شعر

هيثر دوهولو.. شاعرة الحدائق الخمس

تقديم وترجمة: خالد النجار

من يتذكّر الشاعرة هيثر دوهولو (1925 – 2013) اليوم؟ مضت غامضةً مع شعرها الغامض. شاعرةٌ جاءت من المرئيات لتمضي إلى غير المرئي. إشكاليتها كإشكالية الرسّام؛ فاللونُ والخطّ والمساحة ومادّة التلوين والإطار – كلُّ هذه العناصر المادّية التي تشكّل جسد اللوحة- تمضي لا أدري بأيّ سحر من المرئي إلى غير المرئي، إلى الروحي.

هكذا دور الكلمات في قصائدها. يمتزج لدى هيثر الرسم بالشعر؛ الشعر الذي، ومنذ شارل بودلير، تواشُج مع الرسم، وهذا سرّ علاقته بصديقه الرسّام أوجين دي لاكروا. بدأ الشعر يأخذ مسافةً من الأدب، ويقترب من الرسم الذي لم تعُد له أشكال مقدَّسة، لأنّ القصيدة الحقيقية تولد كالإنسان بملامحها وأعماقها الخاصّة.

كنت قد عرفت هيثر أواسط الثمانينيات عن طريق لوران غاسبار. راسلتُها أوّل الأمر أطلب بعض القصائد لـ”كتاب الأسئلة” غير الدوري الذي أصدرته أيّامها في تونس، بدعم من لوران غاسبار، وهشام شرابي، وميشال بيتور، والذي لم تصدر منه سوى أربعة أعداد.

    تمضي لا أدري بأيّ سحر من المرئي إلى غير المرئي

أرسلَت لي بدورها كتابها الشعري الأوّل: “لا شيء سوى الطفولة”، ثمّ ديوان “زقاق الأبواب”، وبعض القصائد لنشرها في الكتاب؛ قصائد قصيرة مختزلة، غامضة، ذات منحى وجودي. قصائد تعكس معاناتها وأسئلتها وإشكاليّتها المتوافقة مع التيار الوجودي، الذي كان في أوج صعوده لحظة وصولها إلى باريس الخمسينيات.

بعد سنوات من تلك المراسلة، التقينا في ندوة “قصر سوريزي” التي كان موضوعُها حياة وأعمال لوران غاسبار، وأقمنا أسبوعاً كاملاً في ذلك القصر الإقطاعي وسط الغابة. أتذكّر أنّها، في إحدى الاستراحات، كانت تقف مع غاسبار على مرتفع صغير تحت أشجار الشمال الباسقة.

أخذتُ لهما صورة فوتوغرافية من بعيد، وكانت آخر مرّة أراها. واليوم تعودني هذه الصورة للشاعرة الغريبة، التي اختارت العزلة في ضباب منطقة البريتاني الفرنسية الشبيهة بمناخات بلاد الغال التي جاءت منها.

الصورة

زقاق الأبواب – القسم الثقافي

غلاف مجموعة “زقاق الأبواب”

عاشت هيثر منذ البدء وحيدة، وعن طفولتها كتبت: “كانت طفولة سريّة لبنت وحيدة أبويها، حيث كانت الأماكن عندي أكثر واقعية من الكائنات، وحيث كانت الكتب لا تقلّ حقيقةً بالنسبة إليّ عن صورتي في المرآة”.

عزلةٌ جغرافية مضت بها إلى عزلة روحية، تجلّت في شعر تأمُّل وتعبير عن دراما الوجود، كما هو شأن الشعراء الذين لا يتخفّون وراء الأيديولوجيا وشعارات القضايا الكبيرة، وإنما يواجهون أسئلة الداخل التي كثيراً ما يتجنّبها الناس.

عن تجربتها، كتب الناقد الإنكليزي ميكاييل بيشوب: “بعد كتابة نص حول فيكتور سيغالان، ودراسة عن راينر ماريا ريلكه، نرى هيثر دوهولو تُصدر ديوانها الأول، ‘لا شيء سوى الطفولة’. وهو كتابٌ ذو بساطة وعمق رائعين. شواغلها كثيرة، ولكن كلُّها تمضي نحو الجوهري في العالم؛ مثل الحقيقة والزمن، والمرئي وغير المرئي، والتوازن بين الهُنا والهُناك، والحبّ والمحدودية، واللغز وبساطة الوجود، حضور الملائكة ووقر العدم. يحضر هنا صوتٌ شعري في مكان لا يعني شيئاً ويتابع كلّ شيء. في حين أنّنا محكومون بالعبور، وعبورنا امتلاء: واجدين في الخواء الكبير/ في الأماكن الوفية/ الجنة التي لم نفقدها أبداً”.

وُلدت هيثر دوهولو في بلاد الغال. أمضت طفولتها ومراهقتها في مدينة صغيرة أمام البحر قرب كارديف، مركز تلك المنطقة الريفية ذات الجبال العارية التي بلون الحديد الصدئ. مشاهد طفولتها هذه ستظهر لاحقاً في قصائدها.

مضت حياتُها هادئة، سافرت إلى فرنسا أوّل مرّة مباشرة بعد رحيل أمّها سنة 1951. وهناك قضت سنتين في “مدرسة الفنون” بباريس، ثمّ عادت إلى لندن لتقضي أيضاً سنتين، قبل أن تعود من جديد إلى فرنسا، وتتزوج وتستقرّ نهائياً في إقليم البريطاني.

أقامت في السنوات السبع الأُولى في جزيرة بريهات التي تقع في بحر البريطاني، ثم انتقلت إلى مدينة سان بريو حيث عملت أمينة مكتبة في مركز العمل الثقافي. بدأت دوهولو الكتابة بالإنكليزية، ثمّ ومنذ الستينيات صارت تكتب بالفرنسية. 

الصداقة التي ربطتها بالشاعر الفرنسي الكبير بيير جون جوف، والاهتمامُ الذي أولاها إياه إيف بونفوا، كان لهما التأثير الحاسم في مسارها الشعري. صدرَت أغلب أعمالها عن “دار الشوفان البرّي” FOLIE AVOINE. من دواوينها: “لا شيء سوى الطفولة”، و”زقاق الأبواب”، و”الجواب”، و”في الجزيرة”، و”السفح المشمس”، و”الحدائق الخمس”.

هنا ترجمتُنا لمختارات من قصائدها.

1

هل هناك في هذه اللحظة أبوابٌ مشرعة

وزهور على جوانب دروب قديمة

يفاجئك عطرها

هناك في مكان لم نطأه

تخاطبنا

في ماضٍ مستقبلي

2

هل وجب عليَّ في هذه الساعة

أن أبحث من جديد داخل

الأهراء المكتظّة عن طلسم

يوقظني افتقادُه فجأةً

من نوم عميق

ويفعمني بالنسيان

3

ألم أكن ثابتةً باستمرار فوق نقطة 

ألفُّ في دوران متباطئ

بين أيدي شركاء يقظين

أُلامس الأمواج غير المرئية للمحيطات

في مجالٍ 

ظلّ خيالاً

4

أن أحتمي بالأوراق الساكنة

دون أن أضيّع هدهدة الأغصان العارية

وأن أشعر وسط الكتب

أنّي في مواضع الكلمات

حتى أعيش على حواف جزر

من السعادة الغامرة

5

هل يُمكننا البقاء في النور

مثل الماء الذي يميل إلى الزجاج

بضغط بطيء

على جانبي النهار

6

الآن دعونا ننظر مواجهة:

من أين تنطلق الصيحة؟

ما هو منطلقها ومرماها

هل السهام عالقة باستمرار

تحت قدميك

تعوقك عن المشي؟

7

كانت السماء تمرّ

فوق جدران

الحدائق

وكان كلّ واحد يقتطع

لحاف نهاره

وكان الهواء يضجّ بالملائكة

المجاورة

للآخرين

وأنا كنت على علم

من خلال السماء

8

كان هناك ضوءٌ بارد على الطريق

والتقاطُع ظلّ مقفراً

والشمس تتراقص بنعومة هنا وهناك

وترصّع زجاج كلّ النوافذ

بالألماس المتوهّج

وعلى العشب أمام المنزل

ثمّة طفلة صغيرة في ثوب أخضر

تمسك دمية بيدها

ترغب في الظلّ،

وتبتسم لتلك التي تسحب

خطوط النار

9

هلدرلين في البرج

تحليق العصافير

ومشهد الحقول أمامه

الكلمات تطير ثم تعود

تلمسه، يمدّ يده

ويضع الكلمات برفق

الواحدة جنب الأُخرى

يقول الأشياء الشديدة البساطة

كالموسيقى

ظِلّ العصافير يدهشه

والنهارات طويلة

كما في بدايات الخليقة

10

أين تراكمت الأيام

في أيّ رأس غائبة؟

مخزن بذور

أدراج الرياح، أحواض المطر،

أضواء الشمس

الموت هو مكان

الأشياء

والحياة

هي المرآة الحقيقية

لمساحة

بين أربع عيون

11

فوق الجدران هناك السماء

والحديقة التي تعود كثيراً في الأحلام،

وشجرة الكمثرى لم تعد تؤوي أحداً

والسلّم أُزيل منذ وقت طويل

ومثل ماندالا خاوية، ظلّ عشب الحديقة،

أن يحتل المركز هو الوقوع في بئر

تجتاز الزمن.

حول هذا الخريف إلى نطاق يمكن تجاوزه،

هو استعادة الحضور الغائب،

تولد من جديد لابتسامة الحُبّ القاتلة،

من الأسفل أرى دائرة النهار الباهتة

12

لم أعد أريد أبداً السير

في الدروب المحفورة، أو في

الدروب الشديدة الانحدار

أحتاج إلى طرق 

معبدة سلسة بحيث

صب العجاف من رأسي لا تحصل

لا تفقد الزبد ضد

حصى عشوائية

هناك عالم خلقته هبات الأحاسيس،

والعطور، وبهرة الضوء آخر الممرّات الطويلة

ممرّات اختُصرت الآن

عالم حيث نوقظ عوالم أُخرى في داخلنا

الشيء نفسه، اليقين من حلم ممزَّق لا يزال تلوين

عيوننا النهارية

أرض بلا عمق حيث تتسرّب الأشياء

فوقنا مثل الأمواج، تاركاً لنا جسداً من زبد

إنها الطيور التي تحرس الطريق، والسماء ضجيج أجنحة

والأرض، قدم حافية في العشب

ونحن نعرف اقتراب بُعد لا نهائي

أشياء في غاية البساطة

غرفة، سرير

شخص ما ينام

أو لا ينام

تنفّس كلمات

لم تقل أبداً

بين الجدران

التي تؤوي الآن

أماكن أخرى

13

الطريق

إن كانت هناك شمس فأنا ظلُّها

تجوفها فوق الأرض

من يدور حولي، المحبوبة

آخذ الخواء بالأحضان

وهو الماء الذي يجري كانسياب تويجات الورود

وتلك الأشجار النائية

أبدأ في الخارج

صيحة العصفور هي الفضاء

آه أن تكوني حاضرة في الغياب

وتمدّد فوق الشبكة

جسدها الذي من رغبات

داخل المشهد.

* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى