نقد ومقالات

“الكتابة كمهنة”: هاروكي موراكامي من صاحب مقهى إلى روائي/ سناء عبد العزيز

كل إنسان تباغته لحظة في حياته تحتم عليه تحولًا جريئًا. وعليه ألا يفلت تلك الفرصة، بل أن يقبض عليها بصلابة. ففي هذا العالم، ثمة نوعان من البشر؛ هؤلاء الذين يستطيعون القبض على اللحظة؛ وآخرون لا يفلحون في ذلك مطلقًا. هاروكي موراكامي، الكاتب الياباني الشهير الذي انقسمت الآراء حول قيمة أعماله انقسامًا حادًا، ينتمي إلى الفئة الأولى، كما سبق أن حكى مرارًا وتكرارًا، مثل طفل لم تفارقه الدهشة حيال ما اكتشفه عن طبيعته شديدة الوثوق بنفسها في شيء لم يجربه من قبل، ألا وهو الحكي.

حين تباغتك الكتابة

لم يكن موراكامي يطمح يومًا أن يكون روائيًّا، إذ كان غارقًا حتى أذنيه في إدارة مقهاه في طوكيو؛ يتابع حساباته، ويتفقد مخزونه يومًا بيوم، إلى جانب جدولة أوقات عمل موظفيه، ومتابعة التفاصيل المستهلكة ليومه، وتفكيره حد الإنهاك إلى أن يحين وقت إغلاقه بنفسه مع تباشير الصباح. وهكذا دواليك. لكن هذا لم يمنعه من متابعة شغفه بالرياضة بين الحين والآخر، وفي إحدى مباريات البيسبول في ملعب جينغو القريب من شقته كان صاحب مقهى الجاز البالغ من العمر 29 عامًا يجلس مضطجعًا كعادته، ملتذًا برشفات منعشة من بيرته الباردة، بينما يتأمل السماء الزرقاء المتلألئة، والكرة الناصعة البياض في مقابل الحقل الأخضر، والتي راح اللاعب الجديد يصدها ببساطة، فيما يسدد ضربته ببراعة مذهلة… في تلك اللحظة الكاشفة، ومن دون أي مقدمات، أدهشه فجأة ذلك الخاطر الغريب: “أعتقد أنني أستطيع كتابة رواية”. ومن دون أدنى تردد، غادر موراكامي الملعب الضاج بصوت اصطكاك المضارب وهو في حالة من الذهول، ولم يفته في طريق عودته إلى منزله أن يشتري قلم حبر غالي الثمن يليق بمهمته الجديدة، ورزمة من الورق الأبيض. وكأن غلاء ثمن القلم مرتبط بقيمة الكلمات التي قرر أن يناوشها في تلك الليلة، وهو ما عده في عقليته التجارية آنذاك “نوعًا من الاستثمار الصغير”.

حدث هذا في ربيع عام 1978. وبحلول الخريف، كان قد نجح في كتابة مسودة روايته الأولى “أنصتوا لصوت الرياح حين تغني”، ما غمره بالبهجة والثقة، ودفعه إلى إرسالها إلى مسابقة للكتاب الجدد. ولحسن حظه، فازت الرواية بالجائزة. من هنا انطلقت مسيرته الإبداعية التي يصفها على النحو التالي: “كنت حينها في الثلاثين. ومن دون أن أدرك ما يحدث، وجدت نفسي أصنف ككاتب جديد واعد، وهو ما أدهشني حقًا، لكن الأشخاص الذين يعرفونني كانوا أكثر اندهاشًا مني”.

من حينها، وعلى مدار أربعة عقود، تدفقت أعمال موراكامي بمعدل ثابت من الروايات، والقصص القصيرة، والمقالات، وحتى الترجمات، وحققت نجاحا باهرًا، حيث تصدرت قوائم أفضل الكتب مبيعًا، سواء على الصعيد المحلي، أو العالمي، وترجمت إلى أكثر من 50 لغة، وحازت على عدد من الجوائز المرموقة، منها جائزة عالم الفنتازيا، وفرانك أوكونور، وجائزة كافكا، وغيرها كثير من الجوائز. وما إن رسخت قدماه في عالم الكتابة، وبات نجاحه أمرًا لا لبس فيه، حتى شرع في كتابة شذرات عن سيرته الذاتية منذ عام 2007، استهلها بكتاب قصير عن عاداته كعداء تحت عنوان “عما أتكلم حين أتحدث عن الركض”، أتبعه بمقال طويل عن والده، ثم ملخص مصور لمجموعة قمصانه، وأخيرًا كتابه الذي نشر في اليابان تحت عنوان “الروائي كمهنة” عام 2015، وصدر في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بترجمة كل من فيليب غابرييل، وتيد جوسين، عن دار هارفيل سيكر للنشر.

عشت لأحكي…

أثار كتاب موراكامي موجة جديدة من الانقسامات بشأنه، فبينما وجده البعض مخيبًا لآمال الكاتب الناشيء الذي يتوجه إليه في الأساس بالنصح والإرشاد، بالإضافة إلى تكريسه المستفز لتجربته فحسب، كمرجع أساسي في الكتابة، ارتأى كثير من القراء والنقاد أنه من الأهمية بمكان بحيث يصعب تفويته، سيما لهؤلاء الذين يفتشون عن منابع الإلهام في أعمال موراكامي الرائجة والغامضة على حد سواء، بصرف النظر عن انكفاء موراكامي على تجربته الشخصية التي لا تخلو من المبالغة والغرائبية بما يدعو للاستنكار في معظم الأحيان.

يتألف كتاب موراكامي من إحدى عشرة مقالة، ست منها سبق أن نشرها متفرقة، والخمس كتبت خصيصًا من أجل هذا الكتاب، وتدور في مجملها حول ما يعنيه أن تكون روائيًا، إلى جانب بعض الأفكار عن دور الرواية في المجتمع، وأصوله ككاتب وتأملاته في شرارات الإبداع الملهمة للكتاب والفنانين.

في المقدمة، يصرح موراكامي عن نيته في مخاطبة القارئ وجهًا لوجه، وعليه تدفقت نبرته الحميمية البريئة من الزخرفة والمبالغات على طريقته الشهيرة، بدءًا من سرد العموميات عن صفات الروائي الناجح، وكيف يمكنه المحافظة على هذا النجاح، مكررًا القصة التي ذكرناها آنفًا عن تبدل مساره من صاحب مقهى إلى كاتب مع حقائق عن عدم تمكنه في البداية من تكوين صوت أدبي خاص تستسيغه أذنه، وهو أمر طبيعي جدًا بالنسبة لشخص لم يفكر من قبل أن يكون حكاءً على عكس معظم الكتاب الذين شرعوا في تناول أقلامهم مدونين كل ما يدور في خلدهم قبل أن ينتبهوا إلى قدرتهم على الحكي، وقبل أن يقطعوا شوطًا طويلًا، ويخوضوا عذابًا لا يحتمل بغية امتهان الكتابة كحرفة يمكنهم التعيش منها من دون مصادر أخرى. من أجل تذليل ذلك العائق، قام موراكامي بترجمة إحدى فقراته شديدة الصعوبة إلى الإنكليزية البدائية إلى حد ما، ثم أعاد ترجمتها إلى لغة يابانية بسيطة مماثلة، ولكن “بإيقاع إبداعي يخصني وحدي”، فإذا به يهتدي إلى “أروع الأوتار”، ويعثر على صوته “الحيادي” الذي أمكن ترجمته إلى عشرات اللغات الأخرى بمنتهى السهولة، وجعله أحد أكثر المؤلفين قراءة في جميع أنحاء العالم.

روايات نصف ناضجة

يعتقد موراكامي أن أصالته الأدبية وصوته وأسلوبه قد تبلوروا في ذلك الوقت، ويخبرنا أنه حتى الآن لم يجابه أي مشقة في أثناء الكتابة كما يدعي معظم الكتاب. وهو ما يجعلنا نستخلص من خلاله درسه الأول عن الكتابة: “الحق أقول، لم أجد الكتابة مؤلمة… ما الهدف من الكتابة إذا كنت لا تستمتع بها؟ لا أستطيع أن أتفهم فكرة الكاتب المعذب. في الأساس، أعتقد أن الروايات يجب أن تنساب بتدفق عفوي”. لكن موراكامي القافز ببراشوت على أرض الإبداع يتجاهل بذلك رصيدًا من البؤس والألم والمشقة والإرهاق الطويل الممض المصاحب لعملية الخلق والابتكار، أو أنه في الأحرى يستعرض عضلاته ككاتب أمام المخاض العسير الذي أمعن في وصفه أجيال من المبدعين والكتاب العظام الذين كانوا حين يصادفهم مثل هذا التدفق في غفلة من الزمن يقيمون الأعراس والأفراح. لكن نفور اليابانيين من موراكامي يعود في الأساس إلى معارضة تدفقه هذا، في مرحلة ما، يتذكر زميلًا قديمًا في المدرسة الثانوية زاره في مقهاه قبل أن يبيعه ويتفرغ تماما للكتابة، لمجرد التقليل من قيمة روايته الأولى الحائزة على جوائز، مدعيًا أن في وسعه كتابة مثل هذا الهراء. وعلى عادة اليابانيين المتسمة بالتواضع، يقر موراكامي بأن زميله الساخط ربما يكون لديه وجهة نظر أخرى تستحق النظر، فهو بنفسه استنكر أعماله الأولى مفضلًا التنقيب في الأعماق. وعلى الرغم من أنه لم يسمع أبدًا عن أن زميله هذا نشر رواية بعد تعليقه هذا، كتب يقول: “ربما كان يعتقد أنه ليست هناك حاجة له للكتابة في عالم يمكن أن تمر فيه روايات نصف ناضجة مثل رواياتي. إذا كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن يكون على حق”.

المرونة هي المفتاح

هل يمكن أن يصبح المرء فنانًا بالاجتهاد، أم أن الحقيقة أن لا فنان يصبح ذا أثر من دون بذل جهد هائل؟ يعزو موراكامي نجاحه المشهود إلى طريقته الخاصة للغاية في جمع مادته السحرية من خلال القراءة المستفيضة النهمة أولًا، باعتبارها بئر الإلهام، وإن كان يشدّد، قبل كل شيء، على أهمية الملاحظة الثاقبة، والبطء في إصدار أحكام حول تلك الملاحظات. فهو نادرًا ما يقوم بتدوين الملاحظات، واثقًا من أنه عندما يحين وقت الكتابة، ستنفتح “خزانة أدراج ذهنه الواسعة” لتستدعي كل ما هو مفيد وذي صلة بعالمه. في مقال بعنوان “اجعل من الوقت حليفك: في كتابة الرواية” يقدم وصفًا تفصيليًا لمختبره الكتابي، وصرامته في كتابة 10 صفحات كل يوم، وحين يستوفي حصته، يتوقف على الفور، مشبهًا ذلك بضرب بطاقة وقت الدوام!

يكتب أيضًا عن العلاقة المهمة بين صحة الكاتب ومخرجاته الإبداعية، مؤكدًا على أن الأفكار التي يتم التعبير عنها ليست إلزامية؛ فالمرونة هي المفتاح، ليس فقط في ما يتعلق بالموضوع ووجهة النظر، ولكن أيضًا في ما يتعلق ببنية السرد، حيث يتعين أن تكون الروايات مثل الناس، “فضفاضة وفيها أجزاء خشنة غير صقيلة”، من أجل تحقيق التباين مع الأجزاء المشيدة بإحكام.

ويحلل في “أي نوع من الشخصيات ينبغي إدراجي؟” قراره بالانتقال من ضمير المتكلم في رواياته المبكرة إلى رحابة ضمير الغائب وقدرته على خلق مزيد من الشخصيات المرئية من عدة جهات، معترفًا بأنه “بمعنى ما، بينما يقوم الروائي بتشكيل روايته، تقوم الرواية بإعادة تشكيله في الوقت ذاته”. ولكنه في “لمن أكتب؟” يفجر مفارقة أخرى عن التواضع لا يمكنها أن تصمد على أرض الواقع، وتتلخص في أنه بقدر ما يسعده اجتذاب جمهور واسع، فهو يكتب في الأساس لإرضاء نفسه، وهو ما أجده يتعارض مع عنوان الكتاب، الفن للفن، أم الروائي بصفتها مهنة!

في “مهنة جسدية وشخصية بالكامل”، يستعيد موراكامي بعضًا مما ذكره في كتابه “عما أتكلم حين أتحدث عن الركض”، وهو المعروف بشغفه بالعدو لتعويضه عن المجهود الذي كان يبذله في مقهى الجاز بعد أن اضطرته الكتابة إلى التقيد بمكتبه لمدة خمس أو ست ساعات كل يوم، وما يتطلبه ذلك من قدر هائل من الجهد البدني، وقدرة على التحمل، والتي تغلب عليها كاتبنا بممارسة الركض، سيما وأنه مثل معظم الفنانين يفضل العزلة، ولا يسمح بتضييع وقته في برامج تلفزيونية، أو حوارات، أو في حفلات توزيع الجوائز، أو مهرجانات أدبية. يرى موراكامي أن “للجري فوائد كثيرة، أولها أنك لا تحتاج لتمارسه إلى شخص آخر، أو معدات بعينها، كما أنه ليس عليك الذهاب إلى أي مكان خاص لتركض، فما دمت تملك حذاءً رياضيًا، وطريقًا ممتدًا، تستطيع أن تجري على قدر رغبتك”.

قبعة الكاتب وغباء الروائيين

يحتوي الكتاب أيضًا على مقالة بعنوان “بخصوص المدارس”، تبدو في ظاهرها أنْ لا علاقة لها ببقية الكتاب، وإن كانت ذات صلة بموراكامي نفسه، فهو هنا يوجه أصابع الاتهام لنظام التعليم في اليابان، النظام الذي يقول إنه ساهم بشكل ضئيل، أو لم يساهم بأي شيء في نجاح مسيرته الأدبية، مشيرًا إلى علاقته باللغة الإنكليزية على النحو الذي تلقاه في المدرسة، و”التناقضات” و”العيوب الهيكلية” في المجتمع الياباني، ليستخلص أن اللغة الإنكليزية يتم تدريسها فقط بهدف رفع درجات الطلاب في الاختبارات الخاصة بموضوع معين بدلًا من تشجيع استخدامها في المستقبل في حياتهم اليومية. ونتيجة لذلك، لم يحصل موراكامي، الذي كان يقرأ روايات إنكليزية بطلاقة، على درجات جيدة في هذه اللغة، حيث اختلفت أهدافه عن أهداف أساتذته.

من المعروف تأثر موراكامي بكتاب أوروبا، وهو ما أخذ عليه في بلده اليابان. وعلى الرغم من دور الجوائز في مسيرته الإبداعية، وحقيقة البدء منذ أول رواية له بمغازلة الجوائز، يعلن هنا ببساطة أنه لا يولي أهمية كبيرة للجوائز الأدبية، معللًا ذلك بأن الفكرة نفسها بكل ما تنطوي عليه من إثارة وتشويق قد تفضي إلى اضطراب نفسي وجسدي من شأنه أن يسبب مشاكل أكثر مما تستحق، ولكنه يسوق حقيقة لا مراء فيها حين يقول: “يمكن للجائزة الأدبية أن تسلط الضوء على عمل معين، لكنها لا تستطيع أن تبث الحياة فيه”.

أخيرًا، يختم كتابه الذاتي بمقالة بعنوان “الانطلاق إلى الخارج: آفاق جديدة”، ليصف كيف تخطى الحدود اليابانية بضربة حظ في أواخر الثمانينيات، وهو من المقالات التي تحمل من تجربته بالفعل ما يهم أي كاتب حقيقي.

هنالك قصة أرجأتها حتى النهاية، لكن موراكامي يستهل بها كتابه عن مهنة الروائي، بوسعها أن تلقي الضوء على التفكير المادي والقاصر في الآن ذاته عن فعل الإبداع. إنها عن رجلين يسافران إلى جبل فوجي من أجل التعرف عليه بنفسهما. يراقب الرجل “الأذكى” الجبل من زوايا عدة، ويقرر، بناءً على ما رآه، أنه يعرف الآن ما الذي يجعل هذا الجبل مميزًا. بينما الآخر “الأقل ذكاء” حسب رأيه، لا يجد مفرًا من تسلق الجبل قبل أن يقرر. المدهش أن موراكامي يقارن “غباء” الرجل بالروائيين، متأسفًا على حاجتهم لتسلق الجبل، مرارًا وتكرارًا أحيانًا، للوصول إلى الهدف!

في كتابه “الكاتب وعالمه”، يورد تشارلس مورغان مقولة لشاتوبريان تصف نابليون بأنه لم يكن يعرف كثيرًا في فن قيادة الجيوش عدا كسب المعارك، ولعلي أجدها تنطبق تمام الانطباق على الكاتب المرشح دائمًا لجائزة نوبل!

مصادر:

https://www.theguardian.com/books/2022/nov/09/novelist-as-a-vocation-by-haruki-murakami-review-lessons-in-simplicity

https://www.theguardian.com/books/2022/nov/06/novelist-as-a-vocation-by-haruki-murakami-review-the-secrets-behind-the-literary-phenomenon

https://www.kirkusreviews.com/book-reviews/haruki-murakami/novelist-as-a-vocation/

https://en.wikipedia.org/wiki/Haruki_Murakami

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى