شعر

جوان مارغاريت.. كانت حياةً بين لغتين -مختارات شعرية-

ترجمة وتقديم: خالد الريسوني

هنا ترجمةٌ لعدد من قصائده.

أضواءٌ في الليل

أحاولُ إغواءَك بالماضي.

يداي على عجلة القيادة، وهذا الضوء،

ضوء لوحة الإعلانات الخاصّة بملهىً ليليّ

يدعوني، في خيالٍ شتويّ، لأن أرقص معكِ.

خلفي، مثل شاحنة كبيرة،

يصنعُ الغدُ زخَّاتٍ من الأضواء.

لا أحدَ يقودُهُ ويتجاوزني.

لكن، ها نحن نُسافر، أنا وأنتِ،

ويمكن أن تكون سيّارة الستينيات، ذات الحصانين،

في طريقها نحو باريس.

“لست نادمةً على شيء”، تغنّي إديت بياف.

من تحت النافذة، يتسلّلُ الليلُ

البارد من الطريق السريع، والماضي

يدنو أمامنا بسرعة:

يتجاوزني ويُعمي بصري من دون أن يُخفض الأضواء.

■ ■ ■

الأشياء المشتركة

أن نكون قد تعارفنا،

خلال خريفٍ، في قطار كان يمضي فارغاً.

وعدُ الرغبة

المتألّقة، وإن كانتْ قاسية.

ندبة الكآبة،

والعاطفة القديمة التي من خلالها نتفاهم؛

حوافز الذئب؛

القمر الذي يصاحبُ القطار الليليَّ

برشلونة – باريس؛

سكّينُ ضوءٍ للجرائم،

التي لأجل الحبِّ يجب أن نقترفها؛

حظُّنا البريء واللعين؛

صوتُ البحر الذي سيقول لك دائماً

أين أنا، لأنّه صديقنا المُؤنسُ؛

القصائد التي هي رسائلُ مجهولةٌ

وقد كُتِبَتْ، من حيث لا يمكنك أن تتخيّلي،

إلى الفتاةِ ذاتها التي ذات خريف

عرفتُها في ذلك القطار الذي كان يمضي فارغاً.

■ ■ ■

زَمنُنا

لما انتبهنا، كانَ قد صارَ عند النوافذِ،

كما لو كان راغباً في البقاء. لكن، الآن،

لا شيء يضيؤنا إلّا ذلك الضباب الملتَبس.

ضوءٌ مُمزِّقٌ أحياناً.

كان زمنُنا زمناً آخرَ أكثرَ براءةً:

ما زلنا في الأعمال التي كنّا نحتفي بها

لمَّا، من دون حوادثَ، كان الهيكل

يصل إلى الأعلى وتتغطّى المياه.

كنا نعيش في الشوارع

التي كان يروقها أن يُطلَق عليها اسمٌ

مثل “أزهار الكاميليا”.

وما بين السطوح كانت الأضواء، كل ليلة،

تُشعَل

من عِلِّيّة شبابِنا.

وما بين الأصوات الناعمة والنائية،

تُسمَعُ صرخةُ ذعرٍ.

لكنّ الجرح

مكانٌ حيث يحيا المرءُ أيضاً.

■ ■ ■

لا شيْءَ يمجِّدُ عجوزاً

لا هذا العنف الذي أرغب من خلاله

أن أكون على حقٍّ،

ولا حتى التصديق بأن تلك السعادة

لها علاقة خفية بالأكاذيب،

ولا أن تكون قذرا جدّاً

في سريرتك، مثل أهلي،

رغم أن الحرب دنَّسَتْهم.

على سلامي أن يكون سلاماً زائفاً،

ولا يجبُ أيضاً التنكُّرُ للشهوة الشبقيّة

ولا للزهو.

كيف يمكننا، نحن الشيوخ، أن نكون مزهوِّين بذواتنا؟

هذه هي الهزيمة:

ساحة معركة أُلقيَ بي في رحاها.

يحيط بي الموتى من كلّ جانب. يُعتم الفضاء.

أستطيع أن أسمع في البعيدِ أصواتاً فَتِيةً

وهي تحتفل بما لا يزال يُسمّى،

عندهم، بالنصر.

■ ■ ■

الانتظارُ

تفتقدُكِ أشياءٌ كثيرةٌ.

هكذا تملأ الأيّامَ

لحظاتٌ صُنِعت من انتظار يديْكِ،

من الحنين إلى يديكِ الصغيرتين،

اللتين أمسكتا يدَيَّ مرّاتٍ عديدةً.

علينا أن نعتاد على غيابكِ.

ها قد مرّ الصيف دونما عينيكِ،

وسيكون على البحر أيضاً أن يعتاد على ذلك.

شارعك، سيظلُّ خلال زمن طويل،

ينتظرُ في أناةٍ

خطواتك أمام الباب،

ولن يملَّ الانتظار:

لا أحد يعرفُ مثل شارعٍ كيفَ يكون الانتظارُ.

وأنا أمتلئً بفيض هذه الرغبة

في أن تلمسيني وأن تنظري إليَّ،

في أن تقولي لي ماذا سأفعل بحياتي،

بينما الأيام تنقضي مع المطر أو السماء الزرقاء،

وهي ترتّب الآن الخَلوة.

■ ■ ■

مُنفصِل

ينفتحُ البيت على رصيفٍ

حيث لا أحد ينتظرني.

غريبٌ، هنا، من دونك.

كنت قد تِهْتُ هنا.

أتنزّه معك، مِن دوني.

ظِلّي مجرّدُ خُطىً؛

يأتي من أماكن أشدَّ برداً:

قلبك ويديكِ.

ولهذا رحلتُ.

حياة المجهولِ ــ

عشتُها من دونك،

بجانبك.

■ ■ ■

لا تُلقِ إلى القمامةِ رسائل الحب

لا تلق إلى القمامةِ رسائل الحب

فهي لن تتخلّى عنك.

سيمضي الوقت، وسوف تُمحى الرغبة

– سهمُ الظلّ هذا –

والوجوه الجميلة والذكية المشتهاة،

سوف تختبئ فيك، في عُمقِ مرآةٍ.

وستسقط الأعوامُ. وستُتعِبُك الكتبُ

وبعدُ ستنحدرُ أكثر

بل إنك ستفقدُ حتى الشِّعْرَ.

جلَبةُ المدينة على زجاجِ النوافذِ

سينتهي بأن تكون موسيقاك الوحيدة،

ورسائل الحب، التي احتفظتَ بها،

ستكون أدَبَكَ الأخير.

■ ■ ■

بداياتٌ ونهايات

كنتُ ذاتَ مرّةٍ فتاة لها مستقبل.

كنت أقرأ باللاتينية هوراسيو وفيرجيل،

وكنت أنشد كيتس كاملاً، عن ظهر قلب.

أسرني الكبار عندما كان يَلِجون

الكهوف: رحت ألِد أبناءً

لرجلٍ غبيٍّ ومَزهُوٍّ بذاته.

اليوم، ما إنِ استطعتُ، أملأُ القدَحَ

وأبكي كلما تذكّرْتُ أبياتاً من شِعرِ كيتس.

تجهلُ المرأةُ، حينَ تكون شابة،

أنّه ليسَ ثمَّة مكانٌ

يمكنُها البقاءُ فيه إلى الأبد.

ولا تفهمُ لمَ لا تأتي

هذه الفتاة أو تلك، وتجد راحةً فيها،

فالفتياتُ تتجاهلنَها: البداياتُ

لا تشبِهُ أبداً النهايات.

■ ■ ■

روسيا الأم

كان ذلك في شتاءِ عام اثنين وستّين:

في السرير، المصباحُ مُضَاءٌ

(لم يكنْ يُطفأ حتى شيوع البصيص

الأوّل من ضوء النهار).

كان ذلك لمَّا قرأت تولستوي بلا توقّف،

وأنا أتخيّلُ الغابات النائية،

بينما في فناءٍ ما كان ثمّة كلبٌ ينبحُ،

مزاليجُ مذهلةٌ في الليل.

كان الثلج يتساقط في برشلونة في ذلك الشتاء.

في صمت مضتْ تلتفُّ حولنا

نُدف الثلجِ الناعمة، مثل واجهة زجاجية.

ولمَّا كان يَحُلُّ الجوُّ الطيِّبُ، يا راكيل،

كنت فعلاً إلى جانبي بذلكَ الوجهِ

الجَلِيِّ الملامح لآنَّا كارينينا.

■ ■ ■

القمر الرمادي

قمر آنَّا

كان الموتُ

فوق مهدها،

قارباً صغيراً.

قمرٌ من الأسمالِ،

القمر العليل

أحمله معلّقاً،

في الذاكرة

فوق مهد مونيكا.

وها ينبثق القمر

الغريب والمُخطِئ،

قمرُ جوانّا.

أين تنتظرني

أيّها القمر المُنهدمُ

مثل أبي؟

ثمة أقمارٌ كثيرةٌ

لرحلةٍ سيئةٍ

لكنّ ثمنَها تدفعه

الأقمار

الرومانسية السعيدة

لتِنيريفي،

تدفعه أضواء

القمر الغاضبة؛

أضواء القمر

التي لم أكن أتوقّعها

في سن الخمسين؛

ليالي الحب

أقمارُ الشاي

خلف الربوة

السوداء في فوريس.

من أقمار كثيرة،

تترك الحياة

القمر الرمادي،

في النظرة.

■ ■ ■

الموتى

ثلاثُ ضربات، ثلاث صفعات على الجدار:

واحدة، اثنتان وثلاث: إلى المخبأ الإنكليزي.

يتردَّدُ صداها ونتقدَّمُ، ونبقى ثابتين

ونحن ننظر إلى كاهلِ الموتِ.

يا لسرعتها، تلتفتُ لكي تفاجئَ، هكذا،

أولئك الذين ما زال يسحبهم الاندفاع الذاتيُّ

ويطردهم خارجَ اللعبة إلى الأبد.

واحدة، اثنتان، ثلاث: إلى المخبأ الإنكليزي.

ينطفئ الضوء. مثل نقطةٍ من ذهبٍ،

تجعلُ الشمعةُ ظلالَ الغرفة ترتعش.

لِمَ البرد شديدٌ بعد الحرب؟

والموت يلتفتُ ويرى أختي

التي تنتفضُ محمومةً، وتبكي تحت قطع الثلج.

واحدة، اثنتان، ثلاث: إلى المخبأ الإنكليزي.

كان الماضي وجه أبي:

سجونٌ وندوبٌ وفِرارٌ.

يا للرعب الذي كانت تسبّبه له الصفعات

على الجدار: لم يتمكّن من إنهاء

حركة نفاد الصبر.

الغضب والخوف

وشيا به إلى الموت.

واحدة، اثنتان، ثلاث: إلى المخبأ الإنكليزي.

أبداً لا نبتعد إلى جهتهِ،

والآن ألعبُ مع ابنتي الميّتة.

لماذا لم أستطع التكهُّنَ بعينيها؟

لكن الآتي، الماكر، يمارسُ ألاعيبه المخادعة.

لم أسمع الطرقات الثلاث: ابتسمت لي

وبجواري قد كان الفراغ الذي خلّفته.

لكن اللعبة كان يجب أن تستمرَّ.

واحدة، اثنتان، ثلاث: إلى المخبأ الإنكليزي.

لم أعد أهتمّ إن كان الموت قد رآني:

مبتسماً أنظر إلى أولئك الذين يتبعونني.

والآن، جِدُّ قريبٍ من الجدار،

أجهلُ ما الذي يمكنُ أن يكون خلفه.

أعرف، فحسب، أنّني سأرحلُ مع موتاي.

■ ■ ■

باندونيون

الأرغن الطقسي الصغير المتسكّع،

الأرغن الأشد فقراً في ألمانيا،

مضى مع المهاجرين الذين أبحروا

ووصل حتى الماخور في بوينوس أيريس.

مثل كاهن مرتدّ،

هناك ظلَّ يُسْحَلُ عبر حكايات

العزلة والكآبة.

لطالما أحببت التانغو الذي كنتُ أستمعُ إليه

في طفولتي، خلال أمسيات الأحد:

كان أبي وأمي يرقصانه

وهما يقطعان ممرّ البيت.

هما صوتُ خسرانٍ ملحميّ،

مع باندونيونات تسحبُ خلفها

كلمات تحكي عن حبٍّ مذنبٍ.

أولئك الذين كانوا يرقصون في تلك الممرات

هم الآن يعيشون داخل تانغو

يغنّيه، بسعادة وبشكل غامض،

رجل عجوز يبتسم ويخطو راقصاً

بينما هو يدنو من المرأة المجهولة.

■ ■ ■

خُرافة

ضئيلةً وملازمةً للحضن، كانت الأخلاق؛

كلبة من تلك اللواتي ينبحن بلا توقّف؛

قبيحة مثل جرذ. طوال اليوم تزعج،

تتشَمَّمُ الكلبَ الذئبيَّ للحياةِ

التي، لا مباليةً وقويَّةً، بالكاد تنظرُ إليها.

رأيته يمرُّ اليومَ باتجاه الحديقة،

كان يحملُ بين أسنانه الأخلاقَ،

يمسكها من عنقِها، وهي خائفةٌ، مُنكمشة.

لم تكن تنبحُ، كانت تصدرُ زعيقاً

غير متناغم ومُرَوِّعاً،

ولكنّ الحياة بخطوتها الثابتة

خطوة الذئب، قد حملتها ما بين الأشجار

المليئة بالطيور، وهنالك

كسرت عمودها الفقري، وبعدئذٍ

أردتْ ظِلّها صريعاً.

اليوم قمت بتنظيف كتبي،

أعني، تنظيف وقتي.

من سيمون دو بوفوار ألقيها جميعها.

———————

عاش جوان مارغاريت (1938 ــ 2021) لحظات استثنائية قبل أشهر من رحيله عن عالمنا، منتصف شباط/ فبراير الماضي. لحظاتٌ توّجت مساره المتميّز كأحد أبرز شعراء إسبانيا. حيث كان، عام 2019، أوّل مؤلّف باللغة الكتالونية يفوز بـ”جائزة ميغل دي سيرفانتس”، وهو العام نفسه الذي نال فيه “جائزة الملكة صوفيا للشعر الإيبيروأميركي”.

الشاعر الإسباني الذي أحبّ الحياة، وعاش مأساة الفقدان وألم موت ابنته، سيُفاجأ، نهاية عام 2020، بتشخيص الأطبّاء لسرطانٍ في جهازه اللمفاوي ــ وهو ما جعله يعيش حياته وفق مسارين متوازيين. يتعلّق المسار الأوّل بالعلاج الكيميائي والجلسات التي كانت تستغرق ساعات مرهقة كلّ يوم. أمّا الثاني، الأكثر تألّقاً وإشراقاً، فهو ذاك المتمثّل في التجاوب مع عالم القصيدة، الذي ظلّ الشاعر وفيّاً له حتى أيّامه الأخيرة.

كتب مارغاريت أكثر من ستّين قصيدة بينما كان السرطان يعتمل في جسده. كان جسد الشاعر يتلاشى بينما روحه تتحوّل إلى كلماتٍ خالدة، إلى قصائد رغب أن يقرأها في الهواء الطلق بعيداً عن إكراهات الحجر الصحي. قال: “لديّ رغبة في أن أستطيع قراءتها من دون كمّامة، ومن دون أن تكون وجوه الجمهور مخبّأةً خلف حجُب”. قصائده الأخيرة هذه سترى النور قريباً في ديوان شاء أن يسمّيه “حيوان الغاب”.

جعل صاحب “شتاءٌ ساحر” من الشعر فضاءً لسكينة النفس وطمأنينتها؛ فضاءً يحقّق فيه ذاته ويقترح من خلاله متنفّساً لقارئه أمام قسوة الواقع: “أعمل على تحقيق عزاء للذوات التي تعاني العزلة… هذا ما أحسُّ أنّ هويّتي، كذاتٍ، تتحقّق فيه. وهذا ما يحدّد هويّتي، عبر لُغَتين”.

كان جوان مارغاريت صوتاً حرّاً يحتفي بالحياة، رغم آلامها وأحزانها، وهو الذي كتب مرّةً أنّ الحرية تعني “أن تمشي دونما وثائق ثبوتية/ هي أغانٍ ممنوعة/ هي شكلٌ من الحبّ”.

كتب الشاعر، الذي وُلد ونشأ في كتالونيا، أكثر من ثلاثين ديواناً بالكتالونية والإسبانية. وقد نُظر إلى تجربته، وهو الذي لم يُخفِ يوماً انتماءه اللغوي المزدوج، باعتبارها إثراءً للغات الإيبيرية. سار على خطى والده مهنيّاً، حيث درس الهندسة المعمارية في برشلونة، وهو ما أهّله، لاحقاً، لاستحقاق لقب “مهندس القصيدة” في إسبانيا. كانت أشعاره تتبلور بينما كان يزاوج بين إنجاز التصاميم المعمارية وبين التدريس في “المدرسة التقنية العليا للهندسة المعمارية” ببرشلونة، قبل أن يتفرّغ تماماً للشعر.

يشير مارتن لوبيث فيغا، في كلمة خلال تكريمٍ للشاعر الراحل عُقد في “معهد سيرفانتس” نهاية 2019، إلى أنّ شعر مارغاريت هو “شعر الموقف الأخلاقي. فهو يسعى إلى فهم معنى الحياة في زمان ومكان معيّنَيْن، من خلال منظوره المعيش للحياة باعتبارها تجربة متفرّدة”.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى