شعر

خافيير غوتييرز لوزانو.. يانصيب المُحطّمين

ترجمة وتقديم: جعفر العلوني

يقوم ديوان “يانصيب المُحطّمين”، للشاعر المكسيكي خافيير غوتييرز لوزانو (1988)، على أساس أحداثٍ حقيقية جرت، رغم صعوبتها وقساوتها، مع شخصيات وأناسٍ في بلده الأم، المكسيك. إنّها، بالدرجة الأولى، قصائد عن مواقف وأحداث لها بعدٌ اجتماعيٌّ وأخلاقي، كونها تعبّر عن أصوات المهمشين، والضائعين، والمفقودين، والمهاجرين، والسكان الأصليين، في بلدٍ تكاد أن تكون الكلمة فيه الوسيلة الوحيدة للتعبير عن المخاطر والآلام والعذابات التي يعيشها سكّان هذا البلد.

ولكن كيف يمكن للكلمة أن تلبس عذابَ أُمٍّ فقدت طفلها؟ كيف يمكن لِلُغاتِ الكون كلّها أن تعبّر عن شاب لا يجد إلا الموت وسيلة للنجاة أو مناضل اجتماعي يدفع حياته ثمناً لموقفه؟ كيف يمكن أن تعبّر الكلمة عن طفولة وُلدت كي تموت؟

هكذا يستعيد الشاعر المكسيكي عبر قصائده بعض قصص أولئك الضحايا والمناضلين، تكريماً لهم، ويهديهم يانصيب الكلمة وتعويذاتها، فيتحوّلون إلى رمزٍ شعري يتجاوز الموت، والاختفاء، والخطف والعنف. إن الفراشة، أو الجندي، أو الطفل، أو السائق، أو المهاجر أو الشخصيات التي يستعيدها الشاعر، ليسوا جميعاً إلا رموزاً ودلالاتٍ لمواقف وأحداث يمكن أن يتعرض إليها الإنسان في المكسيك يومياً. إنّها قصائد تروي الخطر والعنف الذي يعيشه الإنسان هناك منذ لحظة الولادة – الطفولة، التي يمكن أن تكون هي نفسها، لحظة الموت- النهاية.

قصائد هذا الكتاب، التي نترجم منها هذه المختارات، تقوم على أساس لعبة واحدة فحسب: لعبة الحظّ – اليانصيب؛ تلك اللعبة الشعبية الدارجة جداً في المكسيك- علّه يساعد في قلب دولاب الحياة ويجعلها أقل سوءا. ولكن ما عساه أن يكون حظ ويانصيب الفقراء والمحطمين والمكسورين والأطفال المنكوبين والمهمشين إلا الموت، أو الاختفاء، أو القتل، أو المخدرات، أو العنف.

لأن الموت والمأساة والألم في هذا البلد- المكسيك- ميسور التكلفة، كمثل شراء ورقة يانصيب من أية زاوية فيه، يتخذ الشاعر من هذا الرمز الشعبي قاعدة لبناء ديوانه الشعري الذي يكتبُ فيه الأملَ شعراً، ولكن بلغة الموت.

■ ■ ■

المهاجر

كي نطارد حلمَ البقاء

ونتوقّف عن إراقة الجسد

في قطرات الفقر،

قرّرنا، بين الدمع والأقدام المُتعبة،

أن نهجرَ ما منحتنا إيّاه الحياة

عند الولادة.

هكذا بدأنا رحلةً

ولم يكن لدينا تذكرة ذهاب ولا عودة.

كان سيراً عبر المسافات

التي تفتح جلدَ الأصابع،

وفي كل مترٍ

تركنا حياةً من المسافات؛

حياة ما كنا عليه ماضياً.

غير أنّ الجوع أكبر من الألم.

هكذا حملنا في حقائبنا

الماء القليل

الوهم الذي ليس حلماً بل نجاة،

لنحفظ بين العذابات

الحياة القليلة التي بقيت لنا.

ولم ينج منّا سوى القليل

وكنا نودّع بعضنا كل ليلة

في البرد وبين الدموع.

وسلّمنا دربنا إلى يدي الله

وليس معنا إلّا حياتنا وإيماننا

تقدمةً له،

على مذبح من عناقيد وصلوات.

قبل أن أغادرَ، أغلقُ عيني

كي أشعر أنني جزءٌ من الحياة

قبل الصمت،

قبل أن أصبح رقماً في قائمة

تنتهي عند الأسلاك،

في دم رصاصة

في جذع جسد مُستغِل

في قاع نهر

أو على بقعة من الأسفلت.

قبل أن أُغادر، أقول وداعاً.

إن عثرتم عليَّ، فلا تنسوا:

عبورُ الحدود ليس حلماً

بل الخطوة الوحيدة كي نبقى على قيد الحياة.

■ ■ ■

الطفل

كيف نُصلح طفلاً

كُسِر منذ البداية؟

كيف نعيده إلى سنوات بلا ذاكرة،

إلى طفولة لعبٍ وأوراق

دون ألم، دون ذنبِ أو طلقات؟

كيف نعلّمه أن يذوّب الأشباح

دون براميل الموت؟

سيعود خوف الوجوه من الجثث الكثيرة

ستعود حِزمٌ مُقنّعة بالآمال والأحلام

وربما تصبح الرذيلة اليد الصديقة.

لكن العودة للغرق

يمكن أن يكون في أي بابٍ

وخلفه يرقد في البؤس

طفل مُعذب.

ماذا؟

ليس ثمة أمهات بما فيه الكفاية

لتعويض كل هذا البكاء

ولن تكون هنالك كلمات تطفئ

ذلك البرد الذي بدأه الرصاص.

ولن يكون هنالك غفران.

لا غفران

لكل ذلك الموت.

■ ■ ■

المجهول

حاملاً الموت على ظهرك،

وصلتَ تجرّ العذاب

وتُخفي، بالقوة القليلة التي كانت معك،

الكرامة في جيبك.

قليلة كانت قدرتنا نحن الذين نستطيع.

ستكون خسارتنا إلى الأبد،

نحن العاجزين.

غير أنّ الموت يجمع كل شيء،

حتى لو لم يكن البرد

أو الجوع

أو العذاب

أو حتى الفقر نفسه.

كان الورقَ والبيروقراطية،

والضمان الاجتماعي الغامض

الذي يرسم، مثل البراعم،

من يحيا

ومن لديه الكثير.

■ ■ ■

الهندي

حين تكونُ التعثّر الدّائمَ في بلدك

والخرس،

حين لا تجد أثركَ

على التراب الخاص بك

حين يكون لونك ورايتك

عيب التاريخ،

تقاوم.

تقاوم ويرتدُّ صوتك في الصدى

بين صرخات الضائعين،

وفي أصواتٍ أُخرى.

حينها ترقص في الغياب

وتتذكّر في النار

لون الماء الحقيقي

وموسيقى الرياح

والغزال الذي يُبارك السهوب حين يعبر.

حتى لو كان صدرك الهدف،

الدم أحمر في جسدك

والأرض ليست لكَ أو للنمور،

الأرض نفسها التي تدفن رأفتها.

ربّما لهذا تستمرّ،

أو لأن المدينة سمٌّ يقتلنا،

وجلدك الأسمر ملجأٌ

يلوذ إليه أولئك الذين لا قدرة لهم.

لكنك تقاوم.

أنتَ الحارس الثابت،

ابن الأنهار،

طفل الرمل الحقيقي،

الهندي،

الهنود كلهم،

نحن والآخرون.

مع هذا كله تقاوم.

■ ■ ■

الجندي

وجئتَ أنتَ

وكان عليك أن تغمض عينيك

كي تشعل الأرض.

حلمتَ في خطواتك الأولى،

يا صانع الرمل،

ومشيتَ بين الغابات والصحارى،

بين شاطئ العزلة والبحث

وألوان ضفائر أخيك.

كنتَ عاملَ الأحلام

ونسجتَ خيطاً عسكرياً من ضفائرك

أسقطَ عواصف الصامتين،

والمفقودين

ومن توقفوا عن البحث.

آنذاك، صرتَ شخصاً آخر

ولم تكن مضطراً للاختفاء مرتين،

خصوصاً أمام وجه الصمت الأحمق.

وبحزمٍ وقفتَ ووعدّت أن تعودَ دائماً.

وتركتَ لنا البذار،

الجذر،

ومساحاتٍ لا يعرفها العجزُ.

ومنذ تلك اللحظة شربتَ العلقم،

أبناء تلك الأرض التي تحبّ،

سعاف النخل التي احتلت ذاكرتك

عناقيد الغياب الحلوة

والأصفر، اللون الأصفر الذي تتذكرك

فيه أمي.

كنت صلباً وعدتَ.

■ ■ ■

الفراشة

للفراشة حلمٌ

ماتَ في منتصف الرحلة،

نزفَ طريقها أخضرَ

كي تطردَ الشعر والكلمة،

كي تطرد الحقيقة

وتَخنق في الماء صرخات النجاة.

للفراشة جسد تفوحُ منه رائحة العَفن

لها جناحٌ هشٌ ينطفئ

ويدٌ تقودُها إلى الانقراض.

■ ■ ■

الشبح

أنتَ لستَ موجوداً.

لا أحد يبحثُ عنك.

لا أحدَ يسألُ عن جسدك

حين تغيب.

في الواقع،

عندما تكون غائباً

لا أحد يحتاجك.

حتى لو مت،

فإنكِ لن تكون ميتاً

ولا حتى في ذاكرة أي شخص.

ليس ثمّة ذاكرةٌ بالنسبة لك،

ولا صمت.

لا لشيءٍ إلّا لأنك لن تموت عند أحد،

ولأنك، في الوقت نفسه، لستَ موجوداً.

بطاقة

Javier Gutiérrez Lozano شاعر مكسيكي من مواليد 1988. درس العلوم الاجتماعية في “جامعة بلغراد”. بين عامي 2010 و2013، أجرى دراسات ميدانية عن الحروب اليوغوسلافية في أراضي صربيا وكرواتيا والبوسنة ومنطقة كوسوفو، وعمل محرراً في مجلّة “رفليخو” التي تصدر في بلغراد. له في الشعر: “عودة إلى الأصل وقصائد أُخرى”، و”حجم المسافات” (2015)، و”ليس مطراً فحسب” (2015)، والقصائد المختارة هنا من عمله الشعري القادم.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى