الناس

أوضاع السوريين في تركيا بين التوظيف والتحليل -مقالات محتارة-

أحداث آلتنداغ: عن جولة العنف الأخيرة في أنقرة/ بكر صدقي

كان زميلا العمل أحمد محمد عبدو وصديقه يحيى العبدو جالسَين في حديقة الحي مساء الحادي عشر من شهر آب (أغسطس) الجاري. كانت بعض مصابيح الحديقة مشتعلة، وبعضها الآخر مُطفأً. قام يحيى بضرب عمود الكهرباء بهدف إشعال المصباح الذي يعلوه (إنها عادة قديمة لدى السوريين، يضربون الراديو أو التلفزيون إذا توقف عن الاستقبال لسبب أو لآخر، وفي بعض الأحيان يحدث أن يعود الجهاز إلى العمل!).

مجموعة شبان أتراك من ثلاثة أشخاص شاهدوا ما يفعله يحيى وصديقه، فطلبوا منهما الاقتراب. سألهما أحدهم عن سبب ضربهما لعمود الإضاءة، فأجابا. دفع أحد الشبان يحيى بيده قائلاً: «خيراً انشاء الله؟!». تدخَّلَ أحمد للتفريق بينهما، فانقضَّ الثلاثة عليه بالضرب. هنا أَشهرَ يحيى سكيناً وضرب به.

فجأةً اجتمع عدد كبير من الأتراك وراحوا يضربون الشابين. استلّ واحد من الجمع سكيناً طويلة أراد أن يضرب بها أحمد، فأمسك الآخرون بحامل السكين التركي ومنعوه من طعن أحمد، الذي استغلّ الفرصة وهرب من هناك. احتمى بدكان أغلق صاحبه التركي بابه لحماية أحمد، لكن المهاجمين كسروا الباب الزجاجي ودخلوا، وراحوا يضربون أحمد.

هذا ما وردَ في إفادة أحمد محمد عبدو في تحقيق الشرطة. هي إذن مشاجرة عادية إلى حد كبير، يمكن أن تحدث في أي مكان بين شبان، مات بنتيجتها الشاب التركي أمِرهان يالجن في المستشفى الذي أُسعف إليه بنتيجة طعن يحيى له بالسكين، وجرح رفيقه.

غير أن ما حدث بعد ذلك في الحي الذي يقطنه عدد كبير من السوريين تجاوزَ كل أحداث العنف الموجهة ضد سوريين في تركيا في السنوات الماضية. قال مصطفى ينر أوغلو، نائب رئيس حزب الديموقراطية والتنمية (دِوا) والنائب في البرلمان، في حوار نشرته صحيفة سربستييت الإكترونية، إنه كان في أنقرة في تلك الليلة، وزار المنطقة التي وقعت فيها الأحداث، فرأى «أجواء بوغروم»!

بوغروم كلمة روسية الأصل تعني الاعتداء الجماعي على مجموعة بشرية مُعرَّفة بهويتها الاثنية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية أو الثقافية، يتضمن التنكيل أو القتل، وتخريب الممتلكات ونهبها، والاعتداء على الرموز الثقافية للمجموعة المستهدفة. البوغروم إذن هو نوع من «الإبادة الجزئية» التي لا تشمل كامل المجموعة المستهدفة.

يشير ما حدث إلى احتقان مزمن في بيئة المجتمع المضيف ضد الأجانب الذين هم السوريون. يقدر عدد السوريين في حي أوندر، الذي كان مسرحاً لأحداث العنف المذكورة أعلاه، بنحو خمسين ألفاً، يعمل كثيرون منهم في ورشات موبيليا في منطقة سيتلار القريبة بأجور متدنية، ويملك آخرون متاجر صغيرة في الحي نفسه. سكان الحي «الأصليون» هم أيضاً من الطبقات الدنيا. يمكننا أن نتخيل إذن ما قد يتراكم في نفوس العائلات الفقيرة من ضغائن بفعل المنافسة غير المتكافئة على فرص العمل مع العمالة السورية الرخيصة، ومن ضمنها عمالة الأطفال (وفقاً لتقرير نشرته منظمة العمل الدولية في 2020، بلغت نسبة العمالة بين السوريين تحت 15 سنة في تركيا 66.1 بالمئة مقابل 22 بالمئة فقط من الشريحة العمرية نفسها ملتحقين بمدارس)، علماً بأن عمالة الأطفال تحت 18 سنة ممنوعة قانوناً في تركيا. فيما بلغت نسبة البطالة في قوة العمل 13 بالمئة وفقاً للأرقام الرسمية، وهو رقم أقل من النسبة الحقيقية.

غير أن المنافسة على فرص العمل، والوضع الاقتصادي غير المستقر في تركيا عموماً، لا تكفي وحدها لتفسير الاحتقان المذكور. فلا بد من ذكر عوامل أخرى ثقافية-اجتماعية، كحاجز اللغة والنفور «الطبيعي» من الغرباء والانغلاق القومي لدى المجتمع المضيف. في مجموع هذه العوامل إنما تنفخ جهات سياسية وإعلامية وصنّاع رأي، في البيئة المعارضة للحزب الحاكم بصورة خاصة، فتكفي شرارة واحدة، كالمشاجرة التي أدت إلى حالة البوغروم في آلتنداغ في أنقرة، لإشعال نار كبيرة قد تكون أعلى كلفة بكثير من حرائق الغابات التي التهمت مساحات كبيرة في تركيا الشهر الماضي.

وسبقت المشاجرة المذكورة وتداعياتها مجموعة من الأحداث والتصريحات، كانت بمثابة تمهيد لما سيحدث.

كان زعيم المعارضة العلمانية كمال كلِجدار أوغلو سبّاقاً في هذا المسار حين قال في أحد تصريحاته، في 16 تموز (يوليو) الماضي، إنه سيحل مشكلة اللاجئين السوريين في غضون سنتين حين يستلم حزبه السلطة: «بالتحدث إلى الأسد سنتفق على عودة السوريين إلى بلادهم طوعاً». أدى هذا التصريح إلى عودة نقاش محموم حول موضوع اللاجئين السوريين بعدما كان منذ فترة طي النسيان. نقاشٌ لم يقتصر على تصريحات إعلامية لقادة الأحزاب السياسية ومقالات الرأي في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، بل تعدّاهما إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تسودها مشاعر الكراهية ضد السوريين، وهذا أخطر ما في الأمر، لأن الناس «يقرؤون» في تويتر وفيسبوك وواتسآب أكثر مما يقرأون في الصحف أو مواقعها الإلكترونية.

في حواره الصحفي المذكور فوق نفسه، قال ينر أوغلو، نائب رئيس حزب (دِوا)، إنه رأى متاجر محطمة ومنهوبة في حي أوندر ملاصقة لمتاجر أخرى لم يُصبها أذى. وإذ سأل فتياناً في الجوار كيف عرف المعتدون أن هذا المتجر سوري والآخر تركي، أجابوه قائلين: «إذن أنت لا تتابع يا عم، لقد نشروا لوائح بمتاجر السوريين على صفحات فيسبوك»!

يتضمن التحريض ضد السوريين كثيراً من الأكاذيب والمعلومات المضللة، كالقول الشائع بأنهم يتقاضون رواتب شهرية من الحكومة (الحقيقة أن قسماً من العائلات السورية الأشد فقراً يتقاضون مساعدة مالية شهرية من الهلال الأحمر التركي تبلغ 120 ليرة تركية للفرد، يتم تمويلها من الاتحاد الأوروبي)، أو الحديث عن قبول الطلاب السوريين في الجامعات التركية المجانية بلا اختبار دخول (هذا كذب بالمطلق)، أو أن الدولة التركية تتكفل بمصاريف السوريين في المخيمات داخل الأراضي التركية أو في المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي في الداخل السوري، وتدفع رواتب مقاتلي الفصائل السورية التابعة لتركيا…

هناك موقع متخصص في تفنيد هذه الأكاذيب اسمه Teyit (بمعنى التأكد من…)، يديره نشطاء أتراك، ولكن لا أحد يهتم بمحتوياته، مقابل استعداد عالٍ للانجراف مع المعلومات المضللة.

أكثر من يستثمر سياسياً في موضوع اللاجئين السوريين هما الحزب الخيّر (قومي) وحزب الشعب الجمهوري (علماني-قومي)، إضافة إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم. وفي حين يضخ الحزبان المعارضان بعض المعلومات المضلّلة ويبنيان عليها مواقف سياسية لتحميل السلطة مسؤولية السماح بدخول اللاجئين – في إطار نقد أوسع يشمل سياسة السلطة تجاه الصراع السوري بعمومه – يستخدم الحزب الحاكم موضوع اللاجئين السوريين كمادة لابتزاز الاتحاد الأوروبي من جهة، وللهجوم على المعارضة التركية بدعوى مواقفها اللا-إنسانية من اللاجئين من جهة ثانية. قال الرئيس أردوغان، في رده على تصريحات كلِجدار أوغلو المذكورة، إنه لن يرمي بمن لجأوا إلى تركيا هرباً من ظلم نظام الأسد في النار.

المفارقة أن الحزبين المذكورين يطلقان الوعود بإعادة اللاجئين إلى بلادهم على أمل الحصول على زيادة في أصوات ناخبيهما، غير أنه لا ضمانة لوصولهما إلى هذا الهدف. فعلى رغم تراجع شعبية الحزب الحاكم في استطلاعات الرأي، لم ينعكس ذلك إيجاباً على شعبية هذين الحزبين. ما يحدث هو أن المتخلين عن دعم حزب العدالة والتنمية (وفقاً لاستطلاعات الرأي) لا ينتقلون بصورة أوتوماتيكية إلى دعم الأحزاب المعارضة، بل ينضمون إلى كتلة تنمو باطراد من فاقدي الثقة بجميع الأحزاب. وإذا أردنا التخصيص بشأن منطقة آلتنداغ في أنقرة، سنرى أن ناخبيها يصوتون بأكثريتهم لصالح حزب العدالة والتنمية، سواء في الانتخابات العامة أو الرئاسية أو البلدية، وكذلك صوتوا لمصلحة تغيير النظام السياسي إلى رئاسي في الاستفتاء الذي جرى بهذا الشأن في 2017. أي أن سكان منطقة آلتنداغ، المستائين من وجود السوريين، هم قاعدة اجتماعية للحزب الحاكم وليس لحزبَي المعارضة المتحالفين في إطار «تحالف الشعب».

بالمقابل قال دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية المتحالف مع العدالة والتنمية، في 31 تموز الماضي: «بما أن السوريين يستطيعون الذهاب إلى سوريا في الأعياد، فليبقوا هناك». كانت هذه هي المرة الأولى التي يطلق فيها بهجلي تصريحاً يمكن اعتباره ضد وجود اللاجئين السوريين في تركيا، وليس من المستبعد أن يشكل إشارة يلتقطها الحزب الحاكم بدوره ليقوم بمراجعة موقفه الإيجابي منهم. الواقع أن أردوغان لم يتأخر في الاستجابة لهذا الاتجاه الجديد، فقد قال، قبل أيام، أنه لا يمكن القبول باعتبار تركيا مستودعاً للاجئين كما تريد لها أوروبا؛ سيبقى قسم من اللاجئين في تركيا ممّن أتقنوا اللغة التركية وحققوا مستوى معقولاً من الاندماج، «أما البقية فلا بد أن يعودوا إلى بلادهم حين تسمح الظروف بذلك».

منذ بداية تدفق السوريين إلى تركيا، في العام 2011، تعاطت الحكومة التركية مع الأمر من منطلق أن هؤلاء السوريين «ضيوف»، وتم تصوير العلاقة بينهم وبين المجتمع التركي على أنها علاقة «مهاجرين وأنصار». وحتى بعيداً عن هذه التوصيفات الغريبة، وضعت تركيا – الموقّعة على معاهدة جنيف الدولية المعنية بموضوع اللاجئين – شرطاً جغرافياً لاستقبال اللاجئين بحيث لا يعتبر لاجئاً في تركيا إلا من قدم من الدول الأوروبية. وفي العام 2015 طبقت تركيا نظام الحماية المؤقتة. لهذه الاعتبارات، يبقى وضع السوريين في تركيا غامضاً بلا أي ضمانات. لكن يبقى، مع ذلك، أن الحكومة التركية، مثلها مثل كل دول العالم، لا يحق لها أن تُعيد اللاجئين إلى بلادهم قسراً بصرف النظر عن أي شيء آخر. فالعودة هذه تكون طوعية فقط.

الواقع أن من يدافعون عن وجود اللاجئين السوريين، ويطالبون بتحسين شروط حياتهم وبسياسات إدماج حكومية ناجعة، هم أقلية في الرأي العام التركي (نشطاء ديموقراطيون، منظمات مجتمع مدني، مثقفون تحرريون معارضون للحكومة…)، مقابل 70 بالمئة ممن يعبرون عن استيائهم من هذا الوجود ويطالبون بإعادة اللاجئين إلى بلدهم، وفقاً لاستطلاعات الرأي. مع ذلك، يبقى أن المشاركين في أحداث العنف ضد السوريين، والمحرضين عليها، هم أعداد قليلة نسبياً. أعلن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو أنه تم توقيف 78 شخصاً يشتبه بضلوعهم في الاعتداءات التي جرت في منطقة آلتنداغ، نصفهم من أصحاب السوابق. القصد أن الاستياء الاجتماعي الواسع من وجود السوريين لا يتحول إلى عنف إلا بالنسبة لعدد قليل من العدوانيين.

تجدر الإشارة هنا إلى أن النزعة العنصرية أو معاداة المختلفين حاضرة في المجتمع التركي قبل تدفق اللاجئين السوريين، وكانت موجهة إلى الكرد والعلويين والأرمن وغيرهم من الهويات الفرعية. في الثالث من شهر آب الجاري، حدثت مجزرة في منطقة مرام التابعة لولاية قونية، قُتل فيها سبعة أشخاص هم كلّ أفراد عائلة كردية تعيش هناك، وتبيَّنَ أن العائلة تلقت تهديدات سابقة بدوافع عرقية من القتلة أنفسهم. وفي الشهر الماضي، فُجعت مدينة إزمير بمقتل شابة كردية تعمل مستخدَمة في مكتب المنظمة المحلية لحزب الشعوب الديموقراطي، ولم تكن الضحية هدفاً للقاتل بشخصها، بل كان هدفه قتل كلّ الحاضرين في اجتماع كان مقرراً في الساعة نفسها وتم تأجيله في آخر لحظة. وفي تاريخ تركيا الحديث كثيرٌ من الأحداث المشابهة.

هناك حدثٌ جديد ساهم في تمهيد الجو لأحداث آلتنداغ، هو موجة لاجئين أفغان بدأت تتدفق إلى الأراضي التركية عبر إيران، مع تمدد سيطرة طالبان على المدن الأفغانية. ما زاد من القلق العام هو أن هؤلاء الأفغان كلهم تقريباً من الذكور في سن العمل أو القتال، فانتشرت نظريات افترضت أنهم قد يكونون مجاهدين! في حين أشارت بعض الاستقصاءات الصحفية إلى أن سبب ذلك يعود إلى حاجة مربي المواشي في تركيا إلى رعاة، إذ إن عدداً كبيراً من أولئك اللاجئين يأتون إلى مناطق ريفية محددة للعمل فيها كرعاة مقابل الطعام والمأوى وراتب شهري ضئيل.

يُقدَّر عدد اللاجئين الأفغان في تركيا بنحو 200 ألف. وأعلنت وزارة الداخلية أن السلطات الحدودية منعت أعداداً كبيرة من الأفغان من العبور. في حين قال أردوغان في كلمته المشار إليها أعلاه إن الحكومة على وشك استكمال الترتيبات الأمنية المشددة على الحدود مع إيران لوقف تدفق اللاجئين عبرها بصورة تامة. وتخشى الحكومة التركية الآن من ازدياد تدفق الأفغان إلى تركيا عبر إيران بعد سقوط كابول في يد طالبان.

ما زال يفصلنا عن موعد الانتخابات العامة والرئاسية القادمة في تركيا سنتان كاملتان. لكن جميع الأحزاب السياسية، في السلطة والمعارضة، تتصرف كما لو أنها ستجرى بعد شهرين. فإضافة إلى الاستقطاب السياسي الحاد بين سلطة ومعارضة، تراكمت مشكلات كثيرة، منذ الانتخابات السابقة، تبدو السلطة عاجزة عن ابتكار حلول مناسبة بشأنها، وذلك بسبب النظام الرئاسي الذي لم يستقر بصورة كافية بعد، وفيه من الثغرات ما يؤدي إلى تشتت إداري وعطالة في آليات اتخاذ القرار وخلل كبير في مبدأ الفصل بين السلطات.

لقد تعلَّمَ سوريو تركيا، بالتجربة المُعاشة، أنهم الهدف الأسهل والمادة المشاعة للاستخدام في التنافس بين الأحزاب.

موقع الجمهورية

——————————

«يا غريب كون أديب»/ بكر صدقي

هناك جوقة من السوريين، على وسائل التواصل الاجتماعي، يكررون هذه «الحكمة» كلما تعرض سوريون في تركيا لاعتداءات جماعية بدوافع عنصرية، أو معاداة الأجانب\ الأغراب. هذا ما حدث مجدداً بعد أحداث منطقة آلتنداغ في العاصمة أنقرة التي بدأت بمقتل شاب تركي وجرح آخر طعناً بالسكين من قبل شاب سوري، وأدت إلى انفجار احتقان عدد كبير من الأتراك ضد عموم السوريين في تلك المنطقة.

الدافع وراء تحميل ضحايا الاعتداءات العنصرية السوريين مسؤولية تلك الاعتداءات هو مزيج من الخوف وعرفان الجميل. فأما الخوف فسببه الوضع القانوني الملتبس للسوريين في تركيا، فهم ليسوا لاجئين بالمعنى المعروف، ولا مهاجرين، ولا نازحين. وضعهم القانوني هو «الحماية المؤقتة» على رغم مرور عشر سنوات على الموجة الأولى من الفارين من حرب النظام على السوريين، في المناطق الشمالية المحاذية للحدود التركية بصورة خاصة. ويخضعون لتقييدات كثيرة في الحركة والعمل وغيرها من شؤون الحياة. لديهم خوف دائم من ترحيلهم إلى داخل الأراضي السورية، كما يحدث باستمرار في حالات فردية وكما حدث بصورة أوسع في صيف 2019، في أعقاب الانتخابات المعادة لرئاسة بلدية إسطنبول. كما أن وزارة الداخلية التركية تكرر القول باستمرار أن أي أجنبي يرتكب مخالفة قانونية سيتم ترحيله إلى بلده الأصلي، والمقصود بالأجانب هنا السوريين بصورة خاصة، فعددهم يقارب أربعة ملايين، ومضى على وجودهم في تركيا سنوات كثيرة، أنجبوا في غضونها أكثر من نصف مليون مولود جديد.

أما عرفان الجميل فيعود إلى أسباب سياسية وأخرى إنسانية من غير أن يكون هناك فصل قاطع بينهما. هناك اعتقاد شائع بأن «تركيا وقفت مع الثورة السورية ودعمتها» ولا يطرح أصحاب هذه القناعة أي سؤال عن سبب تلك الوقفة وذلك الدعم، بل يفضلون عطفها على حسن نوايا وطيبة الحكومة التركية و«دوافعها الإنسانية». فإذا حدث نقاش حول ذلك برز تبرير جديد مفاده أن كل دول العالم تنطلق من مصالحها، فلا عيب في أن تسير تركيا وفقاً للسنة نفسها. ويعود السبب الآخر للشعور بالامتنان إلى أن تركيا احتضنت 4 ملايين سوري، وهو الرقم الأعلى بين دول العالم التي استقبلت لاجئين سوريين، إضافة إلى أن الظروف التي يعيش فيها سوريو تركيا هي الأفضل بالمقارنة مع دول أخرى كلبنان والأردن مثلاً. حتى حين تلجأ السلطات التركية إلى التضييق على السوريين أو ترحيل بعضهم، تجد الجوقة المذكورة نفسها تبرر ذلك وتلقي بالمسؤولية على السوريين أنفسهم «لأنهم يتجاوزون أخلاقيات الضيوف» فيرتكبون مخالفات وجرائم. ومن هنا جاء تعبير «يا غريب كون أديب».

ويزداد تسييس الموضوع من خلال تحميل فاعل آخر مسؤولية الاعتداءات العنصرية ضد السوريين، وهو المعارضة التركية التي يطلق قادتها تصريحات مناوئة للاجئين السوريين ويطالبون بإعادتهم إلى سوريا. الواقع أن هذا صحيح بصورة عامة، وأكثر ما ينطبق على حزب الشعب الجمهوري (العلماني) والحزب الخيّر (القومي) اللذين يتسابق قادتهما على إطلاق تصريحات من النوع المذكور بدوافع انتخابية وأيديولوجية، كما في إطار معارضة سياسات الحزب الحاكم في كل المجالات.

غير أن التدقيق في ظروف اعتداءات أنقرة تظهر لنا جوانب أخرى غائبة عن معرفة السوريين، وهي أن الأوضاع الاقتصادية الحرجة في تركيا تضغط باطراد على أعداد أكبر من الطبقات الدنيا في المجتمع التركي، الأمر الذي يشحن النفوس ضد أسهل الأهداف، أي الغرباء وأكثريتهم الساحقة من السوريين. النقطة الثانية الخاصة بأحداث أنقرة هي أن الحي الذي جرت فيه يعتبر من القلاع الانتخابية لحزب العدالة والتنمية الحاكم الذي فاز هناك في جميع الانتخابات في السنوات السابقة، الأمر الذي يعني أن الناخب هناك لا يصوت لمصلحة أحزاب المعارضة التي يؤجج قادتها المشاعر العدائية ضد الأجانب أو السوريين بالتخصيص، بل لمصلحة السلطة التي دعا أركانها وإعلامها إلى التهدئة بعد الأحداث. بالمقابل رأينا أن مرشحة الحزب الخيّر لرئاسة بلدية منطقة «فاتح» التي كان شعارها الانتخابي «لن نسلم منطقة فاتح للسوريين» خسرت تلك الانتخابات. القصد هو ألا نستسهل الربط بين تصريحات أو شعارات الأحزاب التركية ودرجات الاحتقان الاجتماعي في المجتمع بصورة سطحية مبسطة.

كذلك ليست المعارضة التركية، وبيئتها الاجتماعية، كتلة واحدة صماء في العداء للأجانب. فنحن نلاحظ في وسائل الإعلام تيارات ديمقراطية معارضة للحكومة ومتعاطفة مع اللاجئين السوريين، والغرباء عموماً، تطالب الحكومة بتأمين وضع قانوني أفضل من وضع «الحماية المؤقتة» وتطوير سياسات استيعابية من حيث الحركة والعمل والتعليم والإدماج الثقافي، واتباع الشفافية في شؤون اللاجئين بدلاً من تكرار تصريحات غامضة من نوع أن «تركيا أنفقت على السوريين أكثر من 6 مليارات دولار» (الرئيس أردوغان في مناسبات عدة) وهو ما يسهل من تطوير معارضين قوميين لدعاواهم ضد الوجود السوري في تركيا.

في النتيجة، سوريو تركيا يشكلون مجتمعاً كبيراً لا يمكن تصور خلوه من المشكلات أو من احتكاكات مع المجتمع المضيف الذي لا يخلو بدوره من كل أنواع الناس والأفعال. وتقول أرقام وزارة الداخلية التركية إن نسب الجريمة بين السوريين هي أقل بكثير من نسبتها بين الأتراك. وفي كل الأحوال تعالج الجرائم أو المخالفات بصورة فردية وفقاً لقوانين الدولة المضيفة، ولا يصح تحميل كل السوريين ما قد يرتكبه هذا الشخص أو ذاك منهم.

«يا غريب كون أديب» شعار مازوشي، يمكن فهم دوافعه لدى عموم سوريي تركيا. أما أن ينادي بذلك كتاب مقالات رأي، فهذا محزن بحق.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————

السوريون في تركيا ورقة ضغط/ بشير البكر

عاد ملف اللجوء السوري في تركيا إلى التداول على “السوشيال ميديا” في الآونة الأخيرة. وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي موجة من التحريض، من خلال بثّ معلومات مضلّلة، تهدف إلى إثارة الشارع التركي ضد أربعة ملايين لاجئ سوري، دفعتهم وحشية النظام إلى ترك بيوتهم، والهرب باتجاه الدولة الجارة التي استقبلتهم، ووفرت لهم ملاذا آمنا يسمح لهم بحياة آمنة وكريمة، ومنحتهم تسهيلاتٍ في العمل وامتيازات في الصحة والتعليم لم يحصلوا عليها في بلدان الطوق العربية، مثل لبنان الذي عامل اللاجئين السوريين على نحوٍ لا يرقى إلى مستوى الأواصر الأخوية، وتاجر بورقتهم في البازار السياسي الدولي، حد توظيفها في صالح النظام السوري، كما ضغط من أجل إجبار لاجئين على العودة إلى سورية من دون ضمانات، ما أدّى إلى اختفاء بعضهم، وانقطاع أخبارهم بعد مراجعة للأجهزة الأمنية.

تأكد خلال هذا الصيف أن حال اللاجئين السوريين في تركيا ليس على ما يرام، بعد حصول أخطاء قام بها سوريون، وجرى تضخيمها من المعارضة وبعض وسائل الإعلام والتواصل التركية. وهناك إشارات قوية إلى أن الوضع سوف يتفاقم، ويزداد سوءا في الفترة المقبلة، لعدة أسباب. الأول، الاستثمار السياسي للجوء السوري من المعارضة، وأوساط ذات أجندات دولية. وتكرّرت، في الأسابيع الماضية، دعوات زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، كليجدار أوغلو، إلى الحكومة من أجل إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم. ومن الواضح أن أوغلو عازم على التصعيد حتى الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2023. السبب الثاني، عدم سن قوانين صارمة وسياسات لتوعية اللاجئين، وتشجيعهم على الاندماج وعدم التكتل في “غيتوهات” تخلق حالات استقطاب واستقطاب مضاد. والسبب الثالث، الإهمال الدولي للاجئين، وعدم متابعة شؤون حياتهم، والاكتفاء بقدر محدود من المساعدات، في وقتٍ تعمل دولٌ بعينها لتوظيف ورقة اللاجئين ضد الحكومة التركية، لابتزازها في قضايا داخلية.

إزاء وضع من هذا القبيل، يجدر التفكير بحلولٍ دائمة ومناسبة وممكنة، كون ملف اللاجئين سيبقى مفتوحا، طالما أن المسألة السورية لم تجد حلها النهائي. والأمر الجدير بالتفكير مساعدة الدولة التركية من أجل تخفيف العبء عنها، وهذا شأنٌ تقع مسؤوليته على الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والحكومة السورية المؤقتة، من أجل وضع مشروع جاد لاستيعاب جزء من اللاجئين في الداخل السوري. ويمكن التحرّك لدى الأمم المتحدة والدول المانحة، أجنبية وعربية، للنهوض بهذا المشروع الذي يوفر السكن وفرص العمل وضمانات أمنية بأن لا يحتاج النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون هذه المناطق. ومن شأن هذه الخطوة أن تؤمن عودة ثلثي اللاجئين من تركيا، وخصوصا الذين فرّوا بسبب الحرب، وفقدوا منازلهم ومصادر دخلهم. والمسألة الثانية التي تستحق الاهتمام هي القيام بحملةٍ ذات مستويين. الأول باتجاه اللاجئ السوري الذي يجب أن يدرك أهمية احترام قوانين البلد المضيف وعاداته، وأن يتصرّف على نحو يحد من حملات العنصرية. والاتجاه الثاني هو الداخل التركي، بأحزابه ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام. وعلى المؤسسات والهيئات السورية أن تخاطب الأتراك بكل حساسياتهم، وتقلع عن الاتكال على الدولة التركية، وبعض قوى المجتمع المدني التي لا توفر جهدا من أجل الرد على الحملات. وعلى الرغم من أن التعاطي الرسمي التركي مع اللجوء السوري يتم وفق القانون، وفي سياق احترام التاريخ المشترك وعلاقات حسن الجوار، فإن موقف الدولة التركية يحتاج إلى تعزيز من الهيئات السورية. وفي حال عملت هذه الهيئات في هذين الاتجاهين، فإن القسم الأكبر من المهمة يتم إنجازه. ومن دون ذلك، سيتفاقم الوضع على نحو ضارّ، بعد أن تطور من حملات موسمية إلى ورقة ضغط، تلعبها أطرافٌ محلية ودولية لتصفية حسابات ضد تركيا.

العربي الجديد

——————————–

اللاجئ السوري بين صراعات المعارضة الهامشية والجوهرية/ رفقة شقور

في أعقاب الأحداث العنصرية الأخيرة التي تعرض لها اللاجئون السوريون في تركيا، وفي ذكرى مجزرة الكيماوي سادت جدالات واسعة وتقييمات لأخطاء الثورة السورية وقدرتها على تأمين جبهتها الداخلية، وصيانة حقوق اللاجئين السوريين ووضع حد لتردي أوضاعهم.

في ظل حكم الأسد الأب والابن سادت الأوساط حالة من الإعراض عن تقييم العمل السياسي، كذلك سادت حالة من الانكفاء عن تقييم أخطاء النظام، وذلك لغياب الحياة الديمقراطية وانتشار القمع والاستبداد، بعد بدء الثورة استمر الأمر على نحو ما في أوساط المعارضة، واتسمت شخصياتها السياسية والإعلامية بحالة من عدم مواجهة الأخطاء التي وقعت بها، ومالت الأوساط كلها لتحميل جماعات الإسلام السياسي جل المسؤولية عن الإخفاقات السياسية المتكررة، لعدة أسباب يقف على رأسها سعي جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة على المجلس الوطني السوري.

نتيجة لغياب المراجعات النقدية السليمة والخالية من الانحيازات والتنكر للمسؤوليات في أوساط المعارضة كافة، وبسبب الجنوح لتحميل طرف المسؤولية وتوجيه الاتهامات كلها له، عوضاً عن المراجعات النقدية التي تنطلق من تجاوز الأخطاء وتبادل الاتهامات لرسم الاستراتيجيات التي تعتمد على التعلم من الأخطاء في الممارسة السياسية، غاب عن تلك الأطراف أهمية العمل السياسي المشترك في وسط سوري يتسم بالتنوع الديني والطائفي والفكري.

المراقب لتلك الجدالات وتراشق الاتهامات، يستطيع أن يصل لاستنتاج مفاده أن صفوف المعارضة من كل التيارات عانت خلال عملها السياسي من ميراث الثقافة السياسية السائدة في سوريا لما يزيد عن نصف القرن، تلك البيئة السياسية التي لا تراجع أخطاء القائد السياسي الذي صورته الثقافة السياسية على أنه لا يخطئ، وبأن انتقاده يعني نيلاً شخصياً منه، بالإضافة لتشكيل نتائج مشاركة الإخوان المسلمين وانخراطهم في العمل السياسي مصدر صدمة لأوساط كثيرة حيث حسب الثقافة السياسية الشعبية فإن تلك الشخصيات الإسلاموية لا تخطئ وأنهم مصدر تشريع أخلاقي وديني وبذلك يتم استثنائهم من التقييمات والمراجعات النقدية.

هذه الحالة تجاوزت جماعة الإخوان المسلمين واتسمت بها تيارات سياسية مختلفة أي أنها حالة سياسية عامة تعبر عن ميراث ثقافي سياسي لا يمكن التخلص منه دون وعي بخطورة تفشيه في صفوف المعارضة، ودون وعي بعدم قدرة المعارضة على تحقيق أهدافها الثورية وهي تسيطر عليها الثقافة السياسية نفسها التي لا تحترم ضرورة العمل البيني المشترك بين السوريين المختلفين من كل الأطياف.

أيضاً المعارض السوري هو عامل متأثر بالخراب الكبير الذي يشهده وطنه، وانتشار أنماط النزاع المختلفة وشيوع الخلافات بين المعارضة على أسس نبذتها الثورة السورية مثل الأسس العقائدية والدينية والطائفية والمناطقية، أمر أحبط جزءا كبيرا من مجهودات المعارضة، فعندما غاب الالتزام بمبادئ العمل الوطني والشراكة السياسية واحترام القيم الإنسانية الجمعية لكل الأطراف السورية، حلت محلها الولاءات الضيقة للحزب والجماعة والعشيرة، وهذه معضلة عانت منها كل التيارات السياسية السورية على اختلاف مشاربها الفكرية والعقائدية، هذه الأزمة التي عانت منها التيارات السياسية المعارضة انعكست على سلوكها السياسي حيث فقدت غالبا المبادرة لتقديم الحلول السياسية وأحالت الأمر للقوى العسكرية التي هي تعاني من أزمة التجاذبات الإقليمية التي وظفتها في مناسبات كثيرة لصالح حسم صراعاتها في حين حافظت على إدارة الصراع السوري دون أن تقدم حلول جدية لإنهائه.

من جملة ما تحتاج إليه تيارات المعارضة السورية إدراك ضرورة توجيه خطاب للسوريين الذين يعيشون تحت سيطرة النظام الديكتاتوري، فهؤلاء الذين اختاروا صف النظام لتفضيلهم حفظ الأمن العام على العدالة والكرامة السورية خسروا الأمرين معاً في مناطق النظام، فهم يعيشون اضطهاداً مزدوجاً، اضطهاد تمارسه عليهم أجهزة الدولة الديكتاتورية العميقة، واضطهاد أنفسهم لأنفسهم، ولا يوجد أدل على ذلك ممن خرجوا للحديث عن سوء الأوضاع في مناطق النظام ثم عادوا للاعتذار والتراجع عن ذلك، والمعارضة السورية مطلوب منها خطاب وطني جامع لا يقصي أحداً ويخاطب الموالاة كما يخاطب صفوف المعارضة، خاصة أن سوء الأوضاع الداخلية في مناطق النظام، سيكون عاملا مساعد في تحقيق خطاب الثورة لأهدافه، وعدم حدوث قطيعة بين المعارضة والشعب السوري في كل أماكن وجوده.

انطلاق المعارضة السورية من بدهية أن مواجهة النظام الديكتاتوري تحتاج لتشكيل تيار سياسي معارض موحد وقوي وجامع للكل السوري، هو ما سيضمن نجاح مجهودات المعارضة وتوحيدها كلمتها السياسية في مواجهة المجتمع الدولي الذي تلعب أطرافه التي استضافت الحوار السوري السوري على حبل التناقضات السورية الداخلية في داخل المعارضة نفسها، فمواجهة الإحباطات الداخلية والخارجية التي تعترض عمل المعارضة وتشتت مجهوداتها، يكون عبر إعطاء الأولوية للحقوق المدنية ونبذ الانقسامات والتركيز على المشتركات السياسية وتغييب عوامل الانقسام الديني والطائفي والمناطقي.

خلال السنوات الماضية أثبتت المعارضة السورية مرونة عالية في الجلوس مع دول الخارج على طاولة الحوار، تلك الدول التي ساهمت في تعميق مأساة السوريين، وإدارة الصراع الداخلي وإعاقة الحلول التي تحسم الصراع لصالح السوريين وحقوقهم وثورتهم، وتلك المرونة التي تقابل بها تيارات المعارضة الأطراف الخارجية منفردة، في حال سيطرت على حوارات المعارضة السورية الداخلية البينية فإنها ستذلل كثيرا من التناقضات والخلافات البينية، وستحولها لقوة سياسية تستطيع أن تملي شروطها على المجتمع الدولي وتحقق نوعا من توازن القوى المعقول في جولات المفاوضات والحوار السوري.

بعد كل ما عاناه ويعانيه اللاجئ السوري في أماكن وجوده، أصبح هنالك سؤال ملح عن ضرورة وجود جسم سوري موحد يعالج مشكلاتهم ويكون قادرا على تحريك مؤسسات المجتمع الدولي من أجل تقديم الحلول العادلة لهم في أماكن وجودهم، ويكون قادراً أيضاً على دعمهم في مجتمعاتهم، ومساعدتهم في تحصيلهم حقوقهم الإنسانية والمدنية، وهذا أمرٌ يلح في سبيل إنهاء السباقات التنافسية على السلطة والزعامات، وتحقيق أهداف الثورة السورية بتحرير سوريا من عبث اللاعبين الإقليميين والدوليين والمحليين لإنهاء محنة صناعة لاجئين جدد.

تلفزيون سوريا

————————————-

كيف تستغل الحكومة التركية ومعارضوها ملف “الضيوف السوريين”؟/ جوان سوز

“لا يمكننا أن نتنبأ بمستقبل السوريين في تركيا، فهو غامض. وغالبية الأحزاب المعارضة تقف ضد وجودهم في البلاد، وقد أدى ذلك لاستمرار خطاب الكراهية المعادي للسوريين، كما أن الجدل بين الحزب الحاكم ومعارضيه، منع الطرف الأول من تطوير سياساته تجاههم”.

يعيش ملايين السوريين في تركيا منذ سنوات، لكن من دون أن يتمتّعوا بحقوق “اللاجئين” وفق القانون الدولي، إذ تسمّيهم السلطات “الضيوف”، مكتفية بإصدار بطاقاتِ إقامةٍ موقتة تخوّلهم المكوث في المدن التي وصلوا إليها، وتشترط لمغادرتها، حصولهم على موافقة سفر. وقد شددت منذ عام 2016 شروط إصدار هذه البطاقات، حتى بات معظم السوريين الذين وصلوا إلى تركيا لاحقاً، في وضعٍ غير قانوني.

على رغم أن عدد السوريين القاطنين في مختلف المدن التركية أكبر بكثير من أولئك الذين يعيشون في مخيمات اللجوء، إلا أن أنقرة تحصل على ملايين الدولارات سنوياً من الاتحاد الأوروبي ومنظمات دولية معنية بشؤون اللاجئين بخاصة بعد الاتفاقية التي أبرمتها مع الاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس 2016، والتي تعهّدت بموجبها عدم فتح الحدود التركيةـ الأوروبية أمام الراغبين منهم بالوصول إلى الدول الأوروبية، بذريعة تقديم الخدمات الإنسانية إليهم كالتعليم والرعاية الطبية، مقابل حصولها على تلك المبالغ المالية التي بلغت منذ توقيع الاتفاقية وحتى الآن، 6 مليارات يورو لم تكشف أنقرة عن كيفية التعامل بها. وهو مبلغ لا يعد طائلاً مقارنة بعدد اللاجئين السوريين في تركيا، وبحجم الأموال التي حصل عليها الأردن ولبنان للسبب ذاته، لكن تكمن المشكلة في عدم شفافية الجانب التركي حيال صرف تلك المبالغ.

عادت مسألة وجود اللاجئين السوريين في تركيا إلى الواجهة مرةً أخرى بعد مقتل مواطنٍ تركي على يد لاجئٍ سوري في العاصمة أنقرة منتصف شهر آب 2021، حيث تلا ذلك اندلاع عمليات شغبٍ في بيوت اللاجئين وممتلكاتهم.

ليسوا لاجئين!

تقدّر السلطات التركية عدد “الضيوف” السوريين على أراضيها بأكثر من 3 ملايين ونصف المليون شخص، إلا أن مسؤولين أتراك وأجانب (في مقابلة مع رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو عندما تحدّث عن اللاجئين السوريين قال المذيع إن عددهم 6 ملايين. فاكتفى أوغلو بالقول: نعم. لكن دعنا نعتمد على الأرقام الرسمية)،  يعتبرون هذا الرقم “مبالغاً” فيه، ذلك أن أنقرة تلغي بطاقات الإقامة الموقتة الخاصة بهم، فقط عندما يغادرون الأراضي التركية بطريقةٍ شرعية عبر مطاراتها وموانئها البحرية أو معابرها الحدودية البرية، وبذلك تحتفظ تركيا ببيانات كل السوريين الذين غادروها بطرقٍ غير شرعية، وتقدّمها للمؤسسات الدولية على أنهم مستمرون في الإقامة في أراضيها، بحسب ما أوضح مصدر مطلع في مفوضية شؤون اللاجئين بأنقرة لـ”درج”.

تستفيد تركيا مالياً من وجود السوريين على أراضيها من جهة حصولها على الأموال التي يلتزم الاتحاد الأوروبي بتقديمها لأنقرة، إضافة إلى أن حصر السلطات لإقامة السوريين في المدن التركية الواقعة جنوب غربي البلاد وفي شرقها بعد تشديدها شروط الحصول على الإقامة الموقتة في اسطنبول وأنقرة، ساهم في تنمية تلك المدن مثل أورفا التي يشكل فيها تعداد السوريين نحو 60 في المئة من إجمالي عدد السكان، إلى جانب مدنٍ أخرى مثل أنطاكيا، كلّس، أضنة، غازي عينتاب، مارسين وغيرها من المدن التركية الواقعة على طول الحدود مع سوريا.

ساعدت العمالة السورية الشركات الخاصة على تخفيض الكلفة الإنتاجية لموادها، باعتبار أن أجرة اليد العاملة السورية أقل بكثير من تلك التي يحصل عليها العمّال الأتراك. وقد نجم عن هذا الأمر رفضٌ شعبي في تركيا، لاستقبال المزيد من اللاجئين، حتى إن الأحزاب المعارضة، تطالب بطردهم، كما يفعل بين الحين والآخر كمال كليتشدار أوغلو زعيم حزب “الشعب الجمهوري”، وهو حزب المعارضة الرئيس في البلاد. كذلك طلبت المعارضة ميرال أكشينار التي تقود حزب “الجيد” (يمين وسط)، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان منتصف شهر آب/ أغسطس 2021، بالسماح لها بزيارة دمشق كي تناقش مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، مسألة عودة السوريين إلى بلادهم.

اللاجئون كورقة سياسية

تتدحرج كرة اللاجئين السوريين بين حزب “العدالة والتنمية” الحاكم بزعامة أردوغان، وخصومه في الأحزاب التي تعارضه، إذ يحاول الطرفان الاستفادة من مسألة وجودهم في السياسة الداخلية والحسابات الانتخابية، ولهذا من المؤكد “أن مسألة اللاجئين السوريين سوف تتصدر واجهة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المزمع عقدها بعد نحو أقل من عامين، لكونها مسار جدل بين الحزب الحاكم ومعارضيه، بخاصة أن الطرف الأخير يحاول أن يستفيد منها في العملية الانتخابية أكثر من الطرف الأول”، على ما يقول خليل إبراهيم، المنسق العام لـ”جمعية اللاجئين” لـ”درج”.

يضيف منسق الجمعية غير الحكومية التي تقدّم مختلف المساعدات الإنسانية للاجئين: “لا يمكننا أن نتنبأ بمستقبل السوريين في تركيا، فهو غامض. وغالبية الأحزاب المعارضة تقف ضد وجودهم في البلاد، وقد أدى ذلك لاستمرار خطاب الكراهية المعادي للسوريين، كما أن الجدل بين الحزب الحاكم ومعارضيه، منع الطرف الأول من تطوير سياساته تجاههم”.

ويتابع: “لسوء الحظ أن معدل أولئك الذين لا يقبلون بوجود اللاجئين السوريين في تركيا، أكبر بكثير من المرحبين بوجودهم. لقد كان هذا واضحاً بعد استطلاعٍ للرأي أجريناه داخل المجتمع التركي في العام الحالي”. وكشف أن “هذا الأمر كان مختلفاً في السابق، فعام 2013، كان عدد المرحبين بوجود اللاجئين السوريين، أكبر من المطالبين بترحيلهم”، مشدداً على أن “استمرار الحرب في سوريا والموقف السلبي الحادّ للمعارضة وخطاب الكراهية ضد السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي، قلبت الأمور رأساً على عقب”.

المعارضة والإعلام وتصاعد العنف ضد اللاجئين

عادت مسألة وجود اللاجئين السوريين في تركيا إلى الواجهة مرةً أخرى بعد مقتل مواطنٍ تركي على يد لاجئٍ سوري في العاصمة أنقرة منتصف شهر آب 2021، حيث تلا ذلك اندلاع عمليات شغبٍ في بيوت اللاجئين وممتلكاتهم. وعلى إثرها اعتقلت السلطات التركية أكثر من 150 شخصاً، نصفهم شاركوا في الاعتداءات على السوريين، ونصفهم الآخر كان حرّض ضدهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بحسب ما أفادت وزارة الداخلية التركية.

لا تختلف وجهة نظر الأكاديمية التركية باشاك يافجان بشأن اللاجئين السوريين عن موقف خليل إبراهيم، فتقول لـ”درج”: “لقد قمت بتقييم المواقف السلبية الموجودة مسبقاً تجاه السوريين على أنها قنبلة موقوتة وشددت دائماً على أهمية نشر المعلومات الصحيحة بشأنهم من قبل صانعي القرار في كل من الحكومة والمعارضة، لكن لسوء الحظ يمكن أن يؤدي حادث صغير مثل طعن شاب تركي وقتله في نهاية المطاف على يد شاب سوري إلى هجماتٍ جماعية، حتى إن الجهات المؤيدة للاجئين تخجل أحياناً من تصحيح المفاهيم الخاطئة أو الانخراط في خطابٍ منحاز للاجئين خشية ردود فعل الرافضين لوجودهم”.

تضيف يافجان التي تراقب شؤون اللاجئين في تركيا عن كثب وهي أستاذة في جامعة تركية وأخرى أوروبية: “صحيح أن وزارة الداخلية تبذل قصارى جهدها في إدارة هذه الهجمات بعد وقوعها وتهدئة المخاوف، لكن عليها التعامل بشكل استباقي مع مثل هذه الوقائع، ومع ذلك لا تقع المسؤولية بالكامل على عاتق الحكومة. باعتقادي أن ممثلي أحزاب المعارضة ووسائل الإعلام الذين يستخدمون خطاب الكراهية ضد اللاجئين مسؤولون بشكل متساوٍ عن تفاقم مثل تلك الهجمات التي شهدتها أنقرة”.

تتابع: “على رغم استقبال تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين، إلا أنها لم تشهد اشتباكاتٍ كبيرة بينهم وبين المجتمع المحلي، وكان يمكن أن تدوم هذه الحالة لوقتٍ طويل لو لم تصبح مسألة اللاجئين موضع جدل في السياسة الداخلية التركية ولو كان الخطاب الإعلامي بشأنهم متوازناً. لكن مع الركود الاقتصادي في تركيا بخاصة بعد تفشي كورونا، بيّنت دراساتنا الميدانية أن موقف المجتمع السلبي من اللاجئين مبني على أخبارٍ كاذبة، ومن حسن الحظ أن تلك المواقف لم تنتج عنها صراعات مسلّحة باستثناء بعض الحوادث المتفرقة”.

وتشير يافجان إلى أنه “لم يتمّ تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة في وسائل الإعلام الحكومية، والتي تمّ نشرها أيضاً في وسائل الإعلام المعارضة في محاولة منها للحصول على مكاسب انتخابية، ما أدى إلى تفاقم الموقف بشأن اللاجئين السوريين في تركيا، وفي حين لا تستخدم وسائل الإعلام الحكومية خطاباً تحريضياً علنياً ضد السوريين، لكن ما تبقى من وسائل الإعلام المحلية تستخدم تلك اللغة على نطاقٍ واسع”.

وتلفت إلى أنه “نتيجة حصولهم على الحماية، تلتزم تركيا بعدم ترحيلهم إلى بلادهم”، لكنها مع ذلك أعادت آلاف السوريين إلى بلادهم خلال السنوات الماضية بذريعة عدم حصولهم على “الإقامة الموقتة” التي تعرف بـ”الحماية”، وفق تقريرٍ سابق أصدرته “منظمة العفو الدولية”.

ويسمح القانون التركي بتوظيف عامل سوري واحد مع 10 عمّال أتراك، لكن أصحاب الشركات الخاصة لا يلتزمون بهذا البند القانوني لرخص اليد العاملة السورية وقبولها بالعمل من دون امتيازات الضمان الاجتماعي، لذلك “يعمل حوالى مليون لاجئ سوري من دون ترخيص عمل وفي ظروف محفوفة بالمخاطر”، كما تفيد يافجان، بأن “هذا الأمر يساعد أصحاب العمل على الحفاظ على قدرتهم التنافسية على رغم انكماش الاقتصاد بسبب انخفاض تكاليف العمالة. كما يعد هذا أيضاً أحد مصادر التوتر مع المجتمع المضيف، حيث يُنظر إلى السوريين على أنهم مسؤولون عن خفض أجور الوظائف منخفضة الأجر”.

وتشير إلى أن “السوريين هم أيضاً رواد أعمال يخلقون فرص عمل. فالأرقام التي بحوزتنا قبيل تفشي كورونا، تبيّن أنهم أنشأوا نحو 15 ألف شركة، معظمها توفر فرص عمل وتجارة والكثير منها جزء من سلاسل التوريد في الوقت الحالي. أما على المستوى المحلي، فإن بعض المتاجر والشركات المحلية المملوكة لسوريين هي أيضاً غير رسمية إلى حد كبير وتشكو منها بعض الشركات المحلية لأنها لا تدفع ضرائب، ما يخلق منافسة غير عادلة”.

إضافة إلى الجدل المستمر بين الحزب الحاكم و”الشعب الجمهوري” بشأن مسألة اللاجئين، دخلت أحزاب أخرى على خط الأزمة، فقد طالب حزب “الشعوب الديموقراطي” المؤيد للأكراد، بضرورة إيقاف مثل تلك الهجمات التي طاولت السوريين في أنقرة والعمل على تبني “التعايش السلمي” معهم. كما أن أحزاباً أخرى تشكّلت في الفترة الأخيرة، حمّلت الحكومة مسؤولية ما يحصل.

درج

———————————————

أوضاع السوريين في تركيا بين التوظيف والتحليل/ محمد ياسين نجار

تكررت في الآونة الأخيرة أحداث عنفٍ، بين شبان أتراك وسوريين، في بعض المدن التركية، ممّا جعل كثيرًا من الأسر السورية تشعر بالقلق، من أن مثل هذه الأحداث يمكن أن تتطور وتنعكس سلبًا على مستقبلها ومشاريعها التي قطعت شوطًا متقدمًا في طريق إنجازها، علمًا أنّ جروح السوريين لم تندمل بعد نتيجة التهجير، وقد فاقت حدود التحمل.

إذا ما عدنا إلى سياق الأحداث، فسنرى أنه عادة ما تسبقها تصريحات لشخصيات سياسية مؤثرة مجتمعيًا، تعزز خطاب الكراهية لدى المجتمع التركي، حيث تتهم من خلالها السوريين بأنهم سبب رئيس في تدهور الأوضاع الاقتصادية بصورة مجافية للحقيقة، متناسين أن العالم برمته تأثر اقتصاديًا من جائحة كورونا وتفشي الصراعات البينية، وليس فقط تركيا.

إنّ إشكال أنقرة الأخير وما تلاه كان ذا طبيعة عنفية واضحة، بحيث امتد إلى كل السوريين القاطنين في المنطقة، وشمل ممتلكاتهم من محال وعقارات وسيارات، هذه الأحداث تحتاج إلى وقفة جادة تدرس مسببات موجة الكراهية هذه، وهل هي حالة خاصة بتركيا، أم أنها حالة متكررة قابلة للتطور والانفجار؟ فالجميع ما يزال يذكر تصريحات مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، ضد المسلمين والمهاجرين عمومًا، وكذلك ما حصل في الآونة الأخيرة، في ملعب ويمبلي، من عنف لمجرد إضاعة ركلات جزاء في المباراة النهائية لبطولة أوروبا لكرة القدم من قبل ثلاثة لاعبين من أصول أفريقية.

إنّ تركيا دولة إقليمية صاعدة، متعددة القوميات والأعراق، وما تزال تعيش حالة استقطاب سياسي حاد ينعكس على الحالة السورية، ويجعله قضية رئيسة في التنافس السياسي والانتخابي الحاصل حاليًا. 

وقبل وصف الدواء لهذه الحالة المزعجة، يجب وضع قواعد اجتماعية عامة على صعيد الشعوب والمجتمعات، بعيدًا عن الحالة الرغبوية المثالية التي يدعيها البعض.

أولًا- إنَّ ارتكاب الجرائم قائم منذ نشأة الكون وقتل الشقيق لشقيقه، ولن تنعدم هذه الجرائم حتى قيام الساعة، لدى كل المجتمعات، مهما تطورت.

ثانيًا- معالجة انتشار الجريمة تتم بالتوعية ابتداءً وتجفيف مسبباتها، ومن ثم معاقبة مرتكبيها بحسب القوانين النافذة، لا بالثأر وتعزيز خطاب الكراهية.

ثالثًا- المناخ المناسب لتكاثر خطاب الكراهية هو المناطق الفقيرة التي تتغذى عليها عوالم الجريمة والمخدرات، حيث يكون ارتكاب الجرائم فيها أكثر سهولة من مناطق أخرى.

رابعًا- إنّ خطاب الكراهية يستخدم بكثافة قبل الاستحقاقات السياسية، ويزداد كلما كان الاستحقاق أشد تنافسية، كما أشرنا إلى ذلك سابًقا، حيث لاحظنا كيف قام ترامب باستخدامه بكثافة في انتخابات الرئاسة الأخيرة، ضد أصحاب البشرة السمراء والمهاجرين، وقد سبقت أحداثَ أنقرة تصريحات لزعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليشدار أوغلو، ولرئيس بلدية (بولو)، عندما حاول رفع أسعار المياه ضد السوريين، ضمن حملة تصاعدية منهجية قبل انتخابات 2023.

خامسًا- العامل الديني والخطابات العاطفية مفيدة في كبح خطاب الكراهية، لكنها غير كافية بمفردها لمعالجة تلك القضايا.

سادسًا- إنّ أحداث العنف ليست محصورة عادة بين الدول المستضيفة واللاجئين؛ فهي قد تكون لأسباب دينية أو قومية وطائفية داخل الوطن الواحد، وقد تنزل إلى ما دون ذلك على مستوى المناطق، بل الأحياء، وما بين أصحاب المهن المختلفة، وكذلك على الصعيد الرياضي، وهذا ما جعل (الفيفا)، على سبيل المثال، تفرض قواعد دقيقة في هذا المجال.

أمّا إذا انتقلنا من التحليل إلى المعالجة؛ فإننا بحاجة إلى تنفيذ سلسلة أعمال تساعد في تقليل تلك الأحداث، وجعلها ضمن نطاق السيطرة والعمل داخل بيئتنا السورية، وذلك ضمن نقاط محددة أهمّها:

أولًا- إنّ السوريين الموجودين داخل تركيا بحاجة ماسة إلى مظلة مرجعية معتمدة، يُرجع إليها عند الأزمات لتُسهم في التخفيف من حدتها، وتعرف عن كثب مشكلاتهم على كلّ الصُّعد قادرة على التواصل مع الأتراك وطرح الحلول المناسبة، فقد مضى على وجود السوريين في تركيا قرابة عقد، أي نحن على مقربة من وجود جيل كامل نشأ وترعرع في تركيا.

ثانيًا- على منظمات المجتمع المدني التواصلُ مع السوريين ومساعدتهم في فهم طبائع السكان الذين يعيشون معهم وعاداتهم، وهي طبائع تختلف من محافظة إلى أخرى، وعليها العمل بمنهجية لتشعر المستضيفين بدورهم الإيجابي.

ثالثًا- على منظمات المجتمع المدني تعريف السوريين بالقوانين الواجبة التطبيق، ومساعدتهم في تطبيقها، من خلال مكاتب قانونية تقدم الاستشارات لهم بكل يسر وسهولة.

رابعًا- استشراف خطاب الكراهية واجب قادة الرأي من السوريين، والعمل على كبته من خلال تواصلهم مع منظمات المجتمع المدني التركية والأحزاب، والاطلاع على هواجسهم، وبذل أقصى طاقتهم لطمأنتهم في هذا المجال.

خامسًا- من الضرورة التواصل مع غرف التجارة والصناعة والزراعة ونقابات العمال التركية، وعقد ورشات مشتركة تؤكد رغبة السوريين في المساهمة الإيجابية في الاقتصاد التركي، على صعيد العمل، والتشجيع على الاستثمار، ونقل التقارير الإيجابية عن الدور السوري، وإظهار أنهم قادرون على لعب دور إيجابي مع المجتمعات العربية ودول أخرى، فالمهاجرون لعبوا دورًا في تطوير العديد من الدول عبر العالم، وأهمّ تلك الأمثلة دور الأتراك أنفسهم في تطوير الاقتصاد الألماني، والجميع أصبح يعرف دور الطبيب التركي في اكتشاف لقاح الكورونا.

مما سبق نرى أن المطلوب من السوريين، خلال المرحلة القادمة، إعادة ترتيب أوضاعهم في تركيا وفي كل دول اللجوء، وعدم جعلها عرضة للاستقطاب الداخلي، وعدم السماح لنظام الأسد بتوظيف تلك الأحداث لإيصال رسائل للمجتمع الدولي، بأنّ من مصلحتهم الإقرار ببقائه، وتسهيل عودة اللاجئين إلى سورية ليستريحوا من عبئهم، فيقوم بتأديبهم عبر أجهزته الأمنية، ويسومهم سوء العذاب، ويجعلهم بذلك يعودون إلى جادة الصواب.

لوحظ منذ مدة أن هناك أصواتًا سورية تُؤجج خطاب الكراهية، عند حدوث مثل تلك الأحداث، وهي بعيدة كل البعد عن مسبباتها ومنعكساتها، وقد أصبحت تلك الأصوات جزءًا من خطاب الاستقطاب الإقليمي، وهناك من ينتظر مثل تلك الأحداث لاستهداف تركيا وشعبها، بعيدًا عن مصلحة أربعة ملايين سوري يحتاجون إلى عقلاء يطفئون الحرائق ويُسهمون في إيجاد الحلول، لا أن يكونوا امتدادًا لأصواتٍ تُسهم في وأد نهضة العرب بحجج واهية، عمادها الصراع الأيديولوجي، وما تطورات تونس عنا ببعيدة.

مركز حرمون

————————

تعاضد اجتماعي… حملات شعبية متبادلة بين الأتراك والسوريين/ عدنان عبد الرزاق

ترى الباحثة في جامعة محمد الفاتح بإسطنبول، عائشة نور، أن الشعبين التركي والسوري “سبقا الأحزاب وأفشلا خطط التحريض السياسي، عبر إحباط الحملات العنصرية والدعوات لطرد السوريين التي قادتها بعض أحزاب المعارضة التركية، خصوصاً بعد أحداث مهاجمة أتراك في حي ألتنداغ بالعاصمة أنقرة في أغسطس/ آب الجاري أماكن يقطنها سوريون رداً على قتل سوري شاباً تركياً يدعى أميرهان يالجن (18 عاماً)”. وتؤكد نور في حديثها لـ”العربي الجديد” أن “ردود الفعل الأهم على الجريمة كانت التعاضد والوعي حتى من قبل والد القتيل الذي تبنى موقف المسامحة، في حين أجمعت الغالبية الشعبية التركية التي تعاملت مع مجموعة من الهاشتاغ بعناوين متناقضة نادت بعضها بأنه لا مكان لكم (السوريين) في هذا البلد، أو ليرحل السوريون عنا”، في مقابل أخرى دعت إلى “عدم لمس أخي، وأوقفوا الهجمات العنصرية ضد اللاجئين والمهاجرين”، على أن القصاص في نهاية المطاف يكون من الجاني وحده، و”أن السوريين أخوة للأتراك، في وقت يشهد بلدهم إحدى أكبر المآسي في العصر الحديث، لذا لا يجوز الحشد لطردهم”. وتشير نور إلى أنه “من حالات المقارنة وزيادة الوعي الشعبي، رفض شرائح تركية واسعة الحملة ضد اللاجئين السوريين، وتشديدها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبلغات عدة بأن لا مكان للكراهية أو العنصرية في البلاد، مذكرة بالحملات التي ينفذها بعض الألمان ضد الأتراك بعنوان عودوا إلى بلادكم”. وتشدد على أن “هؤلاء الأتراك الذين يرفضون التحريض والعنصرية في ألمانيا، لا يقبلون وجودهما أو ممارستهما في بلدهم”. وتعتبر نور أن خطاب السوريين المتغيّر صدم بعض الأتراك بالحقائق. فهم استخدموا للمرة الأولى لهجة المجتمع التركي ذاتها واعتمدوا معه طريقة يفهمها، في حين دأبوا سابقاً على استخدام اللغة العربية للتحدث إليه خلال الأحداث وحتى جرائم القتل، ولجأوا إلى عبارات تعبوية زادت احتقان بعض الأتراك ضدهم، بينها أنهم قاتلوا مع العثمانيين، وأن لا فضل للدولة التركية عليهم كونهم بحسب قولهم يأخذون مساعدات من المجتمع الدولي. كما حمًلت بعض الرسائل السابقة للسوريين الدولة التركية مسؤولية تدهور الأوضاع في سورية، وهو ما استندت إليه بعض أحزاب المعارضة في تركيا لإطلاق حملات مضادة، إلى جانب العزف على وتر البطالة والفقر، ومساهمة السوريين فيهما.

فيديوهات لـ “الأخوة البشرية”

في خضم أحداث أنقرة الأخيرة، راودت الطفلة السورية شام الأطرش، بعدما لاحظت الحشد ضد السوريين على مواقع الإنترنت، فكرة تنفيذ تسجيلات صوتية لأبيات شعر وجهها الشاعر التركي ناظم حكمت لأصدقائه الشعراء في آسيا وأفريقيا، باعتبارها “تحاكي الأحداث وتوجه رسائل غير مباشرة لضمائر الناس وإنسانيتهم”، كما أبلغت والدها الشاعر ياسر الأطرش.

تقول شام لـ”العربي الجديد”: “أضفت لبعض أبيات الشعر الخاصة بحكمت جملاً مثل لم نخلق لنتحارب بل لنعيش كأخوة، في محاولة لربط الشعر الإنساني بالأخوة البشرية. وقد وصلت إلي ردود فعل إيجابية كثيرة، خصوصاً من أصدقائي الأتراك الذين أسعدني دعمهم لحملتي”. من جهته، يوضح ياسر والد شام، أن ابنته تملك موهبة وبراعة في الإلقاء. ويقول: استفدنا من إجادتها اللغة التركية، وهي اللغة الأم التي درستها منذ الحضانة لتنفيذ الفكرة بهدف الاستثمار في العناصر الإنسانية، وبراءة طفولتها، من أجل دفع العنصرية ونبذها. يتابع: “فوجئت بإضافة شام مقطعاً ألفته عكس دقتها في التعبير عن الغاية المنشودة، وإيصال معنى الرسالة الموجهة، والتي تنسجم مع الثقافة والقيم التركية والإنسانية. وأعتقد بأن عدم تسميتنا شخصاً أو حزباً أو شخصية بعينها شكل عاملاً مهماً جداً في إيصال فحوى الرسالة إلى أكبر شريحة من الرأي العام. ونحن نتطلع إلى انتصار الحق والإنسانية والمظلومين، ولا نرى طريقاً لتحقيق ذلك إلا عبر القانون والنظام والمحبة”. وفي ما يتعلق بزيادة تأثر الرسالة بتوجيه طفلة لها باللغة التركية، يؤكد ياسر “أهمية ربط براءة الأطفال بدعوات الخير ورفع مستوى القيم الإنسانية وإبراز قضاياها العادلة”، محذراً من “توريطهم في السياسة وبشاعاتها، وتحميلهم مواقف غير مناسبة لعمرهم قد تتسبب في مشكلات تؤثر على مستقبلهم، وتقود آباءهم إلى المثول أمام محاكم”.

أتراك ينبذون الفتنة

إلى ذلك، توالت ردود الفعل التركية المناهضة للعنصرية ولدعوات طرد السوريين. ونشرت الشابة لينا فيديو على موقع “إنستغرام” خاطبت فيه السوريين إثر أحداث أنقرة قائلة: “لستم وحدكم. نحن نحبكم. أنتم إخوتنا وستبقون كذلك إلى الأبد”.

ولفتت إلى أن “وسائل إعلام تركية تحاول تأجيج الشعب ضد العرب واللاجئين”، متمنية عدم انجرار الأتراك وراء هذه الحملات وأصحاب الأجندات السياسية، مع مطالبتها السوريين “بغض النظر وعدم الحكم على الأتراك من خلال مجموعة صغيرة تحاول زرع الفتنة”.

ومع تزايد حملات التحريض على السوريين إثر أحداث أنقرة، نشر شباب أتراك كُثر تسجيلات مصوّرة استهدفت تصويب مغالطات كثيرة تعتمد عليها أحزاب معارضة في تأجيج مشاعر الأتراك ضد السوريين. وأوضح أحدهم في شريط حقيقة مقولة إن “السوريين يتقاضون أجوراً من الدولة التركية، أو يدخلون الجامعة بلا إجراء اختبارات”، وأكد أنه يعيش مع سوريين في مدينة إسطنبول يزاولون أعمالاً صعبة جداً لا يرضى الأتراك بالعمل فيها، ويدفعون الإيجارات والضرائب.

وتطرق الشاب التركي إلى استثمارات السوريين في تركيا، والآثار السلبية التي قد تحدث إذا عاد السوريون إلى بلدهم، وسأل: “هل تعلمون ماذا سيحدث للصناعة لو أخرجتم السوريين؟ أعرف رجال أعمال كُثراً قدموا من سورية واستثمروا هنا. كلهم يدفعون الضرائب، وإذا رحلوا سيبقى عدد كبير من الأتراك بلا عمل”.

مع “التعامل الإنساني”

وفيما لم تقتصر حملات مناصرة السوريين وكشف الحقائق للمجتمع التركي، بعد أحداث أنقرة، على تسجيلات مصوّرة ومبادرات شخصية، اعتبرت الدعوة التي أطلقت على موقع “تويتر” بوسم “لا تلمس أخي” الأكثر حضوراً وتأثيراً، خصوصاً أنها ترافقت مع اقتراح شباب أتراك تنظيم تظاهرة لإنصاف السوريين. ووقفت جمعيتا “الحرية” و”أوزغور در” للحرية الفكرية والتعليم خلف حملة (لا تلمس أخي) للتضامن مع السوريين المقيمين في تركيا، والاحتجاج على الاعتداءات المتكّررة ضدهم عبر التظاهر في حديقة “سارج خانة” بمنطقة الفاتح الأسبوع الماضي. ويصرح الشاب حسان آكيول لـ “العربي الجديد”: “ركزنا في حملة لا تلمس أخي، على ضرورة تجنب الإساءة لجميع السوريين في حال ارتكب أحدهم ذنباً أو جريمة، والدعوة إلى التسامح، خصوصاً بعد إحالة جريمة القتل إلى القضاء، وإعلان والد القتيل قرار مسامحته القاتل، ودعوته علناً إلى عدم الإساءة للسوريين، ورفض الاستجابة للتحريض ضدهم وإلحاق أذى بهم عبر التعدي عليهم وعلى ممتلكاتهم في أنقرة”. ويرى آكيول أن “حملة لا تلمس أخي مهمة لأنها توضح حقائق غائبة عن معظم المجتمع التركي. ونحن لا نبغي تحدي بعضنا البعض بكلمة لا تلمس، بل نروّج لفهم الموضوع والتعامل الإنساني معه وفق عادات الأتراك وتقاليدهم. ووجود سوريين يجيدون اللغة التركية زاد التأثير الإيجابي للحملة”. ويشير إلى أن “هذه الحملة وغيرها التي ظهرت بعد أحداث أنقرة ليست جديدة،  فأتراك كُثر يناصرون السوريين وجميع اللاجئين في بلدنا. وسبق أن نظمت جمعية أوزغور در احتجاجات قبل أعوام، بعد تلويح رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشيدار أوغلو بطرد السوريين”.

أنقرة والتوضيحات

يرى الأستاذ في جامعة ابن خلدون بإسطنبول، برهان كور أوغلو، في حديثه لـ”العربي الجديد” أن حملة” لا تلمس أخي” وغيرها “مهمة جداً لكشف المغالطات وتكريس المعاملة الإنسانية، لأن خطاب الكراهية غير مقبول ولا يليق بالشعب التركي”. لكنه يستدرك بأن “الحملات وملحقاتها الإعلانية ونشاطاتها التي تشمل عقد لقاءات بين سوريين وأتراك لا تكفي، إذ يجب أن توضح الحكومة التركية وضع السوريين الذين تصفهم أحياناً بأنهم ضيوف، وأحياناً أخرى بأنهم يخضعون لقانون الحماية المؤقتة. فهذا لا ينمي خطاب الكراهية ضدهم فقط، بل ينال من حقوقهم، ويزيد غموض وضبابية مستقبلهم في تركيا”.

ويلفت إلى أن “أحداث أنقرة والاعتداءات التي تلتها على ممتلكات سوريين في مقابل ظهور حملات مؤيدة للسوريين، نبهت الحكومة إلى حتمية تغيير طريقة التعاطي الرسمي معهم، وتوضيح مسائل مختلطة، وبينها احتمال هجرة أفغان إلى تركيا، علماً أنه لا بدّ من رفض الحملات غير الأخلاقية، فإرسال المهاجرين إلى بلادهم كلام مرفوض وضد حقوق الإنسان”.

ويعتبر الحقوقي السوري محروس فؤاد في حديثه لـ”العربي الجديد” أن “وجود السوريين في تركيا لا يخضع لقانون ومصير واضحين. فحصر إجراءات الدولة بالحماية المؤقتة الممنوحة إليهم بعد نحو عشر سنوات من دخولهم البلاد أمر غير مبرر، ويمنح المعارضة أعذاراً مستمرة لاستخدام السوريين ورقة قبل كل استحقاق سياسي”.

ولا ينكر فؤاد بعض السلوكيات الخاطئة لسوريين في تركيا، مشيراً إلى أن “عددهم 3.6 ملايين وينتمون إلى شرائح ومستويات مختلفة، ويعاني كُثر منهم من ظروف سيئة، لكن مواطنين أتراكا ارتكبوا أيضاً جرائم ضد سوريين وسوريات، من دون أن تدمغ تداعياتها المجتمع التركي كله. من هنا يتمثل الحل في توضيح وضع السوريين بتركيا، وعدم الاستمرار بذهنية الضيافة والأنصار”، مشيداً في الوقت ذاته “بما فعلته تركيا للسوريين ومواصلتها تقديم التعليم والصحة مجاناً لهم، وتحملها أكثر من أي دولة في العالم أعباء استقبالهم كلاجئين”.

العربي الجديد

————————–

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى