئلة ملحة، ولا نعرف الكثير بعد. على ماذا الاتفاق؟ ولماذا الصين؟ ومن المستفيد؟ وما مواقفُ الآخرين المعنيين مباشرة، الأميركيين، والإسرائيليين، واليمنيين، والعراقيين، واللبنانيين، والسوريين، والقوى الإسلاموية المسلحة، والمنطقة عموماً؟

أولُ نتيجةٍ وُلدت في اتفاق بكين، عودة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين منذ عام 2016، وإدارة القضايا المعلَّقة التي أدَّت إلى القطيعة. في شهرين يفترض عودة البعثات الدبلوماسية، وإحياء اتفاقية التعاون القديمة التي وقعت عام 1998.

الكثيرون، وعن حق، يشكّكون في جدية الجانب الإيراني الذي سبقَ وتصالح مع السعودية نفسها 2001، وسرعانَ ما انتكست المصالحة، لأنَّها قامت على «حسن النية». أمَّا هذا الاتفاق فإنَّ ما يميّزه عمَّا سبقه هو الوسيط، الصين. الرئيسُ الصيني شخصياً هو من دعا السعوديةَ وإيران إلى بكين. والحقيقة بخلاف ما كتبه البعض متسائلاً، من أقنعَ طهران بالقبول، كانت المهمة الصعبة هي إقناع الرياض. فقد سبقَ وكرَّرت إيرانُ علانيةً منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي دعوةَ السعودية للتصالح، وإعادة العلاقات، وأن يزورَ مسؤولوها السعودية. جرت خمس جولات من التباحث بوساطة عراقية وعمانية، ولم تفلح في تحقيق التقدم.

لماذا الصين؟ لسببين مهمين؛ الأول إنَّها الدولة الوحيدة في العالم التي لها ميزة ذات قيمة كبيرة على البلدين معاً، leverage، الشريك التجاري الرئيسي لكل من السعودية وإيران. وهي وسيط مختلف عن العراقي والعماني بقدرتها على تقديم نفسها ضامناً. لا تستطيع حتى الولايات المتحدة أو روسيا ضمان الوعود الإيرانية. السبب الثاني أنَّ للصين مصلحة كبيرة في إنهاء النزاع السعودي – الإيراني، والتوصل إلى أمن إقليمي يحمي مصالحها. الصين تحصل على نصف وارداتها البترولية من المنطقة، نسبة هائلة، لا يمكن لاقتصادها أن يدورَ من دونها. أمَّا واردات واشنطن وموسكو من هنا فمحدودة. وغني عن القول أنَّه يندر أن يجدَ السعوديون والإيرانيون «صديقاً مشتركاً» مثل الصين، يمكن أن يثقوا به معاً.

لهذا رأينا الوسيطَ الصيني كان داخل الغرفة، مشاركاً في الأيام الأربعة، وليس دوره مقصوراً على تهيئة التباحث، كما فعل الوسطاءُ السابقون. يجلس بين الوفد السعودي برئاسة مستشار الأمن الوطني مساعد العيبان، يملك خبرةً طويلة في المفاوضات، ونظيره الإيراني علي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي.

دخول الصينِ لأول مرة في تاريخ الترتيبات الأمنية الكبرى في المنطقة قد يفتح الباب لإنهاء «الحالة الإقليمية الإيرانية»، التي بدأت في مطلع الثمانينات وتوسعت بعد اضطرابات ربيع 2011. خطوة كبيرة ومهمة، ولا بدَّ من القول إنَّ أسلوبَ إدارة ولي العهد السعودي الأزمة مع إيران في خمس سنوات، بما في ذلك في مراحلها الخطيرة، هو الذي أوصلنا إلى نتيجة واقعية مقنعة للإيرانيين بأنَّ خيارَهم هو التصالحُ وليس التهديد والفوضى. ونحن متفائلون بأن تقودَ وتكمل السعودية المصالحة، إقليمياً ودولياً، لكن من المبكر استقراء الوضع أبعد من هذا الاتفاق. الملفات الأخرى مترابطة ومتفجرة؛ أهمها مشروع إيران النووي لأغراض عسكرية، وهيمنة طهران على أربع عواصم عربية.

الامتحان الكبير هو اليمن. لطهرانَ دورٌ كبير في إدارة التمرد الحوثي، ولو تمكَّن الجانبان، برعاية الصين، من تهيئة الوضع لحل سلمي نهائي يوقف الحربَ، ويرمّم الشرعية، لكان ذلك وحدَه كافياً لإعلان نجاح اتفاق بكين. اليمن قضية تهمُّ العالمَ، حربها تهدّد ممرَ التجارة الدولية البحري، وتستوطن أرضَها تنظيماتٌ إرهابية، وتهدّد الحرب أمنَ السعودية. وفوق هذا، اليمن مأساة إنسانية مستمرة منذ احتلال صنعاء، وإسقاط الشرعية. إن نجحَ الطرفان في إحلال السلام باليمن، هذا سيعني وجودَ فرصة ثمينة لنسج نظام أمني إقليمي جديد، يُسهمُ في إنهاء أزمات العراق، ولبنان.

لا يمكن أن نتجاهلَ العوامل الأخرى المحيطة، مستفيدة أو متضررة. واشنطن أعلنت في اليوم نفسه عن إفراجها عن نصف مليار دولار «مستحقات» مالية إيرانية على العراق، ربما كانت خطوة مبرمجة سابقة للاتفاق، لكن للولايات المتحدة دورٌ مهمٌّ في هذا التطور الجديد.

مقالي المقبل عن الاحتمالات لاتفاق بكين وإشكالات الصراع الأخرى، تحديداً المعضلة الرئيسية؛ السلاح النووي.

———————————–

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

لنفترض أنَّنا نجلسُ في المكتب البيضاوي للرئيس جو بايدن، ونسمعُ النقاشَ الدائرَ حول اتفاق بكين. يتَّفقُ الجالسون على أنَّ هذه المرة الأولى التي تتجرَّأ فيها الصينُ على خوض مياه منطقة الشرق الأوسط، ونزع فتيلِ الخلافِ بين أكبرِ دولتين على ضفتي الخليج، السعودية وإيران.

هل سيراها البيتُ الأبيضُ فرصةً ذهبيةً لتخفيض التوتر، ويبنِي عليها خطواتِه المقبلةَ في منطقة الشرق الأوسط؟ أم سيعتبرُها «فتحاً صينياً» لمنطقة طالما كانت تُعتبر ضمن النفوذ الأميركي؟ تمَّ إخراجُ البريطانيين في الخمسينات في أزمة السويس، ثم إنهاء «الحماية» في الستينات والسبعينات.

الصين تستورد مليوني برميل يومياً من السعودية وحدَها، وستزداد. وأميركا تستورد منها 300 ألف برميل خام يومياً فقط، نحو 7 في المائة من حاجتها، وستتناقص. وهي نسبة قليلة إذا قارناها بأكثر من 50 في المائة تستوردها أميركا من جارتها كندا. واشنطن تستطيع أن تعيشَ من دون نفطِ السعودية والخليج. الصين لن تستطيعَ. نظرياً، يفترض ألا يشكل النجاح الصيني في التقريب بين الرياض وطهران أزمة.

إنَّما الأمر ليس بهذه البساطة بسبب التنافس المحموم بين القوتين العظميين. هنا، الأرجح، أنَّنا سنسمعُ أصواتاً أميركية ناقدة. «الصين تريد إدخال السعودية في فضائِها»، والخليج كلُّه يُعتبر منطقة نفوذ أميركية. «الصين تريد فكَّ الخناق عن حليفتها إيران». «إيران تريد تحييدَ السعودية، والتمدُّدَ في بقية المنطقة».

أولاً، لماذا تقبل السعودية بالوسيط الصيني؟ ليس طارئاً الحضور الصيني في قضايا المنطقة، بكين كانت، ولا تزال، بمباركة واشنطن، عضواً في مفاوضات JCPOA، الاتفاق الشامل مع إيران، في فيينا. وتمَّ إشراكُ الصين مراتٍ في مفاوضات السلام الفلسطينية.

والأهمُّ للسعودية، أنَّ الصين شريكٌ تجاريٌّ كبيرٌ لها ولدول المنطقة، والصين نفسُها متضررةٌ من النزاع. أمَّا واشنطن فليس بوسعها أن تكونَ البديلَ للصين، تحديداً في شراء النفط، شريان الحياة لاقتصادات دول الخليج، ولا أن تلعبَ دورَ الوسيط مع إيران.

مع هذا ستظلُّ الولاياتُ المتحدة لاعباً مهماً… الأخ الأكبر والشريك العسكري لدول الخليج، الذي سيمدُّ في عمر نفوذِها إلى عقد آخر، على الأقل.

هل وساطة الصين هي الحبل الذي سينقذ إيرانَ من الغرق من العقوبات والاحتجاجات؟ بدلاً من النظر للموضوع من الزاوية الإيرانية لننظر إليه بطريقة مختلفة. فاتفاق بكين يفترض أنَّه خبرٌ سعيد لواشنطن، لأنَّها كانت تعتبر مطالبَ دولِ الخليج المتكررة بشراكة أميركية أو ضمانات أمنية، ضد تهديدات إيران، تضع عليها عبئاً ليست متحمسة له. هذا العبء سينخفض في حال نجح الاتفاق. ليس من المتوقع في الاتفاق ملاحق عسكرية، تعطي الصينَ قواعدَ أو بوارجَ لحماية الممرات وضمان عدم اعتداء إيران على جيرانها. المصالحة تقوم على المصالح للدول الثلاث، السعودية وإيران والصين. فالاعتداء الإيراني المباشر أو غير المباشر، من خلال ميليشياتها في العراق أو اليمن، على ناقلة أو منشآت سعودية، مثلاً، هو اعتداء على الصين، صاحبة الاتفاق.

ماذا عن مفهوم تحييد إيران للسعودية؟ إيران خلقت لنفسها عداواتٍ كثيرة، لا علاقة لها بخلافاتها مع الرياض. وعلى العكس من سياسة عزل السعودية عن قضايا المنطقة، قد يفتح الاتفاقُ للإيرانيين فضاءً عربياً جديداً يقوم على المصالحات، وليس عبر السلاح والميليشيات.

تركيا كانت إلى قبل أشهر قليلة متورطة في نزاعات مع نحو نصف دول المنطقة، واليوم على وفاقٍ معها جميعاً، بما فيها إسرائيل، ممَّا حسّن اقتصادها، وأوضاعَها السياسية الداخلية، وعلاقاتها الخارجية. على أي حال توسيع دائرة المصالحات، شأن يخصُّ إيران، وقد يكون «تحييد السعودية» حافزاً لها على السير بقية الطريق، وإنهاء أربعين عاماً من التوتر الإيراني العربي.

سمعت الكثيرَ من المشككين في قدرة بكين على ضمان سلوكِ إيران تجاه السعودية وإنجاح الاتفاق. نقول: نحن واقعيون، وفي الوقت نفسه متفائلون. لا ندري على وجه اليقين، لكن علينا أن نعطيَ السلام فرصة. ونتطلع إلى أن تجرب الصين في بقية النزاعات مع إيران، في العراق ولبنان، ومهادنة إسرائيل. وربما تشترك في إيجاد حل لمشروع التسلح النووي الإيراني، القضية الأهم دولياً. ومن المؤكد أنَّ الولايات المتحدة، وأوروبا، سترحبان بدور صيني، إن اتضح أنها قادرة على إنهاء هذا الملف، الخلاف السعودي الإيراني الصعب.

الشرق الأوسط

————————-

 بين طهران والرياض: حلحلة وحلول أم إدارة للتنافس والصراع/ فاطمة الصمادي

يتعلق الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية بدولتين إقليميتين متنافستين، ويطال بصورة أساسية الجوار الخليجي وملف نفوذ كليهما في أكثر من مكان. فإذا نجح الاتفاق، سيسجّل كواحدة من الصفقات الكبيرة الناجحة بالنسبة إلى الصين، أما إذ عاد الصراع ليحكم العلاقة بين الدولتين – ولذلك سوابق – فإنه سيعود بصورة أكبر، وستدرك الصين حينها أنها أفرطت في التفاؤل، وعرّضت تقاليدها في السياسة الخارجية لمقامرة.

إن كان التطور الذي حدث في العلاقات بين إيران والسعودية صفقة، فهو يتعلق بدولتين إقليميتين متنافستين، ويطال بصورة أساسية الجوار الخليجي وملف نفوذ كليهما في أكثر من مكان. وإذا نجحت هذه الصفقة فستكون واحدة من الصفقات الكبيرة الناجحة بالنسبة إلى الصين، وذلك لأسباب كثيرة. أما النجاح والفشل فهو مرتبط باللاعبين الأساسيين وقدرتهما على إجادة اللعب في ملعب مليء بألغام التنافس والصراع. إن تحقيق نجاح، ولو متوسط المستوى، في حلحلة ملفات الخلاف بين إيران والسعودية سيمكّن الصين من تحقيق قفزة دبلوماسية غير مسبوقة في سياستها الخارجية ما سيجعلها أكثر جرأة في المستقبل في ملفات أخرى.

أما إذ عاد الصراع ليحكم العلاقة، ولذلك سوابق وأسبقيات، فإنه سيعود بصورة أكبر، وستدرك الصين حينها أنها أفرطت في التفاؤل، وعرّضت تقاليدها في السياسة الخارجية لمقامرة، وأنها فشلت في أن تكون ضامنا حقيقيا للاتفاق.

صحيح أن ما حدث في بكين كان استكمالا لمحادثات جرت في عمان وكذلك في بغداد بين عامي 2021 و2022 بوساطة رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي. لكن لا يمكن اختزال الدور الصيني في مجرد قطف الثمار، وهو ما يعتقده علي هاشم في مقالة تحليلية نشرها على موقع “جاده ايران”. فهو يرى أن الصين أخذت على عاتقها كسر ما تبقى من عوائق أمام سياستها الخارجية. وهي تسعة لأن تكون وسيطا لا ينتهي دوره مع إعلان الاتفاق، إذ كان لا بد من ضامن يصونه مع بروز عوائق مستقبلية. هنا دخلت بكين بوزنها كشريك اقتصادي وعسكري للجارتين اللدودتين، لتحقق أول إنجازاتها الدبلوماسية في منطقة لطالما عُرفت بحجم التأثير الأميركي فيها، وتزاحم نفوذا أميركيا يتجاوز عمره ستين عاما.

بالنظر إلى المصالح الاقتصادية، تشكل الدولتان المتنافستان المصدر الأساسي للطاقة بالنسبة إلى الصين، فضلا عن مشاريع اقتصادية أخرى كبيرة. فقد وقّعت إيران مع الصين اتفاقية استراتيجية تصل إلى 25 عاما، واتفقت مع السعودية على مشاريع اقتصادية تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار.

تشكل الصين بالنسبة إلى إيران الشريك الاقتصادي الأول، فيما تحتل السعودية مرتبة الشريك الاقتصادي للصين في المنطقة بتبادل تجاري يتجاوز  الـ87 مليار دولار سنويا. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين إيران والصين خلال العام 2022، مع أخذ العقوبات بعين الاعتبار، ما يصل إلى 14 مليار دولار.  وإن كان هذا الرقم يقل كثيرا عن حجم التبادل في سنوات ماضية، منها 2017 على سبيل المثال حين وصل إلى 33 مليار دولار. وفي العام 2014، كانت الشريك التجاري الأول للصين في المنطقة، بتبادل تجاري وصل إلى 51 مليار دولار. لكن المهم في معادلة اليوم أن الصين كانت هي الوجهة الأساسية في بيع النفط الإيراني وتحييد تأثير العقوبات بصورة أفشلت الهدف الأميركي بأن تصل مبيعات إيران إلى صفر برميل. بالمقابل، دعمت الصين عضوية إيران الكاملة في منظمة شانغهاي للتعاون، وهي عضوية تعد بالكثير بالنسبة إلى إيران اقتصاديا وعسكريا وأمنيا.

أما فيما يخص طرفي المعادلة والعلاقة بينهما، فحتى اليوم لا يستطيع البعض تصور هذه العلاقة دون تأثير اللاعب الأميركي، وهو لاعب شديد التأثير سياسيا واقتصاديا وعسكريا. فقد كانت الجمهورية الإسلامية، ومازالت تعتقد أن الحلول لمشكلات المنطقة يجب أن تتم بعيدا عن التدخل الأميركي. وكان ذلك عنوانا رئيسيا عندما أعلن إبراهيم رئيسي عن “أولوية الجوار” في سياسته الخارجية. و بعد انتخابه، أكد رئيس في اتصال مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أن “الأمن الجماعي” يشكل الجزء الأساس من “عقيدة السياسة الخارجية الإقليمية” لإدارته.  على اعتبار أن “عقيدة الأمن الجماعي” يمكنها أن تجلب “السلام والاستقرار” للمنطقة و”الهدوء والرخاء” لشعوبها.

فتحقيق الأمن الجماعي، من وجهة نظر إبراهيم رئيسي “رهن بخفض تدخل القوى الأجنبية في علاقات إيران وجيرانها إلى الصفر”. وهذا الموقف ليس خاصا برئيسي دون غيره، بل هو من ثوابت السياسة الخارجية الإيرانية. وقد سبق لروحاني أن دعا إلى أن تتولى دول الخليج أمنها بنفسها دون “تدخل أجنبي”. هذه السياسة تجعلنا نتساءل عن إمكانية تحقيق ذلك في منطقة تحتل المركز الثاني من حيث تعداد الوجود العسكري الأميركي بعد الأراضي الأمريكية وترتبط حكوماتها بعلاقات قوية مع واشنطن، فيما تشهد العلاقات بين طهران وواشنطن أزمة مستمرة. يرتبط ذلك بصورة جوهرية بالهدف الإيراني المعلن، وهو اخراج القوات الأميركية من المنطقة عقب اغتيال قاسم سليماني مطلع العام 2020.

من الواضح أن العربية السعودية تجري إعادة تقييم شاملة لرهاناتها الخارجية، ويبدو أن التقييم السعودي خرج بنتائج سلبية تتعلق بالدور الأميركي بعد أن كان ينظر إلى واشنطن بوصفها حليفا يمكن الاعتماد عليه. ولكن هذا الرهان واجه خيبات كبيرة، وهو ما أشار اليه عبد العزيز بن صقر في مداخلته خلال منتدى الجزيرة الرابع عشر.

وقد يؤشّر هذا التقييم السعودي إلى تغيير في سياسة المملكة الخارجية، وربما يكون من تجلياته تعزيز العلاقة مع الصين والدفع بها إلى مستويات غير مسبوقة، وكذلك السعي لانتهاج سياسة متوازنة مع روسيا رغم الضغوط الغربية.

إن نجاح الاتفاق الإيراني السعودي رهن بكيفية إدارة ملفات العلاقة بين إيران والسعودية، وهي ملفات لا يجادل عاقل في تعقيدها وتشعبها. كما أنه اختبار لقدرة الصين على أن تكون ضامنا لاتفاق بين دولتين شهدت العلاقات بينهما من التنافس والصراع أكثر مما شهدته من الاستقرار والتفاهم. يجدر بالذكر أن دولا خليجية، في مقدمتها السعودية، بدت غير راضية عن اتفاقية الـ25 عاما بين الصين وإيران، التي أبدت بدورها غضبا شديدا إزاء توقيع الرئيس الصيني علي البيان الختامي للقمة المشتركة التي جمعته بقادة دول مجلس التعاون. فقد أكد البيان “مشاركة دول المنطقة في معالجة أزمة الملف النووي الإيراني، والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار، والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية والتنظيمات المسلحة غير الشرعية، ومنع انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة”. كما أكد على دعم “الجهود السلمية كافة، بما فيها مبادرة ومساعي دولة الإمارات العربية المتحدة للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى…”.

ولعل السؤال يتعلق بقدرة الصين على الوقوف على مسافة واحدة بين أطراف المعادلة إذا أرادت أن تكسب سياسيا، وما إذا كان القرار سيُتخذ بناء على الكفة الأرجح في معادلة المال والتجارة.

ما بين النجاح والفشل

    إن أبرز ملمح للاتفاق الإيراني السعودي هو أنه يأتي بعيدا عن التدخل الأميركي، وجاء من بوابة أكبر منافس لها وهو الصين.

    لا يمكن لهذا الاتفاق أن ينهي حالة التنافس بين البلدين لكنه قد يفلح في إدارتها بأقل الخسائر للجانبين.

    من عوامل نجاح الاتفاق أن يتم الإقرار بأن عودة الأمن والسلام إلى سوريا والعراق واليمن ينبغي أن يكون عملًا جماعيًّا ضمن آليات جديدة يكون لإيران فيها دور أساسي.

    من المرجح أن تكون اليمن هي مدخل اختبار نجاح أو فشل هذا الاتفاق. فإيران تريد مساحة أكبر للدور السياسي لأنصار الله في مستقبل اليمن وحكومته إذا ما جرى التوصل إلى حل سياسي. لذلك، فإن الحل السياسي المنشود في اليمن تشترط فيه إيران جلوس اللاعب الحوثي عضوًا أساسيًّا وليس “محاربًا بالوكالة”. فالاستراتيجية الإيرانية تجاه اليمن تقوم على شقين: الأول، تقديم نفسها دولةً قادرةً على لعب دور بنَّاء ومؤثر في صياغة حل سياسي في اليمن. والثاني، دعم وحماية حلفائها وتمكينهم بشتى الوسائل للحيلولة دون إقصائهم من الساحة السياسية بالقوة.

    في المقابل، تحتاج إيران إلى تقديم ما يثبت حسن نواياها وجديتها في طرح “أولوية الجوار”. وتحتاج السعودية إلى تقديم ضمانات بعدم استهداف إيران ضمن مشاريع معادية مع اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

    هذا الاتفاق لن يجعل إيران تتنازل عن نفوذها الإقليمي، بل سوف تسعى إلى توظيف هذه المحادثات لتعزيز مواقع حلفائها، وقد يكون القبول بالنظام السوري وإعادة العلاقات معه أبرز ملامح هذا التوجه.

    سيكون على السعودية أن توقف دعمها لمحطات فضائية ممولة من قبلها كان لها دور تحريضي في المظاهرات التي حدثت في إيران في الأشهر الماضية، وهو ما بدأ يحدث فعلا.

    إن الانسحاب الأميركي المتدرج من المنطقة قد أحدث ارتباكًا لدى حلفاء واشنطن الذين ربطوا أمنهم، على مدى عقود، بالعلاقة معها، ما جعلهم اليوم أمام تحدي إعادة تعريف علاقاتهم الإقليمية بناء على هذه التطورات. ومع ذلك، ستبقى أزمة العلاقات الإيرانية – الأميركية وتطوراتها مؤثرة على طبيعة علاقات إيران والسعودية، سواء جرت العودة إلى المحادثات النووية وإحياء الاتفاق النووي أو تعثرت تلك المحادثات وأفضت إلى تصعيد بين الجانبين.

    قد يقود نجاح الاتفاق الإيراني السعودي إلى مراجعة مسار التطبيع والحد من الحضور المتزايد لإسرائيل في منطقة الخليج، وهو الحضور الذي ترى فيه إيران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.

    قد يكون ربط الاتفاق بمصالح اقتصادية للبلدين مدخلا لإنجاح عودة العلاقات الإيرانية السعودية.

    ليس مؤكدا أن تقود عودة العلاقات الدبلوماسية إلى إيجاد حلول لكل ملفات الخلاف، وقد لا يتعدى إنجاز هذا الاتفاق مساحة “السلام البارد” بين البلدين. لكن الخطير سيكون في حال فشل الاتفاق، لأن الفشل سيقود إلى مستويات من التوتر تتجاوز التنافس نحو الصراع.

فاطمة الصمادي

باحثة وأستاذة جامعية أردنية مختصة في الشأن الإيراني، حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة علامة طباطبائي في إيران. لها عدد من الكتب والأبحاث المتعلقة بالشأن الإيراني. تعمل حاليا باحثا أول في مركز الجزيرة للدراسات وتشرف على الدراسات المتعلقة بإيران وتركيا ووسط آسيا.

—————————

الصين تبادر لـ”ملء الفراغ” الأميركي/ بيكي شين

كان اتخاذ القرارات بناء على منظور استراتيجي، الميزةَ الرئيسة للصين. كان هذا فعالاً وحاسماً بشكل خاص في عقود التنمية المطردة على الرغم من تعقيدات المشهد الدولي. إذا وضعنا تفكير الصين ورؤيتها الاستراتيجية في السياق الصيني – العربي الذي أبرزته زيارة الرئيس تشي جينبينغ على رأس وفد كبير للسعودية في نهاية عام 2022، لأمكننا أن نرى أن الموقع الاستراتيجي للمملكة في العالم العربي لدى الصين ارتفع إلى مستوى جديد. هدفت الزيارة إلى حضور قمة ثنائية والقمة الصينية – العربية والقمة الصينية – الخليجية، ومثّلت أكبر وأعلى وفد صيني يزور العالم العربي منذ عام 1949.

جاءت القمّتان وزيارة الدولة للرياض، في وقت مثالي تتصاعد فيه العلاقة بين الصين والدول العربية، بينما يتراجع الوجود الغربي وتأثيره. وستسعى الصين والسعودية، على وجه الخصوص، لإظهار كيف يمكن للاستراتيجيات القائمة على البراغماتية أن تكون حجر الزاوية للاستقلال الفعال والسيادة.

استفادت الصين من عقود الإصلاح والانفتاح مع سياسة خارجية مستقلة ومسالمة وفق مبادئ التعايش السلمي. محليا، عزّزت التنمية الاقتصادية القوية والمطردة في الصين تشكيلا قويا للاستقرار الاجتماعي والأمن، فيما تمكّنت الصين على الصعيد الخارجي من الحفاظ على دور لها في قوات حفظ السلام في إطار الأمم المتحدة، وبالتالي ساهمت في منع الحروب أو صراعات الاستنزاف. ذلك لأن الصين واعية تماما أن إعطاء الأولوية للتنمية الخاصة بها، مع وضع الأمن كأساس، هو مفتاح بناء الروافع الاستراتيجية.

ترى الصين أن السعودية تقف الآن عند مفترق طرق، حيث تتمتع الدولة بوضع متميز لتعزيز استقلالها واستقلاليتها في صنع السياسات المحلية والخارجية. كانت المملكة، ومنذ عام 1932، تضع الولايات المتحدة أو الغرب بشكل عام في صدارة علاقاتها الخارجية. لكننا حين نتأمل الماضي، نرى أن إطار النفط مقابل الأمن كان نهج الولايات المتحدة لتعزيز مصلحتها في المنطقة على حساب أمن الدول الإقليمية وفرص التنمية. لكن السعودية ترى اليوم كيف أن تركيزها غير المتوازن على الولايات المتحدة أو مجموعة بعينها من الدول، لن يؤدي إلا إلى عدم الفاعلية في صنع السياسات.

نتيجة لذلك، عندما بدأت الولايات المتحدة تلوم المملكة لخفضها إنتاج النفط، حيث قدّم السعوديون مصالحهم الخاصة على مصالح الولايات المتحدة، أدركت المملكة بالفعل أن إعطاء الأولوية لمصالحها التنموية سيكون سياسة أكثر براغماتية وخيارا أكثر فائدة. في هذا الصدد، بات خيار الصين في التنمية الاقتصادية، سواء في أشكال التنمية الصناعية الخاصة بها أو في الشركات التي تذهب إلى الخارج في إطار “مبادرة الحزام والطريق”، مثلا حيا يحتذى.

استطاعت الصين أن تكيّف استراتيجياتها في كل من التنمية المحلية والعلاقات الخارجية على أساس التغيرات في الديناميكيات الإقليمية، وهذا ما يعكس إنشاء إرادة قوية للسيادة والاستقلال. من جانب آخر، تعزز قدرات الصين مستوى السيادة والاستقلال الذي يجب على الدولة أن تبنيه. لا بدّ أن تُظهر هذه القدرات، بشكل خاص، إمكانات الدولة في توفير الأمن والمصالح التنموية لشعبها.

وفي حالة المملكة تمرّ البلاد في مرحلة تحول عميق وإصلاح وانفتاح، لذلك من المتوقع ان تتجه أهدافها نحو الاعتماد على الذات بدرجة كبيرة في مجالي الأمن والتنمية الاقتصادية. وبديهي ألا تتبع السعودية بشكل صارم مسار الصين بسبب تباين الظروف الوطنية الخاصة بكلّ منهما، لكن نتائج القمّتين وزيارة الدولة التي قام بها الوفد الرفيع المستوى، تبيّن أن الإجماع على بناء مجتمعات ذات مصير مشترك بين الجانبين سيربط القوتين الصاعدتين بشكل أعمق على أساس تفاهم مشترك أمتن.

“حزام وطريق”

احتلّت المملكة مكانتها كأكبر شريك تجاري للصين في منطقة غرب آسيا وأفريقيا في السنوات الأخيرة على الرغم من كون العلاقات التجارية بين البلدين لا تزال حديثة العهد. اليوم، مع تقدّم مشروع رؤية المملكة العربية السعودية 2030 القائم على قدم وساق، غدت الدولتان قادرتين على إيجاد المزيد من الفرص للعمل معا في مجالات التجارة والتمويل وبناء القدرات والبنية التحتية وغيرها. في هذه الأثناء، يمكن لتجربة الصين في مجال بناء البنية التحتية وتطوير التكنولوجيا المتقدمة أيضا، أن تكون دليلا للمملكة العربية السعودية لتطوير صناعاتها بطريقة أكثر استقلالية.

لكن طموحات الصين لبرنامج البنية التحتية العالمية، المعروف باسم “مبادرة الحزام والطريق”، قد أسيء تقديرها في أنحاء كثيرة من المجتمع الدولي.

فقد أساء الغرب الحكم على مبادرة الحزام والطريق ووسمها بأنها قضية سياسية وأمنية بحتة، وخصوصا في أوروبا. ربما يكون من المفيد تذكر بعض الأسماء البديلة التي فكر برنامج الاستثمار الدولي لبكين في اعتمادها – “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”. فكما هو واضح، فإن طموح المبادرة متجذر في التنمية الاقتصادية، لأنها تسعى إلى تحسين الطرق من الصين إلى أوروبا، برّا بوساطة شبكة السكك الحديد، وبحرا – وهذا كان أكثر إثارة للجدال – عبر الممرات المائية الدولية. إنها ليست طريقة لتحقق بكين نفوذا سياسيا في بروكسيل أو واشنطن.

الدول الأخرى التي لديها نزاعات إقليمية مع الصين، وخاصة حول الممرات المائية التي تغطيها “مبادرة الحزام والطريق”، أعربت أيضا عن شكوكها، ليس أقلها اليابان وفيتنام والولايات المتحدة وأوستراليا. تميل هذه الدول إلى تحديد علاقتها مع الصين من خلال المنافسة والمواجهة. وهي ترى أن موجة الاستثمار الدولي لمبادرة الحزام والطريق في الموانئ والبنية التحتية تمثل عرضا للطموح العسكري وتهديدا استراتيجيا وأمنيا محتملا على المدى الطويل.

لكن ذلك ينطوي على عدم احترام نيات الصين المعلنة، التي تعتبر أساسية في تقرير الحكومة عن “مبادرة الحزام والطريق” حين أطلق المشروع في عام 2017. فهي تريد أن توفر مصالح أمنية مشتركة ونظاما بحريا مستداما مع الدول على طول طريقها. تتعارض الرواية السائدة في الغرب حول مبادرة الحزام والطريق والتصور الذي تخلقه، مع استراتيجيا الصين الطويلة الأمد ومبدئها – التنمية السلمية والديبلوماسية.

يعود سوء التفاهم إلى العديد من الاختلافات الجوهرية بين الغرب والصين. بعض هذه الاختلافات بيّن وجلي، ليس أقلها أنظمتها السياسية المختلفة ومواقعها العسكرية. هناك المزيد من المجالات حيث يمكن لوجهات النظر المتناقضة أن تؤدي إلى تصورات متعارضة مع النيات وإلى سوء فهم أعمق. لكن هناك أيضا عوامل أخرى تؤدي إلى نتائج مماثلة. وهي تشمل أنماطا مختلفة من التفكير واللغات والثقافة. التاريخ مهم أيضا، ولا سيما طريقة تذكر الحرب وإدراك الصراع. يمكن أن يكون هذا هو العامل الأساسي في خلق الفجوات واستدامتها في الإدراك الدولي، لكنه يمكن أن يكون أيضا الطريق الواعد لردم هذه الفجوات من خلال فهم دولي أفضل.

مع هذا التقدم أو بدونه، من المحتمل أن يكون هناك مزيد من الاحتكاك في تطوير مبادرة الحزام والطريق، التي ستستمر في تلقي النقد ومواجهة التحديات. لكن مشروع طريق الحرير البحري الحادي والعشرين سيظل من أهم الاستراتيجيات الخارجية للصين وسياستها البحرية الأكثر حيوية، حيث يحقق غرضين رئيسيين فوريين: تأمين مكاسب اقتصادية وحماية أفرادها وأصولها على طول الممرات البحرية الرئيسية وخارجها. وستواصل الصين مهمتها للاستثمار في مشاريع البنية التحتية البحرية والموانئ في الخارج.

منظوران للأمن

مع ذلك، لا يزال احتمال سوء الفهم الدولي لـ “مبادرة الحزام والطريق” قائما، ويمكن أن يكون له تأثير مهم على كيفية تطورها. إن تتبع جذور “المبادرة” من منظور الصين، وتخطيط تطور سياستها الخارجية واستراتيجيتها البحرية، لا يمكن إلا أن يساعد العالم في تبيّن الوضوح في شأن التنمية الدولية خلال العقود المقبلة.

فالصين تتمتع، بادئ ذي بدء، بثقافة أمنية داخلية تعطي الأولوية لاستقرار المجتمع من أجل تعزيز مصالح شعبه. وهي، كدولة نامية ذات عدد سكان يصل إلى 1.4 مليار نسمة، يبقى الحفاظ فيها على مستوى عالٍ  من الأمن العام أمرا أساسيا لتأسيس الأمن القومي وأمن الدولة في نهاية المطاف. يتصدر أمن الصين نفسها قائمة مصالحها الجوهرية. وهي تعتقد أن البيئة المتناغمة شرط أساسي لتنميتها الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. هكذا قادت الصين، في المجال البحري، ثقافة مماثلة للحوكمة التعاونية في خططها التنموية مع الدول الشريكة على طول طرق مبادرة الحزام والطريق.

ولكن على الضدّ من ذلك، ثمة لدى الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ثقافة أمنية خارجية، حيث يأتي إحساسها بالأمان من إبقاء التهديدات المتصورة خارج البلاد أو بعيدا عن تحالفاتها. بهذه الطريقة، يمكن لمثل هذه الدول أن تخطئ في قراءة رغبات الصين في فتح الطريق أمام تنميتها الإقليمية الدولية باعتبارها تهديدا خارجيا محتملا جديدا لها. يعرّف هذا المنظور مسبقا الصين على أنها تنافسية ومتحدّية، ما يؤدي إلى التوتر والعداء المحتمل في أعالي البحار. ولا يساعد في أن تجربة الولايات المتحدة الخاصة في إدارة مصالحها البحرية تأتي من مياه غير مدوّلة، على عكس العديد من تلك الموجودة في جميع أنحاء الصين.

“إدارة” أو “سيطرة”؟

لا تشاطر الصين الغرب ذكريات الحرب نفسها وفهم الصراع نفسه. فالصين التي لم تبادر إلى شن أي حرب على الإطلاق، هي في واقع الأمر أكبر مساهم في عمليات حفظ السلام بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعدد جنودها البالغ أكثر من 2000 جندي، يقومون بمهام نشطة في حفظ السلام. هذه العوامل هي التي تحدّد وجهة النظر الصينية. وسيظل مفهوم “الوئام” الثقافي جزءا لا يتجزأ من سعي الصين الى تطوير ممراتها وقواعد دعمها البحرية في الخارج، في الوقت الذي يجري فيه إنشاء طريق الحرير البحري الحادي والعشرين، المترافق مع تطورٍ تدريجي في قوة الصين البحرية في إطار استراتيجيتها التي تهدف لبناء دولة بحرية قوية. كل ما سبق، يشكل ركنا من أركان استراتيجيا الصين الديبلوماسية الشاملة التي ترتكز على الازدهار والتنمية القائمين على السلام.

فثقافة الأمن الصينية لا تعكس بيئة واقعية وحالة وطنية ذات خصائص صينية فحسب، بل تعكس أيضا العقل الاستراتيجي الذي يوجه حكومتها، والذي يمكن أن يعمل على نحوٍ مختلف بسبب الفروق الدقيقة التي أوجدتها اللغة الصينية. إذ يمكن لذلك العقل أن يوفر طريقة تفكير أكثر شمولاً وعمقًا في ظل توفر إطار أوسع مناسب طبيعيا لتشكيل اعتبارات على المستوى الشامل. إن ذلك الإطار مناسب تماما لتطوير الاستراتيجيات والأهداف العامة.

تفضل اللغة الإنكليزية التفاصيل، الأمر الذي يشكل تناقضا صارخا مع اللغة الصينية. فالإنكليزية تشجع الناس على تبسيط أساسيات أي قضية. ويمكن لذلك أن يفضي إلى ميل الولايات المتحدة إلى أن تقصر قرارات هيئاتها التنفيذية على أهداف صغيرة ومحددة. في المقابل، تشير الآثار المترتبة على هذه الاختلافات الثقافية واللغوية في المجال البحري، إلى تركيز الصين على الأهداف الكبرى مثل إقامة شراكات جديدة مع الدول على طول الطرق، بينما تظل الولايات المتحدة حبيسة التفكير في تركيزها على استخدام أسطولها البحري في بحر الصين الجنوبي أو في مضيق ملقا أو قناة بنما لمواجهة الصين.

تؤدي هذه الفروقات في التفكير تدريجيا وفي نهاية المطاف، إلى توسيع فجوات الإدراك بين البلدين وقد تخلق إمكانا متزايدا لنشوء سوء تقدير جيوسياسي وأمني. ويمكن إدراك تلك الفروقات أثناء العمل عندما تحدد الصين أدوار تلك الموانئ أيضا على أنها “مراكز بحرية” أو أماكن يمكن أن توفر الدعم اللوجستي اللازم للسفن العابرة الممرات البحرية لطريق الحرير. وينظر البعض إلى هذا الطموح على أنه ستار للقدرات العسكرية الصينية لأن مثل هذا التطور على طول طريق الحرير البحري سيمكن الصين من السيطرة على الممرات البحرية والرد على التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية بطريقة أكثر كفاءة وفعالية.

لكن بهذه الطريقة يُساء فهم مفهوم “السيطرة” في السياق الاستراتيجي الصيني. إذ تتعارض دلالة المصطلح باللغة الإنكليزية مع مبدأ الصين الأساسي المتمثل في التعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ذات السيادة. هناك كلمة تعبّر عن الفكرة على نحوٍ أفضل ألا وهي: “الإدارة”. فكلمة إدارة تعبر على نحوٍ أفضل من  كلمة “السيطرة” عن نهج الصين تجاه مصالحها والاخطار التي تتعرض لها تلك المصالح.

يتجلى ذلك على نحوٍ واضح في الحالات التي تمثل فيها الشركات التي تملكها الدولة، على نحوٍ رئيسي الموانئ المعنية، والتي تلعب دورا داعما وبنّاء في التنمية الاقتصادية وتوفير الأمن عندما يتعرض الموظفون والأصول الصينية إلى خطر. ويعتبر ميناء جوادر في باكستان مثلا على كيفية مساعدة الصين في تعزيز التنمية الاقتصادية المحلية من خلال الدمج الفعال بين الممر الاقتصادي والميناء مع توفر إمكان الافادة من نقطة وصول أفضل إلى مضيق ملقا، الذي يلعب دورا مهما في واردات الصين من الطاقة والموارد الآتية من الشرق الأوسط وأفريقيا.

تُظهر القاعدة الصينية في جيبوتي أيضا كيف أن نيات الصين تتمثل في “الإدارة” بدلا من “السيطرة”. فهي تدعم البحرية الصينية في عمليات الحراسة المنتظمة وفي عمليات مكافحة القرصنة والتهديدات الأخرى العابرة للحدود. كما تم استخدامها في إجلاء المدنيين الصينيين.

شأن داخلي…وموانئ تجارية

تمثل تايوان جزءا مهما من الجغرافيا السياسية المتعلقة بكل ذلك، إذ أن إعادة توحيد البر الصيني الرئيسي مع الجزيرة لم تتمّ بعد.

ويمكن أن يؤدي توسع نفوذ الجيش الصيني وتمتع الصين بقدرة أعمق على الصعيد الدولي إلى ما يمكن أن يُعتبر تدخلا أجنبيا في شأن داخلي. وستظل سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ركنا أساسيا من أركان العلاقات الدولية وسيكون من مصلحة الصين الأساسية من جميع النواحي التزام مثل هذا المبدأ في سياستها الخارجية. وتتوقع الصين من الدول الأخرى في مقابل ذلك أن تفعل الشيء نفسه.

بناء عليه، فإن تحويل الموانئ التجارية إلى موانئ ذات طبيعة عسكرية واضحة أو زيادة القوة البحرية الصينية إلى حد كبير سواء في غرب سنغافورة أو في القرن الأفريقي لن يكون مطروحا على جدول أعمال الصين على الأقل في المدى المنظور.   

وسيظل التطوير التجاري والدعم اللوجستي الوظيفة الرئيسة للموانئ والقواعد البحرية الصينية الواقعة على طول الطرق البحرية. وتتمثل الاستراتيجيا الصينية من منظور اقتصادي ومنظور خط التوريد في إقامة تواصل عالمي بين الصين والدول الواقعة في جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا والمحيط الهادئ وأميركا الشمالية والجنوبية وغرب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. يتمتع ذلك بأهمية حاسمة للتنمية المستدامة في الصين. كما يشكل اقتصاد الصين الأزرق (استخدام الصين للمحيطات ومواردها) نحو 10 في المئة من الناتج الاقتصادي القومي. ويعتمد ما يقرب من 90 في المئة من حجم تجارة البلاد الخارجية على النقل البحري أو الشحن. كما تحتاج الصين إلى خط إمدادٍ آمن. فأهم وارداتها النفط الخام الذي يأتي عبر الطرق التي تمر ببحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي آتيةً من الشرق الأوسط وأفريقيا. وسيستمر الطلب على النفط في النمو خلال العقد المقبل.

ينبغي توفير الطعام لسكان الصين البالغ حاليا 1.4 مليار نسمة. لذلك تتمتع طرق الشحن الآمنة والمستدامة بأهمية بالغة. بلغت قيمة واردات الغذاء أكثر من 100 مليار دولار في عام 2021. وستستخدم الصين في المدى القريب وفي المدى المتوسط الشركات التي تملكها الدولة لتطوير وإدارة موانئ “مبادرة الحزام والطريق” ونقاط المؤازرة التي تقيمها جنبا إلى جنب مع ممرات الطرق البرية والممرات البحرية بهدف خدمة المصالح الاقتصادية والأمنية. وستحصر البحرية الصينية دورها في حماية مصالح الصين الخارجية من خلال تخفيف الاخطار الأمنية التقليدية وغير التقليدية في البحر وإقامة شريان حياة يمكن استخدامه عند الحاجة. يذكر في هذا الصدد، واستنادا إلى خبرة المؤلف في هذه المجال، أن القطاع الخاص قد يلعب دورا أكبر في إدارة الأخطار وحماية المصالح الخارجية على طول “مبادرة الحزام والطريق”، الأمر الذي سيؤدي إلى عدم إضفاء الصبغة السياسية على جهود الصين الخارجية.

ثنائية عالمية… وتعددية

من غير المحتمل أن تنتهي الفروق في طبيعة السرد بين الغرب والصين، فهي ضارية الجذور في الاختلافات الجوهرية الكامنة في اللغة والثقافة والرؤية. ومن المرجح أن يستمر الحديث عن “المواجهات” وعن “الحرب”.

يمر العالم بفترة تتصف بانعدام ثقة عميق على المستوى السياسي. فالثنائية القطبية تتمتع بزخم يفوق زخم تعدد القطبية في تأمين الاتفاقات المتعلقة بالسياسة والمصالح الوطنية. نحن نعلم أيضا كيف يمكن للتحالف الغربي أن يتّحد بسرعة عندما يشعر بحاجة إلى ذلك. وليس هذا أمرا سيئا في الضرورة بالنسبة الى الصين، التي تتعامل مع الدول بروح من الاحترام المتبادل ومن خلال آليات في إطار أطر الأمم المتحدة لتعزيز السلام والازدهار الدوليين.

تتمتع الصين أيضا بسياسة طويلة الأمد. فقد اختتم المؤتمر الوطني العشرون أعماله قبل زمنٍ قصير وستواصل القيادة التزامها الكامل تحديث قدرات الصين بالإضافة إلى استراتيجيا خارجية ترتكز على البراغماتية. يجب أن يأتي تطوير وتحديث قواعد الاشتباك باستمرار على أساس إقليمي بين الصين والغرب في مقدمة جدول الأعمال، كي يظل كلا الجانبين في أفضل حالٍ من الناحيتين الديبلوماسية والعملية.

 إن تطوير واستدامة طريق الحرير البحري الحادي والعشرين سيكون دليلا واضحا ليس فقط على قدرة الصين وحسن نيتها السياسية، بل أيضا على إقامة هيكل حكم عالمي مناسب لعالم متعدد الأقطاب تنضم إليه كل القوى الناشئة والمتقدمة.

قاعدة جيبوتي:

للإدارة أم السيطرة؟

تُظهر القاعدة الصينية في جيبوتي كيف أن نيات الصين تتمثل في “الإدارة” بدلا من”السيطرة”. فهي تدعم البحرية الصينية في عمليات الحراسة المنتظمة وفي عمليات مكافحة القرصنة والتهديدات الأخرى العابرة للحدود. كما تم استخدامها في إجلاء المدنيين الصينيين في سيناريوهات في غاية الخطورة كأزمة اليمن في 2015.

تجدر الإشارة إلى أن جيبوتي لا تستضيف فقط قوات عسكرية صينية بل أيضا قوات من دول أخرى بما في ذلك الولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، وستنضم السعودية وتركيا إلى قائمة الدول التي تحتفظ بقوات هناك في المستقبل.

ثمة افتراضات بأن هذا الشكل من الإدارة على طول طرق “مبادرة الحزام والطريق”، سيؤدي إلى سيطرة صينية فعالة وإلى زيادة محتملة في ميزة الصين التنافسية، وإلى نيتها في أن تصبح قوة بحرية قوية أو مهيمنة من خلال بناء قدرات عسكرية في الموانئ. لكن هذا يعتمد على عقلية الولايات المتحدة في استخدام الأمن كحصن في مواجهة التصورات بالتهديدات الخارجية. وهذا ما يتناقض مع ثقافة الأمن الداخلي في الصين.

إن الخطأ في قراءة كل الظروف المحيطة بهذه الموانئ وقراءة نيات الصين، يسيء أيضا فهم ما هو في مصلحة الصين حقا.

أولا: تعني زيادة تطوير القدرات العسكرية زيادة الإنفاق، الأمر الذي يتعارض مع سياسات الإنفاق الصينية أيضا. فالصين تخصّص قدرا منخفضا نسبيا من ناتجها المحلي الإجمالي لتمويل التحديث العسكري.

ثانيا: تعرف الصين تمام المعرفة النتائج الإقليمية المترتبة على اتباع سياسة العسكرة نظرا لحقيقة أن تحقيق أي هيمنة على النمط الأميركي لن يؤدي إلا إلى تعزيز حساب القوة المحتملة على حساب الوسائل الديبلوماسية المفضلة لدى الصين للحفاظ على موقعها في النظام الإقليمي، وهذا من شأنه أن يتسبب بزعزعة الاستقرار، التي لن تفيد مصالح الصين في أي حال من الأحوال.

ثالثا: قد يؤدي بناء قدرات عسكرية أقوى أو التحسب لضرورة القيام بدور الشرطي في المنطقة إلى طمس معالم أفضلية الصين البادية للعيان التي تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. ويمكن توسيع إطار حد حفظ السلام في ظل الأمم المتحدة مع كل ما يترتب على ذلك من اخطار قانونية دولية.

المجلة

——————————

اتفاقٌ ثوري؟/ مهى يحيَ

توصّلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية إلى اتفاق قضى باستئناف علاقاتهما الدبلوماسية بعد قطيعة دامت سبع سنوات. وانطوى هذا الاتفاق على مفاجأتَين هما أولًا الوساطة الصينية في إبرامه، وثانيًا توقيته في هذه المرحلة بالذات. فهذه هي المرة الأولى التي تتدخّل فيها بيجينغ بهذه القوة في دبلوماسية الشرق الأوسط، وتزامن ذلك مع مساعٍ أميركية لزيادة الضغوط على إيران من خلال توسّطها بين السعودية وإسرائيل تمهيدًا لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما.

صحيحٌ أن المصالحة السعودية الإيرانية فاجأت معظم الحكومات، لكنها في الواقع أتت نتيجة مفاوضات طويلة امتدّت عامَين على الأقل، ورعاها في البداية رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، واستضافتها أيضًا سلطنة عُمان. يُشار إلى أن الجانبَين قطعا علاقاتهما الدبلوماسية في العام 2016 بعد أن أقدم متظاهرون غاضبون على إحراق السفارة السعودية في طهران احتجاجًا على تنفيذ الرياض حكم إعدامٍ بحقّ رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر. ومنذ ذلك الحين، تدهورت الأوضاع بينهما، ولا سيما بعد الاشتباه بضلوع إيران في الهجوم الذي نفّذته طائرات مسيّرة على منشأة نفطية تابعة لشركة أرامكو في بقيق في أيلول/سبتمبر 2019.

وقد أكدّ الطرفان السعودي والإيراني، في البيان الثلاثي المشترك الذي أعلن استئناف العلاقات بينهما، على “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”. وأشار البعض إلى بنود أمنية سريّة مُلحقة بالاتفاق، شملت، كما يُزعم، التزام الجانبَين بالقرارات التي توصّل إليها السعوديون مع حركة “أنصار الله” (المعروفة بالحوثيين) حول الملف اليمني خلال المفاوضات المباشرة، إضافةً إلى تعهّد السعوديين بعدم تمويل الوسائل الإعلامية التي تسعى إلى زعزعة استقرار إيران، واتفاق الطرفَين على الإحجام عن دعم أي أنشطة من شأنها تقويض الطرف الآخر. كذلك، قرّرت الدولتان إعادة فتح سفارتَيهما وممثلياتهما خلال مدّة أقصاها شهران، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، فضلًا عن اتفاقية أخرى بشأن التعاون في سائر المجالات.

يبدو جليًّا أن السعودية ستحقّق مكاسب عدة من هذه الخطوة. فمن شأن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران أن يفتح باب التفاوض من أجل التوصّل إلى تسويات عدة في أماكن تحتّل أهمية جوهرية للأمن القومي السعودي، وأبرزها اليمن. كذلك، عزّزت السعودية علاقتها مع الصين، شريكتها التجارية الأكبر، من خلال منحها انتصارًا دبلوماسيًا. فخلال العقد الماضي، فاقت التجارة السعودية مع الصين حجم تجارتها المشتركة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما ساهم في توطيد علاقات بيجينغ مع دول المنطقة بشكل عام، ولا سيما بعد الزيارة الناجحة التي أجراها الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى المملكة في كانون الأول/ديسمبر 2022.

إضافةً إلى ذلك، يُفسح هذا الاتفاق المجال أمام تنويع الشراكات الأمنية والاقتصادية السعودية، فيما ينتقل العالم ببطء نحو حقبة ما بعد المواد الهيدروكربونية. في غضون ذلك، تفيد تقارير بأن الصين تساعد المملكة على بناء مصنع للصواريخ وتوسيع قدراتها العسكرية. ومن شأن تخفيض حدّة التوترات في المنطقة أن يسمح للسعودية بالتركيز على سياساتها المحلية وتنفيذ رؤيتها للعام 2030، بهدف التحوّل إلى مركز مالي واقتصادي وسياحي إقليمي ودولي، وتنفيذ تغييرات اجتماعية واقتصادية أساسية على المستوى المحلي.

على صعيد آخر، صدرت تقارير في صحيفتَي وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز عن سعي الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة إلى تسهيل إبرام اتفاق بين السعودية وإسرائيل لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما. ومن ضمن الشروط التي تطلبها المملكة حصولها على ضمانات أمنية أميركية، ومساعدتها في تطوير برنامج نووي مدني، وتخفيف القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة الأميركية إلى السعودية. وفي مؤتمر ميونخ الأمني الأخير، ربط وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان فشل الاتفاق النووي مع إيران برغبة المملكة في بناء برنامجها النووي الخاص. يُشار أيضًا إلى أن التقارب السعودي الإيراني يُحصّن الرياض من التداعيات الإقليمية الناجمة عن أي هجوم قد تشنّه إسرائيل على المنشآت النووية الإيرانية.

أما توقيت الاتفاق فقد كان مثاليًا لإيران، إذ إنها ترحّب حتمًا بتهدئة وتائر التوتر في خضم الأزمات التي تعصف بها، بدءًا من تدهور أوضاعها الاقتصادية، ومرورًا بالضغوط الدولية المتنامية التي تثقل كاهلها، خصوصًا بعد فشل محادثات إعادة إحياء الاتفاق النووي والتقدّم الذي تحرزه في تخصيب اليورانيوم، ووصولًا إلى الاحتجاجات التي عمّت البلاد طوال أشهر. إذًا، لم يكن مستغربًا أن يسجّل الريال الإيراني ارتفاعًا قاربت نسبته 21 في المئة عَقِب الإعلان عن المصالحة مع السعودية. كذلك، نقترب من مرحلة ستُستأنف خلالها رحلات أداء مناسك الحج، بمشاركة إيرانية أكبر هذا العام. يُشار إلى أن الإيرانيين نسبوا الفضل إلى الصين في تحقيق هذا الانتصار الدبلوماسي في إطار مساعيهم الأوسع الرامية إلى إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة، ولا سيما أن بيجينغ تساعد طهران أيضًا في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأميركية.

لا شكّ أن هذا التقارب أثار توجّسًا كبيرًا في الأوساط الأميركية والإسرائيلية، على الرغم من تصريحات واشنطن المُرحِّبة به. في الواقع، وجّه الدور الصيني في هذا الاتفاق صفعةً لإدارة بايدن، وقوّض مساعي إسرائيل الهادفة إلى إقامة تحالف إقليمي ضد إيران. ويتّسم ذلك بأهمية خاصة على ضوء هدف إسرائيل المعلَن بتوقيع اتفاقية سلام مع المملكة، على الرغم من التصريحات الواضحة الصادرة عن وزير الخارجية السعودي ومفادها أن هذا الأمر لن يحدث من دون التوصّل إلى حلٍّ في فلسطين، استنادًا إلى مبادرة السلام العربية التي أطلقتها المملكة عام 2002. يُشار إلى أن إسرائيل تنسّق عن كثب مع الولايات المتحدة بهدف التصدّي إلى إيران التي توشك على تطوير أسلحة نووية، حتى إن الجانبَين أجريا مؤخرًا تدريبات عسكرية مشتركة لهذه الغاية.

إذًا، تمكّنت الصين من تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير في الشرق الأوسط وسط حالة الجمود التي تهيمن على المنطقة، ونجحت في فرض نفسها كقوةً مؤثّرة على الساحة الدولية، وأظهرت أنها لن تتوانى عن التدخل سياسيًا حين تُملي مصالحها الاستراتيجية ذلك، وخفّفَت من وطأة الضغوط الممارَسة على حليفتها إيران. مع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت بيجينغ ستقدّم أي ضمانات في حال أقدم أحد الجانبَين على خرق بنود الاتفاق، ولا سيما البند الذي تعهّدت إيران بموجبه باحترام سيادة الدول العربية ووقف التدخل في شؤونها الداخلية. لكن، ونظرًا إلى انتشار وكلاء طهران في كلٍّ من العراق وسورية واليمن ولبنان، يُعدّ التدخل الإيراني في هذه الدول أمرًا واقعًا. لذا، يبدو أن الضمانة الوحيدة هي ربما عدم رغبة أيٍّ من الجانبَين في إثارة حفيظة الصين عند هذا المنعطف الدقيق.

أما السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو ما إذا سيؤدّي التقارب السعودي الإيراني إلى إبرام اتفاقات أخرى هدفها خفض التصعيد في المنطقة. فعلى وقع المفاوضات الدائرة بين السعوديين والحوثيين، هل يفضي الاتفاق الحالي إلى محادثات مباشرة بين المملكة والقوى غير الحكومية الموالية لإيران، مثل “حزب الله” في لبنان، كما ألمحت بعض التقارير الصحفية؟ وكيف سيؤثّر التقارب السعودي الإيراني على المفاوضات بشأن البرنامج النووي؟ وكيف سينعكس كل ذلك على الملف اللبناني؟ هل سيساعد الاتفاق في انتخاب رئيس للجمهورية ينال رضى إيران، أم سيتوصّل الجانبان السعودي والإيراني إلى تسوية ما في هذه المسألة؟ وماذا عن الشأن السوري؟ هل ستُدعى دمشق إلى حضور القمة العربية التي تستضيفها الرياض هذا العام؟ وهل من المتوقّع أن يجري فيصل بن فرحان زيارة إلى دمشق قريبًا، ما ينهي فعليًا عزلة سورية الإقليمية؟ وضمن أي شروط قد يحدث ذلك؟

لا يشير الاتفاق السعودي الإيراني فحسب إلى تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، بل ينبئ أيضًا بحدوث تحوّل كبير في الأوضاع الجيوسياسية الإقليمية، ويجسّد حالة الإعياء السائدة في المنطقة من النزاعات التي تمزّقها، ورغبة القوى الإقليمية في تولّي دفة القيادة من أجل رسم معالم مستقبل الشرق الأوسط. إلامَ ستؤول كل هذه المساعي؟ لا بدّ من الانتظار لمعرفة ذلك، ولكن للمرة الأولى منذ سنوات طويلة يبدو أن المستجدات الإقليمية تحمل بشائر تغيير ما..

——————————-

ماذا تعني الاتفاقية السعودية الإيرانية لسوريا؟/ محمود علوش

أحدثت الاتفاقية التي أبرمتها السعودية وإيران لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما بوساطة صينية هزة في الجغرافيا السياسية الإقليمية.

وبالنظر إلى أن البلدين انخرطا منذ عقود في صراع على النفوذ بالمنطقة، فإن أي تحول في العلاقات بينهما من شأنه أن يؤثر على مسار القضايا الإقليمية التي يلعبان دوراً بارزاً فيها.

قبل كل ذلك، من غير الواقعي الاعتقاد بأن الاتفاقية ستُحدث تغييراً جذرياً وفورياً في العلاقات السعودية الإيرانية لاعتبارين أساسيين:

    أولاً، نصت الاتفاقية على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض في غضون شهرين، ما يعني أن مُهلة الشهرين ستكون اختباراً لحسن النوايا بين الطرفين.

    ثانياً، ركزت بنود الاتفاقية بشكل أساسي على الأبعاد الثنائية في العلاقات كمسألة العلاقات الدبلوماسية والتعاون الثنائي في مجال الأمن والاقتصاد والتجارة من دون أن تتطرّق بوضوح إلى الأبعاد الإقليمية الأكثر تأثيراً على ديناميكية التوترات بينهما.

على سبيل المثال، أعرب البلدان عن حرصهما على بذل كل الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي، لكنّهما تجنّبا الخوض علناً في قضايا حساسة كمستقبل البرنامجين النووي والصاروخي لإيران وعلاقة طهران بوكلائها الإقليميين كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق. مع ذلك يُنظر إلى النقطة المتعلقة بالأمن الإقليمي على أنها إشارة لرغبة الجانبين في التعاون لتهدئة الخلافات الإقليمية وإدارتها بما يعود بالنفع على كليهما.

على افتراض أن البلدين سينجحان في اختبار الشهرين لتفعيل بنود الاتفاقية، فإن الآثار الإقليمية المترتبة عليها ستكون كبيرة. يُمكن توقع أن أكثر التأثيرات المتوقعة ستبرز في ملف اليمن.

من المرجح أن تنخرط الرياض وطهران في مساع مشتركة لإنهاء الحرب في اليمن بما يشمل ممارسة إيران ضغوطاً على الحوثيين لإقناعهم بإبرام اتفاق سلام يُنهي الحرب ويُعالج التهديدات التي يُشكلها الحوثيون للأمن السعودي والخليجي عموماً.

بدرجة أقل، يُعتقد أن تحوّل العلاقات السعودية الإيرانية سينعكس انفراجاً على الأزمة السياسية في لبنان. وفي العراق بطبيعة الحال، فإن تقارباً سعودياً إيرانياً سيُساعد بغداد في تكريس العلاقات المتوازنة التي تسعى لإقامتها بين جيرانها العرب وطهران.

مع ذلك، فإن تساؤلاً مهماً يدور حول التأثير المحتمل للتقارب الإيراني السعودي على مسألة إقليمية مهمة هي سوريا. هناك سببان رئيسيان يدفعان للتقليل من تأثير أي تحول سعودي إيراني على مسار الصراع السوري:

    أولاً، على عكس القضايا الإقليمية الأخرى كاليمن ولبنان، والتي تلعب فيها إيران والسعودية دوراً رئيسياً، فإن الدور السعودي في سوريا يبدو محدوداً مقارنة بالدور الإيراني.

    ثانياً، يلعب السياق الإقليمي والدولي المرتبط بإيران وتركيا وروسيا دوراً رئيسياً في تشكيل خريطة التأثير الإقليمي والدولي في سوريا.

وبالتالي فإن هذا السياق سيبقى مؤثراً بشكل أكبر على ديناميكية الصراع بمعزل عن السياقات الإقليمية الأخرى كالعلاقات الإيرانية والسعودية والانفتاح العربي المتزايد على نظام بشار الأسد.

مع ذلك، يُلاحظ أن السياق الإقليمي الجديد الذي ينشأ في سوريا والمتمثل بالتحولات التي تطرأ على مواقف الدول العربية تجاه نظام الأسد، يعمل على خلق هامش له لمنافسة السياق التركي الروسي الإيراني.

في ضوء ذلك، فإن التأثيرات المحتملة للتقارب السعودي الإيراني على سوريا يُمكن أن تظهر بشكل جزئي في السياق الإقليمي الجديد. قبل إبرام الاتفاقية السعودية الإيرانية، كانت الرياض قد بدأت بالفعل في إعادة تشكيل سياستها في سوريا وأعربت عن رغبتها في الانفتاح على الحوار مع النظام السوري لمعالجة الجوانب الإنسانية المرتبطة بالصراع وهو الدافع الرئيسي الذي قدمته المملكة العربية السعودية لتبرير تغيير سياستها تجاه النظام.

وبالتالي، فإن مسار الانفتاح السعودي على دمشق يمضي بمعزل عن الحالة الجديدة في العلاقات السعودية الإيرانية. ويرجع ذلك إلى اعتقاد الدول العربية بما فيها السعودية بأن الانكفاء العربي عن سوريا خلال السنوات الماضية أدى إلى تهميش الدور العربي ومساعدة القوى الإقليمية المنافسة كإيران في تعزيز حضورها السوري.

في ضوء التحولات الجذرية التي طرأت على العلاقات التركية العربية في العامين الأخيرين، فإن الأولويات العربية في سوريا باتت تتركز بشكل أساسي على كيفية الحد من التأثير الإيراني في سوريا ودفع الأسد إلى تقليص اعتماده على طهران، ومن غير المرجح أن يدفع التحول الجديد في العلاقات السعودية الإيرانية بالرياض إلى قبول التعايش مع الدور الإيراني في سوريا على المدى البعيد.

في غضون ذلك، فإن تركيز الأولويات السعودية على إنهاء الحرب المنهكة لها في اليمن، يجعلها أكثر اهتماماً بأن تلعب إيران دوراً لمساعدتها في دفع الحوثيين إلى طاولة المفاوضات لإبرام اتفاق سلام، وهو ما يُشير إلى أن طهران لن تجد حاجة إلى تقديم تنازلات للسعوديين في سوريا من أجل إصلاح العلاقات.

كما أنّه على عكس الصراع اليمني الذي تعاملت معه إيران كفرصة لممارسة مزيد من الضغط الإقليمي على السعودية، فإن سوريا تكتسب أهمية كبيرة للمشروع الإقليمي الإيراني كونها تُشكل أحد وصلات الممر البري للوصول إلى البحر المتوسط وتزويد حزب الله بالأسلحة، وبالتالي، فإن النفوذ الإيراني في سوريا لن يكون مطروحاً على طاولة التفاوض الإقليمي مع السعودية. ومع ذلك، فإنه سيكون بمقدور الرياض اشتراط مساهمتها في إعادة إعمار سوريا وإعادة تأهيل نظام الأسد عربياً بتوافق مع الإيرانيين على تقاسم النفوذ في سوريا بعد الحرب.

وكما أدى التعاون السعودي السوري إلى إبرام اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، فإن تعاوناً سعودياً إيرانياً في سوريا يُمكن أن يؤدي إلى نتيجة مشابهة. لكنّ حقيقة أن السياق التركي الروسي الإيراني يبقى مؤثراًُ بدرجة أكبر في ديناميكية النفوذ الإقليمي على سوريا، تجعل من الصعب على إيران والسعودية الوصول إلى تسوية لتقاسم النفوذ في سوريا بمعزل عن مصالح اللاعبين الآخرين كتركيا وروسيا.

    من غير المرجح أن تتأثر خريطة النفوذ الإقليمي على سوريا بشدة فيما لو نجحت إيران والسعودية في ترجمة الاتفاقية بينهما إلى إقامة علاقات ودية والتخلي عن سياسات التنافس الإقليمي السابقة. لكنّ ذلك، يُمكن أن يُساعد نظام الأسد في إقامة علاقات متوازنة بين طهران والدول العربية

من غير المرجح أن تتأثر خريطة النفوذ الإقليمي على سوريا بشدة فيما لو نجحت إيران والسعودية في ترجمة الاتفاقية بينهما إلى إقامة علاقات ودية والتخلي عن سياسات التنافس الإقليمي السابقة. لكنّ ذلك، يُمكن أن يُساعد نظام الأسد في إقامة علاقات متوازنة بين طهران والدول العربية.

في الواقع، لن تؤدي مثل هذه النتائج سوى إلى إعادة تأهيل نظام الأسد والحد من أي فرصة لإحلال سلام حقيقي في سوريا. علاوة على ذلك، فإن حدود الانفتاح السعودي والعربي على النظام السوري ستبقى مكبلة بالموقف الأميركي والغربي الرافض لإعادة تعويم نظام الأسد دولياً، ما يُقلص من قدرة الدول العربية على القيام بمبادرات عملية يُمكن أن تؤدي إلى إحداث تحول كبير في ديناميكية الصراع السوري والموقف الإقليمي. ومن غير المرجح أن تُقدم الدول العربية على الانخراط في جهود إعادة إعمار سوريا في حال استمرت العقوبات الأميركية والغربية على نظام الأسد.

أخيراً، فإن حقيقة أن الأسد لا يمتلك القدرة على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا حتى لو امتلك الرغبة تجعل الرهان العربي في الانفتاح عليه محفوفاً بمخاطر تُبدد بشكل كبير أي فوائد محتملة تتطلع إليها الدول العربية. ومن المفارقات أن الانفتاح العربي على الأسد، وإن كان دافعه الرئيسي تقليص اعتماد الأسد على طهران، يُساعد في الواقع إيران في الحفاظ على دورها في سوريا من دون أن تضطر إلى تقديم تنازلات مقابل إعادة تعويم الأسد.

تلفزيون سوريا

—————————-

البحث عن نفوذ دولي.. هل تصعد “عقيدة شي” المواجهة بين الصين وأميركا؟

الحرة – واشنطن

حين حطت طائرة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في السعودية، وحظي باستقبال ملفت من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في ديسمبر الماضي، بدا واضحا أن بكين ترسل إشارات لواشنطن، عن دور جديد يطمح إليه شي الذي فاز، الجمعة، بولاية رئاسية ثالثة.

الزعيم الصيني، البالغ من العمر 69 عاما، يعلم تماما أهمية الدور السعودي في الشرق الأوسط الملتهب، وأهمية المملكة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تعتبرها شريكا استراتيجيا في الحرب على الإرهاب، ودعامة استقرار للمنطقة.

ويبدو أن الرئيس الصيني بدأ فعليا في التحرك على الساحة الدولية بشكل مختلف يترجم ما يعرف بـ”عقيدة شي”، إذ استهل ولايته الثالثة بتتويج اتفاق يعيد العلاقات بين الرياض وطهران، بعد سنوات من القطيعة بين العدوين اللدودين.

وفي أهم الاجتماعات السياسية السنوية التي عقدت، الاثنين، في الصين، كشف شي عن توجه لمواجهة علنية مع الولايات المتحدة على الساحة الدولية، تحت ذريعة ما تروج له بكين من “ضرورة إصلاح النظام الدولي”.

وحين خطب شي، بعد أن أعلن فوزه بولاية ثالثة بإجماع الحزب الشيوعي، قال إن الصين “لا يمكن أن تتطور من دون العالم”، وأن العالم “بحاجة إلى الصين”.

ماذا يريد شي؟

يقول تحليل نشره موقع بلومبرغ إن الرئيس الصيني يرسم صورته كـ “رجل دولة عالمي”. وبعد ساعات من حصوله على فترة رئاسية ثالثة، رعت حكومته توقيع اتفاق تاريخي بين السعودية وإيران لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وسرعان ما عزا قادة الدبلوماسية الصينية نجاح أربعة أيام من المحادثات السرية في إحياء العلاقات الدبلوماسية بين الخصمين الرئيسيين إلى قيادة شي، قائلين إنها تظهر “تأثير قوة عظمى”.

ويقول موقع بلومبرغ إنه على الرغم من عدم وضوح تفاصيل الدور الذين لعبته بكين في هذا الاتفاق، فإنه يقدم دعما لمحاولات شي التوسط بين روسيا وأوكرانيا للوصول إلى اتفاق سلام ينهي الحرب التي أنهكت موسكو، ودمرت البنية التحتية في أوكرانيا.

لكن رغم أنه ليس من السهل اقناع الغرب الداعم لكييف بدور صيني حقيقي في التوسط لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، إلا أن شي قد يلتقي بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو، وقد يجري أول اتصال له مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي.

لكن الطموح الصيني للقيام بدور فعال عالميا، وخاصة في التوسط لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، يتطلب تفاهما قويا وواضحا مع الولايات المتحدة، وهو ما يشكل تحديا حقيقيا أمام طموح شي، خاصة أن الملفات العالقة بين واشنطن وبكين معقدة، ولن يتوقع الرئيس الصيني الحصول تنازلات أميركية، خاصة في ما يتعلق بملف تايوان، لأن شي يروج نفسه كقائد لدور صيني ينافس أميركا على زعامة العالم.

وكانت الصين كشفت الشهر الماضي عن خطة من 12 نقطة لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وهي وثيقة رفضتها معظم الحكومات الغربية، لكن زيلينسكي قال إنه مستعد للقاء شي لمناقشة الأمور بشكل أكبر.

الموقف الأميركي

ورغم أن واشنطن رحبت بالاتفاق السعودي الإيراني، إلا أن سياسييها لا يرون في ذلك دليلا على قدرة الصين في تبوء مكانة دولية تمكنها من قيادة مبادرات عالمية. فقد قال مسؤولون أميركوين إن ما جرى يرتبط بمصلحة الصين الاقتصادية، ولا يترجم إلى تحالفات دولية طويلة الأمد. وأي شيء يساعد على تهدئة المنطقة هو في مصلحة أميركا.

يشير هذا الموقف “اللامبالي”، بوصف مجلة بوليتكو، إلى أن الإدارة الأميركية حريصة على تجنب المخاوف من أن الصين تعمل على تآكل النفوذ الأميركي العالمي، في وقت تسعى فيه إدارة بايدن إلى تعزيز العلاقة مع الشركاء والحلفاء لمواجهة ما يسميه وزير الخارجية أنتوني بلينكين تهديد بكين لقواعد النظام الدولي.

ويؤكد مسؤولون أميركيون أن الاتفاق السعودي الإيراني الذي رعته بكين، لا يعني تراجع دور واشنطن في الشرق الأوسط، بل إن الولايات لمتحدة لا تزال منخرطة بشكل فعال في المنطقة.

ويشير المسوؤلون تحديدا إلى التدريبات العسكرية الأخيرة، وزيارات الدبلوماسيين الأميركيين للمنطقة، ومكالمة الرئيس بايدن مع سلطان عمان، في وقت سابق من هذا الشهر.

وبالنظر إلى الخطاب المتزايد حول الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين، فمن المهم الإشارة إلى أن لكل من واشنطن وبكين مصلحة في شرق أوسط مستقر، لأسباب ليس أقلها مركزية المنطقة في احتياجات الطاقة العالمية. كما أن للولايات المتحدة مصلحة أمنية أكثر، في حين أن للصين مصلحة اقتصادية أكثر.

إشكالية العلاقة مع واشنطن

يحاول الرئيس الصيني تحدي الولايات في ساحة المجتمع الدولي، وأن يقدم بكين كلاعب منافس لواشنطن. لكن شي يعي أن أي دور للتوسط في الحرب الروسية على أوكرانيا، لن ينجح من دون المرور عبر المكتب البيضاوي، حيث يجلس الرئيس الأميركي، جو بايدن.

وسيكون على الرئيس الصيني أن يتحدث مرة أخرى مع بايدن، في محاولة لوضع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين على أسس أكثر استقرارا.

في نوفمبر الماضي، وبعد سنوات من العزلة بسبب وباء كورونا، تمكن الرئيس الصيني من لقاء أكثر من 10 زعماء لأكبر اقتصادات العالم في قمم مختلفة في جنوب شرق آسيا.

وخلال اجتماعه مع بايدن في منتجع جزيرة بالي الإندونيسية، قدم شي نفسه على أنه “رجل دولة”، يجب أن “يفكر ويعرف كيف يتعامل مع البلدان الأخرى والعالم الأوسع”.

وتوقع العالم أن مرحلة ما بعد اجتماع بالي سيشهد تقاربا أميركا صينيا في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية، لكن هذا لم يحصل، بل ساءت الأمور أكثر من المتوقع.

ففي فبراير الماضي، رصدت الولايات المتحدة بالون تجسس صينيا في أجوائها، ما دفع بايدن لإصدار أمر بإسقاطه. وتبادلت واشنطن وبكين تصريحات متشنجة حول هذا الحادث، إذ اعتبرت الإدارة الأميركية أن الصين تنتهك السيادة الأميركية، وتحاول التجسس على مواقع حساسة، في حين اعترضت الصين على إسقاط البالون الذي قالت إنه أطلق لأغراض علمية وخرج عن السيطرة ليدخل أجواء أميركا.

لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل ما زاد الطين بلة، أن الولايات المتحدة عززت جهودها لمنع الشركات الصينية من الحصول على التكنولوجيا المتقدمة، وحذرت مرارا من أن بكين تدرس تزويد روسيا بالأسلحة التي يمكن أن تستخدم ضد أوكرانيا، وهو ما اعتبرته واشنطن تورطا صينيا مباشرا في الغزو. وهذا سيقوض جهود بكين لتصوير نفسها على أنها جهة فاعلة ومحايدة ويمكنها التوسط في السلام في القضايا الدولية.

معركة على النظام الدولي

تحمل الصين رؤية مختلفة للنظام العالمي، تقوم على أساس عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، خاصة ملفات حقوق الإنسان، وهي رؤية تعارض الفلسفة الأميركية للنظام العالمي الذي يجب أن يراعي حقوق الإنسان كأساس للعلاقات بين الدول.

ويقول، يون صن، مدير برنامج الصين في مركز ستيمسون، وهو معهد أبحاث في واشنطن، لصحيفة نيويورك تايمز، إن ما يجري الآن هو “معركة على مستقبل النظام الدولي”. مبينا أن الصين تقول إن العالم “في حالة من الفوضى لأن القيادة الأميركية فشلت”.

ومن خلال الاتفاق السعودي الإيراني، يقدم شي القيادة الصينية كبديل للنظام الذي تقوده واشنطن، إذ تروج بكين أن واشنطن “تقود العالم نحو حرب باردة جديدة”.

ويقول تقرير صحيفة نيويورك تايمز إن الرؤية التي وضعها شي هي تلك التي تنتزع السلطة من واشنطن لصالح التعددية، وما يسمى بعدم التدخل، وهي كلمة تستخدمها الصين للقول إنه لا ينبغي للدول أن تتدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، من خلال انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان.

ولا شك أن الاتفاق السعودي الإيراني يعكس هذه الرؤية الصينية. ويكشف عن تبدل كبير في دور الصين في المنطقة الذي كان متجذرا في تقديم المنافع الاقتصادية المتبادلة، بغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان، والابتعاد عن المثل الغربية لليبرالية، التي ترى بكين أنها عقّدت قدرة واشنطن على توسيع وجودها ونفوذها في منطقة الخليج.

نبرة الخطاب الصيني تجاه واشنطن

وفي الآونة الأخيرة، يبدو أن بكين اتخذت نهجا مختلفا في نبرة الخطاب تجاه واشنطن، فعلى الرغم من تدهور العلاقات الثنائية، عادة ما يتجنب الزعيم الصيني مهاجمة الولايات المتحدة بشكل مباشر، ويشير بشكل عام فقط إلى “الدول الغربية” أو “بعض الدول المتقدمة” بدلا من ذلك، وفق سي أن أن.

لكن عندما انتقد شي الولايات المتحدة أمام مجموعة من المستشارين الحكوميين يمثلون الشركات الخاصة، الأسبوع الماضي، أطلقت تصريحاته الحادة جرس إنذار للعلاقات المشحونة بالفعل بين الولايات المتحدة والصين.

وقال شي: “لقد احتوتنا الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وقمعتنا بطريقة شاملة، الأمر الذي جلب تحديات خطيرة غير مسبوقة لتنميتنا”، حسب زعمه.

وتشير انتقادات شي المباشرة بشكل غير عادي إلى تصعيد ملحوظ في بكين ضد واشنطن. وما يعزز ذلك أيضا، تصريحات وزير الخارجية الصيني الجديد، تشين جانج، التي حذر فيها من أنه إذا لم تتوقف الولايات المتحدة عن احتواء وقمع الصين، فمن المؤكد أن القوتين العظميين ستندفعان نحو “الصراع والمواجهة”.

وفي علامة أخرى على الموقف الصيني المتشدد، عينت بكين الجنرال لي شانغفو، وزيرا للدفاع. وهو شخصية كانت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، قد فرضت عليه عقوبات عام 2018، لدوره في  شراء أسلحة روسية، بما في ذلك طائرة مقاتلة من طراز Su-35 ونظام صواريخ أرض-جو أس -400.

عقيدة شي

منذ قدومه إلى السلطة، ركز الرئيس الصيني في كتاباته، وأفكاره على الترويج لعقيدته القائمة على أساس استعادة ما يعتبره “ثروة وقوة” الصين دوليا، حتى وإن شكل ذلك تحديا للغرب الذي يسيطر في العصر الحديث على الساحة الدولية.

وفي دراسة بعنوان “عقيدة شي جين بينغ للعلاقات الدولية للصين”، نشرتها مجلة سياسات آسيا عام 2019، حلل الباحث، فنغ تشانغ، تفكير الصين بشأن العلاقات الدولية من منظور عقيدة شي، آخذا بعين الاعتبار الآثار المترتبة على مشاركة الصين في النظام الدولي.

وتوصل  تشانغ  إلى أن عقيدة شي التي تشكل الفكر المتجسد في ملاحظاته وكتاباته وتعليماته، تعد مدخلا لتفكير الصين العميق حول العلاقات الدولية في المستقبل.

وبين أن شي والحزب الشيوعي الصيني اعتمدا على ثلاثة أطر معرفية أعمق بشأن دور بكين عالميا. أولها، ما يعرف بـ “التجديد الوطني” الذي يركز على استعادة “ثروة الصين وقوتها”. وأن الإطاران الثاني والثالث هما “المجتمع العالمي” و”المساهمة الصينية”، ويهدفان إلى تعزيز المصالح المشتركة، والمساهمة في الحوكمة العالمية، على التوالي.

وهكذا فإن عقيدة شي، بحسب الدراسة، تلقي بظلالها على تحديات العلاقات الخارجية للصين في القرن الحادي والعشرين، خاصة في ظل الدور الأميركي المسيطر على العلاقات الدولية.

وتشير الدراسة إلى أن الإطار المرجعي لما يعرف بـ “التجديد الوطني” ، والهادف إلى السعي إلى استعادة مكانة الصين الدولية، يتصادم مع الهيمنة الراسخة للغرب منذ فجر العصر الحديث. وهو ما قد يخلق توترا دوليا.

وثيقة من 36000 كلمة

بالعودة إلى الوراء قليلا، وتحديدا في نوفمبر 2021، أصدر الحزب الشيوعي الصيني علنا وثيقة طويلة مكونة من 36000 كلمة، مهدت الطريق للرئيس شي ليكون قادرا على تحقيق حلمه بحكم الصين مدى الحياة، وهو الهدف الأكبر بالنسبة للرجل الذي يسيطر على البلاد.

نشر الحزب الشيوعي الصيني النص، وهو قرار تاريخي أقره كبار المسؤولين في الجلسة العامة السادسة شديدة السرية للجنة المركزية التي عقدت آنذاك في بكين.

كانت الوثيقة عبارة عن مشروع قرار بشأن الإنجازات الرئيسية والتجربة التاريخية لمساعي الحزب الشيعي الصيني خلال 100 عام. وكانت أول إعلان رسمي عن التاريخ الصيني منذ أربعة عقود، شي نفسه سلم الوثيقة للحزب معتبرا أنها تمثل استراتيجيته لترسيخ الصين كقوة عالمية رائدة.

في تاريخ الصين، لم يكن هناك سوى شخصين آخرين قاما بكتابة وثائق تاريخية، هما ماو تسي تونغ، ودنغ شياو بينغ، واستمر كلاهما في الحكم بقية حياتهما، وهو مؤشر على أن شي يحذو حذوهما في الظفر بالسلطة مدى حياته.

كانت تلك اللحظة، أقوى إشارة يقدمها شي بأنه يطمح لفترة ولايته ثالثة، وهو ما حدث بالفعل، الجمعة، أي بعد نحو عام ونصف العام من إصدار الوثيقة.

ومنذ نشر وثيقة الـ 36000 كلمة، كرر الرئيس الصيني في أكثر من مناسبة مصطلح “إصلاح وبناء نظام الحوكمة العالمي”، وأعاد التأكيد على ذلك بعد الاتفاق السعودي الإيراني لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وفي خطاب ألقاه، الاثنين، أمام الهيئة التشريعية في الصين، دعا شي إلى تغييرات في نظام صندوق النقد الدولي، وكيانات دولية أخرى، قال إنها لا تعكس رغبات الدول النامية.

وقال شي إنه يتعين على الصين “المشاركة بنشاط في إصلاح وبناء نظام الحوكمة العالمي” وتعزيز “مبادرات الأمن العالمي”، وأكد أن ذلك سيضيف “طاقة إيجابية للسلام والتنمية في العالم”، حسب زعمه.

الرد الأميركي

تعتبر الولايات المتحدة الصين منافسها الرئيسي، وتسعى لثنيها عن القيام بأعمال عسكرية لا سيما في ما يتعلق بجزيرة تايوان، التي تطالب بها بكين، وتعتبرها جزءا من أراضيها.

وبحسب مسؤولين أميركيين، فإن الصين تريد أن يكون جيشها مستعدا للاستيلاء على تايوان، بالقوة إذا لزم الأمر، بحلول 2027.

ولمحاصرة خطط الصين، أعلنت الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة شراكة تاريخية لبرنامج الغواصات العاملة بالدفع النووي، وهي خطوة مهمة في مواجهة طموحات الصين العسكرية.

وقد أثارت الشراكة قلق بكين التي نددت ببرنامج التعاون محذرة من سلوك هذه الدول “طريقا خاطئا وخطرا”.

ويقول، راين هاس، وهو زميل أول في السياسة الخارجية بمركز دراسات سياسة شرق آسيا، الزميل غير المقيم في مركز بول تساي الصيني في كلية الحقوق بجامعة ييل، إن الصين واحدة من العديد من التحديات الملحة التي تواجه إدارة بايدن عام 2023.

ويضيف، في تحليل نشره معهد بروكنغز، إن البيت الأبيض يتعامل الآن مع تحديات لا تعد ولا تحصى، مثل الوباء، والهجرة الجماعية، والركود العالمي، والاحتباس الحراري، والحرب على أوكرانيا، ونقص الغذاء والطاقة، وتطلعات كوريا الشمالية وإيران النووية. لكن إدارة بايدن ستكون في وضع أقوى لإدارة تلك التحديات.

ويؤكد هاس أن الصين تقع ضمن تلك المجموعة من التحديات العالمية التي يجب أن تتصدى لها إدارة بايدن. مشددا على أن هذا الكم الهائل من المشكلات العالمية لا يعني منح الصين فرصة، أو التنازل عن القضايا الحساسة مثل تايوان أو التكنولوجيا أو حقوق الإنسان.

ويؤكد أنه يجب أن تظل واشنطن ثابتة في الدفاع عن المصالح الأميركية والقيم التي تشاركها مع أقرب شركائها.

ويوضح هاس أنه وفي نهاية المطاف، ستدخل الولايات المتحدة والصين في منافسة طويلة الأمد لتحديد نموذج الحوكمة الذي يمكنه حل المشكلات العالمية بشكل أفضل وتحسين حياة البشر.

ويشير إلى أن أميركا ستكون الأقوى عندما تقوم بتحسين وضعها في الداخل، وتحشد الجهود العالمية لمواجهة التحديات المشتركة، وهو نهج يختلف عن الصين التي تبحث عن المواجهة بغض النظر عن التبعات على العالم.

مخاظر بحاجة لتفاهم أميركي صيني

يعتقد هاس أنه من الأفضل لأميركا والصين اتخاذ خطوات عملية لتقليل المخاطر العالمية بدلا من النهج الذي تتبعه بكين في المواجهة والتنافس.

ويقترح أن يشمل ذلك التوصل إلى اتفاق حول حدود استخدامات التقنيات الجديدة والناشئة في المناطق التي يكون فيها كلا الجانبين عرضة للخطر، ولا توجد فيها قواعد في الوقت الحالي.

 وقدم هاس مثلا بالقول إن من مصلحة واشنطن وبكين الاتفاق على وضع قيود على استخدامات أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل. كما يمكن للجانبين الاتفاق على أن البشر يجب أن يكونوا مسؤولين عن جميع القرارات المتعلقة بالسلاح النووي.

كما أن كلا البلدين عرضة للأوبئة في المستقبل، ولديهما مصلحة ذاتية مشتركة في إنشاء شبكة عالمية لمراقبة الأمراض للكشف عن تفشي الفيروسات في المستقبل قبل انتشارها.

ويرى هاس أن هناك منطقا مماثلا ينطبق على ملف تغير المناخ، إذ يلعب الميثان دورا رئيسيا في ارتفاع درجات الحرارة. كما ستستفيد واشنطن وبكين من تجميع القدرات لتطوير البحث في تحديات وحلول الحد من انبعاثات الميثان.

ويعتقد هاس أن هناك مجالات حرجة دوليا يجب أن تفرض فيها المصلحة الذاتية المتبادلة أهدافا مشتركة، مثل الحد من القدرات النووية الإيرانية، وضمان تدفق الطاقة من دون عوائق، وزيادة الأمن الغذائي، ومكافحة تلوث المحيطات، والتنسيق بشأن أزمة الديون في العالم النامي.

ويؤكد أن النقطة الأهم هي أن هناك قائمة من القضايا حيث يمكن للجانبين اتخاذ إجراءات موازية أو منسقة بشأنها خدمة للمصلحة المشتركة بدلا من توتير الأجواء الدولية بالمنافسة وتعريض العالم للخطر.

الحرة – واشنطن

——————————

“هآرتس”: الأسد و”حزب الله” ينتظران جني ثمار الاتفاق السعودي- الإيراني

قالت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إن الاتفاق الإيراني- السعودي على استئناف العلاقات الدبلوماسية، هي أخبار “عظيمة” لرئيس النظام السوري بشار الأسد، و”حزب الله” اللبناني.

وأضافت في تقرير لها، أمس الاثنين، أنه بينما تمضي إسرائيل في موقف دفاعي على الساحة الدولية ضد إيران في سورية، ينتظر الأسد و”حزب الله” جني ثمار هذا الاتفاق، واصفةً إياه بـ “الاتفاق الدراماتيكي”.

واعتبر الكاتب والمحلل الإسرائيلي، زيفي باريل، في تقريره أن ترحيب الأسد و”حزب الله” باستئناف العلاقات الإيرانية السعودية، هو “دليل حاسم” على أن الهدف الأساسي من الاتفاق هو “إلحاق الأذى بإسرائيل”.

كما أن ترحيب واشنطن ودول أوروبية بذلك يشير، بحسب المحلل السياسي، إلى “مؤامرة دولية تسببت بها الاحتجاجات ضدّ مشروع التعديلات القضائية، التي تريد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إنجازها”.

وأضاف: “بينما تحاول إسرائيل لعب دور دفاعي على الساحة الدولية حالياً منتقدة الاتفاق، فإن الأسد ونصر الله ينتظران جني ثماره”.

وحول الفوائد التي سيجنيها النظام السوري، قال باريل إن أبرزها هو عودته للساحة العربية والدولية، خاصة أن بعض الدول العربية ومن بينها مصر وتونس والإمارات، تتجه لتعزيز علاقاتها مع النظام السوري مؤخراً.

أما الفوائد التي سيجنيها “حزب الله”، تتلخص في أن الاتفاق الإيراني- السعودي قد يُسهم بتعجيل انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، يكون داعماً للحزب وموالياً للنظام السوري، وسط تسليط الضوء على سليمان فرنجية الذي طُرح اسمه من قبل “حزب الله”.

وتطرقت “هآرتس” في تقريرها إلى المحادثات التي تجري بين تركيا والنظام السوري، بوساطة روسية، واعتبرت أن التوصل لاتفاق بين الطرفين قد يعطي نفساً اقتصادياً للسوريين، ويؤمن لتركيا “جداراً أمنياً” ضد الكرد في سورية.

كل ذلك، بحسب المحلل الإسرائيلي زيفي باريل، يضع إسرائيل أمام واقع جديد بصورة جديدة ومختلفة تماماً.

وكانت إيران والمملكة العربية السعودية أعلنتا الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2016، بوساطة صينية، بحيث تعيد إيران والسعودية فتح السفارات في البلدين في غضون شهرين.

كما اتفق البلدان على إعادة تفعيل اتفاقية تعاون أمني منتهية – وهو تحول يأتي بعد سنوات من استهداف الميليشيات المدعومة من إيران في اليمن للسعودية بهجمات بالصواريخ والطائرات بدون طيار – بالإضافة إلى الاتفاقات التجارية والاستثمارية والثقافية القديمة.

ومن المتوقع أن تتأثر دول عدة بهذا الاتفاق، الذي جاء في وقت مفاجئ وغير متوقع، ومن بينها: سورية واليمن وإسرائيل ولبنان والولايات المتحدة.

وقطعت السعودية علاقاتها مع إيران في يناير/ كانون الثاني 2016، بعد تعرض سفارتها في طهران وقنصليتها في مشهد، لاعتداءات من قبل محتجين على إعدام الرياض رجل الدين السعودي الشيعي المعارض نمر النمر.

—————————-

التقارب السعودي- الإيراني.. إسرائيل تبحث عن “أمنها” وإيران عن “فك عزلتها

لا تزال تبعات الاتفاق السعودي- الإيراني حول استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة 7 سنوات، تستولي اهتماماً عالمياً في الصحف ووسائل الإعلام، في خطوة أقر محللون بتأثيرها على ملفات إقليمية ودولية.

وتتسع دائرة تأثير ذلك الاتفاق، لتشمل “أمن إسرائيل القومي”، بحسب تقارير، في ظل ترحيب أمريكي وصمت أوروبي تجاه الاتفاق، خاصة أن الغرب كان الداعم الأساسي لإسرائيل في المنطقة منذ عقود.

“أمنها خط أحمر”

صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، قالت في تقرير لها اليوم الأربعاء، إن أمن إسرائيل هو “مسألة اتفاق وخط أحمر ثابت ودائم”، مع وجود حليف استراتيجي لها مثل الولايات المتحدة.

وأضافت أنه بالرغم من ذلك، فإن الضمانات التي حصلت عليها إسرائيل حول أمنها القومي تخضع حالياً لعمليات تقييم مختلفة بعد الاتفاق السعودي- الإيراني، خاصة أن حكومة نتنياهو تركز على ملف حلفاء إيران في سورية ولبنان، ووضعته على رأس أولوياتها.

وأردفت: “لقد أكدت (حكومة نتنياهو) مراراً على الخطوط الحمراء لإسرائيل فيما يتعلق بتعزيز النفوذ الإيراني في سورية وسلوك حزب الله اللبناني”.

وبحسب الصحيفة، فإن الهدفين الاستراتيجين المهمين لإسرائيل يتمثلان في منع الوجود العسكري لإيران في سورية، ومنع وصول المساعدات الإيرانية لـ”حزب الله” في لبنان.

وبالتالي، فإن هذين الهدفين يفوقان من حيث الإلحاح والتأثير الفوري ملفات أخرى بالنسبة لإسرائيل، مثل القدرات النووية لإيران، بحسب الصحيفة.

وأضافت: “تمثل الميليشيات الإيرانية ومواقعها في سورية ولبنان ذراعاً ممتداً، يمكن للنظام الإيراني الاعتماد عليه لضربة ثانية محتملة، أو الرد على عملية عسكرية إسرائيلية ضد إيران”.

وتواجه إسرائيل، بحسب “جيروزاليم بوست”، مهمة صعبة طويلة المدى تتمثل في إخراج إيران من سورية وإبعادها عن حدودها، مشيرة إلى أن هذه المهمة يصعب تحقيقها من خلال المواجهة العسكرية وتتطلب عملاً دبلوماسياً مع ضغط عسكري مستمر.

فك عزلة إيران

رئيس مركز تحليلات الخليج في واشنطن، جورجيو كافيرو، قال إن استعادة العلاقات بين السعودية وإيران هو “دليل نجاح” بالنسبة لطهران، بعد وعود قدمها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بتحسين علاقات بلاده مع دول الجوار، حين تسلمه الحكم.

وأضاف في تقرير نشرته شبكة “الجزيرة” باللغة الإنجليزية، أن إيران تحاول من خلال هذا الاتفاق التخفيف من عزلتها الإقليمية، دون أن تضطر إلى تغيير سياستها الخارجية، وهو ما يُنظر إليه في إيران على أنه “نجاح”.

    My latest @AJEnglish piece, featuring quotes from @aronlund, @RamiKhouri, @tparsi, @AmbGordonGray, @CarolineRose8, and @NoeNicholas. https://t.co/FtqWkVlf0X

    — Giorgio Cafiero (@GiorgioCafiero) March 14, 2023

من جانبها، قالت كارولين روز، كبيرة المحللين في معهد “نيو لاينز للاستراتيجيات والسياسات”، إنه بالرغم من أن إيران لا تزال تخضع لعقوبات شديدة من قبل الولايات المتحدة، ومعزولة عن معظم أوروبا بسبب دعمها لروسيا في الحرب الأوكرانية، فلا يزال من الممكن القول إن الاتفاقية بين الرياض وطهران هي “خطوة نحو الاتجاه الصحيح”.

وأضافت لشبكة “الجزيرة” أنه بالرغم من أن السعودية تلقت ضمانات من إيران بعدم تشجيع الحوثيين في اليمن على شن هجمات ضد المملكة، فإن الرياض وعواصم خليجية عدة ستواصل اعتبار إيران “تهديداً” لها.

إلى جانب ذلك، قال جوردن غراي، سفير الولايات المتحدة السابق في تونس لـ “الجزيرة”: “من الصعب تصور إنهاء إيران دعمها لحزب الله في لبنان أو بشار الأسد في سورية، وستسعى إيران دائماً إلى عراق مطيع”.

فيما اعتبر أرون لوند، زميل في مؤسسة “سينشري انترناشيونال” أن تحسن العلاقات السعودية الإيرانية يمكن أن يخلق فرصاً لنظام الأسد، فقد يُصبح مقبولاً بالنسبة للرياض إضفاء طابع رسمي على علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق.

وبحسب تقرير كافيرو، لن تحل الاتفاقية الدبلوماسية بين الرياض وطهران على الفور جميع مصادر التوتر في العلاقات الثنائية، ناهيك عن كل صراعات الشرق الأوسط.

—————————

اتفاق إيران والسعودية.. دلالات إقليمية

بعد سنوات من القطيعة والتوترات بين السعودية وإيران، تم الاتفاق بين البلدين على استئناف العلاقات وتجاوز الخلافات، وذلك بعد مباحثات سرية عقدت برعاية صينية استمرت لمدة أربعة أيام.

وصدر بيان ثلاثي مشترك عن السعودية وإيران والصين، أعلن فيه عن استئناف العلاقات الدبلوماسية والعمل على افتتاح السفارات، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ونص الاتفاق على إعادة تفعيل الاتفاقية الأمنية المبرمة عام 2001، والمرتبطة بمراقبة الحدود ومكافحة الإرهاب، والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة المبرمة عام 1998. وفي تعليقهم على الاتفاق، قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، إن “استئناف العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وإيران يأتي انطلاقًا من رؤية المملكة القائمة على تفضيل الحلول السياسية والحوار”، فيما أشار وزير الخارجية السعودية إلى أن الاتفاق لا يعني حل كافة الخلافات القائمة، وإنما هو دليل على الرغبة بحل جميع الخلافات عبر الحوار.

أما وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، فقال، إن “سياسة حسن الجوار التي تنتهجها حكومة إبراهيم رئيسي تسير في الاتجاه الصحيح”. واعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، أنّ الاتفاق مع السعودية سيعود بالنفع على الأمن والاستقرار في المنطقة وقضاياها.

ترحيب وحذر

وحصل الاتفاق على ترحيب واسع عربيًا، وأشادت به كافة الدول العربية، نظرًا لانعكاساته على المنطقة والاستقرار فيها. كما رحب فيه الاتحاد الأوروبي، باعتبار أنه سينعكس أيضًا بشكلٍ كبير على الاستقرار في الشرق الأوسط. من جهتها، هنّأت روسيا على لسان نائب وزير خارجيتها، ميخائيل بوجدانوف، “إيران والسعودية والصين على التوصل إلى اتفاق عودة العلاقات بين الرياض وطهران”، وأضاف بوجدانوف أن “عودة العلاقات تتماشى مع المبادرات الروسية الرامية إلى إنشاء منظومة للأمن في منطقة الخليج ذات الأهمية الاستثنائية على المستوى الاقتصادي العالمي”.

أما الولايات المتحدة التي رحبت بالاتفاق، فقد شككت في “رغبة إيران بالمشاركة فعليًا في خفض التصعيد”، وقال الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، “سنرى إذا كان الإيرانيون سيحترمون جانبهم من الاتفاق، فهذا ليس نظامًا يفي بكلامه عادةً”. أما المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير، فقالت خلال مؤتمر صحفي، “نحن على دراية بالتقارير بشأن الاتفاق بين إيران والسعودية، وبشكل عام، نحن نرحب بأي جهود للمساعدة في إنهاء الحرب في اليمن وتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط”.

قلق إسرائيلي

وفي أول رد فعل رسمي إسرائيلي على الاتفاق، اعتبر مسؤول إسرائيلي في تصريح رسمي أن “الاتفاق بين الطرفين سيؤثر على إمكانية تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب”، وأضاف أن “قوة الغرب في موقفه من إيران ستقلل من أهمية تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران”. ووصف زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد، الاتفاق بأنه “فشل ذريع وخطير للسياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية التي يتزعمها بنيامين نتنياهو”.

أما رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق نفتالي بينيت، فأكد أن “تجديد العلاقات بين السعودية وإيران، هو تطور خطير بالنسبة لإسرائيل وانتصار سياسي بالنسبة لإيران”، معتبرًا استئناف العلاقات الإيرانية السعودية يشكل “ضربةً قاضيةً لجهود بناء تحالف إقليمي ضد إيران”، وشدد على أن ذلك “فشل ذريع لحكومة نتنياهو، نجم عن مزيج بين الإهمال السياسي والضعف العام والصراع الداخلي في البلاد”.

ووجه نتنياهو اللوم على الاتفاق إلى الحكومة السابقة، التي لم تتخذ موقفًا واضحًا من المفاوضات بين إيران والسعودية عندما بدأت في وقت سابق من العام الماضي. وينظر إلى اتفاق طهران والرياض، بأنه قوض أحلام تل أبيب في إقامة تحالف أمني واسع من أجل مواجهة إيران.

تنامي نفوذ الصين

بحسب صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، فإن الصين تخطط لعقد قمة إقليمية خلال العام الحالي في بكين، وهذه إشارة جديدة إلى تنامي نفوذ الصين، التي تصبح لاعبًا بارزًا في المنطقة. وتشير الصحيفة الأمريكية إلى أن حراك الصين الدبلوماسي في المنطقة يظهر أن شي جين بينغ يرى أن للصين دورًا مركزيًا في المنطقة، باعتبارها وسيطًا جديدًا، ويتحدى النفوذ الأمريكي الحصري لسنوات طويلة فيها.

ويقول خبير في شؤون الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جون ألترمان إن الصفقة تسمح للقادة الصينيين “بتطوير تصوراتهم لدورهم العالمي، وهم يقوضون زعم الولايات المتحدة بأن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة هو الخيار الوحيد الذي يمكن للحكومات اتخاذه، والطريقة الوحيدة لتعزيز الأمن”، بحسب ما جاء في وول ستريت جورنال. وحول دوافع الصين، قال الباحث في برنامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي بواشنطن جوناثان فولتون، “الصين تريد الاستقرار في المنطقة، حيث يحصلون على أكثر من 40% من طاقتهم من الخليج، والتوتر بين إيران والسعودية يهدد مصالحهم”.

وقالت نائبة مدير الأبحاث في مشروع الشرق الأوسط للديمقراطية إيمي هوثورن: “لا توجد طريقة للالتفاف حولها- إنها صفقة كبيرة. نعم، لا يمكن للولايات المتحدة أن تتوسط في مثل هذه الصفقة الآن مع إيران على وجه التحديد، حيث لا توجد لدينا علاقات. ولكن بالمعنى الأكبر، فإن الإنجاز المرموق للصين يدمجها في اتحاد جديد دبلوماسيًا ويتفوق على أي شيء تمكنت الولايات المتحدة من تحقيقه في المنطقة منذ أن تولى بايدن منصبه”، بحسب تصريحات لـ”نيويورك تايمز”.

ويرى السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل ومصر والذي يعمل في جامعة برينستون حاليًا دانييل كيرتزر، خلال حديثه لـ”نيويورك تايمز”، أن الديناميكيات المتغيرة التي يمثلها الاتفاق الذي توسطت فيه الصين تشكل تحديًا لإدارة بايدن عندما تفضل التركيز على مكان آخر، مضيفًا “أنها علامة على خفة الحركة الصينية للاستفادة من بعض الغضب الموجه للولايات المتحدة من قبل السعودية والقليل من الفراغ هناك”.

وتعتبر غالبية التحليلات أن الاتفاق الذي رعته الصين يظهر تناميًا في نفوذها بالمنطقة، وتحديًا للنفوذ الأمريكي فيها الذي استمر لسنوات طويلة، فيما ستظهر قيمة هذا النفوذ الفعلي مع التطورات التي ستنتج عن الاتفاق الذي رعته بكين، ومدى تقدمه على صعيد التطبيق.

انعكاسات الاتفاق

يتجاوز الإعلان عن استئناف العلاقات بين طهران والرياض البلدين بشكلٍ كبير، ومن المتوقع أن ينعكس على عدة دول في المنطقة، خاصةً تلك التي كانت مناطق صراع بالوكالة بين طهران والرياض. وتشير التوقعات إلى أن الاتفاق سيمضي بشكلٍ بطيء نسبيًا، لكنه سيسفر عن تحقق انفراجات متنوعة، على المدى الأطول.

كانت اليمن هي أبرز المناطق التي ظهر الحديث عنها عقب الاتفاق، حيث تخوض الرياض حربًا فيها منذ 2015، لمواجهة الحوثيين الذين يحصلون على دعم إيراني. وكان التوتر في اليمن من أبرز نقاط المواجهة المتبادلة خاصةً مع شن الحوثيين هجمات متكررة بالصواريخ والطائرات المُسيّرة على السعودية، استهدفت منشآت إنتاج النفط عام 2019. ومع استمرار الجمود على جبهات القتال، عقدت الرياض والحوثيين محادثات مباشرة نهاية العام الماضي بدعم من سلطنة عُمان بعد هدنة توسطت فيها الأمم المتحدة، وانتهت الهدنة في تشرين الأول/أكتوبر، ولا زالت صامدة رغم بعض الخروقات وعدم تجديدها بشكلٍ رسمي.

ومن شأن عودة العلاقات بين الرياض وطهران أن تسهل من إبرام اتفاق نهائي بين السعودية والحوثيين، خاصة بعد ترحيب الجماعة بعودة العلاقات بين البلدين. كما أن البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة اعتبرت أن الاتفاق “سيسرع التوصل إلى وقف إطلاق النار في اليمن، وإطلاق الحوارات اليمنية، وتشكيل حكومة يمنية شاملة في هذا البلد”. فيما أشار وزير الخارجية الإيرانية إلى أن الاتفاقية ستنعكس على اليمن.

في سياق آخر، يترافق الاتفاق مع سعي عدة دول عربية لتعويم نظام الأسد، وإعادة تطبيع العلاقات معه، وبالأخص من جانب الجزائر والإمارات. وقبل أيام قال وزير الخارجية السعودي إن “زيادة التواصل مع سوريا قد يمهد الطريق لعودتها إلى جامعة الدول العربية”. وفي السياق نفسه رحبت وزارة خارجية النظام السوري بالاتفاق ووصفته بأنه “خطوة مهمة من شأنها تعزيز الاستقرار الإقليمي”.

وفي ساحة أخرى، يتوقع أن ينعكس الاتفاق على لبنان، ولو بدرجة أقل من المناطق الأخرى، خاصةً بعد الأزمة السياسية التي ضربت علاقة السعودية ولبنان عام 2021، بعد تصريحات وزير الإعلام اللبناني السابق جورج قرداحي عن الحرب في اليمن. ورغم انتهاء الأزمة قبل أشهر، واستقالة قرداحي تمهيدًا إلى حلها، لكن جوهرها كان الحديث السعودي عن هيمنة حزب الله، المدعوم إيرانيًا، على الدولة في لبنان. ويترافق الاتفاق مع أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، مما يفتح السؤال حول إن كان التقارب الإقليمي سيساهم في حلحلة هذا الملف. وقد صرح رئيس مجلس النواب نبيه بري بأن “القراءة الإيجابية للأنباء يجب أن تدفع السياسيين اللبنانيين إلى انتخاب رئيس على وجه السرعة”، فيما وصف حزب الله الاتفاق بأنه “تحول جيد”، لكنه حذر من أن “تداعياته الكاملة لا تزال غير واضحة”.

عراقيًا، ساهمت بغداد على مدار الأشهر الماضية في جهود الوساطة بين طهران والرياض، كما أنها استضافت جزءًا من المحادثات، ورحبت رسميًا بالاتفاق، بالإضافة لشكرها ضمن البيان الثلاثي الذي صدر بعد الاتفاق في الصين، على جهودها بالوساطة.

ورغم المواقف العراقية المتباينة داخل الأحزاب المتنوعة، والتي تمتلك إيران نفوذًا واسعًا في بعضها، إلّا أن التحليلات تشير إلى أن الاتفاق قد يساهم في التقليل من حدة الاستقطاب، وإن بشكل محدود

————————-

ترتيبات إقليمية.. تفادياً لمواجهات عسكرية/ منير الربيع

هل تقف المنطقة على شفير توتر كبير؟ السؤال أكثر من ضروري في ظل تضارب الحسابات والمواقف لدى أكثر طرفين متقابلين ومتوترين في هذه المرحلة، أي إسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى. الطرفان في وضع حرج بالاستناد إلى وقائعهما داخلياً وخارجياً. وعندما تصل جهة ما إلى مثل هذا الحرج تستسهل الذهاب إلى خيارات أمنية أو عسكرية خارجية في سبيل البحث عن إعادة تشكل مقومات وحدة داخلية للالتفاف على الصراع الداخلي. أكثر من يقرأ في حراجة الموقف هي الولايات المتحدة الأميركية. والتي سارعت إلى إرسال وفود عسكرية إلى المنطقة، من شمال سوريا إلى العراق وإسرائيل، مع خروج مساعدة وزير الخارجية الأميركي باربارا ليف بموقف سياسي واضح حول الوجود الأميركي في المنطقة وإنشاء شبكة أمان مشتركة والتعزيز مع الحلفاء.

في مقابل هذا الموقف السياسي، تعمل أميركا على دوزنة أي تطور عسكري يمكن أن يقود إليه جنون أحد الطرفين. فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعيش خطراً وجودياً، وهو مطوق بمجموعة نزاعات أو تطورات، أولها النبض الفلسطيني المستمر في تنفيذ عمليات ضد قوات الاحتلال وضد مستوطنين. ثانيها، الانقسام العمودي الحاد داخل إسرائيل المعطوف على تظاهرات ضخمة جداً بفعل الاعتراض على كل ما تقوم به الحكومة. ثالثها، تسارع وتيرة إيران في عملية تخصيب اليورانيوم وسط تهديدات إسرائيلية مستمرة في إمكانية اللجوء إلى استهداف مواقع نووية إيرانية وهو ما لا تريده واشنطن على الإطلاق. رابعها العمليات الأمنية الإسرائيلية المستمرة ضد مواقع إيرانية في سوريا.

على الجانب الإيراني، أيضاً الحرج قائم، بفعل انسداد مسار المفاوضات النووية بين إيران والغرب، التوتر الإيراني الأميركي المستمر، والتوتر الإيراني الأوروبي بفعل انخراط طهران إلى جانب موسكو في الحرب على أوكرانيا وهو ما سيكون له تبعات سياسية خطرة، كذلك فإن طهران تحتاج للالتفاف على كل الواقع السياسي والاجتماعي المتضعضع في الداخل. وهي راقبت عن كثب جولة المسؤولين الأميركيين في المنطقة، لتثبيت الوجود في سوريا تحديداً وهذا لا ينفصل عن الموقف الأميركي الذي هدف إلى لجم أي محاولة للانفتاح العربي على النظام السوري.

عملياً، لا تريد واشنطن حصول تدهور عسكري كبير في المنطقة سيكون قابلاً لأن يؤدي إلى حرب واسعة، إلا أن الأميركيين يغطون مسألة “حروب الظل” أو المعارك بين الحروب من قبيل العمليات الأمنية الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية، وتحاول واشنطن حصر تركيز العمليات الإسرائيلية في سوريا وتجنّب الداخل الإيراني لمنع تدهور الأوضاع، فيما إسرائيلياً لا يمكن لأحد أن يتوقع ما يمكن أن يقوم به نتنياهو. كل هذه التطورات ترجمها تهديد لبناني من قبل أمين عام حزب الله حسن نصر الله لإسرائيل أيضاً يضاف إلى التهديدات التي يطلقها مسؤولون إيرانيون، تهديد نصر الله جاء من بوابة إعادة التلويح باستهداف حقل كاريش الذي بدأت إسرائيل تستخرج منه الغاز وتصدره. وإشارة نصر الله هنا ترتبط بمعادلة “ترابط الجبهات” بين أركان محور المقاومة.

على وقع هذه التطورات، ثمة نقلة أخرى تعيشها منطقة الشرق الأوسط في العلاقات بين الدول، أبرزها استمرار إيران بالسعي إلى تجديد الحوار مع المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى زيادة منسوب التنسيق والتكامل والتطابق بين السعودية ودولة قطر، وهذا تنسيق يطول مختلف الملفات وصولاً إلى الملف اللبناني الذي يعتبر آخر ملف يحتلّ سلّم الأولويات. من هنا لا يمكن إغفال التقارب الخليجي الكلّي مع تركيا، بناء على التحالف الاستراتيجي الثابت بين قطر وتركيا، بالإضافة إلى التحسن في العلاقات السعودية التركية والإماراتية التركية والتي تترجم بإيداع ودائع مالية في المصرف المركزي التركي، وهذا الدعم له سياقه السياسي المتعلق بدعم الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل أو بآخر على مشارف استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية. في المقابل أيضاً، فإن التنسيق القطري المصري يتزايد أيضاً ما يثبت حصول هذه التطورات الإيجابية في المنطقة في سبيل تحصين المواقف والمواقع في مواجهة أي أخطار أو تداعيات قد تنجم عن أي تصعيد قد يحصل بين إسرائيل وإيران.

تلفزيون سوريا

——————————

================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى