شعر

كلوديا سيريا… الليل أصبح بحيرة وستغرق فيها

مختارات   

طريق ترابي معلق بالسماء

لأجل الأربعين جندياً في فيلق فالميناتا

لأجل الخوف والغفران والإيمان:

ابنٍِ عشاًّ في الوسط

ثم صبّ الحليب.

فكّر في بحيرة سيفاستا المجمدة

وهي تحتضن الشهداء.

دع رغوة الخميرة تصبح زهرة حارة.

اكسر البيض.

فكّر في الأذرع والرقاب التي هوت عليها المطارق،

أضف قشور الليمون على تيجان القديسين المتوهجة .

فكّر في ذوبان الجليد على أجساد الجنود.

الزبدة الذائبة 

امزجها مع الزيت

حتى يتكلم العجين ويتنفس.

**

المذاق

أضف السكّر،

رشة ملح من الصبر،

اتركه قرب الفرن كي يختمر،

اصنع ثمانية أشكال لتبدو أحياناً

مثل البشر مع رؤوس وبطون مضفرة.

فرشاة مع البيض المخفوق.

سيذهب الجنود من فيلق فالميناتا مباشرة إلى النار،

أغرقهم بالعسل ورُشّ عليهم الجوز.

فكّر في المنسيين والمفقودين الذين اختفوا إلى الأبد.

استدع الأسماء غير المعروفة، 

لأجلهم اقطع قالب الكاتو

وتناول شيئاً منه.

اطلب الصفح من كل هذا الرحيل

ومن الوحدة التي عاشت قبلنا ثم اختفت.

*

تحت الطاولة بجانب الباب

بالأقدام الكثيرة تركنا آثار خطوات،

كنا الفتات وننتظر أحداً أن ينظفه .

حلمنا بالهرب

بالركض بعيداً،

محمولين على ظهور النمل إلى المستعمرات

لكننا لا نمتلك جوازات سفر.

كنا عناقيد العنب الصغيرة التي في السلال..

تحت الطاولة بجانب الباب

بانتظار أن يتم سحقنا.

الحزن

قلبي يرتدي منديلاً أسودَ

ليس لأجل رَجُلي

ليس لأجل أبنائي

بل من أجل أرضنا هذه التي لا تريدنا بعد الآن.

بعض الرجال ركضوا

واختبأوا في الجبال،

الآخرون تم اعتقالهم في الليل.

بقيت النسوة فقط تنحني على القبور

وتصغي لصفير الحقول المهجورة.

لا يمكننا إخبار أحدٍ بما حدث

وإلا سيكون مصيرنا الموت.

لكن يوماً ما ستمشي حفيدتي في هذه الحقول

المحشوة بالعظام، وبدلاً من القمح

ستطلع الحقيقة من الأرض.

*

العصر الذهبي

كانت الثروة تُقاس بالقهوة والحليب وحساء الدجاج

وأيام الأغنياء مصنوعة من الشوكولاتة المستوردة

وبخاخات تصفيف الشعر.

بينما أيام الفقراء مصنوعة من الشاي البارد

والهواء الذي يلسع.

في شوارع المدينة يمشي القديسون بلا أحذية .

ذلك الوقت الذي لم يتحدث أو يحتج فيه أحد

لكن الجميع صفّق وغنّى.

اكتشفنا من الأخبار

أننا كنا سعداء

*

26 ديسمبر1989

بوخارست – رومانيا

للمباني أذرع سوداء من الدخان

والرصاص مزق متحف الفن

واللوحات نزفت حتى الموت.

أغاني سميكة وهتافات حول أشياء

لم يكن يعرف أحدٌ ماذا تعني على وجه اليقين؟

مثل “الديمقراطية” و”الحرية”.

البعض لوّح بالأعلام

والناس بعضها فوق بعض على ظهور الشاحنات،

بينما الآخرون يستندون على حواف النوافذ

ليروا بشكل أفضل أسنان حليب النصر.

كنتُ مع مجموعة من الفتيات

نكنس الزجاج المحطم

ونوزع المساعدات الغذائية.

على الغداء تناولتُ قطعة خبز

مغمسة بالشوكولاتة مع علبة بيبسي كولا.

لطعم المساعدات الغذائية الأجنبية مذاق هائل.

في الليل قمنا بحراسة مبنى الجامعة الفارغ،

ونحن نصغي إلى مناوشات المدافع والأسلحة.

*

أغنية ديسمبر

ديسمبر رمادي.

دوريات في الشوارع:

أسرعوا، رجفان خفيف،

كونوا هادئين،

ديسمبر شهر الإستماع إلى الراديو

نخفض الصوت في الليل

ونحن نصغي إلى الطلقات النارية.

يصرخ بعض السكان:

أنتم أولادنا لا تطلقوا النار .

ديسمبر حينما لم نصبح وحيدين

ولأول مرة سنرفع صوتنا ونمشي

الكتف بمحاذاة الكتف..

ديسمبر الصعب

ديسمبر الهتافات

ديسمبر التوابيت والشموع

ديسمبر ال60000 قتيلاً

والجثث المسروقة من المشرحة

التي تم حرقها فيما بعد لإخفاء الجريمة.

ديسمبر المظاهرات حينما لم نصغ لأحد وبكينا.

ديسمبر المظلم والثقوب في الأعلام التي ترفرف،

والثورة تُبث مباشرة على التلفزيون.

ديسمبر الإبتسامات والرماد والشمع.

ديسمبر النقانق والأجراس.

حين جلب بابا نويل الحرية هدية لنا في الكريسماس.

ديسمبر المجنون بلا ثلج.

ونحن لا ندري ماذا سنفعل بها هذه الحرية

ماعدا الرقص والبكاء والموت.

ديسمبر الأبيض بالملائكة والحملان

التي ستختفي إلى الأبد هذه المرة.

*

النصب التذكاري

أُمُّكَ التي توسلت أن لا تذهب للقتال،

لكنك لم تصغ لها.

بجسدك َ المراهق الرقيق كمفتاح

قمتَ بفتح بوابات التاريخ.

مشيتَ في الشوارع والقلب يتألم

على الناس التي تحترق.

بنيتَ الحواجز

ولم تحاول الإختباء وراءها.

كل شيء تغير مع سرعة الغيوم

حين حلّ المساء كنتَ خائفاً

وأنت تعطي صدرك للمطر المعدني.

*

صورة

يكبر الأطفال دون أن يعرفوا أي شيء

يرتدون زيَّ الحارس

والقمر يقسم الأسماء المنسية

ويجمعها بين أكوام التبن.

*

قافلة الضحايا

يقفون في المطر والحر

عراة وصلعان بأذرع ضخمة مرفوعة

كي يجنبوا رؤوسهم الضربات أو التوسل.

المنحوتات تبدو قديمة:

ثمانية عشرة رجلاً وامرة

في مجموعة يمكن أن تسميها ما شئت:

عائلة كبيرة،

أو أصدقاء،

أو غرباء حكم عليهم معاً.

إنهم يواجهون الجدارالذي يفصلهم عن الجحيم

ولا أحد منهم ينظر إلى السماء

أو لتلك الندبات التي تسمى الغيوم.

بعض الرؤوس منحنية كما لو كانت تصلّي لأجلنا

أو لأجل أن يبقوا على قيد الحياة.

لا شيء يوجد هنا

فقط أحجار الطوب وقذائف الهاون،

أطفال المدارس والسيّاح الذين يلتقطون الصور،

البطون الضامرة،

والأفواه المفتوحة بلا ألسنة

لكنهم يحركون شفاههم،

يتكلمون، هل يمكنك سماعهم؟

يأتون برسالة من المقابر الجماعية،

يأتون من التاريخ ليشهدوا ويسموا الأسماء.

يحملون غبار الأزمنة الماضية

ولا يطلبون شيئاً آخر.

يعلموننا لا شيء حول البقاء،

لا دروس هنا حول المغفرة،

الخسارة أو الخوف.

يغسل المطر  الدم المتخثرعلى أجسادهم

حتى لا يبقى أي أثر،

يسيرون في صمت بمحاذاة الجدار.

النسيان يقتلهم مرة أخرى

المدن

———————-

يصدر قريباً عن دار خطوط كتاب “كلوديا سيريا… مختارات شعرية”، ترجمه عن الإنكليزية أكرم قطريب. وجاء في تقديم المختارات:

كلوديا سيريا شاعرة رومانية المولد، هاجرت إلى الولايات المتحدة الأميركية سنة 1995، وتعيش الآن في نيوجرسي. يعكس شعرها حقبة الثمانينيات الشيوعية في رومانيا. قصائدها هي جزء من الحياة اليومية لتلك الفترة، تخال أحياناً أن هذه الأطياف ليست بمنأى عن مناخات عالمنا العربي وأصدائه القديمة والحديثة حتى لتبدو ظلالها امتداداً لها: الألم والتمزقات المجتمعية التي تسمع أصداءها بين الخطوط والكلمات. كانت عائلتها ضحية موجة من العنف ضد الفلاحين الذين قاوموا التأميم القسري في رومانيا تلك الأيام، حيث تم إرسال مئات الآلاف إما إلى السجن أو معسكرات العمل أو المقصلة… تلك الفترة الشمولية بقيت بصماتها وتأثيراتها إلى يومنا هذا بالرغم من أفولها طيلة هذه السنين  لها خمس مجموعات شعرية صدرت في مونتريال ونيويورك.

ظهرت أعمال للشاعرة في مجلات مثل ميرديان، مودفيش، مين ستريت راج ، هاربور بالاتي، ذا فورث ريفر… شاركت سنة 2013 في تأسيس شهر الترجمة الوطني مع صديقتها الشاعرة والصحفية لورين كلاينمان. تقول في إحدى مقابلاتها: “قرأ الجميع كما لو أن الألم لا يزال قائماً، كما لو أن الوقت ينهار في هذه اللحظات، على الرغم من أن التفاصيل قد تم نسيانها. الألم الناتج عن الاضطهاد ويتصل بكامل التجربة الإنسانية”.

يتسم شعرها بالوضوح وعمق العاطفة، ويهمها أن تكون متجذرة بعمق في هذا العالم، ومنفصلة عنه في الوقت ذاته. شعر يصوّر مكانين، هما رومانيا وأميركا، يقدم شروحات هذا العيش المزدوج بينهما. تعكس روح كتابة الهجرة هذه، العواطف المحروسة في ضواحي العالم الجديد، والتغييرات الجذرية، الشخصيات والأمكنة التي لا تُمحي. 

شعر مليء بصوت الضحايا أيضاً، وكل هذا الانتظار الأوديسي سنلمحُهُ في سرد لا ينتهي عن الحب أيضاً والعائلة، عن رومانيا البعيدة، لا كمأساة بل كمسافة جمالية تغرف من لغة الوحشة والحنان الضاري، الذي يبدو في بعض الأحيان شديد الواقعية مثل ضربات القلب.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى