سياسة

كيف يمكننا فهم تطورات الموقف الأميركي من قضايا الشرق الأوسط عامة وسورية خاصة -مقالات مختارة-

——————–

المجتمع الأميركي في حافّة الهاوية/ وائل السواح

ما يحدث في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة ليس أمراً عابراً، ولا مشهداً قد مرّ بنا من قبل (Déjà vu)، فلطالما كان الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتّحدة على الطريقة والشكل أكثر مما هو على المضمون. وكان أغلبية الحزبين يقفون في الوسط، فلو أننا قسمنا أميركا إلى دائرة، ورسمنا فيها خطاً يمرّ في المركز، لوجدنا أن أغلبية السياسيين يتمحورون، معهم الأميركيون، على جانبي الخط المتوسّط، وقلّة فقط هم من يتبعثرون في أطراف الدائرة.

تبيّن الصورة السياسية الراهنة أن السياسيين، ومعهم الأميركيون، يبتعدون عن خطّ الوسط إلى الأطراف، فتجد الديمقراطيين يتجهون أكثر نحو الأفكار التقدمية، بينما يتبنّى الجمهوريون أكثر السياسات انغلاقاً وتعصّباً وعنصرية، ويلهثون وراء جمهور دونالد ترامب الذي يتّسم بالمحافظة، والانغلاق الاجتماعي والديني، واعتناق نظريات المؤامرة.

بدأنا نلاحظ منذ نحو عشرين عاماً تغيّرات حقيقية في بنية المجتمع الأميركي. وبدأت الخطوط الأمامية للاشتباكات الثقافية الأميركية تتعقّد أكثر وتتشابك في السنوات الأخيرة. وأتت الموجة الأخيرة من النشاط التقدّمي لتسهم في دفع ثقافة البلاد إلى اليسار، ما أدّى إلى رد فعل محافظ ضد كل شيء يطرحه الليبراليون من حركة “حياة السود مهمة” إلى حركة “أنا أيضا” (Me too) النسائية إلى ضرورة وضع الكمّامة وأخذ لقاح كوفيد-19. وربما لم يكن هذا التحوّل وليد ساعته، فالحقّ أن التغيير بدأ منذ نصف قرن تقريباً، مع إعادة تنظيم السياسة الأميركية على أسس ثقافية وتعليمية، وبعيداً، ربما، عن مستوى الدخل والتقسيمات الطبقية التي كانت تحدّد الفرق بين الحزبين لجزء كبير من القرن العشرين.

وشهدنا في العقود الأخيرة ازدياداً مضطرداً في أعداد خرّيجي الجامعات، وبات جزءٌ كبير من الخرّيجين لا يكتفون فقط بالشهادة الجامعية، بل يحاولون متابعتها بدرجاتٍ عليا. هؤلاء، بطبيعة الحال، الأشخاص الأكثر ليبراليةً في المجتمع، وقد انضمّ معظمهم إلى الحزب الديمقراطي، وبدأوا يصبغون الحزب بطابعهم، الفتيّ والمتنوّع، ثم أخذوا يرسلون ممثليهم إلى الكونغرس (ألكسندرا أوكاسيو كورتيز، ورشيدة طليب وإلهان عمر وبراميلا جايابال) ليروّجوا معايير ثقافية ليبرالية بشكل متزايد، مع اكتساب القوة لدفع الحزب الديمقراطي إلى اليسار. على المدى الطويل، يتخيل بعض الجمهوريين أن نموّ الاستقطاب التعليمي قد يبدأ في التقليل من الميزة الديمقراطية بين الناخبين الملونين بدون شهادة جامعية، وهو ما يفسّر كيف كان أداء الرئيس السابق، ترامب، أفضل بين الناخبين الملونين مقارنة بالجمهوريين السابقين، وكان أداؤه أسوأ بين الناخبين البيض.

في عام 2020، فاز الرئيس جو بايدن بحوالي 60% من أصوات الناخبين الحاصلين على تعليم جامعي، بما في ذلك الأغلبية الصريحة من خرّيجي الجامعات البيض، ما ساعده على رفع أسهمه بين سكّان الضواحي الغنية، المعروفة تاريخياً بقربها من الجمهوريين، ووضعه على القمة في الولايات الأساسية. وشكّل هؤلاء كتلة تصويتية مهمة. ووفقاً لتقديرات مراكز الإحصاء، كان 41% من الذين أدلوا بأصواتهم في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2020 من خرّيجي الجامعات، بينما لم تزد هذه النسبة في انتخابات 1952 عن 5% فقط، وفقاً لدراسة الانتخابات الوطنية الأميركية في ذلك العام. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الحزب الديمقراطي صار أكثر قوّة الآن، وأن لديه الآن تأييدا أكبر مما كان عليه قبل عشر سنوات أو خمسين سنة. ذلك أن انزياحاً حدث ويحدث بين الحزبين، فقد قوبلت القوة الديمقراطية المتزايدة بين خرّيجي الجامعات والناخبين الملونين برد فعل متساوٍ ومعاكس تقريباً بين الناخبين البيض والملوّنين، ممن لا يحملون شهادة. وانشقّت فئاتٌ واسعة من الطبقة العاملة التقليدية التي كانت تاريخياً تدعم الحزب الديمقراطي، وانضمّت إلى الجمهوريين.

عندما فاز جون كينيدي، وهو خرّيج جامعة هارفرد الأكثر عراقة في البلاد، بالرئاسة، بفارق ضئيل في عام 1960، جاء دعمه الأساسي من الناخبين البيض الذين لا يحملون درجةً جامعية، بينما صوّت الجامعيون لصالح منافسه، ريتشارد نيكسون، بنسبة صوتين لنيكسون لكلّ صوت لكينيدي. انخفضت هذه النسبة قليلاً بعد ثلاثين سنة، حيث صوّت 60% تقريباً من الناخبين البيض الذين لا يحملون شهادة جامعية لصالح الرئيس بيل كلينتون، ولكنها انهارت في انتخابات 2020، حيث صوّتت غالبية الجامعيين لصالح الرئيس جو بايدن الذي خسر جزءاً كبيراً من الناخبين البيض الذين لا يحملون شهادة جامعية بالنسبة نفسها، ولم يصوّت له منهم سوى 27% تقريباً.

وقد لا يكون ذلك غريباً، فقد تحوّل الحزب الديمقراطي إلى نوع من حزبٍ نخبويٍّ للمثقفين والليبراليين واليساريين والجامعيين. وترافق ذلك بالطبع مع تدهور القاعدة العمالية الصناعية القديمة للحزب، وكذلك النقابات وقادتها الذين كانوا يتمتعون، في السابق، بالقدرة على جعل سياسيي الحزب الديمقراطي يجعلون همومهم أولوية لهم. ولكن الحزب وجد نفسه يوسّع قاعدته أكثر، لتشمل الفئات المتعلّمة، وبدأ شيئاً فشيئاً يتبنّى آراء الناخبين الحاصلين على تعليم جامعي في كل قضية تقريباً، ما أخاف قاعدته العمالية القديمة وناخبي الطبقة العاملة الذين وجدوا أنفسهم أقرب إلى الحزب الجمهوري الذي كان تاريخياً الحزب النقيض لهمومهم. في المقابل، فتح الجمهوريون أبوابهم للناخبين الديمقراطيين التقليديين ذوي الميول المحافظة الذين شعروا بالضيق من الإجراءات والتجاوزات المتصوَّرة لليسار الجديد الأكثر تعليماً وليبرالية، وبالتالي، نخبوية.

وجاءت نقطة التحوّل الحاسمة مع الرئيس السابق، ترامب، بخطابه الشعبوي ولغته البسيطة القريبة من لغة الشارع. لا يمكن وصف ترامب بالمثقّف، ومعروفٌ أنه لا يقرأ أي شيء أطول من صفحة واحدة. وفي كتاب لابنة أخيه، ماري ترامب، التي تعرفه أكثر من غيرها، أنه دفع نقوداً لزميل له لكي يأخذ امتحان “SAT” نيابة عنه، ولولا ذلك لاستحال عليه النجاح في الامتحان. وتقول دراسات أميركية جادّة إن مستوى مفردات الرجل وقواعد اللغة عنده لا تزيد عن التي يتمتّع بها تلميذ في المرحلة المتوسّطة. وبدلاً من أن تكون هذه نقائصَ تُعيب ترامب، تحوّلت إلى رصيد له، وجاءت النكات الفجّة والتشبيهات البذيئة الذي يلقيها يمنة ويسرة لتزيد من شعبيته عند الفئات الأقل ثقافة وتعليماً. وشمل ذلك الفئات الأقل تعليماً حتى بين الملوّنين، خاصّة الأميركيين من أميركا اللاتينية. وقد تكون انتخابات 2020 أوّل مسابقة رئاسية يحقّق فيها المرشّح الديمقراطي أداءً بين الناخبين الملونين من حملة الشهادة الجامعية أفضل من أدائه بين من لا يحملون الشهادة. في المقابل، حقّق ترامب مكاسب كبيرة بين الناخبين الملوّنين بدون شهادات، خصوصا من أصل أميركي لاتيني. ووجد كثيرون من قادة الحزب الجمهوري في نجاح ترامب طريقاً سهلاً لجذب الأصوات والتأييد، فبالغوا في “الترامبية” ووجدوا أن من الأسهل جذب الناخبين من الطبقة العاملة الملونين.

وجد هذا التحوّل الديمقراطي يسارا صدى كبيراً في انتخابات 2016 و2020، وفي الانتخابات النصفية في 2018. وبرز بشكل رئيسي السيناتور بيرني ساندرز الذي وصف نفسه علانيةً بأنه اشتراكي ديمقراطي في بلدٍ يكاد يجرّم الاشتراكية، وفاز بيرني بتأييد عشرات الملايين من الأميركيين الشباب والمتعلّمين. وعلى الرغم من أنه خسر الانتخابات التمهيدية في 2016 أمام هيلاري كلينتون، و2020 أمام جو بايدن، إلا أن خطّه السياسي التقدّمي صار رقماً يصعب تجاوزه. وفي انتخابات 2018، تعزّز هذا المنهج بوصول من يعرفن بـ “الفرقة الضارية”، وهن نائبات ديمقراطيات تقدّميات من أصول ملوّنة، انتشرت أسماؤهن عالياً بين الشباب والتقدّميين الأميركيين. وبدا تأثير هذا الاتجاه واضحاً في السياسة الداخلية (الضرائب والبنية التحتية والرعاية الاجتماعية) والخارجية (الاتجاه السلمي والموقف المعدّل من القضية الفلسطينية). على أن نجاح أولئك النساء دفع أيضاً بجيل مناقض لهن من الجمهوريين، الذين دفعوا في انتخابات 2020 بحفنةٍ من النوّاب الشباب الذين يتبنّون خطاب ترامب، ويؤمنون بنظرية “كيو- آنون” (QAnon) التآمرية، إن هناك خطّة سرية مزعومة لما تُسمّى “الدولة العميقة في الولايات المتحدة” ضدّ الرئيس دونالد ترامب وأنصاره، تقتل الأطفال وتشرب الدماء. أهم هؤلاء مارجوري تايلور – غرين المتعصبة دينياً وعرقياً والمعادية للمسلمين واليهود والملوّنين والنساء.

يضع هذا الاستقطاب المجتمع الأميركي أمام حالة انقسامية غير مسبوقة، بلغت من الحدّة أن حجم الكراهية بين الفئات والأعراق والأيديولوجيات قد ارتفع إلى مستوى مخيف، أثّر على الصداقات والعائلات وأماكن العمل، وجعل الأميركيين يشكّك بعضهم ببعض، ويرفضون نتائج الانتخابات، ويسعون إلى تعديل القوانين لحرمان قطاعات واسعة من الأميركيين من التصويت. وسوف ينعكس ذلك سلباً على صورة أميركا في العالم وبين الأميركيين أنفسهم إلى حدّ بعيد.

العربي الجديد

——————————-

تداعيات عربية لإعادة التموضع الأمريكي

جاء التحالف الأمريكي ـ البريطاني ـ الأسترالي في مواجهة الصين، وإلغاء صفقة غواصات فرنسية لكانبيرا (واستبدالها بغواصات نووية أمريكية) على شكل مفاجأة كبرى لقيادة إيمانويل ماكرون الفرنسية، الطامح بقوة لدور عالميّ لبلاده، والراغب بتحقيق نتائج تعيده مجددا للرئاسة في الانتخابات العام المقبل.

جرى ذلك في وقت لم يكن العالم قد استوعب بعد تداعيات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والمفاجأة (للجميع هذه المرة) التي شكلها استيلاء طالبان السريع جدا على السلطة في كابول، وقد استقبل الأوروبيون (كما الجمهور الأمريكي) وكذلك قوى عالمية وإقليمية كبرى، كروسيا والصين والهند هذه المفاجأة بمناشدات إلى طالبان بتشكيل حكومة شاملة، وبمراعاة حقوق المرأة، مع محاولات واضحة، من قبل بكين وموسكو، لمحاولة استغلال الفراغ الذي شكّله الانسحاب.

انعكست السياسات الأمريكية الجديدة في ظل جو بايدن على بعض البلدان العربية، وكان هناك دور فرنسيّ لافت في هذا السياق، فقد شهدنا رعاية فرنسية ـ إيرانية لمؤتمر دوليّ في بغداد، وهو ما اعتبر إعادة للعراق على الخارطة الإقليمية، كما شهدنا رعاية فرنسية ـ إيرانية أخرى ساهمت، بعد انتظار 13 شهرا، في تشكيل حكومة نجيب ميقاتي اللبنانية، وكان لافتا أن الأخير، تحدّث أمس عن جولة خارجية له «لتفعيل التسوية الدولية ـ الإقليمية».

كان هناك حركة أيضا ضمن المحور المصري ـ الأردنيّ الذي أراد، على ما يظهر، الاستثمار في السياسات الأمريكية الجديدة، في تحريك المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وحركة أخرى باتجاه تمرير الغاز المصري عبر الأردن وسوريا إلى لبنان، مع ما يحمله ذلك من إمكانيات «تطبيع» عربيّ ودولي مع النظام السوري، وهو ما واجهته إيران بإدخال شحنات الوقود إلى لبنان، أيضا عبر سوريا، بحيث بدا الأمر كمنافسة على إظهار من يملك نفوذا أكبر على ملفّي النظامين المتهالكين في سوريا ولبنان.

أعطى موضوع المفاوضات مع طالبان، ومآلات الأوضاع في أفغانستان، مصداقية كبيرة للسياسة القطرية، التي كانت الراعي لتلك المفاوضات، والوسيط الرئيسي في التعامل مع طالبان، ولم تتردد الإمارات كثيرا في محاولة التأثير في الملف الأفغاني، عبر استقبالها الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني، من جهة، وفي إرسالها طائرة مساعدات إلى أفغانستان، من جهة أخرى.

ضمن حركة لاستباق تداعيات الحدث الأفغاني بدا أن أبو ظبي تعيد تقييما شاملا لسياساتها الخارجية، وقد انعكس ذلك بفتح الخطوط السياسية مجددا مع تركيا وقطر.

السعودية، التي فوجئت بسحب بطاريات باتريوت الأمريكية من أراضيها، والسماح بنشر الوثائق السرّية التي تخصها في موضوع هجمات أيلول/سبتمبر 2001، قامت بدورها بإعادة إحصاء خسائرها، وبعد مبادرتها المهمة لتخفيف التوتر الخليجي وفك الحصار عن قطر، بدأت بإعادة ترتيب أوراقها مجددا، لاستيعاب التطورات العالمية والتفاعل معها.

هناك ملفّات عربيّة أخرى ما تزال مفتوحة، ويلفها غموض تداعيات انشغال أمريكا بشؤون الصين، ومنها الملفان الليبي والتونسي، والواضح أن فرنسا وروسيا والصين، تتأهب كل واحدة من جهتها لتمكين أوضاعها وتحضير أوراقها إلى أن تتضح الصورة بشكل أكبر.

القدس العربي

————————

انسحابات أميركية مرتبكة .. ماذا عن النفوذ الإيراني؟/ رانيا مصطفى

الانسحاب الأميركي، الدراماتيكي والغريب، من أفغانستان، وتمكين حركة طالبان من السيطرة بكل سلاسة، قلَبَا كل الأوراق والحسابات للأطراف الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط؛ لأن انسحاباً أميركياً مماثلاً من العراق سيعني عودة التنظيمات المتطرّفة، من “الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة، وتقوية للنفوذ الإيراني في كل المنطقة، وستنهار حالة الاستقرار النسبي، وتعمّ فوضى تعيدنا إلى نقطة الصفر، ولا ترغب بها كل الأطراف المتدخلة.

بات هم الولايات المتحدة، ومنذ عهد الرئيس أوباما، تحقيق بعض الانسحابات، لمصلحة تعزيز وجودها في المحيط الهادئ، مقابل الصين؛ لكنها اكتشفت لاحقاً أن تخفيض الوجود العسكري في الشرق الأوسط، أي العراق وسورية وكذلك الخليج العربي، سيؤدّي إلى تقوية تحالف صيني – روسي – إيراني نشأ لملء الفراغ، الأمر الذي لا ترغب به واشنطن. يبدو أن إدارة الرئيس بايدن ارتأت في الانسحاب من أفغانستان، وترتيب سيطرة “طالبان” على العاصمة كابول، توريطاً مناسباً، وإلهاءً لدول المحور الثلاثي، المجاورة لأفغانستان، في صراعاتٍ وربما حروب، ستبقى محصورةً في تلك المنطقة ذات الطبيعة الوعرة. بالتالي، الانسحاب من أفغانستان فيه مصلحة أميركية، لكنّه، في الوقت نفسه، تم بشكل مرتبكٍ يمسّ هيبة الولايات المتحدة وعظمتها، ويعرّض الإدارة الأميركية لانتقادات داخلية واسعة.

الأمر الثاني الذي يمسّ هيبة الدولة العظمى هو تعثر مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران، وعجزها عن فرض شروطها على طهران، من أجل العودة إلى الصيغة الموقعة في 2015، فواشنطن تريد العودة إلى الاتفاق، تحقيقاً لما وعد به بايدن، لكن طهران تتشدّد برفضها الشروط الأميركية، وقد باتت دولةً شبه نووية، وفق ما تفيد تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد اختار المرشد خامنئي رئيساً متشدّداً، إبراهيم رئيسي، من التيار المحافظ، إعلاناً منه عن موقف إيراني صلب. تحتاج طهران إلى العودة إلى الاتفاق، لتستفيد من رفع العقوبات، وتتمكّن من تصدير النفط، خصوصاً إلى الصين، وأن تفتح علاقاتها الاقتصادية مع الأوروبيين، وتستورد الأسلحة، بطرقٍ شرعية، من روسيا، وللحصول على الأموال اللازمة لتوسيع مداخيل اقتصادها، واستكمال مشاريعها الإقليمية في العراق وسورية ولبنان بغطاء روسي، وتعزيز وجودها في مياه الخليج بشراكة صينية. وتدفع واشنطن شركاءها الأوروبيين في الاتفاق النووي مع إيران إلى إقناعها بالقبول بشروط العودة إلى المفاوضات. وعلى ذلك كان هناك تواصل ألماني وآخر فرنسي مع طهران. لكن متغيرات أفغانستان جعلت طهران تماطل أكثر، فتصريحات رئيسي ووزير خارجيته، حسين أمير عبد اللهيان، تقول بتأجيل العودة إلى مفاوضات جنيف شهرين، من دون أن يتوقف النشاط النووي الإيراني الذي بات على وشك امتلاك قنبلة نووية.

لطالما تشدّدت الولايات المتحدة في رفضها تمدّد النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، حيث كان شرطاً أساسياً للمضي بالحل السياسي في سورية، ولتخفيف العقوبات المفروضة على النظام السوري، وهو شرط أيضاً للعودة إلى مفاوضات جنيف بخصوص الاتفاق النووي، ومنع تحول لبنان إلى دولة لحزب الله في أية مشاريع لإنقاذ اقتصادها المنهار. وتقول واشنطن دوماً إنها لا ترغب بنفوذ مليشيات طهران في العراق، فضلاً عن اهتمامها بإبعاد خطر النفوذ الإيراني عن حلفائها في المنطقة في إسرائيل والخليج. لكن الوقائع على الأرض لا تتطابق مع التصريحات؛ ففي العراق غضّت واشنطن الطرف عن تمدّد مليشيات طهران. وبالمثل، تفعل في سورية، ما عدا منطقة الجنوب، حيث كانت واشنطن راعية لاتفاق درعا 2018، الذي نص على إبعاد المليشيات الإيرانية عن الحدود مع الأردن وإسرائيل مسافة 40 إلى 80 كم، وراعية للاتفاق الأخير أيضاً، بينما يستمر النفوذ الإيراني في التوسّع في كل مناطق النظام. كذلك، ظل الوضع المنهار اقتصادياً في لبنان معلقاً أكثر من سنة، مع رفض أية حكومة يشكلها حزب الله، ليتم القبول بها ذاتها (حكومة حزب الله) أخيرا، بوساطة فرنسية.

اختارت إدارة بايدن سياسة المهادنة مع الخصوم، بدل الصدام. وعلى ذلك هي تحتاج وكلاء وحلفاء لها، للمساعدة في إبقاء الأمور في منطقة الشرق الأوسط تحت السيطرة، خصوصا ما يتعلق بالنفوذ الإيراني. تدرك الولايات المتحدة عمق العلاقة والشراكة الروسية الإيرانية في سورية، وأن روسيا لن تتخلّى عن إيران، على الرغم من المنافسة بينهما على المكاسب. لذلك اختارت مسار التنسيق الأوسع مع روسيا لضبط إيقاع التمدّد الشيعي في سورية، ويظهر اتفاق درعا أخيرا درجة تحكّم موسكو بقرارات النظام، حيث انصاعت الفرقة الرابعة الموالية لطهران لقرار الابتعاد عن منطقة الجنوب، بناء على طلب روسي.

حضرت فرنسا بدورها لملء الفراغ في المنطقة واستعادة دورها، خصوصا في لبنان والعراق، وعقدت شراكة مع إيران في كلا البلدين، وبرعاية أميركية؛ ففي العراق نجحت في توفير الأجواء السياسية لتوقيع الحكومة العراقية على صفقاتٍ ضخمة بقيمة 27 مليار دولار مع شركة توتال الفرنسية، واستطاعت في لبنان رعاية تشكيل حكومة يتحكّم بها حزب الله. ويعني ذلك كله أن على واشنطن توخّي الدقة والحذر في تعاملها مع الملفين اللذين يعزّزان نفوذ إيران في كلا البلدين، خصوصا أنها اتخذت سياسة تخفيف التشدّد في تطبيق العقوبات الاقتصادية بما يتعلق بالمشاريع الفرنسية المتوقفة مع شركة توتال الفرنسية، أو ما يتعلق بمشاريع الطاقة في سورية، والتي تريد روسيا الاستثمار فيها، كمشروع إعادة تأهيل شبكة الكهرباء على سد الفرات، وصولاً إلى حمص، وإصلاح الشبكة في درعا، والسماح بمشروع تمرير خطوط الطاقة عبر سورية إلى لبنان، أي خط الغاز المصري، عبر الأردن، وشبكة كهرباء الأردن.

علينا الاعتراف بأن واشنطن لطالما استفادت من دورٍ مضبوط للمليشيات الإيرانية في إضعاف العراق وسورية ولبنان، وقد تحقق ذلك، وهي ترغب بلا شك في تثبيت حالة وقف إطلاق النار في سورية، وفي عدم انفجار الوضع في لبنان والعراق وعودة الحروب؛ لكنها أيضاً لا تدفع نحو استقرار كلي للمنطقة، وتفضل إنهاك الدول المتدخلة بالصراعات الجانبية. ولذلك لا يضايقها دور إيران طالما أنه مضبوطٌ بمساعدة حلفاء لها. وفي هذا الصدد، هي لن تتخلّى عن شراكتها مع دول الخليج، ولا مع الأردن. لكن سياسة المهادنة الأميركية تجاه طهران ونفوذها في المنطقة لا تُعجب إسرائيل، حيث تشهد العلاقة بين البلدين تراخياً، وتضغط على واشنطن بخصوص شروط تطبيق الاتفاق النووي، وخصوصا ما يتعلق بالصواريخ البالستية الإيرانية؛ هذا دفعٌ أدّى إلى سعي إسرائيلي مكثف تجاه موسكو، للتنسيق بشـأن الوجود الإيراني في سورية، والسماح بعودة الضربات الإسرائيلية بشكل مكثف للمواقع الإيرانية في سورية.

لن تنسحب واشنطن من العراق بالشكل الفوضوي نفسه الذي اتخذته في أفغانستان، فالوضع في العراق مختلف، هي منطقةٌ متصلةٌ بما حولها، والسماح بعودة الفوضى مجدّداً يعني عودة “داعش” و”القاعدة”، وتعزيز نفوذ المليشيات الشيعية، وحروب متنقلة تؤدّي إلى تشظّي كل المنطقة. هذا يعني أن قرار الانسحاب من العراق يجب أن يكون بتنسيق أعلى، وإخراج مختلف، وفي الوقت نفسه، ألا يؤدّي إلى تقوية النفوذ الإيراني أكثر، وهذا ما يربك واشنطن في اتخاذ قرار الانسحاب من المنطقة.

العربي الجديد

———————-

صفقة الغواصات وبُعدها الصيني في حسابات بايدن/ فكتور شلهوب

انتزاع الرئيس الأميركي جو بايدن لصفقة الغواصات الأسترالية بـ”نَتشِها” من فرنسا، واحتجاج الأخيرة باستدعاء سفيرها في واشنطن، جرت قراءته عموماً بأنه دليل آخر، مثل الانسحاب من أفغانستان، على أنّ الرئيس استنسخ سياسة “أميركا أولاً” الترامبية، وتراجع عن وعده بترميم العلاقات المتصدعة مع الحلف بسبب هذه السياسة. التفسير أن حجم الصفقة، حوالى 60 مليار دولار، كان فيه من الإغراء ما يكفي للسطو عليها، ولو كلّف الأمر خداع فرنسا أو حتى توجيه “طعنة” إليها، بتعبير وزير خارجيتها إيف لودريان.

المراهنة أنّ الأوروبيين في النهاية لا غنى لهم عن الشراكة مع أميركا، وبالتالي إن أي سوء تفاهم معها محكوم في آخر المطاف بوجوب تسويته والعودة إلى تحت مظلتها.

ففي أحلك أيام العلاقة مع الرئيس دونالد ترامب، لم يقطع الأوروبيون خط الرجعة مع واشنطن. أبدوا “شكوكهم في مدى التزام أميركا تعهداتها تجاههم كحلفاء”، ودعوا إلى “ضرورة اعتماد أوروبا على نفسها” (أنجيلا ميركل) و”بناء جيشها” للدفاع عن نفسها (إيمانويل ماكرون)، وأعربوا عن تزايد “الريبة والخيبة ” لديهم من بايدن الذي زعم أن مسألة تصحيح العلاقات مع الحلفاء بند رئيسي في أجندة إدارته. وتساءلوا “عمّا إذا كانت الترامبية قد تحولت إلى جزء من الاجماع الأميركي حول السياسة الخارجية”، بل عمّا إذا كان “في بايدن شيء من ترامب”، خصوصاً أنه تبنى اتفاقية سلفه بالانسحاب من أفغانستان، من دون مراعاة لطلب الحلفاء بتأجيل هذا الانسحاب.

لكنْ للمسألة جانب آخر. لا شك في أن الإدارة كانت متوقعة أن يسبب تواطؤها الخبيث بصدمة فرنسية، ولو أنها تفاجأت باستدعاء السفير، بل بصدمة كبيرة في صفوف حلفائها الذين ازدادت شكوكهم بعد أفغانستان. مع ذلك، مضت في الانقلاب على الحليف الفرنسي. والاعتقاد العميق أن دسامة الصفقة، 60 مليار دولار، لم تكن العامل الحاسم أو الوحيد فيها، بقدر ما كانت حسابات التنافس الاستراتيجي مع الصين، الذي قد يؤدي إلى مواجهة ما على الطريق، إذا ما واصل السير في خطه التصعيدي. بل ثمة من يذهب إلى حد تأكيد حتمية وقوعها في وقت ما في بحر جنوب الصين.

الإشارات والتحذيرات في هذا الخصوص لافتة، بحيثياتها ومصادرها. منها تحذير كيسنجر خلال رئاسة ترامب، وتوصيته بضرورة التعامل مع بكين بسياسة متوازنة “بين التعاون والتعارض”. وسبق أن تحدث عن مثل هذه” الحتمية” أحد مشاهير المحافظين الجدد، السفير والمستشار السابق جون بولتون. وفي مارس/آذار الماضي، صدر كتاب بعنوان رقمي “2034”، يرسم مؤلفاه الأدميرال المتقاعد جيمس ستفريدس (قائد قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) سابقاً) وضابط المارينز إليوت أكرمن، سيناريو الحرب المتوقعة في عام 2034، حيث تُغرق بارجة صينية مدمرة أميركية في بحر جنوب الصين. وفي النهاية، “تتوسط الهند بعد كلفة باهظة يتكبدها الطرفان الصيني والأميركي، وتؤدي إلى تغيير موازين القوى إلى الأبد”.

طبعاً هو تصوّر افتراضي، لكن خلاصته أن هذه الحرب أو المواجهة مرجح وقوعها في غضون نيف وعشر سنوات. الكلام عن تصاعد التوتر وحصول احتكاك مع الصين صار إحدى وجبات الحديث في واشنطن عن الشؤون الخارجية، منذ أن بدأ الاعتقاد يتزايد عن أن شرقيّ آسيا في طريقه ليصبح نقطة الثقل الاقتصادي في العالم، وأن الصين ستكون في القلب منه. وفي ذلك الوقت، دعا الرئيس باراك أوباما إلى “التحول باتجاه الشرق الأقصى” بدلاً من الشرق الأوسط. ومع تزايد النمو الاقتصادي للصين واحتلالها للموقع الثاني في العالم، توالت التقديرات عن اقترابها من الحلول مكان الولايات المتحدة في الموقع الأول في غضون سنوات غير بعيدة. ومع اشتداد المزاحمة بهذا الشكل، ارتفعت نبرة الخطاب الأميركي مع مجيء بايدن الذي قال إنه ما دام هو في البيت الأبيض، فلن يسمح بتفوق الصين على أميركا. ومن هذا المنطلق، عمل بعد شهرين من تسلمه الرئاسة على ترتيب لقاء افتراضي رباعي (أميركا، اليابان، الهند وأستراليا)، أطلق عليه اسم “كواد”، أي الحوار الأمني الرباعي، ليكون نواة تجمّع تحالفي يوازن الثقل الصيني في المنطقة.

في هذا السياق، جاءت على ما يبدو إطاحة صفقة الغواصات الفرنسية “التي تعمل بالطاقة العادية والأقل قدرة على التخفي”، لاستبدالها بأخرى أميركية بريطانية تعمل “بالطاقة النووية وقادرة على التسلل إلى قرابة الشواطئ الصينية من دون انكشاف مواقعها”. وهذه الميزات أعطتها الأفضلية لتزويد البحرية الأسترالية بها، التي تشي الترتيبات التحالفية في المنطقة بأنه لا بد أن يكون لها دورها في أي مواجهة بين الصين والولايات المتحدة. لكن إخراج العملية الذي بدا أقرب إلى الخدعة، ترك الانطباع بأن الجانب المالي كان من بين الدوافع المقررة في الصفقة. وبذلك، سيصبح بعد الآن من الصعب على الرئيس بايدن تسويق خطابه عن أهمية الحلفاء والتحالفات وحرصه على تعزيزها. وثمة من لا يستبعد أن تنعكس هذه الهزة مع فرنسا، واستطراداً مع الأوروبيين بصورة سلبية على حلف “الناتو”، أكثر مما كانت عليه في زمن ترامب. حصر الصفقة بالثلاثي الأنكلوساكسوني قد يحمل رسالة منفّرة إلى بقية الشركاء الأوروبيين غير المتحمسين أصلاً للتصعيد مع الصين.

العربي الجديد

———————-

عصا وجزرة المفاوضات مع ايران/ مهند الحاج علي

خلال أسبوعين، برزت تقارير عن ارتفاع مفاجئ في مبيعات النفط الإيراني (600 ألف برميل الى المليون يومياً)، وسط كلام شعبوي عن كسر الحصار والإرادة الأميركية وغير ذلك، في حين سربت مصادر أمنية غربية وإسرائيلية لصحيفة “نيويورك تايمز” أن الموساد اغتال العالم الإيراني فخري زاده بموافقة أميركية. كان هناك ضوء أخضر من واشنطن للاغتيال.

ما الرابط بين هذه الإعلانات كلها؟

أولاً، على مستوى المبيعات الإيرانية، ماذا تغير حتى تمكنت طهران من تحسين قدرتها على تصريف النفط والتغلب على جدار العقوبات الأميركية؟ المتغير الوحيد هو الإدارة الأميركية بعد فوز الرئيس جو بايدن العام الماضي على عرّاب موجة العقوبات الأخيرة، الرئيس السابق دونالد ترامب.

ومن الواضح أن هناك تساهلاً أميركياً في ملف العقوبات، مرحلياً، سيما أن الارتفاع بالمبيعات الإيرانية حصل بعد تسلم الإدارة الأميركية الجديدة مهامها. ولكن لماذا يحصل ذلك؟ تُريد الولايات المتحدة بعث بادرة حسن نية أولاً، وثانياً، ترغب في توسيع هامشها في الجولة المقبلة من التفاوض مع الجانب الإيراني. ذاك أن العقوبات المفرطة لإدارة الرئيس ترامب لم تترك مجالاً للضغط مستقبلاً، إذ كانت شاملة، ولم تترك أوراقاً (أو هامش مبيعات نفطية) لأي إدارة مقبلة لتُفاوض بها الجانب الإيراني. إذاً، المبيعات الإيرانية هي بعض الهامش الضروري للتفاوض، وإشارة لما ستكون عليه الأمور في حال نجاح المفاوضات وعودة طهران للاتفاق النووي.

هي عصا وجزرة في آن قبل الجولة المرتقبة للمفاوضات في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. الطرفان يُريدان الاتفاق النووي، رغم الشعارات الفارغة، وهناك مؤشرات الى أن الجولات المقبلة من التفاوض ستكون أكثر جدية، سيما بعد قمة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك هذا الشهر. حتى تعيين الدبلوماسي علي باقري كني مكان عباس عراقجي ليتولى ملف التفاوض النووي مع الولايات المتحدة، هي إشارة بهذا الاتجاه، وليس عكسه. وكان باقري كني مساعداً للأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي، وله ملاحظات كثيرة على طريقة ادارة المفاوضات السابقة.

لكن هذا التعيين قد يكون مفيداً لجهة امتلاك باقري التفويض المطلوب من أعلى القيادة، لإدارة مفاوضات ناجحة. كانت تقارير إعلامية أشارت الى قرابة بين هذا المسؤول والمرشد الأعلى علي خامنئي. وفقاً لهذه التقارير، المفاوض النووي الإيراني الجديد هو شقيق كني مصباح الهدى باقري كني الذي تزوج من هدى خامنئي ابنة المرشد. يعني عملياً هو شقيق صهر المرشد.

المفاوضات الإيرانية-الأميركية تعود قريباً. وهنا يُطرح سؤال حول سبب محاولة طهران وحلفائها رسم مشهد مغاير، على أنها خرجت من المعركة منتصرة، وكسرت الحصار الأميركي وغير ذلك. وهناك من يرسم مشهداً من “الانتصارات” الدبلوماسية خلال الشهور الماضية، بدءاً من الاتفاق الاستراتيجي مع الصين، وانتهاء بدخول ايران الى “منظمة شنغهاي للتعاون”. من الصعب تخيل مثل هذه الخطوات خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، بل جاءت بعد وفود بايدن للبيت الأبيض (منظمة شنغهاي تضم دولاً حليفة للولايات المتحدة)، في ظل رغبته في إعادة التهديد النووي الإيراني “الى الصندوق”، كما جاء على لسان مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان. لا تُريد الإدارة الأميركية أي تهديدات محتملة اليوم لنجاح المفاوضات، إذ أن هامش الوقت ضيق ليس فقط لجهة احتمال امتلاك ايران السلاح النووي أو القدرة على صنعه فحسب، بل أيضاً لأن هناك انتخابات نصفية للكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) العام المقبل. كما أن هناك في الإدارة من يرى في اتفاق نووي جديد، فرصة للتغطية على الفشل بتنظيم الانسحاب من أفغانستان.

في المقابل، يحتاج الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لهذا الاتفاق لتحقيق إنجازات اقتصادية وإطلاق عهده. وما هذه الحفلات والتصريحات الاستعراضية سوى تمهيد لانجاز مهمة التفاوض والعودة للاتفاق ورفع العقوبات الأميركية أو بعضها بالمرحلة المقبلة. هي فترة سماح أميركية لا تخلو من استعراضات وتهديدات.

المدن

—————————–

أزمة الغواصات وبحر الشكوك/ غسان شربل

من حق فلاديمير بوتين أن يشعرَ بالارتياح. كلُّ تصدُّعٍ في الحلف الذي تقوده أميركا يبهجُه. يضاعف من سروره أنَّه هذه المرة ليس في عين العاصفة، فالأزمة تعبّر بوضوح عن انهماك أميركا في مواجهة التحدي الصيني. صحيح أنَّها ليست المرة الأولى التي تقفز إلى الواجهة الخلافات العلنية بين الولايات المتحدة وحلفائها، لكن الصحيح أيضاً هو أنَّ الأزمة الجديدة تأتي في مناخ جديد يتعلق بأميركا ودورها في إدارة العالم.

في الحديث عن استيائها من التحالف الأمني الثلاثي الذي أفقدها ما كانت تعتبره «صفقة العصر» مع أستراليا، استخدمت فرنسا مفرداتٍ قاسيةً تعبر عن الشكوك العميقة التي كانت كامنة تحت السطح الهادئ للعلاقات. زاد في مرارة باريس أنَّها كانت تعتقد أنَّ عهد جو بايدن ليس في وارده ارتكاب مثل هذا النوع من المفاجآت الذي كانت تتخوف منه في عهد سلفه. وهكذا تحدثت باريس عن «الخيانة» و«الطعن في الظهر» و«الأنانية» و«الانتهازية»، مبررة استدعاء سفيريها لدى الولايات المتحدة وأستراليا للتشاور. وإذا كانت باريس تتَّهم كانبيرا بالإخلال بصفقة الغواصات، فإنَّها تعتبر أنَّ العرض الأميركي هو الذي شجّعها على الخيانة، من دون أن تنسى الحديث عن الانتهازية البريطانية.

كشفت أزمة الغواصات أنَّ العالم الغربي يجتاز مرحلة من الشكوك العميقة. في عالم المعسكرين كانت القصة أكثر وضوحاً. كان يمكن التكهن بالأخطار والردود المحتملة عليها. وكان هناك اعتقاد راسخ أنَّ خطوط التماس غير قابلة للاختراق من دون المجازفة بوليمة دموية كبرى. هذا الخوف المتبادل ساهم في منع المغامرات الكبرى. كانت الاختراقات محصورة بمناطق هامشية في العالم. لم يحاول الاتحاد السوفياتي مثلاً تنفيذ انقلاب على المشهد الذي قام في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. كانت موسكو تكتفي بإدارة الملاعب التي تعتبر تابعة لها والتي تمتلك حق التدخل فيها بمعنى من المعاني. لم يتقدم «الجيش الأحمر» مثلاً لشطب خطوط التماس. وكان الشعور أن أميركا لن تتردَّد في الدفاع عن أوروبا الغربية إذا تعرضت لخطر داهم. وساد شعور في أوروبا الغربية أنَّ حلف «الناتو» مظلة تحمي، تماماً كما ساد شعور في القسم الآخر من القارة أنَّ حلف وارسو لا يفرط في سلامة أعضائه.

اختلفت الصورة غداة زوال الاتحاد السوفياتي. شعر العالم أنَّ إمبراطورية كاملة اندحرت مع ترسانتها ونموذجها ومن دون إطلاق رصاصة. والواضح أنَّ الانتصار الأميركي كان هائلاً، ما أوقع عقولاً أميركية في سيناريوات «القرن الأميركي» والحلم ببناء عالم يشبه المنتصر.

مع بداية القرن الحالي، اقتحمت المشهد منظمات إرهابية لا تملك عنواناً ثابتاً وتعتبر إضرام النار في الرداء الأميركي مهمتها الأولى والأخيرة. أخذت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) أميركا المنتصرة إلى امتحانات صعبة، وتحديداً في أفغانستان والعراق. وفي المكانين بدت الولايات المتحدة قوة هائلة تستطيع إسقاط نظام معادٍ لها بإغراقه في بحر من النار، مستفيدة بالطبع من الهوة التكنولوجية الهائلة التي تفصلها عن الأنظمة المستهدفة. وفي المكانين أيضاً بدت حدود القوة الأميركية. وهكذا شاهد العالم القوات الأميركية تنسحب من العراق، وكأنها تتركه عن قصد أو غير قصد في عهدة إيران، وتنسحب لاحقاً من أفغانستان، وتتركها في عهدة «طالبان».

ساهمت السنوات الأخيرة في تصاعد الشكوك في القارة القديمة. لا يتعلق الأمر دائماً بأخطاء أميركا في إدارة العالم. يتعلق أحياناً بالشكوك في رغبة أميركا في الاستمرار في هذه الإدارة وفي مدى حرصها على تحالفاتها وحلفائها. لم يتردد مسؤولون أميركيون في الحديث صراحة في العقود الأخيرة عن القارة العجوز العاجزة عن العثور على موقع مضمون في نادي الكبار. كانت روسيا بوتين تحاول الفوز بأكبر قسط ممكن من الإرث السوفياتي، وكان ورثة ماو يخترقون العالم بمشروعات البنية التحتية والقروض، في حين كانت المجموعة الأوروبية تعاني الأمرين للتحدث بصوت واحد في شؤون القارة والعالم. ضاعف من البلبلة قيام بريطانيا بالقفز من السفينة الأوروبية طامعة بعلاقة خاصة وحميمة مع أميركا، ومن قماشة الموقع الذي يوفره مثل التحالف الثلاثي الموجه أصلاً ضد التمدد الصيني.

جاءت أزمة الغواصات في مرحلة شكوك أوروبية متفاقمة. هل تراجع ثقل أوروبا بعد خروج بريطانيا من هذا النادي الذي يتحدَّث بلغات كثيرة؟ وماذا عن القاطرة الألمانية – الفرنسية للاتحاد الأوروبي، في وقت تستعد فيه أنجيلا ميركل للمغادرة، ويتَّجه فيه إيمانويل ماكرون نحو انتخابات رئاسية؟ وإذا كانت أوروبا لم تستطع توحيد مفرداتها في التعامل مع فلاديمير بوتين كخصم أو شريك أو منافس، فمن يضمن توحيد صوتها في موضوع الصعود الصيني؟

تكشف أزمة فرنسا مع التحالف الثلاثي الأميركي – الأسترالي – البريطاني افتقار العالم الذي تقوده الولايات المتحدة، أو الذي يفترض أن تقوده، إلى إدارة هادئة وثابتة ومطمئنة للحلفاء. ليس لأميركا في هذا التحالف منافس على الموقع الأول. الطموح الأوروبي لا يصل أبداً إلى هذه الحدود. لكن دولاً من قماشة فرنسا وألمانيا تطمح أن تكون شريكاً ولو متواضعاً في رسم السياسات؛ خصوصاً إذا كانت ستطالب بتحمل مسؤوليات ونتائج.

لا مصلحة لفرنسا في سلوك طريق اللاعودة مع الطرف الآخر في الأزمة. ولا مصلحة للولايات المتحدة في ضرب أسس العلاقة مع فرنسا. الأزمة محكومة بحاجة أطرافها إلى الإبقاء على العلاقات بعد توفير التعويضات وتنفيس الاحتقانات. الأكيد هو أنَّ أزمة الغواصات تعبر عن صعوبة إدارة عالم يتصاعد فيه السباق المحموم على الأسواق والسيطرة والموقع الأول. لن يكون من السهل على أميركا تنظيم اصطفاف واسع على أساس أن الصين هي «إمبراطورية الشر» الجديدة. كشفت أزمة الغواصات أنَّ بحراً من الشكوك يقوم بين الولايات المتحدة وعدد غير قليل من حلفائها، في طليعتهم فرنسا.

الشرق الأوسط

——————————-

تسونامي صفقة الغواصات الأميركية إلى أستراليا/ هشام ملحم

تدهورت العلاقات الأميركية-الفرنسية فجأة إلى مستويات غير معهودة عقب الإعلان الأميركي-الأسترالي-البريطاني يوم الأربعاء عن صفقة غواصات أميركية تسيرها الطاقة النووية إلى أستراليا لتعزيز دفاعاتها وقدراتها البحرية في مواجهة البحرية الصينية، وذلك بعد ساعات من إلغاء أستراليا لصفقة توصلت إليها قبل سنوات مع فرنسا لشراء 12 غواصة تستخدم طاقة المازوت بقيمة 66 مليار دولار.

ووصف بعض المحللين هذه الأزمة بين واشنطن وباريس بأنها الأسوأ منذ قرار الرئيس جورج بوش الابن غزو العراق في 2003، بينما رأى آخرون أنها الأخطر منذ أزمة قناة السويس في 1956، حين عارضت واشنطن الهجوم الثلاثي الفرنسي-البريطاني-الإسرائيلي ضد مصر.

الرد الفرنسي جاء سريعا وغاضبا، حيث استخدم المسؤولون الفرنسيون عبارات مثل “طعنة في الظهر” أو “خيانة حليف” أو قرار “مجحف” وغير مبرر في وصفهم للاتفاق الأميركي –الأسترالي.

وسارع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى استدعاء سفيريه لدى واشنطن وكانبيرا للتشاور حول الخطوات المقبلة. ليس من الواضح في هذا الوقت المبكر معرفة أبعاد ومضاعفات هذه الأزمة بين واشنطن وباريس، وما إذا كانت أضرارها بعيدة المدى، أم أنها ستتبخر بسرعة نسبية كما حدث بعد غزو العراق.

ولكن الصدمة التي تلقتها فرنسا، وخاصة بعد أن كشفت التقارير الصحفية إلى أي مدى سعت الدول الثلاثة المعنية بالصفقة وبما يمكن اعتباره تحالفا وثيقا بين واشنطن ولندن وكانبيرا لاحتواء الصين، إلى إبقاء اتصالاتها سرية، تؤكد بشكل لا لبس فيه أن سياسة الاستدارة إلى آسيا أصبحت واقعا استراتيجيا جديدا.

وخلال الأيام التي أعقبت المفاجأة الاستراتيجية بدت الصفقة الأميركية-الأسترالية كأنها تسونامي وصلت أمواجه العاتية إلى معظم شواطئ الدول الواقعة حول حوض المحيط الهادئ.

عسكريا، الغواصات الأميركية متطورة أكثر من الغواصات الفرنسية واستخدامها للطاقة النووية يجعلها أسرع وأكثر هدوء ما يعني صعوبة اكتشافها ورصدها من قبل البحرية الصينية، كما أن الطاقة النووية تجعلها قادرة على البقاء في أعماق المحيطات لأشهر وليس فقط لأسابيع كما هو الحال في الغواصات التي تستخدم المازوت.

سياسيا، الصفقة تعني أن أستراليا اتخذت قرارا استراتيجيا لأن تصبح عضوا فعالا في تحالف دولي تقوده واشنطن لاحتواء الصين.

بدأت الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما ما عرف بسياسة التحول أو الاستدارة إلى آسيا، أي إلى المنطقة الأهم لمستقبل الولايات المتحدة اقتصاديا واستراتيجيا، التي اصبحت أيضا في السنوات والعقود الاخيرة مع الصعود الاقتصادي والاستراتيجي للصين مصدر التهديد المتنامي لمكانة أميركا في العالم.

هذا التوجه الاستراتيجي الجديد يعني تخصيص موارد اقتصادية وعسكرية جديدة واهتمام سياسي إضافي لمنطقة جغرافية واسعة تشمل دولا عديدة تقع على ضفاف المحيطين الهادئ والهندي.

هذه الاستدارة تفترض أيضا تقليص الموارد وحتى الاهتمام السياسي بالمناطق الجغرافية التي استحوذت على اهتمام وطاقات الولايات المتحدة منذ قرن تقريبا، وتحديدا القارة الأوروبية، والشرق الأوسط.

بعد الحرب العالمية الثانية بنت الولايات المتحدة نظاما أمنيا واقتصاديا جديدا في أوروبا الغربية جمعها مع هذه الدول وكندا في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأدى إلى تعاون اقتصادي غير مسبوق، وإلى اعتماد سياسة احتواء فعّال للاتحاد السوفياتي ساهمت في انهياره وتفككه خلال أقل من خمسين سنة.

الاهتمام الأميركي بنفط الشرق الأوسط بدأ قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد الحرب أصبح للولايات المتحدة وجود عسكري دائم في المنطقة لدعم حلفائها وضمان تدفق النفط ولردع أي محاولات من خارج أو داخل المنطقة لعرقلة أو وقف إنتاج ونقل النفط والغاز من منطقة أصبحت بعد الحرب محورية لازدهار واستقرار الاقتصاد العالمي.

نفط منطقة الخليج لا يزال مهما للاقتصاد العالمي، لكنه فقد بعض أهميته مع ازدياد إنتاج النفط في مناطق أخرى من العالم، وبعد أن تحولت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة إلى أكبر منتج للنفط والغاز في العالم.

الاستدارة إلى آسيا ساهمت في قرار الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق، (قبل أن يرغمه تنظيم داعش على العودة إلى العراق عسكريا) وعدم تدخله عسكريا في سوريا ضد نظام الأسد، وتفسر أيضا رغبته بالانسحاب من أفغانستان، وهو هدف لم ينجح في تحقيقه.

الرئيس السابق ترامب توصل إلى اتفاق أولي مع حركة طالبان للانسحاب من أفغانستان، وقرر سحب القوات الأميركية الخاصة من الصومال وكان يرغب بسحب القوات من العراق وسوريا لو لم يواجه معارضة قوية من وزارة الدفاع. الرئيس بايدن وسلفه ترامب يختلفان حول معظم القضايا الداخلية والخارجية، لكنهما يلتقيان على اعتبار الصين الخطر العالمي الذي يتطلب اهتماما أميركيا مماثلا للاهتمام الذي أبدته الحكومات الأميركية المتعاقبة بردع الخطر السوفياتي خلال الحرب الباردة.

أن تجازف إدارة الرئيس بايدن، وهو الذي دعا خلال حملته الانتخابية، ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض إلى تحسين وتعزيز العلاقات الأميركية-الأوروبية، بتأزيم العلاقات مع فرنسا، وهي أقدم حليف لأميركا، من أجل تعزيز سياسة الاستدارة إلى آسيا وتقوية إجراءات احتواء الصين، فهذا يؤكد بشكل واضح، وحتى نافر، إلى أي مدى أصبح ردع الصين هاجسا أميركيا.

معظم العقوبات الاقتصادية التي فرضها ترامب، أبقاها بايدن، لا بل زاد عليها عقوبات طالت شخصيات صينية مسؤولة عن قمع واضطهاد المسلمين الصينيين.

الخلافات بين البلدين تغطي طيفا واسعا يشمل قضايا سياسية مثل الخلاف القوي حول مستقبل تايوان، وانتهاك حقوق الإنسان داخل الصين وفي هونغ كونغ، والعدوانية الصينية التي تطال جزر وأراض متنازع عليها مع حلفاء واشنطن في المنطقة واستخدام الأساطيل الصينية لترهيب هؤلاء الحلفاء، إضافة إلى الخلافات حول الملكية الفكرية وسرقة التقنيات الأميركية والتنافس التقني بين الدولتين، والاختراقات الإلكترونية الصينية للشركات الأميركية.

التنافس بين أول وثاني اقتصاد في العالم مرشح للتفاقم أكثر، لأن الصين تريد أن يصبح اقتصادها الاقتصاد الأول في العالم خلال العقدين المقبلين.

ولا تخف إدارة بايدن رغبتها بالتصدي التقني للصين من خلال حرمانها من الوصول إلى التقنيات الأميركية الجديدة، وإقناع حلفاء واشنطن بعدم استخدام تقنيات صينية متطورة، كما أن بايدن يريد أن يتزامن هذا التصدي التقني والاقتصادي للصين، مع ردع استراتيجي يشمل ائتلافا دوليا من دول محورية حول حوضي المحيطين الهادئ والهندي.

وفي الرابع والعشرين من الشهر الجاري سوف يلتقي في واشنطن وجها لوجه قادة اليابان والهند وأستراليا مع الرئيس بايدن، لتنسيق جهودهم في هذا المضمار.

صفقة الغواصات الأميركية لأستراليا جاءت بعد أن اعربت فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية عن استيائها لأن قرار الرئيس بايدن بسحب القوات العسكرية من أفغانستان كان مفاجئا ولم تسبقه مشاورات عسكرية وسياسية مع الحلفاء الذين نشروا قواتهم في أفغانستان منذ 2001.

الصفقة، والسرية التي أحاطت بها، دفعت بالكثير من المسؤولين الأوروبيين في حلف الناتو وبالمعلقين الأوروبيين للتساؤل حول مستقبل التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وأوروبا.

البعض، أحيا من جديد دعوة فرنسا إلى انشاء قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة. آخرون قالوا إن دعوة الرئيس ماكرون التي أعلن عنها قبل الصفقة الأميركية-الأسترالية بضرورة اعتماد أوروبا “استراتيجية مستقلة” في التعامل مع الصين، تكون مختلفة عن سياسة أميركا وأقل تصلبا من الاستراتيجية الأميركية، أي أن تتعاون أوروبا مع الصين في مجال مكافحة التغيير البيئي وفي التجارة، ولكن في الوقت ذاته عدم التردد في انتقاد انتهاكات الصين لحقوق الإنسان.

مثل هذه السياسة الأوروبية المستقلة تجاه الصين، لن تنجح دون دعم ألماني، وهو دعم قد لا يتحقق لأن ألمانيا تدرك أن إدارة الرئيس بايدن حين رفضت إبقاء العقوبات ضد خط أنابيب النفط الروسي الذي التف على الأراضي الأوكرانية والبولندية قد أغضبت هاتين الدولتين لإرضاء ألمانيا، ولذلك فإنها سوف تتردد في السير وراء فرنسا في سياستها تجاه الصين.

الأهمية السياسية والاستراتيجية للصفقة الأميركية-الأسترالية تفوق كثيرا أهميتها العسكرية، لأنها تؤكد أن منطقة شرق آسيا هي الآن المسرح الذي سيشهد المواجهة المتعددة الجوانب بين الولايات المتحدة والصين خلال العقود القليلة المقبلة التي يمكن أن تجعل مياه المحيط الهادئ أكثر اضطرابا.

هذه المواجهة – مثلها مثل المواجهة بين دول حلف الناتو وحلف وارسو حلال الحرب الباردة – سوف ترغم دول العالم، وخاصة الدول التي تملك موارد عسكرية واقتصادية هامة على الاختيار الصعب بين العملاقين المتمددين على جانبي المحيط الهادئ.

الحرة

———————

شبهتها بسقوط جدار برلين.. إيكونوميست: الارتدادات الإستراتيجية لصفقة أوكوس ستكون كبيرة ودائمة

الصفقة توضح بالنسبة للندن دورها المتغير في العالم وتتناغم بشكل تام مع جهودها بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي للترويج لـ”بريطانيا عالمية”

قالت مجلة إيكونوميست (The Economist) البريطانية إن اتفاقية الدفاع الثلاثية الموقعة الأسبوع الماضي بين كل من الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا والمعروفة بصفقة أوكوس (Aukus) تعد من المناسبات النادرة التي أحدثت تحولا إستراتيجيا عميقا في الجغرافيا السياسية للعالم.

وتشبه هذه الاتفاقية في حجمها وتداعياتها -بحسب المجلة- أحداثا تاريخية أخرى بارزة مثل سقوط جدار برلين عام 1989، وزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972، وأزمة قناة السويس في العام 1956.

وتشمل الاتفاقية نطاقا واسعا من التعاون في المجالات الدبلوماسية والتكنولوجية بين الدول الثلاث، لكنها في جوهرها اتفاق لبدء مشاورات من أجل مساعدة أستراليا في الحصول على أسطول من الغواصات تعمل بالطاقة النووية رغم أنها ليست دولة نووية.

وقد تسببت الصفقة في قيام أستراليا بإلغاء عقد بعشرات المليارات من الدولارات تم توقيعه عام 2016 مع فرنسا لغواصات تعمل بالديزل والكهرباء، مما تسبب في رد فعل غاضب من قبل باريس التي وصف وزير خارجيتها جان إيف لودريان الاتفاقية بأنها “طعنة في الظهر”، كما استدعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 17 سبتمبر/أيلول الجاري سفيري بلاده في كل من واشنطن وكانبيرا للتشاور.

وترى المجلة البريطانية أن الارتدادات القوية للصفقة تظهر مدى التحول العميق الذي أحدثته، فبالنسبة للولايات المتحدة يعتبر هذا الاتفاق الخطوة الأكثر دراماتيكية التي تتخذها حتى الآن في تصميمها على مواجهة ما تعتبره تهديدا متزايدا من الصين، ولا سيما في المحيط الهادي.

كما تشير مشاركتها في أفضل التكنولوجيات العسكرية -التي تمتلكها (تكنولوجيا الغواصات النووية)- مع ثاني حليف لها خلال 63 عاما (بعد بريطانيا) إلى التزامها القوي طويل الأمد في ما تسميها “منطقة محيط هندي وهادي حرة ومفتوحة”.

ويرى مايكل فوليلوف من “معهد لوي” (Lowy Institute) -وهو مؤسسة فكرية في سيدني- أن “الأهمية الكبرى لهذا الاتفاق تكمن في أن الولايات المتحدة باتت تراهن أكثر على حلفائها، وحلفاؤها باتوا أيضا يراهنون عليها بشكل أكبر، ولسوء الحظ فرنسا مجرد ضرر جانبي”.

وتعتبر بريطانيا -بحسب المجلة- الطرف الأقل أهمية في الاتفاقية الموقعة، وهو ما أكده موقف باريس التي لم تستدع سفيرها في لندن لديها للتشاور كما فعلت مع سفيريها في واشنطن وكانبيرا، حتى أن وزير الخارجية الفرنسي وصف بريطانيا بـ”العجلة الثالثة” في الاتفاق.

بريطانيا عالمية

لكن الصفقة توضح بالنسبة لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون -تضيف إيكونوميست- دور بلاده المتغير في العالم، وتتناغم بشكل تام مع جهود لندن ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي للترويج لـ”بريطانيا عالمية”، كما أنه يعطي معنى “للميول نحو المحيطين الهندي والهادي” الذي تبنته مراجعة شاملة للسياسة الخارجية والدفاعية البريطانية في مارس/آذار الماضي.

أما بالنسبة للفرنسيين فإن ما جرى يؤكد ما يعتبرونها حقائق عميقة في العلاقات الدولية، ولا سيما فكرة أن أوروبا بحاجة إلى مزيد من “الحكم الذاتي الإستراتيجي” حتى لا تعتمد بشكل مفرط على أميركا رغم أن صمت شركاء فرنسا الأوروبيين يلقي بظلال من الشك على مدى قوة وجدية مثل هذا الحكم الذاتي.

المصدر : إيكونوميست

—————————–

هل تعزز معاملة سورية كدولة راعية للإرهاب مصالحَ الأمن القومي لأميركا أم تعيقها؟/ نيت روزنبلات

ترجمة أحمد عيشة

في عام 1979، صنّفت الولايات المتحدة سورية كدولة راعية للإرهاب، ووضعتها في أول قائمة من نوعها على الإطلاق، إلى جانب ليبيا والعراق واليمن الجنوبي السابق. سورية هي آخر دولة من هذه القائمة الأصلية ما تزال مُصنَّفة على هذا النحو اليوم، وهي مكانة قانونية تساعد في دعم نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي بدأ بسيطًا عام 1979، ثم كبُرَ بعد غزو العراق، وتوسع مرة أخرى، ردًا على حملة القمع التي شنتها الحكومة السورية ضد الاحتجاجات عام 2011، ثم نمت مرة أخرى، بعد إقرار قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية، في كانون الأول/ ديسمبر 2019. لكن التفكير في سورية من خلال منظور الإرهاب ومكافحة الإرهاب اليوم يحجب، بقدر ما يكشف، كثيرًا عن مصالح الولايات المتحدة وصانعي قرار الحكومة السورية، بعد عشرة أعوام من اندلاع حرب أهلية مدمرة قتِل فيها مئات الآلاف، وهُجّر ملايين [خارجيًا]، وملايين آخرين داخليًا، على حين يعاني نصف البلاد الآن انعدام الأمن الغذائي، حيث يقدّر أن نصف الشباب الذين تراوح أعمارهم بين (18 و25) عامًا قد فقدوا صديقًا أو قريبًا لهم في الصراع.

من الواضح أن حكومة بشار الأسد تريد البقاء بأي وسيلة ضرورية. قبل عشرين عامًا، في أعقاب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة، أدانت الحكومة السورية تنظيم القاعدة، ووعد الأسد بالعمل مع إدارة بوش لمحاربة الإرهاب المستوحى من السلفية الجهادية. اليوم، يدعم نظام الأسد الإرهاب بجميع أشكاله، سواء كانت تمارسه الدولة ضد شعبها، من خلال علاقات طويلة الأمد مع مجموعات مثل حزب الله اللبناني، أو حتى عبر شراكات مناسبة مؤقتة مع مجموعات مستوحاة من تلك الأيديولوجية التي دفعت الإرهابيين إلى مهاجمة الولايات المتحدة في 11 أيلول/ سبتمبر. إلى حد ما، يوفر هؤلاء الإرهابيون عمقًا استراتيجيًا لنظام يائس كي يتمسك بالسلطة. ومع ذلك، في كثير من الأحيان، تستند هذه الشراكة إلى تكيف مؤقت عوضًا عن استخدام استراتيجي للقوة.

منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، طرح عالم الاجتماع، تشارلز تيللي، تشبيهًا مثيرًا للتفكير، وصف فيه الدول القومية الحديثة بأنها “وسائل ابتزاز حماية جوهرية تتمتع بميزة الشرعية”. لم يكن تيللي يعرف مدى ملاءمة تشبيهه لسورية اليوم، إلا أنّ تأملاته في ذلك الوقت دعمت الاتجاه الأكاديمي في دراسة الثورات والحروب الأهلية، نحو “إعادة الدولة إلى الداخل”. في ذلك الوقت، ركزت الأبحاث حول موضوع الثورة في الغالب على ما كان يحدث مع المتمردين (أي كيف كانوا ينظّمون أمورهم، وما هي الظروف التي نجحوا فيها؟). لكن الدول كانت معقدة أيضًا، وكانت ردودها حاسمة في تحديد مسار الانتفاضة. هل تقدم الدولة تنازلات للمتظاهرين أم تطلق النار عليهم؟ هل ستحدث الانشقاقات في أجزاء من الدولة، مثل الجيش، أم ستبقى متماسكة؟

هناك نقطتان تستحقان التفكير فيهما، من أجل فهم سورية كدولة صنفتها الولايات المتحدة راعية للإرهاب: الأولى أن التفكير في سورية كوسيلة ابتزاز للحماية مغلفة بكل الزخارف القانونية والمؤسسية والمادية للدولة يُعطي رؤى أعمق في صنع قرارها الاستراتيجي من التفكير بمعزل عما تحصل عليه من دعم الجماعات الإرهابية؛ والثانية أن فائدة التصنيف الأميركي، من منظور سياسي عملي، تؤدي إلى فوائد محدودة، ولكنها ليست ضئيلة للولايات المتحدة.

أولًا، سورية مؤهلة لتكون وسيلة ابتزاز حماية الجوهري، على طريقة تيللي. ليس عليك أن تذهب بعيدًا في مناقشة أمر سورية، قبل أن تجد نفسك تقارن عائلة الأسد الحاكمة بعائلة كورليوني Corleone، صاحبة الجريمة الخيالية في ثلاثية “العرّاب”. إن كون المقارنة تافهة للغاية أمرٌ معبر وكاشف. على مدى العقدين الماضيين، كان الجدل بين مراقبي سورية أقلّ حول مدى ملاءمة هذا القياس/ التشبيه، وكان أكثر حول الأسد أهو فريدو كورليوني أم الخليفة/ الوريث القاسي (غير المتوقع) مايكل كورليوني.

بعد عشرة أعوام من الحرب الأهلية السورية، أصبح نظام الأسد في أمسّ الحاجة إلى الموارد والدعم في الدوائر الانتخابية الاساسية، ويتبع مخططات في جميع الأماكن التي يمكن أن نتفاهم بها مع مؤسسة إجرامية منظمة. في الآونة الأخيرة، وصفت مجلة (إيكونومست) سورية بأنها “دولة مخدرات”، حيث قدّرت صادرات المخدرات العام الماضي بما لا يقلّ عن (3,4) مليار دولار، أي أكثر بسبعة وعشرين ضعفًا من أكبر الصادرات القانونية للبلاد: زيت الزيتون. وتوصل تقريرهم إلى أن الدولة السورية قد لا تكون متورطة بشكل رسمي، لكنها تفرض عقوبات على إنتاج وتجارة المخدرات غير المشروعة، الكبتاغون، لأنّ عائدات المخدرات تساعد في دفع رواتب الجنود التي لا تستطيع الحكومة تحملها بطريقة أخرى.

المخطط الأكثر بشاعة هو ابتزاز عائلات المعتقلين في نظام السجون السوري. تعتمد الحكومة السورية على ملايين الدولارات من الرشاوى لتوليد الموارد لتعويض شبكة من المسؤولين الأمنيين لا تستطيع تحملها بما يكفي من نفقتها. وبناء على أكثر من ألف مقابلة مع عائلات لديها أفراد “اختفوا” قسرًا عن طريق جهاز الأمن السوري، قدر تقرير لرابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا أنّ من قابلوهم دفعوا ما مجموعه (2,7) مليون دولار كرشاوى وأجور مرتبطة بذلك (أي للحصول على معلومات عن أحبائهم، أو للحصول على زيارة، أو للإفراج عن أحد أفراد الأسرة). ومن خلاصة نتائجها بالنسبة لـ (250,000) مواطن سوري تم اعتقالهم أو إطلاق سراحهم منذ عام 2011، تقدر الرابطة أنه تم دفع حوالي (900) مليون دولار لهذا المخطط الابتزازي، منذ عام 2011.

إن النظر إلى الحكومة السورية كمشروع إجرامي نموذجي يساعدنا في فهم أفضل لوقت تعاونها مع المنظمات الإرهابية، وتحت أي ظروف. توصلت إحدى الدراسات المقنعة حول “العلاقة بين الجريمة والإرهاب” إلى أن التعاون بين الجريمة المنظمة والإرهاب، من الناحية التنظيمية، عندما يحدث، يعتمد على التكيف التكتيكي أكثر من المواءمة الاستراتيجية. يسعى المجرمون المنظمون إلى استغلال الثغرات داخل المنظومة (System) لصالحهم. ومن ناحية أخرى، تسعى الجماعات الإرهابية إلى تغيير منهجي، وتريد تقليص قدرة الدول التي يقيمون فيها على الحكم؛ وتسعى الجماعات الإرهابية أيضًا لتقديم نفسها كبديل عن الحكومة. قد يتعاون الطرفان، لكن هذا التعاون محدود، ويمكن أن يتحول أيضًا إلى مواجهة. تُعدّ حملة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ضد أهداف الحكومة السورية في عام 2020 مثالًا على كيفية تحوّل تعاون المصلحة بين الدولة السورية وجماعة إرهابية تعمل على أراضيها إلى مواجهة.

ثانيًا، من وجهة نظر الولايات المتحدة، هناك بعض التطبيقات العملية لتصنيف سورية دولةً راعية للإرهاب، لها فائدة لأغراض الأمن القومي الأميركي. يسمح هذا التصنيف للولايات المتحدة وحلفائها بمتابعة الإجراءات القانونية ضد الأشخاص والمنظمات، وحتى الحكومة السورية نفسها، عندما تكون مسؤولة عن تمكين الهجمات الإرهابية. على الرغم من أن القضايا الجنائية نادرًا ما تؤدي إلى إدانات، ولا تؤدي القضايا المدنية إلى تعويضات، فإن ذلك لا ينزع الشرعية عن عملية تسليط الضوء على هذه القضايا. أيضًا، يمكن أن يساعد التصنيف في فرض التغيير على الحكومة السورية. في حين أنه يمكن الجدال حول مدى تأثير ذلك على سلوك النظام الآن، لكن في حالة تغيّر الحكومة السورية في المستقبل، يمكن استخدام العقوبات المتعلقة بالتصنيف كورقة مساومة لتأمين المصالح الأميركية، من ضمن ذلك المساءلة عن الجرائم الدولية.

في الختام، إن معاملة سورية كدولة راعية للإرهاب تعزز مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، ولكن ليس كثيرًا، ولا تزال الفوائد المحدودة لتصنيف دولة مثل سورية كدولة راعية للإرهاب مفيدة، بشرط ألا نتوقع كثيرًا منها. إن استمرار الولايات المتحدة في العلاقات الدبلوماسية مع سورية وإيقافها لأعوام عديدة، على الرغم من إعلانها دولة راعية للإرهاب، يشير إلى أن هذا التصنيف ذا فائدة دبلوماسية. ومع ذلك، فإن التصنيف لا يساعد كثيرًا، من الناحية التحليلية، في فهم عملية صنع القرار الاستراتيجي للحكومة السورية. وأخيرًا، من الواضح، من تاريخ سورية على مدى ما يزيد عن أربعين عامًا، بكونها دولة راعية للإرهاب، أنّ العواقب المترتبة على تصنيفها على هذا النحو ليست كافية، ولإحداث تغيير جوهري، يجب أن يكون هناك ما هو أكثر بكثير من ذلك.

(*) – الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

اسم المقال الأصلي      Does treating Syria as a State Sponsor of Terrorism advance or hold back US national security interests?

الكاتب *          نيت روزنبلات، Nate Rosenblatt

مكان النشر وتاريخه      المجلس الأطلسي، Atlantic Council، 7 أيلول/ سبتمبر 2021

رابط المقال       https://bit.ly/3lb5N5u

عدد الكلمات     1339

ترجمة  وحدة الترجمة – أحمد عيشة

*- نيت روزنبلات: زميل في برنامج الأمن الدولي الجديد لأميركا، وطالب دكتوراه بجامعة أكسفورد، ومستشار مستقل للشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يستخدم أساليب مختلطة لفهم الصراع المحلي وديناميكيات التنمية في الأجزاء الهشة من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. عاش وعمل وأجرى أبحاثًا ميدانية في تركيا وسورية والعراق ولبنان والمغرب والكويت والإمارات العربية المتحدة.

مركز حرمون

—————————-

فورين بوليسي: نشر الديمقراطية في العالم العربي ليس ترياقا للإرهاب وأمريكا بحاجة لدعم ديمقراطيتها أولا

إبراهيم درويش

نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالا لستيفن كوك، قيّم فيه تجربة نشر الديمقراطية في العالم العربي، والتي رفعتها إدارة جورج دبليو بوش والمحافظون الجدد في مرحلة ما بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001.

ورغم تعلم الإدارات الأمريكية خلال عقدين مرّا على هذه الهجمات، إلا أنه يرى أن المكان الصحيح لنشر الديمقراطية ودعمها هو الولايات المتحدة نفسها.

ويعتقد كوك أن السياسة الخارجية الأمريكية قامت على خطأ أساسي في تعاملها مع الشرق الأوسط. ولهذا ارتكبت مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية الكثير من الأخطاء في مرحلة ما بعد 9/11 ولكن يذكر لها أنها قامت بجهود عامة وإن كانت أحيانا فوضوية للتعلم من أخطاء السنوات الماضية. وشارك الأكاديميون وخبراء السياسة والساسة المحترفون والصحافيون في نقاش قوي من خلال المقالات الأكاديمية والكتب ومقالات الرأي وندوات النقاش حول دور الولايات المتحدة في العالم.

وكان واحدا من الموضوعات التي تطرق إليها النقاش، هو نشر الديمقراطية في العالم العربي. وكان الموضوع محلا للاهتمام الكبير في مرحلة ما بعد الهجمات عام 2001 ثم اختفى من النقاش ليعود إلى الواجهة مع انفجار الانتفاضات العربية التي أطاحت بأنظمة ديكتاتورية وهددت أخرى. ولكنه تلاشى مرة ثانية بعد عودة الأنظمة الديكتاتورية والقمعية. والسؤال هو: “ماذا تعلمت الولايات المتحدة من تجربة نشر الديمقراطية؟”. والجواب برأي الكاتب “ليس كثيرا، وربما لم يكن بنفس القدر الواجب عليها تعلمه”.

وبعد فترة من الهجمات، بدأ البعض داخل مجتمع السياسة الخارجية بالتفكير حول علاقة الأنظمة السياسية في الدول التي جاء منها المهاجمون والميل للتطرف. وكانت الولايات المتحدة، باستثناء الخطاب حول نشر رؤية للديمقراطية ومنطقة مزدهرة، تركّز على حماية مصالحها الجوهرية في المنطقة، بما في ذلك التأكد من تدفق النفط والحفاظ على أمن إسرائيل والتأكد من الهيمنة على المنطقة والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، عبر الشراكات والتعاون مع الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة. وحصلت مصر على علاقة استراتيجية (مهما كانت) مع الولايات المتحدة، لأن الرئيس المصري في ذلك الوقت حسني مبارك، أبقى على قناة السويس مفتوحة، والتزم بمعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، ومارس الضغط على الإسلاميين.

وبعد تدمير مركز التجارة العالمي والبنتاغون، توصل أعضاء في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية إلى نتيجة تقضي بالتركيز على ما يحدث في داخل الدول العربية. فمهما كانت المساعدة التي قدمها مبارك للولايات المتحدة، فإنه أبقى على مناخ اجتماعي لم يسمح للمصريين بالتعبير عن مظلوميتهم من خلال المؤسسات السياسية والقانونية. وفي كل مرة حاول فيها المصريون تصحيح المسار، قام المدافعون عن النظام بتزوير النظام لصالحهم. ومَن حاولوا المواصلة والتعبير عن رفضهم، واجهوا الهراوات المعدنية والغاز المسيل للدموع ورصاص قوات الأمن.

في المقابل، بدأ المحللون بالاعتقاد أن هذه بيئة خصبه لظهور الإرهاب. ورغم اعترافهم بخصوصيات الدول العربية والخلافات بينها، إلا أن القصة المصرية كانت النموذج للمنطقة، ومن هنا ولدت فكرة دعوة الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط. ويمكن للمرء مناقشة طريقة تطبيق أجندة نشر الحرية لجورج دبليو بوش وعلى من طُبقت، على العراقيين والمصريين والفلسطينيين وليس على السعوديين. ويمكن النقاش حول فيما إن تم تمويلها بشكل جيد ولم يقتصر الترويج للديمقراطية على محاربة الإرهاب بل وعلى ما فعله بوش في الأشهر والسنوات التي أعقبت 9/11 والذي كان تحولا بالنهج نحو الشرق الأوسط. وبناء على هذا الموقف، لم يعد الأمن يعتمد على الجنرالات المسنين أو الملوك، بل على تطوير الديمقراطيات في كل المنطقة.

وهنا يطرح الكاتب السؤال التالي: “هل كان تشخيص الولايات المتحدة للمشكلة والسياسات التي استُخدمت لحلها صحيحا؟”. وكان في أساس النهج الأمريكي الجديد منطق واضح: القمع يقود إلى الإرهاب. ومن هنا ركّز صناع السياسة والمحللون على هذه الدينامية وهي: في كل مرة تحدث فيها مواجهة غير سعيدة مع الدولة، تتضاءل نسبة الراغبين بالتمسك الشديد باللعبة الموجودة. وفي الوقت الذي يواجه فيه المواطنون عنف الدولة، يستنتج البعض منهم ألا حل لديهم إلا اللجوء للسلاح واستخدامه ضد النظام ورعاته. ولا شيء مثير للجدل حول هذا التحليل الأساسي، فنحن نعرف أمرا يطلق عليها دينامية القمع- التشدد.

لكن ترجمة هذه النظرة إلى أجندة ترويج للديمقراطية كان أمرا مثيرا للإشكال ولأسباب عدة، منها أن القادة الديكتاتوريين لم يكن لديهم الاستعداد للتخلي عن القمع كوسيلة للسيطرة السياسية. ولم يكن لدى مبارك أو الرئيس السوري بشار الأسد ما يقدمانه للمصريين والسوريين بشكل يدفع غالبيتهم للولاء للنظامين. ونظرا لأن الوسائل القمعية والإكراه هي طرقهم للسيطرة والبقاء في الحكم، فالدعوة للديمقراطية تعتبر تهديدا وجوديا لكليهما. وهو ما زاد من صعوبة الجهود الأمريكية.

وهناك سبب ثان يتعلق بالمشاريع والبرامج التي تبنتها الولايات المتحدة في السنوات الأولى من القرن الحالي، وقامت على فكرة أن الشروط الاقتصادية والاجتماعية هي ضرورة لبناء ديمقراطية مستدامة في الشرق الأوسط. إلا أن المدافعين عن الأنظمة، وليس فقط من يحملون السلاح، استطاعوا وبنجاح إفشال الجهود الداعية لنشر الإصلاحات التعليمية والاقتصادية والسياسية وتقوية المرأة. وخلقوا عشبا اصطناعيا مضادا للجماعات الشعبية، حيث تم وصف المنظمات غير الحكومية ونشر الديمقراطية في الصحافة المؤيدة للأنظمة بأنها صورة جديدة عن مشروع استعماري.

واشتكى المسؤولون أن هذه الجهود هي خرق للسيادة الوطنية. ورفض المسؤولون في المنطقة قبول فكرة أن الاضطهاد السياسي يقود إلى الإرهاب. وركزوا بدلا من ذلك على أن الجهادية هي فكرة أيديولوجية عابرة للحدود لا يمكن حلها بالديمقراطية. وصحيح أن التطرف لديه قاعدة أيديولوجية، إلا أن الولايات المتحدة والأنطمة العربية قدمت حلا مختلفا لنفس الظاهرة، واحد يدعو لنشر الديمقراطية، والثاني يتبنى العنف والقوة.

ولم يكن الأمر بهذه الدقة، فالولايات المتحدة تريد الانتخابات، والقادة العرب أردوا القوة. مع أن الرصاص كان جزءا كبيرا من استراتيجية واشنطن لمكافحة الإرهاب. وعندما انتخب الفلسطينيون حركة حماس في 2006، فقدت واشنطن حماسها للديمقراطية في العالم العربي. وبعد عشرين عاما، لا يزال خبراء السياسة الخارجية يعتقدون أن الرد على الإرهاب كان عسكريا وبشكل مفرط، بدون أن ينتقدوا قرار إدارة بوش عدم الاعتراف بانتصار حماس في الانتخابات.

لكن ما هو الدرس من كل هذا؟ بلا شك، سيناقش النقاد أن الولايات المتحدة فقدت مصداقيتها، وأنه عندما تشارك حماس في الحكومة، فإن العملية السياسية ستجعلها معتدلة، لكن الدليل يظل ضعيفا في الحالتين. ولكن هل الجدال حول حماس مهم؟ وهل كان الافتراض القائم على أن الديمقراطية ستخفف من الإرهاب، افتراضا جيدا؟

ويجيب الكاتب بـ”لا”. ولم تعثر دراسة أعدتها مؤسسة راند قبل عدة سنوات على أجوبة تدعم أو تعارض الفرضية. وإذا لم يكن الأمريكيون يعانون من قصر النظر، فسيعرفون أن الديمقراطية تنتج بالفعل الإرهابيين، فقد أنتجت الولايات المتحدة عصابة “كو كلوكس كلان” و”تيموثي ماكفي” الذي فجر المبنى الفدرالي في أوكلاهوما، وعددا آخر من المنظمات الإرهابية مثل براود بويز وبوغالو بويز وثري بيرسنترز. ويتساءل الكاتب: “هل كان ظهور هذه المنظمات بسبب القمع أم الأيديولوجية؟ ولو عرف الناس في 12 أيلول/سبتمبر 2001، ما يعرفونه الآن في 2021، فهل كانوا سيدعون لنشر الديمقراطية؟”. يجيب: “بالتأكيد لا، ليس بالطريقة التي أرادت أمريكا نشرها، فالغطرسة ليست جيدة”.

والسؤال الأهم: ما هو الهدف الذي سيخدمه نشر الديمقراطية؟ وبناء على مجموعة المصالح التي حاولت الولايات المتحدة تحقيقها في الشرق الأوسط، فالجواب لا. وربما كان موقف باراك أوباما الذي حاول تقديمه في خطابه بالقاهرة عام 2009 دليلا جيدا. وبعبارة أخرى: “لو قامت دول الشرق الأوسط ببناء المزيد من أنظمة الحكم الديمقراطي، فهذا أمر عظيم وستقدم لها الولايات المتحدة كل المساعدة التي تريدها.

وفي الوقت الحالي، وبعد عقدين على 9/11، فالمكان الذي يحتاج وبشكل ملحّ أن يروج فيه الأمريكيون الديمقراطية هو وطنهم.

القدس العربي

——————————-

واشنطن بوست: هل يقوم بايدن بتطبيع سياسة ترامب الخارجية؟

إبراهيم درويش

قال المعلق فريد زكريا في مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست” إن الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن يبدو وكأنه يقوم بتطبيع سياسة سلفه دونالد ترامب في السياسة الخارجية.

وأشار زكريا إلى الخطاب المرتقب وهو الأول للرئيس بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 أيلول/ سبتمبر. ويأتي الخطاب بعد لحظة مهمة من رئاسة بايدن، وسيترك أثرا حول طريقة التعامل معه في الخارج. وبعد ثمانية أشهر من مراقبة الخطاب والأزمات التي واجهت الإدارة الحالية، يشعر الكثير من المراقبين الأجانب بالدهشة وحتى الصدمة لاكتشافهم أن سياسة بايدن الخارجية وفي كل مجال، ليست إلا استمرارية لسياسة دونالد ترامب ورفضا لسياسة باراك أوباما.

وجزء من هذا الفزع ناجم من الطريقة التي تصرف فيها بايدن، وقراره من طرف واحد سحب القوات الأمريكية من أفغانستان. ونقل الكاتب عن دبلوماسي ألماني قوله إن إدارة ترامب، وحسب رأيه، كانت تستشير برلين أكثر من هذه الإدارة. وكان هذا واضحا في قضايا محددة، كاتفاق الغواصات الذي أغضب فرنسا. إلا أن القلق المتنامي يذهب أبعد من حادث بعينه. ولاحظ دبلوماسي أوروبي أن التعامل مع واشنطن في موضوعات مثل اللقاحات إلى القيود على السفر، فإن منطق سياسة بايدن يقوم على شعار “أمريكا أولا”، رغم خطابه عن “عودة أمريكا” إلى العالم. وقال سياسي كندي إن خطط بايدن “اشتر ما هو أمريكي” لو طُبقت فهي “حمائية” أكثر من سياسات ترامب.

وبرغم انتقاده إدارة سلفه ترامب وفرض الضريبة والتعرفات الجمركية، إلا أن بايدن أبقى عليها بدون تغيير، وفي الحقيقة تم تمديدها لأن معظم الإعفاءات لهذه السياسات قد انتهت صلاحيتها. ويحاول حلفاء الولايات المتحدة المهمّين في آسيا دفع بايدن للعودة إلى اتفاقية الشراكة عبر “الباسيفك”، وهي نفسها التي أثنى عليها بايدن حين التفاوض عليها في عهد أوباما، وبدلا من ذلك، وضعت الخطة على الرف.

وأكثر مثال ينم عن مضيّ بادين في نفس الطريق الذي اتخذه ترامب في السياسة الخارجية، هي الاتفاقية النووية التي وقعها أوباما مع إيران، واعتبرها أهم إنجاز دبلوماسي له.  وظل بايدن ينتقد في حملته الانتخابية قرار ترامب الخروج من الاتفاقية، ووصفه بأنه خطأ جوهري، ووعد بالعودة إليها إذا أظهرت إيران التزاما بمبادئها. ووصف مستشار الأمن القومي بالإدارة الحالية جيك سوليفان قرار ترامب إعادة فرض عقوبات ثانوية ضد طهران بأنه تعبير عن “أحادية مفترسة”. ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، فشل بايدن في العودة إلى الاتفاقية، بل ووسّع من بعض العقوبات.

ويحاول بايدن اليوم “إطالة أمد وتقوية” الاتفاقية مع أنه كان من المعارضين لفكرة التفاوض من جديد. ولم تنجح استراتيجيته حتى الآن. فقد زاد مخزون إيران من اليورانيوم المخصب من 300 كيلوغرام عام 2018 إلى 3.000 كيلو غرام في أيار/ مايو 2021.

ويقول الكاتب: “لا تذهب بعيدا وانظر إلى السياسة من كوبا، فقد كانت إدارة أوباما شجاعة بالقدر الكافي لكي تعالج واحدة من أكثر الإخفاقات الصارخة في السياسة الخارجية الأمريكية. ومنذ عزلها عام 1960 وفرض العقوبات عليها على أمل تحقيق تغيير في النظام، إلا أن الحكومة الأمريكية قوّت الحكومة الشيوعية في كوبا. وأثار فيدل كاسترو الحماسة القومية وألقى كل المشاكل التي تعاني منها بلاده على الولايات المتحدة، وعمّر في الحكم أكثر من أي ملك على ظهر البسيطة”. وكما هو الحال في إيران، فقد دفع الناس العاديون ثمن هذه السياسات. وأحد الملامح القاسية لسياسة العقوبات، أنها ترضي رغبات جماعات المصالح في واشنطن وليست مؤلمة للأمريكيين بل للإيرانيين والكوبيين الذي لا يملكون الوسائل للرد أو الاحتجاج. وبدأ أوباما بتخفيف السياسات تجاه كوبا ليعكسها ترامب، أما بايدن فأبقى على سياسة ترامب، وفي الواقع قام بتشديدها. وفي اقتراع جرى مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة لشجب حصار 60 عاما على كوبا، كانت نتيجة التصويت هي 182 مقابل 2. وكانت إسرائيل هي الوحيدة التي صوتت لصالح أمريكا. وطالما انتقد بايدن وفريقه ترامب لهجومه على النظام الدولي القائم على القوانين. ولكن كيف يمكن إعادة بناء هذا النظام من خلال تبني الحمائية العارية والعقوبات من طرف واحد واستشارات محدودة مع الحلفاء وسياسات تطعيم ومنع السفر تقوم على فكرة “أمريكا أولا”؟

ويشير الكاتب إلى حوار جرى في طريق عودته من أوروبا الأسبوع الماضي، حيث أخبرته موظفة في الخطوط الجوية البريطانية قائلة: “آمل أنك من حملة الجوازات الأمريكية”. “قلت نعم، ولكن لماذا؟” فأجابت: “جعل الأمريكيون دخول بلادهم كابوسا على الأوروبيين. وهذا ليس عدلا؛ لأن لدينا أعلى نسب في التطعيم ومستويات أقل من الإصابات بكوفيد منكم”. وقالت بنفاد صبر: “يبدو أنكم أيها الأمريكيون تريدون هذه الأيام معايير مزدوجة تساعدكم مهما فكّر البقية”. كان يجب ألا تصل الأمور إلى هذا الحد، فأنانية ترامب هي انحراف مرفوض. ويمكن لبايدن استخدام منبر الأمم المتحدة والعودة إلى جذوره كـ”دولي” يفهم أن الدول لا تصبح حليفة لأمريكا لمجرد خوفها أو رشوتها أو لأنها تبحث عن مصالح ضيقة، ولكنها تفعل هذا لأن أفضل رؤسائها صاغوا سياسات وإن أخذت بعين الاعتبار المصالح الأمريكية، إلا أنهم حاولوا بناء نظام دولي مفتوح قائم على الأصول يساعد الآخرين على الازدهار والانتعاش. ولو استمر بايدن في مسيرته، فربما نظر إليه المؤرخون في يوم من الأيام على أنه الرئيس الذي طبع سياسة دونالد ترامب الخارجية.

القدس العربي

——————————-

فوكوياما: نهاية الهيمنة الأمريكية/ سعدون يخلف

يبدو أن فرانسيس فوكوياما مولعٌ بلفظة النهايات أكثر من اللازم؛ فهو ما فتئ يصف الأحداث الكبرى، التي قد تشكل منعطفاً في تاريخ العالم بـ»النهاية» فقد كان سباقاً إلى إطلاق هذا الوصف على نهاية الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن الماضي، حينما سقط جدار برلين في (1989) أعقبه مباشرة انهيار النظام الشيوعي، وتفكك الاتحاد السوفييتي (1991) كانت هذه الأحداث، في نظره، إيذاناً بانتصار النّظام الغربي، الذي يقوم أساساً على الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية، إذ أطلق على هذا الوضع الجديد «نهاية التاريخ» راسماً للبشرية نهجاً واحداً هو النّموذج الغربي، فمن أن أراد أن يعيش في ما بعد التاريخ، فعليه أن يختار هذا النموذج دون تردد أو تأخير، حيث السلام والأمن والعيش الرغيد، ومن أراد أن يبقى في حظيرة التاريخ، فعليه أن يتحمل عواقب فعله، فأمريكا لن تبقى مكتوفة الأيدي، ولن تسمح للبرابرة أن يفسدوا العيش السعيد، لأن عليها واجبات حضارية، ينبغي أن تؤديها في عالم ما قبل النهاية، كما كان على الرجل الأبيض واجبات من قبل، عندما تحمل عبء الأجناس الأخرى في مناطق مختلفة من العالم.

بعد أكثر من ثلاثين سنة من إعلان فوكوياما الأول، المتلذذ بنشوة النّصر والقوة، وبعد أقل من عشرين سنة من الهيمنة الأمريكية المؤكدة، «منذ سقوط جدار برلين إلى الأزمة المالية في 2007– 2009» ها هو ذا اليوم يعلن نهاية الهيمنة الأمريكية؛ نهاية مرتبطة بتراجع قوة، وانتكاسة نموذج، تجلى ذلك أكثر، إثر انسحاب أمريكا من أفغانستان؛ انسحاب، مع أنه مبرر، إلا أن أقل ما يوصف به أنّه مذل وصادم، لا يليق، بأي حال من الأحوال، بقوة عظمى تقود العالم؛ والحقيقة أنّه بين نهاية الأمس ونهاية اليوم، هناك مراجعات عدة لفوكوياما حول فكرة النهاية هذه، إلا أنها كانت، في الحقيقة، مراجعات شكلية لا تمس عمق الأطروحة وجوهرها، بما أنّها تنحاز إلى الغرب وتفوقه، وإلى الليبرالية كنموذج وحيد صالح للبشرية، مأزق فيروس كورونا جعل فوكوياما، على ما يبدو، أكثر جرأة في الطرح، وأكثر صرامة في مراجعة أفكاره، إلا أنّها، كما أشرنا سابقاً، هي مراجعات، وإن كانت مهمة في الظاهر، إلا أنّها تحافظ على جوهر فكرته النّهائية، هي، بالتالي، أخطاء، كأنها أجراس إنذار لهذا المآل، ينبغي لأمريكا المسارعة في تصحيحها، وانحراف عن المسار، يجب عليها أن تعود إليه قبل فوات الأوان. لكن اليوم، الأمر مختلف، فانسحاب أمريكا من أفغانستان بتلك الطريقة المشينة والمؤلمة، كأنّه «الهروب الكبير» شوّه صورة أمريكا، وأفقد الثقة في نموذجها، وفي قيمها، ناهيك من قدرتها على القيادة، وهو هروب سيظل عالقاً، بلا أدنى شك، بالذاكرة الإنسانية.

نهاية الهيمنة الأمريكية

في مقاله الأخير في «ذا إيكونومست»(The Economist)يبتعد فوكوياما كثيراً عن نظرته التفاؤلية، محطماً كل أشرعة العودة مرّة أخرى إلى نظرته السّابقة، في هذا المقال يوقّع النهاية لفكرة «نهاية التاريخ» عندما يعلن نهاية الهيمنة الأمريكية، مؤكداً أنّ أمريكا ابتعدت عن العالم، وأنّ العالم ابتعد أكثر فأكثر عن الأحادية القطبية، واتجه إلى عالم متعدد الأقطاب، لما تشكلت قوى جديدة، كـ«الصين وروسيا والهند وأوروبا، ومراكز أخرى في العالم».

ولعل وصول أمريكا إلى هذه الحال لم يكن اعتباطاً ولا مفاجئاً، بل كان نتيجة تراكم أخطاء كارثية: الحروب غير الضرورية التي خاضتها، الأزمة المالية في 2008 عدم الاهتمام بالمشاكل الداخلية.

استعملت أمريكا الحروب كوسيلة لتصدير نظامها، وهنا كان الخطأ القاتل، وكانت الإساءة في استعمال القوة، والمبالغة فيها، فبدلا من اعتمادها على تعميم نظامها، وتصدير قيمها، على قوتها النّاعمة (جوزيف ناي) المتمثلة أساساً في نموذجها الاقتصادي المتميز، وقيمها العالمية، راحت تستعمل قوتها العسكرية، حيث قادت حربين، غزت أفغانستان أولا (2001) ثم قامت بعدها مباشرة باجتياح العراق (2003) حربان لم تحققا أهدافهما المرجوة في نشر الديمقراطية وإنهاء الإرهاب، بل زادتا الوضع سوءاً، فقد أُنهكت أمريكا، وشاعت الفوضى والدمار في الشرق الأوسط.

هي، إذن، استراتيجية قائمة على الاهتمام بالأزمات الخارجية لا بالمشاكل الداخلية، مع أن التحدي الأكبر، الذي يواجه أمريكا، ويعزز مكانتها العالمية، كقوة مهيمنة ومؤثرة، كان في إيلاء المشاكل الداخلية اهتماماً أكثر، يقول فوكوياما: «التحدي الأعظم لمكانة الولايات المتحدة العالمية، ينبع من الداخل؛ فالاستقطاب في المجتمع الأمريكي عميق، وأصبح تقريباً من المستحيل الوصول إلى إجماع على أي شيء. هذا الاستقطاب، بدأ حول قضايا تقليدية، مثل: الضرائب والإجهاض، ومنذ ذلك تفاقم إلى صراع حول الهوية الثقافية» كان في مثل هذه الأزمات يُستدعى العدو الخارجي، لكي يعيد التعاضد، ويقوي الترابط بين المواطنين، لكن هذه الاستجابة فشلت في أزمة كوفيد – 19، حيث أدت، كما يقول فوكوياما: «إلى تعميق الانقسامات الموجودة في المجتمع الأمريكي» بالإضافة إلى ما صاحبها من إجراءات، كـ»قواعد التباعد الاجتماعي، وارتداء الأقنعة، والآن التطعيمات، التي ينظر إليها كأداة تخدم أجندات سياسية» كلها فاقمت من حدّة الانقسام.

كل هذه العوامل وغيرها ساهمت في تفاقم الاستقطاب واستفحاله، ما أدى، والحال هذه، بالأزمة الداخلية أن تؤثر في نجاعة السياسة الخارجية، والحدّ من كفاءتها، سواء في عهد باراك أوباما، أو في فترة دونالد ترامب، أو حتى في بدايات ولاية جو بايدن.

التهديد الصيني والروسي

يرى فوكوياما بأن هناك إجماعاً من الديمقراطيين والجمهوريين على أن الصين تشكل تهديداً كبيراً للقيم الأمريكية، بالأخص الديمقراطية، ومما لا شك فيه أنّ انسحاب أمريكا من أفغانستان في هذا الوقت بالذات فرضته الضرورة، واستدعته التحديات الكبرى، وهو خيار كان لا بد منه، من أجل أن «تركز أمريكا على مواجهة التحدي الأكبر، المقبل من روسيا والصين» لكن، كل هذه الإجراءات لن تجعل العصر الأمريكي مستمراً، الذي انتهى، على ما يبدو، بسرعة، ولا أن تعيد الهيمنة الضائعة، لهذا لا يعقد فوكوياما آمالا كبيرة على عودة الولايات المتحدة إلى الساحة العالمية، كما في السابق، فمسألة استرجاع هيمنتها على العالم أمر مستبعد، ما تستطيع أن تقوم به الآن أن تسعى إلى الحفاظ على نظام عالمي، يحترم قيمها الأساسية، يؤكد ذلك بالقول: «على الأغلب لن تسترجع أمريكا هيمنتها، وينبغي لها أن لا تطمح لذلك. لكن، ما يمكن أن تطمح إليه، هو الحفاظ على نظام عالمي، يحترم القيم الديمقراطية من خلال معرفة غايتها، واستعادة شعورها بالهوية» ويضيف بأنها لن تستطيع أن تؤثر في القضايا العالمية، على الرغم من بقائها كقوة عظمى، إلا إذا استطاعت إصلاح البيت الداخلي، إذ يقول: «ستبقى أمريكا، قوة عظمى لسنوات عديدة مقبلة، لكن قدرتها على أن تكون دولة مؤثرة، يعتمد على نجاحها في إصلاح مشاكلها الداخلية».

رسائل فوكوياما

ما قاله فوكوياما هو، في الحقيقة، رسائل موجهة إلى الداخل الأمريكي أكثر منه إلى الخارج، حاول فيها أن يوجه جملة من النّصائح إلى صاحب القرار في البيت الأبيض:

-العالم بعد اليوم يتجه إلى نظام متعدد الأقطاب، ولا قوة للولايات المتحدة حتى ترفضه، ولا أن تقاومه، وليس لها من سبيل آخر إلا الانخراط في حوار مع هذه القوى الجديدة، من أجل صياغة النظام العالمي الجديد، حيث أولوية أمريكا فيه المحافظة على قيمها المتميزة.

-لن تستطيع أمريكا من بعد اليوم أن تتخذ القرارات الأحادية، وعليها أن تشرك هذه القوى في القضايا العالمية.

– ضرورة إصلاح المشاكل الداخلية، لاسترجاع ثقة المواطنين المفقودة في النظام الأمريكي، وكسب ثقة الحلفاء والأصدقاء، لاسيما بعد ولاية ترامب، وبعد انتخابات قيل فيها الكثير؛ فإصلاح الداخل من شأنه أن يمنح أمريكا قوة في الخارج، بالتالي، القدرة على مجابهة التّحدي الصيني والروسي بأريحية أفضل.

كاتب من الجزائر

القدس العربي

——————————

لابد من القلق من الإرهاب الداخلي في أميركا/ روبرت فورد

يرجع السببُ وراءَ ضعفِ الولايات المتحدة، خصوصاً في الشرق الأوسط، إلى إحجامها عن استخدام القوة العسكرية في المنطقة. ورغم أن الحرب في أفغانستان كانت مهمة فاشلة من عدة نواحٍ، فإنَّ السبب وراء ضعف رغبة الأميركيين في استخدام القوة العسكرية في الشرق الأوسط، يرجع جزئياً إلى النجاح الذي حققته في «الحرب ضد الإرهاب».

أعلم أن استنتاجي سيفاجئ بعض القراء، لكن من المهم أن نتذكر أنه خلال العشرين عاماً الماضية لم يشهد الأميركيون داخل الولايات المتحدة موجة جديدة من هجمات الإرهابيين الأجانب، وهذا في حد ذاته نجاح. ومنذ 11 سبتمبر (أيلول)، وقع هجوم إرهابي واحد فقط داخل الولايات المتحدة جاء بأوامر من تنظيم «القاعدة». (أسفر الهجوم على القاعدة البحرية في بينساكولا بولاية فلوريدا في ديسمبر/ كانون الأول 2019 عن مقتل ثلاثة أميركيين، ووفقاً لمكتب التحقيقات الفيدرالي كانت الأوامر صادرة عن تنظيم «القاعدة»). ومن دون أي هجمات إرهابية كبيرة داخل الولايات المتحدة، فإن الرأي العام أقل قلقاً بشأن الإرهاب. وبحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب» في مطلع سبتمبر 2021، فإن 36 في المائة فقط من الأميركيين يشعرون بالقلق حيال كونهم ضحايا هجوم إرهابي محتمل، مقارنة بنسبة 58 في المائة في سبتمبر 2001. وأظهر استطلاع للرأي أُجري في فبراير (شباط) 2021، من مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية، أن 10 في المائة فقط من الديمقراطيين و15 في المائة من الجمهوريين يعتقدون أن التنظيمات الإرهابية الأجنبية هي أكبر تهديد للأمن الأميركي. وأشار الناس في كثير من الأحيان إلى تهديدات الصين أو روسيا أو جائحة كورونا.

ولا بد لي من الاعتراف هنا بأن وسائل الإعلام الأميركية لم تذكر سوى القليل عن عشرات الآلاف من المدنيين الذين قتلناهم في أفغانستان والعراق وسوريا، وبلدان أخرى، في خضم الحرب على الإرهاب.

غير أن الأميركيين لا يعيرون اهتماماً للعالم في الخارج، وبالمقارنة مع ما كان عليه الحال قبل عشرين عاماً، فإنهم يشعرون بقدر أقل من القلق بشأن هجوم إرهابي أجنبي ضخم جديد، ويساورهم كثير من القلق بشأن الإرهاب الداخلي، خصوصاً من المتطرفين اليمينيين. وذكر تقرير صدر الأسبوع الماضى عن معهد الأبحاث الأميركى الجديد في واشنطن، أنه منذ 11 سبتمبر، قتل الإرهابيون المحليون الذين زعموا أن لهم أهدافاً «جهادية» 107 مواطنين أميركيين في هجمات متفرقة، مع استثناء واحد، كان جميع القتلة من المواطنين الأميركيين أو يمتلكون بطاقات خضراء أميركية، ولم يعملوا بأوامر من خارج البلاد. في غضون ذلك، وبعد هجمات 11 سبتمبر، قتل المتطرفون اليمينيون، خصوصاً ميليشيات تفوّق العنصر الأبيض، 114 شخصاً داخل الولايات المتحدة. وفي مارس (آذار) من هذا العام، قال وزير الأمن الداخلي للرئيس بايدن، إن التطرف الداخلي هو أكبر تهديد إرهابي للولايات المتحدة.

إن الهجوم على مبنى الكابيتول بواشنطن في 6 يناير (كانون الثاني) 2021، قد ألقى الضوء على المتطرفين اليمينيين مجدداً بعد أن قتلوا عشرات بهجمات في تكساس وبنسلفانيا وغيرهما من الولايات. وفي الوقت الذي كانت فيه إدارة بايدن تستعد للانسحاب من أفغانستان في الربيع الماضي، كانت قد بدأت أيضاً في تنفيذ استراتيجية جديدة لمواجهة المتطرفين في الداخل. في يونيو (حزيران)، أعلن النائب العام الأميركي أن وزارة العدل اعتقلت 480 شخصاً على صلة بهجوم 6 يناير، وكانت تتابع مئات القضايا الجنائية في نظام المحاكم. وقال النائب العام، وهو أعلى مسؤول قانونى في البلاد، إنه بينما لا يمكن للحكومة الأميركية نسيان جرائم الإرهاب الدولي، فإنه يتعين عليها الاستجابة للإرهاب المحلي بنفس قدر الطاقة والتصميم.

هذه مهمة صعبة، لأن الولايات المتحدة منقسمة إلى حد كبير. وبحسب استطلاع للرأي بشيكاغو في فبراير (شباط) 2021، يرى 47 في المائة من الديمقراطيين أن التطرف الداخلي هو التهديد الأكبر في البلاد، لكن 3 في المائة فقط من الجمهوريين يوافقون على ذلك. ويرفض الحزب الجمهوري في واشنطن فتح أي تحقيق في اعتداءات 6 يناير، كما يرفض كثير من القادة الجمهوريين تسمية المهاجمين إرهابيين أو حتى متطرفين. لقد قبل الساسة والجمهور في الولايات المتحدة فرض القيود على الحريات بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، من أجل مواجهة التنظيمات الإرهابية الأجنبية. ثم توسعت سلطة الحكومة الفيدرالية في إجراءات المراقبة السرية على المواطنين بشكل كبير. وتسببت هذه المراقبة في إحباط بعض الهجمات الإرهابية، لكن هذه السلطة قللت من ثقة الناس بالحكومة، لا سيما بين المحافظين الأميركيين. وقد أظهرت دراسة أجرتها منظمة «بيو» أن 60 في المائة من الأميركيين يثقون بحكومتهم بعد 11 سبتمبر، لكن 25 في المائة فقط لا يزالون يثقون بها بدءاً من أبريل (نيسان) 2021.

سيكون من الصعب حشد رد فعل قوي ضد المتطرفين الأميركيين والإقلال من جهود التجنيد إذا كان هناك انتقاص في ثقة الناس بالحكومة. قال الرئيس الأميركي الأسبق بوش يوم السبت الماضي، إن المتطرفين المحليين ليسوا من الثقافة نفسها التى ينتمي إليها مهاجمو «القاعدة» في 11 سبتمبر، ولكنهم «أبناء الروح الخبيثة نفسها». وحثَّ بوش على الوحدة الوطنية، وأشاد الديمقراطيون ببيانه. إلا أنَّ كثيراً من مؤيدي الرئيس السابق ترمب، الذين يخوضون الآن حملات انتخابية، رفضوا تصريحات بوش على الفور. وتقوم الشرطة في واشنطن بإعادة نشر الأسوار حول مبنى الكابيتول قبل مظاهرة 18 سبتمبر في العاصمة، التي ستُبدي دعماً للمتهمين في هجوم 6 يناير.

الشرق الأوسط

——————————————-

جدل أميركا ما بعد أفغانستان/ مروان قبلان

أعادت فوضى الخروج الأميركي من أفغانستان، والسرعة التي انهارت بها حكومة أشرف غني، وعودة حركة طالبان إلى السلطة بعد 20 عامًا من إطاحة واشنطن حكمها، أعادت إلى واجهة الجدل الإعلامي والأكاديمي مسألة قرب انتهاء عصر الهيمنة الغربية (الأميركية) في النظام الدولي. وذهب المؤرخ الاسكتلندي الأصل، والأستاذ في جامعة ستانفورد، نيل فيرغسون، إلى التبشير بقرب تحقق نبوءته التي وضعها في كتابه “Civilization: The West and the Rest”، إن الولايات المتحدة تعيش المراحل الأخيرة في عمر إمبراطوريتها التي لم يعرف التاريخ مثيلا لها في القوة والثراء. لا يعقد فيرغسون، لتأييد رأيه، مقارنة بين انسحاب واشنطن من أفغانستان وانسحابها من فيتنام عام 1975 كما فعل كثيرون، بل يفضّل مقارنة الانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021 بالانسحاب السوفييتي منها عام 1989، ليأخذنا إلى نتيجة أن عصر الانهيار الأميركي على الأبواب.

يقدّم فيرغسون مؤشّراتٍ عديدة لدعم رأيه، أن الديْن الفيدرالي الأميركي تضاعف عدة مرات خلال عقدين، من 32% من الناتج القومي عام 2001 إلى 66% عام 2011 إلى نحو 130% اليوم. إضافة إلى ذلك، بات سكان الغرب يمثلون أقلية اليوم (نحو 10% من سكان العالم)، وأقلية متقدمة في العمر، فيما باتت توجد ثلاثة اقتصادات غير أوروبية بين السبع الكبرى في العالم (اليابان والصين والهند). وبرأي فيرغسون، بدأت الولايات المتحدة تسلك طريق الانحدار عبر الثلاثية الكلاسيكية القاتلة التي أودت تاريخيا بكل الإمبراطوريات: أزمة مالية وديون كبيرة، تورّط في حروب طويلة، انقسامات داخلية عميقة. وبرأيه، عندما تحصل الانهيارات تكون سريعة، إذ انهارت روما في غضون جيل، وانهارت إمبراطورية أسرة منغ في الصين (حكمت بين 1368 – 1644) خلال عقد، وانهار الاتحاد السوفييتي في بضع سنين.

قال مفكّرون آخرون أيضا بانتهاء عصر الهيمنة الغربية (الأميركية)، لكنهم كانوا أكثر حذرا حيال مزاعم انهيارها، ففي مقالة بعنوان “نحو كونسيرت عالمي جديد”، نشرتها أخيرا مجلة فورين أفيرز، رأى ريتشارد هاس وتشارلز كابشن أنه مع تراجع موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي (تراجعت حصتها من الناتج العالمي والتجارة الدولية بمقدار النصف، منذ بلغت ذروتها مطلع الستينيات من القرن الماضي). ومع صعود قوى جديدة، تبرز الحاجة إلى تأسيس نظام دولي جديد، يأخذ بالاعتبار المتغيرات التي حصلت منذ نهاية الحرب الباردة. ويقترح هاس الذي كان مديرا للتخطيط في وزارة الخارجية الأميركية، ويترأس حاليًا مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، وصاحب كتاب “No One’s World: The West, the Rising Rest and the Coming Global Turn”، إنشاء كونسيرت قوى عالمي جديد (مجلس لإدارة شؤون العالم) على شاكلة الكونسيرت الأوروبي الذي حكم القارّة الأوروبية بعد نهاية الحروب النابليونية. يتكون المجلس من ست قوى رئيسة على الساحة الدولية: الصين والهند واليابان وروسيا والاتحاد الأوروبي (بقيادة ألمانيا طبعا) والولايات المتحدة. يعبر الكونسيرت المقترح عن التغير الكبير الذي طرأ على النظام الدولي مع انتهاء عصر الهيمنة الأميركية، الذي يعد بحسب هاس أقصر عهد هيمنة في التاريخ، إذ استمر عقدا واحدا فقط بين نهاية الحرب الباردة عام 1991 وهجمات سبتمبر 2001.

لكن، بماذا يعنينا كل هذا الجدل عن مستقبل القوة الأميركية بعد أفغانستان، على مشكلاته وعلاته (بعضه انتقائي وبعضه الآخر يتجاهل التحدّيات التي تواجهها القوى الصاعدة في النظام الدولي)؟ يعنينا بشدة، وربما أكثر مما يعتقد كثيرون، فمعظم الدول العربية متحالفة مع واشنطن، أو تعتمد على حمايتها، أو تتلقى مساعدة منها، أو تراهن على دور لها في حل أزماتها. التوقعات المتزايدة بشأن تراجع تأثير الولايات المتحدة أو على الأقل تراجع اهتمامها بشؤون المنطقة والعالم يجب أن يمثل جرس إنذار لهذه الدول. ولا بأس من لفت الانتباه إلى أن كل الدول العربية المنهارة اليوم (سورية، العراق، ليبيا، اليمن) تشترك في أنها كانت حليفة للاتحاد السوفييتي، وتعتمد على دعمه وحمايته، وقد دخلت مرحلة انعدام الوزن، وصولا إلى الانهيار الكامل، على خلفية غياب الدعم والحماية.

العربي الجديد

——————————–

متاهة السياسة السورية في إدارة بايدن، هل هي على طريقة الخروج من أفغانستان؟/ عبد الرحمن المصري

ترجمة أحمد عيشة

ما تزال مراجعة السياسة السورية التي تُجريها إدارة جو بايدن مستمرة. وما زال الرئيس بايدن، منذ تولّي منصبه قبل سبعة أشهر حتى الآن، يتصرّف وفق سياسة مؤقتة تجاه سورية تفتقر إلى الهدف والتوجيه. وقد كانت هذه السياسة إلى حد بعيد استمرارًا لسياسة الإدارة السابقة، ولا سيّما في مهمة الحفاظ على الاستقرار منخفضة التكلفة، في شمال شرق سورية، واستمرار الضغط الاقتصادي على نظام بشار الأسد، من دون أن يكون هناك هدف سياسي واضح. وما تزال المقاربة (النهج) الأميركية إزاء سورية ضيّقة الأفق، وليس لديها استراتيجية فعلية تجاه الصراع السوري نفسه.

وكلّما انتهت هذه المراجعة المملّة التي لا نهاية لها، بغض النظر عمّا قد تستلزمه، ثبت من الناحية الواقعية أن ليس هناك ما يشير إلى أنها تستطيع أن تغيّر بشكل مجدٍ مقاربة/ نهج السياسة الخارجية، التي تتبناها الولايات المتحدة في التعامل مع البلد الذي يتعرض للعذاب. تفرض الحسابات الاستراتيجية الأميركية الحالية قيودًا صارمة على خيارات السياسة الخارجية، تقيّد واشنطن عن التعامل المنضبط، مع كثير من التهديدات التي يتضمنها ملفّ سورية. لقد تراجع دور وأهمية الصراع في سورية خلال فترات ثلاث إدارات أميركية متعاقبة، إلى مكانة بعيدة بما يكفي، بحيث إن إعادة المشاركة الجادة قد تبدو اليوم جريئة للغاية، لأنّ القيود المحلية الحالية المفروضة على إدارة بايدن من غير المرجح أن تشجّع المبادرات الجريئة أو المتحملة للمخاطر، ولأن تعقيد الصراع السوري لا يقدّم إجابات سهلة.

وتماشيًا مع الوضع العالمي المتراجع، وانحدار النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، من المرجح أن تعمل إدارة بايدن على تمديد نهجها الحالي المتمثل في الجلوس في المقعد الخلفي في سورية، والاكتفاء بدور المراقبة. وعلى الرغم من ذلك، فلن يكون هذا النهج خاليًا من العواقب. ومن المرجّح أن يرى منافسو أميركا، وتحديدًا روسيا، في سياسة عدم المشاركة المعلنة في الولايات المتحدة، فرصةً لتحدّي وجودها في سورية.

التراخي في الماضي والمأزق الحالي

على مدار العقد الماضي، عانت الولايات المتحدة حالتين من حالات عدم الاتساق في السياسة المترابطة، فيما يتعلق بالصراع السوري. أولًا، تعاملت الولايات المتحدة مع سورية على أنها ثانوية بالنسبة إلى السياسات الإقليمية الأخرى، ومشروطة بها، مثل محاربة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ومواجهة التوسع الإقليمي الإيراني، وإدارة العلاقات مع تركيا، والتنافس مع روسيا.

لم تكن هناك حقًا سياسة سورية قائمة بذاتها ومتسقة من قِبل إدارة أميركية منذ بداية الصراع في عام 2011. ولم تتمكن واشنطن من صياغة سياسة تجاه سورية سليمة متوازنة ومتناغمة مع جدول أعمالها الأوسع نطاقًا في المنطقة. بكلمات أخرى: سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق أهداف متعددة في سورية، من دون انتهاج سياسة متميزة بالنسبة إلى سورية نفسها.

والمشكلة الأخرى هي أن الولايات المتحدة -وخاصة منذ إدارة ترامب- كانت تنظر إلى الصراع السوري المتطور باستمرار وكأنه ثابت أو جامد إلى حد ما. ولم تكن واشنطن دينامية أو قادرة على التكيف مع مراكز القوى المتغيرة في البلاد، وكانت تعمل إلى حد كبير كمجرد مراقب له تأثير ضئيل للغاية.

لم تضلل هذه المشكلات الإدارتين الماضيتين -إدارة باراك أوباما ودونالد ترامب- عن الاعتراف بالمصالح الاستراتيجية في الصراع السوري فحسب، بل إنها أدت أيضًا إلى إعاقة الولايات المتحدة عن تحقيق النجاح في كثير من سياساتها الإقليمية الأخرى. كان الرئيس أوباما يفتقر إلى الالتزام، وكان يركّز على التفاوض على صفقة نووية مع إيران، في حين كان الرئيس ترامب كثير العموميات بشكل مفرط، وكان مهتمًا بالسمسرة، ويفتقر إلى معرفة الفوارق الدقيقة.

وبالتالي، فإن بايدن مقيد بشدة، ومن دون خيارات كثيرة. والمأزق اليوم هو أن الوقت قد فات حتى تتمكن واشنطن من إعادة المشاركة والإدارة في ملف سورية، على نحو يجعل إدارة بايدن تنظر إلى النتائج القصيرة الأجل المحتملة، باعتبارها تفوق التكاليف والمخاطر.

إن العمل المجدي في سورية يستدعي تعزيز النفوذ الذي فقدته الولايات المتحدة منذ أمد بعيد، ومن غير المرجح أن تلبي إرادة سياسية أميركية كافية وتيرةَ الصراع وتطوره وعمق التزامات الخصوم تجاهه. منذ تولي بايدن السلطة في كانون الثاني/ يناير، لم يكن هناك سوى القليل مما يشير إلى أن واشنطن كانت تسعى للحصول على النفوذ في سورية. وفي حين وعد الرئيس بايدن في البداية باستعادة مكانة أميركا في العالم أو عكس مسار تصرفات أسلافه، فإن حقيقة الأمر هي أن أفضل ما يستطيع بايدن أن يفعله اليوم هو التعامل مع النتائج المترتبة على تصرفاتهم.

هل الانسحاب في الأفق؟

من الأشهر القليلة الماضية، يستطيع المرء أن يستنتج أن إدارة بايدن تحاول تحقيق هدفين بحدودهما الدنيا في سورية: الأول تحسين ظروف إيصال المساعدات الإنسانية؛ والثاني الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في شمال شرق سورية. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات قد تكون قابلة للتحقيق، فإن الهدف الأول هامشي حقًا بالنسبة لملف سورية، وتأثيره على السياسة الأميركية وتطور الصراع ضئيل للغاية، والهدف الثاني يستدعي مزيدًا من الإرادة السياسية والالتزام.

من المتوقع أن تلتزم إدارة بايدن بالاستمرار في النهج نفسه، إذ إنّ القوات الأميركية في شمال شرق سورية (التي يبلغ عددها نحو تسعمئة جندي، وتسهم في تحقيق الاستقرار وبناء قدرات الشركاء الأكراد المحليين في مرحلة ما بعد داعش)، سوف تصبح على نحو متزايد هدفًا لروسيا. وعلى الرغم من أهمية الاستمرار بالالتزام بهزيمة داعش، ومساعدة قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد، فإن الوجود العسكري الأميركي معرض جدًا للتحديات، من دون التزام واضح بدعمها وتقويتها.

إن الطريقة التي سحبت بها الولايات المتحدة حديثًا قواتها المنتشرة من أفغانستان لا تجعل الروس أكثر اهتمامًا برؤية خروج مماثل من سورية فحسب، بل إنها تتعلق أيضًا بالشركاء، مثل قوات سوريا الديمقراطية، التي سوف تشكك مرة أخرى في التزام أميركا. إن قوات سوريا الديمقراطية الكردية لديها مخاوف جدية بخصوص نجاتها السياسية، مع التحديات المتوقعة من جانب تركيا ونظام الأسد، ولذلك سوف تنظر إلى الروس بالتأكيد على أنهم ضامن أكثر إخلاصًا للوضع الراهن. وفي الوقت الذي تحسّن فيه موسكو علاقاتها مع القيادة الكردية في سورية، لن يكون من المستغرب أن نرى إدارة بايدن تنظر إلى الانسحاب باعتباره خيارًا قابلًا للتطبيق، مستخدمة المنطق نفسه حول إنهاء تورط أميركا في “الحروب التي لا نهاية لها”.

وفي حين أن اهتمام إدارة بايدن المتجدد بإعادة تشغيل المسار الدبلوماسي لن يكون الأداة الوحيدة للمشاركة في مثل هذا السيناريو، فإن آفاقه سوف تنخفض بشدة. وعلى الرغم من أن العقوبات تؤدي مهمة معاقبة نظام الأسد على جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإنها غير كافية وحدها كقوة ونفوذ للولايات المتحدة، لأنها لن تجبر نظام الأسد على تغيير سلوكه أو قيادته، ولا تعزز مصالح الولايات المتحدة. والأداة الوحيدة التي يرجح أن تفعل ذلك كانت القوة العسكرية، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن هذا الأمر قريب من المستحيل اليوم.

لا تعرف الولايات المتحدة ماذا تريد في سورية، وليس لديها أي طريقة متماسكة لنهاية اللعبة، والأصدقاء والأعداء كلاهما يدرك ذلك. ومن غير المرجح أن تعطي إدارة بايدن الأولوية لسورية في الأشهر المقبلة. ويبدو أن الرئيس بايدن يريد تجنب الاشتباك في المصالح المتنافسة للصراع، نظرًا للتحول الهائل في أولويات أجندة السياسة الخارجية الأميركية، والافتقار الحاد إلى الخيارات الآمنة لإعادة الاشتراك في سورية وترتيبها.

إن الأهداف الضيقة للولايات المتحدة، والانتظار المستمر لما سيحدث (wait-and-see)، لا يمكن الإبقاء عليهما طويلًا، ومن المرجح أن يعمل منافسو أميركا في سورية من أجل رحيل الولايات المتحدة. وفي مثل هذه الحالة، سوف تحتاج واشنطن إلى الاستعداد لاحتمال حدوث سيناريو آخر لمغادرة القوات على غرار أفغانستان. إن الافتقار إلى استراتيجية استباقية نشطة لن يؤثر في قدرة أميركا على النهوض بالمصالح في سورية والمنطقة فحسب، بل سيؤثر أيضًا في منح المنافسين القدرة على استخدام سورية، كمنصة لمتابعة أجنداتهم الإقليمية.

اسم المقال الأصلي         On the way out like Afghanistan? The Biden administration’s Syria policy labyrinth

الكاتب* عبد الرحمن المصري، Abdulrahman al-Masri

مكان النشر وتاريخه         المركز الأطلسي، Atlantic Council، 1 أيلول/ سبتمبر 2021

رابط المقال         https://bit.ly/3h1O7bj

عدد الكلمات       1162

ترجمة   وحدة الترجمة/ أحمد عيشة

*- عبد الرحمن المصري زميل غير مقيم في مركز رفيق الحريري وبرامج الشرق الأوسط.

مركز حرمون

——————————

الانسحاب من أفغانستان في دلالاته السورية-اللبنانية/ منير الربيع

يقود الانسحاب الأميركي من أفغانستان إلى متغيرات سياسية ذات انعكاس استراتيجي في كل منطقة الشرق الأوسط. تتضح أكثر فأكثر معالم اللامبالاة الأميركية للتطورات الشرق أوسطية، إهمالاً لكل ملفات المنطقة. في مقابل قوى أخرى تسعى إلى سدّ الفراغ أو البحث عن فرصة لتعزيز شروطها وأوراقها وحضورها. ينعكس ذلك بشكل مباشر على الوقائع اللبنانية والسورية كما على كل وقائع المنطقة. ومن أبرز مؤشرات هذه التحولات، هي زيارة الوفد اللبناني الرسمي إلى دمشق في إعادة تطبيع العلاقات وافتتاحها رسمياً بعد عشر سنوات على انقطاعها. تركز طهران على تعبئة الفراغ وتحقيق مكسب سياسي جديد لصالح حلفائها.

لن تكون زيارة الوفد اللبناني الرسمي هي الوحيدة أو الأخيرة، سيكون هناك تحضير لزيارة يجريها رئيس الجمهورية ميشال عون إلى دمشق، ووفود من قوى متعددة ستذهب أيضاً باتجاه الشام على وقع البحث عن فرص لتوقيع اتفاقيات لها علاقة بالنفط والغاز، ووسط مساع عربية لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية. تحاول إيران تظهير الانسحاب الأميركي وكأنه انتصار لها، تسارع إلى خطوات مع حلفائها تظهر قوتها وثبات نظرتها، وإنجاز المزيد من الأهداف السياسية. صحيح أن طهران تحقق أهدافاً سياسية وتسعى إلى تحقيق المزيد من التقدم تحضيراً للحظة تجديد التفاوض الكبير مع الولايات المتحدة الأميركية.

لم يكن الوفد اللبناني ليزور دمشق لو لم يكن هناك موافقة أميركية واضحة، حصلت الزيارة بتنسيق مع الأميركيين، من غير المعروف حتى الآن أبعاد هذه الخطوة الأميركية، إذا كانت ذات فعل صادق، أم أنها محاولة لنصب فخ جديد لكل من لبنان وإيران وسوريا معاً. السماح الأميركي بزيارة الوفد جاء بعد إعلان حزب الله عن استقدام النفط الإيراني إلى لبنان، قد يكون الردّ الأميركي هو إشارة إلى استمرار صراع المحاور والهويات السياسية، بين النفط الإيراني والنفط العربي، كما كان هناك صراع في السابق بين سوريا العربية وسوريا الإيرانية، من خلال نظرية احتضان النظام السوري عربياً لتخفيف النفوذ الإيراني وقضمه. ولكن أيضاً لا يمكن الوثوق بالأميركيين، الذي بعد عشرين سنة على مواجهة طالبان في أفغانستان، اتخذت واشنطن قرار الانسحاب وسلّمت البلاد كلها لجماعة قاتلتها وصرفت في سبيل قتالها آلاف مليارات الدولارات، وهذا أمر قابل لأن يتكرر مع إيران أو مع حزب الله في لبنان والمنطقة. وسوريا إحدى أبرز الأمثلة على التخلّي الأميركي عن دعم الشعب السوري وإطلاق يد إيران في سوريا وسحق الثورة السورية والحفاظ على النظام، وهذه كلها كانت نتيجة اهتمام واشنطن بتوقيع الاتفاق النووي الإيراني. وحالياً هناك مشهد يتكرر في درعا، من خلال مؤامرة دولية أميركية روسية لتهجير أهالي المحافظة كرمى لعيون خطوط النفط والغاز.

كما أن زيارة الوفد اللبناني إلى سوريا لم يكن لتحصل لولا الموافقة الأميركية، تبرز معلومات مؤكدة عن احتمال عقد لقاء بين رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، واللواء علي مملوك في العراق. ذلك يأتي في سياق الحركة الشاملة التي تقودها بغداد وحكومة مصطفى الكاظمي للجمع بين المتخاصمين، برعاية أميركية أيضاً. تشير المعلومات إلى احتمال عقد لقاء في شهر أكتوبر بين فيدان ومملوك في بغداد، وهو تتويج للقاءين استخباريين تركي وسوري حصلا في بغداد في الشهرين الفائتين، كذلك لا بد من الإشارة إلى لقاءين آخرين عقدا بين فيدان ومملوك برعاية روسية.

لا يعتبر ذلك تفصيلاً بالنسبة إلى مجريات التطورات، دخول تركيا بقوة أكبر إلى سوريا ولو من باب العلاقات مع النظام، سيكون له آثار سياسية متعددة، ما يركز عليه الأتراك وفق المعلومات هو ترتيب الوضع في درعا، وفي إدلب، وتوفير حماية للمدنيين، بالإضافة إلى تسهيل أمور السوريين المقيمين في تركيا، فيما الملف الثالث والأهم هو البحث في وضع الأكراد.

أمام هذه الوقائع لا بد من تسجيل ملاحظات أساسية على السياسة الأميركية. فإذا كانت وقائع الدخول الأميركي إلى الشرق الأوسط قد أدت إلى تحقيق تقدم إيراني، من أفغانستان إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن، فإن الانسحاب الأميركي من المنطقة، ينطوي على تعزيز نفوذ الأتراك فيها، خروج الأميركيين من أفغانستان، ينطوي على تحقيق تقدّم تركي هناك وفي كل المنطقة المحيطة، ما سيعزز النفوذ التركي أكثر، وهو امتداد لنفوذ تركي أساسي في باكستان وطاجيكستان وأذربيجان، ولا ينفصل عن النفوذ التركي في البحر الأبيض المتوسط بفعل الاتفاق التركي الليبي. ذلك يرتبط أيضاً بالمصالحات التركية العربية والخليجية، وحالياً يأتي دور تركيا في سوريا من خلال تثبيت حضورها انطلاقاً من الانسحاب الأميركي، وكما فعلت أنقرة منذ لقاءات أستانا في تعزيز نفوذها في سوريا، حالياً تسعى إلى توسيع هذا النفوذ ولو ارتكز على لقاء أو تنسيق مع النظام.

تلفزيون سوريا

———————————

=====================

تحديث 21 أيلول 2021

——————————

نعم.. لقد انسحبت أمريكا من سوريا/ عمر قدور

سؤال الانسحاب الأمريكي من سوريا قفز إلى الواجهة بقوة منذ الانسحاب من أفغانستان، وبقي في حيز التكهنات رغم تأكيد إدارة بايدن على أن الخطر الإرهابي القادم من سوريا والعراق يفوق مثيله القادم من أفغانستان، ما يعني بقاء القوات الأمريكية في سوريا، وأيضاً بقاء المستشارين العسكريين في العراق. قلة عدد القوات الأمريكية في سوريا يجعل من انسحابها عملية صغيرة لا تشغل حيزاً في وسائل الإعلام، وعدم وجود سوريا ضمن الأولويات الأمريكية أصلاً سيجعلها خارج السجال الداخلي، باستثناء ما هو معتاد منه بين الجمهوريين والديموقراطيين.

بعيداً عن التشويق الإعلامي بين “تنسحب” و”لاتنسحب”؛ لقد انسحبت أمريكا فعلياً من سوريا. الانسحاب أتى تدريجياً وصولاً إلى ما يمكن اعتباره المرحلة النهائية منه، حيث في هذه المرحلة يتدبر مسؤولو إدارة بايدن أمر تمهيد الأجواء من أجل الخطوة النهائية التي لم يتقرر توقيتها بعد، خطوة إجلاء القوات ومعداتها على النحو الذي لم يقتصر على أفغانستان، بل تعداها إلى عملية إعادة انتشار أو إعادة نظر في طبيعة وجود القوات في السعودية والعراق.

لم تأتِ إدارة بايدن بجديد عندما ربطت وجودها في سوريا بخطر داعش، فالقوات الأمريكية في عهد أوباما دخلت سوريا للحرب على داعش، وعقد شراكتها مع قسد ينص على قتال داعش فقط وفقط. حدث انزياح عن هذه المهة في السنة الأخيرة من ولاية ترامب، فهو كان في مستهل عام2019 قد صرّح بأن خطر داعش انتهى، وقال عبارته الشهيرة آنذاك “سوريا ضاعت ولم يبق فيها إلا الرمال والموت” ليتراجع في الأسبوع الأخير من تشرين الأول في العام نفسه متحدثاً عن إبقاء قوات صغيرة تسيطر عل منابع النفط، ثم يصبح بقاؤها مكملاً الضغوط الأمريكية بموجب قانون قيصر، فلا يعود مقتصراً على هدف القضاء على داعش الذي كان ترامب قد أعلن الانتهاء منه.

الفكرة الأساسية فيما سبق أن إدارة بايدن عادت إلى السياسة التي لا تقرن وجود قواتها في سوريا بالقضية السورية نفسها؛ هي موجودة لتحقيق هدف يتعلق بـ”الأمن القومي الأمريكي”، وانسحابها مسألة وقت لا أكثر طالما أنه مرتبط بالإعلان عن تحقيق الهدف. التكهنات حول وجود أهداف أمريكية غير معلنة هي بمثابة اجتهادات شخصية لا تُسأل واشنطن عنها، فهي منذ اتصلت مع بعض فصائل المعارضة “قبل الاتفاق مع قسد” كانت جازمة في عدم ربط وجودها العسكري بالصراع السوري الداخلي، وكانت صريحة في عدم إعلان هدف واضح في سياستها السورية تُضطر إلى الالتزام به لاحقاً.

على كثرة ما قيل حول علاقة واشنطن بالأكراد، وتحديداً حول الدعم الذي يحظى به الأكراد في أوساط الحزب الديموقراطي، لم تحصل الإدارة الذاتية الكردية أو قسد على ضمانات أمريكية من أي نوع، لا ضمانات لإبقاء القوات الأمريكية، ولا ضمانات حول مستقبل الأكراد وفق الحل السياسي الذي طالبت به الإدارات الأمريكية الثلاث المتعاقبة. بل في العديد من المناسبات أتت توجهات الإدارات الأمريكية وتوجيهاتها لتشرح عدم وجود التزام، وتحديداً عدم ممانعتها وجود تواصل وعلاقة دافئة بين الإدارة الذاتية والأسد، أو التشجيع على التواصل معه في ما يبدو كترجمة للواقع تتدبر فيها السلطة الكردية أمرها وأمر مستقبلها مع سلطة الأسد من دون دعم أمريكي.

على وقع الانسحاب من أفغانستان، كانت قوات الأسد تخوض معركة الانقضاض على تفاهمات درعا، ومن أوجه نجاحها ونجاح موسكو ذلك التجاهل الأمريكي لما يحدث في بقعة جغرافية متاخمة لإسرائيل. أيضاً استبقت موسكو لقاء مبعوثيها بالمبعوث الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط بريت ماكغورك بالعديد من الغارات على إدلب، ولم يتأثر إيقاع الغارات الروسية بلقاء جنيف الذي عُقد يوم الخميس الفائت، الأمر الذي يساعد على “ترجمة” الأجواء الإيجابية التي سادت أثناء اللقاء من دون أن يُفصح الجانبان عن تفاصيلها.

معروف عن بريت ماكغورك هذا سلبيته تجاه أنقرة وإيجابيته تجاه الأكراد، وسلبيته تجاه أنقرة تظهر برفضه الضغوط العسكرية التركية على قسد، أما إيجابيته إزاء الأكراد فتظهر بتشجيع الإدارة الذاتية على التفاهم مع الأسد! قبل اللقاء الأمريكي-الروسي في جنيف بيوم، كانت إلهام أحمد رئيسة اللجنة التنفيذية لمسد تلتقي في موسكو المبعوث الروسي للشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، وهو “حسب الإعلام الروسي” أعاد على مسامعها الموقف الروسي الداعم “لسيادة وسلامة أراضي الجمهورية العربية السورية”، وربما يكون قد أشار “عرضاً” إلى درعا كمثال على استعادة السيادة، وأكد بيان وزارة الخارجية الروسية عقب الاجتماع على مواصلة الحوار الفعال بين مسد ودمشق. ومن المعلوم أن موسكو لا تمانع باتفاقيات تلحظ الخصوصية الثقافية الكردية، بينما يرفض الأسد “مسنوداً بموقف طهران وبالضغوط التركية على حزب العمال وتفرعاته” الاعترافَ بتلك الخصوصية، ولا يقبل سوى بمستوى محدود جداً من اللامركزية الإدارية الخالية تماماً من البعد السياسي.

قبل يومين زار وزير دفاع الأسد الأردن، وكما نذكر كان الملك الأردني قد دشن بعد زيارة له لواشنطن انعطافة معلنة في الموقف من الأسد، وزيارة وزير الدفاع لها مغزى “أمني” أبعد بكثير من اجتماع وزراء الطاقة الذي كان مكرساً لموضوع أنابيب الغاز المصري وشبكة الربط الكهربائية الواصلين إلى لبنان. إنه مؤشر يؤكد على أن الملك سمع في زيارته الأمريكية “أو لمس مناخاً” يتجاوز المعلن، حتى أن الإدارة هي التي بادرت لاحقاً إلى طرح إعفاءات من عقوبات قيصر، مع التلميح إلى تساهل قادم متى عُثر على مبرر له.

لا يُستبعد أن يكون التجديد القادم للمساعدات الإنسانية مناسبةً لتسهيلات جيدة تتعلق بعقوبات قيصر، بحيث تظهر الإعفاءات الجديدة إنسانية بحتة، ومن المحتمل جداً أن توافق واشنطن على تجديد تذهب من خلاله المساعدات كاملة إلى سلطة الأسد، وهي التي تتحكم بتمرير حصتي الشمال، الواقع تحت نفوذ تركيا والواقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية. يجدر التذكير بأن عقوبات قيصر، مع قليل من التشدد الأمريكي، ردعت دولاً في المنطقة عن التطبيع مع الأسد، وفي عهد بايدن تبدو واشنطن وكأنها تعطي إشارة معاكسة لمن يرغب.

كل ما تفعله إدارة بايدن هو دفع الجميع إلى التفكير على أساس أنها سحبت قواتها من سوريا، رغم عدم تحديدها لتوقيت إجلاء تلك القلة من جنودها، فالعبرة في الانسحابات الأخرى من الشأن السوري التي ستجعل إجلاء القوات شأناً رمزياً. هو انسحاب تدريجي منظم بالتخلي الطوعي عن أدوات الضغط وعن الرغبة في استخدامه، بدأ في عهد أوباما، ليشكو ترامب من أن سلفه لم يترك له ما يفعله في “أرض الرمال والموت”، ثم ليأتي بايدن كمزيج من أسوأ ما في الاثنين.

المدن

—————————–

أمريكا: تحالف يتراجع وتحالفات تتقدم/ مزهر جبر الساعدي

تحالف أوكوس بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، لم يكن على أهميته، التحالف الأول الذي تقدم عليه أمريكا، بل هناك قبل سنوات من الآن؛ ملامح لتحالفات جديدة وضعت أمريكا قاعدة للعمل بها مستقبلا، أي في هذا الوقت تحديدا. وتحالف آخر سبق هذا التحالف هو؛ تحالف بين أمريكا واليابان والهند وأستراليا.

جميع هذه التحالفات، أو ملامح تحالفات أخرى لم يبدأ العمل بها بعد، لكنها في الدرج الأمريكي بانتظار الوقت الملائم، الغاية والهدف منها، تطويق الصعود الصيني وتحجيمه، ومن ثم محاصرته بأسوار من التحالفات؛ لإيقافه، أو التقليل من زخم تطوره على حساب التفرد الأمريكي.

هناك أسئلة على درجة كبيرة من الأهمية، ذات بعد استراتيجي: ما هو شكل النظام العالمي، الذي سوف ينتج عن الصراع الصيني الأمريكي؟ أو بتعبير أكثر واقعية؛ الصراع الأمريكي مع الثنائي الروسي والصيني؟ ما مصير التحالفات الأمريكية القديمة، سواء على الصعيد الدولي، أو على الصعيد الإقليمي؟ ما موقف الاتحاد الأوروبي حين يتم تجسيم هذه التحالفات على أرض الواقع، وتصبح حقيقة لها فعل وتأثير وجودي في الصراع الدولي بمعزل عنها؟ ما مصير تحالف الناتو، عندما تتخذ أوروبا قرارا مستقلا، يحمي مصالحها، على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية؟ كيف تكون عليه؛ مواقف دول العالم الثالث، ومنها دول المنطقة العربية، عندما تتجسد هذه التحالفات بمفاعيل واقعية، لها تأثير وجودي على الصعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتجارية. الإجابة عن هذه الأسئلة هي:

أولا؛ هذا التحول الأمريكي لم يبدأ في الوقت الحاضر، بل بدأ عام 2008، عندما زار بوش الابن الهند، وتم عقد أكبر صفقة بين الدولتين، تمحورت حول موافقة أمريكا على نقل التكنولوجيا الأمريكية النووية المتقدمة إلى الهند، بغرض تحديث تكنولوجيتها النووية. وكان الهدف والغرض منها بناء أو تأسيس منصة لتحالف مقبل، مع الهند في مواجهة الصين، التي لها أو لهما مشاكل حدودية، لم يتم حلها على مدار عقود. كما أن الخلاف الأوروبي الأمريكي لم يبدأ الآن، بل بدأ عام 2003، عندما عارضت كل من فرنسا وألمانيا الغزو الأمريكي للعراق. حتى وصل الأمر ببوش الابن، أن يصف أوروبا بالقارة العجوز، ومن ثم بدأ التراشق الكلامي بين فرنسا وأمريكا. هذا يعني أن التحول الأمريكي لم يكن وليد اللحظة، أو وليد المخرجات الظرفية للصراع الأمريكي مع الثنائي الروسي والصيني. وهذا يفسر لنا بوضوح؛ أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، تم رسم ملامحها وأهدافها وعملية تحريكها بهدوء، وبفاعلية قبل سنوات، ويعني أيضا، وهذا هو المهم؛ أنه تم تبنيها، لاعتمادها مستقبلا، أو بالأصح إعدادها من قبل دوائر صناعة الاستراتيجيات في أمريكا العميقة، وما مهمة رؤساء الإدارات الأمريكية إلا العمل بخطوات إجرائية تكتيكية مناسبة للظرف الزماني والمكاني؛ خدمة للأهداف الاستراتيجية.

ثانيا: الاتحاد الأوروبي لم يتفاجأ بالتحالف الأمريكي مع بريطانيا واستراليا، كما لم يتفاجأ بالتأسيس الأولي للتحالف بين أمريكا واليابان واستراليا والهند، وما رد الفعل الفرنسي، إلا تحصيل حاصل لواقع معلوم قبل تحريكه فعليا ورسميا. الاتحاد الأوروبي تحدث قبل سنوات، عن أهمية بناء جيش أوروبي مستقل عن حلف الناتو، أو هو، كما تم تمرير طرحه في وقتها، داعم ومساند للناتو، وليس بمعزل عنه، وهذه هي اللغة الناعمة للتمرير، أو لإخفاء الهدف الحقيقي، ثم أعيد طرحه قبل أسابيع، عند الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، من دون إعلام الحليف الأوروبي، ما يؤكد أن الاتحاد الأوروبي كان يعلم أن هناك تحولا أمريكيا في السياسة الدولية، فيما يخص مصالح أمريكا على الأمدين المتوسط والبعيد. لكن الاتحاد الأوروبي غير قادر بإمكانياته العسكرية، وهنا نقصد؛ توفير الكادر البشري لمهامهم العابرة للحدود، لحماية مصالحه أو لتوفير الدعم لأنظمة تشكل مناطق نفوذ له؛ لأن نسبة الشباب في أوروبا قليلة جدا، بما يقيد حركة صانعي القرار في أوروبا. وهناك طريق آخر بإمكان فرنسا وألمانيا اللعب عليه، ألا وهو العلاقة مع الصين وروسيا من النواحي الاقتصادية والتجارية وغيرهما. لذا نلاحظ أن الاتحاد الأوروبي يتقاطع تماما مع الرؤية الأمريكية في العلاقة، مع الصين بدرجة كبيرة، ومع روسيا بدرجة أقل. لذا، عاجلا أو آجلا فإن الاتحاد الأوروبي سوف يعقب الثنائي الروسي والصيني في الحقل الدولي، وفي العلاقة البينية، والحديث هنا لا يدور عما سيحدث في الأمد المنظور، بل ما سيحدث في الأمد المتوسط وما سيليه. إن المتابع للتحرك الأوروبي في المجال الإقليمي في منطقتنا العربية وجوارها الإسلامي؛ سيلاحظ أن هناك تباعدا بين الموقفين الأوروبي والأمريكي، ولو أنه خفي، في الصراعات البينية في المنطقة وجوارها، وبالذات في الموقف من الصفقة النووية بين إيران والقوى الدولية الكبرى، فالموقف الأوروبي أكثر ميلا إلى الموقف الصيني والروسي. كما أن الاتحاد الأوروبي في الأمد المقبل، سيقترب كثيرا من الثنائي الروسي والصيني. هناك أسباب لهذا التقارب سيفرزها الصراع المقبل؛ من بينها، بل أهمها؛ أن الاتحاد الروسي ليس في وارد الدخول في معارك، أيا كان نوعها مع الاتحاد الأوروبي، أي ألمانيا وفرنسا على وجه التحديد والحصر، بل على العكس هناك مصالح اقتصادية يتم البناء عليها في الوقت الحاضر، وهي بالضد من مصالح أمريكا، السيل الشمالي 2 مثلا، وغير هذا الكثير، كما أن روسيا أيديولوجيا لا تهدد نظام أوروبا الاقتصادي والسياسي والثقافي، بل إنها استنسخت معايير الرأسمالية الأوروبية في الاقتصاد والسياسة وما إليهما. أما الصين فهي في علاقة قوية رغم دعوة أمريكا لأوروبا؛ باتخاذ موقف من الصين، لكن أوروبا لم تعر هذه الدعوة من الناحية الواقعية أي أهمية. أوروبا (والمقصود الحصري فرنسا وألمانيا) إلا بعض الاستثناءات، تشترك، أو هي في الطريق إلى الاشتراك مع مشروع الصين المستقبلي، الحزام والطريق، إضافة إلى تكنولوجيا المعلومات، والتبادل التجاري. ومما يزيد من زخم هذه العلاقة مستقبلا؛ أن الصين، تستخدم الاقتصاد والتجارة في تطوير علاقاتها مع دول العالم، ولا ترفع عصى السلاح في وجه أي دولة، وهي في هذا تتبع سياسة ذكية جدا. في الوقت ذاته تقوي وتزيد من ترسانتها العسكرية في وجه الولايات المتحدة، لغرض إيقاف الأخيرة عند حدودها، وليس استعمالها فعليا في حرب، وهي تعلن على الملأ هذه السياسة.

أما الحديث عن خسارة فرنسا لصفقة الغواصات الكبيرة، فالأهم في نتائجها، التأسيس الواقعي، لبداية تحول استراتيجي أوروبي عن أمريكا، ولو بعد سنوات، باستثناء أوكرانيا ودول البلطيق وبولندا.. التي سيكون لها موقف مختلف عن موقف الاتحاد الأوروبي لحسابات التاريخ ومورثات النزاع والصراع والمصالح..

ثالثا: منظمة شنغهاي للتعاون والشراكة، التي تضم روسيا والصين والهند ودول معاهدة الأمن الجماعي، وهي دول آسيا الوسطى، إضافة إلى دول أخرى، تسعى بكل جهدها للانضمام إليها. هذه المنظمة ستشكل مستقبلا، محورا في مواجهة التحالفات الأمريكية. كما أن هذه المنظمة تشكل في إنتاجها ربع الإنتاج العالمي، كما يظل سكانها يشكلون ثلث سكان العالم، إذا ما طرحنا الهند منها مستقبلا، إضافة إلى أنها تمتلك هيكلا صناعيا منتجا، ما يساعدها على الاستغناء عن الدولار في التعامل البيني في التجارة والاقتصاد، والاستعاضة عنه بالعملة المحلية، وهي سياسة نقدية أعلنتها المنظمة قبل زمن، لكنها لم تطبقها حتى الآن، ولم تزل مطروحة للنقاش والعمل، من المرجح جدا، أن يتم العمل بها حين تشتد المواجهة مع أمريكا. اعتقد أن الهند ستخرج من هذا التحالف في نهاية المطاف، أو أن وجودها فيه سيكون صوريا غير فعال، لأن بوصلتها سوف تتجه آجلا أم عاجلا إلى الصف الأمريكي، لحساب مستقبل صراعها الحدودي مع الصين، وعلاقة باكستان، خصمها التاريخي مع الصين، وهي علاقة قوية، آخذة في التجذر والتمتين. الهند تحاول أن تلعب على طرفي الصراع؛ بوضع قدم هنا وقدم هناك، لكن في الخاتمة سيجبرها ميدان الملعب على اتخاذ الموقف سابق الإشارة، عندما تشتد حرارة اللعبة، رغم علاقتها القوية مع روسيا لجهة شراء السلاح، أو توطين بعضه صناعيا على أرضها؛ لأن مغانمها مع أمريكا ستكون أكثر من مغانمها في شنغهاي، أو مع الاتحاد الروسي، إضافة إلى أن فرصتها ستكون أكبر في الفضاءات الدولية. هذه المنظمة وغيرها، والتحول الأوروبي عنها في المستقبل؛ سيقوض هيمنة أمريكا، ويقلل من فاعلية تحالفاتها الجديدة، ولو بعد سنوات.

عموما العالم يتجه فعليا إلى سياسة المحاور والتحالفات، التي تقودها وتهيمن عليها القوى الدولية الكبرى، أي أن العالم سوف تقوده وترسم ملامح حركته، القوى الدولية لمصالحها، وليس لمصالح الشعوب؛ في حرب باردة، من نوع مختلف تماما، بين أمريكا وتحالفاتها في المحيطين الهندي والهادي، وفي منطقتنا العربية وجوارها، والثنائي الروسي والصيني في المناطق سابقة الإشارة لها في أعلاه. مع بقاء بعض الدول الكبرى، فرنسا وألمانيا؛ تراوح في المنطقة الرمادية بين الفضاءين لزمن ما، لكنها في النهاية ستجبرها الظروف والمصالح على الاختيار بين المحورين؛ أرجح وبقوة من اوروبا (فرنسا والمانيا) ستختار المصالح على تاريخ العلاقات والقيم المشتركة كما يروق لدهاقنة أمريكا؛ توصيفها. هنا تبرز القوى الوطنية الحرة في إجبار أنظمتها على أن لا تكون جزءا من هذه التحالفات والمحاور؛ لأنها في النهاية ومهما كانت النتيجة، سوف تكون الشعوب هي الخاسرة؛ إذا ما سارت أنظمتها مع هذا المحور، أو ذاك، وفي الوقت ذاته، من المهم استثمار نتائج هذه الصراعات لصالح الشعوب، إن كانت أنظمتها حرة ومستقلة ووطنها ذا سيادة؛ قادرة على اتخاذ القرار الذي يحمي تلك المصالح، كما هو الحال في تركيا وإيران، بصرف النظر عن الرأي أو الموقف من الدولتين، وعن الموقف من سياستيهما في المنطقة العربية، فالحديث هنا لا يدور عن سياسة الدولتين في المنطقة العربية، بل عن الاستقلال والسيادة، وبذل الجهود في حماية مصالح الشعب.

كاتب عراقي

القدس العربي

———————————

فورين أفيرز: على إدارة بايدن التعلم من أخطاء التفاوض مع طالبان وتشكيل استراتيجية قوية لما بعد الانسحاب

إبراهيم درويش

لندن-“القدس العربي”: قالت ليزا كيرتيس مديرة برنامج أمن إندو- باسيفيك بمركز الأمن الأمريكي الجديد والمسؤولة السابقة في مجلس الأمن القومي بالفترة ما بين 2017- 2021 إن على أمريكا تجنب الأخطاء الدبلوماسية التي أفشلت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.

وفي مقال نشرته “فورين أفيرز” قالت فيه إن الولايات المتحدة أنهت وجودها في أفغانستان وبدأت الآن بالبحث عن أسباب الفشل العسكري الأمريكي على مدى 20 عاما. إلا أن النهاية الكارثية للحرب لم تكن في ميدان المعركة ولكن نتيجة لكاتالوغ من الأخطاء، وعلى واشنطن إعادة النظر بجدية في جهودها الدبلوماسية، وبخاصة اتفاقية السلام مع طالبان التي قادها المفاوض الأمريكي زلماي خليل زاد.

فقد عبر الرئيس دونالد ترامب وجوي بايدن عن رغبة واضحة لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان. ولكن المفاوضات التي تمت بناء على شروط طالبان والتي لم تكن ضرورية أو مرغوبة، و الاتفاقية التي وقعت في الدوحة سرعت من انتصار الحركة.

ولو أراد بايدن أن يحكم على انسحابه من أفغانستان، كقرار دبلوماسي مقبول، فعلى إدارته أن تتعامل مع الفشل الدبلوماسي واتخاذ الخطوات الصعبة والواقعية تجاه طالبان. والقيام بهذه الخطوات هي الطريقة الوحيدة لمنع عودة ملجأ للإرهاب العالمي. وللأسف، فتسرع إدارة ترامب لتوقيع اتفاقية مع طالبان سيعقد من العملية.

وبعد ثلاثة أعوام من المفاوضات، أدت لتقوية المتشددين في طالبان حيث بات عدد كبير منهم يلعب دورا مهما في الحكومة الجديدة مثل سراج الدين حقاني الذي ارتبطت حركته بالقاعدة.

وبعد تشكيل استراتيجية ما بعد الانسحاب على المسؤولين الأمريكيين تغيير أساليبهم الدبلوماسية- أي الحكم على طالبان من خلال أفعالها قبل منحها وقادتها الاعتراف الدولي. ومدخل كهذا مرفق باستراتيجية مكافحة الإرهاب هو الطريقة الوحيدة لحماية المصالح الأمريكية في السنوات المقبلة.

ومع أن الولايات المتحدة خاضت مفاوضات مع طالبان ولعدة سنوات إلا أن نهجها قام على التعلل بالأماني. وكما كشفت “أوراق أفغانستان” التي نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” عام 2019 فإن القادة العسكريين رسموا في معظم الأحيان تقييما ورديا للوضع العسكري أو أخبروا القادة السياسيين أنهم لم يتركوا حجرا إلا وقلبوه في الحرب ضد طالبان، رغم أن الواقع يقول العكس.

وذكرت الكاتبة أنها شاهدت أثناء عملها كمساعدة ورئيسة لمجلس الأمن القومي لشؤون جنوب ووسط آسيا في الفترة ما بين 2017- 2021 المسؤولين المدنيين يتجاهلون أو يخفون الحقائق التي لا تتناسب مع أجندتهم الدبلوماسية. وأدى هذا إلى عدد من الأخطاء التفاوضية الجسيمة والتي انتجت اتفاق الدوحة والذي عبد الطريق أمام خروج الولايات المتحدة مقابل تعهد طالبان بمحاربة الإرهاب والامتناع عن استهداف القوات الأمريكية وهي في طريقها للخروج.

وكان أول خطأ ارتكبته الولايات المتحدة هو الاعتقاد الضال من أن طالبان ستتفاوض في فترة لاحقة مع الحكومة التي تدعمها الولايات المتحدة في كابول- والتي استبعدتها واشنطن من محادثات الدوحة، وهو ما أضفى الشرعية على حركة طالبان.

أما الخطأ الثاني فهو الفشل في ربط ظروف السلام بمستويات العنف التي ترتكبها طالبان. وكان عدم استعداد واشنطن لتعليق المفاوضات، حتى وسط تصاعد العنف، وكشف عن الحالة اليائسة للولايات المتحدة ومحاولتها الحصول على صفقة. وكل ما حصلت عليه الولايات المتحدة هو اشتراط تخفيض العنف لمدة 6 أيام قبل توقيع الاتفاقية. أما الخطأ الثالث، والذي عبر عن أماني أمريكية، وهو أن طالبان مهتمة بالمفاوضات السياسية ولا ترغب بالوصول إلى السلطة عبر القوة العسكرية، وإجبار حكومة أشرف غني للإفراج عن 5.000 سجين بدون أي تنازلات من طالبان مثل تخفيض العنف.

ومن بين الذي أفرج عنهم رقيب عسكري في الجيش الأفغاني، هو قاري حكمة الله الذي قتل عام 2012 ثلاثة جنود أستراليين بدم بارد عندما كانوا يرتاحون في قاعدتهم. وناشد رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون ترامب بألا يضغط على غني للإفراج عن حكمة الله. وكان من غير الضروري الإفراج عن هذا القاتل، وبخاصة مع معارضة حليف موثوق به لهذا الإفراج.

ومن جانبها تأملت إدارة ترامب أن يؤدي الإفراج عن حكمة الله لتسهيل محادثات السلام، وهو اعتقاد ثبت خطله. وبدلا من ذلك استخدمت طالبان محادثات الدوحة لتعزيز شرعيتها الدولية وتقسيم القيادة الأفغانية. وأدت كل التنازلات الأمريكية إلى إضعاف حكومة غني وبذرت الانقسام داخل القيادات المعارضة لطالبان وأظهرت لقوات الأمن الأفغانية أن الولايات المتحدة تقوم باستبدال الخيول مما أضعف من إرادتها على القتال.

وكانت الولايات في وضع أحسن لو تفاوضت مباشرة مع الحكومة الأفغانية، وهو أمر اقترحه غني عام 2019. ولو فعلت هذا لتجنبت أمريكا انهيار معنويات شركائها الأفغان. ولكن واشنطن انتهت بتوقيع معاهدة مع عدو الحكومة الذي قاتلته مدة 20 عاما وانسحبت بشكل متتابع، أي أنها سلمت البلاد إلى حركة طالبان. وفشلت الولايات المتحدة بتقييم علاقات طالبان مع الحركات الإرهابية، فرغم زعم كل من وزير الخارجية مايك بومبيو وخليل زاد أن طالبان قطعت علاقاتها مع القاعدة إلا أن الأدلة تشير لغير هذا. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2020 قال إدموند فيتون- براون منسق فريق رصد تنظيم “الدولة” والقاعدة وطالبان في الأمم المتحدة إن طالبان وعدت القاعدة قبل توقيع اتفاق الدوحة أنها ستحافظ على التحالف معها.

وقال إن القاعدة تحتفل برحيل القوات الامريكية والناتو باعتباره انتصارا للراديكالية العالمية. وفي تقرير صدر في تموز/يوليو 2021 قالت الأمم المتحدة أن العلاقة بين طالبان والقاعدة قوية وأن حركة طالبان فعلت القليل لقطعها بل و” قوت علاقاتها مع الجيل الثاني”، هذا على الرغم من اللغة الصريحة في اتفاقية السلام أن طالبان ستطلب من عناصرها عدم التواصل مع القاعدة.

ومن الباكر الحديث عن أثر انتصار طالبان على توجهات الإرهاب بالمنطقة، لكن الإشارات الأولى مقلقة وبادية من التعيينات في حكومة طالبان الجديدة، وبخاصة سراج الدين حقاني، وزير الداخلية الذي رصدت الولايات المتحدة 5 ملايين دولار لمن يقبض عليه أو يقتله. والاستثناء الوحيد لهذه المجموعة المتشددة هو عبد الغني برادار، نائب رئيس الوزراء والذي قضى سنوات في سجن بباكستان قبل أن يطلب خليل زاد الإفراج عنه للمشاركة في محادثات السلام. وبرادار هو جزء من المعتدلين في طالبان وأجرى محادثات مع الرئيس السابق حامد كرزاي عام 2009. ولكن إنزال مرتبته لنائب هي صورة عن قوة المتشددين. ومع دراسة الولايات المتحدة لفشلها الدبلوماسي عليها التعلم من الأخطاء والتصرف بناء على الدروس المستفادة. ويقتضي هذا تطوير دبلوماسية تعاونية مع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا للضغط على طالبان لكي تلبي مطالب تتعلق بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب. وهذا يختلف عن مدخل خليل زاد الذي ركز على التنسيق والتعاون مع دول مثل روسيا والصين اللتان لا تعطي أهمية لقيمة حقوق الإنسان.

ورغم حاجة الولايات المتحدة للتعاون مع طالبان لإخراج ما تبقى من مواطنين أمريكيين وحلفاء أفغان داخل أفغانستان وإيصال المسىاعدات الإنسانية فليست هناك عجلة للاعتراف الدبلوماسي بالنظام الجديد في كابول.

وسيكون لدى واشنطن القدرة عبر التعاون مع الحلفاء والشركاء ووضع شروط فرصة لتشكيل سلوك طالبان في المستقبل. وهي قادرة على بناء هذا التوازن لأن نسبة 70% من ميزانية حكومة أفغانستان تعتمد على الدعم الخارجي. وعلى الدول المانحة تلبية احتياجات المواطنين الأفغان بدون اعتراف دبلوماسي بحركة طالبان. وفي مركز التعاون والتواصل مع طالبان هو التأكيد على احترامها لحقوق الإنسان. وقد حاول المتحدث باسمها، ذبيح الله مجاهد التأكد على تغيير الحركة والتزامها بالحقوق الأساسية وحقوق المرأة حسب الشريعة الإسلامية. وخلافا لتصريحات مجاهد، فقد منعت الحركة البنات من الدراسة في الثانوية وخروج المرأة للعمل. وعلى الدول المانحة التأكيد لطالبان أن قيودا جديدة على المرأة في التعليم والمشاركة العامة والاقتصادية ستؤثر على قدرة طالبان في الحصول على التمويل الدولي. ومع هذا على واشنطن الإبقاء على العقوبات التي فرضتها الخزانة وعدم الانصياع لمطالب الحركة التي ترى أن لها حقا في أموال الحكومة السابقة المجمدة لمجرد أنها تولت السلطة. وعلى واشنطن العمل مع الدول الأعضاء الأخرى في مجلس الأمن الدولي مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا لمواجهة الضغوط من روسيا والصين الرامية لرفع العقوبات. وبالتحديد فعلى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين التوضيح أن الإعفاء الذي سمح بسفر قادة طالبان لن يتم تجديده بعد انتهائه هذا العام، طالما لم تشكل حكومة تمثل الأفغان.

وقال مسؤول أمريكي سابق إن طالبان أساءت استخدام الإعفاء من أجل الحصول على الشرعية الدولية في وقت واصلت فيه محاربة الحكومة وقتل المسؤولين والصحافيين وغيرهم.

وفي اتجاه آخر، على الولايات المتحدة إعادة تقييم طريقة تعاملها مع باكستان التي اعتمدت عليها كثيرا لتسهيل محادثات السلام. لكن تصريحات المسؤولين الباكستانيين بعد انتصار طالبان كانت مثيرة للانتباه. فقد وصف رئيس الوزراء عمران خان انتصار الحركة بأنه تحرر من قيود العبودية. وعملت الولايات المتحدة بنجاح على إقناع إسلام آباد على وقف نشاطات طالبان داخل أراضيها، وقام ترامب بوقف المساعدات العسكرية عام 2018، مع أن إسلام أباد واصلت دعمها وسمحت لحركة طالبان أفغانستان بالتحرك ونقل الإمدادات عبر أراضيها. ومعاقبة باكستان الآن ستكون متأخرة، لكن على واشنطن التعلم من دروس التعاون الفاشلة في مكافحة الإرهاب.

ويمكن لواشنطن التعاون مع باكستان لضرب أهداف لتنظيم “الدولة”- ولاية خراسان. لكن المخابرات الباكستانية لن تضرب أبدا شبكة حقاني المرتبطة بالقاعدة. وتعتمد المخابرات والجيش الباكستاني على هذه الشبكة لمنع الهند بناء موطئ قدم لها في أفغانستان. وبدلا من ذلك على إدارة بايدن إعادة تركيز انتباهها للتعاون مع القوى الإقليمية الأخرى مثل الهند. ولمدة طويلة تجنبت واشنطن التعاون مع نيودلهي في مكافحة الإرهاب حتى لا تغضب باكستان. وبعد فشل هذه الاستراتيجية فيجب على واشنطن التعاون مع دول ديمقراطية تقاتل الإرهاب بدلا من الاعتماد على دول تستخدم الجماعات الإرهابية لتحقيق أهدافها.

ورغم تأكيد بايدن على هزيمة القاعدة إلا أن العهد الجديد في أفغانستان يمنع الجماعات الإرهابية فرصة استثنائية وخطيرة. وتحكم أفغانستان الآن حركة قاتلت مدة 30 عاما مع القاعدة وبمرور الوقت ستحاول الجماعات الجهادية الاستفادة من الفرصة وإعادة بناء ملاجئها في البلد. ولا يمكن للولايات المتحدة غسل يديها من أفغانستان على أمل اختفاء التهديد الإرهابي. فقد تجاهلت البلد بعد رحيل الاتحاد السوفيتي مما أدى لهجمات 9/11. ويجب أن يكون تصرف أمريكا في مرحلة ما بعد الانسحاب قائما على الجمع بين الالتزام بالكرامة الإنسانية والدفاع عن حقوق الإنسان والوعي بالتهديد الإرهابي. والطريقة الوحيدة لكي تسترد الولايات المتحدة مصداقيتها هو التعاون مع الحلفاء لتشكيل سلوك طالبان. وقبل كل هذا دراسة أخطاء المفاوضات مع طالبان والتعامل معها من موقف القوة.

—————————

==================

تحديث 22 أيلول 2021

——————–

أمريكا والصين على رقعة الشطرنج الدولية/ جلبير الأشقر

أحد أبرز الكتب في «الاستراتيجية الكبرى» (أي تلك التي تتعلق بالعالم برمّته) التي صدرت غداة انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفييتي هو كتاب زبيغنيو بريجنسكي، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر طوال ولاية هذا الأخير بين سنتي 1977 و1981 (توفي بريجنسكي قبل أربع سنوات). حمل الكتاب الصادر في عام 1997 عنوان «رقعة الشطرنج الكبرى: الأولوية الأمريكية وضروراتها الجيوستراتيجية» وقد اشتهر بشرحه الصريح والمكيافيلي لما رآه الكاتب لزاماً على أمريكا كي تحتفظ بأولويتها بين القوى العالمية.

اعتبر بريجنسكي أن أحد أخطر التطورات المستقبلية المحتملة بالنسبة لأمريكا هو ظهور «ائتلاف صيني-روسي-إيراني» لا يمكن أن ينشأ سوى إذا أرادت الصين إنشاءه إذ ستكون هي الوحيدة التي تملك من القوة الاقتصادية والعسكرية ما يسمح بمثل هذا الدور. فحذّر المستشار السابق زملاءه في النخبة الأمريكية الحاكمة من التصرّف بما يستفزّ مشاعر الصين القومية التي هي شديدة الحساسية لما عانته في تاريخها من مآسٍ ناجمة عن السيطرة الأجنبية، لاسيما من طرف اليابان وبريطانيا. بل دعا بريجنسكي أيضاً إلى استمالة إيران ذاتها ودفعها باتجاه الاعتدال، بينما رأى أن روسيا سوف تبقى خصماً للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.

وقد سلكت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في البيت الأبيض نهجاً انسجم بخطوطه العريضة مع نصائح المستشار السابق، وهو نهج بلغ ذروته في عهد باراك أوباما الذي شكّل «الانعطاف نحو آسيا» ومهادنة إيران ركنين أساسيين من أركان سياسته الخارجية. بيد أن تلك الذروة عقبها انعطاف حاد في الاتجاه المعاكس، قاده دونالد ترامب باعتماده سياسة عدائية، بل واستفزازية، إزاء كل من الصين وإيران، فيما اعتقد بما يجمع الغباء والسذاجة أنه قادر على استمالة روسيا. وقد أمَلت معظم الحكومات أن عهد ترامب ليس سوى فترة استثنائية في مسار السياسة الخارجية الأمريكية وأن واشنطن سوف تعود إلى نهجها المعتاد بعد خروجه من البيت الأبيض، وهو أمل عزّزه أن الرجل الذي عقب ترامب في الرئاسة كان نائب أوباما خلال عهد هذا الأخير بين سنتي 2009 و2017.

غير أن جو بايدن قد خيّب آمال الذين تمنّوا أن يشرف على إعادة أمريكا إلى نهج أوباما في السياسة الخارجية، بل ما انفكت تتزايد منذ تولّيه الحكم التعليقات التي تلاحظ أن نهجه أقرب في الحقيقة إلى نهج ترامب مما هو إلى نهج الرجل الذي ساكنه البيت الأبيض طوال ثمانية أعوام. فقد سار بايدن حتى الآن على خطى سلفه ترامب في شتى الملفات من حيث الأفعال، بصرف النظر عن الأقوال التي اختلفت عن أسلوب هذا الأخير. وها قد رأينا حلقة جديدة وخطيرة في هذا المسار كادت تُفقد الجميع أي أمل بعودة واشنطن إلى سياسة تستوحي مما نصح به بريجنسكي.

تلك الحلقة الجديدة هي بالطبع الإعلان عن الحلف الثلاثي المدعو «أوكوس» بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، الذي تضمّن تزويد الأخيرة بغواصات نووية بما ترافق بتمزيق اتفاق كانت قد عقدته أستراليا مع فرنسا لتزويدها بغواصات تعمل بالطاقة النفطية. وقد ركّز الإعلام العالمي على غضب باريس التي شعرت عن حق أن أمريكا طعنتها في الظهر وأن بريطانيا وأستراليا تعاملتا معها بصورة خبيثة، لاسيما أن الغضب الفرنسي انضاف إلى استياء الأوروبيين من قرار بايدن الانفرادي بالانسحاب السريع من أفغانستان بما أحرجهم وتسبب بالكارثة التي كانت كابُل مسرحاً لها في الشهر الماضي. لكنّ رد الفعل الأخطر على قيام حلف «أوكوس» الثلاثي إنما جاء من الصين التي رأت فيه، عن حق في حالها أيضاً، حلفاً معادياً لها، تزيد من خطورته أن تزويد أستراليا بغواصات نووية يشكل نوعاً ما خرقاً لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، تلك المعاهدة التي تبذل واشنطن مساعٍ حثيثة لكي تفرض على إيران الالتزام بها التزاماً صارماً يفوق المتطلبات الاعتيادية.

فلم تتأخر الصين بالردّ على المناورة الأمريكية الأخيرة بمناورة مضادة تمثلت بالقبول بمنح إيران العضوية الكاملة في «منظمة شانغهاي للتعاون» وهي منظمة أمنية أنشئت في عام 1996 تحت إشراف الصين وروسيا، وانتمت إليها جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة في آسيا الوسطى، وقد التحقت بالمنظمة قبل أربع سنوات كل من الهند وباكستان. وها أن عضوية إيران تم قبولها بما أطلق سيرورة انتسابها، التي قد تتطلب سنتين مثلما تطلبت في حالة دولتي شبه القارة الهندية. ومن الملفت أن إيران أبدت منذ عشرين عاماً رغبتها بالحصول على عضوية كاملة (كانت مراقِبة حتى الآن) في المنظمة، ولم تحصل على الضوء الأخضر سوى الآن بعد أن وصل إلى سدة رئاستها رجل ينتمي إلى الجناح المحافظ المتشدّد في الطبقة الحاكمة في طهران.

صحيح أن «منظمة شانغهاي للتعاون» ليست رديفاً للحلف الأطلسي بقيادة صينية وروسية كما تُصوّرها بعض التعليقات في الإعلام، بل هي أقرب إلى «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» التي تشمل دول أمريكا الشمالية وأوروبا وشمال آسيا (ينتمي بعض أعضائها ومنهم روسيا إلى «منظمة شانغهاي»). بيد أن فتح أبوابها أمام عضوية إيران وفي هذا الوقت بالذات إنما يندرج بكل وضوح في ردّ الصين على قيام حلف «أوكوس» بوصفه حلقة جديدة في المسار الأمريكي المعادي لبكين. وإذ تأتي هذه الخطوة بعد إبرام اتفاقية «الشراكة الإستراتيجية الشاملة» بين الصين وإيران قبل ستة أشهر، تنذر بمزيد من خطوات التقارب بين بكين وطهران ردّاً على مواقف إدارة بايدن. هكذا فإن ما حذّر بريجنسكي منه قبل ربع قرن قد أخذ يتحقق.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

———————-

ماذا جرى للولايات المتحدة؟!/ عبد المنعم سعيد

يبدو أن العالم لن يأخذ كفايته من المفاجآت الأميركية التي بلغت آفاقاً عالية خلال الأسابيع الأخيرة. ولا توجد نية هنا لإعادة التناول حول أفغانستان أو العراق أو ذكرى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 أو ماذا كانت الولايات المتحدة تحاول فعله خلال فترة الرئيس ترمب، أو ما تفعله حالياً مع قيادة الرئيس بايدن.

ما يهمنا هو ما تفعله الدولة الرئيسية الأولى في العالم تجاه دول المنطقة العربية على ضوء كل ما قيل خلال الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي والذي يقوم على أن الولايات المتحدة عليها أن تسعى لقيادة العالم، وأن تفعل ذلك بينما تنسحب من مواقعها في الشرق الأوسط، وتعيد التموضع وسط حلفائها في أوروبا والباسفيك، وبينما تعيد ترتيب البيت من الداخل فإنها سوف تعزز التحالف الأطلنطي، وتدعم التحالف في المحيطين الهندي والباسفيكي مع الهند وأستراليا ونيوزلندا واليابان وكوريا الجنوبية. كل ذلك مفهوم، وإذا كان الفهم خاطئاً أو غير صحيح، فإن الولايات المتحدة لديها من المؤسسات الكافية لكي تصحح مسار الدولة، أو تغيّره أكثر من مرة في جولات انتخابية كما حدث خلال العقدين الماضيين. وعلى أي الأحوال فقد باتت واضحة الدروس المستخلصة من التجربة المعاصرة وعلى رأسها أن أميركا لم تتصرف بالقدر الكافي من صفاء العقل وغلبة الحكمة في أعقاب ما جرى قبل عشرين عاماً، وأن غزوها لكل من العراق وأفغانستان كان خطأ بالغاً. ولا يقل أهمية عن ذلك كان زيف فكرة بناء الدول القومية بالأدوات والتصورات الأميركية، وأن «الديمقراطية» فكرياً ومؤسسياً ليست النظام المناسب لدول أخرى، بل إنه في الإطار الأميركي ذاته يعاني من أوجاع كبيرة.

فلماذا وسط ذلك كله تقوم واشنطن بأمرين تتجاوزهما الحكمة بكثير: أولهما سحب صواريخ باتريوت من المنطقة، وهي سلاح دفاعي يسهم في حماية مواقع مدنية من هجمات صاروخية إيرانية. وثانيهما قيام الولايات المتحدة بتجميد 130 مليون دولار من معونتها العسكرية لمصر لخدمة أغراض غير معروفة لحقوق الإنسان، وذلك بينما تُجري مناورات «النجم الساطع» على الأرض المصرية لخدمة مصالح مشتركة أميركية وعربية. والإجراء الثاني تم مع دولة لها علاقات وثيقة أيضاً مع أميركا خلال العقود الخمسة الماضية، وارتبطت بكثير من المصالح المشتركة للسلام وتحقيق الاستقرار في المنطقة. الخطوتان على أهميتهما، فإنهما لا تحققان لواشنطن أي مصلحة وطنية، وإنما هما في الأغلب جرياً لإرضاء نزعات في الحزب الديمقراطي لا تزال تسعى إلى طغيان الآيديولوجية على السياسة الخارجية الأميركية، رغم كل الدروس التي جرى ذكرها أعلاه.

ومع الحساب فإن كلتاهما لا تؤثر سلباً لا على أية قدرات دفاعية، ولا في القدرات الاقتصادية المصرية، وكلتاهما تطورت كثيراً أمنياً واقتصادياً خلال السنوات الأخيرة بفعل عمليات الإصلاح العميقة في البلدين.

الأرجح أن كلا الإجراءين يعبّر عن استمرار حالة التهافت في الطاقة الأميركية نتيجة الانقسامات الكبيرة في الدولة، وعدم القدرة على فهم الطاقات والقدرات الموجودة في الدول العربية.

الأخطر من ذلك على التقديرات الأميركية هو توصيفها للنظام الدولي على أنه حالة من المنافسة بين واشنطن وبكين؛ وأنها في هذا السباق لديها قدرة غير مسبوقة على الكسب بسبب الألوان اللامعة للنموذج الأميركي، وذلك فيه قدر كبير من المبالغة وتجاوز الحقيقة. فالثابت أن النزيف الضخم الذي نزفته الدولة الأميركية خلال العقدين الماضيين كان من الحجم الذي يستمر تأثيره السلبي لعقود قادمة. تقديرات النزيف تتراوح ما بين 4 و9 تريليونات دولار إذا ما حسبت الفرص البديلة؛ ولكن تلك باتت في حسابات التكلفة الاقتصادية دون حساب للآثار السلبية على قدرات أميركا على صنع القرار. لقد كان «السوفتوير» الأميركي، وقدرات أميركا الناعمة على وجه العموم شكلاً من أشكال الجاذبية الأميركية. ولكن ذلك مع ما سببه من قصور في التعامل مع القضايا الأميركية بما فيها السياسة والانتخابات وتعاون المؤسسات، وما ظهر في أشكال عنصرية وفاشية… تسبب في خفوت كبير في هذه الجاذبية. وعلى العكس من ذلك فإن الصين الموصّفة بالمنافس الرئيسي للولايات المتحدة، تبدأ في علاقاتها الخارجية بقدر كبير من التحفظ والاعتراف بتقاليد دول العالم المختلفة، ولا هي تستخدم الحزب الشيوعي في نشر المركزية السياسية والاقتصادية، ولا هي تعطي دروساً في إدارة الاقتصاد والسياسة. وفوق ذلك فإن لديها ما يقابل 3.2 تريليون دولار من الاحتياطيات المالية، منها 1.4 تريليون دولار أميركي نقداً وعدّاً. النموذج التنموي الصيني فيه الكثير الذي يفيد الاقتصادات النامية؛ وفي المقابل فإن الحالة الأميركية عليها مديونية مقابل الدولار المستخدم كعملة دولية قدرها 28 تريليوناً، وكل ذلك بينما تزمع الولايات المتحدة إعادة بناء بنيتها الأساسية مضافاً لها إنفاقها الفيدرالي بما مقداره 3.5 تريليون دولار.

في إطار نفس المنافسة فإن سيث جي جونز، وهو أحد الخبراء الأميركيين في الشؤون الاستراتيجية العالمية أصدر كتاباً مهماً مؤخراً بعنوان «ثلاثة رجال خطرين»، حيث يمثل هؤلاء ثلاث قوى مناوئة ومنافسة للولايات المتحدة هي الصين وروسيا وإيران. وبينما ركزت الولايات المتحدة على بناء الطائرات النفاثة، والصواريخ، والقدرات القتالية التقليدية، فإن هؤلاء الثلاثة اتّبعوا سياسات غير تقليدية للحرب السيبرانية، والقوى التي تعمل بالوكالة، والدعاية، والتجسس، والمعلومات الكاذبة لكي تقوّض القدرة الأميركية بما فيها التدخل في الانتخابات. باختصار كانت هذه القوى أكثر إخلاصاً لأدوات العالم الحديث في القرن الحادي والعشرين مما هو حال أميركا وهي موطن الثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة معاً. ومقابل ذلك فإن واشنطن ذهبت بعيداً في خلق حالة من الغربة لدى حلفائها الرئيسيين في الغرب زادت على ما كانت عليه في أثناء الإدارة السابقة للرئيس دونالد ترمب الذي كانت هناك شكوك قوية في مدى ولائه لما تسمى القيم الغربية وحتى حلف الأطلنطي. والآن وتحت إدارة الرئيس جوزيف بايدن فإن السلوكيات الأميركية خلال الأزمة الأفغانية عكست شيخوخة قيادية؛ لا يبدو أنها سوف تكون قادرة على تجاوز الانقسام الأميركي في الداخل، والبعد عن الحلفاء في الخارج.

إن تأكيد الآيديولوجية الليبرالية دونما موقف حقيقي من التنظيمات «الإسلاموية» الإرهابية مثل الإخوان المسلمين، يجعل مواقف واشنطن من شركائها في الشرق الأوسط فيها قدر كبير من التناقض غير الحميد الذي يعطي دفعات للقوى المعادية للعلاقات مع الولايات المتحدة لكي تقوّض أكثر من ذلك نفوذها في الشرق الأوسط والعالم أيضاً.

الشرق الأوسط

——————-

التوتر الأميركي – الفرنسي… أعمق من صراع الغواصات/ سميح صعب

بعد أفغانستان يُقبل العالم على تحولات تمس بالتحالفات التي كانت قائمة. استبدال أوستراليا صفقة الغواصات الفرنسية بأخرى أميركية، وقيام شراكة أمنية جديدة بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في مواجهة الصين، من دون التشاور المسبق مع الاتحاد الأوروبي، لا سيما فرنسا، زعزعا التحالفات القديمة، وزرعا الشك أكثر بأن نهج “أميركا أولاً” ليس حكراً على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وإنما هو تعبير عن نهج يدخل في صلب إستراتيجية أميركية، بدأت مع الرئيس السابق باراك أوباما.

مهما سعى الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إحتواء الضرر، الذي تسبب به إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية، ومهما قدم من تبريرات، لن يخفف من شعور الفرنسيين بأنهم تعرضوا لـ”طعنة في الظهر”، وفق تعبير وزير الخارجية جان-إيف لودريان.

وليست فرنسا وحدها التي تشعر بالصدمة، بل إن الاتحاد الأوروبي عموماً، لا يزال في حالة ذهول من مضي بايدن في إدارة الظهر للأوروبيين وتجاهلهم في قرارات دولية خطيرة. ولم يكد الأوروبيون يخرجون من الشرخ الذي تسبب به التفرد الأميركي بخطوة الانسحاب من أفغانستان، حتى أتت قضية إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية، والإعلان عن شراكة أمنية جديدة لم يعلم بها الأوروبيون مسبقاً.

في حزيران (يونيو) الماضي، أتى بايدن إلى أوروبا ليعلن خلال اجتماعات مع الاتحاد الأوروبي أن “أميركا عادت”، إيذاناً بإنتهاء مرحلة “أميركا أولاً”، وبأن التشاور سيكون سمة تسير عليها الإدارة الجديدة في البيت الأبيض. لكن لم تكد تمضي أسابيع على وعد بايدن، حتى كان القرار الآحادي بالإنسحاب من أفغانستان، من دون التشاور مع الحلفاء، الذين هم جزء أساسي من عملية أفغانستان منذ إنطلاقتها قبل عشرين عاماً.

واليوم، أتت قضية الشراكة الأمنية الجديدة بين أميركا وبريطانيا وأوستراليا والتخلي عن صفقة الغواصات الفرنسية، لتضيف شرخاً جديداً إلى العلاقات بين ضفتي الأطلسي.

يقول بايدن ومعه رئيسا الوزراء البريطاني بوريس جونسون والأوسترالي سكوت موريسون، إن الغواصات النووية الأميركية لأوستراليا، تحتمها مقتضيات النزاع المتصاعد مع الصين، كونها تضيف ثقلاً نوعياً إلى الترسانة الأوسترالية وتحدث توازناً مع الحشد الصيني المتنامي في المحيطين الهندي والهادئ. بينما الغواصات الفرنسية التقليدية التي شكت كانبيرا مراراً من بطء في التزام مواعيد التسليم، لم تكن جديرة بكل هذا الانتظار.

فرنسا، لم تصل إلى قرار باستدعاء سفيرها من واشنطن للتشاور، حتى في ذروة التوتر بين الجانبين الذي رافق قرار الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو. بوش بالذهاب إلى الحرب في العراق عام 2003 والمعارضة القوية التي أبداها الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك لهذا القرار.

وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على عمق الشرخ الحاصل بين واشنطن وباريس. وهذا ما حمل لودريان على التساؤل عن فائدة حلف شمال الأطلسي بعد اليوم.

ماذا يقصد الوزير الفرنسي بهذا الكلام الذي لا يزال لغزاً، وهل تتكرر مسألة خروج باريس من الدائرة العسكرية للحلف، على غرار ما فعل شارل ديغول في الستينات بسبب التوتر مع الولايات المتحدة؟

وإذا كان من المبكر التكهن بمآلات العلاقة الفرنسية – الأميركية من الآن فصاعداً، فإن من السهولة الوصول إلى استنتاج مفاده، إن العلاقة ستظل تعاني على المدى المنظور من آثار أفغانستان ومن آثار إلغاء صفقة الغواصات، التي كانت تعتبرها باريس بمثابة “عقد القرن”، نظراً إلى أن قيمة الصفقة تبلغ 65 مليار دولار.

الأوروبيون لم يعد من السهل إقناعهم بأن بايدن غير ترامب. وهناك ميل يتنامى لدى الأوروبيين منذ “لحظة أفغانستان”، بأن ثمة ضرورة لتفكير جدي في تطوير قوة عسكرية تابعة للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أصوات تنادي بـ”الإستقلال الذاتي الإستراتيجي” عن الولايات المتحدة. هذا اتجاه سيجد سنداً له في القرارات الآحادية التي تتخذها أميركا في ذروة نزاعها مع الصين.

النهار العربي

—————————-

=====================

تحديث 23 أيلول 2021

————————

التعايش مع الإرهاب/ بكر صدقي

سيواصل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وبخاصة الطريقة التي تم بها، إثارة مزيد من التساؤلات والتأملات بشأن تداعياته المحلية والعالمية، وقبل ذلك بشأن معناه.

قبل كل شيء ينبغي التذكير بأن قرار الانسحاب من هذا البلد المنكوب لا يتعلق بإدارة بايدن، بل هو قرار استراتيجي متوافق عليه بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، سبق اتخاذه منذ سنوات، وحدد تاريخه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بنتيجة تفاوض مع حركة طالبان المصنفة منظمة إرهابية.

منذ شهر أيار الماضي، الموعد المحدد مسبقاً للانسحاب، كان واضحاً أن حركة طالبان تسعى إلى السيطرة على السلطة، وعلى العاصمة كابول ضمناً. فلا مكان لتبريرات من نوع سوء التقدير، أو لأوهام بشأن قدرة السلطة السابقة على الصمود أمام زحف مقاتلي حركة طالبان، على رغم حجم الجيش الرسمي وتسليحه الأمريكي الحديث، بالمقارنة مع مقاتلي طالبان.

بناء على هذه المقدمات يمكن الاستنتاج بأن الأمريكيين الذين تراجعوا عن مشروعاتهم الطموحة بشأن «بناء دولة – أمة أفغانية حديثة» متسقة مع المعايير الغربية، كما أعلن بايدن بصراحة يشوبها الكذب، لم يعودوا معنيين بمن يحكم أفغانستان بعد انسحابهم، حتى لو كانت منظمة إرهابية كحركة طالبان، بشرط واحد هو بقاء الإرهاب الأفغاني داخل حدود أفغانستان، أو وفقاً للرطانة الأمريكية «عدم تهديد الأمن القومي الأمريكي». حتى لو امتد إرهاب الحركة خارج الحدود باتجاه الدول المجاورة، فالأمن القومي الأمريكي غير معني به. المهم ألا يمتد إلى الأراضي الأمريكية أو أي وجود أمريكي خارج الحدود. تنطوي هذه الاستراتيجية على مراجعة سياسية كبيرة لكل تاريخ التدخلات العسكرية الأمريكية خارج الحدود، وبخاصة للحرب الأمريكية على الإرهاب في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، وتؤسس لمفهوم جديد للأمن القومي منغلق على حدود الدولة أو يكاد. بكلمات أخرى: ما دام الإرهاب لا يقترب من الأراضي الأمريكية والمصالح الأمريكية، فهو مشكلة تعني الدول الأخرى، ويمكن التعايش معه.

بل من المحتمل أنه حتى حدوث اعتداءات على «المصالح الأمريكية» خارج الحدود لن يتطلب، وفقاً للاستراتيجية الجديدة، أكثر من الرد واحدة بواحدة كما تكرر ذلك في الأشهر الأخيرة في مواجهة اعتداءات الأذرع العراقية لإيران على مواقع أمريكية في سوريا والعراق. فالرد لا يتجاوز ضربات موضعية على الطريقة الإسرائيلية مع حزب الله، إلى رد شامل يستهدف القضاء على العدو كما فعلت إدارة أوباما مع دولة داعش الإسلامية. حتى في تلك الحالة لم تكن إدارة أوباما معنية بالإرهاب الذي تمارسه داعش داخل دولتها على السكان في العراق وسوريا، بقدر ما كان الهدف وقف هجمات داعش على المدن الأوروبية. صحيح أن تلك الحرب قد بدأت قبل الهجمات المشار إليها، لكن إعدام تنظيم «الدولة» لمواطنين أمريكيين، لم يترك مجالاً أمام أوباما للتهرب من مسؤولية المواجهة، إضافة إلى استقطاب تنظيم الدولة لمئات الأوروبيين والأمريكيين. بالمجمل كانت الحرب على داعش مزيجاً من الاستراتيجية القديمة لما بعد 11 أيلول، والاستراتيجية الجديدة الآخذة في التبلور، أي التعايش مع الإرهاب ما دام لا يشكل خطراً على الأمن القومي الأمريكي.

من المحتمل ألا يكون التعبير عن هذا التغيير في سياسة «الحرب على الإرهاب» مقتصراً على رسائل غير مباشرة بواسطة التطبيق العملي، فليس من المستبعد أن تكون المفاوضات مع حركة طالبان تضمنت هذا الموضوع «وجهاً لوجه»: ابقوا بعيدين عنا وافعلوا ما تشاءون في بلدكم!

أليست هذه السياسة مطبقة فعلاً على حالات تمارس فيها الدولة إرهاباً متواصلاً على السكان من غير أن تفقد شرعيتها الدولية والأممية وتوصف بالإرهاب؟ هذا ينطبق اليوم على نظام بشار الأسد الذي وثقت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية انتهاكاتها الموصوفة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كالقصف المتعمد للمدنيين وللمستشفيات والمخابز وأسواق الخضار، إضافة إلى استخدام السلاح الكيماوي؟ مع ذلك ما زال هذا النظام يعامل معاملة الدولة الشرعية. ويشير تيسير واشنطن لمشروع نقل الغاز والكهرباء من مصر إلى لبنان، عبر الأراضي السورية، إلى بداية تطبيع أمريكي مع النظام.

سواء تعلق الأمر بأنظمة متوحشة كنظام بشار، أو دكتاتورية دموية كنظام السيسي، أو منظمات إرهابية استولت على الحكم كحركة طالبان، فمعيار التعاطي مع الجميع هو اقتراب أو عدم اقتراب إرهابهم من الحدود الأمريكية أو الغربية بصورة أوسع. فإذا التزمت الحكومات أو المنظمات الإرهابية بهذا الخط الأحمر، أمكنها أن تحكم وتفعل بمحكوميها ما تشاء.

قد يبدو للبعض هذا الانكفاء الأمريكي أمراً عادلاً ومحموداً، فهو يتسق مع مفهوم السيادة، سيادة الدول على ما داخل حدودها، وعدم التدخل من قبل دول أخرى في شؤونها «الوطنية». لندع جانباً أن هذه وصفة مرضية للأنظمة الدكتاتورية المتوحشة، وحكماً بالموت على من يعيشون تحت سيطرتها، يبقى أن فيض القوة الأمريكي لن يكف عن التدخل في شؤون العالم بمجرد التوقف عن شن الحروب لإسقاط أنظمة، بل تسمح أنظمة التسلح الحديثة التي تملكها بفرض إرادتها على الدول الأخرى بدون شن حروب تقليدية. ولا يقتصر فيض القوة الأمريكي على قوة السلاح، بل هو أساساً اقتصادي وتكنولوجي، بما يجعل الولايات المتحدة قوة هيمنة بلا حاجة إلى إرسال الجيوش خارج الحدود.

هذا لا يعني، طبعاً، أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون، وأن هذا «البرنامج» بلا ثغرات. فهناك منافسون أقوياء كالصين وروسيا مثلاً، يستفيدون من الانكفاء الأمريكي وفقاً لسياسة التمدد الاستعماري التقليدية، فيملؤون الفراغات، جنباً إلى جنب مشاركتهم في السباق التكنولوجي. ويبقى أن إرهاب الأنظمة المتوحشة سيواصل تغذية موجات اللاجئين باتجاه الدول المرفهة بالدرجة الأولى، مهما ارتفعت الجدران بين الدول. ففي النهاية مشكلاتنا لا تخصنا وحدنا، بل هي مشكلات عالمية بقدر ما هي محلية.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————

كلام بايدن.. والإدارة الغائبة/ خيرالله خيرالله

يبدو كلام الرئيس جو بايدن في الأمم المتحدة كلاما جميلا صادرا عن رئيس أميركي يرى التحديات التي يواجهها العالم، لكنّه يعتقد أن في الإمكان مواجهتها بالدبلوماسية وحدها. لا يدرك أن ذلك ليس ممكنا، خصوصا بعدما كشفت طريقة الانسحاب العسكري من أفغانستان مدى تخبّط الولايات المتحدة وضعفها. لم يعط التحالف العسكري الجديد مع أستراليا وبريطانيا الذي كلّف فرنسا خسارة عقد لبناء غواصات قيمته 56 مليار يورو فكرة أفضل عن الدبلوماسية الأميركيّة. أدى الأمر إلى “فقدان الثقة” بين فرنسا وأميركا وإلى سقوط فكرة أنّ الإدارة الأميركية الحاليّة تسعى إلى جبهة موحّدة مع أوروبا.

باتت فرنسا في وضع لا تحسد عليه بعدما صار عليها البحث عن موقع جديد في هذا العالم بعيدا كلّ البعد عن توجّهات الإدارة في واشنطن.

كان يمكن للكلام عن دخول العالم “مرحلة الدبلوماسيّة” أن يثير الإعجاب لو كان وضع هذا العالم مختلفا ولو لم تكن أميركا تتفرّج على المآسي التي يشهدها الشرق الأوسط، بدءا باليمن، وصولا إلى لبنان، مرورا بالطبع بالعراق وسوريا. كيف يمكن تفسير غياب الموقف الأميركي من قتل نصف مليون سوري وتشريد عشرة ملايين داخل سوريا وخارجها؟

تحدث بايدن في كلمته عن أنّ الجمعية العمومية للأمم المتحدة تنعقد هذه السنة “في لحظة ممزوجة بألم شديد” بسبب “الوباء المدمر الذي لا يزال يحصد الأرواح في جميع أنحاء العالم”، حيث توفي “أكثر من 4.5 مليون شخص” بفايروس كورونا. تطرق إلى أزمة المناخ وإلى كل ما يعاني منه العالم قبل أن يسأل “هل سنطبق المبادئ الأساسية للنظام الدولي ونعزّزها، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بينما نسعى إلى ظهور تقنيات جديدة وردع للتهديدات الجديدة”؟ رأى أن العالم يقف “عند نقطة انعطاف في التاريخ”. أشار إلى إنهاء التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان في نهاية الشهر الماضي، مؤكّدا أن أميركا تريد التركيز على الدبلوماسية المتعددة الأطراف والمكثفة للتعامل مع الأزمات التي تواجه العالم. وقال “كي نخدم شعبنا، يجب علينا أيضا الانخراط بعمق مع بقية العالم (…) نحن نفتتح حقبة جديدة من الدبلوماسية التي لا هوادة فيها، لاستخدام قوة مساعدتنا التنموية للاستثمار في طرق جديدة لرفع (مستوى معيشة) الناس في كلّ أنحاء العالم”. شدّد على أن الولايات المتحدة “لا تسعى إلى حرب باردة جديدة” في إشارة واضحة إلى الصين، لكنّه اعترف بتزايد المخاوف بسبب التوترات المتزايدة بين البلدين، قائلا “نحن لا نسعى إلى حرب باردة جديدة أو عالم منقسم إلى كتل جامدة”، مؤكدا أن الولايات المتحدة “مستعدة للعمل مع أي دولة تتقدم وتسعى إلى حل سلمي لمشاركة التحديات، حتى لو كانت لدينا خلافات شديدة في مجالات أخرى، لأننا سنعاني جميعاً من عواقب فشلنا”.

لعلّ الموقف الأشدّ غرابة لبايدن، كان الموقف من إيران. قال إن الولايات المتحدة ستستمر في جهودها للحؤول دون حصول إيران على أسلحة نووية “تظل الولايات المتحدة ملتزمة بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي”، موضحا “أننا نعمل مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا للتعامل مع إيران دبلوماسيا والسعي إلى العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة”. أكد أنه “على استعداد للعودة إلى الامتثال الكامل” بالاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني الموقع في العام 2015، “إذا فعلت إيران ذلك”. لم يحدّد هل مشكلة إيران في السلاح النووي الذي تسعى للحصول عليه فقط.. أم المشكلة تتجاوز ذلك وهي مشكلة السلوك الإيراني في المنطقة، إضافة إلى الصواريخ الباليستيّة والطائرات المسيّرة؟

في ما يخصّ الوضع في الشرق الأوسط، أكد الرئيس الأميركي أن دولة فلسطينية ديمقراطية وذات سيادة هي “الحل الأفضل” لضمان مستقبل إسرائيل. وأضاف “علينا أن نسعى إلى مستقبل يسود فيه المزيد من السلام والأمن لجميع شعوب الشرق الأوسط”، موضحا أن “التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل لا جدال فيه ودعمنا لدولة يهودية مستقلة لا لبس فيه.. لكن ما زلت أعتقد أن حل الدولتين هو أفضل طريق لضمان مستقبل إسرائيل كدولة ديمقراطية يهودية تعيش في سلام إلى جانب دول فلسطينية ديمقراطية وذات سيادة وقابلة للحياة (…) ما زلنا بعيدين جدا عن ذلك الهدف في الوقت الحالي لكن يجب ألا نسمح لأنفسنا بالتخلي عن إمكان إحراز تقدم”. نعم، سيبقى هذا الهدف بعيدا ما دامت الإدارة الأميركية تكتفي بلعب دور المراقب في ما يتعلّق بالشرق الأوسط. لعبت الإدارة الحاليّة دورا مشكورا في التخلّص من بنيامين نتنياهو ولكن ماذا بعد ذلك؟ لم تفعل شيئا يذكر منذ لم يعد “بيبي” رئيسا للوزراء..

نحن في عالم لا يصلح فيه مثل هذا الكلام الصادر عن جو بايدن الذي أتاه الجواب من إيران. فقد أعلن المسؤولون فيها أن على أميركا رفع العقوبات على “الجمهورية الإسلامية” قبل أن تقرر العودة إلى التزام بالاتفاق النووي. في النهاية تبقى التمنيات مجرّد تمنيات ويبقى الحديث عن الدبلوماسية مجرّد حديث عن عالم مثالي ليس موجودا. لعلّ المثال على ذلك تفتيت دولة اسمها لبنان في غياب أيّ دور أميركي فعّال باستثناء توفير مسكنات.

يطرح خطاب بايدن في الجمعية العموميّة أسئلة بشأن التوجه الأميركي في السنوات الثلاث المتبقيّة من ولايته. إذا كان التحدي الأوّل، من وجهة نظر المقيم في البيت الأبيض، هو الصين، فإنّ أقل ما يمكن قوله إن الصين ستكون مرحّبة بإدارة من هذا النوع. إنّها إدارة غائبة فعليا عن مشاكل العالم وأزماته، إدارة تشكّل مزيجا من إدارتي جيمي كارتر وباراك أوباما. لدى بايدن الكثير من السذاجة التي ميّزت شخصيّة جيمي كارتر وكلّ التهاون الذي أظهره باراك أوباما في تعاطيه مع إيران.

سيظل السؤال الذي سيطرح نفسه في الأشهر القليلة المقبلة كيف سيتصرّف أهل الشرق الأوسط والخليج مع إدارة أميركية لا ترى ما يرتكبه الحوثيون في اليمن ولا ما يحصل في الجنوب السوري ولا ما الحلّ بلبنان. كيف التصرّف مع إدارة غائبة عن المنطقة وعن مناطق أخرى كثيرة في العالم؟

إعلامي لبناني

العرب

————————————-

تطابق أميركي ـ روسي.. وحدة أوروبا مهددة كما سوريا/ منير الربيع

في موازاة الخلاف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، يبرز تصريح لافت للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش حول المصالح الاستراتيجية المتطابقة لأميركا وروسيا في سوريا. إنه النموذج الأوضح عن ولادة مسار جديد في العلاقات الدولية والذي يمكن اعتباره قائماً على مبدأ مركب ومعقد بين القوى والدول وداخل التحالفات.

بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا صراع تاريخي مثقل بالحروب الساخنة والباردة، لكن الطرفين يلتقيان على مصلحة واحدة في سوريا، تفتيت الدولة السورية، أمن إسرائيل، حفظ مصالحهما الاستراتيجية التي تتقاطع، والسماح الأميركي بالسيطرة الروسية على الأراضي السورية والمرافئ والموانئ في إطار سياسة أميركية أوسع تتعلق بمواجهة الصين، وتقوم على مبدأ الانسحاب الأميركي من منطقة الشرق الأوسط لصالح الاهتمام في مناطق أخرى وتحديداً في المحيط الهادئ.

ويقود الانسحاب الأميركي من المنطقة إلى بروز أدوار أوسع لقوى إقليمية ذات المشاريع الواضحة، إسرائيل، إيران، تركيا، وفي ظل الانكفاء الخليجي عن التأثير ولعب دور مباشر في المنطقة، تسعى مصر والأردن بتنسيق مع واشنطن إلى التقدم نحو الملعب، والمدخل لذلك كان في اتفاقيات ثلاثية تجمع الدولتين مع العراق، وحالياً الدور الذي تلعبانه بما يتعلق بتطبيع العلاقات مع النظام السوري وإنجاز اتفاقيات إيصال الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر الأراضي السورية بموافقة أميركية.

إلى جانب هذا المسار، يستمر التقاطع الأميركي الروسي الإسرائيلي في سوريا، وهنا لا بد من تسجيل جملة نقاط، بعد أيام على عقد الإجتماع الرباعي في عمان، حطّ رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في مصر للقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي. على مقلب آخر حطّ بشار الأسد في زيارة عاجلة إلى موسكو بعد ساعات من زيارة أجراها وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، ثمة قاسم مشترك بين الحركة الإسرائيلية، والحركة المصرية الروسية مع النظام السوري.

كل ذلك يقود إلى خلاصة واحدة وهي أن منطقة الشرق الأوسط كانت مسرحاً لاختبار العلاقات الدولية الجديدة وآلية إعادة تركيبها على قواعد جيوستراتيجية مختلفة عمّا كان عليه الوضع سابقاً. فكل التواطؤ الذي أقدمت عليه القوى الإقليمية والدولية لصالح الأميركيين والإسرائيليين على حساب سوريا وتفتيتها وتهجير أهلها، تعود -هذه القوى- إلى دفع أثمان باهظة، منذ الانسحاب الأميركي من أفغانستان، إلى الأزمة المستجدة بين أميركا وبريطانيا وأستراليا من جهة، وفرنسا من جهة أخرى.

من يطّلع على تصريحات مسؤولي هذه البلاد المختلفة بين بعضها البعض لا بد أن يستنتج حجم الأزمة القائمة والتي ستستمر. أن يصل الأمر بوزير خارجية فرنسا إلى اتهام أميركا بالكذب والطعن بالظهر، وأن يصل به الأمر إلى وصف بريطانيا بأنها انتهازية، فهو طور جديد في العلاقات بين هذه الدول لا بد له وأن يعيد إحياء النقاشات ونبش تاريخ العلاقات غير المكشوفة بين هذه الدول وتحديداً في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إذ إن التظهير السائد لتلك العلاقات كان قائماً على تركيز منطق التحالف في حين الحقيقة كانت مختلفة جذرياً، وعلى الرغم من أن منطقة الشرق الأوسط كلها تعيش على إيقاع ما أرسته اتفاقية سايكس بيكو، والتي تتخذ عنواناً للتحالف المتين البريطاني الفرنسي، هي في واقع الحال، حقيقته مغايرة كلياً، ونتجت بعد صراعات عميقة ومديدة كان الأميركيون أصحاب الدور الأبرز فيها، مع فارق أن تلك الفترة شهدت التقاء فرنسياً أميركياً على ضرب بريطانيا، لأن الولايات المتحدة الأميركية كانت تريد إضعاف بريطانيا لصالح مشروعها التوسعي، وهو ما تجلى في النظام العالمي الذي أرسته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية.

ينشأ التحالف الجديد بين أميركا، بريطانيا، أستراليا لأهداف استراتيجية تتعلق بالصين ومحاولة تطويقها. لكنه تحالف قابل للانعكاس سلباً على أوروبا ووضعها الاتحادي، وهي أزمة عميقة تهدد الاتحاد كانت قد بدأت معالمها مع قرار بريكست البريطاني، وتنامت أكثر في أعقاب أزمة كورونا. ستنعكس  الأزمة الأميركية الفرنسية على التطورات في المنطقة، والتي تسير نحو مزيد من تكريس مبدأ “تصغير الكيانات”.

تلفزيون سوريا

————————————-

الأردن: لحوار روسي-أميركي حول سوريا

قال وزير الخارجية الأردنية أيمن الصفدي إنه لا يمكن حل الأزمة من دون حوار أميركي-روسي، مشيراً إلى أن “روسيا تلعب دوراً رئيسياً في أي جهد لحل الأزمة، ودوراً مهماً في استقرار جنوب سوريا”.

ولفت الصفدي في مقابلة مع قناة الشرق الإخبارية، إلى أهمية وجود دور عربي جماعي لحل الأزمة السورية، داعياً إلى “حل سياسي في سوريا يحفظ وحدتها”، متابعاً: “الأردن يدفع جزءاً من استمرار الأزمة السورية”.

وقال: “سوريا دولة شقيقة ولا بد من التنسيق معها”، مشيراً إلى أن زيارة وزير الدفاع في حكومة النظام علي أيوب إلى الأردن الأحد، كان هدفها “التنسيق الأمني”، مضيفاً أن بلاده تنسق مع النظام في قطاعات إنتاجية عديدة وهذه العلاقة قائمة “على تعاون ضروري لا غنى عنه”.

وكان قائد الجيش الأردني اللواء يوسف الحنيطي التقى أيوب الأحد، وبحثا “ضمان أمن الحدود السورية الأردنية”، وفق بيان للجيش الأردني.

وذكر البيان أنه “تم خلال اللقاء بحث العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، وفي مقدمتها تنسيق الجهود لضمان أمن الحدود المشتركة بين البلدين، والأوضاع في الجنوب السوري، ومكافحة الإرهاب والجهود المشتركة لمواجهة عمليات التهريب عبر الحدود وخاصة تهريب المخدرات”. ولفت البيان إلى أن اللقاء جاء في “إطار الحرص المشترك على زيادة التنسيق في مجال أمن الحدود بما يخدم مصالح البلدين الشقيقين”، مؤكداً على “استمرار التنسيق والتشاور المستقبلي إزاء مجمل القضايا المشتركة”.

وتأتي زيارة أيوب للأردن بعد 4 أسابيع على لقاء جمع ملك الأردن بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، اقترح خلاله الأخير أهمية تطبيع علاقات الأردن مع النظام السوري.

وكان ملك الأردن عرض على الرئيس الأميركي جو بايدن خلال زيارته إلى واشنطن في تموز/يوليو، الانضمام إلى فريق عمل يسعى للاتفاق على خريطة طريق للحل في سوريا.

وقالت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية حينها إن تطبيق خريطة الملك يتطلب تعاون الولايات المتحدة وروسيا ورئيس النظام بشار الأسد، لافتةً إلى أن بايدن لم يعطِ الملك الأردني جواباً على عرضه، ولم يلتزم بهذا الاقتراح بعد.

————————–

موسكو تدعو إسرائيل لإقناع واشنطن بلقاء ثلاثي حول سوريا

كشف موقع “أكسيوس” الأميركي أن روسيا تسعى إلى إجراء محادثات ثلاثية رفيعة المستوى بشأن سوريا مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

ونقل الموقع عن مسؤوليَن إسرائيلييَن مطلعين قولهما إن موسكو طلبت من إسرائيل تشجيع واشنطن على الموافقة على إجراء محادثات ثلاثية رفيعة المستوى بشأن سوريا. وقال المسؤولان الإسرائيليان إنهما يؤيدان مبادرة لإجراء لقاء بين الدول ال3 على مستوى مستشاري الأمن القومي.

وأشار إلى أن “التركيز الرئيسي لإسرائيل في الملف السوري هو حول إخراج إيران من سوريا”، مضيفاً أن “الهدف الإسرائيلي لن يكون ممكناً إلا من خلال التعاون الأميركي-الروسي”.

وذكر الموقع أن البيت الأبيض نفى وجود “اجتماعات ثلاثية لاستعراضها”، ولفت إلى آخر مناقشة بين مستشاري الأمن القومي الأميركي والروسي والإسرائيلي حول الوضع في سوريا، التي حصلت خلال اجتماعهم في القدس المحتلة في حزيران/يونيو 2019، مشيراً إلى أن جون بولتون كان حينها يشغل منصب مستشار الأمن القومي الأميركي، لكنه أُقيل من منصبه بعد شهرين، ولم يُعقد اجتماع متابعة بعدها.

وأضاف أن وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف كان قد أثار مسألة الاجتماع الثلاثي خلال لقائه نظيره الإسرئيلي يائير لبيد في موسكو في 9 أيلول/سبتمبر، كما ناقشها الجانب الروسي مع مستشار الأمن القومي الإسرائيلي إيال هولاتا. وتضمنت المحادثات بين روسيا وإسرائيل “الوضع في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، والوجود الإيراني فيها”.

كما أشار الموقع إلى أن منسق البيت الأبيض للسياسة في الشرق الأوسط بريت ماكغورك عقد في أيلول/سبتمبر في جنيف، بطلب من الجانب الروسي، اجتماعاً مع نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي فيرشينين، والمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف.

وقال إن الجانب الروسي أراد بحث الخطوات الخاصة بالتسوية السياسية في سوريا ومعرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة ستوافق على منح إعفاءات من العقوبات على النظام السوري، للسماح بنقل النفط والغاز عبر أراضي سوريا إلى لبنان.

بدوره، تطرق ماكغورك، بحسب ما نقلت صحيفة “الشرق الأوسط”، إلى مسألة انسحاب القوات الإيرانية والفصائل الموالية لها من المناطق القريبة من الحدود الإسرائيلية في هضبة الجولان المحتل.

ولفت موقع “أكسيوس” إلى أنه من المتوقع أن يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بزيارة إلى موسكو خلال الأسابيع المقبلة، لعقد أول لقاء له مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

——————————

========================

تحديث 27 أيلول 2021

——————————

التفاهمات الأميركية الروسية في سورية إلى أين؟/ خالد المطلق

بنظرة سريعة على الواقع الميداني الحالي في سورية، نشاهد جملةً من التفاهمات أو شبه التفاهمات، حول ما يجري على الأراضي السورية بين عدد من الأطراف الظاهرة بجلاء على مسرح الأحداث، مثل روسيا وإيران وتركيا، وبين أطراف تعمل من خلف الكواليس كالولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول العربية. ولعلّ ما يجري في درعا، من تجاذبات بين أهل درعا ورجالاتها، وبين المحتل الروسي ومن خلفه عصابات الأسد والميليشيات الإيرانية المتغلغلة في الجنوب السوري، هو خير مثال على تلك التفاهمات التي أبرمتها الأطراف الخارجية، وقد تعثر تطبيقها بسبب صمود أهلنا في درعا وتمسكهم بأرضهم، فمنذ مؤتمر جنيف الأول، كان هناك تفاهم روسي أميركي حول سورية، على الرغم من وجود عدم ثقة مطلقة بين الطرفين، وهذا ما دفع الروس إلى التدخل العسكري وعقد مؤتمرات آستانة وسوتشي التي ساعدت الأسد في استعادة أغلب المناطق المحررة، تحت نظر العالم أجمع ومسمعه، خاصة الولايات المتحدة الأميركية الصامتة عن تلك المؤتمرات ونتائجها، ولولا الرضا الأميركي لما نجح الروس في عقد تلك المؤتمرات وإبرام صفقات مع ما يسمّى معارضة، تلك المعارضة التي تنازلت عن دماء الشباب السوري التي أراقها الأسد والروس والإيرانيون الذين ثبت أنهم استخدموا تلك المعارضة، مقابل مكاسب شخصية وحزبية رخيصة لتحقيق هدفهم، وهو إعادة إنتاج الأسد من بوابة استعادة الأراضي التي حررها الجيش الحر في السنوات الثلاث الأولى من الثورة، ولهذا لا يمكن أن نقول إن الروس عملوا منفردين في القضية السورية، بمعزل عن الأميركيين الذي كان صمتهم دليلًا على رضاهم عمّا يحدث على الأراضي السورية، بل ظهر أن هناك تفاهمات سرية، تُترجم بفعل روسي إيراني وصمت أميركي أوروبي عربي. هذه المواقف لم تكن في بداية الثورة، فالولايات المتحدة الأميركية سعت بكل جهودها لتحقيق شيء من التغيير في سورية، على الرغم من الفيتو الروسي المتكرر في أي قرار لمجلس الأمن الدولي، لكنّ تغيّر الموقف الأميركي من الثورة السورية جاء لسببين: الأول وقوف الدول العربية مع نظام الأسد منذ البداية؛ والسبب الثاني الجوهري نجاح العرب وإيران ومخابرات الأسد في إلصاق تهمة “الإرهاب” بالثورة السورية، من خلال تبنيها ودعمها اللامحدود للفصائل الراديكالية، ومن هنا خشيت أميركا وحلفاؤها أن يتكرر سيناريو العراق وأفغانستان في سورية التي تتمتع بموقع جيوسياسي استراتيجي، من حيث وجودها على حدود الكيان الصهيوني، وكونها صلة الوصل الجغرافية بين أوروبا والدول العربية والخليجية خاصة. ومنذ جنيف واحد، سعت أميركا وحلفاؤها لجرّ المعارضة إلى التفاوض مع الأسد، بحجة أنهم لن يسمحوا بانهيار الدولة السورية، وأن تغيير النظام ممكن لكن من دون السماح للمنظمات الإرهابية بمسك زمام أمور الدولة السورية، وتحدثوا عن سلطة انتقالية يرضى بها الطرفان الروسي والأميركي، وهذا -برأيهم- هو الحل الأنسب للقضية السورية، وعندما بدأ نظام الأسد بالانهيار، بداية عام 2013؛ كنتُ أحد المدعوين لوضع خطط وآليات عمل لملء الفراغ الذي يمكن أن يحصل عند انهيار النظام، لكن إيران والعرب كان لهم رأي آخر، حيث استخدموا كلّ ما يملكون لمنع سقوط نظام الأسد، من خلال دعم إيران اللامحدود للأسد بالعتاد وعناصر الميليشيات، ومن خلال دعم الدول العربية للفصائل الراديكالية، بشرط عدم المساس بالنظام ودخول دمشق أو المدن التي يسيطر عليها الأسد، وفي الوقت نفسه، تم تقديم الدعم المادي للأسد لاستمرارية بقائه في السلطة، فكانت معركة القصير البذرة الأولى التي أنتشت ذلك الدعم، حيث اقتحمت قوات “حزب الله” اللبناني بلدة “القصير” الحدودية، ودمرتها تدميرًا كاملًا، ونكلت بسكانها وهجرتهم من بلدتهم، وكانت هذا المعركة بداية طريق التغيير الديموغرافي في سورية، وامتدت المعارك إلى حمص، ومن ثم إلى بقية المناطق المحررة؛ فالدخول الإيراني المركّز والدعم العربي للفصائل الجهادية، وقطع الدعم عن الجيش الحر، وتعويضه بدعم جماعة الإخوان المسلمين التي اشترت كثيرًا من قادة فصائل الجيش الحر، من أصحاب النفوس الرخيصة.

كل هذا أدى إلى منع سقوط الأسد في تلك المرحلة من مراحل الثورة، وعلى الرغم من كل ذلك الدعم، لم يستطع أحد من الطرفين المتصارعين على الأرض حسم المعركة؛ فقوات الأسد والميليشيات الداعمة لها والدعم الروسي، مقابل فصائل الجيش الحر الوطنية التي لم تحمل أي أيديولوجية، بل كان همَّها وطنٌ اسمه سورية، يعيش فيه كل السوريين، على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم العرقية والطائفية والدينية والقومية، وخوفًا من أن يحسم أحد الطرفين الأمور، دخل الروسي -بالاتفاق مع الأميركان- كعامل مرجّح، وتخاذل الأميركيون في دعم المعارضة، وفي الوقت نفسه، ساقتهم روسيا، برضًا أميركي، إلى مؤتمر آستانة الذي تمخّض عنه تقسيم المناطق المحررة، وتسليمها تباعًا إلى الأسد، ومنع الأسد من تحقيق الانتصار الساحق، بانتظار القضاء على التنظيمات والجماعات الإرهابية، وعندئذ يمكن تغيير رأس النظام وجزء من منظومته الأمنية، وإعادة هيكلة الجيش والأمن، وفق منظور متفق عليه دوليًّا وعربيًّا وإقليميًّا، وهنا تشكل التحالف الدولي لمحاربة (داعش)، وبالذريعة ذاتها، دخلت روسيا، لكنها لم تقاتل إلا الجيش الحر وحاضنته الشعبية؛ فاجتمع على قتل السوريين عصاباتُ الأسد والميليشيات الإيرانية والروس والأميركيون وتنظيم “داعش”، ومن جهة أخرى الفصائل الراديكالية الأخرى التي بدأت ممارسة الإرهاب على حاضنة الثورة، بطرق وأساليب مختلفة، هذا كله يأتي في إطار الحل اللاأخلاقي، أو كما يُسمّى الحلّ القذر الذي ما يزال مُسْتَمِرًّا حتى الآن، وهدفه الآن تركيع درعا وشعبها، أو طردهم من بيوتهم وأراضيهم، لمنع وجود أيّ فصيل غير متحكّم فيه، يمكن أن يشكل تهديدًا للسلطة الانتقالية المنتظرة، ولو تمّ التغيير الديموغرافي الذي يبدو أنه يُسعد أميركا والروس قبل إيران، ولهذا نشاهد صمت الإدارة الأميركية المطبق عمّا يجري في درعا، وعما تقوم به روسيا من نقض للاتفاقيات التي تعقدها مع ممثلي أهالي درعا، بحجج واهية، وبهذا يمكن أن نعتبر أن الروس ماضون في تثبيت حكم الأسد، بكل الطرق.

إلا أن الأميركيين -كما يبدو من خلال تصريحاتهم- لن يقبلوا بذلك، وسيقومون بالضغط على الروس بطرق عدة، من أهمها منع إعادة الإعمار، ومنع استقرار الوضع في سورية، وعدم الاعتراف بشرعية نظام الأسد، والأهمّ محاسبة النظام على الجرائم التي ارتكبها، وعلى رأس القائمة استخدامه الكيمياوي ضد الشعب السوري، بالإضافة إلى ملفات قانون سيزر الذي صدر بناء على الصور التي تؤكد الانتهاكات الصارخة في سجون الأسد وأجهزة مخابراته، وبالتالي؛ سيَقبل الروسي مكرهًا بالعودة للقرارات الدولية التي تنصّ على تشكيل هيئة حكم انتقالي. وهذا يعني أن الخطة تسير بشكل رتيب نحو سيطرة نظام الأسد على الجنوب السوري بالكامل، بعد أن فرض سيطرته جُزْئِيًّا، من خلال اتفاقيات آستانة وسوتشي، وسيتم سحب السلاح من أهالي المنطقة، حتى لا يبقى أيّ سلاح بيد أي جهة يمكن أن تهدد من سيتسلم مهمات المرحلة الانتقالية، بعد ذلك بمدة لن تتجاوز شهرين، سيتم التركيز على المناطق المحررة من إدلب، ليُنفذ السيناريو نفسه، وكلّ من يصمت عن ذلك سيكون صمته دليلًا على موافقته على هذا السيناريو، وهناك ثلاث مؤشرات تدلّ -بشكل أو بآخر- على رضا الصامتين في الشمال عمّا سيجري في المستقبل القريب في المحرر؛ وأولهما السماح بفتح معبرٍ بين إدلب ونظام الأسد؛ والثاني منع قيام أي تظاهرة لنصرة درعا؛ والثالث عدم التحرك وفتح الجبهات مع نظام الأسد لمساندة درعا وتخفيف الضغط عما يجري فيها. والأيام والأسابيع القادمة ستُثبت صحة هذا أو تنفيه، أما الأميركان، فسيجدون حلًّا ما يُمكّن نظام الأسد من السيطرة على المنطقة، وأعتقد أن سيناريو دخول القوات الروسية مع قوات من “الفيلق الخامس” هو الأرجح تنفيذه، نظرًا لنجاحه في باقي المناطق التي سُلّمت إلى النظام، وهنا لن يُسمح ببقاء أي فصيل يمكن أن يُهدد هذه الاتفاقيات، وسيعود نظام الأسد تدريجيًّا إلى الشمال بالكامل، والصامتون عن هذا، مما يسمى الجيش الوطني، ستتم مكافأتهم بدمجهم في جيش الأسد لاحقًا، أما الجزء المتبقي من سورية، الذي تسيطر عليه “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”؛ فالأمر سيبدأ من لحظة انسحاب القوات الأميركية من سورية، وهو المظلة العسكرية الحقيقية لـ (قسد) التي ستجد نفسها مكشوفة وغير قادرة على مواجهة مخطط تلك الدول، ولهذا يمكن أن تعقد صفقةً ما مع الأسد تحفظ بها ماء وجهها وتحقق لها جزءًا من الشعارات التي نادت بها، خاصة أن أميركا لم تعِد (قسد) بكيان مستقل، بل كان دعمها العسكري ينصبّ فقط لمحاربة (داعش)، وعند انتهاء تلك المهمة، ستتخلى أميركا عنها، مقابل تفاهمات بينها وبين تركيا، تقضي بمنع قيام كيان كردي على الحدود الجنوبية لتركيا، فتركيا هي الأهمّ، بالنسبة إلى أميركا، من حيث المصالح المشتركة بينهما وبعض القضايا الإقليمية التي تقوم تركيا بدور فعّال فيها، ففي الحلّ القادم لن يكون هناك كيانات مستقلة، وستكون هناك دولة مركزية، على الأقل عَسْكَرِيًّا وَأَمْنِيًّا وَقَانُونِيًّا، يمكن أن يتخللها إدارة ذاتية محلية فقط، وبذلك ستبسط قوات الأسد سيطرتها على كامل الأراضي السورية، وفي تلك المرحلة، ستكون سورية جاهزة لمرحلة انتقالية، ما تزال معالمها النهائية غير واضحة حتى الآن، وهذا يعتمد على صدق روسيا مع المجتمع الدولي، ومدى تأثير الضغوط الأميركية على الروس، بالإضافة إلى مدى تحقيق إيران للهدف الذي تدخلت من أجله في سورية، والضغوط التي يمكن أن تمارس عليها للانسحاب من سورية، ويبدو أنّ إيران شعرت بهذا الآن، ولهذا طلبت إدراج الملف السوري ضمن ملفات مفاوضاتها مع الأميركيين، أملًا في تحقيق مكاسب مقابل انسحابها من سورية، وباعتقادي؛ لا يمكن أن يقتنع الأميركي والإسرائيلي بأن الاستقرار في سورية والمنطقة سيتحقق في ظل وجود القوات الإيرانية وميليشياتها في سورية، التي ستكون ورقة قوية ضمن مجموعة من الأوراق التي تعتمد عليها إيران في غزوها لسورية، وأعتقد أنه لا يمكن إخراج إيران من سورية بالقوة العسكرية، لعدم وجود قوة محلية يمكن أن تواجه القوة الإيرانية على الأرض، سواء أكانت قوة محلية أم قوة دولية يمكن أن تُشكل لهذه الغاية، في ظل غياب الرغبة الدولية والأميركية بذلك، ولهذا لا يمكن التأثير على الميليشيات الإيرانية في سورية إلا من خلال إعادة المهجّرين إلى ديارهم، ليكونوا قوة بشرية، والبدء بأعمال المقاومة الشعبية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأمنية، بالإضافة إلى الممارسات اليومية للمواطنين السوريين، وتطويق ومحاربة الأعمال الإيرانية التي يمكن أن ترسخ وجودها على الأرض السورية، ذلك بأن تطهير سورية من الإيراني ليس عملية سهلة بالمطلق، وتحتاج إلى زمن قد يطول أو يقصر، ويعتمد ذلك على الخطط التي يمكن أن يضعها وينفذها السوريون أنفسهم، بعد عودتهم إلى ديارهم، وهي عودة مرتبطة بعددٍ من الشروط لا يمكن تجاوزها، وأهمها تغيير رأس النظام، وإجراء تعديلات جوهرية على المؤسسة العسكرية والأمنية، لتغيير المناخ الذي يعيش فيه السوريون، ويمكن أن يبدأ التغيير من فرض هيئة حكم انتقالية تُرضي جميع الأطراف الداخلية والخارجية، تستطيع تلك الهيئة إدارة شؤون البلاد إلى حين فرض الاستقرار الأمني وإخراج الميليشيات الأجنبية من البلاد، وعودة المهجرين إلى ديارهم، لإيجاد المناخ الملائم وإجراء انتخابات تشريعية حقيقية، يشارك فيها جميع السوريين، ومن ثم تسليم مؤسسات الدولة إلى طاقم يستطيع السيطرة على البلاد، ويقوم بمهامه الوظيفية التي يمكن أن يكون أوّلها إنشاء دستور للبلاد، يكون جامعًا للسوريين، ويعمل تحت مظلته كل السوريين، ومن ثم يمكن المباشرة بإعادة الإعمار لتنظيم المدن السورية، وفق مخططات حديثة تجاري العصر.

خلاصة القول: يمكن أن نجزم بأن الحلول في سورية ستكون من خلال هذا السيناريو الذي تحدثنا عنه، وغير ذلك سيكون مضيعة للوقت واستنزافًا لما تبقى من دماء السوريين ومدخراتهم، وهذا يجب أن يعرفه الأسد وعصاباته جيدًا، وإن إعادة الأراضي التي حررها الجيش الحر إلى سيطرة الأسد وحلفائه ليست آخر المطاف، بل هناك استحقاقات ستُفرض بالقوة، إذا لم يستجب لها رأس النظام وزبانيته، وأوّل هذه الاستحقاقات هو رحيل تلك العصابة المارقة التي دمّرت سورية، وقتلت وهجرت شعبها، وسمحت بدخول كلّ شذاذ الآفاق إليها، ليعيثوا فسادًا وإفسادًا، ويرتكبوا أبشع الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، والتي ستكون حقبة سوداء في تاريخ سورية لا تُشبهها أي حقبة عبر التاريخ السوري العريق الممتد إلى آلاف السنين. وفي الوقت نفسه، سيضيع حُلم مَن سرق تمثيل الثورة، من أفراد وأحزاب وجماعات عابرة للحدود، في حكم سورية المستقبل التي لن تنعم بالاستقرار بوجود هؤلاء من شذاذ الآفاق والحاقدين على السوريين، والمتحالفين مع نظام الملالي في طهران ألدّ أعداء الشعب السوري، وبهذا؛ يمكن أن تطوى صفحة من صفحات الحرب القذرة التي تعرّض لها الشعب السوري من قبل اللاهثين وراء السلطة من الطرفين، وأدواتهم القذرة، كالميليشيات الإيرانية والفصائل الراديكالية التي مارست كل أنواع الإرهاب ضدّ هذا الشعب المسكين الذي خرج ليطالب بحريته وكرامته، فكان له هؤلاء مجتمعين خنجرًا مسمومًا لم يترك شبرًا في جسد هذا الشعب إلا طعنه.

مركز حرمون

——————————

لماذا صعد أردوغان ضد بايدن؟/ سمير صالحة

خيبة أمل أميركية في أفغانستان. أميركا تختار بريطانيا وأستراليا واليابان للتنسيق رباعيا في البقع الاستراتيجية الحساسة. توتر أميركي فرنسي يتحول تدريجيا إلى أميركي أوروبي. باريس قررت إقحام حلف شمال الأطلسي في خلافها مع واشنطن. تموضع أميركي عسكري داخل اليونان على مقربة من الحدود البحرية والبرية التركية وواشنطن لم تستخدم قاعدة أنجرليك التركية خلال عمليات الانسحاب من كابول بل اكتشفت خيارات وبدائل أخرى.

تصعيد أردوغان وهو يغادر أراضي دولة حليفة مثل أميركا ليس سببه الدفاع عن فرنسا بعد الطعنة التي تلقتها في صفقة الغواصات النووية الأميركية الأسترالية. وسببه لن يكون مواقف الإدارة الأميركية من موضوع رفض تركيا قبول موجات لجوء جديدة تصلها من أفغانستان هذه المرة. هناك من يردد أن إدارة بايدن حاولت أن تحاصر أنقرة بسيناريو حل لأزمة صواريخ إس 400 الروسية وأن أنقرة رفضت ذلك. لكن ردة فعل أردوغان تكاد تقول إن ما دفعه للتصعيد على هذا النحو أبعد وأهم من ذلك وقد يكون سببه شرق الفرات والطرح الأميركي هناك. روح الشراكة التركية الأميركية هي التي طعنت مرة أخرى ويبدو أنها لا تقل وجعا عن الطعنة الأميركية في ظهر فرنسا.

كانت القيادات في أنقرة تتطلع إلى قمة تركية أميركية في نيويرك أو واشنطن على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة فلم يحدث ذلك. نتائج المباحثات بين المتحدث باسم القصر الرئاسي التركي إبراهيم قالن ومستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان والتي أراد فريق عمل بايدن الرئيس الأميركي أن تكون فرصة لبحث العلاقات لم تجب على الكثير من الأسئلة التركية أو هي جاءت بعكس ما تريده وتتوقعه تركيا. فلماذا يتريث الرئيس أردوغان حتى العودة إلى بلاده لتوجيه قذائفه السياسية ومن العيار الثقيل ضد أميركا وسياساتها؟

وكالة أنباء الأناضول كانت تعلن أنه خلال لقاء قالن – سوليفان جرى “التشديد على الأهمية الاستراتيجية للعلاقات التركية الأميركية، وتم تبادل وجهات النظر حول الخطوات الواجب اتخاذها لزيادة التعاون الاقتصادي. كما تم التركيز على زيادة الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى، وتفعيل الآليات اللازمة لرفع حجم التبادل التجاري بين البلدين لتصل إلى 100 مليار دولار. وتم التأكيد على ضرورة التعاون الدولي للحيلولة دون حدوث أزمات إنسانية جديدة في أفغانستان ولإيصال المساعدات الإنسانية إلى البلاد في أسرع وقت ممكن. وعلى أهمية التضامن بين الحلفاء وضرورة حل الخلافات بينهم عبر الحوار والمفاوضات”. لكن أردوغان تحدث بشكل مختلف وباتجاه آخر. بين ما قيل:

“العلاقات التركية الأميركية ليست على ما يرام. أمنيتنا كانت أن تتقدم العلاقة بين دولتين أطلسيتين في إطار الصداقة وليس وسط أجواء الخصومة لكن مسار الأمور اليوم لا يبشر بالخير. صفقة إس 400 منهية بالنسبة لنا. سنبحث عن حقوقنا في إطار القانون الدولي بعد قرار إخراجنا من برنامج المقاتلة إف 35. أميركا لا بد أن تدفع ثمن ما ارتكبته من أخطاء في أفغانستان. بايدن يواصل إرسال السلاح إلى التنظيمات الإرهابية في شرق الفرات كما كان يفعل سلفه ترامب. اللقاء بالقيادة الروسية لن يتم على مستوى الهيئات بل بشكل منفرد ومباشر بين الرئيسين”.

أردوغان يتحدث في طريق العودة من نيويورك لكنه يتحدث قبل أيام من توجهه إلى روسيا للقاء نظيره الروسي.

قال وزير الخارجية الروسي لافروف بعد خروجه من اجتماع مطول مع الأمين العام لحلف شمال الاطلسي ستولتنبرغ مداعبا الإعلاميين “لا تذهبوا بعيدا في التحليل. روسيا لا تفكر في الانضمام إلى الناتو”. هو عنده الصيني والهندي والباكستاني والإيراني مؤخرا فلماذا يفكر بالانتساب إلى الأطلسي؟

الرد التركي الحقيقي على واشنطن سيأتي خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي سيعقده أردوغان مع بوتين في سوتشي إذا حصل على ما يريده هناك.

بوتين سيعرض الكثير من الخطط والاقتراحات على أردوغان، ونتائج المقايضات هي التي ستقلق واشنطن حتما. ما جرى قد يكون تأكد أنقرة من حدوث تفاهمات أميركية روسية حول سوريا ترضي إسرائيل وتتجاهل إيران وتحمي قسد عبر إبقاء النظام في العناية الفائقة بانتظار المرحلة الانتقالية وتكون على حساب تركيا في شمالي سوريا وأنه عليه قلب الطاولة قبل أن تعلن ساعة الصفر.

تطورات الأحداث في أفغانستان وطريقة تعامل إدارة بايدن مع الملف، إلى جانب دروس تحالف “أوكوس” الذي أطاح بفرنسا في لعبة التوازنات الدولية الجديدة مسائل تعني تركيا قبل غيرها من العواصم أيضا. الواضح تماما أن الخلافات التركية الأميركية حول العديد من الملفات الثنائية والإقليمية ما زالت قائمة وأن لقاء أردوغان بايدن في حزيران المنصرم لم يكن له أي تأثير وأن فرص الأزمة الأفغانية لم تقرب المواقف بما فيه الكفاية.

من حرم فرنسا صفقة الغواصات يستطيع حتما أن يدعم خصوم تركيا ومنافسيها في المنطقة لمنعها من مواصلة الصعود العسكري وهذا ما تحاول واشنطن أن تفعله مباشرة مع اليونان عبر بناء قواعد عسكرية أميركية على مقربة من الحدود التركية في إيجه والمتوسط وتراقيا.

يردد البعض في تركيا أن أميركا ملزمة بالتعاون والتنسيق مع أنقرة إذا ما كانت تريد حماية مصالحها في الشرق الأوسط.  لكن هناك بالمقابل من يتساءل عما إذا كانت العلاقات التركية الأميركية قد عادت إلى أجواء العام 2016 وما كانت عليه من توتر وشحن وتصعيد؟

صمت أميركي محدق. لا تعليق على تصريحات أردوغان حتى الآن ومع ذلك فالبعض في تركيا يذكرنا بفاجعة الباخرة “تيتانك”. الفرقة الموسيقية تواصل العزف فيما المياه ترتفع لتغمر سفينة العلاقات التركية الأميركية.

حسابات الحقل والبيدر لا تتطابق في الكثير من الأحيان وتركيا قلقة “أن تفقد مخزونها من البرغل وهي ذاهبة للبحث عن الأرز في دمياط ” كما يقول المثل الشعبي التركي. هناك أزمات ومشكلات تركية غربية كثيرة أسدل الستار عليها لكنها ما زالت تغلي بانتظار الانفجار عند أية لحظة.

تلفزيون سوريا

————————————-

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى