سياسة

فاز أردوغان.. ماذا بعد؟ -مقالات مختارة-

تحديث هذا الملف يومي، نضيف العديد من المقالات المهمة والمختارة التي تناولت الحدث،  الأحدث في البداية.

عن تغطية الانتخابات التركية يوما بيوم أنظر ملفنا

السوريون والانتخابات التركية -مقالات مختارة

تحديث 31 تموز 2023

————————–

السياسة التركية حيال سورية بعد فوز أردوغان

منذ بدأت الانتفاضة السورية عام 2011، انجرّت أنقرة على نحو أعمق وأعمق إلى الأزمة. من المرجح أن تنزع مقاربتها الآن إلى الثبات. إلّا أن الخيارات التي تتبناها من الآن فصاعداً سيكون لها انعكاسات مهمة على مصير ملايين السوريين.

لقد هدّأت إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مخاوف كثير من السوريين من أن سياسة أنقرة حيال دمشق قد تتغير بشكل جذري على حسابهم. مع وجود القائد التركي القوي في السلطة لخمس سنوات أخرى، فإن أنقرة عازمة على إبقاء قواتها في أجزاء من شمال سورية. كما يبدو من المرجح أن أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري في تركيا سيظلون على الأغلب موجودين هناك، على الأقل في الوقت الحاضر. لقد تحدثت أنقرة إلى دمشق بشأن استئناف العلاقات التي قُطعت عندما اندلعت الحرب، وستستمر في فعل ذلك، إلّا أن حكومة أردوغان الجديدة فيها كثير من المسؤولين الذين يرون وجود عدد من الهواجس الأمنية القومية منشؤها الجار الجنوبي، بحيث تصعب المخاطرة بتحوّل متهور في المقاربة. بالنسبة للاجئين، إضافة إلى الملايين الذين جرى تهجيرهم في شمال سورية، فإن استمرار الوضع الراهن يمنع، أو على الأقل يؤجل، الاضطراب الذي يمكن أن يسببه تغيير في السياسة التركية. إلّا أنه يبقي أيضاً هؤلاء السوريين في وضع قلق وهش، ويتركهم عرضة لتقلبات حرب تسعى أطرافها، بما في ذلك تركيا، إلى تحقيق أهداف لا يمكن غالباً التوفيق فيما بينها، وتفتقر إلى إستراتيجيات واضحة لتحقيق تلك الأهداف.

يدخل أردوغان فترته الرئاسية الثالثة من موقع قوي، لكنه يواجه عدداً كبيراً من التحديات. إذ تواجه تركيا تراجعاً اقتصادياً يفرض قيوداً سياسية جديّة على مقاربة تركيا السخيّة حيال اللاجئين السوريين. وستساعد موافقة أنقرة في تموز/يوليو على التوقف عن معارضة انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي على تحسين علاقاتها داخل الحلف. إلّا أن التوترات مع الولايات المتحدة ما تزال قائمة، بما في ذلك بشأن شراء تركيا لأنظمة دفاع صاروخية روسية، وأيضاً بشأن اختيار واشنطن لقوات سورية الديمقراطية ذات القيادة الكردية كشريك رئيسي لها في الحملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سورية. كما أن علاقات تركيا الحرجة مع روسيا تتطلب أيضاً إعادة معايرة مستمرة، جزئياً بسبب الطريق المسدود الذي وصلت إليه أنقرة في علاقتها مع حليف موسكو في دمشق.

” بصفتها جارة سورية، فإن رهانات تركيا أكبر بكثير من رهانات معظم الدول العربية التي تحركت لاستعادة علاقاتها مع دمشق. “

تشكل الحرب في سورية على وجه الخصوص جملة معقدة من المخاطر والفرص بالنسبة لأنقرة. فتركيا تتشارك حدوداً طولها 900 كم مع سورية وتستضيف نحو 3.3 مليون لاجئ سوري. وعلى مدى أربعة عقود، كانت في حالة صراع مع حزب العمال الكردستاني، الذي قاتل فرعه في الشمال الشرقي، وقوات سورية الديمقراطية، تنظيم الدولة الإسلامية بدعم أميركي ويسيطر الآن على جزء من المنطقة؛ وإضافة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن تركيا تعتبر حزب العمال الكردستاني تنظيماً إرهابياً. واثنتان من دعائم سياستها في الأمن القومي تتمثلان في منع تدفق المزيد من اللاجئين من بين ما يقارب خمسة ملايين مهجَّر يعيشون في وضع قلق في شمال غرب سورية، وإضعاف سيطرة قوات سورية الديمقراطية (وبالتالي حزب العمال الكردستاني) على الشمال الشرقي، إن لم يكن وضع حد نهائي لها. بصفتها جارة سورية، فإن رهانات تركيا أكبر بكثير من رهانات معظم الدول العربية التي تحركت لاستعادة علاقاتها مع دمشق. وتبقى متشككة بعمق من أن نظام بشار الأسد سيكون مستعداً لمعالجة هذين الهاجسين، أو قادراً على معالجتهما بشكل يرضيها.

منذ بداية الانتفاضة الشعبية السورية في عام 2011، وعلى مدى الحرب الأهلية التي تبعتها، سارت تركيا على حافة سكين من السياسات قصيرة الأجل التي عمَّقت من انخراطها في الصراع. كحال العديد من القوى الغربية، فإن أنقرة تبنّت موقفاً حازماً ضد الأسد في البداية، فدعمت المتمردين في محاولة للإطاحة بالزعيم السوري. لكن لاحقاً، وعندما اتضح أن الأسد سيبقى، جعلت من الهدفين المذكورين آنفاً أولوية لها. فمن أجل كبح جماح قوات سورية الديمقراطية، شنت أنقرة أربعة توغلات في سورية منذ عام 2016. وتوجه ضربات منتظمة بالطائرات المسيَّرة على أهداف لقوات سورية الديمقراطية، وتهدد بشكل متكرر بالمزيد من التدخل لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني في سورية، الذي تعتقد أن واشنطن وموسكو تجاهلته.

مع انتشار ما يقدر بـعشرة آلاف جندي في الأجزاء الثلاثة من الشمال السوري، فإن تركيا صعَّدت وجودها بحيث أصبحت لاعباً مؤثراً جداً وقادراً على تشكيل اتجاه الصراع. دمشق تَعدُّ تركيا قوة محتلة، وكذلك قوات سورية الديمقراطية، لأسبابها الخاصة، بينما يعتبر ملايين المهجَّرين السوريين الجيش التركي القوة العازلة الوحيدة بينهم وبين نظام وحشي. يسمح وجود القوات التركية في إدلب، وهي محافظة تقع في شمال غرب سورية، لأنقرة بالالتزام بوقف لإطلاق النار تفاوضت عليه مع روسيا عام 2020، وهو الذي حمى ملايين الناس وأوقف تدفق اللاجئين. كما أنه سمح لهيئة تحرير الشام، الفرع السابق للقاعدة والذي ما يزال مصنَّفاً تنظيماً إرهابياً من قبل الأمم المتحدة وكثير من الدول، بتعزيز سيطرتها على المنطقة. في شمال حلب، يشرف الجيش، والشرطة وأجهزة المخابرات التركية على مجموعة من الفصائل السورية تسمَّى الجيش الوطني السوري، الذي يُتَّهم على نطاق واسع بالفساد والإجرام. وإلى الشرق، تسيطر أنقرة على مناطق انتزعتها من قوات سورية الديمقراطية في عامي 2018 و 2019. وتنخرط على نحو متكرر بتبادل لإطلاق النار مع المجموعة.

” لا يحظى الانتشار العسكري التركي في سورية ولا وجود ملايين اللاجئين السوريين بالشعبية في تركيا. “

لا يحظى الانتشار العسكري التركي في سورية ولا وجود ملايين اللاجئين السوريين بالشعبية في تركيا. فالاقتصاد المتردي للبلاد، إضافة إلى العداء المدفوع قومياً حيال اللاجئين، نجم عنه تضخم في الخطاب المعادي للسوريين خلال الحملات التي جرت في شهر أيار/مايو للانتخابات الرئاسية والبرلمانية. فأردوغان وخصمه الرئيسي، كمال كيلجدار أوغلو، تحدثا عن إعادة اللاجئين إلى سورية في حملاتهما الانتخابية ومضت أحزاب المعارضة التركية إلى حد الوعد بتطبيع العلاقات مع الأسد من أجل تسهيل عودة اللاجئين وتقليص الانخراط العسكري التركي في سورية. جزئياً من أجل إفراغ تلك الحجج من محتواها، بدأ أردوغان نفسه بإطلاق مبادرات علنية نحو دمشق في منتصف عام 2022، وشارك في سلسلة من النقاشات التي استضافتها روسيا، وحضرتها لاحقاً إيران. دقَّت محاولته المتصوَّرة لإصلاح العلاقات مع النظام السوري ناقوس الخطر وسط السوريين سواء في تركيا أو في شمال سورية، الذين شعروا بالخوف من أن يقعوا ضحية لصفقة بين أنقرة ودمشق.

يبدو أن إعادة انتخاب أردوغان قد ألغت مؤقتاً حاجته للمضي قدماً بمحادثاته الجوهرية مع دمشق. إلّا أن الانتخابات البلدية في عام 2024، التي يُتصوَّر أنها تحمل رهانات كبرى بالنسبة للرئيس ولخصومه، ستبقي سياسته حيال سورية تحت الأضواء على مدى الأشهر القادمة. إذ يبقي الوضع الراهن بعض الأسئلة الرئيسية بشأن انخراط تركيا في سورية دون رد، بما في ذلك مستقبل المتمردين الذين تدعمهم والمناطق التي تسيطر عليها. لقد ردع انتشار القوات التركية في شمال غرب سورية شن المزيد من هجمات النظام وبالتالي عزز – في الوقت الراهن على الأقل – استقلال هذه المناطق بحكم الأمر الواقع عن دمشق. باتت أنقرة مقتنعة الآن، وهي محقة، بأن إنهاء دورها الرادع وتمكين قوات النظام من العودة من المرجح أن يدفعا عدداً أكبر من اللاجئين إلى التوجه إلى تركيا، الأمر الذي ستترتب عليه تداعيات سياسية محلية هائلة. إن استمرار السيطرة على هذه المناطق إلى ما لا نهاية مكلف سياسياً ومالياً، لكن يمكن القول إنه أقل كلفة من البديل من وجهة نظر الحكومة التركية.

” قتال تركيا ضد قوات سورية الديمقراطية اقتصر أيضاً على إجراءات مؤقتة. “

كما أن قتال تركيا ضد قوات سورية الديمقراطية اقتصر أيضاً على إجراءات مؤقتة. فقد قتلت الضربات بالطائرات المسيَّرة في شمال شرق سورية عدداً من كوادر قوات سورية الديمقراطية، يرتبط كثيرون منهم بعلاقات مع حزب العمال الكردستاني، الذي تلاحقه أنقرة منذ سنوات. إلّا أن أياً من عملياتها العسكرية لم تُضعف قبضة التنظيم على المنطقة أو تقلص وصولها إلى الموارد الإستراتيجية، والنفط أكثرها أهمية. نجم عن الضربات، أحياناً، وقوع ضحايا بين المدنيين، الأمر الذي يُحدث رد فعل دولي. علاوة على ذلك، فإن بعض الصواريخ سقطت وبشكل مثير للرعب بالقرب من القوات الأميركية في سورية والعراق، الأمر الذي فاقم توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن. إن عملية برية تركية محتملة هدد أردوغان بشكل متكرر بشنها، من المرجح ألّا تحقق أكثر من دفع مقاتلي قوات سورية الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني بضعة كيلومترات أخرى بعيداً عن الحدود.

لقد تواصلت أنقرة بشكل متكرر مع دمشق، وتحدثت بهدوء مع المسؤولين الأمنيين في النظام جزئياً لاختبار وسائل معالجة ما ترى فيه أنقرة هواجسها الأمنية الرئيسية. ويقول المسؤولون الأتراك والسوريون إن المحادثات ركزت على وسائل منع تمدد قوات سورية الديمقراطية في شمال شرق سورية، وهي مسألة يمكن الافتراض أن بوسع الطرفين العثور على أرضية مشتركة حيالها. ثم، في منتصف عام 2022، بدأت القيادة التركية بإرسال إشارات علنية على أنها مستعدة للتصالح مع نظام الأسد، جزئياً لأسباب انتخابية، لكن أيضاً استجابة لطلبات من روسيا، وإيران والعراق. وأخيراً اجتمع كبار دبلوماسي البلدين في موسكو في مطلع أيار/مايو التالي، إضافة إلى نظرائهما الروس والإيرانيين، لكنهم أخفقوا في الاتفاق على خطوات ملموسة للتقدم إلى الأمام.

لكن حتى مع استمرارها في المشاركة في هذه الاجتماعات، فإن أنقرة أشارت إلى أنها تبقى متشككة من أن دمشق ستكون مستعدة – أو قادرة – على معالجة هواجسها الرئيسية. فهي ما تزال غير مقتنعة، على سبيل المثال، بأن النظام يستطيع استعادة المناطق في الشمال الواقعة حالياً تحت الحماية التركية دون التسبب بهروب ملايين السوريين عبر الحدود، ناهيك عن العودة الآمنة للاجئين الموجودين أصلاً في تركيا. مسؤول تركي رفيع أخبر مجموعة الأزمات في كانون الثاني/يناير أنه: “كل كيلو متر تستعيده دمشق يرسل آلاف اللاجئين باتجاهنا“. كما أن أنقرة متشككة أيضاً في أن دمشق قادرة على منع هجمات حزب العمال الكردستاني من شمال شرق سورية إذا سحبت تركيا قواتها ووضعت حداً لضرباتها الجوية. تشك القيادة التركية بقدرة دمشق على تأسيس أكثر من مظهر شكلي لوجود الدولة في الشمال الشرقي، الأمر الذي سيترك قوات سورية الديمقراطية في موقع السيطرة لمختلف الأهداف والغايات. ومن ثم فإن عودتها يمكن أن تعزز شرعية قوات سورية الديمقراطية بدلاً من كبح جماح التنظيم. ولهذا السبب، فإن أنقرة ترفض رفضاً قطعياً مناقشة الشرط المسبق الذي تضعه دمشق لتطبيع العلاقات – وهو انسحاب جميع القوات التركية من الأراضي السورية.

” بالنسبة للسوريين الذين كانت تنتابهم مخاوف بشأن تبعات فوز المعارضة، فإن فوز [أردوغان] سيكون مصدر ارتياح. “

باختصار، فإن إعادة انتخاب أردوغان من المرجح أن تعني أنه لن يتغير الكثير في السياسة التركية حيال سورية. بالنسبة للسوريين الذين كانت تنتابهم مخاوف بشأن تبعات فوز المعارضة، فإن فوزه سيكون مصدر ارتياح. من جهة أخرى، فإن أولئك الذين يدعمون النظام أو قوات سورية الديمقراطية ليس لديهم كثير من مبررات الاحتفال. إذ ستبقى أولويات أنقرة في سورية، وهي معالجة التهديد الذي تتصوره من قوات سورية الديمقراطية ومنع هجوم للنظام في إدلب، الذي سيدفع المزيد من المهجرين نحو تركيا، هي نفسها. علاوة على ذلك، يبدو من غير المرجح أن أردوغان، حتى بعد إعادة انتخابه، سيضع رؤية بعيدة المدى للسياسة التركية حيال سورية، بالنظر إلى انعدام اليقين بشأن ما ستبدو عليه نهاية اللعبة في سورية ولأن تركيا، مهما بلغ نفوذها، ليست اللاعب الوحيد أو حتى الأكثر أهمية في تحديد ذلك. ومن ثم، فإن اللاجئين والمهجرين السوريين سيظلون، بشكل ما في وضع معلَّق.

رغم أن أنقرة لن تُظهر ربما ميلاً كبيراً إلى تغيير سياستها، فإنه سيكون من المهم اختبار ما إذا كانت تستطيع تحقيق بعض أهدافها، ولا سيما فيما يتعلق بقوات سورية الديمقراطية، من خلال الوسائل الدبلوماسية في سورية. كما تظهر التجربة الأميركية على مدى عقدين من “الحرب على الإرهاب“، فإن الوسائل العسكرية وحدها نادراً ما تحل المشاكل السياسية. ولذلك، لا تستطيع تركيا أن تأمل بحل مشكلتها في شمال شرق سورية بتوسيع المناطق التي تسيطر عليها دون رؤية بعيدة المدى وقابلة للتصديق بالنسبة لهذه المناطق. في الوقت الراهن، ستستفيد من وضع شروط للحد من التوترات، ولا سيما إذا اتخذت قوات سورية الديمقراطية أيضاً خطوات لخفض التصعيد، على سبيل المثال بتقليص وجود حزب العمال الكردستاني في شمال شرق سورية أو بوقف هجماتها على المناطق التي تسيطر عليها تركيا في الشمال السوري. جدير بالذكر أن أردوغان ورئيس مخابراته حقان فيدان، وزير الخارجية في الحكومة الجديدة، هما اللذان جلسا أولاً مع حزب العمال الكردستاني في أواخر عام 2012 للتفاوض على طريقة سلمية لإنهاء الصراع. الآن، وبعد أن أصبحت حملة إعادة انتخابه وراءه وتراجع حزب العمال الكردستاني عسكرياً، فإن الرئيس التركي قد ينظر إلى اللحظة الراهنة على أنها مواتية لتحقيق شكل من أشكال التهدئة مع قوات سورية الديمقراطية.

لا بد من الانتظار لرؤية ما سيفعله أردوغان، لكن في جميع الأحوال، فإن الخيار الذي تتخذه أنقرة سيساعد في تحديد مسار الصراع السوري، وكذلك مصير ملايين السوريين الذين يعيشون في تركيا وفي الأجزاء من سورية التي يحميها الجنود الأتراك إلى هذه الدرجة أو تلك.

مجموعة الأزمات الدولية

————————–

==================

تحديث 30 تموز 2023

————————–

التوجهات التركية الجديدة واحتمالاتها سورياً/ عبد الباسط سيدا

لم تأتِ موافقة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) من الفراغ؛ وإنما كانت حصيلة سلسلة طويلة من الاجتماعات والاتصالات والتوافقات الشفوية والمكتوبة، سواء بين كل من تركيا والسويد وفنلندا والحلف؛ أو بين كل من تركيا والولايات المتحدة، أو بين الأخيرة والسويد. أما بالنسبة إلى التوافقات التركية السويدية الأحدث فقد تمثّلت في الوثيقة التي وقع عليها كل من الرئيس التركي ورئيس وزراء السويد، أولف كريسترسون، في اجتماعهما في فيلنيوس عشية قمّة “الناتو” (12/11-7 – 2023)؛ وهو الاجتماع الذي كان بإدارة الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ. ومن بين ما جاء في النقاط الست التي شكّلت قَوام الوثيقة المعنية: الإشادة بما أقدمت عليه السويد في مجال تعديل قوانين وسنّها لتعزيز مناهضة الإرهاب، وذكر حزب العمال الكردستاني بالاسم، إلى جانب رفع الحظر المفروض على تصدير الأسلحة السويدية إلى تركيا. هذا إلى جانب الارتقاء بالتعاون الأمني إلى المستوى الوزاري، من أجل وضع حد لنشاط المنظمات الإرهابية، والتزام السويد بعدم تقديم الدعم إلى كل من حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدة حماية الشعب، وتأكيد استمرارية هذا التعاون، حتى بعد انضمام السويد إلى “الناتو”.

كما نص الاتفاق المعني على زيادة حجم التجارة والاستثمارات بين البلدين؛ والحصول على وعد خاص من السويد بدعم التوجّهات التركية في تعاملها مع الاتحاد الأوروبي، سواء من جهة تحسين شروط اتفاقية الاتحاد الجمركي، أو السعي إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مستقبلاً. وفضلاً عن ذلك، تسهيل موضوع إعطاء التأشيرات إلى المواطنين الأتراك الراغبين في السفر إلى دول الاتحاد الأوروبي. وعلى الأرجح ستكون هناك وثيقة توافقات أخرى بين كل من تركيا والولايات المتحدة الأميركية، تتضمّن صفقة طائرات ف 16 التي تنوي تركيا شراءها من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قطع الغيار. وربما هناك توافقات بخصوص التعامل المستقبلي مع منطقة شرق الفرات، وتحجيم تأثير حزب العمال الكردستاني على الأوضاع هناك، بناء على تصنيف الجانبين التركي والأميركي الحزب المذكور ضمن خانة الإرهاب.

والجدير بالذكر هنا أن هذا التوجّه التركي الجديد نسبياً الذي عبّر عنه الرئيس التركي قبيل قمة “الناتو” وفي أثنائها، لم يكن مفاجئاً بالنسبة للمتابع لواقع المتغيرات الإقليمية والدولية، والمطّلع على ماهية تطوّر الأوضاع ضمن الداخل التركي نفسه، فتركيا تعاني اليوم من صعوبات اقتصادية كبرى نتيجة جملة عوامل، في مقدمتها الفتور بينها وبين الدول الغربية، الأمر الذي قلّص حجم التبادل التجاري والاستثمارات بين الطرفين؛ وهو ما أدّى، من ناحيته، إلى جانب عوامل أخرى تتصل بالسياسة الاقتصادية التي كانت معتمدة قبل انتخابات مايو/ أيار الماضي، إلى ارتفاع نسبة التضخّم بوتائر سريعة، وانهيار قيمة الليرة التركية مقابل العملات الدولية الرئيسية، خصوصاً مقابل الدولار واليورو. وروسيا، بإمكاناتها الضعيفة اقتصادياً، لم ولن تتمكن من أن تقدّم الخيار البديل لتركيا.

من جهة ثانية، يظلّ التوجّه نحو الغرب خياراً رئيساً في عقيدة الجيش التركي، وحتى بالنسبة إلى النخب المجتمعية التركية المختلفة، الاقتصادية أو الفكرية. فالجمهورية التركية ما زالت متمسكة بنهج مؤسسها؛ وما زالت الانتخابات التركية تجري وفق قواعد النظام العلماني الذي وضع أسسه مصطفى كمال، وهو النظام الذي يتعهّد الجيش إلى جانب الدولة العميقة بالمحافظة عليه؛ وهذا ما يستنتج من حرص الرئيس التركي بغض النظر عن طبيعة انتمائه الحزبي، في المناسبات المختلفة، سيما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، على زيارة ضريح مؤسّس الدولة التركية المعاصرة، لتأكيد الالتزام بالقواعد التي بنيت عليها الجمهورية التركية بعد الإعلان عن إنهاء الخلافة الإسلامية عام 1924.

ورغم أن بوتين كان يراهن كثيراً على موقف تركيا بقيادة أردوغان، ويبدي، في المناسبات المختلفة، إعجابه بشجاعته في اتخاذ القرارات، كما كان يمدح براغماتيته؛ إلا أنه على الأكثر لم يكن يتوقع أن يأتي الانعطاف التركي أخيرا بهذا الشكل وبهذه السرعة. ولكن يبدو أن تركيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة قد أدركا أن المصالح التي تجمع بينهما، خصوصا على صعيد العوامل الاقتصادية والجيوسياسية، أكبر بكثير من تلك المواقف السياسية العابرة، أو التي كانت بمثابة ردود أفعال محكومة، في معظم الأحوال، بعوامل وحسابات داخلية، سيما في مرحلة الانتخابات، ورغبة كل طرف في تعبئة الناس، واستقطابهم.

من جهة أخرى، كانت تركيا، وما زالت، تدرك أن بوتين القوي، الذي لا يخفي حنينه إلى ماضي بلاده الإمبراطوري، سيكون خطراً جدّياً عليها في حال انتصاره في أوكرانيا من جهة الشمال، في حين أن قواته وقواعده موجودة أصلاً من جهة الجنوب في سورية وفي مناطق متاخمة لحدودها الجنوبية. وفي الوقت ذاته، سيسعى بوتين، وخليفته على الأكثر، من أجل منافسة تركيا في دول آسيا الوسطى. أما في حالة خسارته (بوتين) في حربه على أوكرانيا، فهذا فحواه أن أوراق أردوغان مع الغرب ستفقد الكثير من قوتها وتأثيرها، ما سيلزمه بالتنازلات، ويبعده عن دائرة القدرة على فرض الشروط، أو على الأقل المطالبة بالحدّ الأدنى الممكن من المزايا التي تمكّنه من تمرير (وتسويغ) توافقاته الهشّة مع الغرب في الداخل التركي. والسؤال الذي يفرض ذاته في هذا السياق، بعد التوافق التركي السويدي المشار إليه، وهو التوافق الذي يأتي ضمن توافق أشمل مع الأميركان يتعلق بانعكاسات هذا الاتفاق على الواقع السوري الراهن والمستقبلي، فتركيا التي تسيطر على مناطق مهمة في الشمال الغربي من سورية، وتتطلع نحو إعادة ترتيب الأمر في منطقة شرق الفرات، عبر تحجيم، إن لم يكن إلغاء نفوذ حزب العمال الكردستاني على الأوضاع هناك، وإعطاء مزيد من الدور للقوى السياسية والمجتمعية الأخرى لتحقيق التوازن وفق حساباتها، لن تكون تركيا نفسها التي كانت قبل توافقها مع الغرب، ومع الأميركان تحديداً. ولن يكون دورها الجديد استمراراً لدورها ضمن مسار أستانة الذي استخدمه الروس لتجاوز إعلان جنيف (2012)، وتمكين سلطة بشار الأسد من السيطرة على مناطق كثيرة تحت شعارات مختلفة. كما أن الالتزام السويدي الصريح بعدم تقديم الدعم لكل من حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدة حماية الشعب لا يمكن أن يكون بعيداً عن علم الأميركان، بل هو على الأرجح بموافقتهم.

هل سنشهد في المرحلة المقبلة توجهاً أميركياً جاداً بخصوص الضغط على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وحزب الاتحاد الديمقراطي، ليتحوّلا إلى قوة سورية تعتبر نفسها بالفعل، لا بالشعارات، جزءاً من المعارضة السورية المناهضة لسلطة آل الأسد، وجزءاً من الحل الشامل للموضوع السوري مستقبلاً على قاعدة وحدة الشعب والبلد، وبعيداً عن المشاريع العابرة للحدود بشعاراتها المختلفة من مذهبية وقومية وغيرها. وعلى أساس حدوث عملية انتقال سياسي جدّية تأخذ بعين الاعتبار تضحيات السوريين وتطلعاتهم، والجرائم التي ارتكبتها سلطة بشّار الأسد ضد السوريين عبر القتل، والتدمير، والتهجير، والتغييب؟

وهل ستكون تركيا مستعدّة في مرحلة ما بعد الانتخابات للعودة إلى العملية السياسية التي كانت وأخفقت، وذلك للوصول إلى حل عادل واقعي مقبول للموضوع الكردي في تركيا من مختلف الأطراف على أسس وحدة الشعب والبلد؟ وهذا الأمر، في حال تحقّقه، سيكون لصالح تركيا أولاً، ولصالح شعوب المنطقة ودولها، لأنه يحقّق الاستقرار لتركيا والمنطقة، ويُخرج الورقة الكردية في تركيا من أيادي الروس والإيرانيين وسلطة آل الأسد. وستكون هذه الخطوة مفصليةً على صعيد تعزيز الحريات الديمقراطية وحرية التعبير، خصوصا بالنسبة إلى الصحافيين والمفكّرين وسائر العاملين في الحقل الثقافي، وسيقطع ذلك كله الطريق على الأصوات الأوروبية المتشدّدة، العنصرية، المعترضة على التقارب الأوروبي مع تركيا، وعلى موضوع الموافقة على انضمام تركيا مستقبلاً إلى الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل، معاملة تركيا معاملة الشريك المتميز المفضل.

أما سورياً، فإن خطوة فك الارتباط بين “قسد” والاتحاد الديمقراطي من جهة، و”العمال الكردستاني” من الجهة المقابلة، سيجعل ورقة الشمال السوري بغربه وشرقه ورقة قوية في المفاوضات المستقبلية بخصوص الملف السوري. كما ستكون هذه الورقة مؤثّرة في الموضوع العراقي ايضاً. إذ لم يعد سرّاً أن إيران تحاول المستحيل عبر المرتبطين معها من أجل قمع تطلعات العراقيين، كل العراقيين، والشيعة العراقيين في مقدمتهم. ولعل من نافل القول الإشارة هنا إلى أن هذه الخطوات ستكون أقوى وأكثر تأثيراً في ظل حضور عربي قوي فاعل في الملفّين العراقي والسوري، حضور يمتلك كل المشروعية، والكثير الكثير من الركائز القوية المؤثرة في الداخل السوري وكذلك العراقي، شرط توفّر الرغبة والإرادة والاستراتيجية.

وأخيراً، وليس آخراً، يُشار هنا إلى أن موافقات السلطات السويدية المستمرّة الخاصة على إحراق نسخ من المصحف الشريف تحت شعار “حرية التعبير”، ستكون بمثابة عراقيل ثابتة على طريق انضمام السويد إلى “الناتو”. كما أن الحملات العنصرية التي يتعرّض لها اللاجئون السوريون في تركيا، إلى جانب أساليب العنف التي تمارسها الأجهزة المكلفة بترحيلهم، ستلقي بظلالها القاتمة على مستقبل العلاقات الإيجابية التي ينبغي أن تكون بين الشعبين الجارين اللذين تربطهما حقائق التاريخ والجغرافيا والتداخل السكاني والمصالح المشتركة.

العربي الجديد

———————————-

لماذا تراجع زخم التطبيع بين تركيا والنظام السوري؟/ فراس فحام

في 19 تموز/ يوليو 2023 أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن اشتراط بشار الأسد انسحاب القوات التركية من سوريا مقابل التطبيع “غير مقبول”، لتأتي بعدها تصريحات مدير الاتصالات في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون وتؤكد استنكار أنقرة لمطلب سحب قواتها من سوريا، إذ اعتبر ألطون هذه المطالبة بأنها “لا معنى لها”.

التصريح التي أعطى المؤشر الأهم على تراجع زخم التطبيع بين أنقرة ودمشق، هو الذي صدر في 29 أيار/ مايو الماضي عن إبراهيم كالين المستشار السابق للرئيس أردوغان، بعد يوم واحد فقط من حسم الأخير للانتخابات الرئاسية لصالحه، حيث نفى كالين فيها وجود أي خطة لعقد لقاء قريب بين الرئيس التركي وبشار الأسد.

من جهة أخرى، توقفت اللقاءات الأمنية والمفاوضات بين الوفود التقنية المكلفة بتحديد خارطة طريق من أجل تطبيع العلاقات، حيث يعود تاريخ انعقاد آخر لقاء بين اللجان التقنية إلى شهر حزيران/ يونيو الماضي على هامش الجولة 20 من مسار أستانا، والذي انتهى دون تحقيق أي اختراق يُذكر.

لقد لعب تمسك النظام السوري ومن خلفه إيران بمطلب انسحاب القوات التركية من سوريا دوراً مهماً في تراجع حماس أنقرة لتطبيع العلاقات، لكن ما سبق ليس السبب الوحيد في تراجع زخم المسار، بل ثمة عوامل أخرى ساهمت في جموده.

بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تركيا، حدثت هزات كبيرة في أوساط المعارضة التركية وخاصة أكبر أحزاب المعارضة المتمثل بحزب الشعب الجمهوري، حيث يعيش الأخير منذ شهرين على صدى الخلافات بين رئيسه كمال كليتشدار أوغلو ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، إذ يسعى الأخير للضغط من أجل استبدال كليتشدار أوغلو برئيس آخر للحزب، وهو يعتبر التغيير ضرورياً لاستعادة التوازن أمام الحزب الحاكم، لذا فإن حزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان يشعران بارتياح كبير لأن الخلافات داخل أكبر أحزاب المعارضة تصاعدت قبيل الانتخابات البلدية، وبالتالي تراجع تركيزه في السياسة الخارجية لصالح الانشغال بالشأن الداخلي، وهو حالياً ليس بوارد الضغط على حزب العدالة والتنمية فيما يخص السياسة الخارجية التي ينتهجها، على عكس مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة التي ركزت فيها المعارضة وخاصة حزب الشعب الجمهوري بشكل كبير على انتقاد الرئيس وسياساته  الخارجية ومنها استمرار قطيعته مع النظام السوري وعدم التفاوض معه من أجل إعادة اللاجئين.

أيضاً، بادرت الحكومة التركية مؤخراً لإطلاق حملة ضد الهجرة غير الشرعية، تهدف بالدرجة الأولى إلى تخفيف وجود المهاجرين غير المسجلين في عموم البلاد وخاصة إسطنبول، ويبدو أن أحد أهداف الحملة هو قطع الطريق على أي محاولة من طرف المعارضة لاستثمار ملف اللاجئين مجدداً، وبالتالي لم يعد هناك حاجة ملحة لإحراز تقدم بالمباحثات مع النظام السوري من أجل توظيف الأمر داخلياً، وإظهار جدية في العمل على حل ملف اللاجئين عبر الاتصال مع النظام.

على الصعيد الخارجي، دخلت تركيا منذ أسابيع في مباحثات مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، مضامينها مرتبطة بموافقة أنقرة على توسيع حلف شمال الأطلسي، لكن هذه الموافقة تقترن بالكثير من المطالب التي تريدها تركيا أبرزها موافقة الولايات المتحدة الأميركية على بيع طائرات متطورة إلى تركيا، بالإضافة إلى رفع بعض الدول الغربية الحظر على بيع الأسلحة إلى تركيا، وإزالة العقوبات المفروضة على الصناعات الدفاعية التركية، ونجاح هذه المباحثات يستلزم عدم توتير الأجواء باتخاذ تركيا خطوات تبعدها عن موقف واشنطن والدول الأوروبية من النظام السوري المدعوم من روسيا.

أخيراً، لا تبدو العلاقات بين روسيا وتركيا في أفضل أحوالها، حيث لعبت روسيا في السابق دوراً محورياً في إقناع أنقرة بتطوير علاقاتها مع النظام السوري.

فتور العلاقات بين أنقرة وموسكو يظهر جلياً في التقارير والتحليلات التي تنشرها الصحافة الروسية بشكل مستمر، بالإضافة إلى تصريحات سياسيين روس تتحدث عن “طعنات في الظهر تلقتها روسيا من تركيا”، ومرد هذا كله إلى سلسلة من المواقف التي اتخذتها أنقرة، منها الموافقة على إحالة طلب السويد بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي للبرلمان التركي للتصويت عليه، بالإضافة إلى تجديد مباحثاتها مع واشنطن من أجل صفقات السلاح، ومحاولة التفاوض معها على آليات حل مرضية للجانب التركي بخصوص شمال شرق سوريا. كما من المهم الإشارة إلى تبدل موازين القوى وتنامي حاجة روسيا لتركيا في ظل العقوبات المفروضة على روسيا من جراء غزوها لأوكرانيا، وهذا يعني أن موسكو ليست في موقف يتيح لها ممارسة الضغوط لإنجاز عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق.

ما سبق ذكره لا يعني إغلاق الباب بشكل كامل أمام تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري، ولكن إحراز تقدم في الملف مرتبط بالاعتبارات السياسية الداخلية والخارجية، والتي طرأ عليها متغيرات واضحة خلال الأشهر الماضية.

تلفزيون سوريا

————————

اللاجئون السوريون … الحلقة الأضعف/ حسام كنفاني

تحوّل اللاجئون السوريون، وتحديداً في دول الجوار السوري التي لجأوا إليها هرباً من بطش النظام، إلى ورقة سياسية داخلية وخارجية تلعب بها الأنظمة في محاولةٍ لابتزاز الدول الغربية أو لتهدئة غضب الداخل من الأزمات الاقتصادية التي تمرّ بها هذه الدول.

المثال الأبرز حالياً على اللعب بهذه الورقة تركيا، التي تشن حملة تضييق غير مسبوقة على اللاجئين السوريين تحديداً، والذين بات معظمهم مهدّداً بالترحيل إلى الداخل السوري، رغم تحذيرات منظمّات حقوقية كثيرة بأن هذه العودة “غير آمنة”. ولا تحتاج الأجهزة الأمنية التركية إلى ذرائع كثيرة للقيام بعمليات الترحيل هذه، فمهما كانت الأوراق التي يمتلكها اللاجئ السوري، سواء بطاقة حماية مؤقتة أو إقامة سياحية أو إقامة عمل، لن تغلبَ الأجهزة في اختلاق أي سبب للترحيل.

الأكثر استفزازاً في الممارسات التركية الحالية تسريب الفيديوهات من مراكز الترحيل، حيث يُعامل السوريون الموقوفون هناك بقسوة، ويتم في بعض الأحيان الاعتداء عليهم. ويبدو أن هناك قصداً من هذه التسريبات موجّهاً إلى الداخل التركي وإلى السوريين الباقين في البلاد، فالرسالة إلى الداخل تفيد بأن النظام ورئيسه ينفّذان وعودهما الانتخابية التي أطلقاها قبل الانتخابات الرئاسية، وهي إعادة مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، بغضّ النظر عن المصير الذي يمكن أن ينتظرهم، وبصرف النظر عن قدرة المناطق المرحّلين إليها على استيعابهم. والرسالة إلى السوريين الباقين هي خلق حالة من عدم الأمان، وهو فعلاً ما يحصل، وجعلهم يحاولون الفرار من البلاد إلى وجهاتٍ أوروبيةٍ قبل أن تطاولهم حملات اعتقال الأمن في تركيا، وترحيلهم إلى الداخل السوري عبر معبر باب الهوى، حيث يجبرون على توقيع وثائق “العودة الطوعية”، ما يمنعهم كلياً من العودة مجدّداً إلى تركيا.

ورقة اللاجئين تلعب اليوم في تركيا تمهيداً للانتخابات المحلية المقرّرة العام المقبل. اللعب لا يأتي فقط من النظام، رغم أنه هو فعلياً من يقوم بعمليات الترحيل، بل من المعارضة أيضاً بدرجة أقلّ، فالسلطات المحلية في بعض المدن والبلدات التي تسيطر عليها المعارضة عمدت أيضاً إلى التضييق على اللاجئين السوريين، وإن لم تصل إلى الطرد أو الترحيل، فأزالت بعض المدن كل الكلمات العربية المكتوبة على لافتات المحلات التي يمتلكها سوريون، أيضاً في إطار التحضير للانتخابات المحلية، وإرضاء للحملات الشعبية العنصرية التي تطاول اللاجئين، والتي ازدادت كثيراً في الآونة الأخيرة.

وهذه ليست المرّة الأولى التي يتم فيها استغلال اللاجئين السوريين في السياسة الداخلية التركية، فسبق أن جرى استخدامهم كورقة ضغط على أوروبا في ملفّات التفاوض العالقة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي. وفتح النظام حينها، قبل نحو أربع سنوات، الحدود مع اليونان، حيث تدفق آلاف اللاجئين السوريين والعرب والأفارقة في محاولة للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، غير أن محاولتهم فشلت بسبب القمع الذي مارسته قوات الأمن اليونانية، وبقوا فترة طويلة عالقين في المنطقة العازلة الفاصلة بين البلدين، إذ منعهم الأمن التركي من العودة إلى تركيا.

ليست تركيا فريدة في استغلال ورقة اللاجئين، إلا أنها صاحبة التأثير الأكبر بفعل احتضانها، وفق الأرقام الرسمية، أكثر من ثلاثة ملايين سوري. وهذا الرقم بالمناسبة لا يمكن الركون إليه، خصوصاً أن السلطات هناك لا تشطب أعداد المهاجرين إلى أوروبا ولا حالات الوفاة التي تحصل بين اللاجئين السوريين في تركيا، وتشير التقديرات إلى أن الرقم أقلّ من ذلك بكثير. إلا أنه مهما كان هذا الرقم، لا يمكن تحويل اللاجئ السوري أينما حلّ وجعله كالحلقة الأضعف في السياسات المحلية والخارجية، في تركيا وغيرها، واستخدامه كبيدق، وتجاهل حقوقه الإنسانية، والمفترض أنها محميةٌ بمواثيق أممية وقعت عليها غالبية الدول.

العربي الجديد

——————————–

اللاجئ.. أينما كان/ سمير صالحة

الجميع يعرف بالتحولات السياسية في مواقف تركيا وطريقة تعاملها مع ملف الأزمة السورية. والكل يتابع عن قرب رزم القرارات والتدابير السياسية والإدارية المتخذة في موضوع اللجوء وإعادة تنظيمه لأكثر من سبب.

التصعيد الأخير الذي ظهر إلى العلن في ملف اللجوء وتحديدا حيال اللاجىء السوري حمل معه الكثير من الدروس والعبر بينها:

الموضوعية والمصداقية والشفافية ضرورة لا يمكن التخلي عنها حتى في أصعب الظروف.

لا يمكن توجيه الاتهامات بما لا يليق ويتعارض مع ما قدمته وتقدمه تركيا في ملف اللجوء، وإنكار أنها كانت في طليعة الدول التي فتحت أبوابها وحضنها أمام مئات الآلاف من الوافدين السوريين الهاربين من بطش النظام في دمشق.

ولا يمكن تجاهل ما قيل حول وقوع أحداث فردية تم استخدام الشدة أو الخروج عن قواعد ومعايير القانون وشكل التعامل مع اللاجئ فيها، مهما كان حجم مخالفته في الإقامة والعمل والتجول.

وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة له قبل أيام نقطة على السطر وهو يتحدث عن ملف اللجوء وتفاعلاته في تركيا “فتح أبوابنا أمام المظلوم ورثناه عن أسلافنا ولن يتمكن أي فتّان ولا محرض ولا فاشي من تغيير هذا الموقف الوجداني”.

كلما اقترب موعد الانتخابات المحلية التركية المقررة بعد 8 أشهر، عاد موضوع اللجوء إلى قلب النقاشات في الداخل التركي. حزب العدالة والتنمية الذي فاز في الانتخابات البرلمانية والرئاسية يريد استرداد إسطنبول وأنقرة من المعارضة التي ستتوحد ضده من جديد. وهو لا يريد منحها مرة أخرى فرصة تحريك هذه الورقة ضده.

تردد القيادات التركية أن هدف التدابير والقرارات السياسية والإدارية الأخيرة في موضوع اللجوء والتشدد في وضع قانونية اللاجىء داخل المدن التركية خصوصا الكبرى منها، هو قطع الطريق على الدخول غير الشرعي إلى البلاد وإنهاء الوجود غير القانوني لآلاف الأشخاص فوق الأراضي التركية. لن يعترض اللاجىء أو الوافد النظامي الذي يحظى بالرعاية القانونية على ذلك. قطع الطريق على أخطاء أو تجاوزات تنظيمية تحصل في أثناء التطبيق بين الضرورات والأولويات أيضا.

حقائق أخرى لا بد من التوقف عندها بجدية وحزم:

يدفع اللاجىء أينما كان ثمن الأخطاء التي ارتكبت في إدارة شؤون بلاده ودفعته للمغادرة خارج رغبته وإرادته في معظم الأحيان.

ثم دفع مرارا ثمن الوقوع ضحية مواجهات المصالح والحسابات السياسية الضيقة.

ويتحمل اللاجىء أيضا في الكثير من الأحيان نتائج الأخطاء التي يرتكبها اللاجىء الآخر الذي غادر معه لنفس الأسباب لكنه يختلف عنه في التفكير والطموح وقبول الوضع الجديد.

قرر البقاء لاجئا حيث هو بانتظار أن يحسم البعض مشكلته ويساعده على حلها، فوجد أن المشكلة أصبحت تتعلق بتنظيم علاقته كضيف مع المضيف الذي أقلقته إطالة المدة. هناك من حالفه الحظ ونجح في الانتقال إلى المدن وأصبح تاجرا ورجل أعمال وصاحب مهنة، لكن هناك من بقي في المخيمات تحت رحمة القضاء والقدر وبانتظار من يحمل له فسحة الأمل.

ما لن يقبل به اللاجىء السوري أيضا هو أن لا تتعلم قياداته في الداخل والخارج الدرس وأن تنسى ما قدمته من وعود وتعهدات له، عند رفع شعار التغيير وأن مغادرته ثمينة لكن عودته لأراضيه ستكون أثمن.

فتحت قيادات حزب العدالة والتنمية في الحكم الحدود أمام مئات الآلاف من السوريين قبل سنوات، وتعهدت بتسهيل إقامتهم ومساعدتهم على العودة المشرفة. الحل الذي يقترحه البعض بعد عقد من الزمن هو التفاهم مع النظام في دمشق وإقناعه بدعم خطة المنطقة الآمنة وتسهيل عودة طوعية لجزء من الوافدين. أين أصبحت أسباب مغادرة اللاجىء ودوافعها إذا؟ ومن سيجيب عن تساؤل مصير الشعارات السياسية التي رفعها مئات الآلاف على طريق التغيير وتحمل اللاجىء عبئا كبيرا من أجلها؟

تركيا دولة قانون ولن تسمح بإهانة ضيوفها. المعارضة السياسية هي السبب. كلام جميل لكن ما يواكب التطبيق هو ما يقلق اللاجئ أيضا. هل سيضاعف حزب العدالة جهوده من أجل تسريع الحل السياسي في الملف السوري أم هو سيعطي الأولوية لإنجاز المساكن المؤقتة في شمال سوريا قبل موعد الانتخابات المحلية وتسهيل عودة الآلاف لإقناع ناخبيه أنه يتعامل بجدية وحزم مع ملف اللجوء؟ اللاجئ يريد أن يعرف أيضا وهو من حقه إذا ما كانت خطط التطبيع بين أنقرة والنظام ستعطيه ما يريد من ضمانات أم أنه سيبحث عن وسيلة وفرصة تحقق له الحلم في مكان آخر؟ وأن يسأله أحدهم عما إذا كان سيقبل أن يتحول إلى ضحية للقرارات والممارسات السياسية الخاطئة التي تعهدت بحل سريع للتغيير في سوريا وتأمين عودته، ثم أوصلت الأمور إلى هذه الدرجة من التوتر والتعقيد؟ ولماذا يقبل أن يعود “طوعيا” إلى بلاده التي غادرها دون أن يسأل، ويتجاهل حقه في السؤال عما إذا ما كان سيجبر على المغادرة من جديد لأنه يعود بلا ضمانات سياسية وأمنية واجتماعية؟

كان اللاجىء سعيدا ليلة إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة في تركيا، لذلك هو يريد أن يعرف

لماذا عاد موضوعه إلى الواجهة في نقاشات الداخل التركي بعد شهرين على فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، وهزيمة مشروع تحريك الملف إلى ورقة مقايضة ومساومة كان يعد لها البعض ويريدها في مواجهة الحزب الحاكم؟

يكرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن لا تحول في سياسة تركيا حيال الهاربين من قمع أنظمتهم لأسباب إنسانية وأخلاقية ودينية وأن المعارضة التركية تتحمل مسؤولية التلاعب بهذا الملف والمتاجرة به سياسيا وانتخابيا. أمام حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا 8 أشهر لتسجيل اختراق ما في الملف السوري بشقه السياسي. تعذر ذلك لا يمكن أن يتحمل مسؤوليته الوافد السوري. فوزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو هو الذي تعهد أمام الجميع “بأننا عندما نتحدث عن عودة كريمة للاجئين، علينا ضمان عودتهم بشكل آمن إلى بلادهم، وعلينا القيام بذلك بحكمة، وبما يتوافق مع مبادىء حقوق الإنسان، والقانون الدولي، والدستور التركي”. وهو الذي واصل حديثه بأن “نظام الأسد بما هو فيه اليوم لا يمكنه تقديم ضمان حماية السوريين العائدين وتأمين احتياجاتهم الأساسية”. ووزير الداخلية السابق سليمان صويلو هو الذي تحدث عن منع دخول 450 ألف سوري إلى تركيا في العام المنصرم وأن الرغبة في الانتقال إلى الجانب التركي ما زالت قائمة بالنسبة لعشرات الآلاف من السوريين الموجودين على مقربة من الشريط الحدودي. فمن الذي سيقنع اللاجىء السوري بفوائد وإيجابيات العودة الطوعية وسط كل هذا التردي الأمني والمعيشي والسياسي في الداخل السوري؟

—————————–

ترحيل للاجئين أم ترحيل للأزمات؟/ غسان ياسين

انتهت الانتخابات الكبرى في تركيا قبل شهرين ولم تنته معها موجة العنصرية ولا خطاب الكراهية ضد العرب والسوريين على وجه الخصوص، وما حدث في الأسابيع الأخيرة من ازدياد منسوب هذا الخطاب مع بدء عملية مكافحة الهجرة غير الشرعية في تركيا فجَّرَ معه كثيراً من الأسئلة، أسئلة يجب أن تُطرح بكل جرأة ومن دون مواربة ولا اختباء خلف شعارات لم تعد تجدي؛ لأن المشكلة وصلت إلى مراحل متقدمة وخطيرة نتيجة لخطاب كراهية متصاعد منذ سنوات تتبناه المعارضة ونتيجة لتقصير الحكومة في التعامل الحازم مع أصحاب ومروجي هذا الخطاب نتج عنها حالة استباحة مجتمعية غير مسبوقة للسوري في المجتمع التركي، ولم يعد يقتصر الأمر على تصريح هنا وهاشتاغ هناك، بل وصل الأمر إلى الشارع بعد أن هاجم شاب تركي مطعماً سورياً في حي شعبي داخل مدينة إسطنبول، وقام بتكسير المطعم وضرب أصحابه والعاملين فيه مع شتائم عنصرية وتهديد بالترحيل إلى سوريا، وتبيَّن لاحقاً أن الاعتداء لم يكن بسبب مشاجرة أو خلاف مع أصحاب المطعم، بل هو اعتداء على وجود مطعم يملكه ويديره أشخاص سوريون!

وفي حادثة أخرى قام شرطي بطلب رشوة من سوري ذهب لإتمام معاملة حكومية له ولعائلته في أحد المخافر، وخلال الحديث بينهما وللضغط على السوري قال الشرطي للسوري بكل وضوح: هل تعلم أنني أستطيع الآن ترحيلك إلى إدلب؟ ولأنه يحمل بطاقة حماية مؤقتة “كيملك” رضخ له ودفع الرشوة تفادياً لما هو أسوأ، تماماً كما فعل صاحب المطعم الذي اعتُدي عليه وعلى مطعمه حين رفض تقديم شكوى رسمية بحق المعتدي التركي، لأنه يخشى الترحيل، هاتان الحادثتان تعطياننا مؤشراً واضحاً على ما وصل إليه حال السوريين في تركيا بعد عقدٍ على وجودهم فيها. المعارِضةُ التركية والمعروفة بخطابها العنصري تجاه السوريين إلاي أكسوي اعترضت على قيام شاب سوري بإزالة اسم ضابط تركي كُتب على مدرسة في شمالي سوريا، ووصفت الشابَّ بالإرهابي، في وقت تشن فيه بعض البلديات حملة كبرى في عدة مدن تركية لإزالة الكلمات والحروف العربية من واجهات المتاجر التي يملكها عرب، أكسوي نفسها التي ذهبت إلى دمشق لتروّج لسوريا الأسد الآمنة، وهي نفسها التي أرادت قبل سنوات تحرير حيّ الفاتح من السوريين، بعد أن جالتْ في الحيّ واستنكرتْ وجودَ محالَّ للسوريين هناك، وهدّدت أرزاقهم ومحالَّهم. وهنا يحضر السؤال بقوة؛ من الذي أعطاها الحق بوصف مواطن سوري يعيش في شمالي سوريا بالإرهابي، في الوقت الذي تقوم فيه بالفعل ذاته داخل تركيا؟

أوميت أوزداغ هو الآخر لم يتوقف يوماً عن خطابه الذي يهدد الأمن المجتمعي والذي طال سوريين وأتراكاً، لكنه إلى اليوم يصول ويجول ويهدد الجميع على وسائل التواصل من دون أي رادع.

يُصرّ مسؤولون أتراك على أن الحملة لا تستهدف السوريين فحسب، بل المهاجرين غير الشرعيين، وهنا يحضر سؤال آخر: من هو اللاجئ-المهاجر غير الشرعي؟ هل السوري الذي لا يحمل بطاقة حماية مؤقتة ينطبق عليه توصيف المهاجر غير الشرعي مما يعني قانونية ترحيله إلى شمالي سوريا؟! بالتأكيد لا يمكن وصفُ أيّ سوري مقيم في تركيا أو أي دولة في العالم بالمهاجر غير الشرعي؛ لأنه باختصار مهجَّر قسرياً، ولا يمكن تغيير هذه الصفة قبل التخلص من مسببات تهجيره القسري، ويأتي في مقدمتها وجود نظام الأسد بعد كل جرائمه التي وُثّقت بشكل غير مسبوق والتي لم تتوقف حتى اليوم بطبيعة الحال، وهذا يعني عدم وجود بيئة آمنة لعودة طوعية كما نصّتْ عليها كل القرارات والمواثيق الدولية، فلا يمكن إجبار مواطن من درعا أو ريف دمشق على الذهاب إلى تل أبيض أو جرابلس مثلاً لأنه ببساطة يريد العودة إلى مدينته وبيته، وطالما أنَّ الظروف المناسبة لهذه العودة لم تتحقق لا يمكن إجباره على ترك تركيا أو لبنان أو الأردن.

حملةُ الترحيل هذه كشفت عن مدى التخبط في التعامل مع ملف السوريين في تركيا، تخبّطٌ سببُه الرئيسي عدم قوننة الوجود السوري وأيضاً الرضوخ لمزاج الناخب التركي بشكل أدى إلى استباحة السوريين بهذا الشكل، استباحة أدت إلى استنكار عربي وصل إلى حد إطلاق حملات تهدّد بمقاطعة البضائع التركية ومقاطعة السياحة في تركيا، وكما هو معروف يأتي السياح العرب في مقدمة السياح الأكثر إنفاقاً، وفي ظل هذا الجوّ المشحون يجب أن يعرف صناع القرار في تركيا أن علاقتهم مع الحكومات العربية شيء ومع الموطن العربي شيء آخر، فلا يمكن أن يشعر العربي بالسكينة في تركيا وهو يشاهد هذه الحملة على الحرف العربي وعلى  كل ما هو عربي، لدرجة أن أحد نواب المعارضة بالبرلمان خرج محذراً من السماح للعرب بالتملك في مدن البحر الأسود؛ لأنهم يخططون لإنشاء إسرائيل جديدة في تركيا! فالمواطن العربي وبغضّ النظر عن علاقة حكومته مع الحكومة التركية هو السائح وهو المستثمر وسببٌ رئيسي من أسباب إعجاب العرب بتركيا في آخر عشر سنوات هو التعامل الجيد والبيئة المرحّبة، إضافة إلى مقومات سياحية واستثمارية مُغرية، لكن في حال لم يتم ردع هؤلاء ستنزلق الأمور وتخرج عن السيطرة وسنشهد عزوفاً عربياً عن تركيا، وهذا ما لا يتمنّاه قسم كبير من الأتراك والسوريين بطبيعة الحال.

السؤال الأهمُّ اليوم الذي يجب طرحه في كلّ اللقاءات والنقاشات التي تجري بين السوريين والمسؤولين الأتراك، سواء في اللقاءات العلنية أو تلك التي تجري بعيداً عن الإعلام: لمصلحة مَنْ يتم خلقُ أعداء سوريين لتركيا سواء من هم في المنافي أو في شمالي سوريا؟ فالسوريون اليوم نتيجة لوجودهم الكثيف في كثير من دول العالم باتوا قوةً مجتمعية مسيّسة لا يستهان بها، ولهم حضور قوي في الإعلام العربي و الغربي أو في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أميركا هناك جالية سوريّة قوية باتت اليوم تشكّل “لوبي” فاعلاً ومؤثراً في السياسات الأميركية المتعلقة بسوريا والشرق الأوسط، وفي أوروبا بدأت تتشكل نواة لوبي / لوبيات على غرار اللوبي السوري في واشنطن.

 إن المجتمع السوري في المنافي المتعددة يشعر بمعظمه بالامتنان لتركيا على كلّ ما قامت به منذ بداية الثورة وحتى اليوم، وكان هو خيرَ سفير ومُروّج لكل ما قامت به تركيا تجاه السوريين، لكنْ ما يحدث مؤخراً قد يقلب المعادلة، وتصبح هذه الجاليات قوة ضغط على تركيا، لأن القيام بنشاطات إعلامية وحقوقية وتظاهرات في عموم أوروبا وأميركا أمرٌ سهل ومتاح، وقد تضطر هذه الجاليات للقيام بهذه الحملات لأجل تسليط الضوء على حملات الترحيل الحاصلة وعلى استباحة حقوق السوريين بشكل غير مسبوق في تركيا.

في شمالي سوريا أيضاً هناك استياء كبير مما يحصل للسوريين في تركيا، فلكل شخص مرحّل أو مهدد بالترحيل عائلةٌ وأصدقاء له في الشمال، وإن كانت حادثة الشاب الذي أزال العبارة التركية من على واجهة المدرسة في شمالي سوريا رداً على إزالة اللافتات العربية في تركيا حادثة فردية فما الذي يضمن ألا تتدحرج هذه الحادثة مثل كرة الثلج لتصبح حملة واسعة لإزالة اللافتات التركية من شمالي سوريا؟ ومن يضمن أن لا ترتفع المطالبات لتشمل جوانب أخرى من جوانب الوجود التركي في سوريا!

مشاهد الأسى والحسرة والغدر حاضرة في وجوه المرحَّلين وعيونهم، الشابُّ العشرينيُّ الذي عاش سنوات في تركيا تفوق ما عاشه في سوريا ماذا سيفعل في تل أبيض؟ وكيف سيجد عملاً هناك؟ ومن يضمن ألا يكون فريسة سهلة للمنظمات الإرهابية سواء داعش أو ميليشيات قسد وتوابعها لتجنده ويصبح تهديداً لتركيا وسوريا معاً؟ والرجل الذي رُحِّل وأبعد عن زوجته وأولاده رغم امتلاكه وثيقة حماية مؤقتة نظامية كيف ستكون حاله بعد أن وُضع في منطقة لا عملَ ولا أمانَ فيها وفوق هذا هي عُرضة للقصف؟ ومن يضمن أن لا تجبره الظروف على العمل في الممنوعات، أي أن يصبح مجرماً وخطر إجرامه سيعبر الحدود لاحقاً، المرحّل المقهور يشاهد وهو يدخل من معبر باب الهوى سورياً آخر مصاباً بالسرطان ينتظر السماح له بالدخول لتركيا لاستكمال علاجه، لأن الشمال يفتقر إلى مشفى تخصصي، ويفتقد معه كلَّ مقومات الحياة الآمنة والمستقرة.

الخطاب التطميني لم يعد كافياً لوقف هذا الجنون العنصري، وما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً رداً على حملة العنصرية ضد اللاجئين والعرب كان جيداً لكنه بحاجة إلى ترجمة عملية، ترجمة تأتي عبر سنّ قوانين جديدة تحمي اللاجئ من خطاب الكراهية ومن ممارساتٍ بحق حملة وثيقة الحماية المؤقتة بسبب وجود ثغرات واضحة في قانون الحماية المؤقتة. النائب في البرلمان التركي عن حزب العدالة في ولاية غازي عنتاب السيد علي شاهين قال في تغريدة له “إنَّ الحلَّ بإنشاء وزارة للهجرة على غرار الدول المتقدمة” قد يكون هذا الإجراء حلاً مناسباً بعيداً عن الحل الأمني المتّبع حالياً، فلا ينبغي النظر والتعامل مع السوريين من وجهة نظر أمنية فقط بعد أن صاروا جزءاً مهماً وفاعلاً في تركيا، ولديهم مصانع واستثمارات وحضور كبير في كل المجالات الاقتصادية والثقافية.

أسئلة كثيرة بحاجة إلى إجابات عملية تفادياً لِما هو أسوأ، وهو ما لا يتمناه أيُّ سوري، لأن السوريين معنيون بأمان تركيا واستقرارها، ولا يرضيهم أن تتصاعد حملة المقاطعة العربية، وفي الوقت ذاته هناك ضغط نفسي كبير يُمارَس بحق ملايين السوريين شمل حتى من يحملون الجنسية التركية، بسبب الشعور بالتهديد وعدم الاستقرار وبسبب الاستباحة التي جعلت شاباً تركياً يهجم على محلّ سوري بلا سبب، وجعلت شرطياً يطلب رشوة بكل برودة أعصاب مع تهديده للسوري بالترحيل. السوريون يرفضون خطابَ المعارضة التحريضي الذي أوصلَ الحال إلى ما هو عليه، لكن اليوم لم تعد مشكلتنا مع ما تقوله المعارضة بل مع ما تفعله الحكومة.

————————————

عن تركيا التي تغيرت/ غسان ياسين

في النظر إلى مسار علاقة تركيا مع المعارضة السورية منذ بداية الثورة وحتى اليوم نجد أن هناك منعطفات وتحولات جذرية حصلت في الموقف التركي من النظام والمعارضة معاً ولأن المجال لا يتسع لسرد كل هذه المتغيرات سأبدأ من حيث وصلنا.

يجب علينا اليوم أن ننزع عنا أوهام الماضي مهما في هذا الأمر من مرارة وشعور بالخذلان لأن هناك واقعاً جديداً اليوم علينا أن نتكيف معه فتركيا تخلت عن مطلب إسقاط الأسد بشكل واضح وعلني وهي تسعى اليوم للتطبيع مع النظام لأجل مصالحها الاقتصادية وأمنها، التطبيع متعثر ويمضي بخطىً متثاقلة لكنه سيحصل آجلاً أم عاجلاً وبغض عن النظر عن طبيعته ومآلاته لكن علينا أن ننسى كل ما فات وننظر إلى ما تحت أقدامنا جيداً.

المعارضة بمختلف مؤسساتها الرسمية والحزبية باتت اليوم ضعيفة وهشة  ومغيبة وكأنها غير مرئية نتيجة صيغة العلاقة بينها وبين الجانب التركي، فلا هي قادرة على أن تكون فاعلة في الشمال المحرر ولا لها أي تأثير يذكر على وضع السوريين في تركيا وما يحدث مؤخراً خير دليل على غياب-تغييب كل هذه الكيانات لدرجة أنها لم تصدر أي بيان يطالب الحكومة التركية بالقيام بدورها لأجل وقف هذا التحريض المجتمعي على السوريين ولوقف عمليات الاحتجاز التي تحصل في إسطنبول.

شاهدنا سابقاً كيف كان الائتلاف والمجلس الإسلامي وجماعة الإخوان يصدرون البيان تلو البيان في مواقف كثيرة منها ما هو داعم للموقف التركي ومنها ما يعارض قرارات وتوجهات الحكومة التركية بما يتعلق بالملف السوري لكن الجميع صامت اليوم وكأن على رؤوسهم الطير.

ولقراءة أفضل لمجمل الموقف التركي من المعارضة والنظام معاً يجب أن لا نغفل ما يحدث في المنطقة منذ بداية هذا العام وحتى الآن، هناك ميل أكثر للتقارب بين كل القوى الإقليمية والدول الفاعلة في المنطقة وشاهدنا كيف كانت أول جولة خارجية للرئيس التركي باتجاه السعودية والإمارات وقطر ولا يجب هنا إغفال أن السعودية تولت مهمة عودة النظام للجامعة والإمارات التي أغدقت العقود والاستثمارات على الرئيس التركي هي من أوائل من طبع مع النظام وأعاد العلاقات معه، يعني أن السعودية والإمارات ستمارسان دورا ما في تقريب وجهات النظر بين تركيا ونظام الأسد وربما نشهد لاحقا لقاء بين الرئيس التركي ورأس النظام في السعودية، لأن السعودية بعد اتفاقها مع إيران برعاية صينية تريد الحفاظ على هذا الهدوء في اليمن لأجل هدفها الاقتصادي المتمثل برؤية 2030 ولا يمكن استدامة الهدوء في اليمن من دون علاقة وطيدة مع دمشق، وإسطنبول بوابة مهمة من بوابات دمشق، وما تصريح الرئيس التركي قبيل جولته الخليجية بساعات عن نيته لقاء الأسد _لكن الأسد هو من يعرقل هذا اللقاء حسب وجهة النظر التركية_ إلا دليل على وجود طلبات أو ضغوضات من السعودية على تركيا للمضي قدما في التطبيع مع نظام الأسد لأجل الاستقرار الإقليمي حسب وجهة نظر الجانب السعودي، وتركيا تريد علاقة قوية مع دول الخليج لأجل جلب الاستثمارات ولضخ الأموال في شرايين الاقتصاد التركي.

إقليمياً أيضا هناك محاولات إيرانية للحفاظ على مكتسباتها العسكرية وتثبيت نفوذها في الدول التي غزتها بقطعان ميليشياتها عبر الحفاظ قدر الإمكان على اتفاقها مع السعودية وتعزيز علاقاتها مع بقية دول الخليج والمنطقة لأنها أيضا تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ومؤخراً كثر الحديث عن تطبيع سعودي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وكان حديث سفيرة المملكة في واشنطن لافتاً وجريئاً حيث إنها لم تطرح تطبيعا سعوديا فقط لكنها تحدثت عن دمج إسرائيل في المنطقة من بوابة التكامل الاقتصادي، صحيح أن السعودية تضع شروطا للتطبيع منها الحقوق الفلسطينية لكن من يتابع مسار السياسة السعودية في آخر عشر سنوات يدرك أن المفاجآت حاضرة بقوة ويمكن أن تتغير 180 درجة بكل سلاسة وما استقبال الرياض لأول فريق رياضي إسرائيلي قبل أيام _حيث عزف النشيد الإسرائيلي لأول مرة في السعودية _ إلا دليل على أن الرياض جادة في مسعاها للتطبيع والتفرغ لمشروعها الضخم 2030.

هناك اليوم عملية “تطفيش” واضحة تمارس بحق السوريين سواء كأفراد أو كمؤسسات سياسية وككيانات مجتمعية، صار السوري عبئا بحسب رؤية الكثير من الأحزاب السياسية في تركيا سواء في التحالف الحاكم أو في تحالف المعارضة، عملية التضييق الحاصلة حاليا هدفها أن يغادر تركيا من السوريين كل  من يستطيع المغادرة سواء إلى سوريا أو أي وجهة أخرى المهم أن يغادر، لأن الخطاب التراكمي الذي حصل في السنوات الأخيرة نتج عنه مزاج عام كاره للسوريين ويحملهم تبعات الأزمة الاقتصادية الخانقة وباتت جميع الأحزاب على قناعة بأن أسرع طريقة للوصول لقلب وصوت الناخب تأتي عبر إعطائه وعودا بترحيل وعودة السوريين.

التضييق يجري أيضاً على مؤسسات المعارضة فحين لايجرؤ أي كيان على إصدار مجرد بيان وحين يعجز الائتلاف مثلا عن استخراج إذن سفر داخلي لأحد أعضائه للتنقل من ولاية لولاية أخرى ندرك جيدا أن هناك مرحلة جديدة وأن تركيا التي كانت ذهبت ولن تعود.

لا يعني ما سبق أن كل شيء انتهى ولا هو دعوة للتشاؤم والإحباط لكنه مجرد حجر صغير ملقى في بحيرة ينبهنا لأجل أن نجد صيغة أفضل للعمل معاً من دون أوهام الماضي ولأجل أن نبقي قضيتنا حاضرة رغم كل محاولات دول الإقليم طي صفحة الثورات بكل كياناتها وشخوصها وأحلامها.

————————————–

تركيا وحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي/ بشير البكر

حقّق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اختراقا مهما خلال قمّة حلف شمال الأطلسي أخيرا، يتمثّل في إعادة وضع بلاده على الخريطة الأطلسية بوصفها دولة أساسية في الحلف منذ انضمامها إلى عضويته قبل 70 عاما، نظرا إلى أنها تمتلك مزايا أهلتها لمكانة خاصة. وأهم ما تتحلى به موقعها الجغرافي الاستراتيجي، جارة لروسيا وإيران والعراق وسورية، تقع على عدة بحار تشكّل عقدة مواصلات بحرية وبرّية وجوية بين أوروبا وآسيا، وتربطها علاقاتٌ ذات طبيعة خاصة مع دول آسيا الوسطى. وهي صاحبة اقتصاد قوي ينمو سريعا، وبنى تحتية حديثة ومتطوّرة، وطاقة بشرية شابّة لا تمتلكها أيٌّ من دول الحلف أو الاتحاد الأوروبي. كما تتمتع باستقرار سياسي وسط منطقة مضطربة تعاني من الحروب الأهلية والديكتاتورية. وتشكّل الانتخابات التشريعية والرئاسية في مايو/ أيار الماضي مؤشّرا مهما إلى قوة النموذج التركي، الذي تجاوز أكثر من امتحان صعب في العقدين الأخيرين، وخصوصا محاولة انقلاب عام 2016، الذي كان يهدف إلى تقويض الديمقراطية. وبالإضافة إلى ذلك، تمتلك ثاني أكبر جيش في الحلف، الذي استعاد دوره بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.

تحظى تركيا، من الناحية النظرية، بكل حقوق الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، غير أن ما تتميّز به من خصوصيات يؤهلها لمزايا تفضيلية عديدة على المستويات الأمنية والعسكرية، والطرف الذي يحول دون تمكينها من مكانة أفضل هو الولايات المتحدة، القوّة الأكبر في الحلف، التي تقف وراء القرارات ذات الطبيعة الاستراتيجية، وبرز أكثر من خلاف خلال العقد الأخير، منها ما يخصّ حصول أنقرة على طيران حربي أميركي متطوّر وأنظمة دفاع جوي، وبعضها الآخر يتعلق بدعم مباشر في سورية لإقامة منطقة للاجئين الهاربين من عُنف النظام، والحادث الذي يشكل محطة مهمة إسقاط الدفاعات التركية عام 2015 طائرة روسية مقاتلة قرب الحدود التركية السورية، وهدد ذلك بنشوب حرب تركية روسية. وفي ذلك الحين، طلبت أنقرة مساندة من حلف شمال الأطلسي على أساس المادة الخامسة من ميثاقه، إلا أن واشنطن لم توافق، وانعكس ذلك الموقف السلبي من إدارة الرئيس الأسبق بارك أوباما على موقف تركيا من التدخّل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، والذي غيّر مجرى الأحداث لصالح النظام السوري، الذي كان على وشك السقوط بدعم تركي لمقاتلي الفصائل السورية المسلّحة التي اقتربت من دمشق.

كرّس الحلف جهده العسكري لمنع روسيا من تحقيق انتصار عسكري في أوكرانيا، وأنفق أكثر من خمسين مليار دولار. ويتبيّن كل يوم أن الهدف ليس حماية أوكرانيا فقط، بل تعزيز قوتها قاعدة أطلسية مستقبلية. ولا يسري هذا المبدأ على دولة ذات موقع استراتيجي للحلف مثل تركيا، بسبب السياسة الاستقلالية التي تنتهجها أنقرة، وتواجه من جرّائها تمييزا من الأطلسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي جمّد البحث في عضوية تركيا، البلد المرشّح منذ نصف قرن، رغم أن مسيرة الانضمام كانت تسير بخطواتٍ على أساس دفتر شروط قائم على التفاوض بين الطرفين حتى عام 2000، حين انتقلت تركيا من صفة المرشّحة إلى المؤهلة، وبعد ذلك، دخلت العملية مسارا من التباطؤ والتسويف، حتى أعلن الاتحاد الأوروبي تعليق المفاوضات عام 2018 بذريعة عدم إحراز تقدّم في مجال حقوق الإنسان واحترام سيادة القانون، في حين أن الخلفية الفعلية لهذا الرفض تكمن في الفيتو اليوناني والموقف من قبرص، التي ارتضى الاتحاد الأوروبي ضمّ شطرها اليوناني واستبعاد شطرها التركي في تمييز واضح، بدل أن يضع ثقله من أجل تسويةٍ سياسيةٍ على أساس توحيد الجزيرة في دولة كونفيدرالية تحظى بموافقة المكونيْن اليوناني والتركي.

العربي الجديد

——————————-

تركيا.. وجرّة العنصرية المثقوبة/ غزوان قرنفل

في تصريح لصحيفة “يني شفق” يقول الأكاديمي التركي ياسين أقطاي (مما يؤسف له أن بذور كراهية الأجانب والعنصرية التي زرعت في تركيا بتحريض من بعض السياسيين في المجتمع بدأت تؤتي ثمارها، وأن البلد الذي يصبح غير آمن للسوريين لن يكون أكثر أمانا وراحة لمواطنيه، فالكراهية الفاشية والعنصرية البشعة ستطول الجميع حتى تقتل صاحبها).

يشي هذا التصريح بأن ثمة من في المجتمع التركي بدأ يتلمس مخاطر تفاقم الخطاب العنصري الكاره والنابذ لنوع محدد من الأجانب لا يشتمل أبدا على أولئك المقيمين القادمين من الدول الأوروبية الشرقية منها والغربية، بل يقتصر كما هو واضح للعيان على العرب عموما والسوريين خصوصا وعلى بعض الجنسيات الآسيوية الأخرى التي تتخذ من تركيا معبرا مأمولا نحو البر الأوروبي الآمن، وأن هذا الخطاب العنصري الذي أصبح طيفه ومداه أوسع مما هو مقبول بسبب التراخي في مواجهته مبكرا في مهده مما وفر له بيئة آمنة لفرض نفسه على قطاع لايستهان به من المجتمع دون إدراك لمخاطره وأثره المدمر على المجتمع نفسه.

تنبئنا أحداث التاريخ الحديث أن المجتمع التركي كان على الدوام مجتمعا ملجئا، احتضن كل من أتى إليه ساعيا إلى ملاذ آمن فاحتضن ملايين اللاجئين من القرم وبلغاريا والبلقان عموما ومن ألبانيا والبوسنة وكوسوفو ومن شرق الصين وإيران وليبيا والصومال والعراق وسوريا، حتى اعتبرت تلك المسألة جزءا من القيم المجتمعية الراسخة لوقت طويل في وجدان المجتمع التركي.

الدولة العثمانية نفسها قبل تشكل الدولة التركية الحديثة كانت تتكون من مجاميع كبيرة من المهاجرين واللاجئين استقرت بهم الأوضاع في تلك الجغرافيا فأسسوا دولة سرعان ما صارت امبراطورية امتد سلطانها في كل الاتجاهات، فتعايشت وحكمت شعوبا مختلفة الأصول والأعراق لقرون طويلة إلى انتهى عمرها الافتراضي ونشأت مكانها دولة حديثة اسمها تركيا نزعت نحو تشكيل هوية قومية – بديلا عن الرابطة الإسلامية – تجمع من يسكن جغرافيتها الحديثة بعد أن اقتضت ظروف تشكلها تخليها عن كل المساحات الجغرافية التي حكمتها سابقا عربية كانت أو أوروبية، لتنشأ فيها بدورها دول وكيانات حديثة لا تربطها بتركيا الحديثة إلا الروابط الديبلوماسية التي تربط بين الدول المستقلة.

ربما اقتضت الظروف التي نشأت فيها تلك الدولة الحديثة التركيز على الرابطة القومية التي تجمع شعوب جغرافيتها بهدف تعزيز الهوية الجديدة لتلك الدولة، خصوصا أنها كانت ترزح تحت احتلالات مختلفة دفعت قادتها لخوض حرب استقلال واسعة النطاق لتعزيز مكان ومكانة الدولة الحديثة وجمع شتاتها الجغرافي المتعدد الاحتلالات، وقد نجحوا في ذلك مما جعل لتلك الدولة وقادتها مكانة كبيرة في ضمير ووجدان المجتمع التركي بكل أطيافه.

لكن ما كان يصلح لزمان قد لا يكون صالحا لزمن آخر بالضرورة، فزمن صناعة وترسيخ الهوية الوطنية للدولة الحديثة حقق غرضه وبنيت الدولة وطردت المحتلين عن أراضيها، كما أنجزت ملامح الهوية الوطنية التركية ولغتها وماعاد الانفتاح على الآخر – في زمن العالم المفتوح – يشكل تهديدا للهوية القومية والانتماء إلى الجغرافيا الوطنية، مما يوجب معه طي زمن الانغلاق على الجغرافيا والانغلاق على الثقافة واللغة، وصار الانفتاح على ثقافات الشعوب ومعارفها ولغاتها شرطا لازما من شروط التطور الحضاري والارتقاء المديني والاقتصادي، مع ذلك ما يزال ثمة قطاع لا يستهان به من الشعب التركي يرى في هذا الانفتاح خطرا يهدد الهوية القومية واللغة الوطنية، وهو ما ينبئ بوجود تورم في الشعور بالأنا القومية يدفع هذا القطاع لنبذ الآخر ويرى فيه تهديدا وجوديا له، يغذي هذا التورم الشعور بإمكانية الاكتفاء بالنفس وبالإمكانات المتاحة والمعارف واللغة الخاصة لبناء حياة ومستقبل بعيدا عن المشاركة والتشارك مع الآخر المختلف، مناهج تعليمية منغلقة تمجد النفس وتعظم شأنها وتزدري الآخر وتحط من قدره ولهذا تجد عزوفا غير مفهوم عن تعلم لغات أخرى غير التركية بل ورفضا ونبذا لكل من يتحدث بلغة غيرها حتى لو كان أجنبيا(!!!).

تيار آخر من أصحاب الهوية الحائرة، يعتقد أنه أوروبي ويؤمن أن علمانيته المفرطة والمتطرفة وتبنيه وامتثاله الكامل لكل ما تريده أوروبا حتى لو كان نشازا عن قيم وأفكار المجتمع التركي تمثل بوابة ولوجه إلى فردوس العالم الأوروبي، وهو مستعد أن يسفح كل ماء وجهه على عتبات النادي الأوروبي أملا في قبوله دون أن يدرك أنه لن يلج هذا النادي مهما فعل لأن ما يتطلبه ذلك من اشتراطات واستحقاقات لا قبل للمجتمع التركي نفسه بقبولها، ومع ذلك ترى هذا التيار أيضا – رغم ما تفرض عليه رؤيته وأجندته من أن يكون أكثر تصالحا وانفتاحا على الآخر المغاير – يجنح أكثر نحو العنصرية لأنه عجز عن التخلي عن قوميته المفرطة التي تتناقض بالضرورة مع فكرة الاندماج مع النادي الأوروبي الذي يسعى عبثا لعضويته.

هذه العملية التشريحية لا يقصد منها امتهان الشعب التركي كما سيحاول بعض عتاة التطرف القومي الأعمى تفسيرها، بقدر ما هي محاولة لتلمس مكامن الخلل البنيوي الذي يمكن أن يهدد لا قدّر الله سلامة المجتمع وسلامه، وهو تماما ما يحذر منه السيد أقطاي الذي افتتحنا بتصريحاته مدخل هذا المقال… فهذه الدولة التي شقت طريقها للارتقاء والتطور ورسخت الكثير من الإنجازات على هذا الطريق لا يمكن أن تستمر في ارتقائها بعقول مغلقة ولا بالانكفاء عن مد يد وجسور التعاون والتفاهم مع الآخر المختلف عربيا كان أو هنديا أو أوراسيا أو أوروبيا أو غير ذلك، فتركيا بلد ناشىء اقتصاديا وهو يحتاج لكل عوامل التعاون مع مختلف الدول والشعوب لتعزز مكانتها وترسخ مزيدا من الأداء المتطور في اقتصادها وآخر ما تحتاجه هو نبذ الآخر، لأنه ليس تركيا أو لأنه لا يتحدث اللغة التركية أو لأن له طباعا وقيما تختلف في بعض وجوهها عما يعتقده أو يؤمن به الأتراك، وعلى كل تركي أن يؤمن أنه ليس محور الكون ولن يكون، عندها يمكن له أن يملأ حيزه ومكانته الطبيعية التي يستحقها بجدارة بين الأمم والشعوب.

تركيا دولة تبحث عن مصالحها الحيوية في محيطها وفي العالم، لكن حتى تحقق أكبر فائدة مأمولة ومرتجاة في هذا المسار عليها أن ترمم جرّتها المثقوبة التي تحملها على أكتافها والتي تقطر من بعض أبنائها عنصرية تلوث ثياب حاملها وتسيء لها.

تلفزيون سوريا

———————————

لماذا تركيا حريصة على علاقاتها بروسيا؟/ محمود علوش

خلقت الصفقة التي أبرمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء السويدي بخصوص ملف عضوية السويد في الناتو انطباعاً بدخول العلاقات التركية الغربية حقبة جديدة. وما عزّز هذا الانطباع أن مضمون الصفقة لم يقتصر فحسب على مسألة مكافحة الإرهاب، بل تضمنت أيضاً خريطة طريق لإصلاح العلاقات التركية الغربية. مقابل وعد من أردوغان بعرض بروتوكول عضوية السويد في الناتو على البرلمان التركي من أجل التصديق عليه، تعهد الاتحاد الأوروبي بتحريك الجمود في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد والعمل على تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرة. كما تعهّدت واشنطن من بين أمور أخرى، بالعمل على إتمام بيع مقاتلات إف ستة عشر إلى تركيا. مع أنه من السابق لأوانه الجزم بإمكانية نجاح هذه الصفقة وحدوث تحول حقيقي في مسار العلاقات بين أنقرة والغرب، إلآّ أنّها كشفت عموماً أن الطرفين لديهما رغبة جدية في إعادة تشكيل العلاقات.

أحد الأسئلة الكبيرة التي تُصاحب بوادر الانفراجة في العلاقات بين أنقرة والغرب يتمحور حول تأثيرها المحتمل على العلاقات التركية الروسية. على الرغم من أن جانباً أساسياً من هذه العلاقات يقوم على مصالح أنقرة وموسكو المتداخلة في كثير من القضايا المحيطة بهما، من آسيا الوسطى إلى جنوب القوقاز مروراً بالبحر الأسود وسوريا، فضلاً عن تجارة الطاقة التي تبدو محورية في هذه الشراكة، إلآّ أن هناك قاعدة عامة تتحكم في مسار علاقات تركيا مع كل من روسيا والغرب. عندما تكون العلاقات التركية الروسية جيدة فإن العلاقات التركية الغربية تتوتر والعكس صحيح. للحد من تأثير هذه القاعدة على صياغة سياستها الخارجية، لجأت أنقرة إلى مفهوم التوازن الذي برز بشكل أوضح بعد الحرب الروسية الأوكرانية من أجل الموازنة بين هويتها الجيوسياسية كجزء من حلف الناتو وبين مصالحها الحيوية مع روسيا. يُمكن القول إن هذه الاستراتيجية نجحت في إثبات فوائدها على تركيا وساعدتها بشكل مقبول في الحد من تداعيات الحرب على علاقاتها مع روسيا والغرب.

مع ذلك، فإن عملية التوازن التي تقع في صلب عقيدة السياسة الخارجية لأردوغان، تواجه الكثير من التحديات. هناك عاملان أساسيان ينبغي توفّرهما لإحداث توازن حقيقي في السياسة الخارجية التركية بين روسيا والغرب. الأول إقامة علاقات مستقرة مع الطرفين، والثاني توظيف هذه العلاقات لتقوية موقف أنقرة مع الطرفين. بدا أن هذين العاملين لم يتحققا بشكل واضح. في وقت تبدو فيه العلاقات التركية الروسية مستقرة وقوية بالفعل، فإن العلاقة مع الغرب ليست كذلك. كما أن سوء العلاقة مع الغرب دفع تركيا إلى زيادة اعتمادها على روسيا في الكثير من المجالات الحيوية وهو ما جعلها أكثر عُرضة للضغط الروسي. يُمكن ملاحظة ذلك بوضوح في سوريا حيث إن توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن بسبب علاقة الأخيرة بوحدات حماية الشعب الكردية دفع تركيا منذ منتصف العقد الماضي إلى رفع رهاناتها على الشراكة مع روسيا لتعزيز مصالحها في سوريا، لكنّه فرض عليها في المقابل تبني سياسات لم تكن تُحبّذها مثل الانفتاح على الحوار مع النظام السوري.

علاوة على ذلك، عمقت الشراكة التركية الروسية المتزايدة من مأزق علاقات تركيا مع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة. كانت واشنطن ستبقى متسامحة مع هذه الشراكة لولا أنها لم تصل إلى مجالات حساسة مثل التعاون العسكري وشراء تركيا منظومة إس أربعمئة الروسية. في الواقع، وجدت أنقرة نفسها مُجبرة على تطوير الشراكة مع موسكو إلى مجالات دفاعية، لأن واشنطن رفضت مشاركتها تكنولوجيا منظومة باتريوت الصاروخية. مع ذلك كان ثمن شراء منظومة إس أربعمئة على تركيا كبيراً من حيث إخراجها من مشروع إنتاج مقاتلات إف خمسة وثلاثين مع الولايات المتحدة وفرض عقوبات على صناعاتها الدفاعية. لعل ذلك ما يُفسر كيف أن تركيا تسعى الآن لشراء مقاتلات إف ستة عشر من واشنطن وتحديث أسطولها الجوي. مع ذلك، فإنه حتى لو قررت الولايات المتحدة منح تركيا ما تُريده وحتى لو وافق الأوروبيون على تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرة للمواطنين الأتراك، فإن الشراكة مع روسيا ستبقى حيوية لأنقرة ومن غير المرجح أن تتخلى عنها.

في تجارة الطاقة على سبيل المثال، فإنها ستبقى حيوية لتركيا وطموحاتها لتعزيز أمن الطاقة لديها والتحول إلى مركز عالمي لعبور الطاقة. مع إتمام مشاريع ضخمة في هذا المجال مثل إنشاء محطة أقويو النووية لتوليد الطاقة الكهربائية في تركيا، والدور الكبير الذي حظيت به تركيا في تجارة الطاقة العالمية خصوصاً بين روسيا والاتحاد الأوروبي. يعمل البلدان أيضاً على مشروع ضخم آخر في مجال الطاقة وهو إنشاء مركز لبيع الغاز في تركيا. علاوة على ذلك، فإنه بالنظر إلى أن تركيا لا تزال تعتمد بشكل أساسي على استيراد الغاز من روسيا، فضلاً عن الخدمات التي تُقدمها موسكو لأنقرة مثل تأجيل مدفوعات الغاز لتخفيف الأعباء المالية على الخزانة التركية، فإن أردوغان حريص بشكل أساسي على عدم تضرر علاقات الطاقة مع روسيا.

في غضون ذلك، ستبقى تركيا تنظر إلى شراكتها مع روسيا في جنوب القوقاز وسوريا  لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. بالنظر إلى أن دور الغرب في هذه المناطق محدود للغاية، فإن تحسينا محتملاً للعلاقات بين تركيا والغرب لن يعود بالفوائد الكبيرة على مصالح تركيا في هذه المناطق في حال أضرت بشراكتها مع موسكو. كما أن الثقة في الشراكة التركية الروسية تبدو أكثر متانة مقارنة بما هو الحال عليه في العلاقات بين تركيا والغرب. وحتى لو افترضنا أن مرحلة جديدة في العلاقات بين تركيا والغرب ستحصل، فإنها لن تؤدي بطبيعة الحال إلى ترميم عامل الثقة بين أنقرة والغرب بشكل كامل. ستبقى القضايا الخلافية الرئيسية بين الطرفين قائمة مثل العلاقات الأميركية بوحدات حماية الشعب الكردية والتوترات التركية اليونانية والقضية القبرصية المزمنة. وفق هذا المنظور، فإن الفوائد المحتملة التي يُمكن أن تجنيها تركيا من وراء تحسين علاقاتها مع الغرب ستبقى محدودة في أطر ضيقة مثل الاقتصاد والتجارة وجزئياً التعاون الدفاعي، لكنها لن تؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات من منظور جيوسياسي أوسع.

تسعى تركيا بشكل أساسي من وراء تحسين علاقاتها بالغرب إلى جني المنافع الاقتصادية أولاً وإلى إحداث توازن في علاقاتها بين موسكو والغرب بما يُساعد من تقليل اعتمادها بشكل جزئي على روسيا في تأمين بعض مصالحها الحيوية. لهذا السبب، من غير الواقعي الافتراض بأن مساعي تركيا لتحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تعكس رغبة لديها بإنهاء شراكتها مع روسيا. على وجه الخصوص لا تزال هذه الشراكة مُهمة لتعزيز نهج تركيا المحايد في الحرب الروسية الأوكرانية ولعب دور الوسيط بين الطرفين وتعزيز مكانتها الجيوسياسية لكل من روسيا والغرب. وفي سوريا أيضاً، أضحت هذه الشراكة  إحدى الوسائل التركية للتقليل من تأثير العلاقات بين واشنطن ووحدات حماية الشعب الكردية على مصالح تركيا الأمنية.

———————————

العلاقات التركية الروسية بعد قمة فيلنيوس؟/ سمير صالحة

معادلة “اهدأ وتماسك أعصابك، ستسوى الأمور” التي يرددها مغني البوب الفرنسي نهير، صعبة التطبيق على الحالة النفسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد الآن. خصوصا أن نظيره الأميركي جو بايدن يقول له إنه خسر الحرب في أوكرانيا قبل أن تبدأ.

هدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف باتخاذ إجراءات استباقية ردا على احتمال انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، وقال “إن المواجهة المسلحة في أوكرانيا ستستمر إلى أن يتخلى الغرب عن خططه للسيطرة على موسكو وهزيمتها”. ما الذي قاد لافروف لإطلاق مثل هذه التصريحات النارية وما هي حصة تركيا فيها؟

تتفهم موسكو “القرار التركي بالنظر إلى متطلبات عضويتها في الحلف” كما قال المتحدث باسم الكرملين بيسكوف تعليقاً على المفاجأة التركية. وهو قد يكون محقا عندما يردد “لا أحد في أوروبا يريد رؤية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وهنا يجب ألا يضع شركاؤنا الأتراك نظارات وردية أيضاً”. لكن التصعيد الروسي الذي يعكس حالة الانفعال والقلق حمله رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف، بقوله، إن تركيا “تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية.. مثل هذا السلوك لا يمكن وصفه بأي شيء سوى طعنة في الظهر”.

قدمت موسكو أكثر من خدمة للقيادات التركية في أصعب الظروف التي عاشتها وتعيشها تركيا. رد الجميل التركي لم يتأخر في أكثر من مكان ومجال. توج المسار الجديد في العلاقات برفض أردوغان الانضمام إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بسبب غزو أوكرانيا. والذي قابله علاقات سياحية وتجارية وصلت إلى 26 مليار دولار في العام المنصرم، وتعهدات روسية بدعم تركيا في الوصول إلى ما تريده في ملفات الطاقة الإقليمية، وتسريع إنجاز بناء محطة الطاقة النووية في مرسين. كما أنها وافقت على إرجاء تسديد تركيا لديونها لها بقيمة 4 مليارات دولار من فاتورة استيراد الغاز.

تمكن الرئيس رجب طيب أردوغان خلال أعمال قمة حلف الأطلسي الأخيرة في ليتوانيا، من تذكير القيادات والعواصم الغربية مرة أخرى بالموقع والدور التركي في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية. لكن موسكو ترى في ذلك محاولات مقايضة على حسابها لذلك هي غاضبة ولأكثر من سبب يتقدمه:

– سماح القيادات التركية لمجموعة من ضباط كتيبة «آزوف» القومية الأوكرانية الذين تستضيفهم تركيا في إطار عملية تبادل أسرى روسية أوكرانية، بالعودة إلى بلدهم مع الرئيس زيلينسكي الذي زار أنقرة الأسبوع المنصرم.

– حديث الرئيس التركي عن استعداد بلاده لدعم عضوية أوكرانيا في الناتو عندما يحين الوقت.

– إعلان أردوغان أن بلاده متمسكة بخياراتها الغربية سواء تحت مظلة حلف الأطلسي أو في مسألة الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي وهو ما يبدد حلم روسيا أن تركيا بدأت تتوجه شرقا وتقترب أكثر من البريكس الروسي الصيني الإيراني.

– قبول أنقرة لتليين مواقفها في موضوع عضوية السويد الأطلسية والإعلان عن قرار نقل الموضوع إلى البرلمان التركي في دورته الجديدة بعد شهرين.

هي من المرّات النادرة التي تُصدر موسكو موقفاً ينتقد بشدّة سلوك أنقرة بعد مصالحة وتطبيع وتنسيق بدأ قبل 8 سنوات. فبعد ساعات على تصريحات الناطق باسم الكرملين كان الوزير لافروف ونظيره التركي هاكان فيدان يناقشان اتفاق الحبوب، الذي لم توافق موسكو على تمديده حتى الآن، من دون الحصول على ضمانات بتسهيل صادراتها هي أيضا. ثم جاء الفيتو الروسي في مجلس الأمن في مواجهة الرغبة الغربية بمواصلة عمليات إدخال المساعدات إلى سوريا بالطريقة المعتمدة. والإعلان عن عدم وجود أي تنسيق روسي تركي حول زيارة مرتقبة لبوتين لأنقرة في الشهر المقبل على عكس ما يقال في تركيا. وهو ما يعني أن الكرملين قد يعرقل رغبة الأتراك في أن تكون أنقرة مكاناً لحوار دبلوماسي جديد بين موسكو وكييف، على غرار ما كان يجري في الأشهر التي تلت الهجوم الروسي على أوكرانيا.

كان رئيس جهاز الاستخبارت التركي الحالي إبراهيم كالين يتحدث قبل أشهر عن الدول الغربية التي “تمارس ضغوطا لا تصدق علينا، يأتون ويطالبون بفرض عقوبات، ويسألون لماذا نتعاون مع روسيا، واحتفلنا بمراسم تسليم أول شحنة وقود إلى محطة أكويو للطاقة النووية، لكننا لم نسمع أيا منهم يسألنا لماذا تسير العلاقات التركية الروسية على هذا النحو”. أما اليوم فأنقرة وكما يبدو تستعد لإغضاب موسكو أكثر في المرحلة القادمة بسبب جملة من الملفات الأساسية التي تقلق الأخيرة: الموافقة على انضمام السويد إلى الناتو، وبالتالي منح واشنطن ما تريد لناحية عضوية السويد في الأطلسي ولاحقا عضوية أوكرانيا وهو ما يعني هزيمة روسيا استراتيجيا في الحرب الأوكرانية حتى ولو كانت تنتصر عسكريا على الجبهات. إلى جانب احتمال التراجع عن خطوة تطبيع العلاقات مع دمشق بعد محادثات أردوغان – بايدن حول موضوع شرق الفرات. فهل تذهب الأمور بالنسبة لتركيا في اتجاه استكمال حلقات المصالحة الإقليمية، أم تذهب في اتجاه التصعيد وإشعال جبهات الشمال السوري مجدّداً على حساب روسيا والنظام وإيران مما يعني توتر العلاقات معهما من جديد؟

لم تتخذ قيادات الناتو قرار دعوة أوكرانيا للحلف لأن موسكو سترى فيه قمّة الاستفزاز. لكنها حققت الخطوة الاستراتيجية التي لا تقل قيمة عنها وهي إقناع تركيا بالتخلي عن معارضتها لانضمام السويد إلى الحلف. الرئيس الأميركي بايدن يريد أكثر من ذلك. أن تكون القمة الأطلسية فرصة تقود إلى تحول استراتيجي في مسار الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ويريدها أيضا أن تكون وسيلة لتصفية الحسابات مع موسكو في سوريا والبحر الأسود وجنوب القوقاز. القادر على فعل ذلك هو الموقع والدور التركي وهذا ما يقلق الرئيس الروسي أكثر من غيره. فلِمَ لا تكون المقايضة التركية الأميركية تتم في صفقة أف – 16 وموضوع قسد في شرق سوريا؟

قد يترك الرئيس التركي نظيره الروسي بوتين أمام معضلة صعبة ومعقدة، هدفها عدم إطالة الحرب في أوكرانيا أكثر من ذلك ويلزمه مجددا بالتوجه نحو طاولة الحل السياسي إذا ما كان يريد موازنة العروض الأميركية المقدمة لأردوغان. موسكو لا تريد منح أنقرة فرصة من هذا النوع حتى ولو لم يحسم الوضع الميداني لصالحها. هي لا تريد أن تجلس أمام طاولة معادلة لا غالب ولا مغلوب، ثم تتحمل لاحقا أعباء وارتدادات الحرب السياسية والاقتصادية في الداخل الروسي وفي الخارج.

الرد الروسي على أية تفاهمات تركية أميركية تظهر إلى العلن على حساب موسكو، قد لا يتأخر وهو سيكون أبعد وأهم من إلغاء بوتين لزيارته التي يتحدث عنها الأتراك. الرد سيكون أولا باتجاه تغيير أرقام دراسة لمصرف “توتشكا” الروسي تظهر أن تركيا شغلت في النصف الأول من عام 2023 المركز الثاني في توريد البضائع إلى روسيا، متجاوزة بيلاروسيا بنسبة 13٪ من جميع البضائع المستوردة من الخارج. والحؤول دون لعب أنقرة للورقة الروسية في المقايضات مع الغرب. لكن التحرك الروسي الحقيقي قد يكون في مناطق تداخل نفوذ استراتيجي أكبر وأهم في جنوب القوقاز وشمال سوريا.

تجنب الرئيس التركي “الاحتكاك” بروسيا خلال مؤتمره الصحفي في أعقاب القمة الأطلسية. تجاهل أسئلة “استفزازية” كثيرة وحاول قدر المستطاع اختصار واختزال الردود حول العلاقات التركية الأوكرانية وسياسة روسيا في القوقاز. لكن مشكلة أردوغان تبقى في استحالة المناورة في مساحة تضيق جغرافيا واستراتيجيا يوما بعد يوم لناحية مستقبل العلاقات التركية مع الغرب وروسيا. كلما تعمقت الخلافات الغربية الروسية تراجعت حظوظ أنقرة في اللعب على حبال المناورة بين الشرق والغرب وكما فعلت لعقود. قرار دعم عضوية السويد والتفاهم مع واشنطن من جديد وتذكير القيادات الأوروبية بالعضوية التركية في الاتحاد تؤكد ذلك.

تلفزيون سوريا

————————————-

تركيا تتوازن مجدداً.. كيف ينعكس ذلك على سوريا؟/ إياد الجعفري

قد يكون توصيف المسؤول الروسي رفيع المستوى، لإجراءات تركيا الأخيرة المتضامنة مع أوكرانيا، بأنها “طعنة في الظهر”، مبالغ فيه، على غرار معظم تصريحات المسؤولين الروس، التي لا تخلو من “دراماتيكية” في توصيف أحداث ومواقف سياسية تشكّل تحدياً للمصالح الروسية.

لكن في الوقت نفسه، يمكن اعتبار إحدى الخطوات التركية الثلاث الأخيرة، المعدّة للتقارب مع الغرب، أشبه بـ “صفعة”، على وجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ومن بين الخطوات التركية الثلاث: السماح بإعادة قادة كتيبة “آزوف” إلى أوكرانيا برفقة الرئيس فلوديمير زيلينسكي، وتأييد انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والقبول المبدئي بانضمام السويد للحلف ذاته.. تبدو الخطوة الأخيرة تحديداً، هي الأكثر إيلاماً لـ روسيا، والأكثر مردوديةً للمصالح التركية.

وفيما يُستبعد أن ينجم عن الخطوة الأولى (إعادة قادة كتيبة آزوف)، أي تغييرات نوعية في ميدان المعركة بأوكرانيا، كما أنه لا قيمة حقيقية للخطوة الثانية (دعم تركيا لانضمام أوكرانيا للناتو) في ظل رفض الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية لذلك، كي لا تتحول الحرب في أوكرانيا، إلى حرب مباشرة للناتو مع روسيا.. تأتي الخطوة الثالثة (التأييد المبدئي لانضمام السويد إلى الناتو)، بوصفها تعزيزاً لقوة الحلف، وانتكاسة لهدف روسيا الاستراتيجي، من حربها ضد أوكرانيا، وهو الحد من توسع “الناتو” قرب حدودها.

لكن، كيف يمكن أن يؤثر ذلك على مستقبل العلاقة التركية – الروسية؟ بطبيعة الحال، هذه ليست المرة الأولى التي تبادل فيها بوتين وأردوغان، “الصفعات”. ويمكن أن نذكر أنه في بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، تعرضت القوات الروسية لخسائر كبيرة، من جراء استخدام كييف الفعّال لطائرات “بيرقدار” المسيّرة التُركية. قبل أن تتراجع فعاليتها في ميدان المعركة هناك، بعد أن طوّرت الدفاعات الإلكترونية والجوية الروسية قدراتها على تعطيل وإسقاط هذه المسيّرات. وفي نيسان/أبريل الفائت فقط، صوّت البرلمان التركي بالموافقة على انضمام فنلندا للناتو، الأمر الذي مثّل أكبر انتكاسة استراتيجية لمصالح روسيا، بهذا الصدد. إذ تضاعفت الحدود المشتركة بين الناتو وروسيا، نحو ثلاثة أضعاف. وازدادت القدرة العسكرية للحلف، مع انضمام واحدة من أضخم الترسانات المدفعية الأوروبية، إلى صفوفه.

وبخلاف فنلندا، عجزت السويد عن معالجة مخاوف تركيا حيال دعم حزب العمال الكردستاني، انطلاقاً من أراضيها، من خلال نشاطات التجنيد والتمويل. وراهنت ستوكهولم، على خسارة محتملة لحزب العدالة والتنمية في انتخابات أيار/مايو الفائت. وهو ما لم يحدث. فأصبحت السويد مضطرة لتقديم التنازلات المطلوبة لإرضاء الطرف التركي، الذي سيقوده أردوغان، خمس سنوات أخرى.

وما ينطبق على السويد، ينطبق على دول أوروبية أخرى، وعلى الولايات المتحدة الأميركية، أيضاً. فهذه الأطراف، راهنت، وإن بشكل غير معلن رسمياً، على خسارة أردوغان وحزبه في الانتخابات الأخيرة. وبعد فوزه بنسب تتيح له حكماً مريحاً لتركيا في السنوات التالية، أصبح لدى دول الغرب استعداد أكبر لجذب تركيا. وهو ما تلقفته القيادة التركية، التي هي بدورها، بحاجة ملحة للتقارب مع الغرب، بصورة تتيح لها تصويب وضعها التوازني بين قوى الشرق والغرب، بعد أن انزاح قليلاً بصورة أقرب لروسيا، في السنة الأخيرة تحديداً. وبصورة تسمح لها أيضاً، بالاستفادة اقتصادياً، في وقتٍ تعاني فيه من أزمة عملة عصيبة. وهو ما حصلت عليه القيادة التركية بالفعل، عبر مواقف الدول الأوروبية المنفتحة حيال تجديد مفاوضات الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي، والعمل على توسيع اتفاق التجارة الحرة بين الطرفين، وهي إشارة ستفهمها وكالات التصنيف الائتماني الدولية، بصورة إيجابية، بالنسبة للاقتصاد التركي، مما سيشجع مستثمرين دوليين على الاستثمار في تركيا مجدداً.

ما سبق لا يعني أن تركيا تنقلب على روسيا. بل هي تبتعد عنها خطوة، باتجاه الغرب، بغية إعادة التوازن، الذي تريد القيادة التركية أن يكون بوصلة سياستها الخارجية. وهو ما أوضحه الرئيس التركي الذي قال إنه سيجتمع مع بوتين في آب/أغسطس المقبل، وسيناقش معه أموراً من بينها قضية إعادة قادة “آزوف”، التي أثارت استياء الروس.

كيف سينعكس ما سبق على المشهد السوري؟ قد تكون الإجابة عصيبة نسبياً. فللمشهد السوري تعقيداته الخاصة، على صعيد العلاقة الروسية – التركية. لكن يمكن القول، إن المعادلة التي حكمت عاماً انصرم، منذ منتصف صيف 2022، حينما كان أردوغان متلهفاً إلى تحقيق إنجاز نوعي على صعيد العلاقة مع نظام الأسد، لغايات انتخابية، قد أصبحت وراءنا. فـأردوغان الآن يشعر بثقة أعلى، بعد تجاوز منعطف الانتخابات، وإعادة تصويب العلاقة مع الغرب، بحيث ما عاد بحاجة ملحة لتقديم تنازلات قاسية لصالح الأسد.

وهكذا فإن المعادلات التي حكمت العلاقة الروسية – التركية، في المشهد السوري، قبل صيف 2022، ستعود للتأثير مجدداً، في المشهد السوري. معادلات تضطر الطرفين (الروسي والتركي)، إلى البقاء في وضعية: لا تفاهمات كاملة، ولا صراع كامل. سيبقيان في المنتصف، حيث يضطر كل طرف منهما للآخر، وفق ذات توازنات القوى التي حكمت المشهد السوري منذ آخر صراع مسلح واسع النطاق بينهما (بالوكالة) في شمال غربي سوريا، في ربيع العام 2020.

تلفزيون سوريا

————————–

طيّب إردوغان بوصفه بريغوجين التركي/ حازم صاغية

ما إن تمرّد يفغيني بريغوجين في الداخل الروسيّ، حتّى ظهر يفغيني بريغوجين آخر يتمرّد في الخارج. الأخير اسمه رجب طيّب إردوغان، رئيس تركيّا الذي جُدّد انتخابه قبل أقلّ من شهرين.

وتمرّد إردوغان إنّما جاء، وفق مراقبين كثر، ضمن سياق أعرض عنوانه تردّي هيبة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين الذي انكشفت محدوديّة قدرته على سحق أوكرانيا. هكذا ظهر عدد من البريغوجينات الصغار في أمكنة كثيرة من العالم ممّن راحوا يتجرّأون على سيّد الكرملين الذي انقلب بين يوم وآخر من «قويّ» إلى «ضعيف» بعد أن كانَ «داهية».

بعض الذين كانوا متحمّسين له صاروا مؤيّدين فاترين، وبعض المؤيّدين صاروا حياديّين، فيما صار بعض الحياديّين شكّاكين وأحياناً مناهضين. أمّا الذين بحثوا عن مزيد من الدلائل فوجدوها في إزاحة الجنرال إيفان بوبوف، قائد الجيش الـ58، من موقعه في أوكرانيا، عقاباً على مصارحته القيادة العسكريّة بالأحوال البائسة لحرب موسكو.

لكنّ إردوغان ذهب أبعد من الجميع، فاتّخذ مواقف بالغة التجرّؤ، يبدو أنّ الروس ما زالوا مصدومين بها. وهذا ما قد يفسّر بروز صوتين، واحدهما يعكس طبع بوتين، والآخر ينطق بلسان التطبّع الذي يترجم إهاضة جناحه.

الصوت الأوّل خرج من فم فيكتور بونداريف، رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتّحاد الروسيّ، الذي اعتبر أنّ تركيّا «تتحوّل إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازيّة»، وأنّ «سلوكاً كهذا لا يمكن وصفه بأيّ شيء سوى طعنة في الظهر».

الصوت الثاني كان للناطق بلسان الكرملين، ديميتري بيسكوف، حيث إنّ موقف تركيّا «يجب ألّا يفاجئ أحداً». ذاك أنّها «بلد أطلسيّ عليه التزامات بموجب هذه العضويّة. وهذا ليس سرّاً، ونحن كنّا نعرف ذلك ولم نضع يوماً على عيوننا نظّارات ورديّة».

والحال أنّ ما فعله إردوغان في زمن قصير جدّاً كثير جدّاً. فإبّان استقباله الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلنسكي، أعلن أنّ أوكرانيا «تستحقّ» أن تنضمّ إلى الناتو، وهو موقف لم يبلغه الحلف والولايات المتّحدة نفسهما، كما أطلق سراح قادة الكتيبة الأوكرانيّة الخمسة الذين دافعوا عن مجمّع «آزوفستال» للصلب، بمدينة ماريوبول، قبل سيطرة القوّات الروسيّة عليها. هذا وكان المتّفق عليه، وفق صيغة تبادل الأسرى، إبقاءهم في تركيّا حتى نهاية الحرب.

ما لا يقلّ إيلاماً للجار الشماليّ كان موافقة إردوغان على عضويّة السويد في الناتو. ولم تكتف قمّة فيلنيوس بتكريس هذا الجديد التركيّ – السويديّ، إذ افتتحت كذلك ما وصفه إردوغان بـ «مرحلة جديدة كلّيّاً» في العلاقة مع الولايات المتّحدة. وعلى الهامش، ظهرت انفراجة تركيّة – يونانيّة أيضاً.

لقد أُشيرَ إلى عوامل شجّعت الرئيس التركيّ على سلوك طريقه هذا، في عدادها ثقته بنفسه بعد الانتخابات العامّة والمفصليّة الأخيرة، وإحاطته بثلاثيّ معروف بهواه الأوروبيّ، أي وزير المال محمد شيمشيك، ووزير الخارجيّة حاقان فيدان، ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالين.

لكنّ أحوال بوتين الزريّة تبقى العامل الأقدر على تفسير ما جرى وما يجري. وكي نقدّر حجم الاستدارة علينا بأرشيف السنوات السبع التي تفصلنا عن المحاولة الانقلابيّة ضدّ إردوغان، حيث أطلق على الغرب الأميركيّ والأوروبيّ نعوتاً لا تستثني «الصليبيّة» و«النازيّة»، وأكّد عدم التزامه قراراتِ المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، بل أعلن استعداده لصرف النظر عن الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ، كما لم يبقَ زعيم غربيّ، بمن فيهم جو بايدن، إلاّ أخضعه للشتائم والتشهير.

والحقّ أنّ بوتين لا يملك الكثير في وجه هذه الاندفاعة العدوانيّة. فهو لا يتحمّل خسارة تركيّا بوصفها الملاذ الآمن للأوليغارشيّين الروس المنبوذين في الغرب، كما لا يسعه أن يخسرها كقاعدة للغاز تُستخدم بديلاً عن خطّ نورد ستريم المدمّر، ومنها يتمّ التصدير إلى السوق الأوروبيّة. وهناك سوابق ثلاث، على الأقلّ، توحي بالقابليّة الروسيّة لتلقّي الصفعات التركيّة، إحداها لقاء حاقان فيدان بالقائد التتاريّ المنفيّ مصطفى كريموغلو، والذي تصرّف الكرملين حياله كأنّه حدث لم يحدث، والثانية عدم انسحاب موسكو من «مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب» تنفيذاً لما هدّدت به، أمّا الثالثة فتزويدها كييفَ مسيّراتٍ مقاتلة وأنظمة إطلاق صواريخ وعربات مصفّحة، وإعلان شركة بيرقدار التركيّة للمسيّرات، التي يملكها صهر إردوغان، خطّتها لبناء مصنع لإنتاج المسيّرات في أوكرانيا.

وإذ يُتوقّع، رغم هذا كلّه، أن يلبّي بوتين دعوة أردوغان لزيارة تركيّا الشهر المقبل، يُتوقّع أيضاً أن يبدأ الأخير حملته لحصد العائدات. فهناك لائحة طويلة من المطالب التي قد يُلبّى بعضها القليل فيما يُستعمل بعضها الأكبر لإقناع الرأي العام التركيّ بأنّ الرئيس لم يقدّم تنازلات مجّانيّة. وأغلب الظنّ، في هذا السياق، أن تتحسّن أوضاع تركيّا الاقتصاديّة وأن تتسلّم أنقرة طائرات «إف – 16» الأميركيّة. لكنْ يُخشى أن يتأدّى عن المصالحة تعزيز «مكافحة الإرهاب»، كوظيفة من وظائف الحلف، على حساب وظائف أخرى لا يستسيغها إردوغان.

ولسوف يكون من المشوّق، كائناً ما كان، مراقبة أحوال تركيّا، بل أحوال العالم، في ظلّ التداعي الروسيّ الذي تعصف به البريغوجينيّة من كلّ الجهات.

الشرق الأوسط

——————————-

بوليتكو: أردوغان أكبر مساوم في السياسة العالمية.. واللعبة في صالحه/ إبراهيم درويش

نشرت مجلة “بوليتكو” في نسختها الأوروبية مقالا أعده جيمي ديتمر، قال فيه إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو “أستاذ المساومة في السياسة العالمية”، ففي قمة الناتو التي عقدت في الأسبوع الماضي بليتوانيا أغضب الرئيس شركاءه وأعداءه على حد سواء حيث حرف المفاوضات الدبلوماسية لصالحه.

 وقال إن فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، يشبه في إزعاجه لحلفائه الأوروبيين تركيا أردوغان. وأي شخص كان يعتقد أن طول حكم الرئيس التركي كان سيقلل من قدرته على المفاجأة، عليه التحرر من هذا الوهم ومراقبة رحلة الرئيس التركي الكبرى للقمة السنوية للناتو في فيلنيوس، الأسبوع الماضي.

فقد أدهش أردوغان الحلفاء الغربيين وفلاديمير بوتين، من خلال دعمه الواضح لمحاولة أوكرانيا الانضمام للحلف العسكري، قائلا إن البلد الذي مزقته الحرب “يستحق عضوية الناتو”، وأتبع هذا الكلام برميه قنبلة مستحيلة مقابل رفع الفيتو عن انضمام السويد إلى الناتو: على الاتحاد الأوروبي أن يدفع طلب عضوية تركيا في الاتحاد المتوقف منذ وقت طويل.

وبدا أن القمة ستنحرف عن مسارها وهو التركيز على أوكرانيا. وقبل رحلته إلى ليتوانيا قال أردوغان “يجب ألا يتوقع أحد مني تنازلات أو تفاهمات”. وفجأة دار دورته الكاملة، وبعد ساعات من الدبلوماسية المجنونة، صافح الزعيم التركي الأمين العام للناتو يانيس ستولتنبرغ ورئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون اللذين بدت علامات الارتياح عليهما. فقد رفع الفتيو عن انضمام السويد بعد عرقلة الملف لأشهر لأن ستوكهولوم تدعم وتقدم الملجأ للناشطين الأكراد الذين تصفهم أنقرة بالإرهابيين. وحتى بطريقته الزئبقية فقد فاجأ أردوغان الجميع.

ويرى ريتش أوتزين، الزميل غير المقيم في المجلس الأطلنطي أن أردوغان من خلال لي السياسات والتحول وتغيير المواقف، حقق عددا من التنازلات الجوهرية “عليك الاعتراف بأن أردوغان لعب ورقته بشكل جيد فيما يتعلق بالمصالح القومية التركية”. وفي الوقت نفسه، وجدت روسيا نفسها خاسرة عندما قرر أردوغان وبدون مقدمات تسليم قادة وحدة أزوف الذين احتجزهم بناء على طلب روسي لحين انتهاء الحرب. واشتكى المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف من خرق تركيا “الثقة”، وقال بيسكوف متذمرا “لم يخبر أحد روسيا بعملية التسليم” و”كان من المتوقع أن يظلوا في تركيا حتى نهاية النزاع”.

وفي البداية تبدو ألعاب أردوغان زئبقية وفوضوية، لكنها تحمل كل علامات المساومة واللياقة العثمانية في سوق إسطنبول الكبير، مع خلاف أن السقف أعلى. وبالنسبة لأوتزين فما فعله أردوغان، في الأسبوع الماضي هو ما يفعله دائما، حيث يحاول اللعب على كل الأطراف والمساومة المتقلبة، وليس مجرد إبقاء قدمي السويد في النار بسبب الناشطين الأكراد. وقال أوتزين إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أساءوا قراءة أردوغان فيما يتعلق بملف توسيع الناتو وعضوية السويد فيه. فهم يرون فيه “شخصا سيئا ويقوم بمحاضرة السويد بطريقة قاسية وبدون داع حول عضويتها لكي يتراجع بعد الضغط المناسب والنشط من الغرب”.

إلا أن أوتزين الذي عمل في وزارة الخارجية، في المجال المدني والعسكري وعمل في مكتب تخطيط السياسات يرى أن هذا الموقف ليس صحيحا، فلم يكن لدى أردوغان أي نية للوقوف أمام عضوية السويد، لكنه كان يبحث عن الصفقة الأفضل. فتركيا، عضو في أهم حلف عسكري في العالم، وكان الأتراك راغبين، مبدئيا بتوسيع الحلف و”أعتقد أن أردوغان كان يلعب لعبة تقوم على فكرة أنه سيسمح للسويد في النهاية بالدخول، ومعرفة هذا مع قرب القمة فإنه كان يستطيع زيادة خياراته الجيدة والحصول على التنازلات”، كما يقول أوتزين.

ومن بين التنازلات شراء 40 طائرة أف-16 ومعدات لتحديث الطائرات التي تملكها تركيا. ففي الوقت الذي نفى فيه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان أي رابطة بين الدعم التركي للسويد وصفقة أف-16، لكن أي محقق جيد يعرف أن المصادفة نادرة. وطالما عارض المشرعون الأمريكيون الصفقة لتركيا وتعرضوا لضغوط في الأسبوعين الماضيين من إدارة بايدن لكي يتخلوا عن معارضتهم، حيث ازدادت الجهود مع قرب القمة. واستطاع الزعيم التركي تحقيق تنازلات أبعد من المقاتلات حسب الأكاديمي التركي إيمري أوسلو، فالدول الغربية ستقوم برفع العقوبات التي فرضت على أنقرة عام 2019. فقد كانت هذه العقوبات ردا على شراء أنقرة نظام أس-400 الدفاعي الصاروخي من روسيا والتوغل التركي في شمال- شرق سوريا.

وفي البيان الصادر عن الناتو بعد لقاء أردوغان مع ستولتنبرغ وكريسترسون جاء: “لن تكون، مبدئيا أي قيود وعقبات وعقوبات للتجارة والاستثمار بين الحلفاء. وسنعمل باتجاه إزالة هذه العقبات”، وكان هذا مكسب كبير للزعيم التركي. وقال أوسلو إن أردوغان ضغط لرفع العقوبات عن قطاعات الطيران لأسباب تتعلق بالدولة والعائلة “تعتبر صناعة الطيران مهمة لمشروع أردوغان وبناء مجمعات صناعية عسكرية، ومعظمها تعود إلى مصالح يملكها المقربون منه وصهره سلجوق بيرقدار”.

وفي الوقت الذي لا تزال الدول الغربية تتعافى من الأساليب القاسية التي استخدمها أردوغان إلا أن رد روسيا كان صعبا، ولأول مرة تنتقد موسكو تزويد أنقرة بالمسيرات إلى أوكرانيا التي تستخدمها وبفعالية جيدة. وتنتظر روسيا توضيحات من أنقرة حول تسليم أسرى الحرب. واشتكى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لنظيره التركي هاكان فيدان حول الدعم العسكري “المدمر” لأوكرانيا.

وأدت تحركات أردوغان بالمعلقين والساسة الأوروبيين للتساؤل إن كان قد حول نظره من جديد للغرب. فلطالما تساءلوا عن استدامة علاقة بوتين- أردوغان. وبدأت عندما أسقط الطيران التركي مقاتلة روسية قرب الحدود التركية- السورية في 2015، وتساءل البعض إن كانت العلاقة ستنهار بسبب الطموح الجيوسياسي الكبير لهما، فقد كان على جانبي الصراع في سوريا وليبيا. إلا أن بوتين وأردوغان استطاعا تجزئة العلاقة والمواقف في القضايا الحساسة، وكان لدى أردوغان ورقة رابحة، فقد رفض فرض العقوبات الغربية على روسيا. ويأمل بالتفاوض مع بوتين على تمديد اتفاقية نقل الحبوب عبر البحر الأسود، ومن المحتمل تكرار عرضه بلعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا.

ويعتقد أوتزين أن أردوغان لن يتخلى عن أسلوب اللعب مع الجميع، تماشيا مع السياسة الخارجية التقليدية “بالنسبة له فالقرار أن يكون في صف الغرب لا يتماشى مع شخصيته”.

القدس العربي

——————————-

مسيرة التفاهمات الروسية التركية على الأرض السورية ومستقبلها/ منهل باريش

لا تزال الخروقات مستمرة لاتفاق وقف إطلاق النار في مناطق «خفض التصعيد» في إدلب، والمتفق عليها في مسار «أستانة» السياسي الذي ترعاه كل من روسيا وتركيا وبحضور إيراني، وكان آخرها قصف قوات النظام بلدة البارة في جبل الزاوية، ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة ثلاثة أطفال بجراح.

إن اتفاق «خفض التصعيد» المدعم بمذكرة تفاهم بين أنقرة وموسكو، لتعزيز وقف إطلاق النار ابرمت في أيلول (سبتمبر) 2018 والتي جاءت بعد سلسلة اجتماعات لأطراف أستانة في عام 2017 تتعرض في الآونة الأخيرة لتهديد من الممكن أن يفتح بابا جديدا للصراع بين قوات النظام المنتشرة في جنوب وجنوب شرق محافظة إدلب، وبين هيئة تحرير الشام التي تسيطر على المناطق «المحررة» من المحافظة، والممتدة من جبل الزاوية جنوبا وجسر الشغور غربا حتى الحدود السورية-التركية شمالاً.

وعلى الرغم من اتفاق لاحق بين روسيا وتركيا في آذار (مارس) 2020 لوقف إطلاق النار والمعروفة باسم «اتفاقية موسكو» إلا أن خطوط التماس بين الطرفين تشهد منذ 20 حزيران (يونيو) الماضي، والذي تزامن مع انعقاد قمة «أستانة 20» تصعيداً في عمليات القصف المتبادل بين قوات النظام من جهة، و«غرفة عمليات الفتح المبين» التي تقودها هيئة «تحرير الشام» من جهة أخرى. الأمر الذي يرجعه كثيرون لمحاولة أطراف «أستانة» إبراز نقاط تحكمهم على الأرض، ومدى تأثيرهم على الاتفاق، إلا أن عمق الصراع بين الأطراف الميدانية من جهة، والإقليمية والدولية من جهة أخرى، هو ما يعكسه التصعيد الأخير، والذي يمكن ان يحول منطقة «خفض التصعيد» الرابعة في إدلب وجوارها لساحة تنافس وإبراز نقاط القوة بين كل من روسيا وتركيا، وبشكلٍ خاص التغيرات في طبيعة العلاقات بين الطرفين بعد الانتخابات التركية، بالإضافة لتأثير شراكة كل من أنقرة وموسكو في صياغة الوضع الراهن في إدلب ويضاف إليها الاستفادة من الهزة الكبيرة التي حصلت في روسيا بعد انفجار التوتر بين فاغنر والرئيس فلاديمير بوتين.

وبالعودة للاتفاقات المبرمة بين كل من تركيا وروسيا منذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي رسمه مسار أستانة عام 2017 وما نتج عنه من تفاهمات تتعلق بتبريد خطوط القتال في المنطقة الواقعة بين سكة قطار حلب -دمشق وطريق الترانزيت بين المدينتين/M5 و«اتفاق سوتشي» أيلول (سبتمبر) 2018 وملحقاتها من مذكرات وخرائط وتقسيم المناطق إلى نقاط خفض تصعيد في أربع مناطق من درعا إلى إدلب وما بينهما في ريف دمشق وحمص، وانتشار نقاط المراقبة التركية والإيرانية في منطقة إدلب وانتهت التفاهمات العريضة لذلك المسار بعد التوافق بين الرئيسين اردوغان وبوتين بالتوقيع على اتفقا موسكو في 5 آذار (مارس) 2020 لكنها لم تنفذ وحاولت موسكو عدم استفزاز أنقرة مجددا وفرض ما جرى التوافق عليه.

وتستمر حالة الجمود في مساحات السيطرة منذ ثلاث سنوات وشهور قليلة، تستثمر موسكو خلال ذلك في المسار السياسي مع تركيا خارج مسار الأمم المتحدة العريض، وتتمثل النظرة التركية للاتفاقات بتعهدات موسكو إبعاد ما تصنفها أنقرة بتنظيمات «إرهابية» عن شريطها الحدودي، مقابل ضمان تركيا للنشاط التجاري على الطريق الدولي (M4) وإنشاء منطقة أمنية على عمق 6 كم من جانبي الطريق، بينما تبنت موسكو مؤخرًا رؤية جديدة لم تحتويها اتفاقات أستانة وسوتشي السابقة من خلال إنجاز خطوات فعلية في مسار ترعاه للتطبيع بين أنقرة ونظام الأسد، وتحقيق إجراءات فعلية كافتتاح السفارات بين دمشق وأنقرة، وربما عقد لقاء على مستوى القمة بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، ورئيس النظام السوري بشار الأسد.

وفي هذا السياق، أكد سفير النظام السابق في أنقرة، نضال قبلان، لوسائل إعلام روسية أن تطبيق تركيا لشروط النظام السوري، وأبرزها خروج القوات التركية من الأراضي السورية، هي المحدد لعملية التطبيع والمصالحة بين الجانبين، مشيرًا إلى أن أي لقاء بين الأسد واردوغان لن يتم إلا بموافقة الأخير على الشروط التي وضعها النظام على طاولة مسار التطبيع الذي ترعاه روسيا، وانضمت له لاحقًا إيران، ومن ضمنها مطالبات النظام بوقف أنقرة دعمها لفصائل المعارضة السورية، وإعادة فتح المعابر الحدودية بين الطرفين.

وأكد قبلان، أن الطرح الروسي لمسار التطبيع يمكن اعتماده كـ «أساس نظري» في خريطة طريق المصالحة، نافيًا ان يكون هناك أي «خرق» مستجد في العملية، متفائلاً في التغييرات الحكومية التي أجراها اردوغان، وبشكل خاص تعيين هاكان فيدان وزيرًا للخارجية، وبدور الدبلوماسية التركية الجديدة في القرارات المستقبلية المتعلقة بالعلاقات والمصالحة بين أنقرة ونظام الأسد.

الجدير بالذكر أن روسيا تبنت في كانون الأول (ديسمبر) 2022 عملية التطبيع بين النظام السوري وتركيا، حيث ضم لقاء جمع وزراء الدفاع التركي ونظيريه الروسي والسوري لأول مرة بعد قطيعة استمرت لأكثر من عقد من الزمن، إلا أن المسار لم يحقق ما طمحت له موسكو، بسبب طريقة تعاطي الجانب التركي مع الأمر من رؤية مرحلية حكمتها الانتخابات التركية من جهة، وتراكمات في النقاط الخلافية بين الطرفين من جهة أخرى.

وبالتوازي مع ذلك، لا يمكن تهميش التغيرات في طبيعة العلاقة بين روسيا وتركيا في ملفات أخرى من العالم، وما ستعكسه هذه التغيرات على سوريا بشكل عام، وعلى منطقة خفض التصعيد في إدلب بشكل خاص، ومن أبرزها لقاء الرئيس اردوغان مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أنقرة، وتسليمه خمسة قادة من لواء أزوفستال ممن استسلموا للقوات الروسية ونقلوا إلى تركيا بعد وساطة الأخيرة، مقابل بقاءهم في إسطنبول حتى نهاية الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة لما أكده اردوغان من دعمه لانضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي «الناتو» وموافقة تركيا على ضم فنلندا للحلف وموافقتها المبدئية على ضم السويد، كما أن من جملة التغيرات النظرة الروسية لتوسع نفوذ تركيا في أوروبا الشرقية والبلقان، وجاءت ردود الفعل الروسية بشكل مباشر، حيث ألغى الكرملين زيارة متوقعة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا الشهر المقبل، كما لم تخفي تصريحات المسؤولين الروس انزعاجهم من السياسة الجديدة لاردوغان، ومن هذه التصريحات ما جاء على لسان رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف قوله إن تركيا «تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية» وهذا ما يفتح باباً من التكهنات حول انعكاسات السياسات التركية مع روسيا في سوريا وفي إدلب بشكل خاص، بعد علاقات من الشراكة بين البلدين انطلقت عام 2016 وعلى حساب علاقات تركيا مع أوروبا وأمريكا، الأمر الذي تسعى السياسة التركية الجديدة إلى موازنته والتعامل معه بشكل براغماتي يقوم على أساس تحصيل الفائدة من كافة الأطراف.

وفي سياق منعكسات العلاقات الروسية-التركية على شمال غرب سوريا، تنكشف ملامح صراع عسكري جديد بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد» المدعومة من وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» وقوات نظام الأسد المدعومة من روسيا، والميليشيا الإيرانية، ما يجعل السياسة الروسية في حالة من الارتباك والتشتت في طريقة تعاطيها مع أطراف الصراع في شمال غرب وشمال شرق سوريا، في الوقت الذي تشغل فيه الحرب الروسية-الأوكرانية أولى اهتمامات إدارة بوتين، ففي الميدان شهدت مناطق شمال شرق سوريا الممتدة بين التنف في الجنوب الشرقي من البادية السورية، والقامشلي في أقصى الشمال الشرقي تحشيدا عسكريا من كافة الأطراف، حيث استقدم نظام الأسد الفرقة «الرابعة» المدعومة من روسيا إلى جانب ميليشيا «اسود العشائر» التي يقودها زعيم قبيلة البكارة نواف البشير إلى بلدات خشام والطابية والحسينية شمال شرق محافظة دير الزور، كما استبدلت نقاط كانت تسيطر عليها «الفرقة الرابعة» في المنطقة ذاتها بقوات من «الفيلق الخامس» المدعوم بشكل أكبر من روسيا. وتعتبر هذه القرى خطوط تماس بين قوات النظام والميليشيات الإيرانية، وقوات التحالف الدولي وقوات «قسد» التي استقدمت المزيد من قواتها من نقاط تتمركز بها جنوب مدينة الحسكة إلى ريف دير الزور، لتستقر في منطقة المعامل ودوار المدينة الصناعية، والمحلج ومطحنة دير الزور شرق المدينة، فيما استقرت التعزيزات الأكبر قرب حقل «كونيكو» للغاز، حيث توجد القاعدة الأمريكية في سوريا.

من جانبها دفعت القوات الأمريكية صباح الأحد الفائت بأكثر من 50 آلية عسكرية من شمال محافظة الرقة ومدينة منبج إلى مناطق خطوط التماس مع قوات نظام الأسد شرق نهر الفرات في ريف دير الزور، وأفادت مصادر محلية لـ «القدس العربي» بإزالة «قسد» للألغام على طول خط الجبهة الفاصل بينها وبين قوات النظام من بلدة الطابية وحتى محيط «دوار واقع» شمال مدينة دير الزور.

وتشهد المنطقة النفطية مزيدا من التحشيد العسكري وسعت روسيا عبر شركة فاغنر إلى السيطرة على حقل العمر النفطي الواقع على شرق نهر الفرات عام 2018 ما عرضها إلى خسارة فادحة لعشرات المقاتلين الأجانب إضافة إلى آخرين من المتعاقدين السوريين.

ولا يمكن تفسير التحشيدات إلا بان تكون سببًا في رغبة الروس وقوات النظام في استعادة السيطرة على المنطقة، إلا ان انتشار قوات التحالف الدولي ضمنها من أبرز العوائق في ذلك، كما أن الخروقات المتكررة خلال الشهر الجاري لـ «بروتكول منع التصادم» بين روسيا وأمريكا، يمكن ان يحمل إشارات تنبئ عن تطورات لاحقة ستنكشف خلال الفترة المقبلة.

وفي ظل هذه التطورات الميدانية شمال شرق سوريا، والسياسة المتمثلة بطبيعة التنسيق التركي-الروسي في سوريا، تبرز عوامل من شأنها أن تكون بواعث لتغيرات مستقبلية في خريطة السيطرة والنفوذ للأطراف الفاعلة في سوريا. إلا أن انعطافة اردوغان الأخيرة تشكل التحدي الأبرز في المرحلة المقبلة وتكرس مفهوم أمننة السياسة أكثر من أي مرحلة خلت بالنسبة لطريقة إدارة أنقرة لعلاقاتها الدولية.

القدس العربي

——————————

مستقبل السوريين في تركيا بعد الانتخابات/ سعيد الحاج

كان الوجود السوري في تركيا أحد أهم الملفات في حملات الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة في البلاد، ورغم خسارة المعارضة -ولا سيما الأحزاب المعادية للاجئين والأجانب في الانتخابات- فإن الملف لم يختف تماما من التداول السياسي والإعلامي، فضلا عن اقتراب الانتخابات المحلية التي يتوقع أن تعيد تسخينه.

السياسي والقانوني

لا يندرج السوريون المقيمون في تركيا من الناحية القانونية تحت بند اللجوء السياسي وإنما في إطار “الحماية المؤقتة”، فرغم أنها صدّقت على اتفاقية عام 1951 بخصوص اللاجئين فإن تركيا لم تلغ التحديد الجغرافي (الأوروبي) وفق بروتوكول نيويورك 1967، ولذلك فإن كل من يلجأ إليها من البلاد الأخرى لا يحصل على صفة اللجوء القانونية، وهو ما تنص عليه المادة رقم 91 من قانون “الأجانب والحماية الدولية” لعام 2014.

كان الوجود السوري في تركيا مناط احتجاج المعارضة في وجه الحكومة التركية، لكنه اتخذ في السنوات القليلة الأخيرة مسارات مختلفة ومعقدة، ومعه انتقل حتى الحديث الحكومي الرسمي من خطاب “المهاجرين والأنصار” إلى مقاربة تحيل إلى التعامل مع تحدٍ أو مشكلة قائمة.

ولا شك أن الأمر يشكل تحديا من زاوية ما وتشوبه بعض السلبيات ويمثل ظاهرة صعبة العلاج لأسباب كثيرة، في مقدمتها لجوء عدد كبير من السوريين يقدر بالملايين في مدة زمنية قصيرة نسبيا، تضاف إلى ذلك الفروق والاختلافات اللغوية والثقافية بين الشعبين.

ومنها كذلك أن الملف كان إحدى قضايا الاستقطاب السياسي في البلاد، بحيث وقفت حكومات العدالة والتنمية منذ 2012 مع المعارضة السورية، في حين تبنى أكبر أحزاب المعارضة سردية النظام إلى حد كبير، ثم ظهرت في السنوات القليلة الأخيرة بعض التيارات التي جعلت العداء للاجئين همها الشاغل وخطابها السياسي الأوحد، وأهمها حزب النصر اليميني المتطرف الذي جعل السوريين و”اللاجئين” عموما السبب الأبرز لكل مشاكل تركيا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية وغيرها.

وأخيرا، فقد ساهم الخطاب الحكومي أحيانا في تغذية الظاهرة من حيث أراد العكس، تارة بالمبالغة في تقدير الأموال والمصادر التي بذلتها الحكومات التركية للسوريين بهدف الضغط على الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي، وهو ما أدى إلى حالة اعتراض داخلية كبيرة، وتارة بانتهاج سياسات وإجراءات بهدف تخفيف الاحتقان اعتمدت عليه التيارات العنصرية للتدليل على سلامة موقفها وتحليلها ثم رفع سقف خطابها ومطالبها.

أثر الانتخابات

مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلاد في السنتين الأخيرتين مترافقا مع نمو التيار المناهض لوجود الأجانب عموما والسوريين خصوصا فيها بات اللاجئون -خاصة السوريين- ملفا أساسيا على أجندة الانتخابات المصيرية وطوال الحملة الانتخابية.

قبل الانتخابات بأشهر ساهم عاملان أساسيان في تراجع أهمية الملف انتخابيا، الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب البلاد في فبراير/شباط الفائت وتقدم قائمة الأولويات السياسية والإعلامية والانتخابية، والإجراءات التي قامت بها الحكومة لتخفيف نسبة الوجود الأجنبي في البلاد بما يلي أذونات السكن وأوراق الإقامة وسياسة ترحيل المخالفين، فضلا عن الإعلان عن مشروع الإعادة الطوعية لمليون سوري إلى الشمال السوري.

لكن الملف عاد إلى التسخين مرة أخرى قبيل الانتخابات، ثم زادت حدته قبل الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية حين قدم المرشح القومي “الخاسر” سنان أوغان نفسه وتحالفه “الأجداد” كعامل حاسم فيها، مما دفع كلا المتنافسيْن إلى محاولة كسب المرشح والتحالف لصالح أحدهما، كل بطريقته.

قدم مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو خطابا شعبويا استهدف السوريين وجعل ترحيلهم شعار حملته في الإعادة وأبرم تفاهما مع رئيس حزب النصر أوميت أوزداغ بهذا الخصوص، وقابله أردوغان بحديث سياسي عن عمل الحكومة على إعادة السوريين إلى بلادهم ولكن بطريقة إنسانية ومتدرجة وآمنة.

أسفرت الانتخابات الأخيرة عن خسارة المعارضة التقليدية الانتخابات الرئاسية وعدم قدرتها على الفوز بأغلبية البرلمان، فضلا عن عدم تمثل حزب النصر أو أي من أحزاب تحالف الأجداد به، لكن ذلك لا يعني أن الملف قد أغلق على ذلك.

وبالعكس، ثمة ما يؤكد أن الملف قائم ومستمر وأنه ليس مرتبطا شرطيا بالانتخابات السابقة، ففي المقام الأول ما زالت العوامل التي ساهمت في تأجيج الملف وإبقائه حاضرا في التداول السياسي والإعلامي ماثلة، وفي مقدمتها الأوضاع الاقتصادية والتيار المناهض للاجئين والأجانب وحدة الاستقطاب في البلاد، إضافة إلى جملة من الإشاعات والمعلومات الخاطئة المنتشرة بشأن الملف.

من جهة أخرى، فقد أكدت الانتخابات الأخيرة الحضور الكبير للتيار القومي في الخريطة السياسية الداخلية، وهو تفصيل له تأثير مباشر على ملف السوريين، إذ إن الأحزاب القومية لا تختلف كثيرا في توصيف المشكلة واقتراحات الحل، بما في ذلك حزب الحركة القومية المتحالف مع العدالة والتنمية والداعم علنا لسياساته، والذي كان رئيسه دولت بهجلي من أوائل من استخدموا مصطلح “الاحتلال الصامت” لوصف “اللجوء غير النظامي”.

وأخيرا، فإن البلاد لم تخرج تماما من أجواء الانتخابات، إذ ستُجرى الانتخابات المحلية في مارس/آذار المقبل، مما يعني عودة السخونة والاستقطاب إلى الحياة السياسية ومعهما التركيز مجددا على السوريين خصوصا والأجانب عموما، وقد بدأت بعض الأحزاب -وفي مقدمتها حزب النصر اليميني- في تبني خطاب انتخابي يجعل السوريين في القلب منه وفكرته الرئيسة.

ولذلك، حتى الانتخابات البلدية وما بعدها سيستمر الملف السوري في الحضور بشكل متوتر في جدول الأعمال السياسي والإعلامي في تركيا، ولن تتركه بعض الأطراف السياسية المستفيدة يبرد ويتراجع، كما أن الإجراءات الحكومية المنفذة حتى اللحظة تجاه السوريين والأجانب عموما ستستمر دون توقف، إذ إنها غير مرتبطة بالانتخابات فقط كما سلف ذكره.

وبعيدا عن كل ما سبق يدرك السوريون ومعهم الحكومة التركية أن الكثيرين منهم لن يعودوا إلى سوريا، فقد نسجوا علاقات متجذرة مع المجتمع التركي دراسة وعملا ومصاهرة، ولذلك لن تكون سياسات الترحيل وتخفيف الأعداد كافية وحدها لحل المسألة، بل سيكون على الجهتين العمل على تخفيف حدة الاحتقان وزيادة مستوى الاندماج والتناغم بين السوريين والأتراك.

ويمر ذلك عبر رؤية واضحة تعتمد عدة مسارات وأدوات متنوعة على جانبي المعادلة يضيق المجال هنا للتفصيل فيها، لكنها ترتبط بالأساس برؤية تعتمد منهجية الحل والإدارة لا إخماد الحرائق، وتعتمد على سردية رسمية واضحة ومعلنة، وتنتهج تأسيس الوعي لدى الجانبين: الوعي بتركيا ثقافة وقانونا لدى السوريين والوعي بالواقع السوري الحقيقي بعيدا عن الإشاعات في الشارع التركي، بما في ذلك تفنيد المزاعم الكثيرة المغلوطة عمدا أو بدون قصد.

ويحتاج الأمر لتركيز خاص على وسائل الإعلام التي كانت جزءا من المشكلة في السنوات السابقة من خلال تغطية إعلامية هادئة الخطاب تتجنب التحريض والتسخين وتعرض للإنجازات والإيجابيات أكثر من السلبيات والأخطاء، فضلا عن نشر المعلومات غير الدقيقة.

وإذا كان من البديهي أن الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على عاتق الحكومة التركية بما تمتلكه من أدوات وقنوات وقدرة على التأثير على الجميع إلا أنه من المنطقي كذلك أن المؤسسات والشخصيات السورية -السياسية والمجتمعية- عليها مسؤولية لا تقل أهمية على عدة أصعدة، مثل التمثيل والتواصل والخطاب وتأسيس الوعي وإيصال المشاكل والعمل على حلها واللجوء إلى المسار القضائي حين يحتاج الأمر لمواجهة الخطاب والممارسات العنصرية، فملف مثل الوجود السوري في تركيا ليس له حل سحري ولا سهل ولا سريع، بل إنه يحتاج لنفس طويل وجهد موزع على الجميع كي لا يتحول إلى ملف قابل للانفجار والإضرار.

كاتب وباحث في الشأن التركي

الجزيرة

——————————-

تصاعد الاشتباكات بين القوات التركية و«قسد» شمال سوريا/ سعيد عبد الرازق

بدء عودة السوريين من عطلة «الزلزال»… ومهلة لمخالفي شروط «الحماية المؤقتة»

تصاعدت الاشتباكات والهجمات المتبادلة بين القوات التركية وما يعرف بـ«الجيش الوطني السوري» الموالي لأنقرة من جانب، و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) من جانب آخر، على عديد من المحاور في شمال سوريا بعد فترة قصيرة من الهدوء.

وقُتل 5 عناصر من فصائل «الجيش الوطني» وأُصيب آخرون، السبت، في هجوم نفذته مجموعة من «قسد» تسللت إلى مناطق سيطرة الفصائل على محور كلجبرين قرب مدينة مارع الواقعة ضمن مناطق «درع الفرات» في شمال حلب، التي تسيطر عليها القوات التركية و«الجيش الوطني». وعلى الأثر، اندلعت اشتباكات وتبادل للقصف المدفعي بين الطرفين، بحسب ما أفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان». وكان طفل أُصيب بجروح، ليل الجمعة – السبت، خلال استهداف فصائل «الجيش الوطني»، بالرشاشات الثقيلة والمتوسطة، قرية الذوق الكبير، التابعة لناحية شيراوا بريف عفرين شمال غربي حلب، والخاضعة لسيطرة «قسد» والقوات الحكومية السورية. وجاءت هذه التطورات، بعدما قُتل 4 عناصر من «قسد» في هجوم شنته طائرة مسيّرة تركية على منطقة عامودا في محافظة الحسكة. وبحسب ما أفاد «المرصد» وكذلك المركز الإعلامي لـ«قسد»، استهدفت مسيرّة تركية قرية «خربة خوي» في منطقة عامودا، وأسفر الاستهداف عن مقتل 4 من مقاتلي «قسد». وقال «المرصد» إن المسيّرة هاجمت معسكر تدريب تابعاً لـ«قسد»، التي تشكّل «وحدات حماية الشعب الكردية» غالبية قوامها، في محافظة الحسكة، ما أسفر عن مقتل 4 من عناصر «قسد» وإصابة 8 آخرين. وبحسب المرصد، يعد هذا هو الاستهداف الثاني بالطائرات المسيّرة التركية لمناطق ريف الحسكة خلال يومين. وكشف المرصد عن مقتل 45 شخصاً منذ بداية العام الحالي بضربات جوية تركية، بينهم 10 مدنيين و35 عنصراً من «قسد» أو قوات حليفة لها.

في غضون ذلك، أعلنت إدارة معبر «باب السلامة» الحدودي مع تركيا استئناف حركة عودة السوريين الذين دخلوا بلادهم لقضاء العطلة المخصصة للسوريين المقيمين في الولايات التركية الإحدى عشرة المنكوبة جراء زلزال 6 فبراير (شباط) الماضي، الذي أصاب مناطق في شمال غربي سوريا أيضاً. وقالت إدارة المعبر، في بيان، (السبت)، إنه سيسمح بعودة السوريين إلى داخل تركيا اعتباراً من يوم الاثنين. وسمحت السلطات التركية لآلاف السوريين في مناطق الزلزال الذي خلّف أكثر من 50 ألف قتيل من الأتراك والسوريين، بالسفر لزيارة ذويهم في سوريا. بالتزامن، أعلنت دائرة الهجرة في ولاية إسطنبول التركية أن على السوريين الخاضعين لنظام الحماية المؤقتة، المخالفين لمناطق صدور بطاقات الحماية (كيملك) الخاصة بهم، العودة إلى الولايات التي تم تسجيلهم فيها، وذلك حتى تاريخ 24 سبتمبر (أيلول) المقبل. وجاء في بيان لدائرة الهجرة، تم نشره على الصفحة الرسمية لولاية إسطنبول، (السبت): «يجب على الأجانب الحاملين للجنسية السورية، الخاضعين للحماية المؤقتة، والمسجلين خارج إسطنبول ولكنهم يقيمون حالياً فيها، العودة إلى الولايات التي تم تسجيلهم فيها… في حال تقدم الخاضعون للحماية المؤقتة والمقيمون في المدينة بطلب إلى مديرية إدارة الهجرة في إسطنبول حتى موعد 24 سبتمبر، سيتم إصدار تصريح لهم للعودة إلى الولايات المسجلين فيها». وأضاف البيان أنه سيتم السماح للمواطنين السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة، الذين قدموا من الولايات المتضررة من زلزال 6 فبراير، وحصلوا سابقاً على تصريح مغادرة، بالبقاء في إسطنبول حتى إشعار آخر. جاء ذلك وسط تقارير عن عمليات ترحيل قسري واسعة للسوريين من تركيا إلى بلادهم؛ بسبب مخالفة شروط الحماية المؤقتة، أو الإقامة في ولايات غير المسجلين فيها.

ونفى وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، وجود حالات ترحيل لسوريين من حملة بطاقات الحماية المؤقتة (كيملك) بسبب الإقامة في ولاية غير الولاية الصادرة منها بطاقاتهم. وقال يرلي كايا، (الأربعاء)، إن مَن يُضبط تتم إعادته إلى ولايته وليس ترحيله، مضيفاً: «لا توجد مشكلة بالنسبة للسوري الذي يحمل (كيملك) المقيم في الولاية التي أصدرت بطاقته».

وشدد الوزير التركي على أنهم يعملون بـ«حساسية بالغة» حيال مكافحة الهجرة غير الشرعية، التي باتت مشكلة عالمية، وأنهم لا يتهاونون فيها ويعملون على إخلاء المدن، خصوصاً إسطنبول، من المهاجرين غير الشرعيين، مشيراً إلى أنه تم ترحيل 16 ألفاً منهم خلال الشهرين الأخيرين. وقال إنه يوجد في تركيا حالياً 4 ملايين و888 ألفاً و286 مهاجراً شرعياً، وتم وقف منح تصاريح الإقامة للأجانب في الأحياء التي تزيد نسبتهم فيها على 20 في المائة من السكان. وأضاف أنه بالنسبة للسوريين، ونتيجة الخدمات التي وفرتها تركيا في الشمال السوري، عاد أكثر من 500 ألف سوري إلى بلادهم بشكل طوعي وآمن، لافتاً إلى أن «عدد سكان مدينة جرابلس بلغ مئات الآلاف بسبب العودة الطوعية بفضل الخدمات التي نقدمها هناك».

الشرق الأوسط

———————————-

ما هي إمكانية انسحاب القوات التركية من الشمال السوري؟/ فراس رضوان أوغلو

زادت في الآونة الأخيرة تصريحات المسؤولين الأتراك حول عدم إمكانية، بل استحالة انسحاب القوات التركية من الشمال السوري، بل وصفوها بأنها غير واقعية وإصرار النظام في دمشق على الانسحاب بأنه كلام لا معنى له في ظل الظروف القائمة الآن.

لا يمكن فصل التصريحات المتتالية من قبل المسؤولين الأتراك ابتداءً من الرئيس التركي وصولاً لغيره دون النظر إلى التباعد الملاحظ في الآونة الأخيرة بين تركيا وروسيا، وهذا الأمر ظهر جلياً بعد تسليم تركيا قادة كتيبة أزوف المحتجزين لديها إلى أوكرانيا الأمر الذي أغضب روسيا لأنها كانت قد صنفتهم على قائمة الإرهابيين لديها، ولعل إصرار تركيا على أنها منفتحة للتفاوض مع دمشق مع تحييد ملف الانسحاب للجيش التركي من الشمال وكأنه رسالة لروسيا أكثر منه لدمشق، لأن هذا الانسحاب في حال حدوثه (في حال حصول اتفاق ما) لن يملأ مكانه سوى القوات الروسية التي تسعى لزيادة وجودها على الأرض السورية من أجل تطويق ومحاصرة وتحجيم القوات الأميركية هناك وزيادة بسط سيطرتها أكثر وأكثر في البادية السورية براً وجواً، والتي تعادل مساحتها قرابة 40 بالمئة من مساحة الأراضي السورية والسيطرة على حقلي النفط العمر وكونيكو من الأميركيين وحلفائهم وهذا الأمر يتطلب تفاهمات عسكرية بين دمشق وأنقرة وفق الرؤية الروسية، وفي حال تم ذلك ستكون بمثابة هدية كبيرة جداً لروسيا التي بدأت تقلق من التحركات الأميركية الآخذة بالتوسع في سوريا، والسؤال هل تركيا قادرة على إعطاء مثل هذه الهدية للروس وتحمل تبعات هذا الأمر من قبل الإدارة الأميركية؟

الكل يعلم بأن ما يقلق تركيا ويهدد وحدة أراضيها هو حزب العمال الكردستاني بمسمياته المختلفة أو أماكن تواجده، ومنبع القلق بالنسبة لتركيا ما يحصل في الشمال الشرقي في سوريا وما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية من تعزيز لقواتها ووجودها هناك، وزيادة تسليح قسد الذراع العسكرية الذي تستخدمه في ساحة الميدان، وإعلانها بشكل صريح بأنها سوف تتصدى وتمنع أي أحد (تركيا، روسيا) من أي محاولة هجوم على تلك القوات، ولكنها وفي الوقت نفسه ليست مع فكرة الانسحاب التركي من المناطق التي دخلتها قواتها العسكرية والهدف معروف وهو منع دخول الروس والنظام لتلك المناطق، وزيادة رقعة نفوذهما علاوة على أن الولايات المتحدة الأميركية تهدف لقطع طريق دمشق بغداد على اعتبار أن هذا الخط يوفر ويسهل الدعم الإيراني للنظام (وما يرتبط هذا الأمر من تفاهمات أميركية إسرائيلية)، وأيضاً يسهم في إبقاء الوضع الميداني المقسم في سوريا على ما هو عليه، وربما زيادته بكانتون أخر ما اصطلح عليه سوريا الحرة في المناطق الجنوبية من سوريا، هذا الأمر يزداد صعوبة أو سهولة حسب بقاء القوات التركية وبقاء قوات المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا كعبء كبير على روسيا، ولكن كيف يستوي هذا الأمر والأميركيون يتعاونون مع تنظيم تصنفه تركيا إرهابياً، ولعل تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل جولته للمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة بأن قوات الجيش التركي تحارب الإرهاب هناك رسالة للأميركيين قبل الروس، لأنه لم يبق سوى قسد بعد انتهاء وجود تنظيم داعش من تلك المنطقة.

لا شك أن صانع القرار في أنقرة يدرك الأهمية الاستراتيجية للوجود العسكري التركي في الشمال السوري، فمسألة التناحر الروسي الأميركي لم تعد مرتبطة في عين المنطقة نفسها، بل أصبحت الأرض السورية ساحة ضغط استراتيجي للأميركيين على الروس والعكس صحيح، كما الحال في ليبيا وغيرها، وأيضاً الوجود العسكري التركي نقطة ضغط تركية على الأطراف الأخرى تستغلها تركيا في حسابات متعددة إضافة للحسابات التركية نفسها من تخوف تقسيم سوريا وولادة كانتون كردي، ولذلك وجودها يمنع هذا الأمر الذي ربما لا يعارض المصالح الأميركية في سوريا، ولكن ماذا تستطيع أن تفعل تلك القوات التركية في المناطق الجنوبية في سوريا أو حتى الشرقية منها في حال دعمت واشنطن ما يًسمى كانتون سوريا الحرة، وخاصة أن استمرارية تدفق المخدرات من سوريا نحو الأردن وغيرها قد يجعل تلك الدول تساعد في نشأت هذا الكانتون كحزام واقي.

الانسحاب التركي حالياً ليس واقعياً بشكل عملي، ولن نجد أي تقدم في هذا الأمر ما لم تتحسن الأمور الاقتصادية بين تركيا والنظام في دمشق وخاصة مسألة طرق الترانزيت (العبور) للقوافل التجارية شمالاً جنوباً وبالعكس، وربما هذا الأمر لن ترغب به موسكو فهو ورقة ضغط جيدة على الجميع أيضاً، ولا يمكن وصف الحل في المشهد السوري على أنه سهل رغم كل الاجتماعات التي جرت من أستانا وحتى الاجتماع الرباعي الروسي التركي الإيراني السوري فالأمور متجمدة ولكنها آخذة في التعقيد أكثر فأكثر.

تلفزيون سوريا

————————

نقاش العنصرية ضد العرب في تركيا بين الإفراط والتفريط/ أسامة أبو ارشيد

أن يلتزم الإنسان الموضوعية ويحترم المصداقية ويكون عادلاً في أحكامه في كل وقت وحين أمرٌ صعب المنال، عسير التحقّق، لا يتقنه إلا قليلون، فناسٌ كثيرون تغلب عليهم تحيّزاتهم، وتتبدّل أحكامهم ومواقفهم بناء على تلك التحيّزات، فتراهم يبالغون في تبرير أخطاء من يحبّون والتماس الأعذار لهم، ويبالغون في التشنيع عليها عندما تصدُر عمن يعارضون ويناوئون. وفي القرآن الكريم نجد أمراً وحضّاً على التزام الموضوعية والإنصاف والعدل المطلق في مقابل التحيّز وما يعرف بـ”العدالة النسبية” وكذلك الانتقائية، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا” (النساء: 135).

مناسبة هذه المقدّمة الجدل الذي تكثف في الأسابيع القليلة الماضية في مسألة تصاعد العنصرية في تركيا، شعبياً ومؤسّساتياً، ضد الأجانب بشكل عام، واللاجئين السوريين والأفغان بشكل خاص، بما في ذلك ضد السياح العرب. في هذا السياق، تجد فريقاً بالغ في إنكار الأمر جملة وتفصيلاً بناء على موقفٍ منحازٍ إلى تركيا، وتحديداً الطرف الحاكم فيها راهناً، في حين أن ثمَّة فريقاً ثانياً بالغ في تهويل القضية، وتحديداً لناحية اتّهام الحكومة التركية بناء على موقف مسبق ضدها. وبين هذين الفريقين فريق ثالث سعى إلى محاولة تبرير ما يجري وتحميله للمعارضة التركية، وحتى أطراف خارجية، وتبرئة الحكومة من المسألة برمتها.

لا يزعم صاحب هذه السطور موضوعية تامَّة ولا تحرّراً مطلقاً من الانحياز المسبق، وإنْ يسعى إليهما، لكن من دون السقوط في وَهْمِ تحقيقهما عبر تبنّي مواقف حادّة في اتجاه أو آخر، فالموضوعية لا تعني أبداً الحيادية، وإنما طلب الحقيقة والانتظام في خندقها. ومعلومٌ أن الموضوعية تختزن قيمة أو قيماً تحكم مسار تعاطينا مع المسائل والحكم عليها، في حين أن الحيادية تركّز أكثر على التوازن في الطرح وتقديم القضايا متخفّفة من القيم. باختصار، تتطلّب الموضوعية البحث في المعطيات، وتقليب الأدلة للوصول إلى الحقيقة، وليس الظهور بمظهر المحايد الذي لا موقف له، وبالتالي المساهمة في تضليل الناس. بناء على ذلك، ليس من المقبول اتهام الشعب التركي بكليته بأنه عنصري معادٍ للأجانب والعرب، في الوقت الذي لا يُعقل فيه إنكار وجود نسبة معتبرة بين الأتراك ممن هم عنصريون ومعادون للأجانب والعرب، وخصوصاً السوريين. أيضاً، تقتضي الموضوعية منَّا أن نقرّ أن ثمَّة تحولاً في خطاب حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان وسياساتها في العامين الأخيرين، وتكثفت أكثر في الأشهر الأخيرة، تجاه اللاجئين السوريين، فضلاً عن بعض المعارضات العربية التي احتضنتها تركيا في مرحلة ما بعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي. لكن، من الضروري بمكانٍ هنا أن نؤكد أن الموضوعية تقتضي توضيح السياقات وعدم الشطط.

لا يمكن إنكار أن تركيا بقيادة أردوغان كانت بمثابة الحضن الدافئ، سنوات، لملايين السوريين الفارّين من بطش نظام بشّار الأسد وجوْره، وكذلك الأمر بالنسبة لعربٍ كثيرين ضاقت بهم بلادهم وشرّدتهم أنظمتها في فيافي الأرض. هذه حقيقة، سواء أكان ذلك منطلقاً من مشاعر أخوية أم حسابات سياسية، أم كليهما معاً. لكن إجهاض الثورات العربية، وتواطؤ الفرقاء على خنق رياح التغيير في المنطقة، تركا تركيا وكذلك قطر، شبه وحيدتين في مواجهة حلف واسع من الدول الإقليمية والدولية التي تختلف في كل شيء تقريباً إلا في اتفاقها على عدم السماح بتحقّق ربيع عربي متحرّر من التخلف والكبت والقمع. تطلّب هذا الواقع الصعب مواءمات مريرة، خصوصاً بعد الاستهداف والتحريض الذي تعرّضت له الدولتان، وكان من تداعياته حصار قطر، عام 2017، ومحاولة المسّ بالأمن القومي التركي في شمال سورية، وإثارة القلاقل السياسية والاقتصادية فيها، وصلت حد انقلاب عسكري فاشل، عام 2016. كلنا يعرف بقية الحكاية ونوعية المواءمات الإقليمية التي أجرتها كل من الدوحة وأنقرة، مستفيديْن من أن أوضاع الحلف المناوئ لهما إقليمياً لم تكن أفضل، وهو ما اضطرّه إلى عقد مصالحات أو هدن معهما.

عودة إلى السياق التركي الذي شهد انتخابات تشريعية ورئاسية حاسمة في مايو/ أيار من هذا العام كانت الأصعب على حزب العدالة والتنمية الحاكم عقدين. فجأة وجد الحزب نفسه أمام إمكانية حقيقية لخسارة الرئاسة والبرلمان معاً جرّاء تصاعد الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدّلات التضخم اللذين ضاعفت من آثارهما جائحة كوفيد – 19 والزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وغرب سورية، في فبراير/ شباط الماضي. ولأن تركيا ليست استثناء في السياق الإنساني الاجتماعي، تضاعفت المشاعر العنصرية فيها مدفوعة بقناعة لدى شريحة واسعة من الأتراك أن الأزمة الاقتصادية نتيجة مترتبة على الأعداد الكبيرة للاجئين السوريين في بلادهم ممن يقاسمونهم رغيف الخبز ويشكلون ضغطاً على البنية التحتية لبلادهم. وكما في أوروبا والولايات المتحدة، ودول عربية وأفريقية ولاتينية، ركبت بعض أطياف المعارضة مشاعر الغضب والاستياء لدى بعض القطاعات الشعبية، محولة إياها إلى خطاب عنصري تحريضي وجد رواجاً واسعاً، خصوصاً في تحذيره من أن الوجود الأجنبي في البلاد لا يهدّد استقرارها الاقتصادي فحسب، بل وحتى هويتها الوطنية وخصوصيتها الثقافية. ولأن حزب العدالة والتنمية، والرئيس نفسه، كانا قد تبنيّا من قبل خطاب “المهاجرين والأنصار” فقد وجدا نفسيهما، في ظل الأزمة الاقتصادية والتضخّم الخانقين، كمتهمين في محكمة الرأي العام، وكادا فعلاً أن يدفعا ثمناً باهظاً في الانتخابات أخيرا.

كلنا يذكر أن الرئيس أردوغان، بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، اضطرّ إلى طلب الدعم من المرشّح القومي، سنان أوغان، وتحالفه “الأجداد”، والذي بنى حملته الرئاسية غير الناجحة على التحريض ضد اللاجئين السوريين وضرورة إعادتهم إلى بلادهم، ومكافحة الإرهاب. أيضاً، سعى مرشّح المعارضة، كمال كليجدار أوغلو، إلى نيل دعم أوغان الذي حصد 5% من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات. في المحصّلة، أيد أوغان أردوغان الذي فاز في الانتخابات في الجولة الثانية. لا يمكن إنكار أن التحوّل في خطاب (وسياسات) حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان من اللاجئين السوريين، حتى قبل الانتخابات، كان مرتبطاً بها وبحقيقة تصاعد مشاعر العداء بين بعض أطياف الشعب ضدهم. من هنا، طَرَحَ أردوغان فكرة توطين مليون سوري “بشكلٍ طوعي” في شمال سورية، إلا أن السلطات اتبعت بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية الصعبة مبدأ الترحيل القسري في حالات عديدة. ويبدو أن كثيراً من ذلك يتم من دون موافقة أو توجيه مركزي من الحكومة، التي تجد نفسها بين مطرقة اتهامات المعارضة وتزايد التذمّر الشعبي من اللجوء السوري، وسندان المواقف المبدئية والأخلاقية التي كان الرئيس يحرص على بثها في هذا الملف.

باختصار، تصاعد العنصرية والإساءة بحق اللاجئين والأجانب في تركيا حقيقي، وإنْ من الخطأ التعميم هنا، والحكومة، من حيث كونها تجسّد السيادة، تتحمّل مسؤولية فيهما، سواء لعجزها عن التصدّي لهما أم لمنحهما هامشاً للتعبير عن نفسيهما. إلا أنه، في الوقت ذاته، ليس من الموضوعية ولا الإنصاف تناسي ما قدّمته تركيا للاجئين السوريين، والثمن الذي دفعته، وما زالت في سبيل ذلك. ولو كان “العدالة والتنمية” والرئيس أردوغان متواطئين فعلاً، بشكل كلي ومنهجي، في الخطاب والممارسات العنصرية ضد اللاجئين السوريين والأجانب لكان الواقع أشدّ قتامة وبؤساً. ما يجري في تركيا اليوم لا ينبتّ عمّا يجري حتى في دول الغرب من تصاعد الخطاب اليميني الشعبوي، ومحاولة تحميل الأقليات واللاجئين والطبقات المهمّشة مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية. كذلك، لسنا، نحن العرب، استثناء من جوائح العنصرية والعصبية والتعصّب. كما أن بعض أنظمتنا تتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية، فهي السبب الأساسي وراء تشريد كثيرين من أبناء شعوبها في بقاع العالم الذي يضيق ذرعاً بهم.

العربي الجديد

————————-

عن التنمّر الإلكتروني السياسي في تركيا/ بشار نرش

لا يعدّ التنمّر سلوكاً جديداً وغير معهود بين الأفراد في المجتمعات المختلفة، فلطالما عانت بعض المجتمعات من ظاهرة إيذاء بعض الأطفال والمراهقين من أقرانهم، وقد اتّخذ هذا الإيذاء أشكالاً عدّة، من بينها السب والإيذاء البدني والزجر والتهديد والابتزاز والتلاعب، لكن مع انتشار الشبكة العنكبوتية والهواتف المحمولة وشيوع منصات التواصل الاجتماعي، انتشرت ظاهرة التنمّر الإلكتروني، والتي تعرف بأنها كل استهداف للآخرين بمحتوى على الإنترنت يهدف إلى التحرّش بهم عبر إحراجهم أو مضايقتهم أو إهانتهم أو ابتزازهم أو التشهير بهم وتشويه سمعتهم وقدحهم وذمهم، ليتّخذ التنمّر الإلكتروني بذلك أشكالاً عدّة، منها نشر الأكاذيب والقصص المغلوطة والإشاعات والافتراءات عن أصحاب الحسابات واستخدام الألفاظ القاسية والشتائم وغيرها، وبذلك لم يعد التنمّر يعرف الحدود الجغرافية، فتوسّع محيطه، وزاد عدد ضحاياه ليشمل البالغين وأي فرد في المجتمع، أياً كانت الفئة العمرية التي ينتمي إليها. ولم يقتصر التنمّر الإلكتروني بجميع تداعياته على هذا الإطار، بل شمل أيضاً الإطار السياسي ضمن ما يُعرف بالتنمّر الإلكتروني السياسي، والذي يعني ممارسة سياسة الإقصاء والترهيب ضد الآخر لتحقيق انتصاراتٍ وهميةٍ وشعبيةٍ زائفةٍ في الوسط السياسي وعبر منصّات التواصل الاجتماعي.

ما يدعو إلى استحضار هذه المقدّمة ما تشهده منصات التواصل الاجتماعي في تركيا أخيرا من تنمّر إلكتروني سياسي يتداول فيه مئات إن لم نقل آلاف مقاطع الفيديو على مختلف منصّات التواصل الاجتماعي تتناول اللاجئين في تركيا عموماً، والسوريين منهم على الخصوص، لأهداف وأغراض سياسية، بحيث تحوّلت هذه المنصّات إلى وعاءٍ منفلتٍ لهذه الظاهرة التي أخذت أبعاداً أكثر تعقيداً مما كانت عليه. ولعل المتابع للمشهد السياسي الحالي عبر منصات التواصل الاجتماعي في تركيا، يلاحظ أنه من ملامح التنمّر الإلكتروني السياسي الجديد ظهور بعض الزعماء المتنمرين الذين يمارسون التنمر على اللاجئين بدون هوادة ولا رادع، وبرزت أسماء وأحزاب تركية معادية للاجئين عموماً والسوريين منهم على الخصوص، لديها سردياتها الخاصة للخلاص من اللاجئين، للضغط على الحكومة ولتعويض فشلهم في الانتخابات، والحفاظ على مقبوليتهم لدى أنصارهم ومؤيديهم، منهم أوميت أوزداغ، رئيس حزب النصر الذي تأسّس على مبدأ كراهية اللاجئين والنشط إعلامياً وبشكلٍ كبيرٍ على منصّات التواصل الاجتماعي، وكذلك حزب IYI (الجيد) وحزب CHP (الشعب الجمهوري) الذي سخر كل آلته الإعلامية الضخمة ضد اللاجئين، وخصوصاً قبل الانتخابات، بحيث أصبحت عمليات التحشيد العنصري والاجتماعي والسياسي والإعلامي عبر منصات التواصل الاجتماعي كثيفة ومتواترة، وتتم دون رادع قانوني أو ضابط أخلاقي ووصل الأمر ببعضهم، وفي مختلف التعبيرات السيبرانية كالنصوص والصور والفيديوهات، إلى المجاهرة بالتهديد وبث خطاب الكراهية والاعتداء الجسدي والعنف، وقد شملت هذه الظاهرة معظم الفاعلين، أفراداً وأحزاباً، من دون استثناء.

ومن الإيقاعات الخطيرة لهذه الظاهرة أيضاً أنّها على أرض الواقع بدأت تستهدف كل العرب، كالسياح والتجار والمستثمرين، بما في ذلك كل ما يمت إلى العرب بالصلة كاللافتات المكتوبة باللغة العربية على المحال التجارية. ومن إيقاعاتها الخطيرة أيضاً الممارسات غير المسؤولة الصادرة عن جهات حكومية كانت شريكة في هذا الأمر بحملتها ضد اللاجئين تحقيقاً لأهداف سياسية، يتقدّمها منع استخدام هذا الملف ضدها من المعارضة في الانتخابات البلدية المقرّرة في الربع الأول من العام المقبل، والتي تعتبر مهمة جداً للحكومة التركية لاستعادة البلديات الكبرى كإسطنبول وأنقرة وغيرها.

وبالتالي، يمكن القول إنّ ما يحدث من تنمّر إلكتروني سياسي في تركيا يستهدف اللاجئين والعرب لا يتمّ بمعزل عن ثقافة مجتمعية آخذة في التنامي، مع التأكيد هنا بأنّ إطلاق صفة العنصرية على كل الأتراك فيه افتراءٌ وتضليل، كما أنّ نفي العنصرية وخطاب الكراهية المتزايد ضد اللاجئين والعرب في تركيا يُعتبر كذبا. وعليه، ما بتنا نشاهده ونسمعه من تنمّر وخطاب كراهية وعنصرية في تركيا في الآونة الأخيرة يجعل من الحليم حيران، فما يحدُث يتنافى مع ما تقرّه الأديان وتسطره التشريعات والقوانين، بعد أن تجاوزت هذه الظاهرة في تركيا بعدها السياسي، لتتحوّل إلى “براديغم” (نموذج) في الثقافة العامة أتت أكلها وأثبتت نجاعتها التّدميريّة، فانتشرت في المجتمع الافتراضي وانخرط الجميع فيها من دون إدراك خطورة مآلاتها ومن دون التمكّن من حججها الواهنة، حتى تفشت إيقاعاتها في عمق نفوس هؤلاء، وباتت في سلوكيّاتهم اليومية مستحكمة، إلى درجة بات فيها اللاجئ في تركيا يعيش حالة غير مسبوقة من مشاعر الخوف، يمتزج فيها الوهمي بالحقيقي.

العربي الجديد

————————

السوريون في تركيا يواجهون “صيفاً ساخناً”.. تحركات ومؤشرات

رغم أن السوريين في تركيا عاصروا واختبروا الكثير من الإجراءات التقييدية التي صدرت بشأن وضعهم خلال السنوات الماضية إلا أن تحركات وتصريحات وجملة من القرارات الرسمية تنذر بمشهد “أشد قسوة” عن السابق و”صيف ساخن”.

ويزيد عدد السوريين عن أربعة ملايين شخص في عموم تركيا، ويتركز القسم الأعظم منهم الآن في إسطنبول، المدينة التي بدأت فيها السلطات قبل أيام حملة تستهدف بحسب الرواية الرسمية “المهاجرين غير الشرعيين”.

وجاءت الحملة بعدما عيّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجوهاً جديدة شملت حقيبة الداخلية وولاية إسطنبول، وصولاً إلى تغييره يوم السبت كامل الطاقم في “دائرة الهجرة”.

وبعد تعيين كل من علي يريكايا في منصب وزير الداخلية وداوود غول في منصب والي اسطنبول أعلن هذان المسؤولان عن حملة لمكافحة “الهجرة غير الشرعية”، وأشارت لهجتهم من جانب آخر إلى طريقة تعاطي جديدة مع الملف.

ورغم أن السلطات لم تسمِ السوريين “المخالفين” بعينهم كهدف ضمن نطاق الحملة، إلا أن الكثير من حالات إلقاء القبض والترحيل وثقها حقوقيون، من بينهم الناشط طه الغازي.

في غضون ذلك انتشرت تسجيلات مصورة وثقت إقدام السلطات على اعتقال سوريين “مخالفين” وتعود قيودهم إلى ولايات بعيدة عن إسطنبول.

فيما وثقت أخرى انتشار عناصر من الشرطة في الساحات العامة وعلى السواحل، كخطوات تستهدف البحث عن “المهاجرين غير الشرعيين”.

    HAZİRAN AYINDA 1️⃣5️⃣.5️⃣9️⃣1️⃣DÜZENSiZ GÖÇMEN YAKALANDI.

    Düzensiz Göçle mücadele kapsamında yakalananların;

    6️⃣.8️⃣8️⃣3️⃣’ü sınır dışı edildi. Diğerlerinin sınır dışı işlemleri devam ediyor.

    Geçtiğimiz ay 2️⃣3️⃣.4️⃣5️⃣0️⃣ düzensiz göçmenin de ülkemize girişleri sınırlarımızda engellendi.… pic.twitter.com/2yN8uhslPx

    — Ali Yerlikaya (@AliYerlikaya) July 7, 2023

“خلال 4 أشهر”

وتأتي الحملة الحالية التي تشهدها مدينة إسطنبول بالتحديد بعد نحو شهر من انتهاء الانتخابات “التاريخية” في تركيا، والتي فاز بها أردوغان بولاية رئاسية ثالثة.

وفي أثناء حملته الانتخابية وقبل ذلك كرر أردوغان كثيراً هدفه الخاص بإعادة “مليون لاجئ سوري طوعاً إلى شمال سورية”، في وقت كانت فيه أحزاب المعارضة تحرّض على اللاجئين وأنه يجب إعادتهم إلى بلادهم، بزعم أنها “آمنة”.

وفي حين أعلنت وزارة الدفاع التركية الأسبوع الماضي أن “مليون لاجئ سوري عادوا طوعاً بالفعل إلى شمال سورية” خلال الفترة الماضية، فتح الرئيس التركي الباب أمام سياسية جديدة تتعلق بالهجرة.

وقال أردوغان، قبل يومين، في حديث للصحفيين إنه “من المهم أن يتم منع المهاجرين من دخول تركيا، وأن ينقل من يلقى القبض عليهم إلى ملاجئ أو مخيمات المهاجرين”.

كما أنه من المهم “إيقاف الهجرة من منبعها خاصة من شمال سورية”، مردفاً: “نحن نعمل حالياً من أجل هذا”.

وأكد أردوغان أن القوات الأمنية في تركيا شددت الإجراءات تجاه “المهاجرين غير الشرعيين” خلال الآونة الأخيرة.

معتبراً أن المواطنين الأتراك “سيشعرون بالتغييرات الواضحة” فيما يتعلق بالإجراءات الأمنية، خلال وقت قصير.

وقبله كان وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، تعهد بإنهاء وجود المهاجرين غير الشرعيين خلال 4 أو 5 أشهر.

واعتبر الوزير أن المهاجر غير النظامي هو كل شخص دخل البلاد بطريقة غير قانونية، وفضل البقاء في تركيا رغم انتهاء تأشيرة إقامته، والذي يعمل دون تصريح.

وأكد كايا أن أجهزة الشرطة زادت عمليات التفتيش خلال الأسبوعين الماضيين في إسطنبول بشكل خاص.

من جانبه أعلن والي إسطنبول الجديد، داوود غول بعد تعيينه أنه لن يسمح لأي أجنبي غير مسجل البقاء أو الإقامة في مدينة اسطنبول.

وأضاف أن السلطات “ستعمل على ترحيل المقيمين غير الشرعيين خارج البلاد فور ضبطهم”.

“إسطنبول في المقدمة”

ومنذ سنوات يفضل الكثير من اللاجئين البقاء في المدينة أو السفر إليها بغرض العمل.

ورغم أن البعض منهم يحظى بقيود وأوراق ثبوتية صادرة عنها، إلا أن آخرين تصنفهم السلطات ورئاسة الهجرة في قائمة “المخالفين”، كون قيودهم ترتبط بولايات تركية أخرى.

ويمنع السوريون منذ عام 2016 في تركيا من مغادرة الولايات المسجلين فيها، أو الإقامة في ولايات أخرى من دون “إذن سفر” صادر عن “إدارة الهجرة التركية”.

وينظر كثيرون إلى المعادلة السابقة على أنها تندرج في صلب الحملة الجديدة، والتي بدأت في إسطنبول، ومن المقرر أن تنسحب إلى كافة الولايات، حسب التصريحات الرسمية.

وكانت وسائل إعلام تركية قد نشرت، الخميس الماضي، تسجيلاً في مدينة بورصة عن حملة أمنية ضد المحلات والمواطنين السوريين.

وقال موقع “بورصة اليوم” إن الشرطة في بورصة فرضت رقابة مشددة على المناطق التي يتمركز فيها السوريون.

ويظهر التسجيل دخول الشرطة إلى المحلات التجارية السورية وتفتيش السوريين المارين في الأسواق والحدائق.

وأضاف الموقع أنه تم ترحيل 10 أشخاص “مخالفين”.

كما وثقت تسجيلات أخرى إلقاء عناصر من الشرطة التركية القبض على أحد السوريين في مدينة إسطنبول، وفي أعقاب تفقد بطاقة الحماية المؤقتة التي يحملها.

وذكرت صحيفة “ملييت” المقربة من الحكومة، السبت، أن “ولاية إسطنبول التركية علّقت إصدار تصاريح إقامة جديدة للأجانب إلى أجل غير مسمى”، وأن “هذه الخطوة تأتي في إطار مكافحة الهجرة غير النظامية، ولمواجهة تزايد أعداد الأجانب في المدينة”.

وقالت الصحيفة إن “هناك حالات استثنائية حددتها الولاية منها أن يكون السكن لغرض الصحة أو التعليم أو التجارة الدولية”.

ومن غير الواضح المسار الزمني الخاص بالحملة التي تقودها السلطات، في وقت تسود توقعات بشأن استمرارها حتى انتخابات البلديات المقرر تنظيمها، في مارس/آذار العام المقبل.

——————

اللاجئون والعودة الآمنة إلى سوريا/ سوسن مهنا

مراقبون: حق محفوف بالأخطار وتجربة نظام الأسد لا تحمل أي مؤشر للثقة

في خطابه بمؤتمر عودة اللاجئين نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 قال رئيس النظام السوري بشار الأسد إن احتضان عدد من الدول للاجئين انطلاقاً من مبادئ إنسانية أخلاقية يقابله استغلالهم من بعض الدول عبر تحويل قضيتهم إلى ورقة سياسية للمساومة، وبدلاً من العمل من أجل تهيئة الظروف المناسبة لعودتهم فرضوا عليهم البقاء في تلك الدول عبر الإغراء حيناً والتخويف أحياناً أخرى.

لكن القمة العربية التي عقدت في جدة 19 و20 مايو (أيار) الماضي، كما جميع الاجتماعات الدولية والإقليمية، تمسكت ببند العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، كشرط أساسي على النظام السوري التزامه.

موقف “نظام الأسد” بدا واضحاً برفضه التقيد بالتزامات عودة اللاجئين إلى ديارهم، وفقاً لما جاء على لسان وزير خارجيته فيصل المقداد على هامش الاجتماع التحضيري لقمة جدة، والذي عقد على مستوى وزراء خارجية الدول العربية.

حينها وقف المقداد متحدثاً عن “شروط إعادة الإعمار وعودة اللاجئين”، فقال “نحن لم نقم بالاستجداء، ولن نقوم بذلك، ودخلنا في حرب ضد الإرهاب. ومن أراد المساعدة أهلاً وسهلاً”.

وأضاف “نتطلع إلى أن يكون الدور العربي فاعلاً في مساعدة اللاجئين السوريين بالعودة إلى بلدهم، ومما لا شك فيه أن عملية إعادة الإعمار ستسهل عودة هؤلاء اللاجئين”، كما اشترط معاون وزير خارجية النظام أيمن سوسان، على الدول العربية البدء في إعادة الإعمار، ورفع العقوبات المفروضة على النظام، قبل اتخاذ أي خطوات في إطار عودة اللاجئين السوريين إلى البلاد.

ورأى سوسان أن عودة المهجرين “لها متطلبات، وأهمها توفير الخدمات في المناطق التي سيأتون إليها”، مشيراً إلى أنه يجب إدراك “التلازم بين عودتهم وإعادة الإعمار لتوفير العودة الكريمة لهم، ولكن هل تتم إعادة الإعمار بوجود عقوبات وحصار اقتصادي؟”.

كان بيان قمة جدة أعلن عن اتفاق وزراء خارجية الدول المشاركة على أن “تبدأ الحكومة السورية وبالتنسيق مع هيئات الأمم المتحدة ذات العلاقة، بتحديد الحاجات اللازمة لتحسين الخدمات العامة المقدمة في مناطق عودة اللاجئين، مع توضيح الإجراءات التي ستتخذها لتسهيل عودتهم، بما في ذلك شمولهم ضمن مراسيم العفو العام”.

هل تحقق الشرط؟

تشكل أعداد النازحين واللاجئين السوريين أرقاماً هائلة، إذ اضطر أكثر من 13 مليون شخص إما للفرار خارج البلاد أو النزوح داخل حدوده. واستضافت دول جوار سوريا أكثر من 5.6 مليون لاجئ سوري، وهي أكبر مجموعة من اللاجئين حول العالم، إضافة إلى أعداد كبيرة في دول أخرى، وأصبح السوريون يشكلون أكبر عدد من اللاجئين في العالم، حيث ينتشرون في أكثر من 127 دولة، ويوجد العدد الأكبر منهم في تركيا، بينما يستضيف لبنان والأردن أعلى نسبة لاجئين مقارنة بعدد السكان، كما في العراق ومصر.

وعلى رغم أن بعض أجزاء سوريا لم تشهد أي أعمال عدائية منذ 2018 “فإنها ما زالت بلداً غير آمن”، بحسب ما تؤكد “المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، وأنها “لن تسهل عمليات العودة الجماعية إليها في غياب شروط الحماية الأساسية”، لكنها ذكرت أنها ستساعد اللاجئين الأفراد الذين يقررون العودة طواعية.

ومع هذا لم تشهد أعداد اللاجئين العائدين إلى سوريا بشكل طوعي ارتفاعاً كبيراً، ولا تزال السلامة والأمن في طليعة المخاوف بالنسبة إلى اللاجئين عند اتخاذ قرار العودة إلى ديارهم.

وتحذر المنظمات غير الحكومية بانتظام من عملية “إعادة اللاجئين القسرية” أو الإجبارية إلى سوريا، وقد دعت منظمة العفو الدولية لبنان إلى “وقف عمليات ترحيل اللاجئين غير القانونية” خوفاً من تعرضهم “للتعذيب والاضطهاد” من قبل الحكومة السورية عند عودتهم، بخاصة أن الشروط الضرورية للعودة الآمنة والسلمية لم تتوفر بعد.

ويعتبر الصحافي المعتمد لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل حسين الوائلي أن عودة اللاجئين السوريين “مشروطة بانتقال سياسي” تتوفر فيه شروط بيان جنيف عام 2012، وكذلك ترسيخاً لقرار الأمم المتحدة 2254 الذي يقضي بضرورة ضمان مستقبل مستقر لسوريا والمنطقة من خلال انخراط جميع الأطراف السياسية والاجتماعية السورية بالمفاوضات وإبراز حالة من التفاهم والعيش المشترك بين الجميع.

ويضيف “الآن هذا الشرط لم يتحقق، وطالما لم يتحقق فعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم محفوفة بأخطار كثيرة لا تتوفر فيها شروط حقوق الإنسان. وهنا نتحدث عن منطلق آخر يتطلب رصداً للواقع، وهذا ما يعمل عليه الاتحاد الأوروبي مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، والتي تقول إن الشروط لم تتحقق لعودة اللاجئين”.

“من غادر لن يعود”

عبدالناصر العايد كاتب وروائي وضابط سوري سابق يقيم حالياً في فرنسا بعد أن ترك منطقته دير الزور منذ 2015، يتحدث إلى “اندبندنت عربية” عن فكرة عودة اللاجئين بقوله إن سوريا لا تزال “تحت سيطرة الميليشيات الإيرانية وقوات النظام”، معتبراً أن هناك جهات ومنظمات عديدة أوضحت أن فكرة “سوريا الآمنة” غير صحيحة.

ويشير إلى أن تجربة السوريين مع النظام لا تحمل أي مؤشر للثقة، ولا يمكن لأي سوري أن يصدق الكلام عن الأمان داخل سوريا، سواء إن كانوا معارضين أو مواطنين عاديين فروا من الأوضاع السيئة. ويضيف أن اللاجئ الذي غادر سوريا ولا يحمل صفة “معارض سياسي” قد يفكر بالزيارة وليس عودة دائمة.

إلى جانب أن البلد لا يتمتع بالأمان، هناك الأوضاع الاقتصادية المأسوية، ويعطي العايد أمثلة أن هناك بعض العائلات من دمشق تطلب من أولادها أن يأتوهم بالخبز من الخارج، ومقارنة بين الوضع الاقتصادي للاجئ داخل الخيمة يبقى أفضل من الداخل السوري. أما بالنسبة إلى المعارضين السياسيين فتصبح العودة مستحيلة، وقد تحصل إذا وجد حلاً جذرياً كإسقاط النظام.

هناك جزء كبير من اللاجئين بخاصة المقيمين في أوروبا لا تفكر بالعودة على الإطلاق، فمن أسس وتملك وبدأ حياة جديدة كيف له بالتفكير بالعودة، وهو على يقين أن سوريا لن تعود قبل 20 إلى 30 سنة قادمة.

ويضيف أن الثمرة الجيدة الوحيدة لكل ما حصل هم السوريون الموجودون في أوروبا، إذ يشكلون مليونين أي عشر الشعب السوري، ويتلقون تعليماً عالياً ويقدمون مساعدة للداخل، في حين أن جمهور النظام الموجود في سوريا ما زال منذ 12 عاماً ويده على الزناد ويعيش بؤساً حقيقياً.

بين نارين

حقوقيون وأقارب للاجئين سوريين تحدثوا في مايو الماضي عن أن القوى الأمنية اللبنانية احتجزت ورحلت بعض الأشخاص إلى سوريا قسرياً، في وقت يقول البعض الآخر إن عناصر الفرقة الرابعة التي يرأسها شقيق الرئيس السوري ماهر الأسد تحتجز أقاربهم.

منظمة العفو الدولية بدورها تقول إن عمليات الترحيل “انتهاك واضح” من لبنان للقانون الدولي بموجب مبدأ “عدم الإعادة القسرية”، الذي يمنع الدول إعادة أي شخص قسراً إلى بلد يحتمل أن يتعرض فيه للاضطهاد.

ونقلت وكالة “رويترز” عن أحد اللاجئين قوله إنه اعتقل مع أشقائه الثلاثة في مداهمة بمخيم في لبنان، أواخر أبريل (نيسان) الماضي، ورحلت السلطات إخوته لأنه لا يوجد معهم إقامة. وأضاف طالباً عدم نشر اسمه خشية تعرضه للانتقام “تواصلوا معي من داخل سوريا، كانوا محتجزين في مقر تابع للفرقة الرابعة، لا أعلم مصيرهم بعد”.

ويقول لاجئ آخر “إن العبور إلى سوريا بمثابة انتحار حقيقي، لا سيما أنه وأقرانه من عشرات الشبان متخلفون عن الخدمة العسكرية في جيش النظام السوري وينحدرون من عائلات شاركت في الحراك الشعبي ضد النظام منذ ربيع 2011 في سوريا”.

ويتابع أن عشرات الشبان السوريين الذين رحلوا عبر نقطة عبور المصنع اللبنانية سلموا قسراً إلى عناصر الفرقة الرابعة في الطرف السوري من الحدود، وبات مصيرهم مجهولاً منذ بدء حملة الترحيل الأخيرة من لبنان.

كانت السلطات اللبنانية رحلت نحو 50 سورياً أبريل الماضي. وقال وزير شؤون المهجرين في حكومة تصريف الأعمال في بيروت عصام شرف الدين، إن العملية ستتكرر لإعادة اللاجئين السوريين من لبنان إلى بلادهم، وإن عودتهم “أمر مشروع وواجب”، وإن لبنان يكثف مطالباته بإعادة اللاجئين السوريين، وهناك مناقشات مع دمشق متمثلة بوزارة الداخلية ووزارة الإدارة المحلية والبيئة، وكانت نتائج الاجتماعات “إيجابية”.

وأضاف أنه “آن الأوان لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. 12 عاماً من التشرد ومواجهة الصعوبات، ونحو 90 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر في لبنان”، مضيفاً أن مساعدات المفوضية “لا تكفي العائلات السورية”. وتابع أن الوضع آمن لعودة اللاجئين إلى سوريا باستثناء منطقة الشمال الشرقي التي بها وجود أميركي غير شرعي.

تجاوز طاقة الأردن

أما في عمان فصرح نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية وشؤون المغتربين أيمن الصفدي، مايو الماضي أن الأردن تجاوز طاقاته الاستيعابية في استضافة اللاجئين الذين يجب أن تكثف الجهود لتأهيل البنية التحتية في سوريا لتسهيل عودتهم الطوعية إليها.

وخلال محادثات موسعة مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ذكر الصفدي أن عودة اللاجئين السوريين الطوعية إلى بلدهم في أسرع وقت ممكن “تمثل السبيل الوحيد لحل الأزمة بشكل جذري”.

وأضاف أن “حل أزمة اللجوء يكون في توفير البيئة اللازمة للعودة الطوعية للاجئين السوريين”، مطالباً بضرورة اتخاذ خطوات فاعلة لمساعدة اللاجئين الذين يختارون العودة، لضمان أمنهم وسلامتهم وتوفير متطلبات العيش الكريم لهم.

وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الأردن إنها حصلت على 22 في المئة فقط من متطلباتها المالية للسنة الحالية 2023، أي نحو 88 مليون دولار من أصل ما يقرب من 390 مليون دولار، إجمالي المطلوب. ويستضيف الأردن أكثر من 1.3 مليون سوري منذ بداية الأزمة في 2011، بينهم نحو 660 ألف لاجئ مسجلين لدى المفوضية.

الأوضاع في تركيا

يمثل السوريون العدد الأكبر من اللاجئين العرب في تركيا، التي تستقبل أيضاً لاجئين عراقيين ومصريين ويمنيين وفلسطينيين، لكن خلال الحملات الانتخابية الرئاسية الأخيرة، احتل اللاجئون السوريون الحيز الأهم من الخطابات، حتى إن بعض الأحزاب القومية واليمينية خصتهم بالمسؤولية عن ارتفاع معدلات الجريمة والبطالة في البلاد.

ويقول رئيس تجمع المحامين الأحرار في تركيا غزوان قرنفل “لم يعد اللاجئون يشعرون بالأمان في تركيا. الخطاب العنصري الذي سبق العملية الانتخابية ضدهم هو جزء من خطاب بعض الشارع التركي، الذي أدى في النهاية إلى سقوط قتلى وجرحى”.

وأفادت الإحصاءات الرسمية الأخيرة بوجود نحو 3.7 مليون سوري في تركيا من الحاصلين على “الحماية الموقتة”، إضافة إلى ذلك بلغ عدد السوريين الحاصلين على الجنسية التركية نحو 230 ألفاً. وكان هذا الموضوع في صلب الخطابات السياسية لبعض المرشحين ممن ادعوا أن أعداد السوريين المجنسين أعلى بكثير.

في مقابلة مع قناة تركية، قال الرئيس رجب طيب أردوغان “في المستقبل القريب سيتم التخطيط لخريطة طريق لعودة اللاجئين، وسيتم تحليل مدى سرعة ضمان عودتهم. عاد 450 ألف لاجئ سوري إلى موطنهم، في مناطق الشمال حتى شهر أبريل الماضي”.

وتابع “لدينا خطة لإعادة مليون لاجئ آخرين إلى هناك”. أطلقت السلطات التركية أخيراً عملية لإعادة لاجئين سوريين إلى بلادهم في إطار ما سمته حينها “العودة الطوعية إلى المناطق الآمنة” بشمال سوريا.

وبحسب تصريحات وزارة الداخلية التركية في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، عاد أكثر من نصف مليون سوري إلى بلادهم بشكل طوعي، بينما رحلت السلطات ما يقرب من 20 ألفاً بسبب “قضايا أمنية”. واعتبرت منظمات إنسانية وحقوقية مثل “هيومان رايتس ووتش” تلك العمليات انتهاكاً للقانون الدولي، إذ أوردت في سلسلة تقارير لها حصول “ترحيل قسري” لمئات السوريين عام 2022.

مارية الشيخ لاجئة في منطقة “قيصري” في تركيا غادرت إدلب منذ 2 فبراير (شباط) 2016، تقول في تصريح خاص “دائماً فكرة العودة إلى سوريا الآمنة موجودة في أولوياتي فالكل منا يحلم ببناء مستقبل له ولعائلته ضمن أعلى المواصفات المعيشية والتعليمية، لكن صفة اللاجئ تجعل منا إنساناً درجة ثانية في بلد اللجوء، ويبقى الوطن الآمن الوجهة الطبيعية لأي إنسان يسعى إلى الاستقرار، مع عائلته الكبيرة لتأسيس حياة كريمة مريحة لأطفاله”.

وتضيف أنها ‏اشتاقت لأهلها وناسها، وتعيش دائماً هاجس فقدان عزيز من عائلتها. وتتابع أنه من سابع المستحيلات العودة الآن، بخاصة أن زوجها كان معتقلاً سياسياً، ويوجد ألف خط تحت اسمها وأسماء أطفالها حالياً، فسقوط الأسد والرجعة إلى سوريا حلم كبير، ويشبه المعجزة لكثير من السوريين.

————————————-

مستقبل السوريين في تركيا بعد الانتخابات/ سعيد الحاج

كان الوجود السوري في تركيا أحد أهم الملفات في حملات الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة في البلاد، ورغم خسارة المعارضة -ولا سيما الأحزاب المعادية للاجئين والأجانب في الانتخابات- فإن الملف لم يختف تماما من التداول السياسي والإعلامي، فضلا عن اقتراب الانتخابات المحلية التي يتوقع أن تعيد تسخينه.

السياسي والقانوني

لا يندرج السوريون المقيمون في تركيا من الناحية القانونية تحت بند اللجوء السياسي وإنما في إطار “الحماية المؤقتة”، فرغم أنها صدّقت على اتفاقية عام 1951 بخصوص اللاجئين فإن تركيا لم تلغ التحديد الجغرافي (الأوروبي) وفق بروتوكول نيويورك 1967، ولذلك فإن كل من يلجأ إليها من البلاد الأخرى لا يحصل على صفة اللجوء القانونية، وهو ما تنص عليه المادة رقم 91 من قانون “الأجانب والحماية الدولية” لعام 2014.

كان الوجود السوري في تركيا مناط احتجاج المعارضة في وجه الحكومة التركية، لكنه اتخذ في السنوات القليلة الأخيرة مسارات مختلفة ومعقدة، ومعه انتقل حتى الحديث الحكومي الرسمي من خطاب “المهاجرين والأنصار” إلى مقاربة تحيل إلى التعامل مع تحدٍ أو مشكلة قائمة.

ولا شك أن الأمر يشكل تحديا من زاوية ما وتشوبه بعض السلبيات ويمثل ظاهرة صعبة العلاج لأسباب كثيرة، في مقدمتها لجوء عدد كبير من السوريين يقدر بالملايين في مدة زمنية قصيرة نسبيا، تضاف إلى ذلك الفروق والاختلافات اللغوية والثقافية بين الشعبين.

ومنها كذلك أن الملف كان إحدى قضايا الاستقطاب السياسي في البلاد، بحيث وقفت حكومات العدالة والتنمية منذ 2012 مع المعارضة السورية، في حين تبنى أكبر أحزاب المعارضة سردية النظام إلى حد كبير، ثم ظهرت في السنوات القليلة الأخيرة بعض التيارات التي جعلت العداء للاجئين همها الشاغل وخطابها السياسي الأوحد، وأهمها حزب النصر اليميني المتطرف الذي جعل السوريين و”اللاجئين” عموما السبب الأبرز لكل مشاكل تركيا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية وغيرها.

وأخيرا، فقد ساهم الخطاب الحكومي أحيانا في تغذية الظاهرة من حيث أراد العكس، تارة بالمبالغة في تقدير الأموال والمصادر التي بذلتها الحكومات التركية للسوريين بهدف الضغط على الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي، وهو ما أدى إلى حالة اعتراض داخلية كبيرة، وتارة بانتهاج سياسات وإجراءات بهدف تخفيف الاحتقان اعتمدت عليه التيارات العنصرية للتدليل على سلامة موقفها وتحليلها ثم رفع سقف خطابها ومطالبها.

أثر الانتخابات

مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلاد في السنتين الأخيرتين مترافقا مع نمو التيار المناهض لوجود الأجانب عموما والسوريين خصوصا فيها بات اللاجئون -خاصة السوريين- ملفا أساسيا على أجندة الانتخابات المصيرية وطوال الحملة الانتخابية.

قبل الانتخابات بأشهر ساهم عاملان أساسيان في تراجع أهمية الملف انتخابيا، الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب البلاد في فبراير/شباط الفائت وتقدم قائمة الأولويات السياسية والإعلامية والانتخابية، والإجراءات التي قامت بها الحكومة لتخفيف نسبة الوجود الأجنبي في البلاد بما يلي أذونات السكن وأوراق الإقامة وسياسة ترحيل المخالفين، فضلا عن الإعلان عن مشروع الإعادة الطوعية لمليون سوري إلى الشمال السوري.

لكن الملف عاد إلى التسخين مرة أخرى قبيل الانتخابات، ثم زادت حدته قبل الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية حين قدم المرشح القومي “الخاسر” سنان أوغان نفسه وتحالفه “الأجداد” كعامل حاسم فيها، مما دفع كلا المتنافسيْن إلى محاولة كسب المرشح والتحالف لصالح أحدهما، كل بطريقته.

قدم مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو خطابا شعبويا استهدف السوريين وجعل ترحيلهم شعار حملته في الإعادة وأبرم تفاهما مع رئيس حزب النصر أوميت أوزداغ بهذا الخصوص، وقابله أردوغان بحديث سياسي عن عمل الحكومة على إعادة السوريين إلى بلادهم ولكن بطريقة إنسانية ومتدرجة وآمنة.

أسفرت الانتخابات الأخيرة عن خسارة المعارضة التقليدية الانتخابات الرئاسية وعدم قدرتها على الفوز بأغلبية البرلمان، فضلا عن عدم تمثل حزب النصر أو أي من أحزاب تحالف الأجداد به، لكن ذلك لا يعني أن الملف قد أغلق على ذلك.

وبالعكس، ثمة ما يؤكد أن الملف قائم ومستمر وأنه ليس مرتبطا شرطيا بالانتخابات السابقة، ففي المقام الأول ما زالت العوامل التي ساهمت في تأجيج الملف وإبقائه حاضرا في التداول السياسي والإعلامي ماثلة، وفي مقدمتها الأوضاع الاقتصادية والتيار المناهض للاجئين والأجانب وحدة الاستقطاب في البلاد، إضافة إلى جملة من الإشاعات والمعلومات الخاطئة المنتشرة بشأن الملف.

من جهة أخرى، فقد أكدت الانتخابات الأخيرة الحضور الكبير للتيار القومي في الخريطة السياسية الداخلية، وهو تفصيل له تأثير مباشر على ملف السوريين، إذ إن الأحزاب القومية لا تختلف كثيرا في توصيف المشكلة واقتراحات الحل، بما في ذلك حزب الحركة القومية المتحالف مع العدالة والتنمية والداعم علنا لسياساته، والذي كان رئيسه دولت بهجلي من أوائل من استخدموا مصطلح “الاحتلال الصامت” لوصف “اللجوء غير النظامي”.

وأخيرا، فإن البلاد لم تخرج تماما من أجواء الانتخابات، إذ ستُجرى الانتخابات المحلية في مارس/آذار المقبل، مما يعني عودة السخونة والاستقطاب إلى الحياة السياسية ومعهما التركيز مجددا على السوريين خصوصا والأجانب عموما، وقد بدأت بعض الأحزاب -وفي مقدمتها حزب النصر اليميني- في تبني خطاب انتخابي يجعل السوريين في القلب منه وفكرته الرئيسة.

ولذلك، حتى الانتخابات البلدية وما بعدها سيستمر الملف السوري في الحضور بشكل متوتر في جدول الأعمال السياسي والإعلامي في تركيا، ولن تتركه بعض الأطراف السياسية المستفيدة يبرد ويتراجع، كما أن الإجراءات الحكومية المنفذة حتى اللحظة تجاه السوريين والأجانب عموما ستستمر دون توقف، إذ إنها غير مرتبطة بالانتخابات فقط كما سلف ذكره.

وبعيدا عن كل ما سبق يدرك السوريون ومعهم الحكومة التركية أن الكثيرين منهم لن يعودوا إلى سوريا، فقد نسجوا علاقات متجذرة مع المجتمع التركي دراسة وعملا ومصاهرة، ولذلك لن تكون سياسات الترحيل وتخفيف الأعداد كافية وحدها لحل المسألة، بل سيكون على الجهتين العمل على تخفيف حدة الاحتقان وزيادة مستوى الاندماج والتناغم بين السوريين والأتراك.

ويمر ذلك عبر رؤية واضحة تعتمد عدة مسارات وأدوات متنوعة على جانبي المعادلة يضيق المجال هنا للتفصيل فيها، لكنها ترتبط بالأساس برؤية تعتمد منهجية الحل والإدارة لا إخماد الحرائق، وتعتمد على سردية رسمية واضحة ومعلنة، وتنتهج تأسيس الوعي لدى الجانبين: الوعي بتركيا ثقافة وقانونا لدى السوريين والوعي بالواقع السوري الحقيقي بعيدا عن الإشاعات في الشارع التركي، بما في ذلك تفنيد المزاعم الكثيرة المغلوطة عمدا أو بدون قصد.

ويحتاج الأمر لتركيز خاص على وسائل الإعلام التي كانت جزءا من المشكلة في السنوات السابقة من خلال تغطية إعلامية هادئة الخطاب تتجنب التحريض والتسخين وتعرض للإنجازات والإيجابيات أكثر من السلبيات والأخطاء، فضلا عن نشر المعلومات غير الدقيقة.

وإذا كان من البديهي أن الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على عاتق الحكومة التركية بما تمتلكه من أدوات وقنوات وقدرة على التأثير على الجميع إلا أنه من المنطقي كذلك أن المؤسسات والشخصيات السورية -السياسية والمجتمعية- عليها مسؤولية لا تقل أهمية على عدة أصعدة، مثل التمثيل والتواصل والخطاب وتأسيس الوعي وإيصال المشاكل والعمل على حلها واللجوء إلى المسار القضائي حين يحتاج الأمر لمواجهة الخطاب والممارسات العنصرية، فملف مثل الوجود السوري في تركيا ليس له حل سحري ولا سهل ولا سريع، بل إنه يحتاج لنفس طويل وجهد موزع على الجميع كي لا يتحول إلى ملف قابل للانفجار والإضرار.

كاتب وباحث في الشأن التركي

الجزيرة

——————————–

نازحون ومهجرون سوريون يترقبون انفراج أزمة دخول المساعدات الأممية/ عبد الله البشير و عبد الرزاق ماضي و هاديا المنصور

يترقب النازحون في مناطق شمال غربي سورية انفراج أزمة المساعدات العابرة للحدود التي عجزت الأمم المتحدة عن تمديد آلية إدخالها، أو اتخاذ قرار جديد بشأنها، في ظل استخدام روسيا حق النقض “فيتو” لمنع وصول هذه المساعدات إلى من هم بأمس الحاجة إليها. لتنعكس تداعيات القرار الروسي بشكل مباشر على عمل المنظمات الإنسانية، والتي بدورها ستقلص عدداً كبيراً من الخدمات المقدمة للنازحين.

يؤكد مدير فريق “منسقو استجابة سورية” محمد حلاج، لـ”العربي الجديد”، أن “القضية في الوقت الحالي هي تحصيل نقاط للجانب الروسي، والنظام السوري يدرك  تماماً أن القرار سيُمدد، لأن المقترح السويسري البرازيلي انتهى، والمقترح الروسي انتهى. ما يجبر الجميع على صياغة مقترح جديد بناء على رغبة روسيا، وهي معبر باب الهوى فقط، وستة أشهر فقط، وفي المقابل، سيجرى إرضاء الولايات المتحدة بعبارة التمديد ستة أشهر بناء على تقارير الأمين العام للأمم المتحدة التي تصدر كل 60 يوما، مع التشديد على ضرورة عمليات التعافي المبكر، وزيادة فعالية دخول المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس”.

يضيف حلاج: “فعلياً، سيُعاد القرار الجديد بنفس صيغة قرارات سابقة، ليستفيد النظام بحجة دعم المدنيين المقيمين في المناطق الخارجة عن سيطرته، وقد أعطى رسالة غير مباشرة مفادها أن المعابر الحدودية خاضعة لسيطرة دمشق. أما روسيا، فستكون مستفيدة من عدة نواح، أهمها تمرير القرار وفق ما ترغب، وزيادة المساعدات لمناطق النظام السوري، وزيادة العمل على مشاريع تحت مسمى التعافي المبكر. في حين تكتفي الولايات المتحدة الأميركية بمظهر المنتصر عبر إبقاء شريان الحياة قائماً لستة أشهر مع ضمان التمديد”.

ويلفت حلاج أن التعلل بأدوار الصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر السوري هو “عبارة عن إسطوانة مكررة لإظهار سلطات دمشق باعتبارها قادرة على الوصول إلى كافة المناطق، لكن على أرض الواقع، حتى روسيا ليس لديها  قبول لهذه  الفكرة. في النهاية، القرار سياسي، ولا علاقة له بالنهج الإنساني”.

ويكشف مدير فريق الاستجابة الطارئة دلامة العلي، لـ”العربي الجديد”، أن “أكثر من مليوني نازح يعيشون في المخيمات سيتأثرون، إذ كانوا يستفيدون من المساعدات الإنسانية المقدمة من الأمم المتحدة، كما ستتأثر نحو 250 ألف عائلة كانت تستفيد من السلة الغذائية المقدمة من برنامج الأغذية العالمي شهرياً، إضافة لخسارة مئات آلاف أكياس الخبز التي كانت تصنع من الطحين المقدم ضمن السلة الغذائية، وسيخسر أكثر من ألف مخيم خدمات المياه المجانية التي كانت تقدم يومياً، إضافة إلى تأثر المشاريع الصحية”.

يضيف العلي: “في حال توقف تلك المشاريع، ستتدهور أحوال الأهالي الذين يعيشون بالأساس تحت خط الفقر، ويمكن أن يصلوا إلى تحت خط الجوع، خاصة العائلات التي لا تملك معيلاً، أو التي يقوم على رعايتها أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، فالمساعدات الإنسانية رغم قلتها كانت تقدم لهم دعماً مقبولاً في ظل الظروف السيئة وقلة فرص العمل وانخفاض مستوى الدخل”.

ويوضح: “نخشى في حال توقف المشاريع القائمة من تفاقم نسب البطالة، كما ستتعطل حركة الأموال في الأسواق، وبالتالي تضعف الدائرة الاقتصادية في المنطقة كلها، وتلك العوامل قد تؤدي إلى تدمير المنطقة اقتصادياً، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الجريمة، وترك آلاف الطلاب مقاعد الدراسة نتيجة اضطرارهم إلى العمل لتأمين دخل إضافي لعائلاتهم”.

ويقول مسؤول العلاقات العامة في مديرية صحة إدلب غانم خليل، لـ”العربي الجديد”: “هذا هو الفيتو رقم 19 الذي تستخدمه روسيا في مجلس الأمن للضغط على المجتمع الدولي، ومساندة نظام الأسد الذي تدعمه عسكرياً بقصف المشافي والمراكز الصحية والأسواق والأفران، وسياسياً عبر استخدام الفيتو وسيلةً للضغط على المعارضة والمدنيين في المناطق المحررة، ووسيلة ابتزاز للدول المساندة للثورة السورية”.

يضيف خليل: “المنطقة ستتأثر بشكل كبير في حال إيقاف دخول المساعدات عن طريق معبر باب الهوى، ونقلها عبر مناطق النظام أو خطوط التماس إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، وهنا تحاول روسيا إعادة شرعنة النظام السوري، وإجبار المجتمع الدولي على التعامل معه، وعلى الأخص الأمم المتحدة، والقطاع الطبي سيتأثر بشكل كبير أسوة ببقية القطاعات، خصوصاً أنه يعاني من ضعف عام في الأساس نتيجة الكثافة السكانية في مناطق شمال غربي سورية، وعدم قدرته على تلبية كامل الاحتياجات، وسيكون التأثير مباشراً على مراكز الأمراض المزمنة وأمراض السرطان ومراكز غسيل الكلى، وبشكل غير مباشر على كل القطاع الطبي”.

ويؤكد الناشط الحقوقي عادل الويس، لـ”العربي الجديد”، أن “روسيا تواصل قتل الشعب السوري في المناطق المحررة، سواء بالسلاح أو من خلال استخدام حق النقض، خاصة أن معبر باب الهوى الحدودي هو شريان الحياة الوحيد المتبقي للمدنيين في المنطقة، وسيؤدي عدم إيصال المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية إلى المحتاجين إلى نتائج  كارثية على سكان تلك المناطق الذين يعيشون أوضاعاً يرثى لها، ويعانون من مستويات متفاقمة من الفقر في ظل ارتفاع الأسعار غير المسبوق وقلة فرص العمل”.

ويقول مدير “مخيم غطاء الرحمة” محمود عكرمة الدروبي إن “نبأ إيقاف تدفق المساعدات الإنسانية نزل على النازحين والمهجرين في المنطقة كالصاعقة، وذلك بعد أن استخدمت روسيا حق النقض، وعطلت مشروع القرار الذي يهدف إلى الإبقاء على تدفق المساعدات عبر معبر باب الهوى، الذي يعتبر الشريان الرئيسي للحياة في الشمال السوري”.

يتابع عكرمة في حديثه لـ”العربي الجديد”: “مع الأسف، بعض الدول تخلط الملف الإنساني بالملفات السياسية، علماً أن الروس مسؤولون عن تهجير الشعب السوري، ولم يكتفوا بالقتل والتهجير، بل زادوا من إجرامهم عبر تدخلهم في الشؤون الإنسانية، وبسبب هذا القرار الجائر، يتحمل أهلنا في الشمال السوري أقسى الظروف الإنسانية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها المنطقة، مع الغلاء الفاحش، وقلة فرص العمل. هذا القرار لا يقل إجراماً عن قصف الطائرات الروسية الذي يقتل شعبنا. على  المجتمع الدولي إيجاد حل للملف الإنساني في سورية لإنقاذ ما تبقى من الشعب، كما نناشد الاخوة العرب والمسلمين وأصدقاء الشعب السوري مد يد العون”.

ويقول نجيب سعد الدين، وهو مهجر مقيم في مخيمات “كللي”، لـ”العربي الجديد”، إنه عامل مياومة زراعي، ولا يتجاوز دخله اليومي 70 ليرة تركية (2.67 دولار)، ولا يعمل في الشهر أكثر من 15 يوماً، ما يعني أن المبلغ الذي يجنيه لا يكفي ثمن الخبز والمياه لعائلته المؤلفة من خمسة أفراد، إذ يحتاج بشكل يومي إلى عشر ليرات لشراء الخبز، ويبلغ سعر متر المياه 40 ليرة تركية.

يتابع نجيب: “السلة توفر لنا الحد الأدنى من المواد الغذائية الرئيسية، وقد نضطر إلى شراء بعض الأصناف في نهاية الشهر، لكن توفير المياه والخبز في المخيم يخففان جزءاً كبيراً من النفقات، ولا أعرف مصير عائلتي في حال اضطررت لدفع هذه النفقات من جيبي الخاص مع توقف دخول المساعدات إلى الشمال السوري. اعتدنا على أن تكون النفقات أقل في فصل الصيف، ولا أدري ماذا سيحدث لعائلتي في الشتاء إذا لم أتمكن من تأمين محروقات التدفئة لهم”.

بدوره، يؤكد النازح جمال البيوش، لـ”العربي الجديد”، أنه يعيش في مخيمات شمال إدلب التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، ويعاني من قلة فرص العمل، ويعتمد بشكل كلي على المساعدات الإنسانية في إطعام أبنائه الخمسة، وهو لا يخفي خشيته مما سيكون عليه حاله مع إيقاف المساعدات.

من جانبها، تقول صبحية السليم، وهي نازحة مقيمة في مخيمات سرمدا، لـ”العربي الجديد”، إنها تفتقر إلى المعيل منذ وفاة زوجها، ولا يوجد لديها مال، ولا يوجد عمل، وتضيف: “أصبحت غير قادرة على تأمين أي من احتياجاتنا الأساسية، ولا حتى الخبز أو الأدوية. أعتمد أنا وأطفالي الستة على ما تقدمه المنظمات الإغاثية من مساعدات شهرية، كما أجمع الأعشاب من الجبل وأطبخها حتى يمكننا البقاء على قيد الحياة. مرعب ما سيكون عليه الحال إن توقفت المساعدات. يبدو أننا على أبواب مجاعة لم نشهد لها مثيلاً”.

العربي الجديد

—————————-

===================

تحديث 15 تموز 2023

—————————

الانعطافة التركية نحو الغرب..سوريا وديعة تتقاذفها الدول/ العقيد عبد الجبار العكيدي

في ضوء المعلومات الأولية التي رشحت عن لقاء الرئيسين الأميركي جو بايدن والتركي رجب طيب أردوغان، الذي جرى على هامش قمة حلف الناتو التي عقدت في العاصمة الليتوانية فيلنيوس الثلاثاء، يبدو أن هناك مساراً جديداً للعلاقات الأميركية-التركية، يقوم على التوافق حول العديد من الملفات الإقليمية والدولية وتجاوز القضايا الخلافية العالقة بينهما.

لقد كان الرئيس التركي واضحاً في مطالبه بخصوص الثمن المقابل لموافقته على انضمام السويد الى حلف الناتو، ومن هذه المطالب انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، وأخذ ضمانات أمريكية بتسريع إجراءات الانضمام خلافاً للمحاولات التركية السابقة التي وصلت الى طريق مسدود مع دول الاتحاد من قبل، بالإضافة الى صفقة طائرات “إف-16″، وبرنامج طائرة الشبح “إف-35”.

أما بخصوص الدور التركي في المرحلة القادمة التي تتعلق بالحسابات الأميركية في مجريات الصراع الروسي-الأوكراني، يبدو أن ثمة تفاهمات ذات أبعاد استراتيجية تمت بين الطرفين بخصوص هذا الملف، فلدى الجانب الأميركي حرص واضح على كسب الموقف التركي الحازم لجهة حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها والحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها، بما يعني تخلي تركيا عن تعزيز علاقاتها مع روسيا في المرحلة المستقبلية، ويرتبط بهذا المسار إعادة تموضع تركيا من الصراع الأميركي-الغربي مع الصين كحليف موثوق له تأثير كبير في منع التمدد الصيني-الروسي باتجاه الشرق الأوسط ووسط افريقيا.

قد يرى بعض المحللين أن العلاقات الأميركية-التركية لم تنقطع وبقيت قنواتها مفتوحة حتى في ذروة الخلاف المتعلق بدعم الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تمثل التهديد الأكبر على الأمن القومي التركي، وتهدد حدودها الجنوبية، وحمايتها ومنع قيام أي عملية عسكرية تركية لإبعادها عن تلك الحدود، ولكن من الواضح أن المرحلة التي نشهدها حالياً توحي بإعادة صياغة شاملة للعلاقات بين البلدين بعد نجاح أردوغان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، وبقائه في السلطة لخمس سنوات قادمة، ومن هنا تدرك واشنطن أهمية بناء تفاهمات قوية مع أنقرة بعد اتضاح نفوذها الإقليمي في المنطقة، وهذا ما يجعل حتى الملف الخلافي المتعلق بقسد هو موضوع تفاوض ساخن بين الجانبين التركي والأميركي كي لا يظل عقبة أمام تفاهمات أكثر أهمية يمكن أن تصل إليها أنقرة وواشنطن.

واشير متابعة التصريحات التركية والأميركية في الأيام الأخيرة، إلى حاجتهما المتبادلة لإرساء استراتيجية جديدة سيكون لها تداعيات وتأثيرات كبيرة على العديد من الصراعات والقضايا الساخنة ومن أبرزها هو الصراع الروسي-الأوكراني، وتحفيز تركيا لتقوية دورها في دول آسيا الوسطى لقطع الطريق على ازدياد النفوذ الروسي في تلك الدول.

ومن المؤكد أن القضية السورية سيكون لها حيز مهم ضمن هذه الاستراتيجية وسيكون لها نصيب في تلك التفاهمات بما يخص مستقبل سوريا القريب والمتوسط المدى، لاسيما لجهة إيجاد صيغة أمنية تطمئن تركيا إلى إنهاء الخطر الذي يمثله حزب العمال الكردستاني على أمنها القومي، وتقليص دور فرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي، بناءً على رؤية جديدة قد تبرز وفق سيناريوهات ترضي الطرفين كإيجاد إدارة حكم مركزية تجمع شرق الفرات بغربه، أو إشراك المكون العربي بصورة فعلية في قيادة قوات سوريا الديمقراطية لدرجة الحد من نفوذ قادة العمال الكردستاني إلى درجة إضعاف التوجه الانفصالي للأحزاب الكردية الشمولية في سوريا، بالإضافة الى حل مشكلة اللاجئين التي تشكل عامل أرق دائم للقيادة التركية، وموضوع التطبيع مع نظام الأسد قبل تحقيق أي تقدم في العملية السياسية وفق القرارات الدولة.

ومن المؤكد أيضا أنه لن يغيب عن تلك التفاهمات دور تركيا في احتواء وضبط هجرة اللاجئين غير الشرعية كممر رئيسي الى دول الاتحاد الأوروبي، وليس من باب الصدفة تصريح الرئيس التركي الأخير حول إجراءات شديدة سيقوم بها الجانب التركي لضبط قوافل الهجرة غير الشرعية التي تتخذ من تركيا مركزاً رئيسياً لها في المنطقة، وهي رسالة تطمين للاتحاد الأوروبي لا تحتاج للمزيد من الشرح.

يعتقد كثيرون أن حجم المقايضات المتبادلة التي ستنشأ عن التوافق الأميركي-التركي في حال اكتماله، سيغير الكثير في المشهد السياسي للمنطقة، إذا أخذنا بعين الاعتبار إمكانية ذهاب الولايات المتحدة وإسرائيل نحو تقليم أظافر إيران والحد من نشاط أذرعها في الدول العربية، وهو مطلب لطالما سعى له الإسرائيليون لدى إدارة بايدن من أجل انتهاج سياسة صارمة تجاه ايران. وفي حال وضوح هذا التوجه في المرحلة القادمة، فإن كسب الموقف التركي هو ايضاً ضمانة كبيرة على طريق إضعاف النفوذ الإيراني ومنافسته من دولة إقليمية قوية بحجم تركيا.

وما من شك أيضاً أن الكثير من السوريين ينظر بحماس شديد إلى هذا التقارب بين أنقرة والغرب عموماً، وأنقرة وواشنطن على وجه التحديد، ولا شك أيضاً أن هذا الحماس يستند إلى فرضية أن توطيد العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة إنما يتقوّم بداهةً على تباعد في العلاقات بين أنقرة وموسكو، وربما هذا ما أكدته تصريحات أردوغان الأخيرة أثناء لقاءه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي، وذلك فيما يخص رفض تركيا الاحتلال الروسي لجزيرة القرم، وكذلك دعم تركيا لمطلب أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو.

حماس السوريين لابتعاد أنقرة عن موسكو يستند إلى الاعتقاد بأن الشراكة بين أردوغان وبوتين طيلة السنوات السابقة كانت في كثير من جوانبها تتقوّم على حساب المصلحة الوطنية السورية، ووفقاً لهذا الرأي، فإن تصدّع هذه العلاقة سيهيىء أرضية لتعاطٍ تركي جديد مع المسألة السورية في ظل تنامي العلاقة مع واشنطن التي ما تزال تتحفظ –ولو إعلامياً– على إعادة تعويم الأسد وتسويقه.

وعلى الرغم من مشروعية هذا الافتراض ووجاهته، إلّا أنه يعكس من جهة أخرى استمرار الاعتقاد من جانب كبير من السوريين بأن قضيتهم هي مجرّد وديعة تتناقلها أيدي الدول النافذة، وهم ينتظرون عودة هذه الوديعة بسلام دون أن يكون لأصحابها الأصليين أي دور يُذكر، في حين أنه كان من المفترض ألا يكتفي السوريون بالترقب والانتظار حول ما سيفضي إليه التباعد الروسي-التركي، بل كان من المفترض أيضاً أن يتوجه الاهتمام والعمل نحو كيفية استثمار هذه الانعطافة التركية نحو الغرب من أجل استعادة دورهم المفقود أو المُصادر، ليكونوا أصحاب دور فاعل في تحديد مصير قضيتهم وليسوا مجرّد مراقبين.

المدن

————————

ما نكسبه من تركيا مسلمة في أوروبا/ عمر قدور

عشية توجهه إلى فيلنيوس للمشاركة في قمة الناتو وضع أردوغان شرط تحريك مفاوضات انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، كي يوافق على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي. كان أردوغان واضحاً بالقول: “منذ أكثر من 50 عاماً تنتظر تركيا على أبواب أوروبا، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي صاروا أعضاء في الناتو. أقول لهذه الدول من هنا، وسأقولها في القمة: افتحوا الأبواب أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ونحن نفتح الباب أمام السويد للانضمام إلى الحلف كما فتحنا الباب أمام فنلندا”.

أتى تصريح أردوغان مفاجئاً، هو الذي كان قد أعلن بغضب قبل سنوات عن توقف بلاده عن السعي للانضمام إلى الاتحاد، متهماً الأوروبيين بعرقلة عضوية تركيا فيها على نحو لم يحدث مع أي مرشّح آخر لنيل العضوية. دخل أردوغان قمة الناتو وهناك حظر على استيراده الأسلحة ولوازمها من قبَل عشر دول غربية منذ عام 2019، على خلفية شنّه عملية عسكرية في سوريا ضد القوات الكردية، ومع مفاوضات متوقفة منذ عام 2016 لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، وخرج من القمة بوعد رفع العقوبات الخاصة بالسلاح ووضع خريطة طريقة “مدعومة أمريكياً” للانضمام إلى الاتحاد.

يمكن الحديث عن رضوخ الغرب لابتزاز أردوغان، مثلما يمكن الحديث عن تنازله عن شرط ملاحقة السويد الإرهابيين على أراضيها “ويقصد المنضوين في حزب العمال الكردستاني”، وهو ما أثار انتقادات معارضيه في تركيا. بل يمكن التشكيك بجدية الغرب وأنقرة في الوعود المتبادلة، بما أن أجواء انعدام الثقة هي السائدة بينهما منذ سنوات. لكن في المقابل يمكن وضع عودة أنقرة إلى طرق باب الاتحاد الأوروبي بمثابة عودة حزب العدالة الحاكم إلى عهوده الأولى، حين كان السعي للانضمام إلى أوروبا من ضمن سلة متكاملة فيها تصفير للمشاكل مع المحيط، وفي الطليعة منه اليونان الأوروبية.

وبعيداً عما تثيره شخصية أردوغان الإشكالية، من الإنصاف عدم تحميل أنقرة وحدها مسؤولية تعثّر أو عرقلة انضمامها إلى الاتحاد ثم تجميد المفاوضات برمّتها. فهناك في أوروبا قوى لا تريد انضمام تركيا، حتى إذا استوفت كافة الشروط بجدارة، وأقصى ما تعرضه هذه القوى كبديل هي شراكة بين أنقرة والاتحاد تبدو غايتُها الأهم التخلصَ نهائياً من طلب العضوية التركي. بين هذه القوى المعترضة ثمة حقاً من لا يريدون بلداً مسلماً ضمن الاتحاد، ويريدون للأخير البقاء كنادٍ مسيحي، وثمة من يضيف إلى ذلك العاملَ الديموغرافي إذ ستصبح تركيا في حال انضمامها البلد الأكثر عدداً بالسكان مع تبعات ذلك التمثيلية، ومع تراجع متوقع في النمو السكاني للعديد من الدول الأوروبية.

على الضد من الذين يريدون بقاء الاتحاد كنادٍ مسيحي، من شبه المؤكد أن قبول تركيا في عضويته سيساهم في تخفيف التوتر بين بعض الدول الغربية والإسلاميين. نذكر هنا فرنسا في طليعة الدول المتحفّظة على انضمام تركيا، وفي طليعة البلدان الغربية التي يُطرح فيها الخطر الإسلامي، حتى تكاد المنازلة بينها وبين الإسلاميين تبدو استئنافاً لموقعة بواتييه! ما هو مطروح ضمناً أن أوروبا إذا لم تكن قادرة على استيعاب الإسلام التركي المعتدل فهي لن تستوعب المسلمين على الإطلاق، بمن فيهم أولئك الحاصلين على الجنسيات الأوروبية أو الذين يقيمون في الغرب.

أما في حال قبول تركيا فهي رسالة إلى الإسلاميين، وإلى عموم المسلمين، مفادها أن معركة الغرب القيمية هي حقاً معركة ضد التطرف لا ضد دين أو ثقافة بعينها. ننوّه بأن القبول متبادل، فالاتحاد الأوروبي لا يقبل تركيا إلا بشروط تتناسب مع قواعده وقوانينه، ما ينطوي على قدرة بلد مسلم على الوفاء بالمعايير الأوروبية لجهة حقوق الإنسان وسواها. وهذا يعزز من اعتدال النموذج التركي، ويقدّم مثالاً للإسلاميين في عموم المنطقة. من المعتاد تقديم الغرب بوصفها متقدّماً، ووجوده في هذه الوضعية يجعل كسر دائرة العداء منتظَراً منه لا من التطرف الإسلامي، ولعل تركيا الأوروبية هي السبيل للتخلص من التطرف الذي يغذّي تطرفاً في الجانب الآخر.

من المتوقع جداً أن تشهد المسألة الكردية في تركيا حلحلةً كلما تقدّمت أنقرة خطوة من نيل عضوية الاتحاد، حيث من المرجّح في النهاية أن تجد هذه المعضلة حلاً ديموقراطياً يتناسب مع عضوية الاتحاد الأوروبي. ذلك لا يتوقّف فقط عمّا ستفعله أنقرة للوفاء بالمعايير الأوروبية، بل لأن انضمام تركيا سيترك آثاره على رؤية أكراد تركيا للحل. ننوّه هنا بأن وجود تركيا في الاتحاد قد يشكّل ضغطاً أكبر على حزب العمال الكردستاني، إلا أنه في المقابل يعطي الأكراد “ومن ضمنهم الحزب” حوافز قوية للتصالح مع تركيا الأوروبية بدل القتال من أجل مغادرتها.

على هذا الصعيد يكسب السوريون، والأكراد السوريون، من حل المسألة الكردية في تركيا. وأول مكسب هو الفصل بين الاستحقاقين، حيث تولى حزب العمال وفرعه السوري توحيد الجبهتين في السنوات الأخيرة. عند الوصول إلى الحل في تركيا، لن يلتفت حزب العمال إلى أكراد سوريا، ولن يكون سيئاً أن يعتمد أكراد سوريا على أنفسهم، بل قد يكون هذا ما يحتاجونه بالضبط بعد عقود من تقديم تضحيات في سبيل معركة الحزب الذي لا يخفي أنها أولاً وأساساً في تركيا، ومن أجل أكرادها.

وحتى إذا كان بعض الأكراد السوريين يرى حزب العمال سنداً له، فإن الوضع الحالي ينبئ بضعف هذا السند، لأن الحكم التركي “مع وجود مسألة كردية غير محسومة لديه” شديد الحساسية إزاء أكراد الجوار، وهذا شديد الوضوح في موقف أنقرة من قسد، وكان شديد الوضوح في موقفها من الاستفتاء على إقليم كردستان العراق. على الضد من الوضع الحالي، سيكون من مصلحة تركيا الأوروبية الوصول إلى حلول ديموقراطية للمسألة الكردية في الجوار أيضاً، وبما يغلق الملف نهائياً. ولعل النموذج التركي للحل يكون صالحاً ليُحتذى به أو ليُنسج على منواله، وهو ما سيكون أيضاً برسم السوريين من غير الأكراد الذين سيتحررون بدورهم من عبء فتح الجبهات الذي يمارسه حزب العمال والحكم التركي، كلٌّ منهما على طريقته ولأسبابه.

بينما يأتي انضمام السويد إلى حلف الناتو في خضم سياق تصعيدي، لا يُعرف بعدُ مداه وآثاره على العالم ككل، قد يمنح انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي رسالة مغايرة. هي رسالة مصالحة، ومن دون أن نُفرط في التوقعات؛ تبدو اليوم الحاجةُ إلى هذه الرسالة أمسّ مما كانت عليه قبل نحو عقدين عندما شاع الظن أن باب الاتحاد الأوروبي صار موارباً أمام أنقرة.

المدن

————————-

تركيا… رهينة البحث عن التوازن/ حسام عيتاني

من محمود الثاني إلى أردوغان

في الأعوام العشرين الماضية، بدا أن تركيا قد اتخذت قرارها في صراعها الداخلي المديد حول هويتها ووجهتها. كما أن انتخاب رجب طيب أردوغان رئيسا بعد معركة سياسية وإعلامية ضارية في مايو/أيار، يأتي في سياق هذا المسار. فانتصاره على خصومه من العلمانيين واليساريين وبعض القوميين المتطرفين والحزب الممثل للأكراد، ينبغي أن لا يقتصر تفسيره على مهارات الرجل التي لا تضاهى في السيطرة على المشهد السياسي التركي ولا في ظروف لم تؤات الخصوم.

ثمة دلالة كبيرة تحملها الانتخابات الأخيرة التي جاءت بعد شهور قليلة من الزلزال المدمر في فبراير/شباط الماضي ووسط أزمة اقتصادية أعادت تركيا عشرين عاما إلى الوراء في معدلات النمو والتضخم.

إن تفضيل الناخبين، ولو بهامش قليل وأعداد صغيرة، لأردوغان على منافسيه الذين ركزوا على سلسلة النكسات الاقتصادية والفضائح التي حفلت بها سنوات حكم زعيم حزب العدالة والتنمية، يشير إلى مسائل مثل الهوية والثقافة والعلاقة مع الآخر، في الداخل والخارج، والمكانة التي تطالب بها فئات اجتماعية اعتبرت نفسها خارج النظام على مدى عقود، تتقدم على الشأن الاقتصادي المباشر أو “قضية البصلة” كما شرحها مرشح حزب الشعب الجمهوري كمال كليشدار أوغلو.

الحل “السحري” الذي جاء به أردوغان منذ توليه رئاسة بلدية إسطنبول في تسعينيات القرن الماضي ممثلا حزب الرفاه الإسلامي، يقوم على إلغاء التناقض الذي اعتبره كثير من السياسيين الأتراك غير قابل للتسوية بين الهوية المتضمنة العناصر الدينية الإسلامية والتراثية العثمانية مع ما تحمله من روابط مع الشرق العربي– الإسلامي والتي يعلن كثير من الأتراك، خصوصا في المناطق الريفية والطبقات الفقيرة الانتماء إليها أو التمسك بها إلى حد ما، وبين العلمانية الصارمة التي وضع أسسها مصطفى كمال أتاتورك ونشأت الجمهورية التركية قبل مئة عام في ظلها.

علمانية الضرورة

بدورها، لم تأت العلمانية التركية من فراغ كما هو معروف. بل هي نتيجة نقاشات وأزمات ربما تكون قد بدأت منذ أطلق القيصر الروسي نيقولاي الأول في أواسط القرن التاسع عشر وصف “رجل أوروبا المريض” على السلطنة العثمانية التي كان يطمح إلى انتزاع المزيد من أراضيها وضمها إلى إمبراطوريته.

الجدير ذكره، أن نيقولاي الثاني كان “بطل” واحدة من أقسى الحروب التي خاضتها روسيا ضد السلطنة العثمانية في شبه جزيرة القرم التي– للمفارقة- لا تزال موضع نزاع إلى اليوم. يومها وقف الغرب ممثلا بفرنسا وبريطانيا إلى جانب تركيا لمنع التمدد الروسي جنوبا وللحيلولة دون الهيمنة الروسية على الأقليات المسيحية في السلطنة، إضافة- بطبيعة الحال- إلى الاعتقاد أن التعامل مع الرجل المريض أسهل على الأوروبيين من مواجهة أطماع القيصر الروسي التي لا حدود لها.

واحد من أسباب إطلاق تسمية “الرجل المريض” على تركيا والتي ستتبناها الحكومات والصحف الأوروبية لاحقا هو اختلاف بنيوي وعميق بين طريقتين للحكم لم تعودا قابلتين للتعايش معا. فمع الثورة الصناعية ونشوء الرأسمالية وبروز الحركات القومية والدولة الوطنية، زاد الضغط على السلطنة من خلال بروز الوعي القومي لدى الشعوب الأوروبية التي كانت في إطار الإمبراطورية العثمانية.

خروج اليونان أولا من نطاق السلطنة، ثم سلسلة الحروب في البلقان مع القوميين الصرب ثم البلغار وغيرهما، وسط تأييد أوروبي كاسح لقضايا استقلال الشعوب– المسيحية في أوروبا الشرقية خصوصا- عن العثمانيين، حمل هؤلاء على تبني “التنظيمات” التي اعترفت للمرة الأولى رسميا بغير المسلمين كمواطنين وبمجتمعاتهم ككيانات مستقلة لا تخضع في شؤونها الداخلية للسلطة العثمانية.

ونجم “نظام الملل العثماني” عن التنظيمات التي ووجهت بمعارضة داخلية شديدة. فهذا النظام المستمد من الأمر الواقع الذي عاشته كل الإمبراطوريات الإسلامية منذ الدولة الأموية وصولا إلى الإمبراطورية الموغلية في الهند والقائم على ترك الأمور الشخصية والداخلية لغير المسلمين إلى هيئاتهم الدينية، أخذ صفته الرسمية كتطوير للحكم الإقطاعي والمدمج في سياق إمبراطوري يراعي التنوع الديني والطائفي والعرقي للسلطنة العثمانية.

وكل إمبراطورية هي- تعريفا: كيان سياسي يتجاوز الحدود الإثنية والدينية والقومية ويضم تشكيلا من مكونات ثقافية وطائفية مختلفة في ظل حكم واحد قد يكون مركزيا أو فيدراليا، وتتفاوت فيه درجات العدل والاستبداد والإنصاف بين المكونات، على ما تبين التجربة التاريخية.

بيد أن “التنظيمات” ونظام الملل، لم يكونا كافيين لوقف التدهور العثماني حيث وصلت صيغة الحكم وطريقة إدارة البلاد والأزمات الاقتصادية المتنوعة التي شهدتها السلطنة إلى طريق مسدود. ولم تفلح المحاولات الإصلاحية في وضع حد للطموحات الاستعمارية الغربية التي كانت تقايض المساعدات الاقتصادية والقروض وشراء الأسهم في المؤسسات التركية شبه المفلسة، بالنفوذ السياسي داخل قصر السلطان في توبكابي ومقر الصدر الأعظم (الباب العالي) أولا، ومن ثم ضمن الطوائف غير المسلمة التي حظيت برعاية كبيرة خصوصا في المشرق العربي مع الموارنة في جبل لبنان الذين ربما كانوا التجربة الأنجح في العلاقة مع المؤسسات الغربية، الدينية والسياسية، إضافة إلى الأرثوذكس في فلسطين وسوريا.

التحديث العقيم

أفضى عقم محاولات التحديث العثمانية المتكررة منذ عهد السلطان محمود الثاني إلى حد ارتكاب مجزرة “الواقعة الخيرية” في 1826 بالجيش الإنكشاري القديم الذي رفض محاولات محمود الثاني لإنشاء جيش جديد، ثم مع عبد المجيد الأول و”خط شريف كلخانة” والمترافق مع الخشية في أوساط النخبة التقليدية العثمانية من أن يؤدي توسيع قاعدة الحكم ومنح المزيد من السطات إلى أنصار التغيير على غرار مدحت باشا (الذي توفي سنة 1884 بعد تعليق السلطان عبد الحميد الثاني للدستور والعودة إلى الحكم المطلق)، أفضى كل ذلك إلى “عهد الاستبداد” الذي أعاد عبد الحميد الثاني فرضه، مستعينا بشرطته السرية وبافتعال عدد من المجازر ضد الأقليات في مناطق متفرقة من السلطنة.

باختصار، كان تناقضا حادا بين جملة من العوامل الداخلية مثل تكلس العائلة العثمانية والطبقة العليا من رجال الدين المحيطين بها وخوفهم من الإصلاح الذي يحمل خطر خسارة السلطة، مقابل إدراك الفئات الأكثر تعليما واحتكاكا بالغرب ومدارسه الفكرية أن لا مستقبل للدولة العثمانية بصيغتها تلك في ظل الثورة الصناعية الكبرى وافتقار السلطنة إلى الموارد المعدنية الضرورية للصناعة وتوالي أزمات السلطنة النقدية والمالية في ظل التخفيض المستمر لقيمة العملة، والبقاء على الاقتصاد الزراعي والصناعات الحرفية التي تحولت لاحقا إلى مزود للمصانع الأوروبية بالنسيج والحرير من دون القدرة على تحويله محليا إلى سلع منافسة لما يُستورد من مصانع أوروبا.

من “العثمانيين الجدد” إلى “الاتحاد والترقي”

استمرت تلك الحال في التفاقم، فيما سعى بعض المثقفين الأتراك إلى تأطير جهودهم الإصلاحية في جمعيات مثل “العثمانيين الشبان” في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذين أدوا دورا بارزا في المرحلة الأولى من الإصلاحات ولاحقا في جمعية “تركيا الفتاة” التي ستكون لاعبا كبيرا في السياسة التركية بعد قيادتها الانقلاب على السلطان عبد الحميد في 1908 وانبثاق “جمعية الاتحاد والترقي” من “تركيا الفتاة”.

المسار الذي اتخذته “جمعية الاتحاد والترقي” يعكس بمعنى ما، المآزق التي كانت تواجه ولا زالت، محاولات الإصلاح الكبرى في التاريخ التركي الحديث. فمن حركة تحررية متأثرة بأفكار المساواة والاشتراكية الأوروبية وشارك في تأسيسها عرب وأرمن ويونانيون، إلى حركة شوفينية قومية تقود برامج فرض “الطورانية” على أنحاء السلطنة، وتشرف على المذابح ضد الأرمن، طريق لا يصلح تفسيره إلا بعمق الأزمة التي واجهت تركيا في ذلك الزمن.

فالأوهام التي تجمعت لدى قادة عسكريي “الاتحاد والترقي” والتي ربما يكون قد ساهم في بذرها بعض المستشارين الألمان الذين أشرفوا على تدريب الجيش التركي منذ أواخر القرن التاسع عشر وشاركوا في رسم خطط بعض معاركه، تقول إن تركيا قد هُزمت نهائيا في “الروملي” أو المناطق الأوروبية من السلطنة خصوصا بعد الحرب في بلغاريا وفي صربيا. وأن على تركيا، إذا أرادت استعادة أمجادها أن تبحث عن مناطق بديلة تتمدد إليها.

إرجاع ساعة التاريخ

اندلاع الحرب العالمية الأولى وانضواء السلطنة العثمانية في “قوى المركز” إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية– المجرية، منح إسطنبول التي كانت قد أصبحت محكومة “بالباشاوات الثلاثة” أنور وجمال وطلعت، مبررا للتفكير في الاستيلاء على الممتلكات الشرقية لعدوها روسيا المشاركة في الحرب في خندق دول “الوفاق الثلاثي” إلى جانب فرنسا وبريطانيا.

وتعاظمت هذه الأحلام مع الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 واندلاع الحرب الأهلية الروسية، حيث بدا أن السلطة السوفياتية قد خسرت مناطق القوقاز وآسيا الوسطى نهائيا وأن هذه الأراضي الشاسعة تنتظر من يأتي لاحتلالها.

وفي الوقت الذي كانت سلطة “الاتحاد والترقي” تنفذ الإبادة ضد الأرمن وسط مقولات “إحلالية” عن استبدال البرجوازية الأرمنية واسعة النفوذ في الاقتصاد التركي بأخرى تركية “وطنية”، كانت تستهل واحدة من أكثر المغامرات غرابة في تاريخ الإمبراطوريات بمحاولتها شق طريقها عبر التحالفات والتأييد والمساندة المباشرة لطيف واسع من القوى المتنافرة والمتناقضة، إلى وسط آسيا وصولا إلى أفغانستان.

كانت محاولة يائسة بقدر ما هي مثيرة، لإرجاع ساعة التاريخ إلى الوراء بناء على مشروع خيالي عن إمبراطورية تجمع الشعب الطوراني مرة ثانية في دولة تمتد من الأناضول إلى أوزبكستان الحالية مرورا بالقوقاز وبحر قزوين وتركمانستان.

المعارك والمؤامرات والتحالفات التي خاضها أعضاء “الاتحاد والترقي” في الأعوام الأخيرة من الحرب العالمية الأولى تلامس قصص الخيال. فمن جولات قتال ضد الحكومات التي نشأت في جورجيا وأرمينيا للاستقلال عن روسيا السوفياتية إلى التعاون معها ومن ثم الانتقال إلى التعاون مع المعارضين الأوزبك والتركمان ولسلطة موسكو وصولا إلى تدريب جيش أفغاني جديد. ويكمن السبب الحقيقي وراء ذلك في البحث التركي عن معنى لدولتهم بعدما بات سقوط السلطنة ملء الأبصار.

قُتل جمال باشا في تبيليسي وطلعت باشا في برلين في سياق عملية “نيميسيس” التي أطلقتها الحركة الثورية الأرمنية (الطاشناق) للانتقام من إبادة الأرمن ولقي أنور باشا مصرعه في بخارى على يد ضابط بلشفي أرمني. وانتهى حلم جمع الشعوب التركية في إمبراطورية واحدة جديدة في الوقت الذي كان فرع آخر من الضباط الأتراك الشبان يخوض حربا معقدة أيضا في الأناضول.

انتصر الضابط مصطفى كمال وقواته في الأناضول وما تبقى من الروملي غربي إسطنبول، بعد سلسلة من المعارك الشرسة ضد الحلفاء واليونانيين. لكن الدروس التي خرج بها من “حرب الاستقلال” تناقض تماما أوهام الباشاوات الثلاثة: لا معنى للذهاب إلى الشرق. فليس فيه ما يفيد تركيا ولا ما يساهم في نهضتها. الحل في الغرب.

بتبني نظمه السياسية وقيمه الاجتماعية وحرفه اللاتيني والابتعاد الواعي والمدرك لكل ما له علاقة بماض كاد أن يقضي على تركيا. الدين واللغة والملبس والمظهر العام والتعليم كلها يجب أن تخضع لمعايير الجمهورية العلمانية.

من إينونو إلى مندريس

وليس كشفا عظيما أن من خاض الحرب من أجل منع تقسيم تركيا الذي كان يجري بتواطؤ مع بقايا الحكم العثماني، بين بريطانيا وفرنسا واليونان، هو من يجب أن يحرس هذه القيم التي وإن كانت مستمدة من الغرب وتجربته التاريخية إلا أنها تقوم للتصدي لهيمنته على تركيا.

الجيش التركي الذي اؤتمن على الحداثة التركية بمعناها الواسع، كان نموذجا يحتذى في الدول العربية التي عاد إليها عدد من الضباط السابقين في الجيش التركي وتولى بعضهم مراكز مرموقة في بلدانهم وسعوا إلى تمكين الجيش ونخبته من السلطة في انقلابات شهيرة في سوريا والعراق وغيرهما.

فالجيش الخاضع لتنظيم صارم والذي يتعامل مع آلات حديثة (هي الأسلحة) والذي يقف حارسا لأمن البلاد، هو الأقدر على الحكم في ظروف تركيا (والعالم العربي كما رأى أصحاب فكرة نقل تجربة أتاتورك).

التغييرات الكبيرة التي بدأها مصطفى كمال أتاتورك وتابعها خليفته عصمت إينونو، أحد أبطال حرب الاستقلال، انطوت على إعادة صوغ العلاقات الداخلية التي بوشرت بانكسار التحالف السابق بين الأتراك والأكراد الذي تمثل في “الفرق الحميدية” ودورها في الإبادة الأرمنية. انتهى التحالف المذكور في سلسلة من الانتفاضات الكردية.

وكانت مجزرة زيلان في 1930 التي يقول عدد من الكتاب الأتراك أن إينونو يتحمل مسؤوليتها شخصيا، تكريسا للصدع الكبير المستمر إلى اليوم في العلاقات التركية–الكردية والذي تعمق وتكرس في مسيرة دموية حافلة فيما يشبه حربا أهلية تستعر وتخفت نيرانها وفقا للظروف.

بقي إينونو شخصية محورية في السياسة التركية حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، وكان تنقله بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وزعامة حزب الشعب الجمهوري الكمالي، بمثابة إعلان ثبات السلطة على نهج العلمنة المتزمتة والمدعومة بقوة الجيش.

لكن حركة المجتمع لم تتوقف. عدنان مندريس الذي حقق فوزا كاسحا في أول انتخابات ديمقراطية تشهدها تركيا في 1950، أبدى، على سبيل المثال، تسامحا أرحب مع العادات والتقاليد التركية الاجتماعية والدينية. فخفف حزبه الديمقراطي من الإجراءات المتشنجة التي كان قد أرساها كماليو حزب الشعب الجمهوري كالسماح بالتعليم الديني وإعادة الأذان إلى اللغة العربية.

يمكن هنا رصد شبه، ولو بعيد، وفي سياقين مختلفين، بين مندريس وأردوغان. ذلك أن الأول تسبب تقليصه من تدخل الدولة في الاقتصاد بتراجع كبير في النشاط الصناعي الوطني حيث انتشرت السلع المستوردة وعم التخبط في الحياة المالية والتجارية لكن مندريس حافظ مع ذلك على شعبية واسعة في صفوف المزارعين وأهل الأرياف.

وبالتزامن مع تصاعد استياء النخب المدينية التركية من القمع الذي لجأ مندريس إليه ضد معارضيه وتفاقم الأزمة الاقتصادية، دفع الحزب الديمقراطي الحاكم أنصاره إلى مهاجمة الأقلية اليونانية في إسطنبول، حيث سقط عشرات القتلى ومئات الجرحى بذريعة الانتقام من تفجير اليونانيين المنزل الذي ولد فيه مصطفى كمال في سالونيك اليونانية والذي تبين أنه خبر كاذب وجرى نشره لافتعال الهجمات في المدينة.

ثم جاء انقلاب الجيش في 1960 لإنهاء ظاهرة مندريس والعودة إلى الحكم الكمالي التقليدي من دون أن يعني ذلك التوصل إلى حل لتناقضات تركيا الداخلية الآخذة في التبلور بين الريف والمدينة والأتراك والأكراد والماضي والحاضر والوجهة التي يجب أن تسلكها البلاد.

سبعينات القرن الماضي حملت اختبارا نوعيا للمعضلة التركية. اليسار بأجنحته الماركسية والتروتسكية المختلفة، واليمين المتطرف تواجها في الجامعات والشوارع ونشأ عند كل من الفريقين جماعاته المسلحة وفرقه شبه العسكرية. وتحولت المدن الكبرى إلى ما يشبه ساحات الحرب بين اليسار واليمين.

كانت مرحلة فرز عميق بين طبقات المجتمع التركي في ضوء صعود اليسار الجديد في أوروبا وتفسيراته للانقسامات الاجتماعية وفي ظل الدور المتنامي لمجموعات من رجال الأعمال الجدد وتحالف ضمني بين تشكيلات مافياوية وسياسية مختلفة. انقلاب 1980 حاول العودة إلى نقطة الصفر في هذا السياق لتنطلق في 1984 موجة جديدة من الاضطرابات واسعة النطاق عنوانها حقوق الأكراد هذه المرة…

في الختام،ستبقى تركيا محكومة بواقعها الإثني والجيوسياسي والجغرافي الباحث عن الاستقرار والتوازن بين معطيات تركها الماضي وأخرى ينتجها العالم الحديث سريع التبدل.

المجلة

———————————

قمة “الناتو”… إشارات واضحة لأوكرانيا وتركيا/ عمر اونهون

سيكون لأوكرانيا مسار سريع، يتجاوز خطة العمل التي تتطلبها عضوية الناتو، بينما تنتهج تركيا سياسة خارجية جديدة أكثر برغماتية

استضافت فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، قمة الناتو يومي 11-12 يوليو/ تموز، بحضور قادة جميع دول الناتو، إضافة إلى رؤساء دول من خارج الحلف، مثل أوكرانيا وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا واليابان، كشركاء تعاون مع الحلف.

وكانت الحرب في أوكرانيا أهم بند على جدول أعمال القمة. ولم تتمكن روسيا من تحقيق خططها بالسيطرة على أوكرانيا في غضون أيام وما زالت الحرب متواصلة مع تواصل مع ما تلحقه من خسائر.

يقف الناتو بقوة إلى جانب أوكرانيا في مواجهة الاتحاد الروسي، وهو ما أعاد بيان القمة التأكيد عليه مجددا بوصفه “التهديد الأهم والمباشر لأمن الحلفاء وللسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية.”

ويواصل الناتو كحلف، ودوله على نحو فردي، تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا وفرض عقوبات على روسيا، وذلك لمساعدة أوكرانيا في جهودها لصد الغزاة. بل يدور الحديث عن قيام الولايات المتحدة بتزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية.

كان الرئيس زيلنسكي قد وقع على طلب أوكرانيا الرسمي للانضمام إلى الحلف، وأقر الناتو بذلك لكنه لم يرسل لها دعوة رسمية. فعضوية أوكرانيا، بينما يتواصل القتال، ستفرض على الناتو أن يتدخل بموجب المادة 5 من معاهدة واشنطن.

بدلا من ذلك، شيدت الدبلوماسية الإبداعية أسسا للعلاقة مع أوكرانيا، حتى بدون انضمامها الرسمي للحلف. فقد وافق قادة الناتو على انضمام أوكرانيا إلى الحلف “عندما يتفق الحلفاء وتستوفى الشروط” ووافقوا على جعل أوكرانيا أقرب ما يمكن من الحلف، حتى قبل أن تنضم إليه فعليا.

وهذا يعني:

– إعادة التأكيد على ضمان مكان أوكرانيا المستقبلي في الحلف.

– تلقت أوكرانيا المزيد من التعهدات بدعمها.

– سيكون لأوكرانيا مسار سريع، يتجاوز خطة العمل التي تتطلبها العضوية.

– إنشاء مجلس يضم الناتو وأوكرانيا، يكون فيه كل من الحلف وأوكرانيا عضوين متساويين.

 ومع أن ستولتنبرغ قال في فيلنيوس إن الناتو نقل “رسالة قوية وموحدة من الحلفاء بشأن طريق أوكرانيا إلى عضوية الناتو”، إلا أن الرئيس فولوديمير زيلنسكي لم يكن راضيا وانتقد الناتو لأنه لم يضع جدولا زمنياً لانضمامها. 

غير أن دول مجموعة السبع، وجميع أعضاء الناتو البارزين بالإضافة إلى اليابان، توصلوا إلى مجموعة من الضمانات الأمنية لأوكرانيا، كمكافأة إضافية لها.

ولم تبدِ روسيا أي رد حتى الآن، باستثناء أن المتحدث باسم الكرملين قال إنهم يتتبعون اجتماع قمة الناتو، التي تعامل روسيا كعدو، عن كثب. ولطالما رأت روسيا في توسع الناتو شرقاً تهديدا مباشراً لها وأعلنت أن انضمام أوكرانيا للناتو من خطوطها الحمر. وقد أشارت إلى أن هذه القضية أحد الأسباب الرئيسة للوضع الحالي في أوكرانيا.

من جهة أخرى، كانت قمة فيلنيوس أول قمة تشارك فيها فنلندا كأحدث عضو. ومع انضمام فنلندا، بات للناتو الآن 1340 كيلومترا إضافياً من الحدود المشتركة مع روسيا.

وفيما يخصّ السويد، أقر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل عدة أيام من القمة، بأن السويد قد اتخذت بعض الخطوات في الاتجاه الصحيح، مثل تغيير قوانين مكافحة الإرهاب، لكنها لم تكن قد بلغت النقطة التي ترحب بها تركيا في الحلف. ثم جاءت حادثة حرق القرآن في ستوكهولم فجعلت الأمور أكثر صعوبة على مشروع عضوية السويد.

وقد صرح أردوغان، قبيل سفره إلى فيلنيوس، في مؤتمره الصحفي التقليدي في المطار قائلاً: “أناشد الدول التي أبقت تركيا تنتظر على أبواب الاتحاد الأوروبي أكثر من 50 عاما: مهدوا طريق تركيا لدخول الاتحاد الأوروبي، وبعدها سنمهد طريق السويد لعضوية الناتو، تماماً كما مهدنا الطريق لفنلندا.” وهكذا اكتسبت قضية عضوية السويد بعدا جديدا.

ولكن الأمين العام لحلف الناتو التقى برئيس تركيا ورئيس وزراء السويد قبل يوم واحد من القمة في فيلنيوس، وعلى الرغم من كل السلبيات، توصل الثلاثة الى اتفاق مفاجئ. وأعلن الأمين العام أن تركيا تخلت عن اعتراضها. كما صرح وزير خارجية المجر أن “استكمال عملية التصديق ليست سوى مسألة فنية”. هذا يعني أن بلاده قد تخلت هي أيضا عن اعتراضاتها على عضوية السويد.  وسوف تقدم الحكومة التركية، كخطوة لاحقة، بروتوكول انضمام السويد إلى البرلمان للموافقة عليه.

 يبدو أن عضوية السويد في الناتو وعلاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي وشراء تركيا طائرات مقاتلة جديدة من طراز F16 وقطع غيار حديثة من الولايات المتحدة الأميركية، قد غدت كلها نوعاً من حزمة واحدة.

 ويبدو كما لو أن هناك تفاهماً بأن التقدم في كل هذه القضايا سوف يتحرك على نحو متوازٍ. فالعديد من التصريحات الصادرة عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تركت لدى الأتراك انطباعاً بأن الكونغرس الأميركي قد يكون أكثر ميلاً لإعطاء الضوء الأخضر لبيع طائرات F16 لتركيا، وأن الاتحاد الأوروبي قد يكون على استعداد لبدء مناقشة قضايا مثل تحرير التأشيرات وتحديث الاتحاد الجمركي مع تركيا.

 ولولا حل مشكلة عضوية السويد أو وضعها في مسار الحل، لشهدت علاقات تركيا مع الغرب مزيداً من التدهور. وهو أمر ما كانت تركيا، التي تكافح من أجل تحسين اقتصادها، راغبة بحدوثه.

 يمكن أيضا رؤية الاجتماع السلس والمنفتح على المستقبل بين الرئيسين أردوغان وبايدن على هامش القمة في هذا السياق.

نجاح ديبلوماسي لتركيا

 تُعد قمة فيلنيوس على العموم نجاحا دبلوماسيا لتركيا، وقد قدمت دبلوماسية أردوغان في قمة فيلنيوس وما أسفر عنها من نتائج، حتى الآن على الأقل، مادة جيدة لممثلي الدعاية كي يستخدموها كدليل آخر على سياسة حافة الهاوية التي ينتهجها أردوغان في العلاقات الدولية والدبلوماسية.

أما كم ستستمر العملية البرلمانية للمصادقة على الاتفاق في أنقرة، وهل ستلبي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي توقعات الأتراك، وإلى أي حد، فهي أمور ليست واضحة حتى الآن.

 لا بد أن التطورات السلبية الأخيرة بين تركيا وروسيا قد ولدت أيضا انطباعاً إيجابيا لدى الغرب عن تركيا. وزيارة الرئيس زيلنسكي لتركيا وتصريحات أردوغان عن الدعم القوي لأوكرانيا وعودة قادة آزوف إلى وطنهم، قد تكون جميعها وراء إلغاء زيارة بوتين المرتقبة إلى تركيا.

 يحتاج حلف الناتو إلى موارد مالية كافية للوفاء بالتزاماته، إلا أن دول الناتو تواجه أيضاً تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية ومصاعبها. ومع ذلك التزم قادة الناتو باستثمار ما لا يقل عن 2٪ من إجمالي الناتج المحلي سنويا في الشؤون الدفاعية. ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان جميع الأعضاء سينفذون هذا التعهد بالكامل.

 على الرغم من المخاوف العديدة إزاء الصين، بما في ذلك “طموحاتها وسياساتها القسرية التي تتحدى مصالح الناتو وأمنه وقيمه” و “علاقاتها مع روسيا”، فإن إعلان قادة الناتو للبقاء منفتحين على المشاركة البناءة مع الصين، جدير بالملاحظة.

على أن أوكرانيا ليست بأي حال التحدي الوحيد الذي يهدد السلام والأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية. فأعمال الشغب في فرنسا والصراعات الداخلية كتمرد فاغنر في روسيا وغرق القوارب وموت اللاجئين بالمئات وتصاعد التطرف على جميع الجبهات، كلها أمور تأخذ حيزا كبيرا من الاهتمام أيضا. ويمكن القول، من منظور أوسع للأمن، إن هذه المشكلات وغيرها من المشكلات الأخرى وثيقة الصلة أيضا بأهداف الناتو ومهامه.

المجلة

————————–

السوريون في تركيا يواجهون “صيفاً ساخناً”.. تحركات ومؤشرات

رغم أن السوريين في تركيا عاصروا واختبروا الكثير من الإجراءات التقييدية التي صدرت بشأن وضعهم خلال السنوات الماضية إلا أن تحركات وتصريحات وجملة من القرارات الرسمية تنذر بمشهد “أشد قسوة” عن السابق و”صيف ساخن”.

ويزيد عدد السوريين عن أربعة ملايين شخص في عموم تركيا، ويتركز القسم الأعظم منهم الآن في إسطنبول، المدينة التي بدأت فيها السلطات قبل أيام حملة تستهدف بحسب الرواية الرسمية “المهاجرين غير الشرعيين”.

وجاءت الحملة بعدما عيّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجوهاً جديدة شملت حقيبة الداخلية وولاية إسطنبول، وصولاً إلى تغييره يوم السبت كامل الطاقم في “دائرة الهجرة”.

وبعد تعيين كل من علي يريكايا في منصب وزير الداخلية وداوود غول في منصب والي اسطنبول أعلن هذان المسؤولان عن حملة لمكافحة “الهجرة غير الشرعية”، وأشارت لهجتهم من جانب آخر إلى طريقة تعاطي جديدة مع الملف.

ورغم أن السلطات لم تسمِ السوريين “المخالفين” بعينهم كهدف ضمن نطاق الحملة، إلا أن الكثير من حالات إلقاء القبض والترحيل وثقها حقوقيون، من بينهم الناشط طه الغازي.

في غضون ذلك انتشرت تسجيلات مصورة وثقت إقدام السلطات على اعتقال سوريين “مخالفين” وتعود قيودهم إلى ولايات بعيدة عن إسطنبول.

فيما وثقت أخرى انتشار عناصر من الشرطة في الساحات العامة وعلى السواحل، كخطوات تستهدف البحث عن “المهاجرين غير الشرعيين”.

    HAZİRAN AYINDA 1️⃣5️⃣.5️⃣9️⃣1️⃣DÜZENSiZ GÖÇMEN YAKALANDI.

    Düzensiz Göçle mücadele kapsamında yakalananların;

    6️⃣.8️⃣8️⃣3️⃣’ü sınır dışı edildi. Diğerlerinin sınır dışı işlemleri devam ediyor.

    Geçtiğimiz ay 2️⃣3️⃣.4️⃣5️⃣0️⃣ düzensiz göçmenin de ülkemize girişleri sınırlarımızda engellendi.… pic.twitter.com/2yN8uhslPx

    — Ali Yerlikaya (@AliYerlikaya) July 7, 2023

“خلال 4 أشهر”

وتأتي الحملة الحالية التي تشهدها مدينة إسطنبول بالتحديد بعد نحو شهر من انتهاء الانتخابات “التاريخية” في تركيا، والتي فاز بها أردوغان بولاية رئاسية ثالثة.

وفي أثناء حملته الانتخابية وقبل ذلك كرر أردوغان كثيراً هدفه الخاص بإعادة “مليون لاجئ سوري طوعاً إلى شمال سورية”، في وقت كانت فيه أحزاب المعارضة تحرّض على اللاجئين وأنه يجب إعادتهم إلى بلادهم، بزعم أنها “آمنة”.

وفي حين أعلنت وزارة الدفاع التركية الأسبوع الماضي أن “مليون لاجئ سوري عادوا طوعاً بالفعل إلى شمال سورية” خلال الفترة الماضية، فتح الرئيس التركي الباب أمام سياسية جديدة تتعلق بالهجرة.

وقال أردوغان، قبل يومين، في حديث للصحفيين إنه “من المهم أن يتم منع المهاجرين من دخول تركيا، وأن ينقل من يلقى القبض عليهم إلى ملاجئ أو مخيمات المهاجرين”.

كما أنه من المهم “إيقاف الهجرة من منبعها خاصة من شمال سورية”، مردفاً: “نحن نعمل حالياً من أجل هذا”.

وأكد أردوغان أن القوات الأمنية في تركيا شددت الإجراءات تجاه “المهاجرين غير الشرعيين” خلال الآونة الأخيرة.

معتبراً أن المواطنين الأتراك “سيشعرون بالتغييرات الواضحة” فيما يتعلق بالإجراءات الأمنية، خلال وقت قصير.

وقبله كان وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، تعهد بإنهاء وجود المهاجرين غير الشرعيين خلال 4 أو 5 أشهر.

واعتبر الوزير أن المهاجر غير النظامي هو كل شخص دخل البلاد بطريقة غير قانونية، وفضل البقاء في تركيا رغم انتهاء تأشيرة إقامته، والذي يعمل دون تصريح.

وأكد كايا أن أجهزة الشرطة زادت عمليات التفتيش خلال الأسبوعين الماضيين في إسطنبول بشكل خاص.

من جانبه أعلن والي إسطنبول الجديد، داوود غول بعد تعيينه أنه لن يسمح لأي أجنبي غير مسجل البقاء أو الإقامة في مدينة اسطنبول.

وأضاف أن السلطات “ستعمل على ترحيل المقيمين غير الشرعيين خارج البلاد فور ضبطهم”.

“إسطنبول في المقدمة”

ومنذ سنوات يفضل الكثير من اللاجئين البقاء في المدينة أو السفر إليها بغرض العمل.

ورغم أن البعض منهم يحظى بقيود وأوراق ثبوتية صادرة عنها، إلا أن آخرين تصنفهم السلطات ورئاسة الهجرة في قائمة “المخالفين”، كون قيودهم ترتبط بولايات تركية أخرى.

ويمنع السوريون منذ عام 2016 في تركيا من مغادرة الولايات المسجلين فيها، أو الإقامة في ولايات أخرى من دون “إذن سفر” صادر عن “إدارة الهجرة التركية”.

وينظر كثيرون إلى المعادلة السابقة على أنها تندرج في صلب الحملة الجديدة، والتي بدأت في إسطنبول، ومن المقرر أن تنسحب إلى كافة الولايات، حسب التصريحات الرسمية.

وكانت وسائل إعلام تركية قد نشرت، الخميس الماضي، تسجيلاً في مدينة بورصة عن حملة أمنية ضد المحلات والمواطنين السوريين.

وقال موقع “بورصة اليوم” إن الشرطة في بورصة فرضت رقابة مشددة على المناطق التي يتمركز فيها السوريون.

ويظهر التسجيل دخول الشرطة إلى المحلات التجارية السورية وتفتيش السوريين المارين في الأسواق والحدائق.

وأضاف الموقع أنه تم ترحيل 10 أشخاص “مخالفين”.

كما وثقت تسجيلات أخرى إلقاء عناصر من الشرطة التركية القبض على أحد السوريين في مدينة إسطنبول، وفي أعقاب تفقد بطاقة الحماية المؤقتة التي يحملها.

وذكرت صحيفة “ملييت” المقربة من الحكومة، السبت، أن “ولاية إسطنبول التركية علّقت إصدار تصاريح إقامة جديدة للأجانب إلى أجل غير مسمى”، وأن “هذه الخطوة تأتي في إطار مكافحة الهجرة غير النظامية، ولمواجهة تزايد أعداد الأجانب في المدينة”.

وقالت الصحيفة إن “هناك حالات استثنائية حددتها الولاية منها أن يكون السكن لغرض الصحة أو التعليم أو التجارة الدولية”.

ومن غير الواضح المسار الزمني الخاص بالحملة التي تقودها السلطات، في وقت تسود توقعات بشأن استمرارها حتى انتخابات البلديات المقرر تنظيمها، في مارس/آذار العام المقبل.

———————————

=========================

تحديث 14 تموز 2023

—————————-

الانتخابات التركية وانعكاساتها على السوريين وقضاياهم

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

انتهت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية في 28 أيار/ مايو 2023، بفوز الرئيس أردوغان بفترة رئاسية ثانية مدتها خمس سنوات، تمتد حتى عام 2028، وكانت قد سبقتها الجولة الأولى في 14 أيار/ مايو 2023، وكانت انتخابات برلمانية ورئاسية في الوقت نفسه، وانتهت بحفاظ “تحالف الجمهور” الذي يضمّ حزب العدالة والتنمية وعدة أحزاب متحالفة معه (على رأسها حزب الحركة القومية)، على الأغلبية البرلمانية، على الرغم من تناقص عدد مقاعده بالبرلمان، لكن الرئيس أردوغان لم يتمكّن حينذاك من الفوز بالانتخابات الرئاسية وحسمِها من الجولة الأولى، فأعيدت انتخابات الرئاسة في التاريخ المذكور.

مع إعلان فوز الرئيس أردوغان في الجولة الثانية، تنفّس اللاجئون السوريون الصّعداء، بسبب زوال التهديدات التي تزايدت في الآونة الأخيرة حول ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا، وقد صبّت الزيت على نار التجييش الذي مارسته المعارضة التركية على مدى عدة أعوام سابقة، ضدّ اللاجئين السوريين في تركيا، حيث كانت تنسب إليهم كلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تركيا، وهو ملفّ إنساني استغلّته المعارضة لأغراض سياسية وانتخابية، في مسعًى لأن يتحوّل هذا التجييش إلى مزيد من الأصوات لصالحها في الانتخابات التركية الأخيرة. وقد زاد هذا التحريضُ بين الجولتَين الأولى والثانية من الانتخابات الرئاسية، وخاصّة بعد تحالف أوميت أوزداغ (رئيس حزب النصر)، مع كمال كليجدار أوغلو (مرشح تحالف الأمة)، حيث ظهرت لوحات على الطرق العامة تحمل شعارات عنصرية تجاه السوريين.

في أثناء الحملات الانتخابية، رفعت كلّ الأحزاب التركية سقف الوعود التي قدّمتها، بخصوص عودة اللاجئين السوريين إلى سورية، وذلك تحت ضغوط حالة الاحتقان في الشارع التركي، لذا جاءت كثير من الوعود على نحو غير منطقي وغير قابل للتحقيق، وكانت غايتها كسبَ صوت الناخب التركي بشكل أساسي.

مع هذه النتائج للانتخابات التركية، سنناقش في هذه الورقة ثلاث مسائل:

    أثر نتائج الانتخابات التركية على اللاجئين السوريين في تركيا.

    أثر الانتخابات التركية على سياسة تركيا تجاه الفاعلين الآخرين في القضية السورية.

    أثر نتائج الانتخابات على السياسة التركية تجاه القضية السورية والحلّ السياسي فيها.

أولًا: أثر الانتخابات التركية على اللاجئين السوريين في تركيا

    ستقع سياسات الحكومة التركية الجديدة تجاه اللاجئين السوريين تحت عدد من الضغوط:

    أ-ضغوط قناعة حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان بأنّ ملفّ اللاجئين السوريين الإنساني قد استُخدم لغايات سياسية، وأنّ المستهدف من تشويه صورة اللاجئين السوريين هو حزب العدالة والرئيس أردوغان، وهم يدركون أن من مصلحة الحزب إزالة هذا الاحتقان المجتمعي الضار، والدفاع عن سياستهم باستقبال اللاجئين السوريين، وتصحيح الصورة التي شوهتها المعارضة التركية عن عمد.

    ب-ضغوط توقّع استمرار المعارضة التركية باستخدام ملف السوريين، وهي مقبلة على الانتخابات المحلية (البلدية) بعد عشرة أشهر فقط، خاصة أن المعارضة استطاعت -من خلال حملات التحريض والكراهية تجاه السوريين في الفترة الماضية- إقناع كثير من المواطنين الأتراك بموقفها من السوريين، لكن حدة هذه الحملات قد تخفّ على وسائل التواصل الاجتماعي حتى البدء بالحملات الانتخابية للانتخابات البلدية.

    ت-ضغوط التزام أردوغان بوعوده التي أعلنها أثناء حملته الانتخابية تجاه اللاجئين السوريين، فقد ركز على نقطتين: الأولى منع موجات هجرة جديدة إلى تركيا؛ والثانية العمل على إعادة السوريين المقيمين في تركيا من خلال عودة طوعية وآمنة، وتقوية المؤسسات العاملة في قضايا السوريين، مع عدم السماح بالتمركز الجغرافي لهم، والاستمرار في تعزيز أمن الحدود. وقد صرّح أكثر من مسؤول من تحالف الجمهور، على رأسهم الرئيس أردوغان، بأنهم يهدفون إلى إعادة مليون سوري في الفترة المقبلة، مؤكدين عودة 600 ألف من السوريين حتى الآن. وستلاحق المعارضة تنفيذ هذه الوعود.

    ث-ضغوط استعصاء القضية السورية، واستمرار وجود حزب PYD، شرق الفرات، وعدم قبول الأسد إعادة أي لاجئ، مما يعني عدم وجود إمكانية لعودة اللاجئين السوريين إلى بيوتهم، إلا بشكل محدود إلى مناطق سيطرة المعارضة، بما يجعل تنفيذ الوعود تواجه طريقًا مسدودًا.

    التوقعات المستقبلية بخصوص اللاجئين السوريين في تركيا:

مع أخذ الضغوط المذكورة أعلاه بعين الاعتبار،

–يتوقع تردد الحكومة التركية الجديدة في إجراء تغيير كبير في السياسة الحالية تجاه اللاجئين السوريين قُبيل الانتخابات البلدية، كي لا تُظهر تعاطفها مع السوريين، خوفًا من خسارة بعض أصوات الناخبين، وتوقّع تعديل طفيف يخفف الضغوط الحالية التي يتعرّض لها السوريون، ومن غير المتوقع أن تتراجع الحكومة عن سياستها في بعض القرارات، مثل تقييد السفر والأحياء المغلقة أمام الأجانب.

–يمكن أن يعاد النظر في قانون الحماية المؤقتة، ومن المحتمل صدور قانون يجعل وجود اللاجئين السوريين في تركيا أكثر تنظيمًا، خاصة إن صدرت مطالبات كثيرة بإعادة النظر فيه من طرف مقرّبين من الحكومة.

–يتوقع استمرار التشدد في منح الإقامات السياحية وإقامات العمل، واستمرار أوضاع العمالة السورية في الفترة المقبلة بشكلها الحالي، مع محاولات لضبطها بشكل أكبر، وخاصة أن قطاع الأعمال التركي يطالب ببقاء العمالة السورية في تركيا، نتيجة الحاجة إليها في بعض القطاعات.

–استمرار سياسات التجنيس كما هي الآن، مع احتمال تقليل أعداد المرشحين للتجنيس، وربما توضع شروط جديدة أو يطرأ تغيير على بعض الشروط لمن يتمّ تجنيسهم عبر الاستثمار أو شراء عقار.

–سيستمر العمل بالاتفاقية الموقّعة مع الاتحاد الأوروبي عام 2016 بشأن اللاجئين، وستسعى تركيا للحصول على دعم مالي أكبر.

ثانيًا: أثر الانتخابات على علاقات تركيا مع النظام السوري

    على الرغم من أن إعادة تواصل تركيا مع مؤسسات النظام بدأت قبل الانتخابات، وخاصة على مستوى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي لا يكاد تواصلها ينقطع؛ فإنها تسارعت مع اقتراب موعد الانتخابات، وخاصة تحت ضغوط المعارضة التركية التي تطالب بترحيل السوريين عبر التواصل المباشر مع النظام، وعبر الضغوط الروسية لبدء هذا التواصل من جهة، وسلبية الموقف الأميركي تجاه السياسة التركية عمومًا من جهة أخرى، وجمود وضع القضية السورية من جهة ثالثة، مما دفع تركيا إلى التواصل مع دمشق، ولذلك بدأ مسار موسكو الرباعي الذي يضمّ كلًّا من تركيا وروسيا وإيران والنظام والسوري.

    ثلاث قضايا أساسية يتم التفاوض عليها بين النظام السوري وتركيا:

    القضية الأولى: هي عودة اللاجئين السوريين، وعلى الرغم من أنها قضية إنسانية، وثمة توافق على حتمية عودة السوريين إلى بلادهم، فإنّ النظام السوري لا يريد إعادة أي لاجئ، ويريد إبقاء هذه المسألة -مع مسألة المعتقلين والمغيّبين قسرًا وجوازات السفر وغيرها من معضلات- معلّقةً بدون حل، ويربط حلّها بإعادة تأهليه دوليًا، ورفع العقوبات عنه، ورفع فيتو إعادة الإعمار، من دون أن يقدّم أي تنازل، ولن يقبل بضمانات دولية أو بوجود مراقبين. غير أن الدول السبع الكبار تربط رفع العقوبات والفيتو على إعادة الإعمار، بتحقيق حل سياسي وفق قرارات مجلس الأمن، وهذا ما أكدته الدول السبعة الكبرى في اجتماعها في هيروشيما في اليابان، بتاريخ 19 أيار/ مايو 2023، الأمر الذي يرفضه كلٌّ من النظام وداعميه، روسيا وإيران. وكذلك هناك مشروع منع التطبيع مع النظام السوري، وقد تتم الموافقة عليه من الكونغرس الأميركي في الأيام القادمة. وهذا يعني أن طريق إعادة أي لاجئ سوري من تركيا إلى سورية هو طريق مسدود في الوقت الحالي.

    القضية الثانية: الوجود التركي في سورية، حيث يشترط النظام السوري سحب القوات التركية من الأراضي السورية، قبل التقدم في مسار التطبيع بين الطرفين، بينما تطلب تركيا التوقيع على اتفاقية أضنة جديدة تسمح لها بالتوغل لمسافة 30 كم داخل الأراضي السورية، في حال وجود أي تهديد لأمنها القومي، ولا يتوقّع الوصول إلى اتفاق بهذا الخصوص.

    القضية الثالثة: مسألة وجود حزب PYD الذي يسيطر على معظم شرق الفرات، وهو فرع من حزب PKK التركي المصنف منظمة إرهابية، ويقيم اليوم “إدارة ذاتية” شرقي الفرات ومنبج، بما يشبه شمال العراق، وهو الأمر الذي تعدّه تركيًا تهديدًا لأمنها القومي. وبالرغم من أن عودة سيطرة النظام على منطقة شرق الفرات يخدم المصلحة التركية، لأنه يُنهي احتمال قيام كيان كردي شبه مستقل يقوده حزب PYD، فإن وجود المنطقة الآن تحت الحماية الأميركية، حيث يوجد 900 جندي أميركي في المنطقة، يمنع الوصول إلى أي اتفاق بينهما، ولا يبدو انسحاب هذه القوات مطروحًا حاليًا.

    على الصعيد السياسي بين تركيا والنظام السوري:

    –يتوقع استمرار السياسة التركية الحالية تجاه القضية السورية، والمسارات التي اشتركت فيها تركيا لحل الأزمة مع روسيا وإيران والنظام السوري، وخاصة المسار الرباعي في موسكو ومسار آستانة، والتركيز على مسألة وحدة الأراضي السورية، ومكافحة الإرهاب، والمتمثل -وفقًا لوجهة النظر التركية- بحزب PYD الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، حيث تمثل هذه الأمور الأولوية التركية في الفترة القادمة، مع محاولة تركية لخلق التوازن بين تلك المسارات، والمسار الأممي للحل والقرارات الدولية وخاصة القرار 2254، لأن ذلك يحقق قوّةً للموقف التركي في المفاوضات الجارية في موسكو.

    –من المتوقع استمرار مسار التواصل بين تركيا والنظام السوري، وفقًا للمسار الحالي، إذ تجد الحكومة مصلحتها في ذلك ضمن استمرار استعمال المعارضة التركية لملفّ اللاجئين السوريين، مع تباطؤ في هذا المسار في فترة ما بعد الانتخابات، وعدم تحقيق تقدّم يُذكر، إذ ليس لدى النظام ما يقدمه لتركيا، بسبب استمرار وجود أميركا في الجزيرة السورية، واستمرار العقوبات والفيتو على دعم إعادة الإعمار، ما لم يتحقّق حل سياسي وفق 2254، وهو أمرٌ ما زال بعيدًا.

    –من المتوقع استمرار السياسة التركية تجاه منطقة شرق الفرات دون تغيير، مع استمرار رغبة تركيا في القيام بعمليات عسكرية في شرق الفرات، إضافة إلى منبج وتل رفعت في ريف حلب، واستمرار استهداف قيادات PYD عبر الطائرات التركية المسيّرة. ولكن لا يتوقع أن تعطي الإدارة الأميركية الضوء الأخضر لأي عملية عسكرية شرق الفرات.

ثالثًا: أثر الانتخابات على مناطق سيطرة الجيش الوطني وإدلب

ما زالت المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية، حيث تنتشر نقاط للجيش التركي، تعاني مشكلات الفصائلية وتبعاتها، مع عدم وجود حوكمة فاعلة فيها، وأوضاع اقتصادية متردية، وثمة حاجة إلى إعادة ضبط المنطقة في الشمال السوري، وإقامة حوكمة منظمة، مع خارطة تنميةٍ تخلق مناخًا جاذبًا للاستثمار وفرص العمل والسكن في تلك المناطق، والقضاء على التشتت الفصائلي فيها. لكن من غير المتوقع في الفترة المقبلة حدوث تغيير يُذكر في أوضاع تلك المناطق، على الأصعدة كافة، باستثناء بناء بعض المساكن التي تهدف إلى إعادة لاجئين سوريين مقيمين في تركيا، وفي حال تطبيقها قد تزيد الضغط على هذا المنطقة المكتظة بالسكّان أصلًا، مع مواردها الشحيحة، وطاقتها المحدودة لاستقبال أعداد جديدة من السوريين، ومعاناتها الانقسام الفصائلي، حيث لم يصل مستوى الحوكمة فيها إلى المستوى المقبول، ومع غياب فرص العمل في تلك المناطق التي تعاني نسبة بطالة مرتفعة، كما يوجد عشرات آلاف السوريين في تلك المناطق ما زالوا يقيمون في المخيمات، وهم أولى بالإسكان من العائدين من تركيا، ومع صعوبة بناء 200 ألف وحدة سكنية خلال الجدول الزمني الذي تم وضعه، فضلًا عن أن عودة اللاجئين ينبغي أن تكون إلى المناطق التي خرجوا منها، وليس إسكانهم في مناطق جديدة، مع صعوبة وضع معايير محددة لمن سيعود لسورية، وصعوبة إقناع الناس بالعودة في ظل الظروف الحالية في سورية، وخاصة إذا تم تطبيق العودة الطوعية، وليس القسرية التي يخشى السوريون من تنفيذها ببعض الأساليب غير الواضحة.

ثمة مؤشرات على سعي هيئة تحرير الشام لتوسيع منطقة سيطرتها، على حساب مناطق الجيش الوطني، وهذا لا يمكن أن يحدث بدون موافقة تركية ضمنًا، ولكن أبعاد هذا الأمر لم تتضح بعد. وعلى ذلك؛ من غير الوارد الآن انسحاب الجيش التركي من الشمال السوري. ومن غير المتوقع أن يطرأ تغيير على الموقف التركي تجاه مؤسسات المعارضة السورية المهمشة، حيث لم يتم إشراك مؤسسات المعارضة هذه، سواء الائتلاف أو هيئة المفاوضات أو الفصائل، في محادثات موسكو الرباعية، وتم تجاهل مشاركة المعارضة كليًا.

رابعًا: تأثير الانتخابات التركية على سياسات الفاعلين الإقليميين والدوليين في القضية السورية

بعد أن أصبحت القضيّة السورية بيد الفاعلين الإقليميين والدوليين، وتركيا هي فاعل رئيس، فإن علاقات تركيا مع بقية الفاعلين عمومًا، وسياسات الفاعلين تجاه القضية السورية، تؤثر بشكل مباشر في السياسة التركية تجاه القضية السورية.

خلال الانتخابات التركية الأخيرة، ظهر الاصطفاف الدولي بوضوح، حيث وقفت موسكو سياسيًا مع أردوغان وتحالفه، بينما وقفت دول الغرب مع المعارضة ومرشّحها. ولكن لا يتوقع أن يؤثر هذا بشكل كبير في سياسة تركيا الخارجية عمومًا، وفي السياسة التركية تجاه القضية السورية، فما زال التحالف الحاكم ممسكًا بزمام السلطة.

لا تبدو في الأفق الدولي تغييرات ذات تأثير كبير على الملف السوري المجمّد منذ سنوات؛ فالقوات الأميركية مستمرة في الوجود شرق الفرات، وتقدّم حماية لقوات PYD، ولا يتوقّع سحب قواتها قريبًا، وما زالت متمسكة مع بقية دول السبع بالحل السياسي وفق القرار الأممي 2254، ومتمسكة بالعقوبات على النظام، بل إنها تسعى لفرض مزيد منها. ومن غير المتوقع أن تسمح أميركا بعلميات عسكرية جديدة لتركيا في الشمال الشرقي السوري، وخاصة أن إدارة بايدن مقبلة على انتخابات في العام المقبل، ومن غير المتوقع إحداث تغييرات كبيرة في السياسة الأميركية في المنطقة، ومنها سورية، في الفترة القريبة القادمة.

بالمقابل، يتقارب موقف روسيا وتركيا في ما يخص شرق الفرات، فكلاهما يعارضان الوجود الأميركي هناك، ويؤيدان عودة سيطرة النظام على مناطق شرق الفرات. وما زالت موسكو على موقفها الداعم للنظام، وهي تسعى للتقريب بين أنقرة ودمشق. ولكن من غير المتوقع أن يكون الموقف التركي أكثر تشددًا بعد أن انتهت الانتخابات، وسيتم المحافظة على سقف الطلبات التركية في ما يخص شرق الفرات ومناطق سيطرة المعارضة وإدلب وعودة اللاجئين وطبيعة الحل السياسي في سورية ومشاركة المعارضة.

ولا يتوقع أن يكون هناك أي تغيّر في السياسة الإيرانية تجاه النظام السوري ودعمه المطلق، وإيران وتركيا متنافستان اليوم في سورية، بعد أن كانتا متصارعتين قبل الانقلاب 2016. وتتشاركان في مسارات آستانة وسوتشي والمحادثات الرباعية. وسيبقى وجودهما في سورية موضع تنافس وصراع ضمني.

بحسب تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، يتم تداول فكرة تشكيل لجان من نواب وزراء خارجية الدول المشاركة في مسار موسكو الرباعي، لرسم خارطة طريق لعودة السوريين إلى وطنهم، تشمل المناطق التي تحت سيطرة النظام السوري، ومن المتوقع وضع هذه الخارطة في الأشهر المقبلة، لكن تطبيقها سيواجه العديد من التحديات، بعضها يتعلق بوضع السوريين في تركيا، وبعضها يتعلق بوضع الداخل السوري.

التغير الملحوظ جاء على الجبهة العربية، حيث تمت إعادة النظام ليحتل مقعد سورية في جامعة الدول العربية، في مسعى من الجامعة لاحتضان سورية “بعيدًا عن الحضن الإيراني”، ضمن مشروع ما يُسمى “خطوة خطوة”، دون الإفصاح عن محتوى هذا المشروع وخطواته. وستسعى الدول العربية، ولا سيما السعودية، مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتخفيف العقوبات، والسماح بتنفيذ خطوات تشجع النظام على الابتعاد عن الحضن الإيراني، وهو -بتقديرنا- وهم عربي. وضمن أجواء الموقف العربي للتطبيع مع النظام، وعودته ليحتل مقعد سورية في جامعة الدول العربية، ينعقد اجتماع لهيئة المفاوضات في جنيف، بعد ثلاث سنوات من التوقف، وثمة احتمال بعودة اللجنة الدستورية للانعقاد، لكن من غير المتوقع أن تحقق اجتماعاتها أي تقدم في الفترة القريبة القادمة.

قد تجد تركيا في المساعي العربية الأخيرة تجاه النظام السوري فرصةً لتحريك الملف السوري الجامد، ولأن يكون لها دور رئيس في هذا المسار، وقد تسعى لضم إحدى الدول العربية -السعودية- إلى المسار الرباعي في موسكو، حيث إن لروسيا أيضًا مصلحة بموازنة الموقف الإيراني بموقف عربي، وهذا يخدم الموقف التركي على المدى القريب والبعيد.

وما دام العرب ماضين في إقناع أميركا بموقف ليّن تجاه النظام السوري، فقد يكون لدى تركيا، بحسب ما تتداوله بعض الأوساط التركية، مبادرة لتطوير سياسية الخطوة خطوة، بصياغة حل سياسي في سورية، يقوم على انسحاب أميركي من شرق الفرات، وعودة سيطرة النظام على شرق الفرات، ضمن ترتيبات محددة، ومثلها في مناطق سيطرة الجيش الوطني وإدلب، مقابل رفع العقوبات ورفع الفيتو عن إعادة الإعمار، مع بقاء الأسد، مقابل تشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها المعارضة وأطراف من المجتمع في السلطة، وإجراء اتفاق على مرحلة انتقالية محددة تنتهي بانتخابات حرة بمراقبة دولية فعالة. ويحقق مثل هذا الحل بضعة أهداف، حيث يُنهي مسألة كيان كردي مستقل شرق الفرات، ويخلق استقرارًا على الحدود الجنوبية لتركيا بعد 12 سنة من الاضطرابات، ويفتح الطريق لعودة جزء كبير من اللاجئين السوريين، ويفتح طريق التجارة البري بين تركيا ودول الخليج. وقد تدعم روسيا مثل هذا الحل، إذا ما ضمن مصالحها في سورية، ومع عدم استبعاد إيران ومصالحها من الحل، غير أن الموافقة الأميركية على مثل هذا الحل ستكون صعبة، وإذا كان بالإمكان إقناع روسيا بمثل هذا الحل، وهو أمرٌ لم يكن ممكنًا في السابق، فإن إيران والنظام ما زالوا يصرون على أنهم “انتصروا” في الحرب، وأن ليس عليهم تقديم أي تنازل لما يسمى معارضة سورية لتشارك في الحكم، بأي شكل كان.

خاتمة

مع فوز التحالف الحاكم في الانتخابات التركية الأخيرة، يُتوقّع أن تستمر السياسة التركية تقريبًا دون تغييرات كبيرة، سواء تجاه اللاجئين السوريين في تركيا، أو تجاه القضية السورية ككل، أو علاقة تركيا مع بقية الفاعلين بخصوص القضية السورية، خصوصًا قبل الانتخابات البلدية القادمة بعد عشرة شهور. ويُتوقّع أن يحدث انفراج في السياسة التركية الداخلية تجاه اللاجئين السوريين، بعد تلك الانتخابات. أي يتوقع أن يبقى اللاجئون السوريون في تركيا تحت ضغوط تحريض المعارضة للشارع التركي عليهم، حتى انتهاء الانتخابات البلدية.

من جانب آخر، ستكون تركيا أكثر تشددًا في مفاوضاتها مع النظام السوري، وستزداد تشددًا بعد انتهاء الانتخابات البلدية القادمة، إذا ما كانت النتائج لمصلحة الحزب الحاكم. ولا يُتوقّع أن تكون هناك تغييرات تذكر في وجود القوات التركية في الشمال السوري، أو في سياسات تركيا في تلك المناطق، كما لا يُتوقع حدوث تغيّر في سياساتها تجاه مؤسسات المعارضة السورية.

ومن المتوقّع أن تسعى تركيا لتحسين علاقاتها مع الدول الإقليمية ومع القوى الكبرى، وقد ينعكس ذلك إيجابًا، ويفتح طريق تفاهمات للتقدّم على مسار إيجاد حل للقضية السورية. وقد تسعى تركيا للانضمام إلى برنامج الجامعة العربية تجاه النظام، وربّما تعمل لتطويره باتجاه حل سياسي شامل، وتسعى مع العرب لتسويقه لدى كل من واشنطن وموسكو. ولكن من الصعب الجزم بقدرة المبادرة العربية، حتى بمشاركة تركيا، على إقناع الولايات المتحدة بذلك؛ فالصراع في أوكرانيا قد يُشكّل دافعًا أميركيًا يعوق أي حل في سورية قد تستفيد منه روسيا، ويُخفف الضغط عليها. إضافة إلى صعوبة إقناع روسيا واستحالة إقناع النظام وإيران بأيّ حلّ سياسي.

يبقى الموقف الأميركي موقفًا مقررًا في القضية السورية، ويبدو أنه ما زال متشددًا تجاه عقوبات النظام واستمرار بقاء القوات الأميركية شرق الفرات، مما يقطع الطريق على أي تقدّم حقيقي في الملف السوري.

————————–

هل تكون تركيا الرابح من “التوازن المنضبط” بين روسيا وأوكرانيا؟/ ميتات جيليكبالا

تحديات جديدة تواجه أردوغان للاستمرار في نهجه بين بوتين وزيلينسكي

كانت “العملية الخاصة” التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط 2022 دون شك أهمّ تطور غيّر أولويات العالم خلال العامين الماضيين، فقد تسبّب ما جرى منذ ذلك الحين في إجراء تغيير جذري في هيكل الأمن العالمي، وأثر بشدة على العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية.

وكان رد الفعل الأولي لأنقرة على “العملية الخاصة” الروسية هو الرفض القاطع للاعتراف بالضمّ غير المشروع لمناطق شرق أوكرانيا، واتخذت موقف الدفاع عن وحدة أراضي أوكرانيا بحدودها المعترف بها عام 1991، واكتسب رد الفعل هذا زخما من كونها عضوا بارزا ورئيسا في حلف شمال الأطلسي وشريكا وثيقا لروسيا في الوقت عينه.

وفعّلت أنقرة المادة 19 من اتفاقية مونترو بعد أسبوع تقريبا من رد الفعل الدبلوماسي هذا، حين أغلقت المضيق التركي أمام السفن الحربية “المتحاربة” من كلّ من روسيا وأوكرانيا. وكانت تركيا بذلك أول من ذكّر بأن هذه الحرب ستؤثر على كل الدول المطلة على البحر الأسود، فكان لهذا القرار تأثير إضافي يتمثل في منع روسيا من نشر سفن حربية إضافية في البحر الأسود، مما قد يغير ميزان القوى. كما أصدرت تركيا تحذيرا لجميع الدول الأخرى، الساحلية وغير الساحلية، بالامتناع عن إرسال سفن حربية عبر المضيق، مما يؤدي إلى إغلاق البحر الأسود فعليا.

وسوى ذلك، فإن أنقرة، التي تأثرت بشكل مباشر بالحرب بين الجارتين على البحر الأسود بجميع أبعادها، اتبعت سياسة “الحياد النشط” التي تعطي الأولوية للحل السلمي بين روسيا وأوكرانيا وتحاول تحقيق التوازن بين دوري الميسّر والوسيط. وعلى الرغم من أن هذا النهج يتوافق مع عملية صنع السياسة الخارجية المتوازنة التقليدية في تركيا عموما، إلا أنه يعاني هنا حساسية وضعفا ويقف على حد السكين.

هذا النهج، الذي يهدف إلى الحفاظ على التوازن بين البلدين المتحاربين وضمان استمرارية العلاقات معهما، يشير أيضا إلى الموقف الدقيق والصعب بين سلوك روسيا وتوقعات ومساعي الحلفاء الغربيين. وقد تتجاوز التطورات، على المدى المتوسط والطويل، علاقات تركيا الثنائية مع أوكرانيا وروسيا، لأنها ستؤثر على سياسات وأمن أنقرة في البحر الأسود على المستوى الإقليمي، وأيضا على علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على المستوى العالمي، ولا سيما فيما يخص عضوية فنلندا والسويد في الناتو.

لقد أدى الموقف الهجومي لروسيا، الذي نشأ أساسا عن نظرتها المهيمنة تجاه جميع الدول الساحلية تقريبا، إلى القضاء على إمكانية التعاون الإقليمي وسبل إرساء الأمن المشترك السلمي، وهو ما يضع حدا للرؤية الشاملة للأمن والتعاون الإقليميين التي كانت أنقرة تنميها بإصرار وصبر لسنوات عديدة في منطقة البحر الأسود، والتي كانت مستقرة نسبيا وخالية من الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقريبا. والآن، من الأهمية بمكان، في هذه المنطقة المتأثرة بالحرب، أن تحدد تركيا مصالحها بطريقة عملية وتحميها مع الحفاظ في الوقت نفسه على العلاقات مع الحلفاء الغربيين وتعزيزها، كما أنه من المهم بالدرجة نفسها إيجاد توازن في التعامل مع روسيا، دون عزلها، مع دعم الفاعلين المحليين في المنطقة، وهي مهمة معقدة تتطلب اتباع سياسات عقلانية وقابلة للتكيف.

قدم في كل معسكر

ويرى البعض أن نهج تركيا الحالي، التي تضع قدما في كلا المعسكرين، يقوم على التعاون مع الحلفاء الغربيين ودعم أوكرانيا في وقت واحد، ولكنّ آخرين يرون أنه موقف داعم إلى حد ما، ولكنه غير واضح المعالم.

ومع تضاؤل قوة روسيا، تجد تركيا نفسها في منعطف حرج حيث يتعين عليها إظهار قيادتها الإقليمية وإعادة التعامل مع الغرب، ففشلها في القيام بذلك قد يؤدي إلى ضياع الفرص.

وعندما تنتهي الحرب في نهاية المطاف، قد تستفيد تركيا ويُنظر إليها على أنها منتصرة. ولكن البعض يتساءل عن دوافع تركيا، معتبرا أن موقفها في واقع الأمر موقف انتهازي، يركز فقط على حماية مصالحها الوطنية. لذلك ترى أن تركيا تسير بحذر في مسار ضيق بين التزاماتها تجاه تحالفاتها وعلاقتها مع روسيا؛ فمن خلال إغلاق المضائق التركية ودعم استراتيجيات الناتو وتقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا مثل الطائرات القتالية دون طيار وغيرها من الموارد، فإن تركيا تنتهج سياسة موالية لأوكرانيا أو غربية، ولكن بنهج منضبط.

من ناحية أخرى، من خلال عدم انضمامها إلى العقوبات المفروضة على روسيا وزيادة حجم تجارتها مع روسيا مؤخرا إلى الضعف تقريبا، تستقطب تركيا الانتباه والنقد لعدم انضمامها إلى العقوبات، بل تعميقها علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع روسيا بدلا من ذلك. وهكذا، ثمة من ينظر إلى أنقرة على أنها المستفيد الرئيس من الوضع الحالي، حيث استفادت من العمل كـ”منصة تجارية” بين العالم وروسيا التي تضررت من العقوبات، ويخضع دور أنقرة إلى التدقيق فيما يتعلق بموقفها ودوافعها.

وقد تشكلت سياسات أنقرة منذ بداية الحرب، وربما حتى منذ غزو القرم، من خلال إقامة علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع جميع الأطراف وتحقيق التوازن مع روسيا بإبقائها في النظام دون تهميشها. اليوم، تتمتع تركيا وروسيا بعلاقات اقتصادية متينة، حيث كان الهدف التجاري الذي حدده أردوغان وبوتين قبل الحرب هو الوصول إلى حجم تداول قدره 100 مليار دولار، ووصل هذا الهدف الذي يصعب تحقيقه في ظل الظروف العادية، إلى مستوى مختلف من العلاقات التي أقيمت مع روسيا في ظل العقوبات؛ إذ لم تنضم تركيا إلى العقوبات المفروضة على روسيا بسبب هشاشة اقتصادها واعتمادها على الطاقة، واستطاعت أنقرة أن تتغلب على هذا في الوقت الحالي بالقول إنها لن تشارك إلا في العقوبات التي وافقت عليها الأمم المتحدة.

وقد جعل دورها كوسيط بين روسيا وأوكرانيا الجهات الغربية تقبل هذا الموقف، على الأقل لفترة من الوقت. وتضاعف حجم التجارة مع روسيا، الذي بلغ 34 مليار دولار عام 2021، فوصل إلى 68 مليار دولار عام 2022. وشهدت الواردات من روسيا زيادة كبيرة، مرتفعة من 29 مليار دولار عام 2021 إلى 59 مليار دولار عام 2022. وارتفعت حصة تركيا من الصادرات الروسية من 2 إلى 7 في المئة، مما يجعل روسيا الشريك التجاري الأكبر لتركيا، متجاوزة بذلك أكبر شريكين لتركيا: الصين وألمانيا.

وكما هو متوقع، حقق النفط أعلى زيادة في واردات تركيا من روسيا، التي تواجه صعوبات في تسويق النفط الخام الذي تنتجه بعد فرض العقوبات الغربية، فمنحت حسومات خاصة لكل من الصين والهند وتركيا، مقدمة عقودا مربحة للجانبين. ووفقا للتقارير الإخبارية الواردة في وسائل الإعلام التركية، فقد اشترت تركيا نفط الأورال، الذي سبق تداوله بسعر 60.12 دولار أميركي للبرميل في وقت بدء الغزو، بسعر 37.80 دولار. وهكذا تضاعفت واردات تركيا من النفط الخام من روسيا عام 2022، وارتفعت حصة النفط الروسي في واردات تركيا، التي كانت 26.6 في المئة في أكتوبر/تشرين الأول 2021، إلى 51.7 في المئة في أكتوبر 2022.

ولا يجب أن ننسى الغاز الطبيعي الذي يلعب دورا محوريا في المعادلة التجارية بين تركيا وروسيا، إذ تتلقى أنقرة إمدادات الغاز المباشرة من روسيا عبر خطوط أنابيب مثل “توركستريم” (TurkStream) و”بلوستريم” (BlueStream) ، وقد قوبل اعتراف بوتين بتركيا كمركز محتمل لروسيا للوصول إلى الأسواق الغربية بترحيب كبير في أنقرة، التي ترى في الحسومات الخاصة والمدفوعات المؤجلة التي قدمتها موسكو شكلا من أشكال الدعم لإدارة أردوغان، ولا سيما في الفترة التي سبقت الانتخابات. وفوق ذلك، يمتد التعاون بين البلدين إلى مجال الطاقة النووية. لذلك، حين ننظر في هذه العوامل جميعها، يتضح لنا أن التعاون الاقتصادي بين البلدين يزداد يوما بعد يوم، حتى في مواجهة المخاوف الأمنية المتصورة.

عقوبات والتفاف

ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن الدول التي تخرق العقوبات أو تساعد روسيا في الالتفاف عليها يمكن أن تعرّض نفسها هي أيضا للعقوبات، في البيئة السياسية المتوترة الحالية. ولا يستبعد في حال تصعيد الحرب أن يوسع نطاق العقوبات والضغط على الدول التي لا تشارك هي نفسها في العقوبات. وفي هذه الحالة، يبدو من المستحيل على تركيا الحفاظ على وضعها الحالي. وواقع الحال أن تركيا أوقفت بالفعل، منذ أبريل/نيسان إلى مايو/أيار 2023، وبشكل مفاجئ عبور البضائع الخاضعة للعقوبات إلى روسيا حين ضغط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على الحلفاء لدعم الإجراءات المفروضة لمواجهة غزو روسيا لأوكرانيا.

من ناحية أخرى، يسّرت أنقرة اتفاقات صفقة الحبوب، التي هدفت إلى الجمع بين أوكرانيا وروسيا  لإجراء محادثات سلام، ومعالجة القضايا الإنسانية والتصدي للاضطرابات في سلسلة التوريد العالمية. ويؤكد هذا في واقع الحال الأهمية المستمرة لدور تركيا في المنطقة. ولا يزال الاتفاق الموقع تحت مظلة الأمم المتحدة في 22 يوليو/تموز 2022 ساري المفعول مع التمديد. وقد جرى وفق الاتفاق حتى الآن تصدير أكثر من 30 مليون طن من الحبوب، مما ساهم- في خضم أزمة تكلفة المعيشة الكبيرة- في استقرار الأسواق العالمية وتقليل التقلبات، بل وأدى إلى انخفاض أسعار الغذاء العالمية بنسبة 20 في المئة. وقد أشاد المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بدور تركيا في هذا الاتفاق، وبذلك استطاعت أنقرة أن تحقق فائدة سياسية من هذا الاتفاق، باعتبارها جهة فاعلة ولكن غير ملتزمة بالعقوبات، وغدت أكبر مشتر للحبوب بين “البلدان ذات الدخل بين المتوسط والعالي”. ولعب هذا الاتفاق أيضا دورا في التخفيف من الأزمة الاقتصادية في تركيا من خلال استعادة الثقة النسبية في السوق المحلية.

وفي النهاية، يتعين على أنقرة أن تحقق توازنا يأخذ في الاعتبار متطلبات إعادة تشكيل هيكل الأمن العالمي، حيث تحتل تركيا موقعا حاسما على الجانبين الشرقي والجنوبي للمحيط الأمني الأوروبي الأطلسي، وقد أصبحت واحدة من الجهات الفاعلة الرئيسة في الهندسة الأمنية الناشئة التي تشمل منطقة البحر الأسود. بالنظر إلى مشاركة تركيا في قرارات الناتو ونية الحلف تعزيز قواتها البرية والبحرية والجوية في مواجهة روسيا، تحتاج أنقرة إلى إنشاء خطاب جديد يربط بشكل فعال التزاماتها ومصالحها ومخاوفها الأمنية. وليس هذا بالأمر السهل، إذ يشكل تحديا في الحفاظ على التوازن الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي يبقي روسيا داخل النظام الإقليمي دون تهميشها. وبالنسبة لأنقرة، يكمن المفتاح في إنشاء لغة مشتركة تضم روسيا قدر الإمكان. وقد يكون من الصعب على المدى القصير جمع الأطراف المعنية لإجراء مناقشات حول الأمن والتعاون الإقليميين، ومع ذلك، يجب على أنقرة أن تسعى جاهدة لاستمرارية علاقاتها وضمان بقائها جزءا من المعادلة الأوسع.

المجلة

—————————-

هل أحيت السويد حلم تركيا الأوروبي؟/ عمر كوش

يتبادر إلى الذهن، بعد أن أعطى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الضوء الأخضر لانضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، السؤال عما إذا جرت مقايضة الموافقة على الانضمام السويدي للحلف مقابل الانضمام التركي للنادي الأوروبي، الأمر الذي يحيي مسار انضمام تركيا الذي بدأ مع قبول ترشّحها رسمياً في 12 ديسمبر/ كانون الأول عام 1999، وبعد سنوات من التفاوض، صوّت البرلمان الأوروبي في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 على قرار تعليق مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وبرّره بالظروف التي عايشتها تركيا بعيد إعلان حالة الطوارئ، إثر محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرّضت لها في 15 يوليو/ تموز من العام نفسه.

ما يدعم إحياء حلم تركيا الأوروبي أن موافقة أردوغان على إحالة مهمة الموافقة للبرلمان التركي، وتعهّده بالدفع بهذا الاتجاه، جاءت بعد أن ربطها بالموافقة على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، عشية انعقاد قمّة الحلف في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، وأن التطور الذي حصل جاء بعد مناقشات توصلت إلى الربط بين الملفين، على الرغم من اعتبار بعض القادة الأوروبيين أنهما منفصلان، لكن عالم السياسة أثبت مراراً أن من الممكن الربط بين مختلف القضايا والملفّات، وكل شيء قابل المقايضة والمساومة، حسب مقتضيات المصالح والعلاقات الدولية.

يجادل بعض الساسة الأتراك بأن الاتفاق هو بمثابة موافقة مبدئية وليست نهائية، وأن الأمر يتوقّف على مدى جدّية الاتحاد الأوروبي في إعادة مفاوضات الانضمام، وتسريعها، إلى جانب وقف السويد دعم المنظّمات التي تصنّفها تركيا إرهابية، والمقصود حزب العمال الكردستاني (التركي)، وتجديد اتفاقية الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي، التي دخلت حيز التنفيذ في الأول من يناير/ كانون الثاني 1996، إضافة إلى السماح للأتراك بالسفر إلى دول الاتحاد الأوروبي من دون تأشيرة. غير أن مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ليست سهلة، وتتطلب إجراءات عديدة، إذ إن مفاوضات انضمامها بدأت رسمياً عام 2005، ونوقش 15 فصلاً من الفصول ال35 المطلوب إنجازها في مسيرة انضمام أي دولة إلى الاتحاد الأوروبي، وفق ما نصّت عليه معاهدة ماستريخت عام 1992، وأنشئ على أثرها الاتحاد الأوروبي رسمياً، ثم أقرّ في قمّة كوبنهاغن عام 1993، الشروط والإجراءات التي يجب أن تستوفيها الدول الراغبة بالانضمام إليه.

تعود جذور حلم تركيا الأوروبي إلى نزعة أيديولوجية لدى النخب التي حكمت تركيا بعد حروب الاستقلال وتأسيس الجمهورية عام 1923، تصوّرت بلادهم جزءاً من أوروبا، وتضرب تلك النزعة جذورها في ميراث الأتاتوركية التي صعدت بعد اندثار الإمبراطورية العثمانية، حيث رأت نخب حركة “تركيا الفتاة” أن التاريخ عرف انتقالاً من الشرق إلى الغرب، وفق ما اعتقده بعض مفكّري الغرب، الذين اعتبروا أن أوروبا باتت تمثّل نهاية التاريخ. وعلى المنوال نفسه، تصوّر قادة تركيا الفتاة أن بإمكانهم اختراع هوية غربية لبلادهم، كي تركن بدورها في نهاية التاريخ، على الرغم من أن قدر تركيا الجغرافي والثقافي، وموقعها الجيوسياسي، هو التوزّع بين قسمين، مثل مدينة إسطنبول، آسيوي هو الأكبر، وأوروبي هو الأصغر، الأمر الذي جعلها تعيش ازدواجية، ليست جغرافية فقط، بل ازدواجية في الهوية والتطلعات بين أوروبية محدثة، وآسيوية وإسلامية متأصلة.

خلال سعيها المديد إلى الانضمام إلى النادي الأوروبي، بذلت النخب السياسية التركية الحاكمة محاولات دخول “المجموعة الاقتصادية الأوروبية” أو “السوق الأوروبية المشتركة” في 1957 بمقتضى اتفاقية روما، حيث تقدّمت تركيا بطلب الانضمام إليها في عام 1959، لكن ذلك لم يحصل، وجرى بعده توقيع اتفاقية شراكة بين تركيا والسوق الأوروبية المشتركة في 12 سبتمبر/ أيلول عام 1963 أساسا للتفاوض بينهما لإتمام العضوية الكاملة لتركيا. وبعد جولات عديدة من المفاوضات، وموجات من المدّ والجزر بين الطرفين، قدّمت تركيا طلب انضمام بعضوية كاملة في 14 أبريل/ نيسان عام 1987.

بعد تشكيل الاتحاد الأوروبي، وقّعت تركيا اتفاقية اتحاد جمركي معه في 31 ديسمبر/ كانون الأول عام 1995، ثم تمّ قبول ترشيح تركيا الرسمي لعضوية الاتحاد في 12 ديسمبر/ كانون الأول عام 1999، واستجر ذلك جولات تفاوض شاقّة ومديدة، أدّت إلى إعلان المفوضية الأوروبية فتح فصول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في 30 أغسطس/ آب 2005. وقد بلغ عدد فصول التفاوض التي فتحت بين تركيا والاتحاد 15 فصلاً، تضمنّت قانون الشركات والتنقل الحر لرؤوس الأموال، وقانون الملكية الفكرية، وسياسة الإدارة والصناعة والشبكات عبر أوروبا، ومجتمع المعلومات والإعلام والأمن الغذائي والصحة الحيوانية والنباتية، وفرض الضرائب والإحصائيات والعلوم والأبحاث والبيئة، وحماية المستهلك والصحة، والتحكم المالي والعلوم، وطاولت الأبحاث والسياسات الاقتصادية والنقدية. ثم أوقف المجلس الأوروبي في ديسمبر/ كانون الأول 2006 فتح ثمانية فصول أمام المفاوضات، مُرجعاً الأسباب وقتها إلى أن تركيا لم تف بشكل تام بالتزاماتها النابعة من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية أنقرة، المتعلقة بموقف تركيا تجاه قبرص الجنوبية اليونانية.

من الصعب التعويل على الدعم السويدي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بالنظر إلى المعارضات، الفرنسية واليونانية والقبرصية، لها، وإلى أن بعض الساسة الأوروبيين يعتبرون الاتحاد ناديا مسيحيا، ولا يمكنهم تقبل انضمام دولة بحجم تركيا إليه، لأسبابٍ تتعلق بأنها دولة إسلامية كبيرة بتعدادها السكاني، وبتاريخها العريق وريثة الإمبراطورية العثمانية، التي ما زالت أوروبا تتذكّر جيوشها وفتوحاتها، وبالتالي، لن تُفتح أبواب الاتحاد الأوروبي ليدخل أحفاد العثمانيين إليه، وهو أمر يمكن ألا يحصل قبل العام نهاية الألفية الثالثة، حسبما صرح رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ديفيد كاميرون.

يشي واقع الحال أن حلم تركيا الأوربي سيبقى بعيد المنال، حتى لو وافقت تركيا بشكل نهائي على انضمام السويد إلى حلف الناتو، كونه يطرح إشكاليات ذات طبيعة خاصة، تتعلق بشكل أساسي بالهويتين، الدينية والثقافية، وبالتالي، الطريق أمام انضمامها طويلة وشاقة، حتى وإن تمكّنت تركيا من تلبية كل متطلبات “معايير كوبنهاغن” التي يطلبها الأوروبيون.

العربي الجديد

——————————-

لماذا تغير موقف الغرب من تركيا؟

رأي القدس

تلقى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان شكرا حارا من نظيره الأمريكي جو بايدن خلال قمة حلف الأطلسي التي انعقدت في العاصمة الليتوانية فيلنيوس على «الاتفاق التاريخي» الذي وافقت فيه أنقرة على القرار – الذي تكرر تأجيله عدة مرات ـ بشأن انضمام السويد إلى الحلف مشيدا بـ«الشجاعة والقيادة والدبلوماسية التي أظهرها».

تزامن ذلك مع لقاء الرئيس التركي، في القمة نفسها، كيرياكوس ميتسوتاكيس، رئيس الوزراء اليوناني، الذي فاز حزبه مؤخرا بانتخابات نيابية، وإعلانهما عن حصول زخم في اتجاه البلدين نحو مصالحة ساعدت فيها مسارعة أثينا لمساعدة تركيا بعد وقوع زلزال مدمر خلال شهر شباط/ فبراير الماضي، كما شهدت القمة تصريحا مهما من رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، الذي تعهد بدعم بلاده مسار عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.

أكد اردوغان، من جهته، هذه الأنباء بقوله إن قمة «الناتو» ساهمت في مسار انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي ورفع العقوبات عنها، وقد أضاء ما ورد أيضا في تغريدته على «تويتر» على هذا الموضوع بحديثه عن «زيادة ردع الحلف» و«اتخاذ قرارات حاسمة في مكافحة الإرهاب» معتبرا أن ما تحقق «سيزيد من دور تركيا وثقلها وفعاليتها».

توقفت مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي عام 2018 بعد قرار لرؤساء الحكومات في الاتحاد قالوا فيه إن الإصلاحات في المجالات الرئيسية في تركيا قد تراجعت، لا سيما في أداء النظام الديمقراطي، واحترام الحقوق الأساسية، واستقلال القضاء، وكان المحرك الأكبر وراء ذلك القرار هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي اعتبر حينها، أن ثمة مخاوف بشأن حقوق الإنسان خلال حملة التطهير التي جرت في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في 2016.

كانت تلك لحظة كبرى في تاريخ تركيا لأنها حسمت، عمليا، الصراع لصالح النظام الديمقراطي، ورغم أن من قام بذلك الانقلاب كانوا عددا من القادة العسكريين فإن نتائج فعلتهم لو نجحت كانت ستعرض مكتسبات الشعب التركي ونضالات شعبه ومصالح الأمة الاجتماعية والاقتصادية وموقعها في العالم للخطر.

اجتمعت في موقف الاتحاد الأوروبي آنذاك مفارقات هائلة ستتكشف معانيها في السنوات اللاحقة، لأنها ستبين أساليب الاستخدام النفعي والانتهازي لمصطلحات العلمانية وحرية الرأي، حين تتعلق الأمور بالمسلمين والأقليات العرقية في أوروبا، كما تظهر تضامنات ورغبات بعودة تركيا «الرجل المريض» لأوروبا، المنكوب بالعسكر والفساد والتراجع الدولي والإقليمي.

ظهرت بعد ذلك الموقف خريطة تحالفات وصراعات دولية وإقليمية جديدة، لعبت فيها باريس، تحت قيادة ماكرون، دور المجابه سياسيا واقتصاديا لتركيا، وحليف دول «الثورات المضادة» العربية، كما ظهرت المصالح حكومات ماكرون، وقوى اليمين الأوروبي عموما، بالتناقض مع مصالح تركيا والشعوب العربية في أكثر من حيز وقضية، ومنها قضية استثمار حقول الغاز في البحر المتوسط بالتحالف مع إسرائيل واليونان، ودعم الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، وصفقات الأسلحة الفرنسية لمصر والإمارات، والتدخلات العسكرية في أفريقيا.

دارت الدوائر على ماكرون وشركاه، وشهدنا أشكال انتهاكات حقوق الإنسان والأقليات ومصالح الطبقات الاجتماعية الأدنى عبر قانون التقاعد الاجتماعي الذي سن بقرار من الرئيس شخصيا، وانقلاب أغلب الدول الافريقية ضد تدخلات باريس العسكرية الفظة، كما شهدنا استخدام دعوى حرية التعبير لحرق المصحف في السويد وغيرها، كإعلان فاضح عن كراهية المسلمين والإسلام والأقليات، كما للإساءة لمفاهيم حرية التعبير وحقوق الإنسان والعلمانية.

اجتمعت في إعادة انتخاب الأتراك لاردوغان، وحرب حلف الأطلسي مع روسيا في أوكرانيا، فرصتان تاريخيتان لإعادة التوازنات لصالح تركيا، وبعد مرارة الإهانة الأوروبية التي نفذها ماكرون، بشماتة، عام 2018 واستدعت تعليق اردوغان بأن بلاده سئمت المناشدة المتواصلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وجدنا أمريكا وبعض الدول الأوروبية، الآن، تفتح صفحة ستكون لها مفاعيلها الإيجابية على اقتصاد تركيا وسياساتها.

القدس العربي

—————————

تركيا تسحب اعتراضها على عضوية السويد/ بكر صدقي

قبيل سفر الرئيس التركي إلى العاصمة الفنلندية فيلنيوس للمشاركة في اجتماع قمة دول حلف الأطلسي، أطلق حليفه دولت بهجلي تصريحات متشددة بحق السويد، قال فيها إن «ستوكهولم لا تختلف في شيء عن جبل قنديل!» في إشارة إلى المنطقة التي تتمركز فيها قيادة حزب العمال الكردستاني ومقاتلوه في شمال العراق. أي أنه أراد القول إن السويد تستقبل على أراضيها «الكردستاني» الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية وتخوض ضده حرباً مفتوحة منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وفحوى كلام الزعيم القومي المتشدد هو رفضه سحب تركيا اعتراضها على عضوية السويد للناتو.

غير أن الإشارات إلى أن أردوغان سيغير موقفه ويفتح الطريق أمام عضوية السويد قد صدرت قبل بداية رحلته مباشرة، وإن كانت ثمة تخمينات بأن اتصال الرئيس الأمريكي جو بايدن به قبل أيام قليلة قد أزال من الطريق آخر العقبات.

غير أن الرئيس التركي ربط سحب اعتراضه على عضوية السويد بفتح الباب مجدداً أمام عضوية تركيا للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي استغربه القادة الأوروبيون بدعوى أنه لا علاقة بين الأمرين. غير أن الاجتماع الذي سبق انعقاد القمة بين أردوغان ورئيس الوزراء السويدي، برعاية الأمين العام للحلف، قد وضع التوافق بين الجانبين في نص تضمن استجابة للهواجس التركية، سواء فيما يتعلق بموضوع «التعاون في مواجهة الإرهاب» أو في دعم السويد لفتح باب عضوية الاتحاد الأوروبي أمام تركيا. الأمر الذي سيسمح لوسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية بالحديث عن «تحقيق انتصار دبلوماسي» بنتيجة الاستخدام الناجح لورقة السويد لفرض شروط على الحلفاء.

ترى هل هناك بالفعل نصر دبلوماسي أم أنه نوع من التغطية على تراجع تركي أمام الضغوط الأمريكية والأوروبية مقابل مجرد وعود لا يمكن تحقيقها؟ فعضوية الاتحاد مفتوحة لتركيا منذ العام 2005، نظرياً على الأقل، بشرط أن تحقق تركيا معايير معينة متفق عليها. والحال أن الجمود الذي ساد هذا المسار خلال سنوات تفوق العقد من الزمان يرتبط بأن تركيا توقفت عن تحقيق تلك المعايير، بل حدث تراجع ملموس في بعض عناوينها كمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء، أما في العنوان الاقتصادي فصحيح أن تركيا قد حققت معايير اقتصاد السوق إلى حد كبير، لكن الصعوبات الاقتصادية في السنوات القليلة الماضية أدت إلى تراجع الثقة باستقرار اقتصادي مستدام وما ينتج عن ذلك من تراجع الاستثمارات وحجم التجارة مع دول الاتحاد وغير ذلك.

فإذا كان لا بد من الكلام عن نجاح دبلوماسي، فهو يتعلق بالأحرى بإثبات أردوغان أن تركيا لاعب مهم في المعادلات الدولية لا يمكن تجاهله، بل يضطر الحلفاء والخصوم على السواء لحسبان الحساب لهواجسه ومطالبه، سواء بسبب الموقع الجغرافي لتركيا أو القدرة على إقامة توازنات حساسة بين الغرب الأطلسي والشرق الروسي ـ الصيني ـ الإيراني، وقد رأينا المثال الأبرز على ذلك في الموقف التركي من الحرب الروسية على أوكرانيا.

غير أن التطورات الأخيرة بمجموعها تشير إلى نية تركية في ترميم علاقاتها مع الغرب الأطلسي، وبخاصة الولايات المتحدة. فقد كان لافتاً تصريح أردوغان أثناء زيارة زيلنسكي لأنقرة بأن «أوكرانيا تستحق عضوية حلف شمال الأطلسي!» متجاوزاً بذلك موقف واشنطن ذاتها غير المتحمسة لهذه العضوية، على الأقل أثناء استمرار الحرب، بدعوى أن ذلك سيؤدي إلى إعلان حرب مباشرة بين الحلف وروسيا.

أضف إلى ذلك أن تركيا سمحت لأعضاء منظمة «آزوف» القومية الأوكرانية بالعودة إلى بلدهم مع الرئيس زيلنسكي، الأمر الذي أغضب الكرملين. كذلك فإن اشتراط الرئيس التركي دعم طلب انضمام بلاده للاتحاد الأوروبي، حتى لو كان غير قابل للتحقيق، هو إشارة إضافية إلى نية تركيا العودة إلى موقعها المعتاد في المعسكر الغربي في زمن الاستقطاب الدولي الحاد بين روسيا (والصين وإيران) من جهة والتحالف الغربي بقيادة واشنطن من جهة أخرى، بما ينهي التكهنات التي شاعت في السنوات الماضية من أن تركيا أردوغان تتجه شرقاً مبتعدة عن حلفائها التقليديين.

الأحرى هو أن نفاجأ بردة الفعل الروسية الواهنة تجاه قرار أنقرة الجديد بشأن انضمام السويد للناتو، الأمر الذي تعتبره موسكو خطراً على أمنها القومي، وتزعم أنها أطلقت حربها على أوكرانيا لوقف تمدد الحلف في اتجاه حدودها الغربية. «إننا نتفهم القرار التركي بالنظر إلى متطلبات عضويتها في الحلف»! هذا ما قاله المتحدث باسم الكرملين تعليقاً على المفاجأة التركية. لكن هذه الرخاوة في موقف الكرملين مفهومة بدورها بالنظر إلى الضربات المتتالية التي تلقاها في الآونة الأخيرة، كتمرد مجموعة فاغنر، والكشف عن عدم مغادرة قائدها بريغوجين الأراضي الروسية، وعن حدوث مفاوضات معه سراً بعد موافقته على وقف مسيرته في اتجاه العاصمة موسكو، وانحياز أردوغان بشكل صادم إلى أوكرانيا، كل ذلك مضافاً إلى الصعوبات الكبيرة التي يلاقيها الجيش الروسي في حربه على أوكرانيا.

أردوغان الخارج للتو من أصعب انتخابات يخوضها منذ توليه السلطة في عام 2003، بفوز صريح على منافسه منحه ولاية أخيرة في الرئاسة من خمس سنوات، يبدو واثقاً من نفسه في انعطافته الجديدة نحو الغرب، غير آبه باعتراضات حليفه القومي في الداخل، ولا لغيظ شريكه الروسي المكتوم في الخارج. وفي إشارةٍ لهذه الثقة كتب الصحافي أرطغرل أوزكوك المعروف بموالاته لكل العهود عن أن «أردوغان قد غيّر حتى نمط ملبسه المعتاد بما يتسق مع توجهاته الجديدة، فبات يرتدي بناطيل ضيقة ذات فتحة ضيقة عند القدمين!»

كاتب سوري

القدس العربي

————————–

تغيّر كبير في سياسة تركيا والعالم/ توران قشلاقجي

العالم بأسره يتحدث عن تقارب تركيا مع الغرب، فقد أثارت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي أقيمت في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، جدلا جديدا بعد أن أعطى رسائل إيجابية بشأن انضمام السويد إلى الحلف، مقابل تسهيل عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقال أردوغان في هذه الصدد: «أولا دعونا نمهد الطريق لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ومن ثم نمهد الطريق لعضوية السويد في الناتو، تماما كما مهدنا الطريق لفنلندا».

رسائل أردوغان كانت متوافقة مع فحوى الاتصال الهاتفي، الذي أجراه مع الرئيس الأمريكي بايدن قبل يوم واحد من القمة، ويمكن اعتبار طلب أنقرة إحياء عملية انضمام تركيا بشكل كامل إلى الاتحاد الأوروبي بمثابة رد على ربط واشنطن بيع مقاتلات «16ـF» بالموافقة على انضمام السويد إلى الناتو، حيث لاحظ الجميع كيف أن بايدن خلال مقابلته على قناة CNN International أثار قضية مقاتلات «16 ـF» بجانب السويد واليونان، ولكن أعتقد أن هذه المقاربة ستشكل تقييما ضيق النطاق جدا.

يبدي الرئيس أردوغان، من خلال تصريحاته في قمة فيلنيوس، إرادة بشأن نقل علاقات تركيا مع الغرب إلى أساس جديد، فهو يرغب في تنشيط العلاقات مع الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالقوة التي استمدها من الناخبين الأتراك لمواصلة مهامه في الرئاسة مدة خمس سنوات أخرى. كما يرغب في إزالة العقبات المترسخة التي تواجه تركيا، ورفع جميع أشكال العقوبات المفروضة عليها. يذكِّر أردوغان حلفاءه بالمخاوف الأمنية واحتياجات الدفاع القائمة لدى تركيا، من خلال مسألة انضمام السويد إلى الناتو، ويشدّد على ضرورة إحداث تغيير جوهري في سياسات حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي تجاه تركيا. تحاول الجهات الفاعلة في النظام الدولي التكيف مع التعددية القطبية، وبالتالي يجب على الحلفاء الغربيين في خضم هذه الفترة أن يحسنوا استغلال عرض أردوغان تجاه الاتحاد الأوروبي بطريقة صحيحة. فهذا العرض لا يمثل سعيا لإعاقة المسار، ولا يتضمن إطلاقا أي نية نحو عرقلة توسع الناتو. ومن المرجح بشدة أن تتفاجأ وسائل الإعلام الغربية بهذا العرض، وتعتبره بمثابة تحدٍ ومقاومة من طرف أردوغان، ومن المعلوم أن تركيا فضّلت دائما الخيارات العقلانية والواقعية في ما يخص حلف الناتو، الذي قدمت له مساهمات كبيرة منذ 71 عاما، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي تعتبر الانضمام إليه هدفا استراتيجيا لها. وحافظ الجانب التركي على هذا الموقف رغم الممارسات المتعارضة مع مبدأ التحالف في سياسات مكافحة الإرهاب لدى بعض أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي. ويقدم الرئيس أردوغان مقترحا يهدف إلى تعزيز قوة حلف الناتو، الذي زادت أهميته أكثر في ظل الحرب الدائرة بأوكرانيا والتنافس القائم بين الولايات المتحدة والصين، مع الأخذ في الاعتبار أولويات الأعضاء مثل تركيا. ولا شك بأن هذا المقترح بنّاء كمقترحاته الخاصة بتأسيس نظام عالمي أكثر عدلا وإصلاح الأمم المتحدة. هناك حاجة في واشنطن وبروكسل للانتقال إلى براديغما جديدة بشأن تركيا، فإعادة تقييم مكانة تركيا ضمن التحالف الغربي بناء على قواعد الشراكة والمصالح الجيوسياسية المتبادلة ستؤدي إلى مكاسب استراتيجية لكل من تركيا وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. ومن الخطأ عدم فهم رسالة أردوغان، عبر ربط مسألة السويد بمتطلبات الدفاع التركية، بما في ذلك مقاتلات «أف -16»، دون مراعاة النظرة الشاملة والواسعة. أنقرة لا تصف دورها في الوساطة بين أوكرانيا وروسيا بشكل سلبي، بل إنها لا تزال العاصمة الوحيدة التي تؤكد بأعلى صوت الحاجة إلى حل دبلوماسي للأزمة، وعلى الرغم من عدم مشاركتها في العقوبات المفروضة على روسيا، تدعم تركيا بقوة وحدة أراضي أوكرانيا وتستجيب لاحتياجاتها الأمنية والدفاعية. إننا مدينون بهذا التوازن النشيط لخبرة الرئيس أردوغان ودبلوماسيته القيادية الفريدة، وحتما سيواصل أردوغان في الأيام المقبلة مفاجأة عواصم العالم بخطوات جديدة.

خلاصة الكلام؛ هناك تغيّر كبير يطرأ من جديد على السياسة العالمية برمتها وليس سياسة تركيا فقط. وفي هذا الصدد، قام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، بزيارة الولايات المتحدة مطلع شهر يوليو، وبعد ذلك، أقيم اجتماع منظمة شانغهاي للتعاون تحت رعاية الهند بمستوى ضعيف جدا، ثم سافرت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى الصين، وصدرت تصريحات إيجابية متبادلة من كلا الجانبين. وأخيرا، أجرى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي زيارة إلى تركيا، وأعلن الرئيس أردوغان أن تركيا تنظر بإيجابية وتدعم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، بالإضافة إلى ذلك، سيقوم أردوغان في نهاية هذا الأسبوع بزيارة إلى المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة. هذه ليست تطورات ثانوية، بل إنها تشير إلى حدوث تحولات مهمة وحاسمة في الهيكل الاقتصادي والسياسي العالمي. وسنرى هذه التغييرات والتحولات في العالم بشكل أوضح خلال الأيام المقبلة.

*كاتب تركي

————————

واشنطن بوست: هل الشراكة التركية مع موسكو هي الضحية الأخيرة للحرب في أوكرانيا؟

إبراهيم درويش

نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرا لعدد من مراسيلها، قالوا فيه إن الحرب الروسية أصبح لها ضحية جديدة وهي “رابطة بوتين- أردوغان”.

وقالوا إن قرار الرئيس التركي رفع الفيتو عن عضوية السويد في حلف الناتو، أدى إلى مطالب من المتشددين الروس، باعتبار تركيا بلدا “غير صديق”. وقالوا إن التحركات التركية التي نُظر إليها كمؤيدة للغرب، بما فيها استقبال أردوغان للرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي في إسطنبول يوم الجمعة، قادت لتكهنات حول تحول تركي نحو علاقات أكثر دفئا مع أوروبا والولايات المتحدة، بعد سنوات من التعاون الوثيق مع موسكو.

وفي روسيا، حيث كانت علاقات الرئيس بوتين مع أردوغان هي أهم عملة جيوسياسية، فإن حس تحول الرئيس التركي للتعاون مع القادة الغربيين، أثار على ما يبدو قلقا في موسكو مثل القلق الناجم عن انضمام السويد للناتو، مما أثار اسئلة حول الحرب الروسية في أوكرانيا، وإن كانت قوضت أهم علاقات روسيا.

وتعلق الصحيفة أن انتقاد الكرملين لأنقرة كان حذرا، لكن المشرعين القوميين المتشددين شجبوا بمرارة أردوغان، في وقت تساءلت فيه الصحافة السائدة عن خطوات تحول رئيسية يقوم بها الرئيس التركي بعيدا عن روسيا.

وبدا التحول واضحا في نبرة أردوغان عند لقائه مع زيلينسكي الذي زار تركيا الأسبوع الماضي، وهي الأولى منذ الغزو الروسي، حيث تحدث الزعيم التركي عن علاقات الصداقة بين البلدين، وعبّر قائلا إن استقلال أوكرانيا يستحق عضويتها في الناتو. وبعد أيام، تحرك لكي يرفع الفيتو عن عضوية السويد في الناتو، وكان ذلك ضربة قوية لروسيا التي جعلت من منع الناتو قبول أعضاء جدد، سياسة أمنية لها منذ تسعينات القرن الماضي.

ومنحت الصداقة مع أردوغان، بابا خلفيا لبوتين كي يتجنب العقوبات الغربية على بلاده، في وقت صورت الصحافة الرسمية، الرئيسَ الروسي بالرجل القوي الذي يقيم علاقات مع رجال أقوياء. وكلاهما يتشاركان في رؤية وقف الهيمنة الأمريكية، وهو مبدأ أساسي دفع بوتين لغزو أوكرانيا والوقوف أمام الجشع الغربي.

وبعد التحدي الذي واجه بوتين جراء تمرد فاغنر، اتصل أردوغان بالرئيس الروسي وعبّر عن “دعمه الكامل” له، وعندما فاز أردوغان بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، اتصل به يوتين وهنأه، واصفا إياه بـ”الصديق العزيز”.

إلا أن تحرك أردوغان للإفراج عن قادة في كتيبة أزوف الأوكرانية، الذين دافعوا عن ماريوبول أثناء الحصار الروسي، واعتبرتهم موسكو إرهابيين، نظر إليه المسؤولون الروس على أنه خيانة. وما أغضب الروس أكثر، هي الإشارات عن التقارب التركي ودعم أنقرة لأوكرانيا. ففي أثناء زيارة زيلينسكي، وقّع الطرفان اتفاقيات للتعاون في الصناعات الإستراتيجية، وتم التأكيد على بداية إنتاج أول طائرة مسيرة “بيرقدار” من مصنع في أوكرانيا.

وقال رئيس لجنة الشؤون الدفاعية في المجلس الفدرالي الروسي، فيكتور بونداريف، إن “تركيا تتحول تدريجيا وبثبات من كونها بلدا محايدا إلى بلد غير صديق”.

ويرى المحلل الروسي سيرغي ماركوف، أن قرار أردوغان تسليم قادة كتيبة أزوف لزيلينسكي “أرسل هزات داخل روسيا”، لأن موسكو تتعامل مع الكتيبة كـ”رمز للنازية الجديدة في أوكرانيا وجرائم الحرب ضد الشعب الروسي”. وكان رد فعل الكرملين الغاضب تعبيرا عن استياء الجمهور، خاصة بعد تصريحات قائد الكتيبة دينيس بروكوبينكو، بأنهم سيعودون للقتال.

ووصف المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، التسليم بأنه “خرق” لعملية تبادل الأسرى، وطلبت روسيا توضيحا في مكالمة بين وزير الخارجية الروسي ونظيره التركي يوم الأحد. وما أثار مخاوف موسكو أكثر، هي تصريحات المتحدث باسم هيئة الأركان الأوكراني، أوليكسي غروموف، من أن كييف تتوقع  حصولها على مدافع هاوتزر ذاتية الدفع، من طراز تي-155 فيرتينا التركية.

ولم تؤكد تركيا الصفقة. ولو قدمت تركيا المدافع فـ”إن هذا يعني تحولا نوعيا حصل في سياسة تركيا فيما يتعلق بالنزاع الروسي- الأوكراني” حسب صحيفة نيزافيسمايا غازيتا.

وقلل بيسكوف من قرار تركيا فتح الباب أمام عضوية السويد في الناتو، قائلا إن موسكو تتفهم التزامات تركيا باتجاه الحلف، و”لم يكن هذا سرا بالنسبة لنا، ولم نرتد أبدا نظارات ملونة في هذا المجال”، وقال إن روسيا ستواصل التعاون في المصالح المشتركة بين البلدين.

ووقف البلدان على جانبي النزاع في كل من سوريا وليبيا، لكن العلاقات ظلت قوية بينهما مع تراجع علاقة روسيا بالناتو. وأهمية العلاقة للبلدين واضحة من خلال الأرقام، فقد زادت صادرات تركيا إلى روسيا بنسبة الضعف منذ بداية الغزو، من 2.6 مليار دولار في النصف الأول من العام الماضي، إلى 4.9 مليار دولار عن نفس الفترة. وزادت واردات تركيا من النفط والغاز الروسي بشكل كبير عام 2022، وهو ما وفّر عائدات لروسيا بسبب العقوبات الغربية.

ويقول محللون إن في قلب حسابات أردوغان هي تخفيف الأزمة الاقتصادية التركية، وتخفيض معدلات التضخم وتراجع العملة التركية، وزيادة معدلات التصدير للدول الأخرى. ورغم زيادة الصادرات التركية لروسيا، إلا أن حجم الصادرات الإجمالي تراجع  في حزيران/ يونيو إلى 20.9 مليار دولار، أي بنسبة 10.5% مقارنة مع حزيران/ يونيو الماضي.

ولقي أردوغان مساعدة أثناء الانتخابات الأخيرة، عندما وافقت غازبروم الروسية على تأجيل مدفوعات لها بقيمة 600 مليون دولار إلى عام 2024. إلا أن أردوغان تبنى بعضا من تعهدات المعارضة في مرحلة ما بعد الانتخابات، مثل تحسين العلاقات مع الغرب. ودعا يوم الإثنين، الاتحادَ الأوروبي إلى “فتح الطريق” أمام تركيا للدخول في النادي، بعد توقف طلبها عام 2019.

وتقول إيفرين بالتا، أستاذة العلوم السياسية بجامعة أوزيجين في إسطنبول، إنه “من المبكر الحديث عن تحول تركيا باتجاه الغرب”، وما يحدث هو تكيف مع الظروف، بما في ذلك الحاجة لجذب الاستثمارات، في وقت يعاني البلد من أزمة اقتصادية.

وقالت بالتا: “لقد تغيرت حاجات السياسة الخارجية والحاجات البنيوية للاقتصاد التركي”، مشيرة إلى حاجة تركيا لجذب الاستثمارات الغربية. وأضافت أن تركيا قامت ومنذ عدة سنوات، بتطبيع علاقاتها مع أعدائها وخصومها مثل اليونان وإسرائيل ودول الخليج.

وترغب تركيا باستكمال صفقة طائرات أف-16 بقيمة 20 مليار دولار مع الولايات المتحدة، والتي  يُنظر إليها أنها المفتاح الرئيسي لقرار أردوغان المضي بملف عضوية السويد في الناتو ووقف الفيتو ضدها.

ويرى تيمور كوران، الاقتصادي في جامعة ديوك، إنه تعامل مع تحركات أردوغان “باتجاه الغرب والتي تثير الدوار” بأنها ابتعاد واضح عن روسيا، و”ربما كان هذا التحول تكتيكيا، فعداؤه العميق للغرب معروف”، لكن التحول قد يكون دائما لو جلب إليه استثمارات غربية.

وفي موسكو، فموقف أردوغان من الغرب واستعداده لمواجهته يظل ورقة رابحة لروسيا، وحاول بيسكوف لعب ورقة الحنق التركي بسبب انتظار أنقرة الطويل للدخول في الاتحاد الأوروبي. وقال يوم الثلاثاء: “لا أحد يريد تركيا في أوروبا”، مضيفا: “على شركائنا الأتراك ألا يكون لديهم أي وهم بشأن هذا”.

وفي الوقت الذي يثمن فيه الكرملين شراكته مع تركيا، إلا أن القوميين المتشددين الروس عبّروا عن غضبهم منها. وقال المدون العسكري والصحافي في التلفزة الرسمية أندريه ميدفيدف، إنه لم يستغرب من خداع أردوغان لروسيا. وتساءل إن كان الرئيس التركي حليفا أو صديقا، مجيبا أن أردوغان لم يكن أبدا حليفا لروسيا ولا صديقا أيضا، وأن هناك شركاء تكتيكيون يحاولون خدمة أهدافهم، و”لا أمل منهم” بحسب قوله.

القدس العربي

—————————

=======================

تحديث 06 تموز 2023

————————–

أردوغان…برغماتية الاستمرارية/ عمر اونهون

السياسة الخارجية في مرحلة إعادة النظر، وسياسات اقتصادية جديدة بعد الاستماع لصوت العقل

كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتعامل مع ما ورثه عن نفسه في ولايته السابقة في الحكومة على مدى السنوات الـ22 الماضية. وهذه المرة، ورث أردوغان اقتصادا يعاني من محنة. وخلال عملية الانتخابات، تباهى أردوغان بأن أداء الاقتصاد التركي كان حسنا للغاية، وإن كان ثمة بعض العوامل المسببة للتوتر، وأهمها زيادة التضخم. وأوضح للناخبين أن مرد هذه العوامل المثيرة للتوتر هو التطورات الجارية خارج تركيا، وأهمها الحرب في أوكرانيا.

وتعهد أردوغان بإعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح، ووعد بـ”قرن تركي”. وبقي عليه الآن أن يفي بوعوده، فقد صوّت له كثير من الأتراك ليس بسبب رضاهم عن سياساته، ولا سيما سياسته الاقتصادية، لكن لأنهم اعتقدوا أنه يستطيع إخراجهم من الصعوبات التي تواجهها البلاد. ولعل في ذلك بعض التناقض، لأن السبب الأساسي للصعوبات التي كانوا يعانون منها كان أساسا، سياسات أردوغان الاقتصادية.

أظهر أردوغان نهجا اتسم بمرونة أكثر نسبيا منذ فوزه في الانتخابات، وحتى الآن. والوزراء الرئيسون في فريقه الجديد ليسوا وجوها جديدة. إنه أشبه ما يكون بتحول داخل دائرته المقربة منذ فترة طويلة، حيث يضع في المقدمة المزيد من التكنوقراط السياسيين المنفتحين والمعروفين دوليا، كوزراء المالية، والشؤون الخارجية، والداخلية، والدفاع.

والآن، أمام أردوغان هدف جديد سيحاول تحقيقه في الانتخابات المحلية التي ستجرى في مارس/آذار من العام المقبل؛ فهو عازم على استعادة إسطنبول وأنقرة وأنطاليا والمدن الكبرى الأخرى التي خسرها أمام المعارضة في الانتخابات التي جرت عام 2018، وشكلت هذه الخسائر، وعلى وجه الخصوص إسطنبول، صدمة سياسية كبيرة له.

وسيستخدم أردوغان وحزب “العدالة والتنمية” التابع له، مرة أخرى، الثروة التي راكموها خلال 22 عاما من وجودهم في الحكم، وسيستخدمون موارد الدولة لتمويل الحملة الانتخابية ضد المعارضة التي لا تزال في حالة من الدهشة من الهزيمة التي لحقت بها في انتخابات مايو/أيار الماضي.

وعلى صعيد المعارضة، افترقت أحزاب المعارضة التي كانت تشكل “تحالف الأمة”،  أخطاء استراتيجية قبل وبعد الانتخابات. فحزب المعارضة الرئيس، وهو حزب “الشعب الجمهوري”، يعاني من حالة اضطراب. ويدعي كمال كليشدار أوغلو رئيس الحزب، الذي احتفظ بمقعده في البرلمان على الرغم من خسارة الانتخابات الرئاسية مرة أخرى، أن عليه أن يبحر بسفينته إلى ميناء آمن بصفته القبطان.

يشعر الملايين من الأشخاص الذين صوتوا للمعارضة بالجزع لدرجة أنه إذا حصلت انتخابات في الغد فلن يذهب كثيرون منهم إلى صناديق الاقتراع.

وفي الأشهر التسعة التي تفصلنا عن الانتخابات المحلية المقبلة، يحتاج أردوغان إلى إضعاف المعارضة أكثر وتحسين أداء الاقتصاد قليلا. ومن ثم يدعو الناس إلى عدم منح ثقتهم في البلديات لمعارضة محطمة ليس لديها سوى ما تقدمه له لأنه يتسلم مقاليد السلطة.

سياسات اقتصادية عقلانية

يقود فريق أردوغان الاقتصادي الحالي محمد شيمشك، وزير المالية الجديد، الذي تسلم المنصب أيضا في الفترة التي امتدت من 2009 إلى 2015. وكان شيمشك قد تخلى عن ممارسة السياسة بدعوى أسباب أخرى، لكن ساد التكهن على نطاق واسع بأن سبب تركه أنه اختلف مع السياسات الاقتصادية التي طلبها أردوغان منه.

أقنع أردوغان شيمشك بالعودة واعدا إياه بعدم التدخل في عمله هذه المرة.

وكان أول تصريح لشيمشك عندما تولى منصبه، أن تركيا يجب أن تعود إلى سياسات اقتصادية عقلانية. وكانت تلك إشارة مباشرة إلى سياسات أردوغان غير التقليدية وبيانا واضحا يلقي باللوم على تلك السياسات.

رفع البنك المركزي التركي أسعار الفائدة لأول مرة منذ أكثر من عامين، تحت قيادة الفريق الاقتصادي الجديد، من 8.5 في المئة إلى 15 في المئة. وكانت حركة أسعار الفائدة الصاعدة متوقعة، ولكن اعتبر كثير من المحللين الاقتصاديين أن الزيادة كانت غير كافية. ومنذ ذلك الحين، انخفضت قيمة الليرة التركية.

بلغ التضخم 39.59 في المئة. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن النسبة تصل إلى 110 في المئة، وهي نسبة أقرب إلى الحقيقة

وفي نهاية يونيو/حزيران، بلغ التضخم 39.59 في المئة. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن النسبة تصل إلى 110 في المئة، وهي نسبة أقرب إلى الحقيقة.

وبصرف النظر عن الاقتصاد، يشعر كثير من الـ25 مليون شخص الذين صوتوا ضد أردوغان بالقلق من أنه سيستخدم ولايته الأخيرة في المنصب لإكمال بناء نظام “تركيا الجديدة” الذي يفكر فيه والذي يتمثل بالتدخل في أنماط الحياة، واتباع نهج أكثر محافظة، وهذا هو المصدر الرئيس للقلق.

السياسة الخارجية في مرحلة إعادة النظر

حشد أردوغان جماهيره طوال العقد الماضي تحت شعار تحويل تركيا إلى قوة عالمية. وقد أعطى هذا الأمر العلاقات الدولية والسياسة الخارجية مكانة متقدمة في السياسة الأردوغانية.

ولكن سياسة أردوغان الخارجية اتسمت بالتوتر على عدة جبهات منذ عام 2013. وكان عليه أن ينتظر حتى 2021، قبل أن يبدأ التقارب مع الدول التي توترت العلاقات معها، بعد أن شعر بألم العزلة السياسية.

ويشير اختيار أردوغان لوزير الخارجية الجديد، هاكان فيدان، إلى عزمه الاستمرار في هذه السياسة، أقله في الوقت الحالي. ذلك أن وزير الخارجية المنتهية ولايته مولود جاويش أوغلو لم يكن أكثر من ناطق رسمي.

أما وزير الخارجية المعين حديثا، والذي شغل سابقا منصب رئيس المخابرات، فلديه خبرة واسعة في مسائل السياسة الخارجية الحساسة ومعترف به لقدرته على تقديم حججه بفعالية إلى الرئيس.

ولا تزال العلاقات مع الدول الغربية متوترة، فداخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، هناك تصور سائد عن الرئيس أردوغان كزعيم استبدادي لديه مشاعر معادية للغرب وعقلية قوية الإرادة. ويعتقد كثيرون أن تركيا، في ظل قيادة أردوغان، تبتعد تدريجيا عن تحالفاتها الغربية التقليدية، ولا يعتبرونه شريكا يمكن الاعتماد عليه. وهذا شعور متبادل؛ إذ يعتقد أردوغان أيضا أن الغرب كان يعمل ضده على الدوام. ومن وجهة نظره، كانت الولايات المتحدة وراء محاولة الانقلاب التي حصلت عام 2016، ولا يعترف الاتحاد الأوروبي بتركيا كعضو فيه، ويدعم حلفاء الناتو وحدات حماية الشعب/حزب العمال الكردستاني في سوريا.

وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من الأتراك، بمن فيهم أولئك الذين لا يدعمون أردوغان، يعتبرون أن الغرب يدفع تركيا بعيدا، بدل أن تبتعد هي من تلقاء نفسها. وعلى الرغم من عدم الثقة والكره المتبادلين بين الطرفين، فإن أيا من الطرفين لا يريد أن يخسر الآخر تماما.

فالغرب لا يريد تنفير أردوغان تماما، بل يريد أن يبقيه على مقربة منه. ومن ناحية أخرى، تركيا تحاول أن تستفز الغرب قليلا، دون أن تصل إلى حد قطع الصلات به.

وقد عُقد اجتماعان بين تركيا والولايات المتحدة بعد الانتخابات التي جرت في مايو/أيار الماضي؛ إذ التقى وزيرا الخارجية فيدان وبلينكن في لندن على هامش مؤتمر إنعاش أوكرانيا، كما اجتمع نائباهما في واشنطن بعد أيام قليلة من ذلك الاجتماع في إطار الآلية الاستراتيجية التركية الأميركية.

من بين عدد من المشاكل الخطيرة بين الحليفين في الناتو، ثمة قضية رئيسة، حيث تقف الآن عقبتان في الطريق، هما: عضوية السويد في الناتو، وشراء تركيا الذي طال انتظاره لطائرات “إف-16”.

وسواء تمكن الحلف من حل قضية عضوية السويد أم لا قبل قمة الناتو في فيلنيوس منتصف يوليو/تموز، فإن نتيجة ذلك ستشير إلى أي اتجاه تنحو العلاقات بين تركيا والغرب.

يدرك حلفاء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أن القرار يعود بالكامل لأردوغان، فإذا رغب في ذلك، فسيتم رفع اعتراضات تركيا على الفور.

وقد تم تجميد محادثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2018 بسبب مخاوف بشأن سيادة القانون والديمقراطية في تركيا، فضلا عن العراقيل التي تعترض قبرص واليونان وفرنسا.

وما لم يحدث تحول جذري في أي من الجانبين، فليس من المرجح أن يتغير الوضع. بل الغالب هو أن تتحول قبرص، التي تعد بالفعل عقبة رئيسة في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، إلى مشكلة أكبر، إذ لا تزال تركيا، التي تشعر بالإحباط من الموقف القبرصي اليوناني، مصممة على الاعتراف بالجمهورية التركية لشمال قبرص لتشكيل أساس لأي مفاوضات في المستقبل.

ثم جاء تقارب تركيا المتزايد مع روسيا ليثير حفيظة الغرب وغضبه. وعلى الرغم من الإشادة بتركيا لدورها في صفقة الحبوب، إلا أن المعروف أن الحكومات الأميركية وبعض الحكومات الغربية الأخرى حريصة على التنبيه من أن لا تؤدي تركيا دور شريان حياة لروسيا لتجاوز العقوبات.

العلاقات التركية- الروسية تحكمها العلاقة الشخصية بين أردوغان وبوتين، ورغم أن الرجلين يختلفان في شخصيتهما، فإنهما يتعاملان جيدا كقائدين لبلديهما. كلاهما منبوذ من بعض الدول، كل على طريقته الخاصة، ولديهما أسلوب متشابه جدا في إدارة شؤون الدولة بالإضافة إلى الاقتصاد والأعمال.

تماما كما دعم بوتين أردوغان خلال عملية الانتخابات في تركيا، اتصل أردوغان على الفور ببوتين وقدم دعمه عندما واجه تمرد فاغنر.

ولقيت إيماءة أردوغان استحسانا كبيرا، ولسوف تعزز بالتأكيد علاقات أقوى بين الزعيمين. قد يسهل هذا الحلول في أماكن مثل سوريا، لكنه سيزيد من الضغط على علاقات أردوغان غير المريحة بالفعل مع الغرب. هذا ما لم يتصرف الغرب بطريقة برغماتية ويحاول الاستفادة من العلاقات بين أردوغان وبوتين.

أصبحت السياسة الخارجية التركية في عهد أردوغان أكثر تنوعا. وقد احتلت منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وكذلك أفريقيا، الصدارة، كل بسبب وضعها وميزاتها. أما آسيا التي باتت محور السياسة العالمية، فقد غدت أقل وضوحا إلى حد ما على رادار تركيا. وقدم وزير الخارجية السابق جاويش أوغلو “مبادرة آسيا من جديد”، لكنها كانت وعاء دون محتوى. وخلال الفترة المقبلة، قد تقرر تركيا تفعيل هذه المبادرة وإشراك نفسها أكثر مع الصين واليابان ودول آسيوية أخرى. ويبقى أردوغان مرتبطا عاطفيا ودينيا وتاريخيا وآيديولوجيا بالشرق الأوسط.

بعد “الربيع العربي”، انحازت تركيا بقيادة أردوغان إلى الإسلاميين السياسيين، ما أدى إلى انهيار العلاقات مع عدد من الدول العربية، بما في ذلك مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

وأصبحت تركيا ملاذا للفارين من نشطاء الإخوان المسلمين الذين واصلوا أنشطتهم، بما في ذلك البث والدعاية، من هناك.

ولكن مع فشل جماعة الإخوان المسلمين في جهودها وتحقيق المصالحة بين العرب، انضم أردوغان أيضا إلى الركب، وأعاد ترتيب علاقاته مع جماعة الإخوان المسلمين، بما في ذلك تقليص- وفي بعض الحالات إنهاء- أنشطتهم في البلاد.

مكنت هذه الخطوات من المصالحة مع الدول العربية التي كانت العلاقات معها إشكالية. وسيرغب أردوغان الآن في الاستفادة من العلاقات المحسنة.

وفي المقابل، يضع الرئيس التركي عينه على رأس المال والاستثمار الخليجيين، ومن المرجح أن تشكل المساعي والفرص الاقتصادية العمود الفقري للعلاقات المستقبلية بين تركيا ودول الخليج التي تبحث عن فرص استثمارية وتجارية جديدة بهدف التنويع الاقتصادي. وقد زار رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد تركيا مؤخرا، حيث شاهد نهائي دوري أبطال أوروبا في إسطنبول جنبا إلى جنب مع أردوغان. وبعد أيام قليلة، استقبل محمد بن زايد في أبوظبي نائب رئيس تركيا، جودت يلماز، ووزير الخزانة والمالية محمد شيمشك، وليس سرا أن الحديث بين الطرفين تركز على فرص التعاون الاقتصادي.

أما فيما يخص الملفات العربية الرئيسة الثلاثة الأخرى، فمن المتوقع أن يعقد أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قمة في المستقبل القريب، خاصة بعد أن أعلنت وزارة الخارجية المصرية عن رفع علاقات البلدين الدبلوماسية لمستوى السفراء.

وكانت العلاقات المتوترة بين تركيا وبعض الدول العربية، بما في ذلك مصر، قد تراجعت إلى حد ما، خاصة فيما يتعلق بقضية ليبيا، حيث تُظهر تركيا اهتماما أكبر بمخاوفهم.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة من أجل التقارب مع سوريا، فإن كثيرا من التحديات لا تزال قائمة، مما يجعل الطريق أمامنا وعرا للغاية. إن مشاركة جهات فاعلة متعددة ذات أجندات وأولويات مختلفة ومشاكل مترابطة، إضافة إلى صمود الرئيس الأسد، كل ذلك ساهم في تعقيد الوضع.

إحدى نقاط القوة البارزة لأردوغان هي البرغماتية التي يعتبرها أنصاره عبقرية سياسية، بينما ينتقدها خصومه باعتبارها انتهازية لرجل يرغب في إعطاء الأولوية لتحقيق مكاسب شخصية. وقد أظهر أردوغان القدرة على إجراء تحولات استراتيجية وتبريرها بشكل مقنع لناخبيه، وغالبا ما يتجنب المساءلة عن العواقب.

في المقابل، يعزز غياب معارضة قوية وقادرة من احتمال استمرار أردوغان في الحكم بطريقته الخاصة، حيث يظل بلا رادع ودون منازع.

المجلة

——————————

أردوغان… نصر مؤلم وبرغماتية حادة/ إبراهيم حميدي

التداعيات على تركيا والاقليم والعلاقة مع أميركا وروسيا

الرئيس رجب طيب أردوغان بعد النجاة؟ نعم. كان هناك رهان لدى المعارضة التركية وآخر من جهات مختلفة، بهزيمة أردوغان وحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في مايو/أيار الماضي. لكن أردوغان وحزب “العدالة والتنمية” بقيا في الحكم بهامش بسيط.

يشكل الهامش انتصارا، لكنه يجلب معه تحديات كثيرة في الداخل والخارج. هذا يهم الأتراك، وأيضا المناطق الأخرى، العربية وغيرها، حيث التمدد التركي بوسائل عسكرية خشنة، وأخرى “ناعمة”. لذلك، كان هذا الموضوع قصة غلاف “المجلة” لعدد يوليو/تموز.

واقع الحال أن زيارتي إلى أنقرة وإسطنبول في يونيو/حزيران، ولقاءاتي مع مسؤولين موالين لأردوغان ومعارضين له من أجيال وأطياف مختلفة، تختصر المشهد التركي في ثلاث نقاط: شارع منقسم بين موالين لأردوغان وحزبه، وشريحة أخرى سلبية أو فاقدة للأمل. وتشتت المعارضة السياسية وتشظيها بعد فقدان “فرصة نادرة” في الانتخابات الأخيرة. وشعور كبير بـ”النصر المؤلم” لدى أردوغان وحزبه وموالين له.

عليه، نشرح هذه العبارات من خبراء في الشأن التركي ومن ساحات النفوذ في العالم العربي. نغوص في محاولة لفهم برغماتية أردوغان ومغامراته على حافة الهاوية، أمام تحديات اقتصادية وسياسية، خصوصا انهيار الليرة التركية ومعالجة الانقسام الداخلي، لذلك، يدافع خبير اقتصادي عن “حتمية تغيير المسار”.

تتضمن قصة الغلاف مقابلتين خاصتين من أنقرة؛ يتحدث رئيس حزب “المستقبل” أحمد داود أوغلو بصراحة لـ”المجلة” عن “الصديق القديم” أردوغان، وعن “حالة الخوف” التي يعيشها الأتراك، وخطط المعارضة للخروج منها، فيما يحذر رئيس حزب “النصر” أوميت أوزداغ من حرب أهلية قادمة إلى العمق التركي بسبب اللاجئين السوريين.

نزور في هذا العدد- بتحقيقات ميدانية- “ساحات” التوغل التركي العربية، إذ تشرح مستشارة أممية سابقة تمدد الجيش التركي شرق ليبيا بعد التعمق غربها، ويظهر تحقيق من شمال شرقي سوريا أن مأسسة “الإدارة الكردية” مصدر قلق لأنقرة مع قلق عالمي آخر بسبب وجود عناصر “داعش” واحتمالات عودته كتنظيم وتشابك “خلاياه النائمة” ومخاطر انفجار “القنبلة الموقوتة” في مخيم كبير لعوائل “دواعش”. ويظهر تقرير ميداني آخر، من شمال العراق “استقرار” تركيا هناك وتكثيفها عملياتها العسكرية ضد “حزب العمال الكردستاني”.

ونختم باستعادة تاريخية للإرث التركي وسعي أنقرة للتوازن في الداخل والخارج، ونرسم سيرة إسطنبول، مدينة التناقضات التركية.

نواكب أيضا قضايا أخرى، ذلك أننا لا نزال نعيش تبعات تمرد زعيم “جيش فاغنر” ضد الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو/حزيران الماضي. انتهى العصيان المسلح، لكن الأسئلة باقية عن مستقبل يفغيني بريغوجين وقواته في العالم وفي المسرح الجديد، بيلاروسيا. نكتب سيرة هذا الرجل من طفولته عندما كان فقيرا إلى حين اعتماده “طباخا” في الكرملين، ووصولا إلى نفيه في روسيا البيضاء، إلى حضن حليف بوتين في مينسك.

السودان إحدى الساحات التي ينشط فيها “جيش فاغنر” في “حرب الجنرالين”، فنعرض شهادة مؤلمة لرحلة النزوح من “الحريق السوداني”… إلى المجهول.

في أميركا، صحيح أن إدارة جو بايدن مشغولة بدعم كييف ضد موسكو في الحرب، وهي تواكب الاختبارات العسكرية الكثيرة التي يقوم بها الجيش الروسي في سوريا، للضغط على أميركا في أوكرانيا، والعلاقات المعقدة مع الصين، لكن واشنطن، أيضا، مشغولة بالهم الاقتصادي الداخلي، فنرسم ملامح وزيرة الخزانة جانيت يلين، تلك المرأة التي تشد الأنظار بحثا عن مخارج اقتصادية.

ولأن الاقتصاد أولوية منطلقها بشري، نحلل معنى أن يكون أغلب السعوديين من الشباب، حسب الإحصاء الرسمي. فرصة للإفادة من حيوية في دفع الإصلاحات ومواكبة اهتمامات ومشاغل الشبيبة في السعودية وعُمان المجاورة.

في الثقافة، حوار مع المثقف سعد الصويان، المهموم بتسجيل التاريخ الشفاهي، وهذا همّ ليس سعوديا وحسب، بل عربي يتعلق بإدمان التأريخ الشفاهي وغياب الكلمات والوثائق. أيضا، نخطف عنوان “مئة عام من العزلة”، من الرواية الرائعة لغابرييل غارسيا ماركيز، لتوثيق إرث الشاعر السوري نزار قباني، لنحيي مناسبة “مئة عام من الحب”.

كثير منا يعرف أغنية الفنان البحريني الشهير خالد الشيخ: “شويخ من أرض مكناس”. يزورها الباحث السعودي عبدالله الرشيد، ليتقصى علاقتها بالصوفية الأندلسية وامتداداتها الراهنة، إضافة إلى تعمق في مراجعة الرواية الديستوبيّة.

صفحتنا الأخيرة، تتناول ذلك التشابك بين اللغتين العربية والتركية من خلال تجربة الترجمة لخبير بقاموسين وثقافتين، يجمع بينهما الكثير من الكلمات والأوجاع.

—————————

كيف نفهم ما يجري في تركيا؟/ أسعد غانم

نجح أردوغان وحزبه وحلفاؤهما في إحداث تغيير وخلق توازن جدي.. وهذا هو جوهر ما يجري في تركيا

تركيا من أهم دول الجوار للعالم العربي، ولها تأثيرات كبيرة على ما يجري في معظم مجتمعات العالم العربي، وخصوصا سوريا والعراق وفلسطين. لذلك من الأهمية بمكان ليس الالتفات فقط للتغيرات في سياساتها الخارجية، بل محاولة فهم الديناميات الداخلية في تركيا وتأثيرها على كيفية فهم تركيا لدورها في المنطقة وكيفية ترجمة ذلك لعلاقاتها مع دول المنطقة، بما في ذلك إيران وإسرائيل، وتداعيات ذلك على القضايا العربية، وخصوصا في المشرق العربي: سوريا والعراق والقضية الفلسطينية.

تحتفل الجمهورية التركية هذا العام (2023) بمئوية تأسيسها. وبهذا فإنها تكون من رواد الدولة الوطنية في المنطقة، بعد مصر وإيران. وبعكس من يدّعون أن تركيا، في عصر أردوغان تحديدا، تحاول إحياء الفكرة العثمانية، والدولة الإسلامية، وهي ادعاءات تأتي ممن يعارضون توجهات تركيا بقيادة أردوغان– وبالأساس من محللين إسرائيليين وأوروبيين وعرب يساريين عموما، وكلهم يعادون التوجهات “الإسلامية” لتركيا في حقبة أردوغان، بالإضافة لكثير من المحللين المنضوين تحت رايات الأنظمة العربية، التي اعتبرت صعود تركيا الأردوغانية تهديدا لها، وقامت وسائل إعلامها بحملة لترويج فكرة الأحلام السلطانية لأردوغان، فإن تركيا في عيدها المئوي تكون قد مرت في مرحلة تعززت بها فكرة الدولة الوطنية وتعمقت بحيث أصبحت المكون الأساس في المخيال التركي، الشعبي والرسمي.

وبهذا فإن “الأردوغانية” (نسبة إلى أردوغان)، كما الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك)، وأتباعهما المعاصرين، لا يختلفان جوهريا في الانضواء تحت الدولة الوطنية واعتبار مصالحها الوطنية وأمنها القومي مرتبطين بالخريطة الجغرافية (وسكانها)، كما تمت صياغتها قبل مئة عام.

واذا كان التوصيف أعلاه صحيحا، فإنه من الأهمية بمكان فهم النقاشات الداخلية والخلافات بين الأطراف التركية، كما يتم التعبير عنها خلال العقود الأخيرة، وخصوصا منذ صعود حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا عام 2002. هذه النقاشات وصلت إلى أوجها خلال حملات الانتخابات الأخيرة (مايو/أيار 2023).

أولا: الأردوغانية ووضع تركيا

“الأردوغانية” هي صفة تطلق على رؤية شاملة تشكلت خلال سنوات طويلة من النقاشات والمشادات والاختلافات الداخلية في تركيا، ويتم التعبير عنها في العقدين الأخيرين من خلال الطريق الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. في الحقيقة لا يمكن الادعاء بأن هذا الطريق من صنع أفكار أردوغان وحده، بل إنه طريق طويل عايشته تركيا منذ لحظة إقامة الجمهورية التركية قبل قرن.

صحيح أن الرئيس المؤسس لتركيا الحديثة استطاع أن يغيّر نظام الحكم، ويفرض أنماطا قومية حديثة في التفكير والسلوك التركيين، وإحداث تغيير منهجي في التوجهات الاجتماعية والثقافية تمثلت بالأساس في تبني الأفكار والمناهج الحياتية الأوروبية، وأسسها العلمانية والتمغرب الثقافي والاجتماعي، إلا أن عموم هذه التغييرات واجهتها توجهات محافظة أو شرقية أو إسلامية، ارتأت منذ البداية أن تحول تركيا الرسمية نحو التمغرب يبعدها عن تراثها وإرثها الديني والاجتماعي، وبالتالي عن شعبها المتمسك بقيم تسمى عموما “الشرقية” أو المحافظة.

 ولا يمكن فهم التوترات التي حصلت منذ بداية عمليات الدمقرطة في تركيا أواسط القرن الماضي، وانقلابات العسكر ضد الحكم المدني في تركيا منذ 1960، إلا ضمن هذا السياق من التوترات بين من أرادوا الحفاظ على إرث أتاتورك، وبين من أرادوا تقريب تركيا إلى الشرق والعالم الإسلامي وقيم المجتمع التركي المحافظة.

المنطلق الأساس للأردوغانية هو القبول، وحتى التمسك، بالدولة الوطنية والانطلاق من مصالحها، لكنها تختلف عن القوى “العلمانية” أو التي تريد تركيا دولة غربية وأوروبية ثقافيا واجتماعيا، بأن رؤية أردوغان تنطلق من محاولة إعادة الاعتبار للقيم الإسلامية والتركية المحافظة والشرقية في الحيز العام.

تنطلق الأردوغانية من عدة مبادئ، أهمها:

أولا، االتمسك بالدولة الوطنية التركية والانخراط فيها.

ثانيا، تقريب تركيا الرسمية لميول وتطلعات غالبية الأتراك في إطار ثقافي وقيمي وديني أكثر تمثيلا لهم. وأعني من حيث التطلعات الاجتماعية والثقافية (بما في ذلك الدينية)، والتقرب أكثر من الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

ثالثا، التصالح مع الكمالية وعدم الانقلاب عليها. أي إحداث تغييرات تدريجية نحو مجتمع ودولة أكثر محافظة وتدينا وتراثا شرق أوسطيا وأقل علمانية أوروبية، دون السعي للانقلاب على ذلك، وخصوصا في مسألة التصالح مع الدولة الوطنية وأولوية الهوية التركية كما صاغها أتاتورك قبل قرن (على سبيل التوضيح، مثل هذا الانقلاب جرى في إيران بعد ثورة 1979).

رابعا، التركيز على تعزيز الاقتصاد كرافعة للمجتمع والدولة، كما فرص الأفراد في رفاهية معقولة.

خامسا، اتباع سياسة خارجية أكثر استقلالا عن أوروبا والولايات المتحدة، ومراعاة جدية لقوى منافسة مثل الصين وروسيا.

ولأجل الوصول للسلطة والاستمرار بها، نهج أردوغان طريقا شعبويا، ولو بشكل جزئي، كأداة لتحقيق ذلك، وتمثل في التوجهات التي تثير المشاعر الدينية والقومية- مع التمسك بتحسين الوضع الاقتصادي للأفراد-  كما تحرض على النخب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتوجهات الثقافية التي سيطرت خلال القرن العشرين، وطبعا التشديد على قوة تركيا واستقلالها في شق طريق خاص بها كدولة تمتلك مركبات قوة تجعلها مركزية على مستوى المنطقة العربية وشرق أوروبا.

ثانيا: نتائج الانتخابات في مايو 2023

ثمة اعتقاد بأن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا تفسر أنماط التصويت، برأيي هذا غير صحيح بالمرة. فقد أوضح توزيع الأصوات أن الرأي العام في تركيا منقسم بالتساوي تقريبًا بين أردوغان وخصومه. رغم الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها البلاد، وفقدان الثقة في الليرة التركية، والارتفاع في الأسعار، وآثار الزلزال المدمر جنوب شرقي تركيا والذي أودى بحياة ما لا يقل عن 50 ألف شخص وتشريد الملايين، والحد من بعض الحريات الشخصية وحقوق الإنسان الأساسية، لا زال أردوغان يتمتع بنفس نسب الدعم التي حصل عليها عام 2018. فإذا نظرنا في نتائج انتخابات عام 2018، نرى بوضوح أن معارضي أردوغان حصلوا آنذاك على نفس حصة الأصوات التي حصل عليها معارضو أردوغان في الانتخابات الأخيرة. صحيح أن ثمة تغييرات في أنماط التصويت للبرلمان، إلا أنها في غالبيتها في إطار الكتل البرلمانية، وليس بين الكتل الداعمة لأردوغان أو المعارضة له. إذن ما تفسير الحراك الانتخابي في تركيا، وأعني للبرلمان وللرئاسة؟

التفسير الأساسي هو انقسام المجتمع التركي بين من يؤيد مسار أردوغان وحزب العدالة والتنمية ومن يعتبر جزءا من نفس الكتلة من أحزاب ونشطاء اليمين، بما في ذلك اليمين العنصري، وبين أطياف المجتمع التركي الأخرى، وعلى رأسهم مؤيدو الحزب الجمهوري الذي يسير على هدى تراث مصطفى كمال أتاتورك، مع تأييد من أحزاب يسارية وأحزاب وقوى تمثل الأكراد وهويتهم وتطلعاتهم، تجمعهم كلهم مهمة إقصاء أردوغان وتعطيل مسار الأردوغانية كطريق مختلف عن طريق تركيا الكمالية.

إذا راجعنا الحملة الانتخابية والنقاشات خلالها نرى بوضوح فوارق أساسية بين التيارين. الأول بقيادة أردوغان والثاني بقيادة كليشدار أوغلو. الأول ميوله إسلامية ومحافظة وتحاول الدفع نحو تمسك أكثر بالعلاقة السياسية والثقافية والاجتماعية مع تراث “عثماني” عريق، وتتقرب من الشرق والعالمين العربي والإسلامي، ومنفتحة أكثر على اللاجئين السوريين ومعاناتهم. والثاني علماني وأوروبي التوجه، يسعى إلى تعميق العلاقة الثقافية والاجتماعية والسياسية بأوروبا، ويعتبر تركيا جزءا من أوروبا، ويحاول الابتعاد عن تصوير تركيا بوصفها جزءا من العالمين العربي والإسلامي.

من ناحية ثانية، يتنافس التياران في سياق الدولة الوطنية، ولا يتنازلان البتة عن مسألة سيطرة الأتراك (من ناحية إثنية) على مجمل مفاصل الحياة في تركيا، ولا يقبلان بتحويل تركيا إلى دولة مدنية بالمعنى الأوروبي الذي يخصخص- نظريا- الانتماء القومي والإثني في الحيز العام، ولا بحق الأكراد في المساواة الجماعية، وبالتأكيد يرفضان دعوة جزء من الأكراد للانفصال عن تركيا.

تكفي نظرة على خريطة التصويت في تركيا للتأكد من عمق الانقسام بين تيار داعم للأردوغانية وطريقها، وتيار يريد العودة بتركيا إلى تراث الحزب المؤسس، مع شراكات ترى في الحزب الجمهوري وقيادته، أهون الشرين، وأعني تحديدا مؤيدي حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي خاض الانتخابات الأخيرة باسم اليسار الأخضر.

إذا نظرنا إلى خريطة توزيع الأصوات، نرى بوضوح أن الحزب القومي الكردي حصل على غالبية في مناطق يمثل فيها الأكراد غالبية المواطنين، هذا يعني بوضوح أن هنالك قوة مركزية لسياسات الهوية، وأنها لا زالت قضية جدية في الحيز العام بالرغم من مرور قرن على محاولة إخفائها من خلال خلق هوية مدنية تركية جامعة على أساس المواطنة بحسب نهج أتاتورك. كما أننا نرى بوضوح أن مدن الساحل، المرتبطة بالعالم ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، وغالبية سكانها من الشباب الذين ينظرون للغرب كعامل ملهم يريدون اللحاق به، فإنها صوتت للمعارضة الكمالية، والتي ترى في أوروبا وتجربتها السياسية والقومية عاملا ملهما، وتريد لتركيا أن تلحق به.

بينما صوتت الأطراف لطريق أردوغان، بمعنى الفئات “الهامشية” التي عاشت في أطراف الحياة الثقافية والسياسية وحتى الاجتماعية والاقتصادية، حتى صعود التيار الإسلامي- القومي، وتعبيراته الأخيرة في حزب العدالة والتنمية وقيادة أردوغان، هذه الفئات ترى في الأردوغانية طريقا لمستقبل تركيا. بالطبع يجب الانتباه إلى تصويت غالبية الأكراد والذين يشكلون الغالبية في المناطق الشرقية في تركياـ وتصويتهم إجمالا ينبع من عوامل لها علاقة بالهوية وبنقاشات الاستقلال أو الحكم الذاتي، وترى أن تركيا والأتراك- بالمعنى الإثني وليس المواطنة- يحاولون منعهم من ذلك، وهذا صحيح إذا راجعنا التجربة التاريخية بما في ذلك العقدان الأخيران تحت حكم أردوغان.

ثالثا: الأردوغانية وتركيا وعلاقتهما بالشرق الأوسط والعالم العربي

إن الحاجة لإنجاح مشروع أردوغان بتحويل تركيا، رسميا وشعبيا، لتكون أكثر إسلامية أو شرق أوسطية أو قريبة أكثر من الثقافة والتراث المشتقين من ذلك، والتطلع إلى سياسة خارجية مستقلة نسبيا، استدعى قيام أردوغان والتيارات الداعمة له، بالتقرب من القضايا العربية، وأعني تحديدا دعما أكثر من قَبْل للفلسطينيين ونضالهم ضد إسرائيل، ودعم التيارات الإسلامية، خصوصا القوى التي تقع ضمن منظومة فكر وتنظيم الإخوان المسلمين، كما دعم التوجهات الديمقراطية، أو على الأقل تلك التي تعتقد بوجوب تسريع حالة الدمقرطة في دول العالم العربي، مع الحفاظ على حيثيات اجتماعية وثقافية إسلامية أو محافظة نوعا ما.

ما أعنيه هو أن أردوغان أراد فعلا تغيير تركيا وجعلها جزءا من المنطقة وأقل أوروبية، إلا أنه كذلك، ولأسباب داخلية، جعل من التقرب من القضية الفلسطينية والعالمين العربي والإسلامي أداة لإثبات جديته بهذا التغيير أمام المواطن التركي.

وقد ازداد النفوذ التركي في العالم العربي بشكل رئيس منذ صعود أردوغان. وفاز حزبه بخمسة انتخابات منذ عام 2002 وأنهى بشكل أساسي تاريخا من الانقلابات والحكومات الفاشلة. ونفذت الحكومات التي شكلها الحزب إصلاحات على المستوى الاقتصادي وكذلك على المستوى السياسي، بطريقة نجحت في الجمع بين الدين والاقتصاد الحر، بحيث كان ينظر إلى تركيا والحزب الحاكم في العالم العربي على أنهما قدوة ونموذج يحتذى به.

وفي الوقت نفسه، فإن المستوى الثاني الذي يعد نموذجا للعالم العربي في نظر العرب وتصورهم لتركيا هو نموذج الإسلام السياسي الذي يقود البلاد واندماجها في العنصر الديمقراطي جنبا إلى جنب مع المفهوم الديني المتوافق مع الشعب، والثقافة التي تعطي أهمية للدين في الحياة. لذلك يمكن ملاحظة أن حزب العدالة والتنمية حرص على الحفاظ على القيم الإسلامية المعتدلة من خلال آليات صنع القرار الديمقراطي.

أيضًا من حيث إنجازات الاقتصاد التركي وسياسة الحكومة- على الأقل حتى اندلاع الأزمة الاقتصادية في تركيا في السنوات الأخيرة- والتي تسببت في نمو كبير، خلقت نوعا من النموذج يقترح عدد من الباحثين والسياسيين تقليده في الدول العربية. بالنسبة للكثيرين، فإن النموذج الاقتصادي التركي مناسب للعالم العربي مقارنة بنماذج ودول أخرى لأن تركيا قريبة من العالم العربي أكثر من الغرب. باختصار، يعتقد كثيرون، أن التقدم الاقتصادي والنمو الاقتصادي الذي يسعون إلى تحقيقهما في العالم العربي موجودان في تركيا، والأخيرة قريبة جغرافياً وثقافياً واقتصادياً وتاريخيا، كل هذا يبرر لكثيرين اتخاذ تركيا نموذجاً اقتصادياً.

إلى جانب السياسة الداخلية، يُنظر إلى تركيا في الوعي العربي على أنها دولة معارضة لإسرائيل، وأن تركيا دولة قوية قادرة على معارضة إسرائيل والوقوف في وجهها، وبالطبع القضية الفلسطينية هي قضية مهمة بالنسبة لمعظم العرب وفي ظل غياب القيادة العربية، يُنظر بقوة إلى تركيا بقيادة أردوغان على أنها البلد الذي يؤدي هذا الدور.

ازداد الاعتراف بالنفوذ الإقليمي التركي في العالم العربي مع اندلاع الربيع العربي وتراجع مؤخرا بسبب تردي الاقتصاد التركي وتقرب أردوغان من إسرائيل في السنوات الأخيرة. ورداً على سؤال تم تضمينه في مسح لعينة تمثيلية في خمس دول عربية ونفذه الباحث من جامعة ماريلاند شبلي تلحمي عام 2011، فإن السؤال الذي طرح أظهر أهمية تركيا في عيون العرب: عندما تنظر إلى رد الفعل الدولي على الأحداث التي شهدها العالم العربي في الأشهر الأخيرة، أي دولتين برأيك لعبتا الدور الأكثر بناءً؟ وكان الجواب نحو 50 في المئة رأوا أن تركيا لها مثل هذا الدور، بينما حصلت باقي الدول مجتمعة على نفس النسبة.

تراجع هذا التصور لتركيا ونموذجها مؤخرا بسبب الأزمة الاقتصادية في تركيا وخطوات علنية قربت تركيا من إسرائيل- من دون التراجع عن دعم الفلسطينيين وتوفير ملاذ لبعض النشطاء الفلسطينيين- إلا أن هذا لا يعني أن تركيا اختفت كعامل ملهم في خيال العرب. وحتى على المستوى الفلسطيني، لا زالت قوى جدية تشير إلى تركيا وإنجازاتها في ظل أردوغان كعامل مهم في التصدي لإسرائيل ودعم الموقف الفلسطيني. متابعة المقالات والتعليقات والأعلام، بما في ذلك الشبكة الاجتماعية، كلها تشير إلى وجود دعم عربي شعبي جدي لفكرة الأخذ بالنموذج التركي الذي خطه أردوغان لتركيا كمرشد لطريق ينفذ في مجتمعات ودول العالم العربي.

تلخيص

القوى المركزية المتنافسة في تركيا، وأعني السياسية والاجتماعية، تمثل خطين مختلفين بالنسبة لتركيا وحالها، الآن ومستقبلا، إلا أنها في غالبيتها الساحقة تتفق على تركيا كدولة قطرية- وطنية، جوهر أمنها القومي يرتبط بالحفاظ عليها، وعلى سكانها وجغرافيتها، كما خطها أتاتورك وزملاؤه قبل قرن. في هذا السياق من الاتفاق هنالك تنافس قوي بين تيار شعبي ورسمي يريد التقدم في تقريب تركيا نحو الغرب، بما في ذلك على المستوى القيمي والثقافي والاستمرار في إدارة ظهره للماضي التركي- العثماني، والإسلامي والعربي، وبين تيار يرى ضرورة الحفاظ على “المنجزات الأوروبية”، والسعي الحثيث إلى إعادة الاعتبار للقيم الشرقية والإسلامية والعربية، والانفتاح المتوازي على العلاقة مع أوروبا، وحتى الانضمام للأوروبيين من حيث تحقيق مكاسبة اقتصادية وسياسية لتركيا، وتمتين العلاقة من الجهة الأخرى مع العالمين العربي والإسلامي، كما خط طريقا مستقلا عن أوروبا بشأن العلاقات الخارجية.

لقد نجح أردوغان وحزبه وحلفاؤهما في إحداث تغيير، أو خلق حالة توازن جدية في ذلك، وهذا هو جوهر النقاش وما يجري في تركيا، بما في ذلك خلال الحملة الانتخابية الأخيرة (مايو/أيار 2023)، وهكذا يمكن أن نفهم تركيا بشكل لا يشوه المشهد العام، وكأن تركيا تريد إعادة السلطنة العثمانية، أو ما شابه من محاولات تحميل المشهد التركي، أكثر مما يحتمل.

هذا التغيير يعني كذلك تقاربا أكثر من الشرق والعالمين العربي والإسلامي، من جهة تركيا، وهذا ما حصل بالفعل خلال العقدين الأخيرين من تطبيق “الأردوغانية”، وليس فقط من خلال تصريحات سياسية أو خطوات سياسية، بل كذلك من خلال تغيير ثقافي- اجتماعي عميق في المجتمع التركي.

من يزُر تركيا ويراقب ما يحدث، يرى بعينه أن هنالك تغييرا جديا، مع الحفاظ على الكثير من المظاهر التي يمكن تسميتها “أوروبية”. هذا الجمع بين “الغرب”، “والشرق”، حصل ويحصل في كل مجتمعات العالم الثالث، وبالتأكيد في كل المجتمعات العربية، إلا أنه يتسم إجمالا بالتعلم من أوروبا وبإدخال أنماط غربية على أشكال بنيوية وتغييرات اجتماعية وثقافية جوهرية، أهمها تبني أنماط ديمقراطية في الدولة وتغيير بيروقراطي يجعل المواطن مرتبطا مباشرة مع الدولة من غير وساطات جهوية، وهذا فرق جدي عما يحصل في الدولة العربية.

تركيا تقوم بالتغيير نفسه، إلا أنها تختلف جوهريا في أمر واحد: التغيير هو بالتقرب أكثر من أنماط عربية وشرقية وإسلامية، بعد قرن من التمغرب والغربة التي أحدثها أتاتورك مع الشرق والتراث العربي والإسلامي، وهذا يجعل النقاش مختلفا نوعا ما، عن نقاشات جرت وتجري في أجزاء مختلفة من العالم العربي. لكن المهم في رأيي هو الالتفات إلى جوهر التغيير، أو النموذج الذي تطرحه الأردوغانية، للتعلم منه وملاءمته لما يجري عربيا، كما للاستفادة من دعم تركيا للقضايا العربية، في ظل التغييرات الداخلية هناك، والتي استدعت وتستدعي، مواقف وتصرفات أدت لتغيير نوعي في مواقف تركيا، بالأساس من خلال دعم قضايا عربية مركزية، على رأسها القضية الفلسطينية وقضايا التغيير الديمقراطي في العالم العربي.

—————————–

باريس ودمشق الآن بعيون تركية/ بكر صدقي

تزامنت في الأيام الأخيرة أحداث الشغب في شوارع باريس ومدن فرنسية أخرى احتجاجاً على مقتل الفتى المغربي ناهل على يد أحد عناصر الشرطة الفرنسية، مع اقتحام القوات العسكرية الإسرائيلية لمخيم جنين للاجئين الفلسطينيين. فاختار الإعلام التركي الرسمي تركيز اهتمامه على فرنسا فأرسل مندوبين لتغطية الحدث مزودين بخوذ مما يستخدمه المراسلون في مناطق القتال، ولم يتكبد عناء العمل نفسه في فلسطين، من غير أن يعني ذلك خلو وسائل الإعلام التركية مما يحدث في جنين.

أما الرحّالة التركي فاتح كوباران فهو ينشر على قناته الخاصة على يوتيوب حلقات من رحلته إلى دمشق ومدن سورية أخرى، في وقت بات فيه موضوع إعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم هو موضوع الساعة في الرأي العام ووسيلة للتكسب السياسي بين الأحزاب التركية.

من حيث المبدأ لا علاقة تربط بين الموضوعين، لكنهما معاً يكشفان عناصر من «رؤية تركية للذات والعالم» إذا جاز التعميم، وهو لا يجوز بطبيعة الحال، ولكن قد يغفر لنا استخدام هذا التعبير إذا أخذنا بنظر الاعتبار التقارب بين الخطاب الرسمي للحكم التركي والرأي العام السائد في المجتمع، من غير ترك هامش لتنوع لا يخلو منه أي مجتمع.

بالنسبة للحدث الفرنسي الذي شاهدنا فصوله على شاشات التلفزيون، يمكن القول إن القناة الإخبارية للتلفزيون الرسمي التركي (TRT haber) ومثله الصحف التركية المقربة من الحكومة، قد وجدت فيه فرصة ذهبية للرد بالمثل على ما يعتبرونه تدخلاً من قبل «الغرب» في الشؤون الداخلية التركية حين يتحدثون عن وضع الحريات والضغوط التي يتعرض لها معارضون أو صحافيون، أو أي تطرق للصعوبات الاقتصادية وغيرها مما يثير حساسية عالية لدى كل من السلطة والرأي العام، ويثير النزعات «الوطنية» وتلك المعادية للأجانب، فتنتعش نظريات «العالم يتآمر علينا»…

تحت عنوان «ما أحلى أن تمارس العمل الصحافي من باريس» رصد الصحافي يلدراي أوغور مفارقات الإعلام الرسمي التركي في تغطيته للحدث الفرنسي، فكتب يقول إن التلفزيون الرسمي لدولة تكاد تقوم بحظر الحق الدستوري في التجمع والتظاهر، نزل إلى الساحة لتغطية الاحتجاجات بحرية في بلد آخر!» في الوقت الذي يغيب فيه عن تجمع «أمهات السبت» الأسبوعي الذي ينتهي بتفريقهن واعتقال بعضهن في كل مرة، أولئك الأمهات اللواتي يطالبن بالكشف عن مصير أبنائهن المفقودين منذ التسعينيات.

«ليس عشق العمل الصحافي هو الرائز وراء حماسة الإعلام التركي لتغطية أحداث فرنسا» يقول أوغور ويتابع: «بل هو رغبة ثأرية تتمثل في رؤية «العدو» في وضع صعب، والاستمتاع بأزمة دولة أكثر تطوراً من دولتك، وإشباع المشاعر المختلطة نحوها بين حب وكراهية، شعور بالنقص وتكبّر»

ولا يرف للمراسل جفن وهو ينتقد النزعات العنصرية ومعاداة اللاجئين في فرنسا وكأن بلده نعيم للتسامح والاحتفال بالتنوع واحتضان اللاجئين. «لو حدث وأظهر سوريون في تركيا ردة فعل جماعية تجاه مقتل أحد السوريين على يد الشرطة التركية، على غرار ما حدث في فرنسا، فأحرقوا وخرّبوا، لما اقتصر الرد على الشرطة، بل سيشاركهم مواطنون مدنيون، وربما صحافيون، في اصطياد السوريين في الشوارع، لينتهي الأمر بمن قد يبقى منهم على قيد الحياة في منطقة إدلب»

«أما إذا تجمع ألف شخص في مكان واحد في إسطنبول، فسوف تمتلئ الصحف بمانشيتات عريضة تتحدث عن «خطة لنشر الفوضى وراءها قوى خارجية» في حين يستمتع المراسل التركي في باريس بحرية انتقاد الشرطة الفرنسية والحكومة الفرنسية والرئيس الفرنسي «إنه في إجازة لممارسة العمل الصحافي بحرية خارج بلده!» من غير أن يتعرض لأي مضايقات من السلطات الفرنسية، ناهيك عن طرده خارج الحدود.

أما الرحالة التركي فاتح كوباران فهو يؤكد أن «الحرب في سوريا قد انتهت بين العامين 2017 ـ 2018، كما أجابني من التقيتهم من السوريين» ويقول إنه دخل من لبنان بسهولة بالغة، بعدما اشترى الفيزا بثلاثين دولاراً! ولاقى الترحيب من الناس في شوارع دمشق كما من سلطات المعبر الحدودي. ويتحدث عن حياة الليل النشطة في مطاعم الأحياء القديمة في المدينة، وقد رصد في مقاطع الفيديو التي نشرها على قناته جوانب منها. «لم تنج دمشق تماماً من وقائع الحرب، فقد رأيتُ آثار قذائف المدافع التي تم إطلاقها على المدينة من محيطها». في لقاء تليفزيوني معه، يجيب كوباران على سؤال عما إذا التقى بسوريين عادوا من تركيا، فيقول إنه رأى كثيرين منهم، وإن بعض هؤلاء قال إنه عاد لأنه «مل من العيش في تركيا!» وقال آخر إنه ترك زوجته الأولى في تركيا وعاد ليعيش مع زوجته الثانية!

«ليست الحرب هي سبب عدم إقبال سوريي تركيا على العودة بأعداد كبيرة، بل الأزمة الاقتصادية الحادة» يقول كوباران «بعض ممن التقيتهم من العائدين قال لي إنه كان يتلقى في تركيا أجراً يبلغ حوالي 500 دولار، في حين أن الأجور في سوريا لا تتجاوز عشرين أو ثلاثين دولاراً!» ومن الأسباب الأخرى لعدم رغبة السوريين في العودة، وفق ما قيل له، الخدمة الإلزامية التي تبلغ نظرياً سنة ونصف، في حين أنها تمتد في الواقع إلى أكثر من سبع سنوات بسبب النقص الحاد في أعداد المجندين.

وإذ سئل الرحّالة عن الوضع في مدن أخرى اعترف بأن الوضع في حلب وحمص ومناطق أخرى «مختلف تماماً عما رأيته في دمشق» فآثار الدمار الواسع مخيفة» وحين سأل من التقاهم من السوريين عما إذا كان ذلك الخراب بفعل الزلزال أم الحرب، أجابوه بأن الزلزال أكمل ما قامت الحرب بتدميره.

أخيراً لا بد من إضافة اعتراف الرجل بأنه لم يزر إلا مناطق سيطرة النظام، «لأن الفيزا التي يحملها لا تخوّله الدخول إلى مناطق أخرى خارج سيطرة الحكومة، كإدلب والرقة وغيرها».

كاتب سوري

القدس العربي

————————-

هل تغير تركيا فجأة موقفها من انضمام السويد للناتو؟/ سعيد عبد الرازق

إردوغان يواصل تحدي الضغوط قبل أيام من قمة فيلينوس

بات موقف تركيا من طلب السويد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) هو العنوان الأبرز قبل قمة الحلف، التي ستعقد في العاصمة الليتوانية فيلينوس يومي 11 و12 يوليو (تموز) الحالي. وبات السؤال الأكثر إثارة للترقب: هل تصادق تركيا على عضوية السويد قبل قمة فيلينوس؟

واقع الأمر أن تركيا تواجه ضغوطاً شديدة من الناتو والدول الأعضاء، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لكنها لا ترغب في أن تعطي موافقتها على طلب الدول الاسكندنافية من دون الحصول على ما تطلبه، سواء من السويد نفسها أو من الولايات المتحدة.

تريد تركيا من السويد موقفاً صارماً من عناصر حزب العمال الكردستاني على أراضيها وتسليم العشرات منهم، إلى جانب العشرات من عناصر «تنظيم فتح الله غولن»، في إشارة إلى عناصر حركة «الخدمة» التابعة للداعية التركي فتح الله غولن والمتهمة من قبل أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016.

وقال الرئيس رجب طيب إردوغان، في تصريحات ليل الاثنين – الثلاثاء، عقب اجتماع الحكومة التركية، إن تركيا لن توافق على انضمام السويد إلى الناتو إلا إذا امتنعت عن إيواء «التنظيمات الإرهابية». وأضاف: «على الجميع الإقرار بأنهم لا يمكنهم تكوين صداقة مع تركيا بينما يسمحون للإرهابيين بالتظاهر في أكبر الميادين المركزية في مدنهم».

وأدى سماح السويد لمتطرف من أصول عراقية بحرق نسخة من القرآن الكريم في أول أيام عيد الأضحى أمام 200 مسلم في المسجد المركزي في ستوكهولم إلى زيادة غضب تركيا.

وكرر وزير الخارجية هاكان فيدان، في مؤتمر صحافي مع نظيره الأردني أيمن الصفدي في أنقرة الثلاثاء، إدانته للواقعة، قائلاً: «ندين بشدة الاعتداء الدنيء على القرآن الكريم في ستوكهولم، وكذلك التغاضي عنه رغم تحذيراتنا». أضاف: «جدوى عضوية السويد مفتوحة للنقاش أكثر من أي وقت مضى من الناحيتين الاستراتيجية والأمنية».

اجتماعات مهمة

تعترف أنقرة بأن السويد اتخذت خطوة مهمة ضد «العمال الكردستاني» وأذرعه، في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، بإقرار قانون مكافحة الإرهاب، الذي بدأ سريانه في الأول من يونيو (حزيران) الماضي، لكنها تقول إن عليها أن تقوم بالمزيد من أجل وقف أنشطة عناصره واحتجاجاتهم ضد تركيا ورئيسها إردوغان.

وفي الوقت ذاته، لا ترغب أنقرة في إعطاء موافقتها على انضمام السويد إلى الناتو من دون الحصول على موقف من جانب واشنطن في ما يتعلق بحصولها على مقاتلات «إف 16» بعد أن بدا أن إدارة الرئيس جو بايدن تربط بين الملفين.

وسيستضيف بايدن رئيس الوزراء السويدي، أولف كريسترسون، الأربعاء، لمناقشة ملف الانضمام إلى الناتو والحرب في أوكرانيا.

وفي اليوم التالي، سيعقد اجتماع رفيع المستوى بين تركيا والسويد وفنلندا في بروكسل، الخميس، بمبادرة من الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، في إطار آلية التنسيق المشترك الدائمة، التي أنشئت بموجب مذكرة تفاهم ثلاثية بين الدول الثلاث، وقعت في 28 يونيو 2022 على هامش قمة الحلف السابقة في مدريد.

الاجتماع سيعقد على مستوى رفيع، وسيضم وزراء الخارجية ورؤساء أجهزة المخابرات ومستشاري الأمن القومي في الدول الثلاث؛ للبحث في ملف عضوية السويد وتحفظات تركيا.

حسابات خاطئة

بحسب مصادر دبلوماسية تركية، فإن الجانب التركي سيكرر مطالبته بتقديم السويد المزيد من أجل معالجة مخاوف أنقرة فيما يتعلق بتنظيمي «العمال الكردستاني» و«غولن».

وقالت المصادر لـ«الشرق الأوسط» إن السويد، التي تحتاج إلى تصويت تركيا بـ«نعم» لتصبح عضواً في الناتو، لم تف بأي من وعودها حتى الآن، فعلى الرغم من أن التعديل الذي تم إدخاله على قانون مكافحة الإرهاب دخل حيز التنفيذ، في الأول من يونيو الماضي، فإن طلب تركيا تسليم أعضاء «العمال الكردستاني» و«غولن»، لم ينفذ بعد.

ورأت المصادر أن السويد أجرت ثلاثة حسابات خاطئة، فيما يتعلق بموقف تركيا من طلب انضمامها إلى الناتو؛ أولها: اعتقادها أن تركيا ستوافق على الطلب حتى لو لم تفِ بمطالبها مبدية ارتياحاً وطمأنينة بشأن انضمامها للحلف، والثاني: اعتقادها أن تركيا لن تكون قادة على الصمود أو الحفاظ على موقفها الرافض لإعطائها الضوء الأخضر للانضمام للحلف، والخطأ الثالث هو اعتماد السويد على التشجيع والدعم من جانب الأعضاء الآخرين في الناتو، وبخاصة الولايات المتحدة.

وأكدت المصادر أن تعديل قانون مكافحة الإرهاب لا يعني شيئاً بالنسبة لتركيا ما لم تتخذ خطوات ملموسة. وأضافت: «عدلت السويد القانون وسلمت مطلوباً واحداً من عناصر (العمال الكردستاني)، ويصورون الأمر على أنه تنفيذ للالتزامات، وأن تركيا تتخذ موقفاً تعسفياً».

احتمالات التغيير

وعلى الرغم من استمرار الموقف التركي تجاه مسألة تقيّد السويد بالتزاماتها، وكذلك التوتر الأخير بعد حادثة إحراق أحد المتطرفين نسخة من القرآن الكريم أمام المسجد المركزي في ستوكهولم، تثور تساؤلات حول احتمال أن تغير أنقرة موقفها في الأيام القليلة المتبقية على قمة فيلينوس.

لفت الكاتب المحلل السياسي مراد يتكين، إلى ملاحظة مهمة، وهي أن البرلمان التركي لن يدخل عطلته الصيفية خلال يوليو الحالي، ولذلك يبقى الباب مفتوحاً أمام حدوث تغيير والمصادقة على طلب السويد.

وذكر يتكين أن تركيا تتعرض لضغوط من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا للموافقة على طلب السويد، وهو الأمر الذي تسبب في رد فعل تركيا الشديد على أحدث عملية حرق لنسخة من القرآن الكريم في ستوكهولم، رغم عدم اتخاذ خطوة تصعيدية، وكذلك فإن السويد لم تتخذ خطوة تجاه تسليم أعضاء من حزب «العمال الكردستاني» ومنظمة غولن.

ورأى أن «تركيا تبقي برلمانها مفتوحاً وتعطي رسالة مفادها أنه في حال قبول مطالبها بشأن مكافحة الإرهاب، يمكن الحصول على موافقة البرلمان قبل أو أثناء قمة فيلينوس».

وذهب يتكين إلى أن هذا أمر مثير للاهتمام لأنه في المجر، وهي عضو آخر في الناتو لم يوافق على طلب السويد إلى جانب تركيا، أعلن البرلمان إرجاء جلسة المصادقة إلى الخريف المقبل، بعد عطلته الصيفية.

وقال: «على الجانب الآخر فإن الكونغرس الأميركي الذي يقول إنه يمكن بيع تركيا مقاتلات «إف 16» إذا وافقت على طلب السويد، يتجه أيضاً إلى العطلة الصيفية من دون تسجيل الهدف (انضمام السويد للناتو) في مرمى روسيا».

حل وسط

رأت المحللة السياسية، بارتشين ينانتش، أن هناك معضلة تتعلق باستخدام السياسة الخارجية كأداة في السياسة الداخلية لتركيا، وحتى المصالح الوطنية للبلد يتم تجاهلها لهذا السبب.

وقالت إن هناك «سويد» في كل تصريح عن تركيا من الولايات المتحدة بعد الانتخابات التي شهدتها تركيا في مايو (أيار) الماضي، وتم تقليص جميع العلاقات بين البلدين في مسألة حصول السويد على عضوية الناتو قبل أو أثناء قمة فيلنيوس. أضافت: «يبدو أن واشنطن وهي تمارس ضغطاً علنياً على أنقرة، لا ترى رد الفعل العنيف، هذا الضغط له تأثير سلبي على عملية انضمام السويد من ناحيتين؛ الأولى: دفع إردوغان إلى الانعطاف إلى الداخل وإعطاء رسالة مفادها: انظروا، أنا أقاوم الضغط»، ومن ناحية أخرى، حتى لو كان إردوغان يريد حقاً إعطاء السويد الضوء الأخضر للانضمام للناتو، فسيتعين عليه أن يجر قدميه حتى لا يعطي انطباعاً بأنه «تعرض للضغط».

وذكرت ينانتش أن أنقرة ليست مقتنعة تماماً بذلك، وإردوغان الذي كان يعطي إشارات تليين في بداية يونيو (حزيران) الماضي، ظهر بعد ذلك غاضبا من المظاهرات ضده في ستوكهولم.

وذهبت إلى أنه بعد هذا الوقت، من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل استكمال عملية المصادقة على طلب السويد وإضفاء الطابع الرسمي على عضويتها في قمة فيلنيوس، مضيفة: «سيتم بالفعل في قمة الناتو إعلان السويد كعضو، بحكم الواقع، وأجريت مناقشات حول نص يقضي بأن العملية الفنية ستكتمل في أقرب وقت ممكن… وبعد كل شيء، لا يريد إردوغان رسالة من فيلنيوس تجعل موسكو سعيدة للغاية، بغض النظر عن مقدار ما يدين به للروس».

الشرق الأوسط

————————-

هل يقطع “موميكا” الطريق على عضوية السويد في الناتو؟/ سمير صالحة

هل أطلقت السويد النار على قدمها وهي تستعد لقمة ليتوانيا بهدف الحصول على العضوية الأطلسية، وبعدما منحت محكمة الاستئناف في ستوكهولم وبحماية الأجهزة الأمنية، أحد مواطنيها من أصل عراقي فرصة أخرى لإضرام النار بنسخة من المصحف الشريف؟

الإجابة قد تكون عند تركيا التي تفاوضها منذ أشهر على طلب الانضمام من دون نتيجة حتى الآن. فأنقرة الغاضبة حيال ما جرى قبل أيام لن تتردد في إعادة المفاوض السويدي إلى خط البداية خالي الوفاض وتركه ينتظر لفترة جديدة رغم كل الضغوط الغربية التي تتعرض لها.

يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد هذا “العمل الدنيء” كما وصفته القيادات السياسية التركية “إن ستوكهولم ورموز الغطرسة الغربية سيتعلمون عاجلا أم آجلا أن إهانة المسلمين ليست حرية فكر”. وهو كلام متمم لما ردده أردوغان في مطلع شهر شباط المنصرم معقبا على حادثة مماثلة “إن إضرام النار بنسخة من القرآن الكريم سيدفعنا للرد بأقوى طريقة ممكنة حتى تتم محاربة التنظيمات الإرهابية وأعداء الإسلام، وأن تركيا لن تسهل للسويد الانضمام للناتو طالما استمرت في السماح باحتجاجات تهين المصحف الشريف”.

يبدو أن ستوكهولم لم تتلق الرسالة التركية كما ينبغي. فإقدام المواطن السويدي من أصل عراقي سلوان موميكا بحماية العشرات من رجال الأمن على تمزيق وحرق المصحف خارج المسجد الرئيسي في ستوكهولم، هو ليس الأول من نوعه بطابع عنصري استفزازي ديني يقع هناك ضد العالم الإسلامي. لكن التوقيت بالنسبة للعلاقات التركية السويدية مهم وحرج. فستوكهولم تنتظر الضوء الأخضر التركي من أجل الالتحاق بحلف شمال الأطلسي منذ أكثر من عام، وهناك مفاوضات تجري بين الطرفين باتجاه تنفيذ مذكرة مطالب قدمتها أنقرة في حزيران العام المنصرم، وتعهدت السلطات السويدية بقبولها. لكنها تفعل العكس اليوم وهي تسهل لموميكا التطاول على أهم الرموز الدينية لدى المسلمين. فهل تتلقف ستوكهولم رسالة دائرة الاتصالات التركية هذه المرة؟، إذ “لا يمكن لدولة تريد أن تكون شريكا لنا في الناتو أن تسمح لعناصر إرهابية معادية للإسلام بالقيام بأعمال هدامة من هذا النوع”؟

يطالب الجانب التركي السويد بمراجعة قوانين الإرهاب وتغيير أسلوب التساهل مع مجموعات تعتبرها أنقرة إرهابية مثل عناصر للكيان الموازي المحسوب على فتح الله غولن وكوادر لحزب العمال الكردستاني الموجودة عندها. وتدعو تركيا السويد للتشدد حيال نشاطات من يتحرك تحت غطاء حرية الرأي والتعبير في استهداف المصالح والمؤسسات التركية هناك. ثم تتعهد ستوكهولم أن تكون أكثر دقة وانفتاحا حيال ما تقوله وتريده أنقرة، لكن ما جرى قبل أيام قد يكون بمنزلة الضربة الموجعة لملف عضوية السويد في الناتو، وقبل أقل من أسبوعين على القمة الأطلسية المرتقبة في ليتوانيا.

ردة الفعل التركية وكما هي أيضا في العالم الإسلامي مرتبطة بإضرام النار بنسخة من المصحف الشريف بضوء أخضر من القضاء السويدي، وبحماية الشرطة ورجال الأمن، وفي أول أيام عيد الأضحى المبارك، وفي وضح النهار أمام العشرات من العدسات وأعين أبناء الجالية الإسلامية في السويد. فهل هناك عمل استفزاز وتحد تقوم به السويد أكثر من ذلك وهي على طريق قبولها من قبل تركيا الشريك المسلم في أحد أهم وأقوى التحالفات العسكرية في العالم؟

وقعت السويد في حزيران العام المنصرم مذكرة تفاهم مع تركيا تحاول العواصم الغربية أن تكون الضامن بتنفيذ بنودها أمام أنقرة. وحضر الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ من أجل ذلك إلى تركيا في مطلع الشهر المنصرم، محاولا إزالة رواسب ما جرى في كانون الثاني المنصرم بعدما أدى إحراق نسخة من القرآن أمام السفارة التركية، إلى خروج تظاهرات استمرت أسابيع رافقتها دعوات للتصعيد ضد السويد ولمقاطعة منتجاتها. يدعو ستولتنبرغ تركيا لفتح صفحة جديدة بعيدا عما تردده القيادات التركية حول عدم تنفيذ التعهدات المقدمة على هامش قمة مدريد، وما وقع من “ممارسات صادمة” لا يمكن قبولها بحسب الأتراك وقبل قمة الحلف المرتقبة في فيلنيوس في 11 تموز الحالي. لكن السويد وبدلاً من التعامل بجدية مع المطالب التركية على طريق تسريع عضويتها في الحلف، تتجاهل رفع علم حزب العمال الكردستاني على مقر البرلمان السويدي قبل أسابيع، ومسألة عدم مشاركة وزير الخارجية التركي في قمة أوسلو الأخيرة احتجاجا على مواقفها. وهي اليوم وبدلا من ذلك، تفتح الطريق تحت غطاء “حرية التعبير” لنسف كل ما تم إنجازه على خط أنقرة – ستوكهولم في الأشهر الأخيرة.

كان الحديث يدور حول تزايد الضغوط الغربية والأميركية تحديدا على القيادات التركية لدفعها نحو تليين مواقفها قبل قمة الناتو وفتح الطريق أمام عضوية السويد، وكان هناك زيارة الأمين العام لحلف الأطلسي لتركيا في مطلع حزيران المنصرم، ثم المحادثات التركية السويدية المكثفة، والتحضير لقمة ثنائية في السادس من شهر تموز الحالي تسبق قمة فيلنوس. لكن ما جرى أمام المسجد المركزي في ستوكهولم قد يعرقل الأمور ويعيد البلدين إلى خط البداية من جديد كما يبدو.

حادثة إضرام النار في نسخة القرآن الكريم قبل أيام ستعقد العلاقات التركية السويدية أكثر فأكثر وستحول دون وقوع المفاجأة التي تراهن عليها العديد من العواصم الغربية في قمة الحلف في ليتوانيا. أنقرة ستخيب آمال بعضهم لأكثر من سبب يتقدمه التعامل مع ردة الفعل القائمة في العالم الإسلامي حيال ما جرى في ستوكهولم وصعوبة الذهاب في الاتجاه المعاكس.

صحيح أن موسكو جاهزة لتوتير العلاقات التركية الأطلسية وهي لها مصلحة كبيرة في ما جرى قبل أيام وقد تكون إحدى أجهزة الاستخبارات الإقليمية قدمت لها خدمة من هذا النوع. لكن ردة فعل بوتين ومسارعته لإعلان تضامنه مع العالم الإسلامي والتنديد بالحادثة، سيكون مفعولها أكبر وأقوى من ردة فعل بعض العواصم الغربية وواشنطن تحديدا لدى العالم الإسلامي. وإنَّ رمي الكرة في ملعب نظرية المؤامرة لا يكفي حتما لنتهم أجهزة استخبارات خارجية بالتحريض وافتعال الحادثة فهناك قرار محكمة الاستئناف السويدية وتحرك أجهزة الشرطة لتوفير الحماية لموميكا من أجل الوصول إلى ما يريد.

لقد فقدت ستوكهولم فرصة الاستقواء بأميركا وستولتنبرغ بعد ما حدث. وأسوأ الاحتمالات هو القول إنه عمل سويدي متعمد لقطع الطريق على عضويتها في الناتو بعدما شعرت أن أنقرة ستواصل تصلبها ولن تمنحها ما تريد في قمة ليتوانيا؟

تلفزيون سوريا

————————–

====================

تحديث 16 حزيران 2023

—————————

الملفّ السوري في العلاقات التركية الخليجية/ مهنا الحبيل

سؤال مهم: هل علاقة الدول الخليجية بتركيا متساوية؟ الجواب كلا، غير أن هناك تقاربا كبيرا ومركزيا في علاقات الدولة التركية في النسخة الجديدة من حزب العدالة والتنمية التي خرجت من فكرة التحالف مع الشعوب العربية، في موسم الربيع العربي، والعودة إلى البراغماتية الواسعة التي لا حدود لها، في ثنائية الإنقاذ الاقتصادي بكل مساحةٍ ممكنة، ودائرة واسعة تشمل طهران وتل أبيب والمحيط الرسمي العربي بقضّه وقضيضه، ولذلك تأتي مبادرة رئيس الإمارات محمد بن زايد بأن يكون أول من اتصل لتهنئة أردوغان بفوزه بالرئاسة ضمن هذا السياق.

يُطرح هنا موقف حكومات الدول العربية من بقاء شخصياتٍ إسلامية في تركيا لغرضٍ إنساني، أو مباشرة متابعتهم واقع دولهم وصراعها السياسي من خلال ما تمثله إسطنبول بالذات من حراك شعبي وحضور عربي، يتواصل وجدانياً، وبات اليوم في قرار الدولة التركية منحصراً في الاستمرار المشروط، في حدود المعيشة الإنسانية والاستثمار الإيجابي لصالح الاقتصاد التركي، والذي يتعرّض أيضاً لحالات مراجعة، من الأمن والهجرة التركية، بحسب وضع المفاوضات الدورية بين أنقرة والعواصم ذات العلاقة. ولا يترتب على هذا الموقف أي غطاء سياسي من الدولة التركية في حال تعرّض واحد من هذه الشخصيات خارج تركيا لاعتقالٍ تعسّفي، أو مطاردة غير عادلة ورُحل إلى النظام السياسي الذي يتعقبه، أما داخل تركيا فإن بقاءه مشروطٌ بوقف أي نشاط سياسي من داخل حدود تركيا.

حرّرنا هذا الملف لكونه يُطرح في سياق توتر العلاقات بين أنقرة ودول عربية وبالخصوص الخليجية، وقد أضحى اليوم تحت المعالجة المشتركة، باستثناء النظام الإرهابي في دمشق الذي يرفض الاتفاق المشترك مع تركيا تحت مظلة موسكو وطهران، ولكن أنقرة تواصل تسوية ملف اللاجئين والارتدادات التي عاشتها منذ الثورة السورية، فالملفّ، في كل الأحوال، رهن التصفية دولياً وعربياً وإقليمياً، وحين تكتمل مقاربات الحل، يُرتّب الانسحاب التركي من الشمال السوري، بعد ضمان ما يهم تركيا، وهو حصار أي مساحة ممكنة لإقليم كردي فيدرالي، ذي استقلال ثقافي داخل الحدود السورية.

ورغم أن ملف الحدود يخصّ الدولة التركية، وأزمتها مع اللاجئين العرب، والتي انفجرت فيه الروح القومية العنصرية، أو اليمينية المنحازة في أعلى مستوياتها منذ قيام حركة الآباء المؤسسين للقومية التركية الحديثة في عهد الدولة العثمانية، إلا أنهُ مشتبكٌ بعلاقات أنقرة وبعض الدول الخليجية، فالرياض اتّخذت مساراً منفصلاً عن المعالجة التركية، عبر تأهيل النظام في دمشق وإشراكه عربياً، وعودة النظام إلى بسط سيطرته ليست مشكلة لدى أنقرة. فهي تسعى، في نهاية الأمر، إلى تطبيق هذا البند من ملف سوتشي حتى تخفّف مسؤوليتها عن مناطق اللاجئين، وضمان ترحيل أكبر عدد ممكن منهم، وهو مشروعٌ لم يكن مرتبطاً بالدعاية الانتخابية، ولكن جرى العمل عليه وتنفيذه عملياً قبل الانتخابات، وأعلن الرئيس أردوغان أنه سيصل إلى مليون إنسان في مرحلته الأولى في الشمال السوري. في حين يطرح مشروع جامعة الدول العربية الذي قادته الرياض تأهيل النظام أولاً، أي تمكينه سياسياً وجغرافياً. والغريب أن نظام الأسد ليس حريصاً لا على هذا المسار ولا ذاك، فهو زاهدٌ في عودة اللاجئين، ولا يرغب في الدخول إلى مساحة ضغط وتحمّل مسؤولية، فهو يفشل اجتماعياً واقتصادياً في تأمين أقلّ ما يمكن من احتياجات الإنسان السوري. وفي الوقت نفسه، كانت تجربة النظام مع ترحيل أزماته ما بعد الثورة لصالحه، وخصوصاً أن الثورة بعدما تبعثر ميدانها العسكري، وارتدّ على الأهالي والناس، وخضع لمصالح الجيوبولتيك الإقليمي، فإن المدار اكتمل أيضاً على الهياكل السياسية، وهي بقية هياكل لا يُبالي بها النظام في ظل عودته العربية، ودعمه الدولي المزدوج، فضلاً عن حلفه التاريخي الأيديولوجي مع ايران. وهو هنا أمرٌ مهم للملف الخليجي، وخصوصاً السعودية، في اعتقادها الخاطئ بأن الضخّ في اقتصاد النظام سوف يُحقق لها مساحة اختراقٍ عربية، فتحالف الأسد وطهران وبنيته العقائدية الطائفية، وحتى حبل موسكو معهما، أقوى بمراحل من رهان الرياض.

سيبقى هنا تدخّل المركز الغربي، وخصوصا الأميركي، في جمع المسارين التركي والسعودي لصالح تسويةٍ تضمن بقاء مساحة مستقلة لنفوذها وحضورها، مقابل القطب الروسي الصيني المشترك، الذي بات حاضراً في الهلال الخصيب، وفي دفء العلاقات السعودية الروسية الجديدة، ورغم الخلاف بين الرياض وواشنطن في سلة الإنتاج، وفي ملفاتٍ لوجستية أخرى، إلا أن واشنطن لا تزال الحليف التاريخي، كما أن الرياض تريد في رسائل الاقتراب من موسكو تعديل موقف واشنطن لصالحها بعد الفتور والتوتر اللذين سبقا تصفية ملف الشهيد جمال خاشقجي، وغادره الجميع في تركيا والغرب.

وهذه المساحة في تسوية الملف عبر التدخل الأميركي تعبر في مضيقٍ صعب لسيطرة الروس على ميدان سورية، وإن نجح إشغال الغرب لهم في حرب أوكرانيا، وبالتالي، جمع واشنطن قبل انصراف بايدن من فترته الأولى، لحليفيها أنقرة والرياض، ممكن نظرياً وحتى سياسياً، لكنه يحتاج إلى قبول عام من موسكو، نحو خروجٍ آمن لما تبقى من سورية، وبالذات شعب الثورة. فهل ستنجح هذه المهمة رغم الشكوك الطبيعية، في سقف واشنطن الذي غدر بالسوريين، في اتفاق أوباما/ بوتين، وكم هو مؤلم أن يكون المشهد الأخير لملف الثورة السورية تائهاً بين هذه الخطوط.

وباستثناء الصوت العاطفي، ومبادئ الثورة الباقية في وجدان الشباب، لم يعد للثورة أي مقعد لا في مفاوضات سلام ولا مدافعة ميدان، وتحوّلت إلى بطاقة هزيلة تتقاذفها الأطراف، وإنما المدار الإنساني هنا هو أمل النجاح لمخرج غوثٍ للمعذّبين في الأرض، ثم العودة، بعد الدرس المروّع، إلى قصة الطريق الأخير للحرية السورية، وكيف تُحمى إرادة النضال قبل اقتحام المسرح وانهياره.

العربي الجديد

—————————-

الأمة المأزومة والمخلص/ سليمان الطعان

انتهت الانتخابات التركية في الثامن والعشرين من أيار الماضي، وهي مدة كافية كي يتوقف المرء ليستخلص منها بعض المؤشرات والعبر، بعيدا عن ضغط الحدث اليومي وسيل الأخبار المتدفق والأجواء المتوترة التي رافقتها. وما يهمنا هنا هو حالتنا العربية في المقام الأول.

كان لافتا للنظر مدى الاهتمام الدولي والعربي بالانتخابات التركية الأخيرة، وهو اهتمام ينبغي أن نفرق فيه بين اهتمام رسمي غربي، واهتمام شعبي عربي (أو شرق أوسطي)، فالتغطية الإعلامية في العالم الغربي عكست إلى حد كبير اهتمام النخبة الغربية بالحدث التركي وتأثيراته في مسار السياسة التركية في السنوات الخمس المقبلة. وكان من الجلي أن هذه التغطية تكشف رغبة الحكومات الغربية في نجاح المعارضة التركية في الوصول إلى السلطة. وعلى النقيض من هذه الرؤية، فلم يكن خافيا التعاطف الشعبي العربي مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وهو ما برز في الارتياح الذي ظهر في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي خروج مظاهرات في أكثر من مكان في العالم العربي بعد إعلان فوز الرئيس التركي في الجولة الثانية من الانتخابات.

تجدر بنا قراءة هذا الاهتمام بطريقة لا تقف عند تكرار مقولة: “إن هذا الاهتمام يعكس تحول تركيا إلى قوة إقليمية”، فهذه القراءة تقف عن سطح الحدث فقط، ولا تكشف عن الأسباب العميقة وانعكاساتها علينا نحن العرب.

يعود هذا الاهتمام والتعاطف الشعبي مع الرئيس التركي إلى عوامل عديدة، أبرزها ما يمكن أن نطلق عليه المعادل الموضوعي لغياب الديمقراطية في العالم العربي، واللجوء إلى تعويض هذا الغياب عبر النموذج التركي الذي يقدم نفسه على أنه قادر على مواجهة القول السائد عن عدم صلاحية المجتمعات الإسلامية للديمقراطية.

ولكن النقطة التي يجب الوقوف عندها هنا أن هذا الاهتمام بحدث خارجي، والتفاعل معه عبر التغريدات والمنشورات في تويتر وفيسبوك، يرينا المدى الذي يمكن أن يؤثر سلبا هذا “التنفيس الديمقراطي” في الواقع السياسي العربي، ذلك أن هذا الجهد يجد صداه في الواقع الافتراضي ولا يتعداه إلى الواقع الحياتي. والمقصود هنا أن الفضاء الافتراضي تحول إلى عالم يجري فيه الجدل والنقاش والحوار، ولكن كل هذا النشاط يبقى حبيس هذا الفضاء المعزول، فمساحة الحرية التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت متنفسا يعبر فيها الناس عن غياب الديمقراطية في واقعهم، بحيث يمكن تشبيهها بالحدائق التي يجد فيها سكان المدن المكتظة القليل من الهواء النقي قبل أن يعودوا مجددا إلى استنشاق الهواء الملوث. وهو ما أظن أن الأنظمة العربية سعيدة به، لأنه أزاح عن كاهلها العبء الذي كان من الممكن أن يجد فيه هذا الحشد مساراته على أرض الواقع.

ليس مرد هذا الاهتمام الواسع بالانتخابات التركية الإيمان بالديمقراطية والانتخابات وحدهما بمقدار ما هو تعلق بفكرة البطل المنقذ أو المخلص، وهي فكرة تتجلى في المخيال الجمعي دائما، وتعثر دائما على المسالك التي تنفذ منها إلى الشأن العام.

ولا تنحصر فكرة المخلص أو المهدي المنتظر بالمجال الديني، فهذه الفكرة الدينية، التي تقول إن منقذا ما سيأتي في آخر الزمان لينصر الحق بعد طول تقهقر وهزائم، وجدت الطريق إلى عالم السياسة، لأن ترابط الحقول الإنسانية وتشابكها يسمح بنوع من ارتحال الأفكار بين المجالات المتعددة. وكان المخلص يتلون بالألوان الإيديولوجية لكل مرحلة سياسية، فقد كان في الخمسينيات قوميا عربيا تقمص شخصية عبد الناصر الذي وقف، وياللمفارقة، في مواجهة مع عدنان مندريس الذي جاء إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، ثم تشظى هذا المخلص بحسب تشظي الاتجاهات السياسية بعد انهيار المشروع القومي، فظل عند بعض التيارات قوميا عربيا لبس البدلة العسكرية لصدام حسين في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ثم انزاح قليلا عن خطاب القومية العربية العلماني، وأطلق لحيته مع اتجاه الخطاب القومي العربي إلى مواقع المحافظة الدينية والاجتماعية، وارتدى هذا المخلص عند بعض التيارات الدينية عباءة أسامة بن لادن مرة، وأيمن الظواهري مرة أخرى، قبل أن ينتهي به المطاف مع صورة أبي بكر البغدادي المشبعة بالتناقضات.

ليس القصد من وراء هذا الكلام إدانة هذا الطرف أو ذاك، مثلما لا يعني أيضا الإيمان بالتفرقة بين عقلية شرقية وأخرى غربية، جريا وراء التقسيمات التي أطلقها منظرو الحركة الاستعمارية، والتي كان القصد من ورائها تسويغ الهيمنة الغربية على العالم الشرقي. غير أن الواقع يقول إن العالم الغربي حيّد الأفراد جانبا، وبنى مؤسسات راسخة لها بنية قانونية واضحة وصلاحيات محددة لا تتأثر كثيرا بمجيء هذا الفرد أو ذاك، فقوة المؤسسة لا تنبع من الفرد حتى لو كان رئيسها، وهذا ما يفسر على سبيل المثال وصول شخص من أصول هندية إلى رئاسة وزراء بريطانيا، واعتلاء ابن مهاجر باكستاني سدة الوزارة في اسكتلندا. ما أعنيه هنا أن المؤسسة تحوّل رئيسها إلى موظف يسير دولاب العمل كما يقولون، بدلا من أن يكون قائدا يدير الدفة في الاتجاه الذي يريده. ولهذا مثلا قد يخطئ الألماني باسم المستشار الحالي، ولعل “ميركل” ما زالت في ذاكرته لطول مكثها في المستشارية، والأمر نفسه يصح على الفرنسي الذي ربما لا يعرف اسم رئيس وزرائه الحالي.

فحوى الكلام السابق أن المؤسسة في بلادنا، سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك، ما زالت تحبو وتتعثر حين تريد أن تنهض، تارة بفعل عوامل داخلية، وتارة بفعل عوامل خارجية، ولكن النتيجة واحدة، وهي أن الفرد في عالمنا العربي والشرقي عموما ينظر إلى الفرد لا المؤسسة، ويثق به أكثر من ثقته بها، ولاسيما أن المؤسسة لدينا ما زالت ضعيفة يمكن أن يطبعها هذا الفرد أو ذاك بميسمه الخاص.

يحب الناس في بلادنا، في ظل توارث الموقع الأول في الدول العربية، أن يروا شخصا قادما من عامة الناس، يرتقي في سلم الحكم صعودا إلى قمته، ويمثل أملهم في أن يكون لهم شخص مثله يصعد من بينهم بأصواتهم هم إلى القصر الجمهوري.

هكذا تمتزج في شخصية الرئيس التركي كل السمات الحالية للمخلص الفرد كما يراها الجمهور العربي: الرئيس البسيط القادم من حواري إسطنبول الشعبية، والإسلامي المعتدل، وصاحب الخطاب المتماهي مع أوجاع الناس. لا ينطبق هذا على العرب وحدهم، فالكثير من الترك الذين صوتوا له ينظرون إليه بالطريقة نفسها.

تلفزيون سوريا

—————————

«أصوات الريف» تشعل معركة جديدة بين إردوغان وكليتشدار أوغلو

الانشقاقات تتوسع في حزب أكشنار… ومصير إمام أوغلو على المحك

تركت الانتخابات البرلمانية والرئاسية تداعيات على الساحة السياسية على الرغم من انتهائها، تتجسد في حالة الاستقطاب والتراشق والتصدعات في صفوف المعارضة على ضوء قراءة النتائج.

وواصل الرئيس رجب طيب إردوغان، هجومه على مرشح المعارضة الخاسر في انتخابات الرئاسة رئيس حزب «الشعب الجمهوري» كمال كليتشدار أوغلو، الذي يتعرض لضغوط داخل حزبه للاستقالة من جانب تيار يسعى للتغيير يقوده رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو. في الوقت ذاته، توسعت الانشقاقات في صفوف حزب «الجيد» بقيادة ميرال أكشنار، وشملت أعضاء مؤسسين للحزب، اعتراضاً على نهجها في إدارته، وعلى عدم القدرة على رسم خريطة طريق واضحة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مايو (أيار) الماضي.

وشنّ إردوغان هجوماً حاداً على كليتشدار أوغلو، بعد تصريحات الأخير التي قال فيها إن إردوغان حصل على غالبية أصواته من المناطق الريفية، وإنه فاز في المدن الكبرى، مرجعاً ذلك إلى عدم شعور سكان هذه المناطق وكذلك مناطق الزلزال بالأزمة الاقتصادية بسبب الإعانات والمساعدات المقدمة من الحكومة.

وقال إردوغان، في كلمة خلال فعالية بمركز أتاتورك الثقافي في إسطنبول، ليل الأحد – الاثنين: «لن يجرؤ أحد على إهانة أبناء هذه الأمة بعد الآن، ولن يتمكن (كليتشدار أوغلو) من إهانة شعب الأناضول أو توجيه التهديدات، ماذا يقول؟ ألم يقل مؤسس حزبكم مصطفى كمال أتاتورك، إن الفلاح هو سيد هذه الأمة؟… بدلاً من احترام الإرادة التي خرجت من صناديق الاقتراع، لا يزال يقول إنهم يبيعون أصواتهم مقابل 500 ليرة، بدلاً من البحث عن أخطائه… شخص خسر 12 استحقاقاً انتخابياً في السنوات الـ13 الماضية ويلوم الناخبين… لم يعد لوم الناخب مسألة سياسية، بل مسألة نفسية. هذا الشخص الآن يعيش هذه الحالة النفسية، شعرت أمتنا بذلك وفعلت ما هو ضروري. أنا أتحدث بوضوح شديد ودقة. طالما أن حزب الشعب الجمهوري يمارس السياسة بهذه الطريقة، فإنه لا يستطيع رؤية وجه القوة في هذا البلد».

أضاف إردوغان: «نأمل بصدق أن تجدد المعارضة في بلادنا نفسها وتتأقلم مع رؤيتنا الجديدة (قرن تركيا)، وأن تدعمنا في الأعمال التي تخدم مصلحة الوطن والأمة، وتمهيد الطريق بالنقد البناء عند الضرورة. سنكرس وقتنا وطاقتنا للاحتفال بمرور 100 عام على جمهوريتنا. لا نريد أن نقضيها مع سياسيين جهلاء يكررون الشيء نفسه مثل الأسطوانة المشروخة».

كان كليتشدار أوغلو، قال في مقابلة تلفزيونية في أول ظهور له بعد الانتخابات منذ أيام، إن نسبة التصويت له في المدن بلغت 51 في المائة، و«هذا يخبرنا بأن حزب الشعب الجمهوري لم يتمكن من ممارسة التأثير اللازم في المناطق الريفية، وشرح أنفسنا بما فيه الكفاية… غالبية الناس هناك يشاهدون قناة (تي آر تي) (التلفزيون الرسمي) فقط، تعرفون ما هي (تي آر تي)، لقد بحثنا أيضاً في ما يلي؛ أتساءل لماذا لم يتأثر سكان الريف بالدمار الاقتصادي في البلاد، الأمر بسيط جداً، فعندما تدفع 500 ليرة شهرياً، لا يوجد مكان للصرف. على أي حال، أين ستنفق الأموال في القرية، مناطق الزلزال أيضاً، هناك أموال توزع… لا أوافق أبداً على من يعتبرون أننا واجهنا هزيمة ثقيلة، ولا أجد أنه من المناسب لك أيضاً قبولها. صحيح أننا لم ننتصر، لكن لن يكون من الممكن وضع ذلك أمام الجمهور باعتباره هزيمة ثقيلة».

ويواجه كليتشدار أوغلو ضغوطاً للاستقالة بعد خسارة الانتخابات الرئاسية، لا سيما من جانب «تيار التغيير» الذي يتزعمه رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو.

واعترض كليتشدار أوغلو على ترك إمام أوغلو موقعه رئيساً لبلدية إسطنبول، مشدداً على أن الحزب لا يمكن أن يترك البلدية لحزب آخر. وبشأن ترشحه مجدداً لرئاسة الحزب، قال: «لم أقل قط أنا مرشح حتى الآن، الهيئات المخولة بالحزب هي التي ستقرر، هذه ليست حفلة لشخص واحد، يمكن لأي شخص أن يأتي ويترشح للرئاسة، هذا الحزب لديه الفطرة السليمة. لم أقل لأي مندوب في حياتي أبداً تعال وصوّت لي، لقد اتخذت قرار عقد المؤتمر، وسيعمل المرشحون. أنا أمد يد المساعدة، لما لا؟».

في الوقت ذاته، أعلن رئيس حزب «التغيير»، الذي فاز بمقعد بالبرلمان عن مدينة أرزينجان (شرق تركيا) في الانتخابات الأخيرة، مصطفى صاري غول، بعد ترشحه عن حزب «الشعب الجمهوري»، أن حزبه سيعلن في 23 يونيو (حزيران) الحالي الاندماج في حزب «الشعب الجمهوري».

وكان صاري غول انشق من قبل عن «الشعب الجمهوري»، وأسس حزب «التغيير» قبل أن يعلن دعمه لكليتشدار أوغلو في انتخابات الرئاسة ويترشح على قائمة الحزب بالانتخابات البرلمانية.

وقرأ مراقبون خطوة الاندماج على أنها تحضير لصاري غول لخوض الانتخابات المحلية على رئاسة بلدية إسطنبول، في حال وصول الخلاف بين كليتشدار أوغلو وإمام أوغلو إلى طريق مسدود، أو إعلان الأخير انشقاقه عن الحزب.

في الوقت ذاته، تواصلت الانشقاقات في حزب «الجيد» برئاسة ميرال أكشينار. وأعلن العضو المؤسس للحزب، آحاد أنديجان، استقالته بسبب عدم الانسجام مع قيادة الحزب.

كما وجه انتقادات إلى إردوغان، في بيان على مواقع التواصل الاجتماعي، قائلاً: «هذه العقلية التي لا تتردد في استخدام كل مؤسسات وموارد الدولة للحصول على الأصوات، وتوظف الدين، وتبيع الجنسية وتجلب أعداء الجمهورية إلى البرلمان، عبر خداع الجمهور بشعارات كاذبة وفيديوهات مفبركة فازت بالانتخابات، ولو بهامش ضئيل، ويحافظ على سلطته، لذلك يجب أن يستمر النضال… من الآن فصاعداً أنضم إلى صفوف المعارضة (غير الحزبية)، كمواطن بسيط، سأستمر في محاربة تلك العقلية بكل الوسائل المتاحة».

وسبقت استقالة أنديجان استقالة نائب إزمير السابق كبير مستشاري رئيس الحزب آيتون تشراي، ونائب إسطنبول السابق ياووز أغيرالي أوغل

الشرق الأوسط

—————————–

عن صعود اليمين القومي المتطرّف في تركيا/ عمر كوش

أظهرت الانتخابات العامة التركية، التي أجريت في الشهر الماضي (مايو/ أيار)، صعود قوى وأحزاب اليمين القومي المتطرّف، الكاره للأجانب، وخصوصا اللاجئين السوريين، حيث حصل مرشّحها الرئاسي الخاسر سنان أوغان على 5.17% من أصوات الناخبين الأتراك، لكن كتلتها التصويتية الحقيقية لا تنحصر في هذه النسبة فقط، بل في الأصوات التي ذهبت إلى الحزبين اليمينيين القوميين الآخرين، حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهجلي، الذي حصل على نسبة 10% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية (50 مقعداً)، والحزب الجيد بزعامة ميرال أكشنر، الذي حصل على 9.6% من الأصوات (43 مقعداً)، فضلاً عن أصوات أخرى توزّعت على الأحزاب الأخرى التي تضم قوى يمينيةً وقوميةً في تركيبتها. وربما بعملية حسابية بسيطة يمكن القول إن نسبة أصوات اليمين القومي التركي تتخطى 25%.

قد يكون الأمر، في جانب منه، مرتبطا بصعود قوى اليمين القومي المتطرّف في أنحاء عديدة من العالم، وذلك مع صعود موجات كره الآخر، التي تُحمّله وزر جميع الأزمات التي تعصف في دول عديدة، لكن مسألة اللاجئين السوريين في تركيا، تحت ضغط قوى اليمين، تحوّلت إلى الورقة الأقوى في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ومثلت القضية الوحيدة المهمّة في البازار السياسي، الذي فتحه كلا المرشّحين، الرئيس رجب طيب أردوغان وكمال كلجدار أغلو، مع المرشّح الذي خسر السباق الانتخابي في جولته الأولى سنان أوغان، ومعه أوميت أوزداع زعيم حزب الظفر اليميني القومي العنصري، وذلك لكسب أصوات اليمين المتطرّف.

أرادت القوى والأحزاب السياسية التركية، وعن قصد مسبق ودراية، تحميل السوريين، الذين هربوا من جحيم استبداد نظام بشّار الأسد، مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا منذ سنواتٍ عديدة، وما تفرّع عنها من ازدياد نسب التضخّم، ومن ارتفاع أسعار السلع الغذائية والعقارات والإيجارات، وارتفاع معدّلات البطالة، وانهيار القيمة الشرائية لليرة التركية وسوى ذلك، مع أنهم مثلهم مثل الفقراء الأتراك يعانون الأمرّين في تدبير حياتهم المعيشية، ولم يبنوا المساكن المخالفة للمواصفات، التي انهارت على أثر الزلزاليْن المدمّرين اللذين ضربا الجنوب التركي (ومعه شمالي سورية) في 6 فبراير/ شباط الماضي، وليسوا هم من يعرقل محاولات الإنعاش والتعافي في المناطق المنكوبة.

تخلّى مرشّح المعارضة الخاسر كلجدار أوغلو عن ليبراليته وعلمانيّته، وعن الربيع القادم الذي وعد به، ولجأ إلى تبنّي خطاب اليمين العنصري، القائم على كراهية الأجانب، أملاً منه في جذب أصوات حامليه، من أجل الفوز في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ثم بالغ في تشدّده حيال اللاجئين السوريين، متوعداً بترحيلهم القسري الفوري، كما بالغ في تقدير أعدادهم، زاعماً أنهم يبلغون عشرة ملايين، وأن أردوغان ينوي إدخال “عشرة ملايين” آخرين إلى تركيا، مع التحذير من أن المزيد منهم في الطريق. بالمقابل، حافظ أردوغان على خطاب أخلاقي ومعتدل، لكنه يشير صراحة إلى ترحيل اللاجئين السوريين، وفق خطّةٍ تقوم على “العودة الطوعية” التي جرى ترحيل 600 ألف سوري وفقها، وعلى ترحيل مليون منهم إلى منازل تُبنى لهم في الشمال السوري، إلى جانب التخطيط لإعادة قسم آخر منهم لمناطق سيطرة نظام الأسد عبر بوابة التقارب معه. لكن خطابه الأخلاقي لم يمنعه من عقد تفاهمٍ مع المرشّح القومي اليميني المتطرّف سنان أوغان، الذي ليس لديه سوى التركيز على ترحيل اللاجئين السوريين، وهو الذي يتحدر من عائلة أذرية مهاجرة.

لم ينفع كلجدار أوغلو تعهّده بشنّ حملات تطهير اللاجئين وترحيلهم، كما لم ينفعه تبنّيه خطاباً عنصرياً بشعاً، فظهر بمظهر الانتهازي، الفاقد للنزاهة والمبادئ، لكن الخطير في الأمر أن كلاً من أردوغان وكلجدار أوغلو أقاما تفاهماتٍ مع قوى اليمين القومي المتطرّف ومجموعاته، والأخطر من ذلك أن يحصل سنان أوغان، أو تحالفه، على مناصب حكومية بعد فوز أردوغان بالرئاسة، على الرغم من تأكيد الأخير عدم عقده أي صفقةٍ معه، لكن عالم السياسة حافل بالمقايضات والصفقات، وذلك في ظل الاعتقاد السائد لدى الساسة بأنهم قادرون على تسخير نيران اليمين القومي المتطرّف لمصلحتهم الشخصية والحزبية، قبل أن يقضي لهيبها عليهم في نهاية المطاف.

قد يكون مفهوماً ظهور اليمين القومي المتطرّف في عالم السياسة التركية، لكن هذا الصعود كان قوياً بشكل لافت في السنوات الأخيرة، كونه لا يحمل سوى ورقة كره الأجانب، وذلك بعدما أغرق قادته معظم وسائل الإعلام التركية بالرسائل المعادية للأجانب، وخصوصا اللاجئين السوريين، الأمر الذي وجد استجابة كبيرة في تركيا، وكان له الأثر الأكبر على الشارع التركي، الذي بات يشهد حملات كراهيةٍ متواترة ضدّهم، بالتزامن مع تردّي الأوضاع الاقتصادية المعيشية بسبب السياسات الاقتصادية المتبعة والفاشلة بشكل عام. غير أن المناكفات السياسية بين الأحزاب التركية حول اللاجئين السوريين، في غياب برامج انتخابية حقيقية للأحزاب التركية، ساهمت في تقوية اليمين القومي المتطرّف، كونها كانت محمولةً على حالة الاستقطاب الشديد الذي تعيشه تركيا، لذلك لجأ السياسيون إلى تبنّي خطاب يميني قومي شعبوي، جرى توظيفه من أجل تحقيق مكاسب سياسية، عبر تحويل اللاجئين السوريين إلى مادّة للدعاية الانتخابية وللمناكفات السياسية، ووجد صداه في تصاعد موجات الخطاب العنصري المعادية لهم، وذلك في ظل عدم وجود وضع قانوني يحميهم، ويؤمّن لهم الاستقرار والتكيف مع محيطهم التركي.

يضاف إلى ما سبق البعد الثقافي المشحون بالتاريخ، حيث سادت في الثقافة السياسية التركية نزعات تقوّي التعصب القومي المتطرّف حيال الأجنبي، الشرقي على وجه الخصوص، مقابل مركّب نقص حيال الأجنبي الأوروبي، أو الغربي بشكل عام، وانعكس ذلك في الثقافة التركية، وتلقّفتها أغلب وسائل الإعلام التركية، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت مسألة وجود اللاجئين مادتها الأولى، تناغماً مع تحوّلها إلى الموضوع البارز في خطابات وحملات معظم قادة أحزاب اليمين القومي المتطرّف، الذين أصرّوا على تجريدها من جانبها الإنساني، وإقحامها في المعترك السياسي، وبات شغلهم الشاغل ترحيل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وذلك بعدما حمّلوهم مسؤولية أزمات تركيا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل ووصفهم بعض قادتها المتشددين بالمتسوّلين، والطفيليين، والهاربين من بلادهم، وفاقدي الشرف.

العربي الجديد

———————–

ذي هيل: أمريكا لا يمكنها التخلي عن تركيا.. وعليها تجنب إغضاب رئيسها وشكره على عدم تغيير سياسته

إبراهيم درويش

نشر موقع “ذي هيل” مقال رأي لدونالد كيرك الصحافي الذي غطى قضايا الشرق الأوسط منذ ستين عاما ويتابع الشؤون الكورية الجنوبية حاليا، قال فيه إن الولايات المتحدة لا يمكنها إدارة ظهرها لتركيا.

 وقال فيه إن إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات، ترسل تحذيرا واضحا للولايات المتحدة والناتو: كونوا حذرين في التعامل مع تركيا التي تتحرك بين الصداقة مع روسيا والدعم العالي لأوكرانيا في حربها مع روسيا.

وعلق أن انتصار أردوغان كان ضيقا بنسبة 52% مقارنة مع 48% لمنافسه كمال قليجدار أوغلو، ومن المتوقع أن يبني أردوغان سمعته كرجل قوي وفي الوقت نفسه خط طريقا محايدا بين روسيا والغرب. ففي ظل حماسته المنقطعة النظير لبناء تركيا كقوة وجسر بين الشرق والغرب والشرق الأوسط، فمن المخاطرة أن يتوقع منها أن تقدم دعما غير مشروط مطلوبا من الدول الحليفة في الناتو. وعلى الأمريكيين التعامل مع أردوغان برفق، وعدم إغضابه من خلال النقد الكثير لميوله الديكتاتورية وإظهار احترام لرغبته في اتباع الخط الوسط في دوامة من التيارات السياسية والدبلوماسية والعسكرية.

وقال الكاتب إن علاقة الأمريكيين مع تركيا معقدة جدا بوجود حوالي 5.000 جندي أمريكي وطائرات أمريكية و50 قنبلة نووية في القواعد العسكرية التركية. ويعود الاتفاق عندما كانت تركيا عضوا متحمسا بالناتو ولكنها في مركز المصاعب بين تركيا والولايات المتحدة. وتتراوح المشاكل من دعم واشنطن للمقاتلين الأكراد الذين يريدون دولة مستقلة في أجزاء من تركيا وسوريا إلى إصرار تركيا على شراء النظام الصاروخي أس- 400 الروسي والحصول على مقاتلات أف-16 من أمريكا. وأصبح أردوغان لاعبا محترفا في لعبة عدم الانحياز بين واشنطن وموسكو، وهو يلعب ورقة العلاقة مع فلاديمير بوتين والحفاظ على علاقة ودية مع الرئيس جو بايدن.

 وكان بوتين وبايدن حذرين في تهنئة أردوغان على انتصاره في وقت يتسم فيه أردوغان بالحذر عندما يتعلق الأمر بالناتو والخروج منه. والآن وقد أمن أردوغان خمس سنوات فمن المتوقع أن يصادق على انضمام السويد للناتو بعدما رفض نتيجة للسياسة السويدية المتساهلة مع الأكراد الذين يعتبرهم إرهابيين.

وتقع تركيا في موقع جغرافي مهم، فهي تحرس مدخل البحر الأسود وتسيطر على السفن التي تعبر إلى الموانئ الأوكرانية بما فيها شبه جزيرة القرم التي يحتلها الروس، ومن الحماقة ألا تحترم أي دولة في الناتو رغبة أردوغان في اللعب على الحبلين. ويجب على دول الناتو أن تكون ممتنة للجهود التي قامت بها تركيا في استئناف تصدير القمح الأوكراني الذي نفع اقتصاد عدد من دول العالم. وعليها ألا تنسى أن تركيا صدرت المسيرات والعربات المصفحة إلى أوكرانيا في الوقت الذي كانت تستورد فيه المنتجات الغذائية الروسية والسلع الأخرى مثل الفولاذ والحديد والذي تحتاجه روسيا لدعم اقتصادها المهتز.

ولن تكون تركيا صوتا متحمسا للسياسة الأمريكية بالمنطقة في وقت تتصادم فيه الولايات المتحدة مع إيران. ويقوم أردوغان بإعادة السياسة التركية إلى جذورها بالحصول على الدعم الإسلامي ومواجهة تاريخ تركيا الطويل في المجال الديمقراطي. وفي الوقت الذي انتقد فيه إسرائيل لمعاملتها الفلسطينيين فإنه أعاد العلاقات مع إسرائيل.

وكما في تعامله مع الناتو وواشنطن، يؤمن أردوغان بالتحركات المحسوبة التي تعطي تركيا ورقة مقايضة جيدة. كل هذا يضع أمريكا في وضع غير مريح، فقد كتب ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي أن واشنطن ليست متأكدة من قدرتها على استخدام قاعدة أنجرليك والدفاع عن مصالح الناتو. وقال “لأن السياسة الخارجية لأردوغان مرتبطة بإملاءات السياسة المحلية” فإن “استخدام القاعدة لخدمة المصالح الأمريكية لم يعد مضمونا. ويجب على الساسة الأمريكيين عدم السماح لأنفسهم الدخول في وضع يترك المصالح الأمريكية بيد المصالح المتغيرة للساسة الأتراك”.

وكان نقد كوك قاسيا: “فعلى خلاف الفترات الماضية، لم تعد واشنطن وأنقرة تشتركان بالتهديدات أو المصالح التي تجمعهما معا” و”أكثر من هذا فتوطيد أردوغان سلطته والقمع المرتبط به للصحافيين والأكاديميين ومنظمات المجتمع المدني والأقليات” هو ضد مفهوم الديمقراطية التي كرس الناتو نفسه لحمايتها. وقال إن واشنطن عليها ألا تتخلى بأي حال عن وحدات حماية الشعب الكردية أو واي بي جي والتي “أثبتت أنها قوة فاعلة في قتال تنظيم الدولة وتحقيق الاستقرار لشمال- شرق سوريا”.

ويعلق الكاتب أن الحرب الأوكرانية جعلت من الصعوبة على أمريكا تغيير توجهها من تركيا. والآن وقد تأكد بقاء أردوغان في السلطة فمن غير المناسب أن تقوم واشنطن بإغضاب حليف. وهناك إمكانية لبقاء تركيا وأمريكا حليفين وإن بطريقة مصطنعة، في وقت تلعب فيه تركيا كحاجز بين روسيا وأوكرانيا بل وبين الغرب وقوى متنوعة في الشرق الأوسط.

وبالنسبة لكوريا الجنوبية، فالتداعيات واضحة، وعلى الرئيس يون سوك- يول الداعم المتردد لأوكرانيا عسكريا تفهم موقف أردوغان المتردد نوعا ما. ففي الوقت الذي تستورد فيه كوريا الجنوبية كميات كبيرة من النفط من الشرق الأوسط، فلا داعي لانتقاد أردوغان بسبب انتظاره ومحافظته على العلاقات مع أطراف النزاع.

وربما شعر الأمريكيون بالخيبة لانتصار أردوغان في ولاية أخرى، ولكن عليهم الامتنان من أن تركيا لم تغير موقفها بشكل جذري. وطالما لم تطالب تركيا القوات الأمريكية بالمغادرة، فستتركهم أمريكا في مكانهم على أمل ألا يتغير الوضع الراهن. وحقيقة بقاء القنابل النووية الأمريكية مخزنة في تركيا تأكيد على أهمية العلاقة. ولا يمكن أن تفكر أمريكا في إعطاب العلاقات التركية- الأمريكية في وقت تدافع فيه عن تركيا بالنووي الذي تحتاجه لتذكير الرئيس الروسي بوتين بالمخاطر المتأصلة في الحرب النووية.

——————————-

المعارضة ما بعد الهزيمة: جدل «التغيير» يشتعل/ د. محمد نورالدين

انتهت الانتخابات الرئاسية والنيابية إلى هزيمة المعارضة التركية: أوّلاً، عبر سقوط مرشّحها للرئاسة كمال كيليتشدار أوغلو؛ وثانياً، من خلال مراوحة «حزب الشعب الجمهوري» مكانه، حيث بالكاد حافظ على أصواته (25%)، على رغم تحالفه مع أربعة أحزاب أخرى صغيرة كان يُفترض أن تزيد من أصواته لا أن تأكل من حصّته. وفي المحصّلة، بات لـ«الجمهوري» 130 نائباً في البرلمان، وللأحزاب الأربعة التي ترشّحت على لوائحه 38 نائباً، توزّعوا على الشكل الآتي: «الديموقراطية والتقدّم» برئاسة علي باباجان (15)؛ «المستقبل» برئاسة أحمد داوود أوغلو (10)؛ «السعادة» برئاسة تيميل قره مللا أوغلو (10)؛ و«الديموقراطي» برئاسة غولتيكين أويصال (3). وأراد «الشعب الجمهوري» من وراء ترشيح هذه الأحزاب على لوائحه، منْحها حيثية برلمانية من جهة، وضمان تأييدها له ولمرشّحه للرئاسة من جهة ثانية. غير أن النسبة التي نالها الحزب ظلّت على الحال الذي كانت عليه في عام 2018، ما قد يعني أن جزءاً من قاعدته الناخبة لم توافق على صيغة التحالف مع الأحزاب الأربعة (كلّها محافظة)، ولم تذهب تالياً للتصويت، أو أن تلك الأحزاب لم تقدّم أيّ إضافة لـ«الجمهوري».

هذا الواقع كان يمكن تجاوزه لو أن كيليتشدار أوغلو فاز بالرئاسة. لكن، وبما أن ذلك لم يحدث، فقد بدأت تَخرج إلى العلن أصوات من داخل «الشعب الجمهوري» تطالبه بمراجعة داخلية وبتفسير أسباب الفشل، وفق ما دعاه إليه، مثلاً، رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، الذي شدّد على ضرورة التغيير. والجدير التذكير به، هنا، أن عاملَين اثنين حالا دون ترشُّح إمام أوغلو: الأول، فتْح القضاء في الخريف الفائت ملفّاً قضائيّاً ضدّه بتهمة تحقير «اللجنة العليا للانتخابات» عام 2019، ما أدى إلى إزاحة أحد أبرز المنافسين المحتمَلين للرئيس رجب طيب إردوغان؛ والثاني، أن كيليتشدار أوغلو كان معارِضاً لترشيح إمام أوغلو، لأنه أراد أن يترشّح شخصيّاً، وهو ما تحفّظت عليه زعيمة «الحزب الجيد»، مرال آقشينير. وعلى رغم تكاثر المطالبات بـ«التغيير»، يبدو كيليتشدار أوغلو متمسّكاً بموقعه على رأس الحزب، وفق ما يبيّنه إصراره على عدم التنحّي، ما قد يعني مواصلته قيادة «الشعب الجمهوري» لسنوات أخرى، علماً أنه يرأسه منذ عام 2010. وتجلّى هذا الميل، خصوصاً، في إعادة تشكيل اللجنة المركزية للحزب من فريق موالٍ للمرشّح الرئاسي الخاسر، استعداداً للمؤتمر الحزبي العام الذي لم يتحدَّد موعده بعد، وإنْ كان ثمّة إشاعات تقول إنه سيُعقد قبل نهاية العام الجاري. وفي تعليقه على ذلك، قال النائب عن «الشعب الجمهوري»، أنغين ألتاي: «يجب أن نعرف كيف ننسحب»، في تلميح إلى مطالبته باستقالة كيليتشدار أوغلو. وكان ألتاي امتنع عن الترشّح لترؤّس كتلة الحزب الجديدة في البرلمان؛ إذ رأى أن حزبه «يحتاج إلى نقد ذاتي جدّي»، معتبراً أنه «إذا كنّا خسرنا الانتخابات، فيجب على الرفاق أن يتنحّوا جانباً»، متسائلاً: «هل بهذه اللجنة المركزية الجديدة سنذهب إلى انتخابات بلدية؟».

كذلك، انتقد النائب السابق لرئيس الحزب، يلماز آتيش، كيليتشدار أوغلو، قائلاً إن «فاتورة الهزيمة يجب أن يدفعها الرئيس العام»، وإن «الذهاب إلى انتخابات 2024 البلدية مع كيليتشدار أوغلو يعني هزيمة أكبر». وكانت لمراد قره يالتشين، الرئيس السابق لـ«الحزب الاجتماعي الديموقراطي الاشتراكي»، الذي حَلّ نفسه عام 1995 ليندمج في «الشعب الجمهوري»، أيضاً، مواقف لافتة بخصوص التغيير المطلوب؛ إذ عدّ حصول «الشعب الجمهوري» على 25% من الأصوات بمثابة هزيمة، بل «هزيمة كبيرة ولا يمكن الاستمرار هكذا». وقال قره يالتشين إنه يجب انعقاد مؤتمر عام للحزب قبل الوصول إلى الانتخابات البلدية، مضيفاً: «لقد تقدَّم 4 آلاف عضو في الحزب للترشّح إلى الانتخابات النيابية، وهذا غير مقبول»، داعياً «الشعب الجمهوري» إلى أسلوب تنظيمي جديد. وبحسب قره يالتشين، فإن «كيليتشدار أوغلو شكّل ظاهرة، ونَيْله 48% من الأصوات، و25 مليوناً في الانتخابات الرئاسية، مكسب كبير جدّاً. لكن أن ينال الحزب 25% (في البرلمان)، وأن يقول علي باباجان إن حزبه، الديموقراطية والتقدّم، له 4% من هذه الـ25%، فتلك هزيمة للشعب الجمهوري». كما رأى أن هناك ضرورة لـ«إعادة النظر في بنية الحزب والذهاب إلى الناخب بشعارات الحزب الأصلية لا المساومات. وإذا دعونا إلى التغيير، فيجب أن نحدّد تغيير ماذا».

فقدت الليرة التركية حوالى 20% من قيمتها عندما تراجعت أمام الدولار من 20 إلّا نيفاً إلى ما يلامس الـ23.40 ليرة

وفي الاتجاه نفسه، يرى الكاتب مراد يتكين في استمرار النهج الحالي لـ«حزب الشعب الجمهوري»، «تكراراً للأشياء نفسها مع انتظار نتائج مختلفة، وهذا غير منطقي». وإذ يلفت يتكين إلى أنه بعد هزيمة الـ28 من أيار، «ارتفعت أصوات تطالب باستقالة كيليتشدار أوغلو، بينما تباينت الآراء حول المؤتمر العام للحزب بين قائلٍ بانعقاده الخريف المقبل، ومطالبٍ بعقده بعد الانتخابات البلدية التي ستجري في آذار 2024»، فهو يعتقد أن زعيم «الشعب الجمهوري» بات أمام واحد من خيارَين: إمّا التمثّل بما يجري في الديموقراطيات الغربية والاستقالة فوراً، وإمّا استيعاب الصدمة والتحضير لتجاوزها تمهيداً للاستقالة لاحقاً. والظاهر أن كيليتشدار أوغلو اختار الطريق الثاني، فيما ليس واضحاً ما إذا كان هذا الخيار يعكس أزمة مزمنة داخل حزبه، وخصوصاً أنّ الأخير لم يستطع تخطّي عتبة الـ25%. وفي حوار تلفزيوني هو الأوّل معه منذ انتهاء الانتخابات، قال المرشّح الرئاسي الخاسر إن «أكرم إمام أوغلو يمكن أن يكون مرشّحاً طبيعياً لرئاسة الحزب، ولكن أنا أريد أن أحلّ مشكلة رئاسة بلدية إسطنبول، وألّا أعطيها لحزب العدالة والتنمية»، مضيفاً أن «نقطة ضعف المعارضة كانت في المناطق الريفية، والمال الذي وُزّع على الناس وَجد تأثيره في الريف (…) فيما صوّتت كلّ المدن الكبرى لخيار المعارضة». ورأى أيضاً أن انسحاب آقشينير ومن ثمّ عودتها، «ألقيا ظلالاً من الشكّ على الطاولة السداسية»، كما أن «اتّهامنا بالتعامل مع قنديل أسهم في زيادة التأييد لإردوغان».

في المقابل، ومع انتهاء عمر «تحالف الأمّة» انتخابياً، بدا رئيس «حزب المستقبل»، أحمد داوود أوغلو، أكثر مرونة مع حزبه السابق «العدالة والتنمية»؛ إذ أبدى استعداده لدعم الأخير «عندما يقوم بأعمال جيدة»، معتبراً تعيين محمد شيمشيك وزيراً للمالية «إجراءً سليماً»، علماً أن شيمشيك شغل المنصب نفسه في المرحلة التي كان فيها داوود أوغلو وزيراً للخارجية ومن ثمّ رئيساً للوزراء. وتعليقاً على ما جاء على لسان الأخير، علّق النائب عن «الشعب الجمهوري»، مراد أمير، بأنه «لن يتفاجأ إذا تعاون داوود أوغلو مع السلطة».

في هذا الوقت، أثار الارتفاع الصاروخي في سعر الدولار أمام الليرة دهشة المراقبين؛ إذ فقدت الليرة التركية حوالى 20% من قيمتها عندما تراجعت أمام الدولار من 20 إلّا نيفاً إلى ما يلامس الـ23.40 ليرة. وفيما تنعقد الآمال على تعيين شيمشيك وزيراً للمالية، وحفيظة إركان حاكمة للمصرف المركزي، في ظلّ مطالبة السلطة الجمهور بالتحلّي بالصبر ريثما توضع الخطط اللازمة لمكافحة التدهور الاقتصادي، ذكر نديم توركمان، في صحيفة «سوزجي»، أن تركيا أنفقت، في عام 2022 وحتى موعد الانتخابات الرئاسية، حوالى 177 مليار دولار، بينها 30 ملياراً في شهر نيسان الماضي، من أجل منع تدهور سعر الليرة وتثبيتها عند حدود الـ20 ليرة للدولار الواحد، وهو ما أدّى إلى تراجع كبير في احتياطات «المركزي» من العملة الصعبة إلى 60 مليار دولار. وبحسب توركمان، فإن السلطة لم تكتفِ بتبديد العملة الصعبة، بل إن احتياط الذهب تراجع 50 طنّاً، ما يعني أيضاً بيع جزء من الذهب لدعم الليرة والحملة الانتخابية (بلغ مجموع الإنفاق عليها حوالى 250 مليار دولار)، وبالتالي مزيداً من التضخّم والبطالة والضرائب، في حين تطالب التقارير الدولية برفع سعر الفائدة لمنع ذوبان العملة الصعبة واحتياطات المصرف المركزي، وتسود توقّعات بتراجع نسبة النموّ من 2.9% إلى 2.3%

————————

جمهورية أردوغان: السنوات الخمس المقبلة/ باتو كوشكون

على الأرجح ستكون هذه الولاية الأخيرة لأردوغان، لأن تحالفه الانتخابي ليس كبيرًا بالقدر الكافي لإجراء استفتاء دستوري يُفضي إلى تمديد ولايته الرئاسية.

انتُخِب الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان لولاية رئاسية جديدة تمتد لخمس سنوات. فالتحالف المعارِض التركي الذي يتمتّع بالقوّة تاريخيًا، واستطلاعات الرأي المؤيّدة لمرشّح المعارضة، والأوضاع الاقتصادية المتدهورة والنزعات المستمرة للحاكمية السيّئة في عهد أردوغان لم تتمكّن من الإطاحة بالرئيس. في الجوهر، بات فوز أردوغان مؤكَّدًا بعد الجولة الأولى من الانتخابات في 14 أيار/مايو، التي ضمنت بقوّة سيطرة اليمين التركي على مجلس النواب وخرج منها أردوغان وهو بحاجة إلى نحو 300 ألف صوت فقط للفوز بالرئاسة علمًا أن عدد الناخبين الأتراك يفوق 60 مليونًا. في الجولة الثانية في 28 أيار/مايو، فاز أردوغان على خصمه كمال كيليجدار أوغلو بفارق أكثر من مليونَي صوت، فحقّق نصرًا حاسمًا.

في الليلة نفسها، خاطب أردوغان مناصريه من المجمّع الرئاسي في أنقرة، محاطًا بأعضاء ائتلافه الانتخابي. وكان بينهم سنان أوغان الذي انضم أخيرًا إلى الفريق. أوغان هو المرشح الرئاسي الذي حلّ بالمرتبة الثالثة في الجولة الأولى من الانتخابات، وعضوٌ بارز في حزب الحركة القومية التركية وكان قد تعهّد بدعم أردوغان في الجولة الثانية.

شكّل تأييد أوغان لأردوغان دليلًا على أن هذا الأخير عزّز سيطرته على الأكثرية الساحقة من اليمين التركي في إطار ”تحالف الشعب“، وهو عبارة عن ائتلاف من الأحزاب السياسية أتاح استمرارية أجندات أردوغان التشريعية والتنفيذية من دون انقطاع. وقد ضمنَ هذا التحالف الحفاظ على ولاء الناخبين الأكثر استياءً الذين يبدون حذرهم من أردوغان، حتى لو لم يكونوا يقترعون لحزبه، حزب العدالة والتنمية. والحال هو أن عدد الأصوات التي نالها حزب العدالة والتنمية تراجع أكثر من مليونَي صوت مقارنةً بانتخابات 2018، ولكن جرى التعويض عن أكثر من 1.5 مليون صوت من خلال انضمام حزب سياسي إسلامي صغير (حزب الرفاه الجديد) إلى التحالف. وأفاد حزب العدالة والتنمية أيضًا من أداء شريكه الأصغر في الائتلاف، حزب الحركة القومية، الذي نال 10 في المئة من أصوات الناخبين، وهو ضعف العدد الذي كان متوقَّعًا بحسب التقديرات.

استطاع أردوغان، من خلال سيطرته الشديدة على اليمين التركي، الحفاظ على استمرارية حكمه من دون مواجهة أي عوائق حقيقية. وهذا كان عاملًا إضافيًا ساهم في فقدانه الحوافز للتوسّع خارج قاعدته التقليدية. ببساطة، التأييد الذي يحظى به أردوغان لدى الناخبين المحافظين والقوميين كافٍ لتحقيق الفوز، نظرًا إلى ميل المجتمع التركي إلى المحافظة. لقد أرسى أردوغان، من خلال توحيد أصوات اليمين وضم منافسين محتملين إلى تحالفه، مخططًا دائمًا للإمساك بزمام السلطة.

ستكون لهذا الأسلوب الجديد في سياسات التحالف اليميني تداعيات حاسمة في حقبة ما بعد أردوغان أيضًا. على الأرجح أن هذه الولاية ستكون الأخيرة لأردوغان، نظرًا إلى أن تحالفه الانتخابي ليس كبيرًا بالقدر الكافي لإجراء استفتاء دستوري يُفضي إلى تمديد ولايته الرئاسية. وهكذا ستتمحور السياسة التركية في السنوات الخمس المقبلة حول السؤال عن الشخصية التي ستخلف أردوغان. لم يعلن الرئيس بعد عن اسمٍ محدد، وأيّ تكهّنات في هذه المرحلة تبقى مجرد تخمينات.

يتمثّل التحدّي المطروح على أردوغان في تسمية شخصٍ يمكنه الاستمرار في توحيد صفوف اليمين وضمان بقاء النظام الذي أرساه ائتلافه الحاكم من دون المساس به. في الوقت الراهن، لا يزال “الحزب الجيد” القومي المتحالف مع المعارضة القوّة اليمينية الكبيرة الوحيدة المعارِضة لأردوغان. ولكن يبقى الحزب إضافة محتملة إلى ائتلاف أردوغان. وفي ضوء الهزيمة التي لحقت بالمعارضة التركية، بات الاحتمال أكبر بأن ينبثق أي تغيير سياسي أساسي في جمهورية أردوغان من داخل ائتلافه الحاكم الآخذ في التوسّع.

باتو كوشكون محلل للمخاطر السياسية متخصص بالشؤون التركية وزميل أبحاث في معهد صادق. لمتابعته عبر تويتر @BatuCoskunn

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

—————————–

معالم السياسة التركية الخارجية بعد الانتخابات الأخيرة.. الثابت والمتغير/ أحمد الحسن

مقدمة:

شهدت تركيا ما بين 14أيار/مايو 2023  و 28أيار/مايو 2023 أهم انتخابات مرت على تركيا خلال العقود الأخيرة سواء من ناحية اهتمام الداخل التركي ومشاركة الناخبين في الصناديق وفي الاستقطاب ما بين الأحزاب السياسية أو على مستوى اهتمام غير الأتراك بهذه الانتخابات من دول العالم الإسلامي ومحوري الشرق والغرب حيث انعكست نفس الانقسامات الداخلية على المهتمين بالملف التركي من العالم الإسلامي ومحور الشرق والغرب وانعكست هذه الانقسامات الداخلية التركية حتى على غير الناخبين داخل تركيا وخارج تركيا ووصلت إلى مستوى قيام ناشطين متطوعين من الكثير من الدول بدعم حملات الطرفين باعتبارها تنعكس على السياسة الخارجية وليست متعلقة بالسياسة الداخلية فقط ولهذا لا يمكن إنكار أهمية التحولات في السياسة الخارجية التركية بعد الانتخابات الأخيرة وإعطاء هذه التحولات أهمية من ناحية الكواليس والمعلومات ومن ناحية خطط العمل القادمة.

أولاً: معالم السياسة الخارجية التركية من خلال الفريق الجديد الذي تم تعيينه بعد الانتخابات:

تعتبر الحكومة الجديدة ومدراء الصف الأول وكذلك مدراء المؤسسات السيادية في تركيا إضافة إلى كوادر الرئاسة التركية صورة تعكس معالم السياسة الخارجية القادمة في تركيا استناداً الى:

التاريخ السياسي لهذه الشخصيات

علاقاتها الدولية التي تتميز بها والتي تكونت عبرة فترة طويلة من شغلها لمواقع حساسة ومهمة

الخلفية الثقافية والفكرية طريقة تفكيرها وطريقة العمل التي عرفت بها هذه الشخصيات خلال نشاطاتها السابقة

إضافة إلى المواقع الجديدة التي تم تعيينها فيه حالياً

وتشمل المعالم المستندة إلى صورة هذه الكوادر الجوانب التالية:

امتلاك كل شخصية من الشخصيات التي تم تعيينها في الحكومة الجديدة صفات مشتركة مع الشخصية الأخرى من حيث العلاقات الدولية المنوعة والعمل في أكثر من مؤسسة دولية

إضافة إلى التخصصات المنوعة التي تمتلكها الشخصيات مع التجارب الخاصة بها في الإدارة وكذلك في الاستجابة للأزمات التي حصلت في المؤسسات التي عملت فيها وتلاحظ هذه الصفات في الفريق الاقتصادي وفي الفريق الأمني وفي الفريق السياسي بشكل أوضح بسبب علاقة هذه الفرق بالسياسة الداخلية والخارجية معاً وهنا يمكن الحديث عن صفات جامعة ما بين محمد شمشك وزير الاقتصاد ونائب رئيس الجمهورية الاقتصادي جودت يلماز في الفريق الاقتصادي وكذلك رئيسة البنك المركزي وبعض الكوادر الأخرى في الفريق إضافة إلى هاكان فيدان وزير الخارجية ومسؤول السياسة الخارجية في الحكومة التركية حالياً وفريق العمل السياسي معه وكذلك إبراهيم كالن مسؤول المخابرات التركية والفريق الأمني معه حيث يجمع هؤلاء كونهم من التكنوقراط الإداري ذو العلاقات الدولية القادر على العمل ضمن فريق رئاسي موسع متناغم على عكس الحكومات السابقة التي كانت فيها بعض المحاصصات الحزبية واضحة بأهداف انتخابية وكذلك بعض المحاصصات داخل حزب العدالة لبعض الأجنحة أيضاً بينما غابت هذه المحاصصات في الحكومة الجديدة وتم التركيز على العلاقات الدولية وتنوع العلاقات الدولية إضافة إلى إمكانية العمل تحت الضغوط الداخلية والخارجية والانسجام التام مع استراتيجية النظام الرئاسي المعتمدة لدى الرئيس أردوغان لأن هذا الفريق بالكامل عمل مع الرئيس أردوغان في كل مراحل بناء الدولة منذ وصول الرئيس أردوغان وحزب العدالة إلى السلطة.

المزج في آلية عمل هذا الفريق ما بين الحامل الأكاديمي والإداري والدولي

حيث يمتلك كل واحد من هؤلاء لغة غير ملتبسة في التعبير عن تحركاته في السياسة الداخلية والخارجية ويتجنبون المنطقة الرمادية ويتعاملون بلغة الأرقام والشفافية العالية إضافة إلى روح المسؤولية التي افتقدتها بعض الحكومات السابقة نتيجة ارتباط التعيينات السابقة بظروف واستراتيجية مختلفة عن الوضع الحالي وهذا يساهم في القبول الداخلي لهذه الشخصيات ونشاطاتها كما يساهم أيضاً في القبول الدولي لهذه الشخصيات ونشاطاتها إضافة إلى امتلاكهم عاملاً مهماً يتعلق بالمصداقية والإقناع الدولي والداخلي وهو أهم ما يحتاجها الرئيس أردوغان حالياً تمكين النظام الرئاسي والمحافظة على المكاسب.

اعتماد التوازن ما بين السياسة والاقتصاد والإدارة والبعد الأخلاقي والاجتماعي كأساس للعمل الوزاري

فلكل واحد من هذه الشخصيات وهذه ميزة تحسب للفريق الجديد ولذلك يتناول الرئيس التركي في تصريحاته الأخيرة الإشارة إلى النظام الرئاسي المتناغم الذي يتعاطى مع المشكلات الداخلية والخارجية بعقلية مختلفة تبحث عن الحلول وسرعة الاستجابة للحلول ولا تتعرض لمشكلات البيروقراطية السابقة التي ساهمت في إضعاف التناغم بين المؤسسات.

ثانياً: معالم السياسة الخارجية التركية من التحضيرات الخاصة في الأشهر الثلاثة الأولى:

الاقتصاد

يعدُّ الاقتصاد العامل الرئيس في كل العمل الحكومي الحالي حيث يتم اعتماد استراتيجية مختلفة تماماً عن المرحلة السابقة في تركيا يتم فيها توظيف السياسة والأمن والإيديولوجيا والثقافة والعلاقات الداخلية والدولية في الاقتصاد على عكس المرحلة السابقة التي كان الاقتصاد والأمن والإيديولوجيا موظف فيها لصالح السياسة بسبب طبيعة وخطورة المرحلة والتهديدات الخاصة بالنظام الرئاسي في تركيا والتهديدات الخارجية على الدور التركي الدولي بينما تعتبر تركيا في المرحلة الحالية مرتاحة على مستوى النفوذ العسكري والأمني والسياسي والعلاقات الدولية وما ينقص تركيا حالياً هو توظيف الارتياح في هذه الملفات ضمن الاقتصاد التركي كمخرج نهائي لكل الهندسة السياسية والأمنية والعسكرية التي تم اعتمادها داخلياً وخارجياً خلال السنوات الأخيرة والتي ساهمت في استنزاف الطاقات التركية والاقتصاد التركي وجاء حالياً وقت استعادة المكاسب الاقتصادية والطاقات والموارد المستنزفة في السياسة خلال السنوات السابقة

السياسة في خدمة الاقتصاد

يمكن الجزم بأن الحل الاقتصادي لأي مشكلة سياسية وأمنية وعسكرية سيكون أساس عمل وزير الخارجية التركي ورئيس الاستخبارات التركية كما أنه من طبيعة عمل وزير الاقتصاد التركي وفي هذه الحالة يلاحظ خلال المرحلة القادمة بروز سياسة جديدة تركية في حل بعض المشكلات الأمنية والسياسة سواء في ملف الهجرة مع الاتحاد الأوربي أو ملف الانضمام إلى الناتو مع السويد أو ملف الخلافات في سوريا مع ايران أو ملف الخلافات مع روسيا في أوكرانيا عبر المقاربات الاقتصادية للملفات المتعثرة سياسياً وأمنياً وكذلك نفس المقاربة الاقتصادية للملفات المتعثرة مع إسرائيل واليونان وفرنسا والولايات المتحدة على عكس السنوات السابقة التي كان التركيز فيها على الجانب الأمني والسياسي وكذلك في الخلافات مع مصر في الملف الليبي ايضاً.

وفي سبيل ذلك سيتم التزام عدد من المحددات والثوابت في السياسة التركية:

تحرر الفريق الحكومي من القيود السابقة التي وقع فيها وزراء الحكومات الأخيرة

وذلك من ناحية الصلاحيات ومن ناحية ارتباط القرارات النهائية بالرئيس أردوغان شخصياً لكن في العمل الحالي على مستوى السياسة الخارجية سيكون الرئيس أردوغان راسم الاستراتيجية العامة فقط ومن يحضر المراسم النهائية منها بينما يتولى فريق السياسة الخارجية الإشراف الكامل على المفاوضات الخاصة بها بدون أي تدخل أو عرقلة من الرئيس أردوغان.

وجود التناغم والتكامل ما بين التصريحات الصادرة من الفرق الحكومية العاملة في نفس الملف

سواء في المخابرات أو الدفاع أو في الخارجية أو في الفريق الاقتصادي على عكس المرحلة السابقة التي كان هذا التناغم غير متواجد فيها وحصول تصريحات متضاربة ما بين المسؤولين والوزراء في نفس الملف بسبب الشرائح المستهدفة بالتصريحات في الانتخابات الأخيرة والاستقطاب الانتخابي الذي كان له الأولوية في هذه التصريحات بينما تستند التصريحات الحالية إلى الشفافية وإظهار التناغم الحكومي والعمل كفريق موحد لتعزيز وتمكين النظام الرئاسي في الصورة الشعبية الداخلية التركية والصورة الدولية التركية.

التركيز على النقاط المشتركة في السياسة الخارجية وإعطاء فرصة لما يسمى بسياسة الحلول المبتكرة في النقاط الخلافية

وهذه السياسة اعتمدها حزب العدالة في المرحلة الأولى من مراحل وصوله إلى السلطة لتحسين علاقاته الدولية مع الدول العربية وكذلك بعض الدول الشرقية بسبب أن العلاقات كانت متوترة نتيجة سياسات الحكومات السابقة ويتم العودة إلى هذه السياسة حالياً.

الابتعاد في السياسة الخارجية عن تجاذبات الداخل التركي والتي ساهمت سابقاً في تقلبات السياسة الخارجية

حيث يبتعد الفريق الجديد عن مرحلة التقلبات السابقة لأن هذه التقلبات التي حصلت في بعض الملفات مثل ملف التطبيع مع النظام وبعض ملفات اللاجئين وكذلك بعض ملفات مكافحة الإرهاب كانت ناتجة عن القلق من الناخب التركي وانعكاس السياسة الخارجية على الناخب المتردد بينما لا توجد هذه المخاوف حالياً لدى الفريق الحكومي التركي ولا لدى الرئيس التركي أردوغان ومستشاريه وبناء عليه فالأولوية خلال المرحلة الحالية هو لاستثمار السياسة الخارجية اقتصادياً في الملف الداخلي وليس سياسياً لمصلحة جذب الناخبين وهذا عامل مساعد على نجاح العلاقات الخارجية كما يمنع الدول الأخرى من استثمار بعض الملفات لصالح الضغط على الحكومة التركية داخلياً في ملف الانتخابات.

اعتماد أعضاء فريق السياسة الخارجية آلية الإدارة بالأهداف

خوصاً في الملفات الدولية وهذه الإدارة هي إدارة تسهل حل المشكلات وليس تعقيدها وهذا يجعل السياسة الخارجية التركية أكثر نضوجاً من المرحلة السابقة وأكثر بعداً عن بعض المواقف المزاجية التي طبعت ملفات دولية خلال السنوات الأخيرة وساهمت في بعض الضغوط الداخلية على تركيا.

تركيز واجهات السياسة الخارجية التركية على تقديم نموذج قيادي صالح لخلافة أردوغان في المرحلة القادمة

وذلك من خلال إظهار عدة شخصيات تركية قادرة على الدور الذي لعبه أردوغان في السياسة الخارجية وهذا عامل مطمئن في العلاقات الدولية التركية ويساعد على بناء تفاهمات طويلة الأمد في السياسة الخارجية لأن بعض المشكلات التي حصلت في السياسة الخارجية سابقاً كانت تستند إلى القلق من الفراغ في النفوذ التركي الخارجي بعد أردوغان بسبب حالة الاستقطاب السياسي الداخلي في تركيا وبسبب الانشقاقات التي حصلت من مؤسسي حزب العدالة وانضمامهم الى المعارضة وكذلك بعض المشكلات الداخلية الأخرى في حزب العدالة والفريق السياسي التركي القريب لأردوغان.

الخلاصة:

تعكس معظم التقارير الدولية حالياً ارتياح دولي للحكومة الجديدة بسبب الشخصيات التي تم اختيارها وبسبب التناغم فيما بين هذه الشخصيات وبسبب الصلاحيات التي تعكسها هذه الشخصيات في السياسة الخارجية إضافة إلى وجود أولوية تركية متفق عليها ما بين الفريق الرئاسي والحكومي وهو الاقتصاد ثم الاقتصاد ثم الاقتصاد وهذا يعيد الجميع إلى أردوغان الذي عرفوه في المرحلة الأولى من مراحل الوصول إلى السلطة وكذلك الفريق الذي تولى بناء شبكة العلاقات الدولية أيضاً مما يعطي إمكانية الاستفادة من تمكين النظام الرئاسي في تركيا من أجل حضور الدور التركي في الخلافات الإقليمية والدولية والعمل على حل مشكلات دول النزاعات والعمل على حل المشكلات المتعلقة بخطوط الطاقة وخطوط الغذاء الدولية إضافة إلى الترقب الحاصل في المنطقة ودولياً لإعادة إعمار دول النزاعات خلال السنوات القادمة.

——————————-

======================

أسئلة السّياسة التّركية في المسألة السّورية/ ماجد كيالي

هيمن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على السياسة التركية وطبعها بطابعه في حقبة مديدة (منذ عام 2002)، كرئيس للوزراء وكرئيس للدولة، وهي حقبة شهدت عدداً من التحولات، إن على الصعيد الداخلي في السياسات التي انتهجها، وضمنها التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، أو على الصعيد الخارجي، الإقليمي والدولي، في ما يخص تموضع تركيا، وخياراتها المتقلبة، إزاء مختلف الأطراف والقضايا.

وبغضّ النظر عن الموقف من السياسات التي انتهجها أردوغان، تأييداً أو رفضاً، فإن من الصعب تحديد منظور الخيارات التي اتخذها، في عدد من القضايا الإقليمية والدولية، لا سيما منها المسألة السورية، فهل يتم التعاطي معها من منظور مثالي، أم متخيّل، يتعلق بطموحاته، أم خلفيته الفكرية، أم نظرته إلى دور تركيا في التاريخ، وفي العالم؟ أم من منظور سعيه إلى الحفاظ على استقرار تركيا ومصالحها الخاصة؟ أم من منظور محاولته تعزيز مكانة تركيا الإقليمية، وتموضعها على الصعيد الدولي، بين الأقطاب الفاعلين، أو المؤثرين الآخرين؟

ولعل أكثر ما يهمنا هنا هو السؤال عن تموضع تركيا، في الحقبة الأردوغانية، إزاء الصراع السوري، أو إزاء المسألة السورية (منذ عام 2011)، بكل تحولاته، من العلاقة الخاصة مع النظام، إلى الدعم المطلق للمعارضة، مروراً بالانخراط في تحالف أستانة مع شريكي النظام (إيران وروسيا)، وصولاً إلى المرحلة الحالية المتمثلة باستعداده لإيجاد مقاربات سياسية للانفتاح على النظام، بالتساوق مع سعيه إلى “تصفير المشكلات”، مع كل الأطراف.

من جانب آخر، وبغض النظر عن رأينا في السياسات التركية، فإن تركيا، مع أردوغان أو مع غيره، هي أهم وأقوى دولة، في الشرق الأوسط، من حيث المساحة والقوة البشرية والاقتصادية والعسكرية. وهي بالنسبة إلى سوريا، أهم دولة جوار، مع حدود طويلة جداً، ومع تأثير كبير من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية، وهي منبع نهر الفرات أطول وأكبر مجرى مائي في سوريا، ثم بحكم ثقل العلاقات التاريخية.

هكذا، فقد اتسمت العلاقة التركية ـ السورية، في بداية عهد أردوغان، في عشريته الأولى (2002 ـ 2011)، بروح الصداقة والتعاون وتبادل المنافع، في كل المجالات. لكن في العشرية الثانية، أي منذ 2011، تم الانقلاب على السياسات السابقة، بالانتقال إلى مرحلة العداء المتبادل، نتيجة دعم تركيا للمعارضة السورية، بمكوّناتها السياسية والعسكرية والخدمية، بعدما باتت بمثابة الحاضنة الأساسية للمعارضة “الرسمية”، ولفصائلها المسلحة، وتالياً الدولة المتحكّمة في مساراتهما، ويأتي ضمن ذلك احتضانها، أو دعمها، لمساري العسكرة والأسلمة، على كل الصعد: أي الخطابات والكيانات وأشكال العمل، إلى الحد الذي يمكن التساؤل معه عن حدود أو عن مصير المسارين المذكورين من دون دعم تركيا.

في تلك المرحلة، لم يكن تأثير تركيا نابعاً فقط من ثقل تأثيرها في المعارضة السورية، لأسباب مختلفة، إذ إن ذلك التأثير ازداد كثيراً بسبب احتضان تركيا ملايين اللاجئين السوريين، أيضاً، ثم من هيمنتها، مع فصائل المعارضة الموالية لها، على الشمال السوري.

قد يرى البعض أن تركيا تصرّفت في سياساتها إزاء الصراع السوري، آنذاك، بوصفها دولة إقليمية كبيرة في المنطقة، ووفقاً لمصالحها، السياسية والاقتصادية والأمنية، الآنية والمستقبلية، وبحسب رؤية الحزب الحاكم لتلك المصالح، إلا أن تلك الرؤية، يفترض أن تأخذ في حساباتها أيضاً أن الدول لا تتصرف بوصفها جمعيات خيرية، أو منظمات حقوق إنسان، وأن مصالح الدول تختلف عن مصالح الثورات، وأن مصلحة نظام معين تتعلق بإقليمه وشعبه أساساً، وليس بشعب آخر، بل إن من مصلحة أي دولة استثمار أي أوراق خارجية لتعظيم دورها، وتعزيز مكانتها، قبل أي شيء آخر، وهذا هو المدخل الطبيعي لفهم السياسة التركية، بعيداً من التقديس والمبالغات المضرة التي لا تفيد تركيا، ولا شعبها، ولا سوريا ولا شعبها.

في مرحلة ثالثة، أي بعد الانتقال من الصداقة إلى العداء، شهدت السياسة التركية إزاء الصراع السوري تحولاً سياسياً، أو نقلة جديدة في تموضعها، بإقامة تحالف أستانا (مع إيران وروسيا، 2017)، وباتت سياستها في سوريا تتركز في التخفف من تدفقات اللاجئين السوريين، وإيجاد منطقة حدودية أمنية عازلة في شمال سوريا على امتداد حدودها، بعمق 15 كم، وأيضاً تبرير ذلك بحماية أمنها القومي ضد قوات الـ”بـي كي كي” (حزب العمال الكردستاني في تركيا)، وامتداداته السورية المتمثلة بقوات “قسد” (التابعة لحزب بي واي دي أو حزب الاتحاد الوطني الكردي في سوريا)، اللذين تصنفهما كجماعات إرهابية، مع عملها على تهدئة الصراع في مختلف مناطق سوريا، وفق مبدأ “المناطق المنخفضة التصعيد”، الذي تم التوافق عليه بين دول تحالف أستانا.

والمؤسف، سياسياً وأخلاقياً، أن هذه المرحلة اتسمت أيضاً بتوظيف تركيا للاجئين السوريين في سعيها إلى الضغط على أوروبا، لأسباب سياسية واقتصادية.

الآن، وفي عهد أردوغان الجديد، نحن إزاء مرحلة رابعة، وهي بدأت منذ أكثر من عام، وأتت ضمنها استعادة علاقة تركيا مع إسرائيل، ومع عديد من الدول العربية، وضمن ذلك أتت محاولة الانفتاح على سوريا، بعقد اجتماعات على مستوى وزيري الخارجية، ومسؤولين أمنيين، ولكنها لم تتوج حتى الآن بلقاء بين الرئيسين التركي والسوري.

تأسيساً على ما تقدم، ثمة أسئلة كثيرة تستحقها السياسة التركية، في الحقبة الأردوغانية، في تحولاتها، أو تقلباتها، إزاء الصراع السوري، لعل أهمها:

أولاً، ما هو الصحيح لتركيا، وللشعب السوري، هل الموقف الذي اتخذته تركيا في دعمها المعارضة السورية هو الصحيح، أم الموقف الحالي؟

ثانياً، هل دعم تركيا للمعارضة السورية، بالشكل الذي تم فيه، وضمنه التشجيع على عسكرتها، وأسلمتها، أفاد الحراكات الشعبية المطالبة بالتغيير أم أضر به؟

ثالثاً، ما المغزى من إقامة تحالف أستانة، ومساره التفاوضي (2017)، مع إيران وروسيا؟ وهل كان ذلك لمصلحة الشعب السوري؟ أو هل كان ذلك لمصلحة تركيا؟

رابعاً، ألم تسهم الطريقة التركية في التعامل مع الشعب الكردي بتعميق الجرح الكردي ـ العربي، بما أضر بوحدة الشعب السوري، وحتى بعلاقة تركيا بالأكراد في تركيا؟

على أي حال، من الصعب التكهن بطبيعة السياسات التي سينتهجها الرئيس أردوغان مستقبلاً، بناءً على ما شهدناه في التجربة الماضية، في تحولاتها وتقلباتها، سواء في ما يتعلق بسوريا، أو بغيرها، إقليمياً ودولياً، لا سيما في عالم بات يعج بالاضطرابات.

نقلا عن النهار

————————–

بعض ملامح المرحلة السياسية الجديدة في تركيا/ بكر صدقي

قال زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، في أعقاب زيارته للرئيس اردوغان لمباركته بالفوز بولاية رئاسية جديدة، إن «أشياء كثيرة ستتغير في المرحلة القادمة، كل شيء سيتغير، نأمل ألا تتغير تركيا نفسها»! قد يمكن اعتبار القسم الأول من التصريح نوعاً من بث الأمل لدى المواطنين بشأن تحسن أوضاعهم نحو الأفضل، لكن القسم الثاني غريب، والثالث يعبر عن مخاوف السياسي العتيق الذي يعتبر نفسه ممثلاً للمصالح العليا للدولة التركية.

كان التغيير الحكومي الواسع الذي أعلن عنه الرئيس اردوغان بمثابة تحقيق لتوقعات حليفه القومي وربما مخاوفه أيضاً. وقبل الانتخابات كان اردوغان قد استبق هذه التغييرات الحكومية بترشيح أكثرية أعضاء حكومته السابقة في الانتخابات النيابية، وهو ما يعني إبعادهم عن الحكومة المقبلة. وكان أبرز هؤلاء «المنبوذين» كلا من وزير الدفاع خلوصي آكار ووزير الداخلية سليمان صويلو، والرجلان عرف عنهما طموحهما للحلول مكان اردوغان في قيادة الحزب الحاكم والدولة. فإذا كان ترشيح اردوغان نفسه لولاية رئاسية جديدة قد أحبط الطموح الثاني، فقد حافظا على الأول على أمل الارتقاء في قيادة الحزب ليكون كل منهما خليفته المحتمل ولو بعد بضع سنوات. مع تشكيل الحكومة الجديدة يمكن القول إن هذا الطموح لدى الرجلين، وبخاصة صويلو، قد انتهى إلى درجة أن بعض مراقبي السياسة التركية بات يتوقع مغادرته صفوف حزب العدالة والتنمية، ربما إلى حزب الحركة القومية الذي دعمه زعيمه بهجلي في أصعب الأوقات وضمن بقاءه في منصبه في وجه الحملات الكبيرة التي واجهته، مرة لفشله في التدابير الأمنية في مواجهة وباء كورونا، وأخرى في مواجهة اتهامات خطيرة وجهها إليه رجل المافيا المنشق سادات باكر قبل عامين، إضافة إلى إجراءاته القمعية ولسانه اللاذع اللذين وضعاه في مرمى الرأي العام.

المنبوذ الثالث المهم من السلطة التنفيذية هو وزير المالية والخزينة العامة نور الدين نباتي الذي أراد اردوغان، بإبعاده، تحميله مسؤولية الفشل الاقتصادي، مع أن الرجل القادم من دهاليز البيروقراطية الاقتصادية كان مجرد منفذ لتوجيهات الرئيس. الأمر الذي ينطبق أيضاً على وزير العدل السابق بكير بوزداغ.

غير أن بعض القادمين الجدد إلى المناصب الشاغرة شكلوا مفاجأة كبيرة، أبرزهم اثنان: هاكان فيدان الذي تم نقله من رئاسة جهاز الاستخبارات القومي إلى وزارة الخارجية، وإبراهيم كالن الذي انتقل من مستشار اردوغان والناطق الرسمي باسمه إلى رئاسة جهاز الاستخبارات إياه، في حين انتقل علي يرليكايا من منصب والي مدينة إسطنبول إلى منصب وزير الداخلية خلفاً لصويلو.

أما التعيين الذي لم يكن مفاجئاً فهو محمد شمشك وزيراً للمالية والخزينة العامة خلفاً لنباتي. فقد سبق لاردوغان أن استدعاه لاستلام السياسة الاقتصادية والمالية قبل الانتخابات بأكثر من شهر، بهدف طمأنة الناخبين وجذبهم للتصويت له ولحزبه. وقتها رفض شمشك العرض متذرعاً بانشغاله في ميدان المؤسسات المالية العالمية، في حين تحدثت التكهنات عن اشتراطات تقدم بها لقبول المنصب، أهمها استقلاليته في رسم السياسات المالية واستقلالية البنك المركزي الذي كان حاكمه يعمل، في السنوات الأخيرة بتوجيهات مباشرة من الرئيس.

أما وزير الداخلية الجديد يرليكايا فإن من يعرفونه يقولون عنه إنه ذو شخصية منفتحة على الناس بصرف النظر عن اتجهاتهم السياسية، ورجل حوار لا رجل لاذع اللسان وعدواني تجاه الخصوم كحال صويلو. يبقى أن يثبت الرجل ذلك في منصبه الجديد الذي يصطبغ بطبيعته بالصبغة الأمنية ـ القمعية. في وزارة الدفاع حل رئيس أركان الجيش السابق يشار غولر محل خلوصي آكار الذي سبق وجاء من المنصب نفسه في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل في تموز 2016. وكأن باردوغان يرسي تقليداً سياسياً جديداً بترقية رؤساء الأركان إلى وزراء دفاع، بعدما كان هؤلاء دائماً من المدنيين.

وزيران فقط من الحكومة السابقة احتفظا بمنصبيهما في الحكومة الجديدة، هما وزير السياحة محمد نوري أرسوي ووزير الصحة فخر الدين قوجة الذي طبع فترة وباء كورونا بتدابيره الناجحة وكان الأكثر ظهوراً إعلامياً بين الوزراء في تلك الفترة، وعرف بحرصه على الابتعاد عن التصريحات والسجالات السياسية.

مجمل هذه التغييرات يشير إلى أن الحكومة جديدة لكن جميع أعضائها شخصيات معروفة سابقاً وشغلوا في الماضي مناصب مهمة، فهي ليست جديدة تماماً. ويصفها المحللون الأتراك بأنها حكومة تكنوقراط مشكلة من خبراء في ميادينهم، هذه حال شمشك الذي سبق وشغل مناصب اقتصادية في حكومات سابقة، إضافة إلى خبرته وشبكة علاقاته في أوساط المال والأعمال في أوروبا، ويأمل اردوغان أن يتمكن وزير ماليته الجديد من اجتذاب رؤوس أموال أجنبية ومن رسم سياسة تنقذ البلاد من وحش التضخم بصورة خاصة. كذلك حال وزير الخارجية الجديد فيدان الذي لعب دوراً بارزاً في السياسة الخارجية، وهو من قاد عمليات التطبيع الأخيرة مع دول عربية كالإمارات والسعودية ومصر والنظام السوري، يقال عنه إنه رجل يوحي بالثقة، ويملك خبرة جيدة في العلاقات الدولية. من المحتمل أن يشير تعيينه في منصب وزير الخارجية إلى رغبة اردوغان في تطبيع علاقاته مع واشنطن والحلف الأطلسي أيضاً إضافة إلى الدول العربية وروسيا وإسرائيل.

يبقى أن كل ما تقدم هو افتراضات قائمة على مواصفات كل واحد من الوزراء، في حين أن النظام الرئاسي الذي منح اردوغان كل الصلاحيات يتيح له تحويلهم إلى مجرد منفذين لتوجيهاته كما كانت الحال طوال السنوات الخمس الماضية. فإذا منحهم شيئاً من الاستقلالية في عملهم سيعني ذلك أنه استخلص دروس الولاية السابقة وبات مستعداً للتغيير.

«كل شيء سيتغير في تركيا» قال بهجلي «نأمل ألا تتغير تركيا نفسها!». من المحتمل أن نفوذ الرجل القوي على اردوغان سيتراجع، وربما يفك تحالفه معه، بعدما انتهت الحاجة إليه.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————-

ملاحظات في الديمقراطية التركية/ حسين عبد العزيز

سلّط المشهد الانتخابي التركي في الجولتين، الأولى والثانية، الضوء على رسوخ الديمقراطية وعلى التنافس الحاد بين تحالفين حزبيين وقواعدهما الشعبية بشأن قضايا الدولة والمجتمع. يعتبر رسوخ الديمقراطية في تركيا عاملا في غاية الأهمية لاعتبارين: الأول داخلي، بعد انزياح نظام الحكم في تركيا قليلا نحو التسلّط بفعل منح الرئيس سلطات دستورية كبيرة منحته القدرة على ضبط المجتمع المدني والهيمنة على صحفٍ لم يكن بالإمكان الهيمنة عليها سابقا. الثاني، توسّع ظاهرة التسلّط في الأنظمة الديمقراطية الناشئة خلال العقدين الأخيرين، كما حدث في المجر عام 2010 مع رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، وبولندا مع حزب “القانون والعدالة” عام 2015، والفيليبين مع الرئيس رودريغو دوتيرتي عام 2016، وغيرهم من البلدان.

تعدّ المشاركة الشعبية الواسعة في العملية الانتخابية في تركيا الأفضل على مستوى الديمقراطيات في العالم، بما فيها الديمقراطيات الغربية الراسخة، ويؤشّر ذلك على عمق الديمقراطية في تركيا، ليس على مستوى المؤسّسات فحسب، بل على المستوى الشعبي أيضا، مع ترسّخ وعي جمعي أصيل يعتبر الديمقراطية الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه تحت أي سببٍ كان، بخلاف التوجّهات الشعبية في النظم الديمقراطية الشكلية، حيث لا يثق الشعب بديمقراطية النظام كما حدث في الانتخابات المصرية عام 2018، حين تدنّت مستويات المشاركة الشعبية بشكل ملحوظ في الانتخابات الرئاسية. ومع ذلك، لا يكفي وجود مؤسّسات ديمقراطية فعّالة تضمن إجراء انتخابات حرّة ونزيهة لوصف نظام ما بأنه ديمقراطي، فالديمقراطية اليوم غير منفصلة عن الليبرالية، وأي خللٍ في إحداهما يؤدّي إلى التسلّط الذي إذا ما استمر طويلا قد ينتهي إلى الاستبداد.

ولعل حجم المشاركة الشعبية الكبيرة جدا، وتقارب النتائج، يؤشّران إلى وجود خلاف حاد على المستوى الشعبي، فالناخب التركي الشاب الذي لم يختبر مرحلة ما قبل “العدالة والتنمية”، يُجري مقارنة اقتصادية بين الوضع الحالي وما كانت عليه البلاد قبل نحو 15 عاما، فيفضّل نخبا سياسية غير أردوغان وحزبه، فيما تحمل الطبقة الوسطى المتعلّمة والمشاركة بقوة في المجتمع المدني معايير أخرى إضافة إلى الاقتصاد. وإذا كانت انتخابات البلدية السابقة عام 2019 قد حملت الهم الاقتصادي والخدمي، فإن الانتخابات البرلمانية والرئاسية أخيرا حملت أبعادا مدنية وسياسية. ويتعلق الأمر هنا بحرية الصحافة، وحرية التعبير، وفعالية مؤسّسات المجتمع المدني، وتوسّع بيروقراطية حزب العدالة والتنمية.

ووفقا لبيانات المؤشّر العالمي لحرية الصحافة 2020، تأتي تركيا خلف دول مثل كمبوديا والجزائر في مجال حرّية الإعلام، فقد احتلت المرتبة 154 من بين 180 دولة، فيما تراجع ترتيبها في عام 2021 إلى المرتبة 149 وفق منظمة “مراسلون بلا حدود” التي حذّرت من تزايد الاستبداد في البلاد وتراجع التعدّدية الإعلامية.

على صعيد البيروقراطية، عزّزت التعديلات الدستورية لحزب العدالة والتنمية التي أقرت عام 2017 سلطات الرئيس مع تحوّل تركيا من نظام برلماني إلى رئاسي، وعلى صعيد مؤشّر سيادة القانون، احتلت تركيا المرتبة 117 من بين 139 دولة. وفي استطلاع للرأي ضمن مؤشّر إدراك الديمقراطية، أجرته مؤسسة “لاتانا” المتخصّصة في الاستطلاعات عام 2021، قال غالبية المشاركين في الاستطلاع إن تركيا ليست ديمقراطية.

بحسب كثيرين من المراقبين للديمقراطية، تشهد تركيا، منذ اعتماد النظام الرئاسي، انزلاقا نحو الديمقراطية الاستبدادية، لجهة منح الرئيس صلاحياتٍ دستوريةٍ واسعة، ولجهة تطابق أو تماهي مؤسّسات الحزب مع مؤسسات الدولة في بعض المجالات، ما دفع بعض الباحثين إلى وصف هذا الوضع بـ “ديمقراطية الهيمنة”، من حيث إن النظام الديمقراطي التركي يحافظ على عملية تداول السلطة بشكل سلمي عبر انتخابات حرّة ونزيهة، ويحافظ على مبادئ القانون، وحقوق الأقليات، وحقوق الإنسان، فيما يقيّد في المقابل عمل المؤسّسات الدستورية، ضمن حقوقه القانونية التي اكتسبها من الانتخابات، لا ضمن ثقافة سياسية تتجاوز مسألة الإجراء الانتخابي. ويضغط بقوة على معارضيه، سواء على مستوى الأحزاب، أو على مستوى مؤسسات المجتمع المدني، أو على مستوى الأفراد.

وصف الديمقراطية التركية بديمقراطية الهيمنة صحيح إلى حد كبير. وفي المقابل، يمكن وصف مفهوم “ديمقراطية الهيمنة” بأنه فضفاض لا يعبّر بدقة عن حالة الديمقراطية في بلدٍ ما. فمثلا، لا يمكن وضع الديمقراطية تركيا في المستوى نفسه مع الديمقراطية في فنزويلا ومصر على سبيل المثال. في الحالة الأولى، ثمّة عملية انتخابية ثابتة وحرّة ونزيهة. أما في الحالتين الفنزويلية والمصرية فلا توجد عملية انتخابية حرّة ونزيهة إلا في حدودها الدنيا.

من هنا، حتى في وجود نظام قانوني نزيه وحماية الحقوق من دون انتخابات حرّة يمكن أن يخلق مجتمع مفتوح نسبيا، ولكن من دون الانتخابات يبقى المجتمع غير ديمقراطي. في المقابل، وهذه هي الحالة التركية، حيث الحكومة منتخبة لا تحمي الحرّيات المدنية ويمكن أن تكون استبدادية، عبر السماح لمجموعة بقمع الحريات السياسية.

وإذا كانت الديمقراطية تعني كيف تحدّد الانتخابات الدورية شكل المجلس التشريعي ومن يتولى السلطة التنفيذية في الحكومة، ووجود منافسة حرّة وعادلة بين المرشّحين والأحزاب، فإن الليبرالية تعني حماية الحرّيات المدنية الأساسية بالقانون والإجراءات الوقائية الدستورية، في حين تنفذ التشريعات والقواعد القانونية على حد سواء بواسطة نظام قضائي وقانوني مستقل.

التحدّي الأبرز للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية يكمن في توسيع مروحة الحرّيات المدنية والسياسية وفق الدستور، بما يساهم في إحداث نقلة مهمة في الديمقراطية الليبرالية، تنعكس بالضرورة بشكل إيجابي على مناحي الحياة كافة.

العربي الجديد

—————————–

المواءمة التركية بين الأمن والاقتصاد والدبلوماسية/ محمود علوش

أنهى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجزء الأكبر من عملية إعادة تشكيل السلطة الجديدة في البلاد بعد الانتخابات. من الملاحظات المهمة في التركيبة الجديدة أن بعض الشخصيات البارزة، التي تتولى مهامّ جديدة، لديها خبرة واسعة في مجالات أخرى حسّاسة. لدى هاكان فيدان، الذي سيقود الدبلوماسية التركية في الفترة المقبلة، خبرة كبيرة في الأمن والاستخبارات لما يقرب من عقد ونصف العقد، بفعل إدارته جهاز المخابرات التركي. ولدى إبراهيم قالن، الذي سيقود جهاز المخابرات، خبرة واسعة في الدبلوماسية بفعل الوظيفة التي كان يشغلها سنوات، وهي مستشار الرئيس والمتحدّث باسم الرئاسة. أما وزير الدفاع الجديد يشار غولو، فكان يشغل في السابق رئيس هيئة الأركان التركية. تهدف هذه التعيينات إلى تحقيق اندماج متكامل بين مجالي الأمن والدبلوماسية، واللذين سيشكّلان نقطة ارتكاز في السياستين الداخلية والخارجية في الولاية الجديدة لأردوغان.

كبلد، يعاني من صراع تاريخي مع حزب العمال الكردستاني المحظور، ويُحيط به حزامٌ من الاضطرابات الأمنية والجيوسياسية، ويخوض صراعاً جيوسياسياً مزمناً مع اليونان وقبرص الجنوبية، كما تشغل الأبعاد الأمنية حيّزاً كبيراً في تشكيل علاقاته الخارجية مع قوى كبرى كروسيا والولايات المتحدة، فإن تحقيق اندماج متكامل بين مجالي الأمن والدبلوماسية يجعل تركيا أكثر قدرة على التعامل مع هذه التحدّيات. في ظل هذه التعيينات الجديدة، سيتمكّن المسؤولون الجدد من توظيف خبراتهم الواسعة في المجالات الأخرى الحسّاسة لبناء سياسة أمنية ودبلوماسية أكثر فعالية ومنسجمة مع بعضها بعضا. من الميزات المهمة في تركيبة السلطة الجديدة، قدرة المسؤولين على اتخاذ القرارات والتقييمات الفعّالة مع مركزية أقل. سيبقى الرئيس أردوغان مهيمناً بطبيعة الحال في تشكيل السياسات الأمنية والخارجية، لكنّ بمقدوره الاعتماد بقدر أكبر على مسؤولين يحظون بثقة كبيرة لديه، ويمتلكون خبرة واسعة في الأمن والسياسة معاً.

بالنظر إلى الخبرة الواسعة التي اكتسبها فيدان في الأمن والاستخبارات، فإنها ستكون حاضرة في تشكيل سياسة خارجية جديدة توائم بين متطلبات الأمن والدبلوماسية. وكذلك الحال بالنسبة لإبراهيم قالن الذي ستُساعده الخبرة الدبلوماسية الواسعة التي اكتسبها في فترة عمله مستشارا أول لأردوغان في تشكيل سياسة أمنية واستخباراتية تُراعي متطلّبات الدبلوماسية. يكتسب الدمج بين المجالين أهمية أكبر في إدارة القضايا الأمنية الحسّاسة التي ترتبط بالعلاقات مع الخارج، كالصراع مع وحدات حماية الشعب الكردية السورية، وملف تنظيم غولن. كما أن هذا الدمج سيُساعد تركيا في تشكيل سياسةٍ خارجيةٍ نشطة في القضايا الجيوسياسية الشائكة مع الغرب على وجه الخصوص، كالصراع الجيوسياسي مع اليونان وقبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسّط والشراكات العسكرية والأمنية التي أقامتها الولايات المتحدة وفرنسا مع اليونان، والتي تندرج في إطار التحدّيات الجيوسياسية التي تواجه تركيا مع الغرب. أما بالنسبة للعلاقة مع روسيا، فإن المواءمة بين متطلبات الأمن والدبلوماسية ستُساعد البلدين في جعل الشراكة الجيوسياسية بينهما في سورية وجنوب القوقاز والبحر الأسود فعّالة ومثمرة بقدر أكبر.

علاوة على ذلك، سيساعد الدمج بين مجالي الأمن والسياسة الخارجية تركيا في تشكيل سياسة خارجية نشطة أيضاً مع جوارها الإقليمي الجنوبي، لأن مجال الأمن يشغل الحيز الأكبر من علاقات تركيا مع محيطها الجنوبي، فإن المواءمة بين الأمن والدبلوماسية يُمكّن أنقرة من إعادة تشكيل سياستها الإقليمية بطريقةٍ توازن بين تحقيق الأهداف الأمنية ومتطلبات الدبلوماسية. سينعكس هذا الدمج، بشكل أوضح، في السياسة الخارجية الجديدة التي ستنتهجها تركيا إزاء ملفّي سورية وليبيا. بالنظر إلى الدور الفعّال الذي لعبه فيدان، عندما كان في جهاز الاستخبارات في الإشراف على قنوات التواصل الاستخباراتية والأمنية مع النظام السوري، فإن إدارته للمفاوضات معه في الفترة المقبلة سترتكز بشكل أساسي على مجال الأمن. وكذلك الحال بالنسبة لليبيا، حيث سيُساعد الدمج بين الأمن والدبلوماسية أنقرة في صياغة سياسة جديدة تُراعي بين المصالح الأمنية والجيوسياسية وبين الدبلوماسية. سينعكس هذا الدمج بوضوح في العلاقة مع مصر، والتي سترتكز في عهدها الجديد على التعاون الثنائي في الملف الليبي وفي شرق البحر الأبيض المتوسط.

من الملاحظ أيضاً في تشكيلة السلطة الجديدة في تركيا، الارتباط الوثيق الذي يسعى إليه أردوغان بين السياسات الاقتصادية والخارجية. بينما اقتصرت السياسة الخارجية خلال العقد الماضي على المواءمة بين التحدّيات الجيوسياسية والأمنية، فإن الاعتبارات الاقتصادية ستشغل في العهد الجديد لأردوغان حيّزاً أكبر في عملية تشكيل السياسة الخارجية. يبدو ذلك مفهوماً بالنظر إلى أن أكبر التحدّيات التي تواجه تركيا في السنوات الخمس المقبلة هي الاقتصاد وإعادة إعمار المناطق المنكوبة التي دمّرها زلزال 6 فبراير، والتعامل مع هذه التحدّيات بشكل فعّال يتطلب سياسة خارجية قادرة على الاستفادة من الميزات الاقتصادية للعلاقة مع مختلف الفاعلين الخارجيين من خلال جلب مزيد من الأموال الساخنة والاستثمارات الأجنبية. في الأعوام الثلاثة الماضية، بدأت تركيا بالفعل عملية دمج بين احتياجاتها الاقتصادية وإعادة تشكيل علاقاتها مع روسيا ودول الخليج، لكنّ هذه العملية ساعدت في مواجهة مؤقتة للتحديات الاقتصادية وغير كافية لتشكيل سياسات اقتصادية مستدامة. لذلك، من المرجّح أن تتوسع هذه العملية في الفترة المقبلة لتشمل الغرب كذلك.

مع الأخذ بالاعتبار أن الخلافات التركية الغربية من غير المرجّح أن تُعالج بشكل كامل في المستقبل المنظور، فإن المواءمة بين مجالات الأمن والاقتصادية والسياسة الخارجية ستُساعد أنقرة في إدارة خلافاتها مع الغرب. سيتمثل الاختبار الفوري الذي سيواجه هذه المواءمة في الفترة المقبلة في موقف تركيا من عملية انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). ولأن أردوغان حريص على بدايةٍ جيدة مع الغرب في ولايته الرئاسية الثالثة، فإنه سيُركّز على اتباع سياسة مرنة في ملف توسيع “الناتو” مقابل الحصول على مزايا أخرى في علاقاته مع الغرب كإعادة جذب الاستثمارات الغربية وانخراط غربي في إعادة إعمار المناطق التي دمّرها الزلزال، فضلاً عن إتمام صفقة شراء مقاتلات إف 16 من الولايات المتحدة. في غضون ذلك، سيتعيّن على أردوغان إعطاء دفعة للعلاقات المضطربة مع الاتحاد الأوروبي من خلال الحفاظ على اتفاقية اللاجئين والانخراط بشكل أوثق مع الأوروبيين، من أجل تحريك عملية السلام القبرصية، مقابل الحصول على مزايا اقتصادية على غرار رفع التأشيرة عن دخول الأتراك إلى دول الاتحاد الأوروبي وتحريك مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد وتعزيز دور تركيا في تجارة الطاقة. يندرج المشروع التركي الروسي لإنشاء مركز لبيع الغاز في تركيا ضمن هذا الإطار، لكنّ نجاحه سيبقى مرهوناً بالآفاق المستقبلية للحرب الروسية الأوكرانية.

العربي الجديد

—————————-

محدّدات العلاقات التركية – الإيرانية وتجلّياتها في سورية (2011 – 2023)/ عبد الله تركماني

ورقة سياسات

إنّ الموقع الجغرافي لكلٍّ من تركيا وإيران، حيث تقعان على ممرات بحرية أساسية وتطلان على أقاليم استراتيجية (القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط)، يدفعهما إلى التفاعل بتجلياته الإيجابية والسلبية في آن واحد. ومن هنا كانت العلاقات التركية – الإيرانية تتميز بـ “الواقعية السياسية”، التي تمكّن الدولتَين من صياغة محدّدات براغماتية لمصالحهما السياسية والاقتصادية والأمنية تمنع الانفجار بينهما، رغم دوافعه العديدة. إذ إنّ كلتيهما تنزع نحو الهيمنة الإقليمية، وقد تجلّى هذا بوضوح في موقف كلٍّ منهما من الحراك الشعبي السوري منذ انطلاقته. ففي حين دعمت إيران النظام، عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا، وحشدت لدعمه ميليشيات ذات طابع شيعي من لبنان والعراق وأفغانستان، إضافة إلى قوات من الحرس الثوري الإيراني، فإنّ تركيا دعمت المعارضة السورية، واستقبلت اللاجئين السوريين الهاربين من انتهاكات النظام وحلفائه الإيرانيين والروس. وتُعدّ سورية بالنسبة لإيران جزءًا رئيسيًا من الذراع الشيعي، وكانت الحسابات التركية أن يؤدي الربيع السوري إلى إسقاط نظام الأسد قريبًا، بما لا يتعدى صيف 2012، وهذا ما دفعها إلى الاندفاع بقوة لدعم الحراك السوري، ثم عندما تعقّد الوضع ودخلت روسيا عسكريًا، عدّلت موقفها وسياستها بشكل كامل تجاه الصراع.

تهدف هذه الورقة إلى تحديد مظاهر التعاون والتنافس والصراع بين دولتين إقليميتين، لهما وزنهما في إقليم الشرق الأوسط الكبير، وتحاول رؤية تجلّياتها في سورية. فمنذ بداية الحراك الشعبي في آذار/ مارس 2011، أضحت سورية متغيّرًا أثّر في العلاقات بين الدولتين. وقد ساعدهما التوجّه البراغماتي لكليهما في اعتبار المصالح الاقتصادية المشتركة و “الخطر” الكردي على كلا البلدين، عاملين أساسيين يدفعان إلى التعاون، مع أنّ بعض المواقف السلبية لأحدهما استدعت ردَّة فعل من الطرف الآخر.

إنّ ثوابت جغرافية الدولتين ومحيطهما الإقليمي، إضافة إلى مؤثرات الدول الكبرى، تؤكد مظهري التعاون والصراع في آنٍ واحدٍ. خاصة بعد ربيع الثورات العربية الذي أسهم في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، وما رافقه من تحالفات متغيّرة، مما دفع قيادتي الدولتين إلى التوازن القلق بينهما، الذي تجسد في الحرص على المصالح الاقتصادية، إدراكًا منهما أنّ توجهات عالم اليوم أكثر ميلًا نحو المصالح الجيو – اقتصادية، وأنّ التطبيق العملي لمفهوم “الواقعية السياسية”، التي وجهت العلاقات بينهما، يكمن في المصالح الاقتصادية المشتركة.

 وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ العلاقات التركية – الإيرانية من الصعب أن تنتقل من حالة التنافس إلى مستوى المواجهة المباشرة، ما دامت المصالح المشتركة لم تتعرض لتغيّرات دراماتيكية. ولأنهما محكومان بالتاريخ الإمبراطوري لكليهما، فإنّ العلاقة بينهما ستبقى محكومة بمنطق الفعل وردّة الفعل المحسوبين، تبعًا لنقاط القوة أو الضعف لديهما. وهذه الحقيقة من ثوابت العلاقات بينهما، منذ اتفاقية “قصر شيرين” بينهما في عام 1639.

أولًا. مظاهر التعاون

تُعتبر المصالح الاقتصادية من أولويات الدولتين، خاصة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، إذ إنّ إيران دولة مهمة في مصادر الطاقة، في حين أنّ تركيا تعتمد على 90 % من حاجتها للطاقة من التوريد من الخارج. وفي المقابل، فإنّ إيران تجد في تركيا بوابة خلفية لإمكانية الالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل المجتمع الدولي. وكانت تركيا قد أمِلت، بعد الاتفاق حول النووي الإيراني في العام 2015، بأن تكون ممرًا لموارد الطاقة من النفط والغاز الإيرانية وموارد دول وسط آسيا إلى أوروبا، وبدورهم يؤكد المسؤولون في طهران أنه في حال تصدير بلادهم للغاز الطبيعي إلى أوروبا سيجري ذلك عبر تركيا[1].

لقد كان للعقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران تداعياتها على العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران، خاصة بعدما امتنعت إدارة الرئيس ترامب عن تجديد إعفاء العقوبات الممنوحة لتركيا. وقد “تسببت العقوبات في أواخر عام 2018 بتراجع حجم التجارة الثنائية بين تركيا وإيران، من حوالي 10.7 مليارات دولار في عام 2017 إلى 5.6 مليارات دولار فقط في عام 2019”[2].

ومع ازدياد الطلب على الطاقة، من جرّاء نقص إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا بعد غزو أوكرانيا، بات تصدير الغاز الإيراني إلى دول الجوار أولويّة لدى طهران، فقد ذكرت وزارة النفط الإيرانية، في22 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، أنّ “البلدين أجريا محادثات على مستوى وزاري في العاصمة التركية، لمناقشة تجديد عقد توريد الغاز لمدة 25 عامًا، أو إبرام اتفاق جديد قد يسمح لطهران بزيادة صادرات الغاز الطبيعي إلى أنقرة بعد عام 2026”[3]، إذ ينتهي عقد تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا، الذي وُقِّعَ سنة 2001 ومدّته 25 عامًا، في عام 2026.

كما شهدت السنوات الأخيرة تزايد الاستثمارات الإيرانية في تركيا، إذ “يعدُّ الإيرانيون ثاني أكبر مشترٍ للعقارات في تركيا، بعد العراقيين، واحتلوا المرتبة الأولى في تأسيس الشركات فيها (أسّسوا 1019 شركة عام 2018 و978 شركة عام 2019)”[4]. ومن المرجح أن تكون أغلبية هذه الاستثمارات واجهة للنظام الإيراني، الذي يحاول تجاوز العقوبات الغربية.

لقد تمكّن البلدان من تحييد علاقاتهما الاقتصادية عن توتر علاقاتهما الإقليمية، طبقًا لما هو متداول من فهم لـ “الواقعية السياسية” في عالم اليوم، وأسهم ذلك في الانضباط الجيوسياسي إلى حدٍّ بعيد. كما أن الطرفين متفقان على منع قيام دولة كردية في المنطقة، وقد ظهر ذلك جليًا بعد نجاح استفتاء أكراد العراق في أيلول/ سبتمبر 2017، حيث أعلن البلدان حرصهما على وحدة العراق، مما عكس تخوفاتهما من تمدد عدوى الاستفتاء على مناطقهما ذات الأغلبية الكردية، بالرغم من تنافسهما بالوكالة بين أربيل وهي أقرب لأنقرة، والسليمانية الأقرب إلى طهران. ولعلَّ ما حصل أخيرًا في مطار السليمانية أكبر دليل على هذا التنافس، حيث “أغلقت تركيا مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية المغادرة والآتية من مدينة السليمانية في كردستان العراق، وهي مقرّ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي تتهمه أنقرة بالتقارب مع أكراد سورية”[5]. وثمة مواقف كثيرة تدل على أنّ إيران تدعم حزب العمال الكردستاني التركي الـ PKK المتمركز في جبل قنديل، بل إنها تضغط على الحكومة العراقية لإدانة العمليات العسكرية التركية في شمال العراق.

وهكذا، فإنّ تقاطعات المصالح الاقتصادية خاصة، ومنع قيام دولة كردية في أي من الدول الأربع التي يتواجد فيها الأكراد (تركيا، إيران، العراق، سورية)، بالرغم من توترات عديدة بينهما في سورية والعراق من خلال وكلاء الطرفين، أظهرت التوافق بينهما. ولكن من المؤكد أنّ هذه التقاطعات لا تشكل مرتكزًا لتحالفات استراتيجية بين البلدين، لأنّ مظاهر التنافس والصراع عديدة أيضًا، بحكم موقعهما ودورهما وتحالفاتهما في منطقة الشرق الأوسط والعالم.

ثانيًا. مظاهر التنافس والصراع

تتسم العلاقات التركية – الإيرانية بتأرجحها، بين التنافس الخاضع للسيطرة والتعاون المحدود، وقد ظهر ذلك جليًّا في سورية والعراق، إذ أدت التوترات المتصاعدة بين وكلائهما إلى وضع البلدين على مسار تصادمي، يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط وجنوب القوقاز، إضافة إلى مخاطر أمنية يمكن أن تؤدي إلى موجات جديدة من الهجرة إلى أوروبا.

وثمّة خلافات كثيرة بين الرؤيتين التركية والإيرانية، حول حاضر المنطقة ومستقبلها، فقد أدى ربيع الثورات العربية، منذ سنة 2011، إلى اشتباك بينهما في عدة مواقع. فقد حاولت إيران تحويل سورية والعراق إلى موقعين لمواجهة النفوذ التركي، الذي يمتد خط دفاعه بين حلب والموصل، وبالتالي فإنّ تركيا عملت على عدم الإخلال الإيراني بميزان القوى الإقليمي، بما لا يصل إلى حدِّ الصدام المباشر مع إيران. ويمكن أن نلمس التنافس بينهما، بعدما قامت تركيا بدعم سلطة إقليم كردستان العراق، بما يدعم استقلالها عن السلطة المركزية في بغداد، التي تخضع للنفوذ الإيراني، من خلال “الحشد الشعبي” ذي العلاقات مع حزب العمال الكردستاني التركي الـ PKK في جبل سنجار، وأيضًا من خلال حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية، الذي اتهمته تركيا أخيرًا بدعمه “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد” وحزب Pkk.

وفي المقابل، تواجه إيران، على حدودها الشمالية الغربية، النفوذ التركي في القوقاز. حيث إنّ الصراع الآذري – الأرمني كشف الخلافات العميقة بين تركيا وإيران، اللتين تطمح كل منهما للعب دور أساسي في المنطقة، باعتبارها مدخلًا لآسيا الوسطى، لتكريس دوره في المعادلات الاستراتيجية الدولية، خاصة بعد احتدام الصراع بين روسيا والغرب على إثر غزو أوكرانيا.

ومن ناحية النووي الإيراني، رحبت تركيا بالاتفاق (5+1)، الذي تم في فيينا بتاريخ 14 تموز/ يوليو 2015، ولكنها رفضت طابعه العسكري، لما ينطوي عليه من تهديد لأمن المنطقة، وأعربت عن حق إيران في الاستفادة السلمية من المشروع. ولكنّ تصريح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، في يوم إعلان الاتفاق، كان صريحًا في التعبير عن الموقف التركي، مشددًا على أهمية إحداث تغيّرات في السلوك الإقليمي لإيران، حيث أشار في تصريحه إلى أنّ الاتفاق “سيُسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي وفي الاقتصاد الإقليمي، وسيكون له تأثير إيجابي مباشر على تركيا، ويجب أن يتم تطبيقه بشكل كامل وبشفافية كاملة. كما دعا طهران إلى مراجعة سياساتها الإقليمية وضرورة الابتعاد عن السياسات الطائفية، وأن تولي أهمية للحوار والحلول السياسية، هذا ما نتوقعه في سورية والعراق واليمن” [6].

 ثالثًا. تجليات العلاقات التركية – الإيرانية في سورية

كشفت المسألة السورية مدى دور البلدين في إدارة مساراتها، فمنذ بداية الحراك الشعبي السوري، في آذار/ مارس 2011، انغمسا في هذه المسارات، على طرفي نقيض، بحثًا عن الزعامة الإقليمية، كون سورية يمكن أن تكون ممرًا لموارد الطاقة إلى الأسواق الأوروبية.

ومن جهة أخرى، تقع سورية في قلب مشروع “الهلال الشيعي” الإيراني الممتد من طهران عبر العراق وسورية وصولًا إلى لبنان، إذ تستطيع عبرها تزويد “حزب الله” بالسلاح ومدِّ نفوذها إلى الأردن، لذلك كانت إيران الأكثر دعمًا للنظام السوري، منذ اندلاع الحراك الشعبي في آذار/ مارس 2011 وما زالت. كما تعتبر سورية ذات أهمية كبيرة لتركيا في توازنات الشرق الأوسط، إضافة إلى أنها عقدة التواصل التركي التجاري مع العالم العربي. وللجانب الأمني أيضًا أهمية كبيرة، خاصة أنّ الحدود المشتركة تمتد على مسافة تزيد على 900 كم، ولذلك تحرص تركيا على استقرار حدودها الجنوبية. وهكذا، فقد كشف الحراك الشعبي السوري تناقض توجهات الطرفين، نتيجة التقييم المختلف لهذا الحراك، والإجراءات المتناقضة التي اتخذتها كل من الدولتين إزاءه.

ومنذ بداية الحراك الشعبي السوري، كان واضحًا أنّ إيران وتركيا تبحثان عن مصالحهما، في خضم مأساة السوريين، والحسبة المعقدة للمكاسب والخسائر المحتملة في حالة سقوط النظام. وفي هذا السياق، كانتا حريصتين على عدم تحوّل حرب الوكالة بينهما إلى صراع مباشر. بل إنّ العلاقات التجارية ازدهرت، خاصة في ظل العقوبات الغربية على إيران، إذ كانت تركيا نافذة إيران الاقتصادية، ففي عام 2017 تم الاتفاق بينهما على استخدام العملة المحلية في التبادل التجاري. وفي ذروة الحرب الأهلية السورية، “وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 22 مليار دولار سنويًا”[7].

مظاهر التعاون

كان للحضور العسكري والسياسي الروسي، في أيلول/ سبتمبر 2015، وما رافقه من اتفاقات روسية – أميركية حول سياقات الحل في سورية، قوة دفع لتركيا وإيران للتوافق في المسألة السورية، إذ رأى الطرفان في النفوذ الروسي تأثيرًا على موقعيهما المركزي منذ بداية الحراك الشعبي.

ومن جهة تركيا، طمحت إلى أنّ إيران، ذات النفوذ على حزب العمال الكردستاني التركي PKK صاحب النفوذ على حزب الاتحاد الديمقراطي السوري “قسد”، يمكن أن تشكل معها محورًا إقليميًا لمواجهة الطموحات الكردية.

وفي الوقت الذي اتسمت العلاقات السياسية والأمنية بالتوتر، من خلال وكيلي الطرفين، فإنّ المصالح الاقتصادية كانت في تطور واضح منذ عام 2011، فمثلًا في 28 نيسان/ أبريل 2021، اجتمعت اللجنة الاقتصادية المشتركة، وتم التوقيع على مذكرة تتضمن مجموعة من المجالات الاقتصادية، بحيث أصبحت البضائع التركية صاحبة الحصة الأكبر في الأسواق الإيرانية، في حين أصبحت إيران المصدر الأول لموارد الطاقة لتركيا، ضمن إطار مقايضة السلع التركية بالغاز الإيراني.

ومن الناحية السياسية، أدى لقاء آستانة الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني، في 23 و24 كانون الثاني/ يناير 2017، وتشكيل هيئة ثلاثية لفرض وقف إطلاق النار في سورية، إلى زيادة فرص التقارب بينهما في البداية.

لقد رحّبت إيران بالحوار بين القيادتين التركية والسورية، واعتبرت أنّ العلاقات بينهما تخدم مصالح المنطقة، وقد قال وزير الخارجية عبد اللهيان: “يسعدنا أن نرى اليوم جهود إيران في هذا الخصوص من الماضي إلى الحاضر تؤتي ثمارها، نعتقد أنّ أي تطور إيجابي بين أنقرة ودمشق سيفيد كلا البلدين ومنطقتنا، ونظرًا لعلاقتها الوثيقة مع البلدين، فإنّ إيران ستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذا الهدف”[8]. وقد أشاد وزير الخارجية التركي بالدور الإيراني في عملية التقارب بين أنقرة ودمشق.

مظاهر التنافس والصراع

بدأ التنافس التركي – الإيراني بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وفي حين أنّ تركيا اعترفت بالنفوذ الإيراني في العراق لأسباب جغرافية ومذهبية، فإنّ إيران رفضت الاعتراف بالنفوذ التركي في سورية، وظهر ذلك جليًا منذ انطلاق الحراك الشعبي السوري في آذار/ مارس 2011، حيث دخلا معًا في صراع بالوكالة، حيث أعلنت إيران دعمها للنظام، وأعلنت تركيا دعمها لمعارضيه ومطالبتها بالتغيير السياسي. وتكمن خشية إيران من معرفتها بما تملكه تركيا من مقوّمات نفوذ في سورية، خاصة حدودها المشتركة الطويلة.

إنّ وجود الميليشيات التابعة لإيران في شرقي حلب منذ أواخر سنة 2016، أثر في النفوذ التركي في الشمال السوري، خاصة بعد محاولات التشييع والتغيير الديموغرافي التي أجرتها إيران هناك، مما دفع تركيا إلى إدخال ملف هذه الميليشيات إلى الحل السياسي القادم. وقد تمَّ ذلك بعد تبادل الاتهامات بين الطرفين، حيث اتهمت تركيا إيران بأنها تؤجج الصراع الطائفي في المنطقة، مما دفع إيران إلى إرسال مذكرة احتجاج مع السفير التركي في طهران، إضافة إلى أنّ مستشار المرشد ردَّ قائلًا: “إنّ تركيا تريد أن تصلّي في الجامع الأموي بدمشق، وإنها فشلت في ذلك، وعليها سحب قواتها من العراق وسورية شاءت أم أبت”[9].

وفي حزيران/ يونيو 2020، شوهدت قوات “حزب الله” إلى جانب قوات النظام خلال التصعيد العسكري في محافظة إدلب، مما أبرز التناقض بين تركيا وإيران، وتبادل الاتهامات والإنذارات، خاصة “بعد أن أدى القصف الجوي التركي على المنطقة الممتدة من معرة النعمان إلى سراقب بجنوب شرق إدلب، إلى مقتل ما لا يقل عن خمسة عشر عنصرًا من عناصر حزب الله اللبناني”[10].

كما أظهرت اجتماعات آستانة الثلاثية المتكررة: روسيا وإيران وتركيا، عدم اتفاق الطرفين على كيفيات حل المسألة السورية، فمثلًا توترت العلاقات بينهما عندما أعلنت تركيا نيتها إقامة منطقة آمنة في شمال سورية. فقد كانت إيران ضد عملية “غصن الزيتون” في عام 2018، وعرقلت تحرك القوات التركية بعدة طرق[11]:

–فتح طريق إمداد لوحدات الحماية الكردية من مناطق شرق الفرات باتجاه عفرين، عبر مناطق النظام السوري.

–العمل على تزويد هذه الوحدات بعربات عسكرية إيرانية الصنع.

–العمل على نشر منظومة دفاع جوي، تابعة للنظام السوري، وقد أدت تلك المنظومة إلى منع سلاح الجو التركي من التحليق فوق منطقة عفرين لمدة أربعة أيام.

–توقيع اتفاق مع الوحدات الكردية بعفرين في 18 شباط/ فبراير2018، بهدف تأمين دخول القوات الشعبية، التي ستساعد على تقوية وصمود وحدات الحماية الكردية.

واتخذت إيران الموقف نفسه من عملية “نبع السلام”، في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ولا سيما أنها تمت بموافقة روسيا وأميركا، وطالبت تركيا باحترام وحدة الأراضي السورية وسيادتها، واقترحت أن تلتزم تركيا باتفاقية “أضنة” المبرمة بين الحكومتين السورية والتركية في عام 1998.

وعندما أعلنت تركيا القيام بعملية جديدة باتجاه تل رفعت ومحيطها، في حزيران/ يونيو 2022، حيث توجد ميليشيات تابعة لإيران، أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من دمشق أنّ بلاده “تعمل على إيجاد حلّ سياسي، لثني تركيا عن شنّ العملية العسكرية التي تهدد بها، في شمالي سورية”، وأعلن استعداد بلاده لتقديم حلّ سياسي للأزمة، وقال: “سنبذل قصارى جهدنا لمنع شنّ عملية عسكرية”. وفي الوقت نفسه قال إنّ إيران “تتفهم قلق ومخاوف الحكومة التركية بشأن القضايا الحدودية الخاصة بها، لكننا نعتبر أنّ أي إجراء عسكري في سورية هو عامل مزعزع للأمن في المنطقة”[12]. ويعكس الموقف الإيراني خشية إيران من توسّع النفوذ التركي في سورية، مع انشغال روسيا بتداعيات غزوها لأوكرانيا.

وكان الوزير الإيراني قد تقدّم في تركيا بمبادرة “تعتمد على ركنين: الأول مشاطرة تركيا في مخاوفها من الواقع الآخذ في التشكل بشمال سورية، نحو تأسيس كيان كردي مستقل مدعوم من الولايات المتحدة والغرب، والركن الثاني هو استعداد إيراني للوساطة بين أنقرة ودمشق لبحث حل بديل عن العملية العسكرية”[13].

ومن جهة أخرى، فإنّ التقارب الروسي – التركي أقلق إيران من سعي الطرفين لإنهاء وجودها في شمال سورية، إذ شعرت بأنّ وجودها في مسار آستانة شكليٌّ، فلا وجود لقواتها بين الدوريات المشتركة. كما أنّ أغلب السياسات التركية في سورية تتبلور نتيجة التنسيق بين القيادتين التركية والروسية، وقد ظهر ذلك بوضوح في سياق التطبيع التركي مع النظام السوري، حيث استُبعدت إيران في البداية، مما دفعها إلى محاولة عرقلة اللقاءات الثنائية التركية – السورية، من خلال الضغط على النظام السوري. وازداد القلق الإيراني بعد بداية اللقاءات الثلاثية بين تركيا وروسيا وسورية، منذ أيلول/ سبتمبر 2022، على مستوى وزراء الدفاع والاستخبارات. وثمة اعتقاد بأنّ تشدد رأس النظام السوري لمتابعة مسار التطبيع مع تركيا قد تمَّ تحت تأثير الضغط من إيران، التي عبر وزير خارجيتها، أثناء زيارته للبنان في 13 كانون الثاني/ يناير الماضي، عن دعمه للموقف السوري من جهة، وسعادته بتقارب حليفي بلاده.

 وفي كل الأحوال، يبدو أن التوتر بين البلدين مرهون بمعرفة طبيعة مسار الحل في سورية.

رابعًا. أهم الاستنتاجات

–تقدّم العلاقات التركية – الإيرانية تطبيقًا عمليًا للواقعية السياسية، بعيدًا عن الإسقاطات الأيديولوجية. لذلك من الصعوبة بمكان الحديث عن تعاون أو صراع بنيوي بينهما، إذ تتلمسان كيفية السير في حقل ألغام منطقة الشرق الأوسط الموسع وتحولاتها.

–كان لتداعيات الحراك الشعبي السوري آثار متعددة على العلاقات بين الدولتين، على المستويين السياسي والأمني.

–سيظل التعاون والصراع بين تركيا وإيران في سورية محكومًا بمسار الحل السياسي، إضافة إلى تحولات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية. وليس مستبعدًا أن تتفقا على تقاسم النفوذ في سورية.

[1] إيران: الغاز سيمر عبر تركيا حال تصديره لأوروبا، تصريح للمدير العام للشركة الوطنية الإيرانية للغاز ماجد تشغني، في 25/5/2023، وكالة أنباء الأناضول، https://2u.pw/THfSdUj

[2] تامر بدوي: الانعطافة الاقتصادية في العلاقات التركية – الإيرانية، مؤسسة كارنيغي 20 آذار/ مارس 2020، شوهد بتاريخ 11 أيار/ مايو، 2023، الرابط: https://carnegieendowment.org/sada/81332

[3] أمل نبيل: إيران تدرس مشروع غاز عملاقًا مع تركيا – الرابط: https://2u.pw/axOJG

[4] مروان قبلان: سورية بين إيران وتركيا، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، شوهد بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023، الرابط:  https://2u.pw/G6eXIu،

[5] تصعيد تركي مع طالباني واتهامات بالتقارب مع أكراد سوريا وتركيا – 6 نيسان/ أبريل 2023، شوهد بتاريخ 6 نيسان/ أبريل، الرابط: https://2u.pw/uoqwvI

[6] علي حسين باكير: الاتفاق النووي الإيراني في حسابات تركيا المستقبلية، شوهد بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023، الرابط: https://2u.pw/oJMnXT،

[7] المركز الديمقراطي العربي: أثر الأزمة السورية على العلاقات التركية – الإيرانية (2011 – 2021) – 23 تموز/ يوليو 2022، شوهد بتاريخ 31 آذار/ مارس 2023 ،الرابط: https://2u.pw/hhE4Ay

[8] عبد الناصر القادري: على خط التطبيع بين تركيا والنظام السوري.. ماذا تريد إيران؟ شوهد بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023، الرابط: https://2u.pw/h3gOV1

[9] جاسم محمد حاتم العزاوي: العلاقات التركية – الإيرانية بعد عام 2011، برلين- المركز الديمقراطي العربي، 2019، ص54. الرابط: https://2u.pw/jl29VT

[10] المرجع السابق.

[11] المرجع السابق.

[12] أمين العاصي وجابر عمر: الحراك الإيراني بين دمشق وأنقرة: طهران تخشى توسع النفوذ التركي، شوهد بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023، الرابط: https://2u.pw/YWq2sg،

[13] المرجع السابق.

مركز حرمون

——————————-

“مسودة بمواقف بعيدة”.. ما آخر المستجدات بين تركيا والأسد؟

تعمل أطراف اللجنة “الرباعية” الخاصة بفتح مسار العلاقة بين تركيا والنظام السوري على وضع مسودة لـ”خارطة طريق”، رغم أن “المواقف ما تزال بعيدة”.

ومن المقرر أن تجري المناقشة الأولى لنص “الوثيقة” في الوقت القريب، بحسب ما قال السفير الروسي في دمشق، ألكسندر يفيموف.

وأضاف يفيموف لصحيفة “الوطن” شبه الرسمية، اليوم الاثنين في تعليقه على آخر مستجدات العلاقة بين أنقرة ونظام الأسد: “من الصعب في غضون أسابيع أو أشهر قليلة استعادة ما تمّ تدميره لمدة اثني عشر عاماً”.

وتابع: “إذ ينتظرنا الكثير من العمل الشاق في هذا الاتجاه، ويجب الاعتراف بصراحة أن مواقف الطرفين لا تزال بعيدة عن بعضها بعضاً”.

واعتبر المسؤول الروسي أن “النتائج التي تحققت من اجتماعات اللجنة الرباعية إيجابية حتى الآن”.

لكنه أشار مستدركاً: “الطريق بغض النظر عن طوله، يبدأ دائماً بالخطوة الأولى، وغالباً ما تكون هذه الخطوة هي الأكثر صعوبة والأكثر أهمية”.

كيف ستتعاطى تركيا؟

ويسود ترقب في الوقت الحالي بشأن السياسية التي ستتبعها تركيا بخصوص الملف السوري، بعدما انتهت من انتخاباتها التاريخية بفوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وكان أردوغان قد عيّن حقان فيدان في منصب وزير الخارجية التركي، ووضع خلفاً له في رئاسة الاستخبارات الناطق السابق باسم الرئاسة، إبراهيم قالن.

وفي أولى تصريحاته بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات أوضح قالن أنه “لا توجد اجتماعات مقررة حالياً على المدى القريب بين الرئيس التركي والأسد”.

وتحدث قالن عن “3 قضايا” تتعلق بسياسة تركيا المقبلة الخاصة بسورية، وفي مرحلة ما بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة. وهذه القضايا هي “عودة السوريين”، “محاربة الإرهاب”، “استمرار مفاوضات اللجنة الدستورية السورية”.

من جانبه قال السفير الروسي في دمشق إنه يعتقد أن “إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان لفترة رئاسية جديدة يجب أن تكون عاملاً إيجابياً” في سياق العلاقة مع النظام السوري.

وقال: “آمل الآن بعد أن اختفى الضغط الانتخابي في الفترة الماضية، أن تكون القيادة التركية قادرة على إيلاء اهتمام أكبر لهذا الاتجاه من سياستها الخارجية”.

“على رأس ملفات فيدان”

وكانت صحيفة “تركيا” قد ذكرت، الأسبوع الماضي، أن سورية تتصدر الملفات التي سيعمل عليها وزير الخارجية المعين حديثاً، حقان فيدان في المرحلة المقبلة، وبعد تعيينه خلفاً لمولود جاويش أوغلو.

وقالت إنه “وبينما بدأ فيدان بتشكيل خارطة الطريق في السياسة الخارجية، يستعد الآن لخطوات جديدة يجب اتخاذها ولاسيما في القضية السورية”.

ووفقاً للمعلومات التي قالت الصحيفة إنها حصلت عليها “يعمل فريق خاص على 5 ملفات مهمة على تركيا التعامل معها في مجال السياسة الخارجية”.

ونوقشت الدراسات “الموجهة نحو الحلول” في موضوع “دور تركيا في حل المشاكل مع سورية واليونان وأرمينيا وليبيا والحكومة المركزية العراقية وإدارة شمال العراق”.

وأشارت الصحيفة إلى أن “الملف السوري وضع على رأس الملفات”.

ويجري الآن الإعداد لقواعد الاجتماع على مستوى القادة (أردوغان وبشار الأسد).

ووفق صحيفة “تركيا”: “تم الوصول في المفاوضات الأخيرة إلى مرحلة تحويل جدول عودة اللاجئين إلى وثيقة مكتوبة”.

——————————-

نجح أردوغان وفشل الإسلام السياسي/ سمير حمدي

مع كل فوز انتخابي يحقّقه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية يتجدّد السجال في المنطقة العربية بشأن قضايا الديمقراطية والعلمانية والإسلام السياسي، وهو أمر تحوّل إلى ما يشبه التقليد الجدلي الذي يتكرّر في مناسبات مختلفة. وبعيداً عن تفكيك المشهد التركي وملابساته وطبيعة التقاطعات التي يعرفها، بما فيه من قضايا السياسة والاقتصاد والهوية، فإن السؤال الإشكالي المطروح بشدّة: لماذا فشل الإسلام السياسي في المنطقة العربية في أن يحقق نجاحات مشابهة لما حققه أردوغان، خصوصاً في ظل التمحّك المستمر الذي تُبديه الأحزاب الإسلامية في الدول العربية في تأكيدها أنها تسير وفق النموذج التركي إن صحّت المماثلة؟

لا أحد ينكر أن المنطقة العربية ما زالت مربعاً جغرافياً يعاني أزماتٍ مستمرّة في المجال السياسي، وعاجزة عن بناء نظام ديمقراطي قادر على الاستمرارية والتواصل ضمن حدود إمكانات الدولة الوطنية التي تشكّلت ما بعد الاستقلال، والأكيد أيضاً أن التيارات الإسلامية كانت جزءاً مهماً من الصراع السياسي المحتدّ في المنطقة طوال العقود الماضية، وقد أتاحت لها ثورات الربيع العربي فرصة الوصول إلى الحكم في أكثر من تجربة. ومع ذلك، فشلت جميعها ليس في البقاء في الحكم فحسب، بل وحتى مجرّد الحفاظ على المناخ الديمقراطي وقطع الطريق أمام عودة الاستبداد بأشكاله المختلفة.

ربما كان الخطأ الأوضح في محاولة المماثلة مع التجربة التركية لحزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان هو غياب التماثل في نمط الممارسة السياسية وقراءة الواقع في كل بلدٍ على حدة. لم يكن “العدالة والتنمية” التركي، منذ وصوله فعلياً إلى السلطة بعد انتخابات 2002، يطرح نفسه حزباً إسلامياً، وإنما يتموقع في إطار اليمين المحافظ، فلم يكن مثقلاً بشعارات “الإسلام هو الحل” أو “تطبيق الشريعة” أو محاربة “الفسق والفجور” ضمن الرؤية الأخلاقوية لدى أحزابٍ إسلامية كثيرة لم تكن قادرة على طرح برامج فعلية لقضايا السياسة والاقتصاد، وتفكيك بنية نظام الاستبداد الذي ترسّخ بشكل جذري ضمن الهيكل العام لدول عربية كثيرة.

قد يكون من نافلة القول إن تجربة حركة النهضة في تونس هي التي تجري مقارنتها بشكل مستمر مع التجربة التركية، سواء من المراقبين أو حتى من قادة هذه الحركة ذاتها، ربما لوجود تشابه من حيث وضوح النزعة اللائكية لدى مؤسّسي الدولتين، أعني كمال أتاتورك في تركيا والحبيب بورقيبة في تونس، وظهور التوجّهات الإسلامية ضمن صراع أيديولوجي لا يخفى بين أنصار القوى الإسلامية وأتباع اللائكية المتطرّفة. ومع ذلك، نجح أردوغان في تجذير سلطته وترسيخها، وتحقيق نجاحات انتخابية متتالية عقدين متتالين، فيما تآكلت حركة النهضة في أقل من عقد، بل وانتهى بها الحال إلى العودة إلى مربع التنازع مع نظام الحكم الذي عاد إلى سيرته الأولى في مرحلة ما قبل الثورة.

لا أحد يُنكر أن الحكم ينهك الأحزاب ويدفعها إلى خسارة الكثير من ألقها وبريقها، فشعارات المعارضة لا تجدي عندما يصبح الحزب مشاركاً في السلطة، وهنا تأتي مهارة الأداء السياسي أثناء الحكم لإقناع الجمهور بجدوى ما يقدمه أي حزب سياسي من برامج في مجالات السياسة، وخصوصاً الاقتصاد. وفيما نجح أردوغان في إقناع جمهور الناخبين بقدراته القيادية، بوصفه رجل دولة يملك أفكاراً عملية لحل المشكلات المتراكمة والمتجدّدة، تصرّفت حركة النهضة في تونس وفق مبدأ السير مع التيار، وهكذا خاضت تحالفاتٍ متعدّدة ومتناقضة بداية من التحالف مع المنصف المرزوقي، مروراً بمشاركة الباجي قائد السبسي في أثناء حكمه، ثم الانتقال إلى دعم يوسف الشاهد، وانتهاء بالتصويت لصالح الرئيس الحالي في انتخابات 2019، لم تكن الحركة تملك تصوّراً واضحاً للحكم، ولا رؤية تحدّد الأهداف التي تسعى إليها، فقد مارست السياسة وفق مبدأ “التجربة والخطأ”، وركّزت على المشاركة المستمرّة في الحكم بأي ثمن، عوضاً عن العمل على ترسيخ الديمقراطية، وتفكيك نظام الاستبداد الذي كان ثاوياً في طيّات الدولة، ينتظر الفرصة للاستيقاظ والعودة إلى ما كان عليه.

ينبغي أن يكون نجاح أردوغان في تركيا درساً لكلّ القوى السياسية العربية، وفي مقدمتها الأحزاب الإسلامية، فليس بالشعارات وحدها تُدار الدول، وأن فرصة التأثير في الدولة لا تتوفر دائماً، وأن إعادة بناء النظام السياسي للسير به نحو ديمقراطية مستقرّة، وتحظى بدعم الجمهور تقتضي التضحية بالحسابات الحزبية الضيقة، والأهم امتلاك ناصية إدارة الدولة باقتدار، وتحقيق نجاحات ممكنة، حتى وإن كانت صغيرة لمنع الانتكاس نحو الماضي السيئ، والعودة إلى مربّع النضال من أجل الحقوق والحريات، بعد أن تصوّر الجميع أنها قد ترسخت أو كادت.

——————————–

كيف ستسهم دول الخليج العربي في دعم الاقتصاد التركي؟/ حسن الشاغل

خاضت تركيا انتخابات رئاسية وبرلمانية هي الأكثر استقطاباً على الصعيد السياسي والإيديولوجي، وتمخضت عن فوز تحالف الجمهور بغالبية البرلمان، وفوز الرئيس أردوغان بولاية رئاسية جديدة لمدة خمس سنوات بعد تحقيقه 52.2٪ من الأصوات في الجولة الثانية.

وأمام الرئيس أردوغان العديد من الملفات الحرجة والمهمة، فمن ناحية يريد حل الاستقطاب السياسي العنيف الذي حصل قبل الانتخابات للوصول لحالة من الاستقرار الداخلي، وإعادة إعمار المناطق المنكوبة من الزلزال المدمر، بالإضافة الى إعادة ترتيب البيت الداخلي لحزب العدالة والتنمية بعد تراجع القاعدة الشعبية للحزب، ولكن الملف الأهم والمعقد الذي سيسعى الرئيس أردوغان للعمل عليه هو الملف الاقتصادي، فتركيا قبل الانتخابات عملت على تطبيق سياسة نقدية غير تقليدية أدت إلى تراجع مؤشرات الاقتصاد بشكل كبير تمثلت في ارتفاع التضخم وهروب الاستثمارات الدولية وهبوط قيمة الليرة.

وكانت أول خطوات الرئيس أردوغان في الشأن الاقتصادي بعد تسلمه الرئاسة تعيين محمد شيمشك وزيراً للمالية، ويعتبر شيمشك شخصية اقتصادية مهمة على المستوى الدولي، وصرح شيمشك أن الاقتصاد التركي سيعود إلى اتباع نهج الليبرالي التقليدي في إدارة اقتصاد البلاد. لكن أمام وزير المالية مهمة في غاية الصعوبة، فبعد وصول التضخم لمؤشرات مرتفعة لن تفيد كثيراً سياسة رفع الفائدة ومع ذلك قد يعمل على رفع الفائدة بشكل تدريجي، وقد يذهب شيمشك لفرض الضرائب واتباع سياسة تقشفية في الإنفاق الحكومي، لكن كل ذلك قد لا يحقق التوازن للاقتصاد التركي بسهولة، لذلك لابد من وجود استثمارات حقيقية تدخل في عجلة الاقتصاد التركي، وانطلاقاً من ذلك من المتوقع أن تكون الاستثمارات الخليجية هدف الرئيس أردوغان في المستقبل القريب. وتناقش هذه المقالة، كيف ستسهم الاستثمارات الخليجية في دعم الاقتصاد التركي المترنح، ونركز على السعودية والإمارات بسبب اقتصادهما الكبير وحجم سوقهما الاستهلاكية مقارنة بدول الخليج الأخرى.

    مستقبل الدور السعودي في الاقتصاد التركي

صرح الرئيس أردوغان أن دول الخليج العربي ستكون أول وجهة له بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، والسعودية أول محطاته لأداء فريضة الحج، وعلى أن تردفها لقاءات رسمية مع القادة السعوديين.

وقد لعبت السعودية قبل الانتخابات دورا في تحقيق نوع من الاستقرار في قيمة الليرة التركية بعدما ضخت 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي كوديعة، كما عملت على رفع حجم الاستثمارات في تركيا إلى نحو 8 مليارات دولار، واستأنفت الأسواق السعودية الاستيراد من تركيا بعدما كانت قد فرضت قيودا على الاستيراد سابقاً، وقد وجه مجلس الوزراء السعودي الشركات بتشجيع الاستثمار المباشر مع تركيا.

وعلى المدى المتوسط والبعيد من المحتمل أن يكون الدور السعودي في دعم الاقتصاد التركي عبر أربعة اتجاهات:

    أولاً: ضخ الاستثمارات في تركيا عبر صندوق الاستثمارات السعودي الحكومي، الذي يملك استثمارات في العديد من دول العالم. ومن المحتمل أن تتوجه استثمارات الصندوق إلى قطاع التصنيع العسكري الذي يشهد نمواً مرتفعاً إضافة إلى قطاع البتروكيماويات، والمصارف.

    ثانياً: تشجيع الأسواق المحلية على رفع مستوى الاستيراد من الأسواق التركية. وللحكومة السعودية القدرة على التحكم في واردات السوق الداخلية بشكل غير مباشر عن طريق توجيه الأسواق والرأي العام بالتوجه في استهلاك واستيراد السلع من دولة معينة. وللسوق السعودية قيمة كبيرة للصادرات التركية، ومن المعروف أن السعودية دولة مستهلكة، ويبلغ عدد سكانها بما فيهم المقيمون قرابة 35 مليون نسمة، مما يجعلها سوقاً مهمة للصادرات. وقد يسعى الرئيس أردوغان في زيارته المرتقبة للرياض إلى العمل مع الجانب السعودي لتشجيع الاستيراد من تركيا بشكل أكبر مما سينشط عجلة الاقتصاد في البلاد ويعود عليها بتدفقات نقدية، ويخفض نسب البطالة.

    ثالثا: فوز الرئيس أردوغان في الانتخابات واستقرار البلاد لخمس سنوات قد يدفع لاستقرار العلاقات السياسية بين البلدين من خلال تفعيل الاتفاقيات الاستراتيجية الموقعة بين البلدين في عام 2017. وتحقيق الاستقرار سيكون مهما لتدفق السياح السعوديين والذين بلغ عددهم قبل توتر العلاقات مليونَ سائح في السنة، ويشكلون قيمة عالية لقطاع السياحة الذي يعتبر من أهم مصادر الدخل الاقتصادي التركي، وتبلغ متوسط إيراداته سنوياً 70 مليار دولار. أيضاً ستدفع عودة العلاقات بين البلدين إلى تنشيط الاستثمارات المباشرة للمواطنين السعوديين في قطاع العقارات.

    رابعا: مساهمة الشركات التركية في عملية بناء وتطوير البنية التحتية في السعودية وفقاً لـ “رؤية 2030” والتي تصل كلفتها إلى 3.2 تريليون دولار. فالرياض في صدد بناء مدينة نيوم، وتأسيس 4 مصانع للطائرات بلا طيار، ومصنعين لصناعة السيارات الكهربائية، بالإضافة لإنشاء خطوط المواصلات، كما أعلنت عن إنشاء أربع مدن اقتصادية. ويبدو أن مساهمة تركيا في عملية التنمية قد بدأت، فبحسب بلومبرغ، التقت شركة أرامكو مع شركات تركية بشأن مشاريع قيمتها 50 مليار دولار، وتقول إن أرامكو تخطط لتشييد مصفاة وخطوط أنابيب ومبانٍ إدارية وإنشاءات بالبنية تحتية، كما التقت أرامكو مع مسؤولين في شركات مقاولات تركية في أنقرة. ومن الجدير بالذكر أن للشركات التركية تجارب جيدة في عمليات البناء في السعودية وخاصة بعد نجاحها في بناء مطار المدينة المنورة الدولي في عام 2016.

    مستقبل الدور الإماراتي في الاقتصاد التركي

أعادت الإمارات تطبيع علاقاتها مع تركيا في عام 2021، وفي ذلك الوقت استثمرت 10 مليارات دولار في الأسواق التركية، وتركزت تلك الاستثمارات على القطاع المصرفي والتكنولوجيا والطاقة. ومع نهاية عام 2022 قدرت قيمة إجمالي التجارة بين الإمارات وتركيا 19 مليار دولار بزيادة قدرها 40% عن عام 2021، حيث أصبحت تركيا الشريك الأسرع نمواً بين أكبر 10 شركاء تجاريين لدولة الإمارات، فيما أصبحت الإمارات أكبر شريك تجاري عربي بالنسبة لتركيا. كما وقعت الإمارات مع تركيا في 4 مارس/ آذار من العام الجاري اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة تهدف إلى تحفيز التبادل التجاري وزيادة الاستثمارات المتبادلة بين البلدين، وخلق فرص العمل المشتركة. ومن أبرز بنود الاتفاقية خفض الرسوم الجمركية على 82% من المنتجات بين البلدين. وتسعى الدولتين إلى رفع قيمة التبادل التجاري غير النفطي إلى 40 مليار دولار سنوياً في غضون  الأعوام الخمسة القادمة، وإلى توفير 25 ألف وظيفة جديدة في الإمارات، و100 ألف وظيفة في تركيا بحلول 2031. ومن المحتمل أن تحقق الاتفاقية منفعة مشتركة للطرفين، وتحفز النمو الاقتصادي طويل الأمد والمستدام والشامل في كلا البلدين. ومن المحتمل أن تسرع الإمارات بالعمل بالاتفاقية بعد فوز الرئيس أردوغان، ودخول البلاد في مرحلة استقرار على المستوى الداخلي والخارجي.

ومن المتوقع أن تزيد الإمارات من وارداتها من السوق التركية من أجل إعادة التصدير، فالإمارات تمتلك سوقا حرة هي الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، تقوم عبرها باستيراد السلع من العديد من دول العالم وتعيد تصديرها باسم الإمارات، وقد سجلت القيمة الإجمالية لإعادة التصدير 600 مليار درهم في عام 2022.

الاستثمارات الخليجية لن تكون بمنزلة هدية مجانية لتركيا، لذلك لابد من الرئيس أن يقدم ضمانات تتعلق بمستقبل واستقرار اقتصاد البلاد. وأعتقد أن الأمر لن يقف على الربح المادي فقط بقدر المكاسب السياسية والعسكرية التي يتوقع أن تطالب بها الرياض وأبوظبي. فالسعودية بحاجة لشريك أمني قوي وموثوق يعتمد عليه في تحقيق الاستقرار في المنطقة، لأن السعودية تحاول تحقيق الاستقرار الداخلي والإقليمي بما يضمن لها نجاح عملية التنمية التي تطمح في إنجازها. وبالنظر إلى الفواعل الإقليمية الحالية قد تكون السياسة الخارجية التركية هي الأقرب منهجياً إلى السياسة السعودية، فضلا عن الدور التركي المؤثر في عدد من ملفات المنطقة. كما أن السعودية والإمارات في طور استراتيجية جديدة في تنويع علاقاتهم الدولية ومصادر تسليحهم، وقد تكون تركيا أحد مصادر السلاح الخليجي في المستقبل القريب. والأهم من ذلك أعتقد أن ثمن دعم أبوظبي والرياض للاقتصاد التركي هو الطلب من تركيا بنقل جزء من تكنولوجيا التصنيع العسكري إلى دولهم.

في السنوات الخمس المقبلة من المحتمل بشكل كبير أن يركز الرئيس أردوغان على السياسة الداخلية، وبالدرجة الأولى الاقتصاد الذي يمس المواطن بشكل مباشر لضمان ديمومة حكم حزب العدالة لعقود. لذلك سيسعى الرئيس أردوغان بالمساومة السياسية لكسب استثمارات وقروض ومشاريع من دول الخليج، والتي سيكون لها دور كبير في إعادة الاستقرار للاقتصاد التركي.

—————————–

لغز تراجع الليرة التركية رغم تحسن مؤشرات الاقتصاد/ مصطفى عبد السلام

واصلت الليرة التركية تراجعها مقابل الدولار خلال الأيام الأخيرة، على الرغم من انتهاء موسم الانتخابات وفترة الغموض السياسي، وتشكيل حكومة جديدة، وقبلها تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلية، والأهم تلبية البنوك كل احتياجات العملاء من النقد الأجنبي خاصة التجار والمستوردين، وعدم وجود سوق موازية للعملة.

وفقدت الليرة أمس الأربعاء أكثر من 7.4% من قيمتها، وهي نسبة كبيرة مقارنة بمؤشرات الاقتصاد التركي الإيجابية سواء تعلقت بزيادة معدل النمو وقفزة الصادرات والسياحة، أو التدفقات النقدية الأخرى، مع تراجع معدل التضخم وتحسن مؤشر الثقة والاكتشافات البترولية الأخيرة والبدء في استخراج الغاز وتزويد بيوت الأتراك به وبالمجان.

ومع التراجع المتواصل لسعر الليرة من الصعب حصر الأسباب في مبررين أساسيين يترددان منذ شهور، الأول يتعلق بما يسمى داخل بعض الدوائر شبه الرسمية بـ “سياسة الاستهداف والمؤامرات” الداخلية والخارجية على الدولة التركية وعملتها، والهجمة الشرسة من قبل المضاربين الدوليين وبنوك الاستثمار العالمية رفضاً لسياسة خفض سعر الفائدة، فهذا السبب كان من الممكن الاستماع إليه خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة.

والمبرر الثاني هو أن الحكومة التركية تتعمد خفض قيمة العملة بهدف جذب مزيد من الإيرادات الدولارية التي تجعلها في وضع مريح من حيث سداد أعباء الديون الخارجية وفاتورة الواردات.

وهناك مبرر آخر له وجاهته وهو محاولة أطراف خارجية دفع تركيا نحو الوقوع في مصيدة صندوق النقد الدولي والحصول على قروض من الدائنين الدوليين، وبالتالي دخول البلاد في دوامة الإجراءات التقشفية العنيفة وزيادة الأسعار وخفض الدعم.

لكن بشكل عام لا يمكن إرجاع سبب التهاوي في قيمة الليرة إلى شح النقد الأجنبي ونقص السيولة الدولارية في البنوك والأسواق وزيادة الطلب، فالبنك المركزي التركي يمتلك احتياطيات أجنبية تقدر بنحو 112 مليار دولار.

كما أن إيرادات تركيا من النقد الأجنبي تجاوزت 320 مليار دولار في العام 2022 منها 254 مليار دولار من الصادرات وحدها و46 ملياراً من السياحة بنسبة زيادة 53%.

علما بأن الطفرة الدولارية متواصلة خلال العام الجاري. فالصادرات تجاوزت قيمتها 101.7 مليار دولار خلال الشهور الخمسة الأولى من عام 2023، وزادت الشهر الماضي بنسبة 14.4% لتصل إلى 21.7 مليار دولار، مسجلة أفضل رقم في مايو/أيار على الإطلاق.

وعائدات السياحة في تركيا قفزت 32% في الربع الأول من العام الجاري، على الرغم من الزلازل المدمرة التي ضربت جنوب البلاد في فبراير الماضي.

وبالتالي يجب البحث عن أسباب منطقية لاستمرار تراجع سعر الليرة، بعيدا عن قصة المؤامرة على الاقتصاد التركي والحكومة، سواء من قبل دول تناصب تركيا العداء بالفعل أو من قبل مؤسسات مالية دولية، وهنا يمكن أن نطرح عدة أسباب، فربما تفسر الموقف الحالي المربك على مستوى السياسة النقدية والمالية.

أول الأسباب هو تزايد مخاوف الأتراك من استمرار التضخم على مستواه العالي البالغ حاليا نحو 39% عقب زيادة الرواتب بنسبة 45% بدءاً من شهر يوليو/تموز المقبل، هنا قد تكون المضاربات زادت في سوق الصرف وحدث تدافع نحو شراء الدولار والذهب واليورو للمحافظة على المدخرات المحلية.

الثاني هو تعيين فريق اقتصادي جديد لتركيا بقيادة محمد شميشك وزير المالية والخزانة، ومن المتوقع أن تنضم للفريق حفيظة غاية أركان لتكون أول سيدة تشغل منصب محافظ البنك المركزي التركي، وهنا سيتم عزل المحافظ الحالي شهاب قافجي أوغلو الداعم لسياسة خفض الفائدة والمحافظة على معدل نمو مرتفع رغم التضخم.

هذا الفريق لم يكشف أوراقه كاملة بعد، ولم يختبر السوق مدى استقلاليته في اتخاذ قراراته بعيدا عن تدخلات الرئيس التركي، خاصة في ملف معالجة التضخم المرتفع وإدارة السياسة النقدية وتحديد اتجاهات سعر الفائدة، وهل هذا الفريق قادر على أن يفرض رأيه ويرفع سعر الفائدة، وهو ما يتناقض مع السياسة المطبقة من قبل، أو يحافظ على النموذج الاقتصادي غير التقليدي؟ وهل صحيح أن هذا الفريق يدعم بقوة سياسة السوق الحرة، وبالتالي اخضاع العملة لقوى العرض والطلب؟

ثالث الأسباب يتعلق بما تردد في الأسواق أمس عن تخلي البنك المركزي التركي عن السياسة المطبقة منذ فترة والتي كانت تميل إلى الدفاع عن الليرة وكبح المضاربات عليها عبر ضخ سيولة دولارية من الاحتياطي الأجنبي، وهنا يترقب السوق أي إشارات في هذا الشأن وسط زيادة في الطلب على الدولار.

رابع هذه الاعتبارات التي لا يجب اغفالها تأتي من الخارج حيث تتوقع الأسواق زيادات أخرى في سعر الفائدة على الدولار من قبل البنك المركزي الأميركي، وهو ما يضغط على عملات كل الأسواق الناشئة خاصة للدول ذات المديونيات العالية.

كما تتوقع الأسواق العالمية بقاء أسعار النفط على مستوياتها المرتفعة عقب قرار تحالف “أوبك+” الأخير، وهو ما يعني بقاء فاتورة تركيا من الوقود على حالها.

في ظل هذه الاعتبارات وغيرها، من المتوقع أن تواصل الليرة تراجعها إلى حين الكشف عن توجه البنك المركزي والمجموعة الاقتصادية بشأن معالجة أبرز الأزمات ومنها غلاء الأسعار وتآكل العملة وزيادة كلفة المعيشة، وكيفية الحفاظ على مستوى معيشة مقبول في ظل تضخم مرتفع، وأي النماذج الاقتصادية ستفضل تركيا في المرحلة المقبلة؟

العربي الجديد

————————-

المهزومون إذ يتفاخرون بنجاحات غيرهم!/ حسان الأسود

شغلت انتخابات الرئاسة التركية أجزاءً مهمّة من العالم، فقد كان تفاعل الحكومات الغربيّة معها عمومًا من أميركا إلى كندا فأوروبا واضحًا، كذلك اهتمّ بها الروس والإيرانيون ودول الجوار القريب والبعيد. يهتم هذا المقال بتفاعل الشعوب العربية، وخصوصا منها الشعب السوري، مع هذه الانتخابات، وبالتحديد الرئاسية منها. مقاربة التفاعل السياسي الشعبي العربي مع الانتخابات التركية، من باب المقارنة مع تفاعل الشعوب العربية في بلدانها ذاتها مع الاستحقاقات الانتخابية على مختلف مستوياتها، توفّرُ مدخلًا واسعًا لقياس أسباب ذلك الاهتمام هنا والتجاهل هناك ونتائجهما. من الواضح بداية وجود انقسامٍ لا يمكن إنكاره بين تيارين رئيسيين في هذا المجال: أولهما، وهو الذي ينطلق من خلفيةٍ إسلامية، مناصر لأردوغان شخصيًا بالدرجة الأولى ولحزب العدالة والتنمية بالدرجة الثانية. ثانيهما، وهو منطلقٌ من خلفيات قومية متعدّدة، وهو معارض لأردوغان ولحزبه وللأتراك عمومًا. وهناك تيارٌ ثالثٌ هامشي نوعًا ما يمكن تسميته التيار الحيادي إن صحّ التعبير، وهو الذي يناصر التجربة الديمقراطية للأتراك بالدرجة الأولى. وبالدرجة الثانية العودة التركية إلى التوازن بين طبيعة المجتمع الإسلامية المتدينة تاريخيًا وموجبات احترام أسس الدولة التركية الحديثة التي قامت على ركيزة صلبة من العلمانية المتشدّدة التي حاولت إقصاء الدين من المجتمع لا من مؤسّسات الدولة فحسب.

ينطلق أنصار التيار الإسلامي من حنين إلى ماضٍ يرونه جميلًا لا يزال خيالُه يداعبُ أفئدتهم. ويرى قسمٌ من هؤلاء، عن عقيدةٍ راسخةٍ، أنّ الرابطة الإسلامية أقوى الروابط، وهي التي تجعل من القائد الذي يَلُمُّ شمل الأمّة جديرًا بالاتّباع والاقتداء أيًا كانت قوميته، فلمهاتير محمد ورجب طيب أردوغان مكانة خاصّة عند هؤلاء، ولولا أنّ الإرث الذكوري طاغٍ في المخيال السياسي والشعبي العربي لكانت حليمة يعقوب ثالثتهما. لدى هذا القسم النشط في الفضاء العمومي احترامٌ كبيرٌ لفكرة القائد الفرد، ولا عجب في ذلك، فالتاريخ الإسلامي كما تاريخ كلّ الشعوب كُتب قبل مرحلة الدولة الحديثة باسم الحكّام، فلا فرق بالتسمية بين خليفة وأميرٍ للمؤمنين أو بين سلطانٍ وملك أو خلافها من الألقاب، فالجوهر واحدٌ، وعندما يتّسع المفهوم فإنه يشمل أسرًا لا شعوبًا، فيُقال دولة الأمويين أو الأيوبيين أو غيرهم. بقيّة أنصار التيار الإسلامي، وهم الغالبية العظمى من الشعوب العربية، ترى الأمور ببساطةٍ أوضح، فالإسلام جزء من تركيبتها الثقافية، وظهور أيّ قائد مسلم يعني، بشكل تلقائي، رفعة الإسلام وبالتالي يحقق جزءًا من أحلامهم ويرفع من اعتبارهم أمام ذواتهم.

شهد المتابعون شغف العجائز والكهول كما حماسة النساء والرجال والشابات والشباب لدعم أردوغان، والدعاء له علانية وفي كل المحافل. قد يكون من الصعب الحكم على ما في القلوب، لكن المرءُ يكاد يقول بثقّة إنّ صلواتٍ كثيرة اختتمها أصحابها وصاحباتها، وخصوصا منهم كثير السوريين، بالتضرّع إلى الله بفوزه. ليس هذا بالحدث العرضي، فخيبة الأمل من القادة العرب الذين يُفترض بهم أن يكونوا أقرب إلى روح الإسلام الراكز في ضمير الناس العاديين، وخيبة الأمل من الإسلام السياسي الذي فرّخ تنظيماتٍ إرهابية ظلامية لم يعرف لها التاريخ مثيلًا من قبل، كلها جعلت الأمل معقودًا على شخصِ ساحرِ الكلمات ومالكٍ مفاتيحها. هنا تفريغٌ واضحٌ لعقدة النقص تجاه الذات وسحبٌ بالآمال إلى خارج حدود الجغرافيا الوطنية لربطها من خلال أواصر اللُحمة الدينية بمن يتوسّم الناسُ منه قيادتهم إلى طريق الخلاص.

أما أنصار التيار الثاني، أي المعارضون لأردوغان أو المعادون له، فيختلفون ما بين متطرّفين أو متشدّدين من الكرد أو العرب يرون في المشروع القومي التركي منافسًا بل خصمًا أو حتى عدوًّا وجوديًا، وما بين علمانيين صلبين يرون في نهجه ونهج حزبه انحرافًا عن نهج أتاتورك وانتكاسةً ورجوعًا نحو العثمانية بثوبٍ جديد. لا يُخفي أنصار كلا المذهبين تبرّمهم من نجاح أردوغان والتحالف الذي يقوده حزبه، وهم، في كل الأحوال، محقّون بذلك باعتبار أنّ تركيا انتقلت خطواتٍ كبيرة وواسعة إلى الأمام منذ تسلّم حزب العدالة والتنمية السلطة، بينما هم ومشاريعهم يراوحون في أماكنهم، لا بل وكثير من بلدانهم عادت القهقرى عقودًا إلى الوراء.

أردوغان صاحب كاريزما، والأتراك فضلوا، حسب نتائج الانتخابات، إعطاء النهج الجديد في تعريف الهويّة التركية فرصة أطول قبل الحكم عليه نهائيًا، واستطاع أردوغان مدّ الجسور التركية خارج الإقليم بعيدًا باتجاه ما كان يومًا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، لكنّ ذلك كلّه لم يسعفه في ترسيم نفسه زعيمًا إسلاميًا متوّجًا على عرشه، لقد وقفت في وجهه دولٌ وازنة وأنظمة تتمتّع بأوراق قوّة كبيرة استطاعت من خلالها إفشال مشروع الإسلام السياسي الذي كان يتزعّمه. هذا ما كان يطمح له قسمٌ وازنٌ من العلمانيين والقوميين الأتراك من الانتخابات أخيرا، أي إسقاط المشروع نهائيّا ودفنه مع صاحبه إلى الأبد، وهو ذاته ما تمنّاه أضرابهم من دول الجوار القريب والبعيد، لكنهم جميعًا أصيبوا بخيبة أملٍ شديدةٍ تركت في حلوقهم غصّةً أمرّ من العلقم.

يقول المثل: “تتفاخرُ القَرْعَاءُ بجدائل ابنة خالتها”، وهو ينطبق على أنصار الفريق الأول بجدارة، فهؤلاء يجدون عزاءهم بنجاح أردوغان وهو يكفيهم حسرة الفشل في دولهم جزئيًا. كذلك يقول المثل الحوراني الدارج “الفاردة وصلت أم قيس والعوراء بتتكحّل”، وهو ما ينطبق على أنصار الفريق الثاني الذي لا يزال أغلب أهله يلهثون وراء الأيديولوجيا والتنظير، تاركين ساحات العمل للخصوم. وبغض النظر عن بعض جوانب العنصرية المتزايدة في المجتمع التركي في مواجهة الأجانب، وخصوصا السوريين منهم، والذي هو شأن كل الأيديولوجيات في مراحل ترسيخ أقدامها، فإن التعصّب عند الطرف المقابل يجعل من الوصول إلى تسوياتٍ للعيش بسلام في المنطقة بعيد المنال حتى إشعار بعيد، كما أنّ الرخاوة عند بعض أعضاء هذا الطرف تؤدّي إلى ترك العمل والغرق في الأحلام. ويبقى في النهاية لكلّ قرعاء ابنة خالة تتفاخر بجدائلها ولكلّ مهزومٍ مثالٌ يحمل عنه أعباء الهزيمة، كما يبقى لكلّ عوراء مرآة تتجمّل أمامها بينما العروس وصلت إلى بيتها الجديد وبدأت مسيرة حياة مختلفة.

العربي الجديد

——————————

الملاكم التركي/ غسان شربل

الملاكم لا تعيبه الكدمات. يوجعه أن يطرح أرضاً. يقتله أن يُقذف إلى خارج الحلبة. للملاكم المدمن، أول التقاعد أول الموت أيضاً.

وكان يمكن أن تكون الصورة مختلفة. أن يخذله الناخبون. وأن يسارع إلى مغادرة القصر الشاسع بعد أن يلملم من مكاتبه وممراته أحلامه وأوهامه. يعرف أنهم كانوا ينتظرون أن يلتف حبل الانتخابات حول عنقه ليعلقوا أخطاءه على حبال التاريخ. لا المعارضة ترحم ولا الصحافة تنسى. وهو لا يطيق لا هذه ولا تلك.

أنقذته تركيا العميقة من مصير مؤلم. لم يكن يوماً عدواً بسيطاً أو حليفاً سهلاً. عنيف في العداوة ومتطلب في الصداقة. عنيد في خياراته ثم يصدم خصومه وحلفاءه باستدارة مفاجئة يسهل عليه دائماً تسويقها لدى أنصاره.

في الحفل الكبير أطلق ابتسامة المنتصر. لم يغب عن باله أن يهاجم المعارضة وما سمّاها الحسابات الصغيرة. لكنه استدرك داعياً إلى الوحدة ومعلناً انطلاق «قرن تركيا». أنقذه الناخبون من سوء المصير. لو خسر لانهال خصومه عليه بالأقلام المسنونة وخناجر الشماتة والحكايات المجبولة بالثأر. وكان متوقعاً أن يحكموا ربط صورته بصورة الليرة التركية التي عانت الأمرين في الفترة الأخيرة بسبب إصراره على التحول طبيباً لأمراض الاقتصاد وأوجاعه. وما كانوا ليتردّدوا أيضاً في تحميله وزر التباطؤ في مواجهة آثار الزلزال المدمر الذي أدمى البلاد.

كان باستطاعتهم القول إن مغامرته في الإقليم انتهت بفشل مروّع. فلا محمد مرسي أو من يشبهه يحكم مصر ولا بشار الأسد أرغم على مغادرة قصر الرئاسة. «الربيع» الذي رعاه لتغيير ملامح المنطقة تحول تهمة تطارد الضالعين فيه. ولن يتردد بعضهم في الكتابة أن القيصر نجح في تقليم أظافر السلطان، واستدرجه إلى ملعبه وأقنعه بزرع الصواريخ الروسية داخل الحديقة الأطلسية. وأغلب الظن أن أميركا كانت سترتاح من هذا الحليف المتعب وأن أوروبا ستبتهج بغياب الرجل الذي قرع بعنف بابها ثم ابتعد مطلقاً الاتهامات والأزمات.

لا يمكن كتابة قصة الشرق الأوسط في القرن الحالي من دون التوقف عند دوره. كان رجب طيب إردوغان لاعباً كبيراً ومؤثراً. ويمكن القول إنه انخرط في مجازفات شديدة الخطورة. لم يكتف بمشروع إعادة رسم ملامح الجمهورية التي هندسها أتاتورك بل تجاوز ذلك إلى محاولة إعادة رسم ملامح المنطقة برمتها. كانت رياح «الربيع الإخواني» شديدة ولافحة. أصيبت هذه الرياح بانتكاستين كبيرتين، الأولى في مصر والثانية في سوريا. يتلقى الضربات ويسدد الضربات.

كان يمكن لكل هذه الدفاتر أن تفتح لو أرغم على الجلوس في مقاعد الخاسرين. لم يحصل ذلك وأهدته الصناديق فرصة جديدة وولاية جديدة. ولاية ثالثة يقول الدستور إنها الأخيرة لكننا أبناء منطقة لا تحب الدساتير فيها إغضاب «الرجل القوي» إن احتاج ولاية إضافية. كسر خاطر الدستور أفضل من كسر خاطر الملاكم الكبير.

على مدى عقدين كتب إردوغان قصة تركيا بأسلوبه الذي لا يشبه أساليب أسلافه ولا جيرانه. مذ تولى المسؤولية تصرف كمحارب مجروح. لم يغفر للعالم ابتهاجه بركام الإمبراطورية العثمانية. لم يغفر له تحويله البلاد التي كانت تستعرض قوتها على ملاعب الآخرين إلى خريطة متواضعة يتحتم عليها أن تأخذ في الاعتبار نصائح سفراء الدول الكبرى وأحياناً توجيهاتهم. قبل موعد إطلالته بثلاث سنوات، ألقت روسيا بنفسها بين يدي رجل مجروح أيضاً. لن يغفر فلاديمير بوتين للعالم تلك الاحتفالات التي انخرط فيها يوم انهار جدار برلين ويوم انتحر الاتحاد السوفياتي أو نُحر. سلطان إسطنبول يتهم العالم بتقطيع أوصال المجد العثماني، وقيصر موسكو يتهم العالم بتقطيع أوصال الإمبراطورية السوفياتية. وتقطيع الأوصال رهيب يمزق الشرايين ويهين الأوسمة ويدفع الأيتام إلى البحث عن حامل الثأر… عن الملاكم الكبير.

على نار الشرق الأوسط الكئيب أمضى إردوغان عقدين كاملين. كانت الحرائق كثيرة وهي بدأت عملياً بالغزو الأميركي للعراق، ثم حمل العقد التالي رياح الاحتجاجات والتدخلات. ولم يكن إردوغان الوحيد المتبرّم بحدود خريطة بلاده. الجنرال قاسم سليماني، وبمباركة المرشد، نجح في اختراق خرائط عدة وبدل فيها ملامح ومعطيات.

كان العقد الثاني من القرن الحالي صاخباً في الشرق الأوسط، وكان إردوغان فيه لاعباً نشطاً على رغم تعدد الأهداف التي أضاعها على ملاعب متعددة. وكان على إردوغان أن يتجرع أكثر من صدمة أبرزها رؤية قوات بوتين تنزل في سوريا وتقفل الباب – بالتعاون مع ميليشيات إيران – أمام رياح الحالمين بإسقاط النظام السوري. ولم يكن تبادل اللكمات مع القيصر سهلاً. والملاكم التركي ينكفئ قليلاً ولا يستسلم. يقدم الخدمات لسيد الكرملين، لكن مسيّراته تعمل بإخلاص في جيش زيلينسكي.

لا يتسع هذا الحيز الضيق للإضاءة على المنعطفات الرئيسية في مسيرة إردوغان وهو رجل منعطفات وقرارات وانعطافات. ها هو يعلن حكومته الجديدة. لا تستطيع بلاد إنقاذ هيبتها إذا استمر إذلال ليرتها. عليه أن يكف عن استخدام العقاقير القديمة في تضميد جروح الاقتصاد. يحتاج الاقتصاد إلى خبراء لا إلى ملاكمين. يحتاج إردوغان أيضاً إلى معالجة الانقسام العميق في الشارع التركي الذي أظهرته نتائج الانتخابات. يحتاج أيضاً إلى بناء سياسات لا يكون حجر الأساس فيها الخوف من الأكراد أو الإصرار على مطاردتهم.

اختار إردوغان رجلاً موثوقاً لحقيبة الاقتصاد هو محمد شيمشك. وكافأ رئيس الاستخبارات حقان فيدان «كاتم أسراري وكاتم أسرار الدولة» بتعيينه وزيراً للخارجية. لا بد من استخلاص الدروس اللازمة من عقد العواصف الأخير. لا بد للحكومة من محاربة التضخم في الاقتصاد ومن ضبط التضخم في الأحلام. صعود القوى الإقليمية لا يعني ترميم هيبة الإمبراطوريات. وفي العلاقات الدولية لا بد من تجرع السم أحياناً. والدليل أن إردوغان سيشارك ذات يوم في لقاء يضمه وبوتين وبشار الأسد. هذا قانون الملاكمة. توجه الضربات وتتلقى مثلها، لكن الأهم أن تبقى واقفاً على الحلبة وألا ينجح الناخبون في دفعك خارجه

الشرق الأوسط

————————

المعارضة التركية.. “رسائل تغيير” تثير تساؤلات عن علاقة “الأب والابن

ضياء عودة – إسطنبول

ما تزال أصداء خسارة المعارضة التركية للانتخابات حاضرة في المشهد السياسي للبلاد، وبينما بدأ رجب طيب إردوغان أولى خطوات ولايتة الرئاسية الثالثة، كسرت “رسائل تغيير” حالة من الصمت فرضها سياسيون منذ يوم 28 من مايو الماضي، وعلى رأسهم زعيم “حزب الشعب الجمهوري”، كمال كليتشدار أوغلو.

وهذه الرسائل كررها لمرتين عمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، بعد الإعلان عن النتائج الرسمية، وقرأها مراقبون على أنها “دعوة ضمنية” لكليتشدار أوغلو، لكي يتنحى عن كرسي رئاسة الحزب العلماني، في وقت أكد الأخير في بيان أنه “سيواصل النضال”.

وينتمي إمام أوغلو لـ”حزب الشعب الجمهوري” الذي يتزعمه كليتشدار أوغلو، وكان قد وصل إلى كرسي رئاسة بلدية إسطنبول في عام 2019، ولطالما وصف الأخير العلاقة معه على أنها ضمن معادلة “الأب والابن”.

لكن وبعد خسارة كليتشدار أوغلو أمام إردوغان وعجز تحالفه “الأمة” عن كسب الأغلبية في البرلمان تعالت أصوات تطالب بضرورة “التغيير”، وكان أول وأبرز من رددها إمام أوغلو.

وفي أول بيان مصور بعد الإعلان عن فوز إردوغان، قال إمام أوغلو: “لن نتوقع أبدا نتيجة مختلفة بفعل نفس الشيء”، مشيرا إلى ضرورة “إجراء تغيير”، في عبارة قرأها صحفيون أتراك على أنها تستهدف منصب كليتشدار أوغلو كزعيم لـ”حزب الشعب الجمهوري”.

وعاد يوم الأربعاء ليتحدى عمدة إسطنبول رئيسه كليتشدار أوغلو بشكل غير مباشر بعد هزيمة الأخير، داعيا إلى “تغيير شامل في المعارضة الرئيسية”، ومضيفا: “للأسف خسرنا 3 انتخابات متتالية على مدار 9 سنوات، ومن غير الممكن أن نكرر الممارسات نفسها بعد هذه الانتخابات”.

“رسائل وتفسيرات”

وقبل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لطالما تردد اسم إمام أوغلو كمرشح رئاسي لمنافسة إردوغان، وهو ما لم يتم بسبب الدعوى القضائية المرفوعة ضده، وبسبب إصرار كليتشدار أوغلو على خوض السباق.

ومع ذلك وبعدما ترشح زعيم “حزب الشعب” للرئاسة عمل إمام أوغلو بجانبه مع عمدة أنقرة، منصور يافاش، وأقدم الأول على قيادة حملته الانتخابية بعد الكشف عن نتائج الجولة الأولى، برفقة رئيسة الحزب في إسطنبول، جنان كفتانجي أوغلو.

لكن “رسائل التغيير” أثارت الكثير من التفسيرات في الأيام الماضية، وحتى أنها تحولت إلى الخبر الأساسي المتعلق بالمعارضة التركية في مرحلة ما بعد الانتخابات.

وانقسمت التفسيرات لدى المراقبين المحسوبين على أوساط المعارضة بين فكرة مفادها أن إمام أوغلو يقصد بكلماته كليتشدار أوغلو وأن عليه الرحيل لإحداث “التغيير الشامل”.

في المقابل، كان هناك تفسيرات أخرى تشير إلى أن إمام أوغلو يقصد بالفعل رحيل كليتشدار أوغلو، في مسعى من جانبه للترشح لرئاسة “حزب الشعب الجمهوري”، بعدما سنوات طويلة من تمسك الأخير بهذا المنصب.

وبعد بدء أعمال البرلمان، ستكون أولى خطوات “تحالف الجمهور” الحاكم طرح اقتراح التعديل الدستوري الخاص بالحجاب ومؤسسة الأسرة، والذي تم تعليقه مؤخرا، بسبب كارثة الزلزال.

في المقابل، التقى كليتشدا أوغلو وإمام أوغلو يوم الأحد الماضي، وصرح الأخير أن “هناك حاجة للتغيير في حزب الشعب الجمهوري من أجل تغيير السلطة”.

وذكر الصحفي المعارض في صحيفة “سوزكو”، إسماعيل سايماز، أن إمام أوغلو اقترح “قيادة التغيير”، وعقد المؤتمر الاستثنائي قبل الانتخابات المحلية في مارس 2024 والشروع في عملية ديمقراطية يمكن من خلالها تغيير جميع السلطات، بما في ذلك الرئاسة العامة لـ”الشعب الجمهوري”.

لكن كليتشدار أوغلو، وبحسب الصحفي “أراد ترك المؤتمر العام إلى ما بعد الانتخابات المحلية”، الأمر الذي يعطي دلالة على أن “الأب والابن لم يتمكنا من التوافق”، حسب تعبير سايماز.

وأشار إلى أنه “عندما يتم تحديد موعد المؤتمر للحزب، سيكون إمام أوغلو مرشحا للرئاسة، وكليتشدار أوغلو لا يفكر بالانسحاب”.

ومن غير الواضح ما إذا كان إمام أوغلو يطمح لرئاسة “حزب الشعب الجمهوري” أكبر أحزاب المعارضة، وخاصة أنه يواجه حكما قضائيا يهدد مسيرته السياسية، وقد تنتهي جلساته بالحظر.

في غضون ذلك، لا توجد مؤشرات على أن كليتشدار أوغلو سيكون مستعدا لترك منصب رئيس “الشعب الجمهوري”، كونه يواصل السير بهذا الطريق منذ عام 2010 بعد استقالة رئيس مجلس الإدارة، حينها، دينيز بايكال، بسبب “فضيحة الكاسيت الجنسي”.

“يجب تغيير الدماء”

وكان إردوغان قد كسب في الجولة الأولى من سباق الانتخابات الأغلبية في البرلمان، وتمكن في الجولة الثانية من الحفاظ على كرسي الرئاسة لخمس سنوات مقبلة.

ومن المقرر أن تكون الأحزاب المعارضة أو الحاكم “العدالة والتنمية” على موعد يتعلق بتنظيم مؤتمراتها العامة، وموعد آخر يرتبط بانتخابات البلديات في مارس 2024. 

وترسم الأحزاب في هذه المؤتمرات استراتيجية عملها، والهيكل الخاص بها للمرحلة المقبلة، فيما تحظى انتخابات البلدية بأهمية بالغة، وهو ما تطرق إليه إردوغان من إسطنبول، مركزا على نية حزبه الفوز مجددا بهذه المدينة.

ويتحدث الباحث السياسي، مصطفى أوزجان، عن “بلبلة في صفوف اليسار التركي وحزب الشعب الجمهوري”، إذ تؤيد الأقلية بقاء كليتشدار أوغلو والأكثرية “لغة التغيير” التي أطلقها أكرم إمام أوغلو.

ويقول أوزجان لموقع “الحرة” إن “كليتشدار أوغلو خاض الانتخابات أكثر من مرة وفشل أمام إردوغان. لقد وصل إلى عمر كبير ولابد أن يتنازل حتى تكون هناك دماء جديدة ويكون الشعب الجمهوري أكثر نشاطا”.

وتؤكد “رسائل إمام أوغلو” مساعيه لإحداث تغيير داخلي ضمن رئاسة وصفوف “حزب الشعب الجمهوري”.

ومع ذلك، يضيف أوزجان: “إمام أوغلو لابد أن يتخذ موقفا. لم يتبقَ لانتخابات البلديات سوى بضعة أشهر، ويمكن أن يسجن أو يصدر قرار يحظر عليه ممارسة السياسة”.

“لا بد أن يتخذ إمام أوغلو قرارا مناسبا”، فيما يشير الباحث إلى “وجود الكثير من الاحتمالات داخل حزب الشعب الجمهوري”، وأنها قد تكون لصالح كليتشدار أوغلو أو عمدة إسطنبول.

“قضية في الواجهة”

وإمام أوغلو، البالغ من العمر 52 عاما، كان قد فاز برئاسة بلدية إسطنبول في عام 2019، منهيا حكم حزب “العدالة والتنمية” الحاكم على هذه المؤسسة منذ 2002. وتعود جذور الحكم الصادر بحقه إلى الفترة التي شهدت وصوله إلى كرسي “العمدة”.  

في تلك الفترة، أي قبل أربع سنوات، ألقى إمام أوغلو كلمة عقب قرار “اللجنة العليا للانتخابات” بإعادة إجراء الانتخابات المحلية في إسطنبول للمرة الثانية في 2019، قائلا إن الذين ألغوا الانتخابات (الأولى) هم “أغبياء” (حمقى). 

وبناء على ذلك، أعدّت النيابة العامة دعوى بحقه بتهمة “توجيه إهانات لموظفي القطاع العام”، والمطالبة بسجنه أربع سنوات وشهر واحد، ومنعه من العمل السياسي، لتعقد الجلسة الأولى في يونيو من عام 2022. 

ورغم أن إمام أوغلو قال خلال الأشهر الفائتة، ومنذ توجيه التهمة له إن كلماته كانت موجهة لوزير الداخلية، سليمان صويلو، إلا أن “اللجنة العليا”، وهي أعلى هيئة انتخابية في البلاد، أكدت أن أعضاءها تعرضوا لـ”الإهانة”.

ويقضي الحكم الصادر بحق إمام أوغلو بالسجن لمدة عامين وسبعة أشهر و15 يوما، بتهمة إهانة كبار مسؤولي هيئة الانتخابات التركية. ورغم أن القرار “مفصلي” كما قرأه مراقبون، إلا أنه “ليس نهائيا”.

وذكرت وسائل إعلام، أن القرار بالسجن سيحال إلى “محكمة الاستئناف”، وإذا تم تأييد الحكم بسجن إمام أوغلو فإن القضية ستذهب إلى المحكمة العليا. وفي حال “وافقت المحكمة العليا على قرار السجن، فسيتم منع إمام أوغلو من ممارسة السياسة”.

ضياء عودة

الحرة

—————————————

 فوز أردوغان بالرئاسة: الأسباب والدلالات والآفاق

احتاج أردوغان إلى جولة ثانية للفوز بالانتخابات الرئاسية التركية، وقد دلَّ ذلك على غلبة قاعدته السياسية على قواعد الأحزاب المعارضة، وعلى تراجعها النسبي أيضًا؛ ما يقتضي الشروع في عملية ضبط داخلي تمنع تشظي المكونات التركية، وتمنح مرونة خارجية تقتنص الفرص وتتفادى المخاطر وتسيطر على الأزمات.

لم تأت جولة الانتخابات الرئاسية التركية الثانية بمفاجأة ما؛ فقد كان فوز الرئيس، رجب طيب أردوغان، بعهدة رئاسية ثانية وأخيرة واضحًا في نهاية الجولة الأولى. ما شغل المعلقين ومنظمات قياس الرأي العام خلال الأسبوعين الفاصلين بين الجولتين كان توقع الفارق بين الرئيس المخضرم ومنافسه، كمال كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض. في النهاية، وبعد أن تفوق أردوغان في الجولة الأولى بفارق أربع نقاط مئوية على منافسه، حُسمت الانتخابات الرئاسية في الجولة الثانية بالفارق نفسه تقريبًا.

هذا لا يعني بالتأكيد أن فوز أردوغان كان مضمونًا من البداية، ولا يعني أن أوساط مناصري الرئيس وحزبه، حزب العدالة والتنمية، كانت محصنة ضد التوتر والقلق. الحقيقة أن شكوكًا انتشرت داخل تركيا وخارجها، ولأسباب عديدة، في أن النصر سيكون حليف الزعيم السياسي الأبرز في تاريخ تركيا الحديث. ولذا، وما إن اتضح فوز أردوغان حتى تنفس الكثيرون الصعداء، بمن في ذلك أولئك الذين حرصوا على استقرار الدولة والبلاد، وأولئك الذين تطلعوا إلى استمرار السياسة الخارجية التي اختطَّتها إدارة أردوغان في السنوات الأخيرة.

إضافة إلى فوزه بعهدة ثانية في ظل النظام الرئاسي الذي بدأ تطبيقه في 2018، حاز تحالف الجمهور، الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وعدة أحزاب محافظة صغيرة أخرى، أغلبية معقولة في البرلمان. فكيف ولماذا حقق أردوغان الفوز، بالرغم من ازدحام الفضاء الإعلامي والسياسي، داخل تركيا وخارجها، طوال الأشهر السابقة على الانتخابات، بتوقعات خسارته؟ وما طبيعة الأولويات، الداخلية والخارجية، التي يفترض أن تبدأ إدارته الجديدة بمعالجتها؟ وما الذي يمكن أن يعنيه هذا الفوز لمستقبل تركيا؟

فوز بقليل من المفاجآت

لم يستطع أردوغان حسم الانتخابات في الجولة الأولى نظرًا لأن منافسه الأبرز، كمال كليتشدار أوغلو، الذي اصطف خلفه تحالف متعدد الأطياف من سبعة أحزاب سياسية، حقق نسبة معتبرة من الأصوات. كما أن منافسه الثاني، القومي سنان أوغان، فاجأ كافة أطراف الساحة السياسية بحصوله على ما يزيد على خمسة بالمئة من الأصوات. ولكن نصيب أردوغان من الأصوات، الذي تجاوز 49 بالمئة، أوحى بصورة جلية بأنه سيكون الفائز في الجولة الثانية. الحقيقة، أن أردوغان لم يكن يحتاج إلا إلى 260 ألف صوت إضافي للفوز من الجولة الأولى، في انتخابات يصل عدد الناخبين فيها إلى ما يفوق الستين مليونًا من المواطنين.

عُقدت الجولة الأولى من الانتخابات في 14 مايو/ أيار، ودعت الهيئة العليا للانتخابات إلى عقد الثانية في 28 من الشهر نفسه. بمعنى، أن أسبوعين فقط فصلا بين الجولتين، كان على المرشحيْن صاحبي عدد الأصوات الأعلى في الجولة الأولى خلالهما حشد ما يكفي من الأنصار لتحقيق الفوز. وليس ثمة شك أن التحدي الأكبر أمام المرشحين المتنافسين كان إقناع المواطنين الذين شاركوا في انتخابات الجولة الأولى بالعودة إلى مراكز الاقتراع من جديد والتصويت في الجولة الثانية. تخوفت حملة كليتشدار أوغلو من الشعور بالإحباط واليأس الذي خيم على ناخبيه بعد خسارته الفادحة في الجولة الأولى، بينما تخوفت حملة أردوغان من الشعور بالطمأنينة والثقة الذي ساد أوساط مناصريه. في النهاية، لم تتراجع نسبة التصويت في الجولة الثانية إلا بنقطتين مئويتين فقط عن الجولة الأولى؛ وهو ما أعاد التوكيد على ثقة الشعب التركي بالمسار الديمقراطي وصندوق الاقتراع.

كان كليتشدار أوغلو عقد اتفاقًا قبل الجولة الأولى مع حزب الشعوب الديمقراطي، الكردي القومي، لدعمه في الانتخابات الرئاسية؛ وهو ما أثار ردود فعل سلبية في الأوساط التركية القومية المؤيدة له. ولذا، فقد سارع إلى تغيير إستراتيجيته الانتخابية قبل الذهاب إلى الجولة الثانية، وعقد تحالفًا جديدًا مع أوميت أوزداغ، زعيم حزب النصر وأكثر الشخصيات القومية عنصرية. وهذا، على الأرجح، ما ولَّد انطباعًا بتخبط المعارضة ومرشحها، وأثار ردودَ فعل سلبية هذه المرة في الأوساط الكردية.

عمومًا، وبالرغم من محاولات المراقبين ودارسي الرأي العام التركي قراءة تحولات الناخبين بين الجولة الأولى والثانية، فالواضح أن الانتخابات الرئاسية لم تشهد أية متغيرات جوهرية بين الجولتين، ولا حتى بين هذه الانتخابات والانتخابات الرئاسية السابقة في 2018. بالرغم من الأزمة المالية-الاقتصادية التي تمر بها البلاد منذ عامين، وبالرغم من الزلزال المدمر الذي أصاب ملايين السكان وأودى بحياة ما يقارب الخمسين ألفًا منهم، وبالرغم من التحالف الكبير وغير المسبوق الذي اصطف خلف كليتشدار أوغلو، ومن الحملة الإعلامية الشرسة داخل تركيا وخارجها، فقد حافظ أردوغان على ذات نسبة الأصوات التي حققها في 2018، بتراجع طفيف. كما أن كليتشدار أوغلو لم يستطع أن يرتفع عن مجموع الأصوات التي صبَّت لصالح مرشحي المعارضة معًا في الانتخابات الرئاسية السابقة قبل خمس سنوات.

ثمة جدل واسع النطاق في أوساط المعارضة حول فقدان مرشحها للكاريزما، وعجزه عن تطوير إستراتيجية انتخابية مقنعة، وحول تحالفاته المتقلبة، وخلو خطابه من الأمل والبرنامج المتماسك. ولكن الحقيقة، على الرغم من شرعية هذه الانتقادات، أن الأسس التي ارتكز إليها انتصار أردوغان كانت أبعد من ذلك. فالواضح أن سياسة الهويات لم تزل صاحبة الثقل الأكبر في الساحة التركية، وأن الكتلة التصويتية المحافظة لم تزل هي الأكبر، وأن ثقة أغلبية هذه الكتلة في أردوغان وإنجازاته وقدرته على قيادة الدولة والبلاد لم تزل راسخة.

بيد أن هذا الفوز الحاسم والمريح لا يعني أن ولاية أردوغان الثانية والأخيرة، التي يفترض أن تستمر إلى 2028، ستكون أكثر هدوءًا وراحة من سابقتها. حالة النهوض التي أطلقتها حكومة العدالة والتنمية منذ تولى مقاليد البلاد قبل عشرين عامًا، أصبحت هي ذاتها بوتقة لتوليد سلسلة من المسائل والمعضلات.

تحديات الداخل

يواجه الرئيس التركي في ولايته الأخيرة عددًا من التحديات الكبرى، سواء على الصعيد الاقتصادي، أو السياسي، أو الحزبي:

يتعلق أول هذه التحديات بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا منذ عامين على الأقل، وهي أزمة تنبع هذه المرة من عيوب جوهرية في نمط التنمية التركي وليس بالاقتصاد العالمي. فقد شجعت الحكومة التركية طوال ما يزيد عن العقد القطاع الخاص على الاقتراض من الخارج لدعم حركة نمو وتوسع اقتصادي مطرد؛ مما تسبب في تراكم قروض قصيرة الأجل تتجاوز 250 مليارًا من الدولارات. في الوقت نفسه، ولأسباب مختلفة، ذات دوافع سياسية أو حسابات ربحية بحتة، شهد السوق التركي انسحابًا لما يعرف بالأموال الساخنة من حقول الاستثمار المتعددة. بذلك، انخفضت قيمة الليرة التركية واندفاع الأتراك إلى التخلي عنها، فازداد الطلب على العملات الأجنبية، سيما الدولار واليورو، وارتفع مستوى التضخم بدرجة غير مسبوقة منذ ربع القرن.

لمواجهة الأزمة، لجأت حكومة أردوغان السابقة إلى خفض حثيث في قيمة الفائدة، على أساس أن انخفاض معدل الفائدة، والانخفاض في سعر الليرة، سيدفع نحو النمو الاقتصادي والتراجع في مستوى البطالة، وزيادرة الصادرات، وانخفاض مستويات التضخم، أو ما يعرف بالنموذج الصيني. ولكن ما غاب عن أصحاب هذه السياسة أن النموذج الصيني أثبت فعالية مديدة في وقت كانت أرصدة الصين من العملات الدولية في تصاعد، ومرحلة من تدفق الاستثمارات الأجنبية، بدون أن تثقل كاهل الاقتصاد الصيني أية ديون ملموسة.

المهم، أن إعادة أردوغان لمحمد شيمشك، وزير المالية ونائب رئيس الوزراء الأسبق، وزيرًا للمالية والخزانة، والوزير الأسبق جودت يلماز، نائبًا للرئيس، واختيار الأكاديمي، القيادي في اتحاد رجال الأعمال والصناعيين “موسياد”، عمر بولاط، يشير بوضوح إلى عزم أردوغان على تشكيل فريق اقتصادي-مالي كفؤ ومحل ثقة من السوق التركي والدولي. ولابد أن الدوائر السياسية والمالية-الاقتصادية ستنتظر ببالغ الترقب طبيعة السياسات التي ستتبناها الحكومة الجديدة، وما إن كانت ستستطيع وضع تركيا على بداية طريق التعافي الاقتصادي.

ثاني التحديات الداخلية الرئيسة يتعلق بوضع دستور مدني جديد للبلاد، الهدف الذي أعلنه أردوغان منذ أكثر من عامين، وأعاد التوكيد عليه خلال حملته الانتخابية. تستند الدولة التركية في بنيتها وعملها إلى دستور 1982، الذي كُتب في ظل نظام ما بعد انقلاب 1980. وعلى الرغم من أن عشرات التعديلات قد أُجريت على هذا الدستور، بما في ذلك التعديل الذي نقل البلاد إلى النظام الرئاسي قبل خمس سنوات، إلا أن روح الدستور وتوجهه لم تزل كما هي. تحتاج تركيا بلا شك دستورًا جديدًا، ليس دستورًا مدنيًّا وحسب، بل دستورًا يعالج مسائل المواطنة والأمة الشائكة، ويعيد النظر في مسائل الحريات والحقوق، ويعالج النواقص والعيوب التي شابت التحول إلى النظام الرئاسي.

ولكن الطريق إلى وضع دستور جديد لن يكون بلا عوائق؛ إذ إن تحالف الجمهور الحاكم لا يتمتع بأغلبية كافية لإقرار الدستور الجديد في البرلمان، وليس من الواضح ما إن كان من الممكن بناء تحالف برلماني كاف يأخذ مسودة الدستور إلى الاستفتاء. ولذا، فإن عملية كتابة هذا الدستور تتطلب نقاشًا وطنيًّا واسع النطاق، ومحاولة إرساء أوسع إجماع سياسي ممكن على مسودته، قبل أن تبدأ العملية التشريعية لإقراره.

أما ثالث التحديات الداخلية فيتعلق بمستقبل حزب العدالة والتنمية وما إن كان سيستطيع الحفاظ على الحكم في المستقبل، سيما بعد أن يغادر زعيمه الكاريزمي التاريخي الساحة السياسية في نهاية ولايته الحالية. حقق تحالف الجمهور، الذي يعتبر العدالة والتنمية ثقله الرئيس، أغلبية مريحة نسبيًّا في البرلمان. ولكن، وعلى الرغم من هذه الأغلبية، فقد أظهرت الانتخابات تراجعًا في حظوظ حزب العدالة والتنمية نفسه، سواء من جهة نصيبه من الأصوات أو من جهة عدد مقاعده في البرلمان التركي. تفرض هذه النتائج على الرئيس التركي ومسؤولي حزبه وإدارته، إن كان يرغب فعلًا في الحفاظ على ميراث العدالة والتنمية ونمط قيادته للبلاد والدولة، إعادة النظر في بنية الحزب وخطابه وعلاقاته بفئات الشعب وقواه المختلفة.

كما كافة قوى الدولة الحديثة السياسية التي تمكث في الحكم فترات طويلة، أظهر حزب العدالة والتنمية مؤشرات على الترهل، وفقدان الحيوية والإبداع، خلال الخمس أو الست سنوات الماضية. والواضح أن جهود أردوغان الإصلاحية داخل الحزب لم تكن كافية للدفع نحو بداية جديدة. يحتاج الحزب بالتأكيد خلال السنوات القليلة القادمة قيادة شابة، تحمل رؤية تلتف حولها أغلبية الشعب، وتتمتع بقدرة على إعادة بناء الثقة بين الحزب والقاعدة الشعبية، وتعيد بناء صورة الحزب المؤتمن على قيادة البلاد والمكرس لخدمة شعبه، لا البحث عن المكاسب الشخصية.

ولكن العدالة والتنمية يحتاج إضافة إلى ذلك التصدي مرة أخرى لمعالجة المسألة الكردية واستعادة نصيبه التقليدي من الصوت الكردي. فإلى 2015، عندما وصلت عملية السلام والتوافق حول المسألة الكردية نهاية الطريق، كان نصف الصوت الكردي يذهب عادة إلى العدالة والتنمية. وما لبث التراجع في الدعم الكردي للعدالة والتنمية، بل ولأردوغان نفسه، أن أصبح واضحًا في انتخابات 2015، واستفتاء 2017، وانتخابات 2018، والانتخابات المحلية في السنة التالية، كما في جولة الانتخابات الأخيرة.

ولابد أن حلًّا جريئًا للمسألة الكردية هو أمر ملحٌّ لمستقبل تركيا ككل، وليس لمستقبل العدالة والتنمية وحسب. وربما يكون ما أظهرته الانتخابات الأخيرة من تراجع في حظوظ حزب الشعوب الديمقراطي، ومعارضة قطاع ملموس من كوادر الحزب لما اعتبروها سياسة خاطئة انتهجتها قيادة الحزب في دعم كليتشدار أوغلو، فرصة لفتح حوار جاد ومثمر مع الجناح الأكثر براغماتية واعتدالًا في الحزب لإطلاق عملية أكثر شمولًا للتعامل مع كافة جوانب المسألة الكردية.

ثمة عدد آخر من الملفات الداخلية المهمة التي تقتضي من أردوغان وحكومته التعامل معها، وعلى رأسها الوفاء بوعود إعادة بناء منطقة الزلزال، وتعهد عملية إصلاح شامل للقطاع التعليمي، وإقرار تشريعات جديدة لحماية المرأة والمستهلك، ولكن هذه الملفات تبدو أقل تعقيدًا من ملفات الاقتصاد والدستور وإعادة بناء الحزب ومعالجة المسألة الكردية.

تحديات الخارج والأمن القومي

أظهرت حكومات العدالة والتنمية منذ بداية تولي الحزب السلطة في 2002 توجهًا نحو اتباع سياسة خارجية استقلالية في الساحة الدولية، واستعادة علاقات تركيا التاريخية بدول جوارها في العالم العربي والبلقان والقوقاز. ولكن التوجه الاستقلالي للسياسة الخارجية أصبح أكثر وضوحًا في السنوات التالية على المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016. في المقابل، وبالرغم من نجاح سياسة التعاون والانفتاح التركية مع دول البلقان، وبداية تطبيع العلاقات التركية-الأرمينية، وتأسيس منظمة الدول التركية، اصطدمت العلاقات التركية-العربية بعدد من العقبات والأزمات، سيما في حقبة ما بعد الثورات العربية.

ولدت السياسة الاستقلالية في الساحة الدولية حلقات من التوتر في العلاقات التركية مع الولايات المتحدة. وإضافة إلى أسباب أخرى، تتعلق بالخلافات حول النفوذ في المتوسط، أدت النزعة الاستقلالية التركية إلى تصعيد الخلافات مع فرنسا. ما أضاف مزيدًا من التعقيد إلى العلاقات التركية مع الولايات المتحدة وفرنسا كان الرعاية الخاصة التي تعهدتها الإدارات الأميركية المتعاقبة لامتدادات حزب العمال الكردستاني السورية، والترحيب الفرنسي بنشاطات الحزب في الساحة الأوروبية، والتأييد متباين المستويات الذي أظهرته واشنطن والعواصم الأوروبية للموقف اليوناني في شرق المتوسط. وليس ثمة شك أن التساهل الأوروبي مع نشاطات حزب العمال هو السبب الرئيس خلف امتناع تركيا عن التصديق على طلب التحاق السويد بحلف الناتو حتى الآن.

لم تخل العلاقات التركية مع روسيا والصين، بالرغم من حرص أنقرة على تجنب الانخراط في المواجهة الغربية مع الدولتين، من الخلافات. ترفض أنقرة التعامل الصيني القمعي مع المسلمين الأيغور، وترفض ضم روسيا أراضي أوكرانية، كما أن الخلاف، بل والصدام أحيانًا، كان طابعًا صريحًا للعلاقات التركية-الروسية في الساحة السورية طوال سنوات.

ليس من المتوقع أن تشهد المقاربة التركية للساحة الدولية أي تراجع ملموس عن السياسة الاستقلالية، سيما أن وزير الخارجية التركي الجديد، هاكان فيدان، كان شريكًا في صناعة هذه السياسة خلال السنوات الماضية بصفته رئيسًا لجهاز الاستخبارات الوطني. ولكن الأرجح أن أنقرة ستحاول ترميم بعض ما يمكن ترميمه من العلاقات مع الكتلة الغربية، بدون التخلي عن علاقات التعاون مع موسكو وبيجين، أو التفريط بمسائل الأمن القومي. إصرار تركيا على إتمام صفقة طائرات إف 16 الحديثة، وتوجهات التطبيع مع اليونان، تشير بوضوح إلى أن أنقرة تسعى إلى الحفاظ على علاقاتها الغربية التقليدية، وحصر مسائل الخلاف في أضيق خانة ممكنة. ولكن، من الصعب تصور انتهاء هذا الخلاف كلية، طالما أصرت الدول الغربية على مواصلة دعم حزب العمال الكردستاني، وأصرت اليونان على موقفها المتشدد في شرق المتوسط.

أما في المجال الإقليمي، فتبدو حظوظ السياسة التركية أفضل بكثير اليوم، سيما بعد الخطوات التي اتخذتها أنقرة لترميم علاقاتها العربية. تحافظ أنقرة على علاقات وثيقة بكافة دول البلقان، مع الحفاظ على مسؤولياتها في حلف الناتو. كما أثبتت منظمة الدول التركية قدرتها على الاستمرار، وعلى تطوير العلاقات بين دولها، سيما بعد أن أسست بنك التنمية الخاص بها قبل أسابيع قليلة. وعلى الرغم من الدور التركي في دعم جهود أذربيجان لاستعادة أراضيها في ناغورنو كارباخ، في مواجهة انتقادات روسية وأوروبية متعددة، أبدت أنقرة انفتاحًا على تطبيع العلاقات مع أرمينيا. والمؤكد أن حكومة أردوغان الجديدة ستواصل عملها في هذه المجالات جميعًا معًا.

في الجوار العربي، نجحت أنقرة في إعادة الدفء إلى علاقاتها مع الإمارات والسعودية، وبدأت اتصالات بطيئة للتطبيع مع مصر، يتوقع أن ينجم عنها تبادل للسفراء خلال فترة قصيرة. شهدت العلاقات مع الإمارات والسعودية قفزات ملموسة في المجاليْن، الاقتصادي والتجاري، ولكن من غير الواضح ما إن كان التطبيع التركي-المصري سيفضي إلى أي تقارب بين البلدين فيما يتعلق بترسيم الحدود في شرق المتوسط.

كما خطت تركيا، بوساطة روسية، خطوات أولية في اتجاه استئناف العلاقات مع سوريا الأسد، ليس بهدف تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وحسب، ولكن أيضًا لاعتراف أنقرة بأن تغيير نظام الأسد لم يعد مطروحًا، وأن من الضروري تعاون البلدين لمواجهة مخاطر الجماعات المسلحة المتمردة، والحفاظ على وحدة سوريا. ولكن الواضح، بالرغم من الإلحاح السوري، المدعوم إيرانيًّا، أن تركيا لن تقوم بسحب قواتها من شمال سوريا إلا بعد أن تحل كافة جوانب الأزمة السورية، وينتهي التهديد الذي تشكله الأزمة للأمن القومي التركي.

هذه الصورة لخارطة العلاقات التركية-العربية تجعل مهمة أصحاب القرار في أنقرة أيسر قليلًا مما كانت علية الأمور قبل خمس سنوات. ولكن هذا لا يعني أن طريق أنقرة لإعادة بناء العلاقات مع الجوار العربي تخلو من التحديات. يرى صانعو القرار التركي أن ثمة حاجة ملحَّة لبذل جهود أكبر لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع الأسواق العربية، سيما في منطقة الخليج؛ وحاجة للتعامل مع معارضة الرياض لبناء خط نقل تجاري ونقل الطاقة من ميناء الفاو العراقي إلى تركيا، وصولًا إلى أوروبا.

ولابد أن أنقرة ستعمل في المرحلة المقبلة على أن ينعكس التحسن في العلاقات مع العواصم العربية الرئيسة على مناطق الأزمات ذات الصلة بتركيا، مثل سوريا وليبيا. كما ستعمل على تطوير مقاربة متوازنة لموقفها من المسألة الفلسطينية، بعد أن استأنفت العلاقات مع إسرائيل، ونجحت الأخيرة في تطبيع علاقاتها مع عدة دول عربية، تحافظ من خلالها على موقفها التقليدي من الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

انضباط في الداخل ومرونة في الخارج

لم تتح لحزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيس، فرصة انتخابية، منذ انتقلت تركيا إلى الحياة الديمقراطية في 1950، كما أتيحت له في الانتخابات الأخيرة. لم يستطع حزب الشعب العودة إلى الحكم منفردًا بعد خسارته الفادحة أمام مندريس في 1950، ولم يحكم من جديد لسنوات قليلة ومتفرقة إلا بقوة الانقلابات العسكرية، أو عبر ائتلافات حزبية هشة. في هذه الانتخابات، نجح حزب الشعب في بناء ائتلاف انتخابي غير مسبوق، ضم قوى من اليمين واليسار والوسط، تلقَّى دعمًا صريحًا ومضمرًا من القوى الغربية، وصنع انطباعًا بأنه لم يعد حزب النخبة الاجتماعية، الحزب العلماني المفرط في خصومته مع مواريث الشعب، الحزب الحاكم الوحيد وثقيل الوطأة لأكثر من ربع قرن. ولكن الشعب الجمهوري، على الرغم من ذلك كله، لم يحقق الفوز في الانتخابات.

وهذا ما يدفع كثيرين إلى الاعتقاد بأن العدالة والتنمية، أو أي تجمع سياسي محافظ آخر، بإمكانه الاستمرار في الحكم، ومنع حزب الشعب من تسلم مقاليد السلطة مرة أخرى، لعدة عقود مقبلة، إن توافر عدد من الشروط غير المستحيلة: أولها: نجاح الحكومة الحالية في معالجة أولويات البلاد والتصدي للأزمة الاقتصادية. الثاني: التحرر قليلًا من ضغوط التحالف مع حزب الحركة القومية وإحياء مسار السلم والتعامل مع الملف الكردي. والثالث: اختيار خليفة مقنع ومؤهل، سياسيًّا ووطنيًّا، للرئيس أردوغان في الوقت المناسب.

على الصعيد الخارجي، يمكن القول: إن مطالب البعض بأن تقوم حكومة أردوغان الجديدة بوضع إستراتيجية عمل شاملة للعلاقات الخارجية هي في جوهرها مطالب مثالية، لا تأخذ في الاعتبار وزن تركيا النسبي في الساحة الدولية. فبالرغم من حالة النهوض التي تعيشها تركيا منذ أكثر من عقدين، تظل تركيا قوة متوسطة، يصعب عليها وضع أهداف ثابتة، والالتزام بتحقيق هذه الأهداف مهما كانت العقبات والمتغيرات الإقليمية والدولية. تركيا ليست الولايات المتحدة، ولا هي الصين، أو روسيا. وحتى هذه القوى الكبرى يصعب عليها إمضاء سياساتها الإستراتيجية عندما تجد نفسها في مواجهة قوى كبرى أخرى، كما تشهد على ذلك الحرب الروسية في أوكرانيا.

للمحافظة على حالة النهوض، تحتاج تركيا انضباطًا سياسيًّا داخليًّا، يعمل على تجنب العودة إلى حقبة التشظي والتدافع وعدم الاستقرار الداخلي، ومرونة أكبر في المجال الخارجي، تساعد على اقتناص الفرص، والمغامرة المحسوبة، ومنع الأزمات من التفاقم. وربما يمكن القول: إن النظام الرئاسي سيحافظ على الانضباط الداخلي، وإن اتباع سياسة خارجية براغماتية سيوفر المرونة الضرورية في المجالين الدولي والإقليمي.

——————————-

صندوق الانتخابات التركي بين نظرتين/ مالك داغستاني

“لو أجريتَ تجربة انتخابية في مجتمع بدائي، يتكون أفراده من أكلة لحوم البشر، فإن خيارات الناخبين ستذهب للمفاضلة بين أكل لحمكَ مشوياً أو مسلوقاً”. هذا الاقتباس، وهو من الذاكرة، كان أقسى ما قرأته سابقاً كمثال عن النظرة التحقيرية المتطرفة للديمقراطية، وهو لم يصدر عن شخصية دينية تكفِّر الديمقراطية. فاحتقار رأي الأغلبية ليس حكراً على المتزمتين دينياً فحسب، وإنما هناك ميل لدى آخرين إلى تحقير الناخبين (الرعاع) كما يراهم هؤلاء.

وليس مفاجئاً وجود تيار علماني يعتقد بتلك الفكرة. بما أن هناك صوتاً لكل مواطن مهما كان شأنه، في الصندوق الانتخابي، فإننا لن نعدم من يرى أن أولئك الأقل تعليماً وثقافة، سيشدّون النتائج والتجربة برمتها نحو الخلف، عندما يدلون بأصواتهم. هناك ما يتسرب بين الكلمات فيعبّر عن تحقير للناخبين في المناطق الأقل حضرية، وتوصيفهم بلغة استعلائية. خطاب، رغم أنني لا أتفق معه، بل وأعتبره تمييزياً، إلا أنني بتفكيك بعضه، أجد أنه جدير بالنقاش.

بعد نتائج الانتخابات التركية الأخيرة، كان يتسرب من هنا وهناك، مثل هذا الصوت. فمراكز المدن الكبرى، منحت صوتها لليسار العلماني المعارض، بينما مناطق الأناضول منحت أصواتها للمحافظين، الذين استطاعوا بفضل تلك الأصوات، المحافظة على سلطتهم. طبعاً لمناطق شرق وجنوب الأناضول ذات الغالبية الكردية شأن آخر يتعلق بالبعد القومي والهويّة، وهو أمر تاريخي لست هنا بصدده.

يعتبر العلمانيون أن استغلال المحافظين للمد الديني، تلاعبٌ زائف بمشاعر المواطنين الأقل تعليماً وثقافة. لكن بالطبع هذا لم يمنع ممثل اليسار لانتخابات رئاسة الجمهورية، من العزف على ذات الوتر في أكثر من محطة، لاستقطاب الصوت المحافظ، فادّعى الرجل، للطرافة، أنه من نسل الرسول، بل وإنه مؤمن أدّى العُمرة. أما حين احتاج أكثر من ذلك في الدورة الثانية للانتخابات، فقد ذهب بعيداً في خطاب عنصري متطرف، لم يكن معتاداً بالنسبة له سابقاً، من أجل استقطاب القوميين الأتراك. علماني يساري مؤمن عنصري! يا لاتّساق الخطاب.

يرى العلمانيون الأتراك أن الحداثة والانفتاح والحريّات العامة، بل ومحاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أحلامٌ تضيع بسبب أصوات المناطق الأقل تقدّماً في تركيا، التي رجّحت وصول حزب ذي ميل إسلاميّ إلى السلطة، مما سيشكِّل سداً في وجه تلك الطموحات. إذاً يعاني أغلبية سكان المدن الأكثر حضرية من أصوات المناطق الأقل تحضراً. وإن وجود مثل هذا التفاوت الاجتماعي الثقافي بشكل ملحوظ في المجتمع التركي، تسبّب بوجود ملاحظات ليست بالقليلة على الآلية الديمقراطية برمّتها. وإن كان عموم الجمهور، أو غالبيته متفقون على أن الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة للاختيار، فإن نتائج الانتخابات الديمقراطية لن ترضي بالضرورة العموم، بل الأغلبية الفائزة فقط.

ظهر بعد الانتخابات خطاب متشنج على نحو ما، يتحدث أحياناً عن لا عدالتها. لم يكن القصد هنا التزوير أو التلاعب بالنتائج، بل هو توصيف للخلل في الإمكانات المتاحة لكل طرف وأدوات الخطاب، التي أوصلت المحافظين إلى أغلبية البرلمان ورئاسة الجمهورية. لم يكونوا قلّة، الأتراك الذين وصفوا الرئيس المنتخب، على الرغم من خضوعه لدورة الإعادة، بالديكتاتور، وكذا كان المنحى العام في الخارج الغربي عموماً، وهذا ما ظهر في العديد من الصحف الأوروبية والأميركية، رغم اعترافها في النهاية بنزاهة الانتخابات.

ولكن هل هذا يعني أن الديمقراطية لا توصل أشخاصاً لا ديمقراطيين إلى المناصب؟ لا بالتأكيد، وهناك ما لا يحصى من الأمثلة في التاريخ الحديث. ومن هؤلاء من قد يفكر في تحطيم الصندوق الذي أوصله إلى السلطة، فيما لو لم يفز في الانتخابات التالية، إن لم تكن هناك تقاليد ديمقراطية راسخة تمنعه. على صعيد منطقتنا العربية تحديداً، فإن جماعة “الحاكمية لله” ومعظم الإسلام السياسي المتطرف يمكن وضعهم في تلك الخانة حسب ما يصرّحون بأنفسهم، رغم أن العسكر، هم الأجدر بهذا الموقع المعادي للديمقراطية، فهم من أثبتوا ذلك على الدوام، بتحطيمهم لصناديق الانتخابات النزيهة.

جرى ذلك في الجزائر قبل عقود، وفي مصر قبل سنوات، وليست تجربة ليبيا المتعثّرة ببعيدة عن ذلك في أيامنا الحالية. أليس الرئيس التونسي قيس سعيّد خير مثال عن شخص غير ديمقراطي، أوصلته الصناديق الانتخابية إلى موقعه؟ كثيراً ما شكّلت الانتخابات الديمقراطية سلّماً انتهازياً لغير الديمقراطيين. في هكذا حالة، وبأدواتها التنفيذية، فإن الديمقراطية ستبدو وكأنها تأكل من جوهرها وروحها، حين توصل مثل هؤلاء إلى السلطة.

بالعودة إلى التجربة التركية التي راقبها العالم، وطبعاً العرب بمن فيهم نحن السوريين، عن كثب. سيبدو ما جرى هنا حلماً بالنسبة لأي عربي لم يعرف هكذا تجارب، وحين عرفها في حالات نادرة، فإن أدوات تدميرها كانت جاهزة للانقضاض عليها قبل نضجها. ومن اطّلاع شخصي على المجتمع السوري في تركيا، يمكنني القول إن السؤال الرئيسي لدى السوريين للأتراك غير الراضين، وهو سؤال استنكاري بطبيعة الحال، كان: ماذا تريدون أفضل من ذلك؟

الحقيقة إننا من موقعنا، كعرب عموماً وسوريين على وجه التحديد، ننظر بعين التمنّي إلى النموذج التركي فنبكي حال بلداننا. ولكن هل الأتراك مثلنا؟ بالتأكيد لا. إنهم ينظرون للنموذج الأوروبي، وهو الأرقى ديمقراطياً بكل تأكيد، فيتذمرون من تجربتهم التي يعتبرونها قاصرة، رغم أن الآلية الانتخابية لا يشوبها أي قصور، فيعزون السبب إلى ما أوردته في بداية المادة، من أن الأغلبية الطفيفة في المناطق الأقل حضرية هي من تشدّهم إلى الخلف. متناسين في الكثير من الأحيان البرامج الانتخابية الفارغة، والقاصرة في أقل الأحوال، للمعارضة المهلهلة.

أما نحن فلنا في التجربة العراقية مثال قد يكون جيداً على دور ما دون الوطني، والنضج الحضاري عموماً، في عمل الآليات الديمقراطية الانتخابية، وهو وما يمكن سحبه على أي بلد عربي، فيما لو أتيحت له تلك التجربة. فليس هناك إيلاء اهتمام، سأجازف هنا وأقول بالمطلق، للبرامج السياسية والاقتصادية والإصلاحية، وكل التركيز إنما هو مُنصبٌ على انتماء المرشح العرقي والديني والطائفي.

لا بأس للناخب أن يكون مرشحه مشروع ديكتاتور، بل وأحياناً مجرم حرب، ما دام انتماؤه موائماً. ليس من فراغ هذا النزوع المتنامي من الولاء السني العربي للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، واعتباره نموذجاً للقائد العربي المسلم، حتى بعد موته! فلا بأس أن يكون الحاكم فاسداً أو قاتلاً أو طاغية، على أن يكون منّا! إنه مثال يفقأ العقل قبل العين. ومثله تماماً، في الضفة الأخرى، الولاء الشيعي للديكتاتور خامنئي.

هل أريد القول مع القائلين بضرورة انتظار نضج المجتمعات قبل الوصول إلى مرحلة تطبيق الديمقراطية؟ بالقطع لا، فهذه أرذل الوصفات. المجتمعات لا تنضج في ظل الاستبداد مهما كان لونه. المجتمعات تنضج، وهي تنجح أحياناً وتتعثر أخرى، خلال ممارسة تجربة الحرية والديمقراطية وآلياتها المناسبة. إنها المعبر الإجباري الذي لا مهرب منه، حتى لو بدا مؤلماً للبعض. ولنا مثال واضح، في مجتمعات لا تختلف في درجة تطورها كثيراً عنا كالهند في آسيا، والعديد من دول إفريقيا وأميركا اللاتينية، التي تنجح أحياناً وتخفق أخرى، لكنها تسير بثبات لإنضاج تجربتها. علينا دوماً في بلداننا، ليس فقط أن نحلم، بل أن نمتلك الأدوات لنصل إلى تحقيق هذا الحلم يوماً ما.

تلفزيون سوريا

————————————–

من حسم الانتخابات التركية.. الإيديولوجيا أم الاقتصاد؟/ فراس محمد

انتهت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية بفوز جديد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمنصب رئيس الجمهورية، في حين حقق تحالف الجمهور الحاكم الداعم لأردوغان أغلبية في البرلمان التركي بواقع 323 مقعداً من أصل 600، وأما تحالف الأمة المعارض فقد مُني بخسارة جديدة وحصل على 212 مقعداً فقط، بينما حصل حزب اليسار الأخضر (حزب الشعوب الديمقراطية) سابقاً على 61 مقعداً و4 مقاعد لحزب العمال.

وفي ظل هذه النتائج خرجت العديد من التحليلات التي ترى أن التوجهات الإيديولوجية للناخب التركي كانت صاحبة الكلمة الفصل في ترجيح كفة الفائز في الانتخابات، بينما لم يكن للأزمة الاقتصادية التي عصفت بتركيا خلال السنوات القليلة الماضية، والتي ترافقت بتسجيل أرقام تضخم كبيرة جداً، أثر كبير على المزاج الانتخابي.

ربما يبدو هذا الكلام دقيقاً للوهلة الأولى، فالكتلة المحافظة المؤيدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان حافظت على تماسكها، وشكلت كتلة تصويتية صلبة خاصة في مدن الأناضول وسواحل البحر الأسود، ولم تتأثر بمحاولات المعارضة التركية بإحداث خرق حقيقي لصالحها، من خلال التركيز على الجانب الاقتصادي، حيث رمى مرشح المعارضة كمال كليتشدار أوغلو بكل ثقله في هذا الجانب من خلال الفيديوهات التي نشرها وركز من خلالها على التضخم في الأسعار وخاصة أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، كما نشط أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول التابع لحزب الشعب الجمهوري المعارض في الأسواق الشعبية (البازارت) للتأكيد على أن سياسة الحكومة الاقتصادية هي السبب في ارتفاع الأسعار.

كذلك الأمر لم تتأثر أيضاً الكتلة الانتخابية المؤيدة للمعارضة التركية بالخطاب الذي قدمته الحكومة التركية والرئيس رجب طيب أروغان، حول اكتشافات النفط والغاز ورفع الحد الأدنى للأجور، وغيرها من الوعود بتحسين الوضع الاقتصادي، وصوتت هذه الكتل والتي تتركز في المدن الكبرى وسواحل البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة، لصالح التحالف المعارض ومرشحهم كمال كليتشدار أوغلو.

نتائج الانتخابات التركية كانت صادمة لكثير من المراقبين، خاصة ما يخص التأثير المباشر للأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، وذلك أسوة بكل البلدان التي تشهد انتخابات ديمقراطية حيث دائما ما يكون العامل الاقتصادي هو العامل الأساسي في حسم نتائج الانتخابات، وخير مثال على ذلك عبارة مستشار الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون للشؤون الاقتصادي جيمس كارفيل في حملته الانتخابية الأولى ضد الرئيس السابق جورج بوش الأب، والتي تحولت إلى شعار مركزي لحملة كلينتون، ومفتاح الفوز في الانتخابات. العبارة-الشعار كانت: “إنه الاقتصاد أيها الغبي”.

لكن هل حقيقة لم يكن للاقتصاد أي تأثير على الانتخابات؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب البحث أكثر في الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية للكتلتين الانتخابيتين الأساسيتين (المحافظة والكمالية العلمانية) وخاصة منذ تشكيل الجمهورية التركية وصولاً إلى المرحلة الحالية.

من يدرس أكثر طبيعة هاتين الكتلتين سيجد أن العامل الاقتصادي عامل مؤثر وحاسم في تشكيلهما أولاً، وفي طبيعة تطورهما وتبلورهما ككتلتين متنافستين، بطريقة لا تقل عن تأثير العامل الإيديولوجي، فالكتلة الأولى تتمركز كما ذكرنا في مناطق الأناضول والبحر الأسود ذات الطبيعة الريفية، والتي عانت طوال فترة ما قبل صعود حزب العدالة والتنمية من تهميش اقتصادي وضعف في المشاريع التنموية، عكس الكتلة الثانية التي كانت تمسك بزمام الاقتصاد التركي وهو ما نجده بشكل جلي في مناطق تمركزها حيث تنتشر في المراكز الحضرية والمراكز التجارية لأهم المدن التركية، وعلى السواحل التي تعتبر مراكز تجارية وسياحية مهمة وخاصة سواحل البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة.

هذا التباين بين الكتلتين كان له تعبير اقتصادي تمثل بمجموعتين اقتصاديتين الأولى كانت التوسياد التي تشكلت عام 1971 وضمت أغنى وأثرى العائلات التركية، وذلك بهدف التصدي لصعود التيار المحافظ الذي قد يهدد قوتها ونفوذها السياسي، ودعمت التيارات العلمانية للوقوف بوجه نشوء أي تيار محافظ، بالمقابل ارتكز صعود التيار المحافظ منذ حكومة حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان وصولاً إلى حكومة حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان على جمعية الموصياد والتي تشكلت من رجال الأعمال والصناعيين المحافظين والذي ينحدر معظمهم من المدن الداخلية.

وتعرضت الموصياد التي دعمت حكومة نجم الدين أربكان في التسعينيات من القرن الماضي للتنكيل من قبل القضاء الذي يسيطر عليه التيار العلماني وحملات إعلامية شرسة من الإعلام التابع للتوسياد، لكن مع وصول حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان إلى الحكم دعمت الموصياد هذه الحكومة كونها تتماشى مع سياستها عكس التوسياد التي وقفت ضد السياسة الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة.

ووفق هذا التصور فإنه لا يمكن إغفال التأثير الواضح للعامل الاقتصادي في نتائج الانتخابات حتى لو بدت ظاهرياً ذات بعد إيديولوجي، فالطبقة الاقتصادية المحافظة التي نمت وعززت مكاسبها خلال فترة صعود حزب العدالة والتنمية ستبقى وفية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولن تراهن على خسارة هذه المكاسب أمام الوعود الانتخابية التي قدمتها المعارضة التركية، كما أن التنمية التي شهدتها هذه المناطق خلال مدة قياسية، بعد عقود طويلة من الإهمال على حساب المناطق المحسوبة على التيار العلماني الكمالي، ستبقى عامل حاسم في بقائها ككتلة انتخابية صلبة ووفية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

ختاماً لا بد من التنويه إلى أن تشكل أي كتلة سياسية هو نتاج مجموعة من العوامل لا يمكن فصلها بعضها عن بعض، وغالباً ما تكون هذه العوامل متداخلة ومتشابكة بشكل كبير، فالكتل السياسية الرئيسية في تركيا هي نتاج عوامل إيديولوجية واقتصادية وثقافية وجغرافية وتاريخية في الوقت نفسه، ولرسم تصور واضحة لهذه الكتل واستشراق مستقبلها لا بد من النظر إلى كامل الصورة بكامل تفاصيلها وتداخلاتها.

تلفزيون سوريا

——————————-

الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية: قراءة في نتائجها ودلالاتها

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

حظيت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي جرت في أيار/ مايو 2023 باهتمام إقليمي ودولي واسع وتغطية إعلامية كبيرة. ويعود ذلك إلى موقع تركيا وسياساتها المؤثرة في مختلف القضايا الدولية والإقليمية .وأعطى التقارب الكبير في الأوزان الانتخابية للتحالفين الكبيرين، تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتحالف الأمة بقيادة حزب الشعب الجمهوري المعارض، أهميةً أكبر لهذه الانتخابات، وخصوصًا مع تنامي قوة المعارضة التي فازت بالبلديات الكبرى في عام 2019، وتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية لعدة أسباب أهمها الصعوبات الاقتصادية، فضلاً عن زلزال مدمر ضرب جنوب البلاد في شباط/ فبراير 2023.

وقد جاءت الانتخابات أيضًا في سياق إقليمي ميزه تزايد مظاهر الاستبداد، وانخفاض نسب المشاركة السياسية في أكثر الدول العربية؛ ما دفع إلى عقد مقارنات بالتجربة التركية التي تميزت بمشاركة عدد كبير من الأحزاب السياسية) 36 حزباً في عام 2023 مقارنة بـ 11 حزباً في عام 2018(، وبنسبة اقتراع عالية قاربت الـ 90 في المئة. وقد ساهم وجود جالية عربية كبيرة وارتباط ملف اللاجئين والمجنسين الجدد بالانتخابات في زيادة الاهتمام العربي بهذا الحدث.

تتناول هذه الورقة بالتحليل نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي شهدتها تركيا في أيار/ مايو 2023، وتحاول الوقوف على أهم العوامل التي ساهمت في بلورتها، وتقف أيضًا على طبيعة التمثيل في البرلمان ،والنتائج التي برزت خصوصًا في مناطق الزلزال، ثم تخرج بخلاصات عن أهم دلالات الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

أولاً: نسب المشاركة

بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية والجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 14 أيار/ مايو 2023، 88.92 في المئة، وتأتي هذه النسبة في الترتيب الثالث من حيث المشاركة في تاريخ الانتخابات في تركيا التي بدأت عام 1946. وقد جاءت نسب المشاركة مرتفعة في المدن الكبرى: إسطنبول )90.8 في المئة( وأنقرة) 91.5 في المئة( وإزمير) 90.5 في المئة(، مع أنها تراجعت بمقدار 3 في المئة تقريبًا في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية[1]، ويوضح الجدول) 1( المدن الثلاث التي شهدت أعلى نسب مشاركة.

المدن

ويشار إلى أن هذه المدن محسوبة على التيار القومي الذي خاض هذه الانتخابات باعتبارها معركة بقاء، بينما تعامل الطرف المعارض معها على أنها فرصة سانحة للتغيير؛ ما رفع نسبة المشاركة فيها.

الأقل

ويغلب على سكان هذه المدن الأقل مشاركة نسبة الأكراد الذين لم يكن لديهم درجة الاهتمام نفسها؛ نظرًا إلى عدم وجود مرشح كردي للرئاسة، وضمان تمثيل حزب اليسار الأخضر ذي الأغلبية الكردية بعد تخفيض العتبة الانتخابية من 10 إلى 7 في المئة.

وقد بلغت نسبة المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية 84.15 في المئة، ولكنها انخفضت عن الجولة الأولى، بسبب الإحباط في صفوف المعارضة والتراخي النسبي في صفوف مؤيدي الحكومة بعد صدور نتائج الجولة الأولى، إضافة إلى امتناع قسم ممن صوتوا للمرشح الثالث في الجولة الأولى عن التصويت في الجولة الثانية.

ثانيًا: أوزان الأحزاب السياسية في البرلمان الجديد

استطاع تحالف الشعب )أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والرفاه الجديد، والاتحاد الكبير( الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان بحصوله على 49.5 في المئة من الأصوات؛، ما مكّنه من انتزاع 323 من أصل 006 مقعد في البرلمان، بينما حصل تحالف الأمة المعارض )حزب الشعب الجمهوري، والحزب الجيد( على 35.04 في المئة مما مكنه من تأمين 212 مقعدًا في البرلمان. وقد حصل تحالف العمل والحرية )حزب اليسار الأخضر/ الشعوب الديمقراطية سابقًا وعمال تركيا( على 10.56 في المئة أي 65 نائباً.

ويوضح الشكل (1) توزيع المقاعد البرلمانية على الأحزاب، وتجدر الإشارة هنا إلى أن قرار إجراء استفتاء عام يحتاج إلى موافقة 360 صوتاً في البرلمان، في حين يحتاج أي تغيير دستوري إلى أصوات 400 نائب ،وهو ما لم يستطع أي تحالف تحقيقه.

البرلمان التركي

أما فيما يتعلق بأصوات الشباب في الانتخابات، فقد كان التصور القائم أن الأغلبية الساحقة منهم تتطلع إلىالتغيير. ومع أنه لا يوجد حاليًا إحصاءات مؤكدة أو استطلاعات موثوقة تبين اتجاه أصوات الشباب، فإنه يمكنالقول إن كتلة كبيرة منهم صوتت لصالح أردوغان وتحالف الجمهور الذي يقوده، حيث استطاع أردوغان جذب قسم كبير منهم إليه من خلال المشاريع التي أعلن عنها، بما فيها القروض والمنح التعليمية والاهتمام بالتكنولوجيا، بينما بقيت المعارضة أسيرة انطباع غير دقيق بأن غالبية ساحقة من الجيل الشبابي تدعمها.

رابعًا: التصويت في مناطق الزلزال

أجرت تركيا الانتخابات في موعدها،  بالرغم من عدم تعافيها كليًا من زلزال مدمر أصاب 11 مدينة في شباط/ فبراير 2023، ولحقت أثاره قرابة 9 ملايين ناخب يعيشون في هذه المدن. ومع أن نسبة المشاركة في عموم تركيا ارتفعت من 88.18 في المئة عام 2018 إلى 88.96 في انتخابات 2023، فقد كان هناك تناقص في نسبة المشاركة في مناطق الزلزال بمتوسط 5 في المئة على الأقل في المدن الأربع الأكثر تضررًا )أديمان ،وهاطاي، وكهرمان مرعش، وملاطيا.

ويعتبر هذا التراجع طبيعيًا، بالنظر إلى انتقال نسبة معتبرة من السكان إلى مدن أخرى، وقد ساهم توفير المواصلات للناخبين، من المدن المتضررة من الزلزال وإليها، في المحافظة على نسبة مشاركة فيها بمعدل 83 في المئة تقريباً. وفي حين حصل حزب العدالة والتنمية على 48.4 في المئة من الأصوات في مناطق الزلزال في عام 2018، فإنه قد حصل على 35.3 في عام 2023. وفي مدينة كهرمان مرعش مركز الزلزال، تراجع حزب العدالة والتنمية من 58.68 في المئة في عام 2018 إلى 47.78 في عام 2023. ولم تكن نسبة التراجع للحركة القومية في مناطق الزلزال كبيرة؛ حيث نزل بمتوسط 2.3 في المئة فقط.

وقد ساهم تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية مع حزب الرفاه الجديد في المحافظة على نسب تأييد مرتفعة عند 60.78 في المئة، في المدن الأربع الكبرى في مناطق الزلزال، مع أن تحالف الأمة المعارض حصل في المدن نفسها على 28.21 في المئة متقدمًا من 26.37 في عام 2018 بزيادة 1.83. أما تحالف العمل والحرية فقد تناقصت أصواته من 8.62 في المئة في عام 2018 إلى 7.1 في الانتخابات الحالية في المدن الكبرى بمناطق الزلزال.

وبالنظر في نتائج الانتخابات البرلمانية يمكن استخلاص التالي:

    كان للتوجهات القومية الدور الأكبر في تحديد نتائج الانتخابات، وتلتها القضايا الاقتصادية.

    أدت القضايا الاقتصادية دورًا أكبر في تحديد سلوك الناخب في المدن الكبرى والمناطق الحضرية، بينما برز دور التوجهات القومية في المناطق الريفية.

    ساهم تركيز المعارضة على المدن الثلاث الكبرى )إسطنبول وأنقرة و إزمير( في نشر روايتها، ورفع نسب تأييدها، ومع ذلك فاز تحالف الجمهور الحاكم بعدد أكبر من النواب في كل من إسطنبول وأنقرة.

    ثبت عدم صحة مقولة أن التحالف الذي يحصل على دعم حزب الشعوب الديمقراطي هو الذي سيفوز في الانتخابات.

    أوضحت النتائج أن الكتل الصلبة للأحزاب ظلت متماسكة، في حين يجري التنافس على الفئات التي تقع على هوامش الأحزاب، والمستقلين الذين ليس لديهم توجه سياسي واضح.

    فشلت الأحزاب المحافظة الصغيرة التي خرج قادتها من حزب العدالة والتنمية، مثل علي باباجان وأحمد داود أوغلو، في جذب أي كتلة ملموسة من ناخبي حزب العدالة والتنمية. في حين ساهم حسن اختيار أردوغان لتحالفاته في إبقاء الناخب الغاضب من حزب العدالة والتنمية داخل التحالف، من خلال الانتقال إلى الحركة القومية أو الرفاه الجديد بدلاً من التحول إلى معسكر المعارضة.

    أعطت نتيجة الانتخابات البرلمانية أفضلية لمرشح التحالف الفائز، لتعزيز الاستقرار، كما أجّلت التفكير في إمكانية تحويل النظام من رئاسي إلى برلماني لمدة 5 سنوات أخرى.

    تأكد انطباع بأن إسطنبول صورة مصغرة لكل تركيا، فعدا حزب الحركة القومية الذي حصل على نسبة عامة أفضل من نسبته في إسطنبول بـ 4 في المئة، جاءت نتائج الأحزاب في إسطنبول متوافقة مع النتائج العامة.

    بالرغم من تصاعد النزعات والقوى القومية بأنواعها في تركيا، فإن أحزاب القومية الفاشية خرجت خاسرة في حسابات نتائج البرلمان الأخيرة، مع أنها نجحت في وضع ملف اللاجئين على أجندة السياسة التركية.

    قدمت نتيجة البرلمان مجلسًا متنوعًا من حيث تمثيل أكبر في عدد من الأحزاب مقارنة بالعقدين الأخيرين.

خامسا: نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية

أسفرت نتيجة الجولة الأولى للانتخابات عن حلول الرئيس أردوغان في المركز الأول بفارق حوالي 5.5 في المئة عن أقرب منافسيه، كليجدار أوغلو. ولم يتمكن أردوغان من الحصول على 50 في المئة اللازمة لحسم الانتخابات من الجولة الأولى. ويعتقد أن وجود مرشح ثالث تسبب أيضًا في انتقال السباق إلى جولة ثانية، ونظراً إلى أن المرشح الثالث، أوغان، ينتمي إلى التيار القومي في تركيا، فقد كان متوقعًا أن يسعى الطرفان لكسب دعمه من جهة، وكذلك كسب الكتلة التي صوتت له من خلال تبني بعض مطالبها وتوجهاتها من جهة أخرى.

وتوضح الخريطة (1) المناطق التي تقدم بها أردوغان والمناطق التي تقدم بها كليجدار أوغلو، وتتناسب دكانة اللون في الخريطة مع ارتفاع الفارق بين المرشحين في الجولة الأولى، ومن الخريطة (1) يتضح لنا أن النسب كانت متقاربة بين المرشحين في كل من إسطنبول وأنقرة مع تقدم طفيف لصالح كليتشدار أوغلو.

وقد صوتت المدن الغربية والجنوبية على ساحل إيجة والبحر الأبيض المتوسط لصالح كليجدار أوغلو، حيث تتركز أغلبية المؤيدين لحزب الشعب الجمهوري، مع تقدم واضح في إدرنة وإزمير التي تعتبر معاقل لحزب الشعب  الجمهوري ولولا اجتهاد أردوغان في استمالة المتضررين في مناطق الزلزال، لربما أكملت المعارضة لأول مرة في تاريخها السيطرة على كامل الخط الجنوبي في تركيا. ولكن حدث العكس، فقد ساهمت مدن الزلزال عدا هاطاي، من مالاطيا في الوسط إلى غازي عنتاب بالجنوب مرورًا بكهرمان مرش، في دعم فوز أردوغان. وقد صوتت مدن الشرق والجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية في الجولة الأولى لصالح كليجدار أوغلو، وخاصة في ديار بكر لكن مدن قلب الأناضول والبحر الأسود صوتت لصالح أردوغان ومن ثم رجحت كفته.

أردوغان

وتفيد تقديرات بأن المعارضة تقدمت أكثر في المناطق الحضرية، بالرغم من التقارب مع التحالف الحاكم، بينما تقدم أردوغان أكثر في المناطق الريفية. وعلى مستوى آخر، إذا أخذنا منطقة إسطنبول مثالاً، فقد حصل أردوغان على دعم أكبر في المناطق ذات الدخل المنخفض، مثل منطقة سلطان بيلي في إسطنبول التي حصل فيها على 65 في المئة، وأرناؤوط كوي) 61 في المئة(، وإسنلر) 62 في المئة(، وسلطان غازي) 58 فيالمئة(، وباغجلار) 57 في المئة(. أما كليجدار أوغلو فقد حظي بدعم أكبر في المناطق ذات الدخل المرتفع ،مثل كاديكوي) 80.5 في المئة(، وبشكتاش) 80.4 في المئة(، وبكركوي) 73 في المئة(، وشيشلي) 68.6 في المئة(. وكان مفاجئاً تقدمه على أردوغان في أوسكودار وأيوب؛ وهي مناطق محافظة في إسطنبول، وقد يعود سبب الأولى إلى الانزعاج من سلوك البلدية التي يقودها حزب العدالة والتنمية، أما الثانية فتتعلق بتوسع المنطقة وحدوث تغيير ديموغرافي لصالح المعارضة فيها.

وعلى المستوى العام، بالرغم من تقدم أردوغان على كليجدار أوغلو في النتيجة العامة من الجولة الأولى ،فإن هناك تراجعًا في التصويت لأردوغان في أغلب المدن التركية، مقارنة بنتائج انتخابات 2018، وفي الخريطة 2)( تتناسب سماكة السهم مع حجم التراجع في المدن التركية. وبالطبع قد تغير هذا في الجولة الثانية، مع تحول جزء من أصوات المرشح الثالث لصالح الرئيس أردوغان.

يمكن استخلاص بعض النتائج من الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية أهمها:

    تبني المعارضة برنامجا يدعو إلى العودة للنظام البرلماني، حيث تكون صلاحيات الرئيس محدودة، بينما خاضت الانتخابات الرئاسية وفق نظام رئاسي يمتلك فيه الرئيس النفوذ والصلاحيات الأقوى؛ ما أربكها في وضع معايير الشخص المناسب للرئاسة.

    تأخرت المعارضة في الاتفاق على مرشح بسبب الخلافات بين أحزابها حول المرشح ونوابه.

    استطاع الرئيس أردوغان وحلفاؤه جعل مسألة انتخابه قضية قومية يرتبط بها مستقبل البلاد ووحدتها ،وفرض هذه الأجندة بما غطى على أجندة المعارضة المبنية على التراجع الاقتصادي والدعوة لنظام برلماني معزز.

    ظهرت المعارضة بمظهر انقسامي مع بروز تصورات متناقضة وشخصيات بدت كأنها تغطي علىشخصية المرشح المشترك، خلال الحملة الانتخابية، وبرزت مساومات بين أحزاب التحالف على عدد النوابوالوزارات ونواب الرئيس؛ ما أعطى انطباعًا سلبياً عنها.

    لم تقنع المعارضة التركية الناخب المستاء، والغاضب من الحكومة، بأن مرشحها يمكن أن يقود عملية تغيير للأفضل في تركيا. لم يقدم مرشح المعارضة رؤية واضحة وعملية لكيفية حل مشكلات البلاد الاقتصادية، بينما نجح الرئيس أردوغان في اقتراح حلول جزئية للمشكلات الاقتصادية، وقام بتأجيل أخرى، وعزز خطاب الاستقرار، وقام بإرضاء فئات معتبرة من الناخبين من خلال التوظيف وتحسين وضع المتقاعدين وإعفاء فئات أخرى من الضرائب والديون، وتسليم بعض الوحدات السكنية لمتضرري الزلزال.

    ساهم دعم أعضاء من تنظيم غولن وحزب العمال الكردستاني لمرشح المعارضة بصفة علنية على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتقاد الصحف الغربية الكبرى لأردوغان، في تأجيج المشاعر القومية التي صبت في مصلحته.

    ساهمت عملية انسحاب المرشح الرئاسي محرم إينجه، قبل الجولة الأولى بعد تعرضه لضغط معسكر المعارضة، ثم انتشار مقاطع فاضحة أعلن أنها مفبركة، في إضعاف الثقة بحزب الشعب الجمهوري ،وربطه بالفضائح مجددا.

    أخطأت المعارضة في افتراض أن الناخب المنزعج من أردوغان سيدعم المعارضة بالضرورة.  ولم تعالج المعارضة مخاوف هؤلاء ولم تطور خطاباً وإجابات معقولة، وخاصة تجاه دعم حزب الشعوب الديمقراطي له.

    تصرفّ كليجدار أوغلو باستراتيجية عشوائية وتكتيكات غير مترابطة تجاه أكثر من فئة انتخابية، بينما ركز أردوغان على مواضيع محددة ورسائل واضحة.

سادسًا: توجهات الناخبين في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية

تقلصت نسبة المشاركة في الجولة الثانية من 88 إلى 84 في المئة؛ أي أن قرابة 2 مليون من الناخبين الذين شاركوا في الجولة الأولى لم يشاركوا في الجولة الثانية. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب:

هناك قسم من 3 ملايين ممن صوّتوا للمرشحين الخاسرين، أوغان وإينجه، في الجولة الأولى، لم يصوتوا في الجولة الثانية.

قسم من الأكراد الذين صوتوا لكليجدار أوغلو لم يصوتوا في الجولة الثانية )لم يذهب ما مجموعه 452 ألف ناخب ممن صوتوا في الجولة الأولى إلى الجولة الثانية في 14 مدينة ذات أغلبية كردية(. وفي حين نزلت نسبة المشاركة بحوالى 3 في المئة في عموم تركيا بين الجولتين، فقد نزلت في المحافظات الكردية بنسبة 5 في المئة. وقد تناقصت أصوات كليجدار أوغلو في هذه المحافظات بمقدار 136 ألف صوت عن الجولة الأولى )ويرجع ذلك إلى تناقص نسبة المشاركة( بينما زادت أصوات أردوغان بمقدار 37 ألف صوت. )يرجح أن تكون هذه الأصوات هي التي حصل عليها أوغان في هذه المنطقة في الجولة الأولى(. وتشير الأرقام إلى أنه حتى لو تحققت نسبة المشاركة نفسها في الجولة الأولى في المناطقالكردية، فلن يستطيع كليجدار أوغلو جسر الفرق بينه وبين أردوغان. هناك قسم لم يكد يذهب إلى الجولة الأولى لاهتمامه بالحد الأدنى في الانتخابات.

وقد ارتفعت أصوات أردوغان في الجولة الثانية بمقدار 591 ألف صوت، ليحصل على 52.16 مقابل 49.52 في المئة في الجولة الأولى، بينما ارتفعت أصوات كليجدار أوغلو قرابة 838 ألف صوت في الجولة الثانية ليرتفع من 44.88 إلى 47.84 في المئة.

ويمكن القول إن 5.6 في المئة التي حصل عليها المرشحان الخاسران )أوغان وإينجه( وفق بعض تقديرات الفرق بين الجولتين قد توزعت بنسبة 2.64 في المئة لأردوغان و2.96 لكليجدار أوغلو، ولكن مع أن كليجدار أوغلو حصل على زيادة أعلى، فإنه لم يستطع أن يتقدم بسبب فارق 2.5 مليون صوت لصالح أردوغان في الجولة الأولى.

وتشير الخريطتان) 4+3( إلى نتائج كل من أردوغان وكليجدار أوغلو في الجولة الثانية، وتتناسب دكانة اللون طردياً مع نسبة الارتفاع في التصويت بين الجولتين والعكس صحيح.

ا

ويتضح أن الارتفاع حصل في المناطق التي يحضر فيها التيار القومي بقوة، وفي هذا السياق يرجح أن النسبة الأكبر من الأصوات التي حصل عليها أوغان قد ذهبت لصالح أردوغان.

ا

يلاحظ من الخريطة) 4( أن تراجع كليجدار أوغلو كان أكثر في المنطقة الكردية، ويرجع ذلك إلى تراجع نسبة التصويت بين الأكراد، لاهتمام قسم منهم بالانتخابات البرلمانية فقط أو استيائهم من تحالفه مع أوميت أوزداغ، والذي وضع شروطاً يرونها متناقضة مع مطالبهم.

خاتمة

فاز الرئيس أردوغان وتحالف الشعب بولاية جديدة من 5 سنوات ليستمر في الحكم مدعوما بأغلبية برلمانية ،وبذلك سيصبح مجموع ما قضاه أردوغان في رئاسة الوزراء ورئاسة تركيا ما يصل إلى ربع قرن.  لكن في المقابل، وجه الناخب التركي رسالة قوية إلى حزب العدالة والتنمية وخاصة في المدن الكبرى، حيث انخفض تأييده بنسبة 7 في المئة عن انتخابات 2018، ويمكن القول إن هذا الانخفاض يعدّ منطقيًا في ظل التحديات التي عاشتها تركيا والمرتبطة بسوء الأوضاع الاقتصادية والزلزال وتداعيات ملف اللاجئين.

مع ذلك، لم تتمكن المعارضة من الاستفادة من تراجع نسب تأييد الحزب الحاكم، وبالرغم من نجاحها في تجميع الأحزاب المعارضة، فإنها لم تقدم أداءً يقنع الأغلبية بإيصالها للحكم، ومن ثمّ ضيعت فرصة كبيرة في الوقت الذي كان حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان في أضعف حالتهما. ومن المرجح أن تنعكس هذه النتائج على مستقبل قيادات الأحزاب المعارضة الحالية وخاصة حزب الشعب الجمهوري، بالرغم من محاولات بقائها في مواقعها إلى حين الانتخابات البلدية المقبلة في آذار/ مارس 2024.

أخيرًا، أبرزت الانتخابات انقسامات مجتمعية وثقافية وجغرافية عميقة، لن يكون من السهل معالجتها. وستكون ملفات الاقتصاد واللاجئين حاضرة بقوة خلال الشهور المقبلة، حيث تتجه تركيا إلى انتخابات جديدة لا تقل أهمية وهي الانتخابات البلدية.

————————–

لا توقعات بتغيير في نهج تركيا إزاء التعامل مع الملف السوري

خبرة الفريق الجديد في الحكومة تعزز الاحتمال

سعيد عبد الرازق

جاء الملف السوري في مقدمة الملفات التي دارت حولها التساؤلات فور إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تشكيل حكومته الجديدة التي عقدت أول اجتماعاتها الثلاثاء. وقد تضمن تشكيل الحكومة، الذي أعلنه إردوغان ليل السبت الماضي، 3 أسماء ذات خبرة عميقة في الملف السوري، وعلى اطلاع على دقائق وتفاصيل مسار محادثات تطبيع العلاقات الذي ترعاه روسيا وتشارك فيه إيران، فضلاً عن الوضع الميداني.

فوزير الخارجية الجديد هاكان فيدان، هو رئيس المخابرات السابق، الذي بدأ أول الاتصالات مع الجانب السوري من خلاله، وتم وضع الأساس لإطلاق المحادثات من خلال لقاءاته مع رئيس مكتب الأمن القومي السوري علي مملوك، ثم واصل الانخراط في الملف خلال اجتماعات وزراء الدفاع والخارجية ورؤساء أجهزة المخابرات الثلاثية والرباعية في موسكو منذ العام الماضي.

وفي الميدان، نفذت المخابرات التركية تحت قيادة فيدان عمليات نوعية استهدفت قياديين في «وحدات حماية الشعب» الكردية، أكبر مكوّنات «قوات سوريا الديمقراطية»» (قسد)، فضلاً عن عملية مقتل الزعيم المفترض لتنظيم «داعش» الإرهابي أبو الحسين القرشي في عملية نوعية في جندريس بشمال سوريا. وأصبح للمخابرات التركية وجود فعال في شمال سوريا تحت قيادته؛ إذ إنها تسيطر على التعامل داخلياً وخارجياً مع الملف السوري بكل تفاصيله.

وانتقلت رئاسة المخابرات إلى المتحدث الرسمي السابق لرئاسة الجمهورية، إبراهيم كالين، الذي أعلن تعيينه على رأس الجهاز، ليل الاثنين – الثلاثاء، وهو من الضالعين بقوة أيضاً في الملف السوري كونه كان مستشاراً أمنياً لإردوغان، وكان يتولى الاتصالات مع الجانبين الروسي والأميركي، وكذلك مع الجانب الأوروبي ومختلف الدوائر المتداخلة في الملف السوري.

أما وزير الدفاع الجديد يشار غولر، فهو الرئيس السابق لأركان الجيش التركي، والذي شارك وأشرف على العمليات العسكرية التركية الأربع في شمال سوريا منذ عام 2016 وحتى عام 2020، حيث كان قائداً للقوات البرية وقت عمليتي «درع الفرات» عام 2016، و«غصن الزيتون» عام 2018، ثم رئيساً للأركان من عام 2018، وأشرف على عمليتي «نبع السلام» في شمال شرقي سوريا، و«درع الربيع» في إدلب عام 2020.

وأكد فيدان في تصريح خلال تسلمه مهام منصبه وزيراً للخارجية، الاثنين، أنه سيواصل الحفاظ على رؤية وطنية مستقلة لتركيا. كما أكد وزير الدفاع أن القوات التركية ستواصل مهامها في الحفاظ على أمن تركيا ومكافحة الإرهاب.

ويعكس كلا التصريحين أنه لن يكون هناك جديد أو تغيير في السياسة الحالية لتركيا، تجاه الملف السوري، سياسياً أو على الأرض، فمحادثات مسار التطبيع ستستمر، بينما فكرة الانسحاب العسكري من شمال سوريا، بحسب ما تطالب دمشق، لن تكون واردة الآن.

ومن المقرر أن يعقد خلال يونيو (حزيران) الحالي، اجتماع الآلية الرباعية لوضع خريطة طريق التطبيع بين تركيا وسوريا، المؤلفة من نواب وزراء الخارجية والدفاع، ومسؤولين من أجهزة الاستخبارات في البلدين إلى جانب روسيا وإيران، ضمن إطار أستانا.

وقال الأكاديمي التركي أنيس بيركلي إن مسيرة فيدان الطويلة في الدبلوماسية والأمن كفيلة مطلوبة الآن، فقد انتهت الصراعات العسكرية إلى حد كبير، والآن باتت مرحلة النشاط السياسي للفاعلين الدوليين في الأزمة السورية، ويحتاج الأمر إلى براعة دبلوماسية على طاولة المفاوضات.

بدوره، رأى الكاتب المخضرم فكرت بيلا أن تحرك تركيا في الملف السوري لن يتغير، فسوف تحافظ على المبادئ الثلاثة في مفاوضات التطبيع، وهي التنسيق في مكافحة الإرهاب، ودفع التسوية السياسية، وعودة اللاجئين بشكل طوعي وآمن، مشيراً إلى أن تركيا ماضية في خطتها لإقامة مناطق آمنة في شمال سوريا لاستيعاب اللاجئين وإنشاء حزام أمني على الحدود.

وتوقع الخبير الأمني التركي عبد الله أغار أن يواصل وزير الدفاع الجديد، يشار غولر، نهج سلفه خلوصي أكار في التعامل مع «الوحدات» الكردية في شمال سوريا و«العمال الكردستاني» في شمال العراق، ولم يستبعد التنسيق بين تركيا وروسيا وإيران وسوريا على الصعيد الأمني لمنع نشوء كيان كردي في شمال سوريا من شأنه تمزيق وحدة البلاد. ورأى أن الحكومة الجديدة ستواصل السياسة نفسها بتنسيق كامل بين وزارتي الدفاع والخارجية والمخابرات، مشيراً إلى أن الشخصيات الثلاث التي تولت هذه الحقائب هي شخصيات صاحبة خبرة في الملف السوري، وبالتالي فإنها ستواصل في الإطار الذي حددته تركيا بشأن تطبيع علاقاتها مع دمشق.

وفي هذا الإطار، قال رئيس حزب «النصر» أوميت أوزداغ، المعروف بعدائه للاجئين السوريين، في مقابلة تلفزيونية، إنه لا يتوقع أي تغيير فيما يخص ملف اللاجئين، ولا في المفاوضات مع سوريا، لأنه مهما تغيّر الأشخاص فإنهم يعملون بالأوامر الصادرة من الرئيس. وأشار إلى أن وضعية رئيس المخابرات هي وضعية أقوى من وزير الخارجية في هذا الملف، لكن مع الخبرة الطويلة لهاكان فيدان كرئيس للمخابرات لمدة 13 عاماً، فإن مواصلة العمل في الملف السوري بمنظور إردوغان لن تتأثر برحيل دبلوماسي وسياسي (مولود جاويش أوغلو)، ومجيء بيروقراطي (فيدان).

—————————————

تصالح تركيا مع كردها بوابة استقرار المنطقة وازدهارها/ عبد الباسط سيدا

بعد انقشاع غبار تصريحات الحملات الانتخابية، وأداء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القسم مدشناً ولايته الرئاسية الثالثة، ومن ثم إعلانه عن تشكيل حكومته التي ضمت أعضاء كرد منهم جودت يلماز نائب الرئيس، ومحمد شيمشك وزير الخزانة والمالية، وهاكان فيدان وزير الخارجية؛ وهو الأمر الذي فسره بعضهم بأنه إشارة إلى رغبة في العودة إلى العملية السياسية بغية الوصول إلى حل سلمي للقضية الكردية في تركيا. هذا في حين وجد قسم آخر من المراقبين المتابعين للوضع التركي أن ذلك يهدف إلى احتواء الموضوع الكردي وفق مقاسات حزب العدالة والتنمية، وحليفه حزب الحركة القومية المتشدد، بينما ربط فريق ثالث بين هذا التوجه ورغبة أردوغان في استمالة الكرد استعداداً للانتخابات المحلية التي ستكون في العام المقبل، وحرصه على استعادة زمام الأمور في بلديات المدن الكبرى، لا سيما اسطنبول وأنقرة.

ولكن مهما تكن التفسيرات، يظل الموضوع الكردي في سياق التوجهات المستقبلية في تركيا من أهم المواضيع الملحة المطروحة على مستوى البلاد، رغم كل محاولات التجاهل والتهميش أو إنكار وجوده أصلاً.  فهذا الموضوع له تاريخ قديم يعود إلى أيام الإمارات الكردية التي كانت تتمتع بصيغة من صيغ الإدارة الذاتية في ظل الدولة العثمانية بعد أن انضمت إلى هذه الأخيرة بصورة سلمية على إثر معركة جالديران عام 1514 م؛ وهي المعركة التي خاضها العثمانيون بقيادة السلطان سليم الأول ضد الصفويين بقيادة الشاه إسماعيل. ثم أخذت الأمور طابعا أكثر حدية بين الكرد والدولة العثمانية، بعد انتشار الأيديولوجية القومية في المنطقة، وتأثر الأقوام التي كانت تحكمها الدولة العثمانية بها، ومن بين تلك الأقوام الكرد والأتراك أنفسهم. وبلغت تلك الحدية أوجها مع تبني مؤسس الجمهورية التركية (عام 1924) مصطفى كمال الأيديولوجية القومية العلمانية المتشددة عقيدة رسمية لنظام حكمه، بعد أن كان قد ألغى في العام نفسه نظام الخلافة الإسلامية؛ وما نجم عن ذلك تمثّل في فرض صورة على تركيا لا تتناسب مع تاريخها وطبيعتها، وتطلعات أهلها على اختلاف انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية وتوجهاتهم الفكرية.

ولعل هذا ما يفسر الخلافات والانشقاقات التي تعرض لها حزب الشعب الجمهوري لاحقاً، وأسفرت عن خروج عدنان مندريس من الحزب عام 1945، وتأسيسه لحزب الديمقراطية عام 1946، الذي فاز في انتخابات عام 1950 ليصبح مندريس رئيساً للوزراء وهو المنصب الذي ظل فيه إلى حين حدوث انقلاب عام 1960، فكان اعتقاله، ومن ثم إعدامه في خريف عام 1961، ومن ثم إعادة الاعتبار له عام 1990.

واستمر الوضع القلق المضطرب في تركيا في ظل الحكومات التالية إلى حين وصول توركت أوزال إلى الحكم رئيساً للوزراء عام 1983، ومن ثم رئيساً للجمهورية عام 1989، وهو الذي عُرف بمشروعه الاقتصادي الطموح من أجل النهوض بتركيا؛ كما أنه أقدم على خطوة جريئة في التعامل مع الوضع التركي الداخلي عبر طرح مقاربة جديدة للقضية الكردية في البلاد من خلال الدعوة إلى أهمية وضرورة الاعتراف بالتنوع الثقافي الموجود في تركيا، وهو التنوع الذي يعكس الواقع المجتمعي. ولكن مشروع أوزال لم يستمر طويلا نتيجة موته المفاجئ الذي طرح تساؤلات كثيرة.

وبعد القبض على عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني عام 1998، اعتقد الكثيرون أن القضية الكردية قد انتهت في تركيا، وذلك بناء على القياس الفاسد الذي كانوا يعتمدون عليه، وفحواه أن القضية المعنية متماهية مع حزب العمال الكردستاني، ومختزلة فيه، متناسين أن هذه القضية هي أقدم من الحزب المذكور بقرون، وهو الحزب الذي تشكل في ظروف إشكالية أثارت الكثير من الاستفهامات، خاصة بعد أن دخل في صراع تناحري مع بقية الأحزاب الكردية المعتدلة والأقدم في تركيا، ومحاولته إخراجها من ساحة النشاط السياسي، بل والقضاء عليها عبر العمل المسلح، مستغلا واقع الضعف العام الذي كان أصاب لحركة الكردية بصورة عامة على مستوى مختلف مناطق كردستان، لا سيما في كردستان العراق التي كانت تعيش واقع الانتكاسة بعد اتفاقية السادس من آذار/مارس 1975 بين كل من العراق وإيران برعاية جزائرية في عهد الرئيس هواري بومدين.

ومع وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان إلى الحكم عام 2002 تجددت الآمال بإمكانية اللجوء إلى مقاربة مغايرة لقضايا تركيا الداخلية، إلى جانب علاقاتها مع المحيطين الإقليمي والدولي. وفي ما يخص المسألة الكردية موضوع البحث هنا، أقدمت الحكومة على خطوات جريئة تمثلت في فتح أقسام اللغة الكردية في العديد من الجامعات في جنوب شرقي البلاد، وإنشاء قناة كردية في التلفزيون الرسمي TRT، واعتماد سياسة غض النظر تجاه دور النشر وشركات الانتاج الفني والصحافة باللغة الكردية، ولكن من دون الاعتراف الرسمي والإقرار الدستوري بالتنوع المجتمعي التركي، والاستعداد للقبول بالحقوق والواجبات المترتبة على ذلك.

وفي أجواء الشد والجذب والعمليات العسكرية وحوادث العنف هنا وهناك، تم التوافق بين حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني في بدايات العقد الثاني من هذا القرن على الدخول في عملية سياسية بهدف الوصول إلى حل سلمي مقبول من قبل الطرفين. ولكن، ولسوء الحظ، توقفت تلك العملية في أواسط 2015 لأسباب عدة في مقدمتها غياب قناعة تامة لدى أوساط معينة مؤثرة ضمن هذا الطرف أو ذلك بأهمية وضرورة الحل السياسي للموضوع الكردي، الأمر الذي أدى إلى دورة جديدة من النزاع والعنف والعمليات العسكرية.

وازداد الوضع تعقيداً بعد التوافق الذي تم بين الجانب الأمريكي وحزب الاتحاد الديمقراطي عام 2015، واجهة حزب العمال الكردستاني في موضوع محاربة داعش الكوكتيل المخابراتي الذي أُدخل إلى الساحة السورية ليكون عبئاً على الثورة وذريعة لاتهامها بالإرهاب. هذا مع العلم أن سلطة آل الأسد كانت قد استنجدت في بدايات الثورة بحزب العمال الكردستاني من خلال النظام الإيراني وقيادات من الاتحاد الوطني الكردستاني- العراق؛ وذلك لمساعدتها في عملية ضبط الأوضاع في المناطق الكردية بمختلف الأساليب بما فيها القمع والاغتيالات، بغية الحيلولة دون تفاعل الكرد السوريين مع الثورة.

الموضوع الكردي في تركيا هو موضوع وطني عام، لا يخص حزب العدالة والتنمية وحده، ولا حزب العمال وحده؛ غير أن المعطيات الراهنة تؤكد أن دور حزب العدالة في الوصول إلى حل لهذا الموضوع ضمن إطار وحدة الشعب والبلاد هو على غاية الأهمية في حال توفر الرغبة والإرادة لدى الجانب الآخر. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه سيكون من المفيد طرح تصور للحل من جانب الحكومة التركية على المستوى الوطني، وإشراك الأطراف الأخرى التركية والكردية في المناقشات والحوارات حول الموضوع بغية التوصل إلى توافقات وطنية تكون أساساً لحل مستدام لهذه القضية، حل يحصن بحماية دستورية عبر إدخال تعديلات ضرورية، ربما تتقاطع مع تلك التي يدعو إليها الرئيس التركي نفسه، الذي ينتقد الدستور الحالي من باب كونه دستور الانقلابيين الذين سيطروا على مقاليد الحكم عسكريا عام 1980.

من جهة أخرى، سيساهم حل الموضوع الكردي في تعزيز مكانة تركيا اقليمياً، فهي ستكسب صداقة وتأييد ملايين الكرد في كل من العراق وإيران وسوريا. كما سيساهم الحل المطلوب في خفض التوترات الإقليمية.

أما على المستوى الدولي، فستتغير الصورة النمطية لتركيا في أذهان الشعوب الغربية، لا سيما الأوروبية، وهذا ما من شأنه فتح الآفاق أمام إمكانية تنشيط جهود التوصل إلى اتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي الذي يظل بسوقه الواسعة، وإمكانياته الكبيرة، الراهنة والمستقبلية، الضلع الهام في مثلث الازدهار الاقتصادي التركي المنشود. هذا في حين أن روسيا رغم إمكانياتها الكبيرة في ميدان الطاقة الكلاسيكية (التي تتراجع أهميتها تدريجيا مع الإنجازات الغربية في حقول الطاقة البديلة النظيفة)، لا تمتلك الأسواق الواسعة المضمونة القادرة على استيعاب الناتج التركي الراهن والمستقبلي بأسعار محفزة. هذا إلى جانب النزعة الإمبراطورية الروسية الواضحة، والمخاطر التي تهدد تركيا في حال هيمنة روسيا على البحر الأسود في الشمال، ووجودها العسكري اللافت في سوريا من جهة الجنوب. فالموضوع هو في نهاية المطاف موضوع المصالح الاقتصادية، واعتبارات الأمن الوطني؛ وتفاعل كل ذلك مع وقائع التاريخ والجغرافيا والتداخلات السكانية والتوجهات السياسية. فتركيا اليوم لها حضور قوي في آسيا الوسطى، ومن المتوقع أن يتنامى هذا الحضور مستقبلا مع انطلاقة اقتصادها مجددا بقوة بعد أن يستعيد عافيته؛ ولبلوغ هذا المستوى الذي يتطلع إليه الشعب التركي بشغف لا بد من معالجة جملة من القضايا الداخلية التي تستنزف الطاقات، وتفتح المجال أمام تدخلات إقليمية ودولية لا تساهم في حل المشكلات وإنما على النقيض من ذلك تعقدها وتزيد حدتها، ولعله من باب تحصيل الحاصل إذا قلنا هنا: إن القضية الكردية تأتي في مقدمة القضايا المعنية.

*كاتب وأكاديمي سوري

القدس العربي

————————–

في مستقبل كرد سورية بعد الانتخابات التركية/ شفان إبراهيم

تكبُر هواجس الكُرد في سورية بعد نتائج الانتخابات التركية أخيرا، وحصد نتائجها الباهرة “تحالف الشعب” بقيادة حزب العدالة والتنمية، مقابل خسارة حزب الشعوب الديمقراطية – اليسار الأخضر، والذي تقول تُركيا إنه الواجهة السياسية لحزب العمّال الكردستاني، تلك الخسارة لا تقتصر على تراجعه بحوالي أربع درجات مقارنة بالانتخابات الماضية، إنما يعود إلى عاملين مُركبين يؤثّران مباشرة على حجمه ووجوده السياسي في الساحتين الكُردية والتركية معاً، أولها: المعارضة التركية خرجت متقهقرة في 14 و28 مايو/ أيار، وهو ارتداد عكسي على التحالف السداسي والشعوب الديمقراطية؛ ومستقبلها مبهم ولن تخرُج بسرعة ومعافاة من الهزيمة، وهو ما يعني تأثيره المباشر على الانتخابات المحلية المقبلة، ورجحان فوز “العدالة والتنمية” برئاسة بلديتي أنقرة وإسطنبول اللتين خسرتهما لصالح المعارضة في الدورة الماضية. والثانية: بات من شبه المستحيل أن يُغير “العدالة والتنمية” من السلوكيات التي تقول عنها “الشعوب الديمقراطية” إنها تضرّ بتركيا، فالصلاحيات التي يملكها الرئيس التركي أردوغان وسيطرته على السلطة منذ قرابة العقدين، ورئاسته خمس سنوات مقبلة، وبما يملكه من وزن ضخم في البرلمان التركي يعني أنه لن يرضخ لأيّ تهديد، بما فيها ما يقوله الشعوب الديمقراطية ما بين السردية والواقع.

أما عن العلاقة الطردية التي تجمع كُرد سورية وقضيتهم مع تركيا وانتخاباتها فهي تقوم أساساً على مبدأ رئيسي، وهو تصدّر مصير المنطقة الكردية في سورية ومصيرها ومستقبلها للسياسات الخارجية التركية منذ بدايات الحدث السوري، خصوصا مع وصول حقان فيدان، المسؤول الاستخباراتي والرجل الأمني القوي، ومُحبط مُحاولة الانقلاب التركي، إلى منصب وزير الخارجية، فإنه يعني أن مستقبل العلاقات التركية الخارجية لن يصب في مصلحة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية، بل إن كامل الملفات التي يحملها حقّان ستدخل في خدمة السياسة الخارجية لتركيا، ومصير القضية الكردية في تركيا لا تُشكل حلقة مهمة أو مفصلية في محاور العلاقات الخارجية الأوروبية، الأميركية، الروسية مع تركيا، وبما تحمله أنقرة من أهمية وتحكمها بملفّات حيوية ومصالح عديدة مع الأطراف كافة، من المستبعد أن يُدافع أحد عن “قسد” الإدارة الذاتية، لو رغبت تركيا بعملية عسكرية جديدة، بل تشكل التحدّيات الخارجية والداخلية أمام الرئيس التركي أردوغان عوامل قوة أكثر من كونها عوامل ضغط عليه.

في المقابل، تتحدّث نتائج الانتخابات عن الأداء الهزيل للمعارضة التركية، خصوصا “الشعوب الديمقراطية” الكردي. مع ظهور نقاشات حادّة حول ضرورة عقد مؤتمر استثنائي للحزب في الشهر المقبل (يوليو/ تموز) لانتخاب قيادة جديدة بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به، وتراجع شعبيّته، والمخاوف الجدّية الذي تعتري مستقبله في مناطقه التقليدية في الانتخابات البلدية المقبلة، خصوصا أن أردوغان توعّد بتشديد الصراع مع “العمّال” الكردستاني في ولايته الجديدة، ولا يملك “الشعوب الديمقراطية” أيّ أريحية في عدد المقاعد البرلمانية الذي يمنحه فرصة عرقلة مشاريع “تحالف الشعب”.

وتحمل حقيبة “العدالة والتنمية” جملة ملفات داخلية أهمها: إعادة ترتيب أوراق الحزب؛ للخروج بفاعلية أقوى، وحركية أكثر للنجاح في الانتخابات المحلية المقبلة، والحفاظ على تصدّره النتائج الانتخابية. إيجاد مزيد من الحلول الجذرية لتداعيات الزلزال الذي ضرب ولايات تركيا، خصوصا بعد حصدهم غالبية الأصوات في عديد من تلك الولايات. ملف اللاجئين السوريين، الوضع الاقتصادي ومستقبل الليرة التركية، التوازنات الانتخابية والعلاقات ضمن البرلمان التركي. كُل هذه القضايا، لا يُشكل فيها كُرد سورية وتركيا أدنى درجات التأثير، ولا يملكون أيّ أوراق تؤثر على حزب العدالة والتنمية، بل لا يشكل “الشعوب الديمقراطية” شيئاً في هذه المعادلة. كما أن المعارضة التركية لا تشكل أيّ هاجس أمام أردوغان، والتحالف السداسي مرشّح للتفكيك، خصوصا بعد إعلان حزب “الجيد” نيته بالانسحاب وانتهاء دوره بعد الانتخابات الرئاسية، وهو كفيلٌ بانفراط عقد ذلك التحالف، وتعرّضه لانتكاسةٍ جديدة. ومستقبل العلاقة بين أردوغان والشعوب الديمقراطية من بين أبرز القضايا الساخنة وخطوط المواجهة خلال السنوات الخمس المقبلة. وهو ما يعني أن “تحالف الأمة” سيتلقى ضرباتٍ وصعوباتٍ في الانتخابات المحلية، لاعتماده على أصوات “الشعوب الديمقراطية”. ومن المحتمل القوي أن يتعرّض الحزب الذي تعتبره تركيا واجهة لـ”العمّال الكردستاني” لحصار قانوني يؤدي إلى حلّه، وهي انتكاسة كبرى له في مسعاه إلى التعافي من تداعيات الهزيمة الانتخابية، وسيُضعف تحالف الأمة أيضا. وكلها عوامل تحتاج إلى نقاط قوة خارجية لتأثيرها على الداخل.

أما التوجهات التركية خارجياً: غالباً ستسعى تركيا في السنوات الخمس المقبلة نحو تحقيق مزيد من التوازن الاستراتيجي لعلاقاتها بين أوروبا أميركا، وعلاقة مصالحها القوية مع روسيا، والحصول على مزيد من الاستقلالية. وتتنوّع مصالح أنقرة مع المجتمع الدولي، فهي جزءٌ من الحلف الأطلسي والمنظومة الأمنية الاقتصادية الغربية، وقسم كبير من مصالحها مع أنقرة في مجال الأمن والطاقة، خصوصا في سورية وجنوب القوقاز والبحر الأسود. وفي الوقت الذي يطالب فيه الغرب من تركيا فكّ الارتباط مع روسيا، وخصوصا في ملف حرب الأخيرة على أوكرانيا، لكن سياسة التوازن بين روسيا والولايات المتحدة هي لأجل عدم التخلّي عن مصالحها مع روسيا ولا عضويتها في حلف الناتو. وإيجاد مزيد من الضغوط والتحديدات على حدودها الجنوبية. في المقابل، جوهر الخلاف والتوترات خلال الأعوام الأخيرة بين أنقرة وواشنطن هو بسبب دعمها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتعاون أميركا العسكري مع اليونان وقبرص. وتملك تركيا ورقة ضغط كبيرة على حلف شمال الأطلسي في قضية توسعته وضم السويد، والأغلب أن لا مشكلة لأنقرة مع رغبة توسيع الحلف، إنما الفيتو التركي يعود إلى عاملين، الأول: إيواء السويد قيادات كردية تركية معارضة، ودعمها الوحدات الكردية بشكل أو بآخر. والثاني: تعاون الغرب مع “قسد” في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أيّ أن علاقات الغرب مع “قسد” معهم هي الجذر الأساسي للتوترات مع تركيا، والرغبة بتوسيع “الناتو” ورقة قوية في يد أنقرة تمنح الأخيرة أريحية بالمراوغة وحصولها على مقاربات جديدة في فرض شروط لتعامل أميركا وأوروبا مع “قسد”.

أما العلاقات بين “قسد” والنظام السوري فهي علاقة توازنات اللحظة الحرجة، فدمشق ستشترط ثلاثة ملفّات دفعة واحدة: حل “الإدارة الذاتية”، وهذه غير مستعدة لهذا، لوجود كتلة بشرية (موظفين) تفوق كتلتها في مؤسّساتها، عدداً وتمويلاً. والملف الأمني والعسكري، وعودته بالكامل إلى سيطرة الجيش السوري من دون شراكة ولا خصوصيات. وأيضاً شبكات الاقتصاد الناشئة، فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر مركبة موديل 2005 في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية قرابة 5000 $ هو سعر مركبة موديل 1983 في دمشق، عدا عن المعابر الكثيرة وحقول الطاقة وطرق نقلها. وعلى اعتبار أن “قسد” أكثر تنظيماً وتسليحاً، وانحسار تأثير “داعش” ومثيلاتها في عموم شمال شرق سورية، و”شبه” التجانس المجتمعي في شمال شرق سورية، سيكون المطلب السوري في أي حوارات بين أنقرة ودمشق، إن حصلت، سيكون الحصول على شرق الفرات وليس غربه؛ فالأخيرة فقيرة مقارنة بمناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، ووجود كتلة بشرية تقدر بخمسة ملايين فرد يعارضون بكليّتهم النظام السوري، وهي سوق تصريف المنتجات التركية، وتعتمد في اقتصاداتها ومشاريعها وفقاً لربط كل منطقة بولاية تركيا، وليس من مصلحة النظام الحصول على تلك المناطق التي سيترتّب عليه تمويلها والصرف عليها، وهي لا تشكّل نقاطا اقتصادية قوية، مقارنة بشمال شرق سورية، إضافة إلى وجود جبهة النصرة في إدلب.

فوز أردوغان يعني استمرار انخراط تركيا الفعّال في المنطقة، وتعميق شركاتها مع الفاعلين الإقليمين والدوليين، وهي التي تقوم بدور التوزان بين الشرق والغرب بين العرب والمسلمين مع الغرب، من دون أن تصبح جزءا مطحونا من الصراعات بين روسيا وأميركا أو بين الأخيرة والصين، بل إن تصفير المشكلات مع دول الإقليم والجوار سيزيد من دورها وعلاقاتها مع روسيا وعضويتها في حلف الناتو. في المقابل، سيتجه الوضع الكردي في سورية نحو مزيد من العواطف واللطميات، ووصف تركيا بكل السباب والألفاظ، من دون معالجة محفزات أو الهجوم أو الضغط التركي.

أيام عصيبة على الكُرد في سورية وتركيا، ولن تجدي سياسة رفع الشعارات والتغنّي بأمجاد ماضية، ولا الرهان على “إرادة الشعب” الذي هرِمَ من كثرة الوعود وأوضاعه الكارثية. وكل الملفات والعلاقات ومستقبلها تدخل في مصلحة تُركيا وبالضدّ من “قسد” و”الإدارة الذاتية” وعموم المنطقة الكُردية.

العربي الجديد

—————————

اللاجئون السوريون في تركيا بعد الانتخابات/ سمير سعيفان

تنفّس اللاجئون السوريون في تركيا الصعداء مع إعلان فوز رجب طيب أردوغان بالرئاسة التركية في جولة الإعادة، بعد أن فاز تحالف الجمهور بغالبية مقاعد البرلمان في الدورة الأولى من الانتخابات، وهو يضمّ حزب العدالة والتنمية وبضعة أحزاب متحالفة معه، ما يعني استمرار السلطة ذاتها في تركيا، وفشل المعارضة التركية، سواء في نيْل أغلبية البرلمان أو الرئاسة التركية. فقد زرعت حملة العداء والتحريض المستمرّة منذ عدة سنوات، التي شنّتها المعارضة التركية على اللاجئين السوريين في تركيا في السنوات الأخيرة، الخوفَ في قلوبهم، حيث زعمت أنهم سبب جميع مشكلات تركيا والمجتمع التركي الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، مطالبين بترحيلهم. وقد تسببت هذه الحملة في مضايقاتٍ كثيرة للسوريين، سواء في محيطهم التركي أو في الدوائر الحكومية.

ومع الانتخابات أخيرا، تصاعدت قضية إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم إلى الواجهة، بعد أن رفعت كل الأحزاب التركية سقف الوعود التي قدّمتها بخصوص هذه القضية، وذلك تحت ضغوط حالة الاحتقان في الشارع التركي. لذا جاءت وعود انتخابية كثيرة على نحو غير منطقي وغير قابل للتحقيق، وكانت غايتها كسب الناخب التركي بشكل أساسي. وزاد التحريض أكثر بين الجولتين الأولى والثانية من الانتخابات الرئاسية، وخصوصا بعد تحالف أوميت أوزداغ (رئيس حزب النصر) مع كمال كلجدار أوغلو (مرشّح تحالف الأمة) المعارض؛ وبات شعار إعادة السوريين الشعارَ الرئيس لمرشّح المعارضة أوغلو، خلال جولة الإعادة، وامتلأت المدن التركية بلوحاتٍ إعلانيةٍ طرقيةٍ كبيرة تحمل شعاراتٍ عنصريةً تجاه السوريين.

وعلى الرغم من أن التدفّق الكبير للاجئين السوريين إلى تركيا أنتج بعض الآثار السلبية، فإن معظم الاتهامات التي تنسبها الأوساط المعادية إلى السوريين تسقط عند أيّ محاكمةٍ منطقية، وإذا وُضعت الآثار الإيجابية مع السلبية في كفّتي الميزان، فإن الكفّة الإيجابية سترجّح بشكل كبير. وتبيّن تقارير ودراسات كثيرة أن السوريين يُشكلون قيمة مضافة للاقتصاد والمجتمع التركييين، وأنهم ليسوا عالةً عليهما، وأنهم أسهموا في تنمية عدد من القطاعات في الاقتصاد التركي، حتى إن قطاع الأعمال التركي يطالب بعدم ترحيلهم، لأن ذلك سيؤثّر سلبًا في عدد من قطاعات الاقتصاد. فقد صدر تقرير لغرفة تجارة إسطنبول، بعنوان “روّاد الأعمال السوريين في اقتصاد تركيا”، أوضح أن اللاجئين السوريين يؤثرون إيجابًا في التطوّر الاقتصادي في تركيا، وأن الأسعار في المناطق التي يوجد فيها اللاجئون بكثافة انخفضت بنسبة 2,5%، وأن السوريين أسّسوا أعمالًا كثيرة في تركيا. وقد قدّر التقرير العدد الإجمالي للشركات السورية بنحو 20 ألفاً في تركيا كلها، وعدد الشركات التي أسّسها السوريون في غازي عنتاب وحدها 2600، من أصل 30 ألفاً. ووفقًا للتقرير، بلغت قيمة إسهام السوريين في الاقتصاد التركي 4.3 مليارات يورو (27.2 مليار ليرة تركية) ابتداءً من نهاية عام 2017؛ وهو ما يشكل 1.96% من إجمالي الناتج المحلي لتركيا. وبحسب توقّعات التقرير، سترتفع هذه النسبة إلى 4% عام 2028، في ظل وجود مليون عامل سوري في البلاد. وبهذه المناسبة، يشكر السوريون الدولة والشعب التركيين على استقبال هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين الفارّين من الموت، في وقتٍ أغلقت فيه غالبية الدول العربية “الشقيقة” أبوابها أمام السوريين الفارّين من الحرب.

تبيّن هذه الوقائع، وغيرها كثير، أن حجم المبالغات ضد السوريين كبير. وقد كان هدف المعارضة من هذه الحملة النيْل من الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، عبر اتهام اللاجئين السوريين بأنهم السبب في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تركيا، واتهام الرئيس أردوغان وحزبه، العدالة والتنمية، بأنهما المسؤولان عن فتح أبواب تركيا أمام 3.6 ملايين لاجئ سوري فرّوا من الموت باتجاه تركيا، ويبالغون بأعدادهم زاعمين بأنهم سبعة ملايين لاجئ سوري.

وعلى الرغم من أن مواقف أحزاب التحالف المعارض المكوّن من ستة أحزاب (الطاولة السداسية) لا تتوافق على الموقف المعادي للسوريين ذاته، وأن قيادات المعارضة كانت تُردّد في اللقاءات الخاصة أنه استخدام سياسي، وسيتصرّفون بمسؤولية “الدولة” إن فازوا بالسلطة؛ فقد أحدثت حملة العداء المنظمة على مدى سنوات عدة مناخًا معاديًا للسوريين، في أوساط واسعة من المجتمع التركي، لا سيّما في الأوساط المؤيدة للمعارضة، وانعكست الحملة على شكل إساءة تعامل وعنصرية أحيانًا، عانى آثارَها سوريون كثر في حياتهم اليومية، وانعكست أيضًا تعقيداتُ خاصة بكل ما يخص شؤون السوريين في تركيا، ما ضاعف الخوف في أوساط اللاجئين السوريين، لا سيما أن الرئيس أردوغان اندفع إلى تبنّي موضوع عودة اللاجئين السوريين، وتقديم الوعود بالعمل على إعادتهم إعادة طوعية وكريمة، وقامت الحكومة التركية بتوسيع التواصل مع النظام السوري، حتى وصل إلى مستوى اجتماع وزيري الدفاع ووزيري الخارجية في موسكو. وامتنعت وسائل الإعلام التركية، حتى الموالية، عن أي تناول إيجابي لقضية اللاجئين السوريين، أو حتى الدفاع عن سياسة الحكومة تجاههم، من أجل إضعاف تأثير تحريض المعارضة. وقد نجح أردوغان والحكومة في ذلك إلى حدّ بعيد، ولكن هذه السياسة أنتجت من جهة أخرى ضغوطًا إضافية على السوريين.

بعد انتهاء الانتخابات وفوز التحالف الذي يقوده الرئيس أردوغان؛ يتساءل اللاجئون السوريون في تركيا عن مدى تحوّل السياسية التركية إيجابيًا تجاه وجودهم، إذ إنهم يقيمون في تركيا، ليس كلاجئين لهم حقوق منصوص عليها في المعاهدات الدولية، بل تحت قانون “الحماية المؤقتة” الذي وُضع سنة 2013 خصّيصًا لتنظيم أوضاع اللاجئين السوريين الذين تزايدت أعدادهم كثيرًا بين 2011 و2013. وتشوب هذا القانونَ نواقص كثيرة تعقد حياة اللاجئين السوريين في تركيا، فحق الحماية المؤقتة لا يتضمّن حق العمل للاجئ السوري، وتتشدّد الدوائر التركية بمنح إذن العمل للاجئين السوريين، فأقل من مائة ألف سوري لديهم إذن عمل، من أصل قرابة 1.5 مليون مشتغل سوري في السوق التركية. وعلى الرغم من أن جزءًا من السوريين يحصل على مساعداتٍ مالية جزئية عبر الحكومة التركية، فإنها غير كافية، وعلى اللاجئين تأمين مصادر عيشهم بأنفسهم ضمن هذه الظروف. وتوجد تقييدات لأماكن سكنهم، وتقييد تنقلهم بين المحافظات، حيث لا يكون ذلك إلا بإذن رسمي لا يُمنح بسهولة، ولا يحقّ لهم السفر إلى خارج تركيا والعودة إليها، ولا يُمنحون أي وثائق سفر مؤقتة، ولا يحقّ لهم لمّ الشمل، فضلًا عن تعقيداتٍ أخرى عديدة. وقد اضطر معظم السوريين إلى العمل بدون إذن عمل، وهو وضع غير شرعي، يجعل العامل السوري يقبل بأجر أقل وبشروط عمل أصعب.

بدأت مناقشات في الأوساط الحكومية التركية عن ضرورة تعديل قانون الحماية المؤقتة، ومعالجة الصعوبات التي يواجهها اللاجئون السوريون، خصوصا أن نحو 12 عامًا قد مضت على وجودهم في تركيا، وأن قانون الحماية المؤقتة وُضع ليكون مؤقتًا، على اعتبار أن وجود اللاجئين السوريين مؤقت، وأنهم عائدون عندما تتوقف الحرب في سورية قريبًا ويتحقق انتقال سياسي ومناخ يتيح لهم العودة الطوعية والآمنة، غير أن هذه النهاية السعيدة لم تظهر، رغم مرور أكثر من 12 عامًا على اندلاع الحرب، ولا يبدو أنها قريبة، وقد أسّس لاجئون سوريون كثيرون أعمالًا وأسّسوا أسرًا، ووضعوا أبناءهم في المدارس والجامعات التركية.

وعلى الرغم من بدء مناقشة موضوع اللاجئين السوريين في الأوساط الحكومية، ثمّة خشية من تأخر الاقتناع بضرورة تطوير السياسات الحالية لإدارة ملفّ اللاجئين، وتحويل هذه النقاشات إلى سياساتٍ وقراراتٍ وإجراءاتٍ جديدة تعالج أوضاع اللاجئين السوريين على ضوء تجربة 12 عامًا، بما ينعكس إيجابًا على المصالح التركية مع مصالح اللاجئين؛ إذ يخشى أن تتردّد الأوساط الحكومية التركية بالظهور حاليًا بأنها تحسّن أوضاع اللاجئين، حيث إن الانتخابات البلدية قادمة بعد عشرة أشهر، ويتوقع أن تستمر المعارضة التركية في عزف المعزوفة ذاتها ضد اللاجئين السوريين، وستتابع أفعال حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، وتراقب مدى الجدّية في تنفيذ الوعود الانتخابية، وخصوصا وعد الرئيس أردوغان بإعادة مليون سوري خلال سنتين. ويتوقع أن تتخذ الحكومة إجراءاتٍ تعالج بعض صعوبات اللاجئين السوريين، وأن تتخذ بعد الانتخابات البلدية إصلاحاتٍ أوسع، في سياسات وإجراءات إدارة ملفهم، وأن تشمل تلك الإجراءات من يحملون إقامة سياحية، وهم بأعداد كبيرة نسبيًا تبلغ عشرات الآلاف، وهؤلاء ليس لهم بلد آخر يلجأون إليه غير تركيا.

ويبقى الإجراء الأهم هو القيام بحملة واسعة في أوساط الشعب التركي، ويقع الدور هنا على وسائل الإعلام التركية ووسائط التواصل الاجتماعي التركية، لإصلاح الصورة المشوّهة التي أوجدتها الحملة العنصرية ضد السوريين، وهذا بمثابة دفاع عن سياسة حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان تجاه اللاجئين السوريين أو تجاه القضية السورية برمّتها.

بعد انتخابات البلدية، سيكون التحالف الحاكم بقيادة الرئيس أردوغان متحرّرًا من ضغوط المعارضة، التي استعملت الملف الإنساني لأغراض سياسية، بدلًا من خوض الانتخابات بشعارات وسياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية. ولكن من العدل أن نقول إنه ليس لدى كل أحزاب المعارضة ذلك الموقف العنصري، فحزب كل من أحمد داود أوغلو، وعلي باباجان، وكذلك أحزاب اليسار التركي، لها موقف موضوعي تجاه السوريين في تركيا. واللافت أن الجميع يعلم، وفي مقدّمتهم قيادات المعارضة، أن طريق عودة اللاجئين إلى ديارهم غير ممكنة حاليًا، وقد سعى كل من لبنان والأردن لإعادة بعضهم، وفشلا بسبب رفض النظام، إذ يريد أن يُبقيهم عبئًا على دول الجوار، إلى أن تُعاد شرعنته دوليًا ورفع العقوبات عنه ومساعدته في إعادة الإعمار. ولا توجد إمكانية لإعادة كامل المليون لاجئ سوري خلال ثلاث سنوات إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني وسيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب، فهي منطقة مكتظّة بأعداد نازحين من مناطق سورية الأخرى هربوا من الموت، وما زال مئات آلاف منهم يقيمون في الخيام، وهم أولى بالمساكن التي تُبنى من جديد بمساعدة قطر. ويُضاف إلى ذلك أن عودة اللاجئين يجب أن تكون إلى المنطقة التي نزح منها اللاجئ السوري، وليس إلى مكان آخر، وأن غياب الحوكمة والفوضى والفصائلية المسيطرة على مناطق سيطرة الجيش الوطني تجعل شروط الحياة صعبة، فضلًا عن غياب فرص العمل، فالمنطقة بحاجةٍ إلى خطة تنمية اقتصادية وإدارية وحوكمة كي تصبح بيئة صالحة لاجتذاب الاستثمارات وإيجاد فرص العمل. والإدارة التركية هي القادرة على إزالة كل تلك الفوضى وتنظيم انتشار الفصائلية خارج المدن وإقامة حوكمة نظامية، ولكن الأتراك يبدو أنهم ليسوا في هذا الوارد، ولا أحد يعلم الأسباب.

العربي الجديد

—————————

هل فاز أردوغان أم فازت كاريزمته؟/ ياسين أقطاي

كالعادة في حالات الانتصار والفوز -كما هو الحال في فوز (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان- تبرز كل العوامل والقرارات الصحيحة والخطابات التي قادت الناجح إلى تحقيق هذا النجاح. وتبرز أيضا كل عيوب وذلات وأخطاء ونواقص الفاشلين، كل النجاحات والانتصارات بلا استثناء مآلها إلى هذه النتيجة.

ويمكننا تفسير هذا الأمر من ناحية علم النفس وعلم الاجتماع:

فاللاعب الناجح لا تظهر عيوبه وذلاته بعد الفوز، وذلك لسببين، أولهما أن هذه الأخطاء قد ظهرت بالفعل سابقاً وحرص منافسوه على إظهارها، إلا أن الناس لم يروها كبيرة بالشكل الذي يمنعهم من دعمه للفوز، ومن ناحية أخرى أن النجاح يغطي على هذه الأخطاء فلا يذكرها أحد.

ولكن أهم ما يميز من يستمرون في النجاح أنهم يكونون على وعي تام وكامل بعيوبهم وأخطائهم، ولا يخدعهم الفوز فيظنون أنهم كاملون أو منزهون عن الخطأ.

أحياناً في حالة الفرح والنشوة بالنصر، قد يظن المنتصر نفسه خاليا من العيوب لأنه انتصر، وفي تلك اللحظة تتمكن منه الغطرسة التي لا يمكن علاجها، ويخبرنا التاريخ أنها مع الوقت غالباً ما تتسبب في القضاء على أصحابها رغم الانتصارات التي حققوها.

إن أهم ما يميز الرئيس أردوغان أنه حتى الآن لم يقع في هذا الخطأ، فلم يمنعه النصر والنجاح من رؤية أخطائه، فقد كان بعد كل انتخابات يبدأ استعداداته للانتخابات التالية منذ اليوم الثاني لإعلان نتيجة الانتخابات، لكن لا أحد يحب أن يرى هذه الحقيقة، أن هذا الرجل يعمل لأجل بلده ليلاً ونهاراً دون كلل أو ملل.

وهناك من نظروا إلى المشهد السياسي في تركيا منذ عام أو عامين قبل الانتخابات، فكان كل ما رأوه هو حكومة مفلسة فاشلة ومدمِرة للبلاد وممتلئة بالفساد. ثم بدأ الترويج لهذه الصورة الكاذبة على مواقع التواصل وفي الأوساط الدولية، وتم الزيادة عليها وتضخيمها حتى أصبحت وكأنها حقيقة تامة، وليست أكذوبة اخترعها البعض وصدقوها وعملوا عليها ليلاً ونهاراً وروجوا لها إعلامياً حتى اتبعهم الملايين على مواقع التواصل الاجتماعي ظناً منهم أنها حقيقة. لقد أظهرت نتيجة الانتخابات أنها مجرد وهم عاشوا فيه ولم يستفيقوا منه سوى على أصوات الفرح والنجاح وفوز أردوغان لولاية ثالثة.

وقد صوّرت المعارضة للناس على مواقع التواصل الاجتماعي أن يدهم ممتلئة بالنجاح هذه المرة، وأن الخسارة محققة لأردوغان، واعتمدوا على وهم الكاريزما والخطابات الحنجورية، وظنوا أنها وحدها تضمن النجاح. أنا هنا لا أقلل من سحر الكاريزما في السياسة إذ أنها عامل خطير وجاذب للملايين، لكن في الحقيقة الكاريزما لا تتعلق فقط بالطول والعمر وإبداء الصلة بالله وادعاء محبة الجماهير، وإنما هي شيء أكبر من ذلك بكثير.

ولم تعد الكاريزما في عالمنا الحالي كما كانت في الماضي هبة من الله فقط، يعطيها لمن يشاء، فيستخدمها في تكوين حركة جماهيرية حوله، وإنما أصبحت حركة تفاعلية وعلاقة معقدة جداً بين القادة والجماهير.

فهذا التغير الهائل في التركيبة الاجتماعية ووسائل التواصل وسرعة انتشار المعلومات، وازدياد الوعي جعل هذه الكاريزما وحدها ليست كافية، ربما يمكن استخدامها لمرة واحدة فقط في عالم الانتخابات، ولكن لكي تؤتي ثمارها بعد المرة الأولى لابد أن تُدعم بإنجازات وقوة ونجاحات حقيقية على الأرض وإلا سرعان ما سيتراجع المؤيدون ويرون صاحب الكاريزما بصورته الحقيقية الضئيلة وأنه مجرد ظاهرة صوتية لا وجود لها على الأرض. هذا ما آمن به أردوغان منذ اللحظة الأولى، نعم أتاه الله تلك الكاريزما وفصاحة الحديث لكن صاحبهما على طول الخط عمل دؤوب وإنجازات حقيقية ملموسة ساهمت في النجاح الذي أحرزه الآن.

ولو درسنا الأمر من ناحية أولئك الذين صوتوا لصالح كليجدار أوغلو، فربما هم لم يؤمنوا بالكاريزما التي حاول تصديرها لهم؛ إذ أنه عمل عليها بوسائل بائسة كمحاولات تشويه السمعة وتصدير خطاب الكراهية والعنف، لأنه ببساطة ليس له نجاح حقيقي يُذكر، وإنما نجاحه الوحيد هو أنه تمكن من أن يكون رئيس حزب الشعب الجمهوري بالخداع.

وقد أدرك الناس أن الكاريزما التي يتمتع بها ناخبو حزب الشعب الجمهوري يمكن أن تخرج من هذا النجاح، لكنها لن تكون أبداً قصة نجاح حقيقية للجمهور الأوسع والكتلة الانتخابية العريضة. وإذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أنه فعلاً لم يتمكن من الفوز بأي انتخابات دخلها، فهذا يدعم الفكرة التي أحاول إيصالها وهي أن الناس قادرة على رؤية أوجه القصور الكبيرة لديه ولا تخدعهم كاريزمته المزعومة من قبله وقبل أنصاره.

وحتى إمام أوغلو، يافاش، داود أوغلو، وباباجان.. إلخ. كلهم حتى الآن لم يحققوا أي نجاح يمكن أن يمنحهم الكاريزما. وبصراحة؛ كانت النجاحات الوحيدة التي حققها آخر اسمين كان في العمل الذي قاموا به حين كانوا تحت قيادة أردوغان. وكان النجاح الوحيد لإمام أوغلو ويافاش هو فوزهما في الانتخابات البلدية، وهذا نجاح لا يصمد أمام ما حققه حزب العدالة والتنمية لمدة 25 عامًا على التوالي، وهذه هي الكاريزما الحقيقية التي أصبح الناس يرونها ويتوقعونها من قائدهم.

وحتى البلديات التي فازوا بها، لم ينجح عملهم فيها في تغذية هذه الكاريزما، بل إنها حقيقة تستهلك من جاذبيتهم وتكشف كل يوم عن المزيد من أخطائهم وخزيهم، وأوجه قصورهم، وإخفاقاتهم. وسيظهر أكثر -يوماً بعد يوم- بعد الهزيمة الجماعية التي لاقوها.

وتتغذى الكاريزما من النجاح والنصر والفوز والإنجازات، ويمكن أن تكون هذه النجاحات انتخابية، فضلاً عن تغذيتها بنجاحات الخروج من الأزمات بمهارة والتغلب على المحن؛ لأن هناك علاقة وثيقة جدًا بين “الأزمة” و”الكاريزما” على المستويين الاشتقاقي والحقيقي.

ومنذ خرج أردوغان من سقف الحكم المحلي إلى سدة حكم تركيا عام 2002، قام بالكثير الذي ساهم في صناعة هذه الكاريزما. في مقدمة ما قام به كان وقوفه الصارم في مواجهة الانقلابيين، وموقفه الشهير مع الرئيس الإسرائيلي الراحل شيمون بيريس في قمة دافوس، الذي عُرف في تركيا بقضية “ون مينيت”، ونجاح الرئيس أردوغان في العبور بالبلاد إلى تعديل الدستور باستفتاء عام.

لقد كتبتُ قبل ذلك -عندما كان أردوغان مسجونًا حين كان رئيسًا للبلدية- مقالاً بعنوان “الكاريزما والثقافة الشعبية والفاشية” في مجلة “تذكير” ردًا على بعض الأوساط الفكرية التي شككت في جاذبيته؛ وأكدتُ فيه على أن كاريزما أردوغان ليست مثل أي كاريزما وأنها فريدة من نوعها؛ وذلك ضد التحذيرات التي تقال حول ما تسببت فيه القوى الكاريزمية في التاريخ.

وبعد فترة وجيزة من هذا المقال؛ تأسس حزب العدالة والتنمية. ومع الانتخابات التي دخلها عام 2002 -وعلى الرغم من حظره- إلا أنه صنع كاريزما من خلال هزيمة الخصوم السياسيين في تلك الفترة، وجميع الجهات التي سئمها الشعب. وفي صندوق الاقتراع؛ أصبح مرشحًا لإخراج تركيا من الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي كانت فيها.

وكان هذا الحدث بحد ذاته باباً “للخروج من الأزمة”؛ فلقد تميّز أردوغان كقائد حرر نفسه من هؤلاء الفاعلين السياسيين الذين كانوا سبب المشاكل والأزمة. في ذلك الوقت؛ كتبت أيضًا مقالًا بعنوان “الواقع المتطرف للكاريزما” في مجلة “بيريكيم” لاحقًا، تم تضمين مقالاتي هذه في كتابي المسمى “أزمان الكاريزما”.

ولم يكن مجرد تجميل لأردوغان؛ بل كان تطبيقًا لعلم اجتماع الكاريزما على قصة أردوغان، مع بيانات العلوم السياسية وعلم الاجتماع البحت. بعد كل شيء، كان كل ما حدث ويحدث فصلاً من فصول القصة التي يسطرها أردوغان وبطلته دولتنا التركية، وما كانت الجولة الأخيرة إلا صراعاً حقيقياً حول فكرة أن تكون تركيا دولة عظيمة ذات سيادة أو أن تعود تابعة للغرب والخارج.

في كل فصل من هذه الفصول كان أردوغان يعيش صراعاً حقيقياً يدخله محارباً شرساً، يواجه فيه من يتآمرون ضده ويشوهونه ويقاتلونه ثم يخرج منه قائداً منتصراً.

ولا يمكن لعلم السياسة أو الاجتماع أو حتي أي عاقل بسيط أن يرى هذه الانتصارات المتكررة على أنها حدثت صدفة، فما بالك بالحالة الأخيرة التي توحدت فيها كل القوى السياسية ضده! كيف لهذا الانتصار أن يكون محض صدفة! لا يمكن بكل تأكيد.

أكاديمي وسياسي وكاتب تركي

——————————–

مشكلة تتربّص بأردوغان/ كيفورك يعقوبيان

انتهت الانتخابات العامة في تركيا، ما سيتيح على الأرجح تكوين صورة أوضح عن الطريقة التي ستتعامل بها أنقرة مع الوضع في سورية خلال الأشهر المقبلة. وفي حين لمّح البعض إلى أن إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد تعني أنه سيحاول الإبقاء على الوضع القائم في سياسته الخارجية، أحد الأمور التي ستتغيّر على الأرجح هو علاقة تركيا بالأفرقاء غير الحكوميين في شمال سورية.

من الأسباب التي تقف خلف تلك التبدلات المحيّرة إلى حد ما التي انتهجتها تركيا في سياستها الخارجية خلال العقدَين المنصرمَين. لقد شهد النهج التركي تغييرات متكررة، من سياسة “صفر مشاكل مع الجيران” إلى الانخراط النشط، ابتداءً من العام 2011، في دعم الانتفاضات العربية، ولا سيما في سورية التي كانت أنقرة تقيم علاقات ممتازة معها في السابق. علاوةً على ذلك، فإن ما نسبه كثرٌ إلى النزعة العثمانية الجديدة – توسُّع تركيا الاقتصادي والثقافي والسياسي نحو الأراضي التي كانت خاضعة سابقًا للسلطنة العثمانية – استُبدِل اليوم بسياسة خارجية أكثر انتهازية وبراغماتية. في الأشهر الأخيرة، سعت إدارة أردوغان إلى تطبيع العلاقات مع مصر وسورية والسعودية والإمارات العربية المتحدة بعد سنوات من الخصومة. غالب الظن أن هذه النزعة ستستمر، ولا سيما في سورية، حيث ستزداد على الأرجح الصعوبات التي يواجهها الرئيس التركي.

والسبب هو أن أردوغان قد يجد نفسه عالقًا بين مزاج الناخبين الأتراك ومزاج الشعب السوري المعادي لنظام الأسد في المناطق غير الخاضعة لسيطرة دمشق في شمال سورية. يُستشَف من اضطرار أردوغان إلى خوض جولتَي اقتراع كي يفوز بولاية جديدة أنّ عددًا كبيرًا من الناخبين الأتراك ينشد تغييرًا في السياسة المتّبعة في الملف السوري، ولا سيما في ضوء وجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في تركيا. لذلك، من المستبعد أن يعدل أردوغان عن بذل الجهود لتطبيع العلاقات مع سورية، وسيساهم تدهور الاقتصاد التركي في ترسيخ موقفه هذا. فضلًا عن ذلك، تتعزَّز هذه البراغماتية فقط عن طريق إبداء أنقرة نيّتها مواصلة الاضطلاع بدورها في إرساء التوازن في المنطقة من خلال علاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة من جهة، وإيران والسعودية من جهة أخرى.

في ما يتعلق بسورية، فإن أي تقارب مع دمشق سيرغم أردوغان على المناورة بحذر بين نظام الأسد والمعارضة السورية. خلال الشهر المنصرم، أبدت كل من هيئة تحرير الشام، المعروفة سابقًا بجبهة النصرة، والجيش الوطني السوري، وهو ائتلاف من مجموعات معارضة مسلّحة مُتحالف مع تركيا، رفضهما لتطبيع العلاقات بين جامعة الدول العربية ونظام الأسد، وكذلك لحوار تركي سوري. وقد أشار زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، إلى أن المقاربة العسكرية هي الخيار الحيوي الوحيد لحسم النزاع السوري. وذهبت قيادة الجيش الوطني السوري، بدورها، إلى حد وصف عملية التطبيع بأنها “جريمة” بحق المعارضة السورية والشعب السوري. تبدي المعارضة في محافظة إدلب والمناطق السورية الأخرى حيث ثمة وجود تركي قلقها من التقارب التركي مع الأسد، نظرًا إلى أن أنقرة واظبت لوقت طويل على تقديم الدعم لها في القتال.

لكن تداعيات هذا القلق تتعدّى ذلك، وقد تؤثّر على من سيسيطر على إدلب في نهاية المطاف. إن الوضع في المحافظات السورية الشمالية دقيق، في ظل تصاعد حدّة التوترات بين الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام لقيادة المعارضة المناهضة للأسد في إدلب. وباتت الجهات غير الحكومية طرفًا أساسيًا في النزاع السوري. فقد عمدت دول، على غرار تركيا وإيران، إلى تسليح ودعم قوات على الأرض، شكّلت بدورها هوياتها الخاصة ومعتقداتها الإيديولوجية.

في حالة هيئة تحرير الشام، على سبيل المثال، لاحظ كثيرون أن الجولاني يسعى إلى تصوير نفسه على أنه قائد مرن، بدلًا من جهادي متطرّف، على الرغم من ماضيها كفرع من فروع تنظيم القاعدة. ويبدو أن هدفه يتمثّل في التأكيد على أن هيئة تحرير الشام قادرة على حكم إدلب، وأن يصوّر نفسه كقائد يضطلع بدور لاعب فعلي في النزاع السوري وشخصية يسهل على دول الغرب التعامل معها.

وفي الوقت نفسه، تأجّجت جذوة التوترات داخل الجيش الوطني السوري، الذي بات ضعيفًا ولا يمكن التعويل عليه في وجه هيئة تحرير الشام أو حتى قوات سورية الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد، بسبب تشرذمه المستمر. واستغلّت الهيئة هذه الفوضى في صفوف الجيش الوطني السوري من خلال فرض قراراتها وهيكيلتها الإدارية على سكان إدلب. وبالتالي، على أي عملية تطبيع للعلاقات بين أنقرة ودمشق التعامل مع هذه القوى غير الحكومية، التي يُعدّ وجودها عقبة في وجه وحدة الأراضي السورية.

أتاح هذا الوضع فرصة أمام الجولاني لحشد الدعم لجماعته الخاصة ومهاجمة كل من يعارضه، في محاولة للسيطرة على المنطقة وتولي مهمة محاور أساسي في أي حوار حول النزاع السوري في المستقبل. ترى أنقرة أن ثمة نقطة إيجابية في واقع أن كل هؤلاء في إدلب – أي الوجهاء المحليين وشيوخ القبائل والسكان ككل – يعارضون الجولاني وهيئة تحرير الشام، معتبرينهما في أفضل الأحوال أهون الشرور مقارنةً مع نظام الأسد. ستساهم ردّة الفعل هذه في إرساء توازن في الشمال، حيث دعا خصوم هيئة تحرير الشام المعارضة إلى التوحّد حول أجندة مشتركة لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي يستثني منظمات مثل هيئة تحرير الشام وتنظيم الدولة الإسلامية من أي عملية سياسية ويدعو إلى عملية انتقالية في سورية بإشراف الأمم المتحدة.

قد يخلّف هذا الوضع تعقيدات لأردوغان في حال واصل السير على طريق تطبيع العلاقات مع دمشق. ولن يتعيّن على تركيا التعامل مع نظام الأسد فحسب، بل أيضًا مع هيئة تحرير الشام وحلفائها المُفترضين داخل سورية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

———————————–

الاهتمام الشعبي العربي بالانتخابات التركية.. رسائل في صندوق الأنظمة/ فراس محمد

كثيراً ما حاولت الماكينة الإعلامية العربية الرسمية أو شبه الرسمية التشكيك بأهلية الشعوب العربية في ممارسة الديمقراطية، لتبرير سياسات القمع ومصادرة الحريات في العالم العربي، والتي أصبحت سمة عامة تميز المنطقة العربية عن بقية دول العالم.

وفي سبيل ترسيخ هذه الفكرة جندت الأنظمة العديد من المثقفين والباحثين والإعلاميين الذي يدورون في فلكها للتأكيد على فكرة قصور المجتمعات العربية، وعدم أهليتها في التعبير عن نفسها بحال سمحت هذه الأنظمة بهوامش حرية أكبر، وتركت لهذه الشعوب حرية اختيار من يمثلها من خلال عملية ديمقراطية حقيقية.

وطوال عقود مضت استمر الإعلام الرسمي العربي باتهام الديمقراطية بأنها منتج استعماري غربي الهدف منه زعزغة استقرار الأنظمة العربية “الوطنية” والتشويش عليها من خلال المطالبات المستمرة بمنح حريات أكبر لشعوبها، لكن هذه الفكرة سقطت بالتقادم، والأنظمة العربية لم تعجز عن إيجاد البديل من خلال مسرحيات انتخابية هزيلة الهدف منها محاولة إعطاء شرعية مفقودة لأنظمة الحكم القائمة.

ومع انكسار القيد الذي كانت تفرضه هذه الأنظمة على وسائل الإعلام بعد التطور الكبير في وسائل الاتصال الجديدة، تمكنت الشعوب العربية من الاطلاع على تجارب الشعوب الديمقراطية ومفهوم المواطنة وحقوق وواجبات المواطنة في الدولة الحديثة، ولم تكتف بالمتابعة، بل تفاعلت بشكل كبير مع هذه التجارب في رد عملي على كل ادعاءات هذه الأنظمة بأنها شعوب غير جديرة بممارسة الديمقراطية وغير مؤهلة بعد.

ومن الأمثلة الواضحة على هذا التفاعل كان الاهتمام الكبير والمنقطع النظير للجمهور العربي مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي جرت خلال شهر أيار الماضي، حيث تابع الجمهور العربي بمختلف شرائحه وانتماءاته الانتخابات منذ الحملة الانتخابية وصولا للجولة الأولى وجولة الإعادة، وتفاعل مع تطوراتها من خلال المتابعة والتحليل والقراءة العميقة للمشهد الانتخابي التركي.

فمن خلال جولة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي في اللغة العربية، يمكن لأي متابع أن يكتشف أن متابعة الجمهور العربي وبهذا الحجم للانتخابات التركية لم تكن حدثاً روتينياً، بل حمل في طياته رسائل واضحة المعالم لجميع الأنظمة العربية، تمثل في محورين رئيسيين:

الأول كان في حجم المتابعة والتفاعل مع الانتخابات التركية الذي لا يقارن بأي شكل من الأشكال مع مسرحيات الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ذات الإخراج الرديء والمبتذل، بدءاً من الحملات الانتخابية المثيرة للغثيان والتي يطلق عليها “الأعراس الديمقراطية”، وصولاً للمرشحين الكومبارس الذين يخوضون هذه الانتخابات ضد الرئيس السابق الذي دائما ما يفوز بنسبة تتراوح بين 90- 99% من الأصوات، كذلك الأمر بالنسبة للانتخابات البرلمانية التي يحصل فيها الحزب الحاكم على أغلبية مريحة بالبرلمان، فيما تتوزع بقية المقاعد على بعض المستقلين الموالين وأحزاب تلعب دور الكومبارس هي الأخرى وتدور في فلك الحزب الحاكم، فكان الاهتمام الكبير بالانتخابات التركية مقابل عدم الاكتراث بأي انتخابات يجريها أي نظام عربي رسالة واضحة على وعي الجمهور العربي، ورسالة للأنظمة العربية بأن هذه الانتخابات ليست سوى مسرحيات سمجة تنتقص من ذهنية المواطن العربي وكرامته.

والمحور الثاني كان بطريقة التفاعل مع سير العملية الانتخابية وتحليلها، حيث يمكن لأي متابع أن يلحظ مدى النضج والدراية لدى شرائح كبيرة من رواد التواصل الاجتماعي العربي بآليات العملية الديمقراطية عكس ما تحاول الأنظمة العربية ترسيخه بأن المجتمع العربي غير ناضج بعد للممارسة الديمقراطية، فطوال الحملة الانتخابية ووصولا إلى الانتخابات الأولى وجولة الإعادة تفاعل الجمهور العربي مع تطور سير العملية الانتخابية وكان على دراية وفهم سليم لتأثير الحالة الاقتصادية والإيديولوجية والسياسية والحريات العامة على مزاج الناخب التركي، وأنه قادر هو الآخر إن أتيحت له الفرصة على إنجاح أي عملية ديمقراطية حقيقية.

الانتخابات التركية لم تكن الأولى التي تحظى بمتابعة واهتمام من قبل الجمهور العربي، بل حظيت الانتخابات الأميركية أيضاً بمتابعة كبيرة هي الأخرى، كما تابع الجمهور العربي الانتخابات في معظم الدول الأوروبية، والذاكرة الجمعية العربية لا يمكنها أن تنسى التجربة الديمقراطية الحقيقية التي عاشها عالمنا العربي في عام 2012، وتمثلت بانتخابات الرئاسة المصرية والتي شهدت هي الأخرى جولة إعادة بين الرئيس المصري السابق محمد مرسي والمرشح الرئاسي أحمد شفيق، حيث حصل محمد مرسي على 51.73% من نسبة الأصوات مقابل 48.27%، وهي نسبة كانت جديدة على الثقافة السياسية العربية، التي لا تعرف معنى الرئيس المنتخب بل القائد الخالد أو الرئيس الراحل.

ختاماً.. يعتقد النظام العربي الرسمي أنه استطاع كسر إرادة الشعوب العربية التي ثارت للتغيير إبان موجات الربيع العربي، وما عودة نظام الأسد إلا محاولة لترسيخ انتصار هذا النظام على الربيع العربي، ورغم كل محاولات ماكينة النظام العربي الرسمي لتشويه ثورات الربيع العربي ووصم الثائرين بالتطرف والإرهاب وأنهم دعاة تخريب وتدمير وليس دعاة حرية وليسوا مؤهلين بعد لأي ممارسة ديمقراطية، إلا أن الاهتمام الشعبي العربي بالانتخابات التركية أوصل رسالة مفادها، بأنه سيبقى شعباً توّاقاً للديمقراطية أسوة بكل الشعوب المتقدمة، ويملك من الوعي ما يفوق كل محاولات التشويه التي تحاول الأنظمة العربية إلحاقها به.

تلفزيون سوريا

——————————-

النظام الرئاسي التركي.. ما الذي تغيَّر في الحياة الحزبية خلال خمسة أعوام؟/ فاضل خانجي

اتَّخذت أحزاب المعارضة التركية، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، موقفاً مناهضاً للانتقال إلى النظام الرئاسي في تركيا منذ الاستفتاء العام لتعديل الدستور في نيسان/أبريل 2017، والذي نجح بنسبة 51.41% بدعم من حزبي: العدالة والتنمية، والحركة القومية. كما شكَّل الانتقال إلى نظام “برلماني مقوَّى” أحد أبرز المسائل التي ناقشت وأجمعت عليها أحزاب الطاولة السداسية/تحالف الملة، ومن ثمّ أحد ركائز الحملة الانتخابية للتحالف ومُرشحه الرئاسي كمال كليتشدار أوغلو في الانتخابات الأخيرة.

عقب نتائج الانتخابات البرلمانية في الدور الأول، والتي أفضت إلى حصول تحالف الشعب على الأغلبية البرلمانية بواقع 323 مقعداً من أصل 600، لم يعد وعد الانتقال إلى نظام برلماني على جدول أولويات الحملة الانتخابية في الدور الثاني لمرشح المعارضة كليتشدار أوغلو نظراً لعدم نجاح التحالف في الحصول على الأغلبية البرلمانية، وبالتالي عدم حيازته القدرة على إجراء تعديلات دستورية بهذا الخصوص، ما يجعل النظام الرئاسي يترسخ شيئاً فشيئاً في الحياة السياسية التركية. وفي هذا الإطار، وبعد مرور خمس سنوات على الانتقال للنظام الرئاسي وخوض دورتين انتخابيتين في عامي 2018 وَ2023، أحدث النظام الرئاسي تغييراً في طبيعة الحياة السياسية التركية على مستويات عدة: نظام التحالفات السياسية، عدد الأحزاب، وتموضع الأحزاب السياسي والأيديولوجي.

برزت التحالفات السياسية كأحد أبرز نتائج الانتقال للنظام الرئاسي، وهو ما يتضح بشكل رئيسي بتأسيس: تحالف الشعب من قبل حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في شباط/فبراير 2018، وتحالف الملة بقيادة حزب الشعب الجمهوري، وحزب الجيد، في أيار/مايو من العام ذاته قبيل الانتخابات العامة والرئاسية التي عُقدت في حزيران/يونيو 2018، كأوَّل انتخابات عقب استفتاء التعديلات الدستورية عام 2017. يُضاف إلى ذلك تحالف العمل والحرية بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي-حزب اليسار الأخضر، والذي يضم طيفاً من الأحزاب اليسارية/الاشتراكية، وتحالف الجد بقيادة حزب الظفر، وتحالف اتحاد القوى الاشتراكية.

إنَّ ما يميِّز التحالفات السياسية للأحزاب في النظام الرئاسي عن سابقتها في النظام البرلماني أنها أكثر ميلاً لتكون استراتيجية، بمعنى أنها مستمرة قبل الانتخابات وبعدها وبوجود حكومات مستقرة بحكم عدم استناد تأسيس الحكومة على عملية محاصصة حزبية لمجلس الوزراء، على عكس ما كانت عليه الحال في النظام البرلماني الذي كانت فيه التحالفات، أو الائتلافات الحزبية إن صح التعبير، أقرب لحالة تكتيكية منها لاستراتيجية بحكم أن الأحزاب كانت تخوض الانتخابات بشكل فردي، وتتحالف عقب نتائج الانتخابات بهدف تشكيل حكومة ائتلافية، الأمر الذي جعل من هذه التحالفات، والحكومات الائتلافية المرتبطة بها، عرضة للتبدل والتغير بشكل مستمر بحسب ديناميات التنافس السياسي بين الأحزاب المختلفة، ما أضفى طابعاً غير مستقراً على الحياة السياسية.

بالتوازي مع بروز التحالفات السياسية، ازداد دور الأحزاب الصغيرة داخل التحالفات السياسية وهو ما يتضح، بشكل رئيسي، بانضمام حزب الوحدة الكبير وحزب الرفاه من جديد لتحالف الشعب الحاكم، وأحزاب: الجيد، السعادة، الديمقراطي، المستقبل، والديمقراطية والتقدم لتحالف الملة المعارض. ولا تقتصر مسألة دور الأحزاب الصغيرة على تلك التي انضمت للتحالفات السياسية فقط، وإنَّما تمتد لمستوى الأحزاب في تركيا بشكل عام، حيث تأسَّس 63 حزب منذ عام 2017 ما يعادل تقريباً نصف عدد الأحزاب البالغ عددها 130، خاض 24 حزباً منها الانتخابات البرلمانية الأخيرة (2023) بالمقارنة مع 8 أحزاب فقط كانت قد خاضت الانتخابات عام 2018.

تأسَّست غالبية الأحزاب الجديدة (54 حزبا) بين عامي 2020 وَ 2023، أي بعد خوض الانتخابات العامة في 2018 والانتخابات المحلية عام 2019 بنظام التحالفات الانتخابي. ويرجع هذا الارتفاع الواضح والملحوظ في عدد الأحزاب لسعي جلِّها لكسب تموضع سياسي يفوق ثقلها الانتخابي في صندوق الاقتراع عبر الاستفادة من نظام التحالفات على المستوى البرلماني لتخطي العتبة المطلوبة أو دخول الانتخابات عن قوائم أحزاب كبيرة، مستفيدةً من سعي الأحزاب الكبيرة لضمان دعم الأحزاب الصغيرة لمرشحها الرئاسي ضمن معادلة 50+1.

انعكست جملة هذه الديناميات على طبيعة التموضع السياسي-الأيديولوجي للأحزاب التقليدية/السائدة أيضاً، وهو ما اتَّضح بأجلى صوره بحالة حزب الشعب الجمهوري الذي شهد خطابه وسلوكه السياسي تحولاً في السنوات الأخيرة لتتناسب مع معادلة 50 +1 التي تُوجب الوصول لشرائح انتخابية جديدة متنوعة، لا سيما شريحة المحافظين دينياً وشرائح المكوِّن الكردي، الأمر الذي استدعى تبني خطاب “المسامحة” والتصالح مع أخطاء الماضي والمظلوميات التي نشأت لدى هذه الفئات، والانخراط في تحالف مع أحزاب محافظة وترشيح نوابهم عن قائمته الحزبية في الانتخابات البرلمانية، ناهيك عن الإبقاء على تفاهم غير رسمي مع حزب الشعوب الديمقراطي لضمان دعمه وتأييده في الانتخابات الرئاسية، والتفاهم اللاحق مع حزب النصر المعادي للمهاجرين في الدور الثاني للانتخابات؛ وذلك ضمن إطار محاولة الحزب لمحاكاة نموذج سياسة الحزب الشامل (أو ما يُطلق عليه حزب الخيمة الكبيرة) التي تخاطب قواعد انتخابية ذات توجهات سياسية متنوِّعة.

أما بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، فلم يشهد تحولاً حاداً في تموضعه السياسي والأيديولوجي، لكونه الحزب الحاكم الذي مهَّد وصنع التحوُّل في النظام السياسي في البلاد، ولقابلية خطابه السياسي أساساً على استقطاب شرائح واسعة من الناخبين كحزب جماهيري يملك قاعدة انتخابية واسعة سبق أن اقتربت من حدود الـ50% في انتخابات 2011 وَ 2015 وقاعدة أعضاء واسعة تفوق الـ11 مليون عضو، بالإضافة لكون الأحزاب التي تحالف معها متموضعة ضمن فضاء اليمين السياسي.

ختاماً، تُعتبر التحولات على مستويات التحالفات السياسية وعدد الأحزاب والتموضع السياسي والأيديولوجي للأحزاب ضمن الديناميات الطبيعية لتطوُّر شكل النظام السياسي من خلال التجربة، حيث تسعى الأحزاب للتأقلم مع معادلة 50 +1 التي توجب الوصول إلى شرائح انتخابية واسعة. ستكون الأعوام الخمسة المقبلة محددة لمدى ثبات مظلات التحالفات السياسية ومدى قدرة الأحزاب الصغيرة على لعب دور بارز في ديناميات التنافس السياسي، ونطاق التحوُّل في التموضع السياسي-الأيديولوجي للأحزاب السياسية.

————————————

طاولة أردوغان الثلاثية/ سمير صالحة

أنجز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد إعادة انتخابه رئيسا وبشكل سريع عملية تشكيل فريق عمله الوزاري الجديد الذي سيشارك في تحمل المسؤوليات ويقود المرحلة القادمة في التعامل مع ملفات داخلية وخارجية كثيرة. لكنه أعاد قبل ذلك ترتيب شكل الجلوس أمام الطاولة الرئاسية الضيقة مع تغيير عدد المقاعد.

هاكان فيدان وإبراهيم كالن عن يمينه ويساره. بقية الأسماء البارزة مثل مولود جاويش أوغلو، وسليمان صويلو، وعمر شليك، ومصطفى شنطوب، وخلوصي أكار وبكير بوزداغ ذهبت إلى البرلمان أو المركز الرئيسي للحزب ريثما يقرر أردوغان موعد دخولها على الخط واستدعائها مجددا من لوائح الانتظار.

تصريحات أردوغان وفيدان وكالن في الأسبوعين الأخيرين تذهب كلها باتجاه الاستعداد لهذه المرحلة التي ستشهد كثيرا من التغيير والتحول والمفاجآت في السياسات التركية. كانت هناك أولا عملية إزاحة للصقور والمتشددين وقيادات سنوات الطوارئ في العمل الحزبي والوزاري. ثم جاءت عملية التعيينات والتكليفات الجديدة لأسماء لم تكن متداولة من قبل بهذا الشكل الواسع في البيروقراطية والتكنوقراطية التركية.

الهدف في الداخل هو الإصلاحات الاقتصادية والمالية وسياسات تقشف ونظام ضرائب جديد دون إغضاب المواطن أو إقلاقه. لكن الهدف أيضا هو التحضير لمرحلة الانتخابات المحلية القادمة بعد 9 أشهر وكسب الصوت الكردي في المدن التركية الكبرى لاسترداد إسطنبول وأنقرة ومرسين وهاتاي من المعارضة. أما الهدف في الخارج فهو الإسراع في تسجيل اختراقات سياسية حيال ملفات تنتظر وعلى رأسها الملف السوري والعلاقة مع مصر ومصالح تركيا في شرق المتوسط وإفريقيا والقوقاز. الهدف هو مثلا إفهام واشنطن أن سياستها السورية لن تنجح رغما عن الطاولة الرباعية المشكلة في موسكو حتى ولو حاولت أن تلعب أوراق بعض العواصم التي ألانت من مواقفها وسياساتها حيال النظام وبدأت تغازله. وأن محاولات التوسعة الأطلسية والضغط على تركيا في مسألة عضوية السويد لن تمر دون الإصغاء إلى ما تقوله وتريده أنقرة.

لا خلاف على أن الحكومة التركية الجديدة ستكون نسخة معدلة وترجمة عملية مغايرة لما بدأ به أردوغان قبل عامين تحت شعار الانفتاح والتهدئة الإقليمية.  قرار إزاحة أسماء بينها العديد من صقور السياسة الذين عايشوا أصعب الأزمات في الداخل والخارج ليست بالعملية السهلة بعد كل ما قدموه.

لكن شعار إرادة سياسية قوية وراء الفريق الرئاسي الجديد هو ما يكرره أردوغان في الأسابيع الأخيرة.

ضحى أردوغان بفريق عمل وزاري خدم إلى جانبه لسنوات طويلة، مقابل فتح الطريق أمام محمد شيمشك وجودت يلماز والاحتفاظ بفيدان وكالن إلى جانبه. لكن اللافت هو إبقاء الثنائي الأقرب لأردوغان في أكثر المناصب حساسية وأهمها. الخارجية لهاكان فيدان رئيس جهاز الاستخبارات السابق، وإبراهيم كالن الذي نُقل من مهام المتحدث باسم الرئاسة والمشرف على فريق عمل رسم السياسات الأمنية والاستراتيجية، إلى رئاسة جهاز الاستخبارات التركية.

فيدان وكالن سيعدّان بصلاحيات واسعة واستثنائية خططا لرفع مستوى العلاقات مع الرياض وأبو ظبي والقاهرة، لكن ذلك لن يكون على حساب العلاقة مع الدوحة وطرابلس الغرب مثلا. كما أنه لن يعني تضحية أنقرة بسياستها الإفريقية والآسيوية لإرضاء القاهرة وموسكو أيضا. أين وكيف سيكون شكل سيناريو قمم (تركية مصرية) و(تركية سورية) و(تركية سعودية) و(تركية أميركية) ؟ وأي منها ضمن أولويات فيدان وكالن؟

دور ومهام جهاز الاستخبارات في تركيا كان دائما أهم من دور وزارتي الخارجية والداخلية. فلماذا قبل فيدان الذي خدم 13 عاما في هذا المكان الانتقال إلى مكتب الوزير في الخارجية؟ لأن أردوغان يضع كلا الرجلين على مسافة واحدة أمام طاولة اتخاذ القرار الثلاثية في الرئاسة التركية. وهذا ما ينطبق على الشاعر والملحن والرياضي والرومانسي إبراهيم كالن أيضا.

بين مهام الفريق الوزاري – الرئاسي الجديد حتما تصحيح مسارات سياسية كثيرة في الداخل والخارج. بنية النظام الرئاسي وطريقة عمل المؤسسات الدستورية قد تكون بين أهداف التحديث والتغيير أيضا. كما أن هناك حاجة لحسم موضوع قسد في شرق الفرات مع واشنطن على طريق التفاوض مع النظام في دمشق. وإسقاط ورقة عناصر حزب العمال في قنديل الذي يتسبب باستمرار التباعد والخلاف التركي العراقي.

يريد أردوغان توفير قوة دفع إضافية لما بدأ به قبل أشهر لناحية العودة لتصفير المشكلات في الداخل والخارج وأفضل من يساعده في ذلك هما فيدان وكالن بحكم خبرتهما وشبكة علاقاتهما الواسعة التي بنياها في الأعوام الأخيرة.

بالنسبة للتقارب التركي الروسي وعلاقات أنقرة مع الغرب. فأردوغان سيبحث عن فرص ووسائل جديدة لموازنة العلاقة بين الجانبين. فيدان وكالن أفضل من يقوم بذلك بحكم طريقة التخاطب والأسلوب المعتدل والهادىء في التفاوض والوصول إلى ما يريد أردوغان.

يعكس بيان مجلس الأمن القومي التركي الأخير الذي يتوقف عند “أهمية التعاون الدولي الذي من شأنه أن يسهم بالعودة الطوعية والآمنة والكريمة للسوريين الفارين من الاشتباكات”، أهداف ومضمون وطريقة عمل الفريق الرئاسي الجديد في تركيا، خصوصا عبارة “السوريين الفارين من الاشتباكات”. لكن البيان يعكس أيضا موقف تركيا في مواصلة ما بدأته خارج حدودها وهي عملية رد على طروحات التحالف الدولي الذي تقوده أميركا والذي يتحدث عن أهمية “الحلول الدائمة للسكان في شمال شرقي سوريا”، وعن “مواصلة دعم الاستقرار في المناطق المحررة من داعش”. وحيث تطالب أنقرة بسحب قواتها من سوريا والعراق. أنقرة تؤكد قبل ساعات على مستوى أهم مؤسسة أمنية وعسكرية وسياسية أن “العمليات ستتواصل ضد المجموعات الإرهابية التي تنشط هناك بكل عزيمة وإصرار ونجاح ضد جميع أنواع التهديدات والمخاطر الموجهة للوحدة والتكاتف الوطني “. يريد أردوغان من خلال فيدان وكالن تسجيل عملية اختراق سياسي واستراتيجي تحت شعار تعديل ومراجعة السياسات عبر فريق عمل تتبادل أطرافه المقاعد والأدوار لكنه في المحصلة سيخدم أهداف السياسة الخارجية الجديدة.

غادر فيدان جهاز الاستخبارات نحو مبنى الخارجية. كالن أيضا غادر الرئاسة والعمل مع الخارجية نحو مقر الاستخبارات التركية في أنقرة. لكن كليهما لن يقطع ارتباطه وتواصله مع عمله القديم وتمسكه بالمكان الذي أتى منه. أردوغان هو من يعرف ذلك أكثر من غيره وربما لهذا السبب اختارهما إلى جانبه أمام الطاولة الثلاثية الجديدة في الرئاسة.

———————————–

آفاق التطبيع التركي السوري بعد فوز أردوغان/ احمد رحال

وجد اللاجئون السوريون أنفسهم “فرس الرهان” في صندوق الانتخابات التركي ومادة للتنافس الانتخابي خلال العامين الماضيين، حيث أُدخل الملف السوري في دهاليز الانتخابات التركية، ما تسبب بدفع السوريين لأثمان باهظة عبر تصريحات وتصرفات أقل ما يقال عنها أنها كانت “عنصرية” من قبل بعض أطراف المعارضة التركية، وقاسية ومجحفة من قبل الحكومة التركية الخاضعة للحزب الحاكم في تركيا، وتبرير أصحابها أنهم اضطروا لاتخاذ تلك الإجراءات لوقف غضب الشارع التركي ولسحب أوراق كانت مقلقة وتملكها المعارضة التركية.

إحدى أهم الأوراق التي طرحتها المعارضة التركية كان ملف التقارب مع نظام الأسد، والتطبيع معه، وإعادة اللاجئين السوريين، ووقف عمل المعارضة السورية على أراضيها. تناغم الروس، والرئيس بوتين تحديداً، مع ما طرحته المعارضة التركية، ووجدها فرصة للضغط على الرئيس أردوغان بحجة سحب ورقة من معارضيه، وبذات الوقت تصحيح مسار العلاقات الخارجية لتركيا التي بدأت بالسنوات الأخيرة بالعودة لسياسة “صفر مشاكل” التي طرحها وزير الخارجية التركي السابق “أحمد داؤد أوغلو”. استجاب أردوغان لمطالب بوتين، وعلى مدار العام الأخير بات السوريون ينامون ويستيقظون على تصريحات تركية جديدة صادرة عن الخارجية والرئاسة والدفاع تتحدث عن قرب اللقاء الذي يجمع أردوغان بالأسد، وقرب ترحيل اللاجئين (عودة طوعية)، بالمقابل كان هناك إحجام ورفض وشروط ذات أسقف مرتفعة وضعها نظام الأسد كثمن لأي تقارب تركي سوري، متمسكاً بأهداف خلبية ووهمية وخاصة فيما يتعلق بالسيادة الوطنية المخترقة بجيوش خمسة دول جاثمة على أراضيه، لكن حقيقة الرفض الأسدي ترتكز على واقعين: الأول يعود لإدراك بشار الأسد أن أي تقارب مع تركيا يعني البدء بالبحث عن حل سياسي، وأن أي حل سياسي حقيقي للقضية السورية سيشكل الخطوة الأولى في نهاية نظامه.

الواقع الثاني، أن هذا التطبيع غير مرض عنه إيرانياً, لأن إيران تريد أن تقبض ثمن التطبيع العربي مع الأسد أولاً, ومن ثم أن يكون التطبيع السوري_ التركي من بوابة طهران وليس عبر موسكو.

الضغوط زالت عن الرئيس التركي داخلياً وخارجياً؛ فالداخل ركن وأقر بنتائج الانتخابات وبفوز أردوغان، وتوقفت كل أوراق المعارضة الضاغطة وانتهت معها فترة قلقة عاشها حزب العدالة والتنمية وحكومته ورئيسه، وأيضاً عبارة الأسد التي ما فتئ يرددها “سننتظر لبعد نهاية الانتخابات لنحاور الفائز بصناديق الانتخابات التركية”، التي كان يغمز بها نظام الأسد للضغط على أردوغان وانتزاع تنازلات منه.  تراجعت أيضاً الضغوط الروسية والإيرانية التي مورست قبل الانتخابات، وبالتالي فإن من المتوقع أن يخف زخم التصريحات وزخم الاندفاعة التركية تجاه النظام والتي سادت المرحلة الأخيرة. كذلك كان هناك إجماع إقليمي وعربي وغربي، ألا خوف من أردوغان إن فاز في الانتخابات؛ فالرئيس التركي القادم (حيثما كان) سيكون أمامه ملفين ضاغطين ويستحوذان على جل اهتمام وعمل الحكومة، وهما ملف إزالة آثار الزلزال الذي ضرب تركيا بداية هذا العام، والآخر هو ملف الاقتصاد التركي الذي أقلق المواطنين الأتراك.

المراقب للإستراتيجية التركية في الملف السوري، والخاضعة للدولة العميقة، يجدها عبرت مرحلتان وتراوح بالثالثة حالياً. المرحلة الأولى تمثّلت في وقف إطلاق النار، والثانية في خفض التصعيد، أما الثالثة والتي تبحث عنها تركيا اليوم هي مرحلة التطبيع المترافقة مع مرحلة الاستقرار وعودة اللاجئين من تركيا للداخل السوري، إلا أن ملف التطبيع مع الأسد يحتاج إعادة تموضع من قبل الحكومة التركية وحسم خيارات وإغلاق ملفات، فملف شرق الفرات يحتاج لتفاهمات معمقة مع الجانب الأمريكي، وسياسة (احتدام المواقف) والمناكفة لم تعد مجدية ولا تصلح للمرحلة المقبلة، بل تحتم على وزارتي الخارجية والدفاع التركيتين الجلوس على طاولة التفاوض مع الأمريكان وطي هذا الملف نهائياً بما يخدم كلا الطرفين، خاصة بعد تأكيد خبر مفاده أن تركيا حصلت على تفويض روسي أسدي إيراني ببقاء قواتها العسكرية داخل سوريا لخمس سنوات، بغض النظر عن “جعجعات” نظام الأسد الخاضع للمشيئة الروسية الإيرانية.

أيضاً تُدرك تركيا أن مناورات موسكو حول الحل في سوريا محكومة بالفشل، وقد تقطف منها أنقرة فقط شروطاً تسهيلية لإعادة بعض اللاجئين من أراضيها، لكنها عاجزة عن إنتاج حل مستدام للقضية السورية، وأن ما قاله وزير الخارجية الأمريكية “بلينكن” مؤخراً  “نحن مصممون على إيجاد حل سياسي في سوريا يحفظ وحدة البلاد وسيادتها ويلبي طموحات شعبها ويتوافق مع القانون الدولي ويحترم المبادئ الأساسية لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.”، ليرد عليه المدير العام للملف السوري في الخارجية التركية السفير كورهان كاراكوتش متناغماً بقوله: إن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم لن تكون إلاَّ في نهاية العملية السياسية.

هذا الكلام يضع محددات للمناورة الروسية وللاندفاعة التركية في عملية التطبيع مع تركيا والحل في سوريا، بأن أوراق الحل الأساسية هي بيد واشنطن وخاصة ورقة ملف الإعمار، وبالتالي سيكون على أنقرة التخلي عن سياسة التموضع بين موسكو وواشنطن والانزياح كلية لأحد الأطراف، مع عدم معاداة الطرف الآخر، وإرسال أنقرة لـ”500″ جندي روسي كقوات حفظ سلام في “كوسوفو” بالرغم أنها خطوة تتبع لحلف النيتو، لكنها تأتي في إطار التقارب مع الغرب أيضاً.

والخارجية التركية تراقب عن كثب تجربة التطبيع العربي والموقف الأمريكي. هناك محددات قد وضعتها واشنطن بوجه العرب المطبعين مع الأسد وستكون مشهرة بوجه أنقرة أيضاً، حيث سُمح للعرب بالمناورة المحدودة مالياً ضمن سياسة “خطوة مقابل خطوة”،عبر تقديم بعض الأموال (المحدودة) للأسد من خلال ملفين هما ملف وقف إنتاج وزراعة وتصنيع وتهريب المخدرات، وملف المساعدات الإنسانية، وما عدا ذلك تبقى خطوط حمراء حذرت واشنطن العرب من تجاوزها، والموقف الأوربي المتناغم مع الموقف الأمريكي كان واضحاً وفسره السفير الألماني في القاهرة فرانك هارتمان في مؤتمر صحافي، بقوله: إن إلغاء الاجتماع الذي كان مقرراً في 20 حزيران/يونيو (بين الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية)، جاء بسبب رفض برلين الجلوس مع وفد النظام السوري المشارك في اللقاء من ضمن وفود الجامعة العربية وهي رسالة قوية للقادة العرب، وكان المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي بيتر ستانو قد أكد عقب قرار إعادة نظام الأسد للجامعة العربية، بأن الإتحاد لن يطبع العلاقات مع الأسد ولن يرفع العقوبات عن النظام، كما لن يتخلى عن الشعب السوري، مشدداً على أنه لا مشاركة للاتحاد في إعادة الإعمار قبل تحقيق الحل السياسي وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254.

ما سبق يؤكد أن الحكومة التركية وبعد زوال الضغوط عنها قد تفرمل اندفاعة التطبيع مع الأسد، ومؤتمر أستانا القادم مؤشر على ذلك؛ فالاجتماع الرباعي المرافق سيكون لنواب وزراء الخارجية وليس الوزراء (بخطوة نحو الخلف)، أيضاً خوف وتردد الأسد من أي استحقاق للحل في سوريا سيبطئ عملية التطبيع، يضاف للأمر انشغال الروس عن سوريا بالملف الأوكراني، وملء إيران لهذا الفراغ سيجعل التطبيع أمراً غاية في الصعوبة ويخضع للمشيئة الإيرانية، يضاف لكل ما سبق وجود شخصية قوية على رأس هرم وزارة الخارجية التركية التي تدرك مفاصل الوضع الأمني والاستخباراتي، وباتت تحمل مهمة إدارة الملفات السياسية الخارجية لتركيا ما سيعطي ثقلاً تركياً لرجل مقرب من الغرب و وصف بأنه مهندس المصالحات التركية الأخيرة مع العرب وإسرائيل، وأنه كان الأقرب لتفاصيل الملف السوري.

نورث برس

—————————

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى