منوعات

كيف ظهرت “الكعكة” و”أكلة الجبنة” على طاولة السياسيين؟/ سوسن مهنا

يعود تاريخ المصطلحين إلى سياقات مغايرة في بكين وبيروت فيما يتفقان بالدلالة ويشيران لعقد الصفقات ونهب المال العام

تحفل الساحة الإعلامية بمصطلحات سياسية بينها الرأسمالية والتعددية والديمقراطية والفيدرالية والرجعية، ويسار – يمين، وغيرها كثير. مع الوقت تصبح هذه المصطلحات وغيرها متداولة، علماً أن عديداً منها قد لا يكون مفهوماً لعامة الناس، لكن مع تكرارها في الأخبار والصحف، وسرعان ما تتسرب إلى لغة الإنسان العادي ليستعملها أحياناً من باب التباهي، وأحياناً أخرى في غير مكانها وزمانها. 

أما السياسيون فكثير منهم يستخدم مصطلح تقاسم الكعكة أو الجبنة في إشارة إلى الفساد أو المحسوبيات أو المحاصصات داخل أروقة دولة ما. فمن أين أتى مصطلح “الكعكة”؟

على ما يبدو أن “نظرية الكيك” أو الكعكة  (Cake Theory) استعارة ترمز إلى التنمية الاقتصادية وإعادة توزيع الثروة بالخطاب السياسي في الصين. ويقال إن هذه الاستعارة ترمز أيضاً إلى الصراعات الأيديولوجية بين القيادات العليا الصينية، فهو يطرح السؤال المركزي حول ما إذا كان تحقيق مزيد من النمو أو التوزيع العادل ينبغي أن يكون في قلب الأجندة السياسية بالصين التي ظهرت في 2010 عندما أصبحت المشكلات المتعلقة بتزايد فجوة الثروة أكثر وضوحاً بشكل تدريجي، إذ كان ينظر إلى التنمية الاقتصادية على أنها مشابهة لخبز كعكة.

أحد جوانب النقاش آنذاك أشار إلى أن التنمية يجب أن تركز على “تقسيم الكعكة بشكل أكثر إنصافاً”، بينما يقول الآخر إن التنمية يجب أن تركز على “خبز كعكة أكبر”.

30 عاماً من النمو الاقتصادي في الصين أدت إلى مستويات أعلى للمعيشة ونمو كبير في الدخل القومي، ولكنه أدى أيضاً إلى اتساع فجوة الثروة ومجموعة من المشاكل الاجتماعية المتعلقة بها. وظهرت الصراعات بين “من يملكون” و”من لا يملكون” في المجتمع. وبدا ينظر إلى الأثرياء الجدد على أنهم مستفيدون بشكل مختلف من عملهم الجاد وطابعهم الجريء في ظل اقتصاد السوق الجديد، أو كغشاشين للنظام وورثة امتياز غير عادل.

في المؤتمر الوطني لنواب الشعب 2010 لاحظ رئيس الوزراء السابق وين جياباو أنه “يجب علينا تطوير اقتصادنا لجعل الكعكة التي تزدهر أكبر، ولكن أيضاً استخدام نظام معقول لتوزيع الكعكة بشكل عادل”، ولكن التعامل أدى مع النزاعات الحادة المتزايدة بين مجموعات المصالح المختلفة، إلى انقسام الحزب الشيوعي الصيني أيديولوجياً حول “قضية الكعكة”، من ناحية، واقترح الشيوعيون أن الحل هو التركيز على توزيع الثروة مع السعي لتحقيق نمو أعلى “تقسيم الكعكة”، بينما اقترح الإصلاحيون والليبراليون أن الحل هو متابعة النمو المستمر والقلق في شأن تقسيم الثروة عند الوصول إلى عتبة الثروة المادية أي “خبز كعكة أكبر”.

ووفقاً لمقال بعنوان “نظرية الكعكة تثير الجدل السياسي بين الصينيين”، نشر بتاريخ نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، على موقع (NPR)، وهو منظمة إعلامية أميركية غير ربحية. فإن الانقسام الأيديولوجي ظهر علناً في حرب كلامية أواخر عام 2011 عندما صرح عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي في “الحزب الشيوعي الصيني” سابقاً، وانغ يانغ، بالقول “يجب على المرء أن يخبز كعكة أكبر أولاً قبل تقسيمها”.

وأضاف وانغ أن “التنمية الاقتصادية المستمرة يجب أن تكون لها الأفضلية على جميع المهام الأخرى. ورداً على ذلك، قال بو شيلاي حين كان رئيس إقليمي في الحزب الشيوعي الصيني لمقاطعة “تشونغتشينغ”، (وجهت إليه اتهامات بالفساد وإساءة استخدام السلطة عام 2013)، “يعتقد بعض الناس أنه يجب على المرء أن يخبز كعكة كبيرة قبل تقسيمها، لكن هذا خطأ في الممارسة. فإذا كان توزيع الكعكة غير عادل، فلن يشعر أولئك الذين يصنعون الكعكة بالحافز لخبزها، لذلك لا يمكننا خبز كعكة أكبر”.

المساواة في تقطيع الكعكة

في مقال لموقع (New Scientist) الأسبوعي العلمي، ومركزه في لندن ونيويورك، نشر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، جاء فيه أن طريقة تقسيم الكعكة بشكل عادل بين شخصين جربت واختبرت وأثبتت رياضياً، بحيث يقوم أحد الأشخاص بقطع الكعكة، بينما يختار الآخر القطعة التي سيحصل عليها. وللحصول على أكبر قطعة من الكعكة يجب على القاطع تقسيمها بشكل متساوٍ بحيث لا يكون هناك أي نوع من الضغائن بين الأشخاص الذين يتناولون الكعكة.

تعد المساواة في تقطيع الكعكة عنصراً مهماً  في “نموذج تشونغتشينغ” (Chongqing model) الذي قدمه السياسي الصيني السابق بو شيلاي، والذي أعطى حشود العمال المهاجرين في المدينة “وضع مقيم” حتى يتمكنوا من التمتع بالحقوق والامتيازات الممنوحة لسكان المناطق الحضرية، مثل الرعاية الصحية والتعليم.

في حين حصل “نموذج تشونغتشينغ” على ثناء وتكريم من بعض كبار قادة الصين. ولاحظ النقاد أنه وفي نهاية المطاف، أصبح يعتمد بشكل كبير على شخصية بو شيلاي نفسه، بالتالي فإن توسيع النموذج إلى مناطق أخرى من البلاد سيكون صعباً، في حين أن التوجهات الإصلاحية والليبرالية الاقتصادية نحو “زيادة حجم الكعكة أو الفطيرة”، (Growing The pie)، ترافقت عادةً مع السياسي الصيني وانغ يانغ من خلال “نموذج كوانغدونغ”، (Guangdong model). كما قام وانغ بممارسة ضغوط من أجل مزيد من الشفافية في الإنفاق الحكومي وقدر أكبر من سيادة القانون مع السعي إلى اقتصاد أكثر توجهاً نحو السوق، حيث تلعب السوق الخارجية والقطاع الخاص أدواراً رئيسة.

“أكلة الجبنة” في لبنان

يترحم عديد من اللبنانيين على فترة حكم رئيس الجمهورية فؤاد شهاب (1958 – 1964) عند مقارنتها بالواقع الحالي، باعتبارها كانت رائدة في مجال وضع حجر الأساس لدولة المؤسسات، ويتذكرون مقولته عن “أكلة الجبنة” الذين كان يسميهم بالفرنسية “Les fromagistes” الذين يأكلون الأخضر واليابس ويتحكمون بالبلاد والعباد. فمن أين جاء “أكلة الجبنة”؟

بعد انقضاء أربع سنوات من ولاية فؤاد شهاب كرئيس للجمهورية عام 1962، قدم استقالته بشكل غير متوقع فاجأ جميع السياسيين من معارضين وموالين لحكمه، وبعد إذاعة خبر الاستقالة بساعة واحدة، وبحركة عفوية غير منظمة تقاطرت وفود المجلس النيابي برمته، إضافة إلى وفود السياسيين من غير النواب إلى منزله المتواضع في جونية شرق العاصمة بيروت.

وفقاً لمن عاصر تلك الفترة أو كتب عنها ناشد المعارضون والموالون الرئيس شهاب كي يعود عن استقالته. وحمل شهاب على أكتاف معارضيه ومواليه في مظاهرة داخل صالون بيته الصغير، حيث اشترك فيها أشد المعارضين له حينذاك ريمون إده (ابن إميل إده رئيس جمهورية أسبق)، وبيار الجميل الجد (رئيس جمهورية أسبق) وغيرهما. وعندما سئل عن أسباب الاستقالة المفاجئة، قال فؤاد شهاب إنه قطع الأمل من التعامل مع السياسيين الموالين والمعارضين الذين دأبوا على وضع العصي في دواليب مشروعه الكبير لإنشاء دولة المؤسسات والمساواة، ونقل البلاد من منطق المزرعة إلى رحاب القانون الذي يجب أن يسري على الجميع من دون استثناء.

وفي تبرير استقالته قال فؤاد شهاب إنه فشل في التعايش مع من سماهم في ذلك الوقت (Les Fromagistes)، أي أكلة الجبنة، وأنه يعترف بالهزيمة أمامهم، ولذلك فهو يفضل أن يعيش ما تبقى من أيامه مع زوجته الفرنسية الأصل بعيداً عن الجبنة ومن يأكلونها.

ولم يرجع فؤاد شهاب عن استقالته إلا بعد أن أخذ وعداً من الحاضرين بالكف عن “أكل الجبنة” طيلة السنتين المقبلتين، وهي فترة ما تبقى من ولايته الدستورية. وهكذا دخل تعبير “أكلة الجبنة” القاموس السياسي اللبناني والعالمي، وهو تعبير مجازي يشير إلى عقد الصفقات ونهب المال العام، لكن أكلة الجبنة كانوا أقوى منه، فسرعان ما رجعوا إلى عادتهم القديمة، وفقاً لمقال للكاتب اللبناني علي بلوط، نشر في يناير (كانون الثاني) 2007.

ولم يفلح شهاب في إقامة الدولة العصرية بالكامل، لكنه نجح في وضع أسسها التي تغيرت في ما بعد، حيث عادت “حليمة إلى عادتها القديمة”. وعندما أيقن شهاب استحالة الإصلاح كانت مدة ولايته قد انتهت. وأصر النواب على التجديد له بأكثرية شبه مطلقة، وبدوره أصر على الرفض.

في لقاء ضمه مع رئيس الحكومة آنذاك رشيد كرامي ورئيس مجلس النواب صبري حمادة وعدد من نواب الكتلة الشهابية جاءوا لإقناعه بقبول تعديل الدستور والتجديد لولايته ست سنوات أخرى، قال شهاب بلهجة القائد العسكري ما معناه، “أنا عسكري تعلمت أن أعترف بالهزيمة كما أعترف بالنصر. ولقد هزمني أكلة الجبنة، وسيهزمونني مرة ثانية، والعسكري يجب أن يتنحى عند حدوث الهزيمة الأولى، ولن أعود عن موقفي هذا إلا إذا منحني الشعب تفويضاً كاملاً بأن أضع كل من يأكل في السجن ومن دون محاكمة، وهذا أمر صعب عليكم وعليَّ، لذلك أطلب أن تتركوني وتختاروا من يستطيع أن يتعايش مع هذا الوضع”.

يروى عنه أيضاً قوله لأحد مقربيه قبيل وفاته، “إن الزعماء السياسيين مستمرون في اعتبار الدولة بقرة حلوباً ولا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية أو الطائفية أو الإقليمية، ولا يشعرون بأن الأرض تتحرك من تحتهم”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى