نقد ومقالات

كاتبات وكتاب يختفون وراء أسماء مستعارة هربا او مواجهة/ لنا عبد الرحمن

جورج صاند ومي زيادة وأدونيس وايلينا فيرانتي وصبا الحرز وأمجد ناصر أخفى اسما غريبا

لعل الانتماء إلى زمن أصبحت فيه الأسماء والوجوه معروفة ومكشوفة عبر فضاء مفتوح لا يعني زوال غواية وضع الحجب بين الكاتب وهويته الحقيقية، فلا يكشف عن اسمه علانية أمام القراء، بل يفضل اختيار اسم يتخفى وراءه. هذه الظاهرة لا تزال موجودة الآن، كما كانت رائجة في الأزمنة الماضية، وضع قناع مستعار على الاسم الحقيقي، لإخفاء الهوية، وبمرور الوقت يصير القناع هو الوجه الظاهر أمام الآخرين، الوجه الأكثر شهرة وتحققاً أدبياً. وكلما عرف الاسم أكثر وذاع صيته، أمعن صاحبه في التخفي، وباتت اللعبة أكثر تشويقاً. الأسماء  المستعارة كثيرة في كل الآداب العالمية وليست قليلة في الأدب العربي، قديمه وحديثه، ويصعب فعلاً الإحاطة بها .

الكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي، التي ترجمت رواياتها إلى أكثر من 40 لغة، تعتبر من أبرز الأسماء المتداولة على مستوى العالم الأدبي في غموض اسمها، ووجود تخمينات متعددة حول حقيقة من تكون. مع أن إماطة اللثام عن هويتها الحقيقية ليس بالأمر المعقد في هذا الزمن، إلا أنه كما يبدو، صار من المهم بعد النجاح المتواصل الذي حققته فيرانتي، المحافظة أكثر على سرية هويتها.

قصة_حياة_مي_زيادة.jpg

مي زيادة إعتمدت أكثر من إسم (مؤسسة مي زيادة)

في العالم العربي، ظهرت عام 2006 عن دار الساقي رواية بعنوان “الآخرون”، للكاتبة صبا الحرز، لكن الكاتبة لم تظهر إلى الإعلام، وشاع أن صبا الحرز اسم مستعار بسبب حساسية مضمون الرواية، على رغم أن الرواية مكتوبة بأسلوب أدبي سلس، ولغة رشيقة خالية من الابتذال، فإن الكاتبة السعودية لا تزال صورتها مجهولة حتى الآن. تقول الراوية: “العالم صعب، عليَّ أن أتعلم كيف أتركه يمر من جواري. الآخرون الآخرون على الدوام… أنا أخاف من هؤلاء الذين يمنحونني ذاكرة وتاريخاً، أخاف لأنهم يمنحونني شيئاً يبقى معي بعد أن يرحلوا، وإذا كان بإمكاني التخلص من الهدايا، فكيف يمكنني أن أخلي فكري من أصواتهم العالية؟”.

لعل هذه الأفكار تستدعي التأمل في إحساس الخوف، والسؤال: هل الخوف من التابوات هو الذي يدفع الكاتب إلى أن يتخلى عن اسمه، ويتنكر خلف هوية أخرى؟ الحديث عن الخوف يشمل بالطبع وجوهه وتجاويفه الأخرى، السياسية والدينية والفلسفية الاجتماعية، جميع هذه القضايا تحمل في باطنها امورا تدفع الكاتب لنقدها صراحة لا رمزاً، واختياره الكتابة باسمه الصريح قد يعرضه لأذى يحجمه عن الكتابة إلى الأبد، لذا يكون التخفي.

المغامرة والكتابة

في عام 1804 ولدت أمانتين أوروا لوسيل، التي ستعرف لاحقاً باسم “جورج صاند”، اسم ذكوري جعل من صاحبته ترتدي زي الرجال، وتدخن السيجار والغليون، وتتردد على السهرات وأماكن التقاء الأدباء، التي لا ترتادها النساء عادة. عرف عن صاند آراؤها الجريئة وثوريتها وتمردها، وارتبطت بعلاقات عاطفية مع أبرز المبدعين في عصرها مثل الكاتب ألفريد دي موسيه، والموسيقي شوبان، والرسام ديلاكروا، ولها مراسلات شهيرة مع فلوبير. كتبت صاند عديداً من الروايات، أبرزها: “أنديانا”، و”فاديت الصغيرة”، و”قصة حياتي”. وظلت طوال حياتها معروفة باسم “جورج صاند”.

أما الكاتبة البوليسية الشهيرة آغاثا كريستي، فقد وقعت في غواية كتابة روايات رومانسية، ولأنها خافت من ردود فعل القراء، نشرت ست روايات تحت اسم “ماري ويستماكوت”، نحت فيها نحو الكتابة النفسية العاطفية، بدلاً من كتابتها المألوفة عن الجرائم. كريستي عبرت أكثر من مرة عن استمتاعها بتلك التجربة، ويبدو هذا واضحاً في كونها لم تكتفِ بإصدار كتاب واحد وهي متنكرة، بل أعقبته بكتب أخرى كثيرة.

وفي محاكاة حديثة لهذا الفعل، نشرت صاحبة سلسلة “هاري بوتر” رواية “نداء الطائر” تحت اسم مستعار لرجل هو “روبرت غالبريث”، وبررت ذلك بأنها تريد اكتشاف مكانتها الأدبية عند القراء، من دون الاستناد إلى النجاح الجماهيري الباهر الذي حققته في روايات “هاري بوتر”، لكن الرواية الجديدة لم تحظَ بذاك الانتشار اللافت إلا بعد أن تسرب خبر الهوية الحقيقية للمؤلفة. ولعل اللافت في شأن رولينغ هو ميلها إلى التخفي خلف أسماء ذكورية، بداية من أحرف اسمها الأولى “ج. ك. رولينغ” التي كتبت بها سلسلتها الشهيرة، وهو اسم ملتبس بدلاً من اسمها “جوان رولينغ”، ثم اسم “روبرت غالبريث”.

على الضفة العربية، وفي عام 1886، ولدت في الناصرة ماري إلياس زيادة، التي اختارت لنفسها اسم “مي”، لكنها كتبت بعدة أسماء مستعارة منها “إيزيس كوبيا” (نصوص بالفرنسية)، و”عائدة”. ومن المعروف عن مي أنها أول امرأة كتبت في صحيفة “الأهرام”، لكنها لم تتخفَّ تحت اسم رجل، بل اختارت اسم الربة “إيزيس”، واسم “عائدة”، بدلالتهما الأنثوية. قيل عن مي أنها اختارت التنكر باسم مستعار لأسباب عائلية، واجتماعية، لكنها واصلت مسيرتها الأدبية مع اسمها الحقيقي “مي زيادة”، متخلية عن التخفي خلف أي اسم.

ولأن المكان بالنسبة إلى المرأة يمثل الانتماء الأول، فقد توارت الكاتبة عائشة عبدالرحمن، المتحدرة من مدينة دمياط، حيث يلتقي البحر المتوسط بنهر النيل، خلف اسم “بنت الشاطئ”، في إشارة واضحة إلى جذور طفولتها. وعلى غرار ذلك حين صدرت رواية “بريق عينيك” في بيروت عام 1979، أخفت الكاتبة سميرة خاشقجي هويتها الحقيقية خلف اسم “سميرة بنت الجزيرة العربية”، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية تحولت إلى فيلم عام 1980، من بطولة نور الشريف ومديحة كامل.

ليست المرأة فقط

لا يرتبط حجب الاسم والهوية بالكاتبات فقط، واختيارهن هذا الفعل بسبب التقاليد الاجتماعية المحافظة التي لم تكن تشجع النساء في ذاك الزمن على الظهور بهوياتهن الحقيقية، فالرجال الذين اختاروا الكتابة بأسماء مستعارة ليسوا قلة على الإطلاق، وذلك لأسباب سياسية ودينية واجتماعية، وربما لدواعٍ أمنية أيضاً. ضمن أبرز الأسماء المعاصرة المتخفية الكاتب الجزائري محمد مولسهول الذي نشر رواياته باسم ياسمينة خضرا، وهو اسم زوجته، وقد اختار التنكر لأنه كان لا يزال ضابطاً في الجيش الجزائري، وكان مهدداً من الأصوليين، ولم يكشف عن هويته الحقيقية إلا بعد انتقاله إلى فرنسا، وكان هذا الكشف مفاجأة في الأوساط الثقافية.

في لبنان، كتب ربيع جابر رواية بعنوان “الفراشة الزرقاء”، تحت اسم نور خاطر، ولم يكرر استخدامه مرة أخرى وواصل الكتابة باسمه الحقيقي، كما اختارت الناقدة اللبنانية يمنى العيد، أن تنشر بهذا الاسم، بدلاً من اسمها حكمت صباغ، وقد أوضحت في مذكراتها الصادرة عن دار الآداب “أرق الروح”، أن والدها اختار لها اسم “حكمت” لأنه تمنى أن يرزق بصبي، وهذا الاسم كما تراه اسماً ملتبساً يصح أن نطلقه على البنات والصبيان، لذا فضلت عليه اسم يمنى كي تعرف به في الأوساط الأدبية.

الشعراء وفتنة الأسماء

تتفرع العلاقة بين الشعراء وأسمائهم ماضية خلف قراءة المعاني وارتباطها بالزمان والمكان، والأحداث، ثم الرجوع إلى الذات، للحفر خلف الهوية والاسم، وإلى أي مدى يحمل دلالته ومراده. وعلى رغم ما قد يحمله الاسم للشاعر من مجد أدبي فإنه يتمنى في لحظات التجرد منه. محمود درويش يصف علاقته مع اسمه في إحدى قصائده قائلاً: “أما أنا فأقول لاسمي دعك مني… وابتعد عني/ فإني ضقت منذ نطقت واتسعت صفاتك/ خذ صفاتك وامتحن غيري/ حملتك حين كنا قادرين على عبور النهر متحدين/ أنت أنا ولم أخترك يا كلبي السلوقي الوفي/ اختارك الآباء كي يتفاءلوا بالبحث عن معنى”.

يحيى النميري النعيمات.jpg

الشاعر أمجد ناصر هرب من إسمه الأصلي  يحيى النميري النعيمات (صفحة الشاعر – فيسبوك)

هل كان محمود درويش يتمنى أن يستبدل باسمه اسماً آخر؟ لعله لو تمنى ذلك فهو لم يكن قادراً البتة بعدما بات أيقونة شعرية فلسطينية.

عندما توفي الشاعر الأردني الكبير أمجد ناصر فوجئ معظم قرائه وحتى أصدقائه وبعض الصحافيين والنقاد باسمه الحقيقي وهو يحيى النميري النعيمات، هذا الإسم تهرب منه أمجد طوال حياته، ويبدو فعلاً أنه لا يمثله بل غريباً عنه وعن شخصه وشخصيته.

الشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر أحد أشهر الشعراء العرب المعاصرين الذين اختاروا الكتابة باسم مستعار، فكان “أدونيس”، هذا الاسم الذي ذاع صيته في العالم كله، حتى وصل ليكون ضمن الأسماء العربية المرشحة لنيل جائزة نوبل، لم يكن الاسم المستعار الأول لأدونيس، فقد نشر عام 1950، مجموعته الشعرية الأولى، تحت اسم “دليلة”. ولعل ما ينبغي ملاحظته في علاقة أدونيس بالأسماء، يكمن في افتتانه بدلالة الاسم تاريخياً، اختياره لنفسه اسم أدونيس الذي يأتي من الأسطورة الفينيقية “أدونيس وعشتروت”، جعله أيضاً يضع عنوان أحد دواوينه “هذا هو اسمي”، الديوان إلى كتبه عام 1969، ونشر لأول مرة عام 1970، ثم ضمه إلى مجموعة قصائد: “وقت بين الرماد والورد”. الديوان الآخر الذي يشير إلى علاقته مع دلالات الأسماء، حمل اسم “أغاني مهيار الدمشقي”، فقد أغوته حياة الشاعر الفارسي الأصل مهيار الديلمي، الذي عاش في أوائل القرن الحادي عشر، ودفعته كي يؤلف على غراره شخصية مهيار الدمشقي.

فتنة الأسماء التاريخية بالنسبة إلى الشعراء، لا تتوقف عند أدونيس فقط، فقد اختار الشاعر السوري محمد الماغوط، في بداياته الكتابة تحت اسم “سومر”، وافتتن الشاعر اللبناني بشارة الخوري بالشاعر الأموي “الأخطل”، فسمى نفسه تيمناً به “الأخطل الصغير”. أما صاحب “لن”، الشاعر أنسي الحاج، فقد كتب بعدة أسماء مستعارة، ذلك لأنه كان يكتب في عدة أماكن في وقت واحد، وخلال انسحابه في السنوات الأولى من الحرب اللبنانية اختار كنية “سراب العارف” التي لها معناها العميق.

وكما اختار أدونيس الكتابة في بداياته تحت اسم “دليلة”، وقع الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي بعض كتاباته تحت اسم “ليلى”، ربما لأنه كان مناصراً لقضايا المرأة، وعرف عنه جملة من الآراء العلمية والفلسفية الجريئة بالنسبة إلى عصره، فوصف نفسه قائلاً: “كنت في صباي أسمى (المجنون) لحركاتي غير المألوفة، وفي شبابي (الطائش) لنزعتي إلى الطرب، وفي كهولتي (الجريء) لمقاومتي الاستبداد، وفي شيخوختي (الزنديق) لمجاهرتي بآرائي الفلسفية”.

لعل حضور الأسماء المستعارة في الشعر ظاهرة عربية قديمة جداً، لكنها تجلت في طغيان اللقب على الاسم، كما حدث مع أسماء عديدة، حيث عرف الشاعر بلقبه، وأشهر هذه الألقاب يرجع للمتنبي، الذي سمي بذلك بسبب ادعائه النبوة في بادية السماوة، وأيضاً الشاعر العباسي “ديك الجن”، لقب بهذا الاسم بسبب لون عينيه الأخضر. وتطول القائمة لتشمل “صريع الغواني” و”الفرزدق” و”المهلهل”، و”الشنفرى”، وغيرهم.

كل الأزمنة

وفي مجال الصحافة أيضاً نجد جاذبية للأسماء المستعارة بين الكتاب، نشر غسان كنفاني بعض مقالاته الساخرة تحت اسم “فارس فارس”، وكتب الباحث والكاتب السعودي عبدالله بن خميس تحت اسم “فتى الدرعية”، إشارة إلى بلدته “الدرعية”، وهي إحدى مناطق الرياض.

وكتب إلياس ديري متخفياً باسم “زيان”، أما الكاتب الأردني محمود عودات فكتب تحت اسم “البدوي الملثم”، وفي مصر نشر إحسان عبدالقدوس عديداً من المقالات تحت اسم “زوجة أحمد”، إلى أن شاع الأمر وعاد ونشر هذه المقالات في كتاب باسمه الحقيقي. يوازيه في هذا الفعل الكاتب اللبناني رئيف خوري الذي كتب مقالات تحت اسم “أم عباس”، لكنه لم ينشرها في كتاب.

أسماء السوشيال ميديا

في زمن السوشيال ميديا تشيع أيضاً ظاهرة انتشار الأسماء المستعارة مع صفحات أدبية لا حصر لها وبأسماء وهمية. نجد على “فيسبوك” و”تويتر” وغير ذلك من المواقع، صفحات يدل مضمونها على أن أصحابها من المشتغلين بالأدب، ولكن من دون أية إشارة واضحة تدل على أسمائهم، البعض يستخدم هذه الصفحات للترويج لإبداعاتهم، ولقول آرائهم من دون التعرض لهجوم، فيما هناك صفحات أخرى لكتاب يستخدمونها بأسماء وهمية فقط كي يظلوا على اطلاع بما يدور في الحياة الثقافية، لكن من خلف ستار يحجبهم عن الحضور المباشر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى