نقد ومقالات

جميل حتمل وسرديّة المنفى/ أحمد عزيز الحسين

نُفي جميل حتمل (1956ـ 1994) عن وطنه حين مُنِع من الجهر بما يريد من رأي، وحُكِم عليه بالسّجن، وتجرّع بسبب ذلك أصنافًا شتّى من الحرمان والقهر والعذاب. وتسرد قصصُه، التي كتبها في المنفى، الشّخصيّة المُقصَاة عن وطنها، وتقف على مظاهر الاغتراب والاستلاب التي آلت إليه حياتُها في الوطن والمنفى معًا. كما تصوّر مشاعرَ المنفيّ وعزلته وغربته، وتقف على آليّة تشظّي ذاته المقطوعة عن جذورها وماضيها، والعاجزة عن إعادة ترميمها في مُنعَزلِها الجديد؛ إذ إنّ الشّخصيّةَ مع انتقالها إلى المنفى بقيتْ أسيرة ماضيها في الوطن، تحمله أينما حلّتْ، وتهجس به أنّى تحركتْ، مع أنّه وسمها بكلّ أنواع القهر والعذاب. وقد حاول حتمل تشييد وطن آخر في “الكتابة ذاتها”(1)، غير أنّ ذلك لم يعوّضه عن مرارة الفقدان والبعد والغربة التي عاشها في منفاه الباريسيّ، وظلّ يتذكّر وطنه المكلوم بحسرة، ويحنّ إليه بتوجّع وأسى إلى أن رحل.

وترصد (قصص المرض وقصص الجنون) التي كتبها في المستشفى تصفية حسابه مع الماضي، ومحاكمتَه له، وهي محاكمة تتّخذ منحى الإدانة، منحى رؤية ماضيه بطريقة موضوعيّة، والكشْفِ عن الآليّات التي صاغتْهُ، والقوانين التي شكّلته؛ إذ لم تستطع شخصيّاتُه إعادة صياغة ذواتها وفق مقتضيات المنفى وشروطه، بعد أن رُمِيتْ في مجاهله قسرًا، واكتشفت أنّه ضرْبٌ من الانتقام الفظيع مُورِسَ ضدّها، وأجبرها على العيش في مكانٍ مُعادٍ لها انغلق عليها كشبكة العنكبوت، ومنعها من التّواصل مع الآخر، أو من تحقيق ذواتها، وأفضى بها إلى التّحسُّر والنّواح والتّفجُّع والرّغبة العارمة في الرّجوع إلى موطنها الأوّل، الذي لا سبيل لها للعودة إليه. وقد كانت قصصه تمرينًا متواصلًا في”الاشتياق لوطنه”(2)، طوال الفترة التي أمضاها غريبًا في مدينة لم يألفها، ولم يشعر بأنّها مكانُه الحميمُ، أو موطنه الحقيقيّ.

والمنفيّ في قصص حتمل يعيش في وسط اجتماعيّ لا مكان فيه للحبّ، أو للصّداقة، ويشعر بالغربة فيه، ويتقوقع على ذاته وروحه لحمايتهما من الذّوبان والتّلاشي والموت. وهو يترجّح بين عالَمَين متناقِضَيْن كلاهما رافضٌ له: الأوّل هو وطنُه المُسْتَعادُ من الذّاكرة، والثّاني هو البلد الذي نزح إليه مُضْطّرًا؛ ولذلك يُخفِق في لملمة ذاته المتشظّية، ويميلُ إلى الانزواء في عالمه المغلَق باستمرار.

وتصوّر قصصُه التي كتبها في باريس تمزُّقَه بين ماضيه وحاضره، واقتلاعَه من وطنه، ورميَهُ في بلد غريب لم يستطع التّآلفَ معه، أو الاندماجَ فيه، أو التّجذُّرَ في أرضه، أو التّواصُلَ مع أهله، وظلّ يشعر فيه بغربةٍ قاتلةٍ ووحشة، ويُبدِي نفورًا منه في كلّ ما كتب.

صورةُ المنفى وآليّةُ تشكيله

تسرد معظمُ قصص حتمل المكتوبة عن باريس غربة الشّخصيّة في هذا الحيّز، وتتعامل معه بوصفِه مكانًا معاديًا لا تجد فيه الشّخصيّة نفسَها، ولذا لا يحدثُ لقاءٌ كاملٌ بينها وبين الإنسان (الفرنسيّ أوالأجنبيّ) الذي يخترقُ هذا الحيّز، وإنما تجري لقاءاتٌ عابرة بينهما بالمصادفة، إلا أنّ هذه اللقاءات لا تترك تأثيرًا إيجابيًّا في حياة هذه الشّخصيّة، أو في آليّة تفكيرها، ولا تُغيِّر من طبيعة علاقتها بالحيّز نفسه إلا نادرًا.

وتبدو باريس في قصص حتمل مدينة مغلقة لا تُتِيح للمنفيّ التّواصُلَ الحميمَ مع الآخر إطلاقًا، وحين يلتقي المنفيّ بآخر فإنّ الآخر يُدِير ظهره إليه، ولا يُولِيه أيّ اهتمام، ولا يُتيح له عقد صداقة أو حوار حقيقيّ معه، وما يتمّ من حوار بين الطّرفين هو سطحيٌّ وعابرٌ ومؤقّتٌ، ولا يُتِيح للمنفيّ إشباع حاجاته الحيويّة، أو تحقيق ذاته، أو إرواء عطشه للحبّ أو للجنس؛ ولعلّ هذا يفسّر قلة الحوار الخارجيّ في قصص حتمل، وميلَ أغلب قصصه إلى الاتّكاء على التّداعِي، أو المونولوج الدّاخليّ، أو التّذكُّر.

ويبدو المنفى في قصص حتمل مماثلًا للوطن في كونه فضاءً للاغتراب والتّهميش والقهر، وهو أشبه بالسّجن بالنّسبة إلى الشّخصيّة، إذ يبدو مُغلقًا في وجهها، ولا يترك لها مجالًا للحياة والتّجدُّد، وإنْ قامتْ بحركة في فضائه فهي حركة لا تُفضِي إلى تغيير في حياتها، أو التّنفيس عمّا تختزنه من مشاعر وإحباطات؛ ولذا لم يستطع المنفى احتضانها، ولم يكن بالنّسبة إليها وطنًا بديلًا، بل ظلّ مكانًا معاديًا، ولم يساعدها على التّخلُّص من عطبها الدّاخليّ الذي حملتْهُ معها من وطنها الأصليّ، ولم يكن بالنّسبة إليها البيت الذي يمكن أن يحميها من التّفتّت، أو القوقعة التي تنغلق عليها فتكون لها ملاذًا ورحِمًا وعشًّا دافئًا.

وقد ظلّ البطلُ عند حتمل يبحث عن حبيبة تشفيه من جراح غربته ومنفاه، وتطرد عنه الوحشة التي يشعر بها في مكانه القصيّ والغريب، لكنّ محاولاته باءت بالإخفاق، وتكلّلت بالفشل؛ إذ بقيت الحبيبة المُتوهَّمة رافضةً له ومُقصاةً عنه؛ فازداد ألمًا وغربة وتفجُّعًا، وأفضى به ذلك إلى مزيد من التّصدُّع والانكماش والتّقوقع على الذّات.

وحتمل لا يقتطع من المنفى إلا ما يشي بالعداء لشخصيّاته، أو عدم اندماجها فيه، أو نفورها منه، وهذه مظاهرُ تؤكّد غربةَ الشّخصيّةِ في مكانها، وعدمَ محبّتها له، وكونَه حيّزًا للوحشة والاغتراب. وما يُوصَف به المكانُ، في معظم قصص حتمل، يصلح لتنميط المكان في أيّة دولة أوروبيّة، كما أنّ وصف المكان الذي يقيم فيه المنفيّ يرشح بتهميش هذا المنفيّ وإقصائه، من مثل: أنّه يُقيم في الضّواحي والأطراف من باريس، وفي ما عدا الإشارة إلى قذارة الغرفة التي يقيم فيها هذا المنفيُّ(3)، أو تغليف المكان (باريس) بالسّواد(3): “لا نجد ما يُشِير إلى أنّ المكان الذي تُوهِم به القصصُ هو باريس، بل إنّ بعض ما تُوصَف به المدينةُ، التي تُقيم فيها شخصياتُ حتمل المنفيّة، يتعارض مع الصّورة النّمطيّة لـ(باريس) من أنّها مدينة “النّور”(4)، أو “المدينة الأكثر نظافة في أوربّا”(5)، كما تظهرها كتب الرّحلات، أو النّصوص الأدبيّة الحديثة، التي جعلت من باريس فضاءً مكانيًّا لها، ومسرحًا لأحداثها، ومنطلقًا لشخصيّاتها.

وعندما يُصوِّر حتمل باريس لا يُبدِي نحوها أيّ قدْر من التّعاطف، بل إنّ ما يختاره منها مكانًا لتحريك شخصيّاته يرشح بالنّفور والكراهية ومقدار كبير من القسوة، لأنّ عدم قدرة المنفيّ على الاندماج في (باريسه المُتخيَّلة) لا يعود إلى باريس دائمًا، كما يُستخلَص من متون القصص، بل يرجع بعضُه إلى المنفيّ الذي لم يستطع امتلاك اللُّغة التي تؤهّله للتّواصل مع الآخرين(6)، أو الاندماج في المكان، فضلًا عن أنّه قدِم إلى باريس مُحبَطًا مهزومًا، وتحوّل إلى مجرّد هيكل بشريّ لا يصلح لشيء: “الرّجل الذي بدت بلاده بعيدة، اهتزّ في القطار، ثم بكى وحيدًا”(7).

ويبدو المكان في قصص المنفى خلفيّة أكثر منه عنصرًا سرديًّا مشاركًا، وغربة الشّخصيّة في داخل هذا المكان لا تنبثق من عدم قدرته على احتوائها، أو استعدادها لذلك، بل في تأبِّيها على هذا الاحتواء ضمن فضائه، إنّها شخصيّة مأزومة قبل أن تخترقه، وهي لم تستطع التّكيُّف في داخله، أو التّأقلم مع معطياته، إما بسبب عطب داخليّ فيها، أو بسبب التحاقها تخيُّليًا بفضائها الأصليّ (وطنها)، وعدم قدرتها على الانفكاك من أسره، والتّحرّر من هيمنته وسطوته وذكرياته.

وما يُصوَّر من باريس في قصص المنفى يتناسب مع طبيعة الشّخصيّة المحوريّة وأزمتها النّفسيّة، وما تعانيه من إحباط وغربة قبل قدومه إليها، فمن الطّبيعيّ في شخصيّة مأزومة، رافضة للآخر، ومنغلقة عن المكان، أنْ تخفق في الولوج إلى عمقه، والنّفاذ إلى روحه، وتعكس رفضها له من خلال أفعال تقوم بها، ورؤية تُقدِّمها، ولذلك كان من الطبيعيّ أن يقتطع الكاتب من المكان كلّ ما يعجز عن احتضان الشّخصيّة، واحتوائها، وإدماجها فيه؛ فالمترو مكتظّ دائمًا لا يجد فيه المنفيّ مقعدًا للجلوس، والحديقة مكان موقّت يصلح للعبور، لا للحوار، أيضًا، والبناية، التي يشغل فيها المنفيّ غرفة، لا تحتضنه، ولا يحظى فيها بمن يبادله التّحيّة، أو يتكلّم معه. وتعتمد الشّخصيّة في اتّصالها بالعالم الخارجيّ على حاسّة البصر في الغالب، وهو عالم فقير بالقياس إلى ما يمثّله العالم الموضوعيّ الذي تُحيل إليه القصص من بذخ ورقيّ وإضاءة، وقد انعكس هذا على المنفيّ نفسه؛ فعجز عن الدّخول في حوار مع الآخر، وصار يميل إلى (الهمهمة)، أو (الغمغمة)، حين تُلقى عليه التّحيّة أحيانًا من شخص آخر مُهمَّش مثله، بعد أن اكتشف أنْ لا أحدَ في الفضاء المدينيّ الذي يتحرّك فيه، لديه الرّغبة في إقامة علاقة معه، أو إيلائه أيَّ محبّة، أو اهتمام.

واللّافت للنّظر أنّ الشّخصيّة تعيش في المنفى حالة من السّجن الرّمزيّ الذي يكبتها من الدّاخل، ويمنعها من التّواصل مع الآخر، ويشكّل نوعًا من الفضاء الذهنيّ الذي يحُول بينها وبين الاندماج في المكان الذي تعيش فيه. والبطل عند حتمل يهجس بالرّغبة في التّواصُل مع الآخر في منعزله الجديد، ويغدو الحوار هو الفعل الوحيد الذي يتمنّى أن يقوم به ليتلافى غربته: “صباح الخير… أنا أشتاقك جدًّا. ولا أريد شيئًا. لم أنم، وأريد أن أراك فقط . قولي لي: صباح الخير، لأذهب”(8).

إنّ اقتطاع أماكن بعينها في قصص حتمل للإيحاء بأنّها ليست سوى منفى للشّخصيّة يؤكّد أنّ الكاتب استلّ من المدينة ما يصلح أن يكون فضاء انتقاليًّا ومكانًا للعبور، وليس لإقامة علاقة دائمة، كالمترو، والحديقة، والشّارع، والمقهى، والمخبز، والمستشفى. ومن الطبيعيّ أن تبقى الأماكن المُقتطَعة أماكن لقاء مؤقّت وعابر لا تتيح للشّخصيّة الانطلاق منها لتأسيس حياة اجتماعيّة كاملة تُفضِي بها إلى الحوار مع الآخر، أو الاندماج في المكان، أو التّجذُّر فيه بوصفها مكانَها الحميم وبيتَها الأليف.

وحتمل يجعل شخصيّاته تتحرّك في فضاءاتٍ مغلقة سعيًا منه إلى تعميق حياتها الدّاخليّة، وهو لا يُتِيح لها اختراق الأمكنة المفتوحة كالحدائق، وحين تقصد إحدى شخصيّاته مكانًا مفتوحًا يقابلها بالصّدّ والرّفض دائمًا، وينغلق في وجهها، ولا يُتيح لها إقامة علاقة ناجحة في فضائه، فتنكص عائدة إلى مكانها المغلق، وتتقوقع على ذاتها حزينة مهزومة. وحتّى عندما تسعى بعض شخصيّاته إلى اختراق الأمكنة العامّة، كالمترو والشّارع والمقهى، فإنّه ينغلق في وجهها هو الآخر أيضًا، ولا يُتيح لها إقامة حوار أو تفاعل مثمر مع إنسان آخر؛ ولذا تعود القهقرى إلى قوقعتها وحيدةً محبَطةً دائمًا.

وقد أفلح حتمل في مسروداته في هدم الصّورة النّمطيّة لباريس؛ إذ ذهب إلى أنّها ليست “جنّة” كما يصفها المخيال القصصيّ العربيّ(9)، كما اقتطع منها أمكنة محدّدة، وقدّمها على أنّها مدينة في منتهى القذارة والقرف والتّهميش، وأنّها مكان طارد للشّخصيّات، ومُحبِط للرّغبات، لا مكانًا جاذبًا لها أو محقِّقًا لأحلامها، وأنّها فضاء أقرب إلى السّجن، ويُفضِي بالشّخصيّات إلى الانغلاق والتّقوقع والانكفاء لا إلى الانفتاح والتّواصل، بخلاف رهط من الكتّاب الآخرين ذهبوا إلى أنّها مجال لـ(تفتُّح الذّات)، وأنّ مغادرتها والعودة منها إلى الوطن تعني العودة إلى ما أسماه توفيق الحكيم (سجن العمر).

وما يبدو واضحًا من قصص المنفى أنّ حتمل أخفق في بناء جسور الانتماء والألفة مع منفاه، ولذلك بقيت شخصيّاته المحوريّة طافية في المكان، ولم تستطع التّجذُّر فيه، أو أن تحصل على موطئ قدم يساعدها على الاستقرار والتشبُّث بالمكان بوصفه وطنها البديل.

جدلُ المنفيّ والآخَـر

حرص حتمل في ما كتبه من قصص في منفاه على جعل شخصيّته المحوريّة المنفيّة من دون اسم، ناسفًا بذلك ذاتها، ولاغِيًا خصوصيّتها، ومجرِّدًا إيّاها من هُـوّيتها، ومُفقدًا إيّاها كلّ عناصر الاختلاف والتّفرّد التي تميّزها من غيرها، ومحوِّلًا إيّاها إلى نسخة شائهة لا شأن لها ولا أهميّة، مع أنّ”الشّخصيّات لا بدّ أن تحمل اسمًا، هو ميزتها الأولى، وهو الذي يجعلها معروفة وفرديّة”(10)، كما يذهب إلى ذلك كثير من الباحثين في شعريّة السّرد. فقصّته (قصّة في البلاد… قصّة خارجها) تسرد شخصيّة من دون اسم، ولا أسرة، ولا أصدقاء، مغتربة عن واقعها، مرميّة في مجاهل الغربة وأقاصيّ الأرض، تحنّ إلى الوطن والأصدقاء والأهل، وإلى لحظة سعادة تعيشها في وطنها، ولكن لا أمل لها في تحسين وضعها بعد أن تحوّلت إلى مجرّد (جثّة لا تنتظر أحدًا)(11). و تسرد لنا قصّة (رجل… رجل ما) حكاية امرأة ورجل يعانيان من غربة حادّة، ويعيشان وحيدَين في مدينة من دون ملامح، ولا اسم. ومع أنّهما يشتركان في الظّروف نفسها، ويُحِسّان بحاجة ماسّة إلى اللقاء، إلا أنّهما لا يستطيعان إقامة علاقة عاطفيّة ناجحة معًا، بل ينفصلان، ويذهب كلّ منهما في حال سبيله، مع أنّ كليهما غريب ووحيد، وفي حاجة إلى الآخر. ويبدو الاثنان من خلال حركتهما الرّتيبة داخل المتن الحكائيّ أشبه بدميتين، أو بيدقين، تحرّكهما قوّةٌ غير منظورة، أو قوّةٌ خفيّة كامنة في داخل كلّ منهما… ومع أنّه ليس هنالك من عائق ماديّ، أو اجتماعيّ، يمنعهما من إقامة علاقة دائمة معًا، إلا أنّهما لا يستطيعان اللقاء في الواقع المتخيَّل الذي تسرده القصّة، ويغدو الحلمُ هو الوسيلة الوحيدة والممكنة لتحقيق ذلك؛ إذ يستيقظ البطل في الخاتمة السّرديّة للقصّة فيجد نفسه يضغط على أصابع يده الأخرى بدلًا من الضّغط على “اليد العذبة لحبيبته المُتخيَّلة”؛ فيمضي إلى غرفته الصّغيرة الضّيّقة حزينًا و”وحيدًا”(12).

وتسرد قصّة (الرّجل الذي يجلس على مقعد الحديقة) حكاية رجل من دون اسم، ولا هُويّة، ولا ملامح شخصيّة أيضًا، يعاني هو الآخر من الغربة والوحشة، ويحاول نيل اهتمام فتاة لطيفة تبتسم لكلبها بحنوّ، فيتمنّى أن يكون كلبًا ليحظى باهتمامها، لكنّ الفتاة تُشِيح بوجهها عنه، وتُؤثِر عليه كلبها. وكذلك فعلت المرأة التي صعدت الدّرج في البناية التي يُقيم فيها؛ إذ لم تشأ مبادلته التّحيّة، أو الابتسامة، وتظاهرت بأنّها لم تره. وهكذا لم يستطع إجراء حوار مع المرأتين اللتين حاول التّقرُّب منهما، وقوبِل في كل مرّة باللامبالاة. وهذا حدث أيضًا لـ(جورج) في قصّة (صباح المدينة)، التي تسرد هزيمة الإنسان أمام رتابة الحياة في المدينة الاستهلاكيّة وتغوُّلها. ومع أنّ الكاتب يطلق على شخصيّته المحوريّة اسمًا محدّدًا هو (جورج)، إلا أنّ هذا الاسم لا يوفّر له هُويّة مُحدَّدة، ولا كينونة خاصّة به، فذاته مُقوَّضة في العالم الاستهلاكيّ الذي يعيش فيه، رغم امتلاكه اسمًا مُحدَّدًا يُعرَف به، بل إنّ القصّة تذهب إلى أنّ الاسم في هذه القصّة مُفرَغ من دلالته على هُوِيّة صاحبه، ويرشح بأنّ صاحبه رقم، أو شيء، رغم امتلاكه اسمًا، ولهذا لا تجد الشّخصيّة ذاتها في العالم الذي تعيش فيه، ولا تُفلح في نيل اهتمام أحد ممّن تلتقيهم، إذ يقابلها الجميع باللامبالاة؛ فتنسحب من عالمها النّصيّ المسرود بوساطة الموت، بعد أن أخفقت في التّواصل مع الآخرين.

وتقدِّم (عربة آخر اللّيل) رؤية بانوراميّة لشريحة مهمَّشة تهرب من مدينة مكتظّة إلى إحدى الضّواحي الشّماليّة الفقيرة في باريس، تضمُّ بين جنباتها نماذج متعدّدة من البشر (بينهم الإسبانيّ والإفريقيّ والتّركيّ والرّوسيّ والعربيّ/ المغاربيّ، وغيرهم)، ويُسرَدون جميعًا بوصفهم دليلًا على عولمة الفقر والتّهميش في الأحياء الطرفيّة الفقيرة التّابعة للمدينة الكوزموبوليتيّة، وتجعل القصّة هذه النّماذج جميعًا تواجه الظّروف نفسها، وتعيش المأساة ذاتها، وتبقى مستسلمة لحياتها الرّتيبة التي لا تغيير فيها، ثمّ تعود بعد أن استنفدت ما لديها من طاقة جسديّة حبيسة إلى العشش والأكواخ في أطراف المدينة؛ حيث تنتظرها البرودة والفراغ والوحشة القاتلة.

ويحضُرُ الآخر في القصّة بجنسيّته لا باسمه، ويبدو في المتن الحكائيّ ملجومًا، وصامتًا، ولا ملفوظ له، ولا يحدث تفاعلٌ بينه وبين الشّخصيّة المحوريّة، أو لقاء حقيقيّ يُفضي إلى الحوار، فالتّفاهم، فتحقيق الذّات الفرديّة لأيٍّ منهما.

وعمومًا، تبدو باريس في قصص حتمل مدينة صامتة لا يتكلّم أهلها مع الغريب، أو المنفيّ، وتُسرَد أمكنتها في المتون الحكائيّة بصفتها أمكنةً مغلقةً تُدير ظهرها إلى الغريب، ولا تُوليه اهتمامًا، ولا تُفسح له المجال للعيش، أو التّواصل، أو الحوار، أو التّنفيس عن الذّات؛ ولذا تبدو هذه الأمكنة مُهمِّشة؛ إذ لا يتمّ فيها حوار مُثمِر بين الإنسان والآخر، أو بين المنفيّ والآخر.

وفي قصّة (بيرة سابعة)، يواجه المنفيّ ظروف الغربة والإقصاء والتّهميش نفسها، فيهجس بالانتحار بوصفه وسيلةً للخلاص من غربته، ثمّ يلجأ إلى البكاء للتّنفيس عمّا لديه من مشاعر مُختزَنة، ويصل أخيرًا إلى أنّ الحلّ الوحيد الذي يمكن أن يقاوم به الموت هو الكتابة، وكذلك يفعل المنفيّ في قصّة (بيرة سابعة).

وفي قصّة (وردة… وردة حمراء) يغدو تقديم وردة حمراء لامرأة مُشتَهاة ومرغوبة حلمًا صعب المنال، وتبقى الأبواب مُوصَدة في وجه المنفيّ، وتمارس قمعًا لاشعوريًّا له، كما تبقى باريس فضاءً من سواد يشبه فضاء الزّنازين. وكذلك تحكي قصّة (عادة سرّيّة) عن المنفى واغتراب الشّخصيّة فيه، وعيشها على الهامش في فضائه، وتُقيم نوعًا من التّوازي بين الوطن والمنفى، مُجسِّدة حالة الاختلاف بينهما، وكيف أنّها مُقصاة عن تحقيق ذاتها في كلا الفضاءين، وممنوعة من تلبية حاجاتها الحيويّة، ولا سبيل لها للخلاص من معاناتها وحالة التّهميش التي تعيشها. والأمر نفسه ينطبق على المنفيّ في قصة (سوتيان أحمر)؛ إذ يعاني، هو الآخر، من الغربة في منفاه، ولا يستطيع العودة إلى وطنه، ويلجأ إلى البكاء للتّنفيس عن مشاعره، ويهجس بالانتحار للخلاص من معاناته وآلامه. أما المنفيّ في قصّة (امرأة الصّباح)، فهو رجل أجنبيّ مُغفَل الاسم، يعيش وحيدًا في مدينة غربية كبيرة، لا اسم لها أيضًا، ويعاني من لوعة الغربة والتّهميش، ويسعى إلى التّواصل مع الآخرين، وهو يعجب بامرأة من بلده، ويبذل جهده للحديث معها، وإهدائها وردة للتّعبير عن إعجابه، لكنها تصدّه، وتغلق الباب في وجهه؛ وهكذا لم يستطع التّأقلم مع وضعه الجديد، ولم يحقّق ذاته، وبقي يشعر بالاستلاب والتّهميش؛ ويُقدِم على الانتحار فعلًا للخلاص من ذلك كلّه.

وما يبدو واضحًا في القصّة أنّ الكاتب يجرّد الشّخصيّة من اسمها، الذي تحتاج إليه لتُعرَف بين النّاس، وتحقّق ذاتها، وتؤكّد كينونتها، وينسبها إلى جنسها قائلًا (المرأة) و(الرّجل)، ويُضيف صفة (الأجنبيّ) إلى الرّجل للتّأكيد على غربته واستلابه وتهميشه، وإقامة حاجز بينه وبين المرأة، كما أنه يحرّك الشّخصيّتين في مدينة كبيرة ليس لها اسمٌ أيضًا، وإن كانت بعض القرائن الدّاخليّة تدلّ على أنّها (باريس)، وما يبدو واضحًا، أيضًا، أنّ المرأة والرّجل الأجنبيّ يعيشان متجاورَين في مدينة غريبة واحدة، وفي بناية واحدة أيضًا، ويخضعان للظّروف الصّعبة نفسها، وفي حين تتأقلم المرأة مع رتابة الحياة في مدينتها، وتتناسج معها، يخفق الرّجل في ذلك، ويُقدِم على الانتحار للخلاص من وحدته وغربته وآلامه.

والمفارقة في القصّة تتجلّى عندما تقوم المرأة نفسها بقراءة خبر انتحاره في الصّحيفة الصّباحيّة، من دون أن تدرك أنّه بذل جهدًا كبيرًا لإهدائها وردةً للتّعبير عن إعجابه بها، لكنّها لم تُفسح له المجال ليقوم بذلك، كما تقرأ في ملفّ الأوراق، الذي تركه، رسائل “تتحدّث عن وحدة، وسجون بعيدة، ورسالة طويلة إلى فتاة من جنسيّته على ما يبدو”، لم تمنحه فرصة ليهمس لها بـ(صباح الخير)، وأصرّت على أن تغلق بابها في وجهه، ولم تكن المرأة المقصودة التي يتحدث عنها سوى “المرأة نفسها التي تقرأ الصّحيفة الآن”( 13).

وفي قصّة (قهوة شبه باردة)، يتخيّل المنفيّ (المحروم من الحبيبة والوطن) امرأة تدخل مقهاه فيدعوها إلى شقّته، ويقيم معها علاقة حميمة، ثم نكتشف، في الخاتمة السّرديّة للقصّة، أنّ اللقاء بينهما تمّ في الحلم لا في الواقع، وأنّ المرأة مُتخيَّلة لا حقيقيّة.

وفي قصّة (رجل بغرفتك)، يحلم المنفيّ بالحبّ، ويهجس بعلاقة عاطفيّة ناجحة مع امرأة يحبّها، وحين لا يتحقّق له ذلك يعزم على الموت للخلاص من معاناته(14)، وتحضر ثيمة الموت في القصّة بوصفها بديلًا عن حياة مؤجّلة ومستقبل لا يأتي. وتسرد قصّة (ضاع) هروبَ المنفيّ من القحط الذي يواجهه في حياته العاطفيّة، ولجوءَه إلى الخيال للتّعويض عن ذلك، وتشي القصّة بحسن التّخلص، والقدرة على الانتقال بين أزمنة السّرد الثّلاثة، من دون الاستعانة بمفاتيح سرديّة دالّة. في حين يقوم المنفيّ في قصّة (نرجسيّة) بتصفية حساب مع ماضيه العاطفيّ، مازجًا الواقع بالمُتخيّل، واليقظة بالحلم، والمعقول باللامعقول. وتبدو القصّة بسيولتها العاطفيّة أشبه بهلوسة مريض، وفيها نوع من التّداعي (أو المونولوج الدّاخليّ) لذكريات المنفيّ وأحلامه. كما تشكّل قصّة (صداريّة سوداء) لوحة مفعمة بالحنين إلى الماضي الذي حُرِم فيه المنفيّ من طفولته، وتهجو الحاضر الذي حُرِم فيه من وطنه، وتتّخذ شكل رسالة تتشوّف إلى ماضٍ جميل انصرم، ولن يعود أبدًا.

تركيب

والشّخصيّة عند حتمل، كما رأينا، لا تنتمي إلى مكان مُحدَّد في معظم قصص المنفى، وهذا ما يُفضي إلى جعلها نمطًا وعنصرًا ترميزيًّا، مع إغفال التّفاصيل الشّخصيّة التي تؤكّد أنّها نمط حيّ لا قالبًا جاهزًا، وهذه الشّخصيّة تعيش في فضاء بارد وغريب، ولا تُقيم علاقة ناجحة بمن تلتقيهم في هذا الفضاء، بل تخفق دائمًا في ذلك، وهي مُمزّقة بين الوطن والمنفى، وما أكثر ما تستعيد صورة الوطن من ذاكرتها، غير أنّ ما يُستعاد منها هو صورة وطن جريح ومكلوم تجثم على صدره قوّة تمنعه من الحياة والتّنفّس. وحين تعود الشّخصيّة إلى حاضرها، نجدها ترسم انطفاء حلمها في منفاها، وما تعانيه من غربة وتهميش في هذا المنفى.

والآخَر لا يُتاح له في قصص حتمل التّكلّمُ مع المنفيّ، أو محاورته، ونحن لا نتعرّف إليه من خلال منطوقه اللفظيّ، أو من خلال تفاعله الإيجابيّ مع هذا المنفيّ، إذ ليس هنالك من تفاعلٍ أساسًا بين المنفيّ والآخر، كما في قصّة (عربة آخر الليل)، التي يحضر فيها الآخَرُ بجنسيّته لا باسمه، وحين يلتقي (المنفيّ) بـ(الآخر) عرَضًا يكتفي الآخَرُ بإدارة ظهره إليه، وكذلك تفعل (قصص كوشان) التي تسرد لنا رغبة الشّخصيّة المحوريّة برؤية الآخر والحوار معه، حتّى لو كان قامعًا لها، وتعبّر عن أقصى درجات الاستلاب التي تعيشها؛ ولذلك نحن لا نتلمّس وعي الآخر، وما يستبطنه من أفكار بوصفه فردًا مُحدَّدًا، وتبقى شخصيّته الحقيقيّة مجهولة بالنّسبة إلينا، ولا نتعرّف إليه من خلال جمل ينطقها، أو رأي يعبّر عنه، بل من خلال ما يقوله عنه الرّاوي العليم، أو الرّاوي المشارك.

واللّافت للنّظر في بعض قصص حتمل هو ذكر شخصيّات أجنبية في سياق السّرد، من دون إفساح المجال لها للكلام، ولهذا لا يحدث تفاعلٌ، أو حوارٌ، بينها وبين الشّخصيّة المحوريّة، مع أنّها تلتقي معًا في فضاء ديموقراطيّ، وفي مدينة لا تضع عائقًا يمنع التّواصل بين سكّانها، أو التّعبير عمّا لديهم من آراء، ولكنّ انشغالَ هذه الشّخصيّات بحياتها اليوميّة، وتقوقعَها على ذواتها، وانتماءَها إلى الشّريحة المطحونة في أسفل السُّلّم الاجتماعيّ، وسكنَها في ضواحي المدينة الأجنبيّة، التي يصـرّح الكاتب بأنّها باريس أحيانًا، جعلها عاجزة عن الحوار والتّفاعل، وحكم عليها بأن تكون منفيّة هي الأخرى، وممنوعة من التّفاعل، أو صامتة.

والكاتب يلجم الآخر (الفرنسيّ، أو الآسيويّ، أو العربيّ الإفريقيّ)، ويمنعه من الكلام، ويجعله صامتًا في معظم قصصه للتّأكيد على أنّ المنفيّ لا يلقى من (الآخَر) أيّ اهتمام، وكأنّه غير موجود بالنّسبة إليه؛ ولذلك ليس هنالك منْ حوارٍ بين المنفيّ والآخر في المتن الحكائيّ لحتمل؛ لأنّ الحوار يفترض وجود شريك راغب في الحوار، وملتزم بـ”أخلاقيّات الحوار اليقظ”(15)، ولديه الاستعداد الكامل للاعتراف بالآخر، وتقاسُم القناعات الفكريّة، وبناء المعنى معه. ولأنّ الآخَر لا يقرّ بوجود المنفيّ، ولا ينهمك معه في أيّ حوار يُفضي إلى”الإقرار بوجوده”(16)، والاعتراف بمنزلة سامية له في نفسه، فإنّ عدم حصول ذلك هو نفيٌ لشخصيّة الآخَر أيضًا، كما أنّه في الوقت نفسه آليّة لغويّة تؤكّد إخفاقنا في معرفة الآخر، لعدم قدرتنا على الاستماع إليه، أو الإنصات إلى ما قاله.

والآخَرعند حتمل لا يُوصَف بأية صفات سلبيّة من قبل السّارد، أو الشّخصيّة، وإنما يُقدَّم من خلال أفعال يقوم بها في المتن الحكائيّ تُنبئ بلامبالاته تجاه الغريب/ المنفيّ الذي استوطن وطنه، وأقام فيه مُضطرًّا، وهذا الآخر لا يرفض المنفيّ، ولا ينظر إليه نظرة استعلائيّة، بل يقف منه موقف اللامبالاة فقط، وهو موقفٌ منبثق من موقف فكريّ/ اجتماعيّ لا يُولي فيه الآخَرُ اهتمامًا لسواه، سواء أكان من مواطني بلده، أو غريبًا عنه.

ومن تجليّات نفي الـ(أنا)، أو (الذات)، في قصص حتمل، أنّ بعض شخصياته تخفق في التّواصل مع الآخَر بسبب جهلها للّغة التي يتكلّمها، أو يُجسّد بها كينونته، ويحقّق ذاته، وهكذا تعجز عن إقامة حوار معه، ويبقى النّسيج اللغويّ للقصّة مقتصِرًا على لغة الـ(أنا)، ولا يُتاح له احتضان كلّ أشكال التّماس، أو التّفاعل، بين الأنا والآخر، بحيث تُقْصَى لغةُ الآخر عن النّسيج اللغويّ للقصّة، ويُفسَح المجالُ للغة الـ(أنا) كي تكون مهيمنة على لغة السّرد من خلال تداعياتها المختلفة؛ ويغيب الآخَر عن العالم القصصيّ لحتمل، ولا يُتاح لنا الاستماعُ إليه، أو التّعرّفُ إلى ما تفوّه به في سياق السّرد، بل يحضُر بوصفه مُشارًا إليه، لا بوصفه ناطقًا، أو مُتفاعلًا، مع الشّخصيّة المحوريّة، بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا التّفاعُل يُفضي إلى توافُق بين الأنا والآخر، أم يؤدّي إلى تنافر معه. كما أنّ الآخر في قصص حتمل لا يُقدَّم من منظور الأنا العربيّة التي يلتقيها أحيانًا، ولذلك لا يُتاح له فرصةُ التّعبير عن ذاته، كما لا يُفسَح لنا المجالُ لسماع صوته، وهو يتفاعل مع الأنا العربيّة التي يلتقيها؛ ولذلك يعاني المنفيّ غربة لغويّة تجعله عاجزًا عن التّواصل مع الآخر، أو الاندماج في محيطه الاجتماعيّ.

ومن الضّرورة بمكان الإشارة إلى أنّ هيمنةَ لغة الأنا على لغة السّرد التي كتبها حتمل، وكونَ هذه اللغة تُحيل إلى الموطن الأصليّ للكاتب والشّخصيّات التي تتحدّر من الموطن الأصليّ نفسه، جعلا لغة السّرد والحوار فقيرة؛ لأنّها لم تحتضن في ثناياها سوى شخصيّات تنتمي إلى مكان واحد، على الرّغم من أنّ المكان الذي تجري فيه الأحداث المُتخيّلة (باريس) هو مكان ثريّ يحتضن شخصيّات مختلفة، يتكلّم كلّ منها بلغة مختلفة عن الآخَر، ويتيح للغة السّرد أن تعبّر عن تنوّع العوالم التي تنتمي إليها هذه الشّخصيّات، من خلال تنوُّع لغاتها ومنطوقاتها الكلاميّة التي تُعدّ تكثيفًا دلاليًّا للتّنوُّع البشريّ الذي يزخر به عالمنا المعاصر(17).

وأخيرًا، يمكن الزّعم بأنّ الرؤية التي يقدّمها حتمل للذّات والآخَر في مجمل القصص التي سرد فيها المنفى هي رؤية موضوعيّة تتواءم مع طبيعة شخصيّة المنفيّ، الذي لم يستطع تحقيق ذاته في منفاه بسبب العطب الداخليّ الذي لحق بشخصيّته في وطنه. لقد قدِمَ إلى منفاه وهو معطوب وعاجز عن التّفاعل مع الآخرين، ولذلك لا عجبَ أن يكون المنفى بالنسبة إليه طاردًا ومعاديًا في الوقت نفسه.

هوامش:

(1) إشارة إلى ما قاله تيودور أدورنو عندما ذكر أن “المنفيّ والمبعد يُشيِّد داره في الكتابة ذاتها”. نقلًا عن فريال غزول في دراستها (الأسس النّظريّة والثقافيّة لكتابة المنفى)، ضمن كتاب (الكتابة والمنفى)، مجموعة مؤلفين، تحرير: د.عبدالله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، ط1، 2012، ص48.

(2) إشارة إلى ما قالته إيزابيل الليندي حين سئلت في إحدى محاضراتها عن معنى كلمة (Nostalgia) في رواياتها. انظر: الكتابة والمنفى، مرجع سابق، ص 10.

(3) المجموعات القصصية الخمس: جميل حتمل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، ط1، 1998م، ص219.

(4) انظر: باريس في الأدب العربي الحديث: د.خليل الشيخ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، ط1، 1998، ص 63.

(5) المصدر السابق نفسه، ص 32.

(6) المصدر السابق نفسه، ص 248.

(7) المصدر السابق نفسه، ص 144.

(8) المصدر السابق نفسه ، ص 228.

(9) أنظر: باريس في الأدب العربي الحديث: مرجع سابق، ص ص 12-13.

(10) بنية الشكل الروائي: حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء، ط1- 1990، ص56.

(11) المجموعات القصصية الخمس: مصدر سابق، ص144.

(12) المصدر السابق نفسه، ص 163.

(13) المصدر السابق نفسه، ص ص 164 ـ 165.

(14) المصدر السابق نفسه، ص 165.

(15) الحوار ومفارقاته: محمّد نور الدين أفاية، الملحق الثقافي، صحيفة الاتحاد في أبوظبي، الخميس 2 يونيو 2016.

(16) الحوار ومفارقاته: المرجع السابق نفسه.

(17) سرد الآخر: د. صلاح صالح، المركز الثقافي العربي في بيروت والدارالبيضاء، ط1، 2003، ص61.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى