صفحات الثقافة

اليسار الحقيقي واليسار «الووكي»/ وسام سعادة

اليسار الحقيقي واليسار «الووكي»/ وسام سعادة

سوزان نايمان من الفيلسوفات المُجدّدات لسؤال الأخلاق في عالم اليوم. عُرفت قبل عشرين عاماً بكتابها، المرجعي، «الشرّ في الفكر الحديث» حيث تعقبت على نحو شيّق وفطن تاريخ الفلسفة الغربية، من زاوية المفاصلة المديدة بين خصلتين، واحدة ترى إبداء القول في «ما الشرّ؟» وثانية خصلة ترى الشرّ في كل محاولة هادفة لتعليله وتفسيره. عُرفت نايمان أيضاً بكتابها حول «الوضوح الأخلاقي» ولومها اليسار لتخليه عن الإتيقا وجعلها مناطاً لليمين، ابتداء من عدم إدراكه كيسار أن للإنسان حاجات أخلاقية، أسوة بتلك الاقتصادية.

نايمان الأمريكية أساساً، والمولودة في عائلة يهودية أشكينازية بولاية جيورجيا، تقيم منذ مطلع الألفية في ألمانيا، حيث تشرف على «منتدى أينشتاين» الذي يُقدّم نفسه كمختبر مفتوح عابر للاختصاصات والبلدان لتنمية التفاعل بين العقول.

تصنّف نايمان نفسها على اليسار، على الطريقة الأمريكية «الكامبوسية» التي لا تربط الالتزام اليساري هذا بتجربة حزبية، بل بفاعلية نصّية هنا، ونشاطية مدنية هناك.

من هذه الناحية تجدها قريبة سوسيولوجياً من منقوديها ممن اختارت الإغارة «المفيدة» عليهم مؤخراً. وليس مفسداً للفائدة هنا التنبيه إلى ما يعلق به النقاش برمّته حول اليسار والعوائق الحائلة دون تفعيله في عصرنا من انحباس نسبي بين أرجاء «الحرم الجامعي» وقاعاته وكواليسه، والمناوشة بين «الزملاء» عوضاً عن التعبير عن حيثيات اجتماعية متعارضة تجد أو تصيغ كل منها شكل اليسار الذي يعبّر عن تطلعاتها ومصالحها بشكل أجدى وأجدر.

ونايمان لا تزال تنادي بالاشتراكية، وتذكّر بأن آلبرت أينتشاين ظلّ متمسّكاً بالفكرة الاشتراكية وفي ذروة احتدام الحرب الباردة. وهي ترى أن الفارق الأساسي بين الاشتراكيين والليبراليين أن الآخرين يكتفون باقتضاء الحقوق السياسية بشكل شارط في حين يرهنون التحفيزات والمكاسب وشبكات الأمان الاجتماعية في قيد الإحسان أو التحسين. أما الاشتراكيون فتراهم نايمان معشر الذين لا يقتصرون على الحقوق السياسية، بل يقتضون الحقوق الاجتماعية في العمل والتربية والصحة والسكن معها، ولا يرون في ما نصّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 من هذه الحقوق تطلعات خيالية لا سبيل إلى إحقاقها، بل يربطون رأساً وعلى الدوام بين الواقع والعدالة. يرفضون النظر إلى العدالة على أنّها ستبقى محكومة بأن تظلّ مقصية عن العالم، بل لا يرونها كفكرة وكمسارات محجوبة تماماً عن تاريخه من الأساس. اشتراكية تحت سقف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إذاً. تتعامل مع انقضاء «الاشتراكية العلمية» كما لو أنها كانت شيئاً مفروغاً منه، لكنها تشدد في الوقت نفسه على أن طروحها غير يوتوبية. وربما كانت هذه مشكلة مزدوجة مع اشتراكية نايمان. في أنها لا علمية ولا يوتوبية. لكن، «كتّر الله خيرها» ما يسع الواحد يقول، في زمن انفضاض الأناس عن الاشتراكية بكل مندرجاتها، أو نسيان اسقاط تسميتها عن أنظمة وأحزاب ما عادت أساساً تعير انتباهاً لاستمرار حملها لهذه الكنية.

المهم أن نايمان اختارت لهذا العام أن تدلي بدلوها في النقاش حول بدع أهل الووك، معشر «المتيقظة» هؤلاء، وقد رأينا في المقالة السابقة كيف أن عالمة الاجتماع الفرنسية نتالي إينيك آثرت احتسابهم صنفاً مستجدّاً من صنوف «التوتاليتارية» يتوسّلون قضايا المجموعات اللاحق بها اضطهاد وضيم وإقصاء إثنياً أو جندرياً أو دينياً للتسلّط كرقباء ومحتسبين على الثقافة والأكاديميا، وعلى الأدب كما الفن، سابقه ولاحقه، يبتغون تشذيبه بل تطهيره من كل شبهة نَيل أو حطّ من واحدة من الجماعات اللاحق بها مظلومية تاريخية مديدة، ويراكمون من وراء ذلك رأسمالاً من التسلّط والسلبطة.

بخلاف اينيك، تتفادى نايمان وصم أهل اليقظان من جماعة «المنقبضة» هؤلاء بالتوتاليتارية، فالمسألة عندها ليست ما يختزنه أهل الووك من عنف وعدوان بحجة الثأر لمظالم الجماعات المكرّسة كمصادر للشرعية الإفتراضية لهذا النوع من الخطاب المحتقن بل ما يعتورهم من زغل وبهتان.

المسألة عندها بوجه جماعات الهوية الووكية هؤلاء هي وجوب عدم استعداد الاشتراكيين، المنطلقين من عقلانية عصر التنوير الكونية قبل أي شيء آخر، التخلي عن «اليسار» لهؤلاء المُتوجّسة.

في الوقت نفسه، بخلاف اينيك، ليس ما تطمح إليه نايمان هو تدشين جبهة اشتباك متواصلة مع «بني الووك» وهي تقرّ بأنه في عصر تهدد فيه حركات اليمين المتشدّد الديمقراطية في كل مكان قد تبدو المساجلة مع الووكيين عنجهية نرجسية. الا أنها توضح في المقابل أن ما يفصلها عن أهل الووك ليس اختلافات وجيزة أو طفيفة، وإنما مسائل تدخل في أساس معنى اليسار. وليست هي باختلافات على التكتيك أو اللهجة أو الأسلوب. المفارقة في المقابل أن نتالي اينيك التي تحمل على الووكيين بحدة ملقية عليهم جريرة التوتاليتارية، تشدد في الوقت نفسه على أن مشكلتها تكمن أولا في أسلوبهم لا في المقاصد. أما نايمان، ورغم أنها لا تساجل مع الووكيين على خلفية ما يستجمعون من عنف وعدوانية، لكن مشكلتها معهم أكثر جذرية، تتصل بالمقاصد. فهو قوم يعملون في الصبح والمساء على تجريد اليسار من هويته الكونية، الأممية. وتفكيك ما في جعبته من أسلحة في وجه اليمين.

اينيك كانت مهتمة بأن تظهر في كتابها أن نقد الووك من موقع اليمين لا يفسد لليساريين الرافضين للغة الووك حجة، في حين أن نايمان تشدّد على أنّ اليسار لن يكون يسارياً اليوم إلا «بتبديع» أهل الووك وتنحيتهم منه.

الووكية آذاك واحدة من مظاهر حركة الترنح العالمية في اتجاه اليمين، حتى ولو استثمر فيها اليمين نفسه لهجاء اليسار كله، ووصمه بها. لقد أفرزت تقليعات الووك مناخاً من الاستلاب الفكري والثقافي يستغله اليمين، الذي يطيب له قذف كل من يقف بوجه العنصرية بالووكية المحمومة. لكن هجمة اليمين على الووك والقاء تبعته على غير أهله المباشرين لا يلغي أن الووكيين قد انحرفوا عن كل مسار تغييري اجتماعي، في اتجاه حصر السياسة بالصراع على الرموز. بالنسبة للوكيين ثمة جماعات يناجون كل واحدة منها بهويتها ورموزها، وأقصى ما هو متاح للمهمشين والمقصيين من هذه الجماعات هو التقاطع بين هوياتهم لتشكيل مشهد تصفه نايمان بأنه «غابة من الجراح المزمنة». التقاطعية بين الهويات هي على النقيض من الكونية والأممية.

ولا تنسى نايمان أن ترفق نقدها لكيفية استخدام اليمين لشماعة الووكية ضد اليسار كله، مع دمج الرأسمالية للووكية في قالبها التسويقي، إذ باتت هناك سلع «ووكية» يجري تسويقها في اتجاه الجماعات المُعرَّفة على أساس الهوية «المُعاناتية».

الووكية في أساسها نزعة افتئاتية على كونية عصر الأنوار. وكتاب نايمان يتواشج هنا مع مضامين كتاب الفرنسية ستيفاني روزا «هل اليسار ضد الأنوار؟» 2020. سوى أن روزا اختارت تحميل المسؤولية عن هذا الدرك الى بعض من منزلقات ثيودور ادورنو وماركس هوركهايمر في «ديالكتيك العقل» إذ ذهبت أن نقدهما للعقلانية التنويرية ومماثلتهم لها مع نقائضها بحجة أنه العقل الأداتي الحداثي إياه، يعقل حيناً، ويهذي حيناً آخر، هو نقد كان من السهل توظيفه لمحاربة كل نظرة كونية جامعة، أسوة بمحاربة النزعة الكونية من على يمين. اليمين يرفض هذه اليونيفرسالية بحجة تمسكه بالخصوصية والفرادة واليسار الأنتي تنويري يستهدف اليونيفرسالية نفسها بحجة أنها غير صادقة وغير قويمة ولم يَصِنْها الساعون لها عن الشبهات والمطاعن والسقطات.

تتفادى نايمان ملف مدرسة فرانكفورت وأثرها هنا. التهديف عندها يركز على أثر كل من الفقيه الدستوري الألماني المحافظ كارل شميت والفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (وفوكو كان أيضاً هدفاً لراجمات ستيفاني روزا). تقرّ نايمان بأنه ليس غرضها التفتيش الآن عن أعمق وأثرى قراءة لأعمال شميت المتواطئ مع النازيين، أو فوكو، الذي استعدى ديكارت وشغف بثورة الخميني، وإنما هي معنية بتعين أثر كل منهما على أهل الووك. وقد يلومها لائم عن وجاهة هنا أنّها تسلّم للوكيين تركة ميشال فوكو بدل أن تتطعن في أهلية تنسبهم إليه أو غرفهم من معينه.

أو قل أنها معنية بتقدير الآثار الوخيمة لاختلاط أثر شميت وفوكو عند أهل البدع الووكية. فعند المتيقظة أو المتوجسة ليست العدالة، أي عدالة، إلا قناعاً من أقنعة سلطة ما، وهذا من أثر شميت، وليست المعرفة إلا شكلا لسلطة، وأشكال المراقبة والقمع الحداثية أكثر خبثاً وضراوة من تلك السابقة على الحداثة، وهذا من أثر فوكو. النتيجة هي جحود مزدوج بمنجزات الحداثة والتنوير من جهة، وبكل الآليات التي جعلت للعدالة حيثيات غير مختزلة بمفهوم السلطة.

تبدو نايمان رغبوية أكثر من اللزوم حين تجعل الأمور بحدية أنه «إما الكونية – الجامعة، وإما القبلية – التقاطعية».

لكنها في المقابل تستهجن، وعن جدارة، كيف أمكن لأهل الهويات المحتقنة اليمينية الائتلاف والتكاتف على امتداد العالم، يتبعهم على المقلب الآخر أهل الووك، في حين أنه في العالم المعولم والذي يزداد اتصالاً وتداخلاً شحبت الكونية – الأممية في اليسار، بدلاً من أن يشتد عودها وتزدهر. لكن ألا يدل هذا أن تركة عصر التنوير كما تركة اليسار التاريخي للقرنين الماضيين لا تبدوان ملهمتين أو شاحذتين كفاية لهذه الهمة الكونية الأممية؟ مسؤولية أهل الووك تظلّ ثانوية هنا.

كاتب من لبنان

—————————–

عن الووكية وأبلستها: مشكلة نتالي اينيك/ وسام سعادة

شطحت عالمة الاجتماع الفرنسية نتالي اينيك في العنوان الذي اختارته لمؤلّفها السجاليّ، الصادر هذا العام، «هل الووكية صنف من التوتاليتاريّة؟» فهل يقتصر الشطح هنا على مبالغة في التعبير أم يطال أساس النقد الحامي الذي وجهته اينيك لمن تصفهم بالمُستيقِظة، أو الووكيين.

فالووكية – من فعل الاستيقاظ بالإنكليزية «تو ويك» و«ووك» «اليقظان» – هي المفردة التي انتشرت في جامعات الولايات المتحدة في العقد الثاني من هذا القرن، لتسم مواقف وتحركات «متيقظة» حيال كل واقعة أو شبهة تمييز نافرة أو مضمرة لاحقة برهط من الأقليات الإثنية أو الدينية أو الجنسية.

واينيك تشدّد على أن «الووكية» كانت توصيفاً لهوية حركية وقد نسبها لأنفسهم الناشطون المحمومون لتعقب أي بادرة تمييز سلبي بحق أي جماعة لاحق بها ضيم أو تهميش اجتماعيين. هذا قبل أن تتحول الووكية من توصيف ذاتي يبثه الناشطون أنفسهم الى تهمة عشوائية يرميها اليمين لرشق اليساريين بها، سواء كانوا «ووكييين» أو لا.

والحال أن اينيك لا تقوم بالجهد الكافي في كتابها السجالي و«الشفهيّ» كي تنأى بنفسها عن واقعة شيوع هذه الكلمة في اليمين المتأبط شرّاً أكثر من كل جماعات «الووك» اليسارية. فالخطاب الشائع يميناً في الغرب اليوم يميل لما معناه أنّه لم يبق لليسار في مرحلة ما بعد بوار الأيديولوجيات وتفرّق «المتن العماليّ» إلا التعلّق بأهداب «أهل الهامش» المنقسمين زرافات ووحداناً، وبالتالي «الووكية» ليست في هذا اليسار بشيء عابر، بل هي، من بعد كساد الأيديولوجيات ومشاريع الهندسة الشاملة للمجتمعات، مآل لهذا اليسار في عصرنا.

يستسهل «أهل اليمين» في أيامنا استخدام شماعة «الووكية». وتزيد هذه السهولة لأن اليسار منقسم رمزياً إلى حد كبير، وإن لم يكن أبداً بشكل مطلق. فمن جهة، تجد المتحمسين للذهنية الووكية – الهوياتية، المتيقظين على مدار الساعة ضد كل تمييز أو تنميط سلبيين بحق واحدة من الجماعات الإثنية أو الدينية أو الجنسية التي تعاني تاريخياً في المجتمعات التي هي موجودة فيه، إنما من دون أي تطلع لاستراتيجية شاملة ورامية إلى «تحويل ثوري يشمل المجتمع بأسره» إذا ما استعدنا عبارة من «مانيفستو» ماركس وأنجلس. بل أن «مجتمع ناشطي الووكية» هؤلاء يمجدون التقاطعية بين القضايا الهوياتية المختلفة، وحتى حين تحضر عندهم المسائل الطبقية الاجتماعية، فهذه تجيء مسكوبة بالقالب الهوياتي نفسه. فاليسار الووكي مثلا تجده يندّد بـ «الطبقيّة» وهذا مختلف بالكلية عن التنديد الماركسي باضطهاد طبقة لطبقة أخرى. التنديد بالطبقيّة يعني التنديد بالتمييز على أساس طبقي، في حين أن الماركسية كانت أخذت على عاتقها تبني هذا التمييز والذهاب به للآخر. التنديد بالطبقية، على غرار التنديد بالذكورية وبالطائفية، هو تسليم بأن الهرمية والاضطهاد الطبقيين لا مهرب منهما، وإنما المبتغى محاربة مظاهر التمييز الخطابي والسلوكي على أساس طبقي.

أما من الجهة المناقضة للوكيين، فأول ما يطالعك غياب الحماسة. الووكيون يتحركون، ينشطون، «على بطّال» أو بلا جدوى أو بتكلّف أو بعشوائية في كثير من الأوقات. أما «غير الووكيين» في اليسار فيعيشون اغتراباً لا يقل ضراوة.

لئن تغرّب الووكيون عن «مبدأ الواقع» واكتفوا منه بملاحقة التواقيع التمييزية بين البشر، فأكثر ما يصيب اليسار «غير الووكي» هو الاغتراب عن الزمن. التعامل مع الزمن الحالي على أنه بالفعل ليس لهم، وأن زمنهم «كان» في الماضي، أو هو «عائد» ولو طال الزمن في المستقبل. لكن ليس الآن وليس هنا. كأنما كتب على اليسار في زمننا أن يكون إما واقعياً في لغة «الهناك» أو أن يكون «هنا» بإدارة الظهر للواقع الشامل على مستوى كل مجتمع أو على مستوى العالم، والتركيز فحسب على جماعات جزئية يصار الى التحزب لها، بل الى ابتداعها حيثما هي تفتقد للوجود السوسيولوجي الفعلي، ويصار من ثم الى تخيل اليوم الرجائي الكبير لتقاطع كل هذه الجماعات مع بعضها البعض بوجه المظالم.

ليست هذه القسمة بين يسار ووكي وبين يسار أنتي ووكي بشاملة ولا هي بهامشية. هي موجودة، بوضوح يقل أو أكثر من بلد الى آخر. هي تتيح بطبيعة الحال لليمين أن يستخدم شماعة الووكية ضد اليسار ككل. فالووكيون بالنسبة الى هذا اليمين هم أناس مصابون بوسواس قهري، لا يكتفون بما هو بائن من مظالم بل يتكلفون التكشيف عنها في ما هو مجازي، ومضمر، وحمّال أوجه، وبمفعول رجعي هوسي يريد إحقاق الحق ليس للأحياء فقط، بل للذين قضوا قبل أجيال غابرة، كمثل مطاردة عبارات مؤذية بحق جماعات بعينها في الكتب المنشورة قبل عقود طويلة بل قبل قرون وطلب تنقيح نصوصها وتشذيبها لتكون موافقة للغة الجديدة العادلة.

وليس الغرض هنا إنكار أن هذا المسلك موجود بالفعل في نماذج غير قليلة، وأنه مسلك يعبّر في نهاية التحليل عن افتقاد اليساريين بشكل عام للرابطة الحية مع مشاريع التحويل الجذرية والشاملة للمجتمع بالشكل الذي كان يعبّر عنه في القرن الماضي من خلال مقولة «عصر الانتقال نحو الاشتراكية» أو ما يعادلها أو يفيض عنها. والغرض أيضاً الإشارة إلى أن ردّ الووكية نفسها الى قالب هذياني أو هلوسي هو استقالة من شروط تفكيكها كظاهرة أو كمجموعة لمحات ممكن التقاطها في عدد من الظواهر والمحطات. تفسير السوسيولوجي بالسيكولوجي فيه الحط من قدر علمي الاجتماع والنفس معاً. التعامل مع اليساري الووكي كما لو كانت مشكلته نفسانية يقول أكثر عن نفسية من يفسر الأمور على هذا النحو. ثم هل أن اليساري الووكي بالفعل موجود طول الوقت؟ هل هناك من يعتنق الووكية في اليسار كما لو كانت عقيدة أو منهاج حياة طول الوقت، أم هي على الأكثر تقليعة؟ عدم احترام تشظي الظاهرة الووكية، هذا لو افترضنا أن الووكية يمكن تعيينها كظاهرة، والشطح نحو تلبيسها جسماً بعينه، ونحواً بعينه، لا يبدو بالمدخل النقدي التفكيكي القادر على الذهاب بعيداً في تفكر ما الووكية، ولماذا هذا الأسلوب في التفكير وفي الفعل يفرض نفسه في اليسار في بدايات هذا القرن؟

ثم أن من يكثرون رمي اليسار كله بالووكية في اليمين تجدهم لا يكتفون بذلك. بل يتحدثون مثلا عن «الماركسية الثقافية» وهذه تجدها بين المحافظين الأمريكيين كما بين المحافظين الهنود. «الماركسية الثقافية» غول وهمي، يريد تصوير جماعات ومجالات ثقافية وفنية بأكملها على أنها واقعة تحت أحابيل أيديولوجية خرافية، لم تعد هي ماركسية القرن الماضي، الرامية الى إبدال هيمنة طبقية بأخرى، بل صارت ترمي الى إبدال أنساق ثقافية معتبرة أساسية لاستقرار وخير المجتمعات بلا-أنساق تفتيتية وتخريبية لهذه المجتمعات. في الهند مثلا، يرمي عتاة اليمين القومي الديني التقدميين من الأكاديميين والمثقفين والفنانين بالماركسية الثقافية لمجرد أنهم تقدميون ليبراليون. حتى حزب المؤتمر، هو محتسب من جماعة الهندوتفا على أنه يدين بالماركسية الثقافية الخرافية هذه.

أين نتالي اينيك من كل هذا؟ جهدت للقول بأن الووكية إن كانت محسوبة على اليسار في أمريكا فهي ليست كذلك في فرنسا، وربطت الأمر بنجاعة النموذج الجمهوري الفرنسي «المتيقظ» (على نحو ووكي نوعاً) ما ضد كل ما يفيد الهوياتية. فالنموذج الفرنسي من المواطنية ينطلق من المواطن الفرد وحقوقه وواجباته، بخلاف التصور الأنغلو-أمريكي كما تسميه اينيك، الذي يربط السلام الاجتماعي باحترام حقوق وكرامات الجماعات المختلفة وإنصافها. تعالج اينيك موضوعها بالإسراف من هذه الثنائية: النموذج الفرنسي في مقابل النموذج الأمريكي. النتيجة من ثم أنها تعامل الووكيين في المجال الأكاديمي الفرنسي كغزاة يعملون في الوقت نفسه لأمركة هذا المجال، وتسريب «العالم الثالث» بعوائده وتقاليده وعنفه اليه. وهذا بالضبط ما يسوغ لاينيك رفع خطورة الووكية الى درجة «التوتاليتارية». بافتراض أنها غزو ثقافي لفرنسا وجامعاتها.

في كتاب اينيك لمحات نقدية في محلها ضد غلاظة وغلو «أهل الووك» وكيف يفرضون أنفسهم كمحتسبين ورقباء حيثما لم يردعهم أحد عن ذلك، وكيف يخرجون الأمور من سياقاتها ومجازاتها ويخلطون بين توصيف ما هو حاصل وبين تقدير ما ينبغي له أن يكون وكيف أن الووكية تفسد جانباً من حقل العلوم الاجتماعية عندما لا تعود ثمة فرضيات للتحري والبحث وإنما السعي منذ البدء لاستثبات يقينيات و«اضطهاديات مزمنة» أو مظلوميات. كل هذا تنقده اينيك بشكل مقنع. لكنها لا ترضى بهذا. تريد إدانة حادة للووكية. وتريد أن تعفي نفسها في الوقت نفسه من احتساب إدانتها تلك على أنها يمينية الطابع. تقول إن مشكلتها مع طرائق وأساليب الووكيين وليس مع مقاصدهم وقضاياهم بحد ذاتها. ما لا تراه هو أن حجم تماثلها مع ما تنتقده يكبر كلما زادت من حدة وضراوة الاتهام ضد الووكيين. أبلسة الووكية تعطّل النقد المسدد لها، على افتراض أنها ظاهرة.

كاتب من لبنان

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى