شعر

رامي القوس من تدمرتا/ نوري الجرّاح

أنشودة ريجينا عند النهر

لو كانت عندي أُختٌ تَمشطُ لي شَعريَ

ما حاجتي إلى نَهْرٍ أو مِرْآةٍ…

لِننتظرْ مراكبَ الصيفِ،

قال بيرات

ففي مراكب الصيف يصلُ التاجرُ الفينيقيُّ

وفي صُندوقهِ أَخطفُ المرايا، صُنِعت في أَسواق صيدا

نحاسيةً ومُزجَّجة،

ولها إطارٌ من اللازورد

وجرابٌ من جلد الغزال ونقشُ تميمةٍ لبُوصيدون…

أنظرُ وَجهيَ في الماء

وأراكِ،

بجدائلكِ الصفراء، ورمشِك المُبلَّل…

سايتادا 

سايتادا…

لو كانت عندي أختٌ تَمشطُ لي شَعري،

وفي جوَارنا يَمرُّ الماءُ

ما حاجتي بالمراكب والمرايا

وبالفينيقيّ وصندوقه في الصيفْ.

■ ■ ■

رامي القوس من تدمرتا

اليومَ لن أصعدَ إلى المَعبد

لا نذورَ عندي لجُوبيتر، ولا حتى لِبعْل…

ما أفعلُ بآلهةٍ لم تَشفِ غَليليَ، ولو لمرّة، 

بِجوابٍ عن سؤالٍ.

أعطيتُ ربع قرنٍ من حياتي لهذا الهواء اللاسع،

بعيداً عن شمس تدمر،

ووتّرتُ الأقواس لأنال من الفتى الكالذُونيّ المُلوَّن بسهمي المُجنّح 

أمّا وقد نزلتُ عن السورِ

بآلامٍ في الرُّكبة، 

ودراخماتٍ قليلةٍ لا تُوصِلني حتى إلى لوندينيوم على النهر،

فلأجدّفْ إذن،

ليلَ نهار،

ولتَسمعني آلهتي وتموت من الغيظ…

ما دمتُ لن أحظى، ولو في المنام، بمركبٍ يحملني إلى بانياس 

والأرجحُ أن أَموتَ وأُدفن، هنا، في جوارِ هذا السُّورِ الأحمق،

ولا أرى سُورية مَرَّة أُخرى.

هل يُنتظرُ منّي أنا المحارِب الذي ضيَّع حياته في غابةٍ يلتهمُها الضباب

أَن أُصحّح لآلهَتي الفاشلة أخطاءَها المُتكرّرة؟

■ ■ ■

ولادةُ المُحارِب المُرقَّش

كلُّ ما رواهُ لنا قرب موقد النار من دَفَنّاهم في التلال البَعيدة

سوفَ تُهديه لنا الأرض في الأصياف.

عبرنا الهضاب لنفوز بالحجرِ الجيريِّ الأبيض،

ومن ثمَّ، نُزولاً عبر الشِّعاب إلى حيث يتلوّى النهر، 

وتتلوّى 

السمكة 

في 

النهر،

هناك سوف نصبغ بالأرجوان عنق الفتى…

كان ضئيلاً وفي حضن المرأة أهدته موري نظرَتها الحَذِرةَ، ورعاه أودن 

ولمّا صارت له عَضَلة صار عنده رُمحٌ وراح يخرج وراءه إلى الغابة.

أشعلتُ في البلّوط النار، ورأيْتُ أَلْسِنَتَها زَرْقَاء..

آخرُ مَا تبقّى لي مِن الأَيل

كَاحِلُه، 

سحقتُهُ على حَجر وخلطْته بالرماد.

تَعال يا لينوس وانظر خدّ الفتى الذي كبُر وصار رشيقاً،

تعال، أيُّها المتدثِّر بلحاء الشجر، وكن شفيعه في العواصف…

– من شجرة السمّاق أخت شجرِ الوعر رَجعْنا بالأصفرِ الوهّاج،

فركْنا به صدرك الخافق،

وتركناه يؤجُّ

لكنّ الأرجُوان تحت جفنكَ الفتيِّ أهدته لك الدودةُ التي جفّت في شَمسِ الصيف.

سنجمعُ لك الأَزهار من كُلّ سهل وهضبة،

وعندما تجف، ويلهو بها الهواء

سوف نسحقُها في الأجران

وإلى أن ينزل مُتسلِّقُ الجبل بحجر اللازورد

ليفعم بالألوان وجهَك وكتفيك وكاحلك،

وربلة الساق، 

سنُنشد لأودن، لتصير ما يُحبُّ لك أودن أن تصير.

إذ ذاك يَخفقُ جَناحان بالصبيِّ الذي كنتَ، ويَتوارى طَائرٌ في غابة الخيزران.

المحاربُ يخرجُ من الغابة.

■ ■ ■

أخبارُ بُوديكا

أين اختَفت بُوديكا بعد المعرَكة الأَخيرة في شارع راتليج؟ 

هل نزلت في النهر وصارت سمكة، أم صعدت إلى الهضبة وتحوّلت إلى نسر؟

الجريحُ الهَارِبُ من الأسر رَآها في قفص خشبيّ على عربة تتّجِهُ نحو البحر

والراعي الذي سمع صوتاً قادماً من كهفٍ ورأى الأرانبَ تلوذُ بالجحور،

قال إنّها بُودِيكا…

المَرأة التي جُلدَت لأنها الملكة،

وعندما لبّت الغابة والهضبة نداءها الجريح،

أرسَلت فُرسانها الشجعان وراء كتائب روما

وقصَّتِ الأَلسنَةَ التي لَعَقَت عن فَخذَي ابنَتَيها دم العُذرِيَّة.

أَبادت حملتين لنيرون

وأحرقت الرُّومَ في ثلاث مدن، 

لم تُشفِق عَلى بَقرَة 

ولا على طفلٍ…

رجال إيسيني المُشرَّدُون في السهول والغابات

أشعَلوا أجسادهُم بالأَلوان،

وبنظرةٍ من عَينِها الجارحة كعين صقر 

أرسلُوا صِبيانَهم إلى إسطَبلات الروم بكرات اللَّهب.

النحَّات لم يترك لها أثراً في حجر

ولم يَعثر لها في كتاب على أثر…

المجد لأغريكولا،

فلولا هذا الأطرابونُ الإيطاليُّ، لما وصل طائرٌ عن بُوديكا بخبر.

■ ■ ■

لسان النار

(The Ruin) 

بم أملأ الفراغ بين قناة الماءِ وبركة الحمَّام في جوار القلعة

هُنا اغتسلَ مُحاربون وراء جُدران البازلت من الدم والوحل، وفي جوارهم نخّاسون وصلوا بالقوارب عبر النهر، وفكوا القيود عن كعاب العبيد وأَرساغهم المدماة،

ليمكنهم أن يطيّبوا هواء السوق؟

في الصباحات المُمطرة، جلبة تُجّار صغار يتجوّلون في الإسْطبلات، 

تحت أنظار مُلاحظين كانوا يراقبون صِبيَة يقدّمون العلف للخيول.

والآن

لا ظلّ

ولا صهيل

بم أملأ هذا الصمتَ ومن ورائه الفراغ،

بين السلّم المائل على الجدار الحجريّ للحصن والقدم التي وطأت درجة الخيزران…

انكسرت،

وهوت 

بمن زلّ وهوى

وأرسل صرختهُ في عتمة الهاوية؟

من تألّق، هناك في فراغ السطر، 

حيث امتدّ لسانُ النارِ لينال من الرقعة ومن التفاتة المُتلفّت.

الفراغ مهارة عملٍ أقدم من عملِ البناة،

فراغٌ بعد سطرٍ،

وفراغٌ بعد كلمةٍ

فراغٌ

في

فراغٍ…

وفراغٌ يوسِّعُ للشاهق،

ل

ي

ت

س

ا

ق

ط.

هكذا توارى وراء العواصف

زمن الأنشُودة التي أكلت النار لوعة ما تصف.

أصابعُ جُوليا دومنا المفقودة

أفكار الوصيفة بعد مقتلةِ القصر

كم مرَّةٍ سيُغمدُ كاراكلا سَيفه في أحشاء الجُنديّ الذي بتر أصابع الإمبراطورة 

“كان المقصود قتل الشقيق 

وليس تشويه يد الأمِّ…”

هكذا كتب المُؤرّخ في صحائف ذلك اليوم.

ويا لَها مِن فضيحةٍ، أن تظهرَ الإمبراطورةُ في المَأدُبة بيدٍ فقدت ثلاثَ أصابع. 

حتى لو كان كَاراكَلا سيُرسلُ الجُنديَّ المُذنب ليرمي نفسه من حافّة الجبل

فلن يَتغيًّر شيءٌ!

أمّا هي، سيِّدةُ رُومَا المتحدِّرةُ من سُلالةٍ سُوريةٍ نبيلةٍ،

فلن تلتفتَ لتنظرَ أصَابعَها التي بُترت وطاشَت على الرُّخام،

ولا الدمَ الذي نفر ولطَّخ الأرائكَ

جَسدُها الذي استَشعرَ نصل الشَّقيق على نَحر الشَّقيق

 تخدَّرَ، فجأةً

ولم يَبقَ في الحواسِّ شيءٌ حيٌّ

سوى تلك الانقباضة الأليمة في الرَّحم.

نباهَتُكِ التي جعلت مُشَرِّعي رُوما يستقبلونَ سيبتموس بإكليل الغارِ

ذابتْ في كأسِ الابنِ القاتلِ كحَبّةِ الحنظلِ.

والآن،

إلى أين مضتِ الوصيفاتُ في لَيلةِ الأخويِن، 

بالأصابع المَقطوعة لجُوليا دُومنا؟

■ ■ ■

مرسوم كَاراكلا

(سنة 212 ميلادية)

أيُّ ضربةٍ صاعقةٍ، أيُّ رُؤيةٍ بعيدةٍ لناظرٍ من هضبةٍ 

بإيماءة مُفاجئة،

إشارةٌ لا أكثر من إصبع فتىً في رِداءٍ أرجوانيٍّ

أسمر، لأبٍ بونيقيٍّ وأمٍّ سُوريّة

يتحوّلُ كلُّ من كانوا غُرباء في روما، حتى يوم أمس، إلى مواطنين رومانيين؟

كيف سيتصرّفُ الأرستقراطيّون المَفجُوعونَ بعد اليوم؟

هل يَمشي البَربريُّ بجوار النبيل، ويزحمُه بكتفهِ: أَنا أَيضاً رومانيٌّ!

وهل يحتملُ أُولئك المصدومون من الخبر مرأى عابِدي إيل وعشيرة يحتشدونَ في الأغورا، ويهلّلون للمرسوم الإمبراطويِّ المنقوش على الحِجارة… 

مُبتهجين بتلك السطورِ المُبهَمة، 

وهُم يهزُّونَ رُؤوسَهم، مِثلنا، نحنُ الرُّومانيينَ،

كما لو كانُوا هم أيضاً يقرؤونَ اللاتينيّة!

اليومَ، بَعدَ العصرِ، عِندَما يَصلُ إلى مَجلسِ الشّيوخ: 

السوريُّ والأرمينيُّ والنوميديُّ والمصريُّ والإيليري وابنُ نينوى ومَعهمُ البربريُّ من بريتانيكا، 

هل سيَجلسُ هؤلاءِ الغرباءُ بملابِسهمُ المّلوّنةِ في مقاعد النبلاء؟

ماذا سيقولونَ للحضورِ وبأيِّ لغة سيتكلّمون؟

هل يكون لهم رأيٌ في شُؤون الحُكم؟!

وفي ما بعد، عندما يَصْحُو النبلاءُ من الضَّرْبةِ 

في أيِّ معبدٍ سيقدِّم المصدومونَ هؤلاء لآلهَتِهم الأضاحيَ،

والسوريونَ في أسواق روما ومعابدها جعلُوا لجوبيتر قرني بعل، ولأفروديت سحنة عشتار؟

بإيماءةٍ مُفاجئة، لا نعرفُ حتى الآن إن كانت مدروسةً أم مُرتَجَلةً،

يتغيَّر كلّ شَيءٍ في هَذه الإمبراطوريّة…

أهي نظرةٌ ثاقبةٌ من نَسرٍ حلّق في شَاهقٍ ورأَى كلّ شيءٍ،

أم انقلابٌ شرقيٌّ؛

انتقامٌ مُتأخّرٌ للملكةِ السمراء المدفونة في الغابة بعدَ تَحويلِ بَالميرا إلى أَطلال؟

من اقترحَ تلك الفكرة المُذهلة على الآخر؟ 

بابنيانُ الحِمصيُّ المُشتغلُ بالشرائع أم كَاراكَلا الباحثُ لخَزينتهِ عن الضرَائب؟ 

بالأمس كان النبلاءُ الحائرون بدمهم الأزرق يُردّدون:

أيُّ نهرٍ هذا الذي يَجري في روما اليوم،

التيبرُ أم العاصي!

كَاراكلا أطلقَ النسر من الهضبة، 

وأجابَ عن السؤال:

ما دامتْ كلُّ الطُّرقِ تؤدّي إلى روما

فلتصلْ إلى روما، إذن، على كلّ تلك الطُّرق كلُّ العربات.

* شاعر سوري مقيم في لندن، والقصائد من ديوانه الجديد “الأفعوان الحجري: مرثية بَرْعتا التدمري لمحبوبته ريجينا”

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى