سياسة

ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة- 5-

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2

القسم الثالث من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 3

القسم الرابع من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 4

تحديث هذا الملف يومي، نضيف العديد من المقالات المهمة والمختارة التي تناولت الحدث.  أنظر في الأسفل

——————————-

صيف روسيا وأوكرانيا اللاهب/ طارق عزيزة

وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 29 من الشهر الماضي (مايو/ أيار) قانوناً يقضي بانسحاب بلاده من “معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا”، التي أبرمها الاتحاد السوفييتي السابق، ودول ما كان يُعرف بحلف وارسو، مع حلف الناتو (كان يضم 16 دولة)، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1990. دخلت المعاهدة حيّز التنفيذ بعد عامين، وكان هدفها الحدّ من قدرة أي طرفٍ على المبادرة بهجوم مفاجئ واسع النطاق، فوضعت قيوداً على حجم القوات والأسلحة التقليدية ونوعيّتها، التي يمكن لأيٍّ من الأطراف حشدها، ومن ضمنها المروحيات الهجومية والعربات القتالية المزوّدة بالمدفعية، ونصّت على نظام مشترك للتحقق والتفتيش.

على هذا النحو، لم تعد هناك قيود على عديد (وعتاد) القوات التي يمكن أن تنشرها روسيا على حدودها مع الدول الأوروبية، ما يعني إمكانية الإخلال بالتوازنات القائمة بين موسكو وجيرانها المتحالفين مع الغرب في شرق أوروبا وشمالها. قلّل المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف من أهمية الخطوة، قائلاً “لم يفعل الجانب الروسي سوى التوافق مع الوضع القائم بالفعل”، في إشارة إلى عدم فعالية المعاهدة عملياً، وتحدّث عن “فراغ كبير” في مجال الحدّ من التسلح، يحتاج ملؤه قوانينَ دولية جديدة، “لكن ذلك يتطلب علاقات ثنائية فاعلة مع دولٍ عديدة، وهو ما ليس لدينا الآن، من دون خطأ من جانبنا”، وفق تعبيره.

يصعب عزل الخطوة الروسية عن سياق الحرب الأوكرانية، إذ شهدت الأيام التي سبقت قرار بوتين تطوّرات وتصريحات، تدفع إلى الاعتقاد بأنّه أراد إرسال إشارات تصعيدية إلى داعمي كييف الأوروبيين، مستبقاً الهجوم الأوكراني المعاكس، الذي كثر الحديث عن وقوعه الوشيك. أعلنت موسكو، في 23 مايو/ أيار، عن تصدّيها لهجوم في منطقة بيلغورود الروسية المحاذية للحدود الأوكرانية، شاركت فيه طائرات مسيّرة أوكرانية. وقالت وسائل إعلام غربية إنها “من أكبر الغارات عبر الحدود منذ غزو روسيا أوكرانيا في العام الماضي”، وقد توعّد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بـ”ردٍّ قاسٍ” على التوغلات عبر الحدود.

نفت أوكرانيا مسؤوليتها عن الهجوم، وفق تصريحات نائبة وزير الدفاع الأوكراني هانا ماليار، التي قالت “هؤلاء مواطنون روس ويريدون تغيير النظام السياسي في البلاد”. وكانت مجموعة مقاتلة روسية، تسمّي نفسها “فيلق تحرير روسيا”، قد أعلنت يوم الهجوم، عبر “تويتر”، أنها سيطرت على قرية حدودية، وستواصل التقدّم شرقاً والقتال لتحرير منطقة بيلغورود. في اليوم التالي، نشرت جماعة روسية أخرى، تُدعى “فيلق المتطوعين”، تسجيلاً مصوّراً، يُظهر مقاتليها في أثناء تحرّكهم باتجاه نقطة تفتيش، وقالت إنها لا تزال تسيطر على “قطعة صغيرة من وطننا”.

نشرت روسيا صوراً لعربات عسكرية أميركية الصنع من طراز هامفي، قالت إنّها استُخدمت في الهجوم الذي أسفر عن مقتل عشرات المقاتلين الأوكرانيين. علّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر بأنّ الولايات المتحدة أوضحت للأوكرانيين أنّها لا تدعم الهجمات خارج الحدود الأوكرانية، لكنّه أضاف أن من المهم تذكير العالم “بأنّ روسيا هي التي شنّت هذه الحرب، لذا فإنّ الأمر متروك لأوكرانيا لتقرّر كيفية تنفيذ عملياتها العسكرية”.

بصرف النظر عن النفي الرسمي، يصعب وقوع تطوّر على هذا المستوى من دون تنسيق مع جيش أوكرانيا أو مخابراتها، بل إنّ عملياتٍ كهذه قد تكون جزءاً من الخطوات التمهيدية للهجوم الأوكراني المضاد. وقد أعلن وزير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني أوليسكي دانيلوف، في مقابلة مع بي بي سي، نُشرت في 27 مايو/ أيار ووُصِفَت بـ”النادرة”، استعدادَ بلاده لشنّ هجومها المضادّ “الذي طال انتظاره ضد القوات الروسية”، وأنّ “الهجوم لاستعادة الأراضي من قوات الاحتلال التابعة للرئيس فلاديمير بوتين يمكن أن يبدأ غدا أو بعد غد أو بعد أسبوع”. في اليوم نفسه، نشرت “بي بي سي” مقابلة مع السفير الروسي في لندن أندريه كيلين، قال فيها إن طول الصراع “يعتمد على جهود تصعيد الحرب التي تقوم بها دول حلف الناتو وخصوصا بريطانيا”، وحذّر من أنّ التصعيد قد يأخذ “بعداً جديداً لسنا بحاجة إليه ولا نريده”، مؤكّداً أن بلاده “لم تبدأ التصرّف بجدّية كبيرة بعد”.

أمّا وقد وصلت مسيّرات أوكرانية إلى سماء موسكو نفسها، واستهدفت بعض أحيائها، فإنّ المعطيات جميعها تعِدُ بصيف لاهب سيشعل جبهات القتال كافّة، مع احتمالاتٍ متزايدة بأن تمتدّ العمليات إلى ما وراء الحدود، لتصبح أراضي روسيا جزءاً من ميدان المعركة. وفي المحصلة، ستستمرّ المأساة الإنسانية والنتائج الكارثية التي سببّتها هذه الحرب القذرة، فيما شركات السلاح تمدّ زبائنها بمزيدٍ من وسائل الموت، لتُضاعف أرباحها على حساب شعوب العالم.

العربي الجديد

—————————

صيف أوكرانيا يترقّب المنتصر/ بيار عقيقي

أظهر تفجير نوفا كاخوفكا في أوكرانيا، الثلاثاء الماضي، أمراً يكاد يغيب عن الواجهة: روسيا وأوكرانيا ليستا في وارد الاستسلام، في واحدةٍ من أشرس الحروب بين بلدين منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). سيمرّ وقت طويل قبل تبيان حقيقة من يقف خلف التفجير. إذا كانت موسكو، فإنها قد وجّهت تحذيراً غير مباشر: السدّ أولاً، ثم محطّة زابوريجيا للطاقة النووية ثانياً، والسلاح النووي ثالثاً. أما في حال كانت أوكرانيا هي التي ارتكبت التفجير، فقد أكّدت على ثلاثية جوهرية لعنوان معركتها: لا أحد سيمنعها من مواصلة عملية تحرير كل أراضيها بما فيها شبه جزيرة القرم، ولن تقبل بالحضور إلى أيّ مفاوضاتٍ قبل استكمال التحرير، ومستعدّة لاستخدام كل ما يلزم لتحقيق ما تصبو إليه.

قد يكون جنوناً بالنسبة لمن لا يعرف سليلي العرق السلافي بكل تشعّباته، لكنه ليس جنوناً ولا وهماً لهم. كانت باخموت نموذجاً دموياً عن دولتين دفعتا جنودهما إلى ساحة قتال، الحياة فيها موت. صحيحٌ أن البادئ أظلم، وهو روسيا في هذه الحالة، إلا أن الشراسة التي تتبدّى دائماً في “حروب الإخوة”، تغذّيها عصبياتٌ لا ترحم من التشابكات العقائدية والعرقية والمجتمعية.

بات تفجير السدّ “من التاريخ”. تفاصيل المعارك المقبلة تُبنى عليه. المفارقة أن تاريخ التفجير، في 6 يونيو/ حزيران الحالي، قريبٌ من تواريخ سابقة بدّلت من وجه العالم. إنزال النورماندي في فرنسا، تمّ في 6 يونيو 1944، وأدّى نجاحه إلى اندحار الجيش الألماني النازي، وسقوطه لاحقاً في برلين. بين 5 و10 يونيو 1967، اجتاح الإسرائيليون سيناء المصرية والجولان السوري وشرق الأردن والأراضي الفلسطينية. أفضت تداعيات هذا الاحتلال إلى تغيّر الواقع السياسي في الشرق الأوسط. 6 يونيو 1982، اجتاح الإسرائيليون بيروت، ليتغيّر وجه لبنان ومساره. تفجير سدّ نوفا كاخوفكا سيدفع الأمور إلى تبدّل في الغزو الروسي لأوكرانيا.

قبل التفجير وبعده، لاذ الأوكرانيون بالصمت حيال ما إذا بدأوا فعلاً بالهجوم المضادّ المنتظر أم ليس بعد. تحدّث الروس بالعكس، مشيرين إلى أن الهجوم بدأ منذ الأحد الماضي. ويواكبون تحديثاته يومياً، سواء ببيانات وزارة الدفاع الروسية أو بإعلانات وزير الدفاع سيرغي شويغو. يتكلم الأميركيون عن بدء الهجوم المضادّ، وعن خسائر أوكرانية فادحة في المعارك الأولى في زابوريجيا.

بغضّ النظر إنْ كان انتظار إعلان رسمي من السلطات الأوكرانية عن بدء الهجمات أم لا ملحًّا، إلا أن تفجير السدّ سيُنهي جموداً طال منذ الخريف الماضي تقريباً، عدا مدينتي باخموت وسوليدار في الشرق. ستتسارع الحركة في المرحلة المقبلة، وفقد الجيش الروسي عملياً زخمه بعد الأيام الأولى للغزو، الذي بدأ في 24 فبراير/ شباط 2022. وما المشاركة المتنامية لـ”فاغنر” و”قوات أحمد” الشيشانية إلا تأكيدٌ على تراجع حافز القوات الروسية. في المقابل، يحتاج الزخم الأوكراني إلى أكثر مما فعله في خاركيف وخيرسون في أواخر الصيف الماضي. لا يتعلق الأمر بصواريخ بعيدة المدى أو مقاتلات أميركية، بل بواقع ما إذا كان الجيش والقيادة السياسية قادريْن على إلهاب الحماسة لدى الجنود والشعب، للقيام بهجوم واسع.

مع ذلك، رسائل تفجير السدّ كفيلة بالإيحاء بأن ما سبق من معارك في أوكرانيا سيكون نزهة مقارنة مع ما هو آتٍ. ولعل ذلك ما دفع إلى ظهور مؤشّرات على احتمال إرسال قوات من حلف شمال الأطلسي إلى الأراضي الأوكرانية. الأمر مستبعدٌ اليوم، لكنه سيحصل غداً. تكفي متابعة تدرّج المواقف الألمانية والفرنسية والأميركية في شأن دعم أوكرانيا منذ اندلاع الحرب، لإدراك أن انتشار قوات أطلسية في قلب أوكرانيا ليس خيالاً.

الصيف الآتي في أوكرانيا سيكون الأقسى على كييف وموسكو، منذ دُقّ النفير عند اجتياح القوات النازية الشرق الأوروبي في أربعينيات القرن الماضي. وبعد ذلك، تبدأ ملامح المنتصر بالبروز.

العربي الجديد

————————-

إنقاذ روسيا والعالم/ غسان شربل

روسيا القوية في مأزق. تشبه ملاكماً كبيراً اختار منازلة ملاكم أصغر منه ويتعذّر عليه إنهاء الجولة وإعلان انتصاره. والغرب في مأزق. انتصار روسيا أكبر من قدرته على الاحتمال. وإلحاق الهزيمة بروسيا أكبر من قدرة العالم على الاحتمال. روسيا المهزومة في أوكرانيا أخطر من روسيا المنتصرة فيها. هزيمة بوتين قد تدفعه إلى توسيع الحرب أو تقريب شفتي العالم من كأس مواجهة نووية. وأحياناً عليك إنقاذ خصمك بعد منعه من الانتصار والاحتفال.

استوقفتني عبارات سمعتها من رجل يعرف اللعبة الدولية واللاعبين. قال إن أميركا إمبراطورية هائلة ومع ذلك يمكن أن يديرها رجل عادي أو رجل ضعيف. رجل مزاجي أو رجل متعثر. يمكنها أيضاً أن تخسر حرباً. تشكل لجنة تحقيق وتستنتج أنَّ عليها تغيير الأحصنة. رئيس جديد وإدارة جديدة وربما أكثرية جديدة في الكونغرس. لديها مؤسسات تساعدها على استيعاب الزلازل والصدمات.

المؤسسة في أميركا أقوى من الرجل. تمنحه صلاحيات واسعة لكنّها تردعه إذا جازف وخسر أو أخلَّ بالقواعد الأساسية. روسيا قصة أخرى. لا تستطيع الشعور بالحد الضروري من الطمأنينة إلا في ظل رجل قوي. الرجل الضعيف يشعرها بأنَّها محاصرة ومهددة. وأنها تقف أمام منعطف صعب كل الخيارات فيه مكلفة. الرجل القوي يعفيها من القلق. من خوفها من الآخرين ومن القوى الكامنة داخل خريطتها. تجربة الاتحاد السوفياتي غنية بالعبر. روسيا قارة تنام على تنوع عرقي وديني وثقافي. استقرارها ضروري لأمن أوروبا وللتوازنات الآسيوية والدولية. لهذا السبب يجب مساعدة روسيا على الخروج من المأزق الأوكراني.

سيكون الأمر بالغ الخطورة إذا رأينا في الشهور المقبلة طائرات غربية متطورة تقاتل في الأجواء الأوكرانية طائرات روسية. لا يستطيع أحد ضمان ضبط حدود النزاع إلى ما لا نهاية. ثم إن العالم الحالي لا يستطيع احتمال تحول الحرب الروسية في أوكرانيا إلى حرب مفتوحة تمتد على مدى سنوات. مأزق الحرب الحالية عميق. لا يستطيع الغرب الموافقة على تقديم هدية لروسيا يمكن أن تعتبر انتصاراً واضحاً لها. روسيا بوتين لا تستطيع هي الأخرى العودة مهزومة من رحلتها الأوكرانية المكلفة. هزيمة سيد الكرملين قد تهدد الاتحاد الروسي نفسه.

الانتصار بالضربة القاضية متعذر في الحرب الروسية الأوكرانية. تتصرف أوكرانيا على قاعدة أن لا خيار أمامها غير مقاومة الغزو الروسي حتى لو بدا أنها تقوم بمهمة شبه انتحارية نظراً لحجم الخسائر البشرية والاقتصادية التي تتكبدها. حتى لو فشل الهجوم المضاد الحالي فإن أوكرانيا لن تميل إلى رفع راية الاستسلام. ستسعى إلى الحصول على مزيد من الدعم الغربي، وستعد مواطنيها بهجوم مضاد جديد ستشنه لاحقاً. روسيا ليست قادرة على حسم الحرب بالضربة القاضية، لكنها قادرة على احتمال تكاليف حرب طويلة. هذا لا يلغي حقيقة أن روسيا التي هزت المعادلات الدولية عبر الحرب الأوكرانية أضعفت موقعها في نادي الأقوياء.

لا خيار أمام أوكرانيا غير الاستمرار في الحرب. يمكن قول الشيء نفسه عن روسيا. لكن استمرار الحرب محفوف بأخطار كثيرة على الدول القريبة لجهة القلق من تطاير الشرارات، وكذلك على الدول البعيدة التي تدفع باهظاً ثمن انعكاسات الحرب على فاتورة الطاقة والحبوب. لا يستطيع العالم أن يحتمل سنوات إضافية من الحرب.

لا بد من تبلور إرادة جدية بوقف الحرب. لا بد من تقدم الصين إلى دور إنقاذي من هذا النوع، خصوصاً إذا دخلت أوروبا في مزاج البحث عن حل، واعتبرت أميركا أن روسيا لم تحصل على مكافأة نتيجة «عدوانها». ليست هناك نزاعات لا يمكن حلها أو وضعها على طريق الحل. الشعور باستحالة الضربة القاضية يجب ألا يؤسس لحرب بلا نهاية. يجب أن يفتح الباب لبلورة صيغة على قاعدة شبه انتصار وشبه هزيمة. توزيع عادل للمكاسب الصغيرة والخيبات الكبيرة. يمكن التفكير في موقع أوكرانيا المقبل على قاعدة الحياد والضمانات الصارمة إذا كانت روسيا مستعدة لدفع ثمن ما للخروج من هذا النزاع.

هل غيرت الإقامة الطويلة في مركز القرار قناعات بوتين؟ يقول بعض الذين عرفوه إنه أرسل في السنوات الأولى من هذا القرن رسائل إيجابية باتجاه الغرب. وإنه كان مستعداً لإدماج بلاده في القواعد التي كانت تحكم العالم ومؤسساته الدولية. وإنه كان مستعداً لإقامة علاقة متوازنة أو شبه متوازنة مع أميركا وعلاقات طبيعية وقوية مع أوروبا. ويلاحظون أنه اكتشف أن الغرب لم يغفر لبلاده رحلتها السوفياتية وما زال يتعامل معها كخطر لا بد من احتوائه. ويؤكدون أن مسارعة الدول التي كانت جزءاً من الإمبراطورية السوفياتية إلى إلقاء نفسها في حضن الاتحاد الأوروبي أو حلف «الناتو» جددت لديه المخاوف الروسية القديمة. لهذا راح يعتبر أن على بلاده أن تصنع أمنها وحدود دورها بتطويع الخرائط المجاورة لها. وصل الأمر به حد الاعتقاد أن عليه أن يقود انقلاباً كبيراً على العالم الذي ولد من الركام السوفياتي. في هذا السياق، يضعون قراره باستعادة القرم. وتدخله العسكري في سوريا. ورغبته في الانتقام من تدخل الأطلسي في صربيا وكوسوفو وموجة «الثورات الملونة» التي اقتربت من حدود روسيا نفسها.

تستطيع أميركا العيش في ظل رجل ضعيف لكن روسيا لا تستطيع. سيدفع العالم ثمن انتصار بوتين وسيدفع أكثر ثمن هزيمته. هل يساهم تعثر الهجوم الأوكراني المضاد، في حال حصوله، في هبوب رياح الواقعية على مراكز القرار في الغرب فتبدأ رحلة البحث عن حل على قاعدة شبه هزيمة وشبه انتصار؟ هل حانت ساعة البحث عن إنقاذ روسيا والعالم؟ وهل يشعر الكرملين بأنه يحتاج إلى من يساعده على الخروج من الاستنزاف المكلف في أوكرانيا؟ واضح أن بوتين أخطأ في التقدير حين اتخذ قرار الحرب. سيد التقارير خدعته التقارير.

الشرق الأوسط

———————-

حرب المسيَّرات بين موسكو وكييف/ بشير البكر

أظهرت روسيا عدم كفاءة في مواجهة هجمات المسيَّرات الأوكرانية على موسكو، بينما صارت الغارات تتكرر في أوقات متقاربة، وتفرض معادلة جديدة في الحرب، لم تكن القيادة الروسية قد وضعتها في الحساب.

هناك عدة عناصر مهمة، برزت في هذا السياق. الأول قصر المسافة الزمنية بين هجوم أوكراني وآخر، التي بدأت تضيق منذ تاريخ أول محاولة في الأسبوع الأول من الشهر الماضي باستهداف مبنى الكرملين. وأنكرت كييف قيامها به، ولكن صحيفة “نيويورك تايمز”، كشفت الأسبوع الماضي مسؤولية أوكرانيا.

والعنصر الثاني تزايد عدد المسيَّرات المهاجمة، وفي الوقت الذي اقتصرت فيه الهجمات الأولى على ثلاث مسيَّرات، تبين أن قرابة 30 مسيَّرة شاركت في الهجوم الأخير في 30 مايو/ أيار الماضي. واستيقظت موسكو على مشاهد وأصوات الحرب والانفجارات القوية، وتصاعد أعمدة الدخان، لأول مرة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، وتعرّضت المناطق المدنية في موسكو لثلاث هجمات بالمسيَّرات خلال 24 ساعة.

ثماني مسيَّرات على الأقل استهدفت العاصمة موسكو، وسبّبت إخلاء السكان من ثلاثة مبانٍ على الأقل. واستهدفت المسيَّرات حيّ روبليوفكا الفاخر، الذي تسكنه النخبة الروسية، بما في ذلك الرئيس فلاديمير بوتين.

وبحسب وزارة الدفاع الروسية، فقد تم تحييد أو إسقاط ثماني طائرات قبل أن تصل إلى هدفها، لكن بعض الحطام سقط على المنازل. وقال عمدة موسكو سيرغي سوبيانين، إن شخصين أصيبا بجروح طفيفة.

ومن بين المصادر الأخرى، ذكرت قناة “بازا” على “تليغرام”، أن 25 مسيَّرة شاركت في الهجوم، وأفادت مصادر أخرى بأن العدد تجاوز 30 مسيَّرة. والعنصر الثالث هو التأكد من أن المسيَّرات من صناعة أوكرانيا، وهذا تطور مهم جداً في الحرب، التي يلعب فيها هذا السلاح دوراً أساسياً، خصوصاً على مستوى تبادل الهجمات بين العاصمتين.

وفقاً لآراء خبراء عسكريين نقلتها وسائل إعلام روسية وأوروبية وأميركية، فإن المسيَّرات من طراز “يو جاي ـ 22″، التي تنتجها شركة “أوكرجيت” الأوكرانية، و”بيفر” التي تنتجها شركة “أوكروبورونبروم”، وهي قادرة على الطيران بعيداً مع حمل القليل من المتفجرات.

والعنصر الرابع هو أنّ كييف باتت تمسك بورقة مهمة وثمينة، وهي إمكانية إلحاق الأذى بالمدن الروسية، وخصوصاً العاصمة موسكو، وما دامت قد تمكنت من الاقتراب من جدران الكرملين، فهي قادرة على الوصول إلى أي هدف آخر. ومن المعروف أن الكرملين يُعَدّ أكثر منطقة في روسيا تتمتع بالحماية الجوية، وتتوزع حول موسكو منظومات دفاعية أبرزها “أس 400″، التي يصفها خبراء عسكريون بأنها من بين الأفضل ضمن منظومات الدفاع الجوي. وهي نظام متنقل للدفاع الجوي قادر على كشف الأهداف الجوية على بعد 400 كيلومتر، والتصدي لـ80 هدفاً منها في وقت واحد من طريق توجيه صاروخين أرض جو لكل هدف.

رموز السيادة الروسية مهددة

اختراق الحواجز الأمنية المخصصة للدفاع عن الكرملين والساحة الحمراء، التي تشهد الاحتفالات الرسمية، يعني أن النيران الأوكرانية يمكن أن تضرب القصر الرئاسي أو أي مقر حكومي آخر، ما يهدد رموز السيادة الروسية ككل. وكان وصول طائرتين مسيَّرتين أوكرانيتين إلى مبنى الكرملين في 3 مايو الماضي حدثاً خطيراً بحد ذاته. صحيح أن روسيا أسقطتهما، إلا أنهما تجاوزتا عدة خطوط دفاعية منصوبة لحماية مقر الرئاسة، كذلك فإن حطامهما وقع داخل مبنى الكرملين.

عموماً تضرب روسيا طوقاً أرضاً وجواً وبحراً، وحتى في العالم الافتراضي، يقيها أي هجمات معادية، ما يفرض هذا التساؤل: كيف تجاوزت مسيّرات هذا الطوق ووصلت إلى قلب روسيا ومركز قرارها؟ هجوم 30 مايو أوصل الموقف إلى نقطة حرجة جداً، وهذا ما استدعى أن يعلق عليه الرئيس الروسي بنفسه، بعد أن استنكف منذ أسابيع عدة عن الخوض في مجريات الحرب، التي لم تحقق أهدافها ضمن المهلة المحددة.

وباعتبار أن الوضع وصل إلى درجة عالية من الخطورة حسب وسائل إعلام أجنبية، وأثار ردود فعل في الشارع الروسي، تدخّل بوتين لطمأنة شعبه، من خلال التقليل من حجم الهجوم وتأثيره، الذي قال عنه إنه ليس حدثاً. وضرب على وتر المخاوف التي بدأ يعيشها الروس، مشدداً على أن أنظمة الدفاع الجوي التي تم تركيبها في العاصمة تعمل “بشكل طبيعي ومرضٍ”، وذهب إلى حد مقارنة الحادث بالهجمات التي تعرض لها الجيش الروسي في عامي 2018 و2019 على قاعدة حميميم الجوية بسورية.

والملاحظ أن بوتين اتهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالسعي لـ”ترويع روسيا” بـ”الأساليب الإرهابية”، زاعماً أن موسكو تكتفي بضرب أوكرانيا “فقط لاستهداف الجنود بدقة عالية”. وأضاف أن هجمات المسيرات كانت “بوضوح علامة على نشاط إرهابي”.

مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخايلو بودولياك وضع الهجوم في سياق آخر، عندما أعلن أن “الحرب داخل الأراضي الروسية بدأت بالفعل”. وكان قد سبقه إلى ذلك مؤسس “فاغنر” يفغيني بريغوجين، الذي اعتبر أنّ الغارة على الكرملين بداية الهجوم الأوكراني. إلا أن بودولياك نفى تورط أوكرانيا. ومع ذلك، فقد توقع “زيادة في عدد الهجمات”.

ومن المرجح أن كييف شرعت بحملة تهدف إلى إثارة الخوف، وتقويض الجيش الروسي قبل هجوم مضاد متوقع خلال وقت قريب. الولايات المتحدة التي تسلح أوكرانيا، ترفض مثل الدول الأخرى السماح باستخدام المعدات التي تقدمها إلى كييف على الأراضي الروسية، وأعلنت مرة أخرى أنها “لا تدعم الهجمات داخل روسيا”.

رد الفعل الدولي الوحيد المؤيد للهجمات جاء على لسان وزير خارجية بريطانيا جيمس كليفرلي، الذي وضع الهجمات الأوكرانية في سياق الدفاع عن النفس، وقال إن أوكرانيا لها “الحق المشروع” في الدفاع عن نفسها، ويمكنها “عرض القوة” خارج حدودها، لتقويض قدرة روسيا على نشر القوة في أوكرانيا نفسها.

الحرب تعود إلى روسيا

الحرب بدأت بالعودة الى روسيا، هذا أبرز تعليق تناولته وسائل الإعلام الأجنبية، وهو تقدير لا يبتعد كثيراً عن مشاعر الروس، التي خلفتها الهجمات الأوكرانية على موسكو، بعد أن ألحقت أضراراً ببعض المباني، وأجبرت السكان على إخلاء منازلهم. وبالإضافة إلى المسيَّرات، شنّت مجموعة مسلحة روسية مناهضة لبوتين هجوماً على منطقة بيلغورود الروسية الحدودية مع أوكرانيا. وكتب المحلل السياسي الروسي عباس غالياموف، كاتب خطابات بوتين السابق، على “تليغرام”: “الغارة على موسكو عدلت إلى حد ما الوضع بين العاصمة وبيلغورود… لن يشعر سكان هذه الأخيرة بالإهانة الشديدة الآن، ولن يهتم سكان الأولى بدرجة أقل”.

يبدو أن أحد أهداف الهجوم، تحريك الشارع الروسي. ففي حديث للتلفزيون الأوكراني، قال عمدة كييف فيتالي كليتشكو، إنه يشعر بالقلق من الطريقة التي “يرتاح” بها الناس في موسكو، بينما تتعامل القوات الروسية بوحشية مع كييف. وهذا التصريح يوجه رسالة ذات بعدين: الأول دعوة المواطنين الروس للتحرك ضد الحرب. والثاني أن أوكرانيا قادرة على إلحاق أذى بالمدنيين الروس، رداً على ما يلقاه المدنيون الأوكرانيون.

وكان لافتاً أن بريغوجين تهجم في بيان صوتي مليء بالشتائم على قنواته على مواقع التواصل الاجتماعي، خص به وزارة الدفاع الروسية، ووجه توبيخاً علنياً للنخبة الحاكمة، التي حذرها من أنها لن تخسر الحرب فحسب، بل تقود الأمة أيضاً نحو ثورة مماثلة للثورة البولشفية في عام 1917.

والجدير ذكره أن استطلاعات الرأي داخل روسيا تؤكد أن الحرب تحظى بتأييد 75 في المائة من الروس، ولكن نسبة 25 في المائة غير مؤيدة فعلاً، وهي غير مكترثة، حتى إنها اعتبرت هجوم المسيَّرات على الكرملين أمراً يخص بوتين وحده. وإذا ما اتسع نطاق الهجمات في الفترة المقبلة، فإن هذه النسبة لن تبقى على موقفها، ومن المرجح أن تلتحق بها فئات أخرى، لم تتأثر حتى الآن بالعقوبات والخسائر البشرية الكبيرة على جبهات القتال.

وهناك بُعد آخر، هو أن الهجمات هي رسالة مساومة، فإذا توقفت موسكو عن شن هجمات بالمسيَّرات على مدينة كييف، فإن أوكرانيا ستتوقف عن الرد بالمثل، وتمتنع عن مهاجمة موسكو. الهجمات الروسية على كييف تحدث بانتظام، منذ أن بدأت روسيا باستهداف البنية التحتية المدنية بضربات جوية جماعية في الخريف الماضي.

حتى الآن يبدو أن بوتين ليس في وارد التوصل إلى أي نوع من التفاهمات في الحرب، وكان الرد بمزيد من القصف التدميري في الأماكن كافة، خصوصاً المراكز الحيوية، مثل ميناء أوديسا الذي ضُرب في اليوم الثاني للهجوم الأوكراني على موسكو. مهاجمة موسكو بواسطة مسيَّرات أوكرانية ليس تطوراً عادياً في الحرب، هو رسالة مهمة من قبل حلفاء أوكرانيا، فحواها أن النار لن تتأخر في الوصول إلى الداخل الروسي.

العربي الجديد

———————————–

أوكرانيا: «الإبادة البيئية» كبديل عن القصف النووي؟

رأي القدس

في الثانية صباحا من يوم أول أمس الثلاثاء تم تفجير محطة الطاقة الهيدروليكية لسدّ كاخوفكا في منطقة واقعة تحت السيطرة الروسية، غير أن عمدة البلدة صرّح في السادسة صباحا إنه ليس هناك تفجير وأنه لا يعرف لماذا تفيض المياه، وبعدها صرّحت جهة تابعة للمخابرات الروسية أن منطقة صغيرة من السد تم تدميرها مما اضطر عمدة المنطقة لتعديل تصريحاته والقول إن ما حصل ليس تفجيرا ولكنه كان بسبب قصف أوكراني.

تفاعل ناشطون على وسائط التواصل المرتبطة بالجيش الروسي مع الأمر معتبرين أن الفيضان أضعف مواقع القوات الأوكرانية، وأن تلك القوات بدأت بإخلاء عناصرها والانسحاب، وأن القوات الروسية بدأت بقصف القوات المتراجعة، لكن الآلة الإعلامية الروسية بدأت بملاحظة أن ما حصل هو كارثة بيئية بمقاييس كبرى، وبدأوا بتعديل التصريحات بشكل دراماتيكي، متهمين الطرف الأوكراني بالتحريض ضد الكرملين وبأن السد سقط لوحده، وبعد ذلك توحدت الآراء الروسية خلف فكرة أن ما حصل هو تخريب أوكراني لسد أوكراني مع اتفاق أغلب الآراء، بما فيها تصريحات مسؤولين روس، بأن ذلك سيكون في غير صالح القوات الأوكرانية.

وصف الرئيس فولوديمير زيلينسكي ما حصل بـ«جريمة الحرب» ورجّح وزير خارجيته أنه «سيتسبب في أكبر كارثة تقنية في أوروبا منذ عقود ويعرض حياة آلاف المدنيين للخطر» ورد عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واصفا ما حصل بـ«عمل همجي» ارتكبته كييف.

على المستوى الإنساني، فقد أثر تخريب السدّ على قرابة 40 ألف شخص يسكنون في المناطق القريبة منه، وأدى ذلك إلى إجلاء آلاف المدنيين من تلك المناطق، سواء منها الواقعة تحت السيطرة الروسية أو الأوكرانية، فعلى الجانب الروسي قالت السلطات إنها أجلت 1272 شخصا، فيما قامت أوكرانيا بإجلاء 1700 وستضطر لإجلاء أكثر من 17 ألفا آخرين، كما غادر عدد غير معروف من المدنيين المناطق المغمورة بمفردهم.

يقع السدّ على نهر دنيبرو، وهو الحاجز الجغرافي الكبير الذي يفصل بين القوات الأوكرانية والروسية، وقد أدى تخريب السدّ، وأثر الفيضان على البنى التحتية، وغمرها المناطق، على الجانبين، بالماء، إلى صعوبات تقنية كبيرة تعترض خطط الهجوم الأوكراني المضاد الذي كان متوقعا، لكنّه أثّر أيضا على المواقع التي يحتلها الجيش الروسي والموالون له في المناطق المتضررة من الطرف الآخر من النهر، ودفعها إلى إخلاء مواقعها، كما أن التفجير أثّر على قناة توفّر المياه لشبه جزيرة القرم التي يسيطر عليها الروس، كما أن مياه النهر توفّر المياه لتبريد محطة زاباروجيا النووية التي تسيطر عليها القوات الروسية، وهو ما يعني أن التخريب أثّر على قدرات الطرفين في الهجوم والدفاع، كما أنه خلق مخاطر كبيرة على سكان وقوات شبه جزيرة القرم، وعلى المحطة النووية.

في الحسابات الدبلوماسية، فإن هذه الواقعة ستؤدي إلى مزيد من العزلة الدولية لموسكو، وهو ما يفسّر أن الاتصال الأول الذي قام به بوتين بعد الواقعة كان مع الرئيس التركي المنتخب حديثا، رجب طيب اردوغان، في محاولة لإظهار نوع من التضامن الإقليمي مع رواية روسيا للحادثة، من خارج دائرة الموالين المقربين للكرملين، مثل بيلاروسيا أو سوريا.

تحضر في الواقعة عناصر الدمار الفظيعة التي تكتنف الحروب، من تجاهل معاناة المدنيين، إلى تخريب البنى التحتية الخطيرة الأثر، كما أنها تشير، بشكل أو آخر، إلى أخطار انفلات الطاقة النووية التي هدّدت روسيا، أكثر من مرة، باستخدامها، أو بتأمين حيازتها، كسلاح رادع، لمن يلتحق بركبها من الدول.

أحد مؤرخي الثقافة والتاريخ الروسي اعتبر ما حصل إشارة إلى أن لدى روسيا الكثير من الطرق لتدمير أوكرانيا والأوكرانيين من دون استخدام الأسلحة النووية، لكن ربما تكون الخلاصة أن ما جرى هو طور جديد من الحرب الأوكرانية، وأنه لا يلغي، بالضرورة، الاحتمالات «القيامية» لاستخدام أشكال أخرى من التدمير الشامل لم يتم وضعها في الخدمة بعد.

القدس العربي

———————-

هجوم أوكرانيا المضاد: برميل بارود في حاضنة نووية

رأي القدس

قالت وزارة الدفاع الروسية إن القوات الأوكرانية بدأت عملية عسكرية كبيرة في منطقة دونيتسك على الجبهة الشرقية من معارك تدخل شهرها الـ16 منذ الاجتياح الروسي لمناطق واسعة من أوكرانيا، في حين أوصى بالصمت مقطع فيديو نشرته وزارة الدفاع الأوكرانية في إشارة إلى اعتماد التكتم على تفاصيل الأعمال القتالية.

وليس من الواضح حتى الساعة ما إذا كانت العملية التي تشير إليها المصادر الروسية هي المرحلة الأولى من الهجوم المضاد الشهير الذي لوّحت به أوكرانيا مراراً، وتضاربت التقديرات حول السيناريوهات التي سيتخذها والمناطق التي سوف يستهدف إرجاعها من قبضة الاحتلال الروسي. وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد أبلغ صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية بأن بلاده «جاهزة للقيام بهجوم مضاد» وتجنّب الإفصاح عن زمن العمليات أو نطاقها الميداني، لكنه ألحّ على حاجة كييف إلى مزيد من الأسلحة وخاصة منظومات الدفاع الجوي «باتريوت».

من جانبه أعرب مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان عن اليقين بأن الهجوم المضاد الذي تعتزم أوكرانيا الشروع فيه سيسفر عن استعادة مناطق هامة استراتيجياً، مشدداً على أن واشنطن سوف تساعد كييف على «تحقيق أكبر مقدار ممكن من التقدم في ساحة المعركة» بما يتيح لأوكرانيا فرصة أفضل على طاولة مفاوضات السلام المقبلة. وفي فنلندا، التي انضمت حديثاً إلى الحلف الأطلسي، أسهم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في ترجيح خيار الهجوم المضاد حين اعتبر أن أي وقف لإطلاق النار لن يكون مناسباً لأوكرانيا، وتعزيز كييف عسكرياً هو المدخل الوحيد نحو «سلام حقيقي».

وإذا كانت البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع الروسية تؤكد صد الهجوم الأوكراني المضاد في 5 قطاعات جنوب دونيتسك ضمن مقاطعة دونباس، فإن تصريحات يفغيني بريغوجين قائد مرتزقة «فاغنر» التي تقاتل في مدينة باخموت لا تعكس الكثير من علائم التفوق العسكري الروسي، بل تحذر من مخاطر تقدم القوات الأوكرانية ضمن اتجاهات عديدة في وقت واحد لقطع التواصل مع دونيتسك ولوغانسك المواليتين لموسكو. هذا إلى جانب التخبط الذي يعكسه التراشق اللفظي والإهانات بين بريغوجين وكل من سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي وفاليري غيراسيموف قائد القوات الروسية المشتركة في أوكرانيا.

وقد تسير هذه العناصر في صالح الهجوم المزعوم الذي يُنسب اليوم إلى الجيش الأوكراني، خاصة إذا وُضعت أيضاً في سياقات أعرض ذات صلة بالتعثر الواضح الذي باتت تتسم به المغامرة العسكرية الروسية في أوكرانيا من جهة أولى، واستمرار الدعم الأمريكي والأوروبي والأطلسي لأوكرانيا على أصعدة عديدة تشمل تدفق الأسلحة والمساعدات المادية واللوجستية والاستخباراتية من جهة ثانية.

ولكن من الصحيح كذلك أن المدنيين في سائر المناطق الأوكرانية هم أول الضحايا وأكثر من يدفع الأثمان الباهظة جراء هذه الحرب المستعرة، خاصة إذا تذرع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالهجوم الأوكراني المضاد فأدخل المزيد من الأسلحة الأكثر فتكاً وتدميراً، أو أسفر الاحتكاك مع الجوار إلى إشعال حرائق إضافية في منطقة صارت أقرب إلى برميل بارود في حاضنة نووية.

——————————–

كسر الهيبة الروسية/ أسامة أبو ارشيد

لا تحتاج روسيا إلى هزيمة عسكرية مدوِّية في أوكرانيا حتى تهتزّ مكانتها قوة عالمية كبرى، فما جرى على مدى الستة عشر شهراً الماضية، منذ غزوها ذلك البلد، أطاح سمعتها وضعضع منزلتها وبيئتها الاستراتيجية. ومن المفارقات الكاشفة الفاضحة للقوّة الروسية أن تكون مدينة صغيرة في شرق أوكرانيا، هي باخموت، التي لا تتجاوز مساحتها 42 كيلومتراً مربعاً، ببضعة آلاف من السكان بقوا فيها، عنوان الانتصار الأبرز بعد تسعة أشهر من معارك ضارية تكبّدت خلالها موسكو خسائر هائلة. بل، ما كان لروسيا أن تحسم معركة باخموت لولا مرتزقة مجموعة فاغنر التي لا يكفّ زعيمها، يفغيني بريغوجين عن توجيه أشدِّ الاتهامات وأقذعها للمؤسسة العسكرية الروسية واتهامها بالفشل. أما الأكثر إيلاماً وإهانة فهو نقل الأوكرانيين المعركة إلى داخل روسيا، ليس في المدن الحدودية فحسب، بل وصولاً إلى العاصمة موسكو نفسها، حيث تكرّرت هجمات بطائرات مسيّرة على بعض أحيائها، كما جرى قبل بضعة أيام، وقبل ذلك كانت هناك محاولة استهدفت قصر الكرملين، مطلع شهر مايو/ أيار الماضي.

ليس خافياً، طبعاً، أنه ما كان في مقدور أوكرانيا أن تدمي الدبَّ الروسي وتستنزفه لولا الدعم الغربي غير المحدود لها. منذ الأيام الأولى للغزو الروسي، في شهر فبراير/ شباط 2022، لم تأل الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما جهداً في محاصرة روسيا، اقتصادياً وسياسياً وجيوسياسياً، ثمَّ في مدِّ أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة الدفاعية، وصولاً إلى الهجومية. لكن روسيا يفترض فيها أنها قوّة عظمى، وأوكرانيا تقع ضمن نطاق نفوذها الاستراتيجي. وبالتالي، كان من المفهوم أن تجد نفسها في معركة استنزاف، كما حصل مع الولايات المتحدة، من قبل، في فيتنام ثمَّ في أفغانستان والعراق، وكما كان حدث مع الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. غير أن الاستنزاف في تلك الحالات كان يأتي بعد غزو ناجح بقوةٍ كاسحة، ثمَّ تجد القوات المحتلة نفسها في مستنقعات مميتة جراء المقاومة الشعبية. أما في حالة أوكرانيا، فمنذ اليوم الأول، وجدت روسيا قوّتها عارية أمام العالم، وهي عاجزة عن إدارة المعركة لوجيستياً، وهو ما أتاح للولايات المتحدة وأوروبا فرصة لا تعوّض لتسليح كييف وتنظيم صفوف قواتها، ودعمها بالمعلومات الاستخباراتية، ما جعل القوات الروسية على الأرض أهدافاً مكشوفة.

حتى السلاح النوعي الروسي، من صواريخ فرط صوتية وسفن حربية ومقاتلات نفاثة ودبابات ومدرعات وأنظمة دفاع جوي، … إلخ، انهارت سمعته. وبعد أن كانت الصين وراء روسيا في تصدير السلاح عالمياً، بدأت تزاحمها وتتقدّم عليها، رغم أن كثيراً من تكنولوجيا السلاح الصيني نسخ غير مشروعة من السلاح الروسي تمت قرصنتها أو إعادة تصنيعها. وبعد أن كانت موسكو وبكين نظيرين في تحالف استراتيجي لتحدّي الهيمنة الأميركية والغربية عالمياً، تحوّلت روسيا إلى ما يشبه حليفاً صغيراً للتنّين الصيني. ليس هذا فحسب، ها هي الصين تنافس روسيا في آسيا الوسطى، إن لم تكن في طور إزاحتها من المشهد فيها، وهو الفضاء الجيوسياسي الذي كان تحت الهيمنة السوفييتية عقودا طويلة، وكان يعدّ إلى ما قبل بضع سنوات منطقة نفوذ حيوي روسي. وفي حين كان منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) أحد أبرز الأسباب المعلنة من موسكو لغزوها، حتى لا يكون “الناتو” متاخماً حدودها الغربية، فإن فشل روسيا في هذه المعركة سمح للحلف الغربي بتوسيع نطاقه ليشمل فنلندا، وستتبعها السويد.

يدرك الكرملين المصيدة الاستراتيجية التي وقع فيها، لكنه عاجز عن الخروج منها، كما أنه عاجز عن كسرها. وبالتالي، لم يعد يملك من خياراتٍ سوى التلويح بالسلاح النووي، والذي يعني اللجوء إليه نهاية روسيا كذلك، وليس خصومها فحسب. قبل بضعة أيام، صرّح الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، بأن الحرب في أوكرانيا قد تستمرّ عشرات السنين، وقد تشهد فتراتٍ طويلة من القتال تتخلّلها هدنات. قبل ذلك هدّد ميدفيديف إن حرباً نووية قد تشتعل في حال هزيمة موسكو. وهناك من يتوقّع انهياراً لنظام الرئيس فلاديمير بوتين، وربما انقلاباً عسكرياً. طبعاً تبقى هذه كلها توقّعات، ولكن ما هو ثابت أن غزو أوكرانيا يساهم بشكل فعّال في إعادة رسم خريطة القوى العالمية، بحيث انزوت روسيا وراء الصين التي صعدت قطب رحى منافساً للولايات المتحدة، في حين تمعن الأخيرة في استنزاف موسكو وإذلالها في أوكرانيا ضمن رسائل غير مباشرة موجهة إلى بكين كي تتحسّب ألف مرّة، قبل أن تقدم على غزو جزيرة تايوان. إنه صراع جيوسياسي عالمي حقيقي وخطير، ولمَّا تُكتب فصوله النهائية بعد.

العربي الجديد

—————————–

عن تمدد الحرب الى الداخل الروسي/ بسام مقداد

أداء الجيش الروسي خلال سقوط باخموت الذي لم تعترف بنهائيته أوكرانيا حتى الساعة، على الأقل رسمياً، يشير الى أنها قد تكون المعركة الدموية الأخيرة قبل أن تتحول الحرب الأوكرانية نهائياً إلى حرب مواقع، كما هي عليه منذ أشهر. ومعركة باخموت، على الرغم من دمويتها، كانت العنوان الأبرز لحرب المواقع هذه. فالجبهة لم تتبدل جغرافيتها منذ أن بدأت المعركة في آب المنصرم، وسقوط المدينة لم يبدل جغرافية خطوط الجبهة بشكل ملحوظ. فكما صرح قائد المجموعة الأوكرانية التي دخلت منطقة بلغوراد الأسبوع الماضي، كانت مساحة المنطقة التي سيطرت عليها مجموعته ليوم كامل أكبر من مساحة باخموت. ولم يصدر عن القيادة العسكرية الروسية ما يشير إلى أنها في صدد الإعداد لمعركة كبيرة. بل هي منشغلة الآن، بالإضافة إلى تكثيف القصف على كييف والبنى التحتية الأوكرانية، بالخلاف المحتدم بعد باخموت بين سيد مرتزقة “فاغنر” يفغيني بريغوجين والجيش الروسي. ووصل الخلاف، ولأول مرة، أن نشرت مواقع بريغوجين شريط فيديو لضابط روسي محتجز لدى مرتزقته. 

تجربة الجيش الأوكراني خلال حوالي 18 شهراً من الحرب، وتمكن وحداته المقاتلة في الفترة الأخيرة من تخطي الحدود الروسية وتنفيذ عمليات داخل المناطق الروسية، وآخرها في 4 الجاري، وبلوغ مسيّراته العاصمة الروسية والكرملين، يعزز التوقع بأن الهجوم الأوكراني المضاد سيتجنب تكرار معركة باخموت في خوض المعارك الدموية الطويلة. وقد يكون إرباك الجبهة الداخلية الروسية بواسطة الهجمات المتكررة على المناطق الروسية، والتي بدا بها  الهجوم الأوكراني المضاد، قد تكون أحد الأشكال التي ستعتمدها أوكرانيا بديلاً للمعارك الدموية الطويلة

موسكو، من جانبها، والتي تشجعت بتجربة مجموعة “فاغنر” الناجحة في معركة باخموت، يبدو أنها ستتجنب أيضاً خوض المعارك الطويلة. فهي، وكما يشاع، لم تسمح بعودة المجموعة إلى مواقعها السابقة، بل ستوظف تفوقها الجوي في مواصلة قصف المدن الأوكرانية، وستعمد إلى تشكيل فصائل مشابهة لمجموعة “فاغنر” إن صح ما نشره الموقع التشيكي  Aktualni ZPRAVYفي 26 المنصرم. ومن دون أن يذكر مصادره، نشر الموقع نصاً بعنوان “” Roscosmos” شكلت الشركة العسكرية الخاصة بها  Uranus التي ستصبح تهديداً هجيناً لأوروبا”. وروسكوسموس هذه هي وكالة الفضاء الرسمية الروسية التي تتولى جميع المهمات المتعلقة بشؤون الفضاء والتعاون مع المؤسسات العالمية المشابهة. ويدخل في مهماتها تطوير السياحة على الأرض وفي الفضاء، لكن ليس تشكيل فصائل مرتزقة، على غرار “فاغنر”، بمهمات مشبوهة.

قال الموقع بأن مسؤولي مكتب ماكييف الرسمي لشؤون الصواريخ التابع لروسكوسموس أخذوا يتلقون أخيراً “إقتراحات” بتوسيع صفوف فصيل “أورانوس”، وإلا فهم مهددون بالطرد. وتقتضي خطة تشكيل الفصيل على تجنيد 400 مرتزقاً يوقعون عقداً مع وزارة الدفاع الروسية. وحسب الموقع، بعد التدريبات القتالية الضرورية، سوف يُستخدم المرتزقة في أوكرانيا، وقد يكون في بلدان الإتحاد الأوروبي أيضاً. ويرى أن روسيا تصعد من تهديداتها لأوكرانيا والإتحاد الأوروبي، حيث تضيف إلى إبتزازها النووي التقليدي وعمليات قصف محطة زاباروجيه النووية لتوليد الكهرباء، تشكيل شركات عسكرية خاصة تقودها كبريات الشركات الرسمية. فبعد إشعال حربها على أوكرانيا، لم تبق شركة روسية رسمية واحدة بعيدة عن الإنخراط في العدوان المسلح، حسب الموقع.

ويرى الموقع التشيكي أن تشكيل كتيبة “أورانوس” على قاعدة روسكوسموس لم يكن مفاجئاً في ظل العسكرة الشاملة في روسيا. فالكتيبة تم تشكيلها رسمياُ من قبل رابطة “السيف والدرع” للمنظمات الرياضية وقدامى المحاربين، لكنها تصبح الجيش الخاص لروسكوسموس الذي يتولى تمويلها.

يقول الموقع بأن تشكيل الشركة العسكرية الخاصة في روسيا، قد ضاعف تهديد الكرملين الهجين لأوروبا.  فمجموعة مرتزقة “فاغنر” أخذت تتموضع تدريجياً في دول الاتحاد الأوروبي. وهي جزء من التهديد الروسي الهجين الذي يمكن أن يستخدمه الكرملين لزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي في أوروبا. أما مجموعة روسكوسموس “أورانوس”، فيرى الموقع أنها تأكيد آخر على التهديد الإرهابي من جانب روسيا.

يستنتج الموقع مما جاء به دون ذكر مصدر معلوماته، بأن المرتزقة الذين سيتدفقون إلى أوروبا، سيشكلون، بخبراتهم القتالية في أوكرانيا، تهديداً لم يسبق للأوروبيين أن شهدوا مثيلاً له. ويرى أن روسكوسموس تقوم بتوسيع رقعة التهديدات الهجينة لأروروبا. ولذا يقترح على الأخيرة فرض عقوبات ملموسة على الشركة الروسية التي تساعد بوتين في مواصلة حربه ضد أوكرانيا.

موقع الأسبوعية الإلكترونية الروسية holod نشر في 27 المنصرم مقابلة مطولة مع أحد مسؤولي “فيلق المتطوعين الروسي” (فصيل من الروس المقاتلين إلى جانب اوكرانيا)، والذي أعلن مسؤوليته عن إقتحام منطقة بيلغوراد الأسبوع الماضي. يقول الموقع أنه إتصل مع رئيس أركان الفيلق ألكسندر (لم يفصح عن إسمه الكامل) عبر ممثل الفيلق إيليا بوغدانوف، ونقل عنه قوله بأن مقاتلي الفيلق مستعدون لنقل العمليات القتالية إلى أراضي روسيا، وأن عملية بيلغوراد ستتكرر كثيراً في المستقبل. ويشير الموقع إلى أنه تحدث مع ألكسندر عن إسقاط نظام بوتين، العلاقة بالجيش الأوكراني، فيلق “حرية روسيا” وآفاق الهجوم الأوكراني المضاد. ويؤكد الموقع أنه لا يستطيع في ظروف الحرب تأكيد أو نفي قسم مما صرح به ألكسندر.

في الرد على سؤاله عن الهدف من إقتحام الفيلق منطقة بيلغوراد، قال ألكسندر بأنها ليست المرة الأولى ولا المدينة الأولى، وأن الآليات المصفحة التي إستخدموها في الإقتحام ليست أجنبية. وأشار إلى أن أحد أهداف الإقتحام كان يقوم في سحب قسم من القوات الروسية من الجبهة إلى المناطق المتاخمة للحدود.

الهدف الآخر للإقتحام ـــــ نقل الحرب إلى الأراضي الروسية. وقال بأن الفيلق يخطط لعمليات أوسع، وقد يقومون في المرة القادمة بإقتحام منطقة أكبر، ويحتفظون بها لمدة أطول ” أيام، أسابيع أو أشهر”. 

 وقال ألكسندر أن حرس الحدود والجمارك الروس إنسحبوا بسرعة من مركز العبور الذي هاجموه، ووصل متاخراً الطيران الروسي والدبابات والآلات المصفحة. وأشار إلى أن كل مقاتلي الفيلق وقياديه شاركوا بالإقتحام، وبلغ عددهم بضع مئات، بالإضافة إلى بعض ممثلي فيلق “حرية روسيا” (روس مناهضون للحرب يجندون أبناء الجالية الروسية في أوروبا للقتال إلى جانب اوكرانيا).

ولدى سؤاله عن تأكيد وزارة الدفاع الروسية بأن المهاجمين فقدوا 70 قتيلاً وعدداً من الآليات العسكرية، قال ألكسندر بأن عدداً من المقاتلين أصيب بجروح طفيفة ومتوسطة، لكنهم لم يفقدوا أي قتيل أو آلية عسكرية، بل أخذوا أسرى وكسبوا عدداً من الآليات. لكن موقع الأسبوعية الروسية، وبالإستناد إلى مصادر أخرى،  قال بخسارة المقتحمين قتيلين وآليات عسكرية.

أما كيف عبروا في طريقهم إلى الهدف عدداً من القرى وقاموا بعمليتهم ثم عادوا إلى مواقعهم، قال ألكسندر بأن قسماً من المقاتلين كان في مكان العملية قبل وقوعها، “ولا يزال هناك حتى الآن”، ومهمته الإستطلاع. وقال بأن مهمتهم لم تكن تقتضي البقاء والتمركز حيث نفذوا عمليتهم. وأكد بأنهم بقوا في مكان العملية “ما يكفي من الوقت”. وقال بأن مئات من الرجال بلغوا على الآليات المصفحة مركز منطقة في روسيا، وبقوا حوالي يوم هناك سيطروا خلاله على منطقة تبلغ مساحتها 43 كلم مربع “أكبر بقليل من مساحة باخموت”. “لكن القوات الروسية حاولت إحتلال باخموت حوال سنة، ولم تحتلها حتى النهاية، بينما نحن إحتلينا المنطقة في يوم واحد”.

وأكد أن المقتحمين لم يتكبدوا أي خسائر ، بل قتل مواطن روسي أثناء تمهيدهم المدفعي للعبور، وأسروا أكثر من عسكري روسي.

المدن

——————————

الوجود الروسي في سوريا: صلاحيات مطلقة حتى إشعار آخر/ يزن الشامي

الوجود الروسي في سوريا لن ينتهي قريباً، وليس مرتبطاً حقيقةً بوضع سوريا الإقليمي أو العربي، هذا ما تشير إليه الدلائل وتصريحات المسؤولين من كلا الجانبين.

ما بعد عودة سوريا إلى القمة العربية بالنسبة الى روسيا لا تختلف عما قبلها، فهي موجودة في سوريا في جميع الظروف وقبل الثورة حتى. وقد احتفت وسائل الإعلام الروسية بالعودة السورية إلى الحضن العربي، وكانت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قالت: “ترحب موسكو بقرار استئناف مشاركة سوريا في أنشطة جامعة الدول العربية”. وفي كل الأحوال، أي خطوة يقدم عليها النظام السوري تكون بموافقة روسيّة أولاً وأخيراً.

احتفاء بالأسد ومهاجمة زيلينسكي

تستغلّ روسيا علاقتها بالنظام السوري إلى الحد الأقصى، إذ استخدم الإعلام الروسي عودة الأسد لتبرير دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي غير المتوقعة إلى الجامعة العربية، فقال المحلل السياسي فلاديمير كورنيلوف لصحيفة “فزغلياد” الروسية، أنه وعندما هاجمت الولايات المتحدة والغرب كله بالإجماع جامعة الدول العربية لدعوتها بشار الأسد، وُلدت حينها فكرة “نوازن الوضع” بدعوة شخص يحبه الغرب كثيراً، وكان الشخص هو الرئيس الأوكراني. في الأحوال كافة، كان الاحتفاء ببشار الأسد في الصحافة الروسية موازياً لتفسير حضور زيلينسكي، فقالت الصحيفة ذاتها محتفية بالأسد: “يوم الجمعة هو يوم انتصار بشار الأسد، عادت سوريا إلى جامعة الدول العربية، واضطرت الدول التي استبعدتها من هناك إلى الاعتراف بالهزيمة، لكن عطلة الأسد أفسدها فلاديمير زيلينسكي، الذي سافر إلى قمة جامعة الدول العربية وتحدث هناك”.

تُعتبرعودة سوريا إلى الجامعة العربية بمثابة تعزيز لقدرات روسيا الدبلوماسية، من خلال اعتراف المجتمع العربي والدولي بأن روسيا كانت على حق، والتي دعمت الأسد منذ البداية، وبالتالي انحازت إلى الجانب الصحيح. من جهة أخرى، تدحض هذه العودة نظرية معارضي بوتين، التي تقول إن مساعدة روسيا للأسد تعني بشكل أتوماتيكي مساعدة إيران في معارضة المملكة العربية السعودية، و بعد تطبيع العلاقات السعودية – السورية وبدء تطبيع العلاقات التركية – السورية، تختفي نقطة الضعف هذه، والنقطة الأهم أنه باتت لدى روسيا فرص اقتصادية جديدة، بعد تطبيع العلاقات بين دمشق والدول العربية الأخرى. وتبرز هنا مسألة إعمار سوريا، وهنا بإمكان دول الخليج التبرع بالمال، ولكن من الذي سيبني ويعيد الصناعة والبنية التحتية؟ ورغم وجود الصينين والإيرانيين للقيام بهذه المهمة، لكن الفرص الأكبر هي لروسيا، المحرومة الآن من الوصول إلى الأسواق العالمية بسبب العقوبات.

روسيا المحتفية ببشار كانت قد خسرت في 25 آيار/ مايو العقيد  أوليغ فيكتوروفيتش بيتشفيستي (49 عاماً)، وهو قائد القوات الخاصة الجوية الروسية في سوريا، والذي توفي إثر قصف نفذته “هيئة تحرير الشام” استهدف موقعاً عسكرياً بريف اللاذقية. وفي كل الأحوال، بيتشفيستي ليس أول ضابط رفيع المستوى يُقتل في سوريا، ففي عام 2017 قتل اللواء فاليري أسابوف، أحد كبار مجموعة المستشارين العسكريين الروس في سوريا، وفي عام 2016، قتل الملازم أول ألكسندر بروخورينكو بمنطقة تدمر. ويعيدنا موت أوليغ مجدداً إلى قضية الوجود العسكري الروسي في سوريا، الذي لم ينتهِ ولن ينتهي قريباً في ما يبدو.

ما بعد عودة سوريا إلى القمة العربية بالنسبة الى روسيا لا تختلف عما قبلها، فهي موجودة في سوريا في جميع الظروف وقبل الثورة حتى.

الخريطة الزمنيّة للوجود الروسي في سوريا

منذ بداية الثورة، حاولت روسيا الحفاظ على نظام الأسد في الحكم، ولهذا الهدف استخدمت الفيتو مراراً ضد قرارات تدين هذا النظام، وانحصر دعمها في البداية في تقديم الدعم اللوجيستي وتحسين المنظومة العسكرية للجيش السوري، ولم تتدخل فعلياً إلا حين فشل النظام في القضاء على المعارضة ومن بعده “حزب الله” وإيران. فيما نفى المسؤولون الروس تدخل بلادهم العسكري في سوريا، مصرّين على أن الوجود الروسي هو مجرد وجود سياسي. رغم ذلك، كانت روسيا تمتلك في سوريا في عام 2012، أكبر مركز تنصّت إلكتروني لها خارج أراضيها. استمر المسؤولون في نفي تدخل روسيا العسكري في سوريا حتى عام 2015، في ذلك العام كانت المعارضة تسيطر على نحو ثلثي مساحة سوريا بعد فشل النظام وحليفه الإيراني في إحراز أي تقدم، ما استوجب تدخل الدب الروسي، إذ بدأت روسيا عملياتها الجوية من الريف الشمالي لمدينة حماة، من منطقة كفر نبودة تحديداً.

 بعد أول ضربة نفذتها روسيا في سوريا، بات وجودها العسكري علنياً لا بل شرعنته، إذ ذكرت في مناسبات عدة أن وجودها شرعي لأن النظام السوري هو من طلب منها التدخل. وبحلول عام 2020، امتلكت روسيا في سوريا 75 موقعاً، منها 23 قاعدة عسكرية، و42 نقطة وجود، و10 نقاط مراقبة، وانتشرت نقاط المراقبة في محافظتي إدلب وحماة، أمّا القواعد العسكرية فتنتشر في محافظات دير الزور، الحسكة، الرقّة، حلب، اللاذقية، طرطوس، حماة، حمص ودمشق. بينما تتوزّع نقاط الوجود في محافظات دير الزور الحسكة، حلب، السويداء والقنيطرة. وتمثّل روسيا القوة العسكرية الأكبر في سورية حاليّاً، من حيث سيطرتها على معظم الأجواء في غالبية المناطق التي لا تشهد وجوداً أميركياً. واعتمدت روسيا في البداية على قاعدتين جويتين وهما قاعدة ميناء طرطوس البحري، وقاعدة حميميم التي أُنشئت على عجل.

الوجود الروسي طويل الأمد

الوجود الروسي في سوريا لن ينتهي قريباً، وليس مرتبطاً حقيقةً بوضع سوريا الإقليمي أو العربي، هذا ما تشير إليه الدلائل وتصريحات المسؤولين من كلا الجانبين، إذ وقّع الرئيس  بوتين، في 31 تموز/ يوليو 2022، وثيقةً تتضمّن “العقيدة البحرية الروسية” الجديدة، وفيها تحدّد روسيا المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية لها أو تعدّها ذات صلة بأمنها القومي حول العالم، وأعادت وثيقة العقيدة البحرية الروسية الجديدة تأكيد أهمية وجود روسي دائم في البحر المتوسط، وتحديداً في الشرق منه، وهذا يعني أن الوجود الروسي في سوريا ذو أولوية على المدى البعيد.

في الأحوال كافة، أُعلن خطاب البقاء الروسي في سوريا على لسان الأسد نفسه أيضاً، ويبدو أنه سيكون طويل الأمد في ظل مكاسب وتنازلات جديدة سيقدمها النظام السوري، إذ قال الأسد: “إذا كانت لدى روسيا رغبة في توسيع قواعدها أو زيادة عددها في سوريا، فهذه مسألة فنية أو لوجستية، ونحن نعتقد أن توسيع الوجود الروسي في سوريا أمر جيد”.

ويقدَّر عدد عناصر روسيا في سوريا حوالى 20 ألف فرد بين القوات البحرية والجوية والبرية من دون حساب الشرطة العسكرية. وبحسب وزارة الدفاع الروسية، خاض أكثر من 63000 عسكري روسي “تجربة قتالية” في البلاد  بين أيلول/ سبتمبر 2015 حتى عام 2018. وخلال تلك الفترة، شنت القوات الجوية الروسية 39000 طلعة، ودمرت 121466 “هدفاً إرهابياً” بحسب ما تدّعي روسيا، وقتلت أكثر من 86000 “متشدد”، ولم تأتِ وزارة الدفاع على ذكر حصيلة الضحايا من المدنيين.

تكلفة الوجود السوري

 تكلفة الوجود الروسي كانت ثقيلة على السوريين، إذ إن الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثقت مقتل 6239 مدنياً على يد القوات الروسية، بينهم 1804 أطفال، منذ تدخلها العسكري في سوريا وحتى نهاية عام 2018. ووثق التقرير ما لا يقل عن 321 مجزرة نفذتها القوات الروسية، منذ تدخلها، وما لا يقل عن 954 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية، من بينها 176 اعتداء على مدارس و166 اعتداء على منشآت طبية، بالإضافة إلى 55 اعتداء على أسواق، وبحسب التقرير نفذت روسيا ما لا يقل عن 232 هجوماً بالقنابل والذخائر العنقودية، إضافة إلى 125 هجوماً بأسلحة حارقة.

وتعدّ القاعدة البحرية في مدينة طرطوس السورية، القاعدة الوحيدة لروسيا على شواطئ البحر المتوسط، وعلى رغم أنها موجودة، عملاً باتفاقية قديمة بين البلدين تعود الى عام 1971، فإن استمرارها كلّف روسيا إعفاء سوريا من ديون بلغت 9.8 مليار دولار عام 2006. من جهة أخرى، تشكل سوريا إحدى الدول المهمة في سوق السلاح الروسي، إذ شكّل نصيبها من تجارة روسيا العسكرية نحو 7 في المئة عام 2010، فضلًا عن صفقات عسكرية بقيمة أربعة مليارات دولار حتى عام 2013، بالإضافة إلى أهمية سوريا في بسط روسيا قوتها السياسية، فسوريا هي أحد أهم شركاء الروس التجاريين في العالم العربي، إذ تشكل التجارة الروسية – السورية ما نسبته 20 في المئة من إجمالي التجارة العربية – الروسية، وبطبيعة الحال سوريا هي سوق ممتاز للأسلحة الروسية.

وفي لقاء سابق مع صحيفة “راينشيه بوست” الألمانية، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن روسيا وقعت اتفاقيات عسكرية مع النظام السوري، من دون تحديد مدة زمنية لانتهائها، مشيراً إلى أن الحكومتين السورية والروسية تملكان صلاحية إجراء تغييرات على تلك الاتفاقيات، ما يعني أن روسيا تمتلك صلاحيات مطلقة على الساحة السورية لن تنتهي قريباً.

درج

————————————-

الورطة الروسية/ طارق الحميد

في حين يتبادل الأوكرانيون والروس الاتهامات حول المتسبب في الاعتداء على سد «نوفا كاخوفكا»، الواقع في الأجزاء التي تسيطر عليها روسيا من منطقة خيرسون جنوب أوكرانيا، يذكّرنا هذا الاستهداف بحجم الورطة الروسية.

نقول ورطة لأن الحرب الروسية مستمرة على أوكرانيا من دون تحقيق نتائج حاسمة، بل مزيد من العقوبات والتعقيدات التي تواجهها موسكو، ومع الاستعداد للهجوم المضاد المنتظر من الأوكرانيين، والذي يُعتقد أنه بدأ بالفعل من دون إعلان مما يزيد من الورطة الروسية.

كل حرب لها مساران: عسكري وآخر تفاوضي، فما لا يمكن إنجازه عسكرياً يتم السعي لتحقيقه من خلال المفاوضات، والتي تعتمد كثيراً على النتائج المحقَّقة على أرض المعركة.

وللحظة لا مؤشرات على تغيير حقيقي يخدم الروس على الأرض.

وليست هناك مفاوضات جادة لإنهاء هذه الحرب، والتي كلما طالت ورغم الدمار الحاصل في أوكرانيا، فإنها تعني مزيداً من المصاعب للروس. والحسابات حول الرابح والخاسر في هذه الحرب، من ناحية الانتصار والهزيمة، ليست في مصلحة الروس داخلياً وخارجياً.

بالنسبة إلى الأوكرانيين ليس هناك ما يخسرونه، ونهاية الحرب، ولو اقتُطعت أراضٍ من أوكرانيا، تعد انتصاراً لهم. بينما كل النتائج الأخرى تعني هزيمةً للروس الذين يجدون صعوبة بالتحكم في المناطق التي أعلنوا ضمها.

ويُنظَر إلى تفجير السد على أنه تكتيك الهدف منه تعطيل التقدم الأوكراني المضاد من خلال الفيضانات. وتدمير السد، الذي بُني عام 1956، وأياً كان الطرف الذي استهدفه، يعني أن الحرب دخلت مرحلة نفاد الصبر، وغياب المسار الدبلوماسي.

وهو الأمر الذي يذكّر دائماً بالورطة الروسية لأن موسكو تخوض معركة عسكرية ضد كل أوروبا والولايات المتحدة، ومن دون أفق سياسي واضح، أو خطوات عسكرية ملموسة، مما يعقّد موقف، وخيارات، الروس.

ومن يتابع النقاش الدائر الآن في أوروبا أو الولايات المتحدة يلحظ أن كثراً يتنبهون إلى ذلك، وينتظرون النتائج الأولية للهجوم الأوكراني المضاد على الروس مع شعور بأن أزمة موسكو تتزايد، وهو ما سيشعر به الروس قريباً.

الخطأ الروسي القاتل ليس في الاستراتيجية العسكرية، أو الدبلوماسية، بل في قرار دخول الحرب أصلاً، حيث بات مصير روسيا ليس بيد قادتها وإنما تحت طائلة العقوبات الغربية – الأميركية، والضربات العسكرية المعنوية.

قرار الحرب الروسية على أوكرانيا كان أسهل قرار اتخذه الرئيس الروسي، لكنّ قرار نهاية الحرب سيكون الأصعب، ليس على الرئيس بوتين بل على كل روسيا، ومستقبلها، وقوتها، وتأثيرها، والعلاقة بمحيطها.

والمفترض ألا يسعى الغرب أو الولايات المتحدة إلى وساطة صينية لإنهاء الحرب، بقدر ما إن الطرف الذي يجب أن يسعى إلى ذلك هم الروس الذين من مصلحتهم إنهاء هذه الحرب الآن عبر وسيط يهمه عدم هزيمة موسكو، وربما يريد الصينيون إضعاف الروس فقط.

وهذا أضعف الإيمان وأهون من أي طريقة أخرى لإنهاء الحرب، وبشكل يعني هزيمة الروس الذين وضعوا أنفسهم في هذا الموقف المحرج، أو قُلْ الورطة. ولذا فان مصلحة الروس الآن تقتضي الدفع بالوساطة الصينية لأن اختيارات موسكو كلها صعبة.

الشرق الأوسط

———————–

ميزة خفية لدى أوكرانيا: كيف غيّر المدربون الأوروبيون جيش كييف وبدلوا مسار الحرب/ ألكساندرا تشينشيلا و جهارا ماتيسيك

في الأشهر الـ14 التي تلت غزو روسيا لأوكرانيا، أعرب معظم المحللون عن شكوكهم المتكررة حول متانة التزامات أوروبا تجاه كييف. وخلال الشطر الأعظم من عام 2022، لاحظ كثيرون أن ألمانيا تلكّأت في إمداد القوات الأوكرانية بالأسلحة واستغرقت شهوراً قبل أن توافق على فكرة إرسال الدبابات إليها. وأعرب آخرون عن قلقهم من أن بعض الدول الأوروبية التي تواجه ارتفاعاً في تكاليف الطاقة وضغوطاً اقتصادية أخرى، قد تلجم دعمها وتلحّ على التوصل إلى سلام على أساس تفاوضي مع موسكو. وحتى في الوقت الحالي، على رغم التدفق المستمر للأسلحة والمساعدات إلى أوكرانيا، أشار بعض المعلقين إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما يضع في حساباته أن أوروبا تبدي تردداً وأنه قادر ببساطة على الصمود أكثر من شركاء كييف الغربيين.

وفي المقابل، من خلال التركيز على الأسلحة والمساعدات، فإن تقييمات من هذا النوع تتجاهل الحجم الكامل للجهود الأوروبية في أوكرانيا. في الحقيقة، تستحق الولايات المتحدة تلقي الثناء على تقديمها النصف تقريباً من الـ156 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية والإنسانية والعسكرية التي حصلت عليها أوكرانيا في الأشهر الـ12 الأولى من الصراع. بيد أن المساعدات والمعدات، على رغم أهميتها، ليست كافية لتفسير نجاح أوكرانيا في ساحة المعركة. إذ اعتمد جانب كبير من ذلك على جودة القوات الأوكرانية وتدريبها. وقد تمكنت أوروبا بشكل خاص من أداء دور حاسم في هذا الصدد. ومثلاً، في عام 2022، دربت المملكة المتحدة حوالى 10 آلاف جندي أوكراني، بينما لم تدرب الولايات المتحدة سوى 3100 جندي تقريباً. وباستثناء النمسا، قدمت كل دولة في الاتحاد الأوروبي، حتى سويسرا، شكلاً من أشكال المساعدة القتالية أو غير القتالية، ووفّرت التدريب للجيش الأوكراني منذ بدء الحرب.

في الواقع، تستند هذه الجهود الأوروبية إلى برامج التدريب والإرشاد التي قدمتها دول الناتو إلى أوكرانيا قبل بدء الحرب. وبين عامي 2014 و2022، عملت كندا، وليتوانيا، وبولندا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، إلى جانب عشرات الدول الغربية الأخرى، على تدريب القوات الأوكرانية وتقديم المشورة لها بشأن مجموعة متنوعة من المهارات، تتراوح بين الريادة في القتال والتخطيط العملياتي. واستطراداً، ساعد خبراء الناتو أيضاً في بناء القوات الخاصة الأوكرانية بما يتماشى مع معايير الحلف. وقد أتت هذه المبادرات ثمارها. وعلى نحو مغاير لما حصل في عام 2014، حينما لم تكن القوات الأوكرانية منظمة وافتقرت إلى التدريب الحديث، ما حال دون قدرتها على صد استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم وخوض حرب أولية في دونباس، نجحت القوات الأوكرانية في إحباط الغزو الروسي عام 2022. ومنذ ذلك الحين، دافعت تلك القوات عن كثير من الأراضي الأوكرانية. وخلال نهوضها بذلك، استخدمت القوات الأوكرانية تكتيكات حرب غير عادية استمدّتها من الخبراء الغربيين، بغية قطع الطريق أمام القوات الروسية المتجهة إلى كييف، بالإضافة إلى استعمالها تكتيكات أكثر تقليدية تعتمد على القوة العسكرية والانضباط من أجل وقف الهجوم الروسي في الجزء الشرقي من البلاد.

في المقابل، يشكّل التدريب عملية متواصلة ودائمة تزداد أهميتها كلما طالت الحرب. من هذا المنطلق، تحتاج أوكرانيا إلى مجندين جدد ومزيد من التدريب المتخصص في أنظمة الأسلحة المتقدمة التي تتلقاها من الغرب. ومن أجل زيادة احتمالات النجاح في هجوم الربيع المقبل، ستحتاج أوكرانيا أيضاً إلى خبرات في تنظيم أعداد كبيرة من القوات والأسلحة كي تُنفِّذْ ما يُسمّى “مناورة الأسلحة المجتمعة” [أي التي تُستَخدم كلها في آن معاً]. والجدير بالذكر أن توسيع نطاق التدريب كي يغطّي الفِرق ثم الفصائل والسرايا والكتائب في نهاية المطاف، سيعطي القوات الأوكرانية المرونة والسرعة اللتين تحتاج إليهما من أجل التغلب على حرب الاستنزاف التي تفضّلها موسكو، ثم استعادة الأراضي التي تحتلها روسيا.

وبفضل قربها الجغرافي، تتمتع أوروبا بموقع مثالي لتقديم هذا الدعم. منذ الغزو الروسي، ومن دون أي تدخل أميركي، استضافت الدول الأوروبية جميع التدريبات القتالية الأساسية للمجندين الأوكرانيين الجدد، وأسهمت في تحويل المدنيين إلى جنود أكفاء من خلال دورة تدريبية تمتد على خمسة أسابيع. إضافة إلى ذلك، تقدّم دول أوروبية عدّة تدريبات متخصصة في الأسلحة على غرار دبابات “ليوبارد” وأنظمة الدفاع الجوي، بالإضافة إلى أنها توفّر حالياً حوالى نصف التدريب الأكثر تقدماً الذي يتوجب تقديمه إلى التشكيلات العسكرية الأوكرانية الكبيرة، كي تتعلم المناورات الحربية وتتمرس في اتقانها. واستطراداً، فإن الهجوم الأوكراني الرامي إلى إخراج روسيا من أراضيها سيعتمد على التدريب أساساً، حتى بأكثر من اعتماده على الأسلحة والذخيرة. ومن أجل فهم أفضل للتحديات التي تواجهها أوكرانيا والطرق التي يمكن لأوروبا على وجه الخصوص أن تساعد كييف في تخطّيها، من الضروري إدراك هذا الجانب المهم من الجهود الحربية وفهم كيفية التعامل معه اليوم.

المهارات والقذائف

بعد أكثر من عام من القتال الشرس، أصبح الحفاظ على جودة القوات تحدياً رئيساً تخوضه أوكرانيا. في الواقع، يعاني أي جيش يشارك في قتال حاد ومكثف على مدى فترة طويلة، من انخفاض في الفعالية القتالية، لأنه يفقد جنوده المتمرسين ويضطر إلى استبدالهم بمجندين جدد. خلال العام الماضي، قُتل أو جُرح أكثر من 120 ألفاً من القوات المحترفة والمدربة تدريباً جيداً في أوكرانيا، وحلّ محلّهم بدلاء ضمّت صفوفهم أعداداً كبيرة من الجنود المواطنين الذين حشدوا مع خبرة قتالية قليلة أو معدومة. إنّ حدوث مثل هذا الانخفاض في المهارات والخبرات هو أمر متوقع، ويؤثر أيضاً على روسيا التي خسر جيشها أكثر من 200 ألف ضحية، استُبدلوا بجنود استقدموا عبر التعبئة [التي فرضتها الدولة، سواء أكانت تعبئة عامة أو جزئية]، ومجندين من السجون لا يرغبون في القتال والموت في أوكرانيا.

وعلى رغم ذلك، لا تستطيع كييف أن تعقد الأمل ببساطة على انهيار قوات روسيا التي يفوق عدد سكانها ثلاثة أضعاف عدد سكان أوكرانيا، بسرعة أكبر من انهيار القوات الأوكرانية. ومن أجل الدفاع عن مواقعها واستعادة الأراضي من روسيا، يجب أن تستمر أوكرانيا في تدريب أعداد كبيرة من المواطنين المجنّدين، خصوصاً أن كثيراً منهم يفتقر إلى المهارات الأساسية، على غرار كيفية استخدام الأسلحة، والتحرك، والتواصل، وتوفير الطب الميداني [العلاج المناسب للإصابات التي تقع في المعارك]. لذا، شرعت الحكومة الأوكرانية في تدريب 6 آلاف جندي جديد في الشهر الواحد، ما يمثّل مهمة صعبة بالنظر إلى موارد البلاد المنهكة بشدة والنضال القاسي الذي تخوضه من أجل الصمود.

في الواقع، تقدم الدول الأوروبية دعماً حاسماً لمساعدة أوكرانيا على تحقيق هذا الهدف. وتشير المقابلات التي أجريناها مع موظفين أوكرانيين وآخرين تابعين لحلف شمال الأطلسي، إلى أن المدربين من دول الناتو تمكنوا من تجهيز حوالى 2500 جندي أوكراني جديد من خلال تدريبهم على مهارات القتال الأساسية كل شهر. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا العدد لا يصل إلى المعدل الذي تستهدفه كييف، بيد أنه لا يزال يمثل مساهمة مهمة. بدأ هذا البرنامج المعروف باسم عملية “إنترفلِكس” Interflex في يونيو (حزيران) 2022 وقادته المملكة المتحدة بمساعدة مدربين عسكريين من أستراليا وكندا والدنمارك وفنلندا وليتوانيا وهولندا ونيوزيلندا والنرويج والسويد.

يجري التدريب في أربعة مواقع ويشكّل امتداداً للتدريب الذي قدمته المملكة المتحدة وحلفاؤها في الناتو قبل عام 2022. وقد صمَّم وفقاً لما تعتبره القوات المسلحة الأوكرانية مفيداً في ضوء الظروف الفعلية في ساحة المعركة في شرق أوكرانيا. وبشكل أساسي، جرى الاعتماد على مدربي جيوش من الدول الأوروبية وشركائها في المحيطين الهندي والهادئ. ويعتبر ذلك أمراً حيوياً في إظهار الدعم المتعدد الأطراف لأوكرانيا ومكافحة السرديات الروسية التي تزعم أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يسهمان في تأجيج الحرب. وإلى جانب التدريب على مهارات القتال الأساسية، يحصل المجندون الأوكرانيون الذين يستكملون البرنامج على معدات تشمل الزي العسكري والخوذات والسترات وحقيبة الإسعافات الأولية وملابس تقي من الطقس البارد والممطر. وبالتزامن مع تلك الجهود، قدمت ألمانيا ولاتفيا وسلوفاكيا وإسبانيا أيضاً تدريباً لمجموعات أصغر من الجنود الأوكرانيين، تضمّ حوالى 200 جندي شهرياً.

وتجدر الإشارة إلى أنه حتى الجنود الأوكرانيين المتمرسين في المعركة يحتاجون إلى التدريب على استخدام مجموعة كبيرة ومتنوعة من نُظِم الأسلحة التي يقدمها الغرب الآن، وتعلّم طريقة صيانتها. منذ الأشهر الأولى من الحرب، اعتمدت أوكرانيا على المعدات العسكرية من مجموعة متنوعة من المانحين الغربيين من خارج حلف الناتو، من أجل تجديد مخزوناتها الحالية وتجهيز الوحدات الجديدة التي تبنيها تحضيراً للعمليات الهجومية المضادة. لم يصعب دمج بعض أنظمة الأسلحة الغربية كصواريخ “جافلين” Javelin و”أن لاو” NLAW المضادة للدبابات، ضمن العمليات الأوكرانية، نظراً لأنها سهلة الاستخدام أو مألوفة بالفعل بالنسبة إلى الجنود الأوكرانيين. في المقابل، ثمة أنواع أخرى من الأسلحة والمعدات غير السوفياتية، بدت جديدة على الجنود الأوكرانيين وتطلبت تدريباً متقدماً لإتقانها، من بينها المدفعية وأنظمة الدفاع الجوي ودبابات “ليوبارد-2″ الألمانية و”تشالنجر-2” البريطانية.

في الواقع، تتمتع الدول الأوروبية بميزة أخرى تجعلها في موقع أفضل في قيادة هذا الجهد التدريبي. وبالمقارنة مع زملائهم الأميركيين، إنّ المدربين الأوروبيين على دراية بمجموعة أكثر تنوعاً من المعدات وأنظمة الأسلحة. على رغم أن الولايات المتحدة تمثّل أكبر مانح من حيث حجم المساعدات، إلا أن الدول الأوروبية تقدم لأوكرانيا مجموعة أوسع من نُظم الأسلحة والذخيرة والمعدات. ويأتي مثل على ذلك من قذائف المدفعية. إذ تقدم الولايات المتحدة أعداداً كبيرة من قذائف الهاون عيار 120 مليمتراً وقذائف المدفعية عيار 105 مليمتراً المتوافقة مع الأسلحة الأميركية المرسلة إلى أوكرانيا. وفي المقابل، قدّم المانحون الأوروبيون عشرات الأنواع الأخرى من القذائف المتناسبة مع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأسلحة الموجودة في ترسانة أوكرانيا. كذلك، تعمل دول أوروبية عدة، من بينها سلوفاكيا، على زيادة إنتاج قذائف المدفعية من عيار 155 مليمتراً بنسبة خمسة أضعاف، من أجل تلبية المتطلبات الأوكرانية.

وفقاً لمقابلات مع القوات الأوكرانية في فبراير (شباط) 2023، تبرعت الدول الأوروبية وأستراليا وكندا بأكثر من نصف أنظمة المدفعية وقذائف الهاون التي استخدمتها تلك القوات. ونظراً لقرب بولندا من أوكرانيا، فقد أدّت دوراً ريادياً في صيانة وإصلاح عدد من نظم الأسلحة القديمة الغربية والسوفياتية التي تنقلها أوكرانيا عبر الحدود حينما تتعطل. وفي مارس (آذار)، وافق الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي على إعادة الأموال للدول الأعضاء التي ترسل ما مجموعه مليون طلقة مدفعية من مخزوناتها إلى أوكرانيا، مع خطط لشراء ذخيرة مشتركة بقيمة مليار دولار من أجل دعم ذلك البلد بشكل أكبر.

ونظراً لتعاملهم مع مجموعة واسعة من الأسلحة والمدفعيات، يُعتبر المانحون الأوروبيون الأنسب في تدريب الأوكرانيين على تلك النظم من الأسلحة. في الواقع، وفقاً للمقابلات التي أجريت، تؤمن الدول الأوروبية الآن الجزء الأكبر من التدريب المتخصص على نظم أسلحة معيّنة. ومثلاً، في مواقع منتشرة في مختلف أنحاء بولندا، تتعلم طواقم الدبابات الأوكرانية كيفية استخدام دبابات ليوبارد بمساعدة مدربين كنديين وبولنديين ونرويجيين. واستكمالاً، أدّت أوروبا أيضاً دوراً ريادياً في تعزيز قدرات الدفاع الجوي الأوكرانية. وتدرّب ألمانيا الجنود الأوكرانيين داخل أراضيها على أنظمة الدفاع الجوي المتطورة “إيريس- تي” IRIS-T ومدافع “جيبارد” Gepard المضادة للطائرات. وبطريقة موازية، قدمت فرنسا وإيطاليا نظام الدفاع الجوي “سامب/ تي” SAMP/ T المعتمد على صواريخ “أستر 30” Aster 30. يُعتبر هذا التركيز على تدريب الدفاع الجوي أمراً بالغ الأهمية لأنه يدعم قدرة أوكرانيا في حماية بنيتها التحتية والمدنيين. وعلى رغم ذلك، ستحتاج أوكرانيا إلى مزيد من أنظمة الدفاع الجوي الأوروبية بحلول نهاية الصيف، بالنظر إلى استخدام روسيا للطائرات الإيرانية من دون طيار والصواريخ الباليستية والفرط صوتية بهدف إحداث أضرار جانبية في جميع أنحاء البلاد.

تقبّل وجود بعض التعقيدات

لم تقتصر المساهمات الأوروبية في تدريب القوات الأوكرانية على نظم الأسلحة الجديدة فحسب. في الحقيقة، قدّمت أوروبا مساعدة حاسمة وضرورية في دمج الوحدات المدربة حديثاً في القوات الأوكرانية الحالية وفي إعداد أوكرانيا لعمليات معقدة تُستَخدم فيها الأسلحة كلها في آن معاً. وبمجرد تدريب الجنود، يجب دمجهم في الوحدات التي من المقرر أن يلتحقوا بها، وهي وحدات بحجم السرية والكتيبة. ويجب أن تتعلم هذه الوحدات بسرعة التنسيق مع بعضها البعض كي تكون قادرة على تنظيم عمليات دفاعية وهجومية فعالة. في الواقع، إنّ هجوم الربيع المرتقب الذي ستشنه أوكرانيا من أجل استعادة أراضيها في الجنوب والشرق سيتطلب تنسيقاً أكثر تقدماً، يشمل الدروع والمدفعية والاستطلاع والقوة الجوية في مناورة حربية تُستَخدم فيها كل الأسلحة في آن معاً. وسيكون تخطيط ذلك النوع من العمليات وتنفيذها بما يتماشى مع مبادئ حلف الناتو، أمراً حاسماً بالنسبة إلى أوكرانيا. إذ سيتيح لها ذلك الأمر الاستفادة من الإمكانات الكاملة للأسلحة المتقدمة التي تتلقاها من أوروبا ويتيح لها خرق الخطوط والخنادق الروسية.

بالتأكيد، أدّت الولايات المتحدة دوراً مهماً في هذه الجهود. في الوقت الحالي، يقدم المدربون الأميركيون لأوكرانيا حوالى نصف التدريبات على كيفية تنسيق استخدام كل الأسلحة مجتمعةً في منطقة تدريب “غرافنوهر” في ألمانيا. والجدير بالذكر أنّ بولندا ودولاً أوروبية عدة أخرى أدّت دوراً مهماً بشكل خاص. ومثلاً، أُنشئت “بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة العسكرية” European Union Military Assistance Mission في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بدعم من 24 دولة، من أجل مساندة أوكرانيا. وتتولى تدريب 15 ألف أوكراني على مدار عامين في أنشطة تتراوح بين التدريب على مهارات القتال الأساسية وبين تطوير القدرات العسكرية المتقدمة والأكثر تخصصاً على غرار نزع الألغام، إضافة إلى تدريب المناصب القيادية الدنيا [صغار القادة] والخدمات اللوجستية، والاتصالات. من خلال السماح لعدد من الدول الأوروبية بتدريب وحدات أوكرانية أصغر، كأن تكون بحجم سَريِّة واحدة، على مناورة تُستخدم فيها كل الأسلحة في آن معاً، تُعزز تلك المبادرة القدرات القتالية الأوكرانية وترسّخ الوحدة الأوروبية في وجه العدوان الروسي.

كذلك، أمسكت الدول الأوروبية بزمام المبادرة في توفير الأسلحة التي كانت الولايات المتحدة مترددة في إرسالها، كالطائرات المقاتلة من طراز “ميغ-29” MiG-29، التي أرسلتها بولندا وسلوفاكيا. والجدير بالذكر أن قرار إرسال دبابات القتال الأساسية إلى أوكرانيا، الذي وافقت عليه الولايات المتحدة وعدد من حلفائها الأوروبيين في يناير (كانون الثاني)، جاء بمبادرة أوروبية وليس أميركية. ولم تتوصل تلك الدول إلى اتفاق على ذلك إلا بعد تعهّد المملكة المتحدة أولاً بإرسال دبابات تشالنجر، وقطعت بولندا، إلى جانب 11 دولة أوروبية وكندا، تعهداً مماثلاً يقضي بإرسال دبابات ليوبارد، وضغطت على ألمانيا للسماح بتصديرها إلى أوكرانيا. في النهاية، وافقت ألمانيا على إرسال تلك الدبابات بعد أن صادقت الولايات المتحدة على قرار إمداد أوكرانيا بدبابات “أبرامز” Abrams.

في المقابل، بدت تلك المساعدة الأميركية رمزية إلى حد كبير، في الأقل على المدى القصير. إذ ستتلقى أوكرانيا حوالى 300 دبابة قتال غربية مزودة بمعدات استهداف دقيقة وأجهزة بصرية حديثة قبل هجوم الربيع، لكن لن يكون بينها دبابات “أبرامز”، إذ إنها لن تصل قبل أواخر السنة.

وقد تكتسي المبادرة والعزم الأوروبيين أهمية أكبر في الأشهر المقبلة. إذ تفكر دول كفنلندا وفرنسا وهولندا والمملكة المتحدة في إعطاء أوكرانيا طائرات مقاتلة من الجيل الرابع، بالإضافة إلى تدريب الطيارين المقاتلين. حتى الآن، لم توافق الولايات المتحدة بعد على تدريب الأوكرانيين على طائرات “أف- 16″، لكن يبدو من المعقول أن توافق على أن تقدّم الدول الأوروبية من تلقاء نفسها طائرات مقاتلة متقدمة وذلك تجنباً لتصعيد المخاوف التي أثارها البعض في واشنطن.

أوروبا أكثر، نجاح أكبر

على النقيض من الاعتقاد السائد بأن أوروبا مترددة بشأن أوكرانيا، أظهر الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي درجة ملحوظة من الوحدة طوال الحرب. علاوة على ذلك، لم تفرض الولايات المتحدة إرساء هذه الجبهة الموحدة، بل إنها نشأت من تلقاء نفسها، من القاعدة إلى القمة، بفضل تطوع الدول بشكل فردي لتقديم التدريب والمعدات وأشكال الدعم الأخرى. والأهم من ذلك، على رغم أن هذه المساعدة المتعددة الأوجه قد حظيت باهتمام أقل بين المحللين في واشنطن، إلا أنها تعكس دعماً حقيقياً من شعب أوروبا إلى أوكرانيا. في هذا السياق، أظهر استطلاع للآراء أجري في نوفمبر 2022 في الدول الأعضاء في الناتو، أن حوالى 64 في المئة من المشاركين يعتقدون أن غزو روسيا لأوكرانيا يهدد أمنهم ويعتقد 69 في المئة منهم أن بلادهم يجب أن تستمر في تقديم المساعدة لأوكرانيا. في أرجاء أوروبا، ردّت مجموعات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية على العدوان الروسي، من خلال تقديم مساعدات غير رسمية لأوكرانيا. وكذلك تصدت تلك المجموعات والمنظمات للمعلومات المضللة الروسية، واستعانت أيضاً بمجموعة كبيرة من الناس عبر الإنترنت، وأسندت إليهم موضوع الأسلحة والمساعدات العسكرية والتدريب في مجال العمل الإنساني.

حينما يتعلق الأمر بتدريب القوات الأوكرانية، تتحمل الدول الأوروبية عبئاً أكبر بكثير مما يقع على كاهل الولايات المتحدة. ويحدث ذلك على رغم التكاليف الباهظة والتأثيرات على مدى جاهزيتها من الناحية العسكرية [في حال واجهت تلك الدول أي خطر]. إذ يُضَحّي الجيش البريطاني بجزء كبير من استعداده العسكري من خلال تدريب الأوكرانيين وتجهيزهم عوضاً عن التركيز على جنوده. في المقابل، إنّ التدريب على استخدام كل الأسلحة مجتمعةً الذي تقدمه الولايات المتحدة في عدد من القواعد في ألمانيا، يؤدي إلى تأثير أقل بكثير على الجيش الأميركي، نظراً لحجمه بالمقارنة مع الموارد الأميركية الضخمة الموجودة في أوروبا. في الواقع، يجب على الولايات المتحدة أن تبذل مزيداً من الجهود لمساعدة أوكرانيا في تدريب جيشها والحفاظ على جودة قواته.

ومن المجالات التي تتطلب دعماً من نوع خاص، تطوير قدرات ضباط السرايا والرقباء من المستوى المتوسط. في الواقع، سيكون ضمان الجودة المستمرة في صفوف صغار الضباط العسكريين في أوكرانيا أمراً ضرورياً من أجل الحفاظ على عملية صنع القرار الصائب في ساحة المعركة، علماً أن تلك العملية قد أسهمت في تحقيق نجاح حاسم لأوكرانيا حتى الآن. ويمكن للولايات المتحدة، بخبرتها القتالية ومواردها، أن تأخذ زمام المبادرة في هذا المجال بالتحديد، نظراً لأن الدول الأوروبية منهمكة بالفعل في تدريب الأوكرانيين.

واستطراداً، يستغرق التدريب أسابيع وشهوراً قبل أن يحقق النتائج المرجوة. ولا يستطيع حلفاء أوكرانيا الغربيون الانتظار حتى تظهر حاجات جديدة في كييف. حتى الآن، عبر جهودها التدريبية المكثفة، ساعدت أوروبا في منح أوكرانيا ميزة حاسمة في ما يتعلّق بجودة قواتها. في المقابل، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين البدء على الفور في وضع خطط من أجل الحفاظ على الفاعلية القتالية الأوكرانية من خلال توفير قوات احتياطية إضافية في حال مواجهة هجوم مضاد طويل الأمد. ومن شأن توجيه دعم أميركي أكبر أن يساعد في زيادة نطاق التدريب والحفاظ على عزيمة الدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا، إذا فشلت جهودها في تحقيق مكاسب أوكرانية سريعة في ساحة المعركة. في الحقيقة، حتى في المجالات التي لا تبذل فيها الولايات المتحدة سوى القليل نسبياً، أصبح استعداد الدول الأوروبية للمخاطرة بموارد كبيرة أمراً حيوياً بشكل متزايد في الدفاع عن أوكرانيا، كما أنّه سيكون حاسماً لاستمرار نجاحها.

* ألكساندرا تشينشيلا، أستاذة مساعدة في “كلية بوش للإدارة الحكومية والخدمة العامة”، “جامعة تكساس إي أند إم”.

** جهارا ماتيسيك، أستاذ عسكري في “الكلية الحربية البحرية الأميركية”، ولفتنانت كولونيل في “القوات الجوية الأميركية”. إنّ الآراء الواردة هنا هي آراءه الخاصة.

مترجم من فورين أفيرز، مايو (ايار)

———————————-

“المجموعة السياسية الأوروبية” تتحدى روسيا قرب حدودها

قمة أوروبية على الحدود الأوكرانية/ خطار أبودياب

احتضنت كيشيناو عاصمة مولدوفا، القمة الثانية لـ”المجموعة السياسية الأوروبية” التي تأسست في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وذلك على بُعد ثمانية كيلومترات من منطقة ترانسنيستريا الانفصالية و21 كيلومترا من الحدود الأوكرانية، و250 كيلومتراً من روسيا، ما يسلط الضوء على التحديات التي تواجه القارة القديمة بشأن الأمن في محيطها وجوارها، وعلى وجه الخصوص التحدي الكبير حيال روسيا والمتغيرات الدولية، وكذلك التهديدات الملحة والمستجدة وأبرزها في وسط البلقان وجنوب القوقاز.

بالطبع، ليس هناك من رهان على إمكانيات الجماعة السياسية الجديدة في تعزيز مكانة أوروبا في اللعبة الدولية، ولكن دورها التشاوري وعدد المنتسبين إليها يتيحان فرصة لتسهيل حل الأزمات، أو لوضع دول في غرفة الانتظار قبل الدخول في الاتحاد الأوروبي. وفي مطلق الأحوال، يمثل انعقاد القمة الأولى في براغ العام الماضي وهذه المرة في مولدوفا على أهمية شرق أوروبا في سياق التوازنات داخل القارة.

ولذا شكلت هذه القمة تأكيداً على الصراع الجيوسياسي حول “المجال الحيوي”، و”الجوار القريب”، ووجه الاتحاد الأوروبي من خلالها رسائل بشأن توسيع دائرة نفوذه لضمان المزيد من الأمن والدفاع عن الاستقرار.

حكاية نشأة كيان سياسي جديد

تزخر القارة القديمة بالكثير من المنظمات الحكومية الإقليمية  وأبرزها  الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا. وهذا الوضع يدفع للتساؤل إزاء إطلاق هيئة  إضافية  على مستوى القارة بأكملها، على شاكلة “المجموعة  السياسية الأوروبية”.

من الناحية العملية، تعد تجربة الاتحاد الأوروبي من أنجح التجارب في عالم المنظمات الدولية، لا سيما فيما يتعلق بالازدهار الاقتصادي والاستقرار. وهذا الاتحاد، الذي يجمع اليوم سبعا وعشرين دولة بعد الانسحاب البريطاني (البريكست)، يظل عنصر جذب لدول أخرى في القارة ترغب في الانضمام إليه، ولا سيما أوكرانيا وتركيا ومولدوفا وغيرها. 

ونظراً لصعوبات  وضع هذه المؤسسة، ومن أجل عدم التسرع في دخول أعضاء جدد يزيد الأمور تعقيداً، أطلق إيمانويل ماكرون، الرئيس الدوري للاتحاد الأوروبي، في مايو/أيار 2022، فكرة قيام هيئة استشارية أوروبية، وهي مجموعة سياسية على شكل هيئة شبه رسمية تجسد فكرة قديمة توحد بشكل مؤسساتي ملموس أوروبا بحدودها الجغرافية من القوقاز إلى آيسلندا، وستكون مكانًا للنقاش والتشاور وعصف الأفكار والاقتراحات. وتضم المجموعة 47 عضواً، أي كل دول القارة الأوروبية  باستثناء  روسيا وبيلاروسيا.

بيد أن الاندفاع  في تأسيس  هذه المنظمة الجديدة لم يمنع من التشكيك في جدواها وفعاليتها بالقياس للأقطاب التاريخية التي يمثلها الاتحاد الأوروبي و”مجلس أوروبا”. ولذا من  مبررات وجود الكيان الناشئ، أن يكون غطاءً عمليًا للتشاور والعمل المشترك مع الدول التي انسحبت من الاتحاد، مثل المملكة المتحدة ، أو الدول الطامحة لدخول الاتحاد.

وعلى الرغم من الملاحظات حول الكيان الجديد ورمزيته،  تمثل نشأته حدثاً في زمن تغيرات جيوسياسية عالمية كبرى.

اختيرت عاصمة مولدوفا مكاناً لانعقاد القمة الثانية للمجموعة بشكل متعمد، لأن هذه الدولة الصغيرة التي تحدها رومانيا من الغرب وأوكرانيا من الشرق، هي آخر جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وتشعر الأوساط الأوروبية بمخاوف من أن تكون هذه الدولة الصغيرة (2,6 مليون نسمة) من الضحايا الثانويين لحرب أوكرانيا بسبب موقعها الحساس ومشكلة منطقة ترانسنيستريا الموالية لروسيا.

رسائل القمة حول مولدوفا… روسيا وحرب أوكرانيا

وفي هذا الصدد، اغتنمت  مايا ساندو رئيسة مولدوفا الفرصة لتطالب بقبول انضمام بلدها إلى الاتحاد الأوروبي، إذ إن هذا البلد الفقير قد استقبل أعداداً كبيرة من اللاجئين الأوكرانيين مقارنة بأية دولة من دول الاتحاد الأوروبي الغنية نسبياً.

ونتيجة عدم القدرة على تحديد مواعيد لانضمام الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي، كان أكبر موعد سياسي في تاريخ مولدوفا نوعاً من الضمانة الرمزية لوجودها وأمنها. وكان من  اللافت فرض المفوضية الأوروبية في بروكسل،عشية انعقاد القمة، عقوبات على شخصيات موالية لبوتين ومتهمة بالعمل على زعزعة الاستقرار في مولدوفا.

وكما في القمة الأولى طغى الموقف من أوكرانيا على جدول الأعمال، خاصة مع الحضور اللافت للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي كان أول الواصلين إلى القمة، وكان من الواضح أن أوروبا (والناتو وراءها) أرادت توجيه رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن مولدوفا غير متروكة وتقرر مصيرها، وأن الدعم لكييف مستمر في سياق الاستعدادات للهجوم الأوكراني المضاد. ومرة جديدة، أعرب زيلينسكي  عن الرغبة  في تسريع ضم بلاده إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وشدد على وجوب  اتخاذ قرارات هذا العام. لكن إذا كان طريق الاتحاد الأوروبي ممهدا وأكيدا، يسود دائماً التردد بشأن عضوية أوكرانيا في الناتو لأن ذلك  سيجعل هذا الحلف والولايات المتحدة على رأسه  في حالة مواجهةٍ مباشرةٍ وخطيرةٍ للغاية مع روسيا.

مشاكل أوروبا ومستقبلها على المحك

تطرقت القمة إلى قضايا الطاقة والاتصال والأمن، بما في ذلك الصراع الأوكراني والأزمة الأرمينية- الأذرية، فضلا عن التوترات المتزايدة في البلقان.

وكانت فرصة ثمينة للقاءات ثنائية، أكدت استمرار المساعي الأوروبية السابقة لتسوية الأمور بين يريفان وباكو على ضوء تراجع الدور الروسي وانفتاح تركيا على أرمينيا. لكن الموضوع الإقليمي الأبرز كان التطورات في البلقان، وأثمرت جهود المستشار الألماني شولتس والرئيس الفرنسي ماكرون عن عقد اجتماع رباعي  ضمهما مع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش ونظيرته الكوسوفية فيوزا عثماني،  من أجل البحث عن حل للتوتر المتزايد بين صربيا وكوسوفو وذلك بعد ما يقارب 25 عاماً على انتهاء حرب كوسوفو.

واكتسبت هذه المبادرة الأهمية بعد نشر قوات الناتو قوات إضافية لتطويق ذيول اشتباكات أواخر مايو/أيار الماضي في شمال كوسوفو والتي عادت بالذاكرة إلى البلقان، مهد الحرب العالمية الأولى، وإلى حروب تفكيك يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي، مع خشية الأوروبيين من استخدام روسيا لورقة صربيا في هذه اللحظة الحرجة أوروبياً.

في الخلاصة، تدلل القمة الثانية لهذا الكيان السياسي الجديد على رمزيته وطابعه التشاوري، وعلى أهمية الاتحاد الأوروبي بالرغم من عدم ارتقائه إلى مرتبة القطب الاستراتيجي، لأن الثلاثي الدولي الأقوى (الولايات المتحدة- الصين- روسيا) يلتقي بشكل أو بآخر على استقطاب الاتحاد أو تهميشه أو حصر دوره. ومن هنا لن تتعزز مكانة أوروبا عبر بناء مؤسسات جديدة موسعة، بل تنتظر توافقاً  حول عدم اكتفائها بدور القطب الاقتصادي، وهذا سيعتمد على نتائج المواجهة الدائرة انطلاقاً من أوكرانيا، وعلى خيارات الدول الأوروبية الكبرى حيال  بناء القطب الدفاعي الأوروبي ولو كان ذلك في ظلال الناتو. 

————————————

ما بعد تفجير كاخوفكا: خيارات بوتين النووية/ صبحي حديدي

سلسلة الكوارث البيئية الناجمة عن تفجير سدّ كاخوفكا الأوكراني، أسوة بجمهرة من العواقب العسكرية المباشرة القريبة أو غير المباشرة والبعيدة، قد تشير في ذاتها إلى تحوّل نوعي يشمل طبيعة العمليات ومساراتها بعد سنة من الغزو الروسي في أوكرانيا. غير أنّ الواقعة، بصرف النظر عن الجهة الروسية أو الأوكرانية المسؤولة عنها (حكاية تفجير أنبوب غاز «نورد ستريم» تُعلّم المرء الكثير من الحذر قبيل توجيه إصبع الاتهام)، تصنع مؤشراً إضافياً بالغ الدلالة والخطورة حول الذروة القصوى التي يمكن أن تبلغها مسارات اللجوء إلى نوعية خاصة من «الأسلحة»؛ الكفيلة، كما يُراد لها مبدئياً، بكسر الجمود الراهن الملحوظ في ترجيح كفّة الصراع.

المفردة الحاسمة هنا، والتي أخذت تتجاوز مستوى المسكوت عنه إلى المنطوق به، هي السلاح النووي وما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوف ينتقل إلى استخدامه على أيّ نحو. المعطيات على الأرض تقول إنّ ضخّ 300,000 جندي روسي إلى القتال في أوكرانيا، وخلال فصل الشتاء تحديداً، لم يبدّل كثيراً في توازنات القتال ميدانياً. معطى آخر، مدهش ولافت، يقول إنّ دبابات روسية (سوفييتية، في الواقع) من إنتاج خمسينيات القرن الماضي شوهدت في بعض المعارك؛ وهذا يعني أنّ ترسانة السلاح الروسي آخذة في النضوب، ولم تعد بحاجة إلى المسيّرات الإيرانية وحدها.

السلاح النووي، إذن، حتى إذا كان «قُنيبلة» نووية تكتيكية وليس القنبلة النووية الأمّ الستراتيجية؟ الحذر يقتضي تفادي الجزم، غنيّ عن القول، وإنْ كان يقتضي في الآن ذاته الاحتكام إلى مقدار مطلوب من الترجيح. فإذا لم تكن ذريعة بوتين في اللجوء إليها هي «التهديد الوجودي» الذي تواجهه روسيا من جانب الولايات المتحدة والحلف الأطلسي والغرب عموماً، فإنها يمكن اليوم أن تدور حول الحفاظ على حياة مئات الآلاف من الجنود الروس المتمركزين في أوكرانيا للدفاع عن «بقاء روسيا الأمّ والوطن» ومقارعة «القطعان النازية» في كييف، كما يردّد إعلام الكرملين.

لا يصحّ أن تُنسى، في المقابل، عادات بوتين في التفاخر العسكري، الصاروخي والنووي معاً، سواء اقتضت المناسبة ذلك أم كان الحشو اللفظي واستعراض العضلات هو الدافع. ففي أواخر العام 2004 اجتمع بوتين مع أركان القيادة العسكرية الروسية وأنذر العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة، متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوى النووية الأخرى. كما بشّر بأنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: «أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب»….

لا هذه يجوز أن تُنسى اليوم، ولا تلك المعطيات سالفة الذكر حول الحال الميدانية العسكرية لمغامرة بوتين في أوكرانيا؛ خاصة لجهة الأدوار الآخذة في الانحسار للأسلحة التقليدية والقوّات البرّية، وهذه شكّلت الركيزة الأولى لعقيدة الدفاع السوفييتية/ الروسية الكلاسيكية، وكان خيار الردع النووي هو الركيزة الثانية. ولا يصحّ، أيضاً، إغفال قرار بوتين بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، ليس بقصد تخزينها هناك بل كذلك على سبيل تدريب الجنود البيلاروس على استخدامها. وقبل ذلك بادر بوتين إلى تجميد معاهدة «نيو ستارت» التي تراقب إنتاج الأسلحة النووية بين واشنطن وموسكو.

وعلى نقيض تقديرات الإدارة الأمريكية، من مجلس الأمن القومي إلى الاستخبارات والبنتاغون، يرى كيفن رايان (العميد المتقاعد، والباحث في هارفارد، والملحق العسكري الأمريكي الأسبق في موسكو)، أنّ بوتين سوف يستخدم السلاح النووي في أوكرانيا. وسواء صدقت نبوءته الكارثية أم كذّبتها التطورات المتسارعة، فالأرجح أنّ ما بعد سدّ كاخوفكا لن يشبه ما قبل تفجيره، إذا كان للتشابه هنا أيّ معنى أصلاً.

القدس العربي

——————————-

الهجوم الأوكراني المضاد وابتزاز «فاغنر» ومأزق «الرّاشية»/ وسام سعادة

سابقت موسكو انطلاقة الهجوم الأوكرانيّ المضاد الذي يبدو أنه انطلق بالفعل في الساعات الماضية، للإطناب الإعلاميّ بصدده، إلى درجة أنّ الشواهد المتلفزة الأولى لهذا الهجوم جاءت من الجانب الروسيّ، يضاف إليها تصريح الرئيس فلاديمير بوتين بأن «القدرة الهجومية لنظام كييف لا تزال قائمة» وأنّ الجيش الأوكراني استدعى احتياطات استراتيجية في هذا السياق.

أن يستعجل نظامٌ من طبيعة جهازيّة – أمنيّة وسلطويّة تغطية العمليات الهجومية المزمع أن تستهدف استقرار احتلاله لجنوب الشرق الأوكراني، فليس ذلك بالأمر المألوف عند الأنظمة السلطويّة، وخاصة حين لا يترافق ذلك مع بثّ لغة واثقة ولا حتى مصممة من أن يلاقي الهجوم المضاد الفشل الذريع. في الأمر بعض الغرابة إذاً، يزيدها تصاعد لهجة الانتقادات من طرف المعلّقين على الشاشات الروسيّة للقيادة العسكرية ولوزارة الدفاع، وفي أحيان عديدة الغمز من قناة الكرملين، والموضوع يتّصل هنا بمعلّقين من حواشي و«محاشي» النظام الحاكم.

ويأتي ذلك، بعد أسابيع قليلة على الحديث المسهب للأوليغارشي يفغيني بريغوجين، موجِد «مجموعة فاغنر» الإرتزاقية الموازية لوحدات الصدم، هذه المجموعة التي باتت من أعمدة النظام البوتينيّ على الرغم من وضعيتها «غير القانونية» في روسيا نفسها. وهذا لم يمنع افتتاح مقرّ مركزيّ لها في مدينة سانت بطرسبرغ في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. بريغوجين، خريج سجون الأحداث في الاتحاد السوفييتي، حيث برع منذ يفاعته عن فئة النشّالين والنصّابين، تمكن، بمساعدة أجهزة الدولة من بناء هذه شبكة «مجموعة فاغنر» التي توكلت بالعمليات الخارجية الميدانية – الهجومية، سواء في ليبيا وأفريقيا الوسطى أو في سوريا، هذا في مقابل إطلاق يد «فاغنر» لنهب مناجم الذهاب والماس واليورانيوم، أو تحصيل نسبة من عوائد النفط. لكن «فاغنر» لم تكن مصمّمة بالأساس للعمليات الدفاعيّة، وهي وجدت نفسها في هذا الموقع مع ازدياد عثرة القوات الروسيّة في الجنوب الأوكرانيّ. وعلى الرغم من «إسهامات» هذه المجموعة في تخريب مدينة باخموت، فإن بريغوجين وبعد أن صعّد مطلع ايار/مايو الماضي بأن مسلّحيه سينسحبون من المدينة بعد «عيد النصر» فإنه رفع سقف تهديفه على القيادة الروسية، ولم يكتف بمعهوده في الشهور الماضية من قنص على وزير الدفاع سيرغي شويغو، وعلى قائد الأركان فاليري غيراسيموف، بل هزأ ممن سمّاه «الجدّ السعيد» – في إشارة إلى الرئيس الروسي – الذي كان يتوقع بشكل ساذج الانتصار السريع في الحرب، فكانت نتيجة ذلك تدهور حال الجيش الروسيّ واقتدار الجيش الأوكرانيّ وتزوّده بالأسلحة الأمريكية والغربية الأكثر تطوّراً. والأهم أن بريغوجين قد شدّد في كلامه المدوي هذا – والذي ينال من صديقه القديم بوتين، والإثنان من سانت بطرسبرغ، على أنّه لم يعد من الممكن لروسيا أن تربح هذه الحرب، التي تستمرّ روسيا رسمياً في تسميتها «عملية عسكرية» من دون الذهاب إلى خيار التعبئة العامة. ميدانياً، تتزايد المشاحنات بين الجيش الروسي «النظامي» وبين مرتزقة «فاغنر»، بل تصدر وزارة الدفاع بيانات تفيد عن تعرّض جنود لها للإعتقال والتعذيب على يد مرتزقة «فاغنر». هذا في وقت قلّد فيه الرئيس مجرم الحرب ديمتري أوتكين، قائد «فاغنر»، وهو أوكراني المولد، «نيشان الشجاعة» لدوره في معركة حلب.

التوتر بين مجموعة «فاغنر» وبين القيادة الروسية

يأتي الهجوم الأوكراني المضاد إذاً في وقت يتزايد فيه التوتر بين مجموعة «فاغنر» وبين القيادة الروسية، وتزداد فيه في الوقت نفسه حاجة هذه القيادة إلى مجموعة «فاغنر». وهذه مفارقة تعزف على لحن المفارقة الأولى. وهو أنه، في وقت أدرجت فيه موسكو عملية اجتياحها وضمّها للأراضي الأوكرانية تحت شعار «مكافحة النازية» مستفيدة في ذلك من الجذور المتعاونة مع ألمانيا النازية لدى قسم أساسي من الحركة القومية الأوكرانية، فإنها ازدادت اعتماداً على مجموعة «فاغنر» الذي يفاخر قادتها بتقليعتهم «النازية الجديدة» ولم يتردّد أوتكين في الإفصاح بوضوح بأنه جرى تسمية المجموعة باسم المؤلف الموسيقى الألماني الشهير بمواقفه المعادية للسامية، كونه الموسيقيّ المفضّل لدى أدولف هتلر. في وقت تخوض روسيا حربها على أوكرانيا على أنها «ضد النازية» فهي تعتمد على شبكة من الخارجين عن القانون، بموجب القانون الروسي نفسه، يرون في روسيا مشروع «رايخ ثالث» جديد يعملون لأجله!

يغلب الترجيح في اللحظة الحالية بأن الهجوم الأوكراني المضاد والذي يعالج محاوراً ممتدة على نحو ألف كلمتر على طول الجبهة سيكون هجوماً متدرّجاً، الهدف الأول فيه هو امتحان القدرات والاستعدادات العسكرية الروسية. يختلف حال هذا الهجوم إذاً عن الهجوم الأوكراني المضاد على جبهة خاركيف (بين ايلول/سبتمبر وتشرين الأول/اكتوبر 2022) والذي شكل انعطافة أساسية في الحرب، من بعد التعثر الروسي على جبهة كييف. ففي خاركيف، وهي منطقة ينطق أغلب السكان فيها بالروسية، كانت حصيلة هذا الهجوم وخيمة على الجانب الروسي، حيث اضطر إلى انسحابات واسعة. الهجوم المضاد الحالي يخاض على جبهة أكثر امتداداً، وينذر بتصعيد من الجانب الروسي للحرب المباشرة على السكان، وقد بدأ ذلك من خلال اغراق الأراضي بالمياه في منطقة خرسون، لكنه يتم كذلك الأمر في ظل زيادة نوعية في تسليح الجيش الأوكراني، وفي ظل انعدام تناسب معنوي لصالح الأوكران في هذه الحرب.

فهل تمضي روسيا نحو إعلان التعبئة العامة؟ وماذا يمكنه أن يعني ذلك الآن غير نقل الأزمة إلى الداخل الروسي؟ فالتعبئة الجزئية لوحدها كانت كفيلة بدفع مئات الآلاف من الروس لمغادرة بلادهم خشية تجنيدهم في هذه الحرب، عالية الكلفة البشرية، والتي لم يعد الجانب الرسمي الروسي يخفي عثراته المتفاقمة فيها. في الوقت نفسه، وإذا ما اقتصر الأمر على الدعاية المعتمدة في السياق الحربي، فإن روسيا لم تعد تدّعي بأنها تحقق انتصارات واسعة على جبهة القتال، بل يلعب إعلامها الموجه لعبة التسامح مع النقد الموجه لوزارة الدفاع والقيادة العسكرية وأحياناً لبوتين نفسه. في الوقت نفسه، يلعب هذا الإعلام، وبوتين نفسه، لعبة أخرى. وهو التشديد ليلاً ونهاراً من أن هذه الحرب في أوكرانيا والتي لا يبلي فيها الجيش الروسي البلاء الحسن هي مع ذلك تفصيل، وأنها عنصر من الحرب الأساسية، القائمة بين روسيا وبين المجموعة الغربية. تتسلح روسيا بالبرودة السينيكية في الربط بين سوء الحال على الجبهة وبين «تفصيلية» الجبهة نفسها قياساً على الحرب الشاملة ذات البعد الدولي. لكن هل يجدي كل هذا؟

إعلان التعبئة العامة

في كتابه المفصّل الصادر مؤخراً بالإنكليزية، وتحت عنوان «حرب بوتين على أوكرانيا. حملة روسيا في سبيل ثورة مضادة عالمية» يربط صاموئيل راماني بين مآلات الوضع على الجبهة وبين مصائر النظام البوتيني نفسه. ويتقاطع هذا مع استمرار النقاش حول طبيعة هذا النظام. فلئن كانت الروسية – الأمريكية ماشا غيسين سباقة من 2017 في الحديث عن تطور في الاتجاه التوتاليتاري لهذا النظام، ذلك في كتابها «المستقبل تاريخ: كيف تستعيد التوتاليتارية على استعادة» فإن قراءة أخرى تشدد في المقابل على طبيعته الهجينة، أو على أنه «توتاليتارية مهجنة» على ما يذهب إليه اندريه كوليسنيكوف، بما أن آلياته القمعية، الاقتصاصية من الخصوم، والتعليبية للرأي، تتداخل مع استمرار عناصر مستلة من اقتصاد السوق، والديمقراطية الانتخابية، والثقافة المدنية. في المقابل، ثمة اتجاه يميل أكثر فأكثر إلى اعتبار النظام البوتيني قد تطور، وخاصة مع هذه الحرب، في اتجاه «الفاشية». بل انه نحت لذلك مصطلح جديد، لقول الفاشية الروسية الحالية هو «Rashism»ومن الممكن تعريبها: الراشية. وقد ساهم الرئيس الأوكراني نفسه في اشاعة هذا المصطلح في الأشهر الأخيرة بخطاباته. يبقى أن ثنائية وزارة الدفاع في مقابل «مجموعة فاغنر» هو واحدة من سمات هذه «الراشية» الأكثر مأزقية. اعتماد موسكو على فاغنر، وابتزاز فاغنر لموسكو، مؤشران لا يطمئنان بالنسبة إلى مستقبل الأوضاع في الداخل الروسي نفسه. لقد تنازلت روسيا في حال فاغنر عن مبدأ احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي. سمحت بوجوب نوع من «الفافن اس اس» في ألمانيا النازية، هذا في وقت لا يعتمد النظام البوتيني الحاكم على مؤسسة حزبية فعلية، ويميل بعكس الأنظمة الفاشية في مرحلة ما بين الحربين، إلى العزلة عن السكان وليس تعبئتهم. يريدهم غير معترضين عليه، وليس مقاتلين في سبيله. فهل بإمكانه ان يطلب من الجماهير ان تتحرك فقط حين يدخل في مأزق لا يبدو انه باستطاعته الخروج منه؟

ما يظهر الآن هو أن هذه «الرّاشية» تحور وتدور في اللحظة الحالية، لحظة الهجوم الأوكراني المضاد، حول موضوع إعلان التعبئة العامة، وتحاول ان تكتفي بإثارته بشكل ميديائي متواصل أكثر منه اعلان التعبئة بالفعل. لا يعني ذلك ان الأمر لن يحصل، لكنه في مجازفة. اما بتسريع نقل المشكلة إلى الداخل الروسي، واما بأن تكون التعبئة العامة هي مجرد هرج ومرج. يأتي ذلك فيما موعد الانتخابات الرئاسية الروسية يقترب. وعلى الرغم من الطبيعة الأمنية للنظام لا يمكن التعامل مع هذا الاستحقاق على أنه لا يشكل لحظة جديرة بالمراقبة. لأن ما قد يكون شكلانيا للغاية في حال كان بوتين يسيطر على الوضع في الجبهة سيكون مأزقياً في الحال المغايرة. وثمة من أسرع في ربط كلام بريغوجين في سياق التهديف الانتخابي الرئاسي المبكر. الأوضح هو ما يشدد عليه صاموئيل راماني من أن النظام الروسي الذي تمكن من دون صعوبة تذكر في محاصرة العناصر الليبرالية «المضادة للحرب» يتعايش مع ازدياد النقد الموجه للقيادة السياسية والعسكرية من جانب القوميين المتشددين. يحصل ذلك في وقت فاقت عثرة الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية كل التوقعات، حتى بين أعتى خصوم موسكو، لحظة بدء العملية العسكرية الروسية. في المقابل، فإن التفاؤل الغربي في انهيار سريع للاقتصاد الروسي لم يكن في محله. لكن الحؤول دون انهيار اقتصادي روسي كبير سيكون أصعب في ظل استمرار الضعف العسكري، وتحرر البلدان الأوروبية تدريجياً من ابتزاز الغاز الروسي، وأثر العقوبات المالية والتجارية الغربية. فهل تسعى موسكو حينها جدياً إلى الخروج من الحرب. تأخرت للغاية للتفكير بذلك. فأوكرانيا لم تعد تقبل بأقل من الانسحاب الروسي من كافة أراضيها، بما فيها شبه جزيرة القرم، وهي تشعر بالفعل بأن حرب بوتين عليها أعطتها فرصة سانحة لاستعادة حتى ما خسرته عام 2014، فلماذا تتنازل عن ذلك؟

القدس العربي

————————–

الهجوم الأوكراني المضاد ونقل المعارك إلى داخل التراب الروسي/ آدم جابر

في الأيام الأخيرة، كثرت التصريحات الروسية والتصريحات التي سربتها وسائل إعلام غربية عن مصادر روسية دقيقة وأخرى أوكرانية لم يتم الكشف عن هوياتها بشأن ما سُمي «الهجوم الأوكراني المضاد الكبير» والذي أكد الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين، يوم الجمعة الماضي أنه «بدأ» على الجبهة، مشدداً أن قوات كييف لم تتمكن من «تحقيق أهدافها» في أي من ساحات المعركة، في وقت أشاد فيه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في اليوم نفسه (الجمعة) بـ «بطولة» جيشه. وعشية ذلك، قال معهد الأبحاث الأمريكي لدراسة الحرب، المشهور بتغطيته الشاملة للنزاع في أوكرانيا، في تحليل نُشر يوم الخميس، إن «عمليات الهجوم المضاد جارية في جميع أنحاء المسرح الأوكراني» متوقعاً «حصول انتكاسات أولى للقوات الأوكرانية نظرا لكثافة خطوط الدفاع الروسية».

لا بد من الإشارة هنا إلى أن يومي الرابع والخامس من شهر حزيران/يونيو الجاري شهدا سلسلة من تصريحات وتلميحات تصب كلها في موضوع هذا الهجوم المضاد. ففي يوم الأحد الماضي حظي فيديو سربته وزارة الدفاع الأوكرانية عبر وسائل التواصل الاجتماعي برواج كبير ظهر فيه وزير الدفاع الأوكراني وعدد من الجنود الأوكرانيين وهم يلبسون بزات عسكرية ويدعون مشاهدي الفيديو للزوم الصمت وذلك من خلال الاكتفاء بوضع بعض أصابع أياديهم على أفواههم في إشارة صامتة إلى أن شيئا ما يحدث.

رأى العديد من مشاهدي هذا الفيديو القصير من الأوكرانيين أو غير الأوكرانيين على أن فيه دليلاً على أن الهجوم الأوكراني الكبير على القوات الروسية قد بدأ لإنهاء سيطرتها على المناطق التي احتلتها أو على الأقل لاسترجاع جزء من هذه المناطق على غرار ما حصل خلال فصليْ الصيف والخريف الماضيين، حيث تمكنت القوات الأوكرانية في أواخر شهر آب/اغسطس الماضي من القيام بهجوم مضاد سمح لها باسترجاع بعض المواقع في مقاطعة خيرسون الواقعة في جنوب البلاد، قبل أن تُسيطر مجدداً في شهر أيلول/سبتمبر الذي يليه على مساحة ألفين وخمسمئة كيلومتر مربع من خلال هجوم مضاد على القوات الروسية في عدة مقاطعات يقع جزء كبير منها في شمال البلاد الشرقي، في مقدمتها مقاطعات خاركيف ودونيتسك.

تحريك الجبهة الشرقية

إذا كانت جبهات القتال بين القوات الروسية والأوكرانية تشهد منذ أشهر عمليات كر وفر من قبل الطرفين، فإن منطقة الدونباس الواقعة في الشرق الأوكراني عرفت خلال الأيام الماضية تحركا ملحوظا من جانب القوات الأوكرانية تعامل معه الجانبُ الروسي باعتباره مؤشرا على بداية «الهجوم المضاد» الذي تقول كييف إنها تعد إليه منذ فترة طويلة. وقد دأب الروس على التأكيد على أن قواتهم توصلت إلى دحر العدو في كل المحاولات التي يقوم بها لاسترجاع الأراضي التي يسيطر عليها الروس. وفعلا ذكرت وزارة الدفاع الروسية قبل أيام أنها صدت «هجوما كبيرا» في الدونباس وقتلت العشرات من الجنود الأوكرانيين حاولوا اختراق الدفاعات الروسية في المنطقة. وأضافت أنها أتلفت دبابات مدرعة ومعدات عسكرية أخرى. وسعى الروس إلى التوثيق إلى ذلك من خلال فيديو بثوه على المنصات الإلكترونية. ولكن الخبراء العسكريين أكدوا أن الفيديو ربما يكون مزورا شأنه في ذلك شأن فيديوهات كثيرة أخرى يطلقها الطرفان الروسي والأوكراني من حين لآخر في إطار الحرب النفسية والإعلامية القائمة بين الطرفين لرفع معنويات المقاتلين وتثبيط عزائم العدو.

الملاحظ أن الجانب الأوكراني لم يؤكد ما ذهب إليه الروس من أن تحرك جبهة الدونباس يعني بداية الهجوم المضاد. ولكنه شدد على أهمية التقدم الذي أحرزه المقاتلون الأوكرانيون في الجبهة الشرقية قرب مدينة باخموت. وذكرت مصادر روسية غير رسمية أن القتال مستمر فعلا بين الجنود الأوكرانيين والجنود الروس من حول المدينة التي نجحت القوات الروسية في السيطرة عليها في شهر أيار/مايو الماضي.

بين معارك زاباروجيا وانفجار سد نوفاكاخوفكا

بصرف النظر عما إذا كان الهجوم الأوكراني المضاد قد بدأ أم أنه ما يزال في طور المشروع، فإن الأوكرانيين نجحوا في الأيام الأخيرة في تحريك جبهة القتال في منطقة زاباروجيا في جنوب أوكراينا الشرقي. فقد أعلن وزير الدفاع الروسي يوم الثامن من الشهر الجاري أن قوات بلاده تصدت لهجوم أوكراني وأن العدو «تكبد خسائر» بشرية وعسكرية فادحة. ولكن مصادر أوكرانية عدة تؤكد العكس وتقول إن الأوكرانيين تفوقوا على خصومهم في هذه المعارك لأنهم استخدموا فيها معدات غربية متطورة جدا منها دبابات ومدرعات وصواريخ أثبتت جدواها. وشددت هذه المصادر على أهمية إشراك ألوية جديدة في هذه المعارك تم التوصل إلى إنشائها من خلال الموارد البشرية الأوكرانية التي أرسلت إلى دول حلف شمال الأطلسي خلال الأشهر الأخيرة والتي تلقت دورات تدريبية على فنون القتال كما تمارَس اليوم من قبل جنود الدول الأعضاء في هذا الحلف.

ويرى عدد من الخبراء العسكريين أن هذه الدورات التدريبية كان لها دور كبير في تحريك عدة جبهات قتال في الحرب الروسية الأوكرانية الأمر الذي أربك الطرف الروسي وجعله يدمر سد نوفاكاخوفكا الواقع في منطقة خيرسون أي في جنوب البلاد والقريب من شبه جزيرة القرم التي اجتاحتها القوات الروسية في عام 2014 وتصر روسيا اليوم بكل الطرق على الاحتفاظ بها أيا تكن نتائج الحرب الجديدة التي تشنها على أوكرانيا منذ شهر شباط/فبراير عام 2022. من بين هؤلاء الخبراء الفرنسي غيوم أنسيل وهو ضابط سابق برتبة مقدم في الجيش الفرنسي ومحلل متخصص في الاستراتيجيات العسكرية. ويقول هذا الخبير العسكري إن روسيا هي التي أقدمت على تدمير السد حتى تحبط كل محاولة جادة لتسجيل انتصارات أوكرانية في الجبهة الجنوبية القريبة من شبه جزيرة القرم. ولكن الجانب الروسي يوجه تهمة تدمير السد إلى الطرف الأوكراني ويرى أنه ليس لديه مصلحة في القيام بمثل هذا العمل.

جبهة بيلغورود الجديدة

أيا تكن القراءات بشأن تحرك جبهات الحرب الروسية الأوكرانية التقليدية، فإن عددا من المحللين العسكريين يرون أن أهم ما في الاستراتيجية الأوكرانية اليوم هو حمل المعارك إلى داخل العمق الروسي. وهذا الطرح كان حلفاء كييف وما يزالون يحذرون من عواقبه. وتقود الولايات المتحدة الأمريكية الطرح الذي يقول إن في نقل المعارك إلى داخل التراب الروسي مخاطر جسيمة، وهو ما يفسر التقاعس الأمريكي في تسليم أوكرانيا دبابات أبراهامس وطائرات افــ 16.

بيد أن اشتعال جبهة «بيلغورود» الجديدة في الأيام الأخيرة يدل فعلا على أن أوكرانيا بدأت تعي أهمية شن هجمات داخل التراب الروسي دون اللجوء بالضرورة إلى دبابات ابراهامس وطائرات إف 16 الأمريكية. وقد أقر الروس بأن منطقة بيلغورود الواقعة في الغرب الروسي شهدت معارك ضارية، لكنهم ذكروا أنهم توصلوا إلى صد الهجوم الأوكراني. وسواء نجحوا في هذا المسعى أو فشلوا فيه، فإن المعلومات التي تناقلتها عدة مصادر غربية وحتى روسية تؤكد أن كييف تستخدم في الهجوم الجديد الذي تسعى إلى تكراره في المناطق الروسية القريبة من الحدود الأوكرانية مقاتلين متمرّسين في القتال يقودهم بولنديون.

تريد أوكرانيا من وراء ذلك التأكيد على أنه إذا كانت مجموعة «فاغنر» الروسية شبه العسكرية سندا مهما للجيش الروسي في عمق الأراضي الأوكرانية، فلدى كييف اليوم مجموعات مقاتلين خارج إطار جيشها قادرة على ضرب روسيا في عقر دارها. ويتجلى ذلك من خلال فتح جبهة بيلغورود الجديدة في عمق الأراضي الروسية. كما يتجلى الأمر من خلال قدرة أوكرانيا على الوصول عبر الطائرات المسيرة إلى العاصمة الروسية موسكو. وهذا ما حصل قبل أيام ما يجعل عددا من الخبراء العسكريين يقولون اليوم إن نقل المعارك إلى داخل التراب الروسي هو الذي يشكل عصب الهجوم الأوكراني المضاد وليس تحريك جبهات القتال التقليدية. بينما شدد الرئيس الروسي فلاديمير الجمعة على أن أوكرانيا ما تزال تملك «قدرات هجومية» رغم فشل هجومها المضاد حتى الآن، على حد قوله.

——————————–

الناتو قد يسمح للدول الأعضاء إرسال قوات عسكرية إلى الأراضي الأوكرانية/ حسين مجدوبي

دخلت الحرب الروسية-الأوكرانية خلال الثلاثة أشهر الأخيرة فصلا جديدا من المواجهة يتجلى في تسريع منظمة الحلف الأطلسي مد الجيش الأوكراني بأسلحة متطورة وانتقلت إلى احتمال ترخيص للدول الأعضاء لإرسال جنود، الأمر الذي قد يشكل منعطفا خطيرا نحو حرب أوسع.

ويبقى الجديد في هذه الحرب هو انهيار جزء من سد كاخوفكا متسببا في فيضانات كبيرة. ونادرا ما تشهد الحروب تفجير سد إلا إذا كان تدميره سيغير من مسار حرب وسيؤدي إلى خسارة الطرف الآخر بل وانهزامه. ومن أشهر عمليات تفجير السدود، ذلك الذي قامت به القوات الأمريكية والبريطانية ليلة 16 وفجر 17 ايار/مايو من سنة 1943 بتفجير بعض السدود الألمانية لمنع الكهرباء عن مناطق صناعية لهذا البلد كانت تنتج الأسلحة. وتعرف هذه العملية بـ «العقاب» وكان لها أثر كبير على مسار الحرب العالمية الثانية لأنه حرم الصناعة العسكرية لنظام الرايخ من مصدر هام للطاقة.

ولعل المنعطف الحقيقي في هذه الحرب هو ما أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة من الأسبوع الجاري، ونقلته وكالة «إنترفاكس» الروسية بقوله «يمكننا أن نقول على وجه اليقين أن الهجوم المضاد الذي انتظرناه طويلا قد بدأ» مبرزا أن هناك «قتالا عنيفا» منذ خمسة أيام، وقدمت قنوات التلفزيون الروسية تدمير رتل من دبابات ليوبارد هذه الأيام، الأمر الذي يؤكد وقوع الهجوم المضاد. ويجب أخذ تصريحات كرسالة إلى الداخل الروسي لطمأنته باستمرار الجيش الروسي في تحقيق أهدافه الرئيسية وهي ضم شرق أوكرانيا بالكامل إلى خريطة البلاد، ثم رسالة إلى الغرب بشأن التطورات المستقبلية للحرب. وعادة ما تكون رسائله للغرب تحديا ومحاولة التسبب في تراجع مستوى الثقة.

 نحو انخراط عسكري للحلف الأطلسي

ويبقى المثير هو التصريحات التمهيدية حول مشاركة شبه مباشرة للحلف الأطلسي «الناتو» في هذه الحرب. وعلاقة بهذا، أكد أندرس راسموسن، الأمين العام السابق لحلف الناتو، أنه لا يمكن استبعاد دعوة دول معينة في الحلف قريبًا لإرسال قوات عسكرية للقتال في الحرب لدعم الجيش الأوكراني. وبالتالي، قد تكون قمة الحلف في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، المقرر عقدها يومي 11 و12 من الشهر المقبل حاسمة في هذا الشأن. ومنذ بدء الحرب، خلال شباط/فبراير 2022 رفضت دول الحلف الأطلسي لاسيما فرنسا وألمانيا تجاوز ما يصطلح عليه «الخط الأحمر» وهو إرسال قوات أطلسية إلى أوكرانيا، خوفا من أن يؤدي الصراع إلى حرب شاملة تكون أوروبا هي الخاسرة فيها.

وبدأت دول الحلف تغير موقفها تدريجيا، فقد بدأت بإرسال أسلحة متطورة مثل منظومة هيمارس الهجومية وأنظمة الدفاع الجوي باتريوت، ثم دبابات ليوبارد علاوة على قرار تزويد سلاح الجو الأوكراني بمقاتلات إف 16. وكان الحلف قد انتهى إلى صيغة مفادها حرية الدول الأعضاء في إرسال الأسلحة. ويبدو أن هذه الصيغة قد تتكرر، وفق تصريحات راسموسن، ابتداء من الشهر المقبل من خلال احتمال الترخيص لبعض دول «الناتو» التصرف بشكل مستقل عن طريق إرسال قواتها المسلحة إلى الجبهة. ويشغل راسموسن منصب مستشار الرئيس الأوكراني فلوديمير زييلنسكي في الوقت الراهن، وبالتالي يجب أخذ تصريحاته على محمل الجد.

وتشير كل المعطيات المتواترة حول دور جديد للحلف، أن العديد من الدول يمكن أن ترسل قريبًا قوات إلى أوكرانيا إذا لم يتم تقديم مساعدة ملموسة في قمة فيلنيوس إلى أوكرانيا. وتوجد ثلاثة عوامل يمكن اعتبارها حاسمة لكي ترسل بعض دول الحلف الأطلسي قواتها إلى الأراضي الأوكرانية للمشاركة في الحرب وهي:

في المقام الأول، يشهد انخراط الحلف الأطلسي في الحرب خطوة تلوى الأخرى، ومنها إرسال تقديم الدعم السياسي لكييف، ثم إرسال أسلحة متطورة ومنها هيمارس وباتريوت، ثم انخراط قوات النخبة العسكرية سرا في الحرب، والآن قد يتم إرسال قوات عسكرية تحت مبرر دفاعها عن بلد صديق دون شن هجمات على الأراضي الروسية.

في المقام الثاني، الجيش الأوكراني خسر الكثير من قواته البشرية، وهاجر الكثير من الشباب إلى الخارج، ولن تفيد كثيرا عملية تطوع المدنيين في شيء لأنهم سيحتاجون لشهور لاكتساب خبرة محدودة، وبالتالي أصبح إرسال جنود من دول مجاورة لهم خبرة وتدريب أمرا ضروريا.

في المقام الثالث، تسود وسط الحلف الأطلسي أطروحة عسكرية تعتقد بضرورة استنزاف الجيش الروسي في أوكرانيا قبل انتقاله إلى تهديد دول مثل لتوانيا وإستونيا بل وحتى بولندا نفسها. وتؤمن دول البلطيق وبولندا بهذه الأطروحة، ولهذا تعد الأكثر حماسا لإرسال قوات عسكرية برية وجوية لدعم الحلف الأطلسي، ويكفي أنها الدول التي أرسلت الكثير من العتاد إلى أوكرانيا بما في ذلك مقاتلات ميغ 29.

يدرك الحلف الأطلسي أنه أمام تحد حقيقي، إذ يجب عليه القيام بخطوات وقرارات قوية ليبرز دوره في حماية الأوروبيين وإبراز قوته أمام عالم يسير نحو تغيرات عميقة جيوسياسيا. وفي هذا الصدد، صرح الأمين العام الحالي لحلف الناتو، جان ستولتنبرغ خلال هذا الأسبوع في بروكسل بتوقعات قوية بشأن قمة فيلنيوس ويعتقد أن الحدث يمكن أن يكون «إشارة قوية» مرسلة إلى روسيا.

——————————

الحرب الأوكرانية بعد معركة باخموت النتائج والتوقعات/ صادق الطائي

شهدت الأشهر الأخيرة نشاطا ملحوظا في محاولات إيجاد حلول دبلوماسية للصراع الروسي الأوكراني، إذ اقترحت الصين حلها الخاص، تلاه «تحالف السلام» الذي طرحه الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بالإضافة إلى مبادرة السلام التي أطلقتها ست دول أفريقية، وطبعا هناك الدبلوماسية الروحية للبابا فرانسيس. في غضون ذلك، واصل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حشد الدعم العالمي، إذ سافر إلى جدة لطلب الدعم من القادة في القمة العربية، ثم ألقى كلمة في قمة مجموعة السبع حيث دعا قادة العالم إلى منع الحروب المستقبلية عبر توفير أسلحة جديدة لكييف والتشدد في العقوبات ضد موسكو.

في الأسابيع الأولى من الصراع في شباط/فبراير 2022 تقدمت روسيا بسرعة واستولت على العديد من المناطق في شرق أوكرانيا، بما في ذلك بعض ضواحي كييف والعديد من المناطق في الشمال الشرقي حول سومي. قصفت القوات الروسية مدينة خاركيف وسيطرت على مناطق في الشرق والجنوب حتى مدينة خيرسون، وحاصرت مدينة ماريوبول الاستراتيجية. ومع ذلك، وبفضل الدعم العسكري الغربي القوي لأوكرانيا، تغيرت الصورة بشكل كبير. انسحبت روسيا من الشمال وفشلت في الاستيلاء على كييف، وطردت القوات الأوكرانية الجيش الروسي من خاركيف وشنت هجومًا مضادًا على مدينة خيرسون. وحاليًا، تسيطر القوات الأوكرانية على خيرسون وقد حاصرت إلى حد كبير التقدم الروسي في الشرق.

المعركة الأكثر شراسة

المعركة الأخيرة التي نفذت في باخموت كانت الأكثر شراسة، وكانت أطول قتال مستدام في هذه الحرب. إذ تقع هذه المدينة في موقع مهم جغرافيًا ويُنظر إليها على أنها مفتاح لتأمين منطقة الدونباس بأكملها (الاسم الذي يطلق على المناطق الشرقية من دونيتسك ولوهانسك). بدأ الهجوم على مدينة باخموت من مقاتلي مجموعة فاغنر في تشرين الاول/أكتوبر العام الماضي. وبحلول بداية عام 2023 انسحبت القوات الأوكرانية من بلدة سوليدار الواقعة شمال باخموت. وفي 8 آيار/مايو، أكدت كييف انسحاب قواتها من بوباسنا الواقعة على بعد حوالي 24 كم شرق المدينة. تم لفت الانتباه إلى ساحة المعركة هذه عندما ظهر يفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة مرتزقة فاغنر، في مقطع فيديو حماسي، متهمًا الجنرالات الروس بمجموعة من إخفاقات الإمداد والتنسيق وهدد بانسحاب مجموعته من باخموت بحلول 10 آيار/مايو إن لم تعالج هذه المشاكل.

دمرت المعركة التي استمرت تسعة أشهر مدينة باخموت التي يبلغ عمرها 400 عام في شرق أوكرانيا حيث قتل عشرات الآلاف من الأشخاص في عرض مدمر للقوة قام به طرفا القتال. ولطالما كان للمدينة الصغيرة قيمة رمزية أكثر من القيمة الإستراتيجية لكلا الجانبين، مدينة باخموت التي تقع على بعد حوالي 55 كيلومترًا شمال العاصمة الإقليمية دونيتسك التي تسيطر عليها القوات الروسية، كانت تمثل مركزًا صناعيًا مهمًا تحيط به مناجم الملح والجبس وموطنًا لحوالي 80 ألف شخص، وقد اشتهرت المدينة، التي كانت تسمى أرتيوموفسك على اسم ثائر بلشفي عندما كانت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفييتي، بنبيذها الفوار المنتج في الكهوف تحت الأرض. وكانت تحظى بشعبية بين السياح بسبب طرقها الواسعة التي تصطف على جانبيها الأشجار والحدائق المورقة ووسط المدينة الفخم مع القصور المهيبة التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر والتي تحولت جميعها الآن إلى خرائب وأرض محروقة.

كان المقياس الأكثر أهمية لنجاح القوات الأوكرانية في المعركة الأخيرة هو قدرتها على إبقاء الروس في المستنقع، إذ يهدف الجيش الأوكراني إلى استنزاف موارد القوات الروسية ومعنوياتها في رقعة صغيرة ولكن تكتيكية من خط المواجهة البالغ طوله 1500 كيلومتر حيث تستعد أوكرانيا لهجوم مضاد كبير في الحرب المستمرة منذ 15 شهرًا.

دخان المعركة جعل من المستحيل تأكيد الوضع على الأرض، وقد أفادت وزارة الدفاع الروسية أن ميليشيا فاغنر وبدعم من القوات الروسية استولت على المدينة. في غضون ذلك، قال الرئيس فولوديمير زيلينسكي إن القوات الروسية لم تحتل باخموت بالكامل، وإن المقاومة مستمرة في أطراف المدينة. أما الجنرال أولكسندر سيرسكي، قائد القوات البرية للقوات المسلحة الأوكرانية فقد صرح: «على الرغم من حقيقة أننا نسيطر الآن على جزء صغير من باخموت، فإن دفاعاتنا لا تفقد أهميتها، هذا الوجود يمنحنا الفرصة لدخول المدينة في حالة حدوث تغيير في الوضع. وسيحدث ذلك بالتأكيد».

وأعلن قائد مجموعة المرتزقة الروسية فاغنر أن قواته بدأت الانسحاب من مدينة باخموت الأوكرانية، كما تعهد يفغيني بريغوجين بنقل السيطرة على المدينة إلى الجيش الروسي في الأول من حزيران/يونيو. وقال إن قواته مستعدة للعودة إذا ثبت أن الجيش النظامي الروسي غير قادر على إدارة الموقف، كما صرح بريغوجين بالقول إن 20 ألفًا من مقاتليه قتلوا في باخموت. وقال في شريط فيديو نُشر على تلغرام من المدينة المدمرة: «سنسحب وحدات فاغنر من باخموت اليوم».

الاختراقات الأوكرانية

ونشر الجيش الروسي تعزيزات في باخموت المدمرة لتجديد الوجود العسكري في الأجنحة الشمالية والجنوبية ومنع المزيد من الاختراقات الأوكرانية، ويشير عدد من الباحثين إلى أن فلاديمير بوتين كان بحاجة ماسة إلى إعلان النصر في مدينة باخموت، حيث ركزت القوات الروسية جهودها، خاصة بعد فشل الهجوم الشتوي لقواته في السيطرة على مدن وبلدات أخرى على طول الجبهة. ويقول محللون إن باخموت ليست ذات قيمة استراتيجية تذكر لموسكو، لكن الاستيلاء عليها سيكون انتصارًا رمزيًا لروسيا بعد أطول معركة في الحرب في أوكرانيا حتى الآن. وسيؤدي الاستيلاء على باخموت إلى تقريب روسيا قليلاً من هدفها المتمثل في السيطرة على منطقة دونيتسك بأكملها، وهي واحدة من أربع مناطق في شرق وجنوب أوكرانيا ضمتها روسيا في أيلول/سبتمبر الماضي بعد استفتاءات تم التنديد بها على نطاق واسع خارج روسيا حيث وصفت بأنها مزيفة.

كما قال بعض المحللين إنه حتى المكاسب التكتيكية لأوكرانيا في المناطق المحيطة بمدينة باخموت يمكن أن تكون أكثر أهمية مما تبدو عليه. وصرح فيليبس أوبراين، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة سانت أندروز: «كان الأمر أشبه باستغلال الأوكرانيين لحقيقة أن الخطوط الروسية كانت ضعيفة في الواقع، لقد عانى الجيش الروسي من مثل هذه الخسائر الفادحة وهو منهك للغاية حول باخموت لدرجة أنه لا يمكنه المضي قدمًا بعد الآن».

وصرحت نائبة وزير الدفاع الأوكراني، حنا ماليار، أن روسيا سعت إلى خلق انطباع بالهدوء حول باخموت، لكن في الواقع، لا يزال القصف المدفعي مستمرا بمستويات مماثلة لتلك التي كانت في ذروة معركة السيطرة على المدينة. وقالت إن القتال يتطور إلى مرحلة جديدة: وإن «المعركة حول مدينة باخموت لم تتوقف». وقالت ماليار، وهي ترتدي زيها العسكري المميز في مقابلة مع مركز إعلامي عسكري في كييف: «إن القتال مستمر، لكنه اتخذ أشكالًا مختلفة فقط، إذ تحاول القوات الروسية الآن طرد المقاتلين الأوكرانيين من المرتفعات المطلة والمهيمنة على باخموت لكنها تفشل في ذلك».

وأشار مايكل كوفمان من مركز التحليلات البحرية، وهو مجموعة بحثية أمريكية، إلى أن الانتصار يستوجب تحديات جديدة في السيطرة على باخموت. ومع انسحاب مقاتلي فاغنر، فإن القوات الروسية «ستصبح ثابتة بشكل متزايد في باخموت، وستجد صعوبة في الدفاع عنها» وأضاف: «لذلك قد لا يتمسكون بباخموت، وربما انتهى الأمر كله بلا شيء بالنسبة لهم».

وقال المحلل العسكري الأوكراني رومان سفيتان: «الهدف في المعركة الأخيرة ليس باخموت نفسها التي تحولت إلى أنقاض، أن هدف الأوكرانيين هو التمسك بالمرتفعات الغربية والحفاظ على قوس دفاعي خارج المدينة». وأوضح: «على نطاق أوسع تريد أوكرانيا أن تثقل كاهل القوات الروسية وتسيطر على زمام المبادرة قبل الهجوم المضاد، وهو جزء مما يسميه المحللون العسكريون (تشكيل العمليات) لتحديد شروط بيئة المعركة ووضع العدو في موقف دفاعي».

وقال سيرهي تشيرفاتي، المتحدث باسم القوات الأوكرانية في الشرق، إن الهدف الاستراتيجي في منطقة باخموت هو «كبح جماح العدو وتدمير أكبر قدر ممكن من الأفراد والمعدات، مع منع أي اختراق روسي أو مناورة تطويق». وتساءل المحلل ماتيو بوليج عما إذا كانت معركة باخموت ستحمل دروسًا أو أهمية للحرب المقبلة. فقال إن التفوق العسكري مهم، وكذلك «التفوق المعلوماتي» والقدرة على «خلق حيلة للتعتيم على قوتك، لتكون قادرًا على التحرك في الظل». كما أشار بوليج، وهو زميل استشاري في برنامج روسيا وأوراسيا في مركز أبحاث تشاتام هاوس في لندن إلى إن هذه التكتيكات «يمكن أن تحدد أي جانب يكتسب ميزة تفاجئ الطرف الآخر، وتقلب مجرى الحرب».

القدس العربي

—————————–

ما الموقف الأوروبي من الهجوم الأوكراني المضاد وهل تدمير السد جاء لمنع تقدم القوات الأوكرانية؟/ علاء جمعة

توسع رقعة القتال في أوكرانيا والوتيرة المكثفة لسير المعارك هناك دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتأكيد أن الهجوم الأوكراني المضاد قد بدأ وذلك بعد تأخر إعلانه عدة مرات. وبالرغم من النفي الأوكراني المتكرر بأن الهجوم المضاد المرتقب لم يبدأ بعد، بيد أن الواقع العسكري والتغييرات التي تشهدها الوقائع على الأرض، خاصة مع انهيار سد كاخوفا، يبين بكل وضوح أن تغيرا عسكريا كبيرا بدأ بعد أكثر من 15 شهرًا من الحرب في أوكرانيا.

وبعد أسابيع من الاستعدادات، قد يكون الجيش الأوكراني بدأ المرحلة الأهم من هجومه المضاد، في محاولة لاختراق الدفاعات الروسية على أمل تحقيق نجاح يعدّ ضرورياً في سياق الحرب المستمرّة. ولا تزال السلطات الأوكرانية تلتزم موقفا غامضا بشأن عملياتها. من جهتهم، يؤكد الروس أنّهم صدّوا هجوماً أوكرانياً في منطقة زابوريجيا، مشيرين إلى أنّهم تسبّبوا في خسائر فادحة لكييف.

ويعتقد العديد من المراقبين أنّ «الهجوم الأوكراني المضاد بدأ» وبينهم محلّلو معهد دراسات الحرب «ISW» الأمريكي، الذين يقولون إنّه ليس من المتوقع حدوث «عملية كبيرة واحدة» ولكن عدداً من العمليات المنسّقة، كما يجري حالياً.

وتخوض أوكرانيا اللعبة بقوة، مع إدراك السلطات أنّه لن يكون لديها فرص كثيرة متاحة لطرد الروس واستعادة الأراضي المحتلّة، في ظل حصولها على معدّات عسكرية غربية. ويأتي ذلك فيما بات عدد سكانها أقل وحُرمت من جزء من أراضيها، كما يرزح السكان تحت القصف الروسي المتكرّر والذي يطال العمق. ونشر الروس بدورهم «حوالي ستة خطوط دفاعية» في منطقة زابوريجيا، أطلق بعض الروس على هذه الخطوط اسم «خط فابرجيه» في إشارة إلى بيضة فخمة كانت تعتبر من المجوهرات التي صُنعت للقيصر في القرن التاسع عشر.

وفى الوقت ذاته قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو إن روسيا ستنقل أسلحة نووية تكتيكية إلى بيلاروس الشهر المقبل، وذكر بوتين في تصريحات متلفزة في الاجتماع بمنتجع سوتشي الروسي المطل على البحر الأسود أن استكمال منشآت التخزين في بيلاروس سيتم بحلول السابع أو الثامن من تموز/يوليو، بما يسمح ببدء نقل الأسلحة.

دور أوروبي حاسم لدعم أوكرانيا

الرد الأوكراني لم يكن ليحدث لولا الدعم الهائل الذي حصلت عليه حكومة كييف من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، حيث لعبت هذه الدول في تعزيز المستوى العسكري والذخيرة، التي باتت روسيا تواجه صعوبة في التزود بها، حسب ما صرحت به جهات عسكرية كثيرة، كان آخرها تصريحات قائد قوات فاغنر يفغيني بريغوزين عن نقص الذخيرة الكبير التي واجه قواته أثناء الصراع في باخموت.

ويبدو أن التكتيك الأوروبي قائم على الدعم العسكري المتكرر، بالرغم من التكلفة العالية التي تتكبدها دول الاتحاد، من أجل استنفاد الذخيرة العسكرية الروسية، وفي نفس الوقت تعمل القنوات الدبلوماسية على تضييق الخناق على أي اتفاق عسكري قد يحصل بالمقابل، وهو ما عكسته التحذيرات الأمريكية والأوروبية الأخيرة لإيران والصين من مغبة دعم روسيا عسكريا.

على المستوى السياسي، قامت الدول الأوروبية بتوجيه رسائل قوية إلى روسيا، مع إدانة الهجوم الأوكراني المضاد والتطورات الأخيرة. طالبت بوقف العنف فورًا وعودة إلى الحل السلمي للنزاع. كما أكدت على ضرورة احترام السيادة الوطنية والقانون الدولي، وشددت على أن أي تصعيد إضافي سيكون له عواقب وخيمة على العلاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا.

فيما أعربت رئيسة المفوضية الأوروبية عن قلقها البالغ إزاء التصعيد العسكري الأخير والعنف المتصاعد في أوكرانيا. وأكدت أن الاتحاد الأوروبي يدعم بقوة السيادة والاستقلال ووحدة أوكرانيا، ويدين بشدة أي عمل ينتهك القانون الدولي. كما أشارت إلى ضرورة تفادي تصعيد الأوضاع وتعزيز الحوار الدبلوماسي لحل الأزمة.

أسلحة نوعية في طريقها إلى كييف

يؤكد عسكريون أنه لا يمكن كسب المعارك في أوكرانيا إلا بالأسلحة الثقيلة، ولتقليل ثقل التفوق العددي للجيش الروسي في هذا الصدد، قام حلفاء أوكرانيا الغربيون بالفعل بتزويدها بآلاف الأسلحة مع الذخيرة. لكن هناك شيئا واحدا واضحا: لا يمكن الدفاع عن البلاد دون تسليمها المزيد من الأسلحة.

لكن في الوقت نفسه، لا يريد الناتو المخاطرة بالحرب مع روسيا. فقد أكدت موسكو مراراً وتكراراً على أنه يمكن اعتبار عمليات تسليم الأسلحة أيضاً هجوماً على روسيا – خاصةً إذا كانت الأسلحة مناسبة لمهاجمة الأراضي الروسية. ولهذا السبب تزن الدول الداعمة بعناية شديدة أنظمة الأسلحة التي ترسلها إلى أوكرانيا.

وتوضّح ذلك مرة أخرى في نهاية أيار/مايو، عندما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن تلبية طلب كييف في تسليم راجمات صواريخ متحركة إلى القوات المسلحة الأوكرانية. وعلى وجه التحديد، سيتم تسليمها على الأرجح راجمات صواريخ من نوع «MLRS» (نظام الصواريخِ متعدّدِ الانطلاق) أو الإصدار الأخف منها «HIMARS» (نظام صاروخي مدفعي عالي الحركة).

والنظامان عبارة عن منصات متحركة يمكنها إطلاق العديد من الصواريخ المختلفة، لكن الفرق الأساسي بينهما هو أن نظام «HIMARS» فيه قاذفة للصواريخ مثبتة على شاحنة مصفحة بدلاً من عربة مجنزرة.

دعم ألماني لكييف

قبل بضعة أسابيع، وعدت برلين بتسليم كييف 50 دبابة من نوع «غيبارد» المضادة للطائرات، وسبع مدافع «هاوتزر» ذاتية الدفع من نوع «بانزرهاوبيتز 2000». وعلى عكس مدافع «هاوتزر» التقليدية التي تسحبها مركبات، يمكن لهذه المدافع تغيير موضعها بشكل مستقل بعد كل قذيفة تطلقها. كما أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس مؤخراً عزم بلاده إرسال نظام الدفاع الجوي الحديث «IRIS-T» ورادار تتبع لأوكرانيا. كما ستقدم ألمانيا أربع راجمات صواريخ متعددة الانطلاق من مخزونات الجيش الألماني.

وتتمثل إحدى مشكلات الأسلحة التي يرسلها الغرب إلى أوكرانيا في أن الجنود الأوكرانيين ليسوا على دراية بكيفية استخدامها في الغالب. وفي حين أن الشرح الموجز كافٍ بالنسبة للمعدات والأجهزة البسيطة، يقول الخبراء إن التدريب على الأنظمة المعقدة مثل دبابات «غيبارد» قد يستغرق عدة أسابيع أو حتى عدة أشهر. وهذا أحد أسباب مشاركة ألمانيا في ما يسمى بـ«التبادل بين الشركاء». وبذلك تم مثلاً استبدال دبابات القتال وناقلات الجنود المدرعة من الطراز السوفييتي التي قدمتها كل من التشيك وسلوفينيا واليونان إلى أوكرانيا بمدرعات «ماردر» ودبابات «ليوبارد 2» من مخزونات الجيش الألماني.

الدنمارك وبريطانيا

تقول الحكومة البريطانية إنها سلمت عدداً من أنظمة الأسلحة إلى أوكرانيا، ومن هذه الأسلحة صواريخ موجهة محمولة، مثل «جافلين» و«ستينغر» التي يمكن استخدامها ضد الأهداف الجوية والبرية، بعد شرح قصير حول كيفية استخدامها. لكن بريطانيا أرسلت أيضاً أنظمة صواريخ أثقل يمكن إطلاقها من المركبات أو من الأرض. كما أن الدنمارك أعلنت موافقتها السابقة على إرسال صواريخ «هاربون» المضادة للسفن في جميع الأحوال الجوية إلى أوكرانيا. وحتى الآن تدافع أوكرانيا عن مدينة أوديسا ومدن ساحلية أخرى باستخدام الألغام البحرية بالدرجة الأولى. لكن الساحل غير محمي إلى حد كبير من احتمال غزو من البحر، لأن أوكرانيا لا تمتلك قوة بحرية كبيرة. وقد تساهم هذه الصواريخ في كسر الحصار البحري الذي يعزل أوكرانيا عن الأسواق العالمية إلى حد كبير.

تدمير السد والهجوم المضاد

ترى كييف أن روسيا أرادت بذلك «كبح» هجوم الجيش الأوكراني. وهذا لأنه إذا غمرت المياه الخطوط الدفاعية الروسية على طول نهر دنيبر، فقد يعرقل ذلك عملية عسكرية أوكرانية محتملة في هذه المنطقة.

وتتبادل روسيا وأوكرانيا الاتهامات باستهداف سد كاخوفكا، حيث قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا: إن تدمير روسيا للسد يمثل على الأرجح «أكبر كارثة تكنولوجية في أوروبا منذ عقود». وأدانت ألمانيا ودول أوروبية أخرى تدمير السد، وقال المستشار الألماني أولاف شولتس إن ألمانيا تراقب بقلق الوضع في محطة زابوريجيا للطاقة النووية في جنوب أوكرانيا لا سيما بعد تفجير سد نوفا كاخوفكا الذي يمد المحطة بالمياه.

وأضاف شولتس في مقابلة مع محطة «في دي آر» الإذاعية الألمانية: «كل ما نستطيع قوله فيما يخص محطة زابوريجيا هو أننا نراقب الوضع فيها على مدار الساعة». واتهم شولتس روسيا بتكثيف مهاجمتها لأهداف مدنية في أوكرانيا.

——————————–

الهجوم الأوكراني المضاد: حملة الربيع بدأت بالصيف والغرب يعول على مكاسب في حرب لن يكون فيها منتصر/ إبراهيم درويش

هل بدأ الهجوم الأوكراني المضاد والمعركة الأخيرة لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة القوات الروسية بما فيها شبه جزيرة القرم؟ لا أحد يعرف، فالأوكرانيون يقولون إنهم لم يبدأوا هجوم الربيع الذي دخل الصيف، والروس يعتقدون أنه بدأ ومعهم الأمريكيون والمسؤولون الغربيون الذين يمولون ويدعمون أوكرانيا بالسلاح والعتاد والمواد اللوجيستية.

ولا غرو فقد شهد الأسبوع الماضي مناوشات قامت بها جماعات موالية لأوكرانيا في داخل قرى روسية، حيث استخدمت هذه الوحدات عربات مصفحة أمريكية وبنادق أرسلتها دول أوروبية مثل بلجيكا وجمهورية التشيك، ولم تعترض الولايات المتحدة على استخدام أسلحتها ضد أهداف روسية. مع أن الرئيس جو بايدن أكد في أيار/مايو العام الماضي أن الولايات المتحدة لا تسمح باستخدام أسلحتها ضد أهداف روسية، ولكنها بعد عام على الحرب قدمت لكييف كل أنواع الأسلحة بما فيها نظام هيمارس الصاروخي ووافقت على تدريب الطيارين الأوكرانيين لاستخدام مقاتلات اف-16.

مناوشات أولية أم هجوم؟

وبالمحصلة حصلت أوكرانيا على كل ما تريده من الغرب، دعم عسكري وغطاء سياسي ودبلوماسي كبلد معتدى عليه، وكل ما تريده من القوى العظمى التي اصطفت معها في حربها ضد روسيا بوتين. وتريد أوكرانيا تكرار درس العام الماضي في أيلول/سبتمبر الذي استعادت فيه مناطق واسعة منها خاركيف الإستراتيجية وعززت من مناطقها، مع أنها خسرت قبل الهجوم مدينة باخموت التي احتدم فيها القتال لعدة أشهر وسقطت بيد القوات التابعة لشركة فاغنر للمرتزقة. ويخوض الأوكرانيون الحرب على مستويين، الأول ميداني، حيث يقومون بامتحان الدفاعات الروسية واستغلال مكامن الضعف على أمل حصول خرق فيها والتقدم في مناطق شرق وجنوب أوكرانيا المحتل، ومستوى دعائي، أي محاولة نقل الحرب للأراضي الروسية، كما حدث مع الجماعات الموالية لها من المقاتلين الروس الذين يقولون إنهم يقاتلون نظام بوتين. وكان الهدف من هذه العمليات هو نشر الذعر والخوف بين المواطنين الروس على طول الحدود مع أوكرانيا وإجبار القيادة العسكرية الروسية على سحب جزء من قطعاتها المتمركزة في أوكرانيا، بحيث تنكشف القوات الروسية هناك. ولكن المقامرة لم تنجح على ما يبدو، ولم يعد الإعلام يتحدث عن المقاتلين الروس هؤلاء. ويواجه الأوكرانيون مشاكل عدة تتعلق بدمج المنظومات العسكرية الغربية ضمن قواتهم وكيفية استخدام المدرعات الحديثة وتدريب أفراد الجيش على قيادتها ورفع المعنويات بين الجنود، مع أن الغرب يتحدث عن مشكلة معنويات داخل القوات الروسية النابعة من الخلاف المتصاعد بين القوات النظامية ووزارة الدفاع وزعيم فاغنر يفغيني بريغوجين الذي قاد معركة السيطرة على باخموت. وهي مدينة قد يتخلى عنها الروس ولا تبدو مهمة في تقديراتهم العسكرية. ولا بد من الإشارة إلى أن الروس ومنذ فشل الأهداف الأولى للعملية العسكرية في 25 شباط/فبراير 2022 وعدم احتلال كييف وإسقاط النظام هناك وهم في تراجع مستمر وإعادة تجميع الصفوف وتغيير القيادات العسكرية المسؤولة بشكل شامل عن الساحة في أوكرانيا.

هل بدأ فعلا؟

ونعود للسؤال: هل بدأ الهجوم الأوكراني المضاد؟ هناك إشارات عن احتدام القتال في عدد من المواقع حيث يزعم كل طرف أنه صد الطرف الآخر ويحذر المسؤولون الأمريكيون من التكهن بشأن العمليات لأن الأيام الأولى ليست معيارا لقياس نجاح القوات الأوكرانية. ودخل في الأيام الماضية عامل جديد ومهم وهو تدمير سد نوفا كاخوفكا، الذي فاض الماء منه، بفعل تفجير داخلي أو خارجي حمل الروس الأوكرانيين مسؤوليته، ورأت كييف أن موسكو نفذته لإعاقة تقدم قواتها. ويقع السد على نهر دنيبرو الذي أصبح نقطة الفصل بين الطرفين. وفي الشرق بعيدا عن الفيضان والقرى التي غمرها السد يدور قتال حاد. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» (9/6/2023) عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن القوات الأوكرانية تكبدت خسائر في المراحل الأولى من القتال. وبالمقابل لم يتم الحديث عن خسائر روسية. وحذر المحللون أن خرق الدفاعات الروسية سيكون صعبا وبثمن، فقد أنشأ الروس دفاعات قوية، من الخنادق والملاجئ وحقول الألغام وكتل أسمنتية لعرقلة تقدم الدبابات، وتجعل الأراضي المنبسطة القوات المهاجمة طعما للمدافع الروسية والطيران الجوي. وأظهرت صور ولقطات فيديو لمدونين مؤيدين لروسيا وتحققت منها صحيفة «نيويورك تايمز» ثلاث دبابات المانية الصنع (ليبورد2) وثماني مصفحات برادلي الأمريكية الصنع تخلى عنها الأوكرانيون أو دمرت. في وقت لم تتوقف الإعلانات الأمريكية عن مزيد من الدعم العسكري، فقد أعلنت البنتاغون يوم الجمعة عن جولة جديدة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا تقدر بـ 2.1 مليار دولار وتشمل صواريخ دفاعية وقذائف مدفعية. وقدم الطرفان تقييما إيجابيا لسير العمليات، فمن ناحيته الرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي تحدث عن انجازات «خطوة خطوة» لجيشه، أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد قال في تجمع يوم الجمعة بسوتشي إن الهجوم الأوكراني قد بدأ والدليل هو استخدام «الاحتياط الإستراتيجي» وأن القوات الأوكرانية لم تحدث أي تقدم ولكن هناك «عملية محتملة». ويقول المحللون الأمريكيون أن هدف أوكرانيا استعادة 18 في المئة من أراضيها ليس بالبسيط ولا يمكن الحكم عليه بعد يوم أو يومين من القتال. وقال معهد دراسات الحرب بواشنطن إن أوكرانيا لم تنشر كل الوحدات المدربة والمسلحة حديثا وجهزتها لهذا الهجوم وأنها تقاتل في منطقة زبوروجيا ضد وحدات روسية أقوى من تلك في أماكن أخرى.

يوم الإنزال العظيم

ووسط التوقعات الكبيرة من العملية الأوكرانية، والتهويل الإعلامي والحديث عن قوة الجيش الأوكراني فعملية عسكرية لن تنهي الحرب ولن تحقق النصر لأي من الطرفين وسط غياب أي حديث عن الحلول الدبلوماسية، فربط كييف السلام مع موسكو أو حتى الجلوس إلى طاولة المفاوضات بتحرير كامل التراب الأوكراني بما في ذلك القرم التي ضمها بوتين في 2014 هو دليل على رغبة الغرب بمواصلة القتال وإنهاك الدولة الروسية بالحروب والعقوبات وتوسيع مجال التأثير الغربي في مناطق الإتحاد السوفييتي السابق وباستخدام الناتو. ونسمع قدرا كبيرا من المبالغات في حرب لا يمكن لأحد الانتصار بها ولا تحل إلا بالطرق السلمية، فقد وضع الغرب الكثير من المسؤولية على الأوكرانيين ووصفهم بمقاتلي الحرية وأنهم المدافعون عن العالم الحر، وبالغ في تقدير قدرتهم القتالية بناء على ما أنجزوه في الحملة الماضية. لا شك في أن أبناء الوطن المحتل أو الذي يتعرض لهجوم هم أكثر دافعية للقتال من قوات جيش غاز ارتكب الكثير من الأخطاء. وقال رئيس هيئة أركان سلاح الجو الأمريكي الجنرال جيمس ماكونفيل في لقاء جمعه في فرنسا مع وزيري الدفاع البريطاني والفرنسي «نجد أنفسنا في وضع مشابه جدا مع الهجوم غير المبرر على أوكرانيا، الحرية ليست بلا ثمن». وفي مقال رأي كتب المعلق المعروف ديفيد إغناطيوس بـ «واشنطن بوست» (6/6/2023) أن «فجر يوم النصر دي- دي يقترب» ففي ظل الاحتفال بهذا اليوم الأسبوع الماضي، ذكر إغناطيوس أن الهجوم الأوكراني قد يغير من مسار الحرب كما حدث في نورماندي الذي غير مسار الحرب العالمية الثانية. وقال إن الحملات العسكرية من النادر أن تكون انتصارا كاملا أو هزيمة إلا أن الحملة الأوكرانية تقترب من تحقيق الهدف. ولو «استطاعت أوكرانيا دفع الجيش الروسي المهتز للوراء فأمامها فرصة لإجبار موسكو على المقايضة مقابل غزوها الفاشل. ولو عجزت أوكرانيا فستكون ضربة لشعبها القلق وتؤثر على الدعم من أعضاء الناتو غير المرتاحين». وقال إن الإدارة الأمريكية لبايدن تعتقد أن حملة الربيع التي طال انتظارها بدأت يوم الإثنين بمحاولة قطع الجسر الأرضي الذي يربط روسيا بالقرم. وأضاف أن النتائج الأولى كانت مشجعة للأمريكيين مع أن تفجير سد نوفا كاخوفكا أوقف التقدم وسيؤثر تدميره على الطرفين الأوكراني والروسي، في وقت يخشى خبراء السلاح النووي من نفاد مياه التبريد في مفاعل زابورجيا، ولكن هذا لن يحدث إلا بعد عدة أسابيع. ويقول إغناطيوس إن مقامرة أوكرانيا على حملة الصيف دليل عن ثقة زيلينسكي لكنه بحاجة لأن يظهر نتائج، مع أن مقامرات كهذه عادة ما تنتهي بنتائج غير واضحة.

ستعرفون

وهنا نعود للحديث عن توقعات الغرب من أوكرانيا وما تستطيع الأخيرة إنجازه. ففي الوقت الذي رفض فيه المسؤولون في أوكرانيا التأكيد إن كان هجوم الصيف قد بدأ إلا أن الغرب يبالغ في توقعاته، فهو متعجل لإنهاء المعركة وهزيمة القوات الروسية، خوفا من التداعيات المحلية لو طالت الحرب. ولاحظ معلق في صحيفة «الغارديان»(9/6/2023) بأن انهيار سد نوفا كاخوفكا جاء وسط مخاوف أمريكية من عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي يحضر مع اليمين الأمريكي المحافظ لوقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، لو هزم بايدن العام المقبل. وحتى في النظرة الواقعية للأمور، فالحديث عن نصر حاسم لأي طرف نوع من الضرب بالرمل.

متغيرات

وتقول صحيفة «واشنطن بوست» (8/6/2023) إن الأوكرانيين يواجهون اليوم مشهدا مختلفا عما واجهوه في خيرسون العام الماضي. هناك العديد من الأسباب التي تجعل من غير المحتمل أن تكون جهود هذا العام تكرارا سهلا لهجمات 2022 المضادة لأوكرانيا ومهما كانت نتيجة الحملة. فمن ناحية تمت إعادة رسم خريطة المعركة. ففي العام الماضي، تمكنت أوكرانيا من استعادة مساحات كبيرة من الأراضي في منطقة خيرسون، ولكن فقط على الضفة الغربية لنهر دنيبر. هذا النهر العظيم المترامي الأطراف يعمل كخط فاصل بين القوات الأوكرانية والقوات الروسية الغازية التي دمرت الجسور المقامة عليه التي يمكن استخدامها لعبوره. ومن الممكن عبور نهر دنيبر، حيث قامت مجموعات صغيرة من الجنود الأوكرانيين بذلك بالفعل، لكن هذا يمثل مشكلة تكتيكية كبيرة. وسيزيد تدمير السد من المشاكل، فقد أعاد الفيضان بالفعل تشكيل ساحة المعركة، وقطع أحد الطرق القليلة المتبقية عبر النهر. وفي الوقت نفسه، في منطقة زابوروجيا المجاورة، فإن المساحات المسطحة نسبيا للأراضي الزراعية في الغالب تجعلها هدفا أكثر نضجا. يتوقع الكثيرون حدوث هجوم مضاد في هذا الاتجاه لأنه قد يقطع «الجسر البري» المؤدي إلى القرم. لكن روسيا تعرف ذلك أيضا وقد أمضت أكثر من ستة أشهر في تحصين المنطقة بشدة بالخنادق، الألغام والعوائق المضادة للدبابات. سيستغرق المرور عبر هذه الخطوط وقتا وجهدا ومعدات – ما قد يسمح للاحتياطيات الروسية بإعادة تجميع صفوفها والقيام بضربات مضادة قبل أن تتمكن القوات الأوكرانية من اختراقها. أما العامل الثاني في الحملة الحالية، فهي الأسلحة الجديدة التي قدمتها أمريكا وبوفرة للقوات الأوكرانية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بما في ذلك عربات المشاة برادلي، ودبابات القتال أم1 إي2 أبرامز وبرادلي وباتريوت للدفاع الجوي. فيما ملأ حلفاء آخرون الفجوة، حيث قدم الحلفاء الأوروبيون دبابات ليوبارد 2 القتالية بينما زودت بريطانيا صواريخ ستورم شادو طويلة المدى. ومنحت الولايات المتحدة أيضا موافقتها مؤخرا على توريد طائرات مقاتلة من طراز F-16 إلى أوكرانيا، على الرغم من أنه مثل دبابات أبرامز، من المحتمل أن يستغرق الأمر عدة أشهر قبل استخدامها. وسيشكل العديد من هذه الأسلحة تغييرا بالنسبة لأوكرانيا، التي كانت تعتمد في بداية الصراع على آلات قديمة إلى حد كبير من تصميم الحقبة السوفييتية. إلى جانب هذا فالوحدات التي تم إنشاؤها حديثا – مثل اللواء 47 الآلي المنفصل، ليست مسلحة بأسلحة غربية فحسب، بل مدربة أيضا على التكتيكات العسكرية الغربية. وهناك الروح المعنوية للطرفين، ويمكن أن تكون مشكلة، ولكنها تبدو حادة في الجيش الروسي وكانت واحدة من سبب انسحاباته المتسارعة التي شهدها العام الماضي. لم يبدأ الهجوم الروسي الشتوي المخطط له في وقت سابق من هذا العام، في حين أن المكاسب التي تحققت هي في أفضل الأحوال انتصارات باهظة الثمن، كما في باخموت. وبالمقارنة، فإن الانقسامات بالروح المعنوية الأوكرانية محدودة. بشكل عام، يحتفظ الجنود والمسؤولون الأوكرانيون بنبرة وطنية متسقة بشكل ملحوظ، حتى بعد الانتكاسة التي حدثت في باخموت، مع تقارير قليلة عن حدوث خلافات حول الاستراتيجية العسكرية أو قضايا أخرى مع قيادة الرئيس زيلينسكي. إلا أن الأوكرانيين يشعرون بضغط المهمة، فلو لم تستطع القوات الأوكرانية الحفاظ على الزخم الذي شوهد في الهجمات المضادة السابقة بجميع المعدات العسكرية الجديدة والتدريب الذي تلقوه مؤخرا، فقد يبدأ بعض الحلفاء الغربيين في الضغط من أجل المفاوضات مع استنزاف معنوياتهم. إنه سبب آخر للتخلي عن أوكرانيا. ومشكلة الغرب أنه ركز كل جهوده على الدعم العسكري أملا في دحر روسيا وقلع عين بوتين، بدون أن تكون لديه خطة خروج أو نهاية لحرب لن يكون فيها منتصر. والغرب، وتحديدا أمريكا ليس معنيا بإنهاء الحرب لأنه وخلافا لحروبه في العراق وأفغانستان فجنوده لا يموتون في أوكرانيا. لكن المناخ الذي خلقته واشنطن وحلفاؤها في الناتو هي أنها معنية فقط بإشعال الحرب. وقد تضطر عاجلا أم آجلا لتطوير رؤية لنهاية اللعبة، خاصة أنها متورطة بالحرب وقد تجر إليها لو فشلت القوات الأوكرانية. ويقول صمويل شاراب في «فورين أفيرز» (5/6/2023) إن الحرب المستمرة منذ 15شهرا لم تؤد إلى نتيجة حاسمة، وحتى لو حقق الأوكرانيون انتصارات في الحملة الأخيرة، فستظل روسيا تمثل تهديدا دائما على أوكرانيا وستظل الحرب الطاحنة التي سيدفع ثمنها سكان البلدين. ولن يتغير منظور الحرب اليوم أو بعد سنوات. ولدى الغرب خيار البحث عن مخرج وتوجيه دفة الحرب نحو المفاوضات أو الانتظار لسنوات أخرى ولكن بنفس النتيجة وبثمن فادح.

القدس العربي

—————————–

الإدارة الأمريكية تدعم الهجوم الأوكراني المضاد ضمن استراتيجية الاستمرار في نزيف روسيا/ رائد صالحة

أعرب العديد من المسؤولين الأمريكيين، علناً، عن ثقتهم في استعداد أوكرانيا للهجوم المضاد، الذي كان قيد التخطيط منذ شهور، ويتردد أنه قد يكون وشيكاً خلال فترة قصيرة مقبلة.

وأكد رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، مارك ميلي، ان أوكرانيا «مستعدة جيدًا» للهجوم المضاد القادم عالي المخاطر لاستعادة أراضيها من القوات الروسية.

وقال ميلي «إنهم في حرب تشكل تهديدًا وجوديًا لبقاء أوكرانيا، ولها معنى أكبر لبقية العالم وأوروبا والولايات المتحدة، ولكن أيضًا للعالم». وخلال الأيام القليلة الماضية، انتشرت رسائل القوة والثقة في القوات الأوكرانية عبر وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة، من كبار المسؤولين الأمريكيين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

وقال زيلينسكي في مقابلة جديدة نشرتها صحيفة «وول ستريت جورنال» إن أوكرانيا مستعدة للهجوم المضاد، على الرغم من الاعتراف باحتمال موت عدد كبير من الجنود.

وأضاف زيلينسكي «لا أعرف كم من الوقت سيستغرق الأمر، لأكون صريحًا، يمكن أن يسير في عدة طرق، مختلفة تمامًا. لكننا سنفعل ذلك، ونحن جاهزون».

كما أبدى مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان ثقته في قدرة أوكرانيا على استعادة الأراضي من روسيا وأعاد تأكيد التزام الولايات المتحدة بدعم أوكرانيا.

وقال سوليفان «نعتقد أن الأوكرانيين سيحققون النجاح في هذا الهجوم المضاد. وسنواصل دعمهم وهم يسعون للدفاع عن أنفسهم ضد العدوان الروسي المستمر».

وأعرب رئيس الاستخبارات في مجلس النواب مايك تورنر (جمهوري من ولاية أوهايو) عن ثقته في استعداد أوكرانيا للهجوم المضاد القادم المتوقع ضد القوات الروسية، قائلاً إنه زار القوات في كييف وهو «متفائل بشكل لا يصدق».

وأضاف تورنر في لقاء مع برنامج «هذا الأسبوع» على شبكة «إيه بي سي» أن «القوات الأوكرانية جاهزة، وقد تدربت على الهجوم القادم، ولكن روسيا ليست كذلك».

وقال: «أتيحت لي الفرصة قبل شهرين للقاء الرئيس زيلينسكي في كييف، ولقاء جنودنا الذين يتدربون ويساعدون في التخطيط». وأضاف تورنر «أنا متفائل بشكل لا يصدق».

ومن المتوقع أن يتم تعزيز الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا منذ فترة طويلة لاستعادة الأراضي من روسيا بأسلحة متطورة تقنيًا من الدول الغربية، ما يزيد من الضغط على أوكرانيا لتحقيق النصر.

وفي مقابلة جديدة مع صحيفة «وول ستريت جورنال» قال زيلينسكي إنه بينما هو واثق من النصر، فإنه يتوقع أيضًا أن «يموت عدد كبير من الجنود».

وحاول بعض الخبراء والمسؤولين العسكريين تهدئة التوقعات بانتصار حاسم لأوكرانيا.

وفي مؤتمر صحافي الشهر الماضي، اقترب المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي من القول بإنه واثق من فوز أوكرانيا، مشيرًا إلى أن إدارة بايدن فعلت «كل ما في وسعنا» لتزويد أوكرانيا بالموارد لتحقيق الفوز.

التصفيق الأمريكي

وعلى الرغم من التصفيق الأمريكي الحار بالهجوم الأوكراني المضاد المحتمل، إلا أن الدعوات إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا تتزايد مع الإشارة إلى أن التوقيع على أي اتفاقية سلام هو في مصلحة الولايات المتحدة.

وقال محللون أمريكيون إن الغزو الروسي لأوكرانيا قد زعزع أسس النظام الدولي، ولكن فرضية استيلاء الصين على تايوان ستؤدي إلى إعادة ترتيب جيوسياسية عالمية عميقة – بما في ذلك إنهاء التفوق العالمي لأمريكا.

ولاحظ المحللون أنه كلما استمرت الحرب الأوكرانية في صرف انتباه الولايات المتحدة عن التحديات المتزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، زاد خطر محاولة صينية لخنق تايوان من خلال حصار غير رسمي، وقالوا إن من الواضح أن أكبر تهديد منفرد للأمن الأمريكي لا يشكله تراجع روسيا ولكن من قبل الصين الصاعدة التي تسعى لتحل محل الولايات المتحدة كقوة بارزة في العالم.

وأشار العديد من المحللين الأمريكيين إلى أن إدارة بايدن تتجنب الحوار والدبلوماسية مع روسيا، ما يطيل أمد الحرب في أوكرانيا، والتي تعد استنزافًا لموارد الولايات المتحدة، وبعيدًا عن تعزيز مصالح أمريكا على المدى الطويل، تكشف الحرب عن أوجه قصور عسكرية غربية، حيث يتم استنفاد ذخائر أمريكا الحرجة وتثبت القدرة على إعادة التزود بأنها غير كافية.

وقالوا إن آخر شيء يريده الرئيس الصيني شي جين بينغ هو إنهاء حرب أوكرانيا، لأن ذلك من شأنه أن يترك الولايات المتحدة حرة في التركيز على المحيطين الهندي والهادئ.

وأكد المحللون أن استراتيجية بايدن هي الاستمرار في نزيف روسيا في أوكرانيا، وفي الواقع، التزم البيان المشترك لبايدن مع قادة مجموعة السبع الآخرين في هيروشيما باليابان في 20 ايار/مايو «بزيادة التكاليف التي تتحملها روسيا» بينما تعهد «بالدعم الثابت لأوكرانيا لأطول فترة ممكنة» وهذا بالطبع يفسر التحريض الأمريكي الرسمي للبدء في هجوم أوكراني مضاد.

وعلى الرغم من تحذير الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أن «عددًا كبيرًا من الجنود سيموت» في هجوم بلاده المضاد لأن روسيا لها اليد العليا في القوة الجوية، تواصل كييف، بدعم من الولايات المتحدة رفض مقترحات محادثات السلام التي لا تركز على روسيا أولاً إخلاء المناطق التي احتلتها.

وبعد أكثر من 15 شهرًا من الحرب، من الواضح أنه لا روسيا ولا أوكرانيا أو الغرب في وضع يسمح لهم بتحقيق أهدافهم الاستراتيجية الأساسية، لذا فإن وقف إطلاق النار هو السبيل الوحيد للخروج من المأزق العسكري الحالي.

هل بدأ الهجوم المضاد؟

هناك مؤشرات من إدارة بايدن على أن أوكرانيا تحرز تقدمًا بالفعل في خطط الهجوم المضاد.

وأفاد ديفيد إغناتيوس كاتب العمود في صحيفة «واشنطن بوست» يوم الثلاثاء الماضي أن مسؤولي الإدارة «شجعهم التقدم الأفضل للقوات الأوكرانية الإثنين الماضي، حيث توغلت الوحدات الأوكرانية عبر مناطق ملغومة بشدة للتقدم ما بين خمسة إلى عشرة كيلومترات في بعض مناطق الجبهة الطويلة» و«أدى ذلك إلى زيادة الآمال في أن تتمكن القوات الأوكرانية من الاستمرار في الزحف نحو ماريوبول وميليتوبول وغيرها من الأماكن التي تسيطر عليها روسيا على طول الساحل.»

وقال مسؤولون في إدارة بايدن إن الهجوم بدأ يوم الاثنين بتوغل أوكراني جنوبا على محاور متعددة، حسبما أفاد إغناتيوس، مرددًا ما ذكرناه يوم الاثنين .

وأكد البيت الأبيض أنه من السابق لأوانه معرفة كيف سيؤثر تدمير السد عبر نهر دنيبرو على الهجوم المضاد.

وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، جون كيربي للصحافيين بعد ظهر الثلاثاء: «لن أتحدث عن العمليات العسكرية الأوكرانية بأي شكل من الأشكال» لكن في الوقت الحالي – من السابق لأوانه تقييم تأثير تدمير السد في ساحة المعركة. والتزم المسؤولون الأوكرانيون الصمت بشأن الهجوم في محاولة للحفاظ على عنصر المفاجأة، وهي مهمة صعبة في عالم وسائل التواصل الاجتماعي وضد عدو لديه أقمار صناعية وكذلك شبكة من الجواسيس على الأرض.

وكشفت مصادر أمريكية أن الهجوم المضاد تركز إلى حد كبير في جنوب دونيتسك أوبلاست وشرق زابوريزهيا أوبلاست.

وستظهر صورة أكثر صدقًا خلال الأيام والأسابيع المقبلة حيث تحاول أوكرانيا الدفع جنوبًا نحو ماريوبول وميليتوبول، وتسعى أوكرانيا إلى إغلاق ما يسمى الجسر البري لشبه جزيرة القرم بشكل نهائي.

——————————

مؤسسة كارنيغي: الكرملين يعتمد على حكام المناطق في التعامل مع الطوارئ

موسكو: لم تؤد الهجمات الأخيرة بالطائرات المسيرة على موسكو والهجمات عبر الحدود على منطقة بيلغورود الروسية إلى أي تغييرات جذرية في خريطة الأعمال القتالية، لكنها كشفت عن رد الفعل الغامض، وربما الذي يتسم بعدم المبالاة بشكل واضح، من جانب السلطات الروسية، حسبما يقول المحلل السياسي ميخائيل فينوجرادوف، مؤسس ورئيس مؤسسة سان بطرسبرغ للسياسات.

ويضيف فينوجرادوف في تحليل نشرته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أنه مع امتداد الحرب إلى الأراضي الروسية، ليس باستطاعة الكرملين تحديد الرسالة التي يريد أن يبعث بها للرأي العام. ولذلك، فإنه كما كان الحال أثناء جائحة كورونا، يستعين بحكام المناطق لاختبار سبل الاتصال المختلفة.

ومرة أخرى، أصبح من مهمة الحكام إظهار مهاراتهم في إدارة الطوارئ بينما يقودون أيضا حملات العلاقات العامة، وهذه المرة بشأن المسيرات والأعمال العدائية المسلحة، وغيرها من الحالات الطارئة التي تتعلق بالحرب، في مناطقهم. وفي الوقت نفسه، هم ملزمون بتجنب أي روايات درامية مفرطة، حتى لا يسيئون لصورة الحكومة الاتحادية.

وكان عمدة موسكو سيرجي سوبيانين وحاكم المنطقة أندريه فوروبيوف هما المصادر الأولية للمعلومات بالنسبة لوسائل الإعلام الرسمية بشأن الهجمات بالطائرات المسيرة على العاصمة في 30 أيار/ مايو الماضي. وعلق المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، على الأمر بعد سوبيانين بخمس ساعات، بينما لم يتطرق الرئيس فلاديمير بوتين له سوى في وقت مبكر من المساء.

وساعد عدم وقوع خسائر خطيرة في الأرواح نتيجة الهجوم وسائل الإعلام على تصوير الموقف على أنه انتصار للدفاعات الجوية الروسية، كما أن تصريحات سوبيانين وفوروبيوف الجافة والفعلية وفرت للحكومة المركزية بعض الوقت لتقييم رد فعل الرأي العام وصياغة روايتها للحادث. وفي نهاية المطاف، وصف الكرملين الهجمات بأنها “رد فعل فاشل” من جانب أوكرانيا على الهجمات الروسية (علما بأن أوكرانيا لم تعلن مسؤوليتها). بينما أظهرت الحكومة المركزية حالة من الهدوء والثقة، وأقنعت مواطني موسكو بأن الحياة في المدينة سوف تستمر على ما هي عليه.

ومن الواضح أن المواطنين حريصون على الحصول على هذه الطمأنة من الحكومتين المحلية والاتحادية. ولم تؤد هجمات المسيرات على المناطق السكنية في العاصمة، أو على الكرملين نفسه إلى تحويل قلق سكان موسكو المتزايد إلى مطالب بأن توقف الحكومة الحرب، أو إلى تصعيد جهود روسيا الحربية.

وفي أعقاب الهجوم بالمسيرات على موسكو، عاود الزعيم الشيشاني رمضان قديروف الظهور بتصريحاته المتشددة، وحث الحكومة الاتحادية على إعلان الأحكام العرفية في أنحاء البلاد. ومع ذلك فإن هذا لا يعكس محاولات الحكومة المركزية لقياس الرأي العام بقدر ما يعكس جهود قديروف للعودة إلى أجندة الحرب التي أبعده عنها يفجيني بريجوزين قائد مجموعة فاغنر المرتزقة.

ويقول فينوجرادوف إن عددا من المناطق الروسية القريبة من الحدود الأوكرانية (مثل كرانودار، وكورسك، وفورونيزه)، وكذلك بعض المناطق البعيدة التي شهدت بالفعل هجمات بطائرات مسيرة (أوريول، وريازان وبسكوف)، تعتبر في خطر أكبر للتعرض لمثل هذه الهجمات. ولا يمكن وصف أي من حكام هذه المناطق، باستثناء رومان ستاروفويت حاكم منطقة كورسك، بأنهم قادة مهمون كثيرا أو أنهم يتمتعون بشخصيات كاريزمية. فهم يفضلون التركيز على أحوال مناطقهم والتعامل مع قضايا “وقت السلم” اليومية.

ويتمثل التحدي الرئيسي الذي يواجهه حكام المناطق الروس في تحقيق التوازن الذى تريده الحكومة المركزية وهو التعامل مع الطوارئ مع السعي للحفاظ على مظهر هدوء الحال في مناطقهم. والكل يدرك أن أي موجة جديدة من التعبئة سوف تكون لها تداعيات اجتماعية وسياسية لا يمكن التكهن بها، لذلك تحاول الحكومة الاتحادية تجنب ذلك من خلال تحديد حصص للمناطق من الجنود المحترفين الذين يتم تجنيدهم على أساس عقود.

ولم تفصح الحكومة بالتحديد عن عدد الجنود الذين تحتاجهم، لكن يُعتقد على نطاق واسع أن العدد سيكون كبيرا للغاية ومن ثم يتعارض ذلك مع حالة اللامبالاة السائدة في البلاد. وللحصول على الأعداد المطلوبة، بدأت المناطق الأكثر ثراء في البحث عن “متطوعين” من خارج حدودها حيث تعرض عليهم بصورة غير رسمية مبالغ مغرية من أجل التوقيع على عقد مع القوات المسلحة.

وفي الوقت الذي تواصل فيه الحكومة المركزية السير على خط رفيع بين اتخاذ خطوات عاجلة للتعامل مع تأثيرات الهجمات على الأراضي الروسية وتشجيع الرأي العام على تجاهل تلك الهجمات وسرعة نسيانها، هناك صراع حتمي ما بين تجنيد أعداد كبيرة من الجنود “المتطوعين” بعقود، وعرض صورة لحياة تتسم بالهدوء.

ويرى فينوجرادوف أن من الصعب إيجاد مزيد من الأشخاص على استعداد للتسجيل للانضمام للجيش لأسباب أيديولوجية في الوقت الذي يسود فيه لدى قطاع عريض من المواطنين اقتناع بأن العملية العسكرية تسير على خير ما يرام، بينما كثيرون آخرون ببساطة لا يعبأون بالأمر.

(د ب أ)

————————-

الناتو يثبّت القوات الروسية في منطقة القتل/ عبدالناصر العايد

ليس من المحتمل أن يشن الأوكرانيون هجوماً واسع النطاق، أو ما عرف بالهجوم المضاد الكبير، على القوات الروسية. فالدعاية لهذه العملية هي جزء من تكتيكات حرب، هدفها الأساسي استنزاف القوات الروسية، وحالة الاستنفار الدائم بانتظار العملية المرتقبة هي عملية استنزاف سلبي تتكامل مع عمليات الاستنزاف الإيجابي. ويمكننا القول أن الاستراتيجية المرسومة والمدعومة والممولة غربياً لأوكرانيا، هي تثبيت القوات الروسية في منطقة القتل أطول مدة ممكنة، بهذا المعنى يصبح كل يوم إضافي من القتال في أوكرانيا أمراً مفيداً للغرب، لا كما يُظنّ بأن خبراء حلف الناتو يخططون لكسر سريع ومفاجئ لروسيا، أو أنه يستعجل إعلان هزيمتها.

فعلى الرغم من الضجيج الذي لا يهدأ حول بدء أوكرانيا هجومها الشامل، إلا أننا لم نشهد شيئاً من هذا القبيل حتى الآن على خطوط الجبهة الرئيسية، ولا على خطوط الدفاع التي حصنها الروس بشكل فائق. ونعتقد بأن من يخططون لعمليات الجيش الأوكراني لن يجازفوا بدفع القوات الواقعة تحت أيديهم لتحطيم تلك الخطوط، فالثمن سيكون باهظاً جداً. بدلاً من ذلك يعملون بهدوء على إفراغ تلك الخنادق والتحصينات الروسية من المقاتلين والذخائر، ومن إرادة القتال، وعند ذلك يمكن للجنود الأوكرانيين تجاوزها من دون تكاليف بشرية. لكن هذا الامر سيحتاج إلى شهور طويلة من العمل التكتيكي، وليست لدى الغرب أسباب لعدم الانتظار.

 الفارق الكبير في حجم القوى البشرية، بين الروس والأوكرانيين، سيمنع أي مُخطط استراتيجي من زج الجيش الأوكراني في صراع يعتمد على عدد المقاتلين، ويدفعه للتركيز بدلاً من ذلك على التفوق التقني والاستخباراتي الذي يملكون فيه، بفضل الدعم الغربي، تميزاً نسبياً. وهذا يترجم ميدانياً بالاعتماد أكثر فاكثر على الضربات التكتيكية الدقيقة جداً وبعيدة المدى، وتأجيل أي عملية اقتحام بالجنود إلى حين خلوّ الجبهات، كما حدث الصيف الماضي، عندما شنّ الجنود الأوكرانيون هجمات كبيرة واستعادوا مساحات شاسعة، لكن ليس قبل تدمير كافة مستودعات الذخيرة في الخطوط الخلفية بشكل سريع، واستنزاف احتياطي القوات الروسية في خط الجبهة بمناوشات خاطفة، ثم اقتحموا خطوط القتال حيث احتشدت مئات الدبابات والمدافع الروسية العزلاء، التي لم تكن لديها قذيفة واحدة تطلقها.

كما يطرح طول الجبهة التي فرضها الروس، والذي يزيد عن 1100 كيلومتر، تحدياً إضافياً للأوكرانيين والتخطيط المركزي لعملياتهم، فأي محور يتم اختياره للهجوم، وتركيز قواتهم فيه بالضرورة، يعرضهم لخطر التشتت أو الانكشاف وانخفاض كثافة وكفاءة القوات في محاور أخرى، ولن يتردد الروس في انتهاز أي فرصة سانحة للتقدم في مواضع كثيرة، حتى ولو خسروا في محور أو اثنين.

يفتقد الجيش الأوكراني اليوم أيضاً إلى جهود نخبه الشابة، فهي بمعظمها إما تخضع لعمليات تدريب على الأسلحة الغربية المتطورة، أو في طور استكشافها في ميدان المعركة، ومن المعروف أن الأسلحة الجديدة المعقدة تحتاج إلى ممارسة القتال بها لفترة من الزمن لاستيعابها والاعتياد عليها في ميدان المعركة بصرف النظر عن مقدار التدريب الذي تلقاه الجنود في المعسكرات الخلفية. وقد كشفت صور روسيّة عن تدمير ثلاث من دبابات ليوبارد الألمانية وعشر عربات برادلي أميركية من التي حصل عليها الجيش الأوكراني مؤخراً، ومن الواضح أن نقص الخبرة لعب دوراً في ذلك. إن هجوماً أوكرانياً لا يمكن أن يبدأ قبل حشد وتعبئة كل مَن تدرب على الأسلحة الغربية الحديثة، الأمر الذي يجعل بدء الهجوم فيما هم في مهمات تدريب خارج البلاد، مثل المرشحين لقيادة طائرات إف-16، أمراً مستبعداً تماماً.

إن ما تخلص إليه قراءة يوميات المعارك في أوكرانيا تفيد بعكس ما يتم الترويج له إعلامياً بشكل يتعمد الإثارة. فالأوكرانيون ليسوا جاهزين لهجوم كهذا، ولا الداعم الغربي يرغب في إنهاء هذه المعركة، ولا يرغب أصلاً في انسحاب الجيش الروسي من المحرقة. لكن المدهش أن بوتين لم ير حتى الآن الجدار الذي يتقدم سريعاً للارتطام به، فحربه مع أوكرانيا ستستمر حتى سقوطه او إسقاطه في نهاية المطاف، وهو لن ينجو، حتى لو احتل أوكرانيا بكاملها ذات يوم.

المدن

——————————-

أوكرانيا تشنّ الهجوم المضاد وانظارها على “الناتو”/ كون كوخلين

بعد مضيّ ما يقرب من تسعة أشهر من التخطيط، تفيد التقارير الآن بأن أوكرانيا بدأت أخيرا شنّ هجومها العسكري المضاد لتحرير أراضيها التي احتلتها القوات الروسية، فيما يؤشّر في واقع الحال إلى أن الصراع قد وصل الآن إلى منعطف حرج.

وفي حين تتباين التقارير الواردة من ساحة المعركة عن مدى الهجوم الأوكراني الذي طال انتظاره لتحرير الأراضي في شرق أوكرانيا، فالأكيد أن ثمة زيادة ملحوظة في النشاط العسكري الأوكراني، حيث حقق الأوكرانيون نتائج متفاوتة.

لقد اعترف الروس أنفسهم بالمكاسب التي حققتها أوكرانيا في مدينة باخموت، شرقي البلاد. لكن وزارة الدفاع الروسية زعمت أيضا أنها صدت هجوماً أوكرانياً كبيراً في منطقة دونيتسك الواقعة في الجنوب، يوم الأحد الماضي، مما أسفر، حسب زعمهم، عن “مئات” من الضحايا في صفوف القوات الموالية لكييف.

وقال المسؤولون الروس إن الهجوم الأوكراني شمل ست كتائب ميكانيكية وكتيبتي دبابات، وأنه أسفر عن خسارة 250 جندياً أوكرانياً وتدمير 16 دبابة وعربات قتال للمُشاة، و21 عربة قتالية مدرعة.

ووفق بيان لوزارة الدفاع الروسية، فقد “كان هدف العدو اختراق دفاعاتنا فيما يرونه أكثر قطاعات جبهتنا ضعفا”.

وفي الوقت الذي يسعى فيه الجانبان إلى امتلاك ميزة الحرب الدعائية، من الطبيعي أن يبالغ الروس عمدا في تضخيم الخسائر الأوكرانية لإلحاق الضرر بالمعنويات في صفوف القوات الأوكرانية، بينما يقلل الأوكرانيون، من جانبهم، من أهمية المزاعم بأن الهجوم قد بدأ بالفعل.

ومع ذلك، جعل الارتفاع الأخير في النشاط العسكري وفرة من المحللين العسكريين البارزين يستنتجون أنّ الهجوم الأوكراني الذي طال انتظاره لاستعادة الأراضي التي تحتلها روسيا قد بدأ بالفعل وهو الآن على قدم وساق، وهو هجومٌ قد يقرر في نهاية المطاف مآلَ الحرب.

وقد جرت الاستعدادات للهجوم العسكري على امتداد فصلي الشتاء والربيع، إذ سعى القادة الأوكرانيون إلى دمج الأسلحة الغربية المتطورة التي تشمل دبابات قتال مع الصواريخ بعيدة المدى في وحداتهم القتالية. وشُكِّل ما مجموعه تسعة ألوية قتالية أوكرانية جديدة، الأمرُ الذي أمّن لكييف قوة قتالية جديدة قوامها 50 ألف جندي لدعم جهودها الجديدة الرامية لهزيمة روسيا في أعقاب الغزو العامَ الماضي.

لا شك في أن الوحدات القتالية الأوكرانية الجديدة ستساعد في دعم المجهود الحربي للبلاد، ولكن ما زال كثير من الأسئلة حول مدى فعاليتها قائما، ولا سيما أن بعض التشكيلات الجديدة تتكون من قوات ذات خبرة قتالية ضعيفة، إن وُجدت أساسا. بالإضافة إلى ذلك، يُطلب من هذه التشكيلات استخدام معدات غربية مختلفة تماما عن أسلحة الحقبة السوفياتية التي كان الجيش الأوكراني يعتمد عليها تقليديا.

العامل الرئيس الآخر الذي يمكن أن يلعب دورا مؤثرا في قدرة الأوكرانيين على تحقيق مكاسب قوية في ساحة المعركة هو افتقارهم للغطاء الجوي، وهو عنصر يشكل حجر الرحى لأي هجوم بري ناجح.

وعلى الرغم من كون أداء القوات الجوية الأوكرانية خلال العام الماضي أداء بطوليا، فإنها لا تزال غير قادرة على مضاهاة قوات خصمها الروسي الأضخم والأخطر، مما يجعل الأوكرانيين عرضة للهجوم من الجو. لذلك تمسّ الحاجة لدى أوكرانيا إلى تحسين دفاعاتها الجوية وهو ما يعد السبب الذي حَمَل كييف على الضغط بشدة لتزويدها بطائرات حربية غربية كطائرات “إف-16” الأميركية.

وعلى الرغم من هذه الصعوبات، ما زال الأوكرانيون مصممين على شن الهجوم، وقد قامت وحداتهم العسكرية بالفعل بشنّ سلسلة من الهجمات ضدّ المواقع الروسية في الأيام الأخيرة، وإن بدرجات متفاوتة من النجاح.

ولعل السيطرة الأوكرانية على أراض حول باخموت واحدة من أهم تحركات الأوكرانيين، وقد وجّهت دون شك ضربة قاصمة للمرتزقة الذين يقاتلون في صفوف ميليشيا مجموعة فاغنر الروسية التي ادعت الشهر الماضي فقط، أنها سيطرت على المدينة بعد شهور من القتال الضاري.

فبعد أن تمكنت القوات الأوكرانية من استعادة قرية بيرخيفكا، والتي تقع على بُعد أقل من ميلين إلى الشمال الغربي من باخموت، وجه يفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة فاغنر، انتقادا عنيفا للجيش الروسي، واصفا القوات الروسية بأنها في منزلة “العار” لتخليها عن مواقعها.

وفي تسجيل نشرته خدمته الصحافية، أعلن بريغوجين: “الآن فُقد جزء من بلدة بيرخيفكا، بينما تهرب القوات بهدوء. يا للعار!”.

والحق أن التوتر بين بريغوجين والمؤسسة العسكرية الروسية تصاعد في الأشهر الأخيرة، إذ انتقد رئيس فاغنر على نحو لا هوادة فيه الجنرالات الروس لعدم بذلهم المزيد من الجهد لدعم هجوم مجموعات فاغنر من أجل الاستيلاء على باخموت.

وبسبب حساسية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للانتقاد الذي يقول إن “عمليته العسكرية الخاصة” في أوكرانيا لا تحقق أهدافها، فإننا نرى الكرملين حريصا كلّ الحرص على تحقيق بعض النجاحات في ميدان المعركة.

ولعل هذا يوضح على نحو جيّد التقارير التي تفيد بأن روسيا كانت مسؤولة عن الهجوم المثير للجدل على سد كاخوفكا (من الحقبة السوفياتية) في جنوب أوكرانيا، والذي أطلق العنان لطوفان من المياه عبر منطقة الحرب حول مدينة خيرسون ذات الأهمية الاستراتيجية، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها بوابة شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا.

إنّ إغراق المنطقة المحيطة بخيرسون سيجعل من الصعب للغاية على الأوكرانيين تحقيق أحد أهدافهم الحربية الرئيسة المتمثلة في استعادة شبه جزيرة القرم، وبالتالي تزويد الروس بميزة كبيرة، وهم يسعون إلى إبقاء قبضتهم على شبه الجزيرة التي هي موطن الأسطول الروسي في البحر الأسود.

ومن المؤكد أن منع أوكرانيا من تحقيق أهدافها العسكرية أمر مهم بالنسبة لموسكو إذا ما أرادت روسيا منع كييف من تحقيق طموحها طويل الأمد المتمثل في الانضمام إلى حلف الناتو. وطالما تواصل القتال، ستُعلق محاولات أوكرانيا للانضمام إلى الحلف؛ إذ إن السماح بعضوية كييف أثناء الحرب سيحمل الدول الأعضاء في الناتو على المشاركة بشكل مباشر في الصراع، وهو تصعيد يسعى القادة الغربيون حثيثا إلى تجنبه.

لكن كييف أوضحت بجلاء أنها، إن هي أفلحت في هزيمة الروس، فإن خطوتها التالية ستكون السعي للحصول على العضوية الكاملة في الحلف، وهي خطوة من شأنها أن تمثل ضربة قاصمة لبوتين، الذي برّر غزو أوكرانيا الذي جرى العام الماضي من خلال المبرر الذي مفاده: منع كييف من الانضمام إلى حلف الناتو.

—————————

روسيا “تغسل” قمح أوكرانيا في سوريا/ حايد حايد

أدى تورّط روسيا في تهريب القمح من المناطق التي سيطرت عليها في أوكرانيا إلى فرض عقوبات أميركية ضدّ المسؤولين عن هذه التجارة غير المشروعة. وبينما أفلحت هذه التدابير المستهدفِة في ثني بعض الدول عن شراء القمح الأوكراني، الذي يُعتبر مسروقا، غدت سوريا إحدى وجهاته الأساسية.

السبب في ذلك أن العقوبات المفروضة بالفعل على روسيا وسوريا حدّدت بشكل كبير شركاء البلدين التجاريين، فهما يشعران بقلق عظيم إزاء أي عواقب إضافية قد يواجهانها نتيجة لتعاونهما في هذا المجال. وازدهرت المعاملات التجارية بين البلدين لقبول سوريا دفع مبالغ زائدة لموسكو مقابل القمح الذي تشتريه، فضلا عن استعداد دمشق استخدام السفن التي تملكها الدولة لنقل القمح الأوكراني.

وقبل اندلاع الصراع السوري سنة 2011، كانت سوريا تُنتج نحو 3.5 مليون طن من القمح سنويا، أي ما يسدّ الطلب المحلي. بيد أن الضرر الفادح الذي لحق بالبنية التحتية للزراعة وتفاقم الأزمة الاقتصادية والفساد وانخفاض ربحية الأنشطة الزراعية وسوء الأحوال الجوية أدت جميعها إلى انخفاض إنتاج القمح في سوريا إلى النصف تقريبا، ما حمل الحكومة السورية على الاعتماد الكبير على واردات القمح القادمة من روسيا، والتي تتراوح كميتها حاليا بين 1.2 و1.5 مليون طن سنويا.

غير أن عمليات بيع ونقل القمح الذي يمر من روسيا أو عبرها إلى سوريا لا تجري دوما على نحو قانوني. إذ أدى احتلال موسكو لأجزاء من أوكرانيا، في الحرب الراهنة، إلى زيادة هائلة في الكم الإجمالي للحبوب التي تُشحن. فلقد صدّرت شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014 ، وحدها أكثر من مليون طن من القمح إلى سوريا بين سنتي 2019 و2022.

وأدى استخدام السفن التي تملكها كل من سوريا وروسيا لنقل الحبوب، التي جرى الاستيلاء عليها بشكل غير قانوني، إلى تسهيل كبير في عمليات التهريب.

والجدير بالذكر أن السفن السورية المستخدمة في نقل القمح بين هذه الدول تخضع لعقوبات الولايات المتحدة منذ سنة 2015 بسبب الدور الذي تلعبه في دعم النظام السوري أثناء الصراع.

ولكن تصنيف العقوبات لتلك السفن زاد على ما يبدو من تعاونها مع الكيانات الروسية الأخرى الخاضعة للعقوبات بدلا من أن يقلل من أنشطتها غير المشروعة. ويبدو أن العقوبات المفروضة على الكيانات الروسية ورجال الأعمال الأثرياء كان لها أيضا تأثير مماثل، الأمر الذي قد يساعد في تفسير ارتفاع مستوى تجارة القمح مع سوريا.

شروط قبول القرض الروسي

إضافة إلى استيلاء روسيا على قمح أوكراني، فإنها تبيعه للحكومة السورية بسعر أعلى من سعر السوق العالمية، وهو الأمر الذي يفسر أهمية دمشق المتزايدة كعميل تجاري بالنسبة للروس.

وتُعد موسكو حاليا إحدى الدول التي تُقدّم قروضا للحكومة السورية، لكنها تقوم بذلك على نحو يخدم جدول أعمال الكرملين. فوفقا لبعض الوثائق المسربة، اشترطت موسكو- مقابل تقديمها القروض- أن تُستخدم هذه الأموال المُقترضة لدفع مبالغ لشركات روسية معينة.

ونظرا لأن الصراع في سوريا أدى إلى انخفاض في تدفقات الإيرادات والعملات الأجنبية، لم يبقَ لدى النظام السوري الكثير من الخيارات سوى القبول بشروط التمويل غير المواتية لتمويل استيراد سلع أساسية كالقمح.

ووفق المعلومات المتوفرة، أصدرت الحكومة السورية تعليماتها لمسؤوليها بترسية مناقصات القمح على شركات روسية، بغض النظر عن مدى عدم تنافسية تلك العروض. على سبيل المثال، أشار رئيس الوزراء السوري حسين عرنوس سنة 2021 إلى أن حكومته استوردت 1.5 مليون طن من القمح الروسي مقابل نحو 319 دولارا للطن الواحد، في حين لم يتجاوز السعر العالمي لطن القمح 235 دولارا.

وعلى الرغم من واردات القمح الضخمة، فلا يزال النظام السوري يعاني من نقص حاد في القمح بسبب الفساد والمحسوبية المتجذرة في تجارة القمح. ففي حين تعثر نخب النظام على سُبل للربح، فإن 12.1 مليون سوري يعانون حالياً من انعدام الأمن الغذائي بزيادة 51 في المائة عن 2019، بحسب إحصاءات برنامج الأغذية العالمي. ويشكل هذا الرقم أكثر من نصف عدد السكان.

إضافة إلى ذلك، تُغذي تجارة القمح غير المشروعة هذه الحروب في كل من سوريا وأوكرانيا. وتُقدّر قيمة الحبوب المسروقة حتى الآن بـ530 مليون دولار– وهي أموال استُخدمت لدعم آلات الحرب في كلا البلدين.

ومن غير المرجح أن يتغير هذا الواقع. فمن المتوقع أن يظل إنتاج سوريا من القمح في العام الجاري، أقل بنحو 75 في المئة من مستويات ما قبل عام 2011 بسبب النقص الذي حصل في نسبة هطول الأمطار وارتفاع كلفة المدخلات الزراعية، كالأسمدة والبذور والوقود، الأمر الذي يعني أن تبلغ احتياجات استيراد الحبوب لهذه السنة كما هو متوقّع 2.7 مليون طن. ويضمن هذا الاعتماد على واردات القمح– والأموال التي يجري تحويلها لتأجيج الصراع في سوريا– بقاء سوريا سوقا محتملة للحبوب المسروقة.

ولن تستطيع التدخلات التدريجية كالعقوبات المحدودة وغير المنسّقة تغيير هذا السيناريو المحتمل، نظرا لتركيزها على معالجة أعراض المشكلة عوضا عن معالجتها بالكامل. لذلك يجب على واضعي السياسات الدوليين التفكير في الدور الذي تلعبه العقوبات في تشجيع التعاون فعليا بين دول مثل روسيا وسوريا- وجعل هذا التعاون أكثر صعوبة وتكلفة.

المجلة

—————————-

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى