سياسة

انتفاضة السويداء.. والسيناريوهات المتوقعة -مقالات مختارة-

تحديث 25 تشرين الأول 2023

—————————

السويداء وخيار العَلمانية والمواطنة/ جمال الشوفي

تبرز مدينة السويداء اليوم كظاهرة سورية مميزة تتركز عليها الأنظار المحلية والعربية والدولية. فهي المدينة ذات الغالبية العظمى من الأقليات السورية المعروفة بالموحدين “الدروز”، تجتاحها حمّى التظاهر السلمي والمدني متجاوزة الشهر الثاني على التوالي دون كلل أو ملل. تظاهراتها الشعبية الواسعة ذات عناوين سورية متعددة، فهي:

– سياسيًا استحقاق التغيير السياسي على المستوى الوطني العام وفقًا لمخرجات القرار الأممي 2254/2015 القاضي بمرحلة انتقالية تقودها حكومة وطنية مؤقتة.

–  ومعرفيًا الحرية والسلام والحق المدني العام.

– وجوديًا مساواة السوريين جميعًا في الحقوق والحريات لا يفرق بينهم عرق ولا دين ولا جنس، تجمعهم دولة المواطنة والحق والقانون.

المميز في هذا أنه ليس إعلان سياسي أو شعار نظري، بل هو محتوى ومكنون مجتمعي يعبر عن جذر العَلمانية بمفاهيمها وممارستها العصرية.

هنا من المهم بمكان إلقاء الضوء المعرفي على البنية المجتمعية والأهلية للمجتمع في محافظة صغيرة كالسويداء، والتي عبر عنها بوضوح الرئيس الروحي لهذه الطائفة، الشيخ حكمت الهجري، بقوله إنه عَلماني، وأنه يمارس حياته كرجل دين روحاني، فيما العمل السياسي لأصحابه، داعيًا أبناء الوطن السوري جميعًا للعمل معًا على بناء دولتهم الوطنية بعيدًا عن الاستبداد والفساد والتحكم برقاب العباد. وهذا القول في طياته يعكس المفهوم الحديث للعَلمانية المتحققة حياتيًا في عوالم الغرب المتقدم. ففي كتابه “العصر العَلماني”، يعرف تشارلز تايلور العَلمانية بأنها “الانتقال من الترتيب الهرمي للروابط الشخصية إلى الترتيب غير الشخصي القائم على المساواة. من عالم عمودي العلاقات عبر وسيط إلى مجتمعات الوصول الأفقي المباشر. فالكلّ على مسافة متساوية من المركز، ونحن على تماس مباشر مع الكل”. وهذا التوزع الأفقي للحقوق الإيمانية المتوازية والحقوق المدنية والسياسية المتساوية يختلف اختلافًا جذريًا عن الهيمنة والسلطوية الشاقولية. ويتجاوز المقولة النظرية السائدة بأن العَلمانية هي فصل الدين عن الدولة والسياسة وكفى. فعلى أهمية هذه الجملة، لكنها بذات الوقت لا تتيح المحتوى النقدي لمفهوم السلطة، ومن يمارسها وكيف يمارسها. فالتوزع الأفقي للحقوق العامة يجعل من نظام الحكم انعكاسًا لبنية العلاقات الاجتماعية دون فوقية أو تعال، ودون إنكار لدين أو فكر أو حق مدني. فالكل متساوون أمام القانون، وكلٌ يعمل في مجاله لبناء المجتمع بعيدًا عن اختزال العَلمانية الخاطئ معرفيًا وسياسيًا في محاربة الأديان وحسب.

العَلمانية وفقًا لهذا التحديد المفهومي وممارستها العملية، متوطنة في السويداء بخلاصتها العامة، فمحتواها الثقافي والحياتي يعترف بالتعدد الثقافي وممارسة الحرية في الإيمان والتدين دون أن تتعارض في ذلك مع المجتمع بقواه المدنية والسياسية والبشرية ودورها في البناء المجتمعي. وهذا ما يمكن الدلالة عليه بالمعطيات العامة لأبناء هذه الأقلية، غير المعروفة جيدًا لمحيطها العربي والإسلامي، فالسويداء:

• ذات تركيبة سكانية مدنية بعمومها، تعرف بأنها أقلية معروفية تدين للمذهب التوحيدي المعروف بـ”الدروز”. وهو مذهب معتدل دينيًا يقبل مختلف أنماط التعدد الثقافي والديني، وأيضًا مذهب غير تبشيري لا يفرض تدينه وممارسة طقوسه حتى على أبناء جلدته.

• الموحدون ذو منهج برهاني عقلي في قراءة النص الديني والأحداث الزمنية، يحبّون الكرم والعادات العربية الأخلاقية والتعايش السلمي مع محيطهم، ويكرهون الحرب إلا إذا فرضت عليهم، وهذه قيم إنسانية حقوقية عليا. تمثلت بموقفهم العام باستقبال النازحين السوريين من كل المدن السورية بأعداد هائلة، ورفضهم الخوض في المعارك الدموية التي اجتاحت كامل الأرض السورية بعد عام 2013 من خلال سحب أبنائهم من الخدمة الإلزامية بعشرات الآلاف، معلنين حرمة الدم السوري. واليوم يطالبون بالتغيير السلمي للسلطة السياسية القائمة.

• السويداء محافظة قليلة العدد سكانيًا (قرابة 550 ألفا حسب إحصائيات 2019 للسجلات المدنية)، وتعداد الأسرة الوسطي 4 أفراد، مهتمون بالعلم والتعليم كرأس مال اجتماعي، وهي الخالية من الأمية حسب إعلان وزارة الثقافة السورية عام 2008.

• وهي ذات النسبة الأعلى في البطالة، حيث بلغت 18.3% عام 2010 مقارنة بـ 8.4% بباقي سوريا، وتكاد تخلو من المشاريع التنموية مع تهميش اقتصادي متعمد، ما يفسر نسبة الهجرة العالية بين شبابها لطلب العمل ومصادر الدخل. واليوم زادت نسب البطالة لما يقارب 75%، بحكم الثورة والحرب والملاحقات الأمنية لشبابها. مترافق مع تراجع حاد بالدخل وارتفاع هائل في الأسعار وانهيار بسعر صرف الليرة (اليوم 14000 مقابل الدولار) ما يعني أن راتب الموظف يعادل وسطيًا 15 دولارا شهريًا، (وهي دون خط الفقر العالمي بكثير والمحدد بـ 1.9 دولار للفرد يوميًا أي 57 شهريًا).

• رغم حياد السويداء الإيجابي من المقتلة السورية، لكنها تعرضت للتطرف الداعشي عام 2018 تصدت له أهليًا بمفردها مع شكوك واضحة حول دور النظام في ذلك. كما واُستثمر في عطالة بعض شبابها عن العمل في الترويج لتجارة المخدرات، ومع هذا قام المجتمع الأهلي بمحاربة هذه الظاهرة باجتثاث أخطر عصاباتها صيف عام 2022، وحرق مقارها وإثبات تبعيتهم للأجهزة الأمنية.

انبعاث السويداء اليوم هو متابعة لموجات الربيع العربي سوريًا الذي بدأ عام 2011، في قيمه الوطنية والتنويرية. ومكنونها الوطني والاجتماعي يخطو بثبات متابعًا مسيرة السوريين في استحقاقهم الوطني. لتظهر العَلمانية والمدنية والسلمية أبرز خصائصها العامة، فنساؤها وشبابها يقدمون إبداعاتهم الفنية والفكرية والثقافية، يجاورون فيه المجتمع الأهلي والديني على أسس التكامل والمساواة الأفقية في الحقوق. الأمر الذي يتوجب إعادة التفكير مجددًا في معطيات هذه البنية السورية بمحتواها الاجتماعي القائم فعليًا، والذي قد ينتج عنه تغيّرًا في العناوين السورية السياسية المتفانية مثنويًا بين أطياف معارضتها السياسية. ويتيح مساحة واسعة للعمل الوطني والتوجه بثقة ناحية العلمانية المتوطنة اجتماعيًا في السويداء كنموذج لسوريا المستقبل، والعمل على إعادة إحياء قيم ثورة الحرية والكرامة الأولى. ليثبت الزمن أنها قابعة في الوجدان السوري العام رغم ما أصابه من كوارث ونكبات. فالانفتاح والاستحقاق والجدارة عناوين رئيسية في التحضر والتمدن تستهدف القدرة على الحياة بكرامة وسلام، وتستوجب العمل بطرق متكاملة فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا.

لطالما عقدت الندوات السياسية والفكرية حول سوريا المستقبل، ولطالما اشتد الخلاف حول نموذجها السياسي في الحكم، لكن قلما تم تناول البنى المجتمعية السورية في معطياتها القائمة كدليل عمل منهجي. اليوم السويداء بمكنونها الاجتماعي والوطني عَلمانيًا ليست استثناء سوريا، بل هي نموذج سوري شعبي عام تمكن من الإعلان عن نفسه وضوحًا، دون نظريات جامدة أو تنافس سياسي هدّام، ودون نزعات استحواذية تسلطية لاستبدال سلطة بأخرى، فهل نتمكن من إحياء هذا الاستحقاق سياسيًا واجتماعيًا؟ كلنا أمل…

تلفزيون سوريا

————————-

احتجاجات السويداء: من أول الخبز حتى آخر الحريّة/ لبانة غزلان

تشهد محافظة السويداء بمختلف بلداتها وقراها منذ شهر ونصف الشهر احتجاجات واسعة، مظاهرات وإضرابات وبيانات شديدة اللهجة تعارض نظام الحكم، وتشارك فيها معظم الفئات الشعبيّة. في هذه المادة تحاول سوريا ما انحكت البحث عن أسباب هذه الاحتجاجات وتاريخها وسياقاتها، وعن ما حدث في هذه المحافظة منذ العام ٢٠١١، وعمّا يحدث فيها اليوم.

“من أول الخبز حتى آخر الحرية” عبارة كتبت على أوراق لُفّت بها أرغفة الخبز (الملّوح)، ووزّعتها مجموعة من النساء بمبادرة فردية على المتظاهرين/ات في ساحة الكرامة في مدينة السويداء جنوب سوريا في الأول من أيلول ٢٠٢٣، حيث تشهد المدينة احتجاجات واسعة مستمرة، بدأت منتصف شهر آب ٢٠٢٣، طالب فيها الأهالي بـ”إسقاط النظام وأجهزته المصنعة مخابراتياً، وتطبيق القرار الأممي 2254، والافراج عن المعتقلين/ات، والكشف عن مصير المغيبين/ات قسرياً”، ورفعوا لافتات كُتِب عليها “خيرات بلادي من حقي وحقي ولادي” و”لا لهيمنة إيران وصبيانها”، و”بدنا المينا وبدنا الأرض وبدنا يرجع المطار”.

ربما، تلخّص وتكثّف عبارة “من أول الخبز إلى آخر الحرية”، مشهد هذه الاحتجاجات التي خرجت على خلفية صدور قرارات من حكومة النظام برفع الدعم عن مادة المحروقات، بعد يوم واحد فقط، من رفعها أجور العاملين في الدولة من موظفين ومتقاعدين (مدنيين وعسكريين) بنسبة ١٠٠٪، فارتفع سعر لتر البنزين المدعوم (٩٠ أوكتان) إلى ثمانية آلاف ليرة بدلا من ثلاثة آلاف، وسعر لتر البنزين (٩٥ أوكتان) إلى ثلاثة عشرة ألفاً وخمسمئة ليرة بدلاً من عشرة آلاف ليرة، وسعر لتر المازوت المدعوم إلى ألفي ليرة بدلاً من ٧٠٠ ليرة، وسعر لتر المازوت الحر للقطاع الصناعي إلى أحد عشر ألفاً و550 ليرة بدلاً من خمسة آلاف وأربعمئة ليرة، الأمر الذي رافقه ارتفاع في أسعار مُجمل المواد الأساسية، علماً أنّه سبق هذه الاحتجاجات ارتفاع غير مسبوق في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الواحد، متجاوزاً حدّ الخمسة عشر ألف ليرة، ليُترك المواطن الذي لا يتجاوز دخله بعد الزيادة ما يعادل عشرين دولاراً أمريكياً شهرياً، يُواجه مصيره عاجزاً، “وكأنّ السلطة لا ترى حلولاً لمشكلاتها إلا عبر جيوب الناس المنهوبين والمتعبين” كما تقول الشابة المشاركة في هذه الاحتجاجات سمر (اسم مستعار) لسوريا ما انحكت عبر تطبيق واتسآب.

على الرغم من أنّ الأهالي يعتمدون على أنفسهم عبر التكافل الاجتماعي فيما بينهم، وبعضهم يعتمد على مساعدات المغتربين من أبنائهم وبناتهم، فإنّ الأمر “وصل إلى مرحلة الاختناق، وفاق الاحتياج قدرة المجتمع المحلي على التحمّل” كما يقول لسوريا ما انحكت، أحد منظمي الحراك الحالي، مازن بدرية، عبر تطبيق واتسآب

“القديم مات والجديد لم يولد بعد… شارك في بناء مستقبل الوطن”

عبّر هذا الشعار الذي رُفِع في إحدى مظاهرات الحراك الحالي (في الخامس من أيلول، حسب موقع السويداء ٢٤)، عن الرؤية التي يتبناها الحراك الجديد، عبر إلقاء الخلافات السابقة خلف الظهر، والتمسّك بوحدة سوريا، ومطالب الشعب المشروعة، حيث تقول سمر (اسم مستعار) إحدى المشاركات في الحراك: إنّ “الناس اليوم أوعى وأنضج وأصبحت تدرك ما الذي تريده، فهي لا تريد تكرار عام ٢٠١١ لأنها باتت تعرف أنّ المتشددين، سواء من النظام أو المعارضة لا يريدون الحل في سوريا ويسعون إلى جرّ الحركة الاحتجاجية إلى النفق القديم نفسه من أجل التحكّم بها ومنعها من الوصول إلى أهدافها” مؤكدة أنّ “الأثمان الكبيرة التي دفعها السوريون لم تذهب عبثاً، بل كانت دروس واستنتاجات، فلا العنف مقبول ولا الطائفية ولا التدخلات العسكرية ولا العمل الفوضوي”.

قبل أيام من بدء المظاهرات، دعت مجموعات شعبية أهالي الجبل في بيان لها إلى النزول للشارع، كلّ يوم، ابتداءً من يوم الخميس ١٧ آب ٢٠٢٣، كلٌّ في منطقته.

“تمّت مشاركة هذا البيان مع مختلف الفعاليات الاجتماعية والدينية، وحتى مع أعضاء من الفصائل المسلحة الموالية للنظام، لإعلامهم بنيّة الأهالي التظاهر ضمن القانون للمطالبة بحقوقهم، آملين ممن لا يودّ التظاهر، ألّا يقف في وجه مطالب أهله” بحسب مازن بدرية أحد منظمي الحراك الحالي،  مضيفاً عن تلك البدايات: “لم نرفع سقف المطالب في البيان الأول، خوفاً من توّجس الأهالي وامتناعهم عن المشاركة. في اليوم الأول، اجتمعنا مع من حضر في ساحة الكرامة، وأعلنا عن ضرورة الإضراب العام، ووجدنا قبولاً كبيراً، ثم هتف أحد المعتصمين بإسقاط النظام، وردّد الجميع «يسقط… يسقط»، وجدنا أن الشارع جاهز، وعلينا الآن أن نسير تبعاً لإرادته”.

بعد الإجماع على ضرورة الإضراب، تطوّع مجموعة من الشباب المتظاهرين السلميين لضمان التزام الجميع بالإضراب المعلن، وانقسم المتطوّعون لثلاث فرق أخذت كلّ منها على عاتقها واحدة من المهام؛ مثل إغلاق مقرات حزب البعث في شتى مدن وبلدات المحافظة، ومنع أيّ محاولات اعتداء على المؤسسات العامة، وتنظيم الاعتصامات في الساحات العامة، كما التزم المتظاهرون بعدم حمل السلاح خلال الاحتجاجات تحت أيّ ظرف، وفقا للناشطين الذين تواصلنا معهم.

بعد بدء الاحتجاجات أُنشئت مجموعة على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، تحت اسم الانتفاضة الشعبية، وعن سبب إنشائها والهدف منه، تقول الناشطة المشاركة في الاحتجاجات الحالية لبنى الباسط لسوريا ما انحكت، عبر تطبيق واتسآب إنّ “المجموعة مفتوحة ويُمكن لأيّ شخص الانضمام لها عبر الرابط الخاص بها، وقد أُنشئت لإعطاء مساحة حرّة لطرح كافة الآراء حتى المتطرّف منها، سواء من جهة الموالاة أو من جهة المعارضة، وتعرض جميع الأفكار للنقاش، ثم يتم التصويت على الطرح الذي يحمل بعداً وطنياً غير إقصائي، ولا يضرّ مصلحة أيّ فئة من الأهالي في النضال لتحقيق مطالب الحراك”.

لاحقاً، قام مؤيّدون للنظام السوري بمشاركة تسجيلات ورسائل وصلت على هذه المجموعة كمقترح من قبل أفراد، على أنّها تسريبات خاصة لمطالب يتبناها الحراك، لكن كلّ من لبنى الباسط (عضوة في المجموعة) ومازن بدرية (المشرف على المجموعة) أكدا أنها مجرّد اقتراحات نُوقشت وتمّ رفضها على الفور داخل المجموعة، “وإبرازها للرأي العام على أنها مطالب الحراك على يد رفيق لطف وغيره ليس إلا تحوير للحقائق ومحاولة لشيطنة الحراك وحرف مساره” بحسب بدرية، خاصة أنّ “الجهات الامنية غائبة ومغيبة عند ضرورة وجودها إلا لقمع الكلمة، ولتوجيه أزلامها العابثين وفق أوامرها ضد أهلهم” كما قال الشيخ حكمت الهجري في بيانه الأخير، حيث تعاني المحافظة منذ عام ٢٠١٤ وحتى اليوم من انعدام الأمن، وامتناع السلطة السورية عن القيام بدورها في حماية المدنيين.

الوضع الأمني في المدينة

كان قد “بدأ تحوّل دور السلطة السورية في محافظة السويداء إلى الحالة الشكلية فقط بين عامي ٢٠١٤ و٢٠١٥، ويعود ذلك لعدّة عوامل كان أهمها بروز قوى محلية مثل حركة رجال الكرامة، وحالة الرفض العام للتجنيد الإجباري، التي اعتبرها النظام تمرداً”. كما يقول مدير تحرير شبكة السويداء ٢٤، ريان معروف، لسوريا ما انحكت عبر تطبيق ماسنجر.

بحسب معروف، “أدّت هذه الظروف إلى تلاشي السلطة المركزية للنظام في المحافظة: حيث اشترط النظام عودة أبناء السويداء للخدمة في جيشه لتحسين الواقع الأمني. لاحقاً تنامى دور القوى المحلية المسلحة لتغطية الفراغ الأمني الحاصل، وعزّزه وجود تهديدات خارجية كان أبرزها هجوم تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على المحافظة في العام ٢٠١٨، الأمر الذي دفع الأهالي إلى التسلّح بشكل أكبر وتوّضحت معالم العسكرة ضمن المجتمع المحلي”.

ضمن هذا السياق، استقطب النظام بعض المجموعات المحلية المسلحة، ومنح بعض أعضائها هويات أمنية وصلاحيات عديدة، أرهبت المواطنين/ات، بعد اعتمادها على الجريمة المنظمة كمصدر تمويل تحت غطاء السلطة.

نتيجة لتمادي العصابات المسلحة، وبالأخص عصابة راجي فلحوط التابعة لشعبة المخابرات العسكرية، اندلعت في شهر تموز ٢٠٢٢، انتفاضة أهلية مسلحة بتدخل من رجال الكرامة وفصائل أخرى، وانتهت المواجهات المسلحة بإغلاق مقرات العصابة وفرار راجي فلحوط.

تاريخ الحراك الثوري في السويداء

يواجه كلّ حراك تقوم به محافظة السويداء بسؤال “أين كنتم منذ العام ٢٠١١؟”، والحقيقة أنّ السويداء لم تغب عن المشهد السوري العام منذ انطلاق الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد عام ٢٠١١، فقد انطلقت الدعوات للتظاهر في السويداء منذ الأيام الأولى للثورة السورية، وأُنشئت التنسيقيات؛ كتنسيقية محافظة السويداء وتنسيقية شهبا وتجمع أحرار السويداء وغيرها، كما نُظّمت عدّة اعتصامات حداداً على أرواح الشهداء، وتوالت المظاهرات اليومية، التي قُوبلت بالاعتداء على المتظاهرين من قبل الأمن والشبيحة، واعتقال الناشطين والمعارضين الذين لا يزال بعضهم مغيّباً إلى اليوم في سجون الأسد، أمثال رامي الهناوي وياسر العواد وشفيق شقير المعتقلون منذ آب عام ٢٠١٢ ولا معلومات عن مصيرهم، فيما قضى آخرون في المعتقلات بسبب التعذيب أمثال نورس هندي أبو سعيد الذي اعتقل بتاريخ ٢٨ حزيران ٢٠١٣ وقُتل تحت التعذيب بتاريخ  ١٦ كانون الثاني ٢٠١٤.

تزامن هذا الحراك الثوري السلمي مع حراك نقابي قاده مجموعة من “المحامين الأحرار” الذين نفّذوا أول اعتصام نقابي أمام فرع نقابة المحامين في السويداء في ٢٤ آذار عام ٢٠١١، “وصاغوا بيانهم الأول مُتضمّناً مطالب السوريين في الحريّة والكرامة والعدالة، وقد انتزعوا الموافقة الرسمية عليه من فرع النقابة في السويداء، وخُتم بختمها، ثمّ قاموا بتشكيل هيئة للدّفاع الطّوعي المجاني عن المُعتقلين ومُتابعة الدفاع عنهم لدى مُختلف المحاكم، وغطوا نفقات التّقاضي كافّة من جيوبهم الخاصة عبر صندوق مالي خاص بهم” بحسب المحامي أيمن شيب الدين، وهو عضو في مجموعة “المحامين الأحرار” الذي تواصلت معه سوريا ما انحكت عبر تطبيقي ماسنجر وواتسآب.

“كما نفّذ “المحامون الأحرار” بالتّعاون مع المُهندسين الأحرار والمُدرسين والأطباء والصّيادلة الأحرار اعتصام نقابي بتاريخ ١٩ تموز ٢٠١١ بحسب شيب الدين، تعرّض بعده للاعتداء بالضرب من قبل الشبيحة، “حاصرني قرابة 100 شبيح وكنت في عيادة طبيبة في السويداء، هذا اليوم وتفاصيله مستحيل تنمحي من ذاكرتي”.

استنكر “المحامون الأحرار” هذا الفعل، فاعتصموا داخل مقرّ نقابتهم بتاريخ ٢١ تموز ٢٠١١، وبحسب شيب الدين: “حاصرت الأجهزة الامنيّة والشبيحة النقابة حتى الساعة السابعة مساء، حاولوا خلالها ضرب مبنى النقابة بالحجارة والبنزين تمهيداً لحرقها، إلى أن تدخل المُجتمع الأهلي في السويداء وأمّن خروجاً آمناً كريماً للمُحامين”.

أغضب نشاط المُحامين الأحرار النظام، فاعتُقل العديد منهم لأكثر من مرّة، بعضهم اليوم سافر خارج سوريا، والعديد منهم ما زالوا مُلاحقين ومطلوبين أمنيّاً لفروع الأمن المُختلفة، وهم اليوم في ساحات التّظاهر بين صفوف الأهالي، مُطالبين بالحرية والكرامة ودولة القانون، وقد أصدروا بياناً في ٢٣ آب ٢٠٢٣ جاء فيه : “المُطالبة بإقالة الحكومة باعتبارها جارت بقرارتها بحقّ الشعب، هذا كلامُ بعيدٌ عن الواقع، إذ أنّه ومنذ أكثر من نصف عقد تعاقبت على سوريا بظلّ النظام السوري القائم عشرات الحكومات، وهي من فشلٍ إلى فشل. ونحنُ نرى أنّ الفشل هو بمن يَرسم سياستها العامة وفق الدستور، والذي هو رئيس الجمهوريّة، الحاكم المُطلق لجميع الصلاحيّات التّنفيذيّة والتّشريعيّة والقضائيّة والأمنيّة”.

صعّد النظام بطشه لقمع الحراك الثوري السلمي في السويداء، واستهدف في الخامس من تموز عام ٢٠١٢، الناشطين المعارضين معين رضوان وصفوان شقير بتفجير عبوة ناسفة أدت إلى مقتلهما، وخرج آلاف المتظاهرين في تشييعهما ليرد النظام بالرصاص الحي، والقنابل المسيّلة للدموع لتفريق الجموع.

التسلّح والمشاركة العسكرية في الحراك الثوري السوري

عسكرياً، شارك بعض من أبناء السويداء في المواجهة العسكرية مع قوات النظام خارج أراضي السويداء، وجاء انشقاق الملازم أول خلدون زين الدين وانضمامه إلى صفوف الجيش الحر في درعا، في منتصف أيلول من العام ٢٠١١،  كأحد أبرز الأحداث خلال تلك الفترة. حاول النظام التقليل من أهمية الحدث من خلال الضغط على شيخ العقل، أحمد الهجري، شقيق الشيخ حكمت الهجري ليخرج ببيان على الإعلام السوري يتبرأ فيه من خلدون وهو أمر رفضه شيخ العقل آنذاك، حسب تقارير إعلاميّة. لاحقاً، استشهد الملازم في معركة ظهر الجبل التي لم يسمح فيها نظام الأسد بدخول الجيش الحر إلى السويداء، في ١٣ كانون الثاني من عام ٢٠١٣، وعجز أهل زين الدين عن تشييعه وفتح مجلس عزاء بسبب التضييق الأمني، ليعيد اليوم الحراك الحالي ذكراه والهتاف باسمه في الساحات. كما جاء على لسان الشابة لبنى الباسط في إحدى المظاهرات الحالية حيث قالت: “هي الثورة بدها تكمل، ونحنا ولاد خلدون زين الدين”.

يرى الصحفي والمعتقل السابق أنيس سلوم أنّ “تحوّل الثورة إلى المواجهة المسلحة ضد النظام في أواخر العام ٢٠١٢ وبداية ٢٠١٣، أثّرت على حراك السويداء الثوري السلمي كما الحراك السلمي في كلّ سوريا، وانعكس ذلك على وتيرته التي أخذت تتصاعد حيناً وتخفّت في أحيان أخرى”. ومع استعانة النظام بإيران وروسيا عسكرياً، واستعادته لجزء كبير من المناطق المحرّرة، شهدت السويداء التي أغرقها النظام بمشاكل داخلية، شكلاً جديداً من الحركات الاحتجاجية المطلبية قبل أن تصل إلى الاحتجاجات الحالية.

احتجاجات مطلبية

لم تخلو ساحات السويداء خلال السنوات الماضية من مظاهر احتجاجية مطلبية متنوّعة، سواء على مستوى قطاعي فئوي كإضراب سائقي السيارات العمومي المتكرّر ردّاً على عدم توفير مخصصاتهم من الوقود، حيث نقل موقع السويداء ٢٤ عن أحد السائقين قوله “مخصصات البنزين المُوزعة على السائقين العموميين غير عادلة، حيث يستلم معظمهم مخصصاته كل عشرة أيام، فيما لا تكفي المخصصات لتشغيل السيارة سوى أربعة أيام”. بل وأنشأ هؤلاء السائقون صفحة خاصة بمطالبهم على موقع “فيسبوك”، يعرضون عليها جميع مشاكلهم ومطالبهم.

هناك أيضاً احتجاجات مزارعي  التفّاح على فشل الحكومة في حماية المحصول الرئيسي للمحافظة وحماية المزارعين، وقد استجابت السلطة السورية لمجمل هذه الاحتجاجات المطلبية بحلول إسعافية لمنع تطوّرها كتحديد أسعار مبيع التفاح أو التسريع في وصول مخصّصات المحافظة من المحروقات.

كما شهدت احتجاجات على أحداث آنية بسبب الواقع الأمني المتردّي كاحتجاج الكادر الطبي في المشفى الوطني بسبب الاعتداءات المتكررة التي يتعرضون لها، والاحتجاج على مقتل شاب مدني بطريقة وحشية على يد عصابات في حديقة عامة وغيرها، وانتهت دون الوصول إلى حل للوضع الأمني العام.

إلّا أنّ الأبرز تنظيماً كان الحراكات المدنية التي نظمها ناشطون بشكل دوري منذ عام ٢٠١٥ حتى الحراك الحالي، كان أولها حراك “خنقتونا”  في أيلول ٢٠١٥ وهو اعتصام سلمي، نفذه ناشطون للمطالبة بتحسين الواقع المعيشي، توّقف بعد حدوث تفجيرين، طال أحدهما موكب الشيخ وحيد البلعوس والآخر المشفى الوطني، وانشغال الرأي العام بهذه الجريمة.

لاحقاً في العام ٢٠١٦ أجّجت قرارات الحكومة التعسّفية بفصل مدرسين معارضين من وظائفهم، احتجاجات طلابية للمطالبة بإعادة المفصولين تعسفياً للعمل، تلاها حراك جديد تحت اسم “حطمتونا”، رفع لافتات حمل بعضها قول “كرامة المعلم هي كرامة المجتمع”، ” إضافة إلى مطالب معيشية ومطالبات بإخراج كامل الاحتلالات من الأراضي السورية وإطلاق سراح جميع المعتقلين. وقد دعا النظام لمسيرة مؤيدة له بالتزامن مع اعتصام المحتجين، “وتم إطلاق الرصاص في الهواء لتفريق المحتجين، الأمر الذي صعد التوتر في الشارع وأرهب الناس من المشاركة في الاعتصامات اللاحقة، مما أدى لتوقف الحراك” بحسب شادي الدبيسي أحد منظمي الحراك. .

كما شهد عام ٢٠٢٠ حراكاً جديداً تحت اسم “بدنا نعيش”، شارك فيه قرابة ٣٠٠ مواطن، “نادوا بالحرية والعدالة الاجتماعية، وبتنحي الأسد وإطلاق سراح المعتقلين” وفقا لشادي الدبيسي. وقد رفع المتظاهرون المشاركون في هذا الحراك، لافتة كُتب عليها “ارحل.. نريد دولة مدنية علمانية تجمع السوريين وتساوي بينهم”. وقد “قوبل الحراك باستنفار أمني، واعتقل على إثره عدد من الناشطين في شهر حزيران من العام  نفسه ليفرج النظام عنهم بعد أشهر بجهود من قبل حركة رجال الكرامة”، كما يخبرنا شادي.

حملت السنوات اللاحقة أحداث احتجاجية أخرى كان أبرزها احتجاجات شهر كانون الأول من العام ٢٠٢٢، والتي انتهت بمقتل شخصين من بينهم شرطي وإصابة ١٨ آخرين على يد قوات الأمن، وإحراق مبنى المحافظة، اتهم فيه نظام الأسد المحتجين بإحراق المبنى الحكومي، ليأتي البيان الصادر عن المكتب الإعلامي للرئاسة الروحية للمسلمين الموحدين الدروز  الصادر في ١٩ آب من العام الحالي مبرّئاً لشباب الحراك، وفي نصّه على لسان الشيخ حكمت الهجري: “واحذروا من تكرار ما يشابه ما مررنا به سابقاً، وخاصة حين تمّ حرق المحافظة من جهات ما لمحاولة إتلاف ملفات تدينهم وتدين معارفهم بملفات فساد كبيرة مشتركة بينهم، حيث أقدم البعض على محاولة تخوين المتظاهرين الشرفاء واتهامهم بذلك ، ولكن الحقيقة معروفة على الملأ”.

ما الذي يميّز حراك السويداء الأخير؟

لعل أبرز ما يميّز هذا الحراك هو الموقف العلني الداعم بصراحة لمطالبه من قبل القيادة الروحية للطائفة الدرزية، المتمثلة بشيخي العقل حمود الحناوي وحكمت الهجري، والذين عُرفا في السابق بمواقفهما الوسطية، فقد سُجّل حضور الشيخ الحناوي بين المتظاهرين في بلدة القريا مؤيّداً لمواقفهم، كما أنّ البيان الصادر عن الشيخ حكمت الهجري يؤكد دعمه الواضح لمطالب الحراك، رغم رفع سقف المطالب، مشيراً فيه إلى نفاذ الصبر، ووجوب رحيل كلّ من هو في موقع مسؤولية لخدمة الشعب ولا يخدمه.

جاء في نص البيان: “من كان عاجزاً عن القيام بواجبه تجاه أهله ووطنه واقتصاده، فليترك المكان، ولا يتخبط ولا يخرب الموقع الذي يحتله، فقد سقط اقتصادنا الى الحضيض، ودمر الشعب في لقمة عيشه التي لم تعد في متناوله، وترك الناس ليأكلوا بعضهم رغم كل شيء ولا تدخل ولا حلول، الا بالتدمير”.

منحت مواقف كلّ من الحناوي والهجري مطالب الشارع غطاءً اجتماعياً حامياً، شجّع على اتساع القاعدة الشعبية للحراك، وحملت المعارضة السورية بأطيافها الماركسية والقومية والعلمانية منذ بداية الثورة بعداً وطنياً شاملاً، فرفضت الرايات المحلية على اعتبارها رايات تعود إلى مفهوم ما قبل دولة، بحسب د.جمال الشوفي الكاتب والباحث في الفكر السياسي.

يقول الدكتور جمال لسوريا ما انحكت عبر واتسأب: “وجدت أطياف المعارضة في السويداء أنّ الامتداد الشعبي لرؤيتهم السياسية تتجاوب مع الخطاب الوطني للمرجعيات الروحية، وبالأخص خطاب الشيخ حكمت الهجري، الذي استجاب له الشارع الشعبي غير المنخرط في العملية السياسية، والرافض للانقسام حول علم النظام أو علم الثورة، فأعادوا النظر في مسألة الرايات الأهلية التي رفعها الشارع، وقد أثبتت قدرتها على جمع الحشود المنتفضة والتآلف فيما بينها رغم تنوعها، وخاصة أن الخطاب الذي رافق رفع هذه الراية كان خطاباً سورياً جامعاً، ولا يحمل أي بعد طائفي أو انفصالي”.

يؤكد الشوفي على البعد غير السياسي لراية الحدود الخمس (العلم الدرزي المرفوع في المظاهرات)، بقوله: “هي راية أهلية تضامنية لا ترفع عند الموّحدين الدروز إلا في أوقات الملمات، أو في الأماكن الدينية ولا تظهر في أيّ موقع سياسي أبداً”.

عن موقفه من دعم رجال الدين للحراك السياسي يرى د. جمال الشوفي: “أنّ دور رجال الدين حتى الآن هو دور احتوائي ضامن، مدرك لحيثيات المسألة السورية، وأهمية التعددية، حيث قدموا أنفسهم كرجال دين ذوي خطاب معتدل وطني بامتياز، وفتحوا الأبواب أمام المجتمع للمطالبة بحقوقه، ونؤوا بأنفسهم عن المسألة السياسية، التي لا مطامح لهم فيها، وجاء موقفهم من الحراك موقفاً تضامنياً بوصفهم أبناء هذا الشعب ويطالهم من العسف ما يطاله”.

وعلى الجانب الآخر، يقول عضو المكتب السياسي  في تيار التغيير الوطني السوري المعارض ومدير مكتبه بفرنسا، رامز نجيب، السيد لموقع سوريا ما انحكت عبر تطبيق ماسنجر من باريس: ” أنا لا أمانع رفع الرايات المحلية كراية الخمس حدود، لكن مشكلتي مع رفعها وحدها غير مرفقة بعلم الثورة، وقد سبق أن رفع في بداية الثورة السورية رايات محلية أخرى غير علم الثورة واستغلها النظام للصق صفة الإرهاب أو العمالة أو الانفصال بالثوار المنتفضين ضد حكمه” مشيراً إلى أنّ “علم الثورة معترف به رسمياً ليس من قبل المعارضة السورية فقط، بل من قبل الأمم المتحدة والجهات الدولية الأخرى ومن الضروري أن يرفع في مظاهرات السويداء لدحض محاولات النظام اتهام ثورة السويداء بالطائفية أو أنها ذات نزعة انفصالية”.

تكرر في خطاب الشيخ حكمت الهجري النحو تجاه العلمانية، ويفسر الشوفي ذلك على أن أدبيات دين الموحدين الدروز تميّز بين رجال دين لهم دينهم وهم مستقلون عن الرجال الزمانيين الذين يقصد بهم كلّ من هم غير متدينين من مدنيين وسياسيين والشعب بعامته، وهذا “هو جذر العلمانية القائم على الفصل ما بين السياسة ورجال الدين”.

كما جاءت مشاركة عشائر البدو في الحراك الحالي كمكون أصيل من مكوّنات مجتمع السويداء بدلالاتها القاطعة على إنهاء تاريخ طويل من العلاقات المتوترة بين المكونين الدرزي والعشائري، والتي كان للنظام الدور الأبرز في تأجيجها منذ أحداث عام ٢٠٠٠.  يقول أبو محمد (اسم مستعار) لسوريا ما انحكت، وهو أحد أبناء عشائر البدو الذين يشاركون في الاحتجاجات الأخيرة: “إنها المرة الأولى التي نشارك فيها بمظاهرات السويداء بهذا الزخم، ونحن كعشائر السويداء نؤيد مطالب أهلنا، ورفعنا راية الخمس الحدود جنباً إلى جنب مع راية عشائر، لنؤكد على أننا شعب واحد ضد نظام مجرم وقاتل، منوّهاً عدم صحة ما يشاع عن مطالب بدولة درزية”.

لا بدّ كذلك من الإشارة إلى الدور الفاعل الذي تقوده النساء ضمن هذا الحراك عبر المشاركة في قيادة التظاهرات والهتاف، وصياغة الشعارات، وتنظيم الاعتصام ومراقبة التزامه بالسلمية، وتنظيم أنشطة مدنية سلمية وفنية ساهمت بزيادة زخم الحراك وتشجيع الأهالي على الانخراط في صفوف المحتجين، فضلاً عن مشاركتهن في اللقاءات الشعبية وحضورهن في الاجتماعات مع القيادات الروحية، فلم تغبن عن الساحات منذ اليوم الأول للحراك وبحسب سمر (اسم مستعار): “كانت ولازالت نساء السويداء شريكات للرجال عبر التاريخ، فلا تحرّر للمرأة  بدون تحرّر المجتمع، والنساء اليوم يملكن من الخبرات والتجارب ما يكفي لجعل مشاركاتهن أساسية وضرورية في أيّ حراك”.

رجال الكرامة أيضاً

أيّدت حركة رجال الكرامة وهي الفصيل المسلح الأبرز في السويداء مطالب الحراك، وبحسب المسؤول الإعلامي للحركة والذي فضّل عدم ذكر اسمه: “كان يصعب علينا في السابق كفصيل مسلح التدخل في أيّ حراك سياسي أو مدني لكننا دعماً لموقف الشيخ الهجري ومواقف المرجعيات الروحية، ونصرة لمطالب الأهالي المحقة، نقف اليوم إلى جانب الحراك، ويشارك فيه شبابنا بصفة مدنية كأبناء لهذه المحافظة، دون حمل السلاح، ونؤكد على استعدادنا التام لحماية الحراك من أيّ اعتداء، علماً أننا ملتزمون حتى اليوم بوصية الشيخ حكمت الهجري بالحفاظ على سلمية الحراك وعدم الانجرار نحو العنف، ومؤيدون لحكمة رؤيته”.

كانت حركة رجال الكرامة قد برزت كحركة اجتماعية مسلحة في العام ٢٠١٣ على يد الشيخ وحيد البلعوس (أبو فهد)، بهدف حماية الجبل من أيّ اعتداءات، وعارضت سوق الشبان الدروز للخدمة الإلزامية دون إرادتهم، حفاظاً على تحييد الطائفة الدرزية عن الدخول في الحرب لحساب أحد الأطراف، ورفع مؤسسها  شعار “دم السوري على السوري حرام”. وكان لها دور في حماية أبناء المحافظة من الاعتقالات والضغط لأجل الإفراج عن المعتقلين.

قُتل مؤسس الحركة، وحيد البلعوس،  في شهر أيلول من العام ٢٠١٥، رفقة العشرات من مقاتلي الحركة بعد انفجار استهدف موكبه في محافظة السويداء، لتتوّجه أصابع الاتهام إلى النظام السوري، وخلف البلعوس بعد اغتياله أخاه الشيخ رأفت البلعوس. وقد عانت الحركة خلال هذه الفترة من ضمورٍ في نشاطها قبل أن يُعْلَن رسمياً عن تنحي رأفت البلعوس عن زعامة الحركة بسبب ظروفه الصحية ليتولى بعده القيادة الشيخ أبو حسن يحيى الحجار في السادس من شباط من العام ٢٠١٧، وما يزال زعيماً للحركة حتّى الآن.

اتخذت الحركة في البداية موقفاً محايداً من سلطة النظام السوري، وغير معارض بشكل علني لكنه غير متساهل مع انتهاكات الأجهزة الأمنية وأذرعها في المحافظة، كما جاء على لسان مؤسسها في بيان نشر في تاريخ ١٥ نيسان عام ٢٠١٤، جاء فيه: “نحن أصحاب مبدأ ومنذ بداية الأحداث وفي احدى مضافات بلدتنا المزرعة التي افتخر بتاريخها وبأهلها ووسط جمع غفير من اهالي البلدة اوضحنا موقفنا بلا ريب ولاشك نحن لسنا مؤيدين ولا معارضين بل نحن وطنيون ومن لايغار على طائفته لا يغار على وطنه ومازلنا سائرين على هذا النهج وكل من يضر ابناء الطائفة ليس منا ولسنا منه”، لتتوّج موقفها اليوم بدعم علني للحراك، والمشاركة فيه.

مستجدات وتطورات

دخل الحراك السلمي في السويداء أسبوعه السادس على التوالي، فيما يحاول النظام السوري تحويله إلى مواجهة مسلحة، حيث أصدر مجلس محافظة السويداء في ١١ أيلول بياناً يؤيّد فيه المطالب المعيشية ومحاربة الفساد فقط: “إننا مع مطالب المواطنين بتحسين الوضع المعيشي للمواطن ومحاربة الفساد” لكنهم طالبوا بقمع المحتجين، “ونطلب من القوى الأمنية والجهات المسؤولة عن حفظ الأمن  ضرورة الحفاظ على أمن الموظفين والمؤسسات والدوائر لضمان استمرارية عملها دون أي عائق كان وذلك لتأمين الخدمات للمواطنين”.

مباشرة، ردّ المحتجون السلميون على هذا البيان، في تظاهرة يوم ١٣ أيلول في ساحة الكرامة، رافضين البيان الذي يدعو لقمع حراكهم، وعبّروا عنه برفع لافتات قالوا فيها “مجلس المحافظة لا يمثلني لايمثل سوى أعضائه”، ليشهد اليوم نفسه تطوّراً عنيفاً، تمثّل بإطلاق الرصاص على مجموعة من المحتجين السلميين المتواجدين أمام مبنى قيادة فرع حزب البعث في السويداء.

يقول الصحفي حسان دويعر لسوريا ما انحكت، عبر تطبيق واتسآب، والذي كان متواجداً أثناء الحادثة للتغطية الصحفية: “توجهت مجموعة من المحتجين إلى ساحة المبنى وحاولوا تحطيم تمثال حافظ الأسد، فقوبلوا بإطلاق النار في الهواء لتفريق المحتجين من قبل مسلحين متمركزين على سطح المبنى وأصيب ثلاثة محتجين بالشظايا إصابات طفيفة”. سبق هذه الحادثة تناقل معلومات عن وصول تعزيزات أمنية إلى قيادة شرطة المحافظة وفرع الحزب، بحسب دويعر: “لم يكن إطلاق الرصاص بهدف القتل المباشر وإنما بهدف الترهيب”.

غادر المحتجون على إثر الحادثة مبنى فرع الحزب، وتوجهوا إلى ساحة الكرامة، قبل توجههم إلى مضافة الشيخ حكمت الهجري لنقاش ما حدث، دون الرد على عنف البعث بعنف مضاد.

خلال كلمة مصوّرة للشيخ حكمت الهجري على خلفية ما جرى، أكد الشيخ على ضرورة ضبط النفس واستمرار الحراك بسلميته، مُديناً بيان مجلس المحافظة على اعتبارهم “هيئة تنفيذية غير تشريعية”، غير مخولّة بتمثيل الشعب، “مجلس المحافظة في الحقيقة غير منتخب، بل عيّن من قبل فئة صغيرة”. كما أدان حادثة إطلاق الرصاص بقوله : “أنا غير متفاجىْ من ما حصل، وأعرف أن أيّ سوء سيصيبنا سيكون بسبب هؤلاء الحزبيين الساقطين، الساحات لنا وسنبقى فيها بشكل سلمي يوم يومين، شهر وشهرين، سنة سنتين ولن نتراجع”.

بدوره الشيخ حمود الحناوي استهجن هذه الحادثة بقوله : “إطلاق النار لايمكن السكوت عنه، إلي بدو يطلق النار ع ولادنا بعدو ماعاش، لنا تجربة مع هذا النظام، لم نترك وسيلة من التواصل معهم لكنهم لايستجيبون، سكتنا طويلاً لنحافظ على وحدة الوطن ودم الأبناء، دوام الحال من المحال والعروش لاتدوم بالعبث والقهر والظلم”.  وفي المقابل ورداً على أحداث العنف الأخيرة حشد المحتجون لمظاهرة حاشدة في ساحة الكرامة يوم الجمعة ١٥ أيلول حيث وصفت بالأكبر منذ اندلاع الاحتجاجات، قام فيها أفراد من عائلة عزام بمبادرة فردية بتوزيع مناسف المليحية على المتظاهرين السلميين، وقاموا بتقديم منسف لقيادة الشرطة في المحافظة، تأكيداً منهم على سلمية حراكهم، ورفضهم الانحراف عن هذا المسار.

تقول سمر لسوريا ما انحكت: “أنا لست بعيدة عن الناس، فأنا أعيش معهم وبينهم وهمومي من همومهم ومطالبي من مطالبهم، ندرك بأنّ الطريق أمامنا طويل، ولكن المهم اليوم التركيز على المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والدفع باتجاه الضغط لتطبيق الحل السياسي بالقرار ٢٢٥٤، وهو الشعار الذي باتت الناس تهتف فيه بالساحات”.

صحفية سورية مقيمة في بيروت.

حكاية ما انحكت

—————————-

عَلَمُ السويداء: احتضانٌ للتنوّع أم تصنيعٌ للاختلاف؟/ مجد الغطريف

في مقالة مهمة للدكتور زيدون الزعبي يتطرق فيها إلى التناقض الظاهر في الحراك الشعبي السوري في السويداء، بين خطاب علماني وطني من جهة، وعَلَم ديني أصبح رمزًا بصريًا للحراك من جهة أخرى، يرى الزعبي أن تبنّي العَلَم ما هو إلا تعبير عفوي عن الهوية المحلية التي تتقاطع بشكل كبير في محافظة السويداء مع الهويّة الدرزيّة، ويضيف أن التعبير المحلي هذا لا يتعارض مع الهوية الوطنية التي ينبغي إعادة تشكيلها كي تكون حاضنة للهويات الفرعية.

في هذه المقالة، ومتابعة لنقاش خاص مع د. زيدون وبطلب منه، سأقدّم مراجعة لبعض المقدمات التي بنى عليها الكاتب هذا الاستنتاج. لكن، قبل الشروع في ذلك، أودّ التأكيد على أن المقالة هذه لا تهدف إلى انتقاد الخيار الشعبي، بل إلى تقديم نقد يحلّل السيرورات الاجتماعية الكامنة خلف هذا الخيار، وإلى وضعه في سياق يسمح بدراسة أبعاده من جهة، وفهم عمليّة تشكّل الهويات في الصراعات عمومًا من جهة أخرى.

من هنا، ستتطرق هذه المقالة إلى ثلاث نقاط رئيسية:

1. السيرورة التاريخية للعَلَم واستخدامه كهوية محلية

 2. الديناميّات التي جعلت هذا العَلَم رمزًا للحراك

 3. التداعيات طويلة الأمد لتبنّي رموز طائفية في سياق التعبير عن هوية محلية

أولًا: السيرورة التاريخية للعَلَم

يحمل العَلَم المرفوع في السويداء خمسة شرائط أفقية ملوّنة، هي كالتالي من أعلى إلى أسفل: أخضر، أحمر، أصفر، أزرق، أبيض.

ولهذه الألوان دلالات دينية يتجاوز شرحُها طبيعة هذه المقالة. لكنّ الجديرَ ذكره أن الألوان هذه ليست من صلب المعتقد الدرزي، بل مستقاة من نص اجتهادي حديث نسبيًا، يحاكي سردية فرسان نهاية العالم في سفر الرؤيا في العهد الجديد.

كذلك ينبغي الأخذ في الاعتبار أنّ كلًا من هذه الألوان يرمز إلى راية أحادية اللون. أما جمعها في علم واحد، فأنتج رمزًا بصريًا غرائبيًا منفصلًا عن الرموز البصرية المتعارف عليها في المنطقة، وشجّع على تكريس حالة عزلة ديموغرافية للدروز.

وبالعودة إلى الإمارات الدرزية، يمكن القول إنّ هذا العَلَم يختلف عمّا ظهر خلال القرون الأخيرة، بما في ذلك خلال مرحلة الانتداب وصولًا إلى خلق دويلة جبل الدروز. حينذاك، عمد الفرنسيون إلى التحقّق مما إذا كانت لدى الدروز ألوان ترمز إلى هويتهم، فطُرحت هذه الألوان ومعها هذا العلم.

واللافت أنه، في سياق الثورة السورية الكبرى التي قامت ضد الانتداب الذي أنتج عَلَم الحدود الخمسة، كان هناك ما يزيد عن 100 بيرق لقرى السويداء وعوائلها، جُلّها لونه أحمر ويحوي سيفًا أو هلالًا أو نجمة، في مقابل خمسة بيارق فقط حملت الحدود الخمسة كرمز ثانوي. وقد ظلّ الأمر على هذا النحو إلى أن استقرّ على تبنّي العَلَم الذي يحوي ألوان الثورة العربية.

    مع احتكاك الدروز السوريين بسائر الدروز الذين تمايزوا طائفيًا في لبنان وفلسطين، أصبح استخدام العَلَم أكثر مقبوليّة

وقد ظهر هذا العَلم مرة أخرى إثر تشكيل الكتيبة الدرزية في الجيش الإسرائيلي، مع تعديل تمثّل في تحويل الشريطة الخضراء إلى مثلّث جانبي عليه نجمة داوود.

في المقابل، حمل معظم الدروز في خضم الحرب الأهليّة في لبنان علم “الحزب التقدمي الاشتراكي”، غير الديني. لكن، مع انتهاء الحرب، برز ازديادٌ في استخدام الرمز الديني مجتمعيًا كتعبير عن الحالة الطائفية التي أنتجتها الحرب، بحيث تجاوزت المسألة التأطير الحزبي القتالي لتصبح تعبيرًا عن حالة ديموغرافية، يكون فيها الدرزي اللبناني درزيًا أولًا، ولبنانيًا ثانيًا.

وبالعودة إلى سوريا، يمكن القول إنّ المنحى العام للأقليات الطائفيّة في هذا البلد تمثّل بالسعي إلى ريادة أحزاب قومية (عربية أو سورية) أو وطنية، عوضًا عن أحزاب ذات هوية دينية. وخلال العهد العثماني، اقتصر استخدام العَلَم الدرزي على المؤسسات الدينية وبعض الفئات المحلّية العصبويّة. لكنّه لم يكن مستساغًا كتعبير هويّاتي لتعارضه مع فكر الغالبية العلمانية من أبناء السويداء، وكذلك مع السردية الوطنية وإرث الثورة السورية الكبرى.

أما في سياق الأزمة السورية الحالية، ونتيجة للتشظي المجتمعي الراهن والإشكالية المتصلة بالعَلَم السوري الرسمي، ومع احتكاك الدروز السوريين بسائر الدروز الذين تمايزوا طائفيًا في لبنان وفلسطين، فقد أصبح استخدام العَلَم أكثر مقبوليّة، خصوصًا عند المفاصل التاريخيّة التي تتطلّب تأمين حشد شعبي كما حدث بُعيد هجمات “داعش” عام 2018، وخلال انتفاضة 2023 اليوم. ومن المهم التأكيد هنا على أن شيوع استخدام هذا العَلَم منفصل عن الحالة العقائدية للدروز، وهو، في المقابل، لصيق بالحالة العصبوية الناشئة.

ثانيًا، الديناميّات التي جعلت العَلَم رمزًا للحراك

خلال الأيام الأولى لحراك السويداء، برزت بين المتظاهرين ثلاثة أَعلام: أوّلها العلم الرسمي، وثانيها علم الاستقلال، وثالثها العلم الطائفي.

إنّ أوّل ما دفع بالعَلَم الطائفي إلى المقدمة هي الإشكالية التي ينطوي عليها كل من العَلَمين الآخرين، وعدم صلاحيّتهما لأن يمثّلا عامل توحيد للحراك.

أما العامل الثاني فتمثّل بتصدّر الرئاسة الروحية للطائفة قيادةَ الحراك، واتخاذها موقفًا متقدمًا.

    أصبح أيّ نقد للعَلَم، في نظر أعدادٍ من المتظاهرين، بمثابة فعل “تآمري” ضدّ رمز وحّد الحراك

وقد أدّى تقاطع هاتين الديناميّتين إلى تسيّد العَلَم الطائفي متن التظاهرات سريعًا. ولعلّ قولَ أحد الناشطين اليساريين الرافعين للعلم إنّ “الغاية تبرر الوسيلة” خيرُ تعبير عن الجانب النفعي (المباشر) لهذا الخيار. إذ إنّ الرموز الدينية قادرة على لعب دور في الدفاع عن الحراك في مواجهة أي تصعيد أمني محتمل، كما أنها قادرة على حبك شبكة تضامن طائفي مع الدروز عبر العالم، وهو ما يعقّد الخيارات التي تقصر الحلول على بعدها المحلّي (يكفي هنا أن تنظر إلى صورة تجمّع دروز فلسطين/إسرائيل بدعوة من الشيخ موفق طريف وصور الحراك في السويداء لتتكشّف شبكة التضامن العابرة للحدود، والتي يعبّر عنها العَلَم).

بناء عليه، أصبح أيّ نقد للعَلَم، في نظر أعدادٍ من المتظاهرين، بمثابة فعل “تآمري” ضدّ رمز وحّد الحراك، بل بات في عداد قائمة “المقدّسات الثورية”، وهذه حالة مفهومة ــــ أي قابلة للتفسير ــــ مما يمكن وصفه بـ”استبداد الجموع”.

ثالثًا، التداعيات طويلة الأمد لتبنّي رموز طائفية

أعود هنا إلى مقالة د. الزعبي، التي يتساءل فيها عن سبب تحفّظ البعض على التعبير عن الهوية الطائفية، بدلًا من تقبّل التعدّد الهوياتيّ في مجتمعاتنا.

من المهم، في هذا السياق، الإشارة إلى أن الهويات الطائفية في المشرق هي هويات إثنية ــــ دينية ( ethno-religious). وهي تدلّ على تشكّل إثني (ethnogenesis) حول قاسم ديني وتاريخي مشترك بين أفراد مجموعة من البشر. بهذا المعنى، فإنّ التعصب الطائفي لا ينطوي على تعصّب عقائدي فحسب، بل يتعداه إلى ولاء للطائفة (كجماعة بشريّة قبليّة أو عرقيّة، أو جماعة تضمّ أبناء منطقة جغرافية، أو لها سمات دينية محدّدة).

    خيارنا كسوريين هو إما أن نقدّس حراكات تتشكل في بيئة سياسية مريضة، أو أن نشارك في دفع هذه الحراكات في اتجاهات أخرى

ويمكن القول إنّ غالبية أبناء السويداء ليسوا محافظين دينيًا. أما المتديّنون منهم فليسوا ناشطين سياسيًا. لكن، في ظل المأساة السوريّة الراهنة، يضحي مفهومًا أن تندفع مجموعات من الدروز نحو أشكال من التعبير الفئوي. إلا أن الكارثة تكمن في أن تتحوّل هذه الفئوية إلى بنى اجتماعية، وأن تُكرَّس الحالة الطارئة في النزاع السوري كحقيقة سياسية تمهّد لتأسيس بنى وطنية فاشلة، كما هو الحال في العراق ولبنان.

إنّ تبني رموز دينية للدروز يكرّس بعدًا عقائديًا ضعيفًا تاريخيًا، ويعيد تشكيل تصوّر الجماعة لنفسها، وتصوّر الآخر لها. أما محاولة “تمدين” الرمز الديني ليصبح “رمزًا حداثيًا” فمن شأنه أن يدخلنا في متاهات الأكثرية والأقلية مرة أخرى.

فإذا أصبح الرمز الديني معبّرًا عن المجتمع المحلي، ما هو وضع الأقليات المسيحية والسنية  في السويداء إذًا؟ هل سيُنظر إليهم كأصلاء أم كمواطني درجة ثانية فُرض عليهم رمز الأكثرية الذي لا يمثلهم؟ هل طرطوس و اللاذقية “علويتان”؟ وهل حماة “سنية”؟ ماذا عن “السلمية”؟

إنّ الاحتفال بالتنوّع وحريّة المعتقد والاجتماع الديني شيء، وترميزه بأعلام لا مناص من تحوّلها إلى أعلام سيادية تُماهي في استخدامها، ولو سلمًا، رايات الحرب خلال النزاع، شيء آخر.

كما أنّ الظواهر المجتمعية ليست جوهريّة أو ثابتة، فهي تولد وتتشكّل في سياق اقتصادي وسياسي، كما حدث في سياق الانتداب الفرنسي الذي تمّ خلاله تصنيع العلم الهوياتي.

فلاحو السويداء في مطلع القرن العشرين أدركوا هذا بفطرتهم، ورفعوا أعلامًا تصل ولا تفرق. وخيارنا كسوريين في هذا المخاض الطويل هو إما أن نقدّس حراكات تتشكل في بيئة سياسية مريضة، أو أن نشارك في دفع هذه الحراكات في اتجاهات أخرى، تخرجنا من مأساتنا الراهنة!

———————————

سويداء “الوطن للجميع” وحدودها الخمسة/ زيدون الزعبي

في مشهد بدا لكثيرين سورياليًا، راح متظاهرو السويداء يهتفون بشعار “الدين لله والوطن للجميع”، فيما علم “الحدود الخمسة” الخاص بالطائفة الدرزية يرفرف وسط التظاهرة!

أثار هذا المشهد زوبعة من الأسئلة على وسائل التواصل الاجتماعي: كيف يهتف الناس لـ”دولة المواطنة”، ويصدحون بشعار “الدين لله والوطن للجميع”، ويرفعون في الوقت عينه علم “الحدود الخمسة”؟ وكيف للمرجعيات الدينية أن تكون في قلب حدث يدعو ــــ في أحد أوجهه ــــ إلى تحقيق المواطنة المتساوية؟

ضجّت مواقع التواصل، كالعادة، بسجالات تعكس تأييدًا أو رفضًا للمشهد المذكور. ودعا البعض إلى التغاضي عن الأمر، إذ “مو وقته هسع”، على اعتبار أنّ المسألة “شكليّة” فيما المطالب المُثارة جوهريّة. لكنّ سؤالًا محوريًا ظلّ حاضرًا ــــ من دون إجابة ــــ برغم كلّ هذه الدعوات: لماذا لم يشعر المتظاهرون بأنّ العلم ذا الدلالة الدينية دخيلٌ على تظاهراتهم، التي ينادون فيها بشعارات المساواة والمواطنة؟ ألا يَبرز في أذهانهم أيُّ تعارض بين الأمرين فعلًا؟

ربما كان سؤال الهوية الذي فجّره حراك السويداء واحدًا من أصعب الأسئلة التي نخشى الإجابة عليها، بل أهمّ هذه الأسئلة: من نحن؟ وما الذي ينطوي عليه تنوّعنا “المُبهم” هذا؟ كيف لنا أن نحتفي بالتنوّع من دون أن نكون “طائفيين”؟ وماذا لو رفع العلويون والمسيحيون والإسماعيليون أعلامًا مشابهة؟

حسنًا، فلنُجر مقارنة سريعة. ثمّة من يُقرّ بجواز رفع العلم الكردي، فـ”الكرد جماعة ولهم حقوق”، حتى السلطة السورية صارت تعترف بها (كما تراها هي بطبيعة الحال). لكنّ الأمر يختلف لدى الحديث عن هوية خاصة تتمتع بها جماعة طائفية ما. يستدعي هذا التفاوت السؤال التالي: ما الذي يجعل الكرد جماعة معترفًا بها، بينما “الاعتراف بالخصوصية” لا ينسحب على “جماعة الدروز” مثلًا؟ ثمّ ما هي الجماعة في ذهننا، وما هو تعريفها أصلًا؟

بالطبع، ثمّة ما يبرّر المخاوف والحساسيات حيال بعض أشكال التعبير عن الهوية الطائفيّة. إذ إننا نعيش في إقليم تفتك بشعوبه نزاعات طائفية (حيّة أو كامنة) من العراق، مرورًا بلبنان واليمن، وصولًا إلى سوريا. غير أنّي أزعم أن الحروب في هذه البلدان تأسّست على عوامل عدّة، أبرزها غياب هوية وطنية جامعة تحترم الهويات المحليّة الفرعية، وتتوافق معها.

لا يمكن، بالتأكيد، التسليم بحلّ يقوم على بناء هوية وطنية ونظام سياسي على أساس الطوائف، وعلى هويات فرعيّة تعلو على الهوية الوطنية، وتُناقضها، بل تهدّد وجودها كما هو الحال في لبنان. لكن في الوقت الذي بنى فيه لبنان هويته الوطنية ونظامه السياسي على أساس طائفي فج، فقد حاول الاستبداد في سوريا والعراق (قبل الغزو الأميركي)، صهر الهويات الفرعية في وعاء قومي واحد، وبأدوات تسلطيّة قهريّة.

من هنا يلحّ السؤال التالي: هل يتمثّل الحل فعلًا في تشكيل هوية وطنية يتمّ إسقاطها من أعلى إلى أسفل، عبر أساليب قسريّة ترمي إلى إذابة الهويات الفرعية، وتعمد إلى تجريم الحديث عنها، فلا تسمح للعلوي أن يكون سوريًا وعلويًا في آن، وللسني أن يكون سوريًا وسنيًا، وكذا الأمر بالنسبة للكردي والدرزي… والقائمة تطول؟

ألا يُمكن أن يُسمح للعلويين بالاحتفال بعيد الرابع، وللكرد بعيد النيروز؟ ولماذا لا تحتفي سوريا بميلاد سلطان باشا الأطرش، ولا بذكرى الثورة السورية الكبرى؟ لماذا لا نعرف يوم ميلاد صالح العلي، أو تاريخ وفاته، ولا نُكرّم إبراهيم هنانو، وهذان ــــ وأمثالهما كثر ــــ من الرموز الوطنية، وإن كان طابعهما محليًا؟ واستطرادًا؛ هل أرادت السلطات السورية المتعاقبة لهذه الشخصيات أن تتمتع برمزية وطنية؟

نحن نحتفي بذكرى “الحركة التصحيحية”، و”حرب تشرين”، و”ثورة 8 آذار”، وتأسيس حزب “البعث”، لأن هذه المناسبات غير مرتبطة بذاكرة محلية، ولا بثقافة جماعة ما. لقد حاولت السلطات في سوريا، على مدى عقود، إذابة هذه الخصوصيات، فكانت النتيجة أن أسهَمت هذه السياسات في الانزلاق نحو حرب أهلية طاحنة.

بالإمكان أن نعثر على رأس خيط الحل، على الأرجح، في التوازن بين احترام الهويات الفرعية وبناء الهوية الوطنية.

وقبل أن نجيب على السؤال حول كيفيّة إحداث هذا التوازن، ربما يتعيّن علينا التطرق إلى السؤال المركزي الذي نتناوله هنا: ما المانع من بناء هوية وطنية جامعة، قائمة على المواطنة المتساوية من جهة، من دون إغفال الهويات الثقافية الخاصة من جهة أخرى؟ وعليه، لماذا لا يكون علم الحدود الخمسة جزءًا من هوية السويداء وبالتالي، ولو ضمنًا، جزءًا من الهوية السورية؟

أليس سلطان باشا الأطرش رمزًا وطنيًا ومحليًا ودرزيًا في آن (تعمّدت كتابة محلي ودرزي، فـ”الدرزية” جزء من هوية السويداء المحلية، ولا تختزلها كلها)؟ وهل حالَ “الوجهُ الدرزي” لشرارة الثورة السورية الكبرى دونَ اكتساب الأخيرة اسمها، كـ”ثورة سوريّة”، و”كبرى”؟ أليس هذا حالُ العديد من الدول التي تتّسم بالتنوّع مثل جنوب أفريقيا، وبلجيكا، وسويسرا، وروسيا، والهند، ودول أخرى أقامت توازنًا بين الهويّات المحليّة والهوية الوطنية؟

قد تصطدم الهويتان المذكورتان طبعًا في لحظة ما، وقد يظهر تناقض في بعض المواضع، وهنا تحديدًا يظهر دور النخبتين المثقفة والحاكمة في المواءمة والتوازن، بما يحفظ حقوق المواطنة الفردية، ويحمي الهوية الثقافية المحلية في آن.

وينجم هذا التوازن عن استيعاب محدّدات الهوية المحلية، المتمثلة بالاتصال الجغرافي والرموز التاريخية والثقافية والمجتمعية، أي عوامل تشكيل الهوية الوطنية ذاتها. غير أن الأولى يخلُقها المجتمع بنفسه، وتتطور بشكل طبيعي وعضوي، ومن دون تدخل كبير من النخب والسلطات الحاكمة، في حين أن الثانية تحتاج إلى نخب وطنية وسلطة رشيدة ترعاها، بما يسمح باحتواء الهويّات الفرعية بدلًا من تركها تنمو مشوّهة في الظل، وملوّثة بالتطرف والتعصب الأعمى. 

بناء على ما تقدّم، هل ما قام به جزء من المشاركين في حراك السويداء تأكيد على هوية محليّة منسجمة مع هويّة وطنية جامعة؟ أم أنه ينطوي على تعصب لهوية محلية على حساب ما هو وطني؟

ظنّي أن الإجابة تكمن في أن المشاركين في الحراك لم يكتفوا برفع علم الموحّدين الدروز فحسب، فإلى جانبه ظهرت أعلام أخرى دلالاتها وطنية واضحة، وهنا مربط الفرس!

من حقنا، بل من واجبنا، الخشية من الطائفية إذ تنهش لحم بلادنا اليوم. لكن ما الذي أوصلنا إليها؟ وألم يتبيّن أنها كانت حيّة في كثير من بيوتنا، ما سمح لها بتحويل الكثير منا إلى كائنات إقصائية وكارهة؟

إنّ الاحتفاء بالطوائف ورموزها هو احتفاء بالتنوّع، وهو سماح للتكامل بينها، تحت الشمس، لا في الظلال.

مرحى بكلّ ما تعنيه سوريا، بمكوّناتها كافة. مرحى بتنوعّنا وبثقافتنا الثرية، وبعلم واحد لا بد أن يُرفع يومًا، وتبعث رؤيته في أذهاننا أطيافَ سوريا كلها!

————————–

====================

تحديث 14 تشرين الأول 2023

—————————

ابتسامة بشّار الأسد التي لا تنتهي!/ أيمن الشوفي

يحرص بشّار الأسد على الابتسام، أن يظلّ مبتسماً، يحاول بدأبٍ إتقان هذا الفعل الميكانيكي البسيط الخالي من العيوب، وكأنه يتدارى به من رؤية سُلالة هزائمه السياسية المتلاحقة والممتدة لحظةَ تجسّدها أمامه. فعل ذلك في مدينة هانغجو الصينيّة، وفي قرية سياوتشينغ، برفقة زوجته. كان يُظهر تلك الابتسامة التي يفهمها السوريون أكثر من سواهم، وهي تقتحم وجهه المزروع بالبوتكس. أراد أن يبتسم سياسياً خلال رحلة نقاهته أخيرا في الصين، حين تفرّج على افتتاح دورة الألعاب الآسيوية الـ19، أو حين زار محافظتي طرطوس واللاذقية.

وغالباً ما تحتلُّ ابتسامة بشّار الأسد هيكل إيماءاته التي يتكئ عليها، فهي ليست ابتسامةَ سخرية، ولا تشفٍّ، وليست ابتسامةً عذبةً يمكن تصديقها، دائماً تتقعّر إلى الأسفل، كأنها انخسافٌ بائس يصيب شفتيه. تلك الابتسامة التي تطوّرت داخل حفلات التصفيق الصاخبة التي كان يعزفها له مجلس الشعب السوري باقتدار، أو حين كانت تتغذّى بأسمدة النفاق السياسي ورائحته المنبثقة من قيادة حزب البعث، وأحزاب الجبهة التقدميّة، وقيادات الاتحادات والنقابات المهنية، وتقارير رؤساء الأجهزة الأمنية حين كانت تُرفع إليه، وتخبره بأن الكون يتآمر مساءً على ابتسامته الجميلة، وهم يريدون إخماد (المؤامرات) إلى الأبد.

لم تتغيّر مكوّنات ابتسامة بشّار تلك، ولا وصفة تحضيرها، سواء خلال فترة عشقه “الأردوغانيّة السياسية” وذبح الصناعة السورية قربانٍا نذرَه لأجل اتفاقية للتجارة الحرة بين سورية وتركية جرى توقيعها عام 2007، أو من خلال عدائه الصبيانيّ لأردوغان لاحقاً، وبعد 2011 على وجه الخصوص. بقيت ابتسامةً مدّعية إذاً تتقمّص الهيئة نفسها، سواء قبل إحراق سورية وموتها الجائر، أو فيما بعده.

ولعلّ الخصائص “السيكوباتيّة” المُضمرة داخل ابتسامة رئيس النظام السوري جعلتها قابلة للمثول على وجهه بلا مشقّة أو عناء، وفي كل المواقف التي زجّها بها، فهي ثابتة الإيحاء، سواء كانت ترافقه في تفقّد كارثة الزلزال المدمّر الذي ضرب شمال البلاد في شهر فبراير/ شباط من هذا العام، أو حين كانت تستلقي على شفتيه، وهو يُحصي العطب الذي أصاب ريف اللاذقية بعد تعرّضه لحرائقَ هائلة مطلع شهر أغسطس/ آب الماضي، أو ربما حين كانت تُطالع بإعجاب ملامح وجه مذيعة التلفزيون الصيني الرسمي، وهي تجري مقابلةً مملّةً معه خلال زيارته الصين الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، وقد حازت بعد انتهائها على تشكيلة حلويات سورية محبوسة داخل علبة خشبية مطعّمة بالصدف، هي على الأرجح من مصنوعات سوق الحرف اليدوية والتقليدية الذي استولت عليه زوجتُه، مثلما استولت على الحرفيين الذين كانوا يعملون فيه، وصارت تصدّر إنتاجهم المستولى عليه إلى أسواق دافئة في الخليج، وأسواق أخرى تعشق الصناعات التقليدية شرقيّةَ الطابع. ولا تسأل عن علاقة “الأمانة السورية للتنمية” بتلك الصناعات، فتلك مؤسّسةُ تسيطر عليها أسماء الأسد، وترتديها كلما أرادت أن تستعير قطاعاً اقتصادياً أو خدمياً في سورية، لأجل أن تحلبه داخل وعاء رصيدها المالي، تفعل ذلك وهي مبتسمة، مثلما اعتاد زوجها الابتسام.

ولكن انتفاضة السويداء، بكل ما أنجبته من مظاهر احتجاجية، جاهدت بواسطتها لكي تقتصَّ من عجرفة النظام السياسي القائم و”زعيمه”، وذلك بإتلاف كثير من صور الأسد الأب والابن، وتحطيم عديد من تماثيلهما، جعلت من رحلة بشّار إلى الصين كما لو أنها رحلةُ نقاهة واستشفاء من كل المهانة التي صوّبتها إليه المحافظة الجنوبية، الثائرة عليه منذ نحو شهرين، وجعلت زوجته تُنشئ من هناك صفحةً خاصة لها على تطبيق “إنستغرام” لتبثَّ منها صوراً مناهضة لصور إهانة زوجها في الجنوب السوري، فكانت تحاول، على الأقل، تضميد ابتسامة العائلة الباهتة، ومعالجة أي عطبٍ محتملٍ قد يصيب ابتسامة زوجها المتململ أصلاً من شعارات حراك السويداء حين طاولته بصورةٍ جارحة، ومحرجة للغاية أمام باقي المناطق الخاضعة لسلطته، سيما في الساحل السوري، حيث تتركّز حاضنته الطائفية هناك.

أخيرا، صار بشّار الأسد يظهر بابتسامةٍ أقلّ اتساعاً من سابقاتها، وكأنه شذّبها مرغماً فوق عنقه الطويلة، التي تزداد هزالا مع الأيام، حتى خلال مشاركته أخيرا في إحياء ذكرى المولد النبوي في جامع عمر بن الخطاب في اللاذقية، كان فمهُ لا يجازف بأي ابتسامةٍ فسيحة التكوين كما اعتاد في السابق، وهذا ما ظهر عليه في زيارته أخيرا طرطوس، بعدما اهتدى إلى تقتير ابتساماته أيضاً، حين استقبله بعض مؤيّديه في الطريق العام، وفي الأماكن التي زارها، إذ ربما نبّهته مستشارته الإعلامية، لونا الشبل، إلى أن ابتسامته المتوهّجة باتت لا تناسب المرحلة السياسية الحالية من عمر البلاد، وأنها تكشف أكثر عن خلل عنقه الرفيعة، فيصير معها أكثر بشاعةً في عيون من يواليه.

ثم عاد ليختبئ بعد انتهاء معراج ابتساماته تلك بين الصين واللاذقية وطرطوس، بقي غائباً عن مشهد وداع من قضى في حادث استهداف حفل تخرّج ضباط الكلية الحربية في حمص بطائرة مسيّرة، والذي زادت فيه أعداد القتلى عن المائة، معظمهم من أبناء الطائفة العلوية. ربما جرفته هلوساته بعيداً إلى حيث يستطيع أن يتجاوز مقدرة نيرون على إحراق روما بلا ندم، إذ أسرع جيشُه وطائرات الاحتلال الروسي إلى قصف ريف إدلب، ليجمع منها عشرات القتلى والجرحى خلال أيام قليلة، بعد أن طارت رسائلُ استهدافِ ضباط الكلية الحربية إلى ثلاثة اتجاهات على الأقل، أولها إلى العمق الطائفي لزعيم النظام المبتسم، حيث التهمة الأثيرة على قلبه جاهزةٌ لإعادة بثّها مجدّداً داخل الوعي الجمعي للعلويين، وفيها أنهم مستهدفون، كالعادة، من الإرهاب بصورته السنيّة الراديكالية، وهو القادر على حمايتهم، ولديه أبواقٌ كثرٌ تنفعه بتسويق هذه المزاعم، ومنها المطرب ريبال الهادي الذي طالب جيش بشّار بالإسراع في إبادة إدلب، وإليها تطير الرسالة الثانية من وراء قصف حفل التخرّج ذاك بطائرةٍ مسيّرة، مفادها بأن في استطاعة النظام وحلفائه تسخين جبهة الشمال مع تركيا متى يشاؤون، وربما تكون الرسالة الثالثة موجّهةً إلى الدروز في الجنوب، وهم المواظبون على حراكهم السلمي المناهض لسلطة الأسد منذ قرابة 50 يوماً، ومفادها بأن في مقدور النظام وحليفه الإيراني اللعب بالمسيّرات المفخّخة داخل السويداء أيضاً، وإلصاق ذلك بتنظيم داعش على سبيل المثال، وتلك أيضاً تهمةٌ جاهزةٌ للتداول، لا يبخل النظام بإطلاقها متى تستدعي الحاجة.

أما في خراب سورية أخيرا، فتصبح ابتسامة بشّار الأسد بكلّ تلوّناتها، وجذرها “السيكوباتي” العميق مكوّناً أساسياً يشمت بكلّ هذا الخراب المدبّر ويغذّيه، وأحياناً يتذوّقه، ويعدّل على ميزان تكوينه، هكذا وباقتدارٍ إلى أن تفنى البلادُ بمن فيها.

———————–

=================

تحديث 08 تشرين الأول 2023

——————–

تعالوا نعاقب “السويداء” على فعلتها/ مالك داغستاني

لن يقول أحد من متصدري المشهد السياسي السوري اليوم، بأن السويداء فعلت ما تفعله، كحركة يمكن أن تشكّل حالة نهوض سوري جديد.لكنها  بفعلتها تلك إنما تخرِّب المخططات التي اشتغل عليها الضامنون برضا دولي لسنوات، فقد تداعى أغلبية أولئك المتصدرين وإن دون إعلان صريح، لتلفيق التهم لتحركها وخروجها عن الحالة القطيعية، لتخترق المشهد بهدوء بدايةً، ثم لتتصدره مع مرور الوقت، وتدفع إلى الصف الثاني وطنياً، بكل من ارتضوا حراسة الموت السريري لسوريا الأسد وسوريا المعارضة. تلك المعارضة التي قدمت في السنوات الأخيرة نسخة مشابهة بل وركيكة عن النظام. وإلا فماذا يعني أن أحداً لم يعد يتحرك في المناطق (المحررة) لمناصرة حراك السويداء؟

في كل محطة من محطات التنازل عن حق السوريين في إقامة دولة طبيعية ليس أكثر، كانت هناك بعض الانسحابات الشخصية، من الأجسام السياسية والعسكرية احتجاجاً. حتى وصلنا إلى اليوم، حيث لم يتبقَّ في تلك الواجهات إلا من يمتلك جاهزية عالية، وقابلية غير مشكوك فيها، بقدرته على السير بقتل ما تبقى من روح الثورة السورية، وقتل أي أمل لدى السوريين بتغيير قادم في سوريا. للمفارقة، نلاحظ جميعاً في السنوات الأخيرة أن التجمعات والمظاهرات التي تخرج في الشمال السوري قد تحولت إلى ظواهر فولكلورية، تُغنّى بها أغنيات من تراث الثورة، وتتردد خلالها هتافات الثورة في البدايات، التي لم يعد لها أي معنى حقيقي حالياً. فهي خالية من أي طرحٍ جديد يقول للمراقبين والمتابعين، بأن هناك حراكاً يحمل أهدافاً تناسب تطورات الوضع السوري. إنها تظاهراتٌ ميّتة مهما بلغت أعداد المشاركين بها، عندما لا تستحضر سوى صورة باهتةً عن الإفلاس والاجترار.

قتلت سلطات الأمر الواقع خلال السنوات الماضية، كل أمل لدى الشباب في مناطقها. الأمل باجتراح طرق جديدة للتعبير عن أنفسهم وعن أرائهم ومواقفهم، وأجهضت العديد من المحاولات لخلق تجمعات خارج أطرها، بما يمثل مواكبة للتطورات السياسية والعسكرية. فبعد أن اختلفت الأجندات لتغدو بمعظمها تمثيلاً للضامنين والداعمين، اختفى أي صوت يغرّد خارج القطيع، وحين يوجد في أحيان قليلة، فمصيره الاعتقال أو القتل أو التهديد بأحدهما، بما يذكر بممارسات نظام الأسد خلال العقود الماضية.

هل تذكرون شعار الموالين للأسد في السنة الأولى والثانية للثورة، حين لم يكن يكفيهم قتل المتظاهرين، وأرادوا من الأسد تدمير وإبادة حواضنهم، وحراثة مدنهم وقراهم؟ إنه الشعار الشهير “بشار للعيادة، ماهر للقيادة”، حيث اعتبروا أن رئيسهم ليّناً، ولن يجيد الرد الذي يأملون أن يكون إباديّاً، وهو ما سوف يجيده الأخ الأشرس، حسب اعتقادهم، ماهر الأسد. قريباً سنجد أصواتاً مشابهة تطالب الأسد بالحسم العسكري مع (الخونة الدروز الانفصاليين المرتبطين بالخارج). وكما نلاحظ فإن بعض التمهيدات النظرية قد بدأت عبر توجيه مثل تلك التهم الملفقة للحراك في السويداء.

مع ذلك ليس هناك تحرك سوري في باقي المناطق يظهر حقيقة الواقع، بأن معظم سوريا ناقمة على نظام الأسد لما أوصل البلد إليه من دمار وفقر وجوع. وإن كان مفهوماً حال الاستعصاء في مناطق سيطرة الأسد وميليشياته، وخوف الناس من البطش العاري هناك، فإنه أمر مخزٍ أن لا نرى أية مناصرة في المناطق الخارجة عن سيطرته. يبدو لي أحياناً، كأن هناك قرارا خفيّا بإظهار حراك السويداء على أنه ثورة مدينة (طائفة) وحيدة لها مطالب خاصة، رغم أن شعاراتها المرفوعة هي سوريّة خالصة، إضافة إلى أنها لا تحتوي على أية شطحات غير واقعية. فلماذا يجري الأمر على هذا النحو، ليبدو أن السوريين يعاقبون المدينة التي اخترقت جدار الصمت؟ السويداء إنما استطاعت فعل ما فعلته من بين كل مناطق سيطرة النظام، لخصوصية حالتها، ولتمردها الدائم، الذي حاول الأسد مراعاته منذ عام 2011، وليس لأي سبب آخر، كما يتهمها الكّذَبة، بمن فيهم أولئك الذين يسميهم الأسد “المعارضة الوطنية”.

طبعاً ليس عصيّاً على الإدراك ما يجري رغم أنه مُستهجن. فمعسكر قوى الثورة المضادة، وأنا هنا أقصد بوضوح تام، الائتلاف ولجنة المفاوضات واللجنة الدستورية وكافة الأجسام العسكرية والحكومة المؤقتة، قد تم ترويضها خلال السنوات الأخيرة لتحرس استمرار المأساة السورية واستمرار حالة الهمود، بما يخدم أجندات الدول الضامنة وتوجهات المجتمع الدولي. ولتساعد من حيث أرادت أو لم تُرِد في بقاء نظام الأسد. كل ذلك مقابل بقاءٍ رخيص لبعض المتنفذين المتسلقين في مواقعهم، إضافة لتأمين رواتب كفاف العيش لبضعة آلاف من المقاتلين، الذين بلا حول ولا قوّة، لتأتمرَ بنادقهم بأوامر قادة هم من الصَغار بحيث يعترفون جهاراً بولائهم لجهات غير سوريّة.

المؤسف بل والمخزي أن جميع مراحل اللعبة جرت أمامنا، حتى بدون محاولة تجميلها. تم الاتفاق على ماسُمّي (خفض التصعيد!) الذي بدا خفضاً من جانب واحد، حيث القصف ما زال يطول المناطق خارج سيطرة الأسد حتى اليوم. نتج عن الاتفاق ترحيل المقاتلين المعارضين تحت ضغط القصف إلى الشمال، ما أدى إلى تسلم النظام لمناطق عديدة من سوريا وإعادتها إلى سيطرته. سُلِّمت غوطة دمشق الشرقية والغربية وداريا، وبعدها حمص وريفها، تلتها حلب ودرعا، لتدخل قوات الأسد والميليشيات الإيرانية والقوات الروسية. وبالمقابل سيطرت قوى الأمر الواقع مناصفة بين ما سيُدعى الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام على شمال غرب سوريا. وبقيت قسد، بدعمٍ أميركي، تسيطر على الشمال الشرقي.

هناك الآن دعوات لإسقاط الائتلاف وباقي الهياكل السياسية، ولكن كيف للسوريين أن يثقوا إن كان خلف تلك الدعوات ضمير سوري حقيقي غير تابع، سوف يمضي بهم إلى البلد الذي يأملونه، أم هي مجرد رغبات ذاتية من أشخاص لا يختلفون كثيراً عن الموجودين الآن في الواجهة. أشخاص خاب أملهم من بقائهم طويلاً في الصف الثاني ويحلمون بالقفز إلى الصفوف الأولى. حقيقةً، فقد السوريون ثقتهم ليس فقط بالمؤسسات التي ادّعت تمثيلهم، ولكن بالأفراد أيضاً، وهذه كارثة يجب العمل على حلّها. ولكن كيف؟ مثلكم جميعاً، للأسف ليس لدي جواب.

تلفزيون سوريا

————————

مظاهرات السويداء في سوريا تؤكد الضرورة الملحّة الى الحل السياسي/ جمال الشوفي

رغم حجم الكارثة الكبرى التي حلت  طوال الاثناعشر عاماً عبر الحرب وا الاستعصاء السياسي في حل مسألتها التي بدت عقدة دولية متشابكة، لكنها لم تثن السوريون عن مثابرتهم وايمانهم بحقهم بالحياة الحرة والكريمة. ها هو طائر الفينيق السوري ينهض من تحت الرماد في موجة ثورية شعبية جديدة تطالب بالحرية والكرامة. فمن مدينة السويداء في الجنوب ، وللأسبوع السابع على التوالي، تستمر مظاهراتها الشعبية السلمية وبمشاركة متنوعة لكل أطياف الشعب السوري ممن تمكن من الوصول لساحاتها، وتتجاوب معها بعض من المدن السورية، معيدة احياء مسيرة الثورة السورية التي انطلقت في أذار 2011.

ساحة الكرامة في السويداء وساحات بلداتها وقراها أيضاً باتت ملتقىً وطنياً يومياً، لكل شرائح المجتمع تتقدمهم السيدات والشباب والشابات وفرق عمل مدنية، يتظاهرون مع رجال الدين والسياسة معارضين وموالاة وخلفهم كلمات الحق التي بثّها للعلن الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية ومطالبهم مطالب الحرية والكرامة والعيش الكريم في دولة المواطنة، وشعارهم التغيير السياسي كاستحقاق وطني طال انتظاره بمرجعية القرار الاممي 2254/2015.

في ساحات السويداء كرنفال احتفالي وطني، يكتنز حباً وكرامة وبحثاُ عن السلام والاستقرار والأمان والعيش الكريم، تزينها أغاني التراث الفني لجبل العرب، تسترجع ذاكرة السوريين في بدايات ثورتهم، فباتت عرساً وطنياً يمتد على مساحة وطن. أبناء هذه المنطقة من الأقليات المعروفة بالموحدين “الدروز”، ذوي الطبيعة المدنية والدينية المعتدلة، العلمانيون بالفكر والممارسة، فتدينهم لا يفرض على أبنائهم، ورجال دينهم لا يتعاطون السياسة ويكرهون الطائفية المقيتة. شارك الدروز بالثورة السورية سلمياً منذ 2011، والتزموا الحياد الايجابي من الحرب السورية وذلك مع انكشاف مدى التدخل الاقليمي والميليشوي الطائفي في سورية ونمو قوى التطرف والإرهاب وتغول سلطة النظام ضد الشعب يدءاً من 2013، فقاموا بسحب ابنائهم بنسبة عالية من الخدمة الالزامية وصلت لعشرات الالاف، رافضين المشاركة في المقتلة السورية. يرفضون الانعزال والمشاريع الانفصالية ووهم الادارة الذاتية. كما رفضوا قتال السلطة وفصائل المعارضة ويكرهون الحرب إلا اذا فرضت عليهم. ملتزمون بحماية أنفسهم أهلياً ما لم تتحقق الدولة الوطنية السورية وتأخذ دورها بذلك. ومع هذا فقد تعرضوا لهجمات متطرفة متعددة كان ابرزها هجوم داعش  تموز 2018. مؤخراً قناة الميادين التابعة للاعلام الايراني نشرت مقطعاً يظهر لأول مرّة عن احدى هذه الهجمات، في خطوة اعتبرت تهديداً من حزب الله للمظاهرات في السويداء

تحول المسألة السورية من مسألة نضال محلي يستهدف التغيير السياسي من سلطة الاستبداد العسكرية إلى دولة الحق والقانون، الى حرب إقليمية مفتوحة تتدخل فيها قوى متعددة بمقدمتها الميليشيات الإيرانية وجماعة حزب الله مقابل نمو قوى التطرف والإرهاب وعلى رأسها داعش بدءاً من العام 2013، لحين التدخل الروسي العسكري الفج فيها عام 2015؛ أتى على انهاك الشعب السوري وتحوله لسيل من المهجرين والنازحين، مع دمار معظم مدنه وبنيته التحتية واقتصاده وبقاء سكان الداخل أسرى بيد سلطة النظام القائم، يستنزف خيراتهم وحياتهم هم ويبيع مقدرات ما بقي من وطنهم دون أن يستجيب لأية مبادرة للحل السوري.

منذ العام 2018 لم يستجب النظام السوري لأي مبادرة سياسية من شأنها أن تفضي لحل للكارثة السورية وأزمتها السياسية. ولم تزل سورية غير آمنة للحياة فيها أو لعودة المهجرين، ومحكومة بعصابات وسلطات الأمر الواقع. كما أن المجتمع الدولي مرهون بتوازنات القوة العالمية ومحاورها الجيوبوليتيكية، والتي باتت تحتدم صراعاتها بأكثر من مكان في العالم بدأت من سورية ووصلت لقلب أوروبا في أوكرانيا، الأمر الذي ينذر شراً بالعالم كافة.

اليوم، ومع تيقن الشارع الشعبي بعدم نية النظام السوري تقديم أي تنازل لمصلحة السوريين، بأي حل سياسي يفضي لحلول اقتصادية ومعاشية، بل بالعكس تمارس سلطته المزيد من التعنت والصلف في الحلول السورية، سواء:

    بادعائه الزائف أنه نفذ القرار 2254 بأجرائه انتخابات رئاسية وبلدية، هي عبارة عن تعيينات يقوم بها حزب البعث وأحزاب جبهته المصنعة، لا تمت لنص القرار وروحه بشيء.

    تعطيله المستمر لأعمال اللجنة الدستورية.

    عدم استجابته الفعلية للمبادرة العربية الأخيرة.

    تحويل سورية والمنطقة الجنوبية ومنها مدينة السويداء لمعامل لصناعة وتجارة الكبتاغون إلى دول الجوار العربي والعالم كافة. فقد جندت اجهزته الأمنية عصابات الخطف والسلب والنهب برعاية جماعة حزب الله اللبناني لهذا الغرض، تلك التي كشفتها وقائع أحداث صيف تموز 2022 بالأدلة القاطعة حين داهم أهالي السويداء مقراً لتلك العصابات التابعة لأمنه العسكري.

إن السوريين ومنهم أبناء السويداء يدركون جيداً تفاصيل العملية السياسية الدولية، ويدركون صفات هذا النظام سيئة السمعة والصيت، ويدركون جيداً أن مصالح الدول المتحكمة في الملف السوري متعارضة ومتضاربة فيها، ويقومون بتصفية خلافاتهم على الأرض السورية مستفيدين من بقاء هذا النظام بوضعه الراهن، ما يفسر عدم الجدية بالتقدم بالحل السوري وتعقد وتداخل مساراته وغرقه بالتفاصيل، قبل الدخول الفعلي بالحل السياسي المستند للقرار الأممي 2254 القاضي بالبدء بمرحلة انتقالية تقودها حكومة وطنية لتأتي بعدها انتخاب هيئة تأسيسية تمثل كافة أطياف الشعب السوري، تشرف على صياغة دستور جديدوانتخابات ديموقراطية. فيما أن العملية السياسية وللعام الثامن، تراوح في مكانها بسبب البدء بمسار الحل السياسي بالعكس.

إن بدء الحل السياسي في سورية عبر تطبيق 2254 ومقدمته إلزام النظام والمعارضة بالانتقال السياسي الفوري تقوده حكومة انتقالية، سيمثل:

    مصلحة عامة للسوريين ودول الجوار العربي وكافة دول الشرق الأوسط والعالم أجمع، لما له من تخفيف حدة الاحتقان العالمي والبدء بفك تشابكاته وصراعته الحادة.

    سيحقق السلام والاستقرار للسوريين، ولدول الجوار كافة، والعالم أيضاً.

    سيمنع تحويل سورية لبؤرة للمخدرات وتوزيعها عالمياً.

    ويمنع ويوقف الحركات الجهادية والمتطرفة التي نمت على حساب السوريين وثورتهم.

اليوم اذ يستعيد السوريون ثورتهم في السويداء فأنهم يؤكدون أن التغيير السياسي والسلمي بات ضرورة ملحة وعاجلة، لا مجال للتأخير والمماطلة فيها. هذا التغيير السياسي الذي تعطل مراراً وتكراراً منذ قرار جنيف 1/2012، وقرار 2254، ومفاوضات جنيف المتتالية، جميعها تشير بما لا يقطع الشك، أن الحل السوري الفعلي لم يبدأ بعد، وأن نتائجه الكارثية مستمرة لليوم بملايين اللاجئين والنازحين داخلاً وخارجاً واستمرار هجرة الشباب السوري لليوم، وأن مستويات خط الفقر تجاوزت 95% من عموم السوريين، وسورية دولة غير آمنة وفي أخر السلم العالمي للحريات والتعليم والصحة والحياة….

و رغم المصاعب التي يواجهونها يبقى السوريون بمصرين بمظاهراتهم السلمية على ضرورة استحقاق التغير والانتقال السياسي، مطالبين بالسلام والاستقرار لسورية ودول الجوار العربي والشرق الأوسط والعالم.

جمال الشوفي.

دكتوراه في الفيزياء النووية، كاتب وباحث أكاديمي. السويداء/سورية،

——————————-

لماذا لا يدعم السوريون حراك السويداء وجبل العرب؟/ رشا عمران

يبدو مثيرا للاستغراب والدهشة موقف السوريين في مناطق النظـام من حراك مدينة السويداء الذي تجاوز شهره الثاني هذه الأيام، ذلك أن حياتهم مستمرة كما كانت قبل بدء الحراك، وكأن لا شيء يحدث في محافظة كاملة كانت تشكل جزءا أساسيا من سوريا (المفيدة) كما اقترحها ذات يوم رئيس النظام السوري. وحين نقول مثيرا للاستغراب فذلك لأن حراك السويداء، وإن بدا كما لو أنه إكمال للحدث الأكبر في التاريخ السوري الحديث، أقصد ثورة الربيع العربي التي انطلقت عام 2011، فإنه من ناحية أخرى يختلف عنها في تفاصيل كثيرة كان يمكن أن تشكل نقطة مهمة لعودة موجة جديدة من الربيع السوري (لنسمه ذلك افتراضا)، موجة شعبية وطنية عامة يتحرك فيها كل السوريين مدفوعين بهويتهم الوطنية السورية لا هوياتهم الدينية ولا الطائفية ولا الحزبية ولا العقائدية الإيديولوجية؛ فحراك السويداء حتى اللحظة هو حراك مدني شعبي وطني بالكامل، لا شبهة فيه لا (للإرهاب) ولا للعسكرة ولا للعنف ولا للانتقام ولا للطائفية، رغم اعتراض الكثيرين على علم الخمس حدود الخاص بالطائفة الدرزية، لكنه، من وجهة نظر شخصية، مع الخطاب الوطني الذي يعلنه الحراك، بما فيه خطاب مشايخ العقل، والبعيد تماما عن ذكر أي مفردة دينية أو طائفية أو تصنيف للحراك بوصفه حراكا درزيا، فإن علم الخمس حدود يشكل تأكيدا على الاختلاف الثقافي بين المواطنين؛ رغم الالتزام بهوية المواطنة السورية. خصوصا في غياب علم موحد يجمع جميع السوريين دون استثناء ويشكل لهم مظلة يلجؤون إليها حينما يمارس عليهم عنفا ما، وهي الخاصية التي فقدها العلم الرسمي للنظام مثلما فقدها العلم الذي اعتمدته الثورة لاحقا. إذ مورس تحت العلمين الكثير من العنف من سوريين بحق سوريين آخرين، وأدرجا تحت قائمة المقدسات والتابوهات السورية التي يجرم أو يخون كل من يعترض أو يناقش أمر وجود أحدهما، وهذا بحد ذاته ينسف فكرة الحماية والملجأ التي يمكن لعلم ما أن يشكلها. فالتقديس سلطة وفي السلطة، أية سلطة، ثمة عنف ما سوف يظهر في وقت ما.

كل ما يحدث في ساحة الكرامة وفي حراك السويداء عموما، كان يمكنه أن يكون نقطة جذب وانطلاقة لموجة شعبية شاملة، كما أسلفنا، فالحراك لم يخرج من الجوامع (كما اتهمت ثورة 2011) ولا من المواقف الدينية الخاصة بالطائفة الدرزية، وتشكل النساء نسبة عالية جدا فيه، وهن نساء غير محجبات ولا منقبات (كما تم اتهام النساء في ثورة 2011)، كما أن مجريات الحراك مدنية حضارية وحضرية، حيث تحولت ساحة الكرامة إلى ما يشبه مركزا ثقافيا ومعرضا لكل أنواع الفنون من الغناء إلى الموسيقا إلى الرسم والنحت والرقص والشعر والأدب والطبخ، حتى العصيانات التي دعا إليها الحراك هي عصيانات مدنية تستهدف الضغط على النظام لتحقيق بعض المكاسب لصالح الحراك، ولا وجود فيها لأية شبهة تدميرية أو تخريبية، ولم يحصل خلال الشهرين الماضيين أي حدث يمكنه أن يعطي انطباعا مغايرا عن مسار الحراك الشعبي.

الموقف الأمني الوحيد الذي حصل هو حين تم إطلاق النار من جهة فرع حزب البعث نحو المتظاهرين وتم احتواؤه بسرعة لمنع حصول ما لا يحمد عقباه. ما الذي  يمنع باقي السوريين من الانضمام للحراك ورفده بدعم شعبي كبير، على الأقل احتجاجا على التردي المهول في المعيشة والوضع الاقتصادي والغلاء والفساد والإتاوات والعصابات والقمع دون الدخول حاليا في شعار إسقاط النظام (رغم أنه ما من سوري لا يعرف أن كل ما يحدث في سوريا حاليا إنما هو بعلم وموافقة من النظام من أسفله حتى رأسه). ما الذي أيضا يخيف باقي السوريين في حراك السويداء حتى يصمتون تماما عنه ويتركونه وحيدا (حتى الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام تراجع عن الدعم)؟ وأيضا ما الذي يجعل شبيحة النظام والساحل السوري يستنفرون يوميا لتشويه الحراك وتشويه الداعين له ووصفهم بأوصاف مسيئة وتوجيه أقذع الشتائم لهم؟

في اعتقادي أن ما حصل خلال العقد الماضي أعاد سردية الخوف مضاعفة إلى وعي السوريين، فالعنف والإجرام الذي قوبلت به ثورة 2011 سوف يبقى طويلا في اللاوعي الجمعي السوري، مثلما استقر الخوف نفسه بعد مجزرة حماة وحلب في ثمانينيات القرن الماضي. مع ذكر أن زمن العنف في القرن الحالي طال كثيرا وامتد ليعمم على كل سوريا، حتى على المناطق والمحافظات المؤيدة للنظام أو تلك التي تشكل حاضنة له، كما يحلو للكثيرين القول، فحتى هذه الحاضنة تعرضت للعنف الشديد حين استخدمت كدرع بشري لحماية النظام ووضع أبناؤها في موجهة باقي إخوتهم  السوريين وتحولوا إلى قتلة ومقتولين حتى إن جيلين كاملين منهم (الذكور على وجه الخصوص) قد أمسيا ترابا عدا  المعطوبين والمصابين والمنكوبين والأيتام والأرامل والثكالى، هذا كله أفقد تلك الحاضنة سندا اقتصاديا رئيسا، ما جعلها تعاني من الفقر والفاقة والحاجة أضعاف ما يعانيه باقي السوريين، ذلك أن للسوريين الآخرين أهلا وأبناء تمكنوا من الخروج من سوريا واستقروا في مجتمعات جديدة أتاحت لهم ميزة إرسال مساعدات لمن تبقى من عوائلهم في الداخل السوري، وهو ما لم يتح إلا لقلة قليلة جدا من بيئات النظام التي يعيش غالبية سكانها في أوضاع معيشيه شديدة البؤس والانحدار؛ أليس هذا في حد ذاته عنفا مركزا وممنهجا لا يقل عن عنف القصف والتدمير والحصار وغيره من أنواع الإجرام التي تفنن النظام وحلفاؤه بها ضد السوريين طيلة العقد الماضي؟

على أن الخوف ليس وحده السبب في هذا الانكفاء عن مساندة السويداء وحراكها العظيم، ثمة أسباب أكثر تعقيدا وتركيبا من الخوف، رغم ما به من تعقيد، ولنتحدث أولا عن السوريين داخل مناطق سيطرة النظام، (دمشق والساحل السوري والوسط وحلب)، هذه المحافظات التي عاشت الحرب وآثارها المدمرة على كل الأصعدة كانت ومازالت منقسمة في العلاقة مع النظام والثورة؛ وللأمانة التاريخية فإنه ينبغي القول إن سكان المدن السورية الكبرى لم يستطيعوا أن يشكلوا حواضن للثورة يعول عليها، وذلك لتشابك الاقتصادي مع الاجتماعي والسياسي في البنية المعيشية لهؤلاء، ومع ما شهدوه وعايشوه من دمار وحرب وخراب فإن تفاعلهم مع حراك جديد كحراك السويداء سوف يحتاج وقتا طويلا لينجز أو ليتم، وسوف يحتاج إلى إيمان مطلق بأن الخراب السوري اليومي يتحمل مسؤوليته أولا النظام وسياساته، خصوصا وأن (الانتصار) على الإرهاب قد أنجز منذ مدة وعقدت الاحتفالات الشعبية في المدن الكبرى فرحا بالانتصارات، وأعلن المجتمع الدولي والعربي عن عزمه تطبيع العلاقات مع النظام، إذن لماذا يزداد الوضع المعيشي والاجتماعي والاقتصادي سوءا وترديا؟ هذا الإيمان ينبغي له ليحدث أن يقدم سكان هذه المدن مواطنيتهم على مصالحهم الاقتصادية، ينبغي لهم إعلاء شأن انتمائهم السوري وفك ارتباط سوريا بالنظام في أذهانهم، ومحاولة رؤية مستقبل سوريا بدون النظام والمقارنة بين مستقبل كهذا وبين الحاضر والماضي.

أما ما يخص الساحل السوري فالوضع أكثر تركيبا بكثير فبالإضافة إلى كل ما سبق، فأهل الساحل يدركون في قرارة أنفسهم أنهم متورطون بالدم وبالخراب السوري مهما ادعوا أنهم كانوا يدافعون عن الوطن لا عن النظام ولا عن امتيازات واهية يعتقدون أنهم يتمتعون بها. هذا التورط يجعلهم أكثر التصاقا بالنظام، ذلك أن رحيله قد يعني لهم أن سلسة من الانتقامات قد تكون قادمة ما يجعل كل الهواجس والمخاوف، قديمها وحديثها، تتجلى وتظهر وتتضخم ما يزيد من ارتباطهم بالنظام (الحامي)، ويبعدهم عن المواطنة وعن الهوية الوطنية لصالح أكثر الهويات ضيقا وتقوقعا.

في المقابل لا تختلف حالة سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام عن حالة سكان الساحل إلا من حيث التفاصيل، إذ فجأة توقفت مظاهرات التأييد التي ظهرت في بدايات حراك السويداء في إدلب وريفها الخارج عن سيطرة النظام، أما توقفها فيرجع، غالبا، إلي رغبة قوات الأمر الواقع المسيطرة على تلك المناطق، والتي كانت السبب في أسلمة الثورة وإلباسها لبوسا دينيا ومذهبيا، هذه القوات والكتائب سوف ترى في مدنية حراك السويداء ومطالبه بفصل الدين عن الدولة تهديدا مباشرا لها ولوجودها فيما لو انتقلت هذه المطالب إلى مناطقها، عليها إذاً أن تعلن رفضها للحراك تحت مسميات عديدة منها مثلا أنها ثورة جياع بينما الثورة السورية للحرية والكرامة (أين الحرية والكرامة في الشمال السوري حاليا؟) أو أنه بأمر من النظام باعتبار النظام لم يقم بقصفها وقمعها (يعرف الجميع حساسية السويداء وجبل العرب للمنطقة عموما)، أو أن هدف الحراك هو الانفصال وإقامة دويلة درزية إلى آخر هذه الذرائع التي يضعها المرعبون من عودة سوريا إلى مدنيتها وطبيعة شعبها المتسامح والوسطي.

———————–

السويداء: عروسان في ساحة الكرامة وتحضيرات لمظاهرة الجمعة المركزية/ ليث أبي نادر

بينما يحضّر المحتجون في السويداء جنوب سورية لفعاليتهم الأسبوعية المركزية يوم غد الجمعة، شهدت ساحة الكرامة اليوم إقامة عرس الشابين حمد وآية الصحناوي، بمشاركة عدد من المتظاهرين.

وشهدت الساحة خلال الأسبوع الأخير حالات مشابهة، دمجت الاجتماعي بالسياسي، حيث كان لحضور الشاب مدحت أبو رسلان بطفلته ابنة الساعتين إلى الساحة صدى كبير وجد فيه الكثيرون من أبناء المحافظة إضافة مميزة وذات مدلول عميق في نفوسهم.

    #شاهد: عروسان يصلان إلى ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء حيث تستمر المظاهرات في الساحة، لليوم السابع والأربعين على التوالي. اليوم الخميس، الخامس من تشرين الأول.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/BlYZDont0M

    — السويداء 24 (@suwayda24) October 5, 2023

وفيما شهدت ساحات قريتي الهيات وسليم مساء أمس الأربعاء، وقفات احتجاجية، تتوالى الدعوات في القرى والبلدات والمدن على مساحة المحافظة لتنظيم مثل هذه الوقفات الاحتجاجية المسائية.

وعادة ما يلجأ العشرات من المحتجين إلى المناطق الأخرى التي تنظم بها وقفات احتجاجية عندما لا يستطيعون الوصول إلى ساحة الكرامة للمشاركة في الاحتجاجات، نتيجة الظروف المادية أو الصحية أو حتى نتيجة ضغط الحكومة على أصحاب حافلات النقل العامة بهدف عدم نقل المتظاهرين ومنعا لازدياد زخم الاحتجاجات.

من التظاهرات في السويداء، سبتمبر الماضي (سام حريري/فرانس برس)

وتشكل هذه الظاهرة ما يشبه “الأعراس”، وتلقى ترحيبا من قبل المناطق التي تستضيفها.

ومن الناحية التنظيمية للحراك، يستمر المحتجون وأهالي القرى والبلدات منذ الأسبوع الثاني للحراك بانتخاب ممثليهم في اللجان المركزية على مستوى المدن التابعين لها إداريا وبشكل ديمقراطي دون أي فرض أو تزكية فئوية، انطلاقا من مبدأ تطبيق الحرية والديمقراطية التي تعد أول مطالب الحراك السلمي في السويداء.

تساؤلات حول مستقبل الحراك

ومع ذلك، تثار تساؤلات بين المراقبين والمحتجين أنفسهم حول مستقبل الحراك ومفاعيله السياسية المحتملة. وفي هذا السياق، قال الناشط السياسي مروان حمزة لـ”العربي الجديد”، إن “هذه الانتفاضة حركت المياه الراكدة للقضية السورية بعد جمود منذ عام 2018”.

واعتبر أن الحراك نجح في إحداث تغيير وتجديد في المسار السياسي، من خلال إعادة إحياء مسألة القرار الأممي 2254 الذي التف عليه النظام لسنوات ودفعه إلى “أدراج الحوارات والمباحثات التي استمرت لأكثر من ثماني سنوات في أروقة الأمم المتحدة وسوتشي ومقرات أخرى”.

وبحسب الناشط السياسي، فإن القرار 2254 طفا إلى السطح مجددا بفعل الحراك في السويداء، وجعل المبعوث الأممي لسورية غير بيدرسون المسؤول عن المباحثات الخاصة بتطبيق القرار الأممي “أمام مساءلة ضمنية حول ما حققه بشأن القرار، وأمام اتهام ضمني بشراكة بيدرسون مع النظام السوري بتمييع القضية السورية والتعتيم عليها بدليل الإحاطة التي قدمها للأمم المتحدة”.

وكان بيدرسون قد قال في إحاطته إن الحل السياسي في سورية صعب.

ويتساءل الباحث “لماذا الحل صعب؟، هل ذلك نتيجة عدم وصول القوى العظمى لحل سياسي للقضية السورية فعلا، أم لأن كلمة السر لرحيل النظام عند إسرائيل ولم تضعها على الطاولة حتى الآن؟”، بحسب تعبيره.

وتابع “الحل فعلا هو بيد الكيان الاسرائيلي الذي لم ولن يجد أفضل من النظام الحالي لضمان أمنه ودوامه في المنطقة منذ 50 عاما”.

وأكد حمزة أن ورقة حماية الأقليات التي استخدمها النظام منذ سيطرته على مفاصل الحكم في البلاد سقطت منذ الأيام الأولى للثورة السورية عام 2011، ولكن النظام هو الذي لا يزال متمسكا بها لضمان بقائه، مشيرا إلى أن هذه المسألة باتت يقيناً لا لبس فيه لدى كل السوريين.

——————————–

السويداء.. سوريا.. معركة الوجود والعدم/ جبر الشوفي

نكون أو لا نكون (TO BE OR NOT TO BE ) شعار، كان ويتجدد كل يوم بوصفه عنواناً كثيفاً جامعاً لاستحقاق سوري تحدد معالمه معركة الوجود المصيرية التي أطلقتها وحررت طاقتها الهائلة ثورة السوريين العظيمة عام 2011، وما بنى عليها حراك السوريين الذي تزخر بمعطيات الصراع الوجودي الذي مازال دائراً على مساحة الأرض السورية، في داخلها ومحيطها وبعيدا عنها، وحيث أسفر الصراع عن أشكال من الاحتلال وفرض إرادات ما يسمى بقوى الأمر الواقع المتماهية مع داعميها الإقليميين والدوليين. وما يضاف إلى ذلك من صالونات وجولات سياسية ودبلوماسية إقليمية ودولية عبثية، بدت وكأنما كلما التفتت الدول إلى قضيتنا السورية، تراجعت القضية وازداد الأفق انغلاقاً وقتامة، لكي يبقى الأمل معلقاً بنهضة السوريين وحملهم لقضيتهم، وبالتفاعل مع قوة ومدى اتساع حالة الغليان المجتمعي بوصفه البنية التحية الصلبة وقوة الدفع الأهم نحو الخلاص الوطني والتغيير السياسي الاجتماعي الشامل وفقاً لثقافة ووعي اكتسبه هذا المجتمع أو تلك المجتمعات السورية المتباينة والملتفة حول راية التغيير ونحو الحرية والكرامة ودولة الحق والقانون.

نكون أو لا نكون عنوان لتحديات معركة وجودية مصيرية، جرى تعليقها النسبي، منذ سقوط حلب واستجرار شلة من السياسيين التابعين والفصائل المسلحة إلى آستانا، لتسقط في فخ التفاوض السياسي بصورة أفظع وأبشع من سقوطها العسكري ثمّ ليتضح للجميع أن سقوطها الأخلاقي، كان هو المقدمة الأولى لكل حالات السقوط التالية، ومنذ قيامها بدور حصان طروادة الذي اخترق جسم الثورة، وأتاح للنظام أن يهلل لانتصاره وليشد على أياديه عرب أخافهم الزلزال السوري المتجه نحو تمكين الحرية وإقامة الديمقراطية ودولة للمواطنة.

ما يستدعي هذه المقدمة وهذا التوضيح هو حالة سياسية سورية، ما زلنا نراقب بقلق واستهجان ملامحها وتداعياتها على امتداد الأرض السورية، ولا سيما في أوساط من يتجاهلون أو يتعاطون بسلبية مع الحراك المدني المتصاعد نحو حل جذري، فيه شفاء وخلاص للسوريين من نظام القهر وفطور سلطات الأمر الواقع والخلاص من الاحتلال المتعدد للأرض السورية، والدعوة لإقامة النظام البديل والوحيد الذي يؤمن الاستقرار والتعايش الكريم بالتقاطع، بين الانتماءات المحلية والانتماء الوطني بهويته الجامعة، والذي لا يمر إلا بالاعتراف المتبادل مع الآخر المختلف، بوصفه ضرورة لمعرفة الذات الجمعية والوجدان العام وبلورة هوية سورية جديدة، تقوم على مشاريع التنمية المتكاملة وطاقة كادرها الوطني من دون إقصاء أو تهميش.

والآن وقد بدت لي أهمية وضرورة حراك السويداء الشامل وقدرته الفائقة على تجديد دينامياته كل يوم، ليس فقط لتجديد روح ثورة الشعب السوري العظيمة 2011 ومتابعة شعاراتها ومسارها السلمي فحسب، بل لاستنهاض المتراخين وإعادة ترتيب فوضاها وبلورة الاصطفاف السياسي في كامل الساحة السورية، بين أنصار الحرية والديمقراطية والحداثة والتغيريين الحقيقيين بشكل عام وخيول التسابق والصهيل بالفراغ والذين جربوا القفز إلى قيادة الثورة بالسلاح تارة وبالمراهنة على بنادق مأجورة تارة أخرى. ولما فشلوا سياسياً وتعرى نهجهم البراغماتي المبتذل، لاذوا في كيانات متهالكة كالائتلاف والهيئات، آملين أن يكون لهم القسط الأوفر في حال نفذت الدول القرار 2254 عبر حلول وسطية وشراكة مع رأس النظام أو بعض ركائزه الأمينة والسياسية الملوثة بدماء السوريين.

هل نقول للمتحفظين والمتربصين وأهل التقية السياسية والباطنيين: إن انتفاضة الجنوب هي انتفاضة سورية، فاصلة واصلة، لأنها تفصل تاريخياً بين الكلمة الحاسمة ومجمل التحديات المستحقة وبين من اختطفوا الثورة وألبسوها العبي ودشاديش العصور الوسطى ورهنوها لحساباتهم وأجنداتهم. وهي انتفاضة واصلة، لأنها تصل ما انقطع من مسار الحرية والكرامة وتضعها في مكانها وزمانها الصحيحين، وقد أخذت على عاتقها طرح حلول جذرية للاستحقاق الرئيسي وهو الخلاص من الاستبداد القائم والاستبداد المتحفز للانقضاض على الثورة وامتصاص ذخائرها وتفريغها بمقولات مخادعة ماكرة.

هو ذا محور التحدي وأسه ورافعته، وهو دعوة واجبة على كل السوريين مواجهتها للخروج من مأساتهم ومن تشتتهم وتصدع هويتهم الوطنية الجامعة. فالحرية التي ينادون بها لم تكن يوماً مجرد كلمة سورية بل معركة وجودية مصيرية وهدفاً نبيلاً جامعا، وقد عاد يتصدى جهراً وسراً من أقصى الجنوب إلى أقصى البلاد متجاوزاً سلطات الأمر الواقع وحواجز نظام الفساد والإفساد والجريمة. إنها مفتاح الحل ومنتهاه وقد هُيئ للسويداء الآن أن تكون بؤرته المتوهجة وأن تجسده إرادة، تدحرجت من الأمنيات والأحلام إلى ساحة الكرامة وتفجرت هتافاً غاضباً، جوهره التأكيد على ضرورة التغيير السياسي السلمي نحو الحرية والعدالة والحقوق المشروعة، وهي المهام التي أرعبت نظام الوريث الغر، حينما أطلقها إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي السلمي 2007 فرمى عددا من قياديه وكوادره في سجونه وعمل جاهداً على تفكيكه وطي خريطة التغيير الشامل التي رسمها ونادى بها ومعه أوسع تكتل سياسي اجتماعي حينذاك.

(هنا السويداء.. هنا سوريا) ومن على صفيح ساخن وفي مفصل تاريخي هام، يمثله هروب رئيس النظام إلى الأمام حيث الصين بعد فشل وإفشال مرين. إنه مفصل يستقطب السوريين لكي ينهضوا جميعاً نحو البديل الوطني الديمقراطي ويسقطوا ملفوظات النظام الجوفاء عن التطرف والمؤامرة الكونية ويتركوه عارياً أمام الرأي العام العالمي ومحاكمه العادلة ليضيف ملف إمبراطور الكبتاغون إلى سجله الإجرامي المتعددة ولاستعادة الحقوق السورية المغتصبة.

(هنا السويداء.. هنا سوريا) يد تصافح وقلب ينبض بالمحبة وعزيمة سورية، تتصاعد نحو التغيير السياسي بدعم كل المناصرين لحقوق الشعب في الأمن والحرية والصحة والتعليم وتأمين وسائل العيش التي ذراها نظام تغوّل على كل شيء في سبيل إدامة سلطته.

هي دعوة سلمية لحراك سلمي يتجاوز المنطقة الجنوبية وينتشر ويعمم رغم معرفتنا بالعوائق والصعوبات الاجتماعية الأمنية المتباينة، وهي فرصة لكي نقول للائذين بصمتهم المريب والمتزينين بأزياء دينية طائفية أو إثنية ملغومة أو اجتماعية عشائرية أو غير ذلك، لن نسمح لكم بالمتاجرة بآمال السوريين ولا بالانقضاض عليها ومصادرة مسار التغيير السياسي الجذري الذي حددت ملامحه وشروطه الجماهير المنتفضة في ساحة الكرامة والساحات السورية عامة، والتي يشكل القرار 2254 حدها الأدنى في ظل ما يعانيه من اختناق في أدراج الدول، ويبدو أننا بتنا بأمس الحاجة إلى وضعه على سكة التنفيذ ليكون فعلاً قراراً ملبياً لآمال السوريين في التغيير السياسي الاجتماعي المتكامل.

تلفزيون سوريا

——————–

احتجاجات السويداء: النظام السوري يعطل المؤسسات لمعاقبة مؤيدي الحراك/ ليث أبي نادر

شهد يوم أول من أمس الاثنين، الذي يحمل الرقم 44 لاحتجاجات السويداء، جنوب سورية، تطوراً لافتاً، تمثل في اعتصام سلمي لعدد من المحامين أمام قصر العدل في المحافظة، بعد تجاوزات من قبل قضاة على محامين يؤيدون الحراك الشعبي، واستمرار النائب العام للمحافظة فؤاد سلوم باستخدام صلاحياته بتعطيل القضاء وإقفال القصر العدلي أمام المواطنين.

وكانت دعوة قد انتشرت، مساء الأحد الماضي، عبر تطبيق “واتساب” مخصصة للمحامين والمحاميات للاعتصام أمام القصر العدلي، بعد حادثة شهدتها السويداء، الأسبوع الماضي، عندما حاول القاضي شادي مرشد توقيف محامٍ عن طريق شرطة المحكمة، بحجة اعتبرت واهية ودون أي إنذار مسبق، ما جعل غالبية المحامين يحتجون على هذا التعدي.

المحامي صالح علم الدين، الذي تعرض لمحاولة الاعتقال داخل القصر العدلي عند دخوله مكتب أحد القضاة، بسبب مشاركته في تظاهرات ساحة الكرامة في السويداء، طالب بنقل مرشد إلى خارج السويداء كعقوبة على تصرفه هذا. واشتكى إلى فرع نقابة المحامين، التي اكتفت بالاستفسار، من دون أي موقف حازم يمنع التعدي وتجاوز القانون، أو حتى القيام بالتوقف عن المرافعة لنصف ساعة احتجاجاً، كما جرت العادة في نقابة محامي المحافظة في حال التجاوز على أي من المحامين المنتسبين لها.

وقال الناشط الحقوقي المحامي عادل الهادي، الذي كان أول من تحدث عن الاعتداء على زميله، لـ”العربي الجديد”، إن “الوظيفة العامة ليست ملكاً لأحد، لا حزب ولا شخص، كائناً من كان”.

القاضي لا يصح أن يكون “مرتزقاً”

وأوضح أنه “يمنع على القاضي أن يكون له موقف سياسي أو حزبي بموجب قانون السلطة القضائية، وهذا يعني أن القاضي لا يصح أن يكون شبيحاً أو مرتزقاً، لأنه بذلك يخالف أحكام القانون”، مؤكداً أن “الاعتداء على أحد الزملاء المحامين في قصر العدل أمر غير مقبول”.

ووقف المحامون احتجاجاً أمام القصر العدلي، الاثنين الماضي، وأصدروا بياناً استنكروا فيه الاعتداء على زميلهم شخصياً ومعنوياً، مؤكدين وقوفهم إلى جانب العدالة والقانون، معتبرين أن قصر العدل هو المكان الذي يفترض أن تتحقق فيه العدالة والقانون دون تمييز أو محاباة.

وأضاف البيان أن “الاعتصام سلمي وخاص بالمحامين فقط”، مشيرين إلى أنهم فوجئوا بقرار النائب العام إغلاق قصر العدل وتعطيل قضايا المواطنين والمحامين والقضاة.

وكان النائب العام قد سبق وعطل العمل في قصر العدل لعدة أيام في بداية الحراك الشعبي، مبرراً الأمر بحماية القضاة والمحامين من أي اعتداء. ولم يسمح بعودة القضاة للعمل إلا بعد ضغط شعبي كبير، واتصال مباشر من شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سورية حكمت الهجري.

يذكر أن نقابة المحامين في السويداء كانت السباقة من بين النقابات في المحافظات بالاعتصام والوقوف إلى جانب الحراك في سورية عند اندلاعه في ربيع العام 2011، حيث اعتصم محامو السويداء أمام النقابة وأصدروا بياناً مؤيداً للحراك السلمي، وطالبوا السلطات بتنفيذ وحماية التشريعات التي تقر بحق المواطنين في التظاهر والتعبير، ودانوا أعمال العنف التي يتعرض لها المتظاهرون السلميون. وقد أدى هذا الاعتصام حينها إلى اقتحام نقابة المحامين، والاعتداء على بعض المحامين بالضرب واعتقال البعض.

النائب العام بالسويداء “محارب” للعدالة

كمال أبو العز، وهو اسم مستعار لمحامٍ منتسب لنقابة محامي السويداء، قال، لـ”العربي الجديد”: “نأسف أن يكون النائب العام في المحافظة قطب من أقطاب محاربة العدالة، وهذا للأسف ليس جديداً، وقد تم تعيينه منذ البداية بناء على محسوبيات نتيجة ارتباط وثيق لأخيه، الذي يقود فصائل الدفاع الوطني (مليشيات حليفة للنظام)، مع أجهزة النظام في دمشق، الأمر الذي سهل له إمساك زمام الأمور في القصر العدلي، والتحكم بقراراته، وتهميش العديد من قرارات القضاة على مدى أكثر من أربع سنوات”.

وأضاف: “المؤسف أكثر أنه مع انطلاق الاحتجاجات في السويداء لعب القاضي فؤاد سلوم، الدور الأكبر في تضليل الرأي العام تجاه المحتجين، وتكرس ذلك بإصداره قراراً غير مكتوب طلب فيه من الموظفين في المحكمة والمحامين والقضاة عبر مجموعة واتساب عدم الدوام مع بداية الحراك، لإيهام الشارع بأن المتظاهرين هم الذين أغلقوا القصر وعطلوا مصالح المواطنين”. وتابع: “فوجئنا بعد أيام بأن أسماء من اعترضوا على قراره أصبحت ضمن القوائم المطلوبة أمنياً من قبل أفرع النظام”.

وشهدت العديد من المؤسسات الخدمية في المحافظة محاولات عدة لتعطيل أعمال المواطنين واحتياجاتهم اليومية، حيث أغلقت السلطات منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي مكتب وزارة الخارجية الكائن في مقر المجلس البلدي، وكذلك بدأت تتفاقم معاناة المواطنين جراء محاولات تعطيل المؤسسات الخدمية الرئيسية كالمياه والكهرباء والاتصالات.

محاولات النظام لإفقار المواطن وإذلاله

وقال الناشط عماد العشعوش، لـ”العربي الجديد”: “نحن نشهد في محافظة السويداء محاولات يومية لإفقار المواطن وإذلاله، وبات واضحاً للجميع أن السلطة الحاكمة تحاول الضغط لوقف الاحتجاجات الشعبية عبر عرقلة أعمال المواطنين وحاجاتهم”.

وأضاف: “منذ بداية الاحتجاجات يسعى النظام لإنشاء شارع معاد للمتظاهرين، وخلق توتر وفوضى وصدام بين المواطنين، من خلال تحميل مسؤولية الفساد السياسي والاقتصادي والخدمي المستشري في مؤسسات الدولة للحراك الشعبي، واتهامه بتعطيل المؤسسات والخدمات العامة في المحافظة”.

أحد موظفي دائرة الأحوال المدنية والنفوس في السويداء قال، لـ”العربي الجديد”: “أدى الاعتصام في بدايته إلى وقوف غالبية الموظفين في جميع المؤسسات العامة مع الحراك الشعبي، من خلال إغلاق المؤسسات وإعطاء مبرر لغياب الموظف عن مكان عمله. وفي ما بعد أدرك منظمو الحراك الانعكاس السلبي لإغلاق بعض المؤسسات فدعوا لعملها وساهموا بحمايتها من أي أعمال شغب أو تخريب”.

وأضاف: “لكن وجدت السلطات الأمنية في إغلاق أو تعطيل بعض الأقسام، بشكل كلي أو جزئي، الفرصة المناسبة لخلق نقمة شعبية ضد المتظاهرين”.

وبات من الطبيعي أن ينتظر المواطن لساعات في أي مؤسسة بحجة تعطل شبكة البيانات، أو الكومبيوتر، أو الطابعة، أو مولدة الكهرباء، إلى جانب غياب الموظف لأسباب تعطل المواصلات وازدحام السير وغيره من الأسباب التي تُلقى على عاتق الحراك في السويداء.

وكانت مؤسسة مياه الشرب في محافظة السويداء قد شهدت، أمس الثلاثاء، احتجاجات شعبية، حيث قام عدد من أبناء مدينة السويداء بإقفال الباب الرئيسي لفترة من الوقت احتجاجاً على فساد العاملين في المؤسسة، وعدم حصول السكان على الماء، فيما قام محتجون من أبناء بلدة قنوات بإغلاق محطة المياه للسبب نفسه.

من ناحية أخرى، تابعت لجان الحراك الشعبي إزالة رموز النظام، من صور وتماثيل، عن واجهات المؤسسات العامة، وداخل المكاتب، فيما بدأت عملية تغيير أسماء عدد من الطرق والأمكنة التي تحمل اسم باسل الأسد، الذي أطلق اسمه على غالبية المنشآت والمدارس والطرق، في تكريس النظام لسورية كأنها ملكية خاصة لعائلة الأسد، كما يرى المحتجون.

———————-

متظاهرو السويداء يهتفون: بشار الأسد قاتل

تجددت الاحتجاجات -اليوم الجمعة- في محافظة السويداء جنوبي سوريا والتي تشهد منذ نحو شهرين مظاهرات ضد نظام الرئيس بشار الأسد مطالبة برحيله.

وبث ناشطون مقاطع مرئية تظهر تجمع أعداد كبيرة من المحتجين في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، ورفع المشاركون بالمظاهرة لافتات وشعارات تطالب بالتغيير السياسي ورحيل نظام الأسد.

وردد المحتجون هتافات ضد الرئيس بشار الأسد مثل “بشار يطلع برا، قاتل قاتل قاتل.. بشار الأسد قاتل”.

وأشارت التنسيقيات المحلية إلى أن وفودا -من كافة أنحاء السويداء- تستمر في الوصول للمشاركة بالمظاهرة في ساحة الكرامة التي باتت رمزا للاحتجاجات الأخيرة بالمحافظة.

    #شاهد: الآلاف يهتفون لرحيل الأسد في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، اليوم الجمعة السادس من تشرين الأول.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/5gF7rRPO5q

    — السويداء 24 (@suwayda24) October 6, 2023

واندلعت مظاهرات السويداء في أغسطس/آب الماضي، بسبب رفع النظام الدعم عن الوقود مما عكس ارتفاعا بالأسعار، وزيادة الأعباء الاقتصادية والمعيشية على المواطنين الذين يعانون من تردي أحوالهم منذ سنوات.

وبدأت احتجاجات السويداء بالمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في البلاد، ثم تطورت إلى رفع مطالب سياسية وصلت إلى المطالبة برحيل الأسد.

وظلت السويداء، التي تضم معظم الطائفة الدرزية بسوريا، تحت سيطرة الحكومة طوال فترة الحرب، وأفلتت إلى حد كبير من العنف الذي عمّ أماكن أخرى، إلا أنها شهدت في أوقات متفرقة مظاهرات ضد ممارسات نظام الأسد، وطالبت برحيله في بعضها.

وخلال الأسابيع الماضية، أعلن محتجو السويداء إغلاق مقار لحزب البعث “بشكل نهائي” كما أحرقوا ومزقوا صور الأسد ووالده الرئيس الراحل حافظ الأسد كانت على واجهاتها، وواجهات مؤسسات ومقار حكومية.

ولكونها تضم الأقلية الدرزية، يرى مراقبون أن الأسد يتحاشى التعامل مع السويداء مثل باقي المحافظات التي خرجت فيها مظاهرات كبرى ضد حكمه في مارس/آذار 2011، وأدى تعامله الأمني معها إلى تدمير مناطق واسعة فيها وتهجير أعداد كبيرة من السكان.

المصدر : الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي

———————

================

تحديث 05 تشرين الأول 2023

——————————

اللاعودة في انتفاضة السويداء/ راتب شعبو

يطمئن نظام الأسد إلى أن لهيب السويداء لم يشعل المناطق السورية الأخرى كما جرى في 2011، حين كانت درعا شرارة ثورة شاملة. هذا الاطمئنان، إضافة إلى حساسية المنطقة الديموغرافية وحساسيتها الجغرافية بسبب قربها من الحدود “الإسرائيلية”، هو ما يفسّر تحمّل النظام ما يجري في السويداء، واكتفاءه بالعمل المخابراتي الهادف إلى زرع الفوضى وتفكيك الموقف الجماعي للأهالي من الداخل، مع إطلاق ألسنته الجاهزة للتبخيس واختلاق شتّى صنوف الاتهامات ضد انتفاضتها.

العوامل التي تعيق امتداد لهيب السويداء تشمل الانقسام السوري متعدّد الطبقات، انقساما على مستوى السلطات الحاكمة على الأرض، وانقساما على مستوى شعبي بحسب مواقف الناس من هذه السلطات، هذا فضلاً عن التهاب الانقسامات التي تسير على خطوطٍ مذهبية وقومية وعرقية … إلخ، والتي تغذّت على الفشل العام الظاهر في عدم تبلور تمثيل سياسي سوري ذي بعد وطني، ويتمتع بقدر معقول من المقبولية العامة.

رغم ذلك، يمكن النظر إلى انتفاضة السويداء أنها إحياء لثورة 2011 التي خسرت نفسها في متاهات السلاح وضروب الإسلام السياسي. اليوم يستعيد متظاهرو السويداء تلك الروح التي تاهت، يستعيدونها بوجهها السلمي والوطني السوري. الظروف التي تمنع النظام من مواجهة انتفاضة السويداء بالرصاص، تحميها من الاضطرار إلى حمل السلاح، وما يجرّ من طيش ومآسٍ وارتهانٍ للجهات المموّلة والقادرة على تأمين المستلزمات. كما أن طبيعة التكوين السكاني للمنطقة تحمي السويداء من تغلغل الفكر السياسي التقسيمي، المتمثل في الإسلام السياسي.

تعرض السويداء اليوم وجه الثورة السورية الذي يشبه حلم مطلقيها الأوائل. وإذا كان إبراز هذا الوجه والحفاظ عليه مكسباً سورياً، يحرم طغمة الأسد من أن تصدّر إلى العالم صورة منفّرة (العنف والإسلامية) قادرة على تشويش حقيقة الصراع، فإن الوجه الذي تعرضه ساحات مدن السويداء وقراها اليوم ينطوي أيضاً على قصورٍ لا بد من الإشارة إليه.

ينبغي القول إن قدرة السوريين في 2011 على مواجهة نظام الأسد الذي استخدم كل مقدّرات الدولة، وكل الوسائل السوداء لسحق ثورتهم، لم تكن ممكنةً لولا السلاح والإسلاميون. السلاح الذي حدّ من قدرة عنف النظام على تصفية الخارجين عليه أو إخضاعهم، والإسلاميون القادرون على التنظيم والحشد وحقن جمهور الثورة بعزيمة وعصبية مكّنتهما من الصمود. ولا ريب أنه إلى جانب ما قدّم السلاح والإسلاميون للسوريين من قدرة على المواجهة، فإن كليهما جرّا على الناس بلاويهما الخاصة التي انتهت بتحطيم الثورة.

تكشف النظرة الراجعة أن ما جعل السوريين يصمدون في وجه آلة البطش والقتل الأسدية هو نفسه ما قاد ثورتهم إلى التعثّر والضياع. وحين تكون انتفاضة السويداء محميةً من السلاح ومن الإسلاميين، وهو ما يعطيها وجهاً ناصعاً، فإنها تبقى، بسبب ذلك، وبعد كل ما مرّ على رؤوس السوريين خلال أكثر من 12 سنة، عرضة للضعف والعزلة، فلا هي قادرة بذاتها على اقتلاع الأسد، ولا يبدو أننا سنشهد بروز تضامن سوري واسع معها، يهدّد سيطرة نظام الأسد. بعبارة أخرى، ما يعطي انتفاضة السويداء وجهها الناصع الذي يُحرج طغمة نظام الأسد هو نفسه ما يجعلها عرضة للضعف. كما لو أن ما يستند إليه نظام الأسد، وأشباهه، من عنف وعصبوية وفساد وانعدام في الأخلاق وارتهان لجهاتٍ خارجيةٍ حامية، تصعب مواجهته بالنزاهة والسلمية والأخلاقية والحرص على الاستقلالية في وجه الخارج. يشكّل هذا، في رأينا، أحد جوانب تعقيد عملية التغيير السياسي في سورية.

مثابرة أهل السويداء على الحركة أمر يثير الإعجاب ويغذّي الأمل. مع ذلك، يبقى السؤال، هل يلعب الزمن في صالح الانتفاضة أم ضده؟ ما هي الخطوة التالية في السويداء إذا استمرّت في عزلتها من دون أن يمتد لهيبها إلى مناطق أخرى تحت سيطرة النظام؟

ما حققته انتفاضة السويداء اليوم أنها أظهرت للعالم أن نظام الأسد يواجه شعباً ذا مطالب سياسية، ولا يواجه، كما دأب أن يصدّر إعلامه إلى العالم، إسلاميين مسلحين عدميين وإرهابيين. وإذا كنا نعتقد أن أصحاب القرار في العالم ليسوا مأخوذين بإعلام النظام، فإننا، في الوقت نفسه، نعتقد أن النظام وحلفاءه، استطاعوا مع الزمن، وبسبلٍ شتّى، دفع الصراع إلى المكان الذي يجعل العالم يقتنع برواية النظام.

اليوم تهاجم ألسنة النظام انتفاضة السويداء بأنها انفصالية، رغم دأب أهل الانتفاضة على إنكار هذه التهمة وتكرار رفضهم الإدارة الذاتية وتمسّكهم بوطنهم وتركيزهم على وحدة سورية وعلى المطالب السورية العامة مثل قضية المعتقلين وقضية بيع الأصول السورية وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 … إلخ. مع ذلك، حين يفكّر المرء بالوجهة التي يفرضها النظام على تطور الصراع في  السويداء، يجد أن المحافظة قد تجد نفسها مدفوعةً إلى سلوك طريق الإدارة الذاتية بوصفه السبيل الوحيد للخلاص من تحكّم طغمة الأسد بلقمة عيشهم وتربّصه بهم لتفجير ساحة السويداء واستعادة السيطرة. قد يجبر هذا الطريق أهالي السويداء على فتح تواصل مع الأردن، وقد يضطرّون إلى قبول مساندة من أطراف دولية، منها أميركا، التي تواصل بعض كبار مسؤوليها مع رجالٍ من الزعامة الروحية في المحافظة.

على هذا، يبدو أن المحافظة دخلت سبيلاً لا مجال للعودة عنه. كل من خرج صراحة على نظام الأسد منذ 2011 وجد نفسه مضطرّاً للعيش خارج سيطرة النظام. أكان في اللجوء خارج البلد، أو اللجوء إلى مناطق داخل البلد خارج سيطرة النظام، مثل مناطق إدلب وريف حلب والجزيرة السورية. لا يمكن لأهالي السويداء بعد هذه الانتفاضة أن يعيدوا علاقتهم مع نظام الأسد تحت طائلة انتقاماتٍ وتصفية حساباتٍ واسعة يدركها الجميع، الأمر الذي سيدفع أبناء المحافظة  للبحث عن حمايةٍ بالخروج، بشكلٍ ما، من دائرة سيطرة النظام.

سبق أن نجح نظام الأسد في دفع ثورة 2011 إلى مسار يحقّق عبره “نبوءته” بأنها ليست ثورة، بل حركة إسلامية سلفيّة، وحقّق في “نجاحه” هذا المزيد من الخراب للبلاد. يتكرّر اليوم ما يشبه ذلك، وهو دفع السويداء إلى نوع من الإدارة الذاتية التي تحميها من النظام، كي تتحقّق “نبوءة” ألسنته، بأنها ليست انتفاضة ضد نظامٍ سياسي، بل حركة انفصالية. في كل “نجاح” لطغمة الأسد، خراب جديد لسورية.

العربي الجديد

————————

علم علَوي وآخر سُني يتوسطهما ثالث درزي/ عمر قدور

شاعت بكثرة صورةٌ لمتظاهِرة في السويداء، رسمتْ على خديها علَمي الثورة و”النظام”، ورسمت على جبينها بيرق الحدود الدرزي، وفي المظاهرة نفسها كان هناك مَن رفع العلمين بعد لصقهما من جهة السواد المشتركة بينهما. ما دفع أحداً ما، لا نعلم ما إذا كان مازحاً أو جاداً، إلى اقتراح علم جامع يتضمن أيضاً الصليب من أجل الطوائف المسيحية والشمس التي ترمز إلى العلَم الكردي.

الذين اعترضوا على دمج العلمين فعلوا ذلك من منطلق عدم جواز المساواة بين واحد يرمز إلى القاتل وآخر إلى الشهداء، أو من منطلق رفض المصالحة مع علم يرمز إلى سلطة الأسد. بينما لم يتم التوقف عند ما تعزّزه الصورة واقتراح العلَم الجامع، فصورة المتظاهرة تضع بيرقاً مذهبياً بين العلَمين، ليبدو الاثنان كبيرقين لطائفتين أخريين، أي للسُنة والعلويين. وهكذا تكون القناعة السائدة، غير المعلنة، أن ما كان يُعرف بعلَم الثورة بات يرمز إلى السُنة لدى نسبة غالبة يرى المنضوون فيها أن الثورة عربية سُنية، ربما مع بعض التنويعات الفردية من منابت أخرى.

مطالب منتفضي السويداء تؤكّد أيضاً على التأويل الطائفي للأعلام، فهم يطالبون بلا لبْس برحيل بشار، ويوالون اجتثاث حزب البعث من بلدات وقرى المحافظة. أي أنهم ليسوا في الوسط بين الأسد والثائرين عليه، وإذا أضفنا الهتافات التي تذكّر بثورة 2011، وتصريحاتٍ للشيخين الهجري والحنّاوي، فإن موقع السويداء هو في ضفة المطالبة بتغيير سياسي جذري. وفق هذا، لا يبقى للتلويح بمكانة السويداء ودورها الوطني “المأمول” سوى توسّطها بين العلويين والسُنة، بأمل المصالحة بينهما على جثة “النظام”.

في الأصل، رفع المتظاهرون عام 2011 علم النجمتين الذي صار يرمز إلى السلطة، واعتُمد علم النجمات الثلاث فقط بعدما أوغل الأسد في العنف، وبعدما بدأ الفصل على العديد من المستويات معبَّراً عنه بظاهرة الانشقاق. لكن التنازع بين الجانبين على العلم القديم إلى التنازع بين علمين، كان كلّ منهما العلم الرسمي للبلد، اقترن بكون علم النجمات الثلاث رافق مرحلة الديموقراطية ويصلح كي يكون رمزاً لها، أي أنه بقي مطروحاً كرمز وطني ينافس نظيره الذي اقترن بجرائم السلطة.

ثم، في الواقع، تراجع المضمون الديموقراطي لدى رافعي علم النجمات الثلاث، وفرضت المعركة الفصلَ بين العلَمين كرمزين لكل من خندقَي المتحاربين. لم تكن المسألة الطائفية غائبة عن الخنادق، لكن انتعاشها بقي في إطار الخطابات اللفظية التي لا يتبناها الأسد صراحةً ولا تتبناها المعارضة بالمثل، في حين ظل علم النجمات الثلاث منبوذاً “بوضوح أو مواربة” من تنظيمات إسلامية سُنية ترفع راياتها الخاصة، وتتنكر للاستحقاقين؛ الوطني والديموقراطي.

وفي أوساط مؤيدة للثورة، من خارج الإسلاميين، كان مفهوماً بلا نقاش مطوَّل أن التفاصل الذي يرمز إليه وجود علمين هو مؤقت حتى يحدث التغيير الديموقراطي، وحينها يختار السوريون العلم الذي يريدون، ومن المرجَّح جداً ألا يكون واحداً من الاثنين لدلالتهما على سنوات الصراع الدموي. بموجب هذه القناعة، لم يكن يُنظر إلى علم النجمات الثلاث كعلم له الديمومة، أو بعبارة أخرى كعلم يمثّل جماعة “أي السُنة”، وسيبقى على تمثيله هذا حتى إذا قبلت الجماعة نفسها بعلم وطني. وعلى القدر نفسه من القناعة، لم يُنظر إلى علم النجمتين بوصفه راية تمثّل العلويين، والمفارقة أن العودة إلى رمزية النجمات في كلّ منهما لا تحيل إطلاقاً إلى أية جماعة أو إلى أي رمز مذهبي بمفرده، ما يعني أن هذه الرمزية هي صناعة حديثة العهد جداً.

لكن اصطناع الرمزية الجديدة مشروط بقبول أطرافها، ومن ذلك أن يكون هناك قبول “علَويّ” بعلَم النجمتين كرمز طائفي منفصل عن الأسد، كرمز باقٍ بعد التخلّي عن الأخير أو المشاركة في إسقاطه. بعبارة أخرى، يتطلب هذا اصطناع طائفية غير متمحورة على السلطة الحالية، والتعبير الأخير يتفرّع إلى اصطناع الطائفة، وإلى تخلّي مؤيدي الأسد من أبنائها عن المماهاة بينه وبين ما يسمّونه “الدولة”، ومن ثم التخلّي عنه. والافتراض نفسه يقتضي في المقابل أن يكون السُنة قد انتظموا تحت علم النجمات الثلاث، لتكون التسوية بين الطوائف في المتناول، بصرف النظر عن العامل الخارجي وتأثيراته.

على نقيض الشروط المنطقية والموضوعية السابقة، لا يمكن إنكار وجود شريحة واسعة تتمنى حدوث المصالحة، ولتكن طائفية، إذا كانت ستُنهي المعاناة الحالية وستوقف نهائياً المقتلة السورية. للسويداء “أو للدروز” مكانة مركزية في هذا التصور، بفضل عدم التورط كطرف في الحرب السورية، ولعدم وجود مشكلة أو مسألة درزية كما هو حال الأكراد مثلاً. يدعم التصور ذاته أن منتفضي السويداء يصرّون على عدم وجود مطالب خاصة بهم، ورغم دنوّهم من شعارات ثورة 2011 إلا أنهم لم يعلنوا القطيعة سوى مع رأس السلطة وأدوات قمعه.

تمنّي حدوث المصالحة، الطائفية في جانب منها أحببنا أو كرهنا، يقوم على حاجة شرائح واسعة “من جميع الأطراف” إلى العيش بأمان وكرامة بعد طول إنهاك واستنزاف، مع شيوع القناعة بأن الأسد لا يمكن أن يحقق ذلك ولا أن يكون شريكاً فيه. في الجهة المقابلة، لم تقدّم المعارضة وعداً ببديل مقنع لمؤيدي الثورة كي يكون مقنعاً للذين كانوا يؤيدون الأسد، بينما تستلهم انتفاضة السويداء الطور الأول الجامع لثورة 2011، لتدمجه مع إرث الثورة السورية الكبرى، وكأنّما هناك مَن يقول: الحل الممكن يبدأ من هنا.

والحل المقصود الممكن يتجلّى بالمراهنة على كسر الثنائية الطائفية “بين السُنة والعلويين”، بتوسط الدروز بين جانبيها، ما ينطوي أيضاً على عدم انتظار تمأسس طائفي “سُني وعلوي” يلتحق بالخطابات الطائفية الصريحة أو المواربة. يُستحضر الآن مثال الثورة السورية قبل قرن لإثبات إمكانية إعادة تأسيس الكيان السوري، ولإثبات قدرة الدروز على التوسط فيه، لتزداد مشروعية هذا الطرح مع الحاجة إلى إعادة اختراع سوريا في غياب تفاهم دولي على تقسيم دائم لها. خارج المسألة الكردية التي لها سياق مختلف، هي المرة الأولى “ربما منذ نهاية السبعينات” التي تتقدم فيها مجموعة سورية لكسر الخطابات التي تكرّس ثنائية طائفية، وهي رسالة “وساطة” للداخل، ورسالة للخارج عندما يكون جاهزاً لالتقاطها.

المدن

—————————

مؤتمر وطني سوري في السويداء/ محمود الوهب

لايزال عنوان هذه المادة حلماً مرجو التحقق، فروافعه قائمة، تحتاج إلى جهود استثنائية مجردة من أي مصالح غير وطنية.. ويفترض أن الثوريين قادرون عليها! وما الحلم غير صياغة صوت سوري واحد، مقنع، قادر على تأكيد شعار “وحدة سوريا أرضاً وشعباً” الذي يتردد على الألسن، ولا تدركه الأذهان ولا الإرادات الحرة..

وهج الثورة

السوريون كلهم فرحون اليوم بما يفعله أهالي محافظة السويداء، وهم يعبِّرون بصدق عن حبهم لوطنهم باستعادة وهج الثورة التي انبثق خيط نورها الأول من قلب سوق الحميدية، في العاصمة دمشق لمَّا رفع أحد أبنائها صوته في وجه شرطي بعبارة كان لها وقعها وصداها ودلالاتها، وهي: “الشعب السوري ما بينزل” جرى ذلك في 17 شباط/فبراير من العام 2011 لتأتي بعدئذ، وفي منتصف آذار/مارس، حادثة أطفال درعا، ولتقوم عندها قيامة الشعب السوري في وجه أسوأ نظام عرفته سوريا في تاريخها الحديث يمثله ضابط الأمن “عاطف نجيب” ابن خالة رئيس الدولة الذي كشف عن طبيعة ذلك النظام العصبوي والشوارعي..

لن نكرر هنا ما قيل ويقال دائماً: إن انتفاضة السويداء رائدة في الكثير مما تميزت به، سواء بالسلمية التي ترفعها شعاراً يومياً، ويؤكدها رجال الدين الذين منحوا الانتفاضة قوة إضافية جاءتها من كونهم يتمتعون بدفق روحي له احترامه وتقديره، وشكلت تلك القوة حماية للانتفاضة إذ سحبت بساط حماية النظام للأقليات، ولابد هنا، من قول كلمة حق حول الأقلية والأكثرية التي أكثر ما تبرز في صحة الشعارات وشموليتها وانطلاقها من العمق السوري دونما إيحاء أو تدخل من أحد، ووعيها، في الوقت ذاته، أنَّ النظام المرجو لسوريا هو دولة لكلِّ أبنائها، دولة مواطنة لا استعلاء فيها لأحد على آخر ما يؤهلها إلى التنمية الدائمة واللحاق بركب حضارة العلم والتكنولوجيا والبناء الشامل، وما هو مهم في الانتفاضة أنها تهب في أرجاء المحافظة كلها وفي جوارها أيضاً إضافة إلى مشاركة النساء بفعاليات لافتة، وفي إبداع الشباب الفني المتجدد.. ولعلَّ الأهم أنَّ الانتفاضة عزلت أضدادها، وعلى العكس، فقد توجهت إليهم بما تملكه من موقف وطني راسخ القوة: أن تعالوا لنبني وطناً سورياً للجميع.

مقوِّمات الديمومة

اليوم يتساءل كثيرون إلى متى تستمر انتفاضة السويداء؟ وما الذي يدبِّره النظام لها في الخفاء؟ وما مقوِّمات ديمومتها، أو ما قدرة أبنائها على الصمود والاستمرار؟! وبغض النظر عن نوايا الأسئلة، ترى بعضهم يغمز من خلالها: هل تتلقى الانتفاضة دعماً من أحد؟! وإذا ما جرى عليها ضغط من النظام فهل تراها تلجأ إلى بعض دول الجوار؟! لكنَّها، أي الانتفاضة تجيب عن نفسها قائلة: ها أنا ذي قد تجاوزت أيامي الأربعين دون توقف، ولم أتلق دعماً من أحد، وكنت أتوقع من إخوتي السوريين سواء في الشمالَيْن السوريين الغربي والشرقي أم من المدن الذين هم تحت سيطرة النظام مثل دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس الذين يعانون مرارة سوء أوضاعهم السياسية والاقتصادية، ويرون بأم العين توزُّع وطنهم إلى حصص، وإقطاعات سواء ضمن سيطرة النظام، أم فيما يسمى بالمحرر!

كثيرون الذين طرحوا عقد مؤتمر وطني عام، منذ بداية الثورة السورية عام 2011، ولم تكن، آنذاك، قد حددت الثورة أهدافها على نحو دقيق، أو لم يكن وعي تلك الأهداف واضح الرؤية. كما لم تكن للثورة هيئة قيادية ترسم لها برامج محددة. بل كانت هناك لجان تنسيق، تهندس مكان انطلاق المظاهرة، وخط سيرها حالمين بدولة تجلب للسوريين كافة “الحرية والكرامة..”

واستمرت المؤتمرات والاجتماعات الضيقة والموسعة تعقد إلى اليوم باسم سوريا، ولكن أياً منها لم يحقق ما تمخَّض عنه غير الخطب والبيانات، وفي هذا السياق يمكن القول إن الشعب السوري ونخبه قد تثقفوا بأطر بناء الدولة الحديثة وبنيتها. وبالمبادئ التي تقوم عليها، وتكوَّن لديهم خبرة فائضة بأشكال منظمات المجتمع المدني، وبسبل تمويلها.. لكن سوريا بقيت على خرابها، مع شمول القمع والفقر كل أبناء الشعب السوري، وإن بنسب وأشكال مختلفة..

أهداف وطنية

اليوم ومع دوام انتفاضة السويداء، صار لدى السوريين مساحة سورية مستقلة، ومثلها حاضنة شعبية آمنة، ولا تشوب الاثنتين شائبة.. فلم لا تكونان نواة للانطلاق نحو عمل جدِّي يأخذ أشكالاً مختلفة لتوحيد الصف السوري على أسس الشعارات الكبرى المتوافق عليها.. وأولها شعار وحدة سوريا أرضاً وشعباً الذي تقول به الدول الكبرى الفاعلة، والأمم المتحدة بمنظماتها المتعددة، حتى الدول المجاورة التي لها نفوذ سياسي وعسكري تدعم ذلك. كما يتضمنه قرار مجلس الأمن 2254 ولكن المهم أن يقوله الشعب السوري بصوت واضح وجلي! وعلى أرض سورية مستقلة..

إن عقد مؤتمر وطني سوري جامع في السويداء يحقق عدة أهداف وطنية سورية منها:

أولاً- إنه لا يحمي انتفاضة السويداء فحسب، بل يفتح سقفها إن حاولت إغلاقه ظروف ما، فهو يجعلها في توسع دائم لتشمل المحافظات السورية ومناطقها كافة.. وسيفتح أفقاً أرحب وأسلم أمام القرار الأممي 2254 بشأن سوريا..

ثانياً- إنه يحرر الثورة مما كبلها منذ البدايات سواء تعلَّق الأمر بالتدخلات الإقليمية وما جرته عليها من ويلات واتهامات وممارسات ارتبطت بظروفها أم بـالارتهان الذي أتى في السياق العام والخاطئ الذي انقادت إليه النخب السياسية التي أفرزتها تلك المرحلة..

ثالثاً- يخرج المؤتمر الثورة السورية من حالة الركود التي آلت إليها منذ عدة سنوات، وآلت بالبلاد كلها إلى حال من الفقر والتخلف الشامل سياسياً واقتصادياً، وتعليمياً وصحياً، وخدمات ماء وكهرباء ومواصلات، وسوى ذلك.. ويفتح الباب واسعاً أمام عودة آمنة لملايين اللاجئين، وإعادة الإعمار على نحو سليم لا يعترض عليه أحد..

رابعاً- لعل انعقاد المؤتمر يكون عاملاً مهماً في استعادة الهوية الوطنية السورية الجامعة التي كانت قد أخذت تتوضح معالمها منذ نحو مئة عام، وتجلت بأبهى صورها في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي فلا تمييز على أي أساس ديني أو طائفي وسوى ذلك، ثم اعترتها تشوهات بسبب استبداد العسكر واتباعه سياسة الإيقاع بين مكونات الشعب السوري..

خامساً وأخيراً- قد تشكل مثل هذه الدعوة نوعاً من التحدِّي لكل من يعيق التوجه إلى حلول للمأساة السورية سواء كانت دولاً طامعة في التمدد داخل سورية أم أطرافاً داخلية راضية بما تحقق لها من سلطة ونفوذ وجاه ورضا عن حال طائفته المعتدة بنفسها، أكانت أكثرية أم أقلية أم أية جهة أخرى لا ترغب بمعافاة سوريا..

كاتب سوري

القدس العربي

—————————–

تصعيد أردني ومنطقة آمنة تلوح في الأفق/ غسان ياسين

منذ أن جرى أول اتصال بين ملك الأردن ورأس نظام الأسد وما تبعه من تطبيع وزيارات متبادلة بين الدولتين، وفتح للمعابر وعودة لرحلات الطيران، كان المسؤولون في الأردن حريصين في كل مرة ينتقدون فيها سلوكيات النظام على عدم ذكر الأسد بشكل مباشر، وكانوا يكتفون بالعموميات ويتحدثون عن وجود مشكلات في مسار التطبيع ويعلنون عن تذمرهم من عدم إيفاء النظام بالتزاماته، وخصوصا تلك المتعلقة بوقف تجارة الكبتاغون. لكن ما حدث في الأيام الماضية قلب المعادلة وباتت أسهم النقد الأردني تصوب تجاه الأسد شخصياً.

ملك الأردن هو من بدأ حفلة الرمي هذه حين شكك بسيطرة الأسد على الأمور ولمح إلى وجود شركاء كثر في القرار في إشارة لإيران وميليشياتها المتعددة الجنسيات، ثم واصل وزير الخارجية تصويب سهامه نحو الأسد حين تحدث بالتفصيل عن عدم سيطرة الأسد على الوضع الميداني، وعن أن تهريب المخدرات زاد في الفترة الأخيرة أي بعد عودة النظام للجامعة العربية، وعن استخدام المهربين لمعدات متطورة، بدورها الصحافة الأردنية واصلت هجومها المباشر على رأس النظام وحملته مسؤولية فشل الجهود العربية التي كانت تريد تعويماً مرحلياً للنظام بمبادرة سميت خطوة بخطوة.

هذا التحول في الخطاب الأردني الرسمي وشبه الرسمي جاء سريعاً ومباغتاً، لأن الأردن هو من قاد جهود تعويم الأسد، وهنا يجب أن نقرأ جيداً ما خلف هذا التصعيد خصوصاً أنه ترافق مع تصريحات سعودية شبه رسمية تحمل الأسد فشل المسار العربي، وكما هو معلوم في بلداننا العربية حين يتحدث مسؤول سابق فهو ينطق بلسان حال المسؤول الحالي، المفاجأة الأخرى جاءت من الإمارات والتي كانت أول دولة عربية تلتقي وتدعم الأسد سياسياً، واستقبلته وفتحت سفارتها في دمشق وفي مرحلة ما قدمت له الدعم المادي السخي بحجة دعم متضرري الزلزال، الإمارات وعلى لسان المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة حملت النظام فشل المساعي العربية وركز المستشار على قضية تهريب المخدرات للأردن، ومنها إلى دول الخليج واتهم النظام بعدم القيام بأي تحرك جدي لوقف تجارة الكبتاغون.

إذا نحن أمام إعلان عربي رسمي بفشل هذا المسار بعد توقف لجنة المتابعة العربية عن عملها، وهناك تركيز واضح من قبل كل الدول التي سعت لتعويم الأسد على قضية المخدرات والتي باتت تؤرق كل دول الإقليم وخصوصا الأردن والخليج، والسؤال المطروح الآن ماذا بعد هذا الإعلان وكل هذا التصعيد الذي يقوده الأردن؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب البحث بالخيارات المتاحة الآن أمام الأردن ومن خلفه الدول العربية لأجل وقف التهديد المتصاعد من قبل النظام وشركائه من الميليشيات الإيرانية، سنجد أن هناك خيارا واحدا ممكنا ومتاحا وهو إنشاء منطقة آمنة-عازلة في جنوب سوريا، الواقع السياسي والميداني يشي بأن هذه المنطقة باتت حاجة ملحة للعرب والسوريين معاً، ومع تواصل احتجاجات السويداء في الجنوب وقرب خروج المحافظة عن سيطرة النظام بالكامل ومع وجود جيوب كثيرة لفصائل المعارضة بالجنوب سيكون أمر إنشاء هذه المنطقة متاحاً في حال كان هناك قرار عربي واضح  لدعمها، طبعا لا يوجد ربط بين اتهام النظام لمتظاهري السويداء بأنهم يريدون الانفصال وبين الحاجة لهذه المنطقة، لأن من تسبب في احتجاجات السويداء هو النظام ومن أفشل المسار العربي وجعل العرب يبحثون عن بدائل جدية أيضا هو النظام، لا أحد يريد تقسيم سوريا ولا الانفصال عنها لكن سياسات النظام القمعية وتدميره البنى التحتية للدولة وفشله في إدارة الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها هو من جعل السوريين سابقاً في شمال سوريا يسعون للبحث عن ملاذات آمنة، ومناطق عازلة خارجة عن سيطرته، وهو من سيجعل السوريين في الجنوب يسعون لهذا الملاذ على أمل أن تكون هذه المناطق أداة لتحقيق مكاسب سياسية وميدانية لاحقة على طريق خلاص السوريين من هذه الطغمة الحاكمة.

إنشاء منطقة عازلة أو آمنة بحاجة إلى قرار عربي وغطاء دولي، وبعد هذا التصعيد العربي يبدو أن العرب وجدوا ألا خيار آخر أمامهم والتطورات الأخيرة تدعم هذا التوجه، فحين يعلن الأردن عن أنه قصف بالطائرات الأراضي السورية أكثر من مرة لكنه لم يعلن عنها في وقتها، وحين نرى أن مسار العلاقات السعودية الإيرانية يواجه اختبارا صعبا قد يؤدي إلى انهياره بالكامل بعد أن قصف الحوثي قوات التحالف الذي تقوده السعودية وقتل ثلاثة جنود بحرينيين، وحين نرى كل هذا الزخم الأميركي في قاعدة التنف بعد كسر حصار مخيم الركبان وزيادة فاعلية حلفاء أميركا في التنف ومحيطها، هذا يعني أن حدود المنطقة الآمنة بدأت ترسم بهدوء عبر التصريحات ونيران الطائرات الأردنية.

————————–

انتفاضة السويداء والعودة لخيارات وجوهر الثورة في البدايات/ المحامي بسام العيسمي

منذ أكثر من خمسين عاماً  وسورية المخطوفة ترزخ  تحت نير الظلم والقهر والإستبداد , والجريمة المنظمة لنظام طغمة الأسد العصبوية المتوحشة الذي اغتصب السلطة بالغدر والمؤامرة . ووضع نفسه بديلاً عن الدولة الوطنية . وحوّل سورية بقدها وقديدها لمزرعة عائلية له تنتقل بالوراثة من الآباء للأبناء . غيب العدالة وحكم القانون وصادر الحريات واعتدى على الكرامات , ونهب الموارد والثروات . وعمم القهر والفساد والإفساد في كل مفاصل الدولة والمجتمع . وفي جميع مستويات القرار في هيكلة وبنية المؤسسات العامة الرسمية والشعبية . وأحكم الوثاق على أعناق الناس بالقمع والمنع والمعتقلات .

لم يكن بقاءه في السلطة ممكناً طوال هذه المدة لو لم ينجح في :

    تدمير عمارة المجتمع وإلغاء طاقته , وتعزيز صراعات الهويات الدينية والطائفية والأثنية بين طوائفه ومكوناته .

    احتكاره لكل مفردات القوة في الدولة والمجتمع . إذ استأثرمنفرداً بالسلطة والثروة والإعلام والحقيقة .

    ابتلاعه للدولة بوصفها الكل المجتمعي. ومن ثم تقيأها مؤسسات وإدارات صورية , لا تعدوا ألّا استطالات أمنية وأذرع سلطوية . لا دور لها أو وظيفة إلّا حماية النظام وإنتاجه في كل ممارساتها وسياساتها . وقهر المجتمع وإسكات صوته بدل الدفاع عنه أمام تغوّل السلطة . وارتدى عبائتها ليضفي على كل ممارساته وسياساته طابع القداسة . ليصبح كل  من ينتقد سياساته  ويشير إلى تجاوزاته وكأنه اختلف مع الدولة ؟ ويخضع لامتحان في الوطنية .  كون الدولة هي المطرح السيادي ولا خلاف أو اختلاف على السيادة . أما السلطة هي المطرح السياسي ميدانها المجتمع , ولا قدسية للسياسة . فهي مطرح للإختلاف . والصراع  السلمي للرؤى والأفكار والمصالح على قواعد الديمقراطية .وكما يشير الفيلسوف أحمد برقاوي حول هذه المسألة ويقول :

( المشكلة ليست في السلطة , فلكل دولة سلطتها  التي تدير شؤون مؤسساتها وتلبية احتياجات المجتمع وأفراده , وتعمل على تطبيق القانون وتحقيق العدالة . لكن الخطورة تُكمن حينما السلطة  تُقيم دولتها , وتفصّلها على مقاس مصالحها . والفرق كبير بين دولة السلطة وسلطة الدولة ).

    غيّب السياسة وعقّم الشارع السوري منها بوصفها أداة الصراع السلمي على السلطة . ليؤبد نفسه لأطول مدة .

    لأنه أتى الى السلطة غاصباً بقوة السلاح فهو فاقد للشرعية المجتمعية والوطنية . واستعاض عنها بشرعية خارجية تستند لنظرية المؤامرة . فحمّل الخارج كل عيوبه ونواقصه . وأي صوت يرتفع بمواجهته مطالباً بحقوقه أو منتقداً لسياساته  . بأنه جزء من مؤامرة خارجية أو امتداد لها . هدفها النيل من نظام الممانعة والمقاومة .

فهذه الطغمة المجرمة والفاسدة التي حوّلت سورية الى واحة من الرعب والخوف والقهر. والظلم . تسجن وتقتل وتعتقل وتنهب موارد البلد وخيراته دون حسيب أو رقيب  وتذلّ أبنائه . إلى أن  انفجر مكبوت الألم السوري الذي  أشعل شرارته دماء أطفال درعا والذي أتى في سياق ماسُمّى بثورات الربيع العربي .

حيث اندفع كتلة بشرية كبيرة من الشابات والشباب السوري للساحات والميادين للتعبير عن وجعها , تطالب بالحرية والكرامة والحقوق .

قاد الحراك في بواكيرة كتلة مدنية من شابات وشباب الجامعات وبعض الشباب السوري المنفتح على قيم الحضارة والحداثة والمدنية .

استطاعت أن تنظم الحراك في حدود مقبولة وتنسق بين الساحات المنتفضة . وحافضت على سلميته وحددت  شعاراته وخياراته الوطنية الجامعة في طلب الحرية والكرامة والحقوق والديمقراطية . وبأن سورية لكل السوريين . والثورة السورية ليست تحت أي مظلة طائفية أو دينة أو أثنية .  هي ثورة جميع السوريين . بدأت الثورة بشعار واحد واحد الشعب السوري واحد . وبدأت المظاهرات بجمعة الكرامة . وجمعة الحرية ة, وجمعة آزادي , وجمعة صالح العلي . بما يدلّ على عمق التلاحم والخطاب الوطني الجامع . لم يكن أحداً يفكّر بالبعد الطائفي . الكنائس قرعت أجراسها حداداً وتضمناً مع تشييع شهداء داريا.

وأسست لمجموعة من العناوين الوطنية التي يمكن التوسع بها لتشكّل أساسيات وحوامل لإعادة بناء فضاءً وطنياً سورياً حقيقياً يعزّز فرص صياغة المشروع الوطني السوري المفتوح على الديمقراطية ببعده الحضاري والإنساني .

سلمية الحراك  وحضاريته أفرز وحدد  طرفي الصراع وجذره السياسي والمتمثل بين نظام عصبوي مستبد مجرم وفاسد وبين غالبية الشعب السوري الذي انتفض لحريته وكرامته ولرفع الظلم والقهر عن كاهله .

استشعر النظام بخطرهذا الحراك النظيف عليه  وقدرته على الإنتشار ولم شمل السوريين في مواجهته . فنقائه يٌظهر قُبحه  فاتخذ قراره  بتصفية قادته لإزاحتهم عن المشهد بالقتل في الشوارع والساحات أو في السجون والمعتقلات , في سياق خطة متكاملة لدفع الثورة للسلاح والأسلمة  عبر عنفه وتوحشه المفرط  وغير المسبوق . بقتل الناشطين بالشوارع والتمثيل بجثثهم . وارتكابه متعمداً جرائم ومذابح لها صبغة طائفية لتحريض البعد الطائفي والديني في الحراك . لأن  فيهذامنجاتهالوحيدة

وتزامن ذلك مع إخراجه لمئات الجهاديين والمتطرفين من سجونه لتجذبهم الساحات التي بدأت العسكرة فيها وقعقة السلاح تتوسع على حساب الحراك السلمي .

جائت المعارضة السياسية وبعد إن نجح النظام بإزاحة الكتلة المدنية التي قادت الحراك في الأشهر الأولى والشارع يئن تحت ضربات وإجرام النظام وطرحت نفسها لقيادة الثورة .

وبدل ان تعمّق وتحفر على الجذر السياسي لمفجّر الأحداث وتُكمل مابدأته الكتلة المدنية لتفوّت على النظام خططه بجر الثورة للأسلمة والسلاح , وحرفها عن مسارها .  جائت لتقول بحق الأكثرية. بالحكم وانتزاعه من الأقلية؟

وبذلك خدمته وساعدته دون أن تعي وبغباء سياسي قلّ نظيره بنقل الصراع من الخندق الوطني السياسي الى الخندق الديني والطائفي العابر للحدود الوطنية . ولتقدّم له خدمة مجانية لم يكن يتوقعها بتسهيل خطته ومساعدته لنيل مراده بنقل الصراع على مسارات الإنقسامات الدينية والمذهبية والأثنية وعسكرة الثورة .

وبالإساس النظام قبل انطلاقة الثورة هو جزء ملحق بمحور مايُسمى الممانعة بقيادة ايران . ومتوضّع في الحضن الإيراني.

كما أن المجتمع الأهلي السوري كان مهيئ  للإنزلاق سريعاً في هذا المسار بفعل الصراع المحتدم بين المشروعين السني والشيعي بالمنطقة والذي بدأ مع استلام الملالي حكم إيران . ونظراً للخطر الداهم الذي يشعر به كل سوري لمشروع إيران الصفوي المغلف بقفازات دينية وتغولها على المنطقة ونشرها للتشيع وتدميرها للمجتمعات التي تتمدد إليها . مما استدعى ذلك الطرف المقابل  للدفاع عن معتقداته ومسلماته . مما سهّل ذلك انزلاق الحراك للتموضع على المسارات الطائفية .

كما أن النظام ومنذ اغتصابه للسلطة وجهه رصاصة الرحمة  لجنين الدولة الوطنية  الذي كان قد بدأ بالتشكّل في أربعينات القرن الماضي.  ماحال ذلك دون تشكّل الهوية الوطنية السورية.

وحتى الآن لاتعريفات واضحة لهايجمع عليه السوريون

القوميون ينظرون لسورية بأنه قاطرة مؤقته (القطر العربي السوري ) تسير بهم لتحقيق الحلم القومي في بناء الأمة العربية الواحدة . وبأن سورية هي كيان مؤقت ومصطنع . والمواطنة في الفكر القومي تتعلق بالأقوام وليس بالأرض أو الإنسان الفرد .  فهي عابرة للحدود الوطنية.

والإسلاميون ينظرون لها بأنها منصة مؤقته لينطلقون منها لبناء الأمة الإسلامية . إذ أن المواطنة لديهم ترتبط بالعقيدة وليس بالأرض . فهي تتحرك معها .أما  المواطنة بالدولة الوطنية الحديثة ترتبط بالأرض والحيّز الجغرافي المحدد لدولة ما وتتعلق بالإنسان الفرد الذي يحمل جنسيتها وليس بالأقوام .

والكرد أو قسم منهم ذهب باتجاه الخلاصات الفردية الموهومة ولم يكونوا جزءً منظماً   الثورة . وبدا ذلك واضحاً في مشروعهم وممارساتهم وسياساتهم التي يطغى عليها القومي على الوطني .

لذلك انطلق السوريون منذ بدء الثورة في مسارات مختلفة لخدمة مشاريعهم الخاصة وإيديولوجياتهم بمنطق الإحتواء لسورية وليس الشراكة فيها. ولم تكن أي منهم بأنها وطناً نهائي لأبنائها

لذلك رأينا الإسلام السياسي الذي خطف الثورة وتمثيلها انتهى ليسلم قراره لتركيا ويتحول بكل تعبيراته العسكرية على الأرض والسياسية مثل الائتلاف المسخ والحكومة المؤقتة لأدوات يتم توظيفها واستثمارها من قبل داعميها ولا علاقة لهم بالثولاة  لا من قريب أو بعيد .

والنظام زاد من ارتمائه بالحضن  الإيراني وسلم مفاتيحه وقراره للروس والإيرانيين .  وتحول لمليشيا فاقدة للسيادة .

وشرقي الفرات مسد وقسد منطقة الإدارة الذاتية  قائمة أيضاً بالإرادة الأمريكية.

جميعهم قائمون ومستمرون بإرادة خارجية . وبذلك تحولوا إلى قوى خاصة لاتنطبق عليها صفة القوى العمومية . مما أفقدهم صلاحيتهم بأن يكونوا أو أي أحد منه طرفاً في العملية السياسية المستندة لبيان جنيف والقرار2254 .ولا لأي حل سياسي من شأنه إعادة انتاج الدولة السورية الموحدة التي تحتاج لقوى وطنيةعمومية وليست خاصة .

مما أضحى وجودهم استمرار للوضع القائم كما هو كأمر واقع . وهم قوى أمر واقع بالحقيقة .  وعقبة أمام العملية السياسية واستمراراً  للفواجع وتحطيم البلد وتعميق الكارثة . النظام أفرز أشباهه فهم من تشوهات الإستبداد . والشبيه لايطرد شبيهه . لذلك بقي النظام رغم كل جرائمه  وتوحشه غير المسبق

حيث بدا جلياً وواضحاً بأن الإنطلاق من خاصية الإنتماء الديني أو الطائفي أو الأثني لتكييف الهوية السورية وفق مقتضياته كان مدمّراً للثورة السورية وهو السبب الرئيس في هذا التشرذم والتعفن والإنقسامات على الساحة الوطنية والسياسية.

فهل انتفاضة السويداء المستمرة والمتصاعدة بسلميتها وحضاريتها يوماً بعد يوم . والتي استعادت ألق الثورة في بداياتها بكل بهائها ونقائها وشعاراتها الوطنية الجامعة .

وبعد الفشل الذريع للإسلام السياسي في قيادة ثورات الربيع العربي . وفي بناء دول مستقرة . لقد فشل في مصر وفشل في تونس وفشل في المغرب بعد إن كان للأخوان المسلمين في البرلمان المغربي أكثر من مئة مقعد . لم يفوزوا في الإنتخابات الأخيرة بغير 11 مقعد فقط .ولقد تراجعت شعبيتهم على مستوى المنطقة بالكامل .

وبعد إن فشلت كل خيارات خطف الثورة واحتواء سورية في مشاريع تتجاوز الجغرافية السورية .

وبعد فقدان  النظام أي من مقومات استمراره وبداً بالسقوط الحر الى قاع الهاوية .

وبعد أن ثبت عقمه من تقديم أية حلول لأزمات الواقع السوري .

وبعدفشلمحاولة  التطبيع العربي معه لعدم امتلاكه لقراره السيادي المصادر من روسيا وإيران . شركائه في الجريمة وفشلهما أيضاً في إعادة تدويله .

فهل تكون انتفاضة السويداء  بوصلة ومحرّض للأحرار والشرفاء السوريين جميعاً وعلى امتدادالجغرافية للإستفادة من دروس  اثني عشرة عاماًعُجاف من السقوط الحر,  والتداعي من جديد لتوجيه الضربة القاضية لهذه الطغمة المجرمة وإبراء سورية منها وتعقيمها من شرورها ؟ عبر المزيد من التعاون والتشاور والتنسيق لخلق فضاءً وطنياً عمومياً لجميع السوريين والذي فشلنا في انتاجه سابقاً ؟

ونبدأ بأعادة تعريف الهوية الوطنية السورية لتتسع للكل السوريين . ونعيد تعريف ذواتنا كأفراد سوريين وليس كجماعات  شركاء متساوون في الحقوق والكرامة والمكانة . وبعيداً عن الإستقطابات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية  في وطن سنستعيده معاً , وسنبنيه معاً , وسيكون لنا جميعاً وطناً نهائياً حر كريم لكل أبنائه  . هل ننجح في ذلك؟

الشهور القليلة القادمة ستجيب على هذا السؤال.

المحامي بسام العيسمي .

——————————

حراك السويداء وكلمة سواء بين السوريين

حدد تيار مواطنة الانقسام العمودي داخل المجتمع السوري كأحد أهم عوامل الإخفاق في قيام وحدة وطنية حقيقية. هذا الانقسام بدا واضحاً منذ الأشهر الأولى لانتفاضة ٢٠١١ م وبقي قائماً طوال الاثني عشر عاماً المنصرمة. ونحن هنا، ولنقلها بمطلق الصراحة، لن نناقش سلوك السلطة- الطغمة، ولا إجرامها بحق السوريين من السنة أولاً ولا قمعها للمعارضين الآخرين ثانياً؛ بل إن غرضنا سيكون دعم حراك السويداء وأسباب عدم امتداد هذا الحراك إلى مناطق المعارضة، بل ونضيف بأننا لا نرى من السلطة وجمهورها سوى التعنت ورفض مطالب السوريين بالتغيير وقيام دولة ديموقراطية.

نعم، كانت الثورة على الغالب مقتصرة من الناحية الرئيسية على العرب السنة ولم تشارك القاعدة الشعبية للأقليات الدينية إلى جانب السنة كما يجب، واعتبر السنة بحق أن عدم مشاركة الأقليات هو أحد أهم أسباب عدم الانتصار على السلطة في حينه، مع ضرورة الإشارة السريعة للمظلومية السنية الناشئة عن اقتصار القمع الدموي على هذه الفئة.

الحلقة المفرغة تغذي نفسها عن طريق تكرار إلقاء مسؤولية الإخفاق على عدم انخراط الأقليات في الثورة ونسيان دور الإسلام السياسي عموماً، والقوى الإسلامية المتطرفة التي مازالت تعيد مقولات التكفير والتخوين والتي أثبتت الأحداث أنها لا تنتج سوى الإخفاق والهزيمة.

من نافل القول أيضاً أن هذا المنطق قد كرسته السلطة الطغمة خلال عقود، لكن الكارثة هنا أن المعارضة عموماً والإسلام السياسي خصوصاً قد تبنتها كقاعدة أساسية في التعاطي مع المعارضة المختلفة لزمن طويل؛ فالآخرون من وجهة نظر هؤلاء الإسلاميين غير مواطنين وبنفس الوقت يجب أن يشاركوا بالجهاد في وجه هذه السلطة وهذا تناقض منطقي بيّن ومخالف للوقائع التي تفقأ العين أيضاً؛ فالشعب السوري مكون من عربه وكرده وآشورييه وتركمانه، كما إنه يضم مختلف طوائفه وأديانه، ومن نافل القول أننا مع حرية الانتماء والاعتقاد بنفس الدرجة التي نرى ذلك الحق في عدم الانتماء أو الإيمان.

في هذا السياق، نسجل الملاحظات التالية على الإسلام السياسي:

أولاً، الإصرار على قيام دولة على أسس إسلامية وهو بالتالي نفي قيام دولة وطنية لكل السوريين، من هنا نلاحظ أن الإسلام السياسي لا يستطيع أن يقدم برنامجاً وطنياً قابلاً للحياة؛ وقابلية الحياة هنا تعني الإجماع الوطني على حقوق المواطنة وواجباتها لكل مكونات سورية الدينية والطائفية والقومية.

ثانياً، كل المشاريع التي قدمها الإسلام السياسي حتى الآن لا ترقى لقبول المجتمع الدولي لأنها ببساطة تتراوح بين البرامج الإسلامية المعتدلة كالإخوان المسلمين والبرامج الدينية الجهادية المتطرفة كالنصرة وداعش، وهذا السبب بالتحديد هو أحد أهم أسباب انحسار الدعم الدولي للثورة السورية منذ 2014 م.

ثالثاً، لم يقدم الإسلام السياسي حتى اللحظة أي مشروع عملي وحقيقي لتوحيد الفصائل الجهادية نفسها؛ فمنذ 2013 كان عدد تلك الفصائل بالمئات، وخاضت فيما بينها معارك دموية أدت إلى سيطرة جبهة النصرة بدايةً ثم سيطرة داعش لاحقاً، بالتالي فإن توحيد هذه الفصائل كان يتم بمنطق الغلبة وليس بمنطق الاتفاق والديمقراطية، وغابت مفاهيم وممارسات الحوكمة الرشيدة تماماً في مناطق سيطرته، وهذا ما نشاهده في كل مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع كما في الشمال وفي إدلب الآن، وكما شاهدناه حتى ٢٠١٨ م في الغوطة ودرعا.

وإذا تجاوزنا كل الكوارث التي أحاطت بالسوريين في البحث عن حل وعن بقعة ضوء فإننا نقول الآن: هذه السويداء قد بدأت حركة احتجاجية منذ أكثر من خمسة أسابيع، متجاوزة بعض نقاط الضعف التي عانت منها انتفاضة ٢٠١١ م، لأسباب تعود لعدم تعرضها للقمع الذي شهدته مناطق السنة المنتفضة ولوجود تنوع سياسي ديمقراطي وطني وعلماني أيضاً، ولمشاركة النساء الفعالة في ساحة الكرامة وأول تلك المطالب قيام نظام ديموقراطي تعددي على أسس فصل الدين عن الدولة، وحتى خطاب أعلى مرجعية دينية الشيخ الهجري قد عبر عنها بصراحة في خطابه عن الدولة العَلمانية كما يؤكده هتاف المنتفضين في شعار “الدين لله والوطن للجميع”.

ونحن ندرك أيضاً أن حراك الأقليات الدينية محكوم بعلاقات تاريخية متوترة بوسط الأكثرية وبالسلطة، وهذا له مبرراته الموضوعية، لكن يجب معالجة هذا التوتر بتفهم وتعاطف لا بعقلية الإنكار للتاريخ أو للخصوصية، فبناء دولة المواطنة ينطلق من الأفراد وخياراتهم الجمعية بدءاً من أصغر أقلية وحتى الأكثرية.

من هنا، نحن نطالب كل من يدعي أنه معارض حقيقي لبقاء السلطة الطغمة أن يقدم كل إمكانياته لدعم هذا الحراك، فبدون هذا الدعم سيبقى محلياً في محافظة واحدة صغيرة،مساحة وعدداً وموارداً، وبالتالي سيكون بمقدور السلطة التضييق على هذا الحراك وتفتيته وخنقه بالنتيجة أو إجباره على قبول الوصاية الخارجية وخسارة الشعب السوري لانتفاضة السويداء.

النقطة الثانية، تتعلق بالتكتيك السياسي؛ أي بإنشاء تحالفات مؤقته، ونقصد أنه عندما يتوفر الهدف المشترك المؤقت (هنا التغيير السياسي وفق القرار 2254)، وليس بالضرورة الهدف الاستراتيجي حول شكل ومضمون الدولة المنشود، عندها يجب دعمه بانتظار مرحلة صراع البرامج السياسية عبر صناديق الاقتراع، إذن من منطق التكتيك السياسي الصحيح يجب دعم هذا الحراك شعبياً، وبكل وسائل وأدوات الدعم الإعلامي والسياسي.

من الواضح حتى اللحظة أن هذا الدعم يقتصر على النخبة من الديموقراطيين السنة، أما الشارع السني العريض فإنه منقسم إلى أربع فئات؛ فئة متعاطفة ونقدر أنها غير قادرة على التعبير أو الحركة، وفئة صغيرة موالية للسلطة ومعادية للحراك، والفئة الثالثة الأكبر والأهم نسبياً المعارضة للسلطة، لكنها تنظر بعين عدم الرضا عن هذا الحراك وكأنها تقول بأن هذا الحراك الذي سببه (الجوع) قد اختطف ثورتها الأصلية، كما أن السويداء لم تقدم الدم والأرواح ولم تعانِ من الدمار والتهجير كما عانى جمهور الثورة “الحقيقي”، وبالتالي لا يحق لها أن تدعي شرف الثورة أو الانتفاضة أما الفئة الرابعة فهي الفئة الرمادية التي ستتحدد مواقفها غالباً في لحظة حسم الصراع.

إذن نحن نرى المشكلة الآن في اصطفاف نسبة مهمة من جمهور المعارضة السنية الذي لا يولي أي أهمية للاحتجاج في صفوف الأقليات ولا ترى أي قيمة لحراكها وحقوقها.

نحن في تيار مواطنة نرى إن الدعم يجب أن يكون من هذا الشارع السني العريض بالذات لأنه يعني تغيراً في آليات العمل السياسي وقطعاً مع منطق الإسلام السياسي وبناء الدولة على أسس وطنية. ويجب أن يكون الدعم من هذا الشارع، وليس فقط من النخبة، على الرغم من أن دعم هذه النخبة كان مميزاً وفي أحسن حالاته، ونحن ندرك جيداً ضيق ذات يد هذا الشارع، إن كان في دمشق أو حماه أو حلب الرازخة تحت سيطرة السلطة، لكننا لا نعتقد أن الصعوبات نفسها قائمة في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة وهي مناطق نعتقد بقدرتها على التظاهر والتأييد والدعم اللائق بمعارضة وطنية في إدلب وريف حلب والجزيرة السورية ودول الشتات لأنها ببساطة خارج سطوة قمع السلطة، بالتالي لا تفسير لعدم تأييدها لحراك السويداء سوى منع قادة القوى الإسلامية لهذا التأييد.

النقطة الأخيرة، إن سيطرة الإسلام السياسي عموماً على الشارع السني المعارض هو ما يفسر افتقار النخب السنية الديمقراطية للشارع العريض، وبالتالي يحق لنا أن نستنتج أن هذه النخبة السنية السورية بحاجة إلى أن تحقق تفوقاً على مجموعات الإسلام الجهادي المتطرف والمعتدل والرخو على حدّ سواء، وإلا سيبقى الشارع السني منقسماً بين أقلية تدعم السلطة من جهة وأكثرية تدعم الإسلام السياسي بتلاوينه المختلفة من جهة أخرى، وهذا ما سيفقد سورية الحامل الاجتماعي الأوسع أو الحاضنة الأكبر على المستوى الوطني لملاقاة أي تغيير مقبل.

أن تبقى غالبية السوريين من العرب السنة، إلى حين، خارج الفعل الديمقراطي الوطني، يشكل معضلة على المستوى الوطني وعلى العلاقة مع المجتمع الدولي وقد يقود إلى مزيد من التفتت المناطقي، عندها يحق لنا القول أن (أم الصبي) ماتزال تبحث عن الهدف من ثورتها عند القوى السياسية الفئوية المعادية لبناء الدولة على أسس المواطنة والمساواة.

تيار مواطنة

مكتب الإعلام 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2023

—————————

انتفاضة السويداء.. الأسئلة الصعبة/ نزار غالب فليحان

جاءت انتفاضة السويداء الأخيرة والتي ما زالت متقدة استجابة لظروف موضوعية يعيشها الشعب السوري على امتداد كامل الجغرافيا السورية منذ عقود اختُطِفَ الوطن خلالها وما زال من قبل عصابة تجردت من الوطنية والإنسانية والأخلاق ما أهَّلَها للعب دور وظيفي لخدمة مصالح ومخططات الأطراف المُشَغِّلة لها على المستويين الإقليمي والدولي في شرق ملتهب ومتصارع عليه.

والسويداء كغيرها من مدن ومناطق سوريا، حُرِمَتْ من التنمية ومن المشاركة في حكم البلاد وحورب أهلها أمنياً وسياسياً واقتصادياً، ومورست عليها كل فنون تفتيت البنية الدينية والاجتماعية من خلال خلق رموز هامشية فاسدة مرتبطة بالسلطة تكفل لها السيطرة والهيمنة، مُنَحِّيةً بذلك كافة الرموز الوطنية الفاعلة المرتبطة بقواعدها الشعبية والقادرة على التغيير والتعبير عن تطلعاتها ورغباتها.

وقد كان حراك السويداء إجابة منطقية وبديهية لأسئلة الحرية والكرامة والوجود، لكن ثمة أسئلة بدأت تطرح نفسها مع تنامي هذا الحراك وفرض ذاته على الساحتين الإقليمية والدولية بقوة اكتسبها من خلال شعاراته وبياناته ومكوناته وكوادره وروافعه وإبداعاته واستقلاله وسلميته المطلقة.

ديمومة الحراك؟

في التحليلات والتوقعات، خاصة تلك الصادرة عن أبواق النظام وزبانيته، يبدو سؤال استمرارية الحراك سؤالاً ملكاً، لم تطرحه السلطة فحسب، بل راهنت عليه واتخذته خياراً أولاً في المواجهة، ظناً منها أن عزيمة الشارع ستفتر مع دخول فصل الشتاء وانطلاق العام الدراسي الجديد وحاجة الناس الماسة للعمل وتأمين حاجياتها الأساسية.

لكن الشارع يرد كل يوم هذه التكهنات عبر ارتياد ساحة الكرامة صباحاً ومساءً، الساحة التي أصبحت رمزاً لكل السوريين ومنبراً تُتْلى فيه يومياً مطالباتهم برحيل النظام وتطبيق القرار الدولي 2254.

ولعل بقاء سؤال ديمومة الحراك مطروحاً مرده دخوله في سباق مع سرعة استجابة القوى الإقليمية والدولية لدعمه والوقوف على أهدافه، وهي استجابة بل استجابات بدأت تتجلى في أشكال مختلفة كان آخرها الدعم والتأييد الدوليين من على أهم منابر المنظمات الدولية.

قمع الحراك؟

منذ اللحظة الأولى لاندلاع انتفاضة السويداء، ولأن الشعب السوري خبر على مدى عقود كيفية تعاطي النظام مع كل بادرة اعتراض على هيمنته، بدأت التكهنات بالقمع العسكري والأمني، وعلى أقل تقدير إطلاق مرتزقة البعث والشبيحة لضرب المظاهرات كدأب النظام في السويداء منذ الأيام الأولى للثورة السورية، بيد أن النظام عمد إلى ضرب الحراك من خلال إطلاق اتهاماته السمجة الممجوجة والمكرورة بالعمالة والخيانة والسعي إلى الانفصال عن الوطن، الرواية التي دحضها الحراك وما زال من خلال بياناته وتصريحات ناشطيه ومرجعياته، ومن خلال الإصرار على أيقونة صيحات الثورة السورية (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد) الصيحة التي تقضّ مضجع النظام لأنه سعى طيلة عقود إلى بثّ الفُرقة بين مكونات الشعب السوري على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والطائفية، كما عمد النظام إلى استخدام أزلامه داخل السويداء وكذلك لبنان بغية التأثير ما أمكن على الحراك واحتوائه ومن ثم تطويقه.

لكن أساليبه تلك لم تُؤْتِ أكلها وفشلت فشلاً ذريعاً أمام غضبة الشارع ووقفته الصارمة التي أكدت أنها لن تتراجع ولن تفاوض ولن تصالح.

لكن سؤال لجوء النظام إلى القمع العسكري يبقى مطروحاً لأن هذا الأخير لا يتوانى عن ذلك حال أخذ موافقات مشغليه، ولأنه -أي النظام- لا عهد له ولا ذمة، ديدنه الوحيد القضاء على كل سبب يهدد بقاءه في السلطة.

الحكم الذاتي؟

إن سؤال التقسيم الذي لطالما طُرح بقوة في الجبل بات يُطرح في جنوب سوريا وكذلك في الشمال والشرق، أي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، الأمر الذي يجعله قائماً إلى أن تجني الثورة ثمارها، كما أن تصريحات رأس النظام في أنه رئيس لبعض السوريين وأنه يبحث عن سوريا مفيدة وأنه يسعى إلى مجتمع متجانس تبقي السؤال قابلاً للطرح.

وهذا السؤال في الجبل تحديداً من المرونة بمكان، سرعان ما يبرز مع كل حراك مناوئ للسلطة، ليس فقط لخصوصية السويداء جغرافياً وديموغرافياً، بل لأن مشروع سلخ الجبل عن سوريا الأم طُرح مراراً بدءاً من سايكس بيكو قبل أكثر من مائة عام، إلى أن أعيد طرحه في ستينيات القرن الماضي من قبل دولة الكيان الصهيوني، وصولاً إلى اتهامات أبواق النظام للحراك اليوم بالسعي وراء تطبيق مخطط يبدأ بالمطالبة بالحكم الذاتي وينتهي بدولة مستقلة. لكن الحراك كان واعياً لتلك الفرية، ليبادر بالتالي إلى دحض رواية النظام واضعاً وحدة سوريا أرضاً وشعباً ومصيراً هدفاً أساسياً له، رافضاً كل الأكاذيب التي حاول النظام لصقها به.

مآل الحراك؟

وهو السؤال الأصعب، السؤال الذي سيبقى مطروحاً رهن الظرف الإقليمي والدولي الذي لا يبدو له انفراج في المدى القريب، سيما وأن الدول صاحبة القرار منشغلة في قضايا تراها أولوية في حين ترى قضايانا تفاصيل وعلى الهامش، وحتى يأخذ مصير الشعب السوري صفة الأولوية لدى تلك الدول علينا أن ننتظر، إلا إذا استجابت مناطق سيطرة النظام لصيحات ساحة الكرامة وثارت على نفسها أولاً وشكلت ضغطاً حقيقياً يضاف إلى الضغط الذي فرضه حراك السويداء وتكون نتيجته تحرير ساحة الأمويين من الهيمنة الأمنية وإسقاط النظام تالياً.

ولئن كانت الأسئلة التي طرحتها انتفاضة السويداء عديدة وعلى درجة كبيرة من الأهمية، فإن ثمة حقائق فرضتها، أهمها أن الثورة السورية مستمرة وأن انتفاضة السويداء هي الرد الحقيقي على الثورة المضادة التي تحالفت فيها كل القوى الديكتاتورية والظلامية لوأد الثورة الأم، كما أن انتفاضة السويداء فضحت مزاعم النظام في تحقيق الانتصار على شعبه وفي حمايته للأقليات، كما وضعت انتفاضة السويداء جامعة الدول العربية في موقف صعب بعد أن عكست فشلها الذريع في إعادة تأهيل مجرم حرب وزعيم عصابة كبتاغون.

ليفانت – نزار غالب فليحان 

————————

السويداء وضوح الهوية الوطنية وأسئلة الواقع الراهن/ جمال الشوفي

أعادت مظاهرات السويداء بعث الروح والحياة في قلوب شبابها التوّاق للحرية والعيش الكريم، وبثت نفحاتها على كل السوريين. وإذ تعيد انتفاضة السويداء السلمية والمدنية والتي دخلت شهرها الثاني بشكل متواتر ومتتالي مسار المسألة السورية من عقدة دولية في تقاسم النفوذ فيها، إلى نقطة تحولها المفترضة واستحقاقها الذي طال انتظاره بتطبيق القرار الأممي 2254 ومقدمته التغيير والانتقال السياسي، لدولة المواطنة والحق والقانون، وليست لاستبدال سلطة بأخرى.

عرس ساحة الكرامة، وإذ يستعيد ذكريات مظاهرات الساحات السورية في بداية انطلاقتها في 2011، عرس وطني يؤكد على الهوية الوطنية السورية، ويرفع صور إبراهيم هنانو وصالح العلي ويوسف العظمة وسلطان الأطرش، رجال الدولة الذين أسسوا لنواة الدولة الوطنية السورية بدايات القرن العشرين، قبل أن يقرضها حكم عسكر البعث الحاكم.

في ساحة الكرامة أسماء المعتقلين والمغيبين قسرًا وصور ضحايا التعذيب في السجون السورية تستدعي الذاكرة الممتلئة ألمًا ورعبًا فتفيض القلوب قبل الأعين. ولافتات الانتفاضة تقول بصراحة ووضوح لا لبس فيه: التغيير السياسي ضرورة سورية لاستعادة الدولة، وتطبيق القرار الأممي 2254 هو مفتاح الحل السوري. وما زاد ألقها حضور عشائر البدو ووفد من أهالي درعا، وفناجين القهوة تُصب للمتظاهرين، وسلال من العنب والتفاح ترافقها أهازيج وتراث أبناء السويداء ممتلئة بالفرح والبهجة، و”سدر” ممتلئ بالعنب والتين من خيرات الجبل حملته احدى سيداته، وتدعو الجميع: “تفضل على الميسور يا ابن بلدي”، فكان عرسًا وطنيًا.

تؤكد السويداء ثبات هويتها الوطنية وقبولها التنوع السوري العام، وعمق جذورها الوطنية، وسعيها لاستحقاق الدولة الوطنية التي يتساوى فيه كل السوريين حقوقًا وحريات لا يفرقهم عرق ولا دين ولا جنس. فتجد في ساحاتها من كل شرائح المجتمع من الشباب المدني ورجال الدين والمجتمع الأهلي وتتقدمهم نساء وسيدات السويداء، يهزجون بأغاني التراث الشعبي وهو يحاكي المرحلة الحالية من عمر سورية فيرددون: “الناس مليون ونيف فزيف قد ما فيك تزيف”، إشارة واضحة لقول رأس النظام أن عدد المتظاهرين المطالبين برحيله مئة ألف ونيف فقط! ويصر أبنائها على عدم رفع راية أو علم سياسي للنظام أو الثورة لما شكله من خلاف حاد في الشارع السوري، يكاد يودي بالهوية الوطنية السورية، ويصطفون تحت راياتهم المحلية متمثلة براية الموحدين التي هي راية تضامن ووجدان شعبي عام تلمهم وقت الملمات والتهديد بالوجود، وتعود لمكانها الديني وقت السلم والاستقرار. وهذه الراية هي التي واجه خلفها أبناء الجبل المصريين والعثمانيين في القرن التاسع عشر والفرنسيين في القرن العشرين، وهم اليوم يشعرون بتهديد وجودهم عبر تهجير أبنائهم الملاحقين بكل أنواع المذكرات الأمنية سواء بالتخلف عن الخدمة العسكرية أو المشاركة في المظاهرات السلمية التي لم تتوقف الأعوام السابقة؛ أو الفقر وانسداد الأفق العام والتضييق على الناس في معاشهم واستقرارهم. فهذه السلطة لم ولن تقدم تنازلًا واحدًا يفضي لحل سوري سياسي ينعكس على بنيتها الاقتصادية والمعاشية لتحقيق الاستقرار والسلام والأمان لكل سورية.

كما جرت العادة الأعوام الماضية، يتم ترويج التهم لكل منطقة تخرج ضد سلطة النظام السوري، فتهم الإرهاب حاضرة طوال الأعوام المنصرمة للحاضنة السنية الواسعة في سوريا، وتهم وهن الشعور القومي والعمل ضد الاشتراكية والعمالة للخارج تلاحق معارضيه في العقود الماضية، واليوم لا تنجو السويداء من تهم الانفصال وإقامة حكم ذاتي والعمالة لإسرائيل وأمريكيا.

السويداء بمزاتها الخاصة التي شرحت تفصيليًا في دراسات سابقة لا يمكن وصفها بالإرهاب، فرغم تدينها العام بدين الموحدين الدروز، لكنه تدين غير تكفيري ولا تبشيري، ولا يفرضه حتى على أبناء جلدته، ما أتاح مساحة واسعة فيها للعلم والتعليم ونمو الحركات المدنية والسياسية من شتى الصنوف. ورغم اعتدالها العام وطنيًا والتزامها الحياد الإيجابي من الحرب التي دارت على الأرض السورية بعد تحول مسارات ثورتها من السلمية لعنف متعدد الأطراف بدءاً من 2013، إلا أن أسئلة الحاضر أسئلة قلق دائمة في السويداء. فأمام متغيرات المسألة السورية واستعصاء حلها، تبرز على السطح المشاريع الخارجية السياسية الجزئية والتفكيكية للمسألة السورية. وهذا ما وجد له عنوان وهمي في مشروع الإدارة الذاتية الذي يروج له بعض واهمي السياسة عن طيب نية أو مكر ودهاء. فرغم الإعلان عن هيئة تأسيسية لهكذا مشروع اعلاميًا إلا أن رصيده المجتمعي والمدني والسياسي يكاد يكون صفرًا، ولا يوجد له مناصر سوى ضعاف النفوس وأصحاب الرؤية السياسية قصيرة النظر، وهم مجرد أفراد ليس إلا، والغريب أن رواية النظام السوري تستند إليهم وتصر على تجاهل آلاف المتظاهرين في الشارع كعادتها!

الحديث عن إدارة ذاتية في السويداء ضرب من الوهم السياسي، فلا مقومات مادية ولا موارد اقتصادية تؤهل المنطقة لحكم أو إدارة ذاتية كما شرق الفرات. فالإدارة الذاتية ليست إدارة المؤسسات بالأشخاص الكفؤ، وهذا حق عام، لكنها أيضًا إدارة الموارد الاقتصادية التي تفتقر لها السويداء. والمعروف أن هذه المنطقة بموقعها في الجنوب السوري، كانت وما زالت إحدى أهم ركائز الهوية الوطنية السورية، وبعيدة كل البعد عن المشاريع الانفصالية أو الارتهان للمشاريع الخارجية، ويدرك أبناؤها جيدًا أن انغلاق السويداء سيجعلها عرضة للابتزاز السياسي من كل الأطراف لفقدها للموارد الاقتصادية، ولاعتمادها الكلي على أبنائها المغتربين في تأمين قوت أبنائها اليومي. فهي المحافظة المهمشة من المشاريع الاقتصادية من سلطة النظام، ومن مبادرات الدول المانحة أيضًا الأعوام السابقة.

اليوم، تزداد أسئلة قلق الحاضر والواقع الراهن من ردة فعل النظام السوري على مظاهراتها المستمرة، خاصة بعد حادثة إطلاق الرصاص على المتظاهرين أمام فرع حزب البعث حين حاولوا إقفاله مرة أخرى، مترافقاً مع سيل من رسائل التهديد المتوالية للمحافظة والمتظاهرين والتهديدات الأمنية للموظفين بالفصل من عملهم، وسائقي باصات النقل من حرمانهم من مخصصات المازوت إذا ما نقلوا المتظاهرين للساحة؛ والبدء بالتلويح بتقنين الخدمات والتضييق الاقتصادي بقطع طريق الشام، شريان حياتها الوحيد، أو من افتعال الفتن المحلية بيد ميليشياته التابعة الموصوفة بالسلب والنهب وتجارة المخدرات، أو بالتهديدات المتكررة بداعش من البادية الشرقية، أو من تدخل عسكري مباشر فيها بغية وقف مدها الشعبي وتظاهراتها السلمية… وجميع هذه السيناريوهات متدرجة الاحتمال. فيما تبدو معادلة السويداء اليوم، هي معادلة قابلة لأن تكون نقطة القوة المثلى وبيضة القبان في ميزان المعادلة السورية. ويمكنها أن تحرك ملفها المستنقع في أدراج الأمم المتحدة، وتعيد تشكيل خطوات المبادرة العربية للحل السوري من جديد، ومظاهرات السويداء هي محركه وأساسه اليوم… وهذا ما يدركه أبناء السويداء ويعالجون أسئلة قلق الحاضر بحكمة لليوم بالإصرار على التظاهر السلمي والاستمرار فيه ونبذ مشاريع الوهم وقصر النظر السياسي.. وقادم الأيام تتطلب المزيد من الحكمة والتعقل بالإجابة على ما قد يطرأ من متغيرات.

ليفانت – جمال الشوقي

——————–

دلالات الاتصالات الغربية باحتجاجات السويداء بينما تتجاهلها دمشق

مصادر لـ«الشرق الأوسط»: قلق الحكومة ومحاولات لتفكيك الحراك من الداخل

دمشق: «الشرق الأوسط»

بينما يتوالى إعلان مسؤولين أميركيين وأوروبيين متابعة الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء باهتمام، تمضي دمشق في تجاهلها الرسمي لتلك الاحتجاجات، لتقتصر مهمة الرد على ناشطين موالين للحكومة ومحسوبين على إيران.

فما هي دلالات الاتصالات الدولية الداعمة لحراك السويداء؟ وما هي سيناريوهات دمشق لمواجهتها؟

وفيما كان الإعلام الرسمي يبث، مساء الجمعة، مقابلة التلفزيون الصيني مع الرئيس السوري بشار الأسد الذي زار الصين، الأسبوع الماضي، ويؤكد وقوف الشعب السوري معه، تلقى شيخ العقل في السويداء حكمت الهجري اتصالاً من المبعوثة البريطانية لسوريا، آن سنو، أعلنت فيه التزام بلادها بتطبيق القرار الأممي 2254، وفق ما أعلنته المبعوثة، عبر حسابها على منصة «X» (تويتر سابقاً)، بأنها أجرت اتصالاً مطولاً مع الشيخ الهجري «تطرق إلى الاحتجاجات السلمية التي تشهدها محافظة السويداء منذ نحو 42 يوماً على التوالي».

مصادر متابعة في دمشق قالت لـ«الشرق الأوسط»، إن الاتصالات التي يتلقاها الشيخ حكمت الهجري تقلق دمشق وتزيد تعقيد الأمر، كونها تمثل اعترافاً دولياً بزعامة الهجري في المحافظة، ما يجعل إزاحته عن ساحة الاحتجاجات صعبة، بل محرجة وحساسة جداً.

وتضيف المصادر أن النظام منذ بدء الاحتجاجات، لجأ إلى «استخدام أدواته الاستخبارية القديمة» لتفريغ مكانة الهجري الروحية من عناصر قوتها، عبر تشويه صورته والنيل من هيبته والتشكيك بمواقفه الوطنية، بواسطة حملات يشنها نشطاء موالون عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

إلا أن الموقف الشعبي الداعم والتفاف المحتجين، بمن فيهم العلمانيون واليساريون حول الهجري، إضافة إلى وقوف المرجع الثاني في السويداء، حمود الحناوي، إلى جانبه، ومشاركة ممثلين عن العشائر البدوية في السويداء بالاحتجاجات، «صعّب الأمر» على دمشق التي لا تزال تظهر تجاهلها للحراك.

وتتابع المصادر أن دمشق لن توفر جهداً في محاولة تفكيك الحراك من الداخل، بديلاً عن استخدام القوة التي تبدو حتى اليوم مستبعدة عن قائمة الحلول، كما هو مستبعد أيضاً التفاوض مع الحراك.

تجاهل السويداء

وأظهرت النسخة التي بثها التلفزيون الرسمي السوري لمقابلة الرئيس الأسد مع تلفزيون الصين المركزي (CCTV)، تجنب المذيعة الإشارة إلى الاحتجاجات في السويداء، بل إن الأسد، ورداً على سؤال عن اللحظات الصعبة التي عاشها خلال الحرب، أكد أن الذي ساعده على الصمود هو وقوف الشعب معه.

ورغم إقرار الأسد بأن الوضع الحالي في بلاده «سيئ» لوجود أزمة معيشية، فإنه اتهم الدول الغربية بزيادة معاناة الشعب السوري، لافتاً إلى أن «الحرب لم تنته»، وأن المنطقة تواجه بهذه الحرب «نوعين من الخطر؛ خطر الليبرالية الحديثة الغربية التي نشأت في أميركا، وخطر التطرف»، معتبراً «التدخل الخارجي» هو العائق الكبير الذي يواجه سوريا. وتهرب الأسد من الرد على سؤال حول وجود خطة أو «وصفة» لإعادة بناء سوريا والتعامل مع الصعوبات التي قد تواجهها في مختلف الجوانب، بالقول، نحن الآن أمام تحدٍّ داخلي مرتبط بالحرب والحصار، ولكن أمام تحدٍ خارجي مرتبط بالوضع الاقتصادي العالمي.

أما «الوصفة الأساسية» لمثل هذه الحالة، بحسب الأسد، فهي «الانتقال من التعامل بالدولار إلى العملات الأخرى، وفي مقدمتها اليوان الصيني».

كثافة اتصالات

اتصال المبعوثة البريطانية آن سنو، مع الشيخ حكمت الهجري، جاء بعد يومين من تلقي الأخير اتصالاً من نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، إيثان غولدريتش، أكد فيه دعمه لـ«حرية التعبير» للسوريين، بما في ذلك الاحتجاج السلمي في السويداء، وفق ما أعلنته السفارة الأميركية على صفحتها الرسمية على منصة X»»، داعية إلى «سوريا عادلة وموحدة، وإلى حل سياسي يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254».

وسبق ذلك ثلاثة اتصالات منفصلة من نواب في الكونغرس الأميركي، تلقاها الهجري خلال الأيام الماضية؛ أولها من النائب الجمهوري فرينش هيل، تلاها اتصال النائب الديمقراطي برندن بويل، وآخرها من النائب الجمهوري جو ويلسون، أكدوا فيها دعم الاحتجاجات السلمية في السويداء.

كما أعلنت النائبة في البرلمان الأوروبي، كاترين لانغزيبن، التي تشغل منصب رئيسة لجنة الشؤون الخارجية ومسؤولة الملف السوري في كتلة حزب «الخضر» بالبرلمان الألماني، اتصالها بالشيخ حكمت الهجري وإبلاغه أنهم يتابعون باهتمام ما يجري في السويداء ويدعمون الاحتجاجات السلمية هناك.

    يتجدد الموعد اليومي في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، لليوم الثاني والأربعين على التوالي، تستمر المظاهرات الشعبية الداعية إلى التغيير السياسي. من الساحة قبل قليل.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/g8W4h3jCWY

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 30, 2023

وأتمت الاحتجاجات في السويداء يومها الثاني والأربعين، بزخم متصاعد وتنظيم وتنسيق متزايد، في إصرار على مواصلة الاحتجاجات حتى تحقيق المطالب، برحيل الأسد وتطبيق القرار الأممي 2254. وذلك وسط ارتفاع وتيرة حملة الاتهامات بالعمالة والخيانة التي يشنها موالون للحكومة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد وصف بشار برهوم المشهور في الساحل السوري، الشيخ حكمت الهجري، بـ«الحاخام»، ليس لموقفه الداعم للحراك في السويداء، ولكن لإعلانه رفض انضمام أبناء السويداء إلى القوات الحكومية والمشاركة في معارك ضد سوريين آخرين. وقال: إن «هناك لواءً إسرائيلياً كاملاً اسمه جولاني، 80 في المائة منه من أبناء السويداء».

كما حذر الإعلامي رفيق لطف المقرب من طهران، في منشور على حسابه في «فيسبوك»، أهالي السويداء، ممن أسماهم بـ«أصحاب الفتن» والعملاء المأجورين الذين يعطون المال للفقراء والمحتاجين حتى يشاركوهم الحراك، وقال إنه لدى هؤلاء حلماً بإقامة «دويلة مصطنعة صهيونية وامتيازات واهية وهمية».

———————————-

====================

تحديث 04 تشرين الأول 2023

———————————-

الحراك الاحتجاجي في سورية… هل بدأ يتشكّل إجماعٌ وطني على التغيير؟

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مع التدهور المتسارع للاقتصاد السوري، واتخاذ النظام جملة من الإجراءات الهادفة إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية، وعلى رأسها المحروقات، والمضي في سياسة تحرير الاقتصاد، تفجّرت احتجاجات شعبية غاضبة في محافظة السويداء، جنوب سورية، وراوحت فيها الشعارات المرفوعة بين رفض القرارات الاقتصادية الأخيرة والدعوة إلى تنحّي رئيس النظام السوري بشار الأسد. وقد شهدت محافظات دير الزور، ودرعا، والقنيطرة، وريف دمشق، وحلب، واللاذقية احتجاجات مماثلة، على نطاق أضيق، فضلًا عن حالة تململ واضحة بين السكان. وقد رفع المحتجون في السويداء ودرعا ودير الزور شعاراتٍ مماثلة لشعارات ثورة 2011، إلا أنهم حمَّلوا منذ اليوم الأول الأسد وعائلته المسؤولية الكاملة عن معاناتهم وعن المصير الذي آلت إليه البلاد. وعلى الرغم من أن النظام كان واعيًا لأثر قراراته الاقتصادية في المستوى المعيشي لعموم السكان، والذي تدهور على نحو كبير خلال السنوات الأخيرة، فإنه قرّر المضي فيها، نظرًا إلى الضغوط الكبيرة التي يواجهها مع تلاشي الموارد ونفاد احتياطات الخزينة العامة.

خيبة الأمل في نتائج التطبيع العربي

أدّت النتائج المتواضعة للانفتاح العربي على النظام، وعودته إلى شغل مقعد سورية في جامعة الدول العربية، إلى خيبة أمل كبيرة بين عموم السكان الواقعين تحت سيطرته، بما في ذلك المؤيدون، الذين توقعوا أن تترافق علاقات النظام العربية مع انفراج الوضع الاقتصادي خصوصًا بعد القمة العربية التي احتضنتها جدة في أيار/ مايو 2023، لكن سلوك النظام الذي ترجم رغبة بعض الدول العربية في تطبيع علاقاتها معه على أنها “نصر”، تحقّق بشروطه، ورفضه تقديم أي تنازلاتٍ تساعد في إنجاح مسعى التقارب العربي معه، انتهى إلى مجرّد توقّع المعونات، والخيبة من عدم وصولها. وقد أدّت عدم جدّية النظام في التعامل مع المبادرة العربية، وتعامله باستخفاف مع مطالبها، مثل ضبط صناعة المخدّرات وتهريبها وإعادة ألف لاجئ سوري من الأردن، ورفضه التعامل بإيجابية مع الأمم المتحدة في قضية المعابر ودخول المساعدات الإنسانية، أدّى ذلك كله إلى مراجعة بعض الدول العربية علاقتها الدبلوماسية معه أو تجميدها. وقد انعكس ذلك بوضوح على الوضع الاقتصادي الذي أخذ يتدهور بسرعة، فانهار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وبلغ التضخّم مستوياتٍ قياسيةً خلال الشهور الثلاثة الماضية؛ إذ بات أغلب السكان عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء.

    بات أغلب السكان عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء

وساء الوضع أكثر مع توجّه الحكومة إلى رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، مثل المحروقات، لتمويل زيادة الرواتب التي باتت قيمتها تراوح بين 10 و15 دولار شهريًا للموظف الحكومي. وبناء عليه، ازداد التذمّر من اعتماد الحكومة سياسات “الجابي” مع عموم السكان وجامع “الإتاوات” مع التجار ورجال الأعمال لتوفير التمويل الضروري لاستمرار عمل الحكومة. وكان لافتًا أن احتجاجات السويداء جاءت بعد أيام من فشل اجتماع لجنة الاتصال العربية الموكلة بمعالجة ظروف الانفتاح العربي على سورية في القاهرة، تعبيرًا عن مدى خيبة الأمل في تعامل النظام مع التوجه العربي لحل الأزمة، وانسداد الأفق أمام أي تغيير في الوضع القائم.

النقمة على سياسات النظام الاقتصادية

نتيجة توقّف كل قطاعات الإنتاج الرئيسة بعد سنواتٍ من الحرب، ثم توقف اقتصاد الحرب ذاته، وتقلص المساعدات الخارجية التي كان النظام يتلقّاها من حلفائه، تسارع انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي في السوق الموازي، خلال الشهور الأخيرة، فقد بلغ 7,500 ليرة سورية أمام الدولار في 19 نيسان/ أبريل 2023، ووصل إلى 10,350 ليرة في 15 تموز/ يوليو 2023، ثم بلغ 14,750 ليرة في 28 آب/ أغسطس 2023، وعلى هذا، فقدت الليرة السورية خلال أربعة شهور 50% من قيمتها. وقد جاء مسار الليرة التراجعي معاكسًا مسار الانفتاح العربي على النظام، بدءًا من موافقة السعودية على إعادة فتح السفارات بين البلدين، وصولًا إلى استعادة النظام مقعد سورية في جامعة الدول العربية، وانتهاء بحضور الأسد قمّة جدّة العربية.

اعتمد النظام السوري خلال السنوات الماضية سياسة مالية متشدّدة، هدفها ضبط حركة السيولة النقدية داخل البلاد، لمنع تدهور العملة المحلية على نحو حادّ، عن طريق تقليص حجم السحوبات من الحسابات البنكية أو منع نقل الليرة السورية بين المحافظات مباشرة، أو عبر الحوالات بكميات كبيرة. كما سعى إلى حصر عمليات بيع العقارات والسيارات وشرائها من خلال المصارف، نظرًا إلى السيولة الكبيرة التي يتطلّبها إجراء هذه المعاملات، كما حدّ من استيراد السلع من الخارج، وصمم آلية صارمة لمنح رخص الاستيراد. وقد اتبع هذه السياسة ابتداءً من نهاية عام 2019، تحت ضغط الأزمة المصرفية في لبنان، وضياع مليارات الدولارات من الودائع السورية في المصارف اللبنانية. وقد تعمقت هذه السياسة بعد صدور قانون قيصر عام 2020 الذي فرض عقوباتٍ أميركية قاسية على النظام وعلى من يخرقها. وعلى الرغم من نجاح هذه السياسة، إلى حد ما، في منع انهيار العملة السورية، فإنها أدت إلى تجميد الحركة الاقتصادية في البلاد.

ونتيجة تناقص موارده، اتّبع النظام سياسات “جباية” و”سطو” على أموال كبار التجار ورجال الأعمال، نفّذها ما يسمى “المكتب السرّي” في القصر الجمهوري، بالتنسيق مع الفرع الداخلي التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وشملت هذه السياسات رجال أعمال ظلّوا سنوات مرتبطين بالنظام وشبكاته الزبائنية، مثل رامي مخلوف، ومحمد حمشو، وحسام قاطرجي، وخضر طاهر (المعروف بأبي علي خضر). وجرى تعميم هذه السياسة لاحقًا على بقية التّجار مع ازدياد الحاجة إلى السيولة، ووصلت حتى إلى أصحاب الشركات الخاصة المتوسطة؛ ما اضطرّ عديدين منهم إلى إغلاق أعمالهم ومغادرة البلاد. وقد أدّى مجلس اقتصادي يعمل داخل القصر الرئاسي، تترأسّه أسماء، زوجة بشار الأسد، دورًا مهمًا في إدارة هذه السياسات الاقتصادية؛ ما أثار ردود فعل غاضبة بين السوريين، خصوصًا في المناطق المعروفة بتأييدها للنظام.

ونتيجة للزلزال الذي ضرب شمال سورية في شباط/ فبراير 2023، اضطرّ النظام إلى التراجع عن السياسات المالية والنقدية المتشدّدة، نظرًا إلى حالة الركود التي أصابت الاقتصاد السوري حتى قبل الزلزال، وتفاقمت بعده، حيث رفع النظام الكثير من القيود المالية على حركة النقد داخل البلاد. ونتيجة العوائد الاقتصادية المحدودة لسياسة الانفتاح العربية، وتنامي الضغوط الإيرانية لاسترداد الديون المترتبة على النظام، وتنفيذ الاتفاقات الموقعة معه، اضطر إلى تيسير الاقتراض ومنح المزيد من التسهيلات الائتمانية لرجال الأعمال لتحريك عجلة الاقتصاد، كما لجأ إلى سياسة التمويل بالعجز، ورفع الدعم عن المحروقات لزيادة رواتب موظفي القطاع العام، بالتوازي مع مساعيه لرفع القيود المالية وتنشيط الصناعة المحلية، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة الاستيراد، واستنزاف القطع الأجنبي. كما اتجه إلى إلغاء المراسيم التشريعية القاضية بتجريم التعامل بغير العملة السورية، التي صدرت عام 2020، وذلك بسبب حاجته الماسة إلى العملة الصعبة. وجاء الإعلان عن هذه السياسة الجديدة، خلال جلسة طارئة لمجلس الشعب دعت إليها الحكومة في 24 تموز/ يوليو لمناقشة الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي.

تفجّر الاحتجاجات

أدّت السرعة التي نفذ بها النظام إجراءات التيسير الكمّي ورفع الدعم عن سلع أساسية، إلى تدهور سريع للوضع الاقتصادي، ونتيجة لذلك تصاعد الغضب الشعبي الذي عبّر عن نفسه بوضوح في محافظة اللاذقية، وغيرها من مناطق الساحل، حيث صدرت أولى الانتقادات للأوضاع المعيشية المتردّية من داخل حاضنة النظام تحديدًا، وركّزت على دور عقيلة الرئيس في إدارة اقتصاد البلاد. واعتبارًا من 20 آب/ أغسطس، تحوّلت محافظة السويداء إلى مركز للاحتجاجات المطلبية، وسرعان ما رفعت مطالب سياسية، وذلك إثر نجاح النشطاء في فرض إضرابٍ عام في المحافظة، مقدّمةً نموذجًا مشرقًا لمشاركة النساء في المظاهرات الشعبية إلى جانب الرجال.

تباينت الاحتجاجات الحالية عن الاحتجاجات السابقة التي شهدتها السويداء في عامي 2018 و2020 من جهتين: الأولى اتساع نطاقها، وانخراط مختلف الفئات والقوى الاجتماعية فيها، بمن فيهم مشايخ العقل، الزعماء الدينيون للطائفة الدرزية، الذين درجوا على تبنّي مواقف محايدة من الصراع أو مؤيدة للنظام ومواقفه، ساعدت سابقًا في تهدئة الفئات المحتجّة. والثانية تركيز الاحتجاجات انتقاداتها على شخص رئيس النظام وزوجته. وقد لوحظ أيضًا غياب الدور الروسي الذي درج على التدخل وسيطًا بين النظام وقيادات الحركة الاحتجاجية في السويداء.

حتى الآن اكتفى النظام في تعامله مع احتجاجات السويداء بالتلويح باستخدام القوة، والتحريض على المحتجّين بذرائع الطائفية والعمالة والخيانة، كما أرسل المحافظ للتفاوض مع الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل. جاء هذا التعامل اللين؛ لأن النظام يخشى المسّ بصورته التي دأب على رسمها بوصفه حامي الأقليات الدينية، بخلاف تعامله مع محافظاتٍ أخرى شهدت احتجاجات مماثلة مثل درعا، حيث سجلت حوادث إطلاق نار، كما أبدت أجهزة الأمن السورية استعدادًا واضحًا لقمع أي مظاهرة في المحافظات الأخرى. وفي اللاذقية، كثف النظام مساعيه لكشف مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها “حركة 10 آب”، وسعى إلى عزل الأصوات المنتقدة، عبر التهديد والاعتقال، واستثارة مخاوف العلويين من عودة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وغيرها من التنظيمات المتطرّفة، لإسكات الأصوات المعارضة واحتواء أي دعوة إلى الاحتجاج والتمرّد.

خاتمة

على الرغم من أن النظام لن يتردّد في استخدام العنف، إذا اضطر، حتى ضد قاعدة دعمه التي قاتل بها، إلا أن هذا الخيار لن يكون اللجوء إليه سهلًا، خوفًا من حصول تصدّعات داخل نواة النظام الصلبة، كما أنه غير قادر على تقديم حلول اقتصادية وتلبية مطالب المحتجّين، أو شراء سكوتهم في ظل محدودية موارده، ووصول التطبيع مع العرب إلى طريقٍ مسدودة، وعجز إيران وروسيا عن تقديم المساعدة. وبناء عليه، تبدو خيارات النظام محدودةً في التعامل مع الاحتجاجات المتنامية التي لم تعد محصورةً في المناطق المعروفة بمعارضتها له، مثل درعا ودير الزور وغيرهما، بل باتت تحصل في مناطق كانت محايدة (مثل السويداء) أو تمثل معاقل رئيسة لدعمه (مثل منطقة الساحل التي تضم محافظتي اللاذقية وطرطوس). وأكثر ما يقضّ مضجع النظام هو بداية تشكل إجماع وطني بين السوريين على ضرورة التغيير ورحيله، مع تحميله مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها البلاد.

في بداية الثورة، نجح النظام في تعميق الانقسام بين السوريين على أسس سياسية وطائفية، من خلال تقديم نفسه حامي الأقليات، مستفيدًا من فشل المعارضة في تقديم رؤية واضحة للتغيير، وصعود تيارات متطرّفة. لكن بدا أن السوريين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق يرون أن التغيير ضرورة، وأن مصلحتهم فيه مباشرة، بعد أن وحّدهم الفقر والجوع وانعدام الأمن، وبعد أن سقطت أطروحة أن النظام انتصر، وأن الوضع قابل للاستمرار، من دون الحاجة إلى حلّ سياسي، ومن دون تقديم تنازلاتٍ يحاول النظام جهده تجنّبها، لأنه يرى فيها نهايته.

وما زالت الحاجة ملحّة إلى تقديم نماذج أكثر تمثيلًا للمجتمع السوري في مناطق المعارضة التي لم تقدّم بديلًا جذابًا، وإلى حوارات تهدف إلى استعادة الثقة واللُّحمة بين جميع أطياف المجتمع السوري، وإلى قيادة سياسية منفتحة على جميع هذه الأطياف.

———————————-

السويداء تمدّ يدها للسوريين/ بشير البكر

تبدو محافظة السويداء بعيدة في جنوب سورية، ومثلها مثل محافظات الأطراف، لم يتعرّف عليها غالبية أهل محافظات سورية الكبرى، التي تحتلّ موقع المركز في جغرافية (وتاريخ) هذا البلد المتنوّع والمتعدّد، المتشابه والمختلف، المتشابك والمتفرّق عن بعضه بعضا، لأسباب ذات صلة بالحاضر، وأخرى سابقة للدولة الواحدة، التي تشكّلت بعد نهاية الحقبة العثمانية. ومن لم يسافر إلى السويداء، وصل إليه اسمها المقرون بجبل العرب، المرادف لسلطان باشا الأطرش، الذي يُجمع السوريون على أنه صاحب الرصاصة الأولى التي انطلقت ضد الانتداب الفرنسي، وكان له دور الريادة في إشعال الثورة السورية الكبرى. ويشهد تاريخ سورية اللاحق أن ذلك الرجل لم يفرّط بالرمزية التي احتلها لدى السوريين، كما بقيت هذه المحافظة جديرةً بالوسام الذي علقه الاستقلال عن فرنسا على صدرها.

تقف السويداء اليوم على قدميها، بعد أن باتت أغلب محافظات سورية مدمّرة، أو محتلّة، أو مستباحة، وهي تحاول أن تشكّل حالة مختلفة، وسط هذا الخراب الذي يهدد سورية بلدا ودولة بالزوال، بعد أن تقسّمت إلى مناطق نفوذ، متنازعة، متباعدة، تحكمها المصالح الأجنبية. ولذلك هي تسير عكس التيار الجارف، الذي يجرّ سورية منذ عقد نحو مصير كارثي، وهو ما يتطلّب طاقة جبّارة، ووعيا بثقل الحمل الذي صار ملقىً على ظهرها. وهذا ما يعكسه الخطاب السياسي، والأداء على مستوى الشارع والزعامات المحلية، وخصوصا رجال الدين، وفي المقدّمة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري.

لا يبدو أن الحراك السلمي في السويداء يلقى ارتياحا لدى أوساط محلية وإقليمية ودولية، باتت كلها شريكةً في هدف إبقاء الوضع السوري على ما هو عليه، وتركه يتفسّخ حتى تحين لحظة تقاسم التركة، كي يحصل كل طرفٍ على حصّة منها، وما ينطبق على إسرائيل، ينسحب على إيران وروسيا، فهذه الدول الثلاث تلتقي عند مسألة بقاء رئيس النظام الحالي، بشّار الأسد، في مكانه، وقد منعت، حتى حينه، كل مسعى دولي أو إقليمي من أجل حلّ المسألة السورية، وحالت دون تلاقي السوريين حول تسوية تنقذ بلدهم. ولذلك، لن تأتي المخاطر الفعلية على هذه الانتفاضة المدنية إلا من هذه الأطراف التي تعمل علانية من أجل إيجاد وسائل لتخريبها وحرفها عن طريقها الذي سارت عليه، وقد جرت عدّة محاولات، وجديدها أخيرا قبل أسبوعين، حينما حاولت مليشيات تابعة للأجهزة الإيرانية جرّ المحافظة إلى نزاع أهلي مسلح.

تستطيع السويداء أن تفتح بابا واسعا للأمل. ولهذا ليس خطأ أن يرى فيها قطاع واسع من السوريين ما يشبه الضوء في نهاية النفق، غير أنه لن يكون في وسعها أن تشكّل وحدها رافعة للوضع السوري المنهار، وهي تتقدّم على الطريق السليم بخطواتٍ محسوبة، رغم أنها تواجه مواقف تتأرجح بين الصمت والتحفظ وعدم الاكتراث. وينظر بعضهم إلى الحراك على أنه تأخر 12 عاما، وفي ذلك إجحافٌ من جهة، وتعسّف من جهة أخرى. لو كانت السويداء قادرةً على الخروج بالمظهر الحالي منذ بدايات الثورة لمّا تأخّرت، علاوة على أنها ليست وحدها التي تأخّرت، ثم إن النظر إلى التوقيت على أنه متأخّر، يحمل نظرة فوقية قاصرة، ولا يأخذ في الاعتبار العوامل التي تتحكّم بحركة الشارع الذي لا يخضع دائما لمعادلاتٍ رياضية. وبالتالي، هذا الحراك جديرٌ بمواقف مختلفة، تسانده كي يتطوّر أكثر، وتحمل قسطا من الحمل الثقيل، وتستجيب لما تطرحه مهمة الخلاص من النظام، واستعادة سورية من الاحتلالات الأجنبية، خصوصا أن مواقف إقليمية ودولية مؤثرة بدأت تعلن عن فشل محاولة التطبيع مع النظام من بعض الدول العربية، بضوء أخضر دولي.

العربي الجديد

—————————–

الموالون في سورية بين الإصلاح وإسقاط النظام/ عمار ديوب

اصطفّ الموالون في سورية إلى جانب السلطة في مواجهتها الشعب. ليس من مارس/ آذار 2011، بل بعد عدّة أشهرٍ. حدث الأمر بعد أن وجدت السلطة أنّ لا خيار لإنقاذ نفسها، والثورة تتوسّع، إلا بالتطييف، ولاحقاً بالعسكرة، والأقلمة والتدويل؛ فتحالفت مع إيران ومليشياتها ثم روسيا. دفعت السلطة مليشياتها نحو ممارساتٍ طائفية، فقامت بتسريب فيديوهات للتعذيب أو القتل أو المجازر ذات الصبغة الطائفية، قاصدة القول إن من يقوم بها العلويون ضد السنّة، وعملت على تجييش الأحياء “العلوية” في بعض المدن، كحمص واللاذقية، ضد أحياء يقطُنها “سنّة”، وفي بانياس وفي مناطق أخرى؛ كانت الرسالة، واضحة: إن العلويين يقتلون السنّة.

الموالاة والتطييف

جَرّت الأحداث السابقة وراءها، وعبر الأشهر اللاحقة، أحداثا طائفية مشابهة. إذاً، انتُهِجت سياسات التطييف ردّاً على الثورة الشعبية، والخشية من أن تحطّم القيد الطائفي؛ كانت تلك الأحداث لاجتثاث الوعي الثوري، وجعله يعود إلى الوعي الطائفي، وهو ما عزّزه النظام، عقودا، قبل اندلاع الثورة، وقد كانت الأخيرة تشبه الثورات العربية، ونظر لها السوريون كذلك ثورةً شعبية. نجح النظام في التطييف، ولم يترك وسيلة لتكريسه، وتشدّد في حصار المعارضين من أصولٍ علويةٍ وهَجّرَهم من أحيائهم، وأطلق سراح المعتقلين السلفيين والجهاديين، والإتيان ببعضهم من العراق، واستجلب المليشيات الطائفية الشيعية، وبدءاً بحزب الله.

ربما يوحي النص أن الموالين علويون فقط، وهذا غير صحيح؛ فهناك فئات مدينية سنية والأغلبية الكبرى من الأقليات الدينية. تفضل هذه الفئات الاستقرار تحت الاستبداد على الثورة والتغيير، قبل 2011 وبعده، ولا تجد مصلحتها في التغيير غير المحدّد ببرنامج وطني شامل، سيما أن الثورة في سورية، ونتيجة القمع المنظم، راحت تتّجه نحو الأرياف، وقد منع النظام الثوار من الاستيلاء على ساحات المدن، ولو أدّى ذلك إلى تدمير المدينة بأكملها على أهلها، وهو ما جرى في حمص ودير الزور وحماة وبلدات كبرى في الأرياف.

انخرط الإخوان المسلمون في صفوف المعارضة، ومجموعات إسلامية أخرى في الصراع من موقفٍ إسلاميٍّ، وبدأوا يعملون على أسلمة الثورة، وشاركوا في تشكيل المجلس الوطني السوري في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 انطلاقاً من هذا الموقف. وبالتالي، تلاقى النظام و”الإخوان” في تطييف الثورة، واستخدم الطرفان السياسة ذاتها. حصيلة الأمر، احتشد أغلبية العلويين خلف النظام، ومعهم كثيرون من أبناء الأقليات، وكتل سنية كبيرة من المدن، وبدأت الثورة تتأسلم، وترافق ذلك مع قمع وقتل وتهجير لأغلبية الثوار المدنيين الأوائل.

تشكّلت كتلة الموالين من الفئات أعلاه، فانقسمت سورية إلى شعبي الثورة والنظام. وتجذّر الأمر، حينما دفعت السلطة الثورة نحو التسليح والتطييف، وهو ما عملت له المجموعات الإسلامية المنخرطة في الثورة. مع زيادة القمع ودخول السلاح الثقيل ضد المدن والبلدات والقرى الثائرة، ودخول السلفيين والجهاديين المعركة ضد الثورة، وارتفاع أعداد القتلى من الجيش وأجهزة الأمن والشبّيحة، أصبحت المعركة أقرب للطائفية. في عام 2013 ولاحقاً، انتهت أصوات الاعتراض من أوساط الموالين، على قلتها، وتعزّز الخطاب الطائفي الثأري على جبهتي الحرب.

المعركة وقد تطيّفت

تستند سيطرة السلفية والجهادية على العمل العسكري وتشكيلها أنظمة استبدادية إلى نصوص “دينية”: “داعش، جبهة النصرة، جيش الإسلام…”، أدّى إلى تلاشي بقايا الثورة المدنية، والتهميش شبه الكامل للفصائل الحرّة، واستلمت إيران ومليشياتها التخطيط والمواجهة وأصبح النظام تابعاً لها، وجعل ذلك المعركة طائفية بامتياز؛ هنا أصبح الموالون في ارتباكٍ شديدٍ؛ فهم مؤيدون للنظام، ولكن إيران أشدّ تطييفاً من الفصائل السلفية، واستمرار المعارك والقتل، دُفِع الموالون إمّا لتأييد إيران، أو الصمت تجاهها، ولكن الرفض كان مطلقاً للفصائل المناهضة للنظام؛ الأمر ذاته على جبهتي الحرب؛ بين شعب الثورة، بدأت تبرز موجة رفضٍ شعبي للجماعات السلفية والجهادية، ولكن الموالين للنظام لم يغيّروا موقفهم، فظلّوا ضد الثورة والمعارضة والفصائل على تعدّد أيديولوجياتها.

استمرّ التجييش الذي افتعله النظام وبعض أطياف المعارضة سنوات، ولكن تغييراً بدأ يظهر مع عودة مناطق خفض التصعيد في 2018 إلى سلطة النظام، وتشكيل ما يشبه الحدود بين مناطق النظام والخارجة عنه، حيث بدأت أوضاع الموالين بالتدهور، وراحت قيمة العملة تتراجع بشكل كبير، وكذلك لم يعد لدى النظام أموال إضافية، وتجمّدت الأجور، وهناك الخسارات الكبيرة في أوساط الجيش وأجهزة الأمن، وفقدت العائلات كثيرين من ذكورها. الأسوأ أن خطاب النظام بدا متجاهلاً دور الموالين في صموده ضد الشعب، والملايين التي صمتت تجاهه، ولم تؤيد الثورة. في أوساط السلطة بدأت عملية تركّز الثروة في أبناء حافظ الأسد، وهُمّشت فصائل الشبّيحة وتمّ حلّ أغلبيتها، وفُرضت الإقامة الجبرية على رامي مخلوف، وجرى تشليحه أغلبية شركاته داخل سورية، وفي مقدمتها سيرياتيل. وقد شكّل عزل مخلوف صدمة كبيرة في أوساط الموالين، وتحديداً بين العلويين، ورافق ذلك صعود دور كبير لزوجة الرئيس، ولأولاده وإمكانية توريث الحكم. وكان هذا سلبياً للغاية، حيث بدا للموالين أن تأييدهم النظام أدى إلى تدهور أوضاعهم، ومقتل كثيرين منهم. وبالتالي، كان بلا فائدة تُذكر، ولم يحصدوا ثماراً لموقفهم ذاك.

مع ترسيم الدول المتدخّلة بالشأن السوري الحدود بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لتركيا، راحت الحاضنة الموالية تتخلّص بالتدريج من مخاوفها القديمة التي زرعها فيها النظام، وأن السنة قادمون لاجتثاثها. لقد رأوا “السنّة” في مناطقهم، حيث نزح ملايين منهم إلى مدن الساحل “الآمنة”، وكذلك رأوا أن ممارسات المنخرطين بالتشبيح أو بأجهزة الدولة القمعية لا تهتم بأوضاع المفقرين والمهمشين والموالين. خطاب السلطة المتجاهل دورهم، ساهم في بداية اليقظة والوعي النقدي، واشتدّ في 2023، وتوسّع بعد فشل المبادرات العربية والتركية.

الموالاة لروسيا بعد إيران

لا يفوتنا هنا أن الموالين، وبدءاً من دخول الروس سورية 2015، بدأوا يتنفسون الصعداء، فأصبحوا مؤيدين لروسيا وابتعدوا عن إيران. لم يتشيع العلويون، ربما قلة نادرة. وعكس ذلك، ومع استرجاع النظام مناطق واسعة، تشيّعت بعض المناطق والعائلات، ولا سيما في أرياف دير الزور، والتحقت مجموعاتٌ من الفصائل الثورية المهزومة بإيران. وجد الموالون أن الخريطة تغيّرت، ولم يعد التطييف يجدي أكلاً أو أماناً أو تعليماً لأولادهم، وافتقدوا الحاجات الأساسية.

استمرّ هذا الوضع بعد مرحلة الاستيلاء على مناطق خفض التصعيد باستثناء إدلب. وأوقف هذا المعارك الحقيقية، وكذلك منع دخول الدولار السوق السورية، وبدأت العملة بالانهيار بشكل كبير، وتصاعد الأمر في الأعوام والأشهر الأخيرة، وراحت قيمة الرواتب تنخفض، بينما تزداد الأسعار ارتفاعاً. بدأ الموالون الذين لم يتأثروا قبل 2018 بكارثية الأوضاع لبقية المدن السورية الثائرة يشعرون بالأمر. شكلت الحدود المرسومة بإشراف كل من تركيا وأميركا وروسيا وإيران، سبباً لزوال شعور الموالين بالخطر، وتراجع أثر ضغوط النظام لحثّ الموالاة على التبعية له أو الاستمرار بالصمت، وسقطت تقريباً أيديولوجية النظام في أن السنة قادمون لاجتثاث العلويين والموالين بعامة، أو أن ما جرى مؤامرة دولية وثورة سنيّة لإقامة إمارات إسلامية.

ثراء السلطة

ثراء السلطة ورجالاتها الكبار، السياسيون والعسكريون والأمنيون والشبّيحة وفروع العائلة المالكة، آل الأسد، كان محط أنظار الموالين، وبدأ السخط والتذمّر يحرّك تفكيرهم، وراحت فئات موالية كثيرة تغادر البلاد. مع تردّي العملة، واستمرار النظام بالقمع ذاته، وفرضه ضرائب ضخمة وتخليه عن دعم بعض المواد، ورفعه أسعار مشتقات النفط؛ كلها عوامل قلّصت التفكير الطائفي، ولنقل لم يعد هو المسيطر، وصار التفكير بإيجاد طرقٍ لتأمين الاحتياجات هو الأصل. وبغياب القدرة على ذلك، بدأت حدّة التذمر بالارتفاع، وإن لم تظهر شخصياتٌ ناشطة للتعبير عنه، ربما باستثناء بعض الأفراد؛ وكان الأبرز بوستات أو فيديوهات رامي مخلوف.

كان ارتفاع أسعار كل المواد، سيما مشتقات النفط، وندرتها واستمرار النهب والفساد وبأشكال أسوأ طوال سنوات الثورة، سبباً مركزياً لتعطّل الزراعة، والصناعة، ولهجرة أعداد هائلة من السوريين إلى الخارج، سيما أصحاب رأس المال والصناعيين، وفي الأعوام الأخيرة، حتى التجار بدأوا بالمغادرة. ظلّت هجرة العلويين، نادرة، ربما لبعض دول الخليج أو لبنان، ولكنهم ظلّوا في الداخل، إضافة إلى مقتل مئات آلاف منهم في الحرب. لم تخرُج المظاهرات في المناطق الموالية رفضاً للأوضاع المتأزّمة، والتمايز الطبقي، ولثراء السلطة الفاحش، فقد ظل وجود أعداد هائلة من العناصر الأمنية أو الجيش يشكل دائماً سبباً للصمت والموالاة. المشكلة أن طول أمد الحرب، وتشديد الحصار على النظام أوروبياً وأميركيا، والعقوبات على إيران وروسيا بعد غزوها أوكرانيا منعت هاتين الدولتين من الاستمرار بدعم النظام، وكذلك لمعرفتهم بالمليارات التي في حوزة العائلة الحاكمة في سورية.

أدّى توقيع النظام اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع إيران وروسيا، وتوقف الأخيرتين عن دعم النظام، بشعور الشعب بالغبن الشديد، فكما أن إيران لم تكن حلاً، كذلك روسيا، وقد أعلن إعلاميون سوريون كثيرون موالون عن تأففهم من إيران وروسيا، وتحديداً من الأخيرة، لعدم دعمها النظام بمليارات الدولارات، وهم الحلفاء، رغم معرفتهم العميقة بأحوال سورية المتأزمة. راحت روسيا المتورّطة في أوكرانيا تحثّ النظام على الاستجابة للمبادرات العربية أو التركية، من أجل إيجاد حلٍ ما للوضع في سورية. لم يستجب النظام، وانتهت فترة ما بعد الزلزال، حيث جرى نهب أغلبية أموال المساعدات، ولم ينل الموالون شيئاً منها، رغم معرفتهم بالكتلة الكبيرة للأموال المقدّمة، عالمياً، من أجل دعمهم. وقد رفعت سرقة أموال المساعدات ومواد الإغاثة “للموالين” من درجة الاستياء، وكذلك تقديم السلطة قروضاً للبيوت المهدّمة في جبلة واللاذقية وطرطوس، بينما هي أموال خارجية للدعم المباشر، وهذا رفع من انتقادات الموالين.

فشل المبادرات العربية والتركية

انتهت فورة أموال الزلزال، وفشلت المبادرة العربية التي تَوهم النظام وأوهم معه الموالين أن الأموال قادمة، وسينتشلهم الانفتاح العربي من أوضاعهم الكارثية. رأى الموالون أن فشل المبادرة والانفتاح تمّا بسبب موقف النظام وليس بسبب المبادرة العربية، ووقعت سورية تحت عقوباتٍ كثيرة. توصل الموالون إلى أن المشكلة في سورية ليست في الاحتلالات ولا في إسرائيل ولا المؤامرات الخارجية، بل في سياسات النظام الفاشلة وأدواته المستخدمة في النهب وفرض الإتاوات. وبالتالي، أخطأ النظام في إدارة البلاد بشكل كامل، ولهذا هم في أسوأ الأحوال، وتزداد الأوضاع تفاقماً.

انهارت العملة بشكل متسارع في الأشهر الأخيرة، ولم تعد الأجور تكفي عدّة أيامٍ. وبغياب كتلة كبيرة من المهاجرين من الموالين خارج البلاد، راح الجوع والألم يفتكان بالأغلبية منهم. بدأت تتساوى الحياة مع الموت، وارتفعت الأصوات بالنقد، ولكن هل يمكن لها أن تتجاوز فكرة إصلاح النظام إلى إسقاطه، وهل الفكرة الأولى سيتم النضال من أجلها بالفعل، وتتعيّن على شكل احتجاجات شعبية، وبمطالب اقتصادية مثلاً، كالمطالبة بالكهرباء أو رفع الأجور أو تأمين الماء وسواه كثير.

انتهاء أيديولوجية السلطة ومستقبل تذمّر الموالين

أهال تطور الأحداث في سورية التراب على إشاعة النظام أنّ السنة سيبيدون العلويين، فأغلبية السنة جرى تهجيرهم أو أصبحوا نازحين، وخمدت ثورتهم بشكل كبير، وأصبحت أغلبية منهم رافضة الأسلمة وللسلفية. إذاً، أصبح للموالين قضاياهم الذاتية، كالمطالب الاقتصادية أو الاجتماعية، ويرون أن غياب نقص الاحتياجات متعلقٌ برفض السلطة التغيير، وإعطاء الشعب حقوقه. وجود أغلبية الموالين في الداخل، واستمرار النظام فرض سيطرته بشكل أمنيٍّ وعسكريٍّ، يضعان حدوداً لتلك المطالب، فلا تتضمّن اعتراضاً حادّاً على ممارسات الأجهزة الأمنية أو الجيش أو موقع الرئاسة والعائلة الحاكمة وفروعها. ولهذا، ورغم التذمر في الأشهر الأخيرة، تحدّدت المطالب بانتقاد الوزارة أو مجلس الشعب أو حواجز الفرقة الرابعة. وهنا يمكننا القول إن السمة العامة لخطاب التذمر إصلاحية، ولا تتعدّاه إلى التغيير السياسي.

ما زالت مفردات خطاب الموالين محدودة ببعض المطالب الاقتصادية والاجتماعية وبعض الخدمات العامة. وبالتالي، ليس من ضمنها مفهوم التغيير السياسي أو إسقاط السلطة. صحيحٌ أن ذلك الخطاب يحدّد المشكلة بالسلطة أو بالنظام بشكل أدقّ، ولكنه لا يتخذ موقفاً سياسياً دقيقاً منهما. يضغط حجم الأزمات لاعتماد مقاربة تنطلق من إسقاط النظام، ولكن هول القمع والقتل وسيطرة الخوف، وما تمَّ في سورية منذ 2011، وعدم زوال أيديولوجية السلطة بشكلٍ كاملٍ، وأن السنة قادمون لاجتثاثكم، من الأنفس، ورداءة النماذج السلطوية لدى هيئة تحرير الشام أو الفصائل التابعة لتركيا يقف حائلاً دون تطوير ذلك الخطاب، سواء نحو الإصلاح الشامل أو تبنّي الإسقاط.

الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتفاقمها المستمر وفجور السلطة وتجاهلها حقوق الموالين قابلة للتطوّر والانفجار، وكذلك هي أحوال السوريين في بقية السوريات “هيئة تحرير الشام وقسد والفصائل”. وبالتالي، لا يمكن لخطاب الموالين أن يتطوّر بصورة جادة من دون ظهور معارضة لتلك السلطات “السوريات”، تناهض سلطاتها الفاسدة والتابعة لهذه الدولة أو تلك. مع ذلك، وباعتبار الحدود مرسومةً وليس من خطرٍ من هيئة تحرير الشام أو “قسد” أو الفصائل، فإن أشكال التذمّر ستتصاعد بالتدريج، وإذا هي الآن تقتصر على بعض الأفراد، وبعض الحوادث الاجتماعية في هذه المدينة أو تلك، فإنها قابلة للانفجار الواسع.

لم يعد هناك موالون للسلطة بالمعنى الدقيق للكلمة، فالأزمة وأسباب عديدة قضت على مبرّرات وجودها، ولدى الشعب من أشكال المعاناة الكثير. أصبحت أشكال التذمر الموضوعية هنا وهناك قابلة للتطور، فالأزمة عنيفة للغاية، وليس من مخارج عبر إيران أو روسيا، وحتى تركيا لن تتراجع عن سياسة إعادة اللاجئين ودعم الفصائل الفاشلة، والسوريون أيضاً تحت سلطة هيئة تحرير الشام يعانون الأمرّين. وتتحكّم قيادات الهيئة بكل شيء، مباشرة أو عبر حكومة الإنقاذ. وليست “قسد” متفقة مع أحزاب كردية كثيرة أو مع بعض الفصائل العربية وأقسام من العشائر، وبالتالي، هنا أسباب عديدة للتقارب من “الشعوب” السورية من جديد.

المشكلة الآن، ورغم الملاحظات أعلاه، أن الوعي لم يتجاوز الانقسامات بين موالين وثوّار، وهو ما جرى رصده إزاء خطاب التذمّر الذي تصاعد، أخيرا، لدى بعض نشطاء من الموالين، وهذا سيعيق بصورة كافية تجسير تلك الانقسامات، وربما يُبطئ تطوّر انفكاك الموالاة عن السلطة.

 في كل الأحوال، ستراكم حدّة الأزمة التذمر، وتُنذر بالاحتجاج المجتمعي. وسيكون هذا أساساً جديداً لمشاريع سياسية كثيرة، سواء ضمن مشاريع الإصلاح أو إسقاط النظام. ما لا يمكن التراجع عنه أن التذمر سيستمر، وقد ينتقل من الفردي والهامشي إلى الانفجارات الواسعة، وهذا لا يزال في طور التراكم، فهل سيحدُث قريباً؟ ربما، التأزم العميق للواقع وأزمة السلطة يقولان بذلك.

العربي الجديد

—————————

الجدل السوري حول انتفاضة السويداء/  عبد الباسط سيدا

الجدل الدائر اليوم بين السوريين حول انتفاضة الأهل في السويداء إنما هو استمرارية للجدل البيزنطي الذي نتميز به كسوريين، نتناقش، ونتساءل، ونشكّك كثيراً، ولكننا لا ننتج إلا القليل القليل في الميدان العملي بكل أسف.

فمنهم من يرى في هذه الانتفاضة سابقة غير معهودة، ويحاول من خلال الإشادة، بل والتمجيد بها، وكأن هذه الانتفاضة هي بنت نفسها، وليست استمرارية للثورة السورية التي انطلقت في آذار/مارس 2011؛ وكلّفت السوريين حتى الآن نحو مليون قتيل، وما يُقارب من هذا العدد من المعتقلين والمغيبين والمشوهين؛ إلى جانب نحو 14 مليوناً بين نازح ولاجئ ومهاجر. هذا رغم اعترافات النخب المجتمعية في السويداء بأنهم قد قصّروا في اللحاق بأهلهم السوريين في بقية المحافظات في بدايات الثورة؛ والأسباب في هذا المجال معروفة مفهومة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال اتخاذ ذلك وسيلة لإدانة المكون الدرزي ككل عبر الإشارة إلى أسماء بعض الأشخاص ممن كانوا جزءاً عضوياً من سلطة البعث في بداياتها، ثم تعرضوا للتصفيات التي كانت بين القيادات البعثية نفسها حتى تمكن حافظ الأسد، ولاحقاً ابنه بشار، من تصفية العلويين أنفسهم ممكن كانوا لا يوافقون على التوجهات والخطط والممارسات الخاصة بالسلطة الأسدية.

إن اللعب على الوتر الطائفي من جانب السلطة معروف ومستمر، وهو يأتي بمثابة استمرارية لسياسة فرّق تسد التي اعتمدتها القوى الاستعمارية والأنظمة التي قلدتها لاحقاً، وأمعنت في الظلم والاستبداد وارتكاب الجرائم ضد مواطنيها بشكل لا يمكن مقارنته مع تلك الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الخارجي، يعتبر حكم هذا الأخير بالنسبة إلى السوريين اليوم رحمة قياساً إلى الأهوال التي ذاقوها في عهد سلطة آل الأسد.

أما أن تعتمد اللعبة ذاتها من جانب بعض الأشخاص أو الجهات التي تعتبر نفسها معارضة فهذا ما لا يمكن فهمه، بل يثير الكثير الكثير من التساؤلات والتوجسات، لأننا إذا حولنا المواجهة بين السوريين والسلطة المذكورة إلى مواجهة طائفية، فهذا معناه تحييد الكثير من المكونات السورية، ومحاول لتبرئة الكثير من السنّة الذين كانوا وما زالوا من أركان السلطة وجزءاً من حاضنتها، ويسري ذلك على رجال الأعمال والدين أيضاً.

ولكن إذا اعتبرنا أن المواجهة هي بين السوريين الثائرين على الاستبداد والفساد، من جميع المكونات المجتمعية السورية، وبين سلطة مستبدة فاسدة مفسدة، فحينئذ ستستقيم المعادلة الوطنية، ولن نقع في الإشكالات التي يدفع نحوها بعضهم بسوء نية، وبعضهم الآخر بحسن نية تصل إلى حد الدروشة.

ولعل هذا ما يفسر ما نسمعه هنا وهناك حول أن الانتفاضة لم تبدأ في السويداء إلا بعد أن «وصل السكين إلى العظم» على الصعيد المعيشي، وكأن العيش الكريم لا يدخل في عداد مطالب الثورة السورية العادلة، وهي المطالب التي تمثلت في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

أما الأمر الآخر الذي يتم تداوله هنا وهناك، ويثير الجدل، ويستخدمه المتشككون لدعم مواقعهم، فهو التلويح بوجود رغبة لدى الدروز في فرض أمر واقع على الصعيد الإداري في مناطقهم؛ ويستند هؤلاء إلى المنظومة المفهومية الشعاراتية التشكيكية التي رسختها سلطة البعث على مدى عقود في الأذهان من دون أن تلتزم هي نفسها بأي بند منها.

ويتناسى هؤلاء أن الخطاب العنصري المزاود المتطرف الذي استخدمته سلطة البعث لم، ولن، يناسب الوضع السوري الذي يتسم بتنوعه المجتمعي سواء من جهة الدين أم المذهب أو الانتماءات القومية؛ والإصرار عليه مؤداه استمرارية الفشل الذي نعاني منه منذ أكثر من 70 عاماً.

فالواقع السوري ليس سرير بروكرست حتى نفرض عليه القوالب الأيديولوجية التي تناسبنا؛ وهنا يوجه العتب إلى النخب السورية التي تعرف حقائق التاريخ والجغرافيا، ولديها اطلاع كاف على تجارب الشعوب الأخرى؛ غير أنها تلتزم الصمت في مواجهة الأصوات الشعبوية، أو تتناغم معها على أمل أن يكون لها موقع ما في مشروع سياسي قادم. ولو كان ذلك على حساب مصداقيتها الأخلاقية ورسالتها المعرفية.

وفي هذا السياق، يوجه النقد إلى الفاعلين في انتفاضة السويداء من جهة التمسك بـ «راية الخمسة حدود» وعدم رفع علم الثورة الذي تم التوافق عليه من قبل السوريين المناهضين لحكم آل الأسد، وهو علم الاستقلال/علم الثورة.

العلم الرسمي وعلم الاستقلال

وبهذه المناسبة أذكر حادثتين كنت شاهداً عليهما لهما علاقة بموضوع علم الثورة.

الأولى، كانت أثناء زيارتنا إلى ليبيا بعد تأسيس المجلس الوطني السوري بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر 2011 بأيام؛ وقد كانت زيارة رمزية بكل المعاني، اجتمعنا خلالها مع الأخ الراحل مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الليبي الانتقالي وعدد من أعضاء المجلس. وأثناء الاجتماع أعلن عبد الجليل عن اعترافهم بالمجلس الوطني السوري، وعبر عن دعمهم الكامل له.

وفي اليوم الثاني من زيارتنا كان من المقرر أن يتجه قسم من وفدنا إلى القاهرة ليلتقي مع الأمين العام للجامعة العربية؛ على أن يبقى القسم الآخر، ليحضر فاعلية ينظمها الثوار الليبيون احتفاء بوفدنا. وقد آثرت وقتها البقاء في ليبيا التي كنت قد عملت فيها، وارتبطت وجدانيا مع أمكنتها وناسها الأفاضل. فقد كان لديّ دافع داخلي قوي لإجراء مقارنة بين صورة طرابلس التي كانت في ذهني، وصورتها بعد الثورة.

توجهنا في اليوم التالي إلى مكان الفعالية، وفي طريقنا مررنا بـ «ثكنة العزيزية» التي كانت قد تحوّلت إلى كتلة من الاسمنت والرمل، وهي التي كانت تثير خوف الليبيين بمجرد أن يذكر اسمها.

والطريف في الأمر هنا، هو أن الثوار الليبيين الذين تخلوا منذ اليوم الأول عن العلم الذي فرضه عليهم القذافي، ورفعوا العلم الليبي القديم، قد اختلط عليهم الأمر بالنسبة إلى العلم المعتمد من قبل المجلس؛ إذ كانوا في حيرة من أمرهم بخصوص العلم السوري الذي سيرفعونه أثناء استقبالهم لنا. ومن باب الاحتياط، كانوا قد جهزوا العلمين: السوري الرسمي الذي كنا حتى ذلك الحين نعتمده في المجلس؛ وعلم الاستقلال الذي كان قد بدأ ينتشر في المظاهرات والاعتصامات. وحينما عرفوا بعد الاستفسار من العلم المعتمد لدينا، رفعوا العلم السوري الرسمي في الفعالية.

أما الحادثة الثانية، فقد كانت أثناء مشاركتي في برنامج تلفزيوني مع معارض سوري معروف بنقده الحاد لأي مشروع معارض لا يكون هو من الفاعلين المؤثرين فيه. ما لاحظته أثناء الحوار أنه يستخف بـ «عقلية السوريين»، كما لاحظت أنه يستخدم مصطلح علم الانتداب، ويعلن عن عدم موافقته على تبني ما توافق عليه السوريون الثائرون.

فكان ردّي عليه هو بما معناه: علينا أن نحترم مشاعر الناس وتضحياتهم، حتى ولو كنا غير موافقين عليها. فتحت هذا العلم استشهد الآلاف من السوريين في ثورتهم على الظلم وفي سبيل الحرية والكرامة والعدالة.

وهنا أدرك الرجل أنه قد تجاوز الحدود، فاختار الصمت.

موضوع علم الثورة لم يُتخذ بشأنه، كما أسلفت، قرار رسمي من هيئات الثورة والمعارضة السورية في البداية، ولكنه فرض نفسه كأمر واقع؛ وربما يعتمده السوريون بعد سقوط سلطة آل الأسد، علماً رسميا لدولتهم، ورمزاً لبلادهم؛ وربما يدخلون عليه شيئاً من التعديل، أو يتوافقون على علم آخر يرون فيه رمزاً أكثر قدرة على تمثيل واقعهم، وتجسيداً لتطلعاتهم. فهذه مسألة متروكة لإرادة السوريين الأحرار، وفي ظروف طبيعية، ومن خلال المؤسسات الدستورية.

ورغم رغبتنا في الالتزام راهناً بعلم الثورة باعتباره قد حاز على التوافق، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نلجأ إلى الطعن في خلفيات من اجتهد في عدم رفعه في السويداء، فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقال؛ ما دمنا نرى أن الشعارات الوطنية الأساسية التي رفعتها الثورة السورية منذ بداياتها ما زالت هي نفسها التي ترفع في ساحة الكرامة.

بقي أن نقول، وسداً لباب القيل والقال: من الأهمية بمكان وجود لجنة مشرفة تضبط عملية صياغة ورفع الشعارات، وذلك لقطع الطريق أمام بعض الحركات الإشكالية التي عانينا منها سابقاً كثيراً، ونعني بها أن يسافر أي شخص إلى السويداء، وذلك من باب تقديم الدعم والتأييد، ثم يقدم وسط ساحة الكرامة على رفع لافتة أو «كرتونة» هنا أو هناك، لينشر لاحقاً صورها لأسباب تخصه على وسائط التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يحدث لغطاً وارباكاً لا يتوافق أبداً مع ضرورة السعي لتوسيع دائرة نقاط التوافق، وتعزيزها والبناء عليها، وترحيل النقاط الخلافية إلى مراحل لاحقة، لتعالج بمزيد من الهدوء والعقلانية، فالقضايا الخلافية المزمنة لا يحسم أمرها بحركات أو تصريحات متسرعة قد تكون كيدية في بعض الأحيان، وإنما بحوارات حكيمة بعيدة النظر.

*كاتب وأكاديمي سوري

القفدس العربي

——————————–

الأسد يهرُب من السويداء إلى الصين بحثا عن “شراكة استراتيجية” ثالثة/ دلال البزري

لم يعُد بإمكان أهل محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، الاستمرار في تلقّي آثار انحلال الدولة السورية. من العطش إلى تجاوزات مكاتب “البعث” والمليشيات الإيرانية… ثم جاءت تلك الإجراءات الاقتصادية أخيرا لتضرب في صميم معيشتهم، وتجرّهم، كما غيرهم من أبناء المناطق والطوائف الأخرى، في فقر جديد مقيم.

تراهم اليوم نزلوا إلى الشارع، في ساحة الكرامة مرة أخرى. حوَّلوها إلى خلية نحل. يومياً وأسبوعياَ، ينزلون إليها، ومطالبهم واضحة: رواتب، ماء، كهرباء، خبز، وقود. جوازات سفر للراغبين بالرحيل، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، تحديد مدّة الخدمة العسكرية. والأهم من ذلك كله: تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، القاضي بحلٍّ سياسيٍّ نهائيٍّ للحرب السورية.

ولمحة سريعة على الهتافات التي أطلقها متظاهروها اليوميون، وإصرارهم على الربط بين هذه المطالب وسلطة بشّار الأسد تعيدنا عشر سنوات إلى الوراء، في عزّ الثورة الأولى، ما صار ممكناً اليوم تسميتها “الموجة الأولى”… شعارات مثل: سورية لينا، وما هي لبيت الأسد. وعاشت سورية، ويسقط بشار الأسد. سورية حرّة حرّة، وبشار يطلع برّا. الشعب يريد إسقاط النظام.

وهذا الربط بين هذه وتلك من النواحي، أي الاقتصادي بالسياسي، كفيلٌ وحده أن يحيي ما يتجلّى في قلوب السوريين القاطنين في مناطق أخرى، من طوائف أخرى. مثل سنّة دمشق وحلب، أو من تبقّوا منهم، وعلويي الساحل والجبل العلوي. وصدى صرخة السويداء في هذه المناطق، فردية معزولة وخافتة، لم تسعفها الجغرافيا في إطلاق العنان لدواخلها. يبقى المسيحيون، الذين لا يحسب لهم أحد حسابا، كونهم لا أصحاب مدن ولا مناطق. كيف يمكن رصد موقف المسيحيين؟

نقطة أخرى تضيفها انتفاضة السويداء، أنها خاليةٌ من سوسَة الأصولية الدينية. صحيحٌ أن قادتها البارزين اليوم من مشايخ عقل الطائفة الدرزية. ولكن هؤلاء، على الصعيد الفلسفي، إذا جاز التعبير، هم من الرجال المحافظين التقليديين. وهذه الأخيرة، مع كل تقليديّتها المحافظة، تسمح بنوافذ من الحرية والتفكير، تقيها من الإخوانية أو السلفية أو الداعشية.

يصف الكاتب السوري مازن عزّي التيارات الداخلية في انتفاضة السويداء، ولا أثر فيها لأي أصولية: يقول الأول إن “لا حلّ في السويداء إلا عبر القرارات الدولية السلمية”. والثاني من دعاة الإدارة الذاتية “على غرار الإدارة الذاتية الكردية لشمال شرقي سورية”. ويضيف عزّي أن بين هذين التيارين “مجموعة واسعة من الأفكار الوسطية، التوفيقية، البراغماتية”. وفي أطراف هذين التيارين، أو داخلهما، ثمّة تياران آخران بحسبه: واحد “راديكالي”، إيديولوجي، ذو أفكار يسارية قومية. والآخر “عسكري”، وفي صدارته “حزب اللواء”، الذي يراهن على “صراعٍ عسكري مع النظام”.

هذا كله مناخ شجّع نساء السويداء للنزول إلى الساحة سافرات، وبطريقة مختلفة عن “الجمهور” النسائي، المطلوب من أجل الصورة وحسب. إنه اليوم “الجمهور” النوعي، والكمّي. ليس هذا النزول إلى الشارع جديداً. ولكنه اليوم يتصدَّر المشهد. وتقوم النساء فيه بأدوار تختلف عن مجرّد “المناصرة” والحشد”، فهن يشتركن بصياغة الشعارات، ينظِّمن الاعتصامات في الساحة، يشاركن في يومياتها، وفي اجتماعات ناشطيها، وفي ابتداع أشكال التعبير بالكلمة أو الرسمة واللحن، وفي إشراك الأطفال بهذه الأنشطة، وكتابة ما سميّت “رسائل تشجيعية” للذين يتباطأون بالنزول إلى الساحة.

أما المعارضة المعروفة، بجمهورها وبعض كتّابها، فهي تشكِّك بالانتفاضة. وكلما اقتربت من الإسلام السياسي تعصبت لطائفتها، ارتفعت درجة هذا التشكيك. وهي ردّة فعل مذهبية، لا تستطيع أن تستفيد من كون هذه الانتفاضة تضرب نظرية الأسدية التي سمحت له بقتل السنّة، على قاعدة “حماية الأقليات”، من دروز ومسيحيين وعلويين.

وعرفت الطائفة الدرزية ولاء إجماليا للأسد قبل انتفاضتها. كانت من الطوائف التي يحميها الأسد، نظرا إلى بقائها “على الحياد”. حياد بمعنى قبول أو رضوخ للأسد. ومع انقلابها، حاليا، على الأسد أن يحمي نظرية “حماية” بقية الأقليات، بأن لا تتمدّد روح السويداء الجديدة إلى بقية الطوائف… كي لا ينهار عرشُه نهائياً، أو يتشوّه بمزيد من التقرّحات.

ماذا يفعل الأسد في هذه الحالة؟ يعزل السويداء، يحاول خنقها بالحصار، يلجأ إلى دروز محسوبين عليه، يؤلّبهم على الشيوخ والأهل والمنتفضين، ومنهم بعض دروز لبنان، يجنِّد جيشه الإلكتروني، يبطش بالأصوات الفردية التي خرجت من معقله الطائفي، وبأن هؤلاء المنْتفضين إنما هم انفصاليون، خوَنة، عملاء الإمبريالية والصهيونية، إرهابيون من جماعة “داعش”.

ولكن عبثاً، الانتفاضة مستمرّة، وبشّار الأسد في النتيجة يواجه معضلة حقيقية، تُبعده عن ردّة الفعل الدموية والساحقة التي اعتمدها في “الموجة” الأولى من الثورة عليه. إذ عليه أن يقرّر: إما أن يهمل هذه الانتفاضة، ويتركها تتعمّق وتتمدّد وتكتسب خبرة المواجهة السلمية، فتهدّد معقله وعرشه، أو أن يعتمد نهجه السابق، فيسحق أهلها ويقتلهم، ويفقد بالتالي صفة “الاستقرار” في مناطق سيطرته، والتي يتباهى بها. هو لا يستطيع أن يقرّر. لا هذا “الخيار” ولا ذاك. فماذا يفعل؟

يسافر إلى الصين، خمسة أيام. خمسة أيام… “رسميا” لحضور افتتاح دورة رياضية آسيوية، وعملياً، كما يتباهى هو والقادة الصينيون، لعقد “شراكة استراتيجية”، فهم منها أنها “اقتصادية” بالدرجة الأولى، تدخل في نطاق “طريق الحرير” الصيني، القائمة على بنى تحتية تحتاج إليها هذه الطريق، فضلاً عن تمويل وصداقة و”إعادة إعمار”… ولهذا “الكرم” الصيني سوابقه، من أيام الموجة الأولى للثورة السورية. الصين حليفٌ لطيفٌ وشبه صامت للأسد. في مجلس الأمن، تضع الفيتوات على قراراتٍ تتعلق بحماية الشعب السوري من جرائمه، مثل السلاح الكيميائي. والصين أيضا حليف روسيا وإيران. وبهذه الخطوة، تكمل الصين إحدى قطع “خط الحرير” البرّي والبحري. وهلّل معلقو الممانعة لهذا “التحوّل الصيني”. اعتبروه إنجازا متأخّرا، صفحة جديدة، منفعة مشتركة، قادر على الصمود، انتعاش، نهاية الحذر، لا بديل عنها. وكاد أحدهم أن يتكلم عن “انتصار جديد” للأسد.

ونحن إزاء اتفاقية “شراكة استراتيجية” ثالثة يعقدها الأسد مع منْقِذيه. في البداية، كانت الشراكة مع إيران التي استقدمت مليشياتها للقتال إلى جانبه، بناء على استغاثة منه. ثم عندما عجزت هذه المليشيات عن تحقيق ما جاءت من أجله، كانت “الشراكة الاستراتيجية” الثانية مع الروس، بقواعدها العسكرية ومليشيات فاغنر. والآن، مع السويداء، مع استفحال الفقر والترهّل المعيشي والإفلاس، يقيم الأسد “شراكة استراتيجية” ثالثة مع الصين، وسلاحها المال (المسمّاة “استثمارات”) والبنى التحتية الخاصة بطريق الحرير.

ومع هذه الشراكات الثلاث، سوف يحتاج بشّار إلى ضعف ذكاء أبيه وحظّه لينسِّق بينها: الصين وروسيا وإيران. كلهم “شركاء استراتيجيون”. نعم، ولكن إذا كان الإيرانيون يتنافسون مع الروس، رغم “تقسيم العمل” (أرض/ جو) القائم بينهم، فكيف سينافس الصينيون الاثنين؟ وكيف يتنافس الثلاثة؟ على أي حصة؟ أو قاعدة؟ وهل يكون هناك أصلاً تنافس مثل الذي يحصل بين الروس والإيرانيين، أم أن التنّين الصيني سيلتهم الاثنين، بقفّازات من الحرير الفاخر؟

إنها مرحلة جديدة في سورية، أضيف رقم صعبٌ إلى عدد محتلّي أراضيها، من خصوم و”شركاء”. رقم يحوّل سورية إلى “دولة” يقيم على أرضها العدد القياسي من الاحتلالات. ستة احتلالات، ناعمة وخشنة… ترتِّب على عقل السوريين التواقين إلى الخلاص تمارين جادّة على كيفية النظر إليها، والتعامل معها كلها.

العربي الجديد

——————————

شرعيةُ “الصنم المعبود” من السويداء إلى الصين/ عبير نصر

ليس من قبيل البكاء على الأطلال أن نقول إنّ من مكر التاريخ بسورية أنها ما زالت الاستثناء العجيب بين الدول، باعتبار الرصد المنطقي لواقع الأمم المتحضرة يثبت أنّ التجريد والرمز من أبلغ الطرق التي تستخدمها الشعوب لرسم ملامح زمنها وقِيمها، بينما لا قيمة مجسّدة في سورية سوى تماثيل العائلة الحاكمة، في حضرة مواقع أثرية كثيرة تحكي حكاية بلادٍ تُوّجت في زمنٍ مضى مهد الحضارات، لكن لن تُرى هذه الآثار في أحسن أحوالها ولا في أدناها، بل في عدمها، فهي بِلا أية روح تاريخية، وهي إشكالية لا تحتاج للتنبؤ والتحليل كثيراً، ولا إلى تنزيه هذه العدم التاريخي من كلّ شائبة، بينما نجد العلّة الحقيقية في سعي نظام الأسد إلى طلي تلك الآثار بالإسمنت الأبيض، وترميمها، كيفما اتفق، بالصخور البشعة والجافّة، لتغدو راهنية الواقع المرير المتمخض عن فعالية البروباغندا السامة والإلغائية في تضليل السوريين، وكأنّ ما تبقّى من الأزمنة الغابرة ليس سوى عالة على نظام يريد حكم أناسٍ بلا ثقافة ولا مرجعية. في المقابل، ليس مطلوباً من السوري الإحساس بالتماهي مع هيبة الرئيس أو محبّته، فيكفي أن يذوب في مملكة الرعب، ليغدو جزءاً أصيلاً من الآلة العنفية المجرّدة التي أنتجت رمزيات النظام المُعمّمة، والتي انتهت بالاستغلال الشرير للسطوة الثقيلة لرمزية (البوط العسكري). بالتالي، أصبح السوريون أمام “منزلق وطني” لا يخدم، في نهاية المطاف، سواء في مقاصده أو نتائجه، إلاّ أيديولوجيا الفكر الأوحد للنظام الحاكم والمآل المغلق المحتوم، بعدما غُرِزت رموزه في جسد البلاد كسكاكين لئيمة، لا بدّ أن تُدرج في قائمة الإرهاب الوطني يوماً ما.

وعليه، يذهبُ كثيرون إلى أنّ الثورة السورية، في بدايتها، كانت موجّهةً ضد تماثيل الأسد التي حولته إلى رمزٍ مقدّس للجمهورية الوراثية، باعتبار تحطيمها ضربة قاضية للاستبداد الذي تمثلُه العائلة الحاكمة، ذلك أنّ خيلاء الفوقية التي اتسمت بها هذه التماثيل جعلت أكثر الأيادي قداسة وطهراً تلك التي هدمتها، ليردَّ النظام آنذاك بشعار الإبادة الشهير “الأسد أو نحرق البلد”، وكأنّ تمثالاً واحداً للرئيس يُساوي مدناً وأريافاً بأكملها، وعلى السوريين أن يكونوا أقلّ قامةً منه، لذا كان وجودُ أحجار العائلة دلالة على تفجير الخوف في ناموس الثورات المستحقة، وتعميق شأوة الانشطارات في الكيان السوري لتعزيز حكم الطغاة ومضارب السياسة الفاسدة. هكذا استمرّت ظاهرة “تفريخ” التماثيل بوتيرة مطردة حتى وصلت إلى مظاهر العبادة الراهنة، ومع مرور الزمن باتت أصنام الأسد مكرورة بالأسلوب عينه إلى حدّ انتشار قوالب جاهزة لصناعتها، بينما لا يوجد أيُّ تمثالٍ لرئيس سوري آخر في أية ساحة على الإطلاق.

بالتساوق مع ما تقدّم، يقول الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه “ليست السلطة التي تستطيع إحضار الغائب، ولكنها دائماً السلطة التي تستطيع التحكّم في الإنسان الحي”. وفي الحقيقة، ليس حافظ الأسد وحده من مات، بل كلّ ما بني على سيطرته “الغامضة” ذهب إلى غير رجعة، وعندما خرج السوريون إلى الشارع بعد 2011 حطموا تماثيل الأب قبل نزع صور الابن، فالثورة كانت، في جوهرها، على الأصل لا على المستنسخ منه. وفي حادثة شهيرة إبّان الثورة السورية، عمد النظام إلى إزالة تمثال الأسد الأب من محافظة دير الزور لحمايته من غضب المتظاهرين، خصوصا بعدما أُطلق عليه اسم هُبَل (الصنم الجاهلي)، ليُعاد لاحقاً نصبه في المدينة تطوّقه مصابيح الكهرباء من كلّ جانب فيما “الظلام والدمار” يحيط بالمحافظة المنكوبة.

على التوازي ما من شيء يدعو إلى العجب بشأن ظاهرة تحطيم التماثيل في المدن السورية الثائرة، لكن المفارقة المدهشة تكمن في حماية فرقةٍ أمنية كاملة تمثال حافظ الأسد في مدينة اللاذقية “الموالية حتى النخاع”! هذا الهوس في حماية الرمز لم يأتِ من فراغ، بينما كان النظام يخسرُ تدريجياً واجهته الرمزية المقدّسة، وبلغ به الجنون حدّاً أنه في عيد الجيش، مثلاً، لم يعتبرها السوريون نكتة سمجة عندما رأوا كِبار مسؤولِي النظام يلتفون “متأثرين فرحاً” حول البوط العسكري وبجانبه تربّع مجسّمُ رصاصة!

واليوم، وبينما تبدو قيامة السويداء ثورة مركّبة في مواجهة أيديولوجية شمولية متطرّفة، ومن ثم فالمفاهيم الدالة عليها تتسم بالعمومية وتعدّد الأبعاد، إلا أنّ خصوصيتها المبشِّرة تكمن في تجرّؤ السوريين، وبعد عقدٍ مرير من الصمت القاتل، على تمزيق صور الأسد الأب وإسقاط تمثال له أخرجوه من مقرّ البلدية إلى ساحة الكرامة. وردّاً على هذه الجرأة الثورية الصادمة، يلجأ بشار الأسد نحو طقسٍ أهمله عقدين، عبر إعادة نشر تماثيله، وهو ما حدث أخيرا في قرية بلقسة الموالية، في ريف حمص الغربي، حيث نُصب تمثال عملاق له بلغت تكلفته حوالي 650 مليون ليرة سورية، بقصد التذكير بقدسية الحاكم وتلك المسافة الهائلة التي تفصله عن جموع العبيد، حيث ظهر عشراتٌ يلتفون حول التمثال وهم يرفعون أيديهم ويهلّلون ككفار قريش.

وهنا دعونا نتساءل بتجرّد تام: لو كان هذا “الصنم” مصنوعاً من تمر أو من خبز، هل سيهرع هؤلاء الموالون “الجائعون” لأكله ليلاً بعد التهليل له نهاراً؟ في السياق يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر “الأمم قد تتسامح بالتفريط في مصالحها، ولكنها لن تتسامح أبداً بجرح شرفها وكبريائها”. وها هي ثورة السويداء تثبت أنّ مآل حكم نظام الأسد هو السقوط، لا محال، بعد استعادة السياسة من احتكار الأسد لها انطلاقاً من ساحة الكرامة، باعتبارها ساحة شعبية مقدّسة لخلوّها من التماثيل، وبوصفها شأناً يومياً طهرانياً بالغ الأهمية لصياغة الرؤى التي بدأت بفتح بابٍ مُحتمَلٍ لحلٍّ سياسي قد يقود في النهاية إلى إعادة تشكيل سورية الجديدة.

وفي هذا الوقت الحرج، كلّ ما يفعله بشار الأسد أنه يترأس وفداً رسمياً إلى الصين، وهنا سؤال عن مناسبة الزيارة، وهي افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، فلماذا يصطحب معه وزير الخارجية مثلاً؟ أو المستشارة السياسية أو المستشارة الخاصة به؟! ما يزيد طين الأسئلة بلّة أنه، وبعد خسارة الدعم العربي وانشغال الحليفتين بمشكلاتهما الداخلية، لا تبدو الزيارة سياسية، بالمطلق، رغم تصريح الرئيس شي جين بينغ خلال لقائه الأسد إنّ الصين وسورية ستعلنان عن شراكة “استراتيجية” جديدة ستصبح محطّة مهمة في تاريخ العلاقات الثنائية، إذ يبدو الأخير مشغولاً وعائلته في زيارة الأماكن السياحية، تسبقه ابتسامته الواسعة البلهاء التي لطالما تصدّرت الأزمات والكوارث، متسوّلاً النجومية من بلدٍ لا يقدّم شيئاً بالمجان، عمل بشكل حثيث على تثبيت شرعية رئيس جمهورية الكبتاغون الواهية على المستوى الدولي، ومن بين 16 مرّة استخدم فيها حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن كانت عشر منها لحماية نظام الأسد البائد.

نافل القول، مهما كانت مآلات الزيارة وثرثرات دهاليزها المعتمة، فالحقيقة الجلية هنا أنّ الأسد لن يغادر كرسيه حتى ولو باع سورية بالكامل، هو الذي لم يسمع الصرخة المدوّية للشاعر بدوي الجبل في قصيدته التي انتقد فيها حكم حافظ الأسد بعد هزيمة يونيو 1967: يسومنا الصنم الطاغي عبادته/ لن تعبُد الشام إلا الواحد الأحد.

العربي الجديد

————————–

الصين لن تنقذ الأسد/ عمار ديوب

أُغلقت كل النوافذ بوجه بشار الأسد. إيران وروسيا تبدوان متململتين منه كثيراً. تركيا لا تجده شريكاً في إحلال السلام في جنوبها، وليس قادرا على تفكيك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والحزب الاتحادي الديمقراطي (الكردي). وفي كل الأحوال، هناك أميركا الداعمة للقوى الكردية هذه، وبالتالي، لن تتغيّر أوضاع ذلك الجنوب إلّا باتفاق مع الحكومة الأميركية. أحاديث وزير الخارجية الإيرانية، حسين عبد الأمير اللهيان، أخيرا، عن وساطة للتقارب بين تركيا ونظام دمشق تبدو أقرب إلى التحدّث للإعلام منها لأن تكون مبادرة، فكيف إن تذكّرنا أن طهران أعاقت بالأصل المبادرة التركية، ومنعت الأسد من الاستجابة لشروط المبادرة العربية.

حَلِم الأسد طويلاً بأن تنظر الصين إلى بلاده بعين العطف، رغم أن وعودها بالاستثمار في سورية من قبل لم تنفّذها. تُعتبر الصين حليفة له، فهي رفعت “الفيتو” ثماني مرّات، وفي قضايا محقّة بإدانته، ولكن الأمر كان يتم بتنسيق مع روسيا، وضمن تعزيز العلاقات مع الأخيرة أولاً. الصين التي حاصرها الأميركيون عبر الممرّ الهندي الخليجي الأوروبي، وأخرجوا سورية ولبنان منه، رأت أن تدعو الرئيس الأسد إلى دورة الألعاب الأسيوية، وهناك موضوع تايوان، والابتزاز الغربي ضدّها، فلماذا لا تلوّح بورقة سورية هي أيضاً؟

شعر الأسد بأهمية الحليف الصيني، أخيراً، فأرسل الأخير إليه طائرة لتقلّه، وأسرته وبعض من وزرائه ومستشاريه، للمشاركة ضيوفا في الدورة. تم هناك اللقاء مع الرئيس الصيني، ووقّع الرجلان اتفاقية سمّيت “الشراكة الاستراتيجية” وتتضمّن وعوداً جديدة بالمساهمة في إعمار سورية، وبالاستثمار في البنى التحتية. في كل الأحوال، انضمّت سورية إلى مبادرة الحزام والطريق في 2022، ولكن، كما لم تتحقّق وعود سابقة بالاستثمار في سورية، كذلك لم يكن للانضمام فائدة تُذكر. وأغلب التقارير الصحافية تؤكد أن الاتفاقية الموقعة أخيرا لن يكون لها أيّ عوائد اقتصادية. وبالتالي، الزيارة أقرب إلى الدبلوماسية؛ فبها، يقول الأسد إلى جامعة الدول العربية بأن لديه مخارج جديدة، وتستغلها الصين ورقة سياسية، كما أوضحنا.

مشكلة الأسد أنّه استنزف كل علاقاته و”باع” سورية لحليفتيه. رغم ذلك، تلاحقه إيران من أجل ايفاء ديونها، وروسيا تفعل الشيء ذاته، والاثنتان عقدتا معه اتفاقياتٍ اقتصادية كثيرة، وجميعها غير قابل للاستثمار. تعلم الصين ذلك جيداً. ولهذا، ليس بمقدوره أن “يضحك” عليها واستدانة بضع مليارات، ويشكّل رفضه المبادرات الإقليمية سبباً إضافية إلى تعقيد مستقبل بقائه في السلطة، وليس حل بعض مشكلات البلاد.

المصائب لا تأتي فرادى على نظام دمشق؛ فبعد أن توهّم الانتصار، وتوهّم معه الموالون أن الأزمة حُلّت وانفرجت، وفتحت أمامه المبادرات، واعتقد الأسد أنّه سيذهب إلى الرياض وأنقرة فاتحاً؛ انهار ذلك كله، وعاد إلى الداخل، ورفع الأسعار بشكل جنوني، سيما المحروقات، وكانت الحصيلة تذمّراً واسعاً، فنطقت الألسن الصامتة، وبدأ الانتقاد الشديد، وتحرّك المجتمع، وبرز ناشطون عديدون في الساحل، واعتقلهم، وخرجت محافظة السويداء بأكملها عن السيطرة، وشعر النظام بأن أجواء 2011 عادت تقضّ مضجعه.

بزيارته الصين، بدلاً من أن يذهب إلى السويداء، أو يتحدّث للشعب، وقد كانت هناك انتفاضة للعشائر ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وباستمرار ارتفاع الأسعار، وطبعاً سيعود بخفّي حنين من الصين، يكون قد أجّج إمكانية توسّع الانتفاضة عليه من جديد. يشكّل شعور الخيبة الشديد لدى الموالين من أفعاله، في السنوات الأخيرة، وعدم تغيّر ممارسات نظامه من فساد ونهب وتجاهل الحقوق، الأرض الصالحة للتظاهر.

عرّت نبرة نشطاء الساحل الذين اعتقلوا النظام من كل مصداقية، واعتقالهم، وانتفاضة السويداء، “كمحافظة فيها أقلية درزية”، قد أعادت العقل إلى اعتداله، وتذمّره؛ فهذا النظام ليس طائفيّا ولا حاميا للأقليات، ولا تعنيه أحوال المتضرّرين من الموالين، وعائلاتهم، وقد فقدوا أولادهم، ومن ظلَّ حيّاً ركب البحر الى قبرص وأوروبا وأيّة دولة يمكن الذهاب إليها. هذا يعني افتقاد النظام أيّة سرديات عن ضرورة الالتفاف حوله من جديد. وهنا، ذكرت تقارير صحافية أن الرئيس الأسد التقى، منذ أكثر من شهر، بعض شيوخ الطائفة العلوية، وبدلاً من الإصغاء إلى شكواهم، ازدراهم، وهدّدهم، بأن يساهموا بدورهم في تكميم الأفواه عبر السردية القديمة، بأنّه حامٍ لهم. ولا يمكن للشيوخ الجوعى أن يعيدوا العقل إلى غبائه، وإلى الجهل.

لن تأتي الإغاثة من الصين، وليس من استثماراتٍ ممكنة، وروسيا وإيران سيطرتها على كل موارد البلاد، والانضمام لمبادرة الحرير والطريق لم تغيّر من المشهد أبداً. وواقعياً، هناك العقوبات الأميركية، والتي تمنع أية استثمارات في سورية، وقد كانت سبباً لمنع تمادي بعض الدول العربية في نسج علاقاتها مع نظام دمشق، والأسوأ للأخير تصريحات ملك الأردن عبدالله الثاني في الأمم المتحدة، حيث قال إن الأسد لا يفرض سيطرته الكاملة على المناطق الواقعة تحت نفوذه. وكان الملك من أشدّ المتحمّسين لإعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، ورفع العقوبات عنه، ولكن سياسات النظام، وعدم استجابته لشروط الجامعة، واستمرار وصول الكبتاغون إلى الأردن والخليج، أشعر الملك بأن كل ما فعله لم يكن صائباً، ولا بد من السير خطواتٍ نحو الخلف.

لن تغامر الصين بالقدوم إلى سورية؛ فهي تريد تخفيف المشكلات مع أميركا وليس العكس، ولديها مشكلة كبرى هي تايوان، وتتشدّد فيها ضد أميركا أو كل من يقيم صلات معها؛ في منطقتنا. صحيح أن الممر الهندي موجّه ضد المبادرة الصينية، ولم تستفد منه تركيا وإيران وسورية ولبنان والعراق، ولكن ذلك لن يدفع الصين إلى المواجهة، في المنطقة، سيما أن مبادرتها للصلح بين السعودية وإيران تكاد تفشل، ووعودها لإيران بضخ 40 مليار لم تنفّذها. إذاً، لن يستفيد الأسد من زيارته، وسيُصاب الشعب بالخيبة من جديد، فقد انتهت أسطورة العمل بالأمل، بل، وعلى الأغلب ستتوسّع الانتفاضة ضدّه أكثر فأكثر؛ فهو لا يتوقّف عن إضاعة الفرصة تلو الأخرى، وبذلك تتفاقم أحوال الشعب، ويصبح المدخل لحل المشكلات هو التغيير السياسي، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وهو ما حاز إجماعاً في سورية، المعارضة و”الموالية” منذ منتصف أغسطس/ آب الماضي.

العربي الجديد

—————————–

انتفاضة السويداء إلى أين؟/ فايز القنطار

في شهرها الثاني، لا تزال السويداء، كما يقول الشاعر الفلسطيني مرزوق الحلبي، تبثّ دروسها في بثّ مباشر لأهلها ولأهل سوريا ولنا وللعروبة، دروسها التي بدأها سلطان الأطرش. عروبة كما في الأمنية، كما في الحلم، من أوّل حرف إلى آخر حرف، من أوّل اسم في المعجم إلى آخر اسم، من أوّل التاريخ إلى آخره، لا تزال السويداء ساهرة في ساحة الكرامة نيابة عن جميع الثائرين في ربيع العرب.

السويداء سوريا الطالعة من تحت الأنقاض والمقاومة للطواغيت المُقيمين والوافدين من خلف البحار، السويداء تحيي ذكرى المهجّرين من وطنهم والمنسيين في الأقبية والمغيّبين.

السويداء رواية مُشرقة على مرمى أمنية يكتبها الناس المخلصون لأمّتهم، الحريصون على كراماتهم وكرامة المقهورين جميعًا في سوريا وفي كل بقاع الأرض.

خطاب بسعة الوطن العربيّ وأمانيه وتطلّعاته، بتاريخه وتجاربه ومآسيه، يكتبه أناس في منتهى البساطة جاؤوا من أريافهم وبيوتهم، ليضعوا البديل لكلّ ما كان من خيبات وقهر وتقتيل وليفرضوا المعنى المغيّب.

جاءت انتفاضة السويداء في زمن صعب، جاءت كنسمة صيف رطبة تهب على الغارق في عرق القيظ، جاءت لتعيد السيرة الأولى لثورة شعب تجرأ على طلب الحرية.

لا تزال السويداء تلقننا درسها الوطني، تعلمنا أن سلطان ورفاقه لا يزالون على ظهور الخيل، تعلمنا كيف ترد لنا الأمل، وتعيد ماء الوجه لأمة بأسرها.

تعلمنا السويداء أن حقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم، فمطالب الشعب السوري بالحرية ودولة المواطنة لا تزال حية في القلوب وفي العقول، بعد أكثر من اثنتي عشرة سنة من القتل والتدمير والتهجير.

وضعت انتفاضة السويداء النظام الكيماوي في مأزق صعب، لا يعرف كيف يواجهها. فاستخدام القوة، بعد أن جرب كل أشكال السلاح، لن يعيد السويداء إلى بيت الطاعة، وفي ذلك مجازفة قد تشكل نهاية الحقبة الأسدية، لعدم توفر الغطاء الروسي الغارق في المستنقع الأوكراني، وقد تدفع السوريين إلى ثورة عارمة شاملة تعصف ببقايا النظام. أو قد تحفز “التحالف الدولي” لإخراج الجنوب برمته عن سلطة آل الأسد، لتضاف سلطة خامسة لسلطات الأمر الواقع في سوريا. ألم يصرح المقبور حافظ في ثمانينيات القرن الماضي، عندما سأله أحد الصحفيين عن مصير سوريا بعد انتهاء حقبة الأسد، ألم يصرح قائلا: لن تكون هناك سوريا!.

لجأ الوريث إلى محاولة استخدام الأعوان في شق الصفوف ومحاولة ممارسة “القتل الداخلي” كما يقول أحد خبرائه الأمنيين “الاستراتيجيين” تركي الحسن، لأنه أقل كلفة من أن تقوم “الدولة الأسدية” بالقتل. هذا العميد الأمني حاكم السويداء السابق في تسعينيات القرن الماضي، العميد الذي لا يتحدث إلا عن القتل، قتل الدولة أو القتل الداخلي، اضطر المقبور حافظ الأسد لإقالته بعد شكوى الملك حسين من فضائح التهريب التي قام بها نحو الأردن.

فشلت كل الوساطات والتدخلات لاحتواء احتجاجات السويداء، التي حسمت أمرها وطهرت مدنها وقراها من اللوثة الأسدية ورموزها وصورها وكل استطالاتها، وساطات لم ولن يكتب لها النجاح.

أدرك أهل السويداء، كبقية السوريين، أن سوريا لن تتعافى وتعود إلى سكة الحياة بوجود هذا النظام، بعد أن أوصلها إلى التشظي والانقسام، بدأ ببيع الثروات والمرافق الاستراتيجية إلى حماته من الروس والإيرانيين، وفرط بالاستقلال الوطني ووضع البلاد تحت الاحتلالات المتعددة الجنسيات.

يعرف أهل السويداء جيدا الثمن الذي دفع من أجل تحقيق الاستقلال الوطني في مقارعة الاستعمار. دفعت سوريا أكثر من 6 آلاف شهيد على دروب الحرية في معارك، بدأت في معركة المزرعة عام 1925، التي قارنها الشهيد عبد الرحمن الشهبندر بمعركة اليرموك، وانتهت إلى الكفاح السلمي بالاحتجاجات والإضرابات التي توجت بإنجاز الاستقلال الوطني. في حين دفع السوريون أكثر من مليون شهيد وملايين المهجرين وتدمير 60% من مدنهم وبلداتهم في مواجهة الاحتلال الأسدي، ولا يزال أمامهم شوطٌ طويلٌ لإنجاز استقلالهم الثاني وتحرير بلادهم من الوجود الأجنبي الذي جاء لحماية الطاغية.

شعر طاغية دمشق بالرعب من انتشار أحداث السويداء إلى مناطق أخرى. فانبرت أبواقه الطائفية لكيل الاتهامات للسويداء وأهلها، تتهم انتفاضة السويداء بالعمالة لإسرائيل تارة، وبالانفصال وإقامة دولة درزية. تارة أخرى، في محاولة بائسة لعزل السويداء عن محيطها الوطني.

هذه الأسطوانة المشروخة، التي طالما صدقها بعضهم، لم يعد يصدقها الشعب السوري، فهو يعرف أن العميل الحقيقي هو من سلم الجولان بلا حرب ولا ضرب، بأسلحتها وتحصيناتها التي كان يمكن أن تقاوم سنوات من دون أن تسقط.

العميل الحقيقي هو من تضربه إسرائيل بانتظام، دون أن يرد الإهانات المتلاحقة، وتعود الذل والهوان والركوع، فقط يستأسد على السوريين العزل.

العميل الحقيقي هو من خان الأمانة ووجه السلاح إلى صدور السوريين، بدلا من توجيهه إلى الأعداء.

هذا هو عميل إسرائيل الحقيقي، وليس بنو معروف الذين شكلت نسبة شهدائهم في المواجهات معها 11% من شهداء سوريا، في حين أن نسبتهم إلى عدد السكان هي 3%, استنادا إلى إحصاءات وزارة الدفاع.

أما بخصوص الانفصال وإقامة دويلة درزية، فبنو معروف أسقطوا المحاولات الاستعمارية في إقامة دويلة لهم، وعملوا جنبا إلى جنب ويدا بيد مع الوطنيين السوريين على الاندماج في بيئتهم العربية الإسلامية، وبناء دولة المواطنة والحداثة.

الطائفي الحقيقي هو من اغتصب السلطة في غفلة من التاريخ وحولها إلى سلطة طائفية من رأسها إلى أخمص قدميها. وسخر كل إمكانات الدولة السورية لآلته القمعية، وعندما حطمها الشعب، استدعى الجيوش والميليشيات، ورهن البلاد وثرواتها ومرافقها الاستراتيجية، وقامر بمصير البلاد ودفعها إلى التشظي، من أجل البقاء في الكرسي.

لم تعد الأكاذيب مجدية، فالسوريون يعرفون الحقيقة، يعرفون أن أهل السويداء لا ينتظرون شهادة في الوطنية من أحد، فالوطنية السورية وانتماؤهم العروبي هي في صلب عقيدتهم. فهم يحملون راية الحرية والكرامة، دافعهم الإنسانية الكامنة في الذات المقهورة من قبل طغمة باغية، حولت سوريا العظيمة إلى جحيم لا يضاهيه أي جحيم.

شكلت انتفاضة السويداء كابوسا حقيقيا لآل الأسد، الخوف من أن تتحول إلى صاعق يفجر برميل البارود السوري، حيث تتوفر جميع الشروط لقيامة سوريا التي لن تبقي ولن تذر. وهذا يفسر الاستنفار الأمني في مناطق سيطرة النظام خوفا من غضب السوريين الذين عرفوا ما لم يعرفه شعب من أشكال الذل والمهانة وازدراء الكرامة الإنسانية على يد هذه العصابات المارقة المنفلتة من الأخلاق والقيم الإنسانية.

تشكل هذه المرحلة فرصة تاريخية أمام الشعب السوري، في الشتات وفي جميع مناطق الوطن، أن يوحد الكلمة ويقف وقفة رجل واحد، مستخدما أساليب الكفاح السلمية من إضراب واعتصام وعصيان مدني، لغاية رحيل هذا النظام وتطبيق القرار الدولي 2254 والقرارات ذات الصلة، والانتقال إلى دولة المواطنة دولة القانون والدستور. هذه الوقفة الموحدة للشعب السوري، تحقق هدفين أساسيين:

1 – استعادة وحدة الشعب الذي عمل النظام الأسدي على تقسيمه، وفي ذلك استعادةٌ للقرار الوطني وتقرير مستقبل البلاد، وعدم التسليم بأن يكون ذلك حكرا على الدول المتحكمة بالوضع السوري، فالكلمة الفصل ستكون للشعب السوري الموحد الذي يلتف حول برنامج وطني واضح المعالم.

2 – سيؤدي هذا الكفاح من أجل التغيير (الإضرابات والعصيان المدني) إلى الضغط على الحلقة الضيقة التي لا يزال يستند إليها النظام، ويدفعها إلى مزيد من الوهن والتفكك بفعل الظروف الاقتصادية والمعيشية التي لم تعد تطاق، ربما تجد مخرجا لمأزقها بحمل النظام على الرحيل، من دون إهراق مزيدٍ من الدماء، وبذلك يتحقق الانتقال السلمي الذي يفتح الآفاق نحو عودة سوريا إلى الحياة.

إنها الفرصة التاريخية المناسبة ليأخذ الشعب السوري مصيره بيده ويستعيد قراره الوطني من أيدي الغرباء، ويضع البلاد على سكة الحياة وإعادة البناء، بناء ما دمرته القدم الهمجية، بناء سوريا الحداثة والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

طلعة أهل السويداء على المشهد السوري، كطلعة نجمة قطبية، تضيء الدروب تبعث الأمل بالخلاص، من لوثة الأسدية التي عبثت بمصير شعب، وقامرت بوطن جميل اسمه سوريا.

الحرية على الأبواب وأهل السويداء على طريق الحرية، يصنعون المجد، يكتبون الفصل الأخير من كفاح الشعب السوري في مواجهة الطغيان، ويكتبون التاريخ في قيامة قريبة لسوريا بعون الله لإنجاز الاستقلال الثاني..

————————-

احتجاجات السويداء: النظام السوري يعطل المؤسسات لمعاقبة مؤيدي الحراك/ ليث أبي نادر

شهد يوم أول من أمس الاثنين، الذي يحمل الرقم 44 لاحتجاجات السويداء، جنوب سورية، تطوراً لافتاً، تمثل في اعتصام سلمي لعدد من المحامين أمام قصر العدل في المحافظة، بعد تجاوزات من قبل قضاة على محامين يؤيدون الحراك الشعبي، واستمرار النائب العام للمحافظة فؤاد سلوم باستخدام صلاحياته بتعطيل القضاء وإقفال القصر العدلي أمام المواطنين.

وكانت دعوة قد انتشرت، مساء الأحد الماضي، عبر تطبيق “واتساب” مخصصة للمحامين والمحاميات للاعتصام أمام القصر العدلي، بعد حادثة شهدتها السويداء، الأسبوع الماضي، عندما حاول القاضي شادي مرشد توقيف محامٍ عن طريق شرطة المحكمة، بحجة اعتبرت واهية ودون أي إنذار مسبق، ما جعل غالبية المحامين يحتجون على هذا التعدي.

المحامي صالح علم الدين، الذي تعرض لمحاولة الاعتقال داخل القصر العدلي عند دخوله مكتب أحد القضاة، بسبب مشاركته في تظاهرات ساحة الكرامة في السويداء، طالب بنقل مرشد إلى خارج السويداء كعقوبة على تصرفه هذا. واشتكى إلى فرع نقابة المحامين، التي اكتفت بالاستفسار، من دون أي موقف حازم يمنع التعدي وتجاوز القانون، أو حتى القيام بالتوقف عن المرافعة لنصف ساعة احتجاجاً، كما جرت العادة في نقابة محامي المحافظة في حال التجاوز على أي من المحامين المنتسبين لها.

وقال الناشط الحقوقي المحامي عادل الهادي، الذي كان أول من تحدث عن الاعتداء على زميله، لـ”العربي الجديد”، إن “الوظيفة العامة ليست ملكاً لأحد، لا حزب ولا شخص، كائناً من كان”.

القاضي لا يصح أن يكون “مرتزقاً”

وأوضح أنه “يمنع على القاضي أن يكون له موقف سياسي أو حزبي بموجب قانون السلطة القضائية، وهذا يعني أن القاضي لا يصح أن يكون شبيحاً أو مرتزقاً، لأنه بذلك يخالف أحكام القانون”، مؤكداً أن “الاعتداء على أحد الزملاء المحامين في قصر العدل أمر غير مقبول”.

أغلق المحتجون الدوائر والمؤسسات الحكومية في السويداء (العربي الجديد)

ووقف المحامون احتجاجاً أمام القصر العدلي، الاثنين الماضي، وأصدروا بياناً استنكروا فيه الاعتداء على زميلهم شخصياً ومعنوياً، مؤكدين وقوفهم إلى جانب العدالة والقانون، معتبرين أن قصر العدل هو المكان الذي يفترض أن تتحقق فيه العدالة والقانون دون تمييز أو محاباة.

وأضاف البيان أن “الاعتصام سلمي وخاص بالمحامين فقط”، مشيرين إلى أنهم فوجئوا بقرار النائب العام إغلاق قصر العدل وتعطيل قضايا المواطنين والمحامين والقضاة.

وكان النائب العام قد سبق وعطل العمل في قصر العدل لعدة أيام في بداية الحراك الشعبي، مبرراً الأمر بحماية القضاة والمحامين من أي اعتداء. ولم يسمح بعودة القضاة للعمل إلا بعد ضغط شعبي كبير، واتصال مباشر من شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سورية حكمت الهجري.

يذكر أن نقابة المحامين في السويداء كانت السباقة من بين النقابات في المحافظات بالاعتصام والوقوف إلى جانب الحراك في سورية عند اندلاعه في ربيع العام 2011، حيث اعتصم محامو السويداء أمام النقابة وأصدروا بياناً مؤيداً للحراك السلمي، وطالبوا السلطات بتنفيذ وحماية التشريعات التي تقر بحق المواطنين في التظاهر والتعبير، ودانوا أعمال العنف التي يتعرض لها المتظاهرون السلميون. وقد أدى هذا الاعتصام حينها إلى اقتحام نقابة المحامين، والاعتداء على بعض المحامين بالضرب واعتقال البعض.

النائب العام بالسويداء “محارب” للعدالة

كمال أبو العز، وهو اسم مستعار لمحامٍ منتسب لنقابة محامي السويداء، قال، لـ”العربي الجديد”: “نأسف أن يكون النائب العام في المحافظة قطب من أقطاب محاربة العدالة، وهذا للأسف ليس جديداً، وقد تم تعيينه منذ البداية بناء على محسوبيات نتيجة ارتباط وثيق لأخيه، الذي يقود فصائل الدفاع الوطني (مليشيات حليفة للنظام)، مع أجهزة النظام في دمشق، الأمر الذي سهل له إمساك زمام الأمور في القصر العدلي، والتحكم بقراراته، وتهميش العديد من قرارات القضاة على مدى أكثر من أربع سنوات”.

وأضاف: “المؤسف أكثر أنه مع انطلاق الاحتجاجات في السويداء لعب القاضي فؤاد سلوم، الدور الأكبر في تضليل الرأي العام تجاه المحتجين، وتكرس ذلك بإصداره قراراً غير مكتوب طلب فيه من الموظفين في المحكمة والمحامين والقضاة عبر مجموعة واتساب عدم الدوام مع بداية الحراك، لإيهام الشارع بأن المتظاهرين هم الذين أغلقوا القصر وعطلوا مصالح المواطنين”. وتابع: “فوجئنا بعد أيام بأن أسماء من اعترضوا على قراره أصبحت ضمن القوائم المطلوبة أمنياً من قبل أفرع النظام”.

وشهدت العديد من المؤسسات الخدمية في المحافظة محاولات عدة لتعطيل أعمال المواطنين واحتياجاتهم اليومية، حيث أغلقت السلطات منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي مكتب وزارة الخارجية الكائن في مقر المجلس البلدي، وكذلك بدأت تتفاقم معاناة المواطنين جراء محاولات تعطيل المؤسسات الخدمية الرئيسية كالمياه والكهرباء والاتصالات.

محاولات النظام لإفقار المواطن وإذلاله

وقال الناشط عماد العشعوش، لـ”العربي الجديد”: “نحن نشهد في محافظة السويداء محاولات يومية لإفقار المواطن وإذلاله، وبات واضحاً للجميع أن السلطة الحاكمة تحاول الضغط لوقف الاحتجاجات الشعبية عبر عرقلة أعمال المواطنين وحاجاتهم”.

وأضاف: “منذ بداية الاحتجاجات يسعى النظام لإنشاء شارع معاد للمتظاهرين، وخلق توتر وفوضى وصدام بين المواطنين، من خلال تحميل مسؤولية الفساد السياسي والاقتصادي والخدمي المستشري في مؤسسات الدولة للحراك الشعبي، واتهامه بتعطيل المؤسسات والخدمات العامة في المحافظة”.

أحد موظفي دائرة الأحوال المدنية والنفوس في السويداء قال، لـ”العربي الجديد”: “أدى الاعتصام في بدايته إلى وقوف غالبية الموظفين في جميع المؤسسات العامة مع الحراك الشعبي، من خلال إغلاق المؤسسات وإعطاء مبرر لغياب الموظف عن مكان عمله. وفي ما بعد أدرك منظمو الحراك الانعكاس السلبي لإغلاق بعض المؤسسات فدعوا لعملها وساهموا بحمايتها من أي أعمال شغب أو تخريب”.

وأضاف: “لكن وجدت السلطات الأمنية في إغلاق أو تعطيل بعض الأقسام، بشكل كلي أو جزئي، الفرصة المناسبة لخلق نقمة شعبية ضد المتظاهرين”.

وبات من الطبيعي أن ينتظر المواطن لساعات في أي مؤسسة بحجة تعطل شبكة البيانات، أو الكومبيوتر، أو الطابعة، أو مولدة الكهرباء، إلى جانب غياب الموظف لأسباب تعطل المواصلات وازدحام السير وغيره من الأسباب التي تُلقى على عاتق الحراك في السويداء.

وكانت مؤسسة مياه الشرب في محافظة السويداء قد شهدت، أمس الثلاثاء، احتجاجات شعبية، حيث قام عدد من أبناء مدينة السويداء بإقفال الباب الرئيسي لفترة من الوقت احتجاجاً على فساد العاملين في المؤسسة، وعدم حصول السكان على الماء، فيما قام محتجون من أبناء بلدة قنوات بإغلاق محطة المياه للسبب نفسه.

من ناحية أخرى، تابعت لجان الحراك الشعبي إزالة رموز النظام، من صور وتماثيل، عن واجهات المؤسسات العامة، وداخل المكاتب، فيما بدأت عملية تغيير أسماء عدد من الطرق والأمكنة التي تحمل اسم باسل الأسد، الذي أطلق اسمه على غالبية المنشآت والمدارس والطرق، في تكريس النظام لسورية كأنها ملكية خاصة لعائلة الأسد، كما يرى المحتجون.

———————————

هل يُسقط حِراك جبل العرب ورقة التوت؟/ د. جميل عمار

دخل الحراك الشعبي في السويداء شهره الثاني مع تزايد كبير في وتيرة التظاهر وتصعيد ملحوظ لسقف المطالب السياسية. فهل يستحق هذا الحراك اهتماما خاصا؟

وما الذي يميز هذا الحراك ويمنحه خصوصية؟ وهل لهذه التساؤلات ما يبررها بعد ان مضى على انطلاق ثورة السوريين حوالي 13 عاما دفنت خلالها أحلام السوريين وآمالهم وزادت آلامهم و معاناتهم غير المسبوقة في التاريخ الحديث حيث يزداد تعقيد المحنة السورية و تشابكاتها يوما بعد يوم .

بالرغم من أن ثوار جبل العرب يفاجئون أهلهم السوريين بمتانة الحراك و تماسكه و تنظيمه وتصاعده، فهناك العديد من العقبات و التحديات التي تواجه هذا الحراك الحضاري المدني، و تبدو أهم تلك التحديات في السعي الحثيث للنظام و «حلفائه» وبالتحديد إيران وحزب الله في شق الصف و تشتيت الحراك بكل الوسائل المتاحة سيما وأن مطالب الحراك هي ذاتها مطالب جميع السوريين الذين فجروا ثورة 2011.

ما الجديد في حراك السويداء؟

يُمثل حراك جبل العرب الأخير امتداداً طبيعياً للثورة السورية. لكن رغم التشابه، و في الكثير من الحالات التطابق بين مطالب الحراك في السويداء وسياقه مع مطالب بقية المدن السورية، غير أن حراك السويداء يُبرز مطالب الثورة السورية بطريقة مختلفة ويُعيد إحياءها بعد أن كادت تحتضر وبعد أن اعتقد النظام و»حلفاؤه» أنهم وأدوا الثورة وأسكتوا صوت الحق لعشرات السنين. ويبرز السؤال: ما الذي يميز حراك السويداء ويعطيه هذا الزخم؟ هناك عدة عوامل أساسية يتسم فيها الحراك:

العامل الأول: قيادة موحدة غير متفردة في اتخاذ القرارات: على الرغم من إفراز الثورة السورية مجموعة من القادة الذين خلدوا أسماؤهم بسجل حافل من البطولات و التضحيات، غير أن تلك التضحيات لم تُفض في الكثير من الحالات إلى نتائج ملموسة على الأرض. الأسباب كثيرة ومعقدة لكن من أهمها كانت الفرقة والتشتت والابتعاد عن الشارع والمحسوبيات بين السواد الأعظم من قادة المعارضة السورية والتي لم تكتف بإهدار جهود وتضحيات الشعب السوري بل أصبحت عبئاً ثقيلاً عليه. استغلت دمشق هذه الورقة بشكلٍ قاسٍ للغاية مما أدى لضياع جهود ملايين السوريين وخسارة الكثير من القادة الشرفاء ومساعيهم المُحقة والنبيلة لحياة أفضل. هذا الثمن الباهظ الذي دفعة الشعب السوري و لا يزال يفسر الحذر والتّروي الشديدين في التعامل مع الحراك في جبل العرب.

يُقدم حراك السويداء الحالي نموذجاً مختلفاً وواعداً على الساحة السورية. فعلى الرغم من تنوع الآراء السياسية واختلافها، قدمت السويداء رؤيتها للجميع من خلال قيادة رمزية ديمقراطية ممثله بالزعيم الروحي للطائفة الدرزية سماحة الشيخ حكمت الهجري. رغم عدم وضوح الرؤية عند كثيرين وتناقض المقترحات والتصورات لشكل الحل الأمثل في سوريا (باستثناء تطبيق القرار 2254) يُجمع السواد الأعظم من المتظاهرين على اعتبار الشيخ الهجري ممثلا رمزياً للحراك ليس في السويداء فقط بل في أجزاء متنوعة من الجغرافية السورية، و لكن لماذا؟ بعيداً عن المبالغة والتَّأليه السائدين في الشارع السوري، اِنْتَزَعَ الرجل وباستحقاق مكانته في قلوب الكثير من السوريين نتيجة أسلوبه البسيط والواضح في الكلام فهو يمزج ما بين الاختصار وعدم التكلف والوضوح والبساطة في التعبير مما يسهل على جميع الفئات التواصل معه بشكل مباشر. و هذا يقودنا الى النقطة الثانية وهي أن هذا الأب الروحي لحراك جبل العرب على تواصل يومي مع الشارع يستمع للجميع دون استثناء لأي تيار أو توجه فكري أو سياسي بما فيها المشكوك في مصداقيتها أو حرصها على الحراك. رُغم عدم انخراطه بالعمل السياسي سابقا، يُقدم الأب الروحي لحراك السويداء أفكار الشارع بشكل منسجم سلس وحضاري. ورغم ارتجالية الكثير من المواقف العلنية والموثقة بالصوت والصورة لكن الهجري بالكاد يمنح خصومه أي فرصة حقيقية لانتقاده فهو يُحصي كلامه جيدة و نادرا ما يُخطئ التعبير. كل هذا صعّب على خُصومه المهمة كثيرا مما دفع بالسلطة في دمشق بالدفع بجملة من الادعاءات المكررة (مؤامرة كونية مدعومة من أمريكا وإسرائيل) والتي غالباً ما تُثير السخرية أكثر من الاهتمام.

العامل الثاني: واقعية الرؤية: تمكن الأب الروحي لحراك السويداء من فهم مطالب الشارع وهمومه بشكل عميق. تُخفي شخصية الهجري البسيطة الكثير من الخبرة والحنكة وبالتالي القدرة على إيجاد الحلول الوسط التي يمكن، ولو من باب الاحتمال، إخراج الشعب السوري من محنته هذه. تأييد الشيخ لمطالب الحراك في إقامة دولة علمانية ديمقراطية مثال يستحق الوقوف عنده. فبعيداً عن المواقف العاطفية المتّسرعة غير الواقعية والتي كلفت الشعب السوري مئات الآلاف من الشهداء وملايين من المهجرين وأنهارا من الدموع، وخلافاً للسواد الأعظم من المؤسسات الدينية التي تُناصب العلمانية العداء (تربط الكثير من المرجعيات الدينية خطأً ما بين العلمانية والإلحاد) تبرز القيادة في السويداء بتبني خيار الدولة العلمانية الديمقراطية كحل للأزمة السورية. في هذا الخصوص، خلافاً للكثير من المعتقدات الخاطئة السائدة، يُتيح النظام العلماني حق ممارسة الشعائر الدينية للجميع. عبر تبني هذا التوجه كحل عملي للمحنة السورية، أسقط الهجري وبالضربة القاضية ورقة التوت الطائفية والتي طالما اسُتخدمت من قبل نظام دمشق لإقصاء أي معارضة جدّية. من خلال هذه الرؤية الواقعية، تحول الهجري من مجرد رجل دين في السويداء إلى رمز سوري وطني ذي نفوذ يتجاوز حدود الجغرافية الضيقة مستقطبا فئات متنوعة جداً من المجتمع السوري. في اتساق مع أفكار الحراك في السويداء، يُكرس الهجري مفهومه لوحدة الشعب السوري ورفضه للطائفية والفئوية عن طريق التنسيق الفّعال مع العشائر والجارة الشقيقة درعا. عملت السلطة في دمشق بشكل فعّال على إذكاء الخلافات واصطناعها بين السويداء ودرعا واستغلت أذرعها الأمنية لمنع أي تنسيق حقيقي بين الجارتين. حتى الآن، يبدو حراك السويداء على تناغم وانْسِجامِ مع القوى الثورية في درعا مما يحّصن الحراك ويعطيه جرعة أمل أكبر.

العامل الثالث: المرأة السورية إلى مقدمة الحراك الثوري مجدداً: رغم عدم تقدمها الصفوف بشكل واضح، قدمت المرأة السورية تضحيات جّساما على مذبح الحرية السوري وكانت لها بصمات مشرفة واضحة بالغة الأثر. تقدمت حرائر السويداء خطوة إضافية غاية في الأهمية وكانت لهن القيادة في العديد من المواقف. تُشارك حرائر السويداء بشكل فعال للغاية ومستمر في الحراك حيث ساهم اعتماد مبدأ سلمية التظاهر كخيار استراتيجي للمتظاهرين في السويداء في تشجيع عدد أكبر من النساء للتظاهر بالإضافة إلى الإشادة الدائمة بمشاركتهن. يُدرك الحراك في السويداء مصلحة السلطة في دمشق بعدم الاستعجال في استخدام القوة المفرطة كما جرت العادة عند فض التظاهرات في المدن السورية الأخرى لكي لا تخسر دمشق ذريعة حماية الأقليات (ورقة التوت) و التي سوّقتها دمشق كأحد المبررات للقضاء على الثورة السورية وكل مقومات العمل السياسي الجاد.

قصة موت معلن

يُشكل بقاء واستقرار نظام دمشق خياراً استراتيجياً لإيران و حزب الله الذين لم يترددوا في الانخراط في المأساة السورية لتثبيت أقدام السلطة في دمشق. بالمقابل، قدّم النظام السوري الكثير من الخدمات الجليلة لأصدقائه و حلفائه ( بما فيهم روسيا) تمثلت في الكثير من الامتيازات العسكرية والاستثمارية طويلة الأجل والتي سوف تُثقل كاهل الشعب السوري لسنوات.

بالمقابل سيطرت أمريكا وتركيا على أجزاء أخرى من الأرض السورية تنفيذاً لأجنداتهم الإقليمية والدولية مستغلين بقاء الأسد في السلطة كذريعة لوجودهم على الأرض السورية.

من هذا المنطلق، يُشكل بقاء الأسد ضرورة ملحة ليس لأصدقائه فقط بل لأعدائه المُفترضين على حداً سواء. وما بين الهبات والعطايا والأتاوات التي تُقدمها دمشق لأصدقائها والأثمان والخسائر التي تتكبدها على أيدي خصومها، لم يبق بأيدي نظام دمشق ما تقدمه للشعب السوري سوى التسويف والوعود الخلبية مع جرعات معزّزة من النُصح والإرشاد و ضرورة العمل الجاد المقدمة من بعض تُجار المخدرات والأبواق المشهود لها بالتطبيل. باختصار، يَخدم بقاء السلطة في دمشق (التي لا حول لها و لا قوة) مصالح الكثير من الأصدقاء المزعومين ( بما فيهم الصين) لكن على رأسهم إيران وحزب الله وكذلك المنتفعين والانتهازيين والخصوم المفترضين. أما بالنسبة للغالبية العظمى من السوريين، فلم يعد بقاء السلطة في دمشق يعني سوى المحافظة على مكتسبات من شاركوا في سفك الدم السوري وبالتالي استمرار المأساة السورية. باختصار، لقد حول الأسد صُنّاع الفولاذ الدمشقي الى مرابعين في خدمة أمريكا وإسرائيل وتركيا وإيران وروسيا و الصين.

من هذا المنطلق، على الارجح أن تتولى إيران المستفيد الأكبر وأذرعها في سوريا، بمن فيهم الموالون للنظام في السويداء (أو ما يُدعى من باب التّندر معارضة محلية وطنية) مسؤولية إفشال الحراك عن طريق إحياء أو اختِلاق نزاعات بين الفرقاء في جبل العرب لتشتيت أهدافهم وزرع الفرقة بين المتظاهرين أو عن طريق الترويج لأجندات لم يطالب بها الحراك أو مطالب غير قابلة للتحقيق أساساً ليُسبغ على الحراك صفة العمالة أو الصبيانية و عدم النضج. وفي حال فشل كل هذه الوسائل، على الأرجح ألا تتردد إيران في استعمال الورقة الأمنية للقضاء على خصومها في السويداء ولم لا وقد أضحى الشعب السوري في ظل قيادته الحكيمة كالأيتام على موائد اللئام.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

—————————

زعماء العالم في نيويورك… والأسد في الصين… وقآني في سوريا/ عالية منصور

في زيارة هي الأولى له منذ عام 2004، زار الرئيس السوري بشار الأسد، ترافقه زوجته ووفد كبير، الصين. الزيارة التي يحاول إعلام النظام وحلفاؤه تصويرها على أنها انتصار جديد للأسد على “المؤامرة الكونية” التي تعرض لها، جاءت أساسا تلبية لدعوة الرئيس الصيني للأسد وغيره لحضور افتتاح الألعاب الآسيوية في هانغجو يوم 23 من الشهر الحالي.

وإن كان لا بد من القول إن الزيارة ليست فقط لحضور الألعاب الآسيوية، إلا أنه أيضا لا يمكن اعتبارها حدثا رئيسا سيغير من المعادلات في المنطقة والعالم.

فبينما كان زعماء العالم وممثلون عنهم يجتمعون في نيويورك بمناسبة انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين، كان إعلام الأسد يصور الزيارة إلى الصين على أنها تأتي ضمن سلسلة أحداث فك عزلة النظام، علما أن الأسد هو ثالث رئيس نظام معزول دوليا يزور الصين هذا العام بعد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، والإيراني إبراهيم رئيسي.

ومنذ انطلاق الثورة السورية عام 2011 وإعلان بشار الأسد حربه على السوريين المطالبين بالتغيير والديمقراطية، كانت مواقف الصين داعمة للنظام سياسيا واقتصاديا، ومارست حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن مع روسيا أكثر من مرة دعما لنظام الأسد. وفيما كانت الصين تقول إنه رفضا للتدخلات الغربية في سوريا، فإن بكين لم تفعل ما فعلته روسيا أو إيران بإرسال مقاتلين ومرتزقة ليقاتلوا إلى جانب قوات الأسد في حربهم ضد السوريين.

ومع ذلك، سبق للأسد قبل أعوام أن وصف كلا من الصين وروسيا وإيران بـ”الحكومات الصديقة”. كما أن الصين سبق لها وأن قدمت كثيرا من الوعود، ووقعت عددا من الاتفاقات الاقتصادية مع النظام السوري، إلا أن هذه المشاريع لم تر النور وبقيت وعودا بانتظار التنفيذ.

واليوم ومع انشغال روسيا بحربها على أوكرانيا، يرى البعض أن الصين بدأت تبدي اهتماما أكبر بلعب دور سياسي كوسيط في حل أزمات المنطقة، وتوجت جهودها هذه بالاتفاق الذي تم بين السعودية وايران والذي بات يعرف بـ”اتفاق بكين”.

وفي بداية عام 2022 وقعت الحكومة السورية على اتفاقية الانضمام إلى مبادرة “الحزام والطريق” التي تعمل بكين من خلالها على توسيع نفوذها في المناطق النامية من خلال مشاريع البنية التحتية. الخطوة التي-كغيرها- لم تتحول إلى أي فعل عملي حقيقي وملموس، ولم يحصل الأسد من ورائها على ما ينتظره.

واليوم ومع التدهور غير المسبوق في الوضع المالي والاقتصادي في سوريا، ومع استمرار الاحتجاجات المطالبة برحيل الأسد في السويداء ودرعا وغيرهما من المناطق السورية، وبعدما فشل الأسد في التزاماته مع الدول العربية والتي عاد على أساسها إلى جامعة الدول العربية، يحتاج الأسد إلى مساعدات مالية عاجلة، وهو ما لن تقدمه له الصين حتى وإن تم توقيع اتفاقيات شراكة وغيرها، كما سبق وتم توقيع اتفاقيات سابقا بين البلدين.

تريد الصين من دعوة الأسد توجيه رسائل سياسية، أهمها أنها قادرة على استغلال الانشغال الروسي دون أن تدخل في حروب عسكرية، بينما يريد الأسد سياسيا القول إنه منتصر وغير معزول، وفعليا يريد الحصول على قروض ومشاريع تنقذ نظامه من الغرق.

ولكن يبقى أبرز ما في زيارة الأسد للصين، أنه وبينما كان يلتقط الصور هو وزوجته والوفد المرافق باسمين منتصرين، كان إسماعيل قآني قائد “فيلق القدس” الإيراني، يشرف على مناورات عسكرية مشتركة مع قوات النظام في سوريا، ويبحث وفقا لإعلام طهران سبل “المواجهة المشتركة والتحديات والانفلات العسكري والأمني في سوريا”.

وبين الصورتين، صورة قآني في سوريا، والأسد في الصين، يبقى مصير سوريا مرتبطا بمشاريع دول وحكومات معزولة ومعاقبة دوليا، بسبب انتهاكاتها، طالما أنه حتى اللحظة لا توجد إرادة حقيقية بتطبيق القرارات الدولية وإنهاء معاناة السوريين وتمزيق الخريطة السورية.

——————————-

الهجري: من يقف ضد حراك السويداء “شيطان

دعا الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري إلى مواصلة الحراك الشعبي في السويداء حتى تحقيق مطالبه، فيما واصل المتظاهرون احتجاجاتهم المطالبة بإسقاط رئيس النظام السوري بشار الأسد، وكذلك في حملة “تنظيف المحافظة” من صور النظام ورموزه.

ووصف الهجري خلال لقاء مع وفد يمثل عشائر الجنوب السوري من يقف ضد الحراك وإرادة الشارع بـ”الشيطان”، مؤكداً أنه سيبقى “الحارس الأمين على الحراك حتى تحقيق مطالب السوريين جميعاً”.

وفيما أشاد الهجري بدعم العشائر للحراك السلمي في السويداء منذ بداياته، أكد أن المشاركة في الحراك واجب وطني لأنه وجد خلال الفترة الأخيرة أن البلاد ذاهبة باتجاه التقسيم وتفريق السوريين عن بعضهم، مؤكداً رفضه ذلك.

وإضافة إلى وفد الشعائر، تستمر الوفود من مختلف القرى والبلدات في أرياف المحافظة بزيارة دارة الشيخ الهجري في بلدة قنوات لتأكيد دعمهم للحراك، إذ زارت الهجري الأحد، وفود شعبية من قرى مصاد، وحزم، وصميد، والكسيب ضمت مثقفين ورجال دين ووجهاء أكدوا دعمهم لموقفه في تأييد الحراك.

أما في ساحة “الكرامة”، فقد واصل العشرات التظاهر في الساحة وهتفوا للحرية والكرامة وإسقاط الأسد. وأكد المتظاهرون مطالبهم بالتغيير السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، كما طالبوا بالإفراج عن المعتقلين في أقبية أجهزة الأمن السورية.

وهتف المحتجون شعاراتهم المعتادة في ساحة “الكرامة” مثل “عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد.. سوريا لينا وما هي لبيت الأسد”، و”عاشت سوريا ويلا ارحل للأبد”.

كما رفعوا لافتات تحيي روح الأديب والروائي السوري خالد خليفة الذي توفي ليلة السبت في العاصمة دمشق إثر نوبة قلبية، وهو الذي كان قد حيّا ساحة “الكرامة” والمتظاهرين فيها قبل وفاته.

ويواصل المتظاهرون حملة “التنظيف” للتخلص وإزالة كل الرموز العائدة إلى الأسد وعائلته وحزب “البعث”، على غرار ما فعل السوريين مع بداية حراكهم السلمي في 2011.

ففي بلدة صلخد، أظهر مقطع مصور قيام محتجين بإزالة جميع صور الأسد من داخل مستشفى “الباسل” الحكومي، كما حاولوا إزالة اسم المستشفى لكنهم لم يستطيعوا، مؤكدين أنهم سيغيرون اسم المستشفى في وقت قريب، حسب شبكة “الراصد” المحلية.

كما أزال مواطنون مجسماً لرأس الأسد الأب عن واجهة مبنى حكومي يضم مبنى مجلس المدينة ومفرزة شرطة بالقرب من مركز، قائلين إن “عائلة الأسد سرقت سوريا.. وهذه البلاد لنا وليست لهم”، وفق ما أظهر مقطع مصور.

——————————

تظاهرات السويداء: إحباط محاولة للنظام السوري لتشويه الحراك الشعبي/ ليث أبي نادر

أحبط شبان محافظة السويداء جنوبي سورية محاولة من جانب النظام السوري للوقيعة بين محافظتي السويداء ودرعا المتجاورتين، فيما التقى الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين، وفداً كبيراً من أبناء عشائر الجنوب السوري، وأكد لهم على وحدة الصف والمصير المشترك للسوريين.

 وجرى، أمس السبت، الإفراج عن شابين من آل المقداد، ينحدران من مدينة بصرى الشام بمحافظة درعا، كانا قد خُطفا منذ ثلاثة أيام عند سوق الغنم الملاصق لمدينة السويداء، حيث تبين ضلوع عصابة مدعومة من الأجهزة الأمنية في عملية الخطف، لزرع الفتنة بين أهالي السويداء وأهالي درعا.

 وقال مصدر من فصائل محافظة السويداء لـ”العربي الجديد”، إن عصابة “مزهر” وراء تلك العملية بدفع مباشر من أجهزة النظام السوري، حيث جاءت تلك الواقعة في الذكرى السنوية لمعركة القريا الثانية التي تصادف يوم 29 سبتمبر/ أيلول، والتي جرت في أراضي بلدة القريا، بين مجموعات من أبناء المحافظة وعناصر الفيلق الثامن المتمركز في مدينة بصرى الشام المجاورة لبلدة القريا، وراح ضحيتها عدد كبير من المدنيين.

ورأى المصدر، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أن “اللعب على تخريب الحراك الشعبي من جانب النظام وأدواته مستمر ولن يتوقف”، مؤكداً أن شبان السويداء “يراقبون من كثب تحركات العصابات، وكان لهم الدور الحاسم في كشف خيوط عملية الخطف، وتحرير المخطوفين”.

من ناحية أخرى؛ حملت مظاهرة مساء أمس السبت التي جرت في حي المقوس بمدينة السويداء، أبعادا ورسائل متعددة بشأن وحدة الصف بين مكونات المحافظة، على الرغم من التهديدات التي سبقت هذه المظاهرة لمنع عشائر الجنوب من الانخراط في الحراك بشكل فعلي.

كما استقبل الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين، وفداً كبيراً من أبناء عشائر الجنوب السوري، ركز اللقاء على وحدة الصف والمصير المشترك للسوريين، وقال: “كلنا أبناء عشائر يعربيو المنبت، ولن يستطيع أحد التفريق بيننا”، مشيراً إلى أن هذه البلاد “لأهلها، وأهلها نحن الذين ننشد عيشة الكرامة، وقد صبرنا كثيراً، لكن عندما وصل الضيم إلى كرامتنا كان يجب علينا الوقوف لكرامتنا”.

ووجه الهجري حديثه للشباب قائلاً: “هذا الحراك الشبابي السلمي أنتم أبناؤنا من بدأتم به، ولم يكن دورنا إلا بالتوافق وحماية هذا الحراك. ونحن اليوم في مرحلة “حك المعادن”، ومن لن يكون واقفاً مع الإرادة الشعبية فهو حتما يقف مع الشيطان”.

ووجه الهجري رسالة لعموم السوريين قال فيها: “اليوم الفرصة مواتية لكل سوري وطني شريف للوقوف إلى جانب الإرادة الشعبية التي هي من إرادة الله. وليس محظوظاً من يقف اليوم ضد إرادة الشعب. ولنا الشرف أن نكون وأبناء العشائر كما كان آباؤنا وأجدادنا يمثلون المعنى الحقيقي للأسرة السورية الوطنية، التي لم ولن تنجح أي جهة بمحاولات شرخها”.

ومضى قائلاً:” سنظل جميعنا الحارس الأمين لحراكنا السلمي حتى تحقيق مطالب الشعب السوري دون انتقاص” وختم بالقول: “نحن جزء لا يتجزأ من سورية، ولن نسمح لمحاولات التقسيم التي نشعر بها والناجمة عن ضعف إدارة البلاد، أن تمر”.

من تحرك سابق في السويداء (العربي الجديد)

تقارير عربية

احتجاجات السويداء: حراك الأرياف يكبر

وصول أصغر متظاهرة إلى ساحة الكرامة

إلى ذلك، شهد اليوم الثالث والأربعون من مظاهرات السويداء، وصول أصغر متظاهرة إلى ساحة الكرامة، وسط مدينة السويداء، المولودة روز أبو رسلان، بعد ولادتها بساعة ونصف، في رسالة من والدها للعالم لتحقيق السلام في سورية، وعودة المهجرين واللاجئين، لبناء سورية خالية من الاستبداد والاحتلالات.

وقال والد الطفلة مدحت أبو رسلان لـ”العربي الجديد” إنه “شقيق الشهيد شادي أبو رسلان الذي قضى تحت التعذيب في سجون النظام السوري”، ولديه شقيقان آخران لاجئان في بقاع الأرض، ويتمنى أن يعودا ليعيشا فرحته بأبنائه، وخاصة ابنته روز التي عمدت في ساحة الكرامة.

—————————-

لوموند: إصرار درزي على إسقاط الأسد

قالت صحيفة لوموند الفرنسية إن الحركة الاحتجاجية المستمرة منذ أغسطس/آب في السويداء، معقل الأقلية الدرزية جنوبي سوريا، بعد رفع الدعم عن البنزين وزيت التدفئة، تطالب الآن بانتقال سياسي في سوريا، وترفع لافتات تدعو إلى سقوط الرئيس السوري بشار الأسد.

وأوضحت الصحيفة -في تقرير لمراسلتها من بيروت لور ستيفان- أن التجمعات التي شهدتها مدينة السويداء أول أمس الجمعة حضرها نحو ألفي متظاهر وانضم إليها سكان القرى المجاورة، واتسمت بأجواء احتفالية، ولكنها أيضا شملت إيماءات تمرد، مثل إزالة صورة الزعيم السوري من البنية التحتية العامة.

تقول إحدى المدرّسات التي يعادل راتبها الشهري 20 دولارا، وتشارك في المظاهرات كل يوم “رغم الخوف” والتي طلبت حجب هويتها، في مكالمة عبر الهاتف من السويداء؛ “لقد عشنا في الجحيم لمدة 12 سنة. الخدمات العامة لم تعد تعمل، الماء والكهرباء… كل شهر نضطر إلى تجربة حرمان جديد بسبب ارتفاع الأسعار. طفح الكيل”.

وأشارت المراسلة إلى أن التعبير عن عدم الرضا عن ارتفاع تكاليف المعيشة في السويداء بدأ عام 2022، لكن التعبئة الحالية سرعان ما اتخذت منحى سياسيا، وتحولت الدعوة إلى تطبيق القرار 2254، وهي خطة الخروج من الصراع التي اعتمدها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2015 والتي تحولت إلى عملية ميتة بسبب دعم موسكو لربيبتها دمشق. تقول المدرسة “يجب أن يرحل آل الأسد. لقد سيطرت هذه العائلة على حياتنا أكثر من 50 عاما”.

ويحظى المتظاهرون، الذين يرفعون العلم الدرزي المتعدد الألوان، بدعم اثنين من الزعماء الروحيين الثلاثة للطائفة، بمن فيهم الشيخ حكمت الهجري، الذي يستقبلهم يوميا، والذي حذر من أن رجال السويداء سيردون إذا تعرضوا لهجوم.

ورفعت السويداء -وفق المراسلة- علما آخر يوم الجمعة يجمع بين الألوان الرسمية (نجمتان) وألوان المعارضة (3 نجوم)، كرمز للوحدة، رغم اتهام منتقديهم لهم بالرغبات الانفصالية. ويقول مهند ناصر -وهو موسيقي من السويداء- “المتظاهرون يهتفون بتمسكهم بسوريا الموحدة. إنه اتهام يقطره النظام الإجرامي”، حيث اتهم النائب خالد العبود الأميركيين والإسرائيليين بتحريك خيوط التعبئة”.

ويتهم المتظاهرون النظام بالفساد وممارسات المافيا، حيث أصبحت أراضي السويداء منطقة عبور لتهريب الكبتاغون، المخدر الذي ينتج بشكل رئيسي في سوريا ويهرب نحو دول الخليج، ومع ذلك لم يقم النظام حتى الآن بقمع المظاهرات، وربما يعود ذلك إلى وضع الدروز كأقلية، وإلى أن الحركة لم تمتد إلى باقي سوريا، رغم مسيرات دعم في أماكن أخرى يوم الجمعة، كما هي الحال في مدينة درعا القديمة.

من جهة أخرى، ذكرت تنسيقيات محلية في السويداء أن مجموعة من المحتجين أغلقت مقر حزب البعث في مدينة صلخد جنوب المحافظة “بطريقة توافقية” مع أمين الشعبة الحزبية، الذي قدم الضيافة وأقفل أبواب المقر، كما توضح لقطات بثت أمس السبت.

المصدر : لوموند

————————-

تجدد المظاهرات ضد نظام الأسد: السويداء تخرج مرة أخرى إلى الشوارع… والنساء في المقدمة

خرجت الجمعة في مدينة السويداء في جنوب سوريا مظاهرات مناوئة لنظام الرئيس بشار الأسد. واندلع الحراك ضد في آب / أوغسطس من هذا العام، ومن بين المطالب التي يرفعها المحتجون حكومة انتقالية ودستور جديد وعودة النازحين والمعتقلين إلى ديارهم.

تظاهر مئات السوريين الجمعة في مدينة السويداء جنوب البلاد الجمعة في وقت تتزايد مشاركة النساء في التظاهرات المنددة بالنظام والتي تشهدها المحافظة منذ أكثر من شهر، وفق نشطاء.

تشهد محافظة السويداء معقل الأقلية الدرزية، تظاهرات سلمية منذ قرار حكومة الرئيس بشار الأسد رفع الدعم عن الوقود الشهر الماضي. وسدّد القرار ضربة للسوريين الذين يرزحون تحت وطأة نزاع مستمر منذ أكثر من 12 عاما وصعوبات اقتصادية.

وقالت ناشطة وشاهدة عيان لوكالة فرانس إن ما بين 2000 و2500 شخص شاركوا في مظاهرات الجمعة، أطلق بعضهم هتافات منددة بالنظام ولوحوا بأعلام درزية.

وقالت سما (32 عاما) لوكالة فرانس برس: “أشعر بقوة شخصية عندما أكون بين النساء ونهتف ضد بشار”، وهي تقصد بشار الأسد، الرئيس السوري.

وحمل متظاهر لافتة كبيرة كتب عليها لائحة من المطالب من بينها حكومة انتقالية و”دستور جديد” وعودة النازحين والمعتقلين إلى ديارهم.

وقالت متظاهرة أخرى هي سنا (30 عاما): “بشار يجب أن يرحل. هذا الظلم والاستبداد والقهر يجب أن ينتهي. كفى، عمري كله مضى في عهد عائلة واحدة”.

اندلع النزاع المستمر في سوريا بعد أن قمعت السلطات احتجاجات سلمية في 2011. وأودت الحرب بأكثر من 500 ألف شخص وشردت الملايين.

وقالت وجيهة وهي في العشرينيات، إنها سارت نصف ساعة في الحر إلى الساحة الرئيسية في السويداء، حاملة لافتات مناهضة للنظام ليستخدمها المحتجون الذين يواصلون التظاهر منذ أسابيع.

 وأضافت وجيهة في اتصال هاتفي مع فرانس برس قائلة: “من بداية الثورة السورية في 2011 إلى اليوم كانت النساء حاضرات، ونساء السويداء كان لهن دور كبير جدا”.

ويشمل دورهن تنظيم الأغاني وتحضير اللافتات والتواصل مع الذي ينظمون احتجاجات في بلدات مجاورة، حسبما قالت.

ولمحافظة السويداء خصوصيتها، إذ طوال سنوات النزاع، تمكّن دروز سوريا إلى حد بعيد من تحييد أنفسهم عن تداعياته. فلم يحملوا إجمالًا السلاح ضد النظام ولا انخرطوا في المعارضة باستثناء قلة. وتخلف عشرات آلاف الشبان عن التجنيد الإجباري، مستعيضين عن ذلك بحمل السلاح دفاعًا عن مناطقهم فقط، في حين غضّت دمشق النظر عنهم.

وتشهد محافظة السويداء منذ سنوات تحركات متقطعة احتجاجًا على سوء الأوضاع المعيشية. وتوجد الحكومة السورية في محافظة السويداء عبر المؤسسات الرسمية، فيما ينتشر الجيش حاليًا على حواجز في محيط المحافظة.

ومنذ الشهر الماضي تشهد أيضًا محافظة درعا التي انطلقت منها تظاهرات 2011، احتجاجات أصغر حجما.

——————————

احتجاجات جديدة بالسويداء السورية وبريطانيا تدخل على الخط

تجددت الاحتجاجات -اليوم السبت- في مدينة السويداء جنوبي سوريا تنديدا بسياسات النظام وللمطالبة برحيله، في وقت دعت فيه بريطانيا لإيجاد تسوية سياسية في البلد الذي يعاني من صراع مستمر منذ 12 عاما.

وبث ناشطون مقاطع مرئية تظهر تجمع مئات المحتجين في ساحة الكرامة وسط السويداء لليوم 42 على التوالي، حيث رفع المشاركون في الاحتجاجات لافتات وشعارات تطالب بالتغيير السياسي والمزيد من الحريات.

واندلعت مظاهرات السويداء في أغسطس/آب الماضي، بسبب رفع النظام الدعم عن الوقود مما عكس ارتفاعا في الأسعار، وزيادة في الأعباء الاقتصادية والمعيشية على السوريين الذين يعانون من تردي أحوالهم منذ سنوات.

وظلت السويداء، التي تضم معظم الطائفة الدرزية في سوريا، تحت سيطرة الحكومة طوال فترة الحرب، وأفلتت إلى حد كبير من العنف الذي عمّ أماكن أخرى، إلا أنها شهدت في أوقات متفرقة مظاهرات ضد ممارسات نظام الأسد، وطالبت برحيله في بعضها.

    يتجدد الموعد اليومي في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، لليوم الثاني والأربعين على التوالي، تستمر المظاهرات الشعبية الداعية إلى التغيير السياسي. من الساحة قبل قليل.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/g8W4h3jCWY

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 30, 2023

وذكرت تنسيقيات محلية في السويداء أن مجموعة من المحتجين أغلقت مقر حزب البعث في مدينة صلخد جنوب المحافظة “بطريقة توافقية” مع أمين الشعبة الحزبية، الذي قدم الضيافة وأقفل أبواب المقر، كما توضح لقطات بثت اليوم السبت.

وخلال الأسابيع الماضية أعلن المحتجون في السويداء إغلاق مقار لحزب البعث “بشكل نهائي” كما أحرقوا ومزقوا صورا لبشار الأسد ووالده حافظ كانت على واجهاتها، وواجهات مؤسسات ومقار حكومية.

    #عاجل: في حالة لافتة للوعي الأهلي، إغلاق شعبة حزب البعث في مدينة صلخد جنوب السويداء بطريقة توافقية بين مجموعة من المحتجين وأمين الشعبة، الذي قدم الضيافة وأقفل أبواب الشعبة، كما توضح لقطات هذا الفيديو اليوم السبت.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/oMqocUXsnY

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 30, 2023

موقف بريطاني

من جانبها أعلنت المبعوثة البريطانية إلى سوريا آن سنو، التزام بلادها بتطبيق القرار الأممي 2254، والمتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا. وذلك في تصريحات نشرتها عبر حسابها على منصة “إكس”.

وفي تغريدة أخرى قالت سنو، التي عينتها لندن مبعوثة لسوريا قبل أشهر، إنها تحدثت مع الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في سوريا الشيخ حكمت الهجري، ضمن سلسلة اتصالات مع المنخرطين في الحركة الاحتجاجية في المحافظة، وأكدت أن بريطانيا تراقب الوضع من كثب.

    I spoke today with Sheikh Hikmat al-Hijri, spiritual leader of the Druze community in Syria, as part of a series of calls with those involved in the protest movement. 🇬🇧 closely monitoring the situation.

    — Ann Snow (@UKSyriaRep) September 29, 2023

وصوّت مجلس الأمن يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 2015 على القرار الأممي 2254 الذي نصّ على بدء محادثات سلام بسوريا، والدعوة لتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات برعاية أممية، كما طالب بوقف أي هجمات ضد المدنيين بشكل فوري، إلا أن ذلك لم يتحقق حتى اليوم.

ورغم تقارب بعض الدول العربية مؤخرا مع نظام بشار الأسد؛ فإن دولا غربية -وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا- لا تزال متمسكة برفض تطبيع العلاقات مع النظام السوري، ورفض “تعويم” رئيسه مع مطالبتها بمحاسبته عن الجرائم ضد الإنسانية المنسوبة إليه.

المصدر : الجزيرة + وكالات

————————————-

==========================

تحديث 21 أيلول 2023

———————————

الأردن ـ السويداء: عقدة «الجار السوري»/ بسام البدارين

لا شكوك بأن النظام السوري الجار مصر على عدم احترام أو إظهار التقدير اللازم لخطوات الانفتاح الذي اندفعت أردنيا نحو التقارب وبعدة لغات ولهجات. ولا شكوك في المقابل بأن المجموعة التي تحكم الأمور في دمشق تصر على الضرب بالأدوات العتيقة بصيغة تثبت عدم استلهام الدروس، خصوصا من خلال إظهار الازدراء للحراك الشعبي الذي تغلف من البداية بغطاء سؤال سياسي في محافظة السويداء ومحيطها.

لا تحترم حكومة دمشق بوضوح لا مصالح ولا احتياجات جارها الأردني ولا تسمع أو تريد أن تصغي لنبض مكوناتها الاجتماعية وتتجاهل أصوات المتألمين الموجوعين من مكونات سورية متنوعة، على رأسها الأخوة أبناء الطائفة الدرزية وسط استرسال في وضع كتلتي عجين وطين في الأذنين.

المؤامرات والتدخلات الإقليمية والدولية تتسلل دوما عبر ازدراء مطالب الشعب الأساسية، وتلك المؤامرات التي أرهقت سوريا بكل مكوناتها وجغرافيتها تنمو وتزدهر وتنتعش مثل الطفيليات عندما يشعر مكون اجتماعي كامل بالإقصاء والعزلة. لا مبرر لإعادة التاريخ نفسه تماما.

لسنا بصدد العودة لمناقشة لا الملف السوري ولا تلك المؤامرة ولا النتائج والتداعيات.

لكن ما يجري في حاضرة السويداء وجوارها برهان قاطع وجديد على أن تجاهل المطالب الأساسية للناس واسترخاء مفاصل الدولة بالتجاوب مع الأساسيات يمكنه أن يؤسس دوما لثغرة يتسلل منها العدو وغير المحب والخصم قبل الصديق أو المتعاطف الذي يقف عند حدود الإحراج مثل جار في الجيوسياسي تكلف الكثير وتوقظ كل أوجاعه ومخاوفه تلك الحراكات المطلبية التي سرعان ما تتسيس على أكتاف خواصره الحدودية.

لا نعرف بصورة محددة ما الذي جرى على خاصرة الحدود الشرقية الوعرة بمحاذاة الأهل في السويداء.

وطبعا لا نعرف ما الذي سيحصل لاحقا.

لكن انتظار السيناريوهات ومراقبة الوجع وهو يتكثف مجددا مناسبة فعالة لتذكير المؤسسات السورية الرسمية أو ما تبقى منها بأن المؤامرة تتسلل دوما عبر الحرمان والإقصاء والمساس بخارطة واجبات الدولة وبمكونات اجتماعية كاملة وبدون مبرر.

والسيناريوهات العدائية والمخاصمة مثل الفايروسات تجد أرضا خصبة للتخطيط والتدبير عبر تلك التعليقات والتصريحات والإجراءات المغرورة باسم السلطة. نجدد وقوفنا ضد أي مؤامرة تستهدف الوطن السوري. ولكن نفترض بأن سلسلة من الدروس تراكمت وبأن ذلك الغرور السلطوي في دمشق تجاه مناطق بأكملها ينبغي أن يتراجع أو يتبدل وحقوق الشعب السوري ثابتة في الرخاء والكرامة والعيش بسلام وقضاء احتياجاته. وأغلب التقدير أن الاستدراك يبدأ من رفع قيمة الإصغاء لنبض الناس واحترام مشاعرهم واحتياجاتهم حتى لا تركب أكتاف أي حراك شعبي أو مطلبي سيناريوهات مخاصمة عدوة.

ما يجري في بعض الحواضر السورية مؤلم وموجع، وسياسات القلعة الحصينة والتلويح الأمني فقط تلحق ضررا بمناطق وأبناء طائفة محترمة في السويداء طالما كانت حليفة وشريكة للنظام والدولة السورية نفسها.

وهي طائفة ينبغي أن لا يزاود عليها أحد وقدمت التضحيات والدماء في مواجهة فاتورة الانفلات وفي حماية مناطقها من كل مجموعات التشدد وأحيانا التطرف التي ادعت أنها تمثل المعارضة السورية الداخلية. ما يجري في السويداء خطير بالتأكيد ومؤذ جدا. لكن المراجعة محورية وأساسية وباتت ملحة في دمشق بدلا من التلويح الدائم بخيارات البوليس والمواجهة الأمنية وعلى المزاودات أن تتوقف ويمكن تشكيل حالة حوارية وطنية مع أهل السويداء لنا كأردنيين، وبكل صراحة اليوم مصلحة مباشرة في تفعيلها وتنشيطها كمبادرة تبعد بعض الأشباح عن تلك الخاصرة المهمة.

يمارس بعض المسؤولين في دمشق عاداتهم القديمة في تجاهل احتياجات غيرهم وإفشال المبادرات الوسطية. يحصل ذلك مع أهل السويداء. ويحصل مع حزمة المصالح الحيوية الحدودية الأردنية في أكثر من اتجاه.

والمضحك جدا هو تلك المنابر التي تمارس شغبها الموسمي في اختراع فرية بعنوان دور أردني في تحريك أهل السويداء منذ أكثر من شهرين وفي التجاوب مع سيناريو أمريكي بدأت تتسرب تفاصيله في مناخ المنطقة والإقليم.

تلك أسطوانة مضحكة لعدة أسباب فعمان فيها ما يكفيها من انشغالات وعلاقاتها القديمة القائمة على الاحترام والتقديري برموز وزعماء الطائفة الدرزية في المنطقة كانت دوما، وقد تبقى عنصرا فاعلا في الاستقرار العام في المنطقة، خلافا لأن تلك العلاقات لن تهدف يوما لا للتحريك ولا للتدخل بقدر ما بقيت ذخيرة يمكن للنظام السوري التجاوب معها عندما يطلق مبادرات مصالحات وطنية ضرورية.

لا يملك الأردن الرسمي ترف الرغبة في المناورة والتأثير لا في مناطق حوله ولا في مكونات طائفية.. تلك لعبة مغامرة الأردن خبير جدا في كلفتها وتوابعها.

لذلك ننصح دائرة المسؤولين في دمشق التركيز على الإجابة على سؤالين بدلا من الانشغال مجددا بسيناريو المؤامرة وتوزيع الاتهامات هنا وهناك: لماذا حصل ما يحصل الآن في السويداء ؟.. ماهي أفضل صيغة وطنية للاحتواء؟

سؤالان يحتاجان إلى مؤسسة ناضجة لا تتمسك فقط بالخيار الأمني.

إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

————————

عودة الخوف من الربيع العربي وهزاته الارتدادية/ رياض معسعس

“لا توقظوا الصين من غفوتها لأنها إذا استيقظت ستهز العالم أجمع”، هذه الجملة قالها نابليون بونابرت في العام 1816، وهذا يدل على نظرته الثاقبة فالصين اليوم، بعد أكثر من مئتي عام تقريبا، تهز العالم قولا وفعلا” فخلال فترة وجيزة (من عمر الأمم) استطاعت الصين في العام 1949 من تحقيق استقلالها، ثم بناء الأمة والدولة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأصبحت قوة اقتصادية تهدد الغرب بأكمله.

الإرث الحضاري

هناك رغبة دائمة لدى الدول المسيطرة على العالم أن تجعل الشعوب تغفو، وكلما طالت الغفوة كلما كان أفضل. وهناك شعوب يخشى جانبها أكثر من غيرها والتي تمتلك إرثا حضاريا، وإمكانيات بشرية ومادية تؤهلها للمنافسة في التقدم العلمي والصناعي والثقافي وبالتالي التجاري، ومنها الشعوب العربية. فهي تمتلك إرثا حضاريا كبيراـ وبلادا غنية بثرواتها، وبقدرات بشرية هائلة.

فعلى نسق مقولة نابليون بالنسبة للصين، يخشى الغرب من استيقاظ العرب من غفوتهم التي طالت، ولإطالتها أكثر استعان بالديكتاتوريات العسكرية، ودعمها شريطة أن تبقى شعوبها تحت “البساطيل”.

أما التخوف الثاني فهو من الثورات التي تقلب الموازين وتضع أعاليها أسافلها وخاصة إذا تمكنت هذه الثورات من بناء دول ـ مؤسسات، وديمقراطية، أعطت للشعوب حريتها، لتنطلق في بناء مستقبلها.

وهذا يخيف أكثر من دولة إقليميا ودوليا ويهدد دولة الاحتلال التي صنعت هالة من حولها أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة المزدهرة وسط دكتاتوريات عاتية. ومن المعروف أن سوريا كانت أول دولة عربية بدأت بعد استقلالها بمشروع الدولة الديمقراطية التي أجهضت سريعا بانقلاب عسكري، وليس صدفة أنه جاء بعد الإعلان ان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي. فأمريكا التي أعلنت الحرب على العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل (ولم يكن يملكها حسب كل تقارير المراقبين الدوليين)، أرفقت هذه الحجة بأخرى أوهى منها وهي بناء الديمقراطية، والنتيجة أنها دمرت العراق اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، أما الديمقراطية المزعومة فلا أثر لها إذ تحول العراق إلى دولة مجزأة تحكم بدستور طائفي، والميليشيات.

ثورات مضادة

مع انطلاقة الربيع العربي الذي فاجأ الجميع وهز عروش أكثر من نظام عربي وأسقطه، كثير من الأنظمة العربية، ودول غربية خشيت على تمدد رقعة الربيع فتكاتفت لمواجهة الثورات بثورات مضادة لتعيد عقارب الساعة للوراء. ولكن هل يعود الزمن للوراء؟

وهل ستعود هذه الشعوب مجبرة إلى غفوة عنوة وتكتم غيظها مكبلة الحريشة، ومنتهكة الكرامة، وتنام طاوية البطون خاويها؟

ينبئنا تاريخ الثورات العالمية أن الثورات تأتي على شكل موجات كموجات البحر، تأتي موجة عاتية وتنكسر فتلحقها موجة ثانية، فالثورة الفرنسية التي اندلعت في العام 1789 لم تدم طويلا، إذ تبعها حكم ديكتاتوري مع روبيز بير، ثم امبراطوري مع نابليون بونابرت، ثم عودة الملكية مع لويس الثامن عشر في العام 1818. بفعل الثورات المضادة التي تضافرت فيها جهود ملكيات أوروبية عدة لوأد الثورة الفرنسية، واعتقدت خاطئة أنها قتلت هذه الثورة في بيضتها، فجاءت الهزة الارتدادية في ثورة التويلري في العام 1848 لتعيد الكرة من جديد وتنتشر في أنحاء أوروبا، ولكن هذه المرة نجحت الثورة في بناء مستقبل فرنسا كدولة مؤسسات ديمقراطية. وكذلك بالنسبة للثورات الأخرى كالبلشفية في روسيا، وثورة الشاي في أمريكا، وسواها.

بعد 12 سنة على ثورات الربيع العربي، والتي لا تزال تتفاعل وتفرز حروبا بينية (في ليبيا، وسوريا، والسودان، واليمن)، أعتقد البعض أنها أخمدت تحت ضربات الثورة المضادة، لكن المفاجأة جاءت أولا من سوريا في ثورة الموحدين في جبل العرب، وكانت الشرارة فيها رفع أسعار المواد الغذائية ولا سيما المحروقات.

فقد نزل الناس إلى ساحة الكرامة ليس لمطالبة النظام بالعودة عن رفع الأسعار، ولكن برفع شعار إسقاط النظام: “الشعب يريد إسقاط النظام”، و”سوريا لنا وما هي لبيت الأسد” والمطالبة بتطبيق قرار الأمم المتحدة 2254، وهي المطالب الأولى لثورة 2011، وتحول شيخ العقل حكمت الهجري إلى زعيم روحي يدعو للثورة وتحرير سوريا من الميليشيات الإيرانية وحزب الله التي وصفها بالاحتلال، وأصبح أيضا ممثلا عن شعب بأكمله بقي صامتا لأنه تحت سيطرة النظام، لكن وسائل التواصل الاجتماعي امتلأت بمقولة “الهجري يمثلني” وهذه ضربة موجعة أيضا للائتلاف الذي يصر على أنه ممثل عن الشعب السوري رغم كل اخفاقاته. وهنا يجب أن ننوه إلى نقطة فارقة وهامة جدا في ثورات الربيع العربي الأولى أنها لم تكن لها قيادة واضحة تقودها وتتكلم باسمها، أما هنا فحكمت الهجري أصبح بنظر الكثيرين بطلا قوميا كما كان زعيم الثورة السورية سلطان الأطرش. النقطة الثانية الفارقة وهي أن النظام لم يرسل دباباته وطائراته، وميليشياته و”شبيحته” إلى الجبل، ولم يقصفه بالكيميائي والبراميل المتفجرة، خشية إثارة مكونات أخرى في المجتمع السوري من ناحية، وردود فعل متوقعة من قبل الغرب (وخاصة أمريكا وبريطانيا) الذي بدأت اتصالاتها مع شيخ العقل الهجري إذ تلقى اتصالا من السيناتور الأمريكي فرينش هيل وصف أنه على قدر من الأهمية إذ يعكس اهتمام واشنطن بهذا الحراك والتي تسعى من خلفه الضغط على رئيس النظام السوري بشار الأسد.

وقد ترجمت مخاوف النظام بعد انطلاقة الحراك في جبل العرب بزيارة بشار الأسد إلى الصين للبحث عن دعم سياسي واقتصادي يواجه فيه الحراك الشعبي في الجنوب، كما فعل في العام 2015 بالسفر إلى موسكو للبحث في تدخل عسكري روسي ضد الفصائل المسلحة. لكن الصين لن ترسل طائراتها وقواتها، ولن توقع صكا على بياض مع دولة محتلة ومهدمة الأركان، وبدت زيارة الأسد أشبه بزيارة سياحية لحضور افتتاح الألعاب الآسيوية. هذه الهزة الارتدادية هي اليوم محط أنظار دول الثورات المضادة أيضا، والدول المطبعة مع النظام، التي ربما تعيد حساباتها مع هذا النظام الذي لم يطبق أي شرط من الشروط التي طلبت منه تنفيذها، وخاصة تجارة الكبتاغون، والانخراط في حل سياسي مع المعارضة.

وقد صرح العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قائلا: “لقد عدنا إلى بداية الربيع العربي حيث كان الناس يتظاهرون لأنهم كانوا يعانون من أنظمة لا يمكنها توفير الطعام” وأضاف “أعتقد أن بشار الأسد لا يسيطر على سوريا”.

الارتدادية الليبية

شرارة الهزة الارتدادية في ليبيا جاءت بسبب الفيضانات التي أودت بحياة الآلاف بسبب إهمال الحكومة في ترميم السدود التي دمرها ضغط الماء، إزاء هذه الكارثة الإنسانية عاد الشعب الليبي إلى الساحات ليطالب بإسقاط النظام، وفي المنطقة الشرقية التي يحكمها خليفة حفتر هتف الآلاف في الساحات: “الشعب يريد إسقاط البرلمان” وهذا يعني إسقاط النظام برمته.

وكما هي سوريا مجزأة ويبقى الحراك محصورا في منطقة جبل العرب، والمناطق المحررة في محافظة إدلب، بقي الحراك الليبي محصورا في منطقة بنغازي التي شهدت مأساة درنة.

يبقى أن الشعوب الأخرى التي صنعت الربيع العربي وملأت ساحات المدن مطالبة بإسقاط أنظمتها لم تعد غافية، وتتطلع إلى مستقبل أفضل، خاصة وأنها اليوم تمر بأزمات خطيرة لم تتمكن الأنظمة الحاكمة من حلها، وهي تهدد مستقبلها ويكفي أن تنطلق الشرارة لتعود إلى المربع الأول.

كاتب سوري

——————————

اطلب المدد ولو من الصين!/ بكر صدقي

في الوقت الذي تستمر فيه انتفاضة السويداء ضد نظامه، يستعد بشار الأسد للسفر إلى الصين، ترافقه زوجته، لحضور افتتاح دورة الألعاب الآسيوية. في حين ركزت وسائل الإعلام الموالية للنظام وحلفائه على أن الزيارة تأتي «بناءً على دعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ» وأن «في رفقته وفدا سياسيا واقتصاديا كبيرا!».

امتنع النظام منذ بداية انتفاضة السويداء إلى الآن عن مواجهة الانتفاضة السلمية بالعنف، إذا استثنينا حادثة إطلاق النار من سطح مبنى فرع حزب البعث على جمع من المحتجين أدى إلى إصابة ثلاثة منهم، فيما يمكن اعتبارها حادثة فردية فعلاً لأنها لم تتكرر، أو أنها شكلت تحذيراً للأهالي بعدم الاقتراب من المبنى الذي سبق للمحتجين وأغلقوه.

وعلى رغم الهجوم الإعلامي على الانتفاضة واتهامها بشتى الاتهامات المعتادة من أبواق النظام، كالنزعة الانفصالية أو تجاوز «المطالب المشروعة» أو تلقي تمويل خارجي… أو التقليل من شأن أعداد المتظاهرين، أو تحذيرهم من «مؤامرة أمريكية» للقيام بتفجيرات في المحافظة «لإلقاء الاتهام على النظام!»… على رغم كل ذلك لم يصدر من أركان النظام أي رد فعل رسمي إلى الآن، وبخاصة من رأس النظام الذي هو عادةً الناطق الحصري بالموقف الرسمي للنظام من الأحداث المهمة في الداخل والخارج. فقد اختفى الرجل عن وسائل الإعلام تماماً طوال الشهر الذي استغرقته الانتفاضة، مع أن أكثر الشعارات والهتافات في المظاهرات ركزت على شخصه بالذات، مطالبةً له بالتنحي، ومؤكدة أن «سوريا لنا وليست لبيت الأسد».

لا يعبّر غياب الأسد عن عدم اكتراث أو استخفاف بهذا التحدي، بل عن عجز عن مواجهة التحدي. فما نعرفه عنه من خلال السوابق هو إفلات أجهزته الأمنية والعسكرية لمواجهة الحراك بالعنف، ثم الظهور لتبرير ذلك بشتى الأكاذيب والتلفيقات. ولا يعود هذا العجز إلى غياب أي ذرائع يمكنه الاستعانة بها لتبرير القمع، بقدر ما يعود إلى أن يديه مكبلتان -على ما يبدو- من قبل أوصيائه الروس الذين لا يريدون خسارة مزاعم حماية الأقليات، إضافة إلى ما وصلت إليه «العملية السياسية» الروسية من انسداد، بما في ذلك مسار التطبيع بين النظام وتركيا الذي سدته إيران، وكذا «المبادرة العربية» التي قضى عليها النظام بوصفها «فخاً» لاستدراجه إلى حل سياسي. هذا ما يمكن استنتاجه أيضاً من لقاء السفير الروسي في إسرائيل مع الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل ومطالبته له بالتدخل لتهدئة الوضع في السويداء، ووعده برفع توصيات إلى وزارة خارجيته بشأن الضغط على النظام ليستجيب لبعض مطالب أهالي السويداء.

ربما كان من شأن تقديم النظام لبعض التنازلات أن يقسم المحتجين إلى «معتدلين» يقبلون بتحسين بعض الخدمات العامة أو غير ذلك من مطالب إصلاحية، و«متطرفين» ـ بلغة النظام ـ لا يقبلون بأقل من تنحي رأس النظام والدخول في عملية انتقال سياسي وفقاً للقرار 2254. ومن المحتمل أن يشكل الأخيرون أقلية يمكن احتواؤها بالقمع أو التهديد به. هذه هي الاستراتيجية التي تلجأ إليها أنظمة دكتاتورية يحركها العقل، أما نظام الأسد فهو مدفوع بغرائزه الإجرامية وتمسكه بالسلطة حتى آخر سوري، وخوفه من فكرة أنه إذا بدأ بتقديم أبسط التنازلات فسيطالب بالمزيد منها وصولاً إلى خلعه من السلطة. فالتنازلات، في عرفه، تقدَّم للدول القوية وليس للشعب.

أما استراتيجيته تجاه الحراك المعارض الجديد فتتلخص في تطويق التمرد في السويداء لعزلها عما تبقى من المناطق الخاضعة لسيطرته. وفي هذه الأخيرة قام باتخاذ إجراءات أمنية مشددة استباقاً لأي عدوى ثورية، بما في ذلك اعتقالات طالت عشرات المشتبه بمعارضتهم المحتملة أو ممن عبروا عن مواقفهم علناً على وسائل التواصل الاجتماعي.

وفقاً لهذه الاستراتيجية سيكون النظام مضطراً للتعايش مع استمرار انتفاضة السويداء وتمزيق صوره وتحطيم تماثيل أبيه إلى حين يطول أو يقصر وفقاً للظروف السيالة، ولا يستطيع تلبية ما يسميه بـ»المطالب المشروعة» أو قسم منها، نظراً لأن وضعه الاقتصادي لا يسمح بتقديم رشوات كتأمين الكهرباء وزيادة الرواتب زيادة حقيقية تخفف نسبياً من آثار التضخم المنفلت، وذلك في جميع المناطق الخاضعة لسيطرته وليس في السويداء وحدها.

وشمل صمت الأسد، إضافة إلى تحدي انتفاضة السويداء، تحدي الحرب التي دارت في دير الزور ومناطق أخرى بين قوات قسد ومسلحي العشائر المتمردة عليه أيضاً، وإن كان إعلامه وأبواقه عبروا عن ابتهاجهم لهذا الاقتتال على أمل أن يغطي على أخبار انتفاضة السويداء، ولا بد أن انتهاء الاقتتال، نسبياً، في بعض تلك المناطق قد خنق تلك البهجة العابرة.

أخيراً عاد الأسد إلى عناوين الأخبار، ليظهر في الصين، رفقة زوجته، وكأن كل شيء على ما يرام في سوريا. والصين تختلف عن غيرها من الدول في أنها دينامو اقتصادي عالمي، قد توحي زيارتها بأمل لمن تبقى له من موالين وصلت أوضاعهم إلى الحضيض. ليس من المؤكد أن يعود الأسد من زيارته باتفاقيات قد تعزز هذا الأمل، فالسياسة الصينية ليست من النوع الذي يخاطر باستثمارات أو قروض في مناطق مضطربة لا يمكن توقع غدها القريب قبل البعيد.

إعلامياً سنرى إذا كان سيتمكن من استدراج وسيلة إعلام صينية ليظهر في مقابلة تعيده إلى الأضواء التي استقطبها رؤساء الدول في الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة. وهل سيستمر في تجاهل انتفاضة السويداء ويواصل تحميل مسؤولية ارتفاع أسعار الخضار وأجور النقل وانقطاع الكهرباء للإرهابيين والدول الداعمة لهم، أم يفاجئ العالم بتصريحات استفزازية تزيد عمق الأزمة التي يتخبط بها.

كاتب سوري

———————————————–

عبادة وحدة سوريا/ إيلي عبدو

 يظهر أنصار وحدة سوريا حين يرفضون أي نزعة للفيدرالية أو اللامركزية في السويداء، التي تشهد تظاهرات منذ أكثر من شهر، كمن يخوض معركة مريحة ليهرب من معارك صعبة. فالمحافظة ذات الغالبية الدرزية، ما تزال تشهد نقاشات، ويتداول أبناؤها أفكاراً حول مصيرهم، على وقع الانهيار العام في البلاد، أي أن «الإدارة الذاتية» مجرد فكرة من بين أفكار كثيرة، لا أكثر. وتصويب «الوحدويين» عليها يكشف عن هرولتهم نحو خصم وهمي، بدل العمل ضد خصوم فعليين. إذ إن البلاد حالياً مقسّمة بين السلطات في دمشق، وقوات «سوريا الديمقراطية»، وجبهة «النصرة»، و»الجيش الوطني»، وبالتالي، على «الوحدويين» أن ينطلقوا من المقسّم، وليس من الذي يفكر بالتقسيم أو يضعه من جملة أفكار يتداول بها.

ولعل، ترك الخصوم الفعليين والتركيز على الخصوم الوهمين، يبين أن «الوحدويين» لا يملكون برنامجاً لعملهم، برنامجا يحاول الإجابة على أسئلة من نوع، كيف يمكن إعادة توحيد البلاد المقسمة حالياً؟ هل مصلحة السوريين بالوحدة بعد معاناتهم مع تجربة فاشلة في ظل الحكم المركزي؟ كيف ستوزع الثروات؟ وكيف سنضمن عدالة تمثيل الجماعات؟ وكيف سيحصل الأكراد على حقوقهم؟ أي ضمانات للديمقراطية وتداول السلطة؟

 وقد يحاجج «الوحدويون»، بأن هذه المناطق مقسّمة بواسطة قوى الأمر الواقع وليس بإرادة سكانها، والأمور سرعان ما ستعود إلى ما كانت عليه، لحظة ضعف هذه القوى وتراجع الدعم الخارجي لها، متغافلين بذلك، عن تمثيل فعلي تحظى به هذه القوى داخل المجتمعات التي تحكمها، بمزيج من أيديولوجيا معلنة دينية أو يسارية أو بعثية، وأدوات هيمنة وقمع. هذه القوى تخاطب مظلوميات كردية وسنية وغيرهما، وبالتالي، سكان المناطق المقسّمة يعيشون فيها ليس حبا بمن يحكمها، بل كرهاً بمن يحكم سواها، بمعنى أوضح قوى الأمر الواقع تمثل، خوف الجماعة من الجماعة الأخرى. واستناداً إلى ذلك، فإن عمل «الوحدويين» يجب أن يتركز على إقناع الجماعات بإمكانية التعايش بينها، وليس الاسترخاء على فرضية، أن ثمة من يجبر الناس على التقسيم، وهم عشاق للوحدة يسبّحون بحمدها ليلا ونهارا. إقناع الأكراد مثلا بأن العرب لن يحكموكم بعنصرية وتمييز وقهر، وإقناع العرب بأن الأكراد لن يثأروا كلما أتيحت لهم الفرصة. عمل من هذا النوع، فيما لو انتبه «الوحدويون» لأهميته، يبدو شاقا ومليئاً بالصعوبات والأفخاخ، لاسيما وأن البلد مرّ بحرب أهلية طاحنة، قضت على أي إمكانية لبناء الثقة بين جماعاته. إلا أن الصعوبة ليست العائق الوحيد الذي يحوّل دون تبني أنصار الوحدة، لهذه الأولوية، بل ثمة إنكارهم وجود الجماعات أصلاً، وقناعتهم الأيديولوجية بواحدية الشعب. وبما أن متظاهري السويداء تمثلوا بمتظاهري 2011، لناحية الهتافات واللافتات والمطالب وأشكال الاحتجاج (خلال الستة أشهر الأولى لتظاهرات 2011)، فقد شكلوا نموذجاً مطابقاً لما يدور في أذهان «الوحدويين» من تنميط أحادي للشعب.

وبدل الانتباه لمخاوف الجماعة الدرزية وهاجسها في البحث عن أمان في ظل انهيار شامل، جرى التركيز على ما تتمثله الجماعة في التظاهر لتحظى بتأييد عموم السوريين، وباتت معادلا لـ»شعب» 2011 الذي انتفض «دون انقسامات أو كراهيات»، وفقاً لسردية شائعة في بيئات المعارضة. لهذا السبب، كانت السويداء معركة سهلة بالنسبة لـ»الوحدويين»، فالجماعة فيها لا تظهر خوفها من الجماعات الأخرى بقبول قوى أمر واقع، على غرار بقية مناطق سوريا، بل تتمثل «الشعب» كله مستعيدة لحظة 2011، وبالتالي، لا حاجة لنقاش هواجس الجماعات وعلاجها، طالما أن ما يحصل في الجنوب «ثورة لكل السوريين»، حسب الشعار التي رُفع في الأسبوع الأول للاحتجاجات. والأرجح أن إنكار هواجس الجماعات واستسهال التعامل مع تمثلاتها بدل قضاياها، يتلازم لدى أنصار الوحدة مع انعدام البرنامج لإعادة توحيد البلد، فطالما نحن شعب واحد، وليس جماعات، فلا حاجة لبرامج للتوحيد، بل الأولوية لنسف أي طروحات مضادة كتلك التي تطرح، أي الفيدرالية أو اللامركزية.

وخلف الانكار والانعدام، ثمة مفهوم أيديولوجي للوحدة يتبناه أنصارها، مفهوم، يهتم بالجغرافيا أكثر من السيسيولوجيا، أي أن تظل المدن والمناطق والقرى متواصلة مع بعضها ضمن وحدة ترابية، بصرف النظر عن إرادات سكانها، وإمكانية تعايشهم مع بعضهم. الأرجح، أن جذر هذا المفهوم، تأتى من التراكم الأيديولوجي الذي طغى على المنطقة بعد حقبة الاستقلالات، حيث شاعت لغة الوحدة للملمة ما قسّمه الاستعمار واستعادة القوة القديمة لمواجهته. لقد كان هدف الوحدة، مواجهة الخارج وليس تحقيق مصالح الداخل والتوافق والسلام بين مكوناته. الحمولة الأيديولوجية ذاتها يستخدمها أنصار الوحدة، لكن هذه المرة، على مستوى سوريا، فالأولوية للبلد وصيغته «الجامعة» وليس لسكانه.

هناك ارتباط بين موضعة سوريا في أدبيات البعث، ضمن «الوطن العربي» ووحدة البلد الداخلية، الثانية تستقي معناها من الأولى. فلا تعرّف وحدة سوريا بدلالة السوريين ورغباتهم، بقدر ما تعرّف بدلالة الحمولة الأيديولوجية التي ألصقها البعث بالبلد خلال عقود طويلة. علما أن للوحدة حاملا إسلاميا سابقا على القومية العربية التي نبت البعث في تربتها وعليه، لا توجد أي قيمة إيجابية للمفهوم ينعكس على السوريين وحياتهم، قيمته تتبدى بجوهره وليس بما يحققه حال تنفيذه. الوحدة جيدة لأنها وحدة فقط، الأولوية للجوهر، وللمفهوم الذي يحمل قيمته انطلاقا من الأيديولوجية. ما يجب أن يشغل بال «الوحدويين» حالياً، سورنة مفهوم الوحدة، وإقناع الناس أن مصالحهم وحقوقهم، كجماعات وأفراد، مضمونة في إطار المركز، وفصل المفهوم عن حمولاته القومية والإسلامية، عندها تصبح طروحات الوحدة أكثر قابلية للنقاش العام، عبر مقارنتها، ولو نظريا، مع الطروحات الأخرى من فيدرالية ولا مركزية.. وسواها.

باختصار، أنصار الوحدة مدعوين للكف عن عبادتها انطلاقا من كونها «خيراً مطلقاً»، وإنزالها من عرشها لخدمة الناس، ليصبح المعيار هل ستصبح حياة السوريين أفضل إذا توحدت سوريا؟ أم أن الأفضل الطرح الفيدرالي؟ بمعنى أوضح، النظر لوحدة سوريا باعتبارها نظاما للحكم لا يحمل أي قيمة في جوهره، قيمته تتأتى بالقدر الذي ينعكس فيه إيجاباً على أوضاع الناس وحياتهم، وضمان السلام بينهم. علما أن، رفض «الوحدويين»، الفيدرالية وشيطنتها، طوال الوقت، يظهر أنهم غير معنيين بهذه الدعوة، إذ إن الفيدرالية تبدو، خصماً مناسباً لهم، يواصلون عبرها عبادة «آلهتهم»، مجنبين أنفسهم امتحان تقديم برنامج للسوريين يقنعهم بأن الوحدة لصالحهم. وليست تظاهرات السويداء، سوى مناسبة إضافية لاستئناف، طقوس العبادة.

كاتب سوري

—————————

نظام الأسد والمعارضة وانتفاضة الموحدين/ رياض معسعس

أخطأ من ابتسم، من زعماء الثورات المضادة، أو رفع شارة النصر على الربيع العربي، وخاصة الربيع السوري، فثورات الشعوب كالهزات الأرضية، والبراكين لا يمكن استشعارها، أو توقيت ثورانها، وهزاتها الارتدادية.

فالشعوب المحاطة بأسوار القمع والتسلط كالماء في السد دائما يبحث عن ثغرة، وعندما ينهار السد ستجرف المياه أمامها الأخضر قبل اليابس. فبعد أن اطمأن النظام الأسدي بأنه سيطر على جزء من سوريا بدعم الميليشيات الطائفية المستوردة من إيران وباكستان وأفغانستان ولبنان وجيش الاحتلال الروسي، جاءته المفاجأة من حيث لا يتوقع: من جبل العرب الذي انتفض فيه الموحدون في ساحة الكرامة.

مطالب الثورة السورية

ستدخل هذه الانتفاضة شهرها الثاني وتطالب بالفم الملآن والإصرار على إسقاط نظام الأسد وتطبيق القرار الأممي 2254. وهذه هي مطالب الثورة السورية منذ البداية للتخلص من نظام أجرم بحق العباد والبلاد، وهذا ما يضع بشار الأسد أمام تحد كبير: كيف يمكن قمع انتفاضة من “أقلية” كان يقدم نفسه أنه حاميها، ولكن كعادته لا يملك في سلوكياته سوى لغة الرصاص الذي كما أطلقه في السابق في درعا مع بداية الثورة على صدور الناس، أطلقه اليوم على شباب السويداء وخرج شيخ العقل حمود الحناوي يحذر: “لا تجبرونا على أكل الميت ومن يطلق على أبنائنا رصاصا سيدفع الثمن، والذي لا يحترم تاريخنا لن نحترمه”.

وقال شيخ العقل حكمت الهجري بصريح العبارة: “الميليشيات الإيرانية التخريبية وبينها حزب الله هي ميليشيات تحتل أرضنا والجهاد ضدها واجب، لن نقبل وجود الميليشيات الإيرانية على الأرض السورية، والنظام الإيراني الفاسد أرسل الميليشيات لكي تغير عقول الناس وتسرق البلد هذه رسالة موجهة مباشرة إلى بشار الأسد الذي جلب هذه الميليشيات المرتزقة كي تحمي نظامه.

وصدر بالتنسيق معه عن “الهيئة السياسية للعمل الوطني” بيانها الأول من قلب ميدان الاحتجاج طالبت فيه بالتغير السياسي “ضرورة لكل السوريين وتحقيق الانتقال السياسي لمرجعية القرار الأممي 2254 الصادر عام 2015” كما دعا إلى تفعيل القرار 2118 الصادر عام 2013 الذي يحول مرتكبي جرائم الحرب بحق الشعب السوري إلى محكمة الجنايات الدولية، والتمسك “بوحدة الأرض السورية وهويتها الوطنية، رافضين المشاريع الخارجية الانفصالية والخطابات الطائفية التحريضية، والإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين والكشف عن مصير المغيبين قسريا والكف عن ملاحقة المتظاهرين السلميين في ساحة الكرامة من قبل الأجهزة الأمنية ومحكمة الإرهاب وإلغاء قراراتها غير الشرعية وإصدار عفو عام مطلب شعبي لا مساومة عليه”.

واعتبر البيان أن “الخدمات الاقتصادية من كهرباء ومحروقات ومياه، أساسيات الحياة، ليست منة وغير قابلة للتفاوض أو المساومة” محملا “سلطة النظام وحزب البعث والأجهزة الأمنية مسؤولية إراقة الدم السوري منذ عام 2011 لغاية هذه اللحظة ونوجه رسالتنا إلى الجامعة العربية والأمم المتحدة والمنظمات الأممية والحقوقية والإنسانية والمحافل الدولية ذات الصلة، والتي يجب عليها الأخذ بدورها في تحقيق مطالب الشعب السوري”. وانتهى البيان بالقول: لقد عرت انتفاضة السويداء الأخيرة زيف ادعاء النظام بحماية الأقليات، واتضحت جرائمه بالأدلة القاطعة وعدم نيته بتقديم أي تنازل لمصلحة السوريين ومطالبهم المحقة. هذه الهزة الارتدادية القوية للثورة السورية التي جاءت بعد عقد ونيف من الهزة العنيفة الأولى تضع نظام الأسد أمام معضلة حقيقية، بل تعتبر ضربة “تقويضية” لادعاءاته الكاذبة.

ورقة نعوة الائتلاف السوري

في ظل هذه الأحداث التي تشهدها مناطق السويداء، والتي تعتبر هزة ارتدادية لزلزال الثورة السورية، لم تكن المعارضة السورية في جميع أطيافها على مستوى الحدث، وعلى رأسها الائتلاف السوري، فقد عرت هذه الانتفاضة المعارضة السورية بمجملها السياسية منها والمسلحة إذ اكتفى الائتلاف بإصدار بيان هزيل (كرفع عتب) لم يكن له أي تأثير يتضمن إدانة ” التصعيد الخطير من قبل نظام الأسد الذي قام باستهداف المتظاهرين السلميين في مدينة السويداء بالرصاص الحي” وعبر عن دعمه للحراك السلمي وطالب مجلس الأمن بإيجاد آليات تلزم نظام الأسد بعدم استخدام العنف” .

هذا البيان الذي لا يرقى إلى أهمية وخطورة الحدث، ولم يتضمن أي دعوة للشعب السوري لمناصرة أهله في السويداء بمظاهرات سلمية في أنحاء المناطق المحررة على أقل تقدير يظهر إلى أي مدى وصلت إليه مؤسسات المعارضة السورية.

والواقع أن هذا يعود لفقدان الشعب السوري لمصداقية هذا الائتلاف، وتمثيله للثورة السورية والشعب السوري، وكان رئيس الائتلاف قد تعرض لمواجهة عنيفة من بعض الأفراد عند زيارته للمناطق المحررة في بداية هذا العام، وشهد الائتلاف صراعا داخليا تم خلاله طرد عدة أعضاء بارزين فيه في وقت سابق، ثم جاءت الخلافات بشأن انتخابات الرئيس الجديد الذي حل محل سالم المسلط، وانتقادات حادة من قبل أعضاء حاليين وسابقين (تشكل الائتلاف السوري لقوى المعارضة في تشرين الثاني/ نوفمبر ليحل محل المجلس الوطني الذي ترأسه المفكر والأكاديمي المعروف برهان غليون ثم تناوب عليه عدة شخصيات أخرى من المعارضة).

وقد نشر أول رئيس للائتلاف الشيخ معاذ الخطيب ورقة “نعوة” للائتلاف قال فيها: “أنعي إلى جميع السوريين وفاة الائتلاف الذي كان معارضا” وأشار: “إلى تهديد لإجبار أعضائه على التصويت لقيادة مفروضة عليه.. مضيفا: “حزب البعث الستاليني لم يستطع إركاع السوريين، ولن تستطيع عقلية “فتافيته” الوصاية عليه بالإجبار اليوم”.

وقال الرئيس السابق للائتلاف نصر الحريري أيضا إن :”رئيس الحكومة السورية المؤقتة (التابعة للائتلاف) عبد الرحمن مصطفى قال إنه سيتم انتخاب هادي البحرة رئيسا جديدا للائتلاف بالإجبار”، (وهذا ما حصل فقد اختارت الهيئة العامة هادي البحرة رئيساً جديداً للائتلاف، خلفاً لسالم المسلط، كما اختارت هيثم رحمة أميناً عاماً له، وعبد المجيد بركات نائباً له، خلفاً لربا حبوش، خلال عملية انتخابية جرت في مقر الائتلاف ضمن مدينة إسطنبول)، واتهم الحريري الائتلاف بـ: ” بتوفير الفرصة للتدخلات الخارجية لتوجيهه والإملاء عليه” وظهرت حالات عدة في مناصب الائتلاف أن هناك تبادلا بالأدوار بين أشخاص محددين لاحتلال مناصب رئيسية على رأس الائتلاف، واللجان المتفرعة عنه.

وهذا ما أكده رئيس المجلس الوطني السوري السابق عبد الباسط سيدا: ” يبدو أن أصحاب لعبة تبديل الطرابيش في الائتلاف قد سدوا آذانهم كي لا يسمعوا آراء وانتقادات السوريين المناهضين لفساد وإفساد واستبداد سلطة آل الأسد، ولم تعد مآسي السوريين، خاصة الأهل في المخيمات تهمهم لذلك نقترح عليهم أن يُمعن كل واحد منهم النظر في نفسه أمام المرآة، ويحكّم ضميره”.

واقتراح الدكتور سيدا لا يمكن عمليا تحقيقه إذ أن أول وآخر من نظر إلى نفسه في المرآة من العرب ورأى حقيقة وجهه واعترف بقبحه هو شاعرنا الكبير الحطيئة عندما نظر بالمرآة وقال:”أرى لي وجها شوه الله خلقة فقبح من وجه وقبح حامله”.

كاتب سوري

————————–

من الثورة إلى الحرب.. من الحرب إلى الثورة/ عُلا شيب الدين

من الأفضل دوماً ضبط المصطلحات والمفاهيم وتفنيدها، مَنْعاً للخلط، وإمعاناً في الدقة. هكذا، إن شئنا ـ باختصار ـ تعريف الثورة السورية التي اندلعت عام 2011؛ يمكننا القول: هي ثورة شعبية مدينية سلميّة، يمثّل التظاهر والرقص والغناء والتصفيق والزغاريد واللافتات والورد والماء وأغصان الزيتون والشموع والطبول، أهم أدواتها الحقيقية. جوهرها الحرية والكرامة، وغايتها القضاء على الاستبداد في أشكاله كافة. ومَن يقرأ التاريخ بذكاء ونزاهة؛ ربما يعرف أكثر، أن كل الثورات الشعبية، في كل زمان ومكان؛ جوهرها التحرر.

أما الحرب في سوريا، فهي تلك التي شنّها نظام الأسد على الثورة المندلعة ضده، منذ البداية، قبل أن تبدأ الثورة بالتقلص شيئاً شيئاً، بعد سِلميَّة دامت نحو عام تقريباً، حيث اضطرت بعد ذلك، في قسم كبير منها، إلى التخلّي عن سلميتها، من أجل الدفاع عن نفسها (الجيش الحر)، بعدما ارتكب نظام الأسد في حقّها المجازر تلو المجازر، واستخدم كل ما يمكن لقمْعها، كالسلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة. والحرب بوصفها عنفاً، تتضمن أيضاً التطرف والإرهاب، خاصة التطرف الديني الذي تتغذى منه وتستمر. هكذا، ومن جرّاء تعاطي النظام تعاطياً طائفياً منذ البداية، وادّعائه «حماية الأقليات» و»محاربة الإرهاب»، تكوَّنت في قبالة طائفيته، طائفية، وفي مقابل تطرفه تطرف ديني تسلّق على الثورة، لغرضِ «أَسْلَمَتِها“، محقِقاً بذلك الهدف الأساس للنظام، وهو تشويه الثورة بالتطرف والإرهاب. فصارت الحرب، في جزء كبير منها، حرباً طائفية.

استمرت الحرب سنوات طوال، كانت دائما غير متكافئة، خاصة أن دولاً تدخّلت لصالح النظام، كالسلطتين الإيرانية والروسية، وصارتا محتلتين لسوريا وثرواتها ومقدَّراتها. سنوات طوال استمرت الحرب، وتقريباً لم يعد للثورة صوتٌ يُذكر، إلا فيما ندَر.

وعليه، يخطئ، سواء كان متعمداً أم غير متعمد، مَن يُوصِّف الواقع في سوريا بالحرب فحسب. «قافزاً» بذلك فوق ثورةٍ كانت قبلها. والقفز، في مثل هذه الحالة، هو عنف خطير، كونه يزوِّر، ويتعاطى مع التاريخ كأنه مليء بالحُفَر والثغرات والفجوات، في حين أن التاريخ امتداد، استمرار واتصال. (يمكن في هذا الصدد، مراجعة مقالنا المنشور في «القدس العربي»، تحت عنوان: في عنف القفز وخطورته!).

ـ ينبغي ـ إذن ـ التفريق والتمييز بين الثورة والحرب.

٭ ٭ ٭

لم يكن يوم العشرين من آب/أغسطس 2023. اليوم الذي خرج فيه الناس بالألوف إلى الشوارع، في محافظة السويداء في جنوب سوريا، واستمرارهم حتى لحظة كتابة هذه السطور، متظاهرين ضد النظام؛ لم يكن «قفزة»، بل كان امتدادا للثورة التي اندلعت قبل أكثر من اثني عشر عاماً، وخفتَت و»ناصَت» إلى درجة الظن بانطفائها وترمُّدها إلى غير رجعة. لم تكن تلك التظاهرات قفزة، بل امتدادا، أعاد الثورة إلى النور.. أعاد وهجها الذي ظُّن أن الحرب استطاعت سحقه ومحقه، دونما المعرفة أن الوهج من شأنه الديمومة، وإن كان الاشتعال يموت؛ فالوهج يبقى.

كانت السويداء، حاضرة في الثورة منذ اندلاعها، تظاهراً واعتصاماً يروح ويجيء بين الفينة والأخرى، وموقفاً وإعلاماً وإغاثة.. وهناك ثائرون اعتُقلوا وبعضهم قُتل تحت التعذيب، وهناك ألوف ممَّن رفضوا الالتحاق بجيشٍ يقتل شعبَه. صحيح أن هذا الحضور في الثورة لم يشمل شرائح واسعة من المجتمع وقتئذ، غير أنه كان حضوراً مهماً أهمية الثورة السورية ذاتها. أما الآن، فلم يعد ذلك الحضور المهم، مقتصِراً على الشرائح نفسها.

فالآن، يتظاهر الناس في السويداء، من الشرائح والفئات المجتمعية كافة.. من الأعمار كافة.. من الأجناس كافة.. من المستويات الفكرية والثقافية والعلمية كافة.. من التوجهات والإيمانات والاعتقادات كافة. لقد صرخت السويداء صرختها المدويّة، فالكل من هؤلاء يريد الحرية والكل ينادي بالكرامة، و»ساحة السير» في قلب مدينة السويداء صارت «ساحة الكرامة». الساحة التي يتوحّد فيها الصوت السوري، ويعود إبراهيم القاشوش حيّاً ليقول: «يلا إرحل يا بشار»، فالقاشوش لم يكن مزحة تاريخية.. ليعود الإصرار على أنه: «واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد».. لتعود الإرادة الشعبية إلى تمركُزها: «الشعب يريد إسقاط النظام»… ليعود الفن والموسيقى والرقص والغناء والدبكات والزغاريد إلى سابق العهد في زمن الثورة الأول.. لتعود اللافتات والهتافات.. لتعود السِّلْميّة، ولتعود الثورة بعد الحرب، بعدما كانت قبلها.

٭ ٭ ٭

وفي ما يخص ذلك القول المثير للجدل: «إن أساس اندلاع هذه التظاهرات هو مَعيشيّ اقتصاديّ وليس سياسياً»، يمكن الرد من خلال ما تؤكده علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والتاريخ مجتمِعةً، بأن الاقتصاد لم يكن يوماً منفصلاً عن السياسة، كما أن السياسة ليست منفصلة عن الحياة المجتمعية في تفاصيلها كافة. وعلى مَرِّ التاريخ، كان الاقتصاد دوماً يخلق سياسات معينة أو يغيِّر فيها، وكانت السياسة بدورها مسؤولة عن الأوضاع الاقتصادية وأنظمتها على هذا النحو أو ذاك. أوَليسَ شائعاً القول: «سياسة اقتصادية» أو «اقتصاد سياسي»؟! وهذا القول لا ينطبق فقط على المحليّ، بل هو عالمي موجود في دول العالم كلها. ثم، إن نحن افترضنا ـ جدَلاً ـ أن أُسَّ تلك التظاهرات اقتصاديٌّ محض، ولا علاقة له بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، فهل هذا يعني نفيها بوصفها «ثورة»؟! الإجابة: حتماً لا. تبقى ثورة، إذ أن الحياة الكريمة حق للإنسان الفرد (ألا يكفيه أنه أتى إليها بغير إرادته؟!). وصحيح أنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، لكنه أيضاً « لا يستطيع أن يحيا بلا خبز». إن ثورات الشعوب قديمها وحديثها، لم يكن أسّها ترَفاً فكرياً نُخبوياً ومتعالياً على الواقع وعلى تفاصيل الحياة اليومية المعيشية.

لكل فرد الحق في أن يثور ويتظاهر ويهتف إذا ما انتُقص شيء من كرامته الإنسانية، وليس الأمر مُختزَلاً في ما يُسمى النخبة، كما تصوِّر تلك «الأيديولوجيا» التي عادة ما «تنمِّط» الثورة، وتحصرها في نُخَب يجب أن تقودها وأن تكون بوصلتها. إن هذه الأيديولوجيا شأنها شأن كل سلطة سلطوية ومتسلطة تسعى إلى «التقويم»، كونها تعتقد أن مهمتها الكبرى هي ضمّ كل خارج على «خطّها المستقيم» الخاص بها، لكي يعود و»يستقيم» في الخط نفسه، ذائباً فيه. أي ينبغي «تقويمه»، عبْر ردّه إلى الخط المستقيم القوّيم. وإن الخارج على «الخط المستقيم» بالنسبة إلى سلطة كهذه، هو على خطأ دوماً، وينبغي سحقه، والسحق ـ ههنا ـ يعني «التقويم»، أي إفراغ الخارج على «الخط المستقيم» من معناه وفحواه، من فرادته وتفرّده؛ لـيعودَ و«يستقيم».

٭ ٭ ٭

إنها ثورة من أجل حياةٍ نابضةٍ، ولو أن الشعب السوري انطفأَ، كما أُريدَ له؛ لكانت القضية السورية انتهت، منذ سنين طويلة، لكن هذا الشعب حيّ ومتوهّج، وسيبقى ينتفض لكرامته وحقه في العيش الحر. وقد قالها قبل أشهر، متظاهرون في بلدة جرمانا في ريف دمشق: «ما بدنا حكي وأشعار، بدنا ناكل يا بشار». في إشارة إلى «تجريد» بشار الأسد الدائم، وتمييعه، وتهويماته النظرية المتفذلِكة. إن هتافات كهذه، تعني باختصار، الانتصار للعيش، للملموس، للمُتَعيِّن، للنبض، للحي والمتحرك والسائر والماشي.. للحياة. إنها ثورة من أجل الحياة الملموسة المتعيِّنة، ضد أوهام التجريد اللئيم. ولا نعني – طبعا- ذلك التجريد الفلسفي الرفيع، بل تجريد الناس من كرامتهم وحقهم في الحياة النابضة، لصالح شعاراتٍ أيديولوجيّة مفارِقة و«أبدية». إن الواقع المعقَّد، ربما يمنعنا من التنبؤ إلى ما ستؤول إليه الأمور، أو التوقع في خصوصه، ولسنا ـ أصلاً ـ من المتنبئين والمتوقعين، لكن الواقع نفسه يخبرنا، أن الثورة في إمكانها العودة بعد الحرب، وبعد الاعتقاد «الجازم» بأن جذوتها قد خمدت وماتت إلى غير رجعة.

كاتبة سورية

———————————————

الخارجية الأميركية تؤكد لـ”العربي الجديد” دعمها احتجاجات السويداء ضد النظام السوري

أعلنت السفارة الأميركية في سورية، اليوم الأربعاء، أن نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي إيثان غولدريتش تحدث مع الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي للموحدين الدروز في محافظة السويداء جنوبي سورية، والتي تشهد منذ أسابيع احتجاجات شعبية تطالب برحيل نظام بشار الأسد، وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بسورية.

وذكرت السفارة الأميركية، في حسابها على منصة “إكس” اليوم الأربعاء، أن هدف الاتصال هو “تأكيد دعمنا لحرية التعبير للسوريين، بما في ذلك الاحتجاج السلمي في السويداء. ونؤكد من جديد دعواتنا إلى سورية عادلة وموحدة، وإلى حل سياسي يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254”.

    تحدث نائب مساعد وزير الخارجية غولدريتش مع الزعيم الروحي الدرزي الشيخ حكمت الهجري لتأكيد دعمنا لحرية التعبير للسوريين، بما في ذلك الاحتجاج السلمي في السويداء. ونؤكد من جديد دعواتنا إلى سوريا عادلة وموحدة وإلى حل سياسي يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254.

    — U.S. Embassy Syria (@USEmbassySyria) September 27, 2023

وكانت مصادر مقربة من الرئاسة الروحية للموحدين الدروز قد أكدت حدوث الاتصال يوم أمس الثلاثاء مع نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للاطمئنان عن الأوضاع في المحافظة.

وكانت النائبة في البرلمان الأوروبي كاترين لانغزيبن أجرت، يوم الجمعة الماضي، اتصالاً مماثلاً مع الهجري، أكدت فيه دعمها لاحتجاجات أهالي السويداء ضد نظام الأسد.

وعبّرت المسؤولة الأوروبية عن حرص الأوروبيين على سلامة الشيخ الهجري الشخصية، ودانت إطلاق النار على المتظاهرين السلميين من قبل النظام.

كما تلقى الهجري، خلال الأيام القليلة الماضية، اتصالات منفصلة من 3 نواب في الكونغرس الأميركي، أولها من النائب الجمهوري فرينش هيل، ثم من النائب الديمقراطي برندن بويل، وآخرها من النائب الجمهوري جو ويلسون، أكدوا خلالها دعم الحزبين للحراك السلمي في السويداء.

وتعليقاً على اتصال المبعوث غولدريتش بالهجري، قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، فضل عدم الإفصاح عن اسمه لكونه غير مخول بالتصريح الرسمي، في حديثه مع “العربي الجديد”، إنّ الإدارة الأميركية “تدعم دعوات الشعب السوري من أجل السلام والكرامة والأمن والعدالة، وتدعم ممارستهم لحقوق التجمع السلمي وحرية التعبير”.

وأضاف المتحدث أنّ واشنطن تقف “مع السوريين في كل مكان وهم يناضلون من أجل السلام ومستقبل أفضل”.

وحول تعامل الإدارة مع التطورات في حال استخدام العنف من قبل النظام ضد المحتجين في السويداء، أكد المسؤول إدانة بلاده لـ”أي استخدام للقوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين”، وحثّ جميع المعنيين على الامتناع عن العنف، مضيفاً أن واشنطن “تواصل مراقبة التقارير المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان وتجاوزاتها في جميع أنحاء سورية، وتدعم جهود المجتمع المدني السوري للقيام بذلك”، مؤكداً مواصلتهم “تعزيز العدالة للضحايا والمساءلة عن تجاوزات النظام وانتهاكاته”.

وحول ما إذا كانت الإدارة الأميركية ستُبقي خطوط الاتصال مع السويداء، أجاب المسؤول الأميركي بأنهم سيواصلون “مراقبة الوضع في السويداء”.

وعلق الناشط هاني عزام، من أبناء محافظة السويداء، بأن “الاتصالات التي لم ترق للسلطة السورية شكلت محور حديث إعلامه الرسمي وغير الرسمي، الذي يعمل على شن هجمة إعلامية طاولت بشكلها غير الرسمي الحراك وشخصية الشيخين الهجري والحناوي (شيخ الطائفة الثاني)، بعبارات التخوين والتبعية لمشاريع غربية”.

وأضاف عزام لـ”العربي الجديد” أن النظام وإعلامه “يتناسون أنها مجرد اتصالات طبيعية تحصل في أوقات النزاع بين الشخصيات الاعتبارية، ومغفلين كل ما جرى من بيع مقدرات البلاد من قبل السلطة لإيران وروسيا، اللتين شاركتا في قمع وقتل ونهب السوريين والسيطرة على مفاصل القرار في البلاد”.

في السياق ذاته، يرى الفنان التشكيلي فادي الحلبي، وهو أحد الفنانين المشاركين في الحراك منذ انطلاقته، بأن لـ”الحراك أثر كبير على الصعيد الوطني الجامع”، مضيفاً لـ”العربي الجديد” أن “الانتفاضة استطاعت أن تأخذ الثورة السورية إلى حالتها الأولى قبل شيطنتها، والأهم أنها أظهرت الخطاب الوطني الحقيقي لكل السوريين بكل انتماءاتهم ودون أجندات وبعيداً عن الشيطنات أو محاولات الاصطفاف في عقلية الكائن أحادي المنظور، الذي لا يرى في الآخر سوى عدو”.

أما على الصعيد الدولي، أشار الحلبي إلى أن الحراك استطاع أن يوضح للقوى الدولية مدى “تخاذلها” أمام القضية السورية، معتبراً أن كل ما جرى لهذا الشعب يتحمل مسؤوليته العالم كما يتحملها النظام.

وحول الأثار التي قد يحققها الحراك على المدى المستقبلي، يعتقد الفنان التشكيلي بأن “هناك جانبين مهمين سيبرزان في المستقبل، أولهما الجانب السياسي الذي كان معطلاً بشكل كامل لأكثر من ستين عاماً، حيث استطاع الحراك أن يخلق فضاء للأفكار السياسية والاختلافات والتوافقات التي من الطبيعي أن تظهر وتفرز حالة من العمل السياسي والتنافس البناء”، أما في المستوى الثاني، فإن “الحالة الإبداعية الطاغية على الحراك، والتي حولته إلى انتفاضة، سوف يكون لها دور كبير في خلق حلول فعالة في المستقبل”.

احتجاجات السويداء 2 (العربي الجديد

في غضون ذلك، يتواصل تجمع الأهالي في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء لليوم الـ39 على التوالي، حيث تحولت الساحة إلى منبر لطرح المطالب الشعبية الداعية إلى رحيل نظام الأسد، والمباشرة بحل سياسي يستند إلى القرارات الدولية ذات الصلة، كمدخل لإنهاء محنة البلاد المستمرة منذ 12 عاماً.

هيئة التفاوض تلتقي الأمين العام للأمم المتحدة

من جهة أخرى، عقدت هيئة التفاوض السورية اجتماعاً مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس يوم أمس الثلاثاء، بحضور مبعوثه الخاص إلى سورية غير بيدرسن، تناول العملية السياسية في سورية، وآليات تطبيق بيان جنيف، والقرار 2254.

وقالت الهيئة، في بيان لها، إنها أكدت خلال اللقاء، في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، “ضرورة إيجاد حل عادل للشعب السوري، والتنفيذ الكامل للقرار 2254، ووضع حد لمماطلة النظام في الحل السياسي”.

وأضاف البيان أن وفد الهيئة ناقش مع غوتيريس وبيدرسن “خطورة اختصار العملية السياسية باللجنة الدستورية فقط، وإهمال السلال الأخرى”، مطالباً بفتح مسارات التفاوض الأخرى وخاصة الحكم الانتقالي، ومؤكداً أن “المكان الطبيعي لانعقاد اللجنة الدستورية هو في جنيف”، وذلك رداً على محاولات النظام السوري وروسيا نقله إلى أماكن أخرى.

ولفت البيان إلى أن وفد الهيئة شدد على “ضرورة إنهاء ملف المعتقلين والمختفين قسراً في سجون النظام السوري، ودعم الجهود القانونية والإنسانية للإفراج عنهم”، مطالباً بزيادة الدعم للاجئين السوريين، وأن تكون عودتهم “طوعية ضمن حل سياسي يضمن بيئة آمنة ومحايدة”.

وكانت هيئة التفاوض التابعة للمعارضة السورية عقدت خلال الأيام الماضية في نيويورك اجتماعات ولقاءات مع مبعوثي الدول الغربية من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، وتركيا، وقطر، والسعودية.

————————————-

السويداء من دون كهرباء في اليوم الـ35 لاحتجاجاتها

الهجري لبرلمانية أوروبية: لا «أهداف خارج الإطار الوطني الجامع لسوريا»

انقطعت الكهرباء عن عموم محافظة السويداء (جنوب سوريا) في اليوم الـ 35 للاحتجاجات التي تشهدها ضد النظام، فيما تناقل سكان المنطقة تصريحات جديدة لشيخ عقل الطائفة الدرزية في سوريا الشيخ حكمت الهجري أكد فيها أن لا «أهداف خارج الإطار الوطني الجامع لسوريا».

وكان الهجري قد خطف الأنظار السياسية، محلياً ودولياً، بدعوته إلى «الجهاد» ضد الوجود الإيراني قبل أسابيع، وبدأت الوفود تتجه إلى مقره، كما يتلقى اتصالات من مسؤولين أميركيين وأوروبيين.

وآخر الاتصالات الدولية مع الهجري كانت من النائبة في البرلمان الأوروبي كاترين لانغزيبن، رئيسة لجنة الشؤون الخارجية ومسؤولة الملف السوري في «كتلة الخضر»، مساء السبت، اطّلعت من خلاله على الأوضاع في جنوب سوريا، خصوصاً ما يجري في السويداء.

وأفادت شبكة «الراصد» نقلاً عن مصادر مقربة من الهجري، أن لانغزيبن تطرقت إلى نقاط عدة أبرزها أنهم مهتمون جداً بما يحدث في جنوب سوريا، مؤكدة وقوفهم إلى جانب المتظاهرين في السويداء ودرعا، والدعم الكامل لمطالبهم المحقة والهادفة إلى دولة حرية وعدالة ومساواة. وأبلغت الهجري أنهم يعملون، مع شركائهم الأوروبين، في البرلمان الأوروبي على اتخاذ خطوات عملية لوضع حد لمعاناة السوريين، وأنهم متابعون ما يجري في السويداء من كثب، وحريصون جداً على سلامة الشيخ الهجري الشخصية وسلامة المتظاهرين السلميين في السويداء ودرعا وبقية المناطق السورية.

وطبقاً للمصادر نفسها، فإن المسؤولة الأوروبية أدانت بشدّة حادثة إطلاق النار على المتظاهرين السلميين من قبل النظام السوري التي جرت في السويداء، مؤكدة حق الشعب السوري في التظاهر السلمي. كما أكدت أهمية إيصال المساعدات الدولية الإنسانية للشعب السوري، وإيجاد طرق بديلة لإيصال هذه المساعدات إلى مستحقيها. وأضافت خلال اتصالها بالشيخ حكمت الهجري أنه خلال الفترة المقبلة سيكون لديهم استراتيجية أوروبية جديدة للتعامل مع القضية السورية، يكون الهدف منها حصول الشعب السوري على حقوقه المشروعة.

ومن جانبه، أكد الهجري أن ما يحدث في السويداء هو امتداد لما يجري منذ عام 2011، وأن الشعب السوري وصل لحالة كبيرة من القهر والحرمان نتيجة الممارسات السياسية والأمنية الخاطئة، وأنهم طلاب سلام وعدالة وحرية ودولة مواطنة يسودها القانون، دون أهداف خارج الإطار الوطني الجامع لسوريا. وقال إن «من يقف في الساحات لا يمثل السويداء فقط، إنما هو يمثل جميع السوريين من الشمال للجنوب، ويهتف بلسانهم، وينطق بما في قلوبهم. كما دعا المجتمع الدولي لتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 2254 الذي يفضي بالمحصلة إلى انتقال سلمي للسلطة في سوريا، ويفتح الباب لإعادة إعمار سوريا، واستعادة الأمان المفقود لدى السوريين منذ عقود، وأن تنفيذ القرار 2254 سيضع حداً لمعاناة الشعب السوري المستمرة منذ عام 2011».

وأضاف الهجري خلال حديثه أن «هناك خطراً كبيراً يتربص بالمجتمع السوري، وهو انتشار المخدرات التي تصنّع في مناطق الجنوب من قبل ميليشيات أجنبية إرهابية، وهذا الخطر هو خطر عابر للحدود يؤثر بشكل كبير في جيراننا في المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج. كما أنه بات اليوم يشكل خطراً حقيقياً على دول الاتحاد الأوروبي، وأن أهالي الجنوب السوري أبرياء مما تفعله هذه العصابات التي تقوم بتصنيع وتهريب المخدرات، وتستهدف الأمن والسلم الإقليميين والدوليين، كما تستهدف بالضرورة المجتمع السوري. وإن أبرز الأهداف للحراك الشعبي السلام على المستوى الوطني والإقليمي والدولي».

وقال الصحافي ريان معروف من السويداء لـ«الشرق الأوسط» إن الشيخ حكمت الهجري يتلقى بشكل مستمر اتصالات محلية ودولية، للوقوف على حقيقة الأوضاع في السويداء والمنطقة، وكان هناك الثلاثاء الماضي اتصال من النائب الأميركي جو ويلسن. ولفت معروف إلى أن الشيخ الهجري يمثل المرجعية الأولى لدروز سوريا، وهذه حال دارة الرئاسة الروحية في قنوات على مرّ التاريخ منذ تأسيسها في القرن التاسع عشر. وكثيراً ما استقبلت وفوداً دولية وعربية قبل عام 2011، من سفراء ومبعوثين ومسؤولين.

وفي «ساحة الكرامة» (ساحة السير) في السويداء، استمرت المظاهرات المناهضة للنظام السوري، لليوم الـ 35 على التوالي، للمطالبة بالتغيير السياسي، وتحسين الظروف المعيشية، وفقاً لناشطين بالسويداء.

وأفادت شبكة «السويداء 24» بتوافد أبناء محافظة السويداء إلى ساحة «السير» (ساحة الكرامة)، للمشاركة بالمظاهرة اليومية التي تقام هناك بمشاركة نسائية. ونادى المحتجون فيها: «لا ما منرجع يا أسد». ورفعوا لافتات تنادي بإسقاط النظام السوري، وحرية المعتقلين.

وذكرت شبكة «الراصد» المعنية بنقل أخبار السويداء المحلية أن مجموعة من المواطنين أقدموا صباح (الأحد) على إزالة صور الرئيس السوري بشار الأسد عن واجهة المباني الحكومية في بلدة القريا الواقعة جنوب مدينة السويداء.

ضغط بالكهرباء

وفي حين تتجاهل الحكومة في دمشق مطالب المحتجين في السويداء، أعلنت الأحد انقطاع الكهرباء عن كامل محافظة السويداء لعطل في خط التغذية الكهربائية في جنوب سوريا.

وانقطعت الكهرباء عن عموم محافظة السويداء، وأعلنت «شركة كهرباء السويداء»، صباح الأحد، انقطاعاً عاماً للتيار الكهربائي عن كامل محافظة السويداء «نتيجة عطل في الخط البديل المغذي للمحافظة في المنطقة الواقعة بين خربة غزالة والشيخ مسكين».

كما شهدت مدينة السويداء توترات لا تزال في حدها الأدنى؛ إذ لم تتضح أبعادها بعد. حيث ألقى مجهولون قنبلة يدوية فجر الأحد قريباً من مشفى المزرعة بمدينة السويداء. وقالت مصادر أهلية إن صوت انفجار دوى فجر الأحد في أحد أحياء المدينة، دون معرفة أسباب إلقاء القنبلة التي ألحقت أضراراً مادية بسيارة نقل كانت متوقفة أمام المشفى، وبعض المحال التجارية في المكان، كما سمع صوت إطلاق نار لمد 5 دقائق في محيط مبنى قيادة فرع حزب «البعث» في مدينة السويداء، التي يوجد فيها عناصر ميليشيا مسلحة رديفة لقوات الحكومة، ولم تتضح أسباب إطلاق النار وفق ما أفاد به موقع «السويداء24».

إلا إن المصادر رجحت أن تكون تلك التوترات محاولة من الأجهزة الأمنية لبث الرعب والفوضى بين أبناء المدينة المنتفضة. وقالت: «الأجهزة الأمنية تسعى جاهدة لفض الحراك الشعبي بوسائل استخباراتية من خلال بث الفتن والذعر، وزعزعة الصفوف، والتضييق المعيشي على الأهالي، كزيادة ساعات قطع الكهرباء، واستدعاء كل من يتواصل مع المحتجين في السويداء من خارج المحافظة للتحقيق، وغيرها من أساليب».

ولفتت المصادر إلى محاولة أحد أبرز القياديين البعثيين في مدينة السويداء من آل الأطرش عقد اجتماع لممثلي العائلات والوجهاء والزعامات في السويداء في مضافة آل الأطرش، للوقوف على تطور الأوضاع في السويداء والتفاهم فيما يخص المطالب الشعبية التي يجب ألا تتجاوز المطالب المعيشية والكف عن المطالبة برحيل النظام وتطبيق القرار الأممي «2254»، وقالت المصادر إن العائلات رفضت الدعوة وذلك «للعلاقة الوطيدة للجهة الداعية و السلطة».

كما اندلع إطلاق نار لم يستمر طويلاً في محيط مبنى قيادة فرع حزب «البعث» بمدينة السويداء ليل السبت – الأحد الماضي، وحدث تبادل لإطلاق النار في محيط مبنى الحزب الذي ينتشر فيه منذ إغلاقه الشهر الماضي مسلحون من كتائب «البعث»، ومن المخابرات العسكرية.

وكان نشطاء وصحافيون محليون في السويداء بتاريخ 13 سبتمبر (أيلول) الحالي قد نقلوا أن محتجين مناهضين للنظام السوري أصيبوا بإطلاق نار، في أثناء وجودهم عند مبنى حزب «البعث» في مدينة السويداء.

————————————-

https://www.alaraby.co.uk/video/%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%AA%D9%8F%D8%B9%D8%B1%D9%91%D9%8A-%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-%D9%85%D9%86-%D9%88%D8%B1%D9%82%D8%A9-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA?ocid=Nabd_App

—————————————-

==================

تحديث 17 أيلول 2023

————————-

هل تُفضي انتفاضة السويداء إلى سوريا جديدة؟/ مازن عزي

خلال الأسابيع الماضية، انتفضَ الناسُ في محافظة السويداء على النظام. المشهد يُذكِّر بثورة العام 2011، ويُحيي الأمل لدى شريحة واسعة من السوريين بإمكانية إحداث تغييرٍ سياسي حقيقي قد يجد بعض الحلول للمسألة السورية. ربما لن تكون الأمور ورديةً إلى هذا الحدّ، لكن قد تتمكّنُ الانتفاضة من إنتاج فعلٍ سياسي ربما يُعيُد تشكيل، أو حتى توحيد سوريا، على أسس جديدة. إذ على عكس موجات الاحتجاجات السابقة التي حدثت في السويداء خلال السنوات اللاحقة على العام 2011، تَظهر بوضوح سمات جديدة في الانتفاضة الراهنة، وتحمل عناصر واقعية وأخرى نظرية تشير إلى إمكانية استمرارها وتحقيقها نتائج عملية على أرض الواقع.

انتفاضة أهلية

على عكس الاحتجاجات المُتكررة السابقة التي جرت بعد العام 2011 في السويداء، تتميز الانتفاضة الراهنة بأهليتها، وبامتدادها إلى شرائح جديدة وواسعة من الناس الذين كانوا على الحياد طيلة السنوات الماضية، إذ لطالما اتَّسمَ الحراك الاحتجاجي في السويداء خلال المرحلة الأولى بين 2011 و2014 بنخبويته وتسيُّسه المعارض ضد النظام. بين العامين 2014 و2020 تراجع النشاط الاحتجاجي، قبل أن يتجدّد في العام 2020 بموجاتٍ أكثر اتساعاً ومطلبيّة، وسط مشاركة شبابية كثيفة فيها. ثم جاءت هبة العام 2022، التي توجهت ضد العصابات بشكلٍ رئيسي، وقادتها فصائل محلية مسلحة. بينما كان اقتحام مقر محافظة السويداء نهاية العام 2022 آخر موجةٍ احتجاجية على سوء الأوضاع المعيشية، وتميَّزَ بمشاركةٍ محدودةٍ من أعضاء فصائل غير مسلحين، وبردٍّ عنيف من قبل النظام.

التوسُّعُ الأهلي في الانتفاضة الراهنة، عدداً ونوعاً، ساهم فيه موقفٌ شديدُ الوضوح اتخذته الرئاسة الروحية للموحدين الدروز عبر شيخ العقل حكمت الهجري، وهو ما أعطى مظلةً رمزيةً للانتفاضة. شيخ العقل الثاني، حمود الحناوي، على الصفحة نفسها مع الشيخ الهجري. مدينة السويداء مركزُ المحافظة تبدو أكثر حيرةً من غيرها، إذ أنها تحت النفوذ الديني لشيخ العقل الثالث، يوسف جربوع، وهو الذي اتَّخَذَ خطوةً إلى الخلف من الحراك. قد لا تكون دوافع الشيخ جربوع المباشرة هي الاعتراض على مطالب الناس المُحقّة بالتغيير، بقدر الخوف من التغيير بحد ذاته. وهنا ربما يجدر إلقاء نظرةٍ أعمق على شكل مشيخة العقل في السويداء.

في السويداء ثلاثةُ شيوخ عقل، كلٌّ منهم له منطقة نفوذ اجتماعية في عملية تَقاسُمٍ تطورّت تاريخياً منذ مطلع القرن الثامن عشر. إذ واكبت المشيخةُ سكنَ الدروز في جبل العرب نهاية القرن السابع عشر، وتطورت تدريجياً مع انتشارهم فيه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي. لذا، فأول ما ظهرت المشيخة كانت في بلدة قنوات عبرَ آل الهجري، ثم في مدينة السويداء عبرَ آل جربوع، ثم في بلدة سهوة بلاطة عبرَ آل الحناوي. في فترةٍ ما نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت مشيخةُ عقلٍ رابعة عبرَ آل أبو فخر، وانتهى دورها قبل الاستقلال. من الواضح أن مشايخ العقل، بالإضافة إلى دورهم الديني، لعبوا أدواراً سياسيةً مختلفةً عبر تاريخهم. ويُعتقَد أن أول انتقالٍ لهم من الحيز الديني إلى السياسي كان تفويضاً مجتمعياً للتفاوض مع العثمانيين، ثم المصريين، فالفرنسيين، وأنظمة الحكم المتعددة في الدولة السورية المعاصرة. عوامل محلية وأخرى خارجية هي التي قادت إلى إضعاف أحدهم، أو تقوية آخر. وكان الصراع مع الزعامات الزمنية، والوجهاء التقليديين الآخرين، من أهم العوامل التي صاغت المشيخة على شكلها الحالي. كما عملت السلطة في دمشق بدورها، منذ الاستقلال، على التدخل في عمل المشيخة وتغذية الانقسامات بينها أحياناً.

اللوحة الحالية واضحة مناطقياً أيضاً. الشيخ الهجري يمثّل الزعامة الدينية لريف السويداء الشمالي، أو ما يسمى بالمقرن الشمالي، والشيخ الحناوي يمثّل المقرن الجنوبي، بينما الشيخ جربوع يمثّل مدينة السويداء. هذا ليس تقسيماً نهائياً بأي شكل، لكنه تقريبيٌّ للتبسيط. إذ إن دار طائفة الموحدين الدروز، ومركزها مدينة السويداء، تضم شيخي العقل جربوع والحناوي. لهذه الدار، المعروفة بدار عين الزمان، وجودٌ في معظم البلدات والقرى، عبر «سيُّاس المجالس»، وهم بمثابة شيوخ الجوامع لدى المسلمين أو الكهنة لدى المسيحيين. عملت هذه الدار على تنظيم نفسها بشكلٍ غير مسبوق منذ العام 2011، ونجحت في التحوُّل إلى مؤسسةٍ أهليةٍ ذات فعالية كبيرة، عبر تقديم الخدمات الإغاثية والطبية والعينية والغذائية، وإدارة النزاعات وحلّ الخلافات لكثير من الناس على امتداد المحافظة.

لدار قنوات التي يرأسها الشيخ الهجري اسمٌ آخر، وهي الرئاسة الروحية للموحدين الدروز. منذ العام 2018 على وجه الخصوص، بدأت دار قنوات بالتحوُّل جدياً إلى مظلة سياسية، ذات موقف دفاعي واضح ضد سياسيات النظام في السويداء. في الهبّة المسلحة التي جرت نهاية العام 2022 ضد عصابة راجي فلحوط، التابعة للأمن العسكري، وقف الشيخ الهجري كدليلٍ وموجٍّهٍ للمنتفضين، وبارك حراكهم، وأعطاه الشرعية الأهلية. كُثُر من المشاركين في تلك الهبّة هم اليوم مشاركون في الانتفاضة الشعبية الراهنة، مسالمين وبلا سلاح. أيضاً، لدار قنوات اليوم مؤيدون في كل قرى وبلدات السويداء، من رجال دين وسيُّاس، وأيضاً من زعاماتٍ أهلية واجتماعية وشبابية. 

كنتيجة، يمكن القول إن المظلة الدينية الأهلية الرسمية للموحدين الدروز تدعم الحراك الراهن في السويداء. الشيخ يوسف جربوع لم يقطع فعلياً مع الحراك، بل اتَّخذ موقفاً أكثر تردُّداً وحذراً. هذا الحذر ليس ضد رغبة الناس ومطالبهم المحقة بالتغيير، بل ربما خشيةً من التغيير ذاته. إذ يسود اعتقادٌ لدى البعض، تُغذِّيه أجهزة أمنية ومسؤولون سوريون، بأن الحراك الراهن يستهدف إضعاف دار عين الزمان لصالح دار قنوات. وهذا يفسّرُ التراجع في موقف الشيخ جربوع، وانتقاله من الموافقة الكاملة أولاً على مطالب الناس المُحقة ودعمها إلى مسايرة سردية النظام بشأن وجود مؤامرة تستهدف الجبل.

المؤامرة هنا ليست وهماً خالصاً، إذ قاد تيارٌ سياسيٌ، يمثله حزب اللواء السوري، خلال السنوات الماضية حملةً إعلاميةً عنيفةً ضد شخص الشيخ جربوع، وأشاع أنباء غير دقيقة عن فسادٍ في دار الطائفة، غالباً لأسباب دعائية. الحزب كان قد دعا خلال السنوات القليلة الماضية، وبشكلٍ غير مباشر، إلى شكلٍ مُخفّف من أشكال الفيدرالية للسويداء، وأسَّسَ ذراعاً عسكريةً أسماها قوة مكافحة الإرهاب. تعرضت هذه القوة لهجومٍ عسكري من قبل ميليشيا الدفاع الوطني وعصابات محلية متعاونة مع الأمن العسكري، منتصف العام 2022، ما تسبب بمقتل قائدها واعتقال العديد من منتسبيها. حزب اللواء يعود اليوم إلى المشهد بعد انكفاء، ويبدو متحمساً لنشر وترجمة أفكاره على الأرض. بالمقابل، اتّخذت دار عين الزمان موقفاً دفاعياً، وسط غياب الحلفاء وزيادة الوشايات والحزازات. وربما هذا ما دفع الشيخ جربوع للاقتناع بما يوصف أمنياً بمؤامرات تُحاك من «انفصاليين» يرغبون بإقامة إدارة ذاتية بدعم خارجي.

استعادة السياسة: سوريا المركزية، اللامركزية، الفيدرالية، أو المُقسَّمة؟

يبدو ملفتاً اليوم، في الانتفاضة الشعبية في السويداء، مقدار السياسة المُتاح أمام الناس. فجأةً ظهر للعلن كل ما كان يعتمل لسنوات في القلوب والأذهان. باح الناس بمكنونات أفكارهم، ومخاوفهم، ورغباتهم. كما بدأوا يجتمعون، ويتحاورون، ويختلفون، ويتنظَّمون، ويُنتجون هيئاتهم وتجمعاتهم وممثليهم. يومياً هناك عشرات اللقاءات السياسية والأهلية على امتداد المحافظة. خلية نحلٍ تتبادل الأفكار والآراء، تتشنّج وتحتقن، تتفاوض وتُصغي. لا تابو على أي موضوع. الحديث انفتح، والصمت صار من الماضي. الناس يتكلمون بكل شفافية في بعض غرف التواصل الاجتماعي الخاصة بقيادة الانتفاضة، والمعروف أنها مخترقةٌ أمنياً، يتحدثون فيها عن مخططاتهم علناً. الناس يُسمّون الأشياء بوضوح، ويستعيدون السياسة من احتكار الأبد لها. تتم استعادة السياسة إذن، بوصفها شأناً يومياً دنيوياً بالغ الأهمية للتنظيم والتجمُّع وصياغة الرؤى عن الشكل الأنسب لإدارة الأحوال المعاشية واليومية. السياسة بمعناها المستقبلي، لا ذلك العائد إلى السبعينيات والثمانينيات بوصفه نضالاً نخبوياً. حينها، كان النضال ضد الديكتاتورية مقترناً بشعارات أحزاب يسارية شابة، أغلب أعضائها من الطبقات الوسطى من أبناء الأقليات في سوريا. تلك الحقبة «الماركسية» تميَّزت بتغليب مفاهيم الطبقة على الطائفة، والجمهور على الناس، ولم تكن مشغولةً بالتفكير في الموضوعات المتعلقة بالحرية، والليبرالية والديموقراطية. إذاً، هناك سياسة جديدة تقطع مع تلك القديمة، وتُعين الناس على مواجهة التحديات اليومية في ظل غياب الدولة وتحلُّلها، أي أنها سياسة طُرُق إدارة الناس لحياتهم، في اختبارٍ فعلي وعادي يومي لمقولاتٍ نظرية، وتقاطعاتٍ عملية، وتوافقاتٍ على البرامج والرؤى المشتركة، والمتكاملة أو المتناقضة.

في هذه الجوقة المُدهشة من الرؤى والأفكار، هناك تياران واضحان: تيارٌ يقول إنّه لا حلّ في السويداء إلا عبر حلٍّ سوريٍّ كامل وفق القرار الدولي 2254، وبالتالي انتقال سلمي للسلطة؛ بينما هناك تيار آخر يقول بإقامة إدارةٍ ذاتية على غرار الإدارة الذاتية الكردية لشمال شرقي سوريا. بين هذين التيارين، هناك مجموعة واسعة من الأفكار الوسطية، التوفيقية، البراغماتية، القادرة على تحقيق توازنٍ بينهما. لكن، المشكلة تتمثل دوماً بالراديكاليين في كل طرح، ممن تطغى الإيديولوجيا أو الأفكار على رؤيتهم للواقع. التيار الأول، ويبدو متأثراً بالمقولات القومية واليسارية، يضع الحل السوري الكامل أولويةً أهمَّ من الحل في السويداء. هذا التيار يُعاني من غياب الخطوات العملية لكيفية تطبيق أفكاره، ويضع كل البَيض في سلّة ردّ فعل النظام والموقف الدولي. بينما يتجه التيار الثاني، وعلى رأسه حزب اللواء، إلى المراهنة على صراعٍ عسكري مع النظام، يخوّله تَسيُّدَ المشهد وتوجيه الحراك باتجاهه.

ليس لأيٍّ من التيارين حالياً شكلٌ سائد، بل يعاني كلٌّ منهما من أزماته الداخلية، ومن صراعات القائلين به. وهذا ما يعطي فرصةً للتيارات الوسطية بالصعود وصياغة خطاب أكثر توازناً وعقلانية، أكثر تبنّياً للسلمية، وأكثر إدراكاً لأهمية الحلول العملية لا النظرية، وسط إمكانية إحداث تغيير سياسي جذري في السويداء، يكون نموذجاً للتغيير السياسي في سوريا، مُتجنّباً العسكرة والإيديولوجيات الشمولية، ويقوم على توسيع اللامركزية وإشراك الناس في صياغة معاشهم ومستقبلهم. هذا التيار الوسطي مُطالَبٌ اليوم بالتشكّل بوضوح، وصياغة برنامج عملي يُدخِلُ العملية السياسية الانتقالية في طور التطبيق العملي، عبر الانتخابات الحرة وتوسيع المشاركة الأهلية إلى أقصى حدودها ضمن القانون والدستور السوري، والعمل على تحقيق ومراكمة المكاسب السياسية والاجتماعية للانتفاضة الشعبية.

الربط بين المطالب السياسية والمعيشية

الدولة السورية مُعطَّلة، والنظام يحيا على جثتها، والناس ينسحقون تحت وطأة أزماتهم اليومية. السويداء اليوم، كما معظم الأراضي السورية، تعيش مَحْلاً وعطشاً غير مسبوقَين، وسط تحلُّل الدولة من بعض أدوارها الخدمية. على سبيل المثال، مؤسسة المياه والصرف الصحي في السويداء تكاد لا تعمل، وكذلك شركة الكهرباء، ولا أي مؤسسة رسمية أو قطاع عام. غياب الموظفين، والفساد، وعدم وجود تمويل حقيقي لهذه المؤسسات، والتأخر في صرف ميزانية مجلس المحافظة ومجالس الوحدات الإدارية،… هي بعض وجوه المشكلة. وبالتالي، غواطس المضخات معطلةٌ نتيجة أعطال الكهرباء وساعات التقنين الطويلة وانقطاعات التغذية، وعليه، فإن آبار الماء التي هي المصدر الرئيسي لمياه الشرب والري مُعطَّلة. هذا نموذجٌ واحدٌ من مئات التحديات اليومية التي يعيشها الناس، والتي تضع وجودهم المحض على المحك في منطقةٍ تخضع بقسوة لنتائج التغيير المناخي. البلد مشلولة، والناس جياع. أعداد أبناء السويداء الذين باتوا معتمدين على المساعدات الغذائية بازديادٍ مستمر، ولولا تحويلات المغتربين لاصطفَّ الناس على طوابير المساعدات بالآلاف. لا إنتاج حقيقياً في البلاد، ولا شيء يتحرك إلا بالفساد والرشاوى. تحرير الأسعار بعد رفع الأجور الشهر الماضي، كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

من جانبٍ آخر، الناس في السويداء خرجوا يطالبون بكرامتهم الإنسانية، بعدما انحطت ظروفهم إلى القهر والَعوَز وطلبِ المساعدة بشكل متواصل. الجريمة، والانتحار، والدعارة، وإدمان المخدرات، وتفلُّت السلاح، والخطف للفدية، باتت تسجل أرقاماً غير مسبوقة في مجتمعٍ عائلي محافظ. عدا ذلك، تحولت المنطقة إلى معبَر غير شرعي لتهريب الكبتاغون إلى الأردن، وملعب خلفي لعصابات الخطف للفدية. الناس في السويداء باتوا مهددين في وجودهم.

ومع ذلك، ترفض السويداء اليوم أي حلٍّ لا يقوم على حدوث تغيير سياسي جديّ في شكل الحكم وطريقته، في طريقة إدارة الناس لشؤونهم اليومية بعيداً من تسلط الأجهزة الأمنية والعسكرية. وهذا يعني فعلياً استعادة الدولة ومؤسساتها، ووقفَ تغوُّل الأجهزة الأمنية والعسكرية على الدولة. وفي هذا ترجمةٌ أمينةٌ لما يقصده الناس في مطالبتهم بتنفيذ القرار الدولي 2254، والقرارات الدولية ذات الصلة، ورفض الاحتلالات الأجنبية، وكذلك رفض التقسيم الواقع على الأراضي السورية بين مختلف مكوناتها. الناس في الشارع يطالبون بوقفٍ حقيقي ونهائي لحرب السلطة على المجتمع، وإيجاد حلٍّ سلمي يمنع تَجدُّدها.

وعلى جمالية هذه اللوحة، إلا أن هذا الربط المباشر بين المطالب السياسية بحدِّها السوري الأعلى والمطالب المعيشية، يقود إلى أحد الاستعصاءات التي تواجه الانتفاضة في السويداء اليوم. إذ أن تطبيق القرار 2254، وإنتاج انتقال سياسي سلمي في دمشق، أمرٌ ليس بمقدور الانتفاضة الشعبية في السويداء وحدها تحقيقه. هو برنامجٌ طَموح وطنياً، لكنه فوق استطاعة محافظة واحدة تقطنها أقلية في سوريا، طرفية لا تقع على أي طريق دولي، وليس فيها أيٌّ من الموارد الرئيسية التي يحتاجها النظام في سوريا المفيدة. منطقةٌ قد يلجأ النظام فيها ببساطة إلى التهميش والعزل، والاكتفاء بمربعاتٍ أمنيةٍ مُحصّنة وإثارة القلاقل الأمنية والفوضى. لذا، يجب إنتاج مُقارَبة بين الرؤى العمومية لسوريا المستقبل، وإنجاز حلٍّ سياسي-مدني خاص بالسويداء يلبي الحاجات الإسعافية الضرورية للناس، اللذين هما أمران يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب.

ماذا حقَّقَ الحراك حتى اليوم؟

خلال الأسابيع الماضية لم تتوقف المظاهرات في الساحة التي أُعيدَت تسميتها بساحة الكرامة، حيث يحتفل الناس، ويغنون، ويرقصون، ويدبكون، ويرسمون ويلونون، ويهتفون. الناس عادوا إلى الشارع لينتزعوا الفضاء العام من احتكار النظام السوري له، بصوره وتماثيله، بأعياده وأحزانه. ذلك الفضاء كان مزيفاً، ثقيلاً، لا شيء حميمياً فيه بالنسبة لأهل المكان. لذا، لطالما مَثّلوا تلك الأفراح، حتى بدا وكأنهم فعلاً معنيون بها. اليوم، في ساحة الكرامة، هايد بارك السويداء، حيث الكل معنيٌّ بالحديث والتفكير، والتنظيم والعمل.

أكثر ما يُقلِقُ في تلك المشاهد أن الناس متعبون. النحف والهزال على الأجساد بيِّنٌ، والتعب على وجوههم غائر. ومع ذلك، أولئك الناس يحاولون تقويم انحناءاتهم، ورفع رؤوسهم، والنظر مجدداً في عيون بعضهم البعض، واستعادة الثقة. هؤلاء ليسوا مجانين، بل رأوا بأمّ عيونهم كل الفظائع التي ارتكبها النظام بحق مَن انتفض قبلهم. لكن، وكما يقولون اليوم، كرامتهم الإنسانية باتت على المحك، وهي التي تقودهم للانتفاض، ليقولوا إنهم سئموا النظام السياسي الذي يعيشون تحت ظله منذ خمسين عاماً، والذي لم يجلب لهم سوى شظف العيش، والحصار، والقَطع مع الحداثة والمُعاصرة، والانعزال والتقوقع. حالُ أهل السويداء، كما حال جميع أرجاء سوريا. منبوذون، معزولون، مهمشون، تم إقصاؤهم من الحياة العامة عبر منع السياسة عنهم.

أهل الجبل المنتفضون، استعادوا الكلام، وهم المفوّهون تاريخياً، وأصحاب الحديث المنمق، والخَطابة. أهل الجبل اعتادوا التراسُل بالقصائد، والخطابة أمام الحشود، وتشكيل رأيٍ جامع. هذه لحظة السياسة الأولى: الاجتماع والتفكير بشأنٍ عام. وهذا، أول إنجازٍ حقيقي للانتفاضة الشعبية اليوم.

الإنجاز الثاني هو أن هيئة الانتفاضة الشعبية ما زالت تتشكل بالمعنى السياسي، ومعها وعلى توقيتها، يجري العمل على إنتاج هيئة مدنية سياسية، تقارب بين الرؤى المتنافرة، وتعمل كمظلةٍ تُعطي الشرعية الأهلية للحراك، وتمنع انزلاقه نحو العنف أو الفوضى. يُفترض أن تضم الهيئة المدنية السياسية ممثلين عن مختلف القوى الاجتماعية، والمناطقية، والدينية والسياسية، بما فيهم الانتفاضة.

الإنجاز الثالث، هو الانتهاء من عقدة السويداء المزمنة، المتمثلة بحزب البعث وحضوره الثقيل كوصي على الدولة والمجتمع. الانتفاضة الشعبية، ومنذ يومها الأول، أنهت حزب البعث، وأغلقت مقراته على امتداد المحافظة. إلغاء المادة الثامنة من الدستور، طُبِّقَ اليوم فعلياً في السويداء. لحزب البعث حضورٌ واسعٌ في السويداء، عبر شبكة المنتفعين منه لا الموالين لأفكاره. فالحزب توقف عن كونه ماكينة إيديولوجية منذ احتكرَ الحياة السياسية في سوريا مع انقلاب حافظ الأسد في العام 1970، وبات منذ ذلك الوقت، نادياً حصرياً لانتقاء موظفي الدولة والقطاع العام والنقابات، وأعضاء البرلمان، عبر العلاقات الشخصية والولاء والوشاية بالآخرين. الآن، بات ممكناً للناس أن تنتظم على أسس حرة غير إكراهية، لتنظيم شؤونها من توزيع المساعدات إلى المحروقات، إلى السماد والأعلاف، لا مروراً عبر الحزب. وهنا، يبدو واضحاً الفصل الذي يقوم به الناس بين الدولة والنظام، والحرص على الأولى، والرغبة بتغيير الثانية. هذه الرغبة باستعادة الدولة، كمقدمة للخدمات، محايدةٌ وعلمانية، لا تُميّزُ سلبياً بين السوريين، هو إنجازٌ يُضاف للحراك.

في الأيام والأسابيع الماضية، تراجع مستوى الجريمة، والانتحار، والخطف للفدية، وتهريب وتجارة المخدرات عبر الحدود، في السويداء، إلى مستويات ملفتة. ورغم أن ذلك التأثير قد لا يدوم طويلاً، بسبب العوامل الاقتصادية والمعيشية السيئة، لكنه قد يحمل مؤشراً لطيفاً لشكل المستقبل بالنسبة لأبناء هذا المكان، وبشأن ما يمكن لإرادتهم الجمعية أن تصنعه. على هامش هذه اللوحة الجميلة، ازداد بشكلٍ غير مسبوق القطع الجائر للأحراش التي أَخلتها بعض الوحدات العسكرية من قوات النظام ضمن خطة دفاعية لإعادة الانتشار. هذه الخسارة كبيرة لا تُعوَّض، في منطقةٍ على كتف الصحراء، وفي ظل ظروف التغيير المناخي المُهدِّدة للبقاء والوجود.

أوراق النظام

حتى اليوم، فإن الغائب الأكبر عن كل ما يحدث في السويداء، هو النظام. إذ يبدو في موقفٍ دفاعي، يُعيد انتشار قواته على أرض المحافظة ويعزز مقارّه الأمنية. في الوقت ذاته، يسعى النظام لتطويق الحراك وإنهاكه داخلياً بالصراعات المحلية، واستنزافه بالمشاكل الأهلية المُفتعلة.

النظام ليس في موقع القدرة العسكرية، ولا في وارد الحشد العسكري، لمواجهة انتفاضة السويداء. إذ قد تكون كلفة قمع الانتفاضة عسكرياً أكبر من كلفة عزلها وخنقها، والعمل على شقها داخلياً ومنع اتصالها ببقية المناطق السورية. لذا، أبرز المحاولات ظهرت في اللجوء إلى دروز ريف دمشق والقنيطرة، علّهم ينقذونه من هذا المأزق. النظام حشّد مواليه من الدروز خارج السويداء، محاولاً إنتاج زعامة دينية جديدة بتسمياتٍ من نوع الهيئة الروحية للدروز في ريف دمشق. هذه الهيئة لم تكن موجودة سابقاً ولا وزن دينياً لها، لكنها قد تلعب دوراً لاحقاً في تكريس الفصل السياسي بين الدروز في المناطق السورية المختلفة. بِقدر ما تجاهل النظام حراك السويداء، فقَد أظهرَ حرصاً على بقاء دروز ريف دمشق والقنيطرة في صفّه، ولو بوسائل إكراهية وترهيبية. هذا لا يعني أنه لم يعد للنظام موالون في السويداء، ضمن الوسط الديني أو المدني والعسكري.

وفي السياق ذاته، لجأ النظام إلى أحد المراجع الروحية للطائفة الدرزية في لبنان، الشيخ أمين الصايغ، لإرسال فيديو لأهالي السويداء ينتقد فيه بشكل مبطن موقف الشيخ الهجري ويدعو للوقوف إلى جانب الدولة السورية. الشيخ الصايغ هو واحدٌ من 11 شيخاً درزياً في لبنان، بمرتبته نفسها، ممن يلبسون العمامة المُدوّرة أو «المكولسة»، وهم غالباً لا يتدخلون في السياسة. لكنّ الشيخ الصايغ خطَّ لنفسه طريقاً مختلفاً عن التقاليد، وتحدَّثَ في السياسة علناً وعبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيونات، بينما لا تُعرَف صورة أو أي ظهور إعلامي لأي من بقية المشايخ في مرتبته. لا يُعَدّ الشيخ الصايغ وصياً على دروز سوريا، فحضوره الديني محصورٌ بمريديه وهم قلائل، خاصةً بعد تدخله مِراراً في السياسة المباشرة واليومية، ولأسباب لا تبدو روحيةً خالصة.

أيضاً، يحاول بعض أنصار النظام من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، التحريض بشكلٍ طائفي ضد الحراك في السويداء، والتركيز على مجموعة تُهم معلّبة، مثل الانفصاليين، والخونة، وعملاء إسرائيل وغيرها. جزءٌ من هذه الرسائل لا يُوجَّه فعلياً للدروز، بل يستهدف الجمهور العلوي، ويشد عصبه، ويحاول إظهار الدروز كخارجين عن تحالف الأقليات القائم، ما سيعرضهم لانتقامٍ وشيكٍ من الدولة وجيشها.

في الوقت ذاته، دفع النظام بمجلس محافظة السويداء لإصدار بيانٍ في 12 أيلول (سبتمبر)، اعترف بمطالب الناس المحقة، وحمّلَ الحكومة مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية للناس، لكنه طلب من القوى الأمنية حماية مؤسسات الدولة، مع إدانة شكل الاحتجاج السياسي القائم حالياً وآلياته. وفسَّرَ البعض ذلك البيان على أنه تخويلٌ رسمي بفضّ المظاهر الاحتجاجية بالقوة، كما حدث في فرع حزب البعث في السويداء يوم 13 أيلول (سبتمبر)، عندما أطلق مسلحون من داخل الفرع النار على المحتجين الذين حاولوا اقتحام المبنى، مع حرصٍ واضحٍ على عدم إيقاع قتلى بينهم.

لكن، من جانبٍ آخر، منح بيان مجلس المحافظة الانتفاضةَ الشعبية، والحراك المدني السياسي في السويداء، فرصةً لافتةً لممارسة أسلوب جديد في السياسة. إذ يمكن، للمرة الأولى، وبتأثير وضغط أهلي، دفع جميع أعضاء المجالس البلدية للاستقالة، ما سيخلق فراغاً تتوجب معه الدعوة إلى انتخابات جديدة. قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 لا يُتيح هذه الإمكانية حالياً، بل يقول إنه إذا شغرت عضوية أحد أعضاء مجالس الإدارة المحلية يحلُّ محل العضو الذي شغرت عضويته من يليه في عدد الأصوات من قطاعه، إلا إذا رأت السلطة المختصة دعوة الناخبين لانتخاب عضوٍ جديد. والسلطة المختصة هي المكتب التنفيذي في المجلس، أو وزارة الإدارة المحلية. وإذا ما جرت الدعوة لانتخابات، فقد يكون ذلك إنجازاً إضافياً يقدمه نموذج السويداء، عبر تشكيل أجسام بلدية تنفيذية مُمثِّلة بشكل حقيقي للناس، ولها شرعية قانونية، بحيث يمكنها البدء بتنفيذ الخدمات المؤجلة ومحاربة الفساد والتعطيل في مؤسسات القطاع العام. استعادة الدولة، تعني استعادة كل الهياكل التي ما زالت صالحةً للعمل، وإعادة إنتاجها، بالتوازي والتزامن مع تشكيل هيئةٍ سياسيةٍ مدنيةٍ للسويداء. هذا لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال أن النظام سيسمح بتطبيق هذه الخطوة، التي سيعتبرها تنازلاً سياسياً لإرادة الناس، العدو الحقيقي له. ومع ذلك، تبدو هذه الخطوة إمكاناً لاختبار السياسة بالاستفادة من الوضع الخاص للمنطقة. في هذا الاختبار مُلاعَبةٌ للنظام في ميدانه، ولها مخاطر ارتداد كبيرة، لكنها قد تكون أيضاً مقدمةً لحلٍّ سياسي لجميع السوريين.

أزمات الحراك

في الحراك الحالي نزعةٌ طهرانية، ترى في الحراك نفسه غايةً ونهاية. أي أن الحراك قائمٌ بذاته ولذاته، ويحقق بذلك شرط اكتفائه، وهذه النزعة مُضادةٌ للسياسة بمعناها التداولي اليومي. هذه النزعة الطهرانية تُقدّسُ الساحة أو الميدان أو الانتفاضة، وترفعها كصاحبة الشرعية الوحيدة التي يجب على الجميع عدم تجاوزها. وإن كان هذا طبيعياً في كل التجارب التي نزل فيها الناس إلى الشارع جماعياً بعد طول احتباسٍ وخوفٍ وامتناع، إلا أنه يصبح عائقاً مع الوقت أمام إمكانات التشكُّل السياسي الأكثر استمرارية.

هذه الطهرانية، والتي تميل لخلق الرموز والشعارات وإسباغ القداسة عليها، هي النقيض للحركة المُولِّدة لها، أي الحراك. استعادةُ الناس للفضاء العام هو فعلٌ تشاركي، ينقل إرادة الأفراد المشاركين فيه إلى فعل سياسي. وبالتالي، يجب ضخ روح الديمقراطية في الحراك، والتركيز على أهميته بوصفه ميداناً لتلاقُح الأفكار وإنتاج تصورات مُشترَكة عن الخطوات التالية الواجب فعلها، لا إقفاله كدعوة خاصة ونادٍ حصري للمشتركين فيه.

من جانب آخر، يبدو الحراك ملتصقاً بدار قنوات (الهجري)، ويستمدّ الشرعية منها. في لحظةٍ مستقبليةٍ قادمة، لا بد لهذا الحراك أن يجد آلياته الخاصة التنظيمية والسياسية، بحيث يصبح قادراً على دعم موقف دار قنوات لا فقط الاستناد إليها.

أيضاً، تبدو المُسلّمات السياسية التي بدأ التيار السائد في الحراك تكريسها، كشعاراتٍ نهائية له، كما لو أنّها برنامجُ الحد الأعلى السياسي للجماعة الوطنية برمّتها. وعدا بعض المطالبات الخجولة بقضايا محلية، يغرق الحراك في التصويب على القضايا الكبرى لتحقيق الخلاص الجزئي. وفي هذا نقطةُ ضعفٍ للحراك. إذ أنّ أكثر الحركات الشعبية نجاحاً هي القادرة على وضع أهداف قابلة للتحقيق، أي قضايا محلية يمكن لإرادة الناس الجماعية تنفيذها ضمن حيِّزهم المكاني.

وربما يجدر في النهاية القول إن انتفاضة السويداء، وضمن كل تعقيدات مشهدها الداخلي، بدأت بفتح بابٍ مُحتمَلٍ لحلٍّ سياسي قد يقود في النهاية إلى إعادة تشكيل سوريا جديدة.

موقع الجمهورية

——————————

سويداء الظاهرة.. أم سويداء الطائفة؟/ جبر الشوفي

في مهرجان السويداء الاحتفائي اليومي المتصاعد بزخم الثورة ورفض النظام الفاسد وكل أدواته وركائزه المؤسسية والفكرية، وحيث ارتقى الشيخ حكمت الهجري بكل جدارة من مجرد غطاء اجتماعي ديني إلى قائد ميداني لا تنقصه الحكمة والعقلانية والتسامح ولا الحزم والجرأة والشجاعة وبعد النظر ليتقدم بخطوات حكيمة ومدروسة مع جموع هادرة من حوله وكلها، تتجاوب مع تطورات الحدث وتداعياته وآخرها وأخطرها إطلاق النار من سطوح فرع حزب البعث والتلويح بالطيران الحربي الاستفزازي فوق السويداء بغية استجرارها لمواجهة عسكرية مرفوضة.

إنها ساحة الكرامة بحشودها وأهازيجها وهتافاتها وبيقظة شبابها وتحفزهم لكل حركة مريبة، وحيث يتعايش خطان ثوريان رئيسان ومتوازيان وقد لا يتقاطعان إلا برفضهما القاطع للعفن السلطوي القائم والإعلان عن مستقبل الحرية والكرامة وبناء دولة وطنية خالصة من أشكال الاحتلال التي قطّعت الجسد السوري إلى أجزاء لا مستقبل لأي منها من دون التئام الجسد كله ونهوضه على مبدأ الحرية والديمقراطية والهوية الوطنية الجامعة.

من هذه الأولية الوطنية الكبرى تنادي انتفاضة السويداء على أهلها السوريين، ليكونوا معاً في حراك مدني سلمي وحضاري، يتمسكون به ويسيرون بهديه شيباً وشباناً رجالاً ونساءً، وهم يقولون للسوريين (السويداء لها ولكم وهي اليوم بؤرة ثورتكم) وهي لم تزل تترقب نهضتكم، كل منطقة بما تسمح بها ظروفها وبما تؤهله له إمكاناتها. وهذا كله مفهوم ومبرر إلا التجاهل وإدارة الظهر وتخرصات بعض أصحاب الجملة (الثورية) والتطهريين، ومن يثيرون صراعات جانبية، لا تصبّ في مجرى الثورة المتجدد، بل تبني على ما يعيقه ويتركه فريسة لحصار النظام.

صحيح أن الدروز اسم لطائفة دينية وأن الاسم ليس مجرد عنوان، بل هو دال ينطوي على مدلولاته التاريخية الواقعية والمتخيلة سواء بتصور أهلها النرجسي عن الذات النخبوية أو بتصور الآخرين وحيث يتأرجح الرأي بين السلب والإيجاب وفقاً لخبرة أصحابه الواقعية أو المتخيلة ولمدى وعيهم واعترافهم بالآخر أو غير ذلك من الأسباب. وإذا كان هذا طبيعياً في ظل ثقافة الفرقة الناجية، فإن الأمر يغدو فاقعاً وخارجاً عن طبيعته حين ينسحب على الموقف من حراك السويداء وتركه ليحمّل نحو 3 بالمئة من السوريين معظم الحمل السوري في مرحلة مفصلية يضيق فيها الخناق على النظام المتهالك وحيث تلوح في الأفق علامات انهياره.

وإذا كان من المبكر وربما المضر الفصل بين الخطوط المتداخلة (الدينية والاجتماعية والسياسية) في هذا الحراك الجبلي ما دامت الساحة تتسع للجميع، لكنني أخشى إذا طال زمن الاحتجاجات وتراخت يد السوريين عن المؤازرة، أن تسارع أيد خارجية، لتتلقف الساحة وإلباسها لبوساً درزياً قهرياً، وهو ما يعود بالضرر على السويداء وعلى السوريين وما ينتظرونه من العودة إلى سوريا محررة من مجرمي العصر وطغاته والانتقال إلى سوريا آمنة مستقلة موحدة لجميع أبنائها. من هنا أقول لكل السوريين السويداء أمانة بأعناقكم، بقدر ما تناصرونها وتنتصرون بها ومعها بقدر ما تبعدونها عن الأيدي الملتبسة الجاهزة لتلقفها وبلورتها ضمن توافقات براغماتية بائسة تدركون جميعاً، كيف تسيّر وإلى أين تتجه، وهنا أذكر الجميع بأهمية ذلك التآزر الرائع من شباب درعا مهد الثورة  البطلة التي لم تضعف ولم تستسلم، وها هي تعد العدة لانطلاقة جنوبية موحدة، بأيد ثورية واحدة وقلب واحد وهدف، يجدد ما هتفت به حناجر السوريين منذ آذار عام 2011 وما زالت تهتف به رغم كوارث الاحتلالات والولاءات وسلطات الأمر الواقع.

السويداء ظاهرة وحين تكون الظاهرة وطنية وتغصّ الساحة بخلائط سياسية واجتماعية من متدينين وغير متدينين، تتراجع الطائفة إلى عمق الوجدان الشخصي، وتغيب تعبيراتها الإعلامية والميدانية ولا يعود للمذهب سوى خرقة ملونة يصر بعضهم على جعلها رمزاّ ودلالة وجودية أو البديل عن علمين لا توافق على أي منهما، والأهم من كل ذلك أن السوريين تسامحوا معها، لأنهم تأكدوا أنها ليست هوية لثورة درزية بل هي تعبير عن دروز ينخرطون في الثورة ويسعون مع كل السوريين إلى نصرتها. ومن هنا أطرح هذا التخوف وأنا أدرك جيداً أهمية ومسؤولية الشيخ حكمت الهجري ومن حوله كالشيخ حمود الحناوي وجماعة من الشيوخ ومجمل المتظاهرين في ساحة الكرامة في تكريس السويداء كظاهرة سورية ريادية، بنت على ثوابتها مدرسة نضالية مدنية حضارية، لثورة اجتماعية / سياسية، تلتمع في فضائها العمائم وزغاريد النساء ورجال العشائر وهتافات فتية أنضجهم الظلم وتغوّل النظام، فابتدعوا وسائلهم وأبهروا وقد شكلوا على أرض المواجهة مع النظام وأجهزته تجربة تضاف إلى ما خبره السوريون وما جربوه في الميدان والسياسة والإعلام المتوازن وأساليب الحماية الذاتية ونبذ الأصوات الانفصالية على ضعفها وحماية المصالح والمؤسسات العامة وتعطيل كل أدوات التسلط من أجهزة أمنية وحزبية وسلطوية وإغلاق البؤر الحزبية وكل مظاهر سلطة الأسد المنكفئ في فساده ونرجسيته وتخاطره بذيله الطاووسي تاركاً لأبواقه ومرتزقته لينضحوا من معجم ملفوظاته الجوفاء في التخوين والمؤامرة وجعل الوطنية وسماً أسدياً أو (لوغو ) خاصاً بشركته المغفلة وقد لطخه بدماء السوريين وغمسه بكل أنواع الفساد والكبتاغون وغيره.

بعد هذا الوضوح الاستراتيجي الوطني، هل تخطئ السويداء إذ تقف في وجه بيع البلاد ورهنها عقارات ومنابع طاقة ومطارات وشركات تمتص ما تبقّى من دم السوريين بعد أن امتصته علقات الدم الأسدية منذ انقلاب حافظ الأسد وتأسيسه لإمبراطورية طال أذاها سوريا ولبنان وفلسطين والعراق؟ وها نحن السوريين جميعاً لم نزل نحصد ثمرة زرعه المسموم وما ورثه لابنه الغرّ الذي لم يكتف بقتل بعض السوريين كما فعل والده، بل قتل الشعب السوري كله مادياً ومعنوياً وخرب الكيان السوري ولم ولن يحصل رعلى الطاعة والولاء.

وأخيراً حان الوقت لنقول للعرب الصارخين وجعاً من كبتاغونه ولمن ضغطوا بحمية مبالغ بها على يد دراكولا الدم والدمار، ولمن لم يتعظوا بعد أنّ ما يحدثه الحراك السوري المتجدد لا يذهب نحو تجديد ما تسمونه الفوضى ولا تخريب الدولة ومؤسساتها بعدما هدأت واستقرت تحت ما تزعمونه انتصار بشار. السوريون يخوضون معركة مصير ومعركة وجودية، تبدأ بحريتهم وكرامتهم وبالخلاص من مخاطر ولاية الفقيه وأذنابها السامة على الجميع في آن واحد. إذ وحده الخلاص من هذه العاهة والانتقال إلى الحرية والديمقراطية والعدالة وحده، يقطع طريق الكبتاغون ووحده يبعد خطر ولاية الفقيه ويكفّ أذنابها المسمومة عن أذيتكم، ووحده يعيد سوريا دولة لمواطنيها للتنمية المتكاملة ووحدة جيو-استراتيجية حرة وسيدة وقلباً نابضاً بالمحبة والأخوة وإحلال السلام.

تلفزيون سوريا

—————————-

بين الشيخ حكمت الهجري وسلطان باشا الأطرش/ عمر قدور

طغى إعلان الشيخ حكمت الهجري “الجهاد” ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا على ما عداه مما ورد في كلمته، وكان محتجون غاضبون قد اتجهوا إلى دارة الشيخ بعدما تعرّضوا لإطلاق النار من مسلّحين متحصنين في مقر فرع حزب البعث في مدينة السويداء. والسياق الغاضب الذي أتى من ضمنه كلام الشيخ ربما جعله يفصح عن قناعاته أكثر من المعتاد، لكن مع الانتباه جيداً إلى تماسك خطابه المرتَجَل، وإلى العديد من الرسائل التي يجدر التوقف عندها.

وصفَ الهجري حزب البعث بالبائد، ما يعني الموافقة على استئذان أحد الحاضرين العمل على إنهاء وجود الحزب. وبقدر ما كان واضحاً في الإصرار على سلمية الحراك كان واضحاً في أن الطلقة الأولى لن تصدر عن المتظاهرين السلميين، مع التأكيد على أن الطلقة المقابلة لتلك جاهزة للرد. وتحدث عن وفد السلطة الذي كان قد زار المحافظة قبل يومين، ليستبعد عنه النوايا الطيبة كما توهِم بذلك أبواق صريحة أو غير صريحة للسلطة روّجت لكون الوفد أتى ليستمع إلى المَطالب فقط، ليحمّله الهجري بشكل شبه مباشر مسؤولية التصعيد.

فضلاً عن التفاصيل التي تجزم بإعلان القطع مع السلطة، بل القطع معها بأثر رجعي إذ قال عن عقودها السابقة “لنا ثأر قهر أهلنا”، هناك رسالتان رافقتا حديث الشيخ الهجري عن الاحتلال الإيراني؛ الأولى مخاطبة مستمعيه بأنهم يعرفون الفكر الخبيث “التخريبي” الذي تحمله ميليشيات الإيراني، والثانية أن هذا الفكر ليس علمانياً ولا إنسانياً “بمعنى الانفتاح على الإنسانية”. بذلك يشير الشيخ إلى جانب يراه خطيراً، هو التبشير الشيعي المحمول على الاحتلال الإيراني، ومن المعلوم أن محاولات التشييع “المأجورة أحياناً” في مختلف مناطق سوريا سبقت عام 2011، وكانت بعلم ورضى الأسد. لكنها ازدادت شراسة وتمويلاً وتسليحاً بعد عام 2011، واستهدفت لأول مرة الشباب المنحدر من المذهب الدرزي في مناطق محيط دمشق.

غير أن الشيخ الهجري يعود إلى التأكيد على علمانية الدروز وإيمانهم بأن “الدين لله والوطن للجميع”، والمرة الثانية في سياق يبدو موجَّهاً إلى بقية السوريين. وسيكون من ضيق التفسير فهم كلامه على محمل منافسة السلطة التي تدّعي العلمانية، فمن الواضح أنه لا يصدّق مزاعمها جملة وتفصيلاً. الاستنتاج المنطقي يتكفل لنا بالتفسير على قاعدة أن مَن يرفض التبشير الشيعي يرفض نظيره السًنّي، وهذا موجَّه إلى الطامحين إلى حكم إسلامي، حيث بخلاف تطلعات هؤلاء الإسلاميين الجدد لم يشهد عهد الاستقلال حملات تبشير سُنية.

حدث إطلاقُ النار يوم الأربعاء الفائت، وأصدر ائتلاف المعارضة السورية بياناً حول استهداف المتظاهرين يوم الجمعة، بلا ذكر لخطاب الشيخ. وكان حريّاً بالائتلاف، لو أنه يمثّل معارضة وطنية حقاً، أن يرحّب بكلمة الشيخ الهجري التي حملت العديد من المعاني والإشارات الوطنية. إلا أن الكتل المسيطرة في الائتلاف، المقرَّبة من الإسلاميين والتي كانت قد فرضت مرشّحها لرئاسته “بالصرماية” حسبما سُرِّب وصار معروفاً على نطاق واسع، هذه الكتل لا تملك الحدّ الأدنى من الكفاءة والاستقلالية السياسية كي ترحّب بخطاب الشيخ ولو على سبيل التربّح منه أو التلطّي خلفه.

أما المجلس الإسلامي السوري “المعارض” فقد أصدر بداية الشهر بياناً “بشأن تصاعد زخم الحراك الثوري في سوريا”، ثمّن فيه الأصوات التي ترتفع عالياً في الساحات، مع ذكر السويداء من دون أن يُفرد لها حيزاً خاصاً. البيان يشير في بنده الأول إلى أن الثورة هي “على النظام المستبد ثم على التنظيمات الانفصالية كقسد وغيرها من ميليشيات الاحتلال الإيراني”. ليقرر في البند الثاني أن “أبناء الثورة السورية ينضوون جميعاً تحت علم واحد يجمعهم، هو علم الاستقلال”! وكأن أصحاب البيان يستكثرون على أهل السويداء رفع رايتهم الخاصة، أو كأنهم في موقع مَن يحدد ما هي الثورة وأولوياتها ومواصفاتها.

لسنا في سياق التطرق إلى إسفاف مؤسسات المعارضة على العموم، وإنما فقط في سياق المقارنة مع خطاب وطني صدر عن مشيخة السويداء، كصدى للشارع المنتفض فيها. وهو خطاب، مع استعادته روح آذار 2011، يسترجع أجواء الوطنية السورية الناهضة قبل قرن من الآن، والتي كان للدروز فيها دور طليعي بقيادة سلطان باشا الأطرش، وبتلك الأجواء اقترنت عبارة “الدين لله والوطن للجميع”، ليسترجع حمولتها الشيخُ الهجري اليوم. في مقارنة أخرى، تذكّر شعبية الهجري بناءً على موقفه وخطابه بغياب لأية شخصية في هيئات المعارضة تحظى بالاحترام لدى مَن يُفترض أنها تمثّلهم، وكذلك هو حال مشايخ المعارضة الذين لم يبرز منهم واحد يحظى باحترام خارج الحلقة الضيقة من المريدين.

بالتأكيد، لا نذهب إلى القول أن الشيخ الهجري يسعى إلى مثال سلطان باشا الأطرش بشخصه، أو أنه صاحب طموح سياسي. لكن الضرورة السورية ربما كانت تطرح للبحث هذا الاحتمال، لولا أحوال المعارضة الرديئة، والمتشبّثة بمواقعها ورداءتها معاً. ذلك يُضاف إلى تعقيدات الانقسام السوري الذي لم يكن على هذا النحو قبل قرن، لا على صعيد المسألة الطائفية ولا المسألة الكردية. كما أن قتال الفرنسيين، وأي استعمار ديموقراطي في بلده، يختلف عن مواجهة احتلالَيْن لا يحسب كلّ منهما حساباً لشعبه.

ليس جديداً أن تساهم المواقف في صناعة الكاريزما، وهذا من أسباب بروز شخصية الشيخ الهجري فضلاً عن ملَكاته الشخصية. وتشاء الظروف أن يتقدّم في وقت لا تقدّم فيه السلطة والمعارضة سوى المزيد من الركاكة، وهذا أيضاً مطابق لتقدّم السويداء وسط انكفاء سوري عام. وإذا كانت المؤازرة مأمولة من مناطق أخرى خاضعة للأسد فإن عدوى الثورة لا تكون فحسب بالتضامن الذي أبداه متظاهرون في المناطق الخارجة عن سيطرته، بل أصبحت تتطلب ثورة لانتشال اسم المعارضة وقرارها من أولئك الضعفاء الذين لا يفعلون سوى إصدار بيانات تتسوّل دعم العالم، ويتملّقون على نحو مخزٍ رعاتهم ومموليهم، ثم يضعون اشتراطات ويستقوون على السوريين.

تجدر الإشارة إلى أن الشيخ حمود الحنّاوي قدّم في اليوم التالي على خطاب الهجري خطاباً لا يقلّ جذرية، وتجاه الأسد شخصياً. إدراكاً من الأخير لأهمية الشيخين، وفي ما يتجاوز موقعهما المذهبي، راحت أبواقه تروّج لسيناريو قيام مسلحين محسوبين على الحراك بقتل مشايخ محسوبين على المتظاهرين من أجل تأليب الشارع على السلطة، وهو استعادة لسيناريو 2011 عندما اتُهمت الجماعات الإرهابية بقتل المتظاهرين. إلا أننا لا نستبعد، بناء على سوابق لها، أن تقتل السلطة يهوذا أولاً لتقسم الشارع ولتصلب المسيح بتهمة قتله.

المدن

———————–

حراك السويداء… تغيّرات أم إيحاءات؟/ إياد أبو شقرا

أزعم أن قلّة من مراقبي الوضع السوري توقّعت حراكاً شعبياً ضد الحكومة السورية في منطقة السويداء، وقلّة من القلّة توقّعت أن يستمر هذا الحراك بزخم أكبر بعد شهر من تفجّره.

وفي رأيي، أدّت قوة الدفع التي يبدو أنها لا تزال قوية في المنطقة – بل ربما ازدادت قوة بعد حادثة إطلاق النار على المتظاهرين العزّل – إلى بضع حقائق، قد يفيد التوقف عندها:

1 – استيعاب الطرفين – أي الحراك الشعبي والنظام – أن الوقت عاملٌ مهم في المواجهة الحالية. وهكذا، بينما يراهن النظام على «تراخي» عزيمة الحراك تحت ضغط الأوضاع المعيشية السيئة، وعلى «عسكرة» الحراك وزجّه في لعبة الدم التي كانت قد آتت أكلها في غير موضع وغير ظرف على امتداد الأرض السورية، بدأ قادة الحراك – بدورهم – يفكّرون بصوت مرتفع ويخطّطون للمرحلة المقبلة.

2 – «المرحلة المقبلة»، للطرفين، «مفتاحية» بالنسبة لتبلوُر شكل ما يحصل وتفعيل مجرياته. وفي هذا الإطار، بدأت تظهر ملامح «الحرب النفسية» التي يشنّها النظام وحلفاؤه، ولا سيما في لبنان، عبر تشكيلة من التكتيكات التي تتراوح بين التشكيك والتخوين وتُهم التقسيم والتهديد المبطّن بالتصفيات الجسدية… وطبعاً من دون إغفال سلاح استحضار شبح «داعش».

في المقابل، تدعو الآن شخصيات واعية داخل الحراك إلى تحصينه وضبط تطوراته وتجنيبه الانزلاق إلى ردّات فعل قد يسعى إليها تحالف النظام وداعموه، وعلى رأسهم «حزب الله» اللبناني. كذلك جرى العمل على صياغة تعرّف أولويات الحراك التنظيمية والوطنية، تدعمها غالبية القيادات الروحية ممثلة بشيخي العقل حكمت الهجري وحمود الحنّاوي. وبدا واضحاً من المواقف المعلنة والبيانات المكتوبة أخيراً الحرص البالغ على تأكيد ثوابت مثل «وحدة سوريا» و«رفض الانزلاق إلى الاقتتال الداخلي»، جنباً إلى جنب مع «رفض احتلال الميليشيات الإيرانية». ومعلوم أن هذا «الاحتلال»، بالذات، كان القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة المترنّحة منذ مدة غير قصيرة بين الشارع في السويداء وما تبقى من اعترافه بشرعية للنظام في المنطقة.

3 – النظام كان يدرك دائماً أن علاقته بمنطقة السويداء «علاقة تكتيكية» لا أكثر. وهي تقوم على تحييدها واستغلال خصوصيتها وإبعادها عن مواقع القرار الفعلي. ثم إن هذا التعامل مع خصوصية السويداء ما كان محصوراً بها وحدها، بل إن شعار «حماية الأقليات»، الذي مورس منذ خريف 1970 بصورة انتقائية واستنسابية، جرى تصديره من الداخل السوري إلى لبنان.

وحقاً، كان من أهم ذرائع التدخّل العسكري السوري في لبنان «حماية الأقليات»، ولكن، بعد قرابة ثلاثة عقود من الوجود العسكري السوري (1976 – 2005) هناك، لم ينجح هذا الوجود في تحقيق «الحماية» المنشودة؛ إذ عانت «الأقليات» (بل عموم المكوّنات) اللبنانية من التضييق والتصفيات الجسدية، ومثلما اضطرت أبرز قيادات المسيحيين للسفر والعيش في المنفى وتعرّض عدد منها للقتل، اغتيل أبرز زعماء الموحِّدين الدروز، وشهدت الساحة الشيعية اغتيالات ومواجهات داخلية انتهت بهيمنة تيار إيران على هذه الساحة بقوة السلاح، ناهيك من استهداف أكبر الشخصيات السنّية، بما فيها المفتي حسن خالد ورئيس الحكومة رفيق الحريري.

عودة إلى الداخل السوري، لا يظهر اليوم أن سياسة «حماية الأقليات» كانت ناجحة هنا أيضاً. والدليل على ذلك ليس فقط الحراك الحالي في منطقة السويداء، حيث أكبر كثافة سكانية للموحّدين الدروز في العالم، بل أيضاً في المناطق الكردية في شمال شرقي سوريا… حيث وُجد مَن يشجّع على الصراع الداخلي واستثمار الموقع الحساس للمنطقة المتاخمة لكل من جنوب تركيا وشمال العراق. ثم إن أحدث الإحصاءات تفيد بتراجع كبير في نسبة المسيحيين من إجمالي سكان سوريا، حيث انخفضت من نحو 16 في المائة عند تولّي الرئيس السابق الراحل حافظ الأسد الحكم في أواخر 1970 إلى قرابة 6 في المائة فقط اليوم.

من ناحية أخرى، في حين تكثر التساؤلات عن سرّ «تأخر» السويداء في التحرك، تُثار «إيحاءات» تسهم فيها أذرع إيران الإقليمية، زاعمةً وجود دعم أميركي ضمني لما يحصل في الجنوب السوري. وللأسف، تساهم أوساط تدعي التعاطف مع الحراك مقيمة في الخارج بصبّ الزيت على نار «الإيحاءات»… وبعكس الغايات المعلنة للحراك، تعمد إلى تأويل الإجراءات المعمول عليها لضبط ديناميكياته وتحصينه تنظيمياً، على أنها خطوات «انفصالية» أو «استقلالية».

هذا، يذكّرني بالتحريض والإيحاءات والاتهامات التي أطلقت في لبنان خلال عقد الثمانينات حيال تأسيس «الإدارة المدنية» في الجبل.

في ذلك الحين، شملت الإيحاءات كلاماً عن «أصابع خارجية» تدفع باتجاه التقسيم. لكن الحقيقة ما لبثت أن ظهرت، وأكدت على أرض الواقع أن تحصين صمود الناس في ظروف استثنائية لا يقوم فقط على التسلح والقتال والأمن، بل يشمل – بالقدر ذاته من الأهمية – تأمين متطلبات العيش الكريم… من تأمين الوظائف إلى إدارة المرافق العامة (التعليمية والاستشفائية والخدماتية) المشلولة والمعطلة. وبالفعل، صمد سكان منطقة جنوب جبل لبنان بفضل نجاعة «الإدارة المدنية» من دون أن تكون ثمة أهداف «انفصالية» أو «استقلالية».

واقتباساً من هذه التجربة، كانت لي بالأمس دردشة سياسية مع محلل سياسي أجنبي مطلع، حول قراءته لما يحدث، فبادرني بنفي علمه بوجود قضية «الإيحاءات» الخارجية. ثم قال لي بصراحة جارحة بعض الشيء، إن من مشاكلنا في المنطقة العربية اقتناعنا بالقدرة المُطلقة للخارج على التحكّم بمصائرنا، وبعد ذلك التساؤل عن نيات الآخرين… ثم لومهم على كل شيء بينما نحن لا نفعل شيئاً.

الشرق الأوسط

————————

حراك السويداء السورية يدخل دائرة الاهتمام الأميركي/ ليث أبي نادر و محمد أمين

دخل الحراك الاحتجاجي المتواصل في محافظة السويداء، جنوبي سورية، دائرة الاهتمام الأميركي، وهو ما يعد تطوراً في سيرورة هذا الحراك الذي أفشل مراهنة نظام بشار الأسد على الوقت لانحساره، إذ لم يتراجع زخمه الشعبي مع اقتراب دخوله شهره الثاني، وهو ما أكده خروج الأهالي في تظاهرة يوم أول من أمس الجمعة، هي الأكبر منذ بدء الاحتجاجات.

اتصال أميركي بالشيخ الهجري

وأجرى النائب الأميركي الجمهوري فرينش هيل، أول من أمس، اتصالاً مع شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، دام أكثر من نصف ساعة وفق مصادر مقربة من الهجري، الذي لعب موقفه المؤيد والمساند للحراك الثوري في السويداء دوراً محورياً في استمرار هذا الحراك واكتسابه زخماً شعبياً غير مسبوق.

ووفق المصادر التي تحدثت لـ”العربي الجديد”، فقد “استفسر هيل في الاتصال عن حقيقة ما يجري في السويداء وعن الأوضاع الأمنية في المحافظة، خصوصاً بعد قيام النظام بإطلاق النار على المتظاهرين أمام مقر فرع حزب البعث” (الأربعاء الماضي). وقالت المصادر إن النائب الجمهوري، المهتم بالملف السوري، “عبّر عن اعتزازه بالتواصل مع القائد الروحي للموحدين الدروز، متمنياً بناء علاقة وطيدة معه، ومشدّداً على أن سلامته الشخصية هي موضع اهتمام خاص”.

ويُنظر إلى الشيخ حكمت الهجري على أنه الداعم الأكبر لهذا الحراك الثوري السلمي الذي تبنى شعارات الثورة السورية، وهو ما دفع النظام إلى محاولة تشويه هذا الحراك لتطويقه، إلا أن المحتجين أكدوا منذ اليوم الأول تمسكهم بوحدة سورية ورفضهم أي محاولات تقسيم تحت عناوين مختلفة.

من جهته، وصف الصحافي السوري المقيم في الولايات المتحدة أيمن عبد النور، في حديث مع “العربي الجديد”، الاتصال بين الهجري وهيل بـ”المهم جداً”، معتبراً أن “التأكيد على سلامة الشيخ الهجري يشير إلى أنه ربما هناك تهديدات لاستهدافه”.

وبرأي عبد النور، فإن “هذا الاتصال يؤكد أن هناك اهتماماً كبيراً من قبل الإدارة الأميركية بما يجري في السويداء”. وأشار إلى أن “فرينش هيل شخصية محترمة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، واختاره الرئيس جو بايدن قبل أيام لتمثيل مجلس النواب الأميركي في اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك”، مضيفاً أن “حرصه واهتمامه بما يحدث في السويداء مؤشر مهم جداً”.

ويعد هذا الاتصال الإشارة الأولى إلى أن الحراك الثوري في السويداء دخل دائرة الاهتمام الأميركي، ودائرة السياسة الأميركية في سورية، والتي لطالما شابها التردد والتراخي، ما سمح للنظام بارتكاب مجازر وتهجير الملايين من دون الخشية من أي مساءلة دولية.

إلى ذلك، توافد أمس السبت محتجون إلى ساحة الكرامة في وسط مدينة السويداء، مؤكدين أن حراكهم المستمر منذ نحو شهر لن يتوقف قبل تحقيق تغيير سياسي في البلاد وفق القرار الدولي 2254، الذي ينص على إجراء انتقال سياسي في سورية، وكتابة دستور جديد تُجرى على أساسه انتخابات، وهو ما يرفضه النظام.

ناشطون: لا نتلقى تعليمات

وقلّل متظاهرون في ساحة الكرامة من أهمية اتصال النائب الأميركي فرينش هيل بالشيخ الهجري. واعتبر الناشط المدني منيف رشيد هذا الاتصال “عادياً، وجاء لمعرفة الأوضاع في سورية بشكل شخصي بعيداً عن السياسة الأميركية التي يعتبرها أهالي محافظة السويداء سياسة عدوانية مبنية على استعمار الشعوب ونهب خيراتها”. وأضاف رشيد في حديث مع “العربي الجديد”: “الشيخ الهجري يتلقى يومياً رسائل واتصالات من الأطراف كافة، سواء في سورية أو من الخارج، وخطّه الوطني واضح جداً ولا لبس فيه وهو يطالب بمغادرة كل القوى المحتلة من سورية من دون استثناء”.

من جهته، أكد جمال الشوفي، وهو ناشط مدني، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الحراك السلمي في السويداء “منفتح على التواصل مع أي جهة عربية أو دولية، بغية إيصال صوتنا ومطالبنا التي تحقق التغيير السياسي المنشود وفق القرار الدولي 2254 وضمن ثوابتنا الوطنية”. وتابع: “من الطبيعي أن تتواصل جهات دولية وشخصيات اعتبارية مع الشيخ الهجري، وبالأخص الدول الضالعة في المشكلة السورية مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران، وهذا لا يعني أبداً أننا نتلقى التعليمات والأوامر من أي جهة كانت”.

وقلّل الشوفي من أهمية النتائج التي قد يسفر عنها الاتصال الحاصل بين النائب الأميركي والشيخ الهجري، لا سيما “بعد المواقف الخجولة الصادرة عن المجتمع الدولي والصمت العربي حول انتفاضة السويداء”.

وجاء اتصال النائب الجمهوري بالشيخ الهجري بعد أيام من إطلاق النار على جموع المحتجين في محافظة السويداء من قبل حرّاس مقر حزب البعث في محافظة السويداء، في حدث اعتُبر محاولة من قبل النظام لجرّ هذه المحافظة، التي يشكل الموحدون الدروز غالبية سكّانها، إلى مواجهة عسكرية.

ويتجنّب النظام حتى اليوم أي مواجهة مباشرة مع جموع المحتجين في السويداء، مراهناً على الوقت في تراجع مدّ الحراك ضده في هذه المحافظة محدودة الموارد. ويتوقع مراقبون أن يدفع الاتصال الذي أجراه هيل مع الشيخ الهجري النظام للتراجع عن أي مخطط لإشاعة الفوضى في محافظة السويداء، من خلال التلويح بورقة تنظيم “داعش” الذي كان النظام نقل مجموعات تابعة له من أطراف دمشق وريف درعا الغربي إلى بادية السويداء، وارتكبت مجازر بحق ريفها الشرقي عام 2018.

وكان الشيخ الهجري قد شدّد في كلمة له أول من أمس، أمام عدد كبير من المتظاهرين في بلدة القنوات، على أن “هدفنا العيش في وطننا بالحد الأقصى من الكرامة”، مشيراً إلى أن “طلباتنا محقة والنصر حليف الشعب السوري”.

ورأى الأكاديمي السوري المعارض يحيى العريضي أن اتصال النائب الأميركي فرينش هيل مع الشيخ الهجري “يؤكد استشعار مؤسسة التشريع في الولايات المتحدة الأميركية أهمية الحراك وزخمه ومطالبه السياسية العالية ضد منظومة الأسد في منطقة طالما ادعى النظام أنها أقلية، وهو حاميها”. وتابع: “الاتصال رسالة للأسد وطهران، بعد تصريح الهجري، بأن مليشيات الأسد والملالي وراء إطلاق النار من فرع حزبه على المحتجين، وبأن النار في مواجهة الاحتجاجات السلمية فعل إجرامي، وأن سرديات الكذب لا سوق لها”. وأعرب العريضي، المتحدر من محافظة السويداء، عن اعتقاده بأن الاتصال يؤكد “استشعار أهمية الرجل (الهجري) من قبل الولايات المتحدة”.

العربي الجديد

—————————–

المجتمع السوري لن يسكت.. ولكن/ رشيد الحاج صالح

هناك نظريتان تتصارعان في توصيف ما يحدث في سوريا، وبلدان الربيع العربي عموما، منذ عام 2011 وحتى اليوم. الأولى تقول إن الربيع العربي انتهى، بل وهزم هزيمة نكراء، بعد أن تمكنت السلطات الحاكمة من الصمود في وجه الانتفاضات العارمة، سواء بالبقاء في سدة الحكم وتحويل مسار الثورات باتجاه العنف والصراعات العسكرية، وإغراقها في مستنقعات الطائفية ونظريات المؤامرة سيئة الصيت، أو بالعودة بأثواب أخرى وفق معادلة تغيير الرأس وبقاء الجسم على حاله.

أما النظرية الثانية فتقول إن الثورات لا تنتهي بليلة وضحاها، وإن موجات الثورة الفرنسية مثلًا استمرت نحو قرن من الزمان، فالثورات قد تهدأ وتصاب بالوهن، ولكنها في النهاية سرعان ما تعاود الظهور بأشكال وطرق وأفكار مختلفة.

ما يحدث في سوريا، سواء في الجنوب، واستمرار الحراك الشعبي في السويداء لدرجة دفعت النظام الأسدي لإطلاق النار على المحتجين، وهو ما يعبر عن أزمة النظام وحيرته في كيفية مواجهة هذا الحراك، أو في المنطقة الشرقية واحتجاج عشائر دير الزور على ممارسات قسد في تهميش أهل المنطقة ونهب أرزاقها، وإدارة المنطقة على الطريقة الأسدية بالاعتماد على القوة وفقط القوة.

تخطئ النظرية الأولى لأن أهل سوريا قبل عام 2011 غيرهم بعد هذا التاريخ. فالناس تتغير طرق تفكيرها وتتبدل أولوياتها ولا يقف وعيها بحالها عند حد معين. مثلما أن الظروف والأهوال التي عاشوها جعلت من سياسة “التخويف” التي تمارسها الأنظمة التسلطية التقليدية لا تجدي ولا تنفع مع السوريين. فالناس كما يقول المثل الجزراوي “تماتنت الوجوه” ولم يعد يقبل أحد أن تنتهك حقوقه وتنهب أرزاقه أيا كانت الأسباب.

بحسب فوكوياما فإن أهم سبب للثورات هو الشعور بالكرامة الذي يعتبره من أكثر المشاعر أصالة لدى الإنسان. ولا يضير الاحتجاجات إن كانت دوافعها المباشرة تأمين الخبز، سواء كانوا من المحتجين أو من مهادني السلطة، فالثورة الفرنسية التي هي أعظم ثورات التاريخ الحديثة، كانت من أجل الخبز، بحسب الرواية المتداولة عن ماري أنطوانيت واقتراحها بأن يأكل الشعب الفرنسي “الكيك” إذا لم يجدوا الخبز.

تقع النظرية الأولى في مستنقع النظرة الاستشراقية التقليدية التي حاولت ترسيخ سردية في الفكر السياسي المعاصر مفادها أن سكان المنطقة العربية ميالون إلى الطاعة والمهادنة وليس لديهم ثقة سياسية بأنفسهم. وقد تورط في مثل هذه السردية مفكرون عرب كبار منهم محمد عابد الجابري وحسن حنفي وجورج طرابيشي وغيرهم ممن يعتقدون أن العرب، وعبر تاريخهم الطويل ليسوا عقلانيين ولا يعلون من شأن الحرية والكرامة.  ولذلك تجدهم ميالين إلى الوداعة وطاعة الطغاة أو مهادنتهم على أقل تقدير.

طبعا مثل هذه السردية تتجاهل تاريخ الصراعات الطويل الذي تعج به المنطقة سواء على مستوى التاريخ الطويل أو حتى القصير الخاص بالقرن العشرين. وإذا أخذنا مثالًا على ذلك تاريخ الصراعات التي خاضها السوريون، خلال القرن العشرين، فسنجد أنهم افتتحوا هذا القرن بإخراج السلطنة العثمانية من سوريا بالتعاون مع الشريف حسين وفرنسا وإنكلترا، ثم اندلعت ثوراتهم ضد الفرنسيين إلى أن تم إخراجهم من سوريا عام 1946. بعد الاستقلال تمكن السوريون من إسقاط أربعة انقلابات خلال عدة سنوات، كما أنهم خاضوا تجربة الوحدة مع مصر. مثلما تمكنوا من المحافظة على السلطة مدنية لفترة لا بأس بها من الزمن، إلى أن هبوا في ثورة، من أصعب الثورات الحديثة بسبب تماسك النظام الحاكم، سياسيا وعسكريا. حتى أن عالم الاجتماع آصف بيات يصفها بأنها أصعب بأضعاف مضاعفة من الثورة الفرنسية والروسية لأن الثورة في تلك البلدان كانت ضد سلطات متهالكة وضعيفة بعكس الثورة السورية. إن تمكن عائلة الأسد من إخضاع السوريين لسلطتها بالحديد والنار لا يعني أن الأمور دائما ستكون على هذه الحالة، ولا يعني أن السوريين ليس لديهم إرادة سياسية، ولا يعني أنهم يقبلون دائما بأن تحكمهم قوى ليس لها سوى النهب والتخويف والقتل من أجل أن تستمر في البقاء.

ما نريد قوله هنا إن مهادنة السوريين للطغاة ليست قاعدة يجب أن تحكم تفكيرنا السياسي، وأنهم عندما يضطرون لذلك فإنهم يقومون بهذا الأمر عندما تنعدم أمامهم السبل، مع بقائهم في حالة “انتظار متحفز” بمجرد ما تتغير الظروف ويظهر ضوء في نهاية النفق.

التقليل من أهمية ما يحدث في سوريا اليوم، بحجة أن حراك السويداء محدود التأثير أو مسدود الأفق، أو أن احتجاجات عشائر دير الزور لن تستطيع القيام بأي شيء بسبب محدودية قوة العشائر وعدم وجود قيادات يجمع عليها أهل المنطقة، هو انجرار، واع أو غير واع، لسرديات الاستشراق الكولونيالي الذي يقلل من قيمة شعوب الشرق الأوسط بحجة أنها غير جديرة بأن تصنع السياسة بنفسها.

لقد بات من الواضح أن التوتر الأساسي الذي يحكم تفكير أهل المنطقة، شعوبا وحكاما، هو الصراع حول كيفية إنجاز التحول الديمقراطي، وهي عملية معقدة وطويلة قد تستغرق عقودا من الزمن. الشعوب تتفنن بإيجاد الأساليب والأفكار التي تساعدها في تحقيق ذلك الانتقال، والحكّام يتفننون أيضا في اختراع الأساليب والأفكار التي تساعد في إفشال ذلك التحول، أو تشتيته. ولذلك فإن الاعتقاد بأن ما يقوم به السوريون ليس أكثر من زوبعة في فنجان هو مجرد كلام فارغ لا يخدم سوى الطغاة الذين، بحسب حنا أرندت، يكرهون أكثر ما يكرهون الناس عندما تتذمر.

———————-

الحراك السوري الجديد وقائع وتحدّيات/ حسن النيفي

ممّا لا ريب فيه أن الحراك السلمي الجديد الذي بدأت فيه مدينة السويداء يوم العشرين من شهر آب الفائت قد جسّد منعطفاً شديد الأهمية في سيرورة الثورة السورية، ولعل من أبرز علائم أهميّته أنّه لم يبق معزولاً في حدود محافظة بعينها بل سرعان ما اتّسع ليشمل محافظة درعا وأجزاء كبيرة من محافظات حماة وحلب وإدلب والرقة ودير الزور، وخاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد، أضف إلى ذلك حالات التذمّر وشيوع ردّات فعل متمرّدة على سلطة النظام في مدن الساحل السوري وهي البقعة الجغرافية التي يراهن نظام دمشق على ولائها المطلق لسلطته.

وثاني علائم أهمية الحراك أنه حمل في تضاعيفه الردّ الحاسم على جميع المشككين وفلول الثورة المضادة وذلك من خلال الشعارات والعبارات التي ردّدها المتظاهرون سواء في السويداء أو سواها من الجغرافية السورية، إذ لم تكن المطالب مُختَزَلةً بمحدّدات معيشية آنية أو مطالب يمكن أن تخضع لأي شكل من أشكال المهادنة، فحين يطالب جميع المتظاهرين السوريين على اختلاف مناطقهم وتوجهاتهم وإثنياتهم بسقوط نظام الأسد والمطالبة بمحاكمة جميع رموز إجرامه فهذا لا يعني رفع سقف المطالب فحسب وفقاً لمزاعم المُرجفين، بل يعني بالدرجة الأولى أن انتقال السوريين من طور العبودية والإذلال إلى طور الحرية والكرامة إنما هو مرهون بقدرة السوريين على إزالة زمرة الإبادة الأسدية، وهذا ما يجعل الصراع بين سلطة الأسد والسوريين تنزاح من حيّزها السياسي المباشر وتنحو باتجاه فضائها الوجودي العام.

ولعل هذه النقلة النوعية في الوعي الثوري للحراك الجديد تسهم في إعادة الصراع بين الشعب والسلطة إلى مساره الصحيح بعد أن حاولت بعض القوى الإقليمية والمحلية اختزال القضية السورية بكتابة أو تعديل دستور في محاولة لتعويم نظام الإبادة من جديد.

ما هو مؤكّد أن هذه الانعطافة النوعية في الوعي الثوري لدى السوريين جعلت مفهوم (استمرار الثورة) واقعاً ملموساً ولم يبق مجرّد زعم تمليه الرغائب في النفوس، وكذلك لم تعد مقولة (إسقاط النظام ومحاكمة رموز الإجرام) مجرّد شعار شعبوي وفقاً لمزاعم الكثيرين.

ولكن ما هو مؤكّد أيضاً أن هذه اليقظة الثورية التي حملها الحراك السوري الجديد سرعان ما واجهها تحدّيان كبيران، الأول على المستوى الميداني، وقد تجلى بالمواجهات العسكرية في دير الزور بين قوات قسد وقوات العشائر من جهة، وامتداداتها إلى خطوط التماس في شمالي سوريا وخاصة على شريط قرى نهر الساجور، وبعيداً عن التقييم السياسي لتلك المعارك وكذلك بعيداً عن الدخول في تفاصيلها، إلّا أنه لا يمكن إنكار استقطابها للرأي العام وتوجيه الأنظار نحو وقائعها الميدانية على حساب التركيز الإعلامي الذي كان موجهاً نحو أشكال الحراك الأخرى، وممّا لا يمكن إنكاره أيضاً أن نظام الأسد استطاع الاستثمار في ما جرى من قتال وحاول إيهام الرأي العام بأنه طرف داعم لانتفاضة العشائر في مواجهة قسد، علماً أن معظم استثمارات النظام في أحداث كهذه تبقى نتائجها آنية وقصيرة المدى نظراً لإرث هائل من الزيف والكذب الذي عزز القناعة لدى أكثر السوريين بعدم الثقة بمزاعم السلطة الأسدية وادعاءاتها.

أمّا التحدّي الثاني الذي واجه الحراك السوري فهو من التحديات القديمة الجديدة، ولكن تكراره بمزيد من الشناعة يضاعف من تداعياته المسيئة للحراك والقضية السورية عامةً، ونعني بذلك المهزلة التي توجب على السوريين اجترار مرارتها في كل عام، فهل كان السوريون ينقصهم قيادة تكون عبئاً مضافاً على أعباء مأساتهم المتجددة منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، وإذا كانت الثورة السورية تشهد تجدّداً في الوعي الذي نجد تجلياته في الحراك السلمي الجديد، فمن المفترض أن يوازي هذا التجدد انعطافةٌ في الوعي السياسي لدى القيادة المزعومة للثورة والمتمثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة أيضاً، وذلك من خلال الارتقاء بهذا الكيان إلى مستوى تضحيات السوريين وكذلك إلى مستوى إصرارهم على مواجهة الطغيان الأسدي بوسائل نضالية متجددة، ولكن يبدو أن العملية تجري عكس ذلك، إذ أخذ هذا (الائتلاف) على عاتقه مهمّة الخذلان المستمر لقضية الشعب السوري ولإرادة السوريين بآن واحد، ولئن صدح المتظاهرون السوريون في عموم أماكن تظاهرهم بسقوط نظام الإجرام وأخذوا على أنفسهم عهداً باستمرار النضال مهما بلغت التضحيات، فلا يتوانى أحد قادة الثورة المزعومين عن مكافأة الشعب السوري الثائر بفرض قائد مزعوم آخر عليهم ولكن (بالصرماية)، وكأنه يؤكد للسوريين بأن هكذا قيادة لا تليق بشعب قدّم عظيم التضحيات في سبيل تحرّره من الطغيان والعبودية، بل هي تصرّ على ألّا يكون سلوكها مفارقاً لبنيتها المشتقة من النظام الأسدي بتجلياته الأكثر قبحاً.

وبالفعل ينفّذ هذا القائد الصنديد وعيده بتنصيب أحد أقرانه رئيساً للائتلاف متحدّياً إرادة السوريين وتضحياتهم وجميع أشكال مأساتهم، وكذلك متحدّياً حراكهم المتجدد والمستمر، ولم يكن – بالطبع – الرئيس الجديد بأقل إساءة للسوريين من قرينه الأول، إذ اعتبر أن أهم مقوّمات شرعيته في الزعامة هي الرضى والدعم الذي يحوزه من القوى الإقليمية والدولية الكفيلة بأن تُسكَت أصوات السوريين جميعاً وتكبح رفضهم أو سخطهم على وقاحته، وبهذا تكون القيادة المزعومة للثورة قد حققت التماهي المطلوب مع سلوك نظام الأسد الذي لا يخفي زهوه وتباهيه بالدعم الذي يلقاه من حلفائه الدوليين في مواجهة شعبه، إذ ليس الأسد وحده من يستقوي على السوريين بالآخر الخارجي، بل ثمة من ينازعه هذه البراعة في الاستقواء، ليثبت الطرفان المستقويان على الشعب السوري بأنهما جهتان متخادمتان، وليس بالضرورة أن يكون هذا التخادم خاضعاً لقياسات المنطق المزعوم في زوابع الإعلام بل لعل النتائج العملية هي الأكثر صدقاً وثباتاً.

لم يكن خذلان السياسة لنضال السوريين الوطني هو الفصل الطارئ أو الجديد في سيرورة ثورتهم، بل ربما ظهرت إرهاصات ذلك منذ البدايات الأولى للثورة، ولكن ربما سادت آنذاك الكثير من المقولات التي استطاعت تخدير الرأي العام من مثل افتقاد السوريين للعمل السياسي المنظم وغياب قوى سياسية فاعلة ومؤثرة عن المشهد السوري وتحميل أي فشل سياسي على شمّاعة العهود الطويلة للاستبداد وتصحّر الحياة السياسية وما إلى ذلك من ذرائع، ولكن عندما يُواجه الحراك الوطني بالخذلان ذاته وبمقدار أكثر فداحة من الخراب بعد أكثر من اثنتي عشرة سنةً، فحينئذٍ لا تبدو المسألة قحطاً سياسياً ولا تصحّراً في الحياة الحزبية ولا ندرة في الكفاءات، بل ما تؤكّده الوقائع أن نجاح السوريين في إزالة نظام التسلّط الأسدي مرهون بقدرتهم على إزالة مشتقاته العابثة بتضحياتهم في الوقت ذاته.

—————————–

حكاية ساحة صار اسمها «الكرامة»/ كرم منصور

عدد من الشبان ينتشرون بشكل متفرّق على رصيف ساحة السرايا في مدينة السويداء، معظمهم يضعون قبعات شمسية على رؤوسهم في محاولة للتخفي، البعض الآخر ينغمس بين الناس أو يدخل أحد المحلات المجاورة متخفياً بهوية زبون، وعينه على ساحة السرايا مترقباً متى يبدأ الاعتصام السلمي المُنتظَر. بالمقابل، كان الخوف هو الحاضر الأكبر في الساحة، ترافقه أعين الأمن والشبيحة، ويسانده سخط أصحاب المحلات التجارية من أي حركة احتجاج قد تزعزع الاستقرار.

عند الساعة السادسة يبدأ الاعتصام. مجموعة من الشباب والناشطين السياسيين يشعلون الشموع  أمام مبنى السرايا، الذي يبعد عن ساحة السويداء العامة عشرات الأمتار. النقطة التي بدأ المحتجون الاصطفاف حولها كانت تمثال سلطان باشا الأطرش، الذي يُجسّد الباشا شاهراً سيفه جالساً على حصانه في وضعية الانطلاق من ساحة السرايا، التي تحمل اسمه رسمياً، باتجاه الساحة العامة حيث كان تمثال حافظ الأسد وقتها يقف مُلوِّحاً بيده.

يبدأ الشبيحة بمحاصرة المعتصمين صارخين: «اعتصام صامت، يلي بيحكي حرف بدنا…»؛ يهيلون كيلاً من السباب والشتائم. دقائق قليلة تمضي، ثم يهاجم الشبيحةُ المعتصمين القلائل بعد أن نطق أحد المحتجين بكلمة «حرية»: تدفقت جموع الشبيحة وقاموا بضرب المعتصمين وأطفأوا الشموع التي كانت تحت تمثال سلطان الأطرش بأرجلهم، فيما كانت صورة حافظ الأسد، المصنوعة من السيراميك على مبنى المحافظة (مبنى السرايا القديم نفسه)، تُوجِّه أنظارها إلى الساحة وهي تبتسم.

يرجع هذا المشهد إلى زمن بعيد مضى، إلى وقفة الشموع في مدينة السويداء في 26 آذار (مارس) 2011، التي كانت في ساحة السرايا المجاورة للساحة العامة. تكررت الاحتجاجات ومحاولات الاعتصام في عدد من ساحات السويداء، حاول فيها المحتجون التظاهر وهم يحملون دائماً حلم التظاهر يوماً ما في الساحة العامة للمدينة.

الساحة العامة المنشودة هي الساحة التي يعرفها أهل السويداء باسم ساحة السير، والتي صار اسمها اليوم ساحة الكرامة، وهذه مقاطع أساسية من سيرتها ومن سيرة طريق المتظاهرين إليها هنا.

الميدان نقطة اللقاء

بحسب الروايات المحلية الشائعة، كانت الساحة العامة في أواخر فترة الحكم العثماني مستطيلاً فارغاً يُسمّى «الميدان»، يقع بالقرب من السوق التجاري القديم للمدينة، وبالقرب من ثلاث تجمعات مائية كبرى: «مياه التربة» وهي البئر الأساسي لمياه الشرب في المدينة خلال القرنين التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، و«بركة الحج» في الجنوب الشرقي للساحة، والتي كان الحجاج القادمون من الشمال باتجاه الحجاز يوردون فيها خيولهم. تم ردم بركة الحج، وطي تسجيلها كموقع أثري في عام 1971، بسبب التوسع العمراني، فيما تم الاستغناء عن نبع «مياه التربة» مع تطور شبكات الري ووصول المياه إلى المنازل.

بركة الحج ويوجد في مكانها ثانوية شكيب أرسلان اليوم، من صفحة السويداء الآن على فيسبوك

الماء الثالث هو مطخ السويداء الذي كان مخصصاً لإرواء خيول ودواب أهالي المدينة، والذي تم تجفيفه بعد حرب العام 1967 ليتم بناء ملاجئ للمدينة في موقعه خوفاً من عدوان إسرائيلي آنذاك، وفي مكانه حالياً يقع سوق الخضار الرئيس في المدينة والمعروف باسم سوق الحسبة.

شكّلَ الميدان نقطة استقرار للمسافرين وقاصدي المدينة، لقربه من السوق التجاري الذي يقصده أهالي الريف، إضافة إلى قربه من مناهل المياه لسُكّان تُعتبر الزراعة والرعي مصادر رزقهم الأساسية في ذلك الوقت. وعند بدء الانتداب الفرنسي على السويداء بدأت النهضة العمرانية تحيط بالميدان، وقامت فرنسا بإنشاء عدد من المباني حوله، وكذلك قامت بتحديث مبنى السرايا الحكومي الذي ورثته عن العثمانيين كمركز إدارةٍ للجبل، وهو الذي سيتحول إلى مبنى المحافظة الآن.

بني في عهد الانتداب أول مشفى على مشارف الميدان، وهو الذي تحوَّلَ  فيما بعد إلى ثانوية الفتاة أهمّ وأقدم مدارس المدينة. وعند دخول عصر المركبات والآليات، وبعد أن كانت الخيول والدواب تصطفّ في الميدان لقربه من مناهل الشرب، أخذت محلها السيارات وحافلات النقل، فأصبح الميدان هو ساحة السير،  نقطة الخروج من السويداء، والنافذة التي يخرج منها الناس باتجاه دمشق أو باتجاه الجنوب. من يريد الخروج من مدينة السويداء عليه الذهاب إلى الساحة، ومن يريد القدوم إلى السويداء في النقل العام يصل أولاً إلى الساحة.

ميدان العسكر

كان دخول الساحة إلى نطاق العسكرة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إذ تحوَّلَ ميدان السويداء إلى ساحة لتدريب طلاب المدارس على حمل السلاح واستخدامه. وبحسب ذاكرة السكان المحليين، كان الأهالي يتجمعون لمشاهدة طلاب مدارس الثانوية وهم يقومون بتفكيك وتركيب السلاح الفردي، ويتعلّمون المشية العسكرية.

ثم زار جمال عبد الناصر مدينة السويداء في العام 1960 خلال عهد الوحدة السورية المصرية، وتوجه إلى السرايا الحكومي، فيما احتشد الناس لاستقباله من ساحة السرايا وصولاً إلى الميدان.

ثم بلغ دخول الساحة إلى السياسة المُعسكرة ذروته في العام 1966، عندما شهدت السويداء أكبر محاولة انقلاب على النظام من قبل سليم حاطوم الضابط البعثي ابن محافظة السويداء. حشد حاطوم عدداً من الآليات العسكرية في ساحة الميدان، وطوَّقَ مبنى الحرس القومي محتجزاً رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي وصلاح جديد الأمين العام المساعد لحزب البعث. أمرَ وزير الدفاع وقتها حافظ الأسد بإرسال الدبابات من دمشق وتطويق مدينة السويداء، إضافة إلى تحليق الطيران الحربي فوقها مع التهديد بقصفها جواً، مما أجبر حاطوم على الفرار واللجوء إلى الأردن.

ساحة فراغ

وصل حافظ  الأسد للسلطة 1970. في الثمانينات بدأت تماثيل الديكتاتور تظهر على الأماكن العامة والساحات في أنحاء سوريا. زرعَ القائد المفدى ظلّه في وسط ساحة السويداء العامة على شكل تمثال بارتفاع ثلاثة أمتار، حتى بات المُشاة في محيطه يظهرون كأقزام أمامه، لينافس تماثيل سلطان باشا الأطرش، الشخصية التاريخية التي يُجمِع عليها أبناء المحافظة.

سيطرت السلطة على فراغ الساحة، حيث تسير جميع الأمور ضمن الحدود الرسمية، ولا يمكن أن يحدث أي شيء مفاجئ فيها إلا بتصريح رسمي. في كل مناسبة، يقوم الطلاب والمعلمون والموظفون بالدوران حول التمثال الذي كان يدير ظهره نحو مبنى الحرس القومي الذي شهد محاولة الانقلاب الفاشلة، ناظراً إلى وسط المدينة القديمة، مرتدياً عباءة تشبه التي يلبسها الزعماء التقليديون، ملوحاً بيده بأصابعه الخمسة.

لكن هذه الصرامة التي أضافها التمثال على الساحة العامة للمدينة لم تحمِه من ألسنة الساخرين،

والسخرية الأولى التي طالت التمثال كانت خلال الأزمة الاقتصادية الخانقة التي شهدتها البلاد في ثمانينات القرن الماضي، تتجسد السخرية في حكاية يرويها أهل السويداء عن سطل سمن فارغ حمله تمثال حافظ الأسد بيده المرتفعة. تقول الحكاية إنه عندما استيقظ سكان السويداء في يوم من أيام أزمتهم الاقتصادية آنذاك، اكتشفوا أن السطل قد عُلِّقَ في يد التمثال كرمز يشير إلى الأزمة الاقتصادية، وبالتحديد نقص الزيت والسمن في ذلك الوقت.

السخرية الثانية كانت الأحدث في التسعينيات، عند افتتاح أبرز محلات الشاورما في المدينة؛ شاورما أبو سليم، وذلك في مواجهة التمثال في ساحة السير. بدا تمثال الأسد الأب كأنما يصرخ على غرار الزبائن «أبو سليم خمسة شاورما لو سمحت». انتشرَ هذا السيناريو المتخيل بين المعارضين السياسيين التقليديين، سواء كانوا شيوعيين أو بعثيين غير راضين عن حكم حافظ الأسد، وهو ما جعل من تسمية الساحة بـ «خمسة شاورما» موقفاً سياسياً يمكن التعبير عنه فقط خلف الأبواب الموصدة وفي الغرف المغلقة.

ظلت السخرية من تمثال «خمسة شاورما» خفيّة، وكان من المستحيل إخراجها للعلن خلال حكم الأسد الأب، حين كانت ساحات البلد كلها تحت سيطرة السلطة.

سقوط التمثال

عند بدء الاحتجاجات في العام 2011، والمطاردة بين المتظاهرين وجماعة السلطة، امتنعت الساحة على أي نشاط معارض، إذ كانت نواة تكتل أمني لا يمكن الاقتراب منه أو الاجتماع فيه. الاحتجاج في أي ساحة كان أسهل من الاحتجاج في الساحة العامة، حيث يرفع تمثال حافظ الأسد ظله الثقيل، وبحيث لا يمكن أن تصل إلى الساحة كصادح أو هاتف دون أن يكون صوتك متطابقاً مع صوت الأجندة الرسمية. في الساحة العامة، كان يتم جمع الشارع الموالي للنظام ليحمل الأعلام ويهتف بحياة الرئيس. وفي هذه الساحة، لا صوت يعلو على صوت «الله سوريا وبشار وبس»، بينما كانت تتم مطاردة هتافات «ارحل» من الأزقة الضيقة والساحات البعيدة عن المركز.

في بداية أيلول (سبتمبر) 2015 اقتحمَ الاحتجاج الساحة العامة بشكل انفعالي عفوي. الساحةُ العصية القصية عن أي حشد شعبي سوى حشد التأييد، اقتحمها المحتجون من كافة الجهات، وكان هدفهم تمثال الأسد الأب كأول ردّ فعل على تفجير طال الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، مؤسس حركة رجال الكرامة المناهضة للنظام، ثم تفجير ثانٍ استهدف مصابي التفجير الأول ومسعفيهم على باب المشفى الوطني في المدينة. كان المحتجون، الذين هم من كوادر الحركة وأهالي الضحايا الذين قضوا على باب المشفى، يرددون «دمك بو فهد راس الأسد محلو»، متّجهين إلى طوطم السلطة في السويداء المزروع في الساحة العامة.

سقوط التمثال الأكبر في المحافظة كان رسالة سياسية من الحركة والمحتجين، وتعبيراً عن ابتعاد المحافظة أكثر عن النظام وانضمامها إلى المحافظات الثائرة آنذاك. كانت تكلفة إسقاط التمثال أكثر من 26 قتيلاً، وعلى رأسهم أبو فهد وحيد البلعوس أبرز رجال الدين المعارضين للنظام، في فترة كانت المرجعية الدينية فيها أقرب إلى الصمت المطبق عن كل ما كان يحدث في السويداء وخارجها. بقيت  المحافظة ثلاث أيام من الخوف والترقب والحداد. سيطر عناصر حركة رجال الكرامة على المدينة، وشهدَ اليوم الثالث هو مراسم دفن البلعوس. ما أن انتهت مراسم الدفن حتى خرجت مظاهرة طالبت بإسقاط النظام. مرّت الحشود من أمام الساحة العامة، كان الفراغُ هو الذي يسيطر على الموقف في الساحة، وصيحات المحتجين تدوي فيها «دم البلعوس رأس الأسد محلو». خطَّ المحتجون على قاعدة التمثال الذي تم إسقاطه عبارة «رجال الكرامة».

اصطدمَ إسقاطُ التمثال بمزاج رافض للتصعيد ضد النظام من مرجعيات دينية، وتمت ممارسة ضغوط أمنية باتجاه اعتبار ما حدث سحابة غضب لا أكثر. تم إجبار الشيخ ركان الأطرش، المرجعية الروحية للحركة، على الخروج على إذاعة «شام إف أم» ليحثَّ مناصريه على الهدوء والتروي، وتم قطع الإنترنت والكهرباء عن كامل المحافظة. تم اسقاط التمثال، لكن النظام بقيَ بكافة دوائره الأمنية والرسمية في السويداء.

بقيت الساحة لأنصار النظام رغم  زوال التمثال منها، وتم دهن قاعدة التمثال بألوان العلم السوري الرسمي لطمس عبارة «رجال الكرامة»، وخوفاً من تَسلَّل ألوان العلم السوري الأخضر إلى قاعدة التمثال. انتهى تمثال حافظ الأسد في الحديقة الخلفية لمبنى المحافظة، وتحوَّلت الساحة إلى مربع أمني. تم وضع عدد من الحواجز الإسمنتية، وكذلك تدعيم مبنى المحافظة ومقر الأمني الجنائي وقيادة الشرطة القريبين من الساحة بسواتر ترابية.

هكذا عادت الساحة لتكون عصية على حركات الاحتجاج، وكانت إزالة التمثال عاصفة غضب، دون القدرة على إحداث تغيير في توازن القوى أو امتلاك الساحة العامة للمدينة، التي بقيت الساحة الرسمية التي تستعرض السلطة فيها جمهورها وحزبييها.

محاولة

قامت حركات احتجاجية شبابية عديدة بهدف انتقاد الوضع المعيشي السياسي خلال السنوات الماضية، كان من أبرزها خنقتونا التي انطلقت في 2015 قبيل اغتيال البلعوس بأيام، وحركة حطتمونا في آذار (مارس) في العام التالي 2016، التي رفعت أيضاً شعارات معيشية مطلبية.

لكن أول حركة للاحتجاج انطلقت من  الساحة العامة كانت حركة بدنا نعيش، التي دعت إلى وقفة احتجاجية بداية العام 2020 في ساحة السير إثر تسارع التدهور الاقتصادي. اختار المحتجون الساحة العامة، مراهنين على  وجود أعداد أكبر من المرات السابقة، وأن يكون صوتهم مسموعاً أكثر باعتبار أنهم سينطلقون من الساحة الرسمية للمدينة. في البداية تم التغاضي أمنياً عن الاحتجاجات، سعياً لعدم استفزاز البيئة المحلية باعتقالات، وخاصة مع وجود فصائل محلية في المحافظة يمكن أن تضغط على النظام.

بعد حوالي الشهر تم تعزيز التواجد الأمني للنظام بعناصر تابعين للدفاع الوطني، و كتائب «حماة الديار»  التي يقودها نزيه جربوع أحد الشخصيات المحلية المتحالفة مع النظام. كان تعزيز التواجد الأمني بهدف التضييق على المحتجين، الذين كانت أعدادهم في ازدياد مع مرور الوقت. مع توالي الأسابيع بدأت الاحتجاجات تزداد أكثر من خلال دعوات للتظاهر يبثها الناشطون، معظمها كانت في يوم الأحد أول أيام الدوام الرسمي. كذلك بدأ يرتفع سقف الشعارات وصولاً إلى إسقاط النظام.

خطَّ المحتجون وقتها عبارة «ساحة الكرامة» على قاعدة التمثال السابق المطلية بالعلم السوري الأحمر.

جرت العادة في سوريا أن تتم تسمية ساحات التظاهر ضد النظام باسم ساحات الحرية، لكن المحتجين اختاروا ساحة الكرامة في السويداء. في تقديري أن هذا ربما يكون مقصوداً لطمأنة أو جذب الحاضنة الشعبية بعد اقتران شعار «الحرية» لدى كثيرين بكل مسار سنوات الثورة.، لكن أياً يكون السبب. كانت كلمة الكرامة هي الحرية بلباس محلي من السويداء، كما أنها تقترن بمؤسس حركة رجال الكرامة أبو فهد وحيد البلعوس، الذي كان مقتله سبباً بسقوط التمثال الأكبر للأسد في المحافظة.

دفع ازدياد أعداد المتظاهرين في  حملة «بدنا نعيش» النظام إلى إخراج البعثيين والموالين له لإنهاء حركة الاحتجاج  بالقوة، وتم إخماد الحركة فعلاً بعد قمع أحد الاحتجاجات واعتقال 9 أشخاص. في حزيران (يونيو) 2020 خاضت حركة رجال الكرامة مفاوضات مع النظام، وأخرجتهم بعد شهر من اعتقالهم.

تكررت الاحتجاجات في الشهر الأخير من عام 2022، إذ تجمعت حشود عند دوار المشنقة  غربي مركز المدينة في السويداء، وبدأت  بالمشي في سوق المدينة، خلال دقائق انتهى المطاف بالمظاهرة أمام مبنى المحافظة في ساحة السرايا المجاورة للساحة العامة، أي في الساحة التي بدأنا منها حكايتنا. قام المحتجون باقتحام مبنى المحافظة وإحراق أجزاء منه، وتعرّضوا لإطلاق نار من قوات الأمن المتحصنة في أحد المباني المجاورة ما أوقعَ عدداً من الإصابات. اعترفت أحد الفصائل المحلية بمسؤوليتها عن حرق المبنى، ونسبت ذلك إلى عناصر غير منضبطين.

أرخى إحراق مبنى محافظة السويداء على الجو العام نوعاً من الإحباط، وجاء تكريساً لرواية السلطات بخصوص أن المحتجين ليسوا سلميين، وإنما يرتدون قناع السلمية. بدأ فعل الاحتجاج يرتبط بالتخريب عند الكلام عنه في الأوساط الشعبية والمعارضة، وحتى بعض المؤيدين للاحتجاجات السلمية في السويداء راحوا يقللون من رهانهم عليها، باعتبار أن هذا النظام لا يفهم سوى لغة العنف من جهة، وأن المجتمع المسلح من جهة أخرى لا يمكن إلّا أن يعبر عن غضبه بالعنف. انتهى العام 2022 بركود مظلم يخيم على الأجواء. كان السكون القاتل وانعدام الأمل بأي تغيير يخيم على الناس هنا في السويداء، بغض النظر عن موقفهم من النظام السياسي.

 ساحة الكرامة

مع بداية العام الحالي عادت الدعوات إلى الوقفات الاحتجاجية في الساحة العامة. بدأت وقفات صامتة تركز على الوضع المعيشي، وراحت تتكرر بتوقيت أسبوعي هو يوم الإثنين.

كان النظام مرتاحاً لابتعاد الحاضنة الاجتماعية عن الاحتجاج بعد إحراق مبنى المحافظة، الذي تم النظر له كفعل تخريب، لكن أعداد المشاركين في الاعتصامات بدأت بالازدياد شيئاً فشيئاً مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وإصرار المحتجين على الاستمرار.

بدأ الجليد بالانكسار عن  فعل التظاهر. اعتاد الناس على الكلام بأنه هنالك مظاهرة في الساحة، وترافق ذلك مع كلام راح يشيع بين الناس بشأن أن هناك ضغطاً من الفصائل المحلية لمنع أي اعتقال في المحافظة، وذلك بالاعتماد على نجاح الفصائل المحلية في إجبار النظام على الإفراج عن أبناء السويداء الذين كان يعتقلهم خارجها خلال محاولتهم السفر.

كل تلك الظروف ساهمت في إعداد نواة الانتفاضة التي انفجرت بعد رفع الدعم عن المحروقات أواسط آب الماضي. حظيَ الداعون للإضراب والتظاهر بدعم الشيخ حكمت الهجري أحد مشايخ العقل، والذي كان على علاقة متوترة مع النظام منذ عام 2018، إضافة إلى تجاوب الموظفين الذين كانوا أكثر المتضررين من التدهور الرهيب في سعر الصرف ورفع الدعم. سحبت هذه العوامل من النظام القدرة على حشد شارع مؤيد مطعّم بالشبيحة لقمع المظاهرات مثلما كان يحدث في الأيام الماضية.

بينما تدخل الانتفاضة أسبوعه الرابع أثناء كتابة هذه السطور، السوق التجاري المحيط بساحة الكرامة يشهد حركة يومية طبيعية، ومكبرات الصوت تصدح في ساحة الكرامة بأغنية فيروز «يا حرية»، هذه الكلمة التي كان الهتاف بها سبباً لسحق الشموع وضرب المتظاهرين في آذار من عام 2011 في ساحة السرايا القريبة من ميدان السويداء العام، الميدان الذي تحوّل في هذه الأيام الاستثنائية إلى ساحة الاحتجاج السياسي ضد السلطة، بعد أن كان ساحة للسلطة طوال الماضية.

موقع الجمهورية

———————

حراك السويداء في نقطة اللاعودة: سلاح التخويف يفشل/ ليث أبي نادر و عماد كركص

تأخذ تظاهرات السويداء، جنوبي سورية، منحى تصاعدياً، لا سيما بعد حادثة إطلاق النار لتفريق المتظاهرين من قبل عناصر مسلحة في مبنى قيادة حزب “البعث”، داخل مدينة السويداء يوم الأربعاء الماضي، ما أدى لإصابة ثلاثة متظاهرين، ثم توجيه شيخ العقل الأول لطائفة الموحدين الدروز في سورية، حكمت الهجري، خطاباً تحذيرياً من التصعيد أمام المتظاهرين، على الرغم من مطالبته بضبط النفس والحكمة. لكنه أكد استمرار التظاهرات، موجهاً رسالة بعدم الرهان على الملل وطول أمد الحراك الحاصل في المحافظة، ذات الغالبية الدرزية.

وواصل المتظاهرون في السويداء حراكهم يوم أمس الجمعة، بتظاهرات في نقاط عدة، كان أكبرها داخل مدينة السويداء، بدأت من أمام مقر قيادة حزب “البعث” في المدينة، برسالة تفيد بعدم الانصياع لحركة إطلاق النار يوم الأربعاء الماضي.

واستخدم المتظاهرون الشعارات نفسها التي يرددونها منذ بداية حراكهم، المطالِبة بإسقاط النظام وإخراج إيران من البلاد، بالإضافة إلى التركيز على شعار “حزب البعث خائن”، وذلك قبل توجه التظاهرة إلى ساحة الكرامة وسط المدينة، مركز التظاهر المعتاد للأهالي.

وتجمّع الآلاف في ساحة المحافظة، في واحدة من أكبر التظاهرات التي شهدها الحراك في السويداء منذ اندلاعه قبل نحو شهر.

وبدت الشعارات خلال التظاهرة أقوى من ذي قبل، عبر المطالبة بإسقاط رئيس النظام بشار الأسد ورحيله عن السلطة، والدعوة لإخراج إيران ومليشياتها خارج البلاد، لا سيما بعدما دعا إلى ذلك الشيخ الهجري في خطابه بعد حادثة إطلاق النار.

وقال الناشط المدني سامر أبو دقة، المشارك في تظاهرة الأمس الكبيرة، إن المشهد في الساحة هو رسالة واضحة للنظام ولحزب “البعث” مفادها “سترحلون عاجلاً أو آجلاً، فحاجز الخوف تحطم”.

وأضاف في حديث لـ”العربي الجديد” أنه “يجب على هذا النظام أن يفهم أن خروج الآلاف وبهذا الزخم غير المسبوق، هو تأكيد من معظم المواطنين في السويداء على دعم الشارع ومطالبه بالحرية والانتقال السياسي والتغيير السلمي، في تحدٍ صارخ لكل محاولات النظام بإبعاد قسم من الناس عن المحتجين من خلال التهم الجاهزة، وغير ذلك من محاولات شق الصف”.

تظاهرة غير مسبوقة في السويداء

من جهته، أشار الناشط المدني منيف رشيد، في تصريح لـ”العربي الجديد”، إلى أن “تظاهرة (أمس) الجمعة غير المسبوقة على الإطلاق في محافظة السويداء منذ بداية الثورة السورية عام 2011، تدل على عدم الانصياع لكل التهديدات، والاستمرار في الساحات حتى تحقيق المطلب الأساسي في التغيير السياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254 (في 2015، للانتقال السياسي وإجراء انتخابات ووضع دستور تحت سقف الأمم المتحدة)”.

وأكد أن “التظاهرات سوف تستمر بسلميتها على الرغم من الاستفزازات اليومية والإشاعات، والأبواق الإعلامية التي تتهم المتظاهرين بالعمالة”.

وفيما رأت ناشطة حقوقية في حديث لـ”العربي الجديد” أن يوم الأربعاء الماضي، كان “السقوط الشرعي والضمني للنظام في السويداء”، قالت إن “مفاعيل ما حدث (من إطلاق نار على المتظاهرين) باتت واضحة للجميع ولم يعد للنظام وإعلامه وماكينته الإعلامية أي سيطرة على عقول غالبية مواطني المحافظة”.

وأعربت عن اعتقادها أن “النظام ربما يحاول افتعال أحداث أمنية بناء على السياق القديم للوضع السوري على مدى عقد”. ونبّهت أبناء المحافظة إلى ضرورة “إبقاء أعينهم مفتوحة لأي حركات غادرة عبر مليشيات النظام”، مشيرة إلى أنها “لا تقول ذلك في سبيل التخويف، ولكن لدواعي الحذر”.

الحراك في السويداء لا ينفصل عن الحراك في كل سورية

وتلا المتظاهرون أمس، بياناً صيغ بالتوافق بين منظمي الحراك والرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز في سورية، أشاروا فيه إلى أن “سورية التي كانت عز الشرق وخزان ثرواته، أصبحت وطناً للجائعين المحرومين من أبسط حقوق الحياة”.

وأضاف البيان أن “دولة المخابرات حوّلت مجتمعها إلى أشلاء، لقد جعلوا فلاحها يزرع ولا يأكل، عاملها يصنع ولا يلبس، موظفها يَخدم ولا يُخدم، وجنديها يدافِع ولا يدافَع عنه”.

وأشار إلى تشريد المجتمع السوري، ووجود عدد كبير منه في مخيمات النزوح، منوهاً إلى أن النظام يريد “دولة بلا شعب”. وتوجه للأخير بالقول: “بئس الحكم والحكومات أنتم”.

وأكد البيان أن حراك السويداء لا ينفك عن الحراك في سورية ككل، داعياً إلى وحدة الصف للوصول إلى “بناء الدولة الديمقراطية” لكل السوريين. وقال المتظاهرون في البيان إنه “لم يعد مقبولاً أن يملي علينا حزب سياساته”، بالإشارة إلى حزب البعث، “أو أن يرثنا أحد كأننا بعض من أملاك أسرته وخاصيته”.

وشهدت تظاهرة الأمس في ساحة الكرامة، قيام أحد المواطنين بتقديم وليمة المنسف العربي، الذي أطلق عليه (قِرى الكرامة)، حيث يعد المنسف من أهم العادات والتقاليد الاجتماعية في جبل العرب ودليلا على الكرم والفرح، ويدل ذلك على زيادة التكاتف الشعبي مع الحراك في ظل استمراره وتصاعده.

تحذيرات دولية وأممية من استخدام العنف ضد المتظاهرين

وفي موازاة ذلك تصاعدت التحذيرات الدولية من التعامل بعنف مع تظاهرات السويداء من قبل النظام السوري، بعد إطلاق النار على المتظاهرين. وقالت السفارة الأميركية في دمشق (سابقاً)، في بيان على منصة “إكس” (تويتر سابقاً) مساء أمس الأول: “نحن قلقون بشأن التقارير حول استخدام النظام للقوة في السويداء”.

وأضافت: “ندعم حق الشعب السوري في التظاهر بسلام من أجل الكرامة والحرية والأمان والعدالة”، لافتة إلى أن “الحل السياسي وفقاً للقرار الأممي رقم 2254 هو الحل الوحيد الممكن لهذا النزاع”.

من جهتها، أعربت المبعوثة الفرنسية الخاصة إلى سورية، بريجيت كرمي، على “إكس” مساء أمس الأول، عن قلقها البالغ إزاء “التصاعد المقلق للعنف في منطقة السويداء جنوبي سورية”، مضيفة أنه “بعد ثلاثة أسابيع من حراك شعبي مستمر، الأخبار التي تصل إلينا اليوم من السويداء مقلقة للغاية، ويجب على النظام الامتناع عن استخدام القوة ضد المتظاهرين السلميين”.

وبالتزامن قال المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسن، في تغريدة على “إكس”، إنه يتابع الأوضاع في السويداء بقلق ويؤكد على “ضرورة حماية المدنيين واحترام حقوق الاحتجاج السلمي”.

وفي خطوة فُهمت من قبل المحتجين على أنها تهديدية، حلّقت، ظهر أمس الأول، طائرات حربية تابعة للنظام في سماء محافظة السويداء، في حدث نادر. واعتبر ناشطون في المحافظة، أن ذلك يحمل رسائل ترهيب لأهالي المحافظة الذين يواصلون انتفاضتهم ضد النظام منذ نحو شهر، وسط إصرار على استمرارها حتى تحقيق أهدافها في التغيير السياسي.

العربي الجديد

———————————-

السويداء السورية… تجربة مكررة؟/ عبسي سميسم

مع تصاعد الحراك الشعبي في محافظة السويداء ووصوله إلى عموم أرجاء المحافظة ورفع سقف مطالبه من خدمية إلى المطالبة بإسقاط النظام السوري، بدأت تظهر أصوات، ومنها ما هو محسوب على المعارضة، محبطة لهذا الحراك ومشككة بجدوى وصوله إلى أي نتيجة، على مبدأ أن سكان محافظة السويداء “يجربون المجرب” وأنهم يعيدون ما قام به السوريون منذ عام 2011 من تظاهرات بدأت سلمية تطالب بإسقاط النظام، سرعان ما حوّلها الأخير إلى صراع مسلح نتيجة استخدامه العنف المفرط ضد المتظاهرين.

ومع هذا وعلى الرغم من التظاهرات المليونية التي خرجت تطالب بإسقاط النظام، لم يتمكن السوريون من إطاحة النظام الديكتاتوري الحاكم ولا حتى دفعه لتقديم أي تنازل من شأنه أن يغيّر شيئاً في بنيته.

قد تكون احتجاجات السويداء شبيهة إلى حد بعيد بالاحتجاجات التي عمّت معظم الأراضي السورية في بداية الثورة في الشكل والشعارات والمطالب وتنظيم التظاهرات، إلا أنها تختلف عنها لناحية التوقيت والظرف وحتى المكون السكاني. هذه الاختلافات جوهرية، وبإمكانها، في حال تمكنت السويداء من الاستمرار في حركة الاحتجاج وتصعيدها، تحقيق نتائج كبيرة قد تكون بداية لتغيير شامل في كل سورية.

في بداية الثورة السورية، كان المتظاهرون يواجهون نظاماً متماسكاً اقتصادياً نوعاً ما، ويحظى باعتراف كل دول العالم سياسياً وتربطه علاقات مع دول كبرى قدّم لها كل ما تملكه البلد من أجل مساعدته في الحفاظ على الحكم، أما الآن فسكان السويداء يواجهون نظاماً منهاراً اقتصادياً، وتتعامل معه معظم الدول الفاعلة في العالم كعصابة تعتمد في مواردها على تصنيع وتصدير المخدرات للعالم وتفرض عليه عقوبات اقتصادية وسياسية.

كما أن الدولة الكبرى التي ساعدت النظام في قمع الثورة ومنعته من الانهيار، أي روسيا، تخوض الآن حربها الخاصة في أوكرانيا، وقد حصلت من النظام على ما يمكن الحصول عليه، وبالتالي فإن المحافظة على النظام في سورية لم تعد في مقدمة أولوياتها.

كذلك، فإن المكون السكاني في السويداء، التي ينتمي معظم سكانها لطائفة الموحدين الدروز، يوجب على النظام تغيير التكتيك الذي اعتمده في التعاطي مع الثورة في باقي المحافظات السورية، حين أطلق سراح المعتقلين من الجهاديين المتشددين كي يشكلوا تنظيمات يدعي محاربتها خلال قمعه الثورة.

وفي حالة السويداء، ليس أمام النظام سوى اتهام المتظاهرين بالانفصالية وبالتآمر مع جهات خارجية، مع محاولة اللعب على خلق خلافات بين المرجعيات الروحية لدى الموحدين الدروز. هذه الأساليب لا تزال تثبت فشلها أمام تماسك المحتجين ورفعهم شعارات ضد الانفصال والتدخل الخارجي، الأمر الذي يبشر بنجاح هذا الحراك وانتقاله إلى مناطق أخرى في حال حافظ على زخمه وتماسكه، ما من شأنه أن يوفر إرادة دولية لفرض حلّ سياسي رغماً عن تعنّت النظام وعنجهيته.

—————————

بعد شهر من انطلاق المظاهرات ضد النظام السوري: ما هي السيناريوهات المتوقعة؟/ منهل باريش

 يرجح أن يبتعد النظام عن القضاء على احتجاج السويداء، كما أن استعمال القوة بشكل مباشر سيدفع الكثير من المترددين إلى الوقوف إلى جانب المحتجين الذين يشكل الشيخ الهجري عنوانهم.

وضع الشيخ الروحي للطائفة الدرزية حكمت الهجري في السويداء جنوبي سوريا، الحراك الاحتجاجي ضد النظام السوري في مكان متقدم، يكاد يقطع مع النظام بشكل شبه نهائي. حيث دعا إلى مواصلة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية: «الساحات لنا وسنبقى فيها بشكل سلمي يوما.. يومين، شهرا.. شهرين، سنة.. سنتين، ولن نتراجع».

وفي سابقة، اعتبر أن إيران وميلشياتها هم «محتلون ولا نقبل بوجودهم في سوريا.. ورأينا في ذلك نعلنه على الملأ». واتهمها بأنها دخلت إلى سوريا بهدف «سرقة البلاد وثرواتها وتغيير عقول الناس باتجاه غير مقتنعين فيه» لافتا إلى أن «فكر هذه الميليشيات تخريبي» وشدد على ضرورة «الجهاد ضدها».

وحذر أبناء السويداء من الانجرار إلى السلاح لأن النظام السوري يحيك مؤامرة ضد السويداء تضع الدروز في موضع الاتهام. واستدرك أن «سلاحنا مُنظف وجاهز والطلقة في بيت النار ضد من أراد التعدي علينا» مؤكداً أن الطلقة الأولى لن تصدر من أهل السويداء.

حول إطلاق النار من عناصر أمنيين وبعثيين متمركزين في مبنى فرع الحزب قال الشيخ: «غير متفاجئ مما حصل. أعرف أن أي سوء سيصيبنا سيكون بسبب هؤلاء الحزبيين الساقطين» وأضاف: «هناك مؤسستان لدى النظام السوري، هما مصدر البلاء في هذا البلد، المؤسسة الأمنية، والمؤسسة الحزبية».

وفي بيان مكتوب للشيخ الهجري، تلاه أحد مساعديه الشيخ الهجر خلال استقبال وفد المحتجين، وصف «كل شخص لا يقف مع أهله في هذه الإرادة الشعبية التي هي عنوان للكرامة هو خائن لوطنه» وتبرأ اجتماعيا ودينيا من شخص «يساند هذا الحزب البائد (حزب البعث العربي الاشتراكي) فهو خارج من القيم والأصول الدينية التي تربينا عليها».

وطالب البيان أعضاء مجلس محافظة السويداء بـ «التزام منازلهم، أو الاصطفاف مع المحتجين» وزاد «أنتم معينون من قبل هذا الحزب البائد (البعث) ولستم منتخبين من قبل الشعب، الزموا الصمت إن كنتم غير قادرين على النطق بالحق». وناشد عائلات السويداء أن تعمل على «توعية أبنائها على اختلاف توجهاتهم، والحذر من الفتنة التي يسعى إليها النظام وأعوانه».

جاء كلام الزعيم الروحي خلال لقائه وفدا شعبيا ضم الجرحى الذين أصيبوا بحادثة إطلاق نار من قبل عناصر أمنية يتمركزون أعلى سطح مبنى فرع حزب البعث في مدينة السويداء، وهو المبنى الذي أغلقه المحتجون قبل نحو عشرين يوما، لكن عناصر الأمن تسللت إليه في محاولة لإعادة فتحه مرة أخرى، ومنع المحتجون إعادة فتحه والدخول إليه.

ورغم توثيق حادثة إطلاق النار وبث شرائط مصورة لها وتصوير وجوه مطلقي النار، لم يجر التعرف عليهم بعد مضي عدة أيام من الحادثة وحتى لحظة كتابة التقرير (يوم الجمعة) وهو ما يؤكد أنهم يتبعون للقوى الأمنية وليسوا من أبناء السويداء أو من حرس المبنى من البعثيين المحليين. وتعتبر حادثة إطلاق النار على المتظاهرين هي الأولى منذ انطلاق الاحتجاجات المناهضة للنظام التي انطلقت في 16 آب (أغسطس) الماضي.

مصير الحراك ومستقبله

قال الباحث والناشط السياسي مضر الدبس إن المستقبل مفتوح على كل الاحتمالات ولم يستبعد في اتصال مع «القدس العربي» افتعال النظام نوعا من «الاقتتال الداخلي وهذا ممكن ان لم يتم تداركه من الحراك والطرف الآخر الموالي للنظام». ونوه إلى وجود طرفين مسلحين الآن في السويداء هما «الجهة التي يمثلها الشيخ الهجري وهي المجموعات المسلحة التي أعلنت ولاءها له، والجهة الأخرى هي التي يمثلها الشيخ الجربوع وهي بقايا ميليشيا الدفاع الوطني والموالين للنظام وبعض العسكريين غير مضموني الموقف والمحسوبين على النظام».

وقَدّر تراجع احتمالات الاقتتال لسببين «إدراك الحراك في ساحة الكرامة لتلك المسألة وخسارة الجربوع لرصيده الأخلاقي والاجتماعي والسياسي منذ بدء الاحتجاجات». وتوقع «عمل النظام على سردية وصم الحراك بالعمالة والارتباط مع إسرائيل».

وقلل من احتمالية العمل العسكري لما للأمر من تبعات إقليمية تتعلق بوجود الأردن وإسرائيل على الجانب الآخر من الحدود، وخفف من فرضية فتح معبر حدودي بين السويداء والأردن ووصفه انه «فكرة قديمة لكنها غير متاحة أو ممكنة». ولفت إلى أن «الأردن يعيد حسابات التطبيع مع النظام بشكل حقيقي، فعمل عسكري سيكون بدعم ومشاركة من إيران وحزب الله وهذا مقلق وخطير بالنسبة للأردن». ورأى الدبس ان الحراك «أعاد السويداء إلى سوريا بالمعنى السياسي».

وفي الاحتمالات أيضا، أطر الباحث السوري مازن عزي مستقبل الحراك بأربعة سيناريوهات. أولها «أن يحافظ النظام على تواجده الأمني من خلال الأفرع والمربعات الأمنية ويتراجع قليلا بمسألة السيطرة والإدارة المباشرة، ويترك للمحتجين تشكيل شكل ما من إدارة ذاتية». ورجح أن تكون «الفوضى الأمنية وخلق المشاكل والقلاقل ضمن المنطقة والدفع باتجاه الانقسام الأهلي» هي السيناريو الآخر.

وتوقع في حديث لـ «القدس العربي» أن يكون «تآكل الحراك مع الوقت وعدم قدرته على تجديد نفسه « احتمالا قائماً.

لكنه رجح أن «ينجح الحراك بإنتاج قيادة محلية بدعم من مشيخة العقل تقوم بإدارة مرحلة انتقالية اسعافية في السويداء تنادي بالحل السوري سياسيا وتطبيق القرار الدولي 2254».

واستبعد حدوث مواجهة عسكرية مباشرة، فلم نرصد ولم يجر تحشيد عسكري لقوات النظام وانتشار قواته وإعادة تموضعه «ما زال دفاعيا في المنطقة الجنوبية» وقلل من فرضية الطلب من الفرقة 25 -مهام خاصة (قوات النمر) التي يقودها اللواء سهيل الحسن، رفع جاهزيتها لزجها بمعركة في السويداء.

وتشير تقديرات أمنية متناقلة، أن الفرقة التي يقودها الحسن قادرة على حشد 18 في المئة من مقاتليها فقط بسبب انتشارها في عدة محاور قتالية وفي أحسن الأحوال يمكنها الاستغناء عن 6 في المئة فقط من قواتها وهذه غير قادرة على إحداث فرق ميداني.

واعتبر عزي أن قوات النظام تعاني من ترهل وأولوياتها ليست «ضرب انتفاضة شعبية في السويداء، فهي لا تضر بطرقه الحيوية وموارده الاقتصادية» وأضاف أن النظام «قادر على التعايش معها، حصل ذلك مع قسد شرق الفرات ويتعايش مع الوضع في إدلب».

يرجح أن يبتعد النظام عن القضاء على احتجاج السويداء عسكريا، فهو يملك الكثير من أوراق القوى هناك، ويمكنه الاستثمار بها، سواء الخلايا الأمنية أو الجماعات الدينية أو القوى العسكرية، كما أن استعمال القوة بشكل مباشر سيدفع الكثير من المترددين إلى الوقوف إلى جانب المحتجين الذين بدأ الشيخ حكمت الهجري يشكل عنوانهم الأهم. ويسعى النظام إلى الحفاظ على الوضع الراهن هناك. فهو لم يتخذ أي إجراء عقابي ضد المحافظة المحتجة ضده، فحافظ على مستوى الخدمات ذاته، على العكس فقد تحسن واقع امداد المحافظة بالكهرباء بشكل نسبي قليلا.

ولا يقتصر سوء الأحوال المعاشية والخدمية على السوريين في محافظة السويداء وحدها، فالحال واحد في عموم مناطق سيطرة النظام بما فيها اللاذقية مسقط رأس بشار الأسد. فهو لا يملك أي شيء يقدمه لمواطنيه، فالخزينة فارغة وما تبقى من الموارد يسرقها القادة الأمنيين والعسكريين وقادة الميليشيات التي تسانده.

في نهاية المطاف، يراهن النظام على الفوضى الأمنية وتفسخ المناطق الخارجة عن سيطرته ويسهل الاقتتال الأهلي بين معارضيه عودة سيطرته على المناطق التي يفقد حكمها والسويداء رغم أنها استثناء في عدة مواقع لكن لا يمكن استبعادها من الحالة السورية الكبرى.

—————————-

من يحمي النظام السوري من الأقليات؟/ د. فيصل القاسم

من أكثر النكات إثارة للضحك والسخرية على مدى نصف قرن من التاريخ السوري الحديث النكتة التي كان يضحك بها النظام السوري على العالم، ألا وهي نكتة «حماية الأقليات» موحياً بذلك أن الأقليات في سوريا تعيش في رعب دائم من الأكثرية، وهي بالتالي تحتاج إلى حام على الدوام، مع العلم أن الأقليات السورية لم تتعرض في تاريخها لواحد بالمائة من الأذى الذي تعرضت له على أيدي النظام الأسدي. وللأمانة فقد نجح النظام في ترويج وتعميم تلك الكذبة السمجة لفترة من الزمن، لكن حبل الكذب مهما طال يبقى قصيراً، حيث يظهر اليوم أمام الجميع عارياً تماماً بعد أن سقطت ورقة حماية الأقليات التي كان يغطي بها عوراته التي لا تعد ولا تحصى.

لا شك أن النظام وحلفاءه الطائفيين نجحوا في استغلال البعبع الإسلامي على مدى سنوات لمصلحته الخاصة داخلياً وخارجياً، لكن ماذا بعد أن انكشفت خدعة حماية الأقليات وبعد أن راحت بعض الأقليات كالموحدين الدروز مثلاً يمسحون الأرض برأس النظام ويغلقون مقرات حزبه الحاكم ويدوسون على صوره وتماثيله بنفس الطريقة التي داست بها الأكثرية على رموز النظام قبل أكثر من عشر سنوات. لا بل إن أهالي السويداء لم يتركوا شعاراً ولا لافتة ولا أغنية من اللافتات والشعارات والأغاني التي أنشدها ثوار الأكثرية إلا ورددوها في ساحة الكرامة بقلب المدينة التي تطهرت تماماً من كل صور وتماثيل بشار ووالده. وهذا أكبر دليل على أن الأقليات لم تصدق يوماً الكذبة التي حاول بها النظام خداع العالم لتبرير همجيته بحق الأكثرية وتقديم نفسه على أنه يحمي الغرب من الإرهاب الإسلامي. لقد سقطت كذبة مواجهة الخطر الإسلامي تماماً، ولم يعد هذا النظام الفاشي قادراً أن يستر عوراته بأي شعارات جديدة.

والمؤلم جداً في الأمر أن كذبة «حماية الأقليات» انطلت لردح من الزمن على الغرب نفسه دون أن يعلم الغرب المسيحي أن أكبر المتضررين من النظام السوري هم المسيحيون السوريون أنفسهم. ويقول الباحث السوري المسيحي جورج كدر في دراسة له بعنوان «هندسة الفتن» إن «الهجرةَ الكبرى للمسيحيين السوريين كانت على مدى السنواتِ الثلاثين الماضية، أي خلال حكم النظام السوري الحالي. والأرقام تقول إنّ أكبر هجرة للأقليّات كانت في عهد الديكتاتوريّة التي ادّعت حماية الأقليّات، فقد انخفض عدد المسيحيين منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة بشكل كارثيّ؛ فبعد أن كانت نسبتهم 16.5 بالمئة من السوريين مطلع السبعينيّات، قد تصل اليوم إلى أقلّ من 6 بالمئة وربما أقل بكثير، حسب كدر.

وحتى الحاضنة الشعبية للعائلة الحاكمة في سوريا في الساحل السوري لم تدفع بتاريخها ثمناً باهظاً كالثمن الذي دفعته خلال العشر سنوات الماضية، فقد استخدمها النظام كرأس حربة ضد الأكثرية، وورطها في صراع تاريخي مع المسلمين في سوريا الذين يشكلون أكثر من ثمانين بالمائة من سكان البلاد.

لقد صرح أحد المتحدثين باسم النظام في السنوات الأولى للأحداث وعلى شاشة الجزيرة بأن العلويين فقدوا أكثر من مئتي ألف قتيل، وهذا يعني أن الرقم ربما تضاعف خلال السنوات اللاحقة من المواجهة بين النظام والأكثرية السنية. وقد ذكرت صحيفة «الحياة» في تقرير لها من الساحل قبل سنوات أن العديد من البلدات العلوية أصبحت بلا رجال لأن العائلة الحاكمة زجت بهم في أتون الحرب ضد الأكثرية. وماذا كانت مكافأة الأقلية العلوية المذبوحة التي يستخدمها النظام في حربه على السوريين؟ إنها تعيش منذ سنوات أسوأ فترة في تاريخها، ويكاد يكون وضعها اليوم أسوأ بمرات من وضع النازحين السوريين الذين تجمعوا في الشمال السوري أو حتى في بلاد اللجوء. وقد خرجت أصوات علوية قوية للغاية في الآونة الأخيرة ضد النظام رغم القبضة الأمنية الوحشية المسلطة على الحاضنة الشعبية للعائلة الحاكمة في الساحل السوري. ولمن لا يعرف فإن عقاب العلوي الذي يتمرد على النظام أكبر بمرات من عقاب أي مكون سوري آخر، فالمطلوب من العلويين المسحوقين المذبوحين المهمشين المنتوفين أن يصمتوا حتى لو لم يجدوا لقمة الخبز لأطفالهم. لكن مع ذلك، هناك حالة تململ غير مسبوقة في العلاقة بين العائلة الحاكمة والمجتمع العلوي الذي قدم مئات الألوف من القرابين على مذبح العائلة ليجد نفسه اليوم في أسوأ وضع معيشي كارثي بعد أن هرب عشرات الآلاف من شبابه إلى العراق وغيره بحثاً عن لقمة عيش، وبعد أن كانت مكافأة العائلات التي فقدت شبابها في الحرب ساعة حائط صناعة صينية وفي أحس الأحوال «سحارة برتقال» أو «باكيت متة».

واليوم لو خفّت القبضة الأمنية الوحشية قليلاً في الساحل السوري لربما شاهدنا انتفاضة شعبية ضد العائلة الحاكمة بنفس قوة انتفاضة الموحدين الدروز في السويداء. ومن الواضح أن الأمور في الساحل طال الزمن أو قصر تتجه في اتجاه الانتفاضة، خاصة وأن غالبية الشارع العلوي يضع اليوم ألف إشارة استفهام على أصل وفصل العائلة الحاكمة، والنسبة الكبرى من العلويين اليوم تشكك في أن يكون آل الأسد علويين أو سوريين أو حتى عرباً أو مسلمين. حاول اليوم أن تسأل علوياً على انفراد عن أصل العائلة فسيقول لك إنها مجهولة النسب ولا تمت للعلويين بصلة، وهي فقط تستخدم الطائفة كرأس حربة لتنفيذ مخططات شيطانية لصالح مشغليها في الخارج ضد سوريا والسوريين والعرب والمسلمين. ولو كانت العائلة من أصل سوري لما دمرت سوريا وشردت شعبها وباعتها بالجملة والمفرّق للغزاة والمحتلين الذين استقدمتهم لحماية عرشها الذليل.

والآن بعد أن اتضح أن النظام السوري أكبر عدو للأقليات والأكثرية في آن معاً، ماذا بقي لديه من أكاذيب كي يتاجر بها، فقد أثبت الباحثون المسيحيون أنفسهم بأن العائلة الحاكمة في سوريا هي المسؤولة عن تهجير غالبية المسيحيين، بينما يرى العلويون أنهم لم يعانوا في تاريخهم كما يعانون اليوم بسبب استغلالهم من قبل العصابة الحاكمة في مشاريع شيطانية لا ناقة لهم فيها ولا جمل. أما الموحدون الدروز فقد قطعوا شعرة معاوية مع النظام تماماً كما نرى يومياً في انتفاضتهم المباركة التي ستدخل شهرها الثاني. ولا يبدو أن هناك رجعة إلى النظام بعد أن أصبحت السويداء محسوبة على مناطق المعارضة، وبالتالي فإن السؤال اليوم: هل كان النظام يحمي الأقليات فعلاً أم كان يحتمي بها؟ من سيحميه من الآن فصاعداً من الأقليات بعد أن سقطت وانفضحت خرافة «حماية الأقليات»؟

كاتب واعلامي سوري

القدس العربي

———————

أسئلة لا بدّ منها إلى السوريين/ سوسن جميل حسن

تنتفض السويداء من جديد، في وقتٍ وصل معه الشعب السوري بمجمله إلى مستوياتٍ لا يمكن احتمالها، ولا حتى تصديقها، في زمن ينتمي إلى هذا العصر، عصر حقوق الإنسان التي أقرّتها المنظمات والمعاهدات الدولية، وجعلتها غالبية الدول منطلقًا لدساتيرها، العصر الذي بات على الشعوب والحكومات فيه أن تجعل من شرعة هذه القوانين الضامنة للحقوق بمرتبة ألواح الوصايا، أو المنطلقات “النظرية”، التي تسعى الحكومات إلى تحقيقها.

وكالعادة، انقسم الشعب السوري الذي وصل في غالبيّته الساحقة إلى الحضيض في عيشه إلى فئاتٍ تتبارى في تفنيد الحراك بين شيطنته وتقديسه، مع أن هذه الغالبية التي تجاوزت التسعين بالمئة منه، تعاني من انعدام كل مقوّمات العيش ضمن “دولة”، وقسم كبير منها يدلي بدلوه ويصرخ مع من يصرخون (على مواقع التواصل الاجتماعي)، ويكيل الاتهامات بحق “الحكومة”، ويحمّل وزيرًا من هنا، وآخر من هناك، مسؤولية هذا الخراب الواقع عليهم، من دون أن يجرؤوا على الإشارة إلى المشكلة الرئيسية، إن كان في مناطق النظام أو في تلك الأخرى الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع. لذلك نرى أصواتًا تتّهم الحراك بأنه تطبيق لأجندات خارجية، أو أنه دعوة إلى الانفصال، أو مؤامرة تبدو أصابع الصهيونية العالمية من خلفها تستخدمها للنّيْل من هيبة الدولة وإضعافها، أو اتهامات أخرى متنوّعة، وأصواتًا أخرى من الجانب الآخر المحسوب على المعارضة، تستخفّ بالحراك، وتحاول أن تُلبسه لبوسًا طائفيًا. أما الأصوات الواعية للحالة السورية، والتي تحاول الاستفادة من أخطاء الانتفاضة السابقة وعثراتها، وترى في الانتفاضة الحالية أملًا جديدًا، فهي تجاهد من أجل إبقاء هذه الشعلة وحمايتها من رياحٍ تتربّص بها، وتجاهد من أجل إذكائها واستمالة بقية مكوّنات الشعب السوري لتأييدها ودعمها وزيادة بقعة ضوئها.

وعلى الرغم من وضوح الواقع بكل أبعاده وعمقه وشروخه وانهياراته، هناك من يراهن على السراب، علمًا أن هذا الواقع لا يحتاج إلى شرح، فلو طرحنا بعض الأسئلة على الناس العاديين، ما سيكون ردّهم حولها؟ من قبيل: هل الحكومة قادرة على تلبية متطلبات حياة الناس حتى في حدّها الأدنى الضامن لاستمرارها لتكون قادرةً على النهوض بالمجتمع مستقبلًا؟ هل هي قادرة على تأمين الغذاء ليضمن أكثر من الرمق بقليل، وهل هي قادرة على تأمين التعليم والرعاية الصحية والتنقل والمواصلات ووصول التلاميذ إلى مدارسهم والموظفين إلى مقرات عملهم، وباقي قطاعات المجتمع إلى أعمالهم؟ هل الحكومة قادرة على القضاء على الفساد المستشري مثل الوباء في دوائر الدولة، بل صار سلوكًا مجتمعيًا؟ هل القضاء قادر على الوقوف على ساقيه بعدما انتهك حتى النخاع؟ هل الحكومة قادرة على فرض سلطتها على كل التراب الوطني؟ وهل هي قادرة على تأمين حدودها البرّية والبحرية والـ “الجوية” من الاختراقات الخارجية والاعتداء؟ وعلى حماية موارد البلاد التي هي ملك الشعب، كل الشعب، واستثمارها في صناعاتٍ وخدماتٍ له؟ هل هي قادرة على حماية الشعب من النزوح واللجوء والهجرة التي لم تتوقف، على الرغم من المخاطرة المميتة، وتدفع الشباب إلى البحث عن أماكن أو أوطان بديلة تضمن لهم تحقيق ذواتهم الإنسانية، ويمكن أن تعد بفتح آفاق المستقبل المنغلقة في وجوههم في بلادهم؟ هل هي قادرة على معالجة مشكلات الفقر والبطالة والجريمة بكل أشكالها، المنظمّة وغير المنظمّة، من قتلٍ ونهبٍ ومتاجرةٍ بالممنوعات، وخصوصا المخدّرات والسلاح؟ هل هي قادرة على منع التدهور الاقتصادي وتنشيط دورات الاقتصاد الراكدة كما المستنقعات، أو تمنع تدهور الليرة؟ وهل يقتنع كل الشعب بأن العقوبات التي اتّخذتها الدول القوية بحق سورية هي السبب، بينما ينظرون كيف تمتلئ الشوارع بالسيارات الحديثة، والأجهزة الذكية وكل ما تنتجه تلك الدول من أدوات العصر والتقنيّات الرقمية؟

هذه حقول يابسة تتسع وتمتد أمام أعين السوريين جميعهم، في الداخل والخارج، في المناطق الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع، وتلك الواقعة تحت سيطرة النظام، حقول تبدو الشواهد فيها أعمدة متفحّمة كالتي تخلفها حرائق الغابات، لكنها تحكي تاريخًا أوصل البلاد إلى الاشتعال والترمّد بعدها، فمن المسؤول عن حماية الدولة ومؤسّساتها والمجتمع بكليّته؟ أليس حزب البعث هو من سطا على الدولة والحكم منذ 60 عامًا تحت راية “القائد الأوحد للدولة والمجتمع”، ثم احتكرت السلطة فيه عائلة واحدة؟ ألم تُبتلَ الانتفاضة السورية بمن صادروا حقّ تمثيل الشعب السوري، فأضافوا إلى أزمات الشعب ومشكلاته إضافات لم تقدّم شيئًا له سوى أنها ساعدت في تفاقم أحواله ومصيره، كما لو أنها قدّمت إحدى أهم الجوائز إلى النظام الذي انتفض الشعب في وجهه؟ فما الذي قدّمته هذه الهيئات المعارضة؟ إذا نظرنا إلى واقع الحال في أماكن نفوذها وسلطتها لما لمسنا فارقًا يمكن البناء عليه، خصوصا لناحية المجتمع ومكانة المرأة ودورها فيه، بالإضافة إلى صهر المجتمع في بوتقة واحدة، من حيث الشمولية الدينية والمجتمعية، والعرقية في بعضها.

مجتمعٌ منقسمٌ على نفسه مرّات ومرّات، صارت لديه مشروعات بدلًا من مشروع وطني ينقّي فيه نفسه ويتعافى من أمراضه المزمنة التي كرّستها الأنظمة القمعية المتعاقبة والمتحالفة، بين سياسي وديني واجتماعي، كلها تشترك في تشكيل ثقافة سائدة وتكوين بيئة حاضنة لها، تراجعت مكانة المرأة ودورها في عديد المناطق السورية، مع عدم إغفال أن ما حقّقته المرأة ميدانيًا في العقود السابقة لا يرقى إلى مستوى الشعارات والأطروحات التي أشهرها النظام نظريًا، عدا تهتّك النسيج المجتمعي باكرًا في عمر الانتفاضة الأولى التي دُفعت إلى لجّة الحرب، ما أظهر انخفاض مستوى الوعي الجمعي، وضبابية مفهوم الانتماء إلى الوطن أو الدولة، بل ظهر جليًا كم هي الانتماءات إلى كيانات ما قبل الدولة هي الأقوى.

على الدولة واجباتٌ، قبل أن تتمسّك بالحقوق التي تصبح مفهومًا مطّاطيًا في يد أنظمة الحكم، فكلما ابتعد النظام في أي دولة عن الديمقراطية والنزاهة في العملية الانتخابية، وصادر الحرية السياسية وشلّها حتى لا يبقى أي حراكٍ سياسي أو تداول في الشأن العام بالمطلق إلّا من خلال ممثليه، وكلما صادر الحريات كلها وأهمّها حرية التعبير والقول، انقلبت الواجبات، على قلتها، إلى أعطياتٍ ومكرمةٍ من النظام أو رأسه، وازدادت مروحة حقوقه على حساب حقوق المواطنين اتساعًا.

هل المشكلة في تمييع هوية الدولة؟ أم في تشظّي الهوية المجتمعية؟ هل هناك مجتمع فاشل؟ وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة فمن المسؤول؟ وما الهدف الأساس الذي يجب أن يبقى ماثلًا أمام وجوه السوريين في حراكهم؟ وما هي الأولويات ومن ثم الشعارات التي تمثل عناوين خريطة الطريق المستقبلية؟ وقبل كل شيء، انطلاقًا من الأسئلة السابقة، لا بد من طرح السؤال الأساس: هل سورية دولة فاشلة؟ وإذا كانت كذلك، هل كان من الممكن للمؤامرة “الكونية” أن تتمكّن من شعبها وتقسّمه وتشظّيه وتبدّده وتجعله يقاتل بعضه بعضًا، لولا أن نظامًا صادر السلطة والمصير أوصل الشعب إلى هذا الفراغ الروحي، وفتح المجال لأطراف المؤامرة كي توصله إلى هذا المصير؟ سؤال على كل سوريٍّ أن يفكّر فيه.

العربي الجديد

—————————

هل يُسقِط حراك السويداء السلطة الحاكمة؟/ هدى سليم المحيثاوي

المُفَاجِئ والباعثُ على الأمل، وصفٌ يختصرُ حراكاً نشأ في تربةٍ “أقلاوية” (بحسب توصيفات النظام)، يقتلعُ الصورةَ التي عمل على زرعها بحماية الأقليات من جذورها. مطالبُ الحراك في السويداء جاءت مُحَدَدة وواضحة وجامِعَة، وتمكنت من إرسال رسائلَ على المستويين الشعبي والدولي. من كونها امتداداً لمطالبِ عام 2011، مُضافاً إليها مطالبُ تفرضها مُستجدات الساحة السورية على الشعب السوري، تتمثل بمناهضة الاحتلالات كافة وعلى رأسها المليشيات الإيرانية.

وربما للتعلم من الدرس والاستفادة من التجربة، لم يهمل الحراك أي ثغرة تسمح بتأويله وتكون مدخلاً للانقضاض عليه، وربما آخرها تصريحُ شيخ العقل حكمت الهجري “نحنُ دعاة عَلمانية ومطلبنا دولة مدنية”، إذ كانَ من المهم بعث رسالة لدحض أي مزاعمَ برغبةٍ انفصالية أو توجهٍ ديني بعد حمل العلم الخاص المُمثل للطائفة الدرزية. كلُ ذلك جاء ضمن المطالبة بتطبيق القرار الأممي 2254، وتحقيق انتقالٍ سلميٍ للسلطة.

هل يكفي حراكُ السويداء لإسقاط السلطة الحاكمة؟

بين مُتأمل من هذا الحراك، أو غير مُعَوِل، وثالثٍ مُؤوِل لنظريات مثل أهمية ودور الأطراف في خنق المركز، يتغاضى فيها أنَ هكذا فرضية هي في حال وجود دولة وليس عند التعامل مع نظام أعلنَ منذ البداية فكرة سوريا المفيدة، التي يتمثلُ مركزها بما يخدم مصالحه ويحمي استمراريته، عندها يمكن أن تكون قاعدة حميميم أو قاعدة إيرانية أو مصنع للكبتاغون هو المركز.

هذا الحراك جاء ليقبع على رأس هرمٍ من المظاهرات استمرت حتى بعد مواجهتها بالرصاص الحي، مُصحوبة مع حراكٍ سياسي، تمكن من استخراج قرارٍ بتوافقٍ أممي للانتقال السياسي، صاحبه كذلك حراكٌ عسكري وصل محيطَ القصر الرئاسي في العاصمة دمشق عام 2015، يأتي الجواب ليقول إن من الضروري تدعيم هذا الحراك بمجموعة خطوات لا بدَ منها لاكتمال القوة المطلوبة لتحقيق انتقالٍ للسلطة.

رغم أحقية الانتقال والتغيير على كافة المستويات في سوريا، إلاَ أنَ هذه الأحقية لم تُتَرجَم إلى لغةٍ سياسية تُخاطَب الدول من خلالها وتكسبُ دعمها، إذ إنَ اللغة السياسية وببساطة تفترضُ تقديمَ تصورٍ ورؤيةٍ لما يمكن أن يكون بديلاً عن المُراد تغييره، من شخوصٍ ومؤسسات ونُظم إدارة، لتكون المطالب واضحة ومُحَدَدة بإحلال هؤلاء والتخلي عما سبق، وهي خطوة تتحملُ وزرَها النخبةُ السياسية.

هذه الخطوة وبعد اثني عشر عاماً، مازالت في طور الشعارات والأماني أو في طورٍ أسوأ، هو إحلالُ شخصياتٍ لم تخرج عن النهج السابق، فأتت اللغة السياسية المُعَبِرَة عن الثورة السورية ومُخرَجاتها، لغةً ضبابية وغير مفهومة سوى لأبناء الشعب السوري وأمنياته، إذ إنَ سوء الترجمة بين الحراك الشعبي والتمثيل السياسي له عند الدول التي عُنيَت بالملف السوري، خلق فجوةً كبيرة بين حقيقة هذا الحراك والصورة النهائية التي وصلت إليهم.

على مستوى الشخوص الذين مَثَلوا الثورة السورية، لم يكن معظمهم أكثرَ من أصحاب مصالح شخصية جعلوا القرار السوري عرضةً للمساومة والتسعير، فجاءت المؤسسات التي شيدوها على مستوى هذه الشخوص ولم تَطل حتى الاسم من الوطنية السورية، ومثل هكذا شخوص ومؤسسات لا يمكنُ لها أن تُنتج نظماً للإدارة إلاَ في نطاق تحقيق مصالح هذه الشخوص ومؤسسات تحفظ بقاءهم.

النُظم هي النتيجة الأهم التي يُرادُ الوصولُ إليها، لتسيير الدولة بعد سقوط السلطة الحاكمة، لكن استحالة الوصول إلى هذه النُظم إلاَ عبر الأشخاص وتكوين المؤسسات القادرة على إنتاج لغةٍ سياسية تتعامل بها الدول، وتكون قادرة على ترجمة المطالب الشعبية بحقيقتها.

نقطةٌ غاية في الأهمية بدأ بها حراك السويداء، هو تمايز مستويات الخطاب، فلسنواتٍ مَضَت بقيت مستويات الخطاب السوري واحدة إن كان على المستوى الشعبي أو على المستويَين العربي-الإقليمي والدولي، وهذا أيضاً تتحملُ وزره النُخب السياسية والثقافية، إذ قام السياسيون بممارسة دورهم بذهنية الناشط، والإعلاميون قدموا خطاباً لم يرقَ لأكثر من أن يكون خطابَ مجالس، وهنا يأتي دور التنظيم والنُظم.

الحراك أو ورقة الضغط الشعبي في سوريا لطالما وُجدت، لكن الغائب الدائم كان ولايزال هو التمثيل السياسي بالإضافة إلى التمثيل الاقتصادي، وهما تمثيلان لن يكون بالإمكان البدء بتغييرٍ في سوريا إلا إذا تم وضعُ خطط مُفَصَلة لهذين الجانبين.

كيف يمكن دعم حراك السويداء؟

إنَ خطوة تشكيل حكومة تكنوقراط، بحيث يتم وضع تصور وخطة لكل ملف من الملفات السورية، هي خطوةٌ لا يمكنُ تجاوزها في واقعنا السوري الحالي، أولاً من حيث الفوضى التي تكتنفه وتعقد خيوطه، ثانياً من حيث فقدان الثقة فيمَن تصدر المشهد، ثالثاً من حيث احتلال ملفات كثيرة الأولوية لدى الدول قبل الملف السوري، كلُ ذلك يجعل احتمالية تحركٍ عربي أو دولي مرهوناً بضغوطٍ وجهودٍ سورية حثيثة، فهل يستغلُ السوريون ورقة الضغط الشعبية ويمثلونها بلغةٍ سياسية يمكن مخاطبةُ الدول بها؟

——————————–

احتجاجات السويداء تضع الأسد “في مأزق” بعد تنديد دولي بإطلاق النار

تصاعد التوتر الميداني والسياسي في محافظة السويداء، عقب إطلاق النار على المتظاهرين، من قبل عناصر تابعين لقوات الأسد، أمام مقر قيادة “حزب البعث”.

وينظر إلى الحادثة على أنها قد تغير مسار الحراك الحاصل، خاصة بعد التنديد الدولي، واستنكار مشايخ العقل في المحافظة لإطلاق النار على المتظاهرين السلميين، مطالبين بإبقاء الحراك “سلمياً”.

وكانت مدينة السويداء شهدت أول أمس الأربعاء، إطلاق عناصر من “حزب البعث” الرصاص على المتظاهرين، الذين حاولوا إغلاق مقر الحزب، ما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص إصابة طفيفة.

قلق دولي واستهجان محلي

تعليقاً على الحادثة، قال المبعوث الألماني الخاص إلى سورية، ستيفان شنيك، إن بلاده ستواصل متابعة مساءلة المسؤولين عن قمع المدنيين في السويداء.

وأضاف عبر حسابه في “إكس” (تويتر سابقاً): ” تقلقنا تقارير استخدام الرصاص ضد الاحتجاجات السلمية في السويداء ووجود مدنيين جرحى”.

واعتبر أن أصوات المحتجين “تستحق أن تُسمع لا أن تُسكتها البنادق”.

ودعا المبعوث الألماني النظام السوري إلى الامتناع عن أعمال العنف والمشاركة في الحوار الذي تقوده الأمم المتحدة بموجب القرار 2254.

مردفاً: “سنواصل متابعة مساءلة المسؤولين عن قمع المدنيين”.

    تقلقنا تقارير استخدام الرصاص ضد الاحتجاجات السلمية في #السويداء ووجود مدنيين جرحى.أصواتهم تستحق أن تُسمع لا أن تُسكتها البنادق.🇩🇪ندعو النظام إلى الامتناع عن أعمال العنف والمشاركة في الحوار الذي تقوده الأمم المتحدة بموجب القرار 2254.🇩🇪سنواصل متابعة مساءلة المسؤولين عن قمع المدنيين https://t.co/OkJrxtC79F

    — Stefan Schneck (@GERonSyria) September 14, 2023

من جانبه، نشر حساب “السفارة الأمريكية في سورية” عبر معرفاته على مواقع التواصل الاجتماعي بياناً، عبر فيه عن “قلق” واشنطن من مجريات الأحداث في الجنوب السوري.

وجاء فيه: “نحن قلقون بشأن التقارير حول استخدام النظام للقوة في السويداء في سورية”.

مضيفاً: “ندعم حق الشعب السوري في التظاهر بسلام من أجل الكرامة والحرية والأمان والعدالة”.

واعتبر أن “الحل السياسي وفقًا للقرار الأممي رقم 2254 هو الحل الوحيد الممكن لهذا النزاع”.

    We are concerned about reports of the regime’s use of violence to suppress protests in Suwayda, Syria. We support the Syrian people’s right to peacefully protest in pursuit of dignity, freedom, security, and justice. A political solution in line with UNSCR 2254 is the only viable…

    — U.S. Embassy Syria (@USEmbassySyria) September 14, 2023

وكان رئيس مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، دعا أمس إلى ضبط النفس وعدم الانجرار وراء “الفتنة” التي يريد النظام إشعالها في السويداء.

وقال “نحن لا نرفع السلاح إلا في وجه عدونا، وعدونا هو الذي يطلق الرصاص علينا”.

وأضاف الهجري أن ما حصل من إطلاق رصاص هو “مؤامرة”، معتبراً أن الهدف هو استجرار الناس لوضعها في موقع الاتهام.

لكن شيخ عقل الطائفة، حمود الحناوي، قال بحضور وفد أهلي أمس، إن ماحدث في السويداء من إطلاق نار على أبناء المدينة “لا يمكن أن نسكت عنه أبداً”.

وأضاف: “العروش لا تدوم بالعبث والقتل والظلم.. ومن يطلق النار سيدفع الثمن”.

“الأسد في مأزق”

تتواصل الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاط نظام الأسد في السويداء، لليوم الـ 27 على التوالي، حيث احتشد آلاف المتظاهرين في ساحة الكرامة وسط المدينة، اليوم الجمعة، رافعين شعارات مناهضة للنظام.

ووصف تجمع اليوم بأنه “الأكبر” منذ بدء الاحتجاجات، حيث توافد المحتجون من مختلف قرى وبلدات المحافظة نحو وسط المدينة للمشاركة.

وفي تقرير لها، اليوم الجمعة، اعتبرت صحيفة “ذا ناشيونال” أن الطبيعة العابرة للحدود والمترابطة للأقلية الدرزية في السويداء، تجعل من الصعب على النظام كسرها سياسياً.

وجاء في التقرير أن حراك السويداء جذب جيلاً أصغر سناً ممن تضرر بشدة نتيجة الانهيار الاقتصادي على مدى العقد الماضي، وأيضاً جيلاً أكبر سناً من المعارضين.

وبحسب التقرير، فإن “الطبيعة العلمانية للحركة في السويداء جعلت من الصعب على السلطات وصف المتظاهرين بالمتعصبين دينياً”.

مشيراً إلى أن المظاهرات اندلعت في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى الأسد على أنه حقق مكاسب سياسية من التطبيع العربي، وما قد ينتج عنه من مكاسب اقتصادية أيضاً.

لكن التقارير الصحفية عن الاستثمارات الضخمة في سورية من جميع أنحاء المنطقة لم تتحقق بعد، في حين أن الاقتصاد في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام مستمر في التدهور.

إذ انهارت الليرة السورية لمستويات قياسية، وشهد السوريون أن قيمة أجورهم تتبخر وسط التضخم المتفشي، وسط مخاوف من تفاقم الجوع.

وقال المعارض السوري فواز تللو للصحيفة إن التوقعات القاتمة للاقتصاد يبدو أنها أقنعت الدروز كطائفة بأن وضعهم لا يمكن أن يتحسن دون رحيل الأسد.

واعتبر أن وضع الطائفة كأقلية متماسكة، والارتباط القوي عبر الحدود مع الدروز في بقية بلاد الشام، سيستمر في حمايتهم من القمع المباشر من قبل النظام.

وتابع: “من الممكن أن يلجأ النظام إلى الاغتيالات ويلقي باللوم على داعش، ويمكنه أيضاً أن يتهم الدروز بمحاولة الانفصال، لكنه يأمل أن تفقد المظاهرات زخمها في نهاية المطاف”.

وأضاف: “أعتقد أن المتظاهرين يدركون كل هذه السيناريوهات”.

———————————–

المظاهرة الأكبر منذ شهر.. استمرار الحراك ضد الأسد في السويداء

خرجت، اليوم الجمعة، مظاهرة حاشدة في ساحة السير “الكرامة” وسط مدينة السويداء، وصفتها شبكات محلية بأنها الأكبر منذ نحو شهر مع بداية الحراك السلمي ضد النظام السوري وبشار الأسد في المحافظة.

وأكد المتظاهرون والمحتجون في ساحة “الكرامة” على استمرار حراكهم السلمي حتى تحقيق أهدافه، المتمثلة بإسقاط النظام ورحيل بشار الأسد وتطبيق القرار 2254، مرددين شعارات وأهازيج تطالب بالحرية والكرامة.

    #شاهد: سيدات السويداء وحضورهن المميز في ساحة الكرامة، اليوم الجمعة.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/D8Fxv2jfpA

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 15, 2023

ورفع سوريون وسوريات لافتات كتب في بعضها: “الظلام لا يطرد الظلام، وحده النور يستطيع فعل ذلك” و”حقوق الإنسان هي حقوق نمتلكها ببساطة لأننا بشر، وليست أشياء تمنحها الدولة”.

وكتب مشارك عبارة: “دوام الحال من المحال، والعروش لا تدوم بالعبث والقهر والظلم.. المجد لسوريا”، ورسم آخر، مع كتابة وصف: “سلميتنا أقوى من سلاحكن”.

وجاء في لافتة، حملتها سيدة: “لا نريد حرباً مع أحد، لا نريد العنف، لن ننجر لما يريده النظام، نحن نريد تطبيق القرار 2254”.

قد يهمك: شعارات الشارع في السويداء تواجه شائعات وادعاءات أفرقاء السياسة

ونشرت شبكتا “السويداء 24″ و”الراصد” مقاطع توثق الهتافات والأغاني ضد النظام في المظاهرة.

وأدى المتظاهرون ما أسموه “قسماً على وحدة سوريا”، رددوا خلاله: “ضد الطغاة المستبدين، ضد الغزاة المستعمرين، من السويداء إلى عفرين، من الجولان إلى الميادين، أخوة سوريين، أحرار مواطنين، إلى أبد الآبدين، عاشت سوريا حرة أبية”.

كذلك، أظهر مقطع مصور وليمة غداء أعدها أحد المواطنين، وشبان يحملون “المناسف” إلى الساحة، مع صراخ أحدهم:” خسا اللي يقول الدروز جوعانين”.

ووصفت “السويداء 24” مقطعاً بأنه “مشهد للتاريخ” يظهر تقديم المحتجين “منسف لحم” لقيادة الشرطة في المدينة.

    في مشهد للتاريخ.. المحتجون في #السويداء يقدمون منسف لحم لقيادة الشرطة التي يقع مقرها قرب ساحة الكرامة، مؤكدين على سلمية حراكهم، وعلى مطالبهم المشروعة، اليوم الجمعة.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/mOTTd86Kwv

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 15, 2023

وأظهرت صوراً، عرض فنان محلي لعدد من لوحاته على أحد أسوار الساحة.

    “سورية بلد الحب والجمال”

    وسط ساحة الكرامة في مدينة السويداء معرض فني للفنان “علي نيوف” من أبناء مدينة مصياف..#مظاهرات_السويداء

    صباح الخير pic.twitter.com/eUAYErbrJT

    — راصد السويداء (@alrasd_sy) September 15, 2023

وجاءت المظاهرة، بمشاركة مدنيين عبر وفود من مختلف القرى والبلدات في المحافظة، بعد يومين من حادثة إطلاق نار حرس مقر “حزب البعث” على محتجين حاولوا إغلاقه، ما أدى لإصابات.

اقرأ أيضاً: السويداء: إطلاق نار على محتجين عند مقر حزب البعث

وسبق أن طالب الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، المتظاهرين بضبط النفس والاستمرار بالحراك السلمي، مهاجماً الأجهزة الأمنية والميليشيات الإيرانية و”حزب الله” اللبناني، بوصفها قوى احتلال.

ويدخل الحراك السلمي اليومي، شهره الثاني في السويداء، وسط استمرار المظاهرات الحاشدة للأسبوع الثالث في يوم الجمعة، وحفاظها على زخمها وأعداد المشاركين التي تقدرها مصادر محلية بالآلاف.

——————————

احتجاجات السويداء تدخل شهرها الثاني.. الحراك يبدأ في تنظيم نفسه/ عدنان أحمد

تدخل الاحتجاجات في محافظة السويداء، جنوبي سورية، شهرها الثاني، وسط توسع في دائرة الاحتجاجات، وتأكيد مستمر على ضرورة التغيير السياسي في البلاد، ومؤشرات حول بدء الحراك تنظيم نفسه في منطقة الأرياف.

وصباح اليوم الأحد، تجمع العشرات في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء رافعين لافتات ومرددين هتافات تطالب برحيل نظام بشار الأسد ومليشياته وأفرعه الأمنية والحزبية، وتدعو إلى التغيير السياسي في البلاد وفق القرار الأممي 2254.

وشهدت بلدة القريّا، جنوبي السويداء، وقفة مساء أمس السبت تأكيداً على استمرار الحراك الشعبي الداعي إلى التغيير السياسي. كما شهدت بلدة الصورة الصغيرة بالريف الشمالي لمحافظة السويداء، مساء السبت، وقفة احتجاجية، أكد المشاركون فيها استمرارهم في الاحتجاجات.

وقال مراسل “العربي الجديد” في السويداء إنّ الحراك الشعبي في الأرياف بات ينظم نفسه على نحو جيد، حيث يتفق الناشطون في كل منطقة على حشد تظاهرة في قرية معينة، بحضور أهالي القرى المجاورة، كل مساء.

وتتوسع دائرة الاحتجاجات مع مرور الوقت، حتى باتت تقليداً يومياً يتخلله الكثير من النشاطات التي يقوم بها الأهالي من مختلف الفئات العمرية، ومن الجنسين، الذكور والإناث.

ويدعم “مشايخ العقل” (الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز) هذه الاحتجاجات، إذ أكد الشيخ حمود الحناوي، أثناء استقباله وفداً من قرية “رساس”، أن المواقف من جانب المشايخ إزاء الحراك موحدة.

وقال حناوي: “الموقف موحد عند جميع المرجعيات الدينية والوجهاء. ما حصل في السويداء وحّدنا”. وأوضح أنه يتلقى اتصالات شبه يومية، إقليمية ودولية، للاستفسار عن الأوضاع في المنطقة الجنوبية وسورية بشكل عام.

يُذكر أن المشيخة في السويداء يتقاسمها ثلاثة من شيوخ العقل، الأول هو حكمت الهجري المؤيد للحراك، والثاني هو الشيخ يوسف الحناوي الذي يوصف موقفه بـ”المعتدل”، والثالث هو يوسف جربوع، الذي يعتبر البعض موقفه أقرب للنظام، كونه لا يطالب برحيل الأخير، بل بإجراءات إصلاحات اقتصادية من شأنها أن تحسن الظروف المعيشية.

ويتركز نفوذ الشيخ الهجري في الريفين الشمالي والغربي من محافظة السويداء (دار قنوات)، فيما تبرز مكانة الشيخ حمود الحناوي في منطقة سهوة البلاطة في الريف الجنوبي للمحافظة. أما الشيخ يوسف الجربوع، المسؤول عن دار الطائفة في “مقام عين الزمان”، فيتركز نفوذه في مدينة السويداء والقرى الصغيرة المجاورة لها.

إلى ذلك، ذكرت شبكة “السويداء 24” أنها استفسرت من مصدر مقرب للرئاسة الروحية للمسلمين الموحدين حول اتصال السيناتور الأميركي فرينش هيل بالشيخ الهجري قبل يومين، إذ ذكر المصدر أن الاتصال يأتي في سياق الوفود والاتصالات اليومية التي يستقبلها الشيخ حكمت الهجري، حيث استفسر السيناتور الأميركي عن الأوضاع في السويداء وعموم سورية، وأكد له الهجري “المطالب المحقة للشعب السوري ورفض الظلم على كل السوريين، والتأكيد على العيش الكريم لكل السوريين في وطنهم، سورية الموحدة”.

اشتباكات واعتقالات شرقي سورية

من جانب آخر، دارت اشتباكات بين مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومسلحين من أبناء العشائر العربية غرب بلدة جديد بكارة شرق دير الزور، شرقي البلاد، بعد شنّ “قسد” حملة مداهمات في المنطقة.

وذكرت شبكة “مراسل الشرقية الرسمي” المحلية أن “قسد” شنت حملات دهم واعتقالات واسعة في مناطق سيطرتها، استهدفت بمعظمها أبناء دير الزور، واعتقلت عدداً من الشبان في بلدة الشعفة شرقي المحافظة. كما دهمت مدينة البصيرة بحثاً عن مطلوبين، فيما اندلعت اشتباكات بين أبناء بلدة جديد بقارة ودوريات تتبع لـ”قسد” حاولت اعتقال بعض الشباب.

وفي مدينة هجين شرق دير الزور، استولت “قسد” على عدة منازل تعود ملكيتها لمدنيين، بعد طرد العائلات منها، وحوّلتها إلى مقرات عسكرية.

وتلاحق قوات “قسد” أبناء دير الزور حتى خارج محافظتهم، حيث اعتقلت في قرية خشمان، شمال مدينة الحسكة، 9 أشخاص، فيما دهمت “مزرعة الأسدية”، شمالي محافظة الرقة، واعتقلت عدة أشخاص ينحدرون من محافظة دير الزور.

————————-

واشنطن تبلغ الهجري:سلامتك موضع اهتمام خاص

أجرى النائب في مجلس النواب الأميركي عن الحزب الجمهوري فرينش هيل اتصالاً هاتفياً مع الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، أبلغه فيه باهتمام واشنطن بسلامته الشخصية.

سلامة الهجري أولوية

وقال الكاتب السوري من السويداء ماهر شرف الدين إن اتصال هيل بالهجري دام أكثر من نصف ساعة، واستفسر فيه عن حقيقة ما يجري في السويداء التي تشهد انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد منذ نحو شهر.

وأَضاف شرف الدين المقيم في الولايات المتحدة، أن هيل استفسر عن الأوضاع الأمنية في محافظة السويداء لا سيّما بعد إطلاق النار على مجموعة المتظاهرين أمام مبنى فرع حزب “البعث” في ساحة الكرامة، والتي أدّت إلى جرح 3 محتجين.

وعبّر هيل عن اعتزازه بالتواصل مع الشيخ الهجري، وشدد له على أن سلامته الشخصية هي موضع اهتمام خاص وأعرب عن تمنياته ببناء علاقة وطيدة معه.

ويُعد هيل أبرز أعضاء الكونغرس الأميركي المهتمين بالملف السوري، إذ كان له دور بارز في استصدار قانون “مكافحة كبتاغون الأسد”، كما يُمثّل مجلس النواب في الأمم المتحدة.

وآواخر آب/أغسطس، أجرى هيل زيارة إلى الشمال السوري الذي تسيطر عليه فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا، هي الأولى منذ 10 سنوات.

وزار هناك مدرسة للأيتام وأجرى مقابلات مع الفعاليات المدنية والإنسانية وأبناء الشهداء، كما قام بزيارة مشفى الشهيد وسيم معاز في مدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي، والتقى رئيس الدفاع المدني السوري رائد الصالح ورئيس هيئة التفاوض بدر جاموس وعدداً من المسؤولين في الحكومة السورية المؤقتة.

وطالب هيل عقب الزيارة إدارة الرئيس جو بايدن بتبني نهج جديد في سياسته تجاه سوريا، كما انتقد التطبيع العربي مع النظام السوري وإعادته إلى الجامعة العربية.

وجاء الاتصال الهاتفي بين هيل والهجري بالتنسيق مع “المنظمة السورية للطوارئ”، التي قالت إن الهجري أكد مواصلة أبناء المحافظة احتجاجاتهم السلمية ضد نظام الأسد، والمطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية.

وأصبح الشيخ الهجري بمثابة الزعيم الوطني لأهالي السويداء في حراكهم ضد الأسد، إذ ساند المتظاهرين منذ بداية الاحتجاجات ووقف معهم عبر تأييده لمطالبهم، كما دعا ل”الجهاد” ضد إيران وميلشياتها، ووصفها بالدولة “المحتلة”.

السفير الروسي

في غضون ذلك، أعلن مكتب الزعيم الروحي للدروز في إسرائيل الشيخ موفق طريف عن زيارة للسفير الروسي في تل أبيب أناتولي فيكتوروف إلى دارة الشيخ للحديث عن الأوضاع في محافظة السويداء والاحتجاجات السلمية التي تشهدها.

وأكد طريف للسفير الروسي أن أبناء الطائفة الدرزية في السويداء “خرجوا إلى الشوارع بشكل سلميّ للتعبير عن موقفهم تجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحقّة”، واعتبرها “مطالب أساسية وعادلة لمواطنين مخلصين قدّموا الكثير من أجل بلدهم ووطنهم”.

وطالب الشيخ طريف، السفير الروسي بنقل الرسالة عبر الخارجية الروسية إلى النظام السوري، وسماع صوت المحتجّين وتلبية طلباتهم، مشدداً على “رفض أي محاولة طعنٍ أو مسّ في مصداقية الاحتجاجات الشعبيّة والمحقة”.

وتطرق الحديث إلى مطالب السويداء بفتح معبر برّيّ مع الأردن من أجل إحياء الحركة الاقتصادية، كما طالب روسيا بالضغط على تركيا من أجل وقف “الاضطهادات” ضد الدروز في الشمال السوري.

من جهته، وعد السفير الروس بالعمل على تنفيذ مطالب أهل السّويداء عبر رفع توصياته للخارجية الروسية، حسما ذكر بيان مكتب الشيخ طريف.

—————————

السفير الروسي والشيخ موفق طريف يتباحثان حول الاحتجاجات والمطالب في السويداء

قام السفير الروسي في إسرائيل، أناتولي فيكتوروف، بزيارة إلى الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، حيث دار حوار مهم حول الأوضاع الراهنة في محافظة السويداء والاحتجاجات السلمية التي تشهدها المنطقة منذ عدة أسابيع.

نشر الناشط “Jawad M. Shareef” عبر صفحته الرسمية في فيسبوك، مجموعة صور قال إنها جانب من زيارة  السّفير الرّوسيّ في إسرائيل أناتولي فيكتوروف على رأس وفد رفيع من السّفارة إلى دارة سماحة الشّيخ موفق طريف الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة، مساء الخميس.

أكد الشيخ موفق طريف خلال اللقاء أن أبناء الطائفة الدرزية في سوريا قد خرجوا إلى الشوارع بشكل سلمي للتعبير عن موقفهم تجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة. هذه المطالب، وفقًا للشيخ طريف، تعتبر مطالبًا أساسية وعادلة للمواطنين الذين قدّموا الكثير من التضحيات من أجل بلدهم ووطنهم.

وطالب الشيخ طريف السفير بنقل رسالة إلى حكومة دمشق عبر وزارة الخارجية الروسية، تؤكد ضرورة سماع صوت المحتجين وتلبية مطالبهم المشروعة. وشدد على دور الطائفة الدرزية البطولي في سوريا منذ بداية الثورة السورية الكبرى وخلال مختلف المحطات التاريخية. أظهروا حرصًا كبيرًا واختيارًا ثابتًا نحو الدولة السورية والتزامًا بالحفاظ على وحدة أرض الوطن. وعليه، أكد الشيخ طريف رفض الطائفة لأي محاولة للنيل من مصداقية الاحتجاجات السلمية والمشروعة.

تناول الحديث بين الجانبين أيضًا مطالب أهالي جبل العرب في تسهيل فتح معبر بري مع الأردن، وذلك لتعزيز الحركة الاقتصادية والتجارية بالمنطقة.

أكد السفير الروسي على تعزيز وتوطيد العلاقات بين روسيا الاتحادية والطائفة الدرزية، وأعرب عن استعداده للعمل على تنفيذ مطالب أهالي السويداء من خلال رفع توصياته لوزارة الخارجية الروسية.

—————————-

السويداء، إلى أين، وماذا بعد؟/ د يحيى العريضي

تكاد أسئلة من قبيل (ماذا بعد تجدّد الحراك السوري؟)، (السويداء إلى أين؟)، أن تكون الأكثر حضورا اليوم على الساحة السورية.

لقد قال الشارع كلمته، ولكن نظام بشار الأسد لا يزال حتى اللحظة يكتفي بإدارة أذن صمّاء للمشهد في العلن. وبما أن تحرّك الشارع باتت نسبة لا يستهان بها من السوريين تدعوه بـ “الموجة الثانية من الثورة السورية” المدفوعة بفشل النظام في التحرك نحو أي حل لمرحلة ما بعد حربه على الشعب السوري، فإن الأمور ستكون متروكة لمنطق ردّ الفعل في حال لم يبادر الشارع نفسه إلى البناء على إعلانه الطلاق البائن مع بقاء الأسد وإمكانية استمرار المماطلة بتنفيذ القرار الدولي 2254 الذي يضمن الانتقال السياسي وإطلاق سراح المعتقلين تعسفيا وغيره من المسارات التي تضمن فك الاستعصاء وعودة البلاد إلى سكة الحياة.

بالنسبة لمبادرة الشارع السوري إلى البناء على ما حقّقه حتى اللحظة فالأمر متروكٌ لهم، خاصة وأن الفاعلين في هذا الشارع أبهروا الجميع في تجديد تأكيد أحقية السوريين في بناء ديمقراطيتهم التي تضمن حقوق الإنسان لكل المواطنين السوريين.

أما من ناحية النظام فصمت مريب لا يزال يطغى على موقفه، باستثناء بعض الحشرجات من دمية هنا و بوق هناك ممن يكلفهم عادة بمهام الفتنة والتلفيق الجبان.

أما ما يُنتظر من النظام لاحقا بعد فترة المراقبة من خلف أسوار فروعه الأمنية الموجودة على بعد أمتار من مظاهرات ساحة الكرامة في السويداء، فهو معروف، مراقبة قد تكون من باب اختبار التجربة بتأنٍ يتيح التحضّر لاحتمالات انفجار التمرّد في بيئته الحاضنة الأساسية كما يرى هو، ألا وهي الساحل السوري. إذ لابد أنه يعدّ حراك السويداء تجربة لتمرّد السجناء من منظوره، وقد يستفيد من اختبار وسائله المتاحة في احتوائه لاحقا لمواجهة تحرك في الساحل لم يعد من المضمون قمعه في مهده بعد أن بصقته مناطق، كان يظن أنها استكانت لسطوته، إن كان في الجنوب الحوراني (سهل وجبل) عموماً، ومن يدري أين قد يتجدد الحراك في المدن الكبرى دمشق وحلب وحمص. حمص التي ارتكب بحقها جريمة إبادة جماعية ورحّل معظم أهلها ليضمن صمت من تبقى، ولكنهم ليسوا كما يظنهم (مجتمعه المتجانس)، فهم على الاقل يشبهون شباب سورية في العام 2010 حين كان يدّعي بغرور غبي أن لا إمكانية لثورتهم لكرامتهم فصفعوه وعمّدوا حمص عاصمة للثورة السورية المباركة.

وليس أمام النظام اليوم سوى أن يراهن على تفسخ الحالة الثورية في السويداء بإهمالها وحصارها الصامت بتقتير استحقاقاتها المعيشية المُلزمة لـ”الدولة” بتخفيض حصتها من المحروقات والطحين وغيرهما، مع تواجد خلايا صغيرة كانت أم كبيرة متواطئة معه أم عميلة، كمن يعزل النار بحرام مبلول يمنع الاوكسجين عنها ليخنقها ويخمدها، أو أن يعمد إلى وسائله الخاصة في طعن السويداء، وهو لم يعدم بعد الوسيلة الرخيصة غير المكلفة بتحريك المخربين واتخاذ دور الإطفائي، بل هو احترف هذا الدور محليا وإقليميا على مدى عقود.

أما مبادرة النظام المُتوَقّعة لخلط الأوراق محليا وبالتالي التشويش على مشهدية الحراك، وقد بدأت تتشكل في العيون الإقليمية وحتى الدولية بشكل فعّال، فهي أن يعتمد مبدأ “الهروب إلى الأمام”، وهو مبدأ يتسق مع عجزه وجُبنه. فقد تداعت إلى مسامعي إشاعات، قد يكون النظام تعمّد إطلاقها كتسريبات من دائرته الضيقة.

خطط الأسد للتعامل مع السويداء

إن الخطة الأولى (أ) للنظام في التعامل مع حراك السويداء تشبه وتتقاطع مع ما ذكرته في مقالي حتى الآن من الاستثمار في شقاق ضمن البيئة الحاضنة للحراك، شقاق يتقدم فيه القطاع المسلّح في السويداء إلى واجهة المشهد على حساب القطاع المدني المحرّك للتظاهر السلمي، والمبرّر هو احتكاكات أمنية بين جزء من العناصر الموالية (الحزب الحاكم وبعض الموظفين والمرتبطين بحكم التورط لسنوات في منظومة القمع والفساد) وبين أطراف أخرى رافضة للنظام ولكنها تختلف في خلفية مواقفها، وبالنتيجة يأخذ النظام المشهد بمجمله إلى دائرة العنف التي يفضلها.

ولكن الخطة (ب)، بحسب الإشاعة المتعمّدة، لا تزال قيد الدراسة والتمحيص الأمني بالدرجة الأولى، وهي تتطور باتجاه مشهد يشبه زيارة بشار الأسد إلى السويداء في مرحلة ما سابقة.

هذه الإشاعة لا تفسير لها سوى أنها محاولة “لبث الوهن في نفسية المجتمع المحلي”، وهي مصطلحات من قاموس النظام الشهير.

كما أن إقدام النظام في مرحلة لاحقة على خطة الهروب الى الأمام لن يأتي إلا في حال يأسه من إخماد نار الحراك بحرام مبلول كما ذكرنا سابقا.

ويتطلب تنفيذ هذا السيناريو، الذي يبدو خياليا، البناء على رهان خاطئ قد تُقدِم بعض العائلات الكبيرة عليه، بالإضافة إلى الجزء الموالي له من الهيئة الروحية الحالية، وما أمكن من حشد الناس الذين قد يُفلح في إعادتهم إلى دوائر الخوف من الفوضى وغيره، ولكنني استبعد امتلاك الشجاعة لفعل ذلك. وهنا قد تكون أسماء الأسد هي الخيار الأقرب للاضطلاع بالمهمة، إمعانا في تسيّدها لحركة ما تبقى من النظام المتهالك تحت مطرقة ضربات حلفائه وسندان الشعب السوري الحُر.

هذا الاحتمال، وإن كان يبدو خياليا اليوم، إلا أن النظام لا بد أنه يعمل جاهدا بوسائله الرخيصة للوصول إلى ظرف يتيح المجال لهكذا مغامرة؛ كيف لا، وأن حضور أسماء إلى السويداء بأي شكل أو تمثيلية سيعني تحدّي الحضور النسائي المميّز في ساحة الكرامة، وقد انتقل الى الواجهة في وسائل إعلام غربية، كيف لا وأسماء الأخرس الأسد كانت ولا تزال “زهرة الصحراء” السّامّة، حيث رأيناها تزور ضحايا حرب النظام على الشعب السوري، ورأسمالها صندوق برتقال وما شابه.

وللتمهيد لهكذا خطوة، قد تُكلف شخصية درزية لبنانية غير محبوبة في الجبل بزيارة السويداء في اختبار تمهيدي يفيد النظام إن هو نجح تمهيدا لخطوته التالية، وكذلك يفيد النظام إن فشل واستفز ردود فعل غير محسوبة (لا سمح الله)، إذ سيكون ذلك فتنةً وشرخاً وناراً في الحاضنة الاجتماعية للحراك يؤسس لعودة النظام من باب الإطفائي.

وعليه، وتوقياً لأي عبث من النظام على شاكلة هذه الزيارات المريبة، ولو بدا هذا العبث لوهلة احتمالاً لا أكثر، أو تلاعباً بالسلم المحلّي بوسائل أكثر رخصاً، فإنه لا بدّ لتمتين السلم والاستقرار في الحاضنة التي تشمل الحراك وغيره، من تكريس إعلان انحياز معظم الفعاليات الاجتماعية التقليدية والسياسية السورية إلى جانب الحراك المتجدد للثورة السورية اليوم على النطاق المحلي في السويداء، وعلى النطاق الوطني ككل، أو إعلان الحياد الإيجابي الذي لا يتعاون مع النظام في طعن صرخة الشارع المُحقّة، والتي ترتكز إلى إثباتات متجددة على أن النظام فشل في قيادة سورية الى برّ الامان من منظور السوريين “الموالين” وأنه فاشل ومجرم بطبيعته كما صرخ السوريون الثائرون منذ العام 2011 .

أخيراً، وليس آخراً، أضم صوتي إلى أصوات لا يُستهان بها في دعوة كافة الأجساد السياسية السورية إلى اتخاذ موقف صريح ومعلن من الحراك السوري اليوم في بيانات رسمية، إما داعمة منحازة إلى الانتفاضة أو محايدة إيجابيا حيالها. وهنا أذكر بالدرجة الأولى الاحزاب السياسية والمكونات الاجتماعية عشائرية كانت أم مدنية.

كما أدعو كل المكونات الاجتماعية لمدينة السويداء وريفها إلى الخروج عن موقف الصمت لتقرير مصيرها، وعدم تكرار ما حصل في السنوات السابقة. و الدعوة أيضاً موصولة لشعب سوريا العظيم للتفاعل مع موقف السويداء والفرصة النادرة التي يوفرها لكل حر كي يستعيد بلده حرّة من الاستبداد والاحتلال.

——————-

نظام الأسد يراهن على الوقت والحزب/ وليد شقير*

حين يبدأ النظام السوري بإطلاق النار على المتظاهرين في السويداء بسبب محاولتهم إعادة إقفال مكتب حزب “البعث” في المدينة، كما حصل يوم الأربعاء الماضي، فهذا يعني أنّه يختبر تغيير الاستراتيجية التي اعتمدها منذ اندلاع الاحتجاجات على الأوضاع المعيشية في المحافظة، في 20 آب الماضي، ثمّ في مناطق درعا، التي تطوّرت إلى المطالبة بإسقاط النظام وبتنحّي الرئيس بشار الأسد.

في ظلّ التخبّط الذي يعانيه بمواجهة الاحتجاجات، اعتمد النظام استراتيجية متعدّدة الوسائل في محاولة لاستيعاب الموقف:

1- رهان النظام على عامل الوقت:

– ترك المتظاهرين في كلّ من السويداء ودرعا يواصلون تحرّكاتهم وتجنّب المواجهة معهم، لاعتقاد أجهزة الأمن أنّ إقفال بعض الدوائر الرسمية التابعة لمركز المحافظة وبعض المكاتب الأمنيّة وتلك التابعة لحزب البعث سيستنفد مفعوله لأنّ المواطنين سيحتاجون إلى تلك الدوائر، لا سيما على أبواب الخريف وفتح المدارس. فالنظام يراهن على أن يتعب المحتجّون مع مرور الوقت لحاجة معظمهم إلى كسب العيش والعودة إلى العمل بدل البقاء في الشوارع.

– اتّباع مناورة مزدوجة تقضي بتجنّب الصدام مع دروز السويداء بعدما أخذت تتّسع دائرة الحديث عن سقوط مقولة حماية النظام للأقلّيات في سوريا، من جهة، وإشاعة الاتّهامات والدعاية الإعلامية من قبل جيش النظام الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي وفي كتابات مؤيّديه بأنّ المحتجّين في السويداء “انفصاليون ويسعون إلى الإدارة الذاتية”، من جهة ثانية.

2- شقّ القيادة الدرزية وإطفاء انتقادات العلويين:

– حاول الحؤول دون امتداد الاحتجاجات إلى مناطق في وسط سوريا بعدما خرجت تظاهرات تضامن مع السويداء ودرعا في ريف حلب وحماة ومناطق أخرى شمال غرب سوريا، وفي الساحل السوري والمناطق العلوية، وبعدما ظهر بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي ينتقدون النظام بسبب غياب الأمن الاجتماعي وتردّي الأوضاع المعيشية وانتشار الفقر والعوز جرّاء الأزمة الاقتصادية الخانقة. واستدعت أجهزة الأمن هؤلاء وسُجن بعضهم. وكان هجوم بطائرة مسيّرة شنّه مقاتلون من “هيئة تحرير الشام” (النصرة) على مناطق في الساحل شملت القرداحة قرية آل الأسد، أسعف النظام في إخماد الاعتراضات العلَوية باستخدام “تابو” المسّ برمزية العائلة كحامية للطائفة.

– عاد إلى أسلوب شقّ القيادة الروحية الدرزية التي توحّدت على دعم الاحتجاجات كما ظهر في بيانات ومواقف مشايخ العقل الثلاثة، حكمت الهجري، حمود الحناوي ويوسف جربوع بعد أيام قليلة على اندلاع الاحتجاجات. فقد أعقب ذلك ضغوط من الرموز الأمنيّة على الشيخ جربوع المعروف باحتفاظه بعلاقات ودّية مع القيادة السورية، وزاره موفد للأسد، آخر الشهر الماضي، وأعقبت ذلك تصريحات له بأنّ بعض الحراك في السويداء يرفع شعارات خاطئة، قاصداً تلك الموجّهة ضدّ الرئيس السوري، مكتفياً بالمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية وبفتح معبر بين السويداء والأردن. وتجاوب مع دعاية النظام التي وصمت المحتجّين بالانفصاليين برفضه الانفصال. هذا على الرغم من رفع المتظاهرين شعار “سوريا واحدة”، وتواصلهم مع عشائر درعا التي أرسلت وفوداً منها إلى السويداء للمشاركة في تظاهرات الاحتجاج. لكنّ هذا لم يمنع المحتجّين من أن يقفلوا مركزين لحزب البعث في قريتين قرب السويداء، بعد إطلاق النار عليهم أثناء محاولتهم إعادة إقفال مركز له في المدينة قبل ثلاثة أيام.

هل تنجح هذه الاستراتيجية في استيعاب الاحتجاجات في كلّ من السويداء ودرعا، وتحول دون اتّساع بعض مظاهرها في مناطق أخرى؟

شحّ الموارد الماليّة لأجهزة الأمن :

تتضافر مجموعة عوامل داخلية وخارجية في إبقاء الأتون السوري مشتعلاً، فيما يواصل النظام غرقه في حالة الانفصال عن الواقع، والاعتماد على الدعم الإيراني بمواجهة مأزق يزداد تعقيداً مع الانهيار الاقتصادي وهبوط سعر صرف الليرة السورية، وانعدام قدرة النظام على توفير الحدّ الأدنى من الخدمات في سائر المناطق التي سبق أن سيطر عليها تباعاً منذ عام 2015، بحيث تقتصر قدرته على توفير بعض أبسط مقوّمات الحياة لقلّة من الشرائح الاجتماعية الموالية القاطنة في دمشق، من دون أولئك المتواضِعي الدخل في ضواحيها وأحيائها. ويمكن الحديث عن انحسار قدرة النظام على قمع الاحتجاجات في السويداء ودرعا واقتصار قبضته الأمنيّة على العاصمة لأسباب عدّة:

– شحّ موارد الدولة السورية المالية التي كانت تغذّي رواتب الميليشيات التابعة له، على الرغم من المداخيل التي أتاحها انتشار تصنيع وإنتاج الكبتاغون والمخدّرات، والتي تقتصر الإفادة منها على فئات معيّنة. وبالنسبة إلى السويداء، زاد ذلك من صعوبة رشوة البدو في المناطق الواقعة بينها وبين درعا لافتعال اشتباكات بسبب خلافات تقليدية على رعي الماشية في ممتلكات تعود للدروز. وهذا الأسلوب كان يُعتمد سابقاً في تطويع أهالي السويداء.

تحويلات النازحين تستثني العلويّين؟

– أدّى انحسار المعارك مع قوى المعارضة والسيطرة على المناطق التي كانت توجد فيها، إلى تراجع الاستنفار الأمنيّ وتقليص انتشار الحواجز التي كانت تتيح للميليشيات الموالية للنظام (منها قوات الدفاع الوطني الرديفة للجيش) “التشبيح” و”التعفيش” (وضع اليد على ممتلكات المنازل لبيعها)، فتراجع بدوره اقتصاد الحرب الذي استفاد منه زبانية السلطة.

– ارتفاع نسبة العوز والفقر في وسط العلويين، جرّاء تراجع النشاط الاقتصادي بفعل الحصار والعقوبات المستمرّة. وكانوا الأقلّ هجرة من سوريا في المرحلة السابقة، بحيث لا يتلقّون مداخيل من أقارب لهم في الخارج كما تتلقّى فئات أو مناطق أخرى تستفيد من بعض التحويلات المالية من أبنائها النازحين بسبب الحرب. ويرصد المتابعون لعبور النازحين عبر المعابر غير الشرعية في لبنان كثرة نزوح العلويين لأنّهم باتوا أكثر المتضرّرين من بين سائر السوريين الهاربين من الأزمة الاقتصادية خلافاً للسابق.

– تلقّى النظام تنبيهاً من دولة الإمارات العربية المتحدة ومن سلطنة عُمان يحذّره من الاستعانة بمجموعات من “داعش” ضدّ السويداء، كما فعل في تموز من عام 2018، لأنّ هذا الأمر سيستتبع توسيع النشاط الأميركي نحو الجنوب السوري بحجّة محاربة الإرهاب.

خروج درعا عن السيطرة والاعتماد على الحزب :

– يحاول النظام التحوّط من إمكانية توسّع الاحتجاجات، ولذلك لجأ إلى التنسيق مع الحزب والسماح بانتشار قواته في مناطق سوريّة عدّة. وتؤكّد مصادر واسعة الاطّلاع في هذا الصدد صحّة الأنباء التي تحدّثت عن أنّ رئيس المخابرات العامّة اللواء حسام لوقا زار بيروت آخر آب الماضي لتنسيق هذا الانتشار، ولاستعراض المعطيات المتّصلة بعودة الضغوط العربية على دمشق إلى التصاعد، والتي من أسبابها الرئيسة وجود الحزب والميليشيات الموالية لإيران على الأراضي السورية، لا سيما إثر تعزيز الحزب قواته في مناطق عدّة، وخصوصاً درعا، بالتزامن مع كثافة الزيارات لمقام السيدة زينب في دمشق.

– تتّجه الأمور في محافظة درعا إلى الخروج عن سيطرة النظام والميليشيات الإيرانية مع توجّهات لدعم العشائر من الأردن ودول عربية أخرى لإقامة حزام حماية للحدود الأردنية السورية تسيطر عليه العشائر السنّية، مقابل ضمانها وقف تهريب الكبتاغون والأسلحة إلى الأردن، بعدما أخلف النظام بالتزاماته للدول العربية في هذا الشأن.

*كاتب لبناني.

—————————–

==================

تحديث 17 أيلول 2023

————————-

هل تُفضي انتفاضة السويداء إلى سوريا جديدة؟/ مازن عزي

خلال الأسابيع الماضية، انتفضَ الناسُ في محافظة السويداء على النظام. المشهد يُذكِّر بثورة العام 2011، ويُحيي الأمل لدى شريحة واسعة من السوريين بإمكانية إحداث تغييرٍ سياسي حقيقي قد يجد بعض الحلول للمسألة السورية. ربما لن تكون الأمور ورديةً إلى هذا الحدّ، لكن قد تتمكّنُ الانتفاضة من إنتاج فعلٍ سياسي ربما يُعيُد تشكيل، أو حتى توحيد سوريا، على أسس جديدة. إذ على عكس موجات الاحتجاجات السابقة التي حدثت في السويداء خلال السنوات اللاحقة على العام 2011، تَظهر بوضوح سمات جديدة في الانتفاضة الراهنة، وتحمل عناصر واقعية وأخرى نظرية تشير إلى إمكانية استمرارها وتحقيقها نتائج عملية على أرض الواقع.

انتفاضة أهلية

على عكس الاحتجاجات المُتكررة السابقة التي جرت بعد العام 2011 في السويداء، تتميز الانتفاضة الراهنة بأهليتها، وبامتدادها إلى شرائح جديدة وواسعة من الناس الذين كانوا على الحياد طيلة السنوات الماضية، إذ لطالما اتَّسمَ الحراك الاحتجاجي في السويداء خلال المرحلة الأولى بين 2011 و2014 بنخبويته وتسيُّسه المعارض ضد النظام. بين العامين 2014 و2020 تراجع النشاط الاحتجاجي، قبل أن يتجدّد في العام 2020 بموجاتٍ أكثر اتساعاً ومطلبيّة، وسط مشاركة شبابية كثيفة فيها. ثم جاءت هبة العام 2022، التي توجهت ضد العصابات بشكلٍ رئيسي، وقادتها فصائل محلية مسلحة. بينما كان اقتحام مقر محافظة السويداء نهاية العام 2022 آخر موجةٍ احتجاجية على سوء الأوضاع المعيشية، وتميَّزَ بمشاركةٍ محدودةٍ من أعضاء فصائل غير مسلحين، وبردٍّ عنيف من قبل النظام.

التوسُّعُ الأهلي في الانتفاضة الراهنة، عدداً ونوعاً، ساهم فيه موقفٌ شديدُ الوضوح اتخذته الرئاسة الروحية للموحدين الدروز عبر شيخ العقل حكمت الهجري، وهو ما أعطى مظلةً رمزيةً للانتفاضة. شيخ العقل الثاني، حمود الحناوي، على الصفحة نفسها مع الشيخ الهجري. مدينة السويداء مركزُ المحافظة تبدو أكثر حيرةً من غيرها، إذ أنها تحت النفوذ الديني لشيخ العقل الثالث، يوسف جربوع، وهو الذي اتَّخَذَ خطوةً إلى الخلف من الحراك. قد لا تكون دوافع الشيخ جربوع المباشرة هي الاعتراض على مطالب الناس المُحقّة بالتغيير، بقدر الخوف من التغيير بحد ذاته. وهنا ربما يجدر إلقاء نظرةٍ أعمق على شكل مشيخة العقل في السويداء.

في السويداء ثلاثةُ شيوخ عقل، كلٌّ منهم له منطقة نفوذ اجتماعية في عملية تَقاسُمٍ تطورّت تاريخياً منذ مطلع القرن الثامن عشر. إذ واكبت المشيخةُ سكنَ الدروز في جبل العرب نهاية القرن السابع عشر، وتطورت تدريجياً مع انتشارهم فيه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي. لذا، فأول ما ظهرت المشيخة كانت في بلدة قنوات عبرَ آل الهجري، ثم في مدينة السويداء عبرَ آل جربوع، ثم في بلدة سهوة بلاطة عبرَ آل الحناوي. في فترةٍ ما نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت مشيخةُ عقلٍ رابعة عبرَ آل أبو فخر، وانتهى دورها قبل الاستقلال. من الواضح أن مشايخ العقل، بالإضافة إلى دورهم الديني، لعبوا أدواراً سياسيةً مختلفةً عبر تاريخهم. ويُعتقَد أن أول انتقالٍ لهم من الحيز الديني إلى السياسي كان تفويضاً مجتمعياً للتفاوض مع العثمانيين، ثم المصريين، فالفرنسيين، وأنظمة الحكم المتعددة في الدولة السورية المعاصرة. عوامل محلية وأخرى خارجية هي التي قادت إلى إضعاف أحدهم، أو تقوية آخر. وكان الصراع مع الزعامات الزمنية، والوجهاء التقليديين الآخرين، من أهم العوامل التي صاغت المشيخة على شكلها الحالي. كما عملت السلطة في دمشق بدورها، منذ الاستقلال، على التدخل في عمل المشيخة وتغذية الانقسامات بينها أحياناً.

اللوحة الحالية واضحة مناطقياً أيضاً. الشيخ الهجري يمثّل الزعامة الدينية لريف السويداء الشمالي، أو ما يسمى بالمقرن الشمالي، والشيخ الحناوي يمثّل المقرن الجنوبي، بينما الشيخ جربوع يمثّل مدينة السويداء. هذا ليس تقسيماً نهائياً بأي شكل، لكنه تقريبيٌّ للتبسيط. إذ إن دار طائفة الموحدين الدروز، ومركزها مدينة السويداء، تضم شيخي العقل جربوع والحناوي. لهذه الدار، المعروفة بدار عين الزمان، وجودٌ في معظم البلدات والقرى، عبر «سيُّاس المجالس»، وهم بمثابة شيوخ الجوامع لدى المسلمين أو الكهنة لدى المسيحيين. عملت هذه الدار على تنظيم نفسها بشكلٍ غير مسبوق منذ العام 2011، ونجحت في التحوُّل إلى مؤسسةٍ أهليةٍ ذات فعالية كبيرة، عبر تقديم الخدمات الإغاثية والطبية والعينية والغذائية، وإدارة النزاعات وحلّ الخلافات لكثير من الناس على امتداد المحافظة.

لدار قنوات التي يرأسها الشيخ الهجري اسمٌ آخر، وهي الرئاسة الروحية للموحدين الدروز. منذ العام 2018 على وجه الخصوص، بدأت دار قنوات بالتحوُّل جدياً إلى مظلة سياسية، ذات موقف دفاعي واضح ضد سياسيات النظام في السويداء. في الهبّة المسلحة التي جرت نهاية العام 2022 ضد عصابة راجي فلحوط، التابعة للأمن العسكري، وقف الشيخ الهجري كدليلٍ وموجٍّهٍ للمنتفضين، وبارك حراكهم، وأعطاه الشرعية الأهلية. كُثُر من المشاركين في تلك الهبّة هم اليوم مشاركون في الانتفاضة الشعبية الراهنة، مسالمين وبلا سلاح. أيضاً، لدار قنوات اليوم مؤيدون في كل قرى وبلدات السويداء، من رجال دين وسيُّاس، وأيضاً من زعاماتٍ أهلية واجتماعية وشبابية. 

كنتيجة، يمكن القول إن المظلة الدينية الأهلية الرسمية للموحدين الدروز تدعم الحراك الراهن في السويداء. الشيخ يوسف جربوع لم يقطع فعلياً مع الحراك، بل اتَّخذ موقفاً أكثر تردُّداً وحذراً. هذا الحذر ليس ضد رغبة الناس ومطالبهم المحقة بالتغيير، بل ربما خشيةً من التغيير ذاته. إذ يسود اعتقادٌ لدى البعض، تُغذِّيه أجهزة أمنية ومسؤولون سوريون، بأن الحراك الراهن يستهدف إضعاف دار عين الزمان لصالح دار قنوات. وهذا يفسّرُ التراجع في موقف الشيخ جربوع، وانتقاله من الموافقة الكاملة أولاً على مطالب الناس المُحقة ودعمها إلى مسايرة سردية النظام بشأن وجود مؤامرة تستهدف الجبل.

المؤامرة هنا ليست وهماً خالصاً، إذ قاد تيارٌ سياسيٌ، يمثله حزب اللواء السوري، خلال السنوات الماضية حملةً إعلاميةً عنيفةً ضد شخص الشيخ جربوع، وأشاع أنباء غير دقيقة عن فسادٍ في دار الطائفة، غالباً لأسباب دعائية. الحزب كان قد دعا خلال السنوات القليلة الماضية، وبشكلٍ غير مباشر، إلى شكلٍ مُخفّف من أشكال الفيدرالية للسويداء، وأسَّسَ ذراعاً عسكريةً أسماها قوة مكافحة الإرهاب. تعرضت هذه القوة لهجومٍ عسكري من قبل ميليشيا الدفاع الوطني وعصابات محلية متعاونة مع الأمن العسكري، منتصف العام 2022، ما تسبب بمقتل قائدها واعتقال العديد من منتسبيها. حزب اللواء يعود اليوم إلى المشهد بعد انكفاء، ويبدو متحمساً لنشر وترجمة أفكاره على الأرض. بالمقابل، اتّخذت دار عين الزمان موقفاً دفاعياً، وسط غياب الحلفاء وزيادة الوشايات والحزازات. وربما هذا ما دفع الشيخ جربوع للاقتناع بما يوصف أمنياً بمؤامرات تُحاك من «انفصاليين» يرغبون بإقامة إدارة ذاتية بدعم خارجي.

استعادة السياسة: سوريا المركزية، اللامركزية، الفيدرالية، أو المُقسَّمة؟

يبدو ملفتاً اليوم، في الانتفاضة الشعبية في السويداء، مقدار السياسة المُتاح أمام الناس. فجأةً ظهر للعلن كل ما كان يعتمل لسنوات في القلوب والأذهان. باح الناس بمكنونات أفكارهم، ومخاوفهم، ورغباتهم. كما بدأوا يجتمعون، ويتحاورون، ويختلفون، ويتنظَّمون، ويُنتجون هيئاتهم وتجمعاتهم وممثليهم. يومياً هناك عشرات اللقاءات السياسية والأهلية على امتداد المحافظة. خلية نحلٍ تتبادل الأفكار والآراء، تتشنّج وتحتقن، تتفاوض وتُصغي. لا تابو على أي موضوع. الحديث انفتح، والصمت صار من الماضي. الناس يتكلمون بكل شفافية في بعض غرف التواصل الاجتماعي الخاصة بقيادة الانتفاضة، والمعروف أنها مخترقةٌ أمنياً، يتحدثون فيها عن مخططاتهم علناً. الناس يُسمّون الأشياء بوضوح، ويستعيدون السياسة من احتكار الأبد لها. تتم استعادة السياسة إذن، بوصفها شأناً يومياً دنيوياً بالغ الأهمية للتنظيم والتجمُّع وصياغة الرؤى عن الشكل الأنسب لإدارة الأحوال المعاشية واليومية. السياسة بمعناها المستقبلي، لا ذلك العائد إلى السبعينيات والثمانينيات بوصفه نضالاً نخبوياً. حينها، كان النضال ضد الديكتاتورية مقترناً بشعارات أحزاب يسارية شابة، أغلب أعضائها من الطبقات الوسطى من أبناء الأقليات في سوريا. تلك الحقبة «الماركسية» تميَّزت بتغليب مفاهيم الطبقة على الطائفة، والجمهور على الناس، ولم تكن مشغولةً بالتفكير في الموضوعات المتعلقة بالحرية، والليبرالية والديموقراطية. إذاً، هناك سياسة جديدة تقطع مع تلك القديمة، وتُعين الناس على مواجهة التحديات اليومية في ظل غياب الدولة وتحلُّلها، أي أنها سياسة طُرُق إدارة الناس لحياتهم، في اختبارٍ فعلي وعادي يومي لمقولاتٍ نظرية، وتقاطعاتٍ عملية، وتوافقاتٍ على البرامج والرؤى المشتركة، والمتكاملة أو المتناقضة.

في هذه الجوقة المُدهشة من الرؤى والأفكار، هناك تياران واضحان: تيارٌ يقول إنّه لا حلّ في السويداء إلا عبر حلٍّ سوريٍّ كامل وفق القرار الدولي 2254، وبالتالي انتقال سلمي للسلطة؛ بينما هناك تيار آخر يقول بإقامة إدارةٍ ذاتية على غرار الإدارة الذاتية الكردية لشمال شرقي سوريا. بين هذين التيارين، هناك مجموعة واسعة من الأفكار الوسطية، التوفيقية، البراغماتية، القادرة على تحقيق توازنٍ بينهما. لكن، المشكلة تتمثل دوماً بالراديكاليين في كل طرح، ممن تطغى الإيديولوجيا أو الأفكار على رؤيتهم للواقع. التيار الأول، ويبدو متأثراً بالمقولات القومية واليسارية، يضع الحل السوري الكامل أولويةً أهمَّ من الحل في السويداء. هذا التيار يُعاني من غياب الخطوات العملية لكيفية تطبيق أفكاره، ويضع كل البَيض في سلّة ردّ فعل النظام والموقف الدولي. بينما يتجه التيار الثاني، وعلى رأسه حزب اللواء، إلى المراهنة على صراعٍ عسكري مع النظام، يخوّله تَسيُّدَ المشهد وتوجيه الحراك باتجاهه.

ليس لأيٍّ من التيارين حالياً شكلٌ سائد، بل يعاني كلٌّ منهما من أزماته الداخلية، ومن صراعات القائلين به. وهذا ما يعطي فرصةً للتيارات الوسطية بالصعود وصياغة خطاب أكثر توازناً وعقلانية، أكثر تبنّياً للسلمية، وأكثر إدراكاً لأهمية الحلول العملية لا النظرية، وسط إمكانية إحداث تغيير سياسي جذري في السويداء، يكون نموذجاً للتغيير السياسي في سوريا، مُتجنّباً العسكرة والإيديولوجيات الشمولية، ويقوم على توسيع اللامركزية وإشراك الناس في صياغة معاشهم ومستقبلهم. هذا التيار الوسطي مُطالَبٌ اليوم بالتشكّل بوضوح، وصياغة برنامج عملي يُدخِلُ العملية السياسية الانتقالية في طور التطبيق العملي، عبر الانتخابات الحرة وتوسيع المشاركة الأهلية إلى أقصى حدودها ضمن القانون والدستور السوري، والعمل على تحقيق ومراكمة المكاسب السياسية والاجتماعية للانتفاضة الشعبية.

الربط بين المطالب السياسية والمعيشية

الدولة السورية مُعطَّلة، والنظام يحيا على جثتها، والناس ينسحقون تحت وطأة أزماتهم اليومية. السويداء اليوم، كما معظم الأراضي السورية، تعيش مَحْلاً وعطشاً غير مسبوقَين، وسط تحلُّل الدولة من بعض أدوارها الخدمية. على سبيل المثال، مؤسسة المياه والصرف الصحي في السويداء تكاد لا تعمل، وكذلك شركة الكهرباء، ولا أي مؤسسة رسمية أو قطاع عام. غياب الموظفين، والفساد، وعدم وجود تمويل حقيقي لهذه المؤسسات، والتأخر في صرف ميزانية مجلس المحافظة ومجالس الوحدات الإدارية،… هي بعض وجوه المشكلة. وبالتالي، غواطس المضخات معطلةٌ نتيجة أعطال الكهرباء وساعات التقنين الطويلة وانقطاعات التغذية، وعليه، فإن آبار الماء التي هي المصدر الرئيسي لمياه الشرب والري مُعطَّلة. هذا نموذجٌ واحدٌ من مئات التحديات اليومية التي يعيشها الناس، والتي تضع وجودهم المحض على المحك في منطقةٍ تخضع بقسوة لنتائج التغيير المناخي. البلد مشلولة، والناس جياع. أعداد أبناء السويداء الذين باتوا معتمدين على المساعدات الغذائية بازديادٍ مستمر، ولولا تحويلات المغتربين لاصطفَّ الناس على طوابير المساعدات بالآلاف. لا إنتاج حقيقياً في البلاد، ولا شيء يتحرك إلا بالفساد والرشاوى. تحرير الأسعار بعد رفع الأجور الشهر الماضي، كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

من جانبٍ آخر، الناس في السويداء خرجوا يطالبون بكرامتهم الإنسانية، بعدما انحطت ظروفهم إلى القهر والَعوَز وطلبِ المساعدة بشكل متواصل. الجريمة، والانتحار، والدعارة، وإدمان المخدرات، وتفلُّت السلاح، والخطف للفدية، باتت تسجل أرقاماً غير مسبوقة في مجتمعٍ عائلي محافظ. عدا ذلك، تحولت المنطقة إلى معبَر غير شرعي لتهريب الكبتاغون إلى الأردن، وملعب خلفي لعصابات الخطف للفدية. الناس في السويداء باتوا مهددين في وجودهم.

ومع ذلك، ترفض السويداء اليوم أي حلٍّ لا يقوم على حدوث تغيير سياسي جديّ في شكل الحكم وطريقته، في طريقة إدارة الناس لشؤونهم اليومية بعيداً من تسلط الأجهزة الأمنية والعسكرية. وهذا يعني فعلياً استعادة الدولة ومؤسساتها، ووقفَ تغوُّل الأجهزة الأمنية والعسكرية على الدولة. وفي هذا ترجمةٌ أمينةٌ لما يقصده الناس في مطالبتهم بتنفيذ القرار الدولي 2254، والقرارات الدولية ذات الصلة، ورفض الاحتلالات الأجنبية، وكذلك رفض التقسيم الواقع على الأراضي السورية بين مختلف مكوناتها. الناس في الشارع يطالبون بوقفٍ حقيقي ونهائي لحرب السلطة على المجتمع، وإيجاد حلٍّ سلمي يمنع تَجدُّدها.

وعلى جمالية هذه اللوحة، إلا أن هذا الربط المباشر بين المطالب السياسية بحدِّها السوري الأعلى والمطالب المعيشية، يقود إلى أحد الاستعصاءات التي تواجه الانتفاضة في السويداء اليوم. إذ أن تطبيق القرار 2254، وإنتاج انتقال سياسي سلمي في دمشق، أمرٌ ليس بمقدور الانتفاضة الشعبية في السويداء وحدها تحقيقه. هو برنامجٌ طَموح وطنياً، لكنه فوق استطاعة محافظة واحدة تقطنها أقلية في سوريا، طرفية لا تقع على أي طريق دولي، وليس فيها أيٌّ من الموارد الرئيسية التي يحتاجها النظام في سوريا المفيدة. منطقةٌ قد يلجأ النظام فيها ببساطة إلى التهميش والعزل، والاكتفاء بمربعاتٍ أمنيةٍ مُحصّنة وإثارة القلاقل الأمنية والفوضى. لذا، يجب إنتاج مُقارَبة بين الرؤى العمومية لسوريا المستقبل، وإنجاز حلٍّ سياسي-مدني خاص بالسويداء يلبي الحاجات الإسعافية الضرورية للناس، اللذين هما أمران يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب.

ماذا حقَّقَ الحراك حتى اليوم؟

خلال الأسابيع الماضية لم تتوقف المظاهرات في الساحة التي أُعيدَت تسميتها بساحة الكرامة، حيث يحتفل الناس، ويغنون، ويرقصون، ويدبكون، ويرسمون ويلونون، ويهتفون. الناس عادوا إلى الشارع لينتزعوا الفضاء العام من احتكار النظام السوري له، بصوره وتماثيله، بأعياده وأحزانه. ذلك الفضاء كان مزيفاً، ثقيلاً، لا شيء حميمياً فيه بالنسبة لأهل المكان. لذا، لطالما مَثّلوا تلك الأفراح، حتى بدا وكأنهم فعلاً معنيون بها. اليوم، في ساحة الكرامة، هايد بارك السويداء، حيث الكل معنيٌّ بالحديث والتفكير، والتنظيم والعمل.

أكثر ما يُقلِقُ في تلك المشاهد أن الناس متعبون. النحف والهزال على الأجساد بيِّنٌ، والتعب على وجوههم غائر. ومع ذلك، أولئك الناس يحاولون تقويم انحناءاتهم، ورفع رؤوسهم، والنظر مجدداً في عيون بعضهم البعض، واستعادة الثقة. هؤلاء ليسوا مجانين، بل رأوا بأمّ عيونهم كل الفظائع التي ارتكبها النظام بحق مَن انتفض قبلهم. لكن، وكما يقولون اليوم، كرامتهم الإنسانية باتت على المحك، وهي التي تقودهم للانتفاض، ليقولوا إنهم سئموا النظام السياسي الذي يعيشون تحت ظله منذ خمسين عاماً، والذي لم يجلب لهم سوى شظف العيش، والحصار، والقَطع مع الحداثة والمُعاصرة، والانعزال والتقوقع. حالُ أهل السويداء، كما حال جميع أرجاء سوريا. منبوذون، معزولون، مهمشون، تم إقصاؤهم من الحياة العامة عبر منع السياسة عنهم.

أهل الجبل المنتفضون، استعادوا الكلام، وهم المفوّهون تاريخياً، وأصحاب الحديث المنمق، والخَطابة. أهل الجبل اعتادوا التراسُل بالقصائد، والخطابة أمام الحشود، وتشكيل رأيٍ جامع. هذه لحظة السياسة الأولى: الاجتماع والتفكير بشأنٍ عام. وهذا، أول إنجازٍ حقيقي للانتفاضة الشعبية اليوم.

الإنجاز الثاني هو أن هيئة الانتفاضة الشعبية ما زالت تتشكل بالمعنى السياسي، ومعها وعلى توقيتها، يجري العمل على إنتاج هيئة مدنية سياسية، تقارب بين الرؤى المتنافرة، وتعمل كمظلةٍ تُعطي الشرعية الأهلية للحراك، وتمنع انزلاقه نحو العنف أو الفوضى. يُفترض أن تضم الهيئة المدنية السياسية ممثلين عن مختلف القوى الاجتماعية، والمناطقية، والدينية والسياسية، بما فيهم الانتفاضة.

الإنجاز الثالث، هو الانتهاء من عقدة السويداء المزمنة، المتمثلة بحزب البعث وحضوره الثقيل كوصي على الدولة والمجتمع. الانتفاضة الشعبية، ومنذ يومها الأول، أنهت حزب البعث، وأغلقت مقراته على امتداد المحافظة. إلغاء المادة الثامنة من الدستور، طُبِّقَ اليوم فعلياً في السويداء. لحزب البعث حضورٌ واسعٌ في السويداء، عبر شبكة المنتفعين منه لا الموالين لأفكاره. فالحزب توقف عن كونه ماكينة إيديولوجية منذ احتكرَ الحياة السياسية في سوريا مع انقلاب حافظ الأسد في العام 1970، وبات منذ ذلك الوقت، نادياً حصرياً لانتقاء موظفي الدولة والقطاع العام والنقابات، وأعضاء البرلمان، عبر العلاقات الشخصية والولاء والوشاية بالآخرين. الآن، بات ممكناً للناس أن تنتظم على أسس حرة غير إكراهية، لتنظيم شؤونها من توزيع المساعدات إلى المحروقات، إلى السماد والأعلاف، لا مروراً عبر الحزب. وهنا، يبدو واضحاً الفصل الذي يقوم به الناس بين الدولة والنظام، والحرص على الأولى، والرغبة بتغيير الثانية. هذه الرغبة باستعادة الدولة، كمقدمة للخدمات، محايدةٌ وعلمانية، لا تُميّزُ سلبياً بين السوريين، هو إنجازٌ يُضاف للحراك.

في الأيام والأسابيع الماضية، تراجع مستوى الجريمة، والانتحار، والخطف للفدية، وتهريب وتجارة المخدرات عبر الحدود، في السويداء، إلى مستويات ملفتة. ورغم أن ذلك التأثير قد لا يدوم طويلاً، بسبب العوامل الاقتصادية والمعيشية السيئة، لكنه قد يحمل مؤشراً لطيفاً لشكل المستقبل بالنسبة لأبناء هذا المكان، وبشأن ما يمكن لإرادتهم الجمعية أن تصنعه. على هامش هذه اللوحة الجميلة، ازداد بشكلٍ غير مسبوق القطع الجائر للأحراش التي أَخلتها بعض الوحدات العسكرية من قوات النظام ضمن خطة دفاعية لإعادة الانتشار. هذه الخسارة كبيرة لا تُعوَّض، في منطقةٍ على كتف الصحراء، وفي ظل ظروف التغيير المناخي المُهدِّدة للبقاء والوجود.

أوراق النظام

حتى اليوم، فإن الغائب الأكبر عن كل ما يحدث في السويداء، هو النظام. إذ يبدو في موقفٍ دفاعي، يُعيد انتشار قواته على أرض المحافظة ويعزز مقارّه الأمنية. في الوقت ذاته، يسعى النظام لتطويق الحراك وإنهاكه داخلياً بالصراعات المحلية، واستنزافه بالمشاكل الأهلية المُفتعلة.

النظام ليس في موقع القدرة العسكرية، ولا في وارد الحشد العسكري، لمواجهة انتفاضة السويداء. إذ قد تكون كلفة قمع الانتفاضة عسكرياً أكبر من كلفة عزلها وخنقها، والعمل على شقها داخلياً ومنع اتصالها ببقية المناطق السورية. لذا، أبرز المحاولات ظهرت في اللجوء إلى دروز ريف دمشق والقنيطرة، علّهم ينقذونه من هذا المأزق. النظام حشّد مواليه من الدروز خارج السويداء، محاولاً إنتاج زعامة دينية جديدة بتسمياتٍ من نوع الهيئة الروحية للدروز في ريف دمشق. هذه الهيئة لم تكن موجودة سابقاً ولا وزن دينياً لها، لكنها قد تلعب دوراً لاحقاً في تكريس الفصل السياسي بين الدروز في المناطق السورية المختلفة. بِقدر ما تجاهل النظام حراك السويداء، فقَد أظهرَ حرصاً على بقاء دروز ريف دمشق والقنيطرة في صفّه، ولو بوسائل إكراهية وترهيبية. هذا لا يعني أنه لم يعد للنظام موالون في السويداء، ضمن الوسط الديني أو المدني والعسكري.

وفي السياق ذاته، لجأ النظام إلى أحد المراجع الروحية للطائفة الدرزية في لبنان، الشيخ أمين الصايغ، لإرسال فيديو لأهالي السويداء ينتقد فيه بشكل مبطن موقف الشيخ الهجري ويدعو للوقوف إلى جانب الدولة السورية. الشيخ الصايغ هو واحدٌ من 11 شيخاً درزياً في لبنان، بمرتبته نفسها، ممن يلبسون العمامة المُدوّرة أو «المكولسة»، وهم غالباً لا يتدخلون في السياسة. لكنّ الشيخ الصايغ خطَّ لنفسه طريقاً مختلفاً عن التقاليد، وتحدَّثَ في السياسة علناً وعبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيونات، بينما لا تُعرَف صورة أو أي ظهور إعلامي لأي من بقية المشايخ في مرتبته. لا يُعَدّ الشيخ الصايغ وصياً على دروز سوريا، فحضوره الديني محصورٌ بمريديه وهم قلائل، خاصةً بعد تدخله مِراراً في السياسة المباشرة واليومية، ولأسباب لا تبدو روحيةً خالصة.

أيضاً، يحاول بعض أنصار النظام من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، التحريض بشكلٍ طائفي ضد الحراك في السويداء، والتركيز على مجموعة تُهم معلّبة، مثل الانفصاليين، والخونة، وعملاء إسرائيل وغيرها. جزءٌ من هذه الرسائل لا يُوجَّه فعلياً للدروز، بل يستهدف الجمهور العلوي، ويشد عصبه، ويحاول إظهار الدروز كخارجين عن تحالف الأقليات القائم، ما سيعرضهم لانتقامٍ وشيكٍ من الدولة وجيشها.

في الوقت ذاته، دفع النظام بمجلس محافظة السويداء لإصدار بيانٍ في 12 أيلول (سبتمبر)، اعترف بمطالب الناس المحقة، وحمّلَ الحكومة مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية للناس، لكنه طلب من القوى الأمنية حماية مؤسسات الدولة، مع إدانة شكل الاحتجاج السياسي القائم حالياً وآلياته. وفسَّرَ البعض ذلك البيان على أنه تخويلٌ رسمي بفضّ المظاهر الاحتجاجية بالقوة، كما حدث في فرع حزب البعث في السويداء يوم 13 أيلول (سبتمبر)، عندما أطلق مسلحون من داخل الفرع النار على المحتجين الذين حاولوا اقتحام المبنى، مع حرصٍ واضحٍ على عدم إيقاع قتلى بينهم.

لكن، من جانبٍ آخر، منح بيان مجلس المحافظة الانتفاضةَ الشعبية، والحراك المدني السياسي في السويداء، فرصةً لافتةً لممارسة أسلوب جديد في السياسة. إذ يمكن، للمرة الأولى، وبتأثير وضغط أهلي، دفع جميع أعضاء المجالس البلدية للاستقالة، ما سيخلق فراغاً تتوجب معه الدعوة إلى انتخابات جديدة. قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 لا يُتيح هذه الإمكانية حالياً، بل يقول إنه إذا شغرت عضوية أحد أعضاء مجالس الإدارة المحلية يحلُّ محل العضو الذي شغرت عضويته من يليه في عدد الأصوات من قطاعه، إلا إذا رأت السلطة المختصة دعوة الناخبين لانتخاب عضوٍ جديد. والسلطة المختصة هي المكتب التنفيذي في المجلس، أو وزارة الإدارة المحلية. وإذا ما جرت الدعوة لانتخابات، فقد يكون ذلك إنجازاً إضافياً يقدمه نموذج السويداء، عبر تشكيل أجسام بلدية تنفيذية مُمثِّلة بشكل حقيقي للناس، ولها شرعية قانونية، بحيث يمكنها البدء بتنفيذ الخدمات المؤجلة ومحاربة الفساد والتعطيل في مؤسسات القطاع العام. استعادة الدولة، تعني استعادة كل الهياكل التي ما زالت صالحةً للعمل، وإعادة إنتاجها، بالتوازي والتزامن مع تشكيل هيئةٍ سياسيةٍ مدنيةٍ للسويداء. هذا لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال أن النظام سيسمح بتطبيق هذه الخطوة، التي سيعتبرها تنازلاً سياسياً لإرادة الناس، العدو الحقيقي له. ومع ذلك، تبدو هذه الخطوة إمكاناً لاختبار السياسة بالاستفادة من الوضع الخاص للمنطقة. في هذا الاختبار مُلاعَبةٌ للنظام في ميدانه، ولها مخاطر ارتداد كبيرة، لكنها قد تكون أيضاً مقدمةً لحلٍّ سياسي لجميع السوريين.

أزمات الحراك

في الحراك الحالي نزعةٌ طهرانية، ترى في الحراك نفسه غايةً ونهاية. أي أن الحراك قائمٌ بذاته ولذاته، ويحقق بذلك شرط اكتفائه، وهذه النزعة مُضادةٌ للسياسة بمعناها التداولي اليومي. هذه النزعة الطهرانية تُقدّسُ الساحة أو الميدان أو الانتفاضة، وترفعها كصاحبة الشرعية الوحيدة التي يجب على الجميع عدم تجاوزها. وإن كان هذا طبيعياً في كل التجارب التي نزل فيها الناس إلى الشارع جماعياً بعد طول احتباسٍ وخوفٍ وامتناع، إلا أنه يصبح عائقاً مع الوقت أمام إمكانات التشكُّل السياسي الأكثر استمرارية.

هذه الطهرانية، والتي تميل لخلق الرموز والشعارات وإسباغ القداسة عليها، هي النقيض للحركة المُولِّدة لها، أي الحراك. استعادةُ الناس للفضاء العام هو فعلٌ تشاركي، ينقل إرادة الأفراد المشاركين فيه إلى فعل سياسي. وبالتالي، يجب ضخ روح الديمقراطية في الحراك، والتركيز على أهميته بوصفه ميداناً لتلاقُح الأفكار وإنتاج تصورات مُشترَكة عن الخطوات التالية الواجب فعلها، لا إقفاله كدعوة خاصة ونادٍ حصري للمشتركين فيه.

من جانب آخر، يبدو الحراك ملتصقاً بدار قنوات (الهجري)، ويستمدّ الشرعية منها. في لحظةٍ مستقبليةٍ قادمة، لا بد لهذا الحراك أن يجد آلياته الخاصة التنظيمية والسياسية، بحيث يصبح قادراً على دعم موقف دار قنوات لا فقط الاستناد إليها.

أيضاً، تبدو المُسلّمات السياسية التي بدأ التيار السائد في الحراك تكريسها، كشعاراتٍ نهائية له، كما لو أنّها برنامجُ الحد الأعلى السياسي للجماعة الوطنية برمّتها. وعدا بعض المطالبات الخجولة بقضايا محلية، يغرق الحراك في التصويب على القضايا الكبرى لتحقيق الخلاص الجزئي. وفي هذا نقطةُ ضعفٍ للحراك. إذ أنّ أكثر الحركات الشعبية نجاحاً هي القادرة على وضع أهداف قابلة للتحقيق، أي قضايا محلية يمكن لإرادة الناس الجماعية تنفيذها ضمن حيِّزهم المكاني.

وربما يجدر في النهاية القول إن انتفاضة السويداء، وضمن كل تعقيدات مشهدها الداخلي، بدأت بفتح بابٍ مُحتمَلٍ لحلٍّ سياسي قد يقود في النهاية إلى إعادة تشكيل سوريا جديدة.

موقع الجمهورية

——————————

سويداء الظاهرة.. أم سويداء الطائفة؟/ جبر الشوفي

في مهرجان السويداء الاحتفائي اليومي المتصاعد بزخم الثورة ورفض النظام الفاسد وكل أدواته وركائزه المؤسسية والفكرية، وحيث ارتقى الشيخ حكمت الهجري بكل جدارة من مجرد غطاء اجتماعي ديني إلى قائد ميداني لا تنقصه الحكمة والعقلانية والتسامح ولا الحزم والجرأة والشجاعة وبعد النظر ليتقدم بخطوات حكيمة ومدروسة مع جموع هادرة من حوله وكلها، تتجاوب مع تطورات الحدث وتداعياته وآخرها وأخطرها إطلاق النار من سطوح فرع حزب البعث والتلويح بالطيران الحربي الاستفزازي فوق السويداء بغية استجرارها لمواجهة عسكرية مرفوضة.

إنها ساحة الكرامة بحشودها وأهازيجها وهتافاتها وبيقظة شبابها وتحفزهم لكل حركة مريبة، وحيث يتعايش خطان ثوريان رئيسان ومتوازيان وقد لا يتقاطعان إلا برفضهما القاطع للعفن السلطوي القائم والإعلان عن مستقبل الحرية والكرامة وبناء دولة وطنية خالصة من أشكال الاحتلال التي قطّعت الجسد السوري إلى أجزاء لا مستقبل لأي منها من دون التئام الجسد كله ونهوضه على مبدأ الحرية والديمقراطية والهوية الوطنية الجامعة.

من هذه الأولية الوطنية الكبرى تنادي انتفاضة السويداء على أهلها السوريين، ليكونوا معاً في حراك مدني سلمي وحضاري، يتمسكون به ويسيرون بهديه شيباً وشباناً رجالاً ونساءً، وهم يقولون للسوريين (السويداء لها ولكم وهي اليوم بؤرة ثورتكم) وهي لم تزل تترقب نهضتكم، كل منطقة بما تسمح بها ظروفها وبما تؤهله له إمكاناتها. وهذا كله مفهوم ومبرر إلا التجاهل وإدارة الظهر وتخرصات بعض أصحاب الجملة (الثورية) والتطهريين، ومن يثيرون صراعات جانبية، لا تصبّ في مجرى الثورة المتجدد، بل تبني على ما يعيقه ويتركه فريسة لحصار النظام.

صحيح أن الدروز اسم لطائفة دينية وأن الاسم ليس مجرد عنوان، بل هو دال ينطوي على مدلولاته التاريخية الواقعية والمتخيلة سواء بتصور أهلها النرجسي عن الذات النخبوية أو بتصور الآخرين وحيث يتأرجح الرأي بين السلب والإيجاب وفقاً لخبرة أصحابه الواقعية أو المتخيلة ولمدى وعيهم واعترافهم بالآخر أو غير ذلك من الأسباب. وإذا كان هذا طبيعياً في ظل ثقافة الفرقة الناجية، فإن الأمر يغدو فاقعاً وخارجاً عن طبيعته حين ينسحب على الموقف من حراك السويداء وتركه ليحمّل نحو 3 بالمئة من السوريين معظم الحمل السوري في مرحلة مفصلية يضيق فيها الخناق على النظام المتهالك وحيث تلوح في الأفق علامات انهياره.

وإذا كان من المبكر وربما المضر الفصل بين الخطوط المتداخلة (الدينية والاجتماعية والسياسية) في هذا الحراك الجبلي ما دامت الساحة تتسع للجميع، لكنني أخشى إذا طال زمن الاحتجاجات وتراخت يد السوريين عن المؤازرة، أن تسارع أيد خارجية، لتتلقف الساحة وإلباسها لبوساً درزياً قهرياً، وهو ما يعود بالضرر على السويداء وعلى السوريين وما ينتظرونه من العودة إلى سوريا محررة من مجرمي العصر وطغاته والانتقال إلى سوريا آمنة مستقلة موحدة لجميع أبنائها. من هنا أقول لكل السوريين السويداء أمانة بأعناقكم، بقدر ما تناصرونها وتنتصرون بها ومعها بقدر ما تبعدونها عن الأيدي الملتبسة الجاهزة لتلقفها وبلورتها ضمن توافقات براغماتية بائسة تدركون جميعاً، كيف تسيّر وإلى أين تتجه، وهنا أذكر الجميع بأهمية ذلك التآزر الرائع من شباب درعا مهد الثورة  البطلة التي لم تضعف ولم تستسلم، وها هي تعد العدة لانطلاقة جنوبية موحدة، بأيد ثورية واحدة وقلب واحد وهدف، يجدد ما هتفت به حناجر السوريين منذ آذار عام 2011 وما زالت تهتف به رغم كوارث الاحتلالات والولاءات وسلطات الأمر الواقع.

السويداء ظاهرة وحين تكون الظاهرة وطنية وتغصّ الساحة بخلائط سياسية واجتماعية من متدينين وغير متدينين، تتراجع الطائفة إلى عمق الوجدان الشخصي، وتغيب تعبيراتها الإعلامية والميدانية ولا يعود للمذهب سوى خرقة ملونة يصر بعضهم على جعلها رمزاّ ودلالة وجودية أو البديل عن علمين لا توافق على أي منهما، والأهم من كل ذلك أن السوريين تسامحوا معها، لأنهم تأكدوا أنها ليست هوية لثورة درزية بل هي تعبير عن دروز ينخرطون في الثورة ويسعون مع كل السوريين إلى نصرتها. ومن هنا أطرح هذا التخوف وأنا أدرك جيداً أهمية ومسؤولية الشيخ حكمت الهجري ومن حوله كالشيخ حمود الحناوي وجماعة من الشيوخ ومجمل المتظاهرين في ساحة الكرامة في تكريس السويداء كظاهرة سورية ريادية، بنت على ثوابتها مدرسة نضالية مدنية حضارية، لثورة اجتماعية / سياسية، تلتمع في فضائها العمائم وزغاريد النساء ورجال العشائر وهتافات فتية أنضجهم الظلم وتغوّل النظام، فابتدعوا وسائلهم وأبهروا وقد شكلوا على أرض المواجهة مع النظام وأجهزته تجربة تضاف إلى ما خبره السوريون وما جربوه في الميدان والسياسة والإعلام المتوازن وأساليب الحماية الذاتية ونبذ الأصوات الانفصالية على ضعفها وحماية المصالح والمؤسسات العامة وتعطيل كل أدوات التسلط من أجهزة أمنية وحزبية وسلطوية وإغلاق البؤر الحزبية وكل مظاهر سلطة الأسد المنكفئ في فساده ونرجسيته وتخاطره بذيله الطاووسي تاركاً لأبواقه ومرتزقته لينضحوا من معجم ملفوظاته الجوفاء في التخوين والمؤامرة وجعل الوطنية وسماً أسدياً أو (لوغو ) خاصاً بشركته المغفلة وقد لطخه بدماء السوريين وغمسه بكل أنواع الفساد والكبتاغون وغيره.

بعد هذا الوضوح الاستراتيجي الوطني، هل تخطئ السويداء إذ تقف في وجه بيع البلاد ورهنها عقارات ومنابع طاقة ومطارات وشركات تمتص ما تبقّى من دم السوريين بعد أن امتصته علقات الدم الأسدية منذ انقلاب حافظ الأسد وتأسيسه لإمبراطورية طال أذاها سوريا ولبنان وفلسطين والعراق؟ وها نحن السوريين جميعاً لم نزل نحصد ثمرة زرعه المسموم وما ورثه لابنه الغرّ الذي لم يكتف بقتل بعض السوريين كما فعل والده، بل قتل الشعب السوري كله مادياً ومعنوياً وخرب الكيان السوري ولم ولن يحصل رعلى الطاعة والولاء.

وأخيراً حان الوقت لنقول للعرب الصارخين وجعاً من كبتاغونه ولمن ضغطوا بحمية مبالغ بها على يد دراكولا الدم والدمار، ولمن لم يتعظوا بعد أنّ ما يحدثه الحراك السوري المتجدد لا يذهب نحو تجديد ما تسمونه الفوضى ولا تخريب الدولة ومؤسساتها بعدما هدأت واستقرت تحت ما تزعمونه انتصار بشار. السوريون يخوضون معركة مصير ومعركة وجودية، تبدأ بحريتهم وكرامتهم وبالخلاص من مخاطر ولاية الفقيه وأذنابها السامة على الجميع في آن واحد. إذ وحده الخلاص من هذه العاهة والانتقال إلى الحرية والديمقراطية والعدالة وحده، يقطع طريق الكبتاغون ووحده يبعد خطر ولاية الفقيه ويكفّ أذنابها المسمومة عن أذيتكم، ووحده يعيد سوريا دولة لمواطنيها للتنمية المتكاملة ووحدة جيو-استراتيجية حرة وسيدة وقلباً نابضاً بالمحبة والأخوة وإحلال السلام.

تلفزيون سوريا

—————————-

بين الشيخ حكمت الهجري وسلطان باشا الأطرش/ عمر قدور

طغى إعلان الشيخ حكمت الهجري “الجهاد” ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا على ما عداه مما ورد في كلمته، وكان محتجون غاضبون قد اتجهوا إلى دارة الشيخ بعدما تعرّضوا لإطلاق النار من مسلّحين متحصنين في مقر فرع حزب البعث في مدينة السويداء. والسياق الغاضب الذي أتى من ضمنه كلام الشيخ ربما جعله يفصح عن قناعاته أكثر من المعتاد، لكن مع الانتباه جيداً إلى تماسك خطابه المرتَجَل، وإلى العديد من الرسائل التي يجدر التوقف عندها.

وصفَ الهجري حزب البعث بالبائد، ما يعني الموافقة على استئذان أحد الحاضرين العمل على إنهاء وجود الحزب. وبقدر ما كان واضحاً في الإصرار على سلمية الحراك كان واضحاً في أن الطلقة الأولى لن تصدر عن المتظاهرين السلميين، مع التأكيد على أن الطلقة المقابلة لتلك جاهزة للرد. وتحدث عن وفد السلطة الذي كان قد زار المحافظة قبل يومين، ليستبعد عنه النوايا الطيبة كما توهِم بذلك أبواق صريحة أو غير صريحة للسلطة روّجت لكون الوفد أتى ليستمع إلى المَطالب فقط، ليحمّله الهجري بشكل شبه مباشر مسؤولية التصعيد.

فضلاً عن التفاصيل التي تجزم بإعلان القطع مع السلطة، بل القطع معها بأثر رجعي إذ قال عن عقودها السابقة “لنا ثأر قهر أهلنا”، هناك رسالتان رافقتا حديث الشيخ الهجري عن الاحتلال الإيراني؛ الأولى مخاطبة مستمعيه بأنهم يعرفون الفكر الخبيث “التخريبي” الذي تحمله ميليشيات الإيراني، والثانية أن هذا الفكر ليس علمانياً ولا إنسانياً “بمعنى الانفتاح على الإنسانية”. بذلك يشير الشيخ إلى جانب يراه خطيراً، هو التبشير الشيعي المحمول على الاحتلال الإيراني، ومن المعلوم أن محاولات التشييع “المأجورة أحياناً” في مختلف مناطق سوريا سبقت عام 2011، وكانت بعلم ورضى الأسد. لكنها ازدادت شراسة وتمويلاً وتسليحاً بعد عام 2011، واستهدفت لأول مرة الشباب المنحدر من المذهب الدرزي في مناطق محيط دمشق.

غير أن الشيخ الهجري يعود إلى التأكيد على علمانية الدروز وإيمانهم بأن “الدين لله والوطن للجميع”، والمرة الثانية في سياق يبدو موجَّهاً إلى بقية السوريين. وسيكون من ضيق التفسير فهم كلامه على محمل منافسة السلطة التي تدّعي العلمانية، فمن الواضح أنه لا يصدّق مزاعمها جملة وتفصيلاً. الاستنتاج المنطقي يتكفل لنا بالتفسير على قاعدة أن مَن يرفض التبشير الشيعي يرفض نظيره السًنّي، وهذا موجَّه إلى الطامحين إلى حكم إسلامي، حيث بخلاف تطلعات هؤلاء الإسلاميين الجدد لم يشهد عهد الاستقلال حملات تبشير سُنية.

حدث إطلاقُ النار يوم الأربعاء الفائت، وأصدر ائتلاف المعارضة السورية بياناً حول استهداف المتظاهرين يوم الجمعة، بلا ذكر لخطاب الشيخ. وكان حريّاً بالائتلاف، لو أنه يمثّل معارضة وطنية حقاً، أن يرحّب بكلمة الشيخ الهجري التي حملت العديد من المعاني والإشارات الوطنية. إلا أن الكتل المسيطرة في الائتلاف، المقرَّبة من الإسلاميين والتي كانت قد فرضت مرشّحها لرئاسته “بالصرماية” حسبما سُرِّب وصار معروفاً على نطاق واسع، هذه الكتل لا تملك الحدّ الأدنى من الكفاءة والاستقلالية السياسية كي ترحّب بخطاب الشيخ ولو على سبيل التربّح منه أو التلطّي خلفه.

أما المجلس الإسلامي السوري “المعارض” فقد أصدر بداية الشهر بياناً “بشأن تصاعد زخم الحراك الثوري في سوريا”، ثمّن فيه الأصوات التي ترتفع عالياً في الساحات، مع ذكر السويداء من دون أن يُفرد لها حيزاً خاصاً. البيان يشير في بنده الأول إلى أن الثورة هي “على النظام المستبد ثم على التنظيمات الانفصالية كقسد وغيرها من ميليشيات الاحتلال الإيراني”. ليقرر في البند الثاني أن “أبناء الثورة السورية ينضوون جميعاً تحت علم واحد يجمعهم، هو علم الاستقلال”! وكأن أصحاب البيان يستكثرون على أهل السويداء رفع رايتهم الخاصة، أو كأنهم في موقع مَن يحدد ما هي الثورة وأولوياتها ومواصفاتها.

لسنا في سياق التطرق إلى إسفاف مؤسسات المعارضة على العموم، وإنما فقط في سياق المقارنة مع خطاب وطني صدر عن مشيخة السويداء، كصدى للشارع المنتفض فيها. وهو خطاب، مع استعادته روح آذار 2011، يسترجع أجواء الوطنية السورية الناهضة قبل قرن من الآن، والتي كان للدروز فيها دور طليعي بقيادة سلطان باشا الأطرش، وبتلك الأجواء اقترنت عبارة “الدين لله والوطن للجميع”، ليسترجع حمولتها الشيخُ الهجري اليوم. في مقارنة أخرى، تذكّر شعبية الهجري بناءً على موقفه وخطابه بغياب لأية شخصية في هيئات المعارضة تحظى بالاحترام لدى مَن يُفترض أنها تمثّلهم، وكذلك هو حال مشايخ المعارضة الذين لم يبرز منهم واحد يحظى باحترام خارج الحلقة الضيقة من المريدين.

بالتأكيد، لا نذهب إلى القول أن الشيخ الهجري يسعى إلى مثال سلطان باشا الأطرش بشخصه، أو أنه صاحب طموح سياسي. لكن الضرورة السورية ربما كانت تطرح للبحث هذا الاحتمال، لولا أحوال المعارضة الرديئة، والمتشبّثة بمواقعها ورداءتها معاً. ذلك يُضاف إلى تعقيدات الانقسام السوري الذي لم يكن على هذا النحو قبل قرن، لا على صعيد المسألة الطائفية ولا المسألة الكردية. كما أن قتال الفرنسيين، وأي استعمار ديموقراطي في بلده، يختلف عن مواجهة احتلالَيْن لا يحسب كلّ منهما حساباً لشعبه.

ليس جديداً أن تساهم المواقف في صناعة الكاريزما، وهذا من أسباب بروز شخصية الشيخ الهجري فضلاً عن ملَكاته الشخصية. وتشاء الظروف أن يتقدّم في وقت لا تقدّم فيه السلطة والمعارضة سوى المزيد من الركاكة، وهذا أيضاً مطابق لتقدّم السويداء وسط انكفاء سوري عام. وإذا كانت المؤازرة مأمولة من مناطق أخرى خاضعة للأسد فإن عدوى الثورة لا تكون فحسب بالتضامن الذي أبداه متظاهرون في المناطق الخارجة عن سيطرته، بل أصبحت تتطلب ثورة لانتشال اسم المعارضة وقرارها من أولئك الضعفاء الذين لا يفعلون سوى إصدار بيانات تتسوّل دعم العالم، ويتملّقون على نحو مخزٍ رعاتهم ومموليهم، ثم يضعون اشتراطات ويستقوون على السوريين.

تجدر الإشارة إلى أن الشيخ حمود الحنّاوي قدّم في اليوم التالي على خطاب الهجري خطاباً لا يقلّ جذرية، وتجاه الأسد شخصياً. إدراكاً من الأخير لأهمية الشيخين، وفي ما يتجاوز موقعهما المذهبي، راحت أبواقه تروّج لسيناريو قيام مسلحين محسوبين على الحراك بقتل مشايخ محسوبين على المتظاهرين من أجل تأليب الشارع على السلطة، وهو استعادة لسيناريو 2011 عندما اتُهمت الجماعات الإرهابية بقتل المتظاهرين. إلا أننا لا نستبعد، بناء على سوابق لها، أن تقتل السلطة يهوذا أولاً لتقسم الشارع ولتصلب المسيح بتهمة قتله.

المدن

———————–

حراك السويداء… تغيّرات أم إيحاءات؟/ إياد أبو شقرا

أزعم أن قلّة من مراقبي الوضع السوري توقّعت حراكاً شعبياً ضد الحكومة السورية في منطقة السويداء، وقلّة من القلّة توقّعت أن يستمر هذا الحراك بزخم أكبر بعد شهر من تفجّره.

وفي رأيي، أدّت قوة الدفع التي يبدو أنها لا تزال قوية في المنطقة – بل ربما ازدادت قوة بعد حادثة إطلاق النار على المتظاهرين العزّل – إلى بضع حقائق، قد يفيد التوقف عندها:

1 – استيعاب الطرفين – أي الحراك الشعبي والنظام – أن الوقت عاملٌ مهم في المواجهة الحالية. وهكذا، بينما يراهن النظام على «تراخي» عزيمة الحراك تحت ضغط الأوضاع المعيشية السيئة، وعلى «عسكرة» الحراك وزجّه في لعبة الدم التي كانت قد آتت أكلها في غير موضع وغير ظرف على امتداد الأرض السورية، بدأ قادة الحراك – بدورهم – يفكّرون بصوت مرتفع ويخطّطون للمرحلة المقبلة.

2 – «المرحلة المقبلة»، للطرفين، «مفتاحية» بالنسبة لتبلوُر شكل ما يحصل وتفعيل مجرياته. وفي هذا الإطار، بدأت تظهر ملامح «الحرب النفسية» التي يشنّها النظام وحلفاؤه، ولا سيما في لبنان، عبر تشكيلة من التكتيكات التي تتراوح بين التشكيك والتخوين وتُهم التقسيم والتهديد المبطّن بالتصفيات الجسدية… وطبعاً من دون إغفال سلاح استحضار شبح «داعش».

في المقابل، تدعو الآن شخصيات واعية داخل الحراك إلى تحصينه وضبط تطوراته وتجنيبه الانزلاق إلى ردّات فعل قد يسعى إليها تحالف النظام وداعموه، وعلى رأسهم «حزب الله» اللبناني. كذلك جرى العمل على صياغة تعرّف أولويات الحراك التنظيمية والوطنية، تدعمها غالبية القيادات الروحية ممثلة بشيخي العقل حكمت الهجري وحمود الحنّاوي. وبدا واضحاً من المواقف المعلنة والبيانات المكتوبة أخيراً الحرص البالغ على تأكيد ثوابت مثل «وحدة سوريا» و«رفض الانزلاق إلى الاقتتال الداخلي»، جنباً إلى جنب مع «رفض احتلال الميليشيات الإيرانية». ومعلوم أن هذا «الاحتلال»، بالذات، كان القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة المترنّحة منذ مدة غير قصيرة بين الشارع في السويداء وما تبقى من اعترافه بشرعية للنظام في المنطقة.

3 – النظام كان يدرك دائماً أن علاقته بمنطقة السويداء «علاقة تكتيكية» لا أكثر. وهي تقوم على تحييدها واستغلال خصوصيتها وإبعادها عن مواقع القرار الفعلي. ثم إن هذا التعامل مع خصوصية السويداء ما كان محصوراً بها وحدها، بل إن شعار «حماية الأقليات»، الذي مورس منذ خريف 1970 بصورة انتقائية واستنسابية، جرى تصديره من الداخل السوري إلى لبنان.

وحقاً، كان من أهم ذرائع التدخّل العسكري السوري في لبنان «حماية الأقليات»، ولكن، بعد قرابة ثلاثة عقود من الوجود العسكري السوري (1976 – 2005) هناك، لم ينجح هذا الوجود في تحقيق «الحماية» المنشودة؛ إذ عانت «الأقليات» (بل عموم المكوّنات) اللبنانية من التضييق والتصفيات الجسدية، ومثلما اضطرت أبرز قيادات المسيحيين للسفر والعيش في المنفى وتعرّض عدد منها للقتل، اغتيل أبرز زعماء الموحِّدين الدروز، وشهدت الساحة الشيعية اغتيالات ومواجهات داخلية انتهت بهيمنة تيار إيران على هذه الساحة بقوة السلاح، ناهيك من استهداف أكبر الشخصيات السنّية، بما فيها المفتي حسن خالد ورئيس الحكومة رفيق الحريري.

عودة إلى الداخل السوري، لا يظهر اليوم أن سياسة «حماية الأقليات» كانت ناجحة هنا أيضاً. والدليل على ذلك ليس فقط الحراك الحالي في منطقة السويداء، حيث أكبر كثافة سكانية للموحّدين الدروز في العالم، بل أيضاً في المناطق الكردية في شمال شرقي سوريا… حيث وُجد مَن يشجّع على الصراع الداخلي واستثمار الموقع الحساس للمنطقة المتاخمة لكل من جنوب تركيا وشمال العراق. ثم إن أحدث الإحصاءات تفيد بتراجع كبير في نسبة المسيحيين من إجمالي سكان سوريا، حيث انخفضت من نحو 16 في المائة عند تولّي الرئيس السابق الراحل حافظ الأسد الحكم في أواخر 1970 إلى قرابة 6 في المائة فقط اليوم.

من ناحية أخرى، في حين تكثر التساؤلات عن سرّ «تأخر» السويداء في التحرك، تُثار «إيحاءات» تسهم فيها أذرع إيران الإقليمية، زاعمةً وجود دعم أميركي ضمني لما يحصل في الجنوب السوري. وللأسف، تساهم أوساط تدعي التعاطف مع الحراك مقيمة في الخارج بصبّ الزيت على نار «الإيحاءات»… وبعكس الغايات المعلنة للحراك، تعمد إلى تأويل الإجراءات المعمول عليها لضبط ديناميكياته وتحصينه تنظيمياً، على أنها خطوات «انفصالية» أو «استقلالية».

هذا، يذكّرني بالتحريض والإيحاءات والاتهامات التي أطلقت في لبنان خلال عقد الثمانينات حيال تأسيس «الإدارة المدنية» في الجبل.

في ذلك الحين، شملت الإيحاءات كلاماً عن «أصابع خارجية» تدفع باتجاه التقسيم. لكن الحقيقة ما لبثت أن ظهرت، وأكدت على أرض الواقع أن تحصين صمود الناس في ظروف استثنائية لا يقوم فقط على التسلح والقتال والأمن، بل يشمل – بالقدر ذاته من الأهمية – تأمين متطلبات العيش الكريم… من تأمين الوظائف إلى إدارة المرافق العامة (التعليمية والاستشفائية والخدماتية) المشلولة والمعطلة. وبالفعل، صمد سكان منطقة جنوب جبل لبنان بفضل نجاعة «الإدارة المدنية» من دون أن تكون ثمة أهداف «انفصالية» أو «استقلالية».

واقتباساً من هذه التجربة، كانت لي بالأمس دردشة سياسية مع محلل سياسي أجنبي مطلع، حول قراءته لما يحدث، فبادرني بنفي علمه بوجود قضية «الإيحاءات» الخارجية. ثم قال لي بصراحة جارحة بعض الشيء، إن من مشاكلنا في المنطقة العربية اقتناعنا بالقدرة المُطلقة للخارج على التحكّم بمصائرنا، وبعد ذلك التساؤل عن نيات الآخرين… ثم لومهم على كل شيء بينما نحن لا نفعل شيئاً.

الشرق الأوسط

————————

حراك السويداء السورية يدخل دائرة الاهتمام الأميركي/ ليث أبي نادر و محمد أمين

دخل الحراك الاحتجاجي المتواصل في محافظة السويداء، جنوبي سورية، دائرة الاهتمام الأميركي، وهو ما يعد تطوراً في سيرورة هذا الحراك الذي أفشل مراهنة نظام بشار الأسد على الوقت لانحساره، إذ لم يتراجع زخمه الشعبي مع اقتراب دخوله شهره الثاني، وهو ما أكده خروج الأهالي في تظاهرة يوم أول من أمس الجمعة، هي الأكبر منذ بدء الاحتجاجات.

اتصال أميركي بالشيخ الهجري

وأجرى النائب الأميركي الجمهوري فرينش هيل، أول من أمس، اتصالاً مع شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، دام أكثر من نصف ساعة وفق مصادر مقربة من الهجري، الذي لعب موقفه المؤيد والمساند للحراك الثوري في السويداء دوراً محورياً في استمرار هذا الحراك واكتسابه زخماً شعبياً غير مسبوق.

ووفق المصادر التي تحدثت لـ”العربي الجديد”، فقد “استفسر هيل في الاتصال عن حقيقة ما يجري في السويداء وعن الأوضاع الأمنية في المحافظة، خصوصاً بعد قيام النظام بإطلاق النار على المتظاهرين أمام مقر فرع حزب البعث” (الأربعاء الماضي). وقالت المصادر إن النائب الجمهوري، المهتم بالملف السوري، “عبّر عن اعتزازه بالتواصل مع القائد الروحي للموحدين الدروز، متمنياً بناء علاقة وطيدة معه، ومشدّداً على أن سلامته الشخصية هي موضع اهتمام خاص”.

ويُنظر إلى الشيخ حكمت الهجري على أنه الداعم الأكبر لهذا الحراك الثوري السلمي الذي تبنى شعارات الثورة السورية، وهو ما دفع النظام إلى محاولة تشويه هذا الحراك لتطويقه، إلا أن المحتجين أكدوا منذ اليوم الأول تمسكهم بوحدة سورية ورفضهم أي محاولات تقسيم تحت عناوين مختلفة.

من جهته، وصف الصحافي السوري المقيم في الولايات المتحدة أيمن عبد النور، في حديث مع “العربي الجديد”، الاتصال بين الهجري وهيل بـ”المهم جداً”، معتبراً أن “التأكيد على سلامة الشيخ الهجري يشير إلى أنه ربما هناك تهديدات لاستهدافه”.

وبرأي عبد النور، فإن “هذا الاتصال يؤكد أن هناك اهتماماً كبيراً من قبل الإدارة الأميركية بما يجري في السويداء”. وأشار إلى أن “فرينش هيل شخصية محترمة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، واختاره الرئيس جو بايدن قبل أيام لتمثيل مجلس النواب الأميركي في اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك”، مضيفاً أن “حرصه واهتمامه بما يحدث في السويداء مؤشر مهم جداً”.

ويعد هذا الاتصال الإشارة الأولى إلى أن الحراك الثوري في السويداء دخل دائرة الاهتمام الأميركي، ودائرة السياسة الأميركية في سورية، والتي لطالما شابها التردد والتراخي، ما سمح للنظام بارتكاب مجازر وتهجير الملايين من دون الخشية من أي مساءلة دولية.

إلى ذلك، توافد أمس السبت محتجون إلى ساحة الكرامة في وسط مدينة السويداء، مؤكدين أن حراكهم المستمر منذ نحو شهر لن يتوقف قبل تحقيق تغيير سياسي في البلاد وفق القرار الدولي 2254، الذي ينص على إجراء انتقال سياسي في سورية، وكتابة دستور جديد تُجرى على أساسه انتخابات، وهو ما يرفضه النظام.

ناشطون: لا نتلقى تعليمات

وقلّل متظاهرون في ساحة الكرامة من أهمية اتصال النائب الأميركي فرينش هيل بالشيخ الهجري. واعتبر الناشط المدني منيف رشيد هذا الاتصال “عادياً، وجاء لمعرفة الأوضاع في سورية بشكل شخصي بعيداً عن السياسة الأميركية التي يعتبرها أهالي محافظة السويداء سياسة عدوانية مبنية على استعمار الشعوب ونهب خيراتها”. وأضاف رشيد في حديث مع “العربي الجديد”: “الشيخ الهجري يتلقى يومياً رسائل واتصالات من الأطراف كافة، سواء في سورية أو من الخارج، وخطّه الوطني واضح جداً ولا لبس فيه وهو يطالب بمغادرة كل القوى المحتلة من سورية من دون استثناء”.

من جهته، أكد جمال الشوفي، وهو ناشط مدني، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الحراك السلمي في السويداء “منفتح على التواصل مع أي جهة عربية أو دولية، بغية إيصال صوتنا ومطالبنا التي تحقق التغيير السياسي المنشود وفق القرار الدولي 2254 وضمن ثوابتنا الوطنية”. وتابع: “من الطبيعي أن تتواصل جهات دولية وشخصيات اعتبارية مع الشيخ الهجري، وبالأخص الدول الضالعة في المشكلة السورية مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران، وهذا لا يعني أبداً أننا نتلقى التعليمات والأوامر من أي جهة كانت”.

وقلّل الشوفي من أهمية النتائج التي قد يسفر عنها الاتصال الحاصل بين النائب الأميركي والشيخ الهجري، لا سيما “بعد المواقف الخجولة الصادرة عن المجتمع الدولي والصمت العربي حول انتفاضة السويداء”.

وجاء اتصال النائب الجمهوري بالشيخ الهجري بعد أيام من إطلاق النار على جموع المحتجين في محافظة السويداء من قبل حرّاس مقر حزب البعث في محافظة السويداء، في حدث اعتُبر محاولة من قبل النظام لجرّ هذه المحافظة، التي يشكل الموحدون الدروز غالبية سكّانها، إلى مواجهة عسكرية.

ويتجنّب النظام حتى اليوم أي مواجهة مباشرة مع جموع المحتجين في السويداء، مراهناً على الوقت في تراجع مدّ الحراك ضده في هذه المحافظة محدودة الموارد. ويتوقع مراقبون أن يدفع الاتصال الذي أجراه هيل مع الشيخ الهجري النظام للتراجع عن أي مخطط لإشاعة الفوضى في محافظة السويداء، من خلال التلويح بورقة تنظيم “داعش” الذي كان النظام نقل مجموعات تابعة له من أطراف دمشق وريف درعا الغربي إلى بادية السويداء، وارتكبت مجازر بحق ريفها الشرقي عام 2018.

وكان الشيخ الهجري قد شدّد في كلمة له أول من أمس، أمام عدد كبير من المتظاهرين في بلدة القنوات، على أن “هدفنا العيش في وطننا بالحد الأقصى من الكرامة”، مشيراً إلى أن “طلباتنا محقة والنصر حليف الشعب السوري”.

ورأى الأكاديمي السوري المعارض يحيى العريضي أن اتصال النائب الأميركي فرينش هيل مع الشيخ الهجري “يؤكد استشعار مؤسسة التشريع في الولايات المتحدة الأميركية أهمية الحراك وزخمه ومطالبه السياسية العالية ضد منظومة الأسد في منطقة طالما ادعى النظام أنها أقلية، وهو حاميها”. وتابع: “الاتصال رسالة للأسد وطهران، بعد تصريح الهجري، بأن مليشيات الأسد والملالي وراء إطلاق النار من فرع حزبه على المحتجين، وبأن النار في مواجهة الاحتجاجات السلمية فعل إجرامي، وأن سرديات الكذب لا سوق لها”. وأعرب العريضي، المتحدر من محافظة السويداء، عن اعتقاده بأن الاتصال يؤكد “استشعار أهمية الرجل (الهجري) من قبل الولايات المتحدة”.

العربي الجديد

—————————–

المجتمع السوري لن يسكت.. ولكن/ رشيد الحاج صالح

هناك نظريتان تتصارعان في توصيف ما يحدث في سوريا، وبلدان الربيع العربي عموما، منذ عام 2011 وحتى اليوم. الأولى تقول إن الربيع العربي انتهى، بل وهزم هزيمة نكراء، بعد أن تمكنت السلطات الحاكمة من الصمود في وجه الانتفاضات العارمة، سواء بالبقاء في سدة الحكم وتحويل مسار الثورات باتجاه العنف والصراعات العسكرية، وإغراقها في مستنقعات الطائفية ونظريات المؤامرة سيئة الصيت، أو بالعودة بأثواب أخرى وفق معادلة تغيير الرأس وبقاء الجسم على حاله.

أما النظرية الثانية فتقول إن الثورات لا تنتهي بليلة وضحاها، وإن موجات الثورة الفرنسية مثلًا استمرت نحو قرن من الزمان، فالثورات قد تهدأ وتصاب بالوهن، ولكنها في النهاية سرعان ما تعاود الظهور بأشكال وطرق وأفكار مختلفة.

ما يحدث في سوريا، سواء في الجنوب، واستمرار الحراك الشعبي في السويداء لدرجة دفعت النظام الأسدي لإطلاق النار على المحتجين، وهو ما يعبر عن أزمة النظام وحيرته في كيفية مواجهة هذا الحراك، أو في المنطقة الشرقية واحتجاج عشائر دير الزور على ممارسات قسد في تهميش أهل المنطقة ونهب أرزاقها، وإدارة المنطقة على الطريقة الأسدية بالاعتماد على القوة وفقط القوة.

تخطئ النظرية الأولى لأن أهل سوريا قبل عام 2011 غيرهم بعد هذا التاريخ. فالناس تتغير طرق تفكيرها وتتبدل أولوياتها ولا يقف وعيها بحالها عند حد معين. مثلما أن الظروف والأهوال التي عاشوها جعلت من سياسة “التخويف” التي تمارسها الأنظمة التسلطية التقليدية لا تجدي ولا تنفع مع السوريين. فالناس كما يقول المثل الجزراوي “تماتنت الوجوه” ولم يعد يقبل أحد أن تنتهك حقوقه وتنهب أرزاقه أيا كانت الأسباب.

بحسب فوكوياما فإن أهم سبب للثورات هو الشعور بالكرامة الذي يعتبره من أكثر المشاعر أصالة لدى الإنسان. ولا يضير الاحتجاجات إن كانت دوافعها المباشرة تأمين الخبز، سواء كانوا من المحتجين أو من مهادني السلطة، فالثورة الفرنسية التي هي أعظم ثورات التاريخ الحديثة، كانت من أجل الخبز، بحسب الرواية المتداولة عن ماري أنطوانيت واقتراحها بأن يأكل الشعب الفرنسي “الكيك” إذا لم يجدوا الخبز.

تقع النظرية الأولى في مستنقع النظرة الاستشراقية التقليدية التي حاولت ترسيخ سردية في الفكر السياسي المعاصر مفادها أن سكان المنطقة العربية ميالون إلى الطاعة والمهادنة وليس لديهم ثقة سياسية بأنفسهم. وقد تورط في مثل هذه السردية مفكرون عرب كبار منهم محمد عابد الجابري وحسن حنفي وجورج طرابيشي وغيرهم ممن يعتقدون أن العرب، وعبر تاريخهم الطويل ليسوا عقلانيين ولا يعلون من شأن الحرية والكرامة.  ولذلك تجدهم ميالين إلى الوداعة وطاعة الطغاة أو مهادنتهم على أقل تقدير.

طبعا مثل هذه السردية تتجاهل تاريخ الصراعات الطويل الذي تعج به المنطقة سواء على مستوى التاريخ الطويل أو حتى القصير الخاص بالقرن العشرين. وإذا أخذنا مثالًا على ذلك تاريخ الصراعات التي خاضها السوريون، خلال القرن العشرين، فسنجد أنهم افتتحوا هذا القرن بإخراج السلطنة العثمانية من سوريا بالتعاون مع الشريف حسين وفرنسا وإنكلترا، ثم اندلعت ثوراتهم ضد الفرنسيين إلى أن تم إخراجهم من سوريا عام 1946. بعد الاستقلال تمكن السوريون من إسقاط أربعة انقلابات خلال عدة سنوات، كما أنهم خاضوا تجربة الوحدة مع مصر. مثلما تمكنوا من المحافظة على السلطة مدنية لفترة لا بأس بها من الزمن، إلى أن هبوا في ثورة، من أصعب الثورات الحديثة بسبب تماسك النظام الحاكم، سياسيا وعسكريا. حتى أن عالم الاجتماع آصف بيات يصفها بأنها أصعب بأضعاف مضاعفة من الثورة الفرنسية والروسية لأن الثورة في تلك البلدان كانت ضد سلطات متهالكة وضعيفة بعكس الثورة السورية. إن تمكن عائلة الأسد من إخضاع السوريين لسلطتها بالحديد والنار لا يعني أن الأمور دائما ستكون على هذه الحالة، ولا يعني أن السوريين ليس لديهم إرادة سياسية، ولا يعني أنهم يقبلون دائما بأن تحكمهم قوى ليس لها سوى النهب والتخويف والقتل من أجل أن تستمر في البقاء.

ما نريد قوله هنا إن مهادنة السوريين للطغاة ليست قاعدة يجب أن تحكم تفكيرنا السياسي، وأنهم عندما يضطرون لذلك فإنهم يقومون بهذا الأمر عندما تنعدم أمامهم السبل، مع بقائهم في حالة “انتظار متحفز” بمجرد ما تتغير الظروف ويظهر ضوء في نهاية النفق.

التقليل من أهمية ما يحدث في سوريا اليوم، بحجة أن حراك السويداء محدود التأثير أو مسدود الأفق، أو أن احتجاجات عشائر دير الزور لن تستطيع القيام بأي شيء بسبب محدودية قوة العشائر وعدم وجود قيادات يجمع عليها أهل المنطقة، هو انجرار، واع أو غير واع، لسرديات الاستشراق الكولونيالي الذي يقلل من قيمة شعوب الشرق الأوسط بحجة أنها غير جديرة بأن تصنع السياسة بنفسها.

لقد بات من الواضح أن التوتر الأساسي الذي يحكم تفكير أهل المنطقة، شعوبا وحكاما، هو الصراع حول كيفية إنجاز التحول الديمقراطي، وهي عملية معقدة وطويلة قد تستغرق عقودا من الزمن. الشعوب تتفنن بإيجاد الأساليب والأفكار التي تساعدها في تحقيق ذلك الانتقال، والحكّام يتفننون أيضا في اختراع الأساليب والأفكار التي تساعد في إفشال ذلك التحول، أو تشتيته. ولذلك فإن الاعتقاد بأن ما يقوم به السوريون ليس أكثر من زوبعة في فنجان هو مجرد كلام فارغ لا يخدم سوى الطغاة الذين، بحسب حنا أرندت، يكرهون أكثر ما يكرهون الناس عندما تتذمر.

———————-

الحراك السوري الجديد وقائع وتحدّيات/ حسن النيفي

ممّا لا ريب فيه أن الحراك السلمي الجديد الذي بدأت فيه مدينة السويداء يوم العشرين من شهر آب الفائت قد جسّد منعطفاً شديد الأهمية في سيرورة الثورة السورية، ولعل من أبرز علائم أهميّته أنّه لم يبق معزولاً في حدود محافظة بعينها بل سرعان ما اتّسع ليشمل محافظة درعا وأجزاء كبيرة من محافظات حماة وحلب وإدلب والرقة ودير الزور، وخاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد، أضف إلى ذلك حالات التذمّر وشيوع ردّات فعل متمرّدة على سلطة النظام في مدن الساحل السوري وهي البقعة الجغرافية التي يراهن نظام دمشق على ولائها المطلق لسلطته.

وثاني علائم أهمية الحراك أنه حمل في تضاعيفه الردّ الحاسم على جميع المشككين وفلول الثورة المضادة وذلك من خلال الشعارات والعبارات التي ردّدها المتظاهرون سواء في السويداء أو سواها من الجغرافية السورية، إذ لم تكن المطالب مُختَزَلةً بمحدّدات معيشية آنية أو مطالب يمكن أن تخضع لأي شكل من أشكال المهادنة، فحين يطالب جميع المتظاهرين السوريين على اختلاف مناطقهم وتوجهاتهم وإثنياتهم بسقوط نظام الأسد والمطالبة بمحاكمة جميع رموز إجرامه فهذا لا يعني رفع سقف المطالب فحسب وفقاً لمزاعم المُرجفين، بل يعني بالدرجة الأولى أن انتقال السوريين من طور العبودية والإذلال إلى طور الحرية والكرامة إنما هو مرهون بقدرة السوريين على إزالة زمرة الإبادة الأسدية، وهذا ما يجعل الصراع بين سلطة الأسد والسوريين تنزاح من حيّزها السياسي المباشر وتنحو باتجاه فضائها الوجودي العام.

ولعل هذه النقلة النوعية في الوعي الثوري للحراك الجديد تسهم في إعادة الصراع بين الشعب والسلطة إلى مساره الصحيح بعد أن حاولت بعض القوى الإقليمية والمحلية اختزال القضية السورية بكتابة أو تعديل دستور في محاولة لتعويم نظام الإبادة من جديد.

ما هو مؤكّد أن هذه الانعطافة النوعية في الوعي الثوري لدى السوريين جعلت مفهوم (استمرار الثورة) واقعاً ملموساً ولم يبق مجرّد زعم تمليه الرغائب في النفوس، وكذلك لم تعد مقولة (إسقاط النظام ومحاكمة رموز الإجرام) مجرّد شعار شعبوي وفقاً لمزاعم الكثيرين.

ولكن ما هو مؤكّد أيضاً أن هذه اليقظة الثورية التي حملها الحراك السوري الجديد سرعان ما واجهها تحدّيان كبيران، الأول على المستوى الميداني، وقد تجلى بالمواجهات العسكرية في دير الزور بين قوات قسد وقوات العشائر من جهة، وامتداداتها إلى خطوط التماس في شمالي سوريا وخاصة على شريط قرى نهر الساجور، وبعيداً عن التقييم السياسي لتلك المعارك وكذلك بعيداً عن الدخول في تفاصيلها، إلّا أنه لا يمكن إنكار استقطابها للرأي العام وتوجيه الأنظار نحو وقائعها الميدانية على حساب التركيز الإعلامي الذي كان موجهاً نحو أشكال الحراك الأخرى، وممّا لا يمكن إنكاره أيضاً أن نظام الأسد استطاع الاستثمار في ما جرى من قتال وحاول إيهام الرأي العام بأنه طرف داعم لانتفاضة العشائر في مواجهة قسد، علماً أن معظم استثمارات النظام في أحداث كهذه تبقى نتائجها آنية وقصيرة المدى نظراً لإرث هائل من الزيف والكذب الذي عزز القناعة لدى أكثر السوريين بعدم الثقة بمزاعم السلطة الأسدية وادعاءاتها.

أمّا التحدّي الثاني الذي واجه الحراك السوري فهو من التحديات القديمة الجديدة، ولكن تكراره بمزيد من الشناعة يضاعف من تداعياته المسيئة للحراك والقضية السورية عامةً، ونعني بذلك المهزلة التي توجب على السوريين اجترار مرارتها في كل عام، فهل كان السوريون ينقصهم قيادة تكون عبئاً مضافاً على أعباء مأساتهم المتجددة منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، وإذا كانت الثورة السورية تشهد تجدّداً في الوعي الذي نجد تجلياته في الحراك السلمي الجديد، فمن المفترض أن يوازي هذا التجدد انعطافةٌ في الوعي السياسي لدى القيادة المزعومة للثورة والمتمثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة أيضاً، وذلك من خلال الارتقاء بهذا الكيان إلى مستوى تضحيات السوريين وكذلك إلى مستوى إصرارهم على مواجهة الطغيان الأسدي بوسائل نضالية متجددة، ولكن يبدو أن العملية تجري عكس ذلك، إذ أخذ هذا (الائتلاف) على عاتقه مهمّة الخذلان المستمر لقضية الشعب السوري ولإرادة السوريين بآن واحد، ولئن صدح المتظاهرون السوريون في عموم أماكن تظاهرهم بسقوط نظام الإجرام وأخذوا على أنفسهم عهداً باستمرار النضال مهما بلغت التضحيات، فلا يتوانى أحد قادة الثورة المزعومين عن مكافأة الشعب السوري الثائر بفرض قائد مزعوم آخر عليهم ولكن (بالصرماية)، وكأنه يؤكد للسوريين بأن هكذا قيادة لا تليق بشعب قدّم عظيم التضحيات في سبيل تحرّره من الطغيان والعبودية، بل هي تصرّ على ألّا يكون سلوكها مفارقاً لبنيتها المشتقة من النظام الأسدي بتجلياته الأكثر قبحاً.

وبالفعل ينفّذ هذا القائد الصنديد وعيده بتنصيب أحد أقرانه رئيساً للائتلاف متحدّياً إرادة السوريين وتضحياتهم وجميع أشكال مأساتهم، وكذلك متحدّياً حراكهم المتجدد والمستمر، ولم يكن – بالطبع – الرئيس الجديد بأقل إساءة للسوريين من قرينه الأول، إذ اعتبر أن أهم مقوّمات شرعيته في الزعامة هي الرضى والدعم الذي يحوزه من القوى الإقليمية والدولية الكفيلة بأن تُسكَت أصوات السوريين جميعاً وتكبح رفضهم أو سخطهم على وقاحته، وبهذا تكون القيادة المزعومة للثورة قد حققت التماهي المطلوب مع سلوك نظام الأسد الذي لا يخفي زهوه وتباهيه بالدعم الذي يلقاه من حلفائه الدوليين في مواجهة شعبه، إذ ليس الأسد وحده من يستقوي على السوريين بالآخر الخارجي، بل ثمة من ينازعه هذه البراعة في الاستقواء، ليثبت الطرفان المستقويان على الشعب السوري بأنهما جهتان متخادمتان، وليس بالضرورة أن يكون هذا التخادم خاضعاً لقياسات المنطق المزعوم في زوابع الإعلام بل لعل النتائج العملية هي الأكثر صدقاً وثباتاً.

لم يكن خذلان السياسة لنضال السوريين الوطني هو الفصل الطارئ أو الجديد في سيرورة ثورتهم، بل ربما ظهرت إرهاصات ذلك منذ البدايات الأولى للثورة، ولكن ربما سادت آنذاك الكثير من المقولات التي استطاعت تخدير الرأي العام من مثل افتقاد السوريين للعمل السياسي المنظم وغياب قوى سياسية فاعلة ومؤثرة عن المشهد السوري وتحميل أي فشل سياسي على شمّاعة العهود الطويلة للاستبداد وتصحّر الحياة السياسية وما إلى ذلك من ذرائع، ولكن عندما يُواجه الحراك الوطني بالخذلان ذاته وبمقدار أكثر فداحة من الخراب بعد أكثر من اثنتي عشرة سنةً، فحينئذٍ لا تبدو المسألة قحطاً سياسياً ولا تصحّراً في الحياة الحزبية ولا ندرة في الكفاءات، بل ما تؤكّده الوقائع أن نجاح السوريين في إزالة نظام التسلّط الأسدي مرهون بقدرتهم على إزالة مشتقاته العابثة بتضحياتهم في الوقت ذاته.

—————————–

حكاية ساحة صار اسمها «الكرامة»/ كرم منصور

عدد من الشبان ينتشرون بشكل متفرّق على رصيف ساحة السرايا في مدينة السويداء، معظمهم يضعون قبعات شمسية على رؤوسهم في محاولة للتخفي، البعض الآخر ينغمس بين الناس أو يدخل أحد المحلات المجاورة متخفياً بهوية زبون، وعينه على ساحة السرايا مترقباً متى يبدأ الاعتصام السلمي المُنتظَر. بالمقابل، كان الخوف هو الحاضر الأكبر في الساحة، ترافقه أعين الأمن والشبيحة، ويسانده سخط أصحاب المحلات التجارية من أي حركة احتجاج قد تزعزع الاستقرار.

عند الساعة السادسة يبدأ الاعتصام. مجموعة من الشباب والناشطين السياسيين يشعلون الشموع  أمام مبنى السرايا، الذي يبعد عن ساحة السويداء العامة عشرات الأمتار. النقطة التي بدأ المحتجون الاصطفاف حولها كانت تمثال سلطان باشا الأطرش، الذي يُجسّد الباشا شاهراً سيفه جالساً على حصانه في وضعية الانطلاق من ساحة السرايا، التي تحمل اسمه رسمياً، باتجاه الساحة العامة حيث كان تمثال حافظ الأسد وقتها يقف مُلوِّحاً بيده.

يبدأ الشبيحة بمحاصرة المعتصمين صارخين: «اعتصام صامت، يلي بيحكي حرف بدنا…»؛ يهيلون كيلاً من السباب والشتائم. دقائق قليلة تمضي، ثم يهاجم الشبيحةُ المعتصمين القلائل بعد أن نطق أحد المحتجين بكلمة «حرية»: تدفقت جموع الشبيحة وقاموا بضرب المعتصمين وأطفأوا الشموع التي كانت تحت تمثال سلطان الأطرش بأرجلهم، فيما كانت صورة حافظ الأسد، المصنوعة من السيراميك على مبنى المحافظة (مبنى السرايا القديم نفسه)، تُوجِّه أنظارها إلى الساحة وهي تبتسم.

يرجع هذا المشهد إلى زمن بعيد مضى، إلى وقفة الشموع في مدينة السويداء في 26 آذار (مارس) 2011، التي كانت في ساحة السرايا المجاورة للساحة العامة. تكررت الاحتجاجات ومحاولات الاعتصام في عدد من ساحات السويداء، حاول فيها المحتجون التظاهر وهم يحملون دائماً حلم التظاهر يوماً ما في الساحة العامة للمدينة.

الساحة العامة المنشودة هي الساحة التي يعرفها أهل السويداء باسم ساحة السير، والتي صار اسمها اليوم ساحة الكرامة، وهذه مقاطع أساسية من سيرتها ومن سيرة طريق المتظاهرين إليها هنا.

الميدان نقطة اللقاء

بحسب الروايات المحلية الشائعة، كانت الساحة العامة في أواخر فترة الحكم العثماني مستطيلاً فارغاً يُسمّى «الميدان»، يقع بالقرب من السوق التجاري القديم للمدينة، وبالقرب من ثلاث تجمعات مائية كبرى: «مياه التربة» وهي البئر الأساسي لمياه الشرب في المدينة خلال القرنين التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، و«بركة الحج» في الجنوب الشرقي للساحة، والتي كان الحجاج القادمون من الشمال باتجاه الحجاز يوردون فيها خيولهم. تم ردم بركة الحج، وطي تسجيلها كموقع أثري في عام 1971، بسبب التوسع العمراني، فيما تم الاستغناء عن نبع «مياه التربة» مع تطور شبكات الري ووصول المياه إلى المنازل.

بركة الحج ويوجد في مكانها ثانوية شكيب أرسلان اليوم، من صفحة السويداء الآن على فيسبوك

الماء الثالث هو مطخ السويداء الذي كان مخصصاً لإرواء خيول ودواب أهالي المدينة، والذي تم تجفيفه بعد حرب العام 1967 ليتم بناء ملاجئ للمدينة في موقعه خوفاً من عدوان إسرائيلي آنذاك، وفي مكانه حالياً يقع سوق الخضار الرئيس في المدينة والمعروف باسم سوق الحسبة.

شكّلَ الميدان نقطة استقرار للمسافرين وقاصدي المدينة، لقربه من السوق التجاري الذي يقصده أهالي الريف، إضافة إلى قربه من مناهل المياه لسُكّان تُعتبر الزراعة والرعي مصادر رزقهم الأساسية في ذلك الوقت. وعند بدء الانتداب الفرنسي على السويداء بدأت النهضة العمرانية تحيط بالميدان، وقامت فرنسا بإنشاء عدد من المباني حوله، وكذلك قامت بتحديث مبنى السرايا الحكومي الذي ورثته عن العثمانيين كمركز إدارةٍ للجبل، وهو الذي سيتحول إلى مبنى المحافظة الآن.

بني في عهد الانتداب أول مشفى على مشارف الميدان، وهو الذي تحوَّلَ  فيما بعد إلى ثانوية الفتاة أهمّ وأقدم مدارس المدينة. وعند دخول عصر المركبات والآليات، وبعد أن كانت الخيول والدواب تصطفّ في الميدان لقربه من مناهل الشرب، أخذت محلها السيارات وحافلات النقل، فأصبح الميدان هو ساحة السير،  نقطة الخروج من السويداء، والنافذة التي يخرج منها الناس باتجاه دمشق أو باتجاه الجنوب. من يريد الخروج من مدينة السويداء عليه الذهاب إلى الساحة، ومن يريد القدوم إلى السويداء في النقل العام يصل أولاً إلى الساحة.

ميدان العسكر

كان دخول الساحة إلى نطاق العسكرة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إذ تحوَّلَ ميدان السويداء إلى ساحة لتدريب طلاب المدارس على حمل السلاح واستخدامه. وبحسب ذاكرة السكان المحليين، كان الأهالي يتجمعون لمشاهدة طلاب مدارس الثانوية وهم يقومون بتفكيك وتركيب السلاح الفردي، ويتعلّمون المشية العسكرية.

ثم زار جمال عبد الناصر مدينة السويداء في العام 1960 خلال عهد الوحدة السورية المصرية، وتوجه إلى السرايا الحكومي، فيما احتشد الناس لاستقباله من ساحة السرايا وصولاً إلى الميدان.

ثم بلغ دخول الساحة إلى السياسة المُعسكرة ذروته في العام 1966، عندما شهدت السويداء أكبر محاولة انقلاب على النظام من قبل سليم حاطوم الضابط البعثي ابن محافظة السويداء. حشد حاطوم عدداً من الآليات العسكرية في ساحة الميدان، وطوَّقَ مبنى الحرس القومي محتجزاً رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي وصلاح جديد الأمين العام المساعد لحزب البعث. أمرَ وزير الدفاع وقتها حافظ الأسد بإرسال الدبابات من دمشق وتطويق مدينة السويداء، إضافة إلى تحليق الطيران الحربي فوقها مع التهديد بقصفها جواً، مما أجبر حاطوم على الفرار واللجوء إلى الأردن.

ساحة فراغ

وصل حافظ  الأسد للسلطة 1970. في الثمانينات بدأت تماثيل الديكتاتور تظهر على الأماكن العامة والساحات في أنحاء سوريا. زرعَ القائد المفدى ظلّه في وسط ساحة السويداء العامة على شكل تمثال بارتفاع ثلاثة أمتار، حتى بات المُشاة في محيطه يظهرون كأقزام أمامه، لينافس تماثيل سلطان باشا الأطرش، الشخصية التاريخية التي يُجمِع عليها أبناء المحافظة.

سيطرت السلطة على فراغ الساحة، حيث تسير جميع الأمور ضمن الحدود الرسمية، ولا يمكن أن يحدث أي شيء مفاجئ فيها إلا بتصريح رسمي. في كل مناسبة، يقوم الطلاب والمعلمون والموظفون بالدوران حول التمثال الذي كان يدير ظهره نحو مبنى الحرس القومي الذي شهد محاولة الانقلاب الفاشلة، ناظراً إلى وسط المدينة القديمة، مرتدياً عباءة تشبه التي يلبسها الزعماء التقليديون، ملوحاً بيده بأصابعه الخمسة.

لكن هذه الصرامة التي أضافها التمثال على الساحة العامة للمدينة لم تحمِه من ألسنة الساخرين،

والسخرية الأولى التي طالت التمثال كانت خلال الأزمة الاقتصادية الخانقة التي شهدتها البلاد في ثمانينات القرن الماضي، تتجسد السخرية في حكاية يرويها أهل السويداء عن سطل سمن فارغ حمله تمثال حافظ الأسد بيده المرتفعة. تقول الحكاية إنه عندما استيقظ سكان السويداء في يوم من أيام أزمتهم الاقتصادية آنذاك، اكتشفوا أن السطل قد عُلِّقَ في يد التمثال كرمز يشير إلى الأزمة الاقتصادية، وبالتحديد نقص الزيت والسمن في ذلك الوقت.

السخرية الثانية كانت الأحدث في التسعينيات، عند افتتاح أبرز محلات الشاورما في المدينة؛ شاورما أبو سليم، وذلك في مواجهة التمثال في ساحة السير. بدا تمثال الأسد الأب كأنما يصرخ على غرار الزبائن «أبو سليم خمسة شاورما لو سمحت». انتشرَ هذا السيناريو المتخيل بين المعارضين السياسيين التقليديين، سواء كانوا شيوعيين أو بعثيين غير راضين عن حكم حافظ الأسد، وهو ما جعل من تسمية الساحة بـ «خمسة شاورما» موقفاً سياسياً يمكن التعبير عنه فقط خلف الأبواب الموصدة وفي الغرف المغلقة.

ظلت السخرية من تمثال «خمسة شاورما» خفيّة، وكان من المستحيل إخراجها للعلن خلال حكم الأسد الأب، حين كانت ساحات البلد كلها تحت سيطرة السلطة.

سقوط التمثال

عند بدء الاحتجاجات في العام 2011، والمطاردة بين المتظاهرين وجماعة السلطة، امتنعت الساحة على أي نشاط معارض، إذ كانت نواة تكتل أمني لا يمكن الاقتراب منه أو الاجتماع فيه. الاحتجاج في أي ساحة كان أسهل من الاحتجاج في الساحة العامة، حيث يرفع تمثال حافظ الأسد ظله الثقيل، وبحيث لا يمكن أن تصل إلى الساحة كصادح أو هاتف دون أن يكون صوتك متطابقاً مع صوت الأجندة الرسمية. في الساحة العامة، كان يتم جمع الشارع الموالي للنظام ليحمل الأعلام ويهتف بحياة الرئيس. وفي هذه الساحة، لا صوت يعلو على صوت «الله سوريا وبشار وبس»، بينما كانت تتم مطاردة هتافات «ارحل» من الأزقة الضيقة والساحات البعيدة عن المركز.

في بداية أيلول (سبتمبر) 2015 اقتحمَ الاحتجاج الساحة العامة بشكل انفعالي عفوي. الساحةُ العصية القصية عن أي حشد شعبي سوى حشد التأييد، اقتحمها المحتجون من كافة الجهات، وكان هدفهم تمثال الأسد الأب كأول ردّ فعل على تفجير طال الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، مؤسس حركة رجال الكرامة المناهضة للنظام، ثم تفجير ثانٍ استهدف مصابي التفجير الأول ومسعفيهم على باب المشفى الوطني في المدينة. كان المحتجون، الذين هم من كوادر الحركة وأهالي الضحايا الذين قضوا على باب المشفى، يرددون «دمك بو فهد راس الأسد محلو»، متّجهين إلى طوطم السلطة في السويداء المزروع في الساحة العامة.

سقوط التمثال الأكبر في المحافظة كان رسالة سياسية من الحركة والمحتجين، وتعبيراً عن ابتعاد المحافظة أكثر عن النظام وانضمامها إلى المحافظات الثائرة آنذاك. كانت تكلفة إسقاط التمثال أكثر من 26 قتيلاً، وعلى رأسهم أبو فهد وحيد البلعوس أبرز رجال الدين المعارضين للنظام، في فترة كانت المرجعية الدينية فيها أقرب إلى الصمت المطبق عن كل ما كان يحدث في السويداء وخارجها. بقيت  المحافظة ثلاث أيام من الخوف والترقب والحداد. سيطر عناصر حركة رجال الكرامة على المدينة، وشهدَ اليوم الثالث هو مراسم دفن البلعوس. ما أن انتهت مراسم الدفن حتى خرجت مظاهرة طالبت بإسقاط النظام. مرّت الحشود من أمام الساحة العامة، كان الفراغُ هو الذي يسيطر على الموقف في الساحة، وصيحات المحتجين تدوي فيها «دم البلعوس رأس الأسد محلو». خطَّ المحتجون على قاعدة التمثال الذي تم إسقاطه عبارة «رجال الكرامة».

اصطدمَ إسقاطُ التمثال بمزاج رافض للتصعيد ضد النظام من مرجعيات دينية، وتمت ممارسة ضغوط أمنية باتجاه اعتبار ما حدث سحابة غضب لا أكثر. تم إجبار الشيخ ركان الأطرش، المرجعية الروحية للحركة، على الخروج على إذاعة «شام إف أم» ليحثَّ مناصريه على الهدوء والتروي، وتم قطع الإنترنت والكهرباء عن كامل المحافظة. تم اسقاط التمثال، لكن النظام بقيَ بكافة دوائره الأمنية والرسمية في السويداء.

بقيت الساحة لأنصار النظام رغم  زوال التمثال منها، وتم دهن قاعدة التمثال بألوان العلم السوري الرسمي لطمس عبارة «رجال الكرامة»، وخوفاً من تَسلَّل ألوان العلم السوري الأخضر إلى قاعدة التمثال. انتهى تمثال حافظ الأسد في الحديقة الخلفية لمبنى المحافظة، وتحوَّلت الساحة إلى مربع أمني. تم وضع عدد من الحواجز الإسمنتية، وكذلك تدعيم مبنى المحافظة ومقر الأمني الجنائي وقيادة الشرطة القريبين من الساحة بسواتر ترابية.

هكذا عادت الساحة لتكون عصية على حركات الاحتجاج، وكانت إزالة التمثال عاصفة غضب، دون القدرة على إحداث تغيير في توازن القوى أو امتلاك الساحة العامة للمدينة، التي بقيت الساحة الرسمية التي تستعرض السلطة فيها جمهورها وحزبييها.

محاولة

قامت حركات احتجاجية شبابية عديدة بهدف انتقاد الوضع المعيشي السياسي خلال السنوات الماضية، كان من أبرزها خنقتونا التي انطلقت في 2015 قبيل اغتيال البلعوس بأيام، وحركة حطتمونا في آذار (مارس) في العام التالي 2016، التي رفعت أيضاً شعارات معيشية مطلبية.

لكن أول حركة للاحتجاج انطلقت من  الساحة العامة كانت حركة بدنا نعيش، التي دعت إلى وقفة احتجاجية بداية العام 2020 في ساحة السير إثر تسارع التدهور الاقتصادي. اختار المحتجون الساحة العامة، مراهنين على  وجود أعداد أكبر من المرات السابقة، وأن يكون صوتهم مسموعاً أكثر باعتبار أنهم سينطلقون من الساحة الرسمية للمدينة. في البداية تم التغاضي أمنياً عن الاحتجاجات، سعياً لعدم استفزاز البيئة المحلية باعتقالات، وخاصة مع وجود فصائل محلية في المحافظة يمكن أن تضغط على النظام.

بعد حوالي الشهر تم تعزيز التواجد الأمني للنظام بعناصر تابعين للدفاع الوطني، و كتائب «حماة الديار»  التي يقودها نزيه جربوع أحد الشخصيات المحلية المتحالفة مع النظام. كان تعزيز التواجد الأمني بهدف التضييق على المحتجين، الذين كانت أعدادهم في ازدياد مع مرور الوقت. مع توالي الأسابيع بدأت الاحتجاجات تزداد أكثر من خلال دعوات للتظاهر يبثها الناشطون، معظمها كانت في يوم الأحد أول أيام الدوام الرسمي. كذلك بدأ يرتفع سقف الشعارات وصولاً إلى إسقاط النظام.

خطَّ المحتجون وقتها عبارة «ساحة الكرامة» على قاعدة التمثال السابق المطلية بالعلم السوري الأحمر.

جرت العادة في سوريا أن تتم تسمية ساحات التظاهر ضد النظام باسم ساحات الحرية، لكن المحتجين اختاروا ساحة الكرامة في السويداء. في تقديري أن هذا ربما يكون مقصوداً لطمأنة أو جذب الحاضنة الشعبية بعد اقتران شعار «الحرية» لدى كثيرين بكل مسار سنوات الثورة.، لكن أياً يكون السبب. كانت كلمة الكرامة هي الحرية بلباس محلي من السويداء، كما أنها تقترن بمؤسس حركة رجال الكرامة أبو فهد وحيد البلعوس، الذي كان مقتله سبباً بسقوط التمثال الأكبر للأسد في المحافظة.

دفع ازدياد أعداد المتظاهرين في  حملة «بدنا نعيش» النظام إلى إخراج البعثيين والموالين له لإنهاء حركة الاحتجاج  بالقوة، وتم إخماد الحركة فعلاً بعد قمع أحد الاحتجاجات واعتقال 9 أشخاص. في حزيران (يونيو) 2020 خاضت حركة رجال الكرامة مفاوضات مع النظام، وأخرجتهم بعد شهر من اعتقالهم.

تكررت الاحتجاجات في الشهر الأخير من عام 2022، إذ تجمعت حشود عند دوار المشنقة  غربي مركز المدينة في السويداء، وبدأت  بالمشي في سوق المدينة، خلال دقائق انتهى المطاف بالمظاهرة أمام مبنى المحافظة في ساحة السرايا المجاورة للساحة العامة، أي في الساحة التي بدأنا منها حكايتنا. قام المحتجون باقتحام مبنى المحافظة وإحراق أجزاء منه، وتعرّضوا لإطلاق نار من قوات الأمن المتحصنة في أحد المباني المجاورة ما أوقعَ عدداً من الإصابات. اعترفت أحد الفصائل المحلية بمسؤوليتها عن حرق المبنى، ونسبت ذلك إلى عناصر غير منضبطين.

أرخى إحراق مبنى محافظة السويداء على الجو العام نوعاً من الإحباط، وجاء تكريساً لرواية السلطات بخصوص أن المحتجين ليسوا سلميين، وإنما يرتدون قناع السلمية. بدأ فعل الاحتجاج يرتبط بالتخريب عند الكلام عنه في الأوساط الشعبية والمعارضة، وحتى بعض المؤيدين للاحتجاجات السلمية في السويداء راحوا يقللون من رهانهم عليها، باعتبار أن هذا النظام لا يفهم سوى لغة العنف من جهة، وأن المجتمع المسلح من جهة أخرى لا يمكن إلّا أن يعبر عن غضبه بالعنف. انتهى العام 2022 بركود مظلم يخيم على الأجواء. كان السكون القاتل وانعدام الأمل بأي تغيير يخيم على الناس هنا في السويداء، بغض النظر عن موقفهم من النظام السياسي.

 ساحة الكرامة

مع بداية العام الحالي عادت الدعوات إلى الوقفات الاحتجاجية في الساحة العامة. بدأت وقفات صامتة تركز على الوضع المعيشي، وراحت تتكرر بتوقيت أسبوعي هو يوم الإثنين.

كان النظام مرتاحاً لابتعاد الحاضنة الاجتماعية عن الاحتجاج بعد إحراق مبنى المحافظة، الذي تم النظر له كفعل تخريب، لكن أعداد المشاركين في الاعتصامات بدأت بالازدياد شيئاً فشيئاً مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وإصرار المحتجين على الاستمرار.

بدأ الجليد بالانكسار عن  فعل التظاهر. اعتاد الناس على الكلام بأنه هنالك مظاهرة في الساحة، وترافق ذلك مع كلام راح يشيع بين الناس بشأن أن هناك ضغطاً من الفصائل المحلية لمنع أي اعتقال في المحافظة، وذلك بالاعتماد على نجاح الفصائل المحلية في إجبار النظام على الإفراج عن أبناء السويداء الذين كان يعتقلهم خارجها خلال محاولتهم السفر.

كل تلك الظروف ساهمت في إعداد نواة الانتفاضة التي انفجرت بعد رفع الدعم عن المحروقات أواسط آب الماضي. حظيَ الداعون للإضراب والتظاهر بدعم الشيخ حكمت الهجري أحد مشايخ العقل، والذي كان على علاقة متوترة مع النظام منذ عام 2018، إضافة إلى تجاوب الموظفين الذين كانوا أكثر المتضررين من التدهور الرهيب في سعر الصرف ورفع الدعم. سحبت هذه العوامل من النظام القدرة على حشد شارع مؤيد مطعّم بالشبيحة لقمع المظاهرات مثلما كان يحدث في الأيام الماضية.

بينما تدخل الانتفاضة أسبوعه الرابع أثناء كتابة هذه السطور، السوق التجاري المحيط بساحة الكرامة يشهد حركة يومية طبيعية، ومكبرات الصوت تصدح في ساحة الكرامة بأغنية فيروز «يا حرية»، هذه الكلمة التي كان الهتاف بها سبباً لسحق الشموع وضرب المتظاهرين في آذار من عام 2011 في ساحة السرايا القريبة من ميدان السويداء العام، الميدان الذي تحوّل في هذه الأيام الاستثنائية إلى ساحة الاحتجاج السياسي ضد السلطة، بعد أن كان ساحة للسلطة طوال الماضية.

موقع الجمهورية

———————

حراك السويداء في نقطة اللاعودة: سلاح التخويف يفشل/ ليث أبي نادر و عماد كركص

تأخذ تظاهرات السويداء، جنوبي سورية، منحى تصاعدياً، لا سيما بعد حادثة إطلاق النار لتفريق المتظاهرين من قبل عناصر مسلحة في مبنى قيادة حزب “البعث”، داخل مدينة السويداء يوم الأربعاء الماضي، ما أدى لإصابة ثلاثة متظاهرين، ثم توجيه شيخ العقل الأول لطائفة الموحدين الدروز في سورية، حكمت الهجري، خطاباً تحذيرياً من التصعيد أمام المتظاهرين، على الرغم من مطالبته بضبط النفس والحكمة. لكنه أكد استمرار التظاهرات، موجهاً رسالة بعدم الرهان على الملل وطول أمد الحراك الحاصل في المحافظة، ذات الغالبية الدرزية.

وواصل المتظاهرون في السويداء حراكهم يوم أمس الجمعة، بتظاهرات في نقاط عدة، كان أكبرها داخل مدينة السويداء، بدأت من أمام مقر قيادة حزب “البعث” في المدينة، برسالة تفيد بعدم الانصياع لحركة إطلاق النار يوم الأربعاء الماضي.

واستخدم المتظاهرون الشعارات نفسها التي يرددونها منذ بداية حراكهم، المطالِبة بإسقاط النظام وإخراج إيران من البلاد، بالإضافة إلى التركيز على شعار “حزب البعث خائن”، وذلك قبل توجه التظاهرة إلى ساحة الكرامة وسط المدينة، مركز التظاهر المعتاد للأهالي.

وتجمّع الآلاف في ساحة المحافظة، في واحدة من أكبر التظاهرات التي شهدها الحراك في السويداء منذ اندلاعه قبل نحو شهر.

وبدت الشعارات خلال التظاهرة أقوى من ذي قبل، عبر المطالبة بإسقاط رئيس النظام بشار الأسد ورحيله عن السلطة، والدعوة لإخراج إيران ومليشياتها خارج البلاد، لا سيما بعدما دعا إلى ذلك الشيخ الهجري في خطابه بعد حادثة إطلاق النار.

وقال الناشط المدني سامر أبو دقة، المشارك في تظاهرة الأمس الكبيرة، إن المشهد في الساحة هو رسالة واضحة للنظام ولحزب “البعث” مفادها “سترحلون عاجلاً أو آجلاً، فحاجز الخوف تحطم”.

وأضاف في حديث لـ”العربي الجديد” أنه “يجب على هذا النظام أن يفهم أن خروج الآلاف وبهذا الزخم غير المسبوق، هو تأكيد من معظم المواطنين في السويداء على دعم الشارع ومطالبه بالحرية والانتقال السياسي والتغيير السلمي، في تحدٍ صارخ لكل محاولات النظام بإبعاد قسم من الناس عن المحتجين من خلال التهم الجاهزة، وغير ذلك من محاولات شق الصف”.

تظاهرة غير مسبوقة في السويداء

من جهته، أشار الناشط المدني منيف رشيد، في تصريح لـ”العربي الجديد”، إلى أن “تظاهرة (أمس) الجمعة غير المسبوقة على الإطلاق في محافظة السويداء منذ بداية الثورة السورية عام 2011، تدل على عدم الانصياع لكل التهديدات، والاستمرار في الساحات حتى تحقيق المطلب الأساسي في التغيير السياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254 (في 2015، للانتقال السياسي وإجراء انتخابات ووضع دستور تحت سقف الأمم المتحدة)”.

وأكد أن “التظاهرات سوف تستمر بسلميتها على الرغم من الاستفزازات اليومية والإشاعات، والأبواق الإعلامية التي تتهم المتظاهرين بالعمالة”.

وفيما رأت ناشطة حقوقية في حديث لـ”العربي الجديد” أن يوم الأربعاء الماضي، كان “السقوط الشرعي والضمني للنظام في السويداء”، قالت إن “مفاعيل ما حدث (من إطلاق نار على المتظاهرين) باتت واضحة للجميع ولم يعد للنظام وإعلامه وماكينته الإعلامية أي سيطرة على عقول غالبية مواطني المحافظة”.

وأعربت عن اعتقادها أن “النظام ربما يحاول افتعال أحداث أمنية بناء على السياق القديم للوضع السوري على مدى عقد”. ونبّهت أبناء المحافظة إلى ضرورة “إبقاء أعينهم مفتوحة لأي حركات غادرة عبر مليشيات النظام”، مشيرة إلى أنها “لا تقول ذلك في سبيل التخويف، ولكن لدواعي الحذر”.

الحراك في السويداء لا ينفصل عن الحراك في كل سورية

وتلا المتظاهرون أمس، بياناً صيغ بالتوافق بين منظمي الحراك والرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز في سورية، أشاروا فيه إلى أن “سورية التي كانت عز الشرق وخزان ثرواته، أصبحت وطناً للجائعين المحرومين من أبسط حقوق الحياة”.

وأضاف البيان أن “دولة المخابرات حوّلت مجتمعها إلى أشلاء، لقد جعلوا فلاحها يزرع ولا يأكل، عاملها يصنع ولا يلبس، موظفها يَخدم ولا يُخدم، وجنديها يدافِع ولا يدافَع عنه”.

وأشار إلى تشريد المجتمع السوري، ووجود عدد كبير منه في مخيمات النزوح، منوهاً إلى أن النظام يريد “دولة بلا شعب”. وتوجه للأخير بالقول: “بئس الحكم والحكومات أنتم”.

وأكد البيان أن حراك السويداء لا ينفك عن الحراك في سورية ككل، داعياً إلى وحدة الصف للوصول إلى “بناء الدولة الديمقراطية” لكل السوريين. وقال المتظاهرون في البيان إنه “لم يعد مقبولاً أن يملي علينا حزب سياساته”، بالإشارة إلى حزب البعث، “أو أن يرثنا أحد كأننا بعض من أملاك أسرته وخاصيته”.

وشهدت تظاهرة الأمس في ساحة الكرامة، قيام أحد المواطنين بتقديم وليمة المنسف العربي، الذي أطلق عليه (قِرى الكرامة)، حيث يعد المنسف من أهم العادات والتقاليد الاجتماعية في جبل العرب ودليلا على الكرم والفرح، ويدل ذلك على زيادة التكاتف الشعبي مع الحراك في ظل استمراره وتصاعده.

تحذيرات دولية وأممية من استخدام العنف ضد المتظاهرين

وفي موازاة ذلك تصاعدت التحذيرات الدولية من التعامل بعنف مع تظاهرات السويداء من قبل النظام السوري، بعد إطلاق النار على المتظاهرين. وقالت السفارة الأميركية في دمشق (سابقاً)، في بيان على منصة “إكس” (تويتر سابقاً) مساء أمس الأول: “نحن قلقون بشأن التقارير حول استخدام النظام للقوة في السويداء”.

وأضافت: “ندعم حق الشعب السوري في التظاهر بسلام من أجل الكرامة والحرية والأمان والعدالة”، لافتة إلى أن “الحل السياسي وفقاً للقرار الأممي رقم 2254 هو الحل الوحيد الممكن لهذا النزاع”.

من جهتها، أعربت المبعوثة الفرنسية الخاصة إلى سورية، بريجيت كرمي، على “إكس” مساء أمس الأول، عن قلقها البالغ إزاء “التصاعد المقلق للعنف في منطقة السويداء جنوبي سورية”، مضيفة أنه “بعد ثلاثة أسابيع من حراك شعبي مستمر، الأخبار التي تصل إلينا اليوم من السويداء مقلقة للغاية، ويجب على النظام الامتناع عن استخدام القوة ضد المتظاهرين السلميين”.

وبالتزامن قال المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسن، في تغريدة على “إكس”، إنه يتابع الأوضاع في السويداء بقلق ويؤكد على “ضرورة حماية المدنيين واحترام حقوق الاحتجاج السلمي”.

وفي خطوة فُهمت من قبل المحتجين على أنها تهديدية، حلّقت، ظهر أمس الأول، طائرات حربية تابعة للنظام في سماء محافظة السويداء، في حدث نادر. واعتبر ناشطون في المحافظة، أن ذلك يحمل رسائل ترهيب لأهالي المحافظة الذين يواصلون انتفاضتهم ضد النظام منذ نحو شهر، وسط إصرار على استمرارها حتى تحقيق أهدافها في التغيير السياسي.

العربي الجديد

———————————-

السويداء السورية… تجربة مكررة؟/ عبسي سميسم

مع تصاعد الحراك الشعبي في محافظة السويداء ووصوله إلى عموم أرجاء المحافظة ورفع سقف مطالبه من خدمية إلى المطالبة بإسقاط النظام السوري، بدأت تظهر أصوات، ومنها ما هو محسوب على المعارضة، محبطة لهذا الحراك ومشككة بجدوى وصوله إلى أي نتيجة، على مبدأ أن سكان محافظة السويداء “يجربون المجرب” وأنهم يعيدون ما قام به السوريون منذ عام 2011 من تظاهرات بدأت سلمية تطالب بإسقاط النظام، سرعان ما حوّلها الأخير إلى صراع مسلح نتيجة استخدامه العنف المفرط ضد المتظاهرين.

ومع هذا وعلى الرغم من التظاهرات المليونية التي خرجت تطالب بإسقاط النظام، لم يتمكن السوريون من إطاحة النظام الديكتاتوري الحاكم ولا حتى دفعه لتقديم أي تنازل من شأنه أن يغيّر شيئاً في بنيته.

قد تكون احتجاجات السويداء شبيهة إلى حد بعيد بالاحتجاجات التي عمّت معظم الأراضي السورية في بداية الثورة في الشكل والشعارات والمطالب وتنظيم التظاهرات، إلا أنها تختلف عنها لناحية التوقيت والظرف وحتى المكون السكاني. هذه الاختلافات جوهرية، وبإمكانها، في حال تمكنت السويداء من الاستمرار في حركة الاحتجاج وتصعيدها، تحقيق نتائج كبيرة قد تكون بداية لتغيير شامل في كل سورية.

في بداية الثورة السورية، كان المتظاهرون يواجهون نظاماً متماسكاً اقتصادياً نوعاً ما، ويحظى باعتراف كل دول العالم سياسياً وتربطه علاقات مع دول كبرى قدّم لها كل ما تملكه البلد من أجل مساعدته في الحفاظ على الحكم، أما الآن فسكان السويداء يواجهون نظاماً منهاراً اقتصادياً، وتتعامل معه معظم الدول الفاعلة في العالم كعصابة تعتمد في مواردها على تصنيع وتصدير المخدرات للعالم وتفرض عليه عقوبات اقتصادية وسياسية.

كما أن الدولة الكبرى التي ساعدت النظام في قمع الثورة ومنعته من الانهيار، أي روسيا، تخوض الآن حربها الخاصة في أوكرانيا، وقد حصلت من النظام على ما يمكن الحصول عليه، وبالتالي فإن المحافظة على النظام في سورية لم تعد في مقدمة أولوياتها.

كذلك، فإن المكون السكاني في السويداء، التي ينتمي معظم سكانها لطائفة الموحدين الدروز، يوجب على النظام تغيير التكتيك الذي اعتمده في التعاطي مع الثورة في باقي المحافظات السورية، حين أطلق سراح المعتقلين من الجهاديين المتشددين كي يشكلوا تنظيمات يدعي محاربتها خلال قمعه الثورة.

وفي حالة السويداء، ليس أمام النظام سوى اتهام المتظاهرين بالانفصالية وبالتآمر مع جهات خارجية، مع محاولة اللعب على خلق خلافات بين المرجعيات الروحية لدى الموحدين الدروز. هذه الأساليب لا تزال تثبت فشلها أمام تماسك المحتجين ورفعهم شعارات ضد الانفصال والتدخل الخارجي، الأمر الذي يبشر بنجاح هذا الحراك وانتقاله إلى مناطق أخرى في حال حافظ على زخمه وتماسكه، ما من شأنه أن يوفر إرادة دولية لفرض حلّ سياسي رغماً عن تعنّت النظام وعنجهيته.

—————————

بعد شهر من انطلاق المظاهرات ضد النظام السوري: ما هي السيناريوهات المتوقعة؟/ منهل باريش

 يرجح أن يبتعد النظام عن القضاء على احتجاج السويداء، كما أن استعمال القوة بشكل مباشر سيدفع الكثير من المترددين إلى الوقوف إلى جانب المحتجين الذين يشكل الشيخ الهجري عنوانهم.

وضع الشيخ الروحي للطائفة الدرزية حكمت الهجري في السويداء جنوبي سوريا، الحراك الاحتجاجي ضد النظام السوري في مكان متقدم، يكاد يقطع مع النظام بشكل شبه نهائي. حيث دعا إلى مواصلة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية: «الساحات لنا وسنبقى فيها بشكل سلمي يوما.. يومين، شهرا.. شهرين، سنة.. سنتين، ولن نتراجع».

وفي سابقة، اعتبر أن إيران وميلشياتها هم «محتلون ولا نقبل بوجودهم في سوريا.. ورأينا في ذلك نعلنه على الملأ». واتهمها بأنها دخلت إلى سوريا بهدف «سرقة البلاد وثرواتها وتغيير عقول الناس باتجاه غير مقتنعين فيه» لافتا إلى أن «فكر هذه الميليشيات تخريبي» وشدد على ضرورة «الجهاد ضدها».

وحذر أبناء السويداء من الانجرار إلى السلاح لأن النظام السوري يحيك مؤامرة ضد السويداء تضع الدروز في موضع الاتهام. واستدرك أن «سلاحنا مُنظف وجاهز والطلقة في بيت النار ضد من أراد التعدي علينا» مؤكداً أن الطلقة الأولى لن تصدر من أهل السويداء.

حول إطلاق النار من عناصر أمنيين وبعثيين متمركزين في مبنى فرع الحزب قال الشيخ: «غير متفاجئ مما حصل. أعرف أن أي سوء سيصيبنا سيكون بسبب هؤلاء الحزبيين الساقطين» وأضاف: «هناك مؤسستان لدى النظام السوري، هما مصدر البلاء في هذا البلد، المؤسسة الأمنية، والمؤسسة الحزبية».

وفي بيان مكتوب للشيخ الهجري، تلاه أحد مساعديه الشيخ الهجر خلال استقبال وفد المحتجين، وصف «كل شخص لا يقف مع أهله في هذه الإرادة الشعبية التي هي عنوان للكرامة هو خائن لوطنه» وتبرأ اجتماعيا ودينيا من شخص «يساند هذا الحزب البائد (حزب البعث العربي الاشتراكي) فهو خارج من القيم والأصول الدينية التي تربينا عليها».

وطالب البيان أعضاء مجلس محافظة السويداء بـ «التزام منازلهم، أو الاصطفاف مع المحتجين» وزاد «أنتم معينون من قبل هذا الحزب البائد (البعث) ولستم منتخبين من قبل الشعب، الزموا الصمت إن كنتم غير قادرين على النطق بالحق». وناشد عائلات السويداء أن تعمل على «توعية أبنائها على اختلاف توجهاتهم، والحذر من الفتنة التي يسعى إليها النظام وأعوانه».

جاء كلام الزعيم الروحي خلال لقائه وفدا شعبيا ضم الجرحى الذين أصيبوا بحادثة إطلاق نار من قبل عناصر أمنية يتمركزون أعلى سطح مبنى فرع حزب البعث في مدينة السويداء، وهو المبنى الذي أغلقه المحتجون قبل نحو عشرين يوما، لكن عناصر الأمن تسللت إليه في محاولة لإعادة فتحه مرة أخرى، ومنع المحتجون إعادة فتحه والدخول إليه.

ورغم توثيق حادثة إطلاق النار وبث شرائط مصورة لها وتصوير وجوه مطلقي النار، لم يجر التعرف عليهم بعد مضي عدة أيام من الحادثة وحتى لحظة كتابة التقرير (يوم الجمعة) وهو ما يؤكد أنهم يتبعون للقوى الأمنية وليسوا من أبناء السويداء أو من حرس المبنى من البعثيين المحليين. وتعتبر حادثة إطلاق النار على المتظاهرين هي الأولى منذ انطلاق الاحتجاجات المناهضة للنظام التي انطلقت في 16 آب (أغسطس) الماضي.

مصير الحراك ومستقبله

قال الباحث والناشط السياسي مضر الدبس إن المستقبل مفتوح على كل الاحتمالات ولم يستبعد في اتصال مع «القدس العربي» افتعال النظام نوعا من «الاقتتال الداخلي وهذا ممكن ان لم يتم تداركه من الحراك والطرف الآخر الموالي للنظام». ونوه إلى وجود طرفين مسلحين الآن في السويداء هما «الجهة التي يمثلها الشيخ الهجري وهي المجموعات المسلحة التي أعلنت ولاءها له، والجهة الأخرى هي التي يمثلها الشيخ الجربوع وهي بقايا ميليشيا الدفاع الوطني والموالين للنظام وبعض العسكريين غير مضموني الموقف والمحسوبين على النظام».

وقَدّر تراجع احتمالات الاقتتال لسببين «إدراك الحراك في ساحة الكرامة لتلك المسألة وخسارة الجربوع لرصيده الأخلاقي والاجتماعي والسياسي منذ بدء الاحتجاجات». وتوقع «عمل النظام على سردية وصم الحراك بالعمالة والارتباط مع إسرائيل».

وقلل من احتمالية العمل العسكري لما للأمر من تبعات إقليمية تتعلق بوجود الأردن وإسرائيل على الجانب الآخر من الحدود، وخفف من فرضية فتح معبر حدودي بين السويداء والأردن ووصفه انه «فكرة قديمة لكنها غير متاحة أو ممكنة». ولفت إلى أن «الأردن يعيد حسابات التطبيع مع النظام بشكل حقيقي، فعمل عسكري سيكون بدعم ومشاركة من إيران وحزب الله وهذا مقلق وخطير بالنسبة للأردن». ورأى الدبس ان الحراك «أعاد السويداء إلى سوريا بالمعنى السياسي».

وفي الاحتمالات أيضا، أطر الباحث السوري مازن عزي مستقبل الحراك بأربعة سيناريوهات. أولها «أن يحافظ النظام على تواجده الأمني من خلال الأفرع والمربعات الأمنية ويتراجع قليلا بمسألة السيطرة والإدارة المباشرة، ويترك للمحتجين تشكيل شكل ما من إدارة ذاتية». ورجح أن تكون «الفوضى الأمنية وخلق المشاكل والقلاقل ضمن المنطقة والدفع باتجاه الانقسام الأهلي» هي السيناريو الآخر.

وتوقع في حديث لـ «القدس العربي» أن يكون «تآكل الحراك مع الوقت وعدم قدرته على تجديد نفسه « احتمالا قائماً.

لكنه رجح أن «ينجح الحراك بإنتاج قيادة محلية بدعم من مشيخة العقل تقوم بإدارة مرحلة انتقالية اسعافية في السويداء تنادي بالحل السوري سياسيا وتطبيق القرار الدولي 2254».

واستبعد حدوث مواجهة عسكرية مباشرة، فلم نرصد ولم يجر تحشيد عسكري لقوات النظام وانتشار قواته وإعادة تموضعه «ما زال دفاعيا في المنطقة الجنوبية» وقلل من فرضية الطلب من الفرقة 25 -مهام خاصة (قوات النمر) التي يقودها اللواء سهيل الحسن، رفع جاهزيتها لزجها بمعركة في السويداء.

وتشير تقديرات أمنية متناقلة، أن الفرقة التي يقودها الحسن قادرة على حشد 18 في المئة من مقاتليها فقط بسبب انتشارها في عدة محاور قتالية وفي أحسن الأحوال يمكنها الاستغناء عن 6 في المئة فقط من قواتها وهذه غير قادرة على إحداث فرق ميداني.

واعتبر عزي أن قوات النظام تعاني من ترهل وأولوياتها ليست «ضرب انتفاضة شعبية في السويداء، فهي لا تضر بطرقه الحيوية وموارده الاقتصادية» وأضاف أن النظام «قادر على التعايش معها، حصل ذلك مع قسد شرق الفرات ويتعايش مع الوضع في إدلب».

يرجح أن يبتعد النظام عن القضاء على احتجاج السويداء عسكريا، فهو يملك الكثير من أوراق القوى هناك، ويمكنه الاستثمار بها، سواء الخلايا الأمنية أو الجماعات الدينية أو القوى العسكرية، كما أن استعمال القوة بشكل مباشر سيدفع الكثير من المترددين إلى الوقوف إلى جانب المحتجين الذين بدأ الشيخ حكمت الهجري يشكل عنوانهم الأهم. ويسعى النظام إلى الحفاظ على الوضع الراهن هناك. فهو لم يتخذ أي إجراء عقابي ضد المحافظة المحتجة ضده، فحافظ على مستوى الخدمات ذاته، على العكس فقد تحسن واقع امداد المحافظة بالكهرباء بشكل نسبي قليلا.

ولا يقتصر سوء الأحوال المعاشية والخدمية على السوريين في محافظة السويداء وحدها، فالحال واحد في عموم مناطق سيطرة النظام بما فيها اللاذقية مسقط رأس بشار الأسد. فهو لا يملك أي شيء يقدمه لمواطنيه، فالخزينة فارغة وما تبقى من الموارد يسرقها القادة الأمنيين والعسكريين وقادة الميليشيات التي تسانده.

في نهاية المطاف، يراهن النظام على الفوضى الأمنية وتفسخ المناطق الخارجة عن سيطرته ويسهل الاقتتال الأهلي بين معارضيه عودة سيطرته على المناطق التي يفقد حكمها والسويداء رغم أنها استثناء في عدة مواقع لكن لا يمكن استبعادها من الحالة السورية الكبرى.

—————————-

من يحمي النظام السوري من الأقليات؟/ د. فيصل القاسم

من أكثر النكات إثارة للضحك والسخرية على مدى نصف قرن من التاريخ السوري الحديث النكتة التي كان يضحك بها النظام السوري على العالم، ألا وهي نكتة «حماية الأقليات» موحياً بذلك أن الأقليات في سوريا تعيش في رعب دائم من الأكثرية، وهي بالتالي تحتاج إلى حام على الدوام، مع العلم أن الأقليات السورية لم تتعرض في تاريخها لواحد بالمائة من الأذى الذي تعرضت له على أيدي النظام الأسدي. وللأمانة فقد نجح النظام في ترويج وتعميم تلك الكذبة السمجة لفترة من الزمن، لكن حبل الكذب مهما طال يبقى قصيراً، حيث يظهر اليوم أمام الجميع عارياً تماماً بعد أن سقطت ورقة حماية الأقليات التي كان يغطي بها عوراته التي لا تعد ولا تحصى.

لا شك أن النظام وحلفاءه الطائفيين نجحوا في استغلال البعبع الإسلامي على مدى سنوات لمصلحته الخاصة داخلياً وخارجياً، لكن ماذا بعد أن انكشفت خدعة حماية الأقليات وبعد أن راحت بعض الأقليات كالموحدين الدروز مثلاً يمسحون الأرض برأس النظام ويغلقون مقرات حزبه الحاكم ويدوسون على صوره وتماثيله بنفس الطريقة التي داست بها الأكثرية على رموز النظام قبل أكثر من عشر سنوات. لا بل إن أهالي السويداء لم يتركوا شعاراً ولا لافتة ولا أغنية من اللافتات والشعارات والأغاني التي أنشدها ثوار الأكثرية إلا ورددوها في ساحة الكرامة بقلب المدينة التي تطهرت تماماً من كل صور وتماثيل بشار ووالده. وهذا أكبر دليل على أن الأقليات لم تصدق يوماً الكذبة التي حاول بها النظام خداع العالم لتبرير همجيته بحق الأكثرية وتقديم نفسه على أنه يحمي الغرب من الإرهاب الإسلامي. لقد سقطت كذبة مواجهة الخطر الإسلامي تماماً، ولم يعد هذا النظام الفاشي قادراً أن يستر عوراته بأي شعارات جديدة.

والمؤلم جداً في الأمر أن كذبة «حماية الأقليات» انطلت لردح من الزمن على الغرب نفسه دون أن يعلم الغرب المسيحي أن أكبر المتضررين من النظام السوري هم المسيحيون السوريون أنفسهم. ويقول الباحث السوري المسيحي جورج كدر في دراسة له بعنوان «هندسة الفتن» إن «الهجرةَ الكبرى للمسيحيين السوريين كانت على مدى السنواتِ الثلاثين الماضية، أي خلال حكم النظام السوري الحالي. والأرقام تقول إنّ أكبر هجرة للأقليّات كانت في عهد الديكتاتوريّة التي ادّعت حماية الأقليّات، فقد انخفض عدد المسيحيين منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة بشكل كارثيّ؛ فبعد أن كانت نسبتهم 16.5 بالمئة من السوريين مطلع السبعينيّات، قد تصل اليوم إلى أقلّ من 6 بالمئة وربما أقل بكثير، حسب كدر.

وحتى الحاضنة الشعبية للعائلة الحاكمة في سوريا في الساحل السوري لم تدفع بتاريخها ثمناً باهظاً كالثمن الذي دفعته خلال العشر سنوات الماضية، فقد استخدمها النظام كرأس حربة ضد الأكثرية، وورطها في صراع تاريخي مع المسلمين في سوريا الذين يشكلون أكثر من ثمانين بالمائة من سكان البلاد.

لقد صرح أحد المتحدثين باسم النظام في السنوات الأولى للأحداث وعلى شاشة الجزيرة بأن العلويين فقدوا أكثر من مئتي ألف قتيل، وهذا يعني أن الرقم ربما تضاعف خلال السنوات اللاحقة من المواجهة بين النظام والأكثرية السنية. وقد ذكرت صحيفة «الحياة» في تقرير لها من الساحل قبل سنوات أن العديد من البلدات العلوية أصبحت بلا رجال لأن العائلة الحاكمة زجت بهم في أتون الحرب ضد الأكثرية. وماذا كانت مكافأة الأقلية العلوية المذبوحة التي يستخدمها النظام في حربه على السوريين؟ إنها تعيش منذ سنوات أسوأ فترة في تاريخها، ويكاد يكون وضعها اليوم أسوأ بمرات من وضع النازحين السوريين الذين تجمعوا في الشمال السوري أو حتى في بلاد اللجوء. وقد خرجت أصوات علوية قوية للغاية في الآونة الأخيرة ضد النظام رغم القبضة الأمنية الوحشية المسلطة على الحاضنة الشعبية للعائلة الحاكمة في الساحل السوري. ولمن لا يعرف فإن عقاب العلوي الذي يتمرد على النظام أكبر بمرات من عقاب أي مكون سوري آخر، فالمطلوب من العلويين المسحوقين المذبوحين المهمشين المنتوفين أن يصمتوا حتى لو لم يجدوا لقمة الخبز لأطفالهم. لكن مع ذلك، هناك حالة تململ غير مسبوقة في العلاقة بين العائلة الحاكمة والمجتمع العلوي الذي قدم مئات الألوف من القرابين على مذبح العائلة ليجد نفسه اليوم في أسوأ وضع معيشي كارثي بعد أن هرب عشرات الآلاف من شبابه إلى العراق وغيره بحثاً عن لقمة عيش، وبعد أن كانت مكافأة العائلات التي فقدت شبابها في الحرب ساعة حائط صناعة صينية وفي أحس الأحوال «سحارة برتقال» أو «باكيت متة».

واليوم لو خفّت القبضة الأمنية الوحشية قليلاً في الساحل السوري لربما شاهدنا انتفاضة شعبية ضد العائلة الحاكمة بنفس قوة انتفاضة الموحدين الدروز في السويداء. ومن الواضح أن الأمور في الساحل طال الزمن أو قصر تتجه في اتجاه الانتفاضة، خاصة وأن غالبية الشارع العلوي يضع اليوم ألف إشارة استفهام على أصل وفصل العائلة الحاكمة، والنسبة الكبرى من العلويين اليوم تشكك في أن يكون آل الأسد علويين أو سوريين أو حتى عرباً أو مسلمين. حاول اليوم أن تسأل علوياً على انفراد عن أصل العائلة فسيقول لك إنها مجهولة النسب ولا تمت للعلويين بصلة، وهي فقط تستخدم الطائفة كرأس حربة لتنفيذ مخططات شيطانية لصالح مشغليها في الخارج ضد سوريا والسوريين والعرب والمسلمين. ولو كانت العائلة من أصل سوري لما دمرت سوريا وشردت شعبها وباعتها بالجملة والمفرّق للغزاة والمحتلين الذين استقدمتهم لحماية عرشها الذليل.

والآن بعد أن اتضح أن النظام السوري أكبر عدو للأقليات والأكثرية في آن معاً، ماذا بقي لديه من أكاذيب كي يتاجر بها، فقد أثبت الباحثون المسيحيون أنفسهم بأن العائلة الحاكمة في سوريا هي المسؤولة عن تهجير غالبية المسيحيين، بينما يرى العلويون أنهم لم يعانوا في تاريخهم كما يعانون اليوم بسبب استغلالهم من قبل العصابة الحاكمة في مشاريع شيطانية لا ناقة لهم فيها ولا جمل. أما الموحدون الدروز فقد قطعوا شعرة معاوية مع النظام تماماً كما نرى يومياً في انتفاضتهم المباركة التي ستدخل شهرها الثاني. ولا يبدو أن هناك رجعة إلى النظام بعد أن أصبحت السويداء محسوبة على مناطق المعارضة، وبالتالي فإن السؤال اليوم: هل كان النظام يحمي الأقليات فعلاً أم كان يحتمي بها؟ من سيحميه من الآن فصاعداً من الأقليات بعد أن سقطت وانفضحت خرافة «حماية الأقليات»؟

كاتب واعلامي سوري

القدس العربي

———————

أسئلة لا بدّ منها إلى السوريين/ سوسن جميل حسن

تنتفض السويداء من جديد، في وقتٍ وصل معه الشعب السوري بمجمله إلى مستوياتٍ لا يمكن احتمالها، ولا حتى تصديقها، في زمن ينتمي إلى هذا العصر، عصر حقوق الإنسان التي أقرّتها المنظمات والمعاهدات الدولية، وجعلتها غالبية الدول منطلقًا لدساتيرها، العصر الذي بات على الشعوب والحكومات فيه أن تجعل من شرعة هذه القوانين الضامنة للحقوق بمرتبة ألواح الوصايا، أو المنطلقات “النظرية”، التي تسعى الحكومات إلى تحقيقها.

وكالعادة، انقسم الشعب السوري الذي وصل في غالبيّته الساحقة إلى الحضيض في عيشه إلى فئاتٍ تتبارى في تفنيد الحراك بين شيطنته وتقديسه، مع أن هذه الغالبية التي تجاوزت التسعين بالمئة منه، تعاني من انعدام كل مقوّمات العيش ضمن “دولة”، وقسم كبير منها يدلي بدلوه ويصرخ مع من يصرخون (على مواقع التواصل الاجتماعي)، ويكيل الاتهامات بحق “الحكومة”، ويحمّل وزيرًا من هنا، وآخر من هناك، مسؤولية هذا الخراب الواقع عليهم، من دون أن يجرؤوا على الإشارة إلى المشكلة الرئيسية، إن كان في مناطق النظام أو في تلك الأخرى الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع. لذلك نرى أصواتًا تتّهم الحراك بأنه تطبيق لأجندات خارجية، أو أنه دعوة إلى الانفصال، أو مؤامرة تبدو أصابع الصهيونية العالمية من خلفها تستخدمها للنّيْل من هيبة الدولة وإضعافها، أو اتهامات أخرى متنوّعة، وأصواتًا أخرى من الجانب الآخر المحسوب على المعارضة، تستخفّ بالحراك، وتحاول أن تُلبسه لبوسًا طائفيًا. أما الأصوات الواعية للحالة السورية، والتي تحاول الاستفادة من أخطاء الانتفاضة السابقة وعثراتها، وترى في الانتفاضة الحالية أملًا جديدًا، فهي تجاهد من أجل إبقاء هذه الشعلة وحمايتها من رياحٍ تتربّص بها، وتجاهد من أجل إذكائها واستمالة بقية مكوّنات الشعب السوري لتأييدها ودعمها وزيادة بقعة ضوئها.

وعلى الرغم من وضوح الواقع بكل أبعاده وعمقه وشروخه وانهياراته، هناك من يراهن على السراب، علمًا أن هذا الواقع لا يحتاج إلى شرح، فلو طرحنا بعض الأسئلة على الناس العاديين، ما سيكون ردّهم حولها؟ من قبيل: هل الحكومة قادرة على تلبية متطلبات حياة الناس حتى في حدّها الأدنى الضامن لاستمرارها لتكون قادرةً على النهوض بالمجتمع مستقبلًا؟ هل هي قادرة على تأمين الغذاء ليضمن أكثر من الرمق بقليل، وهل هي قادرة على تأمين التعليم والرعاية الصحية والتنقل والمواصلات ووصول التلاميذ إلى مدارسهم والموظفين إلى مقرات عملهم، وباقي قطاعات المجتمع إلى أعمالهم؟ هل الحكومة قادرة على القضاء على الفساد المستشري مثل الوباء في دوائر الدولة، بل صار سلوكًا مجتمعيًا؟ هل القضاء قادر على الوقوف على ساقيه بعدما انتهك حتى النخاع؟ هل الحكومة قادرة على فرض سلطتها على كل التراب الوطني؟ وهل هي قادرة على تأمين حدودها البرّية والبحرية والـ “الجوية” من الاختراقات الخارجية والاعتداء؟ وعلى حماية موارد البلاد التي هي ملك الشعب، كل الشعب، واستثمارها في صناعاتٍ وخدماتٍ له؟ هل هي قادرة على حماية الشعب من النزوح واللجوء والهجرة التي لم تتوقف، على الرغم من المخاطرة المميتة، وتدفع الشباب إلى البحث عن أماكن أو أوطان بديلة تضمن لهم تحقيق ذواتهم الإنسانية، ويمكن أن تعد بفتح آفاق المستقبل المنغلقة في وجوههم في بلادهم؟ هل هي قادرة على معالجة مشكلات الفقر والبطالة والجريمة بكل أشكالها، المنظمّة وغير المنظمّة، من قتلٍ ونهبٍ ومتاجرةٍ بالممنوعات، وخصوصا المخدّرات والسلاح؟ هل هي قادرة على منع التدهور الاقتصادي وتنشيط دورات الاقتصاد الراكدة كما المستنقعات، أو تمنع تدهور الليرة؟ وهل يقتنع كل الشعب بأن العقوبات التي اتّخذتها الدول القوية بحق سورية هي السبب، بينما ينظرون كيف تمتلئ الشوارع بالسيارات الحديثة، والأجهزة الذكية وكل ما تنتجه تلك الدول من أدوات العصر والتقنيّات الرقمية؟

هذه حقول يابسة تتسع وتمتد أمام أعين السوريين جميعهم، في الداخل والخارج، في المناطق الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع، وتلك الواقعة تحت سيطرة النظام، حقول تبدو الشواهد فيها أعمدة متفحّمة كالتي تخلفها حرائق الغابات، لكنها تحكي تاريخًا أوصل البلاد إلى الاشتعال والترمّد بعدها، فمن المسؤول عن حماية الدولة ومؤسّساتها والمجتمع بكليّته؟ أليس حزب البعث هو من سطا على الدولة والحكم منذ 60 عامًا تحت راية “القائد الأوحد للدولة والمجتمع”، ثم احتكرت السلطة فيه عائلة واحدة؟ ألم تُبتلَ الانتفاضة السورية بمن صادروا حقّ تمثيل الشعب السوري، فأضافوا إلى أزمات الشعب ومشكلاته إضافات لم تقدّم شيئًا له سوى أنها ساعدت في تفاقم أحواله ومصيره، كما لو أنها قدّمت إحدى أهم الجوائز إلى النظام الذي انتفض الشعب في وجهه؟ فما الذي قدّمته هذه الهيئات المعارضة؟ إذا نظرنا إلى واقع الحال في أماكن نفوذها وسلطتها لما لمسنا فارقًا يمكن البناء عليه، خصوصا لناحية المجتمع ومكانة المرأة ودورها فيه، بالإضافة إلى صهر المجتمع في بوتقة واحدة، من حيث الشمولية الدينية والمجتمعية، والعرقية في بعضها.

مجتمعٌ منقسمٌ على نفسه مرّات ومرّات، صارت لديه مشروعات بدلًا من مشروع وطني ينقّي فيه نفسه ويتعافى من أمراضه المزمنة التي كرّستها الأنظمة القمعية المتعاقبة والمتحالفة، بين سياسي وديني واجتماعي، كلها تشترك في تشكيل ثقافة سائدة وتكوين بيئة حاضنة لها، تراجعت مكانة المرأة ودورها في عديد المناطق السورية، مع عدم إغفال أن ما حقّقته المرأة ميدانيًا في العقود السابقة لا يرقى إلى مستوى الشعارات والأطروحات التي أشهرها النظام نظريًا، عدا تهتّك النسيج المجتمعي باكرًا في عمر الانتفاضة الأولى التي دُفعت إلى لجّة الحرب، ما أظهر انخفاض مستوى الوعي الجمعي، وضبابية مفهوم الانتماء إلى الوطن أو الدولة، بل ظهر جليًا كم هي الانتماءات إلى كيانات ما قبل الدولة هي الأقوى.

على الدولة واجباتٌ، قبل أن تتمسّك بالحقوق التي تصبح مفهومًا مطّاطيًا في يد أنظمة الحكم، فكلما ابتعد النظام في أي دولة عن الديمقراطية والنزاهة في العملية الانتخابية، وصادر الحرية السياسية وشلّها حتى لا يبقى أي حراكٍ سياسي أو تداول في الشأن العام بالمطلق إلّا من خلال ممثليه، وكلما صادر الحريات كلها وأهمّها حرية التعبير والقول، انقلبت الواجبات، على قلتها، إلى أعطياتٍ ومكرمةٍ من النظام أو رأسه، وازدادت مروحة حقوقه على حساب حقوق المواطنين اتساعًا.

هل المشكلة في تمييع هوية الدولة؟ أم في تشظّي الهوية المجتمعية؟ هل هناك مجتمع فاشل؟ وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة فمن المسؤول؟ وما الهدف الأساس الذي يجب أن يبقى ماثلًا أمام وجوه السوريين في حراكهم؟ وما هي الأولويات ومن ثم الشعارات التي تمثل عناوين خريطة الطريق المستقبلية؟ وقبل كل شيء، انطلاقًا من الأسئلة السابقة، لا بد من طرح السؤال الأساس: هل سورية دولة فاشلة؟ وإذا كانت كذلك، هل كان من الممكن للمؤامرة “الكونية” أن تتمكّن من شعبها وتقسّمه وتشظّيه وتبدّده وتجعله يقاتل بعضه بعضًا، لولا أن نظامًا صادر السلطة والمصير أوصل الشعب إلى هذا الفراغ الروحي، وفتح المجال لأطراف المؤامرة كي توصله إلى هذا المصير؟ سؤال على كل سوريٍّ أن يفكّر فيه.

العربي الجديد

—————————

هل يُسقِط حراك السويداء السلطة الحاكمة؟/ هدى سليم المحيثاوي

المُفَاجِئ والباعثُ على الأمل، وصفٌ يختصرُ حراكاً نشأ في تربةٍ “أقلاوية” (بحسب توصيفات النظام)، يقتلعُ الصورةَ التي عمل على زرعها بحماية الأقليات من جذورها. مطالبُ الحراك في السويداء جاءت مُحَدَدة وواضحة وجامِعَة، وتمكنت من إرسال رسائلَ على المستويين الشعبي والدولي. من كونها امتداداً لمطالبِ عام 2011، مُضافاً إليها مطالبُ تفرضها مُستجدات الساحة السورية على الشعب السوري، تتمثل بمناهضة الاحتلالات كافة وعلى رأسها المليشيات الإيرانية.

وربما للتعلم من الدرس والاستفادة من التجربة، لم يهمل الحراك أي ثغرة تسمح بتأويله وتكون مدخلاً للانقضاض عليه، وربما آخرها تصريحُ شيخ العقل حكمت الهجري “نحنُ دعاة عَلمانية ومطلبنا دولة مدنية”، إذ كانَ من المهم بعث رسالة لدحض أي مزاعمَ برغبةٍ انفصالية أو توجهٍ ديني بعد حمل العلم الخاص المُمثل للطائفة الدرزية. كلُ ذلك جاء ضمن المطالبة بتطبيق القرار الأممي 2254، وتحقيق انتقالٍ سلميٍ للسلطة.

هل يكفي حراكُ السويداء لإسقاط السلطة الحاكمة؟

بين مُتأمل من هذا الحراك، أو غير مُعَوِل، وثالثٍ مُؤوِل لنظريات مثل أهمية ودور الأطراف في خنق المركز، يتغاضى فيها أنَ هكذا فرضية هي في حال وجود دولة وليس عند التعامل مع نظام أعلنَ منذ البداية فكرة سوريا المفيدة، التي يتمثلُ مركزها بما يخدم مصالحه ويحمي استمراريته، عندها يمكن أن تكون قاعدة حميميم أو قاعدة إيرانية أو مصنع للكبتاغون هو المركز.

هذا الحراك جاء ليقبع على رأس هرمٍ من المظاهرات استمرت حتى بعد مواجهتها بالرصاص الحي، مُصحوبة مع حراكٍ سياسي، تمكن من استخراج قرارٍ بتوافقٍ أممي للانتقال السياسي، صاحبه كذلك حراكٌ عسكري وصل محيطَ القصر الرئاسي في العاصمة دمشق عام 2015، يأتي الجواب ليقول إن من الضروري تدعيم هذا الحراك بمجموعة خطوات لا بدَ منها لاكتمال القوة المطلوبة لتحقيق انتقالٍ للسلطة.

رغم أحقية الانتقال والتغيير على كافة المستويات في سوريا، إلاَ أنَ هذه الأحقية لم تُتَرجَم إلى لغةٍ سياسية تُخاطَب الدول من خلالها وتكسبُ دعمها، إذ إنَ اللغة السياسية وببساطة تفترضُ تقديمَ تصورٍ ورؤيةٍ لما يمكن أن يكون بديلاً عن المُراد تغييره، من شخوصٍ ومؤسسات ونُظم إدارة، لتكون المطالب واضحة ومُحَدَدة بإحلال هؤلاء والتخلي عما سبق، وهي خطوة تتحملُ وزرَها النخبةُ السياسية.

هذه الخطوة وبعد اثني عشر عاماً، مازالت في طور الشعارات والأماني أو في طورٍ أسوأ، هو إحلالُ شخصياتٍ لم تخرج عن النهج السابق، فأتت اللغة السياسية المُعَبِرَة عن الثورة السورية ومُخرَجاتها، لغةً ضبابية وغير مفهومة سوى لأبناء الشعب السوري وأمنياته، إذ إنَ سوء الترجمة بين الحراك الشعبي والتمثيل السياسي له عند الدول التي عُنيَت بالملف السوري، خلق فجوةً كبيرة بين حقيقة هذا الحراك والصورة النهائية التي وصلت إليهم.

على مستوى الشخوص الذين مَثَلوا الثورة السورية، لم يكن معظمهم أكثرَ من أصحاب مصالح شخصية جعلوا القرار السوري عرضةً للمساومة والتسعير، فجاءت المؤسسات التي شيدوها على مستوى هذه الشخوص ولم تَطل حتى الاسم من الوطنية السورية، ومثل هكذا شخوص ومؤسسات لا يمكنُ لها أن تُنتج نظماً للإدارة إلاَ في نطاق تحقيق مصالح هذه الشخوص ومؤسسات تحفظ بقاءهم.

النُظم هي النتيجة الأهم التي يُرادُ الوصولُ إليها، لتسيير الدولة بعد سقوط السلطة الحاكمة، لكن استحالة الوصول إلى هذه النُظم إلاَ عبر الأشخاص وتكوين المؤسسات القادرة على إنتاج لغةٍ سياسية تتعامل بها الدول، وتكون قادرة على ترجمة المطالب الشعبية بحقيقتها.

نقطةٌ غاية في الأهمية بدأ بها حراك السويداء، هو تمايز مستويات الخطاب، فلسنواتٍ مَضَت بقيت مستويات الخطاب السوري واحدة إن كان على المستوى الشعبي أو على المستويَين العربي-الإقليمي والدولي، وهذا أيضاً تتحملُ وزره النُخب السياسية والثقافية، إذ قام السياسيون بممارسة دورهم بذهنية الناشط، والإعلاميون قدموا خطاباً لم يرقَ لأكثر من أن يكون خطابَ مجالس، وهنا يأتي دور التنظيم والنُظم.

الحراك أو ورقة الضغط الشعبي في سوريا لطالما وُجدت، لكن الغائب الدائم كان ولايزال هو التمثيل السياسي بالإضافة إلى التمثيل الاقتصادي، وهما تمثيلان لن يكون بالإمكان البدء بتغييرٍ في سوريا إلا إذا تم وضعُ خطط مُفَصَلة لهذين الجانبين.

كيف يمكن دعم حراك السويداء؟

إنَ خطوة تشكيل حكومة تكنوقراط، بحيث يتم وضع تصور وخطة لكل ملف من الملفات السورية، هي خطوةٌ لا يمكنُ تجاوزها في واقعنا السوري الحالي، أولاً من حيث الفوضى التي تكتنفه وتعقد خيوطه، ثانياً من حيث فقدان الثقة فيمَن تصدر المشهد، ثالثاً من حيث احتلال ملفات كثيرة الأولوية لدى الدول قبل الملف السوري، كلُ ذلك يجعل احتمالية تحركٍ عربي أو دولي مرهوناً بضغوطٍ وجهودٍ سورية حثيثة، فهل يستغلُ السوريون ورقة الضغط الشعبية ويمثلونها بلغةٍ سياسية يمكن مخاطبةُ الدول بها؟

——————————–

احتجاجات السويداء تضع الأسد “في مأزق” بعد تنديد دولي بإطلاق النار

تصاعد التوتر الميداني والسياسي في محافظة السويداء، عقب إطلاق النار على المتظاهرين، من قبل عناصر تابعين لقوات الأسد، أمام مقر قيادة “حزب البعث”.

وينظر إلى الحادثة على أنها قد تغير مسار الحراك الحاصل، خاصة بعد التنديد الدولي، واستنكار مشايخ العقل في المحافظة لإطلاق النار على المتظاهرين السلميين، مطالبين بإبقاء الحراك “سلمياً”.

وكانت مدينة السويداء شهدت أول أمس الأربعاء، إطلاق عناصر من “حزب البعث” الرصاص على المتظاهرين، الذين حاولوا إغلاق مقر الحزب، ما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص إصابة طفيفة.

قلق دولي واستهجان محلي

تعليقاً على الحادثة، قال المبعوث الألماني الخاص إلى سورية، ستيفان شنيك، إن بلاده ستواصل متابعة مساءلة المسؤولين عن قمع المدنيين في السويداء.

وأضاف عبر حسابه في “إكس” (تويتر سابقاً): ” تقلقنا تقارير استخدام الرصاص ضد الاحتجاجات السلمية في السويداء ووجود مدنيين جرحى”.

واعتبر أن أصوات المحتجين “تستحق أن تُسمع لا أن تُسكتها البنادق”.

ودعا المبعوث الألماني النظام السوري إلى الامتناع عن أعمال العنف والمشاركة في الحوار الذي تقوده الأمم المتحدة بموجب القرار 2254.

مردفاً: “سنواصل متابعة مساءلة المسؤولين عن قمع المدنيين”.

    تقلقنا تقارير استخدام الرصاص ضد الاحتجاجات السلمية في #السويداء ووجود مدنيين جرحى.أصواتهم تستحق أن تُسمع لا أن تُسكتها البنادق.🇩🇪ندعو النظام إلى الامتناع عن أعمال العنف والمشاركة في الحوار الذي تقوده الأمم المتحدة بموجب القرار 2254.🇩🇪سنواصل متابعة مساءلة المسؤولين عن قمع المدنيين https://t.co/OkJrxtC79F

    — Stefan Schneck (@GERonSyria) September 14, 2023

من جانبه، نشر حساب “السفارة الأمريكية في سورية” عبر معرفاته على مواقع التواصل الاجتماعي بياناً، عبر فيه عن “قلق” واشنطن من مجريات الأحداث في الجنوب السوري.

وجاء فيه: “نحن قلقون بشأن التقارير حول استخدام النظام للقوة في السويداء في سورية”.

مضيفاً: “ندعم حق الشعب السوري في التظاهر بسلام من أجل الكرامة والحرية والأمان والعدالة”.

واعتبر أن “الحل السياسي وفقًا للقرار الأممي رقم 2254 هو الحل الوحيد الممكن لهذا النزاع”.

    We are concerned about reports of the regime’s use of violence to suppress protests in Suwayda, Syria. We support the Syrian people’s right to peacefully protest in pursuit of dignity, freedom, security, and justice. A political solution in line with UNSCR 2254 is the only viable…

    — U.S. Embassy Syria (@USEmbassySyria) September 14, 2023

وكان رئيس مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، دعا أمس إلى ضبط النفس وعدم الانجرار وراء “الفتنة” التي يريد النظام إشعالها في السويداء.

وقال “نحن لا نرفع السلاح إلا في وجه عدونا، وعدونا هو الذي يطلق الرصاص علينا”.

وأضاف الهجري أن ما حصل من إطلاق رصاص هو “مؤامرة”، معتبراً أن الهدف هو استجرار الناس لوضعها في موقع الاتهام.

لكن شيخ عقل الطائفة، حمود الحناوي، قال بحضور وفد أهلي أمس، إن ماحدث في السويداء من إطلاق نار على أبناء المدينة “لا يمكن أن نسكت عنه أبداً”.

وأضاف: “العروش لا تدوم بالعبث والقتل والظلم.. ومن يطلق النار سيدفع الثمن”.

“الأسد في مأزق”

تتواصل الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاط نظام الأسد في السويداء، لليوم الـ 27 على التوالي، حيث احتشد آلاف المتظاهرين في ساحة الكرامة وسط المدينة، اليوم الجمعة، رافعين شعارات مناهضة للنظام.

ووصف تجمع اليوم بأنه “الأكبر” منذ بدء الاحتجاجات، حيث توافد المحتجون من مختلف قرى وبلدات المحافظة نحو وسط المدينة للمشاركة.

وفي تقرير لها، اليوم الجمعة، اعتبرت صحيفة “ذا ناشيونال” أن الطبيعة العابرة للحدود والمترابطة للأقلية الدرزية في السويداء، تجعل من الصعب على النظام كسرها سياسياً.

وجاء في التقرير أن حراك السويداء جذب جيلاً أصغر سناً ممن تضرر بشدة نتيجة الانهيار الاقتصادي على مدى العقد الماضي، وأيضاً جيلاً أكبر سناً من المعارضين.

وبحسب التقرير، فإن “الطبيعة العلمانية للحركة في السويداء جعلت من الصعب على السلطات وصف المتظاهرين بالمتعصبين دينياً”.

مشيراً إلى أن المظاهرات اندلعت في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى الأسد على أنه حقق مكاسب سياسية من التطبيع العربي، وما قد ينتج عنه من مكاسب اقتصادية أيضاً.

لكن التقارير الصحفية عن الاستثمارات الضخمة في سورية من جميع أنحاء المنطقة لم تتحقق بعد، في حين أن الاقتصاد في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام مستمر في التدهور.

إذ انهارت الليرة السورية لمستويات قياسية، وشهد السوريون أن قيمة أجورهم تتبخر وسط التضخم المتفشي، وسط مخاوف من تفاقم الجوع.

وقال المعارض السوري فواز تللو للصحيفة إن التوقعات القاتمة للاقتصاد يبدو أنها أقنعت الدروز كطائفة بأن وضعهم لا يمكن أن يتحسن دون رحيل الأسد.

واعتبر أن وضع الطائفة كأقلية متماسكة، والارتباط القوي عبر الحدود مع الدروز في بقية بلاد الشام، سيستمر في حمايتهم من القمع المباشر من قبل النظام.

وتابع: “من الممكن أن يلجأ النظام إلى الاغتيالات ويلقي باللوم على داعش، ويمكنه أيضاً أن يتهم الدروز بمحاولة الانفصال، لكنه يأمل أن تفقد المظاهرات زخمها في نهاية المطاف”.

وأضاف: “أعتقد أن المتظاهرين يدركون كل هذه السيناريوهات”.

———————————–

المظاهرة الأكبر منذ شهر.. استمرار الحراك ضد الأسد في السويداء

خرجت، اليوم الجمعة، مظاهرة حاشدة في ساحة السير “الكرامة” وسط مدينة السويداء، وصفتها شبكات محلية بأنها الأكبر منذ نحو شهر مع بداية الحراك السلمي ضد النظام السوري وبشار الأسد في المحافظة.

وأكد المتظاهرون والمحتجون في ساحة “الكرامة” على استمرار حراكهم السلمي حتى تحقيق أهدافه، المتمثلة بإسقاط النظام ورحيل بشار الأسد وتطبيق القرار 2254، مرددين شعارات وأهازيج تطالب بالحرية والكرامة.

    #شاهد: سيدات السويداء وحضورهن المميز في ساحة الكرامة، اليوم الجمعة.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/D8Fxv2jfpA

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 15, 2023

ورفع سوريون وسوريات لافتات كتب في بعضها: “الظلام لا يطرد الظلام، وحده النور يستطيع فعل ذلك” و”حقوق الإنسان هي حقوق نمتلكها ببساطة لأننا بشر، وليست أشياء تمنحها الدولة”.

وكتب مشارك عبارة: “دوام الحال من المحال، والعروش لا تدوم بالعبث والقهر والظلم.. المجد لسوريا”، ورسم آخر، مع كتابة وصف: “سلميتنا أقوى من سلاحكن”.

وجاء في لافتة، حملتها سيدة: “لا نريد حرباً مع أحد، لا نريد العنف، لن ننجر لما يريده النظام، نحن نريد تطبيق القرار 2254”.

قد يهمك: شعارات الشارع في السويداء تواجه شائعات وادعاءات أفرقاء السياسة

ونشرت شبكتا “السويداء 24″ و”الراصد” مقاطع توثق الهتافات والأغاني ضد النظام في المظاهرة.

وأدى المتظاهرون ما أسموه “قسماً على وحدة سوريا”، رددوا خلاله: “ضد الطغاة المستبدين، ضد الغزاة المستعمرين، من السويداء إلى عفرين، من الجولان إلى الميادين، أخوة سوريين، أحرار مواطنين، إلى أبد الآبدين، عاشت سوريا حرة أبية”.

كذلك، أظهر مقطع مصور وليمة غداء أعدها أحد المواطنين، وشبان يحملون “المناسف” إلى الساحة، مع صراخ أحدهم:” خسا اللي يقول الدروز جوعانين”.

ووصفت “السويداء 24” مقطعاً بأنه “مشهد للتاريخ” يظهر تقديم المحتجين “منسف لحم” لقيادة الشرطة في المدينة.

    في مشهد للتاريخ.. المحتجون في #السويداء يقدمون منسف لحم لقيادة الشرطة التي يقع مقرها قرب ساحة الكرامة، مؤكدين على سلمية حراكهم، وعلى مطالبهم المشروعة، اليوم الجمعة.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/mOTTd86Kwv

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 15, 2023

وأظهرت صوراً، عرض فنان محلي لعدد من لوحاته على أحد أسوار الساحة.

    “سورية بلد الحب والجمال”

    وسط ساحة الكرامة في مدينة السويداء معرض فني للفنان “علي نيوف” من أبناء مدينة مصياف..#مظاهرات_السويداء

    صباح الخير pic.twitter.com/eUAYErbrJT

    — راصد السويداء (@alrasd_sy) September 15, 2023

وجاءت المظاهرة، بمشاركة مدنيين عبر وفود من مختلف القرى والبلدات في المحافظة، بعد يومين من حادثة إطلاق نار حرس مقر “حزب البعث” على محتجين حاولوا إغلاقه، ما أدى لإصابات.

اقرأ أيضاً: السويداء: إطلاق نار على محتجين عند مقر حزب البعث

وسبق أن طالب الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، المتظاهرين بضبط النفس والاستمرار بالحراك السلمي، مهاجماً الأجهزة الأمنية والميليشيات الإيرانية و”حزب الله” اللبناني، بوصفها قوى احتلال.

ويدخل الحراك السلمي اليومي، شهره الثاني في السويداء، وسط استمرار المظاهرات الحاشدة للأسبوع الثالث في يوم الجمعة، وحفاظها على زخمها وأعداد المشاركين التي تقدرها مصادر محلية بالآلاف.

——————————

احتجاجات السويداء تدخل شهرها الثاني.. الحراك يبدأ في تنظيم نفسه/ عدنان أحمد

تدخل الاحتجاجات في محافظة السويداء، جنوبي سورية، شهرها الثاني، وسط توسع في دائرة الاحتجاجات، وتأكيد مستمر على ضرورة التغيير السياسي في البلاد، ومؤشرات حول بدء الحراك تنظيم نفسه في منطقة الأرياف.

وصباح اليوم الأحد، تجمع العشرات في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء رافعين لافتات ومرددين هتافات تطالب برحيل نظام بشار الأسد ومليشياته وأفرعه الأمنية والحزبية، وتدعو إلى التغيير السياسي في البلاد وفق القرار الأممي 2254.

وشهدت بلدة القريّا، جنوبي السويداء، وقفة مساء أمس السبت تأكيداً على استمرار الحراك الشعبي الداعي إلى التغيير السياسي. كما شهدت بلدة الصورة الصغيرة بالريف الشمالي لمحافظة السويداء، مساء السبت، وقفة احتجاجية، أكد المشاركون فيها استمرارهم في الاحتجاجات.

وقال مراسل “العربي الجديد” في السويداء إنّ الحراك الشعبي في الأرياف بات ينظم نفسه على نحو جيد، حيث يتفق الناشطون في كل منطقة على حشد تظاهرة في قرية معينة، بحضور أهالي القرى المجاورة، كل مساء.

وتتوسع دائرة الاحتجاجات مع مرور الوقت، حتى باتت تقليداً يومياً يتخلله الكثير من النشاطات التي يقوم بها الأهالي من مختلف الفئات العمرية، ومن الجنسين، الذكور والإناث.

ويدعم “مشايخ العقل” (الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز) هذه الاحتجاجات، إذ أكد الشيخ حمود الحناوي، أثناء استقباله وفداً من قرية “رساس”، أن المواقف من جانب المشايخ إزاء الحراك موحدة.

وقال حناوي: “الموقف موحد عند جميع المرجعيات الدينية والوجهاء. ما حصل في السويداء وحّدنا”. وأوضح أنه يتلقى اتصالات شبه يومية، إقليمية ودولية، للاستفسار عن الأوضاع في المنطقة الجنوبية وسورية بشكل عام.

يُذكر أن المشيخة في السويداء يتقاسمها ثلاثة من شيوخ العقل، الأول هو حكمت الهجري المؤيد للحراك، والثاني هو الشيخ يوسف الحناوي الذي يوصف موقفه بـ”المعتدل”، والثالث هو يوسف جربوع، الذي يعتبر البعض موقفه أقرب للنظام، كونه لا يطالب برحيل الأخير، بل بإجراءات إصلاحات اقتصادية من شأنها أن تحسن الظروف المعيشية.

ويتركز نفوذ الشيخ الهجري في الريفين الشمالي والغربي من محافظة السويداء (دار قنوات)، فيما تبرز مكانة الشيخ حمود الحناوي في منطقة سهوة البلاطة في الريف الجنوبي للمحافظة. أما الشيخ يوسف الجربوع، المسؤول عن دار الطائفة في “مقام عين الزمان”، فيتركز نفوذه في مدينة السويداء والقرى الصغيرة المجاورة لها.

إلى ذلك، ذكرت شبكة “السويداء 24” أنها استفسرت من مصدر مقرب للرئاسة الروحية للمسلمين الموحدين حول اتصال السيناتور الأميركي فرينش هيل بالشيخ الهجري قبل يومين، إذ ذكر المصدر أن الاتصال يأتي في سياق الوفود والاتصالات اليومية التي يستقبلها الشيخ حكمت الهجري، حيث استفسر السيناتور الأميركي عن الأوضاع في السويداء وعموم سورية، وأكد له الهجري “المطالب المحقة للشعب السوري ورفض الظلم على كل السوريين، والتأكيد على العيش الكريم لكل السوريين في وطنهم، سورية الموحدة”.

اشتباكات واعتقالات شرقي سورية

من جانب آخر، دارت اشتباكات بين مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومسلحين من أبناء العشائر العربية غرب بلدة جديد بكارة شرق دير الزور، شرقي البلاد، بعد شنّ “قسد” حملة مداهمات في المنطقة.

وذكرت شبكة “مراسل الشرقية الرسمي” المحلية أن “قسد” شنت حملات دهم واعتقالات واسعة في مناطق سيطرتها، استهدفت بمعظمها أبناء دير الزور، واعتقلت عدداً من الشبان في بلدة الشعفة شرقي المحافظة. كما دهمت مدينة البصيرة بحثاً عن مطلوبين، فيما اندلعت اشتباكات بين أبناء بلدة جديد بقارة ودوريات تتبع لـ”قسد” حاولت اعتقال بعض الشباب.

وفي مدينة هجين شرق دير الزور، استولت “قسد” على عدة منازل تعود ملكيتها لمدنيين، بعد طرد العائلات منها، وحوّلتها إلى مقرات عسكرية.

وتلاحق قوات “قسد” أبناء دير الزور حتى خارج محافظتهم، حيث اعتقلت في قرية خشمان، شمال مدينة الحسكة، 9 أشخاص، فيما دهمت “مزرعة الأسدية”، شمالي محافظة الرقة، واعتقلت عدة أشخاص ينحدرون من محافظة دير الزور.

————————-

واشنطن تبلغ الهجري:سلامتك موضع اهتمام خاص

أجرى النائب في مجلس النواب الأميركي عن الحزب الجمهوري فرينش هيل اتصالاً هاتفياً مع الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، أبلغه فيه باهتمام واشنطن بسلامته الشخصية.

سلامة الهجري أولوية

وقال الكاتب السوري من السويداء ماهر شرف الدين إن اتصال هيل بالهجري دام أكثر من نصف ساعة، واستفسر فيه عن حقيقة ما يجري في السويداء التي تشهد انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد منذ نحو شهر.

وأَضاف شرف الدين المقيم في الولايات المتحدة، أن هيل استفسر عن الأوضاع الأمنية في محافظة السويداء لا سيّما بعد إطلاق النار على مجموعة المتظاهرين أمام مبنى فرع حزب “البعث” في ساحة الكرامة، والتي أدّت إلى جرح 3 محتجين.

وعبّر هيل عن اعتزازه بالتواصل مع الشيخ الهجري، وشدد له على أن سلامته الشخصية هي موضع اهتمام خاص وأعرب عن تمنياته ببناء علاقة وطيدة معه.

ويُعد هيل أبرز أعضاء الكونغرس الأميركي المهتمين بالملف السوري، إذ كان له دور بارز في استصدار قانون “مكافحة كبتاغون الأسد”، كما يُمثّل مجلس النواب في الأمم المتحدة.

وآواخر آب/أغسطس، أجرى هيل زيارة إلى الشمال السوري الذي تسيطر عليه فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا، هي الأولى منذ 10 سنوات.

وزار هناك مدرسة للأيتام وأجرى مقابلات مع الفعاليات المدنية والإنسانية وأبناء الشهداء، كما قام بزيارة مشفى الشهيد وسيم معاز في مدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي، والتقى رئيس الدفاع المدني السوري رائد الصالح ورئيس هيئة التفاوض بدر جاموس وعدداً من المسؤولين في الحكومة السورية المؤقتة.

وطالب هيل عقب الزيارة إدارة الرئيس جو بايدن بتبني نهج جديد في سياسته تجاه سوريا، كما انتقد التطبيع العربي مع النظام السوري وإعادته إلى الجامعة العربية.

وجاء الاتصال الهاتفي بين هيل والهجري بالتنسيق مع “المنظمة السورية للطوارئ”، التي قالت إن الهجري أكد مواصلة أبناء المحافظة احتجاجاتهم السلمية ضد نظام الأسد، والمطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية.

وأصبح الشيخ الهجري بمثابة الزعيم الوطني لأهالي السويداء في حراكهم ضد الأسد، إذ ساند المتظاهرين منذ بداية الاحتجاجات ووقف معهم عبر تأييده لمطالبهم، كما دعا ل”الجهاد” ضد إيران وميلشياتها، ووصفها بالدولة “المحتلة”.

السفير الروسي

في غضون ذلك، أعلن مكتب الزعيم الروحي للدروز في إسرائيل الشيخ موفق طريف عن زيارة للسفير الروسي في تل أبيب أناتولي فيكتوروف إلى دارة الشيخ للحديث عن الأوضاع في محافظة السويداء والاحتجاجات السلمية التي تشهدها.

وأكد طريف للسفير الروسي أن أبناء الطائفة الدرزية في السويداء “خرجوا إلى الشوارع بشكل سلميّ للتعبير عن موقفهم تجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحقّة”، واعتبرها “مطالب أساسية وعادلة لمواطنين مخلصين قدّموا الكثير من أجل بلدهم ووطنهم”.

وطالب الشيخ طريف، السفير الروسي بنقل الرسالة عبر الخارجية الروسية إلى النظام السوري، وسماع صوت المحتجّين وتلبية طلباتهم، مشدداً على “رفض أي محاولة طعنٍ أو مسّ في مصداقية الاحتجاجات الشعبيّة والمحقة”.

وتطرق الحديث إلى مطالب السويداء بفتح معبر برّيّ مع الأردن من أجل إحياء الحركة الاقتصادية، كما طالب روسيا بالضغط على تركيا من أجل وقف “الاضطهادات” ضد الدروز في الشمال السوري.

من جهته، وعد السفير الروس بالعمل على تنفيذ مطالب أهل السّويداء عبر رفع توصياته للخارجية الروسية، حسما ذكر بيان مكتب الشيخ طريف.

—————————

السفير الروسي والشيخ موفق طريف يتباحثان حول الاحتجاجات والمطالب في السويداء

قام السفير الروسي في إسرائيل، أناتولي فيكتوروف، بزيارة إلى الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، حيث دار حوار مهم حول الأوضاع الراهنة في محافظة السويداء والاحتجاجات السلمية التي تشهدها المنطقة منذ عدة أسابيع.

نشر الناشط “Jawad M. Shareef” عبر صفحته الرسمية في فيسبوك، مجموعة صور قال إنها جانب من زيارة  السّفير الرّوسيّ في إسرائيل أناتولي فيكتوروف على رأس وفد رفيع من السّفارة إلى دارة سماحة الشّيخ موفق طريف الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة، مساء الخميس.

أكد الشيخ موفق طريف خلال اللقاء أن أبناء الطائفة الدرزية في سوريا قد خرجوا إلى الشوارع بشكل سلمي للتعبير عن موقفهم تجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة. هذه المطالب، وفقًا للشيخ طريف، تعتبر مطالبًا أساسية وعادلة للمواطنين الذين قدّموا الكثير من التضحيات من أجل بلدهم ووطنهم.

وطالب الشيخ طريف السفير بنقل رسالة إلى حكومة دمشق عبر وزارة الخارجية الروسية، تؤكد ضرورة سماع صوت المحتجين وتلبية مطالبهم المشروعة. وشدد على دور الطائفة الدرزية البطولي في سوريا منذ بداية الثورة السورية الكبرى وخلال مختلف المحطات التاريخية. أظهروا حرصًا كبيرًا واختيارًا ثابتًا نحو الدولة السورية والتزامًا بالحفاظ على وحدة أرض الوطن. وعليه، أكد الشيخ طريف رفض الطائفة لأي محاولة للنيل من مصداقية الاحتجاجات السلمية والمشروعة.

تناول الحديث بين الجانبين أيضًا مطالب أهالي جبل العرب في تسهيل فتح معبر بري مع الأردن، وذلك لتعزيز الحركة الاقتصادية والتجارية بالمنطقة.

أكد السفير الروسي على تعزيز وتوطيد العلاقات بين روسيا الاتحادية والطائفة الدرزية، وأعرب عن استعداده للعمل على تنفيذ مطالب أهالي السويداء من خلال رفع توصياته لوزارة الخارجية الروسية.

—————————-

السويداء، إلى أين، وماذا بعد؟/ د يحيى العريضي

تكاد أسئلة من قبيل (ماذا بعد تجدّد الحراك السوري؟)، (السويداء إلى أين؟)، أن تكون الأكثر حضورا اليوم على الساحة السورية.

لقد قال الشارع كلمته، ولكن نظام بشار الأسد لا يزال حتى اللحظة يكتفي بإدارة أذن صمّاء للمشهد في العلن. وبما أن تحرّك الشارع باتت نسبة لا يستهان بها من السوريين تدعوه بـ “الموجة الثانية من الثورة السورية” المدفوعة بفشل النظام في التحرك نحو أي حل لمرحلة ما بعد حربه على الشعب السوري، فإن الأمور ستكون متروكة لمنطق ردّ الفعل في حال لم يبادر الشارع نفسه إلى البناء على إعلانه الطلاق البائن مع بقاء الأسد وإمكانية استمرار المماطلة بتنفيذ القرار الدولي 2254 الذي يضمن الانتقال السياسي وإطلاق سراح المعتقلين تعسفيا وغيره من المسارات التي تضمن فك الاستعصاء وعودة البلاد إلى سكة الحياة.

بالنسبة لمبادرة الشارع السوري إلى البناء على ما حقّقه حتى اللحظة فالأمر متروكٌ لهم، خاصة وأن الفاعلين في هذا الشارع أبهروا الجميع في تجديد تأكيد أحقية السوريين في بناء ديمقراطيتهم التي تضمن حقوق الإنسان لكل المواطنين السوريين.

أما من ناحية النظام فصمت مريب لا يزال يطغى على موقفه، باستثناء بعض الحشرجات من دمية هنا و بوق هناك ممن يكلفهم عادة بمهام الفتنة والتلفيق الجبان.

أما ما يُنتظر من النظام لاحقا بعد فترة المراقبة من خلف أسوار فروعه الأمنية الموجودة على بعد أمتار من مظاهرات ساحة الكرامة في السويداء، فهو معروف، مراقبة قد تكون من باب اختبار التجربة بتأنٍ يتيح التحضّر لاحتمالات انفجار التمرّد في بيئته الحاضنة الأساسية كما يرى هو، ألا وهي الساحل السوري. إذ لابد أنه يعدّ حراك السويداء تجربة لتمرّد السجناء من منظوره، وقد يستفيد من اختبار وسائله المتاحة في احتوائه لاحقا لمواجهة تحرك في الساحل لم يعد من المضمون قمعه في مهده بعد أن بصقته مناطق، كان يظن أنها استكانت لسطوته، إن كان في الجنوب الحوراني (سهل وجبل) عموماً، ومن يدري أين قد يتجدد الحراك في المدن الكبرى دمشق وحلب وحمص. حمص التي ارتكب بحقها جريمة إبادة جماعية ورحّل معظم أهلها ليضمن صمت من تبقى، ولكنهم ليسوا كما يظنهم (مجتمعه المتجانس)، فهم على الاقل يشبهون شباب سورية في العام 2010 حين كان يدّعي بغرور غبي أن لا إمكانية لثورتهم لكرامتهم فصفعوه وعمّدوا حمص عاصمة للثورة السورية المباركة.

وليس أمام النظام اليوم سوى أن يراهن على تفسخ الحالة الثورية في السويداء بإهمالها وحصارها الصامت بتقتير استحقاقاتها المعيشية المُلزمة لـ”الدولة” بتخفيض حصتها من المحروقات والطحين وغيرهما، مع تواجد خلايا صغيرة كانت أم كبيرة متواطئة معه أم عميلة، كمن يعزل النار بحرام مبلول يمنع الاوكسجين عنها ليخنقها ويخمدها، أو أن يعمد إلى وسائله الخاصة في طعن السويداء، وهو لم يعدم بعد الوسيلة الرخيصة غير المكلفة بتحريك المخربين واتخاذ دور الإطفائي، بل هو احترف هذا الدور محليا وإقليميا على مدى عقود.

أما مبادرة النظام المُتوَقّعة لخلط الأوراق محليا وبالتالي التشويش على مشهدية الحراك، وقد بدأت تتشكل في العيون الإقليمية وحتى الدولية بشكل فعّال، فهي أن يعتمد مبدأ “الهروب إلى الأمام”، وهو مبدأ يتسق مع عجزه وجُبنه. فقد تداعت إلى مسامعي إشاعات، قد يكون النظام تعمّد إطلاقها كتسريبات من دائرته الضيقة.

خطط الأسد للتعامل مع السويداء

إن الخطة الأولى (أ) للنظام في التعامل مع حراك السويداء تشبه وتتقاطع مع ما ذكرته في مقالي حتى الآن من الاستثمار في شقاق ضمن البيئة الحاضنة للحراك، شقاق يتقدم فيه القطاع المسلّح في السويداء إلى واجهة المشهد على حساب القطاع المدني المحرّك للتظاهر السلمي، والمبرّر هو احتكاكات أمنية بين جزء من العناصر الموالية (الحزب الحاكم وبعض الموظفين والمرتبطين بحكم التورط لسنوات في منظومة القمع والفساد) وبين أطراف أخرى رافضة للنظام ولكنها تختلف في خلفية مواقفها، وبالنتيجة يأخذ النظام المشهد بمجمله إلى دائرة العنف التي يفضلها.

ولكن الخطة (ب)، بحسب الإشاعة المتعمّدة، لا تزال قيد الدراسة والتمحيص الأمني بالدرجة الأولى، وهي تتطور باتجاه مشهد يشبه زيارة بشار الأسد إلى السويداء في مرحلة ما سابقة.

هذه الإشاعة لا تفسير لها سوى أنها محاولة “لبث الوهن في نفسية المجتمع المحلي”، وهي مصطلحات من قاموس النظام الشهير.

كما أن إقدام النظام في مرحلة لاحقة على خطة الهروب الى الأمام لن يأتي إلا في حال يأسه من إخماد نار الحراك بحرام مبلول كما ذكرنا سابقا.

ويتطلب تنفيذ هذا السيناريو، الذي يبدو خياليا، البناء على رهان خاطئ قد تُقدِم بعض العائلات الكبيرة عليه، بالإضافة إلى الجزء الموالي له من الهيئة الروحية الحالية، وما أمكن من حشد الناس الذين قد يُفلح في إعادتهم إلى دوائر الخوف من الفوضى وغيره، ولكنني استبعد امتلاك الشجاعة لفعل ذلك. وهنا قد تكون أسماء الأسد هي الخيار الأقرب للاضطلاع بالمهمة، إمعانا في تسيّدها لحركة ما تبقى من النظام المتهالك تحت مطرقة ضربات حلفائه وسندان الشعب السوري الحُر.

هذا الاحتمال، وإن كان يبدو خياليا اليوم، إلا أن النظام لا بد أنه يعمل جاهدا بوسائله الرخيصة للوصول إلى ظرف يتيح المجال لهكذا مغامرة؛ كيف لا، وأن حضور أسماء إلى السويداء بأي شكل أو تمثيلية سيعني تحدّي الحضور النسائي المميّز في ساحة الكرامة، وقد انتقل الى الواجهة في وسائل إعلام غربية، كيف لا وأسماء الأخرس الأسد كانت ولا تزال “زهرة الصحراء” السّامّة، حيث رأيناها تزور ضحايا حرب النظام على الشعب السوري، ورأسمالها صندوق برتقال وما شابه.

وللتمهيد لهكذا خطوة، قد تُكلف شخصية درزية لبنانية غير محبوبة في الجبل بزيارة السويداء في اختبار تمهيدي يفيد النظام إن هو نجح تمهيدا لخطوته التالية، وكذلك يفيد النظام إن فشل واستفز ردود فعل غير محسوبة (لا سمح الله)، إذ سيكون ذلك فتنةً وشرخاً وناراً في الحاضنة الاجتماعية للحراك يؤسس لعودة النظام من باب الإطفائي.

وعليه، وتوقياً لأي عبث من النظام على شاكلة هذه الزيارات المريبة، ولو بدا هذا العبث لوهلة احتمالاً لا أكثر، أو تلاعباً بالسلم المحلّي بوسائل أكثر رخصاً، فإنه لا بدّ لتمتين السلم والاستقرار في الحاضنة التي تشمل الحراك وغيره، من تكريس إعلان انحياز معظم الفعاليات الاجتماعية التقليدية والسياسية السورية إلى جانب الحراك المتجدد للثورة السورية اليوم على النطاق المحلي في السويداء، وعلى النطاق الوطني ككل، أو إعلان الحياد الإيجابي الذي لا يتعاون مع النظام في طعن صرخة الشارع المُحقّة، والتي ترتكز إلى إثباتات متجددة على أن النظام فشل في قيادة سورية الى برّ الامان من منظور السوريين “الموالين” وأنه فاشل ومجرم بطبيعته كما صرخ السوريون الثائرون منذ العام 2011 .

أخيراً، وليس آخراً، أضم صوتي إلى أصوات لا يُستهان بها في دعوة كافة الأجساد السياسية السورية إلى اتخاذ موقف صريح ومعلن من الحراك السوري اليوم في بيانات رسمية، إما داعمة منحازة إلى الانتفاضة أو محايدة إيجابيا حيالها. وهنا أذكر بالدرجة الأولى الاحزاب السياسية والمكونات الاجتماعية عشائرية كانت أم مدنية.

كما أدعو كل المكونات الاجتماعية لمدينة السويداء وريفها إلى الخروج عن موقف الصمت لتقرير مصيرها، وعدم تكرار ما حصل في السنوات السابقة. و الدعوة أيضاً موصولة لشعب سوريا العظيم للتفاعل مع موقف السويداء والفرصة النادرة التي يوفرها لكل حر كي يستعيد بلده حرّة من الاستبداد والاحتلال.

——————-

نظام الأسد يراهن على الوقت والحزب/ وليد شقير*

حين يبدأ النظام السوري بإطلاق النار على المتظاهرين في السويداء بسبب محاولتهم إعادة إقفال مكتب حزب “البعث” في المدينة، كما حصل يوم الأربعاء الماضي، فهذا يعني أنّه يختبر تغيير الاستراتيجية التي اعتمدها منذ اندلاع الاحتجاجات على الأوضاع المعيشية في المحافظة، في 20 آب الماضي، ثمّ في مناطق درعا، التي تطوّرت إلى المطالبة بإسقاط النظام وبتنحّي الرئيس بشار الأسد.

في ظلّ التخبّط الذي يعانيه بمواجهة الاحتجاجات، اعتمد النظام استراتيجية متعدّدة الوسائل في محاولة لاستيعاب الموقف:

1- رهان النظام على عامل الوقت:

– ترك المتظاهرين في كلّ من السويداء ودرعا يواصلون تحرّكاتهم وتجنّب المواجهة معهم، لاعتقاد أجهزة الأمن أنّ إقفال بعض الدوائر الرسمية التابعة لمركز المحافظة وبعض المكاتب الأمنيّة وتلك التابعة لحزب البعث سيستنفد مفعوله لأنّ المواطنين سيحتاجون إلى تلك الدوائر، لا سيما على أبواب الخريف وفتح المدارس. فالنظام يراهن على أن يتعب المحتجّون مع مرور الوقت لحاجة معظمهم إلى كسب العيش والعودة إلى العمل بدل البقاء في الشوارع.

– اتّباع مناورة مزدوجة تقضي بتجنّب الصدام مع دروز السويداء بعدما أخذت تتّسع دائرة الحديث عن سقوط مقولة حماية النظام للأقلّيات في سوريا، من جهة، وإشاعة الاتّهامات والدعاية الإعلامية من قبل جيش النظام الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي وفي كتابات مؤيّديه بأنّ المحتجّين في السويداء “انفصاليون ويسعون إلى الإدارة الذاتية”، من جهة ثانية.

2- شقّ القيادة الدرزية وإطفاء انتقادات العلويين:

– حاول الحؤول دون امتداد الاحتجاجات إلى مناطق في وسط سوريا بعدما خرجت تظاهرات تضامن مع السويداء ودرعا في ريف حلب وحماة ومناطق أخرى شمال غرب سوريا، وفي الساحل السوري والمناطق العلوية، وبعدما ظهر بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي ينتقدون النظام بسبب غياب الأمن الاجتماعي وتردّي الأوضاع المعيشية وانتشار الفقر والعوز جرّاء الأزمة الاقتصادية الخانقة. واستدعت أجهزة الأمن هؤلاء وسُجن بعضهم. وكان هجوم بطائرة مسيّرة شنّه مقاتلون من “هيئة تحرير الشام” (النصرة) على مناطق في الساحل شملت القرداحة قرية آل الأسد، أسعف النظام في إخماد الاعتراضات العلَوية باستخدام “تابو” المسّ برمزية العائلة كحامية للطائفة.

– عاد إلى أسلوب شقّ القيادة الروحية الدرزية التي توحّدت على دعم الاحتجاجات كما ظهر في بيانات ومواقف مشايخ العقل الثلاثة، حكمت الهجري، حمود الحناوي ويوسف جربوع بعد أيام قليلة على اندلاع الاحتجاجات. فقد أعقب ذلك ضغوط من الرموز الأمنيّة على الشيخ جربوع المعروف باحتفاظه بعلاقات ودّية مع القيادة السورية، وزاره موفد للأسد، آخر الشهر الماضي، وأعقبت ذلك تصريحات له بأنّ بعض الحراك في السويداء يرفع شعارات خاطئة، قاصداً تلك الموجّهة ضدّ الرئيس السوري، مكتفياً بالمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية وبفتح معبر بين السويداء والأردن. وتجاوب مع دعاية النظام التي وصمت المحتجّين بالانفصاليين برفضه الانفصال. هذا على الرغم من رفع المتظاهرين شعار “سوريا واحدة”، وتواصلهم مع عشائر درعا التي أرسلت وفوداً منها إلى السويداء للمشاركة في تظاهرات الاحتجاج. لكنّ هذا لم يمنع المحتجّين من أن يقفلوا مركزين لحزب البعث في قريتين قرب السويداء، بعد إطلاق النار عليهم أثناء محاولتهم إعادة إقفال مركز له في المدينة قبل ثلاثة أيام.

هل تنجح هذه الاستراتيجية في استيعاب الاحتجاجات في كلّ من السويداء ودرعا، وتحول دون اتّساع بعض مظاهرها في مناطق أخرى؟

شحّ الموارد الماليّة لأجهزة الأمن :

تتضافر مجموعة عوامل داخلية وخارجية في إبقاء الأتون السوري مشتعلاً، فيما يواصل النظام غرقه في حالة الانفصال عن الواقع، والاعتماد على الدعم الإيراني بمواجهة مأزق يزداد تعقيداً مع الانهيار الاقتصادي وهبوط سعر صرف الليرة السورية، وانعدام قدرة النظام على توفير الحدّ الأدنى من الخدمات في سائر المناطق التي سبق أن سيطر عليها تباعاً منذ عام 2015، بحيث تقتصر قدرته على توفير بعض أبسط مقوّمات الحياة لقلّة من الشرائح الاجتماعية الموالية القاطنة في دمشق، من دون أولئك المتواضِعي الدخل في ضواحيها وأحيائها. ويمكن الحديث عن انحسار قدرة النظام على قمع الاحتجاجات في السويداء ودرعا واقتصار قبضته الأمنيّة على العاصمة لأسباب عدّة:

– شحّ موارد الدولة السورية المالية التي كانت تغذّي رواتب الميليشيات التابعة له، على الرغم من المداخيل التي أتاحها انتشار تصنيع وإنتاج الكبتاغون والمخدّرات، والتي تقتصر الإفادة منها على فئات معيّنة. وبالنسبة إلى السويداء، زاد ذلك من صعوبة رشوة البدو في المناطق الواقعة بينها وبين درعا لافتعال اشتباكات بسبب خلافات تقليدية على رعي الماشية في ممتلكات تعود للدروز. وهذا الأسلوب كان يُعتمد سابقاً في تطويع أهالي السويداء.

تحويلات النازحين تستثني العلويّين؟

– أدّى انحسار المعارك مع قوى المعارضة والسيطرة على المناطق التي كانت توجد فيها، إلى تراجع الاستنفار الأمنيّ وتقليص انتشار الحواجز التي كانت تتيح للميليشيات الموالية للنظام (منها قوات الدفاع الوطني الرديفة للجيش) “التشبيح” و”التعفيش” (وضع اليد على ممتلكات المنازل لبيعها)، فتراجع بدوره اقتصاد الحرب الذي استفاد منه زبانية السلطة.

– ارتفاع نسبة العوز والفقر في وسط العلويين، جرّاء تراجع النشاط الاقتصادي بفعل الحصار والعقوبات المستمرّة. وكانوا الأقلّ هجرة من سوريا في المرحلة السابقة، بحيث لا يتلقّون مداخيل من أقارب لهم في الخارج كما تتلقّى فئات أو مناطق أخرى تستفيد من بعض التحويلات المالية من أبنائها النازحين بسبب الحرب. ويرصد المتابعون لعبور النازحين عبر المعابر غير الشرعية في لبنان كثرة نزوح العلويين لأنّهم باتوا أكثر المتضرّرين من بين سائر السوريين الهاربين من الأزمة الاقتصادية خلافاً للسابق.

– تلقّى النظام تنبيهاً من دولة الإمارات العربية المتحدة ومن سلطنة عُمان يحذّره من الاستعانة بمجموعات من “داعش” ضدّ السويداء، كما فعل في تموز من عام 2018، لأنّ هذا الأمر سيستتبع توسيع النشاط الأميركي نحو الجنوب السوري بحجّة محاربة الإرهاب.

خروج درعا عن السيطرة والاعتماد على الحزب :

– يحاول النظام التحوّط من إمكانية توسّع الاحتجاجات، ولذلك لجأ إلى التنسيق مع الحزب والسماح بانتشار قواته في مناطق سوريّة عدّة. وتؤكّد مصادر واسعة الاطّلاع في هذا الصدد صحّة الأنباء التي تحدّثت عن أنّ رئيس المخابرات العامّة اللواء حسام لوقا زار بيروت آخر آب الماضي لتنسيق هذا الانتشار، ولاستعراض المعطيات المتّصلة بعودة الضغوط العربية على دمشق إلى التصاعد، والتي من أسبابها الرئيسة وجود الحزب والميليشيات الموالية لإيران على الأراضي السورية، لا سيما إثر تعزيز الحزب قواته في مناطق عدّة، وخصوصاً درعا، بالتزامن مع كثافة الزيارات لمقام السيدة زينب في دمشق.

– تتّجه الأمور في محافظة درعا إلى الخروج عن سيطرة النظام والميليشيات الإيرانية مع توجّهات لدعم العشائر من الأردن ودول عربية أخرى لإقامة حزام حماية للحدود الأردنية السورية تسيطر عليه العشائر السنّية، مقابل ضمانها وقف تهريب الكبتاغون والأسلحة إلى الأردن، بعدما أخلف النظام بالتزاماته للدول العربية في هذا الشأن.

*كاتب لبناني.

—————————–

==================

تحديث 14 أيلول 2023

——————————

انتفاضة السويداء: الثورة الثالثة/ ماهر مسعود

تُشير طبيعة الاحتجاجات الجديدة إلى بداية موجة ثالثة للثورة في سوريا. الأولى انطلقت عام 2011 بتأثير الانتفاضات التي اجتاحت البلدان العربية وانتقلت بشكل متسارع إلى خمس دول خلال شهرين فقط، والثانية هي الثورة المضادة التي بدأت عام 2013 مع استخدام النظام للسلاح الكيماوي، والتراجع الأميركي بعد اجتياز النظام لخط أوباما الأحمر، وهو ما تزامن على المستوى العربي مع انقلاب السيسي في مصر بدعم سعودي إماراتي مباشر وموافقة أميركية ودولية.

رسمت الثورة المضادة منذ العام 2013 نهاية كل المفاعيل الإيجابية للثورة الأولى وفقدان الأمل بأي تغيير سياسي ممكن، لا سيما مع ظهور داعش في العام ذاته وسيطرة الإسلاميين بالمجمل على وجه الثورة المحلي والعالمي، بالإضافة إلى المخاوف الدولية من مشروع إخواني يمتدّ من تونس إلى مصر وصولاً إلى تركيا، والأثر الذي قد يتركه مشروع كهذا على إسرائيل.

أما الثورة الثالثة فقد بدأت في 20 آب (أغسطس) من السويداء في نوع من تكرار الثورة الأولى، لكنه التكرار الحامل لاختلافه الذاتي والموضوعي رغم كل أنواع التشابه مع الأصل. ومثلما كانت الثورة المضادة هي نتيجة انغلاق أفق الثورة السلمية والتغيير السياسي على المستوى المحلي، وانغلاق أفق الربيع العربي ذاته على المستوى الإقليمي، فإن الثورة الجديدة هي نتيجة لانغلاق أفق الثورة المضادة على المستوى المحلي والعربي والدولي.

سلسلة انغلاقات الثورة المضادة يمكن تبيانها على الشكل التالي:

على الصعيد الدولي، راهنت القوى الدولية الصديقة وغير الصديقة منذ العام 2013 على إعادة تمكين الأنظمة القديمة بصيغة جديدة، فأميركا الأوبامية لم يَعُد يعنيها من كل المنطقة سوى مصالح إسرائيل التي توافقت مع وعود أوباما الانتخابية باستكمال سحب قواته من العراق وأفغانستان بعد حربين فاشلتين، ومصلحة إسرائيل اقتضت بقاءَ الأسد وإجراء الصفقة الكيماوية وإضعاف حزب الله وإيران المتورطَين في الحرب السورية، وقطعَ الطريق على المشروع الإخواني الممتد من تونس إلى تركيا. وأوروبا عادت للتأقلم مع الإصدارات الجديدة للأنظمة العسكرية القديمة، بعد الفراغ والفوضى التي لاقتها دول المنطقة نتيجة التخلي الأميركي والصعود الروسي، وبعد موجات اللاجئين والإرهاب التي دفعت أوروبا ثمناً كبيراً لها، ليصبح أكثر ما يعنيها هو استقرار المنطقة بغض النظر عمَّن يحكمها. أما دول الاحتلال المباشر مثل إيران وروسيا فقد دفعتا الغالي والنفيس لإبقاء النظام السوري بوصفه الخادم الأكثر مُناسَبة لسياساتها من جهة، وعلى اعتبار أن بقاءه هو رمز لانتصار الأنظمة السلطوية التي تحتل روسيا موقعاً ريادياً في قيادتها عالمياً، في الوقت الذي تُعتبَرُ فيه إيران خط دفاع خلفي للنموذج السلطوي على المستوى الإقليمي من جهة أخرى.

باختصار، كل ذلك تغير وانسدّت آفاقه الاستراتيجية، بل بات واضحاً للجميع اليوم أن الرهانات الموضوعة على انتصار الثورة المضادة فشلت ووصلت إلى منتهاها، فلا السماح الأميركي بالتمدد الإقليمي لإيران أنتج اتفاقاً نووياً قابلاً للحياة، ولا الصمت عن ارتكابات الأسد ساهم في حل المشكلة الدولية التي تخلقها «سوريا الكبتاغون»، أو السوريون المهجرون في دول الجوار والعالم، بل إن النتائج جاءت بعكس التوقعات، فالمشكلة الإيرانية باتت مزدوجة: «مشروع إقليمي زائد مشروع نووي»، وعقدةُ الربط الأساسية في تلك المشكلة كلّها هي بقاء الأسد، فإبقاؤه بالقوة لم يحل مشكلة «الأصدقاء» ولا «الأعداء»، بل بالأحرى زادها عمقاً وتعقيداً.

على الصعيد العربي، لم تكن إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية إلا محاولة لتثبيت مُخرَجات الثورة المضادة، ورغبة من الأنظمة العربية في إعلان انتصارها النهائي عبر طيّ صفحة الثورات إلى غير رجعة، لكن التوازن الذي أرادته تلك الأنظمة كان مستحيلاً بذاته، فسحب النظام السوري من اليد الإيرانية لم يكن له أن ينجح بثمن زهيد مثل إعادته للجامعة، لأن انتصار الأسد الذي أراد العرب الاستثمار فيه لم يأت بجهودهم، بل بجهود الإيرانيين أولاً، وتعويمه دون حتى شُكرِه أو إعلانه بطلاً حقيقياً لطاقم الجامعة لم يكن كافياً ولو بالحد الأدنى له أو لحُماته. بكلام آخر، لم يكن ممكناً في الواقع انتصار الثورة المضادة على المستوى العربي دون انتصار إيران أيضاً، لكن انتصار إيران ذاته غير قابل للتحقق إلا بسيطرتها على النظام السوري الذي يريد العرب سحبه منها. هذه معادلةٌ مستحيلةُ الحلّ، وتناقضٌ لا يمكن تجاوزه، فأكثر ما يُقلق العرب (الخليج) ومعهم إسرائيل وفوقهم أميركا هو انتصار إيران الإقليمي الذي يشكّل الأسد عموده الفقري، فماذا لو كان فوقه مشروع نووي!

على الصعيد المحلي، خسرت الليرة السورية خلال ثلاثة أشهر منذ التطبيع العربي خمسين بالمئة من قيمتها. ثم خرج الأسد في مقابلة تلفزيونية مُصوَّرة لا ليعلن انتصاره وصواب ما فعله بالسوريين فحسب، بل ليخبرهم أن نهجه الكارثي «باقٍ ويتمدد»، وذلك معناه أن لا أمل أمامهم في أي حلّ سياسي، لا مع الأتراك ولا مع مبادرة الخطوة مقابل خطوة العربية والدولية، وبالتالي لا إخراج لمعتقلين ولا عودة للاجئين ولا إيقاف للكبتاغون ولا تطبيق للقرار السياسي 2254، وبالتالي فإن خط انسحاقهم في الفقر المدقع ماض بلا نهاية، وانتظارهم لأي انفراج اقتصادي أو سياسي مستقبلي ليس إلا انتظاراً للمهدي ذاته، أو للعبقري الصغير حافظ الابن.

لذلك كله، كانت قومة السويداء تعبيراً فعلياً عن حال «الأكثرية السورية»، أي التسعين في المئة الذين يعيشون تحت خط الفقر، وبهذا المعنى هي ثورة كل السوريين الذين لم يبقى لديهم أمل بإيقاف الإنهيار الاقتصادي ولا بالتغيير السياسي. وهي ثورة أغلبية بغض النظر عمّن استطاع المشاركة فيها أو تأخّرَ عنها، لأن شروطها الموضوعية موجودة في الواقع ذاته وباتت أقوى من أن تُقاوَم بالوعود والأوهام، وحضورها في الواقع اليومي لكل السوريين بات أكبر من أن يُعالَج.

ثورة السويداء باتت ثورة شعبية ولا يمكن الرجعة عنها، لكن نجاح أو فشل الثورات هو دائماً نسبي كما علمتنا التجربة والتاريخ، وبالحد الأدنى لا تنجح أي ثورة إن لم تتوافق موضوعياً مع توجّه المجتمع الدولي (بالأحرى توجّه الأقوى في المجتمع الدولي). وهذا ما يُعَدّ عنصراً جوهرياً في إمكانية نجاح الثورة الجديدة في قلب المعادلة السياسية، فإذا عدنا إلى ثورة 2011 سنجد أن انغلاقها عام 2013 كان نتيجة انفكاك توافقها الموضوعي مع المجتمع الدولي، فبعد سيطرة الإخوان في مصر وبداية تشكُّل ملامح المشروع الإخواني على مستوى بلدان الربيع العربي، لم تَعُد تلك الثورات مغرية أو مفيدة للقوى الغربية الداعمة نظرياً للثورات، وهذا بحد ذاته تَحوَّلَ إلى قوة بيد أصدقاء النظام وأعداء الربيع العربي وقادة الثورة المضادة في الداخل والخارج.

أما الثورة الجديدة فهي تتوافق أو تتساوق موضوعياً مع حال وتوجّه القوى الدولية الأكثر فعلاً وقدرة، فعلى المستوى الدولي تتوافق مع أميركا والغرب في إضعاف نفوذ روسيا، (ذلك النفوذ الذي كان قد سلّمَ أوباما قياده في المنطقة إلى روسيا وإيران، لتحقيق الاتفاق النووي من جهة وتسهيل انسحاب أميركا من المنطقة متوجهة نحو الصين وترك روسيا في أوحال الشرق الأوسط من جهة أخرى)، وعلى المستوى الإقليمي تتوافق مع مصلحة دول الخليج وتركيا وإسرائيل ولبنان (الدولة وليس الحزب) والأردن في إضعاف إيران من جهة، والتخلُّص من أزمة اللاجئين والكبتاغون وغيرها من الأزمات المتفاقمة بسبب الاستعصاء السوري الذي يرعاه بقاء الأسد.

هذا التوافق الموضوعي للثورة الجديدة مع التوجّه الدولي قد ينتهي فعلياً بتقسيم سوريا، المقسَّمة حالياً إلى ثلاث مناطق وثلاث سلطات، بإضافة قسم رابع إضافي، وذلك قد يحدث إذا كانت ردّة فعل الأسد ومن خلفه الإيرانيين وروسيا عنفيّة محضة؛ ولاسيما إذا لم تَثُر المناطق الأكثر خضوعاً لقبضة النظام المحكمة في الساحل ودمشق. لكنها قد تنتهي أيضاً بإنتاج ديمقراطية توافقية على مستوى سوريا، وذلك إذا ثار المجتمع المحلي في مناطق السيطرة المُحكمة. في كلا الحالتين، لن تترك الثورة الجديدة مكاناً للأسد على المدى المتوسط، لأن الخيار الأول سيقضم من سلطة الأسد الجنوب كله والشرق (بالإضافة إلى الشمال المقضوم مسبقاً)، وسيجعل من شرعيته الهشّة أصلاً أكثر هشاشة من أن يحملها نظامه أو شعبه أو داعموه، والخيار الثاني في «التوافق الديمقراطي» عبر الثورة الشاملة، سيترك حلفاء الأسد أمام إما القيام بضربة استباقية عبر إقصاء الأسد لملاقاة الحراك الشعبي والاستفادة منه، أو انعدام القدرة على حماية الأسد من طائفته ذاتها التي تعاني ما يعانيه باقي السوريين.

لا بدّ إذاً أن نتطلّع للممكنات الواقعية للحراك الجديد ورؤية صورته المُكثَّفة لسوريا والمصغَّرة عنها، وذلك لكي نستطيع الخروج بأفضل نتيجة سياسية ممكنة ضمن كل احتمال قد يمضي إليه الواقع. وبكلام آخر، لن ينفعنا التركيز فقط على ما يجب على الحراك فعله وحشوه بالتوصيات والمطالبات، بل التركيز أيضاً على ردة فعله المُمكنة في ظل ما قد يفعله النظام. فالخيارات الممكنة في حال إهمال النظام للحراك وعدم اللجوء للحل العسكري ستختلف جذرياً في حال اختياره للمواجهة بالعنف، وإن لم نُحضِّر ونفكر في الخيارات السيئة قبل الخيارات الجيدة سيتكرر معنا ما حصل عام 2011، أي سنصبح عبيداً للضرورات التي يقودنا إليها الواقع وتقودنا إليها الدول، ونتحول إلى وحوش مثل الوحوش التي تفترسنا، ونفقد كل قدرة على التحكّم بمصيرنا. 

صحيح أن قوّة اللاعنف تتفوق سياسياً وأخلاقياً ونفعياً وإنسانياً على قوّة العنف، لكن إذا قلنا إن على الحراك أن يبقى سلمياً تحت أي ظرف كان، ستنقلنا تلك الوصيّة إلى خارج الواقع الذي لا رجعة عن تغييره، ولن يكون لها معنى إلّا في حال لم يعلن النظام حربه على السويداء، لكنها ستفقد كل معنى وكل ارتباط بالواقع إن بادر النظام إلى العنف، لأن الناس في تلك الحالة ستتجه للمقاومة المسلحة بغض النظر عمّا يجب أن يكون، وبغض النظر عن أي قيمة عُليا من أي نوع كانت. ومن طبيعة العنف أن يُحيّدَ النساء والنخب المثقفة والمظاهر المدنيّة ويعلي من شأن الرجال المقاتلين والأبطال والحُماة وقادة الفصائل، وذلك لأنه يشدّ العصب الجماعاتي ليصبح الديني هو السياسي، والعنفي هو الأخلاقي، والوطني هو الطائفي.

ما يُعَدُّ جوهرياً وإيجابياً وفي صالح الثورة الجديدة على المستوى الوطني، هو أن القصة الصانعة لمخيال الدروز أكثر من كل قصصهم الدينية، هي قصة أو سردية صناعتهم للوطنية السورية عام 1925، وهي سردية يشترك بها؛ ويتنافس عليها، الموالي والمعارض على حد سواء، والقصّة كما يخبرنا المؤرخ يوفال نوح حراري هي أكبر مُوحِّد للجماعات البشرية عبر التاريخ، ولكنها أيضاً أكبر صنّاع السياسة الواقعية، كون السياسة تُبنى على اللاوعي الجمعي المشترك. اللاوعي الجمعي عند الدروز مبني بالكامل على سردية بطولاتهم في الثورة السورية الكبرى ومشاركتهم التأسيسية في وحدة الكيان السوري ونشوء الدولة السورية، فلا تَعارُضَ أو تَنازُعَ في اللاوعي الدرزي المشترك بين الطائفي والوطني مثل ذلك التعارض الذي قد يوجد في اللاوعي الكردي مثلاً بين الوطنية السورية والقومية الكردستانية، أو التعارض الذي يحصل أحياناً في اللاوعي السنّي بين الأمة والدولة، أو ولاية الفقيه والدولة الوطنية لدى الشيعة. ولذلك لا طموح ولا حلم في المخيال الدرزي بدولة مستقلة أو أمة قومية خارج الدولة الوطنية التي شاركوا في صناعتها وصنعت مخيالهم الجمعي، ولا يمكن للدروز (كجماعة لا كأفراد) إلا أن يكونوا وطنيين حتى عندما يكونون طائفيين، والمسافة الحيادية التي أخذوها سابقاً (أيضاً كجماعة لا كأفراد) من الثورة ومن النظام، لم تكن إلا نتيجة خروج الصراع السوري كله عن إطاره الوطني.

لذلك كله لا بدَّ من رؤية موازين القوى الحاكمة للثورة الجديدة والكامنة في بنيتها الداخلية، وبناء استراتيجيات مدنية قوية لا تقوم فقط على تبرير التُّهم الطائفية المعروفة أو إثبات حُسن النيّة للنظام أو لغيره، ولا سيما أن عناصر القوة الموجودة في قَومة السويداء تنبني على ملاقاتها ومحاكاتها لرغبة جميع السوريين وفي كل المناطق وتحت كل الاحتلالات، وملاقاتها من جهة أخرى للتوجه العربي والدولي الذي لم يعد فيه مساحة للجثّة السياسية الحاكمة في سوريا.

موقع الجمهورية

———————————–

ثقافات الوطنية والطائفية: كيف تتمرّد «الجماعة الأهلية» السورية؟/ محمد سامي الكيال

تؤدّي كل موجة احتجاجات جديدة، أو أحداث عنيفة في سوريا، إلى تصاعد الحديث مجدداً عن أسئلة الكيان الوطني السوري، وهي أسئلة لم تكن إجاباتها محسومة يوماً، منذ بوادر نشأة ذلك الكيان مع انهيار الدولة العثمانية. فلطالما تساءل السوريون عن هويتهم، وامتداداتهم السكانية والثقافية والحضارية، ولغتهم، أو اللغات الدارجة بينهم، وهل من المجدي أصلاً إقامة دولة وطنية في مساحات من الأرض، يرى سكانها لأنفسهم آفاقاً أوسع، أو أضيق منها. تلك أزمة سورية عميقة على مستوى الثقافة والأيديولوجيا، مهما بدت الرواية الوطنية السورية مترسّخة لفظياً: جمهورية ذات أفق عربي، ترفض الطائفية والمناطقية، وتسعى لتجاوزهما.

أصيبت تلك الرواية في مقتل منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، إذ بدا واضحاً أن «الشعب السوري» ليس واحداً للدرجة التي كان يهتف بها المتظاهرون. هنالك «مناطق مهمّشة» ودعوات قومية غير عربية، وبشر يرفعون أعلاماً غير «وطنية» وإرثاً من الدم بين متطرّفين من طوائف ومناطق مختلفة، وبالتالي فالثقافة السياسية الكلاسيكية لم تعد قادرة على تقديم أي مقاربة مفيدة عمّا يحدث، رغم ذلك، ظلت تلك الثقافة في خلفية، أو «لا وعي» أي حديث عن سوريا، حتى لو حاول التمرّد على الرواية الوطنية، وإظهار تقبّل أكبر للطائفية والنزعات اللامركزية والاختلاف الهوياتي الكبير بين السوريين. فـ»الجمهورية العربية السورية» تبقى النقطة المرجعية لأي تفكير؛ وإعادة بنائها، بشكل جديد، تظل الهاجس السياسي الأول.

أحد أهم المصطلحات، التي ارتبطت بإعادة بناء الجمهورية، كان «الجماعة الأهلية» وهو مصطلح شديد الغموض، وأقل من أن نعتبره مفهوماً، وذلك لأنه من الصعب جداً إدراك معناه، وتعيين حدوده، أو تقديم تعريف له. حاول المفكر السوري الراحل ميشيل كيلو مثلاً، الحديث عن علاقة بين «مجتمع أهلي» و»مجتمع مدني» الأول يثور أو يطالب بالإصلاح؛ والثاني يمدّه بالخطاب السياسي. لا جدوى طبعاً من ملاحقة أصل هذه المفاهيم، لكن لفهم «اللغة السورية» لا بد من التقاط التلميحات: هل المقصود بـ»المجتمع الأهلي» عشائر أو مجموعات إثنية أو تجمعّات ريفية وشبه ريفية، يمكنها التمرّد العنيف على السلطة المركزية، فيما يصوغ مثقفون، مقيمون في «المدينة» (أي دمشق وحلب غالباً) المطالب السياسية لهذه المجموعات؟ وعلى أي أساس سيفعلون هذا؟ ولماذا يجب على أبناء «الجماعات الأهلية» الثقة بهم، بدلاً من اللجوء إلى أساليبهم التقليدية في الاحتجاج وحلّ النزاعات؟ وهل ناشطو «المجتمع المدني» مؤهّلون، اجتماعياً وسياسياً، لصياغة المشاريع؟

ربما بات هذا النوع من الأسئلة عتيقاً نوعاً ما، فقضايا «الثورة» لم تعد هي الأساس، بقدر ما عادت الأسئلة الأبسط عن «المساحات» السورية، وسكّانها: من أولئك البشر «الأهليون» الذين يصرخون من أوضاعهم المزرية، في مناسبات دورية؟ وهل يمكن لصراخهم أن ينتج سياسة وثقافة سياسية، ترمّم «الجمهورية العربية السورية» أو تُنتج بديلاً عنها؟

صعوبة «اللغة السورية»

ضرورة فهم التلميح والإشارة، في ما وراء منطوق كل عبارة، يجعل ما يمكن تسميته «اللغة السياسية السورية» شديد الصعوبة، وربما لذلك قد يكون من الأجدى التفكير به أنثروبولوجياً وليس سياسياً. في ما مضى كان علماء الأنثروبولوجيا يحاولون إقامة صلة بين منهجين لأبحاثهم: منهج «الإيمك» emic أي تقديم وصف للظواهر الإنسانية، مطابق لمنظور ولغة الجماعات موضوع البحث؛ ومنهج «الإيتك» etic أي الوصف العقلاني/المنهجي للمُراقب. من المفترض أن تكون لغة المحتجين وشعاراتهم هي «الإيمك» باعتبارها تعبيراً محلّياً عن معاناتهم ورغباتهم، إلا أن كثيراً من الصور والتسجيلات، الواردة من مواطن الاحتجاجات، مثل محافظة السويداء السورية، تظهر أن المحتجين يستخدمون التعبيرات الوطنية والفلكلورية السورية التقليدية، وعلى المتلقين أن يفهموا ما وراءها من دلالات. وبالتالي فالملاحظة الأولى أن «الجماعات» المنتفضة لم تخرج عن الإطار التقليدي للغة «الجمهورية العربية السورية» وغير معنية بإنتاج تعبيرات جديدة أو مختلفة، سواء كانت «وطنية» أو طائفية. يعني هذا أننا ما زلنا في العالم الرمزي والمفاهيمي والقيمي السوري نفسه.

إذا حاولنا وصف ما يجري من منظور «الإيتك» فقد نتحدث عن مجموعات سكانية، ريفية وشبه ريفية، تربطها علاقات عشائرية ومذهبيّة، تحتجّ على إفقار شديد الوطأة، يصل إلى درجة التجويع، دون تقديم خطاب أو مشروع سياسي، أو اقتراح شكل جديد للتنظيم الاجتماعي، أو حتى هيئات مُمأسسة لتصريف شؤون الحياة في وقت الأزمة، إلا أنها تتمتع بالحد الأدنى من القدرة على الدفاع الذاتي، نظراً لحضور ميليشيات محليّة في خلفية حراكها.

ربما يُسهّل لنا الربط بين هذين الوصفين فهم بعض تعقيد «اللغة السورية» إذ يبدو أنها تمنح مجموعات سكانية، غير قادرة على إنتاج المشاريع السياسية، والخطاب أو القول المستقل، القدرة على الكلام والاحتجاج بالحد الأدنى، فيصبح في إمكان متحدّثها، عبر ما يقوله ويلمّح إليه ويسكت عنه، أن يكون وطنياً جمهورياً، ومذهبياً مناطقياً في الوقت نفسه؛ متمرّداً على السلطة المركزية بعنف، وفاعلاً ضمن أطرها وعالمها المفاهيمي؛ شديد الخصوصية، لكن قادراً على التواصل مع مجموعات سكّانية أخرى. لا يعني هذا النفاق أو التقيّة، بل صيغة تواصلية، قد تكون مناسبة للتشكيلات الاجتماعية والسياسية السورية، ولذلك قد يكون سبب استمرار هذه اللغة، رغم كل الكوارث التي عرفها البلد، هو قدرتها على تأدية وظائف لا غنى عنها، خاصة إذا لاحظنا أن الجهات الوحيدة التي خرجت عنها، كانت المجموعات الإسلامية الأكثر تشدداً؛ إضافةً للقوى السياسية، التي توقّفت عن استخدام اللغة العربية أصلاً، إلا أن هذه الافتراضات تطرح أسئلة أشدّ تعقيداً: إذا كانت «الجماعات الأهلية» متمسّكة، لظروفها الموضوعية، باللغة السياسية السائدة في البلد، فهل يعني هذا أنها عاجزة، من حيث المبدأ، على قول أي شيء جديد؟ ولماذا لا يمكن أصلاً لـ»الأهليين» أن يبتكروا أفكاراً أو مشاريع جديدة، تناسب أوضاعهم؟ بالتأكيد ليس بسبب الخوف من الاتهام بالطائفية والمناطقية، فذلك الاتهام لم يعد مخيفاً لأحد، في بلد عاش ويعيش بعضاً من أسوأ وقائع الاقتتال الداخلي في العالم.

مفهوم «الفلاحيّة»

بعيداً عن مصطلح «الجماعة الأهلية» الذي لا يعني شيئاً في الواقع، يمكن اقتراح استعمال مفهوم «الفلاحيّة» للتعبير عن وضع غالبية التجمّعات السكانية المنتفضة في سوريا، وهو لا يشير فقط إلى العاملين في الزراعة، بل يمكن اعتباره المقابل لمفهوم «البورجوازية» أو المدينيّة. إذ يعيش أغلب الناس في سوريا في بلدات وقرى ومدن صغيرة، أو على هوامش مدن كبيرة، لم تتطور فيها كلها منظومات معقّدة للصناعة والخدمات، وحيّز عام بالمعنى الحديث. ما يُعرّف «البورجوازي» ليس فقط ملكيته لوسائل إنتاج ما، بل أيضاً استقلاله عن علاقات التبعية والولاء التقليدية، فيما أكثر ما يميّز «الفلاحي» تمسّكه بتلك العلاقات، سواء كانت عشائرية أو مذهبية أو مرتبطة بالعائلات الممتدة، بل إن علاقته مع الدولة وأجهزتها، تقوم غالباً على أنماط مستحدثة من الولاء والتبعية، التي قد تنقلب إلى تمرّد، أو «عقوق» عنيف للغاية، إذا لم يجد لنفسه مكاناً في سياسات توزيع الموارد الخاصة بها، أو لم تشمله إحدى شبكاتها غير الرسمية، والتي يميل البعض لوصفها بـ«الزبائنية».

لا يمكن لتجمّعات سكانية «فلاحية» بهذا المعنى، إنتاج عمل سياسي بالأسلوب المديني/البورجوازي، وهذا لا يشمل فقط البرامج والخطابات «الوطنية» أو الطبقية، بل أيضاً الخطابات الطائفية، لأن الطائفية بدورها، وما ارتبط بها من مشاريع محاصصة أو انفصال أو فيدرالية، هي خطاب سياسي حديث، صاغه دائما مثقفون وناشطون سياسيون بورجوازيون، عملوا في مدن حديثة، وربما لذلك من الصعب جداً أن تسقط «الجمهورية العربية السورية» ولغتها؛ أو أن يجد المتمردون ما يقولونه خارجها، فهي البناء السياسي/الأيديولوجي الأنسب للفلاحيّة، ضمن شروط التطوّر التاريخي للبلد.

خارج «التمرّد السوري»

يمكن اعتبار علاقات التبعية والولاء «الفلاحيّة» ذات طابع مزدوج، فهنالك الولاء الداخلي للبنى الاجتماعية التقليدية، مثل العائلة، زعماء المذهب، وحتى قادة الميليشيا؛ وهنالك الولاء الخارجي، لتنظيم سياسي حديث، قادر على تكديس القوة المادية المنظّمة، وإعادة توزيع الثروة، مثل الدولة المركزية السورية؛ وقوى حزبية أو عسكرية متنوّعة (حزب الله اللبناني، حزب العمّال الكردستاني، الحرس الثوري الإيراني، إلخ)؛ والقوى الدولية والإقليمية الأكثر تأثيراً، مثل تركيا وروسيا والولايات المتحدة. وإذا وافقنا على افتراض أن التجمعات السكانية «الفلاحيّة» غير قادرة على إنتاج أي مشروع سياسي مستقل، فربما كانت قراءة التمرّد السوري تتطلب دائما أخذ مسألة الولاء والتبعية المزدوجة بعين الاعتبار، إذ لا يمكن توقّع أي تغيير، أو برنامج سياسي للخروج من الأزمة المستفحلة، إلا بالتلاقي، شديد التركيب والتعقيد، بين القوى السياسية المنظّمة (الخارج) والبنى المحليّة «الفلاحيّة» ومظالمها (الداخل) وهذا التلاقي قد يكون منتجاً غالباً لأكثر المشاريع السياسية استغلالاً وظلامية، لكن لا يوجد مانع نظري من أن يكون ثورياً أو تحررياً.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————

في تنوع دوافع الانضمام للثورة/ عروة المقداد

أعادت الاحتجاجات المتنامية في الجنوب السوري، وتحديداً في محافظة  السويداء، رغبةً كبيرةً في إحياء مطالب وشعارات سنة 2011. تنامت الاحتجاجات بسرعة لتشمل مختلف  الفئات الاجتماعية في السويداء، وتتفق على مطلب إسقاط النظام. تنوعت النظرة نحو هذه الاحتجاجات والمطالب، بين مَن أطلق عليها ثورة جديدة، ومن رأى فيها براغماتية سياسية مبنية على ظروف إقليمية محددة، ومن جرَّدها من قيمتها الأخلاقية ليَسِمَها بأنها ثورة الجياع.

لكنّ محاولات التغيير التي انطلقت منذ اثنتي عشرة سنة أخذت أطواراً عديدة، وفجرت صيرورتها أسئلةً وإشكالياتٍ جوهرية تتعلق بتوجهات وتطلعات وآمال مناصريها والفاعلين فيها. كشفت تلك الأطوار عن دوافع متعددة تستحق الدراسة والتأمل، لا بل إن هذا ضرورة مُلحَّة لرتق ما تمزَّقَ من أحلام وآمال تتعلق بمفهوم الوطن والمواطنة. وهي في عمقها لا تتعلق بالمقارنات أو التوصيفات القيمية، وبمن يتفوق من ناحية القوة والشجاعة أو بمن هو السبب المباشر أو غير المباشر وراء سقوط النظام (وإن لم يحدث هذا حتى هذه اللحظة).

منذ عملي مع الشهيد باسل الصفدي على توثيق أحداث الثورة وتغطيتها في مختلف المحافظات السورية، وحتى خروجي من حلب الشرقية نهاية العام 2015، وعملي مع عدة جهات إعلامية توثيقية وكيانات عسكرية ومنظمات مجتمع مدني، وكذلك من خلال الأفلام الوثائقية التي صنعتها عن الثورة، عايشتُ دائماً تلك الإشكاليات وفكّرتُ في الدوافع والأسئلة المتعددة التي فجرتها الثورة. لم تستطيع الكيانات الثورية والسياسية السورية، سواء داخلياً أو خارجياً، إيجاد حلولٍ لتلك الإشكاليات أو بناء تصورٍ عملي جامع للتنافر الشديد في تلك الدوافع والأسباب، فهي متعددة ومختلفة، وهي متناقضة أحياناً ومتعاكسة أحياناً أخرى. وفي محاولة فهم حالة الاستقطاب في المواقف الثورية تجاه ما حدث وما يحدث، سواء في سوريا أو في دول المنفى، أجدُ من الضروري فهم وتحديد تلك الدوافع الرئيسية لخروج السوريين في الثورة.

لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذه الدوافع تتداخل في ما بينها بطريقة شديدة التعقيد، وتحتاج مزيداً من البحث والتقصي والدراسة، وليست محاولة ترتيبها وتصنيفها سوى مدخلاً لفهم ملامحها  الرئيسية وبالتالي فهم حالة الاستقطاب الشديد والانقسام العميق حولها.  كما لا بدّ من الإشارة إلى أن النظام كان لديه من الذكاء الكافي للتعامل مع هذه الدوافع، وهذا ما يمكن اعتباره حجةً أخرى تدعم هذا النوع من التحليل، وسأمرّ على تلك الأساليب مع كل دافع من الدوافع.

دوافع الانضمام للثورة

1- وقود الثورة

لم تكن دوافع خروج السوريين في الثورة واحدة إذن، بل اختلفت تبعاً للمنطقة والمدينة والطبقة الاجتماعية والانتماء العرقي والديني. وفي سياق استعراض تلك الدوافع، أَقترحُ حجةً وهي أن للثورة السورية مُحرِّكاً أساسياً سأطلق عليه توصيفاً مجازياً هو: «وقود الثورة». تحمّلت هذه الشريحة عبء تحريك التغيير من مرحلة السكون التام إلى الحركة الكاملة، والتي لم يعد ممكناً من بعدها العودة رغم محاولات النظام المستميتة للتفاوض والتفاهم وتقديم التنازلات في الشهور المبكرة من الثورة.

هذه الشريحة ستفرض معياراً أخلاقياً بالدرجة الأولى، مع أن لديها بالتأكيد دوافع سياسية واقتصادية واجتماعية بالدرجة الثانية. قد يبدو هذا المعيار طوباوياً تماماً، لكني أعتقدُ أن محاولة التغيير في سوريا كانت في عمقها محاولةً طوباويةً إلى أبعد درجة، وعليه فإنني أعتبرُ دافع هذه الشريحة أخلاقياً بالدرجة الأولى تحديداً نتيجة حجم التضحيات التي قدمتها هذه الشريحة بالمقارنة مع المكاسب المحتملة.

ويمكن توصيف هذه الشريحة ودوافعها كالتالي:

كانت تنتمي إلى مختلف المناطق والمدن السورية، وتنحدر من مختلف الفئات الاجتماعية والدينية والطبقية (وهذه أحد أهم نقاط قوة الثورة)، وهي متأثرة بطريقة أو بأخرى بالبُعد العربي وتُشكِّلُ قضية فلسطين جزءاً أساسياً من نضوجها الفكري والسياسي، لا بل إن الكثيرين من أبناء تلك الشريحة كان متأثراً بتجربة النضال الفلسطيني، وحاول الاستفادة منها في التكتيكات المبكرة سواء على الصعيد المدني أو العسكري. بالإضافة إلى أن التراث الديني جزءٌ من تكوين هذه الشريحة، لكنه ليس الدافع الأساسي في مطالبها أو توجهها وتحركاتها. كما يمكن ملاحظة أن الغالبية العظمى من هذه الشريحة لديهم مستوى تعليمي وثقافي جيّد، ولديهم من المرونة الاجتماعية ما يجعلهم قادرين على التواصل مع مختلف الانتماءات الفكرية والسياسية والدينية بسهولة شديدة. ويمكن القول إن هذه الشريحة كانت العقل المدبر للكثير من التكتيكات الثورية، وتحوَّلَ كثيرون منهم من الحراك المدني إلى الدفاع عن النفس، أي حمل السلاح الذي لم يكن لديه في بداية الثورة أي أبعاد إيديولوجية بل كان نتيجة الاعتقالات الرهيبة ونتيجة الانشقاق الناتج عن رفض المشاركة في قتل المتظاهرين. أتحدثُ عن فئة أولئك الذين لم يتغير مطلبهم الأخلاقي والسياسي على الرغم من التبدلات العاصفة في مسار الثورة، ورغم استهدافهم سواءً عن طريق القتل أو الخطف أو الاعتقال. أتحدّثُ عن الفئة التي وقفت أمام المشاريع الإيديولوجية التي تفجرت في سياق الثورة السورية.

كان مصير الغالبية العظمى من هذه الشريحة الاستشهاد أو الاعتقال، والقلة القليلة التي نجت ما زالت تعاني من صدمات كبيرة، ومن إحساس عميق بالخذلان الناتج عن اختلاف الدوافع لدى بقية الشرائح التي شاركت في الثورة.

انطلقت هذه الشريحة إلى إشعال شرارة الثورة من دافع أخلاقي، يقوم على مبدأ التضحية بالنفس من أجل المصلحة العامة. هذه المصلحة لا تتعلق بمطلب سياسي أو اقتصادي واحد مُحدّد، وإنما بالرغبة العميقة بالتغيير. وحجَّتي في ذلك أمثلة عديدة منها ما فعله ناشطو داريا في توزيع الورود والماء لعناصر الأمن والجيش، وصولاً إلى ما جسَّده الانشقاق في مختلف مراحله، واستمرار خروج المظاهرات في مواجهة محسومة مع الموت؛ تُجسِّدُ هذه الأمثلة ما أطلقت عليه تسمية الدافع الأخلاقي.

شكلت هذه الفئة الشريحة الأخطر على النظام الأمني، إذ قامت الأفرع الأمنية بدراسة سلوك هذه الشريحة وتتبُّع أسبابها وغاياتها بدقة شديدة، وهو ما توصلنا إليه في المشروع الذي بدأتُه مع  الشهيد باسل الصفدي لمراقبة سلوك الأفرع الأمنية وتصنيف عملها، فقد لاحظنا أن النظام كان يستخدم تكتيكات مختلفة لفهم عمق المحرك لهذه الشريحة.

في العاصمة دمشق كان للأفرع الامنية الرئيسية مجموعاتٌ تشارك في الاعتقالات، وهي اعتقالات في الغالب كانت عشوائية تهدف لتوفير أكبر قدر من المعلومات عن المزاج العام للمظاهرات، ومن ثم الضغط بأكبر قدرٍ ممكن لظهور العناصر الفاعلة في المظاهرات، ومن ثم توجيه الضربة الرئيسية لهؤلاء الفاعلين أو المؤثرين، سواء عن طريق الاغتيال المباشر في المظاهرات أو الاختطاف أو التصفية الجسدية المباشرة في المعتقل.

2- الفزعة

جاء الانضمام للثورة بالنسبة لشريحة واسعة من السوريين تلبيةً لمفهوم «الفزعة»، الفزعة المرتبطة بتراكم من العادات والتقاليد ذات الجذر الديني، أو الجذر المحلي المتعلّق بمفاهيم الشهامة والأخلاق والمروءة. هذا المصطلح استُخدِمَ في الأحياء الشعبية السورية على اختلاف أماكنها، فقد بلورت مسألة القتل أحد أهم الدوافع والمحرضات للمشاركة في الثورة، وتحديداً قتل الأطفال والتنكيل بالنساء. شهدت درعا على سبيل المثال استخداماً واسعاً لمثل هذا المصطلح، حيث نودي على منابر الجوامع «بالفزعة» خلال المجازر التي ارتكبها النظام في الجامع العمري وفي قرى مختلفة في المحافظة، وهو ما دفع الكثير من التشكيلات الاجتماعية للانخراط في الثورة بغض النظر عن المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

استمرَّ مفهوم الفزعة كمفهوم أساسي في التحركات العسكرية أيضاً طوال سنوات الثورة، على اختلاف استخدام الكلمة تبعاً للمحافظة أو المدينة. ففي الوقت الذي كان يقال عنها فزعة في درعا والدير، كان يُطلَق عليها في أحياء حلب على سبيل المثال «البلشة». الفزعة كانت سبباً لتحرُّك فئات بسيطة مهمّشة لم تكن مرتبطة بالثورة بأي شكل من الأشكال، ومنهم من عُرِفوا في السابق كزعران أو متعاطين للمخدرات أو أصحاب سوابق. سيتكرر هذا النموذج في أغلب المناطق، لكن الفزعة لم تكن مرتبطة بالعمق الثوري في محاولات التغيير على مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية، بل كانت مرتبطة بالعائلة أحياناً وبالعشيرة أحياناً أخرى. ومع تَعقُّد المشهد في الثورة السورية، ودخول التمويل الإيديولوجي والإقليمي، لم يعد لمن يمكن حسبانهم في هذه الشريحة الدوافع ذاتها، وتحوّلت أهدافهم بشكل جذري.

حاول النظام استقطاب تلك الفئة، فإلى جانب استهدافها بالاعتقالات قام بتقديم تسهيلات معينة لها. مثلاً، في الوقت الذي كنتُ فيه معتقلاً في مطار المزة العسكري، حيث بدأت تصفية العديد من الناشطين، كان يتم الإفراج عن شباب تورّطوا بحمل السلاح ممّن يحملون صفات توحي أن ما جاء بهم إلى الثورة كان في الأساس هو الفزعة.

بعض الأشخاص من هذه الفئة تحوَّلوا إلى قادة عسكريين في حلب ودرعا وريف دمشق وغيرها، ومنهم على سبيل المثال أبو علي خبية وحسن جزرة، ويمكن ملاحظة هذا النوع من القادة الشعبيين في كل محافظة أو مدينة. بعضهم تعرَّضَ للتصفية من جهات إيديولوجية محسوبة على الثورة، فيما سعى النظام طوال سنوات الثورة لاستمالتهم عن طريق المصالحة أو التسوية، وهو ما تبدَّى واضحاً في المصالحات التي حدثت بعد اجتياح المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، حيث انضمَّ الكثير من هؤلاء للعمل تحت إشراف الأفرع الأمنية.

3- الدولة المدنية الديمقراطية

مثَّلت الثورة بالنسبة لشريحة أخرى محاولةً لبناء دولة مدنية ذات أسس ديمقراطية، ويمكن ملاحظة تلك الشريحة في مراكز المدن بالذات. كان ذلك بتأثير النخبة السياسية القادمة من محاولات التغيير في السبعينيات والثمانينيات، والذين كان جلُّهم معتقلين سياسيين وذوي خلفية يسارية – شيوعية، ممّن أثَّرت أفكارهم في العديد من الشباب، الذين تبنوا الحراك السلمي في الثورة، ومن ذلك أولئك الذين شاركوا في حراك أحياء دمشق، وكانوا ينخرطون فيما كان يُعرَف بالمظاهرات الطيّارة، أو في الاجتماعات التي كانت تُناقش مآلات التغيير. لكن مع تطور وتعقيد مسارات الثورة، بدا الاختلاف واضحاً بين هذه الفئة وبين بقية الفئات الأخرى. شكلت هذه الفئة واحدةً من أكثر الفئات دفاعاً عن الدولة المدنية، ولكن مع تحول الثورة الى مسلحة وانتشار الكيانات ذات البعد الديني، لم تعد هذه الفئة مشاركة بشكل فاعل على أرض الواقع. يكاد يكون الخيط رفيعاً بينها وبين «وقود الثورة» أعلاه، ولكن الاختلاف كان في الأدوات، ففي حين كان الآلاف من الشباب ينخرطون في العمل المسلح ضد النظام، كانت هذه الشريحة مؤمنة بأنه من خلال الحراك المدني يمكن إسقاط النظام.

تعاملَ النظام مع هذه الشريحة ودوافعها بحذر شديد، وكان يعي خطورة بعض الفاعلين فيها فقام باعتقالهم وتغييبهم، فيما تركَ للبعض الآخر مساحة للتحرّك بهدف خلق مناخ يستطيع استخدامه عند الحديث عن التغيير السياسي، كما حاول الضغط على البعض الآخر وترهيبه وتهديده وتقديم مكتسبات معينة له.

4- الدولة الدينية

مثلت الثورة لشريحة واسعة فهماً دينياً في تفسير التغيير، فدعا كثيرون إلى إقامة دولة على أساس ديني. وقد مثلهم بشكل واضح الإخوان المسلمون، الذين أحدثوا شرخاً جذرياً في الثورة السورية، مما مهد لخروج جبهة النصرة وداعش كنتيجة للتبني والدعم والتحريض على إقامة دولة دينية. دفعَ ذلك الخطاب والتحريض آلافاً من الشباب للانضمام الى تلك الكيانات، حيث تحولت المعركة مع النظام بالنسبة لهم من ثورة تدعو إلى تغيير شامل إلى معركة دينية سياسية ذات أبعاد تاريخية. هكذا انفجرت المشكلة السنّية بإرثها التاريخي، وما حملته من مراجعات فكرية حادة في مفاهيم العقيدة وشكل الدولة. كان يمكن أن نلمح ذلك الانقسام الفكري الحاد في المسألة الدينية السنية في حلب، فمنذ التحرير بدأ ظهور الجماعات الدينية التي انشقت الى شقين: الإخوان والنصرة ولاحقاً داعش. انخرط في هذه المشاريع آلاف المنتمين لطبقات اجتماعية ومناطق متنوعة، وذلك مع غياب المشروع السياسي الواضح واشتداد العنف غير المسبوق من قبل قوات النظام وحلفائه لاحقاً.

عندما دخلتُ إلى سجن عدرا شاهدتُ مئات المعتقلين الإسلاميين يغادرون السجن. كانت تلك واحدةً من أخطر الاستراتيجيات التي تعامل بها النظام مع فئة يفهمها ويفهم دوافعها، وقد مهَّدَ طفوّها على السطح لشرخٍ حاد في بيئة الثورة، ونقلَ الحراك العسكري إلى مكان مختلف كلياً عمّا بدأ عليه. أسّسَ ذلك لضرب الفئات الثورية على كافة المستويات، ومهَّدَ لظهور الفصائل الاسلامية المسلّحة والقضاء نهائياً على ما عرف في ذلك الوقت بالجيش السوري الحر، فالجيش الحر كان نواة فكرة لم تعد موجودة فعلياً منذ العام 2013، وإنما تغيرت بنيتها وتوجهاتها وأهدافها جذرياً.

5- المنفعة

انضوت شريحة واسعة في الحراك الثوري أو الحراك المعارض عموماً تبعاً لمصالح يمكن وصفها بالذاتية، وانطلقت من مصالح خاصة، وقد لعب عنف النظام وتراكم سنوات الخوف في تحديد خياراتها. ومع تَعقُّد مسار الثورة ظهرت لكثيرين من هؤلاء استحالة سقوط النظام، وعليه بدأ الانسحاب من الدوافع أو المصالح المشتركة العامة نحو دوافع  أكثر ذاتية نفعية.

ويمكن تقسيم هذه الشريحة إلى قسمين؛

الأولى تنوعت خياراتها بين البقاء في البلد والتزام الحياد أو مغادرة سوريا والانخراط في بناء حياة لا تتأثر بالمُعترك الأخلاقي والعسكري والسياسي الحاصل في البلد من الناحية الأمنية، ولكنها كانت متذبذبة الموقف السياسي تبعاً لتغيّر موازين القوى على أرض الواقع، وهذا ما قدم لها  مكاسب وسمح لها بالحضور في  فرص عمل أو منح دراسية أو التواصل مع جهات التمويل، وبالتالي القدرة على بناء مشاريع ومؤسسات.

الثانية كانت لديها قدرة أكبر على العمل داخل سوريا والانتقال بين مختلف الفئات والهيئات والتكتلات السياسية، وقد اتخذت مبدأ المنفعة المادية أساساً لكلّ تحركاتها، واستطاعت أن تلعب على عدة أطراف في سبيل تحقيق أكبر قدر من المنفعة. شكلت هذه الشريحة كيانات سياسية أحياناً، وتكتلات عسكرية ومنظمات مجتمع مدني أحياناً أخرى، ووجِّهت أصابع الاتهام للكثير من تلك المنظمات أو الهيئات في التورط في أعمال استخباراتية أحياناً وفي أعمال تطبيع مع النظام.

كما شارك النظام وسهَّلَ شبكات فساد معقدة عملت مع أطراف الثورة، سواء عسكرياً أو مدنياً، ما ساهم في إفراغ الثورة من عمقها الحيوي، وهو ما بدأ بمعلومات عن ناشطين اعتُقلوا وتمت تصفيتهم وانتهى بقادة عسكريين عرفوا على سبيل المثال في الغوطة بـ«الضفادع»، أو قادة كانوا مع داعش أو مع الاخوان أو حتى قادة في الجيش الحر. وتحول الكثير منهم لاحقاً إلى مرتزقة يعملون تحت أجندات دول مجاورة، ويمكن ملاحظة ذلك في الشمال السوري حيث أن غالبية الكيانات العسكرية باتت تعمل كمرتزقة.

المشكلة المناطقية والاجتماعية

الانتماء للعائلة – العشيرة

وفضلاً عن تعدد هذه الدوافع، برزت في السنوات المبكرة من الثورة العديدُ من الإشكاليات الجذرية التي ترتبط بعمق تكوين المجتمع السوري، ومنها المشكلة المناطقية التي عكست سياسات النظام في مختلف مدن ومحافظات سوريا.

في حين كانت الثورة في درعا لا تُدار بالمبدأ الديني، فقد رفض أبناء المنطقة دخول أي مقاتلين أجانب وطرَدوا مقاتلي جبهة النصرة وخاضوا معارك طاحنة ضدها، إلا أنه بالمقابل عادت مع السنوات اللاحقة سيطرة القوة العائلية إلى الواجهة، في حين أن المشكلة  الإيديولوجية الدينية تفجّرت في الشمال السوري، كما شكلت حمص على سبيل المثال مسرحاً لمحاولات إثارة التوتر الطائفي الذي أجَّجه النظام بمختلف الطرق والوسائل.

عمل النظام على التعامل مع المناطق تبعاً للتوترات والحساسيات السائدة فيها، كما عمد إلى قطع التواصل بين مختلف المناطق لعزلها عن بعضها بعضاً، مما أدى إلى اختلاف النماذج الثورية في كل منطقة ومحافظة.

ربما كانت أهم وأعمق مواجهة خاضتها الثورة هي مواجهة السلطة العائلية (الأب – كبير العائلة أو وجهاء العائلة – وجهاء العشائر)، وهذه المواجهة ربما تحتاج مقالات كثيرة لمحاولة تفسيرها وشرحها. حاول النظام مراراً استخدام تلك السلطة في وأد الثورة منذ اللحظات الأولى، حيث حاول التفاوض مع وجهاء درعا ووجهاء العشائر الكبيرة في الشمال السوري، لكن فشلت السلطة العائلية في ثني الشباب عن الإصرار على الخروج في المظاهرات. تمت مواجهة تلك السلطة في مختلف المحافظات، مع الاختلاف في نسبة تلك المواجهة تبعاً لكل محافظة ولشكل السلطة العائلية العشائرية فيها.

عادت السلطة العائلية في جميع مستوياتها بعد استهداف النظام الشريحةَ الشابة، وقود الثورة كما أسلفت. سيطرت العائلات الكبيرة على جزء كبير من الحراك المسلح، وفي مناطق الشمال عادت السلطة العشائرية للواجهة وأصبح لها أجندات وأولويات مختلفة تماماً. وفي حين كان يُلاحظ هيمنة الفئة الشابة على قادة الحراك السلمي والمسلح، وخصوصاً الضباط المنشقون الذين خاضوا معارك التحرير في مختلف أنحاء سوريا في 2012، حين كان يمكن رصد مئات الانشقاقات لضباط برتبة ملازم أول أو نقيب. ومع استهداف تلك الفئة من خلال معارك طاحنة وتصفيات وخطف من مختلف الجهات، عادت سلطة المشايخ والحجاج، مثل زهران علوش في دوما وغيره. غيّرت تلك السيطرة من الطبيعة الجوهرية للثورة السورية.

كذلك شكلت محافظة السويداء معضلةً حقيقيةً في مسار الثورة، فالمحافظة تتمتع بموقع استراتيجي وكانت جزءاً من العمق اللوجستي لغوطة دمشق، وكذلك صلة الوصل مع محافظة درعا، وفي جميع الخطط العسكرية المبكرة لمحاولات السيطرة على مدينة دمشق كان هناك تعويل كبير على تلك البقعة الجغرافية الغنية من الناحية البشرية والموقع الحيوي. لكن على مستوى الطائفة اتُّخذَ قرارٌ سياسيٌ بعدم التدخل، إذ قامت مفاوضات بين شيوخ الطائفة والنظام. كثيرون من ثوار السويداء انخرطوا منذ اللحظة الأولى في الثورة، وكان العديد من أبنائها ينتمون الى ما أطلقتُ عليه شريحة «وقود الثورة»، لكن لم يكن لديهم قدرةٌ على التأثير في هذا القرار، لا بل تعرَّضَ كثيرون منهم للتشبيح من جانب المصرّين على النأي بالنفس. كان يمكن لموقف آخر من هذا العمق الاستراتيجي لدرعا والغوطة أن يرفع من احتمالات سقوط العاصمة على يد مقاتلي الثورة.

على أي حال، لا ترتبط هذه الإشكاليات والدوافع بمرحلة معينة، بل يمكن ملاحظتها في دول المنفى وعلى وسائل التواصل الاجتماعي ومع كل احتجاج يتفجر في منطقة ما. وبالتالي لا يمكن أن نرى موقفاً واحداً وواضحاً تجاه ما يحدث، سواء في السويداء أو في أي منطقة أخرى. فما يحدث الآن ليس ببعيد عما حدث في 2011، ولا يغير من توصيفه سواء أطلقنا عليه ثورة كرامة أم ثورة جياع، لأن ما يمكن التمحيص فيه هو الدافع، والدوافع تتكشف مع مرور الوقت من خلال مراقبة ما يحدث ومساءلته، فالثوار ليسوا معصومين عن ارتكاب الأخطاء القاتلة التي كلفت وقد تكلف دماء كثيرة.

وما قد يبدو أننا بحاجة إليه هو عدم الوقوع في فخ الرومانسية التي وقعنا بها بدايةَ الثورة، عندما اعتقد الكثيرون، وأنا واحدٌ منهم، أنه يمكن إسقاط النظام خلال شهرين، وأن لا نعتقد بأي حال من الأحوال أن النظام يتصرف بطرق وسلوكيات غبية، إذ أثبتت التجربة أن الواقع عكس ذلك تماماً. النظام ليس فقط بشار الأسد ولا يتوقف عنده، وإنما هو تركيبة أشد تعقيداً وأكثر تجذراً وفهماً للمجتمع السوري، ولديه القدرة على التماهي والتحوُّل والتشكُّل تبعاً للظروف المختلفة التي يمرّ بها.

موقع الجمهورية

—————————————

سورية: نحو جبهة شعبية لإسقاط الفاشية ومقاومة الاحتلال/ برهان غليون

بالإضافة إلى أساليب القمع الوحشية والتآمر مع القوى الخارجية، راهن بشّار الأسد، في سعيه إلى مواجهة الثورة السورية منذ عام 2011، على تفجير النزاعات الطائفية، وتبنّي الدفاع عما أسماه الأقليات ضد الأكثرية “السنية” الطامحة إلى استبعادهم من السلطة. وجاءت محاولة بعض الجماعات السلفية والإسلاموية ركوب موجة الثورة الشعبية لتحقيق حلم بناء دولة أو سلطة لا يزالون يسعون وراءها منذ عقود طويلة لتقدّم ذريعة مادّية لدعايته السياسية التي صوّرت ثورة السوريين من أجل الحرية بأنها سلفية أو إسلامية. وقد استخدم تلك الدعاية أيضاً لتبرير إدخاله المليشيات الطائفية الإيرانية واللبنانية والعراقية على نطاق واسع في الصراع، من دون التخلّي عن ادّعائه المضحك بأنه النظام العلماني الذي وقف صامداً في وجه المدّ الإسلاموي، وأن بديله الوحيد الفوضى أو منظومة حكم إسلاموية معادية للغرب، ومهددة للاستقرار والأمن الإقليميين.

أولاً، لكن الشمس لا تُغطّى بغربال. والواقع أقوى من الادّعاءات لا تكفي لتغييره البراعة في الغشّ والكذب والخداع. وهذا ما جاءت انتفاضة السويداء لتؤكّده، وتذكّر بأن ما دفع ولا يزال يدفع السوريين إلى المطالبة بسقوط النظام هو مطالب سياسية واضحة وأساسية لم تتغيّر، ولن تتغير حتى تحقيقها: إسقاط نظام حكم قام على القهر والتمييز والعسف والقتل المباح، حوّل الدولة إلى جهاز عنف منفلت ضد المجتمع والشعب، لإحلال حكم يخضع لإرادة الناس ويعمل على خدمة مصالحهم، والتعبير عن تطلعّاتهم مكانه.

ولأنه نظام لا يُعنى بمصالح الناس، ولا يستمر إلا بتخليد مناخ الحرب وتقسيم المجتمع وتفكيكه، رفض ولا يزال يرفض، منذ عام 2011، جميع المبادرات العربية والدولية الساعية إلى إنهاء النزاع، ولا يكفّ عن مطالبة الجميع بالاعتراف بانتصاره، وتكريس مكاسبه الجديدة، ومنها عدم السماح لملايين اللاجئين ومهجّري القصف الأعمى بالعودة إلى بلادهم، أو حتى الإعلان عن مصير مئات آلاف المختطفين قسرياً. وللأسف، عندما يئس المجتمع الدولي من إمكانية التعاون مع الأسد للتوصل إلى حلّ، ترك الروس والإيرانيين يعيثون فساداً في البلاد، وجلس ينتظر ما يمكن أن يقدّمه مرور الوقت من حلول الأمر الواقع. هذا ما رسّخ الاعتقاد لدى الأسد وحلفائه بأن ما حصل بعد مجزرة حماة عام 1982 يمكن أن يحصل هذه المرّة أيضاً، فقد لقّنت الحرب الشعب السوري في نظره درساً لن تقوم له قائمة بعده، وأقنعته بأنه لا سند خارجياً له ولا مفرّ له من الخضوع. ولم يبق أمام الغرب الذي لا يزال يصرّ على التسوية السياسية، حسب قرار مجلس الأمن 2254، إلا أن يتعلم هو أيضاً الدرس، ويدرك أن انتصار الأسد على “الإرهاب الإسلامي” هو انتصار له ولقيمه، وعليه أن يعيد النظر في موقفه، ويسعى إلى إعادة تأهيل النظام، لا الوقوف ضده.

وقد اعتقد الأسد بالفعل أنه ربح هذا الرهان، عندما أعلنت الحكومة الأردنية مبادرتها في يونيو/ حزيران الماضي للتطبيع مع الأسد على قاعدة خطوة خطوة، والتي أعيد بموجبها مقعد سورية له في جامعة الدول العربية. لكنه أصيب بالإحباط عندما أدرك أن التطبيع العربي لم يكن مجّانياً، وأنه يشكّل مدخلاً لطرح موضوع تعديل النظام السياسي أو إصلاحه، لإدخال عنصر جديد فيه يقوّض، ولو بعد حين، الاستئثار الكلي للأسد بالقرار في جميع المجالات. ما جعل الأسد يرى فيه مؤامرة لتقويض سلطته وإسقاط نظامه. هكذا عوض أن يتجاوب مع المبادرة العربية التي قدّمت له خشبة الخلاص الوحيدة لتجنّب الانهيار الاقتصادي والسياسي القادم، اتهم العرب وشكّك بنواياهم، وقابلهم بمزيد من التماهي مع الحليف الإيراني، وتكثيف إنتاج المخدّرات وتهريبها داخل حدود بلادهم.

لم يدرك الأسد وهو يردّ بعنف على ما اعتبره محاولة من أنداده للانتقاص من سلطته وصلاحياته المطلقة، أنه برفضه المبادرة العربية قد قضى على جميع الآمال عند السوريين، وأغلق أي باب للفرج أمامهم، وفي مقدمة ذلك ما كان يعتبر الحاضنة الرئيسة له في الساحل التي بدأت تعيش على الكفاف، بانتظار أي حلّ يخفّف المعاناة عن الناس، ويحدّ من امتداد طوابير هجرة الشباب إلى الخارج. هكذا كان إجهاض المبادرة العربية القشّة التي قصمت ظهر البعير. وجاء انهيار سعر صرف العملة السورية التي فقدت 50% من قيمتها في أقل من شهرين، والذي كان أحد نتائج رفضه المبادرة أيضاً، ليؤكد القطيعة بين المجتمع والنظام. لم يصبح من البديهي عند السوريين، على مختلف انتماءاتهم، موالين ومعارضين، أن الأسد غير معني بمصيرهم، ولا يهمّه سوى استئثاره بالسلطة، ورفض أي مشاركة فيها، مهما كان الثمن، وإنما ترسّخ الشك في أهلية الأسد للحكم وقدرته السياسية، بل في سلامته العقلية. وترسّخت القناعة بأن استمراره في هذا الحكم لا يُبقي للشعب أي أمل في المستقبل، ولا يمكن إلا أن يقود البلاد إلى مزيد من البؤس والدمار.

بعكس ما أراده الأسد، بدل أن يؤكد هذا الرفض قوة النظام وصلابته، أصابه بمقتل، فحطّم وهم الأسد القائد والملهم، وقضى على مصداقيته وقدرته على إدارة شؤون البلاد، وإخراجها من أزمتها التي تعمل منذ 13 عاماً، بسبب تعنّته ورفضه التعاون مع جميع الأطراف العربية والدولية، وتماهيه مع الحليف الإيراني الذي تحوّل إلى وصي على الحكم، وصاحب الكلمة الأولى في توجيه النظام. منذ ذلك الوقت، انكشف النظام، وأصبح عارياً لا مقدرة له على اتخاذ أي قرارٍ ينقذه من الهلاك، بل ببساطة واجهة لاحتلال إيراني استعماري جديد.  لقد انتهى الأسد سياسياً في عيون الجميع، وأعاد توحيد السوريين حول شعار إسقاطه الذي لن يتأخر الوقت قبل أن يصدح به ثوار السويداء والمدن السورية الأخرى التي تبعتها.

ثانياً، من هنا، فجّر الصراع على التسوية والحل السياسي أزمة النظام كما لم يحصل من قبل، وحرّك توازناتٍ ساكنة وغيّر مواقف، وأطلق آمالاً بمقدار ما أحبط من توقّعات. وانتقلت الأزمة من معسكر المعارضة، التي فتتتها الهزيمة، ودمّرت معنوياتها التدخلات والتلاعبات الأجنبية، إلى معسكر النظام. ودبّ التفكّك في “حلف الأقليات” الذي كان الأسد قد دعا إليه علناً لإطلاق آلة الحرب الأهلية، وتقسيم السوريين، وكسب دعم الدول الغربية وتواطؤها.

افتتحت انتفاضة السويداء الحراك الجديد، وسرت في موازاتها في مناطق الساحل ثورة صامتة لا تزال لم تجد تعبيراتها الكبرى بعد، وجاءت في أعقابهما انتفاضة شعب الجزيرة السورية ضد سلطة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي لا تختلف في أسلوب حكمها التسلطي القبلي عن أسلوب النظام. وهو في طريقه، أعني الحراك، للقضاء على الحواجز النفسية والأيديولوجية التي أقامها النظام لتشتيت إرادة التغيير التي أصبحت اليوم واحدة عند جميع السوريين. وهذا ما تعكسه استعادة شعار الثورة الرئيسي الذي خاض به السوريون مسيرات الاحتجاج الأولى: الشعب السوري واحد، وانفتح طريق المصالحة بمقدار ما اتّحدت كلمة السوريين، على أن المشكلة تكمن في نظام الاستبداد والقهر والفساد، وأن الحل لجميع مشكلات السوريين يبدأ من إسقاطه. وكان يكفي أن تخرج السويداء بشعار الشعب السوري واحد حتى تعيد إلى الذاكرة وإلى السوريين إرادة التحرّر التي سعى الأسد بكل الوسائل الوحشية لكسرها.

بل ليس من المبالغة القول إن الثورة هي منذ الآن بالدرجة الأولى ثورة “الأقليات” التي أدركت مدى ما تعرّضت له من خداع وكذب من النظام، مثلما سوف تدرك أنها لن تستطيع تحقيق شيء من مصالح أبنائها من دون التعاون والتفاعل مع الجماعات الأخرى، وتجاوز القطيعة التي عمل عليها النظام بين أكثرية “إسلامية” وأقلياتٍ مسالمة ضحية دائمة وحتمية لعدوانيّتها. ولا تستثني هذه الانتفاضة السياسية والفكرية العلويين الذين سعى النظام إلى تجييشهم ضد مواطنيهم، بل إنها تعنيهم بالدرجة الأولى، فهم اليوم الخاسر الأكبر من هذا الانهيار الوطني الذي يحتمي وراءه النظام، كما يحتمي المقاتل وراء الأنقاض التي تسبب هو ذاته في إنتاجها، فمن كان النظام يعدهم بقطف ثمار النصر في الحرب لقاء موالاتهم هم الذين أصبحوا الأكثر عرضة للفقر والجوع مع انهيار قيمة الرواتب الهزيلة التي يتقاضونها، وفيما وراء ذلك الأشد شعوراً بالخديعة والغدر من النظام. وهذا هو الشعور الذي يُشعل نار ثورة صامتة في تلك المناطق التي يكثر فيها تجنيد النظام جنوده ورجال أمنه وموظفيه، وهو ما يتجلّى عبر تسجيلات ومقالات شخصيات بصيرة وشجاعة أدركت نفاد حيل النظام، واقترابه من أجله المحتوم، ومصلحة مجتمعاتهم بالانفصال عنه قبل فوات الأوان.

هكذا لم تنطفئ شعلة ثورة آذار 2011، لكنها ولدت من جديد، وبشكل خاص، في الأوساط الاجتماعية التي عمل النظام المستحيل لإبعادها عنها وتقريبها منه منذ الأشهر الأولى بمقدار استعدائه لها على من أطلق عليهم اسم الأكثرية. ومن بين هذه الأوساط تلك الشرائح من المجتمع التي وجدت في سياسات الأسد، فيما وراء حدود الانتماءات المذهبية والطائفية والقومية، التعبير عن مصالحها الخاصة، وقاومت بشدة أي تغيير.

تشيع الانتفاضات الجديدة التي عبّرت عن الانهيار السياسي والمعنوي الحاصل لنظام الإبقاء على الوضع القائم الذي قام على أثر التدخل الروسي عام 2015، وانفجار أزمته مناخاً جديداً في المجتمع، ينحو به إلى تجاوز الشرخ الذي سعى النظام إلى تعميقه في السنوات السابقة بين الجماعات، وإلى التشجيع على الانفتاح المتبادل، والدعوة إلى التعدّد والتضامن والاتحاد، ما يذكّر بمناخ الأشهر الأولى من ثورة 2011. ويبدو ذلك كله التحاقاً متأخراً لبعض الجماعات الطائفية والقومية، بما فيها الموالون من الأكثرية السنّية، بالثورة الموقوفة أو المؤجّلة أكثر مما يشكل ثورة جديدة. إنها انتفاضات متأخّرة تكمل صورة الثورة وتستكملها بوصفها ثورة شعب ضد نظام دموي فاسد، وتنقض أطروحة النظام بكونها حرباً أهلية طائفية أو قومية، حتى لو أن حوادث كثيرة من هذا النوع قد رافقتها، كانت، في أكثر الأحيان، انعكاساً لسياسات النظام وخياراته الاستراتيجية المبنية على تعبئة الطوائف واحدتها ضد الأخرى.

ثالثاً، حقّقت هذه الانتفاضات إنجازين مهمّين: الأول، تعرية النظام سياسياً وجعله مكشوفاً للجميع على حقيقته بوصفه نظام عصابة، تعمل بالتواطؤ مع القوى الخارجية على ابتزاز شعبٍ جرّد من كل وسائل المقاومة المادية والسياسية والفكرية لتطويعه وقهره واستغلاله ونهب موارده. والثاني، إعادة توحيد هدف السوريين وتدشين حراكٍ يتجاوز حدود الطوائف والأقليات والأكثرية نحو إعادة بناء الوطنية والمواطنة الواحدة. وهي بهذا العمل أعادت الثورة إلى مجراها الطبيعي الأول: ثورة جميع السوريين ضد جميع الطفيليات من أمراء الحرب الكبار والصغار، بصرف النظر عن أصولهم ومذاهبهم وأجناسهم. هذا ما يفسّر خرس النظام، وتخبّط ردود أصحابه التي كادت تقتصر على تشبيح بعض أبواق النظام المخضرمين وسفاهاتهم.

ليس في جعبة نظام الأسد للردّ على التحدّيات الجديدة سوى خيارين: العودة إلى تقسيم الشعب من جديد باستخدام التفجيرات الطائفية المعهودة ذاتها، على أمل إعادة إيجاد مناخ الحرب الأهلية بأي ثمن، وهو خيار يمكن أن ينقلب عليه بسرعة اليوم. والثاني، ترك الأمور للزمن ومحاصرة بؤر الاحتجاج ومنع تواصلها حتى يمكن إنهاكها قبل أن تنجح في التواصل فيما بينها، وتشكيل تحدٍّ سياسي أو بديل سياسي موحد ومقنع للشعب السوري عموماً وللمجتمع الدولي. وعلى الأغلب، سيكون الرد بتفعيل الخيارين معاً: من جهة القيام بتفجيرات منتقاة لإعادة إشعال الحرب الطائفية، بما في ذلك إعادة تجنيد “داعش”، وشعار المؤامرة الكونية، مع التركيز على الخلافات والتباينات القومية والدينية والمناطقية، لخلط الأوراق. ومن جهة ثانية، حصار الانتفاضات في بؤرها في انتظار إنهاك المتظاهرين. لا يوجد شك في أننا نشهد الفصل الأخير من عهد الأسد الذي دخل نفقاً مظلماً، لن يستطيع الخروج سالماً منه.

ومع ذلك، لا ينبغي أن يغيب عن ذهننا أن ما نواجهه ليس الأسد وما يتّسم به من البؤس الأخلاقي والفكري والجهل السياسي، وإنما جهاز الحرس الثوري الإيراني الذي فرض وصايته على الأسد، وهو الذي يقود معركة استعمار أقطار ما أطلق عليه اسم الهلال الشيعي، والعمل على إدماجها في آلة الحرب والدبلوماسية الإيرانية، والمساومة عليها مع التحالفات الدولية الغربية والشرقية. وهذا الحرس هو الذي كان المنظّر والمخطط الرئيس للثورة المضادّة في سورية منذ 2011.

هذا يعني أن الانتصار على “الأسد/ طهران” ليس في الجيب، بالرغم من التحوّلات العميقة التي حصلت في الأشهر الماضية على مستوى تقارب أوضاع السوريين وتوحيد أهدافهم وسقوط أوهام كثيرة أضاعت بوصلتهم.

ما ينبغي تعزيزه والاستمرار في العمل عليه لاستباق سياسات التقويض المنهجي لمسار الانتفاضات الراهنة والقادمة هو تركيز النشطاء على محورين: داخلي يسعى إلى تعزيز التوجّهات المتنامية نحو التقارب والمصالحة الوطنية وتوسيع دائرة التواصل والحوار بين السوريين من كل الأطياف. ولا يوجد شك في أن انقلابا سياسيا في صفوف أبناء الساحل لملاقاة إخوتهم في جبل العرب وبقية المناطق هو وحده الذي يشكّل تحوّلا نوعيا يساعد على تجاوز العقبات الكبيرة أمام تحرّر السوريين، ويعبّد الطريق نحو ولادة النظام الوطني الجديد. وما يشجّع على هذا اللقاء ويستدعيه، في نظري، أن سلطة الأسد ونظامه لم يعودا يشكّلان سوى معولٍ في يد سلطات الاحتلال المتعدّدة، وأبرزها الاحتلال الإيراني المتعاظم الذي يسعى إلى تحويل سورية، كما حصل ولا يزال في العراق ولبنان، إلى مستعمرة بكل معنى الكلمة، بما يعنيه ذلك من انتزاع السيطرة على الأرض والدولة وموارد البلاد منهم، وتحويلهم جميعا إلى لاجئين داخل بلادهم وخارجها. وهذا يعني إن العمل في سبيل إسقاط نظام القهر والفساد هو اليوم في الجوهر، وبشكل أساسي، كفاح من أجل التحرّر من هذا الاحتلال الذي أصبح يستهدف تغيير معالم الدولة والمجتمع وتحطيم الهوية السورية. أما على المحور الخارجي، فإن المعركة المزدوجة والمريرة ضد نظام العبودية ونظام الاحتلال تستدعي من الحركة الوطنية السورية جهدا كبيرا واستثنائيا للخروج من العطالة والعزلة والبحث عن حلفاء جدد وإعادة التواصل والتفاعل مع الحكومات العربية الفاعلة ومع المجتمع الدولي، لدفعهما إلى التمسّك بالقرارات الدولية وتأكيد حق الشعب السوري في الاستقلال وتقرير مصيره، ليس تجاه نظامٍ أصبح أداة للاحتلالات الأجنبية فحسب، وإنما في مواجهة هذه الاحتلالات المتعدّدة ذاتها، وإلى التعاون مع هذه الدول والحكومات والحركات الصديقة لخلق الشروط الكفيلة بممارسة هذا الحقّ الذي يمكّن الدولة السورية من شغل مهامها بموازاة عودتها إلى أبنائها: دولة كل السوريين وعضوا فاعلا في جامعة الدول العربية والمجتمع الدولي. هذه هي اليوم مهمّة جميع السوريين الوطنيين، بصرف النظر عن انتماءاتهم ومظلومياتهم وانقساماتهم السابقة والقائمة إذا أرادوا أن تكون لهم دولة ملكهم، سيدة وواحدة، وكي لا يتحوّلوا إلى لاجئين داخل وطنهم وخارجه. ولن يتحقّق ذلك ما لم يظهر السوريون على مختلف انتماءاتهم وولاءاتهم أنهم قادرون على العمل معا وفي سبيل هدف واحد يجمع بينهم، لا الجري، كما حصل في السنوات السابقة، كل على حده وراء أهدافهم الخاصّة والمتضاربة.

العربي الجديد

———————————-

انتفاضة السويداء ومسألة النموذج/ عمار ديوب

انتقلت الانتفاضة في محافظة السويداء سريعاً إلى إسقاط النظام. لم يمض على بدايتها أسبوعاً حتى أَغلقت أبنية حزب السلطة في بلداتها كافة، وحدّدت ساعات معيّنة للعمل في مؤسّسات الدولة. وامتدت الانتفاضة إلى أغلبية بلداتها وقراها؛ وبالتالي، فرضت سلطتها الكاملة، ولم يعُد للنظام إلّا بعض الدوائر، ولكنها تعمل بإشراف لجان الانتفاضة؛ حتى الدوائر الأمنية والعسكرية أصبحت في حالة عطالة كاملة، وقد تنسحب في الأسابيع المقبلة.

عمّت انتفاضة السويداء، وهي تتوقّع الانتقال إلى بقية المحافظات، حيث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية منهارة أيضاً، والسلطة في حالة عزلةٍ إقليمية ودولية، وليس من تغييرٍ لهذا الواقع. تعثّرت الانتقالة إلى مناطق سيطرة النظام، وتحديداً في الساحل؛ فإذا تعامل بلينٍ مع السويداء، فقد تشدّد أمنيّاً مع نشطاء الساحل واعتقل بعضهم، وأطلق النار في درعا وفي حلب، وراح شبّيحته يستعرضون القوّة والطغيان عبر مسيرةٍ هزيلةٍ وهزلية بسياراتهم الفارهة.

عدم تمدّد الانتفاضة سيسمح للنظام بوضع الخطط لتركيع المحافظة من جديد. صحيح أنّه في حالة ضعفٍ شديدةٍ، ولكن عدم حدوث الانتفاضات في بقية المدن سيتيح له الاستفراد بها، ولن يعدم وسائل كثيرة من الضغط، بعد اللين؛ وقد بدأ عبر تقسيم مشيخة العقل بين مؤيدٍ للثورة، وهو الشيخ حكمت الهجري، ومؤيدٍ للنظام هو يوسف جربوع، والثالث بين بين، الشيخ حمود الحناوي، وللثلاثة أنصار، وإن راحت كتلة جربوع تتراجع بشدةٍ.

تبدو المحافظة بحالة إشكالية؛ فهي لن تتراجع عن انتفاضتها، ولكنها قد تختنق اقتصادياً، وفي حال لم يَستخدم النظام الخيار العسكري لن تتورّط هي بالاندفاع نحوه. ولكن، وفي حالة التورّط، ستتحول الانتفاضة، حينها، إلى مسلّحة، ليس في السويداء فقط، بل في أيّة أمكنة، يوجد فيها أفراد من الطائفة الدرزية، وحينها ستمتدّ الانتفاضة إلى جرمانا ومنطقة حضر وصحنايا والأشرفية في أرياف دمشق؛ حينها أيضاً، ستُستثمر كل الرموز الخاصة لهذه الطائفة، لتحشيد القوّة ضد النظام.

يعي النظام جيداً خطورة هذا الخيار ومآلاته، ولكن عنجهيّته، ومعه إيران وحزب الله، قد تورّطهم، وحينها فعلاً سيسقُط لا محالة، سيما أن خطاب الانتفاضة وطنيّ وليس ضد العلويين، ولا ضد أيّة طائفة، وهذا سيدفع بكتلٍ سكانيةٍ كبيرة لحسم الصراع، وإنهاء السلطة.

ستظهر المشكلات إن انحصرت الانتفاضة في السويداء، ولم تمتد بشكلٍ فاعلٍ إلى درعا مثلاً، أو أرياف دمشق والقلمون، أو حمص، وبالطبع إلى مدن الساحل. وقد دفعت الخشية من ذلك الانحصار أكثرية البيانات الصادرة عن الانتفاضة إلى التأكيد على ضرورة فتح معبر مع الأردن، حيث سيكون بمثابة الرئة لهذه المحافظة الحدودية، وهو ما رفضه النظام منذ عقودٍ.

يَتهم النظام المحافظة بالانفصال، وهو ما رفضته أغلبية الفعاليات، بما فيها الهجري، والتهمة هذه جاءت بسبب وجود بعض المجموعات فيها، تؤكّد ضرورة انخراط المحافظة في تحالفٍ مع التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو طلب تشكيل منطقة آمنة، تمنع النظام من الاستفراد بها، أو إراقة الدماء.

تجاوزت المحافظة التهمة الطائفية، وتشدّدت في الخطاب الوطني، ولم تنتقد النظام وفقاً لممارساتٍ طائفيةٍ من بعض أجهزته أو شخصياته، بل انتقدته، كنظامٍ استبدادي عائلي إفقاري؛ ففي وقتٍ تؤكد فيه على إسقاطه، لم تتجاهل المطالب الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وضرورة الانتقال إلى نظام ديمقراطيٍّ مواطني، يتمثّل فيه جميع السوريين، ويحقّق مصالحهم.

لأسبابٍ كثيرة، لا تبدو المحافظة في وارد التفكير للعودة إلى “الانتماء” للنظام. وهي، في الحقيقة، لم تكن تحت معطفه منذ 2011. ولكن، ومع إشارتنا إلى بعض المشكلات، وتميّز خطاب الانتفاضة بشكلٍ حاسمٍ لجهة عدم تكرار مشكلات الثورة ما بعد 2011، فإن مسألة تشكيل نموذج جاذب لبقية السوريين للثورة، مطروحة بقوة، سيما بعد فشل بقية النماذج، قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهيئة تحرير الشام، والفصائل، وبالتأكيد النظام. وتأتي أهمية النموذج، في حال تعثّر انتقالها، ومحاصرة النظام المحافظة؛ الأيام الأولى للانتفاضة، تقول بقدرتها على تشكيله، حيث التأكيد على الشعارات التي استقرّت عليها الثورة، أي إسقاط النظام وتشكيل دولة لكل السوريين، يعتمد نظامها السياسي الديمقراطية المواطنية، ومحاسبة المجرمين وتطبيق العدالة الانتقالية، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، مدخلا للانتقال نحو المرحلة الانتقالية، وتشكيل هيئة حكم جديدة، لها كامل الصلاحيات، ورفض الاحتلالات، وإلغاء كل الاتفاقيات مع روسيا وإيران.

وعكس المنظور الطائفي أو دعاته أو من لا يرى المدينة إلّا درزية، السويداء ذاهبة نحو “الاستقلال وليس الانفصال”. ورغم دعاية النظام أنها ساعية نحو التقسيم ومدعومة من إسرائيل، ومن هذه التهم المستهلكة والبائتة؛ فإنّها ساعية إلى أن تكون نموذجاً لبقية السوريات والسوريين. إضافة إلى هذا، رفضت المدينة أيّ أشكالٍ من الدعم الخارجي، ورفضت الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ولا يبدو أنها ستقبل الخضوع أيِّ خضوعٍ ولأيِّ طرفٍ دولي؛ هي تتجه إلى تأسيس مجلس محلي وقوة عسكرية وأمنية منظمة، وهيئات متعدّدة للاستشارات وفي مختلف الاختصاصات، وأيضاً إطلاق ميثاق وطني لكل السوريين، باعتبارهم متساوين ولا تمييز بينهم عرقياً أو دينياً أو سياسياً، والعدالة الاجتماعية للجميع، وشكل النظام السياسي الديمقراطية المواطنية، وبالتالي، إدارة شؤون المدينة، بما يؤمّن احتياجاتها ويمنع الفوضى فيها.

لنفترض أن السويداء فقط خرجت عن سيطرة النظام، ولأسبابٍ داخلية ودولية لن يستطيع مواجهتها عسكرياً، حيث ذكرتُ أن المحافظة ستُسقِط النظام فوراً، إذا اعتمد الخيار العسكري. وسيكون، انهيار الأوضاع الاقتصادية ورغبة أغلبية السوريين بالتغيير السياسي، عاملاً مساعداً في معركة الإسقاط. وهناك عامل جديد، يبدو أنّه سيلعب دوراً مؤثّراً في إضعاف النظام المتهالك أكثر فأكثر، وهو إعادة انتشار القوات الأميركية في العراق وسورية، ونشر قوات عراقية وسورية على جانبي الحدود بما يقطع طريق إيران وعبر سورية “البوكمال” وإلى لبنان، وسيؤدّي هذا إلى إضعاف المليشيات الإيرانية في كامل المنطقة، وبالتالي، لن تتمكّن من مؤازرة النظام.

سيساعد هذا العامل، موضوعياً، الانتفاضة، وربما انتقالها إلى مناطق جديدة. إذاً، هناك وقائع، وممكنات كثيرة، تؤكّد أن النظام وصل إلى نهايته، وربما تكون انتفاضة السويداء درّة تاج الثورة السورية قبل البدء بالمرحلة الانتقالية. إذاً، النظام أمام خياراتٍ صعبة، إمّا الموافقة على تطبيق القرار 2254، أو دفع البلاد نحو الفوضى، وهذا أحد الخيارات الممكنة، ولكن أيضاً، قد يدفع ضعف النظام نحو انقلابٍ عسكريٍّ من داخله، للقفز من تبعات إسقاطه عبر توسّع الانتفاضة. كل الخيارات والوقائع تقود إلى ضرورة رحيل السلطة، حلّا للأزمة.

العربي الجديد

—————————–

طلاب السلطة وطلاب الحرية والكرامة/ بكر صدقي

دخلت انتفاضة السويداء البطولية أسبوعها الرابع، ولم تلتحق بها مناطق أخرى إلى الآن، إذا استثنينا محافظة درعا المجاورة، ومحاولات متفرقة في مدن أخرى تم قمعها بسرعة. فالنظام يحاول تطويق انتفاضة السويداء ومنع انتشارها، بعدما وجد نفسه عاجزا أمام استمرارها، ومقيّدا في خياراته القمعية، في مسعى منه لإظهارها كحراك يخص الدروز وحدهم.

تشير الأخبار الواردة من مدن أخرى إلى حضور أمني كثيف واعتقالات لمن يشتبه بأنهم قد يقومون بأنشطة معارضة، وبخاصة في مدن الساحل التي ظهر منها أفراد على وسائل التواصل الاجتماعي يدعون علنا إلى تنحي رأس النظام.

إذا نظرنا إلى الدروز كجماعة أهلية متماسكة، في إطار تصور طائفي للاجتماع السوري، وهذا هو تصور النظام والجماعات الإسلامية، فسوف نستغرب مغامرتهم الخطيرة في إعلان القطيعة التامة مع النظام، فهم جماعة صغيرة قياسا للجماعات الأخرى، ولا طموحات لديها للاستئثار بالسلطة على كل سوريا. كذلك لا يسمح حجم المحافظة ولا كثافتها السكانية ولا مواردها بأي تفكير في حكم ذاتي أو انفصال على ما تحاول أبواق النظام اتهامهم بين اتهامات أخرى أكثر تهافتا بعد. وعلى أي حال كان تاريخ هذه الجماعة هو تاريخ التمسك بالانتماء الوطني السوري، وما زال هذا المزاج الوطني هو السائد في الحراك الحالي أيضا.

لا ينبع الاستغراب، في إطار التصور المشار إليه، من خروج المظاهرات بحد ذاتها، فشروط الحياة لم تعد قابلة للتحمل في كل المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وتلك الخارجة عن سيطرته أيضا، كما أنها ليست المرة الأولى التي يخرج فيها أهالي السويداء في مظاهرات احتجاجية. إن ما قد يثير الاستغراب هو رفع شعار إسقاط النظام منذ اليوم الأول للحراك، وكل الشعارات التي ميّزت المرحلة السلمية من ثورة 2011، ومنها شعار «الشعب السوري واحد» في توكيد متجدد على وطنية الانتفاضة ونفي الطابع الفئوي عنها، ونوع من إعلان الانتماء إلى تلك الثورة المهزومة، وإعادة إحياء لها.

أريد القول مما سبق إن انتفاضة السويداء ثورية تحررية لأنها ليست طالبة سلطة، بل تناضل من أجل الحرية والكرامة، وليس شعار إسقاط النظام غير تعبير عن إرادة التغيير إلى نظام سياسي تحترم فيها السلطة مواطنيها وتحسب لهم حسابا في سياساتها وقراراتها وإجراءاتها، وتكون خاضعة لإرادة الناخبين ولمحاسبتهم، ويمكن عزلها واستبدالها بغيرها بوسائل دستورية.

والحال أن الأكثرية الساحقة من ثوار الأشهر الأولى في ثورة 2011 أرادوا تحقيق الهدف نفسه، أي إسقاط النظام الدكتاتوري الوراثي الشمولي لإقامة نظام جمهوري ديمقراطي يقوم على شرعية دستورية، يحترم فيه القانون الذي يتساوى أمامه جميع المواطنين. هذا ما كان المضمون السياسي للحرية التي طالب بها المتظاهرون، ولم يكونوا أبدأ طالبي سلطة، أي طامحين للحلول محل السلطة القائمة. أما شعار الكرامة فلم يعن المطالبة بها، بل باحترامها ـ فهي موجودة ـ من قبل السلطة التي دأبت في كل ممارساتها على احتقار المحكومين ومعاملتهم كعبيد، وقبل كل شيء بتحويل النظام الجمهوري إلى وراثي. فالتوريث بذاته كان إهانة لكرامة السوريين، حتى إذا لم نحسب تغول أجهزة المخابرات التي تحصي على الناس أنفاسهم وتعاملهم كموضوع للقمع والامتهان والابتزاز.

مقابل طلاب الحرية والكرامة هؤلاء كان هناك طلاب سلطة، أعني الأحزاب والحركات السياسية والمجموعات المسلحة وأفراد طموحين أرادوا الاستقواء بالثورة للظفر بالسلطة السياسية. هذا حق مشروع بطبيعة الحال، ففي الأنظمة الديمقراطية تتنافس الأحزاب والشخصيات السياسية للفوز بالسلطة من خلال إقناع الناخبين ببرامجهم ووعودهم ورؤاهم المستقبلية. لكن هذا الحق المشروع يتحول إلى انتهازية صرفة حين ينسى الساعون إلى السلطة مصدر قوتهم وشرعيتهم، وفي حالتنا الشعب وثورته، فينفصلون عن الناس ويتركز اهتمامهم على مصالحهم الضيقة وعلاقاتهم بالدول الأخرى كما هي حال «الائتلاف الوطني» وغيره من الأجسام السياسية، وفي حالات أخرى يستأثرون بالسلطة وامتيازاتها ويتعاملون مع السكان بنفس الطريقة الاستعمارية التي دأب نظام الأسد على التعامل وفقها. هذه هي مثلا حال سلطات الأمر الواقع في الدويلات السورية القائمة في مناطق خارج سيطرة نظام الأسد. وما زال هؤلاء وأولئك يعتبرون أنفسهم حاملي لواء «الثورة»! فـ»ثورة» الإسلاميين أدت إلى تحكم جماعات مسلحة تعامل محكوميها كعبيد. أما في منطقة إدلب التي تحكمها «هيئة تحرير الشام» بقيادة الجولاني فالأمر بات أكثر وضوحا حين تحدث الرجل علنا عن «إقامة إمارة سنية» لكنه لم يكف، مع ذلك، عن ذكر كلمة «الثورة» أما لدى «الإدارة الذاتية» في الشمال الشرقي فهي «ثورة روجافا»! والحال أن كلمة الثورة التي تم تصنيمها في البيئات المعارضة وجعلها معيارا للمقبولية السياسية، مع ضبابية مضمونها وقابليته لمختلف أشكال الإدراك، تخدم أصحاب السلطات أو الطامحين إليها، تماما كما خدمت مفاهيم المقاومة والممانعة نظام الأسد.

نحن إذن أمام عملين سياسيين مختلفين، وإن كان المشترك بينهما مناخ الثورة: الأول هو النضال الثوري التحرري لملايين السوريين الذين هتفوا للحرية وإسقاط نظام لا يحترم كرامتهم، في 2011 كما اليوم في السويداء ودرعا، والثاني هو الطبقة السياسية التي تنقسم إلى نظام بشار المسيطر بقوة حلفائه الروس والإيرانيين، والمعارضة المنظمة التي تطمح إلى الحلول محل السلطة القائمة، مع تغييرات في نظام الحكم، نحو نظام إسلامي عند البعض وديمقراطي عند آخرين، وفيدرالي عند «مجلس سوريا الديمقراطية». اختبر الأول في «الدولة الإسلامية» البائدة، وفي إدلب ومناطق «الجيش الوطني» الواقعة تحت السيطرة التركية؛ واختبرت «الإدارة الذاتية» في شمال شرق سوريا، كما اختبرت «ديمقراطية» الائتلاف خلال سنوات استئثارها بـ«التمثيل» السياسي للثورة.

جميع هذه التجارب المعنية بالصراع على السلطة، لا علاقة لها بثورة الحرية التي أطلقها السوريون في 2011، ويستأنفونها اليوم في السويداء وهي كامنة في صدور ملايين السوريين في المناطق الأخرى وفي المهاجر.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————

الحراك الاحتجاجي في سورية… هل بدأ يتشكّل إجماعٌ وطني على التغيير؟

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مع التدهور المتسارع للاقتصاد السوري، واتخاذ النظام جملة من الإجراءات الهادفة إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية، وعلى رأسها المحروقات، والمضي في سياسة تحرير الاقتصاد، تفجّرت احتجاجات شعبية غاضبة في محافظة السويداء، جنوب سورية، وراوحت فيها الشعارات المرفوعة بين رفض القرارات الاقتصادية الأخيرة والدعوة إلى تنحّي رئيس النظام السوري بشار الأسد. وقد شهدت محافظات دير الزور، ودرعا، والقنيطرة، وريف دمشق، وحلب، واللاذقية احتجاجات مماثلة، على نطاق أضيق، فضلًا عن حالة تململ واضحة بين السكان. وقد رفع المحتجون في السويداء ودرعا ودير الزور شعاراتٍ مماثلة لشعارات ثورة 2011، إلا أنهم حمَّلوا منذ اليوم الأول الأسد وعائلته المسؤولية الكاملة عن معاناتهم وعن المصير الذي آلت إليه البلاد. وعلى الرغم من أن النظام كان واعيًا لأثر قراراته الاقتصادية في المستوى المعيشي لعموم السكان، والذي تدهور على نحو كبير خلال السنوات الأخيرة، فإنه قرّر المضي فيها، نظرًا إلى الضغوط الكبيرة التي يواجهها مع تلاشي الموارد ونفاد احتياطات الخزينة العامة.

خيبة الأمل في نتائج التطبيع العربي

أدّت النتائج المتواضعة للانفتاح العربي على النظام، وعودته إلى شغل مقعد سورية في جامعة الدول العربية، إلى خيبة أمل كبيرة بين عموم السكان الواقعين تحت سيطرته، بما في ذلك المؤيدون، الذين توقعوا أن تترافق علاقات النظام العربية مع انفراج الوضع الاقتصادي خصوصًا بعد القمة العربية التي احتضنتها جدة في أيار/ مايو 2023، لكن سلوك النظام الذي ترجم رغبة بعض الدول العربية في تطبيع علاقاتها معه على أنها “نصر”، تحقّق بشروطه، ورفضه تقديم أي تنازلاتٍ تساعد في إنجاح مسعى التقارب العربي معه، انتهى إلى مجرّد توقّع المعونات، والخيبة من عدم وصولها. وقد أدّت عدم جدّية النظام في التعامل مع المبادرة العربية، وتعامله باستخفاف مع مطالبها، مثل ضبط صناعة المخدّرات وتهريبها وإعادة ألف لاجئ سوري من الأردن، ورفضه التعامل بإيجابية مع الأمم المتحدة في قضية المعابر ودخول المساعدات الإنسانية، أدّى ذلك كله إلى مراجعة بعض الدول العربية علاقتها الدبلوماسية معه أو تجميدها. وقد انعكس ذلك بوضوح على الوضع الاقتصادي الذي أخذ يتدهور بسرعة، فانهار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وبلغ التضخّم مستوياتٍ قياسيةً خلال الشهور الثلاثة الماضية؛ إذ بات أغلب السكان عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء.

وساء الوضع أكثر مع توجّه الحكومة إلى رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، مثل المحروقات، لتمويل زيادة الرواتب التي باتت قيمتها تراوح بين 10 و15 دولار شهريًا للموظف الحكومي. وبناء عليه، ازداد التذمّر من اعتماد الحكومة سياسات “الجابي” مع عموم السكان وجامع “الإتاوات” مع التجار ورجال الأعمال لتوفير التمويل الضروري لاستمرار عمل الحكومة. وكان لافتًا أن احتجاجات السويداء جاءت بعد أيام من فشل اجتماع لجنة الاتصال العربية الموكلة بمعالجة ظروف الانفتاح العربي على سورية في القاهرة، تعبيرًا عن مدى خيبة الأمل في تعامل النظام مع التوجه العربي لحل الأزمة، وانسداد الأفق أمام أي تغيير في الوضع القائم.

النقمة على سياسات النظام الاقتصادية

نتيجة توقّف كل قطاعات الإنتاج الرئيسة بعد سنواتٍ من الحرب، ثم توقف اقتصاد الحرب ذاته، وتقلص المساعدات الخارجية التي كان النظام يتلقّاها من حلفائه، تسارع انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي في السوق الموازي، خلال الشهور الأخيرة، فقد بلغ 7,500 ليرة سورية أمام الدولار في 19 نيسان/ أبريل 2023، ووصل إلى 10,350 ليرة في 15 تموز/ يوليو 2023، ثم بلغ 14,750 ليرة في 28 آب/ أغسطس 2023، وعلى هذا، فقدت الليرة السورية خلال أربعة شهور 50% من قيمتها. وقد جاء مسار الليرة التراجعي معاكسًا مسار الانفتاح العربي على النظام، بدءًا من موافقة السعودية على إعادة فتح السفارات بين البلدين، وصولًا إلى استعادة النظام مقعد سورية في جامعة الدول العربية، وانتهاء بحضور الأسد قمّة جدّة العربية.

اعتمد النظام السوري خلال السنوات الماضية سياسة مالية متشدّدة، هدفها ضبط حركة السيولة النقدية داخل البلاد، لمنع تدهور العملة المحلية على نحو حادّ، عن طريق تقليص حجم السحوبات من الحسابات البنكية أو منع نقل الليرة السورية بين المحافظات مباشرة، أو عبر الحوالات بكميات كبيرة. كما سعى إلى حصر عمليات بيع العقارات والسيارات وشرائها من خلال المصارف، نظرًا إلى السيولة الكبيرة التي يتطلّبها إجراء هذه المعاملات، كما حدّ من استيراد السلع من الخارج، وصمم آلية صارمة لمنح رخص الاستيراد. وقد اتبع هذه السياسة ابتداءً من نهاية عام 2019، تحت ضغط الأزمة المصرفية في لبنان، وضياع مليارات الدولارات من الودائع السورية في المصارف اللبنانية. وقد تعمقت هذه السياسة بعد صدور قانون قيصر عام 2020 الذي فرض عقوباتٍ أميركية قاسية على النظام وعلى من يخرقها. وعلى الرغم من نجاح هذه السياسة، إلى حد ما، في منع انهيار العملة السورية، فإنها أدت إلى تجميد الحركة الاقتصادية في البلاد.

ونتيجة تناقص موارده، اتّبع النظام سياسات “جباية” و”سطو” على أموال كبار التجار ورجال الأعمال، نفّذها ما يسمى “المكتب السرّي” في القصر الجمهوري، بالتنسيق مع الفرع الداخلي التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وشملت هذه السياسات رجال أعمال ظلّوا سنوات مرتبطين بالنظام وشبكاته الزبائنية، مثل رامي مخلوف، ومحمد حمشو، وحسام قاطرجي، وخضر طاهر (المعروف بأبي علي خضر). وجرى تعميم هذه السياسة لاحقًا على بقية التّجار مع ازدياد الحاجة إلى السيولة، ووصلت حتى إلى أصحاب الشركات الخاصة المتوسطة؛ ما اضطرّ عديدين منهم إلى إغلاق أعمالهم ومغادرة البلاد. وقد أدّى مجلس اقتصادي يعمل داخل القصر الرئاسي، تترأسّه أسماء، زوجة بشار الأسد، دورًا مهمًا في إدارة هذه السياسات الاقتصادية؛ ما أثار ردود فعل غاضبة بين السوريين، خصوصًا في المناطق المعروفة بتأييدها للنظام.

ونتيجة للزلزال الذي ضرب شمال سورية في شباط/ فبراير 2023، اضطرّ النظام إلى التراجع عن السياسات المالية والنقدية المتشدّدة، نظرًا إلى حالة الركود التي أصابت الاقتصاد السوري حتى قبل الزلزال، وتفاقمت بعده، حيث رفع النظام الكثير من القيود المالية على حركة النقد داخل البلاد. ونتيجة العوائد الاقتصادية المحدودة لسياسة الانفتاح العربية، وتنامي الضغوط الإيرانية لاسترداد الديون المترتبة على النظام، وتنفيذ الاتفاقات الموقعة معه، اضطر إلى تيسير الاقتراض ومنح المزيد من التسهيلات الائتمانية لرجال الأعمال لتحريك عجلة الاقتصاد، كما لجأ إلى سياسة التمويل بالعجز، ورفع الدعم عن المحروقات لزيادة رواتب موظفي القطاع العام، بالتوازي مع مساعيه لرفع القيود المالية وتنشيط الصناعة المحلية، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة الاستيراد، واستنزاف القطع الأجنبي. كما اتجه إلى إلغاء المراسيم التشريعية القاضية بتجريم التعامل بغير العملة السورية، التي صدرت عام 2020، وذلك بسبب حاجته الماسة إلى العملة الصعبة. وجاء الإعلان عن هذه السياسة الجديدة، خلال جلسة طارئة لمجلس الشعب دعت إليها الحكومة في 24 تموز/ يوليو لمناقشة الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي.

تفجّر الاحتجاجات

أدّت السرعة التي نفذ بها النظام إجراءات التيسير الكمّي ورفع الدعم عن سلع أساسية، إلى تدهور سريع للوضع الاقتصادي، ونتيجة لذلك تصاعد الغضب الشعبي الذي عبّر عن نفسه بوضوح في محافظة اللاذقية، وغيرها من مناطق الساحل، حيث صدرت أولى الانتقادات للأوضاع المعيشية المتردّية من داخل حاضنة النظام تحديدًا، وركّزت على دور عقيلة الرئيس في إدارة اقتصاد البلاد. واعتبارًا من 20 آب/ أغسطس، تحوّلت محافظة السويداء إلى مركز للاحتجاجات المطلبية، وسرعان ما رفعت مطالب سياسية، وذلك إثر نجاح النشطاء في فرض إضرابٍ عام في المحافظة، مقدّمةً نموذجًا مشرقًا لمشاركة النساء في المظاهرات الشعبية إلى جانب الرجال.

تباينت الاحتجاجات الحالية عن الاحتجاجات السابقة التي شهدتها السويداء في عامي 2018 و2020 من جهتين: الأولى اتساع نطاقها، وانخراط مختلف الفئات والقوى الاجتماعية فيها، بمن فيهم مشايخ العقل، الزعماء الدينيون للطائفة الدرزية، الذين درجوا على تبنّي مواقف محايدة من الصراع أو مؤيدة للنظام ومواقفه، ساعدت سابقًا في تهدئة الفئات المحتجّة. والثانية تركيز الاحتجاجات انتقاداتها على شخص رئيس النظام وزوجته. وقد لوحظ أيضًا غياب الدور الروسي الذي درج على التدخل وسيطًا بين النظام وقيادات الحركة الاحتجاجية في السويداء.

حتى الآن اكتفى النظام في تعامله مع احتجاجات السويداء بالتلويح باستخدام القوة، والتحريض على المحتجّين بذرائع الطائفية والعمالة والخيانة، كما أرسل المحافظ للتفاوض مع الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل. جاء هذا التعامل اللين؛ لأن النظام يخشى المسّ بصورته التي دأب على رسمها بوصفه حامي الأقليات الدينية، بخلاف تعامله مع محافظاتٍ أخرى شهدت احتجاجات مماثلة مثل درعا، حيث سجلت حوادث إطلاق نار، كما أبدت أجهزة الأمن السورية استعدادًا واضحًا لقمع أي مظاهرة في المحافظات الأخرى. وفي اللاذقية، كثف النظام مساعيه لكشف مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها “حركة 10 آب”، وسعى إلى عزل الأصوات المنتقدة، عبر التهديد والاعتقال، واستثارة مخاوف العلويين من عودة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وغيرها من التنظيمات المتطرّفة، لإسكات الأصوات المعارضة واحتواء أي دعوة إلى الاحتجاج والتمرّد.

خاتمة

على الرغم من أن النظام لن يتردّد في استخدام العنف، إذا اضطر، حتى ضد قاعدة دعمه التي قاتل بها، إلا أن هذا الخيار لن يكون اللجوء إليه سهلًا، خوفًا من حصول تصدّعات داخل نواة النظام الصلبة، كما أنه غير قادر على تقديم حلول اقتصادية وتلبية مطالب المحتجّين، أو شراء سكوتهم في ظل محدودية موارده، ووصول التطبيع مع العرب إلى طريقٍ مسدودة، وعجز إيران وروسيا عن تقديم المساعدة. وبناء عليه، تبدو خيارات النظام محدودةً في التعامل مع الاحتجاجات المتنامية التي لم تعد محصورةً في المناطق المعروفة بمعارضتها له، مثل درعا ودير الزور وغيرهما، بل باتت تحصل في مناطق كانت محايدة (مثل السويداء) أو تمثل معاقل رئيسة لدعمه (مثل منطقة الساحل التي تضم محافظتي اللاذقية وطرطوس). وأكثر ما يقضّ مضجع النظام هو بداية تشكل إجماع وطني بين السوريين على ضرورة التغيير ورحيله، مع تحميله مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها البلاد.

في بداية الثورة، نجح النظام في تعميق الانقسام بين السوريين على أسس سياسية وطائفية، من خلال تقديم نفسه حامي الأقليات، مستفيدًا من فشل المعارضة في تقديم رؤية واضحة للتغيير، وصعود تيارات متطرّفة. لكن بدا أن السوريين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق يرون أن التغيير ضرورة، وأن مصلحتهم فيه مباشرة، بعد أن وحّدهم الفقر والجوع وانعدام الأمن، وبعد أن سقطت أطروحة أن النظام انتصر، وأن الوضع قابل للاستمرار، من دون الحاجة إلى حلّ سياسي، ومن دون تقديم تنازلاتٍ يحاول النظام جهده تجنّبها، لأنه يرى فيها نهايته.

وما زالت الحاجة ملحّة إلى تقديم نماذج أكثر تمثيلًا للمجتمع السوري في مناطق المعارضة التي لم تقدّم بديلًا جذابًا، وإلى حوارات تهدف إلى استعادة الثقة واللُّحمة بين جميع أطياف المجتمع السوري، وإلى قيادة سياسية منفتحة على جميع هذه الأطياف.

——————————-

حرمان النظام السوري عدوَّه “السُّني”/ مضر رياض الدبس

مرّةً في عام 1989، عندما كان الاتحاد السوفييتي ينهار، قال ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف، مخاطبًا الغرب: “نحن نقدّم إليكم شيئًا فظيعًا بأن نحرمكم العدو”. وقد كان أرباتوف ذكيًّا بحقّ، حين اهتدى إلى شيءٍ يشبه الكارثة المرعبة التي قد تنزل بدولةٍ مثل الولايات المتحدة، إذا أصبحت من دون عدو أيديولوجي. مرعبةٌ وصولًا إلى إمكانية تهديد وجود أميركا بوصفها قوةً عظمى؛ فكيف تحافظ الولايات المتحدة على بنيتها المتماسكة، والمتحفّزة دائمًا، وقد اندثر عدوها الأيديولوجي؟! هذا التساؤل هو خلاصة لفتة أرباتوف المُدهشة، وقد نقول اليوم إن أرباتوف كان مُحقًّا، فقد بدت الولايات المتحدة، بعد ذلك، وكأنها تجتهد في صناعة عدو أيديولوجي جديد، وكأن هذه الصناعة صارت مهمّةَ أمنٍ قومي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؛ فصارت لدينا سردياتٌ عملت أميركا على حضورها وتسويق خطورتها مثل سردية “الإرهاب”، و”الإرهاب الإسلامي” وما إلى ذلك. إذًا، ليس الحرمان من العدو سهلًا دائمًا، ولا تكون تبعاته على المنتصر جيدةً دائمًا. وبالضرورة، يحفّز هذا الحرمانُ المحرومَ على الابتكار، ولكن ليس على ابتكارٍ من النوع العادي، بل ابتكار عدوٍّ يساعده في تسويغ القيام بما اعتاد المحروم القيام به دائمًا، وتسويغ مكتسباته، بل تسويغ وجوده كله أحيانًا. نخرج من هذا التقديم المُطوّل بالقول إن الحرمان من العدو يُربك المحروم، وإنْ كان يبدو مُنتصرًا. ويبدو أن نظرية خطورة الحرمان من العدو قد تعمل دوليًا بطريقة أميركا بعد أن “خسرت” الاتحاد السوفييتي، ولكن على المستوى الداخلي، ثمّة درسٌ معاكس؛ فلا يمكن أن يُبنى المجتمع السياسي داخليًا إلا إذا تدرّبت المجتمعات الفرعية على التلاؤم الإيجابي مع فكرة الحرمان من العدو، فالدولة من هذا الباب تأقلمٌ على تعريف الذات بدلالة ذاتها، لا بدلالة عدوّها؛ فالعلماني لا يحتاج إلى عداء الإسلام ليجد ذاته، وكذلك لا يحتاج الإسلامي إلى عداء الليبرالي أو العلماني ليكتمل إيمانُه، ولا يحتاج الكردي إلى مظلوميّته ليُعرِّف ذاتَه، ولا ينبغي أن يلجأ الدرزي أو المسيحي أو العلوي إلى كلمة “الأقلية” لكي يُموضِع نفسه وطنيًّا (أي بدلالة الأكثرية). هذا النوع من التلاؤم الإيجابي هو نوعٌ من المرونة اللازمة للحياة من دون عدوّ، ويبدو أن هذه المرونة مدخلُ المجتمع المدني السوري الأكثر إمكانيةً في ضوء الراهن.

نستخدم نتيجة هذا التقديم في بناء مقاربةٍ لأهمية ما يحدُث في السويداء هذه الأيام؛ فالمُختلف في تظاهراتهم هذه المرّة هو توافر التلاؤم الإيجابي: أي إن السويداء موجودةٌ بذاتها، ولا تحتاج إلى عدوٍ لتثبت وجودها، لا عدوٍ قبلي، ولا طائفي، ولا غير ذلك، بل كل ما تحتاج إليه اندماجٌ وطني من البوابة المدينية التي فتحتها التظاهرات أخيرًا. وقد نقول، وإنْ بحذرٍ، إن السويداء تتقدّم إلى الوطنيّة السورية بدلالة ذاتها للمرّة الأولى منذ عام 1925، ذلك لأن السويداء، منذ الاستقلال إلى ما قبل هذه التظاهرات بيومٍ واحد، كانت تبني أهم مداخلها إلى الوطنية السورية استنادًا إلى عدائها الاستعمار الفرنسي، وبدلالة بطولة أبنائها في الثورة السورية الكبرى وتضحياتهم. ويمكن القول، وإن بشيءٍ من التعميم، إن السويداء قد احتمت دائمًا بهذه الهوية الثورية، التي يمتزج فيها الفخر بالخبر، واستخدمتها مدخلًا إلى الوطنيّة؛ ولكن السويداء اليوم مختلفة، فهي تُقدم ذاتَها بدلالة الحاضر والمستقبل، وهذا مهمٌ جدًا، وجديدٌ، وإنجازٌ رائعٌ يُبنى الكثيرُ استنادًا إليه.

وأيضًا، ثمّة شقّ آخر للتفكير بهذه الطريقة، هو الذي يتضمّن أهمية هذه التظاهرات ذات السقف المرتفع والحاسم بطريقة الـ 2011 نفسها، في حرمان النظام السوري سرديّته الرسمية التي بناها لفكرة العدو منذ بداية الثورة؛ فقد يبدو، عند التحليل، أن هذا الحرمان من أكثر فوائد تظاهرات السويداء الراهنة أهميةً. بطبيعة الحال، بنى النظام السوري أكثر من عدو وهميٍّ لتسويغ العنف والقتل والهمجية كلها، وقد يكون أكثرها وضوحًا وأهمية بالنسبة إليه هو “الإرهاب”، وتحديدًا ذلك الناتج من “التطرّف الإسلامي السُّني”، ولا داعي للتذكير بالخطاب الذي قدمه النظام وآلته الدعائية في هذا السياق منذ البداية إلى اليوم. وواحدٌ من أكثر المعاني التي قدمتها السويداء (الدرزية) في الأيام الماضية، أنها حرمت النظام السوري سرديته هذه في تصوير العدو وبناء الدعاية بموجب هذا البناء، وسيكون هذا الحرمان فظيعًا من منظور النظام. تعني هذه المقاربة أن النظام سيلجأ في الأيام المقبلة إلى بناء سردية جديدة تسوِّغ القيام بما اعتاد القيام به دائمًا، ولكن في السويداء هذه المرّة، أي إنه سيهيئ الجو للمجزرة التي لا يجيد غيرها في الردّ على الحراك الشعبي من طريق ابتكار سرديةٍ تؤدّي إلى ابتكار عدو جديد يسوِّغ المجزرة. إلى هنا، صار السؤال عن ماهية هذه السردية مهمًا لقطع الطريق على النظام، ومن ثم لتفادي المجزرة، أو الانزلاق إلى اقتتالٍ جانبي.

ثمّة أفكارٌ كثيرة تصلح لكي يُحمِّل النظام عليها سرديّته في السويداء، منها مثلًا أسطوانة الخيانة والعمالة لإسرائيل، ومنها افتعال حربٍ أهلية محلية في السويداء تمهيدًا لتدخّله فيها بالقوة، وذلك بالاعتماد على الشقاق الحاصل في مشيخة العقل، حيث انقسمت في تصوّرها لمستقبل النظام بين رفض وجوده رفضًا قاطعًا والانحياز إلى خيار الناس، وبين الدفاع المستميت عن بقائه كما هو. وكلا الطرفين مسلّح بطبيعة الحال. وإلى ما هنالك من أفكارٍ أخرى قد يلجأ إليها النظام ليبني لذاته عدوًا أيديولوجيًا لن يستطيع البقاء من دونه، وبه يسوّغ وجوده وإجرامه. المهم في هذا الكلام كله هو السؤال عن الذي بأيدينا، نحن السوريين، أمام هذا الوضع، لأننا بطبيعة الحال غير معنيّين بالمسألة الطائفية، مثل ما تعني النظام، ولكننا لا نزال نخرُج بوصفنا سوريين أفراداً. وبهذا الخروج، يطرح كلُّ فردٍ ذاته بوصفه مشروع مواطنٍ في المستقبل. ما بين أيدينا كبيرٌ، وأفضل طريقٍ لتحريره هو إنجاز فعل التنسيق من جديد، والعودة إلى التنسيقيّة، مقولةُ الثورة الأولى العابرة للمناطق، والطوائف، والعصبيّات، والأيديولوجيات كلها. من ثم الاستناد إلى هذا المفهوم المُبدع في بناء السياسة. وبطبيعة الحال، ما إن تتقدّم التنسيقية على المستوى العملي حتى تحرم النظام السرديات التي بناها للعداوة كلها؛ فالتنسيقية في العمق تمرينٌ متقدّمٌ على فن التأقلم مع الآخر المغاير أيديولوجيًا، يمرّ بالضرورة من ممارسة مستمرّة للتعدّدية في الفضاء العمومي.

وثمّة نقطة أخيرة، قد يطرحها هذا النوع من التفكير، أن المعارضة التي نعرفها، ومجموعاتها التي تأتلف باسم السوريين والثورة، قد أخفقت في اجتياز تمرين التنسيقية، وظلّت تعرّف ذاتها بدلالة عدو ما: ظلت ائتلاف كائناتٍ أيديولوجية تسمّي نفسها معارضة، وحتى هذه التسمية مُعرَّفة بدلالة العدو، فكلمة “معارضة” تفترض بالضرورة وجود المُعَارَض (النظام في هذه الحالة بطبيعة الحال). في حين يُقدِّم السوريون أنفسهم منذ 2011، واليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، بوصفهم أصحاب مشروعٍ وطني يريدون امتلاك سورية، وتأميم السياسة فيها، لتعود عموميّة يمتلكها السوريون العاديون، وهذه هي دلالة الشعار المدهش “سورية لينا، وما هي لبيت الأسد”. الـ نا في كلمة “لينا” (بلهجة درعا) تتضمّن تملك الجماعة العمومية السورية لبلدهم، أي الجماعة التي يحضر الآخر في بنيتها بالضرورة؛ فالآخر في المعنى الوطني يحضُر دائمًا في معنى الفعل الذي نصنع منه ذواتنا، أي في فعل التنسيق، فالتنسيقيّة، بخلاف المعارضة، لا تُعرِّف ذاتها بدلالة عدوها. فعلٌ مثل وجود أهالي درعا في ساحة الكرامة في تظاهرات الجمعة الفائتة، والسلوك الوطني المدهش في السويداء الذي جذبهم ودعاهم واحتضنهم، يقدٍّم لنا مثالًا أنموذجًا لنوعية الفعل التي تصنع منه ذواتنا الوطنية، وخصوصًا لو يتوّج بفكرة التنسيقية. هذه أفعالٌ لا تحرم النظام عدوّه فحسب، بل تحرمه حياته لكي نعيش.

العربي الجديد

—————————

انتفاضةُ السويداء والاستعصاءُ المزمن في سورية المفيدة/ عبير نصر

كان يبدو من الاستحالة بمكان تحريك المستنقع السوري الراكد سياسياً قبل شهرين، عندما بدأت شرارات ثورية غير متوقّعة بالظهور. لم تكن، وللمفارقة، سوى انخراط الأقليات، (المهادِنَة سابقاً)، في حرب كرامة ووجود ضد نظام الأسد، كلّ بحسب مفهومه ورؤيته إلى مجريات الأمور، رغم أنّ النهج الطائفي المطبوع في ذهنية المؤسّسات الأمنية لهذا النظام ظلّ رئيسياً ومعتمداً في تعاطيه مع الأقليات الدينية والمذهبية في البلاد وتحييدها ما أمكن عن الانخراط في الاحتجاجات. والحديث عموماً عن الأصوات المعارضة التي بدأت تتعالى من معقل الطائفة العلوية، وبالأخص عن انتفاضة الدروز في السويداء التي لم تأتِ، بدورها، من فراغ، رغم أنّ نشاط المدينة المعارض كان يتأرجح بين صعودٍ وركود، ليُحسب لهذا الحراك تقليص فوبيا الآخر السوري “السُّني”، والتي استثمرها النظام عقوداً، بينما يصعُب عليه اليوم اللعب على الوتر الطائفي في مدينةٍ محسوبة على الأقليات تطالب بخطابٍ وطني عابر للطوائف وللأحقاد.

بالمطلق، لا يوجد دليلٌ دامغ على أنّ ثمّة حركة احتجاج منظّمة يمكن أن تخلع بشّار الأسد عن عرشه بسهولة، لكن حراك المجتمع الدرزي شكّل صدمة قوية لنظامٍ حمل شعار حماية الأقليات ليبرّر علّة وجوده. لذا يبدو اليوم مكبّل اليدين، لا يفعل شيئاً سوى الانتظار والترقّب، كذلك الرهان على واقع أنّ سورية هبطت كثيراً في سلّم الأولويات عالمياً. وجرياً على عادته، يتعاطى مع المتظاهرين على أنهم مرتزقةٌ وانفصاليون، فيما اقتصر الموقف المباشر من جانبه على ما أوردته مقالات “الوطن” و”البعث” التي وصفتهم بـ”الخارجين عن القانون والمهرّجين الموتورين”، واتهم العميد المتقاعد تركي الحسن أهالي السويداء بالعمالة الخارجية مقابل المال، واصفاً ما يحدُث من مظاهراتٍ بالمسرحية المأجورة. ردودٌ عبثية ليست في جوهرها إلا الصورة الأوضح لتخبّط الثور الجريح، فالجميع يعلم، في قرارة نفسه، جيداً أنه وعلى الرغم من ضعف السويداء اقتصادياً، إلا أنها تمتلك ثقلاً مهماً لنظام الأسد، سيّما أنها تشكّل ممرّاً أساسياً لتهريب الكبتاغون، إضافة إلى أنّ تموضعها إلى جانب درعا المماثلة في الحراك شكّل جيباً معارضاً، قد يتجاوز الخلافات التي عمل النظام على تغذيتها بين المدينتين خلال سنِي الثورة.

بطبيعة الحال، يبدو أنّ فصلَ نهاية التراجيديا السورية بدأ بتجمّعِ آلاف الدروز في ساحة الكرامة، معبّراً عن تجرؤ شريحة مهمة من طائفة حرجة في موقعها السياسي وفي علاقتها الملتبسة مع النظام على المطالبة بخلع رأس الهرم المجرم، بعدما قرّرت الالتحاق أخيراً بركب الثورة السورية “المُبادة”. ورغم ارتكابات عديدة عنفية تركت بصماتها الواضحة على سلوكيات مجمل الأقليات السورية، وأشعلت لهيب دوراتٍ إثر دوراتٍ من المخاوف المتبادلة، والعنف. مع هذا، يصحّ القول إنّ حراك السويداء بات اليوم الصوت الوطني الأبرز، المطالِب بحلّ سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، علّه يكون الشرارة التي تطلق حراكاً سلمياً شاملاً يُخرج البلاد من حالة الاستعصاء، ويضعها على طاولة الخلاص الذي دفع السوريون أثماناً غالية من أجله.

وهنا يُطرح السؤال الجوهري: ما المتاح أمام النظام لمواجهة هذا الحراك في ظلّ استمرار تهاوي الاقتصاد؟ خصوصا وأنّ التظاهر يحدُث بسبب غياب الأمل، بالتوازي مع ذاك الإحساس العميق بأنّ كلفة السكوت غدت أغلى بكثير من خطورة التظاهر، بينما تبدو أولوية النظام حصر مظاهرات السويداء ودرعا، وليس قمعها، كون المحافظتين منطقتي أطراف وليستا مركزيتين، مقابل اعتماد سياسة الترهيب في مناطق العلويين عبر الاعتقالات وشراء الأصوات المعارضة. ليس امتناع النظام عن البطش دليلاً كافياً على تطوّرٍ في وعيه وتبدّل في سلوكه، هو الذي لم ينسَ بعد ما حصل مع الرئيس السوري الأسبق، أديب الشيشكلي، عندما قصف في خمسينيات القرن الماضي جبل العرب بالمدافع والطائرات، فاغتيل على يد أحد أبناء الطائفة الدرزية في البرازيل عام 1964، انتقاماً لقتل المدنيين الأبرياء.

تُقلق انتفاضة السويداء نظام الأسد بالتأكيد، وهو الأشبه بمريضٍ ميّت سريرياً يعيش على الحقن الروسية والإيرانية. هذا القلق المزمن إنجاز بارز مهما اختلفت التسميات والاستثمارات والخلفيات وتعدّدت المآلات، وحتّى لو ظلت الانتفاضة محصورة في حيّز صغير من البيئة الدرزية، ومن دون أيّ اتصال جدّي مع بقية المدن السورية.

في المقابل، لم تتبلور آلية واضحة لكيفية احتواء التظاهرات حتّى اللحظة، ما يوحي بأنّ أولوية النظام حالياً تتركّز في منع امتداد الحراك خارج جغرافية المدينة. بالتالي، قد تكون إحدى أدواته الاستثمار بالعصابات التابعة لإيران لتفكيكه. وبالطبع، اتباع سياسة المراوغة وكسب الوقت، من قبيل إرسال الوفود، حيث تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوّراً يظهر عضوَي مجلس الشعب السوري، نواف الملحم ونشأت الأطرش، في مضافة الشيخ حكمت الهجري. ورغم وصف متابعين لها بأنها وساطة مباشرة من رئيس النظام عند شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز لوقف الاحتجاجات، إلا أنّ الأسد الذي يتعامل بحذر مع المدينة الثائرة، بعدما عمل على تقسيم المرجعية الدينية فيها، ما زال يتّبع سياسة “اللامبادرة” من خلال امتناعه عن تقديم أية عروضٍ حقيقية، طالما لم يمتدّ الحراك إلى مدنٍ أكثر حساسية مثل دمشق والساحل، أو لم يتم التحوّل للتنسيق على مستوى المنطقة الجنوبية ككلّ. والمأمول أن تُستنزف المدينة عبر إضرابها المفتوح، ما يؤهّل النظام أن يُقدّم لاحقاً تنازلاتٍ هامشية بغرض فضّ الحراك القائم.

والحال هكذا.. ليس ثمّة دليل قطعي على وجود استراتيجية واضحة ومتّسقة للنظام لاحتواء “الأقليات المنتفِضَة”، هو الذي يستند، في العمق، إلى مقولة الحتميات السلطوية، وربما العنصرية التي تنحو إلى تمكين آلة العنف في سبيل تحقيق مصالحه الاستراتيجية. وعليه، من يظن أنّ الحكاية ستنتهي هنا واهمٌ بالطبع. إنه الاستعصاء السوري المزمن بوجود نظامٍ متحجّر ومفلس بكلّ المقاييس، يُنظر إليه كمافيا دولية تبثّ سموم الكبتاغون في المنطقة بأسرها.

يزيد وضع النظام صعوبة أنه لا يستطيع شيطنة حراك السويداء، كونه صدّر نفسه حامياً للأقليات، ولا يستطيع لوجستياً وأد الاحتجاج بالقمع، فهو أضعف عسكرياً مما سبق، يطوّق بقية مناطق سيطرته خوفاً من انفلات العقدة تماماً، معوّلاً على تسرّب شعور اللاجدوى من الاحتجاجات، ما يمكّنه من الإحاطة بها بطريقة ما. نافل القول… كما أن الخيارات المطروحة للتعامل مع الأزمات السورية “الأصيلة والطارئة” محصورة بمزاج الحليفتين المتحكّمتين بالسياسة والميدان، إذا ما قمنا بجردةٍ سريعةٍ للمناورات الشريرة لنظام الأسد سنصل إلى محصّلاتٍ تبسيطية مُفرطة في الأهمية، هي أنّ الأخير يدرك جيداً أنّ لانتفاضة الدروز معنى خاصاً، لأنها انتفاضة أقلية علمانية مسالمة، لا تشكل تهديداً لأيّ طائفةٍ أخرى، لذا لا توجد مؤامرة كونية يمكن إلصاقها بها لإبادتها، في وقتٍ يفقد فيه تدريجياً سيطرته على سورية المفيدة، من السويداء جنوباً إلى دير الزور والحسكة وإدلب وريف حلب شمالاً. وإذا أضفنا روح التمرّد التي تشيع في مدن الساحل، فإنه بالكاد يسيطر على أكثر من قلب دمشق. هي جغرافية التمرّد الاجتماعي التي تصرخ بالصوت العالي: “نظام الأسد لم يعد قابلاً للتأهيل أو للتدوير، لم يعد قابلاً حتّى للحياة”.

العربي الجديد

———————————–

هل من المبالغة القول:سوف يسقط الأسد؟/ عمر قدور

تمضي انتفاضة السويداء في أسبوعها الرابع بلا وعود لمن يستعجل قطف ثمارها، بل إن التفاؤل بانضمام مدن ومناطق أخرى إلى الانتفاضة تراجع، وثبتَ حتى الآن أن المعاناة نفسها ليس محتّماً أن تنجم عنها ردود أفعال متشابهة؛ ليس في التوقيت ذاته على الأقل، وهذا ما يجدر الانتباه إليه. إلا أننا سنغامر بالقول أن ما قبل انتفاضة السويداء ليس كما بعدها، وهو قول خارج ما يوصف “أو يوصم أحياناً” بالتفاؤل، ولا يتوقف عند مآل الانتفاضة الحالية الذي يصعب الجزم به أو حتى بمساره.

بالمقارنة مع ثورة 2011، استعجل متظاهرو السويداء المطالبةَ بإسقاط بشار الأسد، وسرعان ما نالت صور وتماثيل أبيه نصيباً وافراً من التمزيق والتحطيم والإهانة. في عام 2011 كان ردّ فعل بشار، المستهتر بالمتظاهرين ودمائهم التي أراقها شبيحته، دافعاً حاسماً للمطالبة بإسقاطه، فضلاً عن عدوى ووعود “الربيع العربي” آنذاك. جذرية متظاهري السويداء مصدرها اليأس من الأسد، واليأس من إصلاحه، مع التنويه بأن نسبة من اليائسين اليوم كانت إلى الأمس غير البعيد من الموالين أو الآملين بإصلاح ما، وهذا ليس حال السويداء وحدها.

ولا نغامر كثيراً بالقول أن هذه الانتفاضة من ضمن تحوّل أكبر يصبح فيه الانقسام بين موالي الأسد والثائرين عليه من الماضي، لأن التطورات تحت سيطرة الأسد أفضت إلى تآكل قاعدة مؤيّديه. اليوم هناك قناعة على نطاق واسع، مفادها استعداد معظم السوريين للنزول إلى الساحات والمطالبة بإسقاط الأسد لولا الخوف من شبيحته، وهي قناعة لم تعد تستثني مناطق وفئات جرت العادة على احتسابهما ضمن الحلقة الصلبة للموالاة، كمثال بعض مناطق الساحل حيث لم تعد شتيمة الأسد من المحرّمات، بعدما كانت الشتائم تطاول الحكومة فقط. التدهور الفظيع في الأحوال المعيشية سبب من أسباب اليأس، لا يفسّر وحده ما حدث “والذي من المحتمل جداً تفاقمه” ما لم يقترن باليأس المطلق من حكم الأسد بعد اختباره حرباً وسلماً.

قبل شهور قليلة كان التطبيع العربي مع الأسد يتصدر الأخبار، ويُنظر إليه كمقدّمة يليها تطبيع غربي. بالمختصر، كان انتصار الأسد هو الخبر السائد، ولم تكن الانتفاضة ضده متوقَّعة. هذه بمثابة ضربة قاضية لكافة جهود إعادة تدويره، حتى إذا تجاهلها العالم كله. فما قالته السويداء هو أن اليأس من الأسد والثورة عليه كامنان، وقد تنفجر الثورة في أية لحظة ومن أي مكان.

لا يغيّر في الخلاصة السابقة أن يتمكن الأسد من إنهاء الانتفاضة الحالية، أو أن تنتهي لأسباب ذاتية. العبرة هي في اندلاعها وأسبابها، والقوى التي فشلت في إعادة تأهيل الأسد هي في طليعة مَن ينبغي عليه التفكير في فحوى الرسالة. ومما ينبغي التفكير فيه أن انتفاضة أخرى مقبلة قد لا تكون محدودة جغرافياً، وقد تسبب فوضى شاملة في المخابرات والجيش اللذين باهى الأسد بإحكامه السيطرة عليهما، وتساءل أصدقاء المعارضة قبل أصدقائه عن الجهة القادرة على منع الفوضى فيهما في حال أُقصي عن الحكم.

يدرك شبيحة الأسد خطورة انتفاضة السويداء، من هذه الناحية تحديداً، لذا بادروا في اللحظات الأولى إلى نفي صفة الجذرية عنها، ووصفها بالاحتجاج المطلبي الفئوي، من أجل عزلها وعزل تأثيرها عن بقية السوريين. وما أن ظهرت جذرية الانتفاضة حتى راح الشبيحة يستعيدون اتهامات وأجواء 2011، بهدف استعادة الانقسام القديم، وشدّ عصب الموالاة الذي تهتك عموماً.

تقول الانتفاضة أن مآل حكم الأسد هو السقوط، لأن لجشع السلطة قعراً لا بد أن تصطدم به في وقت ما، والسنوات الأخيرة كشفت عن وجه السلطة على نحو يطرد من حولها حتى بعض حلقات الذين كانوا غيورين عليها. حدث ذلك تحديداً منذ انتهاء الخطر العسكري، ثم ظهور النتائج المخيّبة للوصايتين الإيرانية والروسية. في هذه السنوات برز وجه السلطة المطلقة كما لم يظهر من قبل، وبرز تحديداً ذلك الجشع غير المحدود إلى السيطرة على كافة الموارد الاقتصادية، وتكاثرت التحقيقات والتقارير عن سيطرة العائلة على أوجه من النشاط كانت تُترك عادة لصغار التجار أو الصناعيين، مع فرض أتاوات تسببت في هجرة هذه الشريحة، لتُضاف إلى هجرة الأكبر منهم من قبل.

لقد انفضّت منذ سنوات الشراكة التي استثمر فيها الأسد عام 2011، وكان حينذاك قد لعب على المسألة الطائفية، وعلى الصلات بالرأسمال المديني في دمشق وحلب، حسب سردية شائعة. وحتى الحلقة الأوسع من صغار قواته وشبيحته أصبحت خارج الشراكة مع توقف المعارك، وقبلها مع تسلّم الإيراني ثم الروسي زمام بعض المعارك، فهذه الشراكة كانت قائمة بشكل رئيسي على تمويل هؤلاء لأنفسهم من النهب “أو ما يسمّونه التعفيش”.

طالب بعض متظاهري السويداء الأسدَ، على سبيل السخرية، بأن يخرج بتصريح جديد كي يكتسب مزيداً من الأعداء. وكان نشطاء في عام 2011، على سبيل السخرية أيضاً، قد أنشأوا صفحة تحتفي بابن خالته “ضابط المخابرات عاطف نجيب” الذي تسبب بثورة أهل درعا. لعل الشبه بين الأمس واليوم يشرح اليأس من تغيير طبيعة السلطة، فلا ينقصه سوى التذكير بما دأبت عليه من القول أنها لا تتغير وعلى الآخرين أن يتغيروا ويرضخوا لشروطها.

ربما ينقص أن ندرأ عن العرض السابق شبهة التفاؤل بخاتمة سريعة، فجانب من المشكلة هو أن حكم الأسد جاهز للسقوط، ولو بموجب سيناريو لا يلبي طموحات السوريين، بينما الخارج غير جاهز لهذا. الاشتباك الروسي الغربي في أوكرانيا لا يعمل لصالح هكذا تسوية، ولا المفاوضات بين واشنطن وطهران البعيدتين عن صفقة نهائية كبرى. ذلك يصعّب من مهمة أية انتفاضة، سواء الحالية أو المقبلة، إذ يتوجب عليها “فوق مواجهة الأسد” دفعَ الخارج إلى قبول التغيير تجنّباً لما هو أسوأ.       

نؤكّد على أن هذا لا يندرج إطلاقاً ضمن التفاؤل الذي أضحى قصياً جداً عن السوريين، ليكون اليأس هو محركّهم الاضطراري. لكن من قلب اليأس توجّه السويداء رسالة مغايرة إلى سدنته، إلى أولئك الذين يرون اليأس دليل نضج، ويرون الاستسلام المطلق له دليلَ حصافة؛ أولئك الذين استخلصوا حكمة الماضي والحاضر والمستقبل. في أسبوعها الرابع تقول انتفاضة السويداء لهم ولنا أن اليأس سهل ومريح، وأن معظم السوريين يفقدون ترف التنعّم به، وهم مضطرون إلى مكابدة القليل من الأمل، رغم أنهم ليسوا سذّجاً ويدركون أن الأمل قاسٍ جداً.

المدن

——————————

نظام عاجز في دمشق/ فاطمة ياسين

ضمن وضع اقتصادي مضطرب، يواجه النظام في سورية تحرّكا جديدا في الشوارع، يبدو أنه يتوسّع ويتفاقم يوما بعد يوم. تكبر دائرة الاحتجاج، ويرتفع سقف المطالبات، كاسرة مزيدا من الحواجز والحدود، وقد اتّخذت شكلا مختلفا بتكثيف الظهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عدَّد فيه المحتجون الصعوبات التي يلاقيها المواطن العادي ومسؤولية بشّار الأسد الشخصية عن هذه المعاناة، حيث ذكرته بالاسم والصفة. أتى الاحتجاج في العاصمة الجنوبية، السويداء، جماعيا. ورغم أنه اتخذ شكلا محلّيا، أظهر المحتجون مطالبات تهم عموم السوريين، وبجرأة وصلابة عبروا عن رفضهم وجود بشّار الأسد على كرسيّ الرئاسة، وكان الاحتجاج قد بدأ بعد أن أعلنت الحكومة عن زيادة في الرواتب، وهي حيلةٌ يريد النظام منها أن يغطّي على فشله الذريع في التغلب على مصاعبه الاقتصادية، فرفع دعم الحكومة عن بعض الاحتياجات الأساسية التي بات يعجز عن تأمينها كليا، أو عن تأمين القدر الكافي منها. وفي الواقع، لم تعد تنطلي قراراتٌ كهذه على الشرائح المجتمعية المستهدفة، والتي كانت هي بالذات من بدأت الاحتجاج.

أهمية هذه الجولة الجديدة من الاحتجاج أولا في تعزيز موقع محافظة السويداء في الجانب الرافض للنظام، وقد عبّرت عن ذلك بوضوح وقوة عبر حشودها اليومية في ساحات المدينة الرئيسية، وعبر قادتها الاجتماعيين والروحيين. وفشل النظام على ما يبدو خلال الاثني عشر عاما الماضية في فرض مناخ موالٍ له هناك، رغم أنه مارس ضغوطا مختلفة لتبقى هذه المدينة إلى جانبه، فلم يُخفِ لعبه بأوراق طائفية ومحاولة الإيقاع بين أبنائها وجيرانهم في درعا، ودسّ رجال عصاباته ومليشياته المختلفة، ليمارسوا الخطف والابتزاز لتشويه الوضع الأمني الذي تعيشه، ولكن معظم سكّان المدينة تضرّروا من الحالة القائمة بين النظام وبينهم، وكانت الفرصة سانحة في قراراته الاقتصادية المعلنة أخيرا، والتي سبّبت إخراجه بشكل نهائي من المحافظة، بعد أن كان وجوده فيها شبه رمزي ومؤسّساته شكلية، فيما يمارس أبناؤها نوعا من التسيير الذاتي لشؤونهم اليومية مع الحفاظ على أقلّ الوشائج الرابطة مع النظام، لكن واقع المحافظة بائس، وقد نالت نصيبها من الحرمان، وطبِّق عليها ما طبق على بقية أنحاء القُطر من التقتير في الوقود والكهرباء والمواد الغذائية الأساسية.

الأهمية الثانية في الاحتجاجات أنها كشفت عن بؤر معارضة واسعة في المناطق الساحلية التي يعتقد النظام أنها موالية له بشكل كامل، ولكن كثافة المعارضين كانت كافيةً ليظهر ممثلون عنهم وبمنتهى الجرأة، ليعبروا من خلال شاشات هواتفهم عن موقف أبناء المنطقة الحقيقي وهذه المناطق، وإن لم تعلن نفسها بشكل جماعي، إلا أن ظهور من يتحدّث باسمها من دون أقنعة وبطريقة مباشرة وتواصيف واقعية يجعلها مرئية، ويمكن تحديدها وعمق رغبتها الحقيقية في تغيير النظام. ولن يفيد السلطة القبض على بعض من ظهر معترضا، فالتيار المستاء كبير وحقيقي، ويستعصي على السجون التي يمتلكها النظام.

لا تنخفض قيمة هذا التحرّك لكونه بدا انفعاليا وأعقب تردّيا جديدا في الحالة الاقتصادية، فلم يكن الشعور المعارض الذي جرى التعبير عنه وليد اللحظة، ولن يتبخّر في اللحظة التالية، لكنه شعور تراكمي يزداد مع الزمن، ومع إدراك المواطن حقيقة التعايش مع هذا النظام. التحرّك أخيرا مسمار آخر في نعش النظام الذي لم ينفعه التقارب العربي والوعود التي تلته، فبقي عاجزا أمام أزمته التي أوجدها لنفسه، والتي تُراكم كل يوم تياراتٍ معارضة جديدة، حتى وصلت إلى قلوب من يعتقد أنهم مساندوه. ولا يفيد النظام المزيد من الدعم السياسي الذي يبدو أنه جاء بوصول وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق، فهذه زيارته السابعة منذ تعيينه في منصبه. وكان رئيس إيران إبراهيم رئيسي قد زار دمشق قبله، ولكن حالة النظام الاقتصادية لم تتغيّر، ويبدو أنها ستكون سببا في زواله النهائي.

العربي الجديدة

——————————-

عن السويداء السورية… والرماديّ حين يصبح قوس قزح/ موفق نيربية

يستشهد مقال رأي في صحيفة «الوطن» الناطقة باسم النظام السوري في الأسبوع الماضي، بقولٍ معروف لعبدالله سعادة رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الأسبق: «كل من هو مع دمشق هو قومي بالضرورة، وكل من هو ضد دمشق هو خائن بالضرورة، وكل من يقف على الحياد، فأغلب الظن أنه ينتظر ليقبض ثمن خيانته». ويستطرد الكاتب الذي يحمل لقباً فضفاضاً كأمين سر لمؤتمر الأحزاب العربية، بالقول: «إن اللاهثين وراء مشاريع تقسيم البلاد، التي أصبحت حديث الشارع وهمه الأول، أدركوا تماماً معنى أن يُكثروا من الذين يؤمنون بالحياد، وبالتالي تأهيلهم للسير في ركب العداء لدمشق وشعبها، بمجرد قبولهم لهذا الحياد المشبوه»، وهذا ما قصده الكاتب في ما استشهد به.

قال أيضاَ: «لقد كشفت الأحداث الأخيرة في السويداء والمنطقة الشرقية وضوح هذه المشاريع الرامية لخلق الفتنة المحايدة الراهنة نفسِها لمشروع استهداف سوريا، فقد ظهرت أصوات نشاز في السويداء لا تشبه أو تشابه انتماء أهلنا الوطنيين هناك، ونحن نشهد تخاذل بعض أبناء شعبنا بعدم الدفاع عن مدينتهم ووقوفهم على الحياد في موقف لا يعبر عن حقيقة أهلنا في السويداء، لقد شكلت بعض الدعوات تحت مسمى «المعارضة» مؤشراً خطيراً، لا نستطيع تجاوزه خاصة أمام فرض التعطيل العام وإغلاق مقرات حزب البعث العربي الاشتراكي، في تناقض كبير لمن يدعون حاجتهم للحرية، وفي الوقت ذاته يمنعون الآخر من التعبير عن رأيه».

ما يدفعني إلى هذا الاستشهاد – الطويل للأسف – هو تلك التهمة بالحياد التي وردت فيه، والتي تذكّر باتّهام المعارضين السوريين سابقاً لأهل السويداء بالحيادية، مع إعطائهم آنئذٍ ذلك الاسم الحركي «الرماديون»، وكذلك انصباب الغضب عليهم أكثر ممّا انصبّ على أهل النظام. هنا أعلاه يستهدف الكاتب بعض رجال الدين غالباً مع أعضاء حزب البعث وجبهته، الذي يقفون جانباً مع إقفال فروع حزبهم، ولا يدافعون عن حكومتهم عرفاناً بجميلها معهم، بل يتضامنون مع من يطالبون بتحسين مستوى حياتهم وإدارة شؤونهم، التي هي مطالبهم أيضاً وحاجاتهم الأوليّة. لا ينسى أهل النظام بدائرته التي ضاقت كثيراً ما يرونه من «حياد» بين من اعتادوا موالاتهم؛ في حين نسي المعارضون السوريون تلك التهمة القديمة مع التطوّرات والتفاعلات المختلفة على الخريطة السورية، في السويداء والساحل والشرق، وعلى جبهة عجز حكومة الأسد الفاضح عن تلبية أدنى مسؤوليات «الدولة»؛ يتفاءل عدد لا بأس به من السوريين في داخل سوريا وخارجها مؤخّراً، بأنّ هناك شيئاً ما يلوح في الأفق، ذلك كان دأبهم دائماً، حتى يستطيعوا الاستمرار بالحياة، ولا علاقة له على الإطلاق – أو دائماً – بالوجهة الحقيقية للأمور. إنهم يشمّون على الفور احتمال طبخة على وشك أن تنضج لمأزقهم ومستنقعهم، حتى إن بعض الكتّاب يتحدثون عن مشروع أصبح جاهزاً، أو أنه مبيّت للقضيّة منذ البداية من قبل الأمريكيين. كان مثل هذا يحدث بشكل دوري مؤخّراً، كلّما ازدادت شدّة العقوبات درجة جديدة، أو عند اشتداد سياق التطبيع العربي مع النظام، وما يرتبط به من شروط، لكنه لم يصل أبدا إلى درجة الحماسة التي وصلها مؤخّراً، مع حراك السويداء التي يبدو أن النظام – تقريباً- قد انسحب منها من دون بروتوكول واضح للعلاقة معها، كذلك الذي ينظّم الأمور شمال شرق سوريا. كأنّ النظام الحاكم في دمشق قد تخلّى عن إحالته كلّ أزماته وعجزه إلى العقوبات الغربية، التي وصلت ذروتها بقانون قيصر، والتأكيدات أو التفصيلات اللاحقة عليه. وتشكّل زيادة الرواتب الأخيرة التي خجل جهاز دعايته الانتحاري من وصفها بالمكرمة الرئاسية على عادته، على الرغم من كونها ضاعفت الرواتب. فقد امتصّ التضخّم وزيادة أسعار الوقود وانخفاض سعر العملة تلك الزيادة فور وصولها، وزادت درجة الغليان الشعبي بين فئات ما اعتادت الغليان سابقاً. في الساحل الذي تسبّب الأسد بخسارته الألوف المؤلّفة من الشبّان على سبيل المثال، والذي حرمته تركيبة النظام من أبسط متطلبّات الحياة والعيش الكريم. صارت شتيمة الأسد هناك؛ التي كانت تُعامل معاملة الكفر والتجديف من قبل؛ عادةً يومية. يلفت الانتباه أيضاً أن النظام عندما أراد اعتقال أحد الغاضبين هناك، أيمن فارس، لم يستطع ذلك إلّا بعيداً بمئات الكيلومترات عن بيته.

أوضح بقع الضوء في التطورات الأخيرة كان – ولا يزال – في السويداء، التي أصرّ ممثّلوها منذ ربيع 2011، على أن هنالك ظرفاً أو وضعاً خاصاً يمنع مشاركتهم العريضة أو الجذرية يومذاك، وبعد ذاك… ومنه أن السويداء ينبغي أن تبقى ملاذاً آمناً للهاربين من الجحيم، على سبيل المثال أيضاً. لم يمنع ذلك بالطبع وجود مساهمات كبيرة من ممثّلين للسويداء في كلّ كيانات الثورة والمعارضة، في كلّ الحراك.

وُلِدت تلك الأيام كلمة «الرماديون»، أو الحياديون! ابتدأت وصفاً لبعض أهل المدن الكبرى، ولرجال الأعمال والتجّار، وللأقليّات عموماً.. من غير الذين أسهموا مباشرة بالحراك والانتفاض. ربّما جمع بين هؤلاء يومها ضعف الثقة بنجاح عملية التغيير، وخوفهم من التطرّف والعنف وآثارهما المدمّرة التي تلوح في الأفق على مصالحهم وحياتهم، وانتظارهم لموقف دولي وإقليمي أكثر حسماً وأقلّ التباساً من النظام. لا بدّ أنه قد كانت هنالك حسابات خاطئة لدى أهل ثورة 2011، حين لم يؤخَذ بالاعتبار حشد شرائح من الشعب أكثر شمولاً، خلف قضيّة التغيير من الاستبداد والنهب إلى الديمقراطية والتنمية الاجتماعية. تتحمّل مسؤولية ذلك تلك المعارضة التي تصدّت للقيادة وقطف القطوف، ولا تتحمّلها قيادات الثورة الشابة، إلّا بمقدار خبرتها. لقد كانت الحركة تنداح بيسرٍ خلف الصوت الأعلى والطرف الأقصى، حتى ساد السلاح والتطرّف وأمراؤهما.

حالياً، يثأر» الرماديون» القدامى لجراحهم، بأن يقودوا حراكاً ثورياً متجذّراً ومقداماً في الشارع، قادراً على تحييد الناس الذين كانوا على جهة النظام، بل دفعهم إلى قلب التيّار العام الجارف أيضاً. لا يمكن أن يحدث ذلك إلّا حين تبرز بقوة تلك الرافعة الثانية للحراك، المتعلّقة بنهب الشعب وثرواته وسياسات إفقاره حتى الحدود القصوى… إذا كانت الرافعة الأولى هي إنهاء الاستبداد وتأسيس دولة حديثة مدنية وديمقراطية، لا فصل بين شكلها ومضمونها. يحاول النظام مداراة عجزه وحيرته أو انتظاريّته بادّعاء الصبر و»برودة الأعصاب» كما يقول، أمام حراك السويداء وانتفاضتها، لكن ذلك لن يطول حتماً مع استمرار الحراك، وتوسّعه وظهور مواقع أخرى له بالعدوى والأثر، خصوصاً في موقف أهل درعا المجاورة، الذي أخذ بالتبلور والتعبير عن نفسه.. ومثل ذلك وقبله أيضاً، خرجت ظواهر من قلب الجغرافيا التي كان النظام يعتبرها» حاضنته»، ومصدر قوته وخزّان مقاتليه والمدافعين عنه، في الساحل السوريّ وجباله. لم يخطئ النظام وحده في تقديره للحاضنة أو لرمادية تلك الشرائح، في العلويين والموحّدين والمسيحيين، والكرد بالطبع أو بعض العشائر، وأيضاً أهل المدن الكبيرة، بل أخطأت المعارضة معه في ذلك، وسهّلت له مهمته، حتى غاية الفشل والخذلان.

لذلك، ينبغي للمعارضين الذين فشلوا- وأنا منهم- أن يتوقّفوا قليلاً عن إسداء النصح والتوجيه للمنتفضين الآن، ويتنحّوا جانباً. فليس لنا أن نعيد دروس التاريخ في غير وقتها، ولا أن تتجلّى ندامتنا على ما أحدثته العسكرة والتطييف من نتائج كارثية، بالتطبيق الميكانيكي على ما يجري في السويداء أو غير مكان.. إن لأهلها وشبابها أن يقدّروا آليات الدفاع عن أنفسهم. وأن يرفعوا أعلامهم التي يرونها مناسبة لتأمين الحشد المحليّ من جهة، والوحدة الوطنية ثانياً. إذ يبدو أن اللون الرمادي المزعوم يستحيل في السويداء إلى ألوانٍ متعدّدة… ويبقى لمن تبقّى على عهده للنظام، أن يندب حظّه ورمادية أهله!

كاتب سوري

القدس العربي

—————————-

حراك السويداء وضرورة طرد رموز الثورة المضادّة/ حيّان جابر

تشهد محافظة السويداء السورية احتجاجاتٍ جديدة ومتجدّدة، إذ مثّلت المحافظة في السنوات الأخيرة البقعة شبه الوحيدة للمظاهرات الاحتجاجية في مناطق سيطرة النظام. أثارت المظاهرات مشاعر معظم السوريين، إذ استعادوا عبرها أجواء موجتهم الثورية الأولى عام 2011، من خلال الشعارات والهتافات؛ خصوصاً المطالبة برحيل بشّار الأسد، إلى جانب رفع علم سورية القديم؛ ذي الثلاثة نجوم حمراء.

مثّل ذلك كله مؤشراتٍ أوليّة على إمكانية توسّع مظاهرات السويداء وتمدّدها إلى خارج المحافظة، وهو ما حصل فعلاً في مدينتي درعا وإدلب، ونسبياً في بعض أحياء محافظة حلب، بيد أنّ محافظة حلب لم تتحوّل إلى مركزٍ احتجاجي واضحٍ، كما لم تنتشر عدوى التظاهر لتطاول مختلف المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، على الرغم من حالة الغضب والاحتقان الشعبي السائدة فيها، والتي دلّلت عليها شواهد كثيرة في الأشهر الأخيرة.

يُنظر إلى تمدّد التظاهر وتوسّعه إلى مناطقٍ جديدة خاضعة لسيطرة الأسد، على اعتباره مؤشّراً أساسياً لانطلاق موجة ثورية سورية ثانية، تكمل المسار الثوري الذي بدأ في 2011، وتعالج نواقصه وأخطاءه، من عسكرة الثورة، وتنامي الدور الخارجي؛ خصوصاً في تسليح المعارضة المسلّحة، والخطاب الطائفي، وتدين الثورة، وأهمّها عفوية الحركة الثورية، وغياب برنامجها السياسي الواضح والشامل. إذ هناك من يعتبر الشعارات المرفوعة في مظاهرات أبناء السويداء دليلاً دامغاً على تجاوز هذه الأخطاء، لا سيّما رفض العسكرة، والتدخّل الخارجي، وقوى الاحتلال المختلفة، والدعوة إلى وحدة السوريين، لكن هناك ما يغيب عن أذهاننا، أنّ البدايات الناصعة لا تقود بالضرورة إلى النهايات المأمولة، كما علمتنا تجربة السوريين الثورية الأولى.

لقد رفعت مظاهرات السوريين عام 2011 جملة من الشعارات الحاسمة والواضحة، التي تتعارض مع مجمل المسار الذي سارت نحوه قوى المعارضة الرسيمة لاحقاً، وقسمٌ كبيرٌ من المعارضة المسلّحة، خصوصاً في نبذ الطائفية، والعسكرة، والتدخل الخارجي، مثل “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، “لا أميركا ولا إخوان ثورتنا ثورة شجعان”، لكن البدايات الجميلة في 2011 لم تستمرّ على طول الخط، بفعل تدخّلاتٍ عديدة، أبرزها نهج النظام الدموي والعسكري تجاه المتظاهرين والمناطق الثائرة، إلى جانب إملاءات القوى الخارجية الداعمة للمعارضة السياسية والعسكرية على حدٍ سواء. حتّى وصلنا إلى مرحلة غُيّب فيها نهج الموجة الثورية الأولى، وتصدّرته قوى طائفية متشدّدة، مثل جيش الإسلام وجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو قوى انفصالية متعصبة، مثل وحدات حماية الشعب؛ الجناح المسلّح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني.

إذاً، كانت الموجة الثورية الأولى وطنية في اتجاهها العامّ وفي أهدافها، لكنها افتقدت عنصرين مهمّين، سهّلا على قوى الثورة المضادّة تسيد الحالة وحرفها عن مسارها، أوّلهما التنظيم الثوري ذو البرنامج السياسي الشامل والواضح، وثانيهما؛ التصدّي المبكّر لقوى الثورة المضادّة. كانت هناك محاولاتٌ عديدة يمكن أن تفضي إلى تملّك هذين العنصرين، إذ عملت بعض المناطق الثائرة على صياغة مقدّماتٍ برامجية، تمثّلت في الإعلان عن لائحة مطالب ثورية، شملت قضايا اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية متعدّدة، تمسّ بنية الدولة المنشودة وهيكليّتها، كما حاولت التنسيقيات الثورية المناطقية تنظيم هيكلية ثورية تنظيمية موحدة، كذلك واجهت حاضنة المناطق الثائرة الاجتماعية أهمّ رموز الثورة المضادّة في مناطق سورية عدة، أهمّها ريفا دمشق وحمص، لكن هذه المهام لم تُستكمل، ولم تصل إلى غاياتها ونهاياتها المرجوّة، نتيجة عوامل كثيرة، أهمّها سعي نظام الأسد إلى ضرب هذه المحاولات في مهدها، عبر الاعتقالات والاغتيالات واختراقها أمنياً، ومحاولات القوى الخارجية تقويض هذه المحاولات، عبر أذرعها العسكرية داخل سورية، إذ استهدفتها كذلك عبر الاعتقال والاغتيال، وأخيراً بسبب تهميش هذه المحاولات، على اعتبارها ضرباً لوحدة الصف الثوري، وحرفاً عن الأولويّة الثورية المتمثّلة في حينها في إسقاط الأسد، من وسائل إعلامية عديدة، فضلاً عن نشطاء كثر.

روّجت المؤسّسات الإعلامية المعارضة؛ المموّلة من الخارج، لأولوية شعار إسقاط الأسد على أي مسألة أخرى، وأشادت بأهمّية دور القوى الطائفية المعارضة للأسد، من جيش الإسلام وصولاً إلى “داعش”، كونها تقاتل قوات الأسد؛ ولو آنياً، كما اعتبرت التماهي مع مصالح القوى الخارجية ضرورة استراتيجية، تشجّع المجتمع الدولي على المضي في مسار إطاحة نظام الأسد، إلى جانب تأجيل المسائل الحسّاسة والحاسمة إلى مرحلة ما بعد إسقاط الأسد، من القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، التي تمسّ شريحة واسعة من السوريين، وأحياناً جميعهم، مثل الموقف من قوى الاحتلال، ومن ضمنهم الاحتلال الصهيوني، إلى الموقف من تسييس الدين؛ أي دين، إلى الحقوق القومية والثقافية، والنظام الاقتصادي، والحقوق الاجتماعية، ودور الدولة الاجتماعي، والحقوق السياسية، والبنية السياسية الناظمة لذلك كله.

يغيب ذلك كله؛ بذريعة تأجيله إلى مرحلة ما بعد الأسد، ما ساهم في دمج قوى الثورة المضادّة بالثورة بداية، ومن ثمّ في تصدّرها المشهد وتهميش قوى الثورة الأساسية وتوجّهاتها، حتّى وصلنا إلى مرحلة سيطرة الاحتلالات المتعدّدة مباشرة، عبر قواها العسكرية، أو عبر قوى الأمر الواقع التابعة لها.

يعنينا من هذه الخلاصات ربطها بمظاهرات السويداء تحديداً، على اعتبارها مقدّماتٍ منطقية لموجة ثورية سورية ثانية، لا تخلو من أزمات الماضي وإنجازاته، لذا ذكّرتنا هذه المظاهرات بالموجة الثورية الأولى، ليس بشعاراتها وحيويتها فقط، بل أيضاً بعفويّتها الشعبية والسياسية؛ الوطنية عامة. لذا كان لا بدّ من التذكير بأنّ البدايات الوطنية والعفوية تتطلّب العمل الثوري السريع على تنظيمها وتأطيرها، وفق رؤى برامجية واضحة، لا تُهادن مع أعداء الثورة، ولا تغفل عن مصالح السوريين المُفقرين والمهمّشين، فمعارضة النظام الحاكم لا تمثّل بطاقة سماحٍ مطلقة الصلاحية لتصدّر المشهد الثوري، أو حتّى للمشاركة فيه، سواء من أقطاب المنظومة الأسدية السابقين، منظومته الأمنية والعسكرية، أو من منظومته العشائرية والطائفية والدينية، التي لعبت دوراً حاسماً في سيطرة النظام على سورية تاريخياً، وشاركته في نهب خيرات سورية؛ وإنّ كان لها النصيب الأقل، أو من تجّار التهريب والسلاح ومحتكري البضائع، أو من أصحاب التوجّهات الطائفية والانفصالية، حتّى لو تستّروا تحت راية مضللة ذات عناوين مرحلية، أو من عملاء الخارج ومرتزقته الذين يربطون إسقاط الأسد بالإرادة الدولية، ويناشدون الحركة الثورية تلبية مطالب المجتمع الدولي كاملة، أو أحد أطرافه.

لم تغز الرايات الانفصالية والطائفية ساحات المظاهرات في محافظة السويداء اليوم، لكنها تحوم حولها، وعلى مقربة منها، ما يتطلّب التصدّي السريع لها أولاً، وتجذير الخطاب الثوري ثانياً في مواجهة جميع قوى الاحتلال الداخلي والخارجي. وتحتاج إلى حثّ الخُطا للانتقال من العمل العفوي إلى المنظم، ذي البرنامج الثوري الشامل والكامل، الذي لا يفصل بين القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تمسّ حياة كلّ سوري، بغضّ النظر عن مكان وجوده الحالي، وعن انتمائه الفكري أو العقائدي أو الإثني أو العرقي.

العربي الجديد

—————————

تلك المخاوف من انفصال الجنوب السوري/ أيمن الشوفي

منذ بدأت قرى السويداء في جنوب سورية تستخرجُ من صمتها السياسي المديد تظاهراتٍ مسائية كالتي اهتدت إليها باكراً الثورةُ السورية ضد بشّار الأسد، وجد النظام القائم نفسه مجبراً على تخصيب دلالاتٍ سياسية يُنكر من خلالها الانتفاضة الجديدة ضدّه، وهو الماهرُ في “شيطنة” مسلك أيّ حراك مدني مناوئ له، ليس الآن فحسب، وإنما بصورة ممنهجة منذ العام 2011 على الأقل.

لم يعد التظاهر حكراً على قلّةٍ من المعارضة السياسية، تجيدُ التخفّي ومراوغة الأجهزة الأمنية، ولا على المتظاهرين الذين اعتادوا الاعتصام داخل ساحة الكرامة في قلب المدينة، وإنما باتت انتفاضة السويداء الحالية انتفاضةُ الريف أيضاً، بتوقيتها المسائي، وفي أكثر من عشر نقاطٍ يمكن وصفها بنقاط تظاهرٍ نشطة بصورة يومية اعتباراً من منتصف الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، حين توافدت آراء الناس، والتقت حول فكرة التظاهر والعصيان المدني كأدوات عمل سياسي قد تتيح طرد نظام الأسد من الفضاء الاجتماعي لسكان المحافظة البعيدة، والتي تستلقي قرب الحدود الأردنية، وتبعد عن العاصمة دمشق نحو مائة كيلو متر إلى جهة الجنوب.

حدث هذا الطرد فعلاً، وبصورة تدريجية خلال النصف الثاني من الشهر الماضي، بعدما اهتدى المتظاهرون إلى المنافع الرمزيّة المتأتّية من إغلاق مقرّ فرع حزب البعث في المدينة، وعددٍ من الفرق الحزبية في ريف السويداء. وبهذا نجدهم قد نالوا من أحد أشكال تمظهُر سلطة النظام، وتجسّدها المادي داخل مقرّاتٍ خرساءَ لحزبٍ لم يعد قادراً على النطق، أو على إقناع أحدٍ بالجدوى من وجوده. ثم عاد المنتفضون ونالوا من صور بشّار الأسد ووالده، بتمزيقها أو إحراقها، وكأنهم بذلك يزاولون فعلاً تطهيريّاً لا رجعة فيه، ولا عن دلالاته، إذ لطالما اعتدَت تلك المجسّمات لديكتاتورية آل الأسد على الحيّزين، النفسي والبصري، للسوريين، صورٌ وتماثيلُ كثيرة تنتصب باستعلاء في الساحات العامة وداخل الدوائر الرسمية، وكأنها تُعيد تعيين حدود ملكية تلك العائلة للبلاد. أما بعد إتلاف أكثرها، سواء داخل مدينة السويداء أو في ريفها الواسع، فإن إعادة الاعتبار لوزن المجتمع داخل الفضاء السياسي بغرض إعادة تشكيله مجدّداً بات أمراً قائماً أكثر من أيّ وقت مضى، وما شجّع على تثمير محصول الحراك الاجتماعي الحالي في السويداء هو عدم قمعه من جيش النظام أو أجهزته الأمنية، الأمر الذي أضاف إلى ساحات التظاهر مزيداً من المحتجّين، الذين كانوا متردّدين بادئ الأمر في منح أصواتهم إلى خيار الانتفاضة ضد سلطة النظام القائم.

كان لزاماً على بشّار الأسد ونظامه أن يردّا على تظاهرات السويداء، وما رافقها من ازدهارٍ لمظاهر طرد السلطة القائمة، ولأنهما يبرعان في تدبيج سياسة إنكار الواقع، وجدا أن الإيحاء بمشروع انفصال الجنوب السوري قد يفي بالغرض، ثم أردفاه بإيحاءاتٍ بلغت درجة الدعاية السياسية المباشرة بأن تظاهرات السويداء تحرّكٌ مأجورٌ ومرتهنٌ إلى الخارج، لا بل قالت تلك الدعاية، وعلى ألسنة عديدين من مُروّجيها، إن الدروز عملاء، يريدون دولةً لهم في الجنوب، وقد باشروا حراكهم الراهن لأجل ذاك الغرض.

أيضاً، وفي الواقع، وجد نظام بشّار الأسد نفسه متطوّعاً لأجل تعزيز فكرة عزل الجنوب عن باقي سورية، والإيحاء الماكر بأن السويداء تريد حكماً ذاتياً من افتعالها الاحتجاجات، فسكت مُجبراً على كل المهانة التي حقّرت شخص بشّار بصورةٍ يومية، حين طاردته عبر شعارات احتجاجية حملتها لافتاتٌ كثيرة، أو نطقتها هتافاتٌ كثيرة أيضاً. وإلى جوار صمت النظام ذاك، وجدنا كيف أنه كان قد أخلى بعض النقاط العسكرية جنوبي المحافظة في الأسبوع الثاني من التظاهرات، وطلب من أجهزته الأمنية عدم قمع مظاهر الاحتجاج، أو الحدّ منها، أو كبح تدفّقها مهما بلغ نفوذها وجرأتها، أو علا سقفُها المطلبيّ. غير أنه وفي آن لم يمنع نفسه من إرسال وساطاتٍ تشبه التداوي بوصفات عطّارٍ عَكِرْ المزاج، حملها موفدون منه إلى شيخ عقل الموحدين الدروز حكمت الهجري، الداعم حراك أبناء السويداء منذ بدأ، وتلك كانت وساطات بلا قيمة سياسية تُذكر، هي فقط لأجل تغذية دعايته السياسية ضد انتفاضة السويداء بمزيد من العناصر الخبيثة، قد يقول من خلالها “نحن نمدّ أيدينا إليهم، لكنهم في المقابل لا يفعلون”.

يصعبُ على بشّار الأسد ونظامه إيجاد تدابيرَ ناجعة تُعين على تكميم أفواه المتظاهرين جنوبي البلاد، أو حتى مقايضة شعارات حراكهم ذات السقف المرتفع بمجرّد إصلاحاتٍ حكوميةٍ مائعة، مستهترة بأصل العلّة، تزيد فقط من ازدراء الناس هذه السياسة. صحيحٌ أن أعداد المتظاهرين في ساحة الكرامة وسط المدينة أخذ بالتراجع التدريجي منذ منتصف الأسبوع الثاني من عمر هذه الاحتجاجات، لكن الوقفات الاحتجاجية المتواصلة مساءً في الريف سندت كثيراً هذا التراجع، وسترت عليه، من دون أن يُنبِتَ هذا الحراك، بمساحته المتّسعة بين المدينة والريف، أيَّ شعاراتٍ أو هتافاتٍ تناصر فكرة الدولة الدرزية، أو انفصال الجنوب وانتزاع إدارة ذاتية له من نظام دمشق المركزي، وربما هذا ما أحرج مبادرةً سابقةً للحراك كانت تتجهّز لعقد مؤتمر “القوى السياسية المدنية السورية في السويداء”، ومنه كانت ستعلن أن اللامركزية باتت ضرورةً لا تقبل الجدل لأجل إدارة الشأن المحلي، خصوصا في الجانبين الاقتصادي والأمني. ولكن وبعد بدء الانتفاضة الحالية، اضطرّت اللجنة التحضيرية لهذا المؤتمر لأن تعدّل عدّة مراتٍ على صيغة الوثيقة التأسيسية لمؤتمرها ذاك، بحيث وصلت بها إلى ديباجةٍ تورّطت بالجمع بين اقتراحاتٍ سياسيةٍ لا تقبل الجمع أصلاً، مثل التمسّك بالحلّ السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 ، مع الرغبة بإسقاط النظام القائم ورئيسه، أو التمسّك بسورية الواحدة ذات القرار والمصير الواحد، مع ضرورة الانتقال إلى إدارة الشأن المحلي بصورة ذاتية. ومع تلك الصيغة النهائية للوثيقة، كانت المكوّنات السياسية لها، ومن بينها “تجمّع بدنا وطن”، والجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) وحزب الاتحاد الاشتراكي، تحاول أن تدرأ تهمة الرغبة بالانفصال عن الوطن الأم، مع أن الإيحاءات الدولية الجادّة، خصوصا الأميركية، تغمز إلى اقتراب حدوث ذلك، وإنْ راقبنا السلوك السياسي لنظام دمشق فسنجد كيف أنه صار شريكاً بالفعل في ترتيبات الانتقال إلى مزيدٍ من فصل الأطراف عن المركز، وتثبيت سورية المقسّمة إلى فيدراليات، والتي قد يكون جنوبها، أي السويداء ودرعا والقنيطرة، إحداها، وهذا الذي سيقع فوق رؤوس الجميع، من دون أن يكون بمقدور أحد منعه، أو الاحتماء منه.

العربي الجديد

—————————–

السويداء… دير الزور… إدلب/ بكر صدقي

كان على السوريين أن يغصوا بفرحتهم بانتفاضة السويداء ضد نظام الأسد، وتفاؤلهم الذي انتعش من جديد على وقع صمود أهاليها الذين قطعوا كل خطوط الرجعة واندفعوا بهمة عالية نحو إسقاط النظام.

ففي الوقت الذي دخلت الانتفاضة أسبوعها الثالث، كانت المعارك مشتعلة بين مقاتلين من بعض العشائر العربية شرقي نهر الفرات من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة ثانية، معارك وقع فيها كثير من المدنيين بين قتلى وجرحى، وبدت بلا أي أفق لتسوية تنهي القتال بلا رابحين وخاسرين.

تواقت ذلك أيضاً مع اشتداد قصف النظام والطيران الروسي لبعض مناطق محافظة إدلب وجوارها مما يطلق عليها «منطقة خفض التصعيد الرابعة» بضمانة تركية روسية.

تعقيد المشهد العسكري والسياسي في مختلف المناطق السورية، بسبب تعدد الفاعلين الإقليميين والدوليين وحلفائهم من القوى المحلية، يسمح بشتى أنواع القراءات القائمة على افتراضات لا يمكن التأكد من صحتها، كاتهام قوات سوريا الديمقراطية للعشائر التي تمردت على سلطتها بالتحريك من قبل النظام أو إيران، أو اتهام العشائر لـ«قسد» بالعمالة للنظام، أو اتهام جبهة تحرير الشام في إدلب بأنها استجلبت قصف النظام وروسيا بعد عمليات مؤلمة قامت بها ضد بعض مواقع النظام في المنطقة. أما تمدد قتال العشائر وقسد إلى محيط منبج فيمكن ببساطة ربطه بتشجيع تركي لمجموعات تنضوي تحت عنوان «الجيش الوطني» الموالي لتركيا، ليس فقط بسبب الصراع المعلن بين تركيا وقسد، بل أيضاً بسبب تصريحات الرئيس التركي، الثلاثاء، المؤيدة للعشائر ضد قسد التي يعتبرها إرهابية.

مع الاحتفاظ بكل التحفظات المذكورة بشأن وجود «أيد خفية» أشعلت نار الفتنة في منطقة دير الزور، ومع عدم إنكار احتمال وجودها أيضاً، يمكن للمراقب أن يلاحظ بالعين المجردة احتفاء إعلام نظام الأسد بالحرب الناشبة في الشرق، ومبادرته الفعالة في الحرب على الشمال الغربي، وعدم تدخل قواته الموجودة بجوار منبج في القتال بين «الوطني» وقسد. فهذه الحروب جميعاً تثلج قلب النظام المختنق بغيظه المكتوم وهو يرى انتفاضة السويداء تعيد الاعتبار لثورة 2011، ويسقط النشطاء تمثال حافظ الأسد ويمزقون صور بشار الأسد أمام الكاميرات، إضافة إلى تصاعد التذمر في مناطق الساحل، تذمراً بلغ مطالبته بالتنحي على لسان نشطاء ينتمون إلى الطائفة العلوية، وعودة انتظام معارضين جدد في منظمات سرية تخط شعارات مناهضة له على جدران مدن تحت سيطرة أجهزته، وتوزع منشورات تدعو الناس إلى التمرد.

الاهتمام المستجد بسوريا في وسائل إعلام عربية وعالمية، وعلى ألسنة بعض الدبلوماسيين الغربيين، من بوابة انتفاضة السويداء وما عنته من فشل كل محاولات تعويم نظام الأسد باعتباره شريكاً في أي تسوية سياسية محتملة، سرعان ما انتقل (هذا الاهتمام) إلى شرقي نهر الفرات حيث الحرب الدائرة هناك والمنذرة بعواقب وخيمة كاحتمال تصاعد صراع عربي ـ كردي. هذا الانتقال في الاهتمام وحده مكسب صاف لنظام الأسد، وضربة لمكتسبات انتفاضة السويداء المعنوية التي كانت مبشرة بمكتسبات ملموسة في الطريق الشاق نحو طي صفحة نظام الأسد بصورة نهائية.

لهذا السبب من المهم العمل على إنهاء الاقتتال بين قسد والعشائر بتسوية لا يخرج منها أحدهما مهزوماً أمام الآخر. والحال أن المقابلة التي أجرتها محطة «العربية الحدث» مع قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، لا تبشر بأي خير في هذا الإطار. فقد تحدث الرجل بلهجة السلطة المطلقة التي يجب أن يستسلم أمامها الآخرون، من غير أي مراعاة لقيم العيش المشترك وموجباته الآن ومستقبلاً. وقد اتهم مقاتلي العشائر بأنهم على علاقة وثيقة مع النظام وإيران من جهة، ومع تركيا من جهة أخرى، وأن الصراع عبارة عن فتنة أشعلت فتيلها تلك القوى، متجاهلاً تراكم انتهاكات ومظالم قواته «الديمقراطية» بحق سكان المنطقة طوال السنوات السابقة، بما في ذلك انتهاكات قائد مجلس دير الزور العسكري المرتبط بقيادة «القوات» والمعين من قبلها، والذي كان اعتقالها له الشرارة التي أشعلت الصراع.

كذلك فإن وقوف الأمريكيين مع «قسد» في حملتها للقضاء على تمرد العشائر وإعادة بسط سيطرتها في المنطقة، قد يشكل سبباً لتحوّل اتهام العشائر بالتحريك من قبل نظام الأسد وإيران من فريّة سلطوية إلى حقيقة قد تهدد الوجود الأمريكي نفسه في المنطقة بمخاطر شديدة. فإيران التي تنتشر ميليشياتها في مناطق قريبة ستبذل جهدها لاستمالة العشائر ضد الوجود الأمريكي وحليفه «قسد».

لقد كشفت هذه الحرب عن حقيقة التقديرات التي شاعت، منذ أشهر، بصدد «مشروع» أمريكي مزعوم لوصل مناطق شرق الفرات بقاعدة التنف الأمريكية لتشكيل حاجز صلب يقطع طريق الإمدادات اللوجستية الممتدة من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا. فعلى رغم النفي الأمريكي العلني لأي نوايا من هذا النوع، كان محللون من البيئة المعارضة لنظام الأسد وآخرون من بيئة النظام يكررون توقعاتهم بشأن هذا «المشروع». ما حدث الآن يشير إلى أن طهران هي التي تعد العدة لتعزيز مواقعها على هذا الخط اللوجستي، وليس هناك من سبيل أمثل من اشتعال حرب عبثية بين سكان المنطقة والقوات المسيطرة عليها لتحقيق هذا الهدف.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————-

احتجاجات السويداء: إعادة سوريا للسوريين!

رأي القدس

شهدت مدينة السويداء، جنوب سوريا، أمس الجمعة، الفعالية الجماهيرية الأوسع منذ بدء الاحتجاجات على النظام في 20 آب/أغسطس الماضي، وتصادت ردود فعل مرحّبة في درعا، المجاورة، وفي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال، وتم منع فعاليات تأييد مشابهة في مناطق سيطرة النظام، مثل دير الزور، لكنّ أصداء التضامن مع تلك الاحتجاجات كان يمكن تلمّسها في مجمل مناطق سوريا.

يعبّر هذا الاحتشاد الكبير عن تزايد أعداد المواطنين المجترئين على المشاركة في حراك علنيّ سلميّ في ظل نظام فائق الوحشية والقسوة والاستهانة بأدنى حقوق البشر، وهو أمر يحمل معاني مهمّة كثيرة، ليس بالنسبة لمناطق الاحتجاجات فحسب، بل لمجمل الوضع السوري.

انطلقت الاحتجاجات بعد قرار لحكومة النظام برفع الدعم عن الوقود، غير أن إحدى المسائل المهمّة التي نجح الحراك في رفعها والتأكيد عليها، هي الربط بين تدهور الأوضاع الاقتصادية المهول، وسياسات النظام العامّة، منذ قراره مجابهة احتجاجات شعبية واسعة مشابهة، في مجمل المحافظات السورية، عام 2011، حتى الآن.

استعادت احتجاجات السويداء شعارات المظاهرات السلميّة العظيمة للثورة التي طالب فيها السوريون، حينها، بحقوقهم كبشر، وما لبث اتخاذ النظام للخيار القمعيّ المعمّم إلى تجذر المطالب، وصولا إلى المطالبة بإسقاط النظام. استوعب أهل السويداء المنتفضون هذه الخبرة الثورية، واستخدموا خواتيمها السياسية الآنفة، فانتقلت الاعتصامات العفوية المحدودة المطالبة بالتراجع عن القرارات الاقتصادية البائسة الأخيرة إلى مظاهرات شعبية كبيرة تقوم بترديد شعارات سياسية واضحة في منطقها مثل «سوريا لنا وليست لبيت الأسد» و«سوريا حرّة. بشّار برّه».

لا يمكن فهم أهمية هذا الحراك الكبير من دون فهم المثال الذي يقدمّه في مواجهة الانسداد السياسي الكامل الذي يشكّله بقاء نظام لم تعد لديه عوامل البقاء.

لقد فقد نظام الأسد، بداية، القدرة على الحفاظ على الاستقرار الداخليّ، فإضافة إلى كونه ممنوعا بالقوة من السيطرة على جغرافيا البلد، المقسمة ضمن سلطات احتلال عديدة، فهو لا يملك حتى مقدّرات سلطته الذاتية (باستثناء سلطة قمع السوريين) كونه محكوما بتوازن قوى بين روسيا وإيران، اللتين تملكان، إضافة إلى قواهما العسكرية، والميليشيات التي تتحكمان بها، سلطة سيادة على النظام نفسه، إلى درجة أن بعض الفرق العسكرية الضاربة، مثل «الفرقة الرابعة» التي يقودها أخو الرئيس ماهر الأسد، تعتبر أحد أذرع إيران في سوريا، وهو ما دفع روسيا لتشكيل ما يسمى «الفيلق الخامس» المؤلف من فصائل صالحت النظام تحت إشراف موسكو، وتقوم هاتان الجهتان بالتنافس على جبايات المعابر، بينما تشرف الفرقة الرابعة على «دولة المخدرات» الكبيرة التي تدرّ المليارات.

لقد تحوّلت مهام قوات النظام السوري، على عكس جيوش العالم الأخرى، من حماية أمن البلاد واستقرارها والرد على أعدائها والحفاظ على السلم العام وضمان الممتلكات والحقوق والقانون إلى أدوات لقوى خارجية، وأجهزة لقمع الشعب وتهديد حقه في الحياة، ورعاة لعصابات المخدرات الموظفة للتهريب إلى الدول العربية والأجنبية.

انعدم، في ظل سياسات النظام السوري، الحد الأدنى من تأمين فرص العمل والخدمات الصحية والتعليمية والإدارية، ولم يبق من صورة النظام وشرعيته المهزوزة غير التهديد بالعنف الأقصى، الذي خبره السوريون لعقود، واللعب على التمايزات الطائفية، التي ظهرت مؤخرا عبر شرائط فيديو لمؤيدين للنظام فاقعة في تهديداتها للدروز، الذين يشكلون أغلبية سكان السويداء، بالعلويين، الذين ينحدر الرئيس وعائلته منهم!

يعيد حراك السويداء، للأسباب الآنفة كلها، الروح لسوريا المُفقرة المنتهكة المعذبة والمشرذمة، ويذكّرها بحلم الحرية والخلاص من العسف والاستبداد والفساد وحكم العائلة البائس، كما يذكّرها بوقائع كان فيها سكان السويداء، في قلب النضال الوطني العامّ، ومعارك التحرر من الاستعمار، حين توافق السوريون، على زعيم المنطقة، سلطان باشا الأطرش قائدا للثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين، وهي لحظة، ولو تأخرت، فإن أهمّيتها لا تنقص البتة.

—————————–

السويداء تقول كلمتها في وجه الطاغية/ إيفا كولوريوتي

قد نختلف كمراقبين لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على العديد من تفاصيل الربيع العربي ، فالبعض يرى أن البداية لم تأت من تونس بل كانت في بيروت عام 2005 ضد الوجود العسكري والهيمنة السياسية لنظام الأسد على الجغرافيا اللبنانية ضمن ما يعرف بثورة الأرز، كما قد يعتبر البعض أن دور الأحزاب الإسلامية والتنظيمات الجهادية كان سبباً لفشل معظم الثورات العربية، بينما يرى آخرون أن المنظومة الدولية بقيادة واشنطن هي المؤثر الأهم لمنع التغيير في المنطقة، قد نختلف على توصيف نتائج هذه الثورات أو على فرص عودة الشعوب للساحات، لكننا دائماً ما كنا نتفق على حقيقة واحدة وهي أن الشعب السوري وما واجهه من تدخلات إقليمية ودولية بالتوازي مع جنون عسكري قد دفع الفاتورة الأكبر، وبالتالي فرص أن تنتفض سوريا من جديد هي شبه معدومة ولكن …. ودون سابق إنذار عاد الشعب السوري ليفاجئنا من جديد.

مرسوم زيادة الرواتب

في مساء الخامس عشر من آب/أغسطس الحالي أصدرت الرئاسة السورية مرسوم زيادة رواتب للعاملين والمتقاعدين في الدولة السورية قدرها 100 في المئة ، وبالتوازي مع هذه الزيادة رفعت الدولة السورية أسعار المشتقات النفطية بنحو 300 في المئة.

هذه المراسيم انعكست بشكل مباشر على أسعار المواد الغذائية والأدوية ووسائل النقل لترتفع بشكل جنوني حتى لا يكاد راتب الموظف لشهر كامل يكفيه طعام أربعة أيام.

هذا التردي في الواقع المعيشي ترجم على الأرض بالاحتجاجات التي تشهدها محافظة السويداء في الجنوب السوري لنحو أسبوعين متواصلين مع توسع لرقعة الاحتجاجات لتشمل محافظات درعا والحسكة والرقة ودير الزور وبعض الأصوات الغاضبة بدأت تعلو في الساحل السوري .

بما لا شك فيه لا يمكن الفصل بين ما يجري في سوريا من قرارات اقتصادية تعكس تدهور النظام المالي لمنظومة الأسد والذي دفع نحو غضب الشارع السوري من جهة وما قد يبدو فشل ملف التقارب العربي مع الأسد الذي تديره الرياض مؤخراً.

منتصف شهر أيار/ مايو الماضي شهدت القمة العربية في جدة مشاركة الأسد شخصياً بعد أكثر من عقد لغيابه عنها، هذه الزيارة كانت ضمن مبادرة عربية شاملة تقودها المملكة العربية السعودية، والتي يراها العديد من المراقبين بانعطاف مفاجئ من قبل الرياض بعد أن كانت من أكثر الدول العربية رفضاً لعودة الأسد للجامعة العربية.

برأيي لا يمكن فصل هذه الخطوة عن التفاهم السعودي – الإيراني الذي رتبته الصين خلال الربيع الماضي، الرياض أرادت أن تعيد ترتيب سياساتها في المنطقة عموماً والملف السوري من إرث المرحلة السابقة.

بالرغم من أن المبادرة السعودية لم تكن بسقف مطالب عال إلا أن الأسد اختار التهرب من معظم نقاطها، فاستمرت شحنات الكابتاغون بمحاولة عبور الحدود الأردنية و تحاول اختراق الموانئ السعودية، كما رفض النظام السوري أي تنازل سياسي للمعارضة حتى ضمن ملف المعتقلين، و المحصلة كانت بأخذ الرياض ومن خلفها عدد من دول الإقليم خطوة للخلف كما أغلقت الأردن حدودها البرية مع سوريا دون إعلان رسمي عن ذلك.

المبادرة العربية

بالعودة للشارع السوري كان المواطن يضع آمالا كبيرة على المبادرة العربية في ظل انخفاض متواصل لقيمة الليرة السورية أمام الدولار بالتوازي مع انتشار جنوني للمخدرات ( الكابتاغون بشكل أساسي) ، بعد أن قدّم الإعلام الرسمي للأسد عودة سوريا للجامعة العربية على أنها بداية لتحسن الواقع المعيشي للمواطن، وأن العرب سيعيدون بناء سوريا من جديد.

كل هذه الآمال والتطلعات تحطمت وبشكل مؤلم مع مراسيم رفع أسعار المشتقات النفطية وليتحول الأمل لغضب ويتحول التفاؤل لصرخات نشهدها في محافظة السويداء، وهنا قد يتساءل البعض عن حلفاء الأسد الروس والإيرانيين أين هم؟

أواخر شهر تموز/يوليو الماضي وصل وزير الخارجية السوري فيصل المقداد للعاصمة الإيرانية طهران على رأس وفد سياسي و اقتصادي ، الزيارة امتدت لعدة أيام أنتجت إعلامياً توقيع عقود تشمل الاتصالات والنقل وتجارة المواد الاستهلاكية، إلا أن الحقيقة هي أن وفد الأسد عاد من طهران بخفي حنين مع متطلبات إيرانية جديدة ، منها أن يدفع نظام الأسد قيمة النفط الإيراني نقداً وبالدولار وعلى السعر العالمي، كما طلبت طهران إنشاء شركة اتصالات للهواتف المحمولة في سوريا، أما الحليف الروسي فالحرب الأوكرانية أصبحت أولوية الأولويات فحتى على الجانب العسكري سحبت موسكو معظم القوات البرية المحترفة واستبدلتها بقوات أقل خبرة، كما سحبت معظم طائراتها الحربية وأبقت على عدد محدود من طائرات الميغ 25 والمروحيات ، وليجد الأسد نفسه أمام أبواب مغلقة إلى حد ما و أمام شوارع عادت لتصدح بمطلب إسقاطه وخيارات محدودة للغاية.

موجة الاحتجاجات

مع خبرتنا بعقلية الأسد والميغالومانيا التي تتملكه يمكن القول إن خيار الحديد والنار سيكون خياره المباشر في مواجهة موجة الاحتجاجات في السويداء، لكن بحكم خصوصية هذه المحافظة وتصدر الطائفة الدرزية للمشهد هناك، فخيار العسكرة لن يكون مباشرا وصريحا كما كان هو الحال في مواجهة الأكثرية السنية.

و من ضمن ما يطرح حالياً هو إعادة إشعال إحدى الجبهات بمحاولة منه لتذكير الأقليات في سوريا أن الحرب لاتزال مستمرة و إن الاحتجاجات في الوقت الحالي هي خيانة، كما أن عملية عسكرية ستؤدي عملياً للمزيد من القتلى من أبناء الأقليات والثوار بمحاولة من الأسد لتذكير الطرفين أن الدم لايزال يفرق بينهم.

جبهة إدلب قد تكون هدفا لهذا المخطط لكن التفاهمات الروسية – التركية تقلل من فرص تسخين هذه الجبهة، لكن جبهة شرق سوريا قد تبدو أكثر جاذبية بنظر نظام الأسد في ظل رغبة من طهران لإبعاد واشنطن عن ممر طهران – بيروت البري وتحت شعار المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الأمريكي، هذا الخيار خطير ومعقّد ويحتاج وقت قد لا يملكه الأسد لهذا يبدو أن خيار الإرهاب هو على رأس مخططات الأسد في مواجهة الاحتجاجات الشعبية في السويداء.

نشر الرعب

أن تقوم الأجهزة الأمنة التابعة لنظام الأسد بتمرير سيارات مفخخة باتجاه القرى الثائرة في محافظة السويداء وتفجيرها تحت غطاء تنظيم داعش وبذلك يكون النظام مرر عدة رسائل، فهو من خلال هذه التفجيرات يعيد تذكير أهالي محافظة السويداء أن النظام هو الحامي الوحيد لهم في وجه الإرهاب المحسوب ضمن روايته على الثوار والمعارضة، كما ينشر من خلال هذه التفجيرات الرعب والخوف في المحافظة مما قد يدفع البعض للصمت وتقبل الواقع، وقد يكون المستهدف من إحدى هذه التفجيرات شخصيات درزية تدعم الاحتجاجات.

بما لا شك فيه فإن الاحتجاجات التي بدأت في محافظة السويداء والمرجح أنها ستتوسع مع الوقت هي جزء لا يتجزأ من الثورة السورية التي بدأت قبل 13 عاما، مطالب الحرية و التغيير والديمقراطية نفسه ، شعار وحدة الشعب السوري بمختلف طوائفه نفسه الذي صاح به ثوار درعا البلد وبابا عمرو وكفرنبل والموحسن، وعلى الضفة الأخرى يقف النظام نفسه بنرجسيته وجنونه، النظام الذي رفض محاسبة رئيس فرع الأمن السياسي في درعا فاشتعلت سوريا بعدها، هو نفسه لن يتنازل اليوم أو غداً أمام أي حراك شعبي ومطالب محقة ، لكن الجديد اليوم في هذه المعادلة يكمن في خصوصية السويداء وأهلها من جهة و العبر التي استقاها الشعب السوري خلال 13 عاما ثورة أن لا صديق للسوري سوى أخيه السوري .

 محللة سياسية يونانية مختصة بشؤون الشرق الأوسط

القدس العربي

 ————————————–

الاحتجاجات السورية وأحلام الثورة المغدورة/ سمير الزبن

منذ انطلاق الاحتجاجات السورية في شهر مارس/ آذار من العام 2011، لم يغادر حلم الثورة السوريين. بقي الحلم قائماً في أحلك الظروف التي مرَّ البلد بها، حتى في ظل أقسى الوحشية التي مارسها النظام ضد المدن والتجمّعات السكنية السورية التي شهدت الاحتجاجات ضده.

يتجدّد الحلم اليوم مع الاحتجاجات التي تشهدها مدينة السويداء في الجنوب السوري، وبعض الاحتجاجات التي شهدها الساحل السوري، وهي مناطق أيدت النظام خلال الصراع الدامي الذي شهده البلد، وسال فيه كثير من الدم السوري. لم تعد سورية المجروحة والمدمّرة اليوم تشبه التي انطلقت منها الاحتجاجات في مطلع العام 2011، على أمل أن يُمسك السوريون بمستقبلهم، ويتخلصون من الاستبداد الذي جثم على صدرهم نصف قرن.

عندما اندلعت الثورة السورية، لم يتوقع أكثر الناس تشاؤماً ما آل إليه البلد من قتل ودمار وتخريب على يد النظام الأسدي، تجاوزت وحشية النظام كل تصوّر متشائم، ولم يكن لأي عدو، لو جرى إعطاؤه الفرصة لتدمير البلد، أن يفعل ما فعله النظام الحاكم، فهو لم يتورّع عن استخدام كل أنواع الأسلحة ضد شعبه، من الرصاص الحي إلى البراميل المتفجّرة إلى الطيران إلى الصورايخ بعيدة المدى، وصولاً إلى السلاح الكيماوي. ولم يكتفِ بقواه الذاتية، فاستعان بحلفاء ومليشيات من الخارج لقتل السوريين، ولم يكفِ دعم النظام الإيراني ومليشياته لدعم النظام المتهاوي، فاستنجد بالتدخل الروسي، الذي مارس سياسة الأرض المحروقة بالقصف الجوي لمناطق واسعة من المدن السورية، بغرض التدمير فقط. لقد تجاوز النظام شعاره الذي أعلنه منذ البداية في مواجهة المنتفضين عليه، والذي يقول “الأسد أو نحرق البلد”، وقد استطاع حرق البلد، وبقي في السلطة على أنقاضه.

لم يكن بقاء النظام ممكناً من دون الوحشية التي استخدمها هو وحلفاؤه، ومن دون الصمت الدولي، خصوصا الأميركي، والإقليمي على النظام. وكان الثمن الذي دفعه السوريون كبيراً جداً، وحتى النظام الذي اعتبر نفسه منتصراً على الـ”مؤامرة كونية” ضده، فهو انهزم عندما هزم البلد، بتدميره المدن السورية وتهجير نصف السكان داخل البلد وخارجه. ولم تكن كلفة حرب النظام على شعبه قتلى وجرحى ومعتقلين ودمارا واسعا فحسب، بل أزمة اقتصادية حادّة أيضاً، تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. وإذا كانت الصدامات المسلحة غطّت على الأزمة المتدحرجة، بعد انتهاء هذه الصدامات وإعلان النظام انتصاره، تسارعت التداعيات الاقتصادية وازدادت نسبة الفقر بدرجة مرعبة، وأصبح أكثر من 80% من السكان في سورية يفتقدون إلى الأمن الغذائي.

قبل انطلاق الثورة، كان الوضع الداخلي السوري غامضاً، فليست هناك معلومات مؤكّدة تتوفر للباحث أو الكاتب ليستند إليها في تحليل هذا الوضع، والمعلومات المتوفرة هي تلك التي يوفرها النظام، وهي معلوماتٌ مشكوكٌ في صحّتها دوماً، كما أنها مُغرضة، هدفها خدمة النظام نفسه. وكان الواقع السياسي محتكراً من السلطة وأحزابها الشكلية، وجرى قمع الأصوات المعارضة الأخرى، وإلغاء السياسة في البلد بالقمع الوحشي للمعارضة أحزاباً وقوى وشخصيات.

لم يعد النظام اليوم غامضاً، لقد تحوّل إلى صندوق أسود لا أحد يعرف فكّ رموزه، حتى النظام نفسه، الذي تحوّل إلى عصابة تحكم بلداً، وحوّل البلد إلى اقتصاد عصابات، وبات النظام يدير صناعة مخدّرات وتجارتها على المستويات، المحلي والإقليمي والدولي، أصبحت مصدر دخله الأكبر وأداة لإيذاء الدول الأخرى، فلم يجر تحويل اقتصاد البلد من اقتصاد عادي إلى اقتصاد حرب، بل جرى تدمير الاقتصاد واستبدل بدولة العصابة التي تقوم بالـ”تشبيح”، والتشليح ليس على من تعتبرهم أعداء فحسب، بل مارسته وتمارسه على رجال الأعمال المحسوبين عليها.

في زمن الأسد الأب، سادت معادلة أن يصادر النظام السياسة، مقابل إبقاء الناس عند الحد الأدنى من وسائل العيش. كانت معادلة ظالمة للسوريين، أغلقت عليهم مستقبلهم بتأبيد السلطة الأسدية وتوريث السلطة من الأب إلى الابن. مع حكم الابن اختلّت المعادلة، وأخذ النهب الاقتصادي والاحتكارات التي تُمركز المال عند عدد محدود من مقرّبي النظام تُفقر مزيداً من السوريين. فاقم قمع النظام الوحشي الوضع الاقتصادي سوءاً، وباتت الأغلبية الساحقة من السوريين غير قادرة على تأمين لقمة عيشها، فقد انخفضت أجور العاملين بشكل مريع، من متوسّط ما بين 400 إلى 500 دولار شهرياً عند انطلاق الاحتجاجات، وأصبحت اليوم بين 20 و 40 دولارا، أي أن العاملين لم يعودوا قادرين على إعالة عائلاتهم برواتبهم التي لم تعد تكفي حتى أجور الطريق إلى أعمالهم. لم تنجُ الفئات المؤيدة للنظام من هذه الأزمة الاقتصادية، وإذا كان “التعفيش” وسرقة بيوت المناطق الثائرة على النظام في أثناء اقتحامها ساعد بعض فئات المؤيدين، فإن هذا المورد قد انتهى مع نهاية الاقتحامات. وبات الجميع يعاني من الفقر، كما دفعت البيئات المؤيدة للنظام ثمناً غالياً من أبنائها الذين قتلوا في الاشتباكات المسلحة، خصوصا أن هذه الخسائر تركزت في فئة الشباب.

لا أحد يعرف مستوى التفكّك الذي يعاني منه النظام في سلسلة التراتب السلطوي، ولا مستوى التذمّر بين الفئات المؤيدة للنظام، وإذا كانت مدينة السويداء محسوبة على المناطق المؤيدة، فقد خرجت احتجاجات سكّانها إلى العلن. فهذا يعني بالضرورة أن هناك احتجاجات في الأوساط المؤيدة للنظام في الساحل أيضاً، فكل السوريين، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الطائفية، لم يعودوا قادرين على التحايل على حياتهم بالدخول التي يحوزونها.

لم يقمع النظام الثورة السورية فحسب، بل هو حطّم المجتمع السوري كله أيضاً، وشمل هذا البيئات الحاضنة للثورة والبيئات المؤيدة له. يمكن القول إن الهالة من القوة التي يحاول النظام تصوير نفسه عليها، ما هي سوى قشرة تخفي الخراب والنخر والتعفّن الذي يعاني منه، وإذا كان لا يمكن معرفة مستوى هذا التعفّن والنخر بدقة لعدم توفذر معلوماتٍ، فهذا لا يمنع رؤية الحالة الانهيارية للنظام، فحتى إنه لم يعد من الممكن اعتباره نمراً من ورق. بالقمع الوحشي دمرَّ النظام البلد وحطّم الوطنية السورية الجامعة، وهذا ما دفع السوريين إلى اللجوء لحماية الهويات الجزئية، الطائفية والجهوية. وعند هزيمة الحلول الجماعية، تصبح الحلول الفردية الملجأ، وحتى هذه الحلول الفردية لم تعد متوفرة للمواطنين في سورية. وفي مثل هذه الظروف، تولد احتجاجات جزئية هنا وهناك، لكن لا ثورة جامعة، في بلد مدمّر ومقسّم واقعياً، ومجتمع مذرّر، ولا يملك قوى سياسية فاعلة ولا مشروعاً سياسياً جامعا للسوريين.

عوامل انهيار النظام قائمة، ويمكن أن تفعل فعلها في أي لحظة. لقد سقط موضوعياً منذ انطلقت الاحتجاجات في درعا، وما قام به من قمع الثورة وتحطيم وتدمير سورية والمجتمع السوري جعل تكاليف أي تغيير كبيرة جداً، إلى درجة أن انهياره اليوم لن يكون يوماً سعيداً، لأنه جعل مهمة إعادة بناء سورية في ظل الدمار الذي أحدثه تكاد تكون مستحيلة.

العربي الجديد

———————————

السويداء جدّدت أفراح السوريين فهل ستكتمل؟/ عبد الباسط سيدا

ليس مطلوباً من السويداء أن تتحمّل كامل عبء الثورة السورية المستمرّة بصيغ مختلفة منذ ربيع عام 2011؛ ولكن ما جرى، ويجرى، فيها منذ نحو أسبوعين أنعش آمال السوريين الوطنيين، ممن لم تتلوّث أدمغتهم بسموم المشاريع الوظيفية العابرة للحدود، سواء بصيغتها الإسلاموية المتطرّفة التي بلغت لدى بعضها حدّ تمجيد الأعمال الإرهابية والتعويل عليها؛ أم بصيغتها القوموية بأسمائها المختلفة من عربية وكردية وتركمانية وغيرها. فقد أثبت الأهل الأعزّاء في سويداء القلب أنهم يدركون جيداً طبيعة العلاقة التي تربط بين سائر المكوّنات السورية، وتجمع بينها، وهي علاقة قديمة تعود بجذورها الحديثة إلى قرونٍ خلت. أما إذا عدنا إلى التاريخين، القديم والوسيط، للمنطقة، فسنجد أن العلاقة أقدم من ذلك بكثير، ولكننا سنبتعد حينئذٍ عن الموضوع الأساسي لهذا المقال. لذلك لن تغوص هذه السطور في تفصيلات المراحل التاريخية السالفة الخاصة بسورية، وإنما سنركّز على الكيان السياسي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الأولى باسم الدولة السورية عام 1920، وهو الكيان الذي جمع بين غالبية المكوّنات السورية الحالية، وهي المكوّنات التي رفضت تقسيم سورية بين كياناتٍ صغيرة كان الفرنسيون يريدون بنائها على أسس طائفية، واعتبارات جهوية، وذلك بما كان يتناسب مع حساباتهم ومصالحهم، ويسهّل تطبيق مشروعهم الاستعماري في البلد. لكن السوريين رفضوا ذلك المخطّط، ما عدا أصواتاً نشازاً هنا وهناك، وأصرّوا على توحيد قواهم بقيادة سلطان باشا الأطرش الذي كان يجمع، عبر تاريخ أسرته، بين شمال سورية وجنوبها، وقاد برجولة، إلى جانب زعماء الاستقلال الكبار (مثل عبد الرحمن الشهبندر وإبراهيم هنانو والشيخ صالح العلي)، الثورة السورية الكبرى التي أسّست لاستقلال سورية عام 1946.

واليوم، ها هم أحفاد الأطرش يجدّدون ذكراه وشمائله بالأسلوب الذي كان يرغب ويفعل، ويجتمعون في مضافته ليستلهموا من أجوائها قيم الوطنية الخالصة، قيم الكرامة والحرية على مستوى الجماعات والأفراد، ويستمدّوا منها العزيمة في سعيهم نحو السيادة الفعلية، لا المزعومة التي يتشدّق بها الحاكم بأمر غيره.

تتمثل الأهمية الاستثنائية لانتفاضة الحرية والكرامة في السويداء في أنها سلّطت الضوء من جديد على الجرح السوري المفتوح منذ أكثر من 12 عاماً بعد أن تجاهلته الدول البعيدة والقريبة، وانصراف كل واحدةٍ من الدول التي تقتسم الجغرافيا السورية حالياً عبر وكلائها المحليين والوافدين إلى تعزيز مواقعها في مناطق النفوذ التي تُهمين عليها، وتستعدّ لإقامة طويلة الأمد فيها. وقد بلغ التجاهل الدولي الكارثة السورية التي تمسّ مصير نحو 14 مليونا من البشر النازحين واللاجئين، وهيمنة الفقر المدقع على نحو 90% من السوريين المقيمين والمهاجرين، وهم الذين ينتمون إلى بلدٍ يمتلك كل إمكانات النهوض والتقدّم على صعيد الموارد الطبيعية والبشرية، ولكن المصيبة أنهم نُكبوا بسلطة فاسدة مفسدة مستبدّة؛ أعلنت، وتعلن، مواربة وصراحة، أنها تريد من سورية الثروات والصفقات، لا الشعب، وهي تتقاطع في ذلك مع المافيات الإقليمية والدولية التي تتشارك مع سلطة آل الأسد في المصالح والأهداف.

وقد بلغت موجة تجاهل القيامة السورية الدول العربية نفسها التي وافقت على دعوة بشار الأسد إلى قمتها في جدّة، لتسمع منه كلاماً لا ينسجم بأي شكلٍ مع الأوهام التي بنت عليها الدول المعنية خطّتها الجديدة في التعامل مع السلطة المقصودة، وفق سياسة خطوة مقابل خطوة؛ وهي الهرطقة التي سوّقها المندوب الأممي الخاص بسورية، غير بيدرسون، الذي يعلم أكثر من غيره أن بشّار الأسد، وبتوجيهات وتعليمات متشدّدة من رعاته الإيرانيين والروس، لم، ولن يتنازل سنتيمترات، إن لم نقل مليمترات عن مواقفه التي كانت، وما زالت، في ميدان قمع السوريين، والعمل على إذلالهم بمختلف الأدوات، بما في ذلك بالإفقار والتجويع. وفي هذا السياق، ذكر بشّار الأسد، في مقابلته أخيرا مع “سكاي نيوز عربية”، أنه لوعادت به الأيام إلى البدايات (بدايات الثورة السورية) لاتخذ القرارات ذاتها، وارتكب الآثام عينها ضد السورين المنتفضين على حكمه.

أما الأهمية الداخلية لانتفاضة السويداء، ففي تأكيدها ضرورة المشروع الوطني السوري، الذي لا بدّ أن يكون بكل السوريين ولكلهم، مشروعا يطمئن سائرالمكوّنات المجتمعية السورية من خلال احترام الخصوصيات، والاعتراف بالحقوق، وإزالة الهواجس بعقود مكتوبة، وتعزيز الثقة المتبادلة، والتوافق على آلية لحل الخلافات التي ستظهر بكل تأكيد. ويتناقض مثل هذا المشروع، بالمطلق، مع جميع أشكال التطرّف والتعصّب، سواء الديني أو المذهبي، أو القومي أو الأيديولوجي. وقد بيّنت تجربة الثورة السورية أن المشاريع الإسلاموية بتدريجاتها المختلفة، وكذلك المشاريع القومومية والعلمانوية المتطرّفة، لم تحقّق للسوريين أي مفيد، بل أساءت إلى ثورتهم، وباعدت في ما بينهم، وفتحت المجال أمام ظهور حركات متطرّفة إرهابية استثمرت فيها أجهزة مخابرات الدول، وعقد عليها بعض الإسلامويين الآمال، اعتقاداً منهم إن المتطرّفين سيفشلون، وأن المعتدلين، بحكم خبرتهم السياسية، هم الذين سيقطفون الثمار في نهاية المطاف.

واللافت أن بعض الأصوات المتطرّفة، أو التي تبحث عن تسجيل النقاط الرخيصة، استمرّت في خطابها الطائفي الذي لم، ولن يساعد السوريين؛ بل أساء، وسيسيء إليهم كثيراً. ومن بين الحجج التي تناولها هؤلاء: “المستهدفون هم السنة”، و”الأقليات هي المستفيدة من الوضع”، و”لا ثقة بالأقليات”. وجدير بالذكر، ضمن هذا السياق، أن مفهوم الأقليات لدى قسم من هؤلاء يمتدّ ليشمل سائر الأقليات الدينية والمذهبية. أما من بين الأقليات القومية، فيتم التركيز على الكرد. وما يقال ويُكتب راهناً بخصوص ما يجري في منطقتي السويداء ودير الزور يبيّن المخاطر والتحدّيات التي تواجه السوريين، فأن ندين مكوّناً بالكامل، من دون إعطاء الاعتبار لإختلاف وجهات النظر وتعارض المواقف بين من ينتمون إليه بناء على اعتباراتٍ وراثيةٍ يؤدّي إلى أخطاء قاتلة.

ولنتوقف هنا عند مكوّنين من المكوّنات المجتمعية السورية، لنبتين مدى الخلط الذي يحدُث، فالسوريون جميعاً يدركون اليوم أنه لو تحرّكت مدينتا دمشق وحلب، بكامل قواهما في بداية الثورة السورية في أثناء مرحلتها السلمية، لسقطت السلطة في الأشهر الأولى؛ ولكن المشكلة أن معظم رجال الأعمال والدين في المدينتين كانوا مع السلطة، ويستفيدون منها؛ ولم يتم التحرّك المطلوب. واليوم نرى أن ضباطا كثيرين في الجيش والأجهزة الأمنية وفي الإدارات المدنية المهمة هم من السنّة، وهؤلاء في صفّ السلطة لا في صفّ الشعب. ومع ذلك، لا ينكر أحد أن السنّة هم الذين تضرروا في المقام الأول، ودفعوا الضريبة، إلا أن الإقرار بهذا الأمر لا يعني، بأي شكلٍ، إدانة المكوّنات الأخرى بالمطلق، أو أن نظهر السنة بالمطلق، وكأنهم جميعاً كانوا من أنصار الثورة ومن المساهمين فيها.

أما إذا انتقلنا إلى الوضع الكردي، فالجميع يعلم أن المظاهرات التي شهدتها المدن والبلدات في المناطق الكردية كانت من أوائل المظاهرات التي ساندت الثورة على مستوى سورية منذ الأيام الأولى، وتفاعلت معها، بل انخرطت في الثورة السورية، وكانت جزءاً منها على مختلف المستويات. ولكن ما حصل أن السلطة عقدت صفقة مع حزب العمّال الكردستاني، بناء على الدفاتر والاستثمارات السابقة، فدخلت قوات الحزب المعني، تحت اسم واجهته السورية حزب الاتحاد الديمقراطي، الساحة الكردية السورية، بمهمة قمع الأصوات الكردية القوية المتفاعلة مع الثورة، مقابل تردّد (وسلبية) الأحزاب الكردية التي كانت لها اعتباراتها وحساباتها الخاصة بها. كما ارتكبت مليشيات الحزب المذكور تصفية نشطاء كُرد، وارتكبت مجازر في عدة مدن، منها مجزرة عامودا (صيف عام 2013).

وأمام هذا القمع، إلى جانب الإجراءات التعسّفية مثل التجنيد الإجباري، وإلحاق الكوارث بالعملية التعليمية، اضطرّ أكثر من مليون كردي إلى مغادرة منازلهم، ليتحوّلوا إلى لاجئين في الجوار الإقليمي، سواء في إقليم كردستان أو في تركيا، وحتى إلى نازحين في الداخل، في حين أن بعضهم غرقوا في البحر وهم في طريق البحث عن ملاذ آمن، يضمن العيش الحرّ الكريم لهم ولأبنائهم. ومع ذلك، يتقصّد كثيرون عن سابق معرفة تجاهل كل هذه الأمور؛ ويصرّون، بناءً على نزعات وأضاليل ونزعات عنصرية تخصّهم، على إدانة الكرد جميعاً كمكوّن مجتمعي سوري.

ويسري ما سبق بشأن المكوّنين، العربي السني والكردي، على سائر المكوّنات السورية المجتمعية الأخرى، ومن بينها المكوّن العلوي الذي له خصوصيته؛ نتيجة حرص السلطة الأسدية على استخدامه أداة لها في قمع السوريين. ولكن هذا لا يبيح لأحدٍ، في جميع الأحوال، إدانة العلويين ككل. ولا يجوز لنا أن نفعل ذلك إذا كنا نؤمن بالمشروع الوطني السوري، ونعمل عليه من أجل الحفاظ على وحدة الشعب والوطن، في ظل نظام حكمٍ عادلٍ رشيد، يحرص على توفير مقوّمات العيش الحر الكريم لجميع السوريين.

بقي أن نقول إن السلطة الأسدية تستغلّ كل الأوراق والخلافات والتباينات بين السوريين لمصلحتها؛ بل هي تسعى عبر عملائها وشبّيحتها داخل سائر المكوّنات لإحداث الخلافات بين السوريين وتمزيق صفوفهم عبر شعاراتٍ ومزاعم متناقضة؛ والرد على ذلك يكون بضبط المواقف وفق البوصلة الوطنية؛ ونعني بذبك التركيز على المشروع الوطني، والقطع مع سائر نزعات التطرّف والتعصّب التي تلجأ عادة إلى سلاح التكفير والتخوين.

العربي الجديد

————————–

نظام الأسد في مواجهة الحراك الثوري الجديد/ بكر صدقي

بخلاف الصمت الذي يلزمه النظام على المستوى الرسمي، إلى الآن، في مواجهة الحراك الثوري الجديد، بدأ ضاربون بسيفه هجومهم التمهيدي المعتاد، في مسعى لخلق رأي عام مضاد، في نوع من تحضير المشهد للمواجهة العنيفة. كان تاجر المخدرات وسيم الأسد سبّاقاً في هذا الإطار حين وجّه كلامه للمى عباس، من غير أن يسميها، وللبيئة الموالية التي تنتمي إليها، فحمّلهم واجب الامتنان للنظام الذي أخرجهم من الفقر إلى البحبوحة، بدلاً من الهجوم عليه في هذه الظروف الصعبة، وطلب منهم أن يزرعوا الأرض ليأكلوا، وأن يعملوا على تحرير حقول النفط من الاحتلال الأمريكي للمساهمة العملية في حل الأزمة الاقتصادية.

أما بشار الأسد نفسه فقد ضمّن مقابلته على محطة سكاي نيوز عربية تهديداً جدياً حين قال إنه لو عاد به الزمن إلى العام 2011، لكرر سياسة المواجهة العنيفة نفسها التي اتبعها حينذاك.

غير أن بعض الأصوات الجديدة من المدافعين عن النظام تجاوزت منطق وسيم الأسد إلى لغة يمكن وصفها بـ«لاوعي النظام» لشدة بذاءتها، ولأن النظام لا يستطيع الجهر بها، فيوكلها لهؤلاء. كان أبرزهم رئبال الهادي الذي هدد بمواجهة علم الحدود الخمسة بعلم العلويين، بعدما هاجم متظاهري السويداء بأقذع الشتائم، ساخراً من مطالبتهم بتنحية الأسد: «تريد إسقاط الأسد؟ 200 دولة فشلت في إسقاطه! أنتم لا شيء، أنتم صفر». في وقت لاحق سيبث الهادي مقطع فيديو جديد «يوضح» فيه كلامه الذي «اجتزأته «قنوات الفتنة» حسب تعبيره. من المحتمل أن يداً خفية شدت أذنه بسبب تهديده برفع العلم العلوي، لأن «الصواب السياسي» لنظام الأسد يتعارض مع هذا الكلام الخارج مباشرةً من لاوعيه الطائفي.

من المحتمل أن وسيم الأسد تعرض بدوره لتوبيخ مماثل حين دعا على صفحته على فيسبوك إلى تنظيم مظاهرات مليونية دعماً للنظام، لسبب مختلف هذه المرة. فالنظام الذي قرأ انتشار رقعة التذمر في البيئة الموالية، وبخاصة في مدن الساحل، يخشى أن تؤدي مليونيات التأييد إلى نتائج عكسية، إما بامتناع واسع عن المشاركة، أو ما هو أسوأ: أن ترتفع من حناجر المشاركين، أو بعضهم، هتافات مناهضة له. هذا ما قد يفسر حذف وسيم الأسد لمنشوره المشار إليه. وبدلاً من المليونية التي دعا إليها، نظّم موكب سيارات لم يتجاوز عدد السيارات المشاركة فيها العشرين. والأنكى من ذلك أن تلك السيارات الفارهة لا بد أنها استفزت الناس الذين لا يستطيعون التنقل بوسائل المواصلات العامة بسبب ارتفاع أجور الركوب.

هذه الأصوات، على عدوانيتها وبذاءتها، تبقى في خانة الدفاع وتعبر عن عجز النظام عن مواجهة الحراك الثوري بالوسائل المعتادة، وعن ابتكار وسائل جديدة.

لكن الإعلامي اللبناني حسين مرتضى تجاوز هذا الموقف إلى ما هو أخطر: إعطاء إشارة عن نوايا النظام لاستخدام أعمال إرهابية لكسر صمود الحراك واتساعه المطرد. فقد تحدث عن «معلومات» لا يملكها غيره مفادها أن الأمريكيين يستعدون لتخريب التوافق الذي يسعى إليه النظام مع وجهاء السويداء، عن طريق انتحاريين من تنظيم داعش كلفتهم واشنطن بالقيام بعمليات تفجير في المحافظة لإفشال المحادثات بين النظام وممثلي المحافظة الثائرة.

إنها طريقة مجربة ومعروفة، أن يطلق النظام أو حزب الله «تحذيرات» عن مؤامرة غامضة لزرع الرعب في قلوب الناس من جهة، وتمهيداً للقيام بتلك الأعمال الإرهابية بالفعل، ما لم ينفع التخويف في كسر صمود الناس، من جهة ثانية.

في العام 2018 أخلت قوات النظام مواقعها في شرقي السويداء، فتسلل منه عناصر من تنظيم داعش وقتلوا نحو 150 من أهالي قرى المنطقة إضافة إلى عدد أكبر من الجرحى. وكان ذلك رداً من النظام على امتناع أهالي السويداء عن إرسال أبنائهم للالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، لأنهم لا يريدون أن يقتلوا أو يُقتلوا من أجل النظام. بعد فترة قصيرة استقبل بشار الأسد وفداً من المحافظة ضم شيوخ عقل الطائفة الدرزية، ليقول لهم إن امتناعهم عن إرسال أبنائهم إلى الخدمة العسكرية هو ما أدى إلى سحب قواته لأنه كان في حاجة إليها في مناطق أخرى! لا يمكن للصراحة أن تكون أكثر من ذلك!

في السياق نفسه تحدثت تقارير صحافية عن زيارة قام بها رئيس جهاز أمن الدولة حسام لوقا إلى بيروت، التقى خلالها بحسن نصر الله الذي لم يتأخر في وصم الحراك الثوري في سوريا بأنه «مخطط أمريكي»!

ولكن هل يشكل حراك السويداء خطراً حقيقياً على النظام؟

الواقع أن هذه المحافظة الصغيرة بعدد سكانها الصغير لا تستطيع وحدها أن تهدد النظام بالسقوط. ويمكن للنظام أن يستمر في تجاهل هذا الحراك الثوري إلى حين يتعب الناس ويتوقفون بعد أسابيع قليلة. لكن أثر هذا الحراك، بشعاراته السياسية الجذرية، على السوريين في مناطق أخرى، إضافة إلى إظهاره للنظام بمظهر من يفتقد لشرعية اجتماعية، هو ما يشكل خطراً لا يتحمله النظام، وفي ظل ضغوط عربية ودولية عليه لا تترك له ترف تحمل تمزيق صور الأسد والدوس عليها في السويداء، تنقلها قنوات تلفزيون ووسائل تواصل اجتماعي كل يوم.

نقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الحراك الثوري الذي هدم كل جدران الخوف ومضى بعيداً في القطيعة التامة مع النظام، إنما اختار لحظة مناسبة هي ما تمنح القوة للمشاركين. المفارقة هي أن بشار الأسد هو من صنع هذه اللحظة من خلال تصريحاته الاستفزازية على محطة سكاي نيوز عربية، فأدرك الناس أن النظام قد شد الخناق على عنقه بركله المبادرة العربية ومسار التطبيع مع تركيا معاً، وإعلانه أنه ماضٍ في سياسته نفسها التي أوصلت البلاد إلى هذا الخراب، غير عابئ بمعاناة الناس الواقعين تحت حكمه، ولا يخشى مصيراً مشابهاً لمصير معمر القذافي أو صدام حسين. مع أنه اعترف في المقابلة نفسها أن دولته ضعيفة.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————–

جذور المواجهة بين النظام الأسدي وبني معروف/ رياض معسعس

انطلقت ثورة الموحدين، وما يعرفون ببني معروف في جبل العرب، ضد النظام الأسدي بعد صمت طويل، ولكن كما قال سماحة الشيخ حكمت الهجري “الصمت لا يعني الرضا”، فهناك مواجهة صامتة تعود إلى ستينيات القرن الماضي، وخاصة بعد ما سمي بحركة 23 شباط/فبراير بعد أن تولى حزب البعث السلطة في العام 1963، (انقلاب قاده اللواء صلاح جديد ضد مؤسسي حزب البعث القوميين، وتمت مهاجمة مقر الرئيس أمين الحافظ من قبل سليم حاطوم الذي ينتمي لطائفة الموحدين، وفر الزعماء التقليديون من سوريا واستقر معظمهم في العراق).

من بين الزعماء المؤسسين لحزب البعث شبلي العيسمي الذي ينتمي إلى طائفة الموحدين، والذي تولى منصب نائب أمين عام الحزب. مع قيام الثورة السورية في العام 2011 ضم صوته لصوت الثورة، فقامت مخابرات الأسد باختطافه في لبنان وهو بعمر 88 عاما وتم نقله إلى دمشق ومن المرجح مقتله تحت التعذيب. أما بالنسبة لسليم حاطوم الذي شعر بأن اللجنة العسكرية التي كان ينتمي إليها لم تعطه حقه من التقدير الذي يستحق بعد المهمة التي أوكلت إليه بالهجوم على مقر أمين الحافظ، قام بتشكيل لجنة عسكرية معظم أعضائها (حوالي 200 ضابط) من طائفة الموحدين وعلى رأسهم الضابط الكبير فهد الشاعر، وحمود الشوفي. وقرروا بالانقلاب على صلاح جديد، وحافظ الأسد وقد انكشف أمر العملية وتمت تصفية جميع الضباط المنتمين لطائفة الموحدين في الجيش السوري.

سليم حاطوم، الذي هدده حافظ الأسد بالطيران الحربي بقصف مواقع حركته في السويداء بعد أن احتجز الرئيس نور الدين الأتاسي، وصلاح جديد وهدد بقتلهما، هرب إلى الأردن، ثم عاد بعد هزيمة حرب حزيران/يونيو إلى سوريا حيث ألقي القبض عليه وإعدامه.

عروبة أهل الجبل

هذه الأحداث بقيت في الذاكرة العامة في جبل العرب (تجدر الإشارة هنا إلى أن سلطان باشا الأطرش هو من أطلق اسم جبل العرب بدل جبل الدروز تأكيدا على عروبة أهل الجبل)، وقد تم تهميش المنطقة بأكملها خلال كل فترة حكم حافظ الأسد، خاصة بعد التخلي عن الجولان لإسرائيل من قبل حافظ الأسد الذي كان في منصب وزير الدفاع حسب البلاغ رقم 66 الذي يأمر الجيش السوري بالانسحاب الطوعي من الجولان دون قتال بحجة أن جيش الاحتلال وصل إلى القنيطرة، وفي الواقع لم يكن تقدم قدما واحدا في الجولان، فإن معظم أهالي قرى ومدن الجولان قد نزحوا عن المنطقة ماعدا قرى الموحدين (مجدل شمس، بقعاتا، الغجر، عين قنية) إذ فضلوا البقاء في أراضيهم وقد حاولت دولة الاحتلال الإسرائيلي بشتى الوسائل ضمهم إلى دروز إسرائيل إلا أنهم رفضوا الهوية الإسرائيلية، والخدمة في الجيش الإسرائيلي.

لم ينس حافظ الأسد هذا التحدي لأن من أراد البقاء في الجولان لا يمكن لأي قوة أن تطرده منه، في حين أن النظام الأسدي، الذي صدّع رؤوس السوريين بالصمود والتصدي والمقاومة والممانعة لاسترجاع الجولان، لم يطلق طلقة واحدة باتجاه إسرائيل منذ نصف قرن ونيف وهي التي تقصفه باستمرار وتعطل المطارات والمرافئ السورية بوتيرة أسبوعية دون أي رد.

مع انطلاقة الحرب اللبنانية ـ اللبنانية في العام 1975، تحالف موحدو لبنان مع المقاومة الفلسطينية بزعامة كمال جنبلاط وياسر عرفات مع أحزاب يسارية أخرى في جبهة الحركة الوطنية التي كادت تسيطر على كامل لبنان، وهذا يعني بالنسبة لحافظ الأسد سحب البساط من تحت قدميه، خاصة وأنه كان يسعى دائما للسيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان، وكان على خلاف شديد مع ياسر عرفات. عمل حافظ الأسد جاهدا على شق المقاومة الفلسطينية باستقطاب بعض الفصائل الفلسطينية، (الجبهات الشعبية والديمقراطية والقيادة العامة، ثم حماس والجهاد الإسلامي). وعندما استشعر الغرب خطر انتصار المقاومة في لبنان على إسرائيل أعطى الضوء الأخضر للأسد بغزو لبنان مع تفويض من الجامعة العربية، تحت مسمى ” قوات الردع” وشن هجومه الأول على مخيمات الفلسطينيين وأشهرها “تل الزعتر”، وعمل على طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان في العام 1982 بعد أن احتلت إسرائيل بيروت، وتمت بعدها مباشرة مجازر صبرا وشاتيلا. وبما أن نظامه كان قائما على الاغتيالات السياسية للتخلص من أي شخصية يمكن أن تهدد وجوده (لا طائفية في الاغتيالات)، فقد حاول عبثا اغتيال ياسر عرفات، لكنه نجح في اغتيال زعيم الدروز ذي المكانة الكبيرة عربيا ودوليا وفي لبنان كمال جنبلاط في 16 آذار/مارس 1977. وقد أثار هذا الاغتيال استياءً كبيرا في طائفة الموحدين في لبنان وسوريا وحتى في إسرائيل. وقد حاول أيضا اغتيال نجله وليد جنبلاط الذي ورث الزعامة عن والده أكثر من مرة لكنه فشل في ذلك.

يبلغ عدد السكان الموحدين في سوريا حوالي 700 ألف مواطن، أي ما يعادل 3 في المئة من السكان يقيمون في جبل العرب، يقيمون في السويداء وضواحيها وفي بعض ضواحي دمشق (جرمانا، صحنايا، جديدة عرطوز)، وفي الشمال في منطقة إدلب. مع قيام الثورة في العام 2011 وقف الموحدون على الحياد، وبتعبير أدق رفضوا محاربة الثائرين السنة كما طلب منهم بشار الأسد بتحريضهم على جيرانهم في درعا مهد الثورة السورية لكن وليد جنبلاط ومشايخ العقل حالوا دون ذلك ورفضوا حتى أن ترسل جنودهم للقتال على الجبهات.

الطائفة الدرزية

لكن النظام لم ير بعين الرضا موقف الموحدين، أو حسب مفهومه “إذا لم تكن معي فأنت ضدي”. في 15 أيلول/ سبتمبر قام النظام باغتيال شيخ “مشايخ الكرامة” وحيد البلعوس الذين رفضوا التجنيد الإجباري لقتال سنة سوريا.

منذ ذلك التاريخ حاول النظام أن يدفع “بالدواعش” لضرب الموحدين وارتكبوا فيهم بعض المجازر تحت أعين الروس، وجندوا عصابات من الطائفة تعمل لحساب النظام في أكثر من منطقة، واحتدمت المواجهات بين النظام والموحدين بعد أن وجه رئيس فرع الأمن العسكري في جنوب سوريا، العميد لؤي العلي إهانات لزعيم الرئاسة الروحية للمسلمين الموحدين الدروز، حكمت الهجري ولكل الطائفة الدرزية ما أشعل جذوه الاحتجاجات التي ترافقت مع الانهيار الاقتصادي، وتدهور سعر الليرة السورية وارتفاع الأسعار فانطلق شباب السويداء باحتجاجات متكررة طالت بعض الأبنية الحكومية ولم يجرؤ النظام على مواجهتها. وبعد رفع أسعار المحروقات ازدادت الاحتجاجات حدة وانطلقت الحناجر تردد شعار الثورة: “الشعب يريد إسقاط النظام”. ويحاول النظام حاليا شق صفوف الموحدين ببث الفرقة بين شيوخ العقل باستقطاب شيخ عقل يوسف الجربوع الموالي للنظام الذي صرح: “أن علم النظام هو الراية التي يعترف بها”. وأكد “عدم الخروج عن قرار القيادة والدولة التي تمثّل الشعب السوري، لدينا ثوابت مشى عليها أهلنا من قبل، ممثلةً بالدولة السورية والجيش وقيادة السيد الرئيس (بشار الأسد)، ونطلب من أهلنا أن يكون هناك توجه كامل بعدم الخروج عن الخط الوطني”. ورد شيخ العقل حكمت الهجري: “أحذّر من الناس المأجورين لإحباط همم المتظاهرين إن هناك شيئا يتم العمل عليه بهدف إحباط الهمم من قبل ناس مأجورين وهؤلاء الأشخاص لا يمثلون إلا أنفسهم ومطالب المتظاهرين لن يتم التنازل عنها”. وعلى عادة الأسد في وقت الأزمات يحاول بقرارات لا قيمة لها امتصاص النقمة فقام هذه المرة بإلغاء المحاكم الميدانية التي قتلت عشرات الآلاف من السوريين الأبرياء، وللأحداث بقية.

كاتب سوري

————————————

عندما تصبح السويداء من أهم مدن العالم/ يقظان التقي

تنهض بيوت الفقراء في السويداء في سورية فوق قصور النظام وأوانيها القديمة، حين تتمسّك بقضية الحرية، أرقى ما في البشرية قبل الخبز والحليب والسكر. تأخذ الاحتجاجات المستمرّة بألوانها الطازجة وأصواتها المنعتقّة/ الحيّة تعبيرا رمزيا أكثر قوة، حين تتحدّى المنع والحظر والترهيب والإقصاء في واحدةٍ من أهم مدن العالم الإنسانية اليوم (3% من عدد سكان سورية). تسترجع السويداء روح الشعوب وأجواء الهوّية الذاتية والجماعية السورية المهدّدة بالانقراض، والتي تقهقرت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة. منذ العام 2011، تحوّل النظام نحو أنظمة اللا استقرار في المنطقة، وتحوّلت أرض سورية إلى ساحة صراع دوليّة مع الطغيان في ممارسة السلطة والظلم المتمادي. سلطة غير قادرة على دفع السوريين إلى حلّ تناقضاتهم سلميا، أو الأخذ بأيديهم، وإيجاد حلول لمعاناتهم. لم يُصغِ النظام إليهم، وهم خارج اهتماماته، ولا حتى عمد إلى مداراتهم ومسايرتهم بمألوفهم. تعامل معهم كملكيّة خاصة من دون سياسة في إدارة شؤونهم، واستخدم كل الوسائط في تحالفات بين المؤسّسات السياسية والأمنية القائمة على إبقاء عالمه الخاص كما كان، وبما هو آتٍ، يفعل ما يشاء.

اثنتا عشرة سنة حوّلت الشعب السوري إلى “كائن بلا مصير”.. فهبّت رياح الثورة مجدّدا في الجغرافيا ذات الأكثرية الدرزية وفي الساحل السوري، حيث الكثافة العلويّة. منذ السبعينيات، عزّز حلف الأقليات على أن يضم العلويين والمسيحيين والدروز والشيعة في سورية ولبنان. اقتنع العالم بمساكنة نظامٍ لا يمكنه إلا أن يكون ماكرا وخبيثا، ولا ينفكّ يقاوم غواية عدم تصحيح ما خلّفه من دمار ومآس قادت بلاده إلى الهاوية، ولا شيء يتعلق عنده بالإنسان إزاء تعطيله المتمادي كل جهود الحلّ السلمي (ثمانية اجتماعات دوليّة). وجد في التطبيع العربي وسيلة للانخراط في صفقات “الكاش” وانتصارات، فإذا الأزمة بلغت مداها من الجمود السياسي، فرفع المتظاهرون في السويداء مطالب تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، الذي ينصّ على انتقال سياسي وتأسيس نظام جديد.

تخرج مدينةُ من حيث لا يحتسب، بكل تلك “الأناقة الثورية” في وقتٍ كان العالم بعيدا عن تصديق ذلك، ويُفاجأ حين ترتفع الأصوات لإزالة رئيس دولة/ تاجر موت، و”غير مفيد”، إلا لمجموعة صغيرة وضيّقة من الأشخاص الذين لا يحتاجهم الشعب السوري. وهناك إدراك واسع حتى بين أنصاره السابقين والمحايدين من تردّي الأوضاع الاقتصادية، فوجدوا أنفسهم للمرّة الأولى في دائرة واحدة من الاحتجاجات التي اتّسعت لتشمل درعا وإدلب ودير الزور، وفي مناطق كانت فيها المنظمّات الأهلية قوية، سيما الجغرافيا الحسّاسة بين الأردن وسورية، والعشائر لا تعترف بالحدود في الجنوب.

تحوّل النظام إلى كرة نار يتقاذفها الجميع من دون مراعاة سيكولوجية الشعوب والعوامل التاريخية والجغرافية والبيئية التي تخضع لها. لا يسأل النظام الذي يحاول التملّص من الأكثرية السنيّة نفسه، إن لم تكن تلك الأرض موجودة في الماضي، وفي مستقبل سورية، فيعود هو وحلفاؤه إلى إطلاق التحذيرات من “المؤامرة الكونيّة”، والإرهاب، و”المرتزقة” (لونا الشبل)، وهي تصف أهلها وأبناء شعبها، وإن اختلفت هواجسهم، فهم ينظرون إلى الاحتلالات المتعدّدة، خصوصا استثمارات الروس والإيرانيين في ثروات سورية. ما كان ممكنا جمعُه بالحدّ الأدنى من الخسائر عام 2011، صار مستحيلا وبالأضغاف بعد عمليات القتل والتهجير والتدمير وتحوّل البلاد الى مناطق متنازع عليها (830 موقعا عسكريا أجنبيا العام 2022).

سيحاول النظام إضعاف انتفاضة السويداء من داخلها، أو الضغط من الخارج على نسيجها، ويعمد الى تخريب الحراك المتدفّق بمزاج سياسي في السياق الذي تدهورت فيه ظروف العيش أيضا في الساحل ودمشق واللاذقية وتأديب المتظاهرين، إذ يتّهمونه وعائلته بييع مقدّرات البلد إلى ما وصفوها “الاحتلالات المتعدّدة”. لذا قد يُنصت إلى نصائح الحليف الإيراني الذي يبدي تشدّدا في لبنان مقابل إحساسه بأن سورية يمكن أن تفلت من يده، على عكس لبنان الواقع تحت سيطرة حزب الله.

يدفع النظام ثمن خياراته الخاطئة، بعدما اكتشف الجميع، بما في ذلك تركيا، أنه غير قادر على الالتزام بتعهداته، وسورية تتّجه إلى مزيدٍ من التفتت. وفي المقابل، يؤكّد أهالي السويداء عدم قدرة النظام على التحكّم بالأوضاع بعد الآن بإرسال المدرّعات، أو تهديداته بالقتل والاغتيالات وتفجير السيارات بمساعدة “داعش”، أو من جماعات تلبّس لباسها. لا يستطيع النظام الدخول في مواجهةٍ مع جغرافية درزيّة لا يمكن حصرها سياسيا ومذهبيا، ولا مواجهة مباشرة مع العائلات العلوية، بغية الحفاظ على ولائهم، وهي تمثّل 30% من الاقتصاد السوري، وتظهر استعدادا لمعارضتة وسط تذمّر عام من تراجع الموارد الاقتصادية، وخسارة أكثر من خمسين ألفا من عديد شبانها على مدى سنواتٍ من الحرب، لا تزال بعيدة عن خط نهاياتها مع الرؤى الإقليمية والدولية المتضاربة. هذا إلى جانب تعثّر مسار التطبيع العربي، وهو جزء أساسي من التعبير الذي استخدمه الأسد في مقابلته التلفزيزنية مع “سكاي نيوز عربية” عن “العلاقات العربية – السورية الشكليّة”.

تمثّل احتجاجات السويداء ودرعا تحدّيا للسلطات السورية، وتُنذر بالحاجة إلى حلٍّ عاجلٍ في سورية، ويمكن أن تساعد في تفعيل عمل لجنة الاتصال الوزارية العربية لمتابعة تنفيذ بنود بيان عمّان الصادر في مايو/ أيار 2023. لم ينفذ النظام، ولم يعط العالم شيئا، فزادت الهجرات من مناطق سيطرته ارتباطا بالأوضاع المعيشية المزرية أكثر من الأسباب الأمنية. ولكن هذا ليس السبب الوحيد، فما حصل في مجازر الغوطة والتضامن وخان شيخون وبانياس والحولة، وما رافقها من أعمال تطهير عرقية، هو أكثر من مجاعة، لا سيما حين يندّد المتظاهرون بما وصفوها “جمهورية الكبتاغون” التي تهدّد “الأمن العالمي” (الأمم المتحدة)، وأمن الدول الخليجية، ومع إطلاق “المسيّرات” باتجاه الأردن، محمّلة ليس بالكبتاغون فحسب، بل بالمتفجّرات أيضا. يطالب المتظاهرون بإسقاط رأس النظام في هتافات ساحة الكرامة، وواحد من هتافات الساحل أيضا “يلاّ ارحل يا بشّار”. ويحصل هذا كله في الفترة التي حصل فيها التطبيع العربي، وأخذ الأميركيون يخفّفون من عقوبات “قيصر” الأميركية بعد الزلزال الذي ضرب كيليكيا التركية والشمال السوري. وفي وقت صارت البلاد أضعف من ذي قبل مع انهيار العملة (فقدت 99% من قيمتها)، وأزمة تصدير الإنتاج وتأمين المحروقات والأدوية، ولم تفتح الطرق لمساعدات عربية لإعادة إعمارها، يجيء الحراك (من دون تحديد سعر التكلفة)، ليفرض نفسه على واقع النظام، وعلى شتات المعارضة لإعادة إنتاج خطابها الذي لم يف الموضوع الاقتصادي الاجتماعي قدره.

من الصعب تخيّل أن مهمّة إنقاذ السوريين مستحيلة، وأن العالم لا يستطيع التعامل مع تواريخ إنسانية متوحّشة.

العربي الجديد

——————————

حراك السويداء… ما أشبه اليوم بالبارحة/ محمود الريماوي

بصرف النظر، ولو مؤقتاً عن النوايا، جاء تعامل الحكم في دمشق مع احتجاجات السويداء مفاجئاً، إذ غاب الردّ العنيف على هذه الموجة التي شملت هذه المحافظة في جنوب البلاد التي تشمل المدينة وريفها، وبدرجة أقل محافظة درعا، وتتميز السويداء بسكانها ممن ينتمون إلى طائفة الموحّدين الدروز. أما الاحتجاجات نفسها فقد اتّسمت بدورها بالابتعاد عن مظاهر العنف، وعن إلحاق الأضرار بالممتلكات العامة والخاصة، واتسمت بعصيان مدني شمل إغلاق المحتجّين المرافق الرسمية غير الخدمية، بما فيها مقرّات حزب البعث الحاكم. وحتى كتابة هذه السطور، لم تعرف هذه الموجة، لحسن الطالع والتدبير، سقوط ضحايا أو مصابين، واتّسمت بطابع سلمي خالص. وإلى ذلك، اتسمت بطابع شعبي، بمشاركة سائر الأجيال فيها، مع مشاركة نسائية كثيفة، ما يدلل على العمق الاجتماعي لهذه الاحتجاجات، ولأن البيئات الدرزية تمنح للقيادات الروحية (مشيخات العقل) موقع التصدّر السياسي، لوحظ أن الشيوخ الثلاثة، حكمت الهجري، وحمود الحناوي، ويوسف جربوع، أيدوا معاً، في بيان مشترك، التحرّكات الشعبية، “في إعطاء الحقوق لأصحابها، ونيل العيش الكريم، الذي فقدت جل مقوّماته بسبب الفساد المتفشي، والإدارة الفاشلة، وترحيل المسؤوليات، واعتماد اللامبالاة منهجاً، وهو ما أهلك البلاد والعباد”. وذلك قبل أن يخرج أحد الشيوخ الثلاثة، وهو جربوع، ببيان منفصل، يدعو فيه إلى تغيير حكومي، وأن تكون قوى الأمن عوناً للمواطن، لا عوناً عليه. ثم استتبع ذلك بتصريحات أخرى، نأى فيها بنفسه وبموقعه عن الحراك الشعبي، وأعلن فيها انحيازه للحكم في دمشق. وظهرت أصواتٌ مندّدة بهذا التوجه، وبقي الشيخان الآخران على موقفهما في تبنّي الحراك، كما أن موجة الاحتجاجات لم تهدأ بعد انعطافة الشيخ جربوع.

ورغم أن كثرة من الناشطين صرّحوا في الشارع أمام المايكروفونات أن هذه الموجة الاحتجاجية لم تندلع درءاً لغائلة الجوع، بل هي تعبير عن جوع إلى الحرية والكرامة، غير أن الأيام التي سبقت هذه الهبّة قد شهدت موجة من الغلاء الرهيب مع ارتفاع أسعار الوقود، ما جعل مضاعفة الرواتب الشحيحة مقدّمة لمزيد من الإفقار. كما سبق بروز هذه الموجة الاحتجاجية في جبل العرب بروز أصوات ينتمي أصحابها إلى الطائفة العلوية، تندّد بسوء الأحوال الذي بلغ درجة مريعة، وقد برزت أصوات الناشطين، أحمد إبراهيم إسماعيل وأيمن فارس وماجد دواي، قبل اعتقال الأول والثاني. كما سبق اندلاع هذه الموجة ظهور حركة 10 آب التي قدّمت مطالب إصلاحية، ونشطت في البداية في مناطق الساحل السوري.

وليس سرّاً أن سوريين كثراً كانوا يأملون في أن يؤدّي التطبيع العربي مع الحكم في دمشق إلى بعض التغيير في السلوك الحكومي، من أجل التخفيف من الضائقة المعيشية الرهيبة، إذ لا تكفي الرواتب الحكومية سوى لتغطية نفقات يومين أو ثلاثة أيام حدّاً أقصى، لعائلة تضم أربعة أفراد، غير أن تغييراً نحو الأفضل لم يقع، وبقيت الأوضاع على حالها. وفي الإطار السياسي الأوسع، لم تظهر أية بوادر لمعالجة الملفات الأليمة المتعلقة بالإفراج عن عشرات الآلاف من المعتقلين، أو تسهيل عودة ملايين للاجئين من منافيهم، أو الإقرار بأهمية الحل السياسي المستند إلى قرار مجلس الأمن 4225، الصادر منذ ثمانية أعوام. وبينما تجري دعوة الدول العربية إلى تمويل لإعادة إعمار ما هدمته الطائرات والصواريخ، يجري استثناء إيران وروسيا من هذه الدعوة، رغم مشاركة البلدين المشهودة والكثيفة في الحرب، وفي التدمير الواسع النطاق للمدن والبلدات. ومع حالة اليأس من تحسّن الأوضاع، اندلعت الانتفاضة السلمية لمحافظة السويداء، بعيداً عن أي مظهر فصائلي مسلح، وعن أي استهداف للمسؤولين والأفراد الرسميين، من مدنيين وعسكريين، وهو ما نزع أية ذرائع لاستهداف هذه الموجة الاحتجاجية، فضلاً عن أن هذه الموجة تمثل بيئة الأقليات في بلدٍ متنوّع ديمغرافيا. ولطالما زعم الحكم أنه يحمي هذه الأقليات، وربما لهذا قام بالتنكيل الجماعي بالأكثرية وتشريدها (تراجع عدد المسيحيين من 2.2 مليون نسمة خلال عام 2011 إلى نحو 700 ألف نسمة في العام الجاري)، فضلاً عن الحسابات الرسمية بشأن مخاطر استهداف المحتجّين بالنيران، فقد بدأت الكارثة في سورية في مارس/ آذار 2011 بإطلاق النيران على المحتجّين، وهو ما أدى فيما بعد إلى التداعيات التدميرية.

لا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه هذه الموجة الاحتجاجية، غير أنها كشفت، بعد مضي أسبوعين على انطلاقها، عن موجة تذمّر عميقة تسود سائر الأوساط الشعبية من دون استثناء أية منطقة أو بيئة، وذلك مع ازدياد الخناق على الوضع المعيشي، واشتداد المحاذير من زيادة تدهور الوضع الصحي. ويفاقم من ذلك اضطراب حبل الأمن، وغياب القانون، مع استقالات واسعة من القطاع الحكومي العام، إذ لم يعد الموظفون يملكون ثمن أجرة الانتقال من منازلهم إلى مؤسّساتهم ودوائر أعمالهم.

أمام هذا الوضع الكارثي، بدا اندلاع الاحتجاجات أمراً متوقعاً، كما بدا متوقّعاً أيضاً ضعف المشاركة الشعبية في العاصمة دمشق، إذ وفقاً لشخصية سياسية تقيم في دمشق (أحمد العسراوي)، فإن أعداد الشبان في العاصمة في تناقص مستمر، فأفراد هذه الشريحة إما لقوا مصرعهم، أو أنهم مجنّدون أو معتقلون أو مشرّدون أو مصابون أو نازحون إلى الشمال الغربي أو مهاجرون في بقاع الأرض. والشبان هم من ينشطون في الاحتجاجات. ومع ذلك، تسود حالة الاحتقان الشديد مع الاستنفار الأمني الواسع سائر المناطق، وذلك في عودة إلى أجواء مارس/ آذار 2011 التي شهدت بداية انطلاق موجة احتجاجات عارمة.

ولكن هذا كله لا ينفي احتمالات متشائمة، من قبيل تسلل أفراد من تنظيم داعش الإرهابي تحت جنح الظلام إلى محافظة السويداء، أو أن يعمد حزب الله إلى مثل هذه المحاولة، مخافة خسارة قواعده ونفوذه في سورية، وكان الأمين العام للحزب حسن نصر الله قد وصف حراك السويداء الشعبي بأنه “مؤامرة”، وهو وصفٌ يتسق مع مناهضة الحزب كل تحرّك شعبي في سورية… وهذه المحاذير ماثلة في أذهان جموع المحتجّين.

العربي الجديد

————————-

هل تأخّرت ثورة السويداء؟/ مازن عزي

تتواصل الهبّة ضد النظام السوري في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، منذ أسبوعين. احتلت الانتفاضة الشعبية، كما يحبّون تسميتها، الفضاء العام، فنزل المحتجون إلى الساحات، أعلنوا إضراباً عاماً شلّ الأسواق والحركة التجارية والنقل، وقطعوا الشوارع، وفرضوا إغلاقاً للمؤسّسات والإدارات العامة، ما عدا الخدمية الرئيسية منها.

تتفاوت شعارات المنتفضين تحت مظلة واسعة مطلبية وسياسية، يمكن تلخيصها في وقف انهيار الاقتصاد وتجويع السوريين، وضرورة تغيير النظام عبر تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، ووضع حدّ لإغراق المجتمع بالمخدّرات والعنف، والتوقف عن تحويل المنطقة الحدودية مع الأردن إلى معبر لتهريب الكبتاغون إلى الخليج العربي، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف بيع ثروات البلد للاحتلالات الخارجية، ووضع حدٍّ للتدخل الإيراني وحزب الله. المحرّك الرئيسي لموجة الاحتجاجات الأهلية الحالية قرار مجلس الوزراء أخيرا بتحرير الأسعار، وسط الانهيار المتواصل والمديد لقيمة الليرة السورية. سبقت هذه الهبّة أربع موجات احتجاجية واسعة في السويداء منذ العام 2011، دارت جميعها حول قضايا مطلبيّة معيشية، ولامست التغيير السياسي بحذر. هذه المرّة، بدأت الاحتجاجات بالتصويب السياسي على أسباب الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، عبر المطالبة بإسقاط النظام حلا للأزمة السورية المستمرّة منذ ثورة العام 2011.

الملفت أن مسؤولاً سورياً، حتى هذه اللحظة، لم يظهر عبر الإعلام ليُخاطب المنتفضين. بل تجنّب الإعلام الرسمي الحديث عن الموضوع تماماً، وما زالت تغطياته عن السويداء تراوح بين توزيع السماد على الفلاحين وتسلّم القمح منهم وجماليات موسم قطاف اللوزيات، فالدولة مفلسة تماماً وعاجزة عن تقديم أي خدماتٍ إضافيةٍ اعتادت تقديمها في مواسم الاحتجاجات، كرشاوى قد تحسّن مزاج المنتفضين، مثل زيادة ساعات التغذية بالتيار الكهربائي، أو تقديم تعويضاتٍ لمزارعي التفاح أو رفع سعر استلام القمح. في المقابل، لا يبدو أن النظام في وارد تقديم أي تنازلٍ سياسي، مهما كان نوعه، يتضمّن اعترافاً بوجود إرادة للناس، ورغبة في التغيير. لا تنازل ذا معنى، يتضمّن إشراكاً حقيقياً للناس في صنع معاشهم اليومي، وسحباً لتسلّط الأجهزة الأمنية والعسكرية على حياتهم ومقدّراتهم. لذا، ليس لدى النظام سوى مروحة من الحلول الأمنية والعسكرية، والتي بدأ التهديد باستخدامها في السويداء عبر حملاتٍ إعلاميةٍ طائفيةٍ تحريضيةٍ يشنّها بعض المؤثرين في وسائل التواصل من إعلاميي النظام، يتهمون فيها الدروز بالخيانة والعمالة للخارج، وبأن النظام لم يقُل كلمته بعد، ويهدّدون بحرق السويداء على رؤوس أهلها، لأنها أحرقت صور الرئيس السوري، وأزالت شعارات “البعث” من الفضاءات العامة. إعادة تموضع قوات النظام وانتشارها في بعض المواقع ضمن السويداء بدأت تبعث رسائل عن إمكانية وقوع صداماتٍ مسلحة.

حظيت موجة الاحتجاجات الراهنة بدعم الرئاسة الروحية للدروز، مُمَثلةً بشيخ العقل حكمت الهجري، وكذلك دعم شيخ العقل حمود الحناوي من مؤسّسة مشيخة العقل، بينما انحاز قطبها الثاني شيخ العقل يوسف جربوع لسردية النظام عن وجود مؤامرة ودسائس وأصوات مشبوهة، وذلك خلال اجتماعه مع محافظ ريف دمشق موفداً من القيادة السورية. القيادات الزمانية، من الوجهاء الاجتماعيين والزعماء التقليديين وقادة العائلات، تنوّعت مواقفهم أيضاً، من التأييد الكامل لمطالب الحراك السياسية، إلى مواقف أكثر حذراً نسبياً، كمطالبة الحكومة بالإصلاح وتحسين الوضع المعاشي.

ورغم أن التصعيد بات احتمالاً ممكناً، وسط انتشار محمومٍ للشائعات عن الفوضى والمؤامرات، إلا أن الحراك على الأرض يتوسّع ويتمدّد، والمطالب تتجذّر، والناس تبدو وكأن عقدة لسانها التي لازمتها طوال السنوات الماضية، قد حلّت دفعة واحدة، فخرجت الأصوات عالية بلا قيد ولا شرط. كل شيء خاضع للمساءلة. كما كل الثورات الأصيلة، النقاش مفتوح على مصراعيه، في الشارع وفي غرف وسائل التواصل الاجتماعي. يتمركز النقاش حول الموضوعات كلها، بلا حرج، وبلا سقفٍ سياسي. الكل يدلي بدلوه، عن الهوية السورية، وموقع الدروز فيها، المركزية أو الفيدرالية، علَم النظام أم علَم الاستقلال أم بيرق التوحيد، العسكرة أو السِّلمية. النقاش مستمرٌّ ولحظيّ، ما هو المطلوب الآن، وغداً، وبعد غد. فجأة امتلكت الناس أصواتها، وعادت إلى الحديث بطلاقة. لا شيء منجزاً، ولا شيء كاملاً. مجرّد حراك يحدث ويتشكّل في هذه اللحظة. المخاوف كبيرة من الفوضى وردود فعل النظام والعصابات، لكن الروح مفعمةٌ بالآمال، بإمكانية حدوث تغيير حقيقي بعد خمسين عاماً من حكم حزب البعث. ليس أدلّ على ذلك من قرار إغلاق كل شُعَب حزب البعث ومقارّه على امتداد مساحة المحافظة، والنقاش الدائر حالياً عن مصيرها وتحويلها إلى روضات أطفال أو جامعات. بل ثمّة قرى قرّرت إلغاء مقرّرات التربية الوطنية من المناهج المدرسية، وإنهاء هتاف التلاميذ لشعارات “البعث” الصباحية لدى عودتهم إلى المدارس قريباً.

للخارج، يبدو ذلك مفاجئاً، فالسويداء بقيت حيادية خلال سنوات الثورة السورية والحرب الأهلية التي تلتها. رفض أبناؤها الخدمة العسكرية الإلزامية في قوات النظام، وعاشوا نوعاً من الحماية الذاتية تحت راية بعض الفصائل الأهلية المحلية. اكتسبت المنطقة خصوصية، فكان ردّ النظام بخفض خدمات الدولة فيها إلى الحدود الدنيا، وإدارة الفوضى الأمنية من الخلف. السويداء، على ألسنة أهلها، تعاني شحّاً في ماء الشرب وجفافاً غير مسبوق بسبب التغيّر المناخي، لكن الدولة لا تسعى جدّياً إلى إصلاح آبار المياه المعطلة، ولا لمد المضخّات بالكهرباء. الناس يدفعون من جيوبهم تكاليف الخدمات التي تقدّمها الدولة، رشاوى وثمناً للمواد الأولية والمعدّات، قبل أن تأتي عصاباتٌ مرتبطةٌ بأجهزة الأمن لتسرق كل تلك التجهيزات. هذا هو الحال أيضاً في درعا، وفي ريف دمشق. الدولة باتت عبئاً ثقيلاً على الناس، وجابياً للضرائب، من دون أدنى خدمةٍ في المقابل. النظام يعيش على الفوضى، ويغذّيها، ويراقب انحلال الدولة وانهيارها، وانسحاق الناس تحتها.

السويداء كانت تعيش الزلزال السوري بطريقتها. شاهدت أهوال النظام في قمع السوريين، وشاهدت تطرّف بعض المعارضة وأسلَمَتها. مع الوقت، كان الغضب يتصاعَد، والأصابع تتجه إلى المسؤول الرئيسي عن هذه الفوضى، وإلى المستفيدين منها. وهكذا، كما جميع الثورات، حدثت ثورتُهم حين اكتملت أسبابها.

ولتفسير ذلك، يبدو مهمّاً إلقاء نظرة على آليات حدوث الهبّة لدى هذه الأقلية المذهبية – القبلية. إذ يصف بعض الدروز أنفسهم تقليدياً بـ”ولاد الخوثَة”، للتعبير عن حالهم حين يعتريهم الغضب كجماعة، لا كأفراد. و”الخَوَث” هو رديف لغياب العقل، في مذهب الموحّدين الذي يُعلي من راية العقل ويضعه أول حُدوده الخمسة المقدّسة. بل تسمّى السلطة الدينية العليا لدى الدروز مشيخة العقل، ولهم منها ثلاثة شيوخ في السويداء. نقيض ذلك العقل هو الخَوَث في عُرف الدروز القدامى. وغالباً ما يقال ذلك الوصف في إحالةٍ إلى لحظات التمرّد، الانتفاضات والهبّات الشعبية، لجمهور الدروز الأوسع. الخَوَث هنا هو لحظة غياب العقل، جنونٌ جماعي. لو كان التعبير معاصراً لربما وصفوا أنفسهم بـ”أبناء الثورة”.

لا يعني ما سبق أن الدروز هم جماعة ثائرة في طبعها وجيناتها. بل الدروز، في العموم، مجتمعٌ محافظ، شديد التمسّك بتقاليده وعاداته، وما زال، في كتلته الأكبر، يحتكِم إليها في أزماته. وهم، ككل الجماعات البشرية، يقضون وقتاً طويلاً تحت العسف والظلم، ويهبّون في لحظة ما دفاعاً عن أنفسهم. حتى هذه الهبّة الاستثنائية، تستغرق وقتاً طويلاً وتُطبَخ على نار التراكم، وتحدُث بشكل مفاجئ، ككل الثورات. والدروز، كغيرهم من الجماعات، ليسوا ميّالين للخروج عن السائد والمألوف. المغرّدون خارج السرب، في البداية، غالباً ما يطاولهم النبذ الاجتماعي، ورفض الوجهاء والمشايخ لهم.

أما الانقلاب الدرزي الجذري، فغالباً ما يحدُث بشكل جماعي. إذ قد تتأخّر الهبّة الدرزية، حتى اكتمال كل عناصرها الداخلية، واتفاق الغالبية على ضرورتها، وحتميّتها. وما يحدُث هو انقلاب غالبية الجماعة، في لحظةٍ واحدة، من حالٍ إلى حال. ولا شك أن لدى بقية الطوائف والإثنيات مسالك تتشابه أو تختلف. لكن المميّز لدى الدروز قد يكون هذه الهبّة الجماعية بعد طول رفض وانكار لأسبابها ونبذ لمؤججيها. لا يعني ذلك، أيضاً، أن الجميع فعلياً يثورون، أو أنهم على قلب واحد، أو أن هبّتهم بالضرورة ستنجح، أو ستتمكّن من تحقيق بعض مطالبها. لكن في هذه الحالة يرتفع مستوى التحفيز والحَمِيّة، وتضافر الجهود. في هذه اللحظات، يردّد الدروز بشكل متواصل مقولة: “نَفَس الرجال بيحيي الرجال”، في نوع من إذكاء الحماسة، المتكرّر والمستمر والمتواصل، للحثّ والتشجيع، والتحفيز، وحماية الظَّهر.

ما يحدُث اليوم هو ثورة السويداء، بتوقيتها الخاص، وزمنها المضبوط على ساعة الحدث السوري، لا تأخيراً ولا تقديماً. بل تماماً حين صار وقت هبّتهم انتصاراً ودفاعاً عن ذاتهم، وتضامناً مع بقية السوريين، ورفضاً للنظام. والمستقبل القريب مفتوحٌ على احتمالات كثيرة، ليست جميعها وردية بطبيعة الحال.

العربي الجديد

—————————

حين تخدم العصبية الدينية المطلب الوطني/ رانيا مصطفى

من الموضوعية القول إن للعصبية الدينية القوية للدروز الدور الأكبر في خروج كامل محافظة السويداء السورية ضد نظام الأسد في تظاهرات الأسبوع المنصرم، بعد إعلان شيخ عقل الطائفة، حكمت الهجري، تأييده الكامل مطالب المحتجّين، وبأعلى سقوفها السياسية، وهي رحيل نظام الأسد وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254؛ الأمر الذي شجّع أبناء المحافظة المتردّدين على الخروج إلى الساحات، وتحت راية الحدود الخمسة. يضاف إلى ما سبق رفعُ لافتاتٍ ترفض التقسيم وتقول بوحدة الشعب السوري، وأخرى تنتقد هيئات المعارضة في الشمال السوري، وثالثة تسمو فوق طروحات الإسلام السياسي، وفوق الطائفية، وتقول إن الدين لله والوطن للجميع، ورابعة ترفض الأجندات الخارجية، وغيرها من مطالب تناسب كل السوريين، وفوق ذلك تبنى أبناء المحافظة قضية إخراج الناشط أيمن فارس، ابن الساحل السوري، الذي اعتقل وهو في طريقه إلى السويداء، عبر اختطاف ضباط للنظام لمبادلتهم به. هناك في ساحة السير في السويداء، وكذلك في كل بلدات المحافظة، صارت حرية التعبير في الشأن السياسي مسموحة، حيث تُفتح النقاشات والانتقادات على المستوى الوطني وتطرح الخلافات بين أطياف سياسية مختلفة في المحافظة، وتُنتج كل يوم توافقاتٌ تقود إلى مزيدٍ من تنظيم الحراك وتطويره، حيث تطرح مبادرات عن إدارة شؤون المحافظة بمجلس مؤقت، فيما رجال الكرامة وغيرهم من المجموعات المسلحة ذات التنظيم المعقول، والتي تحظى بثقة الناس، هؤلاء يتولون مهمة الحفاظ على الأمن العام.

ما يجعل دروز سورية أكثر عصبية من غيرهم هو عددهم القليل نسبياً (أقل من 800 ألف نسمة، 3.2% من تعداد السكان). وفي الأصل، لا يتجاوز مجمل تعداد الدروز في بلاد الشام المليونين، وبالتالي هم كطائفة تخشى الانقراض، باتوا محافظين أكثر على قيمهم وأخلاقهم على مرّ العقود، هذا أولاً. وثانياً، أنهم يتركّزون في محافظة السويداء، ذات الطبيعة الجبلية، وهذا ساعدهم في قيادة حركات العصيان والتمرّد مراراً ضد السلطة العثمانية والاحتلال الفرنسي، ما أكسبهم خبرة تاريخية في إثارة الحماسة والنخوة بين أفرادها، وتلبية الدعوة إليها عند الحاجة. لكن تلك العصبية الدينية لم تقبل بدولة للدروز في الجنوب أيام الاحتلال الفرنسي، بل انضمت إلى الحركة الوطنية في دمشق وريفها بقيادة عبد الرحمن الشهبندر، وكان سلطان باشا الأطرش قائداً للثورة السورية التي أخرجت الفرنسيين من سورية. وبعد اندلاع الاحتجاجات في 2011، كانت هناك مشاركة بارزة لأبناء السويداء في التظاهرات وفي العمل العسكري. ولم تخرج كل المحافظة حينها، حيث كانت هناك فئات مؤيدة للنظام وأخرى تقف على الحياد وتبدي تخوفاً وجودياً، كباقي الأقليات الدينية من الأسلمة السياسية المتصاعدة في مناطق الثورة. خروج المحافظة بأكملها اليوم، وبهذا الشكل المنظم، ما كان ليتم لولا عدة عوامل. أولها: ظهور حركة مشايخ الكرامة المسلحة بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، التي استطاعت حماية قرابة 40 ألف شاب رفضوا الالتحاق في الخدمة العسكرية، وأصبح اسمها رجال الكرامة بعد اغتيال البلعوس، في رمزيةٍ إلى أنها معنية بحماية كل أبناء المحافظة. وقد شجّع هذا على ظهور حركة “بدنا نعيش”، بمطالبها المعيشية، لكنها لم تتوسّع كثيراً. وكرد على هذا التمرّد كان للنظام رجالاته في المحافظة، من الدفاع الوطني المموّل من إيران والخارجين عن القانون ومروّجي المخدّرات، وهؤلاء مسؤولون عن الانفلات الأمني الحاصل خلال السنوات الماضية؛ لكن دخول مسلحي “داعش” إلى قرى البلدات الشرقية، وارتكاب مجازر، وتكاتف أبناء المحافظة لردعهم، عزّز ذلك حالة التضامن في المحافظة.

العامل الثاني لخروج احتجاجات اليوم هو الوضع الاقتصادي المتردّي إلى أقصاه، والذي قد يقود إلى تفجير احتجاجات في مناطق سورية أخرى. أما العامل الثالث والأهم، فهو درجة ضعف النظام، والتي بدت واضحة مع فشل المبادرة العربية لإعادة العلاقات معه، وأن ذهابه بات فرق حسابٍ بين الأجندات الدولية والإقليمية، خصوصا بعد الاهتمام الأميركي المتزايد بالمنطقة، حتى لا تذهب إلى حضن الصين وروسيا، وبسورية للتضييق على المشاريع الإيرانية التوسّعية، وحماية أمن إسرائيل وتقليص تجارة الكبتاغون، إضافة إلى زيادة التقارب التركي الأميركي. دفع ذلك كله إلى استقراء اقتراب نهاية النظام، وهنا كان لانضمام الشيخ الهجري أهمية حاسمة في توسّع الاحتجاجات في المحافظة، والذي ترافق مع موقف مماثل لشيخ عقل الطائفة في فلسطين، موفق طريف.

النظام، وعبر أبواقه ومحلليه السياسيين، مهتم حاليا في تشويه الحراك في السويداء، بوصمه بالطائفية والمشاريع الانفصالية والأجندات الخارجية. ولا يبدو أنه سيستخدم الخيار العسكري، لأن الدم سيقود إلى تدخّلاتٍ دوليةٍ ليست في مصلحته، وإلى توسيع الاحتجاجات، لتشمل جرمانا وصحنايا وغيرها من المناطق التي يسكنها الدروز؛ هو يتعامل حاليا باللين، لكنه يملك أوراقاً، منها إحداث خلل أمني عبر تحريك رجالاته في المدينة، أو تنظيم داعش في شرق المحافظة. وقد يخنق المدينة ويقطع الخدمات عن المحافظة الطرفية، وهذا يشجّع فرصة دخول الأجندات الخارجية على الخط، ومنها بناء منطقة عازلة في الجنوب بقيادة التحالف الدولي، الأمر الذي لن يكون في مصلحة النظام نفسه.

لا تملك الأقليات الدينية في سورية، ومنها الدروز، مشاريع سياسية خاصة بها، وهي تميل إلى العلمانية في السياسة، وإن كان يميل متديّنوها ومحافظوها إلى إدارة شؤون طوائفهم الخاصة بما يتعلق بالأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث وغيرها). وحتى العلويون، لم تصمد دولتهم في الساحل أيام الفرنسيين، وتمكّن رجالاتهم من السيطرة العسكرية على الجيش والأمن بعد السبعينيات عبر حزب البعث، القومي وضمن بلد فلاحي بغالبيته، وليس بمشاريع دينية، على عكس الإسلام السياسي الذي يملك رؤيته الخاصة للحكم، والتي لا تتوافق أيضاً مع الأكثرية السنّية في سورية؛ ولا يعلو صوت الطائفية في سورية إلا حين تتهدّد من الإسلام السياسي. وقد أحسن النظام السوري استخدام هذا البعبع الإسلامي، سواء لتوطيد حكمه منذ الثمانينيات، أو لمواجهة الاحتجاجات في 2011. وبالتالي، لا يمكن لاحتجاجاتٍ تخرج من الأقليات الدينية أن تحمل مشاريع سياسية خاصة بها، وتدرك أن مصالحها تأتي ضمن السياق الوطني.

————————-

احتجاجات السويداء… مجازفة الرمق الأخير/ عمر الأسعد

ضمن سياق الحرب في سوريا، يأتي اشتعال المظاهرات في السويداء، ليفتح الباب على التساؤلات، التي لا يتردد بعضهم بإضفاء “سحرية فاقعة” عليها، حين يربطونها “بالدروز” -وهم غالبية سكان المحافظة- وألوان رايتهم ولباس مشايخهم أو غموض معتقداتهم.

تختلف موجة الاحتجاجات الشعبية، التي انطلقت في محافظة السويداء السورية، خلال الأسابيع الفائتة، عن أحداث ومظاهرات عاشتها المحافظة الجنوبية، تدرجاً منذ عام  2018 بعدما هدأت جبهات القتال نسبياً.

إذ امتازت الاحتجاجات السابقة، بقصر المدة، ومحدودية المشاركة، واقتصار مطالبها على الجانب المعيشي، أما الشعارات السياسية التي تطال النظام السوري بشكل مباشر، فإن ظهرت كانت لا تلبث أن تتراجع، ولم يندر أن تُسبّبَ ابتعادَ شريحة واسعة عن التظاهرات.

من ناحية أخرى وعلى وقع الانهيار المعيشي المتسارع، وهبوط سعر صرف الليرة، وموجات الهجرة الجارفة بالتحديد للفئات الشابة، والتي شملت نساءً ورجالاً وعائلات بأكملها في كثير من الأحيان، بدا أن التململ أو ربما الألم بلغ مرحلةً قصوى، في مجتمع “مُزارع/ مُحارب” يغلب عليه التماسك العائلي والمحافظة الاجتماعية.

يضاف إلى ما سبق المعاناة المريرة مع حالة الفلتان الأمني، وانتشار السلاح وعصابات التهريب والخطف، وتجارة المخدرات شبه العلنية، وهذه الحال  فضلاً عن تهديدها المباشر لحياة الناس وأرواحهم، تعتبر خرقاً لأعراف وعادات اجتماعية، طالما شدد أهل المحافظة على تمسكهم بها، ونبذوا الخارجين عنها. 

ضمن سياق الحرب في سوريا، يأتي اشتعال المظاهرات في السويداء، ليفتح الباب على التساؤلات، التي لا يتردد بعضهم بإضفاء “سحرية فاقعة” عليها، حين يربطونها “بالدروز” -وهم غالبية سكان المحافظة- وألوان رايتهم ولباس مشايخهم أو غموض معتقداتهم.

 بيد أن الالتفات إلى وقائع المجتمعات الفلاحية السورية، منذ النصف الثاني للقرن العشرين، ومتابعة تطوراتها وتقلبات دهرها المتشابهة، من سهول الجزيرة شمالاً، إلى سهل حوران وجبله جنوباً، ومعاناتها مع عسف السلطة وفسادها، وموجات الجفاف، وتمزق نسيجها الاجتماعي، أو صعود بعض أبنائها على أكتاف التعليم أو الحزب القائد، وارتباطهم بوظائف الدولة الوطنية وأجهزتها ومؤسساتها، وهجرتهم إلى المدن الكبرى، وتمدين أريافهم بالخدمات التعليمية والصحية والبنى التحتية، قد يزيل بعضاً من هالات الغموض والسحر، ويساعد على فهم الواقع بشروطه، وعدم الاكتفاء بالتفسيرات الهوياتية والطائفية، التي طغى استسهال استعمالها المُجرّد عن البنى والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، على أي مقاربة عقلانية ممكنة في السياق السوري.

ماذا عن “الرابطة الدرزية”؟

أبدت المتظاهرات والمتظاهرون غضباً وحماسةً، بعدما بلغ القهر منهم مبلغاً، دفعهم إلى حرق المراكب، كما أشارت واحدة من اللافتات التي حملتها سيدة في ساحة التظاهر في مدينة السويداء. يشعر هؤلاء حقاً أنه لم يعد هناك شيءٌ يخسرونه، فالواقع الاقتصادي يشير إلى أن غالبية الموظفين، لا تكفي رواتبهم للمواصلات التي توصلهم إلى أعمالهم، ما اضطر كثيرين منهم للاستقالة، والبحث عن سبل عيش أخرى غير الوظيفة.

في المقابل فإن الشبان والشابات لا طريق أمامهم إلا الهجرة إن أتيحت، وهذه صدّعت جزءاً هاماً من البنى الاجتماعية، وعرفت مظاهر لن تمرّ دون أثر على مجتمع متماسك ومحدود العدد، يضاف إلى ما سبق أن حالة الامتناع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، جعلت المحافظة الممتدة على 5500 كم مربع، عبارة عن سجن موسّع لكثير من أبنائها المتخلفين عن الخدمة الإلزامية، أو الفارّين منها والذين لا يستطيعون التحرك خارج حدودها.

 احتجاجات السويداء هي مجازفة الرمق الأخير، قبل بلوغ الهاوية، والهاوية هنا ليست مجازاً، بل هي المجاعة التي يخيّم شبحها على عموم سوريا، ولا يبدو أنها سوف تستثني أحداً، مجاعة قد لا تبقي مجالاً للتنابز الشعبوي حول ثورات الجياع وثورات الكرامة.

ما يميز هذه الاحتجاجات اليوم توسعها العرضاني، فبينما كانت تقتصر سابقاً على مدينة السويداء، وبعض البلدات الكبيرة أو ذات الرمزية مثل شهبا وصلخد والقريّا، من الواضح اليوم أن الاحتجاجات تمتد في مختلف قرى وبلدات المحافظة الصغيرة منها والمتوسطة، يضاف إليها تلك القطيعة الواضحة مع السلطة، متمثلة بإزالة صور رموزها، عن الفرق الحزبية التي أغلق المحتجون مقراتها، وعن المدارس التي قرر بعض الأهالي أن أبناءهم لن يرددوا فيها شعارات حزب البعث في عامهم الدراسي الجديد، كما أعلن أهالي قرى وبلدات عدة في بيانات مصورة أو مكتوبة. 

علاوة على ما سبق، يأتي وقوف مشيخة العقل متمثلة بالشيخ حكمت الهجري والشيخ حمود الحناوي ومساندتهما الواضحة للحراك، لتعطي “حصانة دينية واجتماعية” للمحتجات والمحتجين، وهذا ما لم يكن متوفراً لهم في السابق، فإذا كانت بعض الاحتجاجات أو المظاهر المسلحة قد نهضت على أكتاف بعض المشايخ مثل حركة رجال الكرامة، إلا أن هذه الحال لم تكن تحظى بمباركة مشيخة العقل، لا بل حاولت المشيخة التصدي لصعود الشيخ وحيد البلعوس، قبل أن يتم اغتياله في أيلول/ سبتمبر 2015.

يبقى السؤال هنا، والذي يخطر على بال كثيرين، كيف ستؤثر امتدادات الدروز في المنطقة على التحركات القائمة في المحافظة، وهل سيدعمونها؟ من الملاحظ أن ردّات الفعل من المجتمعات الدرزية المتوزعة في بلاد الشام، لم تأت بالمستوى الذي توقعه بعضهم، إذ غابت أشكال التضامن، إلا عن وقفة شهدتها أراضي عام 1948، وأخرى في مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، لكن وقبل الحديث عن دروز خارج الحدود السورية، يجدر الانتباه لغياب التضامن أيضاً عن دروز داخل سوريا، وربما هذا ما دفع المحتجين للهتاف وإرسال التحيات المعاتبة إلى أبناء طائفتهم، الموزعين في مدن وبلدات ريف دمشق مثل جرمانا وصحنايا والأشرفية وبعض بلدات جبل الشيخ.

هنا يمكن نزع الطابع السحري عن مجتمع درزي شديد الصلابة والتجانس يتخيله كثيرون، والحديث عن  ظروف نضجت بهدوء في السويداء، ولم تنضج حتى في بلدات ريف دمشق القريبة وذات الحضور الدرزي، التي لها خصوصيتها وتخوفاتها وأنماط ارتباطها بالسلطة، والاستفادة منها ومن قربها الجغرافي لمراكز القرار أو الفساد، أما الحديث عن تضامن درزي عابر للحدود فهو وإن كان متوقعاً، إلا أنه مبالغ فيه حالياً على الأقل، فقد لا يتجاوز الوقفات التضامنية، وإرسال بعض المعونات المالية والعينية للأقارب، خاصة إذا لم تدفع السلطة نحو التصعيد وعمليات القمع المعروفة عنها.

ماذا بعد المظاهرة والغضب؟

رفع المحتجون في ساحات السويداء سقف مطالبهم، في لحظة كان مسار إعادة العلاقات العربية والدولية مع النظام السوري يسير ولو ببطء، هكذا بدا وكأن السويداء تفاجئ الجميع بعلو نبرتها ووضوحها، إلا أن تردي الأحوال الاقتصادية، ووقوع أهالي المحافظة تحت سلطة العصابات، فضلاً عن انعدام الخدمات، كانت ظروفاً كفيلة، بانزياح كتلة وازنة من الناس إلى الحركة الاحتجاجية، والتي سرعان ما تصاعدت مطالبها من الاقتصادي والخدمي، إلى السياسي، ذاك أن تراكم الأوضاع لم يعد خاف على أحد، في محافظة وإن سكت الناس فيها عن ممارسات السلطة، إلا أنها لم تكتسب لديهم يوماً عميق احترام أو مكانة، ولم يكن من النادر أن يجري الاعتزاز بالرموز المحلية، بينما تُغيّب رموز السلطة إلى درجة ثانية، أو يجري التذمر والسخرية منها ومن فرضها على الفضاء العام.

 وفي هذا السياق، يجب التذكير أن إزالة الصور والتماثيل بدأت في السويداء على مراحل، فتمثال الأسد الأب تمت إزالته من الساحة التي يتظاهر فيها الناس اليوم، منذ عام 2015 إثر اغتيال الشيخ وحيد البلعوس، أما صور الأسد الابن فتمت إزالتها عن مبنى المحافظة في موجة احتجاجات سابقة، ومن المهم التذكير بهذه الوقائع اليوم، كي لا تبدو الاحتجاجات وكأنها قفزة من الصفر، أو أنها منفصلة عن الوقائع السورية المريرة.

هنا يأتي السؤال ما الذي ينتظر السويداء، وهل تستطيع أن تذهب إلى القطيعة التامة مع السلطة؟، هذا السؤال يطرحه كثيرون، لكن الواضح أن المحتجين وإن قطعوا مع النظام وعسفه ورموزه، لكنهم لا يريدون-حتى الآن- القطيعة التامة مع المؤسسات العامة، والسردية الوطنية المتعارف عليها، ومع امتدادهم السوري في المدن التي يهتفون لها يومياً، ولم يحيدوا عن مطلب التغيير والانتقال السلمي للسلطة ضمن إطار القرار الدولي 2254، وارتفاع صور من يعتبرهم السوريون رموز الاستقلال، أو حتى اللافتات الناقدة لأطراف المعارضة، لا تخلو من دلالة، خاصة بعدما طالت مرحلة دفع أثمان الحرب وانسداد الأفق السياسي، لدرجة أنها دفعت رجالا ونساء تجاوزوا السبعين إلى ساحات التظاهر، هؤلاء بالحرف لا يجدون لا أبناء ولا أحفاد يرافقونهم إلى طبيب، أو يؤنسون وحشتهم في ليالٍ لا كهرباء فيها ولا ماء ولا وقود للطبخ أو التدفئة.

ارتفاع سقف المطالب ووضوح إشارتها السياسية، وما يثيره هذا من حيرة وتساؤلات، لا يعني أبداً أن لدى المتظاهرين ضمانة للمستقبل بدعم تقدمه جهة ما دولية أو إقليمية، على ما يحلو للبعض التخيّل، كما لا يعني ضمانهم لعدم رد النظام العنيف عليهم، سواءً بشكل مباشر، أو من خلال استخدام من ما زالوا يوالونه وينتفعون من سلطته داخل السويداء،  بل إنها بالفعل مجازفة الرمق الأخير، قبل بلوغ الهاوية، والهاوية هنا ليست مجازاً، بل هي المجاعة التي يخيّم شبحها على عموم سوريا، ولا يبدو أنها سوف تستثني أحداً، مجاعة قد لا تبقي مجالاً للتنابز الشعبوي حول ثورات الجياع وثورات الكرامة.

لا ينتظر السويداء، إلا ما ينتظر سوريا وأهلها، ولم تطالب احتجاجات السويداء اليوم، سوى ألّا تُتركَ وحدها، فهذه الضمانة الوحيدة، كي لا تنتهي الاحتجاجات بقيمة صفرية، أو بتسوية محلية رخيصة، تشبه غيرها من التسويات التي شهدتها مناطق سورية أخرى، أو ربما بقيام سلطة محلية ليس من الضروري أن تكون ضامناً للحريات وحقوق الناس، على غرار غيرها من سلطات الأمر الواقع  القائمة في المناطق السورية

درج

————————————

 سوريا: شروخ واضطراب في الوضع القائم

تشهد سوريا عددًا من الاضطرابات السلمية والمسلحة تمتد على شكل قوس من الشمال إلى الشرق، أبرزها تصدعات داخل ركائز النظام في منطقة السويداء، وتصدعات أيضًا في بنية التركيبة التي تجمع (قسد) مع بعض القوى العشائرية برعاية أميركية في مناطق الشرق بدير الزور. قد تتطور هذه الديناميات إلى تغييرات في بنية التحكم ونطاقه.

اندلعت في السويداء جنوب سوريا موجة احتجاجات جديدة، مستمرة منذ منتصف أغسطس/آب 2023، هي الأوسع مقارنة مع الموجات السابقة التي شهدتها المحافظة. بالتزامن، شهدت أيضًا دير الزور شرق البلاد، أواخر أغسطس/آب 2023، اشتباكات عنيفة للغاية بين المكونات العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، سرعان ما تحولت لمواجهات مستمرة بين قسد والعشائر، وهي تُشكل امتدادًا للاحتجاجات التي كانت تخرج في ريف المحافظة الشرقي خلال السنوات الماضية. في الأثناء أيضًا تشهد خطوط التماس بين مناطق المعارضة والنظام شمال غرب البلاد عمليات عسكرية محدودة قد لا تُؤدي لتغير في خارطة السيطرة لكنها مؤشر على شروخ في بنية النظام الأمنية. بالموازاة، زاد نشاط القوات الأميركية في سوريا بقصد مد نفوذها والتضييق أكثر على مناوئيها.

السويداء: اضطراب في معاقل النظام

جنوبًا، شهدت السويداء في 16 أغسطس/آب 2023، إضرابًا عن العمل لعدد من سائقي وسائط النقل؛ رفضًا لقرار “حكومة النظام” رفع أسعار الوقود، وسرعان ما تحول الإضراب إلى احتجاجات اندلعت في معظم مدن وبلدات المحافظة. في الأثناء، كانت الليرة السورية تشهد انهيارًا تاريخيًّا جديدًا؛ حيث وصل سعرها إلى ما دون 15 ألفًا للدولار الواحد، تزامنًا مع إعلان النظام عن رفع مرتقب للدعم الحكومي عن المحروقات وزيادة في أسعار الخبز.

يُحمِّل المتظاهرون النظام مسؤولية انهيار الليرة؛ التي وقعت غالبًا نتيجة مضاربات كبيرة رعاها المصرف المركزي لتحصيل النقد الأجنبي بعد فقدان الأمل في الحصول على تمويل عربي قريب، وفي ظل تراجع محتمل لدخول أموال جديدة عبر مشاريع التعافي المبكر بسبب تعطل آلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود التي كانت تتضمن دعمًا أمميًّا لتلك العمليات.

تلقت احتجاجات السويداء دعمًا واضحًا من مشيخة العقل -وهي المرجعية الدينية لطائفة الموحدين الدروز، وتتقاسمها تاريخيًّا ثلاث عوائل، هي: الجربوع والهجري والحناوي- إذ أصدرت بيانًا دعمت فيه مطالب المتظاهرين، دون تبني خطابهم بما يخص “إسقاط النظام السوري وتطبيق القرار 2254 (2015)”، بل أكد بيان المشيخة على “ضرورة إجراء النظام إصلاحات اقتصادية عبر تغيير حكومي، ومحاربة الفساد والتراجع عن القرارات الاقتصادية الأخيرة، وتحسين الواقع المعيشي وتشغيل معبر حدودي بين السويداء والأردن”.

قابل النظام السوري احتجاجات السويداء وموقف مشيخة العقل بسياسات هادئة، بخلاف سلوكه مع الاحتجاجات التي اندلعت في مختلف مناطق البلاد عام 2011، فلم تستخدم أجهزته الأمنية ووحداته العسكرية العنف ضد متظاهري السويداء، رغم وصفهم بالمخربين، وعمل على شق صف مشيخة العقل، عبر محاولة استقطاب الشيخ يوسف الجربوع الذي تراجع عن موقفه الداعم للاحتجاجات بعد أيام من إبلاغه المتظاهرين بالبقاء على موقفهم حتى تحقيق مطالبهم. كما حاول النظام احتواء الأزمة عبر الوسطاء؛ فأرسل وفدًا لتهدئة الاحتجاجات، ضم شخصيات حكومية درزية أو تحظى بعلاقات مع أعيان ووجهاء المحافظة.

إن سياسة التهدئة التي يتبعها النظام مع احتجاجات السويداء تُفسَّر بعدد من الأسباب: حرصه على عدم خسارة نفوذه في المحافظة مع ارتفاع سقف المطالب التي وصلت للدعوة إلى إسقاطه وتشكيل حكم ذاتي، لاسيما أن قرار المواجهة العسكرية قد يؤدي لاستنزاف قدراته وموارده العسكرية في منطقة ينشط فيها العديد من المجموعات المسلحة الدرزية المدعومة محليًّا مثل حركة رجال الكرامة، واحتمال أن تصبح هذه المجموعات في طليعة القوات التي تواجه إيران جنوب البلاد. من جانب آخر، يبدو أن النظام يخشى تضرر ادعاءاته بحماية الأقليات التي يسوِّقها داخليًّا وخارجيًّا وتسهم في تعزيز استمراره في السلطة، وكذلك لا يرغب في تراجع فرصه في الحصول على دعم عربي؛ لأن استخدام العنف سيقوض ما يروج له حول “الاستقرار” في مختلف مناطق البلاد، لاسيما السويداء ودرعا والقنيطرة في الجنوب.

لا تزال أزمة السويداء محلية على نحو كبير لكن هناك ما قد يجعلها تتحول لقضية ذات بعد إقليمي، خصوصًا أن من بين مطالب مشيخة العقل والمتظاهرين فتح معبر بين السويداء مع الأردن، وهو مقترح قديم سبق وبحثته المملكة رسميًّا، عام 2017، ولم ترفضه، وقد تعيد النظر فيه حاليًّا لمواجهة التحديات الأمنية مثل تهريب المخدرات من معبر نصيب في درعا والمنافذ غير الشرعية المحيطة به والتي يتم تهريب الأسلحة منها نحو أراضيها. كذلك هناك موقف دروز فلسطين المحتلة؛ حيث دعمت مشيخة العقل فيها الاحتجاجات الأخيرة، وقد تضغط على إسرائيل لإقناع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية المطبِّعة بدعم مقترح إنشاء حكم ذاتي بغرض حماية دروز المنطقة في ظل تآكل قدرة النظام على حماية الطائفة وتحوله لطرف يُشكل تهديدًا لمصالحها.

بالمحصلة، تعكس احتجاجات السويداء تآكل سلطة النظام على المناطق الخاضعة لسيطرته أو تلك التي استعادها بالقوة مثل درعا؛ التي تشهد مدنها وبلداتها منذ أسابيع احتجاجات مستمرة لا تزال تأخذ طابعًا تصاعديًا، بسبب تردي الأوضاع المعيشية وزيادة الأزمة الاقتصادية، وقد بدأ المشاركون في حراك درعا بزيادة التنسيق فيما بينهم وتقديم الدعم لمتظاهري السويداء عبر الانخراط المباشر معهم.

دير الزور: صدام قسد والعشائر

شرقًا، اندلعت في 30 أغسطس/آب 2023، مواجهات مسلحة واسعة وغير مسبوقة بين قبيلة العكيدات العربية في دير الزور وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). سبق ذلك، تنفيذ قسد عملية أمنية ضد قيادة مجلس دير الزور العسكري، وهو أحد مكونات العشائر العسكرية، أدت لاعتقال قائده، أحمد الخبيل، المكنى أبا خولة، الذي يُعد أميرًا لإحدى عشائر العكيدات (البكير)، ومقتل عدد من المدنيين خلال عمليات الاقتحام لقرى وبلدات ريف دير الزور الشرقي. اعتبر شيخ قبيلة العكيدات، إبراهيم الهفل، الواقعة تعديًا على أبناء قبيلته وقرر قتال قسد، وطالب التحالف الدولي بـ”دعم إنشاء قيادة عسكرية لمحافظة دير الزور من وجهاء وضباط وأبناء المنطقة”.

قد ينطوي موقف الهفل على حسابات أخرى، كترسيخ قيادته للقبيلة من خلال التكفل بحمايتها، خصوصًا بعد تراجع مكانة زعامة المشيخة وبروز نزعة استقلالية للعشائر الفرعية. كذلك بدا أن هناك رغبة لدى الشيخ الهفل بإعادة الاعتبار لمكانة القبيلة وسلطتها بعد أن باتت قسد تتحكم في تشكيل الكيانات والأجسام العسكرية والمدنية في المنطقة دون الرجوع لبيت المشيخة أو الوجهاء والأعيان.

حرصت قسد على إنهاء الأزمة على نحو سريع بالقوة؛ فأعادت الانتشار عسكريًّا في مناطق انسحبت منها مسبقًا لصالح العشائر في ريفي دير الزور الشرقي والشمالي ثم دخلت بلدة شيخ قبيلة العكيدات على أمل إحداث انقسام في مواقف العشائر، وإحداث شروخ في مشيخة الهفل من خلال الاتفاق مع راغب جدعان الهفل وهو أحد أبناء عمومة الشيخ إبراهيم، على تعيينه شيخًا مؤقتًا للقبيلة مكان الشيخ إبراهيم الهفل. لكن هذه المحاولة من قبل قسد لم تؤدِّ إلى إنهاء المواجهات وإنما حوَّلتها إلى ما يشبه حرب العصابات.

في غضون ذلك، يراقب التحالف الدولي المشهد، وبدا موقفه المُعلن أقرب نسبيًّا لدعم قيادة قسد في المواجهات؛ إذ اعتقلت قسد قائد مجلس دير الزور العسكري في إحدى قواعد التحالف بالحسكة، بعد توجيه دعوة له لاستكمال تسوية تبعات الاشتباكات المسلحة التي وقعت بين الطرفين نهاية يوليو/تموز 2023، وقد كانت الأعنف مقارنة مع المواجهات السابقة. كما أن التحالف الدولي لم يمنع قسد من دخول معقل شيخ قبيلة العكيدات ومضافته في ريف دير الزور الشرقي، لكنه بذات الوقت لم يُقدم أي دعم مسلح لها رغم أنها أعطت حملتها غطاء أمنيًّا ضد خلايا تنظيم الدولة.

أدت مواجهات دير الزور إلى اندلاع “فزعة عشائر” داخل مناطق المعارضة شمال غرب سوريا، لاسيما أن دير الزور سبق وأطلقت “فزعات” لمساعدة الأهالي شمال حلب وإدلب في حالات عدة منها كارثة الزلزال. قدمت فصائل المعارضة المسلحة دعمًا محدودًا لأبناء العشائر في الفزعة، فيما اعتبرت تركيا تحركهم مشروعًا لكن دون تقديم الدعم لهم، وشنَّت عمليات عسكرية محدودة نحو منبج التي تسيطر عليها قسد، وواجهتها روسيا بقصف جوي عنيف كونها المسؤول عن حماية هذه المنطقة بموجب اتفاق سابق مع قسد يعود إلى عام 2019، دخلت أثناءه قوات النظام خطوط التماس وانتشرت في العديد من المناطق الفاصلة بين قسد والمعارضة. لم تُؤدِ “فزعة” العشائر إلى تغير في خريطة السيطرة لكنها زعزعت الوضع القائم، وقد تمتد آثارها مستقبلًا إلى تقليص نفوذ قسد في أرياف حلب والرقة.

تُعد المشاكل الاقتصادية واحدة من الأسباب التي أدت لاندلاع المواجهات المسلحة بين قسد والعشائر العربية في دير الزور، فالمحافظة الغنية بالثروات الطبيعية من نفط وغاز وقمح تشهد موجات احتجاج منذ سنوات بسبب سوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي يدعي المحتجون أن قسد مسؤولة عنها؛ لأنها تستغل موارد المنطقة عبر شبكات الفساد “ولا تستجيب” الإدارة الذاتية الشريكة لها لدعوات تحويل الرواتب والأجور من الليرة إلى الدولار. هناك أسباب أخرى كانت أكثر وضوحًا للمواجهات بين الطرفين وفق رواية العشائر، مثل الانتهاكات المستمرة بحق المدنيين وسكان المنطقة والتي تكون غالبًا بغطاء عمليات مكافحة الإرهاب وملاحقة خلايا تنظيم الدولة، إضافة إلى القوانين والإجراءات التي تتعارض مع رغبات السكان مثل التجنيد الإلزامي، وفرض مناهج تعليم تتجاهل الأعراف والتقاليد الإسلامية للمنطقة.

أعلنت قسد، في 9 سبتمبر/أيلول، انتهاء العملية في دير الزور مع استمرار الملاحقات، وبالتزامن أعلن شيخ قبيلة العكيدات استمراره في مواجهة قسد إلى حين تحقيق هدف “إدارة المكون العربي لمناطقه”. مما يدل على استمرار الاضطرابات في المحافظة واحتمال تراجع سلطة قسد عليها مع تنامي مطالب العشائر.

نشاط أميركي كثيف

مواجهات دير الزور واحتجاجات السويداء لم تكن التحولات الوحيدة في الوضع القائم في سوريا. شرقًا أيضًا، هناك نشاط متزايد للتحالف الدولي المتزايد؛ إذ ضاعف من معدل إمدادات السلاح لقواعده منذ بداية عام 2023، فزود قاعدته في دير الزور براجمات صواريخ متطورة، لكن لم يترافق ذلك مع زيادة في عدد القوات الأميركية في سوريا التي يبلغ تعدادها حوالي 900 عنصر، إلى جانب 2500 آخرين في العراق وذلك في إطار عملية “العزم الصلب” ضد تنظيم الدولة، فيما لم يصدر أي إعلان رسمي عن تغير في مهام وعدد هذه القوات.

من جانب آخر، رفع التحالف بشكل ملحوظ معدل التدريبات المشتركة مع جيش سوريا الحرة في قاعدة التنف جنوب شرق البلاد، دون أن يترافق ذلك بتغيير مع برامج عمل وانتشار الفصيل على الحدود مع العراق وعلى خطوط التماس مع قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية. كما قدم التحالف الدعم والتغطية لعمليات أمنية وتدريبات غير مسبوقة بين جهاز مكافحة الإرهاب التابع لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب التابع لقسد، فلقد وقع تنفيذ 6 عمليات مشتركة في مناطق مختلفة شرق نهر الفرات في سوريا منذ أبريل/نيسان إلى أغسطس/آب (2023).

على ما يبدو، فإن زيادة نشاط القوات الأميركية في سوريا تهدف إلى تعزيز حالة الردع والدفاع في ظل استمرار وارتفاع مستوى التهديد الذي تُشكله الفصائل المسلحة الموالية الإيرانية المنتشرة غرب الفرات وعلى أجزاء من الحدود السورية-العراقية، لاسيما أن هذه الميليشيات سبق أن قصفت قواعد القوات الأميركية في دير الزور والحسكة.

تحريك الخطوط في الشمال

شمالًا، نفذت هيئة تحرير الشام خلال أغسطس/آب 2023، ما لا يقل عن 3 عمليات عسكرية ضد مواقع قوات النظام في جبهات غرب حلب وجنوب إدلب وشمال اللاذقية، وهذه العمليات امتداد لتلك التي بدأتها فصائل المعارضة المسلحة منذ نهاية عام 2022 وتهدف إلى تغيير توازن القوى العسكري القائم منذ عام 2020 (بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا).

كانت عمليات فصائل المعارضة والهيئة تقتصر سابقًا على إضعاف قوات النظام، وحاليًّا باتت تركز أكثر على القضم المحدود للمناطق أو السيطرة والاحتفاظ بالمواقع المتقدمة، ويبدو أن التحول في هدف العمليات مرتبط بعوامل عدة أبرزها تراجع قدرة روسيا على توفير التغطية الجوية الكافية للنظام بسبب انتقال معظم مجهودها الحربي إلى أوكرانيا، إضافة إلى تطوير فصائل المعارضة أدواتها وقدراتها الدفاعية والهجومية وحرصها على إنهاء أي تهديد محتمل لمواقعها، لاسيما جبهات جنوب إدلب والساحل، باعتبار أن النظام كان دائمًا يتحين الفرص للتخلي عن التزامه بوقف إطلاق النار والتقدم باتجاه مساحات جديدة ضمن مناطق المعارضة للسيطرة عليها.

تبدلات في الأفق

تُشير التحولات التي تشهدها مناطق جنوب وشرق سوريا إلى وجود إمكانية كبيرة لتغير شكل وتوزيع السلطة في تلك المناطق، وكذلك احتمال تغير أجزاء من خارطة السيطرة والنفوذ في المناطق الخاضعة للنظام بعد ثبات دام لأكثر من ثلاثة أعوام ونصف، إضافة لإمكانية تأثر مسار التطبيع العربي مع النظام بما يجري من تطورات.

سواءً استمرت المواجهات في دير الزور أو انتهت فإنها ستؤدي غالبًا إلى دفع الولايات المتحدة لإعادة النظر في شكل الحكم وتوزع السلطة ضمن مناطق سيطرة قسد حتى لا يستثمر تنظيم الدولة أو إيران الاستياء المتزايد منها، خاصة أن واشنطن تعزز قوة ردعها ضد الجماعات المسلحة الموالية لإيران في سوريا. لذلك، يُرجح أن يكون للمكون العشائري دور أكبر في مستقبل المنطقة على حساب دور قيادة قسد التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري.

لا يبدو أن الاضطراب في دير الزور الذي يؤثر على الاستقرار وعلى مهام التحالف الدولي في مكافحة الإرهاب سيؤدي إلى تراجع الولايات المتحدة عن جهودها في تعزيز قوة الردع لقواتها وشركائها في سوريا؛ إذ من المتوقع أن تستمر في تقديم الدعم والتغطية للعمليات الأمنية المشتركة بين جهازي مكافحة الإرهاب التابعين لقسد والاتحاد الوطني الكردستاني العراقي، وربما إقناع جهاز مكافحة الإرهاب في الجيش العراقي بالدخول في تنسيق مماثل مع أحد شركائها في سوريا أو مع التحالف الدولي بمفرده بغرض تأمين أجزاء واسعة من الشريط الحدودي بين سوريا والعراق، لتقويض أنشطة تنظيم الدولة، وكذلك قدرة إيران على نقل الأسلحة والمقاتلين بين البلدين.

كما فتحت المواجهات في دير الزور ثغرة للمعارضة السورية قد تؤدي إلى إحداث تغير في خارطة السيطرة والنفوذ مستقبلًا، فاستمرارها يحمل فرصة أكبر للفصائل وتركيا من أجل دخول منبج أو أجزاء منها، إضافة لدفع ضامني أستانا، أي تركيا وروسيا وإيران، إلى مناقشة آلية مشتركة لدعم العشائر في مناطق النظام والمعارضة ضد قسد.

إن التأثير المحتمل على شكل السلطة وتوزيعها لا يقتصر على مناطق شرق سوريا بل قد يصل إلى شمالها وجنوبها، فهيئة تحرير الشام استطاعت الوصول لأول مرة إلى مناطق جديدة شمال حلب بغطاء مجموعات وعناصر لأبناء العشائر العاملين في صفوفها لمد سلطتها. بدورها السويداء قد تحصل على امتيازات في الحكم يوافق عليها النظام تحت ضغط عربي كخيار يضمن له استمرار مسار التطبيع وفرص الحصول على التمويل العربي وتوسيع العلاقات الدبلوماسية التي لا تزال محدودة.

مركز الجزيرة للدراسات

———————-

سوريا التي لم تعد مُقنعة لأحد/ رستم محمود

بعد عقد كامل من إعلان الإدارة الذاتية “الكردية” شمال شرقي سوريا، بدأت المظاهرات الشعبية في محافظة السويداء، أقصى جنوبي سوريا، باجتراح خطاب واستراتيجية وتوجه سياسي ذي بُعد مناطقي وهوياتي طائفي، بعيد عما التزمت وألزمت النُخب السياسية والثقافية السورية نفسها به طوال السنوات الماضية، من تقية وطنية وترفع “زائف” عن الاعتراف والانخراط في القضايا والحساسيات الطائفية والمناطقية والقومية والهوياتية في سوريا، التاريخية والراهنة.

وفي مظاهرات السويداء، وبشكل واضح لأول مرة، صار العثور على الأعلام المحلية/ الطائفية أمرا يسيرا، مقابل انزواء وهامشية لنظيرتها “الوطنية”. وملاقاة خطاب سياسي ومطلبي خاص بالمحافظة وأبناء الطائفة “المركزية” فيها، مقابل رفض واضح للانخراط في أي من المشاريع والرؤى السياسية العمومية.

في يوميات “انتفاضة السويداء” تجري اجتماعات مكثفة لقادة الرأي العام المحليين، من رجال دين وزعماء عشائريين وضباط متقاعدين، وقبول وولاء شعبي لما تخرج به تلك الاجتماعات، ومعها طروحات “ساطعة” عن اللامركزية وخصوصية المنطقة وحقوق أبناء الطائفة الدُرزية.

اللافت للانتباه، أن مجموع تلك النزعات والتعبيرات، المناطقية والمحلية والهوياتية/ الطائفية بشكل صريح، لم تثر موجة رفض وشجب، لا من النُخب والقواعد الاجتماعية المرتبطة بالنظام السوري، ولا من نظيرتها المعارضة، على العكس تماما مما كان يجري حين أُعلنت الإدارة الذاتية “الكردية” قبل عشر سنوات، وما لاحقها من خطابات واتهامات “التخوين والعمالة والانفصالية”.

ثمة أسباب كثيرة لحدوث هذه التحول/ المفارقة، على رأسها التبدلات التي طرأت على سوريا نفسها خلال هذا الزمن. فخلال السنوات الماضية، كشفت سوريا عن “خبيئة نفسها”، عن واحدة من أكثر هوياتها وحقائقها وهياكلها المُستترة، ككيان مبني على مكاذبة كُبرى، غير قابلة للعيش إلا بتلك المكاذبة، وممارسة القسر والقهر لم يحاول مسها، وتنفيذ “إبادة جماعية” لو تطلب الأمر، وبدلالة ما جرى خلال السنوات الماضية.

أعمال العنف واستراتيجية القهر المفتوح على مصراعيه، التي شهدتها سوريا خلال هذه السنوات، واستعصاء أي حلٍ داخلي، ولو جزئي ومؤقت، ومعها انزواء كل محاولة للتخفيف من أوجاع السوريين بأي شكل، فعلت أشياء كثيرة، على رأسها كشف “عورة” الهيكل السياسي الجوهري في سوريا، وهتك “الحقيقة السورية”، الذي عملت ديناميكيات سياسية وآيديولوجية وثقافية سورية، شديدة التعقيد، على تغليفها وطمرها ونكرانها لعقود كثيرة من التاريخ المعاصر لهذا البلد. بل أصرت على تخوين وتجريم كل من قد يمسها أو يكشف أو حتى يشكك بها، أو حتى يحاورها.

حدث ذلك كمرحلة أخيرة ونهائية لمجموعة من التحولات التي طرأت على الكيان السوري طوال تاريخه المعاصر، كانت كل تجربة وتحول سوري يحطم هوية وفكرة كبرى ومركزية وجوهرية مُدعاة من قِبل الكيان السوري، فكرة كبرى تصدقها أغلبية واضحة من السوريين، الظاهرين والمهيمنين منهم على الأقل، يحملونها حول ذواتهم وكيانهم وأدوارهما، صورتهم عن ذواتهم ومجتمعاتهم ودولتهم وتاريخهم وأوهام حاضرهم.

فمنذ سنوات التأسيس الأولى، كانت سوريا تعتبر وتجد نفسها “الأخ الأكبر” لمجموع الدول المحيطة بها، تتصرف بفوقية وأبوية سياسية فجة، إلى أن غرقت في بِرك دم “الأخوة الأصغر”، لبنانيين وفلسطينيين وأردنيين. وسوريا نفسها كانت منجرفة في فيض من القومية العربية الطافحة، لم تدم تجربتها الوحدوية الوحيدة إلا ثلاث سنوات فحسب، وخاضت فيما بعد أكبر وأشرس وأطوال الحروب مع أشقاءها العروبيين الآخرين، البعثيين في العراق المجاور “القطر الشقيق”.

لقد بقيت سوريا لعقود نُسخا من تلك التجارب، فسوريا “خيمة المقاومة والممانعة” لم تُحرر شبرا واحدا من أراضيها المحتلة، ولم تستخدم من استراتيجياتها المقاومة إلا “الاحتفاظ بحق الرد”. وسوريا “ترسانة الأسلحة الجرثومية والكيماوية والاستراتيجية”، التي راكمتها وتباهت بها لعقود كثيرة، لم تستعملها إلا ضد شعبها وفي سبيل قهرهم.

وسوريا الاشتراكية، الأم الرؤوم للعمال والفلاحين الصغار، التي أممت وقضت على طبقة النهضة الاقتصادية السورية، ما لبثت أن استسلمت، وبسهولة، ومنذ عقود، لأبناء الجيل الثاني من القيادات “الفلاحية والعمالية”، من أمثال رامي مخلوف والحلقة العائلية والزبائنية الأكثر ضيقا حول العائلة الحاكمة والمقربين منهم.

وعلى المنوال نفسه، “سوريا المدنية”، المتباهية بكونها الدولة العلمانية الوحيدة في محيطها الإقليمي، مبنية تماما على محاصصة وتوازنات طائفية محكمة، مع إخلال تام بكل شروط وأعراف أي نموذج معروف للمحاصصة على مستوى المنطقة والعالم.

لقد طال اعتراف السوريين بحقيقة بلادهم، طال كثيرا، ولأجل ذلك، وما إن اعترفوا بحقيقتهم، حتى انهارت بلادهم فوق رؤوسهم.

المجلة

—————————–

كيف منعت دمشق احتجاجات السويداء من الانتشار؟/ حايد حايد

دخلت الاحتجاجات في السويداء أسبوعها الثالث، وارتفع عدد المشاركين فيها إلى آلاف المحتجين، في سابقة تاريخية من حيث العدد بالنسبة للمنطقة. وما بدا في أول الأمر صرخة احتجاج ضد قرار الحكومة بوقف دعم الوقود، ما لبث أن تحول بسرعة إلى حركة سياسية أوسع، فبات المتظاهرون يطالبون اليوم بتغيير النظام. ولئن أحجم النظام عن استخدام القبضة الحديدية في السويداء لجملة من الأسباب، بينها أن سكانها مسلحون جيدا، وأغلبيتهم الديموغرافية تنتمي إلى الطائفة الدرزية، فقد تبنى استراتيجية تصعيد العنف في مناطق أخرى لمنع الاحتجاجات من الخروج عن نطاق السيطرة.

وإلى جانب اعتقال الأصوات المعارضة في مناطق سيطرة النظام، فرضت القوات العسكرية والأمنية حصارا على المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة سابقا في حلب وريف دمشق. وتساعد هذه الإجراءات العدوانية في تفسير الغياب شبه الكامل للمظاهرات في مناطق أخرى، على الرغم من الغضب الكبير الذي يعتمل في الصدور بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور.

وفي حين ظلت السويداء تحت سيطرة النظام طوال فترة النزاع، فإن مجموعات مسلحة محلية ظهرت لحماية السكان من التهديدات المختلفة التي كانت تتعرض لها، ومن ضمنها تلك التهديدات التي كان مصدرها النظام ذاته. ولا تتميز هذه الجماعات بأنها حسنة التسليح وحسب، بل إن صلات اجتماعية ودينية قوية تربط بعضها بالبعض الآخر. وقد أثبتت هذه الروابط تاريخيا نجاعتها في حل الخلافات بسرعة وفي حشد القوى ضد الأعداء الخارجيين.

وفي ظل عدم وجود تنازلات جلية يقدمها النظام للمحتجين في السويداء، فإن هناك مخاوف متزايدة من أن قوات الأمن السورية قد تلجأ إلى أسلوب القمع. ومع ذلك، فإن النظام يدرك تمام الإدراك أن استخدام القوة لقمع الاحتجاجات يحمل في طياته خطرَ تحويل المظاهرات السلمية إلى حركة مقاومة مسلحة واسعة النطاق، ومن المحتمل أن تمتد مثل هذه الحركة إلى خارج المحافظة. وعلى الرغم من أهميتها الرمزية في تقويض سلطة الأسد، فإن احتجاجات السويداء لا تهدد حاليا بقاء الأسد. ومردّ ذلك جزئيا إلى طبيعة الاحتجاجات السلمية، وموقع المحافظة البعيد.

ويبدو أن النظام ينفذ استراتيجية طويلة المدى، بدلا من اختيار أسلوب التصعيد، إذ خفضت دمشق بشكل كبير الخدمات الحكومية في هذه المناطق، مما يضيف أعباء جسيمة إلى حياة السكان اليومية. والأمل الكامن وراء هذا الإجراء هو أن العبء المتزايد سيفضي إلى الإرهاق أو سيؤدي إلى بث روح الفرقة في صفوفهم، وهو الأمر الذي سيضع حدا لاحتجاجاتهم.

وفي هذه الأثناء، يبدو أن النظام قد حول تركيزه الأساسي نحو احتواء الاحتجاجات وإبقائها داخل السويداء. ولتحقيق هذا الهدف، فرضت القوات العسكرية والأجهزة الأمنية حواجز على عدة مناطق بريف دمشق. ولهذه المناطق، القريبة من السويداء، تاريخ حافل من التمرد ضد النظام. ولذلك، فإن هدف النظام هو قمع أي تحركات معارضةٍ بشكل استباقي من خلال تطويق المدن والبلدات التي من المتوقع أن تشهد احتجاجات.

وقد لوحظ اتباع هذا التكتيك في البداية يوم 24 أغسطس/آب الماضي في وادي بردى، حيث تعرضت عدة قرى- بما في ذلك دير قانون، ودير مقرن، وكفير الزيت، وسوق وادي بردى، والحسينية، وبرهليا- لهذه الإجراءات، بعد يوم واحد فقط من دعوات أطلقت في تلك المناطق للعصيان المدني والإضراب العام. وعلى أثر نشر تعزيزات عسكرية من أسلحة رشاشة ثقيلة، ومدفعية، ودبابات، واجهت البلدات تهديدات باقتحامها بذريعة وجود خلايا لداعش.

وفي نمط أصبح مألوفا للغاية، استخدم النظام نهج العصا والجزرة. فقد تم منح الأفراد المطلوبين للنظام خيار المشاركة في عملية “المصالحة”، المعروفة أيضا باسم التسويات، وذلك مقابل الامتناع عن الأعمال التصعيدية ضدهم أو ضد بلداتهم. وطُبقت هذه الاستراتيجية نفسها للمصالحة القسرية لاحقا في مناطق أخرى بدرجاتٍ متفاوتة، بما في ذلك كناكر، وزاكية، وببيلا. وتختلف شروط هذه “المصالحات” تبعا للمنطقة التي تُجرى فيها، ولكنها تخدم جميعها هدف النظام المتمثل في تعزيز قبضته الأمنية على المناطق التي تُصنفها الجهات الأمنية على أنها “ساخنة” أو “غير آمنة” بهدف منع انتشار الاحتجاجات. كما كثفت القوات الأمنية دورياتها وأقامت نقاط تفتيش في مدن أخرى محيطة بالعاصمة، كبلدتي يَلدا وقدسيا، ردا على توزيع منشورات مناهضة للنظام.

وعلى نحو مشابه، تفيد التقارير بأن النظام يعمل حاليا على إقامة طوق أمني من خلال نشره نقاط تفتيش حول المنطقة التي تقع إلى الشرق من حلب؛ فهذه المنطقة، التي كان لها تاريخ حافل في معارضة النظام خلال فترة الصراع، شهدت مؤخرا احتجاجات ضد الرئيس الأسد. وقد أثار هذا مخاوف بشأن احتمال تجدد الصراع في المنطقة. وردا على ذلك، فقد تلقت الفروع الأمنية في المدينة تعليماتٍ بتعبئة مختلف الميليشيات لمعالجة هذا الوضع، وذلك وفق ما ورد. كما أفادت التقارير باعتقال أكثر من 100 شخص في حلب في تهم تتعلق بمشاركتهم في المظاهرات أو انتقادهم للنظام.

وفي محافظتي اللاذقية وطرطوس، أفادت التقارير بأن دعوات التظاهر أدت إلى تكثيف الوجود الأمني للنظام في الشوارع. وإلى جانب ذلك، اتهمت مصادر محلية النظامَ باحتجاز ما لا يقل عن 70 شخصا حتى الآن لمنع قيام أي احتجاجات في المناطق التي تعتبر معاقل رئيسة للنظام.

ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا النهج الذي صممه النظام سيُمكنّه من الصمود في وجه موجة الاحتجاجات المستمرة. ولكن، على أي حال، يسلّط الوضع الراهن الضوء على نقطة أساسية، وعلى الرغم من المعاناة الهائلة التي قاساها السوريون طوال فترة النزاع، فمن غير المرجح أن تُثنيهم خسائرهم عن التظاهر مرة أخرى إذا لم يتمكنوا من إعالة أسرهم. ولذلك، فمن المرجح أن تستمر موجات جديدة من الاضطرابات إلى أن يتم إجراء تغيير جوهري.

المجلة

—————————

سوريا: “المكونات” واستعادة “الرومانسية الثورية”/ حسام عيتاني

تزامُن اشتباكات شرقي سوريا مع مظاهرات مدينة السويداء في الجنوب، يحرض على التفكير في سياقات جديدة للعثور على حل للاستعصاء السوري المستمر منذ 12 عاما.

لا يمكن، بداهة، إسقاط احتمالات وقوف قوى إقليمية ودولية وراء الاقتتال بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ذات الاكثرية الكردية وبين والعشائر العربية، في نواحي دير الزور، ولا التحرك المستمر منذ أكثر من ثلاثة أسابيع في منطقة السويداء وقراها. ذلك أن دوافع عدة تعزز الاحتمالات هذه.

وفي حالة الشرق السوري، هناك كلام تردد عن عزم الولايات المتحدة إغلاق الطريق البري الذي سمي “خط طهران– بيروت” والذي تستخدمه قوى “الممانعة” لإمداد عناصرها وقواتها على امتداد العراق ثم سوريا وصولا إلى لبنان. وأن ثمة من دفع مسلحين عربا لافتعال صراع مع “قسد” التي ستسير في الخطة الأميركية المذكورة، مفضلة الراعي الأميركي على غيره ممن تعاملت وتعاونت “قسد” معهم على امتداد الصراع في سوريا.

أما في الجنوب، فيقول محللون إن التحركات في السويداء هي من علامات فشل التطبيع العربي مع نظام بشار الأسد الذي لم يتخذ أية خطوة في اتجاه وقف تهريب المخدرات وإبعاد القوات الإيرانية عن الحدود مع الأردن ضمن تفاهمات “الخطوة مقابل الخطوة” التي أسست لاستئناف العلاقات العربية مع دمشق وحضور بشار الأسد القمة العربية الأخيرة. وعليه، ستستمر هذه التحركات على أن تتسع لاحقا لتشمل مناطق درعا لتشكل منطقة عازلة بين الأردن وسوريا. ويوضح المحللون أن إغلاق بعض المنافذ الحدودية بين البلدين والتراجع الكبير في نشاط المناطق الحرة هناك، يعكس حقيقة أن الأسد لم يتخذ أي إجراء في مجالي المخدرات والوجود الامني – العسكري الايراني.

مهما يكن من أمر، تتعين ملاحظة أن الفاعلين الميدانيين في التحركات المذكورة، في معزل عمن يخطط ويدير المعركة من وراء الأبواب الموصدة ويرسم الخطط بعيدة ومتوسطة المدى، هي “المكونات” المحلية: “قسد” والعشائر في دير الزور ومنطقتها والطائفة الدرزية في الجنوب. “المكونات” هي “الطوائف” في لغة اخرى وجغرافيا متاخمة لسوريا.

يعيد ذلك التأكيد على جانب رئيس من الصراع السوري الذي غالبا ما استنكر كتاب ومثقفون سوريون إدراجه ضمن تفسير أسباب إخفاق الثورة التي انطلقت عام 2011 وانقلابها حربا أهلية دموية أفضت إلى تحقيق النظام وحلفائه انتصارات استراتيجية وحطمت النزوع الثوري الذي برز بين عامي 2011 و2013، أي عنصر توزع المجتمع السوري على مكونات أهلية يطلب كل منها ما يراه حقا في التمثيل السياسي والحفاظ على هويته الثقافية والدينية والاجتماعية، بعدما انجلت سنوات حكم “البعث العربي الاشتراكي” عن حكم تحالف أقلية طائفية مع فئات اجتماعية متنفذة. غني عن البيان أن التحالف هذا بين عسكريي الطائفة العلوية وكبار برجوازيي الطائفة السنية المدينية، قاد البلاد إلى دمارها الحالي، من جهة، ورفع “الوعي” بالذات الجهوية والطائفية والعشائرية وحقوقها، من جهة مقابلة، على نحو بات فيه من المحال العودة إلى الوراء.

الرؤية المفضلة عند قسم وازن من المثقفين المعارضين تقوم على تصوير الصراع كتطلب للديمقراطية والعدالة والكرامة بين “الشعب السوري الواحد” وبين نظام عسكري غاشم. الرومانسية الطاغية في الرؤية هذه تتجاهل ما حدث من مجازر طائفية ومذهبية وجهوية ومن خطاب علني ومضمر عن تصنيف الخصوم طائفيا، وتنحو في اتجاه اعادة التأسيس لرومانسية ثورية لم تثبت الاحداث ولا الايام قدرتها على الصمود او على التحول الى واقع ملموس.

قوات سوريا الديمقراطية، وبغض النظر عمن تحالفت معه في السنوات السابقة ومن خاصمته، ستبقى تعبيرا عن القضية الكردية العميقة في التكوين السوري. الحراك الدرزي كذلك. العشائر والطبقات المحرومة من السنة يصح عليها الأمر ذاته. فيما لا يتورع النظام عن الإفراط في استخدام العلويين كـ”لحم للمدافع” لإرجاء لحظة سقوطه.

هل “الديمقراطية التوافقية” على الطريقتين اللبنانية والعراقية، هي الحل في سوريا. التجربتان الكارثيتان في بيروت وبغداد تحضان على أن تتجنب دمشق السير في هذا الطريق نظرا إلى قدرة بعض المكونات على الالتفاف على التفاهمات التأسيسية التي تنص عليها دساتير ما بعد الحروب، وأن تعتمد على موازين القوى المسلحة والاستقواء بالخارج للاستحواذ على السلطة الكاملة.

لا مفر من الاعتراف بأن المشهد الحالي في سوريا معقد أكثر من أن تحيط به نماذج سابقة ومستنفدة وأن حالة من الإنهاك والضيق تحاصر جميع القوى وربما تدفعها إلى طرق عمل مفاجئة. 

المجلة

——————————-

قسد إذ تفشل في السويداء وفي دير الزور/ عمر قدور

اتهم ناشطون من السويداء قسد بأنها وراء دعوة إلى الفيدرالية، أُطلقتْ من تنظيم لا يملك حيثية شعبية في المحافظة، وأتت دعوته خلافاً لما يردده المتظاهرون يومياً في الساحات. الزعيم الروحي حكمت الهجري، عشية المظاهرة الكبرى التي تداعى إليها المنتفضون يوم الجمعة، أبدى أيضاً في حديث أمام وفد زائر استهجانه طرح الفيدرالية مؤكّداً على “الطابع الوطني” لمطالب المتظاهرين.

هناك اتفاق بين غالبية نشطاء الحراك في السويداء على أن إطلاق دعوة إلى الفيدرالية يخدم الأسد في هذه الظروف، إذ يُظهر انتفاضة السويداء كمشروع انفصالي، ويجرّدها من أحقية النطق باسم معاناة السوريين عموماً. خاصة أن أبواق الأسد لم تقصّر منذ الساعات الأولى لانطلاق المظاهرات في ترويج تهمة النزعة الانفصالية، وصولاً إلى ربطها بإسرائيل عبر الطائفة الدرزية هناك، وإعادة سيناريو 2011 باتهام المتظاهرين بقبض 20 دولاراً والمتظاهرات 35 دولاراً!

توجيه الاتهام إلى قسد يكتسب مصداقية من تفاصيل الطرح نفسه، إذ حملَ الدعوة إلى إدارة ذاتية شبيهة جداً بالإدارة الذاتية الكردية، ومن المعلوم أن الأخيرة نشطت في أوروبا خلال السنوات الأخيرة لاستقطاب ناشطين سوريين عرب، وعُقد العديد من اللقاءات في مدن أوروبية، والبعض منها برعاية وتمويل من مراكز غربية. هذا الانفتاح على المعارضين العرب يُسجَّل للإدارة الذاتية، لكن بقدر ما يبتعد عن ظاهرة الاستزلام التي لا تخدم على المدى البعيد لا المعارضين الأكراد ولا العرب. وهي ظاهرة لصيقة بما نصفه بالتبشير السياسي الذي تمارسه الإدارة في موضوع الفيدرالية، بوصفها الحل السحري لمشاكل جميع “المكونات” السورية.

من وجهة نظر الداعين إلى الفيدرالية، السويداء جاهزة لهذا الحل مع وجود غالبية درزية أثبتت تماسكها خلال ظروف الثورة الاستثنائية أكثر مما فعلت الجماعات السورية الأخرى، ويسهّل تواجدها في حيز جغرافي واضح إنشاءَ كانتون خاص بالدروز. وهو كله، إذا صحّ على هذا النحو، يبقى عديم الانتباه إلى العوامل الأخرى، لأن همّ واهتمام أصحابه منصبّان على الجانب الهوياتي بلا التفات يميناً أو يساراً.

هذا النزوع الهوياتي صار بمثابة أيديولوجيا قد لا تبقى بعيدةً بأدواتها عن الشموليات التوتاليتارية، وبموجبه يجري تهميش عناصر أخرى لا تقل أهمية، بل قد تزيد لناحية الاستمرار والديمومة. من ذلك ما يقدّمه لنا مثال السويداء نفسه بالمقارنة مع مثال الإدارة الذاتية الكردية، فالسويداء لا تمسك بعصب سوريا المائي، وليس فيها آبار للنفط، كما هو حال مناطق الإدارة الذاتية. باختصار، العوامل الاقتصادية الخاصة بالسويداء تجعل من مطلب الفيدرالية غير موجود في قائمة أولويات المنتفضين، والتمسك بالوطن السوري له نصيب من الواقعية، ولو أن فكرة الوطن تهتكت وانتُهكت على معظم مساحة سوريا.

وألا تكون الفيدرالية في أولويات السويداء فهذا لا يجعلها متشبثة بنظام استبدادي مركزي كالذي تنتفض عليه، وإنما يجعلها تولي لقضية التغيير الديموقراطي تركيزاً أشدّ من التفكير في النظام السياسي التالي على التغيير. وفق هذه الأولويات، لا يقدّم نموذج الإدارة الذاتية إجابات على متطلبات السويداء، ورفضه من قبل أهاليها لا ينطوي على عصبية عروبية مقابلة للعصبية الكردية، ولا ينطوي أيضاً على مطامع هيمنة عروبية على شاكلة البعث الذي تواصل السويداء اجتثاثه بطريقتها الهادئة غير الانتقامية.

وتشاء المصادفات (؟) أن تندلع المعركة بين قسد والعشائر العربية في دير الزور، بالتزامن مع انتفاضة السويداء. ومما كشفته المعركة أن أهالي دير الزور يشعرون بالغبن من قسد والإدارة الذاتية، ويعانون من عدم تمثيلهم التمثيل المستحق في إدارة شؤونهم، وقد اعترف مظلوم عبدي نفسه في لقاء مع وكالة رويترز بأخطاء وتقصير الإدارة وأقرّ بوجود خلل تمثيلي. لكن من المعلوم أن الأمر يتعدى التقصير والأخطاء إلى ما هو ممنهج، فالإدارة الذاتية التي يهيمن عليها الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني تقدّم نموذجاً تشاركياً على الصعيد الشكلي فقط، وثمة كثر يشبّهونه بنموذج الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها حزب البعث، وهناك إحساس حاد بالتهميش لدى المكونات الأخرى غير الكردية، فوق الشكوى الكردية من استئثار الحزب المذكور بمفاصل السلطة وتهميش خصومه الأكراد.

أي أن الإدارة الذاتية، المتهمة بمحاولة استغلال انتفاضة السويداء لترويج نموذجها، تقدّم في الوقت نفسه مثالاً ساخناً على فشلها في دير الزور، فوق الأمثلة المستدامة على ضعف المحتوى الديموقراطي لتجربتها. واتهام الإدارة سلطة الأسد بتحريك عشائر دير الزور ضدها لا يغيّر من واقع التهميش الذي قد تستغله أية جهة، سواء كان الأسد أو إيران أو روسيا أو تركيا. نعني أن المشكلة هي في نموذج الإدارة الذاتية، ونلخّصها في جانبين؛ الأول منهما هو ضعف المضمون الديموقراطي للتجربة عموماً، ووجود سياسات تمييزية تشكو منها المكونات غير الكردية، أما الجانب الثاني فهو عدم تقديم تصوّر واقعي لفيدرالية المستقبل بما أن الإدارة لا تطرح الانفصال عن سوريا أو تقسيمها.

في الواقع، تبدو أشبه بالنكتة أقوال أنصار الإدارة الذاتية إذ تنص على أن مستقبل سوريا هو في تعميم تجربة الإدارة، ومن المستحسن “بدلاً من ذلك” تقديم مشروع إلى السوريين يحدد الجغرافيا التي تطالب بها الإدارة الذاتية في سوريا المستقبل، ويلحظ بشكل عميق موضوع توزيع “الثروة”، لأن ما لا يُعلن في هذا الجانب شديد الأهمية، وهناك الكثير من الاقتتال مدفوع أصلاً بالسيطرة على الأراضي الزراعية والمياه وأخيراً النفط. نشير مثلاً إلى أن أولى محاولات الفتنة بين الأكراد والعرب كانت وزارة النفط سبّاقة فيها، عندما ألغت في مستهل عام 2012 عقد “حراسة” آبار نفط مع وجيه عشائري ومنحته لكردي من منظومة حزب العمال، والمسألة ليست في أحقية أي طرف منهما بل في الصراع على المكاسب.

ومن المستحسن أيضاً أن تكفّ منظومة الإدارة الذاتية عن طرح نموذجها للتعميم، لا لعثراته فقط، وإنما لاختلاف مطالب ومتطلبات باقي السوريين، وليس صحيحاً على الإطلاق أن اللامركزية إما أن تكون متساوية أو لا تكون. اللامركزية المتساوية “المتناظرة” هي جزء فحسب من تنويعات فيها تجارب دولية عديدة من اللامركزية المتفاوتة، وبموجب الأخيرة قد يحصل إقليم أو كانتون على ميزات مختلفة عما يريده الآخرون.

رُفعت في الأسبوع الأخير لافتات عديدة موجَّهة من متظاهري السويداء إلى الإدارة الذاتية، في المنحى الذي يرفض استثمار الأخيرة في انتفاضتهم. وإذا افترضنا حسن النية فإن الإدارة تطمح إلى إثبات صواب نموذجها، لكن إثباته “إذا كان صالحاً حقاً” لا يمرّ من السويداء؛ إنه يمرّ أولاً من دير الزور والرقة والقامشلي، سواء بالترتيب المذكور أو بدءاً من القامشلي.

المدن

——————————

هل تنجح السويداء في قيادة السوريين إلى الخلاص؟/ فاضل المناصفة

عادت مدينة السويداء السورية إلى الأجواء نفسها التي عاشتها قبل 12 سنة، عندما خرج السوريون مطالبين بالتغيير السياسي، وبالخلاص من نظام كليبتوقراطي استشرس فسادُهُ لينخر جميع مؤسسات الدولة ويُدخلها مرحلة التعفن، لم تأخذ المطالب الاجتماعية والاقتصادية حينها الأولوية عن المطالب السياسية، إدراكاً من السوريين أن معالجة مشاكلهم مع الفقر وغياب العدالة الاجتماعية والغلاء والتضخم والبطالة لا يمكن أن تبدأ إلا باستئصال العلة.

لكن كما عوّدتنا منطقتنا أن الأسوأ دائماً قد يحدث، نجحت العلة في تثبيت سلطتها بقوة الحديد والنار، مستفيدة من تخاذل المجتمع الدولي، عاد نظام الأسد مجدداً لمعالجة مشاكله الاقتصادية التي لا تنتهي على حساب الذين فشلوا في إسقاطه، ممارساً أسلوب العقاب الجماعي، بعد أن ألغى الدعم وعوضه بطبع المزيد من الأوراق المالية التي لا قيمة لها في الأساس، ليتم توزيعها في شكل زيادات لا تغير في حال السوريين شيئاً.

لا يختلف تفكير الحكومة السورية عن غيرها من الحكومات المفلسة، إذ كلما واجهتها مشكلة عالجتها بمشكلة أخرى، مع التطبيل والترويج لها على أنها الحل الأمثل، وهو ما ينطبق على ما نقرأه في صحف النظام، التي راحت تصور حيلة طباعة الأوراق المالية وصرفها في شكل زيادات معاشية تعوض الدعم الحكومي، على أنها قرار شجاع وجريء، كان لا بد منه لضخ الدماء في عروق الاقتصاد السوري، بعد تحريره من أعباء إضافية أثقلت كاهل الخزينة، ثم يذهب الإعلام السوري بعيداً في تسويق كذبة النظام، عندما يعدد تجارب دول سبقت سوريا في التخلص من أعباء الدعم، دون الربط بين قيمة الزيادات المعيشية وأثرها الفعلي على القدرة الشرائية للمواطنين.

قد يصعب تصديق أن موظف القطاع الحكومي بسوريا يتقاضى راتباً شهرياً بالكاد يعادل ثمن علبة سجائر في بريطانيا، وبأن الحد الأقصى للأجور الشهرية في سوريا، والبالغ 50 دولاراً، يعادل أجرة أربعة أيام لعامل يومي في قطاع غزة المحاصر، أو نصف ما تتحصل عليه الأسر المتعففة من المنحة القطرية، وبأن عدد السوريين المسجلين تحت خط الفقر وفق ما قدرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد بلغ نسبة 90 % من إجمالي عدد الموجودين في سوريا. ربما تكفي هذه المعلومات البسيطة لتُصور لنا حجم الضرر الذي لحق السوريين، وحجم الكارثة الاقتصادية التي تسببت فيها مواجهة “المؤامرة الكونية”، حسب رواية النظام .

ربما كانت رواتب المسؤولين في سوريا سراً من أسرار الدولة، لكي لا تضيف فرطاً من الحساسية، بتسليطها الضوء على مدى رفاهية الحاكم وبؤس حال المحكوم، ولكنها لا بد أن تكون ضعف رواتب الموظفين العاديين بمليون مرة على الأقل، كمقابل لمجهوداتهم الجبارة في خدمة الوطن والمواطن، ومواجهة المؤامرة الكونية التي تستهدف سوريا الأسد.

سافر الأسد إلى موسكو في شهر مارس/آذار الماضي، مستجدياً بوتين، الذي يروج لفكرة تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد، يكسر به هيمنة الدولار وقيود العقوبات الغربية، من أجل الظفر بالتفاتة اقتصادية روسية تُحرك المياه الراكدة، وترفع من قيمة إنجاز العودة إلى الحضن العربي، وتحدث من هناك عن توقيع شراكة روسية سورية تجمعهما في 40 مشروعاً استثمارياً، تشمل مختلف القطاعات، لم ترَ تفاصيلها النور حتى الساعة، وكأنها شراكة من سراب .

هل تنجح السويداء في قيادة السوريين إلى الخلاص؟

لقاء سابق بين بوتين وبشار الأسد/ رويترز

لكن أليس من المفترض أن تكون سوريا أول المدعوين لفكرة بوتين، بصفتها أكبر المتضررين من النظام الحالي؟ لماذا لا تتجه حقائب رجال الأعمال الروس صوب سوريا كترويج لفكرة نصرة الضعفاء، واستقطاب من عانوا من الظلم الغربي وعقوبات الخزانة الأمريكية، ربما لا تزال سوريا بالنسبة لبوتين مجرد قاعدة عسكرية بميناء بحري مطل على البحر المتوسط، أو ربما كانت في وقت مضى منصة دعائية نجحت في إثبات فاعلية ميليشيا فاغنر، وميداناً تجريبياً لمختلف الأسلحة التي استُعملت خلال عملية إنقاذ الأسد، غير ذلك يصعب تصورها وفق النظرة الروسية على أنها الفرص الواعدة للاستثمار.

تبدو فرص إسقاط النظام السوري شحيحة قياساً بحجم التغيرات الميدانية والسياسية التي سارت في صالحه خلال السنوات الماضية، رغم ذلك فإن حجم المعاناة الإنسانية، وضخامة الكارثة الاقتصادية التي يتكبدها السوريون اليوم أفرزت مكونات حراك شعبي، ربما يكون محدوداً إلى الآن، لكنه يحمل المطالب نفسها والشعارات التي رفعت في ثورة 2011.

 وحتى وإن كان من السابق لأوانه الحكم على ذلك الحراك بالفشل في الامتداد إلى دمشق، باعتبارها الرقم الأول في معادلة التغيير، إلا أن كسر حاجز الخوف والرعب كانت النقطة الإيجابية التي سجلها حراك السوريين الجديد، وخط الخطوة الأولى في مسار طويل ومكلف لاقتلاع نظام جثم على صدور السوريين طويلاً، وأسهم في تحويل سوريا إلى جمهورية كبتاغون.

 عربي بوست

——————————–

ليس هناك علَوي كالشيخ حكمت الهجري/ عمر قدور

مع انطلاق انتفاضة السويداء شاع تسجيل لناشط، علَويّ بموجب التعريف الذي تناقلته عدة مواقع، وفي التسجيل يتحدث الناشط عن لقاء لبشار الأسد بمشايخ العلويين بعيداً عن الإعلام. مختصر ما يرويه الناشط أن الأسد طالب المشايخ بالتحرك لمواجهة النقمة المنتظرة لأبناء “الطائفة” جراء سياساته، وأنه دفع أموالاً على سبيل رشوة هؤلاء المشايخ، مع التنويه بأنهم بمعظمهم من المشايخ الطارئين وكانوا قبل سلوك طريق المشيخة قد خدموا كضباط أو صف ضباط في أجهزة المخابرات، أي أنهم في الأصل صنيعة المخابرات.

وكان التوقيت نفسه قد حمل تسجيلين غير مسبوقين في حدة انتقادهما الأسد وزوجته “بل شتمهما”، لرجلين من الساحل اعتُقلا لاحقاً هما أحمد إبراهيم إسماعيل وأيمن فارس. في العموم، كانت الأخبار الآتية من الساحل تشير إلى تذمّر عام غير مسبوق، لا يُستبعد أن يؤدي إلى انتفاضة في نهاية المطاف. ومن المؤشرات على التخوف من هذا الانقلاب عودةُ بعض شبيحة الساحل إلى تأكيد ولائهم، بعدما كانوا قد سبقوا الآخرين ببث تسجيلات حملت انتقادات “جريئة”، وكأنهم بتراجعهم يقولون أن النقد من شؤون البيت الواحد الذي يتعاضد أبناؤه إزاء تهديدات الخارج.

في المحصّلة، خابت التوقعات من حدوث انتفاضة “علَوية”، أو “انتفاضة الساحل” بتعبير يتحاشى فجاجة التعبير السابق، بينما ينتفض الدروز، أما السُنّة فقد سبقوهم، مع احتسابهم بديهياً في موقع المعارضة، سواءً ثاروا أو صمتوا!

مشكلة التوصيف الأخير ليست في الطائفية التي يتعفف عنها البعض، وإنما هي في قلة إدراكه أدواته، وقلة المعرفة بالمسألة الطائفية نفسها. من ذلك أن لا يلقى الانتباه الكافي ما أشرنا إليه في حديث الناشط إذ يقول أن معظم رجال الدين العلويين الحاليين خدموا في أجهزة المخابرات، فسهولة اختراق الحيز الديني بهذه الفجاجة لها دلالة على عدم تجذّر المشيخة واستقلاليتها “ولو نسبياً” بحيث تقاوم تغوّل السلطة عليها، بدل أن تتوسل الأخيرة رضاها كما نرى في حالات أخرى.

على الضد من ذلك إلى حد كبير، فشل الأسدان “الأب والابن” في تطويع مشيخة العقل الدرزية كما يشتهيان، رغم أنها لم تنجُ تماماً من اختراقاتهما. لا يخلو من دلالة أن مشيخات العقل بمعظمها “إن لم تكن كلها” أعرق زمنياً من نصف قرن من حكم الأسدين، ما يجعل اعتدادها بمكانتها ودورها يتفوق على علاقة ظرفية بالسلطة. هذا الاعتداد البارز في خطابات الشيخ الهجري والشيخ الحناوي، وصولاً إلى أناس عاديين في ساحة الكرامة، مبعثُ معظمِه أن الطائفة حافظت على استقلاليتها وتماسكها رغم استهدافها في العديد من مفاصل التاريخ.

نحن لا نعرف اسماً لشيخ علَوي يضاهي اسم الشيخ الهجري، ولم نسمع بشيخ له هذه المكانة حتى قبل حكم البعث أو الأسد. هذا ليس تفصيلاً عابراً، ونضيف إليه أننا في الحقبة نفسها لم نشهد شيخاً سُنياً له مثل هذه المكانة التمثيلية الواسعة، على كثرة هؤلاء المشايخ في ركاب السلطة وفي معارضتها، وهذا الانقسام طاول الكبار منهم والصغار فقهياً، مع أرجحية إعلامية للذين في جهة السلطة الممسكة بوسائل الإعلام. أيضاً، سهولة اختراق السلطة مشايخَ السُنّة ليست بالتفصيل العابر، وانتهازية الذين قبِلوا بها لا تفسّر وحدها الأمر.

لعلنا نجد تفسير ذلك في أن العلويين غير منتظمين كطائفة، وكذلك هو حال السُنة وحال الإسماعيليين إلى حد كبير. لا يوجد لدى الأخيرين مطرانيات أو مشيخات هي بمثابة عنوان للطائفة، وقانون الأحوال الشخصية “بمرجعيته السُنية” هو المعمول به لدى المجموعات الأخيرة التي لم يكن أبناؤها يشهدون حضوراً لرجال الدين في حيواتهم الشخصية ما لم يبادروا إلى استحضارهم، والدراج أن ذلك مرتبط تقليدياً بمناسبات الوفيات أو إيفاء النذور، حيث لا يصحّ احتساب كل ما هو تقليدي على ما هو ديني.

هذا بالطبع ليس مديحاً لفئة دون أخرى، فالذين يفتقرون إلى انتظام طائفي بقوا ممنوعين رسمياً طوال حكم البعث والأسد من الانتظام في جماعات مدنية معاصرة وحرة، كالأحزاب والنقابات والجمعيات، شأنهم في ذلك شأن الطوائف المنتظمة. ولم يكن خطاب البعث “ثم الأسد” يخفي نية تحطيم المجتمع الذي انقلب عليه تحت شعارات القومية الاشتراكية، ليأتي استثمار الأسد في الطائفية ويظهر كأنه المحتوى “الباطني” لشعارات العروبة، أو هكذا سيُقرأ باستعجال.

من المعلوم أن الأسد الأب، في سعيه إلى احتكار السلطة والثروة والفضاء العام، كان بحاجة إلى تحطيم البنى الأهلية والاقتصادية والمدنية السابقة، وإقامة تحالفات مع ما يتعذر تحطيمه أو من المفيد الإبقاء عليه. في هذا السياق، كان لا بد أن يلحظ استثمار الأسد لدى العلويين أمرين؛ تحطيم الوجاهات العائلية القديمة، وتحطيم فئة المشايخ على ضعفها الذي يزداد ما لم تكن متصلة بالفئة الأولى. هذا يعني منع تحوّل العلويين إلى طائفة، بقدر ما يعني تحوّل جزء إلى طائفة سلطة، بالاستفادة الفعلية المباشرة من مزاياها، أو من وهم امتلاكها أحياناً.

بعبارة أخرى، هناك استثمار طائفي، عصبُه السلطة، ولا وجود له خارجها، بل هو كان دائماً على العكس تماماً من فكرة الطائفة، وذلك بالسعي إلى ربط الوجود بالسلطة فقط. هذه الوضعية منعت وتمنع بروز “حكمت الهجري” علوي، ففئة مشايخ المخابرات غير مؤهلة لتمثيل اجتماعي، ولا تحضر “ضمن المنظور” شخصيةٌ ذات تاريخ عائلي جامع وتمثيلي تقليدياً. هذا هو حال السُنّة أيضاً إلى حد كبير، وتكاثرُ تنظيمات الإسلام السياسي والعسكري “المختلفة والمتنازعة على احتكار التمثيل” في العشرية الأخيرة ينطوي على العجز عن التحول إلى طائفة، إذا لم نأخذ في الحسبان السُنة الذين بقوا على موالاتهم من فئة المشايخ ومن البقايا الاقتصادية والاجتماعية لـ”أعيان” ما قبل البعث. في الواقع، كان لدينا فائض من الطائفية مع عجز عن التحوّل إلى طوائف!

في الثورة على الأسد، وهذا ليس بجديد، نحن في مواجهة نتائج عملية تصحير مديدة للفضاء العام، ما يجعل الثورة بحاجة إلى سند لا تجده “للمفارقة” إلا في الروابط التقليدية. عطفاً على هذه المفارقة، كانت فكرة ثورة السويداء تبدو مستحيلة، إذ كان نشطاء السويداء ينظرون إليها كثورة مركَّبة، سياسية واجتماعية، ولا يندر في واقعنا أن تكون الثورة المركّبة ضرورية ومستحيلة في آن.

ما سبق كله لا يقفل الباب نهائياً على احتمال ظهور شخص ما في الساحل، ليكون بمثابة الشرارة المنتَظرة لإشعال انتفاضة. الدافع إلى الانتفاضة لا يقتصر على الفقر أو الجوع كما هو متداول، بل ثمة أيضاً حيّزٌ معتبرٌ لمن شعروا وسيشعرون بالإهانة مع تردي سلطة الأسد وابتذالها المتواصلين. هذه الإشارة ليست من ضرورات التفاؤل أو الحيطة من إطلاق الأحكام، بل هي نابعة من قناعة سورية عامة بأن الأسد سيتسبب في اندلاع الثورة في مكان ما، كلما ساعده الخارج والظروف على إخمادها في مكان آخر.

المدن

————————-

كي لا تنتهي انتفاضة السويداء سريعاً/ عمر قدور

سجّل يوم الجمعة أعلى مشاركة شعبية في المظاهرة اليومية، في ساحة الكرامة في السويداء، والتسجيلات التي نقلتها صفحات مواكبة للانتفاضة أظهرت حضوراً طاغياً لـ”بيرق الحدود” الدرزي، مع تواري علمَي النجمتين والثلاث نجمات بما يرمزان إليه من موالاة ومعارضة. هتافات المتظاهرين ركّزت على المطالبة برحيل بشار، بصياغات بعضها يعود إلى ثورة 2011 وبعضها الآخر مستحدث، وكذلك هي الهتافات التي تنادي بوحدة السوريين أو استردادهم بلدهم من سيطرة الأسد.

يوم الخميس كانت الساحة قد شهدت قراءة رسالة “بالانكليزية” موجَّهة إلى مجلس الأمن والبرلمان الأوروبي، يستعرض أصحابها محطات رئيسية من جرائم الأسد منذ عام 2011، لتنتهي الرسالة بالمطالبة بوضع القرار 2254 تحت الفصل السابع، وباللجوء للجمعية العامة للأمم المتحدة في حال استخدمت موسكو وبكين الفيتو، من أجل وضع القرار تحت الفصل السابع وإنشاء محكمة خاصة بسوريا لمحاسبة جميع مجرمي الحرب. الرسالة التي تمثّل بعض المنتفضين اعترض عليها بعضهم الآخر، وتم تجاوز الخلاف بلا تبعات لاحقة على الحراك. إلا أن هذا النموذج في التجاوز قد لا يحدث لاحقاً، أو من دون آثار سلبية في النظر إلى الحراك من خارجه، ما يجعل الاتفاق على خطوط عريضة يلتزم بها المحتجون ضرورة ملحة لهم أولاً، ولرسالة الحراك التي يودّون إيصالها إلى عموم السوريين تالياً.

وكنا في الأيام السابقة قد شاهدنا صوراً للافتات فردية مرفوعة، يغلب عليها همّ ثورة 2011، وكأن الناشطين الذين حملوها يريدون استدراك ما فاتهم خلال السنوات الماضية. وإلى جانب ذلك حضر العلم الذي صار يرمز إلى الثورة، وحضر مرةً جنباً إلى جنب مع العلم الذي يرمز إلى السلطة، وكذلك حضرت لافتات ذات عناوين عديدة تنتمي إلى الهم ذاته. نستطيع في المقابل الإشارة إلى غياب التمييز بين روحية ثورة 2011 وبين ما آلت إليه، فإذا كانت الانتفاضة الحالية وما سبقها وما قد يليهما تنتمي جميعاً إلى رفض سلطة الأسد، والتطلع إلى غد ديموقراطي، فإن الوفاء لهذه الروحية يقتضي تجنب الأوحال التي غاصت فيها ثورة 2011 أو أُجبرت أحياناً على الغوص فيها.

واقعياً، من الأولى أن يتوجّه همّ ورسائل انتفاضة السويداء إلى السوريين تحت سيطرة الأسد، لأن الذين خارج سيطرته متحمّسون سلفاً لأية ثورة ضده، وتظاهرهم للتضامن مع السويداء لا يتعدّى البعد المعنوي من دون أن نبخسه قيمته. نذكّر بأن تقسيم سوريا الحالي متّفَق عليه دولياً وإقليمياً، ما يؤكد على أهمية الثورة على الأسد في مناطق سيطرته، وعلى مخاطبة المتضررين منه هناك وقد باتوا يشكّلون الأغلبية الساحقة، ومن المرجح أن تختلط لدى معظمهم عوامل النقمة والخوف.

من المحتمل جداً أن نسبة غالبة من هؤلاء تشاطر انتفاضة السويداء القناعة بمسؤولية الأسد عمّا آلت إليه أحوالهم، والتركيز على هذا المشترك يدحض ما يُروّج من هنا وهناك عن “الاستثناء الدرزي”. ومن المرجَّح أن عدم استخدام الأسد العنف حتى الآن، رغم أنه وسيلته المحبَّبة، يندرج في إطار عزل ومحاصرة السويداء بفكرة الاستثناء، حتى يضمن عدم انتشار عدوى الثورة خارجها، فيعود مرتاحاً إلى ممارسة ما يهوى. استثناء درعا مختلف، وتتخلله أطوار من استخدام العنف لم تفلح حتى الآن في كسر إرادة أهلها.

وفي إطار ما هو معروف عن تلهّف الأسد إلى العنف والانتقام، ربما يكون ملجوماً عن ذلك بإرادة من حلفائه، وليس بجديد على السوريين أن تدير موسكو أو طهران ملفات خاصة بهم، وأن يقدِّم الحليف نفسه بديلاً يمكن الحوار معه بخلاف مَن لا يعرف سوى البطش والتنصّل من وعوده. هنا أيضاً مساحة يجدر بمنتفضي السويداء التفكير فيها جيداً، فاتخاذ موقف جذري من الأسد مبرَّر تماماً، لكن اتخاذه بالتلازم مع المطالبة بانسحاب روسيا من سوريا يغلق هامشاً من المناورة قد يكون لازماً. ومع التنويه بأن التدخل الروسي حظي برضا دولي، وإقليمي إلى حد ما، قد يكون بعض المطالب موجَّهاً إلى الحليف الروسي كي يستجيب إلى نداء التغيير، وحتى إذا كانت استجابته مستبعدة فربما يكون تحاشي التصويب عليه تحديداً أفضل من استعدائه منذ البداية.

في كل الأحوال، لا تكفي المراهنة على أن الأسد لن يستخدم العنف، فعامل الوقت قد يخدمه إذا لم تنتشر عدوى الثورة خارج حوران. هذا أيضاً سيناريو ينبغي التحسب له، ولا يفيد في تحاشيه مطالبة الأردن إعلامياً بفتح ممر كي لا تقع السويداء تحت الحصار، ما لم يكن هناك تواصل مع السلطات الأردنية التي يمكن أيضاً من خلال موقفها استكشاف بعض المواقف الدولية والإقليمية. وهذا كله يلحظ السويداء فقط، من دون مناطق جرمانا وصحنايا وحي التضامن بغالبيتها الدرزية “في محيط دمشق”، وهي لن تبقى طويلاً خارج المعركة.

خلال أسبوعين مضت الانتفاضة بعيداً، ومن دون عقبات، إذ يسهل القول اليوم أن السويداء محررة، إذا كان هذا هو الهدف، وما سيأتي لاحقاً هو تدبّر تبعات التحرير. ما يمكن فهمه من خطابات المرجعية الروحية، تحديداً من خطابي الشيخ الهجري والشيخ الحناوي في اليومين الماضيين، لا يصبّ في منحى الاحتفال بالتحرير، بل قد أعادا التأكيد على البعد السوري للانتفاضة، وعلى الإصرار على الاستمرار فيها والتصدي لأي عنف مقابل.

هذا الوعد السوري، إذا جاز التعبير، هو ما يُخشى تبديده سريعاً، ليقتصر ربيع السويداء عليها وحدها، وبذلك تنضم إلى ثورة 2011 إذ تُضعف الأسد من دون النجاح في إسقاطه. ما أظهره أهل السويداء حتى الآن يدعو إلى التفاؤل بأن “نشوة الثورة” لن تسكرهم، ولا نشوة مادحيها من المتابعين. وهو ما يجعلنا نطمع في أن يمتلك الحراك خطاباً يليق بنوايا أصحابه، خطاباً جامعاً لا موحَّداً، يتجاوز اللحظة الحالية المتروكة لخطابات المرجعية الروحية العمومية، ولاجتهادات اللافتات في الساحة حيث كلّ يغني على ليلاه في غياب منهجية متفق عليها.

قبل أسبوعين، كان السؤال عن الثورة التي قد تفاجئنا من بؤر عديدة في سوريا، وتقدّمت السويداء وحدها، إذا احتسبنا درعا على الثورة الفائتة. بناءً على مفاصل في التاريخ، يرى أهل السويداء أنهم أهل الوطن السوري، ومن المؤكد أنها مهمة شاقة جداً “وغير مضمونة النتائج إطلاقاً” مساعدةُ التاريخ على أن يعيد نفسه.

المدن

———————————-

مظاهرات السويداء وإحياء القيم المدنية/ جمال الشوفي

تبدأ الأمم بعكس مسار انحدارها والارتقاء مجددًا على سلم الحضارة، حين تثق بإمكانيات وقدرات شبابها الخلاقة التحررية والمدنية، وحكمة عقلائها وخبراتهم وقيمهم، حين يجتمعون في مركب واحد عنوانه المصلحة العامة والقيم المجتمعية والإنارة الفكرية التحررية. تلك التي قالت عنها قبل قرون حضارة اليونان بأنها الشأن العام “Res-politica” في ثلاثية متكاملة هي الدولة. فهل نخطو اليوم مجددًا في سوريا نحو استعادة هويتنا السورية كشأن عام ونستعيد الإمساك بزمام المبادرة وعودة تمركز قضيتنا السورية في داخلها وعلى أسس محتواها وقيمها الوطنية؟

ها هم السوريون اليوم يبادرون من جديد في موجة ثورية جديدة تعاند مسار الانحدار والهدم العام، فللأسبوع الثالث على التوالي تستمر المظاهرات السلمية في محافظة السويداء وتتجاوب معها بعض المدن السورية، معيدة إحياء مسيرة الثورة السورية التي انطلقت في آذار 2011. تكتظ ساحة الكرامة في السويداء بكل أطياف المجتمع من شباب وشابات، ورجال دين وسيدات، وسياسيين معارضين وفرق عمل مدنية.. تجمعهم مطالب الحرية والكرامة والعيش الكريم في دولة المواطنة، وتبرز على واجهة حراكها إحياء التراث الفني للمحافظة من أغان وهتافات تسترجع ذاكرة السوريين في بدايات ثورتهم، وكأنه عرس وطني على مساحة وطن.

في ساحة الكرامة روح سلطان الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي ويوسف العظمة تحيا من جديد بعد أن طمستها سلطة العسكر الاستبدادية ذات القيادة المطلقة الخالدة البعثية. صور عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وناصر بندق وخليل معتوق، المعتقلين في سجون النظام، وكل المعتقلين من كل أرجاء سوريا حاضرة في ساحة الكرامة. أما ساحة الكرامة فهو الاسم الذي أطلقه المتظاهرون السلميون عام 2015، على الساحة التي كان اسمها “ساحة السير” أو “ساحة التمثال” سابقًا، إذ يذكر أنه في مثل هذا اليوم 4/9/2015 وبعد تفجير مركب قيادة حركة رجال الكرامة وقضاء غالبية قيادتها، اندفع شباب المحافظة للساحة وهدموا تمثال الأسد المسمى بـ”الخالد” و”صانع أمجاد الأمة ومستقبلها” زورًا واستبدادًا، في حين كان ونظامه رمز هدمها واعتقال شبابها وانهيار قيمها. واليوم تعود هذه القيم في الانبعاث من جديد والساحة اسمها ساحة الكرامة، وموعد جديد مع عودة الروح للسوريين بعد يأس وقنوط. وتعاد ذات الكرة اليوم، حين يقفل المتظاهرون مقار حزب البعث، ويزيلون صور رموز السلطة من كل المحافظة. ولمصادفة تاريخية أيضًا، يقوم المتظاهرون اليوم بتحطيم رأس تمثال موجود في مقر البلدية مقابل الساحة..

في السنوات الخمس الماضية وبعد العام 2018 عندما تم إفراغ الداخل السوري وتهجير سكانه ودمار معظم مدنه، استنقعت المسألة السورية سياسيًا تتقاسمها أطراف النفوذ والجيوش والميليشيات متعددة الانتماء والمصالح، وكل فريق يحاول نهش حصته من الكعكة السورية. هذا الاستنقاع الطويل انعكس على المجتمع السوري بشكل كارثي، أجاد ابن خلدون في وصفه في مقدمته الشهيرة قبل 1000 عام من اليوم وكأنه يحيا بيننا: “عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف. وتظهر العجائب وتعم الإشاعة، ويتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق، ويعلو صوت الباطل، ويخفُت صوت الحق. وتظهر على السطح وجوه مريبة. وتختفي وجوه مؤنسة، وتشح الأحلام ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه. ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقًا، وإلى الأوطان ضربًا من ضروب الهذيان”. هذا الهدم المجتمعي الذي طال السوريين تمثل في مستويات عدة يمكن إيجازها على سبيل الإشارة والدلالة لا الحصر:

    مستوى التباعد العام بين مكونات الشعب السوري وازدياد حدة المظلوميات من كل الأصناف، وكل فريق يرى في مظلوميته المظلومية القصوى.

    تزايد حدة التقوقع الإثني والطائفي والديني وتنامي ظواهر التعصب والإيديولوجيات المرافقة.

    تحاجز سياسي وفرط نمو في المكونات السياسية السورية والتي قلما تقاربت وتوافقت فيما بينها بقدر كل فريق يحمّل الأطراف الأخرى مسؤولية الكارثة السورية التي نعيشها.

    خبو الحلول العامة للمسألة السورية وفرط نمو في الحلول الفردية والجزئية التي فتحت المجال الواسع للانتهازية والنفعية المحضة على اتساع بواباتها.

    تفكك أسروي تزايدت معه حالات الطلاق ويُتم الأبناء وتراجع حاد في قيم الألفة والانتماء وتنامي الفردانية على حساب القيم العامة، مترافق مع الجوع والحاجة التي بات يعاني منها أبناء الداخل السوري، وانتشار أفقي للأسرة الواحدة كل في بلد لجوء أو هجرة.

    ارتفاع شأن أمراء الحرب والقتل والسلب على حساب أصحاب الشهادات العلمية مع تراجع فاضح في قيمة المتعلمين والعلم أمام أصحاب المال دون السؤال: من أين لكم ذلك؟

    تراجع أصوات العقلانية السورية وبهت إنارتها مع طفو المساحات المظلمة للمشاريع السياسية القصيرة والانتفاع المدني والميليشياوي من جراء الكارثة السورية، حتى بات المثقف السوري يشعر بغربة مضاعفة ويزداد انزواءً، فإن كتب قلما يقرأ له والقول المتردد “شبعنا تنظيرًا”.

تبقى النقاط أعلاه مجرد إشارات ليست للتعميم بل تستوجب الدراسة والتحليل وإعادة التقييم في الأسباب وطرق الحل الممكنة. أما في السويداء، مركز الحدث السوري اليوم، فقد تزايدت خلال نفس الفترة هجرات شبابها هذا العام، ومن بقي منهم فيها لا يستطيعون الخروج خارج المحافظة للملاحقات الأمنية التي تطول معظم شبابها. مترافقة  مع تزايد عصابات الخطف والإجرام والسلب والنهب والاتجار بالمخدرات، وبات كل سوري يحاول الدخول إلى المحافظة عرضة للاختطاف والابتزاز المالي. حتى وصفت المدينة بشيكاغو سوريا. هذه الظاهرة التي طالما حللنا أبعادها بكونها تتبع للأجهزة الأمنية ومشغليها، تستهدف جمع المال من جهة، وشيطنة وعزل السويداء عن محيطها الحيوي من جهة أخرى، وتشغيل شبابها العاطل عن العمل في تأمين خط المخدرات لدول الخليج من جهة أخرى.

اليوم، وللأسبوع الثالث، لم تشهد المحافظة حالة خطف أو سلب أو نهب، ونادرًا ما ذكر أي منها، والأهم من هذا تكتظ ساحة الكرامة بشتى صنوف المجتمع وفي مقدمتهم النساء والشباب المدني، يتظاهرون في لحمة وانسجام مع رجال الدين وأبناء العشائر، لا يفرقهم جنس أو عرق أو دين، مصرين على وحدة الهوية السورية بكل انتماءاتها العرقية والدينية والسياسية والفكرية. وهذا مؤشر حيوي على استعادة السوريين لزمام المبادرة في استرجاع قضيتهم في جوهرها، وجوهر المسألة السورية كان ولا زال، دولة المواطنة، دولة الحق والقانون لا استبدال سلطة  بأخرى. دولة لا فرق فيها بين عربي أو كردي، سني أو درزي أو علوي أو مسيحي، فجميعهم متساوون بالحقوق والواجبات والحريات. وهو ذات الجوهر التي انطلقت منه عام 2011، ويعاد إحياؤه من جديد مرفوعًا على قيم السوريين المدنية، فسوريا “بلاد الشمس”، كما كانت تعرف تاريخيًا، ومركز إنارة وحياة لأبنائها ومحيطها العام، وتنبعث من تحت الرماد من جديد، فهل نكون؟ كلنا أمل….

—————————

مركز هش ومراكز طرفية قوية.. كيف نفهم حراك السويداء خارج نطاقه المناطقي؟/ حمزة المصطفى

انشغل السوريون بحراك سياسي غير مسبوق شمل مناطق جغرافية عدة في سوريا بعد سنوات من عطالة الميدان عسكرياً وسياسياً، وجذبت السويداء الأنظار بحراك احتجاجي بسقف سياسي مرتفع لامس شعارات الثورة السورية الأولى في إسقاط النظام واستهداف رئيسه المجرم بشكل دغدغ العواطف وشحن القلوب المتهتكة وأعاد طرح مفردات التغيير السياسي بعد أن ساد في الآونة الأخيرة خطاب تسوية يقترب من القرار الدولي 2254 ولا ينفذه.

وكالعادة، انهمك بعضهم في تسمية ما يجري، توصيفه وتأطيره بوصفه هبات أطراف مهمشة تثور لخبزها وقوتها، إذ تزخر العديد من المقالات الصحفية وتقارير مراكز الأبحاث الغربية بمصطلحات، كلفة الحياة، غلاء المعيشة، التضخم، انهيار العملة.. إلخ، فهل تكفي هذه المفردات فعلا لفهم ما يجري؟

    سوريا هي دمشق

نظرية المركز والأطراف قديمة وشائعة في توصيف الحراك الاحتجاجي، لكنها عجزت وتعجز عن توصيف الحالة السورية، ذلك أن المدن التي ثارت في الماضي، وتتحرك اليوم مثل السويداء لا تعتبر أطرافاً ريفية، بل مراكز مدينية لها أطراف مهمشة تمثل أريافها، بتعبير أدق ومختصر، هي مراكز أطراف مقابل مركز الدولة (دمشق).

في ضوء ذلك، لا يمكن لحراكها أن يوصف كانتفاضة فلاحين أو “ثورة جياع” أو “هبات منفلتة” لسبب بسيط أنها ما تزال تنتج شعارات سياسية وتطرح مطالب وحلولاً عامة تخص مجموع السوريين أو شرائح كبيرة منهم لا تنحصر بقضايا الفقر، وغلاء المعيشة، أو المظالم الاقتصادية على أهمية الأخيرة كقادح “Trigger” للحراك في بعض الأحيان.

بكلمات أخرى، المداخل المعرفية لعلم الاجتماع السياسي لا توفّر كل الإجابات لفهم ما يجري في السويداء وإمكانية استمراريته واستجابة النظام والفاعلين الخارجيين، ثمة حاجة لاستعارة خلاصات إضافية بسيطة من حقل الدراسات الأمنية.

بعد اعتماد الحل الأمني/ العسكري سبيلاً وحيداً في مواجهة الثورة المسلحة، كانت استراتيجية النظام وحلفائه واضحة في إبعاد المركز السياسي، وهو العاصمة دمشق، عن أي تبعات واستخدام ما يلزم في سبيل ذلك.

تدخل حزب الله جاء مبكراً في النصف الثاني من عام 2012 لحماية العاصمة كما اعترف حسن نصر الله بذلك، التدخل الإيراني والعراقي ضمن خطة المعصم، بُرمِجتْ على هذا الأساس بحيث تطوّق الميليشيات الشيعية دمشق من مختلف جوانبها لمنع أي حراك داخلها وأي تهديد من خارجها، حصار الغوطتين كان التتويج لخطة ثبات المركز أمنياً والتي خاطر فيها حدَّ استخدام السلاح الكيماوي على نطاق واسع في آب/ أغسطس عام 2013.

رغم كل ذلك، أثبتت الوقائع أن قوات النظام عاجزة عن صدّ أي هجوم منظم وكبير على دمشق، وهو ما حصل في معركة “الله غالب” عام 2015، إذ سيطرت فصائل المعارضة مثلاً على مبنى الأركان الاحتياطي وقطعت الطريق الدولي لولا التدخل الروسي جواً الذي قلب المعركة وقتل معظم المهاجمين.

لقد دأب لافروف على تذكير النظام وإيران بأن تدخل بلاده حمى العاصمة وأنقذ النظام من سقوط وشيك، ومنذ ذلك الحين بات النظام يتصرّف وكأنّه المنتصر الذي يفرض الشروط لا أن تُفرض عليه الشروط، لا سيما فيما يتعلق بتجاوبه مع الحل السياسي.

باختصار، كانت سوريا بالنسبة للنظام هي دمشق، وكل ما عداها هي أطراف إما موالية كالساحل، أو حيادية كالسويداء، محيّدة كدرعا، متمردة غير مهمة كالشمال، أو مزعجة كالبادية وشمال شرقي سوريا.

راهن النظام على مسألتين جوهريتين هما لعبة الوقت مع القضم التدريجي، واستمرار عجز المعارضة السياسية والمسلحة عن تقديم بديل دولتي من شأنه أن يشجع قوى دولية كالولايات المتحدة والغرب للاستثمار بها إذا رغبت مناكفة روسيا وإيران، لكن الأخيرة، ومع الانشغال بقتال داعش والنهج التركي التنازلي مع روسيا في سوريا بعد انطلاق مسار أستانا، اتجهت للعب لعبة تقليدية صالحة لسياقات مشابهة أو مجمدة مثل السياق السوري.

    المركز: بين الاجتماعي والأمني

ثمة رأي يحظى بدعم شريحة جيدة من الباحثين أن الصراعات المسلحة التي تتحول إلى حروب وكالة “Proxy war” تصل إلى مرحلة “عطالة” بعد عقد من الزمن نتيجة غياب الحسم، وتعب الفاعلين المحليين مع انشغال الداعمين الخارجيين بأزمات جديدة، ويصبح وقف إطلاق النار هو السمة العامة للصراع مع وجود خروقات لا تؤثر على خرائط السيطرة وموازين القوى.

يتحول الاقتصاد والأداء الوظيفي للقوى المسيطرة ليكونا المحدد الرئيس في استمرارية الفاعلين المحليين وزوالهم، وتصبح عملية تعبئة الموارد هي المهمة الأكبر للقائمين عليها بكل ما يتطلبه ذلك من تبني أطر أيديولوجية أو التخلي عنها.

بالعموم، يدخل الجميع في عملية مراجعة سلوكية وفكرية لمرحلة الصراع، باحثين عن مكان لهم في المستقبل بعد اقتناعهم تدريجياً بالتسوية وعدم قدرتهم كفاعلين على الخروج على القيود البنيوية الموجودة.

مع الوصول إلى نقطة العطالة، يواجه المركز السياسي للدولة ومن يتحكم به تحديات جمة مقارنة مع غيره من الفاعلين من غير الدولة الذين يحكمون حيزاً جغرافياً وديمغرافياً ضمن أراضي الدولة ذاتها. يُعزى ذلك إلى عجز المركز عن تفسير أو تبرير ما يجري في الراهن مقارنة بفترة الحرب وتاريخها التي يتصرف فيها كأحد الأطراف أو الميليشيات المسلحة. بكلمات أخرى، تبرز أسئلة الدولة المتعددة كالأمن، والخدمات، والفعالية، والمؤسساتية، والتعافي، وإعادة الإعمار، والتعويضات، والتسوية أو المصالحة، والأهم هو السؤال: ما العمل لمنع تكرار الماضي؟

ينجح المركز في تأكيد انتصاره العسكري أو مقاومة الانهيار في حالة وفرة الموارد، ويمكن أن نطرح حالة طرابلس في ليبيا بوصفها المثال الأكثر تعبيراً عن ذلك، لكنه يدخل في مسارات مختلفة أكثر هشاشة كلما غابت الموارد وانشغل الممولون الخارجيون بملفات أخرى.

باختصار، يصبح سيناريو انهيار الدولة هو الوحيد المتاح لإحداث تغيير يمنع تجدّد الحرب إما عبر زوال النظام القديم ككل أو ظهور جناح معتدل “Soft-liners” لكنه قوي وقادر على اتخاذ المبادرة لفتح مسار سياسي إنقاذي ميثاقي “Pact”.

لحصول ذلك، هناك افتراض ضمني أنه كلما تراجع المركز وتهمشت أدواره الوظيفية ظهرت مراكز طرفية قوية أو قويت المراكز الموجودة، وهذا ما جرى في سوريا منذ عام 2020. فبعد أن هدأت المعارك نتيجة اتفاق موسكو آذار/ 2020، وتراجع زخم المعركة ضد تنظيم الدولة بعد انهيار قواته وانحسارها نحو البادية، وتراجع اقتصاد الحرب بدأت تظهر أسئلة المستقبل أو ما نسميه “الما بعد” في وجه نظام الأسد الذي يمثل الدولة نظرياً، ولم يكن الأخير يملك من إجابات سوى وعود وشعارات وأحياناً إجراءات إسعافية ترتبط بسخاء الداعمين الخارجيين كإيران أو بيع أصول كاملة لهم.

دخل النظام بقراره في مسار الخراب الشامل، فهو من جهة لا يرغب في أي مسار إصلاحي مهما كان صغيراً؛ لأنّ ذلك يؤدي إلى انهياره، ويعجز في الوقت عينه عن إعادة تقديم نفسه كدولة تقوم بوظائفها التقليدية بعد “الانتصار” العسكري.

ترافق ذلك مع ظهور تنافس ضمن المركز السياسي على الموارد الشحيحة أصلاً واحتكارها كمعيار للبقاء في المستقبل، كما حصل مع أسماء الأسد التي حاولت إعادة هندسة الاقتصاد المنهار أصلاً بما يتوافق مع حضورها وسيناريو التوريث الذي يشغل بالها بما يتطلبه من نخب جديدة على مستوى النظام.

على هذا الأساس، جرى استبعاد فاعلين اقتصاديين اعتادوا تجميلَ احتكارهم للثروة والاقتصاد من خلال مشاريع خيرية تستهدف الأطراف لإسكاتها أو لتلبية الطلب على التجنيد البشري منها.

بتعبير أدق، كشف النظام عن أبشع وجوهه، بحيث لم يعد يهتم بتقديم أي شيء لأنصاره قبل معارضيه سوى القمع الأمني، ولم يعد لديه استراتيجيات للبقاء سوى استمرار الاستثمار بالجهاز القسري، أمن وجيش مع مكافأة الداعمين الخارجيين بمزيد من الأصول الثابتة.

أمام هذا الواقع، كان من الطبيعي أن تلجأ المراكز الطرفية إلى إعادة تعريف علاقتها مع المركز السياسي، المنشغل بذاته، لتصبح هي الأخرى مراكز سياسية لأطرافها الهشة والمفقرة التي تضغط عليها، مراكز تمارس السياسة بكل ما يتطلبه ذلك من أعباء وذخيرة أيديولوجية وعلاقات دولية أيضاً.

ويمكن وضع حراك السويداء ضمن الخلاصات السابقة، فالمحافظة وبحكم تركيبتها الديمغرافية حيّدت نفسها عن الصراع بعد توضّح معالمه وانتقاله للعمل المسلح، وقد بلورت في أكثر من مرة حراكاً محدوداً متقطعاً معارضاً للنظام، لكن غموض عملية التغيير والشك بالمعارضة كان هو السائد ويمنع انخراطاً أكبر.

بعد مرور السنوات، وتعمق أزمات النظام، راحت المدينة تنظر خارج علاقتها التقليدية مع دمشق، تجارب المراكز الطرفية من خلال نماذج الحكم في شرقي سوريا وشمالها حفّزتها لتخوض تجربتها على الأقل بالتخلّص من النظام في محاولة لصياغة مكان لها في مستقبل سوريا أكثر من الانفصال عنها، الهوية الفرعية الدرزية كانت الإطار الأيديولوجي الأكثر واقعية في عملية التعبئة كونها تجمع ما بين المظالم الاجتماعية والدينية من جهة وتقدم نفسها من جهة ثانية ضمن سرديات بناء الكيان السوري إبان النضال ضد الاستعمار الفرنسي والاستقلال.

قد يسأل بعضهم عن المحفز في تجربة الإدارة الذاتية التي تقودها طغمة كردية ستالينية النهج والفكر والأدوات تسمى زوراً وبهتاناً “قوات سوريا الديمقراطية”، تستغل دعم التحالف الدولي لها وقمع مَن يختلف معها أو يخالفها بتهم الدواعش والدعشنة”، ما الجاذب في تجربة إدلب التي تحكمها جماعة جهادية مصنفة لم تستطع رغم كل التغيرات السلوكية والشكلية إزالة التصنيف الذي يصنف بدوره ملايين البشر الذين يعيشون تحت سطوتها؟ ما المغري في تجربة تعج بالفلتان الأمني كما هي مناطق الجيش الوطني؟

الجواب باختصار، أن جميع التجارب السابقة على رداءتها تقدّم تجارب حكم محلي وخدمي أفضل بآلاف الأميال على ما يقدّمه المركز السياسي ويتوافر فيه هامش حرية يتيح مناورة أكبر مقارنة بالنظام، وتؤمن لمجتمعاتها المحلية تبادلاً تجارياً مع العالم الخارجي بحكم وجود حدود دولية يفتقدها المركز المعزول إجرائياً. وعليه، لم تعد المقارنة بين الأفضل أو المبتغى، بل بين الأقل سوءاً، وهو نهج صار سائداً في أدبيات العمل السياسي السوري.

“السيئ والأقل سوءاً” واضطراب العلاقة مع المركز السياسي ووجوهه الاقتصادية الجديدة، ديناميات تفسّر حراك الساحل الذي يوصف بكونه القاعدة الاجتماعية للنظام، فقد برزت أصوات جديدة في انتقاد النظام لا تتماشى مفردات خطابها ومضمونها مع نهج التنفيس التقليدي الذي تتبعه الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية خلال الأزمات الاجتماعية والسياسية الحادة، حيث تجري محاولة تأطير ما يجري بعناوين سياسية جماعية من قبيل “10 آب” و”حركة العلويين الأحرار” وغيرها بانتظار ما قد يرشح عن حراك السويداء الذي يُرجّح أنه يتجه لنمط إدارة ذاتية مع انتفاء قدرة النظام على المواجهة المفتوحة في المدى القصير والمتوسط.

لأوّل مرة لن تكون لعبة الوقت في صالح النظام، بل ضده، الاستمرار في معاندة حركة التاريخ لن تلحق به إلا مزيداً من الخراب قبل السقوط المدوي الذي بات حتمية تاريخية.

تلفزيون سوريا

————————

“المناضلون” في أبراجهم الحمراء العالية/ علي سفر

سألت أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي قبل أيام عن أسباب تكرار الانقلابات العسكرية في البلدان الإفريقية، فأجابني بإسهاب ودقة، عرض فيهما للعوامل الداخلية؛ أي الوضع السياسي للأنظمة، بين ديموقراطيات هشة، وولاءات خارجية، وفساد يضرب أجهزة الدول، واعتقاد الجنرالات من قادة الجيوش ورؤوساء أركانها بأنهم وحدهم من يستطيع حفظ بلدانهم من خطر التفكك والحروب الأهلية.

وجاء في العوامل الخارجية التي عرضها التطبيق أن ظروف الإقليم المضطربة في علاقته مع دول الاستعمار السابق، وهي هنا فرنسا على وجه الدقة، تنعكس على الوضع الداخلي ولاسيما آليات استثمار الثروات، والتوزيع العادل لعائداتها، ما يؤدي إلى قرارات حاسمة لدى فئات من الشباب الثوري، تذهب صوب تغيير الحكومات القائمة، واستبدالها بأخرى تسعى إلى إحلال العدالة الاجتماعية وغير ذلك، إلخ.

سرررتُ جداً بطريقة الذكاء الاصطناعي في التحليل العام لجوهر المشكلة، لكن إجابته الموضّبة بإتقان ذكّرتني بالمناضلين الحزبيين الذين كنت وغيري ألجأ إليهم، حين يستعصي على عقولنا فهم جانب ما من المادية الجدلية أو شقيقتها التاريخية! حيث كان المناضل أو المناضلة يشمّر عن أدواته، ويبدأ بحفر الإجابة على سطوح عقولنا اللينة، وهو متأكد من أن ما يقوله سيبقى محفوظاً فيها طالما أننا ولسبب ما، وفي إطار سعينا إلى النضوج الأيديولوجي والسياسي، سنفقد طراوتنا الذهنية، وسنتحول شيئاً فشيئاً إلى التصلب والثبات على المبادئ، التي تتضمنها فلسفة الأيديولوجيا اليسارية!

كانت الأفكار تُقرأ وكأنها مُنزّلة، غير قابلة للتغيير، وإذا شاء أحدنا أن يجتهد قليلاً في تحري أسبابٍ، أو دوافع لا يعرف بها مسؤول الخلية الحزبية، فإن العصا جاهزةٌ من أجل إعادته إلى مسار المجموع المنتمي!

ومقابل الإصرار على سلوك درب مختلف، فإن الوصمة جاهزة لتلصق بمن يعصي، وهي محددة بالنزعة التحريفية، ومن بعدها الخيانة الطبقية، وصولاً إلى الاتهام بالعمالة للبرجوازية العفنة، والرجعية البائدة!

لم يقنعني تطبيق الذكاء الاصطناعي وهو يحاول تقديم أفضل الإجابات المدروسة، التي لا تخرج عن المنطق والمنهج المبرمج وفقهما.

وكذلك بقيت في نفسي حسرة أنني لم أواجه الرفيق الحزبي بما كنت أعرفه، من أن التحليل الذي يتبع المنهج بدقة وبإيمان كامل سيفضي إلى الديماغوجيا والجمود، وأن الحالة الخاصة لكل واحد منا تجعله يرى الأمور بطريقة مغايرة، وأن إعادة الضخ في الأفكار الثابتة دون تجديد وتلمس للمختلف، ستقضي على بذور الإبداع لدى أي رفيق في الحزب أو الجبهة، أو عند أي فرد في الجامعة والمدرسة!

يحتاج المرء دائماً لأن ينظر بطريقة مختلفة للأشياء، وأن يجرب استخدام منهجيات مختلفة عما اعتاده، لعل ذلك يسهم في وصوله إلى أهدافه التي تعثّر في مسار الوصول إليها، وتبعاً لهذا فإن ما غاب عن الذكاء الاصطناعي في تحليله للقضية الراهنة في دول الساحل الإفريقي إنما هو احتمال وجود مسعى مافيوي روسي للاستيلاء على ثروات هذه البلاد، ومناكفة الغرب من خلال “تشليح” دولة مناجم ثروات معدنية تعتمد عليها في اقتصادها، ولاسيما منها تلك التي تسهم في صناعة الطاقة، كاليورانيوم الذي تحتاجه كل أوروبا من أجل مفاعلاتها النووية التي تزودها بما تحتاجه، بعد انتهاء اعتمادها على الغاز الروسي.

وأيضاً فإن عدم قراءة النوازع النفسية ودراسة بنى الشخصيات التي تخرج من أطر مؤسسات الاستئثار بالقوة كالأمن والجيش وحتى الشرطة الوطنية، في كل المجتمعات، ستكون جزءاً من الفشل الذي يحيق بأي تحليل لا ينظر بين سطور نوايا أي ضابط يضع النجوم على كتفيه ويزين صدره بالنياشين!

فأي يد تمتلك أدوات القتل دون ضوابط أخلاقية مقوننة، لابد من أن تُفقد العقل بعضاً من حكمته، ورويته، وقبل هذا، تستهتر بالواجبات الأساسية التي تقتضيها المهنة العسكرية، وفي أولها الانضواء ضمن الحالة الدستورية التي تفترض أن تكون الدولة مدنية وديموقراطية!

فعلياً ومن دون تزويق للكلام، لا يمكن لأي عاقل أن يثق بالعسكر الذين يخرجون على قوانين الدولة التي يعملون تحت مظلتها!

لكن من أين نأتي للذكاء الاصطناعي بمثل هذه الأفكار، طالما أن من صنع لورغارتيماته افترض بأن سقف الكمال فيما يصنع إنما هو مضاهاة تفكير التطبيق لتفكير البشر؟! دون أن يترك له فرصة تأمل أخطاء هؤلاء في التفكير وفي التحليل! ولعل المصيبة الكبرى التي لم يحسب لها أحد من هؤلاء المبرمجين حساباً تكمن في أن يصبح هدف الذكاء الاصطناعي امتلاك وعي طبقي راسخ وثابت، يرمي به على الطاولة كلما سأله سائل عن أزمة هنا ومشكلة هناك!

مشكلة اليساريين عموماً والسوريين خصوصاً، وأنا أعني على وجه التحديد، أولئك الذين يتنطحون هذه الآونة لتقديم النصائح والتوصيات للثائرين على الأرض في ساحة الكرامة في مدينة السويداء المنتفضة، هي شعورهم بالامتلاء الفكري الفائق القدرة، فهم يرون أنفسهم ماكينات ذكاء طبيعي، لا يمكن لوصفتهم أن تفشل في علاج استعصاءات التجربة الثورية، وأن سبب فشل الثورة السورية إنما هو عدم اتباعها لتعليماتهم، ونزوع الفاعلين فيها إلى اتباع أساليب أخرى!

لا بل إن بعضهم يعتقد بأن الثورة قد سُرقت منهم، وها قد سنحت لهم الفرصة مرة ثانية لأن يقدموا وصفتهم للنجاح الثوري!

هذه واحدة من أطرف الاختلالات العقلية التي واجهها السوريون خلال السنوات الماضية، والتي يجب أن تُعالج من خلال إصلاح العطب النفسي الكامن لدى الفاعلين فيها، ولعل ذلك يبدأ من خلال المباغتة بصدمة السؤال؛ هل من أحد يخبرنا متى حدث أن نجحت الوصفة اليسارية في حل المشكلات المزمنة للمجتمعات التي تشبه مجتمعنا؟

ألا تكفي الجمهور معرفة التاريخ المديد من الفشل السياسي والإداري لدى اليسار حول العالم، حتى يغلق أفراده آذانهم عن سماع أي نصيحة ثورية يسارية توجه لهم وهم يهتفون بمطالب الحرية والدولة المدنية الديموقراطية؟!

وأن يهزأ هؤلاء بمن يطالبونهم بتشكيل قيادة ثورية، وكأن الجمهور الطليعي الذي غامر بكل شيء ووقف في وجه النظام تحت طائلة القنص والاستهداف بالطيران وبالبراميل المتفجرة، أميٌ، يمكن لكلمة أن تأخذه يميناً وأخرى شمالاً!

ألا تكمن وراء مطالبة الجماهير باختراع قيادتها نزعاتٌ فوقية، لا تثق بالناس وبخياراتها، ستؤدي في المحصلة إلى توسيع الهوة بين الحزب السياسي وبين الجمهور العفوي غير المنظم سياسياً، ولكنه يعي أساسيات الحل لأزمة بلده المديدة؟!

هل يمكن للرفاق الشيوعيين أن يتواضعوا، وأن يهبطوا أحياناً من أبراجهم العالية، كي يسمعوا بعض ما يهمسه الناس، خارج المناهج والجدليات والدراسات والتحليلات؟

————————————

سؤال السويداء بعيداً عن رومانسية ساحة الكرامة/ رشا عمران

وأنا أتابع ما يحدث في ساحة الكرامة في مدينة السويداء خلال هذه الأيام من اعتصامات يومية وتجمعات وتحويل الساحة إلى مركز للنشاطات الفنية والثقافية: موسيقا وغناء وشعر ورسم ونحت وكل أنواع الفنون الأخرى مترافقة مع موقف سياسي جذري وواضح الرؤية والأهداف، وبالغ الوعي من حيث تجنب الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها الثورة السورية خلال نهاية سنتها الأولى وبداية الثانية، قبل أن تتحول إلى حرب مجنونة وعبثية هزمت الثورة وأعادت مناطقها إلى عصور الانحطاط، بعد أن استقطبت تلك الحرب كل مرتزقة الأرض، لتصبح سوريا بكل مناطقها محتلة من قبل احتلالات مختلفة الشكل والهوية.

وأنا أتابع ما يحدث هناك لا أستطيع أن أبعد عن ذاكرتي الأشهر الأولى للثورة حين كان حلم جميع من أيدوا التغيير هو هذا النوع من الاعتصامات المدنية التي كانت تظهر عمق الشخصية السورية الحقيقية، شخصية مدنية واعية وناضجة ومبدعة ومتعالية على الهويات الضيقة لصالح الهوية الوطنية الحقيقية ولصالح المواطنة التي كانت مطلبا أساسيا من مطالب التغيير يحلم به السوريون الثائرون، بوصف المواطنة الحقيقية هي السبيل الأول نحو تأسيس دولة حديثة ديموقراطية ومجتمع حيوي ومتجانس رغم كل الاختلافات التي به.

نعرف جميعا، نحن الذين عايشنا بدايات الثورة عام 2011 وانخرطنا بها بشكل أو بآخر، سواء شخصيا أو عبر مشاهداتنا ونقاشاتنا مع أبنائنا وأصدقائهم ممن كانوا من الرعيل الأول للثورة، إن العصيان المدني كان هدفا رئيسا من أهداف الثورة ذلك الوقت، وإنهم لم يوفروا طريقة من طرق الاحتجاج المدني إلا واستخدموها، نتذكر جميعا ما حصل في دمشق وباقي المحافظات: ظاهرة الرجل البخاخ، المظاهرات الطيارة، وضع صبغة حمراء في التجمعات المائية كدلالة على الدم السوري الذي بدأه النظام، الكتابات الضوئية المطالبة برحيل النظام على جبل قاسيون، أغاني القاشوش التي كانت تصدح فجأة في قلب ساحات العاصمة وتثير جنون عناصر الأمن، مظاهرات اللون الأبيض واللون البنفسجي، طابات البينغ بونغ التي كتب عليها عبارات ثورية والتي ألقيت على دمشق من أعالي جبل قاسيون، مجسمات بشار الأسد المشنوقة المعلقة على الجسور في قلب العاصمة! من ينسى المظاهرات في كل المدن والأغاني الثورية التي كتبت خصيصا للمظاهرات والتي كانت تدعو إلى الوحدة الوطنية؟

من ينسى الاحتفالات والسهرات في البلدات الصغيرة في ريف دمشق وباقي البلدات السورية الثائرة والتي كانت تتحول إلى سهرات شعبية بالغة الجمال؟ من يمكنه نسيان ذلك رغم ما حدث ورغم كل المحاولات التي تمت لطمس هوية الثورة الشعبية المدنية لصالح العسكرة والأسلمة والتخلف والعنف وإلباس الثورة هوية دينية وطائفية مدعمة بتمويل مهول وبطابور خامس يستخدم وسائل التواصل لتشويه الصورة المدنية في الثورة السورية؟

قد يكون من المفيد التذكير أن لنظام الأسد اليد الأولى في تغيير هوية الثورة، ليس فقط بسبب الحل الأمني الذي اعتمده منذ البداية، ولا فقط بسبب العنف والإجرام الذي أظهره ضد الثائرين، وإنما أيضا لأنه فهم وعرف كيف يستفيد من الثغرات التنظيمية في تنسيقيات الثورة، ومن قلة خبرة السوريين بالعمل السياسي المعارض، ومن براغماتية الحزب الوحيد المنظم (الإخوان المسلمون)، فعمل على دفع عناصر له إلى قلب الثورة وضخ إليها إسلاميين متطرفين ممن كان يستخدمهم في تحالفاته القذرة ويعتقلهم ويطلقهم وقت يشاء، في الوقت الذي عمل على تفريغ الثورة من غالبية مدنييها سواء بالقتل المباشر أو بالاعتقال والإخفاء أو بتسهيل هروبهم إلى خارج سوريا. وأيضا من المفيد هنا الاعتراف أن غالبية مدنيي الثورة ورعيلها الأول استسهلوا الخروج والهروب خوفا من بطش النظام وحفاظا علي سلامتهم من الأذى من جهة، ومن جهة ثانية كان هناك اعتقاد سائد أن المجتمع الدولي لن يسمح للنظام بالتمادي في إجرامه وسوف يعمل على إسقاطه بطريقة ما سواء عسكرية أو عبر الضغط السياسي المباشر؛ ما يعني أن الخروج من سوريا سيكون مؤقتا والعودة قريبة لمباشرة البناء لسوريا الجديدة؛ لكن تبين أن تلك الحسابات كانت خاطئة والرهان على المجتمع الدولي يشبه الرهان على ضمير النظام وتفضيله مصلحة سوريا على بقائه؛ هكذا وقع الجميع في الفخ، الثوار والثورة نفسها حتي وصلنا إلى ما وصلنا إليه من هزيمة كبيرة طالت سوريا ومجتمعها من أقصاها إلى أقصاها، دون أن يخطر في بال أية جهة ثورية تنظيمية أو رسمية إجراء مراجعة علنية أو سرية لما حدث، لفهم الأخطاء القاتلة التي وقع بها المسار الثوري السوري، ولإعادة صياغة بنى ثورية جديدة ووضع استراتيجيات ذات رؤى وطنية وخطاب سوري ثوري وطني جامع ومدني ديموقراطي لا يمت بصلة للخطاب السابق: الخطاب الطائفي والفئوي الذي ساد لسنوات والذي لم يكن سوى نسخة مشوهة عن خطاب النظام نفسه.

في مسرحية جبال الصوان لفيروز والرحابنة، لمن يعرفها، هناك حوارية بين فيروز/ غربة وبين أهل جبال الصوان يقترح فيها أهالي الجبال أن يتم الطلب من أقاربهم في الخارج ممن غادروا الجبال لمحاربة فاتك المتسلط من الخارج، فترد غربة قائلة: “اللي بيحاربوا من برا بيضلهن برا، المصدر جوا”! أثبتت السنوات السورية السابقة صوابية هذه الرؤية الرحبانية القديمة، ذلك أننا الذين خرجنا من سوريا لم نعد قادرين على القيام بأي فعل ثوري خارج التنظير والتبجح عبر وسائل التواصل، لنكن واقعيين ونعترف بهذا، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لم تتمكن من أن تكون مركزا للناشطين يعودون إليها لاستعادة الموقف الثوري، ليس فقط لأنهم ترهلوا نفسيا عبر السنوات الماضية وأصيبوا بيأس معطل وفقدوا أي شغف للعمل الثوري، بل أيضا لأن تلك المناطق ليست محررة كما يقال عنها، بل هي واقعة تحت سلطات أمر واقع لا تقل لا إجراما ولا تعسفا ولا ظلما عما يفعله نظام الأسد، هي دليل مضاف على هزيمة الثورة من حيث وضعها تحت حماية دول خارجية من جهة ومن حيث استهدافها المتواصل من قبل النظام وحلفائه. ما يعني، بشكل مؤكد، أن أي تغيير لا بد أن يكون من الداخل فقط، من قلب سوريا، من قلب مناطق النظام حيث يعيش السوريون في أسوأ ظرف معيشي وإنساني يخطر في البال.

ما يحدث في السويداء اليوم قد يكون هو النواة الأولى للتغيير المطلوب، ذلك أن المحتجين يطلقون الخطاب الثوري المطلوب، المدني والتوحيدي والديموقراطي الرافض للتسليح وللتطييف واللانقسام وللتمويل وللتدخل الدولي الذي لم يتسبب إلا بكوارث مضافة للكارثة السورية. ما يحدث في السويداء هو الحالة المثالية للثورة بكل رومانسيتها وجمالها. لكن ثمة ما يجب الحديث عنه هنا، وهو موقف النظام مما يحدث في السويداء وتراخيه في اعتماد الحل الأمني كما هدد رأس النظام في مقابلته الأخيرة مع سكاي نيوز حين قال إنه لو حدث الآن نفس ما حدث 2011 لاعتمد نفس الحل الذي اعتمده! ما الذي يجعله إذا ينسحب من السويداء ويترك الجبل لسكانه المحتجين دون أي تدخل أمني حتى الآن؟ وماذا سيكون موقفه لو حدث هذا في دمشق أو حماة أو اللاذقية مثلا؟ هل سينسحب أيضا ويراقب ما يحدث دون تدخل أمني أم سوف يصب جام غضبه على سكان تلك المدن؟

هل للسويداء وضعها الخاص المستند على توازنات إقليمية لا تتمتع بها باقي المحافظات السورية، أم أن ثمة ما ينبئ بتغير الموقف الدولي والعربي من نظام الأسد يجعله يحجم عن استخدام العنف ضد المدينة؟

أثبتت التجربة السورية أن نظام الأسد لا يتورع عن فعل أي شيء ليوقف أي احتجاج ضده، قتل قصف اعتقال تدمير حرق! كل شيء، وما صمته عما يحدث في السويداء مقابل استمرار اعتقاله لأصوات داعمة لحراك السويداء من محافظات الساحل سوى تأكيد على استراتيجته الإجرامية تلك. وهذا يستدعي سؤالا مهما: إلى أين سوف يمضي حراك السويداء؟ وهل سوف يكون هو نواة حل سياسي يفرضه المجتمع الدولي، رغم الخبرات الفاشلة مع المجتمع الدولي؟ أم هل ستكون السويداء شرارة الانفجار في باقي المحافظات السورية رغم الخوف الواضح والجلي لدى الكثير من السوريين من أي تغيير، خصوصا لدى سكان الساحل السوري ودمشق؟

تلفزيون سوريا

—————————————

ثرثرة على هامش الخطاب البيني العربي.. سوريا مثالًا/ حسان الأسود

رغم دموية المشهد في بعض دولها، أو قتامته في أغلبها، أو انفلاته كخروج ماردٍ من قمقم حُبس فيه كما مجتمعاتُها في البعض الآخر، تمرّ شعوب منطقتنا العربية بمنعرجٍ مهمٍّ جدًا في تاريخها المعاصر، يكادُ يشبه في بعض جوانبه، مع فارق الخصوم والتحديات، ما اصطُلح على تسميته عصر النهضة العربية نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. يلاحظ المرءُ كيف تعجّ الساحة الثقافية العربيّة راهنًا بحوارات وأبحاثٍ حول واقع العرب ودولهم، وتحت ضغط الآثار الهائلة لزلزال الربيع العربي الذي هزّ عروشًا ودكّ صروحًا كانت مثل الجبال جاثمة على الصدور، تجاوب المثقفون والبحّاثة وأصحابُ الفكر للتصدّي لهذا الاستحقاق. لعبت مراكز الأبحاث ضمن هذا السياق دورًا رياديًا على مستويات النخبة المثقفة، بينما أسهمت الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة بقسطها أيضًا في مخاطبة الجمهور، في حين كان لوسائط التواصل الاجتماعي دورٌ نوعيٌّ فريدٌ فتحَ منابرَ غير معهودة لجميع الناس على اختلاف مستوياتهم.

يقول الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير: “إنّ كلّ وجود تاريخي للمجتمع يبرز عبر اللغة، واللغة هي مرآة الوضع الحضاري الذي يعيشه المجتمع، وكلّ انخراطٍ في الوجود يمرُّ عبر اللغة”. وغادامير يماثلُ هنا بحسب تعبير الدكتورة ناجية الوريمي بين المجتمع ووجوده التاريخي من خلال لغته. بحسب هذا، ومن خلال الخطاب المستعمل بين الأفراد والقوى المتدافعة في المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة، يمكن إدراك القيم التي يحملها هؤلاء والتي تعبّر بدورها عن المستوى الحضاري الذي وصلته، والخطابُ يشي أيضًا بالتناقضات التي يعيش فيها الأفراد والمجتمعات، فكثيرًا ما كان هناك اغترابٌ بين المفاهيم المطروحة والأفكار المنشودة من جهة، وبين الآليات التي أنتجت المعرفة ذاتها والمنطق الذي استندت عليه للوصول إليها في هذا الخطاب من جهةٍ ثانية. سيكونُ هذا مدخلنا لمقاربة الخطاب السائد في الراهن من وقتنا في أغلب مجتمعاتنا العربية، وبالأخصّ منها المجتمع السوري.

أضاءت الدكتورة ناجية الوريمي في إحدى محاضراتها على بعض الإشكالات التي عاصرها المفكرون العرف قبل مئة عام فيما سُمّي لاحقًا عصر النهضة، ونقتبس بعضًا مما جادلت به وننقله بتصرّف لإيصال فكرتنا عن المقارنة بين ما سبق ومرّ به أجدادنا آنذاك وبين حالنا الراهن وما نمرّ به نحن الآن خاصّة على مستوى اللغة والخطاب.

“وجد روّادُ النهضة العربية مثل رفاعة الطهطاوي وأقرانه أنفسهم أمامَ تحدٍّ كبير في مواجهة المستعمر، فمن جهة كان عليهم التمسّك باللغة العربية تجاوبًا مع النديّة التي تقتضيها مقاومة الغزو الثقافي المرافق، ومن جهة ثانية كان عليهم التصدّي لمهمّة تحديث اللغة ذاتها تجاوبًا مع استحقاقات التفوّق المعرفي للمحتل الأوروبي. وعندما ينظر الباحثون الآن في الاستراتيجيات التي مارسها المثقفون العرب والقادة السياسيون للوصول إلى هدفهم، فإنّهم يجدون تطويرًا حقيقيًا للّغة المستخدمة. أثّر هذا الأمرُ في الناس، فقد كانوا مستهدفين بهذا الخطاب، فارتفعت أسهمهم وباتوا مشاركين بالفضاء العمومي بحكم الظروف التي تطلّبت استنهاض الهمم لمواجهة التحديات. نقل هذا الخطاب الناس تدريجيًا من خانة الرعايا إلى خانة المواطنين، ليس بالمعنى الراهن اليوم لمفهوم المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات، ولكن بمعنى المشاركين بالشأن العام. انعكس هذا بطبيعة الحال على الأدوات المستعملة في الخطاب آنذاك، فأصبحت الصحافة باعتبارها منبر المثقفين للتواصل مع الجمهور أكثر حضورًا، وأصبح الساسة أيضًا مضطرين لمشاركة المحكومين ببعض شؤون الحكم، وإن كان الهدف ليس تطبيق الديمقراطية أو ترشيد الحكم بكل تأكيد، ولكن لاكتساب مزيدٍ من عناصر القوّة في مواجهة المستعمر. هكذا أصبح الخطاب ذاته سلطة مؤثّرة من حيث لا يدري أصحابه أو لا يريدون”.

نعود للواقع السوري الراهن، فنجد رئيسًا ورث الجمهورية من أبيه يصفُ شعبًا ثار عليه بالجراثيم والمندسّين وعملاء المؤامرة الكونيّة، فيردُّ قادة الحراك الثوري بدايةً بخطابٍ أكثر وعيًا مدركين التحديّ الماثل أمامهم، فيتمسّكون بالوطن والدولة والسيادة ووحدة الشعب. كان خطاب “السوري العادي” وفق المفهوم الذي طوّره مضر الدبس في مشروعه “تأميم سوريا” واعيًا لضرورة خلق المثال بحكم النديّة التي يجب أن تكون حاضرة في معركة إسقاط نظام الاستبداد من جهة، كما كان مدركًا لضرورة الانفصال عن المنطق الذي أنتج خطاب النظام ذاته كي يُبطل سرديته للأحداث من جهة ثانية. هكذا كانت شعاراتُ “الشعب السوري واحد، وسوريّا لينا وما هي لبيت الأسد، ولا للعنف لا للطائفية لا للتدخّل الخارجي” خطابًا جديدًا ينسجم مع منطق توليد سوريا الجديدة التي لا بدّ وأن تقوم على قاعدة التشاركية، وبالتالي قبول الآخر الذي همّشه خطاب النظام خمسين عامًا، ثمّ قتله مع أول صرخة حرّية.

يندحر “الرئيسُ” ونظامُه أخلاقيًا أمام شبابٍ سلميين هبّوا رجالًا ونساءً لاسترداد كرامتهم، ورغم العنف المتصاعد صمد خطاب أولئك أشهرًا عديدة محافظًا على مناقبيّة أهله العالية سعيًا لوطنٍ حقيقي يكون من بعدهم وبهم، لا قبلهم ورغم حتوفهم. لكن كيف لهم أن يقفوا طويلًا في وجه شياطين الأرض ووحوشها إذ هبّت تنهش أحلامهم وأرواحهم قبل أجسادهم؟ هنا انحسر هذا الخطاب العقلاني من الشارع مع انكفاء “السوري العادي” عن التأثير الأوحد في المشهد، ونبت خطابٌ جديدٌ يقوم على النديّة مع خطاب النظام الدموي لكن ينساق في اللعبة معه. هكذا بدأ خطابُ التخوين والتطرّف والتكفير يسود الساحة، ليس فقط في مواجهة خطاب النظام، بل وفي مواجهة الخطاب العقلاني الذي ظهر أوّل سنة في الثورة قبل أن يصبح السلاحُ صاحب الكلمة الأوحد. ظهرت هنا سلطة الخطاب بأسطع شكل، استعمل الثوّار الأوائل اللغة لخلق سلطة تنافس سلطة السلاح ونجحوا لمدّة عامٍ ونيّف، ثم اتحد بوجههم خطاب النظام مع خطاب أقرانهم ممن نبتوا في رحم الثورة لكنّهم أسهموا في خنقها بتبنّيهم المقدّمات التي استند عليها النظام في سرديّته.

الآن، وفي الحراك الشعبي الجديد المتركّز في الجنوب، في سويداء القلب السوري، محاولة جديدة لإعادة الاعتبار لهذا الخطاب الوطني الجامع، محاولة واعيةٌ ومدركة لضرورة الامتثال لمقدّمات المعرفة التي أنتجتها الثورة وراكمتها نضالات السوريين والسوريات خلال سنيّ عمرها، ولضرورة البناء على منطقها الأول الباحث عن القبول بالآخر المختلف والمشاركة معه ضمن الوحدة السورية. والتحديات الشاخصة في الطريق هائلة، وأخطرها لا يأتي من جهة النظام الذي اندحر وخطابه، بل مع الأسف من جهة الثوار أنفسهم، فبشكل غير واعٍ ولا مبرر، لكنّه مفهوم ضمن سياق الظلم الفادح الذي وقع على أصحابه، بدأت قرون الغيرة تنبت، غيرة من أن “يقطف أهل السويداء ثمرة الثورة التي دفعوا هم ثمنها الفادح” فيتصدروا لواجهة المشهد ويتوّجوا قادةً للحراك “بآخر مئة متر من السباق”، فيؤدي هذا إلى إعادة خلق خطاب الإقصاء الأول، الذي لا بدّ أن يسند خطاب النظام من حيث المآل. فلمن ستكون الغلبة، وهل يصمد خطاب الوطنية السورية المتعافي أمام خطاب التفرقة والإقصاء المندحر، أم نرى إعادة للتاريخ بصورة مهزلة من جديد، وهل ينطلق قطار الربيع العربي من الجنوب السوري مجددًا كما انطلق من الجنوب التونسي قبل عقد ونيّف، أم نعود بعد مئة عامٍ للثرثرة على أطلالِ وطنٍ هُدم بخطاب أهله؟

——————————

في استمرارية الحراك الاحتجاجي في السويداء/ عمر كوش

دخلت احتجاجات أهالي محافظة السويداء ضد نظام الأسد أسبوعها الرابع، ولم يظهر المحتجون سوى تصميمهم على المضي قدماً في حراكهم حتى يتحقق ما يطمحون إليه، خاصة فيما يخص توسيع دائرة الحراك، ليطول مناطق أخرى خاضعة لسيطرة النظام، وذلك سعياً من ناشطيه للاستفادة من تشكل حالة إجماع، بين مختلف مشارب السوريين وانتماءاتهم الدينية والمناطقية، على ضرورة التغيير السياسي، والخلاص من نظام لم يجلب لهم سوى الكوارث.

ما يدعم ثبات المحتجين واستمرارهم هو قدرتهم على الحشد وتنظيم فعاليات التظاهر، وفق مبدأ التوافق بين مختلف حساسيات المحتجين، وإدارة الخلافات الناشئة بالحوار، وبشكل يحافظ على وحدة الصف، وعدم السماح للطروحات المغالية، والنوعيات المتطرفة بتصدر الموقف، الأمر الذي يفضي إلى المحافظة على زخم الحراك الاحتجاجي، وزيادة فسحاته وساحاته، التي تشهد مشاركة نسائية لافتة، ليس فقط في فعالياته، إنما في قيادته وتنظميه، إلى جانب انخراط مجموعات من مختلف الفئات والقوى الاجتماعية، بمن فيهم الزعماء الدينيون للطائفة الدرزية، الذين درجوا على تبني مواقف محايدة حيال نظام الأسد، بل وأحياناً مؤيدة له ولمواقفه، وأسهمت فيما سبق في تهدئة المحتجين، خاصة احتجاجات 2018 و2020.

يفترق الحراك الاحتجاجي الحالي بجوانب كثيرة عما سبقه من احتجاجات في السويداء، من حيث أنه أكثر جذرية في شعارته ومطالبه، التي طالت شخص بشار الأسد وزوجته، وارتفع فيها عالياً شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وفي جميع ساحات التظاهر، وطالت شعارات أخرى آل الأسد تحديداً، فضلاً عن شعارات تؤكد على وحدة الشعب السوري، إلى جانب المنعطف الذي دشنه قيام محتجين بتحطيم تمثال الطاغية الأب، حافظ الأسد، باني النظام التسلطي الاستبدادي في سوريا، تزامناً مع ذكرى اغتيال أجهزة نظام الأسد الابن، الشيخ وحيد البلعوس عام 2015، مؤسس “حركة رجال الكرامة”، التي ما تزال تناهض النظام.

لا ينحصر جديد الاحتجاجات الحالية في السويداء فيما سبق فقط، بل يتعداه إلى أن المحتجين لم يكتفوا بالمطالب المعيشية والحياتية، التي تخص أوضاعهم الاقتصادية الكارثية التي يعانون منها، وتحميل نظام الأسد كامل المسؤولية عنها، بما يعني تفنيد رواية النظام، التي تحيل المسؤولية إلى العقوبات الأميركية والأوروبية، بل أرفقوها بمطالب سياسية واضحة وجذرية، حيث رفعوا شعارات يعود بعضها إلى شعارات المرحلة السلمية للثورة السورية التي اندلعت عام 2011، وتتعلق بوجه خاص بإسقاط النظام، وبعضها الأخر يمثل رؤية سياسية لمستقبل سوريا، ودعوة الأمم المتحدة لتنفيذ القرار 2254، وانسحاب قوات الاحتلالين الروسي والإيراني، والمشاركة في عملية سياسية على المستوى الوطني والدولي للخلاص من نظام الاستبداد.

بالمقابل، ظهرت دعوات لتشكيل هيئة سياسية لقيادة الحراك الاحتجاجي، لكنها لم تلق قبولاً بين أوساط غالبية المحتجين، بالنظر إلى أنهم لا يريدون تشكيل أي جسم يمكن أن يفهم منه اهتمامهم بالوضع المحلي للسويداء، على حساب انتمائها إلى الفضاء السوري الوطني العام، خاصة أن بعض الجهات تحاول تجيير ذلك لصالح دعاوى الإدارة الذاتية، التي رفضها المحتجون، ورفعوا في لافتات تسميها، وتقول لا لسلطة الأمر الواقع، مع تأكيدها على مطلب التغيير السياسي الشامل في كل أرجاء سوريا.

الواقع هو أن أركان نظام الأسد وأبواقه، لم يتوقفوا أبداً عن العمل على تشويه صورة الحراك الاحتجاجي الشعبي في السويداء بشتى الوسائل، من خلال ربطه بإسرائيل، واتهامه بالنزعة الانفصالية، بغية ضرب روحه الوطنية العامة. وقد حاول النظام ترويج فكرة عزل الجنوب عن باقي الجغرافيا السورية، وفبركة رواية توحي بأن السويداء تريد حكماً ذاتياً من وراء حراكها الاحتجاجي، وساهم معه في ذلك الترويج الماكر لأصحاب وجماعة الإدارة الذاتية، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، الذي يتبع بدوره لحزب العمال الكردستاني التركي، وذلك بهدف الترويج لمشروعهم الانفصالي، والانتصار له تحت يافطات اللامركزية والإدارة الذاتية والفيدرالية، والعمل على ضرب المجال السوري العام الذي يتحرك ضمنه أهل السويداء، لصالح النزعة الهوياتية القومية لهذا الحزب الستاليني المتطرف، الفاقد للروح الوطنية السورية، والذي حوّل نزعته القومية الشوفينية إلى إيديولوجيا شمولية، تنهل من معين ممارسات الأنظمة التسلطية والتوتاليتارية، ويريد تعميمها على الجغرافيا السورية، كمشروع يحدد مستقبلها، حيث يريد هذا الحزب، المحتمي بمظلة القواعد والجنود الأميركيين، إخفاء نزعته الانفصالية، وتمويه سطوته على ثروات السوريين بمنطقة الجزيرة السورية، من خلال مصادراته عائدات في النفط والغاز، وكل ما تدره غلّة سوريا الزراعية.

غير أن رفض ناشطي السويداء دعاوى تشكيل هيئة سياسية، ونزعات الإدارة الذاتية والفيدرالية، لا يعني تمسكهم بسوريا مركزية تحت نير نظام الأسد، إنما التمسك بأولوية التغيير السياسي نحو سوريا الديمقراطية، بعيداً عن كل العصبيات ما قبل المدنية، إثنية أم قبلية أم دينية أم سوى ذلك. ولعل من الأهمية بمكان التفكير في ممكنات وكيفيات توسيع المشاركة في الحراك الاحتجاجي الشعبي، ووصوله إلى شرائح لم تنخرط بعد فيه، إلى جانب تنويع أشكاله وتحصينه من النزعات والانقسام. كما أن استمرار الحراك الاحتجاجي في السويداء، يشكل معضلة كبرى بالنسبة إلى نظام الأسد، كونه يسلط على نقطة أساسية، تتمثل في أن السوريين الخاضعين لسيطرتهم، لا يرون الاستمرار في العيش تحت نير هذا النظام، وأنه على الرغم من معاناتهم الهائلة التي قاسوها، فإنهم من غير المرجح أن تجعلهم خسائرهم يتراجعون عن الاستمرار في احتجاجاتهم، وبالتالي سيستمر حراكهم إلى أن يحدث تغير ما، يخلصهم من معاناتهم، ومن الكابوس المطبق على أنفاسهم منذ عقود عديدة.

—————————–

حراك السويداء ومقولات ساحة الكرامة/ فراس سعد

ما يقرب من ثلاثة أسابيع مضت على انطلاق حراك السويداء الثوري في أواسط شهر آب المنصرم، مكملاً ما بدأته الثورة السورية في آذار 2011، والحقيقة فإن هذا الحراك الواعد لا يكمل ما بدأته الثورة منذ شهورها الأولى فحسب، بل هو يجدد ويظهر بشكل جلي أجمل ما بدأته الثورة السورية في شهورها الأولى أعني بها مشاركة الرجال والنساء معا.. وفوق ذلك أضاف حراك السويداء لمسته المميزة في لافتاته التي رفعت في ساحة الكرامة.

بدأ حراك السويداء منذ سنوات كحراك مطلبي، وهذا لا يعيبه، فهو يذكرنا بمطالب حراك درعا في آذار 2011 التي اقتصرت وقتها على محاربة الفساد وإنهاء احتكار رامي مخلوف وتغوله عبر شركاته لاسيما شركة سيرياتل… لكنه على شاكلة حراك درعا سرعان ما انتهى إلى الإعلان الصريح عن مطالب سياسية هي مطالب الثورة السورية منذ اثني عشر عاما.

وللأسف جرى تجاهل المسألة المطلبية في أدبيات الثورة السورية كما لو أنها عيب أو حرام، وكما لو أن ثمة تناقضاً أصلياً أو جوهرياً ما بين المطلبي والسياسي، والحقيقة أنهما بمثابة كيان واحد يجمع ما بين الجسد والروح، فلن يقنعنا أحد أن إفقار الطبقة الوسطى والجفاف وهجرة مليون مزارع من شرق سوريا إلى ضواحي حمص وحماة ودمشق منذ سنة 2009 وهجرة مزارعي ريف دمشق إلى مراكز المدن في ريفها لأسباب معاشية، واحتكار رامي مخلوف ابن خالة الأسد للتجارة والخدمات والاتصالات ونصف الاقتصاد السوري لم تكن سببا جوهريا لانفجار ثورة آذار 2011 ولن يقنعنا أحد أن ثورات تونس ومصر وليبيا لم تكن الشرارة التي أشعلت كومة القصب السوري الجاف.

يعيد حراك السويداء الثورة السورية إلى المسار الطبيعي المفترض كما في كل ثورة مدنية سلمية، والتي كانت الثورة لتعبره بهدوء وسلام لولا توحش نظام الأسد بقيادة وتوجيه إيراني وتناغم عربي حوّلها إلى ثورة مسلحة خطفها وقادها الممول الخليجي وضباط مخابرات بلحى طويلة ورايات إسلامية وشعارات دينية مذهبية استقطبت قسما لا بأس به من الشباب السوري الثائر، بحيث تحول ثوار سوريا إلى حمل السلاح وخاضوا معركة كسر عظم مع ميليشيات إيران.

حراك السويداء يعيد الثورة السورية إلى مسارها الطبيعي كما لو أنها انطلقت الآن مكملا مسيرتها التي انطلقت في آذار 2011 وتوقفت يوم بدلت أدواتها وشعاراتها وأهدافها منذ منتصف 2013، يوم قفزت داعش والنصرة إلى مركب الثورة واستولت على دفة القيادة ورمت القبطان ومساعديه في عرض البحر.

مقولات جديدة ومقولات مستعادة

حراك السويداء هو حراك لا يفرق بين رجل وامرأة ويرفع شعاراته نيابة عن كل السوريين والسوريات.. فمطالب ساحة الكرامة في سويداء سوريا هي مطالب كل سوري وسورية من أقصى شرق سوريا البوكمال والقامشلي إلى أقصى غربها اللاذقية وجبلة، تكرست في هتافات الثورة السورية التي تتمحور حول إسقاط النظام ومطالب الحرية والكرامة والشعب السوري الواحد وإطلاق سراح المعتقلين وتنفيذ القرار الأممي 2254 ومحاسبة المجرمين.

لكن ساحة الكرامة في السويداء أضافت مقولات جديدة غير معهودة خلال السنوات الاثني عشر الماضية، منها مقولة كانت متداولة لدى نخبة من العلمانيين والمثقفين عموما، تعود إلى زمن النهضة العربية في القرن التاسع عشر من مثل مقولة الدين لله والوطن والجميع، وهي مقولة مكثفة لمقولة ترددت عبر لافتات في غير مكان من سوريا الثورة مفادها أنه لا فرق بين طوائف وملل السوريين، وأنهم جميعا شعب واحد.

وهناك مقولات تظهر لأول مرة في الثورة السورية عبر لوحات انتشرت في ساحة الكرامة، بعضها يضع حلا من بضع كلمات لأسئلة طالما أثارت جدلا في صفوف النخب السورية المثقفة، من قبيل أيهما أولى تحرير المجتمع أم تحرير المرأة، إذ كان هناك ميل للقول إن تحرير المرأة أولى من تحرير الشعب من سلطة الاستبداد، وهو ما دأبت أجهزة النظام الثقافية والدعائية على ترداده حدّ الابتذال في سياق نهج خبيث منها يخلط الأوراق ويحرف الصراع بين الشعب والسلطة المستبدة الفاسدة إلى صراع جندري بين رجال ونساء، كأنما هذا الصراع هو المسؤول عن القمع والفقر والنهب والتبعية والهجرة وبيع الجولان.

إن مقولات ساحة الحرية والكرامة في السويداء التي تظهر في اللافتات لا تقل أهمية عن حراك السويداء بمجمله، فهي مقولات تدفع للتفكير في مسلمات موروثة، وفيما هو ليس مفكرا فيه على نطاق واسع في مستوى الشارع، وحتى في مستوى النخب السورية المثقفة، الأمر الذي يضيف وظيفة جديدة للثورة عدا كونها حراكاً تغييرياً جذرياً، ألا وهي حثها لنا جميعاً على التفكير وإطلاق الأسئلة.

———————————

عودة الشعب إلى الميادين.. خياران للسوريين “تدجين” أو “تغيير”/ طالب الدغيم

لم تنفع سياسات النظام السوري “القمعية” و”التسلطية” في إخضاع السوريين منذ انطلاق ثورة آذار/ مارس 2011، على الرغم من استخدامه شتى أنواع القتل والتدمير والتهجير، بالإضافة للاصطفاف الروسي والإيراني العسكري المباشر بجانبه، وتغاضي الحكومات العربية والمجتمع الدولي عن سياساته الإجرامية المروعة، فعادَ السوريون الأحرار بعد أكثر من عقدٍ إلى الميادين السّلمية (أغسطس/ سبتمبر 2023)، يتعاهدون على إسقاطه، واسترداد إرثهم التاريخي الذي اغتصبه نظام الأسد وزبانيته عقوداً طويلةً، ولكن هذه المرة لم تعد الانتفاضة الشعبية من ميادين درعا، وامتدت إلى حمص وإدلب ودير الزور وحماة وريف دمشق وغيرها، بل أوقد شُعلتها ناشطون سوريون في مدن الساحل السوري، وبلغت ذروتها في جميع مناطق السويداء، ودرعا، وبعض مناطق مدينة حلب.

قَدَّرَ موقع نومبيو المتخصص بقياس تكاليف العيش ومستوى الحياة، بأن الفرد في تلك المناطق “الجغرافيا المفيدة”، يحتاج لأكثر من 4 دولارات في اليوم للعيش بكرامة، بمعنى أن الشخص يحتاج أكثر من 130 دولارًا شهرياً، وأن عائلة مكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى 650 دولارًا في الشهر الواحد، في حين لا يتجاوز متوسط دخل الفرد بمناطق الأسد 15 دولارًا شهرياً، وبالتالي؛ يصعب تصور أو شرح كيف تستطيع مثل هذه الأسر الاستمرار بالحياة. فالنظام لا يملك موارد لردم هذه الهوة في مداخيل العوائل السورية وحاجتها للإنفاق، فهو لا يملك أي موارد جديدة سوى رفع الأسعار، أيّ يسترجع بيده الشمال ما منحه لهم بيده اليمين، ثم يُضاف إليها انهيار خدمات الصحة والتعليم والنقل، وانتشار الفساد، والجريمة، وهذا ما جعل نوعية الحياة في المدن الخاضعة للأسد في أسفل سلّم تقييم نوعية الحياة في مدن العالم اليوم.

بات هَمُّ المواطن السوري في مناطق سيطرة الأسد “الجغرافيا المفيدة حسب توصيفه” تحصيل قوت يومه، وتحول نشاط كثير من الإعلاميين “الموالين” في مناطق الأسد إلى تصوير تقارير يومية حول كلفة وجبة العائلة، والتي لا تزيد على راتب شهرين لموظف واحد، وتكررت مشاهد إلقاء الأطفال الجدد أمام المساجد أو دور الرعاية، وفوق صدورهم ورقة مكتوبة من الأب أو الأم: “… هذا ابن حلال، ولكن ما عنا أكل نطعميه”، وعمَّت حالات الخطف، وابتزاز أهالي المخطوفين بالمال أو قتلهم، وارتفعت معدلات الدعارة في المناطق التابعة للأسد جهاراً نهاراً، وذلك مقابل تضخم أرصدة الأسد والعائلات المتحالفة معه من آل الأخرس وشاليش والفوز وغيرهم، وكثرت مشاهد استعراض عضلات أبناء المسؤولين ورجال الأعمال بشهاداتهم المزورة، وسياراتهم الفارهة، وسفرياتهم، وحياتهم المترفة، إذ تجاوزت تكاليف بعض حفلاتهم وأسفارهم في بعض الأحيان مبالغ كفيلة بإطعام أحياء سكنية كاملة في مدن دمشق أو حلب أو اللاذقية أو السويداء أو طرطوس.

ولم تأت انتفاضة السويداء (أغسطس 2023) من فراغ، وهي التي يقطنها غالبية من الموحدين الدروز، إنما هي تراكم لمواقفها السابقة ضد الاستبداد والفساد، التي بدأت مع بداية الانتفاضة السورية عام 2011، إذ حاول الدروز في السويداء، وجبل السماق في إدلب، وفي محافظات سوريا الأخرى النأي بأنفسهم عن الوقوف إلى جانب النظام، حيث عبّروا عن ذلك برفض إرسال شبابهم إلى الخدمة العسكرية “كي لا يُسهموا في قتل أشقائهم السوريين”، ولكن بالمقابل لم يبدوا تأييدًا للمعارضة ضد الأسد إلا في إدلب، غير أن بعض قواها في السويداء كان له موقف أكثر جذرية بمعاداة النظام، وخاصة “ثوار الكرامة” بقيادة الشيخ البلعوس، الذي قتله النظام السوري في 4 أيلول/ سبتمبر 2015، بل إن فصيلًا مسلحًا قد تشكل من أبناء السويداء بقيادة الملازم أول خلدون زين الدين، الذي لم يحصل على ذات الدعم الذي حصلت عليه الفصائل الأخرى، ثم قُتل في إحدى المعارك مع قوات النظام. وكانت عودة انتفاضة أهالي السويداء في تموز/ يوليو 2022 ضد العصابات المحلية المتورطة في أعمال الخطف، والسطو، والاتجار في المخدرات مع ميليشيات إيران في سوريا.

اتخذت انتفاضة السويداء شكل حراك شعبي عارم ضد الجوع والإذلال، وأكدت على حلولٍ سياسيةٍ لإنهاء الوضع القائم وفق القرار 2254، بل وإسقاط نظام الأسد، ورَفَضَ الحراك الشعبي التفاوض مع مندوبي الأسد، وهاجم المتظاهرون مقار حزب البعث والمفارز الأمنية، ومزَّقوا صور الأسد الأب والابن، زد على ذلك انضمام المؤسسة الدينية الدرزية “مشايخ العقل” للانتفاضة، وعلى رأسهم الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز “الشيخ حكمت الهجري”، وقد وجه رسالة واضحة في المظاهرات الأخيرة بقوله: “نحن نريد العزة والكرامة”، ورفع المحتجون أعلامًا خاصة بالطائفة الدرزية بشكل رئيس بجانب علم الثورة السورية. وهو ما جعل الكاتب الأميركي كريس فيتز جيرالد ينشر تحليلاً في موقع مودرن دبلوماسي الأميركي Modern Diplomacy، وقال: “دعمت هذه المجتمعات الأسد، وكوفئت بالفساد، والاقتصاد المعوق، والأزمة الإنسانية المستمرة”.

وقد انكشف الأمر لدى الكثير من أبناء الساحل السوري، وخاب أملهم في تحسن الوضع المعيشي والأمني، بعد أن وضعت الحرب السورية أوزارها. فالغالبية الساحقة من الموالين للنظام هناك تسد جوعها من راتب الوظيفة “الحكومية” الذي لا يكفي مصاريف تحصيله (9 دولارات أميركية)، ومن زراعة الأراضي التي لا تصلها مياه الريّ في الكثير من المناطق. زد على ذلك، غلاء أسعار السماد بعد سيطرة الروس على أحد أهم معامل تصنيعه، والمأساة اليومية في تأمين البنزين لدراجاتهم النارية التي يعتمدون عليها في التنقل، والوصول إلى أراضيهم الجبلية الوعرة. وأما تأمين الغاز المنزلي والديزل للتدفئة، فيما يعوم المقربين من الأسد على بحارٍ من النفط والغاز، فحديث طويل، ويحتاج لمقالٍ آخر. وباتت الحاضنة اليوم غاضبة بشدة، وتبدلت لديها المفاهيم، وبات لديهم شعور بكونهم وقوداً ليس إلا، بالإضافة إلى تأكدهم من تخلّي السلطة عنهم عبر إفقارهم وإذلالهم منكرةً عليهم كلّ جراحهم ومعاناتهم في سبيل وجودها، فتعالت الأصوات في نقد النظام حتى وصلت رأس النظام الأسد ذاته.

هكذا، قلّصت انتفاضة السويداء الأخيرة حالة الخوف من الآخر السوري، والتي عمل عليها نظام الأسد زمناً طويلاً، ووسعها على مدى سنوات الحرب السورية بين الأكثرية ومجموعة الأقليات؛ دروز وإسماعيليين ومسيحيين وعلويين وشيعة، فقد بدأت مشاعر العداء بين المكونات السورية بالتراجع منذ نهاية الحرب الطاحنة بين الأطراف عام 2018، عندما أصبحت الأحوال المعيشية لجميع السوريين تتقارب في مستوياتها المتدنية، عدا قلة من أمراء الحرب وأثريائها على الجبهتين، وبات الجميع يشعرون بأن الحرب السورية كانت وبالًا على السوريين، وأصبح الجميع مشغولين بالهموم والمعاناة ذاتها، والبحث عن الأمان لا أكثر. 

أدرك السوريون على اختلاف انتماءاتهم ومناطقهم وإثنياتهم، بأن نظام الأسد هو المعضلة، وبأن الحل هو حل بين السوريين للخلاص من هذا الحال المتردي. ولن تنجح محاولات نظام الأسد وحلفائه والمتواطئين معه في تهدئة الأوضاع بعد اليوم، حتى لو استطاع هذه المرة، فإن القصة لن تنتهي هنا، فالنظام لم يعد قادراً على تلبية مطالب الناس “المخنوقة”، وسيظل الوضع قابلًا للانفجار. ويبدو بأن أساس الحل في تأطيرٍ واعٍ لــ “الاستعصاء الشعبي السوري الشامل” في سبيل الوصول لحلٍ جذري يؤسس واقعاً سياسياً وقانونياً واقتصادياً مختلفاً، ينهي ألم السوريين، ويبني دولة “فدرالية” أو “موحدة” يعيش فيها الجميع بدون عصابة الأسد.  

مراجع:

    آدم أفرام، أقلية تنتفض وأخرى مترددة والأكثرية تترقب… الاحتجاج السوري الجديد إلى أين؟، موقع رصيف 22، 29 أغسطس 2023

    عزام اليوسف، نظام على صفيح ساحل… هل تنفجر الحاضنة الطائفية في سوريا؟، رصيف 22، 18 أغسطس 2023.

    مركز حرمون للدراسات المعاصرة، احتجاجات السويداء… والسيناريوهات المتوقعة، تقدير موقف، 29 أغسطس 2023

    Osama Kadi. Will Syrias economic collapse lead to the demise of the Assad regime? , Syria wise. 30 August 2023.

 Numbeo, Food Prices in Syria, look at:-

https://www.numbeo.com/food-prices/country_result.jsp?country=Syria

    انتفاضة السويداء في آب 2023: تحديات أمنية وسيناريوهات مفتوحة، تقدير موقف، مركز عمران للدراسات الإستراتيجية، 31 آب/ أغسطس 2023.

——————————

انتفاضة الجنوب: الفرصة والمخاطر/ أحمد عيشة

تشير الاحتجاجات المستمرة في السويداء التي اندلعت مؤخراً، على إثر ارتفاع أسعار الوقود كسبب مباشر، وقد اتخذت طابعاً سياسياً واضحاً هدفه التغيير السياسي في سوريا، إلى ولادة فرصة جديدة للسوريين للتحرك من جديد نحو تحقيق الأهداف التي طرحتها ثورة 2011، ولم تتمكن من تحقيقها نتيجة أسباب عديدة. وإضافة إلى أن هذه الاحتجاجات حقّقت خرقاً واضحاً في حالة الاستعصاء والجمود التي تلفّ القضية السورية، فإنها تشكل رافعة للسوريين تنتشلهم من حالة القنوط التي وصلوا إليها، رغم قسوة الظروف الاقتصادية وجمود العملية السياسية، إن لم نقل استبعادها قصداً، لكن هذه الاحتجاجات ما لم تساندها المدن الأخرى، وخاصة الكبرى (دمشق وحلب)، ستتعرض لمخاطر لا يريدها ولا يتمناها السوريون.

بعد مرور اثني عشر عاماً على انطلاق الثورة، وخمسة أعوام على توقف العمليات العسكرية بفعل توافقات إقليمية ودولية، الملاحظ أن الوضع الاقتصادي والمعيشي للسوريين في مناطق سيطرة النظام لم يتحسن، بل إنه يزداد سوءاً بشكل يومي، لدرجة صار أغلبية السوريين (90) في المئة يعيشون بحالة يرثى لها، وتدهورت قيمة العملة بطريقة مخيفة، وبالطبع يتذرع النظام بالعقوبات والحصار ومؤخراً الزلزال، بينما السبب الحقيقي يكمن في عمليات النهب المنظم الذي تقوم به العائلة الأسدية لمقدرات السوريين وحتى المساعدات المقدمة لهم من جهة، ومن جهة أخرى، بيعه ورهنه معظم الأصول السورية (موانئ، مطارات، ثروات معدنية وغيرها) لداعميه روسيا وإيران. هذه الأمور مجتمعة جعلت الدخل الشهري الذي يتلقاه السوري لا يكفيه سوى يومين أو ثلاثة.

رغم القرار الدولي (2254) الذي أصدره مجلس الأمن عام 2015، والذي يشكل أساساً معقولاً للحل في سورية والبدء في عملية انتقال سياسي حقيقي يخلص البلاد من الاستبداد ويضعها على سكة الانتقال الديمقراطي، فإن تعنت النظام الأسدي وداعميه روسيا وإيران من ناحية، ومن ناحية أخرى، تراخي الموقف الدولي ولجوئه إلى حلول غير سياسية وتحويله قضية السوريين إلى حكاية لاجئين ومعابر لتقديم المساعدات، أدخل البلاد في حالة من الاستعصاء صار الخروج منها يبدو مستحيلاً، كما دفع بعض القادة العرب ذوي البنية الاستبدادية إلى التفكير بطرق رغبوية وطفولية، بقصد تأهيل النظام وإعادة دمجه بغاية إبعاده عن إيران، وقد فشلت هذه السياسة خلال وقت قصير، فالنظام الأسدي كما هو، ويعزز علاقاته مع إيران، غير مكترث بـ “العلاقات الشكلية” العربية.

على ضوء هذه الخلفية الاقتصادية والمعيشية والسياسية، أتت انتفاضة الجنوب (السويداء) التي انطلقت رداً على قرارات اقتصادية جائرة، للتحول خلال أيام إلى انتفاضة سياسية هدفها تغيير النظام، وتطبيق القرار (2254) من خلال إخراجه من المعتقل، كما عبرت إحدى شعارات الانتفاضة، إضافة إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين. والأمر الأكثر وعياً ونضوجاً في مطالب السويداء تجلى في الرسالة التي وجهوها إلى مجلس الأمن، وفحواها تطبيق القرار الدولي المذكور، بمشاركة سورية حقيقية، بمعنى عدم اعتماد الهياكل المعارضة الحالية نتيجة ما ولدته لنفسها من سمعة سيئة خلال مسيرتها، إذ لم تكن هيئة مستقلة تمثل السوريين وتقيم التحالفات على أساس مصالحهم وقضاياهم.

تفاعل الشارع السوري مع انتفاضة السويداء، لكونه رأى فيها بداية وحافزاً للخلاص من الاستبداد الأسدي، وكانت درعا -مهد الثورة- السباقة للتعبير عن التضامن، وكذلك تجاوبت مناطق الشمال السوري بالتظاهر دعماً لانتفاضة الجنوب، إضافة لمناطق أخرى مثل دير الزور، التي أشغلوها مؤخراً باقتتال لا يخدم قضية الثورة. وفي الوقت نفسه، وهو الأمر المهم، تزايدت حدة الانتقادات من ناشطي الساحل السوري، التي عبر عنها أحدهم متحدياً بشار الأسد ومطالباً إياه أكثر من مرة بالتنحي ومغادرة البلد بما نهب، وكاشفاً عن أمر مهم في السياسة السورية عندما قال: “الذين حموك، بدهم يشلعوك”، لكن يبقى الغائب حتى اليوم، والمخيف بنفس الوقت، الموقف المتفرج لمدينتي دمشق وحلب، بما تشكلانه من عوامل اقتصادية وثقل سياسي واجتماعي في قلب الموازين.

وبالتدقيق في بنية النظام الأسدي، نجد أن أطراف الدعم الداخلية تتمثل في قوتين: الأولى ذات بعد طائفي متمثل بكبار ضباط الأمن والجيش والمنتفعين حولهم، والثانية ذات بعد اقتصادي اجتماعي تتمثل بالبرجوازية الدمشقية والحلبية وجمهورها من سكان المدن. ومن الملاحظ اليوم، بداية التململ والانتقادات في الطرف الأول (الطائفة)، التي تشعر أن العائلة الأسدية تخلت عنها، وتدفعها نحو مصير مواجهة مع بقية السوريين، وهو أمر عبّر عنه عدد من الناشطين مؤخراً متحدين سلطة بشار الأسد، ولا ننسى ما تعرض له “حيتان المال” السابقين من عمليات مصادرة لأموالهم، وهو ما يجعل قاعدته منحصرة في الشبيحة وتجار الكبتاغون من آل الأسد والمنتفعين حولهم.

أما المخاطر التي ستطول البلد كله وليس السويداء، أو الجنوب السوري، فهي كبيرة، وأولها ما يحضره النظام الأسدي وإيران وميليشياتها الطائفية من سعي إلى تفجير داخل التركيبة السكانية للمدينة، من دون استبعاد المواجهة العسكرية كحل أخير، وثاني تلك الأخطار ما يروج له تيار الاتحاد الديمقراطي، على لسان صالح مسلم، من دعوات لإنشاء فيدرالية في الجنوب، حيث قال لصحيفة المونيتور: “كلانا يريد اللامركزية. كلانا أقليات. نحن ننظر إلى بعضنا البعض بتعاطف”، متجاهلاً صيحات الجنوب بسوريا الموحدة رافضين أي شكل من أشكال التقسيم. وثالث تلك الأخطار يأتي من المتعيشين على احتكار المظلومية السنية، الذين ينظرون بعين الشك إلى جميع التحركات المناهضة للنظام “ما لم يكونوا أصحابها”، فرغم أن السنّة تعرضوا للظلم الأشد، لكن ينبغي أن يبقوا القاطرة التي تدفع لخلاص سوريا كلها، سوريا للجميع عدا القتلة الذين يتوجب مقاضاتهم.

ينبغي أن نتوقف عن نعت انتفاضة السويداء بأنها “ثورة درزية”، ولا مجرد ثورة الجبل، ولا تتعلق فقط بالقضايا المطلبية رغم أهميتها الفائقة، إنها انتفاضة لاستعادة الحياة، ونضال من أجل تحرير سوريا والخلاص من السلطة الأسدية التي سلبت كل عوامل الحياة من السوريين، واليوم، لم تعد الانتفاضة مقتصرة على الجنوب (السويداء ودرعا)، فقد نمت لتشمل اهتمامات ودوائر أوسع في أكثر من مكان، ويشترك فيها قطاعات مختلفة ريفية ومدينية دفاعاً عن حياتهم وكرامتهم، فقد ذهبت الانتفاضة الحالية برسالتها أبعد من حيزها.  والأكثر أهمية أن الانتقادات بدأت تتردد في معقل الأسد، في اللاذقية، حيث يتزايد عدد الذين ينتقدون النظام علنًا.

ما أثارته انتفاضة الجنوب، مع تضامن كثير من السوريين معها، يكشف بقوة ضرورة التوحد حول شعاراتها المتمثلة بتطبيق بضرورة رحيل الأسد من خلال تطبيق القرار 2254، بما يشكله من نقطة انطلاق نحو انتقال سياسي حقيقي، يمهد الطريق للخلاص من الاستبداد الأسدي. وكون القرار نقطة توافق دولي، يمكن الانطلاق اعتماداً على ذلك من أجل ممارسة الضغط بمختلف الوسائل والقنوات من أجل إحياء القرار وإجبار النظام السوري على تطبيقه، وهو السبيل الوحيد لعودة اللاجئين والخلاص من أخطار الكبتاغون بما تشكله من عوامل قلق للعالم.

صحيح أن لدى نظام الأسد تاريخاً طويلاً من التعامل مع المتطرفين والاغتيالات، وأنه لا يتردد في استخدام العنف، إذا اضطر، حتى ضد قاعدة دعمه التي قاتل بها، إلا أن هذا الخيار ليس سهلاً، خوفًا من حصول تصدعات داخل نواة النظام الصلبة، ناهيك عن عجزه التام عن تقديم حلول لمعاناة السوريين، ووصول التطبيع مع العرب إلى طريق مسدودة، وعجز إيران وروسيا عن تقديم المساعدة. وبناء عليه، تبدو خيارات النظام محدودة في التعامل مع الاحتجاجات المتنامية التي تتوسع يوماً بعد يوم، وأكثر ما يقلق هذا النظام ويخيفه هو بداية تشكل إجماع وطني بين السوريين على ضرورة التغيير ورحيله، وتحميله مسؤولية الدمار الذي ألحقه بالبلاد.

لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الانتفاضة ربّما هي من أهم الفرص، وسط هذا الاستعصاء والجمود، لإزاحة كابوس الاستبداد عن سوريا، ولتوحد السوريين تحت هدف واحد، وخاصة أن المثل الأصلية لثورة 2011 لا تزال حية وتعود إلى الواجهة، وهو ما يشير إلى تجذرها في وجدان السوريين، ومن ثم فتح صفحة جديدة في تاريخ سوريا، سوريا الحرة الديمقراطية التي يحلم بها كل السوريين، وليس من مصلحة أي سوري غيور على ماضي سوريا وحريص على مستقبلها أن تضيع هذه الفرصة، لأن ضياعها يعني مزيدا من البعد عن الحلم بالحرية والخلاص، إن لم يكن تقسيم سوريا إلى كانتونات.

لتكن هذه الانتفاضة فرصة للخلاص من الاستبداد الأسدي وبناء سوريا ديمقراطية للجميع.

———————————–

الساحل السوري: هدأت الضيعة الضايعة إلى حين/ حسام جزماتي

كان وصف «الغليان» موحداً على ألسنة كل من تتحدث إليهم في الساحل السوري، من دون اتفاق، قبل أسابيع قليلة، لكنه لم يعد صحيحاً اليوم.

ليس من الضروري استعراض تلك المدة من الماضي القريب، لكن المهم رصد ما أدى إلى إخماد جذوتها ولو إلى حين. لقد لعب «الحل» الأمني دوراً مركزياً، لازماً وغير كافٍ كما يقال، عندما احتجزت المخابرات أبرز من رفعوا أصواتهم بسقف غير مسبوق عبر الفيسبوك، كأحمد إسماعيل وأيمن فارس وحسين حيدر. كما تواردت أنباء متفرقة عن اعتقالات طالت شباناً وشابات في البيئة العلوية، ربما كانوا على صلة بحركة 10 آب التي حاولت قدح شرارة التمرد. وأخيراً قالت أخبار إن «الأجهزة المختصة» قبضت على عدد محدود من العسكريين يشتبه بانتمائهم إلى حركة «الضباط العلويين الأحرار» التي أعلنت عن نفسها في الشهر الفائت.

كل هذا مهم و«ضروري» في حسابات النظام، وهو يشبه استهداف رؤساء التنسيقيات والمصورين في 2011، لكن الأهم هو يقظة شارع طائفي موال لإعادة ضبط مواطنيهم على المعايير المطلوبة، بعد أن أدارت رؤوسهم تلك الأصوات الجريئة الغاضبة التي تعالت نتيجة الأزمة المعيشية الخانقة.

ولأنه لا بد لصاحب الرأي من حجة يعتقد بسلامتها، ويخال أنها مقنعة لمحاوريه؛ فقد ركز دفاع الموالين عن النظام على أن الجماعة، بما أنه نقاش داخلي، في مواجهة نوعين من استحقاقات الوجود؛ يتعلق الأول بالجوع والبؤس وهو معروف، والثاني ما يمكن أن تسفر عنه الاحتجاجات في شارع الحاضنة من «فوضى» غير مأمونة العواقب سيستغلها الأعداء في الداخل والخارج لتقويض النظام أخيراً بعد كل الأثمان التي دُفعت لأجل بقائه، وتكلفت قرى الساحل وبلداته فاتورتها الأكبر من الدم والفقر والصبر. قال هؤلاء الموالون الثابتون إن الكل في مركب واحد، وإن على إخوانهم أن يعوا الخطورة الوجودية للموقف وإلا تولوا هم بأنفسهم «الأخذ على أيديهم» لئلا يثقبوه، سواء بطرق «الدولة» والأجهزة أو بالوسائل الأهلية التي تهدد بمواجهات شارع ضد شارع. ومن المعروف أن الموالين الأقرب إلى النظام أقوى وأشد تسليحاً من معارضين لجأ أحدهم إلى نظم الشعر باللهجة المحكية لانتقاد بشار الأسد وزوجته.

على الجانب الآخر من مشهد هذه الأيام تحضر السويداء. وسنقتصر هنا على استعراض الرأي الرائج عنها في مخيال الساحل عموماً. والذي يقوم، كما كل نظرة شائعة، على مزيج من الحقائق والأوهام.

تعتقد أكثرية من العلويين، خطأً، أن السويداء كانت تحظى بمعاملة تفضيلية في الخدمات، كالكهرباء والمياه والغذاء والمحروقات، حرصاً من النظام على إبقائها هادئة في الحرب الدائرة. ويرون، عن حق في هذه المرّة، أنها نأت بنفسها عن زج أبنائها في الصراع كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، سائرة في طريق عملي من اللامركزية التي لا تراها البيئة الموالية إلا نزوعاً انفصالياً وتقسيمياً، رغم أن السويداء نفت ذلك مراراً.

وبناء على ذلك ينظر الساحل إلى هذه القطعة من البلاد كمحافظة مدللة لكنها «نمرودة». يسعى النظام إلى استرضائها بكل الوسائل وكأنها زوجة جميلة شابة، ولو على حساب قرينته العتيقة الكهلة، ابنة عمه، أم الأولاد (الشهداء)، لأن الأخيرة «بنت أصل» وفي «الجيبة» مهما عانت من حرمان.

ولذلك بدا حنق الموالين من تمرد السويداء الأخير مضاعفاً. فهي، من جهة، تكسر سردية العصابات الإرهابية المسلحة والتشدد الديني والعمالة لدول الجوار والخليج والغرب، ومن جهة أخرى تثبت أن «الدلال» طريق من دون نهاية، وأنه لا يحنّ على العود مثل قشره رغم الإهمال والظلم.

والحق أن البيئة الطائفية الموالية تشعر الآن، أكثر من أي وقت مضى، أنها تدافع عن وجودها لا عن بشار الأسد، سواء أكان حبيباً مراوغاً أم ابناً عاقاً أو مجرد أخرق بعد أن أصيبت صورته بشروخ علنية غير قابلة للترميم. ومن هذا الموقع تعالت الدعوات إلى الصبر وتسيدت المشهد من جديد.

لكن الأسبوع الماضي حمل أمرين أشارا إلى أن الصبر المطلوب مفتوح. ففي مساء الإثنين الفائت ألقى أمين عام «حزب الله» اللبناني، حسن نصر الله، كلمة تطرق خلالها إلى الاحتجاجات السورية الحالية، وتبنى فيها الموقف الخشبي للنظام، داعياً سكان مناطق سيطرة الأسد إلى التعاون مع «الدولة» والقبول بالحلول الجزئية التي تسمح بها إمكاناتها. ناسياً، أو متجاهلاً، أن هؤلاء ليسوا جمهوره اللصيق المرتبط بمشروع «المقاومة» بأواصر الولاء العقدي ووحدة الهدف والمصير، بل شعب عادي ينشد الحياة والخبز والتدفئة.

ومن الطبيعي أن نصر الله يعبّر عن موقف إيران وقدرتها على المساعدة أو رغبتها في ذلك. وهو ما بدا في زيارة وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، لدمشق، والمؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره. إذ خلا من أي إشارة إلى الوضع المستجد في سوريا، وكرر برتابة استمرار دعم طهران لنظام الأسد وعلاقاتهما الإيجابية.

والآن ماذا بعد؟

لم يكن المتذمرون العلويون المعتقلون قادة حراك منظمين وراسخين ليؤثر غيابهم في إخماده. لقد كانوا الذرات التي طفت أولاً من غليان مجتمعي لن يهدأ من دون معالجة أسبابه. وهذا أمر خارج عن استطاعة النظام، وربما عن قدرة حلفائه. مما يعني أن الهدوء الحالي مؤقت ومرهون بالأزمة المعيشية المرشحة للتفاقم. وعندها سيخرج الجياع على حكمهم شاهرين سيوفهم، كما تقول عبارة سائدة بينهم منسوبة إلى الصحابي أبي ذر الغفاري.

ولن تبقى تلك الضيعة الضايعة ناجياً وحيداً بعيداً عن حالة الاحتجاج العامة.

تلفزيون سوريا

—————————-

هل يشكل الحراك الاحتجاجي جنوبي سوريا إجماعاً وطنياً على ضرورة التغيير؟

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مع التدهور المتسارع للاقتصاد السوري واتخاذ النظام جملة من الإجراءات الهادفة إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية، وعلى رأسها المحروقات، والمضي في سياسة تحرير الاقتصاد، تفجرت احتجاجات شعبية غاضبة في محافظة السويداء، جنوبي سوريا، وراوحت فيها الشعارات المرفوعة بين رفض القرارات الاقتصادية الأخيرة والدعوة إلى تنحي رئيس النظام السوري بشار الأسد.

وقد شهدت محافظات دير الزور، ودرعا، والقنيطرة، وريف دمشق، وحلب، واللاذقية احتجاجات مماثلة، لكن على نطاق أضيق، فضلاً عن حالة تململ واضحة بين السكان. وقد رفع المحتجون في السويداء ودرعا ودير الزور شعارات مماثلة لشعارات ثورة 2011، إلا أنهم حمَّلوا منذ اليوم الأول الأسد وعائلته المسؤولية الكاملة عن معاناتهم وعن المصير الذي آلت إليه البلاد.

وعلى الرغم من أن النظام كان واعياً لأثر قراراته الاقتصادية الأخيرة في المستوى المعيشي لعموم السكان، والذي تدهور على نحو كبير خلال السنوات الأخيرة، فإنه قرر المضي فيها نظراً إلى الضغوط الكبيرة التي يواجهها مع تلاشي الموارد ونفاد احتياطات الخزينة العامة.

أولاً: خيبة الأمل في نتائج التطبيع العربي

أدت النتائج المتواضعة للانفتاح العربي على النظام، وعودته إلى شغل مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، إلى خيبة أمل كبيرة بين عموم السكان الواقعين تحت سيطرته، بما في ذلك المؤيدون، الذين توقعوا أن تترافق علاقات النظام العربية مع انفراج الوضع الاقتصادي خصوصاً بعد القمة العربية التي احتضنتها جدة في أيار/ مايو 2023، لكن سلوك النظام الذي ترجم رغبة بعض الدول العربية في تطبيع علاقاتها معه على أنها “نصر”، تحقق بشروطه، ورفضه تقديم أي تنازلات تساعد في إنجاح مسعى التقارب العربي معه، انتهى إلى مجرد توقع المعونات، والخيبة من عدم وصولها.

وقد أدت عدم جدية النظام في التعامل مع المبادرة العربية، وتعامله باستخفاف مع مطالبها، مثل ضبط صناعة المخدرات وتهريبها وإعادة 1000 لاجئ سوري من الأردن، ورفضه التعامل بإيجابية مع الأمم المتحدة في قضية المعابر ودخول المساعدات الإنسانية، أدى ذلك كله إلى مراجعة بعض الدول العربية علاقتها الدبلوماسية معه أو تجميدها. وقد انعكس ذلك بوضوح على الوضع الاقتصادي الذي أخذ يتدهور بسرعة، فانهار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وبلغ التضخم مستويات قياسية خلال الأشهر الثلاثة الماضية؛ إذ بات أغلب السكان عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء.

وساء الوضع أكثر مع توجه الحكومة إلى رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، مثل المحروقات، لتمويل زيادة الرواتب التي باتت قيمتها تراوح بين 10 و15 دولار شهرياً للموظف الحكومي. وبناء عليه، ازداد التذمر من اعتماد الحكومة سياسات “الجابي” مع عموم السكان وجامع “الإتاوات” مع التجار ورجال الأعمال لتوفير التمويل الضروري لاستمرار عمل الحكومة. وكان لافتاً أن احتجاجات السويداء جاءت بعد أيام من فشل اجتماع لجنة الاتصال العربية الموكلة بمعالجة ظروف الانفتاح العربي على سوريا في القاهرة، تعبيراً عن مدى خيبة الأمل في تعامل النظام مع التوجه العربي لحل الأزمة، وانسداد الأفق أمام أي تغيير في الوضع القائم.

ثانياً: النقمة على سياسات النظام الاقتصادية

نتيجة توقف كل قطاعات الإنتاج الرئيسة بعد سنوات من الحرب، ثم توقف اقتصاد الحرب ذاته، وتقلص المساعدات الخارجية التي كان النظام يتلقاها من حلفائه، تسارع انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي في السوق الموازي، خلال الشهور الأخيرة، فقد بلغ 7,500 ليرة سورية أمام الدولار في 19 نيسان/ أبريل 2023، ووصل إلى 10,350 ليرة في 15 تموز/ يوليو 2023، ثم بلغ 14,750 ليرة في 28 آب/ أغسطس 2023، وعلى هذا فقدت الليرة السورية خلال أربعة أشهر خمسين في المئة من قيمتها.

وقد جاء مسار الليرة التراجعي معاكساً لمسار الانفتاح العربي على النظام، بدءاً من موافقة المملكة العربية السعودية على إعادة فتح السفارات بين البلدين، وصولاً إلى استعادة النظام مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، وانتهاء بحضور الأسد قمة جدة العربية.

اعتمد النظام السوري خلال السنوات الماضية سياسة مالية متشددة هدفها ضبط حركة السيولة النقدية داخل البلاد، لمنع تدهور العملة المحلية على نحو حاد، عن طريق تقليص حجم السحوبات من الحسابات البنكية أو منع نقل الليرة السورية بين المحافظات سواء مباشرة، أو عبر الحوالات بكميات كبيرة.

كما سعى إلى حصر عمليات بيع العقارات والسيارات وشرائها من خلال المصارف، نظراً إلى السيولة الكبيرة التي يتطلبها إجراء هذه المعاملات، كما حدّ من استيراد السلع من الخارج، وصمم آلية صارمة لمنح رخص الاستيراد. وقد اتبع هذه السياسة ابتداءً من نهاية عام 2019، تحت ضغط الأزمة المصرفية في لبنان، وضياع مليارات الدولارات من الودائع السورية في المصارف اللبنانية.

وقد تعمقت هذه السياسة بعد صدور قانون قيصر عام 2020 الذي فرض عقوبات أميركية قاسية على النظام وعلى من يخرقها. وعلى الرغم من نجاح هذه السياسة إلى حد ما، في منع انهيار العملة السورية، فإنها أدت إلى تجميد الحركة الاقتصادية في البلاد.

ونتيجة تناقص موارده، اتبع النظام سياسات “جباية” و”سطو” على أموال كبار التجار ورجال الأعمال، نفّذها ما يسمى “بالمكتب السري” في القصر الجمهوري، بالتنسيق مع الفرع الداخلي التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وشملت هذه السياسات رجال أعمال ظلوا سنوات مرتبطين بالنظام وشبكاته الزبائنية، مثل رامي مخلوف، ومحمد حمشو، وحسام قاطرجي، وخضر طاهر (المعروف بأبي علي خضر).

وجرى تعميم هذه السياسة لاحقاً على بقية التجار مع ازدياد الحاجة إلى السيولة، ووصلت حتى إلى أصحاب الشركات الخاصة المتوسطة؛ ما اضطر العديد منهم إلى إغلاق أعمالهم ومغادرة البلاد. وقد أدى مجلس اقتصادي يعمل داخل القصر الرئاسي، تترأسه أسماء، زوجة بشار الأسد، دوراً مهماً في إدارة هذه السياسات الاقتصادية؛ ما أثار ردود فعل غاضبة بين السوريين، خصوصاً في المناطق المعروفة بتأييدها للنظام.

ونتيجة للزلزال الذي ضرب شمالي سوريا في شباط/ فبراير 2023، اضطر النظام إلى التراجع عن السياسات المالية والنقدية المتشددة، نظراً إلى حالة الركود التي أصابت الاقتصاد السوري حتى قبل الزلزال، وتفاقمت بعده، حيث رفع النظام الكثير من القيود المالية على حركة النقد داخل البلاد.

ونتيجة العوائد الاقتصادية المحدودة لسياسة الانفتاح العربية، وتنامي الضغوط الإيرانية لاسترداد الديون المترتبة على النظام، وتنفيذ الاتفاقات الموقعة معه، اضطر إلى تيسير الاقتراض ومنح المزيد من التسهيلات الائتمانية لرجال الأعمال لتحريك عجلة الاقتصاد، كما لجأ إلى سياسة التمويل بالعجز، ورفع الدعم عن المحروقات لزيادة رواتب موظفي القطاع العام، بالتوازي مع مساعيه لرفع القيود المالية وتنشيط الصناعة المحلية، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة الاستيراد، واستنزاف القطع الأجنبي.

كما اتجه إلى إلغاء المراسيم التشريعية القاضية بتجريم التعامل بغير العملة السورية، التي صدرت عام 2020، وذلك بسبب حاجته الماسة إلى العملة الصعبة. وجاء الإعلان عن هذه السياسة الجديدة، خلال جلسة طارئة لمجلس الشعب دعت إليها الحكومة في 24 تموز/ يوليو لمناقشة الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي.

ثالثاً: تفجر الاحتجاجات

أدت السرعة التي نفذ بها النظام إجراءات التيسير الكمي ورفع الدعم عن سلع أساسية، إلى تدهور سريع للوضع الاقتصادي، ونتيجة لذلك تصاعد الغضب الشعبي الذي عبر عن نفسه بوضوح في محافظة اللاذقية، وغيرها من مناطق الساحل، حيث صدرت أولى الانتقادات للأوضاع المعيشية المتردية من داخل حاضنة النظام تحديداً، وركزت على دور عقيلة الرئيس في إدارة اقتصاد البلاد.

واعتباراً من 20 آب/ أغسطس، تحولت محافظة السويداء إلى مركز للاحتجاجات المطلبية، وسرعان ما رفعت مطالب سياسية، وذلك إثر نجاح النشطاء في فرض إضراب عام في المحافظة، مقدمةً نموذجاً مشرقاً لمشاركة النساء في المظاهرات الشعبية إلى جانب الرجال.

تباينت الاحتجاجات الحالية عن الاحتجاجات السابقة التي شهدتها السويداء في عامي 2018 و2020 من جهتين: الأولى هو اتساع نطاقها، وانخراط مختلف الفئات والقوى الاجتماعية فيها، بمن فيهم مشايخ العقل، الزعماء الدينيون للطائفة الدرزية، الذين درجوا على تبني مواقف محايدة من الصراع أو مؤيدة للنظام ومواقفه، ساعدت سابقاً في تهدئة الفئات المحتجة. والثانية تركيز الاحتجاجات انتقاداتها على شخص رئيس النظام وزوجته. وقد لوحظ أيضاً غياب الدور الروسي الذي درج على التدخل وسيطاً بين النظام وقيادات الحركة الاحتجاجية في السويداء.

حتى الآن اكتفى النظام في تعامله مع احتجاجات السويداء بالتلويح باستخدام القوة، والتحريض على المحتجين بذرائع الطائفية والعمالة والخيانة، كما أرسل المحافظ للتفاوض مع الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل.

جاء هذا التعامل اللين؛ لأن النظام يخشى المسّ بصورته التي دأب على رسمها بوصفه حامي الأقليات الدينية، بخلاف تعامله مع محافظات أخرى شهدت احتجاجات مماثلة مثل درعا حيث سجلت حوادث إطلاق نار، كما أبدت أجهزة الأمن السورية استعداداً واضحاً لقمع أي مظاهرة في المحافظات الأخرى.

وفي اللاذقية كثف النظام مساعيه لكشف مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها “حركة 10 آب”، وسعى إلى عزل الأصوات المنتقدة، عبر التهديد والاعتقال، واستثارة مخاوف العلويين من عودة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وغيرها من التنظيمات المتطرفة، لإسكات الأصوات المعارضة واحتواء أي دعوة للاحتجاج والتمرد.

خاتمة

على الرغم من أن النظام لن يتردد في استخدام العنف، إذا اضطر، حتى ضد قاعدة دعمه التي قاتل بها، إلا أن هذا الخيار لن يكون اللجوء إليه سهلاً، خوفاً من حصول تصدعات داخل نواة النظام الصلبة، كما أنه غير قادر على تقديم حلول اقتصادية وتلبية مطالب المحتجين، أو شراء سكوتهم في ظل محدودية موارده، ووصول التطبيع مع العرب إلى طريق مسدودة، وعجز إيران وروسيا عن تقديم المساعدة.

وبناء عليه، تبدو خيارات النظام محدودة في التعامل مع الاحتجاجات المتنامية التي لم تعد محصورة في المناطق المعروفة بمعارضتها له مثل درعا ودير الزور وغيرها، بل باتت تحصل في مناطق كانت إما محايدة (مثل السويداء) وإما تمثل معاقل رئيسة لدعمه (مثل منطقة الساحل التي تضم محافظتي اللاذقية وطرطوس). وأكثر ما يقض مضجع النظام هو بداية تشكل إجماع وطني بين السوريين على ضرورة التغيير ورحيله، مع تحميله مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها البلاد.

في بداية الثورة نجح النظام في تعميق الانقسام بين السوريين على أسس سياسية وطائفية، من خلال تقديم نفسه بأنه حامي الأقليات، مستفيداً من فشل المعارضة في تقديم رؤية واضحة للتغيير، وصعود تيارات متطرفة. لكن بدأ السوريون من كل الطوائف والمذاهب والمناطق يرون أن التغيير ضرورة، وأن مصلحتهم فيه مباشرة، بعد أن وحّدهم الفقر والجوع وانعدام الأمن، وبعد أن سقطت أطروحة أن النظام انتصر، وأن الوضع قابل للاستمرار، دون الحاجة إلى حل سياسي، ودون تقديم تنازلات يحاول النظام جهده تجنبها، لأنه يرى فيها نهايته.

وما زالت الحاجة ملحة إلى تقديم نماذج أكثر تمثيلاً للمجتمع السوري في مناطق المعارضة التي لم تقدم حتى الآن بديلاً جذاباً، وإلى حوارات تهدف إلى استعادة الثقة واللحمة بين جميع أطياف المجتمع السوري، وإلى قيادة سياسية منفتحة على جميع هذه الأطياف.

—————————–

انتفاضة السويداء.. الشرارة التي أعادت تجديد الثورة/ فايز القنطار

تشهد محافظة السويداء منذ أكثر أسبوع تحركا شعبيا واسعا، جاء هذا الحراك ليشكل انفجارا مدويا، كمحصلة لحالة استنقاع الأزمة السورية، وتراجع الاهتمام الدولي في إيجاد حل مناسب، وإقفال السبل أمام الخروج من وضع لم يعد يطاق.

تمثل السويداء ثقلا وطنيا اجترحته خلال القرنين السابقين، في مواجهة العثمانيين وحملة إبراهيم باشا، ورفض التجنيد في صفوف جيشه. الا أن المنازلة الكبرى التي عرفتها أرض الجبل هي الثورة السورية الكبرى في عام 1925، ثورة لا تزال حاضرة في الوجدان، في مساهمتها الخلاقة في بناء الهوية السورية على أسس التضحية والعزة والكرامة.

هكذا دخل جبل العرب في عمق الوطنية السورية وسطر بدماء أبنائه ملحمة المجد بتناغم مع جميع مكونات المجتمع السوري، ودخل المشهد السياسي والعسكري بدور أساسي بعد الاستقلال وكان معيار الوطنية والنزاهة والولاء للوطن هو الأساس في هذا الدور.

حافظ الأسد والدروز في المؤسسة العسكرية[1]

إثر تصفية الأكثرية “السنة” من الجيش بعد انقلاب 8 آذار بتهم ملفقة، تم إبعاد الجميع تدريجيا فيما بعد، واحتكار الكليات العسكرية ليشكل الطلاب “العلويون” الغالبية الساحقة فيها. استغل حافظ الأسد الصراعات داخل المؤسسة العسكرية لتصفية كل من يمكنه عرقلة مشروعه في احتكار السلطة المطلقة.

كانت مشكلة حافظ الأسد مع “الدروز”، لأن أبناء جبل العرب شكلوا بعد الاستقلال ثقلا عسكريا وسياسيا في الدولة السورية، أكبر بكثير من حجمهم الديموغرافي، برضا وقبول الأكثرية “السنة” ومباركتها. هذا الدور هو محصلة لانخراط “الدروز” في مشروع وطني عروبي منذ مطلع القرن العشرين ودورهم البارز في معارك السوريين من أجل الحرية والاستقلال.

في أيلول عام 1966 قام سليم حاطوم بمحاولته الانقلابية الفاشلة، حيث تجنب سفك الدماء وفضل الهرب إلى الأردن لينادي من إذاعتها أن حافظ اسد وأعوانه يقودون سوريا إلى حرب أهلية بعد تصفية الجيش السوري من مكوناته الوطنية. استغلت القوى الطائفية هذه الأوضاع، وتم إلقاء القبض على معظم الضباط الدروز والزج بهم في المعتقلات بحجة المشاركة في “مؤامرة حاطوم”، والكثير من بينهم ليس لهم أية صلة أو معرفة بما يدور. وبلغت الاعتقالات حدا دفع قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا أن يبعث ببرقية إلى رئاسة الأركان يستنكر هذه التصفيات في الجيش لأبناء الجبل، إذ بلغ عدد الضباط المعتقلين والمطرودين من 200 إلى 300 ضابط.

تعرض أهل السويداء للتهميش والإذلال في عهد الأسدين، منعت عن السويداء أسباب التنمية، ولم يسمح ببروز شخصيات وازنة في مراكز السلطة الأسدية.

أهل السويداء، مثلهم مثل كل الشعب السوري، يكرهون الظلم بالفطرة، توارثوا العزة والأنفة ومكارم الأخلاق، لكن معاناتهم من النظام القمعي الشمولي كانت مضاعفة، حاول إعادة صياغة هويتهم على مقاسه بالقهر والابتزاز وبكل أساليب الأنظمة البوليسية الشمولية. لكنهم ظلوا مسكونين بتاريخهم كجماعة رافضة للظلم، مقاومة للعدوان، مقاومة تأتي من شعور متأصل لدى بني معروف أنهم أسياد أرضهم ومصيرهم لا أقلية ولا تابعين.

ثورة الحرية والكرامة

منذ انفجار الثورة السورية، لم تكن السويداء ببعيدة عن حدث مزلزل بهذا الحجم، تفاعلت ووقفت وانخرط أبناؤها في صفوف الثورة عند بداية الانشقاق في الجيش سيرت المظاهرات في عدة مناسبات. عمل النظام والثورة المضادة على تحييد السويداء عن مسرح المواجهة. لكنها تصرفت بحكمة وتعقل، وشقت طريقها لملاقاة أحرار سوريا، حسب الظروف الموضوعية المحيطة، وأنتجت حركتها المقاومة للنظام، خصوصا حركة رجال الكرامة بقيادة الشهيد وحيد البلعوس، هذه الحركة التي أعلنت رفض الخدمة في جيش الأسد الذي خان الأمانة ووجه السلاح إلى صدور الشعب.

دفعت السويداء ثمنا لمواقفها الوطنية ورفضها تطييف المواجهة وتحويلها من قضية شعب يطالب بحقوقه المشروعة في مواجهة نظام سلالي وفاسد، إلى قضية صراع طائفي سني – شيعي. وتعرضت المحافظة للعدوان في عدة مناسبات، من داعش وأجهزة النظام وحلفائه.

ثورة السويداء أعادت الروح لثورة الحرية والكرامة

انطلقت في منتصف شهر آب 2023، لتعيد الروح إلى الثورة السورية، وألقها الأول وشعاراتها “الشعب السوري واحد” والشعب يريد إسقاط النظام، وإعلان العصيان المدني واستمرار الاحتجاجات حتى تحقيق الانتقال السياسي وتطبيق القرار الأممي 2254 بإشراف الأمم المتحدة والجامعة العربية. تميزت هذه الانتفاضة عما سبقها بخصائص عدة منها، حجم المشاركة الشعبية والإجماع الجماهيري واحتضان المحتجين ومساندتهم، كما تميزت باتخاذها موقف لا رجعة فيه في القطيعة مع نظام الاستبداد الأسدي. صدحت حناجر حرائر وأحرار السويداء مطالبة بالحرية وإخراج المعتقلين “يلا أرحل يا بشار”، والانتقال إلى دولة المواطنة ووضع حد لنظام النهب والفساد والاستبداد.

هبت السويداء وقامت تنفض غبار التعب لتعلن قيامة سوريا وبداية معركة الاستقلال الثاني. بعد أن فرط الأسد الوريث بالاستقلال الذي صنعه شعبنا ودفع الدماء الزكية، من أجل حرية سوريا واستقلالها، عندما وضع البلاد تحت الاحتلالات متعددة الجنسيات، مقابل البقاء في الكرسي.

أدرك الشعب السوري، كما أهل السويداء، أن الأسد باع ثروات سوريا ومرافقها الحيوية، الموانئ والمطارات والكثير من المؤسسات. بعد تدمير البلاد وتحطيم البنى التحتية الاقتصادية، وعدم توفر الحد الأدنى من مقومات الحياة. لم يخجل في مقابلته الشهيرة مع سكاي نيوز، من إقفال السبل أمام الطريق نحو إخراج سوريا وشعبها عبر مبادرة الجامعة العربية، ويعقب ذلك رفع الدعم عن المواد الأساسية لترتفع الأسعار 300% لشعب دفعه نظام النهب والفساد إلى أن يعيش تحت خط الفقر، بما لا يقاس في أي بلد من العالم.

أمام هذا الواقع المرير، أدركت السويداء التي قامت بدور كبير في صناعة الاستقلال الأول، أن البلاد في وضع خطير وتعيش تهديدا وجوديا. أوصلها “الرئيس المنتصر” إلى حالة من التشظي والتقسيم، وبعد تهجير نصف شعبها، حكم على النصف المتبقي بالموت جوعا. انتفضت السويداء لتشكل من جديد رأس حربة في مواجهة هذا التهديد الوجودي، أعادت الأمل لقيامة سوريا وتجديد ثورتها لاقتلاع الاستبداد والانتقال إلى دولة المواطنة.

حملة إعلامية لتشويه الانتفاضة

في الأيام الأولى التي أعقبت الانتفاضة، التزمت أبواق النظام الصمت، مما يوضح المأزق الكبير الذي شكله حدث السويداء المجلجل والرعب من أن يطلق شرارة الثورة من جديد في كل أنحاء الوطن السوري المكلوم. بعد أيام بدأت الوساطات وتقديم العروض في توفير الماء والكهرباء وتحسين ظروف المحافظة، قوبلت هذه العروض برفض قاطع، كل المقترحات استنفدت، لا عودة عن مطالبنا الأساسية برحيل النظام وتطبيق القرار الدولي 2254، والانتقال إلى دولة المواطنة والعدالة والمساواة.

تطورت الاحتجاجات وانتقلت، في الأيام الأخيرة نقلة نوعية في إغلاق مقار حزب السلطة وإزالة جميع الحواجز الأمنية والعسكرية. علما أن المقار الأمنية مغلقة ومحاصرة، وهذا يفسر حالة الأمن والأمان التي خيمت على المحافظة في ظل غياب هذه الأجهزة، لم تسجل حوادث سطو ولا اختطاف ولا سرقة سيارات، في حين كانت هذه الحوادث تتكرر يوميا في المحافظة، عندما كان للأجهزة الأمنية حرية الحركة، فالجميع يعرف أنها كانت في شراكة مع عصابات الخطف والسطو وتهريب المخدرات، تتقاسم معها العوائد المالية المتحصلة من هذه الجرائم.

تستند دعاية النظام والأبواق المأجورة، كعادتها، إلى تخوين أهل السويداء وارتباطهم بالخارج “المؤامرة الكونية” وعمالتهم لإسرائيل. لكن هذه المرة لم يعد ذلك مجديا. بدأ الترويج أن الاحتجاجات تهدف إلى الانفصال أو إلى إقامة “حكم ذاتي”، يستخدم في ذلك حجة غياب الأعلام الوطنية، ورفع العلم الخماسي من قبل المحتجين.

العلم الخماسي أو (علم الخمسة حدود)

كل الحروب والمواجهات الدامية التي عرفها الموحدون كانت تحت راية هذا العلم خماسي الألوان، علم ترسخت رمزيته عبر التاريخ ليصبح رمزا لمعارك الحرية، وبيرقا يحفز الجميع للمشاركة في الدفاع عن النفس، أصبح هذا العلم رمزا لحشد الناس والوحدة في مواجهة الظلم، عند تعرض المجتمع للخطر. كان بنو معروف، كغيرهم من القبائل العربية، يشاركون في المعارك تحت رايات قبلية أو عائلية، كل عائلة تتقدم ببيرقها المميز. في القرن الماضي تم الاتفاق على توحيد هذه البيارق في العلم الخماسي، الذي أصبح رمزا لمعارك الحرية ومواجهة الغزاة.

يهدف تبني هذا العلم من قبل المحتجين، توسيع المشاركة الشعبية بما يتجاوز ثنائية المعارضة والموالاة وضمان مشاركة أوسع قاعدة مجتمعية في هذه الاحتجاجات.

وجهت أبواق النظام اتهامات بالانفصال لأن هذا العلم محلي وليس علما وطنيا. لكن الصورة والصوت كذبت هذه المزاعم وتحقق الجميع من أن المطالب الأساسية هي وحدة سوريا أرضا وشعبا ورحيل النظام والانتقال السياسي.

في الجمعة الماضية، نزل أحرار سوريا إلى الساحات لمساندة أبطال السويداء حاملين علم الاستقلال والعلم الخماسي الذي يرمز إلى معارك الحرية عند بني معروف، في رد واضح على استراتيجية آل الأسد: فرق تسد، في رسالة واضحة للقول إن الشعب السوري يبارك ويساند ويتبنى انتفاضة السويداء.

———————————

انتفاضة ضد الأسد وقسد/ عبدالرحمن مطر

عاش السوريون لسنوات، ما يمكن أن نسميه جائحة الخيبة والإحباط، لما آلت إليه تطورات الوضع في سوريا، إثر اندلاع الانتفاضة الثورية الشاملة (مارس/ آذار 2011) ضد الاستبداد الذي مثله النظام الأسدي الفاشي الذي يحكم سوريا، بالقوة منذ عام 1970 وحتى اليوم.

لكن الأمل استفاق مجدداً إثر انتفاضة السويداء، ومُضيّ الاحتجاجات هناك نحو غاية لم تكن في حسبان أحد من القوى الوطنية، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام الأسدي، والقوى الإقليمية والدولية المساندة له، لتصل إلى نقطة الذروة في المطالبة برحيل الأسد بعد أيام فقط، من المقابلة التلفزيونية التي سخّف فيها الحراك الوطني، وكذلك سعي العرب للتطبيع معه، على حدّ سواء، مؤكداً نهجه الدموي في التصدي لكل ما من شأنه أن يقود إلى التغيير في سوريا، حتى بعد اثني عشر عاماً من الثورة، ومن التدمير وتهجير الملايين، والإخفاء القسري للآلاف  الشباب السوري.

من دون أدنى شك، لا يمكن النظر إلى انتفاضة جبل العرب، على أنها ردة فعل مباشرة على إجراءات رفع الدعم، بما يعني رفع سوية الفقر والجوع. كما أنها ليست رداً على ما ورد في حديث الأسد التلفزيوني. وإن كانت تلك، قد تبدو أسباباً مباشرة يؤخذ بها. لكن الانتفاضة، جاءت بناء على تراكم من المواقف والاحتجاجات العديدة طوال عقد مضى، لم تكن فيه السويداء بعيدة فيه عن الثورة السورية، بل هي جزء من الحراك الوطني المطالب بالتغيير، وبالحرية والديمقراطية. كما أنها لم تكن – وهذا مهم جداً – جزءاً من المنظومة الأسدية، أو قريبة منها، بأي شكل من الأشكال. وكان لهم أن يتخذوا قرارهم بعدم الانخراط في تشكيل مسلح، تأسيساً على الرفض المطلق لاستخدام السلاح، في أي نزاع، أو قضية، خاصة إذا كانت تتصل بالمسألة الوطنية، وتلك كانت خصوصية ثقافية، تتصل برؤية المجتمع تجاه الأحداث، وتاريخ المنطقة الاجتماعي والسياسي، وعلاقتها بأحداث البلاد طوال ثلاثة عقود مريرة ودامية من حكم الأسد الأب.

مثلت انتفاضة جبل العرب وسهل حوران، إشراقة جديدة في التاريخ السوري المعاصر، بكل تجلياتها، تفاصيلها ومعطياتها، وفي مفاجأتها التي أربكت النظام الأسدي، وألجمته عن اتخاذ رد فعل عسكري وأمني مباشر، اعتاد – بوصفه نظاماً مجرماً –القيامَ به من دون رقيب دولي أو حسيب. وهي، لن تلبث أن تسهم في خلخلة ما تبقى من مفاصل النظام المتضعضع! ويُحسب لهذه الانتفاضة وضوح مطالبها وقوتها، وتحريضها على إحياء انتفاضة السوريين، كشعب واحد، في مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية كما في جمعتي انتفاضة السويداء.

وإن جاءت الاستجابة خجولة في بعض الأماكن، فإن ذلك يعود إلى الظروف الأمنية التي تحكم كل منطقة، ولن تلبث أن تتوسع، مع استمرار انتفاضة جبل العرب وسهل حوران، والثبات على المطالب السياسية، برحيل الأسد، وإسقاط النظام.

غير أن مستجدات الوضع في منطقة الفرات، حيث اندلعت انتفاضة أهالي ريف دير الزور على سلطة قسد، فإن ذلك من شأنه أن يعزز الانتفاضة السورية، ويسهم في توسعها إلى مناطق أخرى، مثل ريف دمشق، والقنيطرة، ومنطقة الجزيرة السورية بكاملها، والتي ترزح تحت حكم سلطات الأمر الواقع: قوات سوريا الديمقراطية، والتي جمعت بكفاءة منقطعة النظير بين سياسات النظام الأسدي القمعية والقهرية، وأسلوب داعش الإرهابي، لتمثل بذلك نموذجاً فريداً في ممارسة القمع والقهر والاستبداد، والعنصرية والتغيير الديمغرافي، في منطقة الجزيرة الفراتية، خاصة أن قيادات قسد أعلنت بكل وضوح عدة مرات، عن علاقتها التي لم تنقطع مع النظام الأسدي، خلال السنوات الماضية.

وفي الحقيقة، فإن تصريح مظلوم عبدي الأخير، بأن قسد هي جزء من منظومة جيش النظام السوري، ينطوي على إشارة واضحة ليس إلى المأزق الذي تقع فيه اليوم في منطقة سيطرتها واحتلالها، فحسب، وإنما تحمل دعوة مباشرة للتعاون مع النظام، لمواجهة التحرك الشعبي في كلا المنطقتين: جنوبيّ سوريا وشماليّها، وإلى استعدادها للتنسيق العسكري والأمني الواسع مع دمشق لتطويق الانتفاضات الشعبية.

ليس لدى النظام الأسدي – المنشغل مع حلفائه، بالبحث عن حلّ لتطويق الانتفاضة في الجنوب، ومنع تمددها نحو دمشق في الحدّ الأدنى – ما يقدمه لقسد. وأي تعاون محتمل سيجعل الأخيرة في موضع اختبار قاسٍ، نتيجة خضوعها للتعليمات الأميركية، خاصة أنها تفتقد إلى أي حاضنة شعبية حقيقية في الجزيرة السورية، في ظل الولاءات المؤقتة المتبدلة تاريخياً لعشائر المنطقة، كما أنها غير مهيأة للانخراط في أي مواجهات مسلحة، إذ إن قسد لم تخض، ولو معركة واحدة مباشرة مع داعش، في أثناء الحملة العسكرية للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، الذي تمّ التفاوض معه على الانسحاب من المنطقة الفراتية بأسرها.

سلمية الانتفاضة في جبل العرب وسهل حوران اليوم، تمثل دافعاً جوهرياً لاستمرارها، ولحمايتها من أي تدخل عسكري أمني مباشر. وهي معضلة كبيرة لنظام الأسد. أما مشكلة قسد فإنها تنبع من إشكالية ممارساتها العنصرية، وإقصاء العرب، أصحاب المنطقة وسكانها الأصليين، عن المشاركة الحقيقية في صنع القرار، واستخدام المقاتلين العرب المنضوين في إطارها، بما يخدم سياسات قنديل. واليوم تكشف انتفاضة العشائر عن هشاشة تنظيم قسد العسكري، الذي لم يستطع الصمود أمام بضعة مقاتلين. كما تعزز الحاجة إلى دور سياسي فاعل للقوى العربية، في المنطقة، طالما عطلت واشنطن طريق الوصول إليه.

استمرار انتفاضة السوريين، في الجنوب والشمال، مصدر أمل، لتجديد روح المطالبة بالتغيير الجذري لنظام الاستبداد الأسدي، وكل الميليشيات التي تدور في فلكه، أو القوى الداعمة له. وهذا الحراك يتطلب التفافاً ودعماً وطنياً شاملاً، من مجتمع الثورة، بصورة أساسية، كي تتحقق أهدافه.

—————————–

“المحور الإيراني” والحرب “المطلوبة” في شرق سوريا/ إياد الجعفري

يختلف رد الفعل الإيراني حيال احتجاجات السويداء المرشحة للتفاقم في عموم الخريطة السورية، بين اليوم، وبين ما حدث في بدايات ثورة العام 2011، من ناحية علنيّة التدخل وسرعته هذه المرة، ومحاولة استباق التطورات على الأرض عبر الترويج لجبهة حرب جديدة في شرق البلاد. مما يؤشر إلى استشعار “المحور الإيراني” لخطورة المشهد في سوريا، وخشيته من الاضطرار إلى خوض حرب طويلة مع السوريين، مكلفة مادياً وبشرياً وسياسياً، لمحاولة إنقاذ نظام الأسد، مجدداً.

لم يختلف التوصيف الإيراني للمظاهرات في سوريا، في العام 2011، عن تلك الجارية في السويداء اليوم. إذ وصفتها طهران، قبل 12 عاماً، بأنها “مؤامرة خارجية افتعلها الأعداء لتهديد النظام السوري وضرب الأمن والاستقرار في سوريا”. لكن الإيرانيين كانوا يومئذ أكثر تحفظاً، على صعيد الخطاب العلني، وقالوا إن تعامل النظام مع هذه المظاهرات “شأن داخلي”. وتطلب الأمر حتى مطلع الشهر الثاني من الثورة، حتى تبدت مؤشرات دعم إيراني جليّة للنظام، متمثلةً بتزويد أجهزة أمنه بمعدات وخبرات تقنية لمراقبة المحتجين وملاحقتهم. وتطلب الأمر حتى أيار/مايو 2013، كي يعترف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بالقتال في سوريا إلى جانب النظام. مبرراً ذلك بالخشية من “التيار التكفيري” الذي سيطر على المعارضة السورية، والخطر الذي يمثّله على “العيش الواحد في لبنان”، بحسب وصفه حينذاك.

أما اليوم، فتطلب الأمر فقط، دخول الحراك الاحتجاجي في السويداء، أسبوعه الثاني، كي تخرج شخصيات محورية في “المحور الإيراني” لتقدم خطاباً عاليَ النبرة، يؤكد توصيف “المؤامرة” حيال ما يحدث، ويضيف إشارات إلى استنفار ذاك “المحور” لدعم نظام الأسد، والتلويح بالقتال مجدداً، دفاعاً عنه.

وكان النظام هو من هندسَ رد الفعل الاستباقي حيال احتمال اندلاع احتجاجات في الشارع السوري، من جراء التدهور المعيشي، قبل حتى أن تندلع تلك الاحتجاجات بالفعل. إذ، وبعيد حملة من ناشطين ينتمون للحاضنة المقرّبة منه، تضمنت سقف نقدٍ غير مسبوق لرأس النظام شخصياً، حصلت تغيرات في مواقف بعض هؤلاء الناطين، في حين اعتُقل آخرون، مما يؤكد الضغط الأمني على بعضهم، وتطويع بعضهم الآخر. وفي رصد السردية التي اعتمدها ناشطان على الأقل، في تبرير تغيير مواقفهما من النظام، يمكن لحظ التبرير ذاته، وهو التحذير من حرب مقبلة في الجبهة الشرقية، وفق ما قال بشار برهوم، بشكل صريح، معلناً أن “لا صوت يعلو على صوت الحرب”، لتبرير الوقوف إلى جانب رأس النظام، الذي كان موضع انتقاده المباشر، قبل ذلك بفترة وجيزة، وبشكل أقل مباشرة، في تسجيل لـ لمى عباس، حذرت من الحرب والفوضى، بحسب وصفها. تزامن ذلك مع ترويح الإعلام شبه الرسمي، خاصة صحيفة “الوطن”، لأنباء قالت إن مصدرها عراقي، تفيد بتحركات عسكرية أميركية، مثيرة للريبة، توحي بنية القيام بعمل عسكري، بغية قطع طريق طهران – دمشق، عند الحدود السورية – العراقية.

ورغم النفي الأميركي، الذي رافقه نفي من “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، لأية نية بالقيام بعملية عسكرية، صعّد “المحور الإيراني” من سرديته التي انتقلت من إعلام النظام غير الرسمي، لتصبح سردية مُتبناة من شخصيات بارزة داخل هذا “المحور”، (رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، والأمين العام لحزب الله)، قبل أن يتبناه وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، بشكل مباشر، في مؤتمره الصحفي مع نظيره الإيراني الذي تبنى بدوره هذه السردية، بشكل غير مباشر، في أثناء زيارته ذات التوقيت اللافت إلى دمشق.

أما أبرز ما ميّز هذه السردية في خطاب “المالكي ونصر الله”، والمنظّرين المحسوبين على “المحور الإيراني”، فهو ربط تلك العملية العسكرية الأميركية المزعومة باحتجاجات السويداء بوصف الأخيرة جزءاً من “المشروع الأميركي”، بحسب تعبير الأمين العام لحزب الله. واللافت أكثر، أن الصدام بين “قسد” و”مجلس دير الزور العسكري الذي فجّره اعتقال قائد المجلس أحمد الخبيل، جاء في التوقيت ذاته الذي يدعي فيه أبواق “المحور الإيراني” أن واشنطن بصدد التحضير لعمل عسكري في شرق سوريا، وهو ما يؤكد ما سبق أن ذهب إليه أكثر من محلل بأن الفصائل السورية المسلحة التي تستند إليها الولايات المتحدة الأميركية غير منسجمة وغير قادرة على القيام بعمل عسكري نوعي ضد الميليشيات الإيرانية الضخمة العدد والعُدة المتمركزة في الشطر الغربي من نهر الفرات، جنوب دير الزور. أو إن أردنا اعتماد تفسير آخر، فإن توقيت تفجر هذه الاشتباكات داخل أبرز المكونات المحلية المسلحة المتحالفة مع الأميركيين، يؤشر إلى اختراق إيران لتلك المكونات، ووجود أطراف داخلها -سواء داخل “قسد” أو حتى قريبة من “مجلس دير الزور العسكري”- على تنسيق مع الإيرانيين.

وهكذا يتضح أن الواقع يعاكس السردية التي يعلنها “المحور الإيراني”. فالأخير هو من يريد توتير الأوضاع في مناطق سيطرة الأميركيين. فيما لا تبدو واشنطن راغبة، أو تملك الأدوات الكفيلة بإغلاق الحدود السورية – العراقية أمام حركة الإيرانيين. وهكذا فإن “المحور الإيراني” يستخدم “الحرب المزعومة” في شرق سوريا، بوصفها أداةً لشيطنة الحراك الاحتجاجي المرشح للتفاقم في سوريا، كخطوة استباقية لتبرير الانخراط في قمعه إلى جانب النظام، في حال خرج عن السيطرة، كما حدث في الـ 2011. ولأن لا تكفيريين يمكن ربطهم باحتجاجات السويداء الآن، فكانت الذريعة هذه المرة، الارتباط بمشروع أميركي، تتبدى مؤشرات تنفيذه في شرق سوريا، بحسب سردية النظام وحلفائه. بل أبعد من ذلك، يبدو أن مشروع هؤلاء، قد يذهب باتجاه فتح جبهة صراع مسلحة بالفعل، في شرق سوريا، رهاناً على عدم رغبة الإدارة الأميركية في التورط بنزاع مسلح، في توقيت قريب من السنة الانتخابية، الأمر الذي يجعل صنّاع القرار الإيراني يراهنون على دفع واشنطن للانسحاب من شرق سوريا، وفي الوقت نفسه، يمكن استخدام هذه الحرب كوسيلة ضغط لإسكات أية أصوات محتجة على التدهور المعيشي في الداخل السوري. فالنظام محكوم بالحرب، كوسيلة للديمومة. إذ بغيابها يصبح من المنتظر في عُرف السوريين أن تعود حياتهم إلى طبيعتها، وهو ما يُلقي على كاهل النظام مسؤوليات لا يملك القدرة على الوفاء بها، في ظل استشراء الفساد وتحكم عقلية “اقتصاد المافيا” في منظومته برمتها.

——————————

ما يجري في دير الزور نقيض لحراك الجنوب أم رديف له؟/ حسن النيفي

منذ انطلاقة الموجة الجديدة للحراك السلمي الوطني في مدينة السويداء (في العشرين من شهر آب الفائت) بدأ الوعي الثوري السوري في طور جديد من التفكير لتطوير حركة الاحتجاجات الشعبية من حيث تنظيمها وإدارتها بما يخدم تلافي ما هو متوقع من أخطاء من جهة، وكذلك من جانب ديمومة هذا الحراك واتساعه وشموليته من جهة أخرى، وبالفعل وجدنا إرهاصات واضحة تحيل إلى قدرة جيدة لدى القائمين على الحراك في السويداء على التنظيم والعمل على ضبط المواقف وتشكيل اللجان التي تقوم على إدارة النشاط الشعبي فضلاً عن اللجان التي تتولى الاهتمام بالشأن الأمني والمدني العام. ولعل ما عزز تمحور الآمال على حراك السويداء هو الاستجابة السريعة والتفاعل الحي للعديد من المدن والمناطق السورية للتضامن مع حراك جبل العرب.

ولعل أبرز تلك الاستجابات من حيث الشمولية هي مدينة درعا التي لم يحل تواجد قوات النظام فيها دون انتفاضة أهلها ليشكلوا مع السويداء امتداداً جغرافياً واسعاً في الجنوب وصوتاً واحداً يعيد إلى الأذهان والنفوس معاً وهج الثورة السورية إبان طورها الذهبي في آذار 2011. أضف إلى ذلك استجابات الشمال السوري الخارج عن سلطة نظام الأسد وتحوّله في يوم الجمعة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي إلى كتلة ملتهبة من المظاهرات التي بدأت تمتد إلى مدن الشمال الشرقي كالرقة ودير الزور، الأمر الذي أبقى الأنظار والأذهان مركزةً ومترقبةً أن تصل شرارة الحراك السلمي إلى دمشق وحلب والساحل السوري الذي بدأ يشهد تحوّلاً تدريجياً نحو انحيازه لحركة الاحتجاجات الشعبية.

إلّا أن هذه اليقظة الجماهيرية التي بدأت ترسم منعطفاً جديداً في سيرورة الثورة سرعان ما انشطر الاهتمام بها حين باغتتها الأحداث الدامية من جرّاء القتال القائم في محافظة دير الزور، هذا القتال الذي بدأ على نطاق محدود بين مجلس دير الزور العسكري وقوات قسد، لكن سرعان ما أخذ يتسع وينحو باتجاه حرب حقيقية بين مجموعة من العشائر العربية وقوات قسد. ربما كان من الصحيح أن هذه الحرب تقوّمت على تراكمات عديدة سابقة ووجدت في عملية اعتقال أحمد الخبيل (قائد مجلس دير الزور العسكري ومجموعة تابعة له) الشرارة المناسبة، إذ لا يمكن لأحد نكران الاحتقان الشعبي لدى سكان المنطقة عموماً من ممارسات سلطة قسد واستمرارها في نهجها الإقصائي وتفرّدها في حيازة القرار، فضلاً عن تدهور الأحوال المعيشية وندرة الخدمات العامة لدى أهالي المنطقة، الأمر الذي يمكن أن يضفي كامل الشرعية على أي حركة احتجاجية للمواطنين، ولكن من جهة أخرى ثمة حقائق لا يمكن نكرانها، توجب النظر بمزيد من الدقة، لعل أبرزها:

أولاً – الخلاف بين المدعو أحمد الخبيل وبين قوات قسد لم يكن خلافاً سياسياً أو فكرياً، بينما هو خلاف على حجم النفوذ من جهة، وكذلك على سلوك الخبيل الذي لم يكن سلوكه مزعجاً لقسد فحسب بل للكثيرين من العشائر التي انخرطت في القتال نصرة له، فضلاً عن أن الخبيل ومناصريه من القبائل كانوا من ضمن قوات قسد ومن المنضوين تحت لوائها حتى تاريخ انطلاقة القتال بينهما.

ثانياً – لا يمكن الزعم أن موقف العشائر العربية موحدٌ، إذ ثمة من العشائر من لا تزال تقف مع قسد، ومنها من هو في الأصل يقف مع نظام الأسد، ومنها من أعلن القتال على قسد وهو الآن ينادي بطردها من المنطقة.

ثالثاً – لندع جانباً فكرة أن نظام الأسد له دور مباشر في تأجيج هذا الاقتتال أم لا، إلّا أنه لا يمكن نفي الفائدة التي يجنيها الأسد من هكذا اقتتال، بل ربما بدا يراقب ما يجري في الميدان وهو ينتظر اللحظة المناسبة ليكون البديل عن قسد في تلك المنطقة، أضف إلى ذلك أن ما يجري في دير الزور من شأنه أن يشتت الاهتمام بما يجري في السويداء ودرعا وبقية المدن والبلدات من مظاهرات، بل ربما أعتقد أن اشتعال شرقي سوريا بحرب مباغتة كهذه من شأنه أن يقطع الطريق على استمرارية الحراك الشعبي أو تهميشه على الأقل.

رابعاً – ولعل الأهم من ذلك كله هو أن مجمل القبائل العربية التي تقاتل قسد وتسعى لطردها من المنطقة، إنما تقوم بذلك بدافع الفزعة والحمية القبلية ولا ينفي ذلك الدوافع الأخرى كالمطالب المعيشية أو المطالبة بمشاركة أوسع للعرب في إدارة مناطقهم والاستفادة من خيراتها، ولكن ما يغيب عن هذا المسعى العشائري هو المشروع السياسي، إذ لا وجود لقيادة سياسية للعشائر وإن كان ذلك لا يلغي التنسيق والاتفاق على المطالب، ومن هنا يمكن التساؤل: لو استطاع رجال العشائر إخراج قسد من جميع مناطقهم، فهل لدى تلك العشائر القدرة على إجراء حوكمة سريعة بغية إيجاد البديل الفاعل والنظيف الذي يمكن أن يقوم بإدارة تلك المناطق دون أن يكون بحاجة للدخول في ولاءات خارجية من شأنها أن تكرر النسخ الحكومية السابقة؟

وهل يمكن الركون إلى أن تلك المناطق التي انتزعها رجال القبائل من قسد سوف تبقى تحت نفوذ وإدارة أبناء المنطقة ذاتهم، وأن نظام الأسد لن يتمدد لأن يكون هو البديل؟

لعل هذه الأسئلة وسواها تقود إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن التكهّن بما ستؤول إليه الأمور حتى لو سيطر رجال العشائر على الموقف العسكري والميداني على العموم.

ما هو لافتٌ للانتباه هو غياب موقف أميركي واضح مما يجري من قتال في منطقة واقعة تحت نفوذه، بل هو صاحب الكلمة الأخيرة والحاسمة في تقرير مصيرها، ولعل تفسير البعض بأن واشنطن أرادت الانكفاء عن التدخل المباشر فيما يجري وآثرت انتظار الوقت المناسب لكي تتدخل، بغية الضغط على قسد وإجبارها على أن يكون حضور المكون العربي في الإدارة الذاتية أكثر ثقلاً، وأنها بالنتيجة سوف تجمع رموز بعض العشائر المؤثرة من جهة والمسؤولين المتنفذين لدى قسد من جهة أخرى، لتعيد تشكيل مجلس عسكري بدون أبو خولة وجماعته؟ ربما يبدو هذا الإخراج متوقعاً لدى كثيرين، ولكن هذا الإخراج أيضاً لن يكون ضامناً من عودة القتال طالما أن العديد من قبائل المنطقة بدأت تعتقد بالفعل أن وجود كيان قسد لم يعد مُحتكراً للسلطة فحسب، بل هو مصدر تهديد لهوية المواطنين والمضي في إذلالهم وعدم إيلائهم أي دور حيوي في إدارة مناطقهم.

ربما تكون الأيام القليلة المقبل حاملة للكثير من المستجدات بخصوص دير الزور، ولكن ما هو ثابت هو أنه مهما ارتفعت وتيرة الأحداث في دير الزور، فإن شطراً كبيراً من السوريين سوف تظل قلوبهم وأذهانهم متجهة نحو السويداء وبقية المدن الثائرة، ليس إهمالاً أو عدم اكتراث لما يجري في شرقي سوريا، بل لأن الطور الجديد من الحراك السلمي في سوريا هو الحدث الأشمل والقضية الكلية التي يمكن أن يكون ما يجري في دير الزور أحد تفصيلاتها.

——————————————

سوريا ثورة متجددة.. سقوط ادعاءات النظام ويأس مستحيل/ منير الربيع

وكأن الثورة السورية تعود إلى بداياتها. ما يستجدّ فيها هو انطلاقها من السويداء وليس من درعا. أما ما تثبّته وتؤكده، هو إسقاط ادعاءات النظام بالانتصار العسكري والذي لطالما سعى إلى استثماره سياسياً وهو ما لم يحصل. لاقت أصوات وصرخات أهالي السويداء أصداءً في مختلف المحافظات. هي تحركات لا يمكنها التوقف عند هذا الحدّ، فبالنظر إلى المطالب المرفوعة، وإعادة الاعتبار لشعارات “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”. إعلان يرتكز على تعزيز المواطنية السورية في مواجهة كل محاولات التطييف أو التفتيت.

تأتي الاحتجاجات بعد وقائع كثيرة، لها ارتباطاتها الخارجية، فالنظام الذي كان يحاول الادعاء أنه انتصر وأجبر الدول العربية على العودة إليه، صُدم بمثل هذه التحركات، فانفجارها بحدّ ذاته يرتبط بفشل النظام في تحقيق أي مكسب من جراء التطبيع السياسي معه، لا في ملف إعادة الإعمار ولا في ملف إعادة اللاجئين ولا حتى الالتزام بما تعهد به حول مكافحة تهريب المخدرات. فانفجرت الأزمة الاقتصادية والمالية، والتي تطورت الحالة الاعتراضية عليها وما تزال قابلة للاتساع أكثر. خصوصاً في ضوء التطورات الإقليمية الحاصلة أيضاً، من التحشيد العسكري الأميركي على الحدود السورية العراقية، والذي يقابله تحشيد عسكري لإيران وحلفائها لا سيما في ضوء المعلومات التي تشير إلى أن حزب الله أعاد إرسال مقاتلين إلى الداخل السوري بعدما كان قد عمل على سحبهم لاحقاً.

قبل الدخول في كل هذه القراءات، لا بد من تسجيل ملاحظة أساسية، أن سوريا الموحدة ولدت من السويداء، ومن الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش، رفضاً لصيغة الكيانات المصغرة التي عمل عليها الجنرال غورو. التقت وطنية سلطان باشا الأطرش معه وطنية سورية وعربية لدى شخصيات ورموز مثل فارس الخوري، إبراهيم هنانو، وصالح العلي، بما يرمز إليه هؤلاء ويمثلونه بالنسبة إلى الأقليات الذين اجتمعوا في سبيل نشوء الدولة السورية. اليوم لا مناص من إعادة تشكيل سياسي مماثل لشخصيات ووجاهات من مكونات مختلفة تجتمع على مشروع سياسي واحد، بدلاً من الغرق في مشاريع التفتيت التي عمل عليها النظام، وقد التقت مصالحه في ذلك مع مصالح جهات خارجية كثيرة.

في التعليق على تظاهرات السويداء، فهناك ملاحظة أساسية لا بد من التوقف عندها، وهي تردد النظام باستخدام العنف المفرط والسريع، وهذا يعود لغياب أي نظرية سياسية يرتكز عليها في تخوين المحتجين أو وسمهم بالإرهاب والتطرف، وهم محتجون بمعظمهم كانوا قد ترددوا سابقاً في الانضمام إلى الثورة، بالإضافة إلى وجود أصداء اجتماعية متعاطفة مع الاحتجاجات حتى داخل البيئة الموالية. أما الخشية فما تزال قائمة من احتمال لجوء النظام إلى استخدام جماعات إرهابية متطرفة لاستهداف أبناء السويداء في سبيل تطويعهم وضرب تحركاتهم وإعادتهم إلى أحضانه.

في ظل عدم قدرة النظام على مهاجمة التظاهرات، كان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله فقط صاحب الجرأة في طرح نظرية تخوينية واتهام المتظاهرين في العمالة، وقد وضع ما يجري في سياق المؤامرة الأميركية والضغط الخارجي المستمر. فيما النظام حتى الآن لم يتبن أي كلام من هذا القبيل حتى الآن، وربما هذا ما يفسر المعلومات التي تشير إلى أن النظام قد طلب دعماً من إيران وحزب الله تحسباً لتفاقم هذه الاحتجاجات. ذلك سيعيد النظام إلى الحضن الإيراني، ما سيسقط كل محاولات التسويق حول استعادته من إيران، إنما يثبت مجدداً إدارة ظهره للعرب وهذا لا بد أن يكون له ردة فعل عربية.

مما لا شك فيه أن النظام السوري قد اكتسب مميزات وصفات النظام اللبناني بوصفه شبكة مصالح طائفية متنازعة ومتفقة في آن. ولذلك سيكون هناك مواجهة لصعوبات كثيرة في تغييره من دون توفر دعم خارجي مباشر ومتزن، وحتى مثل هذا السيناريو غير مضمون النتائج حتى الآن، على غرار ما حصل في العراق. وكأنه مكتوب للبنان وسوريا والعراق، البقاء لفترة طويلة من حالة اللادولة واللاشرعية، واللاانتظام، في حرب أهلية معلنة ومستترة. خصوصاً أن النظام وحلفاءه كانوا قد نجحوا منذ سنوات في محاصرة الاحتجاجات وتطويقها، وتقسيمها طائفياً ومذهبياً. فيما لا الدولة المركزية قادرة على العودة، ولا الأفكار والطروحات حول الكيانات المستقلة أو الفيدرالية قابلة للتطبيق. لكن اليأس ممنوع.

———————————-

هل تقصم السويداء ظهر النظام؟/ عدنان علي

لا شك أن الحراك الشعبي في محافظة السويداء قد أربك نظام الأسد، حيث يجد نفسه مكبل اليدين، وعاجزا عن قمع هذا التحرك بالأساليب التي لا يتقن غيرها، أي محاولة تجاهل أو تقزيم التحرك الشعبي، ثم توجيه اتهامات للقائمين عليه، وصولا إلى استخدام العنف ضدهم، أو اعتقالهم.

ولا شك أن هذه الخطوات كان سيتبعها النظام في أية محافظة أخرى تثور عليه، وقد يسبق القمع والاعتقال كل الخطوات بالنسبة لبعض المناطق “المستباحة” من وجهة نظر النظام، مثل ريف دمشق وحمص وحلب.. إلخ أي المناطق التي سبق أن حمل بعض أبنائها السلاح ضده، فتم سحقها بشدة وتهجير أهلها، وقتل واعتقال عشرات الآلاف منهم، فلا تتحمل عقلية النظام أن تثور هذه المناطق عليه مجددا، وكأنها لم تستوعب دروس السنوات الماضية.

أما في الساحل السوري، فحتى لو تصاعد التذمر الشعبي هناك والذي كان بدأ للتوّ، فلن يتوانى النظام عن استخدام العنف ضد المحتجين، وإن كان طبعا ليس بالمستوى الذي حصل في “المناطق المستباحة”، لأسباب طائفية مفهومة. والاحتجاجات في الساحل، ومن المستبعد على أية حال، أن تتحول إلى كتلة شعبية وازنة تنزل إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط النظام؛ لأن سقف المطالب هناك عموما يتعلق بتحقيق بعض الإصلاحات، وتحسين الخدمات والأجور، ولا تشكل مسألة رحيل النظام هاجسا كبيرا لدى معظم الناس، باستثناء بعض الناشطين، ممن يسهل على النظام التعامل معهم بصورة فردية.

وبالعودة إلى حراك السويداء، فقد أسقط في يد النظام الذي لا يستطيع توجيه التهم السابقة المجربة ضد المناطق الأخرى، كمتطرفين ودواعش، بسبب التركيبة الطائفية للمحافظة، كما لا يستطيع اتهامهم بحمل السلاح فهم يحافظون حتى الآن على سلمية الاحتجاجات بتوصية ورعاية مباشرة من الزعامات المحلية والدينية. وتبقى التهمة المتجددة للمحافظة، وهي الرغبة في الانفصال أو إقامة حكم ذاتي برعاية قوى خارجية، في إشارة مضمرة أحيانا ومباشرة أحيانا أخرى، إلى إسرائيل. يضاف إلى ذلك، محاولات متفرقة للتشويش على الحراك الشعبي، مثل “التحذير” من اختراقه من جانب قوى “تكفيرية أو متطرفة” في إشارة إلى الحراك الثوري في درعا المجاورة، والذي يندرج في عقلية النظام، ضمن المناطق المستباحة، حيث بادرت قواته إلى إطلاق النار على المحتجين هناك فورا، حين حاولوا التظاهر في النهار، لذلك يكتفون بوقفات احتجاجية مسائية خاطفة.

وبعد سلسلة من رسائل التهديد التي أطلقها النظام عبر بعض الموالين له، أو عبر محافظ السويداء الذي أدار الحوار بين وجهاء المدينة وقيادته في دمشق، يبدو النظام اليوم في حالة ترقب على أمل أن ينجح الموالون له في المحافظة في ثني الثائرين عن التصعيد، والاكتفاء بتحقيق بعض المطالب الخدمية المحصورة في محافظة السويداء. ولا شك أن النظام يعمل على خطط بديلة في حال، لم تنجح هذه الجهود، قد يكون منها القيام بتفجيرات واغتيالات في المحافظة ونسبها إلى مجهولين أو “دواعش” أو قادة الحراك الثوري في المحافظة على أمل بث الفتنة بين أبنائها.

كل هذه الاحتمالات وغيرها مما قد تتفتق عنها عقلية النظام واردة، لكن المستبعد جدا أن يحاول النظام التفكير في المطالب السياسية التي تتردد في الاحتجاجات الشعبية والمتعلقة بإحداث تغيير في نمط الحكم، وإطلاق سراح المعتقلين، وطرد إيران وميليشياتها من البلاد، والتعامل بجدية مع المطالب العربية من النظام، بما قد يحقق انفراجة سياسية تكون مدخلا لرفع العقوبات الدولية، وجلب الاستثمارات الخارجية وعودة اللاجئين السوريين.. إلخ.

القاعدة التي سار على هديها النظام في تعامله مع احتجاجات 2011، والتي أسداها رجال “الحرس القديم” لبشار الأسد، فضلا عن حزب الله وإيران، هي ضرورة استخدام القوة في مواجهة الاحتجاجات، وإذا لم تنفع القوة، فسوف ينفع مزيدٌ من القوة، وفق قناعتهم التي تحمل ازدراء للشعب السوري، بأن هذا شعب لا ينفع التنازل أمامه؛ لأن كل تنازل سوف يُفسر على أنه ضعف، ويستتبع ذلك مطالب جديدة، وصولا إلى إسقاط النظام.

معضلة النظام اليوم أنه لا يجرؤ على استخدام القوة، بسبب ضعفه من جهة، والسويداء متخمة بالسلاح، وروح الفزعة قوية فيها، فضلا عن المؤازرة المؤكدة التي ستتلقاها من درعا المجاورة، إضافة إلى العامل الخارجي من جهة أخرى، لأن أية تطورات عسكرية أو مجازر يرتكبها النظام في المحافظة، سيكون لها صدى ولا شك في الجوار السوري، حيث تنتشر الطائفة الدرزية، والنظام غير قادر على مواجهة الفوضى التي ستعقب ذلك، وقد تؤدي إلى تثوير مناطق سورية أخرى ضده، ما يهدد الحكم في دمشق.

والخلاصة، أنه مهما بلغ التصعيد ضد النظام في السويداء، فإن النظام لن يستطيع فعل الكثير لوقف هذا الحراك، طالما أن أهالي السويداء يحافظون على وحدة الصف الداخلي، وقد يكون حراكهم هو القشة التي تقصم ظهر النظام المنهك، أو على الأقل تهيّئ الأجواء لذلك.

———————————

السويداء تنتفض.. التاريخ يعيد نفسه/ وفاء علوش

مرة أخرى يعيد التاريخ نف سه ويمنحنا فرصة جديدة لإحياء الثورة، لنكون محظوظين جداً كوننا ما زلنا أحياء لنشهد تكرر تلك اللحظة التاريخية.

على الرغم من القهر والفقر والإذلال يستطيع السوريون اليوم وهم في داخل أعتى الدول الأمنية أن يخرجوا عن صمتهم، ويواجهوا القتلة رافضين الاستمرار بالانصياع لاحتلال بلادهم ونهبها.

الأصوات السورية التي خرجت اليوم تؤكد على سلمية الثورة، وتثبت بما لا يدع مجالاً للشك ألا أحد يستطيع أن يحجب الشمس بغربال مليء بالثقوب على الرغم من سنوات تشويه ممنهجة في الإعلام وفي دول العالم في نظر الرأي العام.

عن قرب قد تبدو الأشياء التي قد نختلف عليها تفوق ما قد نتفق في الرأي حوله، لكن ذلك لا يغير حقيقة أننا اجتمعنا دوماً على حب هذه البلاد وإن اختلفنا بطريقة حبنا لها، فأستحضر أغنية السيدة فيروز “وإذا نحن تفرقنا ببجمعنا حبك”.

بعد سنوات من الحراك السوري الذي لم ينصفه أحد، تعود الثورة إلى النهوض من رمادها في لحظة يأس خيمت على أرواح السوريين، واعتقدوا فيها أن لا مفر من ذلك القدر السياسي البائس الذي يعيشونه.

السوريون اليوم في الساحات، لم يتراجعوا عن مطالبهم قيد أنملة، فلا هم يريدون إصلاحاً سياسياً واقتصادياً ولا خدمات ولا غذاء، إنهم يريدون استعادة بلادهم ممن اعتقد أنه يملكها ويتحكم بقرارها فيبيعها لمن يريد، إنهم يريدون اجتثاث السمّ من جذره، ولا يبدو أنهم باتوا خائفين من أسلحة النظام ومعتقلاته وإنما بلغ غضبهم ذروته بعد أن منحوه فرصاً تلو أخرى فاعتبر ذلك جبناً واستساغ الإذلال والإهانة.

لم يقتل الجوع أبناء بلادنا ولم تعد قضيتهم رتق ما ثقبته سنوات الاستبداد، وربما لاحظ الذين عوّلوا على صبرهم ويأسهم أن صبرهم قد بلغ حده وأنه لا يعني الاستسلام، وأن كيل الكريم إذا طفح قد يخلف وراءه طوفاناً جارفاً.

ربما لم يكن المجتمع السوري جاهزاً للثورة بعد، بسبب سنوات القمع والتغييب السياسي أو بسبب تركيبة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في سوريا، وهذا قد يشكل سبباً مهماً في المخاض الطويل لكنه لا يزيل ألم الطعنات التي تلقيناها خلال عقد ونيف.

الحقيقة ومن دون مواربة أيضاً أننا لا نخلو من الأخطاء وأن هذه فرصة للمراجعة وتحمل المسؤولية لئلا نقع فيها مجدداً، لكننا من باب الإنصاف قبل أن ندين المجتمع علينا أن نغوص في تحليل تركيبه الاجتماعي، وبيان الأسباب التي أدت إلى الوصول إلى مثل النتائج الكارثية الني نعيشها على الصعيد السوري.

لا نتائج من دون مقدمات هذا ما يثبته الوضع الاجتماعي السوري الذي بُني منذ زمن بعيد على أسس “فرق تسد”، ووُضع حجر مؤسسات الدولة بالطريقة ذاتها، ومن نافل القول إن الحياة السياسية أُديرت بالأسلوب ذاته، واعتمدت أسلوبي الترغيب والترهيب في غالب الأحيان.

ربما عجزت الثورة عن ترميم حالة الصدع الاجتماعي وردم الفجوة السياسية التي نعاني منها، وجعلت الفروق الفكرية أكثر وضوحاً، وهذه مرحلة ضرورية لاكتشاف المشكلة كخطوة في سبيل علاجها في حال كنا شجعاناً واعترفنا بها وابتعدنا عن حالة ادعاء المثالية الدارجة، لقد كنا محملين بسوءات حكم البعث وما بُني عليها من تفرق واصطفاف، وانعكس ذلك جلياً في بعض المواقف التي اتخذناها فيما يخص تفاصيل الثورة.

لا يخفى على أحد أيضاً الاتهامات التي تلقاها أبناء الثورة ومؤيدوها بأن التنظيمات الإرهابية تمثل جوهر الثورة، يضاف إليها حرب المعلومات التي شنتها أجهزة الأمن لتشويه صورة من خرج في المظاهرات، غير أن الواقع اليوم يثبت عكس هذه الحكاية ويدين النظام الذي تعاون مع أطراف خارجية لتسييس الثورة وتخريب البلاد في مقابل مكاسب شخصية.

لقد جمعت الثورة كثيرين ممن خلعوا عنهم الخوف وخرجوا معارضين للاستبداد وما زالوا كذلك حتى اليوم، وإذا كان النظام يعتقد أن السنوات الطويلة سوف تسهم في طيّ صفحة مطالب السويين في التغيير السياسي فقد أتت النهايات بعكس ما يتوقع، وأثبتت أن الحصى الذي رُمي في المستنقع قبل عقد قد حركه بالفعل وبات من غير الممكن إعادته إلى حاله السابق.

المشكلة الحقيقية أن الاستبداد عمل على تشتيت السوريين وحرص على تفتيت وجود هوية سورية جامعة مانعة، بمساعدة نظام أمني عمل على ترسيخ الفصل بيننا، وأنه سهل وصول أشخاص إلى الإعلام ليقدموا صورة مشوهة عن السوريين في العالم.

من الطبيعي في المنعطفات المهمة في حياة الشعوب أن تنتشر أصوات متعددة توافق أو تخالف أو تتحفظ، لكن النظام وأجهزة المخابرات العالمية عملوا على تمكين صوت غوغائي محرض على الانتقام ليعتم على أصوات العقول التي قد تؤثر في المجتمع.

لم تكن الثورات رفاهية في يوم من الأيام، ولا يمكن أن تظهر في مجتمع ما إلا بعد سلسلة من التحركات السياسية التي قد تتفاوت في الزمن والقوة والاستمرارية، لكنها تترابط بعضها مع البعض الأخر لتشكل حدثاً واحداً.

ولأنه من غير الممكن إخراج الأمور من سياقها ولا يمكن تجاهل قراءة الأحداث التاريخية التي أدت إلى أي حراك سياسي، فيبدو أننا ماضون باتجاه لا يمكن لعسكرة أو تشويه أو قتل أو مؤامرات وتواطؤ أن يعيقه بعد اليوم، كما لن يتمكن كل ما سبق من منع هذه التحركات المتلاحقة من بلوغ شاطئها أو تحقيق أثر الحت والتعرية على أقل تقدير، حتى وإن استغرق ذلك سنوات وعقود.

لقد كنا محظوظين إلى درجة جعلتنا نشهد الحدث مرتين لنتأكد أن السنوات التي مضت لم تكن سوى ثمن لنضج ثوري لم نحظَ به من قبل، ولإثبات أن اليأس لم يكن في محله وإنما كنا بحاجة إلى وقت ليثبت لنا الزمن أننا مشينا في الطريق الصحيح أخيراً.

———————————-

ثورة السويداء تفجر رعب الممانعة اللبنانية/ شادي علاء الدين

تستقبل الممانعة اللبنانية الأخبار الواردة من السويداء بكثير من القلق والحذر الذي يرقى إلى مرتبة الرعب، وتعمل عبر بواباتها الإعلامية الأمنية على تشويهها والتخفيف من حجمها وتسفيه معانيها.

كل ما يجري في السويداء يبدو كارثيا بالنسبة لنظام الأسد وقرينه اللبناني الموالي لإيران، وذلك لأنها على غرار ثورة 17 تشرين 2019 اللبنانية تذهب في اتجاه راديكالي حاسم ونهائي عبر خطاب يحقّر البعث ويرفضه بالمطلق، ولا ينظر إليه كمرجعية يتجه إليها بالمطالبة، بل بوصفه مسؤولا عن كل الخراب، وتاليا فإنه ليس جهة أو طرفا بل العدو الواضح والنهائي.

وإذا كانت شعارات ثورة بيروت “كلن يعني كلن” قد حملت بعض بنية الخلل قياسا على الوضع اللبناني، وأغلقت الباب أمام استقطاب سياسي كان ممكنا ومنعت الفرز بين خصومها وحلفائها، فإن ما تنادي به ثورة السويداء قياسا على الوضع السوري يتجلى بوصفه صوابا مطلقا في السياسي والاجتماعي وكذلك في الأخلاقي، وذلك لأن البعث الذي صنع نظاما مغلقا ومطلقا يمثل الخلل الكلي.

الهجوم على مقار البعث وتدميرها وطرد المسؤولين فيها في موازاة طرح العناوين الاجتماعية والاقتصادية وربطها باستحالة السياسة وبالإدانة الصارمة للأسد ونظامه، لم يكن مجرد فورة غضب بل نتيجة لتراكم وعي حاد أنتج نوعا من اليقين الذي يصعب التراجع عنه بغض النظر عن أي سياقات محتملة للأحداث.

ذلك اليقين السوري بعناوينه العريضة يتناغم مع ما يتراكم منذ فترة في المجال اللبناني عموما والشيعي خصوصا من استحالة التفاهم والعيش تحت ظلال حكم الممانعة. الاحتجاجات التي تنادي بشؤون مطلبية، والتي تنفجر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتعبر عن نفسها أحيانا في المجال العام بصعوبة ويتم المسارعة في قمعها بدرجة عالية من الحدة والعنف، تكشف عن أن ذلك التسفيه الراديكالي لمنطق البعث وسلطاته الذي أفرزه مشهد السويداء يصلح للتعبير عن الأحوال اللبنانية في مواجهة الممانعة.

الفصل بين الاجتماعي والمطلبي والسياسي كان سياقا مشتركا بين نظام الأسد والممانعة اللبنانية، فلطالما عمل حزب الله على الإيحاء بتناغمه وتفاهمه مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية واعتبارها جزءا من مشاريعه وأهدافه، وكان وجود بنية مفرغة من السلطة والمؤسسات هو الإطار الذي يتيح له التهرب من حمل المسؤولية المباشرة وردها إلى فساد حكومي وسياسي عام.

اللعبة التي يمارسها كانت تعنى بالمحافظة على قداسة زعيمه حسن نصر الله والسماح بالمس بمن هم دونه كبنية تفريغ تتيح للجماهير التنفيس عن غضبها من ناحية، وتمنح خطابه القائم على دفع السياسة إلى الذوبان في بنية التقديس التي يمنحها لزعيمة تماسكا وصلابة من ناحية أخرى.

يحاول الحزب وانطلاقا من مخاوف مشتركة مع الأسد إسقاط الخطاب نفسه على ثورة السويداء مدعيا عبر مقالات وخطابات ينشرها في مؤسساته الإعلامية الحربية أن مشهدية السويداء كانت تحمل زخما اجتماعيا ومطلبيا قد يستجلب التعاطف، ولكن كل ذلك سقط عندما باشرت بالنيل من بشار الأسد وقداسته المزعومة. هذا الأمر تسبّب، وفق وجهة النظر الممانعة، بتفكيك شرعيتها من الداخل، وذلك لأنه إذا كانت الساحة السورية تحمل اختلافات وتباينات حادة في المواقف والآراء والطموحات والهواجس والآمال، ولكن هناك بعد واحد يحظى بالإجماع العام وهو شخص بشار الأسد.

تلك الإحالة إلى شخص الأسد بوصفه عنوانا للقداسة والإجماع تكررت في ما يخص نصر الله وعنوان مواجهة الانفجار الاجتماعي والاقتصادي الذي ينظر إليه الناس في البلدين على أنه نتيجة مباشرة لتغييب السياسة أو جرها إلى النطق باسم الفساد، بينما يعتبره كل من الأسد ونصر الله نتيجة للحروب الكونية التي تشن ضدهم.

الدور المفترض للناس في هاتين المنظومتين يقتصر على الموت في سبيل قداسة الأسد ونصر الله، وتاليا فإن الحياة عمليا لا تكون سوى عملية استعداد لتحقق الموت وإنجازه بالشكل الذي يخدم صور القداسة الزائفة وميادينها التي تشتغل من خلالها.

ذلك النوع من الحياة يفترض شروطا تختلف عن مألوف العيش العادي والبشري العام. الاستعداد للموت لا يتطلب أمنا وصحة وغذاء واقتصادا وسياسة بل يشترط على العكس من ذلك غياب كل ما يرتبط بإدامة العيش واستمراره. لم يكن نصر الله يمزح حين عرض على اللبنانيين رؤيته الاقتصادية الزراعية التي تدعوهم إلى مواجهة الأزمات الحادة بزراعة “البلاكين”، وكذلك فإن نظام الأسد بإصراره القديم المتجدد على أن لا شيء يحدث في سوريا ينفي وجود الأزمات أساسا ويعتبر أن بقاءه واستمراره هو الدليل الحاسم على الازدهار والنمو.

خطاب الإنكار سقط في البلدين واتجهت الأمور في لبنان إلى فراغ شبه كلي في مؤسسات الدولة ولعبة التحالفات التي صنعها الحزب انحلت إلى صراع ابتزاز. الجهاز المؤسساتي الحكومي الهش الذي كان يستعمله كواجهة للتغطية على ممارساته قد سقط وتعرى، وكذلك تبددت كل الخطابات التي يستعملها الأسد من حلف الأقليات إلى دعاوى الحماية وتحقيق الازدهار والأمن، وباتت صيغة الدولة الوهمية التي يقف على رأسها تشي بالفراغ الكامل على غرار المشهد اللبناني الذي صممه حليفه الإيراني اللدود حزب الله.

خطر ثورة السويداء على الديكتاتوريتين الأسدية واللبنانية أنها قبل كل شيء أعادت ربط خطاب المطالبة بالحرية بالشأن الاجتماعي ووحدت بينهما مفككة كل مساعي تحويل الناس إلى مجرد كائنات بيولوجية، وبالتعبير النفسي يمكن وصف ما يجري بأنه عودة إلى الإنساني المتمثل في فعل الحرية بوصفه رغبة تصف الإنساني وتمنحه المعنى والتماسك وتستعلي على ضرورة الحاجات المعيشية والبيولوجية التي تجعل الناس كائنات مستلبة لا تستطيع إنتاج وعي ولا صناعة مجال عام أو تكوين رأي.

ذلك الذهاب إلى الحدود القصوى الذي تطرحه علينا ثورة السويداء يعيد فكرة الحرية أملا ومفهوما وخطابا وهدفا إلى المجال العام بعد أن كان الأسد وحزب الله قد اعتقدا أنها قد دفنت إلى الأبد.

—————————–

احتجاجات السويداء في يومها السادس عشر تأكيد على الاستمرار

تستمر الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء،جنوبي سورية، لليوم السادس عشر على التوالي، ولا تزال المحافظة تشهد انضمام قرى جديدة للاحتحاجات التي لاقت إقبالاً شعبياً ملموساً من قبل شريحة واسعة من المحافظة، حتى لو جاءت بشكل ضمني.

وشهدت ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، التي أصبحت ساحة الاحتجاجات المركزية لجميع محتجي المحافظة، توافد مئات المواطنين والمواطنات من مختلف المناطق اليوم الاثنين، وهو اليوم الرئيسي الثاني للاحتجاجات بعد يوم الجمعة من كل أسبوع، حسب ما اتفقت لجان الحراك.

ووقف المحتجون دقيقة صمت في الذكرى الثامنة لاغتيال الشيخ وحيد البلعوس، مؤسس حركة رجال الكرامة، مع ثلة من رفاقه وعشرات المدنيين بتفجيرين إرهابيين، يرجح ضلوع الأمن العسكري في التخطيط لهما وتنفيذهما في مثل هذا اليوم في عام 2015.

كما قام المحتجون بإزالة صورة للرئيس السابق حافظ الأسد من على مبنى التأمينات الاجتماعية وسط مدينة السويداء، مع تحطيم تمثال له.

وطالب المحتجون والمحتجات برحيل النظام وتطبيق القرارات الدولية الضامنة للانتقال السياسي والتغيير، كما رفعوا لافتات تؤكد تمسكهم بوحدة الشعب السوري، مؤكدين أن المقام الموقر هو مقام الشعب، وهو فقط الخط الأحمر، في رد على من اعترضوا على الهتافات المناهضة لبشار الأسد معتبرين ذلك تهجماً على مقام الرئاسة.

وقال أحد المحتجين من ساحة الكرامة لـ”العربي الجديد” إنه “إذا كان النظام يظن أننا نصدق تجاهله للاحتجاجات وصم آذانه عن مطالب الشارع برحيله فهو مخطئ، وهو يثبت لنا كل يوم مدى هشاشته وضعفه، وإذا كان يراهن على صبرنا، فإن صبرنا لن ينفد، وهذه الاحتجاجات ستستمر حتى رحيله”، وأشار إلى أن حواجز الخوف والرعب والصمت راحت إلى غير رجعة.

وفي سياق منفصل، كان الشيخ سليمان عبد الباقي، قائد فصيل أحرار جبل العرب، قد نشر عبر صفحة الحركة، مساء أمس الأحد، مقطعاً مصوراً يوضح قيام الحركة بإطلاق سراح ضباط من جيش النظام، كان اختطفهم للضغط على النظام لإطلاق سراح الناشط أيمن الفارس المنحدر من اللاذقية، والذي اعتُقل أثناء توجهه للاحتماء في السويداء بعد مقاطع مصورة قام فيها بمهاجمة رأس النظام.

وقال عبد الباقي في المقطع المصور إن قيامه بهذه الخطوة جاء كبادرة حسن نية، بعد أن ثبت له وللضباط الأسرى لديه أن النظام “لم يكترث لأسرهم، وأنه يعتبرهم وقوداً لاستمرار بقائه على الكرسي”. وخلال المقطع، أكد أحد الضباط؛ وهو من ريف حمص، أن أعضاء الفصيل لم يسيئوا معاملته وعاملوه كضيف ولم يمسه أحد بأذية لا جسدية ولا لفظية.

كما لفت عبد الباقي إلى أن الحركة مستمرة في الضغط على النظام حتى إطلاق سراح الناشط أيمن الفارس وكل معتقلي الرأي، على حد قوله.

من احتجاجات السويداء (شبكة الراصد السورية)

وعن فاعلية إجراء اختطاف عناصر من الجيش للمبادلة بمعتقلي رأي لدى النظام، يقول الناشط المدني أوس أبو مغضب، لـ”العربي الجديد”، أنه لا يعتقد “أن النظام سيرضخ بعد الآن لضغوطات من هذا النوع، وخصوصاً بعد أن بدأ موقناً أنه فقد تأييد مكون من الأقليات كان يستخدمه شماعةً لبقائه في السلطة، وبالمقابل، فإن النظام يحاول الظهور بمظهر القوة ولا يريد أن يبدو بلا هيبة أمام الرأي العام”.

العربي الجديد

—————————–

دير الزور والسويداء والساحل.. هل تصبح ثالوثا لنهاية حكم الأسد؟

جددت التطورات الأخيرة المستمرة في كل من دير الزور شرقي سوريا والسويداء في أقصى الجنوب ومنطقة الساحل في شمالي غربي البلاد، إحياء الملف السوري بعد نحو 3 سنوات مما يوصف بالركود الناتج عن تموضع القوى المختلفة وإيجاد حدود لأماكن سيطرتها على الأرض وتراجع الأصوات الداعية لإنهاء الصراع الذي تشهده البلاد منذ 12 عاما.

ودفع تزامن التطورات غير المسبوقة في سوريا خلال الأسابيع الماضية مراقبين لمحاولة ربطها وإيجاد قواسم مشتركة بينها، وطرحت كذلك تساؤلات حول ما إذا كانت ستؤدي في النهاية إلى تغيرات دراماتيكية في المعادلة السورية المعقدة.

قتال العشائر العربية و”قسد” شرقا

اندلعت الأسبوع الماضي اشتباكات في بضع قرى بالريف الشرقي لمحافظة دير الزور (شرقي البلاد) بعد اعتقال ما تعرف بـ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة أميركيا، قائد مجلس دير الزور العسكري التابع لها أحمد الخبيل، مما دفع مقاتلين محليين موالين له إلى شن هجمات عليها سرعان ما تطورت إلى اشتباكات انضمت إليها العشائر العربية، التي ينتمي إليها سكان المنطقة الممتدة حتى الحدود مع العراق شرقا، وأسفرت عن سيطرة العشائر على معاقل كبيرة لـ”قسد”.

وأفادت مصادر محلية في سوريا بأن القتال بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية امتد خلال اليومين الماضيين إلى ريفي الرقة (شمال) والحسكة (شمال شرق) المجاورتين لمحافظة دير الزور، وسيطروا على عدد من المواقع التابعة لـ”قسد” فيهما.

كما اشتبك مقاتلو العشائر مع قوات النظام السوري، وقطعوا الطريق الدولي “إم 4” على محور “صكيرو” جنوب تل أبيض بريف الرقة، وذكرت مصادر محلية أن مقاتلي العشائر سيطروا على حاجز لقوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية في ريف تل تمر شمال الحسكة.

وطرد مقاتلو العشائر العربية في بادئ الأمر القوات التي يقودها الأكراد من عدة بلدات كبيرة، لكن قوات سوريا الديمقراطية تقول إنها بدأت في استعادة السيطرة على الوضع.

ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة لم تدخل طرفا في القتال إلى جانب حليفتها قوات سوريا الديمقراطية كونها تخشى زعزعة الاستقرار في المنطقة وأن تتحول حقول النفط والغاز التي تسيطر عليها ويوجد فيها جنود أميركيون إلى جزر واقعة في محيط معادٍ لها كونها تقع في منطقة العشائر العربية.

وأوفدت واشنطن مسؤوليْن رفيعين اجتمعا الأحد مع قيادات من الطرفين المتحاربين، واتفقوا على “نظر المظالم المحلية” و”وقف تصعيد العنف بأسرع ما يمكن”.

وأفادت المصادر بأن المسؤوليْن الأميركيين أكدا ضرورة تجنب سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وأهمية الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية في جهود دحر تنظيم الدولة الإسلامية، حيث تعتمد واشنطن على هذه القوات في فرض السيطرة على المناطق التي تم طرد تنظيم الدولة منها في سوريا عام 2019.

وتتقاسم السيطرة حاليا على محافظة دير الزور، التي يقسمها نهر الفرات، قوات تابعة للنظام السوري مدعومة من روسيا ومليشيات إيرانية من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة من جهة أخرى.

ويرى مراقبون أن الاشتباكات الجارية قد تمتد إلى مناطق خاضعة لسيطرة النظام خاصة أن بعض المواقع التابعة لقواته سيطر عليها مقاتلو العشائر خلال اليومين الماضيين، ومن الممكن أن تتدحرج كرة النار في حال امتداد الاشتباكات الأخيرة لتطال مواقع أخرى، إلا أن آخرين يرون أن النظام السوري وحلفاءه المستفيد الأكبر من الاشتباكات الحالية بين العشائر وقوات سوريا الديمقراطية كونها تضعف الطرفين في مناطق خارجة عن سيطرته، وأيضا تُدخل الولايات المتحدة في دوامة صراع عرقي قد يؤثر على وجود قواتها في سوريا.

احتجاجات الدروز ضد الأسد جنوبا

على مدى الأسبوعين الماضيين، خرجت مظاهرات عديدة في محافظة السويداء الجنوبية، التي تضم معظم الطائفة الدرزية في سوريا، احتجاجا على سوء الأوضاع المعيشية وطالبت بتنحي الرئيس بشار الأسد عن منصبه.

وردد المحتجون خلال الاحتجاجات “الشعب يريد إسقاط النظام” و”سوريا حرة وبشار بره”، وهي ضمن شعارات أطلقها متظاهرون خرجوا للمطالبة بإسقاط حكم الأسد عام 2011 قبل أن تقمعها قوات الأمن التابعة له، وتنجر الأمور إلى صراع مسلح مستمر حتى اليوم.

والجمعة الماضي، بثت شبكات -ترصد الحراك في السويداء على مواقع التواصل الاجتماعي- مقاطع فيديو تظهر ما وصفتها بمشاهد غير مسبوقة “لأكبر مظاهرة ضد الأسد” في تاريخ هذه المحافظة القريبة من الحدود مع الأردن.

    أكبر تظاهرة ضد الأسد في تاريخ السويداء

    في مشهد غير مسبوق، احتشد الآلاف من أهالي محافظة السويداء، من مختلف الفئات والمكونات، في الساحة الرئيسية لمدينتهم، التي ثبّتوا اسمها بساحة الكرامة، لا ساحة الرئيس..https://t.co/9tsl9IufNG pic.twitter.com/m8NzxigWap

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 1, 2023

واندلعت مظاهرات السويداء في أغسطس/آب الماضي بسبب رفع النظام الدعم عن الوقود، مما عكس ارتفاعا للأسعار وزيادة في الأعباء الاقتصادية والمعيشية على السوريين، الذين يعانون من تردي أحوالهم منذ سنوات.

وظلت السويداء، التي تضم معظم الطائفة الدرزية في سوريا، تحت سيطرة الحكومة طوال فترة الحرب، وأفلتت إلى حد كبير من العنف الذي عمّ أماكن أخرى، إلا أنها شهدت في أوقات متفرقة مظاهرات ضد ممارسات نظام الأسد، وطالبت برحيله في بعضها.

ومع تصاعد الاحتجاجات في السويداء وإعلان المتظاهرين الأسبوع الماضي إغلاق مقرات حزب البعث الحاكم وعدد من المؤسسات التابعة للحكومة، أخلت قوات الأسد ثكنات وحواجز عسكرية شرق وجنوب المحافظة.

وازداد زخم المظاهرات مع انضمام قيادات للطائفة الدرزية إلى عدد من التجمعات وإعلانهم أن مطالب المحتجين “محقة”، كما خرجت مظاهرات داعمة لمتظاهري السويداء في درعا المجاورة، وهي المحافظة التي اندلعت منها شرارة ثورة 2011، وكذلك في مناطق أخرى في شمالي وشرقي سوريا بالمناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة.

وتمر سوريا بأزمة اقتصادية خانقة أدت لانخفاض قيمة عملتها إلى رقم قياسي بلغ 15 ألفا و500 ليرة للدولار بالسوق السوداء، في انهيار متسارع. وكانت العملة المحلية تُتداول بسعر 47 ليرة للدولار بداية الصراع قبل 12 عاما.

وكان الأسد أصدر أغسطس/ آب الماضي مرسوما بزيادة الأجور بنسبة 100%، كما أعلنت الحكومة قرارات برفع أسعار المحروقات بنسبة تصل إلى 200%، مما أسهم في زيادة أسعار معظم المواد بالأسواق وزيادة معاناة المواطنين.

وقالت مصادر أمنية ودبلوماسيون -وفق ما نقلت رويترز- إن احتجاجات السويداء تؤجج مخاوف لدى المسؤولين من امتدادها إلى المناطق الساحلية المطلة على البحر المتوسط، وهي معاقل أقلية الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد، حيث أطلق نشطاء مؤخرا دعوات نادرة للإضراب.

حراك بحاضنة النظام غربا

شهدت منصات التواصل الاجتماعي خلال الشهرين الماضيين ظهور عدد من المؤثرين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، اللتين تضمان معظم الطائفة العلوية التي ينتمي لها رئيس النظام السوري بشار الأسد ومعظم قادة أجهزته الأمنية وتشكيلاته العسكرية، دعوا خلالها لرحيل النظام، ووصل الأمر ببعضهم لتحدي أجهزة النظام الأمنية باعتقالهم.

وأظهر أصحاب المقاطع الذين تزايد عددهم تدريجيا، إحباطهم الشديد من السياسات الاقتصادية للنظام، فضلا عن نفوذ زوجته أسماء ومجلسها الاقتصادي، الذي يُحمِّله السوريون مسؤولية الانهيار السريع لليرة المحلية.

ير الزور والسويداء والساحل.. هل تصبح ثالوثا ينهي حكم الأسد؟

مناطق الساحل السوري ودير الزور والسويداء تشهد تطورات غير مسبوقة منذ اندلاع الأزمة في البلاد عام 2011 (الجزيرة نت)

ويتركز العلويون في شمالي غربي سوريا، خاصة في مدينتي اللاذقية وطرطوس، وهناك تجمعات لهم في دمشق والريف المحيط بمدينتي حمص وحماة، ولكن أغلب العلويين يعيشون في قرى صغيرة عديدة في منطقة الجبال الساحلية.

والأسبوع الماضي أظهرت صور نشرها ناشطون على صفحاتهم على مواقع التواصل أن بعض سكان محافظة طرطوس الساحلية (شمال غرب) رفعوا لافتات صغيرة كُتب عليها “سوريا لنا وما هي لحزب البعث (الحاكم)” وفي الخلفية صورة الأسد على لوحة إعلانية كبيرة.

ولا تذكر وسائل الإعلام الرسمية عادة الاحتجاجات، لكن معلقين موالين للحكومة اتهموا قوى أجنبية بتأجيج الاضطرابات خاصة في السويداء، وحذروا من تفشي الفوضى إن استمرت.

ويبدو النظام السوري مقيدا في إطلاق العنان لقواته لإخماد احتجاجات العلويين بالتحديد، إذ اقتصر الأمر على ملاحقة واعتقال بعض النشطاء بطرق سرية بعيدا عن الأنظار، كذلك دفع بـ”الشبيحة” لترهيب المحتجين والمنتقدين وتهديدهم بالاعتقال أو التصفية، ويرجع ذلك إلى خشيته من وقوع انتفاضة واسعة قد تؤدي إلى اختلال الوضع الأمني ضمن مناطق دعمته بثبات خلال سنوات الحرب.

ويربط محللون بين التطورات الثلاثة، ويرون أنها تساهم في إضعاف الأسد خاصة في السويداء والساحل السوري معقله الرئيسي، وأن تلك التحركات من الممكن أن تحيي المطالبة الدولية بتطبيق قرار مجلس الأمن 2245 الداعي لإيجاد تسوية سياسية دائمة للوضع في سوريا، في حين يرى آخرون أنها متباينة الخلفيات والأهداف وقد لا تؤثر على حكم الأسد وبقائه في السلطة.

بيد أن لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي اليوم الاثنين، وكذلك زيارة وزير خارجية تركيا هاكان فيدان كلا من موسكو وطهران وبغداد وأربيل مؤخرا، وأيضا تحركات غير معلنة للجيش الأميركي على الحدود العراقية السورية مؤخرا، عدا عن الحراك في السويداء والمناطق الساحلية، توحي بتحرك ما في الملف السوري، وفق مراقبين.

المصدر : الجزيرة + وكالات

—————————————–

دمشق تستنفر لمنع تمدد احتجاجات السويداء

لليوم الرابع عشر على التوالي، تواصلت الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء بجنوب سوريا، حيث أفيد بتجمع عشرات الأشخاص في ساحة السير بوسط مدينة السويداء، مجددين مطالبهم بإطلاق سراح المعتقلين ورحيل النظام وتطبيق القرار الأممي الرقم 2254. وجاء ذلك بينما شهد ريف دمشق حالة استنفار أمني، على خلفية مخاوف من تمدد احتجاجات السويداء.

إلا أن الاستنفار الأمني لم يمنع تعرض مدير ناحية بلدة سعسع الرائد محمد الأحمد لمحاولة اغتيال، من خلال زرع عبوة ناسفة في سيارته صباح السبت. وقالت وزارة الداخلية السورية «إن عبوة ناسفة مزروعة بسيارة مدير ناحية سعسع الرائد محمد الأحمد انفجرت أثناء توجهه إلى العمل من منزله الكائن في قرية حينة بريف دمشق، ما أدى إلى إصابته في قدمه اليمنى».

ونقلت الوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا) عن مصدر في قيادة شرطة ريف دمشق أن «أحد عناصر قوى الأمن الداخلي أصيب بانفجار عبوة ناسفة زرعها إرهابيون بسيارة في قرية حينة التابعة لمنطقة قطنا بريف دمشق الجنوبي».

ويعد هذا الحادث الثالث من نوعه منذ أواخر يوليو (تموز) الماضي، حيث شهدت منطقة السيدة زينب جنوب دمشق انفجارين بعبوات ناسفة.

وتشهد محافظة ريف دمشق لا سيما في أطرافها الجنوبية حالة استنفار أمني، بالتزامن مع تواصل الاحتجاجات في محافظة السويداء. وقالت مصادر محلية لـ«الشرق الأوسط» إن الأجهزة الأمنية عززت دورياتها في كثير من البلدات جنوب العاصمة، منها ببيلا ويلدا، بالإضافة إلى بلدات زاكية وقدسيا بعد توزيع منشورات مناهضة للنظام، حيث تم نشر حواجز طيارة عند المداخل الفرعية والساحات للتدقيق في هويات الداخلين إلى تلك البلدات من غير سكانها. كما جرت ملاحقة مطلوبين للأجهزة الأمنية ومطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية.

وكانت بلدة زاكية في وادي بردى قد شهدت اضطرابات أمنية خلال الأسابيع الماضية تطورت إلى اشتباكات بين الأهالي وميليشيا محلية تتبع للفرقة الرابعة أسفرت عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة آخرين. وأفاد موقع «صوت العاصمة» المعارض بتعزيز الحرس الجمهوري مواقعه في محيط قرى وبلدات منطقة وادي بردى قبل يومين لمنع خروج أي احتجاجات عقب انتشار دعوات لحراك سلمي للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية ورفع الإجراءات الأمنية عن المنطقة. وأضاف الموقع أن الفرقة السابعة التابعة للقوات الحكومية حشدت قوات بينها مدرعات ودبابات على أطراف بلدة كناكر خلال الأسبوع الفائت، مهددة باقتحامها في حال عدم إجراء المطلوبين لتسوية أمنية.

——————————-

إصابة شخصين في إطلاق نار على محتجين بالسويداء السورية

قال نشطاء وصحافيون محليون في سوريا إن محتجّين مناهضين للحكومة تفرقوا، اليوم الأربعاء، بعد أن تعرضت مظاهرتهم، بالقرب من مبنى حكومي في مدينة السويداء الجنوبية، لوابلٍ من الرصاص، وفقاً لوكالة «رويترز».

وأصيب شخصان جرّاء إطلاق الرصاص على متظاهرين، قرب مبنى فرع «حزب البعث» الحاكم بمحافظة السويداء جنوب سوريا. وقال ياسر حناوي، أحد قادة الحراك المدني في محافظة السويداء، لـ«وكالة الأنباء الألمانية»، إنه جرى نقل شابّين إلى المستشفى، بعد إصابتهما برصاص عناصر حماية مبنى فرع الحزب، الذي يقع على مدخل مدينة السويداء.

وأضاف حناوي أن معلومات وردت إلى المتظاهرين بإعادة افتتاح مبنى فرع الحزب، حيث توجَّه المئات إلى المبنى، ولدى اقتراب المتظاهرين منه لإعادة إغلاقه تصدَّى لهم ناصر حماية فرع الحزب.

ودعا الحناوي المراجع الدينية الدرزية في السويداء، للتدخل، قائلاً «هذا تطور خطير من قِبل النظام الذي يريد جرّ الحراك السلمي إلى حراك مسلَّح، وهو يعلم أن هذه الخطوة سوف تجرُّ المحافظة إلى تصعيد لا نريد دخوله».

وأَقدم محتجون، منذ اندلاع المظاهرات في السويداء، على إغلاق كل مقارّ حزب البعث في مدينة السويداء وريفها، مع فرض حظر جزئي، وإغلاق أغلب الدوائر الحكومية.

وتشهد السويداء، على مدى أسابيع، مسيرات مناهضة للحكومة السورية، وانتقدت، في البداية، تدهور الأوضاع المعيشية، لكنها بدأت بعد ذلك تشمل دعوات لتنحّي الرئيس بشار الأسد.

وأعقبت الاحتجاجات قرار السلطات، في منتصف أغسطس (آب)، رفع الدعم عن الوقود، في خضمّ أزمة اقتصادية تخنق السوريين بعد أكثر من 12 عاماً من نزاع مدمّر.

وانطلقت الاحتجاجات في محافظتي درعا والسويداء الجنوبيتين، لكن زخمها تَواصل في السويداء ذات الغالبية الدرزية، والتي تشهد، منذ سنوات، تحركات متقطعة؛ احتجاجاً على سوء الأوضاع المعيشية.

——————————–

السويداء:الهجري يدعو للجهاد ضد إيران وميليشياتها..بعد استهداف المتظاهرين بالرصاص

أكد الشيخ الروحي لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري أن إيران دولة “محتلة” منذ دخولها إلى سوريا، مشدداً على ضرورة “الجهاد” ضد ميلشياتها “المحتلة والمرتزقة”، موضحاً أن فكر هذه المليشيات “تخريبي”، في إشارة لحزب الله اللبناني.

 واطلق الشيخ الهجري هذا الموقف الاستثنائي لدى استقباله وفداً من متظاهرين في السويداء تعرضوا في وقت سابق الاربعاء لاطلاق نار من قبل ميليشيا حزب البعث في المحافظة،  قائلاً:” منذ اليوم الأول للمحنة في السورية تحدثت بأن أي أذى سيأتينا هو من هؤلاء الحزبيين الساقطين”.

وأُصيب ثلاث شبان بجروح في مدينة السويداء الأربعاء، جرّاء إطلاق الرصاص الحي على مجموعة من المتظاهرين لتفريقهم من قبل حرس مبنى فرع حزب “البعث” في المدينة.

وأكد الهجري خلال لقائه مع مجموعة المتظاهرين الذين تعرضوا لإطلاق النار، على دعم مطالب الحراك الشعبي في السويداء حتى تحقيقها، مشدداً على عدم التنازل عنها حتى لو استمرت التظاهرات سنوات.

وإذ أكد أن الشارع هو ملك لأبناء السويداء للتظاهر فيه حتى تحقيق طلباتهم، قال: “نحن واقفون (في الساحات).. شعارنا السلمي هو للقائمين على السلطة في البلد، وإلى دول العالم جميعها والأمم المتحدة”.

واعتبر أن “الحركة الأمنية” بإطلاق النار على المتظاهرين في السويداء، هي نتاج الأجهزة الأمنية “الفاسدة” التي تعبث في سوريا منذ سنوات، مشدداً على عدم انجرار المتظاهرين وراء خطة هذه الأجهزة لضرب أبناء السويداء بعضهم البعض.

واعتبر أن السلطة في إيران “عنصرية وفاسدة” ودخلت إلى سوريا من أجل “سرقة البلاد وثرواتها وتغيير عقول الناس باتجاه غير مقتنعين فيه”، مؤكداً أن إيران وميلشياتها وحزب الله اللبناني هم “محتلون ولا نقبل بوجودهم في سوريا.. ورأينا قي ذلك نعلنه على الملأ”.

وإذ حذر المتظاهرين من الانجرار إلى السلاح لوضعهم في موضع الاتهام ضمن مؤامرة تُحاك للسويداء، أكد أن أي سلاح يرفع بوجه أبناء السويداء وسوريا هو “سلاح احتلال وعدو ويجب الاجتهاد لاجتثاثه وقلعه من هذا البلد”. وقال: “قهر أهلنا الذين عاشوا الظلم في هذا البلد لعقود نتيجة هذا النهج السياسي.. وماتوا وهم يعتقدون بأن لدينا دولة تبنى بشكل صحيح.. لكنها كانت دولة لها عدد من الصفات السيئة”.

وأضاف “سلاحنا مُنظف وجاهز والطلقة في بيت النار ضد من أراد التعدي علينا”، مؤكداً أن الطلقة الأولى لن تكون من أبناء السويداء.

وفي وقت سابق، قالت شبكة “الراصد” إن مجموعة كبيرة من المتظاهرين على رأسهم رجال دين توجهوا إلى مبنى فرع حزب “البعث” في محيط ساحة “الكرامة” من أجل إغلاقه بعد ورود أنباء عن دخول الموظفين إليه، قبل أن يُطلق حرس الفرع الرصاص الحي بالهواء من أجل تفريق المجموعة.

وأظهر مقطع مصور بثّته الشبكة للحظة إطلاق حرس الفرع الرصاص الحي نحو المتظاهرين بشكل كثيف، بالتزامن مع ترديد المحتجين هتاف “سلمية سلمية”.

ولفتت إلى توثيق إصابتين برصاص حرس مبنى حزب “البعث” حتى الآن، مشيرةً إلى أن إحدى الحالات تستدعي نقلها إلى مشفى السويداء العام.

وأكدت أن المجموعات المسلحة المحلية في السويداء، لن تنجر وراء العنف وتقوم بالرد على ما قام به عناصر حزب البعث بإطلاق النار عمداً على المتظاهرين السلميين، لافتةً إلى أن المجموعات ستتوجه إلى دارة قنوات للقاء الشيخ الروحي لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري، الداعم لحراك المحتجين، لاتخاذ الإجراء المناسب.

وتُعتبر حادثة إطلاق النار هي الأولى منذ انطلاق الاحتجاجات المناهضة للنظام والمطالبة بشكل مستمر برحيل رئيسه بشار الأسد للأسبوع الرابع على التوالي.

وجاءت الواقعة بعد طلب مجلس محافظة السويداء من الأجهزة الأمنية التابعة للنظام استخدام القوة من أجل حماية الموظفين والدوائر الرسمية والمؤسسات الحكومية التي قام المتظاهرون بإغلاقها منذ بداية احتجاجاتهم.

وقال المجلس في بيان في ختام دورته الخامسة، إن “الأحداث تسارعت لتغيير اتجاه المطالبة من قبل مجموعة من المواطنين بحقوقهم المشروعة في العيش الكريم إلى رفع رايات حملها أعداء سوريا وكانت راية للإرهاب الذي قتل ودمر وشرد المواطنين على امتداد الجغرافيا السوري”.

وأضاف أن المظاهرات “أطلقت شعارات انفصالية تدعو الى إحداث إدارة ذاتية بعيدة عن نهجنا وتاريخنا الوطني”.

وطالب المجلس “القوى الأمنية والجهات المسؤولة عن حفظ الأمن ضرورة الحفاظ على أمن الموظفين والمؤسسات والدوائر لضمان استمرارية عملها دون أي عائق كان وذلك لتأمين الخدمات للمواطنين”.

وذكر البيان أن “محافظة السويداء لا يمثلها إلا العلم الوطني” و” وقائد الوطن رئيس الجمهورية العربية السورية الدكتور بشار حافظ الأسد”.

وأعرب المتظاهرون في ساحة “الكرامة” الأربعاء، عن غضبهم من دعوة مجلس المدينة الذي يضم اشخاصاً من أبناء المحافظة، أجهزة النظام الأمنية لاستخدام القوة ضد المتظاهرين، كما رفعوا لافتات تؤكد أن المجلس وما ورد في بيانه لا يمثلهم، ويُمثّل أعضاءه فقط.

—————————————-

السويداء.. تجاهل إعلامي رسمي لمطالب المتظاهرين/ ماريا الشعبان

تستمر وسائل الإعلام الحكومية بتجاهل المظاهرات، في محافظة السويداء، جنوبي سوريا، والتي تطالب برحيل رئيس النظام، بشار الأسد.

وتركز وكالات الأخبار والصحف الحكومية السورية على الحديث عن الجانب الخدمي في المحافظات بشكل عام والسويداء على وجه التحديد، ونشر الأخبار والخدمات التي تعمل الحكومة على إنجازها دون التطرق للتطورات الأخيرة التي تشهدها المحافظة.

وفقًا لما نشرت الوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا) تعمل الجهات المختصة على تعبيد الطرقات، وتركيب مضخات ومحركات آبار، وإنارة شوارع في أماكن متفرقة من محافظة السويداء، في الوقت ذاته الذي يخرج فيه المواطنون في المدينة للمطالبة بالتغيير السياسي وإسقاط النظام بدرجة أولى، ثم توفير هذه الخدمات وغيرها.

وتتبع صحيفة “تشرين” الحكومية سياسة مشابة، ناقلة معاناة المواطنين من عدم توفر وسائط نقل كافية في المحافظة والتسعيرة المرتفعة التي يفرضها السائقون متجاهلين التسعيرة النظامية والتي هي بدورها مرتفعة. بالإضافة لأعمال صيانة للآبار، في ظل أزمة مياه ونقل تعيشها سوريا عامًة والسويداء ودرعا بشكل خاص.

ويأتي التفاعل مع الاحتجاجات في السويداء بشكل شحيح وعام من صحيفة “الوطن” المحلية (المقربة من النظام) فقط، لوقت تاريخ تحرير هذا الخبر.

وفي اجتماع لمجلس محافظة السويداء نقلته “الوطن”، الثلاثاء 12 من أيلول، أكد موقفه الإيجابي من المطالب التي تتعلق بتحسين الواقع المعيشي والاقتصادي، والاعتراض على الشعارات المناهضة للحكومة والمطالبة بالتغيير السياسي في البلاد.

سبقه مقال رأي نشر في الصحيفة، في 27 من آب، تحدثت فيه عن أن استعادة السيناريو ذاته وتوقع نتائج مختلفة إما يعني انعدام الخيارات أمام المحتجيين أو اللعب على الحالة الإعلامية، واصفة الحراك بـ”مشروع فوضى جديد”.

التأكيد على سلمية الاحتجاجات

توتر الوضع الأمني في السويداء بعد أن أطلقت قوات النظام النار على متظاهرين حاولوا إغلاق مقر “حزب البعث”، الأربعاء 14 أيلول، وخرج الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين يدعو لتهدئة الأنفس وضبط الأعصاب، مؤكدًا أن الحراك “اعتصام سلمي”.

وجاء رد قيادة فرع السويداء لحزب “البعث” على الاعتداء على مقرها، أنها عملت على استيعاب الموقف لكن “المجموعات” حاولت اقتحام المقر والتخريب به والاعتداء على قياداته، ما اضطرها للوقوف بوجههم للدفاع عن المقر، مع عدم ذكر إطلاق النار على المتظاهرين.

بينما تستمر المظاهرات اليومية المطالبة بإسقاط النظام السوري وتطبيق القرار الأممي “2254”، وترفع مطالب “التغيير السلمي والانتقال السياسي في البلاد”.

عنب بلدي

—————————–

من 2011 إلى السويداء.. إعلام السلطة بمواجهة الحراك/ علي عيد

عاد الإعلام الذي تديره السلطة في سوريا إلى توليد نفسه، والمناسبة هي الاندفاعة الثانية للثورة السورية التي بدأت بالسويداء في 20 من آب الماضي، بعد 13 عامًا من بداية الاندفاعة الأولى منتصف آذار 2011.

لا تتشابه ظروف الاندفاعتين، الاقتصادية والسياسية والديموغرافية، داخل سوريا وفي محيطها الإقليمي والدولي، لكنهما تحملان نفس المبررات التاريخية، وذات الخصم الداخلي متمثلًا بالدولة الأمنية ورئيسها.

عام 2011، شكّل النظام مجموعات إعلامية مهمتها التدرّج في الإنكار، ومواكبة العمل الأمني العسكري وتبريره، لقمع الحراك على امتداد رقعة البلاد، وجرى تنسيق عمل المجموعات بشكل متوازٍ ومنضبط مع الرواية الرسمية.

قُسّم العمل على مستويين، الأول إعلام “الدولة” في وكالة الأنباء “سانا” ومجموعة الصحف “تشرين، البعث، الثورة”، والقنوات التلفزيونية الرسمية، والثاني الإعلام الرديف، وتمثله وسائل إعلام مرتبطة بالسلطة اقتصاديًا ومنها صحيفة “الوطن” المملوكة بجزء كبير منها آنذاك لرجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد، وتلفزيون “الدنيا” المملوك لرجال أعمال بحصة غالبة لرجل الأعمال محمد حمشو، وهو واجهة اقتصادية لعائلة الأسد.

بين المستويين، شُكّلت جماعات وخلايا غير رسمية، مهمتها الإعلام الخارجي والظهور على القنوات التلفزيونية الفضائية، وتقديم روايات مختلفة لما يجري على الأرض، وكانت هذه المجموعات تتلقى أوامرها من مجموعة عمل مركزية تدير الإعلام بإشراف أمني، وبالتعاون مع مستشارين من دول وقوى حليفة، مثل لبنان وإيران.

يذكّر ظهور الجماعات الإعلامية الرديفة بعد انطلاق الاندفاعة الثانية في السويداء بما حصل في الاندفاعة الأولى، التي تركز ثقلها بداية في درعا قبل امتدادها إلى مختلف المناطق في وقت قصير، مع اختلاف محتوى الرواية التي يجري ترويجها للحفر تحت هذا الحراك وخلخلة أساساته، وصولًا إلى احتمال تكرار التجربة باستخدام الحل الأمني أو العسكري.

ما حصل خلال 13 عامًا أكسب الدّارسين والمراقبين لسياسات الإعلام والمحتوى قدرة على فهم وتحليل أدوات “البروباغندا” التي تستخدمها السلطة في شيطنة أي حراك ثوري أو حتى مطلبي على الأرض.

يجد الإعلام الرسمي والرديف صعوبة في إيجاد مبرراته للتمهيد لدور عنيف لـ”الدولة” في السويداء، والسبب هو أن رواية السلفيين والإرهابيين التعميمية السابقة لم تعد صالحة للاستخدام، أضف إلى الطبيعة الإثنية والدينية المختلفة، لكن رواية المؤامرة ستبقى صالحة، منطقيًا، لزحزحة القناعات، وتوسيع هامش المترددين، وما سرب في وثيقة عن مؤامرة خارجية بأدوات محلية في السويداء يشبه تمامًا “خطة بندر” التي جرى الترويج لها على نطاق واسع عام 2011.

الطبيعة المختلفة للاندفاعة الثانية لم تمنع الإعلام الرديف من البحث عن ثغرات والتركيز عليها، وهي العلم ذو الألوان الخمسة، والطرح الجدلي حول الدولة الدرزية أو الانفصال، ويساعد في الترويج لهذا الطرح اتساع الشريحة المؤدلجة داخل البلاد، والتي تتأثر بروايات الدور الإسرائيلي المحتمل.

إعلام النظام، وإن لم يكسب شعبية منذ 2011، إلا أنه استطاع تمرير روايات أسهمت في تنميط الحراك، ومع فتح أبواب السجون ومعابر البلاد لقوى متطرفة، باتت “البروباغندا” تحقق عائدًا لدى الأقليات الدينية، بمن فيها الموحدون الدروز في السويداء، واستُخدمت أدوات ثقافية بجانب الإعلام، ولم تعد قوى الحراك المدني قادرة على مجاراة عمل المجموعات الإسلامية التي دخلت في لعبة المصالح السياسية، وباتت مدعومة من الأطراف الدولية التي تتنصل منها وتحاربها إعلاميًا.

أذكر خلال عامي 2011 و2012، عمل خلية تصنيع الأخبار داخل وكالة “سانا” الرسمية، بل وأعرف تركيبة الخلية، وللمفارقة، فإن كثيرًا من الأخبار كانت تُصاغ صباحًا قبل مظاهرات يوم الجمعة، وكان ذلك اليوم تهمة كبيرة استغلتها الأدوات الإعلامية والثقافية التي استخدمتها السلطة، وقصة يوم الجمعة تشبه تمامًا قصة علم الدروز في الاندفاعة الجديدة، فليس العلم دليلًا بذاته، لكنه مدخل لروايات عن “حكم ذاتي” وتقسيم، ودولة درزية مدعومة إسرائيليًا، وصولًا إلى تخويف الجيران في درعا من أنهم سيكونون ضحية لمخطط الدولة الممتدة من جبل الشيخ إلى السويداء.

ليس مقال الرأي هذا نفيًا أو تأكيدًا للخطط أو الروايات، وإنما هو تفسير لمنهجية عمل الإعلام الرسمي وأدواته في سوريا، وهو ما قد يدفع لتوليد أفكار حول المتغيرات المقبلة.

قضية سوريا ليست قضية أعلام في عمقها، لكن جرى التركيز عليها إعلاميًا لتتحول إلى عامل فصل نفسي وأيديولوجي، فعلم الثورة اعتُمد بالأساس منذ عشرينيات القرن الماضي على فترات حتى قدوم “البعث”، وسمي علم الاستقلال، على الرغم من أن تبنيه بدأ منذ دستور زمن الانتداب، وهو أقدم من العلم الحالي الذي تستخدمه مناطق السلطة، منذ 1980، ورُفع كعلم للبلاد لثلاث سنوات بفترة الوحدة مع مصر.

يعتمد إعلام السلطة في سوريا على دحرجة الروايات، وهذا يعتمد على مستوى تنسيق عالٍ بين خطة الدولة الأمنية وأذرعها الإعلامية، وكل رواية يجري الترويج لها تكون مؤشرًا على ما يُراد فعله لاحقًا، حتى وإن حصلت موانع، كأن يكون هناك تهديد بردّ رادع من قوى دولية، وأدوات النظام لتخريب حراك السويداء قد تكون بشكل غير مباشر، سواء عبر جماعات تؤيده من نفس المنطقة، أو باستخدام أدوات ومجموعات يمكن التنصل منها رسميًا، ومنها تهديد تنظيم “الدولة”، كما حصل سابقًا في السويداء عام 2018.. وللحديث بقية.

عنب بلدي

—————————

السويداء.. التجليات السياسية والأمنية والاجتماعية بعد 12 عامًا من الثورة السورية/ عمر إدلبي

مقدمة

أدّى سكان محافظة السويداء دورًا فاعلًا في التاريخ السوري الحديث، ابتداءً من مرحلة الانتداب الفرنسي على سورية، مرورًا بالتحوّلات السياسية الأساسية التي شهدتها الدولة السورية بعد الاستقلال، واستمرّ ذلك الدور إلى أن أحكمَ النظام السوري، في عهد حافظ الأسد ووريثه بشار الأسد، قبضته على الدولة والمجتمع، عبر أجهزته الأمنية ومؤسسات السلطة المختلفة.

وتبرز الحاجة إلى استعراض التجليات السياسية والأمنية والاجتماعية وتحليلها، بعد 12 عامًا من الثورة السورية، مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية في السويداء، في آب/ أغسطس من العام الجاري 2023، وذلك بغية فهم وتحليل واقع المحافظة وسكانها وقواها السياسية، وتحديد أبرز مراكز القوى المسلحة والمدنية والدينية، ومواقفها من الصراع في سورية، ودور الفاعلين الإقليميين والدوليين، والدوافع الأساسية التي تقف وراء تفجّر الغضب الشعبي ضد النظام السوري، وسياساته الأمنية والاقتصادية والخدمية التي أوصلت سكان المحافظة إلى المجازفة بالتخلي عن مخاوفهم من سطوة النظام وأجهزته الأمنية، وهي المخاوف التي شكلت أبرز أسباب حالة الحياد التي وسمت موقف جلّ أبناء المحافظة من الصراع في سورية، طوال سنوات الثورة.

يعتمد التقرير -بالدرجة الأولى- على رصد ميداني، تولّى القيام به راصدو مركز حرمون، خلال فترة امتدت نحو 4 أشهر، إضافة إلى عدد من المقابلات مع ناشطين وسياسيين وعناصر من المجموعات المسلحة، من أبناء محافظة السويداء، وعدد من المراجع والمقالات والدراسات والمصادر المفتوحة.

يمكنكم قراءة البحث كاملًا من خلال الضغط على علامة التحميل أدناه:

تحميل الموضوع   

مركز حرمون

————————–

انتفاضة السويداء.. الشرارة المنتظرَة

كعادته في تكذيبِ الوقائع، يمارس إعلام النظام السوري ألاعيبه، بزرع الفتن، وشيطنة التظاهرات في السويداء خاصّة أنه عاجز عن استخدام التكتيكات العنفية في قمع موجات الحراك، بعد أن صدَّر نفسه، خلال كل سنوات إجرامه في الشعب السوري، حاميًا للأقليات، فما رأي أهل السويداء؟.

يمكنكم الاطلاع على دراسة صادرة عن مركز حرمون، بعنوان “السويداء.. التجليات السياسية والأمنية والاجتماعية بعد 12 عامًا من الثورة السورية”، على الرابط التالي: https://bit.ly/3sIHyTE

ومادة تقدير موقف بعنوان “احتجاجات السويداء.. والسيناريوهات المتوقعة”، على الرابط التالي: https://tinyurl.com/35juy5c8

أعد التقرير: هالة القدسي.

————————–

محتجو السويداء يصرون على سلمية الحراك ووحدة سوريا

لم يردوا على إطلاق النار من حرس فرع حزب البعث في المدينة

وساحة الكرامة تتحول إلى منصة لجميع النشاطات

عبد الحليم سليمان مراسل. اندبندنت عربية

تتواصل الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء الواقعة أقصى الجنوب السوري ليومها الـ25 والمطالبة برحيل النظام السوري، إذ تحولت ساحة الكرامة بوسط المدينة إلى مسرح لتجمع المحتجين، بينما تشهد القرى والبلدات التابعة للمحافظة تظاهرات وأصبح مرقد الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش قبلة لوقفات المواطنين المطالبين بالتغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ويصر المحتجون على سلمية تحركهم الذي دخل في امتحان حقيقي اليوم الأربعاء عندما توجه عدد منهم إلى مبنى فرع حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، فأطلق عليهم مسلحون من داخل المبنى الرصاص الحي، مما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص بجروح متفاوتة.

الحادثة لم تشهد رد فعل مسلح من قبل المحتجين المحيطين بالمكان الذين انسحبوا منه على وقع نقل الجرحى إلى مستشفيات المدينة، ويقول الناشط والحقوقي عادل الهادي لـ”اندبندنت عربية” إن المتظاهرين تمسكوا بسلمية حراكم فـ”أبناء السويداء يعرفون تماماً أن النظام يحاول جرهم إلى استخدام العنف والأهالي لن يستجيبوا لهذه الخطة الخبيثة”.

وخلال الأعوام الماضية استطاعت فصائل درزية محلية القتال ومواجهة تنظيم “داعش” داخل قرى في ريف السويداء الشرقي التي يتهم فيها الناشطون الدروز النظام بنقلهم من مخيم اليرموك قرب دمشق إلى مناطقهم في أواخر يوليو (تموز) 2018، مما أسفر عن مقتل أكثر من 220 شخصاً مدنياً بينهم نساء وشيوخ وأطفال، لكن المرجعيات الدينية والأهلية وحتى السياسية تدعو باستمرار في خطابها إلى التمسك بسلمية الاحتجاجات المتواصلة منذ قرابة شهر في المدينة وبلدات وقرى “جبل العرب”.

من ساحة السير إلى الكرامة

اعتاد المحتجون في السويداء على التجمع والتظاهر في ساحة السير الواقعة وسط المدينة خلال السنوات الماضية، لكنها تحولت أخيراً إلى منصة لجميع النشاطات وأساليب التعبير عن الاحتجاج التي تنوعت في أشكالها، الفنية منها مثل الرسم الكاريكاتيري والرقصات الشعبية وتقديم منتجات المنطقة والحلويات والأطعمة التقليدية التي يصنعها النسوة الدرزيات للمتظاهرين كدعم وتشجيع على الاستمرار في الاحتجاج وعدم التواني عن المطالب.

ويفضل الناشطون تسمية الساحة باسم ساحة الكرامة “لأنها أصبحت مساحة لرفع شعارات السوريين التي تصرّ على الكرامة” كما يقول الناشط علاء منذر، مشدداً على مطالبتهم بوحدة الأراضي السورية في رد على وصف الحراك في الجنوب السوري بأنه يدعو إلى “الإدارة الذاتية والانفصال عن البلاد”.

من جهته يرى الهادي أن مطالب السوريين تتحقق بالانتقال السياسي وفق القرار الأممي 2254 الذي يؤيده المحتجون في السويداء، مؤكداً أن تحقيق الإدارة الذاتية يتعلق بما يقرره السوريون “وقد يكون أحد خيارات الناس بعد سقوط النظام”، ويشير في الوقت نفسه إلى أن النظام السوري لديه تهم جاهزة لمعارضيه “إما بالانفصال أو العمالة لإسرائيل”.

تسلسل الأحداث

وشهدت السويداء خلال الأعوام الأخيرة احتجاجات متكررة، تزامناً مع الحراك السوري والصراع المسلح الذي عاشته البلاد، إضافة إلى الأزمات المتلاحقة التي تصيب السوريين وتثقل كاهلهم، وتشكل الأزمة الاقتصادية أبرز الأسباب في تحركات السويداء “فهي دليل على فشل النظام في إدارة البلاد لاستقدامه قوات احتلال عدة (روسيا وإيران) التي بدورها تسرق ما تبقى من ثروات البلاد مقابل ما تقدمه من خدمات إبقاء النظام في السلطة”، وفق تعبير الناشط الحقوقي.

ويشير الهادي إلى أن “الحكومة السورية رفعت أسعار الوقود خلال الفترة الماضية واستهترت بعقول الناس من خلال رفع الرواتب، في حين أن قيمة الراتب انخفضت نحو 150 في المئة، مما أدى إلى صعوبة عيش الناس، بخاصة أن النظام أعلن أنه ليست لديه حلول اقتصادية وأن الثروات النفطية تقع في مناطق تحتلها الولايات المتحدة الأميركية “إنما في الواقع تصل نسبة 60 في المئة من الإنتاج النفطي إلى مناطق النظام عبر صهاريج شركات القاطرجي وغيرها وتدخل إلى جيوبه”.

وجهة الحراك

ويعتقد الهادي بأن حراك السويداء “سيحافظ على سلميته ولن ينجر إلى العنف”، مؤكداً أن مطالبه تخص جميع السوريين وتتمثل في تطبيق القانون على الجميع، بما في ذلك تطبيق الدستور السوري الحالي الذي لم يعد ينص على قيادة حزب البعث “للدولة والمجتمع”، ولذلك وجود الحزب “غير شرعي، بالتالي جميع مصاريفه ورواتب مسلحيه من جيوب الشعب السوري”.

وبحسب المحتجين في السويداء فإن النظام السوري غير قادر على حل الأزمة في البلاد ويشكل تغييره من خلال تطبيق القرار الدولي 2254 بداية الحل للأزمة بالاعتماد على جميع القرارات الدولية ذات الشأن وبيان جنيف1 المتعلق بالأزمة السورية، ما من شأنه رفع العقوبات عن البلاد وإعادة الإعمار وتقديم الدول المانحة المساعدات لسوريا من خلال تطبيق القرار الدولي وهيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحية، وفق الهادي.

————————————-

القصة كاملة.. كيف بدأت احتجاجات السويداء؟/ عمر شريف

دخلت احتجاجات السويداء أسبوعها الرابع، وسط استمرار المحتجين في مطالبهم برحيل الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه الحاكم، وتطبيق القرار الأممي 2254.

الملفت في هذه الاحتجاجات عدة أمور تظهر من علو سقفها منذ البداية والنسق التصاعدي لزخمها ودرجة الوعي العالي التي يتمتع بها المحتجون واختلافها من حيث الطريقة والتنظيم عما تشهده سوريا من احتجاجات منذ 2011 وحتى الآن.

بالإضافة إلى تطور مهم وهو تغيير مبدأ مناهضة النظام في درعا مهد الثورة وصاحبة الخبرة الثورية العالية واتباع نهج السويداء بالتركيز على السلمية ومحاولة إيجاد قيادة وطنية لحراك درعا على غرار الشيخ حكمت الهجري في السويداء، ولكن يبقى السؤال كيف بدأت الاحتجاجات في جبل العرب؟

الأسباب البعيدة.. التراكم عبر 12 عام

لم يكن العداء بين حكومة دمشق وأهالي جبل العرب عند انشقاق الضابط خلدون زين الدين عن القوات الحكومية والتحاقه بالمعارضة المسلحة عام 2011، ولا حتى مقتله أثناء معارك مع الأمن العسكري في ظهر الجبل في السويداء، بل كانت البداية عند وفاة الشيخ أحمد الهجري الرئيس الروحي الأول لطائفة المسلمين الموحدين الدروز في سوريا في حادث سير قرب قرية مردك أودى بحياته في 24/3/2012.

واتهم سكان السويداء، “النظام” بتدبير الحادث وذلك لعدة أسباب منها: “رفض الشيخ الهجري التبرؤ من خلدون ورفض دعوته للعودة عن انشقاقه والتوبة خوفاً من مصير مشابه لمصير المقدم حسين هرموش ابن إدلب”.

هذه الحادثة كانت بداية التراكم ومقدمة العداء بين الأسد والدروز. لكن الحادثة الثانية الكبرى، كانت تفجيرا عين المرج والمشفى الوطني في 4/9/2015، واغتيال الشيخ وحيد البلعوس مؤسس حركة رجال الكرامة وسقوط ضحايا بالعشرات نتيجة التفجيرين وظهور أدلة عن تورط شعبة الأمن العسكري بقيادة العميد وفيق ناصر مدعوماً بغطاء من الشيخ يوسف جربوع للقيام بالعملية وما تلاها من اتهام الشاب وافد أبو ترابة وبث اعترافات له من قبل التلفزيون السوري بقيامه بزرع مفخخات، وقيل عن هذه الاعترافات بأنها “تحت التعذيب”.

وأيضا اغتيال أمين فرع حزب البعث في السويداء شبلي جنود، وإلصاق التهمة بحركة رجال الكرامة وظهور التسريب الشهير عن لسان “جنود” متحدثاً إلى وفيق ناصر: “قتلتو البعلوس ليش لتفجر المشفى” والتي عدها سكان السويداء سبباً لقيام النظام بقتله.

أما الحدث الأكبر في التراكمات كان نقل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من مخيم اليرموك والحجر الأسود في دمشق إلى بادية السويداء الشرقية، بالتزامن مع سحب قوات الجيش السوري من شرق المحافظة وقيام “داعش” بالهجوم الدموي على السويداء في 25/8/2018 والذي راح ضحيته العشرات من سكان الجبل، بالإضافة لتقاعس الجيش عن المؤازرة أثناء صد السكان للهجوم إلا بغارات جوية قليلة وخجولة.

متابعة لأفعال حكومة دمشق، بحق أبناء الجبل للسيطرة عليهم، كان السماح لأحمد العودة قائد اللواء الثامن في الفيلق الخامس في درعا الهجوم على القريا وريف السويداء في 2020  وتأسيس فصائل مسلحة امتهنت القتل والخطف وتجارة الممنوعات في السويداء وكانت أكبرها وأقواها وأكثرها ترهيباً هي قوات “الفجر” بقيادة راجي فلحوط والتي تمكن سكان السويداء من اقتلاعه وقواته وتدمير معامل الكبتاغون التي كانت تابعة له وبحماية المخابرات السورية وحزب الله اللبناني في انتفاضة 2022 التي انتهت بهروب فلحوط وسحق حركته.

الأسباب القريبة وتراكمات الأربع العجاف

دأبت دمشق على محاربة السكان اقتصادياً في المناطق التابعة لسيطرتها منذ عام 2019 من خلال التلاعب بسعر الصرف بطريق مفرطة ومبالغ بها وتقوية التجار على حساب الشعب وترك الأسواق والأسعار بيد التجار الكبار بالإضافة لسن القوانين الأمنية والاقتصادية الغريبة مما سبب ارتفاعاً جنونياً في الأسعار مع ثبات دخل المواطنين.

بالإضافة للقبضة الأمنية والإخفاء القسري للمواطنين والتي نالت السويداء منه نصيبا كباقي المحافظات وطريقة “النظام” معروفة باعتماد إرهاب الدولة (حسب تعريف حزب البعث ودستور 1973/2012) بتوظيف المخبرين من كوادر حزب البعث وكتابة التقارير الكيدية بالمواطنين وزرع ثلاثة حواجز في طريقهم إلى دمشق لاعتقال المطلوبين الجاهلين لمعلومة أنهم مطلوبون إضافة للإتاوات على حركة النقل والشحن وهذه الحواجز هي بالترتيب من الجنوب إلى الشمال حاجز المسمية (أمن دولة) -حاجز العادلية (أمن عسكري)-حاجز قصر المؤتمرات (مخابرات جوية) .

وليس آخراً تحويل محافظة السويداء الحدودية مع الأردن إلى مركز لصناعة المخدرات والكبتاغون ومكانا لبيعها بالإضافة لجعلها خطا للتهريب إلى الأردن والخليج وتوريط أبناء السويداء بهذه التجارة.

الأسباب المباشرة وفقدان الأمل

إن تضييق مؤسسات الدولة على العنصر الشاب اقتصادياً واجتماعياً ووضع عراقيل أمام طلاب الجامعات في دمشق وارتفاع تكاليف استخراج جواز السفر وصعوبة الحصول عليه، جعل الشباب في السويداء يعاني من الضياع وهذا ما تنبه له الأهل والمثقفون خوفاً على أبناءهم ومستقبل المحافظة.

وما سبق أوقع العنصر الشاب في السويداء في حصار تام وترك مصير أي شاب إلى إحدى ثلاثة وهي: “أولا المخدرات: فإما مهرب أو متعاطي أو عنصر في عصابات المخدرات، ثانياً الهجرة: من يرفض الخوض في أتون المخدرات سيكون لزاماً عليه الهروب بنفسه خارج البلاد لتأمين حياة أفضل والنجاة بنفسه”.

وأما الخيار الثالث فهو “الاعتقال والإخفاء القسري: فمن لم يستطع الخروج من سوريا ونأى بنفسه عن المخدرات سيتذمر من فعائل النظام وهي كفيلة بتضييع مستقبله، وستكون أقلام كوادر حزب البعث في المرصاد له وحواجز وسجون النظام مشرعة الأبواب أمامه”.

شرارة الانطلاق

إن التراكمات القديمة والوضع الاقتصادي المتردي وخوف الأمهات والآباء على مستقبل أبنائهم وموت الأمل بمستقبل أفضل كونت مزاجاً عاماً مناهضاً للنظام الحاكم، وهذا ما يفسر المشاركة النسائية الكبيرة في الحراك من الأمهات التي ترى بأن من حقها أن يعيش أبناءها تحت كنفها وألا تخسرهم في الثالوث الرهيب (المخدرات والهجرة والاعتقال)، وان موت الأمل بتحسن الأوضاع جعل الشباب الذي كان صغيراً أثناء ثورة 2011 يثورون على “النظام” ولكن كل هذا كان بحاجة لشرارة لتفجير الاحتجاجات.

وكالعادة لا تفشل دمشق بتوفير كل عوامل مناهضتها اذا أصدرت زيادة الرواتب المنتظرة من عامين مترافقة مع رفع الدعم عن الوقود الذي أدى لزيادة مرعبة بالأسعار وقرب شبح المجاعة من عقول الناس، فبدأت الدعوات على مواقع التواصل للاحتجاج يوم الخميس 17/8/2023 ولبى بعض المواطنين النداء في ساحة الكرامة في السويداء وضريح سلطان باشا الأطرش في القريا وكانتا النقطتان اللتان بدأتا الحراك.

ظهر في الحراك تياران الأول مطلبي يريد مطالب اقتصادية واجتماعية دون المساس برأس “النظام”، وتيار ثان يريد “إسقاط النظام” كحل لجميع القضايا، وهنا رجحت كفة التيار الثاني مدعوماً بالعنصر النسائي والعنصر الشاب والمثقفين.

واتفق محتجو ساحة الكرامة على العصيان المدني الذي بدأ يوم الأحد 20/8/2023 الساعة السابعة صباحا وتوقف الحراك في ساحة الكرامة يومي الجمعة والسبت، لكنه استمر بوقفات مسائية تبنت شعارات “إسقاط النظام” في القريا.

وفي صباح يوم الأحد 20/8 وفي تمام الساعة السابعة صباحاً، أعلن بدء العصيان المدني وأغلقت المؤسسات الحكومية والمحال التجارية وقطعت الطرق وتوقفت حركة النقل في المحافظة بنسبة عالية وخرجت مظاهرات في 36 نقطة في السويداء كانت أكبرها في ساحة الكرامة وسط المدينة.

واستمرت المظاهرات في الأيام التالية مع تبني الشيخ حكمت الهجري شيخ العقل الأول للطائفة الدرزية مطالب المحتجين والتزام عدة فصائل بحماية المظاهرات السلمية.

واستمرت المظاهرات تأخذ زخماً متصاعداً من حيث العدد والنوع، فتمكن المحتجون من سحق حزب البعث في المحافظة وإقفال كافة المباني التابعة له وإزالة صور وتماثيل للأسد ووالده حافظ.

ومازالت الاحتجاجات مستمرة متصاعدة للأسبوع الرابع، وسط ذهول وعجز من المخابرات الحكومية والأجهزة الأمنية التي بدت بلا حول ولا قوة أمام سلمية ووعي المظاهرات وحكمة الشيخ الهجري والتفاف الشارع حوله، ويزدادون إصراراً وثقة بنصرهم على الأسد بالطرق السلمية والوطنية ويصفون حراكهم بـ”الثورة الجامعة لكل السوريين”.

نورث برس

————————–

السويداء.. إغلاق مقرات لـ”حزب البعث” وتوتر أمام المقر الرئيسي

أغلق محتجون في عدد من قرى وبلدات السويداء مقرات لـ”حزب البعث”، بعد حادثة إطلاق النار على متظاهرين أمام قيادة الفرع.

وحسب شبكة “السويداء 24″ فإن متظاهرين في بلدتي المزرعة والغارية في السويداء أغلقوا مقرين لـ“حزب البعث”.

وأشارت إلى أن الأهالي في بلدة الغارية قرروا تحويل مقر الحزب إلى روضة أطفال تحمل اسم “الحرية”.

    بالصور: إغلاق مقرين لحزب البعث في بلدتي المزرعة والغارية بمحافظة السويداء، من قبل الأهالي، في أعقاب حادثة إطلاق النار على المحتجين أمام قيادة فرع حزب البعث اليوم الأربعاء. الملفت، أن الأهالي قرروا تحويل مبنى فرقة الغارية، إلى روضة للأطفال، تحمل اسم الحرية.#مظاهرات_السويداء pic.twitter.com/RVxvrHFUdp

    — السويداء 24 (@suwayda24) September 13, 2023

كما قرر أهالي قرية ريمة حازم في ريف السويداء تحويل مقر الحزب إلى مقر لجمعية خيرية، رداً على إطلاق النار على المتظاهرين، حسب تسجيل نشرته “الراصد“.

وتزامن ذلك مع سماع صوت انفجار قوي في محيط فرع الحزب في المحافظة، قالت شبكات محلية إنه ناجم عن “قذيفة أر بي جي”.

ونقلت شبكة “الراصد” عن مصادر محلية من الحي المجاور قولهم إنهم “شاهدوا شخص يترجل من فان يبدو أن الفان أمني يشبه الفانات الموجودة في الأفرع الأمنية، أطلق القذيفة في الهواء ومضى في طريقه”.

بدوره، أصدر فرع “حزب البعث” في السويداء بياناً عبر حسابه في “فيس بوك”، برر فيه إطلاق النار.

وقال إن بعض المجموعات أغلقت الباب الرئيسي لمقر الفرع وعملت على منع الدوام في المقر منذ أيام.

وذكر البيان أن “بعض المجموعات حاولت اقتحام سور مبنى قيادة فرع الحزب والاعتداء على الحراس وتخريب مقر الحراسة والقفز فوق الباب الرئيسي المغلق من قبلهم أصلاً للاعتداء على قيادة الفرع ومفرغيه داخل المبنى والعبث بممتلكاته”.

وتابع “ما استدعى ضرورة الدفاع عن مقر الفرع والوقوف في وجه هذه المجموعات وعدم السماح لهم بالدخول إلى مبنى الفرع”.

وكانت مدينة السويداء شهدت أمس الأربعاء إطلاق عناصر من “حزب البعث” الرصاص على المتظاهرين، الذين حاولوا إغلاق مقر الحزب، ما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص إصابة طفيفة.

وعقب ذلك شهدت عدة مناطق في المحافظة مظاهرات مسائية، تأكيداً على استمرار الحراك السلمي دون الانجرار إلى السلاح والفوضى، حسب وصفهم.

وتظاهر العشرات في ساحة الكرامة وسط السويداء، كما شهدت بلدات امتان والقريا وقرى الهويا والغارية وعرمان مظاهرات.

في حين شهدت قرية مردك شمال السويداء مظاهرة حاشدة بحضور ضيوف من القرى المجاورة.

وأكد المشاركون على سلمية الحراك واستمراره حتى تحقيق مطالبهم، وهي التغيير السلمي والانتقال السياسي في البلاد وفق القرار 2254.

وكان رئيس مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، دعا إلى ضبط النفس وعدم الانجرار وراء “الفتنة” التي يريد النظام إشعالها في السويداء.

وقال “نحن لا نرفع السلاح إلا في وجه عدونا، وعدونا هو الذي يطلق الرصاص علينا”.

وأضاف الهجري أن ما حصل من إطلاق رصاص هو “مؤامرة”، معتبراً أن الهدف هو استجرار الناس لوضعها في موقع الاتهام.

وأكد رفضه رفع السلاح ضد الشعب السوري وهو “سلاح عدو ويجب اجتثاثه”.

واعتبر أن في سورية مؤسستان تشكلان “أصل الخطر” وهما المؤسسة الأمنية والحزبية.

—————————–

بيان هام من الانتفاضة الشعبية في السويداء إلى الرأي العام

المتظاهرون السلميون في ساحات الكرامة في محافظة السويداء من شباب ونساء ومجتمع أهلي ومدني نؤكد أننا دعاة سلام وأمان واستقرار وعدالة لسورية ولكل دول الجوار والعالم، ونحن دعاة الحق والكرامة نؤكد مايلي:

1ـ استمرار مظاهراتنا السلمية والمدنية في ساحات  الكرامة حتى رحيل هذا النظام

2ـ التغيير السياسي ضرورة حيوية لكل السوريين وتحقيق الانتقال السياسي بمرجعية القرار الأممي 2254 مقدمته الأولى.

3ـ تفعيل القرار 2118 لعام 2013 الذي يحول مرتكبي جرائم الحرب بحق الشعب السوري إلى محكمة الجنايات الدولية

4ـ التمسك بوحدة الأرض السورية وهويتنا الوطنية رافضين المشاريع الخارجية الانفصالية والخطابات الطائفية التحريضية

5ـ الافراج عن جميع المعتقلين السياسيين، والكشف عن مصير المغييبين قسريا والكف عن ملاحقة المتظاهرين السلميين في ساحات الكرامة من قبل الاجهزة الأمنية ومحكمة الإرهاب والغاء قراراتها غير الشرعية واصدار عفو عام مطلب شعبي لا مساومة عليه.

6ـ الخدمات الاقصصادية من كهرباء ومياه ومحروقات من أساسيات الحياة ليست هبة أو منة أو غير قابلة للتفاوض عليها.

نحمل سلطة النظام وحزب البعث والاجهزة الأمنية مسؤولية إراقة الدم السوري منذ العام 2011 وحتى هذه اللحظة

نوجه رسالتنا للجامعة العربية والأمم المتحدة والمنظمات الاممية والحقوقية والانسانية والمحافل الدولية ذات الصلة والتي يجب عليها الأخذ بدورها في تحقيق مطالب الشعب السوري.

لقد عرت انتفاضة السويداء زيف ادعاء النظام بحماية الأقليات وفضحت جرائمه بالأدلة القاطعة وعدم رغبته في تقديم أي تنازل لمصلحة السوريين ومطالبهم المحقة.

الانتفاضة الشعبية في محافظة السويداء  14 أيلول 2023

———————————–

“يحلم ويجرّب”.. الشارع في السويداء يفكر بـ”التالي” والنظام “محشور بالزاوية”

ضياء عودة – إسطنبول

على مدى السنوات الماضية من الحرب في سوريا، لم يقدم النظام السوري أي تنازلات سياسية أو عسكرية وحتى معيشية، وبينما لم تصل الأصوات المطالبة برحيله وإسقاط رئيسه إلى مبتغاها، فقد عادت لتتردد من جديد خلال الأيام الماضية، انطلاقا من “ساحة الكرامة”، وسط مدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية.

ومنذ أكثر من 20 يوما، لم تتوقف الاحتجاجات في المحافظة الجنوبية، وواصل المحتجون في ساحتها الرئيسية، وفي باقي القرى والبلدات الهتاف ضد الأسد، مع المطالبة بإسقاطه وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254.

ولم يقتصر المشهد على ذلك فحسب، بل تطور إلى حد تكسير وتحطيم “رموز البعث وسلطة الأسد”.

ويصر المحتجون على مطالبهم، ومع ذلك تطلق طريقة التعاطي السابقة والحالية التي يلتزم بها النظام السوري تساؤلات تتعلق بالخيارات المقبلة التي قد يلجأ إليها الشارع، والتوقعات الخاصة لدى الموجودين في الشارع، بشأن “المستقبل”.

ولم يعلّق النظام السوري، خلال الأيام الماضية، على ما تشهده السويداء، وفي حين أرسل شخصيات إلى المحافظة من أجل “التواصل والتهدئة” بقيت الأصوات المطالبة بالحل السياسي ورحيل رئيسه بشار الأسد قائمة.

وفي المقابل لم يقدم أي بادرة إيجابية بشأن “المطالب” التي وردت في بيان لـ”دار طائفة الموحدين الدروز”، في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي، وعلى رأسها التراجع عن القرارات الاقتصادية الأخيرة برفع الدعم عن المحروقات، و”إجراء تغيير حكومي”، و”دراسة تشغيل معبر حدودي لإنعاش السويداء اقتصاديا”.

“يحلم ويجرب”

ومن “وجهة نظر منطقية وواقعية”، يوضح الصحفي السوري ريان معروف، أن النظام السوري، وعندما كانت 90 بالمئة من أراضي البلاد خارج سيطرته “لم يقدم أي تنازل سياسي”.

وفي الوقت الحالي يعيش أوضاعا أفضل بكثير من السابق، ولذلك من “المستحيل أن يستجيب للمطالب التي ينادي بها المتظاهرون، في مقدمتها تطبيق القرار الأممي 2254 ورحيل بشار الأسد عن السلطة”.

لكن ما سبق “لا يعني أن المحتجين لن يكملوا”، إذ يقول معروف لموقع “الحرة” إن “الشارع يحلم ويجرب”، وإن “هناك رغبة في الخلاص والتغيير”، على الرغم من عدم تجاوب نظام الأسد، و”سكوت وخذلان المجتمع الدولي”.

ولا يعتقد معروف أن “الحراك سيثمر عن حلول سياسية في المستوى العام لسوريا، لكن من الواضح أنه ذاهب باتجاه مرحلة جديدة”.

ويعتمد شكل وطبيعة هذه المرحلة “على الظروف”.

ويضيف الصحفي: “نرى أن الشارع رافض بشكل كبير وغير مسبوق لوجود البعث والنظام والسلطة الأمنية المستبدة. هل المجتمع قادر على إفراز شيء جديد؟ هذا ما يفكر به الناس بصوت عال”.

وتشابه الشعارات التي تعلو في السويداء تلك التي رددها المتظاهرون في مطلع أحداث الثورة السورية عام 2011، لكن النظام السوري اتبع حينها سياسة أمنية قامت على استهداف المتظاهرين بالرصاص المباشر والاعتقالات.

وفي أعقاب ذلك، وبعدما تحوّل الحراك السلمي إلى مسلح اتجه لنشر قوات جيشه في معظم المحافظات السورية مع أخرى بدأت إيران بالزج بها، لتبدأ معارك واسعة النطاق ضد فصائل “الجيش السوري الحر”، آنذاك، وصولا إلى محطة 2015 بإعلان روسيا التدخل لدعم الأسد.

وترى الكاتبة والناشطة السياسية، عاليا منصور، أن المظاهرات المتواصلة في السويداء “أنهت مقولة أن النظام السوري يحمي الأقليات”.

كما أثبتت أنه، وبعد أكثر من 12 عاما، ومن خلال ترحيب درعا وباقي المدن السورية بالاحتجاجات بأن “الشعب السوري واحد فعلا لا قولا”، مع الأخذ بالاعتبار أن السويداء من اليوم الأول لم تكن خارج الثورة، وإن لم تشارك بزخم في كل مراحلها.

من جانب آخر توضح منصور لموقع “الحرة” أن “الاحتجاجات تبعث برسالة السوريين للعالم، بأن بشار الأسد لا يمكن تعويمه، ووجوده هو العائق أمام أي حل”.

ومن وجهة نظر الكاتبة السورية “لا يقف النظام متفرجا على ما يحصل بالسويداء من منطلق أنه يرمي البراميل على السوريين من الطائفة السنية، ولا يفعل ذلك مع غير طوائف”.

وتضيف أنه “تفاجأ بالحراك وحجمه وسقف المطالب، وانضمام شيخ العقل حكمت الهجري”.

“الأسد وإن كان يدعي أنه لم يعد إلى العرب بل هم عادوا إليه، وأنه المنتصر، إلا أنه يدرك أيضا أن أي فعل سيقوم به ستكون تبعاته هذه المرة نهائية”.

وفي حين لم يلتزم سواء بإعادة اللاجئين أو الانخراط بالحل السياسي ولا بوقف “الكبتاغون”، لكنه يدرك أن لحظة استخدام العنف ضد المتظاهرين السلمين ستكون تبعاتها هذه المرة قطعية”، وفق ما تقول منصور.

“سيناريوهات ضبابية”

وكانت الشرارة الأولى للاحتجاجات الحالية في السويداء القرارات الأخيرة التي أصدرتها حكومة النظام السوري، برفع الدعم عن المحروقات، مما انعكس على التفاصيل اليومية لحياة المواطنين.

وتشهد المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري أزمة معيشة غير مسبوقة، وبات الأخير عاجزا عن وقف تدهور عملة البلاد، في ظل الحديث عن عجزه عن تقديم أي شيء على الصعيد الاقتصادي.

وتسود توقعات بأن الأوضاع المعيشية في البلاد تذهب باتجاه “الأسوأ”، لاسيما مع غياب أي مقومات اقتصادية من شأنها أن تنعكس على عمل مؤسسات النظام السوري، أو على حياة المواطنين.

ويرى الصحفي أيمن الشوفي أن “الناس الموجودة في الشارع يوميا أو في كل يوم جمعة بحاجة إلى ثمار أو نتائج ملموسة، لأن الرهانات المطروحة للانتفاضة معقدة، ومنها تطبيق 2254 ورحيل الأسد”.

ويقول الشوفي لموقع “الحرة”: “الرهان على إسقاط الأسد رومانسي إذا ما قيمنا الأمر على أرض الواقع، الأمر الذي سيخلق في الفترة المقبلة تناقضا بين رغبة الشارع وإزالة الحاكم وإمكانية حدوث ذلك من دون تدخل دولي”.

ويعتقد الشوفي أنه “من الأجدى على المدى القريب أو المنظور أن تكون هناك بدائل اجتماعية، بمعنى أن تتفق الناس بموازاة الشعارات على انتزاع النتائج بأنفسها”، وأن “يبدأ الحديث عن هيئة سياسية قد يكون لها أصدقاء وتحالفات وما إلى ذلك..”.

“الناس في الشارع تريد نتائج والمسألة غير متروكة لزمن بلا حدود، وهو ما يراهن عليه النظام”، الذي يعوّل على “ملل الشارع ويلتزم بسياسة صمت خبيثة”، حسب تعبير الشوفي.

وترى المهندسة والناشطة السورية، راقية الشاعر أن “النظام السوري ورغم أنه يتجاهل متعمدا بدأ عامل الوقت بالضغط والارتداد عليه”.

وتقول لموقع “الحرة”: “نعرف أن النظام لن يقدم أي شيء من المطالب التي ننادي بها، لكن الشارع أحرجه عندما نادى بواحد واحد واحد الشعب السوري واحد”.

كما نادى بوحدة الأراضي السورية، في رد على “مزاعم الانفصال” التي يروج لها شخصيات مقربة منه.

وتوضح الشاعر أن “هناك عدة سيناريوهات للمشهد الاحتجاجي في السويداء لكنها ضبابية”، وتؤكد أن “القرار المتخذ حاليا هو الاستمرار في الاحتجاج حتى الإسقاط”.

ولا تستبعد الناشطة السورية سيناريوهات أخرى مطروحة، ويتم الحديث عنها من بينها “اللامركزية”، لكنها تشير إلى أنه “لا شيء على أرض الواقع حتى الآن”.

وتتابع: “النظام يحاول الضغط في مقابل سياسية الصمت من خلال إغلاق الدوائر الحكومية، من أجل أن يدفع الناس للضغط على المحتجين”.

ويضغط أيضا من زاوية “الموافقات الأمنية التي تتطلبها أي عملية بيع لسيارة أو عقارات وحتى إجراء معاملة الزواج”.

لكن “كحراك شعبي ولجنة تنظيم تدرك كل هذه الأمور، وتسير خطوة بخطوة، وتضع هدفا وتسير باتجاهه”، حسب ما تقول الناشطة السورية.

“ماذا سيفعل الأسد؟”

ولأكثر من مرة منذ عام 2020 شهدت السويداء، ذات الغالبية الدرزية احتجاجات شعبية، لكنها سرعان ما توقفت من دون أن تتحقق المطالب الدافعة لها. ومع ذلك يرى مراقبون أن ما يحصل الآن يختلف من زاوية “زخم المشاركة” وطول أمد البقاء في الشارع.

ويوم الجمعة الفائت خرج أكبر تجمع احتجاجي في “ساحة الكرامة” (ساحة السير)، وشارك فيه رجال دين ونساء وطلاب جامعات وناشطين سياسيين معارضين.

وجميع هؤلاء رددوا هتافات مناهضة للنظام السوري، طالبت برحيل رئيسه وتطبيق القرار الأممي 2254.

وترى الناشطة السياسية منصور أن “صمت النظام لا يعني أنه وإيران سيقفان متفرجين إن شعرا أن الأمور تخرج عن السيطرة”.

وتقول: “إيران مستعدة لفتح حرب جديدة وقتل الالاف مقابل ألا تخسر سوريا أو جنوب سوريا، بما يعنيه لها من أهمية في مشروعها الاستعماري”.

وكان الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني حسن نصر الله قد وصف المظاهرات في السويداء بأنها “مشروع أميركي بدعم من دول عربية وإسلامية”، وفي كلمة له أواخر أغسطس الماضي قال إن “ما يجري اليوم في سوريا هو استمرار لما بدأ في 2011 – 2012”.

وترى منصور أن “الحراك في السويداء يجب أن يتجه لقيادة محلية ومدنية لكي تتبلور الأمور وتصبح أوسع”، وأن يحظى بدعم وتحرك من بقية المحافظات السورية.

وتوضح أن “أي رد فعل سيكون مبنيا على ماذا سيفعل بشار الأسد”، وتشير بالقول: “من الواضح أن ما يجري في السويداء لم يجعل فقط النظام السوري محشورا في الزاوية، بل الإيرانيين وحزب الله، وهو ما دفعهم للحديث عن عودة المؤامرة حسب تعبيرهم”.

الحرة

———————————–

الاحتجاجات الجديدة في سوريا تسلط الضوء على نقاط الضعف في قاعدة الأقليات التابعة للأسد/ إريك يافورسكي

معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

تحليل موجز

قد تساعد الاضطرابات المتزايدة في السويداء وغيرها من المناطق الموالية تقليدياً للنظام، في إرغام الأسد على تلبية المطالب المحلية والأمريكية ومطالب الحلفاء القائمة منذ فترة طويلة.

منذ 16 آب/أغسطس، شهدت محافظة السويداء التي تقع في جنوب سوريا والتي يشكل الدروز 90 في المائة من سكانها، موجة احتجاجات أشعلت فتيلها القضايا الاقتصادية والركود السياسي، وندّد فيها السكان المحليون بشكل متزايد بنظام الأسد ودعوا إلى الإطاحة به. وتضمن الكثير من هذه الدعوات شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو شعار احتجاجي رئيسي تردد في جميع أنحاء الشرق الأوسط خلال حركة “الربيع العربي” في العقد الماضي. وفي حين أن نسبة الدروز لا تتعدى 3 في المائة من إجمالي عدد السكان في سوريا، إلّا أن هذه الطائفة لعبت على مرّ التاريخ أدواراً مهمة داخل النظام ومؤسسته الأمنية.

وفي مناطق أخرى، اندلعت احتجاجات أصغر حجماً تضامناً مع المظاهرات الأكبر في السويداء ودرعا، وامتدت إلى حلب ودير الزور وحمص وجرمانا بالقرب من دمشق، التي تضم عدداً كبيراً من السكان الدروز. وفي وقت سابق من هذا الصيف شهدت جرمانا احتجاجات ركزت على قضايا العملة والاقتصاد، إلا أن هذه الجولة الأخيرة كانت أكثر حدة في انتقاد النظام والدعوة إلى إنهاء عهد الأسد. وتعرّض النظام أيضاً للتنديد العلني من قبل حركات الاحتجاج الجديدة التي اندلعت في صفوف ناخبيه العلويين الأساسيين في معاقلهم على طول الساحل.

ونظراً لمدى أهمية السويداء والدروز لإحكام قبضة بشار الأسد على السلطة، فإن الاحتجاجات تسلط الضوء على الضعف الاقتصادي الشديد لنظامه أمام العقوبات الدولية وغيرها من الأدوات. ويمنح ذلك الولايات المتحدة وشركائها نفوذاً متزايداً بينما لا تزال دمشق تتلكأ في التفاوض على تسوية سياسية للحرب.

احتجاجات السويداء

في جنوب سوريا وحده، تشير تقديرات “منظمة مراقبة حقوق الإنسان السورية” (“إيتانا”) إلى أن أكثر من 10 آلاف شخص شاركوا في المظاهرات في 200 موقع منذ 20 آب/أغسطس. وأفاد الموقع الإخباري المحلي للمعارضة، “السويداء 24″، أن 2000 شخص شاركوا في الاحتجاجات في جميع أنحاء المحافظة في 1 أيلول/سبتمبر، ووصف هذه الأرقام اليومية بأنها “غير مسبوقة”. وقد رفض السكان المحليون حتى الآن دعوات المغتربين لتشكيل أحزاب جديدة وعقد مؤتمر سياسي، كما رفضوا دعوات الانفصال، معتبرين السويداء موطنهم الشرعي داخل سوريا.

وفي 15 آب/أغسطس، أصدر الأسد قراراً بمضاعفة أجور ومعاشات التقاعد في القطاع العام مع خفض دعم الغاز أيضاً. وارتفعت أسعار الديزل بنسبة 180 في المائة فور صدور القرار، ثم قفزت بنسبة 45 في المائة بعد أسبوعين. وحتى مع زيادة الأجور، تظل تكاليف الغذاء باهظة بالنسبة إلى الأسرة السورية المتوسطة. ومن المتوقع أن يصل معدل التضخم إلى 60 في المائة هذا العام، مما سيؤدي إلى تراجع القوة الشرائية لهذه الأسر بصورة أكثر. وفي الوقت نفسه، سجلت الليرة السورية أدنى مستوى لها في التاريخ عند 15500 ليرة مقابل الدولار، قبل أن تنتعش قيمتها قليلاً لتبلغ 14100 ليرة سورية، أي انخفاض بنسبة 80 في المائة في القيمة منذ شهر مايو/أيار. وأثبت الوضع للسوريين أن المراسيم الاقتصادية الصادرة عن القصر الرئاسي لن تحسّن حياتهم، ما دفع بالكثيرين إلى الاحتجاج في الشوارع.

وصادف الرابع من أيلول/سبتمبر مرور ثماني سنوات على مقتل الشيخ الدرزي البارز وحيد البلعوس، وهو الحادث الذي ألقى العديد من السكان المحليين باللوم فيه على قوات الأسد. وخلال المظاهرات التي جرت في هذه الذكرى، مزّق المتظاهرون ملصقاً للأسد وألحقوا أضراراً بتمثال والده الراحل. وبرزت أعمال مماثلة مناهضة للنظام خلال احتجاجات أخرى أيضاً. فقد أزيلت صور الأسد في مختلف أنحاء السويداء، بما فيها المجتمعات الريفية مثل الكفر. وفي 29 آب/أغسطس، أغلق المحتجون في مدينة السويداء مكتب أعضاء مجلس الشعب في المحافظة، بحجة أن “لا فائدة” من ممثليهم. وبصورة مماثلة، استخدم السكان المحليون معدات اللحام لإغلاق البوابة الرئيسية لقيادة فرع حزب “البعث” في المدينة قبل ذلك بيومين، كما تم إغلاق فروع أخرى للحزب في جميع أنحاء المحافظة.

ومن السمات الأخرى للاحتجاجات الجنوبية الرسائل التي تستحضر القومية الدرزية وترفض التدخل الخارجي في الشؤون المحلية – سواء من قبل النظام أو “حزب الله” اللبناني أو روسيا أو جهات فاعلة أخرى. على سبيل المثال، رفع السكان المحليون في نمرة ملصقات لسلطان الأطرش، الزعيم الدرزي التاريخي الذي قاد الحملة ضد فرنسا في عشرينيات القرن الماضي.

واستحضرت المستشارة الإعلامية للأسد، لونا الشبل – وهي درزية من السويداء – إرث الأطرش بطريقة مختلفة، معتبرةً على ما يبدو أن الزعيم الراحل ما كان ليوافق على المظاهرات الحالية. وفي الاحتجاجات، ظهرت أيضاً صور يوسف العظمة، وهو شخصية تاريخية أخرى شاركت في الحملة ضد الفرنسيين.

واتخذت الاحتجاجات ضد التدخل الخارجي أشكالاً متعددة. فبعض الملصقات المحلية اتهمت “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد بسرقة السكان المحليين. وسخر ملصق آخر يحمل توقيع “أحفاد سلطان الأطرش” من الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، حيث جاء فيه: “مشروعكم القذر وإرهابك لن يمر..”. ونددت لافتة احتجاجية في السويداء بالعدوان الروسي، قائلةً: “الشعب السوري والشعب الأوكراني يعانيان من القتلة نفسهم”. وكُتب على لافتة أخرى: “مطالبنا خروج النظام وإيران وأمريكا”. وعلى نحو مماثل، أفادت بعض التقارير أن هتاف “ارحل يا بشار مع إيران وروسيا” أصبح شائعاً خلال المظاهرات، حيث وصف بعض المتظاهرين الأسد بأنه “صانع الكبتاغون”، في إشارة إلى دور النظام في التهريب المتفشي للمخدرات.

ويتم تسليط الضوء على موسكو على خلفية مساعدتها في إعادة الجنوب إلى سيطرة الأسد. وفي الواقع، لا تزال وحدات من الشرطة العسكرية الروسية و”مجموعة فاغنر” منتشرة في المنطقة. أما إيران، فتدير من جهتها ما لا يقل عن خمسة عشر مركزاً عسكرياً في السويداء، وقد استغلت الوضع الاقتصادي المتردي في الجنوب لتجنيد أفراد لتهريب المخدرات.

وفي غضون ذلك، تنقسم مشْيَخة العقل، الهيئة الروحية العليا للدروز في السويداء، بشأن الاحتجاجات. فقد أعرب اثنان من كبار رجال الدين الثلاثة في الهيئة، وهما حكمت الهجري وحمود الحناوي، عن دعمهما للمظاهرات ضد النظام. ولكن رجل الدين الثالث، وهو يوسف جربوع، حافظ على موقفه المؤيد للأسد، مدعياً أن “أهالي السويداء لن يخرجوا عن قرار الدولة السورية”. وبعيداً عن ترديد الشعارات الاحتجاجية، كان جربوع أحد جهات الاتصال الرئيسية للنظام في السويداء. ففي 19 آب/أغسطس، استضاف محادثات بين محافظ ريف دمشق، صفوان سليمان أبو سعدة، وهو درزي من السويداء، وعدداً من الوجهاء المحليين في محاولة لتخفيف حدة التوترات المستمرة.

ومن جهته، اجتمع الشيخ الهجري بمحافظ السويداء، بسام بارسيك، في 23 آب/أغسطس الماضي للتفاوض على إنهاء المأزق. وفي اليوم التالي، قلل بيان صادر عن مكتب بارسيك من أهمية احتمال قيام أجهزة أمن النظام باستخدام العنف ضد المتظاهرين، واصفاً هذه الشائعات بأنها “عارية تماماً عن الصحة”. ومع ذلك، على الرغم من كونه محافظ السويداء، فإن بارسيك هو سني شركسي من القنيطرة، لذلك من المرجح أن ينظر النظام إلى المحافظ الدرزي أبو سعدة على أنه يتمتع بمصداقية أكبر لدى الوجهاء الدروز على الأرض.

رد النظام

بغض النظر عن الدبلوماسية المحلية، فإن معظم المسؤولين في دمشق التزموا الصمت نسبياً حتى الآن تجاه الاحتجاجات. وفي 29 آب/أغسطس، استضاف رئيس الوزراء، حسين عرنوس، اجتماعاً لمجلس الوزراء السوري ركز على اهتمام الحكومة في برفع “مستويات المعيشة لموظفي الدولة”.

لكن نهج الاستراتيجية الإعلامية الذي يتّبعه النظام هو (حرفياً) قصة مختلفة. ففي 30 آب/أغسطس، أفادت صحيفة “الوطن” الموالية للحكومة أن مستويات الطحين والوقود يُفترض أن تكون “طبيعية” في السويداء. وعلى صعيد آخر، زعمت الصحيفة أن “أقل من 150 شخصاً” شاركوا في احتجاج كبير في 29 آب/أغسطس، ثم ضخّمت تعليق الشيخ جربوع حول “عدم الانحراف” عن قرارات الدولة. وبالمثل، استخدمت لونا الشبل صفحتها على فيسبوك للتقليل من حجم المظاهرات ووصفت المحتجين بـ”المرتزقة”.

وعلى صعيد الرد الأمني، لم يطلق النظام النار على متظاهري السويداء حتى الآن، لكن التوترات آخذة في التصاعد. ففي 28 آب/أغسطس، أطلقت بعض عناصر (قوى الأمن) طلقات تحذيرية عندما حاول السكان المحليون إزالة صورة للأسد في شهبا. ونظراً لاحتدام الوضع، أفادت بعض التقارير أن القيادة العسكرية قررت رفض أي طلبات إجازة مقدمة من الوحدات في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تشير مصادر المعارضة المحلية إلى أن هناك احتمال بأنه قد تم نقل أفراد ميليشيا مرتبطين بـ”الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” من دير الزور إلى مواقع في جنوب البلاد. ولم يتضح بعد ما إن كان النظام سيحاول انتظار انتهاء هذه الاحتجاجات أو البدء بإطلاق النار على المتظاهرين على أمل نزع فتيل أكبر حركة شعبية ضد حكمه في السنوات الأخيرة. أما الخيار المحتمل الآخر فهو اللجوء إلى الاغتيالات التي تستهدف المسؤولين البارزين الذين ينتقدون النظام.

وتعود الاحتجاجات الكبرى الأخيرة التي شهدتها السويداء إلى كانون الأول/ديسمبر 2022، عندما اقتحم مئات السكان المحليين مبنى عاصمة المحافظة، وأشعلوا النيران في داخله، وأتلفوا صور الأسد. وكما هو الحال في الجولة الحالية، اندلعت تلك الاحتجاجات بسبب أزمة الوقود والتدهور الاقتصادي العام، وقد تفاقم كلا العاملين منذ ذلك الحين. وتمكنت دمشق من إخماد انتفاضة عام 2022 من خلال اتباعها نهج الترهيب والترغيب. وبعد أن أمر النظام الجنود بإطلاق النار على المتظاهرين (مما أدى إلى مقتل شخص واحد)، أفادت بعض التقارير أن النظام كلف رئيس الوزراء بطمأنة السلطات المحلية بأنه سيتم إرسال المزيد من الديزل والكهرباء إلى السويداء للتخفيف من حدة النقص. وحتى لو كانت مثل هذه الخطط قائمة فعلياً، فمن غير المرجح أن يتم تنفيذها على الإطلاق. وبينما أيد العديد من سكان السويداء مطالب حركة كانون الأول/ديسمبر بإصلاح هذه المشاكل، فإن عدد قليل فقط مستعد لاتخاذ إجراءات من شأنها المخاطرة بالمزيد من القمع الأمني.

الرد الأمريكي

وحتى الآن، لم تُدلِ إدارة بايدن بتصريحات تُذكر بشأن هذه التطورات. فقد ذكر إيثان غولدريتش، كبير المسؤولين عن الملف السوري في وزارة الخارجية الأمريكية، المظاهرات خلال اجتماع مع ناشطي المعارضة السورية في تركيا في 4 أيلول/سبتمبر. وفي الكونغرس الأمريكي، صرّح النائب الجمهوري عن ولاية ساوث كارولينا، جو ويلسون، الذي يُعد من أبرز مراقبي الملف السوري، أن الاحتجاجات “ألهمت العالم وأظهرت أن سوريا ليس لها مستقبل ولن تستقر أبداً في عهد الأسد”. ويشارك ويلسون أيضاً في رعاية “قانون منع التطبيع مع نظام الأسد” الجديد.

ومع ذلك، قد يكون من غير الحكمة أن يصدر المسؤولون الأمريكيون بيانات عامة لدعم دعوات المتظاهرين إلى تغيير النظام. كما ورد آنفاً، تضمنت المواضيع الرئيسية للمظاهرات معارضة التدخل الخارجي، بما في ذلك تدخل الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات كبيرة ولا ينبغي تجاهل معاناة السكان المحليين، فمن غير المرجح أن يسقط النظام بسبب المشاكل الاقتصادية وحدها.

ومع ذلك، فإن الوضع يمنح واشنطن وشركاؤها في المنطقة نافذة أخرى لاستخدام النفوذ الاقتصادي والعقوبات للحصول على تنازلات من الأسد على طاولة المفاوضات. وعند الاستجابة للزلزال الكارثي الذي ضرب سوريا وتركيا في شباط/فبراير الماضي، سارعت الحكومة الأمريكية إلى إصدار “الرخصة العامة 23” الخاصة بسوريا، التي وفرت نافذة مدتها 180 يوماً من الإعفاءات من العقوبات للمعاملات المتعلقة بجهود الإغاثة. ولسوء الحظ، تمت صياغة الرخصة بصورة واسعة للغاية، إذ لم تقدم تعريفاً واضحاً لـ”الإغاثة من الزلزال”، وسمحت بإجراء معاملات مباشرة مع حكومة الأسد، ودفعت بالكثير من الدول الإقليمية إلى الاستنتاج بأن لديها الضوء الأخضر للتطبيع مع النظام.

ولحسن الحظ، أصر الزعماء العرب منذ ذلك الحين على أن تقدم دمشق تنازلات معينة مقابل هذا التطبيع، مثل اتخاذ إجراءات صارمة ضد تهريب الكبتاغون. وعلى الرغم من أن الأسد تظاهر بتأييد هذه المطالب، إلّا أنه لم يبدِ أي استعداد فعلي لتنفيذ مثل هذه الإصلاحات أو إشراك المعارضة السياسية السورية، وبذلك أثار حفيظة بعض المسؤولين في المنطقة وأبطأ عملية التطبيع. كما أدى ميله إلى رفض التنازلات بشكل صارم إلى زيادة دعم الحزبين الأمريكيين لتجديد عقوبات “قانون قيصر”، الأمر الذي من شأنه أن يحد من حجم استثمارات دول الخليج الغنية، في الاقتصاد السوري.

ومع تزايد الأفعال المعارضة في مناطق الأقليات ذات الأهمية التاريخية للنظام في السويداء وفي صفوف العلويين على الساحل، قد يكون الأسد أكثر استعداداً لتقديم تنازلات كبيرة. ويتمثل أحد الاحتمالات بتعاون الدول الإقليمية مع واشنطن لتحديد (صياغة) إعفاءات من العقوبات ضيقة النطاق وخاصة بالمشاريع، للمبادرات التي تساعد على التخفيف من معاناة الشعب. ولكن لا يمكن الموافقة على ذلك ما لم ينفذ الأسد جانبه من الصفقة – وعلى وجه التحديد، إطلاق سراح السجناء، وإجراء مفاوضات بموجب “قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254” لإنهاء الحرب، والانخراط مع المعارضة السورية بشأن تعديلات الدستور، بين أمور أخرى. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن يسقط النظام في أي وقت قريب، إلا أن الاحتجاجات المتزايدة في المناطق الموالية تقليدياً للنظام قد ترغم الأسد على التدخل في بعض الأمور.

إريك يافورسكي هو مساعد باحث في “برنامج روبين حول السياسة العربية” التابع لمعهد واشنطن.

——————————

ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻳﺤﺎﻭﻝ ﺍﺧﺘﺮﺍﻕ ﺣﺮﺍﻙ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺟﻨﻮﺑﻲ ﺳﻮﺭﻳﺔ ﻋﺒﺮ ﺍﺳﺘﺤﺪﺍﺙ ﻣﺮﺟﻌﻴﺎﺕ ﺭﻭﺣﻴﺔ

ﻋﻤﺎﺩ ﻛﺮﻛﺺ

ﺑﺎﻟﺘﺰﺍﻣﻦ ﻣﻊ ﺗﻮﺍﺻﻞ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﺿﺪ ﻧﻈﺎﻡ ﺑﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ، ﻓﻲ ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺟﻨﻮﺑﻲ ﺳﻮﺭﻳﺔ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺗﺠﺎﻭﺯ ﺃﺳﺒﻮﻋﻪ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ، ﺑﺪﺃﺕ ﺗﻈﻬﺮ ﻣﺤﺎﻭﻻﺕ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ ﺑﺎﺳﺘﻬﺪﺍﻑ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺷﻖ ﺻﻒ ﺍﻟﻤﺮﺟﻌﻴﺎﺕ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﺍﻟﺪﺭﺯﻳﺔ ﺍﻟﻤﻜﻮﻥ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ ﻟﺴﻜﺎﻥ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺑﻌﺪ ﻓﺸﻠﻪ ﺑﺎﺗﻬﺎﻡ ﺍﻟﻤﺤﺘﺠﻴﻦ ﺑﺄﻧﻬﻢ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺗﻮﺟﻬﺎﺕ ﺍﻧﻔﺼﺎﻟﻴﺔ .

ﻭﻋﻤﺪ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻷﺳﺪ، ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﺸﻬﺮ ﺍﻟﺤﺎﻟﻲ، ﺇﻟﻰ ﺗﺸﻜﻴﻞ ” ﻫﻴﺌﺔ ﺭﻭﺣﻴﺔ ” ﻟﻠﻄﺎﺋﻔﺔ ﺍﻟﺪﺭﺯﻳﺔ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﺭﻳﻒ ﻭﻏﻮﻃﺘﻲ ﺩﻣﺸﻖ ﻭﺍﻟﻘﻨﻴﻄﺮﺓ، ﻣﺮﻛﺰﻫﺎ ﺣﻲ ﺍﻟﺘﻀﺎﻣﻦ ﺑﻤﺪﻳﻨﺔ ﺩﻣﺸﻖ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﻮﻱ ﺃﻗﻠﻴﺔ ﺩﺭﺯﻳﺔ، ﻭﺍﺧﺘﻴﺎﺭ ﻣﻘﺮّﺏ ﻣﻦ ﻣﻠﻴﺸﻴﺎ ” ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ” ﻟﻴﻜﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻬﺎ .

ﻭﺭﺳﺎ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺪﻋﻮ ﻣﻌﻦ ﺍﻟﺼﺎﻓﻲ، ﺭﻏﻢ ﺃﻧﻪ ﻏﻴﺮ ﻣﻌﺮﻭﻑ ﻓﻲ ﺍﻷﻭﺳﺎﻁ ﺍﻟﻤﺸﻴﺨﻴﺔ ﺍﻟﺪﺭﺯﻳﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ، ﻭﻗﺪ ﺍﻃﻠﻊ ” ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ” ، ﻋﻠﻰ ﺗﺴﺠﻴﻼﺕ ﻣﺼﻮﺭﺓ ﻟﻼﺟﺘﻤﺎﻉ ﻟـ ” ﺍﻟﻬﻴﺌﺔ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ” ﺍﻟﺬﻱ ﺟﺮﻯ ﻳﻮﻡ 2 ﺳﺒﺘﻤﺒﺮ / ﺃﻳﻠﻮﻝ ﺍﻟﺠﺎﺭﻱ، ﻭﺗﻢ ﻋﺮﺿﻪ ﻷﻭﻝ ﻣﺮﺓ، ﺍﻷﺭﺑﻌﺎﺀ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ .

ﻭﻇﻬﺮ ﺃﻓﺮﺍﺩ ” ﺍﻟﻬﻴﺌﺔ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﺍﻟﻤﻮﺣﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﺩﻣﺸﻖ ﻭﻏﻮﻃﺘﻲ ﺩﻣﺸﻖ ﻭﻗﺮﻯ ﺟﺒﻞ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻭﺍﻟﻘﻨﻴﻄﺮﺓ ” ، ﻷﻭﻝ ﻣﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﺣﺘﻔﺎﻝ ﻳﻀﻢ ﻣﺸﺎﻳﺦ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﺃﻱ ﺣﻀﻮﺭ ﻭﺍﺯﻥ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ، ﻭﻣﻌﻬﻢ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﺻﺮ ﻣﻠﻴﺸﻴﺎ ” ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ” ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﺭﺗﺪﻭﺍ ﺯﻳﺎً ﻣﺪﻧﻴﺎً .

ﻭﺃﻗﻴﻢ ﺍﻻﺣﺘﻔﺎﻝ ﺗﺤﺖ ﻋﻨﻮﺍﻥ ” ﻧﻤﻮﺕ ﻭﻧﺤﻴﺎ ﻷﺟﻠﻚ ﺳﻮﺭﻳﺔ ” ﻓﻲ ﺣﻲ ﺍﻟﺘﻀﺎﻣﻦ ﺍﻟﺪﻣﺸﻘﻲ، ﻭﺭﻓﻌﺖ ﺧﻼﻟﻪ ﺻﻮﺭ ﻟﺒﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ ﻭﺃﻋﻼﻡ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺃﻋﻼﻡ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﺍﻟﺪﺭﺯﻳﺔ .

ﻭﺧﻼﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻔﻌﺎﻟﻴﺔ، ﻗﺎﻝ ﻣﻌﻦ ﺍﻟﺼﺎﻓﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻇﻬﺮ ﻛﺮﺋﻴﺲ ﻟﻠﻬﻴﺌﺔ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ، ﺇﻥ ” ﺍﻟﻮﻃﻦ ﻭﻋﻠﻤﻪ ﻭﺟﻴﺸﻪ ﻭﻗﺎﺋﺪﻩ ” ﺧﻂ ﺃﺣﻤﺮ، ﻓﻲ ﺭﺩ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺒﺪﻭ ﻋﻠﻰ ﺭﻓﻊ ﺍﻟﺸﻌﺎﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺑﺈﺳﻘﺎﻁ ﺑﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ ﻭﺣﻤﻞ ﺃﻋﻼﻡ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﺑﺪﻻً ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ . ﻭﺭﻏﻢ ﺃﻥّ ﺍﻟﺼﺎﻓﻲ ﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﻥّ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻣﺤﻘﺔ، ﺇﻻ ﺃﻧّﻪ ﺍﻋﺘﺒﺮ ﺃﻥّ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ” ﻟﻴﺲ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ” ، ﺑﻞ ” ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ .”

ﻭﺣﻮﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺨﻄﻮﺓ، ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺃﻛﺮﻡ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺸﺎﺭﻙ ﻓﻲ ﺣﺮﺍﻙ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻣﻨﺬ ﺑﺪﺍﻳﺘﻪ، ﺇﻥّ ﻣﻌﻦ ﺍﻟﺼﺎﻓﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻇﻬﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻌﺎﻟﻴﺔ، ” ﺣﺼﻞ ﻋﻠﻰ ﻟﻘﺐ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺣﺪﻳﺜﺎً، ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻭﺯﻥ ﻣﺸﻴﺨﻲ ﺑﻴﻦ ﻣﺸﺎﻳﺦ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ .”

ﻭﺃﺿﺎﻑ، ﻓﻲ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﻟـ ” ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ” ، ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻷﺣﺪ، ﺃﻥّ ” ﻣﺎ ﺣﺼﻞ ﻓﻲ ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﺘﻀﺎﻣﻦ ﻟﻴﺲ ﺳﻮﻯ ﺣﺮﻛﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻟﻠﻔﺖ ﺍﻷﻧﻈﺎﺭ ﻋﻦ ﺣﺮﺍﻙ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﻟﻜﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺣﺘﻔﺎﻝ ﺃﻭ ﺍﻟﻔﻌﺎﻟﻴﺔ ﻭﺣﺘﻰ ﺍﻟﻬﻴﺌﺔ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﺃﻱ ﻭﺯﻥ ﺣﻘﻴﻘﻲ .” ﻭﻟﻔﺖ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺃﻥّ ” ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻤﻦ ﺷﺎﺭﻛﻮﺍ ﻓﻌﻠﻮﺍ ﺫﻟﻚ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﻀﻐﻂ، ﻓﻬﻢ ﻣﺤﺎﺻﺮﻭﻥ ﺑﺄﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﻣﻠﻴﺸﻴﺎﺕ ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ، ﻭﻣﺸﺎﺭﻛﺘﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺘﻬﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠﻖ ﺣﻤﺎﻳﺔ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻓﻘﻂ .”

ﻭﺃﻛﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﺃﻥّ ﺷﻴﺦ ﻋﻘﻞ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﺍﻟﻤﻮﺣﺪﻳﻦ ﺍﻟﺪﺭﻭﺯ، ﺣﻜﻤﺖ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ، ” ﺍﺳﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻣﺸﺎﻳﺦ ﻭﻓﻌﺎﻟﻴﺎﺕ ﻣﻦ ﺣﻲ ﺍﻟﺘﻀﺎﻣﻦ ﻭﺷﻜّﻞ ﻟﺠﻨﺔ ﻟﺮﻋﺎﻳﺔ ﻭﻗﻒ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﻓﻘﻂ، ﻭﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺻﻼﺣﻴﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ ﺃﻱ ﻗﺮﺍﺭ ﻟﻪ ﺩﻭﺭ ﺗﺄﺛﻴﺮﻱ ﻓﻲ ﻗﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ، ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺮﺃﺳﻬﺎ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳﺔ ﻋﻤﻮﻣﺎً ﺳﻤﺎﺣﺔ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ، ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﺛﻨﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺅﺳﺎﺀ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﻟﻠﻄﺎﺋﻔﺔ ﻓﻲ ﻋﻤﻮﻡ ﺍﻟﺒﻼﺩ .”

ﻭﺷﺪﺩ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺄﻳﻴﺪ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﻟﻠﻬﺠﺮﻱ، ﺍﻟﺬﻱ ﺑﺪﻭﺭﻩ ﻳﺆﻳﺪ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ، ﻣﺎ ﺟﻌﻞ ﺍﻻﻟﺘﻔﺎﻑ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﻲ ﻭﺍﻟﻤﺸﻴﺨﻲ ﺣﻮﻟﻪ ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ .

ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻪ، ﺃﺷﺎﺭ ﺍﻟﻨﺎﺷﻂ ﻓﻲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﻓﻀﻞ ﺳﺎﺭﻱ ﺍﻟﺤﻤﺪ ‏( ﺍﺳﻢ ﻣﺴﺘﻌﺎﺭ ‏) ، ﺇﻟﻰ ﺃﻥّ ﻣﺤﺎﻭﻻﺕ ﺗﺤﺠﻴﻢ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ، ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻣﻨﺬ ﺗﺄﻳﻴﺪﻩ ﻟﻠﺤﺮﺍﻙ . ﻭﻛﺸﻒ، ﻓﻲ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﻟـ ” ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ” ، ﺃﻥّ ﻭﻓﺪﺍً ﻳﺘﺮﺃﺳﻪ ﺷﻴﺦ ﻋﺮﻧﺔ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﻛﺒﻮﻝ، ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺻﺪﺭ ﺑﻴﺎﻧﺎً ﻋﺎﺭﺽ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ، ﻭﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﻣﺸﺎﻳﺦ ﺑﻠﺪﺗﻪ، ﺗﻮﺟﻬﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﻟﺒﻨﺎﻥ ﻭﻋﻘﺪﻭﺍ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﺎً ﻣﻊ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻃﻼﻝ ﺃﺭﺳﻼﻥ ﺍﻟﻤﺆﻳﺪ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ، ﺑﺤﻀﻮﺭ ﺿﺎﺑﻂ ﻣﺨﺎﺑﺮﺍﺕ ﺳﻮﺭﻱ ﻭﺃﺣﺪ ﻣﺸﺎﻳﺢ ﺍﻟﺪﺭﻭﺯ ﻓﻲ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ ﺍﻟﻤﺤﺘﻠﺔ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻋﻠﻲ ﺍﻟﻤﻌﺪﻱ .

ﻭﻟﻔﺖ ﺍﻟﺤﻤﺪ، ﺇﻟﻰ ﺃﻥّ ﺫﻟﻚ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ” ﺭﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻭﺿﻊ ﺃﺳﺴﺎً ﻟﺘﺤﺠﻴﻢ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ ﻭﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﺮﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺤﺎﻟﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻮﻡ، ﺳﻴﻤﺎ ﻣﻊ ﺣﻀﻮﺭ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻣﻌﺪﻱ، ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻠﻘﻰ ﻗﺒﻮﻻً ﺑﻴﻦ ﺍﻷﻭﺳﺎﻁ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺸﻴﺨﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ .”

ﻭﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﺘﺮﺗﻴﺐ، ﻓﺈﻥّ ﺍﻟﻤﺸﻴﺨﺔ ﻳﺘﻘﺎﺳﻤﻬﺎ ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻦ ﺷﻴﻮﺥ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺑﺤﺴﺐ ﺗﺮﺗﻴﺐ ﻣﻌﺘﻤﺪ، ﻓﺎﻟﺸﻴﺦ ﺍﻷﻭﻝ ﻫﻮ ﺣﻜﻤﺖ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻳﻮﺳﻒ ﺍﻟﺤﻨﺎﻭﻱ، ﻭﺷﻴﺦ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻫﻮ ﻳﻮﺳﻒ ﺟﺮﺑﻮﻉ، ﻭﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻮﺍﻗﻔﻪ ﻭﺁﺭﺍﺅﻩ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻭﺍﻟﻤﺘﻘﻠﺒﺔ ﻃﻮﺍﻝ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳﺔ، ﻭﺍﻟﺘﻄﻮﺭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺟﺮﺕ ﻭﺗﺠﺮﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ .

——————————-

اللحظة السياسية السورية الراهنة / محمد سيد رصاص*

 المركز الكردي للدراسات

في شهر أغسطس/آب 2022 انهارت المفاوضات الأميركية- الإيرانية التي بدأت في فيينا قبل ستة عشر شهراً من أجل احياء الاتفاق النووي مع إيران لعام 2015 بعد أن سحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب التوقيع الأميركي عليه في عام 2018. بعد شهر من ذلك بدأت تظهر المسيرات الايرانية من نوع (شاهد) في الحرب الروسية على أوكرانيا.

منذ ربيع عام 2023 بدأت تظهر تسريبات في مقالات ودراسات بالصحف وبعض مراكز الأبحاث الأميركية عن خطة أميركية لإغلاق الحدود العراقية – السورية عبر السيطرة العسكرية بواسطة قوات أميركية أو حليفة أو موالية لواشنطن على خط التنف- البوكمال من أجل قطع الشريان عن حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين ولضرب التواجد العسكري الإيراني أو الموالي لطهران بين تنظيمات عسكرية أغلبها عراقي، في سوريا، والأمر انتقل مؤخراً للعلن بعد تصريحات مضادة ومحذرة من الخطة الأميركية أطلقها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي ووزيرالخارجية الايراني أمير عبداللهيان.

لا يمكن هنا الفصل بين ما جرى في فيينا وبين تلك التسريبات. ويبدو أن الأميركيين يريدون عبر هذه الخطة الضغط على ايران في نقطة يظنون ويحسبون أنها النقطة الرخوة عند طهران ولكن يعتقدون أو يقدرون أنها الأكثر تأثيراً وإيلاماً. والأرجح هنا أن الأميركين يريدون تكرار معاكس لما جرى في شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2013 عندما كان تهديد طهران بالانسحاب من المفاوضات النووية الرادع الرئيسي للرئيس الأميركي باراك أوباما عن تنفيذ ضربته العسكرية على سوريا، حيث يبدو أن هناك حسابات أميركية بأن تنفيذ هذه الخطة الأميركية في سوريا يمكن أن يجبر إيران على الابتعاد عن روسيا (ومعها الصين) والعودة لما يريده الرئيس جو بايدن من مفاوضات نووية جديدة تكون فيها ايران ضعيفة الأوراق الإقليمية.

هنا ، يجب الربط بين الانعطافة التركية نحو واشنطن التي جرت في قمة حلف الناتو الأخيرة في ليتوانيا في يوليو/تموز والتي هي كسر لانعطافات أردوغان نحو موسكو التي بدأت في قمته مع بوتين في 9 أغسطس/آب 2016 وبين ما تسرب لأوساط إعلامية عديدة عن أن هناك نقل من تركيا بطائرات أميركية باتجاه قاعدة التنف لعناصر من فصائل عسكرية سورية معارضة موالية للأتراك من أجل التدريب والتحشيد لتنفيذ تلك الخطة الأميركية وعن أن الأتراك طالبوا واشنطن مقابل ذلك بتغيير الواقع القائم في شرق الفرات باتجاه تحجيم نفوذ قوات سوريا الديمقراطية – قسد .

يمكن أن يضاف لهذا الأمر الأخير الأميركي- التركي مؤشرات عديدة على أن قوات سوريا الديمقراطية رفضت وترفض الاشتراك في هذه الخطة الأميركية التي من المؤكد إن دخلت طور التنفيذ ستقود إلى مواجهة بين القوة العظمى في العالم والقوة الإقليمية العظمى ستكون لها تداعيات كبرى في عموم إقليم الشرق الأوسط، وليس من دون دلالة تركيز الأميركيين في الأشهر الأخيرة على العرب في شرق الفرات الذي يميل وسطهم الاجتماعي إلى عداء شديد للإيرانيين، وهو وسط له الكثير من الخيوط التي نسجت مع الأتراك في سنوات الأزمة السورية منذ 2011. وأيضاً ليس من دون دلالة الصمت الأميركي على ما جرى من قتال مؤخراً في جنوب وشرق ديرالزور عند الضفة الشرقية للنهر بين قوات سوريا الديمقراطية وقوى عسكرية معظمها يتبع لقيادات في مجلس ديرالزور العسكري التابع لتلك القوات وساندها وسط اجتماعي تركز أساساً في قبيلة العقيدات بمنطقة جنوب محافظة ديرالزور، من دون وجود مساندة عند عرب الرقة والحسكة، ثم محاولة الأميركين لعب دور الإطفائي بعد عشرة أيام، في حريق لاقى حطباً جافاً بوسط عربي على الأقل في بعض مناطق محافظة ديرالزور يشعر بتظلمات وعدم رضا وتهميش. وكذلك ليس من دون دلالة الحبور التركي تجاه ما جرى في ديرالزور، والحماس عند المعارضين السوريين الموالين لأردوغان، وهو ما شاركتهم طهران في حبورهم التي رأت في ماجرى بدير الزور لصالحها.

هذا التوتر الأميركي- الإيراني الذي انعكس على سوريا سريعاً لم نرى موازياً له من خلال المجابهة الأميركية – الروسية في أوكرانيا، ولو أن هناك بالأشهر الأخيرة احتكاكات جوية غير مسبوقة في السماء السورية بين الأميركيين والروس، ما يوحي ببدء ترجمات محتملة في سوريا لهذا الصراع الروسي- الأميركي الذي هناك مؤشرات على أنه سيمتد لمناطق عديدة من العالم ولن يقتصر على أوكرانيا حيث هناك حرب لحلف الناتو ضد روسيا تقوم بها أوكرانيا بالنيابة، وسوريا مرشحة لأن تكون ميداناً لهذا الصراع وأيضاً القارة الافريقية.

من جهة أخرى، بعد قمة حلف في ليتوانيا تم الاعلان عن نية الحلف إنشاء مركز ارتباط إقليمي في الأردن. وهناك مؤشرات على أن الأردن سيكون مركز الارتباط الاقليمي في عموم منطقة الشرق الأوسط.

لا يمكن عزل هذه الخطوة عن التوتر الأميركي- الإيراني، وعن هواجس الأردن من تواجد مليشيات موالية لطهران في الجنوب السوري، والتي يربط الأردنيون بينها وبين تجارة المخدرات التي تعبر الحدود السورية – الأردنية، وهما أمران جعل الأردن يتصدر المبادرة العربية الأخيرة تجاه الأزمة السورية، إضافة إلى موضوع اللاجئين السوريين في الأردن. تعثر المبادرة العربية واقترابها من الفشل، وهو أمر يتوازى مع جمود الاتفاق السعودي- الإيراني بعد مرور ستة أشهر عليه، يتزامن مع تصريحات أردنية غير رسمية ومن وزراء ومسؤولين سابقين عن نية عمًان إقامة منطقة عازلة في الجنوب السوري، ولا يعرف مدى ارتباط هذا مع ما يجري في محافظة السويداء حالياً، وإن كان أسبوعان وأكثر من الحراك الاجتماعي المعارض هناك تميز بسلميته وبشعاراته التي تطالب بالانتقال السياسي وفق القرار الدولي 2254 وعدم اقتصاره على القضايا المطلبية الاقتصادية – الاجتماعية ، وإن كان يلاحظ أنه حراك موضعي ولا توحي مؤشرات بأنه سيمتد لمناطق سورية أخرى، بخلاف ماجرى مع درعا في 2011، وربما هذا ما يفسر هدوء رد فعل السلطة السورية على مايجري في السويداء.

كتكثيف: منذ أن تأقلمت وتدولت الأزمة السورية في خريف 2011، ولم تعد داخلية كما كانت في الأشهر الستة الأولى من بدئها في درعا، فإن تناول ما يجري في سوريا لا يمكن أن يكون أساساً إلا تناولاً لمايجري بين القوى الفاعلة في الأزمة السورية والتي هي بالترتيب من حيث القوة :الولايات المتحدة ، روسيا تركيا، إيران.

*كاتب سوري.

———————————-

إنتفاضة السويداء والثورة السورية المغدورة/ زياد ماجد

تتواصل التحرّكات الشعبية ضد النظام الأسدي في السويداء جنوب سوريا منذ ثلاثة أسابيع، وتُعيد مشهديّتها إلى الأذهان جوانب من مشهدية الثورة السورية في العامين 2011 و2012، ولَو أن الفوارق كبيرة بين الحقبتين، داخل البلاد وخارجها.

ورغم أنها ليست المرة الأولى التي ينتفض فيها جبل العرب، بعد مظاهرات أهله الواسعة في بدايات الثورة، وبعد «حركة رجال الكرامة» بقيادة الشيخ الشهيد وحيد البلعوس رفضاً للتجنيد الإجباري وإرسال أبناء المنطقة لقتال مواطنيهم في مناطق أخرى في العامين 2014 و2015، إلا أن ما يجري اليوم بعد كلّ الأهوال التي شهدتها سوريا وتحويل عدد من مدنها وقراها إلى حطام، استثنائيّ الأهمية ويؤكّد تجذّر كراهية النظام الأسدي وسعة الرفض الشعبي له ولداعميه في المنطقة المذكورة وفي سواها.

ولعلّه من المفيد التوقّف عند بعض خصائص الحدث الدائر ودلالاته، بمعزل عمّا يمكن قوله لاحقاً عن نتائجه ومآلاته وتداعياته المحتملة.

فاللافت بدايةً في انتفاضة السويداء والبلدات المحيطة بها هو عمر كثرة من المشاركين فيها، ممّن تكوّن وعيهم السياسي خلال السنوات العشر الأخيرة، فشبّوا وتسيّسوا على وقع القصف والتهجير وأخبار الحصار والتعذيب والاحتلالات، ولم يُثنِهم الأمر عن اعتبار التحرّر من الجور والفساد والقتل قضيّتهم الأولى. وهذا يعني أنهم يستكملون ما بدأه قبلهم جيلان ممّن نشطوا في الحقل العام رغم مشقّاته. وليس رفعهم صوَر شهداء ومفقودين وأخوة وأقارب وأصحاب تشرّدوا وهاجروا إلا دلالة على العروة الوثقى التي تربطهم اليوم بقضايا من سبقهم.

اللافت كذلك، أن الحضور النسائي بارز، وبأدوار قيادية للتحرّكات، بمبادرات فردية أو منظّمة، وبشعارات جذرية تربط الكرامة الإنسانية بالحرّية، والعدالة بسقوط النظام ومحاكمة رئيسه. وهذا في ذاته إن تواصل، يوفّر للانتفاضة عمقاً اجتماعياً ويُغني معاني الحرّية المنشودة ومضامينها لتكون سياسية وثقافية في الوقت عينه.

وتُضاف إلى الخاصيّتين المذكورتين مسألتان سياسيتان بارزتان. الأولى، إصرار المتظاهرين والمتظاهرات من اليوم الأوّل على رفض أي فصل للشأن المعيشي الذي بدأت التحرّكات نتيجة تدهوره المتزايد عن الشأن السياسي، بما يمنع حصر الأمور بالمعطيات الاقتصادية. فالمسؤول عن التدهور الحاد في أحوال الناس بحسب شعاراتهم المرفوعة هو النظام. وهذا مهمّ لتجريده وأدواته من روايات تختصر الغضب بتردّي الظروف الحياتية نتيجة العقوبات ومنع إعادة الإعمار وغير ذلك من المقولات الساقطة.

المسألة الثانية هي وصل المحلّي بالوطني، بما يُنسّب التحرّكات إلى إطار أوسع وأرحب من خصوصية أكثرية المشاركين المناطقية أو المذهبية، ويعيد الاعتبار لدينامية سياسية معطّلة منذ تصعيد النظام لحربه الشاملة على المجتمع: الدينامية القائمة في الشارع حيث الحيز العام والتواصل وتخطّي الحواجز وبناء التجارب المواطنية.

تهاوي التطبيع ومنطقه :

وما قد لا يقل أهمية عمّا ذُكر، إن استمرت الانتفاضة وتوسّعت، هو تجريدها النظام الأسدي من بعض مفاعيل التطبيع العربي معه التي عدّت مشروطيّة وقفه تهريب الكبتاغون وسماحه بعودة فئات من اللاجئين (الذين هجّرهم) في دول الجوار، كافية لتبرير تعويمه ووعده بالمساعدات والاستثمارات ودعوة الغربيين إلى التعامل معه، على اعتبار أن المناطق التي يسيطر عليها (بفضل الاحتلالين الروسي والإيراني) مستقرة ومعقود له فيها الولاء. فإذا بالمظاهرات والشعارات تظهر تهافت الاعتبار المذكور، بعد أن أظهرت سلوكيّات النظام نفسه تهافت الرهانات على استجابته للمشروطية العربية.

وهذا يوصلنا إلى ما يمكن توقّعه في المقبل من الأيام والأسابيع.

الظاهر حتى الآن، أن أجهزة النظام تحاور بعض أعيان المنطقة ومشايخها، وتعد بفتح معابر مع الأردن وتأمين مساعدات لمحاصرة التحرّكات الشعبية، متجنّبة الاصطدام بها ومراهنةً على الوقت لترنّحها.

لكن ماذا إن فشل رهانها؟ وماذا إن تواصلت التظاهرات واتسّع نطاقها؟ هل يمكن توقّع القمع الدموي الذي عادة ما يلجأ إليه النظام؟

تصعب الإجابة عن السؤال اليوم لعدّة أسباب.

أوّلها أن النظام الذي اعتمد في العقد الماضي سياسات عنف تجاه المتظاهرين قائمة على منطلقات طائفية ومناطقية وطبقية، جنّب السويداء ومدناً مثل السلمية والقامشلي وعامودا، حيث كانت التجمّعات والمسيرات حاشدة، القتل العشوائي الذي كثّفه في المقابل في ضواحي المدن وفي المناطق الريفية والطرفية (حيث الديموغرافيا السنية الأشد فقراً). وكان قتله في المدن المعدّة معاقل «للأقليات» قتلاً انتقائياً يستهدف المنظّمين للتظاهرات وأنشطة الإغاثة والإعلام ومنسّقي شبكات التضامن، فيغتالهم أو يعدمهم تحت التعذيب، من دون تعميمٍ يطال محيطهم، بهدف ادّعاء حماية لهذا المحيط في مواجهة «أكثرية عنيفة تهدّد التنوّع والتعدّد الديني والثقافي»، على ما ردّدت دعايته.

وهو نجح في تحييد هذه المدن لاحقاً عن المعارك وعن الحرب التي شنّها على أجزاء مختلفة من سوريا. لكنّه ملزم اليوم بردّ وبسياسة مماثلة لما اعتمده في الماضي أو مختلفة عنها، قد لا يملك في الحالين مقوّمات بلورتها.

وهذا يحيلنا إلى ثاني الأسباب، أي إلى كون الخيارات الاستراتيجية للتعامل مع «الأزمات» محصورة بشكل خاص في أوساط القيادات الروسية والإيرانية المتحكّمة بالسياسة والميدان في سوريا. فهي من يتّخذ القرارات وثمة ما يتسرّب عن تباينات أحياناً في أشكال مقارباتها الأمنية للتعاطي مع «التحدّيات». وهي من يُحاول أن يستثمر في كل تطوّر لتطويعه لصالح حضورها واحتلالها للمناطق المختلفة. وهذا يؤجّل أحياناً السير في خيارات محدّدة، أو يُفضي إلى تنافس بين النافذين على من تكون له اليد الطولى في بسط المزيد من النفوذ و«تذليل» المصاعب.

لهذين السببين ولغيرهما، قد يكون من المبكر توقّع أشكال تعامل النظام بإيعاز وتحريكٍ من راعيَيه مع التظاهرات، خاصة إن تواصلت.

الأهم ربما هو التذكير بأن التحدّي المطروح على المتظاهرين، قبل رد النظام المحتمل وبعده، يرتبط بمدى قدرتهم على توسيع المشاركة في التحرّكات وتحصينها وتنويع أشكالها. وهم في أي حال، ومهما كانت مآلات انتفاضتهم التي أعادت التذكير بأيام جمعة واكبها السوريون على مدى عامين بآمالاهم وصبرهم ودموعهم، يبدون كمن يستأنفون ثورة مغدورة، أو بالأحرى كمن يهدون تلك الثورة روحاً جديدة وحياة جديدة لبرهة قد لا تطول كثيراً، لكنها بلا شكّ ستتجّدد تكراراً وتباعاً.

وهذا في ذاته، هو على الأرجح أبلغُ ما فيها.

*كاتب وأكاديمي لبناني.

القدس العربي

——————————-

حراك السويداء لن يكون ذو جدوى إلا بحالة واحدة

والتلميح لمنطقة آمنة برعاية عربية صلبها مهد الثورة

بقلم دموسى الزعبي

استطاعت الثورة السورية خلال السنوات الاثنى عشرة السابقة بما قدمته من دماء وتضحيات قد فضخت إجرام النظام بتقارير دولية حول استخدام الكيماوي والبراميل وجرائم إنسانية عرت النظام والمجتمع الدولي الذي بقي صامتا أو مشاركا بإبادة الشعب السوري ولم يعد النظام بحاجة لمزيد من تعريته بل أصبح اللعب على المكشوف على عينك يا تاجر كما يقال واليوم النظام بشهادة المجتمع الدولي أول مصنع ومصدر للمخدرات وأصبح يهدد استقرار المنطقة والعالم ويبتز الجميع المال وبقاءه أو غزوهم بالمخدرات ومع ذلك الجميع ساكت عنه لاشك الجميع يعلم كلمة السر وهي أن النظام يحمي حدود اسرائيل بل ينفذ أجندات اسرائيل بالمنطقة العربية علاوة على أجندات إيران التي تتلاقى مع اسرائيل بتفتيت المنطقة العربية وتدميرها

يأتي حراك السويداء اليوم متأخرا والذي يكتسب زخمها من نقطة وحيدة كونها محسوبة على أقلية كان يتمترس ويزعم النظام أنه حاميها ضد الأكثرية رغم الهبات السابقة ردا على تردي الوضع الاجتماعي والمعيشي حتى طالبت بشعارات إسقاط النظام دون أن يقابلها النظام بأي عنف بل تركها تأخذ دورتها وتنفس عن نفسها دون أن يقدم أي تنازلات بل عاقبها سلبيا بقطع الخدمات مع عدم وجود أي تمويل خارجي لأنه يأخذ توجيهاته من أسياده ويعرف النتيجة مسبقا وسينعكس استمرار الحراك سلبا على الوضع المعاشي والاجتماعي بالسويداء الأمر الذي يجعل الناس ترجع لما قبل الحراك مع بعض التغيرات الشكلية لإرضاء بعض القيادات كون السويداء منقسمة على عشرات القيادات والولاءات بين النظام والخارج والمعارضة كما ناشطيهم يصرحون بذلك وإن حالوا إخفاء ذلك فالواقع يظهر ذلك والسؤال هو كيف يصبح هذا الحراك له قيمة فعليا بمسار الثورة!

البعض يكتب ويعيد للذاكرة ما فعلته فرنسا بسورية خلال الانتداب وأن الفاعلين بسورية يمشون على مخطط فرنسا بتقسيم سورية فيدراليا ثم جمعها لاحقا عندما تنتهي الطبخة الدولية رغم فشل ذلك بالماضي فهو اليوم أشد فشلا كون نمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية تغير ولكن هذا الحراك ممكن يجبر المجتمع الدولي على التحرك بحالة واحدة هو انتزاع السويداء من النظام وسلخه عنه بالقوة الأمر الذي يجعل الزاوية الجنوبية الشرقية مفتوحة من سورية على دول الجوار وتشكل خطر أمني على المنطقة كاملة وخاصة منطقة ٥٥ الأمريكية وسيحصل تفاعل شعبي بين الجوار الأردني والجولان والسويداء بناء على الامتداد الديني الطائفي

رغم تخفظ الجانب الأردني حتى الآن بل رفضه لأي طريق دولي يطل على السويداء لأنه يعرف حقيقة الانقسمات المحلية داخل المجتمع بالسويداء وتغلغل النظام فيها إلا إنه سيأخذ خطوة قوية في حال تم انتزاع السويداء من النظام حيث يعتبر الأردن حوران السهل امتداد عشائري للأردن ويمكن البناء عليه بلحظة ماء لم تأت بعد حتى الآن! رغم محاولات ذلك سابقا ولكنه تم انتقاء الوضعاء من العشائر مما جعله يولد ميتا!

كما أن هناك دعوات لعمل كنتون درزي بالجولان يكون مكان لجوء لأهل السويداء في حال تم التصعيد والعنف بالسويداء ويكون حزام بشري أمام الدواعش بين سورية واسرائيل الخطوة التي ربما تكون خيار قوي للجوار مستقبلا ولكن يبقى أمن حوران سهلا وجبلا بعد أمني للأردن والخليج أمام تغول إيران ولا بديل إلا بعمل منطقة أمنية على غرار غرب الفرات برعاية عربية حتى عمق ٨٠ كم وإحياء اتفاق عمان سنة ٢٠١٧ قبل سقوط الجنوب وإحياء اتفاف سد الوحدة الماء مقابل الكهرباء

رغم كل تلك السيناريوهات إلا أن الحقيقة تبقى واحدة وهو أن النظام انتهى وما قدمته الثورة والشعب السوري من دماء ودموع يعتبر رصيد بالعملة الصعبة سيكون ثمنه إسقاط هذا النظام بالنهاية ولن يعجل هذه النهاية إلا تغيرات دولية طارئة أو ثورة الشعب بالمدن الكبرى خاصة دمشق وحلب وحماة والتي لا يزال النظام يعتبرها حامية لعرينه ضد الأكثرية وضد الأقليات…

—————————-

انتفاضة السويداء.. مسؤولية تاريخية للدول العربية واختبار أخلاقي للمجتمع الدولي

سلطت الباحثة والناشطة الحقوقية، ريما فليحان، الضوء على الانتفاضة الشعبية في محافظة السويداء السورية ضد نظام الديكتاتور، بشار الأسد، مشيرة إلى استمرار الاحتجاجات منذ 20 أغسطس/آب.

وذكرت ريما، في مقال نشرته بموقع “المجلس الأطلسي” وترجمه “الخليج الجديد”، أن المتظاهرين أغلقوا مقر حزب البعث بالمحافظة الجنوبية وأزالوا صور الأسد من شوارع ومباني المدينة، في إطار حراك لتغيير النظام السوري والتنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، الذي وضع خارطة طريق لعملية السلام في سوريا، بما في ذلك تشكيل هيئة حكم انتقالية بكامل الصلاحيات.

ويناصر المتظاهرون الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية لجميع السوريين، والإفراج عن المعتقلين، ويطالبون بضمان القدرة على العيش الكريم، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور الذي أصبح لا يطاق.

ويشير المقال إلى أن نظام الأسد تبنى سياسات اقتصادية فاشلة ولم يتمكن من تأمين احتياجات مواطنيه، وأن الشعب السوري يعتقد أن النظام غير مهتم بحل سياسي يؤدي إلى واقع جديد للسوريين، يسمح بإعادة الإعمار ورفع العقوبات.

ويعزز من هذه القناعة أن النظام يمنح حاليًا عقودًا تسمح لروسيا وإيران بالوصول إلى موارد البلاد، فيما يعاني الشعب السوري.

وإضافة لذلك، يغرق نظام الأسد والطبقة الحاكمة في الأموال المنهوبة من الشعب من خلال شبكة عميقة من الفساد، تفاقمت بسبب تدمير البنية التحتية منذ بداية القمع العسكري الشديد في عام 2011.

وهجر نظام الأسد ما يقرب من نصف السوريين، وقتل مئات الآلاف، واعتقل أكثر من 100 ألف، تعرض العديد منهم للتعذيب حتى الموت.

ورغم هذا التاريخ المظلم، لا يزال السوريون يشعرون بأنهم مجبرون على النزول إلى شوارع السويداء للمطالبة بتغيير النظام، باعتبار ذلك الحل العملي الوحيد لإنهاء الكارثة الإنسانية التي يواجهونها.

ولا يبدو هكذا مشهد متوقعا بعد كل القمع وجرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد في سوريا. لكنه يعني أن الرغبة في التغيير في سوريا لا تزال موجودة لدى الشعب السوري.

ولذا شهدت السويداء، وهي محافظة ذات أغلبية درزية، احتجاجات متفرقة ومستمرة طوال السنوات السابقة قادتها نخبتها المثقفة، ومع ذلك لم تكن المظاهرات واسعة النطاق وشاملة على الإطلاق كما هي الحال اليوم.

وانضمت إلى هذه الاحتجاجات الحركات النسائية والشخصيات الدينية والموظفون وسكان الحضر والريف والمثقفون والسياسيون المعارضون.

احتجاجات المحافظات

ووقعت الاحتجاجات أيضًا في أجزاء أخرى من سوريا، بما في ذلك درعا وإدلب والرقة ودير الزور وحلب، وسط تعال لأصوات المعارضة من الساحل السوري، قلب معقل النظام السوري، التي تطالب علناً بالتغيير ورحيل رأس نظام الأسد.

وإضافة لذلك، بدأت تتشكل مجموعات ثورية جديدة، مثل حركة العاشر من أغسطس/آب، في مقابل تحريض إعلامي من النظام ضد أهالي السويداء واتهامهم بالتخوين والتربح، وضد المتظاهرين لخلق الفرقة بين السوريين وخلق سبب لاعتقالهم وربما الاعتداء عليهم مستقبلاً، كما استخدمت الحكومة الاعتقالات والقمع في محافظات أخرى.

ويشعر سكان السويداء، سواء في الداخل أو في الشتات، بالقلق من أن النظام قد يستخدم الميليشيات أو الجماعات التابعة له، مثل حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإسلامي، لقمع الانتفاضة الجماهيرية، كما فعل في محافظات أخرى سابقا.

وتأتي الاحتجاجات الحالية في السويداء في مرحلة حساسة وحرجة بعد أن ضاعت آمال السوريين في الغرب والدول العربية، خاصة بعد تطبيع نظام الأسد مع الدول العربية في مايو/أيار الماضي.

ومع ذلك، فإن نظام الأسد لم يبد أي اهتمام بالانخراط في المبادرة العربية أو أي حل سياسي، ولم يتخذ أي خطوات لبناء الثقة، ولم يستجب لتأثيرات قرار مجلس الأمن رقم 2254، ولم يلتزم بالعملية السياسية.

ففي مقابلته الأخيرة مع سكاي نيوز عربية في 9 أغسطس/آب، بدا الأسد غير مبالٍ بالسياسات المتهورة التي أدت بالبلاد إلى التفكك والانهيار الاقتصادي والاجتماعي.

ورغم أكثر من عقد من الدمار الذي سببه حكمه، حاول الأسد، خلال المقابلة، تزوير التاريخ من خلال الادعاء بأن عدد السوريين الذين احتجوا ضده لم يتجاوز مائة ألف.

فعدد المعتقلين وحدة يتجاوز المائة ألف، وخرجت احتجاجات شارك فيها مئات الآلاف في عموم المحافظات السورية.

وبعد أيام قليلة من تصريحاته، اتحد أهل السويداء، وليس الدروز منهم فقط، ليؤكدوا على استمرار احتجاجاتهم حتى رحيل النظام.

مسؤولية تاريخية

وإزاء ذلك ترى ريما فليحان أن الدول العربية تتحمل اليوم مسؤولية تاريخية في إعادة النظر في حساباتها، فالمشهد في السويداء يثبت أن الحل الوحيد المقبول لتحقيق السلام في سوريا هو التنفيذ الكامل للانتقال السياسي وتجنب التطبيع مع نظام الأسد.

ومن شأن هذا النهج أن يعالج بشكل كامل مشكلة اللاجئين والقضايا الأمنية من خلال مواجهة مصنعي وموزعي الكبتاجون والمهربين المرتبطين مباشرة بالنظام وحزب الله والميليشيات في سوريا.

وتؤكد ريما أن نظام الأسد، طالما ظل في السلطة، فلن يقطع تحالفه مع إيران، التي يُظهِر تاريخها وسلوكها أنها ستظل نظاماً مارقاً في المنطقة غير مهتم بأمن البلدان المجاورة أو السلام العالمي.

وتضيف أن تغيير النظام في سوريا يبدأ بتطبيق القرار 2254 وبدء العملية الانتقالية، كما طالب المتظاهرون، لتبدأ عملية إعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد، ما يؤدي إلى الاستقرار في البلاد والمنطقة.

ومع وضع هذه النقاط في الاعتبار، يتعين على الحكومات العربية أن تتذكر أن دعم النظام السوري لن يجلب الاستقرار إلى المنطقة، بل ستستمر الأزمة وسيدفع الشعب السوري الثمن بدمائه وأرزاقه، بحسب الناشطة الحقوقية، التي أكدت أن المجتمع الدولي يتحمل أيضًا المسؤولية عن الوضع الحالي في سوريا.

فالمجتمع الدولي لم يعالج جرائم النظام السوري بجدية، ولم ينجح في فرض حل سياسي، ولم ينفذ قرارات الأمم المتحدة، حتى بعد استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية بشكل متكرر، وممارسته التعذيب المنهجي، والقتل خارج نطاق القضاء، والتهجير القسري، والاختفاء القسري، وقصف المدنيين والمستشفيات والمدارس والأسواق العامة.

كما لم يتم اتخاذ أي تدابير جدية لتنفيذ القرار 2254، وتم تخفيف الحل السياسي من خلال التركيز فقط على الدستور، وهو المسار الذي مات منذ ولادته، ولم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن جدول زمني له.

وإزاء ذلك، يدفع الشعب السوري ثمن القمع وسفك الدماء والتهجير، ويتم تجاهل السبب الجذري لمعاناته، وهو الحكم المستمر لنظام الأسد.

وتؤكد ريما أن السياسة الدولية التي أطلقت العنان لروسيا في سوريا هي المسؤولة عن جرأة موسكو المستمرة في سوريا والعالم، كما يتضح من تصرفاتها في أوكرانيا، مضيفة: “يبين التاريخ أن التغاضي عن مجرمي الحرب والسلوك المارق سيؤدي حتماً إلى استمرار جرائمهم، فضلاً عن اتساع نطاقها وتصاعدها”.

وتختتم الناشطة الحقوقية مقالها بالتأكيد على أن الرجال والنساء والأطفال الذي يتظاهرون في السويداء وجميع المحافظات السورية “يستحقون التحرر من نظام الأسد المستبد وتوفير الحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، ويعبرون عن “صرخة شعب مضطهد خذله العالم وتخلى عنه وتجاهله منذ عام 2011″، وتمثل احتجاجاتهم “اختبار أخلاقي للعالم”.

المصدر | ريما فليحان/المجلس الأطلسي – ترجمة وتحرير الخليج الجديد

——————————

ﻣﻨﻌﻄﻒ ﻓﻲ ﺍﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ … ﻧﺤﻮ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﻫﻴﺌﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺗﺤﻄﻴﻢ ﺗﻤﺜﺎﻝ ﺍﻷﺳﺪ ﺍﻷﺏ

ﺩﺧﻠﺖ ﺍﻻﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻬﺪﻫﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﺟﻨﻮﺏ ﺳﻮﺭﻳﺎ، ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﻤﺮﺓ ﻟﻸﺳﺒﻮﻉ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻮﺍﻟﻲ، ﻣﻨﻌﻄﻔﺎً ﺟﺪﻳﺪﺍً ﺗﻤﺜﻞ ﻓﻲ ﻗﻴﺎﻡ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺘﻈﺎﻫﺮﻳﻦ ﺑﺘﺤﻄﻴﻢ ﻧﺼﺐ ﺗﺬﻛﺎﺭﻱ ﻟﻠﺮﺋﻴﺲ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﺍﻟﺮﺍﺣﻞ ﺣﺎﻓﻆ ﺍﻷﺳﺪ ﺗﺰﺍﻣﻨﺎً ﻣﻊ ﺇﺣﻴﺎﺋﻬﻢ ﻟﺬﻛﺮﻯ ﺍﻏﺘﻴﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻭﺣﻴﺪ ﺍﻟﺒﻠﻌﻮﺱ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﻣﻦ ﺃﺑﺮﺯ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺿﻴﻦ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﺍﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ .

ﻭﺗﺮﺍﻓﻘﺖ ﺍﻟﺨﻄﻮﺓ ﺍﻟﺘﺼﻌﻴﺪﻳﺔ ﻟﻠﻤﺤﺘﺠﻴﻦ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﻠﻖ ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ ﺃﻱّ ﺭﺩ ﻓﻌﻞ ﻣﻦ ﺳﻠﻄﺎﺕ ﺩﻣﺸﻖ، ﻣﻊ ﻣﺴﺎﺭ ﺗﺼﻌﻴﺪﻱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻓﻲ ﺩﻋﻮﺓ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻟﻌﻘﺪ ﻣﺆﺗﻤﺮ ﻋﺎﻡ ﻻﺧﺘﻴﺎﺭ ﻫﻴﺌﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﺗﺘﻮﻟﻰ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﺷﺆﻭﻥ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﺍﻷﻣﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺪ ﻳﺰﻳﺪ ﺍﻟﺸﺮﺥ ﺑﻴﻦ ﺟﻨﺎﺣﻲ ﺍﻻﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ، ﺍﻷﻭﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻘﻮﺩﻩ ﻣﺸﻴﺨﺔ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﻳﺤﺮﺹ ﻋﻠﻰ ﺑﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻄﺎﻟﺐ ﺿﻤﻦ ﺍﻹﻃﺎﺭ ﺍﻟﻤﻌﻴﺸﻲ ﻭﺍﻟﺨﺪﻣﺎﺗﻲ ﺑﻌﻴﺪﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻭﺍﻟﺠﻨﺎﺡ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺭﻓﻊ ﺷﻌﺎﺭ ﺇﺳﻘﺎﻁ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺻﻢّ ﺁﺫﺍﻧﻪ ﻋﻦ ﺗﻮﺻﻴﺎﺕ ﺍﻟﻮﺟﻬﺎﺀ ﻭﺍﻟﺸﻴﻮﺥ ﺑﻀﺮﻭﺭﺓ ﺍﻟﺘﻬﺪﺋﺔ ﻭﺍﻟﻠﺠﻮﺀ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻮﺍﺭ .

ﺗﺤﻄﻴﻢ ﺗﻤﺜﺎﻝ ﺍﻷﺳﺪ ﺍﻷﺏ

ﻭﺃﻗﺪﻡ ﻣﺤﺘﺠﻮﻥ ﻓﻲ ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻋﻠﻰ ﺗﺤﻄﻴﻢ ﺗﻤﺜﺎﻝ ﺣﺎﻓﻆ ﺍﻷﺳﺪ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻌﺪ ﻣﻄﺎﻟﺒﺎﺗﻬﻢ ﺑﺮﺣﻴﻞ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﺑﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ .

ﻭﺗﻮﺍﺻﻠﺖ ﺍﻻﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻓﻲ ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺑﺠﻨﻮﺏ ﺳﻮﺭﻳﺎ ﻟﻠﻴﻮﻡ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ ﻋﺸﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻮﺍﻟﻲ، ﻟﻠﻤﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﺮﺣﻴﻞ ﺍﻷﺳﺪ ﻭﺇﺣﺪﺍﺙ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ، ﻓﻲ ﻭﻗﺖ ﻧﺼﺐ ﻣﺘﻈﺎﻫﺮﻭﻥ ﺧﻴﻤﺔ ﺍﻋﺘﺼﺎﻡ ﻭﺳﻂ ﺳﺎﺣﺔ ﺍﻟﺴﻴﺮ ” ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ .”

ﻭﺗﻮﺍﻓﺪ ﻋﺸﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺤﺘﺠﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﺎﺣﺔ ﻭﺳﻂ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﺍﻻﺛﻨﻴﻦ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ، ﺣﺎﻣﻠﻴﻦ ﻻﻓﺘﺎﺕ ﺗﻨﺎﺩﻱ ﺑﺎﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻹﻓﺮﺍﺝ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻌﺘﻘﻠﻴﻦ ﻭﺗﻄﺒﻴﻖ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﺍﻟﺪﻭﻟﻲ .2245

ﻭﺫﻛﺮﺕ ﺷﺒﻜﺔ ” ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ “24 ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ، ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺤﺘﺠﻴﻦ ﻭﻗﻔﻮﺍ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﺻﻤﺖ ﻓﻲ ﺳﺎﺣﺔ ﺍﻻﻋﺘﺼﺎﻡ، ﺇﺣﻴﺎﺀ ﻟﺬﻛﺮﻯ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻭﺣﻴﺪ ﺍﻟﺒﻠﻌﻮﺱ ﻭﺭﻓﺎﻗﻪ، ﻭﺍﻟﻤﺪﻧﻴﻴﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻗﻀﻮﺍ ﻓﻲ ﺗﻔﺠﻴﺮ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻣﻦ ﻋﺎﻡ .2015

ﻭﺃﺿﺎﻓﺖ ﺃﻥ ﻋﺪﺩﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﺘﺠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺣﻄﻤﻮﺍ ﺗﻤﺜﺎﻝ ﺍﻷﺳﺪ ﺍﻷﺏ، ﻛﻤﺎ ﺃﺯﺍﻝ ﻣﺘﻈﺎﻫﺮﻭﻥ ﺁﺧﺮﻭﻥ ﺻﻮﺭﺓ ﻟﻪ ﻋﻦ ﻭﺍﺟﻬﺔ ﻣﺒﻨﻰ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﺘﺄﻣﻴﻨﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .

ﻭﺗﺬﻛّﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺨﻄﻮﺓ ﺑﺎﻟﻤﺸﺎﻫﺪ ﺍﻟﺘﻲ ﺳﺎﺩﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻴﺎﺩﻳﻦ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ ﻋﺎﻣﻲ 2011 ﻭ 2012 ﻭﺗﻀﻤﻨﺖ ﺗﺤﻄﻴﻢ ﻋﺸﺮﺍﺕ ﺍﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ ﻟﻠﺮﺋﻴﺲ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﺍﻟﺮﺍﺣﻞ، ﻭﻳﻌﺘﺒﺮﻫﺎ ﻣﺮﺍﻗﺒﻮﻥ ﺳﻮﺭﻳﻮﻥ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺍﻧﻌﻄﺎﻓﺔ ﺣﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻗﺪ ﺗﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﺗﺼﻌﻴﺪ ﻛﺒﻴﺮ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﻇﻞ ﻋﺠﺰ ﺍﻟﻮﺟﻬﺎﺀ ﻭﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻟﻴﻦ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﻮﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﺻﻴﻐﺔ ﺗﻀﻤﻦ ﺍﻟﺘﻬﺪﺋﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﻨﻮﺍﻝ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻲ ﺍﻻﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺷﻬﺪﺗﻬﺎ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻨﻮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ .

ﻣﺆﺗﻤﺮ ﻋﺎﻡ ﻻﺧﺘﻴﺎﺭ ﻫﻴﺌﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ

ﻭﻓﻲ ﺧﻄﻮﺓ ﻗﺪ ﺗﺘﺮﻙ ﺗﺪﺍﻋﻴﺎﺕ ﺧﻄﻴﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻣﺼﻴﺮ ﺍﻻﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻬﺪﻫﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﻇﻞ ﺍﻻﺗﻬﺎﻣﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺟﻬﺔ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺽ ﺣﻜﻢ ﺫﺍﺗﻲ ﻟﻠﻤﺤﺎﻓﻈﺔ، ﺑﺪﺃﺕ ﻗﻮﻯ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﻭﻃﻨﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺤﻀﻴﺮ ﻟﻤﺆﺗﻤﺮ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﺳﻴﻌﻘﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺧﻼﻝ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﻟﻤﻘﺒﻠﺔ .

ﻭﺟﺎﺀﺕ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﻟﻠﻤﺆﺗﻤﺮ ﺑﺘﺎﺭﻳﺦ 7 ﺗﻤﻮﺯ ‏( ﻳﻮﻟﻴﻮ ‏) ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺩﻋﻮﺓ ﻭﺟﻬﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻗﻮﻯ ﻭﻃﻨﻴﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ .

ﻭﻣﻦ ﺍﻷﻫﺪﺍﻑ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻄﺮﺣﻬﺎ ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮ، ﺗﺄﺳﻴﺲ ﻫﻴﺌﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﺪﻧﻴﺔ ﺗﻬﺪﻑ ﺇﻟﻰ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﻟﺠﺎﻥ ﻣﺤﻠﻴﺔ، ﻭﺗﻜﻠﻒ ﻛﻞ ﻟﺠﻨﺔ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﻣﻠﻔﺎﺕ ﺧﺪﻣﺎﺗﻴﺔ – ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ – ﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﺿﻤﻦ ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺑﻬﺪﻑ ﺳﺪ ﺍﻟﻔﺮﺍﻍ ﺍﻟﻨﺎﺗﺞ ﻋﻦ ﻓﺴﺎﺩ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺗﻮﺭﻁ ﺍﻷﺟﻬﺰﺓ ﺍﻷﻣﻨﻴﺔ ﻓﻴﻪ .

ﻭﺳﻮﻑ ﺗﻘﺪﻡ ﺍﻟﻬﻴﺌﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺪﻭﻟﻲ ﺭﺅﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﺳﻮﺭﻳﺎ ﻭﻣﺸﺎﺭﻛﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻹﻋﺎﺩﺓ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ .

ﻭﻭﻓﻖ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻬﺪﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮ، ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺗﺤﺎﻟﻒ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ، ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﺄﻣﻴﻦ ﺍﻟﺨﺪﻣﺎﺕ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﻓﻖ ﺍﻟﻘﺪﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﺘﺎﺣﺔ . ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻟﻠﻬﻴﺌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺳﻮﻑ ﻳﺘﻢ ﺗﺸﻜﻴﻠﻬﺎ ﻋﺪﺩﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ :

– ﺍﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﻠﻰ ﻭﺣﺪﺓ ﺍﻷﺭﺍﺿﻲ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ ﻭﺭﻓﺾ ﺃﻱ ﻣﺸﺮﻭﻉ ﺍﻧﻔﺼﺎﻟﻲ، ﻭﺗﻌﺰﻳﺰ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﻼﻣﺮﻛﺰﻳﺔ، ﻭﻃﺮﺡ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﺿﻤﻦ ﺇﻃﺎﺭ ﺍﻟﺨﺪﻣﺎﺕ ﻭﺗﺄﻣﻴﻦ ﺍﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ .

ﻛﺬﻟﻚ ﺗﻢ ﻃﺮﺡ ﺍﻟﺒﺪﺍﺋﻞ ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺗﺄﺳﻴﺲ ﻫﻴﺌﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﺪﻧﻴﺔ ﺗﺴﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﻟﺠﺎﻥ ﻋﻤﻞ ﻣﺤﻠﻴﺔ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ . ﻭﺗﻤﺖ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺧﺮﻭﺝ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﻣﻦ ﻭﺍﻗﻌﻬﺎ ﺍﻟﻤﺘﺮﺩﻱ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻤﻌﻴﺸﻴﺔ ﻭﺍﻧﺘﺸﺎﺭ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﻓﻲ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ .

– ﺑﻌﺪ ﺍﻧﺘﺨﺎﺏ ﺍﻟﻬﻴﺌﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ، ﻭﺿﻊ ﺧﻄﻂ ﻟﻤﻮﺍﺟﻬﺔ ﻇﺎﻫﺮﺓ ﺍﻧﺘﺸﺎﺭ ﺍﻟﻤﺨﺪﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺩﻋﻢ ﺍﻷﺟﻬﺰﺓ ﺍﻷﻣﻨﻴﺔ ﻟﻬﺎ .

ﻭﺍﻋﺘﺒﺮ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ ﺍﻟﺘﺤﻀﻴﺮﻳﺔ ﻋﻤﻠﺖ ﻃﻮﺍﻝ ﺍﻷﺷﻬﺮ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﻠﻰ ﺗﺬﻟﻴﻞ ﺍﻟﻌﻘﺒﺎﺕ ﻭ ﺗﻘﺮﻳﺐ ﻭﺟﻬﺎﺕ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺑﻴﻦ ﻛﻞ ﻃﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﺣﺸﺪ ﺍﻟﻄﺎﻗﺎﺕ ﻟﺪﻋﻢ ﻛﻞ ﺍﻟﺴﺒﻞ ﺍﻟﺴﻠﻤﻴﺔ ﻟﻠﻤﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﺤﻘﻮﻕ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﻭﻟﺪﻳﻬﺎ ﻣﻬﻤﺔ ﻣﺤﺪﺩﺓ ﻓﻲ ﺑﻨﺎﺀ ﺟﺴﻢ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻭﻃﻨﻲ ﻳﺴﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺳﺪ ﺍﻟﻔﺮﺍﻍ ﺍﻟﺤﺎﺻﻞ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻏﻴﺎﺏ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻣﻨﺬ ﺷﻬﻮﺭ ﻃﻮﻳﻠﺔ .

ﻭﻭﻓﻘﺎً ﻟـ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﻘﻮﻯ، ﻓﺈﻧﻪ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭﺍً ﻣﻦ ﻳﻮﻡ 5 ﺃﻳﻠﻮﻝ ‏( ﺳﺒﺘﻤﺒﺮ ‏) ﺳﻮﻑ ﺗﺒﺪﺃ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ ﺍﻟﺘﺤﻀﻴﺮﻳﺔ ﻟﻠﻤﺆﺗﻤﺮ، ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﺭﺳﺎﻝ ﺍﻟﺪﻋﻮﺍﺕ ﻟﻜﻞ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻮﺭﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ .

ﺩﻣﺸﻖ – ﺍﻟﻨﻬﺎﺭ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ

————————–

السويداء.. حراك “المعارضة المصنّعة محلّيّاً”/ محمد قواص

لا يقرأ الغاضبون في السويداء المواقف الدولية والتحوّلات الإقليمية والمناورات العسكرية المتعلّقة ببلدهم. ولا يحسبون في حراكهم الراهن أيّ حساب لأجندات خارجية قد تلاقي أو تناقض صراخهم في الساحات التي خرجوا إليها. ولئن تُلاقِ درعا جنوباً ومناطقُ الشمال انتفاضةَ “أهل الجبل”، فإنّ في ذلك ما يعيد تسليط المجهر على هويّة سوريّة تقطّعت جغرافيّتها وتباعدت انشغالاتها، لكنّها ما زالت قادرة على الوصل والتلاقي.

يأتي الحدث مواكباً لظواهر اعتراض لافتة جريئة، وإن ما تزال تتّخذ طابعاً فردياً، في منطقة الساحل ومن داخل البيئة العلويّة المفترض أنّها حاضنة النظام الأولى. صحيح أنّ من المبكر ومن المستبعد الحديث عن موجة جديدة من الاحتجاجات التي انطلقت من درعا في 18 آذار من عام 2011، غير أنّ الحراك يقدّم مشهداً مزعجاً خادشاً للنسخة التي استكان إليها النظام في التنظير لـ”المجتمع المنسجم” الذي يصبو إليه من أجل مستقبل سوريا.

لا أوهام لدى المنتفضين في السويداء بأنّ حراكهم وحده سيحقّق الآمال التي حملتها شعاراتهم. فإسقاط النظام وترحيل الرئيس وغير ذلك مطالب جرى استنفادها خلال 12 عاماً، ولا أعراض توحي بتوفّر شروط جديدة أو مستجدّة تتيح إنجاز تحوّلات سورية

خليط “المطلبي” و”السياسي”

بغضّ النظر عن اختلاط الشعارات المطلبية لمحتجّي السويداء بتلك السياسية ذات اللهجة التي تطال النظام وزعيمه، فإنّ الحدث بحدّ ذاته يعيد التأكيد أنّ الخلل داخلي تجب معالجته، وأنّ “الصوت السوري” الذي كاد أن يغيب تماماً ويقبل السوريون، موالين ومعارضين، بقدريّة غيابه، يعود ليصدح من جديد في السويداء ودرعا وإدلب وغيرها، لعلّه يعود يوماً ليكون رقماً داخل الغرف التي تقرّر مصير ومسار البلد إن لم يكن الرقم الوحيد، الأوّل والأخير.

لئن لم يعترف الرئيس السوري في مقابلة أُجريت معه في 9 آب الجاري بوجود أزمة نظام أو حتى وجود أزمة داخلية في سوريا ملصقاً مآسي البلد بالخارج والإرهاب والمؤامرات الإقليمية الدولية، فإنّ حدث السويداء ووهجه يعيدان الكرة إلى ملعب هذا النظام وهذا الداخل. وإذا ما حسم الأسد أنّه لن يتعامل إلا مع معارضة “مصنّعة” محلّياً تمتلك “قاعدة شعبية، وبرنامجاً وطنياً، ووعياً وطنياً”، فإنّ الحراك ينطلق من داخل حاضنة شعبية وبيئة داعمة وتمّت مباركته من الزعامات المدنية والروحية (لا سيّما “مشيخة العقل” المرجعية الروحية للموحّدين الدروز)، وهو في شكله ومضمونه وشخوصه وشعاراته ومطالبه داخليّ بيتيّ “صُنع في سوريا”.

لا أوهام لدى المنتفضين في السويداء بأنّ حراكهم وحده سيحقّق الآمال التي حملتها شعاراتهم. فإسقاط النظام وترحيل الرئيس وغير ذلك مطالب جرى استنفادها خلال 12 عاماً، ولا أعراض توحي بتوفّر شروط جديدة أو مستجدّة تتيح إنجاز تحوّلات سورية. ما يزال مشهد سوريا يُرسَم من الخارج، سواء في انتشار “جيوش العالم” فوق أراضي البلد، أم في تطوّرات الأشهر الأخيرة التي أعادت سوريا إلى مقعدها داخل جامعة الدول العربية ووفّرت لرئيسها حضور القمّة العربية في 23 أيار الماضي في جدّة، أم في حالات تطبيع علاقات دمشق مع بعض الدول العربية. ومع ذلك قد لا تلاقي تعقُّد أجندات هذا الخارج أهلَ السويداء، وإن كانت العواصم تستمع إلى هتافاتهم بتأمّل وإصغاء واهتمام.

دمشق ليست قلقة.. وإيران؟

قد لا يشعر نظام دمشق بقلق كبير ممّا يجري في ساحات السويداء. في البال أنّ المنطقة سبق أن أظهرت حراكاً وتمرّداً عام 2018، فظهر تنظيم داعش في تموز من العام نفسه يوقع في هجماته أكثر من 200 قتيل. لن يعدم النظام الوسائل للتعامل مع “الملفّ” واستخدام ما تيسّر من عدّة الشغل لاستيعاب الحدث أو حتى التعايش معه وجعل الوقت يتولّى إخماده.

تغيب لغة الأغلبية والأقلّية، وتتراجع على نحو مذهل الحساسيّات المذهبية في ما يصدر عن “الجبل” و”الساحل” وحوران وغيرها. في حراك اليوم ما يعيد أملاً سوريّاً بنهوض طائر الفينيق من الرماد

في البال أنّ النظام الحليف في إيران تعامل وتعايش مع تظاهرات وتحرّكات أوسع في حجمها وفي جغرافيّتها وشموليّتها وإيقاعاتها. وفي البال أنّ نظام روسيا الحليف يخوض حرباً “وجودية” وفق أدبيّات الكرملين ومنابره ويتعايش مع أخطار الداخل كتلك التي أثارها يفغيني بريغوجين، وهو من قلب النظام وأحد أعمدته، سواء في حلقة تمرّده أم في حلقة مصرعه قبل أيام. وفي مثال إيران وروسيا الدولتين اللتين تحميان نظام دمشق وبقاءه عبرة مطمئنة بشأن عاديّة التعايش مع مزاج غاضب من دون توتّر ووجل.

ليس غريباً أن لا يحظى حراك السويداء بردود فعل رسمية تصدر عن العواصم الكبرى المدافعة عن حقوق الإنسان أو حتى تلك المنخرطة كأوروبا والولايات المتحدة بمواقف محدّدة من سوريا وكيفية صناعة مستقبلها. ولا يبدو أنّ “أهل الجبل” يعوّلون على هذا الأمر أو ينتظرونه. فلم تعُد سوريا تحتاج إلى مواقف دبلوماسية من هذه العاصمة أو تلك، ولم يعُد السوريون أساساً يصدّقون همّة تلك العواصم وجهود المجتمع الدولي لانتشال بلدهم من مأساته التاريخية.

مع ذلك يمثّل حدث السويداء مناسبةً وظرفاً يتيحان للسوريين في الداخل، وفي الخارج، إعادة طرح قضية سوريا لدى المحافل الدولية ليس من نوافذ “لعبة الأمم” فوق الأراضي السورية، بل من بوّابة سوريا والسوريين. يستلزم التطوّر في مدن سوريا وساحاتها مهمّة صعبة ومعقّدة لإعادة رصّ الصفوف وترتيب الأولويّات وتطهير النصوص المتقادمة وتحديث لغة ولهجات تعي منطق الممكن والمستحيل.

التعويذة السورية… وعقم الخرائط

يعبّر حراك السويداء عن خصوبة التعويذة السورية المحلّية وعقم الخرائط التي ترسمها عواصم القرار في المنطقة والعالم لسوريا. لا يملك النظام أن يتعامل مع ظواهر الاعتراض في السويداء والساحل كما تعامل مع ظواهر سابقة في مناطق أخرى سهُل وسمها بالإرهاب وإلصاقها بـ”داعش” وقوى التطرّف. لكنّ النظام لا يحتمل، بحكم تركيبته، تضخّم أعراض الاعتراض بعدما زيّنت له الأمور الانتصار النهائي. كما أنّ إيران التي تعتبر غزوتها السورية مفصلَ وجود قد لا تسمح بتعايش مع فكرة الاحتجاج كما تعايشت طهران نفسها مع الفكرة في إيران.

كان لافتاً أنّ أعلام سوريا وأعلام الثورة قد رُفعت في تظاهرات السويداء وكأنّ الفوارق لم تعُد مهمّة في سعي كلّ السوريين لإنتاج وطن. لكنّ اللافت أيضاً أنّ راية الحدود الخمس التي يرفعها الدروز كانت حاضرة بقوّة وكأنّ علم سوريا لم يعد حامياً وحده لأهل البلد. ولراية الحدود الخمس معانٍ ورسائل هويّاتية تتجاوز الحدود ويفهمها دروز لبنان والأردن وفلسطين وبقيّة أنحاء العالم.

تغيب لغة الأغلبية والأقلّية، وتتراجع على نحو مذهل الحساسيّات المذهبية في ما يصدر عن “الجبل” و”الساحل” وحوران وغيرها. في حراك اليوم ما يعيد أملاً سوريّاً بنهوض طائر الحريّة من الرماد.

———————————

مظاهرات سوريا: وحدة الفقر والجوع وإجماع على ضرورة التغيير

الترا صوت

تدخل تظاهرات مدينة السويداء أسبوعها الثاني، مع تصاعد في السقف السياسي للاحتجاجات، والاستمرار في المطالبة بإسقاط نظام الأسد، في حراك انطلق بعد سلسلة من قرارات حكومة النظام لرفع الدعم عن السلع الأساسية والتقدم في سياسة تحرير الاقتصاد.

والمظاهرات تتسع رقعتها لتصل إلى درعا، ودير الزور وحلب وريف دمشق والقنيطرة، واللاذقية، وغيرها من المناطق السورية، مع تراوح في اتساع حجم المظاهرات. أمّا ما برز من مظاهرات السويداء، وبالطبع درعا ودير الزور، هو العودة إلى شعارات الثورة السورية، مع التأكيد على مسؤولية نظام الأسد عن الحالة التي وصلت إليها البلاد، وكانت أبرز معالمه شعار رفع في مظاهرات السويداء، جاء فيه “المؤامرة الكونية، تخجل مما فعله النظام في سوريا”. في هذه المادة نعرض أبرز ما ورد في تقدير موقف صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان “الحراك الاحتجاجي في سوريا: هل بدأ يتشكل إجماع وطني على ضرورة التغيير؟”.

رهان فاشل على التطبيع العربي

كان النظام السوري واعيًا لقراراته الاقتصادية الأخيرة، وانعكاسها على المستوى المعيشي لعموم سكان سوريا، ومع ذلك “قرر المضي فيها نظرًا إلى الضغوط الكبيرة التي يواجهها مع تلاشي الموارد ونفاد احتياطيات الخزينة العامة”.

وفي العودة إلى جذور الاحتجاجات، فقد ساهم تطبيع عدة دول عربية مع النظام إلى خيبة أمل، مظرًا للنتائج المتواضعة التي تحققت عن هذا التطبيع، إذ “توقعوا أن تترافق علاقات النظام العربية مع انفراج الوضع الاقتصادي خصوصًا بعد القمة العربية التي احتضنتها جدة في أيار/ مايو 2023، لكن سلوك النظام الذي ترجم رغبة بعض الدول العربية في تطبيع علاقاتها معه على أنها ’نصر’، تحقق بشروطه، ورفضه تقديم أي تنازلات تساعد في إنجاح مسعى التقارب العربي معه، انتهى إلى مجرد توقع المعونات، والخيبة من عدم وصولها”.

ويعود ذلك إلى عدم جدية النظام السوري “في التعامل مع المبادرة العربية، وتعامله باستخفاف مع مطالبها، مثل ضبط صناعة المخدرات وتهريبها وإعادة 1000 لاجئ سوري من الأردن، ورفضه التعامل بإيجابية مع الأمم المتحدة في قضية المعابر ودخول المساعدات الإنسانية، أدى ذلك كله إلى مراجعة بعض الدول العربية علاقتها الدبلوماسية معه أو تجميدها”.

وبحسب تقدير الموقف: “انعكس ذلك بوضوح على الوضع الاقتصادي الذي أخذ يتدهور بسرعة، فانهار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وبلغ التضخم مستويات قياسية خلال الشهور الثلاثة الماضية؛ إذ بات أغلب السكان عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء”.

أمّا التحرك الذي ساهم في زيادة سوء الوضع داخل سوريا “توجه حكومة النظام إلى رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، مثل المحروقات، لتمويل زيادة الرواتب التي باتت قيمتها تراوح بين 10 و15 دولار شهريًا للموظف الحكومي. وبناء عليه، ازداد التذمر من اعتماد الحكومة سياسات ’الجابي’ مع عموم السكان وجامع ’الإتاوات’ مع التجار ورجال الأعمال لتوفير التمويل الضروري لاستمرار عمل الحكومة. وكان لافتًا أن احتجاجات السويداء جاءت بعد أيام من فشل اجتماع لجنة الاتصال العربية المكلفة بمعالجة ظروف الانفتاح العربي على سوريا في القاهرة، تعبيرًا عن مدى خيبة الأمل في تعامل النظام مع التوجه العربي لحل الأزمة، وانسداد الأفق أمام أي تغيير في الوضع القائم”.

سياسات إفقار

يمكن النظر إلى سيرة الليرة السورية على مدار الأشهر الأخيرة، من أجل الكشف عن تدهور الحالة الاقتصادية، التي انهارت بشكلٍ مباشر، مع توقف قطاعات الإنتاج الأساسية بعد سنوات من الحرب، وتوقف اقتصاد الحرب نفسه، وتقليص المساعدات الخارجية من قبل حلفاء النظام، ووفق البيانات الاقتصادية، فقد “تسارع انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي في السوق الموازي، خلال الشهور الأخيرة، فقد بلغ 7,500 ليرة سورية أمام الدولار في 19 نيسان/ أبريل 2023، ووصل إلى 10,350 ليرة في 15 تموز/ يوليو 2023، ثم بلغ 14,750 ليرة في 28 آب/ أغسطس 2023، وعلى هذا فقدت الليرة السورية خلال أربعة شهور خمسين بالمئة من قيمتها. وقد جاء مسار الليرة التراجعي معاكسًا لمسار الانفتاح العربي على النظام، بدءًا من موافقة السعودية على إعادة فتح السفارات بين البلدين، وصولًا إلى استعادة النظام مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، وانتهاء بحضور الأسد قمة جدة العربية”.

ووفق تقدير الموقف، المنشور يوم أمس، اتبع النظام سياسات مالية متشددة طوال السنوات الماضية “ساهمت إلى حد ما في منع انهيار العملة، مع تجميد الحركة الاقتصادية في البلاد”، ولكن تناقص موارد النظام، جعله يتجه إلى سياسات “جباية” و”سطو” على أموال كبار التجار ورجال الأعمال، نفّذها ما يسمى “بالمكتب السري” في القصر الجمهوري، بالتنسيق مع الفرع الداخلي التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة).

ويضيف تقدير الموقف: “جرى تعميم هذه السياسة لاحقًا على بقية التجار مع ازدياد الحاجة إلى السيولة، ووصلت حتى إلى أصحاب الشركات الخاصة المتوسطة؛ ما اضطر العديد منهم إلى إغلاق أعمالهم ومغادرة البلاد. وقد أدى مجلس اقتصادي يعمل داخل القصر الرئاسي، ترأسه أسماء، زوجة بشار الأسد، دورًا مهمًا في إدارة هذه السياسات الاقتصادية؛ ما أثار ردود فعل غاضبة بين السوريين، خصوصًا في المناطق المعروفة بتأييدها للنظام”.

ولتوضيح السياق الاقتصادي بشكلٍ أكبر خلال الأشهر الماضية، أضاف تقدير الموقف: “نتيجة للزلزال الذي ضرب شمال سوريا في شباط/ فبراير 2023، اضطر النظام إلى التراجع عن السياسات المالية والنقدية المتشددة، نظرًا إلى حالة الركود التي أصابت الاقتصاد السوري حتى قبل الزلزال، وتفاقمت بعده، حيث رفع النظام الكثير من القيود المالية على حركة النقد داخل البلاد”.

وأضاف: “نتيجة العوائد الاقتصادية المحدودة لسياسة الانفتاح العربية، وتنامي الضغوط الإيرانية لاسترداد الديون المترتبة على النظام، وتنفيذ الاتفاقات الموقعة معه، اضطر إلى تيسير الاقتراض ومنح المزيد من التسهيلات الائتمانية لرجال الأعمال لتحريك عجلة الاقتصاد، كما لجأ إلى سياسة التمويل بالعجز، ورفع الدعم عن المحروقات لزيادة رواتب موظفي القطاع العام، بالتوازي مع مساعيه لرفع القيود المالية وتنشيط الصناعة المحلية، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة الاستيراد، واستنزاف القطع الأجنبي. كما اتجه إلى إلغاء المراسيم التشريعية القاضية بتجريم التعامل بغير العملة السورية، التي صدرت عام 2020، وذلك بسبب حاجته الماسة إلى العملة الصعبة. وجاء الإعلان عن هذه السياسة الجديدة، خلال جلسة طارئة لمجلس الشعب دعت إليها الحكومة في 24 تموز/ يوليو لمناقشة الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي”.

العودة إلى الساحات

يؤكد تقدير الموقف، على أن سياسات النظام السوري الاقتصادية، ساهمت في حدوث تدهور سريع للوضع الاقتصادي، انعكس في حالة من الغضب الشعبي، الذي ظهر حتى في مناطق نفوذ النظام، مثل محافظة اللاذقية.

أمّا المظاهرات الأبرز، فقد جاءت داخل محافظة السويداء، التي تحولت إلى مركز للاحتجاجات المطلبية، وسرعان ما رفعت إلى مطالب سياسية، وذلك إثر نجاح النشطاء في فرض إضراب عام في المحافظة، مع المطالبة بإسقاط نظام الأسد وتطبيق القرارات الدولية، والإفراج عن المعتقلين، محملةً الأسد مسؤولية كل ما حصل، فيما شهدت الاحتجاجات مشاركة واسعة من الشباب ورجال الدين والنساء، اللواتي شاركن بشكلٍ لافت، مع بروز حراك أطلق على نفسه “طالعات سوريات”.

ويفرق تقدير الموقف بين الاحتجاجات التي انطلقت في السويداء عام 2018 أو 2020، على عدة مستويات، “الأول هو اتساع نطاقها، وانخراط مختلف الفئات والقوى الاجتماعية فيها، بمن فيهم مشايخ العقل، الزعماء الدينيون للطائفة الدرزية، الذين درجوا على تبني مواقف محايدة من الصراع أو مؤيدة للنظام ومواقفه، ساعدت سابقًا في تهدئة الفئات المحتجة. والثاني تركيز الاحتجاجات انتقاداتها على شخص رئيس النظام وزوجته. وقد لوحظ أيضًا غياب الدور الروسي الذي درج على التدخل وسيطًا بين النظام وقيادات الحركة الاحتجاجية في السويداء”.

أمّا عن تعامل النظام مع المظاهرات حتى الآن، فقد “اكتفى بالتلويح باستخدام القوة، والتحريض على المحتجين بذرائع الطائفية والعمالة والخيانة، كما أرسل المحافظ للتفاوض مع الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل”، موضحًا: “جاء هذا التعامل اللين؛ لأن النظام يخشى المسّ بصورته التي دأب على رسمها بوصفه حامي الأقليات الدينية، بخلاف تعامله مع محافظات أخرى شهدت احتجاجات مماثلة مثل درعا حيث سجلت حوادث إطلاق نار، كما أبدت أجهزة الأمن السورية استعدادًا واضحًا لقمع أي مظاهرة في المحافظات الأخرى. وفي اللاذقية كثف النظام مساعيه لكشف مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها “حركة 10 آب”، وسعى إلى عزل الأصوات المنتقدة، عبر التهديد والاعتقال، واستثارة مخاوف العلويين من عودة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وغيرها من التنظيمات المتطرفة، لإسكات الأصوات المعارضة واحتواء أي دعوة للاحتجاج والتمرد”.

إجماع على ضرورة التغيير

أمّا الخلاصات التي وصل إليها تقدير الموقف، فقد جاءت في الآتي: “على الرغم من أن النظام لن يتردد في استخدام العنف، إذا اضطر، حتى ضد قاعدة دعمه التي قاتل بها، إلا أن هذا الخيار لن يكون اللجوء إليه سهلًا، خوفًا من حصول تصدعات داخل نواة النظام الصلبة، كما أنه غير قادر على تقديم حلول اقتصادية وتلبية مطالب المحتجين، أو شراء سكوتهم في ظل محدودية موارده، ووصول التطبيع مع العرب إلى طريق مسدودة، وعجز إيران وروسيا عن تقديم المساعدة”.

ويضيف في الخاتمة: “تبدو خيارات النظام محدودة في التعامل مع الاحتجاجات المتنامية التي لم تعد محصورة في المناطق المعروفة بمعارضتها له مثل درعا ودير الزور وغيرها، بل باتت تحصل في مناطق كانت إما محايدة (مثل السويداء) وإما تمثل معاقل رئيسة لدعمه (مثل منطقة الساحل التي تضم محافظتي اللاذقية وطرطوس). وأكثر ما يقض مضجع النظام هو بداية تشكل إجماع وطني بين السوريين على ضرورة التغيير ورحيله، مع تحميله مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها البلاد”.

ويشير تقدير الموقف: “بدأ السوريون من كل الطوائف والمذاهب والمناطق يرون أن التغيير ضرورة، وأن مصلحتهم فيه مباشرة، بعد أن وحّدهم الفقر والجوع وانعدام الأمن، وبعد أن سقطت أطروحة أن النظام انتصر، وأن الوضع قابل للاستمرار، دون الحاجة إلى حل سياسي، ودون تقديم تنازلات يحاول النظام جهده تجنبها، لأنه يرى فيها نهايته”.

———————————

=========================

تحديث 31 آب 2023

————————

هل نتّجه في المشرق العربي إلى ما بعد الدولة ــ الأمّة؟/ حازم صاغية

هناك رأي واسع يرى قضايا الحرّيّات والحقوق والمصالح بوصفها قاطرة تقود إلى تغيير وطنيّ وديمقراطيّ في بلدان المشرق العربيّ، أي إلى إعادة تأسيس الأوطان. فهنا يحضر المواطنون في الساحات العامّة فيسقط نظام عديم الشرعيّة، ملوّث المصالح، ويصعد نظام شرعيّ ينتخبه السكّان ويعبّر عن مصالحهم. أمّا رفع وتائر المعارضة المدنيّة والسلميّة فهو ما يسرّع تلك العمليّة النبيلة والهادفة.

وهي بالفعل عمليّة نبيلة يدافع عنها أشخاص نبيلون، لكنّ عقب أخيلها تعاملُها مع الأوطان القائمة بوصفها تحصيلاً حاصلاً. ويُخشى أن لا تكون الحال هكذا، وأن يكون السمّ الكثير الذي حُقنت به مجتمعاتنا قد سمّمها هي نفسها كمجتمعات واحدة تحظى وحدتها بإجماع سكّانها. بل يُخشى أن نكون قد بلغنا طوراً باتت معه قدرة المجتمعات على تفسيخ الثورات أكبر كثيراً من قدرة الثورات على توحيد المجتمعات. والأمر ربّما استدعى خطوةً إلى الوراء تبتعد بنا عن «النظريّة الكلاسيكيّة» المتوارَثة وتمهّد لخطوتين إلى الأمام في تصوّرنا لمستقبل ديمقراطيّ وبنائنا له.

اليوم في الجنوب السوريّ انتفاضة شجاعة تستعاد معها بعض ملامح الثورة في 2011، كما تستعرض حضور النساء وطاقات المجتمع المحلّيّ وتصميمه. لكنّ السؤال المشروع الذي يُحكم بالجواب عنه مسار الانتفاضة هو: هل تهبّ باقي سوريّا لإنجادها وتحويلها من انتفاضة مناطقيّة يطغى عليها لون أهليّ بعينه، هو الدرزيّ، إلى ثورة وطنيّة عابرة للطوائف؟ ولا يؤتى بجديد حين يقال أنّ حجم السويدا، وموقعها الجغرافيّ الطرفيّ، لا يجيزان تحميلها أكثر ممّا تستطيع حمله في ما خصّ إجماليّ الوضع السوريّ.

في أيّة حال، فالإشارات حتّى اللحظة متناقضة: فثمّة بؤر اعتراضيّة في أمكنة عدّة من سوريّا، بما فيها منطقة الساحل ذات الأكثريّة العلويّة، لكنّ تلك البؤر أضعف كثيراً من أداء مهمّة الإنجاد تلك. وثمّة شعارات وطنيّة سوريّة يرفعها منتفضو السويداء، وثمّة في المقابل رموز درزيّة محلّيّة تتكشّف عنها الانتفاضة. أمّا استقبال هذا الحدث الكبير ممّن يقعون خارج نطاقه، وخارج لونه المذهبيّ، فهو أيضاً مزدوج: فهناك من يلاقيه بالحماسة والدعم، ويعامله كمقدّمة لجهد وطنيّ أكبر، وهناك من يلاقيه بالتحفّظ والتشكيك بوصفه لا يعبّر عن الأكثريّة السنّيّة، وهذا ناهيك عن آلة الدعاية الرسميّة التي تشوّهه بالافتراء. وإذا كان طرح بعض المنتفضين شعار اللامركزيّة يقول شيئاً دالاًّ، فإنّ الصعوبات التي تعترض العمل الوطنيّ الجامع ليست بالقليلة: من هزيمة الثورة قبل عقد، إلى البعثرة والتشتّت اللذين أصابا السوريّين بعد تهجيرهم المليونيّ، انتهاء بواقع الاحتلالات الأجنبيّة التي باتت البلاد تخضع لها.

وهكذا تصحّ المجادلة القائلة إنّ هزال النظام قد لا يعني بالضرورة سقوطه، كما أنّ الضربات الموضعيّة التي قد يتعرّض لها، ويحضّ عليها هذا الهزال المقرون بعجز اقتصاديّ ومعيشيّ كامل، قد لا تجتمع أو تتراكم لتغدو ضربة تدكّه في مركزه.

وقد تنتهي سوريّا إلى وضع لا تُحكَم فيها موحّدةً لكنّها أيضاً لا تتغيّر فيها موحّدةً. وهكذا نُترك أمام حقيقة مؤلمة وفضائحيّة في آن معاً، هي أنّ الانتصار الذي تحقّق على ثورة 2011 إنّما كان انتصاراً على سوريّا نفسها بوصفها بلداً واحداً. أمّا الباحثون عن إنجازات أخرى، والانتصاراتُ يُفترض أن تمهّد لإنجازات يحقّقها المنتصر، فإنّما عن عبث يبحثون.

والحال أنّ درزيّة الانتفاضة ليست مأخذاً عليها ولا تمجيداً لها، بل هي صورة عن واقع الحال وجدت من يشبّهها بصورة المناطق الشماليّة المحاذية لتركيّا. فهناك أيضاً يطغى لون كرديّ لم يكتم أصحابه رغبتهم في الحصول على حكم ذاتيّ في إطار نظام فيدراليّ. ولئن كان الكرد السوريّون يحاولون محاكاة ما ضمنته الفيدراليّة للكرد العراقيّين، فإنّ باقي منطقة المشرق العربيّ يسلك إلى أهداف مشابهة طرقاً مختلفة، وإن كانت أكثر التواء وأقلّ تعبيريّة.

ونعلم جيّداً مدى الانتكاسة التي أصيبت بها الوطنيّة اللبنانيّة الجديدة بعد الفشل الذي ألمّ بمحاولتين لإصلاحها وتجديدها، في 14 آذار 2005 وفي 17 تشرين 2019. ونعلم أيضاً أنّ انتفاضة العراقيّين في 2019 اقتصرت على جمهور شيعيّ في مواجهة نظام هو، رغم كلّ المزاعم المعاكسة، شيعيّ. وخارج المشرق، هناك أصوات في السودان واليمن وليبيا باتت تطالب بصيغ في الحاكميّة غير مركزيّة.

وربّما بات الخيال السياسيّ مُطالَباً باستلهام شيء من الدولة – المدينة علّه يساعد في إخراجنا من التخبّط الراهن مع الدولة – الأمّة والاحتمالات المفتوحة لحروب وانحطاط وسيطرة قهريّة بلا نهاية.

فقد سبق للمنطقة أن قاومت مزاج الزمن حين أنشئت الدول – الأمم بعد الحرب العالميّة الأولى وانهيار السلطنة العثمانيّة. يومذاك رُفض المزاج المذكور بذريعة أنّه يعبّر عن «تجزئة» ويعكس «مشروعاً استعماريّاً»، فيما جاء الرفض باسم وطن وأمّة أكبر. ويُستحسن اليوم أن لا يُواجَه مزاج الزمن ثانيةً، بعدما نجحت الأنظمة التي قامت، مدعومةً بثقافة ميّتة، في تفريغ الدول – الأمم من كلّ محتوى أو احتمال نافعين وفي تجزئة الأوطان الأصغر وتخريبها.

الشرق الأوسط

——————————–

احتجاجات السويداء.. والسيناريوهات المتوقعة

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

انتفاضة السويداء

لم تولد انتفاضة السويداء فجأة من فراغ، وهي التي يقطنها غالبية من الموحدين الدروز، بل هي تراكم لمواقفها السابقة، التي بدأت مع بداية الانتفاضة السورية في 2011، إذ نأت المحافظة بنفسها عن الوقوف إلى جانب النظام، وعبّرت عن ذلك برفض إرسال شبابها إلى الخدمة العسكرية، “كي لا يسهموا في قتل أشقائهم من السوريين”، ولكنها بالمقابل لم تبدِ تأييدًا لفصائل المعارضة المسلحة أو للمجلس الوطني أو الائتلاف، غير أن بعض قواها كان له موقفًا أكثر جذرية بعدائه للنظام، وخاصة “ثوار الكرامة” بقيادة الشيخ البلعوس، الذي قتله النظام في 4 أيلول/ سبتمبر 2015، بل إن فصيلًا مسلحًا قد تشكل من أبناء السويداء بقيادة الملازم أول خلدون زين الدين، الذي لم يحصل على ذات الدعم الذي حصلت عليه الفصائل الأخرى، ثم قُتل في إحدى المعارك مع قوات النظام. ورغم أن نشاط السويداء المعارض للنظام كان يتأرجح بين صعود وركود، فقد بدأ بالتصاعد في السنتين الأخيرتين مع تدهور الأوضاع المعيشية إلى حدود لا يمكن تحملها، فالأمل بتحسين ظروف العيش الذي وعد به الأسد السوريين في مناطق سيطرته مع صمت البنادق قد تبخر، وغدا الوضع أصعب مع تدهور مختلف الخدمات، واستمرار الحواجز واستمرار ابتزاز المواطنين، وتوسع الفساد، وتردي نوعية الحياة من كل الجوانب، حيث يصعب تحمل الحياة في ظلّ شروط عيش أدنى من شروط العبودية، وتزايد هجرة شباب السويداء، أسوة بشباب بقية المناطق، وهذا يهدد بإفراغ سورية من سكانها، بينما تنشط إيران لشراء العقارات وعمليات التشييع وتجنيس الأجانب، ما يهدد بتغيير ديمغرافي. كل هذا مع انغلاق أفق أي حلّ سياسي، وفشل مشروع الخطوة مقابل خطوة، ويشعر السوريون أن الفاعلين في الصراع السوري قد وضعوا السوريين في قعر البئر ثم أداروا ظهرهم لهم.

نتيجة لتدهور الأوضاع على هذا النحو، فقد صعّدت قوى معارضة في السويداء من نشاطها في السنتين الأخيرتين، إلى حدّ أنها في الآونة الأخيرة فككت ميليشيات كانت تتبع أجهزة الأمن وإيران، واستمرت تعبّر بأشكال مختلفة عن غضبها بوقفات في الساحات العامة، وقد اكسبت مطالبها بعدًا سياسيًا، ولم تتوقف عند البعد المطلبي.

زيادة رواتب تصب الزيت على النار:

أمام مخاوف الأسد من انفجار المجتمع السوري نتيجة للوضع الكارثي الذي يعيشه السوريون، اندفع وأصدر المرسومين رقم 11 و12/ 2023، القاضيين بزيادة الرواتب للعاملين في مؤسسات الدولة والمتقاعدين وقدرها 100% من رواتبهم الأساسية[1]، من أجل امتصاص نقمة السوريين في مناطق سيطرته. علمًا بأن رواتب العاملين بمؤسسات الدولة في مناطق سيطرة النظام، هي المعيار لرواتب العاملين في القطاع الخاص.

لأن النظام لا يملك موارد حقيقية لهذه الزيادة، بسبب التدمير الذي لحق بالاقتصاد على مدى سنوات الحرب السورية من 2011 حتى 2023، وبسبب العقوبات الغربية القاسية التي فرضت على النظام، وبسبب مناخ الفساد والإفساد الطارد للاستثمارات، وبسبب التضييق الأميركي والعربي على تجارة الكبتاغون التي ينتجها النظام لتكون موردًا ماليًا كبيرًا، وبسبب استمرار حاجة النظام الكبيرة للإنفاق على جيش ما زال كبيرًا، وجهاز دولة كبير، وهذا ما لا يدع أي وفورات لأي زيادات في الرواتب، بينما لا تصله مساعدات كافية من داعميه، إيران روسيا، لجأ النظام، كعادته، إلى رفع أسعار حوامل الطاقة، وقلّص الدعم الذي يُمنح لبعض السلع والخدمات، واضطر للاستغناء عن جزء ممن هم في خدمة الاحتياط في جيشه، فكانت ذات النتيجة التي خبرها السوريون مع زيادات الرواتب على مدى نصف قرن من حكم الأسد، إذ إن أي زيادة في الراتب تعني تراجع في القدرة الشرائية للرواتب والأجور. لذا، كانت رغبة السوريين تعكسها العبارة التي طالما رددها السوريون “لا نريد زيادة رواتب ولكن ثبتوا لنا الأسعار”. وبالتالي، أصبح راتب العاملين في الدولة بعد مرسومي الزيادة يتراوح بين 12 و17 دولارًا في الشهر، بينما كان سنة 2022 نحو 22 دولارًا. مثلًا، أصبح الراتب الأساسي بعد الزيادة لحامل شهادة الدكتوراه 224.2 ألف ليرة سورية (16 دولارًا أميركيًا)، وراتب حامل شهادة الدبلوم 209 آلاف ليرة سورية (14.9 دولارًا) ولحملة الشهادة الثانوية 196 ألف ليرة سورية (14 دولارًا) وحملة الشهادة الإعدادية 190 ألف ليرة سورية (13.6 دولارًا) حيث بلغ سعر صرف الدولار اليوم نحو 14 ألف ليرة سورية.

يقدر موقع نومبيو[2] المتخصص بقياس تكاليف العيش ومستوى الحياة، أن الفرد في سورية يحتاج لأكثر من 4 دولارات في اليوم للعيش بكرامة في الظروف العادية، بمعنى أن الشخص يحتاج أكثر من 130 دولارًا في الشهر، وأن عائلة مكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى 650 دولارًا في الشهر. حتى لو افترضنا أن حاجة الفرد دولاران فقط في اليوم، ضمن الظروف الحالية، فإن عائلة مؤلفة من خمسة أفراد تحتاج إلى 300 دولار في الشهر للعيش بالحد الأدنى، بينما يحصل المشتغل على أقل من 25 دولارًا، وبالتالي؛ يصعب تصور أو شرح كيف تستطيع مثل هذه الأسر الاستمرار بالحياة. وهذا يجعل الوضع السوري قابلًا للانفجار في كل لحظة وفي كل مكان على الأرض السورية، لأن النظام لا يملك موارد لجَسر هذه الهوة في دخول الأسرة السورية وحاجتها للإنفاق، فهو لا يملك أي موارد جديدة سوى رفع الأسعار، أي يسترجع بيده الشمال ما منحه بيده اليمين، ثم يُضاف إليها تدهور خدمات الصحة والتعليم والنقل وشيوع الفساد والجريمة، وهذا ما يجعل نوعية الحياة في دمشق في أسفل سلّم تقييم نوعية الحياة في مدن العالم الرئيسية.

بدلًا من تهدئة الشارع السوري، جعلت زيادة الرواتب، مع زيادة الأسعار بنسبة أكثر منها، حراكَ السويداء أشد قوة هذه المرة، وبمضمون سياسي صريح بـ “رحيل النظام”، وما يزال الحراك مستمرًا بقوته، ولم يقتصر على مدينة السويداء، بل انتشر في العديد من مدن وبلدات المحافظة، مهددًا بالانتشار إلى محافظات أخرى، الأمر الذي يرعب النظام ويربكه بذات الوقت. وأمام خطورة هذه التطورات، فإن وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” سيصل إلى دمشق مساء اليوم (29 آب/ أغسطس 2023) قادمًا من بيروت في زيارة رسمية يلتقي فيها كبار مسؤوليها. وبحسب معلومات جريدة “الوطن” السورية الموالية، فإن الوزير الإيراني سيلتقي غدًا وزير الخارجية والمغتربين السوري فيصل المقداد للبحث في آخر التطورات[3].

كان من اللافت أن حراك السويداء قد اجتذب اهتمام عدد من الفاعلين في الملف السوري، وأبدوا تأييدًا ودعمًا لهذا الحراك، فالمبعوث الألماني الخاص إلى سورية ستيفان شنيك أشاد بشجاعة أبناء محافظتي السويداء ودرعا وخروجهم في التظاهرات المطالبة بالحرية والعدالة، داعيًا النظام السوري إلى الامتناع عن ممارسة العنف ضد الاحتجاجات السلمية، وأشارت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، أشارت خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي، إلى التظاهرات السلمية التي تشهدها المدن السورية في السويداء ودرعا، لافتة إلى أن “هذه المناطق قد شهدت بداية الثورة، ومن الواضح أنه لم تتم تلبية مطالبها السلمية”. وقال المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي لويس ميغويل بوينو: “سورية تواجه وضعًا اقتصاديًا صعبًا بسبب سوء الإدارة الاقتصادية، وبسبب اقتصاد حرب أنشأه النظام وحلفاؤه، وعبر الحل السياسي يمكن أن يتحسن الوضع لجميع المواطنين السوريين. في حين أشادت المبعوثة الفرنسية الخاصة إلى سورية بريجيت كرمي، بتجدّد الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام، وقالت مبعوثة المملكة المتحدة “آن سنو” إلى سورية: “من خلال مشاهدة الاحتجاجات في سورية، فمن الواضح أن السوريين لن يستسلموا أبدًا. وأنا أشيد بشجاعتهم”.

دلالات تحملها انتفاضة السويداء:

تحمل انتفاضة السويداء دلالات متعددة، فرغم أنها تصاعدت على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية وشروط الحياة الكريمة، فإنها لم تتخذ شكل ثورة جياع، بل اتسعت مطالبها لتتحول إلى مطالب سياسية، والمطالبة بحل سياسي وفق القرار 2254، ورحيل النظام، وقد تكرر هتاف المتظاهرين في ساحة الكرامة وسط السويداء “الشعب يريد إسقاط النظام”، ورفض الحراك التفاوض مع مندوبي النظام، وقد انضمت المؤسسة الدينية للموحدين الدروز “مشايخ العقل” مؤيدة انتفاضة السويداء، ورفع المحتجون أعلامًا خاصة بالطائفة الدرزية بشكل رئيس، بينما رُفع علم المعارضة بنجومه الحمراء الثلاث في بعض الأحيان فقط. وقد لقي هذا انتقادًا من بعض أوساط المعارضة، خشية أن يفسر البعض أن يكون عدم رفع أي علم سوري بأنه تعبير عن رغبة مضمرة بالاستقلال. ولكن يُفسر هذا، بحسب شرح بعض المطلعين من أهالي السويداء، بوجود أكثر من رأي حول العلم الذي يجب أن يُرفع: علم المعارضة، أم العلم الرسمي الذي يرمز للنظام! كما يُفسَّر ذلك من جهة أخرى بأنه رغبة في تخفيف استفزاز النظام، والسويداء تحت سلطته، ولكون قطاعات واسعة من السوريين في مناطق سيطرة النظام لا تسرها رؤية علم المعارضة، بغض النظر عن موقفها من النظام.

الدلالة الأخرى هي أن هذه الانتفاضة قلّصت الفجوة ومشاعر الخوف من الآخر التي عمل عليها النظام ووسعها على مدى سنوات الحرب السورية بين الأكثرية السنية ومجموعة الأقليات، من دروز وإسماعيليين ومسيحيين وعلويين وشيعة، فقد بدأت مشاعر العداء بين مكونات الشعب السوري بالتراجع منذ تراجع المعارك بدءًا من سنة 2018، عندما بدأت مستويات المعيشة بالتدهور، وأصبحت الأحوال المعيشية لجميع السوريين تتقارب في مستوياتها المتدنية، عدا قلة من أمراء الحرب وأثريائها على الجبهتين، ومجموعة النخبة الحاكمة والمحيطين بها، وبات الجميع يشعرون بأن الحرب السورية كانت وبالًا على الجميع، وقد جمعت معاناة العيش الصعب بين السوريين وقربتهم من بعضهم، وأصبح الجميع مشغولون بالهموم والمعاناة ذاتها، ولم يعد اتباع المذهب الآخر هو العدو، كما كان متخيلًا قبل بضع سنوات، سوى في بعض الأوساط المتطرفة. وشعر السوريون في كل مكان أنهم تلقوا المصير الأسود ذاته، وأنهم شركاء في الكارثة السورية، مقابل نخبة صغيرة من أمراء الحرب وأثريائها، فهم من انتفعوا.

الدلالة الأخرى، هي أن ما كان يحسب حاضنة للنظام، قد بدأت تنفضّ عنه، ويرى النظام في تمرد ما كان يعتقد أنها حاضنته الأبدية، خطرًا كبيرًا على وجوده، ففي هذه المرة، لا يستطيع الأسد الزعم بأن هناك أيادي خارجية تحركها، رغم أن جزءًا من أجهزته بدأ العمل بهذا الاتجاه، وإن الجميع يعلم أن الدافع هو التدهور المريع في شروط العيش، الذي لا يمكن احتماله، وقد تبينت حاضنة النظام أن كل وعوده بتحسّن مستويات العيش بمجرد انتهاء الحرب كانت وهمًا، بل حدث العكس، ويشير تدهور سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية إلى هذه الأزمة.

يبين الجدول التالي تغيرات سعر صرف الدولار الأميركي منذ عام 2019:

ويستشعر الأسد مخاطر ” ثورة السويداء”، من حيث إنها ترتبط بوعي سياسي وموقف راديكالي من الأسد ونظامه أن “عليه أن يرحل”. فقد أصبحت قطاعات أوسع مما كان يحسب حاضنة النظام تدرك أن الأزمة السورية ستبقى ما بقي الأسد ونظامه في السلطة، وأنها بدأت تعبر عن ذلك بوضوح، وأن أعلى الأصوات يتمركز الآن في السويداء مهددًا بالانتشار في المناطق الأخرى، التي بدأت بوادر تعبيراتها بالبروز المتردد خوفًا من وحشية النظام التي خبروها على مدى 13 عامًا، بل على مدى 50 عامًا.

تحمل انتفاضة السويداء دلالة أخرى بأنها تعبر عن مكنون معظم السوريين، وإن لم يشاركوا بها بقوة بلدات ومدن أخرى حتى الآن، ولكن الجميع يشعر ويعلم مدى غضب السوريين في مناطق سيطرته، بمن فيهم حاضنة النظام، فمعظمهم بات يحمّل مسؤولية أوضاعهم المزرية لبشار الأسد والنخبة الملتفة من حوله، وفسادهم وفشلهم في إدارة شؤون البلاد، وهذا ما يفقد الأسد شرعيته بنظرهم، فلا يبقى له ما يزعم أنه “شعبه الذي يحبه ويريد بقاؤه”. فالحاكم تسقط شرعيته عندما يعجز عن توفير كل مقومات الحياة الكريمة، فما بالك به حين يكون عاجزًا عن توفير حتى الغذاء والأمان لشعبه، فضلًا عن أن النظام قمع الحريات، منذ اعتلى حافظ الأسد السلطة عام 1970، وما بشار سوى نسخة مقلّدة من والده.

الدعوة لإدارة محافظة السويداء بعيدًا عن النظام:

كان من اللافت دعوة بعض الضباط المتقاعدين من أبناء محافظة السويداء والمؤيدين لانتفاضتها، وعلى رأسهم العميد نايف العاقل، إلى تشكيل “مجلس إدارة مؤقت” لإدارة شؤون المحافظة وفتح معبر حدودي مع الأردن. وأكّد بيان الضبّاط المتقاعدين على دعم مطالب الحراك الشعبي حتّى تحقيق أهدافه، مشيرًا إلى أنّهم “جزء أساسي منه”، كما شدّدوا على وحدة سورية أرضًا وشعبًا، وحلّ كل القضايا عبر دعم الحلّ السياسي السلمي وفق (القرار الأممي 2254)[4].

لقيت هذه الدعوة نقد معارضين كثر، إذ تحمل في طياتها نوعًا من إقصاء المحافظة عن بقية الهمّ السوري المشترك، وتوحي وكأنها دعوة ضمنية لتكوين كانتون خاص بالسويداء، وربما مع درعا، كما أثارت تكهنات لدى البعض بأنها دعوة “مدفوعة من الخارج” أو بالتنسيق معه، ولكن بقيت هذه الدعوة صوتًا ضعيفًا لم يلقَ صدىً بين المحتجين. في حين أن الرئاسة الروحية للموحدين الدروز في السويداء، لم تتبن هذه الدعوة، واعتبرتها آراءًا شخصية، وقد قال الشيخ حكمت الهجري أمام أهالي شهبا: “إن فكرة الانفصال مرفوضة”[5].

خشية الأسد من اتساع الاحتجاجات:

أشد ما يخشاه الأسد هو امتداد رقعة الاحتجاجات إلى مدن أخرى في مناطق سيطرته، فهو يعلم أن بقية مناطق سيطرته تعيش المعاناة ذاتها. وإضافة إلى ذلك، فالمناطق الأخرى في حمص وحماه وحلب ودير الزور ودرعا والقنيطرة، لها ثأر مع النظام الذي قصفها وقتل عددًا كبيرًا من أهاليها، وشرد عددًا كبيرًا آخر واعتقل وغيب عشرات الآلاف.

ورغم أن المناطق الأخرى لم تخرج في تظاهرات حاشدة كما في السويداء، فثمة إرهاصات تنذر بانفجار محتمل في أي لحظة، وذلك بما يشبه الوضع الذي ساد في شباط قبيل الانفجار في آذار 2011. وبالتزامن مع احتجاجات السويداء، خرجت تظاهرة في منطقة جرمانا قرب دمشق، تنديدًا بتدهور الأوضاع المعيشية. وفي محافظة درعا وفي 17 آب/ أغسطس تم إغلاق محلات تجارية وإشعال إطارات في مدن وبلدات نوى وطفس والشيخ سعد والشجرة. وفي 18 آب/ أغسطس، قامت تظاهرات في بلدات الكرك الشرقي والجيزة ومدينة بصرى الشام والحراك وإنخل ونوى. وفي 19 آب/ أغسطس خرجت تظاهرة بجانب المسجد العمري بدرعا البلد. وفي 22 آب/ أغسطس رُفعت لافتات في بلدة خربة غزالة دعمًا للاحتجاجات في محافظة السويداء. وفي 23 آب/ أغسطس، خرجت تظاهرات في أحياء الفردوس والسكري وصلاح الدين في مدينة حلب وسط استنفار أمني. وفي 24 آب/ أغسطس أعلنت عشائر بدو السويداء انضمامها للمتظاهرين في مدينة السويداء. وفي ريف دير الزور الغربي خرجت تظاهرة في 24 آب/ أغسطس تضامنًا مع درعا والسويداء. ولكن كلها بقيت احتجاجات صغيرة تختفي بسرعة.

أشد ما يخشاه النظام على الإطلاق هو انتشار الاحتجاجات إلى منطقة الساحل، حيث تتمركز حاضنته، وقد بدأت بوادر الاحتجاج المكتوم بقوة هناك تظهر إلى السطح؛ إذ في 17 آب/ أغسطس، خرجت رسالة من داخل مدينة جبلة الساحلية تضامنًا مع أبناء السويداء، ورسالة من التجمع الشبابي في حركة الشغل المدني[6] (وهي مجموعة من الشبان والشابات المنخرطين بالعمل المدني والثقافي في الساحل السوري). كما تعالت أصوات فردية عديدة جريئة في الساحل تنتقد بشدة الوضع الحالي، وتنتقد بشار الأسد ذاته وتطالبه بالرحيل. مثل الصحفي كنان وقاف، الذي فرّ خارج سورية، وفي الآونة الأخيرة دعا القاطنين في مناطق النظام للاعتصام والإضراب. والناشط “أيمن فارس” من طرطوس، وقد وجه انتقادات لبشار الأسد وزوجته (بمقطع فيديو تم تداوله)، واتهمهما بتجويع أهالي الساحل، وطالبه بالرحيل، وعلى إثر ذلك أصبح ملاحقًا من قبل أجهزة أمن النظام. إضافة إلى فراس الأسد الذي ينتقد نهج النظام في التعامل مع الأصوات التي تنتقد الواقع الاقتصادي المذري[7].

 خشية الأسد هي انتقال الاحتجاجات إلى الساحل السوري، فالتظاهر في الساحل هو الأخطر، إذ إن جزءًا كبيرًا ممن قاتلوا لحمايته وقدموا أكثر من 100 ألف قتيل، هم أبناء الساحل، ومنهم الجنود الذي يتولون حماية نظامه الآن، وقد عض معظمَهم الجوعُ بأنيابه، فإن انضموا للاحتجاجات، فلن يكون لدي الأسد من يحميه، وسيؤدي هذا إلى انقسام في الطائفة العلوية التي طالما استغلها لحمايته، ووقفت خلفه طوال مدة الحرب السورية، وسيضطر حينها إلى اللجوء إلى الميليشيات الإيرانية، مثل حزب الله والحشد الشعبي العراقي والميليشيات الباكستانية والأفغانية، وستظهر حينها إيران كقوة احتلال استدعاها الأسد لحمايته من شعب سورية. لذا، نرى النظام يلاحق ويعتقل كل من يظهر من أهل الساحل خاصة في تسجيل مصور يدعو لرحيل الأسد.

تعامل النظام مع انتفاضة السويداء:

لن يستطع النظام استعمال العنف مع المحتجين، فثمة قيود واعتبارات، فالعنف ضد السويداء يكسبه عداء دروز لبنان جميعهم، والأهم دروز إسرائيل بما يملكونه من تأثير على حكومة إسرائيل، ويخشى أن يثير استخدام العنف ضد السويداء عنفًا مضادًا سيحرض عنفًا مضادًا آخر ، كما جرى في 2011، وخاصة احتمال تضامن الجارة درعا، التي أبدت الكثير من التأييد للسويداء، وقد تنضم القنيطرة، وهما محافظتان حدوديتان، مع حدود طويلة مع الأردن وإسرائيل، في وقت يتصاعد فيه غضب الأردن من النظام، وقد يستفز استعمال العنف الأميركان والأوروبيين فيزيدون ضغوطهم على النظام. خاصة ضمن توتر الأجواء بين الأميركان والروس في شرق سورية.

وقد يرى النظام في استمرار التظاهر لبعض الوقت أداة نافعة للضغط على حلفائه الإيرانيين والروس لزيادة المساعدات المقدمة له، لتلبية بعض احتياجات السوريين في منطقة سيطرته من أجل امتصاص غضبهم.

يستخدم النظام التجاهل والإنكار ذاته، إذ تتجاهل وسائل إعلام النظام التظاهر ومطالبه، ولا تتحدث عنه سوى لمامًا، بينما تنكر بعض الأحيان قيام تظاهرة مثلًا، جريدة الوطن السورية الموالية ترد على خروج التظاهرات في حلب بأن الأجواء هادئة في حلب ولا يوجد أي تجمعات. أيضًا وسائل الإعلام العربي حتى التي كانت مؤيدة لانتفاضة الشعب السوري، أصبحت تتجاهل حراك السويداء وتتجاهل الأزمة السورية. بينما تناولت الحراك وسائل إعلام دولية مثل ال (CNN)، كما أن مجلة (الغارديان) البريطانية نشرت مقالًا أشادت فيه باحتجاجات السويداء وقالت: “إنها أيقظت الأمل في نفوس السوريين، وإن محتوى الاحتجاج هو سياسي” وأشارت إلى أنها ليست ثورة جياع، “فالمحتجون لم يهاجموا البنوك والمحلات، بل هاجموا مقر حزب البعث رمز السلطة، وأزالوا صور بشار الأسد”، وأضافت الصحيفة “إن العالم يعتقد أن بشار الأسد قد انتصر بعد إعادة قبوله في جامعة الدول العربية، لكن أولئك الموجودين على الأرض هم الذين يقررون أهو حاكم شرعي أم لا”[8].

يلجأ الذباب الإلكتروني الموالي إلى تشويه سمعة الحراك بأنه مدفوع من قوى خارجية، ويشيع بأن الحراك ينوي انفصال السويداء، وقد هاجم اليوتيوبر الموالي “بشار برهوم” دعوات العصيان المدني قائلًا “بدنا نجوع ونشوّب، والساحل لن يكون مطية لمخططاتكم ولا تابعًا للسعودية وتركيا”. ويوجه النظام الغضب باتجاه أعضاء مجلس الشعب أو الحكومة والمطالبة بترحيلهم من أجل تبرئة الأسد، مع العلم أن القرار في سورية محصور بيد الأسد.

لإظهار أن للنظام مؤيدين، لجأ النظام في 23 آب/ أغسطس إلى تنظيم مسيرات تأييد بالسيارات “دعمًا لسيد الوطن بشار” فقد نظموا مسيرات بسياراتهم الفارهة في طرطوس وأخرى في دمشق تأييدًا للأسد، ولكن هذه المسيرات أعطت مفعولًا عكسيًا، وقد أثارت غضبًا شديدًا في أوساط الحاضنة في دمشق وطرطوس والساحل وغيرها من مدن، فبينما معظم السوريين لا يجدون ما يطعمون به أطفالهم، يخرج هؤلاء بسياراتهم الفارهة لتأييد الأسد، وقد ردّد الكثيرون عبارة “أمن أجل هذا استشهد أبناؤنا؟”. وقد كانت مسيرة فاضحة، إذ بيّنت أن هؤلاء وحدهم من بقي مؤيدًا بإخلاص للأسد ونظامه.

لن يغيب الحلّ الأمني، وهو المفضل لدى النظام، عن بال بشار الأسد، ورغم عدم استعمال الحل الأمني حتى الآن، فهو يستعد له، ففي 21 آب/ أغسطس صدر أمر من وزير الدفاع السوري، بمنع الإجازات لكل الضباط وصف الضباط والأفراد في الجيش، وذلك اعتبارًا من تاريخ صدور الأمر بتاريخ 21 – 8 – 2023، وحتى إشعار آخر. ولضبط الحراك في السويداء وعدم انتشاره، يستخدم النظام حلّه الأمني لمواجهة أي بذور للتظاهر في أي محافظة أخرى. ففي 22 آب/ أغسطس، بعد خروج تظاهرة في مدينة نوى بريف درعا، استهدفت قوات النظام المدينة بقذائف الهاون المدينة، بالتزامن مع اشتباكات عنيفة في محيط فرع المنطقة ومقر الأمن العسكري في المدينة. وبحسب ناشطين من حلب، شنت قوات أمن النظام حملة اعتقالات في حيي الفردوس والسكري عقب تظاهرات خرجت من هذه الأحياء، حيث استعانت قوات الأمن بشبيحة من بلدة عنجارة من بيت بدوي وهم من سكان حي الفردوس، وكذلك استعانت بشبيحة من عشيرة الهيب، حيث كان يحمل هؤلاء الشبيحة السلاح الفردي إضافة إلى بواري حديدة، كما قام النظام بقطع خدمة الإنترنت عن كامل أحياء مدينة دير الزور مع تكثيف الدوريات العسكرية والأمنية لمنع خروج تظاهرات يوم الجمعة 25 آب/ أغسطس تحت شعار (اختنقنا). وقد طالب اللواء المتقاعد رياض عيسى شاليش، وهو ابن عمة بشار الأسد، ومن أكثر ضباط الجيش فسادًا، طالب النظام على صفحته في الفيسبوك بالضرب بيد من حديد وعدم التهاون مع الوضع في درعا والسويداء. وقد تم اعتقال الناشط “أحمد إبراهيم إسماعيل”، ابن مدينة جبلة، بسبب انتقاده للنظام وحكومته، ومصيره غير معروف[9]. واعتقل الناشط المعارض أيمن فارس ابن الساحل السوري، أثناء محاولته الالتجاء إلى السويداء. وبالتالي؛ تبدو سياسة النظام هي عدم استخدام الحل الأمني في السويداء حتى الآن، واستخدامه بالحدود المطلوبة لمنع انتقال الاحتجاج إلى أي من المحافظات الأخرى.

بدلًا من الحلّ الأمني، يعوّل النظام على تعب المتظاهرين في السويداء بعد حين يأمل ألا يطول، وفي الوقت ذاته يعمل على تهدئة المحتجين، عبر تقديم بعض العروض، ولكن كل مساعي النظام للتهدئة لم تفلح، وبقيت مطالب المحتجين “رحيل النظام”. وقد غرد د. يحي العريضي، وهو أستاذ جامعي في الإعلام من السويداء، بأن محافظ السويداء قدّم وعودًا باسم القيادة، ولكن تم رفضها لأنها “خلبية” أي فارغة، فكان التهديد المبطن بداعش… ولا ندري ما سيظهر غدًا[10]. وفعًلا، فقد نشر المدعو حسين مرتضى، وهو من مرتبات حزب الله اللبناني، فيديو حذّر فيه من عمليات إرهابية في السويداء بترتيب أميركي، وزعم “أن قاعدة التنف الأميركية شرق سورية قد أدخلت عددًا من الانتحاريين والإرهابيين إلى منطقة السويداء كي يقوموا بتفجير أنفسهم داخل بعض الأحياء واتهام الدولة السورية بقصد تفجير الوضع”. ولا ندري إن كان النظام سيقدم على تنفيذ مثل هذا التهديد.

خاتمة:

إذا نجحت مساعي النظام في التهدئة هذه المرة، فإن الحكاية لن تنتهي، فالنظام غير قادر على قمع انتفاضة السويداء، وغير قادر على تلبية مطالبها أو مطالب السوريين، ولا على تحسين مستوى معيشتهم. وسيبقى الوضع قابلًا للانفجار، ما دام وضع المعيشة متدهورًا إلى حدّ الجوع، ولا يوجد لدى الأسد أو لدى إيران مخرج، وسيعود السوريون في السويداء وفي غيرها للتظاهر من جديد. إنه الاستعصاء السوري.

مع غياب المعارضة السورية عن المشهد، وغياب القيادة، وهو مرض المعارضة المزمن، جاء صوت حراك السويداء، ليكون صوت السوريين المعارض، المطالب بحل سياسي وفق القرار الدولي 2254، وتحقيق انتقال سياسي ورحيل النظام، وينتظر هذا الحراك أن يكون الشرارة التي تطلق حراكًا سلميًا آخر في المدن السورية الأخرى، بما يُخرج الأزمة السورية من حالة الاستعصاء، ويضعها على طاولة الحل السياسي الذي انتظره السوريون طويلًا، ودفعوا أثمانًا غالية من أجله.

[1] زيادة على الرواتب والأجور بنسبة 100% https://tinyurl.com/3cyy2dk6

[2] NUMBEO: https://tinyurl.com/464ktwv6

[3] https://2u.pw/XFALKjM

[4] https://2u.pw/W7F2K5O

[5] https://tinyurl.com/4jtyanbw

[6] https://tinyurl.com/yk8dzxmk

[7] https://tinyurl.com/2p8yz9n7

[8] https://2u.pw/n8pIcfd

[9] https://tinyurl.com/3bt5f52e

[10] https://tinyurl.com/2atdxwvs

مركز حرمون

————————————

هل يشكل الحراك المدني في السويداء الرافعة الوطنية للتغيير؟/ حسان الأسود

قبل كلّ كلام لا بدّ من التركيز على أنّه لا خصوصيّة للسويداء أكثر من سوريّتها وبين قوسين عروبتها، وأنّه لا يمكن تحميل أهلها أكثر من طاقتهم، وبالتالي لا بدّ من ضبط سقف التوقعات ضمن إيقاعٍ لا نريد جميعًا له الخفوت، كما لا نريد له بنفس الوقت الخروج عن محوره الوطني الجامع. أمّا الموقف الذي كان للسويداء وأهلها الأحرار الأكارم منذ بداية الثورة، فقد بدأت تتبدّى الآن ملامحه بشكل أكثر وضوحًا، بما يضيء على عمقه وتجذّره في النسيج الوطني السوري.

لم تخلُ السويداء بطبيعة الأحوال من أصوات معزولة هنا وهناك تغرّد خارج سرب التوافق السوري العام، لكنّها كانت على الدوام شواذّ واستثناءات تؤكد القاعدة، وهذا هو الخطاب المُعلن حتى اللحظة، ويمكن التقاط كثير من محاوره في كلمة الشيخ الهجري قبل أيام. ومن هذه الزوايا يتوجّب، برأينا المتواضع، مقاربة النظر وتسديده على تفاعلات الأحداث المتسارعة هناك من جهة، ومن جهة ثانية ربطه بمجمل التطورات في الملف السوري إقليميًا ودوليًا، وبالتحركات الشعبية في حوران وريف دمشق والساحل وبعض أحياء حلب، إضافة للشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام.

لن يكون بمقدور نظام الأسد وصف أهل السويداء بالتكفيريين ولا الإرهابيين ولا المتطرفين، ولن يكون له من سبيل لدمغ حراكهم السلمي الوطني الراقي بنفس ما دمغ به حراك السوريات والسوريين ربيع 2011، وسيكون لأيّ تحرّك ضدهم تأثير مدمًّر على سرديته القائمة على كذبة “حماية الأقليات”، والتي بالمناسبة لاقت رواجًا عند كثير من السوريين والعرب وتلقفتها بعضُ الدول بكل ترحاب لأسباب تخصها قبل أن تخصّ النظام. لكن كيف سيشيطن هذا النظام حراك أهل السويداء، وهو دينه وديدنه منذ أوّل صرخة حرية قبل 12 سنة؟ الطريقة الأقرب لمنطقه المذكور أعلاه، هي الاتهام بالعمالة للخارج. إنّ التصريح أو التلميح حسب المآل بالتبعية لإسرائيل والانجرار وراء مخططها لتدمير صخرة الصمود والتصدّي هو النموذج المعتمد حتى اللحظة! ولهذا خلفية تستخدم مبدأ المغالطات المنطقية بربط أهل السويداء بالمكوّن الدرزي في الجولان والجليل، والذي له بحكم الواقع وجود على الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل، وبالتالي اعتبارهم لأنهم كذلك عملاء، رغم أنّه يستخدم ورقتهم هذه ذاتها للمطالبة باستحقاقات أخرى ذات صفة وطنية عندما يستفيد منها قي مجالات تخصّ بقاءه في الحكم.

ثمّة أخطارٌ جمّة مُحدقة بهذا الحراك الشعبي، لعلّ أقلّها القمع المباشر بالسلاح، وهو مستبعد حتى اللحظة، وقد يكون من بينها فتح معارك الخطف المتبادل بين مدن السهل والجبل التي كان يقوم بها عن طريق أتباعه من قادة العصابات الممولة من جهاز المخابرات العسكرية. كما يمكن أن يعمد لاستخدام ورقة داعش كما فعل قبل أعوامٍ خلت حين سهّل دخول عناصرها من جهة البادية الشرقية لذبح السكان العزّل بعد أن سحب قواته المسلحة هناك.

كذلك ثمّة مؤشرات تدلّ على أنّه كان قد سهّل عودة مجموعات من مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب إلى الجنوب، تُعدّ هذه بالمئات لا بالعشرات من عناصر جبهة النصرة الإرهابية ومجموعات حرّاس الدين وغيرهم، وهؤلاء لا حاجة للشرح والاستفاضة في أدوارهم القذرة التي طالما لعبوها لمصلحة النظام في مفاصل كثيرة من تاريخ الثورة. هذا كلّه ولم ندخل بعد في ساحة التحديات الإقليمية، والتي لها تأثيرها الكبير على مجريات الأحداث، خاصّة أنّها انساقت وراء وهم إعادة تأهيل نظام الأسد أو على الأقل فتح باب الفرصة الأخيرة أمامه للعودة إلى صفوف هذه المنظومة. ثمّ هناك ساحات الحرب أو على الأقل المواجهة المفتوحة عالميًا بين الغرب من جهة والروس والصينيين من جهة ثانية.

السؤال هنا: هل يمكن تحويل نقاط التهديد والضعف هذه إلى فرُصٍ ونقاط قوّة، وكيف يمكن تحقيق ذلك؟ كيف يمكن استثمار المواقف والتصريحات الدولية المتجاوبة مع الحراك السلمي أو “الهبّة الجديدة” أو “الانتفاضة الراهنة” وكلها مسميات بين قوسين أيضًا؟ وكيف لنا أن نتجاوز حركات الالتفاف التي قامت بها بعض المجموعات الإيديولوجية بداية الثورة عند تشكيل المجلس الوطني ومن بعده الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ما دامت العقليات القديمة هي ذاتها المنظّرة للمشهد السياسي؟ وكيف يمكن تجاوز آليات العمل القديمة التي أثبتت فشلها سابقًا وما زالت تثبته كل يوم، إذا كان لدينا نفس المقدمات الخاطئة وذات مناهج المعالجة؟ فهل سنأتي بنتائج غير تلك القديمة الفاشلة؟ وهل يكفي مثلًا التعويل على تصريح الخارجية الأميركية هنا أو موقف الاتحاد الأوروبي اللفظي هناك؟ وهل نملك رفاهية انتظار التحولات الدولية والإقليمية؟

الحقيقة أنّ الإجابة على هذه الأسئلة صعبة للغاية رغم سهولة إلقاء الكلام على عواهنه. الشيء الذي يعرفه الجميع أنّه لا بدّ من خطاب سياسي واعٍ وتمثيل سياسي مقنع وتنظيم مؤسساتي قادر على استعادة الصفة الاعتبارية للثورة السورية، لكن لا أحد يعرف الطريق إلى تحقيق ذلك حتى اللحظة، فهل ينتج الحراك السياسي السوري الخارجي المتمثل بالمؤتمرات واللقاءات والمنصات السياسية والمدنية هذه الرافعة؟ أم علينا انتظار رافعة داخلية من الحراك الشعبي في السويداء وحوران والساحل وبقيّة المناطق في الشمال؟ وهل ظروف هذا الحراك الداخلي الواقعية تسمح لها ببناء هذه الرافعة؟

قد يبدو لوهلة أولى استحالة تحقيق هذا كلّه، لكن مع قليلٍ من التبصّر يمكننا أن نرى بصيص أمل. يتمثّل هذا بالجذر الوطني السوري الذي أشرنا إليه في خصوصية السويداء بداية هذا المقال وفي تعمّق حالة الرفض الشعبيّة لكلّ أهل المدن والقرى التي ثارت على هذا النظام فنالت ما نالته من هدم وتدمير. كما يتمثّل بصيصُ الأمل أيضًا بالعمق العروبي بمفهومه الثقافي الحضاري، لا العرقي القائم على رابطة الدم، ولا الإيديولوجي الشوفيني العنصري، وهذا يمكنه أن يخاطب الحاجة للأمن القومي العربي التي يمكن ملامستها لدى الأنظمة الإقليمية رغم كرهها لمفردات الحرية والديمقراطية وتداول السلطة. ثمّة مشتركٌ مصلحي براغماتي يسعى الجميع له الآن، ويتمثّل في إخراج سوريا من بين براثن النظام الإيراني، وما دام الأسد عجز عن التقدّم نصف خطوة بهذا الاتجاه كما طُلب منه عربيًا، فالأحرار من السوريين قادرون على ذلك، أو يفترض بهم أن يكونوا قادرين، إن تلقوا الدعم العربي.

يمكن بطبيعة الحال استنفار كلّ القوى الثورية السورية التوّاقة للخلاص من هذا الاستبداد الجاثم على الصدور، وقد بدأت هذه تتداعى فعلًا على الأرض وفي مختلف وسائل التواصل للقيام بما يلزم لدعم هذا الحراك. ولا يغيبنّ عن البال أهميّة الواقع الافتراضي في الحشد والتجييش والدعم والمناصرة، خاصّة إذا ما تمّت قيادته بأدوات جديدة غير تلك المستهلكة سابقًا. ويبقى علينا انتظار ما تأتي به الأيام، والعمل ما باستطاعتنا ولو بأضعف الإيمان وهو هنا الكلام.

تلفزيون سوريا

—————————————–

من الغوطة إلى السويداء:  مصادفات سوريا وجدل التاريخ/ صبحي حديدي

ثمة مصادفات يصنعها البشر، من دون قصد أو تصميم، وتبدو بمثابة تكريس لدورات التاريخ ودروسه أو قوانين ارتباط الحاضر بالماضي واستشراف المستقبل؛ وثمة أخرى يبدو فيها التاريخ أقرب إلى معادل موضوعي، لا يقف في عمق الحوادث المتزامنة فحسب، بل يحيلها إلى سيرورة جدلية بصرف النظر عن تكاملها أو تنافرها.

فما الجامع، ضمن السياقات أعلاه، بين 1) قرار رئيس النظام السوري رفع الرواتب بنسبة 100%، مقترناً برفع الدعم عن الوقود والطاقة والغذاء، وانفجار الغلاء والتضخم وسعر صرف العملة الوطنية بمعدلات جنونية؛ و2) تصاعد موجات الاحتجاج والتظاهر والاعتصام في محافظتَي السويداء ودرعا، وبعض مناطق حلب وأرياف دير الزور والرقّة، وارتفاع نبرة الاحتجاج في قلب حواضن النظام ذاتها هنا وهناك؛ و3) الذكرى العاشرة لهجمة النظام الكيميائية ضدّ الغوطتين الشرقية والغربية، يوم 21 آب (أغسطس) 2013، حين خلّفت المجزرة 355 ضحية حسب منظمات حقوقية دولية، و1466 طبقاً لأوساط المعارضة؟

الجامع الأوّل هو النظام ذاته، لاعتبارات عديدة تُظهرها جرائم حرب ومجازر أخرى وانتهاكات وفظائع لا عدّ لها ولا حصر؛ بينها إمعان الأسد وأجهزته الأمنية وما تبقى من جيشه في ارتكاب المزيد، بمساندة مباشرة من دول تحتلّ سوريا مثل روسيا وإيران، وميليشيات مذهبية أو جيوش مرتزقة، وتواطؤ غير مباشر من احتلالات أخرى إسرائيلية وأمريكية وتركية، وصمت أو محاولات تأهيل من «مجتمع دولي» لا تغيب عنه ديمقراطيات غربية وأنظمة عربية. الحقيقة التالية، الرديفة، هي أنّ هذه الحال منحت وتواصل منح النظام درجات إفلات من العقاب قياسية؛ ليس في المحاكم والهيئات والمؤسسات التي تزعم تطبيق القانون الدولي (من مجلس الأمن الدولي إلى المحكمة الجنائية) فقط، بل كذلك في افتتاحيات صحف كبرى وتغطيات وسائل إعلام كونية.

أمّا الأبرز، الجدير بأن يكون الحقيقة الساطعة الأولى، فهو أنّ نظام آل الأسد لا يفرغ من حال تأزّم حتى يدخل في تنويع لها أشدّ استعصاء، فيستولد سواها أو يضخّم عواقبها؛ وتلك سيرورة بدأت مع انقلاب الأسد الأب خريف 1970، واتخذت سمات أكثر تشابكاً مع توريث الأسد الابن صيف 2000، وتعاظمت أكثر فأكثر مع انتفاضة ربيع 2011، وها أنها اليوم تستأنف مناخات الخروج الشعبي العلني ضدّ النظام فتُرفع مجدداً شعارات إسقاطه. وإذا كان سوق الحريقة الدمشقي والمسجد الأموي وحوران قد تصدرت مواقع الانتفاضة الأولى، فإنّ ساحات السويداء هي السباقة اليوم إلى ريادة ما قد يدشن الجولات الأبكر من الانتفاضة الثانية.

وحين تقاطرت أخبار مجازر الغوطة ومشاهدها الهولوكوستية فتصدّرت الصحف غرباً وشرقاً، اختفى عن الأنظار رجل كان معنياً مباشرة بالواقعة؛ لأنه كان رئيس القوّة الكونية العظمى الأولى أوّلاً، وكان ثانياً صاحب الوعد الشهير بأنّ استخدام أيّ سلاح كيميائي «خطّ أحمر» سوف يغيّر قواعد «اللعبة»، وبالتالي سوف يستدعي خطوات أخرى تصعيدية من جانب واشنطن، ضدّ النظام السوري. والحال أنّ أيّ خطّ بأيّ لون، لأيّ سلاح كيميائي أو جرثومي، لم يكن ذريعة باراك أوباما في التعجيل بتصفية أسامة بن لادن، أو في قيادة تحالف أطلسي ضدّ معمر القذافي؛ وفي كلّ حال فإنّ كلا المثالين لم يضيفا جديداً في تثبيت مصداقية أوباما، أو أيّ رئيس أمريكي قبله وبعده.

ولقد تزامنت السياقات الثلاثة، لرفع الدعم وتظاهرات الاحتجاج وذكرى المجزرة الكيميائية، مع حديث صحفي تقصد فيه الأسد السخرية من العربان الذين توهموا إمكانية ترويضه وغسل يديه من دماء السوريين، أو تخيلوا إمكانية أن يتخلى عن عشرات المليارات من موارد الكبتاغون مقابل مصافحة زعيم عربي هنا أو حضور قمّة هناك.

وفي ذلك الحوار كان الأسد ضاحكاً ومُضحكاً في آن، إذْ يحدث أن يكون شرّ البلية هو ذاك الذي… يُضحك!

القدس العربي

——————————

نظام الأسد في مواجهة الحراك الثوري الجديد/ بكر صدقي

بخلاف الصمت الذي يلزمه النظام على المستوى الرسمي، إلى الآن، في مواجهة الحراك الثوري الجديد، بدأ ضاربون بسيفه هجومهم التمهيدي المعتاد، في مسعى لخلق رأي عام مضاد، في نوع من تحضير المشهد للمواجهة العنيفة. كان تاجر المخدرات وسيم الأسد سبّاقاً في هذا الإطار حين وجّه كلامه للمى عباس، من غير أن يسميها، وللبيئة الموالية التي تنتمي إليها، فحمّلهم واجب الامتنان للنظام الذي أخرجهم من الفقر إلى البحبوحة، بدلاً من الهجوم عليه في هذه الظروف الصعبة، وطلب منهم أن يزرعوا الأرض ليأكلوا، وأن يعملوا على تحرير حقول النفط من الاحتلال الأمريكي للمساهمة العملية في حل الأزمة الاقتصادية.

أما بشار الأسد نفسه فقد ضمّن مقابلته على محطة سكاي نيوز عربية تهديداً جدياً حين قال إنه لو عاد به الزمن إلى العام 2011، لكرر سياسة المواجهة العنيفة نفسها التي اتبعها حينذاك.

غير أن بعض الأصوات الجديدة من المدافعين عن النظام تجاوزت منطق وسيم الأسد إلى لغة يمكن وصفها بـ«لاوعي النظام» لشدة بذاءتها، ولأن النظام لا يستطيع الجهر بها، فيوكلها لهؤلاء. كان أبرزهم رئبال الهادي الذي هدد بمواجهة علم الحدود الخمسة بعلم العلويين، بعدما هاجم متظاهري السويداء بأقذع الشتائم، ساخراً من مطالبتهم بتنحية الأسد: «تريد إسقاط الأسد؟ 200 دولة فشلت في إسقاطه! أنتم لا شيء، أنتم صفر». في وقت لاحق سيبث الهادي مقطع فيديو جديد «يوضح» فيه كلامه الذي «اجتزأته «قنوات الفتنة» حسب تعبيره. من المحتمل أن يداً خفية شدت أذنه بسبب تهديده برفع العلم العلوي، لأن «الصواب السياسي» لنظام الأسد يتعارض مع هذا الكلام الخارج مباشرةً من لاوعيه الطائفي.

من المحتمل أن وسيم الأسد تعرض بدوره لتوبيخ مماثل حين دعا على صفحته على فيسبوك إلى تنظيم مظاهرات مليونية دعماً للنظام، لسبب مختلف هذه المرة. فالنظام الذي قرأ انتشار رقعة التذمر في البيئة الموالية، وبخاصة في مدن الساحل، يخشى أن تؤدي مليونيات التأييد إلى نتائج عكسية، إما بامتناع واسع عن المشاركة، أو ما هو أسوأ: أن ترتفع من حناجر المشاركين، أو بعضهم، هتافات مناهضة له. هذا ما قد يفسر حذف وسيم الأسد لمنشوره المشار إليه. وبدلاً من المليونية التي دعا إليها، نظّم موكب سيارات لم يتجاوز عدد السيارات المشاركة فيها العشرين. والأنكى من ذلك أن تلك السيارات الفارهة لا بد أنها استفزت الناس الذين لا يستطيعون التنقل بوسائل المواصلات العامة بسبب ارتفاع أجور الركوب.

هذه الأصوات، على عدوانيتها وبذاءتها، تبقى في خانة الدفاع وتعبر عن عجز النظام عن مواجهة الحراك الثوري بالوسائل المعتادة، وعن ابتكار وسائل جديدة.

لكن الإعلامي اللبناني حسين مرتضى تجاوز هذا الموقف إلى ما هو أخطر: إعطاء إشارة عن نوايا النظام لاستخدام أعمال إرهابية لكسر صمود الحراك واتساعه المطرد. فقد تحدث عن «معلومات» لا يملكها غيره مفادها أن الأمريكيين يستعدون لتخريب التوافق الذي يسعى إليه النظام مع وجهاء السويداء، عن طريق انتحاريين من تنظيم داعش كلفتهم واشنطن بالقيام بعمليات تفجير في المحافظة لإفشال المحادثات بين النظام وممثلي المحافظة الثائرة.

إنها طريقة مجربة ومعروفة، أن يطلق النظام أو حزب الله «تحذيرات» عن مؤامرة غامضة لزرع الرعب في قلوب الناس من جهة، وتمهيداً للقيام بتلك الأعمال الإرهابية بالفعل، ما لم ينفع التخويف في كسر صمود الناس، من جهة ثانية.

في العام 2018 أخلت قوات النظام مواقعها في شرقي السويداء، فتسلل منه عناصر من تنظيم داعش وقتلوا نحو 150 من أهالي قرى المنطقة إضافة إلى عدد أكبر من الجرحى. وكان ذلك رداً من النظام على امتناع أهالي السويداء عن إرسال أبنائهم للالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، لأنهم لا يريدون أن يقتلوا أو يُقتلوا من أجل النظام. بعد فترة قصيرة استقبل بشار الأسد وفداً من المحافظة ضم شيوخ عقل الطائفة الدرزية، ليقول لهم إن امتناعهم عن إرسال أبنائهم إلى الخدمة العسكرية هو ما أدى إلى سحب قواته لأنه كان في حاجة إليها في مناطق أخرى! لا يمكن للصراحة أن تكون أكثر من ذلك!

في السياق نفسه تحدثت تقارير صحافية عن زيارة قام بها رئيس جهاز أمن الدولة حسام لوقا إلى بيروت، التقى خلالها بحسن نصر الله الذي لم يتأخر في وصم الحراك الثوري في سوريا بأنه «مخطط أمريكي»!

ولكن هل يشكل حراك السويداء خطراً حقيقياً على النظام؟

الواقع أن هذه المحافظة الصغيرة بعدد سكانها الصغير لا تستطيع وحدها أن تهدد النظام بالسقوط. ويمكن للنظام أن يستمر في تجاهل هذا الحراك الثوري إلى حين يتعب الناس ويتوقفون بعد أسابيع قليلة. لكن أثر هذا الحراك، بشعاراته السياسية الجذرية، على السوريين في مناطق أخرى، إضافة إلى إظهاره للنظام بمظهر من يفتقد لشرعية اجتماعية، هو ما يشكل خطراً لا يتحمله النظام، وفي ظل ضغوط عربية ودولية عليه لا تترك له ترف تحمل تمزيق صور الأسد والدوس عليها في السويداء، تنقلها قنوات تلفزيون ووسائل تواصل اجتماعي كل يوم.

نقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الحراك الثوري الذي هدم كل جدران الخوف ومضى بعيداً في القطيعة التامة مع النظام، إنما اختار لحظة مناسبة هي ما تمنح القوة للمشاركين. المفارقة هي أن بشار الأسد هو من صنع هذه اللحظة من خلال تصريحاته الاستفزازية على محطة سكاي نيوز عربية، فأدرك الناس أن النظام قد شد الخناق على عنقه بركله المبادرة العربية ومسار التطبيع مع تركيا معاً، وإعلانه أنه ماضٍ في سياسته نفسها التي أوصلت البلاد إلى هذا الخراب، غير عابئ بمعاناة الناس الواقعين تحت حكمه، ولا يخشى مصيراً مشابهاً لمصير معمر القذافي أو صدام حسين. مع أنه اعترف في المقابلة نفسها أن دولته ضعيفة.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————-

 الموالون الغاضبون: سوريا على حافة البركان الأخير/ كمال شاهين

يعيش النظام السوري “لوحده” (أي باستقلال عن المجتمع) ويحاول الدفاع عن مواقعه، ولا مشكلة لديه في استخدام القمع والعنف ضد الكتلة الموالية له متى اقتضى الأمر ذلك، وهو على استعداد للتضحية بالخط الدفاعي الثالث أو الرابع مقابل تدعيم الخطوط الأولى والثانية، وفي الوقت ذاته حماية نفسه عبر تقديم تنازلات على المستويات الإقليمية والدولية.

الملفت في الغضب الشعبي الذي يجتاح الآن عدة أماكن من سوريا ويتخذ أشكالاً مختلفة، أنه انطلق من الكتلة الموالية للنظام، خاصة في الساحل السوري، قبل أن يمتد إلى مناطق أخرى ومنها “السويداء”. في الأشهر الأخيرة، ارتفع منسوب الغضب ضد السياسات الحكومية، مع تصاعد الضغوط الاقتصادية على الموالين الذين توقعوا أن تكون مكافآتهم على مواقفهم و”تضحياتهم” غير ذلك، وحلّت لديهم خيبة أمل عريضة من “الأمل بالعمل” (شعار الرئيس السوري الانتخابي)، و”التضحيات” التي قدّمتها الكتلة الموالية لبقاء النظام، ولكل “الصبر” الذي تحمّلته على مدار سنوات الجمر السورية السابقة. وفوق ذلك ساد إحساسٌ جماعيٌ بأنّها كانت عرضة للاستغلال، فظهرت كأنها “أضحوكة” لدى الكتل السورية الأخرى، المعارضة والحيادية، بغياب منطق مقبول لديها دفاعاً عن موقفها. وبات الحديث عن العقوبات الأميركية على سوريا ـ مثلاً ـ غير مقنع للموالين الذين يلمسون يومياً كيف تفْتك العقوبات بهم وتتفاداها سلطتهم وتمارس فوقها عقوبات إضافية بحقهم.

قبل شهرين، نشرنا في السفير العربي عن توقع أميركي بانهيار اقتصادي وشيك في سوريا خلال ستة أشهر كحد أقصى. ويبدو أن هذا التوقع في طريقه للتحقق في وقت أقل، إذ أنّ عوامل التضخم المتضاعِف يومياً، وتسارع انهيار العملة، والتخبط الاقتصادي والسياسي، هي عوامل تجعل البلاد على حافة الانفجار، دون قيام الحكومة، ومن فوقها النظام، بأية إجراءات إسعافية للانتقال بالأزمة السورية المستعصية إلى عتبة جديدة قد تخلق آفاقاً للحل.

ماذا يجري في الساحل السوري؟

سجّل الساحل السوري نسبة تأييد عالية لسياسات نظام دمشق على الرغم من انطلاق الحراك في العام 2011 من بعض مناطقه. ولم يعد خافياً أنّ هذا التأييد، سواء عبر المؤسسات العسكرية أو الأمنية أو أجهزة الدولة العميقة في سوريا، أو عبر الكتلة الشعبية في الساحل (العلوية أساساً)، هو ما ساعد النظام على البقاء على قدميه على رأس الدولة، مستفيداً داخل البلاد وخارجها من شبكة علاقات محسوبية وزبائنية، وماهراً في إثارة السوريين ضد بعضهم البعض.

في الأشهر الأخيرة، اتسعت الاعتراضات على سياسات الحكومة (الخدمية) التمييزية ضد أبناء الساحل وارتفع الصوت ضدها، متسببةً، كعامل مباشر، في انزياح نسبة من الكتلة الموالية عن نقطة التأييد الأعمى لسياسات النظام. ظهر ذلك بوضوح على منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة “فيسبوك”، التي عجّت بالغضب تجاه السياسات الحكومية الأخيرة المتركزة بشكل أساسي على إلغاء دعم السلع الضرورية مثل الوقود. ويمكن ملاحظة أنّ هذه النوعية من الاحتجاجات في الفضاء الافتراضي كانت الأكثر حضوراً لدى بيئات الموالاة منذ سنوات، وتشمل الاحتجاج على “عدالة التقنين الكهربائي” إلى الاعتراض على “سوء توزيع مياه الشرب”، و”ارتفاع أسعار المواد والسلع” في الأسواق دون حسيب ولا رقيب. وبمجملها فهي مطالب خدمية بحتة، خلت من الاحتجاج السياسي.

فيما سبق، حمّل الناشطون مسؤولية تردي الخدمات الحكومة التي تنفّذ تعليمات “البنك الدولي” (غير المعلنة رسمياً حتى الآن). على أنّ الموجة الأخيرة من الاحتجاجات تجاوزت تلك الدائرة واقتربت من نقاط سياسية حساسة يسميها السوريون “الخطوط الحمراء” التي تضم الرئيس والأجهزة المرتبطة به، أمنياً واقتصادياً، مثل المطالبة بإجراء تغييرٍ حقيقي في النظام يوقف العقوبات المفروضة على البلاد ويسمح بتدفّق الموارد من أجل إعادة الإعمار، بما يشير ضمناً إلى أنّ البروباغندا السلطوية في تحميل مسؤولية الأوضاع السيئة التي يعيشها السوريون الدول الغربية التي تفرض عقوباتٍ على دمشق، لم تعد مقنعة للسوريين.

ظهرت هذه الاتجاهات في منصات التواصل على حسابات موالية حقيقية، كما رفع السوريون سقف الكلام الشفوي في الشارع، وانتشرت تعبيراتٌ علنية من مؤيدين للنظام تنتقد سياساته التي أوصلت البلاد إلى وضعها الأسوأ في تاريخها، حيث شهدت مدن وبلدات ساحلية سورية للمرة الأولى في تاريخها كتابات على الجدران في مسقط رأس آل الأسد (“القرداحة”) تندد بالحكم، كما ظهرت في مناطق أخرى، في “سهل الغاب” و”مصياف” و”عين الكروم” و”البودي” وغيرها، مع تمزيق صور الرئيس وأخيه في مناطق الحرائق شمال “اللاذقية”، فيما قامت مظاهرة خجولة من عشرات الأشخاص في مدينة “جبلة” قمعتها السلطة بعنف موقعةً عدداً من الجرحى، وفق شهادة محلية من المدينة، مع ملاحقة أمنية شرسة لمحاولات نقل الوقائع إلى الشبكات الاجتماعية، فيما تعرّض محافظ “طرطوس” للضرب من قبل مواطنين غاضبين على خلفية إصرار مجلس المحافظة على فرض أعضاء بعثيين على مجلس بلدية “دوير رسلان” التي فاز فيها مستقلون بانتخابات الإدارة المحلية مؤخراً.

الأكثر لفتاً للانتباه حركة أطلقت على نفسها اسم “حركة 10 آب”، أصدرت بيانيَن مطلبيّين على “فيسبوك” ووزعت مناشير في عدد من مدن الساحل و”دمشق” و”حمص”.. ولا تتوافر معلوماتٍ حول هذه الحركة وفيما إذا كانت موجودةً بالفعل وتضم أعداداً من السوريين داخل البلاد أم لا، ولم يتضح مدى تنظيمها.

 خلال ساعات قليلة، تعامل مستخدمو “فيسبوك” السوريون، خاصةً المقيمين في مناطق النظام، بجديةٍ مع البيانَين، خاصة الأول، وأعلن قسم منهم موافقتهم على صيغته التي “تطالب الحكومة السورية بإعلان جدولٍ زمني لاتخاذ إجراءاتٍ توقِف تدهور الأحوال المعيشية”.

 وكان لافتاً في البيانين أنّ المطالب لم تقتصر على الجانب المعيشي، فقد تحدثت عن المعتقلين السياسيين والمعتقلين من النساء والأطفال، وعن ضرورة وقف تجارة المخدرات والقضاء على تجارة “الكبتاغون”. وهذه مواضيع تضرب على خطوط النظام الحمراء وتبعاتها عادةً الاعتقال والإخفاء القسري.

وفي رد فعل متوقع اعتقلت السلطات الأمنية ناشطين ظهروا بقوة مؤخراً، مثل “فراس غانم”، وهو بالمناسبة عنصر أمن متقاعد حديثاً، و”أحمد اسماعيل” وهو موظف وناشط من الساحل السوري (ولا علاقة لهم بحركة 10 آب/أغسطس) فيما أثار فيديو محاولة اعتقال “لمى عباس”، وهي ناشطة مجتمعية مقرّبة من النظام، إثر احتجاجها على الأوضاع المعاشية في البلاد، لغطاً شديداً وأسئلة للمرة الأولى لدى الموالين بشأن عدم قانونية عمليات الاعتقال هذه. وفي آخر التوترات، منعت السلطات الأمنية اجتماعاً مدنياً لـ”حركة التغيير السلمي” في بلدة “بسنادا” (من أحياء “اللاذقية”) وأحاطت بالبلدة، وفي الوقت نفسه تعاطت مع المدنيين بنوع من المرونة تفادياً للتصعيد الاجتماعي.

 ومع شراسته في قمع بواكير الاحتجاجات وانتباهه الكبير تحسباً لتحولها إلى موجات بشرية، عمد النظام والحكومة معه إلى محاولة تحسين الواقع الخدمي في مدن وقرى الساحل السوري، ولو على حساب سوريين آخرين، إذ عادت الكهرباء إلى الوصل لمدة ساعة ونصف كل ست ساعات في “اللاذقية” و”طرطوس” بعد أن قضى الساحل أكثر من ست سنوات على إيقاع كهرباء لساعتين يومياً، كما ربطت بعض مضخات المياه بخطوط كهرباء دائمة (“ساخنة” كما تسمى) سمحت بحلٍ جزئيٍ لمشكلة غياب مياه الشرب. ولكنّ سياسة الرشوة هذه، ووفقاً للظاهر حتى الآن، مؤقتة وسبق حدوثها، ويعي الناس ذلك بوضوح، وبأنها محاولة ﻹسكات صوت الغضب في ظل تردي الواقع الاقتصادي والسياسي.

من هم هؤلاء المحتجون؟

على مدار عقد من الكارثة السورية، انقسم السوريون بين كتلة مؤيدة للنظام وأخرى معارضة له وثالثة غائبة حيال الكارثة، ونعني كتلة “الحياديين”. وهناك بالضرورة في كل كتلة تفاوت في نسبة التأييد أو المعارضة، ولكن الانهيارات الاقتصادية المتتابعة مؤخراً في قيمة الليرة السورية (15 ألف ليرة لكل دولار) وارتفاع الأسعار الجنوني وارتفاع نسبة التضخم إلى حدود غير معقولة (في بعض السلع بلغ الارتفاع مئة ضعف) خلخلت تركيبة ومواقف الكتلة الموالية التي تعيش ضياعاً حقيقياً. وهذه الأوضاع الاقتصادية السيئة لم تستطع حتى الآن توحيد الكتل السورية في رؤية واحدة لمستقبل البلاد، فما تزال الجغرافيات السورية تعيش أوجاعها كلّاً على حدة، ويلاحظ ذلك بوضوح في حوارات “الطرشان” على منصات التواصل الاجتماعي بين السوريين وتبادل اتهامات “الشماتة”…

لا تختلف تركيبة الكتل السورية وهي قائمة في العالم الافتراضي عن بعضها إلا في موقفها السياسي من النظام السوري، فهي طبقياً واجتماعياً تضم الفلاحين/ات والعمال والطلاب وموظفي/ات الدولة والمنتفعين من الجهاز الحزبي البعثي أو الأمني أو الميليشياوي، بغياب واضح للطبقة الوسطى والعليا، وتكاد تخلو من كافة أنواع النخب. ويمكن الإشارة إلى أنّ الموقف السياسي نفسه موضع تبدّل وناتج في حالات منه عن الجغرافيا، بمعنى أنّ مناطق دمشق تضمّ معارضة غير ظاهرة نتيجة القمع السياسي والأمني المتجذر، وتضم مناطق المعارضة موالاة مخفية نتيجة القمع أيضاً.

بالنسبة للكتلة الموالية، ونتيجة للوضع العام، إضافة إلى ممارسات تمييزية خدمية بشكل أساسي، فإنها شعرت بالغبن، مع أخبار متلاحقة عن استحواذ رجال النظام وقادته على الامتيازات والأموال والأراضي، وفرض إتاوات على البضائع المنقولة في مناطق البلاد المختلفة. مؤخراً وبغاية تخفيف الانتقادات الموجهة للنظام أُزيل عدد من الحواجز العسكرية بين المدن الرئيسية، ولكن سرعان ما اتضح أنها خطوة لا قيمة لها بسبب ترك حواجز الفرقة الرابعة التي تسيطر على طرق حيوية في مناطق سيطرة دمشق، وتفرض إتاوات على نقل البضائع.

هل نتجه إلى “ثورة” جديدة؟

ولكن وسط هذا الغضب المكبوت/ الظاهر لا تبدو الأمور وكأنها ذاهبة إلى ثورة جديدة ولو بلبوس مطلبي، إذ أنّ مسألة الثورة أو الاحتجاج ـ في حدوده الواسعة ـ ليست أمراً متاحاً بسهولة في بلاد حرثها نظامها بكل أنواع المؤامرات والأسلحة والتدخلات العسكرية والسياسية، وتعيش فراغاً سياسياً منذ نصف قرن ولم تنجح معارضاتها في بناء سياسي ذي مغزى.

في مقالٍ له حول أزمة الحياة السياسية في سوريا، العام 2009، كتب المعارض السوري العتيق والمختفي قسرياً، “عبد العزيز الخيّر”: “إنّ الديكتاتورية قد نجحت في تذرير المجتمع السوري منذ ثمانينات القرن الماضي، وزرعت فيه رهاباً عميقاً من العمل السياسيّ”. وقد أدّت هذه السياسات التراكمية القمعية إلى نتائج كارثية سواء لجهة النظام مع تحوّل منظوماته السياسية الأحادية إلى ظلٍ للأجهزة الأمنية، أو لجهة المعارضة بعد العام 2011 حين سقطت سياساتها في وحول التجاذبات الإقليمية والدولية بالضد من المصلحة السورية.

يضاف إلى ما سبق جملة عوامل نافذة واقعياً تؤثر على وحدة وكيان الدولة السورية وتكاد تطيح بهما في مهاوي التقسيم بعد أن تمترست قوى الأمر الواقع وراء قوى إقليمية ودولية متعارضة المشاريع في سوريا. وهو أمر تستفيد منه السلطة السورية في تعزيز صورة ضرورة بقائها لدى الموالين لها وبأشكال مختلفة.

ففي غياب الطرح السياسي، لن تجد هذه الحركات الغاضبة أنصاراً آخرين ممن “أكلوا الفلقة” سابقاً، ولم تتضامن معهم الموالاة ولو في الشق اﻹنساني.

كما أن رفع سقف الكلام الشفوي وبوادر الاحتجاجات الخفيفة الأثر، والأفرادية بشكل كبير، سوف يتبخر عند أول اختبار عملي للتظاهر أو التنظيم الجماهيري، ليس فقط ﻷنّ الكتلة الموالية – والسوريين كلهم – تواجههم آلة قمعية هائلة ذات خبرة ما تزال سليمة من الانشقاقات والتهتكات، وغياب مشاركة الفاعلين العسكريين والأمنيين حتى الآن، بل لأنّ تركيبة المحتجين لا تتضمن ناشطين أو قادة أو سياسيين قادرين على التعاطي مع هذه الخبرة الأمنية في إثارة السوريين وإرهابهم، يضاف إلى ذلك أن هذه الجموع المنتمية إلى الطبقة الوسطى سابقاً لا تمتلك حاملاً سياسياً وليس لديها خطاب بديل جامع.

من جانب آخر، هذه الكتلة وإن كانت تتشارك حالياً الآلام نفسها مع السوريين الآخرين، فإنّها تفتقد لداعمين يمكن التعويل عليهم، سواء داخلياً من قبل السوريين الآخرين، الذين ينظرون بعين الشماتة أو الريبة إلى هذه الكتلة، أو خارجياً، حيث لا أحد مهتم بمصيرها. وهذا ما يجعل الذهاب نحو الأمام في الاحتجاج مسألة محفوفة بمخاطر كبيرة.

في خصائص النظام

إضافة إلى ما سبق، هناك الانهيار الاقتصادي الماثل للعيان، مع توابعه الاجتماعية، وهو يطال بنية الدولة السورية ومؤسساتها وناسها دون أن ينال من مؤسسات النظام باعتبار الأخير أسّس عبر تاريخه الطويل (نصف قرن) لمؤسسات موازية يقودها ويشرف عليها عبر أجهزة إدارية خاصة وعلاقتها بمؤسسات الدولة السورية هي علاقة تبعية ذات اتجاه واحد.

حتى الآن تستمر هذه الإشكالية بالعمل لصالح مؤسسات النظام بالضد من الانهيار المتتابع لبنى مؤسسات الدولة والمجتمع السوريين، بمساهمة ناجحة من الحكومة الحالية عبر إجراءات ليبرالية مثل تعويم الليرة السورية وتحرير الأسواق والأسعار من الرقابة بكل أنواعها، بالتزامن مع حد أدنى من محاولة تهدئة الشارع الغاضب عبر وعود بتحسين رواتب الموظفين مقابل رفع الدعم عن السلع المدعومة ومنها الخبز الذي يتوقع رفع الدعم النهائي عنه قبل نهاية العام الجاري.

إنّ اقتصاد النظام الخاص العميق الأذرع في قلب الدولة السورية محمي إلى حد كبير من الانهيارات لأنه اقتصاد نفعي يقع فوق الدولة، مبني على “الدولرة”، ويتابع التغيرات الحاصلة ويتجنب الوقوع في فخها. فقد رفعت أسعار الاتصالات المملوكة للنظام عدة مرات ومعها الإنترنت، في وقت تستمر فيه تجارة وصناعة الكبتاجون بالازدهار على مستوى البلاد، ولعلها الصناعة والتجارة الوحيدة المزدهرة في سوريا هذه الأيام.

يقودنا ما سبق إلى أن النظام يعيش لوحده ويحاول الدفاع عن مواقعه وأنه لا مشكلة لديه في استخدام القمع والعنف ضد الكتلة الموالية متى اقتضى الأمر ذلك، وأنه على استعداد للتضحية بالخط الدفاعي الثالث أو الرابع مقابل تدعيم الخطوط الأولى والثانية، وفي الوقت عينه حماية نفسه عبر تقديم تنازلات على المستويات الإقليمية والدولية، بمعنى أن احتجاجات الكتلة الموالية قد لا تشكل فرقاً إلا في حال اتساعها وهذا محتمل بعد أن ذهبت الحكومة بوقاحة إلى رفع كامل الدعم وزيادة رواتب الموظفين بنسبة 100 في المئة، وهي لا تغطي نسبة 10 في المئة من قيمة التضخم الحاصل. ولكن بالمقابل، لن تتردد الآلة القمعية في الذهاب إلى أقصى المواجهة، ونموذج العراق المشابه للنموذج السوري كثيراً ماثل في المشهد أمام النظام وأمام المحتجين المحتملين.

الاستنفار يعم البلاد

بينما كان الرئيس السوري يتحدث عن “وقوف غالبية الشعب السوري” إلى جانبه أثناء حديثه مع قناة “سكاي نيوز” الإماراتية، حاولت قوة أمنية في مدينة “بانياس” الساحلية الوصول إلى كاميرات المراقبة في عدد من محطات الوقود إثر توزيع مناشير لـ”حركة العاشر من آب” في المدينة، فيما قامت جهات أمنية بحملات لاعتقال ناشطين في “جبلة” و”اللاذقية” و”حمص”، في حين أنّ مدناً سورية انضمت إلى قوائم الاحتجاج بما يشبه أجواء العام 2011.

أغلبية السوريين، ونتيجة المعاناة والظلم والتدهور المستمر في حيواتهم، لم يعد لديهم ما يخسرونه. وبقدر ما يدفع هذا للرغبة والاستعداد للعمل من أجل التغيير، بقدر ما تحضر سيناريوهات العام 2011 الكارثية، كأكثر تعبير عن اليأس. واليأس إما أن يدفع الناس إلى الشارع بشكل غير مدروس وخطير، أو يقودهم إلى الانكفاء والعزوف عن التغيير… ويبقى الأفق مجهولاً!

السفير العربي

——————————-

سوريا: بعد انفجار السويداء النظام يخشى احتجاج الساحل/ منهل باريش

في الوقت الذي تستمر فيه احتجاجات السويداء من دون تدخل أمني، يشن النظام السوري حملات اعتقالات ومطاردة واستنفار في اللاذقية وطرطوس ودرعا وحمص ودير الزور، ما يشير إلى أسلوب النظام المعتاد في الاستفراد بالمناطق السورية كما جرت العادة.

إلى ذلك، تصاعدت وتيرة الاحتجاجات في محافظة السويداء ضد نظام الأسد مع نهاية الأسبوع الماضي، والتي انطلقت كاستجابة لدعوات ناشطين للإضراب العام، يوم الأحد الفائت، احتجاجًا على تردي الأوضاع المعيشية والخدمية، والانهيار الاقتصادي.

وجاءت دعوات الناشطين على خلفية رفع الدعم الحكومي عن المحروقات، ما تسبب بشلل عام في الحركة المعيشية، وارتفاع كبير في أسعار السلع والمواد، لتستجيب المدينة للدعوات بتجمع المئات من المتظاهرين في ساحة السير وسط السويداء الأحد 20 آب (أغسطس) وفي العديد من القرى والبلدات التابعة للمحافظة.

الحركة الاحتجاجية في المدينة ذات الغالبية «الدرزية» تلقت دعما معنويا من مرجعيتها الدينية المتمثلة بـ «الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين» ما أسهم في استمرار الحراك، وتوسع رقعة المظاهرات وزيادة في أعداد المشاركين.

دعم المرجعية الدينية للمحتجين، عبرت عنه رسالة وجهها رئيس المؤسسة الدينية الدرزية، الشيخ حكمت الهجري لأبناء السويداء ولعامة السوريين مساء السبت 19 آب (أغسطس) أعلن من خلالها دعم «مشيخة العقل» للاحتجاجات التي وصفها بالمحقة، وتبنى خطاب المحتجين ومطالبهم.

وجاء في الرسالة التي رفعت شعار «نحن نريد العزة والكرامة» وبخطاب موجه للمتظاهرين، « أبناءنا الكرام، حقكم ان تطالبوا بالعيش الكريم، ولن نرضى بالحد الأدنى».

وأضاف الهجري في رسالته، «وصل الحرمان حتى من لقمة الخبز ومن قطرات من الماء والمحروقات باختلاق أزمات، وتقصير في التمويل والأداء، وسارت الخطط بمواجهة الشعب لا في مصلحته، ما زاد من معاناته وأوجاعه».

وانتقد الرئيس الروحي للموحدين الدروز ممارسات النظام وسياسته الداخلية، قائلاً، «ما هكذا يعامل شعب من قبل حكومته، ولا هكذا تكون القرارات ولا التصرفات، والحجة حرب كونية، وأي حرب كونية وأنتم تدمرون شعبكم وتحبسون مقدراته عنه، وتسقطون اقتصاده الوطني إلى الحضيض بقرارات بخسة».

وعلى خلفية الدعم المعنوي الذي تلقاه حراك دروز السويداء، استمرت الحركات الاحتجاجية في أنحاء المحافظة لتسجل الثلاثاء الماضي أكثر من 40 نقطة تظاهر، حسب ما أوردته شبكة «السويداء24» المحلية، ولتشهد الحركة الاحتجاجية في اليوم التالي مشاركة من «بدو السويداء» في مظاهرة تجاوزت أعداد المتظاهرين فيها 2000 شخص حسب الشبكة ذاتها.

«مشيخة العقل» المرجعية الروحية للموحدين الدروز، والمكونة من ثلاث شخصيات مرجعية برئاسة الهجري، وحمود الحناوي ويوسف الجربوع، أيدت الحراك من خلال كلمات وجهها الأخيران للمتظاهرين، عبروا من خلالها عن دعمهم لمطالب المحتجين، مؤكدين على أحقيتهم بالعيش الكريم.

نظام الأسد، حاول بدوره التفاوض مع المرجعية الدينية، في محاولة منه لإنهاء المظاهرات، من خلال زيارة قام بها محافظ السويداء، بسام بارسيك، للشيخ حكمت الهجري رئيس هرم الرئاسة الروحية، محاولا إقناعه بالتواصل مع المسؤولين في دمشق.

وحسب ما أفادت شبكة «الراصد» المحلية، فإن المحافظ بارسيك، قدم للشيخ الهجري عرضًا عن رؤية حكومة الأسد للحل الاقتصادي وإنهاء التردي في الوضع المعيشي، إلا أن الهجري رفض الاطلاع على العرض، قائلاً للمحافظ بأن الحالة الراهنة ليست بحاجة «للوساطات والاحتجاجات» وأكد رفضه الاتصال مع المسؤولين بحكومة الأسد بدمشق، مشيرًا حسب «الراصد» إلى ان مطالب الشارع هي مطالب محقة، وان سياسات النظام أوصلت الشعب إلى هذه المرحلة.

الجدير بالذكر، ان الاحتجاجات الأخيرة في السويداء، ليست الأولى من نوعها في المدينة التي تتميز بخصوصية مرتبطة بسكانها وهم الموحدون الدروز كـ «أقلية» من جهة، ومجاورتها لدرعا التي انطلقت منها ثورة 2011 من جهة أخرى، إضافة لموقعها الجغرافي على الحدود الأردنية والصلاة الدينية الممتدة مع دروز الجولان السوري المحتل ودروز لبنان. إلا أنها المرة الأولى التي حظيت بتأييد من الرئاسة الدينية للدروز، ما أسهم في تصاعد وتيرة الاحتجاج والتظاهر، ورفع سقف المطالب التي نادت بـ «إسقاط النظام».

وخرجت في السويداء حركات احتجاجية منذ أيار (مايو) 2018 على خلفية رفض الفصائل المحلية مؤازرة قوات النظام في مواجهاتها مع الفيلق الخامس في درعا، ليرد النظام بدفع مقاتلين من تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى المحافظة وتسهيل دخولهم من عدة محاور من أقصى شرق المحافظة، ما تسبب بوقوع اشتباكات بين فصائل السويداء المحلية، وعلى وجه الخصوص حركة «رجال الكرامة» ومقاتلي التنظيم، وانتهت تلك الاشتباكات بطرد مقاتلي الأخير من المدينة. وفي 2021 خرج أبناء المدينة في مظاهرات غاضبة، ردًا على إهانة اللواء لؤي العلي رئيس فرع المخابرات العسكرية للشيخ حكمت الهجري بسبب وساطته لإطلاق سراح شخص من السويداء اعتقل في دمشق، وانتهى غضب الشارع حينها باتصال من رئيس النظام بشار الأسد بالشيخ الهجري، واعتذار المؤسسات الأمنية منه.

«بدنا نعيش»

وفي مطلع 2020 عاد الحراك الاحتجاجي للشارع تحت شعار «بدنا نعيش» رفضًا لسياسات النظام الاقتصادية وسوء الحالة المعيشية للسكان، كما شهد شهر شباط (فبراير) من العام الماضي احتجاجات استمرت لأكثر من شهر ونصف بسبب تردي الأوضاع المعيشية.

وحول التظاهرات قالت الناشطة الإعلامية في حراك محافظة السويداء، بيسان أبو عسلي لـ «القدس العربي» إن المظاهرات الاحتجاجية في السويداء «مستمرة حتى إسقاط النظام، وأن سبب التظاهرات تعود للأوضاع المعيشية الصعبة التي يعاني منها السوريون» مؤكدة على ان حراك السويداء هو «ثورة كرامة، لا ثورة جوع كما يصفها إعلام نظام الأسد».

وأضافت، «مدينة السويداء ذات الدخل المنخفض، تعاني من سياسات النظام الاقتصادية، ومن تعامله الرديء في معالجتها، كما أن المدينة وصلت لمرحلة من العجز بسبب تمويل أبنائها وخاصة المغتربين لمؤسسات الدولة». وأكدت أبو عسلي، على أن «حراك السويداء اليوم مختلف عما سبقه، فمشايخ العقل تبنوا شعاراتنا، واحتضنوا حراكنا، ونحن نتأثر بمشيخة العقل بشكل أكبر بكثير من تأثرنا بالزعامات السياسية».

الزعامة الدينية لطائفة الموحدين الدروز في السويداء ليست الزعامة الوحيدة المؤيدة لحراك الشارع في المدينة، فزعيم طائفة الدروز في فلسطين، والذي يحظى باحترام الطائفة في سوريا ولبنان أيضًا، موفق طريف، أعرب في بيانٍ علق من خلاله على احتجاجات السويداء، قائلاً «صمود الدروز في سوريا يحتّم دون شك الحفاظ على وحدة الصف بين مشايخ العقل والقيادات الشعبية والسياسية في الجبل، إذ لا يختلف اثنان على مطالب الطائفة وأبنائها».

مشيرًا إلى ان مشايخ العقل في المنطقة سيجرون اتصالاتهم على المستوى الدولي، لمنع أي محاولات قمعية سيتخذها النظام بحق المحتجين.

وبالتوازي مع احتجاجات السويداء، اتسعت مظاهر انتقاد نظام الأسد من قبل نشطاء من الساحل السوري الذي ينتمي له رأس النظام، واستخدم النشطاء وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن انتقادهم للواقع المعيشي، وطريقة تعامل نظام الأسد مع المشكلات السياسية والاقتصادية.

وشنت أجهزة الأمن السوري في اللاذقية حملات اعتقال وملاحقة لعدد من النشاط أبرزهم الناشط المدني أحمد ابراهيم إسماعيل إضافة إلى توقيف آخرين بتهمة العلاقة مع «حركة 10 آب» النشطة في الساحل السوري، كما تلاحق دوريات الأمن أمير فارس أحد أوائل الذين بثوا تسجيلات مصورة على وسائط التواصل الاجتماعي ينتقد من خلاله رئيس النظام بشار الأسد وزوجته أسماء الأخرس.

وفي سياق منفصل، اعتبرت الحركة أن «حصر الاحتجاجات السلمية بعمليات التظاهر وخاصة في أيام الجمع والعمل على تسميتها لم تكن تجرِبة ناجحة وصحيحة لأنها سمحت للنظام باتخاذ الإجراءات الأمنية المناسبة لمواجهتها وقمعها» وزادت الحركة أن ذلك «أدّى دوراً إضافياً في تعزيز التفرقة والاستقطاب داخل المجتمع السوري».

وطالبت الحركة في بيان «عدم المخاطرة بالتظاهر في مناطق سيطرة النظام وابتكار آليات كفاح سلمي جديدة ومؤثرة وجامعة لكافة أفراد ومكونات الشعب، وعدم الانجرار وراء الدعوات التي نعتقد بأنها لا تعبر عن النضج وتراكم التجربة التي حملتها السنوات السابقة المريرة» وشددت على «ضرورة الحفاظ على سلامة كل مواطن سوري من بطش الأجهزة الأمنية» مشيرة إلى «أن هذه الدعوات تحمل نزعة مغامرة ولا تتحلى بالمسؤولية والتخطيط».

وفضلت «10 آب» تنظيم العديد من «الفعاليات السلمية الجماهيرية وأساليب النضال اللاعنفي».

وحول الدعوة لعدم التظاهر في مناطق النظام وحالة الغضب من قبل عدد كبير من النشطاء، علق المنسق في حركة 10 آب، أمير ناصر في اتصال مع «القدس العربي» على الأمر، قائلا إن «الاستنفار الأمني في مناطق سيطرة النظام يعرض المدنيين والنشطاء إلى خطر الاعتقال إضافة إلى عدم نضج حركات الحراك وتحوله إلى حراك شعبي واسع النطاق حتى اللحظة، وأننا نملك الكثير من أدوات النضال اللاعنفي المجرب سابقا خلال انطلاق الانتفاضة السورية عام 2011».

وكشف عن امتلاك الحركة -بالتنسيق مع عدة أطراف وتجمعات مدنية- «خطة لتكتيكات الحراك السلمي وهو الأقل كلفة ويجنب النشطاء الاعتقال ونعتقد أنه الأكثر تأثيرا في الفترة الحالية» وزاد ناصر «لا نريد أن نضحي بسلامة أي مواطن سوري». وتنتظر الحركة «نضجا سياسيا يؤدي إلى حراك منظم تنضم إليه النقابات والجمعيات المستقلة» حسب تعبيره. مذكرا بأيام الحراك المدني السوري التي أطلقتها التنسيقيات نهاية عام 2011 التي «خلفت أثر كبيرا لدى المؤسسة الأمنية وشتتت قبضتها». وختم «من حق الجميع إبداء رأيه وانتقادنا حول رفض دعوات التظاهر، لكن تحركاتنا مدروسة وسلامة المواطنين والنشطاء هي معيار أساسي ولا يمكن تجاوزه حاليا».

ولم تقتصر التظاهرات في الساحات على حراك السويداء، بل شهدت محافظة درعا التي خضت لسيطرة النظام عام 2018 عقب تسوية رعتها موسكو، حيث عاشت المحافظة فوضى كبيرة لم تتوقف أبدا، ودخلت في حالة من الاغتيالات المتبادلة. كما شهدت مدينة دير الزور التي يسيطر عليها النظام أيضا عدة مظاهرات وشنت دوريات الأمن العسكري حملة اعتقالات طالت سبعة مواطنين في حي القصر بسبب تحضيرهم لوقفة احتجاجية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية حسب ما أكدت مصادر محلية لـ «القدس العربي».

الفقر الشديد وفشل النظام في تأمين الخدمات الأساسية وعدم مقدرة معيلي الأسر على إطعام ذويهم يشكل سابقة خطيرة في مناطق سيطرة النظام وخصوصا في الساحل السوري، لاعتبارات متعددة أولها أنه لا يكاد بيت في المدن «السنية» السورية إلا ويوجد فيه مغترب يرسل لأهله ما يساعدهم في تخفيف صعوبات الحياة اليومية، بعكس مدن الساحل ذات الغالبية «العلوية» فقد قضى أغلب الشباب في القتال إلى جانب النظام وبقيت الأسر دون معيل ولا مغتربين يساعدونهم.

تلك الاعتبارات تعني استمرار معاناة المدنيين في الساحل السوري، وستنفجر لا محال، والانفجار الاجتماعي هو الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى تفكك النظام الأمني والعسكري. أما التعويل على التغيير في السويداء وباقي المناطق التي عانت الويلات فهو إعادة اشعال الحريق في الجسد فوق مرهم الجروح مرة أخرى. ويسعى النظام من خلال احتجاجات السويداء إلى ترهيب حاضنته بوجودهم وربط مصير «العلويين» بمصيره، كما فعل سابقاً أعقاب احتجاجات 2011 حيث ألصق تهمة السلفية والعصابات المسلحة بها منذ يومها الأول عندما كان نشطاء الثورة يوزعون الورود على عناصر جيش النظام. لا نقلل هنا من حراك السويداء أو غيرها لكن كلمة السر في تغيير بنية النظام هي في مدن الساحل.

القدس العربي

——————————–

السويداء… هذه المرّة مختلفة/ غازي دحمان

المؤشّرات عديدة عن اختلاف حراك السويداء الحالي عما سبقه على مدار السنوات الأخيرة، وهو ما دفع السوريين والخارج إلى الالتفات الجدّي إلى ما تشهده هذه المدينة الجنوبية، والتساؤل بشأن قدرة هذا الحراك في تحريك الجمود الحاصل في سورية.

لا بد من إدراك السياق الذي تجري فيه أحداث السويداء، بعد جمود مسار الانفتاح العربي على نظام الأسد، وتوتّر الأوضاع في شرق سورية، حيث تلوح نذُر تصادم بين القوات الأميركية والمليشيات الإيرانية والروسية، بالإضافة إلى ظهور مؤشّرات عن تململ بدأ يضرب حاضنة النظام في الساحل. وتأتي أهمية هذا السياق من إضعاف خيارات نظام الأسد في التعاطي مع حراك السويداء، مقابل منح الحراك زخماً أكبر وقدرة على التأثير.

اللافت في الحراك الحالي اتّساع نطاقه أفقياً وكثافته، إذ انضمّت قرى جبل العرب للحراك بقوّة، كما أعلنت عشائر البدو انضمامها له. وعمودياً، يبدو أن الحراك ضمّ رجال الدين، ونخب السويداء، وقطاعاتٍ مهمّة، مثل التجار، والعمال، والطلاب، والمزارعين، في المدينة والريف، بمعنى أن الحراك ضرب عميقاً في مجتمع السويداء، بحيث باتت ادّعاءات إعلام النظام بأن من يشارك هم فئات خارجة عن القانون أشبه بنكتة سمجة.

ولعل ما يميّز الحراك الحالي سماته الجديدة التي تربط الاقتصادي بالسياسي، إذ لا تقتصر مطالب الحراك على الجانب المعيشي، رغم مركزيّته في الحدث، بل تتعدّاها إلى المطالبة بالتغيير السياسي، ما يؤكّد إدراك أهل السويداء أن الخلاص من هذه الأوضاع الكارثية لن يتم إلا من خلال رحيل هذا النظام، وولادة ديناميكيات سياسية جديدة تضع سورية على طريق الخروج من أزمتها التي صنعها الأسد وحلفاؤه.

المميز أيضاً في هذا الحراك أنه يتحدّث عن مطالب السوريين جميعاً، ولا يقتصر على مطالب خاصة بالسويداء، فهو يطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وإخراج المعتقلين، وإخراج روسيا وإيران من سورية بوصفهما قوتين محتلّتين وناهبتين ثروات سورية، وهذا يدللّ على درجة وعي عالية نتيجة خبرة طويلة بالتعامل مع النظام، بقدر ما تؤشّر جذرية هذه المطالب إلى أننا أمام حراك، بالإضافة إلى عمقه وشموليّته، فهو أيضاً حراك قد يكون طويل الأمد.

كان واضحاً ارتباك النظام حيال حراك السويداء هذه المرّة، فقراءة وسائل إعلامه تكشف عن حجم التخبّط تجاه هذا الحراك، وعدم القدرة على صياغة سردية مقنعة ضدّه، كما تكشف قراءة صحافة حلفائه عن استشعارهم المخاطر التي ينطوي عليها حراك السويداء، ودقّهم ناقوس الخطر، عبر ربط الحراك بالتطوّرات الجارية على مستوى الإقليم، وخصوصاً الترتيبات التي تقوم بها القوات الأميركية في قاعدة التنف ومناطق شرق سورية.

وربما، لهذه الأسباب بدت استراتيجية النظام في إدارة الأزمة التي يواجهها في السويداء غير واضحة، فلا هو يتقدّم بتلبية المطالب الاقتصادية، ولا هو قادر على استخدام وسائل أخرى، كما اعتاد في مواجهة مثل هذه الأزمات، وما يزيد من إرباكه أنه يواجه، في الوقت نفسه، ما يشبه تمرّداً داخل بيئته الحاضنة في الساحل السوري، ويستخدم سياسة الاعتقالات لإسكات الأصوات التي نادت بإيجاد حلول للأوضاع الاقتصادية الصعبة، وحمّلت رأس النظام المسؤولية عمّا وصلت إليه أحوال البلاد.

عملياً، تبدو خيارات نظام الأسد ضعيفة جداً تجاه السويداء، بعد أن جرى تفكيك شبكات التأييد والقمع التي صنعها في جبل العرب، إذ أعلن شيوخ العقل الثلاثة وقوفهم مع الحراك ومطالبه، كما استطاعت القوى الفاعلة في السويداء، في الأشهر الأخيرة، تفكيك أكثر المليشيات الموالية للأسد والعاملة بإمرة أجهزته في السويداء، كما أن عناصر حزب البعث والمخبرين باتوا محاصرين من الأهالي.

لا يستطيع الأسد استخدام القوّة الصلبة في مواجهة حراك السويداء، إذ عدا عن أنه في هذه المرحلة تحت المجهر الأميركي، فهو لا يستطيع التقدير إلى أي مدى سيكون لذلك تداعيات على مستوى المنطقة، في ظل استنفار أميركي، وتأهّب إسرائيلي، وانزعاج أردني، كما أن طبيعة الجبل الجغرافية عامل مؤثر في أي قرار عسكري قد يفكّر الأسد باتخاذه، فضلاً عن الارتباط الجغرافي بين السويداء ودرعا، واحتمالية تشكيلهما فضاء متمرّداً واحداً، لذا لا بد أن النظام يضع في حساباته أن أي تصرّف غير محسوب بدقة، وربما موزون بميزان من الذهب، ستكون نتيجته خروج السويداء والجنوب السوري بجملته عن حكم النظام.

تحدّث الأسد في لقائه أخيراً مع قناة سكاي نيوز عربية عن نماذج التعاطي الغربي مع صدّام حسين ومعمر القذافي، ربما كان يدور في خاطره أن الدول الغربية هبّت ضد صدّام عندما أصبح يشكّل تهديداً لمكوّنات بعينها، الشيعة والأكراد، فأقامت لحمايتهم مناطق آمنة، وأن الحرب التي شنّها حلف الناتو على القذّافي كانت بسبب تهديده بالقضاء على ثوار بنغازي، ولا شك أن الأسد يدرك تماماً أن أي تحرّك ضد السويداء سيشكّل نهاية حتمية لحكمه.

حراك السويداء هذه المرّة مختلف، لأن أهل السويداء باتوا أمام مخاطر وجودية لم يعد ممكناً المناورة إزاءها، فالمحافظة بدأت تعاني من تفريغ لشبابها الذين هاجروا بالآلاف إلى الخارج، حتى إن جيلاً بكامله خرج، أو يستعد للخروج من السويداء. بالإضافة إلى وجود عمليات شراء للأراضي تقوم بها جهاتٌ تتبع لإيران، بمعنى أن هناك مخطّطاً لتغيير هوية المحافظة يجري على قدمٍ وساق، ولعل هذا ما دفع مختلف القطاعات والفئات إلى المشاركة في الحراك.

العربي الجديد

——————————-

الموالون في سورية بين الإصلاح وإسقاط النظام/ عمار ديوب

اصطفّ الموالون في سورية إلى جانب السلطة في مواجهتها الشعب. ليس من مارس/ آذار 2011، بل بعد عدّة أشهرٍ. حدث الأمر بعد أن وجدت السلطة أنّ لا خيار لإنقاذ نفسها، والثورة تتوسّع، إلا بالتطييف، ولاحقاً بالعسكرة، والأقلمة والتدويل؛ فتحالفت مع إيران ومليشياتها ثم روسيا. دفعت السلطة مليشياتها نحو ممارساتٍ طائفية، فقامت بتسريب فيديوهات للتعذيب أو القتل أو المجازر ذات الصبغة الطائفية، قاصدة القول إن من يقوم بها العلويون ضد السنّة، وعملت على تجييش الأحياء “العلوية” في بعض المدن، كحمص واللاذقية، ضد أحياء يقطُنها “سنّة”، وفي بانياس وفي مناطق أخرى؛ كانت الرسالة، واضحة: إن العلويين يقتلون السنّة.

الموالاة والتطييف

جَرّت الأحداث السابقة وراءها، وعبر الأشهر اللاحقة، أحداثا طائفية مشابهة. إذاً، انتُهِجت سياسات التطييف ردّاً على الثورة الشعبية، والخشية من أن تحطّم القيد الطائفي؛ كانت تلك الأحداث لاجتثاث الوعي الثوري، وجعله يعود إلى الوعي الطائفي، وهو ما عزّزه النظام، عقودا، قبل اندلاع الثورة، وقد كانت الأخيرة تشبه الثورات العربية، ونظر لها السوريون كذلك ثورةً شعبية. نجح النظام في التطييف، ولم يترك وسيلة لتكريسه، وتشدّد في حصار المعارضين من أصولٍ علويةٍ وهَجّرَهم من أحيائهم، وأطلق سراح المعتقلين السلفيين والجهاديين، والإتيان ببعضهم من العراق، واستجلب المليشيات الطائفية الشيعية، وبدءاً بحزب الله.

ربما يوحي النص أن الموالين علويون فقط، وهذا غير صحيح؛ فهناك فئات مدينية سنية والأغلبية الكبرى من الأقليات الدينية. تفضل هذه الفئات الاستقرار تحت الاستبداد على الثورة والتغيير، قبل 2011 وبعده، ولا تجد مصلحتها في التغيير غير المحدّد ببرنامج وطني شامل، سيما أن الثورة في سورية، ونتيجة القمع المنظم، راحت تتّجه نحو الأرياف، وقد منع النظام الثوار من الاستيلاء على ساحات المدن، ولو أدّى ذلك إلى تدمير المدينة بأكملها على أهلها، وهو ما جرى في حمص ودير الزور وحماة وبلدات كبرى في الأرياف.

انخرط الإخوان المسلمون في صفوف المعارضة، ومجموعات إسلامية أخرى في الصراع من موقفٍ إسلاميٍّ، وبدأوا يعملون على أسلمة الثورة، وشاركوا في تشكيل المجلس الوطني السوري في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 انطلاقاً من هذا الموقف. وبالتالي، تلاقى النظام و”الإخوان” في تطييف الثورة، واستخدم الطرفان السياسة ذاتها. حصيلة الأمر، احتشد أغلبية العلويين خلف النظام، ومعهم كثيرون من أبناء الأقليات، وكتل سنية كبيرة من المدن، وبدأت الثورة تتأسلم، وترافق ذلك مع قمع وقتل وتهجير لأغلبية الثوار المدنيين الأوائل.

تشكّلت كتلة الموالين من الفئات أعلاه، فانقسمت سورية إلى شعبي الثورة والنظام. وتجذّر الأمر، حينما دفعت السلطة الثورة نحو التسليح والتطييف، وهو ما عملت له المجموعات الإسلامية المنخرطة في الثورة. مع زيادة القمع ودخول السلاح الثقيل ضد المدن والبلدات والقرى الثائرة، ودخول السلفيين والجهاديين المعركة ضد الثورة، وارتفاع أعداد القتلى من الجيش وأجهزة الأمن والشبّيحة، أصبحت المعركة أقرب للطائفية. في عام 2013 ولاحقاً، انتهت أصوات الاعتراض من أوساط الموالين، على قلتها، وتعزّز الخطاب الطائفي الثأري على جبهتي الحرب.

المعركة وقد تطيّفت

تستند سيطرة السلفية والجهادية على العمل العسكري وتشكيلها أنظمة استبدادية إلى نصوص “دينية”: “داعش، جبهة النصرة، جيش الإسلام…”، أدّى إلى تلاشي بقايا الثورة المدنية، والتهميش شبه الكامل للفصائل الحرّة، واستلمت إيران ومليشياتها التخطيط والمواجهة وأصبح النظام تابعاً لها، وجعل ذلك المعركة طائفية بامتياز؛ هنا أصبح الموالون في ارتباكٍ شديدٍ؛ فهم مؤيدون للنظام، ولكن إيران أشدّ تطييفاً من الفصائل السلفية، واستمرار المعارك والقتل، دُفِع الموالون إمّا لتأييد إيران، أو الصمت تجاهها، ولكن الرفض كان مطلقاً للفصائل المناهضة للنظام؛ الأمر ذاته على جبهتي الحرب؛ بين شعب الثورة، بدأت تبرز موجة رفضٍ شعبي للجماعات السلفية والجهادية، ولكن الموالين للنظام لم يغيّروا موقفهم، فظلّوا ضد الثورة والمعارضة والفصائل على تعدّد أيديولوجياتها.

استمرّ التجييش الذي افتعله النظام وبعض أطياف المعارضة سنوات، ولكن تغييراً بدأ يظهر مع عودة مناطق خفض التصعيد في 2018 إلى سلطة النظام، وتشكيل ما يشبه الحدود بين مناطق النظام والخارجة عنه، حيث بدأت أوضاع الموالين بالتدهور، وراحت قيمة العملة تتراجع بشكل كبير، وكذلك لم يعد لدى النظام أموال إضافية، وتجمّدت الأجور، وهناك الخسارات الكبيرة في أوساط الجيش وأجهزة الأمن، وفقدت العائلات كثيرين من ذكورها. الأسوأ أن خطاب النظام بدا متجاهلاً دور الموالين في صموده ضد الشعب، والملايين التي صمتت تجاهه، ولم تؤيد الثورة. في أوساط السلطة بدأت عملية تركّز الثروة في أبناء حافظ الأسد، وهُمّشت فصائل الشبّيحة وتمّ حلّ أغلبيتها، وفُرضت الإقامة الجبرية على رامي مخلوف، وجرى تشليحه أغلبية شركاته داخل سورية، وفي مقدمتها سيرياتيل. وقد شكّل عزل مخلوف صدمة كبيرة في أوساط الموالين، وتحديداً بين العلويين، ورافق ذلك صعود دور كبير لزوجة الرئيس، ولأولاده وإمكانية توريث الحكم. وكان هذا سلبياً للغاية، حيث بدا للموالين أن تأييدهم النظام أدى إلى تدهور أوضاعهم، ومقتل كثيرين منهم. وبالتالي، كان بلا فائدة تُذكر، ولم يحصدوا ثماراً لموقفهم ذاك.

مع ترسيم الدول المتدخّلة بالشأن السوري الحدود بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لتركيا، راحت الحاضنة الموالية تتخلّص بالتدريج من مخاوفها القديمة التي زرعها فيها النظام، وأن السنة قادمون لاجتثاثها. لقد رأوا “السنّة” في مناطقهم، حيث نزح ملايين منهم إلى مدن الساحل “الآمنة”، وكذلك رأوا أن ممارسات المنخرطين بالتشبيح أو بأجهزة الدولة القمعية لا تهتم بأوضاع المفقرين والمهمشين والموالين. خطاب السلطة المتجاهل دورهم، ساهم في بداية اليقظة والوعي النقدي، واشتدّ في 2023، وتوسّع بعد فشل المبادرات العربية والتركية.

الموالاة لروسيا بعد إيران

لا يفوتنا هنا أن الموالين، وبدءاً من دخول الروس سورية 2015، بدأوا يتنفسون الصعداء، فأصبحوا مؤيدين لروسيا وابتعدوا عن إيران. لم يتشيع العلويون، ربما قلة نادرة. وعكس ذلك، ومع استرجاع النظام مناطق واسعة، تشيّعت بعض المناطق والعائلات، ولا سيما في أرياف دير الزور، والتحقت مجموعاتٌ من الفصائل الثورية المهزومة بإيران. وجد الموالون أن الخريطة تغيّرت، ولم يعد التطييف يجدي أكلاً أو أماناً أو تعليماً لأولادهم، وافتقدوا الحاجات الأساسية.

استمرّ هذا الوضع بعد مرحلة الاستيلاء على مناطق خفض التصعيد باستثناء إدلب. وأوقف هذا المعارك الحقيقية، وكذلك منع دخول الدولار السوق السورية، وبدأت العملة بالانهيار بشكل كبير، وتصاعد الأمر في الأعوام والأشهر الأخيرة، وراحت قيمة الرواتب تنخفض، بينما تزداد الأسعار ارتفاعاً. بدأ الموالون الذين لم يتأثروا قبل 2018 بكارثية الأوضاع لبقية المدن السورية الثائرة يشعرون بالأمر. شكلت الحدود المرسومة بإشراف كل من تركيا وأميركا وروسيا وإيران، سبباً لزوال شعور الموالين بالخطر، وتراجع أثر ضغوط النظام لحثّ الموالاة على التبعية له أو الاستمرار بالصمت، وسقطت تقريباً أيديولوجية النظام في أن السنة قادمون لاجتثاث العلويين والموالين بعامة، أو أن ما جرى مؤامرة دولية وثورة سنيّة لإقامة إمارات إسلامية.

ثراء السلطة

ثراء السلطة ورجالاتها الكبار، السياسيون والعسكريون والأمنيون والشبّيحة وفروع العائلة المالكة، آل الأسد، كان محط أنظار الموالين، وبدأ السخط والتذمّر يحرّك تفكيرهم، وراحت فئات موالية كثيرة تغادر البلاد. مع تردّي العملة، واستمرار النظام بالقمع ذاته، وفرضه ضرائب ضخمة وتخليه عن دعم بعض المواد، ورفعه أسعار مشتقات النفط؛ كلها عوامل قلّصت التفكير الطائفي، ولنقل لم يعد هو المسيطر، وصار التفكير بإيجاد طرقٍ لتأمين الاحتياجات هو الأصل. وبغياب القدرة على ذلك، بدأت حدّة التذمر بالارتفاع، وإن لم تظهر شخصياتٌ ناشطة للتعبير عنه، ربما باستثناء بعض الأفراد؛ وكان الأبرز بوستات أو فيديوهات رامي مخلوف.

كان ارتفاع أسعار كل المواد، سيما مشتقات النفط، وندرتها واستمرار النهب والفساد وبأشكال أسوأ طوال سنوات الثورة، سبباً مركزياً لتعطّل الزراعة، والصناعة، ولهجرة أعداد هائلة من السوريين إلى الخارج، سيما أصحاب رأس المال والصناعيين، وفي الأعوام الأخيرة، حتى التجار بدأوا بالمغادرة. ظلّت هجرة العلويين، نادرة، ربما لبعض دول الخليج أو لبنان، ولكنهم ظلّوا في الداخل، إضافة إلى مقتل مئات آلاف منهم في الحرب. لم تخرُج المظاهرات في المناطق الموالية رفضاً للأوضاع المتأزّمة، والتمايز الطبقي، ولثراء السلطة الفاحش، فقد ظل وجود أعداد هائلة من العناصر الأمنية أو الجيش يشكل دائماً سبباً للصمت والموالاة. المشكلة أن طول أمد الحرب، وتشديد الحصار على النظام أوروبياً وأميركيا، والعقوبات على إيران وروسيا بعد غزوها أوكرانيا منعت هاتين الدولتين من الاستمرار بدعم النظام، وكذلك لمعرفتهم بالمليارات التي في حوزة العائلة الحاكمة في سورية.

أدّى توقيع النظام اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع إيران وروسيا، وتوقف الأخيرتين عن دعم النظام، بشعور الشعب بالغبن الشديد، فكما أن إيران لم تكن حلاً، كذلك روسيا، وقد أعلن إعلاميون سوريون كثيرون موالون عن تأففهم من إيران وروسيا، وتحديداً من الأخيرة، لعدم دعمها النظام بمليارات الدولارات، وهم الحلفاء، رغم معرفتهم العميقة بأحوال سورية المتأزمة. راحت روسيا المتورّطة في أوكرانيا تحثّ النظام على الاستجابة للمبادرات العربية أو التركية، من أجل إيجاد حلٍ ما للوضع في سورية. لم يستجب النظام، وانتهت فترة ما بعد الزلزال، حيث جرى نهب أغلبية أموال المساعدات، ولم ينل الموالون شيئاً منها، رغم معرفتهم بالكتلة الكبيرة للأموال المقدّمة، عالمياً، من أجل دعمهم. وقد رفعت سرقة أموال المساعدات ومواد الإغاثة “للموالين” من درجة الاستياء، وكذلك تقديم السلطة قروضاً للبيوت المهدّمة في جبلة واللاذقية وطرطوس، بينما هي أموال خارجية للدعم المباشر، وهذا رفع من انتقادات الموالين.

فشل المبادرات العربية والتركية

انتهت فورة أموال الزلزال، وفشلت المبادرة العربية التي تَوهم النظام وأوهم معه الموالين أن الأموال قادمة، وسينتشلهم الانفتاح العربي من أوضاعهم الكارثية. رأى الموالون أن فشل المبادرة والانفتاح تمّا بسبب موقف النظام وليس بسبب المبادرة العربية، ووقعت سورية تحت عقوباتٍ كثيرة. توصل الموالون إلى أن المشكلة في سورية ليست في الاحتلالات ولا في إسرائيل ولا المؤامرات الخارجية، بل في سياسات النظام الفاشلة وأدواته المستخدمة في النهب وفرض الإتاوات. وبالتالي، أخطأ النظام في إدارة البلاد بشكل كامل، ولهذا هم في أسوأ الأحوال، وتزداد الأوضاع تفاقماً.

انهارت العملة بشكل متسارع في الأشهر الأخيرة، ولم تعد الأجور تكفي عدّة أيامٍ. وبغياب كتلة كبيرة من المهاجرين من الموالين خارج البلاد، راح الجوع والألم يفتكان بالأغلبية منهم. بدأت تتساوى الحياة مع الموت، وارتفعت الأصوات بالنقد، ولكن هل يمكن لها أن تتجاوز فكرة إصلاح النظام إلى إسقاطه، وهل الفكرة الأولى سيتم النضال من أجلها بالفعل، وتتعيّن على شكل احتجاجات شعبية، وبمطالب اقتصادية مثلاً، كالمطالبة بالكهرباء أو رفع الأجور أو تأمين الماء وسواه كثير.

انتهاء أيديولوجية السلطة ومستقبل تذمّر الموالين

أهال تطور الأحداث في سورية التراب على إشاعة النظام أنّ السنة سيبيدون العلويين، فأغلبية السنة جرى تهجيرهم أو أصبحوا نازحين، وخمدت ثورتهم بشكل كبير، وأصبحت أغلبية منهم رافضة الأسلمة وللسلفية. إذاً، أصبح للموالين قضاياهم الذاتية، كالمطالب الاقتصادية أو الاجتماعية، ويرون أن غياب نقص الاحتياجات متعلقٌ برفض السلطة التغيير، وإعطاء الشعب حقوقه. وجود أغلبية الموالين في الداخل، واستمرار النظام فرض سيطرته بشكل أمنيٍّ وعسكريٍّ، يضعان حدوداً لتلك المطالب، فلا تتضمّن اعتراضاً حادّاً على ممارسات الأجهزة الأمنية أو الجيش أو موقع الرئاسة والعائلة الحاكمة وفروعها. ولهذا، ورغم التذمر في الأشهر الأخيرة، تحدّدت المطالب بانتقاد الوزارة أو مجلس الشعب أو حواجز الفرقة الرابعة. وهنا يمكننا القول إن السمة العامة لخطاب التذمر إصلاحية، ولا تتعدّاه إلى التغيير السياسي.

ما زالت مفردات خطاب الموالين محدودة ببعض المطالب الاقتصادية والاجتماعية وبعض الخدمات العامة. وبالتالي، ليس من ضمنها مفهوم التغيير السياسي أو إسقاط السلطة. صحيحٌ أن ذلك الخطاب يحدّد المشكلة بالسلطة أو بالنظام بشكل أدقّ، ولكنه لا يتخذ موقفاً سياسياً دقيقاً منهما. يضغط حجم الأزمات لاعتماد مقاربة تنطلق من إسقاط النظام، ولكن هول القمع والقتل وسيطرة الخوف، وما تمَّ في سورية منذ 2011، وعدم زوال أيديولوجية السلطة بشكلٍ كاملٍ، وأن السنة قادمون لاجتثاثكم، من الأنفس، ورداءة النماذج السلطوية لدى هيئة تحرير الشام أو الفصائل التابعة لتركيا يقف حائلاً دون تطوير ذلك الخطاب، سواء نحو الإصلاح الشامل أو تبنّي الإسقاط.

الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتفاقمها المستمر وفجور السلطة وتجاهلها حقوق الموالين قابلة للتطوّر والانفجار، وكذلك هي أحوال السوريين في بقية السوريات “هيئة تحرير الشام وقسد والفصائل”. وبالتالي، لا يمكن لخطاب الموالين أن يتطوّر بصورة جادة من دون ظهور معارضة لتلك السلطات “السوريات”، تناهض سلطاتها الفاسدة والتابعة لهذه الدولة أو تلك. مع ذلك، وباعتبار الحدود مرسومةً وليس من خطرٍ من هيئة تحرير الشام أو “قسد” أو الفصائل، فإن أشكال التذمّر ستتصاعد بالتدريج، وإذا هي الآن تقتصر على بعض الأفراد، وبعض الحوادث الاجتماعية في هذه المدينة أو تلك، فإنها قابلة للانفجار الواسع.

لم يعد هناك موالون للسلطة بالمعنى الدقيق للكلمة، فالأزمة وأسباب عديدة قضت على مبرّرات وجودها، ولدى الشعب من أشكال المعاناة الكثير. أصبحت أشكال التذمر الموضوعية هنا وهناك قابلة للتطور، فالأزمة عنيفة للغاية، وليس من مخارج عبر إيران أو روسيا، وحتى تركيا لن تتراجع عن سياسة إعادة اللاجئين ودعم الفصائل الفاشلة، والسوريون أيضاً تحت سلطة هيئة تحرير الشام يعانون الأمرّين. وتتحكّم قيادات الهيئة بكل شيء، مباشرة أو عبر حكومة الإنقاذ. وليست “قسد” متفقة مع أحزاب كردية كثيرة أو مع بعض الفصائل العربية وأقسام من العشائر، وبالتالي، هنا أسباب عديدة للتقارب من “الشعوب” السورية من جديد.

المشكلة الآن، ورغم الملاحظات أعلاه، أن الوعي لم يتجاوز الانقسامات بين موالين وثوّار، وهو ما جرى رصده إزاء خطاب التذمّر الذي تصاعد، أخيرا، لدى بعض نشطاء من الموالين، وهذا سيعيق بصورة كافية تجسير تلك الانقسامات، وربما يُبطئ تطوّر انفكاك الموالاة عن السلطة.

 في كل الأحوال، ستراكم حدّة الأزمة التذمر، وتُنذر بالاحتجاج المجتمعي. وسيكون هذا أساساً جديداً لمشاريع سياسية كثيرة، سواء ضمن مشاريع الإصلاح أو إسقاط النظام. ما لا يمكن التراجع عنه أن التذمر سيستمر، وقد ينتقل من الفردي والهامشي إلى الانفجارات الواسعة، وهذا لا يزال في طور التراكم، فهل سيحدُث قريباً؟ ربما، التأزم العميق للواقع وأزمة السلطة يقولان بذلك.

العربي الجديد

———————————

الإضراب العام وأزمة السلطة السورية/ عمار ديوب

تزداد عزلة السلطة السورية عن حاضنتها الموالية والصامتة في الأشهر الأخيرة. حيث تنهار العملة السورية يوميّاً، وتتحكّم السلطة بالموارد، وتفرض الإتاوات والضرائب على من بقي من التجار والصناعيين، وترفض أيّة مبادرات دولية أو عربية للبدء بالمرحلة الانتقالية وتسليم السلطة. قبل أيامٍ، رفع النظام الدعم بشكلٍ كبيرٍ عن أسعار المحروقات والأدوية والخبز، ورفع الأجور مائة بالمائة، فكانت النتيجة انخفاض قيمة الأجور بسبب ارتفاع الأسعار، وبالتالي، كانت الحصيلة سلبية أكثر من مائة بالمائة أيضاً.

بدأ سائقو الناقلات بإعلان ما يشبه الإضراب العام، فتوقّفوا عن العمل في مدنٍ سورية عديدة، وهذا دفع مجموعات سياسية، منها حركة 10 آب، الجديدة، وأغلب فعاليات مدينة السويداء ومناطق في درعا لإعلان الإضراب العام، يوم الخميس 17 أغسطس/ آب الجاري، واستمر في يوم الجمعة التالي. وفي السويداء، أُعلِن أن الإضراب سيستمر بدءاً من 20 أغسطس/ آب الجاري، وظهرت بيانات في المدينة، وربما لأوّل مرّة، تتضمّن عدم الاعتراف بالسلطة الحالية، وتصف الوجود الروسي بسلطة الانتداب، وأن السلطة السورية مغتصَبة من المحتل الروسي والمليشيات الإيرانية، وتوجّهت إلى المنظمات الدولية بأن تأخذ الأمر بكلِ جديّة. وعلّق محلّلون على أن هذا البيان بداية المطالبة باللا مركزية، وبما يشبه ما فعلته قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فهل سيتحقق هذا الأمر ويمتد إلى درعا!

لا يمتلك النظام من أمره شيئاً، وبعض الأموال التي أتته من الإمارات، أو النفط من إيران، لا تبدو قادرة على إيقاف التدهور، فاضطر النظام إلى إرسال وزير خارجيته إلى مصر، للاجتماع مع وزراء خارجية بعض الدول العربية، ضمن التنسيق التشاوري للتقدّم بالحوار مع السلطة، من أجل حلّ المسألة السورية، ولكن وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، وهو ما يتطيّر منه. في حوار الرئيس الأسد، قبل نحو أسبوعٍين، مع “سكاي نيوز عربية”، استهان بجامعة الدول العربية وبالعرب، وكانت أغلب التحليلات تؤكد انتهاء المبادرة.

انغلاق أيّة أفاقٍ لتحسين الواقع في سورية هو ما أجبر الأسد على العودة إلى الجامعة، وربما تُقرأ استهانته تلك بالابتزاز ولرفده بالمليارات لا أكثر. هناك عامل جديد، وهو زيارة وزير خارجية إيران، حسين عبد الأمير اللهيان، السعودية، بعد إيقاف الاستمرار بتجهيز سفارات السعودية في إيران ودمشق. وربما جاء هذا المعطى بعد إعادة أميركا تموضعها العسكري في الخليج وزيادة عتادها وعددها، والخشية من الحرب ضدها، فرغبت بتهدئة المنطقة، وأرسلت عبد اللهيان. في كل الأحوال، تؤكّد تقارير صحافية كثيرة ذلك، وربما يكون تقدّم الحوار السعودي الأميركي بخصوص التطبيع مع إسرائيل سبباً للتحرّك الإيراني وسلطة دمشق.

بدأ الشعب السوري امتلاك حركات سياسية وأدوات جديدة للمواجهة، ليس فقط الإضراب والمظاهرات، السابق ذكرها، بل ووزّعت المنشورات في مدن سورية عديدة، وهناك تفكّك الحاضنة “العلوية”، حيث شهدنا أصواتاً مندّدة بكل سياسات النظام. وبغض النظر عن تراجع بعضها بسبب السطوة الأمنية، فعملت على تنزيه الرئاسة وشيطنة الحكومة ومجلس الشعب، وهو ما ظهر في بيانٍ، أخيراً، في منطقة الساحل، يؤكّد على ما ذكرنا، وتشكيل حكومة إنقاذ! وأصوات أخرى لجأت إلى الصمت، ولكن هناك أصواتاً جديدة تنضمّ للتنديد بسياسات النظام، وهذا ما يبدو أنّه سيتصاعد كذلك.

سيضاعِف من غضب الموالين اكتشاف مقبرة للمساعدات الغذائية والطبية في منطقة عمريت غرب طرطوس، حيث دُفِنَت بعد أن فَسدت في أماكن تجميعها، فكان لا بد من التخلص منها. السؤال في الساحل: لماذا لم توزّع تلك المساعدات، ونحن على أبواب مجاعة حقيقية؛ يُذكر أن تلك المساعدات جاءت من أجل مساعدة الأهالي بعد الزلزال في فبراير/ شباط الماضي، وبالتالي، سيَظهر فعل السلطة هذا بمثابة تجويعٍ ممنهج من أجل الإذلال الممنهج بدوره، وتقديم فروض الطاعة للسلطة من جديد.

تبدو السلطة متخوّفة بشدّة من هذا الإضراب، وما سبقه، وما سيليه من حراكٍ مجتمعي. مشكلتها الحقيقية في أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في غاية التفاقم، وليس من بابٍ أو نافذة للهروب. الخلاصة، الإضراب سيستمرّ، وقد ينتقل إلى مدن الساحل أو حلب مثلاً، وربما دمشق. الساحل هو الأكثر تضرّراً في الأشهر الأخيرة، وربما سيتفجّر على طريقة انفجار درعا 2011، حيث كل فعل غير مدروس، وفيه عدم احترام للناس سيكون بمثابة شرارة للانتفاضة الجديدة.

تبدأ السويداء، حالياً، بصورة خاصة، مرحلة جديدة، حيث بدأت بفكّ العلاقة مع سلطة دمشق، فقد كانت تتحرّك ضمن سياساتٍ لا تقطع مع العاصمة، ولا تسمح لها بفرض سيطرتها الكاملة عليها. الإعلان عن عدم الاعتراف بالسلطة الحالية، هذا جديد، وأيّة مواجهات مع التجمّعات المشاركة بالإضراب، أو في أيّة بلدة كبيرة، قد تُفجّر المحافظة بالكامل، ويجري إعلان الإدارة الذاتية فيها، لا سيما أن حزب اللواء السوري يرفع هذا الشعار.

لا تبدو سياسات النظام في تهجير الشعب أو التخويف من “داعش” أو التفجيرات وسواها قادرة على ضبط الوضع. مدينة درعا قابلة للاشتعال، وقد اندلعت في العديد من بلداتها المظاهرات يوم الجمعة 18 أغسطس/ آب الجاري، وقد جرى في الأيام السابقة توزيع المنشورات والكتابة على الجدران من جديد، وقد كانت هذه الظواهر قد توقفت منذ تسليم أرياف دمشق للنظام في 2018. لم يستفد النظام من ذلك التغيير، وسُلُّمت له مناطق خفض التصعيد، درعا وأرياف دمشق وحمص، عبر التحالف الروسي مع تركيا، وجرى حشر المعارضة في مناطق حدودية وفي إدلب، ورُسِمت جغرافية جديدة لسورية بين منطقة الفصائل وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام والنظام ذاته.

تغيّرت معطيات دولية كثيرة؛ فتركيا أصبحت أقرب إلى أميركا، وإيران أكثر قوّة في سورية، وتورّطت روسيا بحرب فاشلة في أوكرانيا، وتشكّلت أحلاف دولية تابعة لأميركا في مواجهة الصين وروسيا. رغم كل هذه التغيرات، لم تتبنَ السلطة السورية سياسات جديدة مع الشعب، وبقيت آليات النهب والفساد والقمع، وهي محاصرة أميركياً وأوروبياً بشدّة، حيث أقرّت قوانين أميركية تتهمها بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، والتجارة بالكبتاغون، وتشدّدت هذه القوانين في فرض الحصار ضدّها.

السلطة حالياً في أزمة شديدة، ولن تتمكّن من إنقاذ نفسها عبر المشاركة “الإذلالية” في اجتماعات جامعة الدول العربية، أو الموافقة على الذهاب إلى سلطنة عُمان للعودة إلى اجتماعات اللجنة الدستورية. أزمة السلطة وقراراتها الفوضوية دفعت الشعب نحو الإضراب العام، فهل يتمكّن الشعب وكل الفاعلين من تطوير الصراع ضدها، والوصول بسورية إلى المرحلة الانتقالية، والتوافق على البدء بتطبيق القرارات الدولية، وفي مقدمتها 2254… هذا هو المدخل إلى إنهاء أزمة السلطة التي بدأت في 2011.

العربي الجديد

————————-

مأزق الأسد مع استحقاقات ما بعد التطبيع العربي/ سميرة المسالمة

تُثبت هتافات التظاهرات العارمة ضد النظام الحاكم في سورية، والتي تجوب بعض المحافظات، ابتداء من جنوبها صخرة الكرامة، محافظة السويداء، إلى درعا، في امتدادٍ يؤكّد وحدتها مع سهلها (حوران)، وباقي المناطق المتمسّكة وشعارها “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد”، كذب ادّعاءات النظام السوري، في محاولته التأكيد زوراً أن الثورة السورية هي ثورة “أهل السنة” ضد “الأقلّيات”، على تنوّعهم وثراء سورية بوجودهم، ولعل سوريين كثيرين مؤيدين يدركون حالياً حجم تداعيات الشعار الذي ألزموا برفعه، منذ نحو 12 عاماً، “الأسد أو نحرق البلد”، متبنّين أن استمرار سياسة نظام الأسد حرقت البلد، وسارت به إلى تأزيم مشكلاته الداخلية والخارجية.

ويبدو على عكس ما تأمله ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، في كلمته في قمّة جدّة في 19 مايو/ أيار الماضي، “أن تشكل عودة سورية إلى الجامعة العربية إنهاء لأزمتها”، فقد تصاعد الحراك المعارض لسياسات النظام السوري السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وضع هذا الانقلاب السياسي العربي “التطبيعي” مع النظام الرئيس بشار الأسد أمام استحقاقات ما بعد الحرب، رغم إصراره على الإبقاء على فتيلها مشتعلاً لضرورات قمع البلاد تحت شعار “الحرب المستمرّة” وأن إمكانات البلد كلها لخدمة تلك الحرب المفتعلة. وقد أدرك السوريون ذلك، ما هيّأ لاستعادة ألق التظاهرات ضدّه، لإلزامه الذهاب نحو الحلول الضامنة لإحياء سورية، ومنها الحل السياسي الذي ينهي الصراع بما يحقّق العدالة للسوريين، ويفتح الباب على حلول حقيقية للواقعين، الاقتصادي والمعيشي، وقبلهما السياسي.

وبينما أخذ الأسد عودته “الشكلية” إلى الجامعة على أنها انتصار على العالم والعرب والسوريين، خرجت الأصوات في المحافظات السورية من السويداء ودرعا جنوباً إلى المناطق المحرّرة من حكمه شمالاً لتصحيح مفاهيم النظام السوري عن حسم المعارك والنصر، وأن استحقاقات السلام في سورية تبدأ من تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، (اللافتة) التي لم يتأخر المتظاهرون في رفعها منذ اليوم الأول لعودة السوريين إلى ساحات التظاهر.

مرّة جديدة، ومن باب التأكيد على الوعي الشعبي، الذي تحدّث عنه الأسد نفسه في مقابلته مع قناة سكاي نيوز عربية، بُثّت يوم 9 أغسطس/ آب، فهذا الوعي ذاته أكّد وحدة السوريين في مطالبهم السياسية قبل المعيشية، ولكل السوريين، قبل أن تخصّ المتظاهرين أنفسهم، ما يعني أن الثورة بشكلها السلمي هي تجديد لمطالب الثورة في 2011، وهي عودة إلى سيرتها الأولية، أو إحياء لما اعتقده النظام، أو حتى منصّات المعارضة، أنهم اقتصروه بلجنة دستورية لم ولن تقدّم شيئاً، ما لم تعتمد كامل ما ورد في القرار 2254، من إطلاق سراح المعتقلين وصولاً إلى حكم انتقالي يؤسّس لدولة ديمقراطية غير طائفية. فالتظاهرات التي عمّت السويداء وبعض المدن سياسية، وليست فقط مطلبية، تدلّ عليها شعاراتها، وهي موجّهة ليس فقط ضد فسادي النظام والمعارضة ممثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة. قد يكون محرّكها الاقتصاد وظروف العيش البائسة، وهذا ليس عيباً فيها، ولكنه دليل فشل النظام السياسي في مهمّته. ولذلك اتّخذ الطرفان بضع قرارات “ترقيعية”، لن تحبط الحراك، ما يستدعي اليوم إعادة بناء المنظومة المعارضة للنظام وفق أسس وطنية جامعة، تؤهّلها لمقارعة النظام على طاولة المفاوضات، وفق القرارات الدولية التي دفع ثمنها كل السوريين دماً ودماراً وتهجيراً واعتقالات. 

عمل النظام في 12 عاماً من حربه على الشعب السوري المعارض لسياساته على ترهيب المواطنين، وتحويل مدنهم إلى ركام من الدمار، ثمناً لأي تظاهرة ترفع شعار رحيله. وأغرق السوريين في حروبٍ متعدّدة المستويات من انفلات العناصر الإرهابية التي خرج بعض قيادات تنظيماتها من سجونه، إلى ردّ عدوان الجيش والأجهزة الأمنية إلى محاربة المليشيات الطائفية التي استجلبها من كل حدب وصوب، وأسكت بسلاحه بعض المناطق وخسر مناطق مقابلة لها. وعليه، تقع مسؤولية انقسام سورية إلى أربع سوريات، متنازع عليها بين جيش النظام المدعوم روسياً وإيرانياً والفصائل المعارضة تحت الحماية التركية، والإدارة الذاتية تحت الحماية الأميركية، وحكومة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) المصنفة منظمّة إرهابية.

وعلى الرغم من تمكّنه بمساعدة روسيا وإيران من استعادة مناطق كثيرة خرجت عن سيطرته، فإنّ الحراك الشعبي في تلك المناطق كان ولا يزال يعبّر عن مطالبه المحقّة، أي أن انحسار الثورة السورية “المزعوم”، وضمور كياناتها السياسية والعسكرية أو إخفاقاتها، لأسباب ذاتية وموضوعية، لا يعني أفول شرعية الثورة على النظام الحاكم، المستمدّة من الواقع الظالم، بين نظام تأسّس على الفساد والاستبداد والشعب أو أغلبيته التي تتوسّع عدداً وجغرافية، بسبب سياسات القمع التي يحكم بها البلاد، والتي استمرّت عقدا و”نيف”، بهدم إمكانات العيش لدى المواطنين، وتشكيل ما سميت طبقة أثرياء الحرب تحت عباءة أمن الرئيس وأفراد أسرته.

إذاً، نحن إزاء مسار مستمرّ ومتصاعد من الاغتراب بين نظام منفصم عن الواقع وعن شعبه وعن العالم، وأغلبية السوريين المقهورين والمستلبين، في الداخل والخارج، الذين دفعوا وما زالوا ثمناً باهظاً لبقاء هذا النظام.

الحلّ الذي استخدمه النظام السوري للهروب إلى الأمام من انتفاضة أهل السويداء كان “الإرهاب مقابل الحراك” وهي المحافظة التي واجهت تحدّيات على مستويات متعدّدة عقاباً لها على انضمامها للثورة السورية، في وقتٍ مبكّر من انطلاقتها عام 2011، حيث سمحت الأجهزة الأمنية بتسلل عناصر تنظيم داعش الإرهابي إليها، ليكونوا هم أداة ترهيبٍ للمواطنين الذين واجهوا، أيضاً، مجموعات محلية منظمّة من جهاتٍ أمنية مارست الوظيفة القمعية نفسها في تكميم أفواه المواطنين، إلى جانب انفلات عناصر الأمن وممارسة “تشبيحهم” على أهالي المنطقة، كما كل الأراضي السورية (وهذا ما يمكن أن يعود إليه النظام مجدّداً، وما يستدعي الحذر منه)، أي أنه استخدم ويستخدم كل أدوات الترهيب غير المباشرة، ليبقي على مقولة إنه “حامي الأقليات في سورية”، معتبراً أن أهل الكرامة (الدروز) أقلية، فقد فات هذا النظام فهم أن السويداء بأهلها، حسب إدراك الشعب السوري جميعه، تمثل كل الأكثريّات الوطنية السورية، في الماضي والحاضر والمستقبل.

العربي الجديد

————————–

عن مشكلة الرموز في سورية/ راتب شعبو

تعرض إحدى الصور القادمة من مظاهرات السويداء المتجدّدة، محاولة لتجاوز عقبة الرموز البصرية التي بدأت تشكل عامل انقسام بين السوريين، حتى وهم يتطلعون إلى غاية واحدة وينشدُون هدفاً مشتركاً. وعلى اعتبار أن الرمز هو تكثيف يختصر هويةً أو انتماءً فكريا أو دينيا أو وطنيا أو نضاليا … إلخ، فمن الطبيعي أن تكون له قيمة عميقة في وجدان الشخص، وهذا ما يجعل الخوض في موضوع الرموز عملاً شديد الحساسية والتعقيد.

تجمع الصورة المذكورة أربعة رموز معاً، لها، ككل الرموز، مكانة عليا لا يساوم عليها أصحابها. الهدف إنتاج مكان مشترك لكل أصحاب الرموز بغرض تجميعهم. اثنان من الرموز الأربعة ينتميان إلى الرموز العليا للدولة: العلم الأخضر والعلم الأحمر. الأول رفعه السوريون بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة، واعتمده المجلس الوطني السوري ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بوصفه علماً رسمياً له، وبات يعرفه أصحابه باسم علم الثورة. والعلم الأحمر الذي هو علم الدولة السورية المعترف به في المنظمات الدولية، والذي رفعه السوريون في الشهور الأولى من ثورتهم، وبات اليوم يعرّفه أصحابه باسم علم الأسد. الدولة أو ببساطة العلم السوري، وكثيرون منهم يشدّد على الفصل بين هذا العلم وطغمة

الرمزان الآخران هما راية الموحّدين الدروز والعلم الكردي. يختلف هذان الرمزان عن السابقيْن في أن كلاً منهما هو رمز خاص لجماعة سورية تنضوي تحت راية وطنية عامة، أي أن أصحاب الرمز لا يعارضون به رايةً أخرى، أو يفرضونه على غيرهم بوصفه راية عامة أو بوصفه علم الدولة أو “العلم السوري”. يرفعونه فقط بوصفه رمزاً لفئةٍ من السوريين الساعين، مع غيرهم، إلى بناء سورية جديدة متحرّرة من سيطرة الطغمة الأسدية، وبناء شروط حياة سياسية واقتصادية واجتماعية أفضل. ولا نرى أن في هذه الرايات الفرعية ما يضرّ في مسعى التغيير في سورية أو يضرّ في الوحدة السياسية للسوريين. يبدو لنا أن هذا الفارق حاسم في مناقشة موضوع الرموز، ذلك أن الرموز الخاصة القابلة للانضواء تحت راية وطنية جامعة (قد نجد في سورية الكثير من مثل هذه الرموز)، لا تطرح مشكلة ولا تثير صراعاً يفتّ في عضد إرادة التغيير لدى السوريين.

تبدأ المشكلة مع الرموز العامة التي لا تقبل الشراكة، ولا يصحّ أن تنضوي تحت راية وطنية عامة، لأنها ترى إلى نفسها الراية الوطنية العامة. تبدأ المشكلة حين يُراد فرض رمز عام غير مقبول، أو حتى مرفوض، من فئة أو فئات من السوريين لهم أسبابهم في رفضه، الأمر الذي يقود إلى إضعاف وحدة السوريين الساعين إلى هدفٍ مشترك، وإلى تحريض صراعات بينية وسطهم.

خسر العلم الأحمر بُعده الوطني الجامع منذ زجّت الطغمة الأسدية كل جهاز الدولة لقمع احتجاجات السوريين الواسعة. اتباع سياسة الإخضاع بالقوة، وما جرّ من استخدام الجيش السوري لفرض الحصار على مناطق، ومن أجل الاستهداف العسكري للمدن والأسواق والمشافي والمخابز … إلخ، واستخدام أسلحة محظورة وقذائف غير دقيقة التوجيه (براميل) على الأحياء والبلدات، حتى بات “الجيش السوري” في نظر قطاع واسع من السوريين هو “جيش النظام” أو حتى “جيش العدو”. أصبح علم الدولة السورية، في نظر ضحايا القمع، هو رمز الطغمة الأسدية في عدوانها المنفلت على المجتمع السوري، الأمر الذي ساهم في توليد النفور من هذا الرمز لدى نسبة كبيرة من السوريين.

التماهي الذي تحقّقه الطغمة المستبدة بين السلطة والدولة يجعل المحكومين ينظرون إلى رموز الدولة على أنها رموز السلطة وملك لها، وهو ما يولّد لدى المتمرّدين النزوع نحو رفض هذه الرموز، وبشكل خاص حين يتعذّر على المتمرّدين تغيير السلطة واسترداد رموز الدولة خلال وقت قصير. والحقّ أن الثورة السورية عرضت نزوعاً انشقاقياً حادّاً طاول حتى النشيد الوطني والأغاني الوطنية، فقد عافت نفوس السوريين الخارجين على نظام الأسد أن يجمعهم شيءٌ مع طغمة الأسد أو أنصارها.

حصل الانشقاق الرمزي عن النظام (اعتماد العلم الأخضر بديلاً عن علم الدولة السورية التي تستعمرها طغمة الأسد) في وقت مبكّر نسبياً، تعود بدايته إلى يونيو/ حزيران 2011، قبل أن يتبنّاه رسمياً المجلس الوطني. بدل أن يتخذ هذا الانشقاق شكل إسقاط رمزٍ من رموز الدولة وتبنّي رمزٍ آخر، ربما كان يمكن تحقيقه بابتكار رايةٍ ترمز إلى الثورة من دون أن تكون بديلاً عن العلم السوري. كان ذلك أدنى إلى أن لا يحدُث الانقسام الذي تكرّس بين السوريين على الرمز الأول للدولة. لكن هذا ما حدث، وقد تكون من أسبابه قناعة سادت في بداية الثورة بقرب سقوط النظام، وبالتالي حسم موضوع ازدواجية العلم.

مع طول أمد الصراع المسلح، راكم العلم الأخضر أيضاً، في نفوس نسبة كبيرة من السوريين (غالبية السوريين الكرد والعلويين بوجه خاص) عوامل رفض من جنس العوامل التي ولدت النفور من العلم الأحمر. أضيفت هذه العوامل إلى علاقة تابعة كرّسها أصحاب هذا العلم تجاه تركيا التي يعتقد قطاع واسع من السوريين بأن لديها مطامع بأراضي سورية ومياهها … إلخ.

مع ذلك، يبقى من الممكن تفادي هذا الانقسام عبر إدارة موضوع الرموز بطريقة مسؤولة تعمل على حشد رافضي سلطة الأسد من كل الجماعات، بعيداً عن مبدأ الأحقّيات والأسبقيات والنزوعات المترفعة أو “الجاهلية”. هناك محاولات مختلفة تهدف إلى جمع الرموز معاً في رمز واحد. لا نعتقد أن هذا يحل المشكلة. الحلّ يكون من خلال اتفاق معلن بأن الرمز الأول للدولة السورية القادمة يحدّده السوريون حين يتاح لهم ذلك. وعليه، يتم اعتبار كل الرايات المرفوعة اليوم رايات فرعية غير متعارضة، يجمع أصحابُها الغاية المشتركة. على هذا، مهما تعدّدت الرايات الفرعية، أكانت تدلّ على انتماءات قومية أو دينية أو سياسية، تبقى قابلة لأن تندرج تحت راية وطنية عامة يتفق عليها السوريون. سوى ذلك، يهدّد الانقسام الرموزي الحاصل بين السوريين، بما يحمله من شحنات نفسية، وحدة عمل السوريين باتجاه تضييق الخناق على الطغمة الأسدية.

العربي الجديد

—————————

اختطاف السوريين العلويين وحتمية العودة/ عبير نصر

الجليّ أنّ مستقبل نظام الأسد بات اليوم في حكم المنتهي بعد انتفاضة الجنوب السوري مدعوماً بتأييد مدن عدّة، لا تُستثنى منها إدلب، بينما لا يزال صمت السوريين من الطائفة العلوية لغزاً مثيراً للجدل، ربما نتيجة الغموض والتشويش المتعمّد الذي غلّف صورتها تاريخياً، في حين أدّت الفلسفة الباطنية لديها إلى اعتماد مبدأ التقيّة حتى في تفكيرها وتحركاتها، كذلك أحلامها وآمالها. وتذهب تصوّرات مبنية على وقائع جمّة إلى أنّ شكل الوجود الاجتماعي للعلويين ومكوّنات هويتهم الاقتصادية والسياسية، هذا كله، وليس مذهبهم الباطني فقط، هو ما جعل منهم فئة منفصلة نسبياً عن المجتمع السوري، معزولة عنه ومعادية له بقوة الواقع، طبعاً بتكريسٍ ودفعٍ تكفّل بهما نظام الأسد الذي جعلهم، وللمفارقة، يطمئنون إلى سلطة ديكتاتورية بنخبة علوية أكثر مما يطمئنون إلى سلطة علمانية ديمقراطية لا يسيطر عليها علويون! وعبر عقود خمسة، وعلى مستوى الهوية والفعل السياسي، تحوّلت الطائفة العلوية من وظيفة كائنةٍ بالقوة إلى وظيفة قائمةٍ بالفعل، تتفاعل على أرضية متنضّدة ومتزامنة من الودّ والعداء مع بقية السوريين.

هذا التحوّل، الذي تكشّف في محصلته عن تلك الثمرة السامّة للقاء التاريخي المشؤوم بين الطائفة “المغمورة” المنبوذة ونظامٍ مجرم، جعل العلاقة ما بين أكثرية “سنّية” وأقلية “علوية” تتطوّر تدريجياً من علاقة كامنة إلى علاقة عدائية بصورةٍ علنية وإقصائية إبّان الثورة السورية، والجواب النمطي حاضر بين الموالين: “نحن مع الثورة، ولكن هذه ليست ثورة، نحن مع التغيير إلى الأفضل وليس مع تدمير الدولة بإرادة الخارج المتآمر!”…إلخ. ورغم أنّ معظم العلويين بات يتقبل فكرة التبرؤ من الأسد الذي اتّبع وصية مؤسس عائلة روتشيلد لأبنائه: “إن لم تستطيعوا جعل الناس يحبونكم فاجعلوهم يهابونكم”، إلا أنهم ما زالوا مرغمين على تأييد النظام باعتباره ضرورة وجودية، هم المشبعين برؤى سامّة من قبيل إنّ الأغلبية محمّلة بأحقاد الانتقام، وعلى أقل تقدير سيعيدونهم عبيداً في البيوت والقصور، وفق ما تردّده أبواق مؤيدة للنظام.

في السياق، يبدو أنّ تفاعل العلويين المزدوج والمتناقض مع النظام الحاكم من جهة ومع المجتمع من جهة أخرى أنتج كل أشكال سوء الفهم المكرّس الذي طبع النقاش العام عن علاقة الأسد نفسه بالعلويين، في غيابٍ مؤثّر لجسر الثقة الذي سيعبر عليه الجميع إلى ضفة الخلاص. على هذا، يمكن القول إنّ الصيغ السياسية المتنوّعة التي تسعى إلى إسباغ العلمانية على الموقف العلوي الموالي، ليست سوى تغليف حضاري للرعب القابع في الذاكرة الجمعية من خطر العودة إلى حقبة التهميش، المدعومة بالمظلوميّة التاريخية التي عزّزت عندهم صوابية أخلاقية يفتقدونها في علاقتهم مع سلطة الاستبداد. هكذا فقدوا، مع الوقت، القدرة على الانفكاك عن نظام الأسد، بعدما حوّلهم إلى مطحنة بشرية لفرم شركائهم في الوطن، فشكلوا ما يشبه الاحتياطي المضمون للآلة العنفية، بينما لم تحمل لهم الحرب الجهنمية سوى إضافاتٍ ذات طابع دموي من جهة، وموجات تذمر تصاعدت ضد النظام من جهة أخرى، ولكنه تذمر ضمن مفهوم “خلاف الحلفاء” في الخندق الواحد، فلا يهم إن غدت سورية دولةً من دون شعب أو شعباً من دون دولة، بحسب تعبير عالم السياسة البلجيكي توماس بيريه، طالما هم في دائرة الأمان.

تجدر الإشارة إلى أنه، وبينما يقود الحراك الشعبي في مدينة السويداء شيوخ العقل لطائفة الموحّدين الدروز، يأتي الناشط السوري كمال رستم ليفضح تفاصيل الاجتماع السرّي الذي عُقد في القرداحة بين بشار الأسد ومشايخ علويين، آمراً إياهم بكبت أيّ صوت في المنطقة، كي لا تستغله المعارضة الخارجية والخونة، على حدّ تعبيره. مذكّراً، وبصفاقة مستفزّة، بأنه هو ووالده من حميا الطائفة، في محاولةٍ وضيعةٍ لتوريطها في حمام دم جديد لن يوفر أحداً على الإطلاق. ويبدو أنّ الأمور لن تسير وفق خطة الأسد كما تجري العادة، إذ كسرت سلسلة تسجيلات مصوّرة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي حالة الصمت التي لطالما خيّمت على مناطق الساحل السوري، وشاعت عبارات صادمة لناشطين علويين تحدّوا، بشكل مباشر، رأس الهرم في سابقةٍ أدهشت الجميع، من قبيل: “روح بلّط البحر… البلد قامت لتخلعك.. الأسد منافق وكذاب… وجبةُ العبد الأخيرة لحمُ سيّده”. في المقابل، ورغم فداحة تأثير الأزمة على السوريين وطول مدّتها، من الملاحظ ضعف دور رجال الدين العلويين، إلى درجة أنّ عقداً كاملاً مضى من دون أن تسجل السردية السورية الراهنة اسماً واحداً لامعاً فيها من هؤلاء، سلباً أو إيجاباً.

ومن الضرورة بمكان الإشارة إلى أنّ نظام الأسد نجح في زيادة غربة العلويين عن مجتمعهم، ليبقوا مرتهنين أزليين للمقدّسات الأسدية الراسخة بقوة البوط العسكري، في وقتٍ لم تشكّل المعارضة، تلك التي لم تحمل مشروعاً وطنيّاً جامعاً، عاملاً جاذباً للعلويين، بل كانت تشتغل على إدانة النظام وتخوين مواليه. هكذا تعمّقت الأزمة الوطنية على قدر نجاح الطبقة الحاكمة في فكّ الرابطة العضوية بين الطائفة العلوية والمجتمع، وتحويل الأولى إلى أداة لقهر الثاني، وإخضاعه لإرادة طبقة خاصة، من دون أيّ توسط عقيدي أو سياسي يساعد على إخفاء علاقة الاستتباع الجديدة. مع هذا، من المهم الابتعاد عن لغة التعميم الممنهجة ضد العلويين، وإيضاح جملة أفكار لفهم دلالات غيابهم عن الحياة السياسية، لعلّ أهمها قمع النظام العنيف لهم قياساً بالطوائف الأخرى، ولاحقاً انحراف “انتفاضة المواطنة” عن مسارها وتحوّلها لثورة إسلامية مسلحة رأت في العلويين عدوّها الأول، وهذا كله لاستيعاب واقع أنّ “التململ العلوي” اليوم لم يأخذ طابعاً منظماً أو مؤثراً بعد، لافتقاده إلى قيادات وطنية تطمئنه، وتحوله من مجرّد حركةٍ يسارية ناعمة، ليس لها أيّ حامل على الأرض، إلى انفجار مدوّ وحده سيغير قواعد اللعبة.

مع هذا، ثمّة بوادر تؤكّد قرب انضمام العلويين إلى الحراك الشعبي، آجلاً أم عاجلاً، إذ ما أشبه اليوم بالأمس بعد ظهور حركة “العاشر من آب” وغيرها من التحرّكات المبشرة. ولنتذكّر، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، تحمّس عشرات من الشبّان المنتمين بشكل أساسي لرابطة العمل الشيوعي، وعملوا على توزيع المنشورات المناهضة لنظام الأسد الأب، وضمنها صحيفة الحزب (الراية)، عبر رميها في المنازل، ولصق الشعارات على الجدران، لتنتهي حالة التمرّد تلك بحملة واسعة شنّتها أجهزة المخابرات، وأسفرت عن اعتقال عشرات من أبناء الساحل. المعطيات الراهنة مختلفة بالتأكيد، وعليه تشكّل عودة العلويين “المختَطفين” إلى المجتمع السوري جوهر العملية الإصلاحية المطلوبة، رغم أنهم شكلوا العصبية المتحكّمة بمصائر الدولة والمجتمع بحسب نظرية ابن خلدون في قيام الدول وسقوطها. نافل القول، قد يبدو مشهداً غرائبياً في “سورية الأسد” تحرّكُ العلويين ضد “سيدهم” المقدّس، لكنه، قطعاً، سيكون بداية إعلان اندحار الدولة العائلية المستبدّة، بعدما عجزت عن تلبية أبسط مقوّمات العيش لموالين يعيشون في “سورية المفيدة” سمعوا بالنصر العسكري ولم يشهدوا غنائمه رغم التضحيات الجسام. تحرّكٌ أشبه بالغوص في عمق الجرح الوطني السوري في مسعى إلى التطهير، والتمهيد لالتئامٍ سليم ومأمول، بينما يكتبون على جبين التاريخ مجدّداً: “وجبةُ العبد الأخيرة… لحمُ سيده”.

العربي الجديد

———————————–

فرصة للتغيير في سورية؟/ مروان قبلان

بعد 12 عاما من الثورة على نظام الظلم والفساد، يبدو أن السوريين وصلوا، أو يتجهون، بخطى حثيثة، إلى الوصول إلى إجماع وطني على أن لا أفق لانتهاء أزمتهم ولا عودة للحياة الطبيعية في بلدهم من دون تغيير سياسي حقيقي، يتم بمقتضاه تجاوز تداعيات الكارثة التي حلّت بهم، وفي مقدمتها اطلاق المعتقلين، أو الكشف عن مصيرهم، وعودة اللاجئين، واسترجاع ما يمكن استرجاعه من كفاءات علمية، ويد عاملة ماهرة، مهاجرة/ مهجّرة، وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب، وبناء مؤسّسات الدولة وأجهزتها، وإخراج القوات والمليشيات الأجنبية من البلاد، وإنشاء لجنة للحقيقة والعدالة، وإنجاز المصالحة الوطنية. ورغم أن هذه المطالب رفعها جزء كبير من السوريين منذ سنوات، إلا أن إجماعًا حولها، أو حول أكثرها، بدأ يتبلور، أخيرا، فقط، مع انتهاء مرحلة المواجهات العسكرية الكبرى، وصدمة الكثيرين بعسر العودة إلى الحياة الطبيعية التي منّوا النفس بها مع اتضاح هول الثمن الذي دفعته البلاد نتيجة الطريقة التي أديرت بها أزمتها، وبيان حجم الدمار الذي طاول الانسان، والمجتمع، والاقتصاد، والبنية التحتية، والقطاعات الإنتاجية الرئيسة (الصناعة والزراعة والسياحة) وانهيار قطاعات التعليم والصحة والأمن المجتمعي، وهيمنة زعماء المليشيات وأثرياء الحرب على ما تبقى من مقدّرات في كل مناطق السيطرة والنفوذ التي تقسّم البلاد.

بدأ الوعي بهذه المسألة (الحاجة إلى التغيير والإجماع عليه) يتشكّل مع توصل فئات اجتماعية سورية، من مذاهب مختلفة (سنة، وعلويين ودروز وإسماعيليين وغيرهم) كانت إما محايدة، متوجّسة من التغيير، نظرا إلى عدم اتضاح معالمه، وربما كان لدى جزء منها بقية أمل في إصلاحاتٍ يُقدم عليها النظام، أو حتى كانت داعمة له مقتنعة بالسردية التي أنشأها عن الثورة باعتبارها مؤامرة أجنبية، أو موجة تكفيرية، سلفية … إلخ، وكانت، من ثم، تمنّي النفس بقطف ثمار التضحيات التي قدّمتها في الدفاع عن الوضع القائم، لاعتقادها أنه يخدم مصالحها، هذه الفئات توصلت إلى نتيجةٍ مفادها أن الحال الراهنة غير قابلة للاستمرار، وأن طي صفحة العقد الماضي، واستئناف الحياة الطبيعية، وكأن شيئا لم يكن، ما هي إلا أوهام وتمنّيات تحطّمت سريعا على صخرة الواقع.

برهنت التطوّرات التي جاءت بعد كارثة الزلزال الذي ضرب أجزاء من مناطق سورية في مطلع العام الجاري، وموجة التطبيع العربي والإقليمي مع النظام، والتي بلغت ذروتها باستعادته عضوية جامعة الدول العربية، خطأ الرهان على إمكانية تجاوز الأزمة من دون دفع الثمن المستحق للحل، فالدول ليست جمعيات خيرية، وهي غير مهتمة بحل مشكلات الآخرين، إلا إذا كان في ذلك مصلحة ما لها. من هنا التأكيد على مركزية الحل السياسي باعتباره المخرج الوحيد من الأزمة الراهنة، لأنه يساهم في حل مشكلة اللاجئين، والإرهاب، والمخدّرات التي تقلق دول الجوار. كما أن مسألة رفع العقوبات، التي نرفضها في المبدأ ومعها كل الادّعاءات التي تشهد “بذكائها”، وبأنها مُصمّمة لتجنب التأثير في حياة عامة الناس، باتت هي الأخرى، إلى جانب تمويل عملية إعادة الاعمار، مرتبطة بالحلّ السياسي بالنسبة لدول الغرب.

سوف يزداد الوضع في سورية قتامة خلال المرحلة المقبلة على الأرجح، وسوف تزداد الضغوط على السوريين، خصوصا مع اقتراب الشتاء، ونفاذ الموارد، وإفلاس الدولة، وعدم القدرة على توفير أبسط متطلبات الحياة، والمقصود بذلك متطلبات البقاء على قيد الحياة (الغذاء والدواء)، وتبدّد الأوهام حول إمكانية تحسّن الأحوال من دون تغيير في النهج والسياسات. يحصل هذا فيما يواجه حلفاء النظام مشكلاتهم الخاصة التي تُقعدهم عن دعمه، كالعادة، إذ بدأت تظهر تداعيات حرب أوكرانيا والعقوبات في الاقتصاد الروسي. أما الصين فهي غارقة في ديونها. وتواجه إيران وضعا اقتصاديا واجتماعيا قد يكون الأصعب. نحن ندخل إذا في مرحلة جديدة، وغير مسبوقة، من الأزمة إذا ظلّ النظام على عناده في مقاومة التغيير، والاستخفاف برغبة الناس فيه وإرادتهم في صنعه. من المفيد لسورية والسوريين حصول تغيير سياسي سلس متفق عليه في ظل إجماع وطني يتشكّل أول مرة حول حتمية حصوله، ويُحيي الأمل بإمكانية رأب الصدوع التي دمّرت نسيج المجتمع، وكادت تقضي على فرص العيش المشترك المستمرّ منذ قرون. وهذا أفضل من حصول انهيار كامل إذا استمر النهج الراهن.

العربي الجديد

——————————-

في فيدرالية الطوائف السورية/ عمر قدور

بعد أيام من انطلاق مظاهرات عام 2011، بادرت أبواق الأسد إلى ترويج أنه استجاب لمطالب المتظاهرين، وسيعيد المنقّبات إلى العمل في “سلك التعليم خاصةً”، وستكون هناك محطة تلفزيونية دينية وزيادة في الرواتب. باختصار، كانت تلك الأبواق تروّج لكونه لبّى ما لم يطلبه أحد من المتظاهرين آنذاك، بهدف إلصاق تهمة الأسلمة بهم مع تلميحٍ إلى دافع اقتصادي يمكن معالجته بزيادة الأجور، وهو ما واجهه المتظاهرون بهتاف: الشعب السوري مو جوعان.

أبواق الأسد سرعان ما واجهت انتفاضة السويداء الحالية بما لم يطالب به أهلها، حيث اتهِمت فوراً بالسعي إلى حكم ذاتي أو إلى الانفصال، مع الحديث عن الشيكل الإسرائيلي الذي يقبضه المتظاهرون. تكرار هتافات المتظاهرين ذات المطالب المعيشية التي تجمعهم بكل السوريين، والسياسية التي تجمعهم بمعظم السوريين، لن يكون كافياً لتفنيد الاتهام ضمن ثقافة سورية شائعة أساسها ممارسة التقية السياسية، وعدم الجهر بالمكنونات والمطالب الحقيقة، وهذه تهمة ناجمة عن عقود من القمع والكبت تحت حكم البعث والأسد.

الأثر غير المباشر للاتهامات ولتلك الثقافة نراه في القول المضاد الذي يبرر لأهالي السويداء نيتهم المطالبة بحكم ذاتي، ويرى في ذلك حقاً لكل الجماعات السورية التي لا تفصح “وفق هذه المنظور” عن مكبوتاتها التي لا تتلاءم مع دولة وطنية. بل إن مجرد الإشارة إلى دولة وطنية مدعاة للسخرية بعد العنف الواقعي والرمزي الذي مارسته هذه الجماعات في السنوات الأخيرة، فضلاً عن أن هذا الشعار يرفعه كثر كغطاء لنوازع الهيمنة ليس إلا.

الحديث في الفقرة السابقة هو عن نقاشات ضمن أوساط معارضة، يرى أصحابها إمكانية واقعية لانفكاك السويداء عن قبضة الأسد، ليس بالضرورة على غرار مناطق الإدارة الذاتية “تحت الحماية الأمريكية”، أو مناطق المعارضة “تحت الحماية والنفوذ التركيين”. والحديث يستند أيضاً إلى استحالة ثورة الساحل على الأسد، والحل يكون بحكم ذاتي هناك يطمئن مخاوف العلويين من سيطرة مركزية سنية، وقد يشجّعهم هذا الطرح على التخلي عن الأسد. وفق هذا المنظور، يبدو الطريق إلى الفيدرالية سهلاً بالمقارنة مع مطلب التغيير الديموقراطي، المطلب الذي لا يراه بعض أنصار الفيدرالية مطلباً أصيلاً، أو ذا شعبية حقيقية غير متصنّعة.

نناقش هنا فكرة الفيدرالية بدءاً من المدخل الذي يستسهل تطبيقها مقارنة بمطلب التغيير الديموقراطي. فحسب المعطيات المعروفة للجميع، لا تلوح في الأفق العملي إمكانية حقيقية لتسليم الأسد بالتخلي عن سلطاته والانكفاء إلى “حاضنته الشعبية-حسب القول الشائع” في الساحل، ليكون حاكماً لها فقط، ومَن لم يقبل المشاركة بجزء من صلاحياته لن يقبل بلامركزية تجرّده من سطوته على عموم السوريين. أما فرضية انقلاب الساحل عليه فحظها من النجاح ضئيل، سواء تعلق الأمر بالانتقال إلى فيدرالية الطوائف أو إلى تحول ديموقراطي، وكذلك هو حال الوصيين الروسي والإيراني اللذين لا تتجاوز أطروحاتهما في أقصاها اللامركزية على طريقة الاستبداد البوتيني. باختصار، ليس هناك من سند ملموس لسهولة تنفيذ مطلب فيدرالية الطوائف، أو الاتفاق عليه، حتى إذا لم نأخذ بالحسبان الحروب المتوقَّعة لتقاسم كعكة الفيدرالية.

النموذج الروسي يحيلنا إلى الإرث القيصري، والإرث الإمبراطوري عموماً، وفيه تكون اللامركزية ضرورةً بسبب المساحات الشاسعة للبلد، من دون أن تكون ذات مضمون ديموقراطي. وهو نموذج مختلف جداً عن اللامركزية الحديثة بوصفها ابنة التجربة الديموقراطية، بل هي في معظم الحالات وصفة لتعزيز الديموقراطية بتبديد السلطة من رأس الهرم إلى أوسع قاعدة شعبية، ومن التبسيط والخفة الشديدين اختزال تجربة اللامركزية في دول الغرب بمنح سلطات ذاتية على أساس إثني، أو إثني-مذهبي معاً في بعض التجارب.

المسألة، كما نبسّطها ونختزلها أيضاً، هي في أولوية الديموقراطية التي عنت وتعني أولاً حقوق الفرد متضمنة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة. أما الاهتمام بحقوق الجماعات فهو لاحق على إقرار حقوق الأفراد، ومنها حقهم في تأسيس جماعات وفي الانضواء ضمن جماعات “أهلية” قديمة الوجود، وحقهم في الخروج من هذه الجماعات. أي أن حق الجماعات “القديمة والمستحدثة” نابع أصلاً من حق الأفراد، مع التأكيد على حق الأفراد في الخروج من أية جماعة على قدم المساوة مع حق الانضواء فيها.

بعبارة أخرى، الطروحات السورية التي تتضمن الدعوة إلى فيدرالية طائفية، كبديل عن مطلب التحول الديموقراطي، هي أفكار تضحّي بأساس الديموقراطية متعيّناً بحقوق الأفراد الأساسية التي يجب أن تكون لها الأولوية. هذا يفتح الباب أمام هيمنة الجماعات، وبحيث يكون اتحاد الكانتونات اتحاداً للجماعات على حساب حقوق أفرادها أولاً، وتبديداً لاستبداد المركز إلى استبداد لا مركزي ميزته الوحيدة أنه استبداد داخلي ضمن الجماعة الطائفية أو الإثنية الواحدة. ويجدر الانتباه إلى أن هذه الفيدرالية، بغياب الديموقراطية، هي على قياس الجماعات الأهلية القديمة، والتي بطبعها لن تقبل حقاً أساسياً للأفراد هو الحق في الخروج منها أو عليها.

حتى ما قبل انتفاضة السويداء كان مطلب الفيدرالية يجد جمهوره الأوسع لدى الأكراد، ولدى الإدارة الذاتية التي تضعه دائماً في رأس مطالبها، ولدى قلّة قليلة جداً من المهتمين بالشأن السوري. مع انتفاضة السويداء توسعت دائرة الاهتمام بالفيدرالية والنقاش فيها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا نقاش قد يكون جيداً بقدر ما يبتعد عن السطحية وعن العصبيات كمحرّك أساسي أو وحيد له.

فضيلة هذا النقاش الأولى تكون إذا أتى للتفكير في سوريا ما بعد الأسد، وضمن مشروع للتحول الديموقراطي، لتكون اللامركزية من عناوين التحول، ومن ركائزه التي تمنع استبداداً لاحقاً بما أن المركزية تربة خصبة للاستبداد. من دون المحتوى الديموقراطي سيكون عنوان اللامركزية هو اقتسام الأسدية وفق محاصصة طائفية وإثنية، ولدينا تجربة مجاورة في لبنان نستطيع الاهتداء بها لجهة تمكّن الجماعات الأهلية من إعاقة الانتقال الديموقراطي، حيث بقي الهامش الواسع من الحريات الشخصية “مقارنةً بدول الجوار” ممنوعاً من الصرف ديموقراطياً، ولم تقدّم تجربة المحاصصة العراقية نموذجاً أفضل بدلالة ما لاقته انتفاضات الشباب العراقي ضدها.

بخلاف ما تريده أبواق الأسد، إذ تشيطن السويداء بتهمة السعي إلى الانفصال أو إلى حكم ذاتي، يأتي النقاش في اللامركزية لينزع قداسة مضلِّلة وموهومة عن وحدة السوريين، والتي هي بمثابة أمل يختزنه هتاف المتظاهرين “الشعب السوري واحد”. وإذا أكّدنا على ألا تكون اللامركزية بديلاً عن الديموقراطية فمن الواجب التأكيد على ألا يشترط مطلبُ الديموقراطية نظاماً مركزياً، لأنه شرط ينتقص من المطلب الأساسي ومن حرية السوريين في الاتفاق على نظامهم السياسي. في الواقع، هناك أنماط عديدة من الفيدراليات والكونفدراليات الحديثة لا بأس إذا تعلمنا منها، بلا انتقائية سطحية تنقض أساساتها.

المدن

———————————-

هل حان وقت الانقلاب على الأسد؟/ عمر قدور

هتف المحتجون في ساحة السير/الكرامة بالهتاف المعروف “سوريا لنا وما هي لبيت الأسد”، ثم أنهوا وقفتهم الاحتجاجية بالدعوة إلى الإضراب العام بدءاً من يوم الأحد المقبل. وكانت مدينة السويداء وأريافها قد شهدا إضرابات جزئية هي الأبرز، بدعم محدود من الجارة درعا، تلبيةً لدعوات متفرقة إلى الإضراب العام، أعقبت زيادة رواتب موظفي القطاع العام بعد رفع أسعار الوقود بنسبة تفوق الزيادة، ما نُظر إليه كاستهانة إضافية من قبل الأسد بمعاناة محكوميه الذين كانوا ينتظرون إجراءات اقتصادية من نوع مغاير كلياً.

تحرّكُ أهالي السويداء وعدم قمع احتجاجاتهم غير جديدين، وهذه أشبه بالمعادلة التي تم تكريسها خلال سنوات، رغم محاولة مخابرات الأسد الانقلاب عليها في العديد من المناسبات. بهذا المعنى، لا يأتي بجديدٍ دراماتيكي خروجُ بعض أهالي السويداء للتظاهر والتزام نسبة أكبر بالإضراب. فالأعين أصلاً متوجهة إلى الساحل السوري، لمعرفة أثر المجاعة الحالية وما إذا كانت ستدفع أبناءه إلى الاحتجاج، خاصة لأن الأسابيع الأخيرة شهدت تذمّراً علنياً “جريئاً” من موالين أو شبيحة سابقين، وشهدت أيضاً الإعلان عن حركة 10 آب التي يمكن القول أن صداها الرمزي أعلى بكثير من فعاليتها. فالحركة شاركت في الدعوة إلى إضراب يوم الخميس من دون أن تلقى الاستجابة على امتداد سوريا بموجب خطابها، أو في الساحل تحديداً حيث يرى كثر أن انتفاضة أبنائه “إن حدثت” هي أخطر ما يهدد سلطة الأسد.

تنطلق الدعوات إلى الاحتجاج من أنه لم يبقَ لدى السوري ما يخسره، بينما الإضراب “وصولاً إلى العصيان المدني” يهدد الأسد في حاضنته الشعبية؛ العلَوية كما يراها البعض والموالية عموماً كما يراها البعض الآخر. إجمالاً تنطوي الدعوات على منسوب من التفاؤل بأن يحظى التحرك المنتظر بقاعدة وطنية شاملة، والتفاؤل بأن الأسد لن يكون قادراً على مواجهة الاحتجاج الشامل بالتجاهل أو الإنكار وصولاً إلى العنف.

لكننا نفضّل عدم مسايرة النوايا الثورية النبيلة حتى النهاية، وما سنسوقه في مواجهتها ينطبق على النوايا “الإصلاحية” لدى شريحة تتمنى تغييراً في سلوك الأسد مع استعدادها للدفاع عنه إذا استشعرت خطر إسقاطه. فإذا افترضنا مثلاً أن مدن وبلدات الساحل السوري شهدت إضراباً عاماً بدءاً من الأحد المقبل، فهذا لا يعني حتميةَ تشجُّع حلب ودمشق وحماة وباقي المدن والبلدات على الإضراب، ومن المحتمل بنسبة 50% على الأقل أن تفشل فكرة الإضراب العام.

نفترض هنا عدم ممارسة ضغط روسي أو إيراني لتلبية مطالب المحتجين، وفي هذه الحالة يبدو سلوك الأسد متوقعاً لجهة استخدام كافة وسائل العنف لكسر إرادة هؤلاء الذين لا يشكّلون خطراً مباشراً على حكمه. والمفارقة المرّة في الحالة السورية أنه، إذا واتته حكمةٌ من قبيل إهمال المضربين ومطالبهم، لن يخسر شيئاً، بل قد يظهر من موظّفيه الكبار مَن يقول أن هؤلاء المضربين يوقفون المرافق التي تخدمهم لا غير.

لا نعلم من أين أتت فكرة ممارسة ضغط سلمي على الأسد، بحيث تتسع دائرة الضغط ويشتد ليضطر إلى تقديم تنازلات. فأدنى خبرة تفيد بأن الأسد لن يقف متفرجاً على حركة الاحتجاج وهي تتسع، وأنه سيتصرف بحيث يمنع توسعها، أي بممارسة أشدّ أنواع الترهيب والتنكيل، ربما في الساحل قبل غيره لتكون رسالته أقوى. إن كل ما هو أدنى من تحرك خاطف سريع، يشلً قدرة الأسد على المبادرة، سيفسح فرصة له كي يستجمع قواه وينتصر بحلفاء الخارج قبل الانتصار بشبيحته. هذا يعني، مع الأسف، أن الدعوات الطيبة قد تودي ببعض ممن يلبّونها إلى الموت المجاني.

ولأن الخيار السلمي “المأمول” تراكمي بطبيعته، ما يتيح للأسد استجماع قواه واللعب على تباينات محكوميه، ولأن الخيار العسكري الذي جرّبته المعارضة مستحيل فوق كارثية ما وصل إليه، يبقى الاحتمال الوحيد الذي لا نستطيع نفي إمكانية حدوثه، ولا التعويل على العكس، هو انقلاب عسكري مفاجئ، لا يطيح الأسد وحده، بل ينقلب أيضاً على معظم المعطيات التي تبدو اليوم راسخةً. بموجب ما سبق كله، يكون أعلى إنجاز يمكن للنضال السلمي تحقيقه هو تحفيز ضباط في الحلقة الضيقة جداً المقرَّبة من الأسد للانقلاب عليه، من دون أن نعتبر الانقلاب نتيجة حتمية لـ”ثورة الساحل”، ومن دون التعويل على عدم إدراك الأسد لهذا الاحتمال.

من جملة المعطيات التي ينهيها حدوث الانقلاب هو السؤال الدولي المزمن عن مصير الجيش والمخابرات، أو بالأحرى السؤال المزمن عن الجهة القادرة على ضبط الاثنين في حال نُحِّي الأسد، وبحيث لا يتكرر السيناريو العراقي حتى إذا كان قد حدث ما هو أسوأ منه! ذلك فضلاً عن أن سيناريو الانقلاب ينهي السؤال، الذي يُطرح عادة وينطوي على الإجابة أو يوحي بها، عن احتمال الانفلات الأمني وانتشار عمليات ثأر طائفية واسعة النطاق.

ولكي لا يبقى عزل الأسد شأناً يخص فقط محكوميه ومناطق سيطرته، يلزم شيء من النضج لدى الذين يسيطرون على باقي المناطق بحماية دولية وإقليمية. فائتلاف المعارضة أصدر بياناً يوم الخميس تحت عنوان “لا يمكن حل الأزمات في سوريا إلا بالتخلص من نظام الأسد”، والبيان يعيد الكلام المعهود عن مسؤولية الأسد، مكرراً دعوة المجتمع الدولي إلى إدراك ذلك (!) وتحقيق الانتقال السياسي وفق القرار 2254، مع العلم أن الائتلاف قبِل ضمناً تفسير القرار بأنه في أقصى حالاته لا يستثني الأسد من المشاركة في المستقبل.

أما الإدارة الذاتية المسيطرة على شرق الفرات فأعلنت يوم الجمعة “مبادرة لحل الأزمة السورية”، تغلّب على العديد من بنودها الهاجس الكردي فنال الحكم التركي مساحة وتشريحاً يزيدان بكثير عمّا ناله حكم الأسد، ولم تكن هناك إشارة إلى قوى الاحتلال الأخرى “إيران مثلاً” ولو من ضمن مطالبة عمومية برحيل كافة قوى الاحتلال. طرحت الإدارة تجربتها نموذجاً للحكم في سوريا ككل (!)، ولم تستثنِ الأسد من الحل، بل خاطبت المبادرة سلطته في بعض بنودها.

يُحسب للإدارة الذاتية تأكيدها مرتين على الحل في إطار وحدة وسلامة سوريا، وهذه نقطة لها حساسيتها لدى المتوجسين من نوايا كردية انفصالية. إلا أنه من الأفضل عدم اقتصار هذا التأكيد على الأكراد، فجزء من عزل الأسد يكون بتشجيع إطاحته مقابل عودة وحدة الأراضي السورية، على أن يأتي البديل عنه بمشروع للتحوّل الديموقراطي، وأيضاً مقابل تعهد المعارضة وقسد بضبط فوضى السلاح، وهي رسالة للعالم المتخوف من فوضى عسكرية مثلما هي للمتخوّفين من فوضى أهلية وثارات.

ربما يحين وقت الانقلاب على الأسد عندما تصبح بيئة ما كان يُسمّى بالموالاة جاهزة تماماً للتخلي عنه، وعندما تتضافر معها الحوافز من خارجها، خاصة لما تعنيه وحدة سوريا من ضرورات اقتصادية تعلو على ما هو رمزي أو عاطفي. لقد بذل الأسد الأب أقصى جهد ليكون انقلابه هو الانقلاب الأخير في البلاد، وربما يمرّ استرجاع سوريا من وريثه بعودتها لتكون بلد الانقلابات.   

المدن

—————————————-

إنها السويداء..ونيّف/ عمر قدور

استمر يوم الاثنين الإضراب والوقفات الاحتجاجية في السويداء وريفها، ومن بين اللافتات التي رُفعت في ساحة الكرامة لافتة تطالب بـ”الحرية للناشط السلمي أحمد إبراهيم إسماعيل”، من اللاذقية، وكانت ابنته قد أعلنت عن اعتقاله بتسجيل مصوّر من حسابه على فايسبوك، بعد تلقيه اتصالاً “مشبوهاً” من مديره في العمل، وقد دعت الابنة إلى أن اعتبار اعتقال أبيها قضية رأي عام. كان أحمد إسماعيل قد وضّح  من قبل على صفحته أنه خارج أي مكوّن سياسي، محمِّلاً “طرفي الصراع” مسؤولية تدمير سوريا، وشتمَ كل مَن هلّل لأية مجزرة بصرف النظر عن مرتكبها، مع إعلان عدائه لكل قوى الاحتلال بما فيها روسيا وإيران. لكن الأخطر، والذي من المرجَّح أنه تسبب باعتقاله، ظهوره على صفحته في تسجيل مصوّر في العاشر من الشهر، وتعرّض فيها لحوار بشار الأسد مع سكاي نيوز العربية، فاستهل إسماعيل حديثه قائلاً أنه سمع الحديث قبل سماعه، بمعنى أن الأسد كرر ما يقول ولم يأتٍ بجديد، بل ذهب أبعد من ذلك عندما شبّه ذلك بنشرة الأخبار أو الجرائد “بل بالكلمات المتقاطعة أيضاً” التي دأبت على تكرار الكليشيهات ذاتها أيام حكم أبيه في الثمانينات.

ننصح بالعودة إلى صفحة المعتقل أحمد إسماعيل لسماع التسجيل كاملاً، والذي نسيء لفحواه ودلالاته باختصاره. ما يلفت الانتباه بقوة تلك الوقفات الاحتجاجية في السويداء التي هتف فيها المشاركون بسقوط بشار، واستعادت أهازيجهم ذكريات 2011 بعبارة “يلا ارحل يا بشار” بلا تدخل من المخابرات والشبيحة حتى لحظة كتابة هذه السطور، في حين لم تتحمل مخابرات الأسد صوتاً مفرداً لرجل في اللاذقية. على صعيد متصل، ومن دون تبنّي الخبر نذكّر بما أشيع قبل أسابيع عن تعليمات من بشار لمخابراته كي لا يتعرّض عناصرها لأبناء السويداء بالاعتقال!

في الحصيلة، يظهر تسامح الأسد مع احتجاجات السويداء بمثابة استئناف لوضعية خاصة في العلاقة بين الطرفين، وبموجبها يحظى “الدروز” بتساهل مخابراتي. ووفق الصيغة نفسها، ينتهي التساهل عند حدود “الطائفة الدرزية”، وينبغي ألا يطمع الآخرون بنيله وأن يفهموا كونهم خارج الاستثناء، وأن قمعهم هو القاعدة المعروفة والباقية. جدير بالتنويه أن الاستثناء مرتبط أصلاً بالموقف من ثورة 2011، حيث كان مشروطاً بألا تصل الاحتجاجات “الدرزية” إلى عتبة الانخراط التام في الثورة.

بعبارة أخرى، هو استثناء مشروط بالانفصال عمّا هو وطني. استئنافه اليوم فيه الكثير من الخبث، فهو يؤطّر المنتفضين من أهالي السويداء طائفياً، ويجرّدهم من أحقيتهم بتمثيل فئات واسعة جداً من السوريين الناقمين على سلطة الأسد، والصامتين خوفاً منها؛ لأسباب متباينة أحياناً ومتشابهة أحياناً أخرى.

على ذلك ينبغي، “مع التشديد على هذا”، عدم الانزلاق بعيداً في الحديث عن “خصوصية درزية”، أو الانسياق وراء تحليلات تضع احتجاجات السويداء في قالب متخيَّل من المطالبة باللامركزية، رغم أن خصوصية أية جماعة ومطالبتها بنظام لامركزي لا ينتقصان من أحقيتها أو وطنيتها. في هذا السياق، الأولى هو تصديق المحتجين في ساحات السويداء؛ أولئك الذين هتفوا ويهتفون للمدن السورية الأخرى؛ أولئك الذين رفعوا لافتة تقول: هنا السويداء.. هنا سوريا.

ما يجدر الانتباه بقوةٍ إليه أن تأكيدات السويداء على الفضاء السوري للاحتجاجات ليست من قبيل الزجل الوطني العاطفي، ولا من قبيل الإنشاء الثوري. نحن إزاء شعارات ترفض “الاستثناء الدرزي” الملغوم، حتى إذا أتى الرفض بعدما استُنفذت أغراض ذلك الاستثناء. وهي تأكيدات تبعث برسائل متعددة، منها ما هو موجّه للأسد لجهة رفض تقزيم الاحتجاجات بلعبته الطائفية المعتادة، ومنها ما يتعلق بحاجة السويداء إلى مؤازرة من المدن الأخرى تعمّم ذلك الرفض.

لا يطرح المنتفضون في السويداء مطالب خاصة أو فئوية، وإذا رفع البعض منهم علَم “الحدود الخمسة” فهذا لا يعني وجود مطالب “طائفية باطنية”، ووجود لافتة تطالب بإسقاط قاتل كمال جنبلاط لا يعدو كونه تنويعاً عاطفياً يستثمر في التاريخ الإجرامي للسلطة. التركيز على هذه المظاهر يخدم الأسد، سواءً أتى بقصد أو من دونه، لأنه يساهم في التعمية على المطالب الأساسية التي يُتوقّع أن تمثّل طيفاً واسعاً من اليائسين من الأسد ومن قيامه بأية إصلاحات حقيقية وجوهرية، بعد استنفاذه كافة الفرص مع استنفاذ قدرتهم على التحمّل.

هتف أيضاً محتجو السويداء بشعارات عن وحدة حوران سهلاً وجبلاً، أي درعا والسويداء، وهو ما يخالف بالتأكيد تفكير الأسد وإن لم تُقابَل احتجاجات درعا بالقمع الوحشي حتى كتابة هذه السطور. وربما تكفي مؤقتاً الأسد رمزيةُ درعا كمهد لثورة 2011، وبها يخوّف كثر يخشون تكرار السيناريو المرعب، أي أن رمزية درعا تحتمل التذكير باستعداده الدائم لارتكاب المجازر بقدر ما تحتمل التأكيد على استمرار الثورات عليه.

بالعودة إلى السويداء، كان لافتاً موقف شيخ العقل حكمت الهجري، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، والذي طالما ظهر أقرب إلى التهدئة إذا تحاشينا اتهامات ناشطين له بالموالاة. الشيخ الهجري، في بيان له يوم السبت، قال مباركاً الاحتجاجات في تصعيد غير مسبوق منه: “ما هكذا يُعامل شعب من قبل حكومته، ولا هكذا تكون القرارات والتصرفات، والحجة حرب كونية، وأيّ حرب كونية وأنتم تدمّرون شعبكم وتحبسون مقدراته عنه؟!”. وتقديراً لموقفه ذهب محتجون يوم الاثنين إلى دارته، فخاطبهم الشيخ الهجري بلهجة تبدو أكثر “اعتدالاً” تجاه السلطة من لهجة البيان، إلا أنه تفوّه بعبارة لا ترضي بالتأكيد تلك السلطة وهي: “نحنا لسان حق لهذا الشعب السوري كله.. اللي يوماً ما كمان حكى بلسان حالنا”.

أيضاً من السهل ملاحظة أن عبارة الشيخ الهجري الأخيرة تتعدى المجاملة، وتُدرِج احتجاجات اليوم في السويداء ضمن سياق نضالات السوريين، وهذه فكرة قد تبدو للمفارقة دخيلة على الانقسامات العميقة فيما بينهم. لذا ربما يكون من أقل ما تُقابَل به انتفاضة السويداء قبولُ أنها تنطق باسم السوريين طالما اختار أبناؤها ذلك. الحديث هنا عن قبول قائم على الثقة، بلا نفاق أو تكاذب، وهو واقعي لأنه مبني على الحاجة إلى أولئك الذين يجهرون بما يجول في خاطر معظم السوريين تحت سيطرة الأسد. يستحق أبناء السويداء أن نتذكر كيف بذل الأسد أقصى طاقته ليلصق ثورة 2011 بطائفة، وهذه قد تكون لعبة اليوم مع انتفاضة السويداء، يستحقون أن نقول معهم: هنا السويداء.. هنا سوريا. أو بتعبير يتشبّه بلافتات لهم تهزأ من الأسد: إنها السويداء.. ونيّف.

المدن

—————————-

هل تشجع السويداء على تجرّع سمّ ثورة جديدة؟/ عمر قدور

تميّزت مظاهرة يوم الجمعة، في ساحة الكرامة-السويداء، برفع البعض لافتات تندد بالإخوان المسلمين، وتنعتهم رفقة ائتلاف المعارضة بأنهم أخوة بالرضاعة مع بشار الأسد. تلك اللافتات لم تمنع الحشود في الساحة من توجيه التحية إلى مدن ومناطق سوريا، بما فيها تلك الخارجة عن سيطرة الأسد. اللافتات التي تندّد بالإخوان والائتلاف قد تكون رسالة متعددة الوجهات والأهداف، وفي مقدمها لجم شهية الائتلاف إلى إلحاق ثورة السويداء بالثورة التي يمثّلها، خاصة مع الدعوات الصادرة عن “معارضي وثوار الأمس” كي تعمّ المظاهرات سوريا، ومع اعتقاد البعض أن ما يحدث في السويداء هو استمرار لثورة 2011، أو موجة ثانية منها على الأقل.

ومن المرجّح أن تكون الرسالة داخلية أيضاً، وموجّهة إلى مشاركين آخرين في المظاهرة لهم ارتباط عاطفي بثورة 2011، وربما بتأثيرهم هناك الكثير من الهتافات التي تذكّر بالثورة الفائتة. لا نأتي بجديد إذا ذكّرنا بأن السويداء “شأن معظم مدن وبلدات سوريا” شهدت في السنوات الماضية انقساماً بين الموالين ومؤيّدي الثورة، ومن ملامح “المصالحة” بين الجهتين عدم رفع العلم الرسمي للسلطة وعدم رفع علم الاستقلال الذي بات رمزاً للثورة، والاصرار على العلم الذي يرمز إلى الدروز بوصفه جامعاً لهم، بخلاف سوء أو خبث الفهم اللذين يُراد ترويجهما لدى باقي السوريين في ما يخصّ رفع هذا العلم.

لعل كلمة “المصالحة” هي المدخل لما يبدو مستغرَباً بين رفع علم فئوي والإصرار على مطالب وطنية، ومن المفيد استرجاع انقسامات في المواقف “حادة أحياناً” ضمن السويداء في السنوات الماضية ومقارنتها بشبه إجماع اليوم، من أجل فهم جيد للمثال الذي تقدّمه. ولعلنا لا نخاطر بالقول أن الاكتفاء بـ”نشوة” الثورة التي تقدّمها السويداء، “من دون التفكير في تلك المصالحة”، سيبقى في الإطار العاطفي العابر، ولن يساهم في تعميم نموذجها. فهل تشجّع السويداء على تجرّع سمّ ثورة جديدة تجمع أعداء الأمس؟

إذا نحّينا جانباً “ومؤقتاً” مصادر قوة الأسد الخارجية، فإن من أهم مصادر قوته الداخلية أن المصالحة بين السوريين عسيرة جداً، وعدد المتورطين في القتل منذ عام 2011 يجعلها شبه مستحيلة. وهكذا فإن الأسد الذي يقدّم يومياً مبررات للثورة ينام مطمئناً إلى أن ما يجمعهم بأسباب الثورة يفرّقهم ما أن تصبح الثورة على الأبواب!

لدينا مثلاً ما لا يقل عن ثلث السوريين ممن تعرّضوا للإبادة والاعتقال والتعفيش والتشبيح والتهجير خارج سوريا، ولهؤلاء الملايين مطلب محقّ هو العدالة، إذا استثنينا منهم من يتوق إلى القصاص كما يفهمه أو حتى إلى الثأر. ولدينا في المقابل ملايين يرون في الأوّلين متسببين بثورتهم في المقتلة السورية، وفي ما ألمّ بمعيشتهم من تدهور، إذا استثنينا منهم فئة أكثر “اعتدالاً” ترمي بالمسؤولية على الأسد والثورة معاً.

وإذا ذهبنا مباشرة إلى الأقصى والأقسى، لدينا مئات ألوف الموالين المتورطين في المأساة السورية، قتلاً واعتقالاً وتعذيباً وتعفيشاً وتشبيحاً، أي لدينا الملايين باحتساب أسَرهم. وهؤلاء لن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء ثورة جديدة تتوعدهم بالعدالة، حتى مع القناعة بأن الأمر سيقتصر على العدالة، ولن يكون هناك انفلات أمني وعمليات ثأر.

في الواقع، إن شعار “محاسبة المتورطين من كافة الجهات”، في حال سقط الأسد، يبدو شعاراً مخيفاً جداً، لا مطمئناً ومتوازناً كما يودّ الذين يرفعونه. يكفي أن نتخيل السيناريو المثالي، وبه يسقط الأسد وتُقام المحاكمات للمتورطين في الانتهاكات، ليظهر هذا السناريو مرعباً بقدر ما يحتاج سجوناً وسجّانين، وليكتسب عداء “المتورطين من كافة الجهات”. بعبارة قاسية، ليس محتماً أن يتلازم السعي إلى إسقاط الأسد مع السعي إلى العدالة. وبعبارة أقسى، إن لم يكن الآن ففي وقت لاحق من المرجح بشدة أن يكون السوري أمام المفاضلة بينهما، فإما إسقاط الأسد أو النوم على حلم العدالة بالمعنى المُشار إليه، أي ما لم يقتصر على محاسبة كبار المتورطين.

إذا كان رهان اليوم هو على ثورة جوع عارمة وعامة، فإن رهان عام 2011 كان أقوى واقعياً، لأن الانقسام الدموي لم يكن قد حدث بعد، ولأن موجة “الربيع العربي” كانت آنذاك مصدر أمل للسوريين. انضمام مدن وبلدات أخرى إلى انتفاضة السويداء، خاصة مدن وبلدات الساحل، يتطلب مصالحة قد تكون أصعب من التي شهدتها السويداء، ولا ندري ما إذا كانت ستصمد فيها حتى النهاية. هذه المصالحة تقتضي توفر قناعة عامة بأن شبيحة الأمس تعلموا الدرس، ولن يستخدموا العنف ضد أهاليهم، جنباً إلى جنب مع بدء الاقتناع بأن المصالحة ممكنة بين السوريين حتى إذا لم تكن خياراً محبَّباً عاطفياً.

يُصادف في هذه الأيام مرور ستّ سنوات على تباهي الأسد بقوله عن الحرب: “خسرنا خيرة شبابنا لكننا كسبنا مجتمعاً متجانساً”. ولم يكن حينها ينطق بلسانه فحسب، بل أيضاً بلسان عتاة شبيحته، ولسان حشده الفكري الصريح والمستتر. إن كان من إنجاز عاجل لانتفاضة السويداء الحالية، وتضامن درعا ومدن وبلدات أخرى معها، فهو تفنيد ذلك الارتياح إلى أن المجتمع صار متجانساً بعد تهجير ما يزيد عن عشرة ملايين سوري خارج سوريا وداخلها.

السويداء نفسها ليست بالمجتمع المتجانس، وفي الأصل لا يوجد أي مجتمع متجانس إلا في العقول التي لا تتورع عن إبادة أي مختلف عنها. الخروج من الأسدية وحشدها الفكري يتطلب أيضاً قبول المختلف، بدءاً من المختلف القريب، وعدم الوقوع في مطب الذين يستخدمون الصبغة الدرزية للتخويف من تصدّع التجانس المفروض بقوة المخابرات والشبيحة، فهؤلاء وأمثالهم سيستخدمون أية خصوصية لأية فئة كخطر على بلد ليس سوى “سوريا الأسد”.

النجاح الآخر الذي حققته الانتفاضة يظهر أثره باستعجال الحشد الفكري نكأ جراح السنوات الماضية، للقول بالاستحالة المطلقة لأي اجتماع بين جانبي الانقسام السوري، فضلاً عن ترهيب أهالي السويداء بمصير سابقيهم. ما يخيف هؤلاء أن السويداء تقدّم فعلاً نموذجاً يتجاوز الماضي القريب، والخوف هو من انتشار العدوى إلى الساحل الذي ينبغي لجمه بحذاقة تفوق استعراضاً بالسيارات لبعض الشبيحة في طرطوس. خوف هؤلاء الأكبر هو من الاضطرار إلى تجرّع سمّ انتفاضة في الساحل، وهي للأمانة “إذا حدثت” ستمتحن قدرة ملايين من الجهة المقابلة على تجرّع سمّ المصالحة معها؛ السمّ الذي كأنّ من طبيعته البقاء مؤجلاً لكنه حتمي أيضاً!

المدن

———————————

مجدداً..الاقتصاد و”قابلية الثورة” في سوريا/ إياد الجعفري

بمناسبة جدل التوصيفات الدائر في أوساط بعض النشطاء السوريين، بين “ثورة كرامة” في العام 2011، وإرهاصات “ثورة جوع” في سوريا، هذه الأيام، قد يكون من المفيد العودة إلى مرجع بحثي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عام 2012، من إعداد الباحث السوري الشهير، محمد جمال باروت، والذي حمل عنوان: “العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح”.

ومكمن الفائدة بالعودة إلى هذا المرجع، لا ينحصر بتفنيد مقومات جدل التوصيفات المشار إليه، فقط. بل يفيدنا أيضاً بترصد عوامل التشابه الجليّة في المقومات الاقتصادية لـ “قابلية الثورة” في سوريا، في الحالتين، قبل الـ 2011، واليوم. وكأن التاريخ يكرر نفسه، بحذافيره.

ويتناول باروت في مؤلفه الأسباب العميقة لانتشار ثورة الـ 2011، بدايةً في المدن (الطرفية) – (درعا ودوما بريف دمشق، كأمثلة)، والتي عانت قبل ذاك العام، من محدودية تساقط آثار النمو الاقتصادي عليها، وتدني مؤشرات تنميتها الإنسانية وانتشار البطالة والفقر وارتفاع أعباء الإعالة فيها. كما كان توسع احتجاجات الـ 2011 سريعاً إلى المناطق الشرقية والشمالية (الرقة، دير الزور، الحسكة، ريف حلب الشرقي). والتي كانت تعاني من نفس المشكلات الاقتصادية والتنموية. وقد كان ذلك، وفق باروت، سرّ عدم امتداد الاحتجاجات على نطاق واسع، إلى المدن (المليونية) –(دمشق وحلب)، التي حصدت ثمار النمو الاقتصادي في العقدية الأولى من القرن الحالي، فيما حصدت المدن (المئة ألفية) والصغيرة، أشواك هذا النمو.

وفي ما سبق إشارة لا يحبذّها الكثيرون، إلى الأسباب الاقتصادية العميقة لثورة العام 2011، وسرّ انتشارها المناطقي. فيما نقاط أخرى، تناولها الباحث السوري في مؤلفه، تشعرنا وكأننا نعيش مقدمات الـ 2011، ذاتها. فقد توسع جمال باروت في استعراض دور رجال الأعمال الجدد (المئة الكبار)، قبل الـ 2011، والذين كيّفوا السياسات الاقتصادية للدولة، تبعاً لمصالحهم، بصورة دفعت سوريا نحو حالة “مكسكة” –على طريقة المكسيك في قيادة تحرير التجارة-، فكانت النتيجة أليمة على البرجوازية المتوسطة والصغيرة، التي أفلست في عدد كبير من المناطق السورية، ومن أبرزها، ريف دمشق، والتي كانت خزاناً نوعياً للحراك الاحتجاجي في الـ 2011.

ويوضح باروت كيف أن الحكومة أصبحت تحمي (احتكار القلة). فـ (المئة الكبار)، الذين كان رامي مخلوف، ابن خال رأس النظام، هو ناظمهم، شاركوا “الدولة”، وفق شروطهم ومصالحهم، ونشطوا في سوق مشوهة، تحمي احتكاراتهم. وهي قصة تتكرر اليوم، بصورة أكثر دراماتيكية، بعد إعادة هيكلة رجال الأعمال الجدد، (أمراء الحرب وأثرياؤها)، والذين تقودهم هذه المرة، أسماء الأسد، زوجة رأس النظام. فيما تعمل الحكومة وفق متطلبات مصالحهم. وهو واقع أصبح الحديث عنه علنياً، من جانب المتضررين من التجار والصناعيين، الذين باتوا يتحدثون وعبر وسائل الإعلام الموالية، عن الاحتكار، وعن القلة المحظوظة من المستوردين والتجار.

ويلفت باروت في مؤلفه إلى أثر سياسات رفع الدعم ورفع أسعار المشتقات النفطية، التي اعتمدها النظام في السنوات الأخيرة قبيل العام 2011، في توجيه ضربة قاسمة للقطاع الزراعي، وتعزيز حالة عدم العدالة في توزيع الثروة بين الريف والمدينة. ويرصد باروت، في العام 2009، جملة مؤشرات، من أبرزها، تراجع الصادرات، وتراجع الإنتاج النفطي، وتراجع حجم الحوالات من المغتربين في الخارج (لأسباب مرتبطة بالأزمة المالية الدولية حينها)، وأزمة الغذاء العالمي، وارتفاع أسعار الغذاء إلى مستويات غير مسبوقة حينها، ناهيك عن آثار جفاف قاسٍ عانت منه سوريا بين عامي 2006 و2009. تلك التطورات عززت التضخم، بالتزامن مع إجراءات رفع الدعم ورفع أسعار حوامل الطاقة. مما عزز من حالة الانهيار المعيشي في المدن (الطرفية)، و(المئة ألفية) والصغيرة. خاصة في جنوب البلاد، وشرقها.

لذلك، يمكن أن نذكر أنه من أصل 13 نقطة تم الاتفاق عليها بين اللواء هشام بختيار (عضو اللجنة الأمنية المركزية)، وبين وجهاء درعا، بعيد الاحتجاجات الأولى في 2011، كان خفض أسعار المحروقات.

واليوم تتكرر المؤشرات والمقدمات ذاتها. رفع للدعم، ورفع لأسعار المشتقات النفطية. تراجع لحوالات المغتربين لأسباب مرتبطة بأزمات التضخم العالمي. رجال أعمال جدد تقودهم شخصية مقرّبة من رأس النظام، يسيطرون على ما بقي من اقتصاد متهالك. احتكار، وسوق مشوهة، وإفلاس لصناعيين. لكن قد يكون الفارق في الكم، لا في النوع. فهذه المقدمات تتكرر اليوم، بصورة أشد قساوة بكثير مما كانت عليه قبل الـ 2011.

وكما قال باروت في مؤلفه الصادر قبل أكثر من عقدٍ من الزمان، فإن الفقر والتهميش و”الطرفية” وحدها، لا تكفي لتفسير ما حدث من حركات احتجاجية (عام 2011)، لكن يستحيل تفسير ما حدث بمعزل عنها. ينطبق ذلك على ما يحدث اليوم أيضاً. لكن الفارق، أن الأسباب الاقتصادية، باتت دوافع مباشرة، وليست عميقة. ذلك لأنها أصبحت أشد قساوة، كما أشرنا.

هل يعني ما سبق أننا أمام ثورة جديدة في سوريا؟ قد يكون الجواب الأمثل هو المستمد أيضاً، مما كتبه محمد جمال باروت في مؤلفه. فالثورات لا تحدث وفق وصفات، بل تُنتج كل ثورة سيرورتها ومنطقها، ويؤدي المفاجئ أو العشوائي دوراً أكثر بروزاً وأهمية من السببي، وما يلبث أن يورط الآخرين فيه. هذا التورط هو ما يجعل “قابلية الثورة”، تتحول إلى ثورة.

المدن

—————————————

ثورة الجياع فعل تحرَّر أيضاً/ سوسن جميل حسن

هي ثورة جياع في سورية؟ … في العام 2014، عندما كان سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار أقلّ من مئتي ليرة سورية، كانت الأسعار قد أخذت بالارتفاع، وصار السوريون يشعرون بخطر المستقبل، صار شبح الجوع يلوح قريبًا منهم، بل حتى أوشك أن يعضّهم حينها، هذا كان حالُهم ولسان حالهم، وكانت آلة الحرب تطحن أرواحهم وأجسادهم بوحشية، والبراميل التي تُلقى عليهم من الجو في بعض المناطق تقتلعهم من أمنهم وحاضرهم وماضيهم، وتشرّدهم هائمين على وجوههم في كل بقاع الأرض. وظنَ بعضهم، ومنهم كاتبة هذه السطور، أن ثورة جياع باتت قريبةً، قريبة، لكنها نأت. ولا أعرف إن كان الشعب السوري، من هول ما تعرَض له، هو الذي نأى حتى أوشك أن ينسى كل مفردات الحياة. لم تشتعل ثورة الجياع، وإنما هناك من التهم ثورة الشعب.

قيل إن أول ثورة في التاريخ كانت ثورة جياع حصلت في مصر ضد الملك بيبي الثاني، بسبب الفقر والجوع وتردّي أحوال البلاد في عهده، وكان قد بقي مدة طويلة في الحكم. كذلك ثورة الحرافيش في مصر المملوكية، وثورة الزنج في التاريخ الإسلامي، والثورة الأشهر في التاريخ الحديث، الثورة الفرنسية أيام ماري أنطوانيت. لا يمكن استثناء أن الجوع أحد الأسباب التي دفعت الشعوب العربية إلى الانتفاض في وجه حكّامها وأنظمتها في ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، فالفرد في الدول التي انتفضت كان يعاني الفقر، من جملة ما يعانيه، بدرجات متفاوتة بين شعب وآخر، إنما الجميع كان يعيش في ظروفٍ متردّية وتزداد انحدارًا، بينما ثروات بلادهم ومقدّراتها تُديرها أنظمة استبدادية تقوم على الفساد والنهب، وتمارس قبضتها الأمنية لمنع الشعب من المطالبة بحقوقه المنتهكة، وبحقّه في ثروات البلاد، لتحسين معيشته وضمان مستقبل لأولاده.

أي ثورة مطلبية هي ثورة تنشد الحرية، وبالتالي، لها أهداف سياسية، لأن الإنسان عندما يكون مرهونًا لظروفه لا يكون حرًّا، والفقر والجوع حالة تحاصر إرادة الإنسان وتدفعه، إذا ما تمكّنت منه، إلى خياراتٍ وسلوكٍ في الحياة ليست صائبة، بل قد تؤدي به إلى درك لا يرضاه لنفسه في الأوضاع الطبيعية والسليمة، وقد تدفعه إلى التخلي عن منظوماته القيمية والأخلاقية أمام التحدّي الوجودي، فليست المصائر التي يختارها الشخص تحت ضغط الفاقة والجوع هي التي يرنو إليها ويطلبها في الأحوال العادية. لذلك انتفاضة الشعب السوري هي انتفاضة حرّية وانتفاضة كرامة، وإذا كانت الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وغيرها مما أطلق من شعاراتٍ في بداية الحراك 2011، قد صودرت وخنقت الحناجر الصادحة بها، واستبدُلت الثورة بحربٍ تتفرّد بصفات تكسر الصورة النمطية للحروب الخارجية والداخلية، فإن ضمير الشعب لم يمت، بل بقى يعاند الموت، وبقيت تلك الشعارات جمرةً تحت رماد الحرائق التي اشتعلت بأرضه، وهي الآن تعود إلى الحناجر، فتشحذ أوتارها وتشدّها وتعيد إليها دوزانها في مناطق عدة من التراب السوري، أكثرها زخمًا ووضوحًا في الجنوب، السويداء ودرعا، من دون إغفال المزاج العام في الساحل الذي طالما دين بمواقفه تجاه الانتفاضة الأولى، واتّهمت طائفة بأكملها بأنها حاضنة النظام ومقاتلة معه. هذا الحراك يجعل القلب يبتهج قليلًا بعد سنين القحط والحرمان من أي ومضة فرح، لكن هذه البهجة حذرة ومجروحة، فما زالت الذاكرة تنبض بالويلات التي مرّت خلال هذه السنوات، والسموم التي بثّتها بين فئات الشعب كل الجهات الضالعة في الحرب، وأولها النظام الذي لعب باكرًا على وتر الطائفية والأقليات، حتى جنح قسمٌ كبيرٌ من هذه الفئات نحو هذه الحالة المقيتة القاتلة لأي حركة نهوض.

وباكرًا في عمر الانتفاضة الأولى، علت الشعارات الطائفية، أولها كان انقسام الشارع بشأن رأس النظام، إذ ارتفع منذ الأسابيع الأولى شعار إسقاط بشّار الأسد ورحيله، وفي المقابل شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وما تلا ذلك من تصنيفات وتوصيف للمواقف، وانهيار الثقة بشكل شبه كامل، حتى إن التمييز كان لا يُخفي نفسه في قبول بعض الشخصيات المعارضة التي تنحدر من الأقليات، خصوصا العلوية، فدائمًا ما كانت هذه الشخصيات ترى نفسها مضطرّة للجهر بلا طائفيتها ونبذها هذه الانتماءات كي تحظى بالقبول والثقة التي غالبًا ما تكون هشّة. وفي المقابل، صار كل من يعارض النظام من الأغلبية السنية عرضة للتصنيف تحت مسمّى إرهابي أو داعشي أو ينتمي إلى جبهة النصرة، أو في أهون الحالات من الإخوان المسلمين. وشهدنا الحرب الكلامية على منصّات التواصل، وما زالت مستمرّة، سباب وشتم ونعت بأبشع الألفاظ لكل طرف من الطرف الآخر، وصارت كلمة علوي أو سنّي بحد ذاتها “شتيمة” أو وصمة عار من كل طرف تجاه الآخر.

الثورة مستمرّة لا شك، وكل تعثّر أو فشل يشيع صيرورة جديدة، لكن الأهم بالنسبة لهذه الحركات الشعبية انتقاد التجارب وتفنيد العثرات والانتكاسات والتراجع والفشل في تحقيق الأهداف، أي لا بد من الرؤية النقدية الشفّافة والصريحة. وتأسيسًا على هذه الضرورة، الانتفاضة الحالية، وهي تتمدّد وتتّسع رقعتها، أمامها استحقاقات مهمة وأساسية، تحتاج إلى أن تفرز الانتفاضة قادة لها في هذه المرحلة، ونخبًا تستطيع الإمساك بزمام الأمور وحماية الثورة المنشودة من الانزلاقات التي كانت نتائجها كارثية، وساهمت في تعميق الشروخ بين مكوّنات الشعب السوري، الذي أجاد النظام في زرع الخوف والتوجّس فيما بين مكوناته.

غالبية الأسئلة والتحليلات التي تشغل الإعلام والمنصات كلها تدور حول النظام والتكهن بسلوكه أمام الانتفاضة الثانية للشعب السوري، خصوصا أن الظروف تغيّرت، داخليًا وخارجيًا، والنظام الذي اعتبر نفسه منتصرًا سوف تزجّه هذه الانتفاضة في ارتباك كبير، لكن ماذا عن الانتفاضة التي تزداد رقعتُها وتتمدّد؟

لا تستقرّ الثورات خلال مدد محدّدة، ولا تسير كما يُخطط لها أو يُحلم بها، ودائمًا هناك شرارة تشعل الشعوب بعد أن تكون قد صارت أرواحها هشيمًا لا ينقصُه إلا هذه الشرارة، وهي كثيرًا ما تُخرج كل ما تراكم عبر الزمن من رواسب معيقة لمسارها السليم، وتجعله يطفو على السطح ويتحكّم في سلوك الجماهير، أو الشرائح المختلفة من الشعب، إذ من المعروف أن حتى الثورات الكبرى لم تكن كل فئات الشعب متفقة حولها وحول أهدافها وأدواتها، لكنها في مسيرتها هذه، التي قد تطول أكثر من المتوقّع، لا بد لها من أن تنقي نفسها، وتلملم أهدافها الأساسية، وتضع خططًا جديدة مستفيدة من أخطاء المراحل السابقة.

نرى أن المتظاهرين يردّدون الشعارات التي هي مطلب الثورة الأساس، الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، مع التأكيد على أنها ليست ثورة جياع، على الرغم من أن الشرارة التي أشعلتها ارتبطت بغول الجوع الذي صار بين الناس، خصوصا مع القرارات المعلنة أخيرا ورفع الدعم وانهيار الليرة. ولكن متابع منصّات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أحد الميادين المهمة وتعكس نبض الشارع، يصيبه القلق والخوف مما يرى من تخوين وثأرية وتوعّد وطائفية مقيتة، ولا بد من الإشارة إلى أن الأطراف التي أدارت الحرب في السنوات الماضية كلها شغَلت جيوشها الإلكترونية في الوقت الحالي، لتأجيج النيران من جديد.

تحتاج الانتفاضة الحالية إلى الحماية من كل أخطاء الماضي، وأولها من التصنيفات القاتلة والمفردات التي تقضي على فكرة المواطنة في الوعي الجمعي التي يحلم الناس بها، خصوصا كلمة الأقليات، أو الأقلية التي تحيل في مفهوم المجتمعات السورية إلى الانتماء الديني أو الطائفي أو القومي، وليس إلى أقلية برلمانية أو تمثيلية سياسية، كما في الأنظمة الديمقراطية، كي تبقي على نقائها واستقلالها وزخمها وطريقها الواضح.

العربي الجديد

—————————-

لحظة السويداء/ صبا مدور

من غير المقبول اعتبار الحراك الحالي في السويداء مجرد احتجاجات على الوضع الاقتصادي والمعيشي، فذلك سيكون في أحسن الأحوال مدفوعاً بسوء الفهم وقصر النظر وغياب الرؤية وضعف المعلومات، والحقيقة أن ما يجري في السويداء هو رغبة كانت مؤجلة من قبل أهلها لترتيب مصير هذه المنطقة الحساسة وشديدة الأهمية، لأسباب عدة من بينها القضاء على مظاهر الفساد وعنف الدولة وتغول الشبيحة واتخاذ المدينة معبراً أساسياً لتهريب المخدرات، فضلا عن إحساس خاص من قبل أهالي السويداء بقرب دنو أجل النظام.

هذا الحراك، ليس درزيا فقط، وإن كان غالبية أهالي السويداء منهم، ففيهم مسيحيون من السكان ومسلمون من القبائل القاطنة في المحافظة، وجميعهم يحملون مطالب مشتركة، تتمثل بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 ورحيل النظام وإطلاق سراح المعتقلين وتحرير سوريا من الاحتلالات المختلفة، وهذه جميعا هي مطالب السوريين جميعا، ومطالب الثورة من الأساس، ومن هنا فإن استعادة طرحها في هذا الوقت، حيث بدا أن النظام (ينتصر) هو كسر مباشر لسردية غلبة النظام، وفشل الثورة، واستعادة شديدة الأهمية في وقت حاسم، لفكرة الثورة واسقاط النظام.

وربما نجد من يقدح بالسوريين الدروز لانهم لم يشاركوا بالثورة، ويدعي أنه عرف عنهم تأييد النظام أو عدم معارضته على الأقل، والحقيقة أن هذا هو أيضا فهم قاصر وربما يستند أحيانا إلى مرجعيات أيديولوجية كانت جوهر انتكاسات الثورة منذ البداية، فقد كان للسويداء حضور مهم في بدايات الثورة كان يمكن أن يكبر ويكون له شأنه المهم، وما حركة (رجال الكرامة) والشيخ وليد البلعوس الذي اغتاله النظام، غير تعبير واحد عن المشاركة المبكرة للسويداء ورجالها في مواجهة النظام، لكن المتطرفين الذي سعوا لاحتكار الثورة وأفسدوا عليها صورتها وشكلها المدني المتحضر والمبدئي، قاموا أيضا بمعاداة ثورة السويداء والتعامل مع أهلها بشكل بائس أجبرهم على الانكفاء واختيار مقاربات تحميهم من التطرف والإرهاب.

اليوم، بعد انكفاء التنظيمات المتطرفة من الجنوب، يعود المشهد السوري إلى إعادة التشكل، فتستعيد السويداء رغبتها المؤجلة، يعينها في ذلك، رأي عام ناقم ودعم من زعاماتها الدينية التقليدية، وجميعهم تعززت لديهم القناعة بان نظام الأسد لا فائدة منه، وأنه ما زال يكرر نفس العبث وسوء الإدارة والتعالي على الشعب، والقمع والارتهان وحماقات الركون إلى وهم القوة.

وحراك السويداء أكثر بكثير من مجرد انضمام مدينة جديدة للثورة أو معارضة النظام، فهذه المحافظة ذات سمات خاصة جدا، سواء لجهة سكانها من الغالبية الدرزية، أو لموقعها الجغرافي على الحدود مع الأردن، أو للسياق الداخلي والإقليمي والدولي الذي اكسب الحراك أهمية خطيرة لجهة التداعيات المحتملة على صعيد مجمل الترتيبات الميدانية في تلك المنطقة.

تقع السويداء في قلب الحدث السوري الراهن، فهي المحافظة الحدودية مع الأردن، ومنها يقوم النظام والميليشيات الإيرانية بتهريب الكبتاغون الى عموم منطقة الخليج، وضياع هذا المنفذ سيفقد النظام مصدرا جوهريا من مصادر ابتزاز دول الخليج ماليا وسياسيا، فضلا عن توفير موردا أساسيا له، والسويداء وهي تجاور درعا مهد الثورة، ومركز معارضة النظام، وتنفتح شرقا على بادية الشام، التي تصل بها إلى نقطة الحدود العراقية الأردنية وقاعدة التنف التي تشكل الآن مركز احداث وتطورات مهمة بقيادة أميركية.

هذا الموقع الجغرافي يمنح حراك السويداء تداعيات مباشرة بالنظر لسياق الأحداث الراهنة حولها، ومنها الدور الذي يمكن للمدينة أن تقوم به في بناء حاجز صد أمام الميلشيات الإيرانية ووقف استخدامها تهريب المخدرات، وبالطبع فالأهم أن المدينة يمكن أن يكون لها أثر مهم للغاية في تداعي النظام، وتعاظم مأزقه، فهو يدرك أن مواجهة حراك السويداء بالعنف سيكون مكلفا جدا له، وسيكون أكثر من مجرد خط أحمر يمكن للمجتمع الدولي التغاضي عنه.

ولأن النظام يعاني من مأزق المقاربات الممكنة، فإنه لجأ إلى تقزيم الحراك، من خلال ربطه بأهداف (انفصال) درزية، وتحويله من احتجاج ضد النظام، ومطالبة برحيله، إلى (تمرد) أقلوي لتقسيم سوريا، وتعميم مثل هذا المنطق من خلال الشبيحة والمرتبطين بالنظام، لغرض تبرير اللجوء إلى العنف، من أجل (منع التقسيم)، ولسوء الحظ، فإن هناك من بين مؤيدي الثورة من يمكن أن تمر عليه مثل هذه السردية الكاذبة، وربما يقوم بترويجها، ليقوم من حيث لا يدري بخدمة النظام، وتعميم اطروحته.

وحتى الآن، لا يبدو ان النظام يمكن أن يمضي نحو قمع حراك السويداء، لأن ذلك سيكون انتحاراً حقيقياً له، ومع فشل سردية (الانفصال) بعد الشعارات الوطنية العامة للحراك، فإنه يمكن أن يمضي نحو مقاربة جديدة أكثر خطورة، وهي تسليط الإرهاب نحو الحراك، سواء ليقوم بضربه منطلقا من التطرف ضد السكان، أو الادعاء باختراق داعش للسويداء كي يقوم بضرب الجميع بدعوى محاربة الجميع.

هذه المقاربة هي سلوك نمطي استخدمه النظام من قبل، ويمكن أن يستخدمه من جديد، وضمن هذا السياق يمكن وضع الانباء المتعلقة بهروب عناصر من داعش، أو إطلاق شائعة دخول انتحاريين إلى السويداء، من قبل أحد شبيحة النظام المعروفين. وفي كل الحالات تفرض هذه الاحداث المتوالية القيام بجهد حقيقي وتفصيلي لإحباط هذا المخطط، وبناء تنسيق واسع بين حراك السويداء وبقية مناطق الثوار وقياداتها، فضلا عن تحويل الحراك إلى جهد سياسي ضاغط ومؤثر، ضمن سياق متوتر وشديد الهشاشة.

المدن

———————————

السوريون ينتفضون مجددا ويطالبون برحيل الأسد/ حسام محمد

تشهد سوريا موجة ثورية جديدة، يحمل المتظاهرون فيها ذات الشعارات والمطالب التي رفعها السوريون ربيع عام 2011 ويعتبرون رئيس النظام بشار الأسد هو المسؤول عن كل ما جرى ويجري في البلاد، وأن رحيله مع نظامه هو البوابة للانتقال نحو الضفة الأخرى، فلا استقرار ولا حياة ولا اقتصاد ولا حريات بوجود النظام الحالي الذي يسعى لتحصيل بعض المكاسب وبقايا من الشرعية عبر بوابة الجامعة العربية والدول التي دعمته بشكل أو بآخر في قمع السوريين طيلة السنوات السابقة، إلا أن الاحتجاجات والأصوات العالية والمطالب الثابتة في السويداء ودرعا والعديد من المناطق في سوريا بما فيها تلك الأصوات المناهضة للأسد من مسقط رأسه في الساحل، أكدت أن الأسد هو المشكلة ورحيله هو أولى مراحل التعافي.

المناطق الحاضنة لثوار 2011 سارعت من جانبها في دعم الموجة الثورية الحالية، وأكدت على دعمها لمطالب السويداء ودرعا، وأن الصوت واحد والمطالب واحدة، وأن الجيش الروسي بقوته، وإيران بميليشياتها وتخلي الدول العربية بسوادها الأعظم عن الشعب السوري لم تثن الشعب عن ثورته، رغم النكبات والأزمات التي حلت بهم، وصدحت الحناجر ورفعت الأعلام في الساحات رفضا للأسد والمطالبة برحيله.

الحراك في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وخاصة في درعا والسويداء شهد تطورات كبيرة ومستمرة، من اعتصامات للآلاف في الساحات، وإغلاق للطرقات الرئيسية، ورفع أعلام الثورة السورية، وإحراق صور بشار الأسد، وحناجر تصدح مطالبة برحيله، وعبارات على الجدران تؤكد أن الثورة لم ولن تموت.

مواقف محلية وردود أفعال

أكد الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ موفق طريف دعمه للاحتجاجات في محافظة السويداء وتضامنه مع مطالب أهل المدينة، واعتبرها حفظاً لكرامتهم وحقوقهم الأساسية في العيش الكريم وحقهم الطبيعي بالوجود في الجبل ضمن الدولة السورية- على حد تعبيره.

ونوّه الشيخ طريف في بيان له بأن هناك سلسلة اتصالات دولية مع جهات عاملة في سوريا، لقمع النضال الشعبي السلمي لأهالي الجبل.

من جانبه، قال قائد تجمع أحرار جبل العرب سليمان عبد الباقي: «لا بدنا اجتماعات ولا بدنا تواصل، مطلب أهالي السويداء رأس بشار الأسد».

أما على الصعيد الدولي، فقد وصل صوت الاحتجاجات السورية إلى أعلى المستويات، وقالت مندوبة واشنطن بمجلس الأمن: نشهد احتجاجات سلمية بدرعا والسويداء تدعو لتغييرات سياسية والالتزام بالقرار 2254.

في حين اعتبرت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، أن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم غير ممكنة في الوقت الحالي، والسوريون لن يعودوا ما داموا معرضين لخطر إلحاقهم بالخدمة العسكرية، واعتقالهم تعسفيا أو تعذيبهم أو إخفائهم قسريا.

المبعوث الألماني إلى سوريا ستيفان شنيك، أشاد من جانبه بشجاعة أهالي درعا والسويداء المطالبين بالحرية والمواطنة، وقال: «نقف مع المطالبين بالحوار السلمي وإطلاق سراح المعتقلين وتحقيق تطلعاتهم المشروعة. يستحق كل مواطن أن يكون له صوت والحق في العيش بكرامة. ندعو النظام السوري إلى الامتناع عن ممارسة العنف ضد الاحتجاجات السلمية».

على الصعيد الأممي، رأى غير بيدرسون المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، أن التحرك على مسار تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 هو السبيل الوحيد الكفيل لحل الأزمات في البلاد.

النظام يعود لفكرة المؤامرة

غابت احتجاجات الجنوب السوري عن إعلام النظام الرسمي، فيما نقلت وسائل إعلام موالية له عن محافظ السويداء قوله: إن «طلبات المواطنين والأهالي في محافظة السويداء تلقى اهتمام القيادة وبقدر عالٍ من الجدية» وأوضح المحافظ أن اللقاءات التي أجراها مؤخراً كانت على قدر من المسؤولية والشفافية والإيجابية».

إلا أن عضو مجلس الشعب السوري خالد العبود وصف المحتجين في السويداء جنوبي سوريا بالمرتزقة والرعاع، معتبرا ما حصل في درعا، ومنذ مطلع عام 2011 لا يختلف أبداً عمّا حصل ويحصل في السويداء منذ فترة ليست بالقليلة، وهو اشتغال استخباراتي أمني عميق، ليست له علاقة أبداً بقرارات الحكومة الأخيرة.

موجة ثورية جديدة

مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني أكد على أحقية الحراك السلمي المناهض للنظام ضمن مسار الحرية والتعبير عنها، وأن المحتجين يعبرون عن آرائهم بأداء النظام وحكومته والأوضاع الكارثية التي أوصلهم إليها الأسد، فالدولة دولة الشعب لا دولة الأسد وزمرته، وبالتالي كل مورد من موارد الدولة هو من حق السوريين وليس منحا يقدمها النظام للشعب، كما كان يشيع سابقا.

والنظام وفق المتحدث يدير الدولة بما فيها من مؤسسات وموارد بشكل كارثي، وهو ما جعل سوريا في الدرك الأسفل وفق المؤشرات العالمية على كل الأصعدة من السياسية والاقتصادية والحقوقية وحتى القانونية، وبالتالي الاحتجاجات محقة ولا تحتاج إلى إذن من سلطات الأسد أو حكومته.

عبد الغني أكد خلال تصريحات أدلى بها لـ «القدس العربي» أن المظاهرات تشير تماما إلى هوية المتسبب الأساسي الذي أوصل سوريا إلى هذه الحالة وهو النظام ابتداء من بشار الأسد، وأن وزراء حكومة النظام لا قيمة لهم، فأي عنصر استخبارات يستطيع عزل أكبر وزير في سوريا، وبالتالي نرى المظاهرات تستهدف الأسد مباشرة كونه المسؤول الأول عن كل ما يجري في البلاد.

والاحتجاجات التي تشهدها سوريا اليوم هي جزء من ثورة 2011 وليست منفصلة عنها، بل هي موجة جديدة. في حراك 2011 كان البعد الاقتصادي حاضرا بقوة بسبب نهب آل الأسد لثروات البلاد من النفط إلى الثروات الباطنية، إضافة إلى انتشار الفساد وسيطرته على مفاصل الدولة، وتدخل أجهزة مخابراته بأصغر تفاصيل الحياة والعمل، وبالتالي فالمظاهرات الحالية تعيد الآمال من جديد، والشعب السوري لا يزال مقاوما لسلطة الأسد وهمجيته، ولن تستقر الأمور كما يريدها رأس النظام.

لم تكن السويداء غائبة عن المشاركة في الثورة منذ البداية، واختارت بعد ان كشر النظام عن أنيابه مواجهته بالطرق السلمية معبرة عن رفضها لسياساته والامتناع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية في جيشه. واتبع النظام أسلوب تعامل مع المدينة يهدف إلى استنزافها، فعمل على إحداث الفتنة الطائفية والاجتماعية من خلال عمليات الخطف والخطف المتبادل بينها وبين درعا بواسطة أشخاص محسوبين على أجهزته الأمنية، كما عمل على تكثيف وجوده العسكري فيها، وهدد المدينة بفسح المجال لتقدم داعش كما حصل في يوم الأربعاء الأسود منتصف عام 2018 وراح ضحيتها ما يقارب 200 شخص من أبناء المحافظة.

كل تلك التراكمات يضاف لها وفق الباحث رشيد الحوراني، الضيق الاقتصادي الذي انعكس على حياة الناس والوعود الانشائية من النظام ومحاولاته تقوية عصاباته أدى إلى انفجار الاحتجاجات بسقف يوازي الذي أعلنته الثورة التي انطلقت مطلع العام 2011 وأن الحل هو سقوط النظام وتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بالحل السياسي في سوريا.

هل بدأ الأسد يفقد طائفته؟

واكب مسار الاحتجاجات في الجنوب وشمالي البلاد، العديد من الأصوات في الساحل السوري التي انتقدت سياسات النظام وطالبت بعض الأصوات الفردية برحيل بشار الأسد.

التطورات في الساحل السوري، رأى فيها الباحث عبد الوهاب عاصي، أن النظام يواجه أكبر تهديد له منذ عام 2011؛ ليس لأن المظاهرات تتسع في السويداء وتعود لدرعا بل لتحوّل الاستياء وسط حاضنته من الطائفة العلوية إلى نشاط معارض، ورغم أنّه ما زال غير منسّق لكنّه بات ظاهراً ويُشجّع شرائح مختلفة على الانضمام له، وينظر للنظام كعائق أمام هذه الحاضنة.

كما حاول النظام وفق ما قاله الحوراني، منذ ما يقارب أربعة أشهر تجييش أبناء حاضنته الذين تململوا من الوضع الاقتصادي بالتحضير للهجوم على إدلب وأشاع بينهم أن من يشارك يفتح له باب التعفيش من تلك المناطق التي سيتم السيطرة عليها، لكن لم يلق أذنا صاغية بين أبناء الحاضنة التي استنزفت من دون نتائج على حساب بقاء الأسد ورفاهيته.

لكن ممكن أن يتطور موقف الطائفة بالقياس على تطور وارتفاع واستمرار الاحتجاجات في مناطق أخرى.

ما هي تداعيات تحرك السويداء؟

يمكن الوقوف على ثلاث نواحي كتداعيات لحراك السويداء، اجتماعيا حيث تآكلت دعاية النظام في حماية الأقلّيات وحرمانه من استخدامها في سياقات داخلية وخارجية في الوقت الذي ما يزال يتمسّك بها للحفاظ على السلطة واستعادة السيطرة على كامل البلاد؛ باعتبار أن السويداء ذات أغلبية درزية.

سياسيا من خلال إعادة الدول العربية التي بدأت التطبيع مع النظام إلى المربع الأول قبل بَدْء المسار، حيث تُظهر الاحتجاجات في السويداء، وفق الحوراني أنّ الاستقرار فيها وهمي ومبني على استخدام القوة، وهذا ينطبق على بقية مناطق سيطرة النظام.

إضافة إلى فشل التعويل العربي -وبشكل خاص الأردن- على النظام بما يتعلق بتحقيق أي نتائج من الاجتماعات معه، كونه لم يستجب إلى المطالب الأمنية المتعلّقة بالمخدرات والأمن المائي وغيرها، ويدفع باتجاه المماطلة والتعطيل عبر الإشغال بالتفاصيل.

وأمنيا من خلال تشجيع العديد من السكّان في مناطق النظام على الالتحاق بموجة الاحتجاجات وهو ما شاهدنا من خروج للمظاهرات في أحياء في مدينة حلب شمالي سوريا، لا سيما المحافظات الهشّة أمنياً مثل درعا وريف دمشق وريف حمص الشمالي، أو توسيع الاستياء الشعبي في الساحل وتحويله إلى مظاهر احتجاج عبر الإضراب أو العصيان والاعتصام وغيره، خصوصاً مع عدم قدرة النظام على تجاوُز الأزمة الاقتصادية والسياسية.

ويتضح أن الاحتجاجات الأخيرة في مدن وقرى الجنوب السوري وبعض التظاهرات الخاطفة في كل من حلب وريف دمشق جاءت وفق ما قاله الناشط السياسي السوري درويش خليفة لـ«القدس العربي» بعد الاحباطات التي أصابت السوريين في مناطق سيطرة النظام جراء سياساته الاقتصادية، وتعنته في السير باتجاه الحل السياسي الذي فرضته الشرعية الدولية المتمثلة بالأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن 2254. ورغم التفاف النظام على القرارات والدعوات الدولية بتطبيق الحل السياسي، إلا أنه لم يقدم شيئا للسوريين سوى شعارات مزيفة اعتادوا عليها طيلة خمسة عقود مضت.

حتى أن الطرح العربي والموسوم بخطة «خطوة بخطوة» لم يلق له بالاً، معتبرا إياه تنازلاً واعتذارا عربيا على مقاطعتهم للنظام خلال العقد الماضي ودعم بعض البلدان العربية للمعارضة في السنوات الأولى للثورة.

أما فيما يخص الأصوات التي تخرج بين الحين والآخر من الساحل السوري معقل النظام، فإنها لم تحرك ساكنا بالرأي العام هناك، ونجد الناس في الساحات تنادي لتحسين الظروف المعيشية وتطبيق القرارات الدولية لرفع العقوبات، بل اقتصرت على الغاضبين فقط من الأفراد.

حراك السويداء، وفق خليفة، ربما يفضي لشكل إداري جديد فيما لو تواصل وارتفعت وتيرة الغضب عند جموع المتظاهرين وكان هناك تأييدا إقليميا ودولياً له. لكن حتى اللحظة وحدهم أهالي السويداء من يتحمل مسؤولية هذا التصعيد ضد النظام وأجهزته الأمنية. لذا هناك تحفظ من قبل النظام أعتقد بتوصية من حليفه الروسي كي لا تتوسع دائرة الاحتجاجات كما حصل في الشهور الأولى للثورة السورية 2011.

لا يمكن الحكم على المآلات في ظل المتغيرات الإقليمية ولا سيما الانفتاح العربي على النظام، ففي عام 2011 العرب هم من نقلوا القضية إلى مجلس الأمن، أما اليوم فمن سينقل معاناة ومأساة الناس داخل سوريا وخارجها، بعد تغير الظروف وظهور فواعل أثرت على مسيرة الثورة الأولى، ما جعل الدول تتابع وتتفاعل مع الحالة السورية بحذر شديد وبما لا يؤثر على أمنها واستقرارها؟

القدس العربي

——————————-

هل هي ثورة جديدة في سورية؟/ حسان الأسود

مع مقاومة إغراء خفّة التعامل مع حدث الاحتجاجات المتصاعدة في أنحاء متفرقة من سورية باعتباره خبراً، وسطحية مقاربته في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي باعتباره مناسبة لإبداء التعجّب أو السخرية أو التعاطف أو الدعم، ستحاول هذه المقالة الدخول إلى عمق الدلالة، سعياً إلى قراءة تحليلية عميقة للواقع قدر استطاعتنا. مع ذلك، لا بدّ من التسليم بأنّ نجاح ذلك لا يرتبط فحسب بعوامل ذاتية وموضوعية غير واضحة المعالم، منها تعقّد المشهد وندرة المعلومات الصحيحة وتشابك المصالح المحلية والإقليمية والدولية، بل يرتبط أيضاً بمشهد اجتماعي داخلي متغيّر على الدوام، صنعته آلة الحرب التي شنّها النظام على المجتمع السوري بكل فئاته، بما فيها حاضنته أو ما اصطُلح على تسميتها كذلك من أطراف الصراع الداخلي السوري، وعلى الدولة السورية ذاتها ببناها التحتية من طرقٍ ومدارس ومشافٍ وجامعاتٍ ومساكن ومزارع ومصانع … إلخ، وببناها الفوقية من مؤسّسات الحكم كالبرلمان والقضاء والحكومة والنقابات والاتحادات وغيرها.

بدا لوهلة أولى أنّ المجتمع السوري فقد حيويته، بل مات فعلاً بحسابات متشائمين عديدين. لهذا الرأي ما يسنده فعلاً، فالتمزّق المجتمعي الحاصل داخلياً بين عدّة مناطق سيطرة فعلية وتحت سلطات أمرٍ واقعٍ مختلفة أوجد تباعداً هائلاً بين السوريين، بدءاً من مناهج التعليم، مروراً بآليات الإنتاج الاقتصادي من زراعة وصناعة وتجارة، إلى تقطّع سبل التواصل والتنقل وتقسيم الثروات الوطنية بشكل مجحف وهدر كثير منها، وصولاً إلى الأنماط الإدارية السائدة في الحكم، والتي انعكست على جميع أوجه الحياة المادّية. هذا كلّه وغيره جعل حجج أصحاب هذا المذهب راجحة في الميزان. تضافُ إلى ذلك، بالطبع، حالة التعثّر والفشل الرهيبين في أداء النخب السورية، سياسية أو فكرية أو غيرها، وعدم قدرتها على تجاوز الأزمة واجتراحِ طريقٍ جديدٍ للخلاص. ولا يُنسى بطبيعة الحال تأزّم العلاقات الدولية اقتصادياً بعد جائحة كورونا، وسياسياً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتنافس المحموم بين قوى دولية عديدة لا يُستهان بها على إعادة إنتاج نظامٍ متعدّد الأقطاب، وبالتالي، اعتبار الحالة السورية واحدة من بين عشرات الجروح النازفة في العالم، والتي لا قِبَلَ للمجتمع الدولي بعلاجها بشكلٍ يبرأ فيه الجسد المريض نهائيًا، بل أفضل ما يمكن تقديمه مسكّناتٌ أثرها على الجائع كرائحة الطعام لا الطعام نفسه، فهي لا تُسمن ولا تغني من جوع.

الواقع أسوأ مما يمكن وصفه، وحرب النظام على السوريين أمعنت في تقطيع أوصال المجتمع، فبات الشتات السوري شبيهاً لشقيقه الفلسطيني مع اختلاف الأسباب والظروف، وأصبحت الدياسبورا السورية مثل مثيلتيها العراقية واللبنانية اللتيْن سبقتاها زمنياً، ومثل اليمنية التي عاصرتها والسودانية التي لحقتها. نحن أمام واقع واضح يؤكّد أنّه فضلاً عن المجتمعات السورية المحكي عنها في الداخل، ثمّة مجتمعاتٌ سورية كثيرة أخرى في تركيا ولبنان والأردن ومصر والعراق وأوروبا وكندا والولايات المتحدة… وكما يوضح القول الدارج من الكلام “عدّ وخربط” بما لا نهاية له من مأساة يبدو أنّه لا نهاية قريبة لها.

لكن كيف يمكن تفسير هذا الحراك المتفاوت بالأشكال، المتفرّق بالتوزّع الجغرافي، المختلف بالسقوف المرفوعة حسب المناطق المتعدّدة وحسب القائمين عليه فيها. وأخيراً وليس آخراً، حسب الوسائل المختلفة التي يظهر بها هنا وهناك، في هذا الوقت أو في ذاك؟ أليس في هذا ما يدفع إلى التفاؤل بعودة الحياة إلى هذا الجسد الميّت؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ قبلاً من تأكيد حقائق لا غنى عنها، أولها أنّ المجتمعات السورية في المغترب ما عادت قادرةً على رفع الحمل الهائل الملقى على عاتقها، فلم يعد بالإمكان للتحويلات المالية البسيطة أن تساعد أهل الداخل على البقاء والاستمرار، فغياب البنى التحتية، وغياب الإنتاج المحلي على كل الأصعدة، يجعلان قطاعات واسعة من الاقتصاد السوري خارج الخدمة، وهذا يُثقل كاهل المجموعات والأفراد، وهو حملٌ ناءت به كواهل المغتربين. ثاني هذه الحقائق أنّ الأفق بات مسدوداً، وأنّ الأمل شبه معدومٍ بالخلاص، فحتى تجربة إعادة النظام إلى جامعة الدول العربية لم تسعف في إحياء الأمل ولو زيفاً أو فتح الأفق ولو كذباً، وباتت طرق الخلاص الفردية شبه معدومة، فالبحار تأكل من أبناء هذا الشعب أكثر ممن يستطيعون قطعها إلى أوروبا، ودول الجوار أغلقت حدودها، بل باتت تشجّع على إعادة من هم فيها من السوريين، وبعضها يعمدُ لأشدّ الطرق وحشية وعنصرية ولا حاجة للتسمية. وثالث هذه الحقائق أنّ الخوفَ من الموت أوصل إلى الموت فعلاً، وأنّ الصمتَ خوفاً من القمع أدّى إلى استشراء القمع وسفوره وخروجه عن كل لجام، وأنّ الوقوفَ على الحياد أظهر أنّه لا حياد في صراع الوجود هذا فعلاً.

لكن كيف سينجح هذا الحراك، وما السبيل إلى ذلك إذا كانت البُنى المجتمعية السورية ممزّقة. وبالتالي، إذا كان ما عانت منه الثورة عام 2011 من غيابٍ للتنظيم وانعدامٍ للقدرة على إنتاج القيادة السياسية والميدانية للحراك، هو واقعٌ راهنٌ الآن، بل هو أكثر حدّة وفجاجة! وهل يعني ذلك أنّ الاحتجاج لن يستمرّ أو أنّه سيتوقف؟ وكيف له أن يتطوّر إلى حالة تنظيمية سياسية شاملة على مستوى سورية بأكملها حتى يكون معبراً للخلاص؟ لا يقين في أي إجاباتٍ تُطرح، لكن من حسن الفِطن إعمالُ التفكير بطرقٍ وأشكالٍ جديدة لدعمِ هذه الاحتجاجات لأنها ستتكاثر تلقائياً، رغم أنها ستبقى متفاوتة بالحدّة والسقوف، وستظلّ متفرّقة في النطاق الجغرافي. وهنا تأتي مسؤولية دعمها وتأييدها على الجميع. يجب أن يكون واضحاً لنا، من خلال التجربة على الأقل إن لم يكن من خلال الموقف الوطني والأخلاقي المسؤول، أنّ تسخيف المطالب التي قام الناس من أجلها في بعض المناطق، أو التشكيك بها، أو السخرية منها، لن يكون إلّا كمن يطلق النار على قدميه، وهو، بشكل أو بآخر، يقدّم خدمة أيما خدمة للنظام.

أسباب الحراك متعدّدة ومختلفة، لكنها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. لم يعد باستطاعة السوريين والسوريات التحمّل. لن يكرّر المحتجون بعض أخطاء الماضي، ولن يصعّدوا باللجوء إلى السلاح، بل سيجدون طريقةً ذكيّة لرصّ الصفوف، ومن كان عدوَّ الأمس يجب أن يصبح حليفَ اليوم، ومن ظنّ أنّه انتصرَ باتَ يعرفُ الآن أكثر من غيره أنّه المهزوم الأول. ليس ثمّة ما يمنع من إعادة قراءة المشهد، بل هذا ما يحصل فعلاً، فمن وقف مع النظام في بداية الثورة بات على ثقةٍ أنّه حان دوره لزيارة المقصلة، ومن ارتهن لإرادة الخارج بات يدرك أنّ الثوب المُعار لا يستُر، ومن وقف على الحياد بات يعلم أنّه لا حياد بعد الآن، فالغول لا يشبَع وسيأكل أبناءه حتى فهل يطمع بالنجاة أبناء من وقفوا بعيداً عنه! اليوم وبعد عشر سنواتٍ على مجزرة الكيماوي في الغوطة، وبعد 12 سنة على اندلاع الثورة من درعا، يجدّد السوريون والسوريات روحهم في درعا والسويداء وريف دمشق وحمص واللاذقية وغيرها من المحافظات، ونحن على أعتاب ثورة جديدة فعلاً، فماذا نحن فاعلون لإنجاحها

العربي الجديد

——————————–

اتحاد الفقر والعنف الخطر الوجودي الجديد لسورية/ شفان إبراهيم

الجوع والفقر يجتاحان كُل سورية. وتأخذ التظاهرات الحالية بسببهما، والتي تعمّ السويداء، وأجزاء من درعا، وأحياء من دمشق، والأصوات المرتفعة من الساحل ومحاصرتها، طابعاً مُخالفاً ما كانت عليه في بداية تظاهرات عام 2011، لما كان سعر صرف الليرة السورية، في تلك الفترة، يعرف استقراراً أمام العملات الأجنبية، ومقبولية راتب الموظف السوري مقارنة بالمستوى المعيشي وأسعار المواد الضرورية والعقارات والسيارات، لكن العسف السياسي والأمني والاستبداد كان العنوان الأبرز لكل مفاصل الحياة في هذه البلاد منذ نصف قرن، إضافة إلى أحزمة الفقر والحرمان. ويكفي القول إن سكان سلة العطاء والثروات في سورية (منطقة الجزيرة السورية) شكّلت صُلب تلك الأحزمة وبنيتها، مؤشّرا على سياسات الفقد والتفقير العميقين، فكيف لمن تتمتع محافظته بملايين براميل النفط، ومئات آلاف من الهكتارات الزراعية، أن يتحوّل إلى مُربي دواجن أو ناطور بناية هرباً من الفقر. لكن التظاهرات الحالية تحمل خمسة ملفّات عميقة متشابكة، أولها: ذاكرة متخمة بالموت والدم. وثانيها: استمرار الوضع  السياسي والأمني على ما هو عليه منذ بداية الحدث السوري، وكأن شيئاً لم يحدُث. وثالثها: ارتفاع نسبة الفقر لمعدلات قياسية، وشلل شبه تام في الخدمات التعليمية والصحية وهجرة أكثر من نصف البلاد هرباً من الجوع والفقر وتحمّلهم مخاطر الموت في البحار والغابات. ورابعها: العنف الذي اجتاح الحواضن السورية، وتعود السوريون على استقبال طلباتهم بالعنف الشديد، إضافة إلى مخلّفات الحرب من صور وذكريات تؤسّس للسلوكيات الشخصية والجمعية معاً. وخامسها: إن الجيل السوري الجديد في هذه الحرب ورث الفقر والحرمان من آبائه من دون أن يكون لهم أيَّ ذنب، فتحولت الأسر والعوائل السورية إلى رموز للفقر المدقع.

يشكّل الفقر، منذ آلاف السنين، الجزء المعتم من المنظومة البشرية. وكأن التاريخ يقول إنهم كتلة من الشخوص عديمي النطق والحضور في الحياة، ولا صوت لهم، وما يُقال فيهم هو صوت الآخرين عنهم. كان ذلك التاريخ ولا يزال مع الحاضر مختصين في نقل سِير الأمراء والملاكين والملوك والحكام وذوي البطولات العسكرية وحكاياتهم، وبقي الفقراء على هامش التاريخ يكتفون بالتأمل والمشاهدة. وفي المقابل، يؤسس الفقر لجزء أساسي من التنشئة والتكوين الهويّاتي للفرد والجماعة في المجتمعات التي تُعاني من الحرمان والتضخّم والحاجة، وسورية أولها، وكل دول الربيع العربي أهمها. وهو (الفقر) أهم مُحركات العنف ومُحفز رئيسي للسيكولوجيا المؤسسة والمحرّكة لسلوكيات الأفراد والجماعات؛ كرد فعل عميق على عقود التهميش وعدم الاهتمام الرسمي بهم. وهل سيجد الفقر أفضل من السوريين في بلادهم لهذه السلوكيات، ورُبما يرسم الفقر السوري إيقاعا جديداً في فلسفة التاريخ، ويبدأ بتدوين سيرهم وقصصهم، بدلاً من أفعال الأغنياء والسلطة وحدها.

المشكلة الأكثر عمقاً هي حين تتخلى الدولة عن مسؤولياتها أمام الفقراء ومحاربة الفقر، فسياسات السلطة هي إما أن تنتج الرخاء وفرص العمل والتنمية، أو المجاعات والكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية المنتجة له، وحينها تُحرَم شرائع شعبية وقطاعات عديدة من الموارد والمال والمشاركة في السلطة والتعليم، وهو في صُلبه إهانة للكرامة الشخصية. والمؤسف أن تكون غالبية المجتمع السوري في تجمّع الفقراء، كأكثر مظاهر الخروج عن المألوف، فمواقف الناس وردة فعلهم بين بعضهم حيال القضايا المعيشية تقودنا إلى مخاوف الوصول إلى الحتف المحقّق، سواء عبر زيادة الهجرة غير الشرعية، أو ارتفاع منسوب العنف المرافق للسلوكيات الرافضة نتائج القرارات الصادرة، خصوصا المتعلقة بطبيعة العيش والخدمات المقدّمة، والتي تقود إلى مزيد من الفقر. والخطر الأعمق أن ذاكرة الأجيال المقبلة والحالية هي تاريخ الفقر وضياع الحيوات؛ فالفقر والحاجة يُعيدان تشكيل الأفكار وترتيبها، ولا مجال أن تكون صالحة للعيش والاستقرار. ولعله لا تجنّي في القول إن سورية دخلت نفق “الكارثة” المعيشية، فالاضطرابات والعنف هي نتائج لفعل مركّب مزدوج هو الفقر وهدر الكرامات، وهما صنوان لا يفترقان ولا ينفصلان عن بعضهما بعضا، خصوصا وأنهما يؤثران في الوسطين، الاجتماعي والاقتصادي. وتشهد القدرة الشرائية اليوم شللاً كبيراً، زاد من أعبائها رفع أسعار الوقود، وهو كفيلٌ بشلّ الحياة الاقتصادية، مع غياب محاولاتٍ للتعافي الاقتصادي ومعالجة تداعيات الحرب على الوضع المعيشي.

يقود ذلك كله إلى ضمّ أعداد ضخمة لـ”مجتمع الفقراء”، وهو كفيل بإحداث انسلاخ مخيف يقود إلى الانهيار والتفجير المجتمعي، ومؤشّر إلى تطورات عنفية لا تُحمد عقباها، فالفقر أوجد أفكاراً سياسية جديدة، ممهدة لاضطرابات أهلية، ووضعت المنطقة في نفق الأزمة الاقتصادية – السياسية. وفي مجملها هي أزمة تاريخية لبنية العلاقات الإنسانية – الاجتماعية، خصوصا وأن نمط عيشنا اليوم أسوأ بكثير من نمط عيش آبائنا، والخوف أن تبدأ الأعمال العدائية التي ينتجها الفقر، بالتطوير من دون إنذار مسبق، فالقواعد الاجتماعية فقيرة بمعيشتها ومحدودة الحصول على الخدمات الأساسية من طبابة وصحة وتعليم ومياه وكهرباء وحتّى الإنترنت، والصراع الطبقي في أوج قوته، والطبقة الوسطى إلى مزيد من التدمير والتهميش، وزيادة انحلال النماذج التقليدية للعلاقات، وانقطاع الروابط بين الأجيال. وهي الحدود الطبيعية من الخدمات والنماذج التي تُبقي المجتمعات المحلية محافظةً على صبرها الاستراتيجي حيال الوضع المعيشي.

ولا يُمكن محاولة فهم دور (وتأثير) التركيبة المجتمعية المدنية والعشائرية في سورية، من دون فهم تأثير الانهيار الاقتصادي والفقر المدقع عليهم، فالحروب تدمّر أجزاء من المباني أو مساحات مأهولة بالسكان، لكن التدمير الأكثر ضراوة وشدّة هو القائم على الفقر والحاجة؛ كونه يدمّر شبكة العلاقات الإنسانية والتعامل اليومي، وهي لحظة إعلان العنف عن ممارساته المرفقة بسلوكيات وتصرّفات على صعيد الحياة الاجتماعية اليومية وشبكة العلاقات العامة، والموقف من السلطة ما بين الانخراط أو التعامل أو الرفض والمعارضة، وكلها تشكّل لحظات خطيرة ترتبط بأساس اقتصادي وملف الحريات، وتشكل عوامل ستزيد من دائرة العنف.

وبالتالي نحن أمام ثلاث مشكلات مركبة تؤثر على حيوات الناس: أولا، هدر مزيد من مدّخرات الناس من العملة التي غالباً ما يلجأ الناس إلى إخفائها لأمور تتعلق بالزواج والصحة والتعليم. ثانيا، لم يعد متوسّط حجم الحوالات يكفي لإعالة الأسر كما في السابق، فمبلغ مائة دولار كان يغطّي سابقاً احتياجات الناس، لكن انخفاض سعر الليرة السورية وارتفاع أسعار المواد، ثم تحسّن قيمة الليرة السورية وبقاء أسعار المواد على حالها جعلا المائة دولار لا تكفي لسد الحاجات اليومية للأسر. ثالثا، تدمير الزراعة، فالتضخم والأسعار الجديدة للدولار يعني ضخامة في مصاريف الزراعة والإنتاج، وهو ممهد لمزيدٍ من بيع الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مقاسم وعقارات، لتجّار الحرب، وإلحاق الضرر الشديد بالبيئة ومواسم القمح، وتالياً الخبز اليومي.

في الجانب النفسي، يحمل الفقراء شعوراً ثابتاً بمجهولية القدر والمستقبل الغامض لسورية، وهو الخطر الوجودي الجوهري الذي يقود إلى الانهيار في السياسة والمجتمع، فالجيل السوري الجديد لا يستوعب وغير مستعدٍّ أصلاً لاستيعاب ما يعنيه عدم توفر مستلزماته. ويصبح الفقر هو التحول الاجتماعي الأكثر خطراً بما سيحمل من آثار كارثية ومخيفة. وإذا كانت “مشكلات العنف لا تزال شديدة الغموض”، وفقاً لتعبير حنة أرندت، لكن الفقر والحرب والضغط والقتل والتغييب والحصار للقمة الناس عوامل شكّلت الحكم النهائي للعنف في سورية؛ فهو يُسرع ويُشرع المزيد من تفاصيل وجزئيات الرفض والمواجهة والاختيار ما بين رفض الفقر والجوع أو هدر مزيد من الكرامات، أو كما يقول هيغل “الإنسان إنما ينتج نفسه عبر الفكر”، وأيُّ فكرٍ يوجد أمام سيولة الحرمان والفقر، أمام عظمة بلاء الجوع والحاجة التي تجتاح البلاد من ديرك المالكية على الحدود السورية العراقية إلى درعا على الحدود السورية الأردنية.

ويبدو أن هياكل الحكم المحلية في شمال سورية وشرقها وغربها، ونظام الحكم في دمشق، يفضلون العنف القائم على إخافة الناس عوضاً عن تلبية مطالبهم. وإذا كانت السلطة تحمل غريزة حيوانية تنزع إلى مزيد من السيطرة، فإن القواعد الاجتماعية تحمل نزعات انعتاقية إلى مزيدٍ من التحرّر والحقوق وسبل العيش. وفي خضم كل ذلك التنازع بين الغرائز، المنهزم الوحيد هو الفقير، وهو مؤشّر على حقيقة نفسانية حتمية تقرّ بوجود علاقة ووثيقة تبادلية بين إرادة السلطة ورغبتها بإخضاع الناس، أو المواجهة ورفض المجتمعات المحلية عنف السلطة، وتُشكّل الحاجة أهم الأدوات في ذلك. ولأن العنف القادم من السلطة ذو طابع ومميزات أدواتية يملك القدرة للتأثير والسيطرة والتدمير، فإن الفقراء الساعين إلى العيش بكرامة واحترام في هذه البلاد، رُبما لن يملكوا في ذواتهم ونفسيّاتهم سوى اللجوء إلى العنف المضادّ للمواجهة وردّ المظالم والعنف المستخدم عليهم. وفي كل الأحوال، لا تتحمل مجتمعاتنا مزيدا من المواجهات والاضطرابات، والفقر هو العنوان الأبرز لحواضن السلطات، السورية، والإدارة الذاتية، وشمال غرب سورية، كُلهم يحملون نفساً عنفيًا عدائياً تجاه الفقر والحرمان. ومن الطبيعي جداً أن يتطوّر ذلك الشعور صوب السلطة نفسها.

العربي الجديد

———————————–

مهد الثورة السورية الكبرى تنتفض/ رياض معسعس

انطلقت الثورة السورية من جديد من مهد الثورة السورية الكبرى (ضد الفرنسيين 1925) بقيادة السلطان باشا الأطرش في السويداء بعد أن اعتقد «الجنرال» بشار الأسد أنه انتصر على الشعب السوري وأعلنها بابتسامة عريضة. لكن هذا الشعب المطالب بكرامته وخبزه لم يستكن لكيماوي الأسد وبراميله المتفجرة، وميليشياته الطائفية المرتزقة من خلف الحدود، ولا من طائرات سوخوي الروسية، ومدافع حزب الله وصواريخ الحرس الثوري.

لقد وقف شباب السويداء، وشباب حوران، للمطالبة برحيل الأسد ورفعوا شعارات الثورة الأولى «يلا ارحل يا بشار»،«واحد، الشعب السوري واحد»،«سوريا بدها حرية» بكل بساطة، وهذه أولى هتافات للثورة السورية التي انطلقت من حناجر شباب درعا في العام 2011. وقد لبى نداء ثوار السويداء عدة مدن أخرى في سوريا (عدد نقاط الحراك بلغ أكثر من ثلاثين نقطة منها: درعا، الأتارب، وصلاح الدين، كناكر، دير الزور، الرقة، تل أبيض، جرابلس، الباب، جاسم، نوى، درعا) وقف النظام حائرا، متوجسا هل يقصف السويداء ببرميلين أو ثلاثة براميل متفجرة، أو هل ينهي هذه الانتفاضة بصاروخ كيماوي، أو يقتحمها ويرتكب فيها مجزرة كبيرة كما فعل في باقي المدن السورية المنتفضة خلال السنوات الماضية؟

الحسابات هنا مختلفة جدا، فأي عمل غير محسوب في عاصمة جبل الموحدين له ارتدادات زلزالية تمتد إلى باقي الطوائف وخاصة الطائفة العلوية التي بدأت بوادر التذمر فيها تظهر للعلن، والطائفة الإسماعيلية القريبة عقائديا من الموحدين، وسيفقد ادعاءاته التي كان يضرب على وترها دائما بأنه حامي الأقليات، وإذا ما قامت الأقليات من سباتها لتلتحق بالأكثرية السنية، وربما امتدت الاحتجاجات إلى دروز لبنان وتشعل فتيل حرب جديدة.. فالقمع الوحشي خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية كان تحديدا ضد الأكثرية السنية لأنها المكون الأكثر تهديدا لوجوده ولم يحاسبه أحد على جرائمه فاستهداف السنة مخطط له ومطلوب لتغيير قواعد الحكم في أكثر من بلد عربي بدعم خارجي. وعلاوة على القمع العسكري الهمجي، والمجازر الوحشية ضدهم، كان النظام يستخدم شخصيات دينية موالية (شيوخ الرز بحليب كما يصفهم السوريون الذين وقفوا إلى جانب النظام) كالشيخ بسام ضفدع أحد مشايخ مدينة كفر بطنا والذي قاد عددا من مقاتلي الفصائل من أجل المصالحة مع النظام، وساهم بتسليم الغوطة الشرقية له، وبنفس هذه السياسة يستخدمها مع باقي الطوائف، فاليوم يجرب الأسد ضفدع السويداء يوسف جربوع المعروف عنه موالاته للنظام ليلعب لعبته لإنهاء الحراك الثوري في السويداء.

وجربوع هو واحد من 3 مشايخ عقل يمثلون المرجعية الروحية للطائفة الدرزية بسوريا، إلى جانب حكمت الهجري وحمود الحناوي ويتصدر الشيخ الهجري المشهد الثوري بتأييده الكامل للحراك الثوري بإصداره بياناً أكد فيه «نفاد الصبر وفوات الأوان وأن «الصمت لا يعني الرضا، فقد طاولت التصرفات والإجراءات لقمة العيش، فآن الأوان لقمع مسببي هذه الفتن والمحن ومصدري القرارات الجائرة المجحفة الهدّامة، ولنقتلع من أرضنا كل غريب وكل مسيء».

وبدوره أصدر الحناوي بياناً أكد فيه أن صوت المتظاهرين ووقفتهم لا رجعة عنها لإيجاد الحل الحاسم.. فللصبر حدود، وقال الحناوي إن «الطامة التي ألمت بنا جميعاً بعد أن عدمنا جميع الوسائل وحارت المساعي التي لم نترك باباً إلا وطرقناه من أجل إيجاد الحلول الناجحة ودرء المخاطر وتخفيف المحن عن الجميع» وأضاف أنه «على المسؤولين أن يعلموا حق العلم أن البطالة والجوع هما أكبر محرك لانهيار المجتمع».

لقد عمل حافظ الأسد ومن بعده وريثه بشار على بناء نظام يقوم كاملا على «التشبيح» سياسيا عبر حزب البعث «القائد وبرلمان المصفقين» و«الجبهة الوطنية التي تضم أحزاب الموالاة» وأمنيا بإنشاء أربعة أفرع أمنية (إدارة المخابرات العامة، الأمن السياسي، المخابرات الجوية، الأمن العسكري، ولها فروع في كل المحافظات يشار إليها بالأرقام التي قتل في أقبيتها عشرات الآلاف من المعتقلين تحت التعذيب) يضاف إليها جيش الشبيحة (مجموعات تستخدم لقمع أي احتجاج بارتكاب جرائم قتل، واغتصاب، وسرقات) بالإضافة إلى كل الاتحادات العمالية والفلاحية والنسائية ومنها اتحاد الصحافيين الذي يرفد النظام بما يلزم من «شبيحة» الإعلام الجاهزين للتضليل الإعلامي، وقلب الحقائق، والجيش الإلكتروني الذي يرصد كل نشاط إعلامي معارض على النت، ليتم إلقاء القبض عليه وتجريمه حسب القانون رقم / 20/ للعام 2022، القاضي بإعادة تنظيم القواعد القانونية الجزائية للجريمة المعلوماتية حيث يتضمن 50 مادة تنص على عقوبات مالية وبالسجن لكل من يخالفها في المادة رقم 27: «يعاقب بالاعتقال المؤقت من سبع سنوات إلى خمس عشرة سنة وغرامة عشرة ملايين ليرة سورية إلى خمسة عشر مليون ليرة سورية كل من أنشأ أو أدار موقعاً إلكترونياً أو صفحة إلكترونية أو نشر محتوى رقمياً على الشبكة بقصد إثارة أفعال تهدف أو تدعو إلى تغيير الدستور بطرق غير مشروعة، أو سلخ جزء من الأرض السورية عن سيادة الدولة، أو إثارة عصيان مسلح ضد السلطات القائمة بموجب الدستور أو منعها من ممارسة وظائفها المستمدة من الدستور، أو قلب أو تغيير نظام الحكم في الدولة» وهذا القانون يسمح له باعتقال مئات الناشطين المؤيدين للثورة، وفي المادة 28: «يعاقب بالسجن المؤقت من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات وغرامة من خمسة ملايين ليرة سورية إلى عشرة ملايين ليرة سورية كل من قام بإحدى وسائل تقانة المعلومات بنشر أخبار كاذبة على الشبكة من شأنها النيل من هيبة الدولة أو المساس بالوحدة الوطنية» وهذا أيضا يمكنه من اعتقال صحافيين وناشطين ينشرون أخبار الثورة، وفي الواقع كل الأخبار الكاذبة والملفقة هي من صنع النظام والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، والمضحك في هذا القانون هو المادة رقم 30 المتعلقة بتجارة المخدرات، في دولة المخدرات فهي تدين نفسها بنفسها: «يعاقب بالسجن المؤبد وغرامة عشرة ملايين ليرة سورية كل من أنشأ أو أدار موقعا إلكترونيا أو صفحة إلكترونية أو نشر محتوى رقميا على الشبكة بقصد الاتجار بالمخدرات أو المؤثرات العقلية أو الترويج لها» وبالطبع جميع وسائل الإعلام العامة والخاصة لا يمكنها أن تنشر أي خبر، أو تعليق، أو مقال، يمس بنظام الأسد، أو يشير إلى الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري، التي تغطى جميعها تحت غطاء محاربة الإرهاب، أو مسؤولية شقيق رئيس النظام بإدارة تصنيع وترويج وتصدير المخدرات التي غزت البلاد العربية وحتى الأوروبية، الذي وبحكم القانون يجب أن يحكم عليه بالسجن المؤبد.

ويعتمد النظام على مجموعة من الإعلاميين لتلميع صورته ومواجهة منتقديه ومعارضيه على قنوات خارجية، والأسماء كثيرة وصارت معروفة لدى المشاهدين مهمتها فقط الدفاع عن ضلال عن النظام، وتأليب الرأي العام.

وقد شهدت الثورة السورية الكثير من التقارير الإخبارية الكاذبة التي كانت من صنع مخابرات النظام. وهي لن تتوانى عن ممارسة هذه السياسة حيال الانتفاضة في السويداء، وحوران.

وقد بدأت باعتقالات لناشطين معروفين ومعارضين حتى من الطائفة العلوية التي بدأ بعض شبابها بالتحرك ضد النظام عبر منشورات على النت. وهذا ما يخيف الجنرال الذي لن يبتسم هذه المرة. ومعه كل من حاولوا تعويمه وطمس جرائمه.

رياض معسعس

القدس العربي

———————————–

حراك السويداء: جرس إنذار في هشيم النظام السوري

رغم أنها بقيت هادئة نسبياً خلال السنوات العشر الأولى التي أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية في آذار/ مارس 2011، فإن محافظة السويداء جنوب سوريا تشهد منذ سنتين حراك احتجاجات شعبية متنوعة الأشكال، تنطوي على الاعتصام في الساحات العامة أو التظاهر أمام مبنى المحافظة كما لا تغيب عنها مستويات متباينة من الإضرابات.

ففي كانون الأول/ ديسمبر 2022 عمت المحافظة مظاهرات احتجاج على تدني الظروف المعيشية وانحطاط الخدمات العامة في قطاعات حيوية مثل الصحة والكهرباء والمياه والطاقة والوقود والنقل، فضلاً عن ندرة المواد الغذائية الرئيسية ومعدلات الغلاء الفاحشة. ويومذاك استخدمت قوات النظام الذخيرة الحية لتفريق المتظاهرين أمام مبنى المحافظة وقيادة الشرطة، مما أسفر عن مقتل مواطن وجرح آخرين، خاصة حين تردد في أوساط المتظاهرين هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام».

وعلى امتداد الأيام الخمسة الأخيرة شهدت مدينة السويداء حراكاً جديداً استعاد مضامين الاحتجاجات السابقة حول الأوضاع المعيشية والاقتصادية، التي تفاقمت أكثر فأكثر بعد قرار رئيس النظام السوري زيادة رواتب العاملين في القطاع العام بنسبة 100٪ وفي الآن ذاته رفع الدعم كلياً عن البنزين وجزئياً عن المازوت، مما أوصل الليرة السورية إلى خسارة 99٪ من قيمتها وتسبب في موجات غلاء هائلة في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية والمحروقات.

لكن الجديد في مضامين الحراك الأخير تمثل أولاً في اقتران المطالب المعيشية بتركيز على حل سياسي جذري قوامه القرار الأممي رقم 2254، وعودة هتاف انتفاضة 2011 القائل بأن «سوريا للشعب وليست لبيت الأسد» والتشديد على إطلاق سراح المعتقلين السياسيين. وأما الجديد على صعيد أشكال الاحتجاج فقد شهد إدخال صيغة العصيان المدني، فتوقف العمل في الدوائر الحكومية وتعطلت الدراسة وتغيب العديد من الموظفين عن أعمالهم.

وقد يكون البيان الذي صدر عن «الرئاسة الروحية للمسلمين الموحدين» في عداد الجديد الذي سجّل مؤشراً عالي الدلالات، لأن النص لم يكتف بتأييد حراك الاحتجاج وأشكاله المختلفة، بل استخدم لغة نقد لاذعة وصريحة ضد السلطة. وقال البيان: «أصبح أبناؤنا أذلاء في الخارج بسبب ما يحصل في الداخل، عائلات تموت غرقاً أو في البراري بحثاً عن لقمة عيش، وفي سوابق ذلّ لم يعرفها السوري عبر التاريخ» وأضاف: «من حق الناس أن تصرخ وتستغيث، ومن العيب أن نرى هذا التدمير ونبقى صامتين، وليكن في وجه من يستلم موقعاً قيادياً بعض الحياء والخجل حين العجز والتقصير».

ورغم أن أصداء احتجاجات السويداء وصلت إلى محافظة درعا المجاورة، فشهدت مظاهر مختلفة من الاحتجاج في بلدات الحراك وإنخل وبصرى الشام ونوى والكرك الشرقي، فقد يكون من المبكر انتظار توسع الاحتجاجات إلى محافظات أخرى على نحو يعيد في قليل أو كثير تكرار سيناريو انتفاضة 2011. لكن ما يجري اليوم في المحافظتين يقرع جرس إنذار نوعياً وفارقاً تجاه نظام الأسد، كما ينقل السخط الشعبي العريض من حال الجمر تحت الرماد إلى احتمال اندلاع النيران، في بلد تكفلت سياسات النظام الإجرامية بتحويل غالبية مقوماته الكيانية إلى هشيم.

القدس العربي

———————————-

ثورة غضب متجددة في سوريا الأسد/ بكر صدقي

لعبت مقابلة بشار الأسد على قناة سكاي نيوز عربية، بمحتواها الكارثي، مضافاً إليها مضاعفة رواتب الموظفين (!) دوراً استفزازياً جعل عدداً من السوريين يتجاوزون، على وسائل التواصل الاجتماعي، كل خطوط النظام الحمراء فيستهدفون مباشرةً رأس النظام وزوجته، ويطالبونه بالتنحي عن السلطة. هذا ما قاله ماجد دواي في بث عبر شبكة يوتيوب، مما قال فيه مخاطباً الأسد: «لم تعد لديك حاضنة شعبية! إن من حموك في ثورة 2011 هم بالذات من سيقومون باقتلاعك!» داعياً إياه إلى التنحي عن السلطة تجنباً لحمام دم جديد.

أما أيمن فارس فقد تحدى رأس النظام أن تتمكن أجهزته من إلقاء القبض عليه حياً، ويُعتقد أنه متوارٍ عن الأنظار في العاصمة دمشق. في حين قامت تلك الأجهزة باعتقال أحمد إبراهيم إسماعيل وفقاً لما قالته ابنته في بث يوتيوبي، داعيةً للتضامن مع أبيها وتحويل اعتقاله إلى قضية رأي عام. وهو الذي عرف أيضاً ببث عدد من مقاطع يوتيوب انتقد فيها السلطة بجرأة.

أما في المنطقة الجنوبية، محافظتي درعا والسويداء، فقد استأنف الناس خروجهم إلى الشارع، بعد سنوات من الركود، وتنظيم مظاهرات تنادي بإسقاط النظام، وبالحرية والكرامة، أي باستعادة شعارات ثورة 2011 نفسها وأجوائها من تمزيق صور الدكتاتور ومحاصرة مقرات حزب البعث، ورفع علم الثورة (علم استقلال سوريا) فوق الجامع العمري في درعا ـ مهد الثورة السورية، إضافة إلى الإضراب العام الواسع في محافظة السويداء.

تأتي كل هذه التحركات المناهضة للنظام في ظروف بالغة القسوة يعاني منها السوريون في مناطق سيطرته، أبرز معالمها غياب الخدمات الأساسية وهبوط متفاقم لقيمة العملة المحلية ومعادلها البديهي المتمثل في ارتفاع جنوني في أسعار أساسيات الحياة، مع شح في الموارد لدى عموم السكان، وتحول الرواتب التي تقدمها الدولة لموظفيها في الجهاز الإداري والعاملين في القطاع العام إلى مجرد نكتة سمجة حتى بعد «مضاعفتها». قرار المضاعفة هذا بدلاً من أن يخفف من شكوى السوريين دفعها إلى مستوى أعلى وأكثر جرأة في تحدي النظام ورأسه بالذات. وربما الأهم من هذه الشروط الحياتية القاسية هو فقدان أي أفق وأي أمل بتحسن هذه الشروط في مستقبل قريب أو بعيد ما دام نظام الأسد المسؤول عنها قابعاً فوق صدور السوريين، ويمتنع عن ملاقاة أي محاولات لمساعدته على تجاوز أزمته، كما رأينا في رفضه العملي للتجاوب مع المبادرة العربية، ومكابرته على أن سياساته صحيحة، سواء في رفضه لأي حل سياسي أو في التنصل من مسؤولياته بوصفه الممسك بالدولة والمدعي تمثيلها.

تصاعد مظاهر الاحتجاج والتحدي يقابله النظام، إلى الآن، بالصمت، في حين جاء الرد الأبرز على الصفحة الأولى من التمرد عبر وسائل التواصل (على لمى عباس) من تاجر المخدرات المعروف وسيم الأسد، وكان رده معبراً بدقة عن «فلسفة الحكم» لدى نظام الأسد. قال الرجل المعروف بصداقته لتاجر المخدرات اللبناني نوح زعيتر، ما معناه: بدلاً من التطاول على النظام ازرعوا أرضكم وتدبروا أموركم واذهبوا لتحرير منطقة التنف من الاحتلال الأمريكي!

نعم، لقد عبر الرجل تماماً عن الطريقة التي يفكر بها قريبه القابع في قصر المهاجرين الذي يتعامل مع القوى الدولية والإقليمية، ما عدا إيران وروسيا، بالطريقة نفسها: اقضوا على الإرهاب أو توقفوا عن دعم المجموعات الإرهابية… أعيدوا سيطرتي على الأراضي السورية التي فقدتُ السيطرة عليها… أعطوني أموالاً من أجل إعادة إعمار ما دمرته طائراتي وبراميلي المتفجرة… أعيدوا تقوية دولتي الضعيفة، فبسبب هذا الضعف ازدهر انتاج المخدرات وتصديرها، وسبب الضعف هو الإرهاب الذي أنتجتموه وصدرتموه لعندي… في حين أن بعض مقاطع الفيديو التي نشرها ناشطون متمردون سبقت الإشارة إليهم كشفت عن أن النظام دفن المساعدات التي قدمتها له بعض الدول بمناسبة كارثة زلزال شباط تحت التراب، وباع قسماً منها في السوق السوداء. فلماذا تقدم له أي دولة أي شيء وهي تعرف أن أي مساعدات من أجل تعاف مبكر أو إعادة إعمار ستذهب إلى الحسابات المصرفية في الخارج لرأس النظام والحلقة الضيقة المحيطة به؟

أما للسوريين المكتوين بشروط الحياة الأقرب إلى الموت فلسان حاله يقول لهم: عليكم أن تصمدوا وتتحملوا لكيلا أنصاع لطلبات عربية أو قرارات أممية تستهدف «محور الممانعة»!

غير أن موجة التمرد الأخيرة، فيما اعتبر «بيئته الحاضنة» بصورة خاصة، كشفت عن أن الناس لم تعد قابلة للخداع بسفسطاته عن الممانعة والإرهاب أو حمايته المزعومة للأقليات من غول الأكثرية الذي يريد التهامهم (!). مظاهرة في ضاحية جرمانا هتفت برفضها «للشعر» وطالبت بالطعام! على ما يثيره هذا الهتاف من مرارة في النفس، فهو دقيق في تعبيره عن رفض ترهات المقاومة والممانعة ومواجهة الإرهاب وما إلى ذلك من كلام فارغ دأب النظام على إطلاقه للتنصل من مسؤولياته الاجتماعية والوطنية: «تمرجل على إسرائيل التي تقصف الأراضي السورية كل يوم، بدلاً من التمرجل علينا!» قال الناشط ماجد الدواي.

كانت مقابلة الأسد على سكاي نيوز «غنية» حقاً بكل ما ينزع أي مبرر لبقائه في السلطة في نظر بيئته الحاضنة بالذات: فقد قال إن العدوان الإسرائيلي سيتواصل طالما أن النظام يحقق انتصارات (!) على الإرهاب! وكأنه ليس مسؤولاً عن حماية الأراضي السورية من الاعتداءات الخارجية! تماماً كعدم مسؤوليته عن أحوال المحكومين الكارثية، ولا عن ضبط تجارة المخدرات، ولا عن ضعف الدولة! فكل هذه الأمور هي من مسؤوليات الآخرين، أما مسؤوليته الوحيدة فهي في التمسك بالسلطة وعدم «الهروب» كما قال!

بات النظام عارياً تماماً، وبدأ أفراد يخاطرون بحياتهم ليقولوا له إنه عارٍ وعارُ على سوريا. ولم يعد الأردن يتحمل طائراته المسيرة التي انتقلت من تصدير المخدرات إلى تصدير المتفجرات، وأوروبا تخشى أن تتوجه صادرات الأسد من الكبتاغون إليها إذا أغلقت في وجهه أبواب أسواق الأردن ودول الخليج! القمع الذي نجح، مع عوامل أخرى، في وأد ثورة 2011، قد لا يستطيع تكرار ذلك النجاح القاتل.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————

موجة احتجاجات جديدة في سوريا/ ياسين الحاج صالح

تتواتر المؤشرات على تخلخل الحكم الأسدي بأثر انتشار الفقر وتدهور الخدمات وعدم اقتناع قطاعات متسعة من السوريين في مناطق سيطرته بما يساق من ذرائع لهذا البؤس المنتشر. وأكثر من أي وقت سبق تُسمع أصوات تتكلم باحتقار على بشار الأسد بالذات، وبخاصة ضمن البيئة العلوية.

هذا شيء غير مسبوق، بالنظر إلى أن النهج المعتمد حتى وقت قريب هو لوم الحكومة، الوزراء ورئيسهم والمحافظين والإدارات، وهو ما كان النظام بالذات يشجع عليه، رافعاً المتصرف الأسدي فوق النقد (وفوق البلد وكل شيء فيه). مؤخراً تداول المتابعون فيديوهين لشخصين، يظهران بصورتيهما واسميهما، يهينان بشار الأسد وزوجته ومخابراته ومخبريه. هذه علائم انفضاض للقاعدة الاجتماعية المباشرة للنظام لا تزال فردية، لكن يبدو أنها تعبر عن مزاج أوسع. المحرك المباشر للأصوات المحتجة معيشي واقتصادي، لكن الطعن في بشار الأسد يقيم الربط الذي لطالما كان غائباً بين الأحوال الاقتصادية وبين نظام الحكم. والأفق السياسي الذي ينفتح عليه هذا الربط هو أن معالجة المشكلات المعيشية والخدمية غير ممكن في ظل النظام القائم، فلا بد من التغيير السياسي.

هذا قاله إضراب السويداء بدءاً من يوم 20 آب بوضوح. هنا خرج الألوف في بؤر احتجاج عديدة في المحافظة، تذكر ببؤر التظاهر في جُمَع الثورة بين آذار 2011 وتموز 2012. الفارق المهم في السويداء هو أننا حيال احتجاج اجتماعي واسع النطاق يبدو أنه يحظى بدعم مشيخة العقل (الشيخ حكمت الهجري) في الجماعة الدرزية التي تشكل أكثرية كبيرة من سكان المحافظة. يهتف المحتجون: سوريا لينا، وما هي لبيت الأسد! وعاشت سوريا، ويسقط بشار الأسد! وسوريا حرة حرة، وبشار يطلع برا! والشعب يريد إسقاط النظام! وكلها من هتافات الثورة الباكرة كذلك. المحرك المباشر معيشي وخدمي كذلك، لكن بتوجه سياسي واضح ضد النظام (وضد المحتلين الإيرانيين والروس والأمريكيين الذين دعت إحدى اللافتات إلى خروجهم من سوريا). جرى طرد أمين عام حزب البعث في المحافظة، وأُسمع كلاماً مهيناً له ولحزبه ولرئيسه. وفي المتاح من الفيديوهات عن احتجاجات السويداء ظهر الناس بوجوههم، خلافاً لما كان الحال في فترات الاحتجاجات السلمية في الثورة، حين كان يجري تصور الناس من الخلف في الغالب تجنباً للعواقب الأمنية. هناك انكسار متسع لهيبة النظام، وهي مزيج من الخوف من أجهزته الأمنية القاتلة ومن حرمة متعوب عليها للحاكم الأسدي، حتى لتقارب التأليه. هذان الركنان يتحطمان معاً أكثر وأكثر.

وقبل حين في هذا الشهر أعلن عن ظهر تجمع أعلن عن نفسه باسم حركة 10 آب، تقدم بمطالب معيشية تتصل بالرواتب والكهرباء وإعادة الدعم للخبز والوقود، وبإصدار جوازات للمواطنين الراغبين (جواز السفر لم يكن يوما حقاً تلقائيا للسوريين، بل أداة انضباطية بيد النظام) لكن منها إغلاق مصانع الكبتاغون (تشرف عليها الفرقة الرابعة وقائدها ماهر الأسد) إطلاق المعتقلين السياسيين، وقف بيع أملاك الدولة للأجانب (وهذا موجه بوضوح ضد الاستعمار الإيراني) وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 الخاص بالانتقال السياسي، وتحديد مدة الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية. في الروحية العامة، البيان يشارك احتجاجات السويداء والأصوات المعارضة في الساحل في ربط المعيشي بالسياسي، وإن بحذر أكبر.

إلا أنه تُسمع أصوات فاترة حيال ظواهر الاحتجاج الجديدة أو حتى مشككة بها من بين جمهور الثورة السورية الأقدم، أصوات يغلب أن تكون سنية دينياً، ومهجرة أو لاجئة خارج البلد، أو في مناطق لا تزال تتعرض لهجمات النظام وحماته الروس إلى اليوم. أشد التشكك يأتي من الأوساط الأشد طائفية بطبيعة الحال، لكن بعضه يبدو أقرب إلى طلب اعتراف بالأقدمية في الاعتراض على النظام أو دفاع عن احتكار الجذرية ضد النظام، يحركه هو ذاته حس قوي بالمظلومية، ينزع أصحابه إلى انكفاء مترفع على أنفسهم، لا يؤنسهم غير الشعور بأنهم وحدهم على حق. هذا مفهوم نفسياً بعض الشيء، لكنه خاطئ سياسيا إلى أقصى حد، ومستحق للاعتراض عليه ونقده في كل حال.

يحدث أن يعبر التشكك عنه نفسه باستعلاء يميز بين من خرجوا ضد النظام من أجل الكرامة والحرية، ومن يخرجون من أجل الخبز أو مطالب معيشية، مع رفع الأولين فوق الآخرين. لكن إذا كان صحيحاً أن المحتوى السياسي الحقوقي لفكرة الكرامة على نحو ما عبرت عنها الثورة السورية في البدايات كان أظهر من المعيشي، إلا أن خارطة الاحتجاجات السورية الباكرة نفسها تدل على انتشارها في مناطق كانت تتدهور اقتصادياً وخدمياً، أطراف المدن الكبيرة والمدن الصغيرة والبلدات، وضمن أوساط اجتماعية كانت تتدهور مقدراتها وتعاني من عسف النظام الإداري والخدمي، وليس عسفه الأمني وحده. إلى ذلك، ليس صحيحاً أن احتجاجات اليوم، الجمعية في السويداء والفردية إلى اليوم في الأوساط العلوية، معيشية حصراً، إذ يجمعها بوضوح تام التركيز على النظام مجسداً ببشار الأسد، مما لا يزال يقتضي شجاعة كبيرة، بالنظر إلى أنه لا يبدو أن هياكل النظام الأمنية تشكو من تراجع قدرتها على الاعتقال والتعذيب والقتل، ومع ما هو معلوم من أن إهانة بشار الأسد (وقبله أبيه) هي الكفر الذي ما بعده كفر في دولة الأسديين. بالعكس، قد تكون ميزة الموجة الاحتجاجية الجديدة أنها تتجاوز اختزالين اثنين: ذاك الذي يقول إن الكرامة لا علاقة لها بالمعيشة، وأن إسقاط بشار الأسد وحكم العائلة والأجهزة لا يستمد قيمته من شيء آخر، خصوصاً ليس من مطلب مادية؛ واختزال ثان هو الكلام المعيشي الذي لا يضع يده على الحكم الأسدي والعائلة الأسدية كمنبع لمشكلات سوريا الاقتصادية، وليس مشكلاتها السياسية والحقوقية فقط.

اليوم يزداد حضور هذا الربط في الوعي العام، وهذا رغم غياب أحزاب سياسية هي ما ينتظر منها أن تقوم بربط حياة السكان ومطالبهم الحياتية بالأوضاع السياسية التي يعيشون في ظلها، وربما تربط كذلك بين موجات وأجيال الاحتجاج الاجتماعي في البلد، فترعى ذاكرة وطنية غير جهوية وغير طائفية، وكذلك تبصر بالمخاطر المحتملة، بناء على دروس تجاربنا السابقة.

لا يحتاج المرء إلى تنبه خاص لتبين هذه المخاطر. من أولها بطش النظام المباشر، استهداف الأصوات الشجاعة في الساحل بالاعتقال والتغييب، وربما القتل، وحصار السويداء مع اتهام سكانها بالعمالة والضلوع في مخططات أجنبية. وثانيها سياسة شارع ضد شارع، أو ببساطة سياسة الحرب الأهلية، والنظام متمرس في هذا الشأن. يؤلب دروزاً من السويداء منتفعين منه وموالين له ضد مجتمع المدينة ومناطقها المضربة والمحتجة، ويستهدف الأصوات المتمردة في الساحل بأناس من ذوي قرباهم من عملاء النظام (سبق لشيء من ذلك أن حصل في بداية الثورة، بل منذ أيام «ربيع دمشق» ضد معارضين علويين من قبل جيرانهم أو شبيحة مستورين). والأخطر من كل ذلك بخصوص السويداء هو استنفار داعش التي صارت اسماً لتكنولوجيا قتل يمكن استخدامها عند اللزوم ضد أي أعداء متصورين (وهذا بعد النجاح المجرب لهذه التكنولوجيا الإبادية في سوريا والعراق). أو ربما تدبير عمليات إرهابية في الساحل، يراد منها دفع الناس للاحتماء بالنظام.

مجازر البراميل والكيماوي ليست منهجاً محتملاً لمواجهة الموجة الجديدة في السويداء والساحل. وقطاع من جمهور ثورة 2011 ممن صلبتهم المعاناة ويتملكهم شعور بالخذلان محقون في أن بيئاتهم تعرضت لاستهداف تمييزي إبادي. يثبتهم على ذلك استهداف بلدات درعا الثائرة في هذه الأيام الأخيرة بالذات بالرصاص، وقصف بلدة نوى بالمدفعية. لكنهم غير محقين في الاستخفاف بما يجري أو التقليل من شأنه. النظام وحده ينتفع من ذلك. بالعكس، تستحق هذه الأنشطة التشجيع والمساعدة بالمستطاع، ومن المستطاع دوماً التضامن معها والتعبير عن الاحترام للمشاركين فيها.

كاتب سوري

القدس العربي

———————————

ما زال الشعب (السوري) يريد إسقاط النظام/ جلبير الأشقر

استقرّت الأمور في الداخل السوري منذ بضع سنوات على قاعدة هيمنة نظام آل الأسد، مدعوماً من القوات الإيرانية وتوابعها ومن القوات الروسية، على نحو سبعين في المئة من أراضي البلاد، وذلك بشبه تعايش سلمي مع سائر مناطقها: الجولان الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967؛ ومناطق الشمال الشرقي التي تسيّرها القوى الكُردية منذ أن بدأت الحرب الأهلية، وقد باتت مدعومة من قوات أمريكية منذ عام 2014؛ والمناطق الشمالية التي احتلها الجيش التركي بدءًا من عام 2016؛ ومنطقة إدلب الواقعة تحت سيطرة «هيئة تحرير الشام» حصراً منذ عام 2017.

ولا شك في أن استقرار الأمور هذا، وإن كان دوامه مستحيلاً، إنما كان ويبقى أفضل بكثير من إعادة اشتعال الحرب الفتّاكة والمدمّرة التي تسبّب فيها أولئك الذين فضّلوا «حرق البلد» على رحيل الأسد، وسعّرها أولئك الذين بأموالهم تعمّدوا حرف الثورة السورية عن مسارها الديمقراطي الأصلي وتحويلها إلى حرب طائفية تحت رايات دينية، بحيث انتقلت من صراع ضد همجية السلطة إلى صدام بين الهمجيات في حالة قصوى من «حرب الجميع على الجميع» التي وصفها فيلسوف القرن السابع عشر الإنكليزي توماس هوبس، في كتابه الشهير «اللفياثان». وقد جاءت عودة نظام بشار الأسد إلى حظيرة الأنظمة الاستبدادية العربية تكريساً لقبول سائر تلك الأنظمة بما آلت إليه الأمور وتوقفها عن تمويل شتى الجماعات التي تعيّشت، بل واغتنت، من حالة الحرب.

إن هذه التطورات، وقد أعادت النظام السوري إلى شيء من الحالة الطبيعية ولو بحدود جليّة، والمقصود هنا حالة تطغى فيها احتياجات الحياة الاقتصادية على مقتضيات تفادي الموت قتلاً، إنما أعادت البلاد في الوقت نفسه إلى دينامية الثورة الاجتماعية والديمقراطية التي قطعها انحطاط الثورة التدريجي منذ ما يناهز عشر سنوات. هذا وما كللنا نؤكد منذ بداية ما عُرف باسم «الربيع العربي» أن الانتفاضة الكبرى التي عمّت أرجاء المنطقة الناطقة بالعربية منذ عام 2011، إنما لم تكن سوى بداية سيرورة ثورية طويلة الأمد، لا بدّ من أن تتواصل عبر الزمن مهما عرفت من انتكاسات وانتصارات مضادة للثورة، ما دامت قائمةً الأسباب البنيوية العميقة التي تسببت في انفجار البركان العربي بتفاعلها مع السياسات النيوليبرالية التي فاقمت نتائجها.

فها أن سوريا تقدّم لنا خير إثبات لديمومة السيرورة، وهو إثبات ينضاف إلى الموجة الثورية الثانية التي شهدتها المنطقة في عام 2019، بل يزيد عنها قوة من حيث إن سوريا هي البلد الذي بلغت فيه هزيمة الثورة حدّها الأقصى والأكثر مأسوية. فنرى سوريا اليوم بالرغم من كل مآسيها تعود إلى سلوك الدرب الكلاسيكي للانفجار الثوري كما شهدته معظم ساحات الانتفاضات بدءًا من «الربيع العربي». ويقوم السيناريو الثوري الذي بات معهوداً لدينا على مبادرة النظام القائم بإشعال نار الغضب الشعبي متجاوزاً قدرة الشعب على التحمّل، من خلال تطبيق إجراءات تقشفية تهدف إلى تقليص دور الدولة الاجتماعي طبقاً للوصفات التي يرشد إليها صندوق النقد الدولي منذ عقود عدة.

ففي منتصف الشهر الجاري، أزال النظام السوري الدعم الحكومي عن أسعار الوقود بما أدّى إلى ارتفاعها إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، وقد ترافق الأمر بمزيد من انهيار العملة السورية وبالتالي مزيد من التهاب أسعار شتى المواد الغذائية، فضلاً عن الأدوية وغيرها من مستلزمات الحياة. ولم يلطّف الأمر بتاتاً القرار الرئاسي برفع الحد الأدنى للأجور (الذي يبلغ أقل من 15 دولاراً بالشهر بسعر صرف السوق) ومضاعفة أجور موظفي الدولة (لاحظوا كيف أن القرارات البغيضة تصدر عن مجلس الوزراء والقرارات التي يعتقدون أنها ستملئ الناس غبطة وفرحاً تصدر عن الرئاسة). فقد فاق اشتعال الأسعار، وبكثير، الصدقة الرئاسية، التي جاء مفعولها عكسياً بالتالي إذ رأى فيها الرأي العام شتيمة واستجهالاً له.

فجاءت النتيجة على النحو المعهود: هبّة جماهيرية عمّت منطقة حوران، أي الجنوب السوري من تخوم الأردن إلى مشارف دمشق. فلم تنحصر الهبّة في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، كما حصل في مناسبات سابقة خلال الأعوام القليلة الماضية بما فسّره بعض الناس تفسيراً طائفياً بغية التقليل من شأنه، بل انتشرت إلى محافظة درعا بما فيها مدينة نوى التي وقفت إلى جانب مدينة درعا في طليعة الثورة في عام 2011، وقد دفعت المدينتان ثمناً باهظاً لتمرّدهما. لا بل امتد الحراك الجديد إلى جوار العاصمة وحتى إلى المنطقة الساحلية، بما فيها مدينتا اللاذقية وجبلة.

وإذا لم تشهد سوريا حتى الآن تظاهرات عملاقة كالتي عمت معظم المدن السورية في عام 2011 (بالمناسبة، قال بشار الأسد لمحطة «سكاي نيوز عربية» أن عدد المتظاهرين في عام 2011 «لم يتجاوز مئة ألف ونيف في أحسن الأحوال وفي كل المحافظات»!) فإن الحراك الجديد يتضمن عصياناً مدنياً وإضراباً عاماً، في حوران على الأقل. وقد عادت شعارات عام 2011 إلى الصدارة، لاسيما هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» والمطالبة برحيل رأس الدولة.

أما العبرة مما يجري في سوريا اليوم فهي أنه مهما عرفت البلدان من انحطاط لأوضاعها ومهما أصابها من أنماط الردّة، سواء أكانت على نحو استبدادي أم حربي، فإن الشعوب، عند أول فرصة سانحة، تعاود الانتفاض لا محال إزاء أوضاع اقتصادية ومعيشية لا تني تتدهور بينما تتوسع باستمرار الفجوة الهائلة القائمة بين الحكام العرب ومحاسيبهم من جهة، وسواد الشعب العامل في الجهة المقابلة.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

————————–

 سوريا: مآلات اللحظة وخوف المستقبل القريب/ كمال شاهين

أقر في آخر العام 2022 مشروع قانون “استراتيجية أميركية لوقف وتفكيك تجارة المخدرات والكبتاجون في سوريا”. وقد دمجه المُشرّعون اﻷميركيون في موازنة وزارة الدفاع للعام 2023، وأصبح ملزِماً ﻹدارة بايدن. كما يتضمن تقديم الدعم للحلفاء من دول المنطقة ممن يتلقون كميات كبيرة من الكبتاجون، ويطلب وضع استراتيجية مكتوبة خلال 180 يوماً لتعطيل وتفكيك إنتاج المخدرات والاتجار بها وشبكاتها في سوريا.

في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2022، سرّبت موظفة مهتمة بالملف السوري في وزارة الخارجية الأمريكية، أمام عدد من قياديي المعارضة السورية في بروكسيل، عبارةً تناقلها الوسط السياسي المعارض بكثرة ووصلت للداخل السوري وانتشرت. تقول تلك العبارة بالحرف: “إنّ واشنطن تتوقع انهيار النظام السوري اقتصادياً في غضون ستة أشهر”.

لم تكن هذه هي المرة اﻷولى التي تتنشر فيها توقعات تشير إلى “قرب” سقوط وانهيار النظام السوري، فقد “سربت” سواها على مدار سنوات سابقة وبأهداف مختلفة، على أنّ التوقع الأخير بالانهيار الاقتصادي الوشيك، احتفي به وكأنه سيحدث سريعاً. ولم يكن هذا الاحتفاء الذي انتشر بكثافة في إعلام المعارضة آتياً من فراغ هذه المرة، فقد بات البلد يعيش خلال اﻷشهر اﻷخيرة كارثةً إنسانية وسياسية واقتصادية حادة.

أرضية التوقع اﻷميركي

أميركياً، وفي قراءة متأنية، لا يظهر التوقع السابق وكأنه رمية نرد طائشة، فهو يأتي بعد تصريحات الجنرال مظلوم عبدي (القائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (“قسد”) التي حمل فيها نسبياً على واشنطن لموقفها المتراخي من العمليات التركية على الشمال السوري مؤخراً. وعلى ما يظهر، فإنّ قيام واشنطن بتسيير دوريات مشتركة مع قوات “قسد” على مناطق التماس مع القوات التركية جاء مراعاةً لاحتجاجات “اﻹدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” المتكررة ضد تركيا. وقد يساهم التسيير المشترك للدوريات في تباطؤ العمليات التركية، إلا أن ذلك مرتبط بعوامل داخلية ومنها الانتخابات الرئاسية في الصيف المقبل، وعوامل إقليمية ودولية أخرى.

تزامن تسيير الدوريات المشتركة مع قطع “اﻹدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” إمدادات الوقود عن مناطق دمشق حتى أجل غير معلن. وإذا كان هذا القطع قد حدث عدة مرات سابقاً بغاية الضغط على دمشق، فإنه يأتي اﻵن في وقت أشد صعوبة على اﻷخيرة وبالتزامن مع إيقاف “القاطرجي”  – رجل المهمات الصعبة للنظام – توريداته النفطية للمرة الثالثة هذا العام في عموم مناطق استثماراته، التي هي واجهة النظام الاقتصادية غير الرسمية والمنفذ الثاني لتأمين الوقود لمناطق سيطرة دمشق بعد الناقلات اﻹيرانية المتوقفة منذ عدة أشهر.

إلى جوار قطع إمدادات الوقود لدمشق من مناطق اﻹدارة الذاتية، ظهرت توجهات أميركية جديدة تستهدف دمشق، وجديدها إقرار الكونغرس اﻷميركي، بمجلسيه، الشيوخ والنواب، في 15 كانون اﻷول/ديسمبر 2022 مشروع “قانون” وضع استراتيجية أميركية لوقف وتفكيك تجارة المخدرات والكبتاجون “المرتبطة بالنظام ورئيسه بشار اﻷسد” وفق تعبير المشروع.

المشروع اﻷميركي الذي أصبح قانوناً بعد إقراره لم يقف عند حدود التشريع، بل دمجه المشرّعون اﻷميركيون في موازنة وزارة الدفاع للعام 2023، بدعم من 83 سيناتوراً ومعارضة 11، وأصبح “ملزماً ﻹدارة بايدن”، ويتضمن تقديم الدعم للحلفاء من دول المنطقة ممن يتلقون كميات كبيرة من الكبتاجون، ويطلب وضع استراتيجية مكتوبة خلال 180 يوماً لتعطيل وتفكيك إنتاج المخدرات والاتجار بها وشبكاتها في سوريا.

يستثني القانون الجديد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية من العقوبات، وإنْ لم يذكر ذلك صراحة، علماً أن مناطق المعارضة، في مجال تصنيع المخدرات وتجارتها، تحتل مرتبة متقدمة في هذه الصناعة في سوريا بحكم أنّ الفصائل المسلّحة اتجهت إليها بعد أن بدأ تمويلها (القطري والسعودي) ينخفض بحدود كبيرة. وهذا الاستثناء المتوقَع يعزز فرضية أنّ غاية القانون الجديد تعزيز الخِناق على دمشق الذي يصب في اﻹطار اﻷوسع لحرب واشنطن مع موسكو.

مؤشرات الانهيار الاقتصادي في الداخل السوري

يُفهم من مقولة الانهيار الاقتصادي حدوثُ فوضى اجتماعية واضطرابات وإفلاس وحجم تجاري منخفض وتقلّب أسعار العملة وتداعٍ في النظام العام دون تحديد مدة زمنية لحدوث الانهيار الاقتصادي أو انتهائه.

تظهر تطابقات كثيرة للتعريف السابق على سوريا، على رأسها تخبّط حكومي في إدارة البلاد. ويكاد لا يصدر قرار حكومي دون أن تتناوله ألسنة الناس بالنقد اللاذع، مثل تخصيص سبعة مليارات ليرة سورية (120 مليون دولار فما فوق) لترميم ملعب العباسيين في دمشق، في وقت تتزايد فيه دعوات الاحتجاج السلمي من جديد في السويداء بعد هدوء حذر شهدته المحافظة، في حين أن اللاذقية الموصوفة بأنها “معقل النظام”، تشهد دعوات للاحتجاج للمرة اﻷولى في تاريخها دون أن يعني هذا حتى الآن تداعياً في النظام العام.

وإن كان زلزال شباط/ فبراير 2023 المدمّر وتداعياته طويلة الأمد قد حرف الأبصار لبعض الوقت، داخلياً ودولياً، عن مشكلة المخدرات، إلا أنه وبطبيعة الحال، قد فاقم الاوضاع سوء. ومن جهة أخرى، فإن ما يبدو من انفراجات في الخناق العربي الرسمي الملتف على رقبة السلطة السورية، ما زالت نتائجه ضبابية.

تتزامن هذه التطورات مع انهيار متصاعد يومياً في قيمة الليرة السورية، فقد واصل الدولار ارتفاعه أمام الليرة حتى وصل إلى أكثر من 6300 ليرة مع ارتفاع مواز في أسعار المواد الغذائية، وانقطاع في التيار الكهربائي وصل إلى اثنين وعشرين ساعة يومياً في مختلف المحافظات. أما أهم عقدة في الاقتصاد أي النقل، فقد توقفت تقريباً حركة النقل الداخلية بين المحافظات السورية، حيث أعلنت عدة شركات توقفها عن نقل البضائع والركاب بين المدن لعدم توافر الوقود، وأدى ذلك إلى زيادات جديدة في كلفة النقل وهي مرتفعة قياساً بالأجور اليوم، يفاقمها وجود جباية متكررة من قبل جهات أمنية وعسكرية على مختلف طرقات البلاد. وكمثال، فإنّ سعر طن البندورة في سوق الخضرة في بانياس الساحلية يبلغ بين مليون إلى اثنين مليون ليرة (بين 200 ـ 400 دولار)، وأجرة إيصاله إلى دمشق تبلغ القيمة ذاتها.

وفي الوقت نفسه، رفعت الحكومة أسعار اﻷسمدة الزراعية أضعاف سعرها السابق (ارتفع سعر طن سماد اليوريا 46 في المئة وهو لازم للزيتون والقمح والقطن، فبلغ ثلاثة ملايين بدلاً من مليون ونصف ليرة) وهو ما سينعكس سلباً على الزراعة التي تعاني أشدّ المعاناة من غياب الوقود والكهرباء والتصحر والجفاف، ويقلل من المساحات المزروعة بالقمح والخضار والمحاصيل الاستراتيجية،. كما سيؤثر على أسعار المنتجات الزراعية ويتسبب في ارتفاع معدل التضخم المرتفع أصلاً وسيوسع الفجوة بين الدخل وتكاليف المعيشة. ولا يتوقف الغلاء عند قطاع الزراعة فقط، إذ زادت تكاليف التشغيل في القطاع الصناعي مع رفع أسعار الوقود والكهرباء للصناعيين والتجار، بالتزامن مع تقنين قاس جداً شمل كافة المحافظات. واليوم، يشهد سوق العقارات عروضاً كثيرة للبيع بما في ذلك في مناطق محسوبة على الطبقات الغنية الباقية في البلاد، ويظهر أنّ كثيرين يجهزون حقائبهم للفرار من السفينة قبل غرقها.

بالتزامن، بدأت دمشق بالتخلي عن سياسات دعم الفئات اﻷكثر فقراً في المجتمع السوري، ومنها شريحة منتسبي الجيش والقوى اﻷمنية والعسكرية المختلفة، وهذا مؤشر خطير على العموم لطريقة تعامل النظام مع القطاع الذي حماه طيلة السنوات الفائتة. وتعزز سياسة التخلي عن الدعم الاجتماعي هذه من الانقسام الطبقي الحاد أصلاً بين سوريي الداخل، كما أنها تضيف شرائح فقيرة جديدة تضم غالبية موظفي الدولة (مليون ونصف سوري وسورية، مدنيين وعساكر) براتب لا يصل إلى عشرين دولاراً شهرياً.

وحتى اﻵن، قاوم النظام الانهيار الاقتصادي لسنوات مستفيداً من جملة من العوامل الداخلية، أهمها ميراث الدولة نفسه الذي خزّنته طيلة عقود حكم البعث، ونعني به صفر ديون خارجية، واحتياطي مقبول من العملات اﻷجنبية، ودورة إنتاجية اقتصادية مقبولة، ساعدها في ذلك قطاع زراعي أمّن حاجات الناس بأسعار مقبولة، مع اعتماد سياسات مراوغة في تأمين عملة صعبة من هنا وهناك. ويظهر أن هذا اﻹرث – الحصيلة قد استنزف خلال الأعوام الماضية إلى درجة كبيرة، ولم يعد كثير من العناصر السابقة مشاركاً في حماية الدولة السورية واقتصادها من الانهيار. ومؤخراً أكد البنك المركزي أنه قادر على دفع رواتب موظفي الدولة لسنوات قادمة، ردّاً على شائعات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تفيد بوصول المخزون الاحتياطي من العملة الصعبة حدوداً دنيا. وإذا كان يمكن فهم اﻹشاعات ضمن سياق حرب إعلامية مستمرة منذ سنوات، إلا أنّ توقف المئات من المشاريع الاقتصادية الحكومية يشي بغير ذلك.

فهم بنية النظام السياسي السوري

تضم شرائح المؤيدين للسلطة السورية فقراء بمعظمهم ومن يسمون بالرماديين، وحتى بعض المعارضين، وهؤلاء في الغالب ممن بنوا موقفهم من الحراك على قناعة (أو دون ذلك) بضرورة المحافظة على كيان الدولة ووحدة ترابها وسيادتها أياً كان النظام الحاكم، أو بنوا موقفهم بناء على علاقة مصلحية وخدمية، أو حتى على مبدأ ديني “الله يطفيها بنوره”. إلا أن تدافع التأثيرات الاقتصادية والخسائر المتتالية في الاقتصاد السوري، وارتفاع اﻷسعار الجنوني، وغيرها من أسباب الانهيار الاقتصادي، أفضى وسيفضي إلى مزيد من انفضاض هذه المجاميع عن جسم النظام. يتأكد ذلك بمعرفة أنّ نسبة المشاركين في انتخابات اﻹدارة المحلية اﻷخيرة (أيلول /سبتمبر 2022) لم تتجاوز فعلياً نسبة خمسة بالمئة من مجمل عدد من يحق لهم المشاركة (عشرون مليونا تبعاً لتعداد وزارة اﻹدارة المحلية).

ومع توقع اتساع انفضاض غير المستفيدين عن جسم النظام خلال الأشهر القادمة، وربما تجسّدهم في أشكال مختلفة من الاحتجاجات، بما فيها العنفية والتفجيرات (في درعا بالدرجة اﻷولى)، إلاّ أنّ الانهيار السياسي لا يبدو ظاهراً بوضوح في الأفق السوري حالياً، ولذلك أسباب مرتبطة بالعديد من العوامل البنيوية في تركيبة النظام من جانب، وبعوامل إقليمية ودولية من جانب ثان، وكلاهما يتشابكان في حماية النظام السياسي من الانهيار الفجائي.

فمما لم يعد خافياً أن التشابك بين مؤسسات النظام ومؤسسات الدولة السورية هو في حده الأدنى، إذ تشكّل مؤسسات النظام ما يمكن وصفه بـ “دولة ضمن الدولة”، عسكرياً ومالياً واستثمارياً، ولكل من هذه القطاعات مؤسسات خاصة لا تخضع ﻷي نوع من الرقابة الحكومية. وعلى الرغم من استقلالية مؤسسات النظام، إلا أنّ لهذه اﻷخيرة سلطة مؤثرة وواسعة على مؤسسات ووزارات الدولة المختلفة، وتخضع لتوجهاتها. مثلاً، فإنّ قرار صرف منح مالية يأتي من رئاسة الجمهورية، والعديد من القرارات الوزارية لا تمر دون موافقة الرئاسة. ويظهر ذلك بوضوح في مسألة زيادة الرواتب التي توجب موافقة رئيس الجمهورية عليها دستورياً. يقصد مما سبق بشكل فيزيائي أنّ القوة اﻷكبر هي في اﻷعلى، وهي صانعة القرار والتوجهات.

تمتلك القوة اﻷعلى العديد من الموارد التي تشكل لها قوة مضافة مركزية التأثير، منها موارد شبكات الخليوي واستثمارات كبيرة في التعليم الخاص (جامعات ومدارس خاصة) وشركات وساطة مالية، وغيرها، وتشكل لها قيمة نقدية عالية غير معروفة بدقّة، ويتم تناقل قيم بمليارات الدولارات في الميديا العالمية، ويضاف لها موارد غير معلنة يعرفها السوريون جيداً، تحاول واشنطن محاصرتها وتقييدها.

القرار اﻷميركي، بمحاصرة وتفكيك شبكات صناعة المخدرات والاتجار بها – وهي من مصادر تمويل النظام غير الرسمية وفق التصور اﻷميركي – يستهدف مصدراً مهماً للتمويل تبلغ قيمته بالقياس إلى كميات المخدرات وحبوب الكبتاغون المصادرة أممياً مليارات الدولارات. وتمتد هذه التجارة إلى شبكات عابرة للحدود نحو الأردن والخليج العربي وتركيا وأوروبا، وبمساهمة من شركاء محليين وميليشيات سورية وإيرانية. ومما لا شك فيه أنه ليس من السهل تنفيذ القرار اﻷميركي نظراً لكون تلك الشبكات المفترَضة لا تسلك سبلاً مكشوفة، وهي لا تعمل وحدها في هذا المجال، بل كجزء من منظومة دولية ضخمة.

وفق هذا التحليل، يمتلك النظام أوراق قوة اقتصادية خاصة، وهي قليلة التأثر بالمجريات العامة للبلاد، سواء انهار الاقتصاد أم لم ينهر. وقوة هذه اﻷوراق تكمن في أنها استثمارية متغيرة القيمة تبعاً للسوق، مالية بالعملة الصعبة، وحتى لو كان جزء منها بالعملة المحلية، فإنّ التأثير المتوقع على النظام في حال الانهيار الاقتصادي لن يكون كبيراً.

إلى جوار القوة الاقتصادية التي تمتلكها السلطة، هناك قوى أخرى تشكّل العمود الفقري لها وتدعمها وتحميها بشكل عضوي، وهذه القوى عسكرية وأمنية واقتصادية. وإن كان جزء منها هو من طبقة التجار المستفيدين من جنّة النظام، مثل بعض تجار المدن، ويمكنهم نقل الولاء من نظام إلى آخر ومن سلطة إلى أخرى، فإنّ القوى العسكرية واﻷمنية ليس من السهل عليها تبديل ولائها، هذا إذا تجاهلنا عوامل الطائفية والعشائرية وغيرها من الفواعل المخفية في بنية النظام، والتي لها دور فاعل في تأمين نوع من الحماية من الانهيار.

على ما سبق، يمكن بناء استنتاجٍ أوّلي، وهو أنّ الانهيار الاقتصادي المتوقع أميركياً قد يصيب أجهزة الدولة السورية، وهذا ليس مستبعداً تبعاً لمجريات اﻷحداث الراهنة، ولكن تأثر مؤسسات النظام بهذا الانهيار سيكون محدود اﻷثر ويصعب قياسه بدقة. ومما هو مؤكّد قدرة النظام على الاستمرار برعاية مؤسساته واستثماراته وتقديم الخدمات المطلوبة لمناصريه حتى أجل قد يقصر وقد يطول.

إقليمياً، هناك مصلحة متبادلة لدى العديد من دول الجوار في عدم حصول انهيار سياسي في دمشق وذهاب اﻷمور باتجاه حرب أهلية جديدة أو استعادة ﻷجواء العراق بعيد انهيار نظام صدام حسين، حيث تدفق المهجرون إلى دول الجوار وسط فوضى كبيرة. وتزيد هذا الحرص أوضاع الدول نفسها في ظل صعوبات اقتصادية متصاعدة وضعف اهتمام دولي، وليس هناك استعداد ﻷي منها لاستقبال موجات جديدة من المهجرين السوريين. ويلحظ ذلك مثلاً في التخوف التركي من وصول القوات الحكومية إلى مناطق إدلب وما بعدها، واحتمال كبير لنشوء موجات تهجير جديدة بسبب العمليات العسكرية… ومن هنا الحديث عن مصالحة مع دمشق.

سيناريوهات ما بعد التصريح الأميركي

لا يتحدث التصريح اﻷميركي عن انهيار سياسي سوري مرافق للانهيار الاقتصادي، ولا نظن أن عدم الربط هذا غير مقصود. فالخبرة اﻷميركية في التعاطي مع مسائل من هذا النوع كبيرة، ويقدّم التصريح السابق بياناً (ليس جديداً أبداً) عن طريقة التفكير اﻷميركية في تعاملها مع الدول “المارقة” على سياساتها (أو الفاشلة).

اﻷكثر احتمالاً لفهم التصريح اﻷميركي هو توقع الانهيار الاقتصادي السوري دون السياسي، أي أنّ الوضع الداخلي السوري سيستمر على حاله وعلى وضعه المتجه نحو الانهيار ما أمكن، مستغلاً التضييق على كل منافذ الحياة المحتملة للنظام. وهذا سيستغرق سنوات ربما، سيعيش فيها السوريون كافة صنوف الإذلال المزدوج. فالحكومة ومؤسساتها تعمل في مناطق نفوذها للمحافظة على بنية الدولة نفسها من الانهيار مع محاولة القيام بما يخفف عن الناس أعباء الحياة في الحدود الدنيا، والنظام يعمل على حماية نفسه من مرحلة قادمة غير واضحة المعالم بشأنه، على الرغم من وجود رغبات إقليمية في بقائه، وفي سبيل ذلك يزداد حذراً وتوجساً.

هذا السيناريو هو اﻷكثر احتمالاً كونه لا توجد تغيّرات ملحوظة في سلوك اﻷطراف المتصارعة على الكعكة السورية. ولكن السيناريو اﻷسوأ، هو سيناريو العدوان اﻷميركي على دمشق، وليس من المحتمل اللجوء اليه اﻵن في سوريا بسبب جملة من العوامل المحلية واﻹقليمية والدولية.

وانما من الممكن ضمن السيناريو السابق، وبعد صدور القانون المتعلق ب”الكبتاجون” وتحديد آليات تنفيذه، أن تقوم طائرات “التحالف الدولي” بقيادة واشنطن، باستهداف بعض المنشآت الاقتصادية والخدَمية في الداخل السوري بذريعة الاشتباه بتصنيعها المخدّرات أو اتّهامها بتسهيل تجارتها وعبورها إلى دول الجوار، ويعزز هذا الاحتمال ما تم تناقله مؤخراً عن نية واشنطن العودة إلى مدينة الرقة السورية.

من الممكن أيضاً أن تتولى إسرائيل هذه المهمة، بصفتها “متضررة” من التشبيك اﻹيراني ـ السوري في مسألة المخدرات كما تقول وسائل إعلامها منذ سنوات. ولكن حدود هذا التصعيد المحتمل تبقى مرهونة بالوجود الروسي في سوريا وردّة فعله، وإن كان مرجحاً أن روسيا لن تمانع طالما لا تقترب تل أبيب من مناطق نفوذها في البلاد.

—————————–

سوريا: الاحتجاج في زمن المجاعة واشتداد سؤال الهوية/ وسام سعادة

تأتي حركة الاحتجاج الشعبي في الجنوب السوري في وقت تتسلل فيه المجاعة بالمعنى البحت للكلمة إلى مناطق مختلفة على امتداد الخريطة السورية.

لأجل ذلك أيضاً تصير إطالة الحديث عن دوافع اقتصاديّة للاحتجاج غير متناسبة مع الظرف القاهر الذي يفرض نفسه كأمر واقع يتضح أكثر فأكثر يوماً بعد يوم في سوريا، ولا نزال نجد صعوبة في رسم صورة إجمالية له من جهة، وتفصيلية له بين منطقة وأخرى من جهة أخرى. فالمجاعة عادة ما نتعامل معها في بلاد الشام على أنها ماض مؤرق من زمن الحرب الكبرى مطلع القرن الماضي، ولن يأتي بعدها إلا الجوع في الطبقات المعدمة، يزيد أو يقلّ، مرة حسب التدبير، ومرة حسب المواسم، ومرة حسب الحروب. المجاعة بقيت بهذا المعنى بمثابة الماضي المؤرّق للحاضر، المرعبة صوره، والمطمئنة خلسة في الوقت نفسه بأنها لن تعود، ولن ترافق الكوارث والنكبات التالية. وبالفعل، شهدت سوريا في العقد الماضي ثورة وحربا أهلية وحروب تدخل وحركة خروج لملايين من سكانها بالتهجير، الاقتلاعي الممنهج حيناً، أو الحاصل بعد أن انسدت أمام القوم طرق الحياة حيث هم، أمنية كانت، أم معاشية، أم الإثنين معاً. لكن، على الصعيد الإجمالي للبلد، لسوريا، لم تحصل مجاعة. حصل ضرب بالكيميائي في الغوطة وخان شيخون، تدمير لنصف حلب، حصلت فظائع تطهير على أساس مذهبي وإثني لم تنحصر بطرف واحد، وان بقيت للنظام اليد الطولى في إدارة الحرب الأهلية ككل، وبلغ الرعب مداه مع فانتازيا تنظيم الدولة وسواه من الجماعات المتطرفة الدموية. تراجع الإنتاج بشكل عام، والإنتاج الزراعي وتأمين القوت بشكل خاص. مع هذا، لم تعش سوريا ككل في مجاعة في زمن الثورة ثم الحرب 2011-2018. وكاد يظهر بعد أن تراجعت الوتيرة الحربية مع تمكن الروس من إجلاء المقاتلين من محيط وريف دمشق باتجاه المناطق المتبقية للفصائل الإسلامية في ريفي إدلب وحلب بأن البلد على الصعد الزراعية والغذائية والتموينية على الأقل يستعيد أنفاسه، بل وأن حركة إعادة إعمار جزئية فيه حاصلة، بانتظار حركة الإعمار العامرة والشاملة التي تنتظر التطبيع مع الدول العربية التي قاطعت سوريا – النظام عام 2011 وأخرجتها من الجامعة العربية. لكن ما حصل أن سوريا وفي اللحظة نفسها التي حصل فيها التطبيع الرسمي بينها وبين الدول العربية، وأعيد لنظامها مقعده في الجامعة العربية، وأخذ الأمريكيون يتخففون من العقوبات حيالها بشكل متدرج بعد الزلزال الذي ضرب كيليكيا التركية والشمال السوري، باتت أضعف من ذي قبل على صعيد احتواء أزمة انهيار عملتها الوطنية، وأزمة تصدع دورة الإنتاج فيها، وأزمة تدبر تأمين المحروقات وكلفتها. وفوق ذلك ظهر أن التطبيع مع الدول العربية لن يفتح الطريق مباشرة لمسار إعادة إعمار سوريا، وان إعادة إعمارها ليس بوسعها القفز على العملية السياسية، ولا بالوسع القفز على ملفات اللاجئين السوريين في بلدان الجوار، تركيا ولبنان والأردن، بل ان كل حديث عن عودتهم أخذ يتنافر مع واقع يقول باستمرار خروج السوريين، مبتغين النجاة هذه المرة من جوع آخذ التحول أكثر فأكثر، وقد صار كذلك في مناطق عدة، إلى مجاعة.

خطر المجاعة

سوريا اليوم هي تحت خطر المجاعة، لم تعد موشكة، لقد بدأت. أما المناطق التي خرجت للتحرك أول شيء ضد هذا الأمر فهي ليست المناطق التي اقتحمتها المجاعة قبل سواها، وانما هي المناطق التي تريد بحراكها هذا، قبل أي شيء آخر، إبعاد شبح المجاعة عنها، وهي تدرك أن أزمة أسعار المحروقات وتوفرها، بمقدورها ان تتسبب باشاعة هذه المجاعة حتى في المناطق الزراعية التي يعتمد عليها البلد ككل في إنتاج الحبوب.

لإبعاد المجاعة عن سوريا يمكن ان يسارع نصير النظام للقول بأن الحل هو في الرفع الكامل للعقوبات، وعدم ربط إعادة إعمار سوريا لا بالعملية السياسية ولا بعودة اللاجئين. ويمكن ان يسارع من انضم إلى الثورة 2011 وحافظ رغم كل ما حدث بعد ذلك على اقراره بصوابية هذا الخيار بأن لا حل إلا باسقاط النظام المسؤول عن كل هذه الكوارث. يبقى أن الواقع السوري لا يتيح في الوقت الحالي المفاصلة بين هذين الخيارين. النظام لا يزال يمسك بالمدن الرئيسية ولا تزال المدن الرئيسية بمنأى عن طلائع المجاعة إلى حد كبير. حركة الاحتجاج عليه متقدمة للغاية في السويداء ذات الكثافة الدرزية، وثمة حركة احتجاج محدودة أكثر في منطقة الساحل، بما في ذلك بين العلويين. لكن، ينبغي الانطلاق دائما عندما يتصل الأمر بهول مجاعة من ان هناك أناسا تجد ان الأنسب لها ان تتحرك لإبعاد هذا الخطر عنها، في حين ان هناك أناس تجد ان تحركها يمكن ان يزيد الطين بلة، وطالما لم يتمكن الخيار الأول من تثبيت نفسه في شكل منتظم، أو في شكل قيادة بمستطاعها مخاطبة العموم السوري، أو في أقل تقدير في شكل مقترحات عملية لإبعاد المجاعة بمعناها البحت، فإن الناس المترددين في التحرك كي لا يزيد الطين بلة سيظلون شريحة كبيرة. الأمر نفسه حصل مع العنوان السياسي عام 2011. عندما كان العنوان سياسيا، هناك فئات خاضت الصراع اعتقادا منها ان خوضه هو الطريق الأفضل لابعاد الكارثة السياسية عنها، في حين ان هناك فئات لم تخض الصراع، ليس تعلقا منها بالنظام بشكل مقتنع به، بل ظنا منها بأن زعزعته سيجعل أمورها أصعب ومصالحها صعبة التأمين.

شتات المعارضة

يأتي حراك الجنوب السوري، وخاصة السويداء، ليفرض كذلك الأمر على شتات المعارضة في سوريا إعادة إنتاج خطاب على مستوى اللحظة. فهذه المعارضة لم تف الموضوع الاقتصادي الاجتماعي قدره في أي يوم. خرجت ثورة 2011 من المناطق الفلاحية بالدرجة الأولى، لكن الشعارات السياسية للثورة قلما أفردت مكانا للموضوع الاقتصادي، المتصل تحديدا بالبيئات الفلاحية والشعبية الريفية وفي المدن المتوسطة. اعتبره تحصيل حاصل، يبت فيه حالما يسقط النظام، وليس قبل. جرى الغلو في أن الدافع إلى الثورة هو كرامة الإنسان السوري المعنوية السياسية، كما لو ان لقمة العيش دون الكرامة منزلة. مراجعة هذا النوع من تهميش المستوى الاقتصادي الاجتماعي أساسية.

الأساسي في الوقت نفسه التنبه كيف ان الحراك في السويداء تحديدا وصل الاقتصادي الاجتماعي بالحاجة للتعبير عن خصوصية أهلية طائفية ومناطقية لجبل الدروز. هذا واقع تعددي سوري غلب على المعارضة التبرم منه والاشتباه به، تارة من موقع مذهبي أكثروي، سواء جرى التصريح عن ذلك أو لا، وتارة من موقع مصر على تشكيل شعب سوري متعدد سياسيا فقط، ولا يصل تنوعه الثقافي المتماوج إلى درج التعدد الثقافي المتبلور خطابياً. عندما يتحرك أهل السويداء مبرزين هويتهم الدرزية، يفعلون ذلك بازاء كل من تصوراتهم عن هوية النظام الطائفية وهوية قوى المعارضة الطائفية. في مكان ما، يبدون ذاك الأكثر جذرية اليوم، كونهم ينتفضون. ويبدون في الوقت نفسه الاكثر وسطية، كونهم ما بين جماعة النظام وجماعة المعارضة. ويبدون أيضا وأيضاً وقد انخرطوا في مسار إشهار هويتهم «الثقافية» كهوية سياسية أيضاً. رؤية كل هذه العناصر في وقت واحد، ليست عملياً بالأمر السهل. انما الضروري في كل هذا التنبه لمسألة، وهي أن شبح المجاعة الداهم، بل الضارب في أنحاء من سوريا، لن يعني تراجع الحاحات سؤال الهوية الطائفية والمناطقية، وكيفية عيش التعددية الثقافية فيها، وليس فقط التعددية السياسية، خاصة وانه في سوريا أُكلت التعددية السياسية يوم أُكلت التعددية الثقافية. النظام الذي حرّم حديث الطائفية كان الأكثر طائفية. والثورة من بعده وقعت في المشكلة نفسها.

القدس العربي

——————————-

الأسد في سرديّاته التاريخية/ حسين عبد العزيز

يحار المرء العاقل كثيرا عندما يستمع لزعماء مستبدّين، ويعجز عجزا تاما في إيجاد تفسير عقلاني لما يقولونه، هل هم يكذبون بشكل علني وفج، أم أنهم مقتنعون بما يقولونه، وبالتالي يعيشون حالة شيزوفرانيا مع الواقع القائم؟ ربما تكون الحالتان موجودتين في شخصية المستبدّ، وإن كانت الحالة الثانية أقرب إلى الواقع، كما بيّنت تجارب عالمية عديدة للمستبدّين.

مع طول عملية الحكم، وباعتباره الرجل الآمر والناهي، ومع كثرة المتملّقين، يعيش الرئيس أو الزعيم حالة البارانوايا التي تتفاقم إلى درجة أنه يصبح منفصلا عن الواقع، حتى في خطوطه العريضة، فلا يرى ويسمع إلا بعيون المحيطين به وألسنتهم والتقارير التي ترد إليه.

مفاد هذا القول كلام رئيس النظام السوري بشّار الأسد مع قناة “سكاي نيوز” الإخبارية، وتقديمه سردية تاريخية وحالية لما جرى ويجري في سورية منذ اندلاع الثورة عام 2011، لا علاقة لها بالحقيقة الموضوعية. لقد بلغت سرديته مستوىً عاليا من الميتافيزيقا السياسية إن صحّت العبارة، لجهة كسرها منظومة الحقائق القائمة. قال الأسد إنه لم يكن لوالده الرئيس حافظ الأسد أي دور في وصوله إلى منصب الرئاسة، فهو لم يتولّ أي منصب سياسي أو عسكري قبل وفاة والده، والسؤال الذي يطرح نفسه، من الذي اختار الأسد الابن إذا لمنصب الرئاسة؟ تقول الوقائع التاريخية، وفقا لما جرت في سورية، إن مجلس الشعب عقد، في يوم إعلان وفاة حافظ الأسد في 10 يونيو/ حزيران عام 2000، جلسة استثنائية برئاسة رئيس المجلس، عبد القادر قدورة، وبعد كلمات النعي، قال قدّورة أمام النواب “أيها الزملاء، وردني اقتراح من أكثر من ثلث أعضاء مجلس الشعب بتعديل المادة 83 من الدستور التي تنص: يشترط فيمن يرشّح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سورياً متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية متمما الأربعين عاما من عمره”. وفعلا تم تعديل المادة 83 من الدستور، فأصبحت “يشترط فيمن يرشّح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سورياً متمتّعا بحقوقه المدنية والسياسية، متمما الأربعة والثلاثين عاما من عمره”.

نحن هنا أمام فعل ديمقراطي قام به “مجلس الشعب” المنتخب مباشرة من الشعب. هكذا يقرأ الأسد الوقائع السياسية. وعلى النهج يفسر الأسد أحداث سورية منذ عام 2011، فالثورة السورية المزعومة ليست سوى مؤامرة لإخراج سورية من معادلة الصراع مع إسرائيل، وأن الشعب ملتف حول قائده، وكل الذين تظاهروا لا يتجاوز عددهم المئة ألف شخص مقابل ملايين البشر المؤيدين له. بيد أن حالة الانفصام عن الواقع تزداد حين يقول إن استمراره بالحكم ناجم عن إرادة شعبية هي التي وقفت في وجه الإرهاب والولايات المتحدة، وحالت دون تحقيق أهدافهما، وليس القمع العنيف والقتل العشوائي واستخدام الأسلحة الفتاكة السبب في بقائه.

أيضا، ليست “الدولة السورية” هي التي قامت بعمليات القتل والتهجير ضد فئاتٍ واسعة، وإنما الإرهاب هو الذي فعل ذلك، فلا توجد دولة، يتابع الأسد، تدمّر الوطن. وحتى توقف عودة اللاجئين إلى سورية ليس متعلقا بالواقع الأمني، وإنما بالواقع المعيشي السيئ وانهيار البنى التحتية، يقول الأسد. وفي هذا جانب من الحقيقة، فالوضع داخل سورية صعب، لكنه سبب غير كاف لعدم العودة، فواقع اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا سيئ للغاية، وهؤلاء، كما أي لاجئين في العالم، يفضّلون العودة إلى ديارهم، إذا لم يوجد فيها ما يهدّد حياتهم وحياة عائلاتهم.

وفي ما يتعلق بالعلاقات العربية ـ العربية وموقع سورية منها، فقد ناقض الأسد ما قاله في القمة العربية في جدّة في مايو/ أيار الماضي، حين قال “أما سورية فماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة.. لكنها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان.. فالأحضان عابرة أما الانتماء فدائم، وربما ينتقل الإنسان من حضن إلى آخر لسبب ما، لكنه لا يغير انتماءه، أما من يغيّره فهو من دون انتماء من الأساس، ومن يقع في القلب لا يقبع في حضن، وسورية قلب العروبة وفي قلبها”.

في مقابلته مع “سكاي نيوز”، قال الأسد “إن العلاقات العربية العربية منذ أن تكوّن عندي الوعي السياسي قبل أربعة عقود، هي علاقات شكلية، لماذا؟ لسبب بسيط، لأننا بطريقة تفكيرنا ربما على مستوى الدول، أو هي ثقافة عامة لا أدري، لا نطرح حلولا عملية ولا نطرح أفكارا عملية لأي شيء، نحبّ الخطابات والبيانات واللقاءات الشكلية، هذه طبيعة العلاقة”. يشير هذا التغير في النبرة حيال العرب إلى أن قطار التطبيع الذي توج في قمّة جدة توقف أو تم إبطاؤه بشكل واضح، ليس بسبب الضغوط الأميركية فحسب، بل الأهم لإدراك بعض القادة العرب أن هذا الانفتاح على النظام السوري سيُلحق بهم ضررا استراتيجيا.

تنتهي سرديات الأسد في ملف المخدّرات، فيقول “إذا كنا نحن من يسعى كدولة لتشجيع هذه التجارة في سورية، فهذا يعني أننا نحن كدولة من شجعنا الإرهابيين ليأتوا إلى سورية، ويقوموا بالتدمير ويأتوا بالقتل، لأن النتيجة واحدة.. إذا وضعنا الشعب بين الإرهاب من جانب والمخدّرات من جانب فنحن نقوم بأيدينا بتدمير المجتمع والوطن، أين هي مصلحتنا؟”. ويتابع الأسد، وهذا هو الأهم، “تجارة المخدّرات كعبور وكاستيطان هي موجودة لم تتوقف، هذه حقيقة، ولكن عندما يكون هناك حرب وضعف للدولة، فلا بد أن تزدهر هذه التجارة، هذا شيء طبيعي، ولكن من يتحمّل المسؤولية في هذه الحالة هي الدول التي ساهمت في خلق الفوضى في سورية وليست الدولة السورية”.

ثمّة رسالتان أساسيتان موجهتان إلى الدول العربية: أن “الدولة” السورية لا علاقة لها بتجارة المخدّرات، فهي نشأت بسبب ضعف الدولة، وهذا يعني أن هذه التجارة ستستمرّ طالما أسبابها (ضعف الدولة) ما زالت قائمة. وأن الدول التي ساهمت في إشاعة الفوضى في سورية هي التي تتحمّل مسؤولية انتشار تجارة المخدرات في سورية، وبالتالي على هذه الدول أن تقوم بتغيير جذري في استراتيجياتها حيال سورية، وتقديم المساعدات لها للعودة إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.

تفيد تصريحات الأسد والمسؤولين السوريين طوال السنوات السابقة بأننا نتعامل مع منظومة حاكمة مُحكمة الإغلاق، لا مجال إلى إصلاحها أو إحداث تغيير طفيف في سلوكها. وفي حالة مثل الحالة السورية، لا يوجد سوى خيارين: بقاء النظام كما هو، أو إزالته وتدميره بالكامل عبر ثورة شعبية جارفة، لا تبدو البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مهيأة لهذا الفعل الثوري.

العربي الجديد

———————————–

جهنّم في سورية وذاك جحيمٌ لا ينقصه شيء/ أيمن الشوفي

في التسجيل المصوّر القصير، يظهر خمسة رجالٍ وقد أخفوا ملامحهم بعناية داخل أقنعة سوداء، اثنان من بينهم يحملان بندقيتي كلاشينكوف، يجاورهما اثنان آخران غير مسلّحَين، بينما بدا الخامس منهمكاً في قراءة البيان المقتضب، والذي أعلنوا فيه أنهم في السويداء (جنوب دمشق بنحو مائة كيلومتر)، باتوا “جزءاً من حركة التحرّر الوطني السوري، بهدف استكمال مسيرة الثورة السورية العظيمة، ومواصلة النضال لتحرير البلاد من سطوة الطغيان والاستبداد”.

ذاك البيان جرى تناقله مع قسطٍ وافرٍ من الحفاوة على منصّات التواصل الاجتماعي في مطلع شهر أغسطس/ آب، من دون أن يتبنّاه أيُّ طرفٍ مسلّح في السويداء ذات الغالبية الدرزية. لكن من المرجّح أن يكون أولئك الأشخاص منتسبين إلى حزب اللواء السوري، أو قوّة مكافحة الإرهاب المتحالفةِ معه. ثُمَّ إنه جاء متزامناً مع كل الخلاصات النظرية التي طافت حول بيان حركة التحرّر الوطني السوري، حين استمعنا إليه من مدينة عفرين التابعة لريف حلب الشمالي، وذات الغالبية الكردية، وعلى لسان المقدّم أحمد القناطري الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري السوري، وقد توسّطَ أربعةَ ضباط برُتبٍ مختلفة، وأمامهم جلسَ جمهورٌ بدا أنّ أغلبهُ جاء من منابتَ مختلفة. أما مضامين البيان، فكادت تستأنسَ بما هو خارجٌ عن ملّةِ الأدبيات العامة للثورة السورية، ومطالبها في إنهاء حكم آل الأسد ومن يحالفهم من مليشياتٍ ودول داعمة، وجدولة انسحابها بما يتناسب مع سياسة سورية المستقبليّة، من دون إنكار إمكانية التعاون مع قوًى إقليمية ودولية تدعم تلك المطالب. ولعلّ ذاك التعاون هو المتغيّر الوحيد الذي كان بإمكانه استخراج “حركة التحرّر الوطني السوري” من بين أركان إفلاس المعارضة السياسية السوريّة، وتحويلها إلى مبادرةٍ قابلةٍ للإدراك والانبعاث، وترك مهمّة الإعلان عنها إلى قائد المجلس العسكري السوري، العميد مناف طلاس، بحيث تبقى مكوّناتها ومنهاج حركتها مرتبطين بالسردية الجديدة للمنطقة، وفق معايير مطبخ البنتاغون، وتفضيلاته لتلك الوصفة الصيفيّة.

وحين وقعت سورية تحت سلطة القبّة الحرارية أخيرا، أدرك سكّانها، ولا سيما القاطنين منهم تحت سلطة قبّة النظام، بأنهم باتوا ملتصقين بقاع الجحيم، مثبّتين هناك بأوتاد محكمة يصعب الانفكاك منها، ولكنْ يسهُل هجاؤها فقط. وجحيمهم ذاك مكتمل الأركان، لا ينقصُه شيء، وفيه تزورهم كهرباءُ النظام ساعة، ثم تغيب عنهم خمسا، فتقترح إنْ جاءتهم تداوياً عاجلاً بهواء بارد، أو ربما بماءٍ أقلّ برودة، يشبه المسكّنات الصيدلانية لتخفيف آلام الحرّ المبرحة، وآثاره الجانبية.

تلك القبّة الحرارية ليست أسوأ عليهم حالاً من قبّة النظام الاستبدادية، إذ وتحتها ارتفعت حرارة الليرة السورية إلى معدّلاتٍ غير مسبوقة، وانهار سعر صرفها أمام الدولار، رافعةً معها درجة حرارة أسعار السلع إلى نحوٍ لا تُطيقه الدخول الهزيلة، بحيث صار من الصعب لمسُها، لا شراؤها. وبذلك تخجل حركة الناس من ارتياد الشوارع في مناطق سيطرة النظام، أو تكاد تكون طفيفةً إن وُجدت، وكأنها تتدارى بمكر يسهُل استنتاجه، لعلّها تتفادى مزيداً من نزق حرارة القبّة المناخية، ونزق كدمات السياسة التي يتناوبون على استقبالها من تحت قبّة عصابةٍ تحكم.

لكن القلق والترقّب يتناوبان أيضاً على احتلال أجواء الفضاء الاجتماعي ليس فقط في دير الزور ذات الامتداد المترامي، بل وعلى امتداد ذاك القوس الفسيح الذي يبدأ من الشمال الشرقي، وينتهي عند الجنوب الغربي للبلاد، وقد ابتزَّ الحياةَ الراكدةَ في تلك المساحة الملتوية، الأشبه بالهلال، عدا عن الحرّ المشترك سوريّاً، النيات الأميركية المتسارعة صوبها، بعدما أرسلت الولايات المتحدة في منتصف شهر يوليو/ تموز الفرقةَ الجبلية العاشرة، والتي كانت متمركزة في قاعدة “فورت درم” في نيويورك، باتجاه كلّ من العراق وسورية، وهي إحدى أهم فرق المشاة الخاصة لديها.

ذاك الارتياب من التحرّك الأميركي اشتراهُ الإيرانيون المنتشرون في دير الزور بثمنٍ باهظٍ من التوجّس والريبة، ربما لأنه تدفّق إليهم بوفرةٍ وعلى عجالة، فيما ارتداه “جيش سوريا الحرّة” المنتشر على مدارات قاعدة التنف العسكرية بزهو من عادت إليه الحياة بعد انقطاعها، كما وينتظرُ اكتمالَ نصابه ذاك حزبُ اللواء السوري، وقوّة مكافحة الإرهاب التابعة له في السويداء، جنوب سورية، فالفرقة الأميركية تلك كانت قد انتشرت في السابق أكثر من 20 مرّةً في العراق وأفغانستان، أيّ أنّها تعرف المنطقة جيداً، ومعتادة على مناخها الاجتماعي والسياسي، وسينتشر منها نحو 2500 عنصر في كل من العراق وسورية عشرة أشهر.

وغالباً لا تفصح الولايات المتحدة عمّا تبيّته من نوايا للجميع، إذ تجعل تصريحاتها الرسميّة تمكثُ في وادٍ، ومخططاتها الفعلية تمكث في وادٍ آخر، فحتى لو صرّحت علانيّةً بأن قدوم تلك الفرقة هو مجرّد نشاط عسكريّ طبيعيّ وإجراء اعتيادي، إلا أن استقدام الفرقة العاشرة الجبلية ربما يكون لغاياتٍ أخرى تماماً، وهذا اتضح أكثر حين سجّلت حرارة القلق الإيراني رقماً عالياً بالتزامن أيضاً مع نشر الولايات المتحدة لطائرات أف 16 وأخرى من طراز أف 32 في منطقة الشرق الأوسط. كلّ ذلك أوقدَ حساباتٍ إيرانية جديدة في دير الزور، كما في سواها من مناطق القوس الممتدة من الشمال الشرقي، إلى الجنوب الغربي، فالقوات الأميركية الموجودة في سورية لم تعد تقتصر على قوامِ 900 جندي فقط، الأمر الذي جرَّ إيران إلى استنفار مليشياتها المنتشرة هناك، وفي مقدمتها فصيل فاطميون الأفغاني.

تخشى إيران والعناصر المحلية المتحالفة معها من وقوع مواجهات مباشرة على الأرض ربما تكون مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) أو قوّات “الصناديد” أو أخرى من مكوّنات عشائرية محلية يجري حشدُها وتصنيعها لهذا الغرض، وسيكون هذا مرتدياً غطاءً جوّياً تؤمّنه قوات التحالف الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة بطبيعة الحال، وهذه قبّةٌ ثالثة نسجها الارتياب الإيراني من مستجدّات الوجود العسكري الأميركي في سورية.

وإن عُدنا إلى نهاية فبراير/ شباط من هذا العام سنجد كيف استثمرت ما تُسمّى “المقاومة الشعبية” المدعومة من إيران رصيداً لا بأس به للنيْل من هيبة التحالف الدولي، ومن هيبة الولايات المتحدة بصورةٍ خاصة في شمال وشرق سورية، حين هاجمت بعضاً من تلك القواعد في مناطق رميلان وخراب الجير والعمر، وقتلت جندياً وجرحت ستة جنود، وكان ذلك سبباً منهجياً وكافياً لأن تزجَّ الولايات المتحدة بمنظومتي صواريخ من طراز هيمارس في الخدمة داخل قاعدتي العمر والرميلان، حيث الحقول الأكثر ازدهاراً لاستخراج النفط الخام السوري.

أيضاً، ومع نماء الخراب داخل جسد دولة النظام السوري، وتملّك الهزال الحاد من منظومة مدخلات الخزينة العامة، وتنعّم السلطة بالانهيار الاقتصادي العام، وهو البعيد تماماً عن تأثير القبّة الحرارية، تصيرُ الأجواء العامة مواتيةً أكثر من أي وقتٍ مضى لاستكمال ذاك الطوق الأميركي من الشمال نزولاً إلى الشرق ثم انعطافاً منه باتجاه الجنوب، وسيكون التسويق الرسميّ المرتقب لهذا الطوق قطعُ الطريق الدولي الذي تمتطيه قوافل كبتاغون الأسد حين تغادر مصانعها في الداخل السوري، وتقصد معبر البوكمال شرقاً باتجاه العراق، أو معبر نصيب الحدودي في جهة الجنوب باتجاه الأردن، وما سيترّتب على ذلك من احتمال وقوع معاركَ واسعة الطيف تستدعي إليها المليشيات الإيرانية، وتختبر مدى نفوذها وتغلغلها في شرق سورية وجنوبها. جاء هذا مع إعلان النظام السوري بدء مناوراتٍ تخوضها قواته البريّة بالذخيرة الحيّة في البادية السورية، كما عادت روسيا، أخيرا، إلى تسيير دوريات شرطتها العسكرية في القرى الدرزية المتاخمة للحدود الأردنية، للإيحاء بأنهم لم ينكفئوا لحظةً عن مراقبة الحدود، ولجم عمليات تهريب المخدّرات من خلال منافذها المتاحة.

لكن صيف الشرق الأوسط يظلُّ يتمطّى بلا خجل أو استحياء، وكأنه مناورةٌ مناخيةٌ سياسيةٌ لا تهدأ، ومع انطلاق فعاليات شهر أغسطس/ آب منه، تنبّه مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان بأنهم جزءٌ من ذاك الاستدرار المناخي الأميركي، فاشتبكت فصائلهم هناك، وطلبت السعودية من رعاياها مغادرة لبنان، ومنعت السفر إليه، وأوقفت أعمال ترميم سفارتها بدمشق، وطلبت من نظام بشّار عدم إرسال سفيره إلى الرياض، لتنتهي المبادرة العربية بالخيبة، وهذا منتظر ومتوقع للغاية، لكنه ضروري لرفع الحرج عن العرب، وتحميل بشّار الأسد وزر الكوارث التي تنتظر سورية، والمنطقةَ برمّتها، ثم يعبر الأسطول الخامس الأميركي قناة السويس، يحمل إلى المنطقة أكثر من ثلاثة آلافٍ من نخبة قوات البحرية الأميركية، وعليهم أن يصدّقوا فقط أن سورية جحيمٌ لا ينقصه شيء.

العربي الجديد

—————————

الأسد: أنا موجود لأشرب المرطّبات/ غازي دحمان

ليذهب شعب سورية إلى الجحيم، اللاجئون والمقيمون. ليس لديّ كهرباء ولا ماء. لماذا يريدون العودة، ولماذا من لم يهاجر ما زال موجودا أصلا. لن أفاوض المعارضة السياسية، بالأصل أنا لا أعترف بها لكونها مصنّعة خارجيا. لن أقدم على أي خطواتٍ تساعد من يحاول تعويمي وإعادة تأهيلي دوليا. لن أحارب المخدّرات، بل هي وسيلة لعقاب الدول والمجتمعات التي تعاطفت مع المعارضة. ليس لدي ما أقدّمه للعرب سوى ابتسامات مقاسة بالسنتمتر وحركات كثيرة باليدين، وبالكثير منحهم دروسا في البدهيات والمسلمات. أنا موجود لأشرب المرطّبات، ولا أريد من أحد تعكير مزاجي.

هذه خلاصة لقاء بشّار الأسد مع فضائية سكاي نيوز عربية. بشّار عاتب على الدنيا كلها، كذب كذبة وصدّقها عن المؤامرة الكونية، كان المطلوب من العالم أن يتركه يذبح السوريين، ولا يقول له حتى حرام عليك ما تفعله. وهو ذبحهم بالفعل على طريقة عامله أمجد اليوسف الذي جمع عشرات الأشخاص، بعضُهم كان يشتري الخبز وبعضهم يبحث عن عمل، وأغمض عيونهم ورماهم في حفرة. بشّار حاقد على الدنيا كلها لأنها فضحت إجرامه، ولأن كثيرين من قادتها رفضوا مصافحة يده الملوّثة بالدماء.

يريد من اللاجئين والمشرّدين أن يبقوا في خيامهم وفي المنافي، فهو ليس مستعدّا لمنع مخابراته من التنكيل بهم حال عودتهم، وليس لديه خطّة محدّدة لإصلاح ما دمّرته براميله، تطبيقا لخطّة السجادة المطوية، والتي من خلالها حوّل المدن السورية إلى ركام، ويكاد يرى في مطالب الدول التي تغصّ باللاجئين، الأردن ولبنان، وقاحة سافرة، إذ بدل أن يطالبوه بإعادة مواطنيه عليهم أن ينشطوا لإقناع العالم بتجميع الأموال وتسليمها له، وهو بالتالي يقرّر كيفية صرفها.

المشكلة أن بشّار، ومن دون أن يرفّ له جفن، يحاكم العرب على ما يعتبره تقصيرا وحتى مؤامرة ضده. مطلوب منهم ملء خزانته بالأموال وبناء مدن ترفيهية، مولات وأبراج وخطوط مترو، ليس للسوريين طبعا، لكن شكلا من المكافأة، أو التكفير عن الذنب، من دون أن يوضح لماذا على العرب أن يكافئوه والذنب الذي يريدهم التكفير عنه، هل لأنه قتل ملايين العرب وشرّدهم، أم لأنه حوّل سورية إلى مستعمرة إيرانية روسية، أم لأنهم قالوا لا تصدّقوه إنه يكذب؟

أما للشعب السوري الذي ابتلته الأقدار بالبقاء تحت سلطته، فليس لديه ما يقدّمه له، بل على السوريين أن يسبحوا بحمده لأنه تركهم أحياء يرزقون، ولم يغتصبهم فردا فردا، كما فعلت أجهزته ومليشياته مع ملايين السوريين، وهو غير مستعد حتى لمناقشة المقاربات الإقليمية والدولية للحل، حتى لو كانت ستساهم في حلحلة الأوضاع الاقتصادية وإنقاذ السوريين من شبح مجاعةٍ على الأبواب. هذه ليست مشكلته، وعليهم أن يتدبّروا أمرهم، كأن يبيعوا الكبتاغون، أو يتعاطوه لينسوا أزماتهم، أو يقذفوا أولادهم إلى الموت في البحار، وإذا لم يعجبهم هذا وذاك، فليذهبوا لمقاتلة أميركا وإخراجها من شرق سورية، أو يضغطوا على الدول العربية لتفتح خزائنها له.

ليس للأسد ما يقوله بحقّ ضحاياه، لا ندم ولا مراجعة، ولو عاد الزمان فسيفعل ما فعله، لكنه أيضا سيستدرك الأخطاء التي ارتكبها، فهو نادمٌ لأنه لم يستخدم أقصى درجات العنف منذ اللحظة الأولى، لو فعل ذلك لما وصل إلى هنا، وربما نادم أنه اكتفى بتقليع أظفار أطفال درعا ولم يقتلهم وذويهم، نادم على تقديراته الخاطئة وسماعه المستشارين الذين كان يقول لهم إن التنازل لا ينفع، وربما انتقاما منهم قتلهم في تفجير خلية الأزمة.

ولكن، وليواسي نفسه، يضع المشكلة في إطارٍ أكبر، فالمشكلة لم تكن شخص الرئيس. وبالتالي، لم تكن المشكلة في الاستبداد ولا في الفساد، المطلوب كان سورية، من دون أن يكشف السبب في استهداف سورية من الخارج، رغم أن سورية، في تلك الفترة، كانت دولة بدون مشروع ولا فعالية، دولة تحكمها مافيا الأسد، رامي مخلوف وذو الهمّة شاليش، تحاول العوم على أمواج العولمة بدون آليات وتجهيزات مناسبة، دولة لم تستطع تقديم أدنى مساعدة لمواطنيها في شرق البلاد الذين أنهكهم الجفاف، ورحلوا جماعات جماعات إلى دمشق ودرعا يبحثون عن مأوى وطعام.

لا يريد الأسد أن يضيّع وقته الثمين في التفكير بالقضايا التفصيلية المعيشية للسوريين، هو مختصٌّ بشرب المرطبات، وفي أوقات الفراغ يتابع المشهد الجيوسياسي العالمي وتغيّراته، ويتخيل دورا له في النظام العالمي الذي سيولد من رحم هزائم بوتين في أوكرانيا. لا يدرك أن سورية باتت تعيش على فتات الصحن الإيراني، وأنها بالفعل تحوّلت لمحافظة إيرانية هامشية، خصوصا بعد الاتفاقيات الاقتصادية التي جرى التوقيع عليها أخيرا، ليست مشكلة في أن يتوسّل وزراؤه إيران لضخّ بعض السيولة في شرايين اقتصاده المتيبّسة، مقابل أن تحصل على ما تشاء من أراضٍ وعقارات ومصادر ثروات.

تحتاج البلاد في الأزمات التي أقل من أزمة سورية إلى عقول ديناميكية وقادة استثنائيين يخرجونها من أزمتها، قادة لديهم رؤى وتطلعات وإرادة في الإنجاز، قدرة على التقاط توجّهات السياسة الدولية، والحصول على ما أمكن من الفوائد. ولكن سورية، في ظل بشّار الأسد، ستهوي الى قيعانٍ لا قعر لها.

العربي الجديد

——————————

“الكلب والبرغوث” في الحقلِ المغلق لحاضنة الأسد/ عبير نصر

كان ثمّة ميل مضطرد لنشوء “مكوّنٍ علويّ مضادّ” بين نظام الأسد والمجتمع الحقيقي في سورية، بعدما غدت الطائفيةُ مُعطى وجوديّاً عزّزه حكم يدّعي العلمانية في بلد ابتُلي بلعنةِ الهوية ما قبل الدّولتية. وعليه، نجد أنّ العلاقة المركّبة بين الأسد وطائفته في مواجهة المكونات السورية الأخرى جعلت العلويين يقفون في حيّزٍ من الغموض الهوياتي وعدم اليقين الوطني. وبعيداً عن الاسترخاء لمسلماتٍ بديهيةٍ من قبيل أنّ الأسد يحتمي بالطائفة العلوية ويستغلها، ورغم أنّ في هذا الطرح رؤى متداخلة بعيدة كلّ البعد عن إمكانية إخضاعها لاختزالاتٍ مجحفة، إلا أنه لا يمكن نفي أنّ الشِقاق، وإنْ بحدوده الدنيا، موجودٌ منذ سنوات بين الأسد ومواليه، حتى ولو لم يكن معلناً، بدلالة ظهور اجتهاداتٍ جدّيةٍ للبحث عن مخرجٍ للورطة التاريخية التي يجد العلويون أنفسهم فيها اليوم، ليس بدايةً بإطلاق حملة “صرخة ضد الأسد” احتجاجاً على عدد قتلى الطائفة المرتفع إبّان النزاع، مروراً بإصدار زعمائها وثيقةً حملت اسم “إعلان وثيقة إصلاح هوياتي” التي نصّت على أنه لا ينبغي تحميل الطائفة الجرائم التي ارتكبها النظام، وطبعاً ليس نهاية بحركة “10 آب” التي بدأت ملامحها تتبلور عبر ظهور شباب من الساحل السوري، يحملون قصاصات كُتب عليها “الشباب السوري بكلّ طوائفه يقول لا للذل”. مع ذلك، ليس ثمّة دليل شافٍ وقطعي على وجود استراتيجية منسّقة للأسد لإنقاذ حاضنته الموالية التي طالما امتصّت سمومه، بل على العكس تماماً، ما زال لا يوفر أية فرصة لإغراقها في مستنقع العدم، جديدها أخيراً الحديث الذي أدلى به إلى قناة سكاي نيوز عربية، والذي تضمّن التأكيد المطلق أنه إذا النظام انتهى ستنتهي سورية معه، هكذا وبكلّ بساطة ووضوح.

بالتالي، من المفيد تناول تصريحات الأسد هذه في قراءة متأنّية وعقلانية، هو الذي يعتقد أنّه يحكم دولة، رغم أنّه على رأس مافيا عائلية أقرب ما تكون إلى مجلس إدارة نفعية لشركة خاصة، أقلّه من أجل اكتشاف ما اكتشفه كثيرون منذ اندلاع الثورة السورية، أنّ الأجهزة الأمنية التي تحوّط عائلة الأسد لا يمكن أن تصنع أوطاناً كريمة. وعليه، إحدى محصلات الربط المُعمّم بين الحاضنة وبشّار الأسد أنه ما انفكّ ينافح عن نظامه السلطوي من منظور “الهبل السياسي”. لذا جاء حديثه مستفزاً ومنفصماً كعادته، محمّلاً برسائل عديدة صريحة إزاء الملفات الإقليمية والدولية، وأخطر ما جاء فيه تبجّحه بأنّ التخلي عن السلطة والبلاد في حالة حربٍ هو نوعٌ من الهروب، وهذا غير مطروح أبداً. تصريح يعكس نية الأسد في رفض الحل السياسي بهدف الانتقال إلى سيناريوهات أخرى من الصراع الملتهب وإغلاق الأبواب أمام كلّ التفاهمات الممكنة. ما يعني، بطبيعة الحال، أنّ كلّ يوم يبقى فيه الأسد يعني مزيداً من “إفشال” بلدٍ كان يمكن أن يكون من أفضل دول المنطقة وأكثرها ازدهاراً ولمعاناً.

بالتساوق مع ما تقدّم، وبينما يكتنف تعبير “الدولة الفاشلة” الغموض، إذ يؤخذ على هذا المفهوم بأنّه غير دقيق، ويحتمل تأويلات وتساؤلات عديدة، لكن وعبر الارتكاز على ما سبق وعلى قدر هائل من التقديرات والمقارنات الإحصائية المثقلة بانحيازات وانزياحات سياسية خلال خمسة عقود من حكمٍ فاشيٍّ مجرم، يمكن توصيف الدولة السورية اليوم بالكيان الفاشل كلياً، المحكوم بعقلية براغماتية شاذّة اعتادت المقامرة على عامل الوقت لكسب الغنائم السياسية. ولنكن أكثر دقّة.. ما يساعد فعلياً على استمرارية الوضع المأزوم استعداد الأسد نفسه للقبول بسيادة هامشية على معظم المناطق مقابل تركيز ثقله في حضن الطائفة، نوعاً من الاسترهان والحفاظ على شرعية وهمية تمنحه حق القيادة، وهنا تكمن الاستنسابية الكبرى في تصنيف سورية دولة فاشلة، رغم الالتباس والافتقار إلى الدقة في المفهوم. إذ ليس هناك مجال لإنكار أنّ ثمَّة مشكلات تكتنف مصطلح “الدولة السورية الفاشلة”، أهمها تعبير “الدولة المارقة” القائمة على الإقطاعيات الطائفية التي لا تعدّ نفسها مقيّدة بالأعراف الدولية وفقاً للذهنية السياسية الخاصة بالنظام الحاكم، الذي ما زال يتهرّب من مواجهة الأزمات الداخلية الكارثية، باعتبار هذه الاستراتيجية نهجاً أصيلاً يتفنّن من خلالها في اللعب بأوراق النفوذ الإقليمي بحكم اطمئنانه إلى ما أنتجته وفرةٌ من تجاربه القمعية للاستمرار في ترهيب حاضنته الشعبية وشلّ دورها.

الأمر الذي له دلالة واضحة في هذا السياق الشائك أنّ افتراضات ولاء العلويين للنظام تخفي واقعاً أكثر تعقيداً مما نظنّ بكثير، تمخضت عنه إحباطات عميقة بين أفراد الطائفة الذين لديهم شكوك بشأن الوجهة التي يقودهم بشار الأسد إليها. وتبدو تحركات الأخير بعد كارثة الحرائق التي التهمت البلاد مؤخراً صدمة أنعشت الموات من الموالين الذين ينتظرون، عبثاً، ضوءاً يلوح في النفق المظلم. أهم تلك التحركات زيارة الأسد محطة لتوليد الكهرباء في مدينة بانياس، ثم شركة حديثة لإنتاج اللواقط الكهروضوئية في اللاذقية. زادت الطين بلّة زيارة أسماء الأسد مصنع خياطة في ريف طرطوس، لتسهب في حديث زئبقي عن رأس المال الوطني “الشجاع” أسوة بزوجها. تمثّل، في جوهرها، هذه الزيارات، غير المفهومة أسبابها ودوافعها “ظاهرياً”، هروباً صريحاً من الاستحقاقات السياسية والأولويات الداخلية الأساسية. وتعكس الاختزال الأكثر أهمية للتعقيدات المتكاثرة على سطح الأزمة السورية وفي عمقها. على المقلب الآخر، وفي ظلّ تجاوز الأسد “المنفصم” كلّ الخطوط الحمراء وسط تقاعس المجتمع الدولي عن خلعه بالقوة، تحاول الحاضنة العلوية ترميم التشويه التاريخي الذي لحق بالبنية الاجتماعية والفكرية والسياسية لأبنائها، لإعادة صياغة علاقتها بمن حولها من السوريين، بعدما عمل النظام على جعل الطائفة بمثابة مكوّن هجين يلفظه السوريون من خلال فعالياته الدينية والبعثية. ومع كلّ مفاصل الأيديولوجيا والبروباغندا التي حكم فيها نظام الأسد على مدى نصف قرن، ومع خطر وقوع البيئة العلوية في فراغٍ سلطوي محتمل، مع هذا لا يمكن إطلاقاً تجاهل الاستحقاقات القادمة من الساحل السوري.

لنعد بالذاكرة قليلاً إلى الوراء. كتب طوني بدران في مجلة فورين بوليسي الأميركية، ومنذ بداية الثورة السورية، أنّ الورقة الأخيرة التي ستبقى لبشّار الأسد انسحابه إلى الجبال الساحلية. وفي السياق، نُقل عن ميشيل كيلو قوله “الخطر الذي يواجه بشّار لا يكمن في ثورة شعبية ولا في تحرّكات المعارضة، بقدر ما يكمن في طائفته العلوية التي أصبحت الحقل المغلق للمناورات”. ويبدو أنّ النبوءات تتحقّق أخيراً بعد تصاعد الأصوات الموالية منددّة بحكم الأسد، ولن يكون آخرها “حركة الضباط العلويين الأحرار” التي أعلنت، ومن قلب ريف القرداحة، دعمها حركة “التحرّر الوطني” وانضمامها إلى المجلس العسكري السوري، ما أسفر عن حرائق هائلة في منطقة التمرّد لن يخفى على أحد بالطبع منفذها.

نافل القول إنه في حقل الحاضنة العلوية الملتهب يبدو أنّ نهاية نظام الأسد تسير على إيقاع نظرية “الكلب والبرغوث”، ومفادها لسع البرغوث الكلب في أكثر من مكان من جسده، فيحكّ الكلب جلده حتى يجرحه، ومن ثم تلتهب جراحه حتى تقضي عليه.

العربي الجديد

——————————

أهمية حركة 10 آب في سورية/ راتب شعبو

بحسب بشّار الأسد، في مقابلته أخيرا مع “سكاي نيوز عربية”، على السوريين أن يدركوا أنهم على خطأ إذا قالوا إنه ورث الحكم عن أبيه. هذه وراثة في الشكل فقط. علينا أن نقتنع أن ما يفسّر هذا الانتقال في الحكم من الأب إلى ابنه نبوغ هذا الأخير، وما عرضه من كفاءات سياسية وعسكرية باهرة، في وقتٍ اعتقد الجميع أنه كان يطوّر مهارات طبية. نبوغه وكفاءاته جعلت الجيش يقفز به إلى أعلى الرتب العسكرية، وجعلت الحزب يختارُه للرئاسة رغم صغر سنّه، وجعلت “مجلس الشعب” يعدّل الدستور كي يتناسب مع عمر النابغة. لا يهم إذا كان ذلك قد اقتضى من وزير الدفاع، الشريك المخلص للوالد، أن يجمع أركان الجيش في قاعة، وأن يطلب ممن يعترض أو يتحفّظ على رئاسة الابن الملهم الخروج من أحد الأبواب التي كان يقف وراءها عساكر مأمورون بإطلاق النار على رأس كل من يخرُج من هذا الباب، كائناً من كان، ومهما كانت رتبتُه العسكرية. وهكذا، بشّار غير مدين، في وصوله إلى الرئاسة، سوى لمواهبه الفذّة التي لم يبخل بها على الشعب السوري، حتى أوصله إلى ما هو فيه من رفاهيةٍ لا يحسُده عليها أحد.

في بداية تولّي بشّار الأسد الحكم، بعد أن اختاره الناس بحرّية (الحرية بالمفهوم الأسدي أن يختار الناس من اختاره الحزب) في استفتاء جرى في صيف 2000، راح يكرّر أن الاقتصاد هو محل الاهتمام الأول، وأن المواطن يهتم بمستوى معيشته أولاً، قبل أن يهتم بالسياسة وبالديمقراطية … إلخ. بالمناسبة، أكثر من ينطق في بلاد العرب بكلمة “مواطن” هم الحكام، أي من لا تعنيهم هذه المفردة بشيء إلا بوصفها مفردة حديثة تزيّن الكلام. المواطن، هذه الكلمة التي قاتلت شعوبٌ كثيرة من أجلها، وضحّت كثيراً حتى بلغتها وكرّستها، جاءتنا نحن مجاناً، أقصد بلا قيمة، وظلت لذلك مجّانية وبلا قيمة.

المهم هو الاقتصاد والمعيشة. ألسنة النظام المعدّة لمديح كل ما يمكن أن يسوّغ إبعاد الناس عن السياسة، أو عن أن يكون لهم كلمة في تقرير مصيرهم، لم تتعب من مديح النموذج الصيني مثلاً، بدعوى التقدّم الاقتصادي للصين من دون أن تكون نظاماً ديمقراطياً. لا ينبغي لأحد أن يطرح السؤال: إذا كان التقدّم الاقتصادي هو الهدف، لماذا تمتدح هذه الألسنة الصين على أنها النموذج، ولا تمتدح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهما أكثر تقدّماً من الصين في الاقتصاد وفي غيره؟

مع ذلك، يبقى من المعقول التفكير في السؤال: أليس مستوى المعيشة أهم من الديمقراطية؟ نسبة كبيرة، إن لم تكن الكبرى، من الناس ستقول نعم، إن مستوى المعيشة هو الأهم، ولتذهب السياسة إلى الجحيم. ليس في هذه الإجابة ما يفاجئ. لكن، هل يمكن، في العصر الحديث، فصل الحياة الاقتصادية ومستوى المعيشة عن الحياة السياسية وآلية الحكم؟ وهل يمكن لحكمٍ مستبدٍّ أن يضمن حياة كريمة لمحكوميه؟ أليس شعور الناس بأن إرادتهم محترمة على المستوى السياسي ومستوى الحكم، وأن لهم كلمة في تقرير من يحكمهم، هو من ضمن مقاييس مستوى المعيشة نفسه؟ الواقع أن ما عاشه السوريون في العقد الماضي ينطوي على الإجابة. يمكن لسلطة مستبدّة أن تبني وأن تقطع شوطاً في التنمية، لكن كل ما يمكن لسلطة مستبدّة أن تبنيه يبقى معرضاً للانهيار في لحظة لا يمكن التحكم بها ولا يمكن تلافيها، هي اللحظة التي يقرر فيها الناس إمساك مصيرهم بيدهم. حين يكون دور الناس مهملاً وتكون علاقة السلطة بالشعب هي القسر والإملاء، الراجح أن تحمل لحظة الصحوة هذه الدمار، سواء على يد سلطة الاستبداد نفسها، أو على يد الفوضى التي تلي سقوط سلطة الاستبداد. يرى الجميع اليوم كيف تبخر كل التغنّي البعثي بالإنجازات و”بناء سورية الحديثة”، وكيف عادت سورية إلى زمن الفقر المدقع والمجاعات، وصارت موانئها البحرية والجوية وأصولها ومواردها مملوكة للغير ومعروضة للبيع.

اليوم، وقد أصبحت سورية في الحضيض من الناحية الاقتصادية التي كان الوريث يعتبرها الناحية الأهم وذات الأولوية على السياسة، بات جلياً لكل من يفتح عينيه أن نظام التوريث وحيازة السلطة بالقوة وتسخير الدولة لخدمة السلطة، على الضد من إرادة الناس ومصالحهم، قاد إلى تدمير كل إنجاز اقتصادي بناه السوريون، حتى وصلنا إلى أن يقترح أحد أبناء العائلة الحاكمة على السوريين العودة إلى حياة أجدادهم الزراعية، بدل أن يحتجّوا على الفقر، ويتكلموا في السياسة. هكذا إذن ينتهي السوريون بلا اقتصاد وبلا سياسة.

بعد القول: إننا نحتكر السياسة كي نطوّر الاقتصاد، فدعوا السياسة مؤقتاً، “حتى يصبح أمام كل منزل سيارة” بحسب قول شاع أنه منقول عن بشّار الأسد في السنوات الأولى من حكمه، انتقلت الطغمة الأسدية إلى القول: إننا نتفرغ لمواجهة مخاطر لا تنتهي، فدعوا جانباً الاقتصاد والسياسة معاً، وانتظروا. هكذا صار أي احتجاجٍ على التدنّي الفظيع في مستوى المعيشة، مرفوض وقد يعرّض صاحبه للأذى. وصار على الشباب السوريين أن يشكّلوا حركة سرّية باسم حيادي (حركة 10 آب)، لا لكي يطالبوا بتغيير سياسي، بل فقط لمطالبة السلطة بإعطاء تواريخ تقريبية تحدّد لهم إلى متى عليهم الانتظار. انتظار زيادة الرواتب، وإعادة الكهرباء إلى 20 ساعة في اليوم (لاحظ مراعاة عجز الدولة)، وإعادة الدعم للخبز والمحروقات، ومحاربة مصانع الكبتاغون، والإفراج عن المعتقلين السياسيين … إلخ. ويؤكّد هؤلاء الشباب: “نعيد ونكرّر نريد تواريخ فقط وليس تنفيذاً للوعود لكي لا يتم اتهامنا بالتعجيز”.

المطالب المذكورة أثقل على النظام من المطالبة بإسقاطه، ولعل هذه الحركة، على ضعفها البادي، ساهمت في دفع النظام إلى إصدار المرسوم التشريعي بزيادة الرواتب والأجور بنسبة 100%. تأتي قيمة المطالب المذكورة من أهمّيتها لعموم الناس، ومن صعوبة تعبئة قوى الأمن لقمع من يتحرّكون على أساسها. كما أن تنوّع الانتماء الاجتماعي للشباب المشاركين في الحركة، يجعل من الصعب حرق الحركة بإلباسها تهمة إسلامية. قد تكون المطالب المعاشية والحقوقية الأساسية، من دون الاقتراب من مطلب التغيير السياسي، المدخل الأنسب لتحقيق التغيير السياسي.

العربي الجديد

——————————–

عن ازدياد بؤر الاحتجاج ضد نظام الأسد/ عمر كوش

تشهد مناطق عدة في سورية يسيطر عليها نظام الأسد، منذ مدّة، حراكاً احتجاجياً يُعبر عن نفسه بطرق متعدّدة، تختلف عن بعضها باختلاف قوة القبضة الأمنية والمليشياوية التي يُخضع بواسطتها هذا النظام تلك المناطق لسيطرته، لكنها، في المجمل، باتت تشكّل بؤراً احتجاجية يزداد انتشارها وتوسّعها، فالمحتجّون في محافظتي السويداء ودرعا نظّموا في أكثر من مناسبة وقفات احتجاجية، وتجرّأوا على الخروج إلى الساحات والشوارع في مظاهرات رافضة، وهتفوا من جديد “عاشت سورية ويسقط بشار الأسد… سورية لينا وما هي لبيت الأسد”، فيما يصعُب على محتجّي مناطق الساحل السوري الخروج علناً، وبشكل جماعي، على الرغم من تزايد نقمة أعداد متزايدة منهم على نظام الأسد الذي تمادى في تجويعهم، وإيصالهم إلى أوضاع كارثية، حتى باتوا يعيشون في واقعٍ لا يُحتمل، تتساوى فيه الحياة مع الموت، بل إن بعض السوريين يفضّل الموت على العيش تحت سيطرته. لذلك ليس غريباً أن يركب سوري مراكب الموت، مجازفاً بحياته في مياه البحر المتوسط.

لم يكفّ السوريون في الداخل، منذ سنوات عديدة، عن بحث ممكنات مواجهة النظام وسبلها، وعن تأسيس حركات احتجاجٍ سلمية، يركّز بعضها على القضايا المطلبية، والدعوة إلى الإضراب العام، مثل “تجمّع أحرار حوران”، و”الحراك السلمي السوري”، وحركة “الضباط العلويين الأحرار”، وحركة “10 آب”، فيما ترفع تجمّعات أخرى سقف مطالبها، وباتت لا تخفي مطالبتها برحيل نظام الأسد. وكان لافتاً أن يخرُج أخيراً محتجّون في حي جرمانا جنوبي دمشق، وذلك لأول مرة منذ اندلاع الثورة في عام 2011، فيما أصدر محتجّون في بلدة القريا بياناً لا يعترف بسلطة الأسد، لأنها “مغتصبَة من قبل المحتل الروسي والمليشيات الإيرانية، ويلزم إنهاء خدماتها فوراً، باعتبارها مجموعة من العملاء”.

الواضح أن اتساع الاحتجاج وصل إلى المناطق الموالية للنظام وحاضنته الاجتماعية، لكن ناشطيه يعملون في الخفاء وبسرية تامة، خشية التنكيل بهم. وبالتالي، لم يرتق حراكهم بعد إلى حدّ تشكيل بؤرة فاعلة ومؤثرة. ولعل عملية التراكم المستمرّة كفيلة بذلك، حيث بدأت تتزايد أعداد أصوات أبناء الطائفة العلوية بالارتفاع في تلك المناطق، مجاهرة بتوجّعها من ممارساته، ومعترضة على سياساته القمعية. وشملت تلك الأصوات أفراداً كانوا من أشدّ المدافعين عن النظام، وفي عداد شبّيحته. والمرجّح أن يزداد عددهم، بالنظر إلى استمرار النظام وتماديه في التنصّل التام من مسؤولياته حيال أوضاعهم الكارثية، وفي اللامبالاة إزاء تجويعهم وإهانة كراماتهم، والتصرّف بكل صفاقة ووقاحة وصلتا إلى درجة مطالبتهم بمغادرة بلدهم، إن لم يكفّوا عن التذمّر والتبرّم من أفعال النظام وممارساته.

لا يتحمّل النظام أن تنضمّ بعض مناطق حاضنته إلى بؤر الحراك الأخرى، ولا حتى التقدّم بمطالب تخصّ تحسين أوضاعها المعيشية المتفاقمة، مثل رفع رواتب العاملين في القطاع العام وأجورهم، وعدم رفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية، كالخبز والمواد الغذائية، فهو لا يريد أن يظهر بمظهر من يقدّم تنازلاتٍ تحت أي نوع من الضغوط الشعبية. لذلك لا يعير آذاناً صاغية حتى للمطالبات بتوفير الكهرباء والماء، بل يصرّ على الإمعان في سياساته الرامية إلى تحميل السوريين في مناطق سيطرته ثمن الأزمة البنيوية الشاملة التي يعيشها، عبر رفع أسعار الأدوية بنسبة كبيرة، ورفع سعر الخبز، وزيادة أسعار المحروقات. والأنكى أن ذلك كله ترافق مع إعلان النظام زيادة رواتب العاملين التي أراد نهبها قبل أن تصل إليهم، بل تدهور سعر صرف الليرة السورية كثيراً أمام العملات الأجنبية، بعد إجراء بشّار الأسد مقابلة مع قناة سكاي نيوز عربية.

يشي ازدياد بؤر الحراك الاحتجاجي ضد نظام الأسد في مختلف مناطق سيطرته بأن انفجار الأوضاع فيها بات ممكناً، بالنظر إلى توفّر أسباب كثيرة قد تفضي إلى اشتعالها، خصوصاً مع ازدياد عدد الموالين له، الذين يطالبون بتغيير أحوالهم الحياتية والاقتصادية والاجتماعية. ومع تطوّر تلك المطالب إلى المستوى السياسي. ويتوقف تحوّل تلك البؤر، في مناطق جنوبي سورية والساحل السوري وريف دمشق وسواها، إلى حراكٍ فاعل على تطوير أساليب الاحتجاج وأدواته، واستثمار حالة الغضب العام في مختلف المناطق، خصوصاً في حال التآزر بين ناشطي البؤر وتنظيمهم فعاليات احتجاجية بما يروْنه مناسباً، من حيث المكان والزمان. إضافة إلى الإسناد والدعم الممكن أن يقدمه لهم ناشطون سوريون في مختلف بلدان الشتات والمهجر. ولا يتعلق الأمر بإصدار بياناتٍ وخطاباتٍ أو توجيه رسائل صوتية، فهي أدواتٌ قديمة لا تصلح للأوضاع الجديدة، بل يتعلق بإيجاد ممكناتٍ وطرقٍ جديدة، وبالافتراق عن محاولات ركب الأمواج التي تضر كثيراً، وبالابتعاد عن هيئات وتشكيلات المعارضة السورية، التي أثبتت فشلها الذريع في كل شيء يخصّ السوريين في الداخل والخارج.

يحاول النظام التقليل من حالة التذمّر السائدة، ومن ازدياد أعداد الأصوات المناهضة له، ولا يزال يعتقد أنه يسيطر على الأوضاع في كل المناطق. لذلك لا يكفّ عن الاعتماد على نهجه وعنجهيته، والتذرّع بأن الحرب لا تزال مستمرّة ضد أطراف المؤامرة الكونية، وأن حرباً وشيكة ستندلع مع الأميركيين في المنطقة الشرقية. إضافة إلى ازدياد وتيرة العمليات التي يقوم بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فيها، والمريبة بتوقيتها، خصوصاً أن هذا التنظيم سبق أن استدعاه النظام في أكثر من مناسبة، واستغله في حربه ضد السوريين، مثلما استغلّه حلفاؤه الإيرانيون والروس.

لا أحد يمكنه التكهن بما ستؤول إليه الأوضاع في سورية على المدى القريب، فربما يتمكّن من تجميد بؤر الاحتجاج التي تجاوزت السويداء ودرعا، ووصلت إلى جبلة واللاذقية وحلب ومصياف وريف دمشق. وفي المقابل، عادة ما تفاجئ الهبّات الشعبية والانتفاضات والثورات الجميع، والثورة السورية التي اندلعت في عام 2011 خير دليل على ذلك، فقد خالفت حتى تقديرات أجهزة أمن النظام المتعدّدة، وأطاحت جميع الذرائع التي حاولت بناء خصوصية سورية حيال الإذعان للاستبداد.

العربي الجديد

————————————

سورية في معطيات جديدة/ رانيا مصطفى

بات الوضع السوري على غير ما كان عليه قبل شهر؛ فلم تُفضِ إعادة مقعد النظام السوري إلى جامعة الدول العربية إلى تعويمه وتقديم المساعدات المالية له، تحت بند الإغاثة الإنسانية المعفاة من العقوبات الدولية وقانون قيصر، منذ كارثة زلزال 6 فبراير العام الحالي. تشدّد الأميركان في تحذير العرب من الغلوّ في العلاقات مع النظام السوري، مهدّدين بسلاح العقوبات، وتراجعت السعودية عن فتح سفارتها في دمشق، ولم تستقبل السفير السوري، واكتفت بتمثيل دبوماسي محدود. حسّنت واشنطن علاقاتها مع الرياض، ضمن المراجعات الجديدة لإدارة الرئيس بايدن، مدعومة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري والكونغرس ومجلس الشيوخ، لعدم ترك منطقة الشرق الأوسط للصين وروسيا، والبحث في مطالب السعودية مقابل قبولها التطبيع مع إسرائيل وتشكيل ناتو عربي مواجهٍ لإيران، ولضبط العلاقات الممكنة بين الرياض وطهران في ضوء الاتفاق الذي رعته الصين. استجلبت واشنطن أسطولاً بحرياً، وبثلاثة آلاف جندي أميركي، إلى قبالة السواحل اللبنانية، عقب اشتباكات في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، ونشرت مقاتلات من طراز إف-16 وأخرى من طراز إف-32 في الشرق الأوسط، وزادت من وجودها العسكري واهتمامها بسورية، باستقدام قوات ومعدات من العراق، بعد الاستفزازات الروسية في منتصف الشهر الماضي (يوليو/ تموز) وأواخره ضد طائرات أميركية شرق الفرات وإلحاق الأضرار بها، في انعكاس للحرب الروسية في أوكرانيا، حيث صرّحت واشنطن بأنها لن تغادر سورية.

جاء هذا التشدّد في الرفض الأميركي والغربي الواضح تجاه تعويم نظام الأسد من الأطراف العربية وغيرها في وقت ترغب فيه واشنطن في تشديد الخناق على روسيا وإيران في سورية. وعلى الرغم مما قيل عن الصفقة الأميركية – الإيرانية قبل أيام عن إطلاق طهران سراح محتجزين أميركيين مقابل إلغاء تجميد أموال لإيران، بأنه بداية لتوافق حول سورية، إلا أن حديثاً مقابلاً عن سعي أميركي لوصل منطقة التنف بشرق الفرات، واستقدام مقاتلين من فصائل الجيش الوطني في الشمال لهذا الغرض، يعني أن واشنطن تسعى إلى الضغط على طهران في المنطقة. ويعزّز ذلك تكثيف الضربات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية في سورية، خصوصا في دير الزور؛ ما دفع طهران إلى التوسّط بين النظام و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، لإقناع الأخيرة بعدم مشاركة التحالف الدولي، في حال قرّر استهداف الوجود الإيراني شرق سورية، وهو ما فشل بسبب اشتراط “قسد” اعترافاً رسمياً من النظام بالإدارة الذاتية. يزيد التقارب التركي مع الولايات المتحدة من عرقلة المساعي الروسية في سورية لتأهيل نظام الأسد. ويضاف إلى ما سبق انهيار الوضع المعيشي في الداخل، وتضخّم في الأسعار، وانخفاض قيمة الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية (الدولار يفوق 15 ألف ليرة سورية)، وغليان شعبي على وشك التفجّر في كل مناطق سيطرة النظام.

حفر كل السرد السابق عميقاً في بنية النظام السوري، المترهلة أصلاً؛ حيث ظهرت تصدّعات جديدة إلى العلن، لأشخاص موالين ومدافعين عن النظام، ويحظون بدعم أمني، يتحدّثون عن رفضهم سياسات التفقير والقبضة الأمنية المشدّدة وبيع الأراضي والمنشآت إلى روسيا وإيران. فيما قاد انسداد آفاق المستقبل إلى ظهور حركات شبابية جديدة سرّية، كحركة 10 آب، وعودة نشاط حركات سياسية قديمة كحركة الشغل المدني التي أنشئت في 2012 في الساحل السوري، وهناك بيان للضباط الأحرار يؤيدون فيه فكرة المجلس العسكري الذي يقوده العميد مناف طلاس، وكذلك نشاط ملحوظ لحزب اللواء السوري في الجنوب، وتجدّد الدعوات إلى إقامة إدارة ذاتية تشمل السويداء ودرعا، تضم قوات مكافحة الإرهاب بدعم أميركي أردني. وفي كل يوم، هناك دعوات إلى اعتصامات وإضرابات وتوزيع منشورات، وتصدر البيانات التي تهدّد وجود السلطة السورية حتى بسقف مطالبها المنخفض، مع حالة استنفار أمني غير مسبوقة مترافقة مع محاولات التهدئة، كمرسوم مضاعفة رواتب الموظفين (تلاشى تأثيرها مع رفع أسعار المحروقات والقفزات التضخمية للأسعار)، وزيارات مسؤولين أماكن التجمّعات للتهدئة، وزيادة ساعات وصل الكهرباء في مناطق محدودة ليوم أو يومين.

يواجه الحراك الداخلي المعارض تحديات عليه تجاوزها، حتى يكون مؤثراً، أهمها القدرة على استقطاب كل الشعب السوري، وأن يتجاوز المآزق التي أوقعت المعارضة السورية الشعب السوري بها، في حراكه في 2011، خصوصا الانقسام العمودي، والتطييف والأسلمة والفئوية، والتدخّل الخارجي والتسليح، وهي عناصر تسهل على النظام تجييرها لمصلحة مواجهة الحراك، وهذا يجبر تلك الحراكات على الابتعاد عن شعاراتٍ استخدمها الحراك المعارض، كشعار “إسقاط النظام” الذي بات يعني انتماءً إلى المعارضة المكرسة سياسياً وعسكرياً، والتي تؤدّي أدواراً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، هي أسوأ مما يقوم به النظام في أحيانٍ كثيرة، كالسجون والمعتقلات، وكذلك مسرحية انتخابات ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية قبل أيام. يضاف إلى ذلك ظهور أجندات خارجية في بعض التحرّكات، كتلك التي تنشط في الجنوب السوري مطالبةً بالإدارة الذاتية، وتندّد في بيانها بالسيطرة الروسية على الثروات السورية، وتقبل بسيطرة الأميركان عليها في الشرق السوري. ويتوجّب على الحركات الجديدة صياغة البرامج الواقعية ورؤيتها للحلول السياسية وكذلك الاقتصادية، لأن البرامج الحقيقية هي التي تستقطب الشعب حولها، بعد فشل انتفاضة 2011.

ليس في مقدور هذه الحركات السياسية المستجدّة، ولا تجدّد انتفاضة الشعب السوري في الداخل، إحداث تغيير سياسي في ظل الوضع السوري المركّب مع تعدّد الاحتلالات وتعدّد مناطق النفوذ. لكن الصراعات الدولية، خصوصا بين روسيا والغرب، وكذلك حالة العداء لإيران، وما استجدّ من الموقف الأميركي بزيادة الاهتمام بالشرق الأوسط، قد يقود ذلك كله إلى رغبة الغرب بمعاقبة روسيا وإيران. وهنا من الممكن أن ترجّح الاحتجاجات الداخلية الكفة باتجاه إجبار النظام السوري على القبول بالتغيير السياسي.

العربي الجديد

—————————

سوريا:هل يتسلم أبو سعدة رئاسة الحكومة إذا أفشل الاحتجاجات؟/ مصطفى محمد

مع تواصل الاحتجاجات في السويداء بالزخم ذاته منذ نحو أسبوعين، ما زالت تحركات النظام السوري بعيدة عن استخدام العنف، بسبب اختلاف هذه المدينة عن غيرها كونها معقلاً لإحدى الأقليات السورية (الدرزية)، وقمع الاحتجاجات بالقوة فيها يتعارض جذرياً مع ترويج النظام لنفسه بأنه “حامي الأقليات”.

وبعد التحركات غير المجدية من جانب النظام لاحتواء الاحتجاجات، بدأ النظام بالرهان على اختراق موقف الطبقة الدينية المتمثلة بشيوخ عقل الدروز، وتبدى ذلك من خلال إرسال محافظ ريف دمشق صفوان أبو سعدة من أبناء السويداء، إلى الشيخ يوسف جربوع، أحد مشايخ عقل الدروز الثلاثة.

وبدا من خلال الضيق الذي أشاعته تصريحات جربوع بين المحتجين، التي هاجم فيها بعض مطالب الاحتجاجات واصفاً إياها ب”النشاز” في إشارة إلى مطلب “إسقاط النظام”، أن النظام السوري نجح “جزئياً” في مسعاه.

ومع أن رد الشارع في السويداء كان واضحاً خلال الزخم الذي اتسمت به احتجاجات الأربعاء، رداً على موقف جربوع “المتأخر”، إلا أن مصادر من السويداء أكدت ل”المدن” أن موقف شيخ العقل أربك الشارع.

لكن الكاتب نورس عزيز من السويداء قلل من حظوظ نجاح مخطط النظام الهادف إلى احتواء الاحتجاجات، مؤكداً ل”المدن” أن “النظام اختار جربوع من بين بقية مشايخ العقل (حكمت الهجري، حمود حناوي)، لأنه لم يدعم أساساً مطلب إسقاط النظام، رغم تأييده لبقية المطالب وزيادته عليها مطلب معبر حدودي مع الأردن من جهة السويداء”، وقال إن “مطالب جربوع منذ بداية الاحتجاجات لم تكن عالية السقف”.

ويترك عزيز النقاش حول موقف الشيخ جربوع وتصريحاته الأخيرة جانباً، ليشير إلى معلومات قال إنه حصل عليها من مصدر موثوق في دمشق، مفادها أن النظام وعد صفوان أبو سعدة بمنصب حكومي رفيع في حال نجاحه بإفشال الحراك في السويداء.

وعلى حد تأكيده، فإنه من غير المستبعد أن يكلف أبو سعدة بمنصب رئيس حكومة النظام بدلاً من حسين عرنوس، فور نجاحه بهذه المهمة التي بدأت بلقاء الشيخ جربوع، والخروج بعده بمقطع مصور للأخير وهو يدعو إلى عدم الخروج عن “الثوابت الوطنية والجيش والرئيس” جرى تداوله على نطاق واسع.

وإلى حد كبير تتقاطع المعلومات التي كشفها عزيز مع معلومات متداولة تكشف عن مداولات حول تسليم الدروز بعض المناصب “الرفيعة” كأحد الحلول للانتهاء من الاحتجاجات، وسط ترجيحات بتوجه النظام نحو تغيير وزاري واسع.

ومن غير المستبعد بحسب قراءات كثيرة أن يعمد النظام إلى تغيير حكومي، وخاصة على خلفية اشتداد الأزمة الاقتصادية، وتدهور الوضع المعيشي، بحيث يتم تحميل مسؤولية القرارات الاقتصادية “غير المدروسة” إلى الحكومة الحالية التي يترأسها حسين عرنوس.

المدن

————————————-

السويداء ترد على الجربوع:الشعب يريد إسقاط النظام

قالت محافظة السويداء كلمتها الأربعاء في ساحة “الكرامة”، حيث تظاهر المئات وسطها مطالبين بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد رداً على بيان شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الثالث يوسف جربوع الذي أكد خلاله وقوفه إلى جانب الأسد.

وخرج مئات المحتجين في مظاهرة حاشدة في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء لليوم الحادي عشر على التوالي، ورددوا شعارات تطالب بإسقاط الأسد، كما نفّذ الأهالي في مدينة صلخد وقفة احتجاجية تؤكد على مطالبهم بالانتقال السلمي للسلطة، كذلك قام آخرون بوقفة مماثلة طالبت الأسد بالرحيل في قرية العانات جنوب السويداء.

وردّد المتظاهرون في ساحة الكرامة شعارات تطالب الأسد بالرحيل، كما أكدوا رفضهم تحويل المحافظة وسوريا إلى مصانع للمخدرات وهتفوا: “يا بشار ما بدنا تجّار.. ومصانع كبتاغون.. ما بدنا تجّار يا بشار”.

ومثّل الزخم في تظاهرات السويداء لليوم الحادي عشر على التوالي، رداً مباشراً وسريعاً على موقف الشيخ يوسف جربوع المنحاز للنظام، أكدته اللافتات المرفوعة خلالها.

وليل الثلاثاء، بثّت شبكة “السويداء24″ مقطعاً مصوراً يظهر الشيخ جربوع وهو يؤكد انحيازه إلى الأسد ضد المظاهرات الشعبية المطالبة بإسقاطه في محافظة السويداء، واصفاً تلك الأصوات ب”النشاز” خلال لقاء مع محافظ ريف دمشق صفوان أبو سعدة.

ونقلت الشبكة عن مصادر أن أبو سعدة جاء مبعوثاً من “القيادة السورية” للقاء الجربوع وعدداً من الوجهاء في السويداء، لنقل “عتب” الأسد على الحراك في المحافظة الجنوبية، زاعماً أنه يُستغل من جهات انفصالية تحرف مسار المطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية وذلك في إطار “المؤامرة الكونية” على سوريا، وفق تعبيره.

وأشارت المصادر إلى أن النظام كان مستميتاً عبر مبعوثيه لإطلاق هذه التصريحات من شخصية اعتبارية في السويداء، لا سيما بعد تأييد شيخي العقل حكمت الهجري وحمود الحناوي للمجتمع الأهلي المنتفض في السويداء، الذي يطالب بالتغيير السياسي، والخروج من المحنة التي تعيشها البلاد.

ورفع المحتجون في ساحة الكرامة الأربعاء، لافتة تطالب الجربوع بالانحياز إلى مطالب الشارع برحيل الأسد وكتبوا: “يا شيخ وقّف مع أهلك.. يا بتمثل نفسك فقط”.

يُشار إلى أن جربوع يعتبر شيخ عقل الطائفة الثالث في المحافظة، بينما الشيخ الأول هو الشيخ حكمت الهجري والثاني حمود الحناوي، والاثنان أكدا وقوفهما إلى جانب المحتجين ومطالبهم في الشارع.

في غضون ذلك، نشر صحافي من السويداء مقطعاً مصوراً يظهر إخلاء العسكريين لحاجز ظهر الجبل الموجود شرق مدينة السويداء، كما قال إن هناك أنباء عن إخلاء حواجز أخرى.

وأكدت شبكة “الراصد” المحلية إخلاء الحاجز، موضحةً أنه حصل ليل الثلاثاء، دون معرفة الأسباب، لكنها أشارت إلى أن الحاجز كان شكلياً، مرجحةً أن سبب الاخلاء هو تفادي احتجاز عناصر منه.

———————————-

كيف ستؤثر موجة الاحتجاج في الوجود الإيراني في سوريا؟/ عبدالناصر العايد

يرفع المحتجون في ساحات السويداء، شعارات واضحة مناوئة للوجود الإيراني في سوريا. ويؤكد نشطاء الساحل الذين علت أصواتهم مؤخراً عبر التسجيلات المصورة والكتابة والتحركات على الأرض، على مناهضة التحالف القائم بين النظام وإيران تحديداً. فهل يمكن أن يؤثر هذا الضغط الشعبي في الوجود الإيراني في سوريا، سواء العسكري المجسد بالمليشيات أو النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟

ما تنبيء به المواقف المعلنة والمنشورة لنشطاء الحراك الجديد في السويداء والساحل السوري، هو ان الانفصال الاجتماعي ما بين إيران والمجتمعات المحلية في هذه المناطق، واقع عجزت إيران عن اختراقه، وهي لم يكن لها حضور في كلا الموضعين. ومع تصاعد تدخلها في الشأن السوري، زادت القطيعة وتعددت أسبابها، لكن يبقى على رأسها تلك الشهية الإيرانية المفتوحة لابتلاع الجميع وإلحاقهم بها. وهي حاولت اللعب على جزئية الحفاظ على نظام الأسد ككل، بما يوحي بحفظ مصالح وامتيازات الطائفة بالنسبة للعلويين، وجزئية الحماية من “داعش” أو المتطرفين السنّة بالنسبة للدروز.

لكن الورقتين فقدتا بريقهما وجاذبيتهما بعدما تأكد لسكّان الساحل أن بقاء نظام الأسد هو الكارثة بعينها بالنسبة لهم، وليست مغنماً لهم، بل لإيران وللمحظيين من أبناء الطائفة الذين يتنعمون بالسلطة والمال. بينما اكتشف سكان السويداء أن “داعش” هو الفزاعة التي يُراد، عبر تخويفهم منها، إدخالهم في حظيرة الأسد.

ما يلوح في الأفق هو إدراك كلا الجماعتين بأن دعاوى إيران ما هي الا ذرائع وغطاء لعملية الهيمنة والإخضاع المطلق، وتجيير خبيث وخطير لمسألة الأقليات، خدمةً لمصالحها الاستراتيجية، وبالتالي قد يؤدي الحراك الحالي إلى تظهير هذه الصورة بشكل أوضح. لكن هناك خشية ايضاً من أن يوكل النظام للمليشيات الإيرانية عملية قمع المحتجين، خصوصاً في السويداء، واحتلال المنطقة وتحويلها إلى مستوطنة إيرانية، كما حدث في حمص ودير الزور وحلب.

أما على الصعيد العسكري، فيجب أن نتوقع توتراً بين المليشيات الإيرانية في الجنوب، وبين السكان المحليين وقواهم العسكرية. ومع عدم اعتقادنا بأن الأمور في السويداء ستتطور الى حالة عسكرية شاملة، إلا أن مناكفة الإيرانيين محتملة.

وقد نشهد محاولات لإيجاد صيغة إقليمية لقطع خطوط تهريب الكبتاغون بأسلوب حرب العصابات التي قد تتطور إلى إغلاق الحدود الأردنية من التنف الى درعا مروراً بالسويداء. أما في الساحل، فإن النظام قد يلجأ الى تخفيف الظهور الإيراني هناك، لعدم استفزاز السكان، وتشير معلومات متداولة إلى وجود مقرات للمليشيات الإيرانية في مناطق متعددة بطرطوس وقرب القرداحة، منها أماكن للتصنيع العسكري وقواعد للصواريخ بعيدة المدى، وهذه كلها مخابئ ستكون عرضة للانكشاف والضرب لاحقاً.

أما من الناحية الاقتصادية، فإن المحتجين يحمّلون إيران تحديداً مسؤولية ما آلت اليه ظروفهم المعيشية، سواء من خلال نهبها لمواردهم بعقود طويلة الأمد مقابل خدماتها للنظام، أو لإحجامها عن نجدتهم في هذه الظروف القاسية. ويكمن خلف هذا الخطاب، وعي عميق لاستراتيجية التجويع الإيرانية التي تسعى الى تحطيم مقاومة واستقلالية المجتمعات المحلية، وانتزاع أقصى التنازلات منها، في ظل صمت وتواطؤ من طرف قيادة النظام التي لم تعد تهتم لاحتياجات ومشاعر المناطق المنتفضة.

لكن بعيداً من تلك المناطق، تلوّح إيران اليوم بفتح معركة في شرق سوريا، لاستعادة “النفط والقمح”، وهي ربما تحاول بذلك استعادة مصداقيتها وزج المجتمعات المنتفضة في سياق حرب يطغى ضجيجها على كافة الأصوات المطلبية وما يكمن خلفها من مشاعر استياء. لكنها أيضاً يمكن أن تعمد إلى مد النظام ببعض المنح الاقتصادية، لتجاوز أزمته وتحسين صورتها لدى السكان، لكن أعطياتها ستكون بالتأكيد محدودة ومؤقتة بأثر من الضائقة الاقتصادية التي تعانيها طهران بسبب العقوبات.

ما من شك في إن قيادة الحرس الثوري الإيراني تراقب الاحتجاجات الحالية بقلق شديد، وتُعدّ خططها للتعامل معها. فالجماعات البشرية في الجنوب والساحل، والتي ظنت طهران أنها حيّدتها كلياً من الصراع على سوريا وصارت في الجيب الإيراني، تحولت فجأة الى رأس حربة في مواجهة مشروعها الامبراطوري. وهذا سيخلخل سيطرتها، القلقة أساساً، على المناطق السورية الأخرى في الشمال والغرب والشرق وحول دمشق، وعليها أن تعدّ حساباتها بشكل دقيق. فأي عمل متهور أو أرعن قد ينقلب بالفعل إلى صراع إقليمي ودولي جديد، ستخوضه إيران وحلفاؤها في سوريا مع فقدان أهم عناصر البروباغندا التي لعبت عليه سابقاً، وهو حماية الأقليات.

المدن

—————————

ملاحظات حول موجة المعارضة الجديدة في سوريا/ عبدالناصر العايد

يتصاعد التفاؤل بين جمهور السوريين، خصوصاً المعارضين في هذه المرحلة، بفضل تصاعد الاحتجاجات في مناطق سيطرة النظام وتحولها إلى حالة جماهيرية مستوطنة في السويداء، وغضب في منطقة الساحل يتفجر بصيغ فردية حادة ومباغتة في جرأتها. لكن حالة الاستبشار العاطفي يجب ألا تدفعنا لإغماض العين عن المعطيات الصلبة للواقع السوري ورفع سقف التوقعات إلى مستوى إمكانية أن يسقط ذلك النظام.

إن الحالة اليوم ليست هي ذاتها في العام 2011، عندما كانت الاحتجاجات الداخلية هي التي تقود الأحداث. وذا شئنا الدّقة فهي اليوم ليست معطى ينظر فيه بجديّة من طرف صناع القرار، وانما يجري التركيز على علاقات القوة الإقليمية والدولية في سوريا وحولها، كمحدد أساس للصراع واتجاهاته. وعليه، فإننا نستطيع أن نتفاءل بأن موجة المعارضة الجديدة التي تعلو في الداخل السوري لتلاقي الموجة الأصلية التي انطلقت قبل اكثر من عقد، ستقود إلى نوع من الإجماع الوطني على فكرة أن لا حل للمسألة السورية بوجود النظام الحالي. وهذا الإجماع يمكن أن يكون مدخلاً لاستعادة التماسك الوطني وتطويره ليستعيد الشعب السوري القدرة على تقرير مصيره، وهذا سيحتاج إلى جهود منظمة ومضنية تستغرق وقتا طويلاً.

لم يبد نظام الأسد أي رد فعل استثنائي على الاحتجاجات الحالية، ولا يكمن السبب في ما قد يظنه البعض تهيباً وحذراً من خروج تلك الظاهرة عن السيطرة فيما لو واجهها العنف أو القمع الشديد، بل يعود سبب ذلك فعلياً إلى عدم الاكتراث، إذ أن مصيره لا يحدده متمردو السويداء أو محتجو الساحل، مهما بلغت مشاعر الغضب والاستياء من الشدة والاتساع. فقناعة رأس النظام ودائرته الضيقة تستند على أن بقاءه معتمد فقط على الدعم الإيراني والروسي، وسيبقى طالما أن لهاتين الدولتين مصالح في سوريا. وإذا ما فحصنا خطاب المحتجين، سنلاحظ أنه مُعادٍ بشدّة لما وصف بالاحتلالات، وعليه من الصعب أن تقدم الظاهرة الحالية لهاتين الدولتين بدائل مقبولة أو منافسة لنظام الأسد.

ما قد يبدو أسوأ من ذلك، هو أن الاحتجاجات يمكن أن تكون أداة تساعد النظام على إدارة علاقته مع حليفيه اللذين يضيقان عليه بشدة ويحرمانه من أي هامش مناورة أو سلطة. وما قد يكون الأكثر سوءاً هو أن يتعمد هذان الحليفان استثمار هذه الأزمة وتعميقها، لانتزاع مكاسب ذهبية، عبر اتفاقيات طويل المدى تطاول سيادة البلاد ومواردها.

تلفت البنادق المرفوعة في احتجاجات السويداء، كما التهديد بالسلاح المتوافر في كل بيت في الساحل من قبل النشطاء هناك، النظر إلى خيار العسكرة، وإمكانية أن تنزلق الأمور نحوه. وهو، في تصورنا، لا يمثل، حتى إن حدث، تهديداً ذا قيمة للنظام، حتى لو افترضنا أن جزءاً من الجيش أو القوى الأمنية انشقّ، كما في أمنيات بعض المتفائلين. يجب أن نتذكر أن القوة العسكرية الضاربة في سوريا هي ليست الجيش والقوى الأمنية، بل الحرس الثوري الإيراني ومليشياته متعددة الجنسيات، و”حزب الله” وسلاح الجو الروسي، وهي كفيلة بردع أي تمرد داخلي من أي مستوى ونوع كان.

إن وجود هذه القوى العسكرية لا يحمي النظام فقط من أي ضغط داخلي، بل يمنعه أيضاً من إجراء أي إصلاح أو تغيير يمسّ بمصالح وسياسات إيران على وجه التحديد في سوريا. ولا نبالغ اإذا قلنا أن بشار الأسد لا يملك حتى حق التنحي عن السلطة، وأن الترابط الشديد بين وجوده ووجود ايران في سوريا، له وجه آخر أشد قتامة، هو أن وجود إيران ومشاريعها المستقبلية مرتبط به، ومن بين تلك المشاريع تحطيم وإخضاع الطائفة العلوية، التي ما زالت تشكل مركز قوة مستقل وناتئ في الجغرافيا السياسية السورية الممهدة. وهذا يمرّ بسحق قوة الطائفة وممارسة العنف عليها كطريق لاستتباعها وجعلها قاعدة اجتماعية لدولة الولي الفقيه، وهذا أيضاً يمكن أن تتيحه مواجهة بين الطائفة ومؤسسة النظام تسمح للمليشيات الإيرانية بالتدخل وفرض إرادتها هناك أيضاً.

إن سوق هذه الملاحظات لا يرمي إلى التقليل من أهمية الاحتجاجات في حال من الأحوال، ففيها ما لا حصر له من المعاني التي يشتهيها معظم السوريين، ومنها على سبيل المثال أنها تضع مبتدأ جماع وطني حول الموقف من نظام الأسد بوصفه الإشكالية الرئيسية في الاجتماع السوري. والكلمة المفتاحية التي ما فتئت تزداد استخداماً من قبل نشطاء موجة المعارضة الجديدة، هي أن رأس النظام “كاذب”، وهذا سيقود في النهاية إلى اعتراف الفئات التي أيدت النظام بأنها “خُدعت” على الأقل. ومن هذا الباب ربما تعبر المصالحة العتيدة لاحقاً، ونقول “ربما” و”لاحقاً”، لأن الطريق ما زال طويلاً، لكن الهمم والحماس يبدوان عاليين.

المدن

—————————————-

السويداء… شعارات مختلفة لجيل من المنتفضين الجدد/ أيمن الشوفي

استعاد المحتجون أيضاً، شعار “لا دراسة ولا تدريس حتى إسقاط الرئيس”، بالإضافة إلى شعارات دلّلت من خلال سخريتها اللاذعة على مقدار المحصلة المفزعة للخراب الاجتماعي الذي خلّفه وراءه هذا النظام، ومنها شعار “من حقي أعيش مع بابا” دلالةً على النسبة المرتفعة للمغتربين من السويداء الباحثين عن لقمة العيش خارج حدود الوطن.

الشعارات السياسية الحالية المرفوعة في السويداء جنوب سوريا ضد نظام بشار الأسد، تستطيع أن تستلقيَ إلى جوار بعضها البعض مطمئنةً بعد عبورها الآمن من منبتها البعيد، محمولةً من محطة انطلاقها الأولى عام 2011 حين اندلعت الثورة السورية ضد بشار الأسد.

كأن تلك الشعارت غَفَتْ طيلة تلك السنوات، لتعود طليقةً، وقد أفرجت عنها حناجر المتظاهرين منذ مطلع الأسبوع الماضي، حينما كانوا يلتقون معها صباحاً في ساحة الكرامة، وينشدونها كلاماً حفظه السوريون، ثم غاب عنهم، ثم عاد وصحا ملدوغاً من فجاجة اللحظة السياسية الراهنة حين أشعلت فتيلهُ مجدداً، ومنها التي تقول: “عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد” و “سوريا لينا وما هيْ لبيت الأسد” و”الشعب يريد إسقاط النظام” و”يالله ارحل يا بشار” و”أبو حافظ… ما مِن ريدك” و”بشار ولاك… ما بدنا إياك”.

لكن شعاراتٍ أخرى أطلقتها الانتفاضة الحالية في السويداء، ستكون إضافةً دلاليّةً مهمّةَ إلى سجل الشعارات التقليدية الذي تزخر به الثورة السورية، إذ هي وفي آن تجديدٌ طقسيٌّ بارعٌ طاول معالم جسد الشعارات الكلاسيكية المحفوظة بعناية داخل أدراج ذاكرة السوريين، ليحملَ مذاق السخرية حيناً، وإحساس الفكاهةِ المُرّةِ حيناً آخر.

كأن تلك الشعارت غَفَتْ طيلة تلك السنوات، لتعود طليقةً، وقد أفرجت عنها حناجر المتظاهرين منذ مطلع الأسبوع الماضي.

شعارات مبتكرة طريفة

بعض تلك الشعارات المبتكرة استهواهُ الهواء الريفيّ البعيد عن الاعتصام اليومي لساحة مركز المدينة، فجاء مصاحباً لوقفاتٍ احتجاجية مسائية لم يهدأ تكوينها بعد، كالتي واظبت قرية أمتان (40 كيلومتراً جنوب السويداء) على تدبيج محتواها بصورة يومية، فاخترع سكانها أهزوجةً طريفة، رشيقةَ الكلام واللحن، سرعان ما صارت ذات تداول واسع على منصات التواصل الاجتماعي، وفي مطلعها كلام ٌ يكنسُ أيَّ أهميةٍ محتملة، قد تحظى بها زوجة رئيس النظام السوري: “يا أسماء ما منعوزك… ضبي غراضك مع زوجك”. ثم ألحقوها بأهزوجةٍ ثانية، بكلامٍ رشيق أيضاً، وإن بلحنٍ مختلف عن سابقه، وفيها تحقيرٌ إضافي لشراهة بشار الأسد للسلطة، والتصاقهِ بها رغمَ الجحيم الذي أورثه للسوريين نتيجة تمسّكه بحكم البلاد، وفيها يقولون: “يا بشار كنّك واعي وعندك أخلاق… وأنتَ بسوريا كلها ما عاد تنطاق”.

تلك الأهزوجتان يمكن ترديدهما الآن مرّات كثيرة من دون ملل يُذكر، نسمعهما بأصوات من المقاعد الخلفية لوسائل النقل العامة، أو من شباب يقصدون باكراً ملعباً صغيراً لكرة القدم، أو من طلاب وقد خرجوا للتو من أحد المعاهد التي تقدّم دوراتِ تقوية صيفيّة، ومثلهما في ذلك مثلُ ترديد محتوى العشرات من الشعارات المكتوبة على عجالة، والمخطوطةِ فوق ألواحٍ من الكارتون بلونيه الشائعين، الأبيض والأصفر، والتي تتطرق مضامينها إلى معانٍ ساخرة، تسرقُ ضحكاتٍ مستعجِلة من أفواه يابسة أوجعتها صلافةُ الحياة وقسوتها في الداخل السوري، كذاك الشعار الذي يقول ساخراً “ارحل يا نسر العروبة”، وهو اسمٌ تعجيزيٌّ بطبيعته، لكنه راق لصانعي الدعاية السياسية لبشار الأسد.

خطّ المحتجون الشعار على الجدران كالحة اللون للمباني الحكومية، وخطّوهُ بعجالةٍ ملحوظةٍ أمام مقرّات الفرق العسكرية، وداخل أسوار المدارس والجامعات، فنسرُ العروبة هو أحدُ أسماءِ بشار الأسد الأكثر تواضعاً وبصيرة، أو ذاك الشعار الذي يقول “يسقط ابن صلاح جديد على ذمتي” في تدليل ساخر من مبتكريه إلى الشبه الكبير الذي يجمع بين بشار الأسد وصلاح جديد الذي كان صديق والده ورفيق دربه، والرجل الأقوى في سوريا وحاكمها الفعلي بين العامين 1966 و1970.

كان يمكن تلك الشعارات المتدفقة من ضفاف السخرية والتندّر أن تواصل النيل من شخص رئيس النظام، وكأنها تُجيز اللجوء إلى سردٍ موازٍ لسرديّة النظام عن انتفاضة السويداء، ووصفها بأنها بذرة انفصال تم زرعها هناك، وتتم مراقبة نموّها اليومي. فأحد تلك الشعارات كان يشير إلى ضرورة القطع مع هذه الأسرة التي سرقت السلطة في سوريا حين يقول بمحتواه “لن يحكم ابني جحش الرياضيات”، في إشارة إلى المراكز المتدنية التي كان يحتلها “حافظ جونير” خلال مشاركاته في منافسات أولمبياد الرياضيات.

تتّسع مساحة السخرية في شعارات مختلفة الدلالة والإيحاء، مثل شعار “يسقط حزب عمكن أبو مرهف” وهو حزب البعث، وأبو مرهف  هو اسم الشخصية التي جسّدت دور القياديّ البعثيّ في مسلسل “الخربة”، أو شعار “الثورة مناوبة يوم الجمعة، صباحاً ساحة الكرامة، القريّا… السويداءـ تاميكو للثورات”، وتاميكو هو اسمٌ لشركة حكومية تصنّع الدواء، وكأن الثورة في هذا الشعار أشبه ما تكون بالصيدليّة التي لن تقفل أبوابها أبداً بوجه من يريد التداوي من الذل والمهانة.

استعاد المحتجون أيضاً، شعار “لا دراسة ولا تدريس حتى إسقاط الرئيس”، بالإضافة إلى شعارات دلّلت من خلال سخريتها اللاذعة على مقدار المحصلة المفزعة للخراب الاجتماعي الذي خلّفه وراءه هذا النظام، ومنها شعار “من حقي أعيش مع بابا” دلالةً على النسبة المرتفعة للمغتربين من السويداء الباحثين عن لقمة العيش خارج حدود الوطن. أو شعار “ما بديّ اتعلم وسافر على العراق” في إشارة إلى ذاك القدر الذي يحكم مصائر معظم الشباب حين يحدد لهم العراق كقدرٍ شبه وحيد لإيجاد فرصة حياة جديدة. أو فرصة عمل فيه، أو ذاك الشعار الذي رفعته سيدة في أحد أيام الاعتصام الطويلة “لم أنجب ابني ليسافر”، وظهرت له ترجمة إنكليزية في أسفله. أو ذاك الشعار الطريف الذي رفعه طفل “ليش غلّيتوا الشيبس” في أحد احتجاجات القرى المحيطة بالسويداء.

غير أن الشعارات الساخرة المبتكرة وذات المضمون السياسي تظلُّ هي الأكثر انتشاراً ومقدرةً على انتزاع حماسة الإعجاب بها، من بينها “طوَّل حصارك، ملّت جنودك، حلّك تفهمها حلّك، ارحل ارحل بعارك” و”ثوار أحرار لنقضي على بشار” و”لا مخدرات لا مخابرات… يكفي قتل الحريات”، ثم الشعارات الساخرة المستوحاة من الأمثال الشعبية مثل “الثلم الأعوج من الثور الكبير… يا كبير” الذي رُفع مرات كثيرة في تظاهرات بلدة القريّا، وشعار “الشجرة اللي ما بتفيي على شعبها قطعها حلال” والذي رفعه متظاهرون في قرية تعارة أكثر من مرّة.

تتبُّع تلك الشعارات يقودنا دوماً إلى حقيقة أنها مرثياتٌ ساخرة تُعيد ترتيب مكوّنات الواقع على طريقتها، وربما نقله إلى مكانٍ أقلّ شقاء من تلك النسخة الحقيقية التي تطبع عليها، إذ بمقدور طفل جميل الوجه، أن يبتسم وهو جالسٌ على أكتاف والده حاملاً شعار”ارحل يا عم… خلّي عندك دم”، والده يبتسم للمتظاهرين حين يسمع ابنه يعقّب بحذاقة على الشعار، وبصوت أملس بالكاد يُسمع “بس ما عنده دم يا بابا”.

درج

—————————

ماذا  لو نفّذ الأسد مطالب حركة “10 آب”؟/ شكري الريان

البيان الاحتجاجي على الأوضاع المعيشية الذي أُطلق في مناطق سيطرة النظام، أو ما يُسمى بـ “البيئة الحاضنة”، يشير بوضوح إلى ما بات الجميع يعرفه حول الغليان هناك بسبب الظروف الكارثية التي يعيش جميع سوريي الداخل في ظلهّا الآن

“فلسطين كذبة!” قال لي محدثي الإسرائيلي الذي التقيته مصادفة في بيرن، سويسرا، منذ بضعة أسابيع. الملامح المشتركة هي ما جذبنا للحديث معاً خلال لقاء عارض ضمن نشاط ثقافي عام. كلانا ظن في البداية أن الآخر كردي (لا أدري، لم نلجأ إلى تلك “الهوية” المقموعة سياسياً بالكامل في بلادنا، على الأقل حتى وقت قريب جداً، عندما نلتقي بأحد ما “يشبهنا”!)، لأكتشف لاحقاً أنه إسرائيلي من أصل إيراني، وليكتشف أنني سوري من أصل فلسطيني- التعريف الذي قدمته لنفسي وأحدث لديه مشكلة في ما بدا بوضوح من خلال ردة فعله ما أن ذكرت كلمة “فلسطين”.  

لم أستطع تمرير عبارته الأخيرة بسهولة، فانبريت أسأله عن أبي الذي وُلد في طبريا قبل أن توجد دولة إسرائيل بعشر سنوات، وعن عائلتي التي طُردت بكامل أفرادها من حيفا، وخسرت حياة كاملة هناك بنيت بشق الأنفس وعبر عقود طويلة متواصلة، ما أن أنشئت تلك الدولة. فما كان من محدثي إلى أن لجأ إلى عبارة، بت أراها أخيراً تُستخدم فقط كستارة مرفوعة لتخبئة منظر بشع تطل عليه النافذة، أو عطب في الجدار: أنا إنسان، وكل الناس من حقهم أن يعرفوا أنفسهم بمعزل عن أية هوية ضيقة قد تحدّ من أفقهم أو من قدرتهم على التواصل بين بعضهم البعض!

للوهلة الأولى، وما أن قرأت عن حركة “10 آب” في سوريا، قفزت فوراً تلك الحادثة إلى ذهني من دون توقّع أو انتظار. في البيان، أو البيانات القليلة التي أطلقتها تلك الحركة، هناك إشارة واضحة، بل ومفصّلة، إلى الوضع المعيشي الكارثي في سوريا، ودور الدولة التي قصّرت بالكامل في حماية المواطن في ظل كارثة كهذه. بل إن تلك البيانات قد مضت أبعد من شرح الحال التي يعرفها الجميع، إلى وضع صيغة محدّدة للخروج منها تتضمن مجموعة من الشروط، صيغت على طريقة إنذار للنظام الحاكم في سوريا، إما أن يلتزم بها، أو أن الحركة ستبدأ بالعمل السلمي بالاحتجاج ضد النظام إن لم يستجب لتلك المطالب. أهم تلك الشروط كانت ثلاثة: الالتزام بتحقيق حد أدنى للدخل في سوريا لا يقل عن مئة دولار شهرياً، والالتزام بالقرار 2254 لرفع العقوبات عن سوريا والسماح بتدفق الموارد، والإفراج عن كامل المعتقلين السياسيين.

خطر لي وأنا أقرأ تلك المطالب، أو الشروط، أن الأسد لو التزم بها فعلاً (لنفترض جدلاً) فهل هذا يعني أنه سيعود رئيساً شرعياً لسوريا، وأن نظامه المفترس، سيصبح بهذا “دولة لجميع السوريين”؟!، ثم ماذا عن السنوات الـ11 الماضية التي كانت بكاملها مسلسلاً مستمراً ووحشياً من الإبادة الجماعية لعموم السوريين وتدمير وطنهم وسبل عيشهم بالكامل؟! ماذا عن مئات آلاف الضحايا في أقبية السجون وتحت أنقاض منازلهم التي دمرتها براميل النظام وصواريخه؟!

البيان الذي أُطلق في مناطق سيطرة النظام، أو ما يُسمى بـ “البيئة الحاضنة”، يشير بوضوح إلى ما بات الجميع يعرفه حول الغليان هناك بسبب تلك الظروف الكارثية التي يعيش جميع سوريي الداخل في ظلهّا الآن. وهو أمر كان يجب توقعه، وبمعزل عن كل الجرائم الموصوفة أعلاه، وبمعزل عن المركب الأمني العسكري الذي يشكل جوهر النظام كله، في ظل إدارة، اقتصادية وخدمية، كانت في كل الأحوال تعتمد على مبدأ الولاء قبل أي شيء آخر. وبالتالي فإن الكفاءة، إن وجدت، كانت آخر هموم تلك الإدارة، هذا إن لم تكن عامل تهديد، من جهة الكفؤ، بحيث يتم استبعاد هذا العامل على الفور. النتيجة، أن البلاد استمرت، ضمن ظروف الحدود الدنيا، وبتراجع مستمر على الصعد الاقتصادية والمعيشية كافة، منذ عشية سيطرة البعث على السلطة، لتصل تلك السيطرة إلى ذروتها بالانقلاب الأسدي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970.

خلال تلك العقود الطويلة، كان التدهور هو السمة الغالبة لأوجه حياة السوريين كافة، الذين عاشوا، في غالبيتهم الكاسحة، على حدود الكفاف، محاولين بما يشبه الاستحالة تأمين سبل عيشهم كيفما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وعلى رغم هذا العسر والضنك كله، إلا أن أولئك السوريين، وبمختلف طبقاتهم الاجتماعية، كانوا المولد الوحيد للقيمة المضافة التي كان النظام يسحبها من بين أيديهم عبر فرض مختلف أنواع الضرائب المباشرة وغير المباشرة، والتي جعلت أساسيات الحياة حلماً صعب المنال في نظر الغالبية الكاسحة من السوريين.

ورغم كل التحديات وكل الجهود المضنية للعيش والعمل في وطن، لم يعرف السوريون سواه وطناً لهم، كان التراجع هو السمة الأبرز. الى درجة أن الأسد الأب، وعندما ترك السلطة، ميتاً، كان الدولار قد تجاوز عتبة الـ45 ليرة، بعدما كان لا يتجاوز الثلاث ليرات ونصف الليرة عندما استولى على الحكم في عام 1970. أي بزيادة تتجاوز الـ13 ضعفاً. لكن هذا حصل خلال ثلاثين عاماً من حكم أسد مفترس واحد. بينما هو يحدث الآن وبمعدلات خيالية، وخلال بضعة أشهر، خلال حكم خليفته.

ما أبطأ الانهيار، ولم يستطع منعه، في ظل الأب، هو أن كل السوريين، تقريباً، بقوا في بلادهم يحاولون بكل طاقتهم العيش. وما جعل الانهيار سريعاً، في ظل الابن، هو أن أولئك السوريين، نسبة هائلة من النواة المنتجة منهم بالتحديد، توزعوا بين ثلاثة مصائر: الموت تحت التعذيب في أقبية سجون الأسد أو تحت أنقاض منازلهم، الفرار إلى دول الجوار للعيش كلاجئين في المخيمات في ظروف بتنا جميعاً نعرفها، أو الإكمال باتجاه دول تحترم حقوق الإنسان، وبالذات حقه بالحياة والعمل. وحتى أولئك الذين شاءت ظروفهم أن يبقوا في البلد، ما عادوا قادرين على العمل في البيئة نفسها التي اعتادوا عليها، والتضييق يلاحقهم من كل جانب، حتى الصناعيين والتجار من بينهم. وبالتالي ما عاد هناك أحد قادر على إنتاج قيمة مضافة تعيد ورقة التوت إلى عورة المفترس.

ما زاد في الطين بلة، هو أن الأسد الابن، قد حوّل البلد بكاملها إلى قاعدة لإنتاج الكبتاغون وتوزيعه في المنطقة والعالم كله. وهذا ما جعله يحقق عائدات، له ولدائرة محدودة من مواليه، وليس لنظامه، ولا حتى لقاعدة مواليه، تُحسب بعشرات مليارات الدولارات. هذه العائدات التي لم يُستخدم منها شيء على الإطلاق داخل البلاد، إلا لجعل الهوة بين أثرياء الحرب في سوريا، وبقية المواطنين، بما فيها قاعدة النظام الاجتماعية، تتسع أكثر وأكثر بشكل بات فيه الفحش نفسه كلمة عادية لتوصيف الحال.

إن أضفنا إلى الصورة أعلاه، واقع أن سوريا، كجغرافيا، ما عادت هي سوريا التي نعرفها، وأننا فعلياً بتنا أمام ثلاث سوريات على الأقل: المناطق الخاضعة لسيطرة قسد، وتلك الخاضعة لسيطرة الفصائل الموالية لتركيا، والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وفيها مساحات شاسعة (تلك الغنية بالواردات تحديداً) صارت إيرانية أو روسية بالكامل، فإننا سنجد أنفسنا أمام خطاب لا يتوجه إلى أحد. على اعتبار أن النظام نفسه، العنوان الرئيسي الموجه له هذا الخطاب، غير معني بالمطلق بكامل تفاصيله، باستثناء أولئك الذين أطلقوه، بحيث يحوّلهم إلى عبرة للجميع، على جاري عادته.

إضافة شرطي إخلاء سبيل جميع المعتقلين السياسيين، والالتزام بالقرار الأممي 2254، لن يفعلاً شيئاً في إضافة زخم “سوري” ما الى تلك الحركة، وخارج مناطق سيطرة النظام، إذ إن السنوات الـ12 الماضية تحتاج إلى “شجاعة” من نوع مختلف تتناول مواضيع أكثر جدية وعمقاً وإيلاماً لجميع السوريين، وتسميتها بأسمائها الصحيحة كمثل: ثورة حرية وكرامة، مجازر جماعية، تسليم جميع المرتكبين إلى العدالة لمحاكمتهم، مصالحة قائمة على العدالة…. وهذا غيض من فيض من عناوين لا تزال، رغم أنهار الدم، موضع خلاف، لن تنجح جميع أنواع الستائر في تغطيتها.

بالعودة إلى ستارة صديقي الإسرائيلي، فإن السؤال الذي أرقني أكثر من غيره وأنا أغادر عائدا إًلى بيتي، كان: ماذا لو لم يكن الرجل يحاول تغطية عطب في الجدار؟! ماذا لو كان يعتقد، فعلاً، بأن فلسطين كذبة؟! هذه مصيبة تستلزم ألا نكف عن محاولة قول الحقيقة إلى النهاية، حتى لو هُزمنا، ونحن فعلاً، فلسطينيون وسوريون، وبالمعنى السياسي والعسكري، قد هُزمنا وشبعنا. ولكن هذا لا يلغي أننا أصحاب حق وأن كلمة الحق تلك هي آخر ما نمتلكه ولا يجب أن نستغني عنه… إن لم نفعل هذا سنكون قد هزمنا تماماً.

درج

——————————-

انتفاضة السويداء والساحل”… مسمار أخير لنعشين / شكري الريان

لا خلاص للسوريين من الكابوس الأسدي، وداعميه الجدد، من دون تحقيق حد أدنى من إجماع يتناول كل القضايا موضع الخلاف. أهمها على الإطلاق، ثورة 2011 وموقعها المركزي في الهوية السورية الجديدة، ضحاياها وشهداؤها، والأهم، الأحياء من جمهورها ومن الجمهور المقابل، ذلك الذي دعم النظام يوماً، والآخر الذي وقف على الحياد.

بعد 12 عاماً من المجزرة المتواصلة، بحق جميع السوريين من دون تمييز، تصبح إباحة الكلام ضرورية. فالكلام هو آخر ما نمتلكه… عرب، سنة، أكراد، علويون، دروز، إسماعيليون، مسيحيون، شيعة، آشوريون وتركمان. وإن أضفنا إلى الصورة أعلاه، أن حق الكلام بأي شكل قد يتضمن أي معنى من المعاني، كان محرماً طيلة العقود الأسدية العجاف، يصبح من الضروري التمسك بهذا الحق، خصوصاً بعد الثمن الهائل الذي دفعه السوريون للوصول إلى مجموعة من الحقوق، يكادون يخسرونها بالكامل للأسف، باستثناء هذا الحق بالكلام، الذي يبدو أن هناك من يريد أن يقف له بالمرصاد، حتى ولو لم يكن مجرماً أسدياً أكثر ما يخيفه في الدنيا هو الكلام نفسه.

في الكلام، هناك نوع من الـ “تعابير” التي غالباً ما تثير حفيظة المتلقي. في الحالة السورية، فإن لكلمة “الطائفة” مفعولاً انفجارياً في معظم الأحيان. مع أن كل السوريين، من دون استثناء، وطيلة عقود الحكم الأسدي، كانوا يتداولون هذه الكلمة بينهم، همساً، مشيرين من خلالها إلى تلك “الطائفة” التي تفردت بمقدرات البلاد كلها، حسب وجهة النظر السائدة، والتي لا تخلو، للإنصاف، من وجاهة بنيت على معطيات خبرها السوريون، على جلودهم، طيلة تلك العقود السوداء.

ومع أن علويي سوريا يأنفون دائماً عن تعريف أنفسهم بصفتهم “طائفة”، هذا من دون ذكر “طائفة حاكمة”، فإن بقية السوريين، من مختلف الطوائف، لم يقصروا بدورهم في التعفف من هذا “الثقل”، أي كونهم أيضاً “طوائف” (باستثناء الأكراد الذين بقوا متمسكين بهويتهم القومية، والتي، وللغرابة، لم يأخذها أي من السوريين، حاكمين ومحكومين، على محمل الجد طيلة عقود كاملة ما قبل انطلاق ثورة 2011). والآن، وبعد كل الذي حدث، صار لا بد لنا أن نسمي الأمور بأسمائها، فقط حتى يكتسب كلامنا معنى واضحاً، ويقود بالنتيجة، التي نرجوها جميعاً، إلى شيء ملموس، حقيقي وليس مجرد شعار يطُلق في الهواء؛ شيء مبني على إجماع وطني سوري، عزّ كثيراً بعد هزيمة ثورة 2011.

بعد 12 عاماً من المجزرة المتواصلة، بحق جميع السوريين من دون تمييز، تصبح إباحة الكلام ضرورية. فالكلام هو آخر ما نمتلكه… عرب، سنة، أكراد، علويون، دروز، إسماعيليون، مسيحيون، شيعة، آشوريون وتركمان.

عند الحديث عن هذا “الإجماع” المشتهى، فإننا حين نطل على المشهد اليوم، وعشية ما أطلق عليه “انتفاضة الجبل والساحل”، لا بد أن نسمع الكثير من التشكيك، حتى ولو لم نتعمد الإنصات. كتلة كبيرة من “جمهور ثورة 2011” (أي السنة تحديداً) لا يستطيعون الثقة بتلك الانتفاضة الجديدة. ولأن المجال أضيق من استعراض لردود الفعل تلك، والتي باتت معروفة جداً عبر السوشال ميديا السورية، فإنه من الأنسب التوجه مباشرة إلى جوهر المشكلة: في سوريا الآن، وبحسب وجهة النظر التي يحاول المنتفضون أن يقدموها، يوجد معسكران، معسكر المنتفضين ضد الأسد (يفترض أنهم عموم السوريين)، ومعسكر المؤيدين له والذين يريدون لنظامه البقاء (يفترض أنهم من القلة القليلة المستفيدة من بقاء نظامه).

 في هذه المواجهة، يحاول الطرف الأول أن يدق مسماراً أخيراً في نعش هذا النظام الفاسد المتعفن. على الطرف الآخر، فإن الملتفّين حول الأسد يحاولون أن يدقوا هذا المسمار في نعش سوريا نفسها. فأي من الطرفين يمتلك فعلاً مقومات النصر؟

من ينظر إلى ما يحدث في سوريا الآن، بصفته مرحلة ما من صراع طويل ضد النظام الاستبدادي، فإنه ببساطة يرتكب خطأ كبيراً. إذ بعد كل هذا الدمار، في البنيان والمجتمع وسبل العيش مع مقوماته المشتركة بين الجميع، يصبح الحديث عن أي “ثورة” أو “انتفاضة” جديدة بمثابة رهان على ما تبقى لنا جميعاً من فكرة، كائنة ما كانت مبهمة، حول سوريا واحدة قد تجمعنا مرة أخرى في يوم من الأيام. هذا بالضبط ما هو على المحك في سوريا الآن. غير هذا، سنكون كمن يتسلّى بالفرجة، أو يريد أن يسجل مواقف يضيفها إلى صفحته على السوشال ميديا، لا أكثر.

من ناحيتي، وبما أنني بدأت مطالباً بإباحة الكلام، بعد هذه التضحيات كلها، فإنني من جهتي أسجل ما يلي: “لا أثق بالتحرك الذي بدأ بالسويداء، أو في الساحل. لدي، وألوف غيري من جمهور ثورة 2011، وأنا لا أدّعي تمثيلهم أو الكلام باسمهم، ولكن ما قرأته حتى الآن وما سمعته وما ناقشته مباشرة مع غيري، يقول بوضوح إن أسئلة كثيرة طرحناها لم نحصل على إجابات شافية عنها حتى اللحظة. لذلك أرجو ألا ألام عندما أقول، أتحدث عن نفسي الآن، بأنني لا أثق بهذا التحرك، لا بدوافعه، ولا بغاياته، ولا حتى بجدارته في إحداث ولو  تغير طفيف في المشهد السياسي السوري، باستثناء، وفيما يخص السويداء تحديداً، ذلك المعبر المباشر مع الأردن، الذي يبدو أن مشيخة العقل هناك مستعدة لبذل الغالي والرخيص للوصول إليه”.

الرطانة الثقافية السورية المعاصرة، بنزعتها شديدة التطهر، تمنعنا من الحديث عن نوايا، فهذا يقود إلى الكفر الصريح: “نظرية مؤامرة ما لاطية عند مفترق الطريق تنتظر أبله جديداً ليتبناها… “، حسنا… ولكن، إن لم تفلح كل الخيبات التي منينا بها خلال تاريخنا المعاصر كله، ومئات ألوف الضحايا الأبرياء، قبل وخلال وبعد ثورة 2011 (ضحايا مجزرة الكيماوي في الغوطة عينة، المجزرة التي حلت ذكراها العاشرة قبل بضعة أيام من دون أن يلتفت إليها ولو بلافتة يتيمة أي من “ثوار” السويداء أو بلفتة في أي فيديو من فيديوهات “ثوار” الساحل)، إن لم يفلح ذلك كله في إقناعنا بأن هناك فعلاً شيئاً مخفياً، “نية” تجاه ثورة 2011 وجمهورها، لم يتم الإعلان عنها صراحة، فماذا يمكن أن يقنعنا بعد؟!.

الجميع يلعن اتفاق العار الذي كان هو المسخ الوحيد الذي ولد من غضبة المجتمع الدولي، تقوده أميركا أوباما، بسبب استخدام الكيماوي ضد المدنيين الأبرياء في 21 آب/ أغسطس 2013… حسناً، شكراً لتعاطفكم… ولكن أليست هذه بحد ذاتها مؤامرة وبالبنط العريض؟! لم نلبث أن اكتشفنا، وبعد بضعة أسابيع فقط من المجزرة، أنه قد تم بيع سوريا كلها لإيران خلال اجتماعات سرية في عُمان بين الأميركيين والإيرانيين، حتى قبل أن يطلق بشار الأسد أشد أسلحته فتكاً تجاه السوريين.

وها نحن، وبعد عشرة أعوام من تلك المؤامرة (لا اسم آخر يناسبها)، نعود مرة أخرى لنمنع الناس من الكلام، وعن أكثر مخاوفهم حضوراً وهيمنة على كل شيء، بما فيها مصيرهم الذي صار أشد السواد كلحاً عاجزاً عن التعبير عما يمكن أن يصل إليه.

هنا، تصبح الصورة أشد تعقيداً من تلك المذكورة أعلاه، إذ إن الطرف الذي يريد دق المسمار الأخير في نعش الأسد ونظامه (الأسد الصغير كالأسد الكبير، لن يغادر الحكم إلا ميتاً بالمناسبة)، ليس طرفاً واحداً، بل هو أطراف عدة، لا يجمعها شيء ملموس حتى الآن سوى بضعة أهازيج لا أكثر!

لا يمكن إنكار ما يعنيه سقوط النظام الاستبدادي من رمزية هائلة لجميع السوريين من دون استثناء. بل يمكن أيضاً إضافة فائدة عملية ملحة جداً لقطاع كبير جداً منهم: إمكان العودة إلى بلادهم، ولو حتى كزائرين، من دون خوف من إلقاء القبض عليهم. هذا طبعاً من دون ذكر إمكان التواصل المفتوح بين من بنوا لأنفسهم حياة كاملة جديدة في المهاجر (أوروبا وأميركا)، وبين أهلهم وأصدقائهم الذين بقوا في البلاد، وما يعنيه هذا من فوائد حقيقية ملموسة لتحسين أحوال العالقين في سوريا، من دون اعتبارهم رهائن، كما يعاملهم النظام الآن مقتطعاً لنفسه جزءاً كبيراً من مساعدات المغتربين.

الحق، أن الجميع مستفيدون هنا من دون أي ريب، حتى ولو كان الأسد مجرد موظف عند أسياده الذين حافظوا على بقاء نظامه فوق أنفاسنا جميعاً: الإيرانيون والروس. لكن مع ذلك، تبقى هناك مشكلة كبيرة: من قام بتهجير ثلث الشعب السوري، وقتل مئات الألوف منه، وتدمير البنيان بشكل يكاد يكون كاملاً، هل يمكن ألا يعيد الكرة مرة أخرى لضمان بقاء النظام الذي يمثل مصالحه الآن؟ طبعاً، أتحدث عن الإيرانيين والروس أصحاب القرار الفعلي في سوريا الأسد الآن.

 يكفي التذكير فقط بمصير الثورتين العراقية واللبنانية، لنعرف بالضبط عما نتحدث، فالثائرون في العراق ولبنان كانوا فقط في مواجهة إيران وميليشياتها، فكيف سيصبح حال السوريين وهم يواجهون احتلالاً مزدوجاً، إيرانياً وروسياً على حد سواء؟!

بالعودة إلى حديث “النوايا”، كنت أتحدث مع صديقة عزيزة منذ بضعة أيام، وذكرت لها مخاوفي كاملة، فكانت إجابتها “وين المشكلة إذا كان في حدا بده معبر مع الأردن ليضمن تحسين شروط حياته… وين المشكلة إن في ناس ماتت من القهر بالساحل وصار بدها تخلص من ظلم النظام اللي ضحى بأولادهن ولسه عم يمص دمهم لآخر نقطة؟!، من حق الناس تحكي عن تخوفاتها، ومن حق الكل يحكي كمان عن مصالحه وعن اللي بده ياه… بغير هيك مستحيل نقدر نحكي مع بعض كبشر حقيقيين…”.

الحق أن إجابتها بقدر ما صدمتني، بقدر ما فتحت أمامي أفقاً لتفكير مختلف من دون “نوايا” مخفية، ومن الجميع تجاه الجميع.

لا خلاص للسوريين من الكابوس الأسدي، وداعميه الجدد، من دون تحقيق حد أدنى من إجماع يتناول كل القضايا موضع الخلاف. أهمها على الإطلاق، ثورة 2011 وموقعها المركزي في الهوية السورية الجديدة، ضحاياها وشهداؤها، والأهم، الأحياء من جمهورها ومن الجمهور المقابل، ذلك الذي دعم النظام يوماً، والآخر الذي وقف على الحياد.

من دون كلام صريح وواضح، نحن وحدنا من يمتلك الحق في إباحته وفي قوله، لن نصل إلى أية نتيجة. وهذا يجب أن يبدأ الآن، ومن السؤال عن كل شيء، بدءاً بالعلم واللافتات المرفوعة، وصولاً إلى كل الذين يمكن مخاطبتهم، والذين لهم مصلحة حقيقية في زوال الحكم الأسدي المتهالك (ماذا عن الأكراد السوريين بالمناسبة؟! لمَ هم مستبعدون وكأنهم يقيمون على كوكب آخر؟!). من دون هذا لن نصل إلى أي نتيجة سوى تلك المتعلقة بذلك المسمار الأخير الذي سيُدقّ في نعش وطننا، عوضاً عن نعش الجلاد. ويفضّل أن نقوم بهذا بأنفسنا، أقله لن نمنح لشبيحة الأسد شرف القيام بهذا العمل.

درج

——————————

سوريا أمام تحدي الانهيار!/ فايز سارة

تبدو صورة سوريا في أغسطس (آب) 2023، الأشد قتامة منذ بداية الثورة السورية في مارس (آذار) 2011، وتتشارك في صنع قتامة الصورة، عوامل داخلية وخارجية، قلما اجتمعت فيها صراعات القوى الداخلية/ الخارجية في سوريا وحولها، مما يجعل الصورة أشد تعقيداً من أي وقت مضى، ويجعل معالجتها أو الخروج منها أصعب بكثير، مما كان يحيط بفكرة حل أو معالجة القضية السورية في السابق. تتبدى أبرز العوامل الخارجية في استمرار غياب الإرادة الدولية بالوصول إلى حل، والأسوأ أن الأمر يترافق مع غياب الحديث عن حل ما، بل إن المبادرات التي ظهرت في العام الماضي انكفأت، وثمة مؤشر آخر، لا يقل أهمية، تمثله تحشيدات عسكرية، تعزز احتمال صدامات عسكرية في شرق سوريا، تقودها الولايات المتحدة لإغلاق ممر الحدود المفتوحة بين العراق وسوريا الذي تسيطر عليه إيران والميليشيات التابعة لها، والمؤشر الثالث المهم، هو البدء بصياغة علاقات جديدة للقوى الخارجية/الداخلية، ومنها تقارب أميركي – تركي، لا تتخلى فيه واشنطن عن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرق الفرات، ولا تتنازل تركيا عن أدواتها في مناطق سيطرتها في غرب الفرات، بل تدفع مسلحين من الجيش الوطني التابع لها للانضمام لقوات يمكن أن تقاتل الميليشيات الإيرانية بقيادة أميركية لإغلاق ممر العبور الإيراني في شرق سوريا. ورغم أهمية العوامل السابقة، فإن للتطورات الداخلية التأثير الأكبر في تبدلات الوضع السوري، خاصة في مناطق سيطرة النظام السوري ومنها الساحل الذي يعتبره البعض (حاضنة النظام) وفي الجنوب السوري (درعا والسويداء)، وبين الاثنتين جاءت دمشق، التي تشهد انسحاب نخبتها الاقتصادية من المشهد نزوحاً وهجرة نحو بلدان أخرى. ومدخل الرؤية الأهم في التطورات الداخلية الأخيرة، يبدأ من العودة إلى جوهر سياسة النظام السوري، والتي كرسها العقد الماضي في محاور؛ أولها تشديد قبضة النظام الأمنية في مناطق سيطرته، وتصعيدها في مناطق انتشار الموالين، والثاني رفض تقديم أي تنازلات خارج إطار الحليفين الإيراني والروسي، والثالث الحصول بأي صورة كانت على مزيد من الأموال، شاملاً في ذلك إنتاج وتجارة الكبتاغون، وتخصيص شركات الدولة، وبيعها لمؤيديه، وفرض الإتاوات والخاوات على رجال المال والأعمال، ومصادرة ممتلكاتهم من دون أن يستثني الأقرباء والمقربين، وزيادة الضرائب والرسوم، وأنه لم يتخذ أي خطوات لخفض قيمة العملة السورية، التي كانت تعني انهياراً في مداخيل العاملين، مما يكرسهم عبيداً ضعفاء، يعجزون عن توفير حد أدنى من احتياجات العيش، والعجز عن المطالبة بحقوقهم. وسط تواصل سياسته وفي ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعاشية لأغلب السوريين الذين فاقت نسبة الفقر في صفوفه الـ90 في المائة، قامت الحكومة برفع الأجور إلى الضعفين، وأتبعته بقرار رفع الدعم عن الوقود، فارتفعت وتضاعفت أسعار السلع والخدمات، ووصل بعضها إلى ثلاثة أضعاف، مما دفع مناطق سيطرة النظام إلى الأعمق في كارثتها الاقتصادية والمعيشية والإنسانية. وباستثناء أجواء اليأس والإحباط التي عمت مناطق سيطرة النظام، فقد أنتجت التطورات، نوعين من التحركات؛ أولهما تحركات قطاعية بينها تحركات سياسية، وأخرى اقتصادية، فيما كان النوع الثاني من التحركات عاماً، شمل مناطق ومدناً وقرى، وقد تشاركت في النوعين وتداخلت عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية – معيشية. إن الأهم في تحركات النوع الأول، جاء من أوساط رجال الأعمال والتجار في دمشق الذين سكتوا طويلاً وسايروا النظام، كما هو معروف، لكنهم لم يعودوا يحتملون صعوبات العمل وظروفه، وسياسة النهب والضغوطات عليهم، وضعف القدرة الشرائية، وكلها دفعتهم إلى تصفية أعمالهم وبيع ممتلكاتهم، والهجرة نحو بلدان أخرى لبداية حياة جديدة، وهذا تكرار لما أصاب رجال مال وتجار حلب في العامين الماضيين، ودفع مئات منهم للهجرة، وقد اشترى أثرياء الحرب ممتلكاتهم، وهو أمر بدأ يتكرر في دمشق. أما النوع الثاني من التحركات العامة فكان تحرك الجنوب السوري في محافظتي درعا، التي توصف بأنها مهد ثورة عام 2011، والسويداء التي تشكل المعقل الرئيس لأبناء الطائفة الدرزية في سوريا، وفيها طرحت فكرة الإضراب العام، وقطع الطرق، وتم تنظيم مظاهرات غلب عليها طابع المطالب الاجتماعية المعيشية مقارنة بالمطالب السياسية، بخلاف المطالب في جارتها درعا، التي ركزت على المطالب السياسية، وإلى جانبها مطالب اجتماعية معيشية، وفي الحالتين عكست تحركات الجنوب نهوضاً شعبياً ضاغطاً، ليس لمعالجة الأوضاع المتردية ولا سيما المعيشية، بل من أجل حل شامل في سوريا. لقد كشف مسار النوع الثاني من التحركات العامة، إضافة إلى التململ العام، ظاهرة تزايد أعداد الناقدين والمعارضين في الساحل السوري من المقيمين في سوريا وفي الشتات، وأغلبهم مقربون من النظام، وقد تجاوزت تصريحاتهم في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي الحديث عن الظروف المعيشية السيئة، وتحميل النظام المسؤولية عنها، بل التشهير بسياسات النظام، وممارسات قيادته، والتي أدت إلى خراب سوري شامل. وسط حشد من التطورات والتحركات الجارية، يمكن القول إن سوريا في لحظة احتدام بين مسار يذهب نحو انهيار شامل، نظراً لسياسات النظام ورفضه الحلول، ومسار يسعى إلى وقف الانهيار، تمثله حركة فئات وقطاعات من السوريين عبر إجراءات توقف التدهور، وتفتح الأبواب نحو حل شامل، وما لم يجر الالتفات إلى الوضع الحالي، فيتم الضغط على النظام، ودعم ومساندة الحراك ومساندته في المستويين الداخلي والخارجي، فإن كارثة الانهيار باتت شبه مؤكدة، وسوف تترك ظلالها القاسية على المنطقة.

الشرق الأوسط

————————-

انتفاضة السويداء ومراتب الصمت/ سامر أبوهواش

تراودني رغبة في أن أهتف تأييدا لأهل السويداء المنتفضين ومعهم أهالي مناطق سورية أخرى تجدّدت روح التمرّد فيهم، إن كانت قد خمدت أصلا. أتردّد ثم أختار الصمت. لم أعد قادرا حتى على التعبير عن مشاعر الدعم والابتهاج بمظاهر الاحتجاج المدني السلمي الذي يمارسه أهل جبل الدروز. ألمح مقاطع فيديو لتلك الاحتجاجات. أرى نساء ورجالا، شبابا وأطفالا من الجنسين، يظهرون جميعا كاشفي الوجوه. شيء يفوق الشجاعة بعد المذبحة الفظيعة التي شهدتها سوريا. أرغب في أن أمدّ يدي وأغطي وجوههم، لعلني أحميهم من مصير رأيته يقع لغيرهم في ساحات وميادين أخرى، في سوريا وخارجها. أشهق في داخلي من تلك الشجاعة. يقول لي صديق إنها شجاعة اليأس. لم يعد لدى السوريين ما يخسرونه. لكنْ، ألم تكن تلك الحال قبل عشر سنوات؟ ألم يكن اليأس هو الشرارة الأولى؟ أليس دائما؟ ألم توصلنا فظاعة القتل والتعذيب والأسر والإهانات التي لا يتصوّرها عقل، إلى أن نقول يا ليت هذا لم يكن.

يظلّ السؤال المؤرق: هل نصفّق لهؤلاء المنتفضين؟ هل نشاركهم عن بعد حماستهم؟ هل نردّد معهم شعاراتهم؟ هل نمتلك، من مواقعنا وأماكننا الآمنة، الحقّ الأخلاقي في ذلك؟ وفي الوقت نفسه، هل لدينا الحقّ الأخلاقي في الصمت؟ ألا تحمل عبارة “صمت العالم” التي قيلت وتقال عند كلّ مذبحة وكلّ قهر، إدانة صميمة لكلّ من لا يتعاطف مع الضحايا والمظلومين، ولو بأضعف الأيمان؟

أعادت انتفاضة السوريين المتجدّدة، طرح الأسئلة المؤرقة. كنا قد استكنّا للأمر الواقع، ولسياسات الأمر الواقع، ولنظرية أن النظام انتصر في نهاية المطاف، بتنا نردّدها بدم بارد، وعقول باردة، وقلوب باردة، لأن شلال الدم بلغ الحلوق، وأخرس الكلمات في الحناجر، والمشاعر في الصدور. أحسب أن ما وقع في سوريا، ولسوريا وأهلها، رفع خيمة الصمت الهائلة في أرجاء كثيرة من العالم، وصبّها خرسانة صلدة في القلوب. لا نريد مزيدا من الألم. لا نريد مزيدا من الموت. تعبنا. لكن أليس هذا ما فعله السوريون البارحة، وما يفعلونه اليوم؟ أليس هذا كنه صرختهم وجوهرها منذ اللحظة الأولى: لا نريد مزيدا من الألم. لا نريد مزيدا من الموت. ومع هاتين الصرختين، أمس واليوم: لا نريد مزيدا من الذل والمهانة. ألم نردّد جميعا منذ نعومة أظفارنا “وإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى”، و”للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق” و”من يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر”… إلخ. أكانت هذه الكلمات مجرد كلمات؟ أنحن أجيال من الأشعار والشعارات؟ أكانت رواية منطقتنا برمتها عن التطلع إلى الحرية والكرامة والازدهار، محض كذبة في الكتب المدرسيّة، صدّقناها في غفلة منا، وحين ارتطمت في الواقع تخلصنا منها مثلما يتخلص المرء من عادة سيئة؟

الأمثولة نفسها في العراق، وفي لبنان، وفي فلسطين… تعدّدت الأسباب والظلم واحد. ورأينا “أفضل أبناء جيلنا” كما يقول غينسبرغ في قصيدته الشهيرة، يطحنون طحنا ويمزّقون أشلاء، ومن لم يمت رأيناه يفقد عينا أو يدا أو رجلا أو يختفي في ظلمة السجون، ليخرج، إن خرج، مدمّرا خاليا من كلّ شيء.

في النهاية صرنا نلوم الضحايا. إن لم تكونوا قادرين على النصر في النهاية، فلماذا بدأتم أساسا؟ وللمهاجر بحرا صرنا نقول: إن كنت ستغرق فلماذا تركب البحر؟ مريرة كانت الوقائع، وساحقة كانت النتائج، حتى صار الواحد منا يشكّ عميقا في كلّ اقتناع سابق لديه. بل صرنا في سرّنا، نعجب بأولئك السفّاحين القادرين دوما على النجاة بفظائعهم. لا بدّ أن للتاريخ قوّة تفوق قدرتنا على الفهم. لا بدّ أننا أسأنا فهم السماء.

اخترت الصمت، لأنني إذ رأيت “الجنديّ” يرمي بقدمه الضحايا المحجوبة عيونهم، في حفرة الموت، ولم يحدث شيء بعدئذ، كما لم يحدث شيء حين قتل الآلاف بالأسلحة الكيميائية، ولا بالبراميل المتفجّرة، ولا حين أهين الرجل أمام زوجته، وأهينت الأم أمام أبنائها، وقتل الأبناء أمام ذويهم، رأيت وجه الجحيم الحقيقي: إنه العجز عن فعل شيء في وجه الظلم. هذه جحيم جيل بأكمله، بصرف النظر عن مكانه في السياسة، أو موقعه في الجغرافيا.

اليوم عادوا. أطلّوا مجدّدا بوجوههم العارية وأصواتهم الواضحة وأسمائهم المعروفة. كيف يحصل ذلك؟ لا أحد يعرف. يقول بعضهم إنه اليأس. لا بدّ من أنه اليأس، مضروبا هذه المرّة بأضعاف مضاعفة. وهو الحسّ الغريزي بالكرامة الإنسانية. ولا بدّ أنه الظلم الذي تراكم وتضخّم حتى بلغ مستويات أسطورية. لكنّ المختلف هذه المرّة أن أولئك الذين يطلّون بوجوههم العارية ما عادوا ينتظرون العالم. ليس مهما أن يتعاطف أحد أو لا يتعاطف. ليست الكلمات مهمة ولا الأشعار. هم يعرفون أن جميع الكلمات، عدا كلماتهم، فارغة، وجميع المواقف، عدا مواقفهم، فاقدة المعنى الإنساني والأخلاقي وحتى السياسي.

ما يقوله السوريون هذه المرة أنهم ليسوا طوائف، ولا أحزابا، ولا حتى اتجاهات فكرية وعقائدية وسياسية، لكنهم “شعب” و”الشعب يريد إسقاط النظام”، والأبلغ من ذلك كله أنهم لا ينتظرون شيئا من أحد، وأن كلّ الدعم الذي يحتاجون إليه هو أن يكونوا شعبا واحدا موحدا يبني وطنا، وليس وطنا تنتحب فوق أشلائه شرذمة من الشعوب.

المجلة

———————————-

الشعب يريد…/ عالية منصور

وكأن 13 عاما لم تغير شيئا. الشعب يريد في عام 2023 ما أراده في عام 2011. وما بينهما هو أكثر من نصف مليون قتيل. أكثر من نصف الشعب صار مهجرا بين لاجئ ونازح، أكثر من مئة ألف معتقل ومغيب قسريا، وعشرات الميليشيات الطائفية والاحتلالات الأجنبية، ومع ذلك لا زال الشعب يريد…

ما بين درعا 2011 والسويداء 2023 بضعة أمتار لا أكثر، والكثير الكثير من المآسي والتجارب. السويداء 2023 لم تخرج مظاهرات ضد النظام السوري فحسب، فالسويداء لطالما خرجت وتظاهرت وانقسمت كغيرها من المدن بين مؤيد ومعارض وقدمت الشهداء، ولكن ما حصل في الأسبوع الأخير في سوريا هو وأد لنظرية ظل نظام الأسد يعتاش عليها لعقود؛ فلا هو حامي الأقليات، ولا الأكثرية السنية تنتظر اللحظة للانقضاض على باقي مكونات الشعب السوري. خرجت السويداء، فردت لها درعا وإدلب وحلب ودير الزور والرقة التحية.

في الساحل السوري شعب يئن بسبب الفقر. أناس يأكلون فتات الخبز مغمسا بالماء، طلاب لم يتمكنوا من الذهاب لتقديم امتحاناتهم لأنهم لم يستطيعوا تدبر كلفة الطريق، كثير منهم دفع دمه دفاعا عن نظام الأسد، واستفاق اليوم ليكتشف أنه ترك وحيدا ليموت وأولاده جوعا.

خرجت الأصوات المعارضة للنظام من داخل الساحل، أصوات مرتفعة من حاضنة النظام جغرافيا وطائفيا، ولكن المفاجأة لم تكن فقط هذه الأصوات، بل أصوات باقي السوريين الذين سارعوا للترحيب بهم، هذه المرة لم يكن اسم مظاهرات يوم الجمعة “الشعب السوري واحد”، بل كان فعل السوريين بمعظم أطيافهم فعل تأكيد على وحدة الشعب السوري.

يقول الرئيس السوري إن قانون العقوبات “قيصر” ليس العائق، وفي الحقيقة ليس قانون “قيصر” سبب معاناة السوريين، بل هو وضع بسبب أحد هذه المآسي الكثيرة، وهو التعذيب حتى الموت في المعتقلات.

يشاهد السوريون، الموالون منهم قبل المعارضين، كيف أن العقوبات لم تؤثر على رفاهية حياة بضع مئات من المقربين من بشار الأسد، يرسلون أبناءهم ليتعلموا في الخارج، يقودون سيارات يكفي ثمنها لإطعام مئات من المعارضين لأيام وأسابيع، وهم غير قادرين على تأمين ثمن أبسط الاحتياجات لأولادهم.

اليوم أدرك السوريون، الموالون والمعارضون، أن مصيرهم واحد. أدركوا أن شخص بشار الأسد هو العائق أمام مستقبل أبنائهم، وهو سبب معاناتهم.

ولكن هل وحدهم السوريون من أدرك أن من تسبب بكل هذا الدمار غير قادر على أن يكون جزءا من الحل؟

من حول سوريا الوطن إلى رقم واحد في العالم في إنتاج وتصنيع الكبتاغون لا يمكن أن يكون جادا في محاربة هذه التجارة التي تدر عليه ملايين الدولارات سنويا. والمسيرات إلى الأردن، والشحنات إلى السعودية، دليل واضح على أنه لا يرغب في وقف هذه التجارة.

من حول أكثر من نصف الشعب السوري وفق إحصاءات الأمم المتحدة إلى لاجئين في العالم ودول الجوار، ونازحين داخل سوريا، لن يسمح بعودتهم، فحتى الألفا شخص الذين تحدث عنهم بيان عمان لم يعودوا، ومن يدري إن استمرت الأوضاع على ما هي عليه، وإن صدق الأسد وكرر مجددا ما فعله منذ 2011 كيف سيكون شكل الموجة الجديدة من اللاجئين.

لا يبدو إنقاذ سوريا اليوم مستحيلا، ولا يبدو إنقاذ السوريين، جميع السوريين، بالأمر الصعب، فالمطلوب اليوم من كل الأطراف، بعد أن اكتشف الجميع من غرر بهم، أن يتحركوا، المطلوب التنبه ممن قد يدخل في صفوفهم “مندسين” لخلق أحداث أمنية وطائفية، المطلوب ممن بقي من وطنيين داخل مؤسسات الدولة التحرك لإنقاذ ما بقي من دولة، والمطلوب أيضا من السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام التخلص من هياكل المعارضة التي تحولت إلى مكاتب علاقات عامة لأجهزة بعض الدول غير آبهة بما يتعرض له السوريون.

تطبيق القرار 2254 كما يطالب السوريون وكما طالب العالم، تطبيق القرار بنصه الأصلي، وليس بنسخته الروسية، هو الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها لوضع الحل في سوريا على السكة الصحيحة، هذا فقط ما سينقذ سوريا من دمار ما بقي منها، وينقذ من بقي من السوريين، وهذا وحده ما سيخلص دول الجوار من أعباء نتجت عن غياب الحل السوري..

بين 2011 و2023 الشعب يريد، ولا بد أن يستجيب القدر.

المجلة

———————————-

استمرار الاحتجاجات في السويداء والنظام السوري يخلي ثكنات وحواجز عسكرية

مظاهرات اليوم في السويداء وكذلك لإخلاء حواجز النظام هناك المصدر: حساب تويتر الخاص بـ السويداء 24 @suwayda24

تتواصل الاحتجاجات في السويداء (جنوب) سوريا منذ نحو أسبوعين، في حين أخلت قوات نظام الرئيس بشار الأسد ثكنات وحواجز عسكرية شرق وجنوب المحافظة.

وأظهرت مشاهد بثها نشطاء على مواقع التواصل تجمع عشرات المتظاهرين اليوم الأربعاء في ساحة الكرامة وسط السويداء، مطالبين بإسقاط نظام الأسد.

    #شاهد: “ارحل يا بشار مع إيران وروسيا”.. ابتكار أغنية شعبية جديدة في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء اليوم الأربعاء.#إضراب_السويداء pic.twitter.com/7rccVKDZpm

    — السويداء 24 (@suwayda24) August 30, 2023

وتأتي هذه المظاهرات استكمالا لحراك مستمر احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية.

واندلعت الاحتجاجات الأخيرة عقب قرار سلطات النظام منتصف أغسطس/آب الحالي رفع الدعم عن الوقود، في خضم أزمة اقتصادية تخنق السوريين بعد أكثر من 12 عاما من حرب مدمرة أعقبت قمعا عنيفا لمظاهرات تطالب برحيل نظام الأسد، مما تسبب في دمار هائل بالبنى التحتية وتشريد أكثر من نصف السكان وخسائر بشرية تقدر بأكثر من نصف مليون قتيل، وفق بيانات حقوقية وأممية.

وقد انطلقت الاحتجاجات الأخيرة بمحافظتي درعا والسويداء الجنوبيتين، لكن زخمها تواصل في الأخيرة ذات الغالبية الدرزية والتي تشهد منذ سنوات تحركات متقطعة احتجاجا على سوء الأوضاع المعيشية.

وخلال الأيام الماضية، رفع المتظاهرون شعارات مطالبة بـ “إسقاط النظام” مما أعاد إلى الأذهان المظاهرات غير المسبوقة التي شهدتها البلاد منتصف مارس/آذار 2011 قبل أن تتحول إلى نزاع دام مستمر حتى اليوم.

إخلاء أمني

وفي سياق متصل، أظهر مقطع فيديو بثه محتجون في السويداء إخلاء نظام الأسد حواجز وثكنات عسكرية في المحافظة.

وقال شهود إن إخلاء قوات النظام شمل حواجز في قرية الرحى شرقي المحافظة، وثكنات على طريق السويداء صلخد جنوب المحافظة، ولم تعرف حتى اللحظة الأسباب التي تقف وراء هذا الإخلاء.

    منذ اليوم الأول لاحتجاجات السويداء، التي تحوّلت إلى حالة عصيان مدني؛ انكفأت السلطات الأمنية داخل مراكزها، وسحبت عناصرها من بعض النقاط والحواجز الصغيرة، إلى ثكناتهم الرئيسية. كما غابت المظاهر الأمنية..https://t.co/zRbv4eXogs pic.twitter.com/YnF68AieHG

    — السويداء 24 (@suwayda24) August 30, 2023

وقالت مصادر محلية لمراسل الجزيرة إن هذا الإخلاء قد يكون في سياق التهديد الذي أطلقه النظام السوري -على لسان بعض مؤيديه الصحفيين- بهجمات تحضر لها خلايا تابعة لتنظيم الدولة للهجوم على السويداء.

وسبق أن نفذ تنظيم الدولة هجوما على السويداء في يونيو/تموز 2018.

ومنذ اليوم الأول لاحتجاجات السويداء، التي تحوّلت لحالة عصيان مدني، انكفأت السلطات الأمنية داخل مراكزها، وسحبت عناصرها من بعض النقاط والحواجز الصغيرة، إلى ثكناتهم الرئيسية. كما غابت المظاهر الأمنية بحسب صور بثها ناشطون.

خصوصية السويداء

وللسويداء خصوصيتها، إذ إنه طيلة سنوات النزاع تمكّن دروز سوريا، الذين يشكلون نحو 3% من السكان، إلى حد كبير من تحييد أنفسهم عن تداعياته. فلم يحملوا إجمالا السلاح ضد نظام الأسد، ولا انخرطوا في المعارضة باستثناء قلة.

وتخلّف عشرات آلاف الشبان عن التجنيد الإجباري، مستعيضين عن ذلك بحمل السلاح دفاعا عن مناطقهم فقط، في وقت غض فيه النظام الطرف عنهم.

ويوجد النظام السوري في السويداء عبر المؤسسات الرسمية، وينتشر جيشه حاليا على حواجز في محيط المحافظة، ولذلك يرى ناشطون أن نظام الأسد لن يتمكن من تحريك عناصره لقمع المحتجين في السويداء.

وقال ناشط بالمحافظة لوكالة الصحافة الفرنسية عبر الهاتف “خصوصية السويداء، وبالذات من ناحية الأقلية الدرزية وعدم وجود مراكز أمنية للنظام وعدم الالتزام بالخدمة الإلزامية، منحتها مجالا أوسع لحرية التعبير”.

وأشار إلى أن نظام الأسد بعث وسطاء سياسيين للبحث مع وجهاء السويداء في كيفية تهدئة الأمور.

ويدعم المحتجين مجموعات مسلحة محلية، بينها مجموعة تسمى “رجال الكرامة” التي تعد الأكبر في المحافظة.

وقال المتحدث باسم المجموعة أبو تيمور “نقف خلف مطالب أهلنا المحقة” مشيرا إلى مشاركة عناصر غير مسلحة من المجموعة فيها. وأضاف “لن نسمح بأي اعتداء على المظاهرات”.

وبعد أكثر من 12 عاما من الحرب تشهد سوريا أزمة اقتصادية خانقة، فاقمها زلزال مدمر في فبراير/شباط الماضي وعقوبات اقتصادية فرضتها الدول الغربية، خسرت معها العملة المحلية أكثر من 99% من قيمتها. وكثيرا ما اعتبرت دمشق هذه العقوبات سببا أساسيا للتدهور المستمر في اقتصادها.

المصدر : الجزيرة + وكالات

——————————-

عاصفة في عرين الأسد.. هل يلفظ العلويون النظام السوري؟/ ميرفت عوف

في مشهد درامي سوري، يظهر الممثل (1) باسم ياخور عائدا من عمله في حال يُرثى لها، جسد هزيل، ولون شاحب، وشعر مُشَعَّثٌ، تحاول زوجته معرفة سبب حالته، وسرعان ما تستنبط من “تأتأة” كلامه أن هناك زيادة في راتبه الحكومي، ينزل تأكيده للخبر كالصاعقة على الزوجة المثقلة بالهموم فتعجل بالعويل الذي يشاركه فيه ابنها الصبي، يثير هذا المشهد الدرامي المألوف الغرابة لكون الواقع يفرض أن يكون خبر زيادة الراتب خبرا مبهجا.

لكن بالنسبة للسوريين، تقابل زيادة الراتب الحكومي دوما بزيادة جنونية في أسعار السلع الرئيسية وتضخم مفرط ومضاعفة في المشكلات الاقتصادية القائمة، وهو واقع طالما مر على السوريين، وآخر حلقاته ليست بالبعيدة، وذلك عندما صدر مرسوم (2) جمهوري منتصف أغسطس/آب 2023 يُقر بزيادة رواتب ومعاشات موظفي القطاع العام بنسبة 100%، ليلحق به قرار بخفض دعم الوقود، مما يعني زيادة أسعار النقل العام لدرجة أن بعض الموظفين قد يدفعون أجرة الذهاب للعمل بما يعادل الراتب نفسه.

جاء هذا القرار في وقت يعاني فيه السوريون بدرجة كبيرة من الغلاء المعيشي وتردي الخدمات الكبير، مما دفع عدة محافظات سورية للخروج بمظاهرات شعبية انطلقت بدايتها في مدينة السويداء وتوسعت رقعتها إلى مناطق في العاصمة دمشق والساحل السوري وحلب، وسط احتمالات امتدادها إلى كامل المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.

الفقر يُغضب السويداء من الأسد

بدأ الحراك (3) المدني الحالي في الجنوب السوري، وتحديدا في محافظة السويداء معقل الأقلية الدرزية التي لطالما حافظت على حيادها بين المعارضة والنظام، وتجنبت حركاتها المسلحة الانخراط ضمن الجماعات المسلحة لدى الطرفين، من أمثال حركة “رجال الكرامة” التي رفضت الدخول في الصراع المسلح طلية الـ12 عاما الماضية، ونتيجة لهذا الوضع تمكنت الجماعات الدرزية من عقد اتفاقيات متعددة مع مختلف أطراف الصراع السوري.

لكن منذ منتصف أغسطس/آب الحالي، تشهد السويداء وريفها حالة من الإضراب العام في الأسواق والدوائر المحلية، ومظاهرات مستمرة حتى وصل الأمر إلى مداهمة مكاتب حزب البعث الحاكم في المدينة، وفيما انضمت (4) درعا، مهد الثورة، إلى تلك الاحتجاجات التي أحيت شعارات الثورة الأولى “الشعب يريد إسقاط النظام” و”سوريا لنا وليست عائلة الأسد”، طالب المتظاهرون أيضا (5) بتطبيق القرار الأممي 2254 الذي تنص مادته الرابعة على دعم عملية سياسية برعاية الأمم المتحدة، وذلك بهدف إقامة نظام جديد ذي مصداقية وإجراء انتخابات تحت إشراف دولي.

مع ذلك، لم تكن الاحتجاجات جديدة على السويداء التي ظلت طيلة السنوات الماضية تطل برأسها الثائر في احتجاجات ضد الظروف المعيشية والأمنية بالأخص، كما حدث في احتجاجات ديسمبر/كانون الأول 2022، التي نشبت بسبب الاستياء المتزايد من حكومة الأسد وتدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية. وصل تدهور الاقتصاد (6) السوري حاليا إلى حد فقدان عملة البلاد “الليرة” أكثر من 80% من قيمتها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وخروج أسعار السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء والوقود عن السيطرة، وفي وقت أضحى هم المواطن السوري الأول والأخير توفير وجبة طعام يومية لأسرته جاء قرار زيادة الرواتب إلى ما يعادل 13 دولارا فقط في الشهر، في حين تكلف سلة الغذاء الشهرية -وفقا لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة- 81 دولارا على الأقل.

في الوقت نفسه، يواصل النظام (7) السوري تحميل العقوبات الأميركية الصارمة التي فُرضت في عام 2019 مسؤولية الأزمة الاقتصادية الحالية والتضخم المفرط الذي تسبب في ترك ما يقرب من 90% من مواطني النظام يعيشون تحت خط الفقر، حيث يحتاج أكثر (8) من 15 مليون شخص (70% من السكان) إلى مساعدات إنسانية، وهناك 12.1 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي.

في غضون ذلك، يطرح عدم استخدام النظام للقوة المفرطة المعتادة حتى الآن مع احتجاجات السويداء كغيرها من المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرته سؤالا مهما حول سبب ذلك، يمكن القول (9) (10) إن الطائفة الدرزية في سوريا التي لم تصطف بشكل كامل مع حزب البعث الحاكم منذ تولى بشار السلطة في عام 2000 تشتهر بوجود السلاح بكثرة بين عوائلها، مقابل ذلك يُعَدُّ وجود النظام الأمني محدودا، مما يعني أن المحافظة خارج الحكم الفعلي لنظام الأسد، إذ يقتصر وجود عناصر النظام على المؤسسات الحكومية والأفرع الأمنية، وفيما تتولى الفصائل الدرزية ضبط الأمن، أضافت مشاركة شيوخ الطائفة الدرزية زخما أكبر للمظاهرات الحالية، لا سيما بعد إصدار رئيس طائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري بيانا دعا فيه إلى “قمع مسببي المحن التي طالت لقمة عيش السوريين”.

البلل يصل ذقن الأسد

بداية من يوليو/تموز الماضي، عرفت وسائل التواصل السورية ظهور (11) الكاتبة السورية لمى عباس على فيسبوك بشكل مخالف تماما لخطابها الموالي للنظام، وذلك حين بدأت عباس المقيمة في مدينة جبلة في محافظة اللاذقية التي تلقب بـ”قلب العلويين” في نشر (12) مقاطع متتالية تنتقد النظام السوري، فهي تارة تصف مواطني النظام بـ”الخراف” كونهم يتبعونه بشكل “أعمى ومطيع” حسب قولها، وتارة أخرى تشكك في رواية النظام عن كسب الحرب. وفي بث مباشر تحدَّت عباس وعائلتها قوات النظام التي جاءت لاعتقالها بعد منتصف الليل، لتحملهم على العودة دون تحقيق هدفهم، محتمية بخلفيتها العائلية العلوية القوية.

بين ليلة وضحاها، تحولت عباس التي اعتادت أن تظهر في المهرجانات الداعمة للأسد راقصة على أنغام الأناشيد المؤيدة وهي ترتدي الزي العسكري إلى معارضة للنظام السوري (13)، قبل أن تتراجع وتعلن تأييدها للنظام مجددا. في غضون ذلك، كانت عدوى الاحتجاجات قد انتقلت بالفعل من السويداء ودرعا إلى مدن الساحل التي تضم الغالبية العلوية مثل طرطوس وجبلة وبانياس واللاذقية التي تنتمي إليها القرداحة مسقط رأس الأسد. كما أُعلن إضراب عام أُغلقت على إثره الطرق والمحال التجارية في مدن الساحل، وعُطِّلت الدوائر الحكومية احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية التي زادها قرار الأسد مضاعفة الرواتب سوءا، حيث يقبع ما يقرب من 60% من سكان هذه المدن في فقر شديد، فيما تُرك مصابو الحرب الذين كانوا وقود معارك النظام في حالة إهمال شديد.

خلال الأيام القليلة الماضية، توسع انضمام الناشطين من الطائفة العلوية إلى الاحتجاجات بدرجة غير مسبوقة، حيث ظهر المؤثرون العلويون خلال فيديوهات ومقاطع مصورة مطالبين برحيل النظام، بعد أن أظهروا إحباطهم الشديد من السياسات الاقتصادية، فضلا عن نفوذ زوجته أسماء ومجلسها الاقتصادي، الذي يُحمِّله السوريون مسؤولية الانهيار السريع لليرة المحلية، ومن أبرز هؤلاء (14) كان المؤثر العلوي أحمد إبراهيم إسماعيل الذي يقطن ريف اللاذقية، وقد انتقد إسماعيل الذي اعتُقل لاحقا سياسات النظام والأوضاع المعيشية، قائلا (15): “لقد حان الوقت لأن يفهم الجنرال (الأسد) أننا نريد أن نعيش… لا يمكنك اعتقال جميع السوريين”.

لم يقتصر الأمر على الاحتجاجات الشعبية التي نددت بالنظام وطالبت بإيجاد حلول لما تعيشه البلاد، بل برزت مجموعة تسمي (16) نفسها “حركة 10 آب” تدعم هذه الاحتجاجات، وسرعان ما أصدرت الحركة الناشئة بيانا تدعو فيه إلى تحسين الظروف المعيشية في سوريا، وحددت مطالبها برفع الحد الأدنى للأجور الشهرية بحيث لا يقل عن 100 دولار وتوفير الكهرباء لمدة 20 ساعة على الأقل في اليوم، وإصدار جوازات سفر جديدة في غضون شهر لتمكين الشباب من الهجرة، بالإضافة إلى المطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين.

من جهته، يبدو النظام السوري مقيدا في أمر إطلاق العنان لقواته لإخماد احتجاجات العلويين بالتحديد، إذ اقتصر الأمر على ملاحقة واعتقال النشطاء بطرق سرية بعيدا عن الأنظار، كذلك دفع بـ”الشبيحة” لترهيب المحتجين والمنتقدين وتهديدهم بالاعتقال أو التصفية، ويرجع ذلك (17) إلى خشيته من وقوع انتفاضة واسعة قد تؤدي إلى اختلال الوضع الأمني ضمن مناطق دعمته بثبات خلال الحرب، وكذلك لحرصه على الحفاظ على حاضنته الشعبية بعيدا عن سطوة سيفه المعتادة، كما يدرك النظام خطورة أن يؤدي هذا إلى خلق ساحة دماء جديدة في منطقة سلح بيده غالبية أبنائها.

عامة، لا يوجد دليل دامغ -حتى الآن- على أن هناك حركة احتجاج منظمة يمكن أن تؤدي إلى إحداث تحول مؤثر في مسار القضية السورية بالفعل أو تهدد حكم الأسد، لكن انضمام المجتمع العلوي يُشكِّل صدمة قوية وبالأخص للنظام السوري الذي راهن على عصبته الطائفية طيلة السنوات الماضية، وتُظهِر هذه الاحتجاجات الواقع الحقيقي لحكومة النظام التي تصارع جملة من التحديات الداخلية ومصاعب اقتصادية جمة، ويختصر ذلك (18) قول كنان الوقاف، وهو صحفي سوري علوي من طرطوس فرَّ من سوريا العام الماضي: “إن السياسات الحالية تعني أن السوريين الذين لم يموتوا في الحرب سيموتون من الجوع”.

الأسد في خطر حقيقي

أخرجت الانتقادات العلوية الأسد نحو اللاذقية في زيارة (20) تهدف بشكل مبطن إلى امتصاص غضب (21) السكان المتصاعد ضد نظامه، وظاهريا للتضامن مع المدينة التي كانت تحترق غاباتها، وللهدف ذاته سافرت زوجته أسماء الأطرش إلى طرطوس ذات الغالبية العلوية وتحدثت لعمال مصنع نسيج قائلة إن “الحل الوطني الوحيد هو مضاعفة التفاني والعمل الجاد والشغف”.

تسلط الزيارات التي يقوم بها الأسد وزوجته إلى معاقل العلويين الضوء على قلق النظام وسعيه نحو وأد الاحتجاجات في مهدها، ومحاولته التمسك بقوة بصورة المنتصر الذي بدأ العالم باحتضانه من جديد، بينما الواقع يؤكد أن حكومته هذه المرة تصارع تحديات داخلية من نوع مختلف، وأن المصاعب الاقتصادية الشديدة التي تقف وراء الاحتجاجات لا يمكن حلها بين ليلة وضحاها، خاصة أن الخطورة تكمن في أن هذه الاحتجاجات أوصلت رسالة قوية إلى الجميع وخاصة الدول الساعية للتطبيع مع النظام مفادها أن هذا النظام لا يمكن تحسينه، وأن الشعب ضاق ذرعا بالنظام السوري حتى أبناء طائفته.

يقول محمد منير الفقير، الباحث السوري في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، إنه بعد وأد فكرة الربيع العربي واستبدالها بسياق سياسي جديد من قِبل الدول العربية والمنظومة الدولية يتقبل النظام السوري، ظهر الحراك الحالي الذي يرتكز على احتجاج الأقليات، وبالتالي أصبح إظهار الحراك أنه قادم من الأكثرية السنية من قِبل النظام الذي تذرع دوما أنه حامي الأقليات غير ممكن. واعتبر الفقير في حديثه لـ”ميدان” أن الأقلية الدرزية لم تتوقف عن الحراك خلال السنوات الماضية، لكن ما يميز حراكها الآن أنه لم يعد مقتصرا على النخبة المثقفة والسياسية، وإنما انتقل إلى مستوى التحرك الشعبي الواسع الذي يضم كل الفئات، مضيفا: “انفجر الحراك الحالي على كل مستوى الطبقات المجتمعية، شباب، نساء، وجهاء وشيوخ، والمشيخة التي كانت دائما تتماهى مع السلطة أكثر من مطالب الشباب وكانت محكومة بذاكرة أحداث الثمانينيات (مجازر النظام ضد الإسلاميين)”.

ويعتقد الفقير أن من الصعب أن يتدخل النظام عسكريا باستخدام القوة الغاشمة ضد المحتجين، بسبب حسابات دولية تفند سرديته القائمة على حماية الأقليات، كما يمكن لأي تدخل أن يثير غضب دروز المنطقة كلها، خاصة في إسرائيل، مع ذلك لدى النظام وسائل عدة للتعامل مع الحراك -حسب الفقير- “كالزج بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مناطق الحراك، وتأجيج الصراع بين العلويين والدروز في الساحل، كما قد يدفع النظام بميليشياته تجاه جبال العلويين لترهيبهم عن المُضي في الاحتجاجات”.

من جهته، يرى تمام هنيدي، الكاتب والصحفي السوري من السويداء، أنه من حيث المبدأ، فإن النظام السوري لن يتورع عن إسالة الدماء إذا استشعر الخطر، إذ سبق أن فعلها الأسد في كل المناطق التي أخذت قرار الثورة منذ مارس/آذار 2011. ويضيف هنيدي في تصريح لـ”ميدان”: “المتظاهرون لا يجهلون هذا الأمر، وهم يدركون خطورة الاعتراض وأثمانه، إنّ سلوك النظام تجاه الناس منذ أكثر من عقد يمثُلُ أمام متظاهري السويداء، وقد رأوا ما يمكنُ أن يكون ثمن الخروج على نظام آل الأسد. لكن يبدو أن الناس حسمت خيارها وضاقت ذرعا”.

ومع إقراره أنه لا يُمكن التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في المستقبل القريب، يعتقد هنيدي أن ما يجري الآن على الأرض لا بد أن يوقظ لدى الدول الإقليمية والمجتمع الدولي سؤالا عن جدوى بقاء بشار الأسد في السلطة، لا سيما أن تكاليف التحالف معه باهظة أكثر من التخلّي عنه، مشددا على أن “كل محاولات الدول العربية لإعادة تعويم الأسد بناء على تبادل المصالح يبدو أنها باءت بالفشل، فسلوك النظام واحد إزاء الجميع، يأخذ ولا يُعطي، ولا ضمانة أنه سوف يُعطي حتى إذا أخذ”.

في النهاية، يمكن القول إن من المرجح استمرار احتجاجات الأقليات السورية ضد النظام في النمو، وهو ما يُعرِّض ركيزة أساسية من ركائز حكمه للخطر، في غضون ذلك، تظل خيارات الأسد لمواجهة هذه الاحتجاجات تحديدا قليلة ومحفوفة بالمخاطر، وفي أقل الاحتمالات تُظهر هذه الموجة الاحتجاجية أن النظام السوري لن ينعم بـ”نصره المزعوم”، وأن عرشه ما زال مهددا في كل حين.

______________________________________

المصادر:

    (1) بقعة ضوء 6 ـ الفرق بين زيادة الرواتب عنا وبرا ـ باسم ياخور

    (2) الأسد يضاعف رواتب القطاع العام والعسكريين تزامنا مع رفع الدعم عن البنزين

    (3) Anti-government protests take hold in southern Syria

    (4) Anti-government protests shake Syrian provinces amid anger over economy

    (5) السويداء تنتفض بوجه الأسد.. لماذا هذه الاحتجاجات مختلفة؟

    (6) Residents in southern Syria raid ruling party offices, block road as protests over economy intensify

    (7) Syria: Protests over growing economic hardship spread in south

    (8) Syria doubles public-sector pay and cuts subsidies as economy sinks

    (9) Protests in southern Syria gain momentum, spread to Aleppo

    (10) Druze protest Assad in Southern Syria, fueled by economic desperation, security challenges

    (11) Alawites in Syria breaking silence?: Criticizing the dictatorship from within

    (12) الكاتبة الموالية لمى عباس تدعو السوريين إلى الثورة بعد أن شمتت بوفاة مي سكاف | ريبوست

    (13) القوات الروسية تخشى استهدافها.. غضب يتصاعد بأوساط الطائفة العلوية من الجنوب إلى الساحل السوري

    (14) المصدر السابق نفسه

    (15) ناشط علوي: آن الأوان لكي يفهم هذا الجنرال أننا نُريد الحياة

    (16) هل ستكون بمثابة انفجار في مناطق النظام؟ كل ما تريد معرفته عن “حركة 10 آب” التي أُطلقت مؤخرا بسوريا

    (17) مصدر سابق

    (18) مصدر سابق

    (19) اللاذقية – الرئيس الأسد يلتقي المشاركين في إخماد الحرائق بغابات الريف الشمالي

    (20) الأسد يزور غابات ريف اللاذقية الشمالي ويجري محادثة مع طواقم الدفاع المدني

    (21) Syrian farmers in compensation plea after wildfire devastation

المصدر : الجزيرة

————————-

 بعد إسقاط “رموز الأسد”.. هل أغرقت السويداء سفن العودة؟

ضياء عودة – إسطنبول

لم تقتصر احتجاجات السويداء السورية على مدى الأسبوعين الماضيين على إطلاق الهتافات والشعارات المناهضة للنظام السوري، بل تطورت لأكثر من مرة لتصل إلى حد إقدام محتجين على نزع صور بشار الأسد من الساحات العامة وحرقها وإغلاق مقار “حزب البعث”، في حوادث تطلق تساؤلات تتعلق بشكل العلاقة المستقبلية التي ستحكم المحافظة ذات الغالبية الدرزية بـ”السلطة في دمشق”.

ويواصل المحتجون من كافة الفئات المجتمعية المسار الذي بدأوه، منذ الأسبوع الماضي، واللافت خلافا للمسار السابق للمظاهرات أنهم يرفعون الصوت ضد الأسد جهارا وأمام الكاميرات في منطقة تحسب على المناطق الخاضعة لسيطرته، والتي تخنقها منذ سنوات قبضة أفرع أمنية متعددة (المخابرات الجوية، الأمن العسكري، أمن الدولة، الأمن السياسي).

ويشي إعلاء الصوت ضد النظام السوري والهتاف ضده بالوجوه المكشوفة بأن “الشارع أغرق سفن العودة مع الأخير”، حسب مراقبين تحدثوا لموقع “الحرة”، لكنهم في المقابل أشاروا إلى أن هذه الفكرة لا يمكن أن تنعكس على المشهد الكلي للمحافظة، كونها توصف بـ”المعزولة”، لاعتبار يتعلق بالشريان الوحيد الذي يربطها مع دمشق.

    في #السويداء.. متظاهرون مزقوا صور #بشار_الأسد، وأحرقوا مكاتب #حزب_البعث بالتزامن مع توسع رقعة الاحتجاجات ودخولها أسبوعها الثاني في مناطق سورية عدة.

    برأيك، هل ستتحقق المطالب؟#الحرة #الحقيقة_أولا #شاهد_الحرة pic.twitter.com/ukxhSxkwET

    — قناة الحرة (@alhurranews) August 29, 2023

وحتى الآن لم يدل النظام السوري بأي تعليق رسمي إزاء ما تشهده المحافظة من حراك شعبي ضده، لكن وسائل إعلام مقربة منه ومحللون ظهروا على قنواته الرسمية تحدثوا في الأيام الماضية عن “سياسة تتبعها دمشق وتقوم على التعامل بهدوء وبرودة أعصاب”.

وتحدث أحد الضباط المتقاعدين لـ”التلفزيون السوري”، ليلة الخميس، لمذيعة الأخبار الرئيسية أليسار معلا أن النظام السوري “لديه سلسلة تجارب متراكمة في التعامل مع احتجاجات السويداء المتكررة”، ولذلك يلتزم بـ”الطريق التعامل الهادئ بعيدا عن أي تصعيد”.

هل أغرقت “سفن العودة”؟

ورغم أن السويداء تقع في أقصى الجنوب السوري المحاذي للأردن، لا ترتبط بأي معبر حدودي كما هو الحال بالنسبة لجارتها الواقعة إلى الغرب محافظة درعا.

وبقيت مطالبات الأهالي وأعضاء “مجلس الشعب” في المحافظة قبل سنوات دون أي استجابة، ليأتي بيان “دار طائفة الموحدين الدروز”، الأسبوع الماضي، ويعيد قصة فتح المعبر الحدودي، كطلب من بين 6 مطالب موجهة إلى النظام السوري، من أجل تهدئة الشارع.

وتعتبر المحافظة فقيرة وغير قادرة على إقامة مشاريع مستقلة، حسب ما يقول سكان فيها، وكانت تعتمد في السابق على أموال المغتربين والمواسم، في حين أسهمت القروض الصغيرة في تأسيس مشاريع صغيرة خاصة قبل الحرب.

وبعد 2011 تغير الوضع الاقتصادي في المدينة إذ عانت من غلاء الأسعار ونقص المواد الأساسية وغلائها بسبب احتكارها من تجار الحرب، وصولا إلى الحد المتفاقم الذي وصلت إليه الأوضاع المعيشية، في أعقاب القرارات الحكومية الأخيرة.

ولم يرد النظام السوري على أي مطلب من المطالب الستة حتى الآن وبعد مرور أكثر من عشرة أيام على الاحتجاجات، وعلى العكس بقي المسار الذي يسلكه قائما، بعدم التعليق و”المضي بسياسة الهدوء”.

في غضون ذلك واصل المحتجون من بينهم نساء ورجال دين وسياسيين معارضين وطلاب جامعات الهتاف بإسقاط النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، وتطبيق القرارات الأممية الخاصة بالحل في سوريا.

ويعتقد الصحفي ريان معروف، وهو مدير “شبكة السويداء 24” الإخبارية المحلية، أن السويداء “ذاهبة إلى مرحلة جديدة”، “لكن شكل العلاقة المستقبلية مع النظام السوري يبقى غير واضح المعالم”.

ومن الصعب استشراف شكل هذه العلاقة، لأنها في السابق والوقت الحالي ما تزال “قائمة ولم تنقطع”، ولاسيما بين جزء كبير من المرجعيات الدينية والمسؤولين في دمشق.

“هناك قنوات والقادة الدينيون والمجتمعيون لم يقطعوا حبل التواصل مع النظام بشكل نهائي”.

ومع ذلك يوضح معروف لموقع “الحرة” أن “الشارع هو الذي وصل إلى حالة القطيعة”، ويشير بالقول: “الناس التي تكسر صور بشار وتزيل لوحاته وتهتف ضده على الإعلام والكاميرات وتصور نفسها دون أي خوف أو توجس يمكن القول إنها أغرقت كامل سفن العودة”.

لكن في المقابل يضيف أنه “من الصعب التنبؤ بالمرحلة القادمة، كون السويداء تفتقد لجسم بديل عن الدولة من الناحية السياسية أو التنظيمية”.

وترى الصحفية السورية، رشا النداف أن “النظام السوري لا يهتم بإحراق أو تمزيق صورة لرئيسه في ظل الأزمات الكبيرة التي يعيشها”.

وتقول النداف لموقع “الحرة”: “ما يخيف هو وضع الناس التي تخرج بصورها وأصواتها على العلن أمام الكاميرات. السويداء كلها منتفضة لكن ذلك لا يعني أنه لا يوجد مخبرين”.

“النظام يلعب لعبة التخويف الفردي. هناك مقربون وتابعون له يحاولون الوصول إلى أشخاص في المحافظة لنصحهم في دفع مبالغ مالية مقابل إزالة أسمائهم من الفيش الأمني”.

وتضيف الصحفية السورية: “يوجد طلاب جامعات في دمشق وأناس يريدون إخراج أوراق رسمية. الأهالي في المحافظة غير قادرين على قطع الحركة عن دمشق بشكل مباشر وكامل”.

“إسقاط مشهد الرعب”

و”لا شك بأن الاحتجاجات لديها هدف، وهي السلطة التي تحكم البلاد وممثلة ببشار الأسد بالإضافة إلى حزب البعث الذي أوصل البلاد لما وصلت إليه، حسب تعبير الكاتب والناشط السياسي السوري، حافظ قرقوط.

ويعتقد قرقوط في حديث لموقع “الحرة” أن “إغلاق مراكز حزب البعث هي بمثابة الإعلان عن الهدف الذي يتناسب مع المظاهرات”.

“مقار الحزب استخدمت كمراكز للمخابرات وكتابة التقارير والتجسس على الناس. صور الأسد وقبله والده. كل ما سبق شكّل مشهد من الرعب وارتهان كرامة الإنسان والبلاد”.

ويضيف قرقوط: “ما حصل هو تحطيم الهيبة التي أراد أن يزرعها النظام في عقول الجميع. هي إعلان بأن الصور التي تحتل قرانا ومدننا ومؤسساتنا يجب أن تخرج وأن تعود المؤسسات للناس”.

ويشير ما سبق، وفق الكاتب السوري “بوضوح إلى أن المحافظة تسير إلى قطيعة مع الماضي، ومع إرث النظام السوري على الأجيال، التي تتالت على حكم البعث”.

لكن مازال النظام السوري يعول على نقطة “تصب في صالحه”، وفق ما يقول الصحفي السوري ريان معروف، مضيفا أنها “تدفع الأهالي للمطالبة بفتح معبر، كون السويداء ترتبط بشريان وحيد مع دمشق”.

“الطريق الذي يربطها مع العاصمة وفي حال انقطع ستموت الناس جوعا”.

ويوضح الصحفي السوري أنه “لا يوجد صوامع للحبوب في المحافظة”، وأن “جميع مخصصات الطحين تأتي بشكل يومي من دمشق”.

“نحن نتحدث عن مادة أساسية يحتاجها المواطنون، ولذلك ندرك أن الطلاق الكامل بين السويداء والنظام سيدفع الأخير لأن يستخدم تكتيكات الحرب من حصار ومنع وصول المواد الغذائية”.

ويشير معروف إلى أن المحافظة التي يقيم فيها وذات الغالبية الدرزية “من السهل حصارها بسبب ارتباطها بطريق وحيد مع دمشق التي يسيطر عليها النظام السوري في الأساس”.

وتقول الصحفية النداف أن “السويداء يمكن أن تأخذ فترة طويلة قبل أن يجوع السكان فيها، مع وجود مصادر غذاء داخلية من زراعة وغيرها”. لكنها تضيف مستدركة: “مع ذلك لا يمكنها أن تنقطع نهائيا عن دمشق”.

ماذا عن المعبر الحدودي؟

وكان بند “إعداد دراسة تشغيل معبر حدودي لمحافظة السويداء لإنعاشها اقتصاديا” أحد المطالب الستة التي وردت في بيان “دار طائفة الموحدين الدروز”، الأسبوع الماضي.

وقرأ البيان شيخ عقل الطائفة يوسف الجربوع، مطالبا من جانب آخر بـ”إجراء تغيير حكومي وتشكيل حكومة جديدة قادرة على إدارة الأزمة وتحسين الواقع وإيجاد الحلول وعدم ترحيل المسؤوليات”. 

وطالب البيان أيضا بـ”التراجع عن كل القرارات الاقتصادية الأخيرة، التي لم تبق ولا تذر، والعمل على تحسين الواقع المعيشي للمواطنين”، و”محاربة الفساد والضرب على أيدي المفسدين بكل مصداقية وتقديمهم للعدالة”.

وبعدما أثارت مشاركة شيوخ طائفة العقل ودعمهم للحراك السلمي في الشارع خلال الأيام الماضية اهتمام مراقبين، خرج الشيخ الجربوع في تسجيل مصور، يوم الثلاثاء، معلنا عن موقف يتناغم مع النظام السوري ورئيسه بشار الأسد وجيشه.

لكن ما اتبعه هذا الشيخ يخالف الموقف الذي التزم به شيخ الطائفة الثاني، حكمت الهجري والثالث حمود الحناوي.

وترى الصحفية رشا النداف أن “الخوف اللاحق لدى الشارع في المحافظة يتعلق بالتجاهل الحاصل للحراك والإقدام على خطوة الحصار الاقتصادي من جانب النظام السوري”.

وتضيف أن “التبادل بين السويداء والجارة درعا قد يكون مستمرا، لكن ليس الحال كما هو بالنسبة للعاصمة دمشق”.

وإلى الآن تشير المطالب والأصوات التي يؤكد عليها الشارع إلى أن “السويداء لا تريد العودة لحكم الديكتاتورية، وتبحث عن مآل جديد مرجعيته الدولة السورية الواحدة والموحدة”، بحسب قرقوط.

ومع ذلك يرى الناشط السياسي أن “النظام السوري يمكن أن يخنق المحافظة بسهولة لاعتبار يتعلق بموقعها الجغرافي، إذ لا يوجد أي معبر حدودي يربطها مع المحيط، ويقتصر الأمر على الطريق الواصل إلى دمشق”.

ويضيف أن “المعبر الحدودي قد يحيي المنطقة اقتصاديا ويخفف من تحكم النظام”، وأنه “يمكن للأمم أن تدخل مساعدات من خلاله وتفتح الباب أمام عمل المنظمات الدولية”.

ومن الجانب الخدمي والاقتصادي إلى العسكري والأمني يوضح الصحفي ريان معروف أن “المفارز الأمنية للنظام السوري ما تزال موجودة في السويداء”، وكذلك الأمر بالنسبة لقواته العسكرية التي تقدر أعدادها بنحو 2500 عنصر.

ويقول معروف إن “إغلاق مقر حزب البعث وإزالة صور الأسد لا يغير شيء من المعادلة”، موضحا أن “الحراك السلمي لا يمكن أن يلغي النظام بوجوده الأمني والعسكري وحتى الخدمي، لأن شكله الحالي يتخذ مسار العصيان المدني”.

من جانبه يشير قرقوط إلى أن “الخطوات المتعلقة بالحراك تسير إلى الأمام”، وأن “هناك إعلان صريح أن الماضي لن تقبله المحافظة مهما تقدمت لها وعود اقتصادية وغير ذلك”، ويقول إن “كل المغريات التي قدمت للتهدئة فشلت، في وقت ازداد عدد المحتجين في الشارع، مع وجود جهود للتنظيم في المرحلة المقبلة”.

ضياء عودة

الحرة

—————————-

“مشيخة العقل الثلاثية” تنضم إلى احتجاجات السويداء.. لماذا؟

https://www.alhurra.com/episode/2023/08/27/%D9%85%D8%B4%D9%8A%D8%AE%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%86%D8%AA%D9%81%D8%B6-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-1139786

——————————-

“كارثة تلخصها طبخة” في مناطق سيطرة الأسد.. كيف يعيش السوريون؟

ضياء عودة – إسطنبول

قبل زيادة الرواتب التي أقرها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، كان راتب المدّرس السوري، بهاء، يشتري له علبتي حليب فقط لطفله الرضيع، بعيدا عن أي احتياجات أساسية أخرى، وبعد الإعلان عن المرسوم الرئاسي لم تتغير القوة الشرائية لما يستلمه في الشهر.

و”قبل الزيادة كانت العلبة بـ50 ألف وبعدها وصلت إلى 100 ألف وقد تتجاوز ذلك”، حسب ما يقول لموقع “الحرة”.

من 125 ألف ليرة في الشهر الواحد إلى 250 ألف تضاعف راتب المدّرس المقيم في مدينة حمص وسط البلاد بموجب المرسوم، ورغم أن الصورة التي تبدو عليها هذه المضاعفة “كبيرة” تعتبر “ضئيلة في الحقيقة وعلى أرض الواقع”، و”عند قياس الرقم بالدولار والأسعار التي تواصل التحليق دون استقرار”، وفق ما يضيف.

“قد يسأل الكثيرون كيف نعيش؟ كما يقال محليا من قلّة الموت!”، يتابع بهاء الذي فضّل عدم ذكر اسمه لاعتبارات أمنية متسائلا ويجيب بأسلوب ساخر في آن واحد.

ويشير إلى أن “الكارثة التي يعيشها المواطنون في مناطق سيطرة النظام السوري لا يتخيلها عقل، وقد تدفع كثيرين إلى حد الجنون والانتحار!”.

ولم يأت مرسوم رفع الرواتب إلى الضعف من جانب الأسد دون مقدمات بل توازى معه قرار آخر أصدرته “وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك” في حكومته، وقضى برفع الدعم عن مادتي البنزين والمازوت، وهو ما أشعل شرارة شعبية كان مسرحها خلال الأيام الماضية محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية.

وفي حين ردد المحتجون للأسبوع الثاني على التوالي شعارات بمطالب معيشية وسياسية لم يقدم النظام السوري أي بادرة إيجابية، وعلى العكس أصدرت الوزارة ذاتها قرارا آخرا، الأحد.

وقضى القرار برفع آخر لسعر البنزين والمازوت “الحر” الذي يباع في الأسواق، وهو ما اعتبر ردا غير مباشرا على نداءات الشارع.

ونادرا ما تتطرق الحكومة التابعة للنظام إلى معادلة القياس المتعلقة بالراتب الذي تمنحه للموظفين وما تحتاجه العائلة بشكل يومي، فيما التزام الوزراء فيها خلال الأشهر الماضية على مسار واحد لـ”توصيف الكارثة دون تقديم أي حلول”.

يعادل راتب المدرس بهاء الشهري (16 دولار أميركيا) بحسب سعر صرف السوق الموازي (الدولار يساوي 15 ألف ليرة).

وفي حال أراد الاستغناء عن علبتي الحليب، فقد يشتري له هذا المبلغ “بشق الأنفس” أساسيات طبخة واحدة تتكون من “كيلو واحد من لحم الغنم، 2 كيلو من الأرز، علبة سمن، كيلو من البطاطا وكيلو آخر من الطماطم وربطة خبز”.

ويقول: “قد يزيد في جيبي 20 ألف ليرة لا تكفي لشراء بعض البسكويت والشيبس لأطفالي”.

ويتراوح سعر كيلو لحم الغنم في العاصمة دمشق ومحافظات سورية أخرى ما بين 100 و125 ألف ليرة، بينما ارتفع سعر كيلو الأرز في أعقاب الزيادة إلى 17 ألف بعدما كان في الأسواق 8 آلاف.

في غضون ذلك يصل سعر كيلو الغرام الواحد من البطاطا إلى 4500 ليرة سورية والطماطم إلى 3500، فيما يصل سعر ربطة  الخبز  الواحدة إلى 3 آلاف ليرة سورية.

وهذه الأرقام وعند قياسها بالإيجار اليومي الذي يتقاضاه الشاب السوري محمد “لا تساوي شيئا”، ما اضطره إلى استنفار جميع أفراد العائلة للعمل في “مهنة الفعالة (العمل في الأراضي بشكل يومي)”، وذلك في إحدى القرى التابعة لمدينة حماة الواقعة إلى الشمال من مدينة حمص.

ويتراوح إيجار ساعة العمل الواحدة التي يتقاضاها محمد لقاء عمله في قطاف ثمرة اللوز ما بين 2500 ليرة سورية و4 آلاف.

ويقول لموقع “الحرة”: “أعمل طوال اليوم لمدة سبع ساعات. وفي النهاية أحصل على 21 ألف ليرة أي ما يساوي دولار أميركي ونصف”.

“21 ألف ليرة أو دولار ونصف تشتري لي كيلو سكر يبلغ سعره 17 ألف ليرة ونصف علبة من الشاي بـ7 آلاف (ظروف)”، ويضيف الشاب: “نعمل ونآكل في كل يوم بيومه. أنا وأفراد عائلتي الأربعة يصل إيجارنا اليومي فقط إلى 4 دولارات!”.

وتابع: “كيلو اللوز الذي نقطفه يعادل سعره 100 ألف ليرة. تخيل أنني بحاجة للعمل 5 أيام تحت الشمس حتى أحصّل ثمنه”.

“رفع دعم قادم”

ويحمّل النظام السوري دائما الدول الغربية والولايات المتحدة المسؤولية بالوقوف وراء الكارثة المعيشية الحاصلة، ويقول إن العقوبات التي استهدفته “تزيد فصلا جديدا إلى الحرب والحصار الذي يتعرض له”.

لكن الدول الغربية وعلى رأسها أميركا لطالما أكدت أن العقوبات لا تستهدف القطاعات الحيوية التي تخدّم المواطنين وتشكل أساس الحياة لهم، وبالتوازي من ذلك يعلي المحتجون في السويداء الصوت ضد الأسد ونظامه، مشددين على أن السياسة الخاصة به سواء الأمنية أو الاقتصادية، هي التي أوصلت البلاد إلى هذا الحال.

وحتى الآن لا توجد أي بوادر لتحسين الأوضاع المعيشية للسكان من جانب النظام السوري وحكومته، وعلى العكس نقلت “إذاعة المدينة إف إم” التي تبث من دمشق، الأربعاء، عن مصادر لم تسمها أن “وزارة التجارة الداخلية بصدد رفع الدعم عن المواد التموينية اعتبارا من بداية شهر سبتمبر المقبل”.

وأوضحت المصادر أنه “سيحق لكل عائلة الحصول على كيلو رز بقيمة 17000 ليرة، وكيلو سكر بقيمة 13000 ليرة، بشكل مباشر دون التسجيل أو انتظار الدور”.

كما لا توجد أي بوادر من جانب النظام للانخراط في مسارات الحل السياسي في البلاد، على رأسها القرار 2254 الذي أصدره مجلس الأمن في عام 2015، ويحدد خطوات الانتقال السياسي.

“كارثة بالأرقام”

وكان رفع أسعار المحروقات قد انعكس بصورة “مستشرسة” على الأسواق، إذ تضاعفت أسعار السلع بكافة أنواعها، وكذلك الأمر بالنسبة للخضراوات التي يحتاجها المواطنون بشكل يومي.

ولم يقتصر هذا الانعكاس على ما سبق بل شهدت المحافظات السورية حالة من الشلل الكامل، بسبب توقف وسائل النقل عن العمل بناء على الإرباك الحاصل في تحديد التسعيرة الجديدة.

ويورد تقرير لـ”مؤشر قاسيون”، صدر في 20 من أغسطس الحالي، أن متوسط تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد قفز في أعقاب القرارات الأخيرة لحكومة النظام إلى أكثر من 10.3 مليون ليرة سورية، بينما ارتفع الحد الأدنى للأجور ظاهريا ليصل إلى (185.940 ليرة سورية – أقل من 12.6 دولار شهريا).

وفي حين كان الحد الأدنى للأجور في بداية عام 2023 (92.970 ليرة) قادرا على تغطية حوالي 2.3 بالمئة من متوسط تكاليف المعيشة، أصبح الآن وبعد “ارتفاعه اسميا” بنسبة 100 بالمئة (185.940 ليرة)، وغير قادر سوى على تغطية 1.7 بالمئة من متوسط تكاليف المعيشة، وذلك نتيجة الارتفاعات المبدئية للأسعار التي لم تنته وتستقر بعد.

وعلى مدى الأيام الماضية طالت ارتفاعات الأسعار مكونات سلة الغذاء كلها دون استثناء، وفق المؤشر المحلي المذكور.

وجاءت أسعار اللحوم (اللحوم الحمراء والدجاج) في صدارة الارتفاعات، بحوالي 73.0 بالمئة، حيث قفز سعر الـ75 غرام منها من 5,700 ليرة في بداية يوليو إلى 9,863 ليرة في النصف الثاني من أغسطس.

وارتفعت أسعار الحلويات بمقدار 60.0 بالمئة عن حسابات شهر يوليو، إذ تجاوزت تكلفة 112 غرام حلويات ضرورية للفرد يوميا 8.400 ليرة، بارتفاع من حد 5,250 ليرة.

وكذلك الحال بالنسبة للجبن الذي ارتفع سعر 25 غرام منه بمقدار 28.9 بالمئة منتقلا من 563 ليرة في بداية يوليو إلى 725 ليرة حاليا.

كما ارتفعت أسعار الفواكه بنسبة 38.1 بالمئة، إذ انتقل سعر 60 غرام منها من 1.400 ليرة في بداية يوليو إلى 1.933 ليرة حاليا.

أما الأرز، فقد ارتفع بحوالي 58.1 بالمئة، منتقلا ثمن 70 غرام منه يوميا من 1.505 ليرة في بداية يوليو إلى 2.380 ليرة في النصف الثاني من أغسطس الحالي.

ويوضح الصحفي الاقتصادي، مختار الإبراهيم أن النظام السوري وحكومته قابلا الاحتجاجات التي بدأت بسقف منخفض في السويداء “برفع الأسعار” للمرة الثانية خلال أسبوعين.

ويقول الإبراهيم لموقع “الحرة”: “هناك واحد من احتمالين إما النظام لم يعد يملك أي فرصة لكبح الأسعار لا تحسينها، أو أنه يمّعن في الحلول التي اتبعها منذ 2011”.

و”حلول 2011 تقوم على عدم الانحناء للعاصفة ومقابلة أي مطالب شعبية بالمزيد من التعنت وعدم التنازل والاستنكار”، حسب تعبير المتحدث.

ومع ذلك يرجح أن “النظام لا يملك أي ورقة لكبح الأسعار”، وأن “الرفع سيستمر من أجل جذب المزيد من الأموال في الشارع”.

“اليوم راتب الموظف وبشكل وسطي يقدر بـ 250 ألف وعلبة حليب الأطفال يبلغ سعرها 100 ألف وتكفي الطفل 3 أيام فقط”.

ويتابع الإبراهيم أن “العائلة التي لديها طفل واحد يكفيها الراتب فقط لبضعة أيام من أجل شراء الحليب، بعيدا عن أي مستلزمات أخرى من أكل وشرب وأدوية وباقي المصاريف”، وهو ما يضطرها “لابتكار حلول لدفع إيجار المنزل والفواتير”.

“رزم ينثرها الدولار”

ولا تقتصر الكارثة المعيشية الحاصلة في سوريا على فئة مجتمعية دون أخرى، بل “تضرب الجميع” وفق قول، باسل الشيخ، وهو ممرض يعمل في إحدى مشافي العاصمة دمشق، مضيفا: “الراتب الشهري لكل العاملين يتبخر قبل وصوله إلى الجيب”.

وفي كل دول العالم يقابل قرار رفع الرواتب “بمشاعر من الفرح والسرور”، لكن في سوريا “الأمر مختلف وبالعكس”، ويتحدث باسل الذي بات مرتبه الشهري يعادل 300 ألف ليرة سورية عن “رزم من الورق ينثرها واقع الحياة بالدولار”.

ووصلت قيمة الليرة السورية في سوق العملات الأجنبية وبحسب سعر صرف السوق الموازي إلى حاجز 15 ألف مقابل الدولار الأميركي الواحد.

وعند قياس الراتب بالليرة مع مسار الدولار “تتضح الصورة التي يعرفها السوريون أكثر من باقي الشعوب”، وفق ما يوضح باسل لموقع “الحرة”.

وفي نهاية عام 2010 استقر متوسط الراتب الحكومي في سوريا عند حد 8 آلاف ليرة سورية، أي ما يقارب في ذلك الوقت 170 دولارا أميركيا (كان الدولار يساوي 47 ليرة سورية).

أما اليوم في عام 2023 وفي أعقاب الزيادة بات متوسط الراتب الذي يصل إلى 250 ليرة سورية يساوي 16 دولارا أميركيا واحدا (1 دولار يساوي 15 ألف ليرة سورية).

في غضون ذلك بلغ سعر غرام الذهب عيار 21 قيراطا نهاية 2010 1805 ليرات سورية (نحو 38 دولارا)، بينما يبلغ حاليا 730 ألف ليرة (نحو 54 دولارا).

ويتابع باسل: “الناس لا تعرف كيف تتدبر أمورها. هناك من يعمل 3 أعمال في اليوم ولا يعود إلى منزله لآخر الليل وآخرون يعتمدون على حوالات الخارج، ومع ذلك غير قادرين حتى الآن على مواكبة لهيب الأسعار”.

ويطرح الممرض مثلا إلى جانب الأمثلة المذكورة سابقا، بأن راتبه الشهري في الوقت الحالي يشتري مع بداية العام الدراسي “حقيبتان لطفليه الاثنين بقيمة 200 ألف ليرة وبعض الدفاتر وأقلام الحبر والرصاص”.

وفي مارس الماضي كان “برنامج الأغذية العالمي” قال إن حوالي 12.1 مليون شخص في سوريا، أي أكثر من نصف عدد السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، مما يجعلها من بين البلدان الستة التي تعاني من أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم. 

ويعزى هذا التدهور في الأمن الغذائي إلى أسباب عدة، بينها اعتماد البلاد الشديد على الواردات الغذائية، بعدما كانت تتمتع باكتفاء ذاتي في إنتاج الغذاء في الحقبة الماضية. 

وبحسب “برنامج الأغذية العالمي”، فإن متوسط الأجر الشهري في سوريا يغطي حاليا حوالي ربع الاحتياجات الغذائية للأسرة فقط، وتظهر أحدث البيانات أن سوء التغذية آخذ في الارتفاع، مع وصول معدلات التقزم بين الأطفال وسوء التغذية لدى الأمهات إلى مستويات غير مسبوقة.

ويشير الصحفي الإبراهيم إلى أن “الدراسات الأممية تقول إن 95 بالمئة من السوريين باتوا تحت خط الفقر وأكثر من نصفهم وصل للفقر المدقع، أي لا يملك قوت يومه في منزله”.

ويقول: “الناس وصلت لمرحلة مأساوية من الفقر المدقع. الذي يقيم في خارج سوريا قد لا يصدق الكلام لكن بالفعل هناك عائلات لا تملك قوت يومها، وهو ما أدى الانفجار في السويداء ومن المحتمل أن ينفجر في باقي المحافظات”.

كيف يعيش السوريون؟

ربما يكون السؤال الأكثر تدولا في ظل تداعيات الكارثة المعيشية الحاصلة هو: “كيف يستطيع السوريون تدبير أمورهم”؟

ويعتقد الصحفي الإبراهيم أنه “ورغم اعتماد الكثير من السكان على أكثر من عمل والحوالات القادمة من اللاجئين في الخارج إلا أن الـ100 دولار العابرة إلى داخل البلاد لم تعد تساوي شيئا”.

ويوضح: “قوة الفئة المذكورة من العملة الدولارية في الخارج أكبر من قيمتها في الداخل السوري، بسبب نقص المواد”.

ويقول إن أغلب الموظفين “يفكرون في الطريقة التي يمكن أن يتخلصوا فيها من وظائف الدولة دون أي تبعات قانونية.. الوظيفة باتت عبء.. لا يوجد مواصلات.. الجلوس في المنزل وانتظار خل آخر بات أكثر جدوى من الذهاب إلى العمل”.

ويوضح الباحث الاقتصادي السوري، كرم شعار أن “مستوى الأسعار في سوريا ارتفع أكثر من 30 ضعفا في الحد الأدنى ومنذ عام 2011 وحتى اليوم”.

ويقول شعار لموقع “الحرة”: “ما يحصل في سوريا أن النظام السوري يعمل على إعادة توزيع الثروة بشكل غير مباشر، من خلال توزيع تكاليف التضخم على فئات متنوعة في البلاد وبنسب مختلفة”.

وتعود هذه السياسة بالضرر الأكبر على الموظفين الحكوميين، إذ يضيف الباحث أن “الحكومة وعندما تحاول أن تكبح جماح التضخم فإن الهدف الأساسي السهل لها هو القطاع العام والعاملين فيه”.

“هؤلاء يمكن أن يعيشوا ظروفا أبشع وفيها ذل أكبر، دون أن يؤثروا كثيرا على النظام السوري ووجوده”.

في المقابل يرى الباحث أن “ما يعرفون بالشبيحة الذين يحملون الأسلحة وقاتلوا إلى جانب القوات الرسمية تكون عملية إرضائهم ذات أهمية كبيرة”، وأن “هؤلاء على مقدرة على أن يحصّلوا مستويات دخل أكبر قياسا بالموظفين العاديين”.

وسبق وأن أشارت دراسة للباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، محسن مصطفى إلى أن الموظفين في سوريا لا يعتمدون على رواتبهم التي لا تكاد تكفي عدة أيام، بل على مصادر دخل متنوعة.

ومن هذه المصادر: الحوالات المالية القادمة من الخارج، أو العمل بوظيفة ثانية في القطاع الخاص، بالإضافة لذلك قد يمتد الاعتماد على مصادر دخل غير مشروعة نتيجة الفساد المالي والرشاوى في الدوائر والمؤسسات الحكومية.

وتظهر سياسة النظام بما يتعلق بالرواتب، بأنها “دافعة نحو عسكرة المجتمع وتحويل العسكرة لمهنة كبقية المهن، وهو ما تم فعلا من خلال التعاقد معهم كمرتزقة ضمن الميليشيات أو إرسال المرتزقة إلى مناطق نزاع مسلح تحت إشراف روسي”.

وهي “دافعة أيضا نحو الهجرة، تُضاف لمجموعة من العوامل الأخرى الدافعة لها، خصوصا لأولئك المتعلمين وأصحاب الشهادات العلمية”.

ضياء عودة

الحرة

———————————–

سلطات الأمر الواقع تتفوق على النظام في الحكم/ حايد حايد

دخلت الاحتجاجات المناهضة للنظام، جنوبي سوريا، أسبوعها الثاني، اعتبارا من يوم الاثنين الماضي. واندلعت هذه الاحتجاجات في البداية بسبب قرار الحكومة خفض دعمها للوقود، على الرغم من محاولة النظام التخفيف من أثر هذا القرار من خلال مضاعفة رواتب الوظائف العامة. وتاريخيا، شهدت المناطق الواقعة خارج قبضة النظام- والتي تمتد من مناطق حكم الإدارة الذاتية في شمال شرقي البلاد إلى مناطق حكومة الإنقاذ في الشمال الغربي والمجالس المدعومة من تركيا– شهدت احتجاجات متفرقة ضد سلطات الأمر الواقع الخاصة بكل منها.

إلا أن التصاعد المستمر للاحتجاجات المناهضة للنظام لم يثر بشكل مباشر مظاهرات مماثلة ضد سلطات الأمر الواقع التي تسيطر على مناطق أخرى من البلاد. بدلا من ذلك، انضم سكان هذه المناطق معا للتضامن مع المحتجين ضد النظام وتقديم الدعم لهم. ويمكن أن تُعزى هذه الظاهرة إلى الاعتقاد بأن السكان في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة ينظرون إلى سلطات الأمر الواقع الخاصة بهم باعتبارها خيارا أكثر قبولا مقارنة بالنظام، مما يزيد من ترسيخ دور الرئيس الأسد باعتباره الخصم الرئيس لهم.

ومع ذلك، من الضروري التأكيد على أن الظروف المعيشية للمقيمين في المناطق التي يسيطر عليها النظام أصعب بكثير مقارنة بالمناطق الأخرى. ويستمر هذا التفاوت على الرغم من ميزة وجود هياكل مؤسسة للدولة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، بخلاف الأطر المشيدة حديثا في مناطق أخرى، والتي أُنشئت بموارد وخبرات محدودة.

المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام

في عام 2017، ظهرت حكومة الإنقاذ السورية في محافظة إدلب وريف حلب، بتأييد ودعم من “هيئة تحرير الشام”. ويتعدى دعم الهيئة لحكومة الإنقاذ الجانب العسكري، حيث تتيح لها الفرصة للوصول إلى العائدات التي تنتجها أو تديرها. وفي المقابل، تستفيد هيئة تحرير الشام من حكومة الإنقاذ في فرض سيطرتها الإدارية على المنطقة.

وتتألف حكومة الإنقاذ من رئيس للوزراء و11 وزيرا، يعتمدون بدورهم على المديريات الفنية والمجالس الإدارية لحكم المناطق. وتدار المديريات الفنية من قبل موظفين معينين، أما المجالس المحلية فتُنتخب نظريا من قبل المجتمعات المحلية لضمان المشاركة الشعبية في الحكم المحلي. بالإضافة إلى ذلك، يوجد مجلس شورى يعمل كهيئة تشريعية نظرية (أشبه بالبرلمان) مسؤولة عن مراقبة حكومة الإنقاذ.

وفي حين تُجرى الانتخابات اسميا لمجالس الشورى والمجالس الإدارية، فإن الكثيرين ينظرون إلى هذه العمليات على أنها مجرد إجراءات شكلية. وغالبا ما يتم تحديد المرشحين الناجحين مسبقا من قبل هيئة تحرير الشام والمجموعات التابعة لها. علاوة على ذلك، فإن نموذج الحكم الذي تتبعه حكومة الإنقاذ يركز سلطة اتخاذ القرار في يد المستويات الأعلى. وبالتالي، تقوم المديريات الخدمية في المقام الأول بتنفيذ السياسات والبرامج التي تضعها وزاراتها المتخصصة، والتي تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام.

المناطق المدعومة من قبل تركيا

تشمل هذه الأراضي أعزاز والمناطق الخاضعة لعمليات درع الفرات وغصن الزيتون العسكرية التركية. وتمتلك هذه المجالس شبه المستقلة سلطة تنفيذية كبيرة ضمن نطاق اختصاصاتها، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الدعم المالي والإداري الكبير الذي تقدمه تركيا. فمن الناحية المالية، تعتمد هذه المجالس على الإيرادات المتأتية من المعابر الحدودية والأمامية، إضافة إلى الدعم المالي الذي تقدمه تركيا.

وتتركز العلاقة بين هذه المجالس والحكومة التركية حول المساعدات المالية والفنية. ومع ذلك، فإن مشاركة تركيا المباشرة والكبيرة على الأرض تمنحها قوة كبيرة للتأثير على عملية صنع القرار في هذه المجالس. ويشرف على الإدارة اليومية للمجالس إداريون معينون من قبل الأتراك، والذين يعينون بدورهم ممثلين أو مستشارين للتعاون مع المجالس.

وعادة ما يتمتع هؤلاء المستشارون بخبرات في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم والتمويل، وهم متخصصون معينون من قبل الحكومة، ويشغلون وظائف محددة ضمن المجالس ويعملون بشكل وثيق مع رؤسائهم المعنيين. أما في المناطق الأخرى التي تجري فيها انتخابات اسمية، فيعيّن أعضاء المجالس المحلية بعد مشاورات بين القادة المحليين والفصائل المسلحة والمسؤولين الأتراك.

المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية

تأسست الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد في عام 2012 داخل المناطق ذات الأغلبية الكردية في محافظة الحسكة، وتوسعت بعد الهزيمة العسكرية لتنظيم داعش لتشمل مناطق مثل منبج والرقة ودير الزور. ويتألف هذا الهيكل التنظيمي من سبع مناطق تتمتع بالحكم الذاتي، والمعروفة أيضا باسم الكانتونات، وهي: عفرين، الجزيرة، الفرات، الرقة، الطبقة، منبج، ودير الزور. وفي عام 2018، ظهرت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (AANES) للتنسيق والإشراف على هذه الإدارات الإقليمية السبع. وتتكون الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، السلطة الأعلى في المنطقة، من مجلس تنفيذي (يتولى الحكم) ومجلس تشريعي (يقوم بالمهام البرلمانية).

ويعكِس هيكل المجلس التنفيذي الإقليمي وعمله نمطًا مشابها لما هو متّبع في الإدارة الذاتية لمناطق شمال وشرق سوريا. وفي حين أن السلطات التنفيذية أصبحت لا مركزية عبر مختلف المستويات الإدارية– من المجالس الإقليمية إلى مجالس الكانتونات، والمناطق، والمقاطعات، والمجالس المحلية– فإن التنفيذ العملي يبدو أكثر مركزية؛ وعادة ما يسبق تنفيذ القرارات المتخذة الحصول على موافقة من المجالس ذات المستويات الأعلى.

وضمن هذا الإطار الهيكلي الرسمي للحكم، يوجد إطار غير رسمي أو ظلي، يترأسه قادة أكراد معروفون باسم الكادرو، والذين يملكون تأثيرا كبيرا على الاختيارات الاستراتيجية والسياسية الحاسمة. وعلى الرغم من أن المجتمعات المحلية مسؤولة نظريا عن انتخاب أعضاء مجالس الإدارة المدنية، إلا أن الواقع مختلف تماما؛ إذ غالبا ما تجري التعيينات نتيجة للمشاورات مع الشخصيات المحلية، بدلا من إجراء انتخابات شعبية، سواء في الهيئات الإقليمية أو المركزية.

المناطق التي يسيطر عليها النظام

ومع تراجع قبضته على مؤسسات الحكم في المناطق الخارجة عن سيطرته المباشرة، سعى النظام بشكل متزايد إلى تعزيز سيطرته على مؤسسات الدولة داخل المناطق التي يسيطر عليها. وأدى ذلك إلى تبني نهج أكثر صرامة وتدخلا في الأداء اليومي لمؤسسات الدولة. وحتى مع صدور القانون رقم 107 في أغسطس/آب 2011، والذي يهدف إلى تسهيل التحول إلى سلطة لا مركزية وإرساء أساس للإدارة المحلية في المناطق التي يسيطر عليها النظام، ظل تنفيذ هذا القانون معلّقا إلى حد كبير.

ويواصل المكتب المركزي للرئاسة القيام بدور بالغ الأهمية في صياغة السياسات العامة وسن القوانين واللوائح بهدف تيسير عملية التنفيذ. وعلى الرغم من فتح المجال للحكومة والبرلمان لتقديم مدخلاتهما، إلا أن صلاحياتهما لتعديل القوانين المطروحة من قبل الرئاسة تظل، إن وجدت، محدودة للغاية.

الرواتب والقوة الشرائية

تظاهر السكان، في بعض الأحيان وبدرجات متفاوتة، ضد سياسات وأداء سلطات الأمر الواقع في مناطقهم. إلا أن هذه الجهات نجحت في توفير ظروف معيشية أفضل من الظروف التي توفرها حكومة دمشق. وعلى الرغم من صعوبة القيام بتحليل شامل، إلا أننا قمنا بتقسيم هذا التقييم إلى معيارين أساسيين: الرواتب والخدمات.

وفي المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، لا تزال الأجور منخفضة بشكل ملحوظ، حتى مع الزيادة الأخيرة؛ إذ بالكاد يبلغ متوسط راتب الموظف الحكومي 22 دولارا. وفي المقابل، يتجاوز متوسط الدخل داخل مناطق قوات سوريا الديمقراطية، مدعوما بزيادات الرواتب الأخيرة، 85 دولارا. وشهد الموظفون العموميون في المناطق المدعومة من تركيا أحدث زيادة في رواتبهم في ديسمبر/كانون الأول 2022، ورفعت تلك الزيادة متوسط دخلهم إلى حوالي 92 دولارا. وفي الوقت نفسه، يبلغ متوسط رواتب الموظفين الحكوميين في المناطق التي تديرها هيئة تحرير الشام حوالي 90 دولارا.

ومن المهم الإشارة إلى أن القيمة الفعلية لهذه الرواتب تتفاوت بناء على اختلاف وتيرة الزيادات وتقلب أسعار العملة المستخدمة؛ إذ تسود الليرة التركية في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام والمناطق الخاضعة لسيطرة تركيا، فيما تعتمد المناطق الأخرى على الليرة السورية. ومع ذلك، فإنه من الواضح تماما أن الحكومة تنفق فقط ربع ما يحصل عليه الموظفون العموميون في المناطق الأخرى.

ولقياس القوة الشرائية العملية لهذه الرواتب بشكل شامل، يجب التركيز على التفاوت الكبير في أسعار المواد الغذائية بين المناطق. ففي المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، تعدّ أسعار المواد الغذائية معقولة نسبيا مقارنة بالمناطق التي يسيطر عليها النظام. وفي المقابل، تتمتع المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بأقل تكاليف للمعيشة في سوريا.

الخبز والوقود

يظهر النقص في إمدادات الخبز والوقود في بعض المناطق بشكل واضح، ويستدعي هذا توضيحا إضافيا. إذ تتوفر هذه السلع بشكل عام في أسواق المناطق الخاضعة لإشراف هيئة تحرير الشام والقوات التركية. ولكن، من الضروري التأكيد على أن سلطات الأمر الواقع لا تدعم أسعار الوقود في تلك المناطق.

ويظهر في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية نمط مماثل، إلا أن وجود حالات متقطعة لنقص إمداد الوقود يثير بعض التوتر. ومع ذلك، فإن حالات النقص هذه غالبا ما تكون مؤقتة. وتنحصر الشكاوى السابقة أيضا في التحديات المتعلقة بالوقوف في طوابير طويلة لشراء الخبز، إلى جانب المخاوف بشأن كفاية الحصص المخصصة. وتلبية لتلك المخاوف، قامت الإدارة الذاتية مؤخرا بزيادة مخصصات الخبز للشخص الواحد بنسبة كبيرة بلغت 25 في المئة. والجدير بالذكر أن التزام الإدارة الذاتية يشمل توفير الوقود المدعوم وحصص غاز الطهي. وبالرغم من ذلك، لا تزال هناك بعض المخاوف المتعلقة بالتأخير في تسليم هذه الموارد.

وفي تناقض صارخ، تفاقمت مسألة ندرة الوقود والخبز في المناطق التي يسيطر عليها النظام وتحولت إلى تحديات مستمرة وطويلة الأمد. فمن جانبها، تقوم الحكومة بتوزيع المنتجات البترولية وغاز الطهي بأسعار مدعومة. إلا أن تقارير عديدة تحدثت عن حدوث تأخيرات كبيرة في توزيع تلك المواد، بالإضافة إلى الشكاوى المتزايدة بشأن عدم كفاية كميات الحصص الموزعة.

ووسط التباين في حجم الدخل والقوة الشرائية والوصول إلى الخدمات الأساسية، يواجه السوريون في جميع أنحاء البلاد تحديا مستمرا لتغطية نفقاتهم. وبالتالي، فإنه من المتوقع أن يستمر زخم الاحتجاجات ضد السلطات الحاكمة، وإن كان بدرجات متفاوتة، طالما أن الأسر تواجه تحديات لتلبية احتياجاتها الأساسية غير الملباة. وعلاوة على ذلك، سيستمر عدد كبير من الأفراد في السعي لتحقيق آفاق أفضل في الخارج، على الرغم من التكاليف والمخاطر المتزايدة التي ينطوي عليها الأمر.

المجلة

—————————–

2011 في الاحتجاجات السورية الراهنة/ صادق عبد الرحمن

أعادت موجة الاحتجاجات الجديدة في سوريا إحياء الأمل بالتغيير السياسي في البلد، كما أنها فتحت الأبواب على نقاشات واسعة بشأن ثورة 2011 ورموزها وشعاراتها وأساليبها، وبشأن المسار الذي قاد البلد إلى ما هو فيه اليوم من استعصاء وخراب. ولكن قبل ذلك؛ ما هي الاحتمالات الممكنة نظرياً للوصول إلى التغيير المأمول في سوريا؟

الاحتمال الأول هو احتجاجات سلمية وإضرابات في مدن سوريا الكبرى، ومن بينها العاصمة دمشق بالضرورة، تُعطّل البلد كلياً وتُجبر النظام على تقديم تنازلات وتغيير نفسه بنفسه، وقد فشل هذا الخيار في العام 2011 وليس هناك بوادر جديّة تشير إلى إمكانية حدوثه ونجاحه في المدى المنظور.

الاحتمال الثاني هو أن يقبل النظام بالسير في عملية انتقالية لوقف التدهور الرهيب في أوضاع البلد، ولدينا مسارٌ معروفٌ لهذه العملية تم تحديده في قرارات أممية، وتعهداتٌ دوليةٌ برفع العقوبات والبدء بإعادة الإعمار بعد بدء هذا المسار، غير أنه لم يصدر عن النظام ما يوحي باحتمال سيره على هذا الطريق، بل يصدر عن بشار الأسد وأعوانه ما يوحي بتفضيلهم حروباً لا تنتهي على ذلك.

الاحتمال الثالث هو تَغيّرُ الأوضاع الإقليمية والدولية بما يفضي إلى التخلص من بشار الأسد، على يد قوى غربية أو على يد أحد حلفائه في إطار ترتيبات جديدة في الإقليم أو العالم. هذا الاحتمال يبقى وارداً دوماً، إلّا أنه لا معلومات موثوقة عن نضوج ظروفه الآن، ولا سيطرة للسوريين عليه، وسيقع عليهم التعامل مع نتائجه دون المشاركة في تقرير كيفية وتوقيت حدوثه.

ويبدو أنه ما يزال يدور في بال البعض أن ثمة احتمالاً رابعاً ممكناً هو وصول مسلحين معارضين إلى قلب دمشق وإسقاط النظام بالقوة، ولكن هذا لم يعد احتمالاً وارداً اليوم حتى على المستوى النظري، ذلك أن عودته إلى دائرة الاحتمالات تحتاج معجزة هي انسحاب الدول الأجنبية، وترك المسلحين السوريين يتقاتلون دون أي دعم خارجي مباشر لأي طرف.

لدينا احتمالات ثلاثة إذن على المستوى النظري، وبينما يتجدد الحراك الاحتجاجي في سوريا اليوم، ويبلغ ذروة كبرى في احتجاجات السويداء الشجاعة التي تُذكِّرُ بأيام الثورة السلمية وساحاتها في 2011، فإنه لا بوادر تشير إلى قرب حدوث أيّ من هذه الاحتمالات، لكن ثمة في هذه الاحتجاجات ما يمكن الرهان عليه لفتح الأبواب على تحقق واحد منها، أو فتح الواقع على احتمالات أخرى لا نعرفها اليوم.

ثمة عنصرٌ قد يطرأ على المعادلة فيغيّرُ من مسار الأحداث، وهو تَحوُّلٌ واسعٌ في صفوف أنصار النظام، وعلى وجه الخصوص المنحدرين من الطائفة العلوية، بما يُفضي إلى تخلّي غالبيتهم عن دعم النظام وانخراط بعضهم في النضال ضدّه، ويمهد لبدء عملية التغيير سواء عبر تصدع نواة النظام الصلبة أو عزلها كلياً عن المجتمع. يحتاج هذا نَفَسَاً طويلاً وصَبوراً، ولكن بدونه فإنه لا مجال للتغيير السياسي في سوريا إلّا بتدخل دولي قد لا يحدث أبداً.

يحتاج حدوث هذا التحوّل ظروفاً موضوعية عديدة، ليس من بينها دعوة الناس المُتعجّلة لمواجهة الموت في الشوارع، ولا تلك التصورات التي يأمل أصحابها رحيلاً سريعاً للنظام بضربة خاطفة. بعض هذه الظروف يوفرّه النظام نفسه بوحشيته وفساده وفشله في تأمين الحد الأدنى من الكرامة والخبز للناس، وبعضها الآخر يحتاج عملاً وطنياً منظماً وظروفاً دولية وإقليمية مواتية، لكنه يحتاج أيضاً جهوداً من معارضي النظام الحاليين وجمهور ثورة 2011 داخل سوريا وخارجها، وعلى رأس هذه الجهود يقع التخلي عن خطاب «أين كنتم حين كنا؟»، والكفّ عن تعيير المحتجين بجوعهم عبر مقارنات فارغة بين «ثورة جوع» و«ثورة كرامة»، والقبول بأن محاسبة المجرمين من سائر الأطراف تأتي بعد الانتقال السياسي وفي سياق برنامج عدالة انتقالية، وبأن رواية الثوار عن ثورتهم لا يمكن أن تَحوز إجماعاً وطنياً في أي وقت، وبأن راياتهم وشعاراتهم لا يمكن أن تُمثّل جميع السوريين ولا حتى جميع السوريين الراغبين في الخلاص من النظام، وقبل كل هذا التخلي كلياً عن خطاب الجهادية الإسلامية وعن الرهان على فصائلها ومعاركها وسلاحها.

ثمة مؤيدون للنظام يغيرون مواقفهم، وثمة أجيالٌ جديدة من صبايا وشباب كانوا أطفالاً في العام 2011، وثمة قطاعات واسعة كانت على الحياد وقد تجد نفسها معنية اليوم بالانخراط في كفاح من أجل التغيير، ولن ينخرط أغلب هؤلاء في النضال ضد النظام تحت العلم السوري الأخضر. والحال هذه، يحتاج ثوار 2011 أن ينظروا إلى أنفسهم كجزء من حركة التغيير في سوريا، وليس كممثلين عنها ولا كآباء روحيين لها.

لا يعني هذا أن نتخلّى عن حكايتنا ورموزنا وتُراثنا الكفاحي، بل يعني أن نتواضع ونعترف بالهزائم والتقديرات الخاطئة ومرور الزمن وتحولات الواقع، ويعني أن نتذكر أن الهدف ليس انتصار روايتنا عن أنفسنا بل الخلاص من الأسديين وطيّ صفحتهم الدامية الطويلة، ثم السير على طريق الحياة الكريمة والعدالة ومحاسبة مجرمي الحرب وبناء بلد صالح للعيش.

تحضر روح 2011 وشعاراتها بوضوح لا تخطئه عين في الموجة الاحتجاجية الراهنة، لكن ما لا ينبغى أن يحضر بحال هو ما فشلَ من أساليبها وخطابها ورهاناتها، وما لا ينبغي أن يحضر بحال هو استمرار تقسيم السوريين على أساس موقفهم منها. نحتاج اليوم أن نتقدّم خطوات نحو إنجاز التغيير في بلدنا، وسيكون لدينا بعدها ما يكفي من الوقت للدفاع عن حكايتنا ورموزها، ولرواية قصتنا داخل سوريا نفسها على مسامع سوريين لا يعرفونها، وعلى مسامع سوريين آخرين يعرفونها وينكرونها دون أن يكونوا قادرين على إسكاتنا بسلاحهم وأجهزتهم الأمنية.

موقع الجمهورية،

—————————————

هل تشتعل الثورة مجدداً ضد الأسد؟/ رضوان زيادة

تشهد محافظتا السويداء ودرعا وربما بعض محافظات الساحل السوري احتجاجات غير مسبوقة على الوضع المعيشي في سوريا، حيث تقلب الأسعار الناتج عن ارتفاع سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار حتى وصلت الليرة إلى حدود 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، وهو ما يعني ارتفاع الأسعار بشكل جنوني فضلا عن انعدام المواد والاحتياجات الأساسية في الأسواق.

وهو ما حول موظفي الدولة وعددهم يفوق 3 ملايين موظف في القطاع العام، إلى شبه متسولين حيث يعادل راتبهم الشهري ما يقابل 7 إلى عشرة دولارات أميركية شهريا، لقد وصل الوضع الاقتصادي إلى طريق مسدود كليا والأسد يعرف ذاك كما كل أجهزته الأمنية التي لن تستطيع تحسين الوضع بأي شكل، فالدولة السورية في حالة انهيار تام وكامل وليس هناك أي أفق أن الأمور ستتحسن في المستقبل المنظور فالمؤكد أن الوضع سيصبح أكثر سوءا وكارثية.

هذا الوضع دفع بالمئات من الشبان في السويداء إلى قيادة حركة احتجاجية مطلبية تطالب بتغيير الوضع ووضع أفق لتغيير الوضع المعاشي وهو المستحيل بعينه، السؤل الآن هل ستتطور هذه الاحتجاجات إلى ثورة شعبية ثانية في المحافظات السورية كدمشق وحلب، من المستبعد ذلك تماما فالكل يدرك مدى سطوة نظام الأسد في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية، حيث قادت إلى مقتل الآلاف تحت التعذيب وتجويع وحصار الملايين، بالنسبة للأسد لا يوجد شيء اسمه الشعب السوري يستحق الحياة الكريمة، إنهم مجرد عبيد ملزمين بالعمل لصالح الأسد ودفع الضرائب له مقابل لا خدمات تقدمها الدولة، دكتاتورية قروسطوية عفا عليها الزمن لكن للأسف بلي الشعب السوري ولم يتدخل المجتمع السوري لمساعدة هذا الشعب للتخلص من هذا الطاغية الذي أثخن بالشعب جوعا وتفقيرا وتقتيلا.

فالسوريون في المحافظات التي ما زال يسيطر عليها الأسد يدركون تماما ثمن الاحتجاج ضد الأسد فما زال مئات الألوف من أبنائهم في المعتقلات يخضعون لتعذيب سادي ونازي بشكل يومي، فكيف يمكن للأسد أن يستمع إلى الأصوات المطالبة بتحسين الوضع المعيشي مع حالة انعدام قدرات كاملة للدولة السورية.

ربما لن تهدأ الاحتجاجات في المستقبل القريب وربما تتصاعد لكنها لن تقود إلى ثورة شعبية كما ثورة عام 2011، فالسوريون اليوم مثقلون بالألم والجوع والضياع، إننا نعيش اليوم أسوأ أيام سوريا على الإطلاق في تاريخها وهو ثمن طبيعي لسياسات الأسد في محاربة الثورة على مدى عقد من الزمان.

الثورة تحتاج إلى طبقة وسطى تحمل قيادتها وما قام به الأسد هو قتل كل القيادات البازغة وإفقار سوريا من كل قياداتها وجيلها القادم الذي يمكن له أن يقود سوريا إلى مستقبل مختلف يحمل ازدهارا وأمانا للشعب السوري، لكن الذي حصل هو العكس بقي الأسد في الحكم ونجح في حرق بلد مقابل بقائه في الحكم، والنتيجة كانت حتمية وطبيعية “احترق البلد وبقي الأسد” ولذلك على هؤلاء الشبيحة اليوم الذين يشكون من غلاء المعيشة أن يفكروا بما فعلوه بالثورة السورية، وما فعلوه بأفضل القيادات السورية وقتلها وتشريدها بحيث أصبحت سوريا كما يريدها الأسد تماما أرضا قاحلة جرداء.

    رغم تصاعد الاحتجاجات في سوريا، لكنها لن تقود إلى ثورة شعبية كما ثورة عام 2011، فالسوريون اليوم مثقلون بالألم والجوع والضياع.

بكل تأكيد يعتصر الألم قلب كل سوري إلى ما انتهى إليه وطنهم، وما انتهى إليه الشعب السوري من مذلة وإهانة، بين اللجوء والمخيمات، لكن الأسد وحده يتحمل المسؤولية كاملة، ولذلك يجب أن تكون البوصلة واضحة للجميع بما فيهم شبيحة الأسد الذين دافعوا عنه عند قتل الشعب السوري، واليوم يريدون من هذا الشعب الجريح أن يحيي اقتصادا خنقه الأسد حتى الموت.

تلفزيون سوريا

————————————

نحن من السويداء.. والسويداء منا/ محمد السكري

تعود مدينة السويداء التي لم تنقطع عن الانخراط في الثورة السورية مند بدايتها الأولى للتظاهر والعصيان المدني ضد نظام بشار الأسد، بعدما استفحل الظلم والتجويع الذي يمارسه دون تقديم أيّة حلول من شأنها إقناع الناس وتهدئتهم، بل ما يقوم به الأسد هو الاستخفاف وتجاهل مطالب الناس انطلاقاً من إدراكه بأنّ المجازر التي ارتكبها بحق السوريين كفيلة بأن تمنعهم من الإقدام على خطوة العصيان من جديد، وكما في كل مرة على مدار عقود حكم منظومة الأسد المستبدة لسوريا، يخطئ الأسد في حساباته ومراهنته على مملكة الخوف والترهيب الطائفي والتلويح بعصا داعش التي لطالما يستخدمها ضد المكونات السورية المناهضة له كما في حالة السويداء.

هذه المرّة يترافق الحراك المدني مع توسع رقعته وانطلاق حركات مدنية شبابية في مناطق النظام تتبنى خطاباً وطنياً واستطاعت الوصول لعمق مناطق النظام وخاصةً أنّها تنشط هناك، حيث نشرت حركة “١٠ آب” العديد من الملصقات المطالبة بالتغيير واستعادة الدولة السورية من نظام الأسد وريث الدولة من الفرنسيين ومن ثم الانقلابيين البعثيين. الملفت أنّ الأوضاع الاقتصادية في مناطق نظام الأسد لم تتحسن رغم التواصل التقني العربي بل على العكس تستمر موجة فقدان العملة السورية لقيمتها بشكل متسارع ويومي هذا إن لم يكن دقيقة بدقيقة.

سبب ذلك سخطاً كبيراً ضد الأسد وتحميله المسؤولية الأساسية عن سوء حالة مناطقه، على عكس مناطق المعارضة السورية دخلت ضمن حيز مقارنات الناس؛ حيث تشهد تحسناً من الناحية الخدمية والحوكمية مقارنة بمناطق الأسد ولو كان هذا التحسن ما دون المأمول لكنه يبقى أفضل حالاً من مناطق يحتلها نظام الأسد، وفي الحقيقة إن المتغير المهم ضمن هذا الإطار بدء دخول المدنيين في مناطق الأسد في مقارنات مع مناطق المعارضة خاصةً بشأن تحسن البنية التحتية في شمال غرب سوريا. كما ترافق العصيان في السويداء مع آخر كبير في مدينة درعا السورية مهد الثورة السورية، إذ لا يحمل حراك درعا فقط أهمية سياسية أو شعبية بل رمزية كبيرة مرتبطة بعصب الثورة السورية وفشل الأسد في إحكام السيطرة على المدينة والقضاء على الحراك المدني والثورة.

وضمن تلك الخارطة يخرج جنوب سوريا عن سيطرة نظام الأسد بشكل شبه كامل، عشرات نقاط التظاهر، ما عدا قطع الطرق وإغلاق “المؤسسات” الحكومية ومنعها من العودة للعمل قبل تحقيق مطالب الناس، ولم يكن خروج الناس في الجنوب بدون وجود رؤية واضحة فهناك إصرار وإشارة واضحة لضرورة تطبيق القرار الأممي ٢٢٥٤ والانتقال التدريجي لمرحلة انتقالية جديدة في سوريا. فحمل الحراك أهمية كبيرة من نفي الهوية الطائفية للثورة السورية، وإعادة تلاحم القوى الوطنية في سوريا بهدف الانتقال لدولة المواطنة وقد تجسد ذلك بأبهى صوره عندما هتف المتظاهرون في السويداء لكل المدن السورية بما فيها مدينة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة السورية، كما قامت إدلب بالتضامن مع السويداء وتأييد الحراك المدني ضمن رؤية وطنية تعبّر عن غاية الشعب السوري.

وكما تعالت الأصوات المؤيدة للحراك، خرجت أخرى رافضة له واصفةً إياه بأنه “ثورة جياع” ولا يحمل عمقاً وطنياً مرتبطة بكرامة الناس، لكن مما لا يعلمه كثر من رافضي حراك السويداء أنّها أول مدينة تخوض معركة مباشرة مع بشار الأسد عقب تسلمه السلطة مباشرةً مطلع العام ألفين عندما حاصرها بالمدرعات وقتل عدداً من شبابها في انتفاضة مشابهة لحد كبير تلك التي حدثت في القامشلي عام ٢٠٠٤.

الحقيقة، هذا ليس رداً على المنطق القائل إن الثورة للجميع وحقها حق الجميع، وإنما رداً على السباق الزمني والأخلاقي والتحيز المفاهيمي بين الجوع والكرامة الذي قررته مجموعة تدعي أنّها تحمل انتماءً قيمياً فيه من الطبقية البرجوازية ما يكفي للاستنكار؛ لأنّ مفهوم الثورة الأساسي رفض أي شكل من أشكال التمييز، فإن لم يكن الجوع هو العنوان العريض لشريحة معينة في الثورة السورية فهو عنوان أعظم ثورات العالم، من ثورة الرق العبيد وسبارتكوس للثورة الفرنسية “ثورة الخبز” والربيع العربي الذي أشعل فتيله شاب عربي “محمد البوعزيزي” حرق نفسه احتجاجاً على الوضع الاقتصادي في تونس وبسبب مصادرة عربته التي كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه.

وإن كان الجوع هو محرك ثورة السويداء فهذا لا يقلل من قيمته، فأن يثور الإنسان لأنه جائع فلا يقل ذلك صدقاً عن رفض ثلاثية القتل والجوع والظلم لأنها مثلث يخشاه أي نظام مستبد فيحميه ويدافع عنه لآخر رمق؛ ويربكه أي حراك يكون منطلقه تلك المفاهيم وقد يكون من الجيد ضمن هذا الباب التذكير بما قاله الصحابي أبو ذر الغفاري فيما يرتبط بثورات الجوع وحق الخروج والتمرد “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه” في تعبير عميق عن أهمية انتفاض الناس لأجل الجوع دون التقليل من قيمة الدافع لأنّه حق وجزء أصيل من كرامة الناس، لا أعلم كيف يمكن التفريق بين الخبز والكرامة فإن لم تكن الكرامة نفسها مصحوبة بمطالب اقتصادية وسياسية فما هي إلّا شعارات لن تحسن شروط حياة الناس ومن قال إن الثورة السورية لم تخرج لأجل مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية بالطبع.

وإنصافاً للسويداء فهي كانت من المدن السورية التي ثارت في وجه النظام منذ بداية الثورة السورية، ومنع الوجهاء إرسال الشباب “للجيش السوري” مبررين ذلك رفضهم قتل السوريين مما عرضهم لحملات أمنية مستمرة لم تتوقف، هذا ما عدا مشاركتهم في الثورة العسكرية ومن لا يذكر “خلدون زين الدين” الشهيد الذي انخرط في معارك جنوب سوريا ضد قوات نظام الأسد، كما لم تنقطع السويداء عن الحراك الشعبي على مدار ١٢ عاماً من الثورة السورية من أيام مواقف البلعوس ومروراً بحملة بدنا نعيش وليس انتهاءً بتظاهرات اليوم التي يمكن اعتبارها هي الأكبر والأخطر على النظام في ظل تهاوي سلطاته الأمنية.

يشكّل حراك السويداء فرصة جديدة للقوى الوطنية السورية بكل تنظيماتها لأجل إعادة ضبط البوصلة الوطنية، وتقييم الخطاب الجامع الذي يتجاوز الأيديولوجيا والانتماءات المناطقية والإثنية والتبعية للدول، هناك حاجة ماسة للسوريين لحوار بناءً يقوم على استعادة الدولة السورية من نظام الأسد والبدء بمساعي البناء، يشكل القرار الأممي ٢٢٥٤ مدخلاً مهماً للمرحلة القادمة لكن القرار سيبقى في إطاره النظري إن لم تتوحد القوى الوطنية وتنظر لمشتركاتها وتتجاوز خلافاتها المرحلية، وبدء التواصل وجزء من ذلك تنظيم المجتمعات المحلية لنفسها خاصة في السويداء ودرعا، والأهم أن يبقى التظاهر والحراك مستمراً ليس فقط في مناطق النظام إنما في مناطق المعارضة السورية.

تلفزيون سوريا

————————————

“ثورة الجوع” عن لعنة أن تكون سوريّاً في عهد الأسد/ مالك داغستاني

يطيب للكثيرين منا وصف ثورة السوريين عام 2011 بثورة الكرامة، وهو وصف ليس ببعيد عن الواقع، فيما لو فسرنا التسمية بأنها تعني ثورة “استعادة الكرامة”. استعادتها بعد عقود من الذل عانى منه المنتفضون وآباؤهم قبلهم، ممن عاشوا حالات من الإذلال الممنهج، تحت سياط القمع والسجن وانتهاك الكرامة والحرمات، وصولاً إلى القتل الذي مارسته قوات الأمن والجيش بحق السوريين، منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970.

اليوم يتداول بعض السوريين مصطلح “ثورة الجوع” أو ثورة الجياع لتوصيف بوادر انتفاضةٍ سورية جديدة. يتداولون المصطلح بمقابلةٍ، فيها الكثير من الخفّة وكثير من انتباج الذات، مع “ثورة الكرامة”. وبالتأكيد ستبدو الأرجحية واضحة، على سطحيتها، لصالح من انتفض من أجل الكرامة، باعتبار الكرامة قيمة من القيم الأعلى في مجتمعاتنا.

بدأ الحديث عن ثورة الجوع منذ عام 2014 وربما قبل ذلك، لكنها لم تحدث إلا عام 2023، وهنا يجب الانتباه إلى أن وصف ما يجري اليوم، على أنه ثورة هو من باب المجاز، فنحن لا نعرف مآلاتها بعد، لا سيما وأنها في أطوارها الأولى. سأفترض أن الفاعلين اليوم، إضافة إلى الإذلال الذي عاشوه مع آبائهم، قد قرصهم الجوع حقيقةً لا مجازاً. لكن اعتبار أن الجوع هو دافعهم الأول هو افتراض يحتاج للكثير من النقاش. أما ما ندعوه ثورة الكرامة فقد اشترك بها أيضاً أناس قرصهم الذل وانتهاك الكرامة لأربعة عقود. وليس من الفضيلة في شيء اعتبارها راجحةً في سلّم الأفضلية. لا سيما أنها قامت خلال ما عرف بالربيع العربي، والتحولات التي شهدتها عدة دول في أجواء مُحفِّزة ومفعمة بالتفاؤل والأمل، أن التغيير قادم لا محالة.

سأذهب لوهلةٍ للطرف الأقصى من الفكرة التي أريد طرحها، لأقول إن انتفاضة اليوم تأتي ضمن أجواء من انعدام التفاؤل، بل واليأس المطبق من إمكانية أي تغيير، خاصة أنها تترافق مع انعطافة دولية، وإقليمية تجاه الأسد ومحاولات التطبيع مع نظامه. فلا أحلام اليوم لدى المنتفضين حول أي ضغط دولي على النظام، كالذي توفّر في البدايات لثورة 2011. بل على العكس ربما خبِرَ الموجودون في الشارع اليوم، كيف أجهضت التدخلات الدولية، طبعاً إضافة إلى عوامل ذاتية هي الأهم، كل أمل بانتصار الثورة بهدفها الرئيسي وهو إسقاط نظام الأسد.

رغم توقع كثيرين، منذ سنوات، قيام “ثورة جياع” ستشهدها سوريا، لكنها لعوامل موضوعية، لم تبدأ بوادرها سوى هذه الأيام. أرغب أن أنوّه هنا أن تعبير “ثورة الجوع” أو الجياع لم يرد ولا مرّة في الأدبيات الثورية على أنه مثلبة تستحق الذمّ، فلا أدري كيف يستطيع اليوم البعض تبخيسها، علماً أنها تحتاج لأضعاف مضاعفة من الشجاعة، إذا ما قورنت بالتجمعات الثورية التي تشهدها المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، رغم أنها ضرورية وواجبة، حيث تبدو الهتافات في الأخيرة تذكيرية في أجواء آمنة من أي بطش.

لطالما اعتبرتْ الكثير من الأدبيات الثورية، أن الفقر والجوع يمكن أن يكونا محركاً ثورياً في التاريخ، مع ما يرافقهما من وعي. الحقيقة بالنسبة لي، وقبل الوعي الفكري للفقر، فإن أول ما تتحسس الألم هي معدات الجائعين، وقد ينتفض الجائع، أو من يرى أطفاله جوعى، قبل أن يصل إلى وعي فقره عقلياً وفلسفته بالأفكار، وعلى الأغلب أنياب الفقر والجوع التي تنهش منه ومن أطفاله سوف تدلّه على من سبب له هذا الجوع، فيدرك تلقائياً في أي جهة من الحدث سوف يكون.

سأعود للضغوط الدولية التي تساعد غالباً على انتصار الثورات، فيما لو لم تحمل تلك الثورات عوامل إجهاضها بذاتها. ويحضرني هنا مثل عن الموقف الأميركي خلال الانتفاضة الشعبية غير المتوقعة في المجر عام 1956 بمواجهة الحكم الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفييتي. سيعطي الرئيس الأميركي إيزنهاور تعليماته التي تقضي “بإبقاء القِدر يغلي دون السماح له بالانفجار ليتحول إلى صراع مع المعسكر الشرقي”. نعم إنها السياسة الأميركية والغربية عموماً تجاه المناطق المتروكة أو المؤجلة سياسياً. والسياسة الدولية حتى اليوم والموقف مما جرى ويجري في سوريا هو في السياق ذاته، ونحن نعرف كم أننا متروكون.

عالمياً، يعتبر الأمن الغذائي حقاً أساسياً من حقوق المواطنة، وعلى الدولة أن تحفظه لمواطنيها، وكل الدول تعتبره ذا أولوية سياسية عالية جداً، لما له من تأثير على استقرار الأمن. لكن ما حدث ويحدث اليوم على أشدِّه في سوريا، يؤكد ألا دولة هناك ولا حكومة ترى أن للمواطن أي اعتبار، حتى للمواطن (الصالح) الذي وقف مع الأسد خلال حربه على السوريين. ما نشهده اليوم في سوريا هو إحياء لما يمكن أن ندعوه “نظام عبودية” جديداً، حتى لو أن العبيد غير مملوكين، قانونياً، من قبل الأسياد.

وللحقيقة أن الوضع أسوأ في سوريا اليوم، فهناك ما يشبه طبقة العبيد التي لم تعد تملك شيئاً، ولا حتى قوت يومها، لتتابع في يومها التالي العمل لصالح السيّد، كما هو مألوف في النظام العبودي. في المقابل هناك طبقة الأسياد التي تمتلك كل شيء، ولا ترغب بالتنازل عن أي شيء، بل إنها على الدوام تريد المزيد، دون أدنى التفاتة للجوع الذي يجتاح البلد. تاريخياً، لم يكن توزيع الثروات عادلاً في معظم البلدان، لكنه يبدو اليوم بالغ الفجور في سوريا، مع افتقاده ليس للعدالة وحسب، بل إنه لم يعد يأخذ بالحسبان استمرار البلد كدولة على الخارطة. وكأنه ينطوي على روح مافيوية تقول للناس: سآخذ كل شيء، وسوف أقتلكم إن لم تقبلوا.

يحدث ما يحدث في سوريا اليوم، من تحركات في الشارع خصوصاً في الجنوب، بل ونسمع بعض الأصوات الانتحارية التي تهين الأسد شخصياً مع عائلته وقادته شمالاً، في أماكن عُرفت على مدى السنوات الماضية على أنها موالية للأسد. وهذا ليس بالأمر الذي يمكن اعتباره تمثيليات مخابراتية، كما يحلو للبعض تفسيره باستسهالٍ كسولٍ يستخدم العدسة المشوهة للانغلاق عن أي مختلف، مع عدم التحلي بأية مرونةٍ هادفة. طبعاً هذا لا ينفي وجود بعض الأصوات المخابراتية التي يسهل تمييزها. وباستثاء بعض الاعتقالات القليلة والملاحقات، لم نلحظ للسلطة أي رد فعل قوي حتى الآن.

لذا لا ندري بعد، إن كان لدى الأسد ما يعرف بالخطة “B”. شخصياً أعتقد أن في جراب الحاوي “نظام الأسد” الكثير من الخطط بما يتخطى جميع الحروف الأبجدية، خصوصاً لردع ما يسميها حاضنته، كتنفيذ بعض التفجيرات مع استعداد عالٍ لتنظيم “داعش” لتبنيها، أو الإيعاز لإعادة ارتفاع أصوات من يريدون “إبادة العلويين”، بهدف إعادة الحاضنة إلى مأزقها الأساسي، باعتبار ألا بديل عن نظام الأسد الذي سيحميها من هؤلاء المتوحشين والمتخلفين، الذين سيبيدون كل من وقف ولو لفظاً مع الأسد خلال سنوات الثورة.

طبعاً هذا ليس ببعيد عما عرفناه من التكتيكات المخابراتية لنظامٍ لا يمتلك القدرة على أي إصلاحٍ سياسي، دون أن يسقط على الفور. إنه المأزق السوري المُستعصي، الذي يحتاج إلى تضافر كل القوى اليوم لكسره والخروج منه وفتح صيرورات جديدة، واستئصال تلك اللعنة العامة التي غطت كامل البلد منذ عقود. واللعنة الفردية، بأن تكونَ سورياً تحت حكم نظام الأسد لأكثر من نصف قرن.

تلفزيون سوريا

————————————

من جديد.. سوريا لكل السوريين/ جمال الشوفي

تشهد الساحة السورية اليوم متغيرات سريعة، وربما مفاجئة، بعد ركود مسيرتها لسنوات منذ 2018، فيما وكأنه يشبه إعادة إحياء الأمل والروح التي خبت وكادت أن تنطفئ. إذ يعود الشارع الشعبي للتحرك مجدداً في مختلف حنايا الجغرافيا السورية، وذلك ضمن إمكانات كل منها. إذ تشهد الساحة السورية سلسلة من البيانات والتصريحات لحركات مدنية في الساحل السوري رغم الخطورة الكبرى التي يمكن أن يتعرض لها أبناؤها هناك، ترافقها مجموعة من المحاولات في ريف دمشق الشرقي، وتبدلات في المشهد السوري في الحسكة وربما في عموم شرق الفرات وشمال غربي سوريا قريباً، ومظاهرات في قرى درعا تواجه بإطلاق النار، وتحرك شعبي واسع في السويداء تمثل بمظاهرات يومية منذ يوم الخميس 17 آب لليوم، مع التحرك لتحقيق عصيان مدني واسع، شمل معظم قرى وبلدات المحافظة. فهل ستثمر هذه التحركات الشعبية عن استعادة روح الثورة التي تستهدف التغيير السياسي في بنية السلطة السورية عامة واستعادة مشروع بناء الدولة السورية لكل السوريين من دون محاصصة فوقية أو علوية لفريق خلاف غيره، سياسياً كان أو دينياً؟ أم سيتكرر المشهد مرة أخرى بسيل من الانكسارات والخيبات ما لم نتعلم من دروس الماضي؟

منذ العام 2011، ورغم الزخم الشعبي الذي رافق متغيراتها الكبرى، لم يتمكن السوريون من الإجماع على ميثاق وطني يكون قادراً على أن يشكل بوصلة عمل تجمع الجهود السورية المتنوعة: السياسية والفكرية والاجتماعية والأهلية والدينية والمدنية. فرغم سيل الشعارات التي تناوبت في حمل مسيرة سوريا وثورتها متعددة المنعطفات، فإن الاختلاط المرافق لهذه المسيرة بين الوصول إلى السلطة بشكل منفرد كسلطة بديلة عن سلطة البعث العسكري الاستبدادي القائم، وبين بناء الدولة، أو استردادها من حكم العسكر، كان بادياً وواضحاً طوال مسيرة السنوات السابقة. لدرجة كان يمكن القول خلف توماس هوبز، ملهم ومؤسس العقد الاجتماعي الإنكليزي إبَّان ثورتها الكبرى قبل قرون، أنه لن يقنع الناس بضرورة وأهمية الاستقرار والأمان، كأرضية للدولة، ما لم يصطدموا بالواقع ويتحسسوا ضروراته وآليات علاج مطباته.

الثورة السورية، وبحسب دراسات متعددة ونشريات سابقة، مرت بمنعطفات عدة:

-الحراك الشعبي السلمي المدني الواسع بمظاهرات متوالية من 2011 لما يقارب نهايات الـ 2012 بتواتر أسبوعي عامّ، بلغ اليومي في مناطق سورية عدة، وبزخم شعبي تجاوز معظم الأرقام والقياسات الكمية التي رصدت تاريخ ثورات الشعوب السابقة.

-تداخل بين العسكرة والسلمية تأرجح بين منطقة وأخرى إلى أن تحولت سوريا لساحة معارك حربية واسعة. لم تتأخر لأنها بدأت تُحسم لصالح الفصائل الإسلامية العسكرية مقابل سلطة النظام.

-منذ منتصف الـ 2013 لغاية 2015، تكشفت الصراعات العسكرية بوضوح عن صراع إقليمي متعدد المحاور يجري على الساحة السورية، مميزُه كان صراعاً ميليشياوياً بين الفصائل الشيعية المدعومة من إيران مقابل الفصائل الإسلامية المدعومة من تركيا ودول الخليج. مترافقة مع تنامي قوى التطرف الإرهابي في الحالين أكل غالبية بقايا الثورة السورية وحوَّلها لبحر دم وكارثة كبرى.

-بعد الـ 2015 ومع تدخل روسيا-بوتين، بجانب الميليشيات الإيرانية وسلطة النظام، تحولت سوريا لعقدة دولية للصراع الدولي متمثلاً بالجيوبوليتيك الروسي القبيح، ومحاولة كسر مفاعيل القرارات الدولية التي تقرّ بضرورة التغيير السوري العام سواء عبر جنيف1/2012 أو ما تلاه في قرار مجلس الأمن 2254/2015 لصالح مشروعها السياسي المتمثل بمخرجات سوتشي بحل دستوري يفصل على مقاسها ومقاس السلطة القائمة. ولليوم لم تتمكن من ذلك رغم أنها وبعد 2018 تمكنت من حسم المعارك العسكرية في الداخل السوري وإخلاء وتقريع المدن السورية من سكانها وتدمير معظمها.

مسار هذه المتغيرات معزز بالشواهد والأرقام، وإن اختلفت أدوات تقييمه بين طريقة أو نموذج سياسي وآخر، لكن ثمة نقاط علّام واضحة فيه:

– رغم المدّ الشعبي الواسع السلمي الأول، لم يتفق السوريين على ميثاق عمل وطني عامّ، بقدر تباينهم وخلافهم السياسي بين صيغ أيديولوجية لأحزاب المعارضة الكلاسيكية، وصيغ مركبة وذات أجندات نفعية محضة. وكل طرف فيها يفترض أنه الأصحّ في رؤيته، وصاحب الأحقية المطلقة في قيادة الثورة والوصول للسلطة. ولك أن تعدّ سيل القوى السياسية المتشكلة طوال السنوات السابقة والتي قلما تختلف في بياناتها ولكنها قلما تلتقي في تنسيقها أو توافقها العام.

– تعدد المشاريع العسكرية وتبعيتها للأجندات الخارجية، وليس فقط بل صراعها الدامي في بينها، رغم صراعها القائم مع السلطة. وليس فقط، بل تمحورها وارتكاسها لصناعة القادة ذوي “الصيت” الثوري الفضفاض، ما نسميه اليوم بقوى الأمر الواقع سواء في شمال غربي سوريا أو شمال شرقيها، حتى في غالبية الحارات السورية. حيث الشعار المطروح “أنا وفقط أنا”، في موقع يشابه تماماً الأيديولوجيات السياسية المتشكلة.

-وهم القيادة المفردة سواء السياسية أو العسكرية، طالت الحركة المدنية أيضاً، لدرجة أنك تقرأ سيلاً من البيانات اليومية تشير لهذا أو ذاك، من دون الفعل التشاركي والبناء على المشترك السوري العامّ.

من الشائن في هذا السياق إنكار الأدوار العديدة التي حاولتها الوطنية والوجدان السوري في تلافي ما يحدث، سواء لدى الأفراد أو العديد من الشخصيات السورية الوطنية أو المكونات والهيئات. لكن الصراع على السلطة كان العنوان الأبرز في كلّ مراحل الثورة السورية سياسياً وعسكرياً، وما نتج عنه وتداخل معه، إقليمياً ودولياً، والنتيجة كانت بقاء السلطة الحالية قائمة في مكانها وذلك عندما تصبح محصلة الصراع معها صفراً حين يختلف ويتشتت خصمها. الصراع على السلطة لليوم هو سبب رئيسي في استمرار الكارثة السورية.

اليوم، يمكن تجاوز أخطاء الماضي، بل يمكن تناسيها والبدء بمرحلة جديدة، إذ ما سعى السوريون لتحييد خلافاتهم الأيديولوجية والسياسية والدينية الطائفية، وتغليب محتوى مشروعهم الوطني العامّ بأهداف سورية وطنية عامة تُشكّل إجماعاً عامّاً. فسورية دولة لكل السوريين تشترط ميثاق عمل وطني يحاكي تجربة الاعتصام الستيني عام 1936 والذي نصَّ على نقاط ثلاث محددة: سوريا دولة مستقلة بلا احتلالات عسكرية، وتساوي السوريين جميعاً في الحقوق والواجبات أمام القانون، وثالثها الأكثر تميزاً، أن الأمة بمقدراتها المعنوية والمادية رهن لتحقيق هذه الأهداف. فهل يمكن للسوريين اليوم أن يستعيدوا تلك اللحظة المنيرة من تاريخ سوريا، مستبعدين خلافاتهم الإثنية الدينية والسياسية، وتلاعب الدول من خلالها بمصيرنا وتهديد هويتنا، والاستفادة من أخطاء الماضي والذهاب لفحوى هذا الميثاق مجدداً وبنكهة عصرية مفاتيحها متغيرات المرحلة الحالية؟

هل يمكن أن نخطوَ باتجاه ميثاق وطني سوري يستهدف التغيير السياسي السوري الذي يفضي إلى عقد اجتماعي ودستور عصري لسوريا الدولة، لا سوريا السلطة، لسوريا الحرية، لا سوريا الاستبداد وحكم فئة ما، لسوريا كدولة لكل السوريين، لسوريا دولة للحرية الفكرية السياسية والمساواة أمام القانون وحرية الإيمان، سوريا دولة للاستقرار والسلام في المنطقة؟

تلفزيون سوريا

—————————

انتفاضة السويداء.. بانوراما الثورة السورية/ نزار غالب فليحان

لم تأتِ انتفاضة أهالي السويداء في شهر تشرين الثاني من العام 2000 عفو الخاطر، ولم يكن لها أن تحدث لولا أن الأهالي -كسائر السوريين- يحملون، بل يحقدون على النظام وينتظرون اللحظة التي يتمكنون فيها من إزالته، حينئذ لم يتردد النظام في تجريد حملة عسكرية كبيرة لقمع عصيان المدنيين بعد أن كانوا قد احتلوا مبنى المحافظة وطردوا المحافظ وحاشيته، ولم يكن ذلك مستهجناً البتة، لا بل كان متوقعاً من نظام لم يتوانَ عن قتل عشرات الآلاف من أهل مدينة حماة في شباط من العام 1982 عن سابق نية وتصميم وتخطيط.

وعند اندلاع الثورة السورية آذارَ عام 2011، ظلت السويداء على خط الثورة منذ انطلاقتها، بإيقاعها الخاص وبوتيرتها التي تراوحت بين التظاهرات والاعتصامات والبيانات، انتهاءً برفض الانخراط في صفوف جيش النظام درءاً للمشاركة في قتل الأشقاء بحمايةٍ ودعمٍ من فصيل رجال الكرامة ومؤسسه الشيخ وحيد البلعوس الذي قضى بحادث اغتيال مروع، هو النسخة الثانية لجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.

ودأبت السويداء على التذكير دوماً بحضورها وانتمائها للشعب السوري المقموع ولثورته المحقة والعادلة ولمطالبه المشروعة في العيش بحرية وكرامة وسلام. لكن النظام كان كل مرة يستخدم أدواته التقليدية التي اعتادها السوريون لقمع الحراك في السويداء، من اعتقالات واغتيالات وتسليط شبيحته وكوادر بعثه ومحازبيه من أهل الجبل.

ومع مرور السنين على الثورة السورية، وانهيار النظام اقتصادياً، أخذت الحالة المعاشية تتردى، الأمر الذي وَسَّعَ قاعدة المعارضة وجعل حاضنة النظام تتآكل، ما سمح بظهور حراك نوعي في السويداء تصاعدت فيه حدة الشعارات وتزايد فيه عدد المتظاهرين شيئاً فشيئاً حتى شباط من العام 2022، إذ احتلّ المتظاهرون مبنى المحافظة وكرروا إنجاز تشرين الثاني من العام 2000.

لكن انتفاضة السويداء في العشرين من آب من العام 2023 كانت بانوراما حقيقية للثورة السورية، أعادت إلى أذهاننا براءة حمزة الخطيب ووردة غياث مطر وابتسامة باسل شحادة وقطار صلاح صادق ويمام ثامر العوام وأناشيد الساروت وغنائيات القاشوش وعنفوان مَيْ وضحكة فَدْوى ووطنية أبي الفرات وثبات حَجِّي مارع، لأن أهل السويداء أعادوا على مسامعنا كل هتافات الحرية ورفعوا كل شعارات الثورة وطالبوا بإسقاط النظام وبتطبيق القرار 2254 الذي كان ثمنه دماء زكية طاهرة لشعب طالب بالحرية والكرامة، ودبكوا كتفاً بكتف وأرادوها سلمية، وكأننا نرى اليومَ جُمَعَ انطلاق الثورة السورية من جديد.

ولعل التفاف الهيئة الروحية حول مطالب الشعب أهم ما يميز انتفاضة السويداء الأخيرة، وهو أمر ذو قيمة في الجبل، وقد تبدّى ذلك الالتفاف في بيان عن شيخ عقل الطائفة حكمت الهجري أيَّدَ فيه مطالب ليس فقط أهالي السويداء بل مطالب الشعب السوري بكامله، منوهاً بالدور الذي لعبته الثورة في مهدها وحواضنها على مدى اثني عشر عاماً في التعبير عن آمال وتطلعات كل الشعب السوري، وقد وصل الأمر إلى انخراط عشرات شيوخ الدين في التظاهرات.

يبقى السؤال: إلى متى يبقى الحراك مستعراً؟ وهل سوف يمتد هذا الحراك إلى باقي المدن السورية -خاصة تلك التي ما زال النظام يحكمها؟- وما تداعيات ذلك الحراك محلياً وإقليمياً ودولياً؟

أيّاً تكن الإجابات على تلك التساؤلات، هي صفعة جديدة لهذا النظام الوقح، ولا بد من صفعه كل يوم كي لا يلتقط أنفاسه ويبقى على أهبة السقوط.

من: “يا الله ويَلِّي حاجزاً موج البحر

يا مِعْتِلي لِنَّكْ دَعانا تِسْمَعِ”

بدايات القرن العشرين.

وعلى الإيقاع ذاتِه:

“عاشَتْ سوريّا ويسقط بشار الأسد

سوريّا لينا وما هي لبيت الأسدْ” آب العام 2023.

ما زال الشعب يهزج ويرقص ويعانق الحرية.

يبقى أهمّ سؤال في هذا المقام: في أي حضن سوف يرتمي السيئ الرئيس اليوم؟ هل ثمة أحضان تقبله بعد اليوم؟ حتى أحضان أبناء الساحل السوري أصبحت شوك سياءة الرئيس.

تلفزيون سوريا

—————————

الفقر والكرامة/ رشيد الحاج صالح

في الثقافة الديكتاتورية تتحول الشكوى من الفقر إلى نوع من العيب وقلة الكرامة، حيث تسعى الأنظمة الدكتاتورية جاهدة إلى جعل الناس يقتنعون بأن الفقر وعدم تمكنهم من تأمين قوتهم اليومي أمر معيب يجب إخفاؤه، حتى لا تتحول الشكوى منه، مع الأيام، إلى احتجاجات عامة، على الرغم من أن ليس هناك من سبب للخجل من الفقر لأنه ظاهرة سياسية اجتماعية سببها سياسات الأنظمة.

ولكن لماذا دأب السوريون على عدم الربط بين الفقر وبين الكرامة؟ ولماذا يحرصون على إظهار أن ثورتهم ثورة كرامة واحتجاج على الظلم وليست ثورة ناس مسهم الفقر والعوز أيضا؟ على الرغم من أن النظام الأسدي نفسه استخدم الإفقار كوسيلة للهيمنة.

بحسب ليونارد بيندر فإن مصر عبد الناصر من أوائل أنظمة المنطقة التي حوّلت الشكوى من الفقر والعوز إلى مسألة معيبة على المصري الوطني أن يتعالى عليها. وتفسير بيندر يعود إلى أن مصر في تلك الفترة لم تكن قادرة على حل المشكلات الاقتصادية للمصريين والحد من الفقر الذي ينتشر بينهم، ولذلك لجأت إلى تضخيم شعور المواطنين بهويتهم المصرية حتى ينسوا فقرهم وهمومهم اليومية، والتركيز على سردية أن “مصر أم الدنيا”، ومن بلاده أم الدنيا لا يعيبه الفقر في شيء.

في سوريا دفع النظام الأسدي السوريين إلى الاحتفاظ بفقرهم لأنفسهم، وشجعهم على عدم طرح مشكلاتهم المعاشية والحياتية الخاصة على شكل شكوى علنية على الملأ (كشكواهم من عدم قدرتهم على تأمين متطلبات عائلاتهم، صعوبة الحصول على عمل، معاناتهم مع فساد المشافي وتدني مستوى المدارس، صعوبات تأمين تكاليف تعليم الأولاد..)، بحيث يشعر السوري بالخزي أو الخجل من نفسه عندما يطرح مثل هذه القضايا في المجال العام. يشعر بالخجل لأن التحديات القومية التي تواجه سوريا كبيرة بحيث لا يليق به أن يطرح مشكلاته الصغيرة وتضحياته المحدودة أمام التضحيات التي تقدمها السلطة الأسدية في مواجهة الأعداء. هكذا يتعود السوري على النظر إلى الصبر والمعاناة التي يكابدها مع المشكلات الاقتصادية الفردية على أنها مجرد تضحية بسيطة يقدمها لدعم نظامه القومجي. القضايا التي تليق بالمجال العام هي قضايا الأمة العربية والوحدة وفلسطين والجولان ومواجهة المخططات الإمبريالية، وطرح غير ذلك من المشكلات هو بمثابة خيانة ما بعدها خيانة لهذه القضايا، أو محاولة غير بريئة لتشتيت جهود النظام الأسدي التي تركز على قضايا سوريا والمنطقة المصيرية.

مثل هذه الطريقة في التفكير في المشكلات الاقتصادية والمعاشية للفرد السوري تؤسس لثقافة أخلاقية تقوم على الفصل بين مصالح الأمة ومصالح الفرد، والرفع من شأن الأولى والتخفيض من مكانة الثانية، بحيث تتحول ثقافة “التحمّل” لأعباء المعاناة مع المشكلات الاقتصادية الخاصة إلى نوع من التضحية البسيطة التي على كل سوري أن يقدمها، عن طيب خاطر، لأن المعاناة الحقيقية هي معاناة النظام وعمله على تحقيق الأهداف الكبرى.

طبعا الغاية من سردية الشعور بالعار والخجل من الفقر، ودفعه إلى العتمة، هي إنشاء ثقافة تقوم على عدم الربط بين فساد النظام الأسدي والفقر أولا، مثلما تعود إلى أن النظام الأسدي يفكر بالسوريين ليس بوصفهم مواطنين بل بوصفهم أشباه عبيد عنده، وأشباه العبيد يشعرون بالخزي والخجل من الفقر، ويسعون لإخفاء ذلك. في حين أن المواطن في البلدان الديمقراطية يقدم فقره على أنه مشكلة على النظام السياسي أن يجد لها حلا أو ليرحل.

في كل مرة ترتفع فيها الاحتجاجات في السويداء والمنطقة الساحلية يتصاعد الجدل السوري السلبي حول فيما إذا كانت هذه الاحتجاجات مدفوعة بالشعور بالكرامة أم مجرد احتجاجات على ارتفاع مستوى الفقر والعوز، الذي ما زال، منذ عدة سنوات، يسجل أرقاما غير مسبوقة جعلت من حياة السوريين في سوريا أقرب إلى حياة الجحيم، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.

في الحقيقة أن النظرة السلبية من قبل بعضهم لهذه الاحتجاجات أمر مؤسف لأن الجانب المادي للإنسان هو جزء لا يتجزأ من كرامته. ولعل أشهر الثورات، من الثورة الفرنسية إلى الثورة الروسية، قامت في البداية بوصفها ثورات على الفقر والعوز. حتى العدالة الاجتماعية التي نشاهدها في الغرب اليوم أتت حصيلة ثورات تعتقد أن الفقر هو أكبر الشرور التي يجب مواجهتها، وأن من حق الإنسان أن يواجه من أفقره وأن ذلك في صلب شعوره بالكرامة. 

التفريق بين الكرامة والفقر هو حيلة أسدية لا يجب أن تنطلي على السوريين الثائرين منذ أكثر من عقد من الزمان. حتى إن فرنسا في القرن السابع عشر كانت تعتبر كل فقير هو خطر على الإمبراطورية الفرنسية، لأن الفقراء والجائعين هم أكثر الناس استعدادا للثورة.

طبعا النظام السوري قبل الثورة حاول جاهدا إفقار السوريين بأكبر قدر ممكن عبر التأميم ثم الفساد والنهب وتحويل كل مشاريع التنمية إلى مشاريع خاسرة وما إلى ذلك. أما بعد الثورة فيبدو أن السحر انقلب على الساحر وأصبح النظام الأسدي نفسه يعاني من فقر مدقع، ولم يعد قادراً على السيطرة على ارتفاع مستويات الفقر. فإذا كان إفقار الناس، إلى مستويات معينة، يساعد كثيراً على الهيمنة واستقرار النظام السياسي، وتحصينه من الاحتجاجات، فإن الفقر المدقع كثيرا ما ينقلب إلى شرارة لاحتجاجات لا يعرف أحد إلى أين ستؤدي، وهو ما يثير قلق النظام الأسدي الآن أكثر من أي أمر آخر.

تلفزيون سوريا

—————————

أفكار حول موجة الاحتجاج الحالية/ حسام جزماتي

يوم الخميس الماضي قام أنصار بشار الأسد بأحد أسوأ الردود التي يمكن أن يفعلوها على الاحتجاجات الراهنة، فخرجوا بمسيرتَي سيارات في كل من أوتوستراد المزة وساحة الأمويين بدمشق، وكورنيش طرطوس. في وجه الأصوات المتذمرة من الفقر والجوع وغلاء المحروقات، ليس هناك أكثر استفزازاً من أن تتقدّم السيارات السوداء الفارهة هاتين المسيرتين. خاصة وأن تلك التي جرت في العاصمة تمت «برعاية الأستاذ وسيم الأسد» كما كتب مصوروها المحترفون. وهو «رجل أعمال» محدث نعمة، يتهم بأنه جمع ثروة كبيرة مؤخراً من تجارة الكبتاغون المحمية عائلياً.

ليس هناك رد أسوأ من هذا على «الناشطين العلويين» المتكاثرين الذين أخذوا يجرؤون على الظهور في فيديوهات يبثونها من الساحل، ليتهموا آل الأسد والأخرس بالسيطرة على ثروات طائلة كفيلة بحل الأزمة المعيشية الخانقة.

ما تقوله موجة الاعتراض في الساحل، وتؤكده صور المسيرتين بصلافة، هو أن نظام بشار الأسد تحول، بالفعل، إلى طغمة حاكمة تتكون من المستفيدين وكبار المتورطين ومن عتاة الموالين لأسباب عديدة.

جرى وسم النظام بهذا الوصف (طغمة) مراراً خلال سنوات الثورة لكن ذلك كان أقرب إلى المساجلة السياسية. ففي واقع الأمر كانت له قاعدة كبيرة مستعدة لأن تقاتل من أجله وتموت، وقد فعلت ذلك، وشرائح أوسع من الذين لا يؤيدون الحراك ضده، ويرونه أفضل الشرور، أو أمراً واقعاً يجب التعايش معه.

ومن الواضح أن ما يجري الآن هو انفضاض رأي عام واضح من الحاضنة الصلبة، القائمة على عوامل طائفية أساساً، عن «القيادة» التي خيّبت أملها. بالإضافة إلى نفاد صبر الذين نأوا بمحافظتهم/ طائفتهم عن المحرقة في السويداء، ووصول الأغلبية الرمادية، أو نصف الموالية/ نصف المعارضة، في المدن الكبرى إلى القناعة بأن النظام استهلك إمكاناته ولم يعد أمامه إلا الرحيل.

هل سيؤدي هذا إلى سقوط النظام على المدى القريب؟ لا شك أن التنبؤ عسير في هذه الأوقات التي قد تشعل فيها أي شرارة النار. لكن ربما يكون من المفيد ملاحظة ما يلي:

    رغم تصدع القاعدة المتماسكة إلا أنه ما يزال للنظام من الموالين ما يكفي لأغراض الدفاع دون الهجوم. ولا سيما إذا كان الاندفاع العدواني باتجاه محافظة متضامنة كالسويداء، أو باتجاه «الأهل» في الساحل، أو حتى باتجاه مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) حيث يزعم النظام أن مشكلته تكمن، بسبب خروج النفط والسلة الغذائية للبلاد من يده.

    لا يملك المتذمرون في البيئة العلوية جواباً عن السؤال «التاريخي» حول البديل. وإذا كان مواطنوهم قد قبلوا بمناقشة مسألة رحيل بشار الأسد بصورة شبه علنية فإن كثيراً من الاعتراضات ما تزال ثقيلة في الكفة الأخرى؛ كالخوف من انتقام طائفي بعد كل ما سال من دم، وخيبة العودة إلى قبول ما كانوا يرفضونه منذ اثني عشر عاماً ودفعوا لأجله ثمناً فادحاً من «الشهداء» الذين ستذهب تضحياتهم سدى.

    وفي المسألة الأخيرة نلحظ أن هؤلاء «الشهداء» يشغلون ركناً مركزياً في «الاعتراض العلوي». إذ يُتهم الأسد بالاستثمار في أرواحهم للبقاء على الكرسي والتنعم بالثروة بينما يعاني أولادهم ونساؤهم الفاقة. ولا شك في أن هذه النقطة، إضافة إلى نقاط أخرى، جديرة بأن تنبّه الذين ينظرون إلى هذه الاعتراضات بوصفها استئنافاً لثورة عام 2011. فهؤلاء «الشهداء» هم بالضبط من قاتل الثوار.

    وإذا كان هذا لا ينطبق على السويداء فإن على المرء ألا يغفل عن التفريق بين ثوار قدامى من أبناء المحافظة يعبّر عنهم العلم الأخضر، وبين غالبية ترفع العلم الدال على خصوصيتها العصبية وتقدّم مشيخة العقل للمطالب. وليس في ذلك ما يدين، فمن طبع أي جماعة أن تختار رموزها وممثليها ونوع اعتراضها وتوقيته وحدوده. غير أن الشعارات التي تحيّي إدلب يجب ألا تحجب الاختلاف شبه الجذري في سياقات الاحتجاجات العديدة في سوريا.

    من الملاحظ أن الأزمات الحالية تطول «الدولة» وقلما تحفر في عمق النظام. الدولة هشة وآيلة للسقوط، باعتبارها جهازاً تنفيذياً ضخماً يحتاج إلى رواتب ليعيش، وبنزين ليسير، وكهرباء كي لا يعمى. وهذا مهدد بالانهيار. أما النظام فما يزال أقوى من الدولة. وفي حال اضطر إلى التخلي عنها بعد أن احتلها طويلاً، وتركها لسقوطها الحر؛ فإنه يستطيع البقاء كعصابة عارية مكونة من الأمن وبقايا الجيش وأشلاء مؤسسات. لا شك أنه سيتعرض لانكفاء كبير وخلخلة واسعة وسيصبح كائناً هجيناً، لكنه سيحارب للبقاء والبحر من ورائه والقتل أو المحاكم من أمامه. وسيكون عندها «الفصيل» الأقوى في البلاد بعد حكمه الشامل المديد لها، مع احتفاظه ببقايا «شرعية» ما.

    من جهتها لم تقدّم مناطق الشمال، سواء الملونة بالأخضر الخالص أو تلك المقلّمة معه بالأسود، نموذجاً يمكن للثائرين أو المحتجين في أنحاء سوريا النظر إليه بتقدير

    رغم أزماتها من المستبعد أن تبقى إيران في موقف المتفرج، لأن ذلك يعني ضياع كل الاستثمار، بالدم والمال، الذي بذلته في سوريا. لم ترد تصريحات من طهران حول ما يجري في سوريا حتى الآن، لكن ذلك لا يعني أن المرشد مرتاح لسماع صوت تكسّر صورة النظام مثل لوحة رديئة من فلين تحت وطأة الأزمة الخانقة التي يمكن لإيران أن تساهم في تخفيف آثارها عبر قروض أو تسهيلات أو هبات.

    من جهتها لم تقدّم مناطق الشمال، سواء الملونة بالأخضر الخالص أو تلك المقلّمة معه بالأسود، نموذجاً يمكن للثائرين أو المحتجين في أنحاء سوريا النظر إليه بتقدير. ما زال الثوار هناك يخرجون في مظاهرات كثيفة متحمّسة ليحيّيوا متظاهري السويداء و«العلويين الشرفاء»، لكن قوى الأمر الواقع العسكري والسياسي ما تزال تمارس مألوفها من فوضى وقمع وانتهاكات و«انتخابات».

هل يقول ما سبق إنه لا قيمة لما يجري وليست له نتيجة؟ بالطبع لا. لكنه يعني أن ما يحصل خطوة كبرى على طريق سقوط نظام الأسد الذي سيقاوم حتى استنفاد أنفاسه الأخيرة من الحياة، ما لم تحدث مفاجأة سارة!

تلفزيون سوريا

———————————–

ما العيب في التظاهر نتيجة الجوع وتكسير سرير بروكرست الثوري؟/ أحمد جاسم الحسين

قوبلت الأنشطة الثورية بعد انطفاء جذوة ثورة عام 2011 بموقفين رئيسيين من جمهور الثورة ذاته بموقفين رئيسيين: التفاؤل المفرط وبيع أوهام الانتصار الساحق الماحق السريع، أو التشكيك بالحراك وقياسه على “سرير بروكرست الثوري”.

دفع شوق كثير من السوريين إلى الانتصار والرغبة بتحقيق الأحلام دفعة واحدة للظن أن مظاهرات السويداء ستسقط النظام دفعة واحدة! والواقع والتجربة يقولان إن هذا النظام المتأصل فساداً وخراباً وتقاطع مصالح إقليمية ودولية لن يتهدم بنيانُه دفعة واحدة، بل يحتاج إلى ضربات متتالية طويلة ومتواصلة وهادئة أو قوية لكي يهتز عرشه ويتهدم ويبتعد عنه المؤمنون به أو من تتواكب مصالحه مع مصالحهم على المدى الطويل!

الجانب المهم في مظاهرات السويداء أنها دفعتنا للتساؤل:

من كان يعتقد في لحظات يأسنا أن هناك من يملك الجرأة لشتم الأسد مرة أخرى أو حرق صورته أو شتيمته في مناطق حكمه في ساحة عامة؟

أهو نوع من الانتحار أو الشجاعة أو الوعي أو البطولة أو الإيمان بالحرية أو فقدان الأمل أو الجوع؟ أم أنه كل ذلك!

يجلس محللون في غرف الواتساب وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، في السهرات واللقاءات لكي يقولوا: إن النظام لن يسقط من السويداء، أو أن هذا النوع من الحراك لن يسقِط نظاماً لديه حلفاء مثل إيران وروسيا!

والقراءة الواقعية تقول: نعم، هذا كلام صحيح، إن كنا ننتظر من هذه المظاهرات المدنية التي شارك بها مئات أو (آلاف إن شئتم) أن تسقِط نظام بشار الأسد الذي يستطيع ببساطة أن يعتبر السويداء غير موجودة على الخارطة السورية كما يقول مناصروه، ليس تدميراً كما فعل مع محافظات أخرى، بل إهمالاً، يجيد النظام لعبة الإهمال؛ إن شعر أن حجم حراكك لن يهز عرشه!

وسنمشي مع هذا النوع من التفسير ونقول: إن النظام الذي لم تسقطه المظاهرات المليونية والتحركات العسكرية يوم كان هناك الآلاف من المقاتلين عبر مسار الثورة السورية من الصعب أن يسقط اليوم عبر تلك المظاهرات!

نعم لكن هناك في الوعي الجمعي التراكمي أمر مهم وهو استمرار تكسير الصنم وتحطيم المقدس السياسي والرمزي لدى جماعة بشرية ما وهو ما يحدث مع بشار الأسد، إذ ثمة تحقير له كشخص ولمقامه بصفته رئيساً لسوريا عند مناصريه، ومعلوم أن جهد الحت والتعرية الثوري طويل الأمد له آثار إيجابية، وموجات الثورة السورية لن تنتهي، وكل مرة سيكون لها أسبابها منذ كسر السوريون صمتهم عام 2011.

هناك سؤال آخر: إن لم تقم تلك المظاهرات في السويداء المتضمنة هذا التحقير لرئيس النظام في الجغرافية التي يديرها، هل لدينا خيارات أخرى، ويمكن أن نختار منها للتعبير عن احتقارنا لرئيس النظام والدعوة لإسقاطه؟ أم أن هذا الفعل الثوري يأتي في لحظة تاريخية مناسبة حيث يئس كثيرون ونام كثيرون على وهم الانتصار وحسب آخرون أن السوريين في مناطق النظام تم إخراسهم إلى الأبد وأن مقولة “كنا عايشين” كانت الأفضل؟

من جهة أخرى؛ الحراك في السويداء فيه كسرٌ لثوابت شريحة اجتماعية؛ حسب معظمها، فترة طويلة، أن أمانها وأمنها مرتبط بالنظام، وها هو اليوم يتكسر، ويبدأ وعي جديد وأفكار مختلفة لدى الجمهور الأعم من الشريحة، خاصة بعد فعل الاحتكاك نتيجة النزوح القسري الداخلي، وتعرف السوريين إلى بعضهم بعد ثورة عام 2011.

قرأتُ لصبية، ليس من عادتها الاهتمام بالشأن العام من السويداء: ما معنى فيدرالية؟ وهل ستؤمن لنا الفيدرالية حقوقنا؟ وترد عليها سيدة طاعنة في السن، من مدينة شهبا، كانت عبر تاريخها تحسب أن الولاء للنظام الحاكم جزء من عبادة الإله والمحافظة على قيم المجتمع تقول: سرقونا وهجروا أولادنا ولم نهنأ بهم! يجب أن نتحرك! وتتبع حديثها هذا في لحظات تبتّلها بدعوات لا تنقطع على بشار الأسد ونظامه اللذين حرموها من ابنها وابنتها عبر السفر خارج البلد منذ زمان طويل ولم ترافق لحظات عمرهم مثلما رغبة كثير من الأمهات!

وهناك سؤال آخر: ما الفائدة من التشكيك من قبل شريحة من جمهور الثورة بذلك الحراك؟ وهل الأفضل ألا تخرج تلك المظاهرات؟ وأن يبقى الوضع الثوري يائساً؟

تاريخ الحراكات الثورية في العالم يكشف أن الأنظمة الاستبدادية قد تسقط دون حسابات كبيرة، أحياناً بعوامل بسيطة، والمزيد من اهتزاز صورتها وتكسير رمزيتها لدى مواليها أمر مفيد جداً. قد تسقط من حيث لا يدري أصحاب التحليل العقلاني، قد تحرض على حالة اغتيال لرأس النظام، قد تؤجج خلافاً داخل شريحة المستفيدين.

في كل الحالات الحراك مفيد لأنه يولد فعلاً ما، ورد فعل، وكذلك تعيد تذكير المجتمع الدولي بنا كسوريين مهملين!

هناك فريق من مناصري الثورة لا يتعلم من الأخطاء الثورية، مهنته الرئيسية التشكيك بكل جهد إن لم يكن رأس حربته، أو على مقاساته، يقول: هذه مطالب اقتصادية ومطالبنا سياسية!

يدرك محركو المظاهرات وقادتها من الصبايا والشباب في السويداء ذلك التشكيك “الثورجي”، فيقولون: مظاهراتنا ليست بسبب الجوع!

وما العيب في أن يكون الجوع محركاً لثورة؟ هل من الضروري أن تكون التحركات مرتبطة بوعي سياسي ومطالب حرية وسواها دائماً عبر وعي مسبق وسابق للجوع؟

لماذا نحتقر غريزة الجوع والخوف كمحركين؟ أنريد أن نقول فقط إن حراكنا فكري واع له أهداف سياسية وطنية؟ لا يوجد سرير بروكرست ثوري نقيس عليه، وهو المعتمد عالمياً و”إيزو” للجودة الثورية، نسيء من خلاله لحراك الآخرين أو نعتقد أنه يجب أن تكون دوافع تحركاتهم هي ذاتها دوافعنا.

مظاهرات الجوع السوري مظاهرات مقدسة وهي تقودنا إلى سؤال: هل من المعقول بعد كل الذي وصلت إليها البشرية اقتصادياً أن يكون هناك بلد كسورية بلا خدمات أساسية، أو أن دخل المواطن لا يكفيه للطعام، أن ننعم نحن في مغترباتنا بما لذ وطاب ويجوع أهلنا في الداخل؟

ثورات الجوع هي الأهم، لأنها تضمن مشاركة الجميع، ولن تهدأ إنْ أشبعت تلك الغريزة كما يتوهم كثيرون، لأن البشر وهم جائعون يتنبهون إلى أسئلة أخرى لها علاقة بأين ومن أين وإلى متى وما المآل وكيف؟

تتعلم الشعوب الجائعة من تجاربها، ولن تهدأ أحوالها إن أشبعت تلك الغريزة فما بالك بنظام لن يستطيع إشباع جوع مواطنيه! لنقل بطريقة أخرى: جربنا جوانب من الثورة لأسباب حقوقية ومطلبية ودينية وجغرافية وقومية وعرقية وسوى ذلك، تعالوا لنجرب التظاهر بسبب الجوع؟

لماذا نتطهر من الجوع ونحن ضحاياه؟ ما هذا القالب الثوري الذي يجعل صبية تقف في إحدى ساحات السويداء أو ريفها لتنفي الجوع عن أسباب مظاهرتها؟ حسب الجوع جامعاً لنا نحن السوريين وهل أعظم من الجوع؟

من جماليات الحراك في السويداء هذه المرة أن الحراك الاجتماعي النسائي والرجالي تواكب مع حراك مشايخي ووجهائي لافت، فماذا يقول المشايخ للجائعين؟ وهل يستطيعون أن يتعاطفوا مع المجوِّع ضد الجائع؟

سأنقل لكم مشهدين عايشتهما في هولندا عند ما يسمى الشعوب المتحضرة والمكتفية ودولة الحرية والديمقراطية والاستقرار والمواطنة والرعاية الاجتماعية والعالم الأول:

الأول: إنْ تأخر قطار أو قطارين على الخط نفسه تجد المسافرين يهجمون على القطار الذي يليه هجمة شخص واحد بكل حماس وفطرية وبدائية (إن شئت) ليحجزوا مقعداً لهم، فيعود الإنسان إلى فطرته، إشباع الحاجات، وهي ليست أكثر من حاجة تنقل للوصول إلى بيته أو عمله أو موعده!

والثاني: إبان كورونا والحاجة إلى المحارم الورقية أو سواها من بعض أنواع الأطعمة حين يجد الناس أن هناك قلة في المعروض يستعيدون حالتهم البدائية الفطرية ويجمعون أكبر قدر منها في منازلهم نتيجة الخوف من عدم توفرها!

لا عيب في لهفة الجائع وحاجاته وما يمر به، ويكفينا إنكاراً لحاجاتنا الأساسية بحجة التطهير والتطهر من تلك الحاجات نحو المفاهيم العاقلة والواعية لحراكنا من جهة، ومن جهة أخرى آن لنا أن نكسر أي سرير بروكرست ثوري ونرحب بأي حراك يسهم في تفتيت قدسية النظام السياسي في الجغرافيا التي يديرها الأسد أو سواه من مستبدين على الأرض السورية، سواء أكان في السويداء أو درعا أو الساحل السوري! وآن لنا أن نتعلم من أخطائنا ونحترم تحركات الآخرين في سياقاتها وظروفها وقوتها الناعمة وجمالياتها.

مظاهرات السويداء ضربة جديدة لبشار الأسد ونظامه، قد تكون أقرب إلى “ضربة كف، أو ضربة شحاطة على وجهه”، لن تسقطه، لكنها تهينه وتنكل بصورته من جهة.

ومن جهة أخرى، تعيد تلك المظاهرات التذكير بروح الثورة، وتجديد أوكسجينها الذي يحتاجه السوريون في كل مكان، وقد بدا أنهم استردوا شيئاً من روح ثورتهم الأولى عام 2011 وهم اليوم في لحظة اختناق، ويكفي الحراك السويدائي ذلك الأثر وتلك الروح المتوثبة التي زرعتها فينا!

تلفزيون سوريا

—————————

أسئلة وأجوبة عن حراك السوريين في مناطق سيطرة النظام/ معتز ناصر

استعصاء نظام بشار الأسد على أي حل أو إصلاح، وزيادة الكلفة التي دفعها مؤيدو النظام والشريحة الصامتة عنده، دفع آخر الناس المؤمنة فيه للكفر به والردة عن معسكره، وصار شتم بشار وزوجته ونظامه على كل لسان في المناطق التي يسيطر عليها، وفاضت بذلك صفحات التواصل الاجتماعي، حيث ظهرت كثير من شخصيات تنتمي لطائفة رئيس النظام وهي تشتمه بأقذع الألفاظ وتحرض ضده بكل وضوح، بشكل يخالف ما اعتدنا عليه من خطاب صادر عن حاضنة النظام.

هذه التطورات السريعة أدخلت عموم الثوار السوريين في عاصفة شد وجذب بين مرحب بالحراك الجديد، ومعارض لتأييده مشكك فيه، حاولت اختصار أبرز نقاط الخلاف بين الفريقين، والإجابة عليها بما تيسر بسبعة أسئلة تلقي الضوء على زوايا أرجو أن تكون مفيدة في تقوية موقف الثورة مما يجري من أحداث.

أين كانوا عندما كنا نقصف؟

كانوا إما يؤيدون النظام، أو غير مبالين، أو متعاطفين وجدانيا معنا.

اقتناع الناس بأفكار الثورة والتغيير يأخذ سنوات طويلة، مهما كانت الأدلة العقلية واضحة، والبراهين الوجدانية جلية، ونسبة كبيرة منهم لا تقتنع إلا حين تعاني هي شخصيا بمصالحها الخاصة ( ظلم شخصي / وضع معيشي صعب / … إلخ )، ولو تذكرنا الأيام الأولى للثورة لوجدناها أنها كانت ككرة الثلج، بدأت صغيرة وكبرت، ولم تخرج المظاهرات الكبيرة من أول لحظة، لأن الناس تقتنع بالتدريج، وبزمن قد يكون طويلا، وبنفس الوقت تتأثر بالدعاية، ويمكن للإعلام أن يصادر وعيها الجمعي، لا سيما إن رافق ذلك قمع مرعب من منظومة أمنية باطشة، لذلك علينا ألا نصدم من تأخر شرائح سورية كثيرة بالثورة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك جيلا جديدا نشأ في مناطق سيطرة النظام  لم يسمع إلا سرديته، ولم يرَ إلا بمنظاره، لذلك علينا الكفاح لانتزاع هذا الجيل الجديد لصفنا، أو على الأقل تحييده عن منظومة الأسد حتى لا تستفيد منه.

لماذا علينا التعاطف مع المتحركين حديثا وهم ليسوا أصحاب قضية مثلنا؟

النخبة المجتمعية التي تتحرك لقيم، ودافعها سامٍ للتحرك هم أقلية في كل مجتمع، عموم المجتمعات الإنسانية تحركها المصالح، واليوم نحن في صراع مع نظام سياسي مجرم، يتحكم بحياة ملايين الناس في مناطقه، في حال تحرك هؤلاء ضده لأي سبب كان، ألا يربك ذلك منظومته الأمنية، والسياسية، والعسكرية، والإعلامية؟

هذا الأمر في حد ذاته مكسب كبير لنا، لنتذكر أن هؤلاء الناس الموجودين تحت أسر النظام سواء من مؤيديه، أو الساخطين الصامتين هم بيئة داعمة له بشكل أو آخر، يكفي أنها لا تعطيه الجنود، وتدفع له الضرائب، وعلى فرض أن المنتفضين هم أعداء للثورة، وارتكبوا جرائم ضد السوريين، هل هناك أجمل من رؤيتهم ينقلبون ضد النظام؟

لماذا تحركوا اليوم؟ من هي الجهة الدولية التي تدعمهم؟

لماذا تحركنا في 2011 ولم نتحرك في 2000 يوم توريث بشار؟!

أسباب اندلاع الثورات متراكبة، ومتراكمة، وربما تأخذ عقودا أحيانا لتستوي على سوقها، تخلينا عن دعم الحراك بذريعة أنه صنيعة دول خارجية هو ذاته حجة نظام الأسد في شيطنة حراك 2011 (الإخوان / السلفيين / قطر وتركيا والسعودية …. إلخ) والصحيح أن نفكر بالاستغلال الأمثل للظروف، ومحاولة الاستفادة منها، بدلا عن استعارة عقلية النظام المؤامراتية والتفكير بها.

لعل هناك دعوات انفصالية تسير هذا الحراك، كيف سأدعمه؟

السؤال الأصح من سينفصل عن من؟

المحرر منفصل عن النظام، قسد تحكم مناطقها بشكل ذاتي، على فرض أن المحتجين في مناطق النظام يريدون الانفصال عنه فالخسارة له، فبكل الأحوال نحن وإياهم منفصلون عن بعضنا، بل لعل انفصال بعض المناطق عنه كالسويداء مثلا يكون بابا للتقارب أكثر بيننا وبينها وتحقيق مصالح أكبر، ولنتذكر أن شماعة ذريعة الانفصال استعملها النظام ووصم بها أكراد القامشلي في مجزرته الشهيرة ضدهم لتحييد باقي الشعب عن مشاركتهم الانتفاضة ضده عام 2004.

واضح أن دولا تقف خلف الحراك في مناطق سيطرة النظام، هل تظن ما يجري عفويا؟

تقوم السياسة على المصالح بالدرجة الأولى، وسنة الله في البشر أن يتصارعوا أفرادا وجماعات على السلطة، والمصالح، وكما أن هناك مصالح لدول في بقاء بشار، هناك أيضا مصالح لدول أخرى في رحيله، وجود مصالح للآخرين تتقاطع مع أهدافي يجب أن يكون أمرا إيجابيا يمكني من زيادة حلفائي، ولا يدل ذلك على أن هدفي غير نبيل، بل قد نجد كثيرين ممن يزاودون بالثورة والوطنية والإسلام لم يدفعه لذلك إلا رغبة نفسية بالظهور، وشهوة للسلطة، يقاتل لأجل ذلك ويموت عليه، أصحاب العقول السياسية الناضجة يحاولون اقتناص كل فرصة، ويبحثون في كل حدث عن مصلحة يحققونها، أو شر يدفعونه، فلم لا نصبح كذلك؟؟

كيف سأدعم اليوم من أختلف معه غدا في شكل سوريا المستقبل؟

هناك تحالفات كبرى تبنى على جزئيات بسيطة، كالتنمية الاقتصادية، أو تسهيل خدمة ما بين طرفين، ألا يكفينا هدف إسقاط نظام بشار أسد سقفا للتحالف، وأرضية للتفاهم، مع سوريين يشاركوننا ذلك؟

ثم من قال إن جميع الثوار يتفقون على رؤية واحدة وواضحة لسوريا المستقبل؟

فإذا كنت بعد اثني عشر عاما لم أحقق توافقا مع مكونات متجانسة مجتمعيا، ودينيا، وعرقيا، وجغرافيا، كيف أبغي نظرة متطابقة مع من يختلف عني في الجغرافيا، والظروف، والبيئة، والمنظومة الفكرية؟

يكفي أن يجمعني بهم التفكير في سوريا مستقبلية لا يوجد فيها بشار الأسد، أو حزب بعث.

ما الذي يمكن أن أقدمه لدعم المحتجين في مناطق سيطرة النظام؟

أهم شيء نقدمه ألا نزاود عليهم، ولا نطعن بهم، وأن نراعي ظروفهم ولا نحملهم فوق طاقتهم، ويجب فتح قنوات تواصل وتبادل أفكار ومعلومات بين نخب الثورة في المحرر والخارج، وناشطي الحراك الجديد، مع التذكير أن صراعنا مع نظام الأسد صراع نماذج، فكلما بذلنا جهدا ليكون المحرر بأكمله نموذجا جيدا عسكريا وأمنيا وسياسيا وحوكميا فإن ذلك سينعكس دعاية أكثر إيجابية للثورة، وأكثر سلبية للنظام.

 اليوم بعد سنوات رغم كل ما مر بالثورة هناك نجاحان كبيران، الأول الصمود حتى هذه اللحظة ولو بأضعف رمق، والثاني أقنعت حاضنة النظام، وشريحة الصامتين الرمادية، أن النظام مركب غارق، لا بد من القفز منه لنيل حياة أفضل، وفي اللحظة التي تنقدح فيها شرارة الوعي في الأذهان، سيكون أثره رجعيا، بمعنى أن الذين صحوا جديدا سيعايرون ما مر بهم طوال سنوات بناء على الوعي الجديد المتكون عندهم ليتأكدوا أن خيار الثورة على نظام بشار الأسد كان الخيار الأمثل منذ البداية، وبه فقط سنصنع مستقبلا أفضل لسوريا عبر الوعي الجديد الذي بنته الثورة فينا.

تلفزيون سوريا

—————————

عن فحوى الاحتجاجات داخل الائتلاف/ حسن النيفي

لنا أن نتخيّل أن أحد مسؤولي نظام الأسد أو ضبّاطه الأمنيين الكبار أو أحد أعضاء حاشيته المقرّبين ادّعى أمام الملأ بأنه خرج عن طور الانصياع للنظام والعمل لخدمته، وأعلن استعداده للامتثال للحق، كما بدا عليه الإحساس بالذنب الممتزج بالندم والانصياع إلى صوت الضمير، ثم دعا هذا الكائن (الافتراضي) وسائل الإعلام ليتحدث على الملأ عن مثالب النظام الكبرى ويكشف للرأي العام عن حقائق في غاية الأهمية، بل هي جديرة بتقويض أركان نظام الحكم إنْ علمت بها الأطراف الدولية، ولا أحد يعلم بها إلّا من كان من الزمرة المحيطة بصناعة القرار.

وحين تهيأ لهذا الكائن أن يفعل ما يريد وتسمّر الناس أمام شاشات التلفزة ووسائل الإعلام، باغتهم بالحديث عن بعض الموظفين المفسدين في معامل الإسمنت، كما تحدث عن التزوير في الانتخابات البلدية، كما تكلم على بعض المحسوبيات في تعيين بعض المذيعين والمذيعات، ولم ينس الرجل أن يبدي تبرّمه وسخطه أثناء حديثه لتبدو عليه علائم الانفعال الضرورية من أجل الإقناع، كما لم ينس أيضاً أن يبرئ نفسه مما اتهم به غيره وذلك جرياً على عادة المنسحبين من كياناتهم أو المُبعدين منها، إلّا أن هذا المسؤول المنتفض (الافتراضي) ظل حريصاً طيلة فترة حديثه على ألّا يقترب من بنية النظام أو ماهيته الحقيقية بل ظل شديد الحرص على أن يرمي بكل الموبقات على الموظفين والمسؤولين باعتبار أن أصل المشكلة يكمن في إدارة الدولة وليس بمسؤوليها أو قادتها، كما أن الفساد مهما تراكم فإنه ينبغي ألّا يطول أو ينتقص من مشروعية الحاكم فتلك مسألة من المسائل التي لا أحد يناقش بها.

ولنا أن نتخيّل – حينها – مقدار الخيبة التي سيُمنى بها المستمعون والمتابعون من السوريين الذين ما جعلهم يتلهفون للاستماع إلى هذا الكائن الافتراضي أو يشاهدونه سوى حالة البؤس التي استبدّت بهم نتيجة انسداد الأفق أمام السوريين، إلّا أن خيبتهم هذه قد ضاعفت من بؤسهم حين تجاهلت وجعهم الحقيقي والجذر الأساسي للمشكلة وحوّلت الأنظار نحو مسارات هامشية للمشكلة.

اليوم تبدو كثرة المنتفضين والثائرين من داخل كيان الائتلاف وتدفقهم على وسائل الإعلام والمنصات والندوات القائمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتماثل تماماً مع حالة ذاك الثائر الافتراضي من داخل نظام الأسد، وذلك من جهة أن كلا الطرفين يحاول التنصّل عن أي حديث يوحي بالشك بمشروعية الحاكم، سواء أكان الحاكم من النظام أو المعارضة، ولكن العلّة أو المعضلة الأساسية عند الطرفين هي في سوء الإدارة والتدبير فقط.

عديدة هي الشخصيات السورية التي غادرت الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في سوريا، وقد تخلّت عن عضويتها حين أدركت أن استمرار عضويتها في هذا الكيان لا ينسجم مع قناعاتها ومبادئها، ولم ترض أن تبقى شاهد زور على ممارسات تراها مشينة بحق القضية السورية، ومن هؤلاء من تحدث عن أسباب مغادرته وبيّن موقفه للآخرين بوضوح، ومنهم من اكتفى بالمغادرة بهدوء مع حرصه على عدم إبداء أو إثارة أية ردّة فعل. ولكن في مقابل ذلك نشهد هذه الأيام جملةً من المبادرات لأعضاء من الائتلاف ينتفضون وينتقدون بشدّة، ويجتهدون بأن تكون أصواتهم مسموعة من جميع السوريين لكن دون أن يغادروا الائتلاف أو يبدوا أي نية أو استعداد لمغادرته، ولعل المشكلة لا تكمن في احتجاجهم أو انتقاداتهم بحد ذاتها، بل لعلها سمة من السمات الحميدة التي افتقدها الائتلاف على مدى سنوات من تشكيله، ولكن ما هو لافت في الأمر أن هؤلاء المنتفضين أو الثائرين الجدد داخل الائتلاف لم تعلُ أصواتهم وتنضج انتقاداتهم إلّا حين باتوا مُهدّدين بالاستبعاد أو بافتقاد المنصب المراد أو المصلحة المطلوبة فقط، ودون ذلك لا مشكلة لديهم، بل يمكن التأكيد على أن هؤلاء الثائرين على نظام الائتلاف والمنتقدين لسلوكه كانوا بالأمس القريب من أشدّ المدافعين عن الممارسات ذاتها التي ينتقدونها اليوم، فما الذي جعلهم اليوم ينكرون ما دافعوا عنه بالأمس؟ علماً أن هؤلاء المنتفضين الجدد كانوا في يوم ما أصحاب مناصب رفيعة في قيادة الائتلاف، ولكنهم سكتوا آنذاك ولم تقع أنظارهم على معالم الفساد التي يرونها اليوم، فهل ثمة استحقاقات جديدة أوجبت هذا التوجه الجديد، أم هي سيرورة طبيعية لصحوة الضمير؟

لعل الأهم في الموضوع هو النظر بقليل من الإمعان إلى طبيعة الانتقادات التي يوجهها المنتفضون الجدد والتي تمثلت بالآتي:

1 – الاحتجاج على مسألة (التفويض) في عملية الانتخابات داخل الائتلاف.

2 – الجمع بين المناصب.

3 – غياب الشفافية والوضوح عما يجري في اجتماعات الائتلاف.

4 – عدم السماح لأعضاء الهيئة العامة بحضور اجتماعات الهيئة السياسية.

والحق أن الحماس الذي يتحدث به المنتفضون الائتلافيون يجعلك تظن أن هؤلاء سيتحدثون عن آفات ومثالب تضرب في بنية الائتلاف العميقة وتجعله معطوباً على الدوام، فهم – على سبيل المثال – لم يتحدثوا عن افتقاد الائتلاف – ككيان سياسي يدعي قيادة الثورة – لقراره الوطني، ووقوعه في فخ التبعية المطلقة وعدم حيازته لأيٍّ من مقوّمات الندية في التعامل مع الآخرين، وكذلك لم ينتقدوا مبدأ (التعيين الخارجي) لقياداته وأهم مفاصله، وكذلك لم ينتقدوا مسايرته لجميع محطات أستانا وعجزه السياسي حيال مجمل جوانب القضية السورية، وكذلك إخفاقه عن تحقيق أي منجز للسوريين بدءاً من الحصول على وثيقة بسيطة لأي مواطن سوري في دول اللجوء، وصولاً للقضايا الإنسانية كقضية المعتقلين وسواها، وكذلك هم لا يجرؤون – حتى – على الإشارة إلى اللوبيات أو المافيات التي تتحكم بجميع مفاصل الائتلاف وتديره كما كأنها تدير متجراً لها في إحدى البلدات.

بل ربما دفعت النوايا الحسنة بعض السوريين إلى الظن بأن أعضاء الائتلاف سيكون أشدّ ما يحرجهم، بل يعرّضهم للخجل هو عدم قدرة كيانهم على مجاراة الحراك الثوري الذي تشهده عدة مدن في الداخل السوري، وأن هذا الحرج الذي يصل إلى مرحلة العجز يمكن أن يدفعهم إلى مبادرة أخلاقية تتجسّد بالاعتذار وإعلان الاستقالة، ولكن يبدو أن الجماعة ليسوا على هذا المنحى من التفكير.

إذاً، المشكلة برمتها لدى المنتفضين من أعضاء الائتلاف لا تكمن في خلل بنيوي داخل هذا الكيان ولا في قرار مُصادر ولا في ارتهان كلّي للآخر الخارجي، وليس كذلك في حالة انفصام تام أو قطيعة مع الجمهور العام للسوريين، ولا على سلوك سياسي كانت له تداعيات كارثية على حياة السوريين، وإنما فقط في سوء الإدارة، واحتكار المناصب أو الوظائف من جانب البعض، ومبدأ التفويض في الانتخابات وووو، فهل هذه المسائل هي حقاً ما يؤرق السوريين، أم هي بالفعل ما تؤرق أعضاء الائتلاف فقط لأنها تنعكس انعكاساً مباشراً على مصالحهم الشخصية كموظفين داخل كيان الائتلاف؟ وبالتالي أليس من حق السوريين أن يشعروا بالخيبة والإحباط حيال المطالب القزمة لأعضاء الائتلاف المنتفضين، كما شعر غيرهم من السوريين بالخيبة ذاتها من الانتفاضة (الافتراضية) لأحد مسؤولي نظام الأسد؟

————————————-

هل هي موجة ثانية من الربيع السوري؟/ أحمد مظهر سعدو

تتمظهر بواعث الحراك الشعبي السوري المنتفض تباعًا كموجة جديدة ومتجددة من موجات الربيع السوري المتواصل منذ ما يزيد على ١٢ عامًا خلت، وتأتي اليوم ديناميات أنساق الهبة الشعبية الكبيرة التي لم تنحصر هذه المرة في بيئة شعبية سورية معينة، أو جغرافية، أو مناطقية، بل راحت تمتد وتكبر لتشمل السويداء كمحافظة بكليتها وجماهيرها الواسعة، بالإضافة إلى الكثير من نقاط التحرك في محافظة درعا، وصولًا إلى الشمال السوري، والساحل السوري كذلك، ضمن تجليات واتساع العديد من البؤر، التي بدأت تململاً ليس إلا، نتيجة الحالة المعيشية الصعبة والخانقة، التي لم تعد تطاق.

ومن يقرأ طبيعة وامتداد الحراك الوطني السوري في ربيعه الجديد، يلحظ ويقف أمام العديد من المؤشرات التي طفت على السطح، وخلقت جوًا موضوعيًا متحركًا، من مسألة إعادة بث الأمل في أتون دينامية المجتمع السوري، الذي سبق أن شغلته كثيرًا وأسهمت في تيئيسه نسبيًا، حالة الاستنقاع الذي يعيشه الواقع السوري في سنواته الأخيرة، بعد أن تخلت العديد من الدول التي كانت تسمى صديقة للشعب السوري الثائر، حين تخلت عنه وتركته لقمة سائغة في فم الوحش الطغياني، والدولة المتوحشة التي تحكمها وتقودها عصابة الأسد، وليست مؤسسات دولة، وهي نفسها (أي هذه العصابة) التي وضعت كل سيادتها السورية المفترضة، في أحضان إيران/ الملالي تارة، والاتحاد الروسي تارة أخرى.

ومن المؤشرات الآنية التي يمكن لحظها في سياق الهبة الشعبية السورية الكبيرة مؤخراً:

– أنها لم تعد محصورة ضمن بقعة طائفية معينة، ولا ضمن مكون أثني سوري بعينه، بل تعدت ذلك بما حملته من رؤيا جديدة وشعارات عملانية، تشير إلى وحدة الشعب السوري وآليات عمله القادمة.

– كما يمكن لحظ ماهية واتساع الرقعة الشعبية، ووطنية وثورية رافعيها، خاصة في محافظة السويداء لتكون المشاركة كما تابعناها، أكبر بكثير مما سلف في تلك المحافظة، عبر سنوات خلت.

– علاوة على وضوح جذرية الطروحات التي بانت في هذه الحراكات، والتي تشير أيضًا إلى امتلاك وعي حقيقي، لما يمكن فعله في مواجهة نظام كم الأفواه، والفساد والإفساد، وهي لم تكن تريد حصر المسألة في قضية لقمة العيش رغم أهميتها للناس، والحالة الاقتصادية الصعبة التي تضيق أكثر وأكثر على الناس، بل تصاعدت الرؤيا لتدرك أهمية وعي مسألة التغيير الكبرى المطلوبة في الوطن السوري.

– تجاوز الحراك السوري الأخير كل الأيديولوجيات والتموضعات السياسية، التي كان من الممكن أن تعيق وتثبط الهمم، وتكون حجر عثرة في طريق توسع وامتداد الحراك.

– مشاركة رجال الدين وشيوخ العقل في الهبة الشعبية في السويداء وهو ما أعطى المسألة بعدًا أكثر قوة واتساعًا وقدرة على حماية الثورة والانتفاض الشعبي، وتشجيعًا على التصعيد بالمطالب ليطول كل رؤوس الفاسدين وعلى رأسهم نظام القمع الفاشيستي الأسدي.

ولعل واقع تحرك هذه الموجة الجديدة من الانتفاض السوري من السويداء إلى القريّا إلى طفس وجاسم وكل درعا، وريف حلب وريف إدلب وريف الحسكة يؤكد من جديد أنه لا بد من الاستفادة الجدية من كل أخطاء موجات الربيع السوري التي سبقت، والتي شابتها الكثير من العثرات حتى أضحت عبئًا كبيرًا يحول دون انتصارها، بل يؤخر كثيرًا إمكانية كنس الاستبداد، الذي خرجت قوى الشعب السوري لإنهائه والانتقال إلى دولة المواطنة والعدل.

بحيث يتم الانتباه والوعي إلى أهمية عدم الانجرار وراء دعوات ليست بصائبة، تنحو باتجاه العسكرة من جديد، بل لعل خط (الثورة السلمية) كان وسوف يبقى الأكثر جدوى نحو مصير أفضل ومنتصر لهذه الانتفاضة الجديدة.

إضافة إلى أن القطيعة الكلية مع إمكانية وضع البيض كله في سلة الخارج باتت ضرورية، وهي من أولويات هذه المرحلة الجديدة، فما حصل في السابق لا يجب أبدًا أن يتكرر، وقد عرف وأدرك الجميع كيف أن تلك السياسات التي اتبعتها الكثير من قوى الثورة والمعارضة السورية قد أودت بنا إلى مآلات لم تكن محمودة.

ويبدو أن من أهم ما يمكن استنتاجه اليوم في سياق متابعة الموجة الجديدة من الانتفاض، هو أن الثورة وإعادة إنتاجها من جديد لم تعد وهمًا، وأن اليأس لم يصل إلى وجدان الإنسان السوري رغم كل ما حصل، ورغم كل حالات العوز والفقر التي أوصل النظام السوري الحاكم عبرها الناس إلى أن يصبح خط الفقر في سوريا يتجاوز حافة التسعين في المئة، وأن ما ينوف عن 65 في المئة من البنية التحتية قد تم تدميرها من قبل نظام الأسد، وأن ما ينوف عن 900 ألف معتقل أُدخلوا سجون الطاغية منذ أواسط آذار/ مارس 2011 وحتى الآن، بالرغم من كل ذلك ما برح الشعب السوري مصممًا على المضي قدمًا في مسيرة تغييره الضرورية لهذا النظام الإجرامي الفاقد للشرعية الدولية والإقليمية والشعبية.

إن الانتشار الكبير اليوم لمساحات الجغرافيا السورية بنقاط لم تحصل منذ سنوات نتيجة الدعوات الشعبية، وكذلك من النخب أيضًا لتشمل هذه الثورة الشعبية الآن جل الساحة السورية، وتلبية النداء بشكل عملي وجدي وفاعل على امتداد الساحة السورية، يعيد إلى الأذهان البعد العميق والأثر الأكبر تساوقًا مع حجم وضخامة الألم والعسف والهدر والاستلاب الذي أنتجه نظام بشار الأسد القمعي، وأن الخلاص من الاستبداد والفساد والنهب والإفقار ما يزال من أولى أولويات الأهداف والغايات الشعبية السورية.

وإذا كانت مدينة ومحافظة السويداء أمسكت بدفة الحراك اليوم، فإن كل السوريين على امتداد الجغرافيا السورية ما زالوا في حالة إصرار حقيقية على الوصول إلى بر الأمان ضمن هدف إنتاج دولة المواطنة، وسيادة القانون، وإنتاج دستور سوري عصري جامع، وعقد اجتماعي جديد يعيد المسألة إلى بداياتها وضروراتها، ويمسك بناصية الحق والحقيقة، ويجمع السوريين بكل أثنياتهم وطوائفهم وتكويناتهم، من أجل سوريا الموحدة وهو ما لاحظناه وعشناه يوم الجمعة الفائت عبر الشعار المرفوع والموحد لجمعة الشعب السوري واحد المتفق عليها شعبيًا وتعدديًا نخبويًا.

تلفزيون سوريا

————————————

الأسد ووهم الأقلية/ إبراهيم ريحان

صار العالم برمته يعرف أن ما يحصل في السويداء هو عينه ما يصير في درعا وكذلك في إدلب. كما يعرف العالم بالصورة والصوت أن المدن والأرياف السورية ما زالت تضج بثورتها الأولى المطالبة بالحرية لكل الشعب السوري لا لفئة بعينها. لكن هوس نظام الأسد أباً وابناً بحلف الأقليات الذي تنوع من إسرائيل إلى موسكو مروراً ببشير الجميل في بيروت ثم مع حزب الله وإيران هو من يحكم سياساته تجاه السوريين كلهم مورطين حتى العلويين الذين هم من هذا الشعب وله. هذا الهوس يجعله يضرب بالطائرات وسائر أنواع الأسلحة الفتاكة درعا وإدلب والشمال السوري، مستشنياً السويداء.

طبعاً، ليس في هذا الكلام أية دعوة لتشمل الهمجية الأسدية محافظ غالبيتها من سكان بني معروف، بقدر ما هو محاولة لكشف ميله العارم نحو تحالف الأقليات الذي سقط في كل المنطقة. هو لا يستطيع ضرب السويداء خشية من حلفائه الأقلويين وهم على مثله ومثاله ويتشكلون من حزب الله والحرس الثوري والروس.

ليس مبالغةً القول الآن وفوراً إن الثورة السورية استعادت ألقها وحضورها بين السوريين أولاً والعالم ثانياً، بعدما غابت معزوفة المتطرفين والدواعش. ذلك أنه طالما حرر البلد من هؤلاء وهم خريجو سجونه وبإرادته فليدل العالم على الوحدة الوطنية السورية. وليظهر أداء سياسياً تعهد به للعرب عن عودة المهجرين من أرضهم قسراً. لقد ورط العلويين في حروب تشبه تلك التي شنتها النازية والفاشية، وضد أبناء شعبهم الذين يتشاركون معهم في كل شيء، إلا القتل والذبح على الهوية والدين والانتماء العرقي أو الديني.

منذ اندلاع ثورة الحرية لم يتردد النظام في بث فيديوهات لتوريط رهطه ومناصريه بحروب مذهبية لاقاه فيها فقط الدواعش وحزب الله. كان المراد من هذه الأفلام المبثوثة تلفزيونياً وعبر وسائل التواصل الإجتماعي استثارة السوريين السُنة لزجهم بحرب تبرر طردهم واستدعاء أفغان وباكستانيين من الشيعة لتجنيسهم وإسكانهم على أرض سوريا والسوريين. الأرجح أن أحداً لم ينس بث أغاني فيروز من جوامع درعا وإدلب. وصورة عصام زهر الدين وهو يحقر مسجداً محاولاً توريط بني معروف الذين ما استجابوا، وأكدوا بالدم انحيازهم إلى وطنيتهم السورية. الصورة الأكثر قسوة والتي لم يتوقعها السوريون على الإطلاق ما حصل من قبل حزب الله على مأذنة جامع القصير.

لنذهب أبعد من ذلك، فإن السوريين والعالم لم ينسوا بعد تورط الروس عبر محاولة توريط الكنيسة المشرقية في لعبة الأقليات من خلال بث شريط فيديو لرجل دين مسيحي ينثر “مياهاً صُلي عليها مع البخور” على أول طائرة روسية باشرت عمليات تدمير مدن سوريا، والتي صارت أثراً بعد أعين وأقرب إلى الأطلال التي نقرأ عنها في تواريخ العرب منذ ما قبل الإسلام.

في التاريخين القديم والحديث كثيرا ما يظهر “الهوس الأقلوي” عند آل الأسد.

1 ـ في التاريخ القديم نسبياً تعود الأمور الى زمن الاحتلال الفرنسي وتحديداً إلى الرسالة التي شارك بها سليمان الأسد جد بشار الأسد، والتي وقع عليها أعيان من أبناء منطقته مطالبين بضرورة بقاء هذا الاحتلال، ورفض استقلال سوريا، بحجة أن الأغلبية سوف تبتلع الأقليات وتهجم على الغرب وإسرائيل أيضًا، وقد تم توقيعها في عام 1936، وكشف عنها وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس في مجلس الأمن من العام 2012، ردًا على تصريحات بشار الجعفري مندوب بشار الأسد.

2 ـ في التاريخ الحديث اقتسم الحلم الأقلوي مع إسرائيل عبر اقتسام لبنان فدخل إلى بيروت منكلاً بالفلسطينيين والمسلمين سنة وشيعة، مع عصابات اليمين اللبناني التي عادت لتنبعث كراهيتها ضد السوريين في الآونة الأخيرة. يومها أنقذ الأسد الأب هذا اليمين وزعيمه وذهب إلى التنكيل باليسار وبالثورة الفلسطينية وقتل الزعيم الكبير للحركة الوطنية وهو من بني معروف كمال جنبلاط.

ويوم أنقذ العرب لبنان من حربه الأهلية الطاحنة عاد للعب على وتر الأقليات فجعل من مسلمي لبنان فزاعة لمسيحييه حتى تجرأ ذات مرة ونظم تظاهرة لعصابة تحمل السكاكين في شوارع بيروت ضد البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير لا لشيء إلا لأن الأخير طالب بانسحاب الجيش الأسدي واستخباراته من لبنان، ولأنه اتفق مع زعيم الغالبية السنية الشهيد رفيق الحريري على تحصين الاتفاق الدستوري ومنع الفتن.

العالم الآن يتبدل. وبدأت محاكمة مجرمي الحرب في سوريا. والثورة استعادت وهجها وزخمها، لكن الأهم أن تستلهم عبر الماضي ممن مولوا عسكرة الثورة ثم عادوا واستقبلوا بشار الأسد وضباط استخباراته في عواصمهم.

كل الأمل والرجاء أن تبقى السويداء خارج دائرة جحيم النظام، وأن يستعيد السوريون الوطنيون كل سوريا بكل تلاوينها المذهبية والروحية والثقافية. قد يطول الدرب بعض الشيء. لكن اللعب والتلاعب بأكثريات وأقليات ما عاد يجدي هذا النظام شيئاً لا من قريب ولا من بعيد. وعائلة الأسد لن تكون إلى الأبد.

تلفزيون سوريا

————————————

تغيرات الشارع الاحتجاجي السوري/ عمر كوش

الحراك الاحتجاجي الذي تشهده محافظة السويداء، في أيامنا هذه، يختلف كثيراً عما شهدته خلال الأعوام القليلة الماضية، فهو الأكثر زخماً في فعالياته، والأكثر جذرية في مطالبه، والأخطر على نظام الأسد، كونه يعيد التأكيد على عدم انفصاله عن الحراك الشعبي السوري العام، الذي انطلق مع الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011، حيث استعاد المحتجون في وقفاتهم ومظاهراتهم شعارات الثورة الأولى، التي رفعها الناشطون في بداياتها السلمية، وهم على دراية هذه المرّة، بأن حراكهم يستعيد “سيرتها الأولى”، فأطلقوا العنان لحناجرهم، كي ترتفع أصواتهم، وتصدح بشعارات سياسية واضحة، ركزوا فيها على تجديد مطالبة غالبية السوريين برحيل بشار الأسد وإسقاط نظامه، في حين حملت بعض اللافتات، التي رفعوها في الساحات، شعارات ضد مختلف قوى الاحتلال في سوريا، وخاصة الروس والإيرانيين.

يمكن القول إن تغيرات مهمة حصلت في الشارع الاحتجاجي السوري، ليس فقط من جهة المطالبة برحيل بشار الأسد وإسقاط نظامه، ولا إحراق صوره والدوس عليها، وإغلاق مقارّ حزب البعث، فهناك معطيات عديدة دفعت أهالي السويداء للخروج باحتجاجاتهم، وتقاطعت مع بدايات الثورة السورية، وأفضت إلى رفع شعاراتها التي تركز على الحرية والكرامة ووحدة الشعب السوري ونبذ الطائفية، وتزامن ذلك مع ما تشهده مناطق سيطرة النظام السوري من انهيار اقتصادي وأزمات معيشية غير مسبوقة، لذلك كان لافتاً عدم رفع المحتجين مطالب معيشية، مثلما كانوا يفعلون في مرات سابقة، وذلك على الرغم من أن الأوضاع المعيشية الكارثية، الخانقة والمدمرة، شكلت دافعاً أساسياً لحراكهم الاحتجاجي، الذي انطلق منذ أكثر من أسبوع، على خليفة قرار سلطات الأسد رفع أسعار بعض المواد الأساسية كالمحروقات إلى مستويات غير مسبوقة، وإقرارها زيادة جديدة على أسعار الخبز، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم، وتواصل تدهور قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية.

بالمقابل، لم يتأخر الناشطون السوريون في مختلف مناطق وجودهم، سواء داخل سوريا المقسمة أم خارجها في دول الشتات والمهجر، عن إطلاق حملة تضامن واسعة مع حراك السويداء، وخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتمايزت فعاليات التضامن بحسب وضع أماكن وجودهم، فقد خرج متظاهرون دعماً لحراك السويداء السلمي في مختلف الساحات السورية، من درعا جنوباً إلى الرقة ودير الزور شرقاً، وصولاً إلى محافظتي حلب والحسكة شمالاً، وعبّروا عن تضامنهم رغم الاختلاف المذهبي والطائفي، وعن مواصلتهم سعيهم من أجل العيش بحرية والخلاص من النظام، وأظهروا الشجاعة والإرادة في مواصلة حراكهم الاحتجاجي مهما كان الثمن. واختلف الأمر في المناطق التي تشتد فيها القبضة الأمنية والعسكرية للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين، وخاصة في مناطق وبلدات في ريف دمشق والقلمون، حيث انتشرت منشورات مطبوعة على شكل وريقات، كتبها متضامنون أكدوا فيها دعمهم للحراك الاحتجاجي وتضامنهم معه، وكتبوا فيها عبارات تطالب بإسقاط النظام، وتؤكد على تجدد روح الثورة، ووحدة السوريين، وتحثهم على التضحية من أجل الحرية والكرامة.

ما يسجل للحراك الاحتجاجي الحالي هو أنه شمل بشكل أساسي محافظتي السويداء ودرعا، أي منطقة حوران بسهلها وجبلها، التي يسيطر عليها نظام الأسد وقواته، إلى جانب قوات روسية وحلفائها وميليشيات إيرانية. ولم يثن أهالي المنطقة الخوف من التهديد الذي يشكله استدعاء النظام لتنظيم داعش الإرهابي فيها. كما أن الحراك أسقط كل محاولات النظام للتفرقة، وزرع الفتنة، وإثارة النعرات، إذ ما يزال الشعار المركزي للحراك الاحتجاجي هو “الشعب السوري واحد”، لذلك لم يتوانَ ناشطوه عن توجيه التحية والتقدير لأحرار الساحل، الذين يصعب عليهم الخروج علناً، وخاصة بشكل جماعي، على الرغم من تزايد نقمة أعداد متزايدة منهم على نظام الأسد، الذي تمادى في تجويعهم وتوريطهم، وإيصالهم إلى أوضاع كارثية، حتى باتوا يعيشون في واقع لا يُحتمل. وهو أمر يتفهمه المحتجون في كل المناطق السورية، بالنظر إلى حساسية وضع الساحل السوري، القابع تحت القبضة الأمنية للنظام وحاضنته الاجتماعية وشبيحته، وبما يشي بأن السوريين قادرون على تجاوز الجراح والمآسي الناتجة عن حرب النظام عليهم. يضاف إلى ذلك أن غالبية السوريين أضحت متسامحة عند رفع رايات محلية، تخص أهالي هذه المنطقة أو تلك، فعلم “الحدود الخمسة”، الذي يرمز إلى الدروز بوصفه الجامع بينهم، رُفع في السويداء، وفي الوقت نفسه رُفع العلم الذي يرمز إلى الثورة السورية للتأكيد على الانتماء إليها، والأمر نفسه انسحب إلى مناطق من شمالي سوريا، حيث رفع ناشطون علم الحدود الخمسة إلى جانب علم الثورة، للتأكيد على التضامن وتفهّم الخصوصية الجامعة لأبناء السويداء.

غير أن التقدير باتساع رقعة الحراك الاحتجاجي ضد نظام الأسد في مختلف مناطق سيطرته، لا يعني رفع سقف الآمال، والتسرع في إطلاق الأحكام، وخلطها بالتمنيات، لكنه يشي أيضاً بعدم استحالة انضمام بؤر جديدة أخرى إليه، إذ توحي الوقائع التي تصل من بقية المناطق، بأن حالة من غضب غير مسبوقة تسود كل مناطق سيطرة النظام، بسبب الأوضاع المعيشية الكارثية، خاصة مع ازدياد عدد الموالين له الذين يجاهرون بالمطالبة بتغيير أحوالهم الحياتية والاقتصادية والاجتماعية، وأنه من الممكن أن تتطور تلك المطالب إلى المستوى السياسي، خاصة مع توفر إمكانية توسيع دائرة الاحتجاجات السلمية، وتوحيد إرادة السوريين الساعين للتحرر من الاستبداد والبؤس والواقع الجحيمي، وذلك في ظل الإضراب والدعوات لتنفيذ عصيان مدني. أما نظام الأسد، فيبدو عاجزاً وغاية الارتباك، بالنظر إلى عدم قدرته على إغراء المحتجين بوعدود كاذبة، ولم يعد بإمكانه استخدام نفس الأكاذيب التي استخدمها من قبل، مثل الإرهاب والمؤامرة والهواجس الطائفية، بما يعني فقدانه ذرائع استخدام القوة لإنهاء الحراك الاحتجاجي، إضافة إلى الخشية من انفجار الأوضاع وتوسع الاحتجاجات في سائر مناطق سيطرته.

تلفزيون سوريا

—————————

صمام الأمان.. آخر أسطورة يتكئ عليها النظام السوري/ مصطفى إبراهيم المصطفى

يميل العديد من الباحثين السياسيين إلى ربط النشأة الأولى للحكومة بالقدرة. أي؛ قدرة قلة متآزرة على التحكم بالآخرين والسيطرة عليهم، ثم لا تلبث هذه الأقلية الحاكمة أن تضع يدها على موارد الجماعة وتستثمرها لصالحها، وتسخر الآخرين خدما أو عبيدا لها. وبالتوازي تصبح العدالة مصلحة الأقوى.

رغم أن القدرة لا تعني القوة، لأن القوة – كما هو متعارف عليه في أدبيات علم الاجتماع السياسي – تعد من مقومات القدرة إلى جانب مقوماتها الأخرى كالتضامنية والتنظيمية والقيادية والثرائية المعنوية والمادية والثبات وراء المقصد وغير ذلك من المقومات، إلا أن كثيرا من الباحثين وجدوا أن القوة وحدها هي العامل الأساس في نشأة الحكومة أو نشأة الدولة.

هناك وجهة نظر لديها ما يكفي من الجاذبية والمقدرة على الإقناع تقول: “إن الذين يرون سحر الحكومة في القوة وحدها مخطئون!” وقد وقع “مكيافيللي” في هذا الخطأ؛ فبالغ في أهمية القوة للحاكم بدون أن يغفل أهمية المكر، ولكنه تجاهل علاقة القوة بغيرها كما تجاهل علاقة المكر بغيره من مقومات القدرة. ولم يكن من قبيل الصدفة أن بطله قيصر “بورجيا” الذي جسد القوة والمكر ذهب فريسة العنف وهو مازال في الواحدة والثلاثين من عمره.

يعتقد أصحاب وجهة النظر هذه أن بقاء السلطة واستمرارها مرهون بالأساطير السائدة بين الذين تمارس فيهم السلطة. والقصد هنا تلك المعتقدات التي تدفع الشعوب لأن تخلع على الحكام هالة سحرية تتراوح بين التأليه وشدة الاحترام، وتتعدد هذه المظاهر المتعلقة بتقديس الحاكم وتتفاوت درجات الأخذ بها عند الشعوب، ولكنها واحدة في دلالاتها على ما في نفوس الناس من طاعة وخضوع للقوى التي تحكمهم.

كل هذا التقديم المطول من أجل أن تكون فكرة هذا المقال وافتراضاته واضحة إلى حد ما. فالنظام السوري الذي اعتمد القوة والمكر كأساس لتوطيد حكمه لم يغفل أهمية الأسطورة. وبقليل من التجاوز يمكن القول إن النظام السوري اعتمد خلال فترة حكمه ثلاث أساطير رئيسية منحته مزيدا من الثبات والاستمرارية. وهي: أسطورة القادر على كل شيء، وأسطورة الرأس المقدس، وأسطورة صمام الأمان. هذه الأساطير الثلاث بقيت تفعل فعلها عند فئة من السوريين، وهم أولئك الذين يسمونهم تجاوزا بالمؤيدين.

نتيجة للدعاية الممنهجة أصبح كثير من السوريين يعتقدون أن النظام السوري يمتلك قوى خارقة وأساليب عبقرية تمكنه من تحدي المؤامرات والتحايل على العقوبات وتجاوز كل العقبات التي تواجهه، بل الخروج من الأزمات أقوى مما كان عليه، لكن هذه الأسطورة سقطت مع توقف الأعمال العسكرية وتفاقم الأزمات الداخلية ولجوء النظام السوري إلى الشكوى والنحيب معلنا عجزه التام. وبالتالي معلنا السقوط المدوي لأسطورة “القادر على كل شيء”.

والنظام السوري ليس بقادر على كل شيء إلا لأن القدر تكرم على السوريين بقائد فذ لا يشق له غبار. لذلك، لا بد لهذا القائد أن يكون منزها عن كل نقد أو تجريح، فمهما بلغت الضائقة بالناس ومهما استشرى الفساد وعمت الفوضى فسقف النقد يجب أن يتوقف عند حدود الرأس المقدس. من هنا، كان من الطبيعي أن تسقط أسطورة “الرأس المقدس” بعد أن سقطت أسطورة “القادر على كل شيء”، وها هي ألسنة السوريين أصبحت تجاهر بنقدها للرأس الذي لم يعد مقدسا، بل باتت النظرة إليه على أنه العلة التي أفسدت كل شيء.

إلى جانب القوة والمكر لم يعد لدى النظام السوري ما يتكئ عليه من الأساطير سوى أسطورة “صمام الأمان”. ومن أجل دقة أكثر؛ مازال النظام السوري يمتلك بعض القوة المتهالكة، والمكر الذي فقد كثيرا من فاعليته نتيجة التكرار والانفضاح، وأسطورة “صمام الأمان”. ويعتقد أن هذا المثلث الهش هو كل ما تبقى بحوزة النظام السوري ليقاوم به في معركته مع السوريين من أجل البقاء.

إن أخطر ما في الأمر أن أسطورة “صمام الأمان” تزداد عمقا وتأثيرا مع تفشي الفقر؛ فالفقراء فقرا مدقعا يرهبون محيطهم ولا تراودهم رغبة في التغيير، وخاصة عندما يكون نمط الحياة مضطربا إلى درجة تمنع الإنسان من التحكم في ظروفه المعيشية، فتراه ميالا إلى الاحتماء بما هو مألوف موهما نفسه بأنه بهذه الوسيلة يستطيع أن يتجنب المفاجآت الوخيمة. من هنا يميل البعض إلى الاعتقاد بأن الفقر الذي يخيم في المناطق الخاضعة لنفوذ النظام السوري هو عملية إفقار ممنهجة أكثر من كونه فقرا طبيعيا.

من جهة ثانية؛ كان للأوضاع المزرية التي آلت إليها بعض البلدان العربية نتيجة لتساقط بعض الأنظمة التي بنيت بأسلوب صمام الأمان دور مهم في إضفاء لمسة سحرية على أسطورة “صمام الأمان” أكسبتها مزيدا من الصلابة والثبات. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الخوف من المحيط المبني على أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية؛ نكون قد وقفنا على مدى الصلابة والتماسك لأسطورة “صمام الأمان”، وبالتالي على مدى صعوبة تفكيك وإسقاط هذه الأسطورة.

يعتقد البعض أن الخطاب والسلوك التصالحي المطمئن، وإبداء الرغبة قولا وفعلا بالحفاظ على مؤسسات الدولة، وإظهار المقدرة على الانتظام والتنظيم والتوافق؛ كفيل بتفكيك وإسقاط العكاز الأخير لدى النظام السوري. أي، أسطورة “صمام الأمان”. ويعتقد آخرون أن الشعب السوري قادر على اجتراح الحلول لأي معضلة تواجهه، يكفيه أن يجد من يرشده إلى موضع العلة فقط.

——————————–

نظام الأسد الفاشل/ يحيى العريضي

لم يرتكب نظامٌ ما ارتكبه نظام الأسد، وخاصة تجاه “شعبه”؛ وما نال نظامٌ توصيفات قاذعة ومهينة (كالاستبداد والدكتاتورية والإجرام، التي يستحقّها)، كما نال؛ ولم يُمنَح نظامٌ فرصاً، كما مُنِح؛ ولم يضيّع فرص خلاصٍ لسوريا، كما ضيّع؛ ولم يخيّب نظامٌ مانحي تلك الفرص، كما فعل؛ ولم يتكشّف نظامٌ، كما تكشّف؛ ولم يتأخر حسابه أو إنهاؤه، كما حدث معه. لقد ثبُتَ فشله – وبيده بامتياز – حيث حوّل سوريا إلى “دولة فاشلة/ failure state” بجدارة. ومن هنا، لا بد أن الوقت قد أزف للخلاص من هذا الوباء.

حتى أميركا، التي كانت تاريخياً حريصة عليه لخدماته لها، حيث صوّرها، وأقنع تابعيه ومريديه بأنها وراء “المؤامرة الكونية” عليه؛ وهي فعلياً لم تطلب منه أكثر من “تغيير سلوكه”؛ فإدارة أوباما مثلاً، هي التي ضبطت إيقاع ردة الفعل العالمية على جريمته الكيماوية، واكتفت بسحب السلاح، وإبقاء الفاعل طليقا.

أميركا وحليفتها إسرائيل هما مَن أتاح لحزب الله وإيران، ولاحقاً لروسيا، حماية. حتى تلك القوانين التي أصدرتها أميركا لم تكن تؤذي نظامه، بل أذت الشعب السوري، ومكّنت نظام الأسد من إحكام قبضته على هذا الشعب أكثر. لقد أشاحت أميركا الطرف عن محاولات الجامعة العربية أعادته لصفوفها، والتطبيع معه؛ واتخذت موقفا رمادياً؛ وأقصى ما طلبته من العرب ألّا يكون ما فعلوه تجاهه بلا ثمن؛ على الأقل “تغيير السلوك”.

تجاه كل ذلك، وحتى يستمر بالمناكفة الكاذبة وسردية العداء لأميركا، استمر النظام بالصلف والمكابرة والانفصام والعناد، ولم يستفد – حتى تمثيلياً – من كل تلك الفرص، مغلقاً الباب على نفسه، وعلى سوريا. لقد خيّب آمالهم حتى بالإبقاء على نفسه أداةً، طالما كانت مفيدة استخبارياً، وفي أخذ الرهائن وتحريرهم، واستخدام الإرهابيين، وزعزعة أمن المنطقة، متى شاءت أميركا.

أخذ خُذلان نظام الأسد لروسيا بوتين شكلاً آخر، رغم أنها مسؤولة أساسية عن بقائه بالسلطة؛ فهي حمته سياسياً بأخذها مجلس الأمن الدولي رهينة ل”فيتوهاتها”، وعسكرياً بتدمير البشر والحجر في سوريا الرافضة له. لقد حمّلت أبواق المنظومة الأسدية بوتين المنَّة، بأنها مَن أعطته الفرصة للتمدد نحو مياه المتوسط الدافئة، وأعادته للساحة السياسية الدولية؛ إلا أنها رفست كل جهود بوتين ومساعيه لإعادة تكريرها، عندما تحوّل إلى دينمو التطبيع بينها وبين تركيا ومع العرب. إلا أن الأسد، وبتخطيط وفعل واستلاب إيراني، أغلق كل الأبواب، حارماً الروس من أي جنى سياسي تعويضاً على أفعالهم الإجرامية في سوريا؛ بغض النظر عن إغراءات العقود التي وقعها لهم، حيث لا قيمة لتلك العقود، عندما تكون ممهورة بتوقيع فاقدٍ للشرعية.

لقد طوت الجامعة العربية قراراتها السابقة المحقّة بمقاطعة نظام الأسد، وسعت لاحتوائه وإعادة تكريره، وتحمّلت جرح وخذلان ملايين السوريين المكلومين، والمشردين،  والمعتقلين، والمدمرة حياتهم؛ وساقت من أجل استيعابه حججاً ما أنزل الله بها من سلطان؛ إلا أنه صفق الباب في وجهها، وخذلها بانفصاله عن الواقع ومكابرته وغبائه.

كان المستفيد الأساس من فشل منظومة الأسد، والخذلان الذي واجهت به كل من حاول إنقاذها، هو ملالي طهران أصحاب مشروع الخطر الوجودي للمنطقة؛ حيث أدركوا أنهم بقدر ما يغيّبون جميع المنقذين، باستخدامهم هذه الأداة المرتهنة الطيعة، عبر إرعابهم وإرهابهم وإشرافهم على أمنه الشخصي، بقدر ما ازدادت فرص نجاح هلالهم التدميري للمنطقة.

فوق هذا وذاك، كان فشل “النظام” بإدارة ما تبقى له من سوريا، عندما رهن خيرات سوريا ومواردها حمايةً لكرسي السلطة، وعاش هو وحاشيته على بعض ريع الكبتاغون. وهكذا كان خذلانه الأكبر وفشله الذريع تجاه ما اعتبره حاشيته من مختلف الطوائف، حيث مجموعات محدودة تعيش ارستقراطياً، والغالبية تحت خط الفقر والمهانة والخوف وفقدان الأمل إضافة لجروح الحزن على فلذات أكبادٍ فقدوا الحياة ثمناً لكرسيّه. لقد فشل بإنجاز ما اعتبره زوراً “مجتمعه المتجانس”. مَن تبقى يشعر بخيبة مريرة؛ حيث اكتشف بأنه قد تم أخذه رهينة، وتولّد عداءٌ مستأصلٌ بينه وبين أهل بلده الذين شُردوا؛ وتعمّق الشرخ الطائفي الذي كان قد عمل النظام عليه طويلا. لقد صُوِّرَ له أخوه في الوطن كإرهابي، يستهدف وجوده.

ها هي التي تُسمّى “حاضنته” والأقليات، التي ادعى حمايتها، تقف على حقائق سردياته وزيف أبواقه الكاذبة بأن حرباً أهلية تدور في سوريا. ها هي الأقليات ذاتها تطالب برحيله؛ فما الصوت القادم من السويداء إلا ترجمة لجذر المصاب السوري بهذه الطغمة، وما صرختها إلا استمرارٌ وامتدادٌ لصرخة السوريين عام 2011، وها هي الأقليات تسقطه معنوياً وأخلاقياً وسياسياً.

بعد كل هذا الانكشاف، وبعد ثبوت الفشل الذريع، وبعد أن تبيّن أن هذا الجنى الإيراني يؤثر بطريقة أو أخرى على المشروع الأمرو-إسرائيلي في المنطقة، وخاصة تحوّل الآفة الأسدية إلى عبء، وبعد تحوّل الملالي إلى مشروع “يفتح على حسابه”؛ لا بد أن {حُماته الأساس} قد وصلوا إلى قناعة بأن استئصاله أضحى ضرورة. ومن هنا، لا بد أن الوقت قد أزف للخلاص من هذا الوباء، الذي وضع نفسه في مواجهة الحريصين على بقائه لمصالحهم، وتصفية حساباتهم على أرض جعلها مستباحة؛ كما جعل نفسه بمواجهة أولئك الذين تمَّ أخذهم رهائن خوفاً أو رماديةً، وأولئك الذين رفضوه وثاروا عليه منذ البداية، وحتى اللحظة هم مستمرون. ها نحن أمام لحظات الفرج والخلاص لا لسوريا والسوريين فقط، بل لكل العرب، وحتى لمن كان حريصاً على إبقائه، وذلك بحكم تحوّله إلى عبء يستحيل احتماله.

تلفزيون سوريا

——————————–

في معنى أن يُشتم الأسد في اللاذقية/ علي سفر

لم تتقبل مني زميلتي الصحفية التي تنتمي للطائفة العلوية أن أتحدث عن بشار الأسد دون أن أسبق اسمه بعبارة “السيد الرئيس”! رغم أنها في وقت محادثتنا تلك (الشهور الأولى للثورة) كانت تبدي موقفاً متفهماً لمطالب الشارع المنتفض ضده، وكانت حجة استهجانها فعلتي محددة بعدم جواز الانتقاص من مقام الرئاسة، فالرئيس هو الرئيس حتى وإن ثار السوريون ضده!

معادلة الزميلة الصحفية ليست معقدة، وتفسيرها بسيط؛ فأن تأتي هي من عائلة “مدعومة”، أحد أفرادها رئيس فرع أمني، وتستطيع أن تجد وظيفة في أفضل المؤسسات الصحفية، حتى وإن لم تدرس الصحافة، ولم تمتلك ما يكفي من المؤهلات، فإن ذلك سيؤدي في المحصلة لأن تكون مواقفها الحياتية ليست داعمة للنظام ولرأسه فقط، بل مبجلة ومغالية في التبجيل له!

بالمقابل، لم يعن لي شيئاً أي مقام من نوعية رئاسة بشار الأسد لسوريا، وإن كنت قد أُجبرت كغيري على التعاطي معها خلال عملي في الإعلام الرسمي، فإن ذلك كان جزءاً من ضريبة واقع الحال في البلاد!

وفي أول فرصة سنحت، وجدت نفسي أذهب صوب الجهة المناقضة لهذا النظام، ولعل أول ما تم تجاوزه في هذا السياق، استخدام المفردات السائدة في المؤسسة الإعلامية التي تمدح وارث السلطة من أبيه، وتغدق عليه الصفات.

لم يطل الحال بالصحفية تلك حتى عادت إلى “رشدها” وذهبت إلى الدفاع عن رئيسها! لا بل إن آخر صورة أعرفها لها، كانت تلك التي تظهرُ فيها مرتدية بنطالاً مبرقعاً، على سبيل التحية لجيش الأسد الذي كان ومازال يفتك بالبلاد والعباد!

لم تكن هناك ضرورة خلال السنوات الماضية للحديث عن أسباب تبجيل وربما “عبادة” كثير من السوريين، علويين كانوا أم كانوا ينتمون لطوائف أخرى لبشار الأسد، فهذا الأمر يحال إلى آليات السيطرة التي تم فرضها عليهم منذ السنوات الأولى لحكم العائلة الأسدية، وهي تشبه بالمناسبة ما تم فرضه على كل الشعوب التي خضعت أو ما تزال لحكم الحزب الواحد الذي يتحول زعيمه إلى شخص مؤلّه!

“عبادة الفرد” كانت موضوعة أساسية من تلك الموضوعات التي راجعتها ثلة من الباحثين الروس خلال الفترة التي أعقبت تولي غورباتشوف للسلطة في إطار كشف الأخطاء التي عاشتها التجربة السوفييتية، بعد سلسلة طويلة من القادة الذين كانوا يتحولون إلى أشخاص مبجلين بمجرد جلوسهم على الكرسي، الذي سبقهم إليه قبل عقود جوزيف ستالين الشهير بدمويته وتعسفه، والذي حولته المداهنة المصحوبة بالتزلف والرياء إلى شخصية مؤلهة، شكلت أنموذجاً يتلاقى مع ماوتسي تونغ الصيني، وكيم إيل سونغ الكوري الشمالي، وفيديل كاسترو الكوبي، وتشاوشيسكو الروماني، وغيرهم من القادة الذين محت سيرهم الشخصية فضائل كل الأفكار والأيديولوجيات التي حملتهم إلى مناصبهم، ولم يغادروها إلا بعد أن أمست دولهم قريبة إلى الدمار.

شخصية حافظ الأسد كقائد مُلهَم وقائد للمسيرة وزعيم للصمود والتصدي، وغير ذلك من الألقاب، جرى تكوينها في ذات الرحم الذي خلقت فيه تجارب السابقين؛ إذ ثمة أيديولوجية اشتراكية لا تسمح بالنقد والمراجعة، وهناك حزب مليء بالانتهازيين، وهناك جيش قوامه المحسوبيات والمسوغات الطائفية والعائلية، وإدارات تقوم على الزبائنية، وهناك أيضاً أحزاب سياسية تنافق للبعث وتنضوي تحت سلطته مقابل بعض الجعالات، وقوى عربية وإقليمية ودولية ومن بينها إسرائيل الدولة العدوة، سرها هذا الحال طالما أنه يحفظ لها أمنها ومصالحها، ويقدم لها الخدمات عند الطلب، الأمر الذي جعل النظام كله أشبه بتمركز مافيوي معقد!

وبالإضافة لكل ما سبق، توفرت للأسد طائفته العلوية التي تعاطت مع وجهائها التاريخيين، ومع شخصياتها القوية، وفق سياسة العصا والجزرة، إلى أن تمكن من السيطرة عليها، فجعل العديد من شبابها أدوات تنفيذ سياسات البطش!

وإذا علمنا بأن غالبية هؤلاء أتوا من أصول شبه معدمة، فإن صورة الزعيم الذي كانت ماكينة وزير الإعلام السابق أحمد إسكندر أحمد تزوقها أمام الجماهير، لن تبقى على حالها، بل ستضاف لها صفات “القدرة الكلية” فهو من يُطعم ويكسو! وهو صاحب الأمر الذي يجعل أي شخص يرتقي في مستويات الحياة، وينقله من القاع المعيشي إلى الاكتفاء والعلو على المستوى المادي!

وفق هذه المقاسات، سيخلقُ هؤلاء لأنفسهم إلهاً محلياً يعبدونه طالما أنه يخدمهم، وسيلحقون ابنه به، فيصبح “الغالي ابن الغالي” في ذات المقام، وسيحاول البعض في بداية ثورة 2011 الإيحاء بأن شعارات الثوار التي تُتفه من شخصية الرئيس إنما تهين “مقدسات” العلويين الأمر الذي يجعلهم يدافعون عن الأسد المؤله!

فإذا كنا نفهم من هذه الادعاءات محاولة المستفيدين بناء حكاية عامة يستقوون فيها لتبرير انحيازهم للنظام القاتل، فإننا في الواقع نحتاج لرؤية المشهد بشكل كامل، ولاسيما الذي كان بعض المعارضين يروجه ويعمل عليه في بناء تصور غير واقعي عن الفئات الاجتماعية الأشد فقراً لدى هذه الطائفة أو تلك، عبر تشميلها ضمن أطر معممة، فيتم تنميط الجماعة وجعلها كُلًا متماسكاً، لا تحتوي تباينات من أي نوع بين عناصرها المكونة!

تأملُنا في طبيعة خطابات هؤلاء يجعلنا نرى أنها تستجيب لذات السياسة التي سعى إليها النظام، ولاسيما ميكانيزماته التوجيهية العميقة، والتي تخلص في النتيجة إلى بناء متاريس بين الجماعات السورية، وخلق جبهات حارة بينها!

وفي الآن ذاته،  ندرك كيف جرى تناسي التضحيات الجسام التي بذلها أفراد من النخبة الثقافية والمتعلمة ينتمون إلى هذه الطائفة، بالتجاور مع المعارضين الآخرين في سبيل تخليص سوريا من هذا الحكم الاستبدادي.

الآن، وخلال الأيام السابقة، تفرض علينا الصيغ المنطوقة المستخدمة في التعبير عن ثورة ناشطين علويين من نظام الأسد، ولاسيما تلك التي تُلحق به العار وتصفه بكلمات مهينة، أن نصحح للكثير ما ساد لديهم من معتقد، فالشاتمون الغاضبون لا يقيمون وزناً لا للنظام ولا لرأسه، وهذا الشكل من التعبير عن الغضب يقارب تحطيم تماثيل الأسدين في المحافظات التي ثارت قبل عقد وسنوات ثلاث.

هؤلاء يرفعون السقف كثيراً وبما لا يطيقه الأسد وحاشيته، ولهذا سيحرص على اعتقالهم وإسكات أصواتهم، لكن ما لا يدركه سدنة نظام البراميل أن زمنه قد انتهى، حتى وإن استمر طيلة السنوات الماضية، وأن سقوطه المدوي بات أقرب من أي وقتٍ مضى، فكل الإشارات تقول إن حال السوريين لن يبق كما هو، وأنهم لا بد سيمضون معاً إلى ضفة النجاة.

—————————

سيناريوهات الاقتصاد السوري بين انهيار الليرة وتمكين سلطة النظام/ حسن الشاغل

تزداد معدلات الجوع في سوريا والبيئة الاجتماعية في حالة انهيار وكل ذلك يعود إلى سوء الوضع الاقتصادي وتسلط النظام السوري على إمكانيات الدولة. وبحسب إحصائية صادرة عن مؤسسات الأمم المتحدة يعاني غالبية أطفال سوريا من الجوع، وتعاني غالبية الأمهات من سوء التغذية، والسبب الرئيسي يعود لسوء الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها البلاد.

وبعيدا عن إحصائيات المؤسسات الدولية، نحن نناقش اقتصادا كان قبل عام 2011 يستحوذ على أكثر من 60 % منه شخصيات تابعة لعائلة الأسد مثل رامي مخلوف، وبعد الثورة ودخول البلاد في حالة الحرب أصبح معظم اقتصاد البلاد بحوزة شخصيات تابعة ومقربة من النظام من أمراء الحرب الجدد (المتسلطين الجدد على الاقتصاد) أمثال عائلة القاطرجي التي تحتكر تجارة المحروقات في سوريا. وقد استهلك النظام كل ممتلكات البلاد من أجل تمويل عملياته العسكرية، ومن ثم بدأ بتقديم مقدرات البلاد السيادية مثل الموانئ لحلفائه تعويضاً عن ديون اقترضها منهم طوال السنوات السابقة.

وفي الفترة الحالية يعيش اقتصاد سوريا انخفاضاً في الأداء وفي قيمة الليرة أمام العملات العالمية الرئيسية بشكل دراماتيكي متسارع، وإلى مزيدٍ من الانهيار وإلى المصير المجهول الذي هو عنوان الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد. ونناقش في سطور هذه المقالة سيناريوهات الاقتصاد السوري بناءً على عدد من العوامل التي تؤثر على الأداء الاقتصادي على المدى القريب والمتوسط.

عوامل انهيار الاقتصاد السوري

يوجد العديد من العوامل التي أضعفت الاقتصاد في مناطق النظام، مثل استمرار العمليات العسكرية، وعدم الاستقرار، وعدم سيطرة النظام على مكامن المواد الأولية مثل النفط. وفي هذه المقالة نركز على الأسباب الاقتصادية التي أثرت بحد كبير على الأداء الاقتصادي خلال الفترة الأخيرة، والتي سوف نبني عليها سيناريو مستقبلي لوضع الاقتصاد في مناطق النظام.

أولاً، انخفاض عوائد تجارة المخدرات، أصبح من المعروف أن المخدرات وبخاصة الكبتاغون هي واحدة من أهم الموارد المالية لقادة النظام السوري، ويُعتقد أن سوريا هي البلد المُصنع لجزءٍ كبيرٍ من صادرات الكبتاغون في الشرق الأوسط، وحتى العالم. وكما ذُكر في موقع للحكومة البريطانية أن نحو 80٪ من إمدادات العالم من الكبتاغون يتم إنتاجها في سوريا، ويضيف الموقع أن النظام السوري هو المتحكم في هذه التجارة، ويؤكد على أن شحنات بمليارات الدولارات تنطلق من معاقل النظام مثل ميناء اللاذقية وعبر الحدود البرية، ويقول إن ماهر الأسد يقود وحده الجيش السوري الأمر الذي يسهل توزيع وإنتاج المخدرات. ووفقا للموقع فإن تجارة المخدرات هي شريان الحياة المالي لنظام الأسد.

استخدم النظام تجارة المخدرات لتحقيق عدد من الأهداف، أولاً، الضغط على الدول المجاورة والإقليمية بإغراق بلدانهم بالمخدرات كنوع من الانتقام. ثانياً، الضغط لإعادة تعويمه من قبل الدول المستهدفة وإجبارهم على التعامل معه. ثالثاً، لتحصيل مساعدات مالية مقابل تخليه عن تجارة المخدرات.

إلا أنه بعد عدد من عمليات التهريب المتتالية التي قام بها النظام السوري بطرق مختلفة مستهدفا العديد من دول العالم ولاسيما الأردن ودول الخليج، أصبحت هذه الدول أكثر حذراً وتحوطاً، واتخذت سياسات وإجراءات تمنع أو تخفض من الكميات المهربة إلى بلدانهم، وبالفعل لا يمضي يوما إلا وتصرح السعودية أو الأردن عن ضبط كميات من المخدرات القادمة من سوريا. وقدرة الدول التي يستهدفها النظام في ضبط حدودهم وإعاقة خطوط التهريب أدت إلى انخفاض إيرادات النظام من تجارة المخدرات. وانخفاض عائدات المخدرات قد يدفع النظام إلى التسلط على اقتصاد البلاد أكثر من السابق لتمويل وتمكين سلطته، مما ينعكس بشكل سلبي على أداء الاقتصاد.

ثانياً، إيقاف الدعم عن السلع الأساسية في البلاد، أصدر النظام في الفترة الأخيرة العديد من القرارات التي توحي بإفلاسه والتهرب من التزاماته في تغطية الموازنة. فقد أصدر قراراً برفع الدعم عن المحروقات التي تشكل البنية الأساسية لكل مجتمع وعلى الرغم من عدم توافرها في الأسواق لاسيما في فصل الشتاء. ورفع الدعم عن المحروقات يؤدي لارتفاع أسعار جميع السلع بطريقة جنونية، والنتيجة المنطقية لرفع الدعم ستكون التضخم الدراماتيكي المستمر بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج. وقبل فترة قصيرة أصدر النظام قرارا سمح بموجبه ببيع البنزين مقوماً بالدولار عبر بطاقات مسبقة الدفع.

يوحي رفع النظام الدعم عن سلع أساسية أنه كان يحصل على تمويل خارجي مخصص لدعم السلع الأساسية، وهنا لا أتوقع أن يكون الدعم روسيا أو إيرانيا، بل هو من دولة عربية، أو أن النظام في طريقه لخصخصة مؤسسات الدولة وتقديمها لإيران أو روسيا لقاء الديون المترتبة عليه من السابق.

ثالثاً، عدم الاستفادة اقتصادياً من عملية التطبيع العربي، كان النظام يأمل أن يحقق من عملية التطبيع مع الدول العربية انفراجة اقتصادية على شكل مساعدات مالية دورية تكون نواة أساسية لتعافي البلاد وإعادة الإعمار، لكن من الواضح أن الدول العربية مثل السعودية قد واجهت معارضة أميركية ضد دعم النظام أو أن الأخير لم يقدم ما هو مطلوب منه لقاء تقديم المساعدات المالية.

رابعا، ومن الأسباب الرئيسية الداخلية ذات الأثر المستمر على انهيار الاقتصاد وقيمة الليرة، قيام النظام بطباعة العملة من دون تغطية النقد الأجنبي، مع عدم وجود عملية دوران للإنتاج وحركة استيراد وتصدير.

سياسة النظام في تمكين سلطته

بعد ارتكاب النظام السوري مجموعة من الجرائم الإنسانية بحق الشعب السوري فُرضت عليه عقوبات دولية من قبل مجموعة من الدول وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وكان أثر هذه العقوبات كبيراً على السقوط الحر للاقتصاد السوري. وعلى أثر هذه العقوبات أعاد النظام هيكلة الاقتصاد بما يتناسب مع مصلحة وتمكين نظامه. فيعمل النظام للحفاظ على الحوامل الأساسية التي تسانده في عملية التمكين من مؤسسات الدولة والسلطة وهي (الفروع الأمنية، الميليشيات، بعض الألوية والقطع العسكرية من الجيش، وجزء من مؤسسات الدولة) وبقاء هذه الحوامل إلى جانب الأسد يتطلب الدعم المالي المستمر. لذلك سعى النظام منذ البداية في استمرار الدعم المالي لهذه الأطراف للحفاظ على قبضته على الدولة. ويعمل النظام على فتح المجال بشكل واسع أمام مجموعة من الأنشطة الاقتصادية غير المضبوطة من قبل مؤسسات الدولة القانونية، والتي لا تُراقب من قبل الحكومة ولا تدخل ضمن الناتج القومي الإجمالي، هذا النوع من الاقتصادات يطلق عليه الاقتصاد اللارسمي، وقد أظهر النظام خبرة في اللعب على ديناميكيات الوضع الداخلي للاستفادة من العائد المرتبط بالبدائل التي تظهر نتيجة العقوبات الاقتصادية وهذه البدائل في غالبها مصادر كسب غير مشروع تعمل على نطاق واسع، حيث تنشط شبكات الفساد التي يديرها المقربون من النظام وهم الأثرياء وأمراء الحرب في السوق السوداء التي تزدهر في أوقات الحرب.

لجوء النظام إلى الاقتصاد اللارسمي، جعل الاقتصاد السوري يتمركز في أيدي قلة تابعة للنظام، مع التأكيد على عدم دخول عائدات هذا الاقتصاد في ميزانية الدولة مما وضع الاقتصاد السوري في حالة من الشلل، وأدت سياسات النظام الاقتصادية في نهاية المطاف إلى معاناة الشعب السوري من زيادات أسعار السلع المحلية والمستوردة وتضرر الإنتاج المحلي إلى حد كبير.

في النتيجة ومع صعوبة التوصل إلى أي رؤية للحل السياسي في سوريا، فإن الاقتصاد السوري سيكون أمام سيناريوهين:

السيناريو الأول، وهو المرجح بشكل كبير، ويستند إلى العوامل الأساسية التي ناقشناها في هذه المقالة والتي أدت إلى تدهور الاقتصاد السوري، حيث من المتوقع أن يشهد الاقتصاد تدهوراً أكبر من الذي يعيشه في الوقت الحالي، فسعر الليرة قد يتخطى الـ25 ألف ليرة للدولار الواحد قبل نهاية العام 2023، وسترتفع أسعار المحروقات وكل السلع، وستتهرب الحكومة من التزاماتها في الخدمات تجاه المواطنين.

السيناريو الثاني، وهو سيناريو غير مرجح، يقوم على تحقيق استقرار في الاقتصاد السوري، ومنعه من الانهيار الكامل، ويقوم هذه السيناريو على فرضية تحرير الاقتصاد من قبضة النظام بضغط خارجي مقابل حصوله على مساعدات مالية دورية. ويقوم هذا السيناريو على فرضية أن بعض الدول الإقليمية والدولية تسعى لتحقيق نوعا من الاستقرار الداخلي في سوريا استكمالاً لمشاريع سياسية واقتصادية إقليمية.

——————

السويداء تمنح الثورة قبلة الحياة/ غزوان قرنفل

لم يكن سلطان باشا الأطرش مسنا عندما تسلم قيادة الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد سلطات الاحتلال الفرنسي لسوريا، حيث لم يكن يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره على الرغم من وجود قادة آخرين معه أكبر سنا منه، ولا يقلون عنه وطنية في تلك الثورة المباركة التي أسست مبكرا لمفهوم الجماعة الوطنية السورية، التي لم تلتفت ولم تقم وزنا لأي انتماء أدنى من ذلك المفهوم الجامع لكل السوريين، والذي شكل الأرضية الأساس لتكون الدولة السورية في شكلها الحديث.

لم يقل آنذاك أحد من الوطنيين السوريين كيف تؤمّرون علينا درزيا؟.. ولم يقل أحد أيضا أنا أولى منه بالقيادة لأني أنتمي لأكثرية السوريين، ولم يتنطع أحد منهم أيضا وأيضا للقول أنا دمشقي وابن عاصمة الإمبراطورية الأموية لتسعين سنة وأنا أولى بتصدر المشهد.. كان لدى الجميع قضية أكبر من تلك الانتماءات الصغيرة التي لا تؤسس وطنا، بينما كان هم الجميع وإدراكهم ينصرف بكليته لترسيخ كيان وطني اسمه سوريا مستقلة عن الاحتلال الذي طالما حاول العبث بمكوناتها ليطيل بقاءه.

اليوم يأبى أحفاد هذا الرمز الوطني الكبير أن يسمحوا للتاريخ بالعبور وهو يطوي المئوية الأولى على ثورة السوريين الكبرى، قبل أن يدونوا فيه موقفهم الرافض للظلم والاضطهاد الذي تمارسه سلطة الاحتلال الأسدي للوطن السوري، وقبل أن يسجلوا في صفحاته رفضهم للحيف والظلم والإجرام الذي أوقعه هذا الاحتلال بالسوريين وبالدولة السورية التي بذلوا دما مع بقية إخوانهم السوريين لترسيخ كيانها واستقلالها.

ما رأته أعيننا الدامعة يوم أمس الجمعة وما سمعته آذاننا من هتافات في مظاهرات السويداء وبقية المناطق السورية دعما لها وتضامنا معها، يؤكد هذا الموقف ويعيد تأكيد ما هو مؤكد أن الهوية السورية هي وحدها خريطة الطريق إلى زوال الاحتلال الأسدي وإسقاط سلطة العصابة التي عبثت طويلا بحياة السوريين ومقدراتهم ومستقبلهم.

طوال عقد كامل عبث كثير من السوريين بثورتهم وسمحوا لكل من هبّ ودبّ بالعبث في سوريتهم وتحولت قضية حرية السوريين إلى مساحات مفتوحة لصراع القوى والمصالح الدولية والإقليمية على سوريا، وتوارت قضية حقوق السوريين بالحرية والعيش الكريم عن واجهة الحدث وأسقطت من أجندات تلك القوى لأنها لم تكن هدفا لها ابتداء بل مجرد وسيلة لإقحام نفسها في مسرح الصراع.

اليوم يعيد أبناء السويداء للسوريين كلهم قضيتهم الأساس إلى واجهة المشهد والحدث ويعيدون تموضع القضية السورية ووضعها في نصابها الصائب والصحيح، ويدحضون رواية العصابة الحاكمة عن كونها حامية الأقليات التي لم تضطهد يوما إلا من قبل تلك العصابة نفسها (!) التي وجدت لتحمي مصالح الدول كلها إلا مصالح السوريين الذين تحكمهم(!).

 كل السوريين اليوم باتوا يدركون أن عدوهم واحد هو هذا النظام المجرم الذي استباح دماءهم وأعراضهم وأموالهم ووظفها في سبيل بقائه حاكما عليهم، واستجلب كل رعاع الأرض وموتوريها ليستقوي بهم عليهم وأنه لا يمكن أن يستقيم الحال في سوريا ما لم تسقط تلك العصابة الحاكمة، لتنفتح سبل الحياة أمام السوريين بدلا من سبل الموت التي سلطها عليهم هذا الطاغية الموتور.

اليوم تتاح للسوريين فرصة ربما لا تعوض إن لم نغتنمها، وهي أن هذا الحراك المستجد والمتجدد في السويداء وحالة النهوض الشعبي المواكبة والمؤيدة له في شرقي سوريا وشماليها، يمثل قوة وزخما جديدين أكثر شمولا لثورة السوريين وهي أكثر ما تحتاجه بعد أن استأثر بها الإسلام السياسي وصادرها، وجعلها رهينة لداعميه ووظفها بطريقة وضيعة فوتت على السوريين كلهم عقدا كاملا، كان ثمنه من القتل والتهجير والتدمير غاليا جدا.. هذا الزخم الذي يفترض أن يطوي صفحة وولاية هذه المعارضة المرتهنة على الثورة السورية ويفتح البوابة للعبور نحو الرحابة الوطنية، عبر عمل سريع وواع للقاء وطني شامل يصوغ وثيقة الاستقلال السوري الجديد، ويفرز قيادة وطنية تعبر عن سوريا كما صنعها سلطان الأطرش ورفاقه، وكما أسس لها الوطنيون السوريون الأوائل تخاطب العالم كله برسالة واحدة تقول إن هذا الوطن السوري هو لجميع السوريين مهما كان انتماؤهم القومي أو الديني أو المذهبي أو السياسي، وإن غاية هذا التغيير هو خلق دولة تقوم على مبادئ المواطنة المتساوية وسيادة القانون وحماية الحريات العامة والتنمية العادلة والشراكة الوطنية في مقدرات وثروات البلاد، وبناء علاقات مع جميع الدول على قواعد الاحترام المتبادل وتبادل المصالح والإسهام في أي جهد لتعزيز فرص السلام العادل والمتوازن في المنطقة.

ما لم نخط تلك الخطوة الفارقة فسيبقى حراك السويداء وأهلها الشجعان – على أهميته وقوة تأثيره – مجرد فعل يومي متكرر يستطيع نظام العصابة تحمل آثاره وامتصاصه وهضمه، مراهنا على الوقت كعادته وسننكفىء جميعا بعدها إلى خيباتنا ونلقي باللائمة على السويدائيين الذين لم نمد لهم يدنا في اللحظة المناسبة لفعل ذلك.

———————————-

ولادة الثورة السورية من جديد/ رضوان زيادة

خروج المظاهرات الحاشدة في عدة مدن سورية وعلى رأسها السويداء ودرعا يعد مؤشرا على ولادة جديدة للثورة السورية عام 2011، فمئات الأولوف ظهروا رافعين نفس شعار عام 2011 الذي لم يتحقق إلى اليوم مطالبين بسقوط نظام الأسد، لم يستطع الأسد برغم كل ما فعله على مدى الاثني عشر عاما السابقة لم يستطع قمع صوت الثورة السورية التي صدحت حناجرها مجددا عام 2023 وبنفس الزخم الأول وبنفس الاتساع وحجم المظاهرات مع تركيز أكبر على السويداء التي تبدو اليوم وكأنها هي اليوم مركز الثورة وحامل لوائها من جديد، فالنضال من أجل الحرية والديمقراطية يولد من جديد من حناجر المتظاهرين السلميين في كل من السويداء وحلب ودرعا وغيرها من المدن السورية.

الاختلاف الوحيد بين اليوم 2023 وعام 2011 هو أن نصف الشعب السوري بين مهجر ونازح، ورغم ذلك ما زالوا يناضلون من أجل تغيير النظام السياسي الذي قمعهم وقتلهم فهي تعيد بدايات المرحلة الأولى من الثورة السورية. فقد مرّت الثورة السياسية بخمس مراحل رئيسيّة.

أوّلها مرحلة سلميّة شهدت خروج المظاهرات مطالبة برحيل الرئيس بشار الأسد وإدخال تغييرات جذرية على شكل النظام السياسي بما فيها انتخابات رئاسية وبرلمانية، وتغيير الدستور الحالي لعام 2012 نحو دستور ديمقراطي يسمح بالتعددية السياسية والحزبية، إلّا أنّ هذه المظاهرات تمّ التعامل معها منذ الأسبوع الثاني من شهر نيسان/أبريل 2011 من قبل النّظام وفقا لسياسة “Shoot to kill policy”  “إطلاق النار ليس بهدف تفريق المتظاهرين وإنما بهدف قتلهم” والذي سعى من خلال هذه السياسة إلى قتل أكبر عدد من المتظاهرين بغاية ترهيبهم. ولذلك كانت كل الإصابات تجري في القلب والرأس حسب تقرير توثيقي قامت بها منظمة هيومن رايتس واتش. كما تمّ تسجيل مقتل أكثر من 6300 ناشط سلمي خلال الفترة الممتدّة من آذار/مارس 2011 إلى أيلول /سبتمبر 2011 وذلك من أجل إخماد الثورة السّوريّة نهائيّا.

أدّى ذلك إلى تحرّك المنظمات الدولية وخاصّة جامعة الدّول العربية في محاولة لإيجاد حل سياسي عبر إرسال المراقبين لإقناع النّظام بالتخلّي عن قتل المتظاهرين بالرصاص الحيّ، والسماح بالمظاهرات السلمية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.

المرحلة الثانية كانت مرحلة تحول الثورة السورية إلى العنف، وهو ما أصبح يطلق عليه البعض بالثورة المسلحة حيث لعبت عدة عوامل في تحول الثورة السورية السلمية إلى ثورة مسلّحة. أوّلا، اندلاع الثورة الليبيّة وانتشار السلاح وتدخل الناتو الذي تفاءل به السوريون ليساعدهم على إطاحة نظام بشار الأسد. ثانيا، ارتفاع عدد القتلى من المتظاهرين السلميين وعدد المعتقلين وكل من لهم علاقة بالنشاط السلمي ومنع النظام الجرحى من العلاج، وأبرز هذ الحالات كان قتل الناشط غياث مطر صاحب فكرة تقديم الورود خلال المظاهرات إلى الأجهزة الأمنيّة كرسالة سلام للنظام، وتعذيب الطفل حمزة الخطيب وتامر الشرعي وغيرهم. ثالثاً حجم التعذيب الممارس ضد الناشطين السلميين داخل السجون السورية والتي قضت إلى مقتل كثير منهم تحت التعذيب، هذه العوامل دفعت السوريين إلى التسلّح في أواخر سنة 2011.

المرحلة الثالثة وهي مرحلة العسكرة الكاملة للثورة السورية عبر تزايد الانشقاقات الفرديّة والأفقيّة عن الجيش السوري. كما أنها تميزت على المستوى الدّولي، عبر تدخل كل من روسيا والصين في كل المنابر الدولية بما فيها مجلس الأمن الدولي من أجل حماية نظام الأسد، حيث استخدمت روسيا الفيتو 13 مرة داخل مجلس الأمن لمنع أي إدانة للنظام السوري. وهو ما أعطى ضوءا أخضر للنظام السوري أنه تحت شكل ما من أشكال الحماية الدولية شجعته على استخدام سلاح الجو فمنذ تموز/يوليو 2012 وحتى اليوم استخدم النظام السوري سلاح الجو وخاصة البراميل المتفجرة (عبارة عن صندوق حديدي يوضع داخله قطعا من الحديد وكمية كبيرة من مادة متفجرة لتكون شديدة الانفجار وتبلغ كلفته من 8 إلى 10 دولارات) عبر إلقائها بشكل عشوائي وهو ما يعتبر في القانون الدولي الإنساني الدولي جريمة حرب.

أمّا المرحلة الرابعة فهي مرحلة استخدام نظام بشار الأسد للأسلحة الكيميائيّة. فمقابل صمود المعارضة وتمكّنها من تحرير بعض المناطق في الشمال السوري وريف دمشق. استخدم النظام السلاح الكيميائي 31 مرّة. فقد سقط في الغوطة الشرقية في آب/أغسطس 2013 ما يفوق عن 1400 شخص بما فيهم 400 طفل في أوسع عملية لاستخدام السلاح الكيماوي. حيث أطلق النظام السوري 7 صواريخ محملة برؤوس كيماويّة على منطقة يقطنها مدنيون بالكامل في الغوطة الشرقية وبحدود الساعة الثانية صباحا مما ضاعف عدد القتلى نتيجة استخدام هذا السلاح الكيماوي.

 أمّا المرحلة الخامسة والأخيرة من الثورة السورية فهي في أيلول /سبتمبر 2015. مع بداية التدخل العسكري الروسي لصالح النظام السوري بهدف سحق المعارضة المسلحة بشكل نهائي، مهما كانت كلفة ذلك على المدنيين كما بدا ذلك واضحاً في العملية العسكرية التي قادتها روسيا في حلب في كانون الأول/ديسمبر 2016 ثم في الغوطة الشرقية في عام 2017 وقد صرّح وزير الدفاع الروسي بوجود 63 ألف جندي روسي على الأراضي السوريّة.

اليوم نعود بداية إلى المرحلة الأولى حيث بدايات صعود المظاهرات السلمية حاملة معها الأمل بتغيير جديد لتغيير نظام الأسد، وتغيير الواقع المؤلم الذي يعيشه السوريون اليوم كواقع اقتصادي واجتماعي وسياسي فرض عليهم التخلف، فهل تنجح بدايات الثورة الجديدة في أخذ الثورة إلى مستقبل جديد ومسار جديد يغير وجه سوريا التي أثقلها الأسد بالألم والحزن والمشقة؟

———————————–

احتجاجات السويداء تدخل يومها العاشر الحكومة السورية تراهن على تعب المحتجين. الشرق الاوسط

​مع تواصل الاحتجاجات في محافظة السويداء بجنوب سوريا لليوم العاشر على التوالي، وبعد إغلاق مقر فرع حزب البعث الحاكم في المدينة، قام محتجون في الساعات الماضية بإزالة صور للرئيس السوري عن عدد من المباني الحكومية. وما زالت الحكومة السورية تتجاهل هذه التحركات الشعبية، وهي تراهن، كما يبدو، على تعب المحتجين

وأفيد اليوم بأن عدداً من المتظاهرين اقتحموا فرع اتحاد شبيبة الثورة التابع لحزب البعث، وأزالوا عن واجهته ومن داخله صور رئيس الجمهورية. كما قام محتجون بإغلاق مكتب أعضاء مجلس الشعب صباح الثلاثاء بزعم أن أعضاءه ليست لهم «فائدة»، وسط استمرار حالة العصيان المدني، والإغلاق الجزئي للمؤسسات الحكومية.

وحمّل محتجون النائب العام في السويداء المسؤولية عن إغلاق قصر العدل، وقالوا في مقطع فيديو بثه معارضون إنهم طلبوا منه مواصلة فتح قصر العدل لتسيير أمور المواطنين لكنه رفض بل منع الموظفين من الدخول من خلال وضع حراس على الباب الرئيسي كانوا يطلبون من الموظفين العودة من حيث أتوا بأمر منه.

وتجمهر مواطنون من محافظة السويداء في ساحة السير بالمدينة التي تعد المركز الرئيسي للاحتجاجات، ورددوا شعارات جديدة منها «نحنا من جبل بني معروف نحنا طلعنا وما في خوف» و«يا شام ويا حلب… الحرية صارت عالباب»، مع التأكيد على المطالب التي طرحت منذ اليوم الأول للاحتجاجات وهي إطلاق سراح المعتقلين و«رحيل» نظام الحكم وتطبيق القرار الأممي الرقم 2254 بشكل سلمي ودون إراقة دماء. وتوجه عدد من المحتجين إلى مكتب أعضاء مجلس الشعب المغلق ووجهوا من هناك رسالة لأصحاب المكتب لـ«البقاء في بيوتهم»، لأنهم لم يقدموا شيئا مفيداً، بحسب ما قال محتجون.

وذكرت مصادر محلية في السويداء لـ«الشرق الأوسط» أن الاحتجاجات تصبح أكثر تنظيماً، من حيث الأوقات والمدة، إذ أصبحت غالبية الاحتجاجات في البلدات والقرى تتم مساء، كما تحدد دوام المؤسسات الحكومية بساعتي دوام وعدد محدد من الموظفين لتسيير الأمور فقط. ولفتت المصادر إلى وجود قناعة في أوساط المحتجين بمراهنة السلطات على تعب المحتجين، لذا فهم «يتحضرون للاستمرار في نشاطهم إلى أجل غير مسمى حتى تتحقق أهدافهم».

في المقابل، واصلت الجهات الرسمية والسلطات في دمشق تجاهل الاحتجاجات في السويداء، واستمرت الحكومة في إصدار القرارات بغض النظر عما تحدثه من صدمات في الشارع. فقد رفعت الحكومة، مساء الأحد، أسعار المحروقات، للمرة الثانية خلال شهر أغسطس (آب)، بعدما رفعته أيضاً في 15 أغسطس، ما أثار غضباً واحتجاجات لا سيما في محافظتي السويداء ودرعا، جنوب البلاد.

الشرق الأوسط

————————————-

احتجاجات السويداء… إصرار على التغيير السياسي ورفض العسكرة

ليث أبي نادر و محمد أمين

رفض المحتجون في ساحة “الكرامة” وسط مدينة السويداء جنوب سورية، أي محاولة لعسكرة حراكهم الثوري، الذي دخل، أمس الاثنين، يومه التاسع على التوالي، في ظل إصرار على استمراره حتى تحقيق تغيير سياسي، وفق القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية.

ولليوم التاسع على التوالي، توافدت حشود من المحتجين، من مختلف بلدات وقرى المحافظة إلى ساحة السير (الكرامة) وسط مدينة السويداء، مرددين شعارات تؤكد أن “الشعب السوري واحد”، وهو الشعار الأول للثورة السورية التي بدأت في ربيع العام 2011، ومارس النظام كل أساليب القمع لوأدها.

كما واصل المتظاهرون في ساحة الكرامة ترديد شعارات ثورية أخرى من قبيل “عاشت سورية… ويسقط بشار الأسد”، رافعين صوراً لرموز سورية وطنية، أمثال يوسف العظمة وسلطان الأطرش اللذين واجها الاحتلال الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي.

مطالبة بمحاكمة دولية للأسد

وطالب المحتجون، عبر لافتات رُفعت في ساحة التظاهر، بـ”محاكمة دولية لمجرم غاز السارين والبراميل والكبتاغون”، في إشارة الى رأس النظام بشار الأسد. وواصل محتجون إزالة صور بشار الأسد بالقرب من مبنى المركز الإذاعي والتلفزيوني في مدينة السويداء. ويستحوذ الحراك الثوري في السويداء على اهتمام كل السوريين داخل البلاد وفي دول الاغتراب، حيث تتواصل الوقفات المؤيدة له.

وقال الناشط المدني ساري الحمد، لـ”العربي الجديد”، إن “السويداء اليوم لسان حال كل السوريين”، مضيفاً: نحن اليوم في قلب الثورة التي لن تنتهي إلا برحيل الأسد عن السلطة، وتطبيق القرار الدولي 2254 بكل مضامينه التي تنص على تحقيق انتقال سياسي، ووضع دستور وإجراء انتخابات. وأشار إلى أن “الجموع التي تكتظ بها ساحة الكرامة لن تقبل بحلول جزئية، ولن توقفها تهديدات النظام”.

وكان لافتاً استمرار الحضور النسائي في تظاهرات ساحة الكرامة، التي تعيد إلى أذهان السوريين الساحات الكبرى في المدن السورية التي شهدت طوال سنوات تظاهرات حاشدة، مثل “ساحة العاصي” في مدينة حماة، وساحة “الساعة” وسط مدينة حمص، قبل أن يقمعها النظام بطرق وحشية.

وأنشأت فصائل ومجموعات أهلية، أمس الاثنين، نقطة تفتيش على طريق دمشق – السويداء عند قرية حزم في الريف الشمالي لمحافظة السويداء، بهدف حماية القادمين إلى المنطقة.

وذكرت شبكة “الراصد” الإعلامية، التي تنقل أخبار السويداء، أن الحاجز أنشئ بالتوافق بين عدد كبير من الفصائل في المحافظة وبعض الجهات الدينية، بهدف حماية الداخلين والخارجين وتقديم المساعدة للحالات الطارئة.

ونقلت الشبكة عن مصادر في هذه الفصائل تأكيدها أن الحاجز “لا يهدف لإعاقة حركة المرور على الأوتوستراد، وإنما هو إجراء وقائي لإحباط أي تهديدات محتملة، في ظل الظروف الحالية التي تعيشها البلاد”، مشيرين إلى أن “عمل الشباب الموجودين على الحاجز يقضي بالتدقيق بهويات المارة والسماح لهم بالمرور، مع تفتيش السيارات التي يشتبهون فيها فقط”.

وكان النظام السوري هدد عبر عدد من المرتبطين بأجهزته الأمنية بسيارات مفخخة يمكن أن تضرب مدينة السويداء، في حال استمرار الاحتجاجات، التي بدأت للمطالبة بتحسين الظروف المعيشية، لكنها انتقلت بعد ذلك للمطالبة بإسقاط النظام، الذي لا يمكنه التعامل بعنف مع هذه الاحتجاجات نظراً للخصوصية التي تميّز السويداء ذات الغالبية الدرزية من السكان.

النظام يلوّح بورقة “داعش”

كما لوّح النظام بورقة تنظيم “داعش” بوجه المتظاهرين الذين لم يكترثوا بهذه التهديدات، التي تعكس حالة من التخبط تعيشها أجهزة النظام الأمنية العاجزة تماماً أمام هذا الحراك، الذي يواكبه حراك مماثل في محافظة درعا المجاورة.

إلى ذلك، لم يبرز أي تجاوب مع محاولة عدد من الضباط المتقاعدين من الجيش والشرطة، وعلى رأسهم العميد المتقاعد نايف العاقل، تشكيل “هيئة اختصاصية لإدارة شؤون المحافظة، وتسيير عمل الجهات الخدمية وتشكيل لجنة عسكرية بإشراف العاقل لتوحيد الفصائل والإشراف على عملها لتحقيق الأمن الاجتماعي على مستوى المحافظة”، وفق بيان صادر عن المجتمعين.

واجتمع الأحد الماضي ضباط متقاعدون مع الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز الزعماء الروحيين المؤيدين للحراك في السويداء، في محاولة كما يبدو لإقناعه بتشكيل مجلس عسكري يدير المحافظة، إلا أنهم فشلوا في ذلك، ما دفعهم لاحقاً للانسحاب من المشهد.

وأكد الناشط المدني منيف رشيد، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “حراكنا مدني وفيه كفاءات قادرة على التنسيق والإدارة”، مضيفاً: يستطيع الشارع أن يفرز قيادات وطنية مدنية قادرة على إدارة البلد، أو المحافظة في مرحلة أولى، أما العسكر فلهم دورهم المواكب للحراك والإدارة، وليس القيادة.

وتعليقاً على مشهد الاحتجاجات في السويداء، رأى محمد سالم، مدير وحدة الدراسات في مركز “أبعاد” للدراسات، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “للسويداء خصوصية، فهي محافظة ذات غالبية درزية من السكان، والنظام لديه منهجية وحدود وخطوط حمراء في التعامل مع الأقليات، وهو ما ظهر في بدايات الثورة السورية عام 2011”.

وأضاف: تعامل النظام مع الأكثرية العربية السنية مختلف عن تعامله مع الأقليات الدينية أو المذهبية أو العرقية. وتابع: مشيخة العقل في السويداء تتميز بعلاقات عابرة للحدود، ومن ثم فإن النظام مرتبك، لأنه لا يستطيع أخذ ضوء أخضر من المجتمع الدولي لسحق هذا الحراك كما فعل مع المحافظات الأخرى.

وأعرب سالم عن اعتقاده أن “الحراك في السويداء يضع في اعتباره عدم الصدام العسكري مع النظام، ومن ثم لن نشهد معارك واشتباكات في السويداء كما حدث في المناطق السورية الأخرى”.

وأضاف: قد نشهد محاولات لوضع حلول سياسية، من قبيل إعطاء هوامش للسيطرة لبعض الفصائل المحلية في السويداء بالتنسيق مع النظام، ومن ثم الاتجاه نحو حكم ذاتي، والارتباط مع العاصمة دمشق بشكل رمزي. واعتبر أن النظام “لن يعترف قانونياً بأي شكل من أشكال الإدارة الذاتية في السويداء، أو غيرها، لكن الواقع يفرض عليه ذلك”.

العربي الجديد

——————————–

الإضراب السوريّ العام التحديات والخيارات والآفاق/ شوكت كمال غرزالدين

أولًا: مقدمة

بدأت محافظة السويداء أساسًا، ثم محافظة درعا، إضرابًا عامًا، بسبب تفاقم الأزمة المعيشية، ووصولها إلى حدٍّ غير مسبوق. وبحكم أنَّ النظام السوريّ غير قادر على الاستجابة للمطالب المعاشية والخدمية والسياسية، وبما أنَّ المحتجين على قناعة تامة بعجزه كليًّا عن تلبية مطالبهم، فقد جعلوا أهداف إضرابهم سياسيّة عمومًا؛ لأنَّ نظامًا لا يحلُّ المشكلات الاقتصادية لا يستحق أن يبقى في سدّة الحكم.

يطرح هذا الإضراب بالضرورة مجموعة من الأسئلة المهمة والبديهية، مثل: هل سيتسع الإضراب ليشمل باقي المحافظات السورية؟ وما مدى استمراره ونجاحه في تحقيق مطالبه؟ وكيف سيتعامل النظام معه؟ وكيف سينظر إليه المجتمع الدولي والدول العربية؟ وما المطلوب من السياسيين السوريين؟ وكيف يخطو الحراك الشعبي خطوات متقدمة نحو الأمام؟ وغيرها من الأسئلة التي ينبغي أن تكون على مائدة نقاش الناشطين في الحقل السياسي، ولا سيَّما أولئك المندرجون في الحراك اليوم.

ثانيًا: الوضع قبل الإضراب العام والحراك الشعبي

يمكن تلخيص ما حصل قبل الإضراب العام -وقد زاد بعضه من حدّة الغضب، وأعطى بعضه الآخر بارقة أمل- كما يلي:

    اتَّبع النظام سياسات تقنين ممنهجة منذ اثني عشر عامًا حتى الآن. وقد طالت الماء والغذاء والدواء والمحروقات والخدمات: كهرباء، هاتف، خليوي، وإنترنت. وهذه السياسات جعلت من النظام المتحكِّم الأوحد في حياة السوريين ومصيرهم في مناطق سيطرته.

    الأثر السلبي والاستفزازي، لمقابلة رئيس النظام على محطة سكاي نيوز. إذ تبين أنه لا نية لحل سياسي ولا تفاوض مع العرب، مؤكدًا على صواب خياره العسكري-الأمني في ما لو عاد الزمن إلى الوراء. وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدلِّل على أن السكوت عن الوضع المتردي طوال اثني عشر عامًا، قد جعل النظام يتخلى عن مسؤوليته باستهتار، وصار يتمادى في الفساد والمخدرات وبيع الأملاك العامة واحتقار الشعب ورفع الأسعار بجنون، وغيرها.

    استعر الغضب في يومي الثلاثاء والأربعاء 15 و16 آب/ أغسطس 2023، إذ رُفِع الدعم عن المحروقات لتزداد بنسبة 300 في المئة تقريبًا، ثم تبعتها زيادة الرواتب بنسبة 100 في المئة، وهي تبدو عالية ظاهريًا، ولكنها بخسة فعليًا لأنَّها لا تتناسب مع الغلاء الحاصل إطلاقًا، ولا مع انهيار الليرة السورية أمام الدولار التي وصلت تدنٍّ غير مسبوق، بمقدار 15500ل.س للدولار الواحد. وهذا أثار موجة غضب عارمة تمثلت بإضراب السائقين بدايةً يومي الأربعاء والخميس؛ لعدم تحديد تسعيرة النقل، ومن ثم انقطاع المواصلات في بعض مناطق سيطرة النظام، لتنتقل الحالة بعد ذلك إلى جميع فئات المجتمع، إذ أعلنت “حركة 10 آب” الإضراب العام يوم الخميس في بيان لها يشمل الموظفين والتجار والجيش. كما حثّ الناشط “كنان وقّاف” جميع السوريين على المشاركة في العصيان المدني. وتتالت الإعلانات والبيانات في السويداء لتعلن بداية الإضراب العام من بلدات “القريا وشقا والمتونة” يوم الخميس أيضًا. ثم تبلورت هذه الدعوات أخيرًا في بيان “القريا” الذي أعلن بدء الإضراب العام وقطع الطرقات يوم الأحد 20 آب/ أغسطس 2023، احتجاجًا مباشرًا على رفع الدعم عن الوقود وزيادة الرواتب غير المتوافقة مع تفاقم انهيار الوضع المعيشي. ولكن حالما بدأ الإضراب انتقل إلى المطالبة بالتغيير السياسي؛ إسقاط النظام وتطبيق القرار الدولي 2254 والإفراج عن المعتقلين.

    استحسان ارتفاع نبرة بعض الناشطين السوريين “العلويين” (أمثال ماجد دواي، وأحمد إسماعيل، وكنان وقّاف، وأيمن فارس). وبروز “حركة الضباط العلويين الأحرار”، وانضمامها إلى “حركة التحرر الوطني” بقيادة العميد مناف طلاس، على الرغم من نقص المعلومات حول طبيعة هذه التشكيلات، ومدى قدرتها وجديتها. يُضاف إلى ذلك الإعلان عن “حركة 10 آب” الشبابية، وانضمام “حركة الشغل المدني” إلى الحراك. وقد تبين أنَّه حراك مهم نسبيًا في مناطق النظام، وليس مجرد ظاهرة “تنفيسية” لغضب الناس كما أشاع بعض المتابعين للتطورات؛ وذلك لأنه نال من رأس النظام مباشرة، وهذا غير معتاد في سياسة “التنفيس” التي اتبعها النظام منذ حيازته السلطة.

    خلقت الاستعدادات العسكرية الأميركية في قاعدة التنف، وزيادة عددها وعتادها، أثرًا مشجِّعًا عند قطاع واسع من السوريين، ما خلق سيناريوهات محتملة أو متوقعة، متعددة ومتضاربة، ومراهنات عديدة، بعضها وارد وممكن، وأكثرها واهمٌ ومبالغٌ فيه: ردع إيران وميليشياتها على الحدود السورية العراقية، وإغلاق معبر البوكمال في وجه الإيرانيين، والسيطرة على 10 كم على طول غرب الفرات، وربط الجنوب السوري بالشمال الشرقي، منع الطيران الروسي من التدخل، وغيرها.

وبالفعل، فإن هذا كلّه، وغيره، قد ساهم في شحذ الإرادة المدنيّة وتقويتها، لتنفجر في وجه النظام وداعميه، ولتؤكد لليائسين إمكان العمل في أكثر اللحظات قتامة. لا شكَّ أنَّ “إرادة الغضب” هذه يمكن لها أن تعوِّض نسبيًّا عن الخلل الواقع في موازين القوى (إرادة القوة) ضمن مناطق سيطرة النظام.

ثالثًا: ما الذي يحصل الآن؟

انفجرت منذ نحو أسبوع “إرادة الغضب”، وأعلنت الإضراب العام من السويداء، فجاوبت درعا على الفور، ومن ثم حماه بعد أيام. ومن ثم تتالت التظاهرات في حلب وإدلب واللاذقية [تظاهرة ليلية] والرقة والحسكة ودير الزور. وإذا كانت حلب وحمص ودرعا وحماه وريف دمشق والقنيطرة، مناطق مستنزفة ومنكوبة، فإن أي تجاوب معنوي ورمزي منها ستكون له آثار كبيرة في استمرار الإضراب وشدّته. وقد شهدنا تعاظمًا له يومي الخميس والجمعة 24-25 آب/أغسطس 2023. ومع أنَّه من المستبعد حاليًا اشتراك اللاذقية وطرطوس ودمشق بصورة ملحوظة، ليس لأنَّهم غير غاضبين من سياسات النظام، بل لأن قدرة قوى الأمن والمرتبطين بها في هذه المناطق فائقة.

اتّسع الإضراب ليشمل أغلبية المناطق بغض النظر عن زخمه. ولكن هل سيستمر؟ هناك عوامل عديدة تدفع باتجاه استمراره؛ وجود تأييد عام له على المستوى السوري، نفض اليد من وعود النظام الكاذبة بتحسين الحياة المعيشية، مواقف عربية ودولية مشجعة، الارتباكات التي يعيشها داعمو النظام (روسيا وإيران) لأسباب تخصّهم، ولا سيَّما ما يتعلق بالملف النووي الإيراني والحرب الروسية ضد أوكرانيا وتبعاتها على الوضع الاقتصادي الروسي، وربما يكون لإدراك أغلبية السوريين الثمن الكبير للتراجع دورُه في مدِّ الإضراب بطاقة الاستمرارية؛ فأغلبية أهالي السويداء أصبحوا مطلوبين للأجهزة الأمنية بدرجات متفاوتة، بمن فيهم مشايخ العقل، وربما يُحاكم كثير منهم بمحكمة الإرهاب أو قد يتعرَّض بعضهم للتصفية الجسدية فرادى كما حصل مع درعا والغوطة مثلًا.

رابعًا: التحديات؛ كيف سيتعامل النظام مع الإضراب العام والحراك الشعبي؟

مضى أكثر من أسبوع على الاحتجاجات والنظام السوري لا يستجيب. وحتى الآن هناك غياب شبه كامل للشبيحة وقوى الأمن وحفظ النظام عن الساحات والشوارع التي تغص بالمتظاهرين. والتحليل الأرجح أنَّه لا إمكان لاستخدامهم داخل محافظة السويداء بصورة ظاهرة أو مباشرة في الأيام المقبلة. ولا مجال أيضًا لإقامة مسيرات موالية وساحات موازية بسبب طبيعة العلاقات العائلية والعقيدية عند مواطني السويداء. وهناك إحساس عام بأن ما يحدث من احتجاج يمثل الشرائح الأكبر في المجتمع. ولذلك سيتعاطى موالو النظام والمستفيدون منه بغض النظر عن الإضراب مع بعض الانتقادات التي يمكن تلافيها وغير ضرورية. وفوق هذا لا يستطيع النظام اتهام مواطني السويداء بالإرهاب كما فعل مع مواطني كثير من المناطق السورية.

وحتى الآن، لا وجود لردٍّ من النظام على السويداء، مع أنه أطلق النار على تظاهرة في حلب، وقصف تظاهرة في مدينة نوى بالمدفعية. وربما ستكون أول ردوده إقامة مسيرات موالية موازية في دمشق لاستحالة إقامتها في السويداء، وطرح بعض المكاسب الجزئية كما قدَّمها محافظ السويداء إلى شيخ العقل، حكمت الهجري، الذي لاقى خطابه وموقفه استحسانًا على المستوى السوري. كذلك، يُستبعد أن يلجأ النظام إلى سياسة التفجيرات والقصف في التعاطي مع السويداء لحساسية وضع “الموحدين الدروز” بوصفهم أقلية، في حين يقدِّم النظام نفسه حاميًا للأقليات. ومن المستبعد أيضًا أن تساعده روسيا في قصف السويداء للسبب نفسه. لا يستطيع النظام الانسحاب من السويداء وتركها لتدير نفسها بنفسها، لأنه سيستغني حينذاك عن الجنوب السوري، وسيفقد ما تبقى من شرعية هزيلة له، وربما لأن مثل هذه الخطوة قد تكون خطوة أولى في طريق رحيله.

مع ذلك، فإنَّ الإضراب العام في السويداء، تحت وطأة الغياب التام للبدائل المتعلقة بالطحين والكهرباء والمحروقات التي تأتي من عند النظام عن طريق دمشق، مهدَّدٌ بصعوبة الاستمرار من جراء الضغط الذي يمكن أن يمارسه النظام بقطع مقومات الحياة عن الأهالي. ولذلك، فإن قطع الطرقات الذي نفَّذه بعض المضربين، ولا سيَّما طريق دمشق–السويداء، لم يكن سلوكًا حكيمًا يتحسَّب للعواقب. ولا سيّما أنَّ الناس في حاجة ماسة إلى الكهرباء والطحين والمحروقات والمدارس والمشافي والدواء.. إلخ، لكن يُلاحظ أنَّ المتظاهرين استمعوا لهذا النقد، وتراجعوا عن قطع الطرقات. وربما سيضغط النظام على المحتجين بزيادة تقنين الكهرباء والطحين والمحروقات، لكنه لا يستطيع قطع هذه المواد والخدمات نهائيًا خوفًا من مزيدٍ من انتقادات المجتمع الدولي له من جهة، ولأنَّ هذا السلوك سيشكِّل قطيعة نهائية مع السويداء من جهة ثانية، وقد يقود إلى تفكير عربي بحلول ملائمة عن طريق الأردن من جهة ثالثة.

وعلى الرغم من الهتافات الجامعة بين السوريين والمطالب العامة، المنطلقة من السويداء ذات الأغلبية الدرزية، إلّا أن بعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تُشكِّك في وطنية الحراك بسبب رفع راية “الخمس حدود” وعدم التزامه بالمطالب المعاشية والخدمية فحسب. وقد تنطع بعض الناشطين ومنهم مشايخ العقل لتبرير رفع راية الخمس حدود. وبعد رفع راية الخمس حدود في الأتارب ومارع ورفع علم الثورة في القريا والسويداء ستضمحل هذه الانتقادات بالتدريج. ومع أن الكثير من سهام النقد الموجهة للحراك في السويداء صحيحة غير أن الحراك صار يقبل النقد ويستجيب لملاحظات السوريين. وصار الإضراب العام يستثني العاملين في مجال الكهرباء والماء والهاتف والصحة.

خامسًا: المواقف الدولية والعربية

الموقف الدولي

كان هناك تثمين للمطالبة الشعبية في التظاهرات بتطبيق القرار 2254 في مجلس الأمن. فقد علَّقت ممثلة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد، خلال كلمتها في جلسة مجلس الأمن على التطورات الأخيرة في سورية، في 23 آب/ أغسطس 2023 قائلة: “في الأيام الأخيرة، شهدنا احتجاجات سلمية في مدن مثل درعا والسويداء، حيث دعا السوريون إلى تغييرات سياسية، وطالب جميع الأطراف باحترام القرار (2254)، هذه هي المناطق التي بدأت فيها الثورة، ومن الواضح أن المطالب السلمية لم يُستجب لها”. وشاركت في الجلسة الناشطة الحقوقية، لبنى قنواتي، وهي إحدى الناجيات من هجمات قوات النظام الكيماوية، وتمنَّت لو أنها تستطيع العودة إلى سورية: “للوقوف إلى جانب الرجال والنساء الشجعان الذين يحتجون في السويداء”.

 الموقف العربي

بعد فشل التطبيع العربي مع النظام، فإن أغلب الظن أن العرب سينحازون إلى الإضراب العام، ويستدل على هذا من اهتمام وسائل إعلامهم الأساسية بالإضراب، وربما يتقدَّمون بخطوة نحو الأمام على طريق دعمه، لكن هذا رهن بمدى تقدُّم الحراك الشعبي وتطوره من جهة، وبالمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة في تأييد هذا الحراك من جهة ثانية.

 سادسًا: خيارات واهمة ومضلِّلة؛ عقم فكرة الإدارة الذاتية في السويداء

أكَّدت أغلبية المتظاهرين وحدة سورية والشعب السوري علنًا من دون أي لبس. كما أكدوا خصوصيتهم وخصوصية سواهم وتفضيلهم نظامَ حكمٍ غير مركزي بدلًا من النظام المركزي الذي أذاقهم مختلف أنواع الاستبداد والتحقير. ولكن ثمة دعوات ضيقة غير معلنة عند بعض السوريين وغيرهم، ولا سيَّما في خارج سورية، لإقامة إدارة ذاتية خاصة بالسويداء، عبر تشييد معبر إنساني إلى الأردن، والمطالبة بوضعية خاصة في دستور سورية المستقبلي، وقد أتت مثلًا على لسان الشيخ موفق طريف من فلسطين المحتلة في أثناء لقائه مع ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث الرئيس بوتين الخاص إلى الشرق الأوسط، في شباط/ فبراير من العام الماضي. وهذا غير وارد لعدة أسباب:

أولها، إن فتح المعبر مع الأردن يحتاج إلى موافقة الأردن، وهو سيرفض على الأرجح لأنَّ النظام هو من سيدير المعبر ويتحكَّم فيه، فضلًا عن المخاوف من تمرير الكبتاغون والسلاح والإرهابيين عبره.

ثانيها، لا توجد قوة في السويداء لديها الاستعداد أو القدرة لتتحالف مع القوات الأميركية كما فعلت “قوات سورية الديمقراطية” التي استُخدمت في الاستراتيجية الأميركية لقتال “داعش”. أو كما تفعل بعض “العشائر” التي وجدت لها الولايات المتحدة مكانًا في استراتيجيتها من خلال محاربتها لإيران وميليشياتها، لأنَّ “قسد” لا تحارب إيران.

ثالثها، لا ننسى أنَّ الإدارة الذاتية، في مرحلتها الأولى على الأقل، قد تلقت الدعم، فكرةً وتطبيقًا، من النظام السوري، بهدف محاربة السوريين الكرد الثائرين على نظامه في حينها.

رابعها، يُضاف إلى ذلك -وهذا هو الأهم- الرفض الشعبي في السويداء لفكرة الإدارة الذاتية، والذي تمظهر بطرد معسكر من قرية خازمة في الشهر الثاني من العام 2021. وكانت قد تشاركت فيه “قوات سورية الديمقراطية” مع “حزب اللواء السوري” الذي أُنشئ وقتها بقيادة “مالك أبو خير”. والجدير ذكره أيضًا هو الارتياح الشعبي لمقتل “سامر الحكيم” في قرية خازمة أيضًا، وهو قائد “قوة مكافحة الإرهاب” في الحزب، فضلًا عن اعتقال باقي فريقه المكون من 15 شخصًا في الشهر السادس من العام الماضي.

سابعًا: تمكين الإضراب والحراك الشعبي

استنادًا إلى ما سبق، يحتاج هذا الحراك الشعبي المهم، إلى إسناد ودعم، كي لا يكون فرصة ثمينة ضائعة، لكن بطريقة تخدمه وتخدم القضية السورية بوصفها قضية وطنية ديمقراطية، وليس على طريقة المعارضات السورية التي أفقدت ثورة الحرية والكرامة معانيها وأهدافها السامية، من خلال سهولة انقيادها واستتباعها، وأحيانًا سذاجة تحليلاتها ومقارباتها، ضاربةً عرض الحائط بفكرتي الحرية والكرامة.

أ- هل لهذا الحراك آفاق استراتيجية؟

إذا غابت الاستراتيجيات لا قيمة للتكتيكات. كي يكون هذا الحراك مثمرًا على المدى المتوسط والبعيد، ينبغي له قراءة اللوحة السياسية، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، بصورة هادئة وعاقلة، لأنَّ فهمها جيدًا يتيح إمكان التعاطي مع نقاط القوة ونقاط الضعف، عند جميع الأطراف، بمن فيهم النظام السوري والحراك الشعبي ذاته.

نقاط الضعف العامة على المستوى السوري:

1- الوجود الأجنبي هو إحدى نقاط ضعف الوضع السوري عمومًا؛ فالوجود المتعدد لقوات روسية وإيرانية وتركية وأميركية على الأرض السورية، والنزاع الظاهر أو الصامت في ما بينها، واختلاف مواقفها إزاء مستقبل سورية، وارتباط مستقبل سورية بملفات إقليمية ودولية معقدة وشائكة، من شأن هذا كله أن يجعل الحراك الشعبي بلا مستقبل أو يقوده إلى التلاشي والاضمحلال تدريجًا في حال عدم وضع استراتيجية عقلانية لاستمراره.

2- المعارضات السورية، ولا سيَّما التي تسمى “رسمية” هي إحدى نقاط ضعف الوضع السوري، من خلال استحكام الأيديولوجيا بها، والتحاقها بسياسات إقليمية، إضافة إلى وجود فصائل عقائدية دينية متناحرة وتابعة ولا يعتد بها للمساهمة في المستقبل المأمول من السوريين. فضلًا عن غياب حقل سياسي وطني ديمقراطي يشتمل على مبادئ عامة توافقية، يشكِّل مرتكزًا أو ناظمًا عاقلًا وعارفًا وموثوقًا لأي حراك شعبي.

3- توجد في جعبة النظام السوري خيارات وسيناريوهات كثيرة لإنهاء الحراك الشعبي أو الالتفاف عليه أو تمييعه أو تخريبه، بعضها متوقَّع (مثل تخويف الحراك الشعبي بداعش والتنظيمات المتطرفة الأخرى، اختراع التناحر بين السوريين على أساس ديني أو طائفي أو عشائري أو عائلي أو حتى شخصي، اغتيال بعض الناشطين، محاصرة حاضنة الحراك ومنع متطلبات الحياة الأساسية من الوصول إليها، تشويه سمعة الحراك باتهامه بالعمالة للخارج… وغيرها)، وبعضها الآخر سيكون جديدًا يتوافق مع طبيعة المنطقة والمحتجين.

ب- توصيات لتمكين الحراك على المستوى العملي واليومي

1- مخاطبة مجلس الأمن والدول العربية للضغط على النظام للبدء بتطبيق قرار مجلس الأمن 2054، من خلال هيئة توافقية مسؤولة من الحراك نفسه.

2- التفكير في فتح طرقات بديلة. فبما أنَّ الطريق الوحيد الممكن الآن في السويداء هو طريق السويداء – دمشق، فإنَّه يجب العمل على بدائل ممكنة. وهناك ثلاثة طرق يمكن الحصول من خلالها على المساعدات الإنسانية في حال ضغط النظام على المتظاهرين بالكهرباء والمحروقات والطحين، لكن هناك صعوبات بدرجات متفاوتة تحول دون فتحها. هذه الطرق هي:

الأول: السويداء – درعا – الأردن، عبر معبر نصيب. وهذا يحتاج إلى مصالحة فعلية بين السويداء ودرعا، كما يحتاج إلى موافقة الأردن بدعمٍ عربيٍّ.

الثاني: السويداء – الأردن، بشكل مباشر من نقاط عدة لطول الحدود البرية وتداخلها. وهذا يحتاج إلى موافقة الأردن.

الثالث: السويداء – التنف – الشمال الشرقي من سورية – أو العراق. وهذا يحتاج إلى تنسيق مع العراق وإلى تنسيق مع قاعدة التنف وثوار البادية على طول الحدود الشرقية. ويمتاز هذا الطريق بأنه خارج على سيطرة النظام ويصل جنوب سورية بشمالها الشرقي.

ج- توصيات على المستوى السياسي والتنظيمي

1- إبعاد الحراك الشعبي من إمكان استثماره من جانب قوى أو شخصيات أخفقت في بناء التمثيل السياسي المطلوب طوال ثلاثة عشر عامًا أو قبلت أن تكون بيدقًا بيد سياسات إقليمية أو دولية.

2- إنتاج هيئة سياسية توافقية مركزية للحراك الشعبي على مستوى كل محافظة، وعلى المستوى السوري العام، وهذا يستلزم التواصل بين السويداء والساحل السوري ودرعا وبقية المحافظات السورية. يُناط بهذه الهيئة إدارة الحراك الشعبي سياسيًا وإعلاميًا، وإنتاج برنامج عمل وطني ديمقراطي عام على المستوى السوري، وإنتاج مدونة سلوك سياسية تشرف عليها هيئة رقابية لها سلطة عزل أي أفراد أو جهات لا تلتزم المدونة، واشتقاق خطة عمل تفصيلية ممكنة للحراك الشعبي على المستوى القريب والمتوسط، تتضمن المواعيد والشعارات المقبولة وتوفير وسائل الاستمرار، خطة ترتكز على العمل الصبور والتراكمي وكسب المعارك الصغيرة، وغيرها.

3- اعتماد خطاب سياسي يتصف بالآتي: خطاب وطني ديمقراطي في كل قول ونفس، واستبعاد أي تعبيرات كراهية؛ خطاب عاقل يتوجه إلى المجتمع الدولي وفق قواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بسورية؛ خطاب تحضر فيه السياسة والتعابير السياسية والمدنية، بعيدًا من الغرق في مستنقع ممارسة الشتائم أو الإعلاء من العقائد أو الأيديولوجيات على حساب الوطنية السورية.

ثامنًا: كلمة أخيرة؛ ماذا فعل الحراك الشعبي؟

لقد أبرز وحدةَ التعدُّد والتنوُّع والاختلاف السوري، فقد ظهر بوضوح أنَّ المتظاهرين عمومًا يقبلون بعضهم بعضًا على الرغم من اختلافاتهم. كما أبرز وحدة المُعاش في الحاضر والمساواة تحت الاستبداد في غياب الحقوق والخدمات، واستشراء الغلاء، فهناك معاناة عند جميع السوريين، على الرغم من اختلاف سلوك النظام مع المناطق و”المكونات” السورية استنادًا إلى حساباته ومصالحه في كلِّ لحظة سياسية. أبرز الحراك أيضًا الحجم الكبير لطاقة الغضب الكامنة في أنفس السوريين، مثلما أكَّد وحدة مصيرهم، فإما أن يكونوا معًا في الحاضر والمستقبل أو إنَّهم سيخسرون جميعًا.

لا شيء يجمع السوريين ويعيدهم إلى الواجهة مثل العمل السلمي المدني. وحده يُعيد حماستَهم إليهم، ويتقدَّم بهم خطوةً في الطريق الصحيح؛ بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وأساسها الإنسان/المواطن الحرُّ الكريم.

ميسلون

————————————

سوريا عادت ساحة للضّغوط/ سميح صعب

يشتد الضغط على سوريا. من احتجاجات السويداءإلى درعا إلى تحريك جبهة إدلب. أتى ذلك مع تدهور جديد في قيمة الليرة السوريةولجوء الحكومة إلى رفع الدعم عن المحروقات ومضاعفة رواتب الموظفين.

تحريك الساحة السورية ترافق أيضاً مع كلامكثير قيل عن استعدادات أميركية لقطع الممر البري بين القائم العراقية والميادينالسورية، من أجل الضغط على الفصائل المدعومة من إيران في سوريا. ناهيك بتصعيدإسرائيل وتيرة غاراتها.

هل تنفصل هذه التطورات عن جمود التطبيعالعربي-السوري، نتيجة الخلاف على من يبدأ الخطوة الأولى في معادلة “خطوةمقابل خطوة” التي اقترحها الأردن؟ وبعدما بدا في أيار (مايو) الماضي إثر حضور الرئيسبشار الأسد القمة العربية في السعودية، أن دمشق على وشك عبور سنوات الحرب والقطيعةمع دول الجوار، إذا بالأمور تعود إلى المربع الأول.

وبات من نافل القول، إن الولايات المتحدةعارضت علناً انفتاح العرب على سوريا، من دون حصول اختراق في العملية السياسية علىأساس القرار 2254. ومن الواضح أن واشنطن لجمت أي تقدم على مسار التطبيعالسوري-التركي، وفق ما كانت تشتهي موسكو وتعمل له منذ سنة تقريباً. وعادت أنقرةلتطرح شروطاً مسبقة مقابل التطبيع مع سوريا، كانت طرحتها في بداية الأزمة عام2011.

تستعمل واشنطن سوريا ليس فقط للضغط علىالأسد، بل تستهدف أيضاً إيران وروسيا. لا يمكن أن تسهل إدارة الرئيس الأميركيجو بايدن المساعي الروسية والإيرانية من أجل المصالحة بين سوريا وتركيا أو بينسوريا ودول عربية. وخير دليل إلى ذلك هو أن قرار عودة دمشق إلى جامعة الدولالعربية بقي من دون مفاعيل على الأرض. ثم إن مسار “منصة أستانا” تجمد هوالآخر، بعد الانسحاب الروسي من اتفاق الحبوب. هذا الاتفاق الذي سعت إليه تركياواعتبرته إنجازاً لدبلوماسيتها في النزاع الأوكراني، انعكس أيضاً تصعيداً فيالموقف التركي حيال دمشق.

هذا يحمل على الجزم بأن تعقيدات الأزمةالأوكرانية ترخي بثقلها أيضاً على المشهد السوري، أكثر من أي وقت مضى. والحوادثالأخيرة تدل إلى أن ثمة نية لتصعيد قد يتخذ أشكالاً متعددة، من الاحتجاجات إلىتحريك الجبهات. وكل المبادرات التي برزت بعد زلزال السادس من شباط (فبراير) تلاشت، لتحلمحلها نُذر التصعيد. وزيارة 3 نواب أميركيين مناطق سيطرة المعارضة المواليةلتركيا في الشمال السوري، لها رمزية مهمة في سياقات الإشارات الصادرة عن الولايات المتحدة في هذه المرحلة.

إذاً سوريا اليوم، هي إحدى الجبهات المتقدمةللنزاع الأميركي-الإيراني وللمواجهة بين واشنطن وموسكو. ويحصل هذا في أفريقيا معقرع طبول الحرب في النيجر. مجموعة “إيكواس” تحدد ساعة الصفر للتدخلالعسكري من أجل إعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه الذي خلعه منه العسكريون في 26تموز (يوليو) الماضي. وفي المقابل، تقف مالي وبوركينا فاسو مدعومة من روسيا إلى جانبالمجلس العسكري في النيجر.

إنالصراع على النفوذ بين أميركا وروسيا، يهدد بإعادة الأزمة السورية إلى نقطة الصفر.ما جرى من احتكاكات جوية بين المقاتلات الروسية والمسيّرات الأميركية في الأسابيعالأخيرة، كان إيذاناً بأن سوريا مرشحة لفترة توتر جديدة.

ومع وضع اقتصادي مأزوم، تزداد التعقيدات.وبعدما ظن كثيرون أن سوريا شارفت مع عودتها إلى الجامعة العربية، وإعادة التواصل المباشر مع دول الإقليم، على بداية الخروج من أزمتها، يتبين أن الأمور أصعب بكثير، ما يعزز التكهنات بأن البلاد تقف على شفا طور جديد من أطوار أزمة عمرها 12عاماً.

ووقت يسود تفاؤل بإمكان الوصول إلى تطبيع بينإيران ومصر، أو بين مصر وتركيا، على غرار إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهرانوالرياض، تعود أكثر السيناريوات تشاؤماً لترتسم بالنسبة إلى سوريا.

النهار العربي

—————————-

السويداء إذ تعيد امتلاك سرديتها الثورية/ رشا الأطرش

ليس بعيداً الزمن، بل ربما ما زال راهناً، حينما يُطرح السؤال المخيف، في مَضافة إحدى العائلات التاريخية والقيادية في السويداء، عن صعود صور حافظ وبشار الأسد وبعض أزلامهم إلى الجدار، رفقة سلطان باشا الأطرش ورجالات استقلال حقيقيين وزعامات وطنية لا يحلم أن يرقى إليهم المستجدون يوماً. وتنحصر الإجابة في ارتجافة مباغتة كما بعد لسعة عقرب، ثم رفع الحاجبين وتدوير العينين إشارة إلى وجوب إسكات السؤال من أساسه.

ليس بعيداً في الزمن، بل ربما ما زال راهناً أن يستدرّ دخول النساء إلى مضافة عائلية، ابتسامات استهجان كالتي ترتسم على وجوه جمهور السيرك أو عروض السِّحر والخفّة. حَدَث لا يحصل، إلا إذا أجازَه بعض “الكبار” ممّن لفّوا وداروا في الدنيا واكتسبوا شيئاً من شيَم العالم… وفقط بعد رحيل “الغُربِيّة” إلى منازلهم وقت الغداء أو في آخر الليل، ليبقى أولاد العم اللّزَم.

ليس بعيداً في الزمن، بل ربما ما زال راهناً أن تُظلَم النساء في ميراث آبائهن وأمهاتهن وأجدادهن، لصالح “العَصَب” مُحتقِر بنات العمومة والأخوال لمجرد أنهن “بنات”، فلا يوفر وسيلة ضغط اجتماعي أو ترهيب بـ”فضائح” المَحاكم والنميمة واسعة النطاق، لمقاسمتهن في حقهن الطبيعي، وأحياناً الطعن في وصية المُورّث أو حصاره ثقافياً ليتنكّر لها، رغم أن الوصية لدى الدروز تسود.

ليس بعيداً ذلك الزمن، بل ربما ما زالت راهنة معاناة النساء من العنف المنزلي، من آباء وأزواج وحتى أبناء، وهن لا يجدن نصيراً أو نصيحة إلا “إصبري!” أو “الحق عليكِ.. لا تستفزيه!”. وتُقصى كثيرات ممَن يتزوجن من خارج الطائفة. وامرأة في صالون مضيفيها، تذوب خجلاً وذنباً إن عُرضت عليها صينية “النُّقُل”(الحلوى) قبل زوجها، فتدفعها بقوة صوبه قائلة “أبوفلان قبلي”.

ليس بعيداً الزمن، عندما باءت بالفشل محاولة الحؤول دون انتقال زعامة عائلية تقليدية تاريخية، إلى حزبي “بعثي”، وجرى تطاول علني وغير مسبوق على ماضٍ رفض الانضواء في الحزب ومُخبريه ودفع الثمن غالياً. وذلك رغم أن التقاليد التي تحتكم إليها الحياة السياسية والاجتماعية اليومية في السويداء، تنبذ أحزاب السلطة، على قاعدة أن الحزبي يأتمر بأوامر حزبه، ولو تناقضت مع مصالح مجتمعه وعشيرته اللذين يجب أن تكون لهما أولوية الولاء والانتماء. تقاليد تحتدّ في هذا الموضوع ولا تغفره، ولو بأصوات مكتومة في الصدور، من أيام منصور سلطان الأطرش. وفي الوقت نفسه، تقاليد لا تُعادي الأحزاب والحزبيين، بحُكم الأمر الواقع، ولا حول ولا قوة السوريين جميعاً. وللأمانة، فشل الحؤول دون الزعامة الحزبية، لم يتسبب به أزلام الأجهزة وحدهم، بل أيضاً أبناء العائلة أنفسهم.. صغار المنتفعين من “خدمات” ما عاد الماضي المستقل والمكتفي بذاته ومبادئه قادراً على تقديمها.

ومع ذلك… السويداء تثور الآن. بما أمكنها وما أوتيت من قوى ووسائل وحناجر وقبضات، تحتجّ وتعترض.

كل ما مرّت به ثورة 2011 في شهورها أو سنواتها الأولى، يبدو مُختزناً، بل مُعاشاً في السويداء التي تحرّكت أيضاً، ولو بخفَر وحذر، في تلك البواكير السِّلمية.

ما زالت هنا خفة ظل كفرنبل الثورية. غرافيتي إدلب ودرعا، وإسقاط الصور والتماثيل الأسدية في أصقاع سوريا، وفي السويداء نفسها وقُراها مرات متفرقة خلال الأعوام الماضية. مظلومية الكيماوي والبراميل، الذل والاعتقال والتعذيب والتهجير. ركوب البحار وبيع المصاغ للدفع لمهرّبين يسيرون بقوافل بائسة إلى أمل في اللجوء لمكان صالح للحياة. أبناء السويداء أيضاً خاضوا ذلك كله. النساء اللواتي لا يمكن فصل قضاياهن عن أي ثورة. التنسيقيات والنقاشات والتنظيم، بل والاختلاف في الآراء وإدارته بالأساليب الديموقراطية، كما “باللياقات” الدرزية الشهيرة. حتى قلّة الخبرة في حماية الأنفُس من آذان المُخبرين، ما زالت، كما أولى أيام 2011. السويداء ربما تأخذ قيلولة، تختلي بناسها أو تنأى لبعض الوقت، لكن أهلها مضادّون للسُّبات.

عَلَم الثورة لهم، منذ الاستقلال، وأعادوا امتلاكه. العلَم “النظامي” أيضاً لهم، إذ أعطوه معنى جديداً في احتجاجاتهم، بل أثبتوا أن لا رمزية لعلَم في شوارع الناس ومع الناس، إلا للناس. الكرامة، مع -وربما قبل- الأحوال المعيشية المتردية وأسعار المحروقات والرواتب فاقدة قيمتها والخدمات التي انسحبت منها “الدولة”. وعلَم التوحيد، بَيرق “الخمس حدود” الملوّن، رمزية جامعة، لا فئوية. راية هوية، لا تقوقع. تقول: هذا نحن، الدروز، لا لُبس في مَن نكون، ونطالب بإسقاط النظام الذي لا يحمي إلا نفسه.

وذات تظاهرة، حضرت راية “ريال مدريد”، ونشرت صفحة “السويداء 24” الصورة مع تعليق: “طبعاً مشان حرية التعبير والروح الرياضية نشرنا الصورة، علماً أن مسؤول التحرير في السويداء 24 مشجع لبرشلونة”. طوبى لثورة لا تفقد الفكاهة والكاريكاتور، ورسائل في اللافتات لوسائل إعلام معروفة بخطاب مُعارض مَوتور وفئوي تحريضي أن “تخرج من بين البصلة وقشرتها”، ثم التوجه بيافطة لحلفاء الأسد “كل واحد يخلي بالو من لغاليغو”.

اللافتات النسوية تغزو معظم الصور المتدفقة من السويداء: “طالعات سوريات ع الحراك، لأننا نولد مناضلات من أمهات ناجيات.. طالعات نسقط نظام.. طالعات نوقف بالساحات”. و”طالعات سوريات”، بحسب صفحتهن الفايسبوكية، “حراك نسوي في الداخل السوري هدفه صنع التغيير الديموقراطي والسياسي في سوريا”. وفي السويداء، يرفعن لافتات تحاكي نساء دير الزور والحسكة والرقة، تطالب بإطلاق المعتقلين، مثلما تطرح أجندة التهميش الجندري واللامساواة وتنشد الشراكة، فيما بيان المجموعة يطلب تضامناً نسوياً كاملاً في جنوب سوريا ومعه. معروف أن “الاتحاد النسائي”، المُسيطَر عليه بالكامل من قبل النظام رغم أن الاتحاد أعتق من “البعث” وأعرَق، كان الكيان النسوي المنمّط السائد أو المُسيَّد منذ عقود. ومنذ 2011، خرجت النسوية السورية المُحرَّرة، بما لها وما عليها، من القمقم. مطّت عضلاتها ورفعت صوتها وخاضت تجاربها، الغثّ منها والسمين. والسويداء ليست استثناء…ها هي تقول للجميع أنها الخصوصية، لا الاستثناء. ناظمة إيقاعها وزمنها، وليست الصامتة في دواخلها، ولا “أبَد” يمكنه أن يتأبّد بين حجارتها البركانية السوداء، مهما طال.

صورة سلطان الأطرش، مع راية “الحدود الخمسة”، مع لافتات النسويات…. مرفوعة كلها في تظاهرة واحدة. لا أبوية ولا بطريركية تُرى هنا. هذا لا يعني أن الأبوية والبطريركية اختفت، بل لعل شخوصها، الزمنيين والروحيين، سيدافعون في ما بعد عن مواقعهم ومكتسباتهم. لكن الساحات الآن مختبر، منبر كل شيء، كل صوت، كما يليق بثورة. وهنا أيضاً تحرير السردية، إعادة صياغتها. حيازة التناقضات وتطويعها وتضمينها في الخطاب الجديد، لتمسي مرويات الجبل الثورية، الموثقة في كتب التاريخ، هي أيضاً جديدة… بسنواتها المقتربة من المئة، وهكذا تداول النشطاء أسماء شهيدات الثورة السورية الكبرى، أسماء كانت مطموسة ومنسية.

السردية المتوارثة يُعاد تصديرها فخراً واعتزازاً بما كان، وتصميماً على ما يكون ولحظته الآنيّة، وأملاً في ما يُراد له أن يكون. ماضي الجبل وثورة 1925، التي لطالما حاول النظام الاستحواذ عليها والتعتيم على ذاكرتها، ما استطاع، تستعيدها السويداء بنكهة الراهن، راهنها، وبـ”الجوفيات”-الأهازيج المحلية، ليقول هتّاف في المحتشدين: “نحن الذين رفعنا اسم سوريا عالياً، نحن أحفاد سلطان الأطرش، ولن نقبل إذلالنا.. يقولون ثورة جياع، والجوع ليس عيباً، لكننا ثورة الكرامة، وقفة العز”.

المدن

——————————-

سماحة الشيخ حكمت الهجري: دعمنا لطلباتكم المحقة والشرعية لن يتراجع

أكد الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، سماحة الشيخ حكمت الهجري، على ضرورة عدم التراجع عن طلبات الحق والعدالة. وأعرب عن دعمه القوي والثابت لحركات الاحتجاج والحراك، مجددًا تأكيده على مطالبهم المحقة المشروعة.

وأضاف سماحته بكل وضوح: “بكل أسف وصلنا في وطننا إلى مرحلة شعرنا بها بالذل، حيث يبيع البعض كرامتهم بأسعار بخسة، لكن لا يحق لهم بيع كرامة ربعهم”. وعبّر عن استيائه من هذا الوضع الذي وصل إليه البلد، داعيًا إلى الوقوف بثبات في وجه كل محاولات الهدم للكرامة والحق.

وحذر سماحته من الفتن والتحريض، قائلاً: “اياكم والانجرار نحو الفتن والاضطرابات، واحذروا من تلك الأزلام الذين يهدفون إلى النيل من موقفكم الشريف والمشروع، وتجنبوا سقوط في شركهم”. وأكد أنهم سيحاسبون أمام المجتمع في الأيام المقبلة على محاولاتهم الخبيثة.

—————————–

كيف تعاطى نظام الأسد مع احتجاجات الجنوب السوري الحالية؟

——————————–

حين تخدم العصبية الدينية المطلب الوطني/ رانيا مصطفى

من الموضوعية القول إن للعصبية الدينية القوية للدروز الدور الأكبر في خروج كامل محافظة السويداء السورية ضد نظام الأسد في تظاهرات الأسبوع المنصرم، بعد إعلان شيخ عقل الطائفة، حكمت الهجري، تأييده الكامل مطالب المحتجّين، وبأعلى سقوفها السياسية، وهي رحيل نظام الأسد وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254؛ الأمر الذي شجّع أبناء المحافظة المتردّدين على الخروج إلى الساحات، وتحت راية الحدود الخمسة. يضاف إلى ما سبق رفعُ لافتاتٍ ترفض التقسيم وتقول بوحدة الشعب السوري، وأخرى تنتقد هيئات المعارضة في الشمال السوري، وثالثة تسمو فوق طروحات الإسلام السياسي، وفوق الطائفية، وتقول إن الدين لله والوطن للجميع، ورابعة ترفض الأجندات الخارجية، وغيرها من مطالب تناسب كل السوريين، وفوق ذلك تبنى أبناء المحافظة قضية إخراج الناشط أيمن فارس، ابن الساحل السوري، الذي اعتقل وهو في طريقه إلى السويداء، عبر اختطاف ضباط للنظام لمبادلتهم به. هناك في ساحة السير في السويداء، وكذلك في كل بلدات المحافظة، صارت حرية التعبير في الشأن السياسي مسموحة، حيث تُفتح النقاشات والانتقادات على المستوى الوطني وتطرح الخلافات بين أطياف سياسية مختلفة في المحافظة، وتُنتج كل يوم توافقاتٌ تقود إلى مزيدٍ من تنظيم الحراك وتطويره، حيث تطرح مبادرات عن إدارة شؤون المحافظة بمجلس مؤقت، فيما رجال الكرامة وغيرهم من المجموعات المسلحة ذات التنظيم المعقول، والتي تحظى بثقة الناس، هؤلاء يتولون مهمة الحفاظ على الأمن العام.

ما يجعل دروز سورية أكثر عصبية من غيرهم هو عددهم القليل نسبياً (أقل من 800 ألف نسمة، 3.2% من تعداد السكان). وفي الأصل، لا يتجاوز مجمل تعداد الدروز في بلاد الشام المليونين، وبالتالي هم كطائفة تخشى الانقراض، باتوا محافظين أكثر على قيمهم وأخلاقهم على مرّ العقود، هذا أولاً. وثانياً، أنهم يتركّزون في محافظة السويداء، ذات الطبيعة الجبلية، وهذا ساعدهم في قيادة حركات العصيان والتمرّد مراراً ضد السلطة العثمانية والاحتلال الفرنسي، ما أكسبهم خبرة تاريخية في إثارة الحماسة والنخوة بين أفرادها، وتلبية الدعوة إليها عند الحاجة. لكن تلك العصبية الدينية لم تقبل بدولة للدروز في الجنوب أيام الاحتلال الفرنسي، بل انضمت إلى الحركة الوطنية في دمشق وريفها بقيادة عبد الرحمن الشهبندر، وكان سلطان باشا الأطرش قائداً للثورة السورية التي أخرجت الفرنسيين من سورية. وبعد اندلاع الاحتجاجات في 2011، كانت هناك مشاركة بارزة لأبناء السويداء في التظاهرات وفي العمل العسكري. ولم تخرج كل المحافظة حينها، حيث كانت هناك فئات مؤيدة للنظام وأخرى تقف على الحياد وتبدي تخوفاً وجودياً، كباقي الأقليات الدينية من الأسلمة السياسية المتصاعدة في مناطق الثورة. خروج المحافظة بأكملها اليوم، وبهذا الشكل المنظم، ما كان ليتم لولا عدة عوامل. أولها: ظهور حركة مشايخ الكرامة المسلحة بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، التي استطاعت حماية قرابة 40 ألف شاب رفضوا الالتحاق في الخدمة العسكرية، وأصبح اسمها رجال الكرامة بعد اغتيال البلعوس، في رمزيةٍ إلى أنها معنية بحماية كل أبناء المحافظة. وقد شجّع هذا على ظهور حركة “بدنا نعيش”، بمطالبها المعيشية، لكنها لم تتوسّع كثيراً. وكرد على هذا التمرّد كان للنظام رجالاته في المحافظة، من الدفاع الوطني المموّل من إيران والخارجين عن القانون ومروّجي المخدّرات، وهؤلاء مسؤولون عن الانفلات الأمني الحاصل خلال السنوات الماضية؛ لكن دخول مسلحي “داعش” إلى قرى البلدات الشرقية، وارتكاب مجازر، وتكاتف أبناء المحافظة لردعهم، عزّز ذلك حالة التضامن في المحافظة.

العامل الثاني لخروج احتجاجات اليوم هو الوضع الاقتصادي المتردّي إلى أقصاه، والذي قد يقود إلى تفجير احتجاجات في مناطق سورية أخرى. أما العامل الثالث والأهم، فهو درجة ضعف النظام، والتي بدت واضحة مع فشل المبادرة العربية لإعادة العلاقات معه، وأن ذهابه بات فرق حسابٍ بين الأجندات الدولية والإقليمية، خصوصا بعد الاهتمام الأميركي المتزايد بالمنطقة، حتى لا تذهب إلى حضن الصين وروسيا، وبسورية للتضييق على المشاريع الإيرانية التوسّعية، وحماية أمن إسرائيل وتقليص تجارة الكبتاغون، إضافة إلى زيادة التقارب التركي الأميركي. دفع ذلك كله إلى استقراء اقتراب نهاية النظام، وهنا كان لانضمام الشيخ الهجري أهمية حاسمة في توسّع الاحتجاجات في المحافظة، والذي ترافق مع موقف مماثل لشيخ عقل الطائفة في فلسطين، موفق طريف.

النظام، وعبر أبواقه ومحلليه السياسيين، مهتم حاليا في تشويه الحراك في السويداء، بوصمه بالطائفية والمشاريع الانفصالية والأجندات الخارجية.

ولا يبدو أنه سيستخدم الخيار العسكري، لأن الدم سيقود إلى تدخّلاتٍ دوليةٍ ليست في مصلحته، وإلى توسيع الاحتجاجات، لتشمل جرمانا وصحنايا وغيرها من المناطق التي يسكنها الدروز؛ هو يتعامل حاليا باللين، لكنه يملك أوراقاً، منها إحداث خلل أمني عبر تحريك رجالاته في المدينة، أو تنظيم داعش في شرق المحافظة. وقد يخنق المدينة ويقطع الخدمات عن المحافظة الطرفية، وهذا يشجّع فرصة دخول الأجندات الخارجية على الخط، ومنها بناء منطقة عازلة في الجنوب بقيادة التحالف الدولي، الأمر الذي لن يكون في مصلحة النظام نفسه.

لا تملك الأقليات الدينية في سورية، ومنها الدروز، مشاريع سياسية خاصة بها، وهي تميل إلى العلمانية في السياسة، وإن كان يميل متديّنوها ومحافظوها إلى إدارة شؤون طوائفهم الخاصة بما يتعلق بالأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث وغيرها). وحتى العلويون، لم تصمد دولتهم في الساحل أيام الفرنسيين، وتمكّن رجالاتهم من السيطرة العسكرية على الجيش والأمن بعد السبعينيات عبر حزب البعث، القومي وضمن بلد فلاحي بغالبيته، وليس بمشاريع دينية، على عكس الإسلام السياسي الذي يملك رؤيته الخاصة للحكم، والتي لا تتوافق أيضاً مع الأكثرية السنّية في سورية؛ ولا يعلو صوت الطائفية في سورية إلا حين تتهدّد من الإسلام السياسي. وقد أحسن النظام السوري استخدام هذا البعبع الإسلامي، سواء لتوطيد حكمه منذ الثمانينيات، أو لمواجهة الاحتجاجات في 2011. وبالتالي، لا يمكن لاحتجاجاتٍ تخرج من الأقليات الدينية أن تحمل مشاريع سياسية خاصة بها، وتدرك أن مصالحها تأتي ضمن السياق الوطني.

العربي الجديد

—————————–

ﺳﻴﻨﺎﺭﻳﻮﻫﺎﺕ ﻛﺜﻴﺮﺓ .. ﻣﺎ ﺧﻄﺔ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻷﺳﺪ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺠﻬﺰﻫﺎ ﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ؟/ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻨﺎﺻﺮ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭﻱ

ﺩﺧﻞ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻳﻮﻣﻪ ﺍﻟـ 11 ﻭﺳﻂ ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﺍﻟﻤﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﻨﺎﺩﻳﺔ ﺑﺈﺳﻘﺎﻁ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﻭﺭﺣﻴﻞ ﺭﺋﻴﺴﻪ ﺑﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ، ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﻞ ﺯﺧﻤﻬﺎ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﺷﻌﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ، ﻓﻲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻋﺪﻡ ﺇﻗﺪﺍﻡ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺃﺟﻬﺰﺓ ﻣﺨﺎﺑﺮﺍﺗﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻱ ﺧﻄﻮﺓ ﺗﺼﻌﻴﺪﻳﺔ ﻟﻘﻤﻊ ﺍﻟﻤﺘﻈﺎﻫﺮﻳﻦ ﺃﻭ ﺍﻋﺘﻘﺎﻟﻬﻢ .

ﻭﺭﻏﻢ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺁﻟﺔ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﺍﻹﻋﻼﻣﻴﺔ ﺑﻜﻞ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﻟﻐﺔ ﺍﻟﺘﺨﻮﻳﻦ ﻭﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﺗﺮﻭﻳﺞ ﺷﻤﺎﻋﺔ ” ﺍﻻﻧﻔﺼﺎﻝ ” ﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﺣﻜﻢ ﺫﺍﺗﻲ ﻓﻲ ﺟﻨﻮﺏ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻣﺎ ﺯﺍﻝ ﻣﺤﺎﻓﻈﺎً ﻋﻠﻰ ﺛﻮﺍﺑﺘﻪ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﻣﻄﺎﻟﺒﺎً ﺑﺈﺳﻘﺎﻁ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺭﺣﻴﻞ ﺭﺋﻴﺴﻪ ﻣﻊ ﺍﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﻠﻰ ﻭﺣﺪﺓ ﺳﻮﺭﻳﺎ ﻭﺷﻌﺒﻬﺎ ﻭﺗﻔﻌﻴﻞ ﻗﺮﺍﺭ ﻣﺠﻠﺲ ﺍﻷﻣﻦ 2254 ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ ﺑﺎﻧﺘﻘﺎﻝ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﺑﺮﻋﺎﻳﺔ ﺃﻣﻤﻴﺔ .

ﻭﻳﺒﺪﻭ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﺍﺗﺨﺬ ﻗﺮﺍﺭ ﻋﺪﻡ ﺍﻟﺼﺪﺍﻡ ﻣﻊ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺠﺎﺭﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﻣﺮﻛﺰﺍً ﻋﻠﻰ ﻋﺎﻣﻞ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺘﻰ ﺳﺘﺒﻘﻰ ﺗﺘﻈﺎﻫﺮ ﻭﺗﺘﺤﻤﻞ ﺍﻷﻋﺒﺎﺀ ﺍﻟﻤﻌﻴﺸﻴﺔ ﺍﻟﻤﺮﺍﻓﻘﺔ ﻟﻠﻌﺼﻴﺎﻥ ﺍﻟﻤﺪﻧﻲ ﻭﺇﻏﻼﻕ ﺍﻟﻔﻌﺎﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻳﺔ ﻓﻴﻬﺎ .

ﺧﻠﻖ ﺍﻧﻘﺴﺎﻡ ﺩﺍﺧﻠﻲ

ﻭﻳﺤﺎﻭﻝ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺧﻠﻖ ﻓﺘﻨﺔ ﺩﺍﺧﻠﻴﺔ ﺑﻴﻦ ﺳﻜﺎﻥ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻋﺒﺮ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺧﻄﺎﺏ ﺁﺧﺮ ﻣﻦ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻜﻞ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﺍﻟﺪﺭﺯﻳﺔ، ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺍﻧﻘﺴﺎﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﺷﻴﻮﺥ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﺣﻴﺚ ﻳﺆﻳﺪ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺣﻜﻤﺖ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ ﻭﺍﻟﺸﻴﺦ ﺣﻤﻮﺩ ﺍﻟﺤﻨﺎﻭﻱ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﻭﻣﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻣﻄﺎﻟﺒﻬﺎ، ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺳﻞ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﻣﺤﺎﻓﻆ ﺭﻳﻒ ﺩﻣﺸﻖ ﺻﻔﻮﺍﻥ ﺃﺑﻮ ﺳﻌﺪﺓ ﺇﻟﻰ ﺷﻴﺦ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻳﻮﺳﻒ ﺟﺮﺑﻮﻉ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﻧﺤﺎﺯ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ .

ﻭﻗﺎﻟﺖ ﻣﺼﺎﺩﺭ ﻣﻄﻠﻌﺔ ﻟﺸﺒﻜﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ 24 ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ، ﺇﻥ ﺻﻔﻮﺍﻥ ﺃﺑﻮ ﺳﻌﺪﺓ، ﺍﺑﻦ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﺟﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﻣﺪﻳﻨﺘﻪ ﻣﺒﻌﻮﺛﺎً ﻣﻦ ﺑﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ، ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺜﻼﺛﺎﺀ، ﻭﺍﻟﺘﻘﻰ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻳﻮﺳﻒ ﺟﺮﺑﻮﻉ، ﻭﻋﺪﺩﺍً ﻣﻦ ﻭﺟﻬﺎﺀ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ .

ﻭﺍﻧﺘﺸﺮ ﻣﻘﻄﻊ ﻓﻴﺪﻳﻮ ﻟﻠﻘﺎﺀ، ﻳﺘﺤﺪﺙ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻳﻮﺳﻒ ﻋﻦ ﺭﻓﺾ ﺍﻻﻧﻔﺼﺎﻝ . ﺍﻻﻧﻔﺼﺎﻝ ﺍﻟﻤﺮﻓﻮﺽ ﺃﺻﻼً ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﻬﺪﻩ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻓﻲ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ، ﺑﺤﺴﺐ ﻫﺘﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﻤﺸﺎﺭﻛﻴﻦ ﻓﻴﻪ .

ﻭﻗﺎﻝ ﺟﺮﺑﻮﻉ، ﺇﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺜﻠﻪ، ﻭﺍﻋﺘﺒﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﻳﻄﻠﻖ ﻫﺘﺎﻓﺎﺕ ” ﺷﺎﺫﺓ ” ، ﻓﻲ ﺇﺷﺎﺭﺓ ” ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺒﺪﻭ ” ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻄﺎﻟﺐ ﺑﺮﺣﻴﻞ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺇﺳﻘﺎﻁ ﺍﻷﺳﺪ . ﻓﻘﺪ ﺃﻛﺪ ﺟﺮﺑﻮﻉ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺜﻪ، ﺍﻧﺤﻴﺎﺯﻩ ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻭﺃﻧﻬﺎ ” ﺍﻟﺨﻴﺎﺭ ﺍﻻﺳﺘﺮﺍﺗﻴﺠﻲ ﻭﺍﻟﻮﻃﻨﻲ .”

ﻭﻛﺎﻥ ﺳﻘﻒ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺻﺪﺭﻩ ﺟﺮﺑﻮﻉ ﺑﻌﺪ ﺃﻳﺎﻡ ﻣﻦ ﺑﺪﺀ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﻻ ﻳﺘﺠﺎﻭﺯ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﻓﺘﺢ ﻣﻌﺒﺮ ﺑﺮﻱ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻭﺍﻷﺭﺩﻥ، ﻭﺇﺑﺪﺍﺀ ﺍﻫﺘﻤﺎﻡ ﺃﻛﺒﺮ ﺑﺎﻷﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﻤﻌﻴﺸﻴﺔ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻟﻠﻤﺤﺎﻓﻈﺔ .

ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺎﺑﻞ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺣﻜﻤﺖ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ ﻳﺆﻛﺪ ﻓﻲ ﻟﻘﺎﺀ ﻣﻊ ﺃﻫﺎﻟﻲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺷﻬﺒﺎ، ﻋﻠﻰ ﺭﻓﺾ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻻﻧﻔﺼﺎﻝ ﺑﺸﻜﻞ ﺻﺎﺭﻡ، ﻣﺆﻛﺪﺍً ﺃﻥ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻗﺪﻣﻮﺍ ﺍﻟﺪﻣﺎﺀ ﻷﺟﻞ ﻛﺮﺍﻣﺔ ﺳﻮﺭﻳﺎ، ﻭﻻ ﻋﻮﺩﺓ ﻗﺒﻞ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻋﺔ .

” ﺧﻮﻧﺔ .. ﻋﻤﻼﺀ .. ﺍﻧﻔﺼﺎﻟﻴﻴﻦ “

ﻭﻋﻤﻠﺖ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻹﻋﻼﻡ ﺍﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ ﻭﺍﻟﻤﻘﺮﺑﺔ ﻣﻨﻪ ﻋﻠﻰ ﺑﺚ ﺧﻄﺎﺏ ﺗﺨﻮﻳﻨﻲ ﺗﺠﺎﻩ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﺘﻈﺎﻫﺮﻳﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﺑﺤﺠﺔ ﺃﻧﻬﻢ ﻋﻤﻼﺀ ﻟﻠﺨﺎﺭﺝ ﻭﺃﺻﺤﺎﺏ ﻣﺸﺮﻭﻉ ﺍﻧﻔﺼﺎﻟﻲ ﻣﺪﻋﻮﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻭﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﻭﻳﺘﺠﻬﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺗﺴﻠﻴﺢ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﻭﻋﺴﻜﺮﺗﻪ، ﺑﻨﻔﺲ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻥ ﻳﻮﺟﻬﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ ﻓﻲ 2011 ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﺎﺭﻕ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﺣﺎﻟﻴﺎً ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻟﻢ ﻳﻮﺟﻪ ﺁﻟﺔ ﺍﻟﻘﺘﻞ ﻭﻗﻤﻊ ﺍﻻﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ .

ﻭﺭﻓﺾ ﺍﻟﻤﺤﺘﺠﻮﻥ ﻓﻲ ﺳﺎﺣﺔ ” ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ” ﻭﺳﻂ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﺃﻱ ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﻟﻌﺴﻜﺮﺓ ﺣﺮﺍﻛﻬﻢ ﺍﻟﺜﻮﺭﻱ، ﻓﻲ ﺇﺻﺮﺍﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭﻩ ﺍﻟﺴﻠﻤﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺳﻴﺎﺳﻲ، ﻭﻓﻖ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ .

ﻭﺣﺘﻰ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺤﺎﺩﻱ ﻋﺸﺮ ﻣﺎ ﺯﺍﻟﺖ ﺣﺸﻮﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﺘﺠﻴﻦ، ﺗﺘﻮﺍﻓﺪ ﻣﻦ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺑﻠﺪﺍﺕ ﻭﻗﺮﻯ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﺇﻟﻰ ﺳﺎﺣﺔ ﺍﻟﺴﻴﺮ ‏( ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ‏) ﻣﺮﺩﺩﻳﻦ ﺷﻌﺎﺭﺍﺕ ﺗﺆﻛﺪ ﺃﻥ ” ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﻭﺍﺣﺪ ” ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺸﻌﺎﺭ ﺍﻷﻭﻝ ﻟﻠﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﺪﺃﺕ ﻓﻲ ﺭﺑﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻡ 2011 ، ﻭﻣﺎﺭﺱ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻛﻞ ﺃﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻟﻘﻤﻊ ﻟﻮﺃﺩﻫﺎ .

ﻛﻤﺎ ﻭﺍﺻﻞ ﺍﻟﻤﺘﻈﺎﻫﺮﻭﻥ ﻓﻲ ﺳﺎﺣﺔ ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ﺗﺮﺩﻳﺪ ﺷﻌﺎﺭﺍﺕ ﺛﻮﺭﻳﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ” ﻋﺎﺷﺖ ﺳﻮﺭﻳﺔ … ﻭﻳﺴﻘﻂ ﺑﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ ” ، ﺭﺍﻓﻌﻴﻦ ﺻﻮﺭﺍً ﻟﺮﻣﻮﺯ ﺳﻮﺭﻳﺔ ﻭﻃﻨﻴﺔ، ﺃﻣﺜﺎﻝ ﻳﻮﺳﻒ ﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﻭﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍﻷﻃﺮﺵ ﺍﻟﻠﺬﻳﻦ ﻭﺍﺟﻬﺎ ﺍﻻﺣﺘﻼﻝ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻲ ﻓﻲ ﻋﺸﺮﻳﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ .

ﻛﻤﺎ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﻤﺘﻈﺎﻫﺮﻭﻥ ﻧﻘﺪﺍً ﻻﺫﻋﺎً ﻟﻠﺸﻴﺦ ” ﺟﺮﺑﻮﻉ ” ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺧﺬ ﻗﺮﺍﺭﻩ ﺑﺎﻟﻮﻗﻮﻑ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻗﺎﺋﻠﻴﻦ ﻟﻪ : ” ﻳﺎ ﺑﺘﻮﻗﻒ ﻣﻊ ﺷﻌﺒﻚ، ﻳﺎ ﺑﺘﻤﺜﻞ ﻧﻔﺴﻚ ﻓﻘﻂ .”

ﺷﻤﺎﻋﺔ ” ﺩﺍﻋﺶ “

ﻭﻛﺎﻥ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻷﺳﺪ ﻗﺪ ﻋﻤﻞ ﻣﻨﺬ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻋﻠﻰ ﺗﻨﺸﻴﻂ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ” ﺩﺍﻋﺶ ” ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﻭﺗﻮﺟﻴﻪ ﻋﻤﻞ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﺫﺍﺕ ﺍﻷﻏﻠﺒﻴﺔ ﺍﻟﺪﺭﺯﻳﺔ، ﻓﻲ ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﻣﻨﻪ ﻹﺭﻋﺎﺏ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﻭﺗﻮﺟﻴﻪ ﺭﺳﺎﻟﺔ ﺧﺎﺭﺟﻴﺔ ﺃﻧﻪ ﻳﺤﻤﻲ ﺍﻷﻗﻠﻴﺎﺕ ﻣﻦ ﻣﺨﺎﻃﺮ ﺍﻹﺭﻫﺎﺏ .

ﻭﺣﺬﺭ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺷﻄﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻣﻦ ﻟﺠﻮﺀ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻣﺮﺓ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻟﻨﻘﻞ ﻣﻘﺎﺗﻠﻴﻦ ﻣﻦ ” ﺩﺍﻋﺶ ” ﻛﻲ ﻳﺘﻐﻠﻐﻠﻮﺍ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻻﺭﺗﻜﺎﺏ ﻣﺠﺎﺯﺭ ﻛﺎﻟﺘﻲ ﺣﺼﻠﺖ ﻓﻲ ﺗﻤﻮﺯ 2018 ﺣﻴﻦ ﻗُﺘﻞ ﺯﻫﺎﺀ 150 ﺷﺨﺼﺎً ﻣﻦ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ، ﻭﺟُﺮﺡ ﻗﺮﺍﺑﺔ 200 ﺁﺧﺮﻳﻦ، ﻟﺤﻤﻞ ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﺍﺕ ﺍﻟﺪﺭﺯﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺡ ﻟﺸﺒﺎﺏ ﺍﻟﻘﺮﻯ ﺑﺎﻻﻧﻀﻤﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻴﺶ .

ﻭﻟﻌﻞ ﺿﻌﻒ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﺣﺎﻟﻴﺎً ﻗﺪ ﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺬﻟﻚ ﺧﺼﻮﺻﺎً ﻣﻊ ﺍﻟﻠﺠﺎﻥ ﺍﻷﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﺟﻬﺪﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﻨﻊ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻭﺍﻟﺨﺮﻭﺝ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﺤﺎﻻﺕ ﺍﻟﻄﺎﺭﺋﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﺑﻤﺎ ﻳﺴﻤﺢ ﺍﻟﺤﻔﺎﻅ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻣﻦ ﻓﻲ ﻗﺮﺍﻫﺎ ﻭﺑﻠﺪﺍﺗﻬﺎ .

ﺑﻴﺎﻥ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﺑﺴﻘﻒ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ

ﻭﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﺭﺩ ﻋﻠﻰ ﺗﻄﻮﺭﺍﺕ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﺑﺎﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﻟﻤﻨﻈﻤﻲ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺃﺩﻟﻮﺍ ﺑﺒﻴﺎﻥ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﺧﺎﺹ ﻟﺘﻠﻔﺰﻳﻮﻥ ﺳﻮﺭﻳﺎ ﻳﻌﺒﺮ ﻋﻦ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﺃﻫﺎﻟﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﺃﻛّﺪﻭﺍ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﺇﺳﻘﺎﻁ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ، ﻭﺗﻄﺒﻴﻖ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﺍﻷﻣﻤﻲ 2254 ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺍﻟﻤﺴﺘﺪﺍﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ .

ﻭﻗﺎﻝ ﻣﺮﻭﺍﻥ ﺣﻤﺰﺓ، ﺃﺣﺪ ﻣﻨﻈﻤﻲ ﺍﻻﺣﺘﺠﺎﺟﺎﺕ : ” ﺇﻟﻰ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻃﻴﺎﻑ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ، ﺑﻜﻞ ﺗﻨﻮﻋﻪ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻭﺍﻷﻫﺎﻟﻲ ﻭﺍﻟﺪﻳﻨﻲ، ﺁﺑﺎﺀ ﻭﺃﻣﻬﺎﺕ ﺍﻟﺸﻬﺪﺍﺀ ﻭﺍﻟﻤﻌﺘﻘﻠﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﻬﺠﺮﻳﻦ ﻭﺍﻟﻤﻐﻴﺒﻴﻦ، ﺗﻌﺎﻫﺪﻧﺎ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻭﻣﻨﺬ ﻋﺎﻡ 2011 ﻋﻠﻰ ﻣﻴﺜﺎﻕ ﻭﻃﻨﻲ ﺳﻮﺭﻱ ﻳﺮﻓﺾ ﺍﻟﺘﻄﺮﻑ ﻭﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ، ﻣﺤﺪﺩﺍﺗﻪ ﻫﻢ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﻮﻥ ﻣﺘﺴﺎﻭﻭﻥ ﺑﺎﻟﺤﻘﻮﻕ ﻭﺍﻟﻮﺍﺟﺒﺎﺕ، ﻻ ﻳﻔﺮﻗﻬﻢ ﻋﺮﻕ ﻭﻻ ﺩﻳﻦ، ﻭﻳﺮﻓﻀﻮﻥ ﺍﻻﺭﺗﻬﺎﻥ ﻟﻠﻤﺸﺎﺭﻳﻊ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ .”

ﻭﺃﺿﺎﻑ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﻳﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺑﻨﺎﺀ ﺩﻭﻟﺔ ﻣﻮﺍﻃﻨﺔ ﻭﻗﺎﻧﻮﻥ، ﻭﻟﻴﺲ ﺍﺳﺘﺒﺪﺍﻝ ﺳﻠﻄﺔ ﺑﺄﺧﺮﻯ .

ﻭﺃﻛﺪ ﻋﻠﻰ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﻤﺘﻈﺎﻫﺮﻳﻦ ﺑﺈﺳﻘﺎﻁ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺃﺟﻬﺰﺗﻪ ﺍﻷﻣﻨﻴﺔ، ﻭﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻭﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺭ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳﺎ ﺇﻻ ﺑﺮﺣﻴﻞ ﺑﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ .

ﻭﻳﻌﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﺇﻋﻼﻧﺎ ﺳﻴﺎﺳﻴﺎ ﺑﺴﻘﻒ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ، ﻣﻦ ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﻳﺘﺒﻨﻰ ﺃﺩﺑﻴﺎﺗﻬﺎ ﻭﻣﻄﺎﻟﺒﻬﺎ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻓﻲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻧﺘﻘﺎﻝ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻻ ﺩﻭﺭ ﻓﻴﻪ ﻟﺒﺸﺎﺭ ﺍﻷﺳﺪ ﺃﻭ ﺭﻣﻮﺯ ﻧﻈﺎﻣﻪ .

ﻭﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ ﻓﺸﻞ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﻓﻲ ﺇﻓﺸﺎﻝ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ، ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻭﺻﻤﻪ ﺑﺎﻟﺴﻠﻔﻴﺔ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩﻳﺔ ﻭﻻ ﺍﻹﺭﻫﺎﺏ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﻳﺆﻛﺪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﺭﻭﺯ ﺃﻗﻠﻴﺔ ﻭﻟﻴﺴﻮﺍ ﻣﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﻣﺜﻠﻬﻢ ﻣﺜﻞ ﺑﻘﻴﺔ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ، ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﻣﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺍﻟﺴﻮﻳﺪﺍﺀ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻬﺎ ﻃﺎﺋﻔﻴﺔ ﺧﺼﻮﺻﺎً ﻣﻊ ﻣﺸﺎﺭﻛﺔ ﻋﺸﺎﺋﺮ ﺍﻟﺒﺪﻭ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒﻴﺮ ﻓﻲ ﻣﻈﺎﻫﺮﺍﺗﻬﻢ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻣﺘﻔﻘﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻤﻄﺎﻟﺐ .

ﻓﻲ ﺣﻴﻦ ﺑﻘﻲ ﻳﻠﻌﺐ ﻓﻲ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻔﺘﻨﺔ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻴﺔ ﻋﺒﺮ ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﺗﻘﺴﻴﻢ ﺍﻟﺪﺭﻭﺯ ﻟﻌﺪﺓ ﺟﺒﻬﺎﺕ، ﺟﺒﻬﺔ ﺗﺪﻋﻢ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ ﻭﺃﺧﺮﻯ ﺗﺪﻋﻢ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ ﺃﻗﻮﻯ ﻣﻦ ﺧﻄﺎﺏ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺮﻛﻴﻚ ﺍﻟﺬﻱ ﺯﺍﺩ ﻣﻦ ﺃﺳﻌﺎﺭ ﺍﻟﻤﺤﺮﻭﻗﺎﺕ ﺑﻌﺪ ﺃﻗﻞ ﻣﻦ 10 ﺃﻳﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺁﺧﺮ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺒﺒﺎً ﻟﻜﺴﺮ ﺟﺪﺍﺭ ﺍﻟﺼﻤﺖ .

——————————

الكلام يأتي من أرض الكلام/ رائد وحش

يستعيد الناس فضاءاتهم المسلوبة مع الثورات، فبعد أن تُثقلها الأنظمة بالصور والرايات والشعارات، تغدو تعبيرًا عن التطلعات والغايات التي يحملها الثوّار، ومنصة للحوار العمومي، بدلًا من الصور والتماثيل والأقوال، وحتى الذوق الرديء لأولئك الرابضين على صدور بلادهم.

حدث ذلك في ميدان التحرير في قاهرة 2011، وفي بغداد 2019، وها هي السويداء تفعله اليوم رغم إدراكها العميق لخطورة ذلك. تقول الثورات إنّ استعادة المدن وفضاءاتها المختلفة من ميادين وشوارع، وحتى من جدران؛ تأخذ سكّانها المغيّبين قسرًا من المشهد إلى إعلان حضورهم في الفضاء العام، بعد استحواذهم عليه، وتحريره من هيمنة السلطة وذوقها الخشبي بصريًّا ولغويًّا.

ولأن ما يحدث في جنوب سوريا يأتي من بلد فعل نظامه المستحيل لصنع الإنسان الخانع والمطيع، المدجّن منذ الطفولة عبر “طلائع البعث”، وفي المراهقة عبر “شبيبة الثورة”، وفي بقية العمر عبر الحزب الواحد، والإعلام الواحد، والفساد والنفاق والذل الموحَّد؛ فإن المدينة الجنوبية تقوم قومتَها لتعيد تعريف كل ذلك. تحرر الفضاء البصري من عقود من البطش، وتعيد تعريف الشجاعة حين تشعل انتفاضة في بلد يعرف أهله جيدًا كم هي باهظة وقاسية ضريبة الثورات والانتفاضات فيه. لكن السويداء تقول: ليست الشجاعة أن تتحدّى وأنت تعرف، بل أن تعرف وأنت تتحدّى.

أدخلت أحداث المدينة الجنوبية سوريا في مرحلة جديدة، كان لا بد من وصولها إليها في النهاية، لا سيما بعد أكثر من عقد كاملة من الدماء والتمزق. وهي مرحلة لا تقتصر على التمرد السياسي على نظام منتهي الصلاحية أخلاقيًا وسياسيًا وإداريًّا وحسب، بل في العمل على إنهاء الانقسام النفسي واللغوي والجغرافي في القاموس السوري، فمع السويداء سيضعف حضور ثنائيات مثل أكثرية وأقلية أو داخل وخارج أو مناطق نظام ومعارضة، لأنّ ما تفعله هذه المدينة هو ما فعلته الثورة في بواكيرها الأولى: تنادي برحيل النظام، وتزيل صور الطاغية، وتتطلع إلى العدل والكرامة.

ما كان لهذا أن يحدث لولا 2011، لكنّ الأمل في هذه المرحلة أن تدفع هذه الأحداث إلى عودة سوريا إلى الحلّ السياسي، على أساس القرار الدولي 2254 القائل بالانتقال الديمقراطي ورحيل النظام، بدلًا من العبثية العربية في عملية إعادة تأهيله التي تغاضت عن الجريمة والدم والخراب.

ما لا ينكره السامعون الآن أنّ من يتحدثون من السويداء بارعون في الكلام، لديهم بلاغة تليق بخطباء المحافل الكبرى. ومن يعرف المدينة وأهلها يعرف جيدًا كيف أنّ كلام الأطفال والفتية فارق، فما بالك بالنساء والرجال. وكأن متكلمات ومتكلمي ذلك الجنوب، في يومياتهم العادية، خرجوا من إحدى المعاجم، أو تأبطوا كتابًا.

الكلام هوية الجنوب السوريّ. الكلام صوته. الكلام شخصيته وكيانه ومعناه. الكلام أرضه وسماؤه.

واحدة من الروايات عن المدينة وريفها اسمها “أرض الكلام” لممدوح عزام، وفيها تتوالد القصص وتتناسل، خلال سنةٍ من أسوأ سنوات الجدب التي مرّت على تلك البقاع هي سنة 1959 – 1960. وقتها يبدأ الناس بالسّفر، لكنّ هذه الأرض تطلق وراءهم ثلاثة رواةٍ يعملون على سد الفجوات في معلومات السارد العام للرواية، وهؤلاء الرواة يظهرون على هذا الترتيب: معلم لديه دفتر للتدوين يسميه “كتاب السفر”، وابنه الذي يكتب القصص القصيرة الحلمية التي تُرينا ما لا نرى، أو لا يمكن أن يراه غير الأطفال، ومصوّر يجعل كاميراته تروي الوحشة والموت.

العقل والوجدان اللذين مثّلهما المعلم، والحلم والخيال اللذين انطلق منهما وبهما ابنه الكاتب الصغير، وألبومات الصور التي بدت وكأنّها كلام المكان نفسه، كلها اجتمعت معًا لتقول إن في ذلك الجنوب روحًا لا يُسكتها حتى الجدب والعطش، لأنها ستظل تتكلّم، وستخترع لذلك الكلام ألف طريقة وطريقة.

ما نشهده اليوم ليس سوى بعض كلام أرض الكلام.

الترا صوت

———————————

أليس الجوع شأنًا سياسيًا؟ / فراس دالاتي

دخلت احتجاجات السويداء، والانتقادات الموجهة لرأس النظام وعائلته في الساحل السوري -الأكثر حذرًا لطبيعة الظروف- على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم الثاني عشر على التواصل، بتصاعدٍ وحدّة وتيرة أُسيّين منذ اليوم الأول.

ورغم أن الاحتجاجات في السويداء ليست بالجديدة، إلا أن رقعة اتساعها وتنظيمها، والاتفاق بين المرجعيات الدينية الثلاثة التي تقاسمت الأدوار في الماضي بين معارضة، حياد وموالاة، على ضرورة وضع حدٍّ للنظام الحاكم تعدُّ سابقةً أحيت الأمل بإحداث تغيير فشلت به الثورة التي انطلقت عام 2011.

تختلف الأسباب التي أدّت لاندلاع هذا النوع من الاحتجاجات، من السياسات “الرئاسية” العقيمة والمرتهنة للخارج، إلى تلك الحكومية التي أثبتت فشلها مرارًا على اختلاف مؤدّيها إلى تقويض حرية التعبير وانتهاك ما يُعرف بـ”السيادة الوطنية” وحتى تدهور الأوضاع المعيشية. إلا أن اللهبةَ التي أشعلت فتيل الحراك الأخير فهي قراران مزدوجان؛ الأول صدر عن الحكومة (الفاسدة) يقتضي رفع أسعار المحرقات بنسبة 200 % تقريبًا، والثاني صدر عن الأسد (الطيب المُحاط بالفاسدين) يقتضي رفع أجور العاملين في الدولة بنسبة 100 %، ما سبّب ارتدادًا مباشرًا في اليوم التالي وتضاعف تكاليف كل شيء عن تكلفته الأصلية التي لم يستطع معظم الشعب تغطيتها على أية حال قبل الارتفاع.

بالطبع، ظهرت الأصوات الداعمة لحراك السويداء، إذ خرجت المظاهرات التي تشدّ على أيدي متظاهري الجنوب السوري في درعا وعفرين وحتى إدلب، بعضها شهد رفع علم “الحدود الخمسة” الخاص بالأقلية الدرزية، والذي ساد في مظاهرات السويداء، من قبل أُناسٍ لا ينتمون إلى تلك الأقلية. لكن أصواتًا أخرى برزت، تُزاود على حراك السويداء وتنتقص منه واصفةً إياه بـ”ثورة الجياع”؛ لأن نقطة انطلاقه جاءت من قرارات اقتصادية ضربت المُقدّرات المعيشية، وأنها ستنطفئ حالما “تُشبَع” بطون أولئك المتظاهرين، وشتّان بينها وبين “ثورة الكرامة” التي خرجت عام 2011، والتي لم يطفئها جوعٌ ولا خوفٌ ولا براميل متفجرة، بحسب هؤلاء.

بدايةً، خطابٌ من هذا النوع ينسف كل ما وقف لأجله “ثائر الكرامة”. ألم ينادي هؤلاء بسوريا موحّدة في وجه طاغيتها منذ اليوم الأول قبل أن “ينحرف” مسار الثورة وتؤخذ إلى أماكن أفضت إلى ما أفضت إليه اليوم؟ أوليس انضمام المحافظة التي نأت بنفسها عن حمّام الدم، إلى جانب المناطق التي تشكّل حاضنة شعبية للنظام هي ما يلزم لإعادة الثورة إلى مسارها وعكس الاستقطاب الذي حدث، وإن كان من المبكر قليلًا الحديث عن هذه اليوتوبيا؟ والأهم من ذلك، ألا ينطوي هذا على مصادرةً لـ”حرية” شرائح من الشعب بالتظاهر في توقيتها وأدواتها التي تراها لتحقيق مطالبها، خصوصًا بعدما رأت الفشل الذريع لأدوات شرائح أخرى؟

يفترض هذا الخطاب أن “الجوع” و”الكرامة” شأنان منفصلان، فإما أن يكون الشخص “كريمًا” وإما “جائعًا”؛ فيما تنص ألف باء علم الاجتماع على أن سد الجوع إحدى ركائز العيش الكريم؛ الأمر الذي توضحه، بأبسط الكلمات الممكنة، المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

يطرح هذا الخطاب سؤالين جوهريين؛ أولهما هل كانت البطون ممتلئة والعروق مبلّة بما فيه الكفاية لتكون “الكرامة” حقًا هي المحرك الوحيد لثورة عام 2011؟ تشير الأبحاث إلى أن معدل البطالة في سوريا بلغ 24.4 % عام 2010، بينما بلغ معدل الفقر الإجمالي في العام نفسه 34.3 %، في حين بلغ معدل الفقر في المناطق الريفية حوالي 62 %.

ووفقًا للبنك الدولي، كان أكثر من 20 % من السوريين يعيشون في فقر قبل عام 2011. وكان معدل الفقر يتزايد بشكل مطرد منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتدفق اللاجئين، وانخفاض فرص التوظيف في القطاع الخاص وتدني الأجور في شقيقه العام.

وعلى وجه التحديد، كانت أفقر منطقة في سوريا قبل عام 2011 هي المنطقة الشمالية الشرقية، وتحديدًا محافظة الرقة، إذ اتسمت هذه المنطقة بانخفاض مستويات التنمية والفقر وانعدام الفرص الاقتصادية. وبالحديث عن الشمال الشرقي، فإن واحدًا من أبرز الأسباب التي دعت إلى الاحتجاج عام 2011، هو موجات الجفاف التي شهدتها المنطقة، التي تعد سلة سوريا الغذائية، بين عامي 2007 و2010، والتي تعد الأسوأ في تاريخ البلاد الحديث، والتي تسببت بشبه انهيارٍ لقطاع الزراعة حينها.

أليس إجحافًا لو خرج أحدٌ ما حينها متجاهلًا جميع المحفزات الشرعية التي أدت إلى الانتفاض، كالفساد والقمع ونسف الديمقراطية واضطهاد الأقليات وغيرها من دوافع احتجاجٍ مُحقّة وأطلق وصف “ثورة العِطاش” مثلًا؟

السؤال الجوهري الآخر الذي يجب طرحه في ضوء ما يجري حاليًا من تأطير وصبّ قوالب ثورية مضادة للكسر، ألم يكن الجوع قضية سياسيةً بحتةً منذ فجر التاريخ؟ يعتمد الحصول على الغذاء على الإمدادات الغذائية، والقدرة على تحديد الحق في الحصول على الغذاء، والإنتاج، ومعاملات السوق، والسلطة السياسية الأسرية. ينشأ الجوع من فشل الدولة في توفير الاستحقاقات الإنسانية الذي يحمل خصوصية مجتمعية بدلًا من سمات أُسَريّة. وبشكل عام، يقع عاتق توفير جزءًا كبيرًا من تلك الاستحقاقات من قبل الدولة من خلال المساعدات، والدعم، والتوظيف، والتوزيع العام للسلع، والاقتصاد. وتعتمد قدرة الدولة النامية (سوريا مثالًا)، التي لا تستطيع إنتاج وتوزيع الاستحقاقات بمفردها، على التأثيرات السياسية الخارجية والداخلية، وعليه فإن رفع مستوى استحقاق الأسرة أو الفرد يتطلب اتخاذ إجراءات ذات طبيعة سياسية أولًا وأخيرًا.

احتلّت “سياسات الجوع” حيزًا رئيسيًا من أدبيات علم الاجتماع منذ القرن الثامن عشر، إلى أن وصف كارل ماركس النظام الغذائي نفسه، أيًا كان، على أنه إجماعٌ سياسي في المقام الأول. وليس خفيًا أن عددًا من أقدس الثورات، التي صارت مرجعيات أكاديمية في كيفية قلب الأمر الواقع، كان الجوع محركها الأساسي، والوحيد في بعض الأحيان، من حرب الطحين التي سبقت الثورة الفرنسية إلى ثورة البلاشفة في روسيا مطلع القرن العشرين وليس انتهاءً بالثورة الأكبر حتى الآن في القرن الواحد والعشرين، ثورة يناير في مصر 2011 التي ساوت الخبز مع أسمى المطالب الإنسانية بصريح العبارة واتخذت من “عيش (خبز)، حرية، عدالة اجتماعية” شعارًا لها.

ليس أيًّا مما سبق مهم أو ذا صلة، ما يهم الآن هو ماذا لو نجح “الجياع” في تنفيذ مطالبهم، والتي تتقاطع مع مطالب “الكرماء” التي عجزوا عن تحقيقها؟ هل سنشهد رفضًا للحرية المُنتزعة بالأيادي والأظافر والأسنان، على اعتبار أنها لا تتواءم مع الحرية المأخوذة بالشوكة والسكين؟ أم أننا، حالنا حال من خرجنا ضدّه، يجب علينا أولًا تعريف الحرية بما يرسّخ ثوابتنا الوطنية؟

الترا صوت

———————————–

الموجة الثانية من الحراك السوري… الأسباب والمآل/ منذر خدّام

لم يكن مفاجئاً أن يخرج السوريون إلى الشارع مرة ثانية للتعبير عن غضبهم، واحتجاجاً على القرارات الحكومية الاقتصادية الأخيرة، التي أدّت إلى زيادة تكاليف المعيشة، بحيث تعجز أغلب الأسر السورية عن تأمينها، وكان من الطبيعي أن يبدأ الحراك من محافظة السويداء لأسباب عديدة، منها أن سلطة الحكومة المركزية في المحافظة هشة إلى حد بعيد، وثمة كتلة اجتماعية كبيرة معارضة للنظام من حيث الأساس، ولها قيادتها السياسية والمدنية والدينية.

من حيث الأسباب المباشرة، فإن الاحتجاجات انطلقت ضد قرارات الحكومة الاقتصادية الأخيرة، لكنها سرعان ما اخذت طابعاً سياسياً، وبدلاً من مطالبتها بإسقاط الحكومة في بداية الاحتجاجات، صارت تطالب بإسقاط النظام.

ومن خلال المقابلات التي أجريت مع بعض قادة الحراك في السويداء، سواء من رجال الدين أو من النقابات المهنية أو من الأحزاب السياسية، أو من خلال البيانات التي صدرت عن تنظيماتها، بات واضحاً مدى الوعي المتراكم لدى الناس بأن المشكلة من حيث الأساس تكمن في طبيعة النظام الاستبدادي، وليس في الحكومة. ويلاحظ أيضاً التطور في الشعارات التي يرفعونها، من التركيز على القضايا المطلبية والمحلية إلى القضايا الوطنية والعامة، وإصرارهم على سلمية الحراك، وعلى صون الممتلكات الخاصة والعامة.

اللافت أن المظاهرات التي بدأت متواضعة في البداية، أخذت بالتدريج تستجمع قوى جديدة، بحيث صارت ذات طابع جماهيري. واللافت أيضاً، وكان ذلك متوقعاً، ألا يستخدم النظام القوة لمنعها أو قمعها، ولن يستخدم ذلك إلا في نهاية المطاف، وبعد تأمين الظروف المناسبة لذلك.

من هذه الظروف، رفع لأعلام إسرائيلية كما ظهر في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، أو اللجوء إلى العنف، سواء من قبل متطرفين أو من قبل المندسّين من أجهزة النظام الأمنية، أو عصابات المخدرات وغيرها، ولا يخفى أن بعض الدعوات لإغلاق مقرات حزب البعث، وطرد الأجهزة الأمنية من المحافظة، وإغلاق بعض مؤسسات الدولة، سوف تخدم هذه الاتجاه. وتخدم النظام أيضاً التدخّلات الخارجية المباشرة أو التحريض الإعلامي، وخصوصاً الطائفي، الذي خبره السوريون في السابق.

ويبقى بلا شك الظرف الأكثر استدعاء للنظام لقمع هذه الاحتجاجات هو احتمال انتقالها وانتشارها إلى المحافظات الأخرى، وهذا الاحتمال لا يزال ضعيفاً حتى الآن.

النظام بدوره سوف يوظف أي إجراء لشدّ عصب مؤسساته الأمنية والعسكرية، فهي قوته الوحيدة التي لا يساوم عليها، خصوصاً وأن الحاضنة الاجتماعية لهذه الأجهزة تآكلت إلى حد بعيد بسبب تكاليف المعيشة العالية.

مثلاً لقد استفاد النظام من اعتداء المجموعات الإرهابية في ريف إدلب الجنوبي على مواقع للجيش أدت إلى وقوع قتلى وجرحى في صفوفه، ويستفيد من خطاب بعض القوى المعارضة في الخارج للعودة للخروج من الجوامع وإلى إحياء جمعات التظاهر، فهذه تذكر كثيراً من السوريين بالنتائج المأساوية التي ترتبت عليها، وتنشط أجهزة النظام الدعائية لتذكير السوريين بما حصل في ليبيا واليمن، وأن المستهدف هو البلد وليس النظام.

يراهن كثير من المعارضين السوريين، خصوصاً في الخارج، على أن هذه الموجة الثانية من الاحتجاجات في سورية سوف تعمّ جميع المحافظات السورية، وسوف تؤدي إلى إسقاط النظام في نهاية المطاف. وهم يراهنون بصورة خاصة على خروج المظاهرات في الساحل السوري، ويعولوّن على مشاركة العلويين فيها بكثافة هذه المرة.

إن التحليل الموضوعي لظروف البلد بعد اثنتي عشرة سنة من عمر الأزمة التي حلّت بها، وظروف حياة السوريين تقول غير ذلك. فلا تزال حية في الذاكرة النتائج المأساوية للصراع في سورية وعليها، والتي ساهمت بها قوى دولية كثيرة من أجل مصالحها الخاصة على حساب مصالح السوريين أنفسهم. لذلك لم يكن مستغرباً أن تظل المظاهرات محصورة في محافظة السويداء بصورة رئيسية، وبعض البؤر الاحتجاجية في محافظة درعا أو حماه أو دير الزور أو في حلب، سرعان ما سوف تتوقف أو يتم احتواؤها من قبل النظام. أما بالنسبة للساحل السوري، فاحتمالات الخروج باحتجاجات، خصوصاً من قبل العلويين، يكاد يكون معدوماً، رغم الانتقادات الحادة والعلنية للنظام، مترافقة بكثير من الشتائم. الكل يسبّ وينتقد، حتى طال ذلك شخص الرئيس وزوجته وكبار رجال دولته، بل ثمة حالات فردية جريئة عبّرت عن نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يتم اعتقالها مباشرة، تحسباً لردود أفعال يظنها محتملة.

ثمة أسباب عديدة تحول دون خروج العلويين في مظاهرات احتجاجية على النظام منها: أولاً غياب أية قيادة سياسية أو دينية أو مدنية معارضة فاعلة في صفوفهم، كما في حالة محافظة السويداء، وثانياً سيطرة النظام على الزعامات العشائرية والدينية للعلويين، واستخدامها في منع أية تكتل معارض ذي طابع جماهيري، وثالثاً، يستفيد النظام من تأثير ضباط الجيش والأمن على حاضنتهم الاجتماعية، ورابعاً طغيان النزعات الفردية في صفوفهم، وخامساً الخوف الشديد من بطش أجهزة النظام، وسادساً الخوف من التيارات الإسلامية المتشدّدة التي نجح النظام في إقناع الكثيرين منهم بأنها البديل عنه في حال سقوطه.

إذا صح ما ذهبنا إليه في تحليلنا، فإن مآل الحراك الجديد هو التوقف والاستيعاب، ولا يزال النظام يملك الكثير من الإجراءات في جعبته لتحقيق ذلك، وقد بدأ بتنفيذ بعضها، من قبيل منح العاملين في الجامعات وفي سلك القضاء وفي الجيش وفي أجهزة الدولة الأخرى علاوات جديدة على رواتبهم.

رصيف 22

————————————-

=================

—————————-

حول مقابلة الأسد مع سكاي نيوز عربية: مواجهة التضليل بالوقائع/ أحمد زكريا

كغيرها من الكلمات واللقاءات السابقة، لم تحمل المقابلة التي بثّتها قناة (سكاي نيوز عربية)[1]، يوم الأربعاء التاسع من شهر آب/ أغسطس 2023، مع رأس النظام السوري بشار الأسد، أيّ جديد يقدّمه للسوريين والدولة السورية، في سبيل وضع حد للمستوى المتدني الذي وصلت إليه البلاد في المجالات كافة المعيشية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

ومن الواضح أن المقابلة صُمّمت للدعاية لبشار الأسد، فقد قدّمت له الإمارات منبرًا كي يعلن أفكاره كنوع من الترويج والتسويق له.

إن الاهتمام الثانوي لوسائل الإعلام المختلفة بالمقابلة يُعدّ مؤشرًا على ثقة الجميع مسبقًا بخلوّها من أي مضامين، حيث كانت كلماته في بدايات الثورة تحظى باهتمام كبير، نظرًا للدور الإقليمي الذي لعبته سورية خلال العقود التي خلت، ولم يلاحظ أي اهتمام يُذكر بكلمته في لقائه الأخير.

سنناقش أدناه ما ورد في المقابلة.

    ادّعى بشار الأسد في مستهل حديثه أنه “كان من الممكن تفادي هذه الحرب، لو أننا خضعنا لكل المطالب التي كانت تُطلب أو تُفرض على سورية، بقضايا مختلفة، في مقدّمتها التخلي عن الحقوق السورية، وعن المصالح السورية”.

الحقيقة:

– لم يطلب أحد من الأسد شيئًا من ذلك، سوى الشعب السوري الذي طالب بإجراء بعض الإصلاحات، وبردّ بعض الحقوق للشعب السوري [[2]].

– لم تطلب أي دولة عربية أو غربية من الأسد التخلي عن الحقوق السورية، بل على العكس أعربت السعودية -على لسان الملك عبد الله بن عبد العزيز- عن استعداها لمساعدته، ودفعت له في آب/ أغسطس 2011، 300 مليون دولار دفعة أولى، على أمل أن يستجيب بوقف “آلة القتل” وإجراء إصلاحات شاملة وسريعة[3].

– طالبت قطر الأسد بالاستماع لما يريده الشعب السوري من حكومته، وبتاريخ 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، أمهل وزراء الخارجية العرب حكومة الأسد خمسة عشر يومًا، لعقد حوار وطني بمقر الجامعة العربية في القاهرة، لحل الأزمة السياسية في سورية، كما قرر الوزراء تشكيل لجنة برئاسة قطر لمراقبة الوضع في سورية[4].

– بذلت تركيا جهودًا مضنية، على مدى عدة شهور، وقام وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو بثمان زيارات لبشار الأسد، آخرها في آب/ أغسطس 2011، مطالبًا إياه بالمرونة والاستجابة لبعض مطالب الشعب، لتجنيب سورية ما هو أسوأ، وكان الأسد يقدّم الوعود، ثم يحنث بها كعادته.

– في 21 حزيران/ يونيو 2011، استنكرت واشنطن تذرّع الأسد “بوقوف جهات أجنبية وراء الاحتجاجات”، وأكدت أن تلك الاحتجاجات تعبّر عن مطالب مشروعة[5].

    زعم بشار الأسد أن رؤيته الوطنية كانت “الدفاع عن المصالح السورية، وعن سورية في وجه الإرهاب، وعن استقلالية القرار السوري، فلو عدنا بالزمن إلى الوراء، فسوف نبني ونتبنى السياسة نفسها”.

الحقيقة:

– عارض الأسد أي مساءلة أو مشاركة في سلطته المطلقة، أو أي رقابة عليها، وردّ على المتظاهرين باستخدام القوة، معتمدًا على العنف للاحتفاظ بالسلطة، منذ اندلاع الصراع في سورية[6].

– أصرّ الأسد من خلال حديثه على السياسة الأمنية التي اتبعها في قمع المتظاهرين، وأكد الاستمرار في الحل الأمني ضد كل من يطالب برحيل النظام وأذرعه في سورية[7].

– قابل النظام التظاهرات السلمية بإطلاق الرصاص الحي على المدنيين[8]، وطوّر حربه مستخدمًا الطيران الحربي والمدفعية والصواريخ والدبابات، مما أدى إلى قتل اكثر من نصف مليون سورية وتشريد نصف الشعب السوري، وهي السياسة نفسها التي يشير إليها في سياق حديثه، لو عاد به الزمن إلى الأيام الأولى من الاحتجاجات التي خرجت للمطالبة برحيله.

    ادّعى بشار الأسد في مقابلته أنه لم يكن هو المستهدف من تظاهرات السوريين، “أسماها الحرب” والصراع الدائر في سورية، وإنما المستهدف هي سورية، وقال: “لم أكن أنا المستهدف كشخص.. كنا نخوض معركة وجودية، والمستهدف لم يكن الرئيس بشار كانت سورية..”.

الحقيقة:

– من كان المستهدف هو بشار الأسد، والتظاهرات التي خرجت في عموم سورية طالبت برحيله تحديدًا، وثمة عشرات آلاف مقاطع الفيديو التي وثقت تلك المطالبات.

– يحاول الأسد من وراء هذا الادّعاء إشاعة أن ما جرى ويجري منذ العام 2011 هو حرب ضد سورية، ومؤامرة كونية ضدها، وحملة إرهابية تهدف إلى تعريض سورية للخطر[9]. من أجل إبعاد الناس عن حقيقة كون سلطته هي سلطة دكتاتورية موروثة من الأب الذي استولى عليها بانقلاب عسكري.

– ردد رؤساء دول وحكومات عديدة (بلغت 120 دولة في مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري) أن رحيل الأسد هو الحل السريع لإنهاء “الأزمة السورية”[10].

    زعم بشار الأسد أنه لم يكن هناك مطالبات داخلية تطالبه بالتنحي عن السلطة، وقلّل من أعداد السوريين الضخمة التي خرجت للمطالبة برحيله منذ اندلاع الثورة السورية، واعتبر أن من خرج ضده “لا تتجاوز أعدادهم في أحسن الأحوال مئة ألف ونيّف، في كل المحافظات، مقابل عشرات الملايين من السوريين المؤيدين له”.

الحقيقة:

– يعلم بشار الأسد تمامًا أن تظاهرات درعا وبانياس وحمص ودمشق وغيرها قد شارك في كل منها عشرات الآلاف، وأن اعتصام الساعة بحمص قد شارك فيه قرابة 30 ألف، بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 2011 [11].

– ويعلم بشار الأسد تمامًا أن تظاهرة حماة، في 1 تموز/ يوليو 2011، شارك فيها مئات آلاف السوريين[12].

– كما يعلم أن تظاهرة دير الزور في جمعة (ارحل)، في الأول من تموز/ يوليو 2011، قد شارك فيها مئات الآلاف أيضًا.

– ويعلم بشار الأسد وأجهزته الكثير الكثير عن التظاهرات التي انتشرت في عموم سورية دون استثناء، وصارت نقاط التظاهر تبلغ في أيام الجمع أكثر من 800 نقطة تظاهر، شارك فيها في كل أسبوع مئات الآلاف على مدى عدة شهور، رغم الرصاص الذي واجه به النظام المتظاهرين السلميين في البداية، قبل أن يضطرهم إلى حمل السلاح دفاعًا عن أنفسهم.

– بالتأكيد، إن أجهزة الأمن التي واجهت التظاهرات بالرصاص قد صورت وكتبت له التقارير، وقدروا له أعداد المشاركين في كل تظاهرة، ويُقدّر مجموع من شاركوا في عموم سورية خلال الشهور الستة الأولى بنحو 3 مليون سوري، في دولةٍ كان عدد سكانها أقل من 21 مليون نسمة، هذا رغم الرصاص الذي واجه به المتظاهرين، ورغم العديد من المجازر التي ارتكبتها ميليشياته وجنوده. وتعد هذه النسبة من أعلى نسب المشاركة في تظاهرات، في التاريخ.

– إن الشعب السوري قد قال كلمته بكل وضوح: “ارحل”، وسمعها كل من يريد أن يسمع، من دول مجاورة ودول بعيدة ومجتمع دولي، والجميع يعلم ذلك، ويصمت.

    اتهم بشار الأسد الإرهاب، ويقصد فصائل المعارضة، بأنه هو من دمر سورية ودمر البنية التحتية، وتسبب بقتل السوريين ونزوحهم ولجوئهم، وقال: “الإرهاب هو الذي كان يقتل ويدمر ويحرق.. ومن يتحمل المسؤولية هو من وقف مع الإرهاب..”.

الحقيقة:

– ينظر النظام إلى كل من يعارضه أو من ينتفض في وجه نظامه على أنه “إرهابي”، ولا يعترف إلا بالمعارضة التي يصنعها بيديه.

– من خلال النظر إلى ملايين الصور ومقاطع الفيديو التي تظهر المدن المدمرة والبنايات المهدمة، يثبت أن قصف طيران ومدفعية وصواريخ هو من يستطيع أن يدكّ هذه المباني، وأن النظام وميليشياته ثم روسيا فيما بعد هم حصرًا من يملك الطائرات والمدفعية والصواريخ، وأن أسلحة المعارضة لم تتعدّ البنادق والرشاشات وصواريخ الغراد التي لا تكاد تثقب حائطًا. وهناك نحو مئة ألف برميل متفجر قد ألقتها طائرات الأسد على المدن والبلدات[13].

    ذكر الأسد خلال مقابلته أن الدعم الإيراني والروسي لنظامه كان له “تأثير مهم في صمود سورية”، وزعم أن “الصمود الحقيقي هو صمود الشعب، وأن كلمة السر في هذا الصمود هي الوعي للمخطط”.

الحقيقة:

– إيران تتعامل مع سورية كدولة تحت سيطرتها، حتى إن الأسد ذاته قد بات تحت رحمتها، وهي من أنقذه، وقد باتت تسيطر على جزء من مقدرات سورية، وتغرس جذورها الفارسية في التربة السورية بقوة، فهي تشتري العقارات، وتفتتح الحسينيات، وتتذرع بأماكن جديدة مقدّسة، ممتطية حصان التشيّع، وكلّ ما قدمته لدعم الأسد جرى عبر اتفاقيات أبرمها الأسد، مرتبًا ديونًا هائلة على سورية، إضافة إلى أنها تعمل على نشر التشيع. إنّ إيران قد تحوّلت في سورية فعليًا إلى قوة احتلال.

– روسيا هي الأخرى قدمت غطاءً سياسيًا أولًا، ثم تدخلت عسكريًا عندما بات النظام مهددًا بالسقوط، وهي أيضًا سيطرت على جزء من المرافق الاقتصادية، وأصبح بشار الأسد يأتمر بإمرة ضابط روسي صغير.

    تحدث الأسد عما سمّاه صمود السوريين، وقال: “اليوم، نستطيع أن نقول: هناك إيمان بالقضية، هناك تمسك بالحقوق، هناك وعي ونضج لطريقة اللعبة التي أُديرت بها الأمور عند التحضير لهذه الحرب وعند بدء هذه الحرب، وكل هذه الأشياء، وغيرها من العوامل الكثيرة، هي التي كوّنت حالة الصمود، لدى عشرات ملايين السوريين” (حسب تقديراته)، كما حمّل قانون العقوبات “قيصر”، إضافة إلى “الحرب والإرهابيين وتدمير البنية التحتية”، مسؤولية تردي الواقع الاقتصادي في مناطق سيطرته، حسب زعمه.

الحقيقة:

– يتعامى الأسد تمامًا عن أن سورية تتجه نحو المجاعة، ما يفقدها قيمتها لأي استثمار خارجي، سياسي أو اقتصادي، وخصوصًا بالنسبة إلى الروس والإيرانيين، الذين باتوا يسيرون في اتجاهات معاكسة تمامًا لما يقوله الأسد[14].

– عن أي صمود للشعب السوري يتحدث الأسد، وخصوصًا لمن يقطن في مناطق سيطرته في ظل الانهيار المتسارع لليرة السورية مقابل العملات، إضافة إلى موجة الغلاء، والواقع الاقتصادي المزري، ما يدفع كثيرين إلى الهجرة خارج سورية.

– لا يمكن للأسد تقديم إجابات للمواطنين في مناطق سيطرته، الذين بدؤوا بالتململ من سياسة التجويع والتفقير، في حين تواصل ماكيناته السياسية، وخصوصًا مستشارته السياسية بثينة شعبان، استفزاز المواطنين من خلال مطالبتها لهم بشكل مستمر، بالصمود[15].

– عمّ الفقر البلاد، وتدهورت مستويات المعيشة، وبان التفاوت الكبير في توزيع الدخل والثروة، وقد أهدر نظام الأسد مدخرات الدولة، وأثقل سورية بديون كبيرة، واستعان بإيران وروسيا، بغية كسر إرادة الشعب وإخضاعه لسلطته[16].

    عبّر الأسد عن خيبته من “التطبيع العربي”، واصفًا العلاقات العربية العربية بأنها “علاقات شكلية”، لا تطرح حلولًا عملية ولا تطرح أفكارًا عملية لأي شيء”، واعتبر أن “عودة سورية إلى الجامعة العربية ما زالت شكلية ولم تتغير[17]“.

الحقيقة:

– الحقيقة أن بشار الأسد قد تعامل مع العرب بطريقته الموروثة عن والده: أن يأخذ ولا يعطي، خاصة أنه ليس لديه ما يقدمه للعرب الواهمين بإمكانية ابتعاده عن إيران، ولكن العرب هذه المرة خذلوه ولم يعطوه شيئًا، ما دام عاجزًا عن أن يقدم شيئًا، ولذا جاء ما قاله في المقابلة معبرًا عن خيبة أمله في ما انتظره وتمنّاه (دفع مجاني بدون مقابل).

– ثمة أسباب عديدة دفعت السعودية على وجه الخصوص إلى التريث في سياسة الانفتاح على النظام السوري، وعلى رأسها الموقف الأميركي والأوروبي الرافض للتطبيع، يضاف إليها عدم جدية النظام، وعدم قدرته على تنفيذ أي من الاتفاقيات أو القرارات، سواء الدولية أو المتفق عليها مع العرب[18]. فقد باتت إرادته مسلوبة، ولذا صار يُكثر من الحديث عن السيادة الوطنية.

    ادّعى رأس النظام السوري عودة أقل من نصف مليون بقليل، كما ادّعى بأنه لم يتم اعتقال أو إلقاء القبض على أي شخص من بينهم، وأقرّ بأن هذه العودة توقفت، بسبب واقع الأحوال المعيشية، وعدم وجود ماء ولا كهرباء ولا مدارس ولا صحة للعلاج.

الحقيقة[19]:

– يعلم الجميع أن عدد جميع من عادوا لا يتعدى بضعة آلاف، وهم غير مطلوبين لأجهزة الأمن، ولديهم مصالح أو أهل في سورية، وفي المقابل تستمر موجات هجرة السوريين إلى خارج سورية، بسبب تردي الوضع المعيشي والوضع الأمني ونوعية الحياة التي باتت رديئة جدًا، باستثناء حفنة من قيادات الدولة وكبار الأغنياء.

– يعلم الجميع أن النظام يرفض عودة اللاجئين، وقد بذلت كل من حكومتي لبنان والأردن جهودًا مضنية مع الأسد، كي يسمح بعودة من يريد من اللاجئين، ولكن مساعيهم قوبلت بالرفض، والجميع يعلم أن الأسد يريد أن تبقى قضية اللاجئين قائمة، ليساوم عليها ضمن حل شامل يأمل أن يتحقق لصالحه برفع العقوبات ودعم إعادة الإعمار مع شرعنته، وهو حلم بعيد.

– تؤكد تقارير دولية عدة أن سورية بلد غير آمن لعودة اللاجئين السوريين إليها، وأن كل من عاد إلى مناطق سيطرة النظام تعرّضوا لانتهاكات جسيمة.

– وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، منذ مطلع عام 2014 حتى حزيران/ يونيو 2023، 3367 حالة اعتقال تعسفي، على يد قوات النظام السوري، بحق لاجئين بينهم نساء وأطفال عادوا من دول اللجوء إلى سورية.

– أفرج النظام السوري عن 2094 شخصًا، وبقيت 1273 حالة اعتقال، تحوَّل 923 منها إلى حالة اختفاء قسري. كما سجل ما لا يقل عن 74 حالة عنف جنسي تعرض لها اللاجئون العائدون في المدة ذاتها[20].

    زعم بشار الأسد أنهم “أول المتحمسين والمتعاونين من أجل مكافحة ظاهرة المخدرات، لأنها ظاهرة خطيرة بكل معنى الكلمة”، وبرر ازدهار تجارة المخدرات بـ “الحرب” التي تعرضت لها سورية، وحمّل المسؤولية لـ “الدول التي ساهمت في خلق الفوضى في سورية، وليست الدولة السورية”. ويكرر الأسد ادعاءات ومزاعم حسن نصر الله، زعيم ميليشيا حزب الله اللبناني، بأنهم يكافحون المخدرات، وأن الاتهامات الموجهة لهم بهذا الخصوص “كاذبة”[21].

الحقيقة:

– إن التقارير والتحقيقات الاستقصائية عن صناعة المخدرات في سورية أكثرُ من أن تُعد، وإن عمليات تصنيع وتجارة المخدرات في سورية تُنظم على أرفع مستوى حكومي، ومثلها التقارير التي تتحدث عن عدد كبير من شحنات المخدرات التي قبض عليها في دول الجوار أو في أوروبا، قادمة من سورية.

– سورية باتت أكبر منتج ومهرّب للمخدرات (الكبتاغون) في العالم، ويلجأ النظام السوري عامدًا إلى تسييس قضية المخدرات، لابتزاز دول الخليج ومعاقبتها على مواقفها منه[22].

– بتاريخ 27 حزيران/ يونيو 2023، كشف تحقيق لـ BBC عن صلات مباشرة بين تجارة الكبتاغون وشخصيات قيادية في قوات النظام السوري، وكذلك عائلة رئيس النظام بشار الأسد[23].

    تهرّب الأسد خلال المقابلة من التحدث عن كارثة الزلزال والجهود التي بذلتها حكومته لمساندة المتضررين من الزلزال، أو المساعدات التي وصلته من الدول ومصيرها، وهرب باتجاه الحديث عن الإرهاب، وكيف أن بعض عائلات الموالين فقدت أبناءها في الحرب، وأرسلت أبناءها الآخرين ليدافعوا عن الوطن، حسب زعمه.

الحقيقة:

– يشير تهرّبه إلى أن كارثة الزلزال لا تعني أي شيء بالنسبة للأسد، فما يهمّه هو أن يموت الموالون له، من أجل بقائه على كرسي الحكم.

    زعم بشار الأسد أنه لم يكن لوالده حافظ أسد أي دور في توريثه السلطة. وقال: “بالنسبة لي أنا شخصيًا لم يكن للرئيس حافظ الأسد أي دور في أن أكون رئيسًا، لأنه لم يُؤمّن لي أي منصب مدني أو عسكري، كي أكون من خلاله رئيسًا، أنا أتيت عبر الحزب بعد وفاته”، ويزعم أن والده لم يناقش معه هذا الأمر قط.

الحقيقة:

– أن هذا أمر مضحك، فالجميع يعرف المسرحية الشهيرة بتفاصيلها، والجميع يعلم أن حافظ الأسد كان قد حضّر ولده باسل لوراثته، وحين مقتله بصورة غامضة، تم استدعاء بشار من لندن على عجل، وبدأ تحضيره بين 1994 و 2000، وهذا معروف للقاصي والداني، والجميع يعلم كيف تم إعلان استنفار الجيش فور وفاة حافظ أسد، وكيف استدعى مُخرج المسرحية مصطفى طلاس كبار قادة الجيش والأمن الذين اختارهم الأسد وائتمنهم على توريث السلطة لبشار، وكيف تم تعديل سن الرئيس في الدستور من 40 سنة إلى 34 سنة، ليناسب عمر بشار الذي رشحته قيادة حزب البعث التي كان قد اختارها حافظ الأسد، وحضّر كافة ترتيبات المسرحية ومستلزماتها قبل موته. والجميع كان يعلم أن كل من يعارض سيُقتل.

    ردًّا على سؤال يتعلق بوراثة ولده حافظ الثاني للرئاسة، راوغ الأسد في إجابته، وزعم أنه لم يناقش هذا الأمر مع ابنه، وأن الأمر متروك لرغباته، وقال: “لا أناقش معه هذه القضايا، وهذا يعود لرغباته. لكن أنا في الحقيقة لا أفضّل، ولا أرغب بمناقشة هذه التفاصيل معه، لا الآن ولا لاحقًا”.

الحقيقة:

– هذا الجواب المراوغ ينمّ عمّا في نفس بشار الأسد من عزمه على توريث السلطة لولده حافظ الثاني، ومثله الأعلى هو ووالده كوريا الشمالية.

– نشرت صحيفة ‘‘لوجورنال دو ديمانش’’ الفرنسية تقريرًا، في آب/ أغسطس 2020، ذكرت فيه أن “بشار الأسد يحضّر ابنه البكر (حافظ) تدريجيًا لخلافته” [24].

الحقيقة الأخيرة:

– الحقيقة المرّة أن أزمة سورية وشعبها، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والوجودية، مستمرةٌ ما دام الأسد في السلطة، ولن ترى سورية والسوريون الفرج بدون رحيل الأسد ونظامه.

[1] مقابلة بشار الأسد مع قناة سكاي نيوز عربية https://www.youtube.com/watch?v=cQrVbS0Cg2c

[2] الأسد حذر من أن المطالب بالإصلاحات السياسية السريعة قد يكون لها ردة فعل سلبية https://bit.ly/45qBVHB

[3] السعودية تدعو الأسد إلى تحكيم العقل وتفعيل إصلاحات سريعة https://bit.ly/47rnTHA

[4] سورية ترفض قطر https://bit.ly/47prfem

[5] واشنطن تدعو الأسد إلى التوقف عن استخدام العنف ضد مواطنيه https://arbne.ws/4454SrB

[6] روبرت فورد، السفير الأمريكي السابق إلى سوريا، washingtoninstitute، https://bit.ly/3DOhCs6

[7] سوريا: تفريق التظاهرات السلمية بالعنف: https://tinyurl.com/2abhk728

[8] مجزرة الساعة في مدينة حمص https://www.youtube.com/watch?v=yBvp485I7AU

[9] محمد الغانم عضو التحالف الأمريكي لأجل سورية https://twitter.com/MhdAGhanem/status/1689655663725797377

[10] الاندبندنت: حرب بلا نهاية في سورية https://tinyurl.com/mt4zpf4d

[11] اعتصام الساعة بحمص 18 نيسان 2011 https://2u.pw/Mkuk131  

[12] أضخم مظاهرة في حماة 2011 https://www.youtube.com/watch?v=fPsWdGlyeSU

[13] طائرات النظام تلقي البراميل على داريا بدمشق https://2u.pw/sWws5Zm

[14] عندما يطلّ الأسد من الخرابة السورية، ساطع نور الدين، المدن https://tinyurl.com/yfsrk9bx

[15] مستشارة الأسد تستفز السوريين بدعوتهم إلى “الصمود” https://tinyurl.com/mpu9wr7y

[16] تدهور الأوضاع المعيشية للسوريين https://tinyurl.com/bdhzjsd6

[17] قراءة في لقاء بشار الأسد مع سكاي نيوز.. الرسائل والدلالات https://tinyurl.com/29jwht7e

[18] باستثناء سوريا.. السعودية تعين دفعة جديدة من السفراء لعدد من الدول https://tinyurl.com/mr23rmsu

[19] سوريا: اللاجئون العائدون يواجهون انتهاكات جسيمة https://tinyurl.com/mwcf3d8x

[20] الشبكة السورية: سوريا غير آمنة https://tinyurl.com/ywrzmzuh

[21] نصر الله يرد لأول مرة على اتهام “حزب الله” بـ “تهريب الكبتاغون” https://tinyurl.com/5a76cu4z

[22] في الاندفاعة الأردنية للتطبيع مع النظام السوري https://tinyurl.com/espyf7a5

[23] من داخل “دولة المخدرات” السورية https://tinyurl.com/42fz5meb

[24] صحيفة فرنسية: بشار الأسد يهيّئ ابنه “حافظ” لخلافته https://tinyurl.com/m7394vh8

طباعة 

——————————-

الأسد وحركة 10 آب والسؤال عن “المصنّع”؟/ سميرة المسالمة

يصرّ بشار الأسد، في حديثه لقناة سكاي نيوز عربية، على أن سورية لا تزال في حالة حرب. وما يؤكّد كلامه، على ما يبدو، العملية الإرهابية التي تبنّاها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في يوم بث المقابلة الأربعاء الماضي، وأسفر عن مقتل ما يزيد عن 30 جندياً، على طريق دير الزور- حمص.

اللافت أنّ عملياتٍ كهذه تتكرّر مع كل حاجة لتأكيد أن جيش النظام لا يزال غارقاً في معركته مع الإرهابيين، ما يقتضي أن يصمت الداخل السوري عن أي مطالب حياتية، سواء كان من يطالب بها صناعة محلية، أو كانوا مدفوعين من جهاتٍ خارجية. ولعل ذلك هو بمثابة جواب واضح ومباشر على حركة “10 آب” التي نظّمت صفوفها محلياً، وبمطالب تحت درجة معارضة، وفوق مستوى الصمت المهين على واقع شعبٍ يرزح تحت ثلاث معضلاتٍ كبرى، أمنية واقتصادية واجتماعية.

وحسب تعريف الأسد المعارضة التي يعترف بها، تقع تلك الحركة، حسب بياناتها مجهولة النسب، ضمن ما يمكن وصفها “المصنّعة محلياً”، حيث تعرّف نفسها بأنها من شابّات الداخل السوري وشبابه، ومهمتها إنهاء معاناة الشعب من سوء إدارة شؤون البلاد، وتجاهل الدولة مستقبل الشعب، مؤكّدين أنهم ليسوا دعاة فتنة، ورافضين الوصاية من أي طرفٍ خارجي، وكذلك حمل السلاح، أي أنّها على مقاس المعترضين على الأداء الحكومي، لم تتعدً مطالبها ما يمكن أن يُنشر في أي صحيفة محلية، تملك الحد الأدنى من حرية التعبير، ضمن المساحات المسموحة في بلادٍ تحكمها الديكتاتوريات، فهل يمكن للأسد التعاطي مع متطلبّاتها البسيطة، والمحدّدة بمجرّد وعود زمنية تعيش على أمل تنفيذها من حكومة النظام؟

يمكن لبعضنا من معارضي حكم الأسد أن يتهم الحركة بأنها مجرّد عمل مخابراتي، أو أنها ضمناً، حسب مؤيدين، تتبع جهة خارجية ما، كعادتنا نحن السوريين، ولكنها حتى لو كانت كذلك، أو بفعل “نكايات” بين قوى أمنية سورية، فإنّ التأكيد على المطالب الحياتية المحقّة حق مشروع لأي انسان، فكيف إذا كان جل ما طلبته حركة 10 آب مجرّد برنامج زمني تعيش على وقع حلم بتنفيذه، تبيّن لهم أنه لن يمر إلى جدول أعمال الحكومة التي يناشدونها، ما يتطلّب الانتقال إلى حراك سلمي يتنقل بين المحافظات.

السؤال الأهم، كيف يكون الحراك السلمي في ظل قوى أمنية تتعامل معه بالرصاص الحي على أنه عدو إرهابي والنصر عليه قضية وطنية؟ لتذكير تلك الحركة، وعلى خلاف ما ذكره الأسد في حديثه، كان الحراك في درعا الذي بدأ في 18 مارس/ آذار 2011 سلميا، وأن ما قاله الأسد سابقاً إنه حراك سلمي كان تماشياً مع رغبة “الجمهور” الذي كان مقتنعاً بأن التظاهرات في سورية كانت سلمية ومطلبية. وللعلم، كانت مطالبهم على غرار أو حتى أقل تكلفة من مطالب هذه الحركة، وأن تطوّر الحراك السلمي إلى حمل السلاح كان بدفعٍ من النظام ذاته، ليتسنّى له وسمُه بالإرهابي، حتى قبل أن تتدخّل الدول، ويتحوّل السلاح من فردي إلى فصائلي، وتتداخل عوالم الثورات المطلبية مع السياسية، وصولاً إلى المسلّحة المنظّمة، والمدعومة دولياً وإقليمياً وعربياً. أي أن من زرع البذرة الأولى هو من حصد نتاجها، وهو من لديه الخبرة والمعرفة بتحويل الحراكات السلمية إلى مجرّد عصابات إرهابية، حيث تقتضي الوطنية الحرب عليها، لا تنفيذ مطالبها. 

برّأ الأسد جيشه وأجهزته الأمنية من واقع الدمار للبنية التحتية، على الرغم من أنه قصفها بطيرانه وسلاحه، بالتعاون مع حلفائه الروس جواً وإيران برّاً، تحت عيون كاميرات الإعلام، وها هو يحمّل الدول مسؤولية تدميرها، وبالتالي، لا منّة لهم إذا عملوا على إعادة إعمارها، وهذا شرطه الواضح لأي عملية تسوية تخصّ عودة اللاجئين السوريين. وما لم تجنح الدول العربية إلى الالتفات إلى هذه المتطلبات، فستبقى العلاقات معها شكلية، ما يعني أن ناتج التطبيع العربي ما لم يصبّ في خانة مصلحة النظام السوري، سيبقى “ناتجا صفريا”، وهذا يمكن تعميمه على أي عملية تسوية مع تركيا أو الولايات المتحدة.

ما أراده رأس النظام السوري من الحديث التلفزيوني، وعبر قناة خليجية، تأكيد انتصاره على الشعب السوري ومن سانده، ووضع شروط التقارب معه، وهي رسالة إلى الداخل السوري الذي يطبخ تحت نار الغلاء، وفقدان أدنى شروط الحياة، التي أعاقت رجوع اللاجئين المشرّدين في الخيام، لأن سورية لا تزال تعيش فصول الحرب، ولا مكان للتبجّح بالمطالب الحياتية، حتى عندما تكون بياناتٍ وحراكا سلميا.

لم ينس الأسد أن يعود بالزمن إلى الوراء كثيراً، ليؤكّد فردانيته بالسلطة التي استلمها بناء على مكانته في حزب البعث الحاكم، وليست وراثة عن أبيه حافظ الأسد، ما ينفي شراكة إخوته في الإرث، ويغلق آخر ملفّ في الشراكة العائلية، سواء مع أخواله أو أعمامه أو شعبه. ولربما كانت هذه الرسالة تخص أسرته الصغيرة جداً، وتحقّق طموحاتها في انفصالها عن الماضي، الذي يحمّلها عبء توزيع الثروة والسلطة معاً عائلياً.

لم يعطِ الأسد أي بارقة أمل لأنصاره بتحسين ظروف المعيشة، بل أوضح لهم أن ما يعانونه من شظف العيش مستمرّ وباق، وربما إلى الأسوأ، فالبلاد ماضيةٌ في حربها إلى آخر جندي تخسره سورية، أو حتى تفتح دول الخليج أبواب خزائنها، أيهما يصل أولاً يبقى هو المجهول الذي لا رهان عليه؟

العربي الجديد

————————————-

تشدّد الأسد وتحرّكات الداخل/ عمار ديوب

لم يثر حوار الرئيس بشّار الأسد مع “سكاي نيوز” يوم الأربعاء المنصرم اهتماماً كبيراً لدى السوريين، قبل الإعلان عنه. ثم شعروا، بعد بثّه، بخيبة أملٍ متجدّدة. احتاجت أحوال سورية والسوريين إلى مبادرة شجاعة من رأس النظام بالتحديد، منذ تولّى الحكم 2000، وطبعاً منذ 2011. كما تجاهل منذ وصوله إلى الحكم الإصلاح السياسي، كذلك فعل طوال مدّة حكمه؛ وسورية حاليا أحوج إلى ذلك. أبداً، لقد أصرّ على أن كل ما جرى في سورية مؤامرة وإرهاب، وبسبب الاحتلال التركي، ومن دعم الإرهاب هو المسؤول عن خراب سورية، وهذا يتضمّن الدول العربية، وفقاً لمنظوره.

هذه الإجابات تكرارٌ للإجابات ذاتها منذ 2011، أي أنّه لم يتلمّس أهمية أن العرب فتحوا له باباً للخروج من مأزقه، ولم يهتم بفتح أميركا وأوروبا له باباً آخر للتطبيع مع العالم بعد التخفيف من العقوبات إثر الزلزال. لم ينبس ببنت شفة في ما يخصّ الأزمة الاقتصادية والتدهور الحادّ لقيمة العملة، وللاحتجاجات التي بدأت بإعلاناتٍ خجولةٍ من الموالين له، والتي تدقّ ناقوس المجاعة، وأن الوضع لم يعد يحتمل أبداً تأجيل التغيير في السياسات العامة للدولة. وقد ظهرت، أخيراً، حركة شبابية سمّت نفسها 10 آب، وبدأت بتوزيع قصاصات في بلدات عديدة، كجبلة واللاذقية ومصياف والسويداء وحلب وريف دمشق.

لا يمتلك الأسد أيّة إمكانية لتغيير نظامه، ولهذا يكرّر رؤيته القديمة، وحتى أصدقاؤه الروس والإيرانيون يبدون غير قادرين على مساعدته، بل ويطالبونه بمزيد من التنازلات؛ فلإيران ديون بأكثر من خمسين مليار دولار، والنظام يرهن مستقبل سورية لإيفائها إياها؛ اتفاقيات للاستثمار في الثروات الباطنية وبيع الأراضي، وإعطاؤهم خطاً خليوياً جديداً، وسواها.

كانت أسئلة محاور “سكاي نيوز” عامة: عن الثورة، وتركيا، وعن المبادرة العربية، وعن عائلته الخاصة والتوريث، عن المخدّرات، ولكن الرئيس الأسد لم يُسأل عن الأوضاع الداخلية المتأزّمة، وكيفية مواجهتها، إذ ليس لديه أيّة مخارج داخلية، عبر نظامه، والأنكى أنّه علّق كل الحلول على الخارج، رغم أنّه خفّض من قيمة قانون قيصر، وهو القانون الأساسي ضد نظامه، وعليه تُبنى بقية القوانين الأميركية، كقانون الكبتاغون وغيره. وطبعاً أخطأ في ذلك التخفيض، حيث يقلّص بذلك من دور العقوبات في الأزمة الداخلية، وبالتالي، تصبح الأزمة بسبب سياسات النظام وليس العقوبات أو المؤامرة أو الإرهاب وسواه.

شكّلت الأزمة الاقتصادية العميقة في إيران والحرب الروسية على أوكرانيا سبباً في انخفاض الدعم عن النظام السوري أو تلبية احتياجاته، لا سيما أن الاقتصاد السوري في حالة عطالةٍ شبه كاملة، وتجلّى الأمر عبر تراجعٍ يوميٍّ، وليس شهرياً، لقيمة العملة السورية. أدّى هذا الوضع هذا إلى تدهورٍ اجتماعي كبير في أوضاع الكتلة السكانية الكبيرة الموجودة تحت سيطرة النظام، وكان لهذا أثره في ظهور أصوات ناقدة له، وتحميله مسؤولية الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، ولم تشرْ تلك الأصوات إلى دور الخارج في الأزمات. صحيح أنّها حركات هادئة وبسقفٍ منخفض، لكنها تصرّ على ضرورة الإصلاح ومحاربة الفساد، وتحمّيل “القيادة” جزئياً مسؤولية الأزمة الاجتماعية.

لا يتحمّل النظام نقداً، أو احتجاجاً شعبياً، ولهذا يتشدّد، ويحاصر تلك الحالات فوراً. ولهذا نجد تلك الأصوات تتراجع من جهة، وتعود لتتقدّم ببطء شديدٍ. ظهرت حركة 10 آب، وأصدرت بياناً تأسيسياً، منخفض المطالب، ولكنها مطالب جادة، كتحسين الأجور، والتوقف عن بيع القطاع العام، والعودة إلى دعم بعض الحاجات الأساسية للأغلبية الشعبية، كالخبز والمحروقات وإعادة الكهرباء بمعدل 20 ساعة يومياً وإخراج المعتقلين السياسيين، وقضايا أخرى.

عكس تحقيق تلك المطالب، أصرّ النظام على رفع سعر الأدوية 50%، والإعلان عن رفع سعر الخبز، وزاد من سعر المحروقات، ورافق تلك الزيادات ارتفاع في عمليات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبعض التفجيرات هنا وهناك، وقد ربط أغلبية المعلقين الأمرين معاً، وكأنّ النظام يريد تذكير الموالين بأن الحرب لم تنته، ويمكن أن تطاول كل المناطق الموالية من جديد، وبالتالي، يجب الصمت من جديد، وإغلاق الأفواه المحتجّة، ورفع عقيرة الأصوات المؤيدة.

ما يتجاهله النظام أن الأزمة المتفاقمة وصلت إلى حدّ المجاعة، وبدأت تتساوى الحياة مع الموت لدى “الموالين”، وأصبح الأخيرون أشدّ رفضاً له، وإذا تراجعت المعارضة والفصائل لأسبابٍ كثيرة، منها ارتهانها لسياسات الدول المتدخّلة في شؤونها، ووفقاً لسياساتٍ وضعتها كل من روسيا وأميركا في سورية، فإن الكتلة الشعبية التي يفرض سيطرته عليها، لا سيما في بلدات الساحل، أصبحت في أمسّ الحاجة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي، والآن بدأ صوتها السياسي بالعلو.

أصبحت أزمة النظام شاملة، ولكن لم يعد في حوزته إلّا رفع الدعم، وفرض الضرائب، وإتاوات الحواجز. وتؤكّد تقارير أن شخصيات كثيرة منه تسهّل صناعة الكبتاغون والاستثمار فيه، وكانت لهذا الأمر ردود فعل دولية سيئة. وأخيراً، بدأت الإجراءات العملية لمواجهة هذه التجارة، وعبر إشرافٍ أميركي وتنسيقٍ مع الدول المجاورة لسورية.

فشل النظام، أيضاً، في الحصول على أموالٍ ضخمة من السعودية أو الإمارات، إذ تستهلك حاجات الحرب والاستمرار في القمع أغلبية الأموال المحصّلة من الضرائب وسواها. وبالتالي، هناك شبه عزلة دولية، حتى من حلفائه. ولهذا، كان على الأسد أن يتقدّم بمبادرةٍ للتنحّي، ووضع مهلٍ محدّدة، بما يسهّل خروج عائلته وشخصيات النظام الأساسية من السلطة، والبدء بمرحلة انتقالية، ووفقاً للقرارات الأممية، لا سيما 2254 الذي يعطي النظام دوراً في تلك المرحلة.

العربي الجديد

—————————

حركة 10 آب صرخة سوريين في وادي الموت/ محمد برو

من الطبيعي أن تتباين المواقف وردود الأفعال تجاه البيانين الصادرين عن حركة 10 آب “في 5 آب وفي 9 آب” بسبب حالة الإحباط والإغلاق التي خيمت على المشهد السوري في السنوات الأخيرة، والتي كان السوريون خلالها خارج دائرة الفعل والاهتمام الدولي والإقليمي، وزاد الطين بلة ذلك السعي العربي لمحاولة التطبيع مع النظام السوري المتعنت، الذي لم يقابل ذلك إلا بمزيد من الازدراء والاستهتار.

هل كان مبعث هذا الموقف من النظام السوري إحساسه بالقوة، أو بالهشاشة الدولية والإقليمية التي تعجز عن فرض إملاءاتها عليه، أم لعجزه البنيوي عن التقدم ولو بنصف خطوة في الاتجاه الإصلاحي، “وهذا ما هو مرجح”، فأي قبول من النظام الدموي الذي يحكم بالرعب وبالبراميل المتفجرة، وإن لخطوة إصلاحية صغيرة، أو لتنازل أو استجابة لصوت الشارع السوري، ستكون بداية السقوط المتسارع الذي ينتظره السوريون، حتى الصامتون الذين أرهقتهم ممارسات النظام التشبيحية خلال 12 سنة، وأصبحوا اليوم أسرى الجوع والفقر والحياة البائسة، إضافة للاستعباد القروسطي الذي تمارسه أجهزة الأمن.

حتى لو أراد النظام التقدم بخطوات رمزية نظرياً، ستكون أمامه جملة من العقبات التي لا يستطيع تجاوزها، في طليعتها الوجود الإيراني وتغلغله في أركان النظام، الأمر الذي لن يدع له فرصة لاتخاذ قرارات تتعارض مع مصالح الإيرانيين، كذلك الوجود الروسي المهيمن، علاوة على فقده القدرة الاقتصادية لإدارة البلاد وتلبية احتياجاتها الأساسية، الأمر الذي من شأنه أن يكون بادرة حسن نوايا لإعادة الاستقرار لبلد فقد استقراره وأمنه وشرطه الإنساني في الحياة.

حوى البيانان جملة من المطالب التعجيزية، التي لا يمكن للنظام السوري بحال من الأحوال تلبية أي منها، ولو بالحدود الدنيا.

    إعادة الكهرباء بمعدل ٢٠ ساعة يومياً إلى كافة الأراضي السورية. هذا لن يكون إلا بعد اتفاق دولي على إعادة الأعمار، وهذا محال بوجود النظام السوري الذي لا يضمن للشركات الوافدة أية حقوق.

    إعلان خطة لمحاربة مصانع الكبتاغون وإغلاقها في كافة الأراضي السورية (هذا مطلب مثير للسخرية، من يمكنه أن يتخيل لمجرد التخيل أن يفكر النظام في إلغاء ركن أساسي من أركان إمداده، وأن يعترف بضلوعه علنا بهكذا جريمة).

    إخراج كافة المعتقلين السياسيين (إن فعل هذا ولو مجازاً فسيكون أمام كارثة إنسانية تتكشف عن فقد مئات الآلاف من المختفين قسرياً، والاعتراف بقتلهم).

من المهم أن نلاحظ أن البيانين تضمنا مجموعة من المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طالبت بها الحركة، حيث إن البيانين جاءا في وقت بات فيه النظام السوري يعاني من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة، مما جعله أكثر عرضة للمطالبة بالتغيير.

إن البيانين كانا واضحين في مطالبهما ومحددين في الأهداف وبمطالبة صريحة بجدول زمني للقضايا التي أعلنت الحركة أنها تسعى إلى تحقيقها.

إن البيانين كانا يمثلان أصواتًا حقيقية للشعب في الداخل السوري أولاً، والذي كان يعاني من القمع والظلم من قبل النظام لسنوات طويلة.

أسئلة جوهرية عدة بانتظار الإيضاح، من هم ممثلو هذه الحركة وهل لهم وجود حقيقي على الأرض؟ وهل يفترض أن يستجيب السوريون لجهة سرية لم يعرفوا عنها سوى هذين البيانين؟ وهل سيكون للبيانين أو لحركة 10 آب تأثير ملحوظ على مستقبل الثورة السورية؟ وهل سيسهمان في تحفيز الشعب السوري على الاستمرار في الاحتجاجات والمطالبة بالتغيير. وهل سيكون لهما أي صدى لدى المجتمع الدولي، أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة في مقبل الأيام.

هناك فريق من المتشككين، وربما يكون تشككهم مفهوماً أو مبرراً في ضوء ما شهدناه في السنوات العشر السابقة، ربما يجد هذا الفريق في حركة “10 آب” لعبة من ألعاب النظام “لا أفترض صحة هذا الاحتمال” يهدف من خلالها لامتصاص غضب جماهيره وحاضنته الشعبية، التي لم تعد تطيق صبراً على هذه الأوضاع المتردية، التي لم تعد تحتمل، فالدولار جاوز أربعة عشر ألف ليرة سورية، وأصبح دخل الموظف السوري الشهري لا يتجاوز 15 دولار في أحسن أحواله، ولا يكفيه للعيش إلا لبضعة أيام، مع هذا لو سلمنا بصحة هذا الافتراض فإننا سنلاحظ أن النظام وصل إلى قعر هاويته، لدرجة اللجوء لتشكيل حركة لها سقف من المطالب التي يعجز عن تحقيقها، كما أنه إن أطلق هكذا مبادرات فإنه بالتأكيد عاجز عن احتواء تداعياتها، سيما أن هذا النوع من المبادرات إن لم يقم النظام بقمعها بشكل ساحق، فستفتح الباب لعشرات المبادرات التي تحتدم في صدور أصحابها كاحتدام النار في جوف البركان.

لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن ينتج عن هذه الحركة وإن كانت الآمال شديدة التواضع، خاصة أن النظام السوري ومنذ الشرارة الأولى كان واضحاً ومحدداً، بأنه يخوض معركة وجود، وأن لا سبيل لديه لأي خطوة إصلاحية، يمكن أن تفسر على أنها استجابة لضغوط شعبه، وهو اليوم أشد عجزاً عن أي خطوة إيجابية، كما يمكن التأكيد أن حالة التردي الخانقة واللاإنسانية التي يعيشها المجتمع السوري، خاصة في المناطق التي ترزح تحت سيطرة النظام، أخرجت البعض عن صمتهم وإن كان الخروج عن الصمت في هذه الآونة، شكلاً من أشكال الانتحار، في مواجهة نظام لم ولن يتوقف عن قتل المزيد من السوريين، للبقاء ممسكاً بزمام السلطة.

يبقى أي تحرك لسوريين داخل البلاد أو خارجها، نذير شؤم لنظام يتغطرس وكأنه أحكم قبضة الموت على ضحيته، وبارقة أمل أن السوريين بالرغم من التواطؤ الدولي والإقليمي لقتل روحهم ودفن أحلامهم بالتحرر، فإن أصواتهم لا تني ترتفع مرة تلو أخرى، إن التصالح مع هذا النظام غير قابل للتحقق، وإن إعادة الأمن والاستقرار وإعادة الإعمار لسوريا وللمنطقة برمتها مرهون بتغيير هذا النظام ومحاسبته عن جرائمه المحلية والدولية.

تلفزيون سوريا

——————————

هل يبرز تيّار معارض في بيئة النظام السوري؟/ غازي دحمان

تلفت الانتباه الأصوات التي تنتقد الأوضاع الصعبة وغير المحتملة التي تشهدها مناطق سيطرة نظام الأسد. ولافتٌ أن بعض الأصوات بدا متجاوزا للسقوف المسموح بها، والتي لم تتجاوز في مرحلة سابقة الحكومة أو أحد أعضائها، وتتحدّث عن الفساد بشكل عام، وكانت في الغالب تناشد رأس النظام، باعتباره الجهة التي بإمكانها فصل المنازعات بين السلطة والشعب، وليس باعتباره رأسا للنظام الذي صنع السياسات التي أوصلت البلاد إلى هذا المستوى من الخراب.

لكن، ثمّة مستجد وطارئ في هذه الانتقادات يتمثل في ثلاث نقاط، الأولى: أن النقد بدأ يطاول مستوى القيادات، والذي يعني ضمنا رأس النظام مباشرة وزوجته أسماء التي بدأت بصناعة إمبراطورية اقتصادية تقودها، وتشرف على توجيهها تحت مسمى اللجنة الاقتصادية، في القصر الجمهوري، وكذلك شقيقه ماهر الأسد باعتباره شريكا في الغُنم والخراب الحاصل، والذي يتولى جمع الإتاوات عبر فرقته الرابعة، ولا تميز بين مُنتج (فلاح أو صناعي أو تاجر) موال أم من خارج البيئة الموالية.

والثانية، تحرّض هذه الانتقادات الناس العاديين، وربما بشكل أكثر دقّة، بيئة النظام، على عدم السكوت والاعتراض، انطلاقا من أن هؤلاء قدّموا ما هو أكبر من طاقتهم “أبناؤهم الذين ماتوا في الحرب” لصناعة المشهد السوري الحالي المتمثل في بقاء الأسد في السلطة، والمُراد من ذلك إيصال رسالة إلى الأسد بأن هؤلاء لا بد أن يحصلوا على مزايا، إن لم يكن بوصفهم شركاء فبوصفهم قدّموا خدمات حاسمة في بقاء الأسد في السلطة.

والثالثة: انطواء هذه الانتقادات على إنذار صريح بأن الباب مفتوح لاحتمال تصعيد، عبر وسائل التواصل على الأقل، فيما لو لم تتم الاستجابة الفورية للمطالب التي يرفعها هؤلاء، والمتمثلة غالبا في تحسين الأوضاع المعيشية، عبر رفع الرواتب وتخفيض الأسعار وتأمين الكهرباء والغاز المنزلي والوقود.

بيد أنه، في المقابل، يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات بشأن ما يمكن أن تُطلق عليه مجازا تسمية حراك في بيئة الموالاة، تثير الشكوك بشأن مطلقيها والسياق الذي تجري فيه. الأولى: ينتمي أصحاب الأصوات التي بدأت تظهر في الأغلب لمنطقة جبلة، وهذه مركز ثقل الضباط الأمنيين والعسكريين في النظام، ومركز لما تسمّى القوات الرديفة (الشبّيحة)، حيث تأسّست في مرحلة قمع النظام السوري الثورة تشكيلاتٌ كثيرة ذات طابع مليشياوي. وبعد التدخّل الروسي وانتفاء الحاجة إليها جرى تفكيكها وتحويل عناصرها إلى متقاعدين بالإجبار، كذلك تم تسريح ضباطٍ كثيرين في الجيش والأجهزة الأمنية أو إحالتهم إلى التقاعد، وهؤلاء وإن حصلوا في مراحل معينة على غنائم الحرب، من التعفيش أو السرقة والإتاوات، إلا أن تراجع سعر الليرة والغلاء الحاصل أتى على مدّخراتهم من الحرب.

الثانية: تكرّر هذه الأصوات رفض الخروج إلى الشارع، بل تخوّن كل من يفكّر بالاعتراض بهذه الطريقة، ومعلوم أنه لا يمكن تحقيق أي مطلبٍ بدون استخدام أدوات الضغط عبر المظاهرات والاعتصامات، إذا لم يكن المُراد تحشيد الناس للشارع فما هو الهدف؟ هل يمكن الاكتفاء بإبداء التذمّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أم هل المطلوب هو الاصطفاف خلف أسماء فيسبوكية محدّدة عبر اللايكات والمشاركات؟ ثم كيف يمكن رفع مستوى التصعيد إن بقي ضمن هذا النطاق، هل عبر رفع نبرة الخطاب النقدي، أم الانتقال إلى عرض وثائق تدين السلطة وتثبت فسادها، بدءا من رأس النظام؟

الثالثة: افتقار هذه الانتقادات لرؤية واضحة تؤطّرها، فهي ليست نقدا لسياسات النظام في إدارة شؤون سورية، وبالتالي ليس لديها تعريف واضح للأزمة، باستثناء نقص ساعات الحصول على الكهرباء وغلاء الأسعار مثلا، فهل رفع عدد ساعات التغذية الكهربائية وتخفيض محدّد للأسعار من شأنه إنهاء أزمة المنتقدين مع السلطة؟ وبخصوص الفساد، هل إذا أزيح بضعة فاسدين تتم الإشارة إليهم، من دون القضاء على نهج الفساد بوصفه أحد أدوات نظام الأسد في الحكم، يحلّ المسألة وينهي القضية من أساسها؟

تدلّ مؤشّرات عديدة على أن خلف المنتقدين مراكز قوى داخل بيئة النظام تدفعهم إلى هذا، وتعمل على حمايتهم من بطش النظام، وهذه المراكز متضرّرة بشكل مباشر من احتكار ماهر وأسماء، وبالتبعية بثينة شعبان ولونا الشبل، الموارد وإخراجهم من اللعبة بدون أدنى مكاسب، وبالتالي، يضغطون على الأسد لإعادة صياغة المعادلة بحيث يكونون لاعبا محسوبا حسابه بداخلها. وهؤلاء، أو من يمكن تسميتهم “التيار الجديد” داخل السلطة، سيطوّرون في المرحلة المقبلة أساليب ضغطهم، التي ربما تشمل اغتيالات لبعض من يعتبرونهم رموزا للفساد أو الأدوات التي يستخدمها ماهر وأسماء واجهات لتسيير أعمالهم، وقد يرتكبون أعمالا أمنية لإثبات أن البلاد ستدخل مرحلة فوضى كبيرة إذا لم يجر تصحيح المعادلة الداخلية لصالحهم.

يُخطئ من يعتقد أن بشار الأسد لن يكون قلقا ومتوتّرا في هذه المرحلة، في ظل عدم قدرته على منح هؤلاء أي شيءٍ يسكتهم، ورفضه التنازل عن أي شيءٍ من احتكاراته السورية، فهؤلاء هم حرّاسه وحاضنته والأكثر قدرة على الوصول إلى رأسه، ما يعني أن اللعبة دخلت مرحلة الخطر بالفعل.

العربي الجديد

——————————

تعالوا نفكر بين 15 آذار و10 آب/ عمر قدور

كارثة معيشية فظيعة كالتي يكابدها السوريون لا بدّ أن تكون مصدراً لصرخات التوجّع، وربما لا تفي كلمة كارثة المجاعةَ حقها من الوصف في حين يتهاوى الواقع المعيشي من قعر إلى قعر أعمق بلا أدنى أمل. استكمالاً لهذا الوضع الخانق، أتت تصريحات بشار الأسد ومسؤوليه متدرجةً من التحلل التام من الواجبات وصولاً إلى القول أن أحداً لم يطلب من الجوعى البقاء في البلد!

المسألة لم تعد في تجويع هؤلاء، بل أيضاً في أن أحداً في السلطة لم يكلّف خاطره أن يواسيهم نفاقاً وكذباً. ما حدث، ويحدث بصفاقة تامة، هو بين اللامبالاة إزاءهم وبين إهانة كراماتهم صراحةً. ليقفز إلى الأذهان السؤال الذي يبدو منطقياً جداً: إن لم يكن الآن، متى يثور أولئك الذين يكابد أطفالهم الجوع أمام أعينهم؟! وغير بعيد عنه السؤال: ما الذي يجعل بشار مطمئناً إلى أنهم لن يثوروا؟

لمعاندة ما يبدو منطقاً حتمياً لا تكفي الإشارة إلى العديد من تجارب البؤس في مختلف أنحاء العالم، والتي لم تشعل ثورات بهذا المعنى المباشر، بل يجدر التفكير انطلاقاً من الخصوصية المحلية، وأيضاً من دون التورط في أحكام قطعية بناء على هذه الخصوصية.

لدينا في الماضي القريب درس يتم تجاهل واحد من أهم أبعاده، هو درس المواجهة بين الأسد الأب والإخوان في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات. نخصّ من المواجهة مجزرة حماة، حيث تشير الأرقام إلى قتل ما بين 30 و40 ألفاً من أهالي المدينة، بعد تطويقها وحصارها بإحكام منعاً لهروبهم. كانت ميليشيات الأسد قد روّعت أهالي مدينة حلب قبل حماة، وداهمت وفتّشت بيوت المدينة بيتاً بيتاً بذريعة البحث عن مطلوبين أو منشورات مما كان يوزّعه الإخوان، فضلاً عن مجازر صغيرة متفرقة مثل مجزرة حي المشارقة. لم يكن على الإطلاق حجم العنف أو الوحشية المستخدمين متناسباً مع التهديد الذي يشكّله الإخوان على السلطة، حتى مع وجود شيء من التعاطف الشعبي معهم.

من المستحسن مغادرة التحليل الذي يقتصر على أن السلطة بالغت وتبالغ في استخدام العنف على سبيل الترهيب، أو لعجزٍ مخابراتي يمنعها من ممارسة عنف انتقائي أذكى. ما نراه ونؤكد عليه هو أن الإفراط في استخدام العنف يعني تلقائياً توريط المزيد من الموالين فيه، وجعلهم شركاء فعليين “لا مجازيين” في الدم. إن ما يظهر من ركاكة السلطة وفجاجتها ينبغي ألا يدفع إلى الظن أنها غير واعية سلفاً لما نعتقد أنه من أهم استثماراتها، حتى إذا أظهرت الكثير من “الغباء” في ميادين لا تمسّ مباشرةً وجودَها.

لقد رأينا بعد مجزرة حماة بثلاثة عقود كيف أفرط بشار “على خطا أبيه” في استخدام العنف ضد المظاهرات منذ اللحظة الأولى، وراح منسوب العنف يتصاعد كلما أصرّ المتظاهرون على سلمية حراكهم، والحديث عن شهور طوال من العنف والوحشية حين لم تكن فكرة “عسكرة الثورة” مطروحة إطلاقاً. ومن المستحسن هنا التفكير فيما يتجاوز تلك المقولة عن دهاء السلطة التي استدرجت الثورة إلى العنف، بوصفه ملعبها المفضَّل. إذ بغضّ النظر عن الموقف من العسكرة برمّتها، أو الموقف مما آلت إليه، سيكون من السذاجة الظنّ أن العنف والتنكيل بالمعارضين كان سيتوقف عند حدّ معين، أو حتى عند انتهاء الحراك، بما أن الأصل في عقيدة السلطة هو توريط المزيد من مواليها في العنف، ثم بالمزيد منه، كطريقة مجرَّبة ومضمونة، لاكتساب الولاء. هي أمثولة حماة ذاتها؛ أن ترتكب مجزرة، وأن تكسب ولاءً أشدّ من قبل؛ من المتورطين في القتل وحتى من الأبرياء الخائفين “بسبب المجزرة” من ثأر أعمى. الإكثار من المتورطين هو بمثابة احتياطي استباقي.

للتفكير في ظواهر اعتراضية لشبيحة أو منحبكية، أو لمن كانوا صامتين وأقرب إلى الموالاة حتى زمن قريب، سيكون من الأفضل الإحاطة قدر الإمكان بالواقع الحالي، وعدم تحميله رغبات أو أوهام إما أنه لا يحتملها، أو لأنها أصلاً خارج حسبان الكتلة المؤثرة فيه. وأول ما يجدر التفكير فيه ذلك العدد الضخم من الشبيحة والمخابرات والجيش الذين شاركوا في إبادة سوريين آخرين، وهؤلاء تلقائياً لن يكونوا مع أي تغيير يهددهم بالمحاسبة، حتى إذا استُثني من المحاسبة المجنّدون إلزامياً الذين لم يكن القتال خياراً طوعياً لهم. ولا يُستبعد أن تكون المجاعة الحالية قد أصابت حتى بعض الشبيحة أو المنحبكجية؛ ربما أصابت طياراً كان يتلذذ ويتباهى بإلقاء البراميل على المدنيين، ربما يكون واحداً من الذين تطوعوا للدعس على معتقلي بانياس والبيضا أو للبصاق “وما هو أسوأ” على معتقلين في جبلة؛ هؤلاء ليسوا قلة، وحتى إذا كانوا ناقمين وخائبي الرجاء فإن ماضيهم كفيل بلجمهم عن ما يتعدى التذمر الخفيف.

إن قراءة سطرين من كتاب الأسد تكفي للجزم بأنه لن يكتفي بذلك العدد الضخم من المتورطين السابقين، ومع أول تحرك جدي علني سلمي سيحاول تجنيد وتوريط قتلة جدد من أجل تمتين الجبهة “العريضة أصلاً” المعادية للتغيير. والفرق الذي لا ينبغي إهماله بين الأمس واليوم أن المرشّحين نظرياً للاحتجاج تربط نسبة كبيرة منهم صلات قربى بالشبيحة وعناصر المخابرات، وقد لا يندر ضمن هذه الشريحة وجود الذين استقووا يوماً “ربما لتحصيل حق مشروع” بتلك الصلات. ثمة قول سخر منه المعارضون فيما مضى مفاده أن العسكري في قوات الأسد ليس عدواً؛ “هو خيّك وابن عمك”. هذا القول يصحّ اليوم حسابياً أكثر بكثير من عام 2012.

يستبق المعترضون في مناطق سيطرة الأسد عنفَ الأخير بالتأكيد على سلمية تحركهم، وقد أتى آخر التحركات وراء اسم “حركة 10 آب” التي وضعت قبل عشرة أيام في بيانها الأول هذا التاريخ موعداً ليخرج بشار الأسد أو رئيس وزرائه، ويحدد التزاماً زمنياً “بصرف النظر عن مدته” لتحسين مستوى المعيشة ومحاربة المخدرات والإفراج عن المعتقلين ووقف بيع أملاك الدولة للأجنبي. في العاشر من آب نشرت الحركة بيانها الثاني، تدشّن به نشاطها بعد تجاهل الأسد بيانها الأول، ونشرت على صفحتها في فايسبوك تسجيلات لتوزيع قصاصات ورقية عليها شعارات، في جبلة والسويداء واللاذقية وحلب ومصياف وريف دمشق. مع إعادة تأكيد البيان الثاني على سلمية الحركة، حملت القصاصات الموزّعة شعارات يغلب عليها نبذ الطائفية مثل: “الشباب السوري بكل طوائفه يقول كفى للذل”، أو “الشعب السوري بكل طوائفه يقول كفى للذل”.

بين السطور هناك رغبة في تميز الحركة عن ثورة 2011، رغبة مشروعة في العديد من الجوانب، لكن التشابه يطل نظرياً على الأقل من جانبين، فثورة 2011 بدأت واستمرت لشهور مع الإصرار على سلميتها وعلى شعار “الشعب السوري واحد. بهذا المعنى، لا جديد سوى تحاشي الحركة أية إشارة يُفهم منها المناداة بإسقاط النظام، وهذه ملاحظة تصِف الواقع لا غير، مع التذكير بأن شعار إسقاط النظام لم يرفعه المتظاهرون في 2011 إلا عندما أوغل شبيحة الأسد في دمائهم. وفي أوجه التشابه، من الخطأ الظن أن تحركاً “علَوياً” في الساحل سيردع الأسد عن استخدام ورقة “الإرهاب السني”، فالتلويح بهذا الخطر أثبت جدواه الداخلية الطائفية قبل الحديث عن جدوى خارجية له، وهذا قابل للاستعادة بسهولة مع وجود حقيقي أقوى للتطرف السني، وجاهزية ما هو مخترق منه أو مقيم في ضيافة الحليف الإيراني لتأدية الوظيفة.

بين تاريخي 15 آذار و10 آب، على ما بينهما من اختلاف ليس بالقليل، سيكون من المؤسف عدم مراكمة معرفة أعمق بطبيعة سلطة الأسد، والتوقف عند مقولات أو شعارات يتم تداولها كأنها من البديهيات لكثرة تكرارها لا غير. يعلّمنا آذار 2011 أن الانفجار قد يحدث في أي وقت ومن حيث لا نحتسب، ومن السيء ملاقاته مع الافتقار إلى جديدٍ قد استوعب الدرس القديم بمختلف جوانبه.

المدن

———————————

بين سلطة الأسد وحركة 10 آب/ أحمد البرهو

أثار لقاء بشار الأسد على إحدى القنوات العربية يوم 9 من الشهر الجاري ردود فعل عديدة تناولت اللقاء من زوايا مختلفة، إلا أن اللافت كان ردود فعل السوريين تجاه “مقولات” الأسد عن “وعي المخطط” وتنبّؤ السوريين بخطوات قادمة ستمارسها “السلطة” بعد أن أطلق المعلّم الأوّل والقائد المُلهم مقولاته!

تزامن اللقاء مع حراك مدني تشهده مناطق سيطرة الأسد حيث أعلن مجموعة من الشباب والشابات في 5 من الشهر الجاري عن حركة احتجاج مدني أطلقت على نفسها “حركة 10 آب” – ونشرت بيانا عبر فيسبوك يعبّر عن تخوفهم على “مستقبل سوريا”، وطالبوا بما سموه “مطلباً بسيطاً جداً؛ أن تقوم السلطة السورية على لسان رئيس جمهوريتها أو رئيس مجلس وزرائه بإصدار بيان يحدد فيه تسلسلا زمنيا لـ: رفع الرواتب إلى 100 دولار، وإعادة الكهرباء بمعدل 20 ساعة، وإصدار جوازات سفر، ودعم الخبز والمازوت والبنزين، وإخراج المعتقلين -النساء والأطفال أولا- ، إعلان قانون يوقف بيع أملاك الدولة للقطاع الخاص الأجنبي، تحديد مدة الخدمة الإلزامية والاحتياط في الجيش”.

يوم 10 آب – بعد لقاء بشّار الأسد بيوم- أطلقت الحركة بيانها الثاني لتؤكّد أنّ: “السلطة قد أهملت كلّ المطالب؛ برفع الدعم وزيادة سعر الرغيف” وحمّلت الحركة بشّار الأسد المسؤوليّة.

قبل الخوض في “وعي” بشار الأسد -بوصفه مسؤولا- لمهمة الدولة ومسؤوليّة الحكومة كما أكّده في اللقاء الأخير لعلنا نمر سريعا على مسألة نظريّة في الفكر المدني؛ إذ قسّم بعض علماء الاجتماع الحديث الوجود للفرد الإنساني الحر إلى ثلاثة مستويات حيث يشتمل كل مستوى على احتياجات – حقوق- مصالح للفرد سلطة شرعيّة لتحقيقها والدفاع عنها؛ في حين أنّ حقوق- مصالح الدولة المدنيّة ما هي إلّا مجمل حقوق أفرادها:

– طبيعي: يتعلق بالطبيعة الفيزيولوجية للإنسان من حق بالطعام والشراب والحاجة الطبيعيّة كالإنجاب وللإنسان سلطة وحق طبيعي.

– مدني: حيث يعي الإنسان كيف يلبي احتياجاته الطبيعية دون الاعتداء على احتياجات – حقوق الآخرين.

– سياسي: وهنا مفترق الطرق بين السلطة المدنيّة وغير المدنيّة؛ إذ يدافع الأفراد في المجتمع المدني عن مصالحهم بانتخاب ممثلين ينوبون مؤقّتا عن سلطة الأفراد في الدفاع عن مصالح الأفراد.

 بالمقابل؛ قد تستولي مجموعة ما -بطريقة غير ديمقراطيّة- على السلطة، فتسعى تلك العصابة إلى التمسّك بذرائع -غير تفويض المواطنين- لتبرير مشروعيّة تسلّطها على النّاس والوصاية على مصالحهم؛ فترفع العصابة شعارات قضايا كبرى: كتحرير الأرض المقدسة أو إنجاز قضية مصيريّة ونحو ذلك، إلّا أنّ إحدى أهم ذرائعها السلطويّة تكمن في نفي أهليّة الشعب لإدارة مصالحه لتنال تلك العصابة تفويضاً من خارج الدولة على إدارة مصالح شعب قاصر وعلى رأس تلك الذرائع انتشار الإرهاب!

مثل هذه العصابة لا تمارس السياسة باعتبارها مسؤولة عن تأمين الحقوق إنما حسبها أن تستولي على السلطة ومؤسّسات الدولة؛ ثم تعيد إنتاج مبرّرات بقائها!

في أثناء لقائه الأخير لم يختلف خطاب السلطة الأسديّة عنه طوال السنوات الـ 12 السابقة؛ حيث لا اعتراف بإرادة السوريين، وما “الحرب والدمار” الذي ألم بسوريا والسّوريين إلا حرب السلطة على “الإرهاب والمؤامرة”، وفي معرض رده على سؤال عمّا لو كان بالإمكان عدم حدوث تلك الحرب يقول بشّار: (كان ذلك ممكنا لو أننا كنّا خضعنا لكل المطالب التي كانت تُطلب أو تُفرض على سوريا بقضايا مختلفة، في مقدمتها التخلي عن الحقوق والمصالح السورية -لكننا – كنّا سندفع ثمناً أكبر بكثير لاحقاً)!

وليس المتطرّفون وحدهم -الذين استولوا لاحقا على حراك السوريين لأجل حريّتهم عام 2011- من لا يفرّقون بين الدولة وبين نظام الأسد؛ بشّار أيضا لا يفرّق حين يقول: (إذا افترضنا أن الدولة هي من كانت تقوم بالقتل والتهجير فهي تتحمل المسؤولية، ولكن هناك إرهاب وكانت الدولة تقاتل الإرهاب، والإرهاب هو الذي كان يقتل ويدمر ويحرق. لا توجد دولة حتى ولو كانت تُسمى دولة بين معترضتين سيئة، تقوم بتدمير الوطن، هي غير موجودة بحسب معلوماتي) وكلامه دقيق جداً فلا وجود لمثل تلك الدولة لكن يوجد نظام يخلط بينه كعصابة تحتل مؤسّسات الدولة وبين الدولة؛ والشعب غائب تماماً في مقاربة “الدولة – الإرهاب”!

حسنا كان السوريون غائبين ثمّ قام الإرهاب بقتلهم وتهجيرهم فهل يمكن للمهجّرين العودة؛ بشّار يقول: (إنّ الشعب السوري لا يستطيع العودة لعدم توفر خدمات وبنى تحتيّة ومدارس)!

وعن دور الدولة في معالجة تجارة المخدّرات المتّهم بها نظام الأسد يعود للخلط بين مصلحة نظام العصابة وبين الدولة فيقول: (إذا كنا نحن من يسعى كدولة لتشجيع هذه التجارة في سوريا؛ فهذا يعني أننا نحن كدولة من شجعنا الإرهابيين ليأتوا إلى سوريا ويقوموا بالتدمير ويأتوا بالقتل.. إذا وضعنا الشعب بين الإرهاب من جانب والمخدرات من جانب فنحن نقوم بأيدينا بتدمير المجتمع والوطن.. أين هي مصلحتنا؟)!

الحقيقة كان بشّار قد كشف عن عبقريّة فذّة إذ قال أثناء المقابلة: (الدولة دورها بحكم الدستور والعرف الوطني أن تدافع عن الدولة)، إذ في ظل غياب أي صلة بين صوت المواطنين المعبّر عن مصالحهم وبين مؤسّسات الدولة التي يختطفها النظام يمكن فهم كلام بشّار على النحو التالي: دور مؤسّسات الدولة الدفاع عن سلطة النظام، وقد نجح الأمر فصمد النظام في حين أفشل النظام الدولة!

إذا كانت مسؤوليّة سلطة بشّار مقتصرة على وصف لماذا لا يمتلك من تبقى من السوريين في مناطق سيطرته، ولا المهجّرين الذين يمكن أن تعيدهم الدول مرغمين، أساسيّات الحياة، ولا يمكن لسلطته إيقاف تجار المخدّرات، ولا استرداد المناطق “المحتلّة” بحسب وصف السلطة؛ فماذا تبقى من “صمود الدولة” المزعوم!

الوصاية على مصالح السوريين خطاب طالما مارسته سلطة الأسد في حين أطلق بشار ومؤخّرا أطلق بشّار عنان سلطته لإعادة السيطرة على وعي السوريين لواقعهم المرير بذريعة “وعي المخطط”!

في حين أنّ ما يميّز “حركة 10 آب” أنّها -ومن جديد- وعي شباب مدني سوري لمصالحهم الطبيعيّة والمدنيّة وقلق على مستقبلهم، وتلك المصالح في مضمونها هي “الحريّة والكرامة” التي أرادها السوريّون في الأشهر الأولى -ربّما السنة ونصف- من احتجاجات 2011، أي قبل تمكن النظام من استدعاء الإرهاب لإنقاذه!

العجيب ظهور أصوات تشكّك بأنّ أجهزة أمن النظام يمكن أن تكون خلف حركة مدنيّة كحركة “10 آب” ولعلّنا لا نميل إلى مثل هذا التوجس لسببين:

الأوّل أنّ ظهور حركة مدنية ما متعلّق بالاحتياجات- الحقوق الطبيعيّة والمدنيّة المذكورة ضمن المقال؛ ومدى الضرر الذي أصاب تلك الحقوق على السوريين في مناطق انتشار الحركة واضح وجلي؛ لذلك فإنّ ظهور حراك مدني للدفاع عن تلك الحقوق مسألة منطقيّة في ظل انفصال السلطة السياسيّة عن النّاس.

ثانيا لا مصلحة لسلطة الوصاية الأسدية في إظهار حراك مدني سوري يستوجب الديمقراطية السياسيّة؛ إنما مصلحة تلك السلطة تتمثّل في ظهور متطرّفين أو اندلاع أعمال عنف تبرّر قبضة السلطة الأمنية وتكميم أصوات النّاس.

تلفزيون سوريا

———————————-

الأسد بين العنجهية الكلامية و«الواقعية» السياسية/ بكر صدقي

مفاجأتان، لا واحدة فقط، صدرتا عن بشار الأسد فيما لا يتسق مع ما تفوه به على شاشة سكاي نيوز عربية الأسبوع الماضي. فأرسل وزير خارجيته إلى القاهرة للمشاركة في اجتماع لجنة الاتصال العربية المنبثقة عن اجتماع عمان، بعدما أوحى كلامه في المقابلة التلفزيونية المشار إليها بأنه قد أغلق الباب تماماً على «المبادرة العربية» التي تقودها الرياض. لا نعرف ما دار في اجتماع القاهرة، لكن تصريحات وزير الخارجية المصري، وكذلك البيان الختامي الصادر عن الاجتماع، لا يعطيان أي انطباع بأن المبادرة العربية قد انتهت بفعل تعنت رأس النظام، بل قالت التقارير الصحافية إنه تم تسليم فيصل المقداد قائمة بما هو مطلوب من النظام في الفترة القادمة قبل الاجتماع الثاني للجنة.

تمثلت المفاجأة الثانية في زيادة رواتب موظفي الدولة بنسبة مئة في المئة، بعد أسبوعين من حراك اجتماعي غاضب بسبب الأوضاع المتردية في مناطق سيطرة النظام إلى درجة أنذرت بتفكك القاعدة الاجتماعية المؤيدة. صحيح أن هذه الزيادة لن تحل أي مشكلة بالنظر إلى احتياجات الحد الأدنى لمتطلبات الحياة تفوق الرواتب، حتى بعد مضاعفتها، بعشرين أو ثلاثين ضعفاً، حتى إذا لم نحسب رفع الدعم عن المواد الأساسية ولا الزيادة الجديدة على أسعار المحروقات، ولا الهبوط الجديد لليرة أمام العملات الأجنبية في أعقاب مقابلة الأسد، بما يعني أن الزيادة الجديدة قد تبخرت سلفاً. كل هذا صحيح، ولكن اتخاذ القرار بزيادة الرواتب، بعدما امتلأت صفحات الموالين على مواقع التواصل الاجتماعي بالتذمر، وبعدما ظهر حراك معارض جديد، ذو طابع سري إلى الآن، في مناطق سيطرته، يعتبر بحد ذاته مفاجئاً في سلوك النظام الذي يتباهى الناطقون باسمه بأنه «لا يقدم تنازلات تحت الضغط!».

تتيح لنا هذه المقارنة بين التشدد الكلامي للأسد و«انقطاع صلته بالواقع» كما شاع القول، وبين «الواقعية» في الانجرار الطوعي إلى «الفخ» العربي على ما وصف المبادرة العربية في المقابلة، من خلال مشاركة وزير خارجيته في اجتماع القاهرة، كما في «الاستجابة لمطالب الشارع» فيما خص الأوضاع المعيشية الكارثية من خلال زيادة الرواتب، قراءة مختلفة لهذا السلوك المزدوج يمكن وصفه بالابتزاز وجرجرة الأقدام في الانصياع إلى المبادرة العربية. بكلمات أخرى: أراد النظام من خلال الكلام المتشدد على «سكاي نيوز عربية» أن يحاول ابتزاز الجانب العربي للحصول على مكاسب مقابل ما يعتبرها تنازلات منه. وإلا ما معنى مشاركة المقداد في اجتماع القاهرة بعدما اعتبر الأسد العلاقات العربية ـ العربية «شكلية» ولا تعمل على طرح حلول للمشكلات؟

حتى فيما خص تشدد الأسد في رفض اللقاء بالرئيس التركي أردوغان «بالشروط التركية» أي بدون انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، رأينا أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد قال، تعقيباً على هذه التصريحات إن تركيا «تتوقع سلوكاً واقعياً» من النظام! وهذا ما يعني أن احتمال «شرب المرطبات» في لقاء أسد وأردوغان المحتمل في فترة قادمة ما زال قائماً ويتم العمل على إنضاجه بإشراف الوسيط الروسي.

ومن مخرجات اجتماع لجنة الاتصال العربية في القاهرة، الاتفاق على مواصلة اجتماعات اللجنة الدستورية في العاصمة العمانية مسقط، بخلاف ما أوحت به تصريحات الأسد بإغلاق الباب أمام أي حل سياسي. صحيح أن اجتماعات اللجنة الدستورية لن تقدم ولن تؤخر في التقدم نحو حل سياسي حقيقي، كما كانت الحال دائماً منذ تشكيلها من قبل الراعي الروسي قبل خمس سنوات، لكن توقف اجتماعاتها تماماً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ثم إعلان كازاخستان عن انتهاء استضافتها لاجتماعات مسار آستانا، بعد الاجتماع رقم عشرين، كانا نوعاً من تخفف النظام تماماً من «عبء الحل السياسي» حتى لو اقتصر الأمر على التسمية بلا أي مضمون. أما الآن فهو أمام مبادرة عربية لا تكتفي بالحديث عن الحل السياسي كطريق وحيد لحل «الأزمة السورية» بل تحيله إلى القرار رقم 2254 لمجلس الأمن الذي يرى فيه النظام «كأس السم» الذي يراد له تجرعه. هذا ما أكدت عليه المبادرة العربية، وما شعر وزير الخارجية الأردني بالحاجة لتكراره أمام وسائل الإعلام في زيارته الأخيرة إلى دمشق الشهر الماضي.

مما يرجح فرضية أن التشدد اللفظي لبشار الأسد هو وسيلة للابتزاز قوله في المقابلة إياها إن العقوبات المفروضة على نظامه في إطار قانون قيصر «ليست مشكلة» في رسالة موجهة إلى الراعي السعودي للمبادرة مفادها: يمكنكم تقديم مساعدات مالية مباشرة من غير الخوف من شمولكم بالعقوبات الأمريكية. «فقد تغلبنا على هذه العقبة» كما تابع القول في السياق ذاته.

إضافة إلى الضغوط العربية عليه، في إطار المبادرة العربية، ثمة ضغوط أكثر «حسية» تستهدف الوجود الإيراني في سوريا من خلال ما تتناقله تقارير صحافية عن استعدادات أمريكية لوصل مناطق شرق الفرات بقاعدة التنف في الجنوب لقطع الطريق أمام خط الإمداد الإيراني عبر العراق وصولاً إلى لبنان. وإذا صح ما قاله المرصد السوري لحقوق الإنسان بصدد نقل مقاتلين من فصائل «الجيش الوطني» التابع لتركيا إلى قاعدة التنف لمواجهة الوجود الإيراني، فهذا يعني تفاهمات تركية ـ أمريكية، بعد قمة فيلينوس للحلف الأطلسي، تنهي تعارض الأجندات بين واشنطن وأنقرة الذي طبع السنوات السابقة بطابعه، وتشكل مزيداً من الحصار العسكري للنظام بما يعزز الضغوط العربية لإرغامه في السير على طريق الحل السياسي.

كل ذلك لا يعني تفاؤلاً بانتهاء قريب للمأساة السورية. فالنظام يملك وسائل عديدة للتلاعب والمماطلة لا يتوقع معها أن تثمر تلك الضغوط نتائج مرضية للسوريين ولو بالحد الأدنى. فما يمكن أن يتحقق بصورة جزئية بنتيجة الضغوط هو موضوعا اللاجئين والكبتاغون، أما «الانتقال السياسي» وفقاً للقرار 2254 فهو ما زال بعيد المنال في الشروط القائمة اليوم.

كاتب سوري

القدس العربي

———————————

لا جديد لدى النظام السوري!/ موفق نيربية

في مقابلته مع قناة «سكاي نيوز» عربية، قال بشار الأسد في ردّه على سؤال حول الجديد في العلاقة مع الولايات المتحدة: «لا شيء، الحوارات عمرها سنوات بشكل متقطع ولم يكن لدينا أمل حتى للحظة واحدة بأن الأمريكي سوف يتغير لأن الأمريكي يطلب ويطلب، يأخذ ويأخذ ولا يعطي شيئاً هذه هي طبيعة العلاقة مع الأمريكيين منذ عام 1974، منذ خمسة عقود». أثار فضولي تحديد هذا التاريخ من قبل الأسد، وبالتفكّر والتذكّر والمراجعة توصلت إلى ما يلي، كاحتمال:

في 16 يونيو من العام المذكور، وصل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى دمشق في أول زيارة لرئيس أمريكي إلى سوريا. تم في بداية هذه الزيارة الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين سوريا والولايات المتحدة، التي قطعت عام 1967، وجاءت الزيارة نتيجة تحسن العلاقات السورية – الأمريكية عقب جهود وزير الخارجية هنري كيسنجر، التي أفضت إلى توقيع اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل.

كانت تلك الزيارة تتويجاً لعملٍ شاقٍ انتهى بفكرة عبقرية، أو شيطانية، تصنع سلاماً مؤقتاً يمكن أن يكون أبدياً، الأمر الذي جعل الإسرائيليين، ومهما حصل من خلافات، يتمسكون باستمرار النظام السوري، الشريك الموثوق في تلك الاتفاقية.

كتلك الزيارة التاريخية؛ التي استقال الرئيس نيكسون – بالمناسبة- بعدها بثلاثة وخمسين يوماً إثر فضيحة «ووترغيت» الشهيرة؛ يبدو أن مقابلة الأسد هذه مؤشّر على متحوّلٍ تاريخي، يقطع فيها عدة خيوط تربطه بعوامل سابقة، الأمر الذي يقطع أيضاً مساراً ابتدأ مؤخراً.

حالياً يقول الأسد إنه لم يتلقَّ أي عروض لإقامة علاقة مع إسرائيل، لإن إسرائيل ليست مستعدة لإعادة الأرض، ولا داعي لإضاعة الوقت. وفي ما يخصّ الضربات الجوية الإسرائيلية التي تكاد تكون يومية، قال إنها تستهدف الجيش السوري تحت عنوان الوجود الإيراني، وهذا سوف يستمر طالما أن «إسرائيل عدو، وتقف مع الإرهابيين». لم يقل، ولا يمكن أن يقول، إنه سيستمر حتى تكون سوريا دولة بمواصفات غير مواصفاتها الحالية، متماسكة قانونياً واجتماعياً وعسكرياً؛ أو حتى تتوقّف إيران عن التدخّل في البلاد واستيطانها. كان لافتاً أيضاً وسمه لحماس بـ»الغدر والنفاق»، واستبعاده أي علاقة إيجابية معها. أكّد بحديثه أنه لم ينس يوم رفع خالد مشعل علم الثورة السورية في احتفال في غزة عام 2012، ووصف ذلك العلم بأنه علم الاحتلال الفرنسي، مصرّاً على إنكار حقيقة كونه علم الاستقلال، الذي استمرّ حتى انقلاب آذار/مارس البعثي عام 1963، الذي مهّد لحكم عائلته منذ عام 1970. كان التأثير الإيراني أيضاً واضحاً، ذلك الذي أخذ يحابي» الجهاد الإسلامي» على حساب حماس بالنسبة والتناسب التدريجي منذ زمن. لكن أهمّ الملاحظات، التي يبدو أن الموقف منها هو ما دفع إلى الاتفاق على المقابلة، هو الموقف من العرب والعلاقة معهم، ومن الجامعة العربية بعد العودة إليها مؤخراً، حين قال فيها إنها كانت وما زالت» شكلية» منذ تشكّل لديه «الوعي السياسي» قبل أربعة عقود، أي حين كان عمره سبعة عشر عاماً، وأن ذلك لم يتغيّر، فستبقى تلك العلاقات شكلية، والعودة إلى الجامعة العربية شكليّة. لعلّ ذلك يعكس خيبة الأمل كحصيلة حالية لذلك المسار: مسار التطبيع العربي مع النظام، لكنه في الغالب يعكس رفضاً تقليدياً من قبل النظام لأي خطوة باتجاه الحل السياسي للقضية السورية ومفرزاتها من جهة النظام، برذاذها السام.. لم يتطرّق إلى أسباب ذلك الانقطاع أو خفوت الصوت أو الامتناع، أكان بسبب تغيّر الموقف العربي كما هو الأمر غالباً، أم التغيّر في موقفه نفسه بعد حسابات على الضفة الإيرانية مثلاً، أم عجز خَلقي لطالما رأيناه في تاريخ النظام، أصبح وَرَماً بعد سنوات من انتفاضة 2011. ما يلفت هنا هو علاقة المنصة التي جرت المقابلة عليها، ومصلحة البلد الذي يقف وراءها. ربما تفيد قليلاً مراجعة «الفيلم» منذ الزيارات إلى دمشق والتحضير للقمة، وغياب أبرز دعاة التطبيع عن تلك القمة!

لعلّ ما يهمّ السوريين أكثر من هذا بقليل، تكرار الاعتراف بالمسؤولية عن كلّ ما حدث بشكلٍ غير مباشر. إنه يجمع العوامل الفاعلة في قوله مثلاً «هذه الصورة كنا واعين لها في سوريا بشكل عام، ليس أنا فقط، وإنما كدولة وكمواطنين». هناك مثلث إذن من تلك العناصر الثلاثة: «هو» والدولة والناس، ولا توجد حكومة ولا مؤسّسات ولا شيء. في عدّة أماكن أيضاً يكرّر استخدام مفهوم ومصطلح الدولة في مكان «الحكم» و»الحكومة» و»النظام»، ويُجري عملية إحلال متبادل بينه وبين الدولة.. تحضر عفوا الخاطر جملة لويس الرابع عشر» أنا الدولة والدولة أنا».. وبفشل الدولة واضمحلال عناصرها، لا يبقى إلا هو والناس، كالملك في مسرحية فيروز الشهيرة، يستطيع طرد الشعب حين يسأم مطالباته.

يتعلّق حلّ المسألة السورية بطرفين وما بينهما، النظام والمعارضة، لكن الأسد لا يرى المعارضة بوضوح، أو يراها بحيث ينفي وجودها في النتيجة. حين يسأله المذيع – الحصيف- عن المعارضة التي يعترف بوجودها يقول إنها «بالمختصر، هي المعارضة المصنّعة محلياً لا المصنعة خارجياً». ويستدرك حين يتدخّل المذيع ليقول (وربّما تذكّر علاقته بإيران وروسيا عندئذٍ): «كلمة خارج لا تعني السوء، قد يكون معارضاً داخلياً ومرتبطاً بالخارج، وقد يكون معارضاً بالخارج ولكنه مرتبط بالوطن، فالقضية لا علاقة لها بالخارج والداخل».. ولا يمكن من ثَمّ استخلاص إلّا نتيجة صفرية لتلك المعارضة المفترضة.

لم يتعرّض الأسد في هذه المقابلة للوضع الاقتصادي/الاجتماعي/المعيشي الكارثيّ للسوريين، الذين يعبّر عنه التضخّم الهائل انحدار سعر الليرة السورية وارتفاع الدولار- والأسعار- إلى ما يعادل 280 مرة منذ مارس 2011، إذا تغاضينا عن القفزة الإضافية باتجاه الهاوية التي حدثت إثر المقابلة موضوع هذه المقالة.

لكنه كان شجاعاً في مسألة عودة اللاجئين، التي لم يرَ عائقاً لها في خوفهم من الانتقام، وكلّ المخاطر الأمنية عائقاً دونها، واعتبر ذلك العائق «لوجستياً»، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا مدارس للأبناء ولا صحة للعلاج. غياب «أساسيات الحياة، هذا هو السبب»… وهذا غريب أولاً. لكنّ سرَّه ينكشف ثانياً حين يستفسر المذيع عن سر عدم عودتهم ليقول «لوجستياً، البنى التحتية المدمرة التي دمرها الإرهاب وهذا ما يقوله معظم اللاجئين الذين نتواصل معهم، يرغبون بالعودة ولكن يقولون كيف نحيا.. كيف نعيش؟» وما ينكشف هنا أن النظام – في رأسه خصوصاً- لا يرغب بعودة اللاجئين، كما يزعم في مؤتمراته التي يعقدها أو يعقدها له الروس، بل ما زال يحلم بتحسين «التجانس» في تركيب الشعب، الذي تغنّى بفضائله منذ بضع سنوات. ما يرغب به وينسجم به مع نفسه وتاريخ النظام و»إنجازاته» هو إعادة إعمار البلد المدمّر عن طريقه، بكل أنهار الذهب التي تعنيها. حين يُسأل الأسد عن» كلمة السر في هذا الصمود إن صح التعبير خلال هذه السنوات، كيف يمكن أن تلخصها؟»، يجيب بسرعة لافتة، «إنها الوعي للمخطط، لم نسقط ولا في فخ من الفِخاخ التي رُسمت لنا في الخارج.. الوعي هو أساس النجاح والصمود عاجلاً أو آجلاً»، وكان طبيعياً أن يتجاهل أن ذلك التجانس نفسه يغلي الآن ويتململ منتفضاً، بعد أن وصلت النيران إليه.

حين سأله المذيع ملمّحاً إلى أنه ورث حكم البلاد عن والده، أجاب: «أولاً بالنسبة لي أنا شخصياً لم يكن للرئيس حافظ الأسد أي دور في أن أكون رئيساً، لأنه لم يُؤمّن لي أي منصب مدني أو عسكري كي أكون من خلاله رئيساً، أنا أتيت عبر الحزب بعد وفاته، ولم أناقش معه هذه النقطة حتى في الأسابيع الأخيرة من حياته، وهو كان مريضاً في ذلك الوقت، الشيء نفسه العلاقة بيني وبين ابني هي علاقة عائلة، لا أناقش معه هذه القضايا، خاصة أنه ما زال شاباً وأمامه مستقبل علمي، أمامه مسار علمي لم ينهه بعد، هذا يعود لرغباته. أما على مستوى العمل العام فهو يعود للقبول الوطني لأي شخص إن كان هو لديه رغبة بالعمل العام». وقد تدرّب بشار بالمسؤولية عن لبنان قبل أن يرث بعامين، ولا يوجد لبناني أو سوري لا يعرف ذلك، وحين سئل الديكتاتور الوالد قديماً من قبل الإعلام عن موضوع توريث ابنه أيضاً، قال شيئاً لا يختلف «بالصدفة» عمّا قاله ابنه اليوم عن حفيده!

على أية حالة بارانويا، يمكن استخلاص الكثير من تركيب المخاوف وتعبيراتها: الأسد يرى في كلّ ما يُعرض عليه فخّاً، عليه أن يرفضه قبل أن يسقط فيه، لذلك رأى في الجامعة العربية والمشروع الأردني وعودة اللاجئين وحتى في صرخات العَوز والفاقة بين السوريين فِخاخاً. لم ينتبه على كلّ حال إلى أن تلك المقابلة، وفي وجه آخر لها، قد تكون فخاً ينصبه القدر!

كاتب سوري

القدس العربي

—————————————–

بشّار الأسد الذي طمأننا/ أرنست خوري

من الضرائب الباهظة التي على الصحافي العامل في الأقسام السياسية أن يدفعها، لا أن يضطر إلى مقابلة ديكتاتور أو سياسي وضيع و/أو جاهل و/أو شعبوي، فتلك حالات قد تصنع “مجده” الإعلامي لو أدار الحوار بشكل نقدي وجريء وذكي يعرّي تهافت الضيف ويحرجه ويُخرج منه ما يجهد الأخير لإخفائه. من أفدح الضرائب أن يضطرّ إلى الاستماع لمقابلة مع صاحب الأوصاف أعلاه، أو قراءتها بحكم واجباته المهنية. عذاب تشعر معه أن الدقائق الـ29 للحوار التلفزيوني الأحدث مع بشّار الأسد تأبى أن تنتهي. فلنتجاوز التذاكي الممتد على مدى نصف ساعة بطريقة عكس كل سؤال بسؤال مقابل. فلنتغاضَ عن جوابه العبقري عندما طلب منه محاوره الدفاع عن نظامه في ما يتعلق بتهمة تورّطه في إغراق بلدان عربية بمخدّر الكبتاغون، فلاحظ بنباهة أن ذلك مستحيل بما أن “عصابات المخدرات تعمل بشكل سرّي ولا تتعامل مع دول، لأنه عندها تصبح تجارة معلنة وليست سرّية”، إذاً نحن أبرياء. حاوِل التغاضي عن أن الرجل يستحيل أن يركّب نكتة، وعندما يحاول، تخرج بصيغة: “لماذا ألتقي مع أردوغان؟ لنشرب المرطّبات؟”. لا تجهد نفسك في محاولة فهم نظرية “الخوف هو جزء من اللاوعي”. لا تعلّق على الإهانة التي تسكن كل كلمة يقولها الرجل بدءاً من “لم يكن هناك مطالبات داخلية برحيلي والمستهدف لم يكن الرئيس بشار بل سورية” (نعم عندما يريد تسمية نفسه، لا يقول بشّار الأسد، بل الرئيس بشار)، وصولاً إلى وعظه اللبنانيين بالتحلي بـ”إرادة حل مشاكلهم لأن سورية ليست لديها النية في التدخل بتفاصيل الشأن اللبناني في الوقت الحالي”. ضع خطوطا عريضة تحت “في الوقت الحالي”. إن تمكّنتََ من إنجاز الاستماع إلى الحوار حتى نهايته، فكِّر بالوجه الآخر من الميدالية، فكّر بـ”الإيجابي” فيها، وبكم أن المقابلة قدّمت خيوط أجوبة عن أسئلة كنتََ بحاجة لبذل جهد كبير غير مضمون النتائج للوصول إليها.

ببضع كلماتٍ طمأن الأسد من يهمّه الأمر إلى أن المصالحة العربية مع نظامه بلا قيمة سياسية، فعندما يقول المعني الأول بهذه المصالحة إن “العلاقات العربية ــ العربية شكلية وهي لم تتغيّر”، وبالتالي، يرجّح أن تكون “عودة سورية شكلية” إلى جامعة الدول العربية، فإنما في ذلك التصريح المهم تأكيدٌ لكل التخمينات التي تفيد بأن في مطابخ قرار الحكّام العرب الذين قرّروا العفو عن نظام الدم والإرهاب في دمشق، أي كل البلدان العربية ما عدا قطر والكويت، قناعة بأن مهلة السماح الممنوحة لحكّام الشام من أجل إعادة تعويم علاقات النظام الخارجية من خلالهم انتهت أو اقتربت من الانتهاء، نتيجة اليأس من إمكانية تعاونه معهم وتقديم بعض التنازلات. صادرات الكبتاغون من الجنوب السوري إلى الأردن ومنه إلى بلدان الخليج زادت منذ قمّة جدّة (مايو/ أيار الماضي). حالة الانفصال عن الواقع تتعمّق عند الأسد، وقراره نهائي بحصر علاقات نظامه الخارجية بروسيا وإيران. الرجل يعتبر أن لا شيء يقدّمه للاجئين لكي يعودوا من دون ضخّ عربي لم يحصل لأموال إعادة الإعمار. معارضة الخارج عميلة، وقد تكون معارضة الداخل كذلك، لأن الرجل واعٍ إلى أنه يمكن أن يكون هناك معارض مقيم في دمشق، بينما هو عميل للخارج، يقول. أي أن مصفوفة المطالب والتمنّيات العربية من الأسد مستغربة بالنسبة له، ففي المخدّرات هو مُعتدى عليه، وفي شأن اللاجئين وعودتهم أيضاً لأن ملايين المهجّرين لا يزحفون زرافات زرافات عائدين إلى البلد فقط لأن لا بنية تحتية جاهزة لاستقبالهم. لا سؤال ولا جواب عن حلّ سياسي في سورية. أما عن المصالحة مع تركيا، فأيضاً يمكن الاطمئنان، لأن “الإرهاب في سورية صناعة تركية”، وفق كلام الأسد، الذي لن يلتقي مع أردوغان من دون شروط، فذلك سيكون بمثابة لقاء من أجل شرب المرطّبات (النكتة إياها).

خاب أمل من انتظر سؤالاً نقدياً واحداً يطرحه الإعلامي الذي حاور بشار الأسد، بدل أن يتساءل مع “الشارع العربي” عن “سرّ صمود الدولة السورية في وجه الإرهاب”، وكيف أن ضيفه “نجح في الانتخابات”.

العربي الجديد

———————————

التعالي الأسدي على أقرانه العرب منهج سلطوي قائم على الابتزاز/ حسن النيفي

لجميع السوريين كامل الحق في أن يجدوا في كلام حاكمهم ما يعزز قناعاتهم السابقة وما رسموه في مخيلتهم عن سلوكه ومنطقه وطريقة تخريجه وتبريره لممارساته كصاحب سطوة لم ينجُ من شرورها أي مواطن بمن فيهم الموالون والمقربون من العصبة الحاكمة، لكن من المؤكّد أيضاً أن جميع الذين استمعوا إلى حديثه يوم التاسع من آب الجاري على قناة سكاي نيوز عربية لم يكونوا ينتظرون مضامين جديدة تسوقها كلماته بقدر ما هم مشغولون بالتقاط أهم السمات التي باتت تَسمُ تفكيره وتؤكّد تبلور معالم الشر لديه ليس حيال الشعب السوري فحسب، بل تجاه الشعوب الأخرى وفي مقدمتها جيرانه العرب.

ولعل هذه النزعة العدائية لم تكن بدعة طارئة على شخص بشار الأسد – كحاكم – بقدر ما هي سمة راسخة في نهج الدولة الأسدية خلال شطري الأب والابن معاً. فحافظ الأسد لم يكن حاكماً ودوداً في يوم من الأيام، لا تجاه شعبه ولا تجاه جيرانه العرب، بل ربما اعتقد دائماً أن ممارسة الاستعلاء على الآخرين وإشعارهم بقدرته الدائمة على إذلالهم هي الوسيلة الأمثل للحيازة على احترامهم، والاحترام في هذه الحالة لا يعني بالضرورة شموله على معاني قيمية كالود والرضى مثلاً، بل يعني تحديداً الهيبة والخوف من سطوته، وهذا هو المدخل لفهم مجمل العلاقات التي كانت تربط الأسد الأب سواءٌ بشعبه أو بمحيطه العربي على السواء، ولا شك أن هذا الضرب من الممارسة يوجب على صاحبه أن يتمتع بالقدرة الكافية على احتمال العزلة والقطيعة، بل إن الصمود على تلك القطيعة والانعزال يمكن إحالته حينئذٍ إلى ضرب من البطولة حين تجعل منه الطغمة الحاكمة نمطاً من الصمود بوجه المؤامرة الكونية التي ما وُجِدت إلّا لاستهدافه دون غيره.

العلاقة المضطربة بين الأسد الابن وأقرانه العرب هي استمرار لنمط العلاقة التي وسمت علاقة أبيه بجيرانه منذ عقود طويلة، إذ لم يكن بمقدور الأسد الأب أن يستمر في علاقة متوازنة مع الدول العربية، قائمة على المصالح المتبادلة وبعيدة عن الابتزاز وليّ الأذرع، إذ يمكن في هذا السياق النظر في شطرين من حكم حافظ الأسد، يبدأ الشطر الأول من عام 1977 حين أبرم أنور السادات صلحاً منفرداً مع الكيان الصهيوني، وقد أتاح هذا التحول لنظام دمشق أن يقود حلفاً مقاوماً ومناهضاً أُطلق عليه (جبهة الصمود والتصدّي)، وقد استطاع حاكم دمشق طوال سنوات، وتحت شعار هذا الحلف أن يمارس جميع أشكال الابتزاز على الأنظمة العربية من خارج (جبهة الصمود والتصدي) وفي مقدمتها دول الخليج العربي، كما تمكّن طوال سنوات من أن يظهر بمظهر المقاوم الذي يدافع عن الجميع، وبالتالي على الآخرين أن يقدموا له ما يريد وفقاً لمبدأ (الخُوّة) القائمة على الزعرنة والابتزاز، وليس وفقاً لنواظم قيمية أخرى.

ويبدأ الشطر الثاني من عام 1980، حين تلاشت الهالة الإعلامية لجبهة الصمود، باندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وانحياز الأسد بكل ثقله إلى جانب إيران، ولكن في الوقت ذاته استطاع تعزيز القناعة لدى دول الخليج بأنه سيكون العاصم لهم ولأمن أنظمتهم من الخطر الإيراني، وهكذا ظل حافظ الأسد طوال ثماني سنوات يترجم انحيازه لإيران على أنه مبعث توازن بين إيران والعرب، كما أراد أن يظهر بأنه صمام الأمان لأمن الخليج حيال النزعة الخمينية الكاسحة آنذاك، وربما هذا ما جعل حافظ الأسد يرى أن أسوأ فترات حكمه ضيقاً وضنكاً هي السنوات التي تلت قبول الخميني بشرب (كأس السم) ووقف الحرب مع العراق، إذ شهدت تلك السنوات حصاراً سياسياً واقتصادياً سواء من جانب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية أو من جانب دول الخليج التي نكثت بمبدأ (الخوّة) بمجرد وقف الحرب مع إيران، وكان هذا الحصار هو الأشد ضراوة على نظام الأسد الأب، إذ يذكر السوريون في السنوات ( 1988 – 1991) انعدام أبسط المواد المعيشية التي يحتاجها المواطن بما في ذلك حليب الأطفال والدواء، كما يذكر السوريون جيداً أن الحليف الوحيد الذي تبقى لحافظ أسد من المنطقة العربية هو نظام القذافي فقط، إلّا أن تلك الفترة الخانقة انتهت بفرجٍ كبير بعد ضيق حين اندلعت حرب الكويت (كانون ثاني 1991) بانضمام قوات الأسد للتحالف الدولي، إذ أتاح له ذلك فرصةً للاندماج في المنظومة الدولية من جديد، ففضلاً عن إعادة بوش الأب الغطاء الشرعي من جديد على نفوذ الأسد بلبنان، أتاحت له دول الخليج من جهة أخرى مدخلاً جديداً لعلاقات ما تزال قائمة حتى الآن.

يمكن التأكيد على أن حرص الأسد الابن على علاقته العضوية بإيران وحرصه في الوقت ذاته على عدم هدم الجسور بينه وبين دول الخليج إنما يعود إلى التمسّك بالنهج الأسدي ذاته القائم على الابتزاز واللعب على التوازنات الإقليمية، وخاصة في ضوء تعدد وانتشار أذرع الشر الإيرانية التي باتت تهدد دول المنطقة برمتها، ففي الوقت الذي أظهرت فيه دول الخليج موقفاً مؤيداً لثورة السوريين إبان انطلاقها، يتأسس هذا الموقف في أحد جوانبه على رغبة دول الخليج بتجفيف نفوذ إيران من الدولة السورية، إلّا أن الردّ الأسدي كان واضحاً، إذ كلّما تعزّزت علاقة الأسد بإيران وباتت أكثر عضوية، دفع ذلك دول الخليج إلى استجداء الأسد باعتباره صمّام أمان أو كابحاً لسطوة الشر الإيرانية عن دول الخليج، وهو ما يدعوه بشار، كما أبيه من قبل، عامل توازن إقليمي.

السيناريو الذي أُعيد من خلاله الأسد إلى الجامعة العربية لم يكن بعيداً عن تصورات نظام دمشق واستراتيجيته القديمة الجديدة، إذ لم تكن تلك العودة منبثقة عن نموّ في تفاهمات جديدة بين الطرفين، وكذلك لم تكن نتيجة رغبة أسدية بتسوية سواء محلية سورية أو عربية شاملة، بل أعيد الأسد كما هو بكل علّاته، فحضر قمة جدّة في أيار الماضي وهو يحمل في كلامه كل نوازع الوقاحة والتنمّر، مع حرص شديد على تلقين أقرانه بعضاً من شذراته الفلسفية (فلسفة الحضن)، كما حضر وزير خارجيته المؤتمر الوزاري بعمان في الشهر أيار ذاته، ولم يكن أقل من رئيسه وقاحةً واستعلاءً، ولعل كل ذلك ما كان ليحدث لولا أن رجوع الأسد إلى الجامعة العربية كان تحت المظلة الإيرانية، بل مصحوباً بالسطوة الإيرانية التي أثبتت الأنظمة العربية أنها لا تحبها ولكن تخافها. ولعل هذا ما دفع بشار الأسد في لقائه التلفزيوني الأخير مع قناة سكاي نيوز إلى وصف العلاقات العربية العربية بكل ثقة ووضوح بأنها علاقات شكلية، ولعله ليس الوحيد المسؤول عن ديمومة هذه الشكلانية في العلاقة، طالما أن الأنظمة العربية ما تزال تفتقد الاستراتيجية الأمنية المنبثقة من مصالح شعوبها وليس من مصالح أنظمة حكمها فحسب.

——————————

لو أن الأسد فقط لا يتحدث!/ عمر قدور

ظُهْر الأربعاء نشرت جريدة سعودية تغطية للمقتطفات التي كانت قد بثّتها قناة سكاي نيوز العربية من لقاء سيُذاع مساءً مع بشار الأسد، الجريدة أبرزت من المقتطفات قوله أنه لن يجتمع مع أردوغان بشروط الأخير، لأن هدفه هو “شرعنة وجود الاحتلال التركي”، مشيراً إلى أن “الإرهاب في سوريا صناعة تركية”. بعد ساعات أذيعت المقابلة كاملة، فلم تحظَ بتغطية من الجريدة ذاتها، لا مباشرةً ولا في الساعات التالية، مع أن الجريدة لم تكن غائبة عن الحدث السوري، فنشرت يوم الخميس متابعتين للشأن السوري عن زيادة أسعار الدواء، وعن تدهور الوضع المعيشي عموماً وإحجام الحليفين الروسي والإيراني عن دعم الأسد.

في الخلفية، كانت الأخبار المتداولة منذ أسابيع تفيد بفشل التطبيع العربي مع الأسد، والذي قادت الرياض مرحلته الأخيرة وصولاً إلى إعادته إلى الجامعة العربية. وثمة أخبار متداولة عن أن الأسد خيَّب آمال المطبِّعين معه في ملفات محددة، أولها عدم قيامه بأي إجراء لمنع تدفق الكبتاغون إلى تلك الدول، وثانيها عدم إفراجه عن معتقلين سياسيين في بادرة يمكن البناء عليها من أجل الملف الثالث وهو سماحه بعودة بعض اللاجئين بلا خوف من الاعتقال. في أجوبته أثناء المقابلة تنصّل بشار من مسؤوليته عن موضوع تجارة الكبتاغون، ورماها على الوضع الأمني و”الإرهاب”، وادّعى أن عدم عودة اللاجئين مرتبط بعدم إعادة الإعمار، والمسؤولية تقع إذاً على السياسات الدولية التي تعيق إعادة الإعمار، وعلى الدول التي لا تساعد في ذلك متجاهلةً عقوبات قيصر كما يفعل هو.

الأهم أنه، في الحديث عن العلاقات العربية-العربية، لم تبدر عنه ولو لفتة ودية بسيطة تجاه الذين أعادوه إلى الجامعة، وإلى الرياض تحديداً التي استضافته، وأخذت على عاتقها مشروع التطبيع معه بعد المبادرة الأردنية. قال بشار أن العلاقات العربية-العربية شكلية، وأن عودة “سوريا” تعتمد على طبيعة هذه العلاقات. وفي هذا الكلام استهتار بالعرب لا يقلّ عن استهتاره بهم أيام القطيعة الأخيرة، أو عندما وصفَ قادتهم بأشباه وأنصاف الرجال إثر حرب تموز 2006. لو أنه فقط لم يقل ما قاله، لو تحدث بعمومية ودبلوماسية وأثنى على بعض الجهود من دون تسمية أصحابها، خاصةً أنه لم يقصّر في الثناء على الحليفين الروسي والإيراني. إلا أنه اختار قول ما يمكن فهمه كإهانة لجهود التطبيع العربي، الإهانة التي تحتمل بسهولة التأويل الشخصي بما أن ذلك كله متصل بقيادات عربية وضعت ثقلها على المحك. بل لا يُستبعد في السياق ذاته أن يكون قد تعمّد التلميح إلى تدخل الرياض في الصراع السوري، عندما رمى مسؤولية المخدرات على الدول التي ساهمت في “خلق الفوضى في سوريا”.

غداة بثّ المقابلة سجلت الليرة السورية هبوطاً ملحوظاً جديداً إزاء العملات الرئيسية، ومع أن هبوط الليرة مرتبط أصلاً بالوضع الاقتصادي الكلي إلا أن تأثير أقوال الأسد لا يمكن إغفاله، بحكم موقعه ومسؤولياته. أيضاً يصحّ في هذا الجانب القول أنه لو فقط لم يتحدث، لو التفّ على الاستحقاق الاقتصادي بالعموميات التي تحمل شيئاً من التفاؤل تاركاً للمتلقّي تخمين تهافتها، لو أنه على الأقل تحدّث كمسؤول لا يتنصّل من واجباته الحالية والمقبلة بدعوى “الحرب والإرهاب”. لكنه كان واضحاً في التخلي عن واجباته بحكم الموقع الذي يحتله، وحديثه عن تجاوز عقوبات قيصر يزيد من منسوب اليأس إذ يربط تحسن الأوضاع المعيشية بإعادة الإعمار التي ليس هناك ما يبشّر بها في الأفق القريب.

وللحلقة الصلبة من مؤيديه حصة معنوية معتبرة، يصحّ فيها القول أيضاً لو أنه فقط لا يتحدث. الفئة المعنيّة هي التي ذكر أنها دفعت بالمزيد من أبنائها للقتال، بعد مقتل أخوة لهم. وكان يمكن في عام 2012 مثلاً رؤية خيام العزاء التي يقيمها هؤلاء للقتلى من أبنائهم، وعلى هذه الخيام لافتات تنص على الوفاء “للغالي ابن الغالي”، والمقصود بها بالضبط أن الدفاع عن بشار هو في المقام الأول وفاء لأبيه صاحب المكانة العالية في نفوس هؤلاء. في جوابه عمّا إذا كان يعمل على توريث ابنه كما ورث الحكم من أبيه، قال بشار: “لم يكن للرئيس حافظ الأسد أي دور في أن أكون رئيساً.. أنا أتيت عبر الحزب بعد وفاته”. والأمر هنا لا يتعلق فقط بإنكار موضوع التوريث، فالإجابة التي تنكر فضل أبيه في توريثه لم تُستأنف بإعطائه أي فضل آخر يرضي أولئك الذين قاتلوا من أجله دفاعاً عن إرث أبيه ليس إلا.

لو أنه فقط لا يتحدث بالأرقام، ويدّعي الدقّة وهو يتحدث عن مئة ألف ونيّف من السوريين الذين تظاهروا مطالبين برحيله. الأمر ليس في سهولة استرجاع تسجيلات المظاهرات العارمة التي غصت بها شوارع وساحات مدن وبلدات مثل درعا وحمص وحماة ودير الزور وبانياس… ليست المسألة في المئة ألف أو في الـ”نيّف”، هي في حديثه عن عشرات ملايين السوريين المؤيدين له مقابل هؤلاء! هي في حاكم يفضَّل ألا يُظهر جهله عدد محكوميه الذي لا يتجاوز الآن 15 مليوناً، بينما كان في عام 2011 حوالى 23 مليوناً، وهو رقم أدنى من الإشارة إليه بعشرات الملايين. ولكي لا يبدو الأمر تصيّداً لزلة، فهو قد كرر لمرتين الحديث عن عشرات ملايين السوريين، مرة بالمقارنة مع عدد المتظاهرين المزعوم ومرة ثانية أثناء حديثه المعتاد عن الصمود أمام المؤامرات.

في الواقع لسنا بحاجة إلى تصيّد زلة من هنا أو هناك مع كل إطلالة، فنحن أمام حالة فريدة إذ نحظى مع كل خطاب أو مقابلة بما نظن أنها زلات لسان. بل بدا في معظم الحالات كأن ظهور الأسد وتحدثه يفسدان المساعي من أجل مساعدته، ومن أجل إعادة تأهيله، وكأنّ صمته أفضل إذ يفسح مجالاً للتكهنات حول تغيّر ما في نظرته إلى الأمور. كأنّه يطلّ بين وقت وآخر فقط ليؤكّد على أنه لم يخطئ يوماً وعلى أنه مستعد للمضيّ فيما هو عليه، وليكذِّب ما يشيعه المطبِّعون معه من أوهام.

فقط وفق المنطق المتعارف عليه يخسر الأسد، ويحرج حلفاءه وأصدقاءه، بهذه الأحاديث التي يعوزها التواضع والدبلوماسية. لكن، وفق المنطق المتعارف عليه أيضاً، ينبغي لمن هناك حجم غير مسبوق من الأدلة على ارتكابه جرائم حرب ألا يكون له مستقبل سياسي، إلا أن التواطؤ الدولي والإقليمي يطيح المنطق بلا حياء. فلماذا يتوجب عليه أن يظهر على غير هذا النحو؟ لماذا يكابد مشقّة التغير وهو بغنى عنه؟  

المدن

————————–

عندما يطل الأسد من الخرابة السورية/ ساطع نورالدين

من أين يأتي الرئيس بشار الأسد بهذه الثقة بالنفس؟ سؤال قديم، يعيده الى الاذهان حواره التلفزيوني بالامس مع قناة سكاي نيوز العربية، ولن يكون من السهل العثور على جواب منطقي: النصر الذي حققه على الثورة ليس ناجزاً بعد. والحرب لم تنته، بل ثمة مؤشرات ميدانية في الشمال والجنوب على أنها تتجدد، وتتجرأ المعارضة على النظام ومؤسساته العسكرية والامنية أكثر من أي وقت مضى منذ العام 2015، والانهيار الاقتصادي والمالي الذي خلفته السنوات ال11 الماضية من الحرب يقرب الشعب السوري المقيم بحماية النظام من المجاعة الفعلية يوماً بعد يوم؟ والحليفان الروسي والايراني اللذان تكفلا حتى الآن بمنع سقوط النظام بات لديهما من التحديات والازمات ما يفوق التحدي الذي كانت تمثله سوريا، قبل أن تتحول الى عبء حقيقي متزايد عليهما.

الحوار التلفزيوني بحد ذاته، لا يشير الى مصدر جديد لتلك الثقة بالنفس، ولا يوضح مدى دقة الرواية المتداولة عن أن مسؤولي دولة الامارات هم الذين أوحوا للاسد بالتحاور مع قناة يقع مقرها في أبو ظبي، حيث قال في العرب ما لم يقله منذ سنوات، وما لم يوفر منهم حتى حلفاءه الجدد ولا جامعتهم العربية التي نالها نصيب من هجومه…بينما كان المنتظر ان يتوجه بالشكر والعرفان الى هؤلاء الحلفاء الذين أعادوه الى حضنهم، من دون أي مقابل، ومن دون أي مطلب سوى وقف تهريب المخدرات الى بلدانهم، وهو ما كان واضحاً بأنه لن يفعله، بحجة ان الدولة السورية لا تمتلك القدرة على خوض معركة مزدوجة مع الارهاب والمخدرات معا.

أما حملته العنيفة على تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، فكانت أغرب ما جاء في الحوار الذي وصل الى حد الشك في جميع الوقائع والادلة المحيطة بعلاقات النظام السوري المتغيرة حالياً مع محيطه: إشتباك الاسد مع أردوغان ورفضه اللقاء معه بالشروط التركية، يتعدى فكرة المساومة المسبقة والطبيعية على جلوس الرئيسين معا. يمكن الظن في ان لدى الاسد ما ليس لدى سواه عن عمق العلاقات التركية الروسية الراهنة التي لا تحتمل التضحية بها من أجل خاطر سوريا، أو عن العلاقات التركية العربية التي شهدت في الاشهر الاخيرة تطورات مذهلة تتمثل في المصالحة التي تسير بها الامارات والسعودية مع انقرة، والتي جرى تجسيدها بما يزيد عن 15 مليار دولار من الاستثمارات الاماراتية والسعودية في الاقتصاد التركي..

لا يعقل ان يقفز الاسد عن هذه الوقائع ويتسبب بمشكلة او يثير حرج الرياض وابو ظبي تحديداً. إيران نفسها التي تسعى الى تطبيع علاقاتها العربية، والتي تفاوض الاسد بضراوة على سبل استرداد نفقات واستثمارات صرفتها في سوريا طوال العقد الماضي، وتقدر بنحو 50 مليار دولار حسب التسريبات الرسمية الايرانية الاخيرة، لن تكون على الارجح راضية عن تلك اللغة التي يستخدمها الاسد الآن والتي لا تسهم في فك عزلته السياسية وضائقته الاقتصادية، والتي لم تساعد في وصول التمويل الاماراتي الذي توقعه، ولم يأت حتى الآن..ما أدى الى ذلك الانهيار في قيمة العملة السورية وفي تدهور مستويات معيشة السوريين.

ربما يملك الاسد معلومات مغايرة تمنحه فرصة التحدث بتلك اللغة المظفرة، التي تبدو للخارج بلا أساس وبلا منطق، لا سيما وأن سوريا التي تسير بسرعة متناهية الآن نحو المجاعة، ما يفقدها قيمتها لأي استثمار خارجي، سياسي او اقتصادي أو حتى أمني، لاسيما بالنسبة الى الروس والايرانيين الذي يسيرون في اتجاهات معاكسة تماما لما يقوله الاسد، الذي لم يلاحظ حتى الآن بأنه قد لا يتمكن في المستقبل القريب من تقديم عرضٍ مغر لتوريث سوريا الى أي دولة شقيقة او صديقة: من ذا الذي يمكن يفكر الآن بأن يرث خربة سورية تفقد يوماً بعد يوم ما تبقى من قيمتها؟ وهل يمكن لأحد ان يتجاهل الدرس البليغ الذي تقدمه الخرابة اللبنانية المتروكة للتعفن منذ سنوات؟

المدن

———————————-

كثير من الهراء.. كثير من الصلف والوقاحة/ غزوان قرنفل

هذه السطور ليست تحليلا لما تقيأه الأسد عبر شاشة “سكاي نيوز عربية” فأنا أصلا لست ممن يهدرون أوقاتهم في سماع الهراء والكذب البيّن.. وبصراحة أقول إني لم أسمع أو أشاهد أو أقرأ قطّ خطابات أو تصريحات الأسد الابن ومن قبله الأسد الأب الذي كان جهازه الإعلامي يفرضه فرضا على السوريين في وقت لم تكن هناك قنوات فضائية أو لم يكن ترف الوصول إليها متاحا لعموم السوريين، فكنت أضطر والحال كذلك لإغلاق التلفزيون نفسه كموقف احتجاجي على سياسة الفرض تلك، ورفضا لسماع الهراء والكلام المنمق الذي كنت مدركا أنه لا يسمن ولا يغني من جوع، وهو ليس إلا بضاعة بائرة لا قيمة لها في سوق السياسة التي يفترض أنها تبتغي تطوير وطن وبناء إنسان.

هذا الاعتراف قد يراه البعض غريبا – وربما هو محق في ذلك – باعتبار أن على من يخوض بالشأن العام وله، رأياً وموقفاً من سياسات سلطة بلده، بل ويكتب أو يعبر عن رأي في غالب الأحيان بالسياسة وشؤون الحكم أن يتابع ويطلع ويسمع ويقرأ كل أو معظم الآراء والمواقف والسياسات والتصريحات حتى يتمكن من تكوين رأيه والتعبير عن موقفه، وبالتالي ليس منطقيا في ضوء ذلك الزعم أنك لم تسمع قط خطابا أو تقرأ تصريحا أو مقابلة للأسدين الأب والابن، وهو قول صحيح من حيث المبدأ، لكن ما يجعل الأمر طبيعيا هو أنك وبعد بضع سنوات فقط وليس خمسين عاما من حكم العصابة ستكون قادرا على توقع كل ما يمكن قوله أو الادلاء به وبناء موقف منه.

ماذا قال الأسد في ردوده على أسئلة “سكاي نيوز عربية”؟.. هل قدم مراجعات لما حصل خلال العقد الأخير؟ وهل قال إن سلطته وحزبه الذي يتلطى خلفه والذي حكم البلد ستة عقود لم يستطع أن يقدم شيئا للمجتمع السوري سوى الدمار الاقتصادي والعفن السياسي والمتاجرة بالشعارات وتفكيك بنى المجتمع السوري، والمزيد من التخلف العلمي والتعليمي ورهن مقدرات البلد الأغنى في الشرق الأوسط بالموارد البشرية والاقتصادية لقوى ودول على حساب شعبه ومستقبل أجياله؟؟؟.

هل توقعت تلك المؤسسة الإعلامية مثلا أن يعترف الأسد بأن سياسته الاستحواذية الخرقاء دمرت الدولة وفتكت بحياة الناس؟.. هل سيعترف مثلا أنه قائد لعصابة سطت على السلطة بالقوة وابتلعت الدولة ومؤسساتها واستأثرت بموارد ومقدرات تلك الدولة لصالح هذي العصابة؟.. هل سيعترف أن مواجهته للمؤامرة المزعومة حققت الأهداف المفترضة لتلك المؤامرة؟!!.. هل سيقول إن جيشي قتل الناس بمختلف صنوف الأسلحة وإن ميليشياتي بقرت بطون حوامل واغتصبت حرائر، وإن أجهزة أمني اعتقلت مئات الآلاف وزجت بهم في الزنازين وتفننت بتعذيبهم حتى الموت؟؟ هل سيقول إني أقمت محارقا للجثث ودفنت مئات الآلاف بمقابر جماعية.. هل سيقول إن عصابة السلطة تنتج صنوفا مختلفة للمخدرات وتحارب بها جوارها العربي؟..

هل قدم الأسد (المنتصر) على شعبه رؤية لمستقبل هذا الشعب (المهزوم)، وكيف أن لديه خطة لإعادة إحياء الدولة بمختلف مسؤولياتها ووظائفها؟؟ وهل قدم رؤية لإعادة إحياء الاقتصاد وإخراجه من غيبوبته التي أدخل فيها إلى غرفة الإنعاش؟؟.. هل قال ماذا لديه لأجل أسر وعوائل ضحايا (المؤامرة الكونية) الأموات منهم والأحياء؟!!.

هل قال إنه سيعالج مشكلات الكهرباء والماء والبنى التحتية حتى؟.. وهل نتوقع منه أن يرفد شرايين اقتصاده بمليارات الدولارات التي نهبها مع عصابته من موارد وثروات البلد؟!!!.

ما قاله الأسد هو المتوقع تماما أن يقوله، فهو لا يملك سوى الهراء والتشدق بالكلام وتوزيع الاتهامات والمسؤوليات على من ناصبوه العداء وحاولوا النيل من (صموده) ومناعة نظامه، وكل من راهن ويراهن على غير ما تقيأه الأسد في تلك المقابلة لا يمكن وصفه إلا بالسذاجة السياسية إن أحسنّا الظن، وبالغباء والعته السياسي إن لم نفعل.

 أما أولئك المتهافتون الذين ما زالوا يعتقدون بإمكانية تجاوز ما حصل، وكنس القذارة ووضعها تحت السجادة السورية المهترئة للزعم بإمكانية تنظيف البيت السوري بوجود تلك العصابة الحاكمة، فهؤلاء يجب محاكمتهم تاريخيا وقيميا بجريمة الغباء السياسي، لأنهم يفترضون بإمكانية تحقيق استقرار في المنطقة إذا ما عقدوا صفقة مع الشيطان الذي أعطى كل سبل التمكين للنفوذ الفارسي الذي يهدد مصالحهم وكياناتهم.

تلفزيون سوريا

——————————–

“الشرارة”التي ستفجّر الساحل السوري/ إياد الجعفري

وكأن النظام يقول لحاضنته الموالية: “روحوا بلطوا البحر”. لذا، فالانفجار قد يحصل بصورة غير متوقعة جراء حادثة ناجمة عن التدهور المعيشي والخدمي، الذي سيتفاقم بصورة دراماتيكية، في الفترة القادمة. هذه خلاصة دردشة خاضها كاتب هذه السطور مع أحد أبناء الحاضنة الموالية للنظام في الساحل السوري.

وفيما يتلقف المتابعون، باهتمام بالغ، بيانات حركتَي “10 آب” و”الضباط العلويين الأحرار”، يقلل الصديق إياه من احتمالات وجود حراك فاعل مخطط له، في الساحل السوري. لكنه لا ينفي أن الوضع هناك، أشبه ببرميل بارود، ينتظر الشرارة لكي ينفجر. ويبقى الخلاف حول طبيعة هذه الشرارة، التي يَستبعد أن تكون مُرتبة مسبقاً، وحول موعد الانفجار، الذي يرتبط بخروج الأمور عن السيطرة، بصورة شبيهة بتلك التي حدثت في درعا، عشية ثورة العام 2011.

لا يملك الصديق الذي تحدثتُ إليه، مصادر أمنية وثيقة الإطلاع، أو قنوات توصله إلى معلومات غير متاحة للجمهور. لكنه يتحدث من وحي فهمه لسيكولوجية الطائفة العلوية، بوصفه أحد أبنائها، الذين خبروا تاريخها خلال العقود الأخيرة، وأثره على استجابتها الجمعية للتحديات التي تواجهها.

 يقرّ هذا الصديق بمشاعر المرارة المتفاقمة في أوساط العلويين، جراء إظهار النظام حالة لامبالاة حيال معاناتهم المعيشية المتفاقمة. ويقول ببساطة، إن النظام غير مهتم بردود أفعالهم. وهي قراءة تنسجم مع الارتياح الذي بدا فيه النظام، خلال الأيام القليلة الفائتة، بعيد استنفارٍ دام أقل من أسبوع، لتهدئة المتذمرين في الساحل. ارتياح النظام تجلى في تركه لليرة، كي تهوي إلى قاعٍ جديدٍ غير مسبوق، بالتزامن مع إطلالة بشار الأسد الإعلامية الأخيرة عبر “سكاي نيوز عربية”، والتي كانت محبطة للغاية، لعموم السوريين.

وينسجم حديث هذا الصديق، مع بيان حركة “10 آب” الأخير، الذي دعا إلى ثورة شعبية سلمية، بعد تجاهل النظام لمطالبها الصادرة في بيانٍ سابق، والتي لم تتجاوز سقف تحديد تواريخ ومواعيد لتحسين أحوال السوريين، فكان الرد، إعلان النظام عن نيته رفع الدعم عن المحروقات، ورفع أسعار الخبز.

وعلى الأرجح، فإن تجاهل النظام لمعاناة حاضنته الموالية يتأتى من معطيات أمنيّة تمنحه شعوراً بالسيطرة الكاملة على المشهد. خاصةً وأن النظام هو الخبير الأبرز في سيكولوجية المقرّبين منه. وهو ما أشار إليه الصديق إياه، حينما تطرقنا في حديثنا إلى انقلاب الناشط “العلوي”، بشار برهوم، على مواقفه السابقة الناقدة للنظام، خلال أيام، ليخرج بتسجيلٍ مناقضٍ لما سبق، ويتحدث عن أن بشار الأسد رمز لا يجوز النيل منه، وأن هناك بوادر حرب في “شرق الفرات”، يجب التفرّغ لها، رافعاً شعار “لا صوت يعلو على صوت الحرب”.

بشار برهوم، رغم تناقضاته، ورغم الاحتمال العالي لكونه خاضعاً لتوجيهات أو لضغوط مخابراتية، إلا أنه يبقى، وفق وصف الصديق إياه، تعبيراً عن تناقضات الشخصية “العلوية”. فهي غاضبة من النظام بشدة، لكنها تخشى التغيير، ربما، بشدة أكبر. لذا فإن الأصوات المرتفعة التي باتت تصدر تباعاً من الساحل، أشبه باستجداء “جريء” للنظام، كي ينظر في أمر تلك الحاضنة الموالية، التي من الصعب أن تنتظم في حراكٍ منظّمٍ ومعدٍّ له، ضده.

إلا أن لامبالاة النظام، ذاتها التي أبداها الأسد قبيل ثورة العام 2011 -حينما اعتبر سوريا مختلفة عن تونس ومصر، بعيد اندلاع الثورات فيها-، تفعل فعلها في حاضنته الموالية، اليوم. ففيما تعتزم حكومته رفع الدعم عن المحروقات وعن جانب من تكلفة الخبز، يتوقع متخصصون أن ترتفع تكاليف الحد الأدنى لمعيشة الأسرة  50%. وفيما نكتب هذه السطور، يشكّل متوسط دخل السوريّ، عُشر الحد الأدنى لمعيشة أسرة من خمسة أفراد. وهي نسبة مرشحة لأن تصبح 7.5% فقط. وفي الوقت الذي يحذّر فيه الاقتصاديون السوريون المقيمون في مناطق سيطرة النظام، من كارثة تضخمية في طريقها للاندلاع، يواصل المصرف المركزي التصرف وكأن كل شيء طبيعي، ويفرج عن المزيد من السيولة من العملة السورية، عبر رفع سقف السحوبات اليومية من البنوك، بصورة من المرتقب أن تنعكس انخفاضاً أكبر في قيمة الليرة، وزيادة في الطلب على الدولار لحفظ القيمة.

لذا يتوقع الصديق إياه، أن انفجار الساحل سيكون أشبه بحادثة درعا، حينما تعاملت مخابرات النظام بعنجيهة مُهينة للوجهاء، على خلفية حادثة اعتقال الأطفال الذين كتبوا عبارات مناوئة. هذا الشبه، ليس من زاوية السبب. ففي حادثة درعا، كانت إهانة الكرامة، السبب المباشر للانفجار. أما هذه المرة، فإن الجوع والبرد، قد يكون السبب المباشر. فالتشابه سيكون فقط من زاوية خروج الأمور عن السيطرة، بصورة غير متوقعة، لا من جانب الحاضنة الموالية ذاتها، ولا من جانب النظام وأجهزته الأمنية. واقترح الصديق، شرارات محتملة لهذا الانفجار، الذي يبدو وكأنه بات حتمياً. كأن يموت أشخاص من البرد في شتاء العام القادم، في جبال الساحل، جراء العجز عن توفير تكاليف التدفئة، بفعل الفقر. أو أن يؤدي تزاحم في أحد طوابير محطات، إلى وقوع قتلى، وتسلسل حوادث متتالية من الانفلات الأمني.

توقعات الصديق إياه، ليست رهاناً. فهي قاتمة، وتنذر بفوضى جديدة لن ترحم أحداً. لكنها تستند إلى معطيات واقعٍ ما عاد يُطاق بأي شكل من الأشكال، فيما النظام منفصل عنه، بصورة تجعله عاجزاً عن قراءة مقدمات الانفجار، حين وقوعها. 

المدن

———————————

ما أسباب تحرك العلويين في الساحل السوري؟/ مناف سعد

توزيع منشورات في مدن وقرى غرب البلاد تتضمن مطالب محلية وسياسية

قبل أيام نشرت بعض مواقع التواصل الاجتماعي بيانا صادرا من مجموعة سورية مجهولة، أطلقت على نفسها اسم “حركة 10 آب”، ناشدت الرئيس السوري بشار الأسد وطالبته بإجراء إصلاحات فورية على المستويات الاقتصادية والمعيشية والخدمية، رافضة مبدأ العنف أو التظاهر “كي لا تعاد تجربة ما حدث في سوريا سنة 2011″، وكي لا يقال من الموالين للحكم، إنها “مدعومة من قبل أي جهة خارجية”.

كان البيان عبارة عن نسخة إلكترونية، ما جعل كثيرين يشككون بمصداقيته ويعدونه مجرد “تنفيس” من قبل السلطات السورية للحد من الاحتقان العميق الذي تعيشه البلاد بسبب الانهيار الاقتصادي الكبير منذ مطلع هذا العام، وانحدار سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي إلى 14 ألف ليرة (كان 46 ليرة في 2010).

لكن بعد يوم واحد من نشر البيان إلكترونيا، عثر على منشورات مطبوعة في شوارع بانياس وجبلة وطرطوس واللاذقية، وممهورة بتوقيع “حركة 10 آب”، كتبت فيها جملة واحدة فقط: “الشعب السوري بكافة طوائفه يقول كفى للذل: مستقبل الشعب السوري ليس لعبة بأيديكم”.

كل المدن التي رميت فيها المنشورات كانت ذات غالبية من العلويين. أيضا، تقع على بعد كيلومترات من القاعدتين الروسية الجوية في اللاذقية والبحرية في طرطوس، على الساحل السوري.

وتزامن ذلك، مع صدور بيان عن مجموعة أطلقت على نفسها اسم “حركة الضباط العلويين الأحرار”. أصحاب البيان الثاني قالوا إنهم يتحدثون من وسط قرى الساحل السوري وتحديدا من القرداحة، مسقط رأس عائلة الرئيس حافظ الأسد.

لا نعرف إن كان بيان “حركة الضباط” مرتبطا ببيان “حركة 10 آب”، علما أن الأول جاء منظما ويدعو إلى خروج إيران من سوريا وإقامة “عدالة انتقالية” ومحاسبة مجرمي الحرب وما وصفهم بتجار “الدماء والدين،” في وقت كان بيان “10 آب” مكتوبا بأسلوب رديء، ليست فيه مطالب سياسية واضحة.

ولا نعرف أيضا إن كانت هذه البيانات قد صيغت فعلا من الداخل، كما يزعم أصحابها، أم إنها كتبت من الخارج مثل كثير من البيانات السابقة. القاسم المشترك الوحيد بين البيانين أنهما لم يتعرضا لرئيس الجمهورية بشكل مباشر، وأنهما كانا موجهين إلى الطائفة العلوية، وهي حاضنة النظام التي كانت تشكل قبل عشر سنوات ونيف قرابة 12 في المئة من عدد سكان سوريا.

وقبل أيام من صدور بيان “حركة 10 آب” ظهرت الناشطة لمى عباس في فيديو مسجّل وطلبت من الناس النزول إلى الشارع والتظاهر ضد الوضع الاقتصادي والمعيشي. وعلى الرغم من كونها “علوية”، و”موالية”، إلا أن السلطات الأمنية حاولت اعتقالها، ولكنها طردتهم لعدم حصولهم على إذن من المحكمة، وسجلت محاولة الاعتقال ونشرتها على “فيسبوك”.

والعلويون هم طائفة صغيرة منبثقة عن المسلمين الشيعة، كما جاء في فتوى من الإمام موسى الصدر في لبنان سنة 1973. كان لهم أعيان ومرجعيات دينية وسياسية، ظهر معظمهم في زمن الاحتلال الفرنسي، من آل كنج والعباس وخير بك ومخلوف وغيرهم، ولكن معظم هؤلاء حيّدوا عن المشهد مع وصول الفريق حافظ الأسد إلى الحكم سنة 1970، باستثناء آل مخلوف نظرا للمصاهرة بينهم وبين آل الأسد.

وطوال فترة حكم الأسد الأب، كان هو المرجع الأول والأخير لكل العلويين، لا يضاهيه أحد ولا ينافسه أحد باستثناء شقيقه رفعت، قائد “سرايا الدفاع” الذي تم عزله ونفيه خارج البلاد بعد محاولة انقلاب فاشلة قام بها سنة 1984. بقي رفعت منفيا حتى سنة 1992، عندما عاد للمشاركة في جنازة أمه، ليعود ويغادر مجددا في السنوات الأخيرة من حكم أخيه. وعند ظهوره في مسقط رأسه بالقرداحة سنة 1992، تجرأ بعض العلويين بإطلاق عيارات نارية ترحيبا بمن كان يعرف بلقب “القائد رفعت”. وظن آخرون أنه سيكون رئيس سوريا المستقبلي بعد وفاة نجل حافظ الأسد البكر باسل عام 1994، ولكن تسلم بشار الأسد الرئاسة في سنة 2000 قطع الطريق عليه وعلى مناصريه.

ومع مرور الوقت نُسي رفعت في قرى العلويين، مع تقدمه بالسن وتراجع قدرته على دفع الأموال الطائلة لكسب الولاء. وأكبر دليل على تراجع نفوذه وقدرته على التهديد السماح له بالعودة إلى سوريا عام 2022، ليقضي سنواته الأخيرة في صمت، بعيدا عن أي نشاط سياسي أو عسكري أو حزبي.

ومنذ تولي بشار الأسد الحكم قبل 23 سنة، تنامى دور ابن خاله، رجل الأعمال رامي مخلوف، الذي أصبح هو الداعم الرئيس للطائفة العلوية، وأكبر “مشغل” لأبنائها، إما في شركة “سيرياتيل” التي كان يملكها وإما في مشاريعه الاقتصادية في دمشق وغيرها، وصولا إلى إنشاء “جمعية البستان” الخيرية قبل الحرب والتي قامت بتوظيف آلاف العلويين قبل تحويلها إلى ميليشيا عسكرية، حمل أعضاؤها السلاح للدفاع عن النظام ابتداء من سنة 2011.

كبر دور رامي مخلوف بشكل كبير جدا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وصارت له مؤسسات اقتصادية وازنة، مع ميليشيات مسلحة وحزب سياسي قام بشرائه، وهو “الحزب السوري القومي الاجتماعي” الذي عرف عن آل مخلوف الانتماء إليه تاريخيا.

وفجأة ومن دون مقدمات مسبقة، تقرر القضاء على ظاهرة رامي مخلوف سنة 2020 وتمت مصادرة أمواله وحل حزبه، مع مصادرة “جمعية البستان”، ما حوله من رجل أعمال ثري ونافذ إلى مجرد شخصية “فيسبوكية”، يظهر بين الحين والآخر لمخاطبة جمهوره بتسجيلات فيديو، كثرت فيها المواعظ الدينية والأخلاقية وقل المضمون الفعلي أو القدرة على التأثير.

ومن يومها، شهدت مناطق العلويين انهيارا اقتصاديا رهيبا، بعد رامي مخلوف، وعدم قدرة أي شخص على ملء الفراغ المالي الذي جاء نتيجة غياب رامي مخلوف.

في المقابل، تعزز دور أسماء عقيلة الرئيس السوري، وباتت ترافق الرئيس في جولاته الرسمية في عدد من الدول العربية، اضافة الى حضور الاعلامي البارز خلال تخرج ابنها في موسكو، من احدى الجامعات الروسية.

كما باتت مؤسسات الدولة بجوانبها المختلفة، حزب “البعث” والوزارات، تتعاطي مع عقيلة الرئيس باعتبارها “جزءا قياديا من مؤسسة الرئاسة السورية”، حسب تعبير دبلوماسي عربي في العاصمة السورية.

وبنت، أسماء التي تنحدر من عائلة سنية من حمص وسط سوريا مهاجرة في بريطانيا، شبكة نفوذ سياسية واقتصادية وحكومية واسعة. كما كانت باتت تقوم في شكل منفرد، بجولات ميدانية في مناطق مختلفة كانت اخرها واحدة في الريف العلوي، الذي تضرر من الحرائق.

الحرب ألقت بظلالها على كل السوريين بما في ذلك العلويون القابعون في حالة فقر قديمة ومستفحلة، فقد قتل منهم الآلاف منذ بدأت الحرب، دون إجراء إحصاء لتحديد عدد القتلى. في المدن والقرى السنية، حصدت الحرب أرواح آلاف الشباب والنساء والعجائز والأطفال كما جرى تهجير نصف السكان خارج بيوتهم وحوالى ثمانية ملايين لاجئ خارج البلاد.

أما عند العلويين فكان عدد القتلى في صفوف الشباب فقط، ما بين 18-40 سنة من العمر، وهم المنتسبون إلى الجيش أو ما عُرف بـ”القوات الرديفة”، من ميليشيات وكتائب مسلحة. لا توجد قرية علوية اليوم إلا وفيها بيت موشح بالسواد، ولا عائلة علوية، كبيرة كانت أم صغيرة، إلا وفقدت ولدا أو أكثر.

مع ذلك ظلّ العلويون موالين للأسد، خوفا على أنفسهم وأولادهم من مستقبل غامض في حال رحيله، ولم ينسوا قط أن إحدى أولى هتافات “الثورة” سنة 2011 كانت “المسيحية على بيروت والعلوية عالتابوت (النعش)”. عبارة يشكك معارضون في أصالتها وسط حديث عن استخدامها وتسويقها لشد عصب الموالين للنظام.

ويعتقد موالون أن فصائل المعارضة “فشلت في طمأنتهم، لا بل إنها زادت من تخوفهم لكثرة التهجم عليهم كطائفة”، سواء من “الإخوان المسلمين” أو غيرهم من التنظيمات الإسلامية المتطرفة، مثل “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام اليوم) أو “داعش”.

وهذا ما يفسر قلة الشخصيات العلوية في المعارضة ورفض شخصيات علوية كانت معروفة بمواقفها النقدية قبل العام 2011، الدخول في المعارضة.

لكن السواد الأعظم من العلويين وجدوا أن حالتهم اليوم تكاد أن تكون الأسوأ في سوريا، حيث لم تأتهم أي مكافأة على دعمهم للنظام الحاكم في سوريا، بل اعتبر ذلك “واجبا وطنيا” وقيل إنهم يحملون السلاح دفاعا عن أنفسهم كطائفة، وإلا سيتعرضون لإبادة جماعية من قبل المعارضة.

كما أن وضعهم المعيشي تراجع كثيرا في السنوات القليلة الماضية، في ظلّ تهاوي الليرة السورية التي وصلت قيمتها إلى 14 ألفا مقابل الدولار، وهي الأدنى منذ اندلاع الحرب، ما جعل من راتب الموظف الحكومي- علويا كان أم مسيحيا أم سنيا- لا يكفي لتأمين أساسيات الحياة، من طبابة ومدارس وتدفئة وكهرباء.

وفي أرجاء الجغرافيا السورية زادت ساعات التقنين الكهربائي بشكل كبير جدا. لكنها بقيت ثابتة بدمشق، تتراوح ما بين 3 ساعات قطع و3 ساعات وصل إلى أربع ساعات قطع مقابل ساعتي وصل.

أما في مناطق العلويين، فكانت ساعات التقنين تتجاوز اليوم الكامل في أشهر الشتاء البارد والصيف الملتهب. وفي المقابل، لا مجال آخر لهم لكسب العيش: لا عمل في قراهم، لا جامعات، ولا أمل في مستقبل أفضل.

كل هذا بقي ضمن المقبول بالنسبة لهم، ولكن ما بدأ العلويين يرفضونه هو تحميلهم وزر الأوضاع التي آلت إليها البلاد، وبأنهم مسؤولون جمعا، عما حل بها من مصائب.

المجلة

—————————

المزرعة الجملوكية السورية/ رشا عمران

تندرج المقابلة الأخيرة لرأس النظام السوري بشار الأسد مع محطة سكاي نيوز ضمن المحاولات الإماراتية الحثيثة لتبييض صورة النظام السوري، بعد أن كانت دولة الإمارات هي السباقة لإعادة العلاقات الدبلوماسية معه، ولمحاولة إعادة تأهيله أمام المجتمع الدولي والعربي (بطبيعة الحال)، فعلى ما يبدو أن حضور بشار الأسد لمؤتمر القمة العربية الأخير في جدة لم يساعد على عودته، ولم يجعل جهود دولة الإمارات في هذا الشأن مثمرة، خصوصا بعد أن تراجعت المملكة العربية السعودية عن عزمها إعادة العلاقات الدبلوماسية مع نظام الأسد (مع التقارير عن الخلاف الحاد بين المملكة ودولة الإمارات حول المحورية العربية)، وبالتالي سوف يزداد الشرخ العربي حول عودة النظام السوري الرسمية إلى الجامعة العربية، ما سيضيع مساعي وجهود دولة الإمارات في هذا الشأن، وبالتالي قد يضعف ذلك موقفها في خلافها مع المملكة العربية السعودية.

لكن ما حدث في المقابلة وما قاله (الرئيس بشار) كما يسمي هو نفسه (ذكر في المقابلة معمر القذافي وصدام حسين بأسمائهم المجردة بينما كانت كلمة الرئيس تسبق اسمه دائما حين يتحدث عن نفسه) بدا كافيا لتنهي دولة الإمارات سعيها في هذا الخصوص. ذلك أن بشار الأسد لم يتفوه بأي كلمة جديدة، ولم يقدم أي حل لأية مشكلة من المشكلات التي تؤرق المجتمع الدولي، أو لأي ملف من الملفات الأساسية في القضية السورية حاليا. خصوصا قضيتي المهجرين والمخدرات. وهما القضيتان اللتان عجلتا في محاولات إعادة التطبيع معه من قبل العرب ودول الجوار.

الإرهاب هو السبب في كل ما حصل ويحصل في سوريا، الإرهاب هي المفردة التي تعتمدها كل أنظمة الاستبداد في حروبها الداخلية والخارجية. وهي المفردة التي برر بها الأسد كل جرائمه بحق سوريا والسوريين، فبسبب الإرهاب تدمرت سوريا وتشرد شعبها كما قال لسكاي نيوز، أما مسؤوليته هو عن هذا الخراب الممتد فهي غير واردة، هو بذلك يؤكد مقولة قالها الأسد الأب ذات يوم (نحن لسنا هواة قتل وتدمير نحن ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير) تلك المقولة التي بررت وتبرر كل جرائم نظام الأسد في عهدي الأب والابن (لنأمل أن لا يكون هناك عهد الحفيد الأسد!).

بسبب الإرهاب إذاً تدمرت سوريا وتشرد شعبها وتهجر، وسكن الملايين منه في المخيمات، وبسببه تردت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في سوريا ما منع ملايين المهجرين من العودة إليها. لكم أن تتخيلوا الآتي: يعيش ملايين السوريين في مخيمات ليس فيها أدنى شرط من شروط الإنسانية ومع ذلك يرفضون العودة إلى سوريا بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية كما يقول “الرئيس بشار”! ربما لو كان محاوره جريئا ومحايدا لقال له إن حياة هؤلاء داخل سوريا مع كل أزماتها يفترض أنها أكثر رحمة وكرامة مما يعيشونه في المخيمات، لماذا إذاً لا يعودون؟ لم يسأل المحاور بشار الأسد هذا السؤال، ذلك أن إجابته واضحة: يفضل اللاجئون حياة الذل على العيش في ظل نظام الأسد، ذلك أن سقف ما يعيشونه في مخيماتهم هو ما هم فيه الآن، أما في سوريا فلا يوجد أي توقع لمصائرهم، فقد تكون التصفية أو الاعتقال أو الإخفاء في انتظارهم، يعرف الجميع ذلك بمن فيهم “الرئيس بشار” ذاته حتى وهو ينكر قيام سلطاته الأمنية باعتقال كثير من العائدين.

أما بما يخص المخدرات، فبحسب زعيم الكبتاغون تتحمل الدول التي دعمت الإرهاب أسباب وجودها وتجارتها “فالدولة الضعيفة” لا يمكنها مكافحة المخدرات. لم يعط أي وعد بتوقيف هذه التجارة ولا بمحاولة الحد من تهريب الكبتاغون ولا بمحاولة مكافحة صناعته، هو يقرّ أن دولته ضعيفة وبالتالي قد تستمر هذه التجارة حتى تقوى الدولة؛ وهو بهذا يعد دول الجوار والدول العربية بالمزيد طالما لا يدعمون نظامه بما يرضيه.

تحدث بشار الأسد عن كثير من الملفات الملحة في سوريا كما لو أنه يتحدث عن بلد لا علاقة له به، هو لا يستطيع أن يفعل شيئا بشأن الأزمة الاقتصادية والمعيشية ولا يستطيع أن يفعل شيئا بشأن الإعمار ولا بشأن المهجرين ولا بشأن الفساد ولا بشأن المخدرات، هو ليس قادرا على فعل أي شيء يخص البلد سوى “مواصلة المعارك” كما قال، ضد من يسميهم إرهابيين. منظرا عن مفهوم الخوف، كعادته في التنظير، ومتباهيا ببطولته في البقاء بوصفه “الرئيس بشار” ولم يهرب من المعركة، أما ملايين الضحايا ممن فقدتهم سوريا بسبب بطولته تلك فهم لا شيء، هم مجرد أرقام قد تجدون فيها بعض “الحالات الإنسانية كالعائلات التي فقدت ولدا أو أكثر وأرسلت من تبقى للموت في سبيل الوطن”. يتفاخر بشار الأسد بالموتى والقتلى من ضحاياه، يتفاخر بأحزان آبائهم وعجزهم عن رد مصائر أبنائهم، يتفاخر بأنه، وكما يقول المصريون (خربها وقعد على تلتها)، مستعدا لفعل ذلك ثانية لو الزمن عاد بأحداثه ذاتها. إذ ليس لديه ذرة ندم واحدة على ما فعل، ولا يرى نفسه مخطئا أصلا، بل العكس هو ببساطة يرى نفسه بطلا وفعل ما يجب عليه كرئيس (محبوب من شعبه) كما قال وتبجح معتبرا أن من طالبوا برحيله لا يتجاوزون المئة ألف. (لماذا لم يسأله المحاور لماذا اعتقلت السلطات السورية مئات الآلاف من السوريين معظمهم مختفون حاليا؟).

مسألتان مهمتان قالهما بشار الأسد في لقائه الأخير مع سكاي نيوز، الأولى هي عن الدعم الإيراني والروسي له، معتبرا أنهما صديقان وحليفان حقيقيان، وهو كان محقا في هذا، فلولا هاتان الدولتان لسقط نظامه منذ زمن طويل، وهنا لا يمكننا سوى أن نتذكر (أصدقاء الشعب السوري) والخذلانات المتتالية التي أصيب بها هذا الشعب منهم؛ طبعا دون أن ننسى الدور السيئ والسلبي لهيئات المعارضة ومؤسساتها التي كانت مثل الخناجر في جسد الثورة السورية. وعلى ذكر المعارضة هل انتبهتم إلى أن بشار الأسد يعتبر كل المعارضات مصنعة؟ حتى تلك التي تحت سقف الوطن “المصنعة داخليا”، وهذا ليس قولا مرسلا بل هو تَبَنٍّ واقتناعٌ كليٌّ وتامٌّ، ذلك أنه لا يمكنه استيعاب أن يكون هناك من يعارضه إلا لو تم هذا بفعل فاعل؛ هل ثمة هوس بالذات وبالسلطة أكثر من ذلك؟!

المسألة الثانية، وهي الأهم في الحوار كله، هي رفضه الكلام عن توريثه، هو مؤمن أن والده لم يكن ينوي ذلك بل كان ينوي توريث شقيقه الأكبر باسل لولا رحيله المفاجئ. وفي الأغلب أن بشار الأسد لم يستطع يوما تخطي هذا؛ وغالبا فإن كل ما فعله في سوريا هو محاولة لتجاوز هذه العقدة الكبيرة في حياته عبر إظهار أنه يصلح لأن يكون ديكتاتورا أكثر من أخيه وأبيه معا. لكن هل هذا يعني أنه لا يفكر بتوريث ابنه حافظ بشار حافظ الأسد؟ يقول (الرئيس بشار) إن والده لم يتحدث معه بهذا الشأن سابقا، كذلك هو لا يتحدث مع ابنه حافظ بهذا الشأن مطلقا؛ مسار الاثنين واحد كما يتضح من الكلام، قد يرى حزب البعث بعد عدة سنوات أن سوريا تحتاج لـ” أمل” جديد كما ارتأى نفس الحزب أن أمل سوريا بعد موت حافظ الأسد هو بشار، وبما أن سوريا لم تنجب في تاريخها من هو أصلح من هذه العائلة لحكمها فلِمَ لا يكون حافظ بشار الأسد هو أملها الجديد؟! لم ينفِ بشار الأسد فكرة توريث ابنه، هو فقط تركها لحزب البعث كما حدث معه. هكذا ستجد أجيال سورية جديدة قادمة أنها لن تعرف حاكما للجملوكية السورية خارج عائلة الأسد، هل من مصير أسوأ من هذا المصير لبلد مثل سوريا؟!

من البديهي أن محاور بشار الأسد كان بإمكانه طرح أسئلة أكثر إحراجا وأكثر قدرة على استفزازه وإخراج كل ما يفكر به، لو كان المحاور حرا طبعا أو لو كان القصد من المقابلة هو إحراج بشار الأسد، لكن، كما أسلفنا، فإن القصد غالبا هو محاولة جديدة لتبييض صفحة هذا النظام أمام العالم، لمحاولة جعله يعطي وعودا ما تبرر محاولات إعادة تأهيله، لكن لا يبدو أن هذه المحاولات قد آتت ثمارها، ذلك أن (الرئيس بشار) ظلَّ، كعادته، متعجرفا واستعلائيا ومتباهيا بدمويته، ويتصرف تماما كما لو أنه ورث مزرعة أبيه وله حق التصرف بها كما يشاء.

تلفزيون سوريا

——————————-

أهمية السياسة بوصفها كذبا/ رشيد الحاج صالح

على الرغم من تعود السوريين على كذب بشار الأسد في اللقاءات الصحفية التي يجريها من حين لآخر إلا أن ما يثير سخطهم في لقائه الأخير مع قناة سكاي نيوز العربية هو كمية الأكاذيب الواضحة وضوح الشمس، وحجم التناقضات التي يعرفها أولاد سوريا قبل كبارها. ولكن لماذا يكذب السيد الرئيس أكاذيب يعرف هو أنها أكاذيب وأن الغالبية العظمى من السوريين لن يصدقوا ما يقوله، وبالتالي لماذا يخاطر بهيبته ويحوّل نفسه إلى أضحوكة ومادة للتندر، وما هي غايته التي تجبره على الكذب المفضوح؟

قال بشار الأسد إنه يعترف “بالمعارضة المصنعة داخليا”، والكل يعرف أنه غيب أبرز وجوهها منذ نحو عشر سنوات، ونقصد عبد العزيز الخير، وأن الحرب في سوريا هي “صورة حرب” وليست حربا حقيقية، مع أن سوريا هي ساحة حرب طالت أوجاعها الجميع، وأنه لا يتدخل في الشؤون اللبنانية، ولا في أزمة الرئاسة هناك، والكل يعرف أن عكس ذلك هو الصحيح، وأنه “تمكن من تجاوز قانون قيصر” على الرغم من الانحدار المدوي الذي وصل إليه سعر صرف الليرة السورية هذا العام، وأن حافظ الأسد لم يكن له دور في وصوله للسلطة، وأنه أتى إلى السلطة عن طريق الحزب. والذي يتابع اللقاء سيلاحظ أن عداد الكذب يمكن أن يمتد من أول اللقاء إلى آخره.

يذكر أن بشار الأسد يلجأ إلى الكذب السياسي المفضوح على الرغم من أن تطور الحياة السياسية الحديثة يسير باتجاه التقليل من هذا الكذب بسبب ارتفاع وعي الناس السياسي، وثورة المعلومات والاتصالات، بالإضافة إلى حرية الوصول إلى الأخبار والمعطيات. وبالتالي لا يجدر بأي سياسي محترف أن يلجأ إلى هذا النوع من الكذب لأن إمكانية كشفه عالية جدا، بل تجعل من الزعيم السياسي الكذاب عرضة لقلة التقدير والشرف.

وعلى العموم يمكن تفسير ارتفاع وتيرة الكذب السياسي في لقاءات بشار الصحفية بأربع  قضايا:

الأولى، أنه ينطلق من مبدأ الكذب المشهور “اكذب على من لا يستطيع تكذيبك”. فبشار يكذب على السوريين بطريقة مكشوفة لأنه أقوى منهم، ولأنه يعرف جيدا أنه ليس هناك سوري واحد يستطيع أن يواجه كذبه ويقول له إن أباك هو من رتب لك منصب الرئيس وليس حزب البعث، وأن حزب البعث كله ليس له أي قيمة في الحياة السياسية السورية منذ عقود طويلة. وذلك بخلاف – مثلا – الرئيس الأميركي بيل كلينتون عندما أجبر على الاعتراف بأنه كذب على الشعب الأميركي، وهي كذبة واحدة كادت تودي به.

القضية الثانية، أن الخوف هو أكبر دافع للكذب السياسي المكشوف كما يقول علم النفس السياسي المعاصر. فالتوتر النفسي الذي يعانيه بشار الأسد خلال أكثر من عشر سنوات لا يمكن إلا أن يترك أثرا على نفسيته، لا سيما أن الكذب في النهاية هو حالة نفسية وليس أمرا متعلقا بالأخلاق أو السياسة بذاتها. والخوف هنا هو من أن الأمور، في المستقبل، قد لا تسير وفق ما يخطط. وإذا أخذنا مثالا على ذلك الخوف قوله إنه لا يخطط لتوريث ابنه حافظ وأنه لا يناقش معه أمور السياسة، ليس سوى خوف من أنه قد لا ينجح، إذا بقي على رأس السلطة خلال السنوات القادمة، من توريث منصب الرئاسة لابنه. مثلما أن تقليله من تأثير قانون قيصر يعود إلى خوفه من أن هذا القانون والعقوبات عموما قد تطيح به أو توقعه في أزمات صعبة قد لا يستطيع الخروج منها. لا سيما  أن التقارير تشير إلى أن الوضع في سوريا وصل إلى درجة غير مسبقة من التعقيد والصعوبة.  

القضية الثالثة، إن الطاغية يعتقد أن الموالين يصدقوّنه حتى لو كذب عيهم. فالولاء، بحسب ألكسندر كواري، من أهم الأمور التي يفكر الطاغية من خلالها بالسياسة. والفكرة هنا أن الموالي لا يشعر بالحرج إذا كذب زعيمه، بل على العكس قد يشعر بالفخر، لأنه استطاع خداع الآخرين، ونجح في الكذب من أجل مصلحة الوطن، أو أنه يضحي ويكذب من أجل حماية مصالحه. فالكذب بأن ليس في سوريا حرب هو مفيد لجلب الاستثمارات، والكذب بأنه لا يتدخل في الشؤون اللبنانية مفيد حتى لا يتهمه أحد أنه يهدد لبنان، كما حدث عام 2005.   

يضاف إلى ذلك أن الطاغية، في داخله، يستخف بالقدرات العقلية للموالين له، ولا يأخذ عقولهم على محمل الجد. ويعود مصدر احتقاره للناس إلى أن هؤلاء ليسوا مصدر سلطته في نهاية الأمر. هو يحكمهم على الرغم منهم وبقوة السلاح إذا شئت، وبالتالي لماذا يعطيهم قيمة أكثر مما يستحقون. ولا مانع من إسماعهم عددا من الأكاذيب الغبية من حين لآخر لتذكيرهم بمقامهم الحقيقي في عالم الطاغية السياسي.      

القضية الرابعة هي ما يسميه فرانسوا نودلمان “انتهاك حرمة الحقيقة” بحيث لا يعود هناك فرق بين الكذب والصدق، بين الباطل والحقيقة. ذلك أن الكذاب يعرف الحقيقة في داخله ولكنه يخفيها، أي يلغي الخطوط في النهاية بين الصدق والكذب. بحيث يمكن أن يتحول أي كلام إلى كذب أو صدق بحسب ما يريد الطاغية.

وأهم تجلٍ لانتهاك حرمة الحقيقة – بحسب جاك دريدا في كتابه تاريخ الكذب – هو الكذب عبر تحويل المشكلات الداخلية إلى مشكلات خارجية، وتحويل المشكلات الخارجية إلى مشكلات داخلية. فمشكلات سوريا الداخلية، كما يسردها بشار الأسد، كلها تعود إلى أسباب خارجية. مثلما أنه يحول مشكلات الخارج إلى عامل مؤثر على مشكلات الداخل؛ من حيث إن العالم، كل العالم، يتآمر علينا ويريد أن يحل مشكلاته على حسابنا، وفي أرضنا.  

وعلى العموم لا يخاف بشار الأسد من الكذب، لأن الكذاب إذا كان يخاف من شيء فهو يخاف من الفضيحة واكتشاف أمر كذبه، أما بشار الأسد فهو لا يخاف من الكذب لأنه ليس هناك ما يجبره على الاعتراف بكذبه. مثلما أن الشعور بالعار من اكتشاف الكذب أصبح شعورا معدما تماما عنده. لا يخاف لأنه وصل إلى درجة يسميها كانط “الانحطاط المطلق”، أي وصول الإنسان إلى درجة يعتقد فيها أنه لا شيء بدون كذبه. لا يخاف لأنه شخص يكذب ليس فقط لأنه يستطيع أن يكذب بل لأن الكذاب – بحسب أرسطو – لديه ميل شخصي/ وجودي للكذب بغض النظر عن الموقف الذي يجبر به على الكذب، أنه يعتقد أن الكذب أمر جدير بذاته، ولذلك تجد بشار الأسد يتعلق بالكذب كمسألة ملازمة لوجوده، ولا تنتهي إلا بانتهائه.

——————————-

من جديد.. علاقة الأسد وحماس/ محمد فواز

بعد عقد من الجفاء والخصومة المعلنة، طفا تقارب الأسد وحماس على السطح منذ نحو العام إلا أن المسار لم يكن مثل التوقعات، فعلى الرغم من زيارة وفد قيادي من حماس لسوريا ولقائها مع الأسد في مشهد ظهر وكأنه طي لصفحة الماضي بكل ما حملت. لكن ومنذ بضعة أيام خرج الأسد بتصريح لـ “سكاي نيوز عربية” هاجم فيه حماس قائلا بأن “موقف حماس منّا كان مزيجاً من الغدر والنفاق”.

منذ عام، لم يكن التقارب بين حماس والأسد خارج السياق، بل كان جزءا من مشاهد طي صفحة الربيع العربي الأخيرة وعودة عقارب الساعة الى الوراء، في لحظة تسارعت فيها عملية تقارب العرب مع النظام السوري. في حينها حسمت حماس خيارها وقرارها بالالتحام مع محور المقاومة الذي تتزعمه إيران.

بالنسبة لحماس، فهي ترى بأنها فصيل أصغر من دولة وأكبر من حزب أو جماعة، ويقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في فلسطين. تعتبر حماس بأنها المسؤول المباشر الأول عن الحفاظ على القضية الفلسطينية وتمثيل الشعب الفلسطيني المقاوم. هذه المسؤولية بنظر حماس تفرض عليها عدم الانكسار أو التراجع وتفرض عليها تأمين الدعم السياسي الدولي اللازم لقضيتها، وبالتالي نسج التحالفات المناسبة. يترتب كذلك على حماس تكاليف مادية وعسكرية باهظة تحتاج من يدعمها فيها وهذه لا تكون إلا عبر دول، في ظل التضييق على داعمي المقاومة في الوطن العربي والعالم.

من هذا المنطلق ومع تراجع الربيع العربي وتقارب غالبية دول الخليج مع إسرائيل، وتضييق إيران على حماس في جوانب عديدة نظرا لموقفها الداعم للثورة السورية، رأت حماس بأن المنطقة تتجه أكثر فأكثر للانفصال بين مشروعين، الأول تقوده إسرائيل والثاني إيران. ومن منطلق مصلحة فلسطين والقضية رأت حماس ضرورة رص الصف مع إيران ومحاولة الانصهار في المحور المعنون بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

هذا الانصهار في المحور والتنسيق تجلى في تكثيف زيارات قيادة حماس إلى لبنان، بل محاولة مساعدة الحزب على إنجاز بعض الملفات اللبنانية من خلال علاقة حماس مع بعض القوى اللبنانية. في الاتجاه نفسه انتشر مصطلح “وحدة الساحات” والذي تمت ترجمته إعلاميا في مجموعة فيديوهات مشتركة بين فصائل فلسطينية وإيرانية كانت حماس وحزب الله أعمدتها الأهم.

بقيت العثرة الوحيدة أمام حماس للاندماج الكلي في محور المقاومة هي علاقتها مع الأسد، فبعد شد وجذب داخلي ولمدة طويلة قررت حماس إعادة العلاقة مع الأسد خاصة أن التقارب العربي مع الأسد وإسرائيل في آن ظهر في أكثر من مكان. اعتبرت حماس عندها أن اللحظة ملائمة لإعادة العلاقة مع الأسد كون الخطر الإسرائيلي في تصاعد، ولتوقع حماس عدم تلقي اللوم لوجود أجواء عامة في اتجاه إعادة العلاقات مع الأسد من دول هي أكثر فاعلية وأهمية من حماس في المنطقة.

وقعت حماس هنا في مشكلتين أساسيتين، الأولى هي نظرة بشار الأسد للمسألة، والثانية هي عدم الاهتمام “بالتخريجة” الإعلامية للحدث. بالنسبة للأسد فإنه لا يقارب الموضوع الفلسطيني بالطريقة نفسها التي تقاربه فيها حماس بالتأكيد ولا حتى تلك التي تقاربه بها إيران. فاهتمام الأسد الرئيس هو سوريا وكيف يمكن تعزيز حكمه فيها. فالموضوع الفلسطيني لا يعتبر ضمن أولوياته وبالتالي فتقاربه مع حماس لا يعنيه كثيرا إلا من بوابة إرضاء إيران. ليس فقط لا يعني الأسد الموضوع الفلسطيني، بل أبعد من ذلك، فإن مصلحة الأسد مع إسرائيل أكبر من تلك التي تجمعه بحماس. في ظل النزاعات القائمة على الأراضي السورية وتسليم الأسد من سنوات لخسارة السيادة على البلد، يحاول الأسد كسب أكبر قدر من المصالح على الأراضي السورية من خلال تعزيز علاقاتها مع القوى الفاعلة في سوريا. لذلك وبناء عليه، يعتبر الأسد أن استخدام حماس كورقة للتقرب من إسرائيل أفيد من التقارب مع حماس نفسها وهو ما لم تحسب حسابه الحركة.

إضافة إلى ذلك، فإن حماس لم توفق في تقديم الخبر لجمهورها وخاصة للمتعاطفين معها ومع الثورة السورية في آن، فلم تجهز الأرضية بالطريقة اللازمة ولم تقدم تقاربها مع الأسد بحكمة بل بشيء من اللامبالاة بردود الفعل الشعبية. على المقلب الآخر، بعد أن تسرب الخبر وذاع وظهرت ردود الفعل الشعبية القاسية سارعت حماس لمحاولة معالجة ذيول الحادثة من خلال حملة كبيرة من اللقاءات الشعبية والرسمية وغير الرسمية لشرح وجهة نظرها لكل الأطراف المحبة. نجحت هذا اللقاءات في إطفاء جزء من آثار التقارب السلبية إلا أن التأخر وعمق جرح الجمهور مع الأسد أدى بطبيعة الحال لعدم تقبل شريحة أخرى منه لهذا التقارب.

اليوم وبعد تراجع التقارب الأسدي مع العرب وتركيا يعود الأسد لتقديم أوراق اعتماده لإسرائيل. بالنسبة لحماس وبعد هذه التصريحات من الأسد فقد وجدت نفسها في مأزق بين الرد وبالتالي تعميق الخلاف مع الأسد، وهو ما لا تريده وبين عدم الرد وبالتالي الظهور بمظهر الضعف. فضلت حماس القنوات الدبلوماسية فسارع حزب الله لمحاولة أخذ الأمر على عاتقه والتوسط مع الأسد لإيجاد مخرج للأزمة.

أحد عناصر القوة لحماس والتي لا يمكن التخلي عنها والتي تعتبر عامود المشروع استراتيجيا، هي الحاضنة الشعبية العالمية كحركة نضالية ضد الاحتلال. إن هذه الطهارة تلوثها الواقعية السياسية لذلك يقع على عاتق حماس أن تخطوا بحساسية عالية بين ألغام الضرورة والاستراتيجية والمصلحة إن من ناحية التصرفات أو الأقوال في ظروف لا تحسد عليها.

——————————–

العقل الباطني لنظام دمشق/ ناصر السهلي

من دون أن يرف جفن رأس النظام السوري، بشار الأسد، خرجت مكنوناته في مقابلة تلفزيونية أخيرة. أعاد الرجل السوريين والعرب إلى خطاب “المؤامرة”، والضغوط على “الدولة” (إذ يخلط بين نظامه والدولة) من دون تسمية أضلاعها وأهدافها. حالة الإنكار تواصل التحكم بالعقل الباطني لنظام أحال البلد أمام شعبه إلى ما صار عليه اليوم من تفكك وانهيار.

فتحت شعار “الصمود”، أي التمنع عن تقديم تنازلات لشعبه، يُحال الشعب إلى “مؤيد” تارة و”متآمر” في أخرى، وقد كرر سابقاً أن “حاضنة الإرهاب بالملايين”، معتبراً أن عشرات آلاف من المحتجين فقط خرجوا على حكمه.

ولأن الرواية المنطلقة في ربيع 2011 تفقد حلقات ترابطها، فقد نسي الرجل أنه أخبر الناس سابقاً أن الأشهر الأولى لم يكن فيها مسلحون في الاحتجاجات، إلا من في نماذج مثل “تصادف وجود كاميرا التلفزيون مع انتشار مسلحين في درعا”.

ما يراد تسويقه في الرواية الحالية هو أن الدمار في سورية قام به “الإرهابيون”، المسلحون ببنادق وأسلحة متوسطة. فلا صواريخ ولا براميل ولا طائرات “ميغ” ولا سلاح كيميائي استخدمها النظام. ولم يجر قصف ومحاصرة الناس حتى الجوع والترحيل. وتلك بالأصل رواية تستدعي نهاية نظام فاشل حتى في حماية بلده بوجه “عصابات مسلحة”، كتلك التي سوقت على ألسنة معدي دعايته منذ أولى الاحتجاجات في حوران.

على كل، استعصاء الحالة السورية ناجم بالأساس عن إمعان النظام، القائم على أسس الأجهزة الأمنية ومليشيات إيران وقصف وحشي روسي، في الاستهتار بعقل شعبه. وذلك لا يثير وحده الاشمئزاز، إذ يُحول هذا الشعب تارة إلى “شعب المؤامرة” وفي أخرى “شعب صامد” وداعم للحكم، بل لعودة نغمة “المؤامرة الكونية” كناظم لحالة ابتزاز لمحيطه العربي والدولي.

الكلام عن العرب لا يقل عن مستوى تحميلهم مثل ملايين المُهجرين واللاجئين مسؤولية دمار سورية. وتلك لم تعد تحتمل بقاء حقائق تواصل المحيط العربي والإقليمي مع نظام دمشق منذ بداية انطلاق الاحتجاجات بعيدا عن الإعلام. فما يجري اليوم هو اختطاف بلد وشعب باسم “مقاومة المؤامرة”.

أما فلسطين، فيبقى نظام دمشق مثلما كان دوماً بطل الشعارات، “محبا” لها وكارها لشعبها. تهجير مخيم اليرموك شاهد، مثلما هم آلاف المعتقلين من فلسطينيين في سجونه. والزج بمنظمات تحمل اسم القدس وفلسطين، وحتى “جيش التحرير الفلسطيني” (خدمة إلزامية) في مواجهة النظام لشعبه، بعيداً عن حدود فلسطين فضح منذ زمن حقيقة “النظام الممانع”.

العربي الجديد؟

—————————-

بشار الأسد للمهجرين: “نصيحة من هالدقن لا حدا يرجع”/ غسان ياسين

من نكد الدنيا على الحُر أن يُضطر لسماع مقابلة تلفزيونية مع قاتل محترف ومجرم حرب وواحد من كبار مصنعي ومروجي المخدرات في العالم، بعد أن جرب وعلى مدار سنوات طويلة كل أنواع الأسلحة بحق المدنيين، بما فيها الأسلحة الكيميائية والقتل تحت التعذيب، وأنكدُ منه أن يضطر للكتابة عنه.

لكن ما حفزني للكتابة عن مقابلة رأس النظام مع القناة الإماراتية هو ما جاء فيها من هدايا للمعارضة، أول هدية كانت حين أقر واعترف بأن مناطق سيطرته -والتي يقتسمها معه الإيرانيون والروس وميليشيات أخرى- لا تصلح للعيش وتفتقر للحد الأدنى من مقومات الحياة، صحيح أنه يريد بتصريحه هذا أن يبتز المجتمع الدولي ودول الخليج لكي تدفع له تحت بند إعادة الإعمار أو مشاريع التعافي المبكر، لكنه دون أن يقصد أسدى لنا خدمة كبيرة لأن هذا الطرح من رأس النظام يؤكد على استحالة عودة المهجرين قسرياً من دول الجوار إلى سوريا في وقت تتصاعد فيه حملات تنادي بضرورة عودة السوريين إلي سوريا في أكثر من دولة، فكيف يمكن العودة إلى مدن لا ماء فيها ولا كهرباء ولا مدارس ولا مرافق صحية كما قال بشار الكيماوي حرفياً في المقابلة.

واحدة من الهدايا القيمة والتي وصلتنا منه هو أنه تحدث خلال المقابلة في معظم الملفات كأنه موظف دبلوماسي إيراني، هاجم العرب بشدة حين قال إن العلاقات شكلية وستبقى كذلك في وقت أكد فيه على رسوخ وصوابية تحالفه مع إيران، وخلال حديثه عن حماس وغدرها حسب وصفه ركز على بعض القيادات في حماس دون غيرهم بحجة أنه لا يعرف البقية وكان يقصد بكلامه خالد مشعل غير المرغوب به إيرانياً، وأيضا هاجم تركيا بشدة وعاد وأكد على رفضه لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل انسحاب الجيش التركي من سوريا أو وضع جدول زمني للانسحاب وكما هو معروف هذا مطلب إيراني بالدرجة الأولى لأن إيران ترى في النفوذ التركي داخل سوريا تهديدا لنفوذها أكثر من أي دولة أخرى موجودة على الساحة السورية بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، وزاد في جرعة هجومه على تركيا حين قال “إن الإرهاب في سوريا صناعة تركية”.

في المقابلة كثير من الأكاذيب وقليل من الرسائل، وإذا أمعنا النظر في لغة جسده خلال حديثه مع الصحفي الذي كان يبدو كتلميذ مؤدب وأبله فسنجد أن رأس النظام كان مهزوزاً ومرتبكاً ومتوتراً، وهذا يعطينا مؤشرا على حجم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها النظام بعد أن انهارت الليرة مقابل العملات الصعبة، وبعد مؤشرات على انهيار قطاعات خدمية كثيرة ومنها الصناعات الدوائية والتي ستؤدي إلى إغلاق كثير من المعامل نتيجة أزمة سعر صرف الليرة مقابل الدولار. أكاذيب معروفة ومكررة منذ أول خطاب له بداية الثورة وحتى اليوم، منها حديثه عن حرصه على عودة المهجرين فالنظام وخلفه إيران لا يريدون عودة سوري واحد، لأن جزءا كبيرا ممن ترك سوريا هم من الشعب الثائر والمعارض وهؤلاء يعكرون صفو سوريا المفيدة والمتجانسة والتي سعى لها بشار الكيماوي كثيراً. وأصدق ما قاله في المقابلة هو أنه لو عاد به الزمن لفعل ذات الشيء، أي إنه يؤكد ما يعرفه وخبره السوريون جيدا من أن هذا النظام يتصرف كعصابة وعلى العرب ودول المنطقة والعالم أن يقبلوا به كما هو بكامل إجرامه وأنه لن يوقف إغراق المنطقة بالمخدرات والإرهاب، وفوق هذا يريد منهم أموالهم لأجل إعمار ما دمره بالبراميل والسكود، واحدة من الرسائل القليلة في المقابلة كانت تجاه الولايات المتحدة الأميركية طمعاً في التخفيف من العقوبات وأثرها، لأنه يعلم جيداً أن مفتاح خزائن الأموال التي قد تتدفق لشرايين اقتصاده المنهك موجود في واشنطن وليس في مكان آخر.

يجب على المعارضة انتهاز الفرصة والاستفادة من هدايا رأس النظام القيمة والتي تنسف كل الجهود العربية والدولية، والتي حاولت عبر انتهاج سياسة خطوة بخطوة تحصيل مكاسب من النظام، وأيضاً التأكيد على أن سوريا ليست آمنة ولا مستقرة حتى يعود المهجرون قسرياً إلى مدنهم وقراهم، على المعارضة أن تحمل هذه الهدايا وتطوف بها العالم وتطرق كل الأبواب مجدداً لتثبت فشل سياسة خطوة بخطوة والتي بدأها العرب قبل سنوات وكانت نتيجتها لا شيء، وأيضاً لتسكت الأصوات المرتفعة في دول الجوار والتي تتحدث عن أن سوريا باتت آمنة لعودة المهجرين بعد أن قال بشار الكيماوي في المقابلة مع القناة الإماراتية وبشكل غير مباشر وكرر ما قاله سابقاً واحد من كبار ضباطه وكبار مرتكبي جرائم الحرب في سوريا عصام زهر الدين قبل سنوات، حين خاطب المهجرين في فيديو شهير: “أرجوك لا تعود لأن إذا الدولة سامحتك نحن عهداً لن ننسى ولن نسامح.. نصيحة من هالدقن لا حدا يرجع منكم”.

——————————

(المؤتمر القومي العربي) حين يسقط على أبواب الاستبداد/ أحمد مظهر سعدو

لم يكن حج أهل (المؤتمر القومي العربي) إلى دمشق، من بوابة بشار الأسد، خارج التوقعات، ولا هو قد غرد خارج السرب، بل لعل المقدمات كانت ستؤدي إلى تلك النتائج التي حصلت. فمن سمح لشخوص من داخل النظام السوري ليكونوا أعضاء في هذا المؤتمر القومي الشعبي العربي المفترض، ومنذ دورته الثامنة سوف تكون المآلات ما شاهدناه جميعًا عبر استقبال (بهيج) وابتسامات فاقعة متبادلة بين رأس النظام السوري بشار الأسد، ورئيس ما يسمى (المؤتمر القومي العربي) والمرشح الرئاسي المصري السابق حمدين صباحي.

عندما يتحول مؤتمر كبير بحجم (المؤتمر القومي العربي) إلى أن يكون مجرد أداة من أدوات نظم الاستبداد الأشد قسوة ووحشية وانتهازية وفاشيستية، كنظام بشار الأسد، ثم ليكون هذا القومي العربي الذي ينتمي إليه من ينام في حضن المشروع الفارسي، الذي لم يكن همه يومًا سوى استهداف العرب والعروبة والإقليم المجاور، فكانت دولة إيران ومن ثم دولة الملالي في طهران الدولة التي لا سياسة لها ولا استراتيجيات ضمن مساراتها، إلا (تصدير الثورة) كما قال آية الله الخميني لتحقيق حلم الدولة الفارسية الطائفية، في السيطرة والهيمنة على المنطقة برمتها، وإعادة إحياء إمبراطورية (كسرى أنو شروان) فتكون الدولة الإيرانية محتلة لدولة الأحواز العربية، ومقتطعة ثلاث جزر من دولة الإمارات العربية المتحدة، ومتغلغلة في سيرورة الدولة العراقية، التي أقيمت بعد سقوط بغداد عام ٢٠٠٣ وعلى أنقاض العراق الكبير، لتصبح مجرد ألعوبة بيد الغرب، والإيرانيين على حد سواء، إضافة لذلك تتغلغل إيران اليوم في كينونة الواقع السوري، وتسهم مع روسيا في إعادة قيامة دولة بشار الأسد الاستبدادية، ولتتم إهالة التراب على ما ينوف من مليون شهيد سوري، ومثلهم من المعتقلين والمغيبين قسرًا، وتهديم ما يزيد عن ٦٥ بالمئة من البنية التحتية السورية. ثم دعم ميليشيات الحوثيين في اليمن لتسيطر على باب المندب المعبر الدولي الحيوي، ثم تستنزف كل دول الخليج العربي، وتدخل الواقع اللبناني ضمن ارتدادات لبنان العربي ليكون الملعب الرئيسي الذي تمارس فيه إيران كل موبقاتها وأطماعها التوسعية في المنطقة العربية على مسمع ومرأى الأميركان والغرب عامة.

بالتوازي مع كل ذلك، كيف يمكن أن يأنس ويطمئن ممن يدَّعون العروبة والقومية العربية، إلى عدو كبير بأطماعه تلك، ومشروع فارسي خطير أصبح ينافس في خطورته وامتداداته المشروع الصهيوني في المنطقة، ليس على فلسطين فحسب، بل المنطقة في مجملها. كيف يمكن لحمدين صباحي (العروبي الناصري) كما يقول أن ينتمي إلى مشروع فارسي إيراني هذه بعض مستويات خطورته في المنطقة وما حولها؟ وهل نسي (حمدين صباحي) أن (جمال عبد الناصر) كان قد رفض التدخل العسكري في سوريا من أجل إعادة دولة الوحدة بعد الانفصال في 28 أيلول/ سبتمبر 1961، من منطلق قيمي أخلاقي أنه لا يقبل أبدًا أن تراق دماء الشعب السوري، حتى لو كان ذلك من أجل هدف كبير وأساسي في تلك المرحلة الزمنية هو هدف الوحدة العربية. بينما يزحف السيد حمدين صباحي اليوم مع ثلة منتقاة من أعضاء المؤتمر القومي العربي، وهم يدوسون على دماء وجثث السوريين الذين قام بقتلهم بشار الأسد وميليشياته وداعموه من مثل إيران والحشد الشعبي العراقي، وحزب الله اللبناني الذي يتحالف معه في المؤتمر القومي العربي، تحت ذريعة خطاب خشبي ما زالوا يلهجون به، ويكذبون عبره على الناس في الوطن العربي بكليته، هو (المقاومة والممانعة) التي لم يدرك حمدين صباحي بعد أن هذه المقاومة والممانعة حسب حسن نصر الله تمر أولًا من القصير وحلب وحمص وإدلب فوق جثث أطفال سوريا ونسائها وشيوخها وشرفائها.

ليس المؤتمر القومي العربي الذي يؤيد اليوم المجرم بشار الأسد إلا ألعوبة بيد إيران وحزب الله الأكثر عداء للعروبة والعرب والقومية العربية، بل وكل منتجات الدولة الوطنية في سوريا والعراق واليمن ولبنان. ولا يمكن اليوم القبول أو الصمت على كل ترهات الذين يتهافتون ذرافًا ووحدانًا نحو دمشق المحتلة من آل الأسد ومن إيران/ الملالي وروسيا / بوتين. وليس ناصريًا مطلقًا من يدَّعي العروبة والعمل العربي، ويعتقد أن قاتل أطفال سوريا وكل شعبها، يمكن التوافق معه أو احتضانه تحت ذريعة وحدة الأمة العربية أو وحدة الصف العربي. حيث لا يمكن أن يكون ضمن الصف العربي من يقتل ويعتقل خيرة أبناء سوريا، ولا أعتقد أن (حمدين صباحي) قد غاب عن مخياله ما فعله بشار الأسد بشعب (الإقليم الشمالي) الذي يتغنى به، وما ارتكب من جرائم ضد السوريين كاستخدام الكيماوي ضد المدنيين في سوريا، وما زج في سجونه من شباب وكهول ونساء هم خيرة أبناء سوريا، ومنهم بالضرورة من كانوا يومًا إخوة وأصدقاء وحلفاء (لحمدين صباحي وتياره العروبي)، من العروبيين السوريين أمثال رجاء الناصر وصبحي خبية وسامر الأحمر وصبحي قزموز ومحمد معتوق والكثير الكثير من الوطنيين السوريين والعروبيين في سوريا الذين أخفاهم النظام الأسدي قسرًا، ولا أحد يعلم أي شيء عن مصيرهم إلى الآن.

العروبة والقومية العربية ليست مصالح ومنافع ومكاسب، بل هي انتماء للوطن والأمة وقيم عليا يحملها من أمسك بها، وهي ثقافة وحضارة وإنسانية، لا يمكن المتاجرة بها، ولا القبول بفتات طواغيت الاستبداد، أو التحالف مع مشاريع فارسية مناقضة للعرب والعروبة والمشروع القومي العربي النهضوي، وتستهدف الأمة كل الأمة.

كان عارًا وخزيًا الجلوس إلى ملك الكبتاغون في سوريا والمنطقة، وبعد اليوم لن يقبل أحد ممن يعتنق العروبة الديمقراطية وينتمي إليها، أن يكون هؤلاء الذين داسوا على دماء السوريين ومسحوا كل تصريحاتهم السابقة في عام ٢٠١٢، عندما قالوا بأن هناك إجرامًا في سوريا يمارسه بشار الأسد ضد شعبه. ويبدو أنه لن يكون بالإمكان بعد هذه الارتماءات بأحضان الظلم القبول بأية شعارات خلبية وخشبية منافية لحقوق الشعوب ومخالفة للقيم الإنسانية.

———————————–

من يريد بشّار الأسد؟/ فاطمة ياسين

عقب لقاء القمّة العربية في مايو/ أيار الماضي في جدّة، حيث دعي بشار الأسد بشكل رسمي، شهدت الليرة السورية انخفاضاً كبيراً، وكان أمل النظام وشارعه الموالي أن تنعش دعوةُ سورية الاقتصادَ المنهار، أو تشكّل الخطوة الأولى في زحزحة الوضع المعيشي المزري المخيِّم على سكان المناطق التي تعيش في كنف النظام. ولكن يبدو أن الدعوة كانت مجرّد سبر سياسي، ولم يرافقها أي نشاط يتعلّق بتحريك اقتصاد البلد، وجرى الاقتصار على إعادة المقعد السوري إلى النظام وتمكين بشّار الأسد من الجلوس مع القادة العرب، ومنحه فرصةً للحديث.. لم يترُك ذلك الحدث وراءه إلا مزيداً من الانهيارات في حياة الناس. وقد يبدو اللقاء التلفزيوني الذي أجرته مع بشّار الأسد قناة سكاي نيوز عربية، وبثّته الأربعاء الماضي، فرصةً مشابهة للحديث، من دون أن يكون لذلك تأثير إيجابي على الأرض، ومن دون أن يعطي مؤشّراً على أن الجهات التي سمحت باللقاء معه وعرضه على شاشة التلفزيون مستعدّة لأن تقدّم ما يتجاوز هذه الخطوة. وباستقراء بسيط، يمكن أن نتوقع مزيداً من الانخفاض في سعر صرف الليرة، وهذا ما حصل بالفعل، ومزيداً من تحطيم الاقتصاد، خصوصاً أن الأسد ظهر في المقابلة كما نعرفه تماماً، من دون أية مفاجآت أو تغييرات تُذكر.

منذ السؤال الأول، حرص الأسد على أن يعكس صورة لنظامٍ يحمل تقاليد ديكتاتورية عريقة، لا ترى إلا نفسها في مرآةٍ ضخمة تغطّي الأفق. ومن بداية المقابلة، ذكر أن كل الذين خرجوا معارضين لنظامه منذ أيام الثورة الأولى لا يتجاوزون المائة ألف في كل المحافظات! تُذَكِّر هذه المائة ألف التي تحدّث عنها بنسبة تتجاوز الـ99% التي كان يفوز بها والده في أثناء تجديد البيعة، وورث عنه نسبةً مشابهة. لم يتساءل المذيع عن ماهية المنظار الذي كان يرتديه بشّار وهو يشاهد على الشاشات المظاهرات الحاشدة ضدّه في أرجاء سورية. وفي الجواب التالي، ردّ بثقة بأنه لو أتيح له أن يعيد شريط الأحداث بعد أن خبِرَها لكان تصرف بالطريقة ذاتها بالضبط، ولم يبدُ نادماً عن الأفعال التي قام بها طوال سنين الثورة النشطة، بل تحدّث باستفاضة عن مؤامرة، من دون أن نفهم غاية الاستهداف الخارجي لنظامٍ رديء كالذي يمثله. وقد اعترف بعدم وجود كهرباء وماء ومدارس وصحّة في سورية، قال هذا من دون أن يعي أنه المسؤول الرئيس عن تأمين ذلك كله، وتوّج حديثه في ردّه على سؤال التنحّي، من دون أن يهتزّ أو تتغيّر ملامحه، كي يبدو “صادقاً”، فقال إن التخلي عن المنصب في تلك الظروف يُعدّ هروباً من المسؤولية! وبذلك يَعتبر بشّار نفسه شجاعاً، لأنه بقي ولم يغادر حين طُلب منه الرحيل.

يمكن اتخاذ هذا الحديث صورةً عما تعانيه سورية، وما هو مسلط عليها منذ نصف قرن، حيث كان التطوّر يمضي سريعاً في العالم، فيما الركود الآسن يخيّم على هذه البقعة المنكوبة. تجاوزت البشرية عتبات مهمة في التطوّر، ونمت أمم على مسافاتٍ يسيرةٍ من حدود سورية، وما زال ساكن القصر الجمهوري في المهاجرين يتحدّث بهذه الطريقة، وتنقلها القنوات الفضائية على أنها مقابلة حصرية لرئيس سوري، ليس لديه فكرة عما تسمّى معارضة، ولا أحد سوري يمثل الوطنية إلا هو، وكل من على الكرة الأرضية يتآمر على هذه البلد، وهو رئيسها. بهذه الطريقة وهذا الطرح المتهالك، يمكن أن تمتدّ المأساة عقوداً مقبلة. ويمكن للمسألة أن تستعصي أكثر، فهذا الرجل وطريقته في التفكير والحكم ما زالا يستهويان من يُفسحون له المجال، ليتحدّث على التلفزيون، ويوسعون له المجالس، فيجلس على كرسي جامعة الدول العربية نائباً عن الشعب السوري، ويعتبر حالة البلاد المتردّية، ووجود نظام الأسد واستمراره أمران غير مرتبطين بعضهما ببعض.

العربي الجديد

——————————

الأسد في سرديّاته التاريخية/ حسين عبد العزيز

يحار المرء العاقل كثيرا عندما يستمع لزعماء مستبدّين، ويعجز عجزا تاما في إيجاد تفسير عقلاني لما يقولونه، هل هم يكذبون بشكل علني وفج، أم أنهم مقتنعون بما يقولونه، وبالتالي يعيشون حالة شيزوفرانيا مع الواقع القائم؟ ربما تكون الحالتان موجودتين في شخصية المستبدّ، وإن كانت الحالة الثانية أقرب إلى الواقع، كما بيّنت تجارب عالمية عديدة للمستبدّين.

مع طول عملية الحكم، وباعتباره الرجل الآمر والناهي، ومع كثرة المتملّقين، يعيش الرئيس أو الزعيم حالة البارانوايا التي تتفاقم إلى درجة أنه يصبح منفصلا عن الواقع، حتى في خطوطه العريضة، فلا يرى ويسمع إلا بعيون المحيطين به وألسنتهم والتقارير التي ترد إليه.

مفاد هذا القول كلام رئيس النظام السوري بشّار الأسد مع قناة “سكاي نيوز” الإخبارية، وتقديمه سردية تاريخية وحالية لما جرى ويجري في سورية منذ اندلاع الثورة عام 2011، لا علاقة لها بالحقيقة الموضوعية. لقد بلغت سرديته مستوىً عاليا من الميتافيزيقا السياسية إن صحّت العبارة، لجهة كسرها منظومة الحقائق القائمة. قال الأسد إنه لم يكن لوالده الرئيس حافظ الأسد أي دور في وصوله إلى منصب الرئاسة، فهو لم يتولّ أي منصب سياسي أو عسكري قبل وفاة والده، والسؤال الذي يطرح نفسه، من الذي اختار الأسد الابن إذا لمنصب الرئاسة؟ تقول الوقائع التاريخية، وفقا لما جرت في سورية، إن مجلس الشعب عقد، في يوم إعلان وفاة حافظ الأسد في 10 يونيو/ حزيران عام 2000، جلسة استثنائية برئاسة رئيس المجلس، عبد القادر قدورة، وبعد كلمات النعي، قال قدّورة أمام النواب “أيها الزملاء، وردني اقتراح من أكثر من ثلث أعضاء مجلس الشعب بتعديل المادة 83 من الدستور التي تنص: يشترط فيمن يرشّح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سورياً متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية متمما الأربعين عاما من عمره”. وفعلا تم تعديل المادة 83 من الدستور، فأصبحت “يشترط فيمن يرشّح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيا سورياً متمتّعا بحقوقه المدنية والسياسية، متمما الأربعة والثلاثين عاما من عمره”.

نحن هنا أمام فعل ديمقراطي قام به “مجلس الشعب” المنتخب مباشرة من الشعب. هكذا يقرأ الأسد الوقائع السياسية. وعلى النهج يفسر الأسد أحداث سورية منذ عام 2011، فالثورة السورية المزعومة ليست سوى مؤامرة لإخراج سورية من معادلة الصراع مع إسرائيل، وأن الشعب ملتف حول قائده، وكل الذين تظاهروا لا يتجاوز عددهم المئة ألف شخص مقابل ملايين البشر المؤيدين له. بيد أن حالة الانفصام عن الواقع تزداد حين يقول إن استمراره بالحكم ناجم عن إرادة شعبية هي التي وقفت في وجه الإرهاب والولايات المتحدة، وحالت دون تحقيق أهدافهما، وليس القمع العنيف والقتل العشوائي واستخدام الأسلحة الفتاكة السبب في بقائه.

أيضا، ليست “الدولة السورية” هي التي قامت بعمليات القتل والتهجير ضد فئاتٍ واسعة، وإنما الإرهاب هو الذي فعل ذلك، فلا توجد دولة، يتابع الأسد، تدمّر الوطن. وحتى توقف عودة اللاجئين إلى سورية ليس متعلقا بالواقع الأمني، وإنما بالواقع المعيشي السيئ وانهيار البنى التحتية، يقول الأسد. وفي هذا جانب من الحقيقة، فالوضع داخل سورية صعب، لكنه سبب غير كاف لعدم العودة، فواقع اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا سيئ للغاية، وهؤلاء، كما أي لاجئين في العالم، يفضّلون العودة إلى ديارهم، إذا لم يوجد فيها ما يهدّد حياتهم وحياة عائلاتهم.

وفي ما يتعلق بالعلاقات العربية ـ العربية وموقع سورية منها، فقد ناقض الأسد ما قاله في القمة العربية في جدّة في مايو/ أيار الماضي، حين قال “أما سورية فماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة.. لكنها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان.. فالأحضان عابرة أما الانتماء فدائم، وربما ينتقل الإنسان من حضن إلى آخر لسبب ما، لكنه لا يغير انتماءه، أما من يغيّره فهو من دون انتماء من الأساس، ومن يقع في القلب لا يقبع في حضن، وسورية قلب العروبة وفي قلبها”.

في مقابلته مع “سكاي نيوز”، قال الأسد “إن العلاقات العربية العربية منذ أن تكوّن عندي الوعي السياسي قبل أربعة عقود، هي علاقات شكلية، لماذا؟ لسبب بسيط، لأننا بطريقة تفكيرنا ربما على مستوى الدول، أو هي ثقافة عامة لا أدري، لا نطرح حلولا عملية ولا نطرح أفكارا عملية لأي شيء، نحبّ الخطابات والبيانات واللقاءات الشكلية، هذه طبيعة العلاقة”. يشير هذا التغير في النبرة حيال العرب إلى أن قطار التطبيع الذي توج في قمّة جدة توقف أو تم إبطاؤه بشكل واضح، ليس بسبب الضغوط الأميركية فحسب، بل الأهم لإدراك بعض القادة العرب أن هذا الانفتاح على النظام السوري سيُلحق بهم ضررا استراتيجيا.

تنتهي سرديات الأسد في ملف المخدّرات، فيقول “إذا كنا نحن من يسعى كدولة لتشجيع هذه التجارة في سورية، فهذا يعني أننا نحن كدولة من شجعنا الإرهابيين ليأتوا إلى سورية، ويقوموا بالتدمير ويأتوا بالقتل، لأن النتيجة واحدة.. إذا وضعنا الشعب بين الإرهاب من جانب والمخدّرات من جانب فنحن نقوم بأيدينا بتدمير المجتمع والوطن، أين هي مصلحتنا؟”. ويتابع الأسد، وهذا هو الأهم، “تجارة المخدّرات كعبور وكاستيطان هي موجودة لم تتوقف، هذه حقيقة، ولكن عندما يكون هناك حرب وضعف للدولة، فلا بد أن تزدهر هذه التجارة، هذا شيء طبيعي، ولكن من يتحمّل المسؤولية في هذه الحالة هي الدول التي ساهمت في خلق الفوضى في سورية وليست الدولة السورية”.

ثمّة رسالتان أساسيتان موجهتان إلى الدول العربية: أن “الدولة” السورية لا علاقة لها بتجارة المخدّرات، فهي نشأت بسبب ضعف الدولة، وهذا يعني أن هذه التجارة ستستمرّ طالما أسبابها (ضعف الدولة) ما زالت قائمة. وأن الدول التي ساهمت في إشاعة الفوضى في سورية هي التي تتحمّل مسؤولية انتشار تجارة المخدرات في سورية، وبالتالي على هذه الدول أن تقوم بتغيير جذري في استراتيجياتها حيال سورية، وتقديم المساعدات لها للعودة إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.

تفيد تصريحات الأسد والمسؤولين السوريين طوال السنوات السابقة بأننا نتعامل مع منظومة حاكمة مُحكمة الإغلاق، لا مجال إلى إصلاحها أو إحداث تغيير طفيف في سلوكها. وفي حالة مثل الحالة السورية، لا يوجد سوى خيارين: بقاء النظام كما هو، أو إزالته وتدميره بالكامل عبر ثورة شعبية جارفة، لا تبدو البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مهيأة لهذا الفعل الثوري.

العربي الجديد

—————————-

بشّار الأسد… عندما يعظ الشيطان/ أسامة أبو ارشيد

من الناحية المهنية والموضوعية البحتة، لم تكن مقابلة قناة سكاي نيوز عربية، أول من أمس الخميس، مع بشّار الأسد، أكثر من محاولة بائسة لتلميع (وإعادة تأهيل) زعيم مافيا إجرامية وسفاح لئيم، يقدّم نفسه رئيس نظام حكم في دولة. ومن ركّز في نبرة أسئلة مجري الحوار وطبيعتها لوجد أنها تحيل إلى اتهاماتٍ في حقّ الأسد وحقّ نظامه بطريقةٍ ودِّية وسطحية، بل وتبريرية كذلك، ثمِّ إعطائه، من دون تحدٍّ ولا متابعة، فسحة التلفيق وتزوير الحقائق والأحداث، تاريخاً وواقعاً ومسارات، وقد كان الرئيس الطاغية كان أشدّ بجاحةً وصلافة في  المقابلة.

لم يكتف الأسد بإنكار حقيقة الواقع الكئيب والكارثي في سورية ومسؤوليته فيه وعنه، بل إنه تولى كبره عبر محاولة إعادة كتابة تاريخٍ معاشٍ لا يزال في سيرورة، وموثق صوتاً وصورة. بعد قرابة 13 سنة على اندلاع الثورة السورية، لا يزال الأسد يصرّ أن جرائم نظامه الطائفي بحقّ شعبه إنما تندرج في سياق “الدفاع عن المصالح الوطنية السورية”. بالنسبة له، المستهدف هي سورية ومواقفها وليس هو بشخصه. بمعنى أن نزول السوريين إلى الشوارع ليس أكثر من مؤامرة تستهدف البلد وما يسمّى “محور الممانعة”. ومن ثمَّ لا عجب في أنه اعتبر من تظاهروا ضد حكمه لم يزيدوا على “مائة ألف ونيّف”. ولا عجب أن يماهي كل من يعارض طغيان نظامه واستبداده بـ”الإرهابيين”. وهكذا، يكون استمراره على رأس النظام انتصاراً لسورية وهزيمة لأعدائها. أما قتله مئات الآلاف من أبناء شعبه، وتدمير البلد، وتشريد الملايين من أهلها بين نازحين ولاجئين، وحالة البؤس والفقر والحرمان التي يعيشها السوريون، فهي أثمانٌ مستحقّة ومبرّرة في مخياله السقيم.

تمثّل المقابلة التلفزيونية محلّ الحديث هنا تعبيراً جليّاً عن تعاضد نظام القمع والتخلف الرسمي العربي. لا يتردّد هذا النظام الفوضوي والإجرامي في جوهره في تناسي خلافاته وتجاوزها في سبيل وأد أي بارقة أملٍ للحرية والديمقراطية والكرامة عربياً. يختلفون في كل شيء وعلى كل شيء، إلا عندما يتعلق الأمر بالدوْس على حقوق شعوبهم ورفض احترام إنسانيتهم. ولا يهم هنا إن اضطر هؤلاء إلى الاستعانة بالأجنبي من أجل سحق أي مطالب شعبية محقة ومشروعة. من ثمَّ، حسب مقاربة بشّار، الروس والإيرانيون الذين يفتكون بالشعب السوري حلفاء لا أعداء ما داموا يدعمون نظامه. وعلى الضفة الثانية، أنظمة عربية أخرى ترى في أميركا والغرب، وكذلك إسرائيل، حلفاء لهم، لا يعنيهم ما يرتكبونه من جرائم وفظائع بحق الأمة العربية. هم شعث ومحاور متضادّة في المبادئ والمواقف والمصالح والتحالفات، إلا أنهم يدٌ واحدةٌ ضد الإنسان العربي المنكوب بهم.

قدّم بشار بعض “الوعظ” عن عيوب التنسيق في جامعة الدول العربية، وكيف ينبغي مواجهة آفة المخدّرات، التي تؤكد تقارير دولية أن نظامه يرعى صناعتها وتوزيعها إقليمياً ودولياً، ولم ينس التلويح بفزّاعة “الإرهاب”، التي لا تستثني المطالبين بحريتهم واحترام آدميتهم بوصفهم بشرا. وهو، بكل تأكيد، وجد آذاناً صاغية لدى نظرائه في الأنظمة العربية القمعية، فما يوحّدهم في الحرب على شعوبهم أكبر من افتراق ولاءاتهم وحساباتهم. من أجل ذلك، تجد هؤلاء معنيين بإعادة بشّار إلى حظيرة ديكتاتورياتهم. ومن أجل ذلك أعطي تلك المساحة التلفزيونية ليبثّ سخافاته وأكاذيبه، فهي سخافاتٌ وأكاذيبُ هم جميعاً شركاء فيها.

العربي الجديد

—————————–

التطبيع العربي: الحاصل سالب/ حسام كنفاني

بعد أكثر من ثلاثة أشهر على انطلاق التطبيع العربي مع النظام السوري خلال القمة العربية في جدّة في مايو/ أيار الماضي، تشير كل المعطيات إلى أن هناك توجّهاً إلى مراجعة الانفتاح على نظام الأسد، بعدما ظهر أن حاصل كل ما جرى الحديث عنه والتفاهم عليه جاء “صفرياً”، بل سارت الأمور نحو الأسوأ منذ عودة نظام الأسد إلى “حضن الجامعة العربية” على مستوياتٍ كثيرة.

من المعلوم أن دولا عربية كثيرة، وفي مقدّمتها دول كانت متحمّسة للتطبيع مع النظام السوري، كانت تضع شروطاً على الأسد أن يطبقها من أجل المضي أكثر في مسار الانفتاح على دمشق لاستعادة دورها العربي. في مقدّمة هذه الشروط إعادة اللاجئين وإطلاق بعض المعتقلين من سجون النظام، والأهم العمل على وقف تهريب الكبتاغون من سورية إلى الأردن وبعض دول الخليج العربي. لكن النظام تجاهل كلّ هذه الشروط، حتى أنّ أياً من مسؤوليه لم يتحدّث صراحة عن مطالب عربية وُضعت على الطاولة السورية لتلبيتها، بل جرى اعتبار عودة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية تحصيل حاصل، ومساراً لا بد منه، وحتى أنه اعتراف متأخرٌ من الدول العربية بـ”خطيئة” عزل النظام بعد الثورة ضد الأسد.

في أحدث ظهور له على إحدى الشاشات العربية، وهي سابقة منذ اندلاع الثورة، وجّه رأس النظام السوري، بشار الأسد، مجموعة من الرسائل، يمكن أن تندرج ضمن خانة الابتزاز، وردّ بشكل غير مباشر على بعض المطالب العربية. ففي ما يخصّ مسألة إعادة اللاجئين إلى سورية، استنكر الأسد إمكان عودة المواطنين من دون تأمين البنية التحتية لهم، فبحسب تعبيره “كيف يمكن للاجئ أن يعود من دون ماء ولا كهرباء ولا مدارس لأبنائه ولا صحّة للعلاج”. رسالة من الواضح أنها تشترط مساهمة عربية، ستكون كبيرة، في “إعادة الإعمار” لكي يتمكّن النظام من إعادة اللاجئين. إلا أن هذا لا يعني أنه سيقوم بذلك، حتى لو تم الإعمار، فالأسد ونظامه مرتاحان نسبياً إلى “الكتلة المتجانسة” التي تشكلت بعد قتل السوريين المعارضين وتهجيرهم، ولا ينويان “تشويه هذا التجانس”.

حتى في حديثه عن عودة علاقات النظام مع الدول العربية، بدا واضحاً أن الأسد غير متحمّس لها، وقال إن “العلاقة مع الدول العربية ستبقى شكلية، والجامعة العربية لم تتحوّل إلى مؤسسة بالمعنى الحقيقي”، فالنظام السوري لم يكون يوماً متعجّلاً في استعادة العلاقات مع الدول العربية، بل كان ينتظر هرولة هذه الدول نحوه، وهو ما حصل ومن دون سبب واضح أو مقابل يمكن أن يقدّمه النظام، بل على العكس، ها هو الأسد يتعامل بتعالٍ مع تطبيعٍ كهذا، ويريد أن يقبض ثمنه نقداً من دون أن يقدّم شيئاً في المقابل.

ولم يكتف النظام بعدم إبداء أي تعاون مع الانفتاح العربي، بل تمادى في الأشهر الثلاثة الأخيرة في المضي بعكس كل ما كان مطلوباً منه، فبحسب مجلة فورين بوليسي التي نشرت تقريراً قبل أسبوع عن نتائج التطبيع مع الأسد، بعنوان “التطبيع زاد الأمر سوءاً”، فإن النظام صعّد اعتداءاته، وقتل 150 شخصاً في مناطق متعدّدة في الفترة اللاحقة للتطبيع العربي، كما أن الأسد أبلغ الأمم المتحدة بأنه “لا ينوي إعادة التواصل مع اللجنة الدستورية التي تديرها الأمم المتحدة أو في أي خطوة من أجل عملية التفاوض، سواء بتنسيق من الأمم المتحدة أو دول المنطقة”. أما في ما يتعلق بتجارة الكبتاغون، وهي واحدة من الأحجار الأساسية في عملية التطبيع العربي مع الأسد، لم يبد النظام أي تحرك لوقفها أو ضبطها، وهي التي تدرّ عليه مليارات الدولارات، بل باتت دول الجوار، وفي مقدّمتها الأردن، مضطرة إلى التدخل عسكرياً في بعض الأحيان لوقف التهريب.

بناء عليه، ليس حاصل التطبيع العربي مجرّد “صفر” بل بات في “السالب”، وهو ما تلقفته الدول العربية. وبحسب المعلومات، فإن تجميداً للتطبيع حصل، وهو ما يفسّر توقف اجتماعات عمّان، وتجري الآن مراجعة الخطوات تجاه النظام، والقيام بخطوات في اتجاه آخر.

العربي الجديد

————————————

أن تُحاور الصحافة الطغاة… الأسد نموذجاً؟/ معن البياري

صحيحٌ أنها ليست “خبطةً” صحافيةً لقناة سكاي نيوز عربية المقابلة التي أجرتها مع بشّار الأسد، وبثّتها الأربعاء الماضي، ولكن هذا لا ينفي أنها كانت مهمّة، وأفادت ببعض الجديد الذي كان يلزَمنا أن نعرفه، رغم المعلوم المعهود في رئيس النظام في دمشق، مكابراتِه وأوهامِه عن نفسِه واختراعِه الأكاذيب التي يشاء ودجلِه عن إرادة الشعب السوري وعن محاربته الإرهاب. ومع درايتنا بأن الرجل لم يُبدِ يوما، منذ قطيعة الدول العربية معه في 2011، حرصا على عودة العلاقات العربية معه، وإنه لم يُبادر إلى أي خطوةٍ في هذا الاتجاه، صدورا عن قناعته بأن الذين قاطعوه هم الذين عليهم أن يعودوا إليه، مع درايتِنا بهذا، وبما هو موصولٌ به، جاء إلى أفهام بعضِنا أنه قد يعمَد إلى بعض المجاملة، فلا يوحي بأن عودة بعض العرب إليه ليست حدَثا، وليست أمرا يستحقّ احتفاءَه به. بل زاد على هذا بذمّ جامعة الدول العربية، وبأن دولا عربيةً ساندت الإرهاب في بلده. وكاد يجهر برفضِه عودة أي لاجئٍ سوريٍّ إلى منزله في بلده قبل “إعادة الإعمار” التي على هذه الدول وغيرها تأديتُه في سورية. وبهذا، وغيرِه، كانت المقابلة التلفزيونية ناجحةً مهنيا، بدلالة ما أحدثته من اهتمام سوري وعربي بالذي قاله الأسد فيها. وإذا قال قائل إن لا مفاجأة في الذي انكشف فيها، فذلك، إن كان صحيحا، لا يلغي أهمية أن الذي قيل فيها صدَع به رأس النظام في سورية، وليس غيرَه.

قد يكون ضروريا أن لا يُغفَل عن أن “سكاي نيوز عربية” تستضيفها أبوظبي، شديدة الحماس للتطبيع مع نظام الأسد، وكانت من أوائل المبادِرين في هذا المسار، وأن لا يجري التعامي عن السياسة التحريرية للمحطّة نفسها، لكن هذين الأمريْن نافلان عموما، فالمهمّ ماذا سأل الصحافي المحاوِر ضيفَه. وهنا يحسُن تثمين بعض أسئلة الزميل فيصل بن حريز (وإن ادّعى أن هذه المقابلة هي الأولى للأسد مع قناةٍ عربيةٍ منذ العام 2011، وهذا غير صحيح). وحدَث أن حاورت الأسد صحيفتا الصنداي تايمز ونيويورك تايمز وقناة سي إن إن وغيرها من صحف وقنوات غربية لا تمحضُه أيَّ ودّ، ولا تحيد، في مقالات الرأي والتعليقات الإخبارية فيها، عن نعته بالديكتاتور. وقياسا، لا يبدو في محلّه القول إن مقابلة “سكاي نيوز عربية” مع الأسد كانت لتلميعه، أو لتوفير منصّةٍ دعائيةٍ له، وإن أفاد منها بداهةً، كما المحطّة التلفزيونية عندما تناقلت وكالات الأنباء أبرز الذي قالَه لها الأسد في قصر المهاجرين في دمشق.

وهنا، بعيدا عن حيثيّات “سكاي نيوز عربية”، وعمّا لا نعرفه عن المذيع الذي حاور الأسد، يُسوَّغ سؤالٌ ما إذا كان من ضرورات المهنة الإعلامية أن نقابل، نحن الصحافيون، الذين نناهض الطغيان والاستبداد، الطغاة الذين نناوئ اغتصابَهم السلطة واستهتارَهم بحقوق شعوبهم بالخلاص منهم، في محاوراتٍ صحافيةٍ نسألهم فيجيبون؟ هل نناقضُ في هذا مواقفنا وخياراتنا؟ نخالف السياسات الأميركية في غير شأنٍ وأمر، غير أنني، إذا أجالس الرئيس بايدن، لا أكون غادرتُ مواقفي منه، وهو، في كل حالٍ، ليس في عداد الطغاة المستبدّين. والقول هنا، من قبلُ ومن بعد، إن أولى وظائف الإعلام، التقليدية والمؤكّدة والباقية ما بقي البشر، إبلاغ الجمهور العام بجديد الأخبار. وكل من هو في موقعٍ مسؤول مصدرٌ للأخبار والمعلومات، والبراعة المهنية تتبدّى في المقدرة على أن أجعلَه يجيبُ عن أسئلتي، المفترَض أن لا تُحابي ولا تُمالئ، بما يضيءُ على قديمٍ ويوضحُه، أو بما يأتي بجديدٍ غير معلوم، غير معلنٍ بعد، أو لم يتأكّد بعد. وبشّار الأسد (وغيرُه ممن تنعُم دولٌ عربيةٌ بظلالٍ وارفةٍ من عطاءاتهم!) ساقته نوائبُ التاريخ وأقدارٌ تعيسة في سورية إلى أن يصير في الموقع الذي يمكُث فيه منذ نيّفٍ وعشرين عاما إلى ما شاء الله. ولذلك، ثقيلٌ على النفس أن تُجالسه إن كنتَ من أهل الإعلام الذين ينتصرون للشعب السوري، غير أن للمهنة إكراهاتِها، وهذه مفردةٌ أستحسنُ هنا استعارتَها من أصدقائنا المغاربة، وهي بالغة الدلالة في المقام المتحدَّث عنه، ويسّرت “سكاي نيوز عربية” مناسبة السطور أعلاه عنه وعن حواشيه.

العربي الجديد

——————————-

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى