صفحات الثقافة

خصوصيات ثقافية: من يهتم حقاً بنساء أفغانستان؟/ محمد سامي الكيال

تبرز قضية النساء دوماً لدى الحديث عن الحركات الإسلامية، بوصفها أحد أكثر النقاط حساسية وحضوراً، لدرجة يبدو فيها أن أغلبية المحددات، التي تعرّف الإسلاموية المعاصرة، في أذهان أنصارها وخصومها، تتعلق بالنساء، أو تنتهي عندهن بشكل من الأشكال: ماذا يلبسن وكيف يتصرفن؛ وهل يحقّ لهن العمل والتعليم والسفر؛ ما مدى الحضور المسموح لهن به في الحيز العام؛ وإلى أي مدى يمكن لهن التحكّم بأجسادهن في الحيز الخاص. ليس هذا شديد الغرابة، إذا تذكّرنا أن جانباً كبيراً من عبء الهوية الثقافية، والحفاظ على أساسيات النظام الاجتماعي، القائم أو المنشود، يتعلّق بالجسد الأنثوي أساساً، والحركات الإسلامية معنية للغاية بالهوية والضبط الاجتماعي.

إلا أن الانشغال بأوضاع النساء تحت الحكم الإسلامي بات يتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً، خاصة في الدول الغربية، إذ صار إظهار التضامن مع النساء في أفغانستان وغيرها من الدول الإسلامية، أو إبداء المخاوف حول تدهور أوضاعهن وحقوقهن، تصرفاً مستهجناً إلى حد كبير، في الأوساط الأكثر «تقدمية» ولذلك أسبابه الوجيهة، من منظور معادٍ للمركزية الغربية: لا تحتاج النساء المسلمات إلى تعاطف فوقي أبيض، والأفضل أن يكفّ الغربيون عن لعب دور الوصي عليهن، وعلى غيرهن من الفئات غير الغربية. يمكن للنساء في العالم الإسلامي تحديد قضاياهن ومطالبهن بأنفسهن، وهن لسن مجبرات على التقيّد بمنظور غربي عن التحرر أو الحقوق، فضلاً عن أن الحرص المزعوم على حريات النساء كان، في كثير من الأحيان، أحد مبررات التدخل والإخضاع الإمبريالي. يترافق هذا مع العديد من النشاطات، جيدة الدعم والتمويل في معظم الدول الغربية، حول «النسوية الإسلامية» وأنماط متعددة من «النسوية التقاطعية» التي تقوّض مركزية خطاب المرأة البيضاء، لحساب إنشاءات متعددة، لنساء من ثقافات وأعراق مختلفة، يمكن القول، على الهامش، إن ما يجمعهن هو تلقيهن الدعم من جهات ومؤسسات غربية، حريصة على أن تتكلم النساء غير البيضاوات، وما أكثر تلك الجهات والمؤسسات!

يُفهم من هذا التطوّر في الثقافة السائدة في الغرب، أن الهوس بالنساء غير الغربيات لم ينته أو يتراجع، بل اتخذ أشكالاً جديدة، تنبني على أن تقوم نساء «ملونات» بأداء معين، هو الأداء المفترض بنساء الهويات المهمشة، لكي تتاح لهن المنابر والقدرة على الكلام، وبعض الدعم والتمويل، لكن ماذا عن النساء اللواتي لا تتيح لهن ظروفهن القيام بمثل هذا الأداء، وعلى رأسهن نساء أفغانستان، وأشباهها من الدول الإسلامية؟

لا يمكن لأحد بالتأكيد أن يتكلم بلسان هؤلاء النسوة، لكن ما يمكن قوله، بكثير من الثقة، إنهن لا يعانين من عوائق كي يعشن «ثقافتهن» وليست المركزية الغربية أكبر مشاكلهن، في ظل تحكّم المتطرفين ورجال الميليشيات. فلماذا كل هذا الإلحاح على التصدي لمركزية غربية مفترضة في هذا الظرف؟ وما انعكاساته على قضايا النساء، وغيرهن من الفئات المضطهدة، في الدول الإسلامية؟

استثنائية الغرب

«عبء الرجل الأبيض» تحوّل إلى «ذنب الرجل الأبيض» هذه أطروحة باتت معروفة إلى حد كبير، في أوساط نقّاد الصواب السياسي في الغرب، وتقوم على فكرة بسيطة، هي أن المركزية الغربية لم تعد كما كانت في العصر الكولونيالي، أي اعتبار أن على الغرب مسؤولية إيصال الحضارة إلى الشعوب المتوحشة والبربرية، بوصفه الجهة الأكثر حضوراً ووعياً في التاريخ؛ بل بات الرجل الأبيض، على العكس، سبب كل كوارث ومشاكل الكون، بما فيها الحروب والمجازر الجماعية، واضطهاد النساء والمشاكل البيئية، ما يفترض أيضاً أنه الجهة الأكثر حضوراً ووعياً بالتاريخ، لكن بحكم قيمة سلبي، بعد أن كان إيجابياً.

بهذا المعنى يبدو أن مناهضي المركزية المعاصرين لم يتخلّصوا من الذات الغربية المتضخّمة، بل ربما أكثر تمسّكاً بها من الكولونياليين القدماء، فعلى الأقل كان الأخيرون يعتبرون أن هنالك قوى يمكن اعتبارها نداً لهم وسط الشعوب «غير المتحضرة» تشكّل تهديداً حقيقياً عليهم، ولا بد من مواجهتها وإخضاعها، أما «تقدميو» اليوم فلا يعترفون إلا بفاعل واحد في التاريخ، هو الغرب، وكل ما يصدر من غير الغربيين هو ردات فعل على الاضطهاد والتهميش الأبيض.

إلا أن مشكلة هذا المنظور لا تقتصر على النظرة الأيديولوجية النرجسية للذات، بل تتعداها إلى افتراض استثنائية خاصة للغرب، لدى دراسة أي حدث اجتماعي أو تاريخي أو ثقافي، أو اتخاذ موقف سياسي بخصوص أي قضية، فكل ما هو غربي – حديث إخضاعي واستغلالي، ويشكّل حدثاً فارقاً، مغايراً من حيث الجوهر لكل ما سبقه وما يمكن أن يليه، وبالتالي فكل أنواع الاحتلال والغزو والإخضاع؛ الأنظمة القمعية؛ العنف والإرهاب؛ اضطهاد النساء؛ سلب الحريات الفردية والجماعية للبشر، لا تكتسب أهمية ملحوظة، ولا تستحق إدانة خاصة، إذا لم تصدر من جهة غربية أو مرتبطة بالغرب، وفي أحسن الأحوال تعتبر نتيجة لما فعله الرجل الأبيض في ما مضى، تتساوى في هذا مثلاً السياسات الإيرانية في الشرق الأوسط؛ العمليات الإرهابية في فرنسا؛ أوضاع النساء في ظل حكم طالبان؛ الخ.

استثنائية الغرب هذه تفترض ضمنياً سلباً لأهلية غير الغربيين، فمن هم غير قادرين على ارتكاب الشرور، ويتصرّفون دوماً بمنطق رد الفعل، وخلاصهم الوحيد إنهاء هيمنة الغربيين عليه، ولا بد من حمايتهم دوماً من تدخلاتهم وأحكامهم، ليسوا أكثر من كائنات دونية على مستويين: مستوى أخلاقي، إذ لا يمكن اعتبارهم أهلا لتعقّل أبعاد تصرفاتهم وخياراتهم الحياتية، وتحميلهم مسؤولية أفعالهم والنتائج التي تؤدي إليها؛ ومستوى سياسي، ففعلهم يكتسب المعنى فقط من خلال قياسه بفعل غربي سابق عليه أو مزامن له. دعك من أن الخيارات «الصائبة» محددة لهم سلفاً، فعلى المسلمين؛ النساء؛ الملونين أن يكونوا دوماً مناهضين لـ«الرجل الأبيض» وهذا ما يميّز المهمّش الجيد عن «الكاره لذاته».

النخب التابعة الجديدة

لا يتم فرض «الخيارات الصائبة» على غير الغربيين نتيجة لتأثير معنوي مجرّد لفكر يعتبر نفسه تقدمياً، بل أساساً عبر سلسلة معقدة من المؤسسات الثقافية والإعلامية والمدنية، والأخيرة لا تعريف واضح لها، باستثناء أنها «غير ربحية» و»غير حكومية» والصفتان غير دقيقتين؛ ومعنية بقضايا الحريات وحقوق الإنسان وتمكين الفئات المهمشة، إلا أنها رغم كل هذا تعتبر نفسها مؤسسات غير سياسية، ما يثير كثيراً من علامات الاستفهام عن حقوق وحريات متعالية عن السياسة. وبالعودة لمسألة «الأداء» أي التمكين المؤسساتي لأشخاص ليسوا ذكوراً بيضاً، ليتصرفوا ويتكلموا تماماً كما هو مفترض ومتوقع من غير الغربيين، فإن البنية التحتية للأيديولوجيا السائدة خلقت نخباً تابعة جديدة، لا تقوم بتقليد الغربي في فكره وملبسه وعاداته، على غرار النخب التابعة في ما مضى، بل على العكس، تأتي قيمتها من أداء الاختلاف عنه بأفضل وجه، وإلا ستفقد دعمه.

تبدو هذه النخب المحلية – المعولمة معنية بأدائها هذا، الذي يمكن أن يدخلها إلى العالم البورجوازي الغربي، من ناحية القيم والأخلاقيات، بل حتى اللغة ومستوى الحياة، أكثر من اهتمامها بقضايا فعلية في مجتمعاتها، فليست الإسلاموفوبيا مثلاً ما يواجهه الناس في الدول ذات الأغلبية الإسلامية؛ وعنصرية الرجال البيض العجائز، آخر ما يعانيه من يتعرّضون لانتهاكات الميليشيات الطائفية؛ كما أن نسويات الموجة الثانية، المتهمات بمركزة نموذج المرأة الغربية، لا يؤثرن كثيراً أو قليلاً على أوضاع النساء في إيران أو أفغانستان.

خسرت دول عالمثالثية كثيرة حماس وجهود نخبها المحلية نتيجة سياسات الأداء تلك، وإذا كانت النخب القديمة، التي أنتجتها الكولونيالية، قد قادت ثورات استقلالية، وبنت دول ما بعد الاستعمار، فإن مصير النخب الحالية يبدو مؤسفاً بالمقارنة: البحث عن التمكين في مؤسسات ثقافية ومدنية «غير ربحية».

استعادة الكونية

ربما كانت النساء في أفغانستان وغيرها بحاجة فعلية إلى من يتكلم عن معاناتهن، بصرف النظر عن لونه ونوعه الجنسي، فإذا كانت القضايا التحررية من شأن الفئات المعنية بها حسب، ستتحول إلى ما يشبه صراعاً قبلياً، مفتقراً لأي معنى قابل للترجمة إلى لغة عمومية.

سابقاً لم يوفّر أصحاب قضايا التحرر، مثل المقاتلين الفلسطينيين والكُرد مثلاً، جهداً لأجل الحصول على تضامن ودعم دولي، ولم يجدوا مشكلة في أن تحوي معسكراتهم متطوعين شديدي البياض، فقضاياهم اكتسبت معناها من طرح كوني لمفهوم التحرر، لم يفترض استثنائية هوياتية خاصة للغرب، أو يعتبر الموقف السياسي كامناً بالضرورة في اللون والجنس والثقافة.

إلا أنه قد يكون الأفضل في أيامنا، لاستعادة المنظور التحرري الكوني، إيقاف تدخل النخب والمؤسسات الغربية في شؤون «المهمشين» أي أن يكفّوا عن تعليمهم كيف يجب أن يكونوا غير غربيين؛ وعدم مجاملة النرجسية الأخلاقية للبيض الكارهين للبياض، مهما كان لون جلدهم.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى