الناس

“سكان الكهف” في إدلب… هل تَرِث “قبراً/ ملجأً” حفرته بيديك؟/ عمّار المأمون

بثت وكالة الأنباء الفرنسيّة حكايةً مصورةً عن عائلة أحمد الخليل شمال سوريا. أحمد حفر وأبناؤه السبعة كهفاً قرب منزلهم ليسكنوه كمأوى وملجأ من قصف الطيران الروسي والسوري. هناك رعشة غريبة تسري في الجسد حين نشاهد الحقيقة العارية بشكلها الصادم بينما نعجز عن التغيير.

تحوّل الشمال السوري إلى منبع للقصص التي تحمل من المفارقات الساخرة والتراجيديّة ما يثير القشعريرة، كأن نقرأ عن جهادي سابق فتح مطعم سوشي، أو أطفال يُعرضون للبيع عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ. وأخيراً بثت وكالة الأنباء الفرنسيّة حكايةً مصورةً عن عائلة أحمد الخليل (53 عاماً) الذي حفر وأبناؤه السبعة كهفاً على مدى خمس سنوات (منذ عام 2017)، قرب منزلهم المهجور في قرية كنصفرة، ليسكنوه كمأوى وملجأ من قصف الطيران الروسي والسوري.

هناك رعشة غريبة تسري في الجسد حين نقرأ “حفر مع أبنائه بيديهم كهفاً ليسكنوه…”، فالصخر كما نرى في الصور  من الصعب تخيّل أسلوب نحته ممراً، ناهيك بأن ينتهي الأمر بـ”غرفة/كهف”، تحوي حصيراً وقطرميزات مؤونة، وزوجة مخفيّة عن الأعين كلياً، مظاهر “الاستقرار”،لا تنفي رعب العبارة، “حفر وأبناؤه كهفاً!”.

فقد سوريون كثر البديهيات، الطعام، المال الكافي للحياة، الحق بالكلام والتعبير عن الرأي، لكن أشد ما فقدوه تأثيراً هو المنزل، المأوى ذو الجدران الصلبة التي لا يزيحها سيل أو ريح، مكان الفضاء الداخلي والتدبير الاقتصاديّ، مساحة الاستقرار الأولى، ومخزن الثروة التي تنتقل إلى الأبناء، وهنا السؤال، أيمكن أن يرث أحدهم كهفاً من والده؟ مأوى من حجر تحت الأرض؟ مساحة للنجاة من الاشتباكات والمعارك، صلبة لا يخترقها الرصاص؟

الكهف محاولة ضد النزوح، جوف الأرض مستقر ضد الانتقال بعيداً، فغياب المنزل يفترض الرحيل نحو “مُستقر ما”، لكن في الكهف، الأرض تبتلع مجازاً سكانها وأصحابها، ويقولها خليل بوضوح “هذا الملجأ قبر”، ربما قد يورث خليل أحد أبنائه السبعة ما حُرم منه الكثيرون، كهف وقبر، فحين ضرب الزلزال شمال سوريا، أزمة الدفن لم تخف على أحد، لا يمتلك السوريون بيوتاً ولا قبوراً، ربما الكهف أفضل مأوى لحياة مُعلّقة بين موتين، مساحة صلبة لا يمكن نقلها أو استملاكها قانونياً، فلا سندات لامتلاك كهف، حفرة مؤقتة لمن يبق فيها حياً.

يتجلى في الكهف الغياب القاسي للملكيّة، لا شيء لنقله للأجيال القادمة سوى حفرة في الصخر وبعض قطرميزات، الكهف منعزل عن المدينة والمدنيّة، إن تبقى منها شيء شمال سوريا. الكهف محط الهاربين بحثاً عن النجاة، وكأن الجهات الأربع خانتهم فكان الفرار “تحتاً”، حيث لا بوصلة إلا الظلام والزند، والأهم، الكهف مُلهم الحكايات والأوهام، ألم يُسجن سيرفانتس في كهف في الجزائر قبل تأليف دونكيخوتة؟ لكن ما الحكاية التي سيؤلفها سكان كهوف سوريا، فرسان يقاتلون الطائرات بالجوع والدعاء؟

لا مكان للتبول في الكهف، بصورة ما لا فضاء لفصل الجسد “النظيف” عن ذاك “الوسخ”، وهنا مفارقة شديدة القسوة، غياب مكان التبول يحوّل كل المساحة إلى فضاء مُهمل، مبعد، منسيّ، من فيه وبحكم استراتيجية القرف القائمة على العدوى الرمزيّة، يعيشون ذُلّين، ذل غياب المنزل، وذل البول، هم جزء من المكان نفسه، هم “أمكنة” حبيسة الكهف، ربما ثمة هنا مبالغة، لكن ما الحل في حال أراد واحد من أولاد أحمد السبعة التبول والطائرات تقصف؟

تشعل صورة الزوجة المنقّبة كليّاً غضباً  من الصعب كتمه، هي أمٌّ لسبعة، تدير اقتصاد الكهف، نادرة هي الأبحاث الأنثروبولوجية التي تحكي اقتصاد الكهوف والتدبير “الكهفي” كلمة ” oikos  nemein” لا تفي المعنى كونها وليدة الاستقرار والمنزل ذي الجدران الأربعة.

 كلاهما، الأب والأم يختبئان في المكان ذاته، لكن الزوجة أيضاً في كهف البرقع، هي تعيش شبحاً أمام الكاميرا، وداخل الكهف وداخل البرقع، هي جزء من المكان، بل لا مكان لها، حتى جسدها مُصادر، مجموعة تحديقات ترسخ مكانها تحت الأرض، طائرة الاستطلاع، الكهف، عينا زوجها، وعدسة الكاميرا، كيف الحركة إذاً، وهنا المفارقة، الصورة التي تؤخذ لها ثابتة نراها وهي ترتب المؤونة، مهمتها الإطعام وإشباع الأفواه الثمانيّة داخل فضاء الكهف، وهنا نسأل: كيف تقسم الأدوار الجندريّة إن كان الخارج خطراً، ووحوشه طائرات من حديد؟

لا مكان هنا لترديد الحكايات التقليدية والشعرية عن الكهوف، حتى مقاربة سيرفانتس في البداية حذلقة، لكن هناك مفارقة، في حكايات الكهوف، من يلجأ إليها يهرب أو يحتمي من خطر جمعيّ، خطر يفوق استطاعته، لا بيت يحميه منه، وهنا يكتسب الكهف معنى جديداً، ما الخطر الذي يمكن الكهف فقط أن يحمينا منه؟

أن يلجأ أحدهم الى كهف في الأرض، يعني أن الأرض كلها لم تعد صالحة لـ”الحياة”، لا مكان عليها لأن يعيش أحدهم، ناهيك بأن ينشئ أسرة. الكهف إذاً علامة على الخراب، وفقدان البديهيات، غياب مكان النوم بأمان، هذا بالضبط ما يمثله الكهف، مأوى من حجر لحماية الأجساد أثناء نومها، و هنا نفهم الحكاية القرآنية الشهيرة، الكهف مساحة لنوم عميق بلا خطر الموت غيلة أو غدراً.

الواضح أن الشمال السوري يتقهقر إلى مرحلة تاريخيّة لا نمتلك لها اسماً، جهاديون سابقون، سكان كهوف، بلوغ قسريّ، موتى يُتركون لموتهم بعد الزلزال، نحن في مساحة استثناء إذاً، حفرة كبيرة يلُقى بها من لا يخضع، من هرب من جحيم الأسد نحو جحيم هيئة تحرير الشام. واللافت، أن زاوية الكهف تحوي بساطاً عليه شعار الأمم المتحدة، المؤسسة التي من الواضح أنها قادرة حتى على الوصول إلى الكهوف، لا لشيء، لتقديم حصيرة وغطاء.

نحن أمام ضحايا مثاليين، على قسوة الكلمة، أمام فئة لا نعلم مستقبلها، كيف يمكن أحد أطفال أحمد أن يبدأ سيرته الذاتية، ربما هكذا: “ولدت في منزل في محافظة إدلب، ثم حفرت كهفاً مع والدي وأخوتي وسكنّاه…”، التتمة عصيّة على المخيلة، لكن يمكن توقعها، الفرار شمالاً عبر الحدود لمواجهة السياج الشائك و الكلاب، أو نحو البحر حيث يترك الهاربون لغرقهم، أو طائرة تنسف الأرض وما عليها، تترك هذه السيرة المتخيّلة بلا تتمة.

هناك نوع من المتعة الفيتشية في هذه الحكايات، فأن نشاهد المأساة بشكلها الفاضح والأوضح والأشد انتهاكاً يتركنا نوعاً ما محميين، ندلل الفضول في “مراقبة” مأساة الآخرين. صوت الضحايا هنا يحمل التجربة الإنسانيّة نحو مساحة شعريّة قاسية، نحن هنا أمام الحقيقة الصرفة، تلك التي لا يمكن وصفها أو التلاعب بها، جملة “يسكن أحمد الكهف مع أسرته” علامة بدرجة الصفر، تختزل كلّ الأسى والقمع والمأساة الإنسانيّة من دون أي صورة مجازيّة أو إحالة إلا الى الحقيقة، ما يحصل في شمال سوريا مأساة إباحيّة.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى