نقد ومقالات

بشير البكر شاعر المنسيين الذي يقف أمام مرآته ليرثي آخر الجنود/ فاروق يوسف

الشعر بالنسبة إليه ظل بمثابة طوق نجاة بعد أن أدرك أن الحياة التي يجتازها مضطرا هي أشبه بالبحر الذي لا يمكن لأحد أن يُقاوم صخب أمواجه.

أن يُكتب عنك وأنت تكتب عن الآخرين بحب كاشفا عن أسرارهم ومنقبا في عواطفهم فتلك عقدة ينبغي تخطيها، لكن بقدر هائل من الحذر والحيطة.

عاش بشير البكر حياة الآخرين في الكتابة مثلما عاش حياته في الشعر. عرف كيف يكون في الحالين الشخص نفسه الذي تنقل بين مدن ولغات، مسّه غبارها مثلما فعل عطر زهورها. غمرته بلهاثها ومرّ بها هادئا. كانت حياته عبارة عن البيوت التي كتب فيها شعره وتنفس حبره هواء حكاياتها.

لقد اكتسب الشيء الكثير من صلابة منهجه الإنساني ورقّة وعده الشعري من الطريق التي اخترقت تلك المدن وقد عاش فيها ومن نوافذها رأى العالم الذي لم يكن وديا في كل الأحوال. كدح جمالي قاده من الشعر إلى السياسة فصار مضطرا إلى أن يُخفي الشاعر خوفا عليه من كآبة اليومي وطغيان المؤقت. غير أن ما لم يتمكن من إخفائه أن الشعر كان يسكن لغته في كل ما يكتب.

الأكثر وضوحا دائما

بوكس

كتب الشعر، وهو واحد من أبناء جيل طالع من رحم الحداثة الشعرية العربية الثانية. لذلك لم تكن لشعره صلة بتجارب الرواد. كان ذلك الجيل هو وارث النثر الذي صار شعرا بكل تقنياته وأفكاره وأشكاله وإيقاعاته المستحدثة. جيل سعى إلى أن يفكر من خلال اللغة، غير أن بشيرا لم يتخذ من اللغة ستارا ضبابيا، بل كان الأكثر وضوحا بين أفراد جيله. وقف أمام مرآته الشخصية ليقول ما لا يقوله شخص آخر.

“أريد أن أظل كالذئب/في الساعة الخامسة والعشرين/أعوي أمام نفسي/على تلك الطريقة البابلية/التي سينتهي عليها العالم ذات يوم”، لذلك رأى في تاريخه الشخصي مدونة لتاريخ عام، يتداخل فيه الثقافي والسياسي في بوتقة هي من صنع شاعر قرر في لحظة إلهام ألاّ يعتكف في خلوته ولا يعتزل الناس في برج عال بل يتبع صرخته التي ظلت بالرغم من إفراطها في خطابها النثري ممسكة بعصب الشعر.

مَن يقرأ مقالات البكر السياسية تدهشه خبرته ودقة تصويباته وعمق رؤيته غير أنه في الوقت نفسه يقف مسحورا أمام أناقة لغته واقتضابها وتوترها. فهي لغة مشدودة لا ثرثرة فيها ولا فائض من الكلام.

في مرحلة من حياته ناضل بشير البكر على جبهتين. جبهة الشعر وجبهة المناضل الذي اختطفته أحلام اليسار، يوم كانت هناك أحلام وكان هناك يسار. وليس واردا بالنسبة إليه أن يزن الأمور على ميزان واقعي ما دام الشعر لم يتخل عنه.

الزمن الذي أمضاه مدافعا عن قضايا عادلة كان هو في الوقت نفسه زمن الشعر. سيكون عليه وهو يقلّب تجارب الآخرين أن ينظر إلى المرآة ويقول “لقد عشتُ لأكون شاعرا”. لم يقع انفصال بينه وبين ذاته بسبب السياسة. زادته الخسائر الواقعية قوة. ودليله في ذلك أن خياله الشعري لا يزال يخترق تضاريس اللغة بصلابة رجل محارب.

ولد بشير البكر عام 1956 في الحسكة. اختار الإقامة في باريس منذ 1985 بعد أن تنقل بين مدن عربية عديدة. عمل منذ 1980 في الصحافة العربية وفي عام 2013 ساهم في تأسيس صحيفة “العربي الجديد” وعمل رئيسا لتحريرها حتى منتصف عام 2019. بعدها انتقل إلى إدارة قناة تلفزيون سوريا ومن ثم تفرغ للكتابة.

مرآة الآخرين في سيرته

أصدر البكر سبعة مجاميع شعرية هي “معلقة الكاردينال”، “قناديل لرصيف أوروبي”، “أرض الآخرين”، “ليس من أجل الموناليزا”، “عودة البرابرة”، “ما بعد باريس”، “آخر الجنود”، وفي السياسة نشر البكر كتابين هما “القبيلة تنتصر على الوطن” و”القاعدة في اليمن والسعودية”، وأخيرا صدر له كتاب “سيرة الآخرين” وهو كتاب ضم سيرا لعدد كبير من الأدباء العرب الذين سبق للبكر أن تعرف عليهم أو تأثر بتجاربهم الإبداعية.

 في ذلك الكتاب نوع لم يألفه القارئ العربي على مستوى كتابة السيرة. فيه الكثير من الألفة والحكايات الشخصية. وهو في جزء منه يعود بنا إلى امتزاج حياة البكر بحياة الآخرين فيبدو الكاتب كما لو أنه يسجل يومياته.

تُرجمت قصائد البكر إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية.

الشعر طوق نجاة

 في إحدى قصائده كتب بشير البكر:

“وكنَّا نظنُّ

أن أحداً سوف يَغسِلُ الملابسَ

المُلطَّخَةَ بالدَّمِ

ويرفو الثُّقُوبَ

التي تَرَكَها الرَّصاصُ

لكنّها ظلَّتْ مُعَلَّقةً فوقَ الحبالِ

بآثار البارود”.

قبل باريس عاش بشير البكر في مدن، هزمت كلها بعد أن كان قد أعتقد أن واحدة منها على الأقل ستكون بوابة الخلاص. غير انتصار الواقع على الخيال صنع معادلات جديدة، تسرّب من خلالها الشاعر إلى حياته التي لو هزمت لانهار مشروعه الشعري.

وهو يعبر عن ذلك بقوله “تلك حياتي/فطرة الذئب في الفلوات/تحت السماء اللامتناهية/بين الفرات ودجلة/مطمورة في طمي الأسلاف/مثل كنز ضائع”. بالنسبة إلى الشاعر فإن كتابة سطر شعري هو أشبه بالعثور على سر حياة عاشها المرء بلذة من غير أن يتمكن من الإبقاء عليها أو التمسك بها.

كل ما يفعله البكر في شعره إنما هو محاولة لاستعادة اللحظة التي سبقت كل ما شهده من هزائم، لم تكن هزائم شخصية غير أن مراراتها سحقت مزاجه الشخصي ليطفو على السطح صمت هو تعبير عن هزيمة مزاج لم يعد له معنى.

يقول “لا ترى ما يقرؤه الصمت/في كتاب أبيض بلا كلام/يتحدث عن أطفال سوريا/حاولوا عبور البحر/وطافوا هناك”.

شاعر المنسيين

بوكس

“كم هو متعذر عليّ

في هذا المساء

أنا الذي ينهكني الليل الواقف وراء الأبواب

أن أفنح المظلة

وأطوي القصيدة

في كلام يتباطأ

مخافة أن أقطع الوريد”.

مشروع القصيدة كان دائما بالنسبة إلى بشير البكر مشروع حياة متمردة على  قهرها اليومي.

منذ “عودة البرابرة” كان “آخر الجنود” حاضرا كما لو أنه وعد بحياة لا تنتهي.

ظل الشعر بالنسبة إليه بمثابة طوق نجاة بعد أن أدرك أن الحياة التي يجتازها مضطرا هي أشبه بالبحر الذي لا يمكن لأحد أن يُقاوم صخب أمواجه.

كانت هناك دائما قصائد في حقيبته هي التي وهبته خفة التحليق.

 حرصه على أن يكون شاعرا قبل أن يكون أيّ شخص آخر وهبه بلاغة معجزة، كان يراها في مستقبله من غير أن يكون قادرا على أن يسمّها.

بشير البكر هو شاعر المنسيين. في قصائده نرى بشرا هائمين لا وطن لهم غير أنهم لا يكفون عن التلفت.

شيء من الجغرافيا الخيالية هو ما يبعث اللمعان في عيونهم. وقد تكون سيرة الآخرين خلاصة مؤقتة لرغبة الشاعر في القبض على معنى حياته.

فاروق يوسف

كاتب عراقي

العرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى