نقد ومقالات

السيرة الذاتية.. عربيــًّا/ فتحي المسكيني

سيرة ذاتية بلا ذات

أو هل نحن ما نكتبه عن أنفسنا؟

الإشكال

ينطلق هذا المقال من التساؤل التالي: لماذا يكتب المؤلفون في «الغرب» سيرًا ذاتية بقدر واسع من التجرد لا يقيمون فيه اعتبارات كثيرة للقيود المجتمعية، على خلاف الكتاب «العرب» الذين يحرصون على أن تظل صورتهم في سيرهم الذاتية لا تشوبها شائبة، بحيث على العموم لا تتحلى بجرأة الكاتب الغربي؟

قد يوحي هذا التساؤل بأنه يخضع إلى منطق «هم» و«نحن»، وبالتالي لا يُعول عليه في التفكير، إلا أن المنصف لا ينكر أنه ليس فقط يشير إلى إشكال حقيقي، بل هو يحث على التفكير في صعوبة لا تزال بلا تشخيص كافٍ؛ إذ على الرغم من أن العرب، حسب فرانتز روزنتال، مثلًا، قد اكتشفوا «الشعور بالأنا» في كتابتهم عن أنفسهم، فإن «إبداع السيرة الذاتية في الإسلام قد كان أقل ارتباطًا بالشخصية منه بالموضوع. إن تجارب الفرد لم تكن بما هي كذلك في ذاتها تمنح الحافز إلى تشاركها، بل فقط عبر محتواها التعليمي بشكل عام»(١).

ربما من الصعب أن نقبل بوجود «سيرة ذاتية» عند العرب القدامى إلا بتجوز: لقد عرفوا «السيرة»- وهو تقليد يبلغ أشواطه الأخيرة عند السيوطي سنة 1485م تحت عنوان: «التحدث بنعمة الله تعالى»، حيث يقول مؤرخًا لهذا النوع من الكتابة: «ما زالت العلماء قديمًا وحديثًا يكتبون لأنفسهم تراجم. ولهم في ذلك مقاصد حميدة، منها التحدث بنعمة الله شكرًا، ومنها التعريف بأحوالهم ليُقتدى بهم فيها»(٢)– لكن العرب لم يعرفوا «السيرة الذاتية»؛ ليس فقط، إن السيرة الذاتية هي جنس أدبي أوربي حديث (ظهر غالبًا في القرن الثامن عشر كما نرى ذلك في «اعترافات» روسو) لم يدخل الفكر العربي المعاصر إلا بداية من ثلاثينيات القرن العشرين(٣)، بل إن «الذات» نفسها بالمعنى الذي شاع بعد ديكارت وبخاصة منذ كانط، مفهوم غريب عن معجم الملة، ولم يتعامل العرب مع إشكاليته إلا منذ عشرات السنين فقط. ربما ما زلنا نتمرن على تشكيل ذواتنا الجديدة؛ والسؤال اليوم عن أصالة «السيرة الذاتية» هو أحد أشكالها(٤).

الجرأة والتحفظ

لا أحد يحق له أن يدعي أنه «ذات» دون الدخول في أفق الأزمنة الحديثة. و«نحن» اليوم على الأغلب «ذوات» على رغم أنوفنا؛ إذ لا يكفي أن تكون «أنا» حتى تكون «ذاتًا». إن الذات إنشاء وجودي ولغوي «حديث» (له «علاقة بالثقافة الغربية»(٥)، وربما له جذور مسيحية تتعلق بعذابات الضمير بعد «علمنتها»)، ومن ثم هو مستقل تمامًا عن الأنا النحوي التقليدي. إن تقليد «السيرة» -كما فعل العرب في كتب «السير» و«التراجم» و«الوفيات» و«طبقات الأعلام» و«الأنساب»- شيء، وما صار يسمى «سيرة ذاتية» هو شيء آخر. وإن نكتة الإشكال مختلفة بين هذين الجنسين من الكتابة: ربما أن محك «السيرة» التقليدية هو «الحقيقة» التاريخية، أما مقياس «السيرة الذاتية» فهو «جرأة الصدق» أو «البوح». إن من «يترجم لنفسه» (حسب عبارة السيوطي الرشيقة) لا يكتب «سيرة ذاتية»؛ إن مقصد «الترجمة للنفس» هو مطلب أخلاقي ديني هو صناعة «القدوة» في أفق الملة؛ أما مطلب «السيرة الذاتية فهو «البوح»، وهو شخصي محض. وهذا الموقف لم يتغير من السيوطي في «التحدث بنعمة الله» (1485م) إلى المؤلفين العرب المعاصرين، كما نرى ذلك لدى من كتب سيرته مثل فارس الشدياق (أول العرب المعاصرين في هذا الفن) في كتاب «الساق على الساق فيما هو الفارياق» (باريس: دوبراه، 1855م) أو من درس السيرة، مثل إحسان عباس في «فن السيرة» (1956م)، وإن لحظنا انتقالًا واضحًا من القدوة «الدينية» إلى القدوة «الثقافية» حيث وقع الانزياح «نحو السيرة الفنية»(٦).

ومن هنا نأتي إلى السؤال الأساسي: لماذا تكون السير الذاتية التي تأخذ شكل «الاعترافات» أو «اليوميات الحميمية» أو «المذكرات» أو «الأسرار الخاصة» أو «البوح العاطفي» أو «حماقات الطفولة» أو «المحرمات»،… إلخ. أعمالًا أدبية جريئة وصريحة وصادقة في ثقافة، ومتكتمة ومتحفظة ومخاتلة في ثقافة أخرى؟ كيف يكون الكاتب «جريئًا» أمام نوع من «المجتمع» ويكون «متحفظًا» أمام نوع آخر؟ هل هناك علاقة بين «الذاتية» وبين «الخجل من الحقيقة»؟ أو بين الجرأة والفضيحة؟ إلى أي مدى يحق لنا عندئذ أن نصف «سيرة» ما بأنها «ذاتية»، ما دام مقياس طرافتها يوجد خارجها، في «قيود المجتمع» الذي تنتمي إليه؟ هل يمكن كتابة السيرة الذاتية في شكل «دفاع عن الحميمية»(٧) بما هي كذلك ما دامت «السيرة الموضوعية» هي مجرد تناقض في الألفاظ؟

الذات كأنها آخر

لا يتعلق الأمر هنا بالسيرة الذاتية التي تهدف إلى «البطولة». كل «كاتب سيرة ذاتية» يعول على البطولة هو يخدعنا بقدر ما يخدع نفسه. هو لديه «صورة عن نفسه» يريد أن يكرسها أو يدافع عنها. وبهذا هو يخترع سيرة، ولا يكتبها. إن ما يهمنا هو تلك السيرة التي تكون حقًّا «ذاتية»، أي نابعة من «تجارب خاصة» عاشها الكاتب لأنه «كاتب» وليس لأنه شخص في مجتمع له مؤسسة القيم التي تقيد أعضاءه. وأول خاصية «ذاتية» هي عيش ما لا يعيشه «الآخرون» أو «العاديون». لا معنى لما هو «ذاتي» إذا كان سلوكًا «عموميًّا»، أي إذا لم يكن «خاصًّا». إن مقياس الذاتي هنا هو «سياسة الخصوصية»: أي ما لا يُقال إلا لأنفسنا أو كما قال ابن سينا في عبارة رشيقة، «للذين يقومون منا مقام أنفسنا».

طبعًا، علينا أن نسأل أيضًا: متى كان يمكن لكاتب أن يوجد «بمفرده» بمعزل عن «المجتمع» الذي يعيش فيه أو ينتمي إليه؟ ومن المفيد أن نذكر دومًا قولة فيتغنشتاين بأنه لا توجد «لغة خاصة»(٨). كل ما يقال هو قد حدث في لغة لا يقولها أحد لأول مرة بل يستعملها. ومن ثم كل ما يقوله كاتب معين هو لا يعدو أن يكون استيلاء على لعبة لغوية متاحة في أفق ثقافة ما. وعلينا أن نسأل فقط: هل يصدق هذا على ما يقوله عن «نفسه» أيضًا؟ أم يمكنه أن «يمسك لسانه» عندما يكتب عن «ذاته» بوصفه مجرد «صديق» بالتعريف الذي قدمه أرسطو، أي بوصفه «ذاتًا أخرى»؟ وعندئذ نفهم حيلة أنتول فرانس حين سمى سيرته الذاتية «كتاب صديقي»(٩)(!).

إذا كانت اللغة قد «قالتنا» سلفًا -«إذِ القولُ قبلَ القائلينَ مَقُولُ» كما علمنا المتنبي- فمن الواضح جدًّا أنه لا أحد يمكنه أن يتحدث من دون أن «يجرح» أحدًا، نعني دون أن يعامل أحدًا، ولو كان «ذاته»، بوصفه «آخر»، أي بوصفه «متأخرًا» عنه في الوجود أو في الحقيقة أو في الزمان بوجه من الوجوه، أي بوصفه «موضوعًا» أو حتى «شيئًا». أنت «آخر نفسك»، أي أنت متأخر عنها في زمان ذاتك، أي في حضورها عند نفسها. ولأن التأخر عن أنفسنا ليس مشكلًا لغويًّا، فإن «السيرة»- بالمعنى الحرفي «كتابة الحياة» كما عاشها أحدهم أو «كتابة المعيش»، حيث علينا أن نلمح الفرق بين «أن نعيش» (bios) كبشر وبين مجرد «الحياة» (zoé) مثل النبات- هي تثير صعوبة تقع خارج حدود اللغة، من حيث إنها تشير إلى استعمال «الذات كأنها آخر» (حسب عبارة ريكور المأخوذة عن هيغل) تقهقر قليلًا في «مسيره» إلينا داخل الزمان وتحول إلى كائن سردي. من يكتب سيرته هو يحدثنا عن آخر سردي بقدر ما يدعي أنه «هو» وليس شخصًا غيره. السيرة نوع من «كتابة الأنا»، حسب عبارة جميلة لجورج غوسدورف)(١٠) التي تسمح للكاتب بأن يعامل «أناه» بوصفه قد تحول إلى «هو». لا يتعلق الأمر بمجرد تبديل في الضمير من المتكلم إلى الغائب، بل إن الكاتب مدعو إلى بناء علاقة «ذاتية» مع كائن سردي عليه أن يعامله بوصفه «آخر» لا يزال يملك أفضلية وجودية في الادعاء بأنه «نفسه».

حدود الآخرية

لكن حدود «الآخرية» غير واضحة هنا. من هو آخر نفسه؟ – هو من يجرؤ على أن «يفضحها»، أي أن يكشف عما تخفيه عن «الآخرين»، وذلك لسبب أساسي، ألا وهو أنه «يخجل» من شيء ما من نفسه بوصفه مدعاة إلى «الفضيحة» أمام «جمهور» شديد التحديد. إن الآخرية هي هنا ضرب من «سياسة الهوية». وحين يكون من يمارسها هو الكاتب «نفسه» فذلك يضفي طرافة أو خطورة خاصة على المهمة: إن العلاقة بأنفسنا هي عندئذ في جوهرها مشكل سياسي؛ إذ لا تصبح السيرةُ «ذاتيةً» إلا عندما «تبوح» بما لا يستطيع الآخرون قوله أو لا «يحق» لهم قوله. يقف الآخر دومًا على عتبة الذات. يراقبها أو يحبها. أو يقوم بالأمرين كليهما. لكن الآخر هو بالتعريف ذاك الذي لا يحق له سلفًا أن يتكلم باسمنا؛ ذاك الذي لا يملك حقًّا أصليًّا في كتابة سيرتنا الذاتية. فهو لن يكتب أبدًا إلا «سيرة غيرية». وبهذا المعنى هو لا يتكلم بل يحكي. وحده ضمير المتكلم يتكلم. كل ما عداه يسرد قصة. ومن هنا علينا أن نراقب المفارقة التي تهدم مقام الكاتب الذي يقدم على كتابة سيرته الذاتية: هو يقبل معاملة «نفسه» بوصفه «آخر»، وفي اللحظة نفسها هو يحول حياته إلى قصة، أي إلى سياسة للهوية. هو سوف «يختار» عندئذ من «يريد» أن يكون، وليس فقط ما كانه فعلًا. سوف يكون علينا أن نفهم تمييز هايدغر بين «الماضي» (ما وقع في الزمان الطبيعي) و«ما كان» (ما جربناه سابقًا في علاقتنا بأنفسنا). كل كاتب عندئذ هو ادعاء سردي متأخر حول نفسه.

لذلك فإن وراء كل «سيرة ذاتية» يقف سؤال صامت: «من يجرؤ على أن يكون ذاته مرة أخرى دون أي تغيير لتلك الهوية؟». إن «الجرأة» هنا تأخذ هالة خاصة. هي تقودنا إلى أسئلة من هذا القبيل:

– هل ثمة فرق «حقيقي» بين «الذات» التي تكتب وبين «الهوية السردية» التي «تبنيها» عن نفسها؟

– ما معنى أن نصف سيرة ذاتية بأنها «جريئة» أكثر من غيرها؟

– ما الذي يمنع كتابنا من أن يكتبوا سيرًا ذاتية بمثل جرأة تلك التي كتبها كتاب غربيون؟

كل كاتب هو «سيرة ذاتية» وليس «ذاتًا»

إن أخطر سوء فهم لما يفعله «الكاتب» هو أن نختزله في «الشخص»، ومن ثم أن نسمح لأنفسنا بأن نحاسبه وكأنه واحد «منا»، من قبيلتنا أو من ديانتنا أو من دولتنا. قال نيتشه يصف لسان حال كل كاتب: «نادرًا ما أكون شخصًا». علينا أن نقبل بهذا التوصيف: إن الكاتب نادرًا ما يكون شخصًا. إن الشخص المادي هو أضعف انفعالات الكاتب. وإن بعض الانتماء «إلينا» يشبه أن يكون ابتزازًا هوويًّا. من أجل ذلك علينا أن نبدأ أولًا بتحرير الكاتب من الذين يدعون أنه ينتمي إليهم. ليس ثمة «هوية شخصية» ومن ثم ليس ثمة «هوية قومية» جاهزة للكاتب أو تجعل منه كاتبًا. إن شخصية «الكاتب» هي اختراع فني، موقف إنجازي، قوة تداولية، وليس شخصًا طبيعيًّا يمكن أن نحاسبه بوصفه «مواطنًا». علينا أن نرتسم كل انفعال المسافة الذي يفصل الكاتب عن المواطن أو عن شخصه اليومي الذي نعرفه في سياق حياة عامة مشتركة.

ولذلك يجب ألّا تخدعنا ما تسمى «كتابة الذات»: إن «الذات» هي ما يضيفه الإنسان إلى «جسمه». قال سبينوزا: «إن النفس هي فكرة الجسم». لكن «الكاتب» هو شيء آخر: هو ليس «ذاتًا» أو «نفسًا»؛ لأنه ليس «شخصًا» بل هو «شخصية» سردية، أي دور لغوي في نطاق فن إبداعي يحمل توقيعات مختلفة من قبيل «الشعر» أو «الفلسفة» أو «الرواية» أو «الأدب»،… إلخ. كل هذه الأجناس الأدبية تُحيل على «مؤلفين» أي على شخوص إجرائية اختُرِعَت من أجل تنظيم نوع سائد من «سياسة الهوية» في مجتمع بشري: إن سقراط أو الحلاج أو غاليلي أو نيتشه، إلخ. ليسوا «أشخاصًا» بالنسبة إلينا، بل هم «مؤلفون»، أي أسماء سردية تشير إلى أدوار أو وجوه رمزية أو هويات غير طبيعية، بل تم «بناؤها» في ذاكرة عميقة أسس عليها المنتمون إليها تصورهم لأنفسهم.

وبعبارة حادة: كل كاتب هو «سيرة ذاتية» (autobiography) لكنه ليس «ذاتًا» (subject) شخصية. هو «سيرة» أي بناء سردي لذاكرة متخيلة صارت تؤدي «بالنسبة إلينا» دور شخصية «حقيقية» على أساس نوع من «الميثاق الأتوبيوغرافي» الضمني حسب عبارة «كاتب» فرنسي(١١)، أي على أساس نوع من «الالتزام» أمامنا بأن يسرد الكاتب «قصة حياته» بقدر معين من «الصدق» مقابل التزامنا بأن نحكم على ما يسرده بما يكفي من النزاهة والإنصاف. لكن ذلك لا يعني أن الكاتب قد صار شخصًا، أي ذاتًا طبيعية، بل فقط أنه سوف يعيد صياغة أحداث حياته وكأنها وقعت كما يقصها، أي وكأنه هو من «خلقها» كما تصورها. إن السيرة تكون «ذاتية» عندئذ في معنى غريب عن مفهوم «الذات». هي «ذاتية» أي تتعلق بعلاقتنا بأنفسنا، لكنها ليست «ذاتًا» أي لا يؤدي فيها الكاتب دور «الشخص» الطبيعي الذي يمكن أن نحاسبه وكأنه «مواطن» أو عضو في جماعة سياسية. وعلينا أن نتذكر دومًا أن مصطلح «السيرة الذاتية» هو نفسه اختراع أدبي «حديث» أي يشير إلى استحداث ثقافي وأسلوبي خاص بنوع من المجتمعات، وليس إلى صفة طبيعية للبشر.

ذلك يعني أن «من» يكتب عن «نفسه» هو يخترعها، يعيد بناءها، أو هي تقع عليه مثل حجر غريب. «إن السؤال عن الهوية يساهم في تشكيل الهوية»(١٢)، بحيث إن السيرة الذاتية تتعامل مع «الأنا» بوصفه «مادة تشكيلية»(١٣) عليها إعادة صياغتها. وبمعنى ما، تبدو الحاجة المُلِحّة أحيانًا إلى كتابة سيرة ذاتية نابعة من خوف مخاتل ومبهم من انهيار الذات نفسها، أي تشتتها في مقاطع أو شذرات بلا مركز عبثًا يحاول الكاتب أن يلم شتاتها في هوية مستقرة. من يكتب سيرة ذاتية هو بوجهٍ ما يحمي نفسه من جنونه النائم في قصته: قال فوكو: «الجنون هو غياب الأثر».

ولذلك ربما من المخاتلة أن نميز بشكل بارد بين «السيرة الذاتية» و«التخييل الذاتي» (autofiction) الذي ظهر تمردًا رشيقًا على ميثاق السيرة الذاتية(١٤). قال رامبو في إحدى رسائله (13 مايو 1871م): «أنا أريد أن أكون شاعرًا، وأنا أعمل من أجل أن أجعل نفسي عرافًا: أنتم لا تفهمون أبدًا، وأنا لا يمكنني تقريبًا أن أفسر لكم. يتعلق الأمر بأن أبلغ إلى المجهول عن طريق اختلال كل الحواس. إن العذابات هائلة، ولكن ينبغي أن يكون المرء قويًّا، أن يكون وُلد شاعرًا، وأنا قد تعرفت إلى نفسي شاعرًا. ليس هذا ذنبي أبدًا. من الخطأ أن نقول: أنا أفكر: بل قد يجب أن نقول: إن شيئًا يفكرني/ إن أحدهم يفكر في. عذرًا عن التلاعب بالكلمات. أنا هو آخر. اللعنة على الخشب الذي وجد نفسه كمانًا، تبًّا للغافلين الذين يجادلون حول ما يجهلونه تمامًا!».

ما يريده الكاتب أو الشاعر ليس مطلبًا شخصيًّا. إنه لا يريد أن يكون «واحدًا منا». بل هو يكتب كي لا يكون واحدًا منا؛ كي يقع خارجنا، نحن الذين سنقرؤه. إن من يكتب يعرض نفسه لما يقع خارج أفقه كشخص معلوم. الكتابة فن تعريض النفس لما لا يُطاق في أفق الشخص الذي يكونه أيًّا كان. وما لا يُطاق هو أن يصبح المرء كائنًا «آخر»، أي هوية يمكنه أن يسرد قصتها خارج «شخصه» العادي. وهذا يعني أن الكاتب نادرًا ما يكون «نفسه»، أي نادرًا ما يمكنه أن يزعم كما فعل ديكارت، «أنا أفكر». ذلك أن ما «يحدث» هو أن «أحدهم يفكر فيه» أو «يفكره» بفعل قوة لا يراها أو لا تراه. لا يفعل الكاتب سوى أن يعرض نفسه للتفكير، تمامًا كما يعرض نفسه للتهلكة. قال رولان بارت: «أنا لا أعبر عن نفسي، بل أنا أكتبني»(١٥).

الجرأة بين الأدب وسياسة الحقيقة

نأتي هنا إلى المقطع «السياسي» من المشكل، ونسأل: «ما معنى أن نقول عن سيرة ذاتية بأنها جريئة؟». قد يعني ذلك أيضًا أننا نصف سيرة ذاتية أخرى بأنها «جبانة». ولكن ما «الجرأة»؟ هل لدينا تاريخ أو تأويل متفق عليه حول مفهوم «الجرأة»؟ إن تاريخ الجرأة لا يُكتب بالطريقة نفسها أو الدلالة نفسها في مجتمعين مختلفين. عمومًا، يبدو أن الجرأة تُقاس بالثالوث المحرم: نعني بالممنوع الخوض فيه في مسائل الجنس والسياسة والدين، أي ما يتعلق بثلاثية الأب/ الملك/ الإله. أنت لا تُعد «جريئًا» إلا عندما تتخطى حدود الكلام المتفق عليه بين المتخاطبين داخل جماعة تواصلية معينة. والمتفق عليه هو كل ما لا يعرض الثالوث المحرم إلى الخطر، نعني لا يضع سلطة الأب/ الملك/ الإله موضع سؤال. وكل ما عدا ذلك هو قابل للتفاوض الأخلاقي حسب موازين القوى بين المتخاطبين.

إلا أنه لا توجد حدود «كونية» للجرأة بل كل مجتمع يضع لنفسه حدوده الخاصة، أي تعريفاته الخاصة للجرأة وللجريء. وهذا يعني أن تعطل أو تعطيل حدود الجرأة لن يكون مشكلًا شخصيًّا: لا يمكنك اختراع مفهومك الخاص عن الجرأة؛ وذلك أن كل تعريف للجرأة هو مفعول ثقافي لنوع من سياسة الحقيقة يكون شعب ما قد أسس عليها نمطَ السلطة أو أنماطها داخل أُفقه الخاص لفهم نفسه. وبعامة، كان هناك دومًا خط فاصل بين منطقتين من قيم الخطاب، ما يُباح قوله وما يُحظر قوله، وهذا الخط هو الذي يسمح لنا بتحديد درجة الجرأة في خطاب ما. وبالاستناد إلى هذا النوع من الفصل إنما أتى المعاصرون إلى رسم خط قوي بين ما يُقال في «الحياة الخاصة» وما يمكن قوله في «الفضاء العمومي». وبما أن «الكاتب» شخصية عمومية (كل كاتب هو «كاتب عمومي» ولا معنى لكاتب خصوصي) فهو يخضع لهذا التوزيع السياسي للحقيقة. وهو لا يُعَدّ جريئًا فيما يقوله أو يكتبه إلا في ضوء الفصل السائد في مجتمعه بين ما هو «حياة خاصة» (ما يخص جنسه أو جندره أو ميوله أو تجاربه،… إلخ.) وما هو «فضاء عمومي» (ما يهم سلوكه «التخاطبي» إزاء الآخرين ومدى التزامه بقيود مجتمعه).

ذلك يعني عندئذ أنه لا يمكن أن يكون الكاتب جريئًا بالمعنى نفسه في ثقافتين مختلفتين: إن الجرأة هي دومًا وفي كل مرة قيمة ثقافية: أي هي مفعول وظيفي لجهاز معياري ساري المفعول في أفق الفهم الذي يبنيه مجتمع ما عن «نفسه». كل جرأة هي إذن عمل في المفرد ويحمل توقيعًا مجتمعيًّا ويستند إلى مفهوم معين عن الحرية.

ومن حيث التصنيف، هناك على الأغلب نوعان من الجرأة في الأدب: جرأة على الحياة الخاصة، ولا ينحصر ذلك في «الكتابة الحميمية» فقط، فقد تكون «الخصوصية» دينية أو عرقية،… إلخ. وجرأة على الحياة العامة، حيث تدور سياسة الحقيقة بشكل «عمومي» أي «رسمي» و«قانوني» و«أمني». وعلينا أن نسأل: أين تقف جرأة الكاتب؟ هل هي جرأة/ بوح، أم جرأة/ صراحة؟ ربما أن مهنة الكتابة نفسها قد تكون في بعض المجتمعات في حدّ ذاتها جرأة محضة، أي صراحة وقحة وخروجًا صامتًا أو متنكرًا أو خجولًا عن قيود المؤسسة. فمن «يكتب» يخرج عن حدود الكلام العادي حيث يَجْري نشاط تخاطبي وفق خطة «المتفق عليه»، أي ما لا يعرض الاستعمال الرسمي للخطاب إلى الخطر. ولهذا فإن مجرد «استعارة» أو «مجاز» أو «تجوز» أو «تشبيه» يمكن أن يعرض الاستعمال الرسمي للغة إلى مجازفة غير محسوبة. ومن ثم إن كل سيرة ذاتية هي واقعة تحت وطأة «سياسة للكتابة» (حسب تعبير جاك رانسيير)(١٦) تمتد من أفلاطون إلى اليوم.

هناك دومًا ضرورة كي نسأل: ما «حدود السيرة الذاتية؟»(١٧). لا أحد يستطيع أن يطرح السؤال: «كيف عشت؟» أو «كيف سأعيش؟» من دون أن يشعر بأن «تمثيل الذات» يقود بالضرورة إلى استشعار الفاصل المزعج بين «الحياة» وبين «قصة الحياة»؛ إذ لا أحد بإمكانه أن يتحدث عما «عاشه» (وكل حياة يمثل تمثلها بوصفها «صدمة» شخصية مستمرة) من دون أن يستعير من قواعد مجتمعه طريقة تمثيل نفسه أو تمثلها. إن قيود المجتمع هي «هناك» دوما -في «هابيتوس» الخطاب- قبل أن يأتي الكاتب إلى ما يسميه «حياته». ومن ثم كل حديث عن «نفسه» المحكية هو خروج من ذاته الأنطولوجية إلى هوية سردية لا يتحكم في لعبتها إلا جزئيًّا فقط. إن «تمثيل الذات» هو نفسه اختراع مجتمعي ينظم علاقة الأفراد ليس فقط بحياتهم، بل بقصة حياتهم أيضًا. ومن هنا تبدو السيرة الذاتية مثل وصفة علاجية متأخرة لكل مرض قادم: يريد الكاتب أن يجمع حياته في قصة كي يحميها من نفسها، مما عاشته دون أن تراه في لوحة واحدة، أي بلا هوية. ومن ثم لا معنى لأي «تمثيل للذات» لا ينتهي إلى تغيير الذات(١٨).

ومن ثم إن كل جرأة هي تقع سلفًا بين الأدب وسياسة الحقيقة في مجتمعٍ ما: إن «الذاتي» نفسه هو «موقع» دومًا، نعني ليس فقط يحمل بصمة المؤسسة بل هو نتاج داخلي لها. نحن، كما بين فوكو جيدًا، ذوات تَشكَّلت بما خضعت له. ومن ثم إن أي كتابة حقيقية هي مشتقة من جرأةٍ ما: نعني من رغبة حثيثة في أن «نكون على نحو مغاير». قال فوكو: «ثمة لحظات في الحياة حيث يكون السؤال عما إذا كان يمكننا أن نفكر على نحو آخر غير الطريقة التي نفكر بها، وأن ندرك على نحو آخر غير الطريقة التي نرى بها سؤالًا لا غنى عنه حتى نستطيع أن نستمر في النظر أو في التفكير»(١٩).

إن جرأة أي سيرة ذاتية ينبغي أن تُقاس بمدى قدرة كاتبها على أن يفكر في «ذاته» أو أن يرى «شكل حياته» بشكل آخر: أي بمدى استعداده كي يعترف بحدود معرفته بنفسه أو بما فاته من معرفاته بنفسه أو بحياته. لكن «الحق» في الحديث عن نفسه لا يعني أن الكاتب يملك كامل الحرية في أن يكون نفسه مرة أخرى. إن جرأته على أن يقول الحقيقة حول نفسه هي نفسها رهينة سياسة الحقيقة في المجتمع الذي يعيش فيه. ومن ثم هو لا يملك حدود ذاته ما دام لا يملك حدود حقيقته. صحيح أن السيرة الذاتية توحي بأنها عمل «خارج الخدمة»، يسمح للكاتب بالدخول الأسلوبي في ثقافة «الشهادة» أو «الاعتراف» أو «الوصية» أو «التوبة»،… إلخ، ومن ثم كأنه يتحدث بشكل «أركيولوجي» غير قابل للمحاسبة، أي يتعلق بحياة لم يعد يعيشها أحد؛ هي تشبه -حسب أسطورة أفلاطون عن الكتابة في محاورة فايدروس- استدعاء «الأب» الغائب؛ كي يشهد لفائدة «اللوغوس» المكتوب الذي كان محكومًا عليه باليتم لمدة طويلة. لكن الأب هو دومًا جزء لا يتجزأ من ثالوث السلطة، نعني ثالوث الأب/ الملك/ الإله، الذي في ضوئه فقط يمكن لأي مفهوم عن الجرأة في الحديث عن النفس أو عن الحقيقة أن يتشكل.

حدود السيرة الذاتية أو التفاوض بين الصدق والحقيقة

كيف نفهم حدود الجرأة الأدبية في «سيرة ذاتية»؟ هل هي حدود الكاتب أم حدود المجتمع الذي ينتمي إليه؟ هل هي حدود الحرية أم حدود الهوية؟ حدود السيرة كجنس أدبي أم حدود الذات؟ إن سقراط جريء في المدينة اليونانية على نحو مغاير تمامًا لجرأة النبي الإبراهيمي في الجماعة الكتابية؛ ولذلك لا معنى للمزايدة باسم جرأة على أخرى. ومن هنا، لا تكمن خطورة السيرة الذاتية في السؤال: «كيف حكى الكتاب ما عاشوه من تجارب»، بل في شيء آخر: «هل تجرؤوا على أن يصوروا أنفسهم دون تغيير؟». لا يتعلق الأمر بالحقيقة بل بالصدق؛ ذلك أن كاتب السيرة لا يملك من قوة إنجازية غير «ثقة» القراء. وهذا يعني أن ما سُمي «الميثاق الأتوبيوغرافي»، أي أن المؤلف والحاكي والشخصية واحد، ربما هو في شطر منه ادعاء أدبي أو خدعة أسلوبية.

قال أحد الباحثين: «هل ينبغي لصاحب السيرة الذاتية أن يقول كل شيء، وهل يريد ذلك، وهل يستطيع ذلك؟ أليست المطالبة بالصراحة خدعة؟ أليست الحقيقة التي يزعم البعض نقلها، وهمًا وغشًّا؟»(٢٠)، ماذا لو أن كاتب السيرة الذاتية لا يعدو أن يكون مجرد «حامل أسرار» شخص «آخر» لا يملك حق الكلام بلا رجعة؟ ربما داخل كل «منا» هناك «آخر» لم يتكلم قط. وربما لن يفعل أبدًا. وأن من يُقدم على كتابة سيرته الذاتية «هو لا يتوجه إلينا بالخطاب، بل «نحن» مجرد شاشة أو خلفية مخاتلة تساعد غير المرئي للكاتب على الظهور ولو في شكل ظلال سردية. هو ربما لا يكلمنا، بل يساعد الجانب المسكوت عنه من «نفسه» على الكلام. صحيح أنه يقص علينا «وجوده الخاص»، ويحكي عن «تجاربه الفردية»، لكنه لا يفعل ذلك لأنه «يملك نفسه»، أو «سيد ذاته»، بل، على العكس؛ لأن شطرًا خاصًّا وأصيلًا قد ظل محبوسًا في ركن أخرس من «حياته» أو مما يسميه «قصة حياته»، ولم يجد طريقه إلى الخطاب إلا في شكل «سيرة ذاتية». قال مونتاني: «قد يحدث لي ألا أجد نفسي حيث أبحث عنها، فإذا وجدتها كان ذلك بمحض الصدفة» (المقالات، I، 10).

علينا أن نأخذ عبارة «حامل الأسرار» في معنى ما يسمى في لغة المسرح: «النجي» أو «المؤتمن»، أي من يساعد «البطل» على أداء دوره. قد يكون «كاتب السيرة الذاتية» عبارة عن «مساعد للبطل» (أي للمؤلف) وليس هو البطل. إن دوره عندئذ هو أن يقوم بالمهمة «القذرة»: البطل هو الفيلسوف الذي لا يكتب إلا «فلسفة» أو الروائي الذي لا يكتب إلا «رواية». لكن «السيرة الذاتية» هي أقل شأنًا من «أثر» فلسفي أو أدبي؛ لأن «الكاتب» هنا قد يكون «نجيًّا» فقط، أي ساردًا غير مباشر وربما «غير أمين»؛ إذ من يُفشي الأسرار إلا «المؤتمن» عليها؟ قد يفضل الكاتب أن يتحول إلى «نجي»، أي إلى شخصية تحمي البطل من نفسه، أي من «قصته». وتزداد خطورة النجي بقدر انهيار البطل أو فقدانه الطريق إلى عبقريته: هو يخترع له السياق الجيد؛ كي يلتقي نفسَه في قصة تليق بالبطل.

من أجل ذلك لا أحد يكتب «سيرة ذاتية» حقًّا، ولو شبه لنا ذلك كثيرًا. إن أكبر ما يزعج كاتب السيرة الذاتية هو أفق الانتظار وسياسات التوقع. ولذلك هو يلجأ دومًا إلى ما سماه جورج أورويل «قبور الذاكرة»، حيث تُتْلَفُ الوثائقُ في أفران ضخمة، كل سيرة تمتلك قدرًا كافيًا منها. كيف؟ عن طريق «تصحيح أو تكذيب» شيء من أنفسنا؛ «بالتمجيد أو بالثأر»؛ «بالعثور على معنى لوجودنا»؛ ولكن أيضًا، وهو الشيء نفسه، «بالتشويه الإرادي» لمصادر أنفسنا، حيث نصطدم بضرب من «طوباوية الحقيقة والنزاهة»(٢١).

قد نسأل: لماذا يُعد القديس أغسطين جريئًا حين حكى في «الاعترافات» (II، 4، 9) أنه في طفولته «سرق» الكمثرى من بستان الجيران، وأنه قد صار خجلًا من ذلك عند الكبر؟ إن معنى الجرأة هنا ليس «الاعتراف» فقط، بل اعتراف «قديس» بأنه «سارق»: لكن الصدام بين السرقة والقداسة هو هنا تناقض لذيذ ما دام يجري في شكل «حماقة طفل»، وليس في شكل وصية لاهوتية. إن الطفل ينقذ القديس من ذنب السرقة، ويحولها إلى «اعتراف» أدبي أي إلى جرأة ذاتية «مفيدة». وقد نسأل أيضًا: لماذا يُعد فوكو الأخير جريئًا عندما يحكي في حواراته في الولايات المتحدة عن «مثليته» في صيغة «نحن» المثليين؟ ربما هو قد انتهى إلى «الخروج من الخزانة» الذي كان ينقده، لكن ذلك لم يكن «جريئًا» إلا مؤقتًا أو محليًّا فقط، إذ إن المثلية قد صارت معترفًا بها بشكل «جندري» وباتت محمية بالقوانين الشخصية ما بعد الحديثة منذ تسعينات القرن الماضي.

والآن، ما نصيب الكاتب العربي من هذه القضية؟ لماذا يحرص على «سمعته» بمثل هذا الهوس الأخلاقي؟ ما الذي لم يخسره بعد؟ ربما علينا أولًا أن نعود إلى تعريف «السيرة الذاتية»: هل ما حكاه طه حسين في «الأيام»، أو فدوى طوقان في «رحلة جبلية، رحلة صعبة»، أو توفيق الحكيم في «حياتي»، أو ميخائيل نعيمة في «سبعون» أو نوال السعداوي في «أوراقي… حياتي»، أو يمنى العيد في «أرق الروح»… إلخ، هي «سيرة ذاتية» أم «سيرة فكرية» أو «سيرة اجتماعية» أو «سيرة عمومية» بإمكان أي «آخر» أن يكتبها؟ هي «قصص عقلية» وليست «سيرة ذاتية». وعلينا أن نسأل دون مواربة: ما الذي منع «الذات الخاصة» من الكلام في أفقنا الروحي؟ أم السيرة الذاتية العربية لا تزال «بلا ذات» أصلًا؟

لو أخذنا الآن مثالًا «نسويًّا» (بكل تعمد في عصر «قلق الجندر»)، فماذا نجد من «السيرة الذاتية»؟ نعني: من سيرة «الذات الخاصة» الممنوعة أصلًا من الكلام، ليس فقط لدى «الآخر الكبير» (المجتمع) بل «عند نفسها» (حيث تنتصب «هوية» مكرسة ومتسلطة تمنع أي «ذات» منفلتة أو محرمة من أخذ الكلمة أمام نفسها). نلحظ رأسًا أن الموضوع الرئيس للسيرة النسوية لا يزال بشكل مهووس هو «فضح» الهيمنة الذكورية. إن حرص النساء على «كتابة الذات» في شكل «سيرة فكرية» مناضلة وناقدة ومعارضة للنظام الأبوي هو نفسه وقوع غير محسوب في فخ المؤسسة الرسمية التي «سمحت» (تحت ضغط «إبستيمولوجيا الشمال» حيث انتصرت «حقوق الجندر») بأن تقبل ببعض «النقد» النسوي للهيمنة الذكورية، ولكن مع شرط غير مرئي في «العقد السير ذاتي»، ألا وهو ألا تكتب النساء «سيرة ذاتية» بل فقط «سيرة فكرية» موضوعها الوحيد والأوحد هو نقد الذكور، أي نقد الآخر الكبير، ولكن دون خروج عن «قيود المجتمع»، وليس «كتابة الذات الخاصة» حقًّا. إن المؤسسة نفسها (الجامعات، المجلات، مراكز البحث، وسائل الإعلام،… إلخ) هي التي صارت تدفع النساء إلى «كتابة الذات» في شكل «سيرة ذاتية» بلا «ذات خاصة»؛ لأنها سيرة سالبة ونقدية محصورة في مهمة مختومة هي نقد النظام الأبوي بوصفه العدو الرسمي للذات. لا يزال «الذكر» هو محور السيرة النسوية، هو يمنحها الموضوع، ولكن أيضًا هو من يحدد المهمة وأفق الانتظار. وإذا بالسيرة الذاتية تتحول رغم أنفها إلى تمرين «أنثوي كئيب»(٢٢)، نرجسي لكنه ارتكاسي.

في الواقع، إن ما وقع هو حرمان النساء من كتابة الذات الخاصة بكل «واحدة» منهن. ومن ثم حرمان السيرة الذاتية من أن تكون تاريخًا للجرأة الخاصة، وليست استجابة فرحة مسرورة للمنتظر منها في عصر نجح في تدجين هوية النساء عن طريق تبني نضال النساء بوصفه جزءًا من هوية المجتمع ما بعد الأبوي. إن أفق الانتظار الذكوري ما لبث يخاتل بمساعدة النساء على كتابة الذات ولكن من دون خدش لأي نوع من «الحياء» الشرقي. ولذلك حين نشرت غادة السمان «رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان» اختلط الحكم النقدي على «جرأتها» باتهامها بتشويه «سمعة» مناضل؛ إذْ كشفت عن وجهه «الإنساني» بوصفه «عاشقًا»(٢٣). صحيح أن الجرأة قد انحصرت في التنويه بالشجاعة «الأنثوية» على «نشر» امرأة مشهورة لرسائل الحب التي «تلقتها» من كاتب مشهور، لكنها جاءت «بلا مؤلف»، جرأة لبقة، صامتة، تستعمل غيابها بشكل لائق؛ إذْ إن غادة السمان لم تنشر رسائلها التي كتبتها «هي» إلى غسان كنفاني «المعشوق». لقد فضلت «المرأة» في نهاية المطاف ليس فقط أن «تسكت» وتحفظ للنظام الأبوي هيبته الذكورية، بل أن تمتنع صراحة عن التوجه إليه بالخطاب؛ إذ استهلت «الكتاب» (بلا مؤلف) بما سمته «محاولة إهداء: إلى الذين لم يولدوا بعدُ[…] إلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل»(٢٤). لم يكن أمام «السيرة الذاتية» للأنثى سوى أن تستعمل غياب الكاتبة أو أن تتوجه بالخطاب إلى المستقبل.

فيصل درَّاج – ناقد فلسطيني

يحايث الرواية، نظريًّا، مستويان: أحدهما، يضيء المعيش الاجتماعي في وجوهه المتعددة، ويسرد الثاني فعلًا إنسانيًّا يترجم وجوه المعيش ولا يسيطر عليه، منتهيًا إلى ما يكشف من اغتراب الإنسان ونقصه. يتكشّف المعيش الاجتماعي مرجعًا للاغتراب، ويستَظهِرُ المغترب وجودًا متحولًا يخبر عن المعيش ومآله الذاتي معًا.

أظهرت الرواية العربية، من بداياتها الأولى، علاقة المفرد بالمجموع: «زينب» لهيكل، «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، «الأيام» لطه حسين… لكنها أخطأت غالبًا في تصوير الطرفين؛ لأنها اشتقتهما من فضاء مجرد ملتبس، واطمأنت إلى اليقين وتركت الاحتمال مكسوًّا بالضباب.

والسؤال الآن: كيف يكتب الروائي سيرة مجتمع يراه «مجردًا» لا يحتمل التفريد، ولماذا يستهل السيرة الذاتية بمفرد يعود فيذيبه في جملة من الوجوه «الغامضة»؟ وإلى أين تؤول هذه السيرة «المستحيلة» إنْ كانت لا تستقيم إلا بمفرد واضح الحدود؟ يخالط هذه السيرة عجز واضطراب؛ لأنها لا تصدر عن روائي معطوب الأداء، بل عن مجتمع يعوّق السيرة قبل البدء بكتابتها!

فرد مغترب وأمة مهزومة

عبدالرحمن منيف

استهل عبدالرحمن منيف روايته «الأشجار واغتيال مرزوق» 1973مـ بشخصية قلقة مسافرة، زرعت الحياة فيها ما يثير الاضطراب. لكن المسافر، الذي لم تتكشّف سماته بعد، يلتقي مسافرًا آخر له حكاياته المحمّلة باحتمالات تسحبه إلى حيث تريد، أنجز الروائي في رواية من «بواكيره» عملًا منقسمًا -قلق الرؤية- محملًا بأبعاد سياسية اجتماعية ميّزت الرواية العربية بعد هزيمة 1967م، وصفت فيه الخيبة والأمل المُصادر والمراجعة الذاتية الناقصة. ولم يكن الحال مختلفًا في رواية حنا مينه «بقايا صور» 1975م، ولا في رواية الراحلة رضوى عاشور «أطياف» 1999م.

توزعت الروايات الثلاث ثنائية: الوعد المنتظر والمآل المرغوب في سياق عربي انتظر «الثورة» وانتهى إلى نقيضها. تعامل مع «الرموز الأيديولوجية» في لحظة الانتظار ولم يتخلّ عنها في لحظة «مواجهة الهزيمة». فرض السياق «المهزوم» مقولات: الفرد المغترب والأمة «المهزومة الجديرة بالحياة»، والمجتمع المُخْضع الذي لا يختار حكّامه ويصفق لما «لا يرى»… والمقولات جميعها أخلاقية انفعالية، تحجب واقعها بأيديولوجيات غير واقعية، وتتوّهم الجواب في «قول تحريضي» مرجعه الأماني، أو في «قول تعويضي» يكاثر الوهم بجملة الحكايات السعيدة.

يحيل القول التحريضي، كما التعويضي، المفرد المحدد إلى لا مكان، ففي الأول يغيب المفرد قبل أن يحضر، طالما أن التحريضي نسيج من الكلمات وفي الثاني يأتي غائب المحاكمة، فالتعويض الروائي يختار ما شاء من وجوه الحياة التي يجهلها. لا مكان للمفرد، في الحالين، يوجد في الخطابة ويمنع عنه الواقع إمكانية الكلام الصحيح. ومن أين يأتي المفرد في رواية لا تعترف إلا بمفرد مستبد؟ وكيف يتشخصن في رواية محاصرة بالرقابة وجمع من المحرّمات؟

حنا مينه

يقال في علم الاجتماع: إن الإنسان محصلة لعلاقاته الاجتماعية. والمفرد العربي المفترض يتأسس، وفقًا لاجتهادات الأستاذين حليم بركات وهشام شرابي، على التربية الأسرية. التي تشل في الإنسان إرادته وتصادر كيانيته، يتوسطها «تربية ذكورية» لا يفلت منها الإنسان العادي ولا الروائي الذي يتناوله في روايته. يملي المجتمع الذكوري مفردًا مركزه خارجه، لا يُسيّس ولا حظ له من الوعي السياسي، الذي ينطوي على الاختيار والرفض والقبول. يتلو العائلة الحارسة للتقاليد والمحروسة بها مدرسة تربي تلميذها على التلقين والاستظهار، لا يهجس بالمبادرة ولا يذهب إلى أفعال حرة. تبني الأسرة والمدرسة، وهما جهازان تربويان متكاملان، صورة «الدولة الأبوية» حيث الفرد يرى في مرؤوسيه عدوًّا له، مثلما ترى «الدولة» في رعاياها أعداء لها، يتبادلان الكراهية وما يمنع عن شخصية «المواطن» النمو والحركة السليمة.

تبني «التربية الأبوية» شخصية لا تقوى على الفعل، حدّاها: الشفهي- القمعي، تذهب من تجريد إلى آخر. فبعد التربية المشار إليها، في أبعادها الثلاثة، تأتي تربية دينية شكلانية قوامها: الجماعة المؤمنة والجماعة الضالة، جماعتان لا تحتاجان إلى الاختبار، تضمن وجودهما التقاليد المتوارثة التي لا تحتاج بدورها إلى الاختبار. والمحصلة فرد لا فردية له، لا يعترف بذاته ولا يتبادل الاعتراف مع فرديات غامضة، لا تعرف من أين أتت ولا إلى أين تذهب. طبقتان انطوت سيرورتهما على صراع أنتج في التحديد الأخير، فاعلًا إنسانيًّا له مكانه الموائم في «الفعل الروائي»، على اعتبار أن كل طبقة اجتماعية متحوّلة تنتج «أدبية» خاصة بها، تتسع لما يدعى: السيرة الروائية.

فضاء القهر الاجتماعي

على خلاف شخصيات الشرط العربي، ولا أقول الرواية العربية، رسمت الرواية الأوربية شخصيات صقلتها التجربة، وتميزت بفرديتها المبدعة. على سبيل المثال، روبنسون كروزو البرجوازي المغامر المنتج الذي عاش علاقة العمل والملكية الخاصة، الحر في المبادرة والتفكير، وشخصية «آخاب» في موبي ديك الذي اغتصب الطبيعة وهزمته. إذا تركنا كروزو مع زمنه التاريخي، يتبقى لنا، ونحن نتأمل السيرة الذاتية في الرواية العربية، مفهوم: التجربة الفردية المغاير منطقها للكل المجرد والتذهين البلاغي وطقوس الرغبة والإنشاد، تجربة واضحة العناصر والأدوات والأهداف. سجّل صنع الله إبراهيم سيرة ذاتية نموذجية في روايته: «تلك الرائحة»، التي رصدت فضاء السجن في زمن سلطوي قاهر رموزه: «العسكري» الذي يمسح حضور «السجين السياسي»، وإشارات السلطة القمعية في الحياة اليومية، ولغة ميكانيكية تنكر التنوّع والاختلاف. تبدأ الرواية: «قال الضابط»، إعلانًا عن القوة الآمرة، وتنتهي بزيارة الأم الراحلة التي تصرّح: باليتم. فكل البشر في مواجهة السلطة الغاشمة يتامى، وكل الأصوات مقابل الصوت المتسلّط قبضة من أثير.

شريف حتاتة

أعطى حليم بركات سيرة ذاتية في روايته «عودة الطائر إلى البحر». رصد السارد هزيمة حزيران، وكل الهزائم من هزيمة حزيران، منتقلًا من «الضفة الغربية» والأردن ولبنان. نقد تخلّف الوعي الاجتماعي والقومي والوطني داخل الأجهزة السلطوية وخارجها، وعاين غياب المسؤولية الفردية، التمس إيضاحًا في الحكاية الشعبية عن «الضبع والعروس»، حيث الاستسلام للضباع يلقي بالعروس إلى الضباع. تتجلى في الحالين سيرة «عربي» وجهاها الرغبة والعجز والرجولة المستحيلة.

ولعل فضاء القهر الاجتماعي، المحروس بأكثر من رقابة، هو الذي استدعى عالم الطفولة مرجعًا لسيرة ذاتية «بريئة» تجلّت في «طائر الحوم» ورواية «الجبل الصغير» لكل من حليم بركات وإلياس خوري و«البئر الأولى» التي استعاد فيها جبرا إبراهيم جبرا طفولته في مكان فلسطيني ابتعد. ولم يكن حال الفلسطيني الآخر إميل حبيبي مختلفًا في عمله «إخطيّة»، حيث شباب مضى وحبٌّ انقضى وذكريات تستدعي البكاء. ما يسمح بالسيرة الذاتية إذن هي الطفولة التي لا تستثير العقاب أو هزيمة واسعة الألقاب ثقيلة الحراسة.

أملى الواقع العربي المقتصد في الحريات موضوعات السيرة الذاتية وعيّن حدودها، التي انطوت على الطفولة وتجربة السجن وحذفت منه المتخيّل الحر؛ إذ الطفولة مرحلة «ما قبل مجتمعية»، إن صح القول، والسجن معيش يعترف بالمجتمع ويلغيه، وبثبات الإنسان وأحلامه ونداءات جسده وما يحيل على «الثالوث المحرّم» الذي وجوهه: الجنس والدين والسياسة. وهذه الأمور كلها التي تستلزمها السيرة الذاتية غير مسموح لها في الرواية العربية إلا كهامش ناقص.

حليم بركات

لم تعرف الرواية العربية السيرة الذاتية الواضحة إلا في نماذج عارضة، مثل: «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري التي لامست «عالم الحواس» ورغبات الجسد المقموعة؛ ذلك أن الجسد في التربية المسيطرة عورة حدودها «الحلال والحرام»، وهناك رواية المصري الدكتور شريف حتاتة: «العين ذات الجفن المعدنية»، في أجزائها الثلاثة التي عطفت «حركة الجسد» على عنف السجن والسجّان. وما أثارته سيرة «شريف حتاتة» الذاتية يعود إلى رجل شاذ اغتصب طفلًا بريئًا، لا أكثر. ولنا أن نذكّر بسيرة لويس عوض الرائعة «خريف العمر» التي التهمت فيها سريعًا القضايا الاجتماعية ما هو ذاتي وفردي.

سير معوّقة

لم تتعامل القراءة العربية مع أعمال: شكري وحتاتة وعوض، التي تتباين قيمها الأدبية، ككتابة تنتمي إلى «جنس أدبي» معترف به، مارسته الفرنسية كوليت والأميركي هنري ميللر وغيرهما، إنما عاملتها بمعايير بقيم أخلاقية خالصة تقضي على الأدب وتقضي بحديث عن «الشرف والانصياع المجتمعي الواضح الحدود». ومع أن الأدب العربي، كما قضت العادة، لا مكان فيه «للأدب المكشوف». فكتابة السيرة الذاتية في مجتمع «معتل الحرية» يلغيها، أو يأتي بسيرة معوّقة يغلب فيها ما بين السطور على السطور، تُقبل ولا يرحب بها، حال «بعض الجمل» في رواية «تلك الرائحة»، وبعض روايات علوية صبح. وقد يكتنفها الالتباس إن كان الموضوع دينيًّا، حال رواية يحيى حقي: «قنديل أم هاشم». وهناك «المجاز الأدبي» الذي تلوذ به الروايات المحدّثة عن القمع السياسي مثل «الزيني بركات» لجمال الغيطاني. في كل معيش مقموع أبعاد من سيرة ذاتية لها شكل «المجاز»، آيته «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، و«طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عوّاد، وروايات هدى بركات المبدعة الغموض. في هذه الروايات جميعًا صور من الأرض والسماء، الحاضر والماضي، الروح والجسد والرغبة والحرمان.. من المحقق، في النهاية أن السيرة الذاتية لا تقف سليمة في مجتمعات غادرتها الحرية…

كتب الإنجليزي إيان واط في كتابه «صعود الرواية»: «يجب على المجتمع أن يعترف بالفرد اعترافًا حقيقيًّا ليكون موضوعًا جديرًا بالكتابة الأدبية». يظل القول صحيحًا في شرط «السيرة الذاتية الأدبية»، لا أدب إلا بفرد حر ولا سيرة ذاتية أدبية إلا بمجتمع متحرر القراءة والكتابة.

تكتب السيرة الذاتية، إذن، عمّا مضى، متخذة من شخص معين وتطوره موضوعًا لها، تتصف بوعي موضوعي يتعرف إلى الفردية وشروط تحققها، يصرح بما يقول بوضوح متحرر من الرقابات المختلفة. لا يعثر هذا التعريف على عناصره في شرط اجتماعي سلطوي عربي تواجهه عقبات متعددة.

إشارات:

– فيصل درّاج: الذاكرة القومية في الرواية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008م.

– Ian Watt: the rise of the novel 1957, the university of California press.

– Linda Anderson: Autobiogrphy, Rout Ledge, London, 2001, p: 44.

– ينظر أيضًا إلى: Roger Allen: the Arabic novel, Second edition, Syracuse uniersity press, 1995.

شيرين أبو النجا – ناقدة مصرية

يقول لي جيلمور: «لا تستمد السيرة الذاتية قوتها من تشابهها مع الحياة الحقيقية، بقدر ما تستمدها من التجاور مع خطابات الحقيقة والهوية، ولا تستمد قوتها أيضًا من الإحالات والمحاكاة، بقدر ما تستمدها من القوة الثقافية لقول الحقيقة»(٢٥).

إعادة تمثل للماضي

إذا كانت السيرة الذاتية تزعم أنها تقدم حقيقة ما حدث وما وقع للذات في سيرتها ومسارها، فهو بالتأكيد زعم باطل. فالسيرة الذاتية -أو النص الذي يُسمي نفسه هكذا- ليست إلا إعادة تمثل للماضي وهو ما يتضمن ثلاثة عوامل رئيسة: المؤلف أو المؤلفة، الذات المكتوب عنها، واستقبال القارئ للنص في سياق بعينه (زمان ومكان). وعلينا أيضًا أن نتذكر ما حذرنا منه بول ريكور في كتابه «الذاكرة والتاريخ والنسيان» (2000م) عن ضرورة التفرقة بين عملية استعادة ذكرى ما وبين التخييل الذي يُعد عملية تقصد إلى إنتاج خيال ما.

إلا أن السيرة الذاتية لا بد أن تتضمن عناصر التخييل، فإعادة تمثل موقع الذات في الماضي يعني إعادة إنتاج لقصة أخرى، وهو ما يجعلها جنسًا أدبيًّا بامتياز، لا يمكن تفسيره عبر معايير الحقيقة والكذب، بل هو نص يمنح المؤلف/ المؤلفة مساحة ليعيد رسم مسار الذات في محاولة لفهمها. أو كما يقول جوليان إنريك: إن الذات ليست منفصلة عن الجماعة والسياق الاجتماعي، بل هي «واقعة في شبكة تتشكل من الممارسات الاجتماعية والخطابات والذاتية، وحقيقتها نسيج العلاقات الاجتماعية»(٢٦). ووقوع الذات في هذا النسيج المتشابك يستدعي دائمًا التفاوض للمضيّ قُدمًا في امتلاك الفاعلية، التي تُعرفها سوزان ستانفورد بوصفها «ظهور الذوات الإنسانية التي تخلق المعاني، وتقوم بالفعل مع التفاوض مع مجموع الأوضاع في النظام الاجتماعي، مهما كانت محددة ومفروضة»(٢٧).

في كتابة السيرة الذاتية يختار المؤلف أو المؤلفة الممكن من بين الخيارات التي يتيحها السياق. وهو ما يجعل مسار الفاعلية بأكمله محكوم بالتفاوض؛ لأن الذات الواحدة قد تعيش مواقع متعددة وأحيانًا متناقضة طبقًا للواقعة التي تستدعيها الذاكرة. السيرة الذاتية إذن ليست صورة مصمتة وأحادية للذات؛ بل هي لمحة من مسار هذه الذات، ومن هنا تظهر أهمية السياق الذي تستعيده هذه الذات. السيرة الذاتية ليست دالًّا على الهوية إنما دال على التجربة التي تُشكل جوهر مفهوم الذاتية التي تتشكل بدورها «عبر أفعال هذا الشخص أو غيره من فعل الكلام/ الكتابة. والخطاب الذي يتناقض مع خطاب آخر لا يلغي تشكل الشخص وتكوينه من حيث الخطاب الأصلي. إن ذاتية المرء هي بالتالي وبالضرورة متناقضة»(٢٨).

وعليه لا يجب النظر إلى السيرة الذاتية وكأنها تقدم رؤى أو أفكارًا في المطلق، بل هي شذرات استدعَتها الذاكرة لتوضيح موقعية الذات مما يشكل سياق النص. وقد شرح حاتم الصكر هذا الأمر بقوله: إن «الزمن في السيرة الذاتية سيكون ثلاثي الأبعاد: فثمة زمن ماضٍ مستعاد هو زمن الأحداث، وزمن حاضر هو زمن الكتابة، وزمن غير متعين يلقيه وعي القارئ أثناء إنجاز فعل القراءة»(٢٩). بمعنى آخر، تستدعي الذاكرة آليات التفاوض التي اعتمدتها الذات في سياق محدد يحكمه النزعات الشخصية والرغبات والآمال، العوامل المعوقة، أو الداعمة كالعائلة، أو الموروث الثقافي، أو عوامل خارجية دخيلة كالاستعمار والاحتلال تؤطر كل ذلك.

الذات الأنثوية والعالم

في عام 1990م، كتبت جين سعيد مقديسي تجربتها في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية «شذرات من بيروت»، وفي شهادتها التي نشرتها مجلة «باحثات» (1995م) تحت عنوان «التعبير عن الذات: لماذا كتبت» تعلق جين على كتابها «شذرات من بيروت»، أنها كتبت ردًّا على الأسئلة التالية: «ما مكاني في العالم؟ هل أنا متفرجة سلبية، مجرد متابعة للأشياء، شخص لا يفهم شيئًا مما يجري حوله؟ أم هل أنا مشاركة فعالة في أحداث زمني؟» يؤرشف «شذرات من بيروت» قصة الذات الأنثوية الممزقة في علاقتها بالعالم في لحظة معينة. ويفترض هذا الموقف أن الذات هنا ليست كاملة مترابطة، ولذلك تصبح الكتابة وسيطًا يسد الفراغ بين الذات والعالم.

تحاول هذه المذكرات أن تعالج فجوات التاريخ وانخلاع الزمان والمكان وغياب الأمان والتردد والمخاوف والاضطرابات. ولا نلمس هناك أي محاولة لإخفاء الذات الممزقة وراء قناع الثبات أو التماسك الحازم. كما لا تحاول الذاكرة سرد الأحداث في خط طولي منتظم يُضفي الوحدة العضوية على مسار الذات. وقد انتقدت النظريات النسوية محاولة إظهار الذات في السيرة بشكل عضوي متماسك؛ لأن الحياة أبعد ما تكون عن ذلك. على سبيل المثال، ترى شاري بنستوك أن الذات العضوية في السيرة الذاتية ليست إلا أسطورة مؤلفة وضعها الميتافيزيقيون في الغرب(٣٠). وقد عمدت ليز ستانلي إلى تحليل كثير من كتابات السيرة الذاتية النسوية، وخلصت إلى أن هذه الكتابات تتحدث بصورة واضحة عن وقوع «أمر ما ثم أمر آخر… ولكن… بصورة فيها وعي واضح بالتشظي الداخلي للذات… وتضع السرد في موقع… يخلق ترابطًا ووحدة هوية للذات»(٣١).

تتردد كلمة تجربة كثيرًا في الخطاب النسوي وفي خطابات أخرى كثيرة، تُراوِح بين الفلسفة والتاريخ والحديث اليومي العادي. واستخدم في هذا السياق تعريف تيريزا دي لوريتس حيث ترى أن التجربة عملية تتكون من خلالها الذات. ولا تجعل دي لوريتس النوع الاجتماعي هو أساس تشكل التجربة، ولكنها تستكشف فكرة التجربة بوصفها ممارسةً يعد النوع الاجتماعي أحد العناصر الحيوية بداخلها(٣٢). وتعقب كارين كابلان على ذلك بقولها: «إن الذات التي تتبدى في هذا العمل لديها مقدرة على الفعل وعلى التحليل الفكري، ووعيها بصدد التشكل، فهو لم يصل إلى صورة ثابتة نهائية بل دائمًا يتشكل من خلال علاقته بالتاريخ»(٣٣).

يتضح هذا الأمر في مذكرات لطيفة الزيات التي صدرت بعنوان: «حملة تفتيش في أوراق شخصية». اشتبكت لطيفة الزيات مع حياتها الشخصية ومع حياتها العامة في الوقت ذاته. فكما يشي العنوان (حملة تفتيش في أوراق شخصية) يجتمع الشخصي والعام ليدفعا الذات إلى الخروج. وعلى الرغم من رحيلها في عام 1996م، فإن سيرتها الذاتية تنتهي في عام 1981م؛ إذ تتأمل وتحلل التغيير الذي أحدثته فيها تجربة السجن الثانية. لا تتبع الزيات أي ترتيب زمني طولي للأحداث ولا تفصل بين الخاص والعام إطلاقًا، فبعد أن تبدأ بعام 1973م حيث موت أخيها تعود إلى عام 1965م حين وقع الطلاق بينها وبين رشاد رشدي: «وبدأ التقييم لمجمل حياتي. وكان زواجي قد أثار من الضجة ربما أكثر مما أثاره طلاقي، فقد انتمينا لمعسكرين متضادين، وإن لم أَعِ أنا هذه الحقيقة في حينه».

تضفير الخاص والعام

لم تتورع فدوى طوقان (1917-2003م) عن تضفير الخاص والعام في سيرتها «رحلة جبلية.. رحلة صعبة» الذي صدر عام 1985م وتبعه الجزء الثاني بعنوان: «الرحلة الأصعب» عام 1993م. تقص طوقان بسلاسة اصطدامها بالمنظومة الأبوية الصارمة في نابلس التي أدت إلى حرمانها من التعليم في سن مبكرة. فكان أن تتلمذت على يد أخيها إبراهيم، ولم تخرج إلى الحياة العامة بشكل كامل إلا بعد نكسة 1967م حيث لم يعد الانكفاء على الذات الفردية قادرًا على تفسير العالم/ لم يكن هناك أي خيار آخر سوى المقاومة.

غني عن الذكر أن السير أو اليوميات التي تناولت المقاومة ليست قليلةً في المكتبة العربية، وتتسم هذه السير بالتركيز على مفردات الوعي ومسار تشكله الذي دفع المؤلفة إلى الانضمام لصفوف المقاومة بأشكالها المختلفة، سواء المقاومة المسلحة للعدو الإسرائيلي مثل كتاب «مقاومة» (2000م) لسهى بشارة حيث وثقت تجربتها أيضًا في معتقل الخيام، أو المقاومة الفكرية الدفاعية لمنظومة أبوية تقليدية راسخة في المجتمع مثل مذكرات هدى شعراوي، أو مقاومة أفكار استشراقية استوعبتها مجتمعاتنا، ثم أعادت إنتاجها مثل «نساء على أجنحة الحلم» (1998م) لعالمة الاجتماع الراحلة فاطمة المرنيسي، أو مقاومة أفكار راسخة عن النساء تجعل منظومة القهر في توزيع الأدوار أمرًا طبيعيًّا ومقبولًا مثل: «مذكرات طبيبة» (1985م) لنوال السعداوي. وأحيانًا مقاومة المرض عبر كتابته كما فعلت رضوى عاشور في «أثقل من رضوى» (2013م)، وتبعتها بجزء تالٍ وهو «الصرخة» (2015م). وأخيرًا هناك أيضًا ما أسمته الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة «سيرة ذاتية أدبية» حيث دوّنت الأوضاع المصاحبة لمسارها ككاتبة وذلك في «روايتي لروايتي» (2018م).

تتخذ أيضًا السيرة الذاتية أشكالًا أخرى بما يؤكد أن حدود الجنس الأدبي مرنة وقابلة للانزياح، فهناك مثلًا الرواية السير-ذاتية التي يقول الناقد حسين حمودة: إن عالمها يتحرك «حركة رحبة، وأيضًا رواية «المتمردة» 2003م للكاتبة الجزائرية مليكة المقدم، ويصرح الغلاف الخلفي بأن الكتاب مزيج من السيرة الذاتية والخيال الروائي. وفي الممارسة الفعلية للكتابة تستخدم الكاتبة ضمير المتكلم كما في السيرة الذاتية، وتؤكد هذه الرؤية الذاتية بإشارات كثيرة إلى رواياتها السابقة. الساردة هي امرأة جزائرية وصلت سن الرشد في غضون حرب الاستقلال، ثم دفعتها صدمة سنوات ما بعد الاستقلال إلى الهجرة لفرنسا حيث أتمت تعليمها هناك، وفتحت عيادتها الخاصة، وعكفت على الكتابة في مواجهة الأصولية الدينية. وهناك نمط الرسائل مثل: «رسائل الغريبة» للكاتبة اللبنانية هدى بركات (2004م) حيث تجد الكاتبة في النزوح- الذي يبدو إراديًّا- عن المكان، حافزًا على العودة إلى الجذور لتسائل وتؤسس ماضيها هناك (بيروت) وحاضرها هنا (باريس)، وأن تشكل في النهاية سردًا متجاوزًا لا يمكن أبدًا عَدّه صرخة حنين إلى الماضي.

السيرة الذاتية بأشكالها المتعددة ليست مجرد بوح أو فضفضة لهموم، بل هي في حد ذاتها موقف فكري، وموقع معرفي، ونقطة انطلاق، وسعي نحو فهم جاد لمسار الذات وتشكلاتها في ظل العديد من الظروف المتغيرة. تظهر الذات وهي في حالة تغير مستمر وحركة دائمة لا تستقر بشكل مشابه للطبيعة المجتمعية والسياسية للمكان الذي تعيش فيه صاحبة التجربة أو ذاك الذي تأتي منه. وبما أن العلاقات الجيوسياسية والمجتمعية والنفسية تقوم بدور العلامات الدالة على المكان، فإن تلك النصوص تتحرك بحرية بين الشخصي والسياسي حتى تنمحي الحدود بين الاثنين. أي أنها تتجه إلى خارجها لتحتضن التناقضات والنـزوح والتغير، من دون أن تزعم أنها تؤرخ حقيقة ما وقع، ومن دون أن تزعم أنها تتحدث باسم الذات الجماعية. ومن هنا تتجلى أهمية التجربة المعيشة، ومن سماتها عدم الاحتفاظ بشكل ثابت، واحتواؤها على درجة كبيرة من التعقيد. وبما أن الواقع دائم التغير وفق سياسات التاريخ والتاريخانية، فلن يكون هناك أبدًا مقصد نهائيّ اسمه الذات؛ لأن الذات هي سيرورة وسيرة وصورة تتبلور من خلال تجاوز حدود الثابت والمألوف والمرغوب، وتتجاوز محدودية الفهم، وتتجاوز الرغبة في اتباع خط طولي.

صدوق نور الدين – ناقد مغربي

قد لا يحتاج الكاتب الراحل محمد شكري إلى مناسبة للكتابة عنه، فهو حاضر باستمرار، وكتبه تمثل أكثر من مناسبة لاستعادته وإثارة نقاش حول موضوعاتها ومضامينها. وللموضوعية فقد صدرت العديد من الدراسات حول الراحل وحياته الأدبية والشخصية. بعضها نال حظًّا من الاستحسان والتداول داخل المغرب وخارجه، وأخرى حالت ظروف دون انتشارها والاطلاع عليها من لدن شريحة واسعة من القراء في العالم العربي، على الرغم من أهميتها. ومن بين هذه الكتب التي صدرت عن محمد شكري -الذي شكلت سيرته بأجزائها الثلاثة «الخبز الحافي»، «زمن الأخطاء/ الشطار» و«وجوه» علامة فارقة في تاريخ السيرة الذاتية العربية- نجد كتاب القاص والروائي محمد عز الدين التازي الموسوم بـ«محمد شكري غواية العيش والكتابة» (باب الحكمة، تطوان).

ينتمي كتاب التازي إلى أدب المذكرات، ويضيء جوانب من حياة «الكاتب العالمي» كما اختار أن يُلقب، ومثلما هو مدون على شاهدة قبره: «هنا يرقد جثمان المرحوم محمد شكري الكاتب والروائي العالمي»، (الصورة/ المذكرات ص: 200). والواقع أن هذه المذكرات تستكمل حصيلة كتابات ظهرت معظمها في حياة محمد شكري (1935- 2003م) في صيغة حوارات أو نصوص سردية حكائية أو رسائل تَكَفَّلَ بصوغها أدباء وكتاب أو بعض المقربين. واللافت أن معظمها صدر في شمال المغرب (طنجة/ تطوان) اللهم «ورد ورماد» (2014م)، وهي الرسائل المتبادلة بين الناقد والروائي محمد برادة ومحمد شكري الصادرة بداية عن وزارة الثقافة، إلى كتاب الروائي الطاهر بنجلون الموسوم بـ«جان جنيه الكذاب الرائع» (غاليمار/2010م)، والمتطرق فيه للعلاقة بين شكري وجنيه.

بين الصداقة والوفاء

تتشكل بنية المذكرات من كلمة، بمنزلة مقدمة، وثلاثة فصول وخاتمة. هذا التشكل يوحي وكأن الأمر يتعلق بتدوين لسيرة ذاتية من منطلق التجاور الذي يصل بين أدب المذكرات والسيرة الذاتية. والواقع أن تلقي هذه المذكرات لا يجعلنا نقف على تفاصيل من حياة محمد شكري لم تجسدها سيرته وحسب، وإنما على مشاهد ذاتية ارتبطت بحياة كاتب المذكرات محمد عز الدين التازي:

«هذه المذكرات، وهي تحمل اسم محمد شكري، تسعى إلى استحضار شخصه، ولحظات ومواقف عشناها معًا أو عاشها مع غيري، فكنت شاهدًا عليها، وبوحًا باح لي به في أوقات عاش فيها قلقه الخاص». (ص/7). من ثم فالدافع الرئيس لكتابة هذه المذكرات هو تمثُّل جوانب حياتية لم يتأتَّ تدوينها. وهو ما يعدُّه التازي، نوعًا من الوفاء لصداقة «امتدت لأربعة عقود». (ص/13) وإذا كانت كتابة هذه المذكرات تتم بالاستحضار اعتمادًا على الذاكرة، وهو ما يسمها بالتكرار الناتج عن النسيان، فما يمكن ملاحظته عن التشكل كون منطلق المذكرات وفق المتعارف عليه من مكوناتها التي يهيمن فيها التحديد الزمني والمكاني إلى سيادة ضمير المتكلم، لم يتحقق سوى في الفصل الثاني حيث الإشارة الزمنية لبداية العلاقة بين التازي وشكري، والمحددة في (1968م). يقول الناقد والروائي محمد برادة (1938م) في كلمته المثبتة على ظهر الغلاف الأخير: «بل إن ذاكرة كل واحد منا لا تكتمل إلا بقدر ما يتسع عدد الذين يستحضرونها من زوايا مختلفة».

من ثم عمد التازي إلى تقسيم المذكرات لأوقات، بدت في استقلاليتها وحدات حكائية، الناظم الجامع بينها شخصية محمد شكري. هذه الأوقات وعددها (29) تبدأ من «وقت للتعارف» وتنتهي بـ«وقت لقبعة القش».

1968م: بداية التعارف

مثلت سنة 1968م، بداية العلاقة التي جمعت بين عز الدين التازي ومحمد شكري. كان الأول طالبًا بكلية الآداب بمدينة فاس، حيث تقع أعرق جامعة «ظهر المهراز» التي تخرج منها أعمدة الأدب المغربي الحديث. ومن ثم هي الجامعة التي كتب عنها الروائي أحمد المديني نصه «رجال ظهر المهراز» (منشورات أحمد المديني/ 2007م). وأما الثاني، فكان معلمًا يدرس بمدينة طنجة.

كان اللقاء بـ«القصر الكبير» إحدى مدن الشمال، حيث تأتى تنظيم مهرجان ثقافي من طرف جمعية «الشعلة» التي تعد من أقدم الجمعيات المغربية التي تواصل أنشطتها الثقافية إلى اليوم.

اعتقد التازي بداية أن محمد شكري كاتب تونسي من خلال قراءته لقصص حرص على نشرها في جريدة «العلم» (لسان حزب الاستقلال). ويعد ملحقها الثقافي المدرسة الأولى للعديد من الأدباء والكتاب المغاربة؛ إلا أنه تفاجأ به يقدم نفسه كالتالي: «أنا مغربي، ريفي، أصلي من الريف، لكني اليوم أعيش في طنجة. هل تأتي إلى طنجة؟» (ص/ 37)

ستثير الإجابة عن هذا السؤال استغراب شكري. فالتازي لم يكن ليسافر سوى بمرافقة جده الذي تكفل بتربيته بعد طلاق والده من والدته. هذه الحكاية، رأى فيها شكري، إلى حد ما، مرآة لذاته ومعاناته الأسرية. ولعل هذا ما أجج أواصر الحميمية والتقارب بين التازي وشكري. «أنت أيضًا عشت محنة مع العائلة؟ قد لا تكون مثلي، فوالدي ذهب إلى الجندية ولم يعد إلا وهو عاطل يتحشش ويضربنا أنا وإخوتي» (ص/ 37).

وسيلمس التازي لاحقًا، الجرح العميق لانتفاء مفهوم «العائلة» عن حياة محمد شكري، لما تقدم إليه الأخير بطلب رعاية ابنه ثلاثة أيام، لولا أن التازي بكياسته أرجأ الأمر لعطلة الصيف المدرسية القادمة: «قدرت ذلك الحرمان الذي يشعر به لكونه لم ينجب أطفالًا، وفكرت في أن ولدي نوفل، ابن العاشرة آنذاك، ربما لن يستأنس بشكري لحد بعيد طوال تلك الأيام الثلاثة، ثم إن شكري لن يتخلى عن عاداته في ارتياد الحانات، فهل سوف يضطر، لإرضاء عادته اليومية، أن يأخذ الولد معه؟» (ص/11).

الحرمان العائلي طبع حياة شكري في صغره، وعلى السواء كبره، وهو ما جعله «على قلق» باستمرار؛ إلا أن التباين الذي وسم العلاقة في بدايتها، كون التازي كان منتميًا سياسيًّا، فيما أخلص شكري للثقافة والأدب: «أنا لست مسيسًا. لكني مع الإنسان المغربي المسحوق» (ص/35).

طنجة الأسطورية: النهاريون والليليون

سيزور محمد عز الدين التازي طنجة صيف 1969م، لتكون اللحظة بداية صداقة متواصلة إلى أن غيب الموت الراحل محمد شكري. ولمناسبة الزيارة، اقترح شكري الإقامة في بيته عوض الفندق. واشترط شرطين: الأول أن يشتري التازي الفراش الذي ينام عليه. والثاني، أنه في حال الفاقة والعوز، سيضطر لبيعه. هذا السلوك، ينهجه و«الكاتب الكبير» محمد زفزاف. الأخير داوم التردد عليه أصيافًا كثيرة، كما فسح له باب النشر في المنابر الثقافية العربية، كمثال مجلة «الآداب» البيروتية، حيث ستنشر الدار لاحقًا مجموعته القصصية الأولى «مجنون الورد» (1979).

«أخذ يحدثني عن صديقه الكاتب محمد زفزاف، الذي تعود أن يقيم في بيته خلال أيام من عطلة الصيف، وأخبرني بأنه كان يشتري الحصير والفراش والمخدة، فينام عليهما لتلك الأيام، ثم عندما يأتي الصيف القادم لا يجدها، ويضطر لشراء أخرى. سألته: ولماذا لا يجدها؟ قال: لأنني في وقت الحاجة أبيعها. وسأبيع تلك التي سوف تشتريها أنت، بعد عودتك إلى فاس، إن اشتدت بي الحاجة» (ص/43).

أما والتازي يقيم في بيته العادي، فسيعرفه على السيدة «فتحية» التي تساعده في إدارة شؤون البيت. وهنا سيستغرب التازي من كونه يلقبها بـ«السيدة» عوض «الخادمة». وسيطلع شكري التازي على خبايا مدينة طنجة التي وصفها بالأسطورية. فسكانها، حسبه، ينقسمون إلى فئتين: فئة النهاريين، وفئة الليليين. من ثم دعاه للتعايش معهما: «هم سكان مدينة طنجة. منهم من يعيشون حياتهم بالنهار وينامون في الليل، ومنهم من يعيشون حياتهم بالليل وينامون بالنهار» (ص/40).

ويعترف التازي بكونه أفاد من مكتبة شكري كثيرًا، بحكم تنوع الكتب الموجودة فيها، وتنم عن اختيارات دقيقة يصعب حيالها الاستغناء عن أي مؤلف من المؤلفات التي تضمها. وإذا كان شكري قد عرف حياة الفقر والعوز، مما اضطره لاستدانة مبالغ مالية هزيلة (ألف فرنك: دولار تقريبًا)، وبيع الساعات اليدوية في الميناء، إلى الغناء في الحانات بتقليد محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش، فإنه تحول من الاستدانة إلى مقرض مالي للكتاب والأدباء، والدليل أنه أقرض محمد عز الدين التازي مبلغ (5000 درهم: 500 دولار تقريبًا) في فترتين متتاليتين: «كان يعطف علي في سنوات المحنة، وهو من زودني بالساعات اليدوية التي كنت أبيعها في الميناء، حتى لا أسرق، كما قال لي» (ص/48).

«أخبرت محمد برادة بأنني قد قرضتك الخمسة آلاف درهم، وأبديت له مخاوفي من ألا تتمكن من تسديدها، فقال لي: السي عز الدين صاحبك، وقد اشتركتما في الحلو والمر، وأنت وسع الله عليك في الرزق، فتخل له عنها» (ص/50).

«الخبز الحافي» سيرة كتاب

يورد محمد عز الدين التازي في الفصل المعنون بـ«وقت للخبز الحافي»، حكاية تأليف محمد شكري لسيرته الذاتية؛ إذ يرى أن عملية التأليف تمت إما في سنة (1972م) أو (1973م) بمقهى «سنترال» بطنجة في غضون عشرة أيام. كان شكري يكتب في دفاتر مدرسية سرعان ما يرقمها كي لا يختل الترتيب المرتبط بالمعنى المعبر عنه في السيرة. ويذكر التازي بأنهما كانا يجلسان في المقهى ذاته، كل على طاولة بعيدًا من الآخر، ولما تنتهي عملية الإبداع يعودان للالتقاء من جديد.

على أنه في تلك المدة كان على اتصال بالكاتب الأميركي «بول بولز» (1910- 1999م) الذي أقام في طنجة إلى حين وفاته، فطلب منه سرد حكايات ينقلها إلى اللغة الإنجليزية لتنشر في مجلتين هما: «بلابوي» و«أنطيوس» في مقابل (5000 درهم: تقريبًا 500 دولار) عن كل حكاية. وسيعترف شكري في لقاء آخر معه بأنه بصدد كتابة سيرة ذاتية سرعان ما طالبه بإحضارها. وهكذا كان يمده يوميًّا بالفصل الذي يكتبه صباحًا، لتتحقق ترجمته في المساء.

«هل لديك حكايات تحكيها لي حتى أكتبها بالإنجليزية؟ جازف محمد بالرد: لدي حكايات كثيرة. ولدي سيرة ذاتية كتبتها بالعربية» (ص/53).

صدرت السيرة بداية باللغة الإنجليزية تحت عنوان: «من أجل الخبز وحده». ويرى التازي أن العنوان قد يكون من وضع «بول بولز»، مثلما الأمر بالنسبة لـ«الخبز الحافي» الذي اقترحه الروائي الطاهر بنجلون. ويقال: إن الناقد والروائي محمد برادة وضع عنوان الجزء الثاني من هذه السيرة الذاتية التي صدرت في المغرب تحت عنوان: «زمن الأخطاء» (1992م)، بينما حملت الطبعة البيروتية عن «دار الساقي» عنوان «الشطار»، وبتقديم من الناقد المصري صبري حافظ.

على أن أول طبعة باللغة العربية ظهرت في المغرب (1982م) في سحب أولي بلغ (5000 نسخة)، لتتواصل الطبعات إلى أن بلغت أربع طبعات، حيث تدخل الاتجاه الديني التقليدي لمنعها بمسوغ المحتوى المعبر عنه. وفي الآن ذاته يشير التازي إلى كون الخميني، وهو يهدر دم سلمان رشدي، أهدر على السواء دم الراحلة فاطمة المرنيسي ومحمد شكري الذي رفض مقترح حمايته: «تقبل شكري الأمر بهدوء. وحينما دعي إلى قسم الشرطة، وسأله الضابط: هل تحتاج إلى حماية؟ أجاب مِن فورِه: كلا. أنا لم أفعل شيئًا ضد أحد. وإن أرادوا أن يهدروا دمي فلن تنفع أية حراسة. ثم إنني لا أطيق أن أعيش وبرفقتي حارس» (ص/62).

يقول التازي: إن «دار الآداب، بيروت» اعتذرت عن نشرها. ولعل من المفارقات أن محمد شكري تندر كثيرًا عقب إصدار الروائي والقاص سهيل إدريس (1925- 2008م) الجزء الأول من سيرته الذاتية «ذكريات الأدب والحب» (2001م)، لما تضمنته من مواقف «غير أخلاقية» حالت دون ظهور الجزء الثاني.

أثار التازي أسئلة وملحوظات نقدية حول «الخبز الحافي» نجملها في التالي: محمد شكري لم يكن حكواتيًّا ويعتمد الشفوي، كما أشارت بعض الدراسات النقدية، وإنما كاتب قصة باللغة العربية السليمة. ولم يكن شكري يتقن اللغة الإنجليزية، مثلما أن «بول بولز» غير متمكن من اللغة العربية. من ثم يطرح التازي السؤال: كيف تحقق التواصل بين المؤلف والمترجم؟ وهنا يرجح بأن الوساطة قد تكون تمت عن طريق محمد المرابط طباخ «بولز» الذي يجيد اللغة الإنجليزية: «مع ذلك فالترجمة كانت تتم، وبكل تأكيد، انطلاقًا من نص مكتوب بالعربية، هو الذي كتبه محمد بمحضري على أوراق تلك الدفاتر المدرسية» (ص/54).

ويشير التازي إلى أن بعض القراء ألمحوا للضعف الأدبي لـ«الخبز الحافي»، مع تأكيد قيمتها النابعة أساسًا من الجرأة التي تفردت بها، إذا ما ألمحنا لكون محمد شكري قد باح للتازي باعتراف مؤداه أنه لم يدوّن الوقائع الاجتماعية كاملة كما عاشها، وإنما مارَس رقابته الذاتية على العديد من القضايا والمشاهد المؤلمة.

يصنف شكري سيرته الذاتية، حسب التازي، فيما يسمى بأدب الشطار الذي يرسم صورة عن أحوال الفقراء والمعوزين ومعاناتهم. وقد يكون تأثير المرجعيات الإسبانية حاضرًا في سياق عملية الإنجاز. على أن ما غفل عنه كاتب المذكرات، كون التصنيف أورده الناقد المصري الراحل الدكتور علي الراعي في كتابه «شخصية المحتال في المقامة والحكاية والرواية والمسرحية» (كتاب الهلال). ويلحظ محمد عز الدين التازي أن سيرة «الخبز الحافي»، حجبت التلقي والنظر النقدي على التعرف إلى بقية أعماله الأدبية، مثلما طبعت شخصيته بالنرجسية: «لم يكن محمد شكري ينظر إلى حياته الخاصة بنرجسية وإعجاب بالذات، بينما أدركته النرجسية ككاتب، عندما اشتهر اسمه وترجمت أعماله إلى لغات عدة» (ص/20).

يبقى كتاب «محمد شكري غواية العيش والكتابة»، تجربة في أدب المذكرات أضاءت جوانب مهمة من حياة كاتب مَثَّلَ في لحظة زمنية من تاريخ الأدب العربي الحديث، وليس المغربي وحسب، ظاهرةً تَستحقُّ الدرس والتحليل النقدي الموضوعي، وبخاصة أن كاتبها الروائي والقاص محمد عز الدين التازي عايش الراحل إلى أن غيبه الموت، ولئن اعتمد في التمثل والاستحضار على ذاكرته، وبالرغم من كون العديد من القضايا المدونة كانت معروفة ومتداولة وتحتاج فقط لمن يوثقها.

علي حسن الفواز – كاتب عراقي

قد يبدو الحديث عن غياب نص السيرة حديثًا مواربًا، ومُضلِّلًا للتغافل عن غياب نص الاعتراف، بوصفه نصًّا يتجاوز الظاهر السيروي، إلى تلمّس الباطن «المقموع» والمستور، والفضائحي، وبما يجعله النص الأكثر تمثيلًا للذات «الصافية»، عبر الكشف عن خفايا سيرتها، وتتبّع المحجوب من وقائعها ويومياتها، وتسريد ما هو محذوف منها، أو ما هو مقموع فيها، وعلى نحوٍ يجعل من نص الاعتراف وكأنه نصٌّ ضدي، تحضر فيه تلك الذات وهي في نوبة تعرٍّ، أو تمرد، أو هذيان، تستفز الذاكرة بوصفها مخزنًا غير بريء، مثلما تستدعي التطهير، بوصفه رغبةً للتخلّص من وهم الخطيئة، والتجاوز على مركزيات التابو في التاريخ، وفي المقدّس الاجتماعي والعائلي والمرآوي.

الاعتراف والخلاص

من الصعب عزل سؤال الاعتراف عن الحياة، أو حتى وضعه داخل توريات اللغة، تخفّيًا، أو تكتّمًا، أو توهمًا؛ لأنّ الاعتراف يتطلب بالضرورة وجود نص مُدوَّن، أو خطاب في التصريح، والإشهار، وهو ما يعني تقويضًا لتاريخ الصمت، والكبت، وحفرًا في «غواطس» اللاوعي التي تتغوّل فيها فكرة التابو، والخوف من الاجتماع السياسي أو الأيديولوجي والديني، حتى التاريخي، وبما يجعل (سردية الاعتراف) الأقرب إلى لعبة تقويض «الأنا المغلقة» وإلى مخاتلة التاريخ/ تاريخ الجسد/ الأيديولوجيا، والإيهام برغبة الانعتاق من الذاكرة القاسية للخطاب العصابي، ومن الثلاثي المهيمن في سرديات «الدين، الجنس، السياسة» بوصفها مجالات تصنعها الذات المغلقة. وهذا ما يُعطي لفعل الاعتراف نوعًا من المفارقة، والتمرد على النسق، عبر تقويضه وفضحه، من خلال تعرية تلك الذات الصيانية، عبر النقض والبوح، والتدوين المُضاد، والكشف عن المخفي في الوثائق، أو في سرائر الذات.

وبقطع النظر عن المرجعية الصيانية لتلك السرديات، أقصد ما يخصّ صناعة النص المغلق للسلطة والجماعة، فإن الكتابة، أي كتابة الاعتراف، بوصفها السيري، أو التمثيلي، ستكون هي الرهان على ما يُسمّى بـ«تدميرية» ذلك النسق، والمجاهرة بالضد، عبر الإبانة عن السر، أو فضحه، وعن علاقة ذلك بالجسد؛ إذ يضع الاعتراف هذا الجسد بوصفه الفيزيقي، أو المفهومي، أمام تعرية أنثروبولوجية، قد تعصف بحصانته، وغروره، وعلائقه ورموزه وشفراته، حيث تتحول «اللغة/ الاعتراف» إلى نصٍّ «سريري» بوصف فرويد، إلى موجّه أنثروبولوجي، له طاقة الكشف عن البنيات العميقة، عبر العلامات، والطقوس بوصف شتراوس، وإلى مجال استعاري، حيث تتعرّى الذات، لتنحل الأقنعة، والتوريات، وليبدو النص الاعترافي، في هذا السياق، وكأنه محاولة تعسفية للتخلّص من ضغوط الكبت والخوف، وإلى اصطناع مواجهة افتراضية مع العالم، وربما مع الذات نفسها، تمثيلًا لرغبتها الحميمة في الإشباع الرمزي عبر التطهير والخلاص.

إذ لا يمكن للاعتراف أن يكون، إلا في لحظة تماهٍ مع فكرة الخلاص، أو عند لحظة تمثيلِ شغفٍ يتماهى عبره المُعتَرِف مع الآخر، بحثًا عن التفريغ، والانتشاء. فكل الاعترافات التي يكتبها الأقوياء هي تماهٍ عميقٍ مع لحظات استحضار للآخر، والادعاء بأنّ سرديات اعترافهم هي تمثيل أخلاقي لتلك اللحظات، وعبر تمثّلات الحب والقوة والعجز، أو لما هو متعالٍ وضاغط في فكرة التطهير، حيث تكون تعبيرًا نكوصيًّا عن الإحساس باللاجدوى، والضعف، التي كثيرًا ما تحدث تحت ضغط نفسي كما في الفشل العاطفي، أو نتيجة للفشل السياسي والنفي والعجز كما في بعض اعترافات السياسيين.

يظل الاعتراف بمعناه «الثقافي» هو الأكثر مكرًا في تمثيل مرجعياته ورمزيته، وفي التعبير عن علاقة النص الاعترافي بذات الكاتب؛ إذ يقترح تمثيله الخطابي عبر «مناصات» إشهارية/ المدونات، واليوميات، المذكرات، التي تتيح للقارئ تلقيًا إغوائيًّا، تشتبك فيه حافزات التاريخي والسيروي، مثلما تتيح مجالًا لتوصيف حدود لهذا النص، بوصفه نصًّا يعمد إلى الكشف عن المضمر، والمحذوف، والمقنّع، الذي يتبدى عبر كتابةٍ تتفجّر فيها الإثارة، والفضح، أو الهتك، أو عبر كتابة توحي بما يشبه التفريغ النفسي، التي كثيرًا ما تُكتب في المنافي، حتى لا تطول الكاتب الاعترافي سلطة الرقابة، أو مكاره التشهير والتنمّر.

نص مثير للغواية

هذه الكتابات هي ما يجعل «أدب الاعتراف» مفارقًا، ويُثير شغف القرّاء وفضولهم الذين يتماهون مع أسرار ما يُكشَف، بوصفها نصوصًا للآخر المفضوح، مثلما ستكون نصوصًا استحواذية للذات القارئة، تلك التي يمارس من خلالها القارئ إحساسه بالإشباع الرمزي، والتطهير عبر تدمير ذلك الآخر، وصولًا إلى التشفّي التعويضي، على مستوى اكتشاف الغامض من العالم، أو على مستوى التعرّف إلى ما يجري في المحجوب من الجسد والتاريخ والأيديولوجيا.

سردية الاعتراف، قد لا تكون واقعية بالكامل؛ إذ يتسرّب إليها التخيّل، ليجعل نصها مثارًا للغواية، كما في اعترافات جان جاك روسو، أو اعترافات أوغسطين. ويمكنها كذلك أن تجعل من ذلك النص نزوعًا إلى الإيهام بالقوة والفحولة، كما في روايات الطيب صالح، وجبرا إبراهيم جبرا، وبما يجعل من تلك السردية نصًّا ضديًّا، يتحول فيه الفقد إلى إشباع، والنكوص إلى تجلٍّ، والطفولة إلى مشاكسة، والشباب إلى فحولة شبق جنسي، والكهولة إلى حكمة، والسقوط الأخلاقي إلى تمرد، وهو ما بدا واضحًا في روايات محمد شكري وفي بعض قصص وروايات عبدالستار ناصر.

الاعتراف السياسي

هذا الاعتراف لا يعني كتابة نصٍّ مجاور، يتناصّ مع السيرة، بل يعني محاولة في «البراءة» وفي تقويض فكرة «المثال» والثابت، والقارّ في اللاوعي الجمعي، الذي سيجعل من موضوع الاعتراف وكأنه مغامرة يكون فيها التشهير تطهيرًا، والفضح تعريةً، ولا سيما المتعلِّق بالاعترافات السياسية، التي يدخل بعضها في نوبة عاصفة من التعريات الأيديولوجية والنفسية كما في «اعترافات عزيز الحاج» و«اعترافات مالك بن الريب» للشاعر يوسف الصائغ، التي كانت في جوهرها اعترافات حزبية، وإكراهية، غايتها عزل الذات عن قامعها، وتسويغ الاعتراف بوصفه خلاصًا مما يشبه الإثم، والضعف، مقابل القصدية في فضح الآخر.

كما تنطوي بعض الاعترافات على مقاربةٍ لتاريخ الأخطاء الوطنية والسياسية، التي تدخل في إطار تصفية الحساب مع الذات، وهي رغبة عمادها التخلّص من عقدة الذنب كما في اعترافات «محسن الشيخ راضي» وكتاب «أوكار الهزيمة» لهاني الفكيكي. وبقدر أهمية وخطورة مثل هذه الاعترافات تاريخيًّا ونفسيًّا وسياسيًّا، فإنها في المقابل ستصطنع لها نسقًا، يقوم على اصطناع تاريخٍ مضاد، تاريخ يُحرّض على إعادة قراءة كثير من الأحداث والوقائع والملفات، وفضح أزمنتها المتقادمة، وشخصياتها المُقنَّعة. كما أنّ مذكرات واعترافات عدد من السياسيين العراقيين الآخرين أمثال حازم جواد وطالب شبيب وصبحي عبدالحميد وغيرهم، كشفت هي الأخرى عن ذاكرة الرعب التي عاشوها، أو ساهموا في صنعها، حتى في قتل ضحاياهم؛ إذ حملت معها هذه الاعترافات نزوعًا مُركّبًا يزاوج بين تجاوز عقد الإثم، وبين التوهم بالخلاص، فضلًا عن محاولة فضح التابوات التي غمرت التاريخ السياسي العراقي منذ أحداث 1963م الدامية وإلى عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.

خيار الاعتراف السياسي يدخل أيضًا في سياق ما يمكن تسميته بـ«الجريمة السياسية»؛ إذ هي جريمة الفضح والتخلّي، مثلما هي جريمة إخضاع المتهمين إلى التعذيب وتصفيتهم. وأحسب ملفات الأمن السياسي تزخر بكثير من اعترافات الضحايا تحت التعذيب، التي لا تخلو من التسريد والفضح والانتهاك النفسي والجنسي؛ إذ تركت جروحًا نرجسية كبيرة في الجسد السياسي والثقافي، ولا سيما أنّ كثيرًا من ضحاياها كانوا سياسيين معارضين ومثقفين لهم رمزيتهم في الاجتماع العراقي. ولعل رواية «شرق المتوسط» لعبدالرحمن منيف، ورواية «الوشم» لعبدالرحمن مجيد الربيعي، ورواية «نساء زحل» للطفية الدليمي تحمل كثيرًا من شواهد سرديات الانتهاك النفسي والجنسي.

أنا أعترف إذًا أنا موجود

محدودية النص الاعترافي في أدبنا العربي، ترتبط بعقد كثيرة، بدءًا من طبيعة الشخصية العربية، وتكوينها العصابي والديني والعائلي، ولا تنتهي بالسلطة؛ إذ تفرض تلك السلطة قمعها على المختلف، والمفضوح، مثلما تفرض توصيفها للنص الذي يصنعه المثقف، أو يُصرّح به السياسي، أو يستهلكه المواطن التابع، عبر تعويم شيوع «ثقافة النمط» وتأطير الأفكار الضاغطة عن الالتزام والانتماء والصيانة، والخضوع للقانون والأعراف. وهي فرضيات يدخل فيها الأيديولوجي، أكثر من التدخل الأخلاقي، مقابل الخضوع إلى فرضية الرقابة، تلك التي تفرض آلياتها شروطها ووجودها على الجسد والنص والفكر في آنٍ واحدٍ؛ لأنّ إباحة كتابة الاعتراف ستعني إباحة الحديث عن المستور والمقموع، التي يمكنها الدخول إلى تابوات السياسة، وإلى فضح ما هو مضمر في أنساقها المتعددة.

من أكثر الكتب العربية إثارة في سرديات الاعتراف كتب الروائي المغربي محمد شكري في كتابيه «الخبز الحافي»، و«الشطّار»، فضلًا عن اعترافات الكاتب لويس عوض، وكتابات رشيد بو جدرة، وعبدالرحمن صدقي، وسلام إبراهيم، وشكري عياد، وكوليت خوري، وسهيل إدريس، ونوال السعداوي، وفؤاد قنديل وغيرهم. لكن السؤال الفاعل في هذا التوصيف يتعالق بمدى جدّية هؤلاء الكتّاب في أن يُشرعنوا «أدب الاعتراف»، وبمدى حدود المسموح أو عدم المسموح في الإبانة عنه؟

إنّ الخلط بين أدب السيرة وأدب الاعتراف يعكس الطابع الإشكالي في النظر إلى النص «السير ذاتي» وإلى «النص الاعترافي» وتحميلها توصيفات تتجاوز التأطير السردي، إلى الدخول في سياق أدب الإثارة، أو المبالغة، وربما الدخول إلى نص «البورنو» أو «أدب زنا المحارم» أو «جنس القاصرين» كما في قصص وروايات فؤاد التكرلي وناطق وخلوصي، وغيرها من الكتابات التي تدخل في تابوات اجتماعية أكثر منها ثقافية. وهذه عملية ستكون مربكة للقارئ ولتداولية القراءة. وفق ما طرحه آيزر، حول إشكاليات القراءة والتلقي، فإن هذه القراءة تتطلب تفاعلًا، وتجاوبًا، وكشفًا، وتقاطعًا، وتأويلًا. ولأن مثل هذا النص «لا يخضع لصاحبه فقط، بل يخضع لإستراتيجيات معقدة بين القارئ المؤول، بما يمتلك من معرفة وخبرات جمالية من جهة، وبين النص من جهة أخرى، فينتج عن هذا التفاعل استجابات قرائية تكشف عن إمكانات وإجراءات مقروئية جديدة، تتجه نحو فهم الدلالة المغيبة، وفكّ رموزها». كما جاء في كتاب بسام قطوس «إستراتيجيات القراءة- التأصيل والإجراء النقدي» (دار الكندي للنشر والتوزيع، إربد 1998م، ص13)

السيرة والاعترافات

قد تتضمن كتابة السيرة اعترافات كثيرة، لكنها لن تكون مُقنّعة، أو مغالية، بقدر ما ستكون محاولة في تزكية حياة الكاتب، وترميم بعض الفجوات في تاريخه الشخصي أو السياسي؛ لأنّ خروجها من السيري إلى الاعترافي سيدخلها في مجال الأنوية بمعناها الفرويدي، وسيُلقي ظلالًا حول تاريخيتها، ويُجردها من براءتها، وربما يدفع بها لأنْ تكون أكثر من مغامرة، وأكثر من رغبة في تفريغ ركام المسكوتات، مثلما ستكون باعثًا على استدعاء قارئ فضولي، مهووس بأدب اليوميات والسير والاعترافات والمذكرات والفضائح، وهي أنماط تميل إلى خلخلة ما هو واقعي وتاريخاني، إلى أفق يكون فيه السردي والتاريخي، مجالًا لإنتاج «النص الزئبقي» كما سمّاه سعيد يقطين. وهو نص يؤسس اكتفاءه عبر الإشباع الرمزي، الذي سيجعل من نص الاعتراف، نصًّا رهينًا بالكتابة الضد، والسردية المفارقة، وقصدية الإثارة، حيث يتقوّض فيها الواقعي، مقابل حضور التخيّلي وسردية روايته، وستجعل من شخصياتها الورقية، كما يسميها رولان بارت، تدخل إلى الواقع عبر أقنعة سيميائية، واصطناع حيوات يمكن التلاعب بمصايرها، لكنها، على الرغم من ذلك، تبقى على تماسٍّ مع وقائع عامة، أو أحداث، أو حتى تاريخ له رواة آخرون، قد يكتبون اعترافات ضدية، أو قد يجردون ذلك التاريخ من واقعيته، ومن رمزيته.

التقاطع ما بين الاعترافي والسيري والعمومي يكمن في إجادة لعبة التأليف، وفي صياغة جرأة المكتوب، فالاعتراف ليس نزوعًا للاكتفاء بالتطهير، وفضح المقموع، وتفريغ المكبوت، بل هو مجال «نصوصي» تكمن حيويته في الإثارة أولًا، وفي الحفر في تاريخ المهمل ثانيًا، وفي تحويل «الفضيحة» بالمعنى المُفارق، إلى مادة للاستهلاك، وإلى المغالاة في توصيف الحرية، بوصفها جزءًا من «الإرادة والمسؤولية» بتوصيف سارتر، وأحسب أن رواية «المثقفون» لسيمون دي بوفوار هي نص اعترافي، عرّت فيه الكتابة زمنًا ثقافيًّا فرنسيًّا، ومثقفين كانوا يعيشون عوالمهم الخاصة.

سردية الاعتراف، يمكن أن تكون أيضًا لعبة قصدية في تسويغ الحديث عن سردية تجارية للفضائح، تلك التي نجدها في مذكرات نجوم السينما ونجوم الرياضة، حيث تقود اعترافاتهم الجنسية، أو انحرافاتهم، أو تهرّبهم الضريبي إلى اهتمامات واسعة من الجمهور النرجسي، ومن الجهات الرقابية، أو حتى من جانب بعض الجهات الدينية.

في هذه السردية يتجاوز الكاتب النمط إلى المختلف، فبقدر ارتباط السردية الاعترافية بغواية الحرية والتطهير، فإنها تكشف أيضًا عن أزمة وعي تلك الحرية، وأزمة العلاقة مع الآخر، والإحساس بالضعة والدونية، وخرق المألوف. فما كتبه جان جينيه مثلًا من اعترافات، كشفت عن الشخصية المُدمّرة، والوضيعة، وأن تلك الاعترافات لا تعدو أن تبدو كأنها نوع من النزق، وأنّ فعاليتها كأثرٍ أدبي لم تُثر نوازع أخلاقية، أو ثورية، بقدر ما كشفت عن شخصية مأزومة، مُنحلّة، مثلما كشفت عن نزعة احتجاجية على عالم رأسمالي مجنون، وعن جسدٍ تطحنه النزوات وسط عالم فاسد ومحبِط، وفاقد لشروط العدل والأمل والإشباع الروحي.

هذا الفقد هو نظير لسؤال الهوية في ثقافتنا العربية، فمن الصعب الحديث عن هوية عمومية وسط تشظي الهويات العصابية، ووسط عالم غائر في التابوات وبالجماعات القاهرة والمقهورة، حدّ أنّ بعض الاعترافات كانت محاولة نفسية/ احتجاجية، لكنها وُظِّفَت للتعبير عن رفض القهر الاجتماعي والاستبداد السياسي والظلم العنصري والاضطهاد الحقوقي، كما حدث مع نادية مراد الإيزيدية، التي تعرّضت لاغتصاب بشع من جماعات داعش الإرهابية، حيث قادها اعترافها بعمليات الاغتصاب الجماعي إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام لسنة 2018م، وإلى تحويل قضيتها إلى إثارة موضوعات فاضحة للمحنة العراقية، ومحنة جماعاتها الإثنية المقهورة.

صبحي موسى – صحفي مصري

هل لم يعرف العرب فن كتابة السيرة الذاتية؟ ولم لجأ أغلب الكتاب إلى تسريب سيرهم الذاتية من خلال أعمالهم الإبداعية، من دون أن يكتبوا عليها بشكل مباشر «سيرة ذاتية»؟ وما الذي تطلبه كتابة السيرة الذاتية؟ وما المحظور الذي يتجنبه الكاتب العربي؟ أسئلة تطرحها «الفيصل» على عدد من الكتاب.

السيرة الذاتية أدب نخبوي لا ينتجه العامة

سعيد الغانمي

لا يتخيَّل كثير من العرب أن السيرة الذاتية فن من أقدم الفنون الأدبية العربية. وهي نوع من الكتابة تقع في صنف الكتابة التاريخية من حيث المظهر؛ إذ تعدّ تطويرًا لكتابة السيرة. ويكمن الفارق الأساس بينهما أن السيرة يكتبها شخصٌ عن تجربة شخصٍ آخر وحياتِهِ، في حين تتميز السيرة الذاتية بأنها كتابة المرء عن حياته وتجربته الشخصية. ويُفترض بهذه الكتابة أن تكون قريبةً بقدر الإمكان من التوثيق الدقيق، أي ينبغي لها الالتزام بضوابط الكتابة التاريخية. لكن السيرة الذاتية من ناحية أخرى ينبغي أن تتضمَّن عنصرًا أدبيًّا أو إبداعيًّا يُغري قارئ النص بالاستمرار في قراءته. وهذا العنصر هو عنصرٌ إبداعيٌّ، وليس تاريخيًّا. ولذلك تنطوي السيرة الذاتية على عنصرين متناقضين معًا؛ التاريخ الذي ترائي بالانتماء له، والإبداع والابتكار الأدبي الذي ينطوي على جانب خيالي مبتكر مناقض للتاريخ.

من ناحية أخرى، يجب الانتباه إلى أن أدب السيرة الذاتية أدب «نخبوي» لا تنتجُهُ العامة ولا تفكِّر به، ولا سيما في الثقافة العربية التي تتمتع فيها النخب الثقافية بالتميز من الناحيتيْنِ اللغوية والتربوية عن بقية الطبقات الثقافية. وهذا التميز «ثقافيٌّ» صرف، ولا علاقة له بالوضعية الاقتصادية أو المادية. فقد يوجد أثرياء كثيرون في البلدان العربية، لكنهم لا ينتمون إلى طبقة النخبة الثقافية، وبالتالي فهم لا يفكِّرون بكتابة السيرة الذاتية. وإذا فكَّروا بها، فهم يستعينون بخبراء من طبقة المثقفين لكتابتها. وبالتالي فهي ليست بسيرة ذاتية، بل عملية دعائية تزعم أنها سيرة ذاتية. يصح هذا على شيوخ القبائل، والأثرياء، والفنانين، الذين يعيشون في حالة من الرفاهية المادية، وحالة من الإدقاع الثقافي. وبالذات حين يكتبون عن الذات باللغة العربية الفصحى، لا بالعاميات التي يتقنونها.

في أدب السيرة الذاتية، كما يمارسه العرب حديثًا، ينبغي أن نميز بين أهداف متعددة للكتابة. فهناك نصوص تدعي الانتماء للسيرة الذاتية من الناحية المظهرية وحسب. وهذه النصوص تلتزم أو ترائي بالالتزام بكتابة التاريخ الدقيق. وأغلب هذه النصوص يكتبها أشخاص من ذوي المواقع الوجيهة، والمسؤوليات الاجتماعية البارزة، مثل شيوخ القبائل، ورؤساء الأحزاب، وأعلام السياسة، وأصحاب المناصب. وهؤلاء بحكم مواقعهم يحرصون على إبراز الجانب الإيجابي من تجربتهم؛ لأنها ليست تجربة شخصية في الأساس، بل هي تجربة جمعية تتكلم باسم المؤسسات الاجتماعية التي يمثلونها.

في المقابل، هناك أدباء كتبوا سيرهم الذاتية بنوع من البوح الحميم، الذي لا يقل اعترافًا عن نظيره الأوربي. على سبيل المثال، كتب المرحوم إحسان عباس سيرته الذاتية «غربة الراعي»، مُقرًّا ببساطة تاريخه الشخصي، متسائلًا عن دوره الاجتماعي، وهو ليس سوى «راعٍ» بسيط، في إهمال واضح لعمق تجربته الثقافية من ناحية إنتاجه لمكتبة كاملة من الأعمال المهمة.

ناقد وأكاديمي عراقي

سير الأجيال القادمة ستكون مختلفة

حمزة المزيني

ما يتضمنه بعض السير الذاتية من حديثٍ عن مغامرات أشبه بالـ«فضائحيات»، يعود الأمر في أصوله إلى التقليد الكاثوليكي الذي يتمثل في أن الفرد يرتكب ما يرتكب من خطايا ثم يأتي إلى القسيس فـيعترف له بما ارتكب، ثم يبلغه القسيس أنه «رجع كيوم ولدته أمه». هذا التقليد ربما انتقل إلى السيرة الذاتية الغربية التي يمكن القول: إنها اعتراف كاتب السيرة للمجتمع بما ارتكبه من فضائح، ثم يشعر بأنه أزاحها عن ضميره بعد أن دوَّنها ليقرأها الناس الذين ربما يعجبون بجرأته، وربما يسامحونه على فضائحه. لكن مثل هذا التقليد الاعترافي غريب على ثقافة العالم غير الغربي، والعالم العربي والمسلم خاصة.

وهناك سببٌ ثانٍ يتمثل في أن المجتمع الغربي يقوم على الفردية، فيمكن أن يكتب كاتب سيرة فيها فضائح الدنيا كلها ولا تتعدى فضائحياته إلى أسرته مثلًا. أما في الثقافة العربية الإسلامية، وربما في المملكة على وجه أخص، فكاتب السيرة موصول بشبكة اجتماعية مترابطة واسعة ينشأ عنها أن ما يقوله عن نفسه سيتعدى لا محالة إلى غيره، ولا سيما إلى أسرته وأقاربه وأصدقائه؛ فهو ليس في حلٍّ إذن أن يؤذي أحدًا بما اقترف من فضائح لا دخل للآخرين بها.

توجد أمثلة قليلة للسيرة الذاتية الفضائحية العربية، ومثالها الأبرز سيرة الكاتب المغربي محمد شكري «الخبز الحافي»، وهناك من يشكك في صدق ما تضمنته تلك السيرة. وممن يشكك فيها الكاتب المغربي حسن العشاب في كتابه «محمد شكري كما عرفته»، (القاهرة: دار رؤية، 2008م) الذي يصف نفسه بأنه «معلِّم محمد شكري». ومما قاله عنها: «إن هذه السيرة حملت بصمة كاتب أمريكي أعاد صياغتها كعمل فني مصطنع، لتحمل طابعًا فضائحيًّا» وإن «جل أحداث الخبز الحافي غير حقيقية»، فيما يقول الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة عن الحرج الذي كان يتخوف محمد شكري منه فيما يخص تعدي ما كتبه إلى الآخرين، ومن أسرته خاصة: «وقد كان شكري يتوجس في نفسه خيفة من صراحتها ومن آثارها على سمعة العائلة خاصة أخواته البنات». في المقابل هناك سير ذاتية عربية وغربية كثيرة لا تتضمن مثل هذه الاعترافات، ولم ينقص من قيمتها الفنية والأدبية والسيرية شيء.

من دون رقابة ذاتية

لكل شخص قصته، ومن المؤكد أن الأجيال القادمة ستكون تجاربها مختلفة عن تجارب جيلي، وما سيقولونه وسيكتبون عن تجاربهم سيكون لافتًا للنظر بما لا يقل، أو ربما يتفوق على السير الذاتية التي كتبها المنتمون للأجيال (غير المرقمنة).

فيما يخص سيرتي «واستقرت بها النوى»، لم أشعر في أثناء كتابتها أني كنت أفكر في الجرأة أو الرقابة الذاتية على ما سأكتبه، فقد حرصت على أنْ أُدوِّن ما كان يتوارد عليَّ من ذكريات مررت بها بعيدًا من الانتقائية أو التحسين. وهناك أشياء لم أكتبها لأن الذاكرة لم تسعفني باستحضارها، وهناك أشياء تركتها لأنها غير مهمة في نظري. كنت أقرأ بعض السير لكتّابٍ سعوديين طوال سنين، وفي الواقع أنا لم أفكر بكتابة سيرتي الذاتية إلا مؤخرًا، ويعني هذا أني استفدت من تلك السير بصورة غير مباشرة ومن غير أن أشعر. وقد كان القراء كرماء جدًّا في استقبال سيرتي، ولهم الشكر على ذلك، وكتب عنها عدد من الكتّاب والنقاد في الصحف والمجلات السعودية، كما كتبت عنها بعض الدراسات الأكاديمية، وقد فازت بجائزة الدكتور غازي القصيبي التي تقوم عليها جامعة اليمامة في دورتها الأولى في مسار الأدب عن السيرة الذاتية عام 2022م.

ناقد وأكاديمي سعودي

لن أستخدم صابونًا لغسل سيرتي الذاتية

أمير تاج السر

أعتقد أن الكاتب عمومًا حين يبدأ الكتابة، أول ما يخطر في باله شيء من أحداث عاشها أو عاشها أشخاص قريبون منه مثل الأهل والجيران وسكان الشارع والحي الذي يعيش فيه؛ لذلك غالبًا تتسرب هذه الأشياء إلى نصه الروائي من دون وعي، وتظهر شخوص يعرفها ويعرف ملامحها جيدًا. وأنا مثل غيري، كان في نصوصي الروائية الأولى مثل «سماء بلون الياقوت» و«نار الزغاريد»، كثير من الحوادث التي صادفتها في طفولتي ومراهقتي، وأيضًا شخصيات التقيتها في الحياة، ولفتت نظري. ومع التقدم في الكتابة واتساع رقعة الخيال والمعرفة، يظهر قليل من هذه الشخصيات والحوادث، ويمكن أن تنعدم تمامًا في نصوص مثل «توترات القبطي»، و«مهر الصياح» وجزء مؤلم من حكاية.

لكن عندي أعمال أسميتها سيرًا مثل: «سيرة الوجع»، و«مرايا ساحلية»، و«قلم زينب»، و«تاكيكارديا»، وهي نصوص من بعض وقائع سيرتي طبيبًا، رأيت كتابتها كما هي دون تدخل مني. وقد كان في «سيرة الوجع» ما يمكن أن يكون تاريخًا اجتماعيًّا لمدينة طوكر في أوائل التسعينيات من العام الماضي، قبل أن أسافر إلى قطر، و«في مرايا ساحلية» رصد لأيام الطفولة في مدينة بورتسودان، وفي «قلم زينب» التي نجحت جدًّا، وتدرس مقررًا في المدارس الثانوية في دولة الإمارات، ذكريات عن عملي في قسم النساء والتوليد بمستشفى بورتسودان، وحادثة تعرفي إلى نصاب مجرم، أزعجني كثيرًا. «تاكيكارديا» الصادرة منذ ثلاث سنوات عن هاشيت أنطوان، أيضًا عن جانب مهم من أيام أخرى في قسم النساء والتوليد نفسه، إنها أيام« مجهول»، ذلك الصبي الذي أرهقني كثيرًا بالمطاردة بسبب موت امرأة من جيرانهم في قسم التوليد، وكانت حوادث جديرة بتوثيقها. وكتبتُها فيما يشبه الرواية أو لنقل السيرة الروائية، وهي أيضًا وجدت أصداء جيدة، وفي ذهني حوادث أخرى أتمنى لو عثرت على وقت لكتابتها.

بالنسبة لكتابة السيرة العربية، فهي أمر مرعب إذا تحرى الكاتب أن يكون صادقًا، ولا يكتب ما أسميه السيرة المغسولة، التي يزيل منها كل الشوائب الأخلاقية، وينشرها بصيغة تصيره ملاكًا. في الغرب لا يهتمون ويكتبون كل شيء مهما كان مقززًا. ولو قرأت قصة «عن الحب والظلام» لعاموس عوز لعثرت على حياة صاخبة، لم يعدل فيها. عندنا المجتمع لا يترك أحدًا يكتب مثل هذا، ولو كتب لا يستطيع أن ينشر بسبب تحرجه. شخصيًّا، لو كتبت سيرة كاملة سأكتبها كما هي، ولن أستخدم أي صابون في غسلها.

قاص وروائي سوداني

الشجعان هم من يكتبون سيرهم الذاتية

صالح معيض الغامدي

كانت السيرة الذاتية في ثقافتنا العربية عمومًا وفي الأدب السعودي خصوصًا؛ سيرة ذكورية، وظلت لوقت طويل على ذلك المنوال. ولم تظهر بعض التغيرات بمشاركة المرأة واقتحامها مجال كتابة السيرة الذاتية إلا في بداية الألفية الثالثة. وكنا قد استبشرنا خيرًا بظهور سير كل من السعوديات مرام مكاوي وليلى الجهني وهدى الدغفق وأميمة الخميس وغيرهن، في وقت متقارب نسبيًّا، ولكن وتيرة الإصدارات السير ذاتية النسائية تراجعت أو على الأقل خفت، ولم تساير الطفرة التي شهدتها السيرة الذاتية الرجالية في أدبنا السعودي.

ويوجد أكثر من تفسير لهذا التباطؤ، فإضافة إلى بعض القيود والمحاذير الاجتماعية، أرى أن انتشار وسائل التواصل الحديثة مثل الفيسبوك وتويتر والسناب شات وغيرها من البرامج والمدونات قد حلت بديلًا سهلًا عن الكتابة الورقية للسيرة الذاتية النسائية. فقد شهدنا كثيرًا من الكتابات السير ذاتية المكتوبة والمرئية تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي هذه، وتلقى قبولًا جيدًا فيما يبدو من المتابعين. ومع ذلك فلا أظن أنها ستقف عائقًا في المستقبل المنظور أمام ظهور مزيد من السير الذاتية المكتوبة، فالسيرة الذاتية النسائية المكتوبة جنس أدبي يتيح للكاتبة السعودية التعبير عن ذاتها وقضاياها وإبداعاتها الأدبية بشكل عام، ويكسب ما تنتجه المبدعة سيرذاتيًّا انتشارًا واسعًا وديمومة.

وضع معايير صارمة لكل جنس أدبي يبدو أمرًا صعبًا، باختلاف الأزمان والثقافات والأجيال والقناعات الأدبية، وإلا لما ربط الإبداع الأدبي دائمًا بالانحراف عن المعايير الثابتة أو التجاوز للمألوف والثابت منها. وإذا كان بالإمكان تحديد بعض المعايير العامة لبعض الأجناس الأدبية مثل الشعر والرواية والقصة، فإن ذلك يبدو صعبًا جدًّا بالنسبة للسيرة الذاتية، فلكل كاتب طريقته الخاصة تقريبًا في كتابة حياته. بالطبع هناك مفهوم عام للسيرة الذاتية وليس تعريفًا اصطلاحيًّا يشير إلى معايير ثابتة، وهذا المفهوم العام للسيرة الذاتية هو ما مفاده أن السيرة الذاتية هي التي يكتبها الشخص عن حياته. وهذا ما يتفق عليه الجميع، أما كيفية تطبيقه كتابة، فيختلف ربما باختلاف الكُتاب أنفسهم. وهذا ما جعل الناقد التقويضي (بول دي مان) يشكك في دقة مصطلح السيرة الذاتية، بل في كونها جنسًا أدبيًّا له سمات جمالية واضحة أصلًا. ومع ذلك، فكلٌّ مستمرٌّ في كتابة السيرة الذاتية بالطريقة التي يراها.

إن نجاح السيرة الذاتية مرتبط بالتعبير الصادق عن حياة الإنسان بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات لتكون تجربة يفيد منها كاتبها أولًا بالتعرف إلى ذاته جيدًا، ويفيد من تجاربها ويستمتع بها متلقوه. وكما أن المبالغة في تمجيد الذات قد تبدو أمرًا غير مقبول، كذلك المبالغة في التعري وصدام القيم المجتمعية بكل أشكالها. وهناك فرق كبير من مصادمة هذه القيم ونقد ما قد يحتاج منها إلى نقد بطبيعة الحال.

إن الشجعان هم من يكتبون سيرتهم الذاتية، والشجاعة هنا مجازية بطبيعة الحال. كتابة السيرة ليست ضربة لازب على كل كاتب، فكما أن هناك دوافع تشجع الكتاب على كتابة سيرهم الذاتية، هناك في المقابل عوائق تقف ضد كتابتها. ولا سبيل إلى حصر هذه العوائق كلها هنا. ولعلنا نشير فقط إلى أن بعض الكتاب يخشى أن يلحق الضرر بأي من أفراد أسرته أو أصدقائه وذلك بكشف بعض أسرارهم، وبعض الكتاب يخشى ألا يتمكن من سرد كل ما يريد من حياته، وبعضهم يستعير الرواية لكتابة سيرته أو طرفًا منها… وهكذا تُعَدّ الأسباب التي تعوق بعضًا عن كتابة سيرته الذاتية.

ناقد سعودي

من الصعب مكاشفة الجمهور بالسيرة الحقيقية للكاتب

طالب الرفاعي

مند روايتي الأولى «ظل الشمس» التي صدرت بطبعتها الأولى عام 1998م، ارتضيت لنفسي أن أكتب وفق المدرسة الفرنسية لرواية «التخييل الذاتي» التي تشترط للسيرة الذاتية أن يكون المؤلف حاضرًا في العمل الروائي باسمه الحقيقي، وسيرته الحقيقية، وما يحيط به في المجتمع من أفراد أسرته وأصدقائه والقضايا الاجتماعية؛ ولذا فإن «ظل الشمس»، هي رواية سيرة ذاتية حقيقية لعملي مهندسًا إنشائيًّا في مواقع العمل والإنشاء الكويتية، وبوجودي إلى جانب العامل والحداد والنجار وعامل المجاري والخرسانة والميكانيكا. حينما كتبت ونشرت «ظل الشمس» فقد كنت ولم أزل مقتنعًا بأن سيرة حياة الأديب الروائي والقاص والمسرحي والفنان، إنما هي جزء أساسي من سيرة الحراك الفكري والاجتماعي والاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات؛ ولذا من يقرأ «ظل الشمس» سيرى معاناة العمالة العربية والأجنبية التي تعمل في الكويت، وكيف أنهم يخاتلون الموت يوميًّا في سبيل لقمة العيش، ومنهم من يموت دونها! وسيرى أيضًا طالب الرفاعي المهندس الذي يلبس البنطلون «الجينز» وقبعة «الهلمت» الثقيلة، وينزل مع العمال والمراقبين؛ ليقف على صب الخرسانة تحت أشعة شمس مباشرة وحارقة، تصل إلى ثمانين درجة على ترمومتر سيلزيوس.

أجزاء حقيقية من سيرتي الذاتية وأسرتي ووضعي الاجتماعي والاقتصادي جاءت في رواية «الثوب»، التي تتحدث عن الكاتب الخليجي، وأنه ليس كما يتصور الجميع: يعيش غنيًّا وميسور الحال دائمًا، وأن القوة التي تحكم المجتمعات الخليجية إنما هي السلعة والاستهلاك، بما في ذلك التعامل وشراء الأدب/ الرواية بوصفها سلعة لها ثمن كباقي السلع، وبإمكانية عمل الأديب والروائي تحت سلطة المال وأهله! إن قناعتي بتوثيق سيرة حياة الكاتب بوصفها جزءًا من الحراك الاجتماعي في أي مجتمع، وبسببٍ من ندرة الكتّاب العرب، ربما يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، الذين امتلكوا شجاعة كتابة شيء من سيرتهم الذاتية. وهو ما دفعني لكتابة أجزاء، وبعضها شائك جدًّا، من سيرتي الذاتية الحقيقية في أعمالي الروائية. إن إقدام أديبة أو أديب عربي على نشر سيرته الذاتية الحقيقية من خلال عمل روائي إنما يضمن له سهولة نشرها ووصولها لشريحة كبيرة من جمهور القراءة. وهذا ما دفعني لنشر جزء من قناعاتي وآرائي وسيرتي الحقيقية، ولأول مرة، في مجموعتي القصصية الجديدة «الدكتور نازل»، وأزعم أنه جاء بشكل أدبي غير مسبوق. مع التنويه إلى أن ضريبة مكاشفة جمهور القراءة بالسيرة الذاتية الحقيقية للكاتب قد تجرّ عليه مواقف كثيرة صعبة ومحرجة.

قاص وروئي كويتي

هل كتبت «ظلال مكة» كسيرة ذاتية؟

أحمد بوقري

حين شرعت في كتابة «ظلال مكة» لم يكن هاجسي الأساس كتابة سيرتي الذاتية أو الأدبية فأنا لم أصل بعد إلى نهاية الأفق الكتابي أو إلى لحظة الاستراحة الذهنية الواجبة، بل- آملًا- أن يكون في العمر بقية إذ ما زال يحتشد بزخم كتابات أدبية وفكرية ونقدية لم تنجز بعد. إنما كان هاجسي الأهم والمفصلي، هو القبض على اللحظة التاريخية المكية الغائبة عن جيلنا المعاصر، لحظة المكان المتواري من تاريخيته المكانية، ولحظة الزمان الذي فقد قسماته ولن يعود إلى تاريخيته النوستالجية المندثرة، بمعنى حين بدأت أكتب الحكايات الصغيرة المتتالية التي جاءت في شكلٍ سردي فني قصير، لم تخلُ من تخييلته بالطبع، أردت من هذه الحكايات أن تكون تعبيرًا بسيطًا كاشفًا عن هاتين اللحظتين الذائبتين، فقسمت الكتاب إلى ظلالين اثنين انضويا تحت ظل مكة القدسي الكبير، وهما ظلال المكان وظلال الذكرى كما كنت عائشًا غائصًا في كنفهما. تعهدت بيني وبين قلمي وضميري أن يكون بوّاحًا شفافًا لا يلوي عن كشف المسكوت عنه فيما ترتضيه أخلاقيات الكتابة وحقيقة الواقع المجردة كما عشته وجربته وخبرته.

وصرحت بذلك في متن الظلال نفسها حين قلت: «في كتابة هذه السيرة الذاتية تحضرني مقولة أبي حامد الغزالي: «المضنون به على غير أهله»؛ إذ يصبح الحديث عن المسكوت عنه هو الهيكل العظمي للبناء القص-سيري؛ إذ دونه يصبح البوح سطحيًّا وباهتًا أو فاقدًا لحرارته وجرأته التاريخية والفنية.

كسرت أنا هذه الحيرة (الأخلاقية) بين ما أضن به على غيري أو ما أسكت عنه في ظلال البيوت، أو حكايا الذكريات مع أبي، لكنني هنا وبشيء من المكاشفة والشفافية التي تقف في منطقة وسطى بين المضنون به والمسكوت عنه سأترك لقلمي فيما بقي من الحكايا الغوص في الدهاليز المعتمة في جنبات هذه السيرة، بمعنى أن أي سرد سير-روائي في نظري يفقد صدقه الفني والتاريخي إن حاول إخفاء بعض الحقائق والوقائع الصغيرة، التي لا يشكل المرور عليها أو ذكرها خدوشًا في اللوحة العائلية، أو اضطرابًا في الجدارية الهائلة الشخصية للمروي عنه.

وكثيرًا ما سقطت الكتابات التاريخية والسيرية في مستنقع التزييف والتمويه والتعمية؛ إما لأهداف أيديولوجية أو (أخلاقية) زائفة أو لا أخلاقية في الوقت ذاته في لَيّ أعناق الحقائق، وإما لفقدان قيمة الجرأة والشجاعة الواعية حين تم التغاضي عن المسكوت عنه من الأحداث والجرائم والوقائع؛ وهو ما خلق لدى المتلقي بالنتيجة وعيًا زائفًا بالحاضر منبنيًا على ضلالات وإكراهات وظلامات الماضي. في الحالة السردية يكتسب الحديث عن هذا المسكوت عنه أهمية استثنائية وفنية؛ إذ كثيرًا ما يكون أدب اعتراف، وكشفًا حميميًّا لصور الضعف البشري وانهيارات الذات أمام إغواءات الحياة ومغريات النفس والروح وشهواتها.

ناقد وكاتب سعودي

أسباب دفعتني للكتابة عن سيرتي الذاتية

علوان الجيلاني

لا أعرف سببًا محددًا لكتابتي عن سيرتي الذاتية، ربما هي طبيعتي الخاصة، وميلي الشديد للاحتفاظ بتفاصيل حياتي، وربما أنه تكويني الأسري والاجتماعي. وأحيانًا أفكر أن الأمر يتعلق بالمكان وما أصابه من تبدلات، بشكل خاص. أقصد التبدلات القسرية التي أحدثتها فيه التيارات الدينية المتطرفة منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وهي تبدلات طالت التدين الصوفي الذي كان يصبغ على المكان روحانية ثرية ومتسامحة، كما طالت الفنون الشفافية والموروث المتعلق بها من رقص وغناء وملابس وعادات وتقاليد بالغة الفرادة، وطالت مظاهر التشارك خاصة بين الرجال والنساء في كل وجوه الحياة. ذلك كله ليس بعيدًا من الحنين الذي ملأني به البعد عن المكان معظم الوقت منذ عام 1990م، عندما انتقلت من الجيلانية، القرية الوادعة في قلب تهامة (غرب اليمن)، إلى العاصمة صنعاء، بدأت التفكير في كتابة رواية سيرية عام 2009م، لكني كنت أنتظر ثلاثة أمور:

أولها: اكتشاف طريقة خاصة ينسرد من خلالها المكان وناسه بتناسج محكم ومتناسب مع حضوري طفلًا في السرد. ثانيها: كتابة الرواية بلغة تجترح نفسها بعيدًا من النماذج التي قرأتها. كنت أريد أن أكتبها بلغة تعبر عن روح المكان نفسه، وعن عوالمه التي تختزنها ذاكرتي بشكل جيد. وأنا من ذلك النوع من الناس الذين يحتفظ وعيهم بمشاهد وأحداث وقعت في وقت مبكر جدًّا من طفولتهم. كنت أذكّر إخوتي الأكبر سنًّا مني بأحداث لا يتذكرونها. وأعتقد أني نجحت في كتابة روايتي كما تخيلتها لغة وأسلوبًا. ثالثها: أني كنت أنتظر لحظة وصولي إلى ذروة النوستالجيا كي أبدأ الكتابة، وقد حدث ذلك بالفعل بين نهاية عام 2019م وبداية 2020م. كنت وقتها أقيم في القاهرة، وكانت قد مرت علي خمس سنوات بعيدًا من اليمن، مات أبي مطلع عام 2018م وأنا في زحمة ذلك الغياب، وأبي يشكل بالنسبة لي روح تلك النوستالجيا، ثم أحاطت بي حروب استهدفتني وجودًا وإبداعًا، وفجأة وجدت نفسي أكتب.

فيما يتعلق بخوف الكاتب العربي من الإقدام على كتابة سيرته الذاتية، فإني أعتقد أن الأمر يمكن تقسيم أسبابه؛ فهناك من يحجم لأن في سيرته ما لا يود تذكره، وهناك من يتملكهم الخوف من الكتابة السيرية نفسها. الكتابة عن الذات صعبة بوصفها فنًّا أكثر من صعوبتها كمحاذير اجتماعية أو ثقافية أو دينية. أعرف كُتابًا حاولوا لكنهم عجزوا؛ لأنهم لم يروا في حياتهم ما يستحق، مع أني أعرف أن في حياة كل شخص ما يستحق، المهم كيف نكتبه

شاعر وناقد يمني

العرب يؤمنون بمبدأ «إذا ابتليتم فاستتروا»

محمد عبيدالله

يخيل إليّ أن السيرة الذاتية بجذورها العربية كثيرًا ما استراحت إلى مبدأ (التحدث بنعمة الله) وفق التسمية التي اختارها جلال الدين السيوطي قديمًا وحسين نصار حديثًا لسيرتيهما، مما يعني التركيز على الجوانب المضيئة وعلى النجاح وما يستدعي الشكر والحمد، وربما شيء من التبرير في بعض الأحيان من دون الصراحة والجرأة الكافية في سرد الأخطاء والتجارب الخاصة المخجلة. وفي هذا تغليب لسياسة «إذا بُليتم فاستتروا»، أدى إلى ضمور ثقافة الاعتراف والصراحة الكلية، وإلى التهرب من الإخفاقات والأخطاء والالتفاف عليها بالتناسي والإهمال وطلب الغفران عنها سرًّا وليس علانية.

نوقن أن حياة الإنسان ليست نسقًا واحدًا من اللياقة والتعفف والبراءة، إلا إذا كان المرء نبيًّا أو وليًّا صالحًا. إنها حياة تتصارع فيها العناصر الخيرة والشريرة، فضلًا عن نسبية الخطأ والصواب، من منظور الفرد، والمثقف الذي غالبًا ما يسبق مجتمعه ويصطدم مع قناعاته. مجتمعاتنا تميل إلى التزييف، ولا يتشابه ظاهرها مع باطنها، ومهمة الكتابة هي إعلان الباطن وفضحه، وهي مهمة من مهمات السيرة الذاتية ووجه من وجوه تحدياتها الكثيرة.

أما تسريب السيرة في الأعمال الأدبية تحت قناع روائي أو قصصي أو شعري، فربما تكون أخف وطأة وأكثر ثراء من السيرة الذاتية الخالصة؛ ذلك أن هذه الأنواع تقوم على عقد ضمني مع القارئ أساسه الخيال لا الحقيقة. والصدق الفني مختلف عن الصدق التحقيقي الذي تطلبه السيرة الخالصة وترنو إليه. وأنا شخصيًّا أقدر كثيرًا من الأعمال الروائية التي شكلت قناعًا سيريًّا لمؤلفيها، حتى وإن كان الدافع الأصلي لمثل هذا التحول يتمثل في محاولة تجاوز خطوط المنع والتشكيك والاستنكار، أي الهروب من سلطة المجتمع وممنوعاته باللجوء إلى الشكل الروائي الذي يبني عقده على التخييل وليس قول الحقيقة.

أضرب على ذلك بأعمال كتاب أردنيين راحلين أعرف تجاربهم: غالب هلسا، مؤنس الرزاز، إلياس فركوح. فهؤلاء الثلاثة كتبوا رواياتهم مستهدين بالخطوط الأساسية في سيرهم الذاتية، وأبطالهم الرئيسون هم المؤلفون أنفسهم، بأسماء مستعارة ووقائع تختلط فيها مساحات الواقع مع التخييل، وفي أعمالهم لقاء خاص وثري بين السيرة الذاتية والرواية والهوية، مما أسهم في تقديم تجارب كبرى مميزة لا تنغلق على فردية السيرة وتدوينها المنغلق.

أما في إطار تجربتي الذاتية فقد تسربت سيرتي ووقائع من حياتي وطفولتي وشبابي في ديوانَيْ شِعر نشرتهما قبل سنين طويلة، هما: «مطعونا بالغياب» (1993م)، و«سحب خرساء» (2005م). يسمح الشعر الغنائي، بشكله التقليدي والحديث، لمثل هذا اللقاء مع السيرة بعد تكثيفها واستخراج ما هو شعري منها. ومع أن الشكل الشائع للسيرة هو الشكل النثري فلا يوجد مانع من كتابة السيرة شعرًا، ولكن هذا النوع الشعري لم ينل حظه من الاهتمام كما هي حال السيرة النثرية.

كاتب وناقد أردني

سربت سيرتي في أعمالي الروائية

نبيل سليمان

في روايتي الأولى «ينداح الطوفان» (1970م)، تسربت من سيرتي أمشاج محدودة، من دون أن يكون ذلك متعمدًا أو مقصودًا، مما يتعلق بسنوات إقامتي في القرية، وعملي معلمًا. وسيأتي مثل ذلك في رواية «ثلج الصيف» (1973م)، مما يتعلق بسفري من بيروت إلى دمشق إلى حلب إلى الرقة، حيث كانت مئات الكيلومترات ترفل بالثلج. أما روايتا «السجن» (1972م)، و«جرماتي أو ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب» (1977)، فقد جاءتا (بريئتين) من تسريب سيري. وتلك إذن كانت حصيلة الروايات الأربع خلال سبعينيات القرن الماضي.

غير أن السيرية بلغت في رواية «المسلة» (1980م)، أن حملت الشخصية المحورية فيها اسمي الأول (نبيل). وفيما أعلم كان قد سبقني غالب هلسا وحده إلى تسمية الشخصية المحورية باسمه الأول. وقد جاء ذلك أيضًا في رواية «محاولة للخروج» 1980م، لعبدالحكيم قاسم. وستقوم عام 1985م روايتي «هزائم مبكرة» على السيرية، مما يتعلق بنشأتي وسنوات التعليم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وقد تقنعت السيرية في هذه الرواية بتبديل اسم الشخصية المحورية للرواية، كما توسلت المواربة بنسبة ما فيما يتعلق بالجنس وبالتابو في مراهقة هذه الشخصية.

من ثلاث وعشرين رواية خلال ثلاث وخمسين سنة، اشتبك السيري بالروائي في الروايات العشر التي ذكرتها. وعلى الرغم مما ذكرت من المواربة ومن القناع- وهما غالبان على حضور السيرة في الرواية العربية بعامة- فقد تنامت جرأتي على تشغيل السيري في الروائي، من رواية إلى رواية. بعد شهور من صدور روايتي الأولى «ينداح الطوفان» يبدو أن قارئًا أو أكثر وشى بالرواية وبكاتبها إلى أسرتين من القرية التي يقيم فيها أهلي، فهاجم كبير إحدى الأسرتين والدي، وهاجمني شاب من الأسرة الأخرى. وقد تحاشيت طويلًا أن يقرأ والدي رواية «هزائم مبكرة» لما فيها من الصبوات الجنسية لظلّ الكاتب: شخصية خليل. لكنني اكتشفت بعد عشر سنوات، إنْ لم يكن أكثر، أنه قرأ الرواية. ولعله كان -رحمه الله- أكثر رحابة مني ومن أمثالي من الروائيين الذين يخاتلون السيرية.

لقد تنامى حضور السيرة في الرواية العربية، وتضاعفت روايات التخييل الذاتي، لكن سطوة النفاق والتحريم والتكاذب لا تزال طاغية في الفضاء العربي الإسلامي عامةً. ومن أسف أن هذه السطوة تضاعفت في البلدان التي عاشت منذ عام 2010م ما عُرف بالربيع العربي. ففي سوريا مثلًا يترصد للروايات السيرية وللسيرة الذاتية، كما للكتابة عامةً، رقيب عتيد من رُقباء السلطان الاجتماعي أو السلطان الديني أو السلطان السياسي. ولا يختلف الأمر إلا بمقدار بين جزء وجزء من أجزاء سوريا المقسمة.

وفي المقابل نجد درجة أعلى من الجرأة في الروايات السورية وغير السورية التي تصدر في بلاد المنافي والهجرات والتهجير.

روائي وناقد سوري

كنت صادقًا في سيرتي فلم يكن لدي ما أخسره

عبداللطيف الوراري

ترك لنا العرب القدامى إرثًا سيريًّا كثيرًا ومتنوّعًا، عنوا فيه بالتأريخ للفرد وترجمة حياته بصورةٍ من الصور. وترافق هذا التأريخ للأفراد واتّسع مداه مع ما عرف بــ(أدب التراجم والطبقات)، الذي تلا عصر الرواية والتدوين، وتمخّض عنه تدوين سير الرجال، مترسّمين «علم الجرح والتعديل»، وهو من التجارب الرائدة في مجال تمحيص تاريخ حياة شخص ما حتى أصبح نموذجًا للمعاجم السيرية التي تناولت، بروح الدقة والصرامة، تراجم الرجال في شتى فنون المعرفة. وفي المقابل، ألف آخرون كتبًا ورسائل قائمة الذات هي بمنزلة تراجم وسير ذاتية صرّفوها، تعبيرًا واعتبارًا، في الحديث عن أهواء النفس وصراعها الروحي، وذكرياتهم، وتحوّلات عصرهم المضطرب، وقلاقل دولهم. وتضعنا هذه الكتب والرسائل أمام حقيقة أن فنًّا من الكتابة اسمه «فن التراجم الذاتية أو السيرة الذاتية» كان موجودًا في الأدب والثقافة العربيين، ويبين عن ملامح واشتراطات ومواصفات خاصة لـ«نوع أدبي» كان يتطور باستمرار، وبالتالي يدحض المغالطات التي شاعت في الأدب الغربي وأشاعها الفكر الاستشراقي أو الكولونيالي والإغرابي بعد ذلك، والقائلة: إن أدب «السيرة الذاتية والاعتراف» إنما هو نوع غربي خالص لم يعرفه غير الأورُبيين.

عندما أقبلتُ على كتابة شذراتٍ من سيرتي الذاتية المسماة «ضوء ودخان» (منشورات سليكي أخوين- طنجة 2016م)، وضعتُ نصب عينيّ مبدأ الصدق على نحو من الأنحاء؛ لأني ليس لي ما أخسره بعد الذي خسرته من أيام حياتي، فكتبتُ وفق ما يمليه عَلَيّ شرطي الإنساني، بما فيه من نواقص ومشاعر متضاربة، إلى حد معقول من الحرية الذي لا يتنافى مع الإبداع، ولكن لا يفتتن بالسنن المجتمعي الضاغط بقدر ما هو يسعى إلى تغييره. إن للسيرة الذاتية، كما قال فيليب لوجون، كينونة جميلة مستحيلة، وليس ثمة من مانعٍ لكي تُوجد. لقد كان لي في شذراتي السيرية مساحات من البوح والاعتراف، فسعيتُ قدر الإمكان إلى أن أقتسم مع قارئي جوانب من شخصيتي منذ طفولتي، وأن أظهر بنواقصي وآلامي وأحلامي، كما أملاها عليّ الحال وقتئذ، وأن أُوجد في صميم هذه الشذرات ما يُشعرني وإياه بشرطنا الإنساني الذي هو جماع مقادير وخيبات ومصادفات تقع في منعرجات الحياة. لكن صدّقْني إذا قلتُ: إنّ شيئًا من الأمان ومن الاستشفاء قد أوجدته لنفسي، وأنا أواصل هذه الشذرات؛ هذه الجرعات.

كاتب وناقد مغربي

إشكاليات السيرة الذاتية في الأدب العربي

محمد الشحات

تُعدّ كتابة السيرة الذاتية من أكثر الأنواع الأدبية إشكالية في الثقافة العربية؛ نظرًا لأن حضورها يرتبط بماهيتها وفلسفتها الوظيفية في بنية المجتمع الذي ينتجها ويتداولها. ولأن أغلب المجتمعات العربية تُضيّق الخِنَاق على الكُتّاب والمُبدعين والمُفكّرين، يغدو الأمر أكثر صعوبة عندما يلجأ الكاتب العربي إلى كتابة سيرته الذاتية في شكل سردي مقصود. ولعل سيرة «الأيام» (1929- 1939م) لطه حسين تُعدّ بمنزلة رأس الحربة في هذا النوع السردي الإشكالي. وما أكثر التحليلات والانتقادات التي واجهت هذا الكتاب لطه حسين، ولا تزال.

تعتمد سردية السيرة الذاتية على نوع من المكاشفة الذاتية التي يمثّلها ميثاق السيرة أو عقد السيرة الذي يُنظر إليه بوصفه عقدًا «قانونيًّا» بين الكاتب والقارئ؛ شرطه الأول «الشفافية» وشرطه الثاني «مساءلة الذات» وشرطه الثالث «إلقاء الضوء على قطاع كبير من حياة الشخصية المحورية»، وسرد تجربتها الحياتية التي غالبًا ما يتخذ راويها من زمكان الطفولة نقطة انطلاق أثيرة تمثّل أغلب بدايات السير الذاتية العربية. وهنا، يمكن للقارئ العربي تأمّل عدد من السير الذاتية الشهيرة في القرن الماضي. بيد أن ثمة إشكالية أخرى ذات مرجعية اصطلاحية أو مفهومية؛ إذ ينبغي التفرقة بين «السيرة الذاتية» و«السيرة الذاتية الروائية» و«رواية السيرة الذاتية» و«التراجم» و«المذكّرات». فالسيرة الذاتية نص سردي يُبئِّر على الذات بما يجعلها محور العملية السردية بأسرها، في توازن كبير بين الذاتي والمرجعي. أما إذا طغت صفة الروائية (أي التخييل) على الواقعي (المرجعي) فنحن بصدد رواية سيرة ذاتية. وهي النوع الأكثر شيوعًا في الثقافة العربية في الآونة الأخيرة، وبعضها ينحرف نحو مجرى الترجمة. وفي أحيان أخرى تهيمن على السرد القيمة المرجعية التي تربط تحولات الذات بالمكان والمجتمع في صعوده وهبوطه.

أما نصوص المذكرات فهي ضرب من السيرة الذاتية التي تُعنَى بالرصد اليومي لسلسلة متوالية من الأحداث المتصلة حيث يهيمن على السرد حضور المجتمع أكثر من حضور الأنا، فضلًا عن سلسلة من الأنواع البينيّة المنبثفة من هذا التداخل المعقَّد بين الذاتي والمرجعي، الواقعي والتخييلي، الإنساني والمجتمعي، كما في فنون «الرسائل» و«الصور الشخصية» (أو اللوحات القلمية أو البورتريهات).

لا تزال السيرة الذاتية العربية تعاني وطأةَ سلطةِ القمع وضيق مساحة الحرية التي لا تكفي كاتبًا واحدًا، كما كان يقول يوسف إدريس ذات يوم بعيد. ولأنها كتابة تحتمي بسلطة التخييل الذي يمنحها بعض الحرية يلجأ الكثير من الكُتّاب العرب إلى حيلة تشبه مبدأ «التقيّة» الذي يمزج فيه الكاتب بين الذاتي والمرجعي والتخييلي في بنية سردية واحدة، بحيث لا يستطيع الرقيب الديني أو السياسي أو المجتمعي مساءلته في القول والمساءلة والمكاشفة.

ناقد وأكاديمي مصري

سأكتب سيرتي على هيئة حكي عن موضوع ما

شهلا العجيلي

يفترض في كتابة السيرة الذاتية قيامها على الحكي الاستعادي، وأن تتسم ببلاغة اللغة، وإحكام البناء، وحسن التقسيم، وأن تجمع أجزاءها روح إبداعية واحدة، وأن تتضمن خبرات ومغامرات تجذب المتلقي، ولا سيما مع سرد المواجهات مع واحد أو أكثر من التابوهات، الاجتماعية والسياسية والدينية، ويمكن كذلك سرد الموقف الذاتي من أحد أحداث التاريخ المفصلية، وتفسيره.

ثمة سؤالان جوهريان في فن السيرة الذاتية؛ الأول عن إذا ما كانت أحداث السيرة وقائعية مطلقة أم تتضمن خيالًا، والثاني عن مدى عد السيرة الذاتية وثيقة تاريخية.

يمكن لكاتب السيرة الاستعانة بعناصر ضئيلة من الخيال؛ وذلك لربط أجزاء عمله، فتبدو في صورة محكمة متماسكة، كأن يستعمل الخيال في وصف فضاءات الأحداث والأمكنة، ولا سيما تلك التي تغيب عن ذاكرته، على ألا يسترسل في التخيل، ومن هنا ننتقل إلى إجابة السؤال الثاني، إذ لا تعد السيرة وثيقة تاريخية حول الأحداث العامة، فقد يتدخل فيها الخيال، كما ستحدد الرؤية الشخصية للحدث مسار تأويله من جانب المتلقي، ولا شكّ في أن رؤية الكاتب الذاتية مما حوله مضادة للرؤية الموضوعية التي يفترض أن تنطلق منها كتابة التاريخ، كما أن السيرة لا تخلو من مراوغات الذاكرة، ولا سيما أن معظم السير تكتب في وقت يكون فيه بينها وبين الأحداث مسافة زمنية طويلة، وإن كنا نفترض الصدق في السيرة الذاتية، وذلك بسبب من ميثاق القراءة بين المبدع والمتلقي الذي أشار إليه أمبرتو إيكو.

يجذبني ذلك الشكل المحدث من كتابة السيرة الذاتية، الذي يركز على علاقة الكاتب بثيمة محددة، ولا سيما إذا كان روائيًّا، فالروائي غالبًا يستنفد سيرته الذاتية في رواياته عبر أحداث ملتبسة، ومحورة، وبشخصيات مقنعة، ويتبقى له، من أجل السيرة، أن يروي ما وراء النصوص، أو الحكايات المتعلقة برحلة الكتابة، أما علاقته بثيمة محددة هي التي تحمل الجديد غالبًا. من ذلك ما فعله إبراهيم عبدالمجيد في كتابة سيرته مع السينما وعالم الأفلام في كتابه «أنا والسينما»، وما فعلته إيزابيل الليندي في «أفروديتيّات»، وما فعله الدكتور عبدالسلام العجيلي في كتابه «جيش الإنقاذ»؛ إذ كتب تجربته في حرب 1948م، وكانت سيرة ذاتية عن علاقته بفلسطين، وفيها كثير ممّا غاب عن المتلقّي في تلك المرحلة، ولعلّي أفكّر في كتابة سيرتي الذاتيّة بهذه الطريقة، أي بربطها بموضوع معيّن، ولا شكّ في أنّني لا أفكّر هذه اللحظة في مدى شجاعتي، وبما يمكن أن يقال، أو بالطريقة التي سنتحايل فيها على ما لا يقال، فذلك بالطبع رهن بلحظة الكتابة وبظروفها التاريخيّة.

روائية وأكاديمية سورية

السيرة الذاتية الحرة علامة على صحة المجتمع الثقافي

أمين الزاوي

السيرة الذاتية، بالنسبة لي، هي الحفر بعمق في الأعماق، أعماق الذات الكاتبة، الحفر بعنف ومن دون تحفظ، السيرة الذاتية هي قرينة الحياة، يجب أن تكتب بمرها وحلوها، بأخطائها وتهوراتها، بوسخها ونظافتها. وكتابتها تشبه «الحكة»، فكلما حك الكاتب المكان ازدادت لذة الحك أكثر وأعنف، واختلط الألم بالمتعة. وهي تقليب شجاع للأقاليم المسكوت عنها، وفتح الأبواب الموصدة كي يدخل الهواء، ويدخل القارئ إلى أعماق حياة الكاتب بكل تفاصيلها. وكل كاتب حقيقي بداخله جرح ما، يحمله على كتفيه كالصليب، وهي حالة «باثولوجية» لا تشفى إلا بكتابة السيرة الذاتية الصادقة المحرِّرَة.

وكتابة السيرة الذاتية ليست مرتبطة فقط بشجاعة الإفصاح عند الكاتب، ولكن أيضًا بمدى سقف الحرية الشخصية التي يمنحها المجتمع للفرد، ولأن هذه الحرية مفقودة أو محاربة في المجتمعات العربية والمغاربية فإن السيرة الذاتية غائبة. فالمجتمعات التي يحضر فيها الرقيب الديني والأخلاقي بشكل قامع لا يمكن فيها لكتابة السيرة الذاتية المتحررة أن تزدهر.

وكلما كانت ثقافة «القطيع» سائدة انتفت كتابة السيرة الذاتية الصادقة، تلك التي تبحث عن الفرد في تجلياته الحرة والمستقلة. ونحن أمام مجتمع «متدين» بامتياز، «تدين» مظهري وجماعي، وكل من يخرج عن ذلك فهو «كالذئب» الضائع الذي يسهل مطاردته.

وفي المجتمعات التي تقرأ الأدب بمقياس «العيب» و«الخجل» لا يمكننا تصور ازدهار كتابة السيرة الذاتية المتحررة والصادقة. أما في المجتمعات الغربية القائمة على احترام الحريات الشخصية كقيمة أساسية في المواطنة وحقوق الإنسان، والقائمة على «ثقافة الاعتراف» و«الغفران» كقيمة أساسية في الفكر المسيحي، ففي هذه المجتمعات تزدهر كتابة السيرة الذاتية العميقة الصادقة.

هذا الواقع السيكوثقافي والديني يجعلني أضحك وأنا أقرأ بعض ما يسمى بسيرة ذاتية في الأدب العربي والمغاربي المعاصر، إنها نصوص يبدو فيها الكاتب وهو يستعرض حياته كأنما يستعرض فصول حياة «ملاك» لا يخطئ ولا يذنب ولا يكفر ولا يخون، إن الطهرانية هي مرض عضوي في كتابة السيرة الذاتية عند الكتاب العرب. شخصيًّا كتبت سيرتي الذاتية وبكثير من الحرية ولكني لم أنشرها بعد، ليس خوفًا، لكني أعتقد أن الفرصة المناسبة لنشرها، نظرًا لما تحمله من نبش في ذاكرة طفل ومراهق وشاب من تفاصيل المحيط العائلي وحياة الأصدقاء، غير متوافرة حتى الآن.

روائي جزائري

السيرة الذاتية نتاج الذاكرة أكثر من الواقع

عبدالمقصود عبدالكريم

السيرة الذاتية نوع أدبي فريد، يعشق قراءته قُرّاء كثيرون، ومع ذلك يمكن الحديث عن ندرته النسبية، وبخاصة في مجتمعاتنا، الناطقة بالعربية. وبداية علينا التمييز بين «السيرة» التي يكتبها كاتب أو باحث عن شخص آخر، و«السيرة الذاتية» التي يكتبها صاحبها نفسه، أو يمليها على صحفي أو كاتب كما في السير الذاتية لبعض السياسيين البارزين. لكن الأمر يختلط أحيانًا، حين تكتب زوجة، على سبيل المثال، عن حياتها مع زوجها الكاتب أو الشاعر البارز، حينها يكون الكتاب سيرة ذاتية للزوجة وسيرة للزوج، ويقع في هذا الإطار كتاب انتهيت من ترجمته للتو، من تأليف فريدة لورانس، زوجة د. هـ. لورانس، عن حياتها مع لورانس، ويعتمد في جزء كبير منه على رسائل لورانس.

أول ما يخطر على البال عند الحديث عن السيرة الذاتية ومحاولة وصف هذا النوع الأدبي أنه نوع انتقائي رقابي، نوع يخضع للذاكرة وهي انتقائية بامتياز، ويخضع لأنواع شتى من الرقابة. وأفترض هنا مبدئيًّا أن الكاتب يحاول باستمرار توخي الصدق والدقة بقدر المستطاع.

أكرر كثيرًا أن الذاكرة تعمل بآليات معقدة يصعب تفسيرها غالبًا، وأنها تعمل بفلسفة خاصة بها. ربما يندهش معظمنا من أن ذاكرتنا تحتفظ بأشياء تبدو بالغة التفاهة وكثيرًا ما تنسى أحداثًا ربما نظن أنها بالغة الأهمية. أكرر هذا الآن لأن السيرة الذاتية تعتمد على الذاكرة، والذاكرة تنتقي وتزين وتحرف، وتحتفظ في معظم الأحيان بتفسيرنا الخاص للأحداث وصياغتنا الخاصة لها وليس بالأحداث نفسها. وبالتالي علينا أن ننظر إلى ما نكتبه من الذاكرة بريبة، بصرف النظر عن الدقة والصدق. وبالتالي يمكن القول: إن السيرة الذاتية نتاج الذاكرة أكثر مما هي نتاج الواقع، الواقع كما حدث بالفعل. ويمكن أيضًا إضافة أن الذاكرة لا تعرف الحياد غالبًا وأن ما تخزنه يتأثر بداية بانحيازنا.

نأتي إلى النقطة الثانية، وهي الرقابة. بداية في انتقائية الذاكرة نوع من الرقابة اللاشعورية، يمارسها اللاشعور في قمع أحداث لا نتحمل تذكرها، باختصار أسوأ من أن يتحمل الدماغ تذكرها. وهناك الرقابة الذاتية الواعية التي نمارسها بوعي، باستبعاد أحداث معينة لأننا نرى أنها تسيء إلينا، أو بمحاولة تزيينها وتفسيرها بما يتلاءم مع مزاجنا. في النهاية كتابة سيرة ذاتية حلم يراودني منذ زمن طويل، فقط أنتظر اللحظة المناسبة، واختيار الشكل المناسب لكتابتها، ومن الغريب أن يحيرني اختيار اللغة، وحتى لا يذهب الخيال بعيدًا، الاختيار هنا بين العربية الفصحى واللهجة المصرية، وربما تأتي في النهاية مزيجًا منهما.

شاعر ومترجم مصري

السير الذاتية أكثر مبيعًا من الرواية

خالد لطفي

كُتُب السير الذاتية من أكثر الكتب مبيعًا الآن في المكتبات، حتى إنها تفوقت على الأعمال الروائية، وبخاصة سير المشاهير مثل سيمون دي بوفوار، وجورج أورويل والأمير هاري وغيرهم، ربما لأن الناس تفتقد إلى القدوة الآن، أو أنهم يبحثون عن النماذج الناجحة كي يعرفوا سر نجاحها. فقصص المشاهير من رجال الأعمال تلقى رواجًا كبيرًا؛ لأن الناس تبحث عن الحقيقة أو الشيء المفيد بالنسبة لهم، وليس مجرد حكاية أو قصة خيالية، حتى ندوات الكتابة الذاتية تلقى إقبالًا كبيرًا. بما يعني أن الناس لديها رغبة في معرفة أسرار وتفاصيل حياة المشاهير، وربما هذا هو السبب في أن السير الذاتية التي تحتوي على حقائق وأسرار جديدة من الأعمال الأكثر مبيعًا. كذلك تأتي كتب التنمية البشرية، بما تقدمه من خبرات ونصائح للقارئ، في قائمة الأعمال الأكثر مبيعًا، ومعها كتب الرسائل، مثل رسائل سيمون دي بوفوار وبول سارتر وهنري ميلر، ورسائل غسان كنفاني التي لاقت قبولًا واسعًا، لكن هذا النوع من الكتب مثله مثل كتب السيرة الذاتية لا يوجد كتاب كثيرون له في العالم العربي.

في العموم ليس هناك كتاب كثيرون يحرصون على كتابة سيرهم الذاتية، فهناك كتابة ذاتية، لكنها ليست سير ذاتية، أي أنهم يكتبون روايات بها جانب من ذاتهم، وهذه أيضًا يقبل الناس على شرائها. وبعضٌ لديهم في حياتهم ما يستحق الكتابة والإقبال على شرائه، لديهم قصص نجاح يسعى الناس لمعرفة تفاصيلها، لكن ليس كل الناس لديهم الشجاعة كي يكتبوا سيرهم، وليس كل سيرة تستحق الكتابة.

مدير مكتبة تنمية بالقاهرة

أن تكتب امرأة سيرتها أن تشق بُرقعها لتَرى وتُرى

هدى الدغفق

أحسب أن من تكتب سيرتها أو تسجل اعترافاتها كاتبة شجاعة؛ فهي تخوض معارك غير مضمونة النتائج مع ذاتها ومع ذوي القربى والمجتمع، ثم مع الوسط الإعلامي بل العالم كله. لقد عانيت ألوانَ الهواجس التي ظلت تكدر لحظات كتابتي، كما تمثل لي رقيبي الذاتي وهو يحاصرني شبحًا عصيًّا. ولقد نجحت في مقاومته ليتراجع شيئًا فشيئًا، وذلك بفضل مقدرتي على إقناع ذاتي بأنني لن أنشر ما أكتبه. وذلك ما حفزني لأواصل كتابة كل ما تذكرته عن طفولتي ومراهقتي وشبابي وزواجي وطلاقي وما بعده من دون تحفظ.

أما عنوان كتابي وهو «أشق البُرقع أرى». فلقد توقعت تلك الهجمات التي اعترضت طريقي قبل النشر وبعده مثل عدم فسح كتابي وعدم قبول المتلقي التقليدي للعنوان حسب تفسيره؛ ولذلك هداني حدسي إلى أهمية كتابة مقدمة توضيحية، وكانت فيما بعد حجة لي ذكرت فيها: «كل ما يحول دون ذاتي، كل ما يحول دون رؤيتي، برقع سوف أشقه لأَرى وأُرى».

ولعل تداول وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الحسابات الخاصة والتفاعل مع التعبير الذاتي والتهافت على الكتابة والتفاعل اللحظي وشجاعة المستخدمين في الكتابة عن حياتهم ونشر يومياتهم، هو ما دفعني إلى المسارعة بنشر كتابي؛ فلقد خشيت أن يهدأ حماسي لكتابته ويتغير رأيي بنشره. لذلك عندما أخبرتني دار النشر أنها سوف تؤجل طباعة كتابي عامًا آخر تركتها إلى دار نشر غيرها.

لقد فوجئت بما أشعر به من وحشة مكانية وأنا أحرر كتاب «أشق البرقع أرى» حيث اضطرني ذلك إلى الابتعاد مكانيًّا لألوذ بذاتي عن الرقيب الاجتماعي الذي أحسست بأنه يجثم على جمجمتي، فاخترت الارتحال إلى بعض البلدان؛ كي أحتفظ بروح شجاعتي في السرد. لقد كان الصباح والنهار بشكل عام فرصة حقيقية اقتنصتها للتخلص من شعوري بالرقيب وأنا أكتب سيرتي تلك. فالشياطين لا ترى في الشمس. وبرغم صعوبة الأمر فقد تغلبت على قلقي من موقف بعض الأسماء التي وردت في سيرتي من صديقات وزملاء ومعلمات ومن عائلتي وبعض أقاربي، ومن المؤسسات الحكومية التربوية والثقافية وغيرها.

لم أعرض كتابي «أشق البرقع أرى» على أحد لاستشارته قبل طباعته؛ لأنني لا أريد أن أتأثر برأيه وأفقد شهية السرد. فقد ألمحت لبعض الصديقات عن عزمي على نشر سيرتي وحذرنني من ذلك. قال لي أحدهم: لا يجدر بك أن تكتبي سيرتك قبل الستين، لكن اقتناعي بضرورة كتابة سيرتي من دون الالتزام بالأفكار التقليدية غير العلمية شكل لي تحدّيًا لمواصلة كتابتي؛ لعلي بذلك أفتح بابًا ظل مغلقًا مدةً من الزمن ليس في السعودية وحسب، بل في منطقة الخليج كلها وهو أدب السيرة الذاتية.

بعد طباعة «أشق البرقع أرى» خضت معارك مع تلك القراءات التي حكمت على الكتاب من عنوانه فقط من دون قراءة مضمونه. فلقد انهالت عليَّ انتقادات عبر تويتر والفيسبوك حول العنوان، بل إن بعضهم بعث بردود أفعاله إلى وزارة الثقافة والإعلام آنذاك، وكتب إلى قسم الرقابة مطالبًا بمنع بيع كتاب «أشق البرقع أرى» أو تداوله. فيما كتب بعضهم رأيه بحيادية مثل الأستاذ منذر عياشي الذي أشار في مجلة اليمامة قائلًا: «كتاب لامرأة تحب المرأة السعودية». وهذه الغاية الحقة من كتابة سيرتي وهي مساعدة النسوة في بلادي بشكل خاص، على تجاوز أزماتهن في تجاربهن الإنسانية والعائلية البسيطة.

لا أخفيكم أن هناك اعترافات لم تعلم بها عائلتي مثل تجربة تدربي على السياقة في مدارس تعليم السياقة بالبحرين، وسفري للمشاركة في بعض المهرجانات الثقافية الأدبية كشاعرة، ولقد كانت تلك البلاد تعيش ثوراتها آنذاك. ولعلي أردت أن أخبر عائلتي عن ذلك من خلال سيرتي التي عرفتني بي ومكنتني من تحليل كثير من المواقف الاجتماعية والواقع؛ إذ عشت حوارًا ذاتيًّا يستقرئ تفكيري وأنا أكتب. وكانت سيرتي مسكّنًا أحاطتني بحالة من الطمأنينة الأدبية والروحية. لم تكن سيرتي ثائرة بل كانت واقعية فيما ترويه. وهي وإن كانت فردية عند بوحها فقد أضحت جماعية بعد قراءتها من الآخرين وهذا هو العزاء.

شاعرة سعودية

هوامش:

(1) Franz Rosenthal, “Die arabische Autobiographie”; in: Studia Arabica 1 (Analecta Orientalia 14), 1937, p.11 : “Das autobiographische Schaffen im Islam ist weniger an die Persönlichkeit als an die Sache gebunden. Die Erlebnisse des Einzelnen bieten nicht als solche an sich den Anreiz zu ihrer Mitteilung, sondern nur durch ihren allgemeinengültigen lehrhaften Gahalt.”

(2) جلال الدين السيوطي، كتاب التحدث بنعمة الله (العباسية: المطبعة العربية الحديثة، 1975م) ص 3.

(3) Thomas Philipp, “The Autobiography in Modern Arab Literature and Culture”, in : Poetics Today 14: 3 (Fall 1993).

(4) Cf. Dwight F. Reynolds (Edited by), Interpreting the Self. Autobiography in the Arabic Literary Tradition (London: University of California Press, 2001), pp. 72 sqq.

(5) Cf. Georges May, L’autobiographie (Paris : PUF, 1979, 1984), pp. 17 sq.

(6) إحسان عباس، فن السيرة (بيروت: دار صادر، 1956م)، ص 35.

(7) Delphine Scotto di Vettimo, “L’écriture autobiographique : un plaidoyer pour l’intime”, in : Connexions 105/ 2016-1, pp. 109 sq.

(8) L. Wittgenstein, Philosophical Investigations, § 256.

(9) Anatole France, Le Livre de mon ami (1885).

(10) Georges Gusdorf, Les écritures du moi. Lignes de vie 1 (Paris : Odile Jacob, 1991).

(11) Cf. Philippe Lejeune, Le Pacte autobiographique (Paris : Seuil, 1975).

(12) Georges Gusdorf, Les écritures du moi. Lignes de vie 1, op. cit. p. 11.

(13) Ibid.

(14) Vincent Colonna, L’autofiction (essai sur la fictionalisation de soi en littérature). Doctorat de l’E. H.E.S.S., 1989, pp. 16 sqq.

(15) Roland Barthes, Le lexique de l’auteur (Pars : Seuil, 2010), p. 100.

(16) J. Rancière, “Politiques de l’écriture”, in : Jean-François Côté et Régine Robin (dir.), “La sociologie saisie par la littérature”, Cahiers de recherche sociologique, n° 26, 1996, p. 19-37.

(17) Leigh Gilmore, The Limits of Autobiography. Trauma and Testimony (London: Cornell University Press, 2001).

(18) Ibid. p. 11.

(19) M. Foucault, L’Usage des plaisirs, Gallimard, 1984, p.15-16.

(20) إيف ستالوني، الأجناس الأدبية. ترجمة محمد زكراوي (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2014م)، ص 214.

(21) Georges May, L’autobiographie, op. cit. pp. 41 sq ; 55 sq.; 81 sq.; 86 sq.

(22) Cf. Catherine Chabert, Féminin mélancolique, Paris, Puf, 2003.

(23) [بلا مؤلف]، رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان. مع ملحق بمقتطفات من آراء نقدية لـ 220 كاتبة وكاتب. قدمت لها: غادة السمان (بيروت: منشورات غادة السمان، ط. 1، 1992م، ط. 13، 2022م)، صص 109-183.

(24) نفسه، ص 4.

(25) Leigh Gilmore, The Limits of Autobiography. 8

(26) Julian Henriques et at., Changing the Subject: Psychology, Social Regulation and Subjectivity (London: Methuen, 1984), 117.

(27) Susan Friedman, Mappings.

(28) Bronwyn Davies, “The Concept of Agency: A Feminist Poststructuralist Analysis,” The International Journal of Social and Cultural Practices, no. 30 (December 1991), 43.

(29) حاتم الصكر، السيرة الذاتية النسوية: البوح والترميز القهري. مجلة فصول، عدد 63، 2004.

(30) Shari Benstock, “Authorizing the Autobiographical.” In Feminisms: An Anthology of Literary Theory and Criticism. Warhol and Herndl, eds. New Brunswick, N.J.: Rutgers U P, 1991, . . 1040-57.

(31) Liz Stanley, “The Knowing Because Experiencing Subject: Narratives, Lives and Autobiography.” Lennon et al., eds. 135

(32) Teresa de Lauretis, (1984). Alice Doesn’t: Feminism, Semiotics, Cinema. Bloomington: Indiana U P, 159.

(33) Caren Kaplan. (1996). Questions of Travel: Postmodern Discourses of Displacement. Durham: Duke U P.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى