سياسة

ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة- 3-

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

تحديث هذا الملف يومي، نضيف العديد من المقالات المهمة والمختارة التي تناولت الحدث.  أنظر في الأسفل

عن أي انتصار يتحدثون؟/ أكرم البني

… نجاح القوات الروسية في تحقيق تقدم عسكري بشرق أوكرانيا، وتحديداً في إقليم دونباس المتنازع عليه منذ سنوات… الادعاء بفشل العقوبات الاقتصادية على موسكو، والتغني بارتفاع قيمة صرف «الروبل» جراء قرار روسيا تسديد ثمن الغاز بعملتها من قِبل ما اعتبرتهم دولاً غير صديقة… ما يثار عن تنامي قلق الاتحاد الأوروبي من استنزاف موارده في مجال الطاقة، وما تتكبده مجتمعاته من ارتفاع الأسعار وأعباء استقبال ملايين اللاجئين الأوكرانيين… كل ما سبق شكّل مرتكزات عند البعض للقول بانتصار قيادة الكرملين في حربها على أوكرانيا.

بداية، ما دامت الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، فمن الخطأ تبسيط مفهومي النصر والهزيمة بصورة التراجع والتقدم العسكريين، أو الانجرار لتوظيفهما تبعاً للرغبات والأمنيات، وتالياً التهرب من الإجابة عن سؤال، هل حققت الحرب الأهداف السياسية التي خيضت من أجلها، أم لا؟

الصورة تتحدث عن نفسها، وأي نظرة متأنية ومقارنة موضوعية بين المشهد قبل حرب أوكرانيا وبعدها، يكشف لكل ذي عين، أين كانت أهداف قيادة الكرملين، وأين صارت، وخاصة هدفها المعلن بإطاحة سلطة كييف التي وصفتها بالنازية، وإعادة أوكرانيا إلى «الحظيرة السوفياتية». وأيضاً، كيف عجزت خطط موسكو الحربية، وما تمتلكه من أصناف الأسلحة، عن حسم المعركة خلال أيام معدودة كما كانت تأمل، وصارت تخوض فيما يشبه المستنقع الدامي، متكبدة خسائر بشرية ومادية فادحة، اللهم إلا إذا كان ثمة من يصدق بأن قادة الكرملين شنوا الحرب تلبية فقط لاستغاثة أنصارهم في إقليمي دونيتسك ولوغانسك!

صحيح أن القوات الروسية حققت تقدماً في بعض مناطق شرق أوكرانيا، لكن تلك الآلة العسكرية المفترض أنها ثاني أقوى جيش في العالم هي نفسها التي أخفقت في معركة العاصمة كييف وغيرها من المدن الأوكرانية، وسحبت قواتها من شمال أوكرانيا، وهي نفسها التي خسرت مؤخراً معركة خاركيف، ثاني أكبر مدن أوكرانيا، واضطرت إلى العودة إلى داخل الأراضي الروسية، فهل ثمة انتصار يمكن التحدث عنه أمام ذاك العجز العسكري، اللهم إلا إذا كان يقصد بالانتصار ما خلفته قوة تدميرية هائلة من موت وخراب في أهم المدن والمناطق الأوكرانية!

من جهة أخرى، إذا كان أحد أهداف حرب روسيا على أوكرانيا هو الإمعان في تفكيك الحلف الأطلسي وإبعاد خطر تمدده بالقرب من حدودها، فإن النتائج تقول إن قيادة الكرملين لم تنجح في تحقيق هذا الهدف، بل ما حصل هو العكس تماماً، فقد أعادت تلك الحرب اللحمة لصفوف الناتو، وخلقت أيضاً مستوى غير مسبوق من التضامن الدولي معه، عدا قرار السويد وفنلندا الانضمام إليه، وهو تطور يحمل في طياته مخاطر أشد وطأة على أمن موسكو وموقعها الأوروبي، خاصة أن فنلندا تمتلك أطول شريط حدودي بري مع روسيا.

ليس سهلاً على العقل تصور تداعيات الحرب الأوكرانية على أوروبا بأنه انتصار لموسكو، حين تغدو الدول الأوروبية خائفة ومتحسبة من جارها الروسي بعد أن صادقته واستبعدت احتمال نشوب حرب معه، في تعويل على جديد بنيته السياسية وتطوير التبادل التجاري معه، أو حين تتجه جدياً للتفكير في واجبات عسكرية تجاهه كانت غافلة عنها، أوضحها غزارة الدعم العسكري للأوكرانيين، وما يثار عن توجّه لبناء نظام أمني أوروبي ناجع، أوضح نذره قرار ألمانيا بزيادة الإنفاق العسكري الدفاعي إلى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ووضع خطط وبرامج أوروبية مشتركة لتحديث الترسانة الاستراتيجية من قاذفات وصواريخ وغواصات قادرة على حمل رؤوس نووية، رداً على التهديدات المتكررة لأكثر من مسؤول روسي باللجوء إلى السلاح النووي.

إذا كان ثمة أضرار بدأ يتكبدها الغرب جراء العقوبات الاقتصادية على روسيا، بعد شراكة وتعاون اقتصاديين داما لأكثر من 3 عقود، ما قد ينعكس على مستوى الرفاهية التي كانت تعيشها بعض المجتمعات الغربية، فإن النتائج الطويلة الأمد لهذه الحرب ستكون مكلفة وكارثية على الاقتصاد الروسي، لجهة عزل روسيا عن دوائر التفاعل الاقتصادي العالمي، أو بحرمانها من امتياز الدولة الأَوْلى بالرعاية، الممنوح بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، بما في ذلك حظر إمدادها بالمكملات الإلكترونية التي تستخدمها الشركات الروسية لإنتاج كثير من السلع والمواد، بما في ذلك المنتجات العسكرية.

نعترف بأن روسيا لا تزال قادرة على الصمود مالياً بسبب امتلاكها ورقة النفط والغاز حتى اللحظة، لكن ألم تشجع هذه الحرب الدول الأوروبية للسعي جدياً من أجل الاستقلال عن موسكو في حاجتها لمصادر الطاقة، وتالياً على تغذية الاستثمار في إنتاج الطاقة البديلة والبحث عن عروض جديدة لاستجرار النفط والغاز، لنزع هذه الورقة من يد روسيا في أسرع وقت ممكن، وما يزيد الطين بلة ما يشاع من تحضيرات لتمرير تشريعات أميركية وأوروبية تتيح استخدام أموال الشخصيات الروسية التي صودرت، ليس فقط لتمويل الحرب في أوكرانيا وتحديث ترسانة حلف الناتو، وإنما أيضاً لتعويض الخسائر من ارتفاع أسعار الوقود.

والحال، ترجح أقل الاجتهادات الاقتصادية تشاؤماً أن العقوبات ضد روسيا يمكن أن تعود بها إلى ما كانت في العقد الأخير من القرن الفائت، بينما لن يساعدها الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز على تجاوز مشكلاتها الاقتصادية، في ظل تشديد المقاطعة والحصار عليها من قبل كبرى الشركات والمؤسسات المالية، كما لن يساعدها رهانها على دور إنقاذي للصين، لأن الأخيرة هي منافس قديم للمطامع الروسية وأثبتت غير مرة أنها أكثر حرصاً على قدراتها الذاتية، ومتحسبة جيداً من أن يفضي اصطفافها مع موسكو إلى القطع مع الغرب، وتهديد ما حققته من نفوذ عالمي.

هو «الانتصار» الذي كشف قدرات روسيا المتواضعة بعيداً عن المبالغات والأوهام، والذي فتح الباب اليوم كي يتجه العالم من جديد نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية… هو «الانتصار» الذي نهض في مواجهته، تنسيق عالمي غير مسبوق بين معظم المنظمات السياسية والمالية والأمنية والصحية والرياضية والفنية والإعلامية، لمحاصرة روسيا وعزلها، بما ذلك منظمات الأمم المتحدة، والأهم ذاك التضامن الأممي اللافت لتفعيل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، بغرض محاسبة القوات الروسية على ما فعلته في أوكرانيا.

الشرق الأوسط

————————

أوكرانيا تخشى أن يؤدي امتداد الحرب إلى فقدان الغرب الاهتمام

مع دخول الغزو الروسي لأوكرانيا شهره الرابع، أعرب المسؤولون في كييف عن مخاوفهم من أن شبح “إجهاد الحرب” يمكن أن يقوض عزم الغرب على مساعدة البلاد في صد عدوان موسكو.

قدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها أسلحة بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا، واستقبلت أوروبا ملايين الأشخاص الذين شردتهم الحرب، وقد كانت هناك وحدة غير مسبوقة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية في فرض عقوبات على الرئيس فلاديمير بوتين وبلاده.

لكن مع انحسار صدمة الغزو الذي وقع في 24 فبراير/ شباط، يقول محللون إن الكرملين قد يستغل صراعاً طويل الأمد ومتأصلاً وتضاؤل الاهتمام المحتمل بين القوى الغربية مما قد يؤدي إلى الضغط على أوكرانيا للتوصل إلى تسوية.

وأثار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي غضباً بالفعل من الاقتراحات الغربية بأنه يجب عليه قبول نوع من التسوية. وقال إن أوكرانيا ستقرر شروطها الخاصة بالسلام.

وقال: “الإرهاق يتزايد، والناس يريدون نوعاً من النتائج (التي تكون مفيدة) لأنفسهم، ونريد نتيجة (أخرى) لأنفسنا”.

ورُفض اقتراح إيطالي للسلام، وقوبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برد فعل غاضب بعد أن نُقل عنه قوله إنه على الرغم من أن غزو بوتين كان “خطأ تاريخياً”، فإنه لا ينبغي للقوى العالمية “إهانة روسيا، لذلك عندما يتوقف القتال، يمكننا بناء مخرج معاً عبر المسارات الدبلوماسية”.

قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا إن مثل هذا الحديث “لا يمكن إلا أن يذل فرنسا وكل دولة أخرى قد تطالب به”.

حتى التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بأن أوكرانيا يجب أن تفكر في التنازلات الإقليمية قوبل برد من زيلينسكي بأنه كان بمثابة مساواة للقوى الأوروبية في عام 1938 بالسماح لألمانيا النازية بالمطالبة بأجزاء من تشيكوسلوفاكيا لكبح عدوان أدولف هتلر.

تريد كييف إخراج روسيا من المناطق التي تم الاستيلاء عليها حديثاً في شرق وجنوب أوكرانيا، وكذلك استعادة شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو في عام 2014، وأجزاء من دونباس الخاضعة لسيطرة الانفصاليين المدعومين من الكرملين على مدى السنوات الثماني الماضية.

وقال المحلل السياسي في مركز أبحاث بينتا سنتر، فولوديمير فيسينكو، إن كل شهر من الحرب يكلف أوكرانيا خمسة مليارات دولار، وهذا “يجعل كييف تعتمد على الموقف الموحد للدول الغربية”.

وستحتاج أوكرانيا إلى أسلحة أكثر تقدماً لضمان النصر، جنباً إلى جنب مع تصميم الغرب على مواصلة الضغط وتكبيد روسيا خسائر اقتصادية لإضعاف موسكو.

وأضاف فيسينكو، في مقابلة مع وكالة أسوشييتد برس، أنه “من الواضح أن روسيا مصممة على إرهاق الغرب وتقوم الآن ببناء استراتيجيتها على افتراض أن الدول الغربية سوف تتعب وتبدأ تدريجياً في تغيير خطابها المتشدد إلى خطاب أكثر ملاءمة”.

لا تزال الحرب تحظى بتغطية بارزة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، اللتين أفزعتهما صور مقتل مدنيين أوكرانيين في أكبر قتال تشهده القارة منذ الحرب العالمية الثانية.

تواصل الولايات المتحدة مساعدة أوكرانيا، حيث قال الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الماضي إن واشنطن ستزودها بأنظمة صاروخية وذخائر متطورة ستمكنها من ضرب أهداف رئيسية بدقة أكبر في ساحة المعركة.

في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” يوم 31 مايو/ أيار، قال بايدن: “لن أضغط على الحكومة الأوكرانية – في السر أو العلن – لتقديم أي تنازلات إقليمية”.

وتعهدت ألمانيا، التي واجهت انتقادات من كييف ومناطق أخرى بسبب ترددها الملحوظ، بتقديم أحدث أنظمة دفاعها الجوي حتى الآن.

وقال كبير الباحثين في شؤون روسيا وأوراسيا بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، نايجل غولد-ديفيز، إنه: “لم يكن هناك شيء مثل ذلك، حتى في الحرب الباردة عندما بدا الاتحاد السوفييتي الأكثر تهديداً”.

في حين أنه لا يرى تآكلاً جوهرياً في “الدعم المؤكد لأوكرانيا”، قال غولد – ديفيز إن “هناك إشارات إلى توترات مختلفة حول ما ينبغي أن تكون عليه أهداف الغرب. هذه لم يتم تحديدها بوضوح بعد”.

تشق المخاوف المحلية في أوروبا طريقها إلى الخطاب بشأن الأزمة، خاصة أن أسعار الطاقة ونقص المواد الخام بدأا في إلحاق خسائر اقتصادية بالناس العاديين الذين يواجهون ارتفاع فواتير الكهرباء وتكاليف الوقود وأسعار البقالة.

في حين أشاد القادة الأوروبيون بقرار منع 90 بالمائة من صادرات النفط الروسية بحلول نهاية العام، ووصفوه بأنه “نجاح كامل”، فقد استغرق الأمر أربعة أسابيع من المفاوضات وشمل القرار تنازلاً يسمح للمجر، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها أقرب حليف للكرملين في الاتحاد الأوروبي، بمواصلة تلقي واردات النفط الروسي.

(أسوشييتد برس)

العربي الجديد

————————-

شبح صراع طويل الأمد.. هل يتخلى الغرب عن أوكرانيا؟

مع دخول العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا شهرها الرابع، أعرب المسؤولون في كييف عن مخاوفهم من أن يقوض شبح “إجهاد الحرب” عزم الغرب على مساعدة البلاد في صد الروس.

فمنذ بدء العمليات الروسية قدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها أسلحة بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا واستقبلت أوروبا ملايين الأشخاص الذين شردتهم الحرب.

كما شهدت أوروبا وحدة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية في فرض عقوبات على الرئيس فلاديمير بوتين وبلاده.

صراع طويل الأمد

لكن محللين أشاروا إلى أن الكرملين قد يستغل صراعاً طويل الأمد ومتأصلاً وتضاؤل الاهتمام المحتمل بين القوى الغربية مما قد يؤدي إلى الضغط على أوكرانيا للتوصل إلى تسوية.

وفي هذا الإطار، قال فولوديمير فيسينكو، المحلل السياسي في مركز أبحاث بينتا سنتر، إن “كل شهر من الحرب يكلف أوكرانيا خمسة مليارات دولار، وهذا يجعلها تعتمد على الموقف الموحد للدول الغربية”.

كما لفت إلى أنها ستحتاج إلى أسلحة أكثر تقدما لضمان النصر، جنبا إلى جنب مع تصميم الغرب على مواصلة الضغط وتكبيد روسيا خسائر اقتصادية لإضعاف موسكو.

إرهاق الغرب

وأضاف فيسينكو أنه “من الواضح أن روسيا مصممة على إرهاق الغرب وتقوم الآن ببناء استراتيجيتها على افتراض أن الدول الغربية سوف تتعب وتبدأ تدريجيا في تغيير خطابها المتشدد إلى خطاب أكثر ملاءمة”، وفق وكالة “أسوشيتيدبرس”.

بدوره، أوضح نايجل غولد-ديفيز، كبير الباحثين في شؤون روسيا وأوراسيا بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أنه “لم يكن هناك شيء مثل ذلك، حتى في الحرب الباردة عندما بدا الاتحاد السوفيتي الأكثر تهديداً”.

وفيما أكد أنه لا يرى تآكلا جوهريا في “الدعم المؤكد لأوكرانيا”، قال “هناك إشارات إلى توترات مختلفة حول ما ينبغي أن تكون عليه أهداف الغرب. فهذه الأمور لم يتم تحديدها بوضوح بعد”.

تراجع الموقف الأوروبي الموحد

في موازاة ذلك، أشار ماتيو فيلا، المحلل بمركز أبحاث “أي إس بي أي” في ميلانو إلى “أنه يظهر أن الوحدة في أوروبا تتراجع قليلاً بسبب العملية الروسية… هناك نوع من الإرهاق بين الدول الأعضاء بشأن إيجاد طرق جديدة لمعاقبة روسيا، ومن الواضح داخل الاتحاد الأوروبي، أن هناك بعض الدول التي هي أقل استعداداً لمواصلة العقوبات”.

يذكر أن الولايات المتحدة وحلفاؤها يواصلون مساعدة أوكرانيا، حيث قال الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الماضي إن واشنطن ستزودها بأنظمة صاروخية وذخائر متطورة ستمكنها من ضرب أهداف رئيسية بدقة أكبر في ساحة المعركة.

وتريد كييف إخراج روسيا من المناطق التي سيطرت عليها حديثاً في شرق وجنوب أوكرانيا، وكذلك استعادة شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو في عام 2014، وأجزاء من دونباس الخاضعة لسيطرة الانفصاليين المدعومين من الكرملين على مدى السنوات الثماني الماضية.

————————————-

التعثُّر في الجو.. ما سرُّ الإخفاقات الروسية في الحرب؟

إن القوة الجوية الروسية كان لا بد أن تكون من أعظم عناصر تفوُّق روسيا على أوكرانيا، إذ كان متوقَّعا من القوات الجوية الروسية، بسبب ما تمتلكه من أربعة آلاف طائرة مقاتلة تقريبا ومن خبرة عريضة في قصف المواقع بسوريا وجورجيا والشيشان، أن تؤدي دورا حيويا في اجتياح أوكرانيا، بما يسمح للجيش الروسي بأن يتوغَّل بعُمق في قلب البلاد، ويستولي على العاصمة كييف، ويدكَّ الجيش الأوكراني عن بكرة أبيه. بيد أنه بعد مرور أسابيع طويلة على نشوب الحرب، فإن القوات الجوية لفلاديمير بوتين ما زالت تقاتل للسيطرة على سماء المعركة.

لعل فشل القوات الجوية الروسية يُمثِّل الجانب الأهم للصراع العسكري حتى الآن، وإن لم يُناقش إلا قليلا. فقد أظهرت القوات الأوكرانية قوة مُدهِشة في حربها الجوية، وتأقلمت مع تطوُّر الحرب وتتابع فصولها، وإن كان ما زال بإمكان أحد الطرفين أن يربح السيادة الجوية، ومن ثمَّ يُغيِّر مسار الصراع تغييرا جذريا.

إن القوة الجوية بوسعها أن تحسم أي حرب، ولكن يصعُب استعمالها على نحو فعَّال، حيث تستند القوة الجوية عادة إلى مجموعة من التقنيات التي تحتاج إلى طاقم عمل مُدرَّب بكفاءة يستطيع أن يُرسي سريعا ما يكافئ نظاما عسكريا محمولا في الجوِّ، وهو ما يعني إنشاء محطات رادار محمولة جوًّا لتقديم إمكانية القيادة والسيطرة، وتوفير مقاتلين لمراقبة المجال الجوي والسيطرة عليه، وتزويد المركبات الجوية بالوقود للإبقاء عليها كلِّها ملأى بالغاز، وتوفير طائرات الحروب الإلكترونية لكبح دفاعات العدو، مع وجود طيف من جامعي المعلومات الاستخباراتية والطائرات الهجومية لتحديد مواقع قوى العدو ودكِّها. والحال أن هذا الجمع من العمليات المتضافرة ينطوي على مئات الطائرات وآلاف الأشخاص الذين يعملون معا على نحو مُنسَّق، وهو الأمر الذي يستغرق عقودا للتمكُّن منه. بيد أن هذه العمليات المتضافرة، حينما تُدار بكفاءة وجدارة، تسمح للجيش بالهيمنة على المجالات الجوية أثناء الحروب، مما يجعل الأمور أيسر على الأرض للقوات البرية والبحرية.

لسوء حظ الروس، لم يكن التحديث الأخير للقوات الجوية الروسية في معظمه سوى محاولة للاستعراض، رغم أنه هَدَف إلى تمكين القوات الجوية من إجراء عمليات مُركَّبة حديثة. فقد أهدر الروس أموالا طائلة وجهودا كثيرة بسبب الفساد وانعدام الكفاءة. ورغم تصنيع الكثير من المُعدَّات الجديدة البرَّاقة، مثل الطائرة الجوية القتالية “إس يو-34” التي يروِّج لها الروس بشدَّة، فإن القوات الجوية الروسية لا تزال تعاني من حصول عمليات لوجستية خاطئة، وتفتقر إلى التدريب الواقعي والمُنتظِم. وما يزيد الطين بلَّة أن النخبة الفاسدة الروسية لا تثق في الضباط أصحاب الرُّتَب الدنيا والمتوسطة، ومن ثمَّ لا تسمح بالتفكير في اتخاذ قرارات طموحة مُبتكَرة ومَرِنة مثل تلك التي تعتمد عليها القوة الجوية للناتو. (وقد كتب كثيرون عن الضباط غير المُفوَّضين الذين تمتلئ بهم صفوف القوات المُسلَّحة لدول الناتو، وتجعل عملية اتخاذ القرار العسكرية لا مركزية، وتسمح بمشاركة صغار الضباط على أرض المعركة، وهي ظاهرة شرعت الصين في تطبيقها منذ مدة داخل قواتها المُسلَّحة، في حين تعاني روسيا من افتقادها نتيجة تقاليدها العسكرية القديمة والمركزية التي تحصر صنع القرار في دائرة كبار القادة وحدهم، وهو ما يناقض طبيعة الحروب المتغيِّرة في العقد الأخير)*.

كل هذا إن عنى شيئا، فإنما يعني أنه حينما بدأ اجتياح أوكرانيا، لم تكن القوات الجوية الروسية قادرة على شن حملة مُركَّبة ومُدبَّر لها بما فيه الكفاية. وبدلا من العمل على إحكام السيطرة على المجال الجوي، قضت القوات الجوية الروسية أغلب وقتها في تقديم الدعم الجوي للقوات على الأرض أو في قصف المدن الأوكرانية. وبفعلها ذلك، تكون القوات الجوية الروسية قد اتَّبعت التكتيكات التقليدية لقوة قارية تُرجِّح كفة القوة البرية على ما عداها، فالتركيز على القوات البرية يمكن أن يؤتي أُكله في حال كان لديك ما لا حصر له من الجنود مع الاستعداد لخسارة أرواحهم، غير أن روسيا مُنكبَّة على تاريخها الحافل بالانتصارات على الأرض إلى حدِّ أنها فشلت فشلا ذريعا في تقدير أهمية القوة الجوية. “لم تُقدِّر روسيا بتاتا استخدام القوة الجوية، ولم تتجاوز في استخدامها أبعد من دعم القوات البرية”، كذلك أخبرنا “ديفيد دِبتولا”، الضابط المتقاعد من سلاح الجو الأميركي، “ونتيجة لذلك، فإن روسيا في حروبها كافة لم تتخيَّل أو تشن أبدا حملة جوية إستراتيجية”.

عوضا عن ذلك، تُركت الطائرات الروسية تُحلِّق فوق مواقع أعدائها المباشرة، واستخدم الكثير منها طائرات منفردة دون دعم مُتبَادَل من غُرفة عمليات جوية مُركَّبة كتلك المُتعارف عليها لدى القوات الجوية لحلف الناتو، إذ أُعطي الطيارون الروس هدفا، وسرعان ما طاروا للانقضاض عليه، وفي كثير من الأحيان اعتمدوا على ذخائر غير موجَّهة لإصابة هدفهم المرجوُّ؛ ثم حلَّقوا سريعا بعيدا عن موقع الاستهداف محاولين أن يتفادوا إسقاط طائراتهم. إن الطيار الروسي يتلقَّى الأوامر ويُنفِّذها، أيًّا كان الثمن. وحتى قدرات الاستخبارات والاستطلاع والمراقبة الروسية بدت هزيلة على نحو مفاجئ، فنادرا ما تظهر القوات الروسية هذه الأيام وهي قادرة على تحديد وترسيم الأهداف الأوكرانية ونشر إمكانياتها الجوية لمهاجمتها بما يكفي من السرعة لإحداث تغيير حاسم في المعركة. (ومُعظم إنجازات الروس على الأرض إنما ارتكزت إلى التقدُّم في الجنوب والشرق حيث الأغلبية السكانية الروسية والمعركة الأسهل بواسطة القوات البرية الحاسمة دوما بالنسبة إلى موسكو، على عكس معركة كييف التي فشلت فيها رغم إمكانية الظفر بها إن تسنَّى للروس بسط سيادتهم الكاملة في الجو)*.

بطبيعة الحال، يكمُن السبب الأهم وراء هذا الفشل الذريع للقوات الجوية الروسية، وهذا الحذر الواضح للطيارين الروس، في المقاومة الأوكرانية. فقد طوَّر الأوكرانيون خلافا لعدوِّهم مفهوما صلبا عن العمليات الجوية؛ وهو ما سَمَح لهم بوضع العراقيل أمام ما بدا مسارا سهلا للسيطرة الجوية الروسية. فقد دمج الأوكرانيون مجموعة من القدرات الجوية والدفاع الجوي كي يتمكَّنوا من إحباط القوات الجوية الروسية التي تتفوق عليهم ببون شاسع، وذلك بدءا من صواريخ أرض-جو الرخيصة المحمولة، إذ استطاع الأوكرانيون تقييد القوة الجوية الروسية بدرجة كبيرة في عدد قليل من المناطق الشرقية والجنوبية، الأمر الذي حدَّ من قدرة روسيا على المناورة جوًّا بدرجة كبيرة.

إن إضافة منظومة صواريخ “إس-300” ذات القوة الأكبر والمدى الأطول، التي أتت من سلوفاكيا إلى أوكرانيا، جعلت الروس أكثر عُرضة للخطر، فتهديد “إس-300” يُجبر الطائرات الروسية المنفردة، التي تفتقر عموما إلى التزوُّد بالوقود وإمكانيات الحرب الإلكترونية ودعم القيادة والسيطرة، على الطيران بارتفاعات منخفضة اتقاء للهجمات الأوكرانية، وهو ما يجعلها بدوره أكثر عُرضة لصواريخ أرض-جو المحمولة. لا يمكن لأوكرانيا استهداف جميع الطائرات الروسية في الأخير، غير أنها استخدمت ما لديها بذكاء لكي تضمن بقاء الطيارين الروس في حالة من القلق خشية استهدافهم في أي مكان، مما أجبرهم على التصرُّف بشكل دفاعي وقلَّل فعاليتهم.

إن ما وفَّرته قدرة أوكرانيا على مقارعة عدوها لحماية مجالها الجوي لم يقتصر على توفير الحماية لقواتها فحسب، بل مَكَّنها أيضا من أن تكون في موقع المُهاجِم بعض الأحيان. وكان الأوكرانيون، في وقت مُبكِّر من الحرب، قادرين على استخدام الطائرات المُسيَّرة التركية “بيراقدار” لمهاجمة أهداف بالغة الأهمية، كما استخدم الأوكرانيون طائرات مُسيَّرة للتعرُّف على صواريخ أرض-جو الروسية وتدميرها، مما جعل القوات البرية الروسية أكثر عُرضة للهجوم من الجو.

أظهر الأوكرانيون أيضا قدرة أكبر بكثير من الروس على استخدام مواردهم الجوية المحدودة بصورة خلَّاقة، ويبدو أن غرق السفينة “موسكفا”، إحدى سفن أسطول البحر الأسود الروسي، الذي أذهل العالم؛ حَدَث بالفعل من خلال ضربة ذكية مزدوجة، حيث زَعَم المسؤولون الأوكرانيون أنهم استخدموا طائرة مُسيَّرة لإرباك قدرات “موسكفا” المضادة للطائرات، ومن ثم أطلقوا صواريخ “نِبتون” المحلية المضادة للسفن قبل أن تسنح الفرصة لطاقم السفينة الروسي المرتبك أن يرُدَّ.

يكشف هذا الاستخدام المُبتكَر للقوة الجوية بأنه قد يكون لدى الأوكرانيين فهم أكثر تطوُّرا للعمليات الجوية يفوق ما لدى العديد من دول الناتو نفسها، التي تُعَدُّ هيمنتها الجوية أمرا مفروغا منه. إن ما قامت به أوكرانيا من خوض معركة جوية ضد عدو أغنى وأشد بأسا بثمن زهيد هو أمر بالغ الصعوبة، وقد قال “دِبتولا” إن الغرب عليه أن يتعلَّم الكثير من النجاح الأوكراني، مضيفا: “لقد أصبحنا مهيمنين جدا جويا لدرجة أننا لم نضطر أبدا لأن نفكر في كيفية استخدام القوة الجوية في حال كنا القوة الأدنى. إن أوكرانيا تطرح علينا بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام التي يجب التفكير فيها بجدية، حتى لو كان ذلك من أجل أن نعرف كيف سنواجه خصما ذكيا”.

ستكشف لنا الأسابيع المقبلة ما إذا كان لدى الروس القدرة على التعلُّم من أخطائهم والاستفادة بشكل أفضل من تفوُّقهم الذي لا يزال هائلا في الطيران. أما الأوكرانيون فسيشهدون قريبا نمو قدراتهم الجوية الهجومية، وقد تكون أحدث طائراتهم المُسيَّرة قادرة على استهداف أفضل للمدفعية بعيدة المدى. وقد بدا لنا في 30 إبريل/نيسان الماضي كيف أوشكت نيران المدفعية الأوكرانية أن تُصيب الجنرال “فالِري غيراسيموف”، رئيس الأركان الروسي أثناء زيارته للجبهة. هذا ويحصل الأوكرانيون الآن على سلاح أكثر تقدُّما، بما في ذلك طائرات مُسيَّرة من طراز “سويتش بلَيد” (Switchblade) و”فينيكس غوست” (Phoenix Ghost)، التي تستطيع البقاء لبعض الوقت فوق مواقع العدو قبل أن تُستخدم لتدمير الآليات.

ما دام المجال الجوي فوق ميدان المعركة محل نزاع، فسيتمكَّن الأوكرانيون من تطوير وتوسيع استخدامهم للقوة الجوية، ورغم أنهم قد لا ينتصرون في الحرب برُمَّتها في نهاية المطاف، فإنهم أحدثوا ثورة بالفعل في الكيفية التي ستُخاض بها المعارك القادمة مستقبلا.

—————————————————–

* ملاحظات المُحرِّر.

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: كريم محمد.

المصدر : مواقع إلكترونية

—————————-

=====================

تحديث 11 حزيران 2022

———————–

الحلقة الجهنّمية في سوريا تتواصل: الآثار الاقتصادية للغزو الروسي لأوكرانيا/ جوزيف ضاهر

ترجمة: مايا صوّان

مقدّمة

لا شكّ في أن غزو روسيا لأوكرانيا في أواخر شباط ٢٠٢٢، هو الحدث التاريخي الأبرز، من ناحية العواقب العالمية التي تبعته، منذ غزو العراق واحتلاله من الولايات المتحدة وبريطانيا في العام ٢٠٠٣. فناهيك عمّا أسفرت عنه الحرب الأوكرانية من تبعاتٍ إنسانيةٍ كارثيةٍ على شرق أوروبا، ألقت الحرب أيضاً بظلالها على الاقتصاد العالمي، ولا سيما أسواق السلع حيث أسعار النفط والغاز في ارتفاعٍ متسارع. يوفّر كلٌّ من روسيا وأوكرانيا ما يناهز ثلث صادرات العالم من القمح، وما يزيد عن ٧٠ في المئة من صادرات زيت دوّار الشمس، و٢٠ في المئة من الذرة، و٢٦،٦ في المئة من الشعير، و١١ في المئة من النفط، في حين تُعَدّ روسيا أحد أهمّ مورّدي السماد والمواد الخام ذات الصلة مثل الكبريت في العالم. ولكن منذ الغزو، أوقفت المرافئ على البحر الأسود جميع أشكال النشاط التجاري تقريباً، ما تسبّب بارتفاع تاريخي في أسعار القمح، التي تخطّت المستويات المُسجَّلة أثناء أزمة الغذاء العالمية في العامَين ٢٠٠٧ و٢٠٠٨. كذلك حظّرت روسيا وأوكرانيا صادرات القمح مؤقّتاً. وتلفت دراسةٌ نشرتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي في آذار ٢٠٢٢، إلى أن “التحرّكات في أسعار السلع والأسواق المالية التي سُجّلَت منذ اندلاع الحرب، يمكن أن تؤدّي، إذا ما استمرّت، إلى تراجع نموّ الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من ١ في المئة في السنة الأولى، وإلى ركود عميق في روسيا، كما يمكن أن تزيد تضخّم أسعار الاستهلاك في العالم بحوالى ٢،٥ في المئة”.

 وسوريا ليست بمنأى عن هذه الديناميات العالمية والضعف الاقتصادي لروسيا. فاعتماد النظام السوري على روسيا اقتصادياً ازداد عقب تدخّلها العسكري في سوريا في العام ٢٠١٥،  وإن كانت لم تضطّلع بدور الداعم المالي لدمشق.

العلاقات الاقتصادية والتجارية الروسية-السورية

شهدت العلاقات التجارية بين موسكو ودمشق تراجعاً إثر اندلاع الانتفاضة السورية في العام ٢٠١١، حيث انخفض حجم التبادلات التجارية من ١،١ مليار دولار في العام ٢٠١٠، إلى ١٩٨ مليون دولار في العام ٢٠٢٠، ما يمثّل ٣،٧ في المئة فقط من إجمالي الواردات السورية. جاء هذا التراجع نتيجة التعليق شبه التامّ لصادرات النفط الروسي إلى سوريا، بعد العقوبات الغربية التي فُرِضَت على قطاع النفط فيها، وانخفاض صادرات الأسلحة الروسية (أو على الأقلّ تلك المُسجَّلة رسمياً). مع ذلك، أصبحت روسيا المورّد الرئيسي للقمح إلى سوريا عقب التراجع الهائل الذي شهده الإنتاج المحلي السوري نتيجة الصراع. فقد ارتفعت كمّية القمح الروسي المُورَّد إلى سوريا سنوياً من ٦٥٠ ألف طنّ في العام ٢٠١٥، إلى ما يتراوح بين ١ و١،٥ مليون طنّ في السنة مذّاك الحين. وفي العام ٢٠٢١، استوردت سوريا ١،٢ مليون طنّ من القمح بما قيمته ٣١٠ ملايين دولار، علماً أن حاجة البلاد السنوية تُقدَّر بحوالى ٤،٥ ملايين طنّ (يذهب ٣،٥ ملايين طنّ منها إلى الاستخدام الغذائي). وبينما تحتاج سوريا إلى ما يناهز المليونَي طنّ من القمح سنوياً، قُدّر إنتاجها من القمح في العام ٢٠٢١ بحوالى ١،٠٥ مليون طنّ، وهي كمّيةٌ انخفضت من الكمّية البالغة ٢،٨ مليون طنّ في العام ٢٠٢٠، والتي لم يُنتَج منها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة سوى ٠،٨ مليون طنّ تقريباً.

 تعتمد سوريا أيضاً اعتماداً كبيراً على روسيا وأوكرانيا للحصول على الأعلاف، خصوصاً الذرة الصفراء، والشعير، وفول الصويا. فوفقاً لمدير المؤسسة العامة للأعلاف، عبد الكريم شباط، تستورد هذه الأخيرة الأعلاف من روسيا، فيما يتولّى تجّارٌ من القطاع الخاص استيرادها من أوكرانيا وبلدان أخرى. على سبيل المثال، استوردت دمشق الذرة من أوكرانيا بقيمة ٨ ملايين دولار في العامَين ٢٠١٩ و٢٠٢٠، من أصل ١١٧ مليون دولار من الذرة المُورَّدة إلى سوريا، وفقاً لقاعدة بيانات الأمم المتحدة لإحصاءات التجارة الدولية.

 كذلك أبرمت دمشق وموسكو اتفاقات في مجالَي الطاقة والبناء. فعقب العام ٢٠١٥، وسّعت الشركات الروسية نطاق حضورها في سوريا، ولا سيما في قطاع الطاقة. مذّاك الحين، عمدت الجهة المُقاوِلة الروسية الرئيسية، شركة ستروي ترانس غاز لوجستيك (STG)، التي بدأت العمل في سوريا في العام ٢٠٠٥، ثم خضعت للعقوبات الأميركية في نيسان ٢٠١٤ بسبب دور روسيا في أوكرانيا، إلى تنويع استثماراتها، موقّعةً في العامَين ٢٠١٨ و٢٠١٩ ثلاثة عقود رئيسية أتاحت لها الإشراف على السلسلة الكاملة لإنتاج الفوسفات، ونقله وتصديره من مناجم حمص إلى مرفأ طرطوس. وقد استفادت شركات روسية أخرى أيضاً من نفوذ موسكو في سوريا، وإن لم يكن بالدرجة نفسها كشركة STG.

 على الرغم من ذلك، لا يزال دور روسيا الاقتصادي واستثماراتها في سوريا محدودَين، وسيبقيان كذلك على الأرجح نظراً إلى التحدّيات السياسية والاقتصادية التي تواجهها روسيا جرّاء العقوبات المفروضة عليها، وآثار الحرب في أوكرانيا. فلا يخفى أن الاقتصاد الروسي كان في الأصل هشّاً وضعيفاً. أما الإعلان الأخير عن إبرام عقدٍ، في منتصف آذار ٢٠٢٢، بين شركة الطاقة الروسية “روس إنرغو ستروي بلاد الشام” (Ros EnergoStroy Levant (RESL))، ومستثمرين روس وسوريين-روس، من جهة، وبين دمشق من جهة أخرى، لبناء محطّةٍ لتوليد الكهرباء بالتوربينات الغازية بقدرة ٢٥ ميغاواطاً في مدينة الشيخ نجار الصناعية في حلب، فلا يمكن النظر إليه على أنه إثباتٌ لقدرة موسكو على المحافظة على استثماراتها في البلاد أو توسيعها. لقد منحت دمشق الحكومة الروسية والمستثمرين الروس منذ العام ٢٠١١ العديد من الاتفاقات والعقود لبناء محطات كهرباء وتوربينات وترميمها، إلا أن أيّاً منها لم يُنفَّذ بعد بسبب افتقار الحكومة السورية إلى التمويل اللازم.

أخيراً، ستُرخي العقوبات المفروضة على النظام المالي الروسي ببعض التداعيات على سوريا، خصوصاً على شبكات رجال الأعمال المرتبطين بالقصر الرئاسي. منذ العام ٢٠١١، رحّبت المؤسسات المصرفية الروسية باحتفاظ مصرف سوريا المركزي بالودائع الأجنبية، بعد العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على قطاع سوريا المصرفي. لقد شكّل ذلك ملاذاً وبديلاً ماليَّين لرجال أعمال سوريين وأفراد من الأسرة الحاكمة. لا يُعرَف حجم الأموال السورية المودَعة في المؤسسات المالية الروسية الخاصة، ولكنّ استخدام النظام المصرفي الروسي للتواصل مع العالم الخارجي كان ضرورياً للحكومة السورية وبعض المحاسيب التابعين للنظام، خصوصاً أن العقوبات قطعت علاقات سوريا بجزءٍ كبيرٍ من النظام المصرفي العالمي. والآن سيؤدّي فصل المصارف الروسية عن نظام “سويفت” للتحويلات الدولية إلى تعقيد قدرة المصارف الروسية، وبالتالي قدرة مستخدميها السوريين، على القيام بأنشطة دولية.

الآثار على الاقتصاد السوري على المديَين القصير والطويل

بينما يمكن من الآن ملاحظة الآثار الاقتصادية للحرب الأوكرانية على مختلف المستويات في أرجاء سوريا كافّة، يمكن أيضاً توقّع تأثيرات أخرى في المستقبل القريب، وعلى المدى المتوسّط. فقد شهدت بالفعل أنواع مختلفة من السلع المرتبطة بإنتاج القمح والطحين، مثل الزيت النباتي، والسمن النباتي، والذرة الصفراء، وفول الصويا، ومواد أخرى (الجدول ١)، ارتفاعاتٍ سريعةً في الأسعار في الأسواق. على سبيل المثال، وصل سعر المازوت مجدداً إلى ٥ آلاف ليرة سورية (ما يعادل دولارَين بحسب سعر الصرف الرسمي البالغ ٢٥١٢ ليرة مقابل الدولار) للّيتر الواحد في السوق السوداء في مناطق مختلفة من البلاد، بدلاً من متوسّط السعر البالغ ٣٥٠٠ ليرة (ما يعادل ١،٤ دولار)، وذلك كما حصل في فترات سابقة حينما شهدت البلاد مستويات شحّ مرتفعة. وهذه الزيادة تبلغ نسبة ٤٣ في المئة.

 وقد رفعت المؤسسة السورية للتجارة أيضاً أسعار بعض المنتجات المدعومة بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف عالمياً نتيجة الأزمة الأوكرانية.

الجدول ١: الفروق بين أسعار السوق للسلع في ٢٤ شباط و١٧ آذار في المناطق التابعة للنظام

ليتر الزيت النباتي

كيلو السمن النباتي

كيلو مسحوق فول الصويا

كيلو الذرة الصفراء

كيلو الأرزّ

طنّ الحديد

السعر في ٢٤ آذار ٢٠٢٢ (بالليرة السورية)

٩٥٠٠

١٠٥٠٠

٢١٠٠

١٥٠٠

٦٥٠٠

٣،٤ ملايين

السعر في ١٧ شباط ٢٠٢٢ (بالليرة السورية)

١٥٠٠٠ – ١٦٠٠٠

١٦٠٠٠

٣٠٠٠ – ٣٥٠٠

٢٥٠٠ – ٢٨٠٠

٧٥٠٠

٣،٩ ملايين

نسبة الزيادة

%٥٨ – %٦٨

%٥٧،١

%٤٣ – %٦٧

%٦٦،٧ – %٨٦،٧

%١٥،٤

%١٤،٧

المصدر: المؤلّف

هذه الحال هي نفسها في الشمال الغربي الذي يستورد معظم هذه الموارد من أوكرانيا وروسيا، حيث أسعار الطحين والنفط المستوردَين من تركيا، وعدد من المنتجات الأخرى، بما فيها السكر، والزيوت النباتية، والسمن، والحبوب، ارتفعت أيضاً منذ اندلاع الحرب الأوكرانية. كذلك حظّرت أنقرة في الآونة الأخيرة شراء هذه المنتجات في الأسواق التركية المحلية، وأوقفت تصدير الحبوب، والبذور الزيتية، وزيت الطهي، والسلع الزراعية الأخرى، التي يجري تخزينها في مستودعات جمركية في الموانئ البحرية التركية. هذا ويعاني الشمال الشرقي أيضاً من دينامياتٍ مماثلةٍ مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وخطر حدوث شحّ، نظراً إلى أن الغالبية العظمى من سلع المنطقة تُستورَد.

يرتبط هذا الارتفاع العام في النفقات بعوامل مختلفة، إضافةً إلى انعدام الاستقرار في الأسواق الدولية. فهو يُعزى في المقام الأول إلى ارتفاع سعر النفط إلى ما يزيد عن ١٠٠ دولار للبرميل للمرّة الأولى منذ العام ٢٠١٤. صحيح أن دمشق تستورد معظم نفطها من طهران، إلا أن ارتفاع أسعار النفط كان له تأثير على تكاليف شحن السلع المستوردة، حيث أصبحت نفقات النقل أعلى، وارتفعت أيضاً تكلفة التأمين في هذا القطاع. والواقع أن رسوم الشحن بدأت ترتفع في السنة الماضية، حيث قُدّرَت مثلاً تكلفة نقل حاويةٍ من الصين إلى سوريا بحوالى ٣ آلاف دولار قبل عام، مقارنةً بما يزيد عن ١٠ آلاف دولار اليوم. في موازاة ذلك، شهدت الليرة السورية في الأسابيع التي أعقبت اندلاع الحرب في أوكرانيا، انخفاضاً جديداً في قيمتها من ٣٦٨٠ ليرة مقابل الدولار في ٢٤ شباط، إلى ٤ آلاف ليرة مقابل الدولار في ١٧ آذار. واستمرّ تراجع قيمة الليرة التركية أيضاً مقابل الدولار، الأمر الذي طال تأثيرُه شمال غرب سوريا. هذه العوامل كلّها أدّت إلى ارتفاعٍ في تكلفة الإنتاج، ولا سيما في قطاعَي التصنيع والزراعة، وبالتالي في تكلفة المعيشة.

فضلاً عن ذلك، يأتي هذا الارتفاع الجديد في الأسعار بعد عامٍ من الزيادات المتواصلة في تكلفة المنتجات الغذائية الأساسية. ومن المحتمل أن يشهد الإنتاج المحلي تراجعاً جرّاء تدنّي درجات الحرارة في الأسابيع القليلة الماضية. يُذكَر أن متوسّط السعر الوطني لسلّة الغذاء المرجعية المعيارية لبرنامج الأغذية العالمي ارتفع بنسبة ٢ في المئة من كانون الثاني إلى شباط ٢٠٢٢، ووصل إلى ٢٣١٠٠٤ ليرات (ما يعادل ٩٢،٤ دولاراً). وكانت نسبة ارتفاع متوسّط السعر الوطني لسلّة الغذاء ٣٤ في المئة منذ آب ٢٠٢١، و٧١ في المئة منذ شباط ٢٠٢١، علماً أن سعر سلّة الغذاء المرجعية في شباط ٢٠٢٢ كان أعلى متوسّطٍ شهري جرى تسجيله على الإطلاق منذ البدء بمراقبة السعر في العام ٢٠١٣. وكانت صحيفة الوطن الموالية للنظام السوري قد كشفت، في هذا السياق العام من ارتفاع الأسعار، أن مصادر مختلفة تشير إلى وجود دراساتٍ حول رفع سعر الخبز جرّاء الزيادة في أسعار الطحين، بحوالى ٤٠٠ ليرة للكيلوغرام، أي من مليونَي ليرة للطنّ إلى ٢،٤ مليون ليرة (٧٩٦ دولاراً و٩٥٥ دولاراً على التوالي).

تُلاحَظ هذه الديناميات التضخّمية في أرجاء العالم كافّة، وقد بلغت مستويات قياسية في شباط ٢٠٢٢ بحسب مؤشّر منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) لأسعار الغذاء العالمية، بمتوسّطٍ قدره ١٤٠،٧ نقطة، وبزيادةٍ نسبتها ٣،٩ في المئة منذ كانون الثاني، وحوالى ٢٠،٧ في المئة فوق المستوى المُسجَّل قبل عام. على الصعيد العالمي، شهدت أسعار مختلف أنواع الأعلاف ارتفاعاً كبيراً ملحوظاً في السنتَين الماضيتَين، حيث سجّل مثلاً طنّ الذرة ارتفاعاً من ١٨٠ دولاراً في العام ٢٠٢٠، إلى حوالى ٣٤٠ دولاراً اليوم. لم يَحُل هذا السياق الدولي دون بروز انتقاداتٍ في الصحف الموالية للنظام السوري، تُدين كبار التجّار لاستغلالهم الأزمة في أوكرانيا، ومساهمتهم في رفع الأسعار بسبب احتكارهم لاستيراد سلعٍ معيّنة، أو بسبب تخزينهم السلع للحدّ من الكمّيات في السوق وبيعها لاحقاً بأسعار أعلى. كذلك أشارت تقارير مماثلة في الشمال الغربي إلى استغلال الأزمة من الجهات النافذة التابعة لهيئة تحرير الشام، والتجّار المرتبطين بها.

إضافةً إلى ما سبق، قد تدفع أيضاً الحربُ الأوكرانية وعواقبُها في أوروبا الحكومات الأوروبية، وهي الجهات المانحة الأبرز، إلى تحويل أولويّاتها أكثر فأكثر بعيداً عن سوريا، خصوصاً أن ٣،٥ ملايين شخص تقريباً فرّوا من أوكرانيا، والعدد في تصاعدٍ على الأرجح. وكان سبق أن انخفضت المساعدة المالية الإنسانية المُقدَّمة لسوريا في السنوات القليلة الماضية، حتى وصلت في العام ٢٠٢١ إلى ٣،٦ مليارات دولار، وهو أدنى مستوى لها منذ العام ٢٠١٥. غطّت هذه المساعدة ما يزيد قليلاً عن ثلث إجمالي احتياجات التمويل (المُقدَّرة بـ١٠،٠٥٢ مليارات دولار). يحدث ذلك كلّه وحاجةُ الشعب السوري إلى المساعدة الإنسانية آخذةٌ في الازدياد. فقد احتاج ما يُقدَّر بـ١٢ مليون شخص يعاني من انعدام الأمن الغذائي (٥٥،٣ في المئة من السكان) و١٤،٦ مليون شخص (٦٧،٣ في المئة من السكان) إلى المساعدة الإنسانية في شباط ٢٠٢٢.

في هذا السياق، سيفاقم ارتفاع تكلفة المواد والسلع، بما فيها القمح والنفط، صعوبة شرائها، وقد يؤدّي إلى نقص فيها، ويساهم في زيادة تكلفة الإنتاج. على سبيل المثال، سيتأثّر قطاع الزراعة سلباً نتيجة تعطّل الإنتاج العالمي للأسمدة، من جملة عوامل أخرى. ناهيك عن هذه الآثار، ستعمد الحكومة السورية والسلطات الأخرى على الأرجح إلى استغلال الوضع لاتخاذ المزيد من التدابير التقشّفية، وزيادة أسعار مواد وسلع معيّنة مدعومة، مثل الخبز والمازوت والغاز، بحجّة ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية ونقص التمويل.

ما الخيارات المتاحة للسلطات المحلية؟

بعد ساعات قليلة من بدء الغزو الروسي، عقدت الحكومة السورية اجتماعاً طارئاً في ٢٤ شباط بغية إعداد خطّة لتخفيف تداعيات الحرب والتطوّرات الدولية على الوضع الاقتصادي الداخلي. ومذّاك الحين اتّخذت دمشق في هذا الإطار عدداً من الإجراءات، مثل منع المنتجين من تصدير أصناف محدّدة [١] حرصاً على الأمن الغذائي في البلاد، وتلبيةً لاحتياجات السوق المحلية في الفترة الراهنة، وفي شهر رمضان، ولضمان الإنتاج الزراعي والصناعي. كذلك أعلنت الحكومة أنها ستعمد في الشهرَين التاليَين إلى ترشيد توزيع المنتجات الأساسية على السكان، مثل القمح والمازوت، وأنها ستشدّد رقابتها على سوق الصرف الأجنبي سعياً إلى تحقيق الاستقرار فيه. وقد اتّخذ مصرف سوريا المركزي بدوره، في ٧ آذار، قراراً بزيادة قائمة الواردات التي يمكن تمويلها بالعملات الأجنبية المُشتراة من شركات الصرافة، وهو ما سيزيد الطلب على الدولار. وفي اليوم نفسه، أعلنت المؤسسة العامة للأعلاف عن مناقصة جديدة لشراء ٤٠ ألف طنّ من الذرة، و٤٠ ألف طنّ من الشعير، و٢٠ ألف طنّ من فول الصويا، في ضوء الحرب الأوكرانية، وتلبيةً للاحتياجات المحلية.

فضلاً عن ذلك، بدأ المسؤولون السوريون بالبحث عن بدائل للقمح الروسي. فقد أعلن مدير المؤسسة السورية للحبوب، عبد اللطيف الأمين، في منتصف آذار ٢٠٢٢، أن المؤسسة في صدد شراء ٢٠٠ ألف طنّ من القمح من الهند، مضيفاً أن تكلفة استيراد طنّ القمح ارتفعت من ٣١٧ دولاراً إلى ٤٠٠ دولار بسبب ارتفاع أسعار التأمينات. مع ذلك، كان المسؤولون السوريون قد أعلنوا في مناسبات عدّة أن كمّية القمح في البلاد تكفي حتى أواخر العام ٢٠٢٢ تقريباً.

إلى جانب هذا النقص العام في القمح في البلاد وارتفاع الأسعار، يُرجَّح أن يزداد أكثر التنافسُ بين مختلف السلطات على شراء إنتاج الفلاحين والمزارعين السوريين من القمح. وبالفعل، في العامَين الماضيَين، استطاع كلٌّ من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والحكومة السورية المؤقّتة شراء كمّيات كبيرة من القمح من المزارعين المحليين مقابل أسعار أعلى من أسعار النظام السوري. فقد حصلت الحكومة السورية المؤقّتة على الدعم من الحكومة التركية عبر مجلس الحبوب التركي لشراء القمح، وحتى استيراد جزءٍ منه من تركيا.

لم تضع السلطات في الشمال الغربي والشمال الشرقي حتى الآن أيّ برنامج للتعامل مع الارتفاع في الأسعار، والنقص المحتمل في مختلف السلع والمواد. تقول هذه السلطات إنها تملك مخزوناً من القمح يكفي حتى أيلول، وطلبت من السكان التحلّي بالصبر إزاء ارتفاع أسعار السلع في مناطقهم. وأعلن سلمان بارودو، الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، في ١٩ آذار، أن “إنتاج معمل الزيت النباتي لا يغطّي احتياجات السوق”، وسيُصار إلى مراقبة الأسواق في شمال شرق سوريا، وضبط الأسعار للحفاظ على استقرار السوق. وكانت السلطات المحلية أصدرت قبل بضعة أيام قرارات بالسماح لأصحاب المخابز بخلط طحين القمح مع طحين الذرة، نظراً إلى النقص الحادّ في القمح والطحين في المنطقة. وفي ٥ آذار، عمدت إدارة المخابز والحبوب في حكومة الإنقاذ السورية التابعة لهيئة تحرير الشام، في محافظة إدلب في شمال غرب البلاد، إلى خفض وزن ربطة الخبز بمقدار ١٠٠ غرام، ليصبح وزن الربطة المؤلّفة من ثمانية أرغفة ٦٥٠ غراماً، بسعر ٥ ليرات تركية (٠،٣٤ دولار).

وفي ظلّ هذا الوضع، قد تنتهز بعض الدول الإقليمية، منها تركيا وإيران والإمارات العربية المتحدة، فرصة العزلة السياسية والاقتصادية التي تعاني منها روسيا على الساحة الدولية، والصعوبات التي تواجهها، من أجل زيادة نفوذها واستثماراتها الاقتصادية في سوريا. فالمسؤولون الإيرانيون مثلاً متلهّفون لإبرام الاتفاق النووي مع القوى العالمية، الذي من شأنه أن يسمح لطهران، إذا ما أُبرِم بسرعة، باستغلال موقع روسيا الضعيف لتعزيز وجودها في سوريا، ولا سيما في القطاع الاقتصادي. فضلاً عن ذلك، تتواصل عملية التطبيع مع النظام السوري عقب الزيارة التي أجراها بشار الأسد للإمارات العربية المتحدة، وهي الأولى له إلى دولة عربية منذ العام ٢٠١١. فقد دعا الطرفان خلال هذه الزيارة إلى المزيد من التبادلات الاقتصادية والاستثمار في سوريا. ومع ذلك، لا تزال موانع كبيرة تحول دون القيام بمزيدٍ من الاستثمارات في البلاد، بما فيها العقوبات الغربية، خصوصاً قانون قيصر، وقلّة التمويل لدى الحكومة السورية، وغياب الاستقرار في البلاد على المستويَين السياسي والاقتصادي.

خاتمة

من المتوقّع أن تُلحِق الحرب في أوكرانيا، جنباً إلى جنب مع آثارها العالمية، الضررَ بشعبٍ سوري يختنق أصلاً بفعل الوضع الاجتماعي والاقتصادي الكارثي، وغلاء المعيشة. لا تستطيع الغالبية العظمى من الشعب مواجهة هذا الوضع من دون أشكال المساعدة وآليات التأقلم المختلفة، بما فيها التحويلات من الخارج، والعمل في أكثر من وظيفة. ولن تكون القرارات المُتّخَذة من الحكومة السورية، وسلطات الأمر الواقع في شمال غرب البلاد وشمال شرقها، لمحاولة تخفيف حدّة الآثار، كافيةً لوضع حدّ لارتفاع أسعار المواد والسلع الأساسية، والحؤول دون حصول نقصٍ في المستقبل.

* جوزيف ضاهر هو أستاذ منتسب بدوام جزئي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا (إيطاليا)، ويعمل تحت رعاية المشروع البحثي “زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا” ضمن برنامج مسارات الشرق الأوسط. وضاهر حائز على دكتوراه في دراسات التنمية من معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن (٢٠١٥)، ودكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لوزان في سويسرا (٢٠١٨).

تولّت ترجمة هذه الورقة مايا صوّان.

————————–

التداعيات الإقليمية الجيوسياسية للصراع الأوكراني على سوريا/ سنان حتاحت

ترجمة: مايا صوّان

 شكّل التدخّل الروسي في سوريا، في أيلول ٢٠١٥، نقطة تحوّلٍ مفصلية في الصراع السوري. فالمكاسب العسكرية التي حصدها النظام بفضله، وحالة الجمود التي لحقته منذ العام ٢٠٢٠، ومراوحة المفاوضات السياسية مكانها، وعدم القدرة على إحداث تغييرٍ مُجدٍ في سوريا، كانت عوامل أدّت إلى إحباط مُعارضي الأسد، وإلى تراجع أولويّة الصراع تدريجياً في الأجندة الدولية. ولكن في حين أن الغزو الروسي لأوكرانيا يصرف انتباهَ المجتمع الدولي المتلاشي عن سوريا بشكل أكبر، إلا أنه قد يولّد دينامياتٍ جديدةً على الأرض، ويخلق فرصةً فريدةً لعودة نشاط الدبلوماسية الإقليمية. فمع انشغال روسيا في أوكرانيا، قد تشعر الجهات الفاعلة الإقليمية أن ثمّة فرصة للدفع بأجنداتها في سوريا.

تركيا تسعى إلى اليقين

بدأت النخبة السياسية في تركيا العمل من الآن على انتخابات العام ٢٠٢٣، مُهيّئةً نفسها لأقسى معاركها الانتخابية منذ العام ٢٠٠٢. وبينما استعادت شعبية الرئيس أردوغان في الآونة الأخيرة بعضاً من جاذبيتها المفقودة، بفضل إدارته دورَ تركيا في الصراع الأوكراني، سترتكز حملته الانتخابية بمعظمها إلى النتائج الملموسة التي يُفترَض أن يحقّقها على الصعيد الاقتصادي، وفي الشأن المتعلّق باللاجئين السوريين. لطالما كانت سوريا حاضرةً في الخطاب السياسي التركي على مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية، ولكن من المتوقّع أن تبرز نبرةٌ وهدفٌ مختلفان في الأسابيع والأشهر المقبلة.

أولاً، لم يَعُد أساساً يُنظَر على المستوى الشعبي التركي إلى سوريا على أنها مصدر تهديد أمني. وفي حين لا تزال تمثّل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، مشكلةً ومصدر قلقٍ لأجهزة الدولة الأمنية والعسكرية التركية، إلا أن احتمال شنّ حملة عسكرية جديدة في سوريا لن يثير القدر نفسه من الحماسة الشعبية كما سبق أن حصل منذ بضع سنوات. وحدُها ضربة قوية لحزب الاتحاد الديمقراطي من شأنها أن تعطي زخماً لشعبية الرئيس التركي على الصعيد العسكري. ثانياً، أصبحت سوريا، وتحديداً أراضيها الشمالية الغربية، تُعَدّ أكثر فأكثر وجهةً لإعادة توطين اللاجئين “العائدين”. فتقبّل اللاجئين السوريين في تركيا آخذٌ في التضاؤل على نحوٍ خطير، وغالباً ما يُعزى سبب تدهور الاقتصاد التركي إلى وجودهم. وعليه، سعياً إلى إرضاء المطالب الشعبية، تحتاج أنقرة إلى تسخير معظم جهودها لإبداء قدرٍ أكبر من الكفاءة في مجال تقليص اللجوء السوري وتنظيمه في تركيا.

ولذا، قد يكون ممكناً، في ظلّ الهجوم الروسي على أوكرانيا، إعادة تقويم السياسة التركية بشأن سوريا من جديد بطريقتَين: فَرض وضعٍ راهنٍ دائمٍ في إدلب وشمال حلب؛ والحثّ على سيناريو لإنهاء اللعبة في شمال شرق سوريا. وطالما أن روسيا منشغلة في أوكرانيا، قد تميل تركيا إلى تعزيز الحكم الذاتي لشمال غرب سوريا، من خلال السماح بدمجٍ تدريجيّ للهيئتَين العسكريتَين/الحاكمتَين: الجيش الوطني السوري/الحكومة السورية المؤقّتة، وهيئة تحرير الشام/حكومة الإنقاذ السورية. وهذا الأمر قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى تشكيل سلطة مركزية لحكم المنطقة. وبالفعل، تشير التقارير الأخيرة إلى تواتر اجتماعاتٍ تمهيديةٍ سبق أن عُقِدَت بين ممثّلين عن هيئة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني السوري. وقد يُصار إلى تسريع هذا التقارب، إذ إن هيئة تحرير الشام على استعداد لاستغلال أيّ ضعف هيكلي في الجيش الوطني السوري للتسلّل أكثر إلى صفوفه.

أما شرقاً، فحسابات تركيا أكثر تعقيداً، حيث خيارات أنقرة المطروحة محدودة: إما السعي إلى إنهاء اللعبة مع الولايات المتحدة الأميركية بالاعتراف ضمناً بسلطة حزب الاتحاد الديمقراطي؛ وإما العمل مع روسيا على تسهيل عودة النظام إلى المنطقة. من شأن الخيار الأول أن يتيح لتركيا إمكانية المطالبة بالاعتراف الأميركي المتبادل بسلطتها القائمة بحكم الواقع في منطقة شمال غرب سوريا كلّها، وبالتالي طمأنتها في حال حدوث صدام مع روسيا. غير أن عملية التطبيع مع حزب الاتحاد الديمقراطي قد تكون لها نتائج عكسية محلياً، وقد تزيد الضغط على الحكومة. تبقى فرص تطبيق هذا المسار ضئيلة، ولن يكون في الإمكان توخّيه إلا بعد نتيجةٍ انتخابيةٍ مضمونة. في المقابل، تنتاب أنقرة شكوكٌ فعليةٌ إزاء قدرة النظام على السيطرة على شمال شرق سوريا، وإخضاع حزب الاتحاد الديمقراطي. فإن تقديم التنازلات من دون نتائج مضمونة قد لا يؤدّي إلى حشد الدعم الكافي في صفوف الجيش التركي، والأجهزة الأمنية التركية. ثم إن النظام السوري ليس لديه حافز كبير لطمأنة إردوغان، وتزويده بنصرٍ يتيح له الفوز بالانتخابات المقبلة.

بناءً على ذلك، قد تطرح أنقرة خياراً ثالثاً، وهو توخّي سلسلةٍ من الأهداف الهيكلية الفردية المشتركة، بغية إضعاف حزب الاتحاد الديمقراطي على المديَين المتوسط والبعيد، والتوصّل في الوقت نفسه تدريجياً إلى تدبير أمني جديد مع دمشق في الشمال. فتركيا تستهدف مواقع لقوات سوريا الديمقراطية على الطريق السريع M٤، متوقّعةً أن تستمرّ إدارة بايدن في غضّ الطرف، طالما أنها تتوانى عن شنّ هجوم واسع النطاق. وفي هذا السيناريو، يمكن أن تضطّلع روسيا بدورٍ حيويّ في التوسّط بين أنقرة ودمشق، دور قد يكون في نظرها فرصةً إيجابيةً للحفاظ على علاقتها مع أنقرة.

الواقع أن تركيا قد تكون في موقعٍ يتيح لها الاستفادة من هزيمةٍ روسيةٍ أو صراعٍ مطوّلٍ في أوكرانيا، إلا أن الضرورات المحلية تُملي مساراً مختلفاً. لذا، ستكتفي أنقرة باتّباع سلوكٍ مُحافِظٍ في سوريا، ولن تستغلّ الضعف الروسي بما يتجاوز التفاوض على تأكيد مكاسبها السابقة، وضمان استقرارٍ مستدامٍ في الشمال.

عودة إيران؟

على الرغم من الدور المحوري للتدخّل الروسي في المحافظة على الوجود الإيراني العسكري والسياسي في سوريا، كانت سطوة طهران على دمشق عرضةً للتحدّي من جانب موسكو. كما إنها وجدت نفسها ضحية آلية تفادي التضارب التي جرى الاتفاق عليها بين روسيا وإسرائيل، فيما أصبحت أصولها الاستراتيجية عرضةً للاستهداف بشكل دوري. وأقلّ ما يُقال إن انزعاج إيران من مزاحمة الروس قد ازداد بشكل مطّرد منذ العام ٢٠١٥، فيما كانت قدرتها على تحدّي موقع روسيا في سوريا محدودةً جداً. ولذا، ما إن تتمكّن واشنطن وطهران من التوصّل إلى اتفاق حول خطّة العمل الشاملة المشتركة، ستبدأ إيران باستغلال انشغال روسيا في أوكرانيا بطريقتَين.

أولاً، من شأن رفع العقوبات في إطار هذا الاتفاق أن يتيح لإيران المزيد من الإيرادات، ولا سيما من مبيعات النفط والغاز. وبينما من المتوقّع أن يساهم معظم هذه الإيرادات في إراحة الاقتصاد المحلي الإيراني الرازح تحت ضغوط شديدة، سيطالب الحرس الثوري الإسلامي بحصّةٍ كبيرةٍ لتكثيف أنشطته في العالم العربي. وسيكون ذلك في سوريا على شكلَين: المزيد من الدعم المالي للميليشيات المحلية التي يدعمها الحرس الثوري؛ والمزيد من الاستثمارات والعقود في الاقتصاد السوري المحتضر. لا توجد أيّ مؤشّرات على نيّةٍ واضحةٍ لتوسيع الحضور الإيراني الإقليمي في سوريا توسيعاً أفقياً، بل ثمّة ترسيخ عمودي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.

ثانياً، إن الحرس الثوري الإسلامي على استعدادٍ لإعادة تعيين عناصر سورية موالية له في مناصب أساسية وحسّاسة في الجهازَين السوريَّين العسكري والأمني، في وقتٍ يتمحور اهتمام روسيا الدبلوماسي والعسكري حول تطوّرات الصراع الأوكراني. ومع أن روسيا لم تُضاهِ قطّ المساهمة الإيرانية المالية والإنسانية في إبقاء الأسد في السلطة، تنازلت دمشق حتى الآن عن مزيدٍ من السلطة لها آملةً في أن تتوسّط موسكو في إعادة تأهيلٍ أسرع للنظام السوري على الساحة الدولية. وأصبح هذا الخيار أسهل مع استراتيجية الضغط الأقصى التي فرضتها إدارة ترامب على إيران. لكن في ظلّ التحدّي الذي تواجهه سمعةُ روسيا دولياً، على دمشق أن ترتدّ مجدداً إلى طهران لضمان حبل إنقاذ بديل جديد. في المقابل، ستسعى إيران إلى وضع شعبة الاستخبارات العسكرية تحت نفوذها مرّةً جديدة، فيما ستحصد الفرقة الرابعة المزيد من النفوذ والسلطة على الأرض.

ومع ذلك، من المستبعد أن يتضاءل الصراع في سوريا بين إسرائيل وإيران، لا بل إن الحساسية الإسرائيلية قد تزيد، وتدفع إلى اعتماد استراتيجيةٍ وقائيةٍ أكثر حزماً، لإثباط أيّ توسّع إضافي للحرس الثوري الإسلامي في المنطقة. فضلاً عن ذلك، سيظلّ الجيش الإسرائيلي ينظر إلى الوجود الإيراني في سوريا على أنه هدفٌ الوصولُ إليه أسهل من إيران، لئلا يتسبّب بإغضاب إدارة بايدن. في المقابل، قد يأتي ردّ الفعل الإيراني عنيفاً، وقد يُشجَّع وكلاءَ إقليميين على استهداف إسرائيل أو حلفائها العرب الجدد، بغية دفع تل أبيب إلى إعادة النظر في استراتيجيتها.

احتضان عربي جديد

بدأت إعادة تأهيل الأسد على المستوى الإقليمي منذ ثلاث سنوات مع اتخاذ الإمارات العربية المتحدة والبحرين القرار بوضع حدّ للعزلة الدبلوماسية التي دامت ستة أعوام. وقد عُزّزَت هذه الجهود بشكل كبير بعد القرار المصري في الخريف الفائت، القاضي بإعادة تفعيل خطّ الغاز العربي، وزيارة الأسد الأخيرة إلى دبي في الشهر الماضي. هذه الثغرة التي دامت ثلاث سنوات بين الجولة الأولى من التطبيع الدبلوماسي مع دمشق، والجولة الثانية، تشير أيضاً إلى تحوّلٍ في الأهداف والنتائج المتوخّاة. فبينما ركّزت النوايا الأوّلية على مواجهة إيران وتركيا والتنافس معهما في سوريا، خُفّضَت التوقّعات مؤخّراً، وأصبحت تركّز على الحفاظ على هياكل الحكم في سوريا.

تختلف الأسباب التي تدفع الدول العربية إلى إعادة التعامل مع الأسد، فمنها الاقتصادي، ومنها التجاري والأمني. ولكن هذه الجهود الدبلوماسية مكمّلةٌ أيضاً للتدابير الأمنية الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد كان نموّ العلاقات بين أبو ظبي وموسكو وبكين محورياً في استراتيجية الإمارات العربية المتحدة القائمة على تنويع شراكاتها العالمية، إذ أتاح لها كسب المزيد من الاستقلالية عن شركائها الغربيين التقليديين ضمن النظام العالمي الآخذ في التغيّر. على النحو نفسه، مهّدت اتفاقات أبراهام أيضاً الطريق لهيكلية أمنية بديلة جديدة، حفاظاً على مصالح الإمارات العربية المتحدة. لهذا السبب تأخذ الحسابات الإماراتية في الاعتبار أيضاً مصالح شركائها الجدد. أما موسكو وتل أبيب، فتدعوان إلى إعادة دمج دمشق في الأسرة العربية لأسبابهما الخاصة، حيث ترغب روسيا في إنهاء عزلة سوريا، فيما تأمل إسرائيل في ضبطٍ أكبر للعلاقات بين دمشق وطهران.

مع ذلك، لن تؤدّي هذه الجهود بالضرورة إلى تقديم دعمٍ كبير للأسد، ولا يُرجَّح كثيراً أن تُحدِث نقلةً نوعيةً في الصراع المتواصل. إن الهدف العربي الرئيسي هو مدّ الأسد بحبل إنقاذ طارئ للحؤول دون انهيار الدولة السورية في ضوء تراجع الدعم الروسي، وبالتالي تجنّب موجة جديدة من الفوضى في المنطقة. أما الدفع نحو تخطّي الخصومات الجيوسياسية الأخرى، فيتطلّب دعماً لا تهتمّ روسيا ولا الولايات المتحدة بتقديمه أو تقدر على تقديمه لمعسكرٍ أو آخر. ثم إن الموقف السعودي حيال سوريا لا يزال على ما هو عليه حتى الآن، إذ لا ترى الرياض فائدةً تُذكَر من إعادة العلاقات مع الأسد. ومن دون دعم السعودية لا يمكن توقّع إحراز تقدّم كبير.

خاتمة

في غضون ذلك، ستستمر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في رفض المبادرات المُقدَّمة من الدول العربية لتطبيع العلاقات مع الأسد. ولا تزال التوقّعات بأن دمشق قد تبتعد عن طهران مجرّد أمنيات. أما تركيا فليست مستعدّة بعد للتخلّي عن وجودها في سوريا، حتى ولو فُتِحَت قنواتٌ جديدةٌ للحوار مع النظام. والأهمّ أن روسيا ستبقى، بغضّ النظر عن نتيجة الصراع الأوكراني، طرفاً مهمّاً في الصراع السوري، وإن كان ذي تأثيرٍ أقلّ، خصوصاً بفضل قاعدتها البحرية في طرطوس، وقاعدتها الجوية في حميميم. صحيح أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يسفر عن تغييرات هيكلية في المجامع الأمنية في الإقليم، وقد يفيد تركيا وإيران بوصفهما مركزَين إقليميَّين في نظامٍ عالمي متشابك، إلا أن مدى تأثير هذ الغزو على سوريا محدود. وبصورة أساسية، لن يُحدِث الصراع الأوكراني نقلةً نوعيةً في الصراع السوري، بل سيرسّخ الوضع الراهن، ويُعقّد أكثر المفاوضات حول انتقالٍ سياسيّ واستعادة وحدة أراضي البلاد.

* سنان حتاحت باحث رئيس في منتدى الشرق، ومركز عمران للدراسات الاستراتيجية، وباحث مساعد في مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا، في برنامج مسارات الشرق الأوسط، في مركز روبرت شومان للدراسات العليا (معهد الجامعة الأوروبية). تشمل اهتماماته البحثية ديناميات الاقتصادَين الوطني والمحلي في سوريا، والجهات الفاعلة غير الحكومية، والحركة السياسية الكردية، والنظام الإقليمي الناشئ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

تولّت ترجمة هذه الورقة مايا صوّان.

 ————————————-

عن دعوة مدفيديف إلى هندسة نظام أمني عالمي جديد/ حسن نافعة

عبر نائب رئيس مجلس الأمن في روسيا، ورئيسها ورئيس وزرائها السابق، دميتري مدفيديف، في حديث مهم أدلى به لقناة الجزيرة، بثته في 4 يونيو/ حزيران الحالي، عن الحاجة إلى “هندسة نظام أمني عالمي جديد”، يقوم على التوازن ومراعاة مصالح الجميع. ولم يكتف بالدعوة إلى تأسيس نظام عالمي بديل للنظام الحالي الذي تتحكّم فيه الولايات المتحدة، إنما أكّد، في الوقت نفسه، على أن أحد أهم الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من “عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا” تمهيد الطريق نحو إقامة هذا النظام المأمول، ونقله من نطاق الأمل والحلم إلى أرض الواقع المعاش. ما يوحي بأن القيادة الروسية تبدو ليس فقط واعيةً أن جوهر الصراع الدائر حاليا بينها وبين الولايات المتحدة، عبر الساحة الأوكرانية، يتعلق، في حقيقة الأمر، بتغيير قواعد النظام الدولي الحالي، وإنما تبدو واثقةً، في الوقت نفسه، من قدرتها على الخروج منه منتصرة!.

لإدراك حقيقة ما يرمي إليه مدفيديف، وتدبر ما قد ينطوي عليه حديثه من معان صريحة أو مضمرة، يتعين علينا التمييز بين ثلاثة أبعاد رئيسية لنظام الأمن الدولي: مدى مواءمة النظام الحالي لتحقيق الأمن الجماعي لمجتمع الدول بتركيبته الراهنة. الشروط الواجب توفرها في أي نظام دولي مأمول، ليصبح قادرا على تلبية الاحتياجات الأمنية الراهنة للبشرية ككل. مدى قابلية هذا النظام المأمول للتحقق على أرض الواقع، والشروط اللازم توفرها ليصبح بيئة حاضنة لطموحاته الأمنية ومتجاوبا مع متطلباتها.

في ما يتعلق بالبعد الأول، يُلاحظ أن النظام الدولي الحالي يتسم بمفارقة شديدة الغرابة، فهو، على الصعيد النظري، مدوّن في مبادئ وقواعد وآليات أمن جماعي مكتوبة، يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945. ولأن نصوص هذا الميثاق ظلت جامدةً لم يطرأ عليها أي تغير منذ نشأة هذه المؤسسة الدولية التي لا تزال قائمة، فقد أصبحت الآن عاجزة تماما عن مواكبة التغيرات الهائلة التي طرأت على موازين القوة في النظام الدولي. ومعروفٌ أن ميثاق الأمم المتحدة كتب في نهاية الحرب العالمية الثانية، في مرحلة كان يُفترض فيها أن التحالف الدولي الذي تمكّن من تحقيق النصر في هذه الحرب قابل للاستمرار بعدها. لذا، أصبح التوافق التام بين أعضاء هذا التحالف، واحتلوا لاحقا مقاعد دائمة العضوية في مجلس الأمن، شرطا ضروريا لتشغيل منظومة الأمن الجماعي. ولأن هذا الشرط لم يتحقّق على أرض الواقع، بسبب انقسام التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين متصارعين واندلاع حرب باردة بينهما، فقد أصيبت المنظومة الأمنية للأمم المتحدة ببعض الشلل في مرحلة الحرب الباردة، لكنها كانت، رغم ذلك، قادرة على التكيف مع نظام دولي ثنائي القطبية، ينطوي على قدر من التوازن في القوى والمصالح. وحين انتفى هذا التوازن بسقوط إحدى ركيزتي النظام الدولي ثنائي القطبية ممثلة في الاتحاد السوفييتي، أصيبت منظومة الأمن الجماعي في الأمم المتحدة بشللٍ شبه تام. وهنا يمكن القول إن النظام الدولي الراهن اتسم، منذ البداية، بمفارقة غريبة. فهو، من ناحية، يتضمّن منظومة أمن جماعي كتبت إبّان الحرب العالمية الثانية التي انتصر فيها الاتحاد السوفييتي جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة وبريطانيا، لكن إدارتها آلت الآن إلى المعسكر المنتصر في الحرب الباردة التي هزم فيها الاتحاد السوفييتي، وهذا هو ما ترفضه روسيا الآن، بعد أن استعادت عافيتها، وبدأت تتطلع إلى المشاركة بشكل أكبر في قيادة النظام الدولي الراهن.

وفي ما يتعلق بالبعد الثاني، يلاحظ أنه ينبغي توفر شرطين رئيسيين في أي نظام دولي مأمول. الأول: التعبير عن موازين القوى الحقيقية القائمة فيه حاليا، خصوصا بعد استعادة القوى التي هزمت في الحرب العالمية الثانية، مثل اليابان وألمانيا وإيطاليا، مكانتها الدولية المفقودة، ودخول الصين حلبة المنافسة على قيادة النظام الدولي، واستعادة روسيا قواها المبعثرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فضلا عن بروز قوى صاعدة جديدة في مختلف القارّات، مثل الهند في آسيا والبرازيل في أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا في أفريقيا. الثاني: تحوّل المجتمع الدولي إلى قرية كونية واحدة، يرتبط فيها أمن الجزء عضويا بأمن الكل، وتعرّضه لمصادر تهديدات جديدة، كالتغير المناخي وانتشار الفقر والإرهاب والجريمة المنظمة .. إلخ، ما يفرض توسيع نطاق العضوية في مجلس الأمن، ليعكس تشكيله الجديد مجمل التحولات في موازين القوة، وربما تغيير قواعد اتخاذ القرار فيه في الوقت نفسه، كي لا تتمكّن دولة واحدة أو تحالف إقليمي أو أيديولوجي من شلّ قدرته على العمل واتخاذ القرارات السريعة الفعالة، وكذلك إعادة تشكيل مهامّه وصلاحياته، ليتمكّن من مواجهة مصادر التهديد الجديدة للأمن الجماعي الذي أصبح يشمل أمن البشرية أو الانسانية ككل.

وفي ما يتعلق بالبعد الثالث، يلاحظ أن بنية (وموازين) القوى القائمة في النظام الدولي، بتركيبته الحالية، لا تسمح بعمل جماعي ممنهج، يستهدف هندسة منظومة جديدة للأمن الجماعي، إما بإصلاح هياكل صنع القرار وآلياته في منظومة الأمم المتحدة الحالية، أو بإقامة منظومة جديدة. وبهذا الصدد، ينبغي أن نذكّر بحقيقة مؤلمة، أن المجتمع الدولي لم يصبح ناضجا ومؤهلا للبحث الجدّي عن منظومة أمن جماعي، إلا في أعقاب حربين عالميتين، فالتجربة الأولى لمنظومة الأمن الجماعي، والتي ولدت من خلال عصبة الأمم، لم تنضج إلا في أعقاب حربٍ عالميةٍ كانت هي الأولى من نوعها في تاريخ البشرية. والتجربة الثانية لهذه المنظومة، والتي ولدت من خلال الأمم المتحدة، لم تنضج إلا بعد حرب عالمية ثانية شهدت تحالفاتٍ غير طبيعية بين نظامين متعارضين، النظام الاشتراكي البازغ والنظام الرأسمالي الأكثر تجذّرا، في مواجهة مدٍّ نازيٍّ وفاشيٍّ عالمي شكل تهديدا لكليهما. ورغم أن تجربة الأمم المتحدة لا تزال حية، إلا أنها تعدّ شبه ميتة إكلينيكيا في الواقع، ولم تتهيأ الظروف بعد لإنضاج بيئة دولية تنطوي على ما يكفي من التوافق الدولي للشروع في بناء منظومة أمن جماعي جديدة، أو لإصلاح المنظومة القائمة حاليا. وهنا تتجلّى بوضوح أبعاد المفارقة التي ينطوي عليها، صراحة أو ضمنا، حديث مدفيديف المشار إليه، فما قاله عن عدم صلاحية النظام الدولي الحالي لإدارة منظومة الأمن الجماعي الدولي، بسبب هيمنة الولايات المتحدة وحلف الناتو عليه، أمر لا خلاف عليه، وما رتبه على هذه المقولة من وجود حاجة ملحّة لنظام دولي جديد يأخذ في اعتباره مصالح الجميع، ولا يتحكّم فيه طرف واحد بمفرده، يبدو أمرا منطقيا ومعقولا، لكنه حين يؤكّد أن الأزمة الأوكرانية ستنتهي حتما بتغيير قواعد النظام الدولي الحالي، وتأسيس نظام دولي جديد أكثر كفاءة وقدرة على تحقيق أمن المجتمع الدولي، يخاطر بافتراض يصعب التسليم به على إطلاقه، ومن ثم يتعيّن إخضاعه للفحص والتمحيص والنقاش. قد يكون الهدف مما قال مجرّد التأكيد على ثقته الكبيرة في خروج روسيا منتصرةً من هذه الأزمة، وهذا من حقه، لكن انتصار روسيا في الصراع على أوكرانيا، حتى بافتراض إمكانية تحققه، قد يكون معناه تمكّنها من الحصول على قطعة أكبر من رقعة العشب التي تتصارع عليها القوى الدولية الكبرى. ولكن ليس حتما وبالضرورة أن يسفر هذا الانتصار عن نظام أمن جماعي دولي أكثر قدرة وكفاءة على مواجهة مصادر التهديد المتجدّدة في النظام الدولي، وعلى حماية أمن البشرية، باعتبارها كلا واحدا لا يتجزأ، فهذا هدف لا يزال بعيد المنال.

أتفق مع وجهة النظر القائلة إن الصراع الدائر على الساحة الأوكرانية في جوهره صراع على قواعد النظام الدولي الحالي، بين طرف يسعى إلى تغييرها، تمثله روسيا، وطرف آخر يسعى إلى التمسّك بها وللابقاء عليها كما هي، حفاظا على وضعه المهيمن، تمثله الولايات المتحدة. لكن نتيجته، من منظور مدى تأثيره على مستقبل النظام الدولي، لن تخرج عن واحد من سيناريوهات ثلاث، يمكن إجمالها على النحو التالي: خروج الولايات المتحدة وحلفائها منتصرين، ما يعني تمكّنهم من المحافظة على وضعهم المهيمن في النظام الدولي الحالي، وقطع الطريق على إمكانية إقامة نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب. خروج روسيا منتصرة، ما يعني تمكّنها من كسر الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام الدولي القائم حاليا، وبالتالي تغيير قواعده بما يسمح لها بممارسة نفوذ أكبر فيه، خصوصا أن روسيا دولة مستفيدة من هذا النظام، بحكم تمتّعها بمقعد دائم في مجلس الأمن، وبالتالي بحق الفيتو، لكن الشروط المطلوبة لإقامة نظام دولي مختلف، بالمعنى المشار إليه آنفا، لن تتوفر تلقائيا وبالضرورة في مثل هذه الحالة. إطالة أمد النزاع بما يكفي لاستنزاف الطرفين المتصارعين، ودخوله مرحلة تهدد بنشوب حرب نووية شاملة، ما قد يؤدّي إلى حالة استفاقة مفاجئة قد تدفع قادة القوى الكبرى إلى التوافق حول الدعوة إلى مؤتمر عام لتأسيس منظومة جديدة للأمن الجماعي، غير أن هذا السيناريو يبدو محفوفا بالمخاطر في الوقت نفسه، لأن سياسة حافّة الهاوية قد تنتهي بالوقوع فيها. وعلى أي حال، يؤكّد هذا السيناريو أن المجتمع الدولي يعيش في المرحلة الراهنة حالة من السيولة الخطرة والفوضى غير الخلاقة.

العربي الجديد

———————–

أزمة الغذاء العالمي بوابة روسيا إلى نجاحات إضافية/ محمود الريماوي

في الوقت الذي تحذّر فيه الأمم المتحدة من أزمة جوع وشيكة قد تهدّد مناطق واسعة في العالم، نتيجة الحرب على أوكرانيا وحصار قوات روسية موانئ أوكرانية تُستخدم لتصدير مواد غذائية، وبالذات القمح، وبينما يحذّر وزير أوروبي، هو وزير خارجية إيطاليا، لويجي دي مايو، من أن ملايين البشر مهدّدون بالموت نتيجة هذا الحصار، في هذا الوقت، يصرّح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في أثناء زيارة إلى أنقرة الأربعاء الماضي، أن حكومة بلاده مستعدّة لحل هذه الأزمة، ولضمان إمدادات الحبوب، إذا ما أزالت كييف الألغام من مياه البحر الأسود. ما لم يقله لافروف أن تلغيم المياه هو أحد تداعيات الحرب التي تتعرّض لها أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي، وأن وقف الحرب ورفع الحصار الروسي عن الموانئ سيمهد لعودة الحركة الطبيعية لهذه المنافذ البحرية. على هذا النحو، تسعى موسكو، في هذه المرحلة، إلى استغلال أزمة الغذاء الوشيكة، من أجل تحقيق غايات سياسية وعسكرية، من أهمها دفع العالم، والغرب بالذات، إلى التعامل مع ذيول الحرب، لا مع الحرب ذاتها، باعتبارها عدواناً على بلد مستقل ذي سيادة، والدفع نحو حوارٍ تُجريه أطراف دولية مع موسكو لمعالجة هذه الأزمة الفرعية، مع ما يتضمنه ذلك من اعتراف ضمني بالأمر الواقع، وبأن روسيا “مسؤولة “عن الموانئ الأوكرانية وعن الملاحة في المياه الإقليمية الخاصة بأوكرانيا في البحر الأسود وبحر آزوف، مع محاولة استدراج تركيا إلى التعاون مع موسكو في هذا الصدد (وربما مقابل تفاهمات بخصوص الوضع في شمال سورية)، وصولاً إلى الظهور بمظهر إنساني، وذلك بمنع وقوع أزمة غذائية خطيرة، مع ما يتبع ذلك من مكافآت معنوية، وربما مادّية، من الواجب الوفاء بها للطرف الروسي المحتل. لهذا، وكما هو منتظر، اعترضت كييف على العرض الروسي، مطالبة برفع الحصار الروسي عن الموانئ، وإحلال وجود دولي ممثل بقوات للأمم المتحدة في الموانئ، مع ضمانات من أطراف ثالثة بسلامة السفن التجارية، ذهابا ًوإياباً، (تتحدّث كييف عن 25 مليون طن من الحبوب تنتظر التصدير).

وإذ تعمد موسكو إلى حرب استنزاف طويلة للجانب الأوكراني، فقد نجحت، كما يبدو، في دفع الأطراف الدولية إلى الامتثال إلى نطاق الحرب الذي تحدّده هي، والقاضي بأن تكون جميع الأراضي الأوكرانية، وكذلك المياه والأجواء، مسرحاً للحرب، على أن لا تمتدّ العمليات العسكرية إلى مدن أو مواقع داخل الأراضي الروسية، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي، جو بايدن، لدى تزويد أوكرانيا بدفعة جديدة من الصواريخ المتطوّرة (منظومة هيمارس)، ومسؤولون أميركيون آخرون، من اشتراط ألا تُستخدم هذه الأسلحة ضد أهدافٍ في الأراضي الروسية، وذلك تكريساً لمبدأ تفادي الانسياق إلى مواجهة أميركية روسية، وخشية الاقتراب من تصعيد نووي من طرف روسيا. والابتزاز النووي نجاح آخر لموسكو، إذ له تداعياته السياسية والعسكرية، وفحواها: اتركونا نفعل ما نشاء، واكتفوا بالإدانة والعقوبات، والتسليح المحدود الذي يطيل أمد الحرب، وسوى ذلك، فإن الانتقال إلى الخيار النووي يصبح وارداً. وليس مطلوباً، بطبيعة الحال، تبادل التهديدات النووية، ولا الانجرار إلى التحدّي الذي تشهره موسكو، غير أن الابتزاز بسلاح الدمار الشامل يبرهن أن الخطر النووي لا يتمثل فقط في تسرّب هذا السلاح الى دول صغيرة أو جماعات متطرّفة، إذ ها هي دولة كبيرة عضو في النادي النووي وفي مجلس الأمن لا تتردد في إطلاق هذه التهديدات، ما يملي إعادة النظر في التفاهمات النووية، ووضع قيود وتبعات ملزمة على هذه التهديدات.

غير أنه بعيداً عن الخيارات الصفرية، نجحت موسكو في رهانها على النيات الغربية بالاستنكاف عن التدخل في حالة اجتياح دولة أوروبية مستقلة. والحجة الغربية، والأميركية بالذات، أن أوكرانيا ليست عضواً في حلف الناتو، ومغزى ذلك أنه عدا دول هذا الحلف، فإن إرادة التدخل لوقف اجتياح بلد ما غير قائمة، وأن ثمة تقييداً ذاتياً لهذا الخيار، وهو ما تفطنت له موسكو مسبقاً. فيما أضفت تدخلات موسكو في شرق أوكرانيا، وفي السيطرة على شبه جزيرة القرم، وما نجم عنها من ردود فعل ساكنة، مزيداً من البراهين. لقد سبق أن تدخلت واشنطن في العراق وأفغانستان، غير أنها كفّت، كما يقول زعيماها، الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري دونالد ترامب، عن لعب دور شرطي العالم… لتكن موسكو، إذن، شرطي العالم! هكذا يبدو تفكير الكرملين، فالتدخلات الشرسة في غروزني وجورجيا وروسيا وليبيا ومالي جرت تحت الأنظار الغربية، وأنظار بقية العالم. وإذا ما صدحت وسائل إعلام غربية بإدانة موسكو، فإن الأخيرة تجيب، وماذا فعل الأميركيون في العراق، وفي دعمهم الاحتلال الإسرائيلي. أنتم إمبرياليون، ولديكم ازدواجية معايير، ونحن لدينا مطامح ببعث الإمبراطورية الروسية واستعادة الأمجاد القومية، وتدارك الخسائر التي منينا بها بانهيار الاتحاد السوفييتي، ولن نظلّ محتجزين وراء حدود بلادنا.

وفي هذه الأثناء، يواصل مسؤولون غربيون الثناء على الصمود الأوكراني، وهو صمود يستحق الثناء حقاً، غير أن خبرة الأداء الروسي في الحروب، وبالذات في نموذجي غروزني وسورية، تفيد بأن تقويض البنى التحتية والمرافق الحيوية، والإثخان في المدنيين، وفي مصادر الحياة، هو جزء من العقيدة العسكرية. وأن موسكو قد تتنازل في هذا الموضع أو ذاك، لكنها لن تتنازل عن ربط شرق أوكرانيا بالقرم والقرم بالأراضي الروسية، فيما يبقى الهدف الأساس إلحاق أكبر قدر من الدمار بالمدن والمنشآت الحيوية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات ومولدات الكهرباء والطرق والجسور وخزّانات المياه، مع تمزيق النسيج الاجتماعي بعزل التجمعات البشرية بعضها عن بعض، ودفع الجميع إلى التماس النجاة لا غير، وذلك في استعادة أسوأ فصول الحرب العالمية الثانية، فالحرب تستهدف وجود أوكرانيا بمختلف جوانبه، والجيش الأوكراني هو أحد مظاهر وجود هذا البلد ليس إلا، وأنه يكفي تحقيق هذه الأهداف بتحويل البلد إلى أنقاض تصدح بالخراب، كي تضمن روسيا النصر. ومؤدّى ذلك أن الصمود الأوكراني، إذ يحقق هدفاً سياسياً ومغزى عسكرياً، فذلك لا يثني الجانب الروسي عن خوض الحرب على طريقته، بتقويض مظاهر الحياة ومصادرها، وعلى أوسع نطاق ممكن، بما يعنيه هذا من حرمان واقعي لملايين الأوكرانيين من العودة إلى بلدهم المهدّم. ولن يكون الطرف الروسي في مرآة نفسه الوحيد الذي يندفع في هذا الاتجاه، فالاستعمار الغربي فعل شيئاً من هذا في آسيا وأفريقيا، والحركة الصهيونية استهدفت إنهاء وجود بلد اسمه فلسطين، والروس الآن، كإمبريالية شابة وصاعدة، يثابرون على انتزاع نصيبهم في التوسع الإمبراطوري.

العربي الجديد

———————–

سوريا تدفع في شمالها وجنوبها ثمن ترنح روسيا في أوكرانيا/ حازم الأمين

سوريا ستدفع في شمالها لتركيا وفي جنوبها لإسرائيل ثمن ترنح روسيا في أوكرانيا. أما نظام البعث، فهو خارج حسابات الربح والخسارة، وشرطه الوحيد بقاء رئيسه في قصر المهاجرين، حتى لو اقتصرت سلطته على محيط القصر.   

من المستحيل ضبط إيقاع الدور الروسي في سوريا على فكرة أو موقف أو حساب غير حساب المصلحة العارية من أي التزام. واليوم جاء دور تركيا، ذلك أن موسكو ستدفع لأنقرة في سوريا ثمن عدم انحيازها في أوكرانيا. سنحصل جراء ذلك على مشهد سوري غريب عجيب. فموسكو راعية ومسهّلة الدور الإسرائيلي في سوريا، ستقوم بالمهمة نفسها مع تركيا! لن تعيق إنشاء “المنطقة الآمنة” التي تتحضر تركيا لإقامتها في عمق ثلاثين كيلومتراً على طول حدودها مع سوريا!

المهمة التركية بالغة الفداحة، فهي تتطلب نوعاً من “الترانسفير” سيكون ضحيته السكان الأكراد، ونوعاً موازياً من “الاستيطان”، إذ أنها ستدفع بنازحين سوريين يقيمون فيها إلى هذا الحزام. وسيتكرر مشهد “المستوطنات” العربية التي أشادها نظام البعث في مناطق سكن الأكراد في شرقي وشمالي سوريا.

وفي هذا الوقت بدأت تصدر أصوات “استغاثات” كردية بالنظام السوري، يعتقد أصحابها أن مصلحة مشتركة بينهم وبين النظام تقتضي مواجهة الخطوة التركية. النظام في سوريا لا تربطه مصلحة مع غير رعاته الروس والايرانيين، وهو وإن “استجاب” لإستغاثات كردية، فسيتولى في اليوم الثاني خنقها بيديه.

روسيا، بوصفها صاحبة نفوذ كبير في سوريا لن تمانع على ما يبدو الخطوة التركية، مع ما يترتب عليها من تبعات ليس أقلها تمرير النظام السوري لهذه الخطوة.

النظام السوري مرر لموسكو ما هو أفدح من “المنطقة الآمنة”. مرر لها صمتاً على الغارات الإسرائيلية اليومية على معظم مناطق انتشار قواته وقوات حلفائه الإيرانيين. وهو اليوم يشعر بمرارة حيال انسحابات جزئية روسية من مناطقه، بسبب مساعي طهران إشغال هذه المساحات. ففي اعتقاده أن فقدان توازن النفوذ بين طهران وموسكو لمصلحة الأولى لن يكون لصالحه.

سوريا صارت فعلاً مساحة عصية على التفسير. الثورة هُزمت لكن ليس من منتصرٍ. النظام نجا إلا أنه يتخبط بما لا يحصى من الوقائع. لا أحد يمكنه أن يحدد لمن الكلمة في دمشق. كل “الحلفاء” يملكون القرار، لكن كلهم أيضاً عاجزون عن الذهاب بنفوذهم إلى حد الإطاحة بنفوذ خصومهم أو شركائهم.

ما هي المنطقة الآمنة التي تزمع تركيا إقامتها على طول حدودها مع سوريا؟ ما هي وظيفتها؟ لم يسبق أن سمعنا أن الأمن داخل تركيا كان عرضة لخروقات عبر هذه الحدود! المخاوف الكردية تبدو في مكانها، فالمسألة تتعلق بتغيير ديموغرافي عبر إحلال سكان عرب مكان السكان الأكراد.

المدن والبلدات الكردية على طول الحدود لها امتدادات سكانية داخل تركيا. المهمة قطع هذا الامتداد، مع ما ينجم عن هذه المهمة من مآسٍ، ومن تأسيس لضغائن جديدة هي امتداد لضغائن أسهمت فيها امبراطوريات ما قبل الحرب العالمية الثانية وأنظمة ما بعدها.

لن يضير موسكو طبعاً تزخيم الضغائن العربية الكردية وشحنها بمادة جديدة. أما رجب طيب أردوغان، فهو بصدد زج النازحين السوريين في معضلة أخرى غير معضلة نزوحهم القصري من بلادهم.

وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف في تركيا لمناقشة قضية ممر آمن لتصدير الحبوب الأوكرانية، وعلى هامش هذه المهمة ستناقش أنقرة معه “المنطقة الآمنة” في سوريا، والثمن عدم انخراط أنقرة في منظومة العقوبات الدولية على موسكو. روسيا ليست في أحسن أحوالها، وهي ستقبل أن تدفع الثمن في سوريا. وقريباً سيزور لافروف تل أبيب وسيفاوض على ثمن في سوريا لقاء عدم قبول إسرائيل بيع منظومة القبة الحديدية إلى أوكرانيا.

سوريا ستدفع في شمالها لتركيا وفي جنوبها لإسرائيل ثمن ترنح روسيا في أوكرانيا. أما نظام البعث، فهو خارج حسابات الربح والخسارة، وشرطه الوحيد بقاء رئيسه في قصر المهاجرين، حتى لو اقتصرت سلطته على محيط القصر.   

درج

———————–

حبل السُرّة السوري الأوكراني/ بسام مقداد

بعد أيام من إعلان بوتين حربه على السوريين، نشرت هيئة تحرير وكالة رويترز نصاً بعنوان “سوريا وأوكرانيا: جبهتان لحرب روسيا من أجل النفوذ”. ورأت الوكالة حينها أنه، ومن خلال القصف الجوي في سوريا، قد تسعى روسيا للحصول على تنازلات من الغرب في الصراع بأوكرانيا. وعلى الرغم من أن دمشق تبعد 3 آلاف كلم إلى الجنوب من كييف، إلا أن أوكرانيا وسوريا هما بالنسبة لبوتين جبهتان في حرب تهدف إلى سد الطريق أمام إندماج أوكرانيا في أوروبا. ونقلت الوكالة حينها عن مسؤولين رفيعي المستوى قولهم بأن الضربات في سوريا قد تستخدمها روسيا للحصول على إعتراف الغرب بضم القرم إليها.

إستنتاجات رويترز في بداية حرب بوتين على السوريين أصبحت بديهيات لاحقاً، وتراكم فوقها جبل من إضافات التفسير والتوسيع والتفنيد. لكن المستغرب الذي بدا سذاجة موصوفة في ذلك الوقت، هو إفتراض بعض المسؤولين الغربيين حينها أن عملية بوتين كانت تستهدف “المساعدة في حل أزمة المهجرين التي ضربت أوروبا”، وذلك كي يظهر بوتين للغرب كوسيط لا غنى عنه”، حسب رويترز.

وعن التأثير المتبادل بين حرب بوتين في كل من أوكرانيا وسوريا، كتبت صحيفة kp الأوكرانية ( كومسومولسكايا برافدا) في اليوم الثاني للعملية في سوريا نصاً بعنوان “كيف تؤثر الحرب في سوريا على السلم في أوكرانيا”. إفترضت الصحيفة أن روسيا قد تكون حصلت على موافقة الولايات المتحدة على عمليتها في سوريا. ونقلت عن عدد من الخبراء الأوكران تردادهم لما قالته رويترز عن هدف بوتين من عمليته في سوريا، لكن أحدهم شكك في نجاح مناورة بوتين السورية للجلوس حول طاولة حل المسائل الدولية. وتمسك آخر بالفرضية المتداولة حتى اليوم من أن روسيا تورطت في المستنقع السوري، وأن خروجها  منه لن يكون يسيراً كما دخوله. لكن الخبير فاته أن روسيا، ولدى دخولها الحرب السورية، لم تلحظ أصلاً سيناريو الخروج منها.

ورأى خبير ثالث علاقة بين إنطلاق عملية بوتين في سوريا عشية إجتماع “رباعية النورماندي” في باريس حينذاك للبحث في صراع الدونباس، ومحاولة بوتين جمع أكبر قدر ممكن من الأوراق الرابحة على طاولة المفاوضات.

Telegramm сanal  hvylya  الأوكراني نشر أواخر الشهر المنصرم نصاً بعنوان “الحرب في أوكرانيا وسوريا: “تفاقم محتمل وتوازن جديد”. رأى الموقع أن حرب روسيا في أوكرانيا وعواقبها تطرح بالضرورة مسألة مستقبل الوضع في سوريا، حيث تحتفظ روسيا بتواجدها السياسي العسكري هناك. أوكرانيا وسوريا ــــــ حربان مختلفتان وصراعان بطبيعة مختلفة، لكنهما متشابكتان بصورة وثيقة في السياسة الخارجية الروسية. أحد أسباب تدخل روسيا في سوريا في خريف 2015 كانت رغبتها في تحسين وضعها الدولي بعد العزلة وضعفها جراء عقوبات العام 2014. لقد أصبحت سوريا إحدى المنصات الرئيسية للأزمات التي تبرز روسيا قوتها عليها. فالنصر في المرحلة العسكرية من الصراع، سمح للروس بالحصول على ميزة جيوسياسية كبيرة على الغرب. والإتفاقات المؤقتة بعد الحرب مع إيران، إسرائيل، الأردن وتركيا رسخت دور روسيا كواحد من أصحاب المصالح الرئيسية في المشرق. كما أن النجاح في سوريا سمح لروسيا بإستعادة جزئية لموقعها السياسي الدولي بعد العام 2014، وكذلك إطلاق لعبة سياسية جدية مع الغرب للمساومة على استمالته للتسوية في أوكرانيا والأمن الإقليمي وتقاسم النفوذ في العالم.

لكن الموقع يرى أن روسيا لم تتمكن من مواصلة اللعبة حتى نهايتها المنطقية. فالحرب في اوكرانيا أدخلت عليها تعديلات جدية، وشطبت عملياً كل الإنجازات التي حققتها موسكو في الحملة السورية. الملف السوري لم يعد مهماً كما في السابق، وغزو أوكرانيا أدى إلى قطع العلاقات بين روسيا والغرب، ووضع بداية لإعادة تقسيم السوق وإحراق الجسور لتواصل سياسي طبيعي بين الجانبين وقطع الحوار بشأن سوريا.

الوضع في سوريا هادئ نوعاً ما، لكنه هش وأبعد ما يكون عن التسوية السياسية. المفاوضات بشأن التسوية السياسية التي إنطلقت في “منصة جنيف” العام 2019 بضمانة روسيا وإيران وتركيا دخلت في طريق مسدود. كما لم تساعد في هذا المجال “منصة أستانة” بوساطة كازاخستان. الخلافات بين أطراف الصراع وبين مموليهم الخارجيين لا تسمح بالعثور على حل مقبول للجميع، وهذا ما يُدخل مرحلة ما بعد الحرب في طريق سياسي مسدود يفاقم تدريجيا الوضع الداخلي ويهدد بإنفجار جديد بسبب الإحباطات من الحرب غير المنجزة والشعور بغياب أفق للخروج منها.

يرى الموقع أن وجود روسيا العسكري الناجح في سوريا ترافق مع مشاكل واضحة في الجوانب غير العسكرية في سياستها السورية. ويرى أسباباً عديدة للفشل الروسي هذا. أولها هو غياب إستراتيجية إقتصادية واضحة، مما حال دون كونها لاعباً تجارياً إقتصادياً كبيراً في سوريا بعد الحرب. وإضافة إلى التوظيفات المالية المحدودة في الإقتصاد السوري، كان الدبلوماسيون غالباً ما يلعبون الدور الثاني، وتترك القرارات للعسكريين الذين لم يولوا إهتماماً بالقضايا الإجتماعية والإنسانية. آخر هذه الأسباب كان النظرة إلى سوريا كواحد من الأصول الروسية الذي يساعدها في كسب مقعدٍ متساوٍ مع الغرب على “مائدة الطعام الدولية”. وهذا لم يترافق مع عمل دعائي جدي على المستوى الإقليمي،  على الرغم من أن منصات الإعلام الروسية في المنطقة كانت وما تزال تعمل جيداً.

الموقع الروسي المعارض Rosbalt نشر أواخر الشهر المنصرم أيضاً نصاً بعنوان “ليس مقدراً للصراع السوري أن يتحول إلى “حرب منسية””. رأى الموقع أن الجميع، وعلى خلفية ما يجري في أوكرانيا، بدا وكأنه نسي سوريا، في حين أن العمليات العسكرية السياسية تجري هناك بصورة عاصفة أيضاً. مواقع اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط طرأ عليها تغيير ملحوظ بسبب العملية العسكرية في أوكرانيا. رأت كل من إيران وتركيا فرصاً جديدة لتوسيع نفوذهما في المنطقة، وإسرائيل تتوخى الحذر، حتى يكون ضد مصالح الولايات المتحدة.

المسألة برمتها تكمن في الأثر الذي تركته، وسوف تتركه لاحقاً، العملية العسكرية في أوكرانيا على اللاعبين الرئيسيين في المنطقة ــــــــ تركيا، إيران وإسرائيل. وحتى روسيا عينها يتأثر وجودها في سوريا بما يجري في أوكرانيا، حيث تكرر بصورة متزايدة وسائل الإعلام ذكر إفتراضات إحتمال تخفيض الوجود العسكري الروسي هناك بسبب سحب جزء من القوات.

الطبيعة لا تحب الفراغ، خاصة الطبيعة السياسية، ولذلك حتى الإنسحاب الروسي الجزئي يعزز مواقع إيران في سوريا. أما تركيا فهي توسع نفوذها ليس في سوريا فحسب، بل وفي العراق أيضاً الذي قامت مؤخراً بعملية عسكرية ضد أكراده. وهي الآن بصدد الإعداد لعملية عسكرية جديدة ضد الأكراد في شمال سوريا.

وبعد أن ينقل الموقع عن خبير روسي حديثه عن موقف إسرائيل ونشاطها في سوريا على خلفية الحرب الأوكرانية، ينقل عنه قوله بأن وجود روسيا في سوريا كان يساهم جزئياً في تسوية التناقضات بين هذه الدول. وخروج روسيا المحتمل من سوريا يقلق إسرائيل، لأن تعزيز وضع إيران في سوريا ليس في صالحها.

كما ينقل الموقع عن خبير روسي آخر قوله بأن التوتر في سوريا سوف يتصاعد، وذلك لأنه ليس لدى الأميركيين وقت لسوريا الآن. لكن الولايات المتحدة، مع ذلك، قلقة جداً من أعمال أنقرة ضد الأكراد السوريين وتريد منها تخفيض وتيرة إستعداداتها للعملية الجديدة.

المدن

———————

بايدن بأول انتقاد لزيلينسكي:لم يشأ سماع تحذيراتي من الغزو

انتقد الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الاوكراني فولوديمير زيلينسكي، قائلاً إنه حذر من هجوم روسي على اوكرانيا، لكن زيلينسكي لم يشأ سماع ذلك، وذلك في أول انتقاد موجه للرئيس الاوكراني منذ بدء الحرب التي دخلت مرحلة القتال من شارع الى شارع في محيط مدينة سيفيرودونتسك الأوكرانية.

ووجهت واشنطن انتقادات لكييف لعدم أخذها على محمل الجد التحذيرات الأميركية التي سبقت الهجوم الروسي قبل نحو 3 أشهر. وقال بايدن الجمعة، إن نظيره الأوكراني “لم يشأ سماع” التحذيرات الأميركية قبل غزو روسيا لبلاده. وقال بايدن “كان العديدون يعتقدون أنني أبالغ” عندما حذرت من هجوم روسي على أوكرانيا قبل أن يبدأ، مضيفاً أمام صحافيين: “لكنني كنت أعلم أن لدينا معلومات في هذا الاتجاه. (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) كان في طريقه لعبور الحدود. لم يكن هناك ايّ شك وزيلينسكي لم يشأ سماع ذلك”.

وتواصل روسيا هجماتها في شرق اوكرانيا في محاولة للسيطرة على المنطقة. وقالت وزارة الدفاع الأوكرانية اليوم السبت إنها رصدت 6 حاملات صواريخ كروز بحرية من نوع “كاليبر” جاهزة للاستخدام في البحر الأسود، بعد يوم من تأكيد فرنسا استعدادها للمشاركة في “عملية” تتيح رفع الحصار عن ميناء أوديسا جنوب أوكرانيا وفك أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية، وذلك مع تصاعد المخاوف من حصول أزمة غذائية حادة في العالم نتيجة الحرب في أوكرانيا، أحد كبار مصدري الحبوب.

وأعلن مستشار للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “نحن في تصرف الاطراف لبلورة عملية تتيح الوصول الى ميناء أوديسا في شكل آمن، أي تمكين السفن من العبور رغم وجود ألغام في البحر”، متمنيا “انتصار أوكرانيا” في الحرب.

وأوضحت قيادة العمليات الأوكرانية في المنطقة الجنوبية ليل الجمعة السبت أن “حركة الملاحة مشلولة في البحر الأسود والسفن المعادية تُبقي الأراضي الأوكرانية بكاملها تقريبا تحت خطر ضربات صاروخية”، مشيرة إلى أنه “مع عجزه عن تحقيق تقدم على الأرض، يعمد العدو إلى اختبار متانة مواقعنا (على خط الجبهة) من خلال عمليات قصف جوية بواسطة مروحيات”.

في غضون ذلك، أعلنت القوات الأوكرانية أنها تهاجم منطقة خيرسون (جنوب) التي تخشى أن تضمها روسية، كما أكدت أنها تواصل الضغط على القوات الروسية في اتجاه خاركيف شمالا. وذكرت قيادة العمليات الأوكرانية أن مجموعة استطلاع تسللت إلى المنطقة المحتلة تمكنت من السيطرة على قوات روسية و”استولت على معداتها من اسلحة وأجهزة اتصال”.

وقال زيلينسكي إن قوات بلاده تبذل “كل ما بوسعها” لوقف الهجوم الروسي، وتحدث في رسالته المسائية اليومية الجمعة أن “معارك صعبة جدا” تدور في منطقة دونباس. وقال: “روسيا تريد تدمير كل مدينة في دونباس، كل واحدة بدون مبالغة. على غرار فولنوفاخا وماريوبول”.

وفي حوض دونباس تستمر المعركة وتزداد شراسة في مدينة سيفيرودونيتسك الإستراتيجية ومدينة ليسيتشانسك المتاخمة لها. وقالت وزارة الدفاع البريطانية اليوم السبت إن القوات الروسية في محيط مدينة سيفيرودونتسك الأوكرانية لم تحرز تقدما في جنوب المدينة حتى يوم الجمعة. وذكرت الوزارة في تقرير مخابرات نُشر على تويتر أن”القتال العنيف مستمر من شارع إلى شارع، ومن المرجح سقوط عدد كبير من الضحايا على الجانبين”.

المدن

————————

معهد تشاتام هاوس: معركة “المعلومات المضللة” الروسية تتجاوز حدود أوكرانيا وحلفائها

لندن: تسهم المعلومات في هذا العصر الذي تقوم فيه وسائل التواصل الاجتماعي بدور بارز في الحياة اليومية بالنسبة لكثيرين في أنحاء العالم، في سياسات دول تستهدف جماهير معينة لتمرير أهدافها إليها. وبات هذا الجانب يشكل على ما يبدو جزءا أساسيا من معركة روسيا في أوكرانيا التي لا تعتمد على القوة العسكرية وحدها.

وقال آدم كوالسكي، الباحث المساعد في برنامج روسيا وأوراسيا بالمعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) إنه على الرغم من أن حرب روسيا في أوكرانيا لم تحقق بعد أي انتصارات عسكرية كبيرة، ويتجه اقتصاد موسكو نحو أسوأ ركود منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، أثبتت معركة موسكو في مجال المعلومات صعوبة هزيمتها.

وقال كوالسكي في تقرير نشره معهد تشاتام هاوس إن المعلومات الخبيثة تعد جانبا رئيسيا من استراتيجية الحرب الروسية حيث إنها تستخدم بيئة المعلومات لتبرير حربها محليا وخارجيا، ولإجبار الجماهير على دعم أعمالها عن غير قصد.

وتستخدم موسكو روايات تدور حول الموضوعات العريضة المناهضة للاستعمار والإمبريالية الغربية، مع أكاذيب متكررة تشمل حماية الروس العرقيين في دونباس من الإبادة الجماعية المفترضة، و”نزع النازية” عن أوكرانيا، وإلقاء اللوم في الغزو على “عدوان” حلف شمال الأطلسي.

وقبل غزو أوكرانيا، خصص الكرملين بشكل استباقي ميزانية كبيرة لهذه الممارسات، حيث زاد الإنفاق الحكومي على “وسائل الإعلام” بين شباط/فبراير وآذار/مارس 2022 بنسبة 433% ليصل إلى 4ر17 مليار روبل (حوالي 215 مليون يورو).

    قبل غزو أوكرانيا، خصص الكرملين بشكل استباقي ميزانية كبيرة لترويج روايته، حيث زاد الإنفاق الحكومي على “وسائل الإعلام” بين شباط/فبراير وآذار/مارس 2022 بنسبة 433%

وبالتوازي مع هذه الزيادة، تم إدخال قوانين تزيد من تقييد حرية التعبير تحت ستار مكافحة الأخبار المزيفة، وطرد وسائل الإعلام الغربية، واعتقال الآلاف من المتظاهرين في جميع أنحاء المدن الروسية، وكل ذلك يسمح للكرملين بتوسيع سيطرته على الفضاء الإعلامي المحلي وتعزيز الدعم لحربه.

ويقول كوالسكي، الحاصل على درجة الماجستير في السياسة والأمن والعلاقات الدولية في أوراسيا من كلية الدراسات السلافية والأوروبية الشرقية من جامعة لندن إن حملات التضليل في دول مثل جنوب أفريقيا والهند والبرازيل والمكسيك تهدف إلى تطوير الدعم لموقف موسكو وبناء التعاطف ضد العقوبات.

وبعد ذلك، ومن أجل الحد بشكل أكبر من المخاطر التي تهدد سيطرة الكرملين على الفهم المحلي للحرب والوضع الاقتصادي، تسعى موسكو أيضا إلى بناء مشاعر موالية لروسيا أو معادية للغرب بين تلك الدول التي لا تدعم كييف.

وبالإضافة إلى اتخاذ الترتيبات المالية، قضى الكرملين أيضا بعض الوقت قبل الغزو لإعداد مساحة المعلومات لرواياته حول الحرب. وفي الأسبوعين الأخيرين من كانون الثاني/يناير، شاركت وسائل الإعلام الروسية الرسمية 1600 منشور يتضمن إشارات إلى أوكرانيا.

وشكل هذا ما يقرب من 40% من المشاركات، حوالي 173 ألف إعجاب ومشاركة وتعليق، من قبل مستخدمي اللغة الإسبانية حول غزو أوكرانيا، بينما في الشرق الأوسط  زاد عدد مرات نشر مواد “آر تي” و”سبوتنيك” بالعربية بنسبة 35 و 80% على التوالي بعد الغزو.

وأدت ثلاث من التغريدات الست الأكثر شعبية في هذه الفترة إلى تضخيم روايات وزارة الخارجية الروسية حول مختبرات الأسلحة البيولوجية السرية في أوكرانيا، وأسفرت حملة منسقة استهدفت جنوب أفريقيا وغانا ونيجيريا بروايات مؤيدة للكرملين عن الغزو عن نشر 23 مليون تغريدة حول وسمي “أدعم بوتين” و”أدعم روسيا”.

وفي نيجيريا، أفادت تقارير بأن حسابات صحافيين تعرضت للاختراق لنشر روايات كاذبة حول غزو أوكرانيا، مما أدى إلى نشر 766 رسالة غير مصرح بها عبر فيسبوك وتويتر ولينكد إن.

وعلى الرغم من أنه قد يكون من الصعب التأكد من التأثير المباشر لمثل هذه الحملات، إلا أنها تضفي وزنا إضافيا على الروايات التي تشرح سبب امتناع ما يقرب من نصف الدول الأفريقية عن التصويت على قرار الأمم المتحدة الذي يدين روسيا.

وتستند الاستجابات الدولية لتكتيكات المعلومات الخبيثة الروسية إلى عقود من الخبرة ويتم دعمها الآن من خلال التمويل المتزايد وزيادة الوعي بطبيعة المشكلة.

ويضيف كوالسكي أنه بعد أن نأت هذه الدول بنفسها عن دعم موسكو مباشرة، ولكن دون التعبير عن دعمها لأوكرانيا، أصبحت الآن أهدافا رئيسية لتغذية الدعم لـ “حلول” الحرب التي تصب في صالح روسيا.

ومع تشديد الكرملين قبضته على الفضاء الإعلامي في روسيا وزيادة الإنفاق على نشر المعلومات، كانت الاستجابة الدولية سريعة وموحدة مع قيام العديد من شركات التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي بزيادة الجهود المبذولة لتسليط الضوء على الجهات الفاعلة في مجال المعلومات الخبيثة وإزالتها.

ويختتم كوالسكي تقريره بأنه إذا لم يكن بالإمكان توسيع الاتجاه لتهديد المعلومات المضللة المتزايدة لتشمل أهداف الكرملين الأخرى، بما في ذلك تلك الأقرب إلى الوطن، فسوف يتزايد الضغط من خارج الحدود الوطنية لتقديم تنازلات مفيدة لأهداف روسيا على المدى الطويل.

——————————-

زيلينسكي لاجتماع أمني آسيوي: أوكرانيا ستنتصر بالتأكيد

سنغافورة: قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي السبت إن بلاده “ستنتصر بالتأكيد في الحرب التي بدأتها روسيا” وذلك في كلمة وجهها إلى اجتماع آسيوي أمني رئيسي.

وأضاف زيلينسكي، الذي كان يتحدث إلى حوار شانغري-لا المنعقد في سنغافورة من مكان غير معلوم في كييف، أن بلاده غير قادرة على تصدير ما يكفي من الغذاء بسبب الحصار الروسي وأن العالم سيواجه “أزمة غذاء ومجاعة حادة وخطيرة”.

كما شهدت المباحثات التي ألقى الغزو الروسي لأوكرانيا بظلاله عليها، تبادل الولايات المتحدة وحلفائها انتقادات حادة مع الصين، خاصة فيما يتعلق بتايوان.

وقال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في كلمته أمام حوار شانغري-لا إن الولايات المتحدة ستقوم بدورها في احتواء التوتر مع الصين ومنع نشوب صراع على الرغم من أن بكين أصبحت أكثر عدوانية في المنطقة.

وشاب التوتر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة مع تصادم أكبر اقتصادين في العالم حول مختلف القضايا، من تايوان وسجل الصين في مجال حقوق الإنسان إلى نشاطها العسكري في بحر الصين الجنوبي.

وأكد الجانبان خلال اجتماع بين أوستن ووزير الدفاع الصيني وي فنغ خه يوم الجمعة رغبتهما في إدارة علاقاتهما بصورة أفضل، ولكن لا يوجد أي مؤشر على حدوث انفراجة في حل الخلافات.

وقال أوستن إن الولايات المتحدة ستواصل الوقوف إلى جانب حلفائها بما في ذلك تايوان.

وأضاف أن “هذا مهم بشكل خاص لأن جمهورية الصين الشعبية تتبنى نهجا أكثر تعسفا وعدوانية بشأن مطالبها الإقليمية”.

وتقول الصين إن تايوان المتمتعة بالحكم الذاتي إقليم تابع لها وتعهدت بأخذها بالقوة إذا لزم الأمر.

وقال أوستن إن هناك زيادة “مقلقة” في عدد المواجهات غير الآمنة بين الطائرات والسفن الصينية وطائرات وسفن دول أخرى.

وتقول أستراليا إن مقاتلة صينية اعترضت بشكل خطير إحدى طائرات المراقبة العسكرية التابعة لها في منطقة بحر الصين الجنوبي في مايو أيار، كما يتهم الجيش الكندي الطائرات الحربية الصينية بمضايقة طائرات الدورية التابعة له أثناء عملها على رصد محاولات الالتفاف على عقوبات كوريا الشمالية.

وتشكو تايوان منذ سنوات من المهمات المتكررة للقوات الجوية الصينية في منطقة تحديد الدفاع الجوي، وهي منطقة أوسع من المجال الجوي للجزيرة وتخضع للمراقبة لرصد التهديدات. وقال أوستن إن وتيرة هذه التوغلات تصاعدت في الشهور القليلة الماضية.

ووصف اللفتنانت جنرال تشانغ تشن تشونغ، وهو نائب رئيس دائرة الأركان المشتركة للجنة العسكرية المركزية الصينية، كلمة أوستن بأنها “مواجهة”.

وأضاف في تصريحات للصحافيين “تحاول الولايات المتحدة تشكيل دائرة صغيرة في منطقة آسيا والمحيط الهادي بإقناع بعض الدول بالتحريض على دول أخرى. كيف لنا أن نصف الأمر عدا أنه مواجهة؟”.

اجتماع مغلق

قال نغ إنغ هين وزير دفاع سنغافورة التي تستضيف الاجتماع إن اجتماعا مغلقا للوزراء تناول اليوم السبت العلاقات بين الصين وروسيا وإن عددا من الوفود طلب من بكين بذل المزيد من الجهد لكبح جماح موسكو.

وأكد وزير الدفاع الياباني نوبو كيشي في الاجتماع أن التعاون العسكري بين الصين وروسيا فاقم المخاوف الأمنية في المنطقة.

وقال وزير الدفاع الأسترالي ريتشارد مارليس إن من المنطقي توقع توضيح من الصين أنها لا تدعم غزو دولة ذات سيادة في انتهاك لميثاق الأمم المتحدة.

وفي كلمة ركزت على التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة، قال أوستن إن واشنطن ستحافظ على وجودها في آسيا لكنها تتفهم الحاجة إلى منع نشوب صراع.

وأضاف “نحن لا نسعى إلى مواجهة أو صراع. ولا نسعى أيضا إلى حرب باردة جديدة أو حلف شمال أطلسي آسيوي أو منطقة مقسمة إلى تكتلات معادية”.

(رويترز)

———————————

بعد التهديدات الروسية.. مخاوف من جرائم حرب عبر “هجمات إلكترونية

تصاعدت حدة التهديدات المتبادلة بين روسيا والغرب، والتي تحذر من مغبة تحول “الهجمات الإلكترونية” إلى مواجهات عسكرية مباشرة بين الجانبين.

ويوم الخميس، حذرت روسيا الغرب من أن “الهجمات الإلكترونية على مرافق بنيتها التحتية قد تؤدي إلى مواجهة عسكرية مباشرة”، مضيفة أن “محاولات تحدي موسكو في الفضاء الإلكتروني ستُقابل بإجراءات مضادة موجهة”.

يأتي التحذير بعد اختراق موقع وزارة الإسكان الروسية مطلع الأسبوع، حيث كان البحث عن الموقع على الإنترنت يقود إلى علامة بعبارة “المجد لأوكرانيا” باللغة الأوكرانية، وفقا لـ”رويترز”.

وفي بيان، قالت وزارة الخارجية الروسية، إن البنية التحتية الحيوية ومؤسسات الدولة في روسيا تتعرض لهجمات إلكترونية، وحملت المسؤولية لأشخاص في الولايات المتحدة وأوكرانيا.

على جانب أخر، اتفق قادة أوروبيون في مجال الدفاع العسكري الإلكتروني، الأربعاء، على أن “فعالية روسيا في استخدام القدرات الرقمية في حربها ضد أوكرانيا كانت أقل بكثير من المتوقع”.

وقال رئيس مركز الأمن السيبراني الوطني البولندي، الجنرال كارل موليندا: “كنا متيقنين جدا من أنه سيكون هناك هجوم سيبراني بالاستناد إلى خبرات سابقة لسلوك روسيا وقدراتها”، وفقا لـ”فرانس برس”.

وخلال اجتماع منتدى الأمن السيبراني الدولي، أشار الى أن أوكرانيا كانت متأهبة و”صمدت بوجه الهجمات الروسية”.

وأضاف: “هذا أظهر أنه بالامكان الاستعداد لحرب الكترونية ضد روسيا التي اعتبرها جيدة في القدرات الهجومية لكنها ليست جيدة بما يكفي في الدفاع”.

وأعطى مثالا على هجمات الكترونية عدة ضربت روسيا، وان كانت نتيجة جهد قراصنة مستقلين بشكل أساسي.

أما رئيس الأمن السيبراني في ليتوانيا، الكولونيل روموالداس بيتكيفيشيوس، فقال إن روسيا “غير جاهزة لشن حرب إلكترونية منسقة ونشطة”.

وصرح لوكالة فرانس برس أن هناك “آلاف الانشطة الالكترونية في كل مكان في أوكرانيا”، مضيفا “لكنني لا أعتقد أنه مخطط لها بشكل جيد جدا”.

وأدلى رئيس قوة الدفاع السيبرانية الفرنسية، الجنرال ديدييه تيسيير، بملاحظة مشابهة حول عدم التنسيق والتواصل بين الهجمات الالكترونية والهجوم العسكري على الأرض.

وقال “ربما لم يتمكنوا من تنظيمها بالطريقة التي أرادوها”، لافتا الى أن قدراتهم “ليست قوية كما كنا نتخيل”.

لكنه مع ذلك أشار الى أن تحليل هذا النزاع معقد بسبب اقتحام مجموعات قرصنة مستقلة لساحة المعركة، إضافة إلى تدخل شركات مثل مايكروسوفت وستارلينك أيضا لتقديم الدعم لأوكرانيا.

وخلال مقابلة مع “سكاي نيوز”، الأسبوع الماضي، تحدث المدير العام للقيادة الإلكترونية الأميركية، بول ناكاسوني عن عمليات “هجومية” و “دفاعية” إلكترونية، وكذلك “عمليات إعلامية”، لدعم أوكرانيا في الوقت الذي تكافح فيه لدرء التوغل الروسي الذي بدأ في فبراير، وفقا لمجلة “نيوزويك”.

وبعد أيام من تلك التصريحات، اتهم الممثل الرئاسي الروسي للتعاون في مجال أمن المعلومات، أندريه كروتسكيخ، الولايات المتحدة، الاثنين، بـ”شن عدوان إلكتروني على روسيا وحلفائها”، وذلك في مقابلة مع صحيفة “كوميرسانت” الروسية.

وحذر أكبر دبلوماسي إلكتروني روسي من أن “تفاقم الصراع مع الولايات المتحدة في الفضاء الإلكتروني قد يؤدي إلى تصعيد في العالم الحقيقي بين القوتين”، وفقا لمجلة “نيوزويك”.

وفي مقال رأي بصحيفة “واشنطن بوست”، حذر الكاتب الأميركي، دافيد إجناتيوس، من اشتعال معركة طويلة بين الولايات المتحدة وروسيا حول الفضاء الإلكتروني.

واعتبر الكاتب أن “النتيجة الحتمية لمثل هذا الصراع سوف تكون كارثية”، مضيفا “لن يخرج أي من الطرفين منتصرا في أي صراع سيبراني مباشر”.

تعطيل النشاط “الخبيث”

من جانبه، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، إن “هناك موقف أميركي طويل الأمد للعمل على تعطيل النشاط السيبراني الخبيث والمعلومات المضللة، والدفاع عن الولايات المتحدة وحلفائنا وشركائنا في جميع أنحاء العالم من مجموعة من التهديدات”.

وأضاف المتحدث في تصريحات لـ”نيوزويك”، “تعمل الولايات المتحدة مع دول في جميع أنحاء العالم لتعزيز الاستقرار في الفضاء الإلكتروني وتقليل مخاطر الصراع”.

وقد تبدو الأضرار الناجمة عن الهجمات الإلكترونية في الحرب الدائرة في أوكرانيا بسيطة مقارنة بفظائع القتال المرتكبة على أرض الواقع، لكن ذلك أن المدنيين بمنأى عن تلك الهجمات، وفقا لموقع “سويس أنفو” (swissinfo).

وفي اليوم الأول من الغزو الروسي على أوكرانيا، أدى هجوم إلكتروني استهدف خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية (KA-SAT) إلى تعطيل الاتصالات العسكرية الأوكرانية.

وأدى الهجوم إلى قطع الإنترنت عن عشرات الآلاف من الناس في جميع أنحاء أوروبا، من فرنسا إلى أوكرانيا، وظلت شبكة الإنترنت مقطوعة عن حوالي 2000 عنفة هوائية في ألمانيا بعد مرور شهر على الهجوم، وفقا لـ” سويس أنفو”.

جرائم حرب

قال كبير موظفي التكنولوجيا في “مؤسسة السلام الإلكتروني”، برونو هالوبو، إنه على الرغم من أن معظم الهجمات الروسية استهدفت أهدافا عسكرية ومؤسسات عامة ووسائل إعلام، لكن المدنيين تضرروا أيضا.

في هذا الصدد، قد ترقى الهجمات ضد المدنيين بموجب القانون الإنساني الدولي إلى جرائم الحرب، وفقا لما ذكره هالوبو.

وقال هالوبو: “نحن نراقب الوضع ونجمع الأدلة بحيث إذا أجري تحقيق في مرحلة ما، فسيكون في وسعنا تقديم أدلة على ما حدث”.

وأضاف أن “الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا، التي امتدت إلى الفضاء الإلكتروني، تعمل أيضا على طمس الخط الفاصل بين المدنيين والجنود”.

ويعتقد هالوبو أنه من الممكن أن تبدي المحكمة الجنائية الدولية اهتماماً ببعض الهجمات الإلكترونية التي ألحقت الضرر بالمدنيين، مثل هجوم (KA-SAT) أو اختراق مراقبة الحدود بين أوكرانيا ورومانيا.

وقال إن المحكمة شرعت بالفعل في التحقيق في جرائم الحرب المزعوم ارتكابها على أرض الواقع في أوكرانيا، ولا تحقق المحكمة الجنائية الدولية في حرب الفضاء الإلكتروني حتى الآن.

وذكر أنه على الرغم من الفظائع المرتكبة، فإن الحرب في أوكرانيا قد تكون بمثابة درس عن الحاجة إلى تعزيز عمليات المساءلة في الفضاء الإلكتروني.

وتابع: “هذا النزاع الأول الذي تستخدم فيه الهجمات الإلكترونية بهذا الحجم، لذا فيما يتعلق بالقانون الإنساني الدولي، أرى أنه يجب إجراء نقاش بغية الاعتراف بمدى استخدام الفضاء الإلكتروني في إيذاء الناس وبغية منع السلوك غير اللائق”.

الحرة / ترجمات – دبي

——————————-

=======================

تحديث 12 حزيران 2022

—————————–

غزو أوكرانيا كأحد أطوار توسّع روسيا الإمبراطوريّ/ جورج عيسى

“#روسيا دولة فريدة من نوعها. إنّها فوضويّة ومنهجيّة في الوقت نفسه. إنّها مَلَكيّة وأناركيّة. إنّها دولة توجّهها السوق واجتماعيّة. إنّها مؤدلجة وساكنة سياسيّاً. إنها انعزاليّة ومفتوحة. إنها متحرّكة تصاعديّاً وقديمة. إنها شاعريّة رومنسيّة وبراغماتيّة بلا حدود”.

إذا كانت هذه الصفات التي عرّف بها الأكاديمي في “المجلس الروسيّ للعلاقات الخارجيّة” جورجي أساتريان الدولة الروسيّة صفات صحيحة، فلا عجب حينها في أنّ الغرب “لا يفهمها” بحسب اتّهامات كثر، أكانوا غربيّين أم روساً.

قيل الكثير عن عدم قدرة الأميركيين والأوروبيين على سبر أغوار سياسة الرئيس الروسيّ فلاديمير #بوتين الداخليّة والخارجيّة. ربّما يعزى ذلك إلى عدم تمكّن هؤلاء من استيعاب روسيا ودمجها تدريجيّاً في المؤسسات الغربيّة بعد نهاية الحرب الباردة. والفشل في دفع النظام السياسيّ الروسيّ إلى تبنّي القيم الليبيراليّة، على الأقل من حيث التفسير الغربيّ لها، هو سبب مرجّح آخر للحديث عن الإخفاق في فهم روسيا. لكن من زاوية المصلحة الغربيّة المباشرة، كان الفشل واضحاً في عدم تأمين الحماية لبعض دول أوروبّا الشرقيّة من روسيا “انتقاميّة” لم تستطع تخطّي واقعة انهيار الاتحاد السوفياتيّ، “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، وفقاً لتوصيف بوتين. 

بين العقل والقلب

لا يعني تفكّك الاتّحاد السوفياتيّ أنّ سياسة الكرملين الحاليّة هادفة إلى إعادة إحيائه. في الواقع، أعلن بوتين في بداية الألفيّة أنّه وخلال تلك الحقبة شعر لفترة أنّ انهيار القوّة السوفياتيّة في أوروبا كان حتميّاً. “لكنّني أردت أن يرتفع مكانه شيء مختلف. ولم يتمّ اقتراح أي شيء مختلف. هذا ما يؤلم. لقد أسقطوا كل شيء وذهبوا”.

حين أعربت مساعدة وزير الخارجية للشؤون لسياسية فيكتوريا نولاند عن “قلق” من مشروع إرثيّ للرئيس الروسيّ في السعي إلى إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتيّ، ردّ الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف قائلاً إنّ نولاند تفهم أنّ الأمر “مستحيل”. يطابق ذلك ما تحدّث عنه بوتين منذ نحو أربعة أعوام.

قبل انتخابات 2018، وردّاً على أسئلة صحافيين عمّا سيرغب بتغييره لو تمكّن من ذلك، قال بوتين “انهيار الاتّحاد السوفياتيّ”. لكنّه ذكر ردّاً على سؤال آخر أنّه سيظلّ يفضّل العيش في الوقت الحاضر لو استطاع اختيار أيّ حقبة زمنيّة يريد معاصرتها. يتجانس ذلك مع قول آخر للرئيس الروسيّ: “كلّ من لا يأسف على رحيل الاتحاد السوفياتيّ هو بلا قلب. كلّ من يرغب باستعادته هو بلا عقل”.

مشروع آخر… مشابه

عدم رغبة أو نيّة بوتين باستنهاض الاتحاد السوفياتيّ لا يترادف تبقائيّاً مع انتفاء أيّ طموح ذات بعد توسّعيّ أو إمبراطوريّ ولو بشكل مغاير. المسؤولون الروس لم يخفوا ذلك في فترات سابقة. سنة 2014، قدِم مسؤول روسيّ بارز إلى معهد “تشاتام هاوس” الملكيّ في لندن ليقول: “بوتين ليس سخيفاً كي يظنّ أنّ بإمكانه إعادة تأسيس الاتّحاد السوفياتيّ، لكن هنالك نواة من الاتّحاد السوفياتيّ السابق الذي يعدّ خاصّتنا – بيلاروسيا و#أوكرانيا وشمال قازاقستان. وسيكون من الجميل استعادته”.

هذا ما يسرده الباحث الزائر في “مركز الدراسات الأوروبية” والديبلوماسيّ الأوستراليّ السابق في روسيا والصين وبولونيا كايل ويلسون. وويلسون من الذين يقولون إنّ الغرب يسيء فهم روسيا على ما ينقله عنه “المعهد الأوسترالي للسياسة الاستراتيجية”. فمجتمع السياسة الخارجية في الغرب يظنّ أنّ لروسيا مفاهيم مشابهة لما يعنيه أن تكون قوة عالمية. لجهة المسار الاقتصاديّ، لم يكن بوتين مهتماً ببناء الاستقرار والازدهار كما يفهمها الغرب، إلّا بشكل هامشيّ. لقد تمحور مشروعه الكامل حول روسيا قادرة على أن تكون إكراهيّة وتوسّعيّة مع تمركز القوة بيد رجل واحد.

والترجمة الروسيّة لـ”قوة عظيمة” بحسب ويلسون هي velikaya derzhava حيث يعني القسم الثاني من العبارة الاستيلاء أو التمسك. وبالاستناد إلى بحث تاريخيّ، لفت إلى أن روسيا توسّعت بوتيرة 100 إلى 150 كيلومتراً مربعاً في اليوم خلال السنوات الـ450 الأخيرة.

إعادة صياغة كتب التاريخ

لكن خلال القرن العشرين توقّفت روسيا عن التوسّع باستثناء فترة قصيرة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية حين ضمّ ستالين دول البلطيق وأجزاء من فنلندا وبولونيا إلى الاتّحاد السوفياتيّ. ومع انهيار الأخيرة، عادت روسيا إلى التقهقر من حيث المساحة والقوّة. بذلك، كان عليها أن تستعيد “نشاطها الطبيعيّ” في التوسّع. بحسب أساتريان، كتب المساعد الشخصيّ لبوتين (ربّما بات مساعداً سابقاً مع إشاعة عن وضعه قيد الإقامة الجبرية) فلاديسلاف سوركوف: “بعدما انهارت من مستوى الاتّحاد السوفياتيّ إلى مستوى الاتّحاد الروسيّ، توقّفت روسيا عن التفكّك وبدأت بالتعافي. أخيراً، عادت إلى موقعها الطبيعيّ و(الموقع) الوحيد الممكن لمجتمع أمم عظيم، متوسّع وجامع للأراضي”.

تحمل هذه النظرة شيئاً من واقع قاتم إمّا لروسيا أو لجيرانها: كأنّ ثمّة خياراً وحيداً بين روسيا ضعيفة وهشّة استراتيجياً أو روسيا قويّة تتجلّى قوّتها في التوسّع والسيطرة على المزيد من أراضي الدول المجاورة. ويبدو أنّه تمّ التمهيد لهذا التوسّع منذ فترة طويلة.

في 2005، وبحسب ويلسون من “مركز الدراسات الأوروبية”، أسّس بوتين لجنة لإعادة صياغة كتب التاريخ المدرسية. في كتاب مخصّص لأساتذة التاريخ برز مقطع يقول إن غالبيّة الطبقة السياسيّة الروسيّة الواعية ترفض الحدود الحاليّة للاتحاد الروسيّ. هي غير مناسبة لأمن روسيا. بعدها في 2008، اجتاح بوتين جورجيا وسيطر على بعض أراضيها. ويضيف الأكاديميّ أن الروس يواصلون نقل أسلاكهم الشائكة إلى داخل الأراضي الجورجيّة بطريقة متدرّجة.

ما قاله بوتين ل#بولتون

لا يمكن الحديث عن عدم فهم الغرب تطلّعات روسيا، على افتراض صحّته، من دون الإشارة إلى أنّ سوء الفهم هذا متبادل. إذا كان الأميركيّون غير مدركين لوجود روابط تاريخيّة بين الروس والبيلاروس والأوكرانيين بحسب سرديّة موسكو فروسيا أيضاً غير مدركة لفكرة أنّ دمج هذه الشعوب قسراً وتغيير الحدود الدوليّة بالطريقة الحاصلة في أوكرانيا تناقض مبدأ احترام حدود الدول ووحدة أراضيها.

سيظلّ هذان المنطقان في حالة تصادمية على المديين القريب والمتوسّط. من شبه المؤكّد وجود استحالة في جعلهما قابلين للتعايش. على أيّ حال، هذا ما قاله بوتين للمستشار السابق لشؤون الأمن القوميّ جون بولتون: “لديكم منطقكم، لدينا منطقنا؛ سنرى أيّ منطق سيفوز”.

النهار العربي

—————————–

سيناريوهات روسية أوكرانية/ زياد ماجد

دخلت حرب روسيا على أوكرانيا شهرها الرابع، وما من مؤشرات سياسية أو ميدانية تفيد بقرب نهايتها. وبات من المؤكّد أن فلاديمير بوتين لم يكن في وارد حرب طويلة إلى هذا الحد وأنه أخطأ التقدير في ثلاثة أمور.

الأول، قدرة الأوكرانيين على المقاومة عسكرياً واستيعاب ضربات الأسبوع الأول التي دمّر فيها مطاراتهم وجزءاً أساسياً من بنية جيشهم التحتية، وحجم التعبئة العسكرية المنظمة التي نجحوا في توفيرها بما دلّ على عمق ولاء قومي أوكراني في مواجهة روسيا، استخفّ بوجوده.

الثاني، قصور قراءته لما ستكون عليه ردود الفعل الغربية، الأمريكية والأوروبية، التي ظنّ أنها ستقتصر على عقوبات اقتصادية تُضاف إلى العقوبات المفروضة منذ ضمّه شبه جزيرة القرم العام 2014. مردّ ذلك أن أكثر من حرب وعملية شنّها بوتين في السنوات الأخيرة لم تدفع واشنطن أو العواصم الأوروبية للردّ عليها بحزم (من جورجيا إلى أوكرانيا نفسها وصولاً إلى سوريا، إضافة إلى جرائم شركة فاغنر المقرّبة من الكرملين في ليبيا ومالي وغيرهما). ومرد ذلك إيضاً قناعة في موسكو بعدم رغبة الغرب منذ نهاية حروب أفغانستان والعراق في المواجهات العسكرية أو في تحمّل أعباء الحروب اقتصادياً بسبب خشية الحكومات في واشنطن وباريس ولندن وبرلين وروما وغيرها من الرأي العام ومن الانقسامات الواسعة فيه (التي يراهن فيها بوتين على اليمين المتطرّف والتيارات الفاشية الموالية له وعلى بعض تيارات اليسار المعادي لحلف شمال الأطلسي).

أدّى الأمر إلى تفاجُؤ موسكو بإرسال أمريكا كمّيات كبيرة من الأسلحة المتطوّرة لكييف ووضع موازنة ضخمة لدعمها (قاربت في آخر شهر أيار/مايو الـ54 مليار دولار). كما أدّى إلى تفاجُؤ بالدعم الأوروبي العسكري والاقتصادي للأوكرانيين من الدول الكبرى والمتوسطة (فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا وهولندا وبلجيكا) ومن الدول المحايدة تاريخياً أو المحدودة الموازنات العسكرية (النمسا والسويد وفنلندا ودول البلطيق). فهذه جميعها اعتبرت عودة الحرب إلى القارة الأوروبية واجتياح الدول فيها تهديداً لأمنها وابتزازاً يمكن لموسكو أن تمارسه دورياً إن لم تُلجم آلتُها العسكرية.

الأمر الثالث، وهو على الأرجح الأكثر أذيّة لحسابات بوتين، اكتشافه رداءة أداء وحداته العسكرية وضعف الدعم اللوجستي للقوات المتقدّمة داخل أوكرانيا وقدرة الأسلحة الغربية الحديثة على الفتك بجنوده وضباطه ودبّاباته رغم سيطرة قوات جيشه الجوية على سماء مناطق العمليات. أدّى ذلك إلى سقوط عشرات الآلاف من عديد القوات الروسية بين قتيل وجريح وتدمير آلاف الآليات حتى الآن.

إنطلاقاً من هذه المعطيات، يمكن توقّع عدد من السيناريوهات للمرحلة المقبلة.

السيناريو الأول، استمرار الحرب على ما هي عليه، بحيث يكابر بوتين ويراهن هذه المرة على تراجع الدعم الغربي مع الوقت وبروز تناقضات في المواقف داخل أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة عشية الانتخابات التشريعية المقبلة هناك وبعدها، بما يخفّف خسائر قواته ويتيح لها المزيد من التقدم وقضم أراضٍ تتخطّى منطقة دونباس وساحل بحر آزوف المفضي إلى جزيرة القرم، إلى أن تستسلم كييف سياسياً له. ولعلّ تشبيهه نفسه قبل أيام بالقيصر بطرس الأكبر الذي خاض حروباً أوروبية طويلة ووسّع حدود روسيا يشي بتحضيره الروس لحرب لم يعد من طول أمدها مفرّ.

السيناريو الثاني، إعلانه بعد فترة وقف العمليات بعد «نجاح تدخّله» الذي كرّس «روسية» الشرق والجنوب الأوكرانيّين، ودمّر قسماً من مقوّمات الدولة الأوكرانية (التي سبق أن عدّ قيامها «خطأ تاريخياً ارتكبه لينين» بعد الثورة البولشفية) واقتصادها، بما يربك كييف وحلفاءها ويطرح عليهم سؤال القبول بالأمر الواقع والضمّ أو الاستمرار في القتال لتحرير المناطق المذكورة وما يعنيه هذا من تبعات وصعوبات سياسية وعسكرية.

أما السيناريو الثالث فهو سيناريو التصعيد الواسع في العمليات من الجانبين، بحيث يؤدّي وصول المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا إلى تمكين قواتها من إنزال خسائر أكبر بالجيش الروسي وشنّ هجمات على مواقع تموضعه لمنعه من تكريس احتلاله لها، بما يدفع موسكو لإرسال تعزيزات إضافية واستخدام قوّة نارية أكبر ومواصلة عمليّاتها وتوسيع رقعة قصفها للأراضي الأوكرانية.

ولا تبدو الوساطات التركية ولا المحاولات الأممية قادرة حتى الآن على خلق سيناريو رابع، قوامه ديبلوماسي وبوسعه فرض وقف إطلاق نار. ففيما خلا معالجة قضية شحن القمح والحبوب من ميناء أوديسا عبر البحر الأسود نحو المتوسّط ونزع الألغام من محيطه لتفادي أزمة غذائية عالمية كبرى (إذ تشكّل الصادرات الأوكرانية أكثر من 70 في المئة من احتياجات أسواق القمح والحبوب في غرب آسيا وفي دول إفريقيا)، من الصعب القول بتوفّر شروط لحلول سياسية.

ذلك أن لا بوتين بوارد التراجع، إذ كل تراجع أو قبول بتسويات ليس فيها الحدّ الأدنى الذي وضعه لعملياته (تكريس «روسية» أراضي الدونباس والقرم وبحر آزوف وإعلان كييف حيادها دولياً) يعني هزيمة له، خاصة بعد حجم الخسائر البشرية والمادية في جيشه وبعد العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية غير المسبوقة ضد المصارف والشركات والمؤسسات الحكومية الروسية وعدد كبير من أفراد الأوليغارشيا الروسية المقرّبين إليه. ولا أوكرانيا والعواصم الغربية الكبرى الداعمة لها قادرة على التسليم بالنتائج السياسية لاستخدام القوة العسكرية ولخرق القانون الدولي داخل أوروبا. فتغيير الحدود بالقتال يُعد بالنسبة للأوروبيين تذكيراً بالحرب العالمية الثانية؛ وإن كان انهيار جدار برلين واندثار الاتحاد السوفياتي وحروب البلقان قد تسبّبت في تسعينات القرن الماضي بتغييرات جيوسياسية كبرى، فإن ذلك اعتُبر استثناءً في سياق ما بعد الحرب الكونية، ولم يعد من الممكن توقّعه أو القبول بتكرار حدوثه. يضاف إلى ذلك أن واشنطن ولندن ومعهما (ولَو مع تحفّظات) باريس وبرلين تعتبر أن نجاح بوتين في هذه الحرب سيعزّز من نزعاته الإمبراطورية التوسّعية (تجاه جورجيا ومولدافيا مثلاً) وسيهدّد دول البلطيق وبولندا ويوهن الغرب لسنوات طويلة. وهو سيُرسي أيضاً مبدأً في العلاقات الدولية يشجع دولاً على السير بخيارات عسكرية لحسم نزاعات سياسية أو حدودية أو حتى وجودية. وأبرز مثال يُعطى في هذا الباب هو مثال الصين وتايوان الذي يُخشى من احتمالات تحوّله إلى صدام عسكري أو اجتياح صيني للجزيرة يفرض على واشنطن تحديداً تحدّيات جديدة.

يعني كل ما ورد أننا أمام استمرار للحرب وَلَو بمستويات عنف قد تتفاوت وتتبدّل، من دون أن تقدر موسكو، رغم تقدّمها العسكري الصعب والبطيء، على حسم الأمور سياسياً على نحو ما ظنّت قبل أكثر من مئة يوم حين أطلقت عدوانها ضد الأوكرانيين، ومن دون أن يتمكّن هؤلاء وحلفاؤهم الغربيون من إيجاد مخارج أو توازنات تفرض وقف الحرب أو تحدّ من خسائرها. وهذا يعني أيضاً أن التوتّر السياسي واستمرار الأزمات الاقتصادية (لا سيّما المتعلّقة بالطاقة والغذاء) سيكونان من سمات المرحلة المقبلة أوروبياً وعالمياً.

*كاتب وأكاديمي لبناني

القدس العربي

———————————–

عن صحة بوتين وورثته المحتملين/ محمد العزير

في السياسة لا تصدق شيئًا على الاطلاق حتى يتم نفيه رسميًا. كم تكررت هذه المقولة المنسوبة الى (موحّد ألمانيا) اوتو فون بيسمارك خلال الأيام الماضية في الدوائر السياسية والإعلامية الأميركية بعد شيوع خبر مرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي أعطته مجلة “نيوزويك” الأميركية زخمًا كبيرًا عندما نقلت عن لسان ثلاثة مسؤولين في المخابرات الأميركية تأكيدهم إنشغال البيت الأبيض وإدارة الرئيس جو بايدن بشدة بالوضع الصحي لبوتين المتورط منذ شباط الماضي في حرب متعثرة على أوكرانيا.

لم يتأخر النفي الروسي ولم يقتصر على بيان الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، بل تعداه الى رأس الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف الذي قال للقناة الأولى في التلفزيون الفرنسي أن بوتين ليس فقط بصحة جيدة وانما “لا يمكن لعاقل يتابع نشاطات بوتين أن يستنتج أن لديه أي أعراض مرضية”. وقابل النفي الروسي نفي رسمي أميركي لخبر “نيوزويك” إكتفى بالقول أن المعلومات “غير صحيحة. لكن الأسبوع الماضي أطاح النفيين وصب المزيد من الماء في طاحونة التكهنات بعدما أعلن بيسكوف رسميًا تأجيل اللقاء التلفزيوني السنوي المباشر الذي يرد فيه بوتين على الهواء شخصيًا على أسئلة المواطنين حول كافة المواضيع “المسموح بطرحها” وهو تقليد بدأ عام 2001 ولم يُخترق الا مرة واحدة عام 2004. واللافت أن اعلان التأجيل لم يحدد موعدًا جديدًا للقاء، وأكتفى بالوعد أن العمل جار لتحديده.

أعاد اعلان تأجيل البث المباشر الى الأذهان خبر تأجيل الخطاب السنوي الذي يلقيه بوتين أمام المجلس التشريعي القومي في نيسان من كل عام من دون تحديد موعد جديد، وهذه المرة بلا وعد بالعمل على تحديده.  وتزامن ذلك مع نشر موقع (The General SVR) الروسي، الذي تقول الصحف البريطانية أنه يعود الى مصدر في أجهزة المخابرات الروسية وينفرد بمعلومات أمنية وحكومية تثبت الأيام صحة الكثير منها، أن بوتين احتاج قبل أيام قليلة الى اسعافات فورية بينما كان يتواصل عن بعد مع النخب العسكرية والأمنية لمناقشة الوضع في أوكرانيا حين بدا عليه الانهاك الشديد ولم يعد قادرًا على مواصلة الحديث.

من الطبيعي في نظام استبدادي يقوم على مفهوم “الرجل القوي” ألا تكون المعلومات العامة متاحة للناس، هذا الوضع، الذي يعرفه العرب أكثر من شعوب الأرض قاطبة، يحوّل أي مجتمع الى مرتع خصب للإشاعات والإفتراءات والتهويمات والتكهنات حيث لا بد من أن يختلط الحابل بالنابل وتكون الحقيقة أولى الضحايا. لذلك من شبه المستحيل معرفة الوضع الصحي لفلاديمير بوتين، ولا يبقى أمام من يريد الوصول الى الحقيقة سوى غربلة الشائع من الأخبار وجوجلة الإشارات والقبسات لتكوين صورة قابلة للصرف.

حتى الآن، الواضح أن بوتين الذي تدثر ببطانية سميكة في احتفال يوم النصر(9 أيار/ مايو)، وهو لم يبلغ السبعين من العمر والى جانبه ضباط قاربوا المئة سنة ليسوا بحاجة الى تدفئة، ليس بوتين الذي حولته البروباغاندا الرسمية الى “زير” روسيا وهو يمتطى حصانه مكشوف الصدر في نهر متدفق في روسيا الجميلة. والوسامة التي حاول المخبر السابق أن يسوّقها خلال عقدين من الزمن إختفت خلف الوجه المنتفخ الأوداج في الصور المسموح بنشرها بعد “الفيلتر” في الأشهر الأخيرة. المنطق يقتضي أنه لو كان سليمًا صحيًا لما أضطر للظهور ضعيف القدرة كثير التورّم. المعروف طبيًا أن التورم السريع يعني التعرض لعلاج “ستيرويد”. هذا الدواء يتلقاه مرضى الأمراض المستعصية ومنها مرض السرطان.

من دون الخوض في التفاصيل الدقيقة، تشير أكثرية التقارير ذات المصادر الروسية والأوروبية الى أن بوتين على الأرجح مصاب بسرطان الغدة الدرقية وهو أخطر أنواع السرطان بعد البنكرياس، لأن لا علاج فعّالاً له ولا قدرة على مقاومته. إذا صح هذا التقدير، وإن لم تنفع طرق العلاج البدائية، التي يقال أن بوتين يلجأ اليها، ومنها الإستحمام بدم قرون الغزلان الطرية قبل أن تجف، سيكون أمام بوتين أقل من خمس سنوات ليعيش منذ تاريخ الإصابة التي لا يعرفها، ولا ينبغي أن يعرفها الا سبحانه.

بموازاة طاحونة التكهنات عن مرض بوتين انبرت طاحونة أخرى عمن سيخلف هذا الجاسوس السابق الذي وجد نفسه في غفلة من زمن متقلب وريثًا لصاحب الفضل في تكوين روسيا من خلال اخضاع أوكرانيا في القرن الثامن عشر بطرس الأعظم الذي يتباهى به في كل مناسبة. في غياب سياق ديمقراطي والتخلي عن الانتخابات الحرة والنزيهة (كما حاول رئيس أميركا الأحمق السابق دونالد ترامب أن يفعل) لا يمكن معرفة المرشحين أو المؤهلين أو الطامحين الى مركز القرار، هذا ايضًا مرتع للشائعات والتكهنات، خصوصًا وأن روسيا لم تعتمد الأسلوب الكوري أو السوري (والعربي عمومًا) بالتوريث القائم على قرابة الدم. وفي حين لا يمكن للماكينات الإعلامية وصفحات التواصل الاجتماعي البت في مآلات صحة بوتين، انهمكت الأقلام والمخيلات بتقدير من سيرثه عندما يرحل.

حتى الآن تطول لائحة المرشحين، بلا سند ولا دليل. وككل نظام أمني تتوجه الأنظار الى رموز المؤسسات الأمنية، وفي الحالة الروسية يضاف اليها رموز الثراء الفاحش ممن نهبوا بلادهم وثرواتها ليستثمروا في الخارج ويشتروا القصور الفارهة واليخوت الباهرة وفرق كرة القدم واللوحات النادرة، مقابل حصة لمن يغطي نهبهم. تستقر بورصة التكهنات في الصحافة الغربية على ثمانية رجال (البلاد بحاجة الى رجل قوي فلا دور للنساء).

المرشحون وبلا أفضلية ينتمون الى ما أطلق عليه أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا دانيال تريسمان (عام 2006) اسم “سيلوفارش” (Silovarchs) وهو دمج لكلمتي “سيلوفيك” (أي صاحب المنصب الأمني) واوليغارشي (أي صاحب الإمتياز المالي). هنا يرد اسم الكسندر بورتنيكوف (70 عامًا) رئيس المخابرات الفدرالية (FSB)، سيرغي شيميزوف (69 عامًا) رئيس مجلس إدارة شركة روستيك (Rostec) للصناعات العسكرية، سيرغي نايريشكين (68 عامًا) رئيس المخابرات الخارجية، نيكولاي باتروشيف (71 عامًا) رئيس مجلس الأمن القومي، إيغور سيتشين (62 عامًا) رئيس مجلس إدارة شركة روسنفط (Rosneft)، وسيرغي شويغو (67 عامًا) وزير الدفاع الذي تتدهور أسهمه بسرعة بسبب التعثر الواضح في حرب أوكرانيا، ولسبب آخر لا يعرفه الا الضالعون بالشأن الروسي. مع أن اسمه الأول روسي لا غبار عليه، يحمل اسم عائلته والمنطقة التي ينحدر منها الكثير من المنغصات للنخب الروسية.

وزير الدفاع شويغو، والذي تضعه استطلاعات الرأي في المرتبة الثانية بعد بوتين، ليس روسيًا بالمفهوم الإثني للكلمة، ومع أنه أعتق الوزراء في عهد بوتين فهو من منطقة “توفا” المجاورة للصين والتي تعود أصولها الى التركمان وتعتنق الديانة البوذية، لكن الأهم روسيًا، أنها من قبائل مغولية قادها أيام جنكيز خان الجنرال سوبوتاي (Subedei) الذي أخضع روسيا وأوكرانيا لسلطانه قبل ثمانية قرون، وتتردد في أوساط المدونين المغول ونشطائهم على التواصل الاجتماعي أن شويغو تقمص روح سوبوتاي. وللمزيد من التشويق قفز الى واجهة الترجيحات قبل أيام، اسم عضو الإدارة الرئاسية ديمتري كوفاليف (36 عامًا)، وسبب هذا الترشيح أنه (ككل أنظمة الإستبداد) شوهد يتحدث مطولًا الى بوتين بعد فعاليات الإحتفال بيوم النصر.

أطاح التنافس بين طاحونتي المرض والوراثة في موسكو بأهمية خبر يفترض أنه مهم. فقد أعلن المتحدث العسكري الأوكراني كيريلو بودانوف في تصريح لصحيفة برافدا الأوكرانية (Ukrayinska Pravda) أن بوتين نجا من محاولة إغتيال قبل حوالي شهرين قام بها قوقازيون لكنها بالتأكيد لم تنجح.

المدن

—————————

كيسنجر: يجب إيجاد مكان لروسيا لئلا تصبح موقعاً أمامياً للصين في أوروبا

اعتبر أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر انقساماً مما كانت عليه في حرب فيتنام

قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، إنه يجب على الغرب «إيجاد مكان» لأوكرانيا ومكان لروسيا «إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعاً أمامياً للصين في أوروبا».

وأضاف كيسنجر (99 عاماً) في مقابلة نشرت مساء أمس (السبت) لصحيفة «صنداي تايمز» البريطانية، أن السؤال الآن سيكون كيفية إنهاء هذه الحرب. وأضاف: «بعد استكمالها (العملية الخاصة في أوكرانيا)، سيكون من الضروري إيجاد مكان لأوكرانيا ومكان لروسيا، إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعاً أمامياً للصين في أوروبا».

وفي حديثه عن الناتو، أشار وزير الخارجية الأميركي الأسبق، إلى أنه من المهم الحفاظ على منظمة «تعكس التعاون الأوروبي والأميركي». لكن كان من الضروري «الاعتراف بحقيقة أن أحداثاً كبيرة قادمة» في العلاقات بين الشرق الأوسط وآسيا من ناحية، وأوروبا والولايات المتحدة من ناحية أخرى.

وأعرب الدبلوماسي المخضرم عن رأي بأنه ليس من الضروري أن تكون آراء أعضاء حلف شمال الأطلسي متجانسة، مضيفاً أن أعضاء هذه الكتلة العسكرية اتحدوا بشأن الوضع في أوكرانيا لأنها «تذكرهم» بـ«التهديدات» القديمة، و«أنهم قاموا بعمل جيد للغاية وأنا أؤيد ما فعلوه».

وأضاف كيسنجر، أن مشكلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هي أنه «رئيس دولة آخذة في التدهور»، وأنه «فقد إحساسه بالتناسب في هذه الأزمة»، معتبراً أنه لا يوجد «عذر» لما فعله هذا العام، في إشارة للغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير (شباط) هذا العام.

في سياق آخر، اعتبر كيسنجر، أن الولايات المتحدة باتت منقسمة، اليوم، أكثر مما كانت عليه في حرب فيتنام.

وتابع كيسنجر: «توقع أن تصبح الصين (ذات استراتيجية غربية) فكرة لم تعد معقولة»، مضيفاً أنه لا يعتقد أن الهيمنة على العالم «مفهوم صيني»، لكنه يعتقد أن الصين يمكن أن تصبح «قوية جداً»، مشيراً إلى أن ذلك «ليس في مصلحة» الولايات المتحدة.

وسبق أن أكد كيسنجر أن الولايات المتحدة غير قادرة على التفرقة بين الصين وروسيا، موضحاً أن «الوضع الجيوسياسي العالمي سيشهد تغيرات بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا. ومن الطبيعي أنه لن تكون مصالح روسيا والصين متطابقة في كل القضايا».

ولا يعتقد كيسنجر أن بمقدار الولايات المتحدة «خلق العوامل، التي تفرق بين الصين وروسيا»، لكن «العوامل والظروف سيكون لها دورها الطبيعي»، حسب قوله.

————————————–

مقال بنيوزويك: كراهية روسيا للغرب وأوكرانيا أغرقتها في نكسة جيوسياسية

نشرت مجلة نيوزويك (Newsweek) مقالا للكاتب أريل كوهين سلط فيه الضوء على ما وصفه بجذور إخفاق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإستراتيجي في أوكرانيا مع دخول الحرب شهرها الرابع. وأشار في تقييمه لتداعيات الحرب العسكرية والإستراتيجية والاقتصادية إلى استغراب الكثيرين وتساؤلهم عما كان يفكر فيه الرئيس الروسي عندما أمر بهذا الغزو.

ورأى الكاتب -وهو زميل غير مقيم في المعهد الأطلسي الأميركي- أن الكراهية العمياء للغرب وأوكرانيا تربك حسابات روسيا الإستراتيجية، وأغرقتها في نكسة جيوسياسية، حتى لو تحسن موقعها في خط المواجهة في نهاية المطاف.

وأشار إلى أن الرؤية التي تتنكر للشعب الأوكراني، واعتداءات الكرملين الناجمة عنها ليست شيئا جديدا، وأن فظائع هذه الحرب تنبع من سوء الفهم المظلم لدى العديد من نخب موسكو فيما يتعلق بمصير روسيا وتاريخها وجغرافيتها السياسية.

وأضاف أن وجهة النظر هذه ترفض إمكانية التعايش والتعاون المنسجمين مع الغرب، ولا تتعلق هذه الحرب بأوكرانيا بقدر ما تتعلق بمكانة روسيا في النظام الدولي.

ولفت الكاتب إلى أن بوتين، على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، كان يحاول القضاء على ثقافة أوكرانيا وشعبها ووجودها المادي، لأنه يؤمن بأن أوكرانيا تنتمي إلى روسيا، حتى أنه يسميها مالوروسيا، أي روسيا الصغيرة.

ويرى الكاتب أن بوتين مخطئ استنادا إلى وجهة النظر التاريخية، فأوكرانيا وروسيا ليستا كيانا واحدا، لأن أوكرانيا لها تاريخها المميز. فعندما كانت موسكو مستنقعا للغابات البكر، كانت كييف مركز حضارة متكاملة مع أوروبا من خلال النبلاء ذوي الجذور الإسكندنافية والتأثير الديني والدبلوماسي البيزنطي.

وعلق بأن نظام بوتين يقوم بشكل مخادع باستخدام التاريخ كسلاح لأنه هو ودائرته الداخلية من خريجي المخابرات الروسية أو الحزب الشيوعي، لا يستطيعون تحمل عالم تكون فيه أوكرانيا جزءا من أوروبا.

ويرى الكاتب أن ازدراء بوتين للديمقراطية الليبرالية، التي تصورها هو والرئيس الصيني شي جين بينغ على أنها عقبة يجب التغلب عليها، أدى إلى عزل روسيا ودفعها نحو الصين.

وأشار الكاتب إلى أن بوتين أخطأ بشكل فادح في تقدير ردود فعل قادة الغرب وكذلك ردود فعل الرأي العام والصين وأوكرانيا وحتى قدراته العسكرية، وسمح لكراهيته العمياء للغرب وأوكرانيا بأن تخيم بظلالها على براعته التحليلية.

وأضاف أن بوتين قام بمفرده بتوسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) من حيث لا يدري، ليشمل فنلندا والسويد، وحفز التماسك الأوروبي وأعاد عسكرة ألمانيا، ودمر الاقتصاد الروسي، ودفع روسيا إلى قبضة الصين القوية، والأهم من ذلك أعاد تنشيط النظام الديمقراطي الغربي بعد 3 عقود من الاعتلال. واختتم مقاله ساخرا بأن هذا ليس بالأمر السيئ بالنسبة لمقدم سابق في المخابرات السوفياتية.

المصدر : نيوزويك

———————————

بوتين.. وعقدة بطرس الأكبر/ مصطفى فحص

في ذروة الفشل الاستراتيجي بالسيطرة على أوكرانيا، ومحاولات التعويض تكتيكيا السيطرة على شرقها وجنوبها، وفي لحظة حرجة داخليا وخارجيا، يلجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الاستعانة بقيصر روسيا العظيم بطرس الأكبر من أجل إعطاء مبررات تاريخية لغزوته الأوكرانية، ومنحها غطاء جيوسياسيا يعطيه مشروعية في معركة استعادة الفضاء السوفياتي أو إخضاعه، فمنذ أن تجاوزت دباباته الحدود الأوكرانية باتجاه العاصمة كييف أعلن بوتين صراحة أنه قرر تجاوز التاريخ والجغرافيا، وأن هدفه إلغاء بلد مؤسس لتاريخ بلاده الإثني الديني والحضاري من الخارطة العالمية.

إصرار فلاديمير بوتين على الربط بين غزوته الأوكرانية وحرب الشمال التي خاضها بطرس الأكبر بداية القرن الثامن عشر رسالة واضحة المعاني للأوروبيين بأنه على خطى بطرس الأكبر في السعي إلى استعادة أراضي بلاده الأصلية، وهذا مؤشر على ان الحرب الأوكرانية قد تستمر لسنوات، كما استمرت حروب بطرس الأكبر 21 عاما، إلى ان تمكن من إحتلال أجزاء كبيرة من مملكة السويد، وضم الساحل الشرقي لبحر البلطيق، وانتهت بتقليص دور السويد السياسي والعسكري في شمال القارة الأوروبية.

في آخر لقاء له يقول الرئيس الروسي “زرنا للتو معرضا مخصصا للذكرى الـ350 لميلاد بطرس الأكبر، إنه أمر مدهش، وكأن شيئا لم يتغير، فبطرس الأكبر خاض حرب الشمال على مدى 21 عاما، ويسود انطباع بأنه من خلال الحرب ضد السويد استولى على شيء ما، إنه لم يستول على شيء بل استعاده”. مما يعني ان بوتين في الأيام الأولى للغزو كان جادا في قرار إلغاء كيان الدولة الأوكرانية واستعادة مدينة كييف إلى “موطنها الأصلي”.

ورغم هزيمته المبكرة على أبواب كييف إلا أنه لم يزل مسكونا بعقدة التاريخ، ويحاول إنكار خصوصيتها الجغرافية كعاصمة لدولة “كيفسكي روس”، فالواضح في كلام بوتين الأخير انه لا يعير اهتماما للموقف الأوروبي ومقاربته الأوكرانية، والدليل على ذلك تطرقه إلى مدينة بطرسبورغ عاصمة بطرس الأكبر، وهي إشارة بأن الغرب الذي يرفض الاعتراف بأن كييف أراض روسية هو نفسه الذي رفض الاعتراف بأن الأراضي التي بنيت عليها عاصمة القيصر سنة 1712 أراض روسية.

بالنسبة للمؤرخين الأوروبيين، وحتى الروس، لا يمكن المقارنة ما بين تجربة بطرس الأكبر الأوروبية وحتى حروبه غربا وبين تجربة فلاديمير بوتين في السنوات العشرة الأخيرة، تاريخيا كانت رحلة بطرس الأكبر إلى بعض المدن الأوروبية رحلة معرفية بهدف نقل التجربة الثقافية والصناعية إلى بلاده، حيث ساعدت رحلته الأوروبية في عملية إصلاح إمبراطورية غيرت مجرى التاريخ شرقا وغربا، فبينما تنكر بطرس في هولندا وبريطانيا تحت اسم (الرقيب بيوتر ميخائيلوف) الذي اهتم في صناعة السفن وزار المصانع والمدارس، كان الكولونيل في المخابرات السوفياتية فلاديمير بوتين يعمل في برلين متخفيا من أجل جمع المعلومات عمن يعتبرهم أعداء بلاده.

وعندما أصبح حاكما أعلن معاداته كل ما يعتبره قيما غربية ونسج علاقات مع أغلب الأحزاب اليمينية المعادية للقيم الليبرالية والحريات، وذلك بهدف منع نقل التجربة الغربية إلى بلاده، ولعل أدق توصيف له هو ما كتبته صحيفة لوفيغارو الفرنسية، عندما زار باريس عام 2017، وشارك في افتتاح معرض في قصر فرساي يؤرخ لزيارة بطرس الأكبر إلى فرنسا سنة 1717 حيث كتبت في افتتاحيتها “إن بطرس الأكبر قيصر طمح إلى جعل روسيا أوروبية، فيما بوتين يسعى لأن يجعل أوروبا روسية ويقدم نفسه كبديل مناسب عن الديمقراطية الغربية التي يتهمها بالعجز والانهيار”.

تاريخيا انتهت حرب الشتاء بموطئ قدم روسي دائم على بحر البلطيق وأمنت حدود الإمبراطورية الغربية وهيأتها للالتفاف شرقا، لكن الحرب الأوكرانية دفعت روسيا إلى التراجع شرقا والاستنزاف غربا، ما يؤكد أن بوتين لن ينجح حاضرا ولا مستقبلا في توظيف بطرس الأكبر ضمن مخططاته.

——————————

أوكرانيا والاجتياح التركي الخامس لسوريا…كيف ستتصرف واشنطن وموسكو؟/ عريب الرنتاوي

تَقرع تركيا طبول اجتياح خامس للشمال السوري، إن صدق إردوغان في وعده ووعيده، فإن أكثر من خمسين ألف جندي تركي، مدعومين بميليشيات حليفة تحمل اسم “الجيش الوطني”، سيندفعون صوب عين عيسى، عين العرب، تل رفعت، منبج، مينّغ، وسدّ تشرين، لبسط سيطرتها على معاقل رئيسة لقوات سوريا الديمقراطية والحركة الكردية عموما.

لا ندري بعد ما الاسم الذي سيختاره إردوغان  لعمليته الجديدة، وهو الذي اعتاد اختيار أسماء لعملياته السابقة، تتناقض معانيها مع مراميها، لكنها انتهت جميعها إلى تمكين أنقرة من احتلال ما يقرب من تسعة آلاف كيلومتر متر مربع، أو ما يعادل تقريباً مساحة بلد كامل كلبنان مثلاً… عملية “درع الفرات- أغسطس 2016” وانتهت إلى احتلال جرابلس والباب ودابق، عملية “غصن الزيتون- يناير 2018” وشملت عفرين وراجو وجوارها وعشرات البلدات والقرى، عملية “نبع السلام- أكتوبر 2019” التي أدّت إلى احتلال رأس العين وتل أبيض وسلوق، وصولاً للطريق السريع “إم 4″، وعملية “درع الربيع- 27 فبراير 2020” التي وسعت الجيب التركي الشمالي، وأعطت تركيا الحق في تسيير دوريات مشتركة، مع القوات الروسية على امتداد الطريق “إم 4”.

سببان رئيسان يدفعان بالسيد إردوغان  وحزبه الحاكم، لتسخين خط الحدود، ورفع وتيرة التهديد بالحرب والتحشيد لها، وفقاً لكثرة من المراقبين والمحللين… أولهما؛ استشعاره بفائض قوة، ناجم عن إحساس عميق بحاجة الغرب والشرق لتركيا في اللحظة الأوكرانية الراهنة، فلا الولايات المتحدة وأوروبا و”الناتو” بوارد فتح مواجهة مع تركيا، فيما ينصرف جُل تركيزها ومواردها لهزيمة روسيا في أوكرانيا، ولا روسيا التي تعرف أهمية الأوراق التي تمتلكها تركيا، بوارد إزعاج الجار التركي المُتقلب، وبيده أوراق المضائق المائية والمجال الجوي والعلاقة الوثيقة مع أوكرانيا، والدولة التي إن نقلت البندقية من كتف إلى كتف، أحدثت فرقاً في سير العمليات العسكرية على الأرض، ولعبة عض الأصابع في ميادين الغذاء والطاقة والعقوبات.

وثانيهما؛ حاجة الرجل لـ”شد عصب” شعبه وجمهور ناخبيه، في لحظة اشتداد أثر التضخم وانهيار الليرة التركية وموجة الغلاء بالذات في سوق الطاقة، وشح المواد الغذائية وارتفاع أسعارها، والتي تضع جميعها أسهمه في انتخابات يونيو 2023 الرئاسية، في مهب رياح الغضب والمعارضة واليأس والإحباط… الانتخابات الرئاسية المقبلة، استحقاق مهيمن على سلوك إردوغان ، ولا يمكن فهم استداراته المتلاحقة في سياسته الخارجية، ولا توجيهاته الاقتصادية والمالية، ولا حتى قراراته الأمنية والعسكرية، من دون ربطها جميعاً بهذا الاستحقاق الذي سيقرر – ربما – المستقبَلين، السياسي والشخصي للرجل.

على أننا، ونحن نرى أهمية السببين المذكورين ونوافق على كونهما يوفران الفرصة والحاجة للرجل لتجريب حظوظه لخوض غمار مغامرة جديدة في الشمال السوري، لا نسقط أبداً “سيناريو الاسكندرون”، والرغبة الدفينة التي تراود “العثمانيين الجدد” في إعادة انتاج هذه السيناريو على امتداد الشمال السوري، وبعمق 30 كم في الداخل.

فلو أن درء “التهديد الإرهابي” المتمثل بحزب العمال ووحدات الحماية وقوات سوريا، هو وحده ما يحرك الجيوش التركية جنوباً، لقلنا أن لأنقرة ما يكفي من المبررات لفعل ما فعلت، وتكراره كلما اقتضت الحاجة ذلك، لكن تركيا تدرك تمام الإدراك، وقد أُبلِغت بذلك مراراً وتكراراً من موسكو، وعلى أرفع المستويات، بأن دمشق تشاطرها المخاوف ذاتها، وتتطلع لتحقيق الحلم ذاته: تصفية الكيان الكردي وبسط سيطرة الجيش السوري على الحدود الشمالية… إن أفضل حليف لإردوغان  في مواجهة “الانفصاليين الكرد” كما يسميهم لافروف، هو بشار الأسد، فلماذا لا يختار الزعيم التركي الطريق الأقصر لفعل ذلك، ولماذا توقفت استداراته التي شملت السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل، عند دمشق، ولم تطرق أبوابها؟

أياً يكن من أمر، فإن مراجعة سريعة لتجربة الاجتياحات الأربعة الفائتة، تظهر حاجة أنقرة للحصول على الضوء الأخضر من كل من واشنطن وموسكو، أو واحدة منهما على الأقل، لتنفيذ عملية عسكرية واسعة في العمق السوري… وهذه المرة، تبدو تركيا بحاجة للضوء الأخضر من موسكو أكثر من واشنطن، كون المناطق التي تنوي اجتياحها تحظى برعاية الكرملين وتتواجد فيها وحدات رمزية من القوات  الروسية، فهل منح لافروف القيادة التركية مثل هذا الضوء عندما زارها قبل أيام، وهل “تَفَهّم” الكرملين لمخاوف أنقرة، يعني منحها هذا الضوء أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟

من الواضح تماماً، أن موسكو المتورطة من الرأس حتى أخمص القدمين في أوحال أوكرانيا، لا ترغب التورط في جبهة ثانية، بعيدة نسبياً هذه المرة، ولا تريد المقامرة بالجار التركي، وبالنسبة للكرملين، فإن أوكرانيا وليست سوريا، هي أولويتها الأولى في هذه المرحلة، من دون أن يعني ذلك، أنها بصدد التخلي عن “مكاسبها” في سوريا وتبديد حلمها بإبقاء أقدامها مغمورة في مياه المتوسط الدافئة.

لن يعني روسيا كثيراً، إن تمددت تركيا على مساحة أكثر قليلاً مما تمتلك هذه الأيام، سيما وأن الطرف المستهدف بهذا بالاجتياح، “قسد”، هو حليف أعدائها الأميركيين والأطلسين، ولن تأسف كثيراً لفقدان طرف “متقلب” كهذا، هذا هو لسان حال اللاعب الروسي.

لكن أكثر ما يقلق روسيا، هو أن تنتهي العملية التركية الخامسة، إلى مواجهة واسعة بين الجيشين التركي والسوري… أمرٌ كهذا محرج لموسكو، وقد يقوض مكتسبات السنوات السبع الفائتة في سوريا… لذا فإن اختيار مسارات العملية وحدودها ومدياتها، هو ما سيقرر ما إذا كانت موسكو ستمنح إردوغان ضوءاً أخضر أم أحمر، أو حتى برتقالياً.

وستكون موسكو قد وضعت “أكراد سوريا” في مواجهة مع أصدقائهم وحماتهم الأميركيين… ومن الواضح أن واشنطن وبروكسل، ليستا بوارد المقامرة بدفع تركيا أكثر صوب موسكو، إن هما عارضتا العملية التركية بقوة، وإردوغان وضع المسألة بكل وضوح: سنعرف من يتفهم الحساسيّات التركية ومن يهملها، وسنبني سياساتنا على هذا الأساس، في إشارة إلى الولايات المتحدة و”الناتو” ومحاولات السويد وفنلندا الانضمام إليه.

واشنطن عارضت حتى الآن أي تغيير في “الستاتيكو” القائم في الشمال السوري، لكن المعارضة اللفظية وحدها، لا تكفي لبث الطمأنينة في نفوس الأكراد، بدلالة أنهم يستجدون دمشق، تكثيف وجودها العسكري قبالة الحشود التركية، ويتعهدون بالقتال كتفاً إلى كتف مع الجيش السوري، والمعلومات تتحدث عن قنوات نشطة بين دمشق والقامشلي.

كيف ستدير واشنطن حرباً بين حليفين لها، وأي وزن ستعطيه لكل منهما، وهل ستقرر سياساتها وفقاً للأوزان المتفاوتة بين هذين الحليفين، وهل ستنحاز لصالح الحليف الأقوى حتى وإن متذبذباً ومتقلباً، أم لصالح الحليف الأصدق والأكثر إخلاصاُ، حتى وإن كان أقل وزناً وأضعف تأثيراً… هل يمكنها التوفيق بين مصالح متصادمة لهذين الحليفين، وهل يمكنها منع دمشق من “قطف ثمار” حالة الترك والتخلي التي قد يعيشها أكراد سوريا؟… ثم، هل تصبح المواجهة الساخنة في الشمال السوري، مدخلاً لواشنطن، لمعاقبة روسيا في سوريا، من خلال استهداف حليفها في دمشق، وإضعاف صدقيتها أمامه، وترك “الفيل التركي” يعيث تكسيراً في دكان الخزف السوري؟

أسئلة وتساؤلات برسم الأيام المقبلة.

الحرة

————————-

من يشغل فراغ الانسحاب الروسي من سوريا؟/ عمر كوش

تتحدث تقارير دولية ومحلية عن انسحابات تجريها القوات الروسية من سوريا، وذلك على وقع الصعوبات التي توجهها قوات الغزو الروسي في أوكرانيا، الأمر الذي يحدث فراغاً تسارع القوى المتدخلة في الشأن السوري إلى إشغاله والاستفادة من تبعاته، وخاصة القوات الإيرانية وميليشياتها الطائفية المتعددة الجنسيات، بوصفه يشكل فرصة لزيادة التوغل الإيراني في سوريا، وإعادة تشكيل واقع استراتيجي فيها، تحقيقاً لمشروع نظام الملالي الإيراني التدخلي في المنطقة، التي تعيش في ظل أوضاع ومتغيرات ميدانية جديدة، وبما ينذر بعودة المعارك وزيادة حدة الصراع داخل سوريا.

ولا تعني الانسحابات، التي تقوم بها القوات الروسية من بعض مناطق سوريا، تخلي روسيا عن أطماعها في سوريا والمنطقة، بل هي مضطرة لتغيير خريطة انتشارها ونفوذها العسكري، نظراً لعدم توافر الموارد اللازمة لدعم سيطرتها على كامل المناطق التي توجد فيها، أو بالأحرى تحتلها، على التراب السوري، وعليه يحاول الساسة الروس سحب قواتهم من المناطق الشرقية والجنوبية وسواهما، والإبقاء على تموضعها ضمن المناطق السورية الأكثر أهمية استراتيجية بالنسبة إلى روسيا، وتحديداً منطقة الساحل السوري، التي توجد فيها قاعدتا “حميميم” وطرطوس العسكريتان، وتستثمر فيها كثيراً، حيث تستخدم مينائي طرطوس واللاذقية من أجل تحسين ميزانها التجاري والاستثماري، ولعب دور مهم في منطقة الشرق الأوسط.

ويبدو أن روسيا لم تعد تملك القدرة على أن تكون اللاعب الأقوى في الملف السوري نتيجة غرقها في أوحال غزوها لأوكرانيا، حيث وجدت نفسها مستنزفة بشكل كلي في إرهاصات وتكاليف الغزو، العسكرية والاقتصادية، الذي يبدو أنه سيكون طويل الأمد، لذلك لجأت مضطرة إلى سحب معظم أو قسم مهم من آلتها العسكرية من سوريا، وزجها في أوكرانيا علها تسهم في تغيير موازين القوى العسكرية لصالحها، لكن ذلك لا يعني تخلي روسيا عن نفوذها في سوريا، كونها صرفت كثيراً فيها على مختلف المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية، ولم تستثمر ذلك بما يعزز رصيدها الاستراتيجي على المستوى العالمي، وفي إحكام دورها وقبضتها على الوضع السوري، وبالتالي قد يجد الساسة الروس أنفسهم مضطرين إلى العدول عن غطرستهم، وبما يؤدي إلى الدخول في عقد صفقات وتسويات مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى في الملف السوري.

ولا ينكر المسؤولون الروس انسحابات قواتهم من سوريا، على الرغم من أنهم لا يفصحون تماماً عن ذلك، بل يلجؤون إلى التخفيف من حجمها وأثرها ومحاولة تبريرها، عبر التذرع بأن أعداد قواتهم في سوريا تتحدد “من خلال المهام المحددة التي تحلها مجموعتنا هناك”، حسبما قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي اعتبر أنه “لم تعد هناك عملياً مهام عسكرية متبقية”، وراح يتحدث عن دعم روسيا نظام الأسد في جهوده لوحدة الأرض السورية، وعن الاحتلال الأميركي للضفة الشرقية من نهر الفرات، والسعي إلى إنشاء تشكيلات أشبه بالدولة فيها وسوى ذلك.

وتعتبر كل القوى المتدخلة في سوريا الانسحاب الروسي فرصة تريد تجييرها واستغلالها لمصالحها، حيث كثفت إسرائيل من هجماتها على مواقع إيرانية في سوريا، وخاصة مناطق العاصمة دمشق وما حولها، وآخرها الهجمات التي استهدفت مطار دمشق الذي أخرجته عن الخدمة، وتستخدمه إيران لنقل عتادها العسكري، فيما عززت الولايات المتحدة انتشار قواتها في مناطق شرقي الفرات، عبر عودتها إلى مناطق سبق أن انسحبت منها، فضلاً عن اتخاذها إجراءات استثنت فيها مناطق سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته من عقوبات قيصر، وبما يسمح بتدفق الأموال والاستثمارات إليها. ومن جهتها تهدد تركيا في القيام بعملية عسكرية ضد مناطق وجود قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية عمادها الأساسي، وذلك بهدف إبعادها عن الحدود التركية مسافة 30 كيلومتراً، وإقامة منطقة آمنة، تخطط الحكومة التركية لإعادة أكثر من مليون لاجئ سوري إليها.

غير أن المستفيد الأكبر من الانسحاب الروسي هو نظام الملالي الإيراني، لأن الانسحاب الروسي يفضي إلى التقليل من التحديات التي يواجهها هذا النظام في سوريا، لتبقى أمامه الاستهدافات الإسرائيلية، حيث يعتبر الساسة في إسرائيل التغلغل الإيراني في سوريا تهديداً استراتيجياً لأمن إسرائيل، لكنهم لا يسعون إلى خوض حرب على الأرض السورية، وكذلك نظام الملالي الإيراني، الذي لا يوفر مناسبة إلا ويحاول فيها تعزيز تغلغل قواته وميليشياته في سوريا، وخاصة في المناطق الشرقية والجنوبية، لذلك يسعى إلى إشغال الفراغ الذي يسببه الانسحاب الروسي منها، سواء بالتفاهم مع الروس أو من دونه، وذلك من أجل تعزيز وجود قواته وميليشياته في المناطق الجنوبية من سوريا، بهدف تحويلها إلى مراكز لتصنيع المخدرات وتهريبها عبر الحدود السورية الأردنية.

وسبق لملك الأردن، عبد الله الثاني، أن اشتكى، خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، من أن النظام الإيراني يستغل الفراغ الذي يحدثه الانسحاب الروسي من أجل تعزيز توغله، خاصة في المناطق الجنوبية من سوريا، كما أن المسؤولين السياسيين والعسكريين في الأردن باتوا يتحدثون علناً عن “حرب مخدرات” تشن ضدهم عبر الحدود السورية، وتقودها ميليشيات نظام الملالي ونظام الأسد، وبات حديثهم يدور حول دخول مرحلة جديدة من تعامل الأردن مع الأوضاع في سوريا، وحول احتمالات وسيناريوهات تصعيد مع نظام الأسد.

ويوجد في مناطق درعا والسويداء ناشطون كثر يرفضون بسط سيطرة نظام الأسد على مناطقهم، فضلاً عن رفضهم محاولات التغلغل الإيراني السابقة فيها، لذلك يلجأ نظام الملالي الإيراني إلى إيجاد سبل لخلق الفوضى والاضطراب الدائم في محافظتي درعا والسويداء، من خلال القيام بأعمال قذرة، تتجسد في عمليات الاغتيال والقتل شبه اليومية، وخلق التوترات والصراعات فيها، بهدف إفراغها من الناشطين والمعارضين لتغلغله.

أما نظام الأسد فلا يجد أي غضاضة في أن يطول التغلغل الإيراني كل مناطق سيطرته، والتي يسيطر فيها على السوريين فقط، وذلك بعد أن تحول إلى ما يشبه عصابة إجرامية تأخذ الأوامر من طرف ساسة النظامين الروسي والإيراني، وتنفذ جميع الأعمال القذرة بالتنسيق والمشاركة مع ميليشيات نظام الملالي الطائفية، وخاصة ميليشيات حزب الله اللبناني، وبالتالي لا يحرك ساكناً حيال استغلال نظام الملالي الإيراني الانسحاب من مناطق سيطرته، لتحويلها إلى مركز ونقاط متقدمة لإدارة شبكته ميليشياته الأخطبوطية في المنطقة، والتي تبدأ من بغداد، مروراً بدمشق وبيروت، ووصولاً إلى غزة وصنعاء وغيرها.

———————-

روسيا في الجنوب.. استمرار اضطراري/ نبراس إبراهيم

منذ أن أطلق العاهل الأردني عبد الله الثاني تصريحه حول الفراغ الذي ستملؤه إيران في الجنوب السوري إن انسحبت روسيا منه، والجميع يراقب التحركات الروسية يوماً بيوم، ورأى كثيرون أن تصريحات العاهل الأردني تستند إلى انسحابات بدأت تقوم بها روسيا بالفعل، أو ستقوم بها في الأيام القريبة المقبلة.

ملك الأردن توقّع أن تترك روسيا الجنوب السوري لمصيره، لأنها منشغلة بحربها في أوكرانيا، الحرب الأهم بالنسبة لها ولمستقبلها، وتدخل إيران لتقضم وتنهش وتتغلغل كيفما تشاء، وتعيث فساداً في ساحة خالية إلا منها.

فرضية العاهل الأردني بشأن تدخل إيران لتقضم وتنهش وتتغلغل وتعيث فساداً في جنوب سوريا صحيحة، شرط أن ينسحب الروس، فبوجود الروس لن تستطيع إيران الإفلات من لجامها، وبالطبع ليس بسبب رغبة روسيا بحماية السوريين منها، بل لأن مصالح الطرفين تتنافر، والساحة لا تتسع للطرفين معاً في الوقت نفسه، لكن المؤشرات العامة تقول إن روسيا لن تنسحب من الجنوب السوري، رغم ما قاله الملك الأردني الذي يراقب عسكره الجانب السوري من حدوده الشمالية دقيقة بدقيقة، وهناك عدة مؤشرات منطقية وواقعية تؤكد أن روسيا لن تنسحب من الجنوب السوري.

أولى هذه المؤشرات أنه ليس لروسيا أي قواعد عسكرية أو معسكرات أو مستودعات أسلحة في جنوب سوريا لتسحبها، فالحال في حوران ليس كما هو الحال في مناطق سورية أخرى، حيث لها قواعد برية وبحرية وجوية، وكل ما لدى روسيا في الجنوب هو مكاتب ارتباط ومقرات إدارية، وبضع مئات من عناصر الشرطة العسكرية، وهي تقوم بمهمة الضبط للمنطقة الجنوبية لسوريا عبر وكلاء، وعبر مراقبتها لاتفاقيات هدنة سابقة، وعبر الوعيد باستخدام العصا لمن عصا، وبالتالي لا يمكن أن يحصل انسحاب لقوات عسكرية لأنها غير موجودة أساساً.

هذه الحقيقة تقودنا إلى مؤشر آخر، فبما أنه لا توجد قوات عسكرية روسية في جنوب سوريا، فإن فرضية أن روسيا تحتاج لسحب القوات إلى المعركة الأوكرانية هو افتراض غير واقعي، فوجودها في الجنوب هو وجود معنوي أكثر منه عدديا، وعليه، فإن بقاءها لن يُكلفها شيئاً، وانسحابها لن يُربحها شيئا.

مؤشر آخر، أن روسيا تزداد غيّاً وجنون عظمة، حتى بعد أن فشلت في الانتصار في أوكرانيا، وبالتالي يمكن الاستنتاج أنه لا يوجد ما يدفعها إلى الانسحاب، لا من جنوب سوريا فقط، وإنما من أي منطقة في سوريا، لأن التراجع ليس بقاموس قادة موسكو، حتى لو كان الاستمرار خياراً قاسياً أو خاسراً، أقلّه في هذه الفترة.

كذلك، من غير المفهوم أن تفعلها موسكو وتنسحب من جزء من الأرض التي تتحكم بها في سوريا، لأنها لم تدخل سوريا دخولاً تكتيكياً، بل كانت استراتيجية تسعى روسيا إليها منذ سنوات، ليكون لها موطئ قدم عسكري على المتوسط، ومن الصعوبة الاقتناع بأنها ستستغني عن هدف استراتيجي طالما لا يوجد قاهر يدفعها لذلك.

وفضلاً عن كل ما سبق، ومهما كان هناك تنسيق بين روسيا وإيران في سوريا، إلا أن الدور الروسي يتعارض كلّياً مع الدور الإيراني، بل ويتناقض أحياناً إلى حد يُلامس الصدام، وتُدرك روسيا أن النظام السوري ضعيف، وأنه بانسحابها من أي منطقة في سوريا، ستُترك المنطقة للفوضى ولإيران التي ستكون أوّل المستثمرين بهذه الفوضى، لتعمّق وجودها، وسيصبح صعباً إخراجها من هذه المنطقة فيما بعد، ولن تترك لإيران للتوسع الأخطبوطي وجني مكاسب مجانية على حساب الروس.

ما قاله رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني وحيد جلال زاده قبل أيام، بأن “روسيا تسحب قواتها من سوريا”، وأن إيران لن تأخذ مكانها في سوريا، هو إثبات إيراني بأن روسيا لن تنسحب، فإيران التي تستثمر في الفوضى دائماً، تحاول هنا أن تتقمص التعفف، لكنها في الحقيقة لن تتردد أن تأخذ مكان أياً كان وفي أي مكان كان لتحقق أهدافها التوسّعية.

احتمال أن تغير روسيا توازنات جنوب سوريا أمر مستبعد، وتغيير قواعد اللعبة ضعيف للغاية، خصوصاً في ظل وجود قواعد أميركية في الأردن، وقوات معارضة سورية في الجنوب جاهزة للتعاون مع الأميركيين ضد الوجود الإيراني وضد النظام فيما لو مُنِحت بعض الدعم، ما يعني في هذه الحالة خسارة روسيا وإيران والنظام للمنطقة كلّها على المدى المتوسط، ويبدو أنه من مصلحة الجميع أن يكون هناك استقرار في الجنوب السوري، وأن لا يحصل توسّع إيراني يهدد الاستقرار، لذلك فهنالك ضرورة لدى جميع الأطراف المعنيّة أن يستمر الدور الروسي في الجنوب للحفاظ على هذا الاستقرار، أقلّه في الوقت الراهن.

—————————-

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختار

=================

تحديث 14 حزيران 2022

————————

علامَ تعتمد لمعرفة ما يجري في أوكرانيا؟/ د. ياسر عبد العزيز

ما زال الوقت مبكراً لرواية قصة الحرب الروسية في أوكرانيا واستخلاص العبر الكامنة فيها؛ إذ تبقى الحرب مشتعلة في الميادين كافة وعلى عديد الجبهات، بحيث يتعذر تمييز الخسائر والمكاسب، وتقييم مواقف الأطراف المتصارعة؛ خصوصاً على المديين المتوسط والبعيد.

مع ذلك، فإن قدراً من النتائج بدا ظاهراً، وبخاصة على صعيد المواكبة الإعلامية العالمية لتلك الأزمة التي تشغل، بسخونة مجرياتها وغلاظة تداعياتها، مراكز التفكير ووسائل الإعلام في الشرق والغرب، عشية بلوغ شهرها الرابع.

لقد اجتهد كثيرون في تشخيص الطريقة التي تعامل بها الإعلام الروسي من جانب والغربي من جانب آخر مع الحرب في أوكرانيا وتداعياتها؛ لكن هؤلاء الذين تصدوا للتفكير في الطريقة التي تعاطى بها الإعلام في مناطق أخرى من العالم مع تلك الأزمة الطاحنة ما زالوا قليلين.

من جانبي، ما زلت أعتقد أن أولئك الذين قصَروا تعرضهم على وسائل الإعلام الغربية لبناء معرفتهم وتحديثها بشأن تلك الأزمة، لن يكونوا في موقف يسمح لهم بالحكم الذاتي العقلاني والمُنصف على مجرياتها ومواقف أطرافها.

وبشيء من التبسيط، سيُمكن القول إن هؤلاء الذين تزوَّدوا بالمعلومات والتحليلات المتعلقة بالأزمة الأوكرانية من وسائل الإعلام الغربية الرائجة والمرموقة في أوروبا والولايات المتحدة، ولم يطالعوا ما يُبث ويُكتب من نتاج وسائل الإعلام ومراكز التفكير غير الغربية، يدركون الآن أن بوتين «شيطان»، وروسيا «معتدية شريرة»، وأن مآل الأزمة محسوم في صورة هزيمة مُنكرة لموسكو، وانتصار مادي ومعنوي لأوكرانيا «الطيبة» التي يساندها الغرب «المتفوق مادياً وأخلاقياً».

ولا يقتصر هذا الحسم -مع الأسف الشديد- على هؤلاء الغربيين أو الذين يعيشون في الغرب؛ لكنه امتد كذلك ليشمل غير الغربيين الذين اعتادوا -لأسباب كثيرة ليس هذا مجال ذكرها- على «الميديا» الغربية في تشكيل رؤاهم وبناء معرفتهم بخصوص ما يجري في العالم من أزمات وتحولات.

لقد تورطت وسائل الإعلام الغربية معظمها في نمط من التغطيات المُنقطعة عن الموضوعية، والحافلة بالمواقف والأحكام المُسبقة، خلال مقاربة تلك الأزمة، بطريقة أدت إلى انحراف التغطية وانكشافها في عديد الأحيان.

ومنذ اندلعت تلك الأزمة، قبل أكثر من ثلاثة شهور، أمكنني الحديث إلى عدد من الدبلوماسيين والسياسيين الغربيين، وبعض النخب السياسية والفكرية العربية التي تقصر تعرضها على وسائل الإعلام الغربية، لفهم ما يجري في العالم وتكوين الآراء والانطباعات بصدده، وكانت النتائج صادمة؛ إذ ظهر بين هؤلاء ما يشبه الإجماع التقليدي على أن «روسيا تذهب إلى خسارة استراتيجية لن تقوم لها بعدها قائمة لعديد السنوات».

في كتابه المهم «الأنثروبولوجيا والاستعمار»، سعى جيرار ليكلرك إلى تسليط الضوء على النظرة الغربية إلى شعوب المناطق الأخرى، في محاولة لتوضيح أثر ما يُعرف بـ«الانحيازات البنيوية» على الأداء الجمعي، فنقل عن أحد الباحثين الغربيين الميدانيين قوله: «لقد قمنا بدراسة الشعوب بشكل لم يقم به أي منتصر حيال أي جماعة خاضعة للسيطرة، فنحن نعرف تاريخهم وعاداتهم وحاجاتهم ونقاط ضعفهم؛ بل وأحكامهم المُسبقة، وهذه المعرفة الخاصة أتاحت لنا توفير قاعدة للإرشادات السياسية التي يمكن ترجمتها لتحقيق الإصلاح اللازم».

لا توجد فقرة واحدة قادرة على تلخيص حجم استعلاء الغرب «المُنتصر» إزاء الشعوب «الخاضعة للسيطرة»، والزعم بقدرته على «إيجاد الحلول اللازمة» لتحقيق «الإصلاح اللازم»، مثل هذه الفقرة. والواقع أن العالم أضحى أكثر تعقيداً من هذا المفهوم القاصر في فهمه، والمُبتذل في تعبيره، والجائر في حكمه، لدرجة أن كثيرين من الذين تبنوا هذا الحسم الغربي المُبكر لنتائج المواجهة الساخنة في أوكرانيا، راحوا يراجعون مواقفهم، بينما يعاينون الأخبار عن «الصمود» الروسي و«الارتباك» الغربي في مواجهته.

وعلى جانب آخر من المقاربة الإعلامية العالمية، ظهر أن بعض الإعلام العربي على سبيل المثال، ورغم ما ينطوي عليه من مثالب لا يُمكن دحضها، كان أقرب للموضوعية في مواكبة تلك الأزمة، بحيث أبقى المعتمدين عليه أكثر قدرة على فهم التطورات وتكوين الأحكام الأقرب للصواب. لم يُغفل المُنظِّرون الإعلاميون أهمية الانحيازات البنيوية في مقاربة القضايا المُهمة على مدى تاريخ الإعلام؛ ومن ذلك أن الموقع الجغرافي الذي تعمل منه، وانتماءك العرقي، وسياقك الثقافي، وميولك الذاتية، والسرديات السياسية الكبرى التي نشأت عليها، كلها عوامل ستؤطر تغطيتك، وربما تحرفها عن الحقيقة؛ لكن قدرتك على تحييد تلك العوامل ستظل المحك الدائم لتقييم مدى انتصارك لقيم الإنصاف والموضوعية.

واليوم يرد إلينا سبب جديد للاعتقاد بأن الشمولية الروسية والانحيازات البنيوية الغربية، أفسدتا تغطية الأزمة الأوكرانية، وأن بعض الإعلام العربي ظهر قادراً على تغطية أكثر توازناً لتلك الأزمة، وهو تطوُّر نرجو أن يتكرَّر في محافل أخرى.

الشرق الأوسط

———————

كيف تسببت حرب أوكرانيا في إشعال “سباق تسلح نووي” أكثر فتكاً وأقل “عقلاً”؟

عربي بوست

“سباق التسلح النووي” مصطلح ارتبط بالحرب الباردة وانتهى بنهايتها، لكن الحرب الروسية في أوكرانيا أعادت إحياءه، وسط توقعات بزيادة الترسانة النووية وارتفاع احتمالات استخدام أسلحة نهاية العالم بصورة مرعبة، فماذا حدث؟

كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي وتصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة بينما يصفه الغرب بأنه غزو، قد شهد ارتفاع خطر حدوث مواجهة نووية إلى أعلى مستوياته منذ أزمة الصواريخ الكوبية، التي شهدها العالم قبل أكثر من نصف قرن.

كان الاتحاد السوفييتي السابق يشيد قواعد وصوامع للصواريخ النووية في كوبا وأرسلت الولايات المتحدة أساطيلها إلى السواحل الكوبية لاعتراض السفن والأساطيل الروسية التي تحمل المعدات والرؤوس النووية، وعاش العالم على أطراف أصابعه لعدة أسابيع، بلغت ذروتها في أكتوبر/تشرين الأول عام 1962، قبل أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق لتفادي الصدام النووي.

ماذا جاء في تقرير معهد ستوكهولم؟

بعد نحو ستة عقود كاملة من أزمة الصواريخ الكوبية، يعيش العالم أزمة أخطر تتمثل في الأزمة الأوكرانية، التي تحولت بالفعل إلى حرب هي الأكبر في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، أعادت وبقوة خطر الأسلحة النووية ومعها عاد “سباق التسلح النووي” لواجهة الأحداث مرة.

معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، وهو مؤسسة بحثية بارزة في مجال الصراع والتسليح، قال الإثنين 13 يونيو/حزيران إنه من المتوقع أن تنمو الترسانة النووية العالمية في السنوات المقبلة لأول مرة منذ الحرب الباردة، مضيفاً في سلسلة بحثية جديدة أن الهجوم الروسي على أوكرانيا والدعم الغربي لكييف أديا إلى تصعيد التوترات بين الدول التسع المسلحة نووياً في العالم، بحسب رويترز.

وعلى الرغم من انخفاض عدد الأسلحة النووية بشكل طفيف بين يناير/كانون الثاني 2021 ويناير/كانون الثاني 2022، قال معهد ستوكهولم إنه إذا لم تتخذ القوى النووية إجراء فورياً، فقد تبدأ المخزونات العالمية النووية في الارتفاع قريباً لأول مرة منذ عشرات السنين.

ولفريد وان مدير برنامج أسلحة الدمار الشامل التابع بمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، في الكتاب السنوي للمعهد للعام الجاري، قال إن “جميع الدول المسلحة نووياً تعمل على زيادة أو تطوير ترساناتها ومعظمها يزيد من حدة لهجته النووية والدور الذي تلعبه الأسلحة النووية في استراتيجياتها العسكرية”.

وقال معهد ستوكهولم إن العدد العالمي للرؤوس الحربية النووية تراجع إلى 12705 في يناير/كانون الثاني الماضي من 13080 في يناير/كانون الثاني 2021، وتم نشر ما يقدر بنحو 3732 رأساً حربياً وتم الاحتفاظ بوضع نحو ألفي رأس، كلها تقريباً مملوكة لروسيا أو الولايات المتحدة، في حالة تأهب قصوى.

والنادي النووي- أي الدول التي تمتلك أسلحة نووية- يضم 9 أعضاء، على رأسها روسيا والولايات المتحدة، وتمتلكان معاً نحو 90% من الترسانة النووية العالمية، تليهما الصين وفرنسا وبريطانيا، ثم باكستان والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية.

وبينما تعترف الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (روسيا والولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا) بترسانتها النووية، تظل الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل ضمن دائرة عدم الاعتراف الرسمي، رغم أن امتلاك سلاح نووي هو أمر يستحيل إخفاؤه بطبيعة الحال.

لكن على الرغم من أنه من المستحيل أن تُخفي دولة ما امتلاكها أسلحة نووية، لكن العدد الدقيق لما تمتلكه كل دولة من تلك الأسلحة القاتلة، التي قد يتسبب تفجيرٌ واحد منها في إفناء مدينة بأكملها، يُعتبر عملية صعبة للغاية، إن لم تكن مستحيلة أيضاً.

فحتى الأرقام التي تُصدرها الخارجية الأمريكية لا تكون شاملة لجميع أنواع الأسلحة النووية أو حالتها، مفعلة أو غير مفعلة، موجودة كاحتياطي استراتيجي في المخازن أم منصوبة داخل قواعد عسكرية، محمولة جواً على صواريخ باليستية أو طائرات أو موجودة على غواصات، وما إلى ذلك من طرق نشر الأسلحة المختلفة، كما يشكك كثير من الخبراء العسكريين الغربيين في مدى دقة الأرقام التي تُصدرها روسيا أو الصين، على سبيل المثال.

وإذا كان الوضع بهذا الغموض فيما يتعلق بالدول التي تعترف بأنها نووية، فما بالنا بالأربع (باكستان والهند وكوريا الشمالية وإسرائيل)، التي تعتمد سياسة الغموض، وترفض من الأساس وجود مراقبين من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمتابعة منشآتها النووية أو ترسانتها النووية.

عودة الحرب الباردة وتأثيرها على التسلح النووي

ستيفان لوفين رئيس مجلس إدارة معهد ستوكهولم الدولي ورئيس وزراء السويد السابق قال لرويترز إن “العلاقات بين القوى العظمى في العالم تدهورت أكثر في وقت تواجه فيه البشرية والكوكب مجموعة من التحديات المشتركة العميقة والملحة التي لا يمكن التصدي لها إلا من خلال التعاون الدولي”.

إذ إنه بعد عقود من جهود نزع الأسلحة النووية في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية، عادت جميع القوى النووية اليوم لتنفق الكثير من الأموال على الرؤوس الحربية النووية الجديدة والمنظومات الحاملة لها مثل الصواريخ أو السفن أو الغواصات أو الطائرات. وقال هانس كريستنسن، الخبير في معهد ستوكهولم: “إنهم جميعاً مشغولون جداً في تحديث ترساناتهم. الدول تعطي من جديد قيمة للأسلحة النووية”.

وأضاف كريستنسن لموقع دويتش فيله الألماني أن هناك دولة واحدة على وجه الخصوص تبرز في هذا المضمار: “لا أحد يزيد في عدد أسلحته النووية مثل الصين. نحن لا نعرف لماذا؛ لأنها ببساطة لا تريد الحديث عن ذلك. وهي لا تعلق على بناء الصوامع (منصات إطلاق الصواريخ)، التي تكون على الأرجح مخصصة لإطلاق الصواريخ الباليستية”. في العامين الماضيين، حدد كريستنسن حوالي 300 صومعة مبنية حديثاً في الصحاري الصينية على صور الأقمار الصناعية.

مخاوف أمريكية من استخدام بوتين للأسلحة النووية / رويترز

“ربما تخشى الصين ألا تنجو ترسانتها الحالية من ضربة نووية من جانب الولايات المتحدة. وربما ذلك رد فعل على حقيقة أن أنظمة الدفاع الصاروخي ستكون أكثر تطوراً في المستقبل وأن الصين تريد أن تكون قادرة على هزيمة مثل هذه الأنظمة بمزيد من الرؤوس الحربية، بحسب الخبير بمعهد ستوكهولم، مضيفاً أنه على أي حال، هناك شيء واحد مؤكد: الرئيس شي جين بينغ يريد جيشاً من الطراز العالمي مجهزاً بأحدث الأسلحة النووية”.

وفي الوقت نفسه تنفق الولايات المتحدة حوالي 10 مليارات دولار أمريكي سنوياً لتحديث قنابلها الذرية، كما أن ألمانيا تستثمر مليارات اليوروهات في موديل محدد من الطائرة الشبحية الأمريكية إف-35 مناسب لحمل الأسلحة النووية.

وحالياً تلتزم روسيا وأمريكا ببنود اتفاقية “نيو ستارت”، التي تضع قيوداً على الحد الأقصى من الرؤوس النووية لدى كل منهما، لكن هذه الاتفاقية ستنتهي عام 2026، وفي ظل تداعيات الحرب في أوكرانيا على العلاقات بين البلدين، يعتقد كثير من خبراء الأسلحة النووية أنه لن يتم تجديد اتفاقية “نيو ستارت”.

لعنة التطور العلمي والتكنولوجي

لكن ربما يكون التطور التكنولوجي الرهيب الذي تشهده البشرية سبباً في التقليل من الرعب المصاحب لاستخدام الأسلحة النووية، ومن ثم يرفع بدرجة مخيفة من احتمالات استخدامها، وليس فقط الاحتفاظ بها كرادع، وهو المبرر الذي يسوقه منتجو تلك الأسلحة البشعة طوال الوقت لتبرير الاحتفاظ بها، على الرغم من أهوالها التي ألصقت توصيف “أسلحة نهاية العالم” بها.

إذ إن المرة الوحيدة التي تم فيها بالفعل تفجير سلاح نووي كانت من جانب الأمريكيين ضد مدينتي هيروشيما ونغازاكي عام 1945 وتسبب ذلك في قتل عشرات الآلاف من اليابانيين بشكل مباشر وتدمير شبه كامل للمدينتين، مما أجبر اليابان على الاستسلام وانتهاء الحرب العالمية الثانية.

لكن تلك القنابل كانت قنابل ذرية، بينما شهدت الأسلحة النووية تطوراً ضخماً على مدار العقود الماضية، ونظراً للدمار الشامل الذي تحدثه فقد أصبحت فكرة الحرب النووية تشبه الذكرى البعيدة لزمن عانت فيه البشرية من الحرب الباردة بين حلفي وارسو بزعامة السوفييت والناتو بزعامة الأمريكيين.

لكن الآن ومع عودة سباق التسلح النووي للواجهة مرة أخرى، هناك عامل أكثر خطورة وهو التطور الهائل في تلك الأسلحة، وإنتاج ما يسمى السلاح النووي التكتيكي أي الرأس النووي الصغير، الذي يمكن استخدامه بالفعل.

فعلى سبيل المثال واعتباراً من عام 2023، سيتم استبدال القنابل النووية الأمريكية القديمة في قاعدة بوشل الألمانية بنموذج جديد من الرؤوس النووية لا يمكن توجيهه نحو هدف صغير ومحدد فحسب ولكن أيضاً يمكن التحكم في قدرة السلاح التفجيرية، وهو ما يعني خفض سقف الممانعة لاستخدام سلاح نووي كسلاح هجومي تكتيكي، بحسب المنتقدين للأسلحة النووية.

فلاديمير سولوفيوف، مقدم البرامج التليفزيونية والناطق بلسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال قبل أيام قليلة خلال برنامجه: “إذا سارت الأمور كما عليه الحال حتى الآن، فلن ينجو سوى عدد قليل من المتحولين في بحيرة بايكال (بحيرة كبرى في سيبريا). بقية العالم سوف يموت في ضربة نووية ضخمة”، بحسب تقرير موقع دويتش فيله.

وفي دولة كألمانيا، تسببت حرب أوكرانيا في تحول واضح في الرأي العام بشأن الأسلحة النووية، إذ أظهر استطلاع رأي للقناة الأولى في التلفزيون الألماني أن 52% من الألمان يؤيدون بقاء القنابل النووية الأمريكية في ألمانيا، بينما كانت النسبة في استطلاع رأي مماثل العام الماضي فقط لا تزيد عن 14%.

الخلاصة هنا أن أحد تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا يتمثل ليس فقط في عودة سباق التسلح النووي، الذي ربما لم يسمع عنه كثير من البشر المولودين بعد انتهاء الحرب الباردة إلا من خلال الأفلام الوثائقية، لكن أيضاً في ارتفاع مخيف في احتمالات الاستخدام الفعلي لتلك الأسلحة، والسبب التطور العلمي الذي حولها من رادع إلى سلاح هجومي تكتيكي.

———————-

إعادة تشكيل” المنطقة على وقع الأزمة الأوكرانية… هل ينجح بايدن ويتواضع بن سلمان؟/ أحمد ياسر

“هناك اجتماعات عُقدت خلال الشهور الماضية لبحث كيفية رسم رؤية جديدة للمنطقة”؛ بهذه الكلمات أعلن الملك الأردني عبد الله بن الحسين، عن وضع جديد سيشهده الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة، في مقابلة أجراها خلال زيارته للولايات المتحدة في أيار/ مايو الماضي.

وفي الشهر المقبل، سيزور الرئيس الأمريكي جو بايدن، المنطقة ومن المقرر أن يزور إسرائيل ويلتقي بقادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق في السعودية، وهو لقاء لا يمكن فصله عن كلام بن الحسين.

وجرت خلال الأسابيع الماضية زيارات أمريكية مكثّفة إلى السعودية والإمارات ومصر، كذلك سافرت وفود رفيعة المستوى من الرياض إلى واشنطن، وتشير التسريبات الصحافية إلى أنها لقاءات تتعلّق بأمن المنطقة.

ونقل موقع “أكسيوس” الأمريكي الشهر الماضي، عن ثلاثة مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين لم يسمّهم، أن اثنين من كبار مستشاري بايدن قاما بزيارة سرية إلى السعودية لإجراء محادثات حول ترتيب محتمل بين السعودية وإسرائيل ومصر، واتفاق لزيادة إنتاج النفط والعلاقات الثنائية بين واشنطن والرياض.

ما الذي يجري؟

يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، فراس الياس، لرصيف22، إن “جدول الأعمال الخاص بزيارة بايدن، يركز على السعودية وإسرائيل في سلّم أولوياته، كما أنه يمكن أن يشمل دولاً أخرى، وذلك حسب شمولية التصوّر الذي تحمله جولته، والترتيبات الأمنية التي تسعى إدارته إلى تشكيلها في المنطقة”.

في الوقت الراهن، تحتاج الولايات المتحدة من دول الخليج إلى ضخ مزيد من النفط والغاز حتى تهبط أسعار النفط عالمياً ويتراجع التضخم في الدول الغربية، وتالياً تعجز روسيا عن جني أي مكاسب من صادراتها، سواء من الغاز أو البترول.

في الوقت ذاته، بدأت روسيا تبيع كميات كبيرةً من النفط للهند والصين بأسعار مخفضة، وكلا البلدين يُعدّان من أكبر زبائن دول الخليج، ما يعني أن الأخيرة تحتاج إلى العودة إلى السوق الغربي الذي استحوذت عليه موسكو في السنوات الماضية.

وعليه، كلا الطرفين، الأمريكي والخليجي في حاجة إلى الآخر، لكن هناك أمور يعمل كافة الأطراف على حلها، أوّلها الملف الإيراني واستكمال مسار التطبيع مع إسرائيل والقضية الفلسطينية وملف حقوق الإنسان.

العودة إلى الخليج

يرى الكاتب الأمريكي ستيفن كوك، في مقال له نشره الأسبوع الماضي في مجلّة فورين بوليسي الأمريكية، أن “كلام الغرب عن تراجع أهمية النفط الخليجي لم يكن ادعاءً صحيحاً، إذ تبين خطأ هذه الحجة حينما اندلعت الحرب الأوكرانية واحتاجت واشنطن من الخليج مرةً أخرى توفير الغاز والنفط إلى حلفائها في أوروبا”.

وعليه، يقول المحلل السياسي السعودي عادل الحميدان، إن “زيارة بايدن تؤكد على أهمية العلاقات السعودية الأمريكية كخيار إستراتيجي بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية بعيداً عن الخطابات الحزبية والشغب الإعلامي”، ويضيف لرصيف22: “أعتقد أن الزيارة ستعيد هذه العلاقات إلى مسارها الصحيح، خاصةً أنها شهدت فتوراً منذ تولّي بايدن منصبه”.

من جانبه، يؤكد الياس أن “الزيارة تسلّط الضوء على طبيعة التحوّل الأمريكي في التعاطي مع قضايا المنطقة، بعد جفاء واضح، واهتمام بشرق آسيا والحرب في أوكرانيا، وتطورات خطيرة في الساحة الفلسطينية وتعثر المفاوضات مع إيران، بعد أن كانت هذه الإدارة تضع ضمن سلّم أولوياتها إنجاز اتفاق مع طهران”.

خيارات متبدلة

خلال السنوات الماضية، عملت الولايات المتحدة على فك الارتباط الإستراتيجي عن الشرق الأوسط، من أجل التركيز على الصين وروسيا، ما تسبب في تكلفة عالية لواشنطن، إذ لم تترك تحالفاً سياسياً أو أمنياً في المنطقة، خاصةً التحالفات التاريخية التي كانت تربطها مع دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية.

ومنذ وصول بايدن إلى سدة الرئاسة، فتحت ملفات حقوق الإنسان وملفات أخرى تتعلّق بمقتل الصحافي جمال الخاشقجي ومسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان فيها، كذلك أعيد فتح ملف هجمات 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، وبدا أن الإدارة الأمريكية تحاول الضغط على السعودية، أو أنها ترسم حدود العلاقة الجديدة معها.

برأي الأكاديمي الأردني أياد المجالي، الباحث في العلاقات الدولية والشؤون الايرانية، “الأدوات الدبلوماسية الأمريكية تريد احتواء الموقف وإعادة ضبط المشهد بما يحفظ مصالحها وإعادة تشكيل تحالفاتها في المنطقة، بمسوغ تخفيف تداعيات الأزمة الأوكرانية من خلال استخدام إستراتيجية حافة الهاوية والضغوط القصوى في التهديد والتصعيد مع الملف النووي الإيراني”.

ويضيف لرصيف22: “يريد الجانب الأمريكي تخفيف حدة الفراغ العسكري الذي شكله انسحاب القوات الروسية من سوريا وتزايد التمدد والتوسع لمخالب إيران في هذا الفراغ الذي تصفه مؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة وإسرائيل بأنه الخطر القادم من الشرق”.

المسارات المتعددة

ومن المحتمل أن يسوء الوضع في المنطقة لو اندلعت توترات جديدة وتطلبت تدخلاً عسكرياً أمريكياً للحفاظ على تدفق النفط أو منع تجدد الإرهاب العابر للحدود. هذا من شأنه أن يقوّض تماماً رغبة واشنطن في التركيز الإستراتيجي على بكين وموسكو، ويعرقل خططها في النمو الاقتصادي الداخلي.

يقول فراس الياس: “يدرك بايدن أن الالتزامات التي سبق أن التزمت بها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الفترة الماضية، لا يمكن لأي إدارة أمريكية أن تنسحب منها، لما لذلك من تداعيات مستقبلية خطيرة، خاصةً على مسارات التطبيع الخليجي الإسرائيلي”.

ويضيف: “هناك ملفات يدرك بايدن أهمية وضع نهايات حاسمة لها، قبل أن تستعيد روسيا والصين دورهما في الشرق الأوسط، أو حتى في إمكانية أن يتحول حلفاء الولايات المتحدة إلى الجبهة الأخرى، لو استمر الجفاء الأمريكي تجاههم، وفي مقدمتهم السعودية”.

وذكرت الصحافة الإسرائيلية، أن واشنطن تفكر في إنشاء تحالف يجمع دولاً عربيةً مع تل أبيب بدعم أمريكي، وعليه لن تترك الولايات المتحدة من دون ترتيب المنطقة وتتجنب سيناريوهات مستقبليةً سيئةً.

تفيد صحيفة هآرتس الإسرائيلية في تقرير لها في 2 حزيران/ يونيو الحالي، أن أحد الاتجاهات التنفيذية الرئيسية لبايدن سيكون تشكيل نظام دفاع إقليمي لمساعدة دول المنطقة على التعامل مع التهديد المتنامي من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز الإيرانية والطائرات من دون طيار.

لكن هذه الخطوة تحتاج على الأرجح إلى تطبيع بين إسرائيل والسعودية. ووفقاً لموقع أكسيوس الأمريكي، فإن إدارة بايدن تجري بهدوء محادثات بين السعودية وإسرائيل، إن نجحت قد تكون أولى الخطوات نحو التطبيع بين تل أبيب والرياض.

وفي السياق نفسه، غرّد رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم، حول الاجتماع المرتقب لقادة دول عربية مع بايدن، قائلاً: “أدعو لأن تضع الدول المشاركة في الاجتماع أجندة عمل تطرح بنودها بوضوح ومنها؛ أن تشمل الولايات المتحدة دول الخليج العربية تحت الغطاء النووي الذي توفره للعديد من الدول، وهذا مطلب طرحته دولنا سابقاً”.

التراجع عن الحياد

في السنوات القليلة الماضية، نجحت دول الخليج في بناء علاقات إستراتيجية مع الصين وروسيا في محاولة لخلق توازن في العلاقات، لكن لقاء بايدن سيكون تحت الأنظار لمعرفة مدى استعداد الرياض وأبو ظبي للتخلّي عن التوجه شرقاً.

وقالت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، إن الإمارات والسعودية أظهرتا كيف أصبحتا تنتهجان سياسات خارجيةً أكثر استقلاليةً وتعمقان علاقاتهما مع خصوم واشنطن في روسيا والصين.

ومع ذلك يحذر المحلل الأمريكي جورجيو كافييرو، الدول العربية من أن إدارة بايدن لا يمكن الوثوق بها، ويضيف لرصيف22: “لا أعتقد أن زيارة بايدن، التي يقال إنها ستتم في تموز/ يوليو المقبل، يُمكن أن تعيد تشكيل الشرق الأوسط بشكل أساسي”.

ويقول: “القيادة السعودية قلقة للغاية بشأن مقاربات إدارة بايدن في المنطقة، ولدي صعوبة في تخيّل زيارة واحدة قام بها رئيس الولايات المتحدة إلى الرياض أدت إلى تغيير تصورات الحكومة السعودية حول القيادة الأمريكية الحالية بشكل جذري”.

برأيه، “سيكون ذهاب بايدن إلى السعودية مهماً لجهود البيت الأبيض لتأكيد النفوذ الأمريكي في الخليج، لكني لا أرى أن هذه الزيارة ستؤدي إلى قيام السعوديين بتغييرات كبيرة في سياستهم الخارجية”.

انتظار التطمينات

يرى الياس أن “السعودية ستنتظر تطمينات المحادثات مع إيران ومخرجاتها، وتتحرك على أساس ذلك قبل الذهاب في أي تحالفات، أما العراق فأعتقد أنه سيكون ضمن اهتمامات هذه الزيارة، من دون محاولة الحصول على التزامات منه، لأسباب عديدة أبرزها وضع العراق السياسي والأمني المتأزم، وعدم وجود حكومة عراقية بصلاحيات كاملة”.

ومن المتوقع أن تداعيات الزيارة لن تقتصر فقط على عودة الخليج إلى واشنطن، لكن هناك انتكاسة يتوقعها العديد من الناشطين على صعيد التعبير عن أوضاع حقوق الإنسان والديمقراطية في المنطقة بعد لقاء بايدن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

نقلت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، عن معارضين سعوديين أنهم غاضبون لأن بايدن يخطط لأول زيارة رئاسية إلى السعودية، من دون أي إشارة إلى أي مطالب لتحسين أوضاع حقوق الإنسان في المملكة، أو المساءلة عن مقتل الصحافي خاشقجي.

ويتوقع الزميل الزائر في “المركز العربي-واشنطن”، دانييل برومبرج، أن محمد بن سلمان سوف “يستمتع باهتمام الرئيس الأمريكي الذي يحتقره حتى الآن والذي يتوق بالتأكيد إلى الاعتراف به”.

ويضيف في تقرير نشره المركز في 10 حزيران/ يونيو الحالي: “بصرف النظر عن مصالح محمد بن سلمان الخاصة، فإن الدبلوماسية الإقليمية للحكومة السعودية ستحصل أيضاً على دفعة كبيرة، وستكون خطوة التطبيع المحتملة بين السعودية وإسرائيل بمثابة ريشة ضخمة في قبعة بايدن، من شأنها أن تساعده على صرف الانتباه أو حتى إسكات الانتقادات في الكونغرس بشأن التقارب الأمريكي السعودي، بسبب ملف حقوق الإنسان”.

وقال بن سلمان، في مقابلة مع مجلة The Atlantic، نُشرت في 3 آذار/مارس الماضي، رداً على سؤال عما إذا كان الرئيس الأمريكي أساء فهم شيء ما عنه: “ببساطة لا أهتم”، مضيفاً: “الأمر يرجع له في التفكير في مصالح أمريكا”.

ووفقًا لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، فإن إدارة بايدن تتوسط بنشاط بين السعودية واسرائيل بهدف إعلان خطوات ثنائية يمكن أن تسهّل التطبيع في مرحلة لاحقة، من دون أي ذكر لأي تقدّم في القضية الفلسطينية.

يعتقد المجالي أن القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي لم يعودا من أولويات الأنظمة العربية وباتت مسارات السياسة الخارجية العربية ومنها السعودية تبحث في قضايا أمنها ومصالحها من دون مقاربة حقوق الشعب الفلسطيني ومواجهة التعصب والتعنت الصهيونيين.

————————–

مالم يقله كسينجر؟/ هدى سليم

من منظور الواقعية السياسية التي ترسخت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكردٍ على التوجهات المثالية التقليدية التي كانت تتمحور حول حلولٍ تُفضي لواقعٍ عالمي يسوده السلام والقيم الإنسانية بعد الحرب العالمية الأولى، يأتي كلام السياسي الأمريكي هنري كسينجر ورؤيته بضرورة تنازل أوكرانيا عن قطعةٍ من أراضيها مقابل لجم التوغل الروسي، ليكون عقلانياً من وجهة نظر البعض وتأكيداً على واقعية السياسي الشهير أو “استثنائيته” كما ذهب إليها البعض، حيث لمع نجمه في تطوير العلاقات الأمريكية الصينية وكذلك خلال الحرب الفيتنامية.

أما ردة الفعل الأوكرانية على هذا الغزو بقيادة الرئيس فولديميرزيلينسكي فأتت مثالية وبعيدة عن الحسابات السياسية، ليكون خيارها المقاومة، مُعليةً المبادئ والحقوق، ولتقول أنَه حتى لو لم تقف موازين القوى بجانب أوكرانيا فذلك لا ينكر عليها حقها في الدفاع عن سيادتها.

الواقعية السياسية هي الأساس الذي تبني عليه الدول الناجحة سياستها ضمن مجريات الأحداث الحاصلة، لكنها تبقى عاجزة عن إحداث تغييراتٍ كبرى تُفضي إلى حقبٍ تاريخيةٍ جديدة إن كان على مستوى المبدأ أو في الواقع، إذا إنَ الإيمان بمبدأ ما، هو القادر على ذلك، فهو الذي حرك الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز لاتخاذ قرار قطع النفط عن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إثر حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ومحاولة هنري كسينجر نفسه، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، إثناء الملك عن قرار القطع،قائلاً له: “إن طائرتي تحتاج للإمداد، ليرد عليه الملك: “وأنا أتمنى الصلاة في الأقصى”.

خيار المقاومة يأتي تحت مظلة الحقوق، حق الشعوب بالاستقلال وحق الدول بالسيادة، وإن تم تفسيره من منظورٍ سياسيٍ بحت فذلك يعني الانتقاص من أهمية فكرة الحقوق، والتي كانت سبباً بحد ذاتها عبر التاريخ إلى تغيير الوضع السياسي، إن كانَ داخلياً لدولة أو حتى العالمي، فأمريكا التي انتقل إليها السياسي كسينجر بعد ولادته الألمانية، بدأت ببناء دولتها بالمعنى الفعلي، بعد رفض سكان الولايات الأمريكية قرار الاستعمار البريطاني بفرض الضرائب على الشاي،المشروب الذي لا يحبه الكثيرون، وأنا منهم، ليكون ذلك الرفض شرارة الثورة الأمريكية (1965_1983)، وليكون على رأس نتائجها دستور الولايات المتحدة الأمريكية الحاكم المقدس لها، وفيها.

الدافع الذي انطلق منه هتلر وحتى بوتين الآن في غزوهم لدولٍ أخرى ومحاولة السيطرة عليها لم يعتمد على محاورَ ومعطياتٍ سياسية، بل أساسه الشعور بالظلم والإساءة من قبل الغير، كما يقولون !؟ ، تم توجيهه ليكون المبررَ لاستباحة سيادة الدول، أي أنَ الشعور الإنساني يبقى هو محرك الأفعال حتى السياسية منها، ولا يكفي واقع السياسة الدولية لتفسيره.

ستبقى الواقعية نظرية السياسيين المُعتمدة في اتخاذ القرارات، لتبقى المقاومة والإيمان بالحقوق خيار الشعوب والقادة، الذين يحلمون ببناء دولٍ ذات سيادة.

وصفُ زيلينسكي لكلام كسينجر “أنه يعيش في حقبة الـ 1938 ربما تجعله نتائجُ الغزو الروسي لأوكرانيا حقيقياً، فنشهد ولادة حقبةٍ جديدة لا تكون الدول العظمى هي المتحكمة، ولا يُتخذ القرار بناءً على حجم القوة، فالدول حتى لو تواضعت مقدراتها يبقى لديها القرار وخيار السيادة، لتعتمد الواقعية السياسية لتحقيق ذلك.

الناس نيوز

—————————

نظام الأسد وانحسار الخيارات بين الحضن الإيراني والروسي/ درويش خليفة

تشير معلومات عديدة عن توسع الميليشيات الإيرانية في مناطق مهين في حمص وسط البلاد، ومطار النيرب في حلب، بعد أن كان متنازعا عليه بين الجانبين الروسي والإيراني، بل وتتمدد إيران في شرق البلاد بمحيط مدينة الرقة، وقامت مؤخرا بإعادة تموضعها على الجغرافية السورية مستغلة انشغال الروس في معركتهم بأوكرانيا، وإيجاد حلول لهذه الورطة غير محسوبة النتائج.

وتبيّن معلومات متواترة أخرى، عن وصول قادة من الحرس الثوري الإيراني، إلى حمص، مثل مناع الحسين، وكرار حسن علي وثلاثة آخرين، وكذلك استيلائهم على ثلاثة أبينة ومدرسة في السخنة شرقي حمص بهدف إنشاء مربع أمني.

من جهته، واصل “حزب الله اللبناني” تعزيزاته إلى بلدة القريتين، وبحوزتهم أسلحة محمولة على الكتف، واتخذَّ عناصره من المدرسة الإعدادية في البلدة مقراً لها. إضافة إلى ذلك عزز الحزب تواجده في بلدة خان طومان بريف حلب الجنوبي، كما وصل القيادي العراقي عبد السيد الموسوي إلى جبل عزان في جنوبي حلب.

مما يؤكد أن إيران هدفها السيطرة على الطريق البري الواصل بين الحدود العراقية – السورية، الذي يمدّ النظام السوري وحزب الله بالسلاح والعتاد والقوة البشرية.

وبالنسبة لـ “إسرائيل” فهي تجد أن أي تحرك إيراني بالقرب من حدودها الشمالية يشكل مصدر قلق لها، وبالتالي سترَّد عليه، وخاصة بعد المعلومات التي تتحدث عن جلب إيران لطائرات مسيرة من نوع مهاجر 2، والتي يصل ارتفاعها قرابة 7 كلم، ويطيل بقائها في الجو لمدة 24 ساعة، وهو ما يقلق إسرائيل بالطبع.

توجه جديد أم استمرار لنهج سابق

بعد أن سردنا آنفاً تحركات الميليشيات الإيرانية والأذرع الموالية للحرس الثوري، يحذونا سؤالاً، هل ما يحدث هو جديد على تلك القوى، أم أنه جزء من استراتيجية بسط سيطرة إيران على سوريا ومقدراتها؟

يمكننا أن نلخص الجواب، عبرَّ مقارنة القوى البشرية المسلحة التي استقدمتها إيران وروسيا إلى سوريا، فالغلبة المطلقة وبنسبة كبيرة، هي للقوات الإيرانية. أما فيما يتعلق بإعادة التموضع لهذه الميليشيات دون مشاورة الروس، فقد يكون لمزيد من السيطرة الميدانية وليس لسدّ نقصٍ على الجبهات العريضة شبه الهادئة على مساحة الجغرافية السورية.

كما أن معارك البادية، التي كانت تقودها روسيا جواً والفرق العسكرية في جيش النظام غير المدربة بالمقارنة مع الشراسة القتالية لتنظيم الدولة “داعش”، لم يتم قطف ثمارها، لأن طبيعة المعركة مختلفة وبالوقت نفسه، كانت إيران تعارض أي نوع من هذه المعارك، حتى لا تخسر مزيداً من عناصرها، فقد ركزت خلال السنوات الماضية على استخدام الطائرات المسيرّة في البادية، لكن العدو ليس داعش، إنما من جاؤوا من أجل دحر التنظيم الإرهابي، وهم قوات التحالف الدولي، وخاصة “قاعدة التنف” التي تتحصن فيها القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية.

في هذا السياق، سبق أن كشفت مصادر محلية مطلعة، عقب الغزو الروسي لأوكرانيا عن “تراجع الضربات الروسية في سوريا، بسبب الحرب في أوكرانيا.” مبيناً أن “الأراضي السورية شهدت تراجعا لافتا وملحوظا في نشاط القوات الروسية بمختلف مناطق تواجدها، منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا” في 24 فبراير الماضي. وكذلك “تراجعا بالقصف الجوي الروسي على البادية، بمعدل تراجع 4 مرات عما كان عليه قبل الحرب الأوكرانية”.

الأسد بيدق في الرقعة الإيرانية

في أثناء كل تلك التحركات الإيرانية المريّبة، جاءت زيارة بشار الأسد إلى “طهران” لتأكد عمق العلاقات بين النظامين، وفي الوقت نفسه؛ إيصال رسالة لكل الطامحين بانتشاله من مخالب الخامنئي، مفادها بأنَّ العودة إلى الحضن العربي، لن يتعدى دائرة المساعدات الإنسانية، ووشاية مخابرات النظام على معارضي حكمه، وتحميلهم مسؤولية التطرف في الإقليم.

كما أن الأسد، يعلم جيداً أن انحسار دور أياً من حلفائه (الروس والإيرانيين) ليس في مصلحته، لذا كانت الزيارة لطمأنة مواليه وطلب زيادة المساعدات النفطية والغذائية.

وفي وقت خبو الدور الروسي بالمنطقة، وانفتاح بعض الدول الخليجية على رأس النظام السوري “بشار الأسد”، في محاولة لاستدراجه وتقديم المغريات التي من شأنها انتشاله من المحنة الاقتصادية، تقوم وبشكل متكرر الميليشيات الإيرانية والفرقة الرابعة في جيش النظام بقيادة ماهر الأسد، لإغراق دول الخليج والأردن بالمواد المخدرة وخاصة “الكبتاغون”.

ما يمكن قراءته، أن الأسد يستخدم برغماتية مطلقة في علاقته مع حلفائه الروس والإيرانيين من جهة ومع الدول العربية المطبعة معه من جهة أخرى، حيث كان وما يزال مستعداً لتقديم أي تنازلات في سبيل البقاء على رأس السلطة السورية، لذَّا إيران تريده مطيعاً خالصاً لها، كي لا تضعف أوراقها التفاوضية مع المملكة العربية السعودية.

ولا يفوتنا ما قاله الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” خلال استقباله الأسد، مذكراً إياه أنه “عندما راهن بعض قادة العرب وغير العرب في المنطقة على سقوط الحكومة السورية، إيران وقفت إلى جانبها هي وشعبها”، معرباً عن أسفه لأن “أجزاء مهمة من الأرض السورية ما زالت تحت احتلال القوات الأجنبية”.

سباق اقتصادي بين المحتلين

على صعيد التنافس الاقتصادي الإيراني – الروسي، في سوريا، عبرَّ التسابق في الاستحواذ على المزيد من المكاسب السورية، فهو يكمن في استثمار مطار دمشق الدولي وميناء بانياس على ساحل المتوسط، الذي يصل قاعدتها في طرطوس مع حميميم، وسحب ميناء اللاذقية من براثن الحرس الثوري الإيراني، كما فعلت الشركات الروسية بإجبار النظام السوري على نقض عقد الفوسفات مع شركات إيرانية تابعة للحرس الثوري في بادية تدمر وسط البلاد.

غير ذلك، هناك معلومات أولية عن أحياء الولايات المتحدة الأمريكية، للمشروع الذي نادت به واشنطن قبل عامين، وهو توحيد المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق سياسيا وعسكريا، بالتنسيق مع تركيا، وهو بلا شك سيضعف الدور الروسي والإيراني في سوريا. ويبقي أدوارهم محصورة في المنطقة الوسطى والساحلية، وبالتالي خسارتهم للمناطق النفطية والزراعية السورية، وهذا بلا شك يعيق مشاريعهم التي تعيد تأهيل بشار الأسد ونظامه مستقبلاً.

————————

الكنيسة الروسية تعتمر خوذة الحرب/ بسام مقداد

في السابع من الجاري تصدرت أنباء الكنيسة الروسية نشرات المواقع الإعلامية المتابعة ليوميات حرب بوتين على أوكرانيا. في هذا اليوم عقدت الكنيسة مجمعاً كنسياً برئاسة البطريرك كيريل، صدر عنه 3 قرارات مهمة: ضم 3 أبرشيات في القرم وجمعها في مطرانية واحدة، إنتقاد أشد لهجة من السابق لإعلان الكنيسة الأرثوذوكسية الأوكرانية الإستقلال الإداري عن الكنيسة الروسية، عزل رئيس قسم العلاقات الخارجية للكنيسة (وزير الخارجية) إيلاريون آلفييف من منصبه وتعيينه بطريركاً للكنيسة الأرثوذوكسية المجرية، حسب موقع الخدمة الروسية في  BBC.

قال الموقع بأن المجمع الكنسي السابق في 29 الشهر المنصرم تكرس كلياً ل”المسألة” الأوكرانية”. وقبل يومين من هذا الناريخ عقدت الكنيسة الأوكرانية مجمعاً كنسياً إتخذ قراراً بإستقلال الكنيسة التام عن الكنيسة الروسية. ووصف الموقع رد الكنيسة الروسية بالحذر، وجاء من مجمع كنسي استدعي على عجل. ورأى أن التغييرات في ميثاق الكنيسة الأوكرانية تتطلب الدراسة، لكنها تحتاج إلى موافقة البطريرك الروسي كيريل قبل أن تصبح نافذة. ويبدو أن الكنيسة الأوكرانية، وكما يُفهم من لهجة إعلانها، لم تعد مستعدة لتقديم التقارير إلى الكنيسة الروسية، بل والخروج نهائياً من بنيتها. فقد لاحظ الموقع أن متروبوليت الكنيسة الأوكرانية اونوفري، وفي عظة الأحد الأولى بعد المجمع الكنسي، ذكر البطريرك كيريل كما يذكر آباء الكنائس المحلية، ولم يصفه ب”السيد العظيم والأب”.

كان القرم يعتبر تاريخياً من الأراضي التابعة للكنيسة الأوكرانية، ولذلك لم يصدر عن الكنيسة الروسية أي إدعاء بتبعيته لها، حتى بعد ضمه إلى روسيا العام 2014. والبطريرك كيريل لم يحضر الإحتفال الكبير الذي نظمه الكرملين حينذاك بهذه المناسبة، حتى أنه لم يقم بزيارة القرم طوال تلك السنوات. وجاء قراره الذي استصدره من المجمع الكنسي الأخير مفاجئاً إلى حد كبير، وهو لم يضم 3 أبرشيات إلى الكنيسة الروسية فحسب، بل وجمعها في مطرانية واحدة تابعة لها. وإذا كانت الكنيسة الأوكرانية  سابقاً تعين وتزيح رعاة كنائس القرم، فقد اصبح الأمر الآن يتعلق بإرادة البطريرك كيريل شخصياً، وإن كان شكلياً عبر المجمع الكنسي، حسب الموقع.

أما في ما يتعلق بإبعاد “وزير خارجية” الكنيسة المتروبوليت إيلاريون ألفييف عن منصبه، يقول الموقع بأنه لم يفقد منصبه “الوزاري” فحسب، بل فقد أيضاً عضويته الدائمة في المجمع الكنسي ولم يحضر إجتماعه الأخير. كما فقد أيضاً رئاسة المعهد اللاهوتي “الأسبيرانتورا” (Phd) الذي ترأسه 13 عاماً. ويصفه الموقع بأنه من أكثر المقربين للبطريرك كيريل، ووضع سيرة حياته في السلسلة الأدبية التاريخية الروسية الشهيرة “حياة العظماء”، والتي تأسست أواخر القرن التاسع عشر وتوقفت بعد إنقلاب البلاشفة، وأعاد إصدارها أواخر ثلاثينات القرن الماضي مكسيم غوركي، ولا تزال تصدر حتى اليوم. تعيين إيلاريون قائماً على كنيسة المجر الأرثوذوكسية بدا وكأنه نفي، حيث الرعية الأرثوذوكسية المجرية ضئيلة العدد (أقل من 4 آلاف مؤمن).

الخبير بشؤون الكنيسة الروسية الذي تحدث إليه الموقع لا يستبعد أن يكون سيناريو إقصاء إيلاريون عن مناصبه وتعيينه في المجر بمثابة النفي له. وعلى الرغم من أن بوتين قلّده أحد أرفع الأوسمة الروسية مطلع شباط/فبراير المنصرم، إلا أنه لم يعبر ولا مرة عن  دعمه للحرب على أوكرانيا، بل كان يتحاشى ذكر الحرب في أحاديثه مع المؤمنين، وتجاهل كلياً التطرق إلى ما يحدث في أوكرانيا في برنامجه الديني على قناة التلفزة الروسية الرسمية.

موقع صحيفة mk. (كومسومولسكايا  برافدا) الأوكرانية نشر في 7 من الجاري نصاً بعنوان “طوال مدة “العملية الخاصة” كان المتروبوليت إيلاريون يجلس في الظل”. قال الموقع بأن المجمع الكنسي عزل إيلاريون من منصب رئيس قسم العلاقات الخارجية في الكنيسة وأرسله قائماً على أبرشية بودابست ـــــــــ المجر، وعين مكانه أنتوني الذي كان متروبوليت أوروبا الغربية.

موقع zona.media  الإلكتروني المعارض، والذي أطلقته أثنتان من الثلاثي النسائي  Pussy Riot الشهير بإقتحامه يوماً الكنيسة الرئيسية  في موسكو شبه عراة، وأدّين فيها أغنية على وقع موسيقى صاخبة أودت بإحداهن إلى السجن لمدة عامين. في 22 آذار/مارس المنصرم نشر نصاً بعنوان “بارك الحرب. كيف رد رؤساء الكنيسة على خطاب البطريرك كيريل المؤيد لغزو روسيا لأوكرانيا”. 

قال الموقع أن البطريرك كيريل أول مرة ذكر فيها الحرب كانت بعد مرور أربعة ايام على إشتعالها. وعبر يومها عن مخاوفه من أن تنتصر “قوى الشر” التي كانت دائماً تتربص بوحدة روسيا والكنيسة الروسية. لقد إرتسم بين روسيا وأوكرانيا خط تلطخ بدماء الإخوة، و”علينا” أن نصلي من أجل عودة السلام والعلاقات الطيبة الأخوية بين “شعبينا”.

وفي مطلغ آذار/مارس المنصرم، وفي عظته بمناسبة أحد الغفران، عاد كيريل وتوسع أكثر في الحديث عن الحرب، حيث قال “طوال ثماني سنوات تتواصل تجربة تهديم ما في الدونباس”. وفي الدونباس ثمة رفض “لما يسمى القيم التي يعرضها اليوم أولئك الذين يطمحون إلى السلطة على العالم”، أي عراضات المثليين، كما يراهم البطريرك.

في 22 نيسان/أبريل المنصرم أعلن الكرسي الرسولي إلغاء اللقاء بين البابا فرنسيس والبطريرك كيريل، والذي كان ينبغي أن يجري خلال الشهر الجاري في القدس،حسب الموقع الأوكراني unian. في مقابلة مع صحيفة أرجنتينية عبر البابا عن الأسف لإلغاء اللقاء، وذلك “لأن دبلوماسيتنا أدركت أن اللقاء الثنائي في هذا الوقت قد يؤدي إلى إرتباك كبير”.

وتشير الصحيفة الأرجنتينية، حسب الموقع، إلى أن فرنسيس هو البابا الأول الذي رغب في لقاء  بطريرك الكنيسة الروسية. فلا البابا يوحنا بولس الثاني، ولا البابا بنديكت السادس عبرا عن رغبتهما بلقاء بطريرك الكنيسة الروسية. ونقلت الصحيفة عن البابا وصفه الحرب بأنها مفارقة تاريخية ” anachronisme” يستحيل تبريرها. وعبر عن الأسف لعجزه عن وقف الحرب، أو التوصل إلى هدنة، أو ممر إنساني، وتساءل عن الفائدة من زيارة بابا روما إلى كييف “إذا كانت الحرب ستتواصل في اليوم التالي”.

اللافت، أن لا الموقع الأوكراني ولا وكالة نوفوستي أو سواهما من المواقع التي تحدثت عن إلغاء اللقاء بين البابا والبطريرك، تحدث عن رد ما للبطريرك الروسي على هذا الإلغاء الذي يخرق البروتوكول الدبلوماسي للفاتيكان.

الموقع الأوكراني الآخر LIGA نشر في 8 الشهر المنصرم نصاً  بعنوان “في الفاتيكان صُدموا ب”التشريع الديني” للحرب من قبل الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية”. نقل الموقع عن رئيس “المجلس البابوي لتعزيز الوحدة المسيحية” الكاردينال كورت كوخ قوله بأن علاقة الفاتيكان بالكنيسة الروسية تغيرت بشدة بسب هجوم روسيا على أوكرانيا. وفي مقابلة مع موقع كاثوليكي سويسري قال إن “التشريع الديني” لحرب روسيا  تهز “كل قلب مسكوني”، ولذلك “أنا سعيد” لإلغاء البابا فرنسيس اللقاء الذي كان من المقرر عقده في حزيران/ يونيو مع البطريرك كيريل. وأضاف الكاردينال أن اللقاء كان يمكن أن يساء فهمه، “لكن مع ذلك الحوار ينبغي أن يتواصل”. وأشار إلى أن بابا روما يود كثيراً أن تنتهي الحرب في أوكرانيا، ولذلك لن “يوصد الباب ” نهائياً للتواصل مع روسيا.

صحيفة الكرملين vz نشرت في 27 المنصرم نصاً بعنوان “الكنيسة الأوكرانية عجلت في سقوط أوكرانيا”. قالت الصحيفة بأن الكنيسة الأرثوذوكسية الأوكرانية المعترف بها من سائر العالم المسيحي، أعلنت إستقلالها عن الكنيسة الروسية التي كانت تعتبرها حتى الآن الكنيسة الأم.

المدن

—————————

كلمة السر بين تل رفعت وأوديسا/ عمر قدور

لم تبدأ العملية العسكرية التركية المرتقبة في الأسبوع الماضي، إلا أن التأكيدات على حدوثها في الأسبوع الذي يليه لا تقل عما سبق. ساعة الصفر قد تُعلن في أية لحظة، والاستعدادات العسكرية مكتملة حسب ما تشير إليه كافة التقارير الواردة من أنقرة، أو من مصادر في “الجيش الوطني” المدعوم منها. الوجهة الأولى للهجوم هي تل رفعت، وكان الرئيس التركي قد أشار إليها تحديداً، هي ومنبج التي ربما لم تُبرم بعدُ مع واشنطن التفاهمات النهائية الخاصة بها.

يُفترض أن يكون تصريح أردوغان قد أتى بناء على معطيات تسمح به، بمعنى تلقيه موافقة غير معلنة من واشنطن وموسكو، إذ من المستبعد أن يورط نفسه في تعهد لا يستطيع الوفاء به، خاصة وهو في مستهل سنة انتخابية استهلها مبكراً بإعلان ترشحه. في هذه الأجواء، زار وزير الخارجية الروسي أنقرة، وأبدى في مؤتمر صحفي عقب المحادثات مع نظيره التركي تفهماً لمخاوف أنقرة الأمنية، مع أنه لم يعلن موافقة بلاده على عزم أنقرة التحرك عسكرياً، وبالطبع لم يكن ذلك منتظراً منه في مؤتمر صحافي. للمصادفة، قبل يومين أبدى الأمين العام لحلف الناتو تفهماً مماثلاً لمخاوف تركيا من “الإرهاب”.

تركزت محادثات لافروف على ملفين، أولهما محاولة إعادة تصدير الحبوب عبر ميناء أوديسا، بضمانة من أنقرة التي تلعب دور الوسيط بين موسكو وكييف. الملف الثاني غير المعلن هو نية تركيا التحرك عسكرياً للسيطرة على تل رفعت، ومن المرجح حسب التصريحات القادمة من أنقرة، ومن قادة “الجيش الوطني” التابع لها، أن النقاش في هذا الملف كان مصيره أفضل من ملف تصدير الحبوب عبر أوديسا.

كأن فتح ميناء أوديسا مطلب لموسكو أكثر مما هو لأصحابه، بموجب ما ينطوي عليه من نزع الألغام البحرية التي تساعد في حماية المدينة من الهجوم الروسي. لكن مفاوضات أنقرة لم تربط بين الملفين على قاعدة أوديسا مقابل تل رفعت، وإن كان ما يربط بينهما باقياً، فالخدمة التي لم يقدّمها أردوغان لبوتين في أوديسا لا تزال مطلوبة ومنتظرة منه.

بتصويبه على تل رفعت ومنبج، يريد أردوغان قبض ثمن من موسكو وواشنطن، وهذا للوهلة الأولى يبدو شبه مستحيل، لأن العداء بينهما في الأوج كما لم يحدث منذ انتهاء الحرب الباردة، ويصعب تصور مقايضة ممكنة مع كليهما. من المتوقع على نحو واضح جداً وحاسم أن تطالب واشنطن بتغيير موقف أنقرة الرافض لانضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، وأن تشترط موسكو بقاء أنقرة على موقفها هذا لقاء التنازل لها عن تل رفعت.

لكن الأقرب إلى الواقع أن الرابط بين تل رفعت وأوديسا هو خارج تلك المقايضة المتصلة بحلف الناتو، ورغم الأدلة التي قدّمتها موسكو على أن وعودها ليست محل ثقة فقد يكون سعيها إلى فتح موانئ أوديسا صادقاً، أقله لأنها تريد فتح حركة الملاحة في البحر الأسود، مع مكسب معنوي ثانوي متصل بإبداء حسن النية إزاء البلدان المستوردة للقمح. إن صفقة تتضمن تصدير الحبوب من أوكرانيا لا بد أن تمنح الميزات ذاتها لروسيا، ومع أن الثانية ليست محاصرة عسكرياً أو تحت القصف إلا أنها محاصرة مالياً بحيث يصعب عليها إيجاد مشترين للحبوب الروسية.

أثبت الأوروبيون استعدادهم للتخلي سريعاً عن إمدادات النفط والغاز الروسيين، وهذا ما لم يكن في حسبان بوتين، وهو ما سيقرّب أزمة الاقتصاد الروسي الذي امتص صدمة الرزمة الأولى للعقوبات بفضل ارتفاع أسعار النفط. بمعنى أن موسكو باتت بحاجة أكبر إلى تصدير منتجات غير النفط مطلوبة من زبائن خارج الدول التي فرضت عليها العقوبات، وما يجب أن يلفت الانتباه الصمت الغربي الذي تضمن الموافقة على الوساطة التركية التي لن تتوقف عند صادرات أوكرانيا من أوديسا، وأكثر منه إعلان باريس عن استعدادها لدعم الفكرة التي أعاقها حتى الآن الرفض الأوكراني.

جدير بالتذكير أن أنقرة، من بين حكومات الناتو، لم تشارك في العقوبات على موسكو. ويجدر الانتباه إلى أن العقوبات على موسكو بمثابة فرصة لأنقرة كي تستفيد منها على الصعيد الاقتصادي، لا فقط السياسي أو العسكري، وبقدر ما هي الآن وفي المدى المنظور حاجة لموسكو بقدر ما يبدو ذلك مقبولاً أيضاً من واشنطن وحكومات الناتو والاتحاد الأوروبي التي لم تنتقد تخلف أنقرة عن المشاركة في العقوبات! من الاحتمالات التي لا ينبغي إهمالها أن تكون تركيا واحدة من سبل التفاف موسكو على العقوبات الغربية، وهذا قد يطول ما دامت حرب الاستنزاف الأوكرانية مستمرة.

إن مجمل المصالح المتبادلة بين أنقرة وموسكو المعاقَبة غربياً أهم للكرملين من مسألة انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، لذا لن تعيق الموافقة التركية على انضمامهما “عندما تحدث” شبكةَ المصالح الواسعة والمعقدة تلك. ومن المرجح أن تكون موسكو مستسلمة لفكرة انضمام الجارتين إلى الناتو، على الأقل في الوقت الحالي الذي تتعثر فيه من أجل قضم أراض أوكرانية كافية للإعلان عن تحقيق نصر يبرر الخسائر الفادحة.

في الجهة المقابلة، من الملاحظ أن تعزيزات قوات الأسد أتت بالتنسيق مع طهران وميليشياتها، وذلك يتضمن الفرقة الرابعة المقرَّبة من طهران. هذه التعزيزات قد تصعّب من مهمة الجيش التركي وفصائل المعارضة التي تعمل تحت تغطيته، إلا أنها لن تمنع أنقرة من الوصول إلى هدفها الذي أخذت الموافقة عليه. الحشد العسكري المضاد للهجوم التركي هو واجهة لاعتراض إيراني على تمدد المنافس الإقليمي التركي، بينما تتوالى الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا بموافقة روسية. إن مقاومةً إيرانيةً تتخطى المناورة والمساومة لن تكون اختباراً لأردوغان، بل ستكون اختباراً لنفوذ بوتين في سوريا!

قد لا تضيف الممانعة الإيرانية جديداً نوعياً، فمن طبيعة كافة التفاهمات التي أُبرمت في سوريا أن تنفيذها أتى بعد جولات من العنف الشديد. أما تصريحات بشار الأسد عن مقاومة الاحتلال التركي فهي من ناحية الشكل مشابهة لتصريحات صادرة عن الإدارة الذاتية تنادي بالتصدي المشترك مع الأسد للقوات المهاجمة، ومن حيث المضمون فإن ترجمة تصريحات الأسد هي المطالبة بحصة من مواقع قسد مقابل ما ستأخذه أنقرة. مرة أخرى، ستحجب المعركة المقبلة واقع أن قسد تدفع الثمن مضاعفاً، للطرف المهاجم، وللطرف الذي استنجدت به وخذلها.

المدن

——————————

خبر من دمشق/ معن البياري

أعلنت الجمهورية العربية السورية اعترافا بجمهورية دونيتسك الشعبية، ساعاتٍ بعد اعتراف روسيا رسميا بها (وبجمهورية لوغانسك الشعبية)، في فبراير/ شباط الماضي. وإذا صحّت معلومات صاحب هذا التعليق، فإن سورية وأوسيتيا الجنوبية، وحدهما (بالإضافة إلى روسيا طبعا) أشهرتا اعترافا بالجمهوريتين اللتين أعلنتا، من جانبٍ واحد، انفصالهما عن أوكرانيا. وقد قالت الرئاسة السورية، في بيانٍ في حينه، إن سورية مستعدّةٌ للعمل على بناء علاقات معهما وتعزيزها “في سياق المصالح المشتركة والاحترام المتبادل”. وجدّ، في الأسبوع الماضي، في هذا الموضوع، ما قد يؤكّد أن اعتراف حكومة دمشق هذا ليس كلام فضّ مجالس، وما قد يوحي، في الوقت نفسه، بأنه كذلك، فقد ترأس وزير الثقافة في دونيتسك، واسمُه ميخائيل جيلتياكوف، وفدا من جمهوريته، أدّى زيارةً إلى سورية، جال في أثنائها على مؤسساتٍ (وصروحٍ) ثقافيةٍ في دمشق، منها دار الأسد للثقافة والفنون واتحاد الكتّاب العرب، وبحث مع رئيس الاتحاد، محمد الحوراني، وأعضاء المكتب التنفيذي ومجلس الاتحاد، “آفاق توسيع العلاقات الثقافية والفكرية بين كتّاب سورية وكتّاب دونيتسك من خلال تبادل الزيارات والكتب والدوريات الثقافية، على ما أفادت وكالة الأنباء السورية (سانا). وذكرت الوكالة أيضا أن الحوراني أكّد “أهمية أن تكون هذه الزيارة نقطة انطلاقٍ لتعزيز العلاقات بين البلدين الصديقين، ليتم التبادل الثقافي في أرقى أشكاله بينهما”، فيما أبدى الوزير الضيف “حرصه على تطوير العلاقات الثقافية بين البلدين في شتى المجالات لافتاً إلى ضرورة الاهتمام بأدب الأطفال”.

ليس في انصرافٍ إلى خبرٍ كهذا، يكاد يكون بلا أي قيمة، تضييعٌ لوقتٍ كان في الوسع تمضيته في شؤون أرفع شأنا من معرفة ما هو عليه راهن العلاقات بين جمهورية بشار الأسد وجمهوريةٍ انفصاليةٍ في دونباس. ذلك أن القناعة عند صاحب هذه الكلمات أن أخبار الطرائف والفكاهة، بل والغرائب والعجائب، أوسع وأعرض من المنظور الذائع الذي يحصُرها في أنماطٍ وألوانٍ دون غيرها. وغالب الظن أن في زيارة وفد دونيتسك دمشق ما يتوفّر على بعض الطرافة، فأي أدبٍ للأطفال يشغل بال الوزير الضيف، ويجعله يلحّ على أهميته، في معرض حديثٍ مصطنعٍ عن “علاقاتٍ ثقافية” بين “البلدين”. أما ما قد يبدو وجها من أعاجيب خافيةٍ في الخبر فهو أن وكالة الأنباء السورية (الحكومية طبعا) لا تُخبر عن نشاطٍ رسميٍّ للوفد الرسمي الزائر، فلم تأت الوكالة على استقبال أي مسؤول حكومي سوري رفيع الوزير الضيف (ووفده)، بل لم يحظ الأخير باجتماعٍ مع نظيرته، وزيرة الثقافة السورية، لبانة مشوح. ثم إن الوكالة تأتي فقط على زيارة الزائرين أماكن أثرية، “بهدف التعرّف على الحضارة السورية” (بتعبير الوكالة)، وعلى لقاء في مقرّ اتحاد الكتّاب مع رئيسه ومجلسه ومكتبه التنفيذي، وعلى لقاءات مع أساتذة (وطلبة) معاهد عليا تتبع وزارة الثقافة.

ما هو سبب امتناع أي جهةٍ حكوميةٍ عن الاجتماع بوفد رفيع، برئاسة وزير، ولو من جمهوريةٍ انفصاليةٍ لا تحظى بعضوية الأمم المتحدة، وقد كان الكلام، من الرئاسة السورية ووزير الخارجية، عن اعترافٍ واستعدادٍ لإقامة علاقات تعاون. أم إن اجتماعاتٍ عقدت بين “الجانبين” الحكوميين، السوري والدونيتسكي (هل تجوز هذه النسبة؟)، ولم يجر الإعلان عنها، احترازا من أمرٍ ما؟ هل هو الاعتراف السياسي والدبلوماسي لم يكتمل بعد، في خطواتٍ بروتوكوليةٍ يلزم أن يجري الأخذ بها في قضايا كهذه، فتعذّر عقد أي لقاءاتٍ حكوميةٍ مع الوفد الثقافي القادم من جمهورية دونيتسك، مع الترحيب به ضيفا على تشكيلاتٍ أهليةٍ في البلد، ويجول في أماكن ومعالم ومتاحف وآثار في البلد؟ هل الاعتراف السوري الرسمي بالجمهوريتين المعلنتين من طرفهما، بإسناد روسيٍّ مشهورٍ ومعلن، مواربٌ، وليس دقيقا تماما، وإنما طرحته رئاسة بشار الأسد ووزارة فيصل المقداد بصيغة الباب الدوّار، فلا هو اعترافٌ مكتملٌ وصريح، ولا هو عدم اعتراف واضح؟ هل ثمّة ما يحترس منه الحكم في دمشق في هذا الشأن، فيصير حجّةً عليه إذا ما دارت دوائر، وأعلنت جمهوريات صغرى عن نفسها في سورية، كردية مثلا؟

هذه الأسئلة وأخرى غيرها إنما يفيض بها الخاطر كيفما اتفق هنا، وقد استدعاها خبرٌ طيّرته وكالة الأنباء السورية (هل أحدٌ يزور موقعها الإلكتروني؟)، خبرٌ لا قيمة فيه، سوى ما قد يصادِف فيه قارئه من أوجه غرابةٍ وطرافة .. وركاكةٍ من قبل ومن بعد.

———————–

إصلاح مطار دمشق:العقبات المتشعبة قد تحيله إلى التقاعد

تحدثت شخصيات معارضة سورية عن خلاف روسي-إيراني حول عملية إصلاح وترميم مطار دمشق الدولي الذي تعرّض للقصف من قبل الجيش الإسرائيلي فجر الجمعة.

وأوضحت تلك الشخصيات أن القصف الإسرائيلي استهدف رادار توجيه الطائرات روسي الصنع، في ظل رفض روسي للمشاركة في إصلاحه عبر فنييها إلا بمقابل كبير؛ وهو كفّ يد طهران عن السيطرة على المطار، وعجز إيراني عن إنجاز هذا الأمر بسبب العقوبات التي ترزح تحتها هي وحليفها النظام السوري، عدا عن الخبرات التقنية التي لا تمتلكها.

تخبط النظام

وربما تعكس حالة العجز والخلاف تلك، التصريحات الصادرة عن وزارة النقل في حكومة النظام التي تتجنب تحديداً دقيقاً لتاريخ الانتهاء من إصلاح ما خلّفه القصف. إذ لم تكد تنتهي مهلة ال48 ساعة التي حددتها الوزارة في بيانها الأول الذي أعقب القصف مباشرة، حتى عادت ببيان ثانٍ قالت فيه إن تعليق الرحلات الجوية القادمة والمغادرة سيستمر “حتى إشعار آخر”.

وظهر رئيس وزراء حكومة النظام حسين عرنوس الأحد، من داخل المطار المشلول والخالي تماماً إلا من بعض الآليات التي ظهرت وهي تعمل على ترميم الأضرار التي لحقت بالمهبط الرئيس، والتي لا تحتاج سوى لقليل من الوقت بحسب خبراء لإصلاحها، في حين تجنب عرنوس تحديد توقيت عودة العمل في المطار، معترفاً بتضرر بعض الأجهزة الفنية داخل المطار لم يكشف عن نوعها وأهميتها.

إيران ليست عاجزة..ولكن؟

وقال ضابط مهندس منشق عن النظام ل”المدن”، إن الحديث عن أن رادار توجيه الطائرات روسي الصنع “غير دقيق أبداً”، موضحاً أنه صناعة فرنسية حاله كحال جميع المطارات المدنية الموجودة في سوريا.

وأضاف المهندس، وهو متخصص في الاتصالات السلكية واللاسلكية بأحد المطارات العسكرية سابقاً، أن التأخير والتخبط في تحديد الموعد خلال التصريحات؛ يمكن إعادته إلى جملة من الأسباب أبرزها موضوع التمويل اللازم لشراء الأجهزة والمعدات البديلة عن تلك المتضررة، معتبراً أن التكلفة العالية يمكن أن تقف حاجزاً أمام النظام بشكل مبدئي، وكذلك الحال ينطبق على إيران، على اعتبار أن إيران قررت المساهمة بالعملية كونها المتسببة بالقصف، علاوة عن الاستفادة التي تجنيها على المستوى العسكري من المطار.

والحديث عن عجزٍ إيراني عن الإصلاح هو حديث “بعيد تماماً عن الواقع”، فإيران تمتلك البدائل عنها في مطاراتها المدنية في طهران ويمكنها الاستعاضة عن التالفة بسهولة، كما يمكنها الذهاب باتجاه تعويضها من البدائل المخصصة للمطارات العسكرية داخل سوريا، وهي تسيطر على عدد منها بطبيعة الحال، بحسب المهندس.

وتابع: “أما على مستوى الخبراء المتخصصين بهذا المجال؛ فطهران تجاوزت هذه المرحلة منذ زمن بعيد، ولديها الآن ثلة من المهندسين والخبراء الاكفاء للقيام بذلك”، ثم استدرك: “لكنها على ما يبدو تُحضّر لتوسعة جديدة للمطار على مستوى الحماية؛ تجنباً لعمليات قصف مستقبلية من قبل إسرائيل، وبعيداً عن إخفاء وتعقب حركة الملاحة لطائراتها لأن ذلك من الصعب جداً القيام به تقنياً وفنياً ومن السهل جداً اكتشافه”.

ضمانات روسية

وذهب الخبير والمحلل العسكري العميد فاتح حسون للتأكيد على كلام المهندس، لكنه رأى أن التأخير الحاصل يعود لسبب رئيس وهو “انتظار النظام ومن خلفه إيران للحصول على ضمانات روسية مبنية على تفاهمات مع إسرائيل بعدم استهداف المطار مرة جديدة وإخراجه من الخدمة كما يحدث الآن”.

وقال حسون ل “المدن”، إنه “بالمحصلة يمكن القول إن إيران قادرة على إصلاح المطار إلى جانب النظام بمعزل عن روسيا، لكن موسكو تريد الحصول على تنازلات معينة بالضغط على طهران عبر ورقة المطار، مقابل ضمانات”.

وهذه الضمانة التي تحدث عنها حسون هي بعيدة المنال، وحصول طهران عليها من ضروب المستحيل بحسب الضابط المنشق، بل ذهب الأخير إلى أبعد من ذلك بتأكيده أن موسكو “لن تمانع اقتلاع المطار من جذوره في المرة القادمة إذا دعت حاجة إسرائيل ذلك”.

وبيّن أن العلاقة بين موسكو وتل أبيب هي علاقة “استراتيجية عسكرية”، وإسرائيل لن تتوقف عن قصف المطار إلا بخروج إيران من سوريا، وهذا مستحيل الحدوث، أو التوقف عن شحن الأسلحة والمعدات العسكري عبره، ولفت إلى أن موسكو لم تتخلَ عن التفاهمات مع إسرائيل في سوريا على الرغم من التوترات التي شابت العلاقة بينهما على خلفية الحرب الأوكرانية، وهي القضية الأولى على سلم أولويات روسيا، فكيف بسوريا.

العقوبات سبب آخر

وربط حسون سبب التأخير الحاصل بالحاجة إلى الترميم الإلكتروني والكهربائي الناتج عن تضرر أجهزة ملاحة ورادار وهبوط آلي وغيرها من الأجهزة الروسية والغربية الصنع، وهذا يعني حاجة إيران والنظام لروسيا أولا وشركات وسيطة مع الدول الغربية ثانياً لإعادة هذه الأجهزة للعمل.

وعن الوجهات المحتملة التي يمكن الاتجاه نحوها للحصول على تلك المعدات والأجهزة الفنية من قبل النظام وإيران، أوضح الباحث والخبير الاقتصادي يونس الكريم أن لدى النظام وإيران وجهات متعددة لكن سيصطدمان بعوائق عديدة.

وقال الكريم ل “المدن”، إنه “في حال عدم امتلاك طهران لتلك البدائل وهو مستبعد، فالباب الأول الذي ستطرقه هو الصين بكل تأكيد، إلا أنها سترفض الطلب الإيراني ليس لنقص في التمويل وحسب، بل للحؤول دون تقديم ذريعة للولايات المتحدة والغرب لتعرض شركاتها للعقوبات بسبب سوريا وإيران الممنوعتين من استيراد المعدات المتعلقة بالمطارات والطائرات، بسبب العقوبات”.

كما ترى بكين أنه لا جدوى حالياً من الاستثمار في سوريا، وبناء على هذه السياسة فمن المستبعد أن تضع نفسها أمام هذه المخاطر الجمّة مقابل التوريد.

وأضاف الكريم أن الإمارات وجهة محتملة أيضاً للنظام عبر أمراء الحرب، لكن الإمارات سترفض حالياً بسبب الموقف السعودي الأخير. أما لبنان فعملية التفاوض مع صندوق الدولي ستقف بوجه تحقيق هذا الأمر، وكذلك لن يُقدم العراق، الوجهة الأخيرة لنظام دمشق، على المغامرة بالتوريد.

————————–

عالم ثنائي القطب بصيغة جديدة/ بسام يوسف

غالباً ما تُشكل المعلومات المبدئية – أي تلك التي تُكتسب في البدايات، وتحمل سمات القيم أو المبادئ الأساسية – إطاراً يُحدد علاقة الفرد بمحيطه في فترات حياته اللاحقة، ويزداد حضور هذه المعلومات وفعاليتها كلّما ارتبطت بالمقدس، وكلّما كان حضور المقدس كبيراً في هوية ومعتقدات الفرد، ولهذا غالباً مانستغرب ذلك التناقض الذي يقارب الفصام أحياناً بين وجهين للشخصية، وجه سياسي أو علمي أو تقني، ووجه مرتبط بسائد مقدس، أو آيديولوجي، في مواقف يكون التناقض أو التضاد حادا بين هذين الوجهين.

لا يُشكل حضور المعلومات المبدئية، والمقدس، أو الآيديولوجي إشكالاً على صعيد علاقة الفرد بمحيطه، وراهنه، ومستقبله فقط، بل إنه يَسِمُ وقد يُحدد على نحو أوضح علاقة شعوب ومجتمعات براهنها ومستقبلها، ويمكننا الذهاب لما هو أبعد من ذلك، عندما نحاول قراءة استراتيجيات دول كبرى في علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع دول أخرى، ونكتشف أن استراتيجياتها ترتكز في جانب مهم منها على استغلال الحمولات الماضوية لهذه المجتمعات.

في المجتمعات التي لا تزال حمولات ماضيها فاعلة في حاضرها، فإن احتمالات تدمير هذه المجتمعات لذاتها تزداد قوة، وغالباً ماتشكل هذه الحمولات بيئة مناسبة جداً للتدمير الذاتي، فالأديان، والمذاهب، والقوميات، والطوائف وما إلى ذلك من تصنيفات مشابهة، تصبح في زمن الفقر، والجوع، والقهر عاملاً فاعلاً في انقسام المجتمع على كل المستويات، وتُصبح كل هذه الحمولات بمثابة قنبلة موقوتة، قابلة للانفجار في أي لحظة.

هل يُمكن على ضوء ما سبق، اعتبار هذا العامل من العوامل الفاعلة في إدارة الصراعات الراهنة، وتحديداً في الصراع الذي نشهد تفاصيله اليوم، بأوجه متعددة في ساحات متعددة من العالم، ويتكثّف في عدة مناطق مشتعلة، أبرزها الحرب الدائرة في أوكرانيا، وفي سوريا وكامل منطقتنا، سواء في العراق، أو لبنان، أو اليمن، والعراق، أو في مناطق أخرى من العالم؟

تُعتبر الشيوعية في قراءتها للتاريخ، أن أي مرحلة من مراحل البشرية هي نتيجة تطور طويل وسلسلة من الثورات في أساليب الإنتاج والتبادل، وأن كل مرحلة من مراحل التطور التي مرت بها البشرية، يقابلها رقي سياسي مناسب، ويقابلها أيضاً تطور ثقافي وقيمي، تحتاجهما المرحلة الجديدة في تكريس هيمنتها على الاقتصاد، أي على أساليب الإنتاج والتبادل، ومن هنا ذهب فلاسفة شيوعيون كثر للحديث عن استنفاذ الرأسمالية لأدواتها، وعن أزمتها البنيوية الحتمية، ووصل الأمر عند بعض آخر للحديث عن نهاية التاريخ.

من جانب آخر ترى بعض وجهات النظر، أن الرأسمالية مضّطرة من أجل تجديد قدرتها على البقاء، أن تختلق الأزمات التي تضخ دماً جديداً في عروقها، وهذا ماقاله على سبيل المثال المنظر الشيوعي تروتسكي: “الرأسمالية تحيا بالتأكيد على الأزمات وفترات الازدهار الاقتصادي كما يحيا الكائن البشري على الشهيق والزفير”، وبالتالي فإن الصراع الذي يحتدم اليوم هو هدف أميركا، كونها الرأسمالية الأقوى، وأنها -أي أميركا-  ترى في إطالة زمن هذا الصراع، وتوسيع رقعته وانخراط قوى كثيرة في العالم فيه، كفيلاً بتحويل عدد كبير من الدول إلى دول فاشلة، الأمر الذي يهيئ لصياغة عالم جديد، تستعيد أميركا فيه هيمنتها على العالم.

ثمة اتجاه آخر، يرى أن مسار أزمة أي مجتمع أو دولة ما، لا يتحدد فقط بمدى الأزمة الاقتصادية أو العسكرية الحاصلة فيه على أهميتها، فهناك ماهو بالغ الأهمية أيضاً، وهو الذي يجعل من أميركا أكثر قدرة على تجاوز أزماتها، وعلى التحرك بديناميكية أكثر من مجتمعات أخرى، ومرد هذا إنّما يرتكز أساساً على كونها الدولة الأقل حمولة للماضي، فهي دولة حديثة، وماضيها غير عميق، ولا يوجد فيها موروثات فاعلة ترتكز على تصنيفات قومية، أو مذهبية، أو طائفية، بمعنى ليس لديها ثقل ماضوي، يُعيق من حركتها.

وإذا أردنا من هذه الزاوية قراءة أطراف الصراع الأخرى، سواء أوروبا أو روسيا أو غيرها فإن أوروبا، ورغم أنها، قطعت إلى حد ما مع حمولاتها الماضوية، فإنها لا تزال تتعثر أمام استحقاقات هذا القطع، ويتخوف مفكرون وسياسيون أوروبيون من بروز مؤشرات عديدة على استعادة تلك الحمولات لحضورها في المجتمعات الأوروبية، ويرون في صعود اليمين الأوروبي المرتكز في جوانب رئيسية من خطابه، على إنهاض هذه الحمولات، دليلاً على نكوص قد يغير على المدى المتوسط والبعيد من وجه أوروبا، الذي حاولت تكريسه بعد الحرب العالمية الثانية.

فيما يخص روسيا فإن المشكلة تبدو أكثر تعقيداً، فروسيا القوية عسكريا، والمتخبطة اقتصادياً، والحاملة لماض لا يزال فاعلاً بقوة في صيغتها السياسية، وفي شكل الدولة فيها، تحاول في معركتها استنهاض ماضيها، واستغلال حضوره في تهيئة المجتمع الروسي لمعركة طويلة.

لن أتطرق هنا إلى الصراعات الدائرة في منطقتنا، فهي عدا عن كونها انعكاساً لصراع مصالح الآخرين، ويتحدد مسارها ونتائجها بهم، إلا أن الأهم من هذا أنها صراعات يركّبها الآخرون دائماً على الصدوع والتشققات، الناتجة عن الحمولات الماضوية، الأمر الذي يجعل من حركة هذه المجتمعات معكوسة، وما يحصل من تقدم فيها ماهو إلا حاجة الآخرين لاستمرار مصالحهم.

إذاً، على مقياس حضور الحمولات الماضوية في الدول القائمة، يُمكن القول إن حركة هذه الدول ومجتمعاتها نحو المستقبل يتناسب عكساً مع قوة هذه الحمولات، وقدرتها على تقييد الدول، أو المجتمعات داخل محدداتها ومعاييرها.

هل يمكن القول إذاً إن الأزمات التي افترضها كثيرون على أنها نتيجة “حتمية” للرأسمالية، لا تتحدد فقط بالاقتصاد وتوزيعه، ومدى التفاوت الطبقي في مجتمع ما، بل لا بدّ من قراءة علاقة هذا المجتمع بحمولاته الماضوية، ومدى قدرته على تحييدها والإفلات من قيدها، وأن الرأسمالية قادرة على تجديد ذاتها عبر استثمار هذه الحمولات في صناعة أزمات داخل المجتمعات الماضوية متى أرادت

هل يُمكننا تخيل أن يعود العالم إلى قطبيته الثنائية، ليس من باب الاقتصاد والعسكرة، بل من باب الاختلاف بين رؤيتين تختلفان جوهرياً في علاقتهما بالفرد، رؤية ترى ضرورة تذويب الفرد في الجماعة، عبر المقدس أو الآيديولوجيا، ورؤية ترى ضرورة تأصيل الفردانية، وتحققها في الهيكل الهرمي للمجتمعات الحديثة.

تلفزيون سوريا

—————————-

تنافس القوى الكبرى على القيادة العالمية/ محمود علوش

على مدى العقدين الماضيين، برع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وضع نهاية للمواجهات التي خاضها مع الغرب بالطريقة التي يريدها. ففي عام 2008، شن حربا على جورجيا ونجح في فصل إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عنها بأقل الأضرار على روسيا. وبعد ذلك بـ 6 أعوام، دعم تمرد الانفصاليين الأوكرانيين في إقليم دونباس وضم شبه جزيرة القرم وفرض اتفاقيات مينسك الأولى والثانية على كييف بأقل الأضرار. أما في المعركة الجديدة التي أطلقها منذ 24 فبراير/شباط الماضي، فبدا أن بوتين عاجز هذه المرة عن صنع النهاية التي يريدها.

    أفرز الهجوم الروسي نتائج عكسية على صعيد المواجهة مع حلف شمال الأطلسي؛ فمن جهة، سرّع إعادة الحيوية للتحالف بين ضفتي الأطلسي بعد الأزمة التي مر بها خلال عهد ترامب. ومن جهة أخرى، يخطط الحلف الآن لضم فنلندا والسويد إليه

فهي لم تتحول إلى صراع استنزاف عسكري لروسيا في أوكرانيا فحسب، بل تطورت إلى صدام كبير مع الغرب على إعادة تشكيل قواعد الأمن الأوروبي السائدة منذ نهاية الحرب الباردة. كانت حسابات بوتين خاطئة على أكثر من صعيد؛ فمن جانب، أدى الإخفاق العسكري الروسي بفعل المشاكل اللوجستية الكبيرة وسوء تقدير قوة الجيش الأوكراني إلى تقليص قائمة الأهداف الروسية بالتركيز على شرقي وجنوبي أوكرانيا. ومن جانب آخر، لم يكن الردّ الغربي القوي ضد روسيا عبر العقوبات القاسية والانخراط في تسليح كييف متوقّعا -على ما يبدو- في موسكو قبل اندلاع الصراع.

علاوة على ذلك، أفرز الهجوم الروسي نتائج عكسية لبوتين على صعيد المواجهة مع حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO)؛ فمن جهة، سرّع إعادة الحيوية للتحالف بين ضفتي الأطلسي بعد الأزمة التي مر بها خلال عهد ترامب، ومن جهة أخرى، يخطط الحلف الآن لضم فنلندا والسويد إليه. كما تصدّر الأمن وزيادة الإنفاق العسكري أولويات معظم الدول الأوروبية ودفعتها للتخلي عن الروابط الاقتصادية العميقة مع روسيا التي كانت اتخذتها وسيلة لتكريس سلام ما بعد الحرب الباردة؛ فأوقفت ألمانيا، التي عززت في عهد ميركل إستراتيجية الانفتاح الأوروبي على روسيا، مشروع “نورد ستريم 2” (Nord Stream 2) لنقل الغاز الروسي إليها، في حين يبحث الأوروبيون عن سبل التخلّص من الاعتماد المطلق على الطاقة من روسيا. رغم أن الشكوك حول مستقبل الهيكل الأمني الأوروبي برزت بشكل متصاعد على مدى العقدين الماضيين، فإن الصراع الروسي الأوكراني جعل هذا الهيكل جزءا من الماضي.

قبل الحرب الحالية، كانت فكرة الصراع بين الشرق والغرب على إعادة تشكيل النظام الدولي تكتسب زخما إضافيا مع توجه التركيز الأميركي على احتواء الصعود الصيني في آسيا خلال العقد الأخير. وبالتوازي مع  تصاعد التنافس الأميركي الصيني بوتيرة متزايدة، فإن الاضطرابات الجيوسياسية الكبيرة في أوروبا الشرقية خلقت مناخا عالميا مستقطبا على نحو كبير.

تعمل الولايات المتحدة منذ أشهر على حشد العالم الغربي ضد روسيا، وتسعى -في الوقت نفسه- إلى الحفاظ على زخم إستراتيجيتها ضد الصين. لكن الحرب الروسية الأوكرانية خلقت تحديا لها على وجه الخصوص، ووضعتها أمام معضلة الموازنة بين الاستجابة الفعالة لمواجهة التهديد الروسي في أوروبا والحفاظ على التركيز طويل الأجل على الصين. كانت بكين وموسكو مُصنّفتين في الإستراتيجية التي وضعها البنتاغون منذ عام 2018 على أنهما مصدر قلق رئيسي للولايات المتحدة. وفي الإستراتيجية الجديدة، لا تزال الصين مصنفة على أنها خصم إستراتيجي طويل الأمد، بحيث يتم التركيز بدايةً على التنافس الصيني مع الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ثم على تدخلات روسيا داخل أوروبا.

وفي ظل أنه سيكون من المبكر التكهن بكيفية انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن النتائج التي أفرزتها على المشهد الدولي تتضح بشكل أكبر مع مرور الوقت بفعل التحولات الحادة والسريعة التي أحدثتها على السياسات الغربية على أكثر من صعيد. مع انخراط واشنطن بشكل فعال إلى جانب أوروبا في مواجهة التهديد الروسي، فإنها تسعى إلى تصوير الصراع الجيوسياسي مع روسيا في أوروبا والتنافس الجيوسياسي مع الصين في آسيا على أنهما صراع بين الشرق والغرب على القيادة العالمية.

لطالما نظرت روسيا -بقيادة فلاديمير بوتين- إلى نظام ما بعد الحرب الباردة على أنه نظام غير عادل يسعى لإبقائها هامشية في السياسات الدولية. وعلى الرغم من أن الصين لا تزال تقف على الحياد نسبيا في الصراع الروسي الأوكراني، فإنها تلتقي مع بوتين في تصور مشترك معاد للتفوق الغربي العالمي. بالنسبة لكثير من الدول الغربية، إن تخلي بكين عن الحياد مسألة وقت ومرهون بنتائج الحرب ويبدو ذلك واقعيا. فالنتيجة لن تحدد مستقبل روسيا بوصفها قوة عالمية فحسب، بل ستؤثر على دور الصين كذلك.

إذا استطاع بوتين حسم حربه في أوكرانيا لصالحه والصمود لفترة أطول في وجه العقوبات، فإن ذلك سيُشكل حافزا لبكين للتخلي عن حيادها والانخراط في دعم روسيا وكسر عزلتها الاقتصادية. يعتقد الغربيون أن فوز بوتين في الحرب وفشل سياسة الاحتواء الغربية لروسيا سيُشجعان الصين على غزو تايوان والانخراط بشكل أكبر مع روسيا وأطراف أخرى لإضعاف هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي. لذلك، فإن معركة بوتين في أوكرانيا تعد معركة للصين أيضا لإذلال الغرب، وفرصة لخلق نظام عالمي جديد تسوده قواعد مختلفة عن تلك التي كرّسها الغرب بعد الحرب الباردة.

على الرغم من أن سلاح العقوبات ضد روسيا شكل فرصة للغرب لاستعراض سطوته على الاقتصاد العالمي وأن الدولار الأميركي لا يزال يدير هذا الاقتصاد، فإن الغرب يعاني من أزمة عميقة؛ إذ إن شبح الركود يهدد معظم الاقتصادات الغربية بفعل التضخم الجامح والاضطرابات في أسواق الطاقة العالمية وتداعيات جائحة كورونا.

كما أن السياسات الداخلية الغربية باتت مستقطبة على نحو كبير؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يتصاعد التطرف السياسي على جبهتي اليمين واليسار، مما ينذر بتحولات كبيرة في المشهد الأميركي. كما تزداد شعبية مفاهيم كانت تعد محظورة حتى الآن، مثل الاشتراكية التي ما زال العديد من الأميركيين يرون فيها طيف الحرب الباردة. وفي أوروبا، تتصاعد الأحزاب اليمنية المتطرفة بشكل مخيف. على العكس من ذلك، لا يوجد مثل هذا الاستقطاب في روسيا والصين ويبدو ذلك مفهوما بالنظر إلى سطوة الدولة في البلدين على كل نواحي الحياة من السياسة إلى الأمن والاقتصاد وغيرها. كما أن قوة الاقتصاد الصيني تساعده في تجنب تداعيات أي عزلة غربية قد تفرض عليه على غرار العزلة التي تواجهها روسيا. وعلى مستوى القوة العسكرية، تعمل بكين منذ سنوات على تحديث ترسانتها العسكرية بشكل كبير.

رغم الوحدة التي أظهرها الغرب حتى الآن في مواجهة روسيا، فإن الاضطرابات التي تعصف بالاقتصادات الأوروبية ستسهم في صعود الأصوات المطالبة بإنهاء هذا الصراع بأي ثمن. الولايات المتحدة من جانبها تُحاول التكيف مع الوضع الجديد، لكنها تواجه معضلة إقناع دول كثيرة من العالم بالانضمام إلى معركة الغرب في الحفاظ على قواعد النظام العالمي الحالي، وكانت جولة الرئيس بايدن الأخيرة في جنوب آسيا خير مثال على ذلك؛ إذ لم يستطع إقناع الهند بالتخلي عن علاقتها الوثيقة مع روسيا. وفي أجزاء أخرى من العالم، تبدو الكثير من الدول راغبة في عزل نفسها عن هذا الصراع، إما لأن البعض منها أقام علاقات وثيقة مع روسيا والصين، أو لأن البعض الآخر لم يعد يثق بالشراكة مع الغرب. منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تصاعد الحديث عن مخاطر حرب عالمية ثالثة. اللحظة العالمية الراهنة تشبه إلى حد كبير حقبة الحرب الباردة؛ فمن جانب، تسعى واشنطن إلى حشد الديمقراطيات العالمية لمواجهة المحور الصيني الروسي. ومن جانب آخر، تعود مخاطر الحرب النووية لتصبح مركزية، فضلا عن ظهور كتلة كبيرة من الدول المحايدة في الصراع على غرار كتلة “عدم الانحياز”.

في حين أن أوروبا، على سبيل المثال، تتعاطى مع الصراع الراهن على أنه أعاد بالفعل إحياء حقبة الحرب الباردة من حيث التهديدات الروسية المتصورة وسياسات الإنفاق العسكري، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال ترى في الصين وليس روسيا أخطر منافس جيوسياسي لها في العالم. مع ذلك، تسعى إدارة بايدن إلى إحداث تحول عميق في البيئة الأمنية الأوروبية من خلال إعادة إحياء حلف الناتو وتوسيعه ودفع الأوروبيين إلى تحمل العبء الأمني الأكبر في الصراع الراهن، على عكس فترة الحرب الباردة.

كما تعمل على تشكيل تكتلات بين حلفائها في مناطق أخرى كالشرق الأوسط، لملء الفراغ الناجم عن تقليص الولايات المتحدة لالتزاماتها الأمنية ومواجهة مساعي روسيا والصين إلى تعزيز حضورهما في هذه المنطقة. في فترة الحرب الباردة، نجح الغرب في تحييد الصين عن الاتحاد السوفياتي، لكن بكين اليوم تنظر إلى التركيز الغربي على روسيا على أنه فرصة لها لتعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية. لقد أبلى الغرب بلاء حسنا حتى الآن في إظهار الوحدة، لكن استمرار هذه الوحدة غير مضمون وسيصبح مثار شكوك بمرور الوقت، ويراهن بوتين على ذلك بالفعل لكسب المعركة.

لم تعد حرب أوكرانيا صراعا روسيا غربيا على هوية هذا البلد فحسب، بل عززت صراع القوى العظمى على إعادة تشكيل النظام الدولي. إن هذا الصراع يأتي في ظل تحديات عالمية غير مسبوقة: على صعيد انخراط القوى العظمى في صراع غير مقيد بقواعد تحافظ على الأمن العالمي وتمنع عودة سباق التسلح النووي، أو على صعيد مخاطر الحد من التعاون بين القوى الدولية لمواجهة التحول المناخي وانتشار الأوبئة، فضلا عن مخاطر تزايد الاضطرابات الاقتصادية العالمية بفعل التنافس الجيوسياسي العالمي الحاد. سيكون من الحكمة الإقرار بأن القواعد العالمية التي سادت لعقود لم تعد قادرة على إدارة الوضع العالمي بعد الآن؛ ليس لأنها لم تحدث توازنا بين الشرق والغرب فحسب، بل لأن الصراع على جدوى بقائها من عدمه سيزيد من مخاطر الفوضى الجيوسياسية العالمية وسيجعل دولا كثيرة أخرى من هذا العالم -لا سيما الفقيرة منها- تعاني بشكل أكبر من التبعات الأمنية والاقتصادية لهذا التنافس ومن تداعيات تراجع التعاون العالمي على مستوى مكافحة تغير المناخ وسياسات الطاقة وانعدام الأمن الغذائي.

محمود علوش

باحث في العلاقات الدولية

———————-

حارس «أملاك» بطرس الأكبر/ غسان شربل

يحفر الحاكمُ القوي في التاريخ. ينقّبُ عن نبع، أو سيف، أو غطاء. فلاديمير بوتين يحفر. يبحث عن غلالة شرعية للانقلاب الكبير الذي أطلقه عبرَ الحريق الأوكراني. انقلاب على عالم القطب الواحد. على القوة العظمى الوحيدة سيدة الأساطيل. على الدولار أكبرِ جنرالاتها وأعنفِهم. على النموذج الغربي وجاذبيته. على الثورات الملونة والمجتمع المدني.

كان من الصعب على بوتين أن يستعيرَ شرعية انقلابه من ستالين أو لينين. يحتاج إلى جد أكثر التصاقاً بالروح الروسية وحلم الإمبراطورية. يمكن القول إنَّه عثر عليه. إنَّه بطرس الأكبر باني الإمبراطورية والبحرية الذي أخضعَ الأراضي المجاورة والبحار القريبة. يتلاعب سيد الكرملين بإرث أبرز نجوم التاريخ الروسي. يستعير منه طبعَ المحارب وروحَ الإمبراطور ويتنكّر لرغبته في التعلم من الغرب واستعارة أسباب التقدم منه.

لا تحتاج الحرب الروسية في أوكرانيا إلى ما يؤكّد خطورتها الاستثنائية. إنَّها حربٌ تشنّها دولة كبرى تمتلك علاوة على الترسانة النووية الهائلة مقعدَ العضوية الدائمة في مجلس الأمن. وهي أيضاً الدولة التي وُلدت من ركام الإمبراطورية السوفياتية وتتصرَّف منذ ذلك التاريخ بشعور المغبون والمجروح. ثم إنَّها حرب تدور على الأرض الأوروبية، ويتواجه فيها السلاح الروسي مع السلاح الأطلسي الذي يحاول إنقاذ الجيش الأوكراني من هزيمة ساحقة تدفعه إلى استسلام كامل. يضاف إلى ذلك أنَّها حرب تتضمَّن تحريك سلاحَي الطاقة والغذاء وتنذر بتجويع ملايين الأشخاص، وإطلاق أزمة اقتصادية عالمية. ولعلَّ العنصر الجديد الأخطر هو الأنباء الواردة من روسيا، والتي تفيد بأن إعجاب بوتين ببطرس الأكبر بلغ حدَّ الاندفاع في تنفيذ سياساته، وأنَّ المعركة ترمي إلى «استعادة» أملاك الإمبراطورية الروسية. وهذا يعني ببساطة أنَّ الحرب تتجاوز السعي إلى اقتلاع الميول الأطلسية من الروح الأوكرانية الحالية، لتصل إلى حد انتزاع أجزاء من الخريطة الأوكرانية. ويعني أيضاً أنَّ الرئيس فلوديمير زيلينسكي لا يواجه نزاعاً حدودياً أو عملية تأديب من جار قوي، بل إنَّه في مواجهة مع روح الإمبرطورية الروسية وإرث بطرس الأكبر.

في أي نقاش حول الحرب الروسية في أوكرانيا لا يصحُّ تجاهل مسؤولية الغرب. لقد تجاهل الغرب الذي استولى عليه غرور المنتصر، بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي «حقائقَ» روسية لا يصحُّ القفز فوقها. فهذه الدولة التي تعادل مساحة قارة، لا يحكمها إلا رجل قوي يستطيع تطويع الانشقاقات وضبط الحساسيات القومية والإثنية. ثم إنَّها دولة مصابة أصلاً بعُقدة الحصار، وتشعر بأنَّها كانت عبر التاريخ مستهدفة برياح الغزوات. وهي أيضاً تحمل تجاه أوروبا شعوراً يمتزج فيه الإعجاب بالتقدم بالخوف على خصوصية الهوية. وما لا يصحُّ تناسيه أيضاً أنَّ الإرث الإمبراطوري متجذرٌ في روح الشعب الذي يحنّ دائماً إلى روسيا العظيمة.

أساءَ الغرب التصرفَ مع روسيا المثخنة. لم يبلور تصوراً يستدرجها إلى الفضاء الأوروبي. فعل نقيض ذلك. حرك بيادق حلف «الناتو» باتجاه حدودها كأنَّه يدفعها إلى حجم قوة إقليمية وليست وريثة لدور الاتحاد السوفياتي. وارتكب الغرب خطأ آخر؛ توهَّم زعماؤه أن بوتين سيكتفي بترميم الجيش وحماية الاتحاد الروسي من التفكك، وسينصرف لعصرنة الاقتصاد مع التسليم بالقيادة الأميركية للعالم. ولا مبالغة في القول إنَّ الغرب لم يستطع التقاط الإشارات التي أرسلها «الكولونيل السوفياتي» في العقد الثاني من القرن الحالي، وأهمها تأديب جورجيا واستعادة القرم، والتدخل العسكري في سوريا، وإطلاق تدخلات «مجموعة فاغنر» في دول عدة. ولأنَّ الغرب لم يلتقط الإشارات كان من الصعب عليه تصور القوات الروسية تخوض حرب شوارع في مدن أوكرانية، ورؤية ملايين الأوكرانيين يهيمون هرباً من جيش القيصر الجديد.

للمرة الأولى تحدث بوتين كمن يكشف أوراقه بلا وجل. قال: «إنه أمرٌ مدهش، كأنَّ شيئاً لم يتغير. بطرس الأكبر خاض حرب الشمال على مدى 21 عاماً. يسود انطباع أنَّه خلال الحرب مع السويد استولى على شيء ما. هو لم يستولِ على أي شيء بل استعاد». وربما هذا ما كان يقصده سيد الكرملين حين عدّ أوكرانيا مجردَ كيانٍ مصطنَع. كان كلامُه قاطعاً وواضحاً. قال: «عندما أسّس (الإمبراطور) عاصمة جديدة في سانت بطرسبرغ لم يعترف أي من بلدان أوروبا بأنَّ هذه الأراضي تابعة لروسيا. كان العالم بأسره يعدها جزءاً من السويد». واستنتج: «كان بصدد الاستعادة والتدعيم. يبدو أنَّه يتعيَّن علينا حالياً أن نستعيدَ وأن ندعم».

كان الاعتقاد السائد هو أنَّ بوتين جاء لتنفيذ مهمة هندسها مطبخ الجيش والـ«كي جي بي» لاستعادة هيبة روسيا. ما يبدو الآن هو أخطر من ذلك. وصايا بطرس الأكبر أشدُّ هولاً من رغبات المطبخ العسكري والأمني. إنَّها تشدّد على ديمومة التهديد الروسي لفنلندا والسويد، وعلى إخضاع مناطق القوقاز والقرم والبلطيق وأوكرانيا. والسؤال هو: هل يستطيع العالم احتمالَ برنامج بهذا الحجم؟ وهل يستطيع بوتين الانسحاب من أوكرانيا، إذا كانت مجرد محطة في مسيرة أكبر وأخطر؟ وهل يستطيع الاقتصاد العالمي العيش طويلاً على نار المواجهة الروسية – الغربية؟

مسكينة أوكرانيا. لن يرسلَ أحدٌ جيشَه لوقف الجيش الروسي. ولن تستطيعَ الأسلحة الغربية منعَ بوتين من تسجيل انتصارات عسكرية. أوكرانيا ساحة لأوسع انقلاب يشهدُه العالم منذ انهيار جدار برلين. الخوف يتمدّد في العروق الأوروبية، والدول التي كانت مطمئنة تتحسّس ترساناتها وتطالب مصانعها العسكرية بالإنتاج بكامل طاقتها. خرج الكولونيل من عباءة بطرس الأكبر، وتجاهل إعجاب الإمبراطور بالتقدم الأوروبي مكتفياً بحرصه على توسيع الخريطة. خرج من العباءة وأطلق انقلاباً سيثير شهيَّات الدول التي تتبرَّم بخرائطها الحالية. التصريحات الصينية الأخيرة عن تايوان خيرُ دليل. مسكين زيلينسكي أيضاً. كلّفه مواطنوه دوراً مستحيلاً. كلّفوه مصارعة حارس «أملاك» بطرس الأكبر.

* نقلا عن ” الشرق الأوسط”

————————-

الاتحاد الأوروبي لتلفزيون سوريا: العودة الآمنة للاجئين السوريين لم تتحقق بعد

 تلفزيون سوريا ـ عبد الناصر القادري

قال “لويس ميغيل بوينو” المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، إن بروكسل ترى أن ظروف العودة الآمنة للاجئين السوريين لم تتحقق حتى الآن، مؤكداً أن الاتحاد ما زال محافظاً على سياسته تجاه اللاجئين، ضامناً حمايتهم على أراضيه.

وأضاف “لويس بوينو” في حديث خاص مع موقع “تلفزيون سوريا” أن العقوبات الأوروبية ضد النظام السوري عزلته دولياً، وقائمة العقوبات تحدث دورياً بما يتوافق مع تطورات الأوضاع على الأرض”.

وأشار الدبلوماسي الأوروبي إلى أن روسيا استخدمت في أوكرانيا  التكتيكات ذاتها العسكرية التي استخدمتها في سوريا لتحقيق مصالحها من دون أيّ اعتبار للمدنيين والبنى التحتية المدنية.

وبخصوص العملية العسكرية التركية المرتقبة في شمال سوريا، أكّد بوينو أن “الاتحاد الأوروبي يحث على ضبط النفس. إذ ينبغي معالجة مخاوف تركيا الأمنية عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية، وليس بالعمل العسكري”.

حوار موقع “تلفزيون سوريا” كاملاً مع “لويس ميغيل بوينو”:

1- هل استغلت روسيا نفوذها العسكري والسياسي بالملف السوري لتعويض فشلها في غزو أوكرانيا؟

على الرغم من اختلاف النزاع في سوريا عن ذلك الدائر في أوكرانيا، ثمة أوجه تشابه بينهما. ما نراه هو أن روسيا تستخدم التكتيكات عينها في كل من البلدين لتحقيق أهدافها العسكرية.

في سوريا، كانت روسيا إحدى القوى الخارجية المتعددة التي تدخلت في النزاع. وقد دعمت النظام السوري عبر استخدام الأسلحة المدفعية بلا رحمة ومن دون أيّ اعتبار للمدنيين والبنى التحتية المدنية، وهذا أيضاً ما فعلته روسيا في أوكرانيا. لكنّ روسيا هي المعتدية الوحيدة في ذلك البلد. وهي تحارب حكومة منتخبة ديمقراطياً وترتكب جرائم مماثلة لتلك التي ارتكبها النظام في سوريا.

وفي سوريا، حاول الاتحاد الأوروبي الضغط على النظام -عن طريق العقوبات والعزلة الدبلوماسية- بغية وضع حد للعنف والقمع. أما بالنسبة لأوكرانيا، فنرى أن روسيا قد أعادت الحرب إلى القارة الأوروبية، مما يشكل تهديداً لمشروع الاتحاد الأوروبي. لكنّ رد فعلنا كان أيضاً غير مسبوق. وقد استخدمنا الأدوات عينها – أيّ العقوبات والعزلة الدبلوماسية – وسوف نستمر في الضغط على الكرملين لإيقاف عدوانه.

2-  ما الذي خسرته الدول الأوروبية من عدم كبح جماح روسيا في سوريا والذي انتقل إلى أوكرانيا خلال الأشهر الماضية؟

لا أعتقد أن روسيا غزت أوكرانيا لأنّها شعرت بالقوة في سوريا. في الواقع، لا أحد يعلم فعلاً الأسباب الحقيقية لهذا الغزو. فقد قدّم الروس أعذاراً مختلفة، قائلين إن الأوكرانيين نازيون جدد أو أنهم يرتكبون إبادة جماعية ضدّ مواطنين روس أو أنهم على وشك استخدام أسلحة بيولوجية.

لقد زعمت روسيا كل تلك الأسباب لإخفاء هدف احتلال الأراضي بالقوة. وهذا ما رأيناه في الأشهر الماضية. فروسيا تقوم فعلياً بالاستيلاء على أراضي جارتها بالقوة العسكرية. ويمثل ذلك تحدياً كبيراً للأمن العالمي،

وأيضا تحدياً كبيراً للأمن الأوروبي. دعونا لا ننسى من أين بدأت الحربان العالميتان الأكثر تدميراً. هل بدأتا في العالم العربي؟ كلا، لقد بدأتا في أوروبا، بين القوى الأوروبية.

البرلمان الأوروبي يشيد باستضافة تركيا للاجئين ويدين وجودها العسكري شمالي سوريا

3- ما موقف الاتحاد الأوروبي من العملية العسكرية التركية في شمال سوريا؟

تُعد تركيا شريكاً رئيسياً للاتحاد الأوروبي ولاعباً بالغ الأهمية في الأزمة السورية والمنطقة. وفي هذا الصدد، يثني الاتحاد الأوروبي على تركيا لدورها الهام كبلد مضيف للاجئين السوريين ولتأييد وقف إطلاق النار في إدلب.

ويحث الاتحاد الأوروبي على ضبط النفس. ينبغي معالجة مخاوف تركيا الأمنية عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية، وليس بالعمل العسكري، وفقاً للقانون الدولي الإنساني.

ولا يمكن ضمان حل مستدام للأزمة في سوريا إلا من خلال انتقال سياسي حقيقي بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254 وبيان جنيف للعام 2012 الذي تفاوضت عليه الأطراف السورية في إطار عملية جنيف التي تيسرها الأمم المتحدة. ويبقى الاتحاد الأوروبي ملتزماً بوحدة الدولة السورية وسيادتها وسلامة أراضيها.

4-  تحاول تركيا إنشاء منطقة آمنة وإرسال مليون لاجئ طوعياً إليها، ما موقف الاتحاد الأوروبي من ذلك، وهل تدعم بروكسل مالياً أو سياسياً الخطوة التركية؟

لم يتغير موقف الاتحاد الأوروبي من ملف عودة اللاجئين إلى سوريا. ويدعم الاتحاد الأوروبي عمل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وتقييمها الحاليين، فلديها ولاية واضحة لحماية اللاجئين ودعم الحلول المستدامة لقضيتهم، بما في ذلك العودة الطوعية إلى الوطن، عند الاقتضاء.

ويحق لجميع السوريين العودة إلى ديارهم، لكننا نعتبر، بناءً على تقييم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بأن هذه الظروف لم تتحقق بعد. فالمطلوب أولًا هو تهيئة الظروف لعودة آمنة وطوعية وكريمة للاجئين والنازحين داخلياً، وذلك وفقاً للقانون الدولي ومبدأ عدم الإعادة القسرية. وسوف يقوم الاتحاد الأوروبي بدعم عمليات العودة التي تيسرها الأمم المتحدة في الوقت المناسب، متى توفر الظروف لذلك.

 5- هل ما زال هناك تنسيق بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بما يخص الملف السوري وأزمة اللاجئين؟

منذ بداية النزاع، يعمل الاتحاد الأوروبي عن كثب مع الدول الأعضاء فيه والأمم المتحدة والدول الأخرى المتفقة في الرأي معنا، ولا سيما المملكة المتحدة، من أجل التوصل إلى حل سياسي للنزاع في سوريا ومسألة اللاجئين. ولا يزال هذا هو الحال.

تلفزيون سوريا

 ——————

——————————

حرب الولايات المتحدة في أوكرانيا/  محمود عبد الهادي

الجزء الأول

(1) التحضير للمعركة

100 يوم مرت على بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط الماضي، والذي تسبب حتى الآن في أكثر من 46 ألف قتيل، و13 ألف جريح، وتدمير أكثر من 2200 مبنى، وخسائر في الممتلكات تزيد عن 600 مليار دولار، إضافة إلى نزوح وتهجير حوالي 14 مليون إنسان، أي حوالي ثلث السكان البالغ عددهم حوالي 44 مليون نسمة قبل الحرب. يتابع العالم، بكثافة شديدة، تفاصيل الحرب اليومية في وسائل الإعلام، بطريقة حجبت عنه رؤية الحرب الحقيقية التي بدأت في أوكرانيا، حرب الولايات المتحدة للسيطرة والتفوق، حرب لم تبدأ لتنتهي في بضعة أشهر أو سنة أو سنتين، بل ستستمر لعدة سنوات حتى تحقق الولايات المتحدة أهدافها منها. فهل ستتمكن من تحقيقها؟ أم ستنفلت الأمور، وتتجاوز حساباتها، لينزلق العالم إلى هاوية سحيقة، تعلن بداية دورة جديدة من دورات الحياة على هذه الأرض؟

كذب أم خديعة؟

في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، حدد الرئيس الأميركي جو بايدن المرتكزات التي ستقوم عليها سياسة إدارته في القضايا الدولية التي تتعارض كليا أو جزئيا مع الولايات المتحدة، هذه المرتكزات أكد فيها على: الشراكة والدبلوماسية والاحتواء والتفوق، الشراكة لإغراء الدول الكبرى بالدخول في خطة تحويل العالم، والدبلوماسية للالتفاف على الخلافات المزمنة، والاحتواء لتجاوز المشكلات التي يمكن أن تعيق الخطة، إضافة إلى التفوق الاستثماري والتكنولوجي والعسكري، لتأكيد القدرة العسكرية على التدخل عند الضرورة.

وانطلاقا من هذه المرتكزات، قال الرئيس بايدن “بدلا من الاستمرار في خوض حروب الماضي، فإننا نركز على التحديات التي تعتبر مفتاح مستقبلنا الجماعي ونكرّس مواردنا لها وهي: إنهاء هذا الوباء (كوفيد-19)، والتصدي لأزمة المناخ، وإدارة التحولات في ديناميات القوة العالمية، وتشكيل قواعد الطريق بشأن القضايا الحيوية مثل التجارة، والفضاء الإلكتروني، والتكنولوجيات الناشئة، ومواجهة خطر الإرهاب”، معلنا بداية “عهد من الدبلوماسية التي لا تلين”، قائلاً “ثمة حقيقة أساسية للقرن الحادي والعشرين داخل كل بلد من بلداننا، بوصفنا مجتمعا عالميا، وهي أن نجاحنا مرتبط بنجاح الآخرين أيضًا، ويجب علينا أن نشارك العالم مشاركة عميقة، ولضمان مستقبلنا يجب أن نعمل مع الشركاء الآخرين، شركائنا من أجل مستقبلنا المشترك، فأمننا وازدهارنا وحرياتنا ذاتها مترابطة بشكل لم يسبق له مثيل. وهكذا، يجب أن نعمل معا بشكل لم يسبق له مثيل”.

حديث بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعث الأمل لدى دول العالم بقرب إنهاء الحروب والنزاعات المشتعلة في العديد منها، فلماذا أدار بايدن ظهره لهذه التعهدات في تعامله مع الأزمة الروسية الأوكرانية؟ لماذا خالف سياساته التي تعهد بها على الملأ؟ لماذا تخلى بهذه السرعة عن “الدبلوماسية التي لا تلين”؟ لماذا صعّدت الولايات المتحدة من خطابها، وحشدت خلفها الحلفاء والشركاء، ودفعت باتجاه تركيع الرئيس بوتين وإخضاعه لمطالبها، دونما اعتبار لمطالب روسيا ومصالحها؟ لماذا انحازت إلى خيار الحرب رغم قدرتها على تجنبها؟ هل كان خطاب بايدن لزعماء العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة نوعا من الكذب والخداع؟

منذ بداية الحرب بدا واضحا أن قرار الحرب أميركي قبل أن يكون روسيا، وأن الولايات المتحدة هي التي هيأت للحرب، وسارعت إلى دعم أوكرانيا وتعزيز قدراتها الدفاعية والقتالية قبل 6 أشهر على بدء الهجوم الروسي، حسب تقارير وزارة الدفاع الأميركية، وأن الولايات المتحدة كان بإمكانها منع الحرب ولم تفعل، وأن الولايات المتحدة أصرت على مطالب تعجيزية من روسيا لتضطرها إلى خيار الحرب، وأن الولايات المتحدة أغرت الحكومة الأوكرانية الموالية لها أصلاً، وحثّت حلفاءها وشركاءها في الغرب والعالم على مساندة أوكرانيا في موقفها، وإقناعها بأن العالم يقف معها، وأن الولايات المتحدة تعرف تماما أن هذه الحرب ليست حرب أيام أو شهور، وأن أوكرانيا والشعب الأوكراني سيدفعون فيها ثمنا باهظا، لن يجنوا من ورائه سوى الموت والخراب، وأن الولايات المتحدة، القطب الوحيد في العالم اليوم، لا ترى الدول الصغيرة، وهي تخوض معارك السيطرة والتفوق، وتجاربها في ذلك عديدة، وأكثر شهرة من أن نعددها، وأنه كما كان قرار الحرب أميركياً، فإن قرار إيقاف الحرب قرار أميركي كذلك.

وطبيعي أن يبرز هنا السؤال الجوهري: لماذا تحتاج الولايات المتحدة إلى هذه الحرب؟

المنافسة الإستراتيجية وليس الإرهاب

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية سنة 1991، اختفى القطب الشرقي لتنفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم الذي صار أحادي القطب، بعد أن كانت في سباق تنافسي محتدم مع الاتحاد السوفياتي، ساخنا تارة، وباردا تارة أخرى، وأصبح همها الأكبر كيف تقود العالم؟ وكيف تحافظ عليه في قبضتها؟ وكيف تحقق التفوق المطلق، وتمنع المنافسين المتطلعين إلى القطبية من الوصول إليها؟

وتحت شعارات حماية الشعب الأميركي، والدفاع عن مصالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، ونشر الديمقراطية، ومحاربة الاستبداد، وتعزيز المساواة وحقوق الإنسان، خاضت الولايات المتحدة منفردة مع حلفائها عدة حروب على مدى العقود التالية لانهيار الاتحاد السوفياتي، وساندت أو أيدت العديد من الصراعات، أو أطالت أمدها وهي تملك القدرة على إيقافها.

وكان على الولايات المتحدة، كي تحافظ على زعامتها للعالم، أن تخوض حربا إستراتيجية شرسة على منافسيها في المجالات التالية:

    إدارة النظام العالمي وتطويره، والتحكم في مؤسساته، لضمان الهيمنة على قراراته، وفرض الخطط التطويرية اللازمة.

    ربط العالم بمنظومة فكرية واحدة، تتحكم في إدارتها وتمويل مشروعاتها.

    التفوق الاقتصادي، الذي يضمن التحكم في حركة الاقتصاد العالمي، والإنفاق على أعباء القطبية الأحادية، السياسية والعسكرية والتنموية، لدول الحلفاء والشركاء ودول الهامش.

    التفوق العسكري في أوسع معانيه، زمانيا ومكانيا وتكنولوجيا، إضافة إلى الأنظمة والإعداد والجاهزية، والقدرة المطلقة على الحسم وتحقيق النصر.

    التفوق التكنولوجي، الذي يعزز التفوق العسكري والاقتصادي والصناعي، ويدعم برامج السيطرة والتحكم.

وقد عبّرت إستراتيجية الدفاع الوطني للولايات المتحدة لعام 2018 عن الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة بقولها: “اليوم، نحن نخرج من فترة ضمور إستراتيجي، مدركين أن ميزتنا العسكرية التنافسية آخذة في التآكل. إننا نواجه اضطرابًا عالميا متزايدًا، يتميز بانحدار النظام العالمي، مما يخلق بيئة أمنية أكثر تعقيدًا وتقلبا من أي بيئة عشناها في الذاكرة الحديثة. فالمنافسة الإستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشغل الشاغل للأمن القومي للولايات المتحدة”.

أما إستراتيجية الدفاع الوطني للولايات المتحدة لعام 2022، الصادرة أواخر مارس/آذار الماضي والمصنّفة سرية حتى الآن، على عكس نظيرتها لعام 2018، فقد حددت في ملخصها التعريفي المنشور أولوياتها على النحو التالي:

    الدفاع عن الوطن.

    ردع الهجمات الإستراتيجية ضد الولايات المتحدة والحلفاء والشركاء.

    ردع العدوان، مع الاستعداد للانتصار في الصراع عند الضرورة.

    بناء قوة مشتركة ونظام دفاعي مرن.

وحسب الإستراتيجية، فإن وزارة الدفاع الأميركية تعمل على تعزيز أهدافها من ثلاثة طرق أساسية هي:

الردع المتكامل: الذي يستلزم تطوير نقاط القوة والجمع بينها لتحقيق أقصى قدر من التأثير، من خلال العمل بسلاسة عبر مجالات القتال المختلفة، والأدوات الأخرى للقوة الوطنية للولايات المتحدة، وشبكة حلفائها وشركائها، بحيث يتم تمكين الردع المتكامل من قبل قوات ذات مصداقية قتالية، مدعومة برادع نووي آمن وفعال.

الحملات: التي ستعمل على تقوية الردع وتمكين الولايات المتحدة من اكتساب مزايا ضد الإجراءات القسرية للمنافسين، وتقويض الأشكال العدائية الصادرة عنهم، وعرقلة استعداداتهم العسكرية، بالإضافة إلى تطوير القدرات القتالية الخاصة مع الحلفاء والشركاء.

الإجراءات التي تبني مزايا دائمة: للقوة المشتركة المستقبلية، بما يضمن إجراء إصلاحات لتسريع تطوير القوة، والحصول على التكنولوجيا التي تحتاجها بسرعة أكبر.

ومن أجل ذلك تقوم الوزارة بتطوير وتصميم وإدارة قواتها، وتوجيه مفاهيمها وقدراتها التشغيلية لتحقيق الأهداف الإستراتيجية. وهذا يتطلب، حسب الإستراتيجية، قوة مشتركة تكون مميتة، ومرنة، ومستدامة، وقابلة للبقاء، ورشيقة، وسريعة الاستجابة.

منذ سنوات والولايات المتحدة تستعد للحرب على منافسيها، وقد أنفقت على هذه الاستعدادات مئات المليارات من الدولارات. فما الدوافع العاجلة لهذه الحرب؟ ومن هم هؤلاء المنافسون؟ وأين ستكون ساحة المعركة؟ هل ستقتصر على أوكرانيا؟ وكيف ستنتهي؟

(يتبع)

—————————–

الجزء الثاني

(2) صناعة العدو الجديد

في عام 2000، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية قانونا يلزم وزارة الدفاع بتقديم تقرير سنوي سري وآخر غير سري حول التطورات العسكرية والأمنية لجمهورية الصين الشعبية، يتناول التقرير المسار الحالي والمستقبلي المحتمل للتطور التكنولوجي العسكري لجيش التحرير الشعبي الصيني، والمبادئ والتطور المحتمل لإستراتيجية الأمن الصينية، وإستراتيجيتها العسكرية، والمنظمات العسكرية، والمفاهيم العملياتية التي تدعم مثل هذا التطور، وذلك على مدى السنوات العشرين القادمة، بما في ذلك المشاركة والتعاون بين الولايات المتحدة والصين في المسائل الأمنية والعسكرية، وإستراتيجية الولايات المتحدة لمثل هذه المشاركة والتعاون في المستقبل.

وبعد 20 عاما على هذا القانون، تأكدت الولايات المتحدة أن الصين هي المنافس الوحيد الذي يشكل تهديدا لها، وتحدّيا دائما للنظام العالمي الغربي. فما الذي فعلته الصين حتى تصبح بهذه الخطورة؟ وكيف تقدمت في خطورتها على روسيا الوريث الشرعي للقطب الدولي السابق الاتحاد السوفياتي؟ وهل الأمر على هذا المستوى فعلاً؟ أم إن هناك عدوا جديدا تجري صناعته ليحل محل الإرهاب العالمي اسمه (الصين)؟

صعود القوة الصينية

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وبينما كانت التدريبات الأميركية للقوات الأوكرانية تجري على قدم وساق، قدّمت وزارة الدفاع الأميركية للكونغرس الأميركي تقريرها لعام 2021 حول التطورات العسكرية والأمنية المتعلقة بالصين، التي وصفها التقرير بأنها المنافس الوحيد القادر على الجمع بين قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، وأنها تسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي ليتماشى بشكل أفضل مع نظامها الاستبدادي ومصالحها الوطنية، كعنصر حيوي في إستراتيجيتها لتحقيق “التجديد العظيم للأمة الصينية”. وفقًا لهذه النظرة العالمية، كما يرى التقرير، فإن اكتساب الصين القوة الوطنية الشاملة، بما في ذلك القوة العسكرية، ضروري لتهيئة الظروف لها لتأكيد وجودها على نطاق عالمي.

ونلخّص هنا أبرز ما ورد في التقرير مما يوضح لنا حجم الصعود الصيني، وحجم التهديد الذي يمثله للولايات المتحدة وحلفائها، وحجم الخطر الذي يمثله على النظام العالمي الأميركي الراهن، وكيف أن هذا الخطر تجاوز بكثير الخطر الروسي:

إستراتيجية الصين الوطنية

تهدف إستراتيجية الصين الوطنية إلى تحقيق “التجديد العظيم للأمة الصينية” بحلول عام 2049 لمضاهاة أو تجاوز النفوذ والقوة العالمية للولايات المتحدة، وإزاحة التحالفات الأميركية والشراكات الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ومراجعة النظام الدولي ليكون أكثر فائدة للصين ومصالحها الوطنية. ويمكن وصف هذه الإستراتيجية بأنها السعي الحازم لجهود بعيدة المدى لتوسيع القوة الوطنية لجمهورية الصين الشعبية. فعلى الرغم من جائحة كوفيد-19، فإن بكين واصلت في العام 2020 جهودها لدفع تنميتها الشاملة بما في ذلك استقرار نموها الاقتصادي، وتعزيز قواتها المسلحة، والقيام بدور أكثر حزما في الشؤون العالمية. استجابة للاتجاهات الاقتصادية طويلة وقصيرة المدى، تنظر الصين إلى الولايات المتحدة على أنها مصممة بشكل متزايد على احتواء الصين، مما يخلق عقبات محتملة أمام إستراتيجيتها. بالإضافة إلى ذلك، فإن قادة الصين على استعداد متزايد لمواجهة الولايات المتحدة ودول أخرى في المجالات التي تتباين فيها المصالح.

السياسة الخارجية

تسعى السياسة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية إلى بناء “مجتمع المصير المشترك” الذي يدعم إستراتيجيتها لتحقيق “التجديد العظيم للأمة الصينية”، حيث ينبع طموح بكين التعديلي للنظام الدولي من أهداف إستراتيجيتها الوطنية وأنظمة الحزب السياسية والحاكمة. في عام 2019، أدركت الصين أن قواتها المسلحة يجب أن تلعب دورًا أكثر نشاطًا في تعزيز سياستها الخارجية، مما يسلط الضوء على الطابع العالمي المتزايد الذي تنسبه بكين إلى قوتها العسكرية. في عام 2020، كانت جائحة كوفيد-19 قوة دافعة وراء جهود السياسة الخارجية للصين، إذ سعت إلى إبعاد أي مسؤولية عن الفيروس وانتشاره الأولي، والاستفادة من روايتها للنجاح المحلي والمساعدات الخارجية.

السياسة الاقتصادية

تتناسب أهداف التحديث العسكري للصين مع تطلعاتها التنموية الوطنية الأوسع. فالجهود التنموية الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والاجتماعية والأمنية التي تبذلها يعزز بعضها بعضا، وتدعم إستراتيجيتها لتشكيل البيئات الدولية والإقليمية التي تقبل وتسهّل مصالح بكين. تدعم التنمية الاقتصادية للصين تحديثها العسكري ليس فقط من خلال توفير الوسائل لميزانيات دفاعية أكبر، ولكن من خلال المبادرات المدروسة التي يقودها الحزب مثل: مبادرة صنع في الصين لعام 2025، ومعايير الصين 2035، فضلاً عن الفوائد النظامية للصناعة الوطنية المتنامية وقاعدتها التكنولوجية. عند بدء تنفيذ الخطة الخمسية الرابعة عشرة لجمهورية الصين الشعبية (2021-2025)، أعلن الحزب الشيوعي الصيني عن التحول إلى “نمط تطوير” جديد يتمثل في “التداول المزدوج” (Dual Circulation)، الذي يركز على تسريع الاستهلاك المحلي كمحرك للنمو الاقتصادي، والتحول إلى التصنيع عالي الجودة، وخلق “اختراقات” في التقنيات الرئيسية على طول سلاسل التوريد العالمية المتطورة والحاسمة. مع التأكيد على الاستثمار الأجنبي لتوفير رأس المال والتكنولوجيا الضروريين للنهوض بالابتكار التكنولوجي المحلي لدعم أهداف الأمن والتنمية في الصين.

إستراتيجية تطوير الاندماج العسكري المدني

تتابع الصين إستراتيجية تطوير الاندماج العسكري المدني “إم سي إف” (MCF) لدمج إستراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لبناء نظام وقدرات إستراتيجية وطنية متكاملة، من أجل دعم أهداف التجديد الوطنية للصين. تتضمن إستراتيجية “إم سي إف” أهدافًا لتطوير واكتساب التكنولوجيا المتقدمة ذات الاستخدام المزدوج للأغراض العسكرية، وتعميق إصلاح صناعات علوم وتكنولوجيا الدفاع الوطنية، لتعزيز القوة الوطنية.

سياسة الدفاع والإستراتيجية العسكرية

يؤكد قادة الصين على حتمية تقوية الجيش الصيني ليصبح جيشًا “من الطراز العالمي” بحلول نهاية عام 2049. وضع الجيش الصيني عام 2020 خطة للتحديث حتى عام 2027، تهدف إلى تسريع التطوير المتكامل للميكنة والمعلوماتية والذكاء للقوات المسلحة الصينية، والتي إذا تم تحقيقها ستزودها بخيارات عسكرية عالية. في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أصدرت اللجنة العسكرية المركزية “مخطط العمليات المشتركة للجيش الصيني” الذي يعتبر القانون الأعلى للعقيدة القتالية للجيش الصيني. في عام 2020، ظل الجيش الصيني موجهًا بشكل أساسي نحو “حماية” مصالح “السيادة والأمن” في المنطقة، مع التأكيد على دور عالمي أكبر لنفسه، مثل تقديم مساعدات كوفيد-19 في الخارج والسعي وراء منشآت عسكرية خارجية. يبلغ مجموع القوات النظامية ما يقرب من مليوني فرد، منها حوالي مليون فرد في الخدمة الفعلية. وقد سعى الجيش الصيني إلى تحديث قدراته وتحسين كفاءاته في جميع مجالات الحرب، حتى يتمكن كقوة مشتركة من إجراء مجموعة من العمليات البرية والجوية والبحرية، بالإضافة إلى الفضاء والفضاء المضاد والحرب الإلكترونية “إي دبليو” (EW) والعمليات الإلكترونية.

تستمر القدرات والمفاهيم المتطورة للجيش الصيني في تعزيز قدرة الصين على “القتال والفوز بالحروب ضد “عدو قوي”، وهو تعبير ملطف محتمل للولايات المتحدة، واستعراض القوة على الصعيد العالمي. تعتبر البحرية الصينية من الناحية العددية أكبر بحرية في العالم، مع قوة قتالية إجمالية تبلغ حوالي 355 سفينة وغواصة. واعتبارًا من عام 2020، سيكون لديها منصات حديثة متعددة الأدوار. وعلى المدى القريب، سيكون لديها القدرة على شن ضربات دقيقة بعيدة المدى ضد الأهداف البرية من الغواصات باستخدام صواريخ كروز للهجوم الأرضي. تعمل الصين على تعزيز قدرات وكفاءات الحرب المضادة للغواصات لحماية حاملات الطائرات وغواصات الصواريخ الباليستية التابعة لها.

تعتبر القوات الجوية الصينية أكبر قوة طيران في المنطقة، وثالث أكبر قوة في العالم، مع أكثر من 2800 طائرة، منها ما يقرب من 2250 طائرة مقاتلة (بما في ذلك المقاتلات والقاذفات الإستراتيجية والقاذفات التكتيكية والطائرات التكتيكية متعددة المهام والهجوم).

لم ينته التقرير الأميركي “غير السري” حول الصين عند هذا الحد، أما التقرير السري فما زال سريا.

(يتبع)

 محمود عبد الهادي

كاتب صحفي وباحث

————————–

ما أهداف روسيا من تعزيز قواتها في مناطق “قسد” شمالي سوريا؟/ عبد العزيز الخليفة

كثفت القوات الروسية من نشاطها في شمال شرقي سوريا، على نقاط التماس مع المنطقة الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري والممتدة بين رأس العين شمال الحسكة وتل أبيض شمال الرقة، بالتزامن مع زيادة حدة التصريحات التركية المتوعدة بشن عملية عسكرية شمال سوريا ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

وتهدف تركيا من العملية العسكرية إلى إقامة منطقة آمنة بعرض 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية وإبعاد “قسد” عن الحدود، وهذه المنطقة جزء من اتفاق تركي مع روسيا وأميركا كانت عقدته أنقرة مع الطرفين كلٍّ على حدى في تشرين الأول 2019 وعلقت بموجبه عملية “نبع السلام” آخر عملياتها في سوريا.

وفي أواخر مايو/أيار الفائت، استقدمت القوات الروسية تعزيزات عسكرية جديدة بينها طائرات مروحية وحربية إلى مطار القامشلي، بحسب وكالة “سبوتنيك” الروسية.

وأضافت الوكالة، حينها أنّ التعزيزات تأتي بالتزامن مع التصريحات التركية التي هددت بشن عملية عسكرية جديدة في مناطق شمال شرقي سوريا، الواقعة تحت النفوذ الروسي. وفي 27 من أيار/ مايو الماضي سيّرت دورية مشتركة مع قوات النظام وقوات “قسد” على طول الشريط الحدودي بين مدينتي عامودا والدرباسية شمال الحسكة، بتغطية جوية من 6 مروحيات رافقت الدورية.

وفي بداية الشهر الجاري، استقدمت القوات الروسية الموجودة في مطار القامشلي، منظومة صواريخ متطورة من طراز “بانتسير – إس 1″، وذلك بعد أيام من نشر مروحيات ومقاتلات جديدة في المطار، وبذلك زادت موسكو من قواتها في المنطقة المعروفة أنها ضمن مساحة النفوذ الأميركي وعلى مقربة من عشرات القوات الأميركية والتركية في المنطقة.

وقال الصحفي نوار الرهاوي، لموقع تلفزيون سوريا، إن القوات الروسية أرسلت تعزيزات عسكرية مكونة من ناقلات جند مدرعة ومنظومة دفاع الجوي من طراز “بانتسير – إس 1” إلى ناحية تل تمر الواقعة تحت سيطرة “قسد”.

وأضاف “الرهاوي” وهو مراسل لموقع “الخابور” المحلي في رأس العين، أنّ روسيا ركزت نقطة عسكرية في منطقة “الشركراك” قرب الطريق الدولي (إم 4) شمال الرقة، بالتزامن مع وصول تعزيزات عسكرية للنظام من مطار الطبقة إلى محيط عين عيسى بالمنطقة ذاتها، كما زادت من دورياتها الجوية في المناطق الشمالية من الحسكة.

هدفها ليس منع العملية التركية

يقول الكاتب الصحفي فراس علاوي، إن القوات الروسية تقوم بإعادة تموضع في سوريا، في الأماكن الأكثر استراتيجية بالنسبة لموسكو، “وهي رغم تزامنها مع التهديدات التركية ضد (قسد) إلا أنها لا تستهدف منع أي عملية عسكرية تركية شمال سوريا”.

ويرى “علاوي” في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن هدف العملية العسكرية التركية المرتقبة لن يكون مناطق السيطرة الروسية، بل سوف يستهدف مناطق خاضعة للنفوذ الأميركي تسيطر عليها “قسد” مرشحا “عين عيسى” كميدان لهذه العملية المقبلة.

رسالة لواشنطن

ويشير “علاوي” إلى أن هذه التعزيزات الروسية موجهة بشكل أساسي للقوات الأميركية في منطقة شمال شرق سوريا، تعبر بها موسكو عن استعدادها لأي احتكاك بين قوات البلدين في سوريا، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن قوات البلدين في المنطقة ليست مستعدة لأي مواجهة إلا أن حضور موسكو بهذا الشكل يؤكد على عدم انسحابها من سوريا وحاجتها إلى قواتها فيها لحربها في أوكرانيا.

ولفت إلى أن الحضور الروسي بهذا الحجم يهدف أيضا لتعبئة الفراغ الذي قد تتركه القوات الأميركية في المنطقة في حال قررت الانسحاب، كما حصل حين انسحبت القوات الأميركية إبان إدارة ترامب من بعض المناطق.

قسد

أهداف داخل سوريا وخارجها

يرى الباحث عبد الوهاب العاصي، أن روسيا ترفض أي تحرك عسكري تركي يؤدي لتقليص فارق القوة معها في سوريا، لكنها بالوقت نفسه قد تكون مستعدة لتقبل هذا السيناريو بحال وجدت نفسها مضطرة لتقديم تنازل لتركيا مقابل تحقيق مصالحها في أوكرانيا التي تعتبر أولوية بالنسبة لها حالياً.

ويوضح “العاصي” وهو باحث في مركز جسور للدراسات بحديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن التعزيزات الروسية في شمال شرقي سوريا، بالتزامن مع التهديدات التركية، يأتي في إطار زيادة قوتها بالمنطقة بوجه التصعيد التركي، للحصول على أكبر قدر من المكاسب المتوقعة من أنقرة في الملف الأوكراني.

ويضيف أنه “وبالوقت نفسه، فإن روسيا تستخدم التهديد بوجود عملية عسكرية في الضغط على (قسد) من أجل تعزيز وجودها العسكري شرق الفرات على حساب بقية الفاعلين أي تركيا والولايات المتحدة، ومن أجل تعزيز قدرة النظام على استعادة حضوره في المنطقة سواء عبر المفاوضات مع الإدارة الذاتية أو عبر الانتشار العسكري والأمني.

تعزيزات روسيا لم تهدِئ مخاوف “قسد”

لم تفلح التعزيزات الروسية في تهدئة مخاوف “قسد”، وأعربت عن مخاوفها يوم الجمعة 10 من حزيران، على لسان مسؤول “المركز الإعلامي” فيها، فرهاد شامي، الذي قال إن الدول الضامنة روسيا وأميركا “ما تزال تعارض الهجوم التركي.. وتقول إنها ستحلّ المشكلات دبلوماسياً ولكن في حال فشلت الإجراءات الدبلوماسية فإنّها لم تحدّد أية إجراءات بديلة حتّى الآن”.

من جهته، أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخميس 9 من حزيران، غداة تلقيه تحذيراً من الولايات المتحدة الأميركية بخصوص العملية العسكرية في شمال سوريا،  في “ألا يعارض أيٌ من حلفاء أنقرة الحقيقيين مخاوفنا المشروعة”.

وتعتبر أنقرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من واشنطن والتي تقودها “وحدات حماية الشعب” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي “PYD” منظمة إرهابية مرتبطة بـ “حزب العمال الكردستاني” الذي يشن تمردا عسكريا في تركيا منذ عقود.

وكانت القوات التركية شنت 3 عمليات في سوريا منذ عام 2016 ضد “قسد” و”داعش”، ساعية منذ سنوات إلى إنشاء “منطقة آمنة” بعرض 30 كيلومتراً على طول حدودها الجنوبية، لتفصل تلك المنطقة العازلة تركيا عن الأراضي التي تقع تحت سيطرة “قسد”.

تلفزيون سوريا

——————————-

===================

تحديث 15 حزيران 2022

————————

ماكدونالد أصعب من بطرس الأكبر وأقوى!/ حازم صاغية

ما إن شبَّه فلاديمير بوتين نفسه ببطرس الأكبر حتّى ضجَّ الإعلام العالميّ بالتشبيه الذي رفعته العناوين عالياً. الرئيس الروسيّ، وفق ما فُهمت إشارته، يمجّد حروب التوسّع في التاريخ الروسيّ: ذاك أنّ ما غنمه بطرس من السويد أو سواها كان استعادةً وتحريراً، ولم يكن غزواً أو احتلالاً. فوق هذا فالتوسّع، بحسب قراءة سيّد الكرملين، هو ما يجلب على المتوسِّع، القوّة والعظمة. برهان ذلك أنّ الأوروبيّين الذين لم يعترفوا يومذاك بتمدّد بطرس وبإنجازات ذاك التمدّد، باتوا كلّهم يعترفون بها في يومنا هذا.

إنّ القوّة وحدها هي، إذن، الحقّ.

لقد كان واضحاً لنقّاد بوتين، كما لمؤيّديه، أنّ الحديث عن ذاك المستبدّ الروسيّ (1672 – 1725) ينبغي فهمه من زاوية الحرب الأوكرانيّة الراهنة. فمنذ تلك الحرب تزايدت إحالات بوتين إلى التاريخ ورموزه، هو المولع أصلاً بالاستشهاد بلينين وستالين وسواهما ممّن صنعوا تاريخ روسيا الحديث، مرّةً في معرض الإشادة والتمجيد ومرّة في معرض النقد أو النقض.

فبوتين مهتمّ باللعب مع العظماء أكثر كثيراً من اهتمامه بحساسيّة السويديّين أو الأستونيّين أو الشعوب الأخرى التي دفعت أكلاف العظمة الروسيّة القديمة. وفي هذا لم يفت بعضَ المراقبين تسجيلُ ملاحظات حول القراءة الانتقائيّة للتاريخ، التي في عدادها أنّ الوجه الآخر لبطرس الأكبر، أي انفتاحه على العالم وإعجابه بالحضارة والثقافة الأوروبيّتين، ليسا ممّا يستوقف الرئيس الروسيّ الذي تكاد تنهار علاقته بأوروبا والأوروبيّين. المهمّ فحسب، هو ذاك البطرس الأكبر الذي يخدم الوقائع الجديدة كما أنتجتها الحرب الحاليّة، وهي أنّ خُمس مساحة أوكرانيا هي اليوم في يد القوّات الروسيّة من خلال إدارات محلّيّة وهزيلة هندستْها موسكو.

وأغلب الظنّ أنّ إبقاء هذه الأراضي أراضيَ محتلّة يستدعي المزيدَ من بطرس الأكبر ومن الاستشهاد الأحاديّ به، تماماً كما تستدعي الحروبُ استحضار الموتى الكبار من أجل تسهيل موت الموتى الصغار.

في الخلاصة، ليس بوتين أوّل الزعماء القوميّين الذين ينفخون الحياة في قادة قوميّين ميّتين، بل ميّتين جدّاً، على النحو الذي يجعلهم خالدين جدّاً. فرموز الماضي يخدمون الواقع حين يكون مسكوناً بتكرار ذاك الماضي حروباً ومنازعاتٍ فيما يضاعفون ميراث المقاتلين الأحياء ويسمّنونه. هكذا يحتفظ كلّ قائد قوميّ أو شعبويّ بتابوت قديم يقول لنا إنّ صاحبه حيّ فيه هو، وإنّ الأفعال المجيدة التي تحدث اليوم ما هي إلاّ إذعان لأوامر ذاك التابوت.

لكنّ شيئاً آخر تسلّل إلى فخامة التاريخ الإمبراطوريّ وأحدث فيه نخراً يصعب إنكاره أو التستّر عليه. إنّه ممّا يصفه القوميّون المُحبّون للملاحم بأنّه سلعة وضيعة. إنّه… وجبات ماكدونالدز السريعة.

فوفق وكالة الصحافة الفرنسيّة، افتتح الروس مؤخّراً ماكدونالدز الروسيّة للحلول محلّ الـ850 مطعماً التي تقدّم تلك الوجبات الأميركيّة السريعة، والتي انسحبت من روسيا بعد حربها على أوكرانيا.

الروس أعطوا البديل الذي أنشأوه شعاراً عاطفيّاً يقول: «الاسم يتغيّر لكنّ الحبّ يبقى». أمّا المدير العامّ للمجموعة الجديدة، أوليغ باروييف، فأعلن أنّ مؤسّسته ستحاول «بذل كلّ ما يمكن بحيث لا يلحظ زبائننا أيّ فارق، من ناحية الجوّ والطعم والجودة». وأمّا مالك ماكدونالدز الروسيّة، رجل الأعمال ألكسندر غوفور، فأشار إلى أنّ «الوضع لن يكون أسوأ، هذا مؤكّد. سوف نحاول أن نجعل الوضع أفضل»، مضيفاً: «نأمل أن لا ينخفض عدد الزبائن، بل، على العكس، أن يرتفع، لا سيّما وأنّ الشركة باتت الآن روسيّة كلّيّاً».

هنا أيضاً ثمّة نبرة قوميّة في الكلام، إلاّ أنّها لا تنطق بلسان العظمة بل بلسان التقليد والمحاكاة والجهد المبذول للارتفاع إلى السويّة التي كان عليها «العدوّ». ذاك أنّ تصنيع بطرس الأكبر وزعم تمثيله أسهل كثيراً من تصنيع وتمثيل أطعمة «النفايات» (junk food) التي توصف بها مآكل ماكدونالدز تبعاً لكثرة السكّر والملح والدهون فيها، كما بسبب قلّة البروتين والفيتامينات.

لكنّ هذا كلّه لا يلغي أنّ إيرادات مطاعم ماكدونالدز، التي يرقى افتتاحها إلى انهيار الاتّحاد السوفياتيّ أوائل التسعينات، كانت قد شكّلت حوالي عُشر مبيعات تلك المجموعة الأميركيّة في العالم كلّه. وفي هذه المطاعم عمل 62 ألف روسيّ خسروا أعمالهم بعد انسحاب المطاعم الذي اكتمل في مايو (أيّار) الماضي.

وللأسف، فإن لدى جلّ بلدان العالم بطرسه الأكبر الذي يلهو به زعيمه الحيّ على هواه، ويستخدمه بالطريقة التي تنفعه. أمّا في ما خصّ ماكدونالدز الأميركيّة فليس هناك إلاّ ماكدونالدز واحد للعالم أجمع.

الشرق الأوسط

—————————

ملامح الهوية القومية وشخصية الزعيم في الحرب الروسية الأوكرانية/ أنطوان الحاج

تستدعي الحرب الدائرة في أوكرانيا الكثير من الكلام والتحليلات التي تطال الجوانب الاستراتيجية بتشعّباتها السياسية والعسكرية والاقتصادية. كما أن النظرة إلى الحرب بعيون الناس في أنحاء العالم تختلف وفق أهوائهم السياسية ومكوّنات شخصياتهم الاجتماعية. فثمة من يرى في فلاديمير بوتين زعيماً توسعياً يطمح إلى السيطرة على جيرانه. ومنهم من يرى فيه قومياً منعزلاً لا يستطيع التفاهم مع الآخرين وبالتالي يتصرف من منطلق خوف غير مبرَّر من التقدم الغربي نحو بلاده، وهناك من يعتبر أنه قائد شجاع يتصدى للقوى التي تريد أن تبقى وحدها في الصدارة. وفي السياق، ثمة من يعتقد أن فولوديمير زيلينسكي مجرد دمية في يد واشنطن التي تستخدمه وتستخدم أرض بلاده لضرب روسيا وعزلها…

في الواقع، لا تكون الحرب صنيعة عوامل اقتصادية وسياسية فحسب، ولا مجرد نتيجة لشخصية زعيم مهما علا شأنه، ولا «تتمة» لفصول وتراكمات تاريخية يحاول أحد ما المحاسبة عليها وتصحيح ما يراه فيها من خلل أدى إلى ظلمه وهضم حقوقه.

لعلّ الحرب هي كل هذا وفيها من كل هذا. إلا أن هناك جانباً مهماً جداً يضطلع بدور حاسم في اتخاذ قرار الحرب: الشخصية التاريخية لدولة ما، أو بالأحرى لأمة ما. وإذا سلّمنا جدلاً بأن أوكرانيا هي مسرح لحرب بين روسيا وخصومها الحقيقيين وليست بالتالي اللاعب الأصيل بل الخاسر الأصيل، فلننظر إلى اللاعب الأصيل الآخر في محاولة لفهمه.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ب)

*ملامح من الهوية الروسية

قال الكاتب الروسي بيوتر تشاداييف (1794 – 1856) عن بلاده: «نحن لم نتقدم أبدًا مع الشعوب الأخرى. نحن لا نرتبط بأي من العائلات البشرية الكبيرة. لا ننتمي إلى الغرب ولا إلى الشرق، وليس لدينا تقاليد أي منهما… لم نتأثر بالتعلّم الشامل الذي حققته البشرية».

ينقل الكاتب اللورد روبرت سيدلسكي عن المفكر جون غراي، وكلاهما بريطانيّ، قوله إن فلاديمير بوتين يمثل «وجه عالم لا يفهمه العقل الغربي المعاصر. في هذا العالم، تظل الحرب جزءًا دائمًا من التجربة الإنسانية، مع صراعات قاتلة على الأراضي والموارد يمكن أن تندلع في أي وقت، والبشر يقتلون ويُقتلون من أجل رؤى غامضة».

لكن، هل الأمر يتعلق ببوتين وهوسه بالماضي؟ هل هذا ما يحصد آلاف الأرواح ويدمّر أوكرانيا ويهدد مستقبل روسيا؟ أم أن الأخيرة تخوض حرباً لتحقيق ما تراه عدالة تاريخية ولجعل العام 2022 نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة من تاريخ العالم، تماماً كما حصل مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 أو سقوط جدار برلين عام 1989؟

لا ننسى أن «المكافأة» التي تلقاها الاتحاد السوفياتي بعد الأثمان الباهظة التي دفعها في الحرب العالمية الثانية لم تكن بالمستوى المأمول، فمقابل السيطرة التي فرضها على دول حلف وارسو والنفوذ الذي تمتع به في بعض الدول البعيدة، خاض حرباً باردة طويلة ومكلفة مع المعسكر الغربي، انتهت بسقوطه الاقتصادي المدوّي وتفكك حجارة بنيانه مع تهاوي جدار برلين.

قبل الثورة البولشفية عام 1917 كانت روسيا إمبراطورية، وفي العهد السوفياتي كانت أيضاً أمبراطورية متجلببة بجلباب الشيوعية، على رأسها «قيصر» شيوعي هو الزعيم الذي لا يُردّ له قول ولا أمر.

بعد انتهاء التجربة السوفياتية، لم تعمّر تجربة إنشاء جمهورية ليبرالية طويلاً، فقد فشل بوريس يلتسين فشلاً ذريعاً في تحقيق أحلام الناس… شكّل الرئيس لجنة من العلماء والسياسيين لصَوغ «فكرة قومية» جديدة تجمع الناس حولها. بيد أنه لم يفلح في ترسيخ المُثُل الديمقراطية عبر استنساخ التجارب الغربية، وسرعان ما تحوّلت أجواء التفاؤل التي سادت في البلاد بين 1989 و1991 أثراً بعد عين. ولعل أسوأ ما أنتجته تجربة يلتسين هو اتساع الهوّة بين الغالبية العظمى من الشعب الروسي الواقع في هوّة الفقر، وتلك الطبقة الأوليغارشية التي نشأت على أنقاض العهد السوفياتي وحقق أفرادها ثروات هائلة جعلتهم يعيشون في عالمهم الخاص، فيما الروسي العادي يمر أمام واجهات المتاجر البراقة في موسكو وسان بطرسبرغ ليرى منتجات مستوردة لم تسبق له رؤيتها، من دون أن يستطيع أن يقتني أياً منها إلا في أحلامه…

*القيصر الجديد

على أنقاض الأحلام المحطّمة أتى فلاديمير بوتين ليقبض عملياً على السلطة منذ العام 1999 ويعيد روسيا إلى «مكانها الطبيعي»، دولة كبيرة لا تنسى هواجسها التاريخية ولا تتغاضى عن مخاوفها المستقبلية. وبنى الرجل الآتي من عالم الاستخبارات الذي يرى العالم من حيث لا يراه الناس العاديون، دولة تقوم حول شخصيته القوية، مقتنعاً بأن أخطاراً حقيقية وداهمة تحيط ببلاده على خطوط حدودها الكبيرة.

مرت السنوات صعبة وثقيلة، قبل أن يبتسم القدر لروسيا وزعيمها، فتجود الأرض بالنفط ثم الغاز، وتتدفق الإيرادات التي سمحت بتحقيق نهضة اقتصادية – إنما من دون التخلص من الأوليغارشية والفساد – وتحمّل الأعباء المالية للاحتفاظ بجيش قوي، والتطلع إلى استعادة الدور العالمي نفوذاً وتدخلاً مباشراً وغير مباشر ومشاركة في القرار في مختلف القضايا والشؤون والجغرافيات…

لا غرابة في أن ينظر رجل بعقلية بوتين وشخصيته إلى الغرب نظرة حذر وعدائية، حذر تجاه أوروبا الغربية، وعدائية تجاه الولايات المتحدة. ولا عجب في أن تدق نواقيس الأخطار في ذهنه مع التوسع الهائل لحلف شمال الأطلسي منذ نهاية الحرب الباردة.

ولا مفاجأة في أن تنقض دباباته صيف العام 2008 على جورجيا المتجهة غرباً، وأن يضم شبه جزيرة القرم ويدعم انفصاليي شرق أوكرانيا عام 2014.

لا مجال في واقع كهذا إلا أن يحصل ما حصل في أوكرانيا منذ 24 فبراير (شباط) الماضي، لأن الزعيم – الفرد المجبول من طين التاريخ بعيده وقريبه والمفتون بالقيصر بطرس الأكبر لن يعثر على حلول أو مناورات تدفع به إلى تجنب الحرب لإبعاد الخطر عن بلاده.

جنود أوكرانيون يزرعون ألغاماً مضادة للدبابات في منطقة دونيتسك (أ.ب)

*ماذا فعل الآخرون؟

يتحمّل اللاعبون الآخرون في هذه الحرب قسطاً كبيراً من المسؤولية، وربما غفلوا أو أغفلوا حقيقة من يقف في وجههم.

الأوروبيون الغربيون عاشوا تجربة مختلفة عن التجربة الروسية، فقد انهارت «إمبراطورياتهم» الواحدة تلو الأخرى، وأنتج الواقع الاجتماعي والاقتصادي طبقات بورجوازية مثقفة تسلمت السلطة بالتدريج مرتكزة على مثل ومبادئ تبلورت مع الزمن المثقل بالحروب والآلام.

الأميركيون لم يعرفوا تجربة مماثلة، ويبدو أن المهاجرين الأوروبيين الذين بنوا الولايات المتحدة سقطت من أذهانهم ذكريات العذاب في القارة التي أتوا منها بعد ابتعادهم عنها جغرافياً.

المؤسف أن الطرفين لم يفهما روسيا – التاريخ وبوتين – ابن التاريخ، أو ربما فهما وتظاهرا بعدم الفهم، والأرجح أن أحدهما فهم وترك الآخر يواجه مجدداً أثقال الماضي ليقبض هو على الحاضر والمستقبل

الشرق الأوسط

———————–

ما الفرق بين الحربين الأوكرانية والعالمية الأولى؟

اعتبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أن صور بعض المدن الأوكرانية تذكّر بـ«أنقاض فردان»، وهي مدينة فرنسية دمّرها الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى. ولدى سؤاله عن تصاعد العنف على الجبهة في أوكرانيا، تحدث مسؤول رفيع في حلف شمال الأطلسي مؤخراً عن أوجه تشابه بين الحرب العظمى والنزاع الحالي الذي تُستخدم فيه «المدفعية بكثافة». واحتلّت المدفعية التي كان ستالين يصفها بأنها «آلهة الحرب» في عصره، موقعاً مركزياً في النزاع في أوكرانيا، بعد أكثر من مائة عام من أدائها دوراً محورياً في الحرب العظمى. ويقول الباحث المشارك في مؤسسة البحوث الاستراتيجية أوليفييه كيمبف «من الواضح أن النزاع الأوكراني هو نزاع واسع النطاق مع جبهات ثابتة إلى حدّ ما، تتحرك ببطء ويتمّ تحقيق تقدم بشكل أساسي بواسطة الضربات المدفعية». ويضيف، أن هناك «المدفعية التي تحاول ضرب مواقع العدو، ولكن أيضاً الضربات التي تشمل استهداف بطاريات مدفعية العدو». ويتابع «إذا نعم هناك استرجاع لذكريات الحرب العظمى».

أظهرت السلسلة الأخيرة من مشاهد الأقمار الصناعية التي التقطتها شركة «ماكسار تكنولوجيز» الأميركية، الأضرار التي تسببت بها المدفعية في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا، على مستوى خطّ الجبهة. وتبيّن الصور التي التقطت في السادس من يونيو (حزيران)، من بين أمور أخرى حقلاً مليئاً بحفر أحدثتها المدفعية قرب مدينة سلوفيانسك وحفرة يبلغ قطرها 40 متراً، وحتى آثار «انفجارات» على طول نهر سيفرسكي دونيتس ومدينة بوغوروديشن.

يرى نيكولا بوبريه، العضو في اللجنة التوجيهية لمركز الأبحاث الدولي لتاريخ الحرب العظمى ومقره فرنسا، أن «مشاهد الحرب (في أوكرانيا) يمكن مقارنتها بما تمكنا من رؤيته في الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك قرى مدمّرة بالكامل على طول خطّ الجبهة». ويضيف «كانت هذه الحال في 1914 – 1918، مع ما كان يُسمى بالمنطقة الحمراء التي كان يتراوح عرضها بين عشرة وعشرين كيلومتراً وكانت تتناسب مع نطاق نيران المدفعية كما أنها كانت مدمّرة بالكامل».

واستعيدت ذكريات الحرب العظمى أيضاً أواخر أبريل (نيسان) مع المعلومات التي جمعتها صحيفة «الغارديان» البريطانية بشأن استخدام سهام معدنية صغيرة من نوع تطلقه المدفعية الروسية، كان مستخدماً كثيراً خلال الحرب العالمية الأولى. وبين الدمار والخنادق وغزارة القذائف، تعيد مشاهد الحرب في أوكرانيا إلى الأذهان ذكريات الحرب العالمية الأولى، لكن بعيداً عن هذه الجوانب المرئية، فإن المقارنة بين الحربين لها محدوديّتها، بحسب خبراء.

تقول الخبيرة في الحروب العالمية كامي هارلي فارغاس «نرى الكثير من الخنادق وهناك ميل إلى المقارنة مع الحرب العالمية الأولى، في حين أن الخنادق هي نظام تحصين نراه في الكثير من النزاعات الأخرى أيضاً»، مشيرة من بين نزاعات أخرى إلى نزاع ناغورني قره باغ.

يعدّ الخبير في الشؤون الدفاعية جوزف هنروتان، أن «الخنادق هي أمر ثابت، ردّ فعل طبيعي: اعتباراً من اللحظة التي تشهد تطاير شظايا في كل الاتجاهات، ينبغي حني الرأس والطريقة الفضلى لحني الرأس هي أن يكون الشخص في مستوى الأرض».

خلال قرن، تطوّرت الأسلحة وهو أمر ليس مفاجئاً، كما أن المدفعية التي كانت تُستخدم في الحرب العالمية الأولى لا تشبه المدفعية المستخدمة اليوم.

يشير فرانك ليدويدج، الأستاذ الجامعي الباحث في الاستراتيجيات العسكرية والقانون العسكري في جامعة بورتسموث، إلى أن في ذلك الوقت «لم تكن المدفعية تطلق قذائف دقيقة… اليوم، هذا في قلب (نظام) المدفعية» المستخدمة حالياً على الأراضي الأوكرانية. ويؤكد نيكولا بوبريه، أن «الفرق مع الحرب العالمية الأولى، هو أنه لدينا مدفعية عميقة مع مدافع يمكنها أن تقصف بسهولة حتى مسافة 40 كيلومتراً بدقة نوعاً ما». وظهرت أيضاً الطائرات المسيّرة فوق ساحة المعركة بدلاً من طائرات المراقبة التي كانت مستخدمة بين 1914 و1918. فيما يخصّ حجم الذخائر المستخدمة، فإن المقارنة مع الحرب العالمية الأولى صعبة لأن المعطيات الميدانية مجزأة. وبحسب المسؤول الثاني في جهاز الاستخبارات العسكري الأوكراني فاديم سكيبيتسكي، تستخدم أوكرانيا بين 5 و6 آلاف قذيفة مدفعية في اليوم.

فيما يخصّ الخسائر العسكرية، فقد قُتل ما بين 15 و20 ألف جندي روسي، بحسب مصادر أمنية غربية. من جانبها، أفادت كييف عن مقتل 10 آلاف جندي أوكراني منذ 24 فبراير (شباط)، مشيرة إلى مقتل ما بين 100 و300 جندي في اليوم.

وخلال الحرب العظمى، اعتبر «ثلاثة أرباع جنود المشاة» قتلى أو جرحى بسبب المدفعية، وفق كامي هارلي فارغاس. يوضح أوليفييه كيمبف، أنه «كانت هناك معدّلات وفيات (في صفوف الجنود) تصل إلى الآلاف في اليوم بين 1914 و1918»، لكنّ التعبئة العامة آنذاك «كانت أكبر بكثير».

————————————-

أميركا: الأمر متروك لأوكرانيا لاتخاذ قرارات بشأن التنازل عن أراضٍ

قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إن الأمر متروك لأوكرانيا لاتخاذ أي قرارات بشأن التنازل عن أجزاء من أراضيها، مضيفاً أن أميركا وحلفاءها يعملون للتأكد من أن كييف تحصل على المساعدة التي تحتاج إليها لتكون لها يد قوية في ساحة المعركة، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية.

وذكر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أن الحرب قد تركد إذا لم يتم الإسراع في تسليم شحنات الأسلحة المتقدمة من حلفاء أوكرانيا، مؤكداً أن الحرب ستنتهي فقط إذا غادرت القوات الغازية البلاد، حسب وكالة «بلومبرغ» للأنباء اليوم.

ومن جهة أخرى، واصلت روسيا هجومها على سيفيرودونتسك، حيث قصفت المدينة والقرى المحيطة، فيما تسعى للسيطرة على المعقل الرئيسي الأخير للحكومة الأوكرانية في منطقة لوغانسك شرق البلاد.

وذكر الحاكم الإقليمي أن القوات الروسية تسيطر الآن على 80 في المائة من المدينة.

———————–

حسابات خاطئة لروسيا وإيران/ خيرالله خيرالله

إلى إشعار آخر، لم تتمكن “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران من تحقيق أي مكاسب تذكر من الحرب الأوكرانيّة التي تورّط فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لم يعد سرّاً أن بوتين سيتمكن من تسجيل نقاط محددة في حرب، مرّت عليها ثلاثة أشهر ونصف الشهر. كان يعتقد، في بداية الحرب يوم 24 شباط (فبراير) الماضي، أنّه سيحسم الموقف في غضون بضعة أيام وسينقلب الأوكرانيون على رئيسهم فولوديمير زيلنسكي.

في غضون أيّام قليلة أو أسابيع، سيتمكن الجيش الروسي من السيطرة على قسم من الأراضي الأوكرانيّة وستعلن موسكو، كما هو متوقع، ضمّ هذه الأراضي المرتبطة بشبه جزيرة القرم إلى روسيا بشكل نهائي. يظلّ مثل هذا الاحتمال وارداً جدّاً في ظلّ حرب غير متكافئة كشفت رفض الشعب الأوكراني للاحتلال الروسي واستعداده لبذل تضحيات كبيرة لمنع سقوط البلد وعودته مرة أخرى إلى مجرد مستعمرة تحكمها موسكو حيث نظام متخلّف لا يعترف بأي نوع من الحرّية لدى المواطن.

في المدى الطويل، سيتبيّن أن الرئيس الروسي ارتكب سلسلة من الأخطاء القاتلة التي لن يعوضها احتلاله جزءاً من أوكرانيا. يعود ذلك إلى سبب في غاية البساطة يكمن في أنّ ليس في أوروبا من هو مستعد بعد اليوم لأن تكون لديه أي ثقة من أي نوع بروسيا ما دام فلاديمير بوتين يتحكّم بها. ستكون أوروبا كلّها مستنفرة في وجه الرئيس الروسي الذي يصرّ على أنّ في استطاعته استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي. لعلّ الخطوة الأهمّ التي ستقدم عليها أوروبا، بقيادة ألمانيا، تتمثّل في الاستغناء شيئاً فشيئاً عن الغاز والنفط الروسيين وعن أي علاقات طبيعية مع روسيا.

لا شكّ في أنّ النظام في إيران استوعب باكراً ماذا يعني التورط الروسي في أوكرانيا. وجد في ذلك فرصاً عدّة أمامه. من بين تلك الفرص ملء الفراغ العسكري في سوريا، وهو فراغ ناجم عن انسحابات روسية من مناطق معيّنة في ذلك البلد المنهار… والسعي إلى إحياء الاتفاق النووي للعام 2015 مع مجموعة من الشروط تلائم المشروع التوسّعي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”.

مثلما أخطأ فلاديمير بوتين في حساباته الأوكرانيّة، يبدو أن إيران أخطأت أيضاً في الحسابات المرتبطة بمشروعها التوسّعي في المنطقة، خصوصاً في ضوء اعتقادها أن أميركا وأوروبا ستكونان رهن إشارتها لمجرّد أنّها ستكون مستعدة للمساهمة في التخفيف من حدّة الأزمة العالميّة في مجال الطاقة. اعتقدت إيران أنّ من السهل رفع “الحرس الثوري” عن قائمة الإرهاب في ظل الحاجة العالميّة إلى النفط والغاز الإيرانيين.

في سياق الأخطاء المرتكبة، اكتشفت إيران أنّه لن يكون سهلاً عليها ملء الفراغ العسكري في سوريا. ليس مسموحاً لها التحكّم بالجنوب السوري مع ما يعنيه ذلك، إن بالنسبة إلى إسرائيل أو بالنسبة إلى الأردن الذي يرفض وجود الميليشيات المذهبيّة الإيرانيّة على حدوده. هذا لا يعود إلى أن المملكة الهاشميّة تعتبر هذه الميليشيات التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني تهديداً مباشراً لها فحسب، بل إلى أن سيطرة إيران على الجنوب السوري تعني أموراً أخرى أيضاً. بين ما تعنيه هذه السيطرة استمرار تهريب أسلحة ومخدرات إلى الأردن… ومنه إلى دول الخليج العربي.

بعثت إسرائيل برسالة قويّة إلى إيران عندما دمرت مدرجاً آخر وقسماً من مطار دمشق، بما في ذلك برج المراقبة وأوقفت الحركة فيه. ليس سرّاً أنّ “الحرس الثوري” يستخدم المطار في نقل أسلحة إلى سوريا ولبنان. ليس سرّاً أيضاً أنّه في حال لم يفهم النظام السوري الرسالة، لن يكون مستبعداً إغلاق الموانئ السورية مثلما أغلق مطار دمشق.

مرّة أخرى، كانت حسابات فلاديمير بوتين خاطئة، كذلك يبدو أمر الحسابات الإيرانيّة. هذا ما يفسّر التصعيد العسكري الروسي في مناطق أوكرانية معيّنة. هذا ما يفسر أيضاً كلّ هذه العدائية الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. هذه عدائية لديها ترجمة واضحة في العراق يعكسها الإنسداد السياسي الكامل منذ إجراء الانتخابات النيابية في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي وما أسفرت عنه من نتائج لم ترضِ طهران.

في اليمن، يظلّ أكثر ما يعبر عن العدائية الإيرانيّة رفض الحوثيين (جماعة أنصار الله) الذين ليسوا سوى أداة من أدوات “الحرس الثوري” الإقدام على أيّ خطوة في اتجاه فك الحصار عن مدينة تعز، وذلك خلال الزيارة التي قام بها لصنعاء مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة هانس غروندبرغ أخيراً.

حصر الرئيس الروسي كلّ خياراته بخيار واحد هو التصعيد. ما ينطبق على الرئيس الروسي ينطبق على “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي اعتقدت أنّها ستكون الرابح الأوّل من غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانية. يظهر، بكل بساطة، أن العالم يمرّ في مرحلة أكثر تعقيداً مما يعتقده النظام الإيراني الذي نسي أن هناك دولاً أخرى في المنطقة لديها حسابات خاصة بها. ليست إسرائيل وحدها ودول المنطقة العربية بين هذه الدول. هناك تركيا التي ترى فرصة متوافرة أمامها لتحقيق مكاسب في الشمال السوري!

اختارت روسيا التصعيد في أوكرانيا. اختارت إيران التصعيد أيضاً في كلّ المنطقة العربيّة. قد يكون هناك من سيرضخ لروسيا وإن موقتاً. لكنّ ليس في المنطقة العربيّة والعالم من يقبل الرضوخ لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” لا في سوريا ولا في مجال عقد صفقات جديدة معها.

النهار العربي

—————————

موسكو والغارات “الشريرة” على مطار دمشق/ نزار السهلي

في حديثه للمحطة الروسية “آر تي” أجاب رئيس النظام السوري بشار الأسد عن سؤال المذيعة عن رأي نظامه في العدوان الإسرائيلي المتكرر على السيادة السورية، خصوصاً بعد ساعات من الغارة الاسرائيلية على مطار دمشق ومحيطه بتاريخ 10 حزيران/ يونيو الحالي، فربط العدوان الإسرائيلي بـ”تقهقر الإرهابيين” على الأرض.. عبارة ظل يكررها إعلام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية، ومع كل تبرير للعدوان الصهيوني بوصفه مساندا لـ”لإرهابيين” السوريين استطاع جيش الأسد مضاعفة انتصاراته على ملايين الضحايا من اللاجئين والمذبوحين في زنازينه والمحطمة مدنهم وقراهم.

أجاب الأسد عن سؤال ما مصير إدلب؟ فاعتبرها “محتلة” وأن جيشه يتجهز لمواجهة الإرهابيين هناك عندما تتاح الظروف.

موقف رأس النظام السوري من العدوان الإسرائيلي على السيادة السورية واحتلال جزء منها وطرق الرد عليه، قبل اختراع فزاعة الإرهابيين بخمسة عقود.. لم تتغير اللغة والسلوك بشأن الرد المفترض والمباشر على الاحتلال، التغيير الكبير العاري لسلوك نظام الأسد وجيشه وقوته الأمنية ظهر في العقد الأخير بمواجهة الشارع السوري بالوحشية المتبعة معه في المناطق الثائرة والخارجة عن سيطرة نظامه، والتي يعتبرها مُحتلة من السوريين أنفسهم، خصوصا في المناطق التي لجأ إليها ملايين السوريين في الشمال هرباً من بطش ترسانته العسكرية؛ من طائرات ومدفعيه وصواريخ وبراميل متفجرة، التي لا فاعلية ولا أثر لها بمواجهة العدو الإسرائيلي.

أصبح من “عاديّات” العدوان الاسرائيلي على الأرض والسيادة السورية، التي حولها نظام الأسد لملطشة قوات الاحتلال بفضل السلوك الإجرامي المتبع على حواضر السوريين ومدنهم وبلداتهم، أن الغارات الإسرائيلية الأسبوعية أو الشهرية، توفرت لها بيئة مناسبة لاستمرارها. فهذا العدوان الذي يضيع في زحمة الحطام والدمار الذي نجا منه قصر الأسد، وما أحدثته ترسانة النظام على الأرض وفي الجو يشهد تنسيق عالٍ في العمليات بين المحتل الروسي ونظيره الإسرائيلي في سوريا.

الغارات الإسرائيلية التي طالت الجهات الأربع لمساحة سوريا على امتداد السنوات الماضية وصولاً لمحيط قصر النظام ومطار دمشق، تواجه برد وحيد: “تمكنت دفاعاتنا الجوية من إسقاط كل الصواريخ المعادية”، مع حاشية إدانة العدوان، وأصبحت محشوة في بعض بيانات وزارة الخارجية الروسية منذ مؤازرة موسكو العسكرية لنظام الأسد في العام 2015، حاشية تأتي لذر الرماد في عيون محور الممانعة.

مبررات السكوت والصمت عن العدوان، التي اختلقها نظام الأسد عن الزمان والمكان المفقود للرد، باستعمال ذرائع مفضوحة: “نحارب ونسحق عملاء إسرائيل في الداخل السوري”، تعكس الخضوع التام للجور والاستسلام له. وهي ميزة النظام السوري فيما يتعلق بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في مرتفعات الجولان ومقاومة العدوان الإسرائيلي المستمر والقائم منذ حزيران/ يونيو 1967.

وبغياب ردات الفعل غير الكلامية المبنية على الشعاراتية والمزايدة والثرثرة التي برع فيها النظام السوري طيلة عقود، حقق الاحتلال الإسرائيلي مشاريعه الاستيطانية وضم مرتفعات الجولان، ومع الانهيارات الهائلة لشعارات نظام الأسد بما يتعلق “بمقاومة” إسرائيل وصد العدوان، وإظهار مخلب ترسانته العسكرية الدموية على المجتمع السوري وبما يعجز عنه العدو نفسه من تحقيق للإنجازات التي حققها نظام الأسد على الأرض من انهيارات اجتماعية اقتصادية وسياسية ونفسية وثقافية، تُصبح جولة الغارات و”كزدورة” الصواريخ الإسرائيلية على مواقع النظام، مع مزاعم المحتل باستهدافه قواعد إيرانية للسلاح، مقبولة أكثر للترويج في الأوساط الغربية والأمريكية مع غياب تاريخي لمقاومة النظام للاحتلال لتحرير أرضه، مزاعم تلقى قبولاً وتفاهماً روسياً مع إسرئيل لم يعد خفياً بين حميميم وتل أبيب؛ رغم اعتراض البيان الأخير للناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، الذي جاء فيه: ” علينا أن نؤكد مرة أخرى أن القصف الإسرائيلي المستمر على أراضي الجمهورية العربية السورية، في انتهاك للقواعد الأساسية للقانون الدولي، أمر غير مقبول على الإطلاق”، مطالبة الجانب الإسرائيلي بوقف “هذه الممارسة الشريرة”.

الأمر غير المقبول أيضا انتهاك القانون الدولي الذي تمارسه موسكو في أماكن عدة في العالم، من سوريا إلى أوكرانيا، والامتعاض الروسي هنا من العدوان لا تعود مبدئيته للحرص على تطبيق القانون الدولي وحق الشعوب بمقاومة المحتلين والغزاة، لكن إذا تعلق الأمر بإسرائيل أو حلفائها، يكون مبدأ الحرص الروسي عدم إحراج الحليف الإسرائيلي لأصدقائه في موسكو وعواصم عربية حليفة لنظام الأسد على أرضية نجاحه في هزيمة السوريين “الإرهابيين عملاء إسرائيل”، وليس على قاعدة مقاومة العدوان الإسرائيلي في سوريا وفلسطين. والجميع متفق على ذلك بما فيهم الدور الروسي المشبع بالشر والإجرام بحق السوريين والقائم على تثبيت نظام الأسد بمخالب دائمة على المجتمع السوري، ومنزوعة للأبد بمواجهة الغارات الإسرائيلية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأرض السورية.

الرؤية والموقف الروسي من العدوان الإسرائيلي على سوريا، لا يختلف في مضمونه عن الموقف بما يتعلق أصلاً بالاحتلال الإسرائيلي والعدوان على الشعب الفلسطيني. وأصلاً النظام في سوريا لا يبحث عن موقف أو دعم عسكري واقتصادي يضعه في مواجهة عسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي لتحرير الأرض، وغير وارد في برامجه وخططه وخطط حلفائه المتحالفين مع إسرائيل، بحث سبل تفكيك بنيتهم المرتبطة ببقاء المشروع الاستعماري الشرير في فلسطين، والدليل أن يختم بشار الأسد حديثه للتلفزيون الروسي بثقته بجيشه وبنيته الأمنية على دحر السوريين من مدنهم وقراهم بفضل دعم المحتل الروسي.

عبّر الأسد عن سعادته البالغة بزيارة الإمارات العربية المتحدة التي استقبلت نفتالي بينيت قبل ساعات من الغارة على مطار دمشق، ولم يفت الأسد توجيه الشكر لموسكو ووسيلتها الإعلامية “RT” على دورها بتحقيق ما يريده الأسد وحلفاؤه بكل الاتجاهات ما عدا وجهة محاربة العدو الإسرائيلي.

كاتب وصحفي فلسطيني

عربي21

————————–

روسيا تبدأ المساومة على قرار المساعدات الأممي: ستمر عبر دمشق فقط

بدأت روسيا التلميح إلى نيتها عرقلة قرار المساعدات الأممية العابرة للحدود إلى سورية، قبل شهر على خضوع القرار للتصويت في مجلس الأمن الدولي.

وقال المبعوث الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، في تصريحات صحفية اليوم الأربعاء، إن الوقت قد حان لإيقاف آلية المساعدات العابرة للحدود إلى سورية، دون موافقة النظام السوري على هذه الآلية.

وأضاف لافرنتييف في مستهل الجولة 18 من محادثات “أستانة” التي انطلقت اليوم في العاصمة الكازاخية نور سلطان، إن بلاده تؤيد إلغاء المساعدات العابرة للحدود وتقليصها، وحصرها عبر حكومة النظام فقط، مشيراً إلى أنه تم إنشاؤها قبل أعوام “كإجراء مؤقت”.

وبحسب المبعوث الروسي، فإن الغرب لم يبدِ استعداداً لتخفيف العقوبات المفروضة على النظام السوري، وقد “حان الوقت أن تمر المساعدات بشكل قانوني عبر دمشق”.

وأضاف: “جميع الالتزامات التي وعد بها الغرب قبل عام بتنفيذ مشاريع التعافي المبكر وإعادة الإعمار (في سورية) لم ينفذها، لذلك في ظل هذه الظروف من المحتمل أن نفكر في تقليص آلية عبور الحدود”.

وألمح المسؤول الروسي إلى أن بلاده سوف تعارض تمديد التفويض الأممي للمساعدات العابرة للحدود، بصيغته الحالية، وقد تطرح آليات جديدة للتفويض.

ويأتي ذلك قبل شهر على انتهاء التفويض الأممي الخاص بإيصال المساعدات العابرة للحدود إلى سورية، والذي سيخضع للتصويت من أجل تمديده خلال جلسة لمجلس الأمن في يوليو/ تموز المقبل.

وكان مجلس الأمن الدولي تبنى قراراً في يوليو/ تموز 2021، يقضي بتمديد إيصال المساعدات إلى سورية عبر معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، عاماً إضافياً على مرحلتين، تبلغ مدة كل واحدة منها ستة أشهر.

وتواجه العمليات الإنسانية العابرة للحدود في سورية، منذ عام 2014، عقبات روسية في مجلس الأمن، متمثلة باستخدام “حق النقض” (فيتو)، إذ ترى موسكو أن هذه الآلية هي “انتهاك للسيادة السورية”، كونها لم تمر عن طريق حكومة النظام، وكونها لا تشترط موافقته بالأساس.

لكن الرؤية الروسية تبدو وكأنها ذرائع لعرقلة مرور المساعدات، التي يستفيد منها ملايين الأشخاص المتضررين في شمال وغرب سورية، وتحاول روسيا أن تحوّل مسار المساعدات ليعبر عن طريق نظام الأسد، الذي لطالما عاقب المناطق الرافضة لحكمه بالتجويع والحصار.

===============

تحديث 17 حزيران 2022

———————–

من سوريا إلى أوكرانيا: تحديد أوجه التشابه بين استراتيجيتي “دبيب النمل” الروسية والأرض المحروقة/ صلاح الدين هوى

تحليل موجز

بعد مرور أكثر من شهرين على الغزو المتعثر لأوكرانيا، كان على روسيا إعادة حساباتها واللجوء إلى تكتيك مألوف لدى السوريين جميعا، وهو ما يطلق عليه “دبيب النمل” أو “سياسة الأرض المحروقة”.

ربما أن المحاولة الأولية للغزو الروسي لأوكرانيا قد فشلت في تحقيق النصر الخاطف الذي كانت تتوقعه موسكو بلا شك، فإن الرئيس بوتين وجنرالاته يقومون حاليا بإعادة ترتيب الميدان بغية فرض واقع جديد شديد الوحشية. تلك الوحشية الروسية مألوفة إلى حد كبير لدى كثير من السوريين، حيث تتشابه الحرب في أوكرانيا في عدد من الأوجه مع الحرب في سوريا، وهذا التشابه يمكن أن يوفر نظرة ثاقبة بخصوص الأشهر المقبلة. ومع ذلك، فإن الرد القوي من قبل الغرب على العدوان الروسي في أوكرانيا يشكل هاجسا يلازم أيضًا كثيرا من السوريين الذين يقارنون حجم الدعم المقدم لأوكرانيا بالدعم المقدم لهم في محنتهم.

في الواقع، يعكس الصراع الحالي في أوكرانيا – والذي يتشابه بشكل كبير مع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط – صراعاً قديماً يسبق الصراع في سوريا. فمن جهة، حرَمت التحذيرات التي أصدرتها “وكالة المخابرات المركزية” وغيرها من وكالات الاستخبارات الغربية في مرحلة ما قبل الغزو، الروس من عنصر المفاجأة. فزودت هذه الوكالات وسائل الإعلام بفيضٍ من المعلومات الدقيقة عن عدد القوات الروسية المنتشرة على حدود أوكرانيا ومعداتها ويوم الهجوم.

ولم تترك هذه التسريبات للمسؤولين الروس سوى خيار اللجوء إلى الكوميديا ​​السوداء من أجل محاولة تضليل الأوكرانيين والدول الغربية. ففيما طالبت ماريا زاخاروفا بسخرية وسائل الإعلام الغربية بتقديم جدول الغزو حتى يتمكن الدبلوماسيون الروس من “التخطيط لعطلاتهم”، نصح دبلوماسي روسي آخر هو ديمتري بوليانسكي القادة الغربيين بمراجعة طبيب بسبب إصابتهم بـ”جنون الارتياب”. وبعد أسبوع من حملة التضليل هذه، سرعان ما تُرجمت نوايا روسيا إلى غزو واسع النطاق لأوكرانيا.

إلا أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين حول عدم رغبتهم في التورط في نزاع مباشر مع روسيا ربما سهلت قرار بوتين ببدء الغزو. وبما أن أوكرانيا ليست عضوًا في حلف الناتو، أقدم مضى المسؤولون الأمريكيون بالتصريح بأن أمريكا لن ترسل قوات أمريكية إلى أوكرانيا ولا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا. وأعطت هذه التصريحات لروسيا انطباعًا بأن أمريكا كانت جادة بشأن “حيادها”، لا سيما أن تركيزها ينصب على الصين التي تهدد بغزو تايوان.

ربما فسر بوتين هذه التصريحات على أنها تعكس لامبالاة أمريكية أو حتى تعطيه ضوءً أخضر للشروع في خططه في أوكرانيا، فوفقاً لمراقبين إقليميين، بدا كأنه يعيد للذاكرة المحادثات التي سبقت غزو صدام حسين للكويت. ففي عام 1990، عندما نشر الرئيس العراقي صدام حسين قواته على الحدود الكويتية، التقى بالسفيرة الأمريكية في بغداد أبريل غلاسبي لاكتشاف ما سيكون عليه الرد الأمريكي إذا غزا الكويت. وبحسب عدة مصادر، ومن بينها تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في 23 أيلول/سبتمبر 1990، أكدت غلاسبي للرئيس العراقي على القرار الأمريكي “بعدم التدخل في النزاعات العربية-العربية مثل الخلافات الحدودية بين العراق والكويت”. واعتُبرت تصريحات غلاسبي خلال الاجتماع بمثابة ضوء أخضر أعطته الولايات المتحدة حتى يشرع صدام حسين في غزو الكويت الذي حدث بعد أسبوع من ذلك الاجتماع.

لكن سرعان ما قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا دمّر قدرات القوات العراقية وطردها من الكويت. وفي حين بدت الولايات المتحدة في البداية على أنها ستعمل على تقييد مشاركتها النشطة في الصراع، أكدت التقارير الأخيرة أن الولايات المتحدة عازمة على بيع طائرات قتالية بدون طيار لأوكرانيا، بالإضافة لإقرارها مؤخراً مشروع قانون يهدف الى توفير 40 مليار دولار من المساعدات العسكرية والإنسانية لأوكرانيا.

الاستراتيجية الروسية

يشير المسار الروسي في سوريا إلى أن تعرض روسيا لانتكاسات في أي صراعات غالبا ما سيكون له عواقب وخيمة على الأوكرانيين في نهاية المطاف. وبما أن استخدام الصواريخ الباليستية لا يحسم المعارك البرية، كان على بوتين البحث عن مخرج لإنقاذ نفسه وتجنب أن تلحق به “هزيمة استراتيجية”.

وبالتزامن مع المفاوضات الأولية المباشرة التي جرت بوساطة تركية في أواخر أذار/مارس، وقيام بوتين بإعادة تقييم انتكاسة قواته حول مدينة كييف، استغل بوتين المفاوضات لتقليص نطاق أهدافه حتى تشمل السيطرة على دونيتسك ولوهانسك الواقعتين في إقليم دونباس. وكان من الواضح أن الروس قد أدركوا أن الطريقة الوحيدة للسيطرة على مناطق في أوكرانيا هي من خلال تطبيق سياسة “الأرض المحروقة” حيث تقضم الأراضي بأسلوب “دبيب النمل”.

إنَ فَهْم ما ينتظر الأراضي الأوكرانية الآن يتطلب ببساطة إلقاء نظرة على أحدث مسرح للعمليات الروسية. فقد انخرطت روسيا في مساعدة الأسد في محاولاته لقمع شعبه عقب استقدام الأسد ميليشيات طائفية من إيران والعراق وأفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى “حزب الله” اللبناني بغية القضاء على الثورة. ومع ذلك، لم تتمكن تلك المليشيات من إخضاع السوريين الذين كانوا يطالبون بالحرية والكرامة.

ورغم المعاناة في ظل وجود كل هذه القوات – إضافة إلى تمدد تنظيم “داعش” في المنطقة – إلا أن الحياة ساءت بعد أن أقحمت روسيا نفسها. فمنذ سبع سنوات حتى الآن، تساعد كانت الطائرات الحربية الروسية تساعد الأسد بقوة في استعادة مناطق واسعة من قبضة الثوار السوريين وتشكيل دولة يسيطر عليها النظام في غرب البلاد.

أطلقت روسيا عملية “دبيب النمل”، وهي سياسة “الأرض المحروقة”، بهدف القضاء على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من خلال تقطيعها مع مرور الوقت، ثم محاصرة المدن والبلدات الصامدة في وجهها. وتعرضت المدن والبلدات المحاصرة لغارات جوية وهجمات صاروخية روسية مكثفة استهدفت بنيتها التحتية ومناطقها السكنية، مما أوقع إصابات كبيرة في صفوف المدنيين وأدى إلى نزوح كافة سكانها بشكل جماعي. ونتيجة لذلك، تمكنت الميليشيات الموالية للأسد، خلال فترة قصيرة نسبيًا، من استعادة مناطق واسعة من المعارضة السورية مباشرة عقب التدخل العسكري الروسي.

وفي ذا السياق، فقد اتهمت الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى القوات الروسية والميليشيات الموالية للأسد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبسبب الخسائر البشرية الفادحة، نزح أكثر من 13 مليون سوري (أي أكثر من نصف عدد السكان السوريين) أو أصبحوا لاجئين في عدة بلدان مجاورة وبعيدة.

في حين كانت محنة اللاجئين السوريين واضحة على المستوى الدولي، إلا أن مئات الآلاف من النازحين السوريين داخليًا يعيشون في خيامٍ على الحدود بين سوريا وتركيا منذ عدة سنوات. ويمثل هذا التهجير المتعمد جزءً من عملية تغيير ديموغرافي شامل، ففي تقرير أصدرته “منظمة الدفاع المدني السوري” (“الخوذ البيضاء”) في أيلول/سبتمبر 2021، وجهت اتهامًا إلى القوات الروسية والموالية للأسد بتنفيذ “حملات تهجير… من أجل إخلاء مدنٍ تُعتبَر مناهضة للحكومة”. وأدت هذه الحملات إلى “تدمير الأحياء الشرقية لمدينة حلب في عام 2016، وما نتج عنه من تهجير لأهالي الأحياء… وتهجير أهالي ريف دمشق الغربي والأحياء الشرقية لدمشق في عام 2017”.

وتحديدًا في عام 2018، عانت المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من “تهجير منهجي… [في] أحياء الغوطة الشرقية والقلمون في ريف دمشق الجنوبي، و[في] مناطق في ريف حمص الشمالي، و[في] جنوب سوريا في القنيطرة ودرعا”.

إن قرار تطهير أجزاء من سوريا من معارضي الأسد، وتقسيم البلاد مع ضمان الدعم الكامل أو الخضوع للأسد في مناطق سيطرته النظام، يمثل استراتيجية ربما تتكرر في إقليم دونباس. وبعد أن حقق بوتين أهدافه في سوريا، قاده نهمه الذي لا يشبع من إخضاع الشعوب الأخرى وحرمانها من نظامها الحر والديمقراطي إلى التوجه نحو هدفه التالي: أي أوكرانيا.

ومع فشل الجهود الروسية الأولية لإجبار كييف على الخضوع من خلال غزو بري واسع النطاق، عادت روسيا الى استخدام تكتيك الأرض المحروقة – أو “دبيب النمل” – وهو طريقتهم الوحيدة لتحقيق “النصر”. ومن أجل تطبيقه، نُقِل كبار الضباط الذين قادوا عملية “دبيب النمل” الروسية من سوريا لقيادة العملية الروسية في أوكرانيا. وفي وقت لاحق، ورد في التقارير أن بعض هؤلاء الضباط قُتِلوا في حوادث مختلفة في أوكرانيا.

وما لا يمكن إنكاره أيضًا هو أن التقارير الدولية التي تناولت الفظائع الروسية في أوكرانيا تشبه لحد كبير تلك الفظائع التي ارتُكبت في سوريا، مذبحة بوتشا إلى الروايات عن اغتصاب النساء والفتيات الأوكرانيات على نطاق واسع. وعندما تنسحب القوات الروسية من المدن الأوكرانية بالتفاهم أو تُطرد منها، فإنها تترك وراءها قصصًا مروعة عن عمليات القتل الجماعي والاغتصاب في محاكاة للعنف الممنهج الذى ارتُكِب بحق المدنيين في سوريا.

المعاناة مع الفارق في الاستجابة الدولية

يعكس الانخراط المتزايد للولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية في الأزمة الأوكرانية مدى التباين في تعاطى تلك الدول مع الأزمة السورية والأوكرانية فعلى الرغم من أوجه التشابه الكبيرة في التدمير الممنهج للمدن السورية والأوكرانية، إلا أن الاختلاف في التعامل الدولي مع كلا الأزمتين كان صادماً. فقد لاقت الفظائع التي ارتُكبت في أوكرانيا تعاطفًا دوليًا واسعًا رافقته دعوات إلى محاكمة المسؤولين الروس في “المحكمة الجنائية الدولية”. وفضلًا عن ذلك، فقد فُرِضت عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على القيادة والمؤسسات الروسية. كما سارع مسؤولون رفيعو المستوى من دول مختلفة بالإضافة إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة إلى أوكرانيا ليشهدوا الدمار والمجازر التي ارتكبتها القوات الروسية.

في المقابل، فقد شجّع الصمت الدولي الروس والقوات الموالية للأسد على ارتكاب مجازر مروعة بحق الشعب السوري. لذلك، لا يمكن رد أسباب هذا الموقف الدولي لندرة المعلومات، حيث تم توثيق تلك الفظائع بشكل جيد لعدة سنوات. ففي تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الصادر في آب/أغسطس 2019، تم تسليط الضوء على قيام القوات الروسية والموالية للأسد بـ”الاستخدام الواسع النطاق والمتكرر” لـ”الأسلحة الحارقة والذخائر العنقودية والصواريخ العادية والصواريخ المملوءة بالمسامير والبراميل المتفجرة وصولًا إلى أسلحة الدمار الشامل الكيميائية”.

ومع أن تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان قيّمت هذه الانتهاكات في أحيان كثيرة على أنها ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لم تتم محاسبة الجناة الروس والسوريين حتى الآن. وفى حين قامت الولايات المتحدة بسن عقوبات قانون قيصر، إلا أنها لم تفرض أي عقوبات على روسيا على وجه التحديد، كما تم التشكيك مرارًا في مدى فعالية تلك العقوبات ضد مسؤولي النظام السوري. كل ذلك يشكل تناقضاً حاداً مع الجهود السريعة والمنسقة جيدا من قبل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ردًا على الإجراءات الروسية في أوكرانيا.

وفى ظل تغيير مجريات الحرب التي كانت تتوقع فيها روسيا تحقيق نصر خاطف، ربما تعيد إدارة بايدن إحياء خطة غلاسبي لجرّ بوتين إلى الفخ الأوكراني من أجل تدمير القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية. وستوفّر هذه الخطة على أمريكا الدخول في مواجهة مستقبلية مع خصمين قويين ومتعاونين هما: الصين وروسيا. على نحو مماثل، فقد أشار أوباما إلى أن تورط روسيا في سوريا سيكون بمثابة التورط في “مستنقع” – ومع ذلك فإن صراعاً واحداً فقط أثار تدفق الكثير من المساعدات العسكرية للقتال ضد روسيا بشكل صريح.

على عكس أوكرانيا، لم يتم تزويد الثوار السوريين بأي صواريخ أرض – جو أو أسلحة فتاكة أو معلومات استخباراتية للحد من فعالية الغارات الجوية الروسية والسورية. عوضا عن ذلك، ركزت المساعدة على محاربة تنظيم “داعش”، ففي مطلع عام 2018، قدمت الولايات المتحدة ما يقدر بنحو 28.5 مليار دولار لمحاربة التنظيم في العراق وسوريا، واستثنت فصائل الجيش السوري الحر من تلك المساعدات. كما طلب ترامب 300 مليون دولار فقط في السنة المالية 2020 “لمواصلة تجهيز ودعم القوات الشريكة السورية”.

ربما أن المحاولة الأولية للغزو الروسي لأوكرانيا قد فشلت في تحقيق النصر الخاطف الذي كانت تتوقعه موسكو بلا شك، فإن الرئيس بوتين وجنرالاته يقومون حاليا بإعادة ترتيب الميدان بغية فرض واقع جديد شديد الوحشية. تلك الوحشية الروسية مألوفة إلى حد كبير لدى كثير من السوريين، حيث تتشابه الحرب في أوكرانيا في عدد من الأوجه مع الحرب في سوريا، وهذا التشابه يمكن أن يوفر نظرة ثاقبة بخصوص الأشهر المقبلة. ومع ذلك، فإن الرد القوي من قبل الغرب على العدوان الروسي في أوكرانيا يشكل هاجسا يلازم أيضًا كثيرا من السوريين الذين يقارنون حجم الدعم المقدم لأوكرانيا بالدعم المقدم لهم في محنتهم.

في الواقع، يعكس الصراع الحالي في أوكرانيا – والذي يتشابه بشكل كبير مع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط – صراعاً قديماً يسبق الصراع في سوريا. فمن جهة، حرَمت التحذيرات التي أصدرتها “وكالة المخابرات المركزية” وغيرها من وكالات الاستخبارات الغربية في مرحلة ما قبل الغزو، الروس من عنصر المفاجأة. فزودت هذه الوكالات وسائل الإعلام بفيضٍ من المعلومات الدقيقة عن عدد القوات الروسية المنتشرة على حدود أوكرانيا ومعداتها ويوم الهجوم.

ولم تترك هذه التسريبات للمسؤولين الروس سوى خيار اللجوء إلى الكوميديا ​​السوداء من أجل محاولة تضليل الأوكرانيين والدول الغربية. ففيما طالبت ماريا زاخاروفا بسخرية وسائل الإعلام الغربية بتقديم جدول الغزو حتى يتمكن الدبلوماسيون الروس من “التخطيط لعطلاتهم”، نصح دبلوماسي روسي آخر هو ديمتري بوليانسكي القادة الغربيين بمراجعة طبيب بسبب إصابتهم بـ”جنون الارتياب”. وبعد أسبوع من حملة التضليل هذه، سرعان ما تُرجمت نوايا روسيا إلى غزو واسع النطاق لأوكرانيا.

إلا أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين حول عدم رغبتهم في التورط في نزاع مباشر مع روسيا ربما سهلت قرار بوتين ببدء الغزو. وبما أن أوكرانيا ليست عضوًا في حلف الناتو، أقدم مضى المسؤولون الأمريكيون بالتصريح بأن أمريكا لن ترسل قوات أمريكية إلى أوكرانيا ولا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا. وأعطت هذه التصريحات لروسيا انطباعًا بأن أمريكا كانت جادة بشأن “حيادها”، لا سيما أن تركيزها ينصب على الصين التي تهدد بغزو تايوان.

ربما فسر بوتين هذه التصريحات على أنها تعكس لامبالاة أمريكية أو حتى تعطيه ضوءً أخضر للشروع في خططه في أوكرانيا، فوفقاً لمراقبين إقليميين، بدا كأنه يعيد للذاكرة المحادثات التي سبقت غزو صدام حسين للكويت. ففي عام 1990، عندما نشر الرئيس العراقي صدام حسين قواته على الحدود الكويتية، التقى بالسفيرة الأمريكية في بغداد أبريل غلاسبي لاكتشاف ما سيكون عليه الرد الأمريكي إذا غزا الكويت. وبحسب عدة مصادر، ومن بينها تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في 23 أيلول/سبتمبر 1990، أكدت غلاسبي للرئيس العراقي على القرار الأمريكي “بعدم التدخل في النزاعات العربية-العربية مثل الخلافات الحدودية بين العراق والكويت”. واعتُبرت تصريحات غلاسبي خلال الاجتماع بمثابة ضوء أخضر أعطته الولايات المتحدة حتى يشرع صدام حسين في غزو الكويت الذي حدث بعد أسبوع من ذلك الاجتماع.

لكن سرعان ما قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا دمّر قدرات القوات العراقية وطردها من الكويت. وفي حين بدت الولايات المتحدة في البداية على أنها ستعمل على تقييد مشاركتها النشطة في الصراع، أكدت التقارير الأخيرة أن الولايات المتحدة عازمة على بيع طائرات قتالية بدون طيار لأوكرانيا، بالإضافة لإقرارها مؤخراً مشروع قانون يهدف الى توفير 40 مليار دولار من المساعدات العسكرية والإنسانية لأوكرانيا.

الاستراتيجية الروسية

يشير المسار الروسي في سوريا إلى أن تعرض روسيا لانتكاسات في أي صراعات غالبا ما سيكون له عواقب وخيمة على الأوكرانيين في نهاية المطاف. وبما أن استخدام الصواريخ الباليستية لا يحسم المعارك البرية، كان على بوتين البحث عن مخرج لإنقاذ نفسه وتجنب أن تلحق به “هزيمة استراتيجية”.

وبالتزامن مع المفاوضات الأولية المباشرة التي جرت بوساطة تركية في أواخر أذار/مارس، وقيام بوتين بإعادة تقييم انتكاسة قواته حول مدينة كييف، استغل بوتين المفاوضات لتقليص نطاق أهدافه حتى تشمل السيطرة على دونيتسك ولوهانسك الواقعتين في إقليم دونباس. وكان من الواضح أن الروس قد أدركوا أن الطريقة الوحيدة للسيطرة على مناطق في أوكرانيا هي من خلال تطبيق سياسة “الأرض المحروقة” حيث تقضم الأراضي بأسلوب “دبيب النمل”.

 إنَ فَهْم ما ينتظر الأراضي الأوكرانية الآن يتطلب ببساطة إلقاء نظرة على أحدث مسرح للعمليات الروسية. فقد انخرطت روسيا في مساعدة الأسد في محاولاته لقمع شعبه عقب استقدام الأسد ميليشيات طائفية من إيران والعراق وأفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى “حزب الله” اللبناني بغية القضاء على الثورة. ومع ذلك، لم تتمكن تلك المليشيات من إخضاع السوريين الذين كانوا يطالبون بالحرية والكرامة.

ورغم المعاناة في ظل وجود كل هذه القوات – إضافة إلى تمدد تنظيم “داعش” في المنطقة – إلا أن الحياة ساءت بعد أن أقحمت روسيا نفسها. فمنذ سبع سنوات حتى الآن، تساعد كانت الطائرات الحربية الروسية تساعد الأسد بقوة في استعادة مناطق واسعة من قبضة الثوار السوريين وتشكيل دولة يسيطر عليها النظام في غرب البلاد.

أطلقت روسيا عملية “دبيب النمل”، وهي سياسة “الأرض المحروقة”، بهدف القضاء على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من خلال تقطيعها مع مرور الوقت، ثم محاصرة المدن والبلدات الصامدة في وجهها. وتعرضت المدن والبلدات المحاصرة لغارات جوية وهجمات صاروخية روسية مكثفة استهدفت بنيتها التحتية ومناطقها السكنية، مما أوقع إصابات كبيرة في صفوف المدنيين وأدى إلى نزوح كافة سكانها بشكل جماعي. ونتيجة لذلك، تمكنت الميليشيات الموالية للأسد، خلال فترة قصيرة نسبيًا، من استعادة مناطق واسعة من المعارضة السورية مباشرة عقب التدخل العسكري الروسي.

وفي ذا السياق، فقد اتهمت الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى القوات الروسية والميليشيات الموالية للأسد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبسبب الخسائر البشرية الفادحة، نزح أكثر من 13 مليون سوري (أي أكثر من نصف عدد السكان السوريين) أو أصبحوا لاجئين في عدة بلدان مجاورة وبعيدة.

في حين كانت محنة اللاجئين السوريين واضحة على المستوى الدولي، إلا أن مئات الآلاف من النازحين السوريين داخليًا يعيشون في خيامٍ على الحدود بين سوريا وتركيا منذ عدة سنوات. ويمثل هذا التهجير المتعمد جزءً من عملية تغيير ديموغرافي شامل، ففي تقرير أصدرته “منظمة الدفاع المدني السوري” (“الخوذ البيضاء”) في أيلول/سبتمبر 2021، وجهت اتهامًا إلى القوات الروسية والموالية للأسد بتنفيذ “حملات تهجير… من أجل إخلاء مدنٍ تُعتبَر مناهضة للحكومة”. وأدت هذه الحملات إلى “تدمير الأحياء الشرقية لمدينة حلب في عام 2016، وما نتج عنه من تهجير لأهالي الأحياء… وتهجير أهالي ريف دمشق الغربي والأحياء الشرقية لدمشق في عام 2017”.

 وتحديدًا في عام 2018، عانت المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من “تهجير منهجي… [في] أحياء الغوطة الشرقية والقلمون في ريف دمشق الجنوبي، و[في] مناطق في ريف حمص الشمالي، و[في] جنوب سوريا في القنيطرة ودرعا”.

إن قرار تطهير أجزاء من سوريا من معارضي الأسد، وتقسيم البلاد مع ضمان الدعم الكامل أو الخضوع للأسد في مناطق سيطرته النظام، يمثل استراتيجية ربما تتكرر في إقليم دونباس. وبعد أن حقق بوتين أهدافه في سوريا، قاده نهمه الذي لا يشبع من إخضاع الشعوب الأخرى وحرمانها من نظامها الحر والديمقراطي إلى التوجه نحو هدفه التالي: أي أوكرانيا.

ومع فشل الجهود الروسية الأولية لإجبار كييف على الخضوع من خلال غزو بري واسع النطاق، عادت روسيا الى استخدام تكتيك الأرض المحروقة – أو “دبيب النمل” – وهو طريقتهم الوحيدة لتحقيق “النصر”. ومن أجل تطبيقه، نُقِل كبار الضباط الذين قادوا عملية “دبيب النمل” الروسية من سوريا لقيادة العملية الروسية في أوكرانيا. وفي وقت لاحق، ورد في التقارير أن بعض هؤلاء الضباط قُتِلوا في حوادث مختلفة في أوكرانيا.

وما لا يمكن إنكاره أيضًا هو أن التقارير الدولية التي تناولت الفظائع الروسية في أوكرانيا تشبه لحد كبير تلك الفظائع التي ارتُكبت في سوريا، مذبحة بوتشا إلى الروايات عن اغتصاب النساء والفتيات الأوكرانيات على نطاق واسع. وعندما تنسحب القوات الروسية من المدن الأوكرانية بالتفاهم أو تُطرد منها، فإنها تترك وراءها قصصًا مروعة عن عمليات القتل الجماعي والاغتصاب في محاكاة للعنف الممنهج الذى ارتُكِب بحق المدنيين في سوريا.

المعاناة مع الفارق في الاستجابة الدولية

يعكس الانخراط المتزايد للولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية في الأزمة الأوكرانية مدى التباين في تعاطى تلك الدول مع الأزمة السورية والأوكرانية فعلى الرغم من أوجه التشابه الكبيرة في التدمير الممنهج للمدن السورية والأوكرانية، إلا أن الاختلاف في التعامل الدولي مع كلا الأزمتين كان صادماً. فقد لاقت الفظائع التي ارتُكبت في أوكرانيا تعاطفًا دوليًا واسعًا رافقته دعوات إلى محاكمة المسؤولين الروس في “المحكمة الجنائية الدولية”. وفضلًا عن ذلك، فقد فُرِضت عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على القيادة والمؤسسات الروسية. كما سارع مسؤولون رفيعو المستوى من دول مختلفة بالإضافة إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة إلى أوكرانيا ليشهدوا الدمار والمجازر التي ارتكبتها القوات الروسية.

في المقابل، فقد شجّع الصمت الدولي الروس والقوات الموالية للأسد على ارتكاب مجازر مروعة بحق الشعب السوري. لذلك، لا يمكن رد أسباب هذا الموقف الدولي لندرة المعلومات، حيث تم توثيق تلك الفظائع بشكل جيد لعدة سنوات. ففي تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الصادر في آب/أغسطس 2019، تم تسليط الضوء على قيام القوات الروسية والموالية للأسد بـ”الاستخدام الواسع النطاق والمتكرر” لـ”الأسلحة الحارقة والذخائر العنقودية والصواريخ العادية والصواريخ المملوءة بالمسامير والبراميل المتفجرة وصولًا إلى أسلحة الدمار الشامل الكيميائية”.

ومع أن تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان قيّمت هذه الانتهاكات في أحيان كثيرة على أنها ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لم تتم محاسبة الجناة الروس والسوريين حتى الآن. وفى حين قامت الولايات المتحدة بسن عقوبات قانون قيصر، إلا أنها لم تفرض أي عقوبات على روسيا على وجه التحديد، كما تم التشكيك مرارًا في مدى فعالية تلك العقوبات ضد مسؤولي النظام السوري. كل ذلك يشكل تناقضاً حاداً مع الجهود السريعة والمنسقة جيدا من قبل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ردًا على الإجراءات الروسية في أوكرانيا.

وفى ظل تغيير مجريات الحرب التي كانت تتوقع فيها روسيا تحقيق نصر خاطف، ربما تعيد إدارة بايدن إحياء خطة غلاسبي لجرّ بوتين إلى الفخ الأوكراني من أجل تدمير القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية. وستوفّر هذه الخطة على أمريكا الدخول في مواجهة مستقبلية مع خصمين قويين ومتعاونين هما: الصين وروسيا. على نحو مماثل، فقد أشار أوباما إلى أن تورط روسيا في سوريا سيكون بمثابة التورط في “مستنقع” – ومع ذلك فإن صراعاً واحداً فقط أثار تدفق الكثير من المساعدات العسكرية للقتال ضد روسيا بشكل صريح.

على عكس أوكرانيا، لم يتم تزويد الثوار السوريين بأي صواريخ أرض – جو أو أسلحة فتاكة أو معلومات استخباراتية للحد من فعالية الغارات الجوية الروسية والسورية. عوضا عن ذلك، ركزت المساعدة على محاربة تنظيم “داعش”، ففي مطلع عام 2018، قدمت الولايات المتحدة ما يقدر بنحو 28.5 مليار دولار لمحاربة التنظيم في العراق وسوريا، واستثنت فصائل الجيش السوري الحر من تلك المساعدات. كما طلب ترامب 300 مليون دولار فقط في السنة المالية 2020 “لمواصلة تجهيز ودعم القوات الشريكة السورية”.

وبالتالي، فإن مقارنة الدمار في مدينة ماريوبول الأوكرانية بالدمار في مدينة حلب السورية (بعد أن ألحقت الهجمات الروسية بكليهما دمارًا شديدًا) – يثير غضب المتمردين المناهضين للأسد والحكومات التي تتذكر غياب أي رد دولي ملموس على الفظائع الأخيرة في سوريا.

كما علق بعض قادة المنطقة على هذا التناقض، فخلال “منتدى الدوحة”، أشار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بمرارة على حقيقة أن “رد فعل المجتمع الدولي إزاء الأزمتين كان مختلفًا.”

وبعد فوات الأوان، أدرك عدة مراقبين وسياسيين أن الأزمة الأوكرانية نشأت في سوريا. إلا أن قلةً منهم تحلوا بالشجاعة التي أظهرها أليكسي أريستوفيتش عندما صرح على حسابه على تويتر بأن “الغرب نفسه… هو من ربّى الوحش بوتين”.

لقد أدى تملص روسيا من المسؤولية عن جرائمها في سوريا إلى تشجيعها على تكرارها في أوكرانيا. لذلك، ثمة فرصة لا تُفوَّت أمام الغرب عمومًا والإدارة الأمريكية بشكل خاص لمحاسبة المسؤولين الروس والسوريين على قتل مئات الآلاف من المواطنين الأوكرانيين والسوريين. وفى حال خروج روسيا من الحرب منتصرة، فثمة احتمال كبير لتكرار السيناريو مجدداً، حيث سيعاني مواطنو دول أخرى أيضًا من نتائج عملية “دبيب النمل” الروسية.

كما علق بعض قادة المنطقة على هذا التناقض، فخلال “منتدى الدوحة”، أشار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بمرارة على حقيقة أن “رد فعل المجتمع الدولي إزاء الأزمتين كان مختلفًا”.

وبعد فوات الأوان، أدرك عدة مراقبين وسياسيين أن الأزمة الأوكرانية نشأت في سوريا. إلا أن قلةً منهم تحلوا بالشجاعة التي أظهرها أليكسي أريستوفيتش عندما صرح على حسابه على تويتر بأن “الغرب نفسه… هو من ربّى الوحش بوتين”.

لقد أدى تملص روسيا من المسؤولية عن جرائمها في سوريا إلى تشجيعها على تكرارها في أوكرانيا. لذلك، ثمة فرصة لا تُفوَّت أمام الغرب عمومًا والإدارة الأمريكية بشكل خاص لمحاسبة المسؤولين الروس والسوريين على قتل مئات الآلاف من المواطنين الأوكرانيين والسوريين. وفى حال خروج روسيا من الحرب منتصرة، فثمة احتمال كبير لتكرار السيناريو مجدداً، حيث سيعاني مواطنو دول أخرى أيضًا من نتائج عملية “دبيب النمل” الروسية.

صلاح الدين هوى، هو ناشط سوري معارض لنظام للأسد، عمل كمدير سابق لدى مديرية التربية والتعليم في حلب، سوريا، كما حصل على إجازة في الأدب الإنجليزي، ودبلومة في التربية من جامعة حلب.

———————————

آستانا 18 ونهاية التكهنات بشأن تل رفعت ومنبج/ بكر صدقي

تأخر صدور موقف رسمي من روسيا بشأن مشروع التدخل التركي الجديد في شمال سوريا إلى حين بداية اجتماعات «آستانا 18» في العاصمة الكازاخية، فقال المبعوث الرئاسي الروسي للملف السوري ألكسندر لافرينتييف إن «هذا التدخل سيفتقد إلى الحكمة» لأن من شانه أن يثير صراعات جديدة ويزيد من تعقيد الأوضاع في المنطقة.

أما تلفزيون NTV التابع للدولة في روسيا فقد عبر عن موقف أكثر حدة تجاه النوايا التركية المعلنة، فخصص ملفاً عن الموضوع، عشية اجتماعات آستانا المشار إليها، وصف فيه الوجود العسكري التركي في الأراضي السورية بالاحتلال، واعتبر أن العملية العسكرية الجديدة المحتملة ستكون هجوماً «على الكرد بالتحالف مع الجهاديين»! كما بث تصريحات لقائد «قوات سوريا الديمقراطية» مظلوم عبدي الذي عبر عن استعداد قواته للتنسيق مع قوات الأسد في صد الهجوم التركي المحتمل، مع الإشارة إلى احتمال استهداف الطائرات التركية بمضادات النظام في حال بدأ الهجوم.

يأتي ذلك بعد أيام على زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى أنقرة حيث عبّر عن «تفهّم بلاده للهواجس الأمنية التركية في سوريا» من غير أن يعطي موافقة على العملية التركية المحتملة ضد تل رفعت ومنبج كما جاء على لسان الرئيس اردوغان.

ربط معظم المراقبين بحق بين تنفيذ العملية العسكرية التركية والحصول على موافقة كل من واشنطن وموسكو، أو غض نظرهما على الأقل، وذلك استئناساً بالعمليات الثلاث السابقة في كل من جرابلس ـ الباب، وعفرين، ورأس العين ـ تل أبيض، فهي لم تتحقق إلا بضوء أخضر أمريكي أو روسي أو كليهما معاً. أما التحليلات الرغبوية التي تعطي تركيا ورئيسها إمكانيات تفوق الواقع فقد اعتبرت أن الرئيس التركي ما كان سيتورط بتصريحاته بشأن تل رفعت ومنبج لولا حصوله على الضوء الأخضر الأمريكي أو الروسي، أو أنه قادر على فرض أمر واقع على الجميع. لكن واقع الحال هو أن كلاً من واشنطن وموسكو، وبخاصة هذه الأخيرة، قد أثبتتا لتركيا أن أي عمل بغير موافقتهما ستكون له عواقب مؤلمة، كما حدث بعد إسقاط تركيا لطائرة سوخوي الروسية في 2015، وكذلك حين استهدف الطيران الروسي والأسدي قافلة عسكرية تركية في محافظة إدلب في شباط عام 2020، فقتلت 34 جندياً تركياً.

كذلك يغفل هذا النوع من التحليل أن تصريحات الرئيس التركي يمكن قراءتها بوصفها نوعاً من جس النبض و«استدراج عروض» للمساومة على أمور أخرى. فإذا جاء الرد بالموافقة أو غض النظر لن تتردد القيادة التركية في تنفيذ تهديداتها، وعينها على الرأي العام التركي بمناسبة اقتراب موعد الانتخابات المقبلة المصيرية بالنسبة للسلطة.

أما إذا كان الرد سلبياً فسوف تطالب أنقرة بتنازلات في موضوعات خلافية أخرى، أو هذا ما تأمله على الأقل. وعموماً يسعى أردوغان إلى تسخين الأجواء مع الدول المجاورة كلما تراجعت شعبيته وشعبية حكومته على وقع تدهور الوضع الاقتصادي باطراد، الأمر الذي تكاد جميع استطلاعات الرأي الدورية تجمع عليه، فرأينا كيف أنه عاد إلى موضوع الخلاف مع اليونان على جزر بحر إيجة، كما نفذ الطيران التركي هجمات جديدة على مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق حيث لا يجد الحزب المذكور من يدافع عنه بسبب وجوده على قوائم المنظمات الإرهابية، بخلاف فرعه السوري «الاتحاد الديمقراطي» وتفرعاته السياسية والعسكرية، التي لم يتمكن الأتراك من اقناع أي دولة بأنه منظمة إرهابية.

الخلاصة أنه بعد إعلان كل من واشنطن وموسكو على التوالي عن رفضهما للعملية العسكرية التركية في تل رفعت ومنبج، يمكن القول إنها لم تعد على جدول الأعمال التركي في الوقت الحالي، وإن كان احتمال تنفيذها في وقت آخر وشروط أخرى يبقى قائماً بالنظر إلى ما يمكن أن تدره من مكاسب انتخابية في الداخل وليس لأي اعتبارات أخرى.

غير أن تصريحات لافرينتييف في افتتاح اجتماع آستانا تستحق وقفة إضافية لما انطوت عليه من رسائل مهمة. فقد تحدث الموفد الرئاسي الروسي عن أن البعض يتوقعون انحسار الاهتمام الروسي بسوريا بسبب الحرب في أوكرانيا، لكنهم يخطئون في توقعاتهم. هذا الكلام يشكل رسالة لإيران وتركيا معاً، شريكتي روسيا في مسار آستانا، مفادها أن خيوط الصراع والسياسة في سوريا ما زالت في يد موسكو. تزداد أهمية هذه الرسالة بالنظر إلى أن القيادة الإيرانية تتصرف فعلاً على أساس انحسار متوقع للدور الروسي في سوريا، سواء بملء فراغات عسكرية موضعية تركتها القوات الروسية في الأشهر الأخيرة بميليشيات تابعة لها، أو استدعاء بشار الأسد إلى طهران الذي فسر بمعنى طموح القيادة الإيرانية للتفرد بسوريا بعد انسحاب روسي محتمل بسبب الحرب في أوكرانيا.

الرسالة الثانية في تصريحات لافرنتييف تتعلق بأن جنيف «لم تعد مكاناً مناسباً للحوار السوري ـ السوري». والمقصود اجتماعات اللجنة الدستورية التي تتم هناك بإشراف الأمم المتحدة. فقد شكا المبعوث الرئاسي من الصعوبات التي عانتها روسيا في المشاركة في تلك الاجتماعات. يتعلق الأمر بالطبع بالحصار الخانق الذي تفرضه الدول الأوروبية على روسيا، وتحديداً بمنع الطيران المدني الروسي من التحليق فوق أجواء الدول الأوروبية، وبذلك يصبح سفر الوفد الروسي إلى جنيف يتطلب موافقة تلك الدول.

أخيراً لا يخفى على أحد أن التمدد الإيراني الجديد في الأراضي السورية حيثما حدثت انسحابات روسية، هو مما يزعج تركيا، في إطار التنافس على النفوذ في الأراضي السورية بين الدولتين، الأمر الذي لا بد أن يشغل حيزاً مهماً في مناقشات آستانا.

كاتب سوري

القدس العربي

———————

واشنطن بوست: طول أمد الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية يزيد من انقسام الأوروبيين حولها

إبراهيم درويش

نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريراً، أعدّته إلين فرانسيس وأنابيل تيمسيت، قالتا فيه إن استطلاعاً للرأي نشر يوم الأربعاء أظهرَ أنه مع استمرار الحرب في أوكرانيا خلال شهرها الرابع، يظل الأوروبيون متّحدين إلى حد كبير في دعم كييف، لكنهم منقسمون بشأن المدة التي يرغبون فيها في تحمّل التداعيات الاقتصادية للصراع.

وتشير الدراسة، التي أجريت في 10 دول أوروبية، إلى أن اهتمام الرأي العام قد يتحوّل من الحرب إلى مخاوف بشأن تأثيرها الأوسع، لا سيما ارتفاع تكاليف المعيشة في القارة. ويقول محللون إنه سيتعين على الحكومات الأوروبية التعامل مع هذه المخاوف في الوقت الذي تسعى فيه لمواصلة الضغط على موسكو.

 وبحسب الاستطلاع يريد أكثر من ثلث المشاركين بقليل أن تنتهي الحرب في أسرع وقت ممكن، حتى لو كان الثمن تنازلات إقليمية أوكرانية، في حين قالت نسبة 22% إنها يجب أن تستمر طالما أن الأمر يتطلب معاقبة روسيا واستعادة كل أراضي أوكرانيا.

ومع ذلك، لم يكن هناك انقسام بين المشاركين حول دعم أوكرانيا، أو حول المسؤول عن الحرب. وتلقي غالبية كبيرة، 73%، اللوم على موسكو بشكل أساسي، ويعتقد 64% أن روسيا، وليس الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو أوكرانيا، هي أكبر عقبة أمام السلام.

وشارك في الاستطلاع، الذي نشره المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وأُجري على الإنترنت من قبل يوغف وشركة الأبحاث  داتابراكسيس، 8172  بالغا في 10 دول أوروبية، بما في ذلك ألمانيا ورومانيا والسويد، بين أواخر نيسان/ أبريل ومنتصف أيار/ مايو.

وتم تقسيم الذين استطلعت آراؤهم إلى أولئك الذين قالوا إنهم يفضلون “السلام”، حتى لو تضمن ذلك تنازلات من أوكرانيا، والذين يعتبرون “العدالة” أولوية، حتى لو كان ذلك يعني صراعاً طويل الأمد.  و”تأرجح” خُمس المشاركين بين الاثنين، مع أنهم طالبوا برد أوروبي قوي، بينما قال الباقون إنهم لا يعرفون.

 ويقول مؤلفا التقرير إيفان كراستيف ومارك ليونارد من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إن المشاعر هذه ستؤثر على السياسة الأوروبية تجاه أوكرانيا.

وكتبا: “تشير نتائج الاستطلاع إلى أن الرأي العام الأوروبي يتغير، وأن أصعب الأيام هي القادمة”. وأشار التقرير إلى أن الأوروبيين يشعرون بالقلق أيضا من خطر التصعيد النووي، وإذا زاد الشعور بأن العقوبات على روسيا “فشلت في تحقيق نتائج”، فسوف يتزايد الانقسام بين أولئك الذين يريدون إنهاء الحرب بسرعة وأولئك الذين يريدون رؤية روسيا مهزومة.

ويعتبر المعسكر من أجل السلام في جميع البلدان العشر التي شملها الاستطلاع، باستثناء بولندا المجاورة لأوكرانيا، الأول وأكبر من الثاني، المسمى “العدالة”.

وقال المركز إن العديد من أولئك الذين ينتمون إلى الفئة الأولى قلقون من أن حكوماتهم تعطي الأولوية “للعمل ضد روسيا قبل القضايا المهمة الأخرى، مثل ارتفاع التضخم وأزمة تكلفة المعيشة”.

ونظراً لأن الاقتصادات لا تزال تتعافى من جائحة كورونا، دفعت الحرب الروسية في أوكرانيا التضخم، المتزايد أصلا في البلدان التي تستخدم اليورو، إلى مستوى قياسي في أيار/ مايو، مع توقع أن تسجل الطاقة أعلى معدل في ارتفاعها السنوي. وكان ذلك قبل اتفاق الاتحاد الأوروبي هذا الشهر للتخلص التدريجي من معظم واردات النفط الروسي، مدفوعة بالأدلة المتزايدة على جرائم الحرب الروسية في ضواحي كييف.

وأثار احتمال نشوب صراع طويل الأمد، مع احتدام معركة شرق أوكرانيا، تساؤلات حول ما إذا كان التعب من الحرب، إلى جانب الارتفاع الصاروخي في أسعار المواد الغذائية وفواتير الطاقة، يمكن أن يختبر الإرادة السياسية للدول لمواصلة الضغط على موسكو بمرور الوقت.

 ويوم الأحد، ألقى الرئيس جو بايدن باللوم على الغزو الروسي لأوكرانيا في ارتفاع أسعار الغاز الأمريكية، قائلا “إن ما تسببه الحرب في أوكرانيا هو أمر فظيع”.

وكما تفاوضت دول الاتحاد الأوروبي على حظر النفط الشهر الماضي، أشاد عضو بلجيكي في البرلمان الأوروبي بالرد على العدوان الروسي، بينما حذر من ارتفاع معدلات البطالة وفقر الطاقة.

وقالت النائبة سارة ماتيو لزملائها إن العقوبات الغربية التي ضربت الاقتصاد الروسي “ستؤثر أيضا على حياة المواطنين الأوروبيين، مع تأثير مباشر على منازلهم ووظائفهم ومحافظهم”. وحثّت الكتلة المكونة من 27 دولة على المساعدة في التخفيف من ارتفاع الأسعار، و”حماية مواطنينا، وتحديدا أولئك المعرضين لخطر الوقوع في براثن الفقر، والأشخاص الذين يخشون عدم القدرة على تدفئة منازلهم في الشتاء المقبل”.

ودفع التأثير على الأسر الأوروبية إلى سلسلة من التحركات السياسية. ألمانيا، على سبيل المثال، قدمت تخفيضات مؤقتة في ضريبة الطاقة، وأصدرت تذاكر شهرية بقيمة 9 يورو للتذكرة لوسائل النقل العام.

وعلق تايلر كوسترا، الأستاذ المساعد للعلاقات الدولية في جامعة نوتنغهام في إنجلترا، والذي تركز أبحاثه على العقوبات الاقتصادية، قائلا إن الحكومات “تسلك مقاربة دقيقة”

وقال: “أعتقد أن هناك قلقا هائلا في جميع أنحاء أوروبا بشأن تكلفة المعيشة. هذه الأشياء هي أشياء لا يمكنك شراؤها. أنت بحاجة إلى طعام وبحاجة إلى الدفء”.

وأضاف كوسترا: “أعتقد أنه يتعين علينا أن نتذكر إلى أي مدى لا نريد حربا في أوروبا، وإلى أي مدى يتعين علينا الصمود في مواجهة فلاديمير بوتين.. لا يوجد خيار واحد يربح فيه الجميع؛ إنها سلسلة من المقايضات المؤسفة. لهذا السبب نحتاج إلى إنهاء هذه الحرب”.

————————–

هل تغرق روسيا في المستنقع الأوكراني؟/ محمد أحمد بنّيس

لا مؤشّرات تُنبئ بأن الحرب الروسية الأوكرانية ستضع أوزارها قريبا، فبعد حوالي أربعة أشهر على اندلاعها، تبدو روسيا، التي كانت البادئة بإعلان الحرب، في وضع جيوسياسي لا تُحسد عليه. على الرغم من التقدّم النسبي الذي أحرزته قواتها في شرق أوكرانيا، إلا أن ذلك لا يؤثر على المسار العام للحرب، في ظل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا. وهو ما يجعل الكرة في ملعبها عسكريا وسياسيا؛ ذلك أن إصرارها على مواصلة الحرب من دون أفقٍ سياسي واضح لمسارها يحولها إلى عبء اقتصادي وسياسي يصعب تحمّله على المدى البعيد. وفي الوقت ذاته، يمثل انسحابُها، وهو مستبعد على الأقل حاليا، إقرارا بفشلها في تحقيق أهدافها من غزو أوكرانيا. ويُنبئنا تاريخ الحروب الحديثة أنه كلما طال أمد الحرب تصبح عبئا على الطرف الذي أطلق شرارتها الأولى. ولا تشذّ الحرب الروسية الأوكرانية عن هذه القاعدة، فمع اتساع رقعتها، وإخفاق موسكو في حسم جبهاتها الرئيسة، وارتفاع كلفتها الإنسانية والأخلاقية، وتضاؤل فرص الحل الدبلوماسي، تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة مرهقة للروس على مختلف الصعد، ما يعني فشلهم في تحقيق الهدف الاستراتيجي الذي شنوا من أجله الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط المنصرم: تغيير بنية النظام الدولي من خلال تعديل ميزان القوى الحالي الذي يرونه لصالح الغرب.

لا يعني ذلك أن روسيا لم تحقق أي مكاسب من الحرب. بالعكس، هناك مكاسب على قدرٍ من الأهمية الاستراتيجية نجحت في تحقيقها، أبرزها حصر نطاق الحرب داخل التراب الأوكراني، على غرار استراتيجية واشنطن التي تقضي بخوض حروبها بعيدا عن التراب الأميركي. لكن إخفاقها في السيطرة على العاصمة كييف، وافتقادها استراتيجية واضحة في شرق أوكرانيا، وطول أمد الحرب، ذلك كله يربك حساباتها ويجعل هدفَها، بإعادة التموضع ضمن معادلات القوة والنفوذ، صعب التحقيق إن لم يكن مستحيلا. كما أن سعيَ الرئيس فلاديمير بوتين إلى توظيف إرث الحرب الباردة لا يبدو أنه يسعفه في حسم الحرب لصالحه، بقدر ما سيطيل أمدها ويجعل قواته تغرق أكثر في المستنقع الأوكراني، وذلك بسبب اختلاف الشروط الجيوسياسية التي تدور في نطاقها الحرب الحالية عن تلك التي حكمت حروبَ الحرب الباردة. وقد بدا عدمُ فعالية التوسُّل الروسي بإرث الحرب الباردة واضحا في حرب القرم (2014)، حيث نجح الغرب في إيهام الروس بأنه قد سلّم بالأمر الواقع في شبه جزيرة القرم، وهو ما مثّل استدراجا لهم ليبحثوا عن كيفيات للتمدّد الاستراتيجي في محيطهم الإقليمي.

في السياق نفسه، لا يبدو الغزو الروسي لأوكرانيا بعيدا عن أزمة كامنة في المشهد السياسي الروسي، بعد أن أصبح بوتين يحتكر كل السلطات، ويتحكّم في مفاصل الدولة، في إعادة إنتاجٍ، لا تخلو من دلالة، للإرث السياسي السوفييتي والنزعة القومية الروسية. وجاءت التعديلات الدستورية (2020) لتشرعن ميزانَ قوى ما فتئ يختلُّ لصالح الرئيس الروسي. وتفيد استطلاعات رأيٍ بأن أغلبية الروس يعارضون النزعة التوسعية لبوتين، سيما أن هناك روابط عرقية واجتماعية وثقافية تجمع الشعبين، الروسي والأوكراني، والتي تهدّد الحرب الحالية بتفكيكها وتحويلها إلى موارد لتغذية مشاعر الكراهية بينهما وإطالة أمد الحرب، هذا على الرغم من أن بعض الروس يحمّل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، مسؤولية جرّ البلدين إلى مواجهة عسكرية مفتوحة على كل الاحتمالات، بسبب عجزه عن اتباع سياسةٍ أكثر توازنا وعقلانية كان يمكن أن تجنّبهما حربا لن تبقي ولن تذر.

في الختام، لن تغرق روسيا وحدها في المستنقع الأوكراني، ذلك أن الدول الغربية التي لا تتوقف عن تقديم مختلف أشكال الدعم لأوكرانيا مقبلة على مواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للعقوبات المفروضة على موسكو، بما يعنيه ذلك من أزمةٍ اقتصاديةٍ كبرى تلوح معالمها في الأفق.

العربي الجديد

————————–

قبيل قرار الاتحاد الأوروبي المنتظر بشأن ترشحها للانضمام إليه

ماكرون وشولتس ودراغي يتعهدون بدعم أوكرانيا

 – أ. ف. ب.

كييف (أوكرانيا): تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الحكومة الإيطالي ماريو دراغي الخميس بدعم اوكرانيا “بدون لبس” في مواجهة الغزو الروسي، خلال زيارة غير مسبوقة لكييف تمت قبل ايام من قرار الاتحاد الأوروبي حول منح أوكرانيا وضع الدولة المرشحة رسمياً للانضمام إلى الاتحاد.

ووصل القادة الأوروبيون الثلاثة بالقطار إلى كييف الخميس قرابة الساعة 09,30 (06,30 ت غ)، في رحلة استغرقت نحو 10 ساعات وانطلقت من جنوب شرق بولندا.

وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي حتى 30 حزيران/يونيو، أنّهم جاؤوا لبعث “رسالة وحدة أوروبية” و”دعم” لكييف “للحاضر والمستقبل”.

شولتس

المستشار الألماني أولاف شولتس الذي انتقد بسبب عدم تسليم أسلحة ألمانية إلى أوكرانيا، لم يصدر بيانًا رسميًا في الوقت الحالي. وقال إن الزيارة تهدف إلى “إظهار تضامننا” و”التأكد من أن المساعدة التي ننظمها المالية والإنسانية، وأيضًا عندما يتعلق الأمر بالسلاح ستستمر (…) طالما كان ذلك ضروريًا للقتال” من أجل استقلال أوكرانيا” وذلك في مقابلة مع صحيفة “بيلد” خلال رحلتهم بالقطار.

وخلال زيارة قصيرة لإربين، إحدى ضواحي كييف التي دمرت في الأسابيع الأولى من الغزو الروسي لأوكرانيا، دافع ماكرون عن نفسه بعد تصريحات قال فيها إنه لا ينبغي “إذلال” روسيا وقد عرّضته لانتقادات شديدة في أوكرانيا.

وقال “على اوكرانيا ان تقاوم وتنتصر في الحرب. كانت فرنسا بجانب أوكرانيا منذ اليوم الأول (…) نحن بجانب الأوكرانيين بشكل لا لبس فيه”.

مثل القادة الأوروبيين الآخرين الذين جاؤوا إلى كييف من قبلهم، تجول القادة في شوارع إيربين وتوقفوا أمام مبان دمرتها المعارك أو سيارة متفحمة وطرحوا أسئلة على مرشدهم، وزير اللامركزية الأوكراني أوليكسي تشرنيشوف.

توقف الرئيس الفرنسي أمام رسم على جدار مع رسالة “اصنعوا أوروبا لا الحرب”(Make Europe Not War). وعلق قائلا “انها الرسالة الصحيحة”. واضاف “من المؤثر أن نرى ذلك”.

من جهته تعهد ماريو دراغي “باننا سنعيد بناء كل شيء”.

ماكرون

وفي ختام الزيارة أشاد ماكرون بـ”بطولة” الأوكرانيين، مشيرا الى “آثار الهمجية، الدلائل الاولى على ما هي جرائم حرب”.

وندد المستشار الألماني بـ “وحشية الحرب العدوانية الروسية التي تهدف فقط إلى التدمير والغزو”.

وكتب على حسابه على تويتر “أصيب مدنيون أبرياء ودمرت منازل. دمرت مدينة بأكملها رغم عدم وجود فيها اي بنى تحتية عسكرية”.

وقُتل مئات المدنيين في مدن إربين وبوتشا وبوروديانكا، خلال الغزو الروسي لهذه المنطقة في آذار/مارس. وتجري تحقيقات دولية لتحديد مرتكبي جرائم الحرب هذه التي يتهم الاوكرانيون القوات الروسية بارتكابها.

والتقى القادة الاربعة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في القصر الرئاسي بوسط كييف قبل عقد مؤتمر صحافي مشترك بعد الظهر.

عادت الحياة الى العاصمة الأوكرانية منذ الانسحاب الروسي من المنطقة، لكنها لا تزال تتعرض أحيانًا للنيران الروسية. وتدوي صفارات الإنذار هناك بين الحين والآخر كما حصل بعيد وصول القادة الأوروبيين الخميس.

ويفترض ان تكون مسألة انضمام اوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي في صلب المحادثات. ويشدد زيلينسكي على أن بلاده، من خلال الدفاع عن “قيم” أوروبا في مواجهة العدوان الروسي، حصلت على حق الانضمام إلى الكتلة الأوروبية، الذي رفض الاتحاد الأوروبي النظر فيه قبل بدء الغزو الروسي.

وتقرر الدول الـ27 في الاتحاد ما إذا كانت ستمنح أوكرانيا وضع الدولة المرشحة رسمياً في قمة تعقد يومي 23 و24 حزيران/يونيو، لتبدأ عملية مفاوضات وإصلاحات محتملة قد تستغرق سنوات.

ويفترض أن تبدي المفوضية الأوروبية رأيها بشأن هذه المسألة الجمعة.

الأربعاء شدد الرئيس الفرنسي من رومانيا على ضرورة إرسال “إشارات سياسية واضحة” إلى الأوكرانيين في “وضع جيوسياسي غير مسبوق”.

تحفظات

ومن بين الـ 27 دولة، أيدت دول أوروبا الشرقية الترشيح، لكن دولًا أخرى مثل الدنمارك أو هولندا أبدت تحفظات، علماً أن صدور اي قرار يتطلب إجماعا.

وقد تحصل أوكرانيا على وضع الدولة المرشحة بشروط أو مع موعد لبدء المفاوضات، وفق بعض الخبراء.

وأكد الرئيس الفرنسي خلال مؤتمر صحافي الخميس في كييف أن بلاده وألمانيا وإيطاليا ورومانيا تدعم منح أوكرانيا “فورا” وضع المرشح الرسمي لعضوية الاتحاد الأوروبي.

وقال ماكرون “نحن الأربعة ندعم منحها فورا وضع المرشح للعضوية”. وأضاف أن “هذا الوضع سيكون مصحوبًا بخريطة طريق”.

وأكد المستشار شولتس أن زيلينسكي “قبل دعوته” للمشاركة في قمة مجموعة السبع المقبلة من 26 إلى 28 حزيران/يونيو في بافاريا ثم قمة حلف شمال الأطلسي في مدريد.

من المقرر أن يكرر الرئيس الأوكراني للقادة الأوروبيين طلبه لتسريع تسليم أسلحة ثقيلة.

وأصر الأربعاء أمام النواب التشيكيين على أن “أوكرانيا يجب أن تحصل على كل ما هو ضروري لتحقيق النصر”.

هجوم دونباس

وتأتي زيارة القادة الاوروبيين بينما يتركز القتال منذ أيام في ليسيتشانتسك وسيفيرودونيتسك وهما مدينتان رئيسيتان في منطقة دونباس شرق أوكرانيا التي يسيطر عليها جزئيًا انفصاليون موالون لروسيا منذ عام 2014 والتي قررت موسكو السيطرة الكاملة عليها.

واعلنت الولايات المتحدة الاربعاء عن مساعدة عسكرية جديدة لاوكرانيا بقيمة مليار دولار تشمل قطع مدفعية وقذائف إضافية.

وعبر زيلينسكي مساء الأربعاء عن “امتنانه” للولايات المتحدة على الدفعة الجديدة من المساعدات العسكرية وقال في رسالة عبر الفيديو “أود أن أعرب عن امتناني لهذا الدعم لأنه مهم خصوصا لدفاعنا في دونباس”.

من جهته، دعا وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الأربعاء حلفاءه إلى “تكثيف” شحنات الأسلحة إلى الأوكرانيين.

وأعلن وزير الدفاع الأميركي خلال اجتماع في مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل لدول “مجموعة الاتصال” التي أنشأتها الولايات المتحدة لمساعدة كييف، أن “أوكرانيا تواجه لحظة مفصلية في ساحة المعركة”. وأضاف “لذلك يجب علينا تكثيف التزامنا المشترك” و”مضاعفة جهودنا حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها”.

يتركز القتال منذ عدة أسابيع في سيفيرودونتسك وليسيتشانسك وهما مدينتان رئيسيتان للسيطرة على دونباس وتتعرضان لقصف مستمر ولم تعد بنيتهما التحتية كلها تقريبًا – الكهرباء والمياه والاتصالات – تعمل.

وقال أولكسندر ستريوك رئيس بلدية سيفيرودونتسك الخميس “الأمر يزداد صعوبة يوما بعد يوم الروس ينقلون المزيد من الأسلحة إلى المدينة ويحاولون شن هجمات على عدة اتجاهات”.

واعترف قائد القوات الأوكرانية أوليكسي غروموف بأن “الوضع في سيفيرودونتسك معقد”.

وتتحصن القوات الأوكرانية خصوصا في مصنع أزوت للصناعات الكيميائية الذي يعد من رموز المدينة التي كان عدد سكانها نحو مئة ألف نسمة قبل الحرب. وقال ستريوك إن أكثر من 500 مدني يتحصنون داخل المبنى.

واقترحت موسكو الثلاثاء إنشاء “ممر إنساني” يسمح بإجلاء هؤلاء المدنيين إلى مناطق يسيطر عليها الروس، لكن كييف لم تؤكد ذلك. واتهمت روسيا الأربعاء قوات كييف ب”افشال” العملية.

لا يزال حوالى 10 آلاف مدني في سيفيرودونتسك حسبما قال الخميس سيرغي غايداي حاكم منطقة لوغانسك.

وأضاف أن “الجيش الروسي يفقد مئات المقاتلين لكنه يجند احتياطيين ويستمر بتدمير سيفيرودونيتسك (…) لكن جنودنا يقومون بالدفاع” عنها.

——————————–

أستانة لم تأتِ بجديد:منصة شروط روسية..وبيان ختامي هزيل

أكدت الدول الثلاث الضامنة لمسار “أستانة” الخميس، ضرورة مواصلة الجهود للحفاظ على الهدوء في إدلب وتنفيذ الاتفاقيات المبرمة في الشمال السوري، ومكافحة الإرهاب، وتسهيل عودة اللاجئين.

جاء ذلك في البيان الختامي لأعمال الجولة ال18 من مؤتمر أستانة التفاوضي الخاص بالأزمة السورية، الذي اختتم في العاصمة الكازاخستانية نور سلطان الخميس.

وعبرت الدول الثلاث الضامنة للاتفاق، وهي روسيا تركيا وإيران، عن “قلقها البالغ إزاء الحالة الإنسانية المتدهورة في سوريا”، داعية إلى ضرورة العمل على إزالة المعوقات أمام المساعدات الإنسانية وزيادتها لجميع السوريين، في جميع أنحاء البلاد دون تمييز وتسييس وشروط مسبقة.

التسوية السياسة

وجدد البيان الختامي ضرورة الدفع باتجاه التسوية السياسية وفقاً للقرار لمجلس الأمن 2254، مؤكداً أنه “يجب استمرار عمل اللجنة الدستورية دون أي قيود”. كما تطرق إلى ضرورة تذليل العقبات أمام عودة آمنة وطوعية للاجئين والمهجرين بما يتماشى مع القانون الدولي والإنساني وتقديم كافة أنواع الدعم لذلك، بما فيه الدعم المقدم من الأمم المتحدة.

وأكدت الدول الضامنة أن الجهود مستمرة لمكافحة الإرهاب التي تشكل تهديداً للمدنيين داخل وخارج منطقة خفض التصعيد في إدلب، كما أكدت في الوقت ذاته، على الوقوف بوجه جميع الدعوات الانفصالية في شمالي شرقي سوريا. ودان “الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المستمرة على سوريا، والتي تنتهك القانون الدولي وسيادة سوريا ودول الجوار، وتهدد الاستقرار والأمن في المنطقة، مشدداً على ضرورة إيقافها”.

قمة في طهران

ولم تحدد الوفود المشاركة موعداً محدداً للجولة 19 من المؤتمر، إلا أنها اتفقت بشكل مبدئي على أن تتم في خريف 2022، في العاصمة الكازاخستانية نور سلطان، في حين سيعقد المؤتمر على مستوى رؤساء الدول الضامنة في العاصمة الإيرانية طهران، بحسب رئيس الوفد الروسي ألكسندر لافرنتييف.

وقال لافرنتييف في مؤتمر صحافي عقده عقب نهاية الجولة، إن “مؤتمر أستانة على مستوى رؤساء الدول الثلاث الضامنة للمسار روسيا تركيا وإيران، من المقرر أن يعقد في العاصمة الإيرانية طهران”، موضحاً أن التأجيل الطويل لتلك القمة كان بسبب تداعيات فيروس كورونا.

شروط لافرنتييف

ولم يأتِ البيان الختامي لجولة أستانة ال18 بأي جديد مختلف عن الجولات السابقة، باستثناء أن لافرنتييف اتخذ من الجولة الحالية، منصة لفرض الشروط الروسية، من العملية العسكرية التركية المزمعة في شمال وشمال شرق سوريا، وصولاً إلى المطالبة بتغيير مكان اجتماع اللجنة الدستورية في جنيف.

وقال لافرنتييف خلال افتتاح الجولة ال18 الأربعاء، إن بلاده ترى العملية العسكرية التي تنوي تركيا القيام بها في الشمال السوري “غير عقلانية”، لافتاً إلى أن موسكو تدرس الوضع القائم على الأرض بالتزامن مع تلك النوايا.

وأضاف أن موسكو لا ترى بالعملية التركية إلا “زيادة من حدّة التوتر على الأرض”، مشيراً إلى أن بلاده “ستطلب من الجانب التركي التراجع عن هذه الخطوة، والاتجاه لحل المسألة عبر الحوار، وبمشاركة جميع الأطراف المعنية، وروسيا مستعدة لتقديم المساعدة في ذلك”.

ونفى لافرنتييف ما تردد عن ضعف اهتمام بلاده بالقضية السورية قائلاً: “كثيرون الآن يقولون إن الاهتمام الروسي بسوريا ضعف بسبب العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، لكن أؤكد لكم أن الصراع السوري والتسوية ما زالت في أولويات السياسة الخارجية الروسية”، مشدداً على أن روسيا “لن تتخلى عن حلفائها في المنطقة”.

وتعليقاً، رأى الباحث المتخصص في الشأن الروسي سامر إلياس، في تصريح لافرنتييف، صورة أكثر وضوحاً للموقف الروسي الذي يريد الحفاظ على خطوط التماس المرسومة ضمن الاتفاق مع الجانب التركي في آذار/مارس 2020.

أهداف روسيا الخفية

وقال إلياس ل”المدن”، إن “موسكو تريد الدفع بأنقرة نحو التفاوض متعدد الأطراف بما يخص تعديل بعض القضايا المتعلقة باتفاقيات حدودية قديمة مع النظام السوري وهي اتفاقية أضنة 1999، وكذلك الأمر بالنسبة لتعديل الحدود التي رسمتها تركيا خلال العملية العسكرية 2019″، مشيراً إلى أن خيار نشر قوات للنظام في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) “مقبول” بالنسبة لأنقرة، باستثناء المخاوف المتعلقة بالمنطقة الآمنة.

كما ترى موسكو التلويح بالعملية فرصة لدفع قسد باتجاه الرضوخ لمطالب النظام، وعقلنة مطالبها في إطار الجهود التي تبذلها من أجل الوصول إلى صيغة لدخول النظام إلى تلك المناطق واستكمال السيطرة على الجغرافية السورية.

وأضاف أن الحفاظ على خطوط التماس وعدم القبول بعملية عسكرية جديدة؛ فرصة جديدة لتثبت موسكو أن مسار أستانة هو المسار الأنجع لإيجاد تسوية لحل القضية السورية، مشيراً إلى أن المبعوث الروسي تحدث صراحة عن هذه النقطة خلال المؤتمر الصحافي، فضلاً عن جهود التعطيل التي مارسها النظام بدفع من روسيا لتعطيل مسار جنيف.

وعلى الجانب الآخر، اعتبر إلياس أن تركيا تمتلك أوراقاً تستطيع من خلالها ممارسة الضغط على موسكو من أجل القبول بالعملية على الرغم من حدّة النبرة الروسية، كما جاءت على لسان لافرنتييف، مشيراً إلى أن هذه الأوراق “هي الموقف الحيادي من الحرب الأوكرانية، إضافة إلى ورقة جديدة متمثلة بتعطيل جهود روسيا الرامية إلى منع تمديد آلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى الشمال السوري، وذلك بالسماح بالتعويض عن الآلية عبر إدخال المساعدات بدعم من واشنطن والغرب بمعزل عن مجلس الأمن”.

المدن

———————

أوكرانيا: عض أصابع دموي بين بوتين والغرب

وصلت الحرب إلى مرحلة حرجة

مروان شلالا

إيلاف من بيروت: يستخدم الجيش الأوكراني ذخيرة تعود إلى الحقبة السوفياتية تلائم الأنظمة الأقدم في الوقت الذي تناشد فيه البلاد الغرب إرسال المزيد من الأسلحة الثقيلة، وتحشد روسيا المدفعية حول مدينتين استراتيجيتين مهمتين في شرق أوكرانيا.

يعتقد مسؤولون استخباراتيون وعسكريون غربيون أن حرب روسيا في أوكرانيا في مرحلة حرجة يمكن أن تحدد النتيجة طويلة المدى للصراع، وفقًا لمصادر متعددة مطلعة على المخابرات الأميركية والغربية الأخرى.

قد تفرض هذه اللحظة المحورية أيضًا قرارًا صعبًا على الحكومات الغربية، التي عرضت حتى الآن الدعم لأوكرانيا بتكلفة متزايدة باطراد على اقتصاداتها ومخزوناتها الوطنية من الأسلحة.

تتوقع الولايات المتحدة المزيد من الإعلانات عن حزم الأسلحة والمعدات لأوكرانيا، وفقًا لمسؤول دفاعي كبير. أعرب المسؤولون الأوكرانيون عن إحباطهم من أن هذه الذخائر الحيوية تبدو كأنها تتدفق في المعركة الجزئية، وأثاروا مخاوف من أن الالتزام الغربي قد يتراجع في لحظة حاسمة. وقال مسؤول كبير في الناتو: “أعتقد أنك على وشك الوصول إلى النقطة التي سينجح فيها جانب أو آخر. إما أن يصل الروس إلى سلوفيانسك وكراماتورسك أو يوقفهم الأوكرانيون هنا. وإذا كان الأوكرانيون قادرين على الصمود هنا، في مواجهة هذا العدد من القوات، فسيكون ذلك مهمًا”.

ثلاث نتائج محتملة

يراقب المسؤولون الغربيون عن كثب ثلاثة سيناريوهات محتملة يعتقدون أنها قد تتكشف: يمكن روسيا أن تواصل تحقيق مكاسب متزايدة في مقاطعتين شرقيتين رئيسيتين، أو يمكن أن تدخل المعركة في طريق مسدود يستمر أشهراً أو سنوات ما يؤدي إلى خسائر فادحة في كلا الجانبين وأزمة بطيئة التدهور والتي ستستمر في استنزاف الاقتصاد العالمي، ثم هناك ما يعتبره المسؤولون الاحتمال الأقل احتمالًا: يمكن روسيا إعادة تحديد أهدافها الحربية، والإعلان عن تحقيقها النصر. في الوقت الحالي، يبدو أن هذا السيناريو ليس أكثر من مجرد تمني.

إذا كانت روسيا قادرة على تعزيز بعض مكاسبها في الشرق، فإن المسؤولين الأميركيين يخشون بشكل متزايد من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يتمكن في نهاية المطاف من استخدام تلك المنطقة نقطة انطلاق للتوغل أكثر في أوكرانيا.

حذر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الثلاثاء في محاولة لحث الغرب على إرسال المزيد من الأسلحة بشكل أسرع “أنا متأكد من أنه إذا لم تكن أوكرانيا قوية بما يكفي، فإنها ستذهب إلى أبعد من ذلك. أظهرنا لهم قوتنا. ومن المهم أن يتم إظهار هذه القوة أيضًا معنا من قبل شركائنا الغربيين أيضًا”.

قال إن المساعدة العسكرية الغربية “يجب أن تأتي بشكل أسرع” إذا أراد حلفاء أوكرانيا إحباط طموحات روسيا الإقليمية.

يعتقد المسؤولون الغربيون على نطاق واسع أن روسيا في وضع أكثر تفضيلًا في الشرق، يعتمد فقط على الكتلة. قال مسؤول رفيع في إدارة بايدن، مع ذلك، “التقدم الروسي ليس نتيجة مفروضة”.

مع تسوية الخطوط الأمامية للصراع في حرب استنزاف مبنية حول نيران تبادل القصف المدفعي، عانى كلا الجانبين من خسائر هائلة ويواجهان الآن نقصًا محتملاً في القوى العاملة. عانت روسيا أيضًا من خسائر تصل إلى ثلث قوتها البرية، وصرح مسؤولو المخابرات الأميركية علنًا أن روسيا ستكافح لتحقيق أي مكاسب جدية من دون تعبئة كاملة، وهي خطوة سياسية خطيرة لم يرغب بوتين في القيام بها حتى الآن..

في الوقت الحالي، يتركز القتال في مدينتين شقيقتين على جانبي نهر سيفيرسكي دونيتس، سيفيرودونيتسك وليسيتشانسك. المقاتلون الأوكرانيون محاصرون بالكامل تقريبًا في سيفيرودونيتسك.

على الرغم من أن المحللين الغربيين يعتقدون أن أوكرانيا لديها فرصة أفضل للدفاع عن ليسيتشانسك، التي تقع على أرض مرتفعة، إلا أن هناك بالفعل إشارات مقلقة على أن روسيا تحاول قطع خطوط الإمداد بالمدينة من خلال التقدم من الجنوب الشرقي.

تفضيل للأنظمة السوفياتية

يصر المسؤولون الأميركيون على أن الأسلحة الغربية لا تزال تتدفق إلى الخطوط الأمامية للقتال. لكن التقارير المحلية عن نقص الأسلحة – والنداءات المحبطة من المسؤولين الأوكرانيين على الخطوط الأمامية – أثارت تساؤلات حول مدى فعالية تشغيل خطوط الإمداد. لم تتوسل أوكرانيا المدفعية الثقيلة فحسب، إنما توسلت أيضًا المزيد من الإمدادات الأساسية، مثل الذخيرة.

تقول المصادر إن جزءًا من المشكلة هو أنه حتى مع نفاد الذخائر السوفياتية القديمة في أوكرانيا التي تناسب الأنظمة الحالية، كانت هناك أيضًا عقبات تحول دون نقل مقاتلاتها إلى الأنظمة الغربية المتوافقة مع الناتو. لسبب واحد، تدريب الجنود على هذه الأنظمة يستغرق وقتًا – ويأخذ المقاتلين بعيدًا عن ساحة المعركة.

في بعض الحالات، وفقًا لمصدر مطلع على الاستخبارات الأميركية، تختار أوكرانيا ببساطة عدم استخدام الأنظمة الغربية غير المألوفة. على سبيل المثال، على الرغم من استلام المئات من طائرات “سويتشبلايد” من دون طيار، تفضل بعض الوحدات استخدام الطائرات التجارية من دون طيار المزودة بالمتفجرات التي تكون أكثر سهولة في الاستخدام.

أعلنت إدارة بايدن عن حزمة مساعدات جديدة في وقت سابق من هذا الشهر تشمل نظام صاروخ المدفعية عالي الحركة، أو HiMARS، القادر على إطلاق وابل من الصواريخ، الذي طلبته أوكرانيا بشكل عاجل لأسابيع. لكن على الرغم من أن مجموعة صغيرة من الجنود الأوكرانيين بدأت التدريب على النظام فور الإعلان عن الحزمة، إلا أنها تتطلب ثلاثة أسابيع من التدريب ولم تدخل المعركة بعد. واكتفى المسؤول الدفاعي الكبير بالقول إن النظام سيدخل أوكرانيا “قريباً”.

في غضون ذلك، لا يزال هناك عدد محدود من الذخائر التي تعود إلى الحقبة السوفياتية موجودة في أماكن أخرى من العالم والتي يمكن إرسالها إلى أوكرانيا. تحث الولايات المتحدة الدول التي لديها مخزونات قديمة على معرفة ما لديها من مخزون متاح لأوكرانيا، لكن معركة المدفعية العقابية هي “محو المعدات السوفياتية من على وجه الأرض” بالنسبة لأوكرانيا والحلفاء الذين يزودونها بها، وفقًا لمسؤول أميركي.

على الرغم من أن الولايات المتحدة تملك صورة واضحة لخسائر روسيا في ساحة المعركة، فإنها كافحت منذ البداية لتقييم القوة القتالية لأوكرانيا. أقر المسؤولون بأن الولايات المتحدة لا تملك صورة واضحة أين تذهب الأسلحة الغربية أو مدى فعالية استخدامها بمجرد عبورهم الحدود إلى أوكرانيا، ما يجعل التنبؤات الاستخباراتية حول القتال صعبة وقرارات سياسية حول كيفية ومتى يتم إعادة إمداد أوكرانيا.

قال المسؤول الكبير في إدارة بايدن لشبكة “سي أن أن” إن الولايات المتحدة تحاول “فهم أفضل لمعدل استهلاكهم [الأوكرانيين] ووتيرة العمليات”، عندما سئل على وجه التحديد عما إذا كانت أوكرانيا تنفد من الذخيرة والأسلحة. أضاف: “من الصعب معرفة ذلك”. واضح أن أوكرانيا تستخدم المدفعية التي قدمتها الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، لأن الكثير منها يتحرك داخل وخارج البلاد للإصلاحات.

يقول المسؤولون الغربيون إن هذه النقطة العمياء تعود جزئيًا إلى أن أوكرانيا لا تخبر الغرب بكل شيء. ولأن القتال يتركز في منطقة صغيرة قريبة نسبيًا من روسيا، فإن أجهزة المخابرات الغربية لا تتمتع بنفس الرؤية التي تتمتع بها في أماكن أخرى.

“عندما تصل إلى المستوى التكتيكي، لا سيما في الموقع الذي توجد فيه غالبية القتال، يكون بعيدًا عنا، وأقرب إلى روسيا، وتكون القوات أكثر كثافة في أماكن قريبة جدًا جدًا من بعضها البعض،” قال مسؤول كبير في الناتو. “لذلك من الصعب الحصول على صورة دقيقة جيدة لحالة القتال في بعض الأحيان في الشرق.”

أضاف المسؤول في الناتو أنه من الصعب أيضًا التنبؤ بأداء الجيش الأوكراني في هذه اللحظة المحورية لأنه مع تزايد الخسائر، يتم إرسال متطوعين مدنيين مدربين على عجل للمشاركة في القتال. تابع: “إن وجود أشخاص متاحين شيء مهم، لكن السؤال هو، هل هم مستعدون للقتال؟”.

خطوة بوتين التالية

لا يرى المسؤولون الأميركيون وغيرهم من الغربيين أي مؤشر على أن التزام بوتين بمتابعة الحرب المكلفة قد تضاءل. وقال مسؤول الناتو: “في ما يتعلق بالأهداف الإستراتيجية التي نحكم على بوتين أن بوتين قد قام بها فيما يتعلق بأوكرانيا، لا أرى أي مؤشرات على أن تلك الأهداف قد تغيرت. لا يزال بوتين يعتقد أنه سيكون منتصراً في نهاية المطاف، وسيحكم فعليًا أو سيكتسب شكلاً من أشكال السيطرة السياسية على أوكرانيا إما في جزء مهم أو بشكل مثالي كليًا”.

لكن حتى لو ظل التزام بوتين صارمًا، فهناك وعي متزايد بأن الغرب قد لا يكون كذلك.

مع استمرار القتال، استمرت التكلفة على عاتق الحكومات الغربية في الارتفاع. أصبحت بعض الحكومات الغربية – بما في ذلك الولايات المتحدة – قلقة من أن تدفق الأسلحة الممنوحة لأوكرانيا قد أدى إلى استنفاد المخزونات الوطنية الضرورية للدفاع عن نفسها.

واعترف المسؤول الكبير بالإدارة بأنه “مصدر قلق مشروع” للولايات المتحدة.

ثم هناك بالطبع لسعة ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم المرتفع. مع بدء هذه التكاليف في التأثير على المواطنين العاديين، في الولايات المتحدة وأوروبا، ومع بدء اهتمام وسائل الإعلام بالانتقال من وطأة القتال اليومية، يخشى بعض المسؤولين أن الدعم الغربي لأوكرانيا قد يتضاءل.

سخر المتحدث باسم الفيلق الدولي للجيش الأوكراني يوم الاثنين من “الشعور بالرضا” بين رعاة أوكرانيا العسكريين، قائلاً إن البلاد بحاجة إلى مزيد من الدعم إذا أرادت هزيمة الغزو الروسي. قال داميان ماجرو، المتحدث باسم الفيلق الدولي للدفاع عن أوكرانيا: “هناك شعور معين بالرضا الذي يبدو أنه قد ساء على شركائنا الغربيين بأن شحنات الأسلحة التي تم توفيرها لأوكرانيا بالفعل كافية إلى حد ما لكسب الحرب”، خلال مؤتمر صحفي، “إنهم ليسوا كذلك! إنهم لا يقتربون من أي شيء يمكن أن يمكننا من هزيمة الروس في ساحة المعركة”.

أعدت “إيلاف” هذا التقرير عن “سي أن أن”

—————————

الكرملين مرتاح لموقف الصين حيال «تصرفات روسيا المشروعة» لحماية مصالحها

شي وبوتين ناقشا «تعميق التعاون الاستراتيجي» وتعزيز التنسيق في مسائل الأمن القومي

موسكو: رائد جبر

حملت المحادثات الهاتفية التي أجراها الرئيس الصيني شي جينبينغ، أمس، مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين تطوّراً على صعيد موقف بكين حيال الحرب في أوكرانيا، إذ كشف الكرملين أن الزعيم الصيني أعرب عن قناعة بأن «تصرّفات روسيا لحماية أمنها القومي على صعيد التحديات الخارجية تعد أمراً مشروعاً».

ومع تأكيد الجانبين على تعزيز التعاون الاستراتيجي؛ خصوصاً في قطاعات حيوية لروسيا في ظروف الحصار والعقوبات المفروضة عليها، عكس التأكيد على «تنشيط التنسيق في المسائل المتعلقة بالأمن القومي والسيادة للبلدين» إشارة غير مسبوقة من جانب بكين منذ اندلاع المعارك في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي. وكانت بكين حافظت على موقف حذر في التعامل مع الحرب الأوكرانية، وعلى الرغم من أنها أبدت «تفهّماً» لمتطلبات روسيا على صعيد الأمن الاستراتيجي، ودعت الغرب إلى الحوار مع موسكو في هذا الشأن، لكنها تجنّبت إعطاء إشارات مباشرة إلى دعم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

وكان لافتاً أن هذا الحذر انعكس جزئياً في لهجة البيان الرسمي الصيني حول المكالمة الهاتفية، إذ أكّدت بكين أن الزعيم الصيني «أكد أن بلاده مستعدّة لتطوير التعاون الثنائي المستقر مع روسيا». ونقل التلفزيون الصيني المركزي عن الرئيس الصيني قوله إن «الجانب الصيني مستعد للتعاون مع الجانب الروسي لضمان التنمية المستقرة وطويلة الأجل للتعاون التجاري الثنائي». ونوّه بـ«الديناميكية الجيدة لتنمية العلاقات، رغم الأحداث الجارية في العالم».

ووفقاً للبيان الصيني، فإنه «منذ بداية هذا العام، على الرغم من التغيرات العالمية وعدم الاستقرار في العالم حافظت العلاقات الصينية – الروسية على قوة دفع جيدة للتنمية». كما أكّد الرئيس الصيني لبوتين استعداده لمساعدة روسيا في شؤون الأمن القومي، ووفقاً له فإن «الصين مستعدة لتعاون استراتيجي وثيق مع الاتحاد الروسي، لتقديم الدعم المتبادل، مع مراعاة المصالح الرئيسية للجانبين فيما يتعلق بالسيادة والأمن القومي».

وكانت الصين أصبحت أكبر مستورد لموارد الطاقة الروسية، بعد أن حوّلت إليها روسيا جزءاً كبيراً من صادراتها النفطية. كما تم افتتاح أول جسر بري للسيارات بين روسيا والصين في بلاغوفيشتشينسك في 10 يونيو (حزيران)، ما سهل عبور الشاحنات التجارية إلى الصين.

في المقابل، حمل بيان الكرملين حول المكالمة تفاصيل أوسع حول تطور موقف بكين حيال الحرب الجارية، ما عكس ارتياحاً لدى الكرملين في هذا الشأن. وقالت الرئاسة الروسية إن شي أكد خلال المحادثة أن «تصرفات روسيا لحماية المصالح الوطنية في مواجهة التحديات الخارجية لأمنها أمر مشروع».

وقال إن الرئيس الروسي أوجز لمحاوره «التقييمات المبدئية بشأن الوضع في أوكرانيا والمهام التي يتم حلّها في سياق العملية العسكرية».

ووفقاً لبيان الرئاسة، فقد «قيّم الزعيمان العلاقات الروسية الصينية في مستوى عالٍ غير مسبوق، وأكدا أنها تتحسن باستمرار. كما أكدا مجدداً رغبتهما في تعميق الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي باستمرار في جميع المجالات».

وأشار إلى أن بوتين وشي «بحثا بالتفصيل آفاق التعاون التجاري والاقتصادي، التي يمكن أن يصل حجمها السنوي، وفقاً للتوقعات، إلى مستويات قياسية».

واتفق الرئيسان على «توسيع التعاون في مجالات الطاقة والتمويل والإنتاج الصناعي والنقل، وكذلك في مجالات أخرى، مع مراعاة الوضع المعقد في الاقتصاد العالمي بسبب العقوبات الغربية غير القانونية. كما تطرّق بوتين وشي جينبينغ إلى زيادة تطوير العلاقات العسكرية والعسكرية الفنية».

وفي ملف السياسة الدولية، تم التأكيد، وفقاً لبيان الكرملين، على أن روسيا والصين «كما في السابق، تنطلقان من موقف مشترك أو وثيق للغاية، وتلتزمان باستمرار بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي، وتسعيان إلى بناء نظام متعدد الأقطاب وعادل بحق العلاقات الدولية».

على صعيد آخر، أكد الكرملين أن الاتصالات ما زالت «ضرورية» في العلاقات مع الولايات المتحدة، برغم تصاعد التوتر بشأن الوضع في أوكرانيا.

وقال الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف للصحافيين رداً على سؤال عن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا إن «الاتصالات ضرورية، وسيبقى التواصل واجباً في المستقبل». وأضاف: «الولايات المتحدة باقية، وأوروبا باقية، لذا بطريقة ما يتعين علينا التواصل معهم». وقال بيسكوف إن الوضع الحالي يجعل من «غير المحتمل» عودة الجانبين إلى ما أسماه «روح جنيف»، في إشارة إلى قمة بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين العام الماضي، التي أحيت الآمال في انفراج محدود. وزاد الناطق الروسي: «هل من الممكن العودة إلى روح جنيف، عندما كان هناك بصيص من الأمل؟ هذا احتمال ضعيف جداً»، مضيفاً: «من غير المحتمل أن نعيش في أحلام قديمة ونحن نرى ما يحدث الآن».

في غضون ذلك، دعا نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، الغرب إلى توخي أقصى درجات الحذر والامتناع عن التصعيد. وقال إن الولايات المتحدة «تواصل اللعب بالنار، وهو أمر خطير»، مشدّداً على أنه «حان الوقت لإظهار أقصى درجات الحذر من الجانب الغربي، والامتناع عن التصعيد، وعن تزويد نظام كييف بالأسلحة، خاصة تلك المزعزعة للاستقرار، وأعني أنظمة هيمارس للصواريخ والمدفعية».

وردّاً على سؤال بشأن مخاطر الصدام المباشر، أشار ريابكوف إلى أن الدول الغربية تحاول اتهام روسيا بلعب نوع من «الألعاب الإنشائية» فيما يتعلق باستخدام الأسلحة النووية. إلا أن ذلك «غير صحيح بالمرة. فتلك حجج لا قيمة لها، ولا تتوافق مع الواقع. لكننا اعتدنا على حقيقة أن الغرب لم يعد لديه سوى التزييف والكذب، علاوة على محاولات تشويه الواقع المعقد لإرضاء أفكارهم الجيوسياسية وأولوياتهم. ذلك هو المعيار، والملاحظ بشكل خاص في وسائل الإعلام». وزاد الدبلوماسي: «لقد حذّرنا الغربيين بقيادة الولايات المتحدة أكثر من مرة، من أن محاولاتهم الافتراضية للتدخل المباشر (في الحرب الأوكرانية) ستكون لها عواقب وخيمة بعيدة المدى. وتحدثت قيادتنا السياسية، والرئيس، وقادتنا العسكريون، ووزير الخارجية، مراراً حول هذا الموضوع». وشدد قائلاً: «أعتقد أن جميع تحذيراتنا قد سمعت جيداً، وأتمنى أن تكون عاملاً يؤخذ في الاعتبار».

الشرق الأوسط

————————

تركيا تطالب بتبديد مخاوفها الأمنية لقبول عضوية السويد وفنلندا بـ{الناتو}/ سعيد عبد الرازق

جدد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان موقف بلاده الرافض لانضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) ما لم يتخذ البلدان خطوات ملموسة تجاه مخاوف تركيا الأمنية. وقالت الرئاسة التركية، في بيان، إن إردوغان أكد للأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ في اتصال هاتفي بينهما، أمس (الأربعاء)، أن تركيا لن تغير موقفها من انضمام البلدين الأوروبيين إلى الحلف دون اتخاذهما خطوات ملموسة تجاه مخاوفها الأمنية والتزامهما بمكافحة الإرهاب. وشدد إردوغان على أنه لا يمكن إحراز تقدم في عملية الانضمام، دون رؤية خطوات ملموسة من كلا البلدين تلبي تطلعات تركيا المشروعة، ووجود التزامات مكتوبة تضمن تغييرا في نهج البلدين بشأن مكافحة الإرهاب، والتعاون في مجال الصناعات الدفاعية. وفي كلمة أمام نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم بالبرلمان التركي، أمس، شدد الرئيس التركي على أنه لن يكون هناك أي تغيير في موقف تركيا لانضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، حتى يتخذ البلدان خطوات «واضحة وملموسة وحاسمة» في مكافحة الإرهاب.

وتتهم تركيا كلا من السويد وفنلندا بتوفير ملاذ آمن لأعضاء تنظيمات إرهابية تعمل ضدها، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني، المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا والاتحاد الأوروبي وأميركا، ووحدات حماية الشعب الكردية، التي تعتبرها تركيا امتدادا له في سوريا وينظر إليها حلفاؤها الغربيون كأوثق حليف في الحرب على «تنظيم داعش» الإرهابي، فضلا عن حركة «الخدمة» التابعة للداعية فتح الله غولن، التي أعلنتها السلطات التركية تنظيما إرهابيا عقب محاولة انقلاب فاشلة وقعت في 15 يوليو (تموز) 2016. وقدمت تركيا إلى السويد قائمة تضم أكثر من 30 اسما من عناصر العمال الكردستاني وحركة غولن لتسليمهم إليها. وتطالبها، وكذلك فنلندا، برفع حظر صادرات السلاح الذي فرض بسبب عملية «نبع السلام» العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، واستهدفت مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشكل الوحدات الكردية أكبر مكوناتها.

بدوره، قال ستولتنبرغ إن السويد وفنلندا على استعداد للعمل مع تركيا بشأن مخاوفها الأمنية «المشروعة» بشأن الإرهاب. وأكد ستولتنبرغ، في تصريح أمس، أن تركيا «حليف مهم»، وأن لديها مخاوف بشأن بعض القضايا المحددة، لا سيما المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وأن الحلف يأخذ مخاوف تركيا الأمنية على محمل الجد وسيعمل على إزالتها.

وكان ستولتنبرغ قال، في مؤتمر صحافي مشترك مع رؤساء وزراء 7 دول حليفة في الناتو في لاهاي، أول من أمس، إنه يجب أخذ مخاوف تركيا على محمل الجد، لأنها تواجه بالفعل تهديدات إرهابية خطيرة. وأضاف «علينا أخذ المخاوف التي أعرب عنها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على محمل الجد لأن تركيا تواجه بالفعل تهديدات إرهابية خطيرة، وإذا كان لدى حليف مهم مثل تركيا مخاوف، فسنجلس ونتحدث ونجد حلاً». ولفت إلى أن زيارتيه إلى السويد وفنلندا سارتا بشكل إيجابي، معرباً عن ترحيبه بالإجراءات المتخذة من الدولتين بخصوص تبديد مخاوف تركيا بما فيها مكافحة نشاط حزب العمال الكردستاني.

وتقدمت السويد وفنلندا بطلب رسمي للانضمام إلى الناتو في 18 مايو (أيار) الماضي، بدافع من مخاوفهما المتعلقة بالحرب الروسية في أوكرانيا.

وفي مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز» نشرت أول من أمس، قال ستولتنبرغ إن الحلف لم يتوقع أن ترفض تركيا انضمام السويد وفنلندا إليه، وإنه لا يزال هناك مجال للتغلب على «مخاوفها المشروعة بشأن الإرهاب».

ولفت إلى أن هدفه هو أن تصبح فنلندا والسويد عضوين في الناتو في أسرع وقت ممكن، مؤكدا أنه لا يوجد موعد نهائي لحل هذه القضية قبل قمة الناتو في نهاية يونيو (حزيران). وعبر عن امتنانه لرئيسة الوزراء السويدية ماجدالينا أندرسون التي أكدت استعداد بلادها لمعالجة مخاوف تركيا من خلال تعديل قوانين مكافحة الإرهاب وعرض تسهيل بيع الأسلحة لها.

في السياق ذاته، أكدت سفيرة الولايات المتحدة لدى الناتو، جوليان سميث، أن تبديد مخاوف تركيا فيما يتعلق بانضمام فنلندا والسويد سيكون من مصلحة الحلف. ونقلت وكالة «الأناضول» التركية عن سميث قولها، في تصريحات أمس، إنهم يسعون خلف الأبواب الموصدة لإزالة المخاوف التركية في هذا الخصوص، وإن فنلندا والسويد تواصلان لقاءاتهما مع المسؤولين الأتراك لإزالة تلك المخاوف، وإن واشنطن تتواصل أيضاً مع تركيا وفنلندا والسويد في هذا الخصوص.

————————–

روسيا تعمل على إعادة التوازن أمام تركيا في الملف السوري

إسطنبول ـ فراس فحام

وجه مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف رسائل للجانب التركي من العاصمة الكازاخستانية نور سلطان خلال المشاركة في الجولة 18 من مباحثات أستانا التي انعقدت في 15 من حزيران الجاري، أكد فيها أن بلاده “لن تغض الطرف عن العملية العسكرية التركية شمالي سوريا، مقابل موقف أنقرة من انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي”.

واستبق المتحدث باسم الكرملين انعقاد الجولة الجديدة من مباحثات أستانا بالتأكيد على أن” العملية العسكرية التركية في سوريا لن تساعد على تحقيق الاستقرار”.

رسائل عسكرية روسية قبيل انعقاد المباحثات

في 10 من حزيران الجاري أطلقت قوات النظام السوري جنوب إدلب مناورات عسكرية بالذخيرة الحية، تحت إشراف كل من وزير الدفاع في النظام السوري العماد علي محمود عباس وقائد الفرقة 25 المدعوم من روسيا سهيل الحسن، إلى جانب جنرالات في الجيش الروسي حضروا التدريبات.

وأكدت مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا أن الجيش الروسي نشر 8 طائرات مروحية هجومية في مطار أبو الضهور العسكري شرق إدلب، بعد أن شاركت بالتدريبات العسكرية.

وتظهر هذه الخطوات رغبة روسية بإعادة توجيه الأنظار إلى إدلب مجدداً، والتذكير بأن هذا الملف لا يزال عالقاً وخلافياً بين الأطراف الفاعلة في الملف السوري.

وأفادت مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا أن الوفد الروسي أعاد التذكير خلال الجولة 18 من مباحثات أستانا بمسألة انتشار “الفصائل المتطرفة” في إدلب، وضرورة إيفاء الدول الضامنة بالتزاماتها.

التصريحات الروسية والترتيبات العسكرية تعكس توجهاً روسياً لإعادة التوازن إلى موقفها أمام الجانب التركي في سوريا، عن طريق الفصل بين الملفات وعزل الملف السوري عن الواقع السياسي الذي فرضته الحرب الأوكرانية، والتي أتاحت لأنقرة هامش مناورة جيد في مواجهة روسيا، إذ إن موسكو تعمل حالياً على ضبط المباحثات مع تركيا على أسسها الأصلية، التي قامت على التزامات متبادلة بين روسيا وتركيا، تتضمن إبعاد العناصر “الإرهابية” من على الحدود التركية بعمق 32 كيلومتراً، مقابل تقويض سيطرة “التنظيمات الإرهابية” في إدلب وضمان إنشاء ممرات آمنة على جانبي طريق M4.

روسيا تستعيد زخم التنسيق مع إيران في سوريا

أكد كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني علي أصغر حاجي أن هناك رؤى مشتركة مع روسيا، وستنعكس في البيان الختامي لجولة أستانا الجديدة.

ونقلت وكالة سبوتنيك الروسية عن “أصغر حاجي” تأكيده على تقارب وجهات النظر مع روسيا، وأن الاجتماعات بين وفدي البلدين في العاصمة الكازاخستانية كانت “ممتازة”.

التصريحات الإيرانية تظهر رضا طهران عن الهامش الميداني والسياسي الكبير الذي أتاحته روسيا لإيران في الملف السوري مؤخراً، فقد عادت الميليشيات الإيرانية للنشاط في البادية السورية الغنية بالثروات الباطنية، وعلى الحدود الإسرائيلية دون قيود اعتباراً من آذار 2022.

وعزز تشكيلا الفرقة الرابعة وفوج قاسم سليماني المدعومان من إيران مواقعهما شمال غربي سوريا على مقربة من الحدود التركية في أيار 2022 تحت غطاء جوي روسي.

وحرصت موسكو منذ عام 2019 على خوض مباحثات ثنائية مع الجانب التركي بخصوص الملف السوري، مع شبه تحييد لإيران، وهذا انعكس على أهمية مسار أستانا الذي تحول إلى لقاءات روتينية بشكل تدريجي آخر عامين، لكن يبدو أن روسيا حرصت على إعطاء زخم جديد للجولة 18 من مباحثات أستانا، بهدف تعزيز موقفها في مواجهة تركيا بالتقارب مع إيران، خاصة وأن موسكو لم تعد ترى أنها مضطرة للوفاء بالتزاماتها تجاه الأطراف الدولية بما يخص ضبط النفوذ الإيراني في سوريا، في ظل ما تتعرض له روسيا من ضغوطات غربية جراء الحرب الأكرانية، وأيضاً عدم رغبتها في تيسير التوصل إلى اتفاق نووي جديد بين طهران والدول الكبرى على اعتبار أنه لم يعد يخدم مصالحها، وسيتيح لإيران أن تقدم نفسها كمصدر بديل للدول الغربية لتوفير النفط والغاز.

ومن الواضح أن روسيا لا ترغب بإحداث أي تغييرات على أصل تفاهماتها مع تركيا في الملف السوري، وتريد الحفاظ على ربط ملف إدلب بشمالي وشمال شرقي سوريا، بهدف منع تركيا من تحقيق المزيد من المكاسب في الملف السوري بالاستفادة من الظروف الدولية وحاجة روسيا إلى تركيا في ظل الضغوطات والعقوبات الغربية، ويبدو أن ما شجع موسكو على هذا النهج المتمثل بإعادة ضبط التوازنات في الملف السوري إدراكها لحجم التوتر بين تركيا وأميركا، حيث لا تزال الأخيرة تبدي الاعتراض الشديد على العمليات العسكرية التركية ضد قسد، بالإضافة إلى الموقف الأميركي الداعم لليونان بما يخص الخلاف مع تركيا حول الجزر المتنازع عليها، والتسريبات التي تتحدث عن توجه واشنطن لزيادة عدد قواعدها في اليونان إلى 11 قاعدة، يضاف إلى هذا كله عدم موافقة الكونغرس حتى هذه اللحظة على صفقة الطائرات التي ترغب تركيا بعقدها.

وكانت تركيا قد نجحت منذ منتصف أيار الماضي بتصعيد الضغط على روسيا، من خلال التركيز على عدم وفاء موسكو بالتزاماتها المتعلقة بإبعاد عناصر حزب العمال الكردستاني وتنظيم قسد عن الحدود التركية، والمطالبة بإتاحة المجال أمام العمليات العسكرية بسبب فشل تنفيذ تفاهم سوتشي الموقع في تشرين الأول 2019.

————————–

واشنطن بوست: هل حان الوقت للبحث عن “نهاية اللعبة في أوكرانيا”؟

إبراهيم درويش

تحت عنوان “حان الوقت للبدء والتفكير في نهاية اللعبة بأوكرانيا؟”، أشار فريد زكريا بصحيفة “واشنطن بوست” لما قاله الزعيم البريطاني وينستون تشرتل بعد انتصار الحلفاء في مصر عام  1942  وفهم منه أنه تحضير الشعب البريطاني لنزاع طويل”هذه ليست النهاية” بل”وحتى ليست بداية النهاية وربما كانت نهاية البداية”.

ويعلق زكريا:”عندما نفكر بناء على هذه الشروط فما هي المرحلة التي وصلناها الآن في أوكرانيا؟”، ويجيب غيدون روز، من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ومؤلف كتاب “كيف تنتهي الحروب” أننا في المرحلة الوسط. وأشار إلى أن كل حرب تبدأ مثل لعبة شطرنج بهجوم درامي ودفاع. ففي حالة لم تؤد هذه الهجمات الأولى لانتصار حاسم، فعندها تدخل الحرب المرحلة الوسط حيث يحاول كل طرف الدفع باتجاه تحقيق مكاسب في ساحة المعركة.

ونقل زكريا عن روز قوله “في المرحلة الوسط” “لا يعبر أي طرف عن اهتمام بالمفاوضات لأن كل واحد منهما يحاول الإنتصار الحاسم وتعزيز موقعه في ساحة المعركة وتحسين موقعه التفاوضي”، وفي هذه المرحلة تكون المشاعر حادة بدون أي ميل للتنازل. وفي النهاية، يدخل المتحاربون المرحلة الأخيرة عبر طريق أو طريقين، إما أن ينحرف مسار الحرب بطريقة لا رجعة فيها لطرف (كما في 1918 و 1944) أو دخول الحرب مرحلة من الركود وانسداد الأفق (كما في الحرب الكورية منتصف القرن الماضي) و “عند تلك النقطة تدخل الأطراف مرحلة نهاية اللعبة، ويبدأون بالتنافس حول التسوية النهائية”، كما يقول روز.

ويرى زكريا أن على الغرب مساعدة أوكرانيا تقوية موقعها في المرحلة الوسط هذه. وتحتاج كييف إلى مزيد من الأسلحة والتدريب، فرغم وجود محدودية لما يمكن أن تستوعبه أوكرانيا إلا أن هناك حاجة من  واشنطن وحلفاءها في أوروبا والأماكن الأخرى لمضاعفة جهودهم. وهم بحاجة لمساعدة أوكرانيا على فك الحصار الروسي حول ميناء أوديسا.

وركز الناس في حديثهم على انهيار الإقتصاد الروسي الذي سينكمش هذا العام بنسبة 11%، لكن اقتصاد أوكرانيا سينكمش بنسبة مذهلة 45% في 2022. وحتى يكون البلد قادرا على تصدير  الحبوب عبر موانيء البحر الأسود، فإنه سيواجه مصيبة اقتصادية لسنوات قادمة.

 ومن المحتمل أن تستمر المرحلة الوسط لوقت، ذلك أن روسيا واوكرانيا لن تحسما الحرب لصالحهما.

وفي المدى القصير، تعلب الظروف مع جانب روسيا، فقد سيطرت على معظم منطقة دونباس ولأن الغرب لم يمنع استيراد الطاقة الروسية، فقد استفادت الحكومة الروسية وتربحت أثناء الحرب. ويتوقع موقع “بلومبيرغ” أن تصل موارد الغاز والنفط الروسية هذا العام إلى 285 مليار دولار، مقارنة مع 236 مليار دولار العام الماضي.

 أما على المدى البعيد، فيقول الكاتب إن الواحد يأمل أن تواجه روسيا صعوبات بسبب العقوبات ومع طول أمد الحرب. وفي نفس الوقت تحظى أوكرانيا بدعم غربي قوي ومعنويات عالية وإرادة للقتال حتى النهاية.

ومع أننا لم نصل بعد إلى المرحلة النهائية للعبة، فربما بدأت أوكرانيا التفكير وبذكاء في نهاية اللعبة. وبهذه الطريقة، تستطيع بناء موقف متماسك ومواءمة استراتيجيتها معه والحصول على دعم دولي.

وتعرض وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر عندما اقترح أن على كييف عدم المضي أبعد من خطوط المعركة ما قبل 24 شباط/فبراير. وفي الحقيقة ليس من الواضح إن كانت أوكرانيا قادرة على استعادة كل الاراضي تلك بالقوة، وهذا لا يعني التوقف عن المحاولة. ومن الحكمة أن تعلن عن هدفها ذلك، أي عكس المكاسب المناطقية للروس هذا العام. وعندها ستحاول كييف استعادة الأراضي التي خسرتها قبل ذلك في عام 2014 عبر المفاوضات. وأشار الرئيس الأوكراني فولدومير زيليسكي إلى هذا أكثر من مرة، العودة إلى خطوط ما قبل 24 شياط/فبراير، وسيجد هذا الموقف دعما من المجتمع الدولي.

وستصبح الولايات المتحدة والغرب في المرحلة الأخيرة من الحرب لاعبين مهمين. وفي الوقت الحالي تحارب روسيا أوكرانيا مباشرة. ولكن لو دخل النزاع في حالة انسداد  فالكفاح سيتحول إلى معركة بين روسيا والغرب. ماذا ستقدمه روسيا مقابل تخفيف العقوبات وماذا سيطالب  به الغرب مقابل إنهاء عزلتها؟ وحتى هذا الوقت لم تظهر الولايات المتحدة موقفا واضحا وأكدت على  أن القرار بيد الأوكرانيين لكي يقرروا وأن واشنطن لن تتفاوض من وراء ظهورهم. وهذه رسالة جيدة تعبر عن الدعم العام، ولكن أوكرانيا والغرب بحاجة للتوافق على سلسلة من الأهداف المشتركة وتنسيق الإستراتيجية حولها وتعبئة المجتمع الدولي بشأنها واستخدام أوراق النفوذ للنجاح. ويجب أن يكون الهدف  هو أوكرانيا مستقلة تتمتع بالسيادة على معظم أراضيها، كما كانت قبل 24 شباط/فبراير مع التزامات أمنية من الغرب. والبديل عن نوع من التسوية التفاوضية سيكون حربا بدون نهاية، ستدمر البلد وأهله. وفر أكثر من 5 ملايين شخص من بلادهم وستتعطل إمدادات الطاقة والطعام وستزيد أزمة الإقتصاد والطعام في كل مكان ويتكاثف الإضطراب السياسي حول العالم، وبالتأكيد فمن الواجب البحث عن نهاية للعبة وتجنب هذا المستقبل القاتم.

—————————-

فوكوياما العرّاف: انهيار روسيا بعد فانتازيا «نهاية التاريخ»/ صبحي حديدي

على نقيض هنري كيسنجر، الأعتق منه والأدهى والأمكر والأوسع خبرة، لم يقترح فرنسيس فوكوياما أن تقدّم أوكرانيا بعض التنازلات لروسيا على سبيل وقف الغزو الذي انخرطت فيه موسكو منذ 24 شباط (فبراير) الماضي؛ بل لقد استبعد وجود أيّ منفذ دبلوماسي يمكن أن ينهي القتال، فتسكت المدافع وتُنزَل الصواريخ عن منصاتها وتجثم القاذفات في مرابضها. ما الحلّ، إذن، في ناظر الرجل الذي أنهى التاريخ ذات يوم، ثمّ عاد فاستأنف بعض تجلياته ليس من دون تراجع أقرب إلى التلفيق منه إلى الاعتذار؟ لا إجراء يمكن أن يوقف الحرب سواء في ساحات القتال أو أروقة المفاوضات، ولا حاجة تستدعي هذا أو ذاك أصلاً وعملياً؛ لأنّ روسيا سوف تنهار من الداخل، هكذا ببساطة، ليس تباعاً أو تدريجياً أيضاً بل دفعة واحدة وبأسرع مما هو متوقّع!

الأسباب يمكن أن تبدأ من تخطيط الجيش الروسي المثقل بالأخطاء وسوء الحسابات، ولها أن تمرّ بطموح بوتين السياسي المفرط، وتتقاطع مع الإدارة اللوجستية البائسة، ولا يلوح أنها تنتهي عند نقص الاحتياط الستراتيجي للقوات… وهذه طائفة اعتبارات عجيبة دفعت البعض إلى التساؤل، عن طريق تحكيم منطق جادّ، ما إذا كان الرجل يمزح أو يعابث أو أنه ربما أُصيب بلوثة؛ أو إحالة هذه الأفكار المبتسرة التبسيطية إلى قاعدة قياس مبدئية، تفيد بأنّ من الخير لجنرال مختصّ أو خبير عسكري أو حتى مراسل حربي أن يحلّ محلّ شيخ العرّافين صاحب النبوءات الفانتازمية حول طيّ صفحة التاريخ، وانتصار الإنسان الليبرالي الأخير، وهيمنة اقتصاد السوق مرّة وإلى الأبد. وكيف لا تُقابل تنظيرات فوكوياما هذه بردود أفعال تتراوح بين الاستغراب والتهكم والرفض، إذا كانت الخلاصة القصوى لتحليلاته تأخذ صيغة الاختزال التالية: «أفضل كثيراً أن نجعل الأوكرانيين يهزمون الروس بأنفسهم، منتزعين من موسكو ذريعة أنّ الحلف الأطلسي يهاجمهم، فضلاً عن تفادي كلّ إمكانيات التصعيد الواضحة»؟ إنه لا يطالب أن تخوض أوكرانيا الحرب ضدّ روسيا بالنيابة عن الأطلسي والولايات المتحدة فقط، بل هو جازم تماماً بأنّ النصر حليف كييف لا محالة.

نحن، بالطبع، على مبعدة كافية، زمنية وفكرية وجيو- سياسية في آن، عن أيلول (سبتمبر) 1989 حين نشر فوكوياما مقالته الشهيرة التي شيّع فيها التاريخ إلى مثواه الأخير، على يد «الإنسان الأخير». آنذاك كانت الأطروحة تقول ما معناه، للتذكير المفيد: التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة…)؛ وقد انتهى التاريخ وانتهت اللعبة لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (انتهاء الحرب الباردة) أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن هي تلك الخاصة بالرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق. وليس في استعارة لعبة الكراسي الموسيقية أيّ إجحاف بحقّ أطروحة فوكوياما، بل لعلها أفضل تلخيص للتمثيلات الكاريكاتورية التي وضعها الرجل لعلاقة البشر بالتواريخ، ولتأثير البنية الفوقية (الإيديولوجيا والنظام الفكري) على البنية التحتية (الاقتصاد والنظام الاجتماعي) وعلى ولادة إنسان لا حاجة له بالتاريخ لأنه ببساطة خاتم البشر.

بعد عقد من الزمان (وفي غمرة احتفاله باليوبيل العاشر للمقال إياه!) نشر فوكوياما في صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» مقالاً بعنوان «نهاية التاريخ بعد عشر سنوات» سرعان ما تناقلته وترجمته حفنة من كبريات الصحف الغربية. ولم يكن يبدو البتة أنّ السنوات العشر قد فتتت في عضد الرجل، إذْ لا شيء في شؤون السياسة الدولية أو معضلات الاقتصاد الكوني يبرهن على بطلان أطروحة نهاية التاريخ وانتصار القِيَم الليبرالية واقتصاد السوق: لا شيء، حرفياً! لا الحروب الإقليمية، ولا الأشباح الإثنية التي تستيقظ من سبات قرون طويلة، ولا انهيار الاقتصادات الآسيوية العتيدة أو الاقتصادات الأوروبية الشرقية الوليدة أو زلازل نظام الإقراض المصرفي الأمريكي، ولا حروب الصومال أو مذابح رواندا أو انفجار البلقان أو تعطّل عملية السلام في الشرق الأوسط وانفلات الفاشية الإسرائيلية من كل عقال… لا شيء، حرفياً!

التنازل الوحيد الذي قدّمه فوكوياما، بتواضع العالِم/ العرّاف، هو ذاك الخاصّ بفكرة أنّ «الدولة الليبرالية الحديثة هي الصيغة السياسية التي تتوّج التاريخ. كانت هذه الأطروحة خاطئة تماماً» كتب فوكوياما. لماذا؟ «لأنّ التاريخ لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد، ونحن على أعتاب اكتشافات علمية ذات جوهر كفيل بإلغاء الإنسانية في حدّ ذاتها»! في البدء انتهى التاريخ، ثم بعدئذ انتهى الاقتصاد (وهذه هي الأطروحة المركزية في كتاب فوكوياما الثاني «الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء») واليوم «تنتهي الإنسانية نفسها أو في حدّ ذاتها»… من دون تاريخ دائماً، وعلى صعيد الحالات الثلاث. وفي ختام مقالة اليوبيل العاشر تلك كتب فوكوياما: «السمة المفتوحة لعلوم الطبيعة المعاصرة تسمح لنا بالقول إنّ تكنولوجيا علوم الأحياء سوف تتيح لنا، وخلال جيلَين قادمَين، استكمال ما فشل اختصاصيو الهندسة الاجتماعية في القيام به. وفي المرحلة تلك سوف تكون علاقتنا بالتاريخ الإنساني قد انتهت تماماً، لأننا سوف نكون قد أبطلنا الوجود الإنساني في حدّ ذاته. عندها سوف يبدأ تاريخ جديد عابر للإنساني».

على أصعدة مختلفة في الاقتصاد الكوني، الذي هو بعض تجليات التاريخ الإنساني اليومي، تواترت بعد فانتازيا «نهاية التاريخ» أحوالٌ عجيبة تنتهك القواعد التي اعتبرتها القرون السابقة بمثابة حدود دنيا لما هو مقبول إنسانياً بين فريقَي الغنيّ والأغنى، من جهة أولى؛ والفريقَيْن معاً ضد الفقير والأفقر والمعدم والجائع، من جهة ثانية. تقرير «برنامج الأمم المتحدة للتنمية» ظلّ يقدّم عشرات الحقائق الفاجعة، الكفيلة بردّ الإنسانية القهقرى إلى عصور مظلمة خُيّل لفرسان الليبرالية أنها انطوت إلى غير رجعة. الناتج الداخلي الإجمالي على نطاق دولي بلغ، بالنسبة إلى 1993 كسنة قياس، ما قيمته 23.000 مليار دولار، بالمقارنة مع 4.000 مليار قبل عشرين سنة فقط؛ وكن كيف يتوزع هذا الانفجار الخرافي في الإنتاج والاستثمار؟

ـ الدول المصنّعة استأثرت بما قيمته 18.000 مليار دولار، وسائر العالم كانت له حصة الـ 5.000 مليار المتبقية. من جانب آخر، كان هنالك 350 فرداً يملكون من الثروات المادية (على شكل رساميل واستثمارات وأسهم مالية خاصة) أكثر مما يملكه نحو مليارين ونصف المليار من البشر المبعثرين هنا وهناك على هذه البسيطة.

ـ وبينما ارتفع معدّل النموّ الدولي بنسبة 40٪ بين أعوام 1975 و1985، فإنّ نسبة الفقر الأقصى زادت بمعدل 17٪، واتسع نطاق الخطّ الأحمر للفقر ليشمل قطاعات جديدة. أيضاً، يُنتظر أن يتواصل ارتفاع معدلات النموّ العالمي بحيث يبلغ ما قيمته 56.000 مليار دولار في العام 2030، ولكن حصّة الدول النامية سوف تنخفض بنسبة 30٪ عن سنة القياس 1993!

وتقارير برامج الأمم المتحدة للتنمية تكرّر الخلاصة التالية: «العالم اليوم مسرح لاستقطاب جلي حادّ على الصعيد الاقتصادي (…) وإذا تواصلت الاتجاهات الراهنة فإن التباينات بين الدول المصنّعة والدول النامية لن تكون مجحفة فحسب، بل ستكون غير إنسانية أيضاً». وعبارة «غير إنسانية» هذه تردّد أصداء نهاية الإنسانية كما يقول بها فوكوياما، مع فارق كبير في طبيعة العذاب البشري بالنسبة إلى المعنى الأوّل، وطبيعة الرفاه الفلسفي بالنسبة إلى المعنى الثاني. وقد تكون هذه المعادلة وجهة أخرى لاستئناف فانتازيا إنهاء التاريخ، عبر التنجيم بانهيار روسيا.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

———————

الغزو الروسي لأوكرانيا وقضايا الأمن القومي والديمقراطية/ تقادم الخطيب

قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي قد تعمّقت إلى درجة جعلت المحللين السياسيين يتوقعون انهيار الاتحاد الأوروبي وتفكّكه على غرار الاتحاد السوفييتي. هذه التنبؤات صاحبتها خلافاتٌ معمّقة مع دول في الاتحاد الأوروبي، خصوصا في أوروبا الشرقية، ما جعل عديدا من تلك الدول، وعلى الرغم من عضويتها في الاتحاد الأوروبي، أن تتخذ خطواتٍ أقرب إلى روسيا منها إلى الاتحاد نفسه، ومن هذه الدول المجر. استطاعت تلك الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي أن تجعل هناك انقساما وصعوبة في الوصول إلى اتفاق بشأن قضايا عديدة، مثل قضية اللاجئين وغيرها. في الوقت نفسه، فإن الدول التي اتخذت الحياد طريقا لها في سياستها الخارجية أبقت على هذه المسألة بعيدا عن الخلافات التي تعصف بالاتحاد وأعضائه. كما أن شعوبا عديدة من هذه الدول بدأت في التفكير في التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي، علي غرار بريطانيا. إلا أنه مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، تغيرت تلك المعادلة بأكملها، فالدول التي كانت تتّخذ من الحياد أساسا لها في سياستها الخارجية بدأت ترى ضرورة التخلي عن هذه المسألة، والانضمام إلى التكتلات السياسية والعسكرية. وهنا نشهد دولا، مثل السويد وفنلندا، تتقدّم بطلب للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهذا معناه نهاية سياسة الحياد التي انتهجتها تلك الدول منذ الحرب العالمية الأولى. وفي الوقت نفسه، فإن دولا كبرى، مثل ألمانيا، تخلت عن حيادها، وعن سياسة الاحتواء تجاه روسيا، وبدأت في إعادة تسليح جيشها أول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما أنها انخرطت، جدّيا، في الوقوف ضد روسيا ومصالحها، بل والذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، بالتضحية بالمشاريع الاقتصادية الكبرى مع روسيا، مقابل الحفاظ على الأمن القومي، فيما تعهّدت بلدان أخرى بالسير على خطى ألمانيا، بما في ذلك الدنمارك والسويد والنمسا.

في الوقت نفسه، فإن دولاً أسّست لمسافة تقارب مع روسيا أدركت أن هذا التقارب ليس في مصلحتها، بل يمثل عبئا عليها، وأدركت لوهلة أن هذا التقارب قد يصبح خطرا عليها، يهدّد وجودها، كما أن شعوب هذه الدول أدركت أن المسار الديمقراطي هو الحل للخلافات، والتمركز داخل القارّة الأوروبية وتعزيز الديمقراطية هو المسار الذي يجب أن تكافح من أجله. ولعل هذا هو الدافع لشعوب عديدة في شرق أوروبا أن تقرّر في استفتاءات نزيهة أنها تحتاج حماية “الناتو” تحديداً في مواجهة مزاعم الأمن القومي الروسي. ففي الفترة التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت دولٌ، مثل المجر، تفكّر جدّيا في الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أنها أدركت، مع بداية الغزو، أن روسيا لن تكون الحليف الذي قد تتكئ عليه. وعليها العودة إلى البيت الأوروبي، وإدارة الخلافات في إطار الاتحاد الأوروبي وقوانينه، وأن غزو روسيا أوكرانيا قد لا يكبح جماح شهوتها في التمدّد لغزو دول أخرى، فعلى الرغم من الجدل الذي احتدم بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن التخلي عن الغاز الروسي، وإحباط استخدامه سلاحا استراتيجيا في الحرب، إلا أن هناك اتفاقا ضمنيا بين تلك الدول أن الأمن القومي يجب أن يتقدّم على الاقتصادي. ولعل هذا المبدأ هو الأساس الذي جعل دول الاتحاد الأوروبي تتفق على ضرورة التخلي عن الغاز الروسي، فالمجر التي كانت دائما تثير الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي أدركت أنها لا بد أن تتفق مع الاتحاد، وتصل معه إلى تفاهماتٍ بشأن خطة التخلي عن الغاز الروسي، وأن تعيد تمركزها بوصفها دولة أوروبية، تجمعها مع دول الاتحاد مصالح مشتركة.

وعلى الرغم من أن أكثر من 60% من استخدام المجر للغاز هو بالأساس اعتماد على الغاز الروسي، كما أنها لا ترتبط بشبكة الغاز الأوروبي. وبالتالي، ارتباطها فقط مع شبكة الغاز الروسي لاستيراده، إلا أنها اتفقت على أن تتعاون مع دول الاتحاد الأوروبي، والقبول بخطة التخلي والبحث عن بدائل للغاز الروسي. ومن هنا، سمح الاتحاد للمجر أن تستمرّ في استيراد الغاز الروسي حتى عام 2024 إلى حين إيجاد البديل وربطها بشبكة الغاز الأوروبي. لقد عوّل بوتين كثيرا على الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي، ظانّاً أنها ستمهد له الطريق ليفعل ما يشاء داخل الاتحاد ويهدّد وحدته، إلا أن هذه التوقعات الخاطئة جعلت الاتحاد الأوروبي أقوى وأشدّ تماسكا مما كان عليه، بل وجعلت الدول الأعضاء داخل الاتحاد تتفق على ضرورة توسيع عضوية الاتحاد، ليشمل دولا أخرى. كما أن دولا أخرى بدأت بالفعل في الإحساس بالخطر، وبالتالي طلبت عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في آن. في الوقت نفسه، سيمنح الغزو الروسي لأوكرانيا أدوارا جديدة لدول داخل الاتحاد، لم يكن لها أن تلعبه لولا هذا الغزو، ومنها بولندا، ففي المستقبل القريب، سنرى صعودا لبولندا داخل الاتحاد الأوروبي، ولعبها أدوارا سياسية وعسكرية مهمة.

لقد أسّس الغزو الروسي لأوكرانيا لمعادلات جديدة، وأسقط سردياتٍ قائمة، فمعادلة الأمن القومي مقابل الطاقة، وهي لم تكن مفعلة من داخل الاتحاد الأوروبي، بل كانت مهملة في مقابل سياسة الاحتواء التي تعاملت بها دول الاتحاد تجاه روسيا، ودمجها داخل الاقتصاد الدولي، أصبحت الآن الأولوية في مقدمة السياسات الأوروبية، كما أن هذه المعادلة الجديدة ستكون الأساس الذي سيرسم المسار الجديد أو ملامح النظام السياسي الأوروبي القريب. لقد أسقط الغزو الروسي لأوكرانيا سرديات عديدة قائمة بحجة حفظ الأمن القومي، فرفض هذه الحجة يعني أيضا رفض التبرير لحروب عدوانية كثيرة، تحت مسمّى الأمن القومي، مثل حرب الولايات المتحدة في فيتنام، وصولاً إلى الحرب السعودية المستمرّة في اليمن والمعارك التركية في الشمال السوري، والانخراط الإيراني في الحرب السورية، مروراً بأعمال عدوانية مريعة، مثل هيمنة المخابرات السورية على لبنان بعد الحرب الأهلية فيه، والانقلابات المدعومة من واشنطن ودول غربية أخرى في أميركا الجنوبية وأفريقيا. وهذا كله يمكن تبريره باسم الأمن القومي والمتطلبات الجيوسياسية، وهذا كله يمكن اعتباره حروباً عادلة إذا اعتقدنا أن الأمن القومي للدول، كما يحدّده أصحاب السلطة فيها، أهم من حقوق الإنسان في الحياة والسلام والعيش الكريم، وأهم من الديمقراطية أيضاً.

العربي الجديد

————————–

روسيا إذ تدخل في جيب الصين/ مهند الحاج علي

تطور العلاقات الصينية-الروسية علامة فارقة في متن، وليس هامش الحرب على أوكرانيا. ذاك أن لهذه العلاقة وتطورها بالشكل الذي عليه، تبعات على مستوى العالم، تفوق الآثار المرحلية للحرب نفسها، أو أي نتيجة لها، أكان لجهة ديمومتها وتحولها لاستنزاف طويل الأمد، أو باتجاه حل يُمكن للطرفين الأوكراني والروسي تفسيره كإنتصار.

الواقع أننا بعد هذه الحرب سنكون أمام صين مختلفة، لديها أزمة ثقة أعمق مع العالم الغربي، وعلاقات وثيقة مع روسيا تعتمد فيه الأخيرة عليها بشكل كامل، بعد طردها من الأسواق العالمية نتيجة العقوبات المتراكمة أوروبياً وأميركياً. ولهذا الاعتماد الكبير على الصين والطلاق مع العالم الغربي، انعكاسات سياسية ليست بالهينة.

أول هذه الانعكاسات حقيقة أن النقاش الغربي السابق حول الشقاق أو التنافس الصيني-الروسي لم يعد صالحاً. ذاك أن استخدام القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة هذه الخلافات بين موسكو وبكين على السياسة الخارجية، سيما أننا نتحدث عن قوة اقتصادية صاعدة على الحدود الروسية، صار وراءنا. باتت المواجهة الغربية مع روسيا قاصمة، ولم يعد من الممكن فيها إيجاد مساحات للتعاون كما كان يحصل بين موسكو من جهة، وبرلين وباريس، من جهة ثانية. والدليل أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون صار محرجاً في مواقفه ويضطر للتصعيد في ملف عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي من أجل انهاء الأزمة سلمياً وعدم السماح للحرب بالاستمرار لفترة أطول.

عملياً، بات كل أنصار سياسة احتواء الرئيس فلاديمير بوتين وإبقاء مساحة بينه وبين الصين، في غرف العناية الفائقة. أرست العقوبات اليوم أساسات لعلاقة اعتماد روسية على الصين، تماماً كما حصل مع ايران نفسها. من هنا بإمكاننا قراءة الخطوات الصينية الأخيرة، وعلى رأسها تجديد الرئيس الصيني شي جين بينغ العلاقة الوثيقة مع “صديقه القديم” بوتين، وتأكيده دعم بكين لسيادة روسيا وأمنها. وجاء في نص الاتصال بين الرئيسين اتفاق “على توسيع التعاون في مجالات الطاقة والمال والصناعة والنقل وغيرها، مع الأخذ في الاعتبار الوضع الاقتصادي العالمي الذي تعقّد بسبب العقوبات غير الشرعية الغربية”. وهذا يعني توثيق الاعتماد الروسي اقتصادياً ومالياً على الصين. وثانياً، “تطوير العلاقات العسكرية والعسكرية-التقنية” باتجاه “بناء نظام علاقات دولية متعدد الأقطاب وعادل بالفعل”. وهذا اعلان استراتيجي، اذ أن منظومة الدول المطرودة من النظام المالي والاقتصادي العالمي، تحتاج الى تنظيم علاقاتها في ما بينها وعلى طرق التهرّب، والصين بإمكانها أن تصير جسراً بين العالمين، مع تسجيل هيمنتها على فئة الدول المارقة، ومن ضمنها روسيا اليوم. ولهذا ربما كان تدشين الصين وروسيا يوم الجمعة الماضي أول جسر بينهما فوق نهر آمور، ويربط بين مدينتي هيهو الصينية وبلاغو فيشتشينسك الروسية، بمثابة خطوة رمزية في هذا السياق.

والأرقام في هذا المجال مؤشر لمدى التطور المضطرد، اذ قفز التبادل التجاري بنسبة تفوق الثلث (35.9%) العام الماضي ليصير 146.9 مليار دولار وفقاً للجمارك الصينية، وهو يأتي لمصلحة روسيا التي توفر الفحم والغاز والنفط للجانب الصيني. هذه أرقام صدرت قبل 3 شهور، وهي بالتالي مرشحة للارتفاع بشكل مضطرد خلال الفترة المقبلة.

ولهذا تبعات على المنطقة لدينا على مستويين، وتحديداً بعد نهاية العمليات القتالية ولو بقيت الحرب نفسها بشكل مناوشات محدودة. قد نرى تعاوناً صينياً روسياً وثيقاً، مع تحول روسيا الى لاعب أكثر جرأة عسكرياً وسياسياً انطلاقاً من سوريا. والمستوى الثاني أمني، إذ أن لروسيا نشاطاً من خلال شركة “فاغنر” وفروعها وشبكاتها بالمنطقة، وبإمكانها لعب دور تخريبي للانتقام من العقوبات الغربية. حينها تصير الصين ضابط إيقاع، تماماً كما هي مع كوريا الشمالية.

هذه أدوار لن تجد لها مسرحاً أكثر رحابة من الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

المدن

——————————

هل تقبل المعارضة السورية طلب روسيا..نقل “الدستورية” من جنيف؟

أثارت دعوة روسيا إلى تغيير مكان انعقاد مباحثات اللجنة الدستورية السورية من جنيف، تحت اعتبارات متعلقة بالعقوبات التي تفرضها سويسرا على روسيا، قلقاً في أوساط المعارضة السورية، وسط تحذيرات من مساعٍ روسية تهدف إلى نزع الغطاء الأممي عن المحادثات، وإلحاق هذا المسار بمرجعية “أستانة”.

وفي رأي مصادر المعارضة، فإن اتخاذ روسيا العقوبات السياسية المفروضة عليها من سويسرا، ذريعة لتغيير مكان المباحثات، يؤشر إلى محاولات موسكو التلويح بإجهاض هذا المسار رغم فشله في تحقيق تقدم حقيقي على مدار ثماني جولات.

وكان الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف قد دعا أثناء مشاركته في جولة “أستانة 18” التي اختتمت الخميس، إلى البحث عن مكان جديد لاجتماعات اللجنة الدستورية السورية، معتبراً أن الدعوة “تكتسب صبغة سياسية، بسبب العقوبات السويسرية ضد روسيا”.

وقال إن التفاوض لا يزال مستمراً حول هذا الموضوع، مشيراً إلى أن بلاده أكدت خلال محادثات أستانة للدول الضامنة الأخرى (تركيا وإيران) اهتمامها بنقل موقع المفاوضات من جنيف.

المعارضة متمسكة بالرعاية الأممية

وفي أول تعليق من وفد المعارضة على الدعوة الروسية، شدد عضو اللجنة الدستورية طارق الكردي على رفض المعارضة لنقل مكان أعمال المباحثات إلى خارج مقرات الأمم المتحدة. وقاال ل”المدن”، إن اللجنة الدستورية جزء لا يتجزأ من مجلس الأمن رقم 2254، وهي المدخل لتنفيذ القرار المذكور بكل بنوده، ولذلك رعاية الامم المتحدة لها شيء هام وأساسي.

وتابع الكردي أنه لا يمكن نقل المحادثات خارج المدن الأربع (نيويورك، جنيف، فيينا، نيروبي) التي تضم مقرات الأمم المتحدة.

وحول الغايات الروسية من وراء هذه الدعوة، قال: “لا يهمنا أسباب وغايات موسكو، المهم من جانبنا هو الرفض لهذه الدعوات”.

ولم يصدر عن المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسن أي تعليق على دعوة موسكو، وحسب مصادر “المدن” فإن بيدرسن لن يذهب مع المطلب الروسي.

وليست المرة الأولى التي تطالب فيها الأطراف المعنية بالمحادثات بتغيير مكان عمل اللجنة، حيث اقترحت “منصة موسكو” المدعومة من روسيا، في أواخر العام 2019، نقل المحادثات من جنيف إلى دمشق، وهو ما رفضته المعارضة بشكل حاسم.

فشل الدستورية

وقالت عضو اللجنة الدستورية عن المجتمع المدني سميرة مبيض ل”المدن”، إن هذه المطالب هي النتيجة البديهية لفشل الآليات الحالية التي تم تبنيها من قبل اللجنة الدستورية والتي حاولنا تكراراً التنبيه الى آثارها السلبية على العمل الدستوري بحد ذاته وعلى الشارع السوري.

وأشارت مبيض إلى غياب الشفافية في عمل اللجنة، والتعنت حول تغييب السوريين عن دستور بلادهم. وقالت: “كأن الدستور يصاغ لتقاسم المكاسب بين الضليعين بالصراع ممن ارتكبوا جرائم وانتهاكات إنسانية بحق الشعب السوري، وليس بهدف بناء دولة سورية تضمن الاستقرار والأمن للسوريين”.

وأضافت أن “كل ذلك يدفع إلى منعطف في العملية الدستورية”، قائلة: “إما أن يتم تقويم هذا المسار الذي سُلب من أيدي السوريين، وانحرف عن هدف تحقيق مصالحهم، أو من البديهي أن يفقد شرعيته وتتصاعد مطالب بنقله من جنيف من قبل روسيا أو أي جهة أخرى”.

وبما يخص موقف كتلة المجتمع المدني من الدعوة الروسية، قالت مبيض: “ذلك لا يعني نقل المكان لمناطق خاضعة لسيطرة النظام أو إلى دولة منخرطة في الصراع السوري، لأن المسار سيخضع حينها لتجاذبات وتهديدات أشد من الضغوط الحالية”.

ويتوجب في البداية، طبقاً لمبيض، تحييد أقطاب الصراع المتهمين بجرائم حرب وتمكين ممثلي المجتمع المدني في اللجنة الدستورية من كافة المناطق وإيجاد مساحات حيادية ضمن المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام، لتفعيل العمل لصياغة دستور سوري جديد وفق واقع يحمي ويضمن المصلحة السورية.

أهداف روسية خفية

وتركيزاً على الأهداف الروسية، يقول الباحث والخبير بالشأن الروسي محمود حمزة إن إشارة روسيا للعقوبات السويسرية عليها، وعرقلة العقوبات لسفر الروس يعد من بين الأسباب الحقيقية، وهذا ما قاله لافرنتييف.

وذكّر حمزة في حديث ل”المدن”، بأن اللجنة الدستورية هي بالأساس جاءت بطرح روسي للالتفاف على المسار الأممي للحل في سوريا، مضيفاً أن “موسكو أجهضت فعلاً القرار الأممي 2254، من خلال حصر المفاوضات بسلة الدستور، علماً أن هدف اللجنة المماطلة لصالح النظام”.

ومن هنا، يمكن فهم الدعوة الروسية الأخيرة، من وجهة نظر حمزة، بأنها استمرار من روسيا للنهج ذاته، أي تمييع هذا المسار رغم فشله، وسلب ما تبقى من استقلاليته، لفرض إرادة روسيا على اللجنة الدستورية.

—————————-

أستانة لم تأتِ بجديد:منصة شروط روسية..وبيان ختامي هزيل

أكدت الدول الثلاث الضامنة لمسار “أستانة” الخميس، ضرورة مواصلة الجهود للحفاظ على الهدوء في إدلب وتنفيذ الاتفاقيات المبرمة في الشمال السوري، ومكافحة الإرهاب، وتسهيل عودة اللاجئين.

جاء ذلك في البيان الختامي لأعمال الجولة ال18 من مؤتمر أستانة التفاوضي الخاص بالأزمة السورية، الذي اختتم في العاصمة الكازاخستانية نور سلطان الخميس.

وعبرت الدول الثلاث الضامنة للاتفاق، وهي روسيا تركيا وإيران، عن “قلقها البالغ إزاء الحالة الإنسانية المتدهورة في سوريا”، داعية إلى ضرورة العمل على إزالة المعوقات أمام المساعدات الإنسانية وزيادتها لجميع السوريين، في جميع أنحاء البلاد دون تمييز وتسييس وشروط مسبقة.

التسوية السياسة

وجدد البيان الختامي ضرورة الدفع باتجاه التسوية السياسية وفقاً للقرار لمجلس الأمن 2254، مؤكداً أنه “يجب استمرار عمل اللجنة الدستورية دون أي قيود”. كما تطرق إلى ضرورة تذليل العقبات أمام عودة آمنة وطوعية للاجئين والمهجرين بما يتماشى مع القانون الدولي والإنساني وتقديم كافة أنواع الدعم لذلك، بما فيه الدعم المقدم من الأمم المتحدة.

وأكدت الدول الضامنة أن الجهود مستمرة لمكافحة الإرهاب التي تشكل تهديداً للمدنيين داخل وخارج منطقة خفض التصعيد في إدلب، كما أكدت في الوقت ذاته، على الوقوف بوجه جميع الدعوات الانفصالية في شمالي شرقي سوريا. ودان “الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المستمرة على سوريا، والتي تنتهك القانون الدولي وسيادة سوريا ودول الجوار، وتهدد الاستقرار والأمن في المنطقة، مشدداً على ضرورة إيقافها”.

قمة في طهران

ولم تحدد الوفود المشاركة موعداً محدداً للجولة 19 من المؤتمر، إلا أنها اتفقت بشكل مبدئي على أن تتم في خريف 2022، في العاصمة الكازاخستانية نور سلطان، في حين سيعقد المؤتمر على مستوى رؤساء الدول الضامنة في العاصمة الإيرانية طهران، بحسب رئيس الوفد الروسي ألكسندر لافرنتييف.

وقال لافرنتييف في مؤتمر صحافي عقده عقب نهاية الجولة، إن “مؤتمر أستانة على مستوى رؤساء الدول الثلاث الضامنة للمسار روسيا تركيا وإيران، من المقرر أن يعقد في العاصمة الإيرانية طهران”، موضحاً أن التأجيل الطويل لتلك القمة كان بسبب تداعيات فيروس كورونا.

شروط لافرنتييف

ولم يأتِ البيان الختامي لجولة أستانة ال18 بأي جديد مختلف عن الجولات السابقة، باستثناء أن لافرنتييف اتخذ من الجولة الحالية، منصة لفرض الشروط الروسية، من العملية العسكرية التركية المزمعة في شمال وشمال شرق سوريا، وصولاً إلى المطالبة بتغيير مكان اجتماع اللجنة الدستورية في جنيف.

وقال لافرنتييف خلال افتتاح الجولة ال18 الأربعاء، إن بلاده ترى العملية العسكرية التي تنوي تركيا القيام بها في الشمال السوري “غير عقلانية”، لافتاً إلى أن موسكو تدرس الوضع القائم على الأرض بالتزامن مع تلك النوايا.

وأضاف أن موسكو لا ترى بالعملية التركية إلا “زيادة من حدّة التوتر على الأرض”، مشيراً إلى أن بلاده “ستطلب من الجانب التركي التراجع عن هذه الخطوة، والاتجاه لحل المسألة عبر الحوار، وبمشاركة جميع الأطراف المعنية، وروسيا مستعدة لتقديم المساعدة في ذلك”.

ونفى لافرنتييف ما تردد عن ضعف اهتمام بلاده بالقضية السورية قائلاً: “كثيرون الآن يقولون إن الاهتمام الروسي بسوريا ضعف بسبب العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، لكن أؤكد لكم أن الصراع السوري والتسوية ما زالت في أولويات السياسة الخارجية الروسية”، مشدداً على أن روسيا “لن تتخلى عن حلفائها في المنطقة”.

وتعليقاً، رأى الباحث المتخصص في الشأن الروسي سامر إلياس، في تصريح لافرنتييف، صورة أكثر وضوحاً للموقف الروسي الذي يريد الحفاظ على خطوط التماس المرسومة ضمن الاتفاق مع الجانب التركي في آذار/مارس 2020.

أهداف روسيا الخفية

وقال إلياس ل”المدن”، إن “موسكو تريد الدفع بأنقرة نحو التفاوض متعدد الأطراف بما يخص تعديل بعض القضايا المتعلقة باتفاقيات حدودية قديمة مع النظام السوري وهي اتفاقية أضنة 1999، وكذلك الأمر بالنسبة لتعديل الحدود التي رسمتها تركيا خلال العملية العسكرية 2019″، مشيراً إلى أن خيار نشر قوات للنظام في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) “مقبول” بالنسبة لأنقرة، باستثناء المخاوف المتعلقة بالمنطقة الآمنة.

كما ترى موسكو التلويح بالعملية فرصة لدفع قسد باتجاه الرضوخ لمطالب النظام، وعقلنة مطالبها في إطار الجهود التي تبذلها من أجل الوصول إلى صيغة لدخول النظام إلى تلك المناطق واستكمال السيطرة على الجغرافية السورية.

وأضاف أن الحفاظ على خطوط التماس وعدم القبول بعملية عسكرية جديدة؛ فرصة جديدة لتثبت موسكو أن مسار أستانة هو المسار الأنجع لإيجاد تسوية لحل القضية السورية، مشيراً إلى أن المبعوث الروسي تحدث صراحة عن هذه النقطة خلال المؤتمر الصحافي، فضلاً عن جهود التعطيل التي مارسها النظام بدفع من روسيا لتعطيل مسار جنيف.

وعلى الجانب الآخر، اعتبر إلياس أن تركيا تمتلك أوراقاً تستطيع من خلالها ممارسة الضغط على موسكو من أجل القبول بالعملية على الرغم من حدّة النبرة الروسية، كما جاءت على لسان لافرنتييف، مشيراً إلى أن هذه الأوراق “هي الموقف الحيادي من الحرب الأوكرانية، إضافة إلى ورقة جديدة متمثلة بتعطيل جهود روسيا الرامية إلى منع تمديد آلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى الشمال السوري، وذلك بالسماح بالتعويض عن الآلية عبر إدخال المساعدات بدعم من واشنطن والغرب بمعزل عن مجلس الأمن”.

المدن

——————————–

البيان الختامي لـ أستانا 18 يدعو إلى تطبيع الوضع في إدلب

دعت الدول الضامنة (تركيا، روسيا، إيران) لـ مسار أستانا حول سوريا في البيان الختامي لأعمال الجولة الـ18، إلى تطبيع الوضع في إدلب وحولها.

واليوم الخميس، اختتمت أعمال الجولة الـ18 من أستانا، التي في العاصمة الكازاخية نور سلطان، بحضور وفدي المعارضة السورية ونظام الأسد، وممثلي الدول الضامنة، التي أصدرت بياناً ختامياً أكّدت فيه على سيادة ووحدة أراضي سوريا.

وشدّد البيان على ضمان التطبيع المستدام للوضع في منطقة إدلب وحولها، بما في ذلك الوضع الإنساني، إضافةً إلى القضاء نهائياً على تنظيم الدولة (داعش) و”جبهة النصرة” (في الإشارة إلى “هيئة تحرير الشام”) وجميع الأفراد والجماعات والمؤسسات والمنظمات المرتبطة بتنظيم القاعدة أو “داعش”.

ودعا البيان أيضاً إلى دعم تحسين الوضع الإنساني في سوريا والتقدّم في عملية التسوية السياسية وزيادة المساعدة في الداخل السوري من خلال تنفيذ مشاريع الإنعاش، بما في ذلك استعادة البنية التحتية الأساسية (مرافق إمدادات المياه والكهرباء والمدارس والمستشفيات).

كذلك دانت الدول الثلاث (تركيا وروسيا وإيران)، الهجمات الإسرائيلية المستمرة على سوريا.

نص البيان الختامي وفق ما نشرته وكالة “سبوتنيك” الروسيّة:

1. أعادت الدول الضامنة التأكيد على الالتزام الثابت بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها وفقا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وشددت على أن هذه المبادئ تخضع للمراعاة والاحترام العالميين.

2. تم استعراض تطور الوضع في العالم وفي المنطقة، وشددت الأطراف المجتمعة على الدور القيادي لعملية أستانا في ضمان تسوية مستدامة للأزمة السورية.

3. أعربت الدول الضامنة عن عزمهم على مواصلة التعاون من أجل مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره والتصدي للخطط الانفصالية الرامية إلى تقويض سيادة ووحدة أراضي سوريا وتهديد الأمن القومي للدول المجاورة، بما في ذلك الهجمات عبر الحدود. كما أدانت الدول الضامنة الوجود والنشاط المتزايدين للجماعات والأعمال الإرهابية والهياكل ذات الصلة في أجزاء مختلفة من سوريا، بما في ذلك الهجمات على مرافق البنية التحتية المدنية التي تؤدي إلى خسائر في صفوف المدنيين.

4. أدانت الدول الضامنة جميع أنواع النشاط الإرهابي في أجزاء مختلفة من سوريا. وأكدت على الحاجة إلى مزيد من التعاون من أجل القضاء نهائيا على داعش وجبهة النصرة وجميع الأفراد والجماعات والمؤسسات والمنظمات الأخرى المرتبطة بتنظيم القاعدة أو داعش، والجماعات الإرهابية الأخرى المعترف بها على هذا النحو من قبل مجلس الأمن الدولي.

5. استعرض المشاركون بالتفصيل الوضع في منطقة خفض التصعيد في إدلب، واتفقوا على بذل المزيد من الجهود لضمان التطبيع المستدام للوضع في إدلب وحولها، بما في ذلك الوضع الإنساني. وشددوا على ضرورة الحفاظ على الهدوء “على الأرض” من خلال التنفيذ الكامل لجميع الاتفاقات القائمة بشأن إدلب.

6. ناقشت الأطراف المجتمعة الوضع في شمال شرق الجمهورية العربية السورية واتفقت على أن الأمن والاستقرار الدائمين في هذه المنطقة لا يمكن تحقيقه إلا على أساس الحفاظ على سيادة ووحدة أراضي سوريا. ورفضت جميع المحاولات الرامية إلى خلق حقائق جديدة “على الأرض”، بما في ذلك المبادرات غير القانونية بشأن الحكم الذاتي بحجة مكافحة الإرهاب.

7. أدانت الأطراف المشاركة الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المستمرة على سوريا، والتي تنتهك القانون الدولي وسيادة سوريا ودول الجوار، وتهدد الاستقرار والأمن في المنطقة، ودعت إلى وقفها.

8. أعربت الدول الضامنة عن قناعتها بأن الصراع السوري ليس له حل عسكري، وأكدت من جديد التزامها بتعزيز عملية سياسية ينفذها السوريون أنفسهم بمساعدة الأمم المتحدة وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 2254.

9. شددت الدول الضامنة على أهمية دور اللجنة الدستورية السورية، التي أنشئت بمساهمة من الدول الضامنة لصيغة أستانا عملا بقرارات مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي.

10. أشارت الدول الضامنة إلى الاجتماع الثامن للجنة صياغة الدستور السورية في 28 مايو – 3 يونيو في جنيف. ورحبت بالإعلان عن الاجتماع التاسع في 25-29 تموز/يوليو مع النهج البناء للأطراف السورية.

11. أعربت الدول الضامنة عن اقتناعها بأن اللجنة ينبغي أن تمتثل في عملها للاختصاصات والنظام الداخلي الأساسي، حتى تتمكن من إعداد وتطوير إصلاح دستوري يخضع لموافقة الشعب.

12. أعربت الدول الضامنة مرة أخرى عن قلقها البالغ إزاء الوضع الإنساني في سوريا، ورفضها جميع العقوبات من جانب واحد التي تنتهك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

13. شددت الدول الضامنة على ضرورة إزالة العقبات وزيادة المساعدات الإنسانية لجميع السوريين في جميع أنحاء البلاد دون تمييز وتسييس وشروط مسبقة.

14. من أجل دعم تحسين الوضع الإنساني في سوريا والتقدم في عملية التسوية السياسية، دعت الدول الضامنة المجتمع الدولي والأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية إلى زيادة المساعدة لسوريا من خلال تنفيذ مشاريع الإنعاش، بما في ذلك استعادة البنية التحتية الأساسية-مرافق إمدادات المياه والكهرباء والمدارس والمستشفيات.

15. شددت الدول الضامنة على أهمية تسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخليا إلى أماكن إقامتهم في سوريا، وضمان حقهم في العودة. وفي هذا الصدد، دعت الدول الضامنة المجتمع الدولي إلى تقديم المساعدة اللازمة للاجئين والنازحين السوريين وأكدت استعدادهما لمواصلة التعاون مع جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وغيرها من المنظمات الدولية المتخصصة.

16. رحبت الدول الضامنة بالتبادل الناجح للأشخاص المحتجزين قسرا بين أطراف النزاع السوري، والذي تم في 13 يونيو 2022، مما يدل على نية الأطراف السورية لتعزيز الثقة المتبادلة بمساعدة الدول الضامنة لصيغة أستانا. وأظهرت العملية عزم الدول الضامنة على تكثيف وتوسيع التعاون في إطار مجموعة العمل، وهي آلية فريدة أثبتت أهميتها وفعاليتها في بناء الثقة بين الأطراف السورية.

وأشارت الدول الضامنة إلى المبادرة التشريعية السورية المتعلقة بالعفو العام عن الجرائم الإرهابية التي ارتكبها السوريون قبل 30 نيسان / أبريل 2022.

17. لاحظت الدول الضامنة الارتياح في مشاركة وفود الأردن والعراق ولبنان كمراقبين عن صيغة أستانا، فضلا عن ممثلي الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر.

18. أعربت الدول الضامنة عن خالص امتنانها للسلطات الكازاخستانية لعقد الاجتماع الدولي الـ18 حول سوريا في صيغة أستانا في نور سلطان.

19. اتفقت الدول الضامنة على عقد الاجتماع الدولي الـ19 حول سوريا في صيغة أستانا في نور سلطان في النصف الثاني من عام 2022. وأكدت الدول الضامنة عزمها على تنظيم اجتماع وزاري آخر بصيغة أستانا.

وانطلقت الجولة 18 من مسار أستانا حول سوريا، أمس الأربعاء، في العاصمة الكازاخية نور سلطان بمشاركة وفود الدول الضامنة (تركيا، إيران، روسيا)، إضافة إلى وفدي النظام السوري والمعارضة.

ويترأس وفد النظام السوري معاون وزير الخارجية، أيمن سوسان، في حين يترأس وفد روسيا المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، كما يشارك وفد المعارضة برئاسة أحمد طعمة.

ومن الجانب التركي رئيس قسم سوريا في وزارة الخارجية السفير سلجوق أونال، ومن الجانب الروسي ممثل الرئيس الخاص في سوريا أليكسندر لافرينتيف، ومن الجانب الإيراني مستشار وزير الخارجية للشؤون السياسية علي أصغري حاجي.

ويُشارك في الاجتماع أيضاً وفد من الأمم المتحدة برئاسة كبير موظفي مكتب مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا روبرت دانا وممثلو إدارة المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وممثلو اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

————————————

أستانة لم تأتِ بجديد:منصة شروط روسية..وبيان ختامي هزيل

أكدت الدول الثلاث الضامنة لمسار “أستانة” الخميس، ضرورة مواصلة الجهود للحفاظ على الهدوء في إدلب وتنفيذ الاتفاقيات المبرمة في الشمال السوري، ومكافحة الإرهاب، وتسهيل عودة اللاجئين.

جاء ذلك في البيان الختامي لأعمال الجولة ال18 من مؤتمر أستانة التفاوضي الخاص بالأزمة السورية، الذي اختتم في العاصمة الكازاخستانية نور سلطان الخميس.

وعبرت الدول الثلاث الضامنة للاتفاق، وهي روسيا تركيا وإيران، عن “قلقها البالغ إزاء الحالة الإنسانية المتدهورة في سوريا”، داعية إلى ضرورة العمل على إزالة المعوقات أمام المساعدات الإنسانية وزيادتها لجميع السوريين، في جميع أنحاء البلاد دون تمييز وتسييس وشروط مسبقة.

التسوية السياسة

وجدد البيان الختامي ضرورة الدفع باتجاه التسوية السياسية وفقاً للقرار لمجلس الأمن 2254، مؤكداً أنه “يجب استمرار عمل اللجنة الدستورية دون أي قيود”. كما تطرق إلى ضرورة تذليل العقبات أمام عودة آمنة وطوعية للاجئين والمهجرين بما يتماشى مع القانون الدولي والإنساني وتقديم كافة أنواع الدعم لذلك، بما فيه الدعم المقدم من الأمم المتحدة.

وأكدت الدول الضامنة أن الجهود مستمرة لمكافحة الإرهاب التي تشكل تهديداً للمدنيين داخل وخارج منطقة خفض التصعيد في إدلب، كما أكدت في الوقت ذاته، على الوقوف بوجه جميع الدعوات الانفصالية في شمالي شرقي سوريا. ودان “الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المستمرة على سوريا، والتي تنتهك القانون الدولي وسيادة سوريا ودول الجوار، وتهدد الاستقرار والأمن في المنطقة، مشدداً على ضرورة إيقافها”.

قمة في طهران

ولم تحدد الوفود المشاركة موعداً محدداً للجولة 19 من المؤتمر، إلا أنها اتفقت بشكل مبدئي على أن تتم في خريف 2022، في العاصمة الكازاخستانية نور سلطان، في حين سيعقد المؤتمر على مستوى رؤساء الدول الضامنة في العاصمة الإيرانية طهران، بحسب رئيس الوفد الروسي ألكسندر لافرنتييف.

وقال لافرنتييف في مؤتمر صحافي عقده عقب نهاية الجولة، إن “مؤتمر أستانة على مستوى رؤساء الدول الثلاث الضامنة للمسار روسيا تركيا وإيران، من المقرر أن يعقد في العاصمة الإيرانية طهران”، موضحاً أن التأجيل الطويل لتلك القمة كان بسبب تداعيات فيروس كورونا.

شروط لافرنتييف

ولم يأتِ البيان الختامي لجولة أستانة ال18 بأي جديد مختلف عن الجولات السابقة، باستثناء أن لافرنتييف اتخذ من الجولة الحالية، منصة لفرض الشروط الروسية، من العملية العسكرية التركية المزمعة في شمال وشمال شرق سوريا، وصولاً إلى المطالبة بتغيير مكان اجتماع اللجنة الدستورية في جنيف.

وقال لافرنتييف خلال افتتاح الجولة ال18 الأربعاء، إن بلاده ترى العملية العسكرية التي تنوي تركيا القيام بها في الشمال السوري “غير عقلانية”، لافتاً إلى أن موسكو تدرس الوضع القائم على الأرض بالتزامن مع تلك النوايا.

وأضاف أن موسكو لا ترى بالعملية التركية إلا “زيادة من حدّة التوتر على الأرض”، مشيراً إلى أن بلاده “ستطلب من الجانب التركي التراجع عن هذه الخطوة، والاتجاه لحل المسألة عبر الحوار، وبمشاركة جميع الأطراف المعنية، وروسيا مستعدة لتقديم المساعدة في ذلك”.

ونفى لافرنتييف ما تردد عن ضعف اهتمام بلاده بالقضية السورية قائلاً: “كثيرون الآن يقولون إن الاهتمام الروسي بسوريا ضعف بسبب العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، لكن أؤكد لكم أن الصراع السوري والتسوية ما زالت في أولويات السياسة الخارجية الروسية”، مشدداً على أن روسيا “لن تتخلى عن حلفائها في المنطقة”.

وتعليقاً، رأى الباحث المتخصص في الشأن الروسي سامر إلياس، في تصريح لافرنتييف، صورة أكثر وضوحاً للموقف الروسي الذي يريد الحفاظ على خطوط التماس المرسومة ضمن الاتفاق مع الجانب التركي في آذار/مارس 2020.

أهداف روسيا الخفية

وقال إلياس ل”المدن”، إن “موسكو تريد الدفع بأنقرة نحو التفاوض متعدد الأطراف بما يخص تعديل بعض القضايا المتعلقة باتفاقيات حدودية قديمة مع النظام السوري وهي اتفاقية أضنة 1999، وكذلك الأمر بالنسبة لتعديل الحدود التي رسمتها تركيا خلال العملية العسكرية 2019″، مشيراً إلى أن خيار نشر قوات للنظام في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) “مقبول” بالنسبة لأنقرة، باستثناء المخاوف المتعلقة بالمنطقة الآمنة.

كما ترى موسكو التلويح بالعملية فرصة لدفع قسد باتجاه الرضوخ لمطالب النظام، وعقلنة مطالبها في إطار الجهود التي تبذلها من أجل الوصول إلى صيغة لدخول النظام إلى تلك المناطق واستكمال السيطرة على الجغرافية السورية.

وأضاف أن الحفاظ على خطوط التماس وعدم القبول بعملية عسكرية جديدة؛ فرصة جديدة لتثبت موسكو أن مسار أستانة هو المسار الأنجع لإيجاد تسوية لحل القضية السورية، مشيراً إلى أن المبعوث الروسي تحدث صراحة عن هذه النقطة خلال المؤتمر الصحافي، فضلاً عن جهود التعطيل التي مارسها النظام بدفع من روسيا لتعطيل مسار جنيف.

وعلى الجانب الآخر، اعتبر إلياس أن تركيا تمتلك أوراقاً تستطيع من خلالها ممارسة الضغط على موسكو من أجل القبول بالعملية على الرغم من حدّة النبرة الروسية، كما جاءت على لسان لافرنتييف، مشيراً إلى أن هذه الأوراق “هي الموقف الحيادي من الحرب الأوكرانية، إضافة إلى ورقة جديدة متمثلة بتعطيل جهود روسيا الرامية إلى منع تمديد آلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى الشمال السوري، وذلك بالسماح بالتعويض عن الآلية عبر إدخال المساعدات بدعم من واشنطن والغرب بمعزل عن مجلس الأمن”.

المدن

———————————

ستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

تحديث هذا الملف يومي، نضيف العديد من المقالات المهمة والمختارة التي تناولت الحدث.

================

تحديث 19 حزيران 2022

——————

دروسٌ من الحرب السورية قد تسهم في حماية الأرواح في أوكرانيا/ إيما بيلز

منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، طبّقت موسكو الاستراتيجية العسكرية والدبلوماسية نفسها التي سبق أن اتّبعتها في سياقات أخرى، مثل الشيشان وسورية. صحيحٌ أن الصراعَين السوري والأوكراني يختلفان اختلافًا كبيرًا، إلا أنهما ينطويان على أوجه شبه عدة يمكن أن تقدّم دروسًا لأوكرانيا وشركائها في الوقت الراهن. ومن شأن فهم أوجه الشبه هذه أن يساعد في تحديد كيف يمكن للمجتمع الدولي التعامل مع الحرب بطريقة تحول دون إضاعة الوقت الثمين وتحافظ على الرصيد السياسي وتحمي الأرواح.

إن الاستراتيجية التي انتهجتها روسيا في سورية، بعد تدخّلها العسكري في أيلول/سبتمبر 2015، لم تكن جديدة. ففي فترة 1999-2000، استخدمت موسكو تكتيكات الحصار ضدّ غروزني خلال الحرب الشيشانية الثانية من أجل تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية. وأثناء المفاوضات، تعهّدت بتأمين ممرّ آمن للمقاتلين الشيشان، ثم عمدت إلى قصف الطريق المؤدية إلى خارج المدينة وزرع الألغام فيها. وقد دمّرت القوات الروسية العاصمة غروزني، بما في ذلك بنيتها التحتية الإنسانية والمدنية. وفيما تُعتبر خطوات روسيا في أوكرانيا جزءًا من قاموسها السوري، عُرفت المقاربة التي طبّقتها موسكو في سورية عمومًا باستراتيجية غروزني.

دعمت موسكو نظام الرئيس السوري بشار الأسد منذ أولى مراحل الصراع السوري. وساعدته على المستوى الدبلوماسي، أولًا من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به لوقف مشروع قرار حول سورية في العام 2011، ثم من خلال تقديم المشورة الاستراتيجية للنظام ومساعدته في عملية صنع القرار خلال مختلف فصول الصراع السوري. وفي العام 2013، حين شنّ النظام هجومًا بالأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في شرق الغوطة، ما أسفر عن مقتل حوالى 1,500 شخص، متجاوزًا بذلك الخط الأحمر الذي حدّده الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، وافقت روسيا على التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة عن طريق التفاوض. وأظهر غياب الرد الصارم من جانب الدول الغربية أنها غير مستعدّة للتدخل، حتى بعد انتهاك القوانين والمعايير الدولية.

في أوكرانيا، أدّى هذا التقاعس تاريخيًا إلى جملة من التداعيات. ففي العام 2014، بعد أن شهدت أوكرانيا احتجاجات الميدان الأوروبي التي تخلّلتها الإطاحة بالرئيس الموالي لروسيا، ردّت موسكو عبر ضم القرم ثم احتلال شرق أوكرانيا، حيث لا تزال القوات الروسية منتشرة حتى اليوم. صحيحٌ أن الدول الغربية فرضت عقوبات اقتصادية على روسيا، إلا أن عدم اتّخاذ إجراءات أكثر صرامة مهّد الطريق أمام التدخل العسكري الروسي في سورية من أجل إبقاء الأسد في الحكم وضمان المصالح الروسية في دول المشرق، بما في ذلك إمكانية الوصول إلى ميناء طرطوس. وقد لجأت روسيا إلى تكتيكات عسكرية ودبلوماسية وإلى حملات التضليل الإعلامي في سورية، وطبّقت الكثير منها خلال الأسبوعَين الأولَين من غزوها المستمر لأوكرانيا. يشير الرد الدولي إلى أن المجتمع الدولي تعلّم بعض الدروس، لكن ثمة المزيد من العبر التي يمكنه استخلاصها.

تختلف أوكرانيا عن سورية من نواحٍ عدة. فلدى أوكرانيا حكومة فعّالة لا تزال تسيطر على معظم أراضي البلاد، وتحارب قوة احتلال وتحظى بدعم كبير من حلفائها. كذلك، تحتل أوكرانيا موقعًا مختلفًا في علاقتها مع روسيا وهي ملمّة تاريخيًا باستراتيجيات موسكو، ولا تفترض وجود حسن نية من الجانب الروسي. وقد أعطاها هذا الأمر أفضلية في المفاوضات مقارنةً مع الجهات الخارجية التي حاولت التفاوض مع موسكو في سورية. لذا، سيكون من الضروري البناء على المقاربة الأوكرانية، إلى جانب تطبيق الدروس المستفادة في سورية، إذا ما أرادت الجهات المعارِضة للخطوات الروسية في أوكرانيا إنهاء الحرب.

التكتيكات الروسية في الصراع السوري

طبّقت روسيا في سورية مزيجًا من الإجراءات من أجل تحقيق أهدافها، بما في ذلك فرض الحصار، والتلاعب بالمساعدات الإنسانية، وممارسة القوة العسكرية، وتجاهل القانون الدولي الإنساني، واستغلال المسار الدبلوماسي من أجل كسب الوقت اللازم لتحقيق أهدافها، واستخدام التضليل الإعلامي والترويج للأخبار الكاذبة.

لم تبتكر روسيا تكتيكات الحصار في سورية، بل ورثتها. فحين بدأ انخراط القوات العسكرية الروسية في الصراع، كان الشمال السوري قد أصبح خاضعًا لسيطرة مزيجٍ متنوّع من المجموعات المسلحة غير الحكومية. كانت المناطق الواقعة في وسط البلاد وجنوبها تحت سيطرة الحكومة، مع وجود مجموعة بارزة من الجيوب الخاضعة لسيطرة المعارضة. أُخضعت هذه الجيوب من خلال اتفاقيات الهدنة المحلية وتكتيكات الحصار بدرجات متفاوتة، بيد أنها بقيت تحت سيطرة المعارضة نظرًا إلى أن القوات التابعة للحكومة السورية لم تملك العدد الكافي من العناصر لخوض معارك على هذا الكمّ من الجبهات في الوقت نفسه. بدأ سعي النظام إلى حرمان خصومه من المساعدات في مراحل مبكرة من الصراع، وشهد الكثير من الحصارات تعزيز خطوط التهريب عبر الأنفاق والحواجز، والتي تم التسامح معها أحيانًا لأنها سمحت لمجنّدي الجيش السوري بتلقّي الرشاوى المكمِّلة لأجورهم، وسمحت للمتنفّعين من الحرب المرتبطين بالنظام بجني الأموال. وفي آب/أغسطس 2016، أصبحت داريا أولى المدن المحاصرة الواقعة في ريف دمشق التي سقطت عقِب التدخل الروسي، بعد أن كانت خاضعة لسيطرة المعارضة. فقد أوقفت القوات الحكومية، بدعم عسكري روسي، أنفاق الإمدادات وشنّت حملة قصف عسكري شرسة استهدفت المستشفى الوحيد في المنطقة، ما تسبّب بإغلاقه. وفي غضون أيام، تم إجلاء السكان قسرًا على متن الباصات الخضراء التي أصبحت ذائعة الصيت. وتكرّر هذا الأسلوب مرارًا خلال المرحلة اللاحقة.

وقد انطلقت مفاوضات عالية المخاطر اختلفت مدّتها ونطاقها، لضمان وصول المساعدات أو حدوث عمليات إجلاء أو وقف إطلاق النار. في الأماكن التي سعت فيها روسيا وحلفاؤها إلى تحقيق انتصار عسكري وسياسي، لم يرضوا بأقل من ذلك. ولم يتم التوصل إلى نتيجة مغايرة إلا حين أُرغِموا على التخلّي عن أهدافهم التوسعية الكبرى. وخير مثال على ذلك محافظة إدلب، حيث دفع الانخراط التركي روسيا إلى تغيير حساباتها الاستراتيجية، ما أدّى إلى اتفاقية هدنة بين الدولتَين فرضت حالة من الهدوء النسبي في الخطوط الأمامية على مدى سنتَين. مع ذلك، يبقى الأمل ضئيلًا بإمكانية التفاوض من أجل تحقيق عملية وقف إطلاق النار على المستوى الوطني في سورية.

علاوةً على ذلك، انخرطت روسيا في مفاوضات دبلوماسية أخرى، مستخدمةً في أغلب الأحيان هذه العمليات للم ماطلة وكسب الوقت، من دون الرغبة في المشاركة فيها بحسن نيّة. بدلًا من ذلك، تمّ استخدام المفاوضات تكتيكيًا لصرف الانتباه عما كان يحدث على أرض الواقع، وإنكار الادّعاءات بارتكاب روسيا جرائم حرب وغيرها من الأعمال المشينة، وتأخير حلّ الصراع، وإبعاد اللوم عنها. مع ذلك، اعتبر البعض في المجتمع الدولي أن المشاركة الروسية في المساعي الدبلوماسية تعكس صورة مفادها أن موسكو تتصرّف بعقلانية وتبدي حسن نية ورغبة في التوصّل إلى تسوية. صحيحٌ أن هذه المشاركة منحت روسيا شرعية قيّمة، إلا أنها عجزت في أغلب الأحيان عن إبرام اتفاقيات أو عن تطبيق نتائجها.

وحتى حين امتثل المسؤولون الروس لاتفاقيات وقف إطلاق النار الرفيعة المستوى من خلال قرار مجلس الأمن الدولي، على غرار الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه خلال الحملة العسكرية على الغوطة الشرقية في العام 2018، أعلنوا أنهم لن ينفذّوها إلّا بعد موافقة الأطراف على الشروط المحددة. وبعدئذٍ، أعلنوا عن فتح ممرات إنسانية من جانب واحد، في ظل ظروف جعلتها فعليًا غير صالحة للاستخدام. وكانوا يسعون تحت الطاولة إلى فرض الاستسلام عسكريًا. وفي غضون أسابيع، حققوا هدفهم هذا ولم يُطبَّق قرار مجلس الأمن القاضي بوقف إطلاق النار.

وقد تمّ اللجوء إلى استراتيجية مماثلة لضمان السيطرة الكاملة على المساعدات الإنسانية، سواء داخل المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وروسيا أو خارجها. فمنذ بداية الصراع، رفض نظام الأسد السماح بوصول المساعدات إلى معارضيه. وفي العام 2014، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2165 بشأن إيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى المناطق الواقعة شمال غرب سورية وشمال شرقها والخاضعة لسيطرة المتمردين. كذلك، عمدت روسيا إلى التلاعب بعملية تجديد هذا القرار التي تتمّ سنويًا ، من أجل إغلاق المعابر الحدودية عندما كان ذلك مناسبًا لها، بينما هدّدت بإغلاق معابر أخرى ما لم تنتزع هي وحلفاؤها مجموعة من التنازلات.

أدّى فشل المجتمع الدولي في التصدّي بشكل ملائم للانتهاكات المنتظمة والواضحة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي في سورية، والتي تجلّت على شكل هجمات استهدفت المستشفيات والمدارس والمدنيين ، فضلًا عن النزوح القسري، إلى تشجيع موسكو أكثر نظرًا إلى استمرار حالة الإفلات من العقاب. فمع أن لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة ، ومعها عشرات المجموعات المعنية بحقوق الإنسان، وثّقت جرائم الحرب المُرتكبة منذ بداية الصراع السوري، لم تُنفَّذ أي آلية مساءلة على المستوى الرفيع لغاية الآن. وبعد سنوات من الهجمات الموثّقة التي استهدفت المستشفيات، تمّ إنشاء مجلس التحقيق التابع للأمين العام للأمم المتحدة المعني بالتحقيق في الهجمات على المستشفيات ، والذي أصدر في العام 2020 توصيات متواضعة تركّزت على نظام الإخطار الإنساني ليس إلا. كذلك، ثمّة آليات مساءلة جديدة وأكثر فعالية مخصّصة للاستفادة من كل فرصة متاحة لتحقيق العدالة، لكنها تركّز في الدرجة الأولى على أفراد داخل نظام الأسد من دون التطرّق إلى التدخّل الروسي. ولم يصدر أي تنديد دولي يُعتد به للانتهاكات الروسية الموثّقة.

إضافةً إلى ذلك، لم تتوانَ روسيا ونظام الأسد عن استخدام تقنيات التضليل الإعلامي وتلفيق المعلومات منذ بداية الصراع السوري، لطمس أفظع ارتكاباتهما في سورية. ومن الأمثلة على ذلك قيام روسيا بالترويج لمواقف الأم أغنيس ، وهي راهبة لبنانية من دير القديس يعقوب المقطّع في سورية، أبدت شكوكًا حيال استهداف الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيميائية في العام 2013. وردًّا على هذه الهجمات، صوّت البرلمانيون في المملكة المتحدة ضدّ التدخل في سورية للرد على هذا الهجوم، ولم يُطرح خيار استخدام القوة العسكرية حتى للتصويت في الكونغرس الأميركي. بدلًا من ذلك، أُحيل ملف الهجوم إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ، ما أطلق عملية يتعيّن على سورية بموجبها الإعلان عن حجم ترسانة أسلحتها الكيميائية وتفكيكها، وهو أمر لم تفعله دمشق بعد. وقد أتاحت أحداث لاحقة المزيد من الفرص لنشر معلومات مضلّلة ومغلوطة لاقت صدى في وسائل إعلام هامشية في الدول الغربية.

لقد اكتسبت حملة التضليل الروسية زخمًا أكبر بعد تدخلها في سورية، إذ عمدت قناة RT (روسيا اليوم سابقًا) المؤيدة للكرملين، وشبكات البوت نت (botnet) المتخصصة في تنفيذ هجمات إلكترونية، ومواقع الأخبار الزائفة على ما يبدو، إلى الترويج لبعض الأصوات المحلية، مثل مواقف الأم أغنيس، لصنع حالة من الإجماع الواسع النطاق حول سردية النظام السوري لمسار الأحداث، الأمر الذي ساهم في إضعاف الاستجابات الدولية للصراع. فكلما ازداد فقدان الثقة بالسرديات الرسمية في الدول التي لديها مصالح في سورية، تراجع نطاق التدخل المحتمَل. وفي نهاية المطاف، باتت أولويات الدول المناهضة للأسد سابقًا تتمثّل في احتواء الوضع وإرساء الاستقرار في البلاد، ما ساعد روسيا على البدء بتسهيل عملية تطبيع العلاقات مع نظام الأسد ، وبالتالي تعزيز مكاسب كلٍّ من النظام وموسكو، وربما التخفيف من حدّة المخاطر والتقليل من التكاليف التي تكبّدتها روسيا في سورية.

لقد نجحت روسيا والنظام السوري في إخضاع خصومهما عسكريًا، بمن فيهم السكان المدنيين، وفي السيطرة على شبكة واسعة من المساعدات، وزرع الشكوك حول حادثة تُعتبر من أسوأ انتهاكات القانون الدولي، واستخدما ذلك ليس فقط لتجنّب الخضوع للمساءلة والمحاسبة فحسب، بل أيضًا لتوطيد حكم الأسد ومكاسب موسكو. وأدّى ذلك إلى تقويض القوانين والأعراف الدولية في سياق دبلوماسي دولي يزداد تعقيدًا. وهذا هو تحديدًا السياق الأوسع الذي انطلق فيه الغزو الروسي لأوكرانيا.

تطبيق الدروس المستقاة من سورية في السياق الأوكراني

انتهجت روسيا في أوكرانيا عددًا كبيرًا من السياسات التي تبنّتها في سورية، ما يسمح بتقييم تكتيكاتها واتّخاذ التدابير اللازمة لمواجهتها. لقد فرضت موسكو حصارًا في أوكرانيا للغرض نفسه كما في سورية، وهو إرغامها على الاستسلام. وانطوى هذا النهج على منع وصول المساعدات والسلع الأساسية، وقصف البنية التحتية الإنسانية واستهداف المدنيين، وفتح ممرات محفوفة بالمخاطر لإجلاء أعداد محدودة فقط من الأشخاص، ودفع السكان إلى النزوح. وفي الكثير من الحالات، كان هدف موسكو هو فرض الاستسلام، كما في الحملة الوحشية التي شنّتها على مدينة ماريوبول .

وفي أماكن أخرى، كما في كييف، كان فرض الاستسلام هو الطموح الأساسي، لكن المسؤولين الروس عكسوا مسارهم لأن قواتهم كانت مرهقة وقليلة الاستعداد ، وليس بسبب نجاح المفاوضات. مع ذلك، استخدمت روسيا الانسحابات لمحاولة تعزيز موقعها الدبلوماسي على الصعيد الدولي. صحيحٌ أنها انسحبت من كييف ومناطق أخرى وأعادت تنظيم قواتها لتحقيق أهدافها الخاصة، إلا أنها سارعت إلى تصوير ذلك على أنه تنفيذ للتفاهم التي تمّ التوصل إليها خلال المفاوضات مع أوكرانيا في أنقرة . وبعد ذلك، أعلن القادة الروس بشكل شبه تلقائي أن المحادثات وصلت إلى طريق مسدود وأكملوا سعيهم إلى تحقيق طموحاتهم في شرق أوكرانيا . واقع الحال أنهم حاولوا استغلال المسار الدبلوماسي للحصول على تأييد في صفوف الدول التي كانت تعارض غزوهم أو تشكّك به.

علاوةً على ذلك، سعت روسيا في البداية إلى تعزيز سيطرتها على طرق إيصال المساعدات الإنسانية من خلال قرار مجلس الأمن الدولي الذي ربط جميع المساعدات بعملية تنسيق تقودها الأمم المتحدة . لكن نظرًا إلى الاحتياجات الإنسانية الهائلة الناجمة عن الغزو وديناميكيات السيطرة في أوكرانيا، من الأجدى أن تتولى الحكومة الأوكرانية مهمة تأمين الممرات اللازمة لإيصال مساعدات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى. وقد أعلن المسؤولون الروس من جانب واحد عن فتح ممرات لإجلاء السكان وفرضوا شروطًا غير مقبولة، مثل ترحيل الأشخاص إلى مخيمات فرز في روسيا . وفي أحيان أخرى، سمحت موسكو بمرور محدود للمدنيين، لكنها منعت دخول السلع الأساسية . وحيثما أمكن، استخدمت نفوذها للسيطرة على المساعدات أو حرمان السكان منها، من أجل تعزيز أهدافها العسكرية والسياسية.

خلال الأسابيع الأولى من النزاع، قصفت روسيا عشرات المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية ، محاكيةً بذلك التكتيكات المستخدمة في سورية. ولا يزال الكرملين يحاول نشر معلومات مضلّلة ومغلوطة حول هذه الهجمات، مع العلم أن بيئة المعلومات الأكثر انفتاحًا في أوكرانيا تعمل على التصدّي لهذه المحاولات. ولجأت موسكو إلى المراوغة بشأن أسباب قصفها مستشفى للتوليد فضلًا عن مسرح يحتمي فيه المدنيون في ماريوبول ، وحاولت صرف الانتباه عن هذه الجرائم والتملّص من المسؤولية. وظهرت صور القتل الجماعي للمدنيين من بوتشا بعد انسحاب القوات الروسية ، لكن روسيا نسجت نسختها الخاصة من الأحداث على وقع تصاعد وتيرة الإدانات. وسمح لها ذلك مرة أخرى بحشد بعض الدعم، أو تجنّب إثارة استنكار بعض الدول التي تهرّبت من اتخاذ مواقف حازمة بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا. وركّزت حملات التضليل الروسية بشكل كبير على دول غير غربية كالهند والصين . ومن المرجّح أن يكون لهذا تأثير أكبر فيما تتوالى فصول النزاع وتتراجع التغطية الإعلامية الشاملة، ما يساعد موسكو في كسب (أو الحفاظ على) الأهمية والتعاطف في أوساط دول أخرى غير تلك التي تدعم أوكرانيا. يُشار إلى أن الحملة الإعلامية الشرسة التي دعمتها روسيا وزعمت وجود مختبرات بيولوجية مدعومة أميركيًا في أوكرانيا ، فشلت في اكتساب زخم واسع النطاق في وسائل الإعلام الغربية. لكن موسكو تمكنت مع ذلك من إثارة حالة من التشكيك لدى بعض الوسائل الإعلامية والأفرقاء السياسيين .

ولعلّ أهم درس يمكن استخلاصه من سورية واستخدامه في مواجهة النهج الروسي يتمثّل في ضرورة تغيير حسابات روسيا من أجل تغيير مسار النزاع. في سورية، خشيت معظم الدول الغربية من أن الانخراط أو الدعم العسكري الهادف لن يؤدي سوى إلى التصعيد. لكن عندما استخدمت تركيا الوسائل العسكرية لصدّ تجاوزات النظام السوري في محافظة إدلب خلال الهجوم الأخير في شباط/فبراير 2020، لم يسهم ذلك في اندلاع حرب عالمية ثالثة، بل ساهم في بلوغ اتفاقات هدنة محلية كانت من بين الأنجح في كل فصول الصراع.

وتمّ تكرار هذا السيناريو في أوكرانيا أيضًا، حيث كانت المقاومة العسكرية ضدّ القوات المسلحة الروسية فعّالة على نحو مفاجئ. وبدلًا من أن تنجح روسيا في الاستيلاء على البلاد بشكل سريع كما كان متوقعًا، سحبت موسكو قواتها من مناطق عدّة في البلاد ، أقلّه لحين. وتجدر الإشارة إلى أن الدول الغربية تقدّم دعمًا عسكريًا كبيرًا للقوات الأوكرانية. وسيشكّل الاستمرار في هذا النهج، طالما أنه ضروري، أحد أبرز الاختلافات بين الصراعَين الأوكراني والسوري. وقد ثَبُت أن هذا العامل مهم في إعادة ضبط روسيا لطموحاتها في النزاع، وسيكون حاسمًا أيضًا من أجل تهيئة الظروف اللازمة لتحقيق سلام عن طريق التفاوض.

كذلك، تمّ فرض عقوبات اقتصادية على روسيا بطريقة أكثر صرامة مما كان عليه الحال بعد تدخّلها في سورية. ويبدو أن تدابير محدّدة مثل إخراج روسيا من نظام سويفت المصرفي الدولي، قد تمّ تصميمها لتغيير تقييم موسكو لخياراتها، بدلًا من مجرد معاقبة المشاركين مباشرةً في العمليات الحربية أو تحذيرهم. وتُعتبر العقوبات التكتيكية مهمة أيضًا، مثل التوقف المؤقت الذي طلبته أوكرانيا بشأن استهداف الولايات المتحدة الأوليغارشي الروسي رومان أبراموفيتش الذي شارك في محادثات السلام في تركيا. ومن شأن العقوبات الموجّهة، حيثما أمكن، أن تؤدي إلى استجابة سياسية محددة قد تساعد، إلى جانب الدبلوماسية، في تغيير سلوك روسيا وتعزيز احتمال التوصل حلّ مستدام للصراع عن طريق التفاوض.

إضافةً إلى تهيئة الظروف التي تدفع روسيا إلى إعادة ضبط تكتيكاتها، على الدبلوماسية في أوكرانيا أن تكون أكثر نشاطًا وصرامةً وتعقيدًا من النهج الذي اتُّبع في سورية. ولا يمكن لأوكرانيا وداعميها أن يأملوا في الاستمرار بعزل روسيا، والتفاوض بشأن الممرات المحلية للدخول ووقف إطلاق النار، والتوصل إلى حلّ دبلوماسي للصراع، وقلب المسار الذي بدأ في سورية، وصون القانون والأعراف الدولية من جديد، إلّا من خلال بذل جهود دبلوماسية منسّقة على مستويات عدّة، بدءًا من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة ووصولًا إلى الشركاء في المستويات الأدنى.

انطلق المسار الدبلوماسي على المستوى الرفيع بقوة. فقد ركّزت الجهود الغربية في بداية الغزو على تجريد روسيا من الدعم الدبلوماسي، وعزلها دوليًا. وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي حققه هذا المسار في بادئ الأمر، أصبح أقل وطأةً مع مرور الوقت. وخير دليل على ذلك تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 7 نيسان/أبريل على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان ، إذ صوّتت ثلاث وتسعون دولة لصالح القرار، فيما صوّتت أربع وعشرون دولة ضدّه، وامتنعت ثمانٍ وخمسون دولة عن التصويت. وشكّل هذا تغييرًا ملحوظًا مقارنةً مع تصويت 141 دولة لصالح قرار الجمعية العامة في آذار/مارس الذي طالب بانسحاب روسيا غير المشروط من أوكرانيا ، إذ صوتت خمس دول ضدّه وامتنعت خمس وثلاثون دولة عن التصويت. وفيما تتوالى انتكاسات روسيا التي خسرت الانتخابات في أربع لجان تابعة للأمم المتحدة في نيسان/أبريل، يشير تراجع الدعم في التصويت الخاص بمجلس حقوق الإنسان إلى أن استراتيجية العزل ستتطلب تحفيزًا لتستمر في المدى الطويل.

ولتحقيق ذلك، لا بدّ من الاستفادة من بعض الدروس السورية. تشهد أوكرانيا راهنًا عددًا كبيرًا من التحقيق ات في قضايا تتعلّق بحقوق الإنسان وجرائم الحرب. لكن إن دلّت الحرب السورية على شيء فإنما تدلّ على أن المساءلة هي مشروع طويل الأمد سيُخلّف على الأرجح نتائج غير مرضية. لذلك، يمكن إيجاد استخدامات أكثر إلحاحًا للمعلومات التي يتم جمعها في إطار هذه المساعي، على غرار مكافحة حملات التضليل الروسية وتعزيز الجهود الدبلوماسية. فمن شأن توثيق الجرائم بشكل سريع ولا لبس فيه، ونشر المعلومات على نطاق واسع لكسب ورقة ضغط دبلوماسية مهمة أن يساهما في الحدّ من تأثير المعلومات المضللة الروسية، وتقويض جهود موسكو الرامية إلى إنكار أفعالها وإبعاد اللوم عنها.

لقد راوحت المفاوضات حول أوكرانيا مكانها حتى تاريخ كتابة هذا المقال. وفيما من المستبعد أن تنخرط روسيا بشكل فعّال مع القادة الأوكرانيين قبل أن تتمكن من إبرام اتفاق يرضيها، من المهم جدًّا السعي إلى إبرام تسوية للصراع عن طريق التفاوض، والاستفادة من جميع الفرص المتاحة. ولا بدّ من ممارسة الدبلوماسية النشطة على مستوى محلي أكثر، إذ من الضروري معالجة مسائل مثل إيصال المساعدات الإنسانية، وعمليات الإجلاء، والممرات، وانتهاكات القانون الإنساني الدولي من خلال أنظمة الإخطار الإنساني. ويتعيّن على أوكرانيا وداعميها، خلال مراحل المفاوضات كافة، تسليط الضوء على المرات التي تتصرف فيها روسيا بسوء نية لمنعها من تحقيق أهدافها الدبلوماسية والحفاظ على تحالفاتها السياسية والاقتصادية. هذا الهدف دونه صعوبات جمّة، وتمّ التعامل معه بشكل سيئ في سورية، ما خلّف نتائج صبّت في مصلحة روسيا والنظام السوري.

وينبغي على الدول الداعمة لأوكرانيا تعزيز الدبلوماسية الرفيعة المستوى باستراتيجية قوية ومتكاملة. ويبدأ ذلك بضمان عدم تسرّب لغة قد تكون شائنة في قرارات مجلس الأمن الدولي، والحرص على ألّا تقوّض مفاوضات الأمم المتحدة بشأن المساعدات الإنسانية في موسكو حوارات أوكرانيا الخاصة، فيما تقدّم فيه الدول المؤيدة لها إما الدعم الفني لهذه الجهود عند الحاجة أو الدعم السياسي والدبلوماسي عندما يتطلّب الأمر تصعيدًا. ومن شأن توفير الدعم المادي والاستراتيجي للبلاد عبر نهج متكامل أن يساعد أيضًا، من خلال الربط بين الدعم الدبلوماسي والسياسي والعسكري والإنساني وبين تحقيق المساءلة والاستقرار، بدلًا من السماح لكلٍّ مكوّن منها بالعمل بمعزل عن الآخر. في سورية، لم تحظَ المعارضة سوى بدعم عسكري وتوجيه استراتيجي ضئيل، لكن في أوكرانيا، قد يساعد هذا الدعم على تحقيق أهداف عسكرية والحفاظ على خطوط الإمداد الإنسانية وطرق إيصال المساعدات للسماح بحماية المدنيين من خلال الاستعداد لحصار محتمل قد يكون مدمرًا في كييف ومدن أخرى، أو الحؤول دون حصوله. فمن خلال هذه الإجراءات، قد تصبح حماية المدنيين ممكنة، على أن تتوفّر جهود التوثيق والمساءلة عندما يفشل ذلك بدلًا من أن تكون أداة أساسية، كما رأينا في سورية.

ويُعتبر إعداد العاملين في المجال الإنساني والبنية التحتية لاستهداف روسي حتمي، وفي الوقت نفسه ضمان قدرة العمليات الإنسانية على توقّع الاحتياجات والاستجابة لها، أمرَين أساسيَّن في إنقاذ أرواح المدنيين قبل الحصار وخلاله وبعد انتهائه. في هذا السياق، تستطيع الجهات الفاعلة في سورية أن تقدّم دروسًا عدّة، بدءًا من التدريب العملي على التعامل مع الضربات المزدوج ة، ووصولًا إلى تقديم المشورة بشأن الحاجة إلى مراكز متكاملة لتحقيق الاستقرار تدمج مصادر التمويل المرنة مع الأنشطة الإنسانية بحيث يمكن تخزين السلع مسبقًا قبل أي حصار محتمل. علاوةً على ذلك، قد يساهم ضمان تبنّي أنظمة الإخطار الإنساني في أوكرانيا جميع التوصيات والدروس المقدّمة من مجلس التحقيق التابع لمجلس الأمن الدولي حول الهجمات التي استهدفت المستشفيات في سورية، وقيام الدول بإيجاد طرق لمعالجة انتهاكات القانون الإنساني الدولي من خلال الإدانة الدبلوماسية أو غير ذلك، في الحفاظ على الثقة بالأنظمة الإنسانية وبأهمية القانون الإنساني على المدى الطويل.

صحيحٌ أن بعض تكتيكات روسيا في أوكرانيا مشابهة لتلك التي استُخدمت في سورية، إلا أن ردود الفعل عليها كانت مختلفة بشكل كبير في بعض الأماكن. ويُعتبر العمل على توسيع هذا النهج من خلال تبنّي الدروس المُستخلصة بشقّ الأنفس في سورية، بدلًا من إعادة تعلّمها من جديد، ضروريًا للتخفيف من وطأة أسوأ تداعيات النزاع الأوكراني وإنقاذ حياة المدنيين الذين، شأنهم شأن ملايين السوريين، لم يطلبوا أبدًا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يشنّ الحرب عليهم.

إيما بيلز

إيما بيلز مستشارة مستقلة تركّز أبحاثها على الشؤون السورية. وهي باحثة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن العاصمة، ومستشارة أولى في المعهد الأوروبي للسلام، وكانت سابقًا باحثة زائرة في مختبر أبحاث التحليل الجنائي الرقمي التابع للمجلس الأطلسي. يمكنكم متابعة تغريداتها على تويتر: @ejbeals.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

—————————–

النزوع الأمبراطوري المسلح: روسيا وإيران مثالاً/ عبد الباسط سيدا

ما يجمع بين مرتكزات الاستراتيجية الروسية في عهد بوتين، والاستراتيجية الإيرانية في عهد نظام ولي الفقيه، هو تمجيد القوة العسكرية، واستخدام العنف، والاعتماد على الجماعات المحلية الموالية استناداً إلى الرابطة القومية في الحالة الروسية، والمذهبية في الحالة الإيرانية. وتتشارك الاستراتيجيتان أيضاً في استلهام التاريخ في نزوعه التوسعي الامبراطوري، وذلك من أجل إضفاء المشروعية على خطط التمدد في المجتمعات المجاورة.

فروسيا في عهد بطرس الأكبر 1672-1725 تمثل النموذج الذي يستوحيه بوتين، بل يصرح بذلك علناً، وهو يرى بناء على ذلك أن من حق روسيا أن تكون صاحبة مجال حيوي واسع، سواء في آسيا أم في أوروبا، يمكّنها من أداء دورها بكل أريحية بوصفها قوة عظمى تمتلك رسالة، تتجسد من حين إلى آخر في زعماء بارزين يؤدون أدواراً استثنائية، يضفي عليهم الأيديولوجيون مسحة من الأسطرة والإطلاقية لدرجة أنهم يدخلونهم في دائرة المعجزات والمقدسات. وهذا ما يفعله الإيديولوجيون والمستشرقون الروس اليوم في سياق جهودهم لإضفاء صفة القائد الاستثنائي المعجزة على بوتين. هذا في حين أن بوتين من ناحيته يستغل ورقة الأقليات الروسية وحقوقها في مختلف الجمهوريات المستقلة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، أو كانت خاضعة للنفوذ الروسي بهذه الصيغة أو تلك في العهد الامبراطوري. وفي الوقت ذاته تعْمَد روسيا البوتينية إلى مغازلة النزعات الدكتاتورية في مختلف البلدان سواء في آسيا أم أفريقيا وأمريكيا اللاتينية وأوروبا الشرقية واستمالتها، بهدف بناء التفاهمات والتحالفات معها، وعقد الصفقات التي غالباً ما تحوم حولها شبهات الفساد.

أما بالنسبة لإيران، فمن الواضح أن الإمبراطورية الفارسية بمراحلها المختلفة سواء قبل الميلاد أم قبل الإسلام، ما زالت الحلم الذي يدغدغ مشاريع ومخيلة العديد من صناع القرار في السلطة السياسية المبنية على أساس فكرة ولي الفقيه. ولبلوغ هذا الهدف كانت سياسة استخدام المظلوميات الشيعية في المجتمعات المجاورة أداة للتوسع فيها. وما ساعدها على ذلك هو اخفاقات دول تلك المجتمعات لأسباب متباينة في تحقيق المساواة العادلة بين مكوناتها المجتمعية، وعجزها عن طمأنتها ضمن إطار مشروع وطني عام، كان من المفروض أن يكون بالجميع وللجميع.

كما استثمرت ايران كثيراً، بالتنسيق مع حكم حافظ الأسد منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي في مشروع «المقاومة اللبنانية»، ومشروع «تحرير القدس»، و«مناصرة» القضية الفلسطينية؛ وذلك بعد عقود من استغلال الأنظمة الجمهورية العسكرية القومية (لا سيما في مصر وسوريا والعراق وليبيا) لتلك القضية التي ستظل عرضة للاستغلال، طالما لا توجد معالجة عادلة لها، وظلت أسباب معاناة الفلسطينيين فاعلة.

ولا يقتصر الاستثمار الإيراني على الموضوع الفلسطيني وحده، بل هناك استثمار متواصل منذ أكثر من أربعين عاماً، وأيضاً بالتنسيق مع حكم حافظ الأسد، في ورقة «حزب العمال الكردستاني» الذي اُستخدم، ويُستخدم، راهناً أداة لدعم سلطة بشار الأسد في المناطق ذات الغالبية الكردية في سوريا، ويمثل احتياطاً يُستخدم عند اللزوم في تركيا مستقبلاً.

وإذا ما تركنا جانب الإيديولوجيا والتوجهات السياسية، لننتقل إلى ميدان الموارد سواء الطبيعية منها أم البشرية، فسنلاحظ هنا أيضاً اشتراك كل من إيران وروسيا في خاصية امتلاكهما موارد هامة على صعيد الطاقة والمعادن والزراعة، كما يمتلك البلدان موارد بشرية مؤهلة لتحقيق نهضة شاملة في مختلف القطاعات الاقتصادية والمعرفية. ولكن مشكلة البلدين تكمن في إصرار قيادتيهما على إعطاء الأولوية القصوى لقطاع الصناعات العسكرية، وتسخير الإمكانيات والموارد لصالح بناء القدرات العسكرية من جهة التشكيلات والأسلحة، واعتماد أسلوب إبهار الداخل، والعمل على إسكاته من خلال التلويح بـ«الواجبات والانتصارات أو الفتوحات» الخارجية؛ والحرص على إضعاف دول ومجتمعات الجوار، بل وخلخلة بنيتها، تمهيداً للتغلغل فيها، وذلك لتحقيق فائض قوة يستخدم لاستمرارية الهيمنة على مناطق النفوذ خارج الحدود الوطنية، أو التفكير في التوجه نحو مساحات جديدة في سياق استكمال المشاريع التوسعية التي تتطلع نحوها النزعة الإمبراطورية الرامية إلى تشكيل المستقبل بناء على ما كان، أو ما يعتقد، أنه كان، أو ما ينبغي أن يكون.

ومما يجمع بين البلدين (روسيا وإيران) هو أن النظام السياسي في كليهما منغلق على ذاته، ولا يسمح بأي تغيير نوعي جوهري في بنية نواة مجموعة الحكم والتحكّم؛ وإنما يعتمد الانتخابات المبرمجة، وفق مقاسات دقيقة محكمة، وسيلة تضمن استمرارية تحكّم المجموعة المسيطرة بكل المفاصل الدقيقة المؤثرة للدولة والمجتمع. ويشمل ذلك المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارية والاقتصادية والإعلامية والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ الأمر الذي يقطع الطريق أمام أي امكانية للإصلاح ضمن منظومة الحكم، ويسدّ المنافذ على الإصلاحيين من دعاة التغيير التدريجي ضمن إطار النظام السياسي القائم نفسه. كما أن قضايا المكونات المجتمعية، سواء الدينية المذهبية منها أم القومية، تبقى من دون معالجة حقيقية، وذلك تحسباً لأي تواصل إيجابي بين دعاتها والإصلاحيين، أو توجساً من إمكانية تحوّلها إلى مقدمة تمهّد لفتح بوابات الإصلاح غير المنسجم مع توجهات ومصالح مجموعة الحكم.

ولكن في عالمنا المفتوح المتفاعل، باتت مسألة إعادة إنتاج الاستبداد مكلفة للغاية، فهذه العملية تحتاج إلى جيش معلن وغير معلن من القوات القمعية والمخابرات والمخبرين، وإلى حلقات لا حصر لها من الوسطاء والمستفيدين. والقناعات الأيديولوجية لم تعد وحدها كافية لتعبئة كل هؤلاء، بل لا بد من الإنفاق عليهم، وإشراك المؤثرين منهم في صفقات الفساد. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل لا بد من الإنفاق على الأذرع الإقليمية والمحلية بدءا من التسليح والتنظيم والعمليات والرواتب ونفقات شراء الذمم، وصولأ إلى الوسائل الإعلامية؛ هذا فضلاً عن الفساد المستشري. ورغم الاستعانة بواردات الممنوعات من أسلحة ومخدرات وغيرها، وأساليب التحايل، فإن السيولة المتاحة لا سيما في ظل العقوبات الغربية الصارمة، هي في نهاية المطاف محدودة، وهذا ما سيؤدي، عاجلاً أم آجلاً، رغم كل التبجحات والادعاءات، إلى المزيد من التضييق الواقعي وفرض التقشف والحرمان عليهم، الأمر الذي ستكون من نتائجه المزيد من التذمر والمزيد من المشكلات.

وبناء على ما تقدم، نرى أن السردية الامبراطورية، سواء المعلنة في الحالة الروسية أم المضمرة في الحالة الإيرانية، هي بصيغ مختلفة وسيلة لإلهاء الداخل أو تخديره، وذلك لمنعه من المطالبة بما هو من حقه الطبيعي.

ولا يمكن تجاوزهذه العقدة التي فرّخت، وتفرّخ الكثير من العقد الأخرى في الداخل والخارج، من دون إصلاحات داخلية فعلية، تكون مسنودة باستعدادات أكيدة لتحمّل مسؤولية الاستحقاقات المترتبة على ذلك. فخطوات من هذا القبيل إذا ما اتخذت، هذا ما اقرارنا المسبوق بهشاشة احتماليتها، من شأنها جعل امكانية التفاهم مع الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي امكانية واقعية، تتبلور من خلال الحوارات الجادة، والتفاهمات ذات المصداقية، الأمر الذي من شأنه فتح الآفاق أمام التعاون، وتبادل الخبرات والمعارف والمصالح في المجالات العلمية والتقنية والاقتصادية، وكل ذلك يساهم في ضمان مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.

أما الاستمرار في عقلية الحرص على صنع المزيد من الصواريخ والطائرات الحربية، والاستمرار في الجهود الرامية إلى امتلاك الأسلحة النووية أو صناعة المزيد منها، وتطويرها، وتهديد العالم بها، فكل ذلك لن يؤدي إلا إلى التحضير للمزيد من عمليات التفجير على مختلف المستويات هنا وهناك.

الحرب الروسية على أوكرانيا مستمرة، وكذلك الحروب الإيرانية على مجتمعات المنطقة، وهناك مخاطر جدية باتساع نطاق هذه الحروب، وزيادة حدتها، وتراكم وتفاعل آثارها السلبية؛ وكل ذلك ينذر بالمزيد من القتل والتدمير والخراب والتهجير، وهذا فحواه المزيد من التباعد والتعقيد وصعوبة المعالجة.

العالم اليوم هو في مواجهة احتمالين رئيسيين:

الأول، ارتفاع منسوب التوترات والتعقيدات على المستويين الإقليمي والدولي، والاستعانة بالحلفاء لتعزيز الجبهات، واستخدام أنواع جديدة من الأسلحة والأوراق بهدف إلحاق الهزيمة بالخصم وإذلاله، وهذا احتمال كارثي ستكون تبعاته مأساوية على الجميع في المدى المنظور والبعيد.

أما الاحتمال الثاني، فهو البحث عن إمكانية الوصول إلى حلول، قد تبدأ بتسويات محدودة تمهّد الطريق أمام تفاهمات تدريجية من شأنها تمكين الأطراف المتصارعة من التوافق على خطوات تفتح الآفاق أمام مشاريع تنموية مشتركة، تساهم في تطوير التكنولوجيا والصناعة السلمية في البلدين ليصبحا قادرين على إنتاج السلع النوعية التي من شأنها تلبية الاحتياجات الداخلية، وامتلاك المواصفات التي تستوجبها المنافسة العالمية، وهذا ما سيساهم إلى إحداث تغييرات نوعية في العقلية والسلوك، ويدفع نحو الوفاق والانسجام على المستوى الداخلي، وهو الأهم؛ كما يؤسس لتفاهمات وتوافقات على المستويين الإقليمي والدولي، توافقات وتفاهمات من شانها فتح الآفاق أمام تعاون دولي مشترك يكون في صالح الجميع، تعاون يمكّن المجتمعات الإنسانية من التصدي للتحديات التي تواجهها، خاصة ما يتصل منها بالفقر والجهل والمرض والأوبئة والمتغيرات المناخية.

*كاتب وأكاديمي سوري

القدس العربي

—————————-

حسابات الحرب الأوكرانية… وتداعياتها في الشرقين الأوسط والأقصى/ إياد أبو شقرا

على الرغم من التخبّط الظاهر في أروقة السياسة الأميركية، من إدارتها الديمقراطية إلى «معارضتها» الجمهورية، لديّ شخصيّاً شعور قوي بأن الأمور لا يمكن أن تكون بالسوء الذي نراه نحن «أهل الخارج»، سواءً على صعيد الارتجال أو الحسابات الخاطئة.

وأذهب أبعد لأقول إن الذين يعرفون، ولو النزر اليسير من آليات اتخاذ القرار وتشابكات المصالح في واشنطن، يقدّرون أن هناك حداً أدنى من التحسب للعواقب، وفهم العلاقة بين الفعل ورد الفعل… ولا سيما في شؤون تمس الأمن العالمي، ومخاوف الصدام مع القوى العظمى، وتوتير العلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين.

طبيعي أن المفاجآت واردة دائماً. وربما كانت الطريقة التي أدار بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الملف الأوكراني قد باغتت العواصم الغربية – وعلى رأسها واشنطن – التي كانت تتوقع اعتماده الابتزاز والعمل على تشتيت المواقف، ولكن ليس بالصورة التي رأينا خلال الأشهر القليلة الفائتة.

كان الكل يعرف كثيرا عن بوتين وتفكيره وثقافته السياسية و«ثأره» القومي المبيّت منذ قرابة ربع قرن من الزمن. كذلك كان الكل قد شاهد «بروفات» لما يفعله اليوم في أوكرانيا… بدءاً من الشيشان وجورجيا وشبه جزيرة القرم… وانتهاء بسوريا. فالرجل ما كان في الماضي، ولا يبدو اليوم أيضاً، متصالحاً مع حقيقة أن موسكو لم تعد أحد «القطبين» المتحكمين في العالم كما كان الحال عليه قبل 1990.

الجرح في الضمير القومي الروسي كان ولا يزال عميقاً، والسعي باقٍ ومستمرٌ لإثبات أن كيانات «الإمبراطورية الروسية» ثم «الاتحاد السوفياتي» غير قابلة للحياة بعيداً عن فلك موسكو وظلها ومشيئتها. وسياسة تطويق الاتحاد السوفياتي بالأحلاف العسكرية الغربية لم تكن تجربة عابرة في نظر «الأباراتشيك» الروس، الذين سرعان ما حوّلوا حلم عزّتها ومجدها وهيمنتها من مشروع اليسار الأممي و«الصداقة بين الشعوب» إلى مشروع استنهاض قومي سلافي يستمد أسباب تصلبه – وأيضاً مبرّراته – من الهزيمة أمام الغرب… في نظرية «نهاية التاريخ» الفوكويامية المتهاوية.

وأمس، في حين تكلّم فلاديمير بوتين بلهجة الواثق المتحدّي في منتدى بطرسبرغ الاقتصادي العالمي، اختار رديفه ومساعده ديمتري ميدفيديف السخرية من «العراضة» التضامنية التي نفّذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس وزراء إيطاليا ماريو دراغي في أوكرانيا… وشملت اللقاء برئيسها فولوديمير زيلينسكي وجولة تفقدية في بعض المناطق المنكوبة.

لكن، بعيداً عن «الحرب النفسية» التي تمرست موسكو وواشنطن بها طويلاً، ثمة مَن يرهن الأجواء الحالية بجملة من الخلفيات التي لا تخفى على الجانبين.

موسكو تدرك أن موقف الرئيس الأميركي جو بايدن ضعيف نسبياً قبل أشهر قليلة قبل الانتخابات النصفية في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) التي قد تشهد تغيراً في معادلات مجلسي الكونغرس لصالح الجمهوريين. ولذا فهو بحاجة الآن إلى تشديد الضغط على موسكو عبر التطويق الدولي والحرب الاقتصادية.

هذا التطويق الدولي ماضٍ قدماً على المسرح الأوروبي، ولكن لا ضمانات لنجاحه في مناطق أخرى من العالم. صحيح أن قادة الدول الثلاث الأكبر في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) أكدوا دعمهم لواشنطن وللقيادة الأوكرانية ضد الروس. وأيضاً صحيح أن ما يحدث على الأراضي الأوكرانية أيقظ قلق دول عدة كانت قد اختارت «الحياد» وتحاشي استفزاز موسكو وشراء عداوتها، مثل فنلندا والسويد، اللتين اضطرتا لقبول إغراءات الانضمام لحلف شمال الأطلسي «ناتو» أملاً في خلق «حالة ردعية» استراتيجية في شمال أوروبا. لكن الصحيح أيضاً أن كثيرين في أوروبا يرون في الإمعان في توسيع «ناتو»، شرقاً وشمالاً، تطوراً يزيد مخاطر الصدام من دون أن يوفر بالضرورة ضمانات الردع.

يضاف إلى ذلك أن الدعم الأوروبي للموقف الأميركي إزاء أوكرانيا – في نظر كثيرين – أقل صلابة مما يظهر، وبالأخص، في ظل الأثمان الاقتصادية الباهظة على القارة الأوروبية، والظروف الداخلية لعدد من الدول. ثم إن هناك قيادات أوروبية، كالرئيس المجري فيكتور أوربان، كانت خلال الفترة الأخيرة تغرد خارج السرب وتتمرد على سياسات الاتحاد الأوروبي، بل وتلمح إلى تفهمها لموقف موسكو… مع الحرص على استمرار العلاقات الجيدة مع بوتين.

من ناحية أخرى، خارج أوروبا، ثمة ما قد يشجع الرئيس بوتين على المضي قدماً في معركته الأوكرانية التي يعرف قبل غيره أنه لا خيار أمامه إلا كسبها بعدما فجّرها. إذ إن التطويق الأوروبي غير مرشّح لأن يتكرّر جنوباً وشرقاً في ظل العلاقات الملتبسة راهناً لواشنطن مع كل من أنقرة وطهران. وفي غياب الثقلين التركي والإيراني على الحدود الجنوبية لمنطقة نفوذ روسيا التقليدية… ستجد الإدارة الأميركية نفسها مضطرة لتوسيع مروَحة مناوراتها وتفاهماتها.

في الشرق الأوسط، المرشح لخرائط سياسية جديدة، سقطت مُسلّمات كثيرة منذ 2011، وتفاوتت حسابات القوى الإقليمية مع كل من واشنطن وموسكو في غياب خطوط التعريف الواضحة بين الحليف والصديق، والعدو والمحايد. ومن ثم، مع استثناءات قليلة، فإن الكل يتروّى في تقديم الالتزام الكلي مجاناً مع أي من العاصمتين.

بالنسبة للقيادة الإيرانية فإنها ما زالت تستقوي بصلاتها الوثيقة مع الروس في مساومتها النووية مع واشنطن، وتداعياتها الجيو – سياسية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. أما في ما يخص تركيا فها هو الرئيس رجب طيب إردوغان يستثمر بكياسة «الفيتو» الذي تتمتع به بلاده داخل «ناتو» ويلوّح به ضد ضم فنلندا والسويد، وهو الذي كان قد أغضب واشنطن عندما عقد صفقة الصواريخ الروسية رغم التحذيرات والمناشدات.

في هذه الأثناء، يجب ملاحظة أن الحسابات العربية والإسرائيلية موجودة وحساسة إزاء كل من واشنطن وموسكو، ويشهد على ذلك تزايد الاتصالات والزيارات في الاتجاهين. ولا جدال في أن حاجة أوروبا إلى الغاز، بعد الحرب الأوكرانية، أعطت بعداً إضافياً للثروات الغازية في حوض البحر المتوسط الشرقي.

غير أن الاعتبار الأخطر في حسابات المواجهة الأميركية – الروسية يبقى تصرف الصين، والرسائل التي تتلقاها وتبعث بها بكين، بما في ذلك «صندوق البريد» التايواني.

الحرب الأوكرانية كسرت تعايشاً قلقاً على اليابسة الأوروبية استمر عملياً – تحت رقابة ورعاية أميركيتين – منذ انهيار «جدار برلين» عام 1989.

ومن ثم، إلى متى سيستمر التعايش القلق في شرق آسيا عبر مضايق تايوان؟

الشرق الاوسط

————————–

«البنتاغون» يعتبر تصرفات روسيا في سوريا «استفزازية»

قال إنه يسعى إلى تجنب «أي خطأ في الحسابات» بعد قصف استهدف قاعدة التنف

مخاوف من تفجّر مواجهة أميركية ـ روسية في سوريا بعد قصف طال قاعدة التنف لحلفاء واشنطن

واشنطن: إيلي يوسف

أعرب مسؤولون عسكريون أميركيون عن خشيتهم من تزايد خطر التصادم المباشر بين القوات الأميركية والروسية في سوريا. وقال قائد القيادة الأميركية الوسطى (سينتكوم) الجنرال إيريك كوريلا، في بيان، إن قواته في المنطقة «تسعى لتجنب أي خطأ في الحسابات أو خطوات من شأنها أن تؤدي إلى نزاع غير ضروري، وهذا يبقى هدفنا». وأضاف: «ولكن تصرفات روسيا الأخيرة كانت استفزازية وتصعيدية»، في إشارة إلى الغارة الروسية على منطقة التنف، التي جرت يوم الأربعاء الماضي. ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن مسؤولين في «البنتاغون»، تخوفهم من حدوث تصادم مع الروس، متهمين القوات الروسية بالقيام بخطوات «استفزازية».

وقال مسؤول عسكري أميركي إن روسيا شنّت غارة على مواقع في منطقة التنف يوم الأربعاء الماضي، بالقرب من القاعدة الأميركية، التي تشرف على تدريب مقاتلين محليين يتصدون لمقاتلي تنظيم «داعش».

وبحسب المسؤول، أبلغت روسيا العسكريين الأميركيين بالغارة مسبقاً عبر قناة الاتصال التي تم إطلاقها منذ سنوات، حيث نفذت الغارة «رداً على هجمات كانت قد تعرضت لها القوات السورية الحليفة».

وأوضح المسؤول أن طائرتين روسيتين من نوع «سو 35» وطائرة أخرى من نوع «سو 24» ضربت موقعاً عسكرياً في التنف، بعد عملية الإبلاغ عبر قناة الاتصال. ورغم أن الغارة لم تستهدف القوات الأميركية، ولم يتعرض الجنود الأميركيون للخطر، فإن المسؤولين الأميركيين أعربوا عن قلقهم من أن الغارة تشكل تحدياً لمهمة القوات الأميركية في سوريا، وتصعيداً ملموساً للاستفزاز.

من جهة أخرى، أفادت الصحيفة بأن روسيا أرسلت طائرتين حربيتين من نوع «سو 34» إلى المنطقة التي نفذت فيها القوات الأميركية يوم الخميس عملية إنزال لاعتقال أحد قادة تنظيم «داعش»، شمال شرقي سوريا. لكنها قامت بسحبهما سريعاً بعد توجه مقاتلات أميركية من نوع «إف 16» إلى المنطقة. كما تحدث المسؤولون الأميركيون عن حوادث أخرى جرت في الأسبوعين الماضيين، من دون الكشف عن تفاصيلها. ويتمركز في قاعدة التنف الواقعة على المثلث الحدودي العراقي السوري الأردني، نحو 200 جندي أميركي، من أصل نحو 900 جندي ينتشرون في مناطق شمال شرقي سوريا. ورغم قيام روسيا بسحب عدد من قواتها ومعداتها الحربية من سوريا بعد غزوها لأوكرانيا، تصاعد الحديث عن «فراغ» قد تستغله إيران للحلول مكانها.

ورغم ذلك، عمدت روسيا إلى تصعيد تدخلاتها في مواقع قريبة من انتشار القوات الأميركية، للتأكيد على أنها لا تزال قادرة على تنفيذ عمليات حربية في أكثر من مكان في الوقت نفسه.

والحادثة الأخيرة لم تكن الأولى، فقد قصفت طائرات روسية عام 2016 قاعدة التنف، بعدما غادرت طائرتان للبحرية الأميركية من نوع «إف 18» كانتا في دورية في المنطقة للتزود بالوقود. ولم يكن في القاعدة في ذلك الوقت قوات أميركية، لكن الغارة أدت إلى مقتل مقاتلين سوريين، وصفتهم روسيا بالإرهابيين.

وفي عام 2017، وجهت روسيا إنذاراً للولايات المتحدة لسحب أفرادها من القاعدة خلال 48 ساعة، لكن واشنطن رفضت، وانقضت مدة الإنذار من دون أي تطور. بيد أن أخطر الأحداث التي وقعت بين الروس والأميركيين، كانت عام 2018، رغم عدم تورط الجنود الروس النظاميين فيه.

وبعدما تقدم مقاتلون من مجموعة «فاغنر» الروسية إلى شرق سوريا وأطلقوا النار على القوات الأميركية تجاهلوا تحذيرات الجيش الأميركي، الذي طلب منهم المغادرة. وبعد ذلك شنّت طائرات أميركية هجوماً دامياً، أدى إلى مقتل «بضع مئات من الروس»، بحسب قول وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، عام 2018، خلال جلسة تأكيد توليه منصب وزير الخارجية. وأعلن الجيش الروسي أنه لا علاقة له بالحادثة.

الشرق الأوسط

———————–

الغاز الإسرائيلي في أوروبا..بلا إعتراضٍ روسي/ بسام مقداد

الحديث عن الغاز الإسرائيلي في أوروبا ليس جديداً، والإتفاقية التي عقدها الإسرائيليون منذ أيام مع الإتحاد الأوروبي لتصدير الغاز المسيل عبر مصر، كانت أشبه بحلم تحقق للإسرائيليين. وعلى الرغم من ضآلة حجم الغاز الإسرائيلي بالنسبة لحاجة الإتحاد الأوروبي منه، والتي لا تزيد عن 2%، إلا أن إسرائيل تجيد إستثمار ذلك حتى بنسبة أقل في علاقاتها باوروبا، كما أجادت وتجيد إستثمار العداء للسامية في علاقاتها مع العالم بأسره.

إسرائيل تتحدث منذ سنوات عن مواعيد مختلفة لتصدير الغاز إلى اوروبا تراوحت بين 2020 و 2026،  كما تحدثت عن مشروع مد خط أنابيب لهذه الغاية. في العام 2016، وحسب موقع أوكراني نقل عن صحيفة تركية، قال القنصل الإسرائيلي في تركيا بأن الغاز الإسرائيلي لن يصل الأسواق الأوروبية قبل 4 أعوام. ونقلت حينها الصحيفة التركية عن خبراء قولهم بأنه، حتى لو كانت إسرائيل قامت بتصدير الغاز الطبيعي عبر تركيا إلى أوروبا، فكان يتعين عليها الإستعانة بخط الأنابيب الأذري TANAP الذي كان لا يزال في طور الإنشاء حينها. وفي أواخر العام 2018 نقلت دويتشه فيله DW عن وزير الطاقة الإسرائيلي حينها قوله بأن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا ينبغي أن يبدأ العام  2026، وذلك بعد الإنتهاء من مد خط الأنابيب الذي يصل بين إسرائيل وقبرص وكريت واليونان حتى إيطاليا(فشل لعدم موافقة تركيا عليه) ، والذي كانت تقدر كلفته بحوالي 6 مليارات يورو. وقال الوزير الإسرائيلي حينها أن بلاده عازمة على البدء بتصدير الغاز إلى أوروبا في العام 2025، وتوقع أن يتم التوقيع في خريف ذلك العام على الإتفاقية مع اليونان وقبرص وإيطاليا، والتي كان يفترض أن تلحظ تصدير الغاز القبرصي في خط الأنابيب عينه.

ما كان يمكن لإسرائيل، وهي تحدد مواعيد تصدير الغاز إلى أوروبا، أن تتوقع شن بوتين حربه على أوكرانيا، وتصبح أوروبا مضطرة للبحث عن بدائل للغاز الروسي الذي يمد بوتين بموارد مالية ضخمة يستخدمها في تمويل آلة حربه على أوكرانيا ومن ورائها كل العالم الغربي. وعلى العكس من الإحراج أمام علاقة الصداقة مع روسيا بوتين الذي اضطر إسرائيل إلى الإمتناع عن تصدير الأسلحة إلى أوكرانيا، لم تشعر إسرائيل بأي إحراج يجعلها تتروى في التوقيع منذ أيام على الإتفاقية مع مصر والإتحاد الأوروبي لتصدير الغاز الإسرائيلي المسيل في المنشآت المصرية.

ثمة في إسرائيل من يرى أنها ستدفع غالياً ثمن موقفها من الحرب على أوكرانيا. موقع  Vesty الإسرائيلي الناطق بالروسية والتابع لصحيفة يديعوت أحرونوت، نقل في 9 من الجاري عن الرئيس السابق للموساد تامير باردو قوله بأن إسرائيل ستدفع ثمن موقفها من الحرب في أوكرانيا. ورأى أن رئيس الوزراء نفتالي بينيت ضحى بالمبادئ الأخلاقية في سبيل المصالح السياسية، ولم تتمكن إسرائيل، بعد مرور أكثر من مئة يوم، من أن تحدد موقفاً واضحاً من الحرب في أوكرانيا.

بعد أن يؤكد أن إسرائيل لم تعد كياناً عابراً مهدداً بوجوده، رأى تامير أن روسيا، وعلى مدى السنوات الثماني الماضية، كانت تنفي حق أوكرانيا بالوجود، وتضخم أسطورة التهديد الأوكراني، وبعد إحتلالها القرم قامت في نهاية المطاف بغزو أوكرانيا وتسمي الحرب عليها “عملية خاصة”. وفي الوقت الذي أدانت الدول الغربية موسكو وفرضت عقوبات عليها، تحاول الحكومة الإسرائيلية الجلوس على كرسيين متحججة بمصالح الأمن الوطني. ورأى نفتالي بينيت أن بوسعه، بفضل العلاقات مع بوتين، القيام بدور الوسيط، وهو ما سيكون في مصلحة إسرائيل. ولم يتمكن لا الموقف المتشدد من قبل الولايات المتحدة ولا الريبوتارجات المخيفة من أوكرانيا أن تبدل موقف الحكومة الإسرائيلية.

لم يكن أحد ليتوقع أن ترحب روسيا بالإتفاقية  الأوروبية الإسرائيلية المصرية، لكن علاقاتها مع كل من إسرائيل ومصر لم تسمح لها بالتعبير عن إستيائها والرفض العلني لها. الإعلام الروسي ركّز على ضآلة حجم الغاز الإسرائيلي في الحلول محل الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا، ولم يعبر أيضاً عن الرفض العلني للإتفاقية، بل كاد يكتفي بنشر الأنباء عنها فقط. وعل الرغم من أن الموقف الرسمي إلتزم الصمت حيال الأمر، إلا أن إستدعاء السفير الإسرائيلي في موسكو إلى الخارجية الروسية في 16 من الجاري للإحتجاج على الغارة الإسرائيلية على مطار دمشق في 10 منه، أي بعد أسبوع من وقوع الغارة، وبعد يوم واحد من التوقيع على الإتفاقية الثلاثية، رأى فيه البعض أنه تعبير عن الإمتعاض الضمني من الإتفاقية.

موقع ridus الإلكتروني الروسي الذي يصف نفسه ب”صحافة المواطن” نشر في 16 من الجاري نصاً بعنوان “”أصدقاء روسيا” إنتهزوا الفرصة للإستفادة من رغبة الإتحاد الأوروبي التخلص من الغاز الروسي”. وعلى غرار معظم مواقع الإعلام الروسي، وعدا عن وضع أصدقاء روسيا بين مزدوجين للتعبير عن “العتب” عليهم، لم يتضمن النص المقتضب للموقع سوى سرد وقائع التوقيع على الإتفاقية الثلاثية. واكتفى بالإشارة إلى الترحيب الحار من قبل ممثلة الإتحاد الأوروبي بالتوقيع على الإتفاقية، وتصريح وزيرة الطاقة الإسرائيلية في شباط/فبراير المنصرم بأن إسرائيل لن تتمكن في الأغلب من تصدير “كميات كبيرة” من الغاز إلى أوروبا.

صحيفة الكرملين vz نقلت عن قناة “الجزيرة” وقائع توقيع الإتفاقية، وذكّرت بالقرار الروسي عن إستيفاء ثمن الغاز من “الدول غير الصديقة” بالروبل. وتحدثت عن تساهل روسيا والسماح لهذه الدول بإيداع قيمة متوجباتها بعملة العقد في غازبروم بنك، على أن يقوم هو بدوره بتحويل المبالغ إلى الروبل وتسديدها وفق القرار الروسي. وأشارت الصحيفة إلى أن غازبروم قطع الغاز عن كل من بلغاريا وهولندا وبولونيا وفنلندا لأن هذه البلدان تأخرت في سداد متوجباتها ، ورفضت التسديد بالروبل.

صحيفة القوميين المتشددين الروس SP نشرت نصاً بعنوان “الإتحاد الأوروبي يحاول “الهروب” من “غازبروم” إلى إسرائيل”. تشير الصحيفة إلى تصريح لرئيس الوزراء الإيطالي في مؤتمر صحافي مشترك مع زميله الإسرائيلي في 14 الجاري، قال فيه بأن إمدادات الغاز من شرق المتوسط تخفض من إعتماد أوروبا على روسيا في مجال الطاقة. وخاطب الإسرائيلي بالقول أنهم سيعملون سوياً على “جبهة الطاقة” لإستخدام مصادر الغاز الطبيعي لشرق المتوسط  وتطوير مصادر الطاقة المتجددة.

تتحدث الصحيفة عن مخططات تركيا لتطوير مصادر الغاز لديها وإمكانية تصديره مع إسرائيل إلى أوروبا، وتنقل عن خبير روسي قوله بأن جميع هذه الخطط قابلة كلياً للتنفيذ، إلا أنها لا تستطيع أن تكون سوى بديل جزئي للغاز الروسي. ويرى الخبير أن ما تم التوقيع عليه في القاهرة ليس سوى إعلان نوايا قد لا تتحقق، ولم يرد فيها ذكر للأرقام لأن من الصعب تأكيدها في الواقع.

يقول الخبير أن مصر صدرت السنة الماضية 10 مليار متر مكعب من الغاز إلى تركيا والصين بصورة رئيسية، ويمكن تصدير كمية معينة منها إلى أوروبا. ويرى أن من الممكن في المستقبل تصدير كميات محددة من الغاز القبرصي إلى مصر لتسييلها ومن ثم إعادة تصديرها إلى أوروبا.

ويقول الخبير أن كل هذا يجمع أقل من 10 مليار متر مكعب من الغاز، وهو لا يقارن بالكمية التي تصدرها روسيا إلى أوروبا وتبلغ حوالي 150 مليار متر مكعب.

المدن

—————————–

روسيا تتلاعب بـ{طاقة الدول الأوروبية}

إيطاليا تطمئن مواطنيها… والنمسا متخوفة… وألمانيا توجه الاتهامات

فيما يشبه اللعب في مكبس النور بإضاءته تارة وإطفائه تارة أخرى، تحاول روسيا التعامل مع الدول الأوروبية بنفس الطريقة، بمبررات تبدو منطقية أحياناً وعقابية أحياناً أخرى. أمس السبت، ذكرت شركة إيني إس بي إيه الإيطالية في موقعها الإلكتروني أن عملاق الغاز الروسي غازبروم سوف ترسل كميات الغاز بنفس معدلات الأيام السابقة. وذلك بعد أن ذكرت «إيني» يوم الجمعة أن «غازبروم» خفضت صادراتها من الغاز إلى إيطاليا بنسبة 50 في المائة.

وأشارت شركة جيستور ميركاتي إنيرجيتسي الإيطالية، يوم الجمعة أيضاً، في مذكرة إلى أن إمدادات إيني من الغاز إلى إيطاليا من روسيا يوم السبت تم فقط «تأكيدها جزئياً».

ويشكل خفض تدفقات الغاز تحدياً خطيراً لإيطاليا، التي تعتمد على روسيا في سد 40 في المائة من وارداتها من الغاز، والتي تستخدم مشتريات الغاز خلال شهور الصيف لملء الخزانات لفصل الشتاء.

وربما تطبق إيطاليا خطة طوارئ بشأن الغاز في أقرب وقت ممكن الأسبوع الجاري إذا واصلت روسيا فرض قيود على إمداداتها. وربما يمهد ذلك الطريق لإنتاج أكبر من محطات الفحم الست العاملة بالفعل في إيطاليا، ولكن من المقرر إغلاقها مع حلول عام 2025 لتحقيق أهداف تغير المناخ.

– نصف إمدادات الغاز للنمسا

ذكرت وزارة الطاقة النمساوية أن البلاد تتلقى نحو نصف إمداداتها المعتادة من الغاز من شركة «غازبروم بي جيه إس سي» لليوم الثالث على التوالي، لكنها ما زالت قادرة على زيادة مخزونها، استعداداً للشتاء.

وأضافت الوزارة في بيان إلى وكالة الأنباء النمساوية (إيه بي إيه)، في أول تعليق عام بشأن حجم التقليص أمس السبت: «تراجعت إمدادات الغاز من روسيا بواقع نحو 49 في المائة».

وأشار مستوردون في ألمانيا وسلوفاكيا المجاورة إلى تخفيضات مماثلة في الحجم، حيث أصبحت أسواق الطاقة نقطة صراع بين روسيا وغرب القارة. وقالت الوزارة إن مستويات التخزين استمرت في الارتفاع، يوم الجمعة، وإن ذلك بوتيرة أبطأ، ووصلت إلى نحو 41 في المائة من القدرة الاستيعابية.

ولا يزال العرض يتجاوز الطلب الموسمي، وستدرس الحكومة تنفيذ قيود على المستخدمين الصناعيين، فقط إذا كان هدف الوصول إلى مستويات تخزين 80 في المائة بحلول بداية الشتاء في خطر.

– ألمانيا تتهم روسيا برفع أسعار الغاز

يرى رئيس الوكالة الألمانية الاتحادية للشبكات، كلاوس مولر، أن روسيا تتبع استراتيجية واضحة في خفض إمدادات الغاز. وقال مولر في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية أمس السبت: «روسيا تورد كميات أقل بكثير من الغاز لألمانيا وأوروبا منذ أيام. هذا من شأنه أن يزعجنا ويرفع الأسعار. لهذا السبب تنظم الحكومة الألمانية (استيراد) المزيد من الغاز المسال، كما دخل قانون تخزين الغاز حيز التنفيذ. توفير الغاز وتخزينه لفصل الشتاء هو أمر مُلح اليوم».

وارتفاع أسعار الغاز في الأيام الأخيرة، جاء نتيجة عدة عوامل أهمها، إعلان شركة الغاز الروسية العملاقة غازبروم أن مشكلات فنية قد تؤدي إلى انخفاض تدفقات الغاز إلى ألمانيا عبر خط نورد ستريم بنسبة 40 في المائة. والانفجار الذي وقع في إحدى منشآت تصدير الغاز الطبيعي المسال بولاية تكساس الأميركية خلال الأسبوع الماضي، سيؤدي إلى انخفاض تدفق الغاز المنتظر من الولايات المتحدة خلال الأسابيع المقبلة. علاوة على ذلك تراجعت إمدادات الغاز الطبيعي القادمة من النرويج بسبب أعمال الصيانة الدورية لعدد من منشآت قطاع الغاز في البلاد. وخفضت شركة غازبروم الروسية، المملوكة للدولة، تدفق الغاز عبر خط أنابيب «نورد ستريم 1» عبر بحر البلطيق خلال الأيام الماضية. وقد تم تبرير ذلك بالتأخير في إصلاح توربينات الضاغط. وصنف وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك هذا الخفض على أنه ذو دوافع سياسية.

ووصفت الوكالة الألمانية للشبكات مجدداً أمس السبت وضع الإمدادات بأنه «متوتر». وبحسب تقريرها اليومي، فإن إمدادات الغاز مستقرة في الوقت الحالي، حيث إن أمن التوريد في ألمانيا مضمون حالياً.

وكانت غازبروم قد خفضت في السابق تدفقات الغاز عبر خط أنابيب نورد ستريم إلى 40 في المائة من الحد الأقصى للإنتاج.

وبحسب الوكالة الألمانية للشبكات، فإن الشركات المتضررة من عدم التسليم يمكنها حالياً شراء هذه الكميات من أماكن أخرى في الأسواق. وذكرت الوكالة أن أسعار الجملة ارتفعت بشكل ملحوظ نتيجة انخفاض العرض واستقرت مؤخراً عند مستوى أعلى، مضيفة أنه لا يزال من الممكن تخزين الغاز. وتبلغ مستويات التخزين الحالية في ألمانيا نحو 7.‏56 في المائة.

– محاولات أوروبية متسارعة

تدرس أوروبا تقليل الاعتماد على الطاقة الروسية، من خلال تنويع مصادرها الاستيرادية، كان آخر الإجراءات يوم الأربعاء الماضي، من خلال توقيع اتفاقية ثلاثية مع مصر وإسرائيل تقوم بمقتضاها القاهرة وتل أبيب بتصدير وإعادة تصدير الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي، تحت مظلة منتدى غاز شرق المتوسط.

وقالت أورسولا فون ديرلاين رئيس المفوضية الأوروبية، إن توقيع المذكرة يأتي في وقت صعب للاتحاد الأوروبي الذي يبحث عن تأمين مصادر موثوقة لإمدادات الطاقة في ظل المتغيرات العالمية الحالية، ولفتت إلى التعاون بين دول شرق المتوسط في البنية التحتية، وأن هذا «الاستثمار الكفء سيؤكد على تنفيذ مشروعات الطاقة وتوفير موارد جديدة للطاقة ومتوازنة للمستهلكين». وقالت إن الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة هو «أكبر وأهم زبون لروسيا» في إمدادات الطاقة، لكن الغزو الروسي لأوكرانيا، حفز التكتل على التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري الروسي بما يشمل تعزيز واردات الغاز الطبيعي من شرق البحر المتوسط.

قفزت قيمة صادرات مصر من الغاز الطبيعي والمسال بنسبة 98 في المائة خلال أول أربعة أشهر من العام الجاري، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي لتصل إلى 3.892 مليار دولار. حصلت أوروبا على 71 في المائة من صادرات الغاز الطبيعي المسال المصري هذا العام.

——————————-

في مسار أستانا: العملية العسكرية التركية تبحث عن موافقة إيران/ منهل باريش

تسعى موسكو إلى توسيع دائرة الرافضين للعملية العسكرية التركية من خلال نقل النقاش حوله إلى العاصمة الكازاخية بحضور إيران التي عبرت عن رفضها لأي عملية عسكرية تركية في سوريا.

لم تتمكن تركيا من الحصول على موافقة روسية، تسمح لها بهجوم جديد ضد «وحدات حماية الشعب» الكردية وتوسيع «المنطقة الآمنة» التي تسعى لإقامتها داخل الأراضي السورية بعمق 30 كم على طول حدودها الجنوبية مع سوريا.

وأجرى وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف اجتماعا مطولا مع نظيره وزير الخارجية التركية، مولود جاووش أوغلو، في العاصمة أنقرة، الأربعاء، رافق لافروف وفد عسكري ممثلا عن وزارة الدفاع، يتبع البحرية الروسية.

وأعرب لافروف عن تفهم بلاده «مخاوف أصدقائنا (قاصدا الأتراك) بشأن التهديدات التي تشكلها قوى خارجية على حدودهم» وانتقد «تغذية النزعات الانفصالية في المناطق التي تسيطر عليها القوات الأمريكية بشكل غير قانوني في سوريا». إلا انه لم يؤيد شن تركيا عملية عسكرية في الشمال السوري.

وعن التفاهمات الروسية التركية أفاد لافروف أن الاتفاقات مع تركيا بشأن إدلب «تنفذ ببطء، لكن الطرفين ملتزمان بها». منوها إلى «إبرام أكثر من اتفاق خلال لقاءات بين الرئيسين رجب طيب اردوغان وفلاديمير بوتين، بما فيها مذكرة سوتشي عام 2019 التي تناولت ضرورة حل المشكلة في منطقة خفض التصعيد في إدلب. في كلتا الحالتين، يتم تنفيذ الاتفاقات المبرمة ببطء».

وفي السياق، نشرت صحيفة «خبر تورك» في اليوم التالي لانتهاء الاجتماع بين الوزيرين «تسريبات» حول تأكيد جاووش أوغلو نية تركيا شن هجوم على المناطق التي تنطلق منها الهجمات في تل رفعت ومنبج وتسيطر عليهما «الوحدات «الكردية. ونقلت الصحيفة عدم اعتراض موسكو على الحجج التي قدمتها أنقرة.

ولفتت الصحيفة إلى أن «تركيا تتعرض لهجمات من تل رفعت التي تبعد عن الحدود التركية مسافة 18 كيلومتراً، ومنبج التي تبعد 28 كيلومتراً، وأن وقف الهجمات المسلحة يتطلب قيام منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً». ولم يتطرق الاجتماع إلى الحديث عن باقي المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية «قسد» وهو المظلة العسكرية الأكبر وتضم مجموعات عسكرية عربية وأخرى سريانية إضافة لوحدات حماية الشعب الكردية.

وتلمح الصحيفة التركية إلى أن لافروف فضل مناقشة المخاوف الأمنية التركية خلال الجولة المقبلة من مسار أستانا، بحضور إيران بوصفها الدولة الضامنة الثالثة لذلك المسار، حيث قررت الجولة المقبلة في العاصمة الكازاخية منتصف حزيران (يونيو) الجاري.

إلى ذلك، ترفع الصحافة التركية من حظوظ العملية العسكرية وتشير إلى انتهاء الجيش التركي والجيش الوطني السوري المعارض من إتمام الاستعدادات لبدء الهجوم، وهو ما أكده وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، الأسبوع الماضي الذي أشار إلى ان الجيش التركي بانتظار القرار السياسي لشن الهجوم. وفي تفاصيل الخطط المعدة، حددت صحيفة «صباح» المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، أن «العملية تستهدف السيطرة على سد تشرين الواقع على نهر الفرات في ريف منبج، من أجل حل مشكلتي الكهرباء والماء، التي تعاني منها منطقة درع الفرات منذ سنوات، وإعادة ضريح الشاه سليمان إلى مكانه» ولم تستبعد الصحيفة قطع الطريق الواصلة إلى مدينة عين العرب، وأوضحت ان عمق العملية التركية سيقف عند مشارف نبل والزهراء الشيعيتين، وهما قاعدتان أساسيتان للميليشيات الإيرانية شمال حلب ولم تتخل عنهما إيران وفشلت المعارضة في السيطرة عليهما رغم المحاولات المتعددة وتسببا في تسهيل حصار حلب في صيف عام 2016 وإجبار المعارضة على الاستسلام والخروج منها.

في الميدان، صعد الجيش التركي وفصائل الجيش الوطني السوري من قصفهما على محيط منبج وخطوط الاشتباك مع «قسد» واتهم المجلس العسكري لمدينة منبج وريفها التابع لـ«قسد» الجيش التركي والجيش الوطني باستهداف القرى المأهولة بالسكان بشكل يومي بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وأضاف في بيان رسمي نشرته معرفاته الرسمية على وسائط التواصل الاجتماعي، أن مدفعية الطرفين أطلقت 445 قذيفة على المناطق التي يسيطر عليها المجلس المذكور. في المقابل تحلق القاذفات الحربية الروسية بشكل يومي على خطوط التماس حسب ما رصدت «القدس العربي» وتحدثت مع سكان محليين ونشطاء.

وتحاول روسيا، دعم النظام السوري من خلال الضغط على «قسد» لتسليمه المناطق وتجنيب المنطقة لعملية عسكرية، إلا أن «قسد» تحاول إدخال قوات النظام في بعض المناطق أو ترفع أعلام النظام على المباني الرئيسية في تل رفعت ومحيط منبج.

من جهة أخرى، تسعى موسكو إلى توسيع دائرة الرافضين للعملية العسكرية التركية من خلال نقل النقاش حوله إلى العاصمة الكازاخية بحضور إيران، حيث عبرت الأخيرة عن رفضها لأي عملية عسكرية تركية في سوريا باعتبارها ستؤدي إلى عدم الاستقرار في المنطقة. وتخشى إيران من توسع النفوذ التركي بالقرب من مناطق سيطرتها أو بالقرب من حلب، إذ تنشر نقاط مراقبة عسكرية حسب التفاهمات بين الجانبين في ربيع 2018 ومن المعلوم أن إيران أنشأت خمس نقاط مراقبة ثلاث منها في ريف حلب الشمالي، ورغم التركيز على نقطتي نبل والزهراء، إلا أن إيران أنشأت نقطة مراقبة ثالثة في بلدة ماير على طريق حلب-غازي عنتاب التركية وهي النقطة الاستراتيجية الهامة للغاية التي سعت من خلالها إيران لمنع أي تقدم تركي باتجاه حلب. وفي سياق التحكم بالطرق المؤدية إلى حلب، أنشأت إيران النقطة الرابعة في «أكاديمية الهندسة العسكرية» الواقعة على طريق حلب-دمشق.

ومن غير المستبعد أن تأجل أنقرة عمليتها العسكرية قليلا، وتركز على دورها في عملية نقل القمح الأوكراني وفق الآلية التي اقترحتها الأمم المتحدة وهو ما سيقوي موقفها السياسي أيضا ويعطيها قوة ويرفع من دورها وحضورها داخل حلف شمال الأطلسي «الناتو». فإنجاز الطريق الآمن لسفن القمح سيقوي موقفها الدولي بشكل كبير بوصفها منقذة العالم من المجاعة المحتملة التي سيسببها عدم مقدرة الدول على الحصول على القمح الأوكراني.

ان إحالة البت في العملية العسكرية التركية إلى مسار أستانا للحصول على موافقة إيران يأتي في إطار تخفيف الإحراج الروسي من تركيا، خصوصا وأن أنقرة تلعب دورا هاما في الحرب الأوكرانية، ولا ترغب موسكو في خسارتها بسبب ممانعتها للعملية العسكرية، فوضعت طهران في فتحة المدفع التركي المصوب نحو «قسد» في تل رفعت ومنبج.

القدس العربي

————————–

حل سوري بعيد/ عبسي سميسم

لم تخرج اجتماعات أستانة التي انتهت يوم الخميس الماضي، بأي قرارات من شأنها أن تحرز تقدماً في أي من الملفات التي تحملها المعارضة السورية في كل جولة من جولات هذا المسار، الذي حقق من خلاله نظام بشار الأسد انتصاراً كبيراً على المعارضة بطردها من معظم “مناطق خفض التصعيد” التي كانت تسيطر عليها، ليتم تهجير أكثر من مليوني سوري من سكان تلك المناطق وحشرهم في الشمال السوري.

وجاء البيان الختامي لاجتماعات أستانة الأخيرة عبارة عن كلام إنشائي مكرر حول الالتزام بوحدة الأراضي السورية ورفض التوجهات الانفصالية، والالتزام بمحاربة الإرهاب، وبالتهدئة في آخر مناطق خفض التصعيد. في حين لم يتطرق البيان الختامي لذكر العملية العسكرية التي تنوي تركيا القيام بها في الشمال السوري، كما لم يأتِ على ذكر ملف المعتقلين ولا مناطق ريف إدلب الجنوبي التي استولى عليها النظام خارقاً اتفاقات أستانة والتفاهمات الروسية التركية، ما يعني أن الضامن التركي يتعامل معها كأمر واقع على الرغم من وعوده بمساعدة المعارضة باستعادتها.

إلا أن الجديد في الجولة الأخيرة من أستانة هو وضع وفد المعارضة بمزيد من الإحراج، عبر طرح إيران أن تكون الجولة المقبلة في طهران، ومطالبة روسيا بتغيير مكان اجتماعات جنيف ونقلها إلى بلد آخر، وتأييد النظام بطريقة ببغاوية لهذا الطرح.

ويؤدي ذلك إلى إدخال اللجنة الدستورية المعطلة أصلاً بمزيد من التعطيل والمماطلة التي يتناوب عليها النظام وروسيا منذ بداية عمل اللجنة، سواء من خلال إدخال اللجنة بأجندات شرح المشروح، مثل الاتفاق على البديهيات والثوابت الوطنية، التي عطّل النظام من خلالها عمل اللجنة لأكثر من سنة، أو من خلال طرح مسائل غير دستورية لا علاقة لها بعمل اللجنة وخلق خلافات عليها بهدف تمرير جلسات لا طائل منها.

من جهتها، كانت موسكو تختلق بين الحين والآخر الذرائع لتعطيل عمل هذه اللجنة والتي جاء آخرها الطلب الروسي بتغيير مكان اجتماعات اللجنة من جنيف إلى بلد آخر. هذا الأمر يشير إلى أن موسكو ما زالت اللاعب الرئيسي في القضية السورية على الرغم من انشغالها بغزو أوكرانيا، وأن الحل السياسي وفق قرارات الشرعية الدولية في سورية ما زال بعيداً، فيما الإرادة الدولية لفرضه ليست متوفرة حتى اللحظة.

العربي الجديد

——————————–

التغييرات المحتملة في سوريا… خارجية/ إبراهيم حميدي

بعد 11 سنة على بدء الاحتجاجات واندلاع النزاع، وبعد أكثر من سنتين على ثبات خطوط التماس بين مناطق النفوذ الثلاث في البلاد، هل هناك تغيير محتمل؟ هل هو خارجي أم داخلي؟

حصلت تقلبات عسكرية وسياسية كثيرة في العقد الماضي. توسعت مناطق وتقلصت أخرى. ارتفعت توقعات وانخفضت أخرى، إلى أن استقر المشهد السوري على تقسيم البلاد إلى «دويلات» ثلاث: واحدة تحت سيطرة الحكومة بدعم روسي وإيراني، وثانية تحت إدارة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية بدعم التحالف الدولي الذي تقوده أميركا، وثالثة، تحت سيطرة فصائل مقاتلة وإسلامية وجيوب متطرفة بتأييد تركي.

الجمود على خطوط التماس بين «الدويلات» الثلاث، صار له أكثر من 27 شهراً، وهي أطول فترة تستقر فيها السيطرة الجغرافية منذ 11 سنة. وتقوم هذه المناطق على مدن وقرى وأحياء مدمرة، تغييرات ديموغرافية، نازحين ولاجئين. أكثر من 12 مليون شخص تركوا بيوتهم، هم نصف عدد السكان السوريين. أيضًا، هناك أكثر من سبعة ملايين شخص غادروا البلاد، بينهم أكثر من مليون إلى الدول الغربية.

سيل الهجرة، لم يتوقف وإن كانت أسبابه باتت اقتصادية وليست عسكرية أو سياسية. الجامع بين السوريين حيثما كانوا هو المعاناة من الأزمة الاقتصادية، حتى إن التطبيع العربي لم يحل مشكلتهم الاقتصادية، كما أن المدد الذي كان سيأتي به «أنبوب الغاز العربي»، تبدد طالما أن سيف «قانون قيصر» الأميركي والعقوبات الغربية قائمان، إلى حد أن البلاد غرقت في الظلام لساعات يوم أمس. هناك تعاون واتفاقات وتجارة وتفاهمات بين «الدويلات» الثلاث. والفاعلون في كل منها يتصرفون على أن الجمود مستمر إلى فترة طويلة، وأن «الفرج سيأتي من الغير».

هل من تغيير محتمل على هذه الصورة؟

الواضح، أن المعادلات استقرت على توازنات بعد مقايضات خارجية، ولم يعد السوريون قادرين على القيام بأي تغيير جوهري فيها. بالتالي، فإن التغيير الوارد، مصدره خارجي وهناك أربعة احتمالات آتية من أربع قوى عسكرية خارجية:

أولاً، تركيا: يتحدث المسؤولون الأتراك مراراً عن احتمال شن عملية عسكرية في شمال البلاد. هم يعتقدون أن الحرب الأوكرانية والصدام الروسي – الغربي فيها، أديا إلى تقوية أوراقهم التفاوضية في سوريا والإقليم. يحاولون الاستثمار في ذلك، عبر شن توغل يضعف أي كيان كردي محتمل على حدودهم الجنوبية شمال سوريا. هناك تركيز تركي على منبج الخاضعة لسيطرة حلفاء أميركا أو تل رفعت الخاضعة لسيطرة شركاء روسيا، إضافة إلى تصعيد شرق الفرات، الذي تسيطر عليه أميركا في شكل أعمق.

أي توغل تركي من دون تفاهمات من روسيا وشركائها وأميركا وحلفائها، سيؤدي إلى تغيير خطوط التماس، ويفتح الباب إلى تصعيد عسكري جديد. ما حدود التغيير؟ هل ستخلط الأوراق؟

ثانيًا، إيران: أمام انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية، واحتمال امتداد تلك الحرب، تحاول إيران وغيرها ملء الفراغ في سوريا. تقابل إسرائيل ذلك بتكثيف عملياتها العسكرية ضد «أهداف استراتيجية إيرانية» في سوريا، وكان آخرها ضرب مطار دمشق الدولي وعزل العاصمة السورية عن العالم.

بالتوازي، مع هذا، فإن «حرب الظل» بين طهران وتل أبيب انتقلت إلى قلب إيران مع حديث إسرائيلي عن استراتيجية «رأس الأخطبوط». إلى أي مدى يبقى التصعيد الإيراني – الإسرائيلي في سوريا، مضبوطاً من روسيا؟ هل تتحول سوريا إلى ساحة لصدام مباشر واحتمال شن إيران هجمات «مسيرات» من الأراضي السورية؟

ثالثًا، روسيا: هناك اتفاق «منع صدام» بين الجيشين الروسي والأميركي منذ منتصف 2017، غرب نهر الفرات لموسكو، شرق الفرات لواشنطن. حصلت بعض المناوشات، لكن استراتيجياً كان هناك التزام بالاتفاق. الجديد، أنه أمام التصعيد بين الطرفين في أوكرانيا، بدأت روسيا تختبر الأميركيين عسكرياً في سوريا سواء فوق قاعدة التنف جنوب شرقي سوريا أو شمالها. إلى أي حد يبقى التوتر مضبوطاً بينهما؟ هل تتحول سوريا ساحة للانتقام سواء من أميركا أو روسيا؟

رابعاً، أميركا: منذ وصول الرئيس جو بايدن، استقر الوجود العسكري الأميركي في سوريا خصوصاً بعد «الإهانة الأفغانية»، على عكس ما كان عليه الحال زمن إدارة الرئيس دونالد ترمب، عندما كان وجود جيشه وجيوش حلفائه رهن تغريدة. هل يبقى قرار بايدن صامداً أمام مغامرات الرئيس المجروح فلاديمير بوتين؟ هل تتغير الأمور بالانتخابات الرئاسية المقبلة بعد نحو سنتين؟

يعرف السوريون، معظمهم أو بعضهم، أنهم خارج اللعبة والقرار في بلادهم، وأن سوريا تحولت من لاعب إلى ملعب. كل طرف منهم يراهن على مفاجأة يحملها حليفه العسكري الخارجي، وعلى نكسة تضرب خصمه المحلي بأدوات خارجية. بين الضربة والنعمة، يسهر السوريون في قعر المعاناة وينامون في الظلام… بانتظار الفرج.

الشرق الأوسط

—————————-

بعد هجمات “مستفزة”.. هل تشتعل الحرب بين أميركا وروسيا على الأراضي السورية؟

قال أندريه باكلانوف نائب رئيس جمعية الدبلوماسيين الروس إن الأوضاع في سوريا تقترب من تطورات خطيرة للغاية، فاحتمال المواجهة المباشرة بين أميركا وروسيا أكبر بكثير في سوريا بالمقارنة معها في أوكرانيا.

وأشار في حديثه لحلقة (2022/6/18) من برنامج “ما وراء الخبر” إلى أن روسيا لن تخفض من التواجد العسكري والسياسي في سوريا، بل ستحرص على زيادة عناصرها هناك إذا كان ذلك ضروري.

وانتقد باكلانوف وجود القوات الأميركية والتركية على الأراضي السورية، واصفا إياه بأنه غير قانوني، لأن الحكومة لم تطلب منهما ذلك على حد رأيه، معتبرا أن الأوان قد آن لتغيير هذا الوضع بسحب هذه القوات، وإلا فسيؤول الأمر إلى مواجهات عسكرية مباشرة، بحسب قوله.

وكانت مصادر أميركية كشفت أن القوات الروسية نفذت الشهر الجاري هجمات ضد مواقع تابعة لقوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في سوريا من بينها قاعدة التنف، وأشارت إلى أن هذه الهجمات أثارت قلق واشنطن من إمكانية وقوع مواجهة أميركية روسية نتيجة سوء التقدير على الأراضي السورية.

بينما أعلن فصيل “جيش مغاوير الثورة” التابع للمعارضة السورية المسلحة، أن طائرات مجهولة قصفت فجر الخميس مواقع لهم في منطقة التنف عند المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، تضم قوات من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لقتال تنظيم الدولة.

في المقابل، أشار المبعوث الأميركي الخاص السابق إلى سوريا جيمس جيفري إلى أن الاستفزازات من الجانب الروسي تصمم بشكل دقيق، معتبرا أنه لا مؤشرات على انخفاض الوجود الروسي في سوريا، ولكنه وصفه بأنه وجود محدود وبإمكان أميركا وإسرائيل وتركيا إنهاءه في غضون ساعات فقط، لأن لديهم عددا محدودا من الطائرات.

ومضى يؤكد أن أميركا هي الأقوى على المستوى العسكري بين الأطراف في سوريا، مشددا على أن واشنطن لن تنسحب وسترد عسكريا في حال مهاجمة القوات الروسية لها.

استفزازات مستمرة

من جهته، قال الخبير العسكري والإستراتيجي اللواء فايز الدويري إن هذه الهجمات ليست الاستفزاز الأول، بل هي ضمن حراك نحو التصعيد وإجراءات أكثر وضوحا بمراميها السياسية، حيث جرت سابقا مناورات ليلية بين الطيران الروسي والسوري للتعامل مع الصواريخ والطائرات المسيرة.

وفي ربط للوضع السوري بحرب أوكرانيا، أوضح أن العلاقات الروسية الأميركية في أوكرانيا تجاوزت مرحلة الصدام غير المباشر، من خلال الانخراط الأميركي الواضح في تزويد الجيش الأوكراني بالأسلحة بشكل علني.

————————–

زئبقية العسكرة الخطيرة/ راغدة درغام

ما بين قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) أواخر الشهر الجاري وزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الشرق الأوسط منتصف الشهر المقبل توجد طيّات من تطورات قد تقلب كلياً مقاييس العلاقات الروسية مع الغرب عبر البوابة الأوكرانية، وأخرى قد تفتح صفحة جديدة في العلاقة الإيرانية – الإسرائيلية. الانفراج وارد في المسألتين لكن الانفجار يتأهّب ويتربّص بهما.

في المسألة الأوكرانية، تتزاحم الدبلوماسية المعسكرة لدول “الناتو” مع التحضير لـ”عمليات عسكرية خاصة” دفاعاً عن سيادة أراضي أوكرانيا وسلامتها في وجه الخطط العسكرية الروسية لقضم أراضي أوكرانيا، في حرب شرسة لا تزال روسيا تسمّيها رسمياً “عمليات عسكرية خاصة” وليس حرباً.

التسميات مهمّة مع اختلاف أهدافها. بينما حرص الكرملين على تجنّب صفة الحرب كان في ذهنه البُعد الداخلي بالدرجة الأولى حيث صاغ الرئيس فلاديمير بوتين عقداً اجتماعياً – سياسياً مع الشعب الروسي يعطيه صلاحية الحكم الأوتوقراطي برضا الناس وينصّبه مسؤولاً عن الدفاع عن روسيا في وجه “الغرب المعادي” الذي لا يحترم روسيا ولا يسمع لها بل يحقّرها، بحسب الخطاب السياسي لبوتين.

لم يرد الرئيس القويّ أن يعلن لشعبه أنه أدخل روسيا في حرب مع الغرب في أوكرانيا أو في ذهنه احتلال الأراضي بشراسة، فأصرّ على إضفاء صفة “العمليات العسكرية الخاصة”. وبحسب مصادر روسية، “تكمن المفارقة في أن داخل روسيا ليس هناك إدراك شعبي لحجم الحرب” التي تخوضها روسيا في أوكرانيا، “فالحكومة تريد تسوية هذه المسألة من دون مشاركة شعبية. ذلك أن انخراط الناس ووعيهم بما يجري سيؤدّيان الى تبعات مختلفة”. ووصف المصدر هذه المفارقة بأنها “سريالية قاطعة”.

ما يجري على الأرض في أوكرانيا ويدخل في إطار التصميم الاستراتيجي لروسيا يتطلّب بكل تأكيد التدمير الكامل لأوكرانيا والاحتلال الوحشي لسنوات آتية في وجه معارضة وحرب استنزاف. إنما المهم الآن للرئيس بوتين هو الربح والفوز بالأراضي والانتصار عسكرياً، لا سيّما في منطقة دونباس. رهان بوتين هو أن أوروبا لا تمتلك القدرات اللازمة لصدّ الاستراتيجية الروسية، وأوكرانيا ستتكبّد خسائر أكبر بكثير من الخسائر الروسية بالذات في المعركة على دونباس.

وعليه، إنه يرى ويقرأ المعادلة العسكرية بأنها في مصلحته لدرجة أنه قد لا يحتاج الى استخدام السلاح النووي التكتيكي. فهو في نظره منتصر يزحف للاستيلاء على الأراضي الأوكرانية الحيوية بأي ثمن، فيما الغرب يكتفي بضخ السلاح والمال والدعم السياسي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

المفاجأة قد تأتي أثناء قمّة “الناتو” المزمع عقدها في مدريد في 29 و30 حزيران (يونيو) الجاري والتي تتم الاستعدادات لها لتوجّه ردّاً قويّاً لبوتين ولمنع فوزه بدونباس ليزحف بعد ذلك الى خاركوف وكييف العاصمة. وبحسب مصادر مطّلِعة، فإن حلف الناتو يفكّر حالياً، ليس في كيفية ضمان الانتصار لأوكرانيا، وإنما في كيفية تعطيل العمليات العسكرية الروسية فوراً لإيقاف روسيا عن خططها واستراتيجيتها.

تقول المصادر إن دول “الناتو” تستعدّ “للتدخّل” في أوكرانيا في ما وصفته بأنه “عمليات عسكرية خاصة” حماية لسلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها بما يتطابق قانونياً مع ميثاق الأمم المتحدة. الأهم في هذه الاستراتيجية هو التمييز بين الهجوم العسكري على روسيا وبين الهجوم العسكري على القوات الروسية المعتَدية داخل أوكرانيا حصراً. في أي حال، إن دخول “الناتو” بصورة مباشرة على خط العمليات العسكرية الروسية سيكون تحوّلاً نوعيّاً في الحرب الأوكرانية وفي المواجهة مع روسيا.

المنطق وراء هذا التفكير في صفوف “الناتو” هو أنه لا مناص من إيقاف روسيا وخططها المروّعة لأوكرانيا فوراً وقبل إتمام قضم الأراضي وبدء الاحتلال. هذا أولاً. ثانياً، لا تريد دول حلف الناتو أن تتحمّل مسؤولية البدء بحرب عالمية ثالثة، لذلك تريد استفزاز روسيا لتقوم هي بتوجيه ضربة عسكرية الى دولة عضو في حلف الناتو، إنْ كان في بولندا أو دول البلطيق، فتكون هي البادئة بحرب عالمية ثالثة تتحمّل عواقبها وتكون المسؤولة عنها.

القرار الأساسي هو أن الغرب لن يسمح لروسيا بأن تلحق الهزيمة بأوكرانيا، ولذلك، تتوقع الأوساط الدبلوماسية والعسكرية والاستخبارية أن تخرج قمّة “الناتو” بقرارات كبرى على نسق التدخّل العسكري لـ”الناتو” ضد القوات الروسية داخل أوكرانيا حصراً. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: من يكون البادئ بتوسيع رقعة “العمليات العسكرية الخاصة” بين روسيا و”الناتو” الى خارج الأراضي الأوكرانية، وما هو توقيت مثل هذا التطوّر ومنطقه، ومن سيدفع الثمن الأكبر له؟

التدخل المباشر لـ”الناتو” ضد القوات الروسية في حرب أوكرانيا قد يكون كارثة للخطط العسكرية الروسية، لا سيّما أن المسافة لطائرات “الناتو” أقصر بكثير من المسافة للطائرات الروسية الى المواقع الأوكرانية العسكرية. وفي رأي الغرب، حتى وإذا استخدمت روسيا السلاح النووي التكتيكي داخل أوكرانيا، فإن المسؤولية التي ستقع على أكتاف روسيا بسبب مثل هذا التطور، ستزيد من عزل روسيا وتحميلها العواقب. فبالنسبة الى “الناتو” من المهم قدرة الحلف على القول: روسيا فعلتها وعليها تقع المسؤولية.

قرار دخول “الناتو” طرفاً مباشراً ضد روسيا في الحرب الأوكرانية ليس سهلاً، بل قد يكون مُكلِفاً لبعض القيادات، من بينها القيادة الأميركية. لكن خسارة أوكرانيا الى روسيا مغامرة أكبر للقيادات في حلف الناتو ومن بينها الرئيس جو بايدن. وبحسب تقديرات “الناتو”، سيكون الحلف هو الرابح في نهاية المطاف إذا حسم المعركة العسكرية ضد القوات الروسية. أما في السيناريو النووي، فيرى الغرب أن في حال استخدام موسكو السلاح التكتيكي، فإن عزل روسيا سيكون كاملاً بمعنى قطع روسيا عن العالم بما في ذلك قطع الإنترنت عنها… وربما حينذاك يستيقظ الشعب الروسي ليدرك أبعاد حرب بوتين في أوكرانيا.

فلاديمير بوتين لن يتراجع أمام الغرب مهما كان. قد يحاول الاستفادة من عروض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنوع من الوساطة وعقد لقاء بين بوتين وزيلينسكي، إنما حصراً ضمن شروطه المرفوضة من قِبَل زيلينسكي. يسعى بوتين لاستخدام نظيره التركي رجب طيب أردوغان لوضع العصا في دواليب خطط “الناتو”، لذلك يغض النظر عن التوسّع التركي في سوريا – وأنقرة مرتاحة وتستغلّ الفرصة بامتياز.

أما في مسألة التوتّر الإيراني – الإسرائيلي، لا يزال فلاديمير بوتين يرى أن تطوّر التوتّر الى مواجهة يخدم مصالحه، وهو رغم استعداده لمباركة اختتام مفاوضات فيينا بصفقة غربية نووية – نفطية مع إيران ليبدو رجل دولة ولاعباً دولياً، فإنه لا يمانع انهيار الصفقة ويرحب بالتصعيد بين حليفه الإيراني وبين إسرائيل التي خذلته، في رأيه. فأي ما يشكّل احراجاً وصعوبة للرئيس جو بايدن، إنما هو موضع استحسان لدى الرئيس فلاديمير بوتين.

أين وصلت مفاوضات فيينا بين إيران وكل من الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا؟ إنها في مرحلة بالغة الدقّة ولربما في العناية الفائقة لكنها لم تدخل بعد الموت السريري منه والنهائي. حتى الآن، لا تزال طهران تتمنى وتسعى وراء رفع العقوبات عنها لكنها لم تتمكن بعد من إيجاد صيغة الخروج من أزمة التصعيد التي اختلقتها مضطرةً، نزولاً عند إصرار “الحرس الثوري” شطب اسمه من قائمة الإرهاب. هذا الى جانب الأزمة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA وعقدة آليات مراقبة برنامج إيران النووي.

الرئيس الأميركي يبحث مع فريقه ودول معنية في الخطة “باء” كما تسوّق إدارته إعلامياً ضمن وسائل الضغط على طهران. زيارته الى إسرائيل وإلى السعودية تأتي في إطار أوسع من مجرد الضغط من أجل الصفقة النووية. فهي زيارة التأكيد على ترسيخ علاقة التحالف النوعية الاستراتيجية مع إسرائيل. وهي زيارة استدراك للأخطاء التي وقعت فيها إدارة بايدن في مطلع تقويمها للعلاقات الأميركية – السعودية والأميركية – الخليجية والتي انطلقت في اتجاهٍ سلبي. فالمحطة السعودية محطة إعادة العقارب الاستراتيجية في الموازين الأميركية – السعودية وفي موازين علاقات واشنطن مع دول الخليج العربية. إنها أيضاً زيارة إبلاغ الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن الكيل طفح معها، وأن سلوكها الإقليمي قد فرض نفسه عمليّاً على المحادثات النووية.

القيادات الإيرانية متوتّرة بسبب المواقف الأميركية كما بسبب الممارسات الإسرائيلية الموجّهة ضد إيران في سوريا وفي الداخل الإيراني- لذلك أن طهران تتأهّب للرّد عبر ساحات الحروب بالنيابة، وكذلك تتأهّب للرد المباشر على إسرائيل في خطوة نوعية.

أحد المصادر المطّلِعة على التفكير في صفوف “الحرس الثوري” الإيراني نقلت عنه أنه يجهّز “لشيء جدّيّ” الأرجح بعد 20 حزيران. الأجواء الإيرانية – الإسرائيلية لا تبشّر خيراً، بل إن ملامح المواجهة العسكرية تزداد لا سيّما في أعقاب العملية العسكرية الإسرائيلية ضد مواقع إيرانية في مطار دمشق والتي أدّت الى إغلاقه.

ما قد يلجم المواجهة هو زيارة بايدن، ذلك لأن إسرائيل قد تقرّر أن إحراج الرئيس الأميركي ليس في مصلحتها، وأن تدمير الصفقة النووية مع إيران برمتها سيورّطها عسكرياً. فإسرائيل ترى أن رعاية إدارة بايدن لتطوير علاقاتها مع الدول العربية، بالذات الخليجية، مسألة فائقة الأهمية لا تريد أن تعرّضها للتصدّع.

أما إيران، فإنها قد تقرر أن مصلحتها تقتضي الصبر الاستراتيجي الذي تتباهى به، وأن إبرام الصفقة النووية لرفع العقوبات الاقتصادية عنها يقع في مصلحتها أكثر من خيار الانتقام عسكرياً من إسرائيل أو أميركا، في حروب مباشرة أو حروب بالنيابة.

زئبقية التوعّد والتفاوض ليست مطمئنة، والخوف ليس فقط من استمرار لبنان والعراق وسوريا واليمن في دفع الفاتورة الإيرانية وإنما من إندلاع مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، بالرغم من استبعادها لأسباب تاريخية في العلاقة بين البلدين والشعبين.

أفسنخاف ونخاف كثيراً من مواجهات غير اعتيادية في الساحتين الأوروبية والشرق أوسطية؟ أو أن هناك قطبة خفيّة لاحتواء المواجهات الكبرى؟ عسى خيراً في زمن زئبقية عسكرة الديبلوماسية.

النهار العربي

—————————

جهود روسية لوقف عملية تركية محتملة شمالي سوريا

كشف مبعوث روسيا الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف الخميس أن موسكو حاولت إقناع تركيا بـ”إلغاء” خطط العملية العسكرية المرتقبة شمالي سوريا، وذلك خلال الجولة الـ18 من محادثات أستانة  في كازاخستان، وفقًا لوكالة “تاس” للأنباء. حيث قال المبعوث الروسي”حاولنا إقناعهم بأنه يتعين حل الأمر عبر وسائل سلمية دون اللجوء إلى العنف، لأن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد”.

وكانت الجولة الـ 18 من مسار أستانة قد انطلقت الأربعاء في العاصمة الكزخية نور سلطان، بين كل من روسيا وتركيا وإيران والنظام السوري والمعارضة السورية. وجاءت التطورات الميدانية في الشمال السوري، وعلى رأسها العملية العسكرية المرتقبة ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على رأس أجندة الجولة الجديدة من مسار أستانة.

في الأثناء اعتبرت موسوكو أن عملية تركيا العسكرية المحتملة في سوريا “عملاً غير حكيم”، وجاء موقف موسكو على لسان المبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، الذي قال في تصريح لوكالة الأنباء الروسية، “إنّ روسيا تعتبر عملية تركيا العسكرية المحتملة في سوريا عملاً غير حكيم، لأنها قد تتسبب في تصعيد الوضع وزعزعة الاستقرار”. كما صرّح أن موسكو “لم تعد تعتبر جنيف مكانًا مناسبًا للمحادثات بين السوريين”، وفق ما ذكرته وكالة تاس للأنباء.

وتواجد المبعوث الروسي إلى سوريا في عاصمة كازخستان نور سلطان لحضور الجولة الـ 18 من مسار أستانة التي استمرت طيلة يوميْ الأربعاء والخميس، علمًا بأن هذا المسار الذي تعتبر تركيا وإيران وروسيا الأطراف الضامنة فيه لم يوصل بعد 5 سنوات من انطلاقه إلى أي إجراءات على الأرض. وتفيد المصادر التركية أن موعد العملية العسكرية التركية المرتقبة سيكون فترة ما بعد عيد الأضحى المقبل، وتستهدف العملية بشكل متزامن منطقتيْ تل رفعت ومنبج.

وبحسب المتحدّث باسم وفد المعارضة السورية المشاركة باجتماعات “أستانة” أيمن العاسمي، فإن “أجندة اجتماعات أستانة 18 تدور حول ما يجري في الشمال وما يمكن أن يجري، وضرورة تطهير المنطقة من تهديد المجموعات الانفصالية الإرهابية (في إشارة إلى قوات قسد)، حتى نتمكن من إيجاد أرضية لحل سياسي”، حسب تعبيره.  وأشار العاسمي في حديث لصحيفة العربي الجديد إلى أن ملف اللاجئين السوريين حاضر في الاجتماعات لـ”العمل عليه بطريقة جدية”، مضيفًا أن عملية التضليل التي يقوم بها النظام من خلال إصدار عفو لن تجدي نفعًا، فالأمر يحتاج إلى معالجة حقيقية.

وحمّل العاسمي روسيا مسؤولية “مناورات النظام في هذا الملف”، وأكد أن ملف المساعدات الإنسانية إلى الشمال السوري واحتمال استخدام روسيا الفيتو (حق النقض) ضد تجديد الآلية الدولية لدخول هذه المساعدات، كانت من أبرز الملفات في الجولة الجديدة من أستانة.

—————————–

====================

تحديث 20 حزيران 2022

—————————

الاختلاف الجوهري بين عقدة بطرس الأكبر وبوتين/ فارس الذهبي

في منتدى بيترسبورغ الاقتصادي، الذي عقد في العشر الثاني من شهر حزيران، والذي تعرض لهجوم سيبراني غامض أدى إلى تأجيل كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قليلاً، كانت هنالك مجموعة كبيرة من الرسائل والدعوات المحضرة مسبقاً، تضم ما يشبه تحالفاً للدول التي لم تعلن بعد الغضب على الغزو الروسي المفتعل على أوكرانيا.. والذي قامت به قوات الرئيس الروسي بوتين في بدايات شهر شباط 2022.

اعتلى بوتين المنصة وألقى كلمة استمرت قرابة 72 دقيقة، أوضح فيها بطريقته المسهبة والتي تبدو مخاطبة للتاريخ أكثر من مخاطبتها الحضور الجاثم أمامه، والتي أيضاً كانت محملة برسائل سياسية وجيوسياسية إمبريالية من تلك التي يعشقها الرئيس بوتين، والتي شغلت عقله وبباله طوال فترة حكمه الممتدة من بدايات الألفية الجديدة.. بعد أن كان ضابط استخبارات روسية شهد في يوم من الأيام سقوط المجد السوفييتي في واحدة من أكلح لحظات السوفييت قتامة.

وكما هي عادة أغلب الطغاة المنتفضين بحكم التاريخ والرفض لـ(الجيوبولتيك الظالم) الذي أدى إلى تغيير حياتهم من منحى إلى آخر، كما حصل مع هتلر غداة شهادته على هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ورغبة موسوليني في استعادة المجد الروماني بعد مشاهداته المؤلمة لواقع الأمة الإيطالية، كان فلاديمير بوتين شاهداً في ذات يوم من أيام العام المفصلي 1989، على التغيير الحاسم في السياسة العالمية في برلين حينما كانت جموع الشباب الألماني تفكك جدار برلين الشهير قطعة قطعة وسط الأغاني والفرح ورقصات النصر على النظم الشمولية، وانتهاء حقبة الانغلاق السوفييتي، والبؤس الاقتصادي، كان بوتين ذاته يجلس مدمع العينين يراقب من المركز الأمني السوفييتي الاستخباري، كيف يتحول العالم من شكل إلى آخر، وكيف تغرق بلاده في بحر من الظلمات بعد عقود من الاحتضار السياسي والاقتصادي وسوء الإدارة، معللاً كل ما يجري بنظرية المؤامرة التي سكنت تفكيره، دون أن يرى مثالب ونواقص البنية الهيكلية للاتحاد السوفييتي وإمكانية تفاديها لاحقاً.

فيما بعد ستبقى هذه اللحظات حية في وجدانه بعد أن قضى عقوداً يُمني النفس بتعديل كفة ما جرى فيما بعد من تفكك للاتحاد السوفييتي وتحول روسيا ودول حلف وارسو من حصن شرقي، إلى دول تدور في فلك الغرب صاحب الاقتصاد الحر وحرية التعبير وحقوق الإنسان، رغم كل ما يكتنف ذلك من مشاعر مضادة لنهوض دول تبنت فكراً معادياً للفكر الذي تربى عليه، ونجاحهم في تحقيق بحبوحة اقتصادية واجتماعية لشعوبهم، حتى باتت دول من مثل رومانيا وبلغاريا ودول البلطيق الثلاثة وأوكرانيا ومولدافيا وبقية دول يوغسلافيا السابقة، دولاً ذات وزن ودساتير واقتصاد حر وتبادل تجاري كبير وبرلمانات منتخبة، بينما بقي هو يتجاوز الصعوبات واحدة تلو الأخرى، مثله مثل الأبطال التراجيديين الذين يسعون إلى مصيرهم بثبات كبير هائل، حتى اعتلى سدة الحكم وبدأ مسيرته البطيئة الهادئة في محاولات تعديل الكفة واستعادة الشرق لمواجهة الغرب كما يقول دائماً.

في خطبة سان بيترسبورغ، تحدث بوتين عن أسباب غزوه لأوكرانيا، حيث سماها(العملية العسكرية الخاصة لتحقيق السلام في أوكرانيا) وتحدث عن انتهاء حقبة القطب الأوحد، ودخول العالم في نظام عالمي جديد، يعتمد على الثنائية التي كانت موجودة في فترة المواجهة السوفييتية الأميركية.

برر بوتين غزو موسكو لأوكرانيا بالقول إن بلاده تحاول الآن استعادة “أراضيها الأصلية”، تماما كما فعل حاكم روسيا بطرس الأكبر في بداية القرن الثامن عشر.

وأشار بقوة إلى المكان الذي يعقد فيه المنتدى الذي خطب فيه الرئيس الصيني عبر اتصال الفيديو، بحضور الرئيس الكازاخستاني توكيمييف إلى أن أراضي سان بيرتسبورغ، كانت تحت السيطرة السويدية ولكن بطرس الأكبر استعادها بسبب وجود سكان من الروس فيها، على الرغم من عدم اعتراف الدول الأوروبية حينئذ بهذا الضم والاستعادة إلا أن الواقع فرض نفسه على حد قوله، و(ها نحن مجتمعون هنا في بطرسبورغ عاصمة روسيا الثانية)، في إشارة إلى أن عمليات الضم التي يقوم بها للأراضي المجاورة في جورجيا وأوكرانيا واليابان، والتي رفضها ويرفضها الغرب، ستصبح روسية بحكم الأمر الواقع الذي يجب على الغرب أن يتعامل معه.

تحدث في أسابيع سابقة في منتدى لرجال الأعمال الروس، عن بطرس الأكبر أيضاً، وعن فتوحاته، ونفى أن تكون غزوات، بل هي استعادة للأراضي الروسية المقدسة، وهذا كان واجبه، على حد قوله.

يبدو التطابق الذي يريده بوتين، بينه وبين بطرس الأكبر جلياً في خطاباته، فبطرس الأكبر، أو بطرس الأول، شخصية روسية محببة لدى الروس، وذات تقدير واهتمام بوصفه مؤسساً مهماً للدولة الروسية وصاحب انتصارات وفتوحات كبيرة في القرن السابع عشر، حيث كان هو أول من أدرك من القادة السلاف أهمية انفتاح روسيا على البحار، وعدم بقائها حبيسة الجغرافيا الداخلية، فقام بغزوات متتالية في بحر آزوف ليفتح البر الروسي الشاسع لأول مرة على البحار الدافئة، وليتوسع في حرب الشمال مع السويد ليقتنص أراضي مهمة في كل من فنلندا والسويد ودول البلطيق ليؤسس مدينة سانبطرسبورغ الشهيرة لتكون عاصمته الأساسية.

لكن بطرس الأول هذا لم يفعل ما فعله من وحي العزلة أو العظمة القائمة على الأوهام، على العكس تماماً فلقد كان هاجسه الأساسي هو التقرب من الغرب لدرجة مناطحته والاندماج معه، فهو قد تنكر قبل حملاته العسكرية الشهيرة بسنوات في ثياب عامل وذهب لشهور طويلة في زيارة أوروبية معروفة اشتغل فيها في شركات تصنيع السفن لدرجة أنه درس الأمر  عن قرب كعامل ومهندس، فعل هذا في هولندا وفي بريطانيا، واطلع على النموذج الأوروبي للمجتمعات وحضر جلسات برلمانية وجال في الأسواق والمكتبات والمتاحف، في محاولة لاستنساخ النموذج الأوروبي في روسيا الصاعدة.

بينما يفعل بوتين العكس تماماً فهو بعد تصريحاته الشهيرة عن أوروبية روسيا، ورغبته في أن تكون روسيا جزءاً من الغرب لا من آسيا، ارتكب الخطأ الأساسي في تحقيق القطيعة مع أوروبا والغرب، والتوجه شرقاً ليكون حليفاً لمعسكر الصين ودول آسيا الوسطى، فقطع العلاقات التجارية والاقتصادية والفنية والحضارية مع الغرب، تاركاً المجتمع الروسي في حيرة من أمره بعد عقدين من الانفتاح والبحبوحة والتنسيق مع الغرب، فعل هذا حينما غزا القرم في ربيع 2014، ومن ثم أوكرانيا في ربيع 2022، ليقدم ذريعة للغرب بنسف تجربته الاقتصادية المتحالفة مع أوروبا فهو لم يستوعب شيئاً من تجربة بطرس الأكبر إلا مبدأ الحرب لاستعادة الأراضي، وكأن روسيا ينقصها جزء من أرض وهي أكبر بلد في العالم، ولكن دون تنمية أو تطوير متناسياً الجسر الحضاري الممتد بين أوروربا وآسيا، الذي تشكله روسيا يفعل بوتين هذا وهو في السبعين من عمره، محاولاً أن يزرع اسمه في ذاكرة الروس كقائد أساسي استعاد لروسيا مجدها الإمبراطوري ولكن العالم ليس هو العالم، والزمان ليس هو الزمان، فلربما لن يتمكن الغرب من صده عسكرياً، ولكنهم حتماً سيتمكنون من صده حضارياً، ولن يمنحونه فرصة أن يعيد العالم إلى الوراء أو أن يعيد تركيب جدار برلين من جديد في ذلك المشهد الذي يبدو أنه لن ينساه أبداً.

———————————-

العنصرية.. المحكي والمسكوت عنه في الحرب الروسية على أوكرانيا/ حسان الأسود

لننطلق في هذا المقال من مبادئ بسيطة قابلة للتعميم، مثل كون البشر جميعاً متساوين بالفطرة الإنسانية باعتبارهم بشراً، وأنّ الحضارة الإنسانية وصلت إلى حدّ قوننة هذه المساواة وشرعنتها من خلال العهود والمواثيق الدولية، وأنّ ممارسة هذه المساواة فعلياً تتناسب طرداً مع تقدّم مستويات الديمقراطية وسيادة القانون في الدول والمجتمعات، وأنّه كذلك ما من دولة كاملة أو مجتمع بشري مثالي يخلو من النواقص أو العيوب، وأنّه ما من شعب قد استطاع التخلّص من العنصرية أو التمييز على أسس مختلفة بشكل كامل. وكل هذه المقدمات نحتاج إليها لمقاربة الخطابين الإعلامي والسياسي الظاهر والخفي في أوروبا من جرّاء الحرب الروسية على أوكرانيا.

مع صدمة الحرب الأولى، ومع مشاهد النازحين واللاجئين الأوكرانيين، أفلتت من عددٍ من المراسلين الصحفيين عبارات تنمّ عن قدرٍ كبيرٍ من العنصرية، طبعاً وفق المعايير التي ذكرناها أعلاه، ووفق القيم السائدة في مجتمعاتهم ذاتها، أو المحمية بالقانون على الأقل. مثالٌ على ذلك ما تلفّظ به مراسل محطة (CBS NEWS) الإخبارية في أثناء تغطيته الأحداث، حيث قال: “هذا ليس مكاناً مثل العراق أو أفغانستان، مع كل الاحترام، حيث تشهدان نزاعات وحروباً منذ عقود، هذا مكانٌ (يقصد أوكرانيا) حضاريٌ نسبياً وأوروبي إلى حدّ ما.” ومثال آخر هو ما قالته مراسلة محطة (NBC NEWS NOW) من بولندا عندما قالت على الهواء مباشرة أيضاً: ” بصراحة هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا، هؤلاء لاجئون من أوكرانيا المجاورة، هذا بصراحة تامّة جزء منهم، هؤلاء مسيحيون، إنهم بيض، إنهم مشابهون جداً للأشخاص الذين يعيشون في بولندا.” وكذلك ما قاله مراسل قناة (BBC) ببث مباشر من كييف: “اعذروني، إنّه أمرٌ مؤثّرٌ بالنسبة لي، لأنني أرى أوروبيين ذوي شعر أشقر وعيون زرقاء يقتلون، الأطفال يقتلون كل يومٍ بصواريخ بوتين وطائراته الهليكوبتر.”

كذلك صرّح رئيس وزراء بلغاريا كيريل بيتكوف حول الموضوع قائلاً: “اللاجئون الأوكرانيون ليسوا من اللاجئين الذين اعتدنا رؤيتهم، لذلك سنرحّب بهم، هؤلاء أوروبيون، أذكياء ومتعلمون، ولا يملكون ماضياً غامضاً، كأن يكونوا إرهابيين.” وهذا الموقف لم يُخفه كثيرٌ من زعماء اليمين واليمين المتطرف في أكثر من مناسبة وفي أكثر من بلد، وقد ترافق ذلك مع إجراءات عملية بدأت تتخذها بعض الدول المصنّفة في المراتب العليا وفق مؤشرات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والرفاه الاقتصادي والاجتماعي. ففي بلد مثل السويد بدأت القوانين تتغيّر باتجاه التشديد على شروط قبول طلبات اللجوء ومن بعدها الحصول على الجنسية. وفي بلد آخر مثل الدنمارك بدأت أحزاب اليمين تضغط من أجل إعادة بعض اللاجئين إلى أوطانهم رغم أنها لا تزال مصنّفة عالمياً بؤراً خطيرة للصراع. وإذا ذهبنا إلى اليونان أو صربيا أو بولندا لوجدنا ممارسات عنيفة ضد المهاجرين، مثل الضرب والاحتجاز الطويل والإجبار على الترحيل خلافاً لأحكام القانون الدولي. وقد ترافق ذلك كلّه مع نشاط واضح لأغلب شرائح المجتمعات الأوروبية على وسائل الإعلام وعبر وسائط التواصل الاجتماعي، وهذا شيء طبيعي مع اقتراب الخطر منهم، على عكس تفاعلهم مع الحروب التي كانت تحصل بعيدا عنهم في سوريا والعراق واليمن وميانمار أو غيرها.

لقد جاءت القواعد القانونية التي تنظم حق اللجوء، والواردة في الاتفاقية الخاصّة بوضع اللاجئين والتي أقرتها الأمم المتحدة عام 1951، لتعالج أوضاع اللاجئين الأوروبيين الذين فروا من بلدانهم إثر الحرب العالمية الثانية. أي أنّ الأوروبيين هم أول من عالج هذا الأمر على نحوٍ إنساني واسع المدى ونظّمه بشكل قواعد قانونية ملزمة. طبعاً تم تعديل هذه الاتفاقيات في العام 1967 لتصبح شاملة كل اللاجئين بغض النظر عن جنسيتهم بموجب بروتوكول خاص صدر أيضاً عن الأمم المتحدة. وهذا يعني من حيث النتيجة أنّ الأوروبيين هم روّاد هذا الطريق القانوني في حماية حقوق الإنسان ولا يمكن المزاودة عليهم في ذلك. لكن لا يمنع هذا من مناقشة النزعات العنصرية والمزاج التمييزي الذي بدأ يظهر ويشتدّ عوده في أوروبا والعالم.

الحقيقة أنّ الأوروبيين بشر مثل غيرهم، وبالتالي فهم أكثر التصاقاً بالقضايا القريبة التي تخصّهم، لكن يتم تسليط الضوء على ردود أفعالهم بالتحديد بسبب ما ترفعه حكوماتهم على الدوام من شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ومن الاستخدام السياسي المفرط أحياناً لهذه القضايا، فهل ننسى شعارات نشر الديمقراطية التي رفعتها الإدارة الأميركية كتبرير لاحتلال العراق؟

ما يلفتُ النظر أنّ الصحفيين والسياسيين، الذين يُفترض أنهم من الفئات المثقفة صاحبة التجارب والخبرات والمنفتحة على الثقافات الأخرى، هم من تصدّروا المشهد الآن في رفع الصوت جهاراً بهذا التمييز الصارخ. والحقيقة أنّ هذا الأمر وإن بدا عرضاً لا يمثل سوى أصحابه، إلا أنّه في العمق يشكل سؤالاً دائم الحضور رغم قلّة طرحه علناً. إنّه في الجوهر سؤال الجدوى عن قيمة المساواة بين البشر، وهل حقيقة هناك تساوٍ بينهم، أم هو مجرّد وهم صنعه الإنسان ليُقنع نفسه بالقيم التي يجب أن تكون، لا بالقيم الموجودة فعلاً!

يجب ألا يغربنّ عن البال عند الحديث عن القيم أنّها تعكس الواقع، فالدول الأكثر تطوراً من حيث الصناعة والتكنولوجيا والتقدّم العلمي، بحاجة لتوازن معيّن في المنظومة القيمية الأخلاقية والقانونية، توازنٍ ما يجسر الهوّة بين مصالح الطبقات العليا المتحكمة في كل شيء تقريباً، وبين مصالح الطبقات الأخرى المنتجة الحقيقية لكل العلوم والمعارف والتي تمتلك حقيقة القدرات والمهارات والخبرات، لكنها تعمل أبداً لصالح مالكي الشركات العملاقة صاحبة رؤوس الأموال العابرة للقارات. تسعى رؤوس الأموال لتحقيق الربح دائماً بغضّ النظر عن النتائج ومهما كانت، وهذا ما يجعلنا نرى الخروق الدائمة لحقوق البشر وأهمها الحق بالمساواة. ولأنّ السياسيين والصحافيين والمثقفين الغربيين يدورون في فلك هذه الثقافة الرأسمالية عموماً، فإنّهم عاجزون عن انتقاد جذر التمييز، لأنّه يصيبهم هم أنفسهم، فما معنى أن يتساوى إيلون ماسك وبيل غيتس وجيف بيزوس أمام القانون مع أي مواطن أميركي يعمل في إحدى شركاتهم، كأن يكون لكل منهم نفس الحقوق الدستورية مثلاً؟ أليس في هذا الطرح المجرّد استخفافٌ هائلٌ بالعقل والمنطق؟

من هنا يمكن رؤية هذه الموجة من العنصرية الرائجة الآن، والتي لا يمكن لأصحابها تصريفها باتجاه الأشخاص الأكثر ثراءً ونفوذاً وتأثيراً في بلدانهم، فيعكسونها على الفئات الأضعف، على الآخرين المختلفين عنهم، لأنّ الاختلاف واضح هنا في لون البشرة والعيون والشعر. هذا بعضٌ من المحكي عنه ونزرٌ يسيرٌ من المسكوت عنه في قضيّة اللاجئين كعرضٍ للحرب الروسية على أوكرانيا.

—————————-

العالم يرقص على رؤوس الثعابين/ غسان شربل

خدَعَنا العالم. توهمنا أنه تعلم. من حربين عالميتين. ومن انهيارات أصغر لا تقل وحشية. ومن المقابر الجماعية. والشعوب الهائمة المقتلعة من جذورها. ومن حطام الدول والجيوش والمدن. من النعوش العائدة ولوعة الأرامل والثكالى. ومن عيون الأيتام. ومن الميزانيات الهائلة المبددة على أحلام المتهورين.

خَدَعنا القرن الحالي. أطل واعداً. ثورات تكنولوجية متلاحقة. وثورة اتصالات لا تنام. ومؤتمرات ضخمة تدعو إلى التنبه للاحترار المناخي واغتيال البيئة التي نعيش فيها ومنها. وأمم متحدة تحاول أن تنسينا عثراتها السابقة. وصدقنا أن عهد الجرائم الشاسعة قد انقضى. وأن التستر صار مستحيلاً. وأن الهاتف الذكي شاهد لا يغمض له جفن. يتجسس ويصور ويبث ويفضح الارتكابات بعد لحظات من وقوعها. وصدقنا أن زمان الشفافية قد أطل. وأن مبدأ المحاسبة من البديهيات. وأن المؤسسات ستحول دون جموح الأقوياء وستمنعهم من إطلاق المآسي الكبرى. وساد انطباع أن رقابة المؤسسات والرأي العام ستقلم أظافر إمبراطوريات الفساد. وأن عهد الحكومات الفاشلة يتعرض لضربات موجعة.

وصدقنا أننا في الطريق إلى عالم أقل وحشية. وأن العيش في «القرية الكونية» سيكون أقل إيلاماً مع تدفق السلع والأفكار والاستثمارات. وخالجنا اعتقاد أن جنرالات التكنولوجيا سيحلون مكان جنرالات الجيوش. وأن الشركات العملاقة ستتقدم على الترسانات.

واعتقدنا أن الكتب التي تتحدث عن هتلر وموسوليني وستالين وبول بوت وأشباههم صارت زائدة على رفوف المكتبات في منازلنا. وشعرنا بضرورة إعطاء الأماكن للكتب التي تتحدث عن المبدعين الذين شرعوا باختراعاتهم واكتشافاتهم في تغيير مصير سكان الكوكب. وأنه لم يعد ثمة مبرر لإعطاء أمكنة لمن اغتالوا الخرائط وأدموا المدن وأغرقوا الجهات بالمقابر والدموع. واعتبرنا أن علينا إعطاء مساحة أوسع لسياسيين ينهمكون بتحسين قطاعات الصحة والتعليم ومحاربة البطالة والتصحر والجفاف وخفض الانبعاثات الضارة. وخيّل إلينا أن العالم سينتقل من زمن الحكام الذين يخدرون شعوبهم بأوهام الانتصارات إلى عهد الحكام الذين يشركون مواطنيهم في ورشة الإنجازات وتحسين حياة الناس.

ها نحن نودع أوهامنا. في 24 فبراير (شباط) الماضي أطلق فلاديمير بوتين قذيفة «ذكية» قتلت العالم الذي كنا نعيش في ظله منذ انهيار جدار برلين وتواري الاتحاد السوفياتي. شطب الجيش الروسي الحدود الدولية وتوغل في الخريطة الأوكرانية. المشهد مروّع بكل المقاييس. الدولة التي أطلقت الغزو هي دولة كبرى تغطيها مظلة نووية وتتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي. سرعان ما بدا المجلس عاطلاً عن العمل. مواقف الأمين العام للمنظمة الدولية بدت أقرب إلى استغاثات عالم يغرق، منها إلى الاستعداد لفرض حضور ولو خجول للقانون الدولي. وتذكر العالم أن أوكرانيا عارية ولا تتمتع بمظلة حلف «الناتو». كانت الرسالة فظيعة. لن يهب أحد لحمايتك إذا هاجمك قوي ولم تكن جزءاً من حلف عسكري. الدرس قاسٍ. ولن يغامر أحد بإرسال جيشه لإنقاذك من أنياب دولة نووية. بدت أوروبا ضعيفة وخائفة من رائحة الدخان ومشاهد المدن المدمرة. أقصى ما تستطيع أن تفعله هو أن تزود الأوكرانيين بالأسلحة في حرب تبدو نتائجها معروفة سلفاً.

أخطر ما في الحرب التي أطلقها بوتين هو أنها ليست وليدة خلاف روسي – أوكراني. إنها جزء من معركة أوسع. أوكرانيا مجرد مسرح اعتبره بوتين مناسباً لإطلاق انتفاضة عسكرية وسياسية هائلة على موازين القوى التي سادت في العالم على مدى 3 عقود. لهذا حرص على الإعلان بلهجة المنتصر أن «زمن الهيمنة انتهى». وهكذا يمكن القول إننا أمام حرب كبرى. حرب روسية تستهدف القيادة الأميركية للعالم ومعها النموذج الغربي الذي انتصر من دون حرب قبل 3 عقود ونجح في تدمير الاتحاد السوفياتي. ووحدها القارة الأوروبية تصلح لإطلاق الانقلابات الكبرى بحكم موقعها وتاريخها وتأثيرها. تحدث بوتين عن عالم جديد سترسي قواعده الدول «القوية» التي تتمتع بسيادة غير منقوصة.

لا مبالغة في القول إن العالم غارق في مأزق يصعب الخروج منه. إرغام روسيا على الخروج من أوكرانيا تحت الضغوط العسكرية لا يبدو ممكناً. مثل هذا الخيار يعني التورط في حرب طويلة باهظة التكاليف عسكرياً واقتصادياً وسياسياً لا تبدو «الجبهة الغربية» قادرة على احتمالها. اختلاط حرب الصواريخ بحرب النفط والغاز والقمح يشعر دولاً كثيرة بأنها مهددة بالاختناق. ارتفاع الأسعار وحديث التضخم والكساد والخوف من الآتي ينذر بإطلاق موجة من عدم الاستقرار في العالم. وإذا كان إرغام روسيا على الانسحاب مستبعداً فإن تقديم أوكرانيا هدية لاسترضائها صعب هو الآخر، لأن ما يريده الكرملين أكبر بكثير من أوكرانيا.

واضح أن الحلقة الأوكرانية هي الشرارة التي فتحت أبواب الجحيم. لا مبالغة في هذا القول. تكفي الإشارة إلى عودة العالم إلى الرهان على الترسانات والجيوش، لا على الأمم المتحدة والقانون الدولي. يكفي شعور الدول الصغيرة أنها تحتاج إلى جيشها وتحالفاتها كي تقنع جارها القوي بعدم الانقضاض عليها تحت أعذار كثيرة. يكفي الخوف على سلع كان العالم يعتقد أن المتحاربين لن يفكروا بإشراكها في حروبهم.

في العقود الثلاثة الماضية افتقدت الإدارة الأميركية للعالم إلى التواضع والواقعية. ارتكبت كثيراً من الأخطاء في التعامل مع روسيا وغيرها. تصرفت بغرور المنتصر الذي يفرض أسلوبه ويملي قواعده. لكن الأخطاء الأميركية لا تبرر أبداً الانقلاب الباهظ الذي أطلقه بوتين بالحديد والنار والغاز والقمح.

إنها حفنة شهور غيّرت العالم. نكاد نعتاد على رؤية ملايين الأوكرانيين الهائمين. وعلى رؤية الشوارع المتفحمة في مدن أوكرانية. ونكاد نسلم أن تايوان هي المحطة المقبلة لاستكمال الانقلاب. وها نحن نرى الصين تطل عبر حاملة طائرات ثالثة بعدما كانت تطل بأحلام «مبادرة الحزام والطريق». وها هي الحكومات القريبة والبعيدة تشد الأحزمة. وها نحن نرى مليارات الدولارات تُنفق على الترسانات، وهي التي كان يمكن أن تنفق على الصحة والتعليم ومساعدة اللاجئين. إنها مشاهد عالم يغرق. إذا كان يمكن تفكيك الخريطة الأوكرانية، فلماذا لا يمكن تفكيك خرائط أخرى؟ وماذا لو أفلتت ذئاب الأقاليم لتعيد رسم ملامح جيرانها؟

واضح أن العالم موعود بسنوات صعبة. ولن يكون غريباً أن يستعير غوتيريش من الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح عبارته الشهيرة ليقول إن إدارة العالم تشبه الرقص على رؤوس الثعابين. والثعابين تلدغ الراقص مهما كان بارعاً في ملاعبتها واسترضائها وترويضها.

الشرق الأوسط

———————–

عندما تنهار أسطورة صدام الحضارات في كييف/ محمد الحدّاد

يقال الكثير، يومياً، عن الحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا: أحداثها ودوافعها ومآلاتها، وما ستغيره من أوضاع في العالم كله. ليس هذا المقال خوضاً في هذه المواضيع، ولا استشرافاً للنتائج، بل يودّ أن يطرح سؤالاً بعيداً عن صخب الحرب، وإن لم يكن منفصلاً عنها: ما الأثر الأكثر عمقاً الذي ستتركه في الثقافة البشرية، بصرف النظر عن نهاياتها الممكنة، عسكرياً وسياسياً؟

يبدو الجواب كالتالي: هذا الأثر هو انهيار أسطورة صدام الحضارات. هذه الأسطورة ظلت توجه الثقافة العالمية منذ أكثر من ربع قرن، لا سيما منذ 1996، تاريخ صدور كتاب عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون الذي حمل هذه العبارة عنواناً له. استُبطنت هذه الأسطورة في كل الثقافات. العالم المهيمن رأى فيها تبريراً أخلاقياً لهيمنته على الآخرين عندما افترض أنّ الآخرين أشرار يتربصون به الدوائر ويسعون لإسقاطه (هذه كانت إحدى أطروحات هنتنغتون في كتابه المذكور). والعالم المهيمَن عليه رأى فيها تبريراً لرفض الإصلاح والتغيير، بحجة أنه مطلب يأتي من الخارج بقصد بسط الهيمنة، حتى إنّ الفيلسوف العربي الكبير محمد عابد الجابري ردّ على نظرية صدام الحضارات بكتاب عنوانه «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» (صادر سنة 2005)، ومن أطروحاته الأساسية التخلي عن مقولة الإصلاح لأنها أصبحت مطلباً صادراً من الغرب. بقينا في هذا الجدل العقيم أكثر من ربع قرن، لا نحن نصلح حالنا ولا نحن نرفع الهيمنة عنا، ولا الآخر يصلحنا ولا هو راغب في أن يرفع هيمنته عنّا.

والواقع أن أطروحة صدام الحضارات لم ترسخ لقوة استدلالاتها ووضوح مفاهيمها وعمق مضامينها، بل رسخت بسبب أحداث كبرى بدت كأنها تنبأت بها قبل وقوعها، أو أنها قدّمت التفسير الأفضل لها، وكان من أهم تلك الأحداث ما دعي بحربي الخليج الثانية والثالثة، أي التدخل العسكري الغربي في العراق من 1990 إلى 2003، وعلى وقعها كتب فيلسوف عربي آخر، مهدي المنجرة، كتاباً عنوانه «الحرب الحضارية الأولى»، وفيه قرأ غزو صدام حسين للكويت، بالضبط مثلما يقرأ البعض اليوم حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا، على أنه عمل دفاعي، وأرخ بذلك الغزو ورد الفعل الغربي عليه بداية مرحلة جديدة رآها مرحلة «العصيان» على الغرب، مستبطناً أسطورة صدام الحضارات مع توجيهها ضدّ الطرف المهيمن.

لكن صدام الحضارات مجرد أسطورة، يستوي أن تستعمل لفائدة الطرف المهيمن أو الطرف المهيمن عليه. وما كان ضرورياً للفكر العربي أن يشغل نفسه بالتفكير على أساسها، ولا أن يخصّ كتاب هنتنغتون بأكثر من ترجمة إلى العربية، مع أن كتباً أخرى أهم في الفكر الحديث لم تجد سبيلها إلى الترجمة إلى حدّ الآن. وما كان للفكر العربي أن يرى نفسه مضطراً للاختيار بين أطروحة صدام الحضارات والأطروحة الأخرى المنافسة لها، أطروحة «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» التي سبق بها قبل سنوات فرنسيس فوكوياما، فهي أيضاً أسطورة.

وعلى كلّ، فإن الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم، قد أسقطت أمام أعين الناس مقولة صدام الحضارات، لأنها حرب بين جارتين تنتميان إلى دين واحد (المسيحية)، بل إلى مذهب واحد داخل الدين (الأرثوذكسية) وثقافتهما واحدة (الروسية) وتاريخهما واحد (كييف، عاصمة أوكرانيا حالياً هي العاصمة التاريخية للأمة الروسية ولإمبراطوريتها الأولى)، والحدود بينهما كانت مفتوحة وملايين الروس قضوا عطلهم في أوكرانيا. ومع ذلك فقد حصلت الحرب، مثلما أن حرب الخليج الثانية لم تكن حرباً حضارية، لأنها بدأت بغزو الكويت التي تنتمي مع العراق إلى الحضارة ذاتها.

ليس هنا مجال السؤال: لماذا اندلعت الحرب في أوكرانيا؟ فهذا السؤال يحيلنا إلى التحليل السياسي، غير أن كل الذين تابعوا الخطاب المطوّل الذي ألقاه الرئيس الروسي قبل ساعات من الحرب، مقدماً تبريراته لها، يتفقون على أنه خطاب آتٍ من ماضٍ بعيد، لا أثر فيه لصدام الحضارات، ولا حتى لأصداء الحرب الباردة، بما أنه وجّه نقداً عنيفاً للفترة السوفياتية. إنه خطاب آتٍ من ماضي الصراعات القومية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حيث كان طبيعياً أن تبرَّر الحروب بمقولة العمق الاستراتيجي والأمن القومي. وهذه المقولة هي التي بررت الحروب آنذاك، بما فيها الحربان العالميتان الأولى والثانية، وبلغت مدى لم يتخيل البشر فظاعته مع النازية، ثم بدا أنها سقطت مع سقوطها بسبب الهول الذي أحدثته في الضمائر البشرية.

في النهاية، لماذا تقوم الحروب؟ للمصلحة أولاً. الحرب الباردة لم تكن مواجهة بين الإمبريالية والاشتراكية، كما أراد لها لينين أن تكون، بل بين إمبريالية بقيادة الولايات المتحدة وأخرى بقيادة الاتحاد السوفياتي. والنظام العالمي الجديد، الناشئ بعد الحرب الباردة، فتح المواجهة بين أقطاب جيو – اقتصادية جديدة، حيث روسيا هي القطب الأضعف لأنّ اقتصادها ظل تقليدياً يعتمد على تصدير المواد الخام، لذلك كانت الطرف المبادر باستعمال الحرب، لأنها لم تعد قادرة على المواجهة الاقتصادية. أما الغرب الذي يتشدّق بالديمقراطية والتعددية والاختلاف، فإنه يؤكد مجدداً، أنه لا يقبل أن توجد قوة غير منخرطة في اقتصاده المعولم ورؤيته في التوزيع العالمي للمصالح.

ثم بعد المصلحة، يمكن أن تقوم الحرب من أجل العقيدة، ويمكن لتمثلات ثقافية معينة أن تكون دافعاً للحرب، أو تُتخذ ذريعة لتواصلها حتى بعد انتهاء المصلحة. وضمن هذا الصنف يمكن أن نصنف الحروب الدينية قديماً، أو المواجهة المعاصرة بين العرب وإسرائيل، حيث يستمر الصدام حتى بعد انتفاء المصلحة منه.

وعلى هذا الأساس، لا فائدة من نظرية صدام الحضارات، فهي لم تفسر شيئاً في النظام العالمي الجديد الذي هو أصلاً نظام لا جديد فيه، ومن باب أولى أنها لم تعد قادرة بعد حرب أوكرانيا على أن تفسر شيئاً. أما العلاقة بين الحرب والمصلحة فهي قابلة للتأثير والتأثر المتبادلين، علاقة «ديالكتيكية»، كما كان يقول ماركس الأصلي.

لا المصلحة مجرد تفعيل لصدام الحضارات، كما يقول هنتنغتون، ولا الثقافة غطاء للمصلحة، كما تقول الماركسية. يمكن أن تلتقي أطروحة ثقافية معينة مع مصلحة معينة، ويمكن أن تلتقي الأطروحة ذاتها مع مصلحة مختلفة أو نقيضة. لذلك لا يمكن تصنيف أي ثقافة بأنها مرتبطة بمصلحة طبقية أو قومية، ولا أي طبقة أو قومية على أنها تنتج ثقافة خاصة بها.

في النهاية، ما من أطروحة قابلة لتفسير شمولي، لا أطروحة الحرب المقدسة ولا أطروحة الإمبريالية ولا أطروحة صدام الحضارات. كل حالة تاريخية لها خصوصيتها. أما أنثروبولوجيا الحرب فهي أنثروبولوجيا الإنسان مع العنف أو العنف لدى الإنسان. فالإنسان مدني بالطبع، وهو عنيف بالطبع أيضاً. والصراع بين العنف والمدنية بدأ منذ إنسان العصر الحجري، إذ لا يمكن لأحد أن يدرك على وجه اليقين هل صقل الإنسان الأول الحجارة ليبني بها مسكناً أم ليستمتع بجمال شكلها أم ليقتل بها خصمه. لكنه بالتأكيد أعلن، بهذا الغموض الذي يحيط بنواياه، نشأة الحضارة التي هي مزيج من كل ذلك.

– كاتب وأكاديمي تونسي

الشرق الأوسط

————————-

أوكرانيا: حرب طويلة بين أوراسيا والديمقراطيات الغربية/ حسام عيتاني

حتى الآن، أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تغيرات عميقة في العلاقة بين موسكو والغرب وإلى المزيد من الاستقطاب بين الدول سواء حول الحرب أو حول تقديم المصالح الوطنية على غيرها وخصوصاً على مواجهة مجموعة المخاطر التي تهدد العالم والتي فاقمها القتال في شرق أوروبا.

الأعوام العدة التي قد تستغرقها الحرب، حسب توقع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، تعني حكماً أن التبدلات التي ستفرضها الحرب الحالية، ستتعمق وتترسخ على نحو يعيد تشكيل النظام العالمي على نحو ما زال مجهولاً.

عشية الهجوم الروسي، سادت قراءة تتوقع أن الحرب إذا نشبت ستؤدي إلى بروز تحالف صيني – روسي ذي قدرات استراتيجية، عسكرية واقتصادية. إضافةً إلى عمق جغرافي وسكاني هائل بما يجعله قادراً على فرض إرادته في الكثير من مناطق العالم، القريبة جغرافياً منه أو البعيدة عنه. حُددت تايوان ميزان الضغط الدولي في قياس التوتر بين الغرب الذي يعيد تنظيم صفوفه في منطقة آسيا – المحيط الهادئ بتعزيز دور أستراليا في الإقليم وتحديث «قوات الدفاع الذاتي» اليابانية ومحاولة جذب الهند إلى «التحالف الرباعي – الكواد» الذي يضم الولايات المتحدة إلى جانب الدولتين المذكورتين، وبين الصين المصرّة على اعتبار تايوان «مسألة داخلية» لا تقبل النقاش حولها مع أي طرف ثالث. وتزيد بكين طلعات قواتها الجوية وتحركاتها العسكرية حول الجزيرة. ولم يتردد وزير الدفاع الصيني وي فنغي، في التحذير خلال مؤتمر شانغريلا في سنغافورة الأسبوع الماضي من أن بلاده «ستقاتل حتى النهاية» إذا أعلنت تايوان استقلالها.

كان هذا الجانب الأكثر تداولاً إعلامياً وبين الخبراء لمظاهر التبدل في الخرائط السياسية. لكن الأمين العام للناتو أضاف أن ثمن امتداد الحرب زمنياً لن يقتصر على الدعم العسكري الذي يقدمه الحلف لأوكرانيا، بل سيصل إلى تحمل وطأة ارتفاع أسعار المحروقات والغذاء.

الجانب الأبعد من الدعم العسكري وازدياد تكاليف الحياة في دول الغرب هو قدرة الديمقراطيات الغربية على الصمود على مواقفها حيال أوكرانيا في الوقت الذي بدأت تتضح فيه ملامح الخطة الروسية لمتابعة الحرب وتحقيق النصر فيها. وإذا قُرئت كلمة الرئيس فلاديمير بوتين في «منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي العالمي»، سيبدو أن الرجل واثق من انهيار التحالف الغربي الذي أحياه الموقف الموحد من أوكرانيا وأن المسار التراجعي للغرب الذي عوّل عليه منظّرو المقولة «الأوراسية» ما زال مستمراً ويتجسد في انهيار العملات الغربية والتضخم المرتفع وفقدان أوروبا لاستقلالها في سياستها الخارجية وإصرار الغرب على التعامل مع باقي دول العالم باستعلاء وفوقية. الانتخابات في هنغاريا وفرنسا، كانتا غنيتين بالدروس في هذا المجال.

من المهم الالتفات إلى بعض الحقائق التي تضفي قدراً من الصدقية على كلام بوتين. أولاها أن الموقف العسكري في أوكرانيا شهد تبدلاً لمصلحة روسيا في الكثير من المناطق بعدما تخلى الجيش الروسي عن تكتيكات التقدم السريع في عمق العدو واستعاض عنه باللجوء إلى تفوقه في المدفعية الثقيلة لتدمير المواقع والمدن الأوكرانية. وكان ستالين يردد أن «الكمية هي نوعية من طراز خاص». بكلمات ثانية، أدرك القادة الروس أن أسلحتهم لن تصمد في وجه المضادات الغربية خصوصاً الدبابات والطائرات، فعادوا إلى ما يمتلكون تفوقاً ساحقاً فيه، أي المدفعية التي تحرق الميدان، قبل دفع الوحدات البرية للتطهير والاحتلال. التصدي للتكتيك المذكور يتطلب حصول الأوكرانيين على بطاريات مدفعية تعادل ما لدى الروس إضافةً إلى أسلحة صدمة ونار (مدرعات) لشن هجمات مضادة موضعية أو موسعة. وهذه هي الأسلحة التي تطالب كييف بها.

الحقيقة الثانية، أن الخسائر البشرية يُنظر إليها نظرة مختلفة في كل من روسيا وأوكرانيا. الرئيس فلوديمير زيلينسكي أعلن أن بلاده تفقد ما بين 100 و200 جندي يومياً. وبغضّ النظر عن عدد القتلى في الجانب المقابل، إلا أن ما يبدو من إصرار في كلام بوتين على مواصلة العملية العسكرية الخاصة التي قلل من انعكاساتها الاقتصادية الداخلية، يقول إن موسكو لن ترهبها أعداد قتلاها مهما بلغ، ولن تثنيها خسائرها البشرية عن الاندفاع نحو تحقيق نصر عسكري واضح يمكّنها من الجلوس إلى مائدة المفاوضات لفرض شروطها. أنها لن تقبل عكس هذا المسار، الذي يبشّر به المسؤولون الأوكرانيون عن أن إلحاق هزيمة جلية بالقوات الروسية هو المدخل التفاوضي المناسب لهم.

ولم تكن مبالغة الجملة التي ترددت في بداية الحرب في أوكرانيا عن أن مستقبل العالم يتقرر في هذا الصراع، بيد أن السهوب الأوكرانية لم تفصح بعد عن منتصر ومهزوم، وما زال الطرفان يعتقدان بالقدرة على استخراج انتصار ميداني وتحويله سلاماً يتأسس على رؤيته إلى العالم والمستقبل

الشرق الأوسط

—————————-

تصعيد روسي إسرائيلي في سوريا.. الاحتمالات والخفايا/ شيلان شيخ موسى

في خضم التحديات بين القوى الدولية والإقليمية في سوريا، واستمرار الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا، والتي اتخذت منعطفا جديدا مؤخرا، تروج روسيا على ما يبدو لعزمها اتخاذ خطوة غير مسبوقة تجاه إسرائيل، فوفق هيئة إعلامية إسرائيلية، فإن روسيا تعد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي، لإدانة الهجوم الإسرائيلي الأخير على مطار دمشق الدولي.

واستهدف الطيران الحربي الإسرائيلي، آنذاك، عددا من المواقع جنوبي العاصمة السورية دمشق، ما أسفر عن إصابة شخص، وذلك في القصف الثاني من نوعه على المنطقة منذ مطلع حزيران/يونيو الجاري.

وتصاعدت وتيرة القصف الإسرائيلي على مواقع في دمشق، حيث أكدت وسائل إعلام محلية، قصف القوات الإسرائيلية مبنى الصالة الثانية لمطار دمشق الدولي وتسبب بأضرار مادية، ونتيجة لهذه الأضرار تم تعليق الرحلات الجوية القادمة والمغادرة عبر المطار حتى إشعار آخر، كما وأدى أيضا لتعطيل حركة الاستيراد والتصدير التي تعتمد في بعضها على الشحن الجوي، ولاسيما في الشحنات “الخفيفة” والمستعجلة.

قد يأتي الإجراء الروسي الجديد تجاه إسرائيل في مجلس الأمن على خلفية توقيع اتفاقية بين إسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي لتزويد الأخير بالغاز الطبيعي، مما يجعل خيار الاعتماد الأوروبي على روسيا في مجال الطاقة ضئيلا.

في ضوء ذلك تثار تساؤلات حول مدى احتمالية حدوث تصعيد روسي إسرائيلي في سوريا، وكذلك حول الأسباب التي تدفع روسيا لأن تتخذ مثل هذه الخطوة، خاصة وأن هناك تنسيق مسبق بين الجانبين بخصوص الضربات الجوية الإسرائيلية على سوريا، كما يجدر التساؤل حول التوقعات التي قد يشهدها الملف السوري خلال الفترة المقبلة، وسط توترات سابقة بين الجانبين الروسي والإسرائيلي.

سيناريوهات مختلفة

في سياق التصعيد بين الجانبين الروسي الإسرائيلي، قالت هيئة البث الإسرائيلية “كان”، إن روسيا تعد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي، لإدانة الهجوم الإسرائيلي الذي تسبب بخروج مطار دمشق الدولي عن العمل، قبل أكثر من أسبوع.

وأردفت “كان”، اليوم الأحد، أن “مسودة القرار اعتبرت أن الضربة الإسرائيلية تخالف القانون الدولي، وتقوض الاستقرار الإقليمي، وتنتهك السيادة السورية وسيادة الدول الأخرى، في إشارة إلى المجال الجوي الذي انطلق منه الهجوم”.

من جانبهم، أكد مسؤولون إسرائيليون، أن روسيا تعمل على القرار لكنهم شككوا في أنه سيحصل على دعم كاف لتمريره. ضمن هذا الإطار، يرى المحلل السياسي الروسي، ديمتري بريجع، أن “توتر العلاقات الإسرائيلية الروسية بدأ عقب اتهام وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، روسيا بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، فيما زادت حدة التوتر في الأيام الماضية إثر تصريحات لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف”.

ووفق اعتقاد المحلل السياسي الروسي الذي تحدث لموقع “الحل نت”، فإن “العلاقات الروسية الإسرائيلية تمر بمراحل مختلفة، كما هو الحال بالنسبة للعلاقات الروسية التركية بسبب اختلاف وجهات النظر والسياسات الخارجية للدول”.

وأضاف بريجع في حديثه، بأن “هناك سيناريوهات كثيرة للتعاون الروسي الإسرائيلي في الملف السوري؛ أولا إسرائيل وروسيا يمكنهما العمل في الملف السوري بغض النظر عن وجهة النظر المختلفة للبلدين فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا. ثانيا يمكن أن تقوم روسيا بتغيير وجهة نظرها حول دور إيران في سوريا، لأن هناك تصادما بالأساس بين رؤية موسكو ورؤية طهران المختلفتين للملف السوري”.

وخلص بريجع حديثه بالقول: “برأيي أن انتخابات الكونغرس الأميركي و تأثير الصراع الروسي الأوكراني على القرارات الدولية يمكن أيضا أن تؤثر على العلاقات الروسية الإسرائيلية، لأن إسرائيل ليست بعيدة عن السياسات الدولية وقرارات الولايات المتحدة الأميركية التي تؤثر على سياسات وقرارات الدول الأخرى”.

وكان نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، قد استدعى السفير الإسرائيلي في موسكو، ألكسندر بن تسفي، للتعبير عن قلق موسكو بشأن الغارة على مطار دمشق، منوّها إلى أن التبرير الإسرائيلي بخصوص الضربة “غير مقنع”، وأن موسكو تتوقع إيضاحات إضافية.

أسباب التصعيد المرجحة

وسعت أوروبا مؤخرا، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لتقليل اعتمادها في مجال الطاقة على روسيا، إزاء ذلك وقعت كل من إسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي، يوم الأربعاء الماضي، اتفاقية لتزويد الاتحاد بالغاز الطبيعي.

وقالت وزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الحرار، في تغريدة على منصة “تويتر”، إنه تم توقيع اتفاقية مع مصر والاتحاد الأوروبي لتزويد الأخير بالغاز الطبيعي الإسرائيلي.

في الإطار ذاته، تعمل إسرائيل جاهدة لتكون قادرة على تصدير بعض موارد الغاز البحرية الضخمة إلى أوروبا التي تسعى للاستغناء عن مشترياتها من الوقود الأحفوري الروسي.

وإزاء هذه الاتفاقية، بين مصر وإسرائيل والدول الأوروبية، تثار عدة تساؤلات حول تدهور العلاقات الروسية الإسرائيلية في سوريا، خاصة بعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على سوريا والإدانات الروسية حيال ذلك.

وبحسب مراقبون، طالما أن التوتر بين الطرفين لا يزال محدودا وفي إطار التصريحات والادانات السياسية فقط، فإنه من المرجح ألا يخرج إلى مستويات أعلى من ذلك، وبالتالي قد لن تحدث تطورات وتصعيدات أكبر من الأطر السياسية، ولا شك أن إسرائيل تناور بين الطرفين، فهي تحاول الحفاظ على مصالحها من خلال استمرار دعمها من الغرب، وفي نفس الوقت لديها مصلحة كبيرة مع روسيا في سوريا، وهذا ما يرجح أن تبقي إسرائيل توازنها مع الطرفين قدر المستطاع.

لكن محللون آخرون يرون أن مسارات تغيير المواقف والخطط الاستراتيجية ممكنة في سوريا في أي لحظة، طالما أن التوترات مستمرة على الساحتين الدولية والإقليمية. لا شك أن هذه التصادمات الدولية لا يدفع ثمنها إلا السوريين، وسط رفض حكومة دمشق المضي لتفعيل القرار الدولي 2254 وتعنتها في إحداث أي سبل حل سياسي جاد.

—————————–

================

تحديث 22 حزيران 2022

——————-

روسيا وسوريا… و«البركان الأوكراني»/ إبراهيم حميدي

تطوران جديدان يخصان سوريا، يكشفان مرة جديدة مدى تأثرها بالحرب الروسية في أوكرانيا. وهذه المرة، تهب الرياح من بوابة الأمم المتحدة ومؤسساتها، ودورها السياسي والإنساني.

يعود الربط بين «الملفين» السوري والأوكراني إلى العام 2014، عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم «رداً» على التغيير الرئاسي، وهروب حليفها فيكتور يانوكوفيتش من قصر الرئاسة الأوكراني. حينها، طلبت موسكو من دمشق التشدد في مسار جنيف الأممي، ثم قررت التدخل عسكرياً في شكل مباشر نهاية 2015.

ومع بدء الحرب الأوكرانية، تفاقمت معاناة السوريين الاقتصادية وظهرت مؤشرات عن تشابك عسكري بين «الساحتين»: تراجع الدور العسكري الروسي في ساحة بسبب «الانشغال» بأخرى، مع محاولات إيرانية لملء الفراغ في سوريا، وتصاعد الضربات الإسرائيلية ضد مصالح طهران من جهة، وحصول اختبارات عسكرية روسية – أميركية عدة في الأجواء السورية من جهة ثانية، إضافة إلى سعي تركيا للإفادة من هذه التطورات بتوغل جديد شمال البلاد من جهة ثالثة.

حالياً، هناك تطوران: الأول، هو أن موسكو أبلغت دمشق بعدم المشاركة في اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف تحت قبة الأمم المتحدة، والآخر، إبلاغ روسيا الأطراف الغربية أنها لن تمدد القرار الدولي الخاص بإيصال المساعدات عبر الحدود لدى انتهاء مدته في 10 من الشهر المقبل.

دمشق كانت دائماً غير مرتاحة للمسار الأممي منذ صدور «بيان جنيف» في 2012 وانعقاد المؤتمر الدولي بداية 2014. فهي ضد تدويل الملف، وتريده محلياً، بأولويات واعتبارات وحسابات محلية. وكانت موسكو، لأسباب مختلفة، قد دفعت دمشق لقبول الغطاء الأممي في جنيف؛ لأن ذلك يعطي شرعية لجهودها ووجودها، ويوفر لها أيضاً منصة لحساباتها الدولية ومقايضاتها فيها، لكنها حافظت على خياراتها ومحاولاتها «تفكيك النفوذ الغربي بالأمم المتحدة». ولذا؛ خلقت مسارين متوازيين: الأول في آستانة بالتعاون مع إيران وتركيا، لبحث الأمور العسكرية، والآخر في سوتشي لبحث الأمور السياسية وعقد مؤتمر للحوار الوطني السوري.

فكرت موسكو أحياناً بالانقضاض على مسار جنيف والجهود الأممية، لكنها كانت تتريث وتفاوض، ثم تضغط على دمشق لإرسال وفودها إلى القصر الأممي الأول في أوروبا. أيضاً، كانت ترسل المبعوث الرئاسي ألكسندر لافرنييف للقاء «الضامنين» التركي والإيراني، والمحاورين الأميركي والأوروبي. وباتت جنيف منصة لإطلالة دولية لروسيا على الملف السوري. وبات هذا المسار حاجة ملحة لجميع الأطراف، لتحقيق المكاسب أو تبرير العجز.

ماذا تغير الآن؟

الذي تغيّر وغيّر هو البركان الأوكراني. فبعض المؤسسات الأممية بدعم غربي، عاقبت روسيا على حربها. أيضاً، توقف المسار الخلفي الأميركي – الروسي الذي كان قائماً في جنيف. وقبل الجولة الأخيرة لاجتماعات اللجنة الدستورية نهاية مايو (أيار) الماضي، لم يلق لافرنييف الترحيب ذاته الذي كان يلقاه عادة.

هنا، أعلنت روسيا إأ سويسرا «ليست أرضاً حيادية»، وطلبت من دمشق أن تطلب بدورها من الأمم المتحدة البحث عن مكان جديد لاستضافة اجتماعات «الدستورية». وهناك أربعة خيارات بديلة: موسكو، سوتشي، دمشق أو الجزائر. الجانب الروسي يعرف أن إمكانية سفر المبعوثين الغربيين والمعارضة السورية إلى روسيا أو دمشق غير متوفرة. أيضاً خيار الجزائر التي ستستضيف القمة العربية بداية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل لتبحث عودة عضوية دمشق بالجامعة العربية، خيار ليس واقعيا الآن.

مسار جنيف «الدستوري» بات بين خيارين: التجميد وعدم عقد الجلسة المقبلة نهاية الشهر المقبل، كما أعلن المبعوث الأممي غير بدرسين، بموجب اتفاقه مع الأطراف السورية، أو الإذعان للشروط الروسية بعد جولات تفاوضية مع الدول الغربية، باتت فرصها ضيقة بسبب أوكرانيا.

لقد بات هذا الملف ورقة، تضاف إلى التطور الثاني الذي يخص تمديد القرار الدولي الخاص بالمساعدات الإنسانية. فقبل سنة، لوّحت موسكو مرات عدة بأنها لن تمدد القرار وضغطت على المانحين لطرق أبواب دمشق. أما، واشنطن فرفعت السقف بأن تحدثت عن فتح ثلاثة معابر حدودية، اثنان منها مع تركيا والثالث مع العراق، واعتبرت تمديد القرار أولوية لإدارة جو بايدن الجديدة. انتهى الأمر، بعد جلسات تفاوضية سرية بين مبعوثي الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن بعد قمتها في جنيف منتصف يونيو (حزيران) العام الماضي، إلى صوغ مسودة قرار جديد تضمن التمديد لمعبر واحد بين تركيا وإدلب، وتراجعات أميركية، بينها تغيير لغة القرار، ودعم تمويل «التعافي المبكر» والمساعدات عبر خطوط التماس.

الوضع الآن، تغير كثيراً. فالخط السري بين القوتين العظمتين توقف، وهناك تصعيد عسكري في أوكرانيا، وبوادر صدام عسكري بين جيشيهما في سوريا. ومع اقتراب انتهاء ولاية القرار، هناك احتمال أن تبادر روسيا لطلب مشروع قرار يخص المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى شرق أوكرانيا مقابل تمرير القرار إلى الشمال السوري. ومرة جديدة، الربط واضح بين «الملفين».

الاحتمال الآخر هو عدم التمديد والبحث عن خطط بديلة. وبالفعل، بحث مبعوث الدول الغربية خططاً بديلة. هل يمكن الاعتماد على المنظمات التركية كي تكون بديلاً؟ الدول الغربية لا تريد إعطاء تركيا هذه الميزة. هل يمكن تأسيس صندوق بتمويل غربي يستعمل المؤسسات والخطوط القائمة؟ هذا احتمال يبحث في شكل جدي.

وبين الخيارين «الإنسانيين» والتطورين السوريين، رفعت الأمم المتحدة من حدة خطابها، واستعملت مفردات جديدة. فقد دخل الأمين العام أنطونيو غوتيريش على الخط، وقدم بياناً تفصيلياً عن أهمية الحفاظ على دور الأمم المتحدة، وتمديد القرار الدولي لإغاثة أكثر من أربعة ملايين شخص، وتقديم مساعدات لـ14 مليون شخص في بلد يقبع 90 من شعبه تحت خط الفقر.

غوتيريش قال «من الناحية الأخلاقية، من الضروري معالجة معاناة وضعف 4.1 مليون شخص في المنطقة ممن يحتاجون إلى المساعدة والحماية؛ إذ إن 80 في المائة من المحتاجين في شمال غربي سوريا هم من النساء والأطفال».

هذا من الناحية الأخلاقية والإنسانية. فماذا عن الجانب الاستراتيجي والجيوسياسي؟ أغلب الظن أن الاختبارين الجديدين سيُظهران أن سوريا باتت رهينة لعبة دولية – إقليمية وأن السوريين قد يدفعون ثمن «البركان الأوكراني».

الشرق الأوسط

————————–

هل تعارض روسيا فعلا عملية تركية في سوريا؟/ محمود علوش

عندما زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أنقرة في 8 يونيو/حزيران الجاري لإجراء محادثات مع نظيره التركي حول مشروع إنشاء ممر بحري لتسهيل عبور صادرات أوكرانيا من القمح والحبوب كانت الخطط التركية لشن عملية جديدة ضد الوحدات الكردية في شمال سوريا حاضرة بقوة على أجندة الزيارة.

وعلى الرغم من أن الزيارة لم تخرج بموقف روسي واضح من العملية التركية المحتملة باستثناء تكرار لافروف التأكيد على مراعاة هواجس تركيا الأمنية فإنه بعد ذلك بأيام قال الكرملين إنه يعارض أي هجوم تركي جديد، وحذر من أنه سيؤدي إلى تصعيد الموقف وزعزعة الاستقرار.

لكن التصريحات الروسية الأكثر أهمية حتى الآن بهذا الخصوص كانت للمبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف، والتي قال فيها إن روسيا لن تقاتل تركيا والجيش الوطني السوري في ريف حلب، وإنه بإمكان الجيش التركي السيطرة على المنطقة التي سيستهدفها، لكنه من الصعب التنبؤ بالنتائج التي تترتب على ذلك.

وفي حين أن روسيا تعارض من حيث المبدأ أي هجوم تركي جديد لأسباب عديدة، أبرزها منع زيادة المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في الشمال السوري والقلق من تأثير موافقتها على العملية في العلاقات التي أقامتها مع الوحدات الكردية، فضلا عن مراعاة موقف دمشق الرافض لها إلا أنها حريصة في الوقت نفسه على عدم الدخول في صدام عسكري مع تركيا، لما يترتب عليه من تداعيات كبيرة على المصالح المتشابكة بين البلدين في سوريا وقضايا أخرى، ولا سيما الصراع في أوكرانيا، حيث لا تزال أنقرة تتبنى نهجا متوازنا في الصراع الروسي الغربي، ولم تنخرط في العقوبات الغربية ضد موسكو، كما أبقت مجالها الجوي مفتوحا أمام روسيا.

وبالنظر إلى أن العمليات العسكرية الأربع التي شنتها تركيا في سوريا منذ عام 2016 لم تحظ بتأييد روسي علني إلا أن موسكو تجنبت استخدام قواتها في سوريا لعرقلة تلك العمليات في آخر عملية تركية واسعة في شرق الفرات قبل 3 سنوات، ولم تدعم روسيا العملية، لكنها أبرمت بعد ذلك اتفاق سوتشي مع تركيا لإيقاف الهجوم عند الجيب الذي تمكن الجيش التركي وفصائل المعارضة من السيطرة عليه بين مدينتي رأس العين وتل أبيض.

وعلى اعتبار أن الجيش الروسي يسيطر على الأجواء السورية في غرب الفرات فإن تأكيد روسيا على عدم رغبتها في مواجهة أي عملية تركية في منطقتي تل رفعت ومنبج يكتسب أهمية كبيرة تفوق أهمية الموقف السياسي المعارض لها، وسيعني أنه سيكون بمقدور الجيش التركي استخدام سلاح الجو لضرب الوحدات الكردية في المنطقتين دون خطر التعرض للاستهداف من قبل منظومات الدفاع الجوي الروسية، لكن ما يجب أخذه بعين والاعتبار -وهو ما ألمحت له موسكو- هو خطر وقوع صدام عسكري بين تركيا من جهة والنظام السوري والقوات الحليفة لإيران من جهة ثانية.

مثل هذا السيناريو حصل بالفعل قبل عامين ويمكن أن يتكرر مجددا، وما يزيد مخاطره أن دمشق وطهران تسعيان بشدة إلى منع تركيا من السيطرة على مزيد من الأراضي بقدر ما أن الحياد العسكري الروسي في أي عملية تركية جديدة سيفيد تركيا إلا أن موقف موسكو لا يزال حيويا في منع تطور الأحداث إلى مواجهة أوسع يصعب احتواؤها وقد تؤدي إلى انهيار كامل لاتفاق وقف إطلاق النار في إدلب.

بعد اتفاق سوتشي في 2019 كانت تل رفعت ومنبج محور مفاوضات مستمرة بين أنقرة وموسكو، وقد تعهدت الأخيرة لتركيا بإخراج الوحدات الكردية منهما مقابل عودتها لسيطرة دمشق، لكن ذلك لم يحصل.

وترى روسيا حاليا أن إعادة إحياء الاتفاق تشكل تسوية محتملة للصراع حول تل رفعت ومنبج، لكن الظروف اليوم تبدو مختلفة عن تلك التي كانت قبل 3 سنوات لـ4 اعتبارات:

أولا: إن العودة إلى تفاهم سوتشي لن تعالج الهواجس التركية بشأن وجود الوحدات الكردية في غرب الفرات.

ثانيا: على اعتبار أن قبول تركيا بسيطرة النظام على المنطقتين سيفتح الباب أمام نقاش بشأن مستقبل المناطق الخاضعة لسيطرتها وعودة النظام إليها فإن أنقرة ليست حاليا بوارد الخوض في هذا النقاش.

ثالثا: مثل هذه التسوية ستعمق بشكل أكبر العلاقة القائمة بين الوحدات الكردية وكل من دمشق وموسكو.

رابعا: يشكل توسيع حدود المناطق الآمنة لإعادة اللاجئين السوريين إليها أحد الأهداف الرئيسية للعملية التركية المحتملة، وبالتالي فإن السيطرة على تل رفعت ومنبج تكتسب أهمية في حسابات أنقرة.

ومنذ أن تحدث الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل أكثر وضوحا عن نية العملية العسكرية ثارت الكثير من التساؤلات حول توقيتها ونطاقها الجغرافي، ومع توضيح أنقرة المناطق المستهدفة في العملية المحتملة -وهي تل رفعت ومنبج- لا تزال تتريث في إطلاق الهجوم بهدف تهيئة الأرضية الميدانية والدبلوماسية المناسبة.

إن الصراع التركي مع الوحدات الكردية لا يرتبط فقط بظروف علاقات أنقرة مع موسكو بل مع واشنطن أيضا، لكن حصر العملية المحتملة في مناطق خاضعة للنفوذ الروسي وليس الأميركي يجعل من التفاهم مع روسيا وليس الولايات المتحدة أولوية تركية رئيسية.

وحقيقة أن معظم التفاهمات التي أبرمها البلدان في سوريا قامت على مبدأ المقايضة فإن موسكو ستسعى على الأرجح للحصول على بعض المكاسب مقابل الحد من التكاليف المترتبة على تركيا.

ومؤخرا أقر مسؤولون روس بأن القيود التي فرضتها تركيا على حركة وصول القوات الروسية من وإلى سوريا تسببت بمشاكل لوجستية للجيش الروسي وطالبوها برفع بعضها، ولا سيما إنهاء إغلاق المجال الجوي أمام حركة عبور الطائرات الروسية التي تقل أسلحة وعتادا إلى سوريا.

وفي ظل إصرار أنقرة على تنفيذ عملية عسكرية جديدة فإنه إلى جانب الحياد العسكري ستسعى موسكو إلى رسم خطوط حمراء أمام حدود هذه العملية بحيث لا تتجاوز “أوتستراد إم 4” الدولي بالنظر إلى أهميته الإستراتيجية بالنسبة لدمشق، كما ستضغط على أنقرة لتنفيذ أحكام البروتوكول الإضافي لمذكرة إدلب، والذي ينص على فتح طريق “إم 4” في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، مثل هذه المقايضات المحتملة سيُنظر إليها في أنقرة وموسكو وربما دمشق وطهران على أنها صفقة مربحة للجميع.

لقد أثبتت تجارب التفاهمات التركية الروسية في سوريا قدرة الطرفين على تدوير الزوايا والوصول إلى توافقات مشتركة تلبي مصالح الجانبين، وانطلاقا من ذلك فإن أولويات موسكو حاليا تتركز على عدم إظهار تحدي مصالح أنقرة الأمنية في سوريا ودفعها في المقابل إلى الدخول في مفاوضات مع دمشق حول بعض الترتيبات بخصوص شمال غرب البلاد.

وأخيرا، يشير الغموض البناء الذي تنتهجه روسيا في هذه المسألة إلى أن الشراكة الروسية التركية -التي تتجاوز حدود سوريا- لا تزال تتفوق في تشكيل الموقف الروسي مع أنقرة على أي اعتبارات أخرى.

باحث في العلاقات الدولية

—————————-

روسيا وإيران تسرّعان مشروعهما المنافس لقناة السويس/ جلبير الأشقر

من الطبيعي أن تكون إحدى نتائج العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا تحفيز سعي هذه الأخيرة وراء إيجاد طُرُق للالتفاف على العقوبات. فمنذ الإجراءات التي اتخذتها الدول الغربية لمعاقبة روسيا إثر ضمّها لشبه جزيرة القرم وتدخّلها الأول في منطقة دونباس في شرقي أوكرانيا في عام 2014، وروسيا تعمل بشغف على تجاوز العقبات الناجمة عن القرارات الغربية بما يتعلّق بتجارتها الخارجية. ومن الطبيعي كذلك أن تلتقي إيران التي تعاني هي أيضاً من عقوبات غربية، لاسيما العقوبات الأمريكية المتشدّدة التي فرضها عليها دونالد ترامب في عام 2018 وهو يسحب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الذي كان سلفه باراك أوباما قد أشرف على إبرامه في عام 2015، من الطبيعي أن تلتقي إيران مع روسيا في المسعى ذاته.

من هذا المنظور، فإن الحرب التي شنّها فلاديمير بوتين على أوكرانيا منذ أربعة أشهر أسعدت الحكام الإيرانيين بما يفسّر موقفهم المرحّب بها. ذلك أن تلك الحرب، فضلاً عن أنها تُضعف قدرات روسيا في الساحات الأخرى، ومنها الساحة السورية حيث يقوم تنافس معروف على النفوذ بين موسكو وطهران، تلك الحرب إذاً من شأنها أن تقلب العلاقات الاقتصادية بين روسيا وإيران لمصلحة هذه الأخيرة. هذا ما أشار إليه الباحث الإيراني الأصل علي فتح الله نجّاد في تفسيره لتغيير روسيا موقفها من مفاوضات فيينا الخاصة بإعادة إشراك أمريكا في الاتفاق النووي مع إيران.

فبعد أن كانت موسكو قد وضعت عقبة جديدة أمام المفاوضات بإصرارها على التزام الدول الغربية المشارِكة في الاتفاق بأن تستثني التبادلات بين إيران وروسيا من العقوبات الجديدة المفروضة على هذه الأخيرة، عادت موسكو فأعلنت حلّ الإشكال بليونة ملفتة. وقد لاحظ فتح الله نجّاد «أن تحرير إيران من العديد من العقوبات المفروضة عليها قد يساعد روسيا على الالتفاف على نظام العقوبات الثقيل الذي باتت الآن تواجهه»، وهو ما حدا موسكو على تسهيل التقدّم في مفاوضات فيينا بعد عرقلتها، توخّياً لإنجاح المفاوضات بحيث يُزال معظم العقوبات المفروضة على إيران. وقد استطرد الباحث قائلاً: «إنه حقاً انقلاب عظيم عمّا ساد حتى الآن عندما كانت إيران تحت وطأة عقوبات مؤلمة تنظر إلى روسيا كي تدعمها.»

هذا وكانت الدولتان قبل سنة، إثر حادثة إغلاق قناة السويس لستة أيام من جراء جنوح سفينة حاويات عملاقة في شهر مارس/ آذار 2021، قد التقتا على التشديد على أهمية تسريع إنجاز مشروع «معبر النقل الدولي بين الشمال والجنوب» بوصفه بديلاً عن القناة المصرية. والمعبر هذا مشروعٌ أقرته روسيا والهند وإيران قبل عشرين عاماً بالتحديد (تم توقيع الاتفاق في مايو/ أيار 2002) واشتركت فيه جملة من دول آسيا الوسطى والقوقاز كانت في الماضي من جمهوريات الاتحاد السوفييتي.

يهدف المشروع إلى إرساء طريق نقل من دائرة المحيط الهندي الواسعة بما فيها الخليج، وليس شطره الإيراني وحسب (تم إشراك سلطنة عُمان في المشروع)، طريق ينطلق من ميناء مومباي الهندي بحراً إلى ميناء بندر عبّاس في جنوب إيران ويستمرّ برّاً بواسطة السكك الحديدية ليعبر إيران وأذربيجان وروسيا من حدودها القوقازية إلى حدودها الأوروبية الشمالية. وللمشروع فرعٌ ثان ينتقل من إيران إلى روسيا عبر بحر قزوين، وثالث يمرّ عبر كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان في آسيا الوسطى. وبالطبع فإن الطريق البرّي إلى الشمال الأوروبي عبر كازاخستان ممرّ يهمّ الصين أيضاً بحيث يكون لدى دولتي آسيا العملاقتين، الصين والهند، بديل عن المعبر العادي عبر قناة السويس، فضلاً عن سائر دول جنوبي آسيا وشرقيها.

في الأسبوع الماضي، وقّعت إيران على مذكّرة تفاهم مع روسيا لتسهيل المعاملات المالية والتجارية بين البلدين على خلفية العقوبات الغربية المفروضة عليهما، وقد نصّت المذكّرة على «تسريع مشروع المعبر بين الشمال والجنوب»، الذي هو قيد التجهيز من خلال بناء البنى التحتية اللازمة له من موانئ وسكك حديدية وطرقات. ومن المحتّم أن يخّفض المشروع من عبور قناة السويس، الذي هو أحد مصادر دخل الدولة المصرية الرئيسية، إذ قدّرت دراسة أعدّتها جمعية الشحن الهندية أن المعبر سوف يوفّر على النقل بين الهند وأوروبا ثلث كلفة طريق السويس وأكثر من نصف مدّته (23 يوماً بدل 45 إلى 60 يوماً في الوقت الراهن). وكل ما سبق تأكيد جديد للحكمة القديمة القائلة إن مصائب قوم عند قوم فوائد.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

——————-

الحرب العالمية الثالثة والطريق إلى تغيير النظام الدولي بالقوة/ إبراهيم نوار

في تاريخ البشرية لم يحدث الانتقال من نظام عالمي إلى آخر سلميا، وإنما ارتبط ذلك بتطورات عنيفة انتهت إلى حروب مدمرة، أسفرت عن سقوط قوى وصعود أخرى، وتغيير القوى المسيطرة على عجلة القيادة.

نهاية الحرب العالمية الأولى شهدت سقوط روسيا القيصرية وصعود البلاشفة، وسقوط تركيا العثمانية وصعود القوميين الكماليين، وسقوط ألمانيا الإمبراطورية وصعود النازيين الهتلريين، وانتقال السيطرة على الشرق الأوسط من العثمانيين الأتراك إلى الإنكيز والفرنسيين. نهاية الحرب العالمية الأولى سجلت أيضا انتصار القوى البحرية على القوى البرية. وقام على إثر ذلك نظام عالمي جديد تقوده القوى البحرية.

نهاية الحرب العالمية الثانية أسفرت عن إعادة تشكيل هيكل القوة، وإقامة نظام متعدد الأطراف، تحول بسرعة إلى نظام «ثنائي القطبية»، حيث أصبحت الولايات المتحدة وروسيا هما قائدتا العالم. الولايات المتحدة تحملت مسؤولية إعادة بناء أوروبا الغربية، خشية استمرار تمدد النفوذ الروسي عبر ألمانيا الشرقية وبولندا، وبدأت تنفيذ خطة مارشال الاقتصادية، وأقامت نظاما دفاعيا مستقلا مع حلفائها في إطار «حلف شمال الأطلنطي». وتحملت روسيا مسؤولية إعادة بناء القسم الشرقي من شمال العالم اقتصاديا وسياسيا، فأنشأت «الكوميكون» لتنظيم التعاون والتنمية الاقتصادية. كما أنشأت «حلف وارسو» ليكون المنظمة الدفاعية لمجموعة الدول الاشتراكية. هذه الثنائية في هيكل النظام العالمي، كانت منصة انطلاق الحرب الباردة بين الكتلتين، أو ما أطلقت عليه روسيا «المباراة السلمية»، وما أطلقت عليه الولايات المتحدة سياسة «الاحتواء». ومع ذلك فإن نظام «حق الفيتو» في مجلس الأمن ضمن لكل من روسيا والصين، ألا تتصرف أي من القوى الأخرى منفردة خارج الشرعية الدولية. وقد استمر هذا النظام حتى بدأت روسيا تعاني من «الشيخوخة» السياسية، وركود عملية التجديد التكنولوجي والاجتماعي، وتحول الحزب الشيوعي السوفييتي إلى جهاز بيروقراطي ضخم مليء بالفساد. حدث ذلك بينما كان التحالف الغربي يعمل منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي على تحقيق هدف واضح، هو اختراق سور برلين وإسقاطه من دون حرب. وقد قام زبيجنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس رونالد ريغان بهندسة عملية التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان، ووقعت القوات الروسية في الفخ. وبينما كانت روسيا مشغولة بحرب أفغانستان، وبمفاوضات الحد من التسلح، كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تستعدان فعلا للانقضاض على أوروبا الشرقية، لتحريرها من النفوذ السوفييتي. ثم سقط الاتحاد السوفييتي نفسه وتفكك من دون طلقة رصاص؛ فكان ذلك إعلانا بانتصار الولايات المتحدة في «الحرب الباردة»، وسقوط النظام العالمي «ثنائي القطبية». نهاية الحرب الباردة كانت تعني عمليا قيام نظام عالمي جديد «أحادي القطبية»، ومع أن مؤسسات النظام الدولي لم تتغير شكليا، فإن الولايات المتحدة استطاعت التحرك داخلها وخارجها، باعتبارها القوة المهيمنة. ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، تحركت على جبهتين أساسيتين: الأولى هي شن حروب من دون الحصول على موافقة الأمم المتحدة، أو بالضغط على روسيا والصين للامتناع عن استخدام حق الفيتو. والثانية هي استخدام العقوبات الاقتصادية، خارج إطار النظام الدولي؛ فأصبحت العقوبات الأمريكية المتنوعة نظاما يمثل قيدا ثقيلا على مرونة وتطور النظام العالمي، حيث فرضت واشنطن عقوبات ثانوية، أو مارست ضغوطا على الدول التي لا تلتزم بتلك العقوبات.

عناصر التوتر في الوقت الحالي

السمة الأساسية للخلل في النظام العالمي الحالي تتمثل في الانقسام حول طبيعة هذا النظام وقيادته. في جانب تقف الولايات المتحدة ومعها دول حلف الأطلنطي، على رأس معسكر الدفاع عن النظام الأحادي القطبية. وفي الجانب الآخر تقف الصين وروسيا، تدعوان لإقامة نظام دولي متعدد الأطراف، يقوم على قواعد متفق عليها، وعلى الانفتاح والعولمة والاعتماد المتبادل، وإفساح المجال للدول النامية الصاعدة للمشاركة في قيادة العالم.

الموقف الروسي

في كلمته الافتتاحية للمنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبورغ في الأسبوع الماضي، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن النظام العالمي «الأحادي القطبية» الذي نشأ بعد الحرب الباردة قد انتهى، ووصف الإدارة الأمريكية، ودول حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي بأنهم يعيشون في وهم كبير، وأنهم يفكرون بعقلية القرن الماضي. وقال إنهم يتجاهلون حقيقة بروز مراكز جديدة في العالم، تعمل على تطوير نفسها وفق الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي اختارتها، من دون وصاية أو تدخل من الولايات المتحدة أو غيرها. وعندما تعرض للحرب الأوكرانية استبعد بشكل قاطع تقديم تنازلات تتعلق بضمان أمن بلاده، واتهم الدول الغربية بدفع أوكرانيا إلى كارثة أكبر، بتشجيعها على مواصلة الحرب، بدلا من التفاوض من أجل السلام. وهاجم بوتين نظام العقوبات الغربية ضد بلاده، وقال إنها ارتدت عكسيا عليهم، في صور نقص في إمدادات الطاقة والغذاء، وارتفاع التضخم والركود.

الموقف الصيني

كلمة الرئيس الصيني شي جين بينغ الموجهة إلى المنتدى نفسه ومداخلاته وتصريحاته في الأشهر الأخيرة، تدعو إلى ضرورة إقامة «نظام عالمي متعدد الأطراف»، وتمكين الدول النامية الصاعدة من أن تلعب دورا أكبر في قيادة النظام العالمي الجديد، لكي تحقق تنمية متوازنة ومنسقة ومستدامة تشمل جميع مواطنيها وتعود بالخير عليهم، وبناء مستقبل مشترك مع العالم أجمع يقوم على الخير والسلام. وأكد شي أن الصين تقف إلى جانب روسيا وغيرها من الدول التي تسعى إلى المشاركة في تعميق وتوسيع نطاق التعاون في إطار العولمة.

الموقف الأمريكي

الهدف المعلن للتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة هو إطالة أمد الحرب الأوكرانية، والاستمرار في إمدادها بالسلاح والذخيرة والمال والمعلومات المخابراتية، والتدريب اللازم. وقد أدت هذه الإمدادات فعلا إلى جعل الرئيس الأوكراني زيلينسكي أكثر تشددا، وأقل انفتاحا على فكرة التفاوض، أو القبول بأي تنازلات جغرافية في في المناطق الحدودية بين البلدين. جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي أكد هذه الاستراتيجية، لكنه قال إن الحوار مع كييف يتضمن أيضا بحث طبيعة الضمانات التي يمكن أن تقدمها أوكرانيا في حال التفاوض مع الروس. الرئيس الفرنسي ماكرون يقف في الصف نفسه، وقال إن فرصة التفاوض بين موسكو وكييف ستظهر فقط بعد أن تتمكن القوات الأوكرانية من الانتصار والسيطرة على إقليم دونباس ومنطقة جنوب شرق أوكرانيا بأكملها. وأكد على المعنى نفسه الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ. بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا يدعو إلى استمرار الحرب «حتى هزيمة روسيا»!

رؤية هنري كيسنجر

في مداخلة هنري كيسنجر أمام منتدى دافوس في الشهر الماضي، أثار بدقة النقاط التالية: إن الصراع الحالي في أوكرانيا، يمكن أن يعيد تشكيل هيكل النظام العالمي. وأن الطريقة التي ستدير بها القيادة السياسية في كل من الولايات المتحدة والصين العلاقات بين البلدين، سوف تترك أثرا قويا على هيكل وطبيعة النظام الدولي في المستقبل. وأن «العولمة» باقية، لأن العالم الذي نعيش فيه هو عالم يعيش على أسس «الاعتماد المتبادل». وأن ما يحتاجه العالم هو «سلام طويل الأجل» على أسس براغماتية. ودعا كيسنجر إلى ضرورة أن يقوم المجتمع الدولي بمساعدة روسيا وأوكرانيا على الجلوس معا، والتفاوض لإنهاء الحرب، وأن تكون أوكرانيا جسرا يربط بين روسيا وأوروبا، لا أن تكون خط مواجهة يفصل بينهما. وحذر من أن روسيا إذا وجدت نفسها معزولة عن أوروبا، فإنها ستلجأ إلى بناء تحالفات في أماكن أخرى من العالم. وقال كيسنجر إن التطور التكنولوجي السريع، وأجهزة الذكاء الاصطناعي، وتطوير أنواع خارقة من السلاح، سيضع دولا جديدة على خريطة القوى الرئيسية في العالم.

حرب أم سلام؟

اتساع نطاق تداعيات الحرب الأوكرانية على مستوى العالم كله، من شأنه أن يقيم حاجزا بين الولايات المتحدة ورغبتها في إشعال حرب جديدة مع الصين؛ فالعالم لا يتحمل حربين في وقت واحد، ولا الولايات المتحدة تتحمل الدخول في حرب مع الصين. ومع ذلك فإن النظام العالمي لن يبقى على حاله، ولن تتوقف محركات تغييره. لكن سقوط النظام «الأحادي القطبية»، وقيام نظام جديد «متعدد الأطراف» هو عملية تاريخية، وليس انتقالا من حالة إلى حالة. وإذا طالت الحرب الأوكرانية فإنها ستعجل بقيام النظام الجديد، وليس ترسيم النظام القائم، على عكس ما تعتقد الولايات المتحدة. روسيا بدأت فعلا في تعزيز علاقاتها خارج أوروبا، كما توقع كيسنجر، لكنها لن تقبل بالعزلة عنها. أما الصين، وحتى تزيل أي وهم لدى صناع الحرب، فإنها تعمد إلى استعراض قوتها العسكرية من باب أن إظهار الاستعداد للحرب يمنع وقوعها. وفي غير الحرب فإن ميادين ممارسة القوة الناعمة والاختراق من الداخل، واستعراض الأسلحة الجديدة، تمثل ساحات واسعة للمنافسة. نحن فعلا في خضم حرب تغيير النظام العالمي.

كاتب مصري

القدس العربي

——————————-

بوتين من ميونخ إلى بطرسبورغ/ أرنست خوري

بين فترة وأخرى، يتوقف صحافيون ومتابعون وأكاديميون، وأحياناً سياسيون، عند خطاب مفصلي يلقيه فلاديمير بوتين. أحد خطاباته الذي أسال حبراً كثيراً يعود تاريخه إلى فبراير/ شباط 2007، وقد احتضنه مؤتمر ميونخ للأمن. أما أحدثهم شهرة، فهو الذي أدلى به على امتداد 73 دقيقة يوم الجمعة الماضية، في 17 يونيو/ حزيران، خلال الجلسة العامة لمنتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي الخامس والعشرين. بين 2007 و2022 تحوّل العالم. تحوّل كل شيء إلا فلاديمير بوتين. كأنها كانت أكثر بكثير من 15 عاماً بالنسبة إلى العالم، وكأنه كان الأمس بالنسبة إلى بوتين. تغيرات كثيرة داخل روسيا وداخل أميركا، داخل “الغرب” الذي يعاديه بوتين وداخل بلدان الشرق. في حلف شمال الأطلسي وبلدان الاتحاد الأوروبي، في نظرة روسيا إلى نفسها كأوروبية أو كأوراسية وإلى العالم، في نظرة العالم إلى روسيا وأخيراً في تجويع روسيا ــ بوتين للعالم و”تربيته” بسلاح الغذاء ومصادر الطاقة والأسمدة.

حين ألقى بوتين خطاب ميونخ، كان سجله الحربي متواضعاً. حرب واحدة في الشيشان، لم يفجرها هو، بل أدارها وأنهاها، ومعروفٌ أن فلسفة الرجل في إنهاء الأمور ممهورة بختمه: سياسة “الأرض المحروقة” التي صارت “مدرسة”. في خطابه ذاك، خلطة من إهانة ذكاء المستمعين والشعبوية والتبسيط الذي يُشعر المخاطَب بضيق لا يطاق في الصدر، إلا أولئك الذين يرون ملامح لينين على قسمات بوتينهم، وهؤلاء الذين وجدوا قائداً لا يشبه الآخرين، سيخلّص البشرية من الأحادية القطبية ليدخل النظام العالمي الجديد الروسي ــ الصيني حيّز التنفيذ. يستغرب بوتين في ميونخ كيف “ترفض بلدان عقوبة الإعدام بينما تشارك في حروب غير شرعية يسقط فيها مئات آلاف الضحايا”. هذا كلام بوتين لا الأم تيريزا ولا المهاتما غاندي. ثم يضع على لسانه كلمة ديمقراطية، ولا يتعب من تكرارها، ويحدّد سبب مشكلته مع العالم الذي تحكمه الأحادية القطبية بأنه “يجافي الديمقراطية”. ولأن هذا العالم تحكمه أحادية قطبية، يتابع الرئيس الروسي، فقد “ازدادت الحروب المحلية والإقليمية وبتنا نشهد استخداماً غير مضبوط ومبالغاً فيه للقوة العسكرية في العلاقات الدولية”. أكثر من ذلك، يحمّل بوتين في خطاب ميونخ أميركا مسؤولية التسبّب في سباق تسلح عالمي. ولكي يقنع أميركا والغرب وأوروبا تحديداً بفوائد الديمقراطية التي لا يعرفونها هناك في تلك البلدان، يدعوهم إلى تأمّل تجربة التحوّل السلمي نحو الديمقراطية في بلدان المعسكر الاشتراكي التي راح يقضمها بوتين الواحدة تلو الأخرى ويضمها إلى الأراضي الروسية.

ذهبت الأيام وعادت الأيام، ووصلنا إلى بطرسبورغ من بعد حروب جورجيا والقرم فسورية وأوكرانيا وجبهات “فاغنر” متعدّدة القارات، فتلويح بالضغط على الزر النووي بحماسة منقطعة النظير وتجويع الكرة الأرضية… كل شيء في العالم تغير إلا فلاديمير بوتين. موقع “روسيا اليوم” (هناك من يسميه وسيلة إعلامية) فرّغ جزءاً مطولاً من كلمة بوتين في بطرسبورغ. الديمقراطية، بعدما كررها مراراً في ميونخ، وردت مرة واحدة على لسان الرجل في خطاب يوم الجمعة الماضية، وفي أي سياق؟ في قوله إن “العمليات الديمقراطية في أوروبا تشبه السيرك”. معروف منذ أيام الرومان أن السيرك يتقاسمه مهرجون وراقصون وممثلون كوميديون وأكروباتيون. هؤلاء بالنسبة إلى ضابط الاستخبارات، أدنى مراتب البشر ربما لكي يجعلهم تجسيداً لشتيمة تليق باحتقاره الديمقراطية. في خطاب بطرسبورغ، لدينا حكمة من نوع أن “لا علاقة للعملية العسكرية الخاصة (الحرب على أوكرانيا) بارتفاع أسعار الغاز في أوروبا”، وبشرى أن روسيا “تبتعد عن العولمة”، وجزم بأن جوهر المشكلة العالمية الحالية يكمن “في السياسات الاقتصادية الغربية في الفترة الأخيرة”.

كم هو حقير هذا العالم الذي نعيش فيه، وكم هو مهين أن يضطر المرء إلى تهذيب مفرداته لدى الكتابة عن رجل يقتل ويحتل ويقضم بلداناً ويهين شعوباً ويهدد ويجوّع ويبتزّ… وفي النهاية يخبرنا عن بشاعة الأحادية القطبية الأميركية.

العربي الجديد

—————————–

نيران الحرب في أوكرانيا تهدد بإحراق الاقتصاد الأوروبي/ أنطوان الحاج

تعددت تعريفات الحرب على مر التاريخ، لكنها أجمعت على أنها نزاع مسلح بين أمّة وأخرى أو داخل أمّة واحدة تضم مجموعات مختلفة. وإذا كانت الحساسيات القومية أو الدينية من أسباب الحرب، فإنها تبقى ثانوية أمام «المصالح»، وهي كلمة تجمع كلمتين: الأرض والموارد.

قال كلاوس فون كلاوسيفيتز (1780 – 1831)، الجنرال البروسي (الألماني) والمنظّر الإستراتيجي، إن «الحرب ليست سوى مبارزة على نطاق واسع… عمل عنيف يهدف إلى إجبار خصمنا على تحقيق ما نريد». ولعل عبارة «ما نريد» شرحها المؤرخ الألماني المعاصر يوهانز فريد عندما كتب عن أهداف الحرب أنها «الفوائد الإقليمية أو الاقتصادية أو العسكرية أو غيرها من الفوائد المتوقعة بعد الخاتمة الناجحة للحرب».

مهما تعدّدت القراءات تظل الأرض ومواردها السبب الأول للنزاعات، وبتعبير آخر الاقتصاد هو السبب الأول، وفي الموازاة هو المتأثر الأول بالحرب سلباً أو إيجاباً، سلباً للأكثرية وإيجاباً لمن يحسن اقتناص الفرص وتحويل التداعيات لمصلحته.

وبما أن أوكرانيا هي مسرح الحرب فإن اقتصادها تضرر وسيتضرر أكثر بطبيعة الحال. وعلى الطرف الآخر لا يبدو أن اقتصاد روسيا تضرر كما كان متوقعاً، لأن مبيعات الطاقة لا تزال نشطة على الرغم من عدم انتقال مشروع «نورد ستريم 2» لنقل الغاز إلى ألمانيا إلى حيّز التنفيذ، فيما الروبل يتقدم على حساب الدولار واليورو. غير أن البحث هنا لا يتصل بأوكرانيا وروسيا، بل بأوروبا، وهي «المسرح الأكبر» للحرب والمتوجس الأول من تداعياتها.

ورد في مدوّنة صندوق النقد الدولي أن الحرب في أوكرانيا «تمثل انتكاسة خطيرة لانتعاش أوروبا غير المكتمل بعد مرحلة جائحة كورونا، الأمر الذي جعل الاستهلاك والاستثمار أقل بكثير من المستويات التي كانا عليها ما قبل الجائحة (…). ويؤدي الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والغذاء إلى توليد ضغوط عميقة على مالية الأُسر، كما أن حالة عدم اليقين تبطئ حركة الاستثمار».

ولا ننسى أن الكارثة الإنسانية في أوكرانيا تنعكس مباشرة على كل دول أوروبا، لأن حوالى 5 ملايين أوكراني تركوا بلادهم في أكبر نزوح جماعي شهدته القارة منذ الحرب العالمية الثانية. وتوجه العدد الأكبر من النازحين إلى بولندا ورومانيا والمجر ومولدوفا. وكان لا بد للاتحاد الأوروبي من أن يحتضن الذين شردهم الغزو الروسي، ويمنحهم أذونات إقامة وعمل، ويمدّهم بالمساعدات الاجتماعية. وبالطبع يشكل هذا الأمر عبئاً اقتصادياً كبير على دول تعاني ماليتها العامة في الاصل عجزاً تتفاوت نسبه بين دولة وأخرى.

*توقعات سلبية

يفيد أحدث تقرير لصندوق النقد عن التوقعات الاقتصادية في أوروبا بأن النمو المقدَّر على صعيد القارة تراجع نقطة مئوية واحدة إلى 3% عام 2022 مقارنة بتوقعات يناير (كانون الثاني). أما في ما يخص الاقتصادات الناشئة في القارة، فقد تراجع النمو المتوقع بمقدار 1.5 نقطة مئوية إلى 2.7%. وتبدو المشكلة أكثر حدة في الاقتصادات الكبرى، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة، إذ إنها لن تحقق سوى نموّ ضئيل، بل مع احتمال أن يكون النمو سلبياً لربعين متتاليين هذا العام.

الموقع الإلكتروني للدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية (الاتحاد الأوروبي)، لا يرسم صورة أفضل. ويكتب في مدوّنة الموقع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل: «الحرب في أوكرانيا هي الصدمة الثالثة غير المتكافئة، كما يسميها الاقتصاديون، التي شهدها الاتحاد في العقدين الماضيين، بعد الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008 وأزمة منطقة اليورو التي تلتها، ثم جائحة كوفيد – 19. الصدمة غير المتكافئة هي التغيّر المفاجئ في الظروف الاقتصادية التي تؤثر على بعض دول الاتحاد الأوروبي أكثر من غيرها. في الواقع، للحرب في أوكرانيا تأثير أكبر بكثير على البلدان المجاورة بسبب تدفق اللاجئين والاعتماد الكبير على الغاز الروسي».

يحيلنا هذا الكلام مباشرة على أزمة الطاقة التي سبّبها الهجوم الروسي على أوكرانيا، وما تبعه من عقوبات على موسكو طاولت قطاع النفط، فما كان من فلاديمير بوتين إلا أن راح يقفل صمامات ضخ الغاز إلى أوروبا تدريجاً، فيما طفق يبحث عن أسواق بديلة (الصين خصوصاً) لمنتجات الطاقة التي تخرج من أرض بلاده. وهذا ما أدى إلى ارتفاعات خيالية لأسعار الطاقة، خصوصاً الغاز الذي تجعل أسعاره تفكير الدول الأوروبية في البرد الآتي مع حلول الخريف ثم الشتاء كابوساً حقيقياً…

لا شك في أن المؤشر الاقتصادي الأكثر تعبيراً وصدقاً هو معدّل التضخم، أي الغلاء بلغة المستهلك العادي. فقد بلغ معدل التضخم السنوي في منطقة اليورو (الدول الـ19 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تعتمد العملة الموحّدة) 8.1٪ في مايو (أيار) الماضي مقابل 7.4% في مارس (آذار)، ارتفاعًا من 7.4٪ في أبريل (نيسان)، وفقًا للجهاز الإحصائي للاتحاد الأوروبي «يوروستات». وخارج الاتحاد بلغ التضخم في بريطانيا، على سبيل المثال، 9.1% في مايو، وهو المستوى الأعلى في أربعة عقود.

وبقليل من التفصيل، سجلت أسعار الطاقة أعلى معدل للتضخم على أساس سنوي بلغ 39.2% في مايو مقارنة بـ 37.5% في أبريل. وحلت في المرتبة الثانية أسعار الأغذية والتبغ (7.%)، تلتها السلع الصناعية (4.2%) والخدمات (3.5%).

*سلسلة تحديات

في ظل هذه الوقائع، تواجه القارة الأوروبية تحديات اقتصادية هائلة، في موازاة الأخطار الجيوسياسية والأمنية.

أول التحديات ضرورة لجم التضخم الذي يضرب القدرة الشرائية للفرد والأسرة. ولم نرَ حتى الآن من تدابير سوى رفع المصارف المركزية لأسعار الفوائد خفضاً للاستهلاك. إلا أن هذا الأمر يقوّض البيئة الاستثمارية، وبالتالي يؤدي إذا استمر إلى فقدان وظائف وإبطاء النمو وصولاً إلى الانكماش والركود…

على الدول الأوروبية التفكير في مصادر بديلة من روسيا للطاقة، خصوصاً الغاز الذي لا غنى عنه لتوليد الكهرباء والتدفئة وتحريك النشاط الصناعي… وحتى الآن لا ملامح واضحة لهذه البدائل، الأمر الذي يعطي روسيا اليد الطولى في هذا المجال، خصوصاً إذا وجدت هي البدائل لتصريف إنتاجها وتخلت عن الأسواق الأوروبية، علماً أن بعض هذه لا تريد أن تستغني عن الغاز الروسي، وهو ما ينعكس خلافات سياسية داخل عائلة الاتحاد الأوروبي.

لا تستطيع الدول الأوروبية المضيّ في فرض الحزمة تلو الأخرى من العقوبات على روسيا، لأن هذا الأمر يجعل سلاسل التوريد العالمية تضطرب، ولا سيما إمدادات الغذاء. وليس منطقياً هنا أن تطالب الدول روسيا بتسهيل تصدير الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، وفي الوقت نفسه تواصل مراكمة العقوبات عليها.

إذا كان مفروغاً منه أن الدول الأوروبية ستبقى بجانب أوكرانيا في الحرب، فإن عليها أن تصارح مواطنيها أكثر بأن لذلك ثمناً، ليس أقله التضخم وأكلاف المعونات التي تقدَّم للنازحين الأوكرانيين والمساعدات العسكرية الكبيرة التي تذهب إلى كييف…

يضاف إلى ذلك كله أن على قادة أوروبا أن يفكروا أيضاً أنه بعد نهاية هذه الحرب المدمّرة لا بد من إعادة بناء أوكرانيا قوية اقتصاديًا لتشجيع اللاجئين على العودة. ولا شك في أن إعادة بناء البنية التحتية سيتطلب تمويلاً كبيراً قد يستعاد بعضه وقد يكون البعض الآخر هبات ومنحاً.

الخلاصة، أن الحرب في أوكرانيا تشكل في وجهها الاقتصادي عبئاً كبيراً على طرفيها بالطبع، ولكن أيضاً على أوروبا والعالم. وإذا كان هناك من يظن أن طريق الانتعاش والازدهار لا بد أن يمر في قيعان الانكماش والركود، فإن عليه أن يفكر في الأثمان التي تدفعها على امتداد هذا الطريق الشاق المجتمعات والشعوب…

———————–

الكرملين يقر بأن الصراع في أوكرانيا «طويل الأمد»/ رائد جبر

مواجهات ضارية في دونباس… وموسكو تلوح مجدداً بقبضتها الصاروخية

في تطور لافت على التصريحات الرسمية الروسية أقر الكرملين للمرة الأولى أمس، بأن الصراع في أوكرانيا قد يمتد لفترة زمنية طويلة. وكان مسؤولون روس قد ألمحوا في وقت سابق إلى استعداد بلاده لمواجهة تداعيات طويلة الأمد، لكن الديوان الرئاسي تجنب حتى الآن، إعطاء تعليقات على التوقعات المتعلقة بذلك، وخصوصاً التي تصدر عن قادة غربيين. وقال الناطق الرئاسي دميتري بيسكوف إن «الأزمة حول أوكرانيا ستطول»، مرجحاً أن التوتر بين روسيا والدول الغربية لن يشهد تراجعاً. وقال بيسكوف في حديث لوسائل إعلام أميركية إن بلاده «لن تثق بالغرب مرة أخرى» مشيراً إلى أن «الأزمة حول أوكرانيا سوف تمتد طويلاً».

وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد أعلن في وقت سابق أنه «على العالم الاستعداد لحقيقة أن الصراع في أوكرانيا سيكون طويل المدى وقد يمتد لسنوات».

وفي رسالة بدا أنها موجهة إلى الداخل الأميركي قال بيسكوف رداً على سؤال حول مصير أميركيين قاتلا إلى جانب أوكرانيا، إن بلاده لا يمكنها أن تضمن عدم صدور أحكام بالإعدام عليهما. لافتاً إلى أن هذا «شأن الهيئات القضائية والأمر يعتمد على مجريات التحقيق».

وكانت محكمة في دونيتسك قد أقرت حكماً بالإعدام على البريطانيين شون بينر وإيدن أسلين، والمغربي إبراهيم سعدون، ورجحت مصادر روسية أن يواجه جنديان أميركيان سابقان أسرا بالقرب من خاركوف هما ألكسندر دروك (39 عاما) وآندي وينه (27 عاماً) أحكاماً مماثلة. في الأثناء، لوح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مجدداً بقبضة بلاده الصاروخية الطويلة، وأعلن أمس، خلال لقائه مع خريجي الأكاديميات العسكرية في موسكو بأن الصاروخ طويل الأمد من طراز «سارمات» سوف يدخل الخدمة في القوات المسلحة الروسية نهاية العام الجاري.

وفي ربط مباشر للقرار مع التطورات الجارية في أوكرانيا، قال بوتين إن «الجميع يعرف الظروف الجديدة التي تضع الصعوبات والعراقيل أمام جميع القطاعات في الدولة، ومن بين ذلك الجيش والأسطول الروسيان، إلا أننا سنواصل التنمية والتطوير العسكري رغم كل هذه الصعوبات والعوائق».

وارتبط الصاروخ الحديث «سارمات» بالحرب الأوكرانية بعدما تم تنفيذ أول إطلاق له من قاعدة بليسيتسك الفضائية في منطقة أرخانغيلسك في 20 أبريل (نيسان) الماضي. وأعلنت القوات الصاروخية الروسية أنها سوف تبدأ قريباً بإدخال الصاروخ إلى الخدمة الميدانية في القطعات العسكرية. ويعد «سارمات» أحدث صاروخ عابر للقارات في روسيا، وهو قادر على توصيل رأس حربي نووي قابل للانشطار يصل وزنه إلى 10 أطنان إلى أي مكان في العالم.

وعلى صعيد آخر، بدا أن انعكاسات الوضع في أوكرانيا برزت بشكل متزايد على الوضع الأمني الداخلي في روسيا. وأفادت هيئة (وزارة) الأمن الفيدرالي الروسي أمس، بأنها أحبطت خلال شهرين عمل 43 ورشة لصناعة الأسلحة، وصادرت ما يقرب من 400 قطعة سلاح ومتفجرات وأكثر من 40 ألف طلقة في عموم البلاد.

ووفقاً لبيان الهيئة فقد تم تنفيذ عملية أمنية واسعة النطاق بالتعاون مع وزارة الداخلية الروسية وقوات الحرس الروسي استهدفت صانعي ومروجي الأسلحة غير الشرعية خلال شهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران) الجاري، تم على أثرها اعتقال 116 شخصاً من 38 منطقة وإقليماً في روسيا. وتم خلال الحملة ضبط مئات القطع من الأسلحة النارية أجنبية الصنع، وبنادق آلية ومدافع من طراز «هاون» وقاذفات مضادة للدروع وألغام أرضية. كذلك عثرت القوى الأمنية خلال الحملة على أكثر من 28 كيلوغراماً من المتفجرات ومئات القنابل اليدوية والذخائر المدفعية. ولم تكشف الهيئة تفاصيل إضافية عن حملتها، كما أنها لم تشر مباشرة إلى ارتباطها بالعملية العسكرية في أوكرانيا.

ميدانياً، تواصلت المواجهات الضارية على محاور القتال في إقليمي لوغانسك ودونيتسك، رغم إعلان موسكو المتكرر عن اقتراب القوات الانفصالية في لوغانسك من فرض سيطرة مطلقة على مدينة سيفيرودونيتسك الاستراتيجية وهي المعقل الأخير للمقاومة الأوكرانية في لوغانسك. وكانت موسكو قد تحدثت عن بدء عمليات الاستسلام للقوات الأوكرانية المحاصرة في مجمع «أزوت» الصناعي على أطراف المدينة.

في الوقت ذاته، بدا أن القوات الأوكرانية واصلت تكثيف ضرباتها على دونيتسك ولوغانسك. وأعلنت شرطة دونيتسك أمس، أن الفصائل المسلحة الأوكرانية قصفت خلال اليوم الأخير بشكل مكثف مواقع عدة بينها مراكز سكنية في المنطقة. وأفادت الشرطة في بيان، بأن القوات الأوكرانية أطلقت أكثر من 320 قذيفة على تسع مناطق خلال اليوم الماضي. بدورها، أفادت بعثة لوغانسك في المركز المشترك للإشراف على وقف إطلاق النار بأن القوات الأوكرانية قصفت مدينتي ستاخانوف وزيموغورييه بصواريخ «توتشكا».

في المقابل، أعلنت الدفاع الروسية أن قواتها صدت هجوماً للجيش الأوكراني على جزيرة زمييني (الأفعى)، كما ردت بقصف صاروخي على مطار قرب أوديسا، على الهجوم الأوكراني أول من أمس على منصات حفر بحرية روسية. وأفاد بيان أصدرته الوزارة بأن القوات الأوكرانية نفذت هجوماً قوياً هدف إلى محاولة استعادة السيطرة على الجزيرة من خلال شن ضربات جوية ومدفعية مكثفة تلتها محاولة إنزال للقوات. وأوضح البيان أن أكثر من 15 طائرة مسيرة أوكرانية بينها طائرات استطلاع وأخرى قتالية، شاركت في الهجوم. ورصدت القوات الروسية طائرة استطلاع أميركية حامت على ارتفاعات عالية أثناء محاولة الاقتحام. وأكد البيان أن أنظمة الدفاع الجوي الروسية تصدت للمحاولة. وأسقطت 13 طائرة بدون طيار، وأربعة صواريخ من طراز «توتشكا» و21 قاذفة من راجمات الصواريخ «أوراغان». كما أعلنت القوات الروسية أنها نفذت هجوماً على منصتي إطلاق لمنظومة الصواريخ المضادة للطائرات من طراز «إس 300» في مقاطعة أوديسا.

————————-

مساع لمناقشة خطة “مارشال” لإنقاذ أوكرانيا.. روسيا تتوعد ليتوانيا بردّ غير دبلوماسي والناتو يُحذّر موسكو

بينما تستمر المعارك في أكثر من جبهة بأوكرانيا، أكدت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن موسكو سترد على إجراءات ليتوانيا قريبا، وأن الرد لن يكون دبلوماسيا، فيما دعت ألمانيا الرئيس الأوكراني لقمة مجموعة السبع من أجل الاتفاق على “خطة مارشال لأوكرانيا”.

وقالت زاخاروفا في مؤتمر صحفي بموسكو إن مختلف الوزارات تدرس الآن الخطوات العملية للرد على الإجراءات الليتوانية، وذلك بعد منعها عبور البضائع نحو جيب كالينينغراد الروسي.

من جانبه، حذّر نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف الغرب من الحديث عن تفعيل بند الدفاع المشترك لحلف شمال الأطلسي، في المواجهة بين ليتوانيا وروسيا.

ونقلت وكالة إنترفاكس الروسية عن ريابكوف تحذيره الأوروبيين مما وصفها بـ”الألعاب الخطابية الخطيرة بشأن موضوع الصراع”.

وكانت الخارجية الأميركية أكدت أن التزامها صارم بالمادة الخامسة من المعاهدة التأسيسية للناتو، التي تنصّ على أن الهجوم على أحد أعضاء الحلف هو هجوم على الجميع.

في سياق مواز، قال المستشار الألماني أولاف شولتز -اليوم الأربعاء قبل اجتماعات مجموعة دول السبع وحلف شمال الأطلسي- إن مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا “ما زالت بعيدة”.

وأكد شولتز أمام النواب الألمان “ما زلنا بعيدين عن مفاوضات السلام، لأن بوتين ما زال يعتقد أن بإمكانه إملاء السلام”، داعيا حلفاءه إلى “الاستمرار” في دعم كييف من خلال العقوبات و”تسليم الأسلحة” لأوكرانيا.

وفي إشارة إلى المبادرة الأميركية التي قدّمت بموجبها الولايات المتحدة مليارات لإعادة بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، قال المستشار الألماني إنه دعا الرئيس الأوكراني إلى المشاركة في قمة مجموعة السبع التي تبدأ الأحد من أجل “الاتفاق على خطة مارشال لأوكرانيا”.

ومشروع مارشال الشهير هو خطة اقتصادية أُطلقت بمبادرة من وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج مارشال، من أجل مساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية وبناء اقتصاداتها من جديد، وذلك عبر تقديم هبات عينية ونقدية بالإضافة إلى حزمة من القروض الطويلة الأمد.

معارك محتدمة

ميدانيا، قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأوكرانية أولكسندر موتوزيانيك إن هدف روسيا الرئيسي هو السيطرة على منطقتي لوغانسك ودونيتسك، وكذلك الحفاظ على الممرات البرية المؤدية إلى شبه جزيرة القرم، إضافة إلى الحدّ من وصول أوكرانيا إلى الجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود، على حد تعبيره.

وأضاف موتوزيانيك أن موسكو تكبدت خسائر فادحة في الأفراد والمعدات رغم تفوقها في العدة والعتاد، قائلا إن فعالية وحدات المشاة الروسية منخفضة خلال انتشارها على الأرض.

وتحتدم المواجهات في إقليم دونباس، حيث قالت سلطات دونيتسك الموالية لروسيا إن مناطق سيطرتها تعرضت لقصف مدفعي وصاروخي أوكراني.

وأفاد مركز الدفاع التابع لقوات دونيتسك الشعبية، أن القصف استهدف حي تشورنو غفارديسكي في مدينة ماكييفكا شرق دونيتسك، فيما جرح آخرون بينهم طفل في قصف مدفعي على حي كييفكسي شمالي دونيتسك.

وأضاف المركز أن عدد المناطق السكنية التي سيطرت عليها قوات دونيتسك منذ 24 فبراير/شباط الماضي ارتفع إلى 239 منطقة.

من جهتها، أعلنت قوات لوغانسك الموالية لروسيا أنها أحكمت سيطرتها على منطقة غورسكوي جنوب مدينة بوباسنايا في مقاطعة لوغانسك، مضيفة أن 27 عسكريا أوكرانيا قتلوا خلال الساعات الـ24 الماضية.

وقالت قوات لوغانسك إنها دمّرت آخر معاقل القوات الأوكرانية في المنطقة، وحاصرت ما تبقى منها، وإنها تمكنت من التحكم بالطريق الإستراتيجي الذي يصل غورسكوي بمدينة ليسيتشانسك.

كما أفاد مراسل الجزيرة في إقليم دونباس أن دمارا واسعا لحق بمدينة ليسيتشانسك بسبب قصف روسي مدفعي وجوي مستمر على المدينة منذ عدة أيام.

وأعلن سيرغي غايدي حاكم مقاطعة لوغانسك سيطرة القوات الروسية على قرى توشكيفكا وميرنا ودولينا.

وقال غايدي إن القوات الأوكرانية لا تزال تسيطر على مصنع “آزوت” داخل المدينة الصناعية في سيفيرودونيتسك، بالرغم من القصف الشديد.

بدوره، قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف إن القوات الروسية قضت على نحو 500 عسكري أوكراني خلال استهداف مصنع للسفن بمدينة ميكولايف.

وأضاف كوناشينكوف أن قيادة القوات الأوكرانية أجلت الليلة الماضية جرحى وجثث “مرتزقة” بريطانيين وأميركيين في دونيتسك، خشية وقوعهم في الأسر لدى القوات الروسية.

وأفاد مراسل الجزيرة بتجدد القصف الأوكراني على أحياء شمال ووسط دونيتسك، وقال عمدة المدينة إن القوات الأوكرانية قصفت حي كييفسكي صباحا بـ23 قذيفة مدفعية، وأن حركة النقل العمومي في الشمال والوسط توقفت جراء القصف.

وقالت وزارة الطوارئ الروسية إنها تمكنت من إخماد حريق في محطة نوفو شاختينسك لتكرير النفط في مقاطعة روستوف، المتاخمة للحدود مع إقليم دونباس.

بينما أفاد فيتالي كيم رئيس الإدارة الإقليمية العسكرية في مدينة ميكولايف، باستهداف ميناء المدينة الرئيسي ومبان سكنية وخدمية اليوم بـ7 صواريخ روسية.

من جهتها، قالت قيادة عمليات الجنوب إن دفاعاتها الجوية أسقطت في ميكولايف عددا من الصواريخ الروسية.

كما أكدت القوات الأوكرانية استمرار عمليتها العسكرية في جزيرة الأفعى التي تسيطر عليها القوات الروسية، وتحدثت عن ضربات مكثفة تستهدف مواقع القوات الروسية وتكبيدها خسائر فادحة.

ورصدت كاميرا الجزيرة سلسلة تدريبات لقوات مشاة أوكرانية على ضفاف البحر الأسود استخدمت فيها الذخيرة الحية، لمواجهة ما وصفتها بالتهديدات المحتملة.

وتأتي هذه التدريبات في وقت أكدت فيه القيادة العسكرية بمقاطعة أوديسا المطلة على البحر الأسود، أن دفاعاتها الجوية أسقطت اليوم عددا من الصواريخ الروسية التي حاولت استهداف المقاطعة من البحر الأسود.

مدة الفيديو 03 minutes 07 seconds 03:07

تطويق سيفيرودونيتسك

من جانبها، قالت الاستخبارات البريطانية إن روسيا تضغط لتطويق منطقة سيفيرودونيتسك عبر إيزيوم في الشمال وبوباسنا في الجنوب.

كما أكدت أن روسيا تستعد لمحاولة نشر عدد كبير من وحدات الاحتياط في دونباس.

في سياق مواز، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن الوضع في لوغانسك شرقي البلاد صعب للغاية.

وأضاف زيلينسكي في رد على سؤال للجزيرة في مؤتمر صحفي مع رئيس وزراء لوكسمبورغ، أن فشل أوكرانيا في مواجهة ما وصفه بالعدوان الروسي يعني أن جيران كييف والجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى ستتعرض له أيضا.

مناورات بيلاروسية

وفي مقاطعة غوميل شرقي بيلاروسيا قرب الحدود الأوكرانية، انطلقت مناورات تعبئة عسكرية تشارك فيها المفوضيات العسكرية البيلاروسية والقوات المسلحة البيلاروسية المتمركزة في المنطقة.

وبحسب وزارة الدفاع البيلاروسية، تجرى هذه المناورات تقليديا لزيادة مستوى الاستعداد القتالي والتعبئة للمفوضيات العسكرية، وتطوير معرفة المهارات العسكرية والعملياتية للقوات البيلاروسية.

المصدر : الجزيرة + وكالات

——————————–

دراسة تحليلية حول تقرير معهد استوكهولم للخطر النووى/ سمير فرج

أصدر معهد استوكهولم الدولى لأبحاث السلام تقريرًا مفاجئًا، هذا الأسبوع، عرض فيه أن خطر استخدام السلاح النووى أصبح حقيقيًّا، لأول مرة منذ عقود من الزمان، وقال معهد استوكهولم الدولى إن الترسانة النووية العالمية ستسجل أكبر نسبة نمو منذ الحرب الباردة، مؤكدًا أن الدول النووية تطور ترسانتها النووية بشكل خطير هذه الأيام.

وأكد التقرير أن عدد الأسلحة النووية في العالم سوف يرتفع في الفترة المقبلة، بعد 35 عامًا من التراجع، خصوصًا بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، وكانت القوى النووية في العالم- أو كما أسميها أنا «النادى النووى»- تتكون من تسع دول نووية، وهى روسيا وأمريكا والصين وبريطانيا وفرنسا والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية.

ولقد أكد ذلك المفهوم الرئيس الروسى بوتين، في كلمته الأسبوع الماضى في منتدى سان بطرسبرج الاقتصادى، حيث أشار مرة أخرى إلى أن روسيا يمكن أن تستخدم السلاح النووى في حالة تعرض أمنها القومى لأى تهديد، وتمتلك روسيا أكبر ترسانة نووية في العالم بإجمالى 7977 رأسًا نوويًّا، أي ما يزيد بنحو 550 رأسًا نوويًّا عن الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يعنى أن البلدين روسيا وأمريكا يمتلكان أكثر من 90% من الرؤوس النووية في العالم كله.

هذا النادى النووى يمتلك 12705 رؤوس نووية في أوائل عام 2022، أي أقل مما كان عليه أوائل عام 2021، بمقدار 375 رأسًا نوويًّا، وكانت المفاهيم قبل الحرب الروسية الأوكرانية تقول إن عصر نزع الأسلحة النووية يقترب من نهايته، لكن جاءت هذه الحرب لتغير هذه المفاهيم، حيث سيبدأ فيها العدد العالمى للأسلحة النووية في الارتفاع مرة أخرى منذ نهاية الحرب الباردة، وجاء السبب في هذا التغير بعد إعلان الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إمكان اللجوء إلى الأسلحة النووية في إطار الحرب الروسية الأوكرانية قبل بدء الحرب، كذلك أكد تقرير معهد استوكهولم أن هناك دولًا مثل الصين وبريطانيا تقوم حاليًا بتحديث ترسانتها النووية.

وأضاف التقرير أنه سيكون من الصعب- بعد تصريحات بوتين الأخيرة- إحراز أي تقدم في إمكانية نزع السلاح النووى في السنوات المقبلة، حيث إن تصريحات بوتين المقلقة دفعت الدول أعضاء النادى النووى إلى إعادة التفكير في استراتيجيتها النووية في الفترة القادمة، والتى ستهدف إلى زيادة كل دولة لمخزونها النووى.

وعلى الجانب الآخر، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى، نفتالى بينيت، أن إيران تقترب من حيازة القنبلة النووية ما لم يتخذ العالم موقفًا حازمًا تجاه ذلك، خاصة أن رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامى، قد اعلن الأسبوع الماضى أن إيران قد قامت بتركيب أجهزة طرد مركزى جديدة، وبدأت ضخ غاز اليورانيوم فيها، وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة قد أعلنت منذ أيام أنها لم تتلقَّ توضيحًا من إيران بسبب وجود آثار يورانيوم مُخصَّب عثرت عليها في ثلاثة مواقع غير مُصرَّح عنها في إيران.

كذلك أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران أغلقت 27 كاميرا مخصصة لمراقبة أنشطة إيران النووية، وكل هذه الإجراءات لها دلائل على سوء نية إيران، وبالطبع يُذكر أن محادثات فيينا، التي انطلقت في إبريل 2021 من أجل إحياء الاتفاق النووى، كانت قد توقفت منذ مارس الماضى، بعد تعثر عدد من الملفات، لعل أهمها أن إيران طلبت من الولايات المتحدة رفع اسم الحرس الثورى الإيرانى من كشوف العناصر الإرهابية في العالم، كذلك رفض إيران أن يتضمن الاتفاق النووى تقليص نفوذها وحركتها في منطقة الشرق الأوسط، كما طلبت إيران أن يتم رفع العقوبات الاقتصادية قبل التوقيع على الاتفاق النووى.

وبتحليل ذلك التقرير، نجد أنه من المنتظر أن تقوم ألمانيا، التي هي ليست عضوًا في النادى النووى الآن، بالبدء في الحصول على السلاح النووى، بعدما شعرت به من الخطر الروسى، خاصة أنها أعلنت تخصيص 100 مليار يورو هذا العام لدعم قدراتها العسكرية التقليدية، بعدما شعرت بالتهديد الروسى مستقبلًا بعد حرب أوكرانيا، وأن احتمالات تدخل دول الناتو للتصدى لأى هجوم قادم أمر غير محسوم، لذلك قررت ألمانيا الاعتماد على قوتها الذاتية بتدعيم قواتها العسكرية، وبدأت بطلب شراء طائرات F35 من الولايات المتحدة الأمريكية.. ومن هنا احتمالية أن نرى دخول ألمانيا عالم القوى النووية في العالم لتستطيع أن تقف أمام تهديد الدب الروسى في الفترة القادمة.

وعلى الطرف الآخر، سنجد اليابان أيضًا سوف تفكر بالتأكيد في ضرورة الحصول على سلاح نووى، خاصة أن جيرانها الأعداء، روسيا والصين وكوريا الشمالية، يمتلكون السلاح النووى، لذلك أعتقد أن ألمانيا واليابان سوف ينضمان قريبًا إلى النادى النووى العالمى، أما إيطاليا فأعتقد أنها سوف تستمر في التمتع بالغطاء النووى لحلف الناتو، حيث إن ظروفها الاقتصادية لن تسمح لها بذلك، خصوصًا أنها بعيدة عن الاتصال المباشر بدولة روسيا.

وعلى مستوى الشرق الأوسط، فإنه من المنتظر أنه بمجرد حصول إيران على السلاح النووى، بعد فشل مباحثات فيينا، فإن هناك دولًا عربية في المنطقة سوف تفكر جديًّا في الحصول على السلاح النووى، أولاها مصر، التي لديها حاليًا مفاعلات نووية للأغراض المدنية، ثم السعودية ودولة الإمارات، وكذلك بعض دول الخليج الأخرى، التي ستصبح تحت التهديد المباشر للعدو الإيرانى مستقبلًا.

وعلى الطرف الآخر، سوف تزيد إسرائيل من مخزونها النووى لمجابهة القنبلة النووية الإيرانية، وهكذا سيشتعل الصراع في منطقة الشرق الأوسط، خاصة أن الأمور كانت قد أصبحت هادئة بعد حصول إسرائيل على السلاح النووى، ولم تفكر أي من دول الشرق الأوسط بعدها في امتلاك السلاح النووى، وهكذا بدأ الرئيس بوتين بتصريحاته، التي سوف تشعل الصراع النووى مرة أخرى في العالم، وها هي إيران قد تشعل الموقف في منطقة الشرق الأوسط من جديد، لذلك مازال الجميع يأمل أن تنجح الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية في إعادة إيران إلى الاتفاق النووى 5+1 وتوقف نشاطها لإنتاج السلاح النووى حتى تهدأ الأمور على الأقل في منطقة الشرق الأوسط.

أما في أوروبا واليابان فأعتقد أن الأمور سوف تشتعل من جديد، خاصة من اتجاه ألمانيا واليابان، للدخول في النادى النووى، مع قيام باقى الدول بزيادة مخزونها من الرؤوس النووية في الفترة القادمة، وهذا الأمر لم يكن في الحسبان.. على أي حال، فإن العالم يأمل أن يبتعد الصراع النووى لأنه دمار للبشرية أجمع.

* نقلا عن ” المصري اليوم “

——————————–

حسابات خطيرة بلا ضوابط في “عولمة” حرب طويلة/ رفيق خوري

كلما طالت المعارك برزت شقوق داخل النخبة الروسية إلى جانب التململ الشعبي من الخسائر وصعوبات المعيشة

لا شيء يضمن، وإن كان هناك ما يردع، ألا تتطور حرب أوكرانيا إلى حرب عالمية. وليس قليلاً عدد الخبراء الذين يتخوفون ويحذرون من الانزلاق إلى ذلك بالخطأ في الحسابات أو بالفعل وردّ الفعل، فللحروب بعد بدئها دينامية ذاتية لا يسيطر عليها أحد. لكن الواقع الملموس الآن هو “عولمة الحرب” التي سمّاها الرئيس فلاديمير بوتين بـ”عملية عسكرية خاصة”. فالأمين العام لـ”الحلف الأطلسي” ينس ستولتنبرغ يتوقع أن تدوم الحرب سنوات. وهذا يعني استنزافاً هائلاً للموارد والأسلحة والمال والعسكر في أوكرانيا وروسيا والغرب، بالقياس على ما تستهلكه حرب أوكرانيا يومياً. ومن الصعب الاستمرار فيه وبقاء كل شيء داخل أوكرانيا من دون التوسع في الجغرافيا، أو في استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لتسريع المسار، أو من دون السعي لوقف الحرب عبر صيغة لا تزال مرفوضة حتى الآن: صيغة التنازلات الجغرافية. فما جرى في مغامرات بوتين العسكرية هو عكس ما فعله السوفيات والأميركان. الدبابات السوفياتية اجتاحت المجر ثم تشيكوسلوفاكيا لقمع تبدل نحو الانفتاح في بودابست و”ربيع براغ” تطبيقاً لما سُمّي بمبدأ “السيادة المحدودة”. لكن موسكو لم تبدل حدود البلدين العضوين في “حلف وارسو” بقيادتها. وأميركا غزت أفغانستان ثم العراق، وأسقطت نظام “طالبان” ونظام صدام حسين. لكنها لم تبدل الحدود.

أما بوتين، فإنه تدخل عسكرياً في جورجيا عام 2008، وسلخ عنها إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، واعترف بهما “جمهوريتين” مستقلتين. وفي عام 2014، ضم بالقوة إلى روسيا شبه جزيرة القرم التي كانت جزءاً من أوكرانيا. وفي الحرب الحالية، فإنه طلب في البدء تغيير الفريق الحاكم، ونزع سلاح أوكرانيا ومنعها من الانضمام إلى “الحلف الأطلسي”، ثم ركز العمل العسكري على احتلال دونباس والاعتراف بـ”جمهوريتي” دونيتسك ولوغانسك وإبداء الاستعداد للضم إلى روسيا. وفي رأي روبرت كاغان من مؤسسة “بروكنغز”، فإن “بوتين لعب بذكاء على الرغم من ضعفه، والغرب لعب بغباء على الرغم من قوته، فربح بوتين في مغامرات محدودة في جورجيا والقرم وسوريا، لكنه في أوكرانيا وقع في الخطأ الكبير”. وأما ميخائيل كاسيانوف، وهو أول رئيس وزراء عمل مع بوتين سنوات ثم أصبح معارضاً له، فإنه هرب أخيراً إلى الغرب ليقول رأيه بحرية. ومختصر ما قاله هو: “بوتين يعمل بطريقة أقسى وأشد وحشية مما كان يفعله الاتحاد السوفياتي، نتيجة الحرب تحدد مستقبل روسيا. وأنا مختلف مع الرئيس إيمانويل ماكرون في دعوته إلى عدم إذلال روسيا. فمن الضروري أن تنتصر أوكرانيا، لأنه إذا سقطت أوكرانيا ستكون دول البلطيق هي التالية. وروسيا ستعود إلى بناء دولة ديمقراطية، لكننا في حاجة إلى عشر سنين للتخلص من الشيوعية ومن تأثير بوتين”. وليس ذلك سهلاً. وليس ما يعمل له بوتين سوى العكس.

ذلك أن من الصعب تحديد ما يبقى من أوكرانيا غير مدمّر إذا استمرت الحرب سنوات. والأصعب هو أن يحقق الغرب، عبر إرسال السلاح والمال في حرب بالوكالة، شعار انتصار أوكرانيا على روسيا. فلا كييف تستطيع إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا في الحرب الكلاسيكية الحالية أو في حرب عصابات مستقبلية. ولا موسكو، ولو دمرت أوكرانيا، تستطيع أن تعلن “الانتصار الاستراتيجي” لها و”الهزيمة الاستراتيجية للغرب”. فما قاد إلى “عولمة الحرب” وإن لم تقع حرب عالمية، يقود بطبائع الأمور وقوة الأشياء إلى مهمتين مستحيلتين: الانتصار الكامل والهزيمة الكاملة. وكلما طالت الحرب برزت شقوق داخل النخبة في روسيا إلى جانب التململ الشعبي من الخسائر وصعوبات المعيشة، وظهرت خلافات وانشقاقات داخل أوروبا ومع أميركا. ففي الحسابات الباردة، يستطيع سكريتير الأمن القومي الروسي نيكولاي بيتروشيف القول: “لسنا في سباق مع الزمن في العملية العسكرية الخاصة، ولا في عجلة من أمرنا”. أما في الوقائع التي تتحكم بها قوة الحقائق، فإن الزمن عدو القوة الاحتلالية وسلاح في يد مقاومي الاحتلال، وعدو القوى الخارجية التي ترسل الأسلحة والمال وتراهن على معجزة.

والتراجيديا مستمرة. وأقسى ما فيها أن يسلّم الجميع على طرفَي الحرب بإعطاء الأولوية للحسابات الجيوسياسية والاستراتيجية ومكانة القادة على مصائر الشعوب وما يعانيه المواطن العادي في كل مكان.

اندبندنت عربية

————————-

أزمة أوكرانيا نحو “حلّ” على الطريقة الكوريّة؟/ جورج عيسى

لغاية اليوم، فشلت كل المحاولات الرامية لإقناع أوكرانيا بالتخلي عن أراضيها مقابل التوصل إلى وقف لإطلاق النار مع روسيا. على العكس من ذلك، إنّ الدول التي كانت أميل إلى تبني هذه الدعوة بشكل غير مباشر، أو على الأقل تتمنى ضمناً صياغة كييف قناعة كهذه، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، يبدو أنها غيّرت رأيها أقلّه علناً. هذا ما يستشف من تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون والمستشار أولاف شولتس ورئيس الوزراء ماريو دراغي خلال توجههم إلى أوكرانيا الأسبوع الماضي واجتماعهم برئيسها فولوديمير زيلينسكي. بالمقابل، تحتفظ أوكرانيا بدعم دول متشددة (أوروبا الشرقية والمملكة المتحدة) في المطالبة باستعادة البلاد جميع أراضيها حتى حدود 24 (فبراير) شباط على الأقل. هذا على مستوى الحكومات.

على مستوى المحللين السياسيين، الانقسام أكثر حدة بين “المعسكرين”. يؤيد “معسكر السلام” تخلي أوكرانيا عن جزء من أراضيها بناءً على اعتبارات متعلقة بمحدودية القدرات العسكرية الأوكرانية والخشية من اندلاع نزاع نووي مع روسيا، وربما إمكانية أن تحدّ كييف من خسائرها اليوم في مقابل احتمال أن تكون تنازلاتها أكثر إيلاماً في المستقبل. لكن يبدو أنّ ثمة دعوات ضمنية لأوكرانيا كي تقبل بتنازلات إقليمية على قاعدة أنها ستكون المستفيدة في المديين المتوسط والبعيد. من هنا، يمكن إيجاد مقارنات لمآلات الحرب في أوكرانيا مع نتائج الحرب الكورية بين سنتي 1950 و1953.

“لقطة لما بعد الحرب”

في الثاني من (يونيو) حزيران الحالي، كتب ديفيد إغناشيوس في صحيفة “واشنطن بوست” كيف يتحوّل النزاع في أوكرانيا من مرحلة متفائلة إلى مرحلة أقرب إلى “الطحن الموهن للحرب الكورية”. استشهد إغناشيوس بكتاب “الشتاء الأبرد: أميركا والحرب الكورية” لديفيد هالبرستام الذي وصف تلك الحرب بأنها بدت “بلا أمل أو حل”. وشعر الجيش الأميركي بالمرارة بسبب الطلب منه أن “يموت من أجل التعادل” (die for a tie). لكنّ الانتصار العسكري لم يكن ممكناً بأكلاف مقبولة.

أضاف إغناشيوس أنّ أميركيين وكوريين جنوبيين كثراً ظنوا وقف إطلاق النار هزيمة لهم. “لكن اليوم، كوريا الجنوبية هي واحدة من الجواهر الاقتصادية في العالم”، حتى بوجود خط هش لوقف إطلاق النار مع جار “سام” في الشمال. “ربما هذه لقطة لأوكرانيا ما بعد الحرب”.

عراقيل

صحيح أنّ الكاتب لم يدعُ مباشرة إلى تبنّي أوكرانيا للحلّ الكوريّ، لكن يصعب الاقتناع بأنّ العرض يقتصر على مقارنة تاريخيّة مجرّدة بين الحربين. بشكل أو بآخر، يبدو نموذج كوريا الجنوبية مغرياً للأوكرانيين على المستوى الاقتصادي. وهذا أحد دوافع طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، طلبٌ سيخضع للدرس في اجتماع للدول الأعضاء في بروكسل خلال هذا الأسبوع. وما كان الأوروبيون مترددين تجاهه، أي تسريع مسار قبول كييف في الاتحاد، يبدو أنّه أصبح قريباً من الطموحات الأوكرانية. حتى مع افتراض ذلك، ينبغي التساؤل عمّا إذا كان على أوكرانيا دفع ثمن لقاء عمليّة التسريع هذه، وما إذا كان هذا الثمن هو تسريع قبولها حلاً دبلوماسياً شبيهاً بالحلّ الكوريّ. الأكيد أنّ اقتراح حلّ كهذا يفرض تحدّيات كثيرة لجهة الضمانات التي ستحصل عليها أوكرانيا في المقابل.

لمساعدة كوريا الجنوبية على القبول بوقف إطلاق النار بعدما كان هدفها توحيد كامل شبه الجزيرة الكورية، وقّعت واشنطن وسيول على معاهدة دفاع مشتركة سنة 1953. من المرجّح أن تكون الولايات المتحدة مستعدة لتقديم حماية أمنيّة لكييف شبيهة بتلك التي تؤمّنها لسيول. لكن هل تقبل روسيا بمعاهدة دفاعية مشتركة بين الطرفين؟ إن لم تحصل مفاجأة وتتمكّن القوات الأوكرانية من دحر الجيش الروسي إلى حدود 24 فبراير، من غير المحتمل قبول روسيا بمعاهدة كهذه. فالأخيرة ستشبه إلى حدّ بعيد انضماماً أوكرانياً إلى حلف شمال الأطلسيّ، حتى ولو حملت اسماً آخر أو ترتيباً ثنائيّ أو تعدّديّ الأطراف. وقد لا تقبل واشنطن أو الغرب بمنح ضمانات كهذه تفادياً لحرب عالمية ثالثة، بحسب تحليل أندرياس كلوث في “بلومبرغ” الشهر الماضي.

ما سيفرضه الميدان

موقف أوكرانيا العسكريّ اليوم ليس في أفضل أحواله. خسرت أوكرانيا قرابة 20% من أراضيها في الشرق والجنوب بما يعادل غالبية مساحة إيطاليا. كما أنّ خسائرها البشرية تصل إلى قرابة 1000 مقاتل أوكراني يومياً نصفهم تقريباً من القتلى. لكنّ خيارات روسيا لا تبدو متنوّعة هي الأخرى. فتقدّمها بطيء جداً وهي بحاجة إلى التعبئة لتجنيد المزيد من القوات، وهو ما يتفاداه حالياً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. والخسائر البشرية الروسية قد تكون قريبة من تلك التي تتكبّدها كييف.

لهذه الأسباب قد يفرض الحلّ الكوريّ نفسه على المتحاربين. لكن ربّما من دون إغراءات النموّ في كوريا الجنوبية. حتى الانضمام الأوكراني إلى الاتحاد الأوروبي، كأحد شروط الازدهار، يمكن ألا يكون مستساغاً لدى روسيا. ومع افتراض العكس، أي منح كييف عوضية الاتحاد، يصعب تخيّل منطقتين أوكرانيتين على جانبي خط الهدنة المفترض، واحدة ضعيفة اقتصادياً ومعتمدة اعتماداً شبه كامل على روسيا وأخرى أكثر ازدهاراً نسبياً، إن تمتّعت بحماية أمنية من الأميركيين وحافظت على إمكانية الوصول إلى البحر الأسود والاستثمارات الأجنبية.

وإذا كانت كوريا الشمالية قد تمكّنت من الاعتماد على الاتحاد السوفياتي والصين لمدّها بمقوّمات الحدّ الأدنى من الصمود، فالوضع بالنسبة إلى دونباس سيكون أصعب مع العزلة الاقتصادية التي يُحتمل أن تعيشها روسيا لسنوات مقبلة. قد ينجم عن هذا الوضع نزوح من الشرق والجنوب باتجاه الوسط والغرب. إلى أيّ حدّ تستطيع روسيا تقبّل هذا السيناريو موضع تساؤل أيضاً.

طبيعة “الحل”

في الواقع، لم تكن الهدنة بين الكوريّتين “حلاً مثالياً”، حتى أنها “لم تكن حلاً على الإطلاق” كما لفت إلى ذلك جويل ماتيس من مجلة “ذا ويك” البريطانية. لكنّه أشار إلى “أنّ أفضل شيء بالنسبة إلى الآن هو عدم القلق كثيراً بشأن اتفاق سلام رسمي، لكن بشأن وقف القتال نفسه، في أسرع وقت ممكن”. على الرغم من أنه مرّ نحو ثلاثة أشهر على هذا التمني، لم يطرأ أيّ تطوّر يشي بإمكانية حصوله في المستقبل القريب.

النهار العربي

——————

رسائل متعددة بين روسيا وإسرائيل وسوريا/ ماهر إسماعيل

لأول مرة في تاريخ العلاقة الروسية الإسرائيلية منذ التدخل الروسي – الإسرائيلي في سوريا في نهاية العام 2015، تختار الخارجية الروسية الرد على الضربات الإسرائيلية لسوريا بعد قصف مطار دمشق الدولي، وإخراجه عن العمل، بمشروع قرار أممي سوف تتقدم به إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث قالت الخارجية في متنه: “إن الهجوم نفذ بشكل ينتهك القانون الدولي، ويقوّض الاستقرار وينتهك أيضاً سيادة سوريا والدول الأخرى”.

 وأكد المشروع أنه يجب “محاسبة المسؤول على تنفيذ الهجوم لأنه أضرّ بشكل صاروخ بالقدرة على مساعدة سوريا إنسانياً”.

وكانت وزارة الخارجية استدعت، في وقت سابق، السفير الإسرائيلي لدى روسيا وطالبته بتقديم توضيحات حول “القصف العدواني الذي استهدف مطار دمشق الدولي وأخرجه عن الخدمة”، وعدت الخارجية الروسية أن “التبرير الذي ورد من الجانب الإسرائيلي غير مقنع”.

وأوضح نائب وزير الخارجية الروسية، ميخائيل بوغدانوف، للسفير الإسرائيلي، أليكس بن تسفي، أن التفسيرات الإسرائيلية المقدمة، حتى الآن، لا ترضي موسكو، كما أبلغ السفير أن روسيا لن تسمح بتحول سوريا إلى “ساحة معركة” لدول أخرى في محاربة الإرهاب.

وأضاف البيان، أن “قلق روسيا البالغ إزاء الضربة الجوية التي شنّتها القوات الجوية الإسرائيلية على مطار دمشق المدني، ما أدى إلى تضرر مدرج ومعدات ومباني ملاحية وإلحاق أضرار بالحركة الجوية المدنية الدولية”.

الرسائل الروسية – الإسرائيلية:

رغم التفاهمات التاريخية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على السماح للطائرات الحربية الإسرائيلية بالعمل في سماء الأجواء السورية دون تدخل من القوات الروسية ضدها.

ونشر موقع (واللا) العبري، في الشهر الأول من العام 2019، آلية التنسيق التي كرسها الاتفاق، حيث تقوم إسرائيل بضرب أهداف تابعة لطهران وحزب الله في إطار مكافحة التوسع الإيراني في سوريا.

وأضاف الموقع، أن آلية التنسيق المشترك لا تتضمن منع الدفاعات السورية من اعتراض الصواريخ الإسرائيلية، إلا أنها تحرص على منع توجيه نيران تلك الدفاعات نحو المقاتلات الإسرائيلية ذاتها، كما جاء في موقع (ليفانت).

إن الرسائل المتبادلة بين روسيا وحكومة الاحتلال الإسرائيلي بأن موقف تل أبيب من الحرب الروسية على أوكرانيا لم يأتِ كما ترغب الخارجية الروسية، لذلك قامت بإعداد مسودة المشروع إلى مجلس الأمن، وأنّه إذا لم تراعِ الحكومة الإسرائيلية مصالح روسيا في أوكرانيا، فإنها سوف تتخذ مجموعة إجراءات تعقد من تطبيق الاتفاق الذي كان يجري العمل به منذ تفاهمات (نتنياهو- بوتين) في السماء والأرض السورية، والتي تستهدف الوجود الإيراني في سوريا، وحتى هذه اللحظة ما زال العمل بالتفاهمات قائماً، لكن تتغير الوقائع والعمل بالتفاهمات ما بقي الموقف الإسرائيلي داعماً للرئيس الأوكراني فولديمير زيلينسكي، حيث طلب سابقاً من رئيس الحكومة الإسرائيلية لعب دور الوسيط في التفاوض بين روسيا وأوكرانيا، وقد بذل بينت ما في وسعه في المرحلة السابقة رغم عدم التقدم في المفاوضات بينهما.

الرسائل الإسرائيلية لدمشق:

إن الرسالة الأوضح لدمشق عبر تخريب وتدمير مدارج هبوط الطائرات المدنية في مطار دمشق الدولي، هي منع إيران من نقل شحنات السلاح عبر مطار دمشق الدولي، وتخفيف كمية السلاح الذي ينقل إلى لبنان لحزب الله في ظل التهديدات العسكرية الواضحة لسفينة التنقيب الإسرائيلية (أنير جياني باور) التي رست وتتجهز لبدء الحفر في منطقة تصنيف (متنازع عليها)، بحسب الدولة اللبنانية.

وتلعب رمزية مطار دمشق بعداً سياسياً من رموز نظام الأسد، فمن قراءة عمليات القصف السابقة أن الحكومة الإسرائيلية كانت تقصف شحنات الأسلحة خارج مطار دمشق الدولي، وهذا التحول النوعي في العمليات العسكرية الإسرائيلية يوحي بنقلة نوعية في التعامل مع الوجود الإيراني، ونقله السلاح لحزب الله اللبناني رغم السيطرة الإيرانية على العديد من المواقع التي يمكن من خلالها نقل هذا السلاح بعيداً عن مطار دمشق الدولي، فتوقيف العمل في المطار هو رسالة سياسية إسرائيلية للنظام أكثر من أنها رسالة عسكرية.

إن الرسالة الأوضح لدمشق هي الابتعاد عن طهران وسياساتها في المنطقة، خصيصاً الجانب العسكري تجاه تل أبيب، فهل تستطيع دمشق الاستجابة لهذه الرسائل والابتعاد؟

إن كل المؤشرات والوقائع والمحاولات العربية قبل المحاولات الإسرائيلية لم تجدِ نفعاً مع نظام دمشق من أجل فك الارتباط بالمشروع الإيراني في المنطقة الداعمة للرئيس الأسد.

الرسائل الإسرائيلية لطهران:

إن الرسالة الإسرائيلية للحلقة الأولى المحيطة بالمرشد الأعلى (علي خامنئي، والحكومة الإيرانية) حول الاتفاق النووي، أنه مؤقت في حال التوصل إليه مع إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية التي تحكم البيت الأبيض الأمريكي، وعند وصول الجمهوريين إلى حكم البيت الأبيض سيتوقف العمل بالاتفاق النووي المنجز، لذلك تبدو الإدارة الديمقراطية غير متحمسة لإنجاز هذا الاتفاق، في ظلّ ما يشاع عن قرب إقرار (القنبلة النووية الإيرانية) منها إلى قرار العودة للاتفاق النووي.

وفي حال الاقتراب الإيراني من تصنيع القنبلة، تضع المنطقة والإقليم على نار تصعيد عسكري كبير، ويقع هذا التصعيد ضمن الخيارات العسكرية الإسرائيلية للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني، ويأتي الاستهداف لمطار دمشق الدولي الذي تستخدمه الطائرات الإيرانية لنقل معدات وأسلحة عسكرية إلى حزب الله في هذا الإطار، وأنه في حال أي رد إيراني على هذه الاعتداءات من الأراضي السورية سوف يكون التصعيد والعمل العسكري هو عنوان المرحلة المقبلة من الصراع (الإسرائيلي – الإيراني) في سوريا.

إن هذا الاعتداء ورمزيته، دفعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى القول: “إن قصف مطار دمشق الدولي قد يؤدي إلى صراع أوسع في منطقة مضطربة بالفعل”.

وأعرب الأمين العام عن قلقه مما يبدو أنه تصعيد في أعمال العنف والخطاب العدائي بجميع أنحاء المنطقة، في الأسابيع الأخيرة، حسب بيان الأمم المتحدة.

وحذّر المتحدث باسم الأمين العام، ستيفاني دوجاريك، من مخاطر سوء التقدير الذي قد يؤدي إلى صراع أوسع، مشيراً إلى أن “توجيه الهجمات ضد المدنيين والمرافق المدنية ممنوع منعاً باتاً بموجب القانون الإنساني الدولي”.

وأكّد المتحدّث عن استعداد الأمم المتحدة “لمساعدة الدول الأعضاء في حل خلافاتها من خلال الحوار”.

وجاءت الأرقام الإسرائيلية التي نشرتها صحيفة “حيروز اليم بوست” الإسرائيلية، من أن الطيران الإسرائيلي أغار خلال الخمس أعوام السابقة على الأرض السورية في (408) غارات، وألقى بأكثر من (5500) قنبلة، وقصف أكثر من (1200) هدف، وأكدت أرقام الصحيفة أنه في العام 2021، قصف بـ(585) قنبلة اتجاه (174) هدفاً فقط.

وكانت قد بينت ليفانت أن فريق صوت العاصمة قد وثق حوالي (38) غارة جوية شنتها الطائرات الإسرائيلية استهدفت (25) موقعاً للميليشيات الإيرانية وحزب الله، مؤكدة وقوع خسائر مادية وبشرية، والهجوم الأخير على مطار دمشق الدولي رقمه (15) في العام الجاري.

أخيراً.. إن رسائل العمل العسكري الإسرائيلي الأخير في مطار دمشق الدولي، وعدم الرد السوري أو الإيراني، وإنما جاء الرد السياسي عليه من خلال مشروع القرار الروسي الذي سيقدم لمجلس الأمن في الأمم المتحدة، والذي يعتقد أنّه من الصعب جداً نجاحه ليعيد تظهير علاقة تل أبيب بموسكو، وكذلك التقييم الإسرائيلي لعلاقة النظام السوري بطهران، رغم أن هذه النظام ما زال هو الضامن للهدوء الذي تتمتع به جبهة الجولان، فهل تحمل الأيام القادمة تحولاً في علاقة تل أبيب بدمشق من بوابة النظرة الإسرائيلية لهذه العلاقة، خصيصاً أن الكيان الإسرائيلي مقبل على انتخابات تشريعية جديدة في ظل قرار حكومة بينت حل الكنيست؟

ليفانت – ماهر إسماعيل  

—————————–

أوكرانيا تزيد الخلافات الروسية التركية.. تحالف وهمي؟/ رامز الحمصي

رغم الادعاءات بأن الحلف الروسي-التركي بات يمكن وصفه بالاستراتيجي بعد عدة محطات خلاف واتفاق بين الطرفين في عدة ملفات، إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا كشف حقيقة هذا التحالف “الوهمي” الذي أسقطته بشكل واضح طائرات الدرون التركية، التي وردتها أنقرة إلى كييف خلال مواجهتها للغزو الروسي.

التوريدات التركية إلى كييف ليست بالجديدة، ولا حتى أثرها الفعال ضد الهجمات الروسي أمر طارئ في عمليات الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، إلا أن ادعاءات روسية مؤخرا زعمت أنها طورت دفاعاتها الجوية حتى يتسنى لها التصدي للغارات التي تعرقل تقدمها ومطامعها في أوكرانيا، لكن استهداف أوكرانيا للسفينة الروسية من طراز “سيرنا”، يؤكد فشل موسكو في تطوير استراتيجيتها الحربية.

طائرات الدرون التركية، كشفت عن الحجم الحقيقي للتفاهمات الروسية-التركية في ملفات المنطقة الإقليمية، وكذلك الملفات الدولية، ما يعني أن استمرار تزويد تركيا للأوكرانيين بطائرات الدرون هو تحدي للروس، وعدم اكتراث بهذا التحالف الذي يعتبره مراقبون تحالفا وهميا، لا سيما وأن أنقرة تلتفت لمصالحها بشكل كامل ولا تعير الروس أي اهتمام أو قيمة، ما يعني أن الرفض التركي لدخول فنلندا والسويد إلى حلف “الناتو” لا علاقة له بروسيا، وإنما يصب فقط في خانة تحقيق المصالح التركية الخالصة. فهل ستقضي طائرات الدرون على ما تبقى من خطوط التفاهم والتواصل بين الروس والأتراك؟

روسيا ليست صديقة

يبدو أن الدرونز التركية باتت رمزا للمقاومة الأوكرانية، فالدور الذي تؤديه طائرات الدرونز التركية من نوع “بيرقدار”، قلب المعادلة العسكرية لصالح الأوكرانيين في الحرب الدائرة على أراضيهم، والتي بدأتها روسيا رسميا في 24 شباط/فبراير الماضي.

يقول المحلل السياسي الروسي، أليكاس موخين، إنه بالنسبة لتركيا، روسيا هي العدو، مشيرا إلى وجود خلافات وتنافس عميق.

ويضيف موخين، أن تصويت تركيا في الأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي، وبالرغم من أنها لم توافق على الانضمام إلى عقوبات “الناتو” والاتحاد الأوروبي ضد روسيا، إلا أن ذلك أظهر جليا علاقة المصلحة التي تتبعها تركيا مع جميع الدول، فسواء في حلفها الأزلي مع الغرب، أو الحلف الجديد مع روسيا والذي لم ترتسم له أطر ليطلق عليه اسم حلف، إنما يندرج تحت مسمى علاقات متبادلة.

وفي الحالة الأوكرانية، يشير موخين إلى أن تركيا اتبعت ما كانت تفعله سابقا، فهي تقسم خلافاتها السياسية عن خلافاتها الاقتصادية، حيث استمر موقف تركيا مع روسيا بعد اندلاع الغزو على نفس النمط. فمن الناحية السياسية، أعلنت أنقرة أن الغزو الروسي لأوكرانيا أمر غير مقبول، ولم تعترف قط بالاستيلاء الروسي على شبه جزيرة القرم ودونباس في عام 2014.

ولكن على الصعيد الاقتصادي، فتركيا فضلت مصلحتها على الحلف الذي أمدها بالسلاح، فسعت تركيا إلى شراكة واضحة مع أوكرانيا، حيث وقع البلدان اتفاقية تعاون عسكري واتفاقيات تجارة حرة واتفاقية إنتاج مشترك لتصنيع طائرات تركية بدون طيار، والتي تسببت بخسائر كبيرة للجيش الروسي وأعاقت خطط تقدمه نوعا ما.

شوكة الدرونز التركية

أثبتت “بيرقدار” الطائرة بدون طيار، وهي إحدى الصادرات العسكرية التركية الرائدة، أنها لا تقدر بثمن بالنسبة للقوات المسلحة الأوكرانية التي تفوقت بسببها في الدفاع ضد الغزو الروسي الذي بدأ في 24 شباط/فبراير الفائت.

الباحث في موقع “جي إف بي” المختص في الشؤون العسكرية في الشرق الأوسط، إياد معلوف، أوضح خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن روسيا تعتبر أجهزة “تي في تو” الخاصة بطائرات بيرقدار على وجه الخصوص سلاحا وتكنولوجيا ذات قدرة تنافسية عالية، ليس فقط في الفضاء السوفييتي، ولكن في سوق المركبات الجوية العالمية.

ولذلك وبحسب معلوف، يشعر الروس بالقلق من اختراق “بيرقدار” للفضاء السوفييتي، والقوقاز وآسيا الوسطى والآن أوكرانيا.

وبينما تلقت أنقرة إشادة من واشنطن بسبب دعمها لأوكرانيا، يتوقع معلوف، تغييرا طفيفا في موقف موسكو تجاه تركيا، مضيفا أن “أحد الجوانب هو أن تركيا باتت تعد لدى موسكو أنها دولة معادية ولم تعد حليفا، بل أصبحت خصما، لذا، ترى روسيا أنه يجب أن يتعامل معها على هذا النحو”.

ويشير معلوف، إلى أنه تاريخيا، تتمتع تركيا وروسيا بسجل حافل في عداوة بعضهما البعض، وعلى الأخص عندما شهدت المناورات الجيوستراتيجية المتضاربة لروسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية قتالهما في أكثر من 10 مناسبات من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين. وفي بداية الحرب الباردة، دفع انضمام تركيا إلى “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) واستضافة صواريخ أميركية، لأن تكون مصدر رئيسي للقلق السوفييتي، ورغم إزالتها لا تعد روسيا إلى الآن أنقرة كحليف استراتيجي حتى ولو اتفقا في بعض الملفات الإقليمية.

الأعمال الدراماتيكية التي تعرض لها الجيش الروسي في أوكرانيا، بما في ذلك القصف عالي السرعة الذي نفذته طائرات بدون طيار من طراز “بيرقدار”، والتي أغرقت زورقي دورية ومركبة هبوط تحمل نظام صواريخ أرض – جو روسي، ثم تدمير مروحية من طراز “إم أي 8” أثناء إنزالها لقوات على الجزر الأوكرانية، تسببت بأن تكون للروس الشغل الشاغل لإنهائها.

ويبيّن معلوف، أن روسيا لا تنكر أنها تكره الطائرات بدون طيار التي زودتها تركيا لأوكرانيا، ويبدو ذلك واضحا من الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام الروسية التي تدعي إسقاط عدد ضخم من طائرات “بيرقدار” التركية، حتى أنها زيّفت عدة مرات أخبارا من خلال إعادة ترتيب الحطام ذات الطائرة كصور لطائرة جديدة.

الجدير ذكره، أن تركيا تتمتع بعلاقات اقتصادية أكثر شمولا مع أوكرانيا، حيث تشكل الأخيرة 15 بالمئة من واردات القمح البالغة الأهمية لتركيا، مما يجعلها ثاني أكبر مزود لتركيا من القمح، كما قضى نحو مليوني أوكراني عطلاتهم في تركيا العام الماضي، مما يجعلهم ثالث أكبر مصدر للسياحة في تركيا.

وعليه يؤكد المختصين الذين استطلع آراءهم “الحل نت”، أن المصالح الاقتصادية الطويلة الأمد لتركيا في أوكرانيا، تعني أنها لا ترى أي مكسب في سيطرة روسيا على البلاد، وهذا يفسر سبب رغبة تركيا في دعم أوكرانيا، حتى لو أدى ذلك إلى تنفير روسيا.

——————————

استعادة سوريا وسط الحرائق/ صبا مدور

لم يأتِ ذكر سوريا ضمن أجندة الزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي جو بايدن في المنطقة أواسط تموز/يوليو، لكن كل النقاشات التي يريد خوضها لن تتخطى سوريا، ففيها يدور الصراع بين إيران وإسرائيل، وفيها تستقر روسيا التي باتت تتعامل مع الوجود الأميركي المحدود هناك، كعنصر ضغط على واشنطن في الملف الأوكراني، وفي شمالها تحتاج الولايات المتحدة إلى ترتيبات تمنع أن تكون قواتها وسط معركة متوقعة بين حلفائها الأكراد وبين القوات التركية المتحفزة لبدء عمليتها المعلنة لإقامة شريط أمني عازل.

تجاهلت الولايات المتحدة طويلا مصير سوريا، بل أنها في لحظة غير مفهومة، لم تعارض وجودا روسيا ثابتا هناك، وكان ذلك في زمن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي كان تخطى قبل ذلك خطوطه الحمر، وكان معه نائبه آنذاك جو بايدن ذاته، فسمحا لموسكو أن تدعم بقاء الأسد الموشك في حينه على الهزيمة أمام المعارضة، ولم يكترثا من قبل ومن بعد بالتغول الإيراني، ولا بالجرائم التي ارتكبها الجميع ضد الشعب السوري.

وهو يهرع إلى المنطقة، يقول بايدن إن الأمن القومي لإسرائيل هو سبب أساسي لزيارته، وفيما ينفي أن يكون الأمر مرتبط بسعيه الفاشل حتى اللحظة لانخراط السعودية في حملته ضد روسيا وزيادة انتاجها من النفط لخفض الأسعار، فهو يصر على أنه مهتم بحضور اجتماع قمة موسع في السعودية يشمل دول مجلس التعاون ومصر والأردن والعراق، ويضيف أن الأمر يتعلق بقضايا أكبر بكثير من الارتباط بقطاع الطاقة.

لا شيء يدعو للشك بحديث بايدن، لكن وجوده في هذه القمة المنتظرة، وفي سياق صراع واضح المعالم مع روسيا والصين يشارك فيه الغرب بقوة وحماسة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة، وفي خضم فشل محتمل لمساعي العودة للاتفاق النووي مع إيران، وصراع خشن للأخيرة مع إسرائيل، وتهديدات بحرب شاملة، وبناء تحالف دفاعي يضم إسرائيل ودول عربية بقيادة أميركية، كل ذلك يجعل وجود بايدن مهما لما يتجاوز بكثير زيارة المجاملة أو ترطيب الأجواء مع الرياض الغاضبة من مواقفه، أو التأكيد على دعم تقليدي لا يحتاج لإعادة تأكيد لحليفه الإسرائيلي.

ولكن أين سوريا في هذه الخارطة المعقدة؟ وهل يمكن أن نشهد متغيرات تعيد بناء المقاربات الأميركية التي يبدو أنها تعود للمنطقة بعدما وضعتها إدارة بايدن من قبل في ذيل قائمة أولوياتها؟

الرؤية الأميركية حول سوريا، لم تنفصل في أي وقت عن نظيرتها الإسرائيلية، ومن الناحية الواقعية، لم يصدر عن إسرائيل الرسمية ولا عن أي من مراكز دراساتها أو سياسييها ما يشير إلى رغبة او حاجة لإسقاط الأسد، وربما كان العكس هو الصحيح، فالثورة السورية أربكت الحسابات الإسرائيلية التي كانت معتادة على قواعد لعبة ثابتة ومريحة مع النظام السوري طوال ال50 عاما الماضية، ولذلك فما تسرب من مقاربات إسرائيلية كان يتعلق بمنع الوجود الإيراني في سوريا من تهديد الأمن الاسرائيلي، وهو ما كان جزءا من تفاهمات مع روسيا التي كانت تسيطر على الأجواء السورية، وعلى قواعد عسكرية في جنوب وجنوب غرب البلاد تمنح إسرائيل بعض الهدوء.

لكن القواعد تبدلت بعد اضطرار روسيا لإخلاء قواعدها في وسط سوريا تحت ضغط الحرب الأوكرانية. من ناحية وجدت إسرائيل في ذلك فرصة كي تستخدم طائراتها في قصف ما تراه مهددا لها، خارج القيود التي كانت روسيا وضعتها من قبل، لكنها ايضا أدركت ان في الأمر مخاطر كبيرة، بعدما ملأت إيران فراغات الانسحاب الروسي، وبدأت فعليا، حسب تصريحات إسرائيلية، بإرسال صواريخ دقيقة وطائرات مسيرة إلى مواقع يمكن أن تطال منها أجزاء واسعة من فلسطين المحتلة، وكان قصف مطار دمشق في العاشر من حزيران/يونيو هو أحد تداعيات القرار الإسرائيلي لمنع ذلك.

هنا، لم يعد الهدف الإسرائيلي يقتصر على إبعاد إيران عن مناطق التهديد المحتمل، بل خروجها الكامل من سوريا، وهذه المقاربة، تشمل جميع الميليشيات المدعومة إيرانيا بما فيها حزب الله اللبناني، لا سيما وأن نظام الأسد لم يعد يواجه تهديدا عسكريا حقيقيا، وصار ممكنا أن تتولى دول عربية طبعت علاقاتها معه ومع إسرائيل في نفس الوقت تقريبا، أن تبادر إلى إعادة ادماجه في المحيط العربي، وربما تطرح مقاربات سياسية جديدة لحل الأزمة السورية بشكل يتلاءم نسبيا مع القرارات الدولية.

هذه الرؤية الخاصة بسوريا، هي جزء متصل بقوة بالهدف المعلن من التحالف العربي الإسرائيلي الجديد لمواجهة إيران، وفي جوهر مباحثات بايدن المرتقبة مع زعماء المنطقة، على اعتبار أنه من العبث البحث عن مقاربات لإنجاح هذا التحالف بدون التعامل مع القضية السورية.

المشكلة هنا، أن سوريا ستعود كما كانت من قبل، مجرد جسر لخدمة آخرين، إيرانيون كانوا أم إسرائيليون أم أميركيون أم روس… الخ، أما الشعب السوري وحقوقه، ومصير الملايين من معتقليه ومشرديه لاجئين ونازحين، وهدف العدالة والقصاص من المجرمين، وبناء أسس انتقالية سليمة لحكم رشيد دون الأسد ونظامه، كل ذلك سيكون مجرد تفاصيل غائبة لخدمة الهدف الأساس المتمثل بحماية أمن إسرائيل.

وفي كل الحالات فهذه الرؤية، ما زالت في بدايتها، وما زال هناك الكثير مما يمكن أن يحصل بين الطرفين المتنازعين على الأرض السورية، لاسيما وأن إيران تدرك أن مهمتها لم تعد حماية الأسد، بل الاستفادة من سيطرتها على سوريا، لفرض نفوذها في المنطقة كلاعب رئيسي، مستفيدة بالطبع من الانسحاب الجزئي لروسيا، التي كثيرا ما كانت تعوق الأهداف الإيرانية.

ندرك أن سوريا ستكون في قلب المتغيرات الجوهرية وربما العنيفة الممكنة في المنطقة، لكن ما يعني الشعب السوري هو البحث عن فرصة وسط هذه المعسكرات والمحاور المتقابلة، ليستعيد حقوقه، ويحقق العدالة المفقودة. وما يهمنا ألا تمضي هذه المعادلات الجديدة أيا كانت على حساب السوريين من جديد، وحقوقهم بالحرية والكرامة واستعادة بلدهم من خاطفيه، ومن يدري فقد تتكفل حرائق المتصارعين بذلك؟

المدن

—————————–

الجوع أو الركوع: الأسد قدوة للعالم/ عمر قدور

في الأسبوع الأخير هدد ألكسندر لافرنتييف، مبعوث بوتين إلى سوريا، على الأقل مرتين بإيقاف المساعدات الأممية من معبر باب الهوى، حيث ينتهي التفويض الممنوح للأمم المتحدة في العاشر من الشهر المقبل. في الوقت نفسه، حذرت منظمات أممية عدة من الكارثة الإنسانية المقبلة، فيما لو أوقفت المساعدات عبر الحدود، إذ من المتوقع أن يعاني من المجاعة ما يزيد عن ثلاثة ملايين سوري مستفيدين منها هناك.

كانت موسكو من قبل قد استغلت مقعدها الدائم في مجلس الأمن لتقليص عدد معابر المساعدات والمستفيدين، واستخدمت موضوع إغاثة اللاجئين كورقة ابتزاز. أما الغرب الداعم لإبقاء المساعدات فلم يقابل التهديدات بالمثل، وأبسط ما يمكن فعله التلويح بإيصال المساعدات من خارج آليات الأمم المتحدة، وعدم الرضوخ تالياً لشروط موسكو.

فحوى التهديد الروسي: إما تسليم المساعدات كلها لسلطة الأسد، لتقوم بتوزيعها باعتبارها السلطة الشرعية، أو قطع المساعدات عبر باب الهوى. المسألة ليست في غيرة موسكو على تكريس شرعية الأسد، التي لن تُكرس بهذه المساعدات، بل هي في معرفة موسكو أن هذه السلطة ستستخدم سلاح المساعدات من أجل الابتزاز والتجويع. إنها بمطلبها تستأنف سياسة الأسد المعلنة، فعلى مداخل المناطق التي كان يحاصرها فيما مضى عمد جنوده وشبيحته إلى كتابة الهدف من الحصار بوضوح شديد: الجوع أو الركوع.

من المؤكد أن وقاحة شبيحة الأسد في ذلك الشعار غير مسبوقة، على الأقل لجهة إشهاره واستخدامه ضد محكوميه. إلا أن ابتزاز العالم برغيف الخبز هو اليوم واحد من الأسلحة الروسية في الحرب الأوكرانية، وتابعنا خلال الأسبوع الأخير تصريحات لقادة غربيين تطالب بإعادة الملاحة الطبيعية في البحر الأسود لتتمكن أوكرانيا من تصدير الحبوب، بينما تصر موسكو للسماح بذلك على إزالة الألغام البحرية كافة، ما قد يُفهم منه تسهيلاً لقواتها كي تهاجم الموانئ الأوكرانية.

خارج الحسابات العسكرية الميدانية، ما لا ينبغي نسيانه أن روسيا منذ العدوان على أوكرانيا تخضع لعقوبات تخرجها من النظام المالي الدولي، وتعيقها عن تصدير الحبوب أيضاً. بعبارة أخرى، تساهم العقوبات الغربية في أزمة الخبز الحالية على مستوى العالم، وتحديداً فيما يخص فقراءه الأكثر تأثراً. إن شحّ المعروض من الحبوب، قياساً إلى الطلب عليه، وارتفاع سعره سيؤديان إلى أزمة غذاء حقيقية تطال عشرات الملايين حول العالم، وفي هذه الظروف لا يُستبعد أن يتضاءل الاهتمام “الضعيف أصلاً” فيما لو قُطعت المساعدات عن ثلاثة ملايين سوري بواسطة معبر باب الهوى.

وعندما نتحدث عن تضاؤل الاهتمام، عن قلة حساسية حكومات الغرب أو انعدامها، ربما ينبغي الإشارة إلى أن قلة الحساسية في الظروف الحالية غير متجهة فقط إلى شعوبنا. في الغرب نفسه، تسارعت حزم العقوبات على روسيا، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار، وهذا أضرّ فوراً بالشرائح الأفقر ضمن المجتمعات الغربية. ارتفاع الأسعار دخل كمادة في السجالات السياسية الداخلية، من دون وجود برامج فعلية لتخفيف آثارها على أفقر المتضررين، بمعنى أن الحكومات تعاقب بوتين جزئياً بلقمة عيش مواطنيها.

من المستحسن تصويب العبارة الأخيرة، فبوتين الذي تفاخر بتأثير العقوبات على الغرب أكثر من تضرر بلاده لن يتأثر بالعقوبات، لا هو ولا طبقة الأثرياء المحيطة به. التأثير سيكون بدءاً من فقراء الروس، وإذا استمرت العقوبات طويلاً فسيمتد تأثيرها إلى الطبقة الوسطى. الرهان على أن الشرائح الواسعة ستنقم على سياسات بوتين، ثم ستنتفض عليه لتغييرها من أجل رفع العقوبات، هو رهان جُرِّب بعزلة روسيا أثناء الحرب الباردة، وبالعقوبات عليها بعد احتلال القرم، وفي الحالتين لم تظهر بوادر الانتفاضة الموعودة.

أما الظن بأن بوتين سيرأف بحال مواطنيه، ويتراجع عن سياساته من أجل رفع العقوبات الغربية، فلا يبتعد كثيراً عن الظن بأن بشار الأسد سيقدّم “تنازلات” لإصلاح نظامه بهدف رفع العقوبات. على مقربة في المكان والزمان، شهد العالم آثار العقوبات على العراقيين أيام حكم صدام حسين، وكيف كانت القصور الرئاسية المبالغ في فخامتها تُبنى في حين يجوع عموم العراقيين. وشهد العالم بعدها إقرار برنامج “النفط مقابل الغذاء” لتفادي الكارثة الإنسانية، إلا أن فضائح الفساد المرتبطة بذلك البرنامج كانت تتقدم بأشواط على فوائده.

اليوم، في اللوحة العامة، تهدد موسكو بوقف المساعدات الغذائية عن ثلاثة ملايين سوري خارج سيطرة الأسد، والنسبة العظمى من الواقعين تحت سيطرة الأخير يعانون أيضاً من خطر المجاعة ومن وطأة العقوبات الغربية. تصدير الحبوب من روسيا دونه حاجز العقوبات المالية الغربية، وتصدير الحبوب الأوكرانية دونه إغلاق الموانئ بسبب الهجوم الروسي.

في نموذج عن التعاطي الغربي، وصف أمس جزيب بوريل “مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي” عرقلة روسيا تصدير الحبوب الأوكرانية بأنها جريمة حرب حقيقية، ويجب أن تُحاسب عليها. منوّهاً بأن المرء لا يستطيع أن يتخيل ملايين من أطنان القمح عالقة في أوكرانيا، بينما يعاني الناس في باقي أنحاء العالم من الجوع. قد نسمع كلاماً مشابهاً في جلسة مجلس الأمن للبت في مصير المساعدات إلى سوريا، كلاماً محقاً يلقي بالمسؤولية على موسكو، ولا يقدّم رغيفاً لضحايا السياسة الروسية.

إذا أخذنا اللوحة الكلية، فإن استخدام التجويع كسلاح، أو كبديل عن الحرب، هو اليوم أوضح وأكثر تعميماً من أي وقت مضى، وكأن شعار “الجوع أو الركوع” بات قدوة للعالم. لا تُستثنى من ذلك العقوبات الغربية التي بلا شك تضر بإمكانيات أنظمة على التوسع أو على الحرب، لكن ضررها يتعدى ذلك الهدف إلى إفقار وتجويع ملايين من الفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً.

ولئن كان سلوك الأنظمة القمعية معروفاً ومتوقعاً، لجهة عدم الامتثال جراء الضغوط الاقتصادية فهذا يرتّب على الحكومات الغربية مسؤوليات أخلاقية تجاه ضحايا العقوبات. إن هذه السياسات تستحق الإدانة من موقع الانحياز إلى أفضل ما في قيَم الغرب، إذ من المفهوم أن يتشابه الحكام الأسديون هنا أو هناك، وألا يكترثوا بمصائر شعوبهم، بقدر ما هو مطلوب ألا تكون سياسة الغرب “على نحو غير مباشر أو غير متعمد” شريكة لأولئك الطغاة في سحق الشعوب بدءاً من لقمة العيش.

المدن

———————————–

===================

تحديث 26 حزيران 2022

——————–

التضخم والحرب على أوكرانيا/ جواد العناني

سؤال افتراضي مستقبلي: ماذا لو توقفت حرب روسيا على أوكرانيا غداً، هل ستنتهي مشكلة التضخّم في الأسعار العالمية.

هل يعود سعر القمح إلى حدود 300 دولار للطن المتري من القمح كما كان الحال قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، بدلاً من سعره الحالي الذي يقارب 500 دولار؟

هل سيعود سعر برميل النفط إلى حدود 80 دولاراً للبرميل الخام كما كان قبل تلك الحرب. ويهبط من سعره الحالي (يوم الاثنين الماضي) المقارب 114 دولاراً لكل برميل من خام برنت، حسب نشرة الطاقة الصادرة عن وكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية؟

للإجابة عن سؤال معقد كهذا، يجب أن نتناول قضايا فرعية مهمة يمكن أن تندرج في إطار الإجابة الاستنتاجية عنه.

أولى هذه القضايا: هل كانت حرب أوكرانيا مُشَوشة للأسواق العالمية، ومخلّة بنظام سلاسل التزويد إلى هذا الحد الذي جلب ارتفاعاتٍ في أسعار المواد الأساسية تقارب الـ 50% على المواد الغذائية الأساسية والنفط والغاز والمعادن؟

أم أن الضغوط التضخّمية كانت قد بدأت تطلّ برأسها فوق سطح الماء بسبب جائحة كورونا التي شهد انحسار موجتها ارتفاعاً في مستوى الطلب العالمي الفعّال، وأدّى إلى زيادة الطلب على الأيدي العاملة، ونقص في كميات التزويد المتاحة، وارتفاعات في كلف الشحن والتأمين البحري؟

وإذا انتهت الحرب الأوكرانية، هل سيعني هذا زيادة في الكميات المعروضة من السلع إلى الحد الذي يعيد الكمية المعروضة لتتساوى مع الكميات المطلوبة، وتستقرّ الأسعار الدولية عند مستوياتٍ أدنى من مستوياتها الحالية؟

من الواضح أن هذا يعتمد على ردات فعل الدول ومدى رغبتها في إيقاف الممارسات التجارية الضارّة بحرية تنقل السلع والخدمات بدون عوائق إدارية، ومقاطعات معلنة، ومحاصرات للموانئ هنا وهناك.

النقطة الثانية التي يجب التوقف عندها مدى نجاح السلطات النقدية، أي البنوك المركزية، في العالم في كبح جماح التضخّم عن طريق رفع أسعار الفوائد، والتي تبدو وكأنها باتت الوسيلة الوحيدة للسياسة النقدية.

وقد أدّت هذه السياسات، كما شهدنا خلال هذا الأسبوع المنتهي يوم الجمعة غداً (24 من يونيو/ حزيران)، حيث هوت مؤشّرات البورصات العالمية والوطنية في دول كثيرة، كما حصل في نيويورك ولندن وباريس وفرانكفورت وشانغهاي وطوكيو وغيرها، وفي أسواق وبورصات الخليج.

ويقف السبب الرئيسي خلف هذه التراجعات رفع البنك الاحتياطي الفيدرالي “البنك المركزي” في الولايات المتحدة أسعار الفوائد بمقدار 75 نقطة دفعة واحدة. وبارتفاع أسعار الفوائد، تتراجع قيم الاستثمارات المالية، سواء سندات الخزانة والأذونات أم صكوك الملكية كالأسهم والعقار.

ولكن دولا كثيرة، والنامية منها على وجه الخصوص، لا تريد أن تسير على هذا النهج، فالمشكلة في الاقتصادين، الأميركي والأوروبي، ليست في الركود وانخفاض معدلات النمو، بل في التضخّم على نقيض دول نامية كثيرة، كان معظمها يعاني من انخفاض معدلات النمو وارتفاع البطالة، وإن وقع بعضها بين فكي البطالة والتضخّم، مثل فنزويلا والأرجنتين وبعض الدول الأفريقية والآسيوية وإيران.

وتفضّل هذه الدول النمو وزيادة الإنتاج وخلق فرص عمل للعاطلين عن العمل، بدلاً من التركيز على تخفيض الأسعار مع تبنّي برامج بموازنات محدودة للحماية الاجتماعية.

وإذا استمرّت أوضاع الطقس السيئة في العالم على حالها من جفاف وارتفاع في درجات الحرارة، وسوء توزيع في الأمطار، ووقوع مجاعاتٍ تطاول مئات الملايين من البشر، فإن هذا العالم المنكوب لن يستجيب لدعوات الدول الغنية لمحاربة التضخّم، وستقع ازدواجية في السياسات النقدية والمالية، تؤدّي إلى مزيدٍ من التشوش في أسواق النقد والصرف، وتعقد المعاملات المالية، ولربما تؤدّي إلى تعميق حروب العملات بين الدول الكبرى.

الأمر الثالث الذي يجب تناوله في هذا السياق قدرة الدول الكبرى على تبنّي سياسات اقتصادية مستقرّة في ظل الصراعات الداخلية التي تعاني منها، وهو ما يمكن أن تسميه معضلة إيمانويل ماكرون. بعد فشل التحالف الذي يقوده في الانتخابات التشريعية، أخيرا، في فرنسا وحصوله على 245 مقعداً من أصل 577 مقعداً.

وما حصل عليه التآلف يقل 44 مقعداً عن العدد المطلوب (289) ليحافظ على الأغلبية البسيطة. وقد وصفت رئيسة وزراء فرنسا إليزابيث بورن نتائج الانتخابات البرلمانيّة وفشلها في منح الغالبيّة لأيّ حزب التي أعلنت يوم الأحد الماضي 19 من يونيو/ حزيران بأنها كارثة وتُشكّل خطراً على البلاد.

وهناك تنبؤات أيضاً أن انتخابات وسط الفترة الرئاسية التي ستقع في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل في الولايات المتحدة، ويُعاد فيها انتخاب كامل أعضاء مجلس الممثلين وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، بأنها ستكون لمصلحة الحزب الجمهوري، ما سَيُعقِّد حياة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، ويقلل من فاعلية قرارته الاقتصادية والسياسية.

وبوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني يتأرجح موقفه في المملكة المتحدة، ووجد مهرباً له من همومه الداخلية في اتخاذ المواقف المتشدّدة من حرب أوكرانيا وفي استعداء الروس.

وهناك أزمة في إسبانيا، وأخرى في دول شرق أوروبا التي تنزع نحو السياسات الوطنية المنغلقة، كما هو حاصل في بولندا وهنغاريا وبلغاريا وغيرها.

وفي المقابل، نرى أن ما تسمّى الدول الدكتاتورية هي أكثر استقراراً سياسياً. وفي المقابل، أفرزت انتخابات كولومبيا رئاسة اشتراكية يسارية جديدة في الجولة الثانية التي جرت الأسبوع الحالي هناك.

تختلف هذه التناقضات والتحولات عما كان سائداً ثلاثين سنة من هيمنة الفكر الرأسمالي على العالم. فهل نحن أمام مرحلة فوضى عالمية جديدة، تؤدّي إلى تبدّل في المواقع النسبية للدول، أم أن هذا كله مجرد ردّة فعل على أن العالم بحاجة إلى نظام دولي جديد؟

لن ينتهي التضخّم، على الأرجح، بانتهاء الحرب على أوكرانيا، ولكن تراجعا بسيطا قد يحصل في معدلات التضخم. ولكن القضية ليست فقط في تضخّم الأسعار، بل في انتفاخ الأنا وغفلتها عن مدى صعوبة الحلول وتنفيذها.

العربي الجديد

———————–

الحرب تعيد أوروبا إلى “نهضة الفحم”/  أسعد عبود

تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية لا تتوقف عند حد، أزمة غذاء تحدق بعشرات الملايين من البشر، لا سيما في الدول الفقيرة، بسبب عدم قدرة السفن الروسية على الرسو في كل الموانئ بسبب الحظر الغربي على موسكو، وكذلك بسبب الحصار الروسي المفروض على ميناء أوديسا الأوكراني، حيث أكثر من 30 مليون طن في الإهراءات والسفن.

ومن تداعيات الحرب أيضاً، أزمة الطاقة في أوروبا واضطرار بعض الدول مكرهة إلى العودة إلى استخدام الفحم الحجري في توليد الكهرباء.

لم يكن الإدمان الأوروبي على الغاز الروسي ينطلق من فراغ أو من رغبة في تعزيز موارد الخزينة الروسية، بل كان مبنياً على مصلحة تجارية في المقام الأول وقبل أي معايير سياسية. فالغاز الروسي كان الأقرب والأسهل وصولاً بالأنابيب إلى القارة الأوروبية.

ويواجه الأوروبيون الذين تشهد دولهم نسب تضخم غير مسبوقة، مشكلة اقتصادية كبيرة في خضم عملية البحث عن طاقة بديلة للغاز الروسي أولاً، ومن ثم البحث عن دول جديدة يمكنها أن تعوّض الكمية التي تقرر الاستغناء عن استيرادها من روسيا.

قبل الحرب الروسية – الأوكرانية، كان الاتحاد الأوروبي يستورد 30 في المئة من نفطه و40 في المئة من غازه من روسيا، ويدفع لموسكو ما يصل إلى 850 مليون دولار يومياً بالأسعار الحالية من أجل مواصلة تدفق الهايدركربون. إن فطم أوروبا عن النفط الروسي سيشكل تحدياً. والتخلص من الغاز الروسي سيكون عملية أصعب.

إن “غازبروم” الروسية أكبر شركة منتجة ومحتكرة لتصدير الغاز، تهيمن على السوق العالمية. وهي أنتجت 540 مليار متر مكعب العام الماضي، أكثر من شركات “بي بي” و”شل” و”شيفرون” و”إكسون موبيل” و”أرامكو” مجتمعة، استناداً إلى بيانات من “شركة ماكنزي وود للاستشارات”.

وبخلاف النفط، حيث عمد المنتجون الكبار مثل المملكة العربية السعودية تاريخياً إلى ضخ كميات إضافية للمساعدة على توازن السوق في الأوقات التي تعطلت فيها الإمدادات العالمية، فإن قطاع الغاز يعمل عادة بكامل طاقته تقريباً.

ويعتبر الغاز أقل قابلية للاستبدال من النفط، لأن نقله من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة الاستهلاك، يتطلب خط أنابيب أو منشأة للتسييل، وتالياً استثماراً أكبر، مسبقاً.

وتعمل الدول الأوروبية المشترية للغاز الروسي بدأب على إيجاد إمدادات وقود بديلة وقد تحرق المزيد من الفحم، للتغلب على نقص في تدفقات الغاز من روسيا، يهدد بأزمة طاقة في الشتاء إذا لم تتم إعادة ملء المخزونات.

وترى ألمانيا والنمسا وهولندا أن محطات كهرباء تعمل بالفحم قد تساعد القارة في اجتياز أزمة أدت إلى زيادات حادة في أسعار الغاز، وتضاف إلى التحدي الذي يواجه الحكومات في محاربة التضخم.

وفي هذا السياق، قالت ألمانيا إنها قد تعيد تشغيل محطات كهرباء تعمل بالفحم كانت تهدف إلى التخلص منها تدريجياً. وبرر وزير الاقتصاد روبرت هابيك هذه الخطوة قائلاً: “ذلك شيء مؤلم لكنه ضروري وسط هذه الأزمة لتقليل استهلاك الغاز”.

ويرى رئيس شركة “روس نفت” الروسية العملاقة إيغور سيتشين، أن الولايات المتحدة أطلقت في أوروبا شرارة “نهضة الفحم”، ما يقوّض الجهود العالمية لتقليل البصمة الكربونية.

أزمتا الغذاء والطاقة، يجب أن تشكلا حافزاً للدول الكبرى، لا سيما الأوروبية منها، كي تسعى إلى إيجاد حل سياسي يوقف النزاع الأوكراني، عوض مد كييف بمزيد من الأسلحة على أمل استنزاف الجيش الروسي. لكن ما يحدث اليوم أن الأمور تمضي في الاتجاه المعاكس. وها هي العقوبات الغربية غير المسبوقة التي فُرضت على روسيا بهدف حرمان آلتها العسكرية من الموارد، تحدث أثراً عكسياً في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية يفوق بأضعاف مضاعفة الأثر الذي أحدثته في روسيا نفسها.

النهار العربي

 ————————

«سلّة خبز العالم»: حصار روسيا لا يجوّع سوى فقراء الكون/ صبحي حديدي

بصدد أزمة الحبوب الكونية الناجمة عن، أو من حول، الغزو الروسي في أوكرانيا، ثمة معطيات إحصائية صلبة لا مقام فيها للتفذلك أياً كانت حنكة المتفذلك، ولا للتلفيق أنّى ذهب الملفّق في ليّ عنق الحقائق. المعطى الأوّل هو أنّ روسيا استحقت، بجدارة تسندها الأرقام، لقب «سلّة خبز العالم» لأنها تصدّر إلى أبناء الكرة الأرضية خارج روسيا ما يعادل 17% من القمح، فكيف تكون الحال إذا كان الطرف الآخر في المعادلة الكارثية، أي أوكرانيا، يصدّر 12%. مأساوية المعادلة هنا لا تحتمل أيّ مقدار من تخفيف الوطأة أو ترحيل العواقب: إمّا أن تخرق عشرات الدول العقوبات الامريكية والأوروبية والأطلسية المفروضة على الصادرات الروسية، وتقع بالتالي تحت طائلة إجراءات عقابية وتأديبية؛ أو أن تنتظر ساعة فرج تأتي ولا تأتي، حين يتبدّل الوضع في قليل أو كثير حول الألغام التي تشلّ الموانئ الأوكرانية وتعيق بالتالي تصدير محاصيل الحبوب؛ أو ثالثاً، وهو الأرجح السائد، أن تجابه ارتفاعات قياسية غير مسبوقة في أسعار القمح، وبالتالي يبلغ مئات الملايين من السكان حافة الجوع والتجويع والمجاعة.

المعطى الثاني الصلب يقول إنّ سوق الحبوب العالمية عالية التركيز لأنّ 85% من الصادرات العالمية تنحصر في سبعة مصادر: روسيا، أوكرانيا، الاتحاد الأوروبي، أستراليا، كندا، الولايات المتحدة، والأرجنتين. وأمّا صادرات الذرة، فإنها تنحصر في أربعة مصادر: الولايات المتحدة، الأرجنتين، البرازيل، وأوكرانيا. وللأرقام أن تختصر، على نحو مثير للقلق ومأساوي هنا أيضاً، مقادير اعتماد بعض دول الجنوب والمجتمعات النامية على الصادرات الروسية والأوكرانية: 90% في الصومال، 80% في الكونغو، 40% في اليمن، وهكذا… ولا يتوجب أن تغيب عن الذاكرة حقائق المجاعة التي ضربت الصومال، في الجانب الذي يخصّ الحبوب وانفجار أسعارها وأزمات الخبز والغذاء، فأودت بحياة 250 ألف آدمي. أسعار شهر نيسان (أبريل)، بعد أسابيع على بدء الغزو الروسي، قفزت على نطاق عالمي بمعدّل 17% عن شهر شباط (فبراير) من العام ذاته، ولأنّ الحرب قائمة وآخذة في الاتساع، وبالتالي لن تتأخر أسعار الحبوب في القفز أعلى وأعلى؛ فإنّ عشرات الدول سوف تصبح عاجزة ببساطة عن سداد أثمان الواردات، بافتراض أنّ الندرة الحادة لن تكون سيّدة المشهد أصلاً.

وليس خافياً، استطراداً، أنّ هذه السطور تساجل ضدّ العقوبات الاقتصادية إجمالاً، وتلك التي تؤذي الشعوب قبل أن تمسّ الحكام خصوصاً، على غرار العقوبات التي فًرضت ضدّ نظام صدام حسين أو التي تُفرض راهناً ضدّ النظام السوري؛ ليس لأنها لا تملك هذه الدرجة أو تلك من التأثير على الأنظمة، بل جوهرياً لأنّ تأثيراتها السلبية على الشعوب والمجتمعات والبنى التحتية أضخم بما لا يُقاس. على سبيل المثال، العقوبات المندرجة ضمن «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين» لم تمنع وكالات الأمم المتحدة المختلفة من تمرير 30 مليار دولار إلى أجهزة نظام بشار الأسد، مقنّعة كانت أم صريحة، تحت ستار «المساعدات الإنسانية»؛ بعلم، وإقرار، الولايات المتحدة وجميع أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين. والتاريخ لا يسجّل سقوط أيّ نظام «مارق»، بحسب التعبير الأمريكي الشهير، جرّاء عقوبات اقتصادية من أيّ صنف؛ أكانت «غبية» أم ّذكية»، وقاسية أم رحيمة. وفي كلّ ما يتصل بالعقوبات التي تحول دون تصدير الحبوب الروسية والأوكرانية، لا صوامع روسيا طفحت وفاضت وأُلقي بمخزونها إلى البحر، ولا المخابز تأثرت، ولا الروبل هبط إلى حضيض.

والذين يغلقون اليوم منافذ الجياع إلى «سلّة خبز العالم»، في واشنطن وبروكسيل وعواصم الحلف الأطلسي، يدركون جيداً أنّ الحصار المفروض على قمح روسيا لن يوقف الحرب ولن يدفع سيّد الكرملين إلى مراجعة فصول غزو أوكرانيا، أو الجنوح إلى سلم من أيّ صنف، أو قبول تسويات مرحلية لا تحقق سلسلة أغراض مركزية كانت وراء قرار الغزو. في الآن ذاته، يتناسى قادة أمريكا والاتحاد الأوروبي والناتو أنّ معضلة النظام الرأسمالي الكونية الراهنة أشدّ مضاضة وأبعد أثراً من حكاية نقص الحبوب أو انقطاع الغاز والوقود؛ لأنّ كوابيس ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 1,5 مئوية (2,7 فهرنهايت)، قياساً على المعدّل ما قبل الصناعي، هو المعضلة الكبرى؛ الجاثمة على الصدور، غير القابلة للحلّ لأنها في حال تعارض تامّ مع الجشع الرأسمالي إلى التصنيع وتلويث كوكب الأرض. ولعلّ الأمين العام للأمم المتحدة خرج عن القاموس الدبلوماسي المعتاد في إبداء القلق، فقال بفم ملآن هذه المرّة: إنّ نتائج التغيرات المناخية يمكن أن تسفر عن «مدن غارقة تحت الماء، وموجات سخونة غير مسبوقة، وعواصف مثيرة للذعر، وحالات نقص في الماء واسعة الانتشار، واندثار مليون من أنواع النبات والحيوان».

وفي مناسبة موجات الحرارة العالية التي تضرب أوروبا هذه الأيام، يصحّ أن تُستذكر هنا واقعة فارقة شهدتها فرنسا صيف 2005 حين قضى أكثر من 5,000 فرنسية وفرنسي نحبهم جرّاء موجة طقس حارّ لم تدم أكثر من أسبوع. لا أحد، بالطبع، يعترض على أطوار الطبيعة حين تقسو على الكائن، غير أنّ الطبيعة ليست مسؤولة وحدها عن إزهاق كلّ هذه الأعداد الهائلة من الضحايا، وثمة مسؤولية مباشرة يتحملها الإنسان الذي امتلك من أسباب التكنولوجيا ما يكفي لقهر ــ أو في الحدّ الأدني السيطرة على ــ سورات غضب الطبيعة. والإنسان، في هذه الحالة، لم يكن سوى فرنسا: الدولة الرأسمالية، المنتَخبة حكومتها ديمقراطياً كي تكون مسؤولة، وكي تلعب دور راعية الرفاه والرخاء والأمن والطمأنينة. ومصرع هذا العدد الكبير، خاصة في صفوف المسنّين، بسبب أيّام معدودات من المناخ الحارّ، لاح في جانب مشروع من المسألة أشبه بـ 11 أيلول ‘سبتمبر) من طراز آخر؛ مع فارق أنّ الضحايا الفرنسيين لم يسقطوا على يد الإرهابيين من انتحاريي الطائرات الخارقة للأبراج، وإنما سقطوا ضحية مزيج من تعبيرات الطبيعة العشوائية وإهمال الدولة التي لا يتوجّب أن تكون عشوائية.

من جانب آخر سجّل تقرير، صدر مؤخراً عن «وكالة البيئة الأوروبية»، أنّ ظواهر قصوى من اضطراب المناخ أودت بحياة 142 ألف شخص، وكلّفت 510 مليارات يورو، خلال الـ40 سنة المنصرمة فقط؛ وأنّ 3% من إجمالي الظواهر المتطرفة في الطقس كانت وراء 60% من الأضرار المادية خلال الفترة المذكورة. الدولة الرأسمالية، هذه التي تنتج كوابيس المناخ وتخشى عواقبها في آن معاً، هي ذاتها التي تستطيب تحويل الغزو الروسي الأحمق والوحشي والتوسعي إلى مناسبة وعتبة وذريعة لإطلاق منظومة جديدة من حرب باردة لم تندلع أصلاً لأنها بقيت في إطار المخيّلات الإمبريالية/ السوفييتية؛ ولكنها الحرب التي ألحقت أبلغ الأذى وأشدّ الضرر بمصالح الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي جنوب العالم والمجتمعات النامية على وجه الخصوص. وإذا كان واضحاً تماماً مقدار ابتهاج البيت الأبيض بتورّط الكرملين في غزو أوكرانيا، وأوضح منه سعادة الصناعات العسكرية باشتعال حرب جديدة تتيح الإنتاج والتصدير والتدمير والمزيد من التصدير؛ فإنّ ما لا يقلّ وضوحاً هو انعدام الاكتراث لدى القوى التي تحاصر «سلّة خبز العالم» إزاء حقيقة كبرى ساطعة تقول إنّ فقراء العالم وجياعه هم المحاصَرون في المقام الأوّل.

وبئس مثل هذا الحصار، استطراداً، وأبأس منه أغراضه المنافقة المخادعة؛ التي يحدث، مع ذلك، أنها لا تخون تقاليد عريقة دأب النظام الرأسمالي على إنتاجها وإعادة إنتاجها.

القدس العربي

——————–

حرب استنزاف طويلة بأوكرانيا تشمل الشرق الأوسط… وبروز محور دفاعي جديد/ رياض قهوجي 

يتطور النزاع العسكري في أوكرانيا إلى حرب استنزاف قد تطول لسنة أو أكثر مع تداعيات بدأت تصل شظاياها إلى منطقة الشرق الأوسط وسيكون لها تأثير في الصراعات القائمة فيها. فالهجوم الروسي يجدد زخمه إنما ببطئ، في وقت يتسارع تقديم المساعدات العسكرية النوعية لأوكرانيا لتعزيز موازين القوى ومنع تحقيق أي انتصار لموسكو. في حين تعيد الإدارة الأميركية حساباتها في الشرق الأوسط الذي يبدو أنه على موعد مع تغيّرات دراماتيكية في شكل وطبيعة العلاقات العربية – الإسرائيلية يترافق مع استعادة أميركا لدورها كقوة عسكرية مهيمنة في المنطقة.

تزداد الهجمات الروسية شراسة على طول الجبهة الشرقية لأوكرانيا حيث تقوم روسيا بعملية قضم بطيئة ومركزة للأراضي الأوكرانية معتمدة على كثافة نيران مدفعيتها الثقيلة وراجمات الصواريخ التي تقوم بتدمير ممنهج للبنية التحتية ودك خطوط الدفاع الأوكرانية. يرجح الخبراء والمراقبون العسكريون في الغرب أن روسيا تستخدم حالياً ربع قواتها المسلحة وترسانتها العسكرية في الحرب في أوكرانيا ما يعكس حجم التحدي الذي تواجهه هناك وحجم التصميم لدى موسكو بأن تخرج منتصرة.

تحولت الحرب في أوكرانيا الى حرب مدفعية وصواريخ بعيدة لإنهاك القوات الأوكرانية التي لا تملك عدد قطع المدفعية وراجمات الصواريخ مقارنة بما تملكه روسيا. ومن هنا الدعوات المتكررة للقيادة الأوكرانية لحلفائها في الغرب أن لتزويدها بمدافع هاوتزر ذاتية الحركة وراجمات صواريخ ثقيلة تكون أيضاً ذاتية الحركة. فمدافع الهاوتزر المقطورة تشكل هدفاً سهلاً للطائرات من دون طيار الهجومية والصواريخ الدقيقة التي تملكها روسيا. ويتوقع العديد من المراقبين أن تتمكن القوات الروسية خلال الأسابيع القليلة المقبلة من السيطرة على المزيد من الأراضي في شرق أوكرانيا نتيجة تفوق قوة نيرانها.

لكن مع وصول كميات كبيرة من مدافع الهاوتزر ذاتية الحركة من بولندا وألمانيا وهولندا وبريطانيا والسويد وأميركا إضافة الى راجمات الصواريخ الثقيلة والدقيقة عيار 227 ملم طرازي هايمارس و”أم أل آر أس” من بريطانيا وأميركا قبل نهاية شهر تموز (يوليو) المقبل سيؤثر ذلك في مجريات الحرب ويرجح أن يؤدي الى توقف التقدم الروسي. وقد تضطر روسيا لإرسال أعداد اضافية من بطاريات المدفعية الثقيلة والصواريخ من مخازنها ونشر أعداد أكبر من جنود الاحتياط لاستعادة زخم هجومها، الأمر الذي ستقابله دول حلف الناتو بإرسال المزيد من الأسلحة النوعية والمدفعية لأوكرانيا لإبقائها صامدة، وتحويل النزاع الى حرب تستنزف قدرات روسيا بشرياً ومادياً واقتصادياً. فالحرب تكلف روسيا يومياً عشرات القتلى وخسائر بالملايين في العتاد في حين تنهك العقوبات اقتصادها. ويبدو من تصريحات بعض القيادات الغربية أنها تستعد لأن تستمر في دعم أوكرانيا عسكرياً لسنوات، إن تطلب الأمر ذلك.

ولتعزيز الحصار الغربي على روسيا فإن الولايات المتحدة بحاجة لتمتين علاقاتها مع حلفائها في الشرق الأوسط، وتحديداً في الخليج والتي كانت شهدت تراجعاً نتيجة سياسات واشنطن المتناقضة وامتناعها عن توفير الحماية المتوقعة ضد اعتداءات من الميليشيات المتحالفة مع إيران، وتحديداً من اليمن. فأميركا لا تريد أن ترى تعاوناً بين دول الخليج وروسيا يمكن الأخيرة من المحافظة على أسعار مرتفعة للنفط والالتفاف على العقوبات الغربية المفروضة عليها. ومن هنا تجري اتصالات لتصويب العلاقات وحل كل المواضيع الخلافية بين أميركا والسعودية، وتعزيز التعاون العسكري بين دول الخليج وواشنطن. وقد يشمل التعاون العسكري إنشاء منظومة اقليمية لتعزيز الدفاع الجوي ضد الصواريخ البالستية والجوالة والطائرات المسيّرة يربط منظومات الرادار والإنذار المبكر لدول الخليج ومصر والأردن مع تلك الأميركية والإسرائيلية للتعامل مع أي تهديدات مستقبلية من اإيران وحلفائها في المنطقة. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس كشف في 20 حزيران (يونيو) الجاري النقاب عن هذا التحالف من دون أن يسمي الدول المشاركة فيه.

كما أن واشنطن تستعد لخيارات أخرى للتعامل مع فشل وانهيار المفاوضات مع إيران لإعادة إحياء الاتفاق النووي معها. وهذا يتطلب تعاوناً وتنسيقاً أكبر مع حلفائها في المنطقة الذين ينتظرون منها استراتيجية واضحة لمنع إيران من اقتناء سلاح نووي بعد فشل المفاوضات. وتصر دول المنطقة أن تتضمن الاستراتيجية الجديدة التي يتم إعدادها مع واشنطن وسائل التعامل مع سياسة إيران التوسعية وبرامج صواريخها البالستية وطائراتها المسيّرة الهجومية.

وبما أن روسيا تتشاطر السيطرة على سوريا مع إيران، فإن المواجهة الغربية مع روسيا في أوكرانيا سيزداد صداها داخل الساحة السورية التي تشهد ارتفاعاً في وتيرة الغارات الإسرائيلية على مواقع تابعة للميليشيات الإيرانية، وتصاعداً في هجمات روسية على مواقع مقاتلين موالين للقوات الأميركية، واستعداداً لهجوم تركي واسع على شمال سوريا.

وبما أن الغرب يبحث عن بدائل للغاز الروسي الذي يخضع لعقوبات، فإن أهمية حقول النفط في شرق البحر المتوسط قد ازدادت ما ضاعف حجم الاهتمام بتسريع وتيرة التنقيب وإنشاء خطوط لأنابيب النفط من مصر وإسرائيل باتجاه أوروبا. ومن هنا الاهتمام المتزايد بحقل كاريش وإنهاء ترسيم الحدود البحرية مع لبنان. وقد يشكل هذا الأمر فرصة لإيران و”حزب الله” لمحاولة ابتزاز الطرف الأميركي – الإسرائيلي بهدف الحصول على تنازلات أو ضمانات. لكن في الوقت عينه، قد تشكل حالة الصراع الغربي مع روسيا وحاجة أوروبا للغاز من إسرائيل غطاءً لعملية عسكرية إسرائيلية كبيرة ضد لبنان و”حزب الله” في حال استُهدفت أي من سفن التنقيب في حقل كاريش.

لم تعد مواقف أميركا وأوروبا من ملفات عدة عالقة في المنطقة كما كانت عليه قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، وهذا ما لا يبدو أن القيادة الإيرانية مدركة له حتى الآن. ووفق مصادر بريطانية تتواصل مع جهات إيرانية معنية في موضوع محادثات فيينا، فإن وزارة الخارجية الإيرانية وبعد خروج محمد جواد ظريف وفريق عمله منها باتت تحت السيطرة الكاملة لشخصيات تابعة لـ “الحرس الثوري” الإيراني تفتقر للخبرة في العلاقات الدولية وتحديداً مع الغرب. وهذا يزيد من احتمالات سوء الحساب ما سيؤدي لتدهور الأوضاع بسرعة. وخير دليل على تغير الأوضاع هو القرار الإسرائيلي بمواجهة إيران في عقر دارها عبر حرب استخباراتية مفتوحة لا تخشى القيادات في تل أبيب الحديث عنها جهاراً، وهو ما يزيد من الضغوط على طهران التي تقف عاجزة عن وقف الضربات الإسرائيلية في سوريا وفي عقر دارها. ويعتقد بعض المسؤولين الأميركيين أنه من الأجدى التنسيق المباشر مع إسرائيل في مواجهة إيران لتجنب تدهور الأوضاع بشكل دراماتيكي ومن دون سابق إنذار.

وزادت حرب أوكرانيا من الضغوط الاقتصادية على إيران التي تراجعت صادرات النفط المحدودة التي كانت تقوم بها لدول مثل الصين والهند بشكل كبير بعد دخول روسيا كمنافس شرس يعمد لبيع كميات كبيرة من النفط بأسعار متدنية تصل لأقل من نصف سعر السوق. كما تراجعت علاقات إيران مع القوى الأوروبية نتيجة مواقفها وبسبب تحول الاهتمام الأوروبي نحو الصراع مع روسيا. وتستمر طهران اليوم بسياسة حافة الهاوية عبر تسريع عمليات التخصيب في برنامجها النووي كوسيلة ضغط على أميركا وحلفائها. كما يبدو أنها استأنفت عمليات التحرش بالسفن في الخليج العربي كوسيلة ابتزاز للقوى الغربية. هذا كله يجري في وقت تشهد المنطقة بروز محاور دفاعية جديدة يجمعها الشعور بالتهديد الإيراني. وإن لم تلحظ طهران المتغيرات الإقليمية – الدولية بسرعة فهي متجهة لتصادم عسكري محتم.

النهار العربي

—————————

ماذا لو خرجت الأزمة الأوكرانية عن السيطرة؟/ حسن نافعة

ليس من المتصوّر عقلا أن يكون الرئيس الروسي بوتين قد اعتقد أن الولايات المتحدة وشركاءها في حلف الناتو سيقفون مكتوفي الأيدي، حين قرّر اللجوء إلى القوة المسلحة لحسم نزاعه مع حكومة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وأقدم بالفعل على غزو أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، ومن ثم يفترض ألا يكون قد فوجئ بالعقوبات الاقتصادية التي فرضت على بلاده، أو بالدعم السياسي والعسكري الذي جرى تقديمه إلى أوكرانيا. ولكن لماذا سلكت الأزمة الأوكرانية مسارا لم يتوقعه أيٌّ من الطرفين المتصارعين؟ وأين وقع الخطأ في الحسابات؟ وهل في وسع أحد ضمان أن تظلّ تحت السيطرة؟ وماذا لو خرجت عن نطاق القدرة على التحكّم فيها؟ تلك أسئلة مشروعة علينا أن نجتهد في البحث عن إجابة لها.

ربما يكون بوتين قد اعتقد، حين أطلق ما أسماها “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”، أن جيشه يملك ما يكفي من القوة العسكرية لتمكينه من اجتياح بلد تعرفه روسيا حق المعرفة، وأن اجتياحه السريع له سيولّد ضغطا كبيرا على أوضاعه الداخلية، يكفي لإطاحة حكومة زيلنسكي وتنصيب حكومة بديلة موالية، وعندها ستصبح الولايات المتحدة وحلفاؤها أمام أمرٍ واقع، يجبرها على محاولة تهيئة الأجواء، للبحث عن تسوية سياسية مقبولة من موسكو، تقوم على قبول حياد أوكرانيا، والالتزام بعدم انضمامها إلى حلف الناتو، وتنفيذ اتفاقيات مينسك التي عملت حكومة زيلينسكي على التملص منها. غير أن هذا السيناريو لم يتحقّق على أرض الواقع، لأسبابٍ تختلف من فريق إلى آخر، فالفريق الموالي للمعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة يرى أن بسالة المقاومة الأوكرانية، خصوصا بعد المساعدات العسكرية الضخمة التي حصلت عليها، أجبرت بوتين على التخلي عن خطته الأصلية، واللجوء إلى الخطة ب الجاري تنفيذها. أما الفريق الآخر الموالي لوجهة النظر الروسية فيؤكّد أن العمليات الميدانية تسير منذ البداية وفق الخطة المقرّرة لها، وأن الهجوم الذي جرى على العاصمة الأوكرانية كان جزءا من هذه الخطة، واستهدف تشتيت انتباه القوات الأوكرانية بعيدا عن الهدف الحقيقي للعملية العسكرية الروسية، وهو احتلال شرق أوكرانيا وجنوبها، واستخدامه وسيلةً من أجل تحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية التي تسعى إليها روسيا.

أيا كان الأمر، لا يغيّر تباين الآراء في هذه المسألة شيئا من حقيقة ما جرى ويجري بالفعل على أرض الواقع، مؤكّدا أن لدى بوتين حدا أدنى من الأهداف التي يرى أنه قادر على تحقيقها بالقوة العسكرية. وهذه الأهداف هي، في تقديري، ضم شبه جزيرة القرم نهائيا إلى الاتحاد الروسي، وتمكين سكان إقليمي دونيتسك ولوغانسك، اللذين تقطنهما أغلبية روسية من الانفصال وإعلان الاستقلال (أو التمتع، على الأقل، بحكم ذاتي كامل في حال التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ مرضية). ويتضح تماما من المسار الذي سلكته الأزمة الأوكرانية أن بوتن مصمّم كل التصميم على تحقيق هذه الأهداف التي لن يتنازل عنها مطلقا، ولو تطلب الأمر دفع الأمور نحو حافّة الهاوية، الحرب النووية.

في المقابل، ليس واضحا ما إذا كانت الطريقة التي أدارت وما تزال تدير بها الولايات المتحدة الأزمة الأوكرانية تعكس وجود خطةٍ مسبقةٍ ومعدّة سلفا تتحسّب لمختلف الاحتمالات، أم أن ما جرى كان مجرّد ردود أفعال لمعركةٍ قرّر بوتين خوضها، ويمسك فيها بزمام المبادرة، خصوصا أن الولايات المتحدة لم تفاجأ بالغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، وكانت قد رجّحت حدوثة بمجرد ظهور طلائع الحشود العسكرية الروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية. وأيا كان الأمر، من الواضح أن تصريحات المسؤولين الأميركيين، على اختلاف مستوياتهم، تؤكد أن الولايات المتحدة سعت ولا تزال تسعى، بكل الوسائل المتاحة، ليس فقط إلى حرمان روسيا من تحقيق أي مكاسب من الغزو العسكري، وإنما أيضا لإلحاق هزيمة استراتيجية كاملة بها، تؤدّي إلى احتوائها وإجبارها على الانكفاء على ذاتها، ومنعها من التحول إلى قوة عالمية مؤثّرة على الساحة الدولية. ولكن كيف يمكن للولايات المتحدة تحقيق هذه الأهداف، سواء في حدّها الأدنى أو في حدّها الأقصى، في مواجهة دولة نووية قرّرت بالفعل استخدام القوة المسلحة فى أزمةٍ تقول إنها تمسّ ليس فقط بأمنها القومي، وإنما بوجودها ذاته، خصوصا أنها (الولايات المتحدة) قرّرت، في الوقت نفسه، تحاشي أي إجراءٍ قد يؤدّي إلى احتكاك عسكري مباشر مع روسيا. وهنا تتجلى الأبعاد الكاملة للمأزق الذي يمكن أن تقود إليه التطورات المحتملة للأزمة الأوكرانية.

كانت الولايات المتحدة، في المرحلة الأولى للأزمة على الأقل، تبدو واثقةً من قدرة العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، من ناحية، والمساعدات العسكرية المقدّمة لأوكرانيا، من ناحية أخرى، ليس فقط على حرمان روسيا من الموارد التي تمكّنها من مواصلة الحرب، وإنما أيضا من استنزافها عسكريا إلى درجةٍ تجبرها على وقف إطلاق النار وطلب التفاوض قبل أن تتمكّن من تحقيق كامل أهدافها. ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية فشلت في تحقيق الأهداف المرجوة منها لعدة أسباب: فالإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها روسيا للرد على هذه العقوبات، خصوصا ما يتعلق منها بإجبار الدول المعادية التي تستورد منها الطاقة على الدفع بالروبل، أدّت إلى حماية عملتها الوطنية، وحالت دون انهيارها، والموارد التي فقدتها روسيا جرّاء تخفيض أوروبا مشترياتها من النفط والغاز الروسيين، عوّضتها عبر التوجه نحو الأسواق الآسيوية بأسعار تفضيلية، من ناحية، وتحصيل فروق أسعار الطاقة التي تضاعفت، من ناحية أخرى. بل يمكن القول إن أثر العقوبات الاقتصادية أصبح ملموسا بصورة أكبر وأكثر تأثيرا، ليس فقط على الدول التي فرضتها، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، بل وعلى معظم دول العالم الثالث أيضا، بسبب ارتفاع أسعار القمح ومواد أولية عديدة أخرى، فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن العملية العسكرية التي تقوم بها روسيا داخل الأراضي الأوكرانية تواصل تحقيق أهدافها على الأرض، حتى وإنْ بوتيرة أبطأ مما كان متوقعا، لتبين لنا أن روسيا تبدو في موقفٍ أفضل من موقف المعسكر الآخر، الذي لم يعد أمامه سوى الاختيار بين بديلين: التصعيد، حتى لو أدّى الأمر، في النهاية، إلى احتكاك عسكري مباشر مع روسيا، وهو ما قد يضع العالم كله أمام احتمال وقوع كارثة كونية، أو البحث عن تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية، حتى ولو أدت هذه التسوية إلى تمكين روسيا من تحقيق الحد الأدنى من أهدافها على النحو المشار إليه آنفا، وهو ما يعني، في الواقع، إلحاق هزيمة بالولايات المتحدة قد تفتح الباب فعلا أمام تغيير حقيقي في قواعد اللعبة الدولية، وتمهيد الطريق أمام التأسيس لنظام دولي جديد متعدد القطبية.

يدلّ المسار الذي اتخذته الأزمة الأوكرانية، خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، على أن الولايات المتحدة وحلفاءها اختاروا سيناريو التصعيد، بدلا من سيناريو البحث الجادّ عن تسوية للحرب الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية. تدل على ذلك مؤشّرات كثيرة، ربما كان أهمها: حجم الأموال التي طلبت الإدارة الأميركية من الكونغرس اعتمادها في ميزانية هذا العام لمساعدة أوكرانيا على الصمود في حرب استنزاف طويلة الأمد .. استعداد الولايات المتحدة وحلفائها لتقديم أسلحة نوعية ثقيلة لتمكين الجيش الأوكراني ليس فقط من الصمود في الحرب أطول فترة ممكنة، ولكن أيضا من إيقاع أكبر الخسائر الممكنة بالجيش الروسي المقاتل على الأرض الأوكرانية .. تصاعد الإجراءات الرامية إلى استفزاز روسيا وتضييق الخناق عليها بكل الوسائل المتاحة، ومنها: تشجيع السويد وفنلندا على التخلّي عن حيادهما، ودفعهما إلى تقديم طلب لعضوية حلف الناتو، موافقة المفوضية الأوروبية على منح أوكرانيا وضع الدولة المرشّحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وأخيرا وليس آخرا، دفع ليتوانيا إلى فرض حصار تجاري على كاليننغراد، وهو جيب روسي له أهمية استراتيجة كبرى، لكنه محشور بين دولتين عضوين في حلف الناتو، ليتوانيا وبولندا، بدعوى تطبيق العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، وهو ما قد يدفع الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات عنيفة ضد ليتوانيا، قد تؤدّي إلى احتكاك عسكري مباشر بينها وبين الحلف.

لا يخلو الغرب من أصوات عاقلة، لم يتردّد بعضها في الدعوة إلى تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية، حتى ولو اقتضى الأمر تقديم تنازلات موجعة، مثل ما اقترح وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وأحد كبار رواد نهج الواقعية والبراغماتية في مجال العلاقات الدولية، هنري كيسنجر، أمام منتدى دافوس الاقتصادي، أخيرا. كما لا يخلو الغرب من أصواتٍ شجاعةٍ لم يتردّد بعضها في تحميل “الناتو” مسؤولية اندلاع الحرب في أوكرانيا، مثل ما فعل البابا فرانسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، في تصريحاتٍ أدلى بها الشهر الماضي (مايو/ أيار)، غير أن هذه الأصوات لم تجد ما تستحق من صدى.

لجوء روسيا إلى استخدام القوة العسكرية لتصفية حساباتها مع الحكومة الأوكرانية الحالية مرفوض من حيث المبدأ، وتحرّمه الشرائع والقوانين الدولية، لكن الدول الأعضاء في حلف الناتو، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ليست في وضعٍ يسمح لها بإعطاء دروس أخلاقية لأحد، خصوصا أنها كثيرا ما ارتكبت جرائم أكبر وأفظع مما ترتكبه روسيا حاليا في أوكرانيا. ومؤكّد أنه كان في وسع هذه الدول تجنب اندلاع الحرب، لو تعاملت بحكمة أكبر مع الموقف، وتخلت عن إصرارها على توسع “الناتو” شرقا إلى درجة التهديد المباشر لأمن أكبر دولة نووية، لكنه الصلف الأميركي والغربي قد يؤدّي إلى خروج الحرب في أوكرانيا عن نطاق السيطرة، خصوصا بعد فرض الحصار على كاليننغراد.

العربي الجديد

—————————

نيويورك تايمز: بايدن أمام تحدي الحفاظ على وحدة أوروبا لمواجهة بوتين وتحضير الحلفاء لحرب طويلة

إبراهيم درويش

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تحليلا لمهمة الرئيس الأمريكي جو بايدن الجديدة في أوروبا، وهي الحفاظ على وحدة التحالف ضد روسيا وتحضير الحلفاء لحرب طويلة ضد الرئيس فلاديمير بوتين.

وفي تقرير أعده ديفيد إي سانغر، قال إن حلفاء الحرب ضد غزو روسيا لأوكرانيا كانوا يمنّون أنفسهم في شهر آذار/ مارس بالانتصار. ويبدو الآن أن الحفاظ على الوحدة ضد بوتين بات صعبا وهو ما سيحمله بايدن معه إلى قمة الدول السبع في العاصمة الألمانية برلين، وقمة الناتو في مدريد. وقال سانغر إن بايدن عندما التقى مع حلفائه الغربيين في أوروبا قبل 3 أشهر، كان العالم قد احتشد لدعم أوكرانيا، واكتشف الناتو فجأة أن له هدفا جديدا غير القديم، وهو احتواء روسيا، ففي الجو، كان هناك شعور بأن العقوبات ستنهك نظام بوتين، وشعورٌ بنصر قادم.

ويضيف الكاتب أن عودة بايدن إلى أوروبا جاءت في الوقت المناسب، ففي الوقت الذي انخفضت فيه صادرات النفط الروسية، إلا أن مواردها منه ارتفعت بشكل نسبي، والسبب هو زيادة أسعار النفط عالميا. وبعد تركيز الجهود العسكرية الروسية على الجنوب والشرق في أوكرانيا، بدأت موسكو تحرز تقدما بطيئا ولكنه مهم، أولا السيطرة على ماريوبول، واليوم على مدينة سيفيرودونيتسك في الشرق. وبناء على ذلك، يجب أن يحضّر بايدن حلفاءه لحرب طاحنة وطويلة، أو بتعبير جي أف كيندي، أثناء الحرب الباردة “نزاع الشفق الطويل”، وهو نزاع مفتوح لا ضوء فيه أو ظلام واضح.

كل هذا وسط صدمة في أسواق الطعام والطاقة وارتفاع معدلات التضخم بشكل لم يرَ منذ ستة أشهر سابقة. ويؤكد المسؤولون في البيت الأبيض، أن هذه الظروف لن تمنع بايدن من مواصلة الضغط على بوتين. وتشمل جهود الأسابيع الماضية التي تمت خلف الأبواب المغلقة، اتفاقياتٍ لمواصلة عزل موسكو. وقال جون كيربي، المتحدث السابق باسم البنتاغون، والذي انتقل إلى البيت الأبيض لتنسيق جهود توصيل أهداف بايدن للصحافيين، إن عليهم توقع إجراءات جديدة و”استهداف سلاسل التوريد الدفاعية ومواصلة ملاحقة التهرب من العقوبات”، في رسالة مبطنة للصين والهند، اللتين واصلتا شراء النفط الروسي بأسعار مخفضة.

 وقال كيربي إن روسيا بدأت تشعر بأثر العقوبات بعد أربعة أشهر من الحرب، مضيفا: “روسيا تعاني من مشكلة دفع السندات وهي تقترب من وضع تتخلف فيه عن السداد. ستزيد جهودنا من تشديد الضغط وتقييد الموارد المالية التي يحتاجها بوتين للحرب”. وسيعلن البيت الأبيض عن جهود جديدة لتقوية قدرات الناتو، بما في ذلك “مفهوم استراتيجي” جديد للحلف، غير القديم الذي كان يركز على دمج روسيا في أوروبا، والذي يبدو اليوم أمرا خياليا.

وسيكون المفهوم الإستراتيجي جزءا من سلسلة خطوات أخرى، منها “إنشاء وحدة ردة سريع إلكترونية” تكون جاهزة لمساعدة أعضاء الناتو، والنظر في طلبي العضوية من السويد وفنلندا. وتم الإعلان عن خطوات مشابهة في السابق، إلا أن آن نيوبيرغر، نائبة مستشار الأمن القومي في مجال الحرب الإلكترونية والتكنولوجيا، ترى أن على الناتو الاستفادة من خبرات جمع مهارات العاملين في مجال النزاع الإلكتروني. وقالت: “اعترفنا بالحاجة للرد السريع على حادث لو تعرض حليف لهجوم إلكتروني وطلب الدعم”، مضيفة: “مما يعكس الدروس من السيناريو الروسي- الأوكراني، والذي يعني أنه لو حضرت مبكرا وتدربت مقدما، فستعرف سرعة الرد”. ولكن الموضوع الذي يحوم في الأفق يتعلق بالكيفية التي يجب فيها التعامل مع بوتين، والذي أعيد النظر إليه من قائد دولة أوروبية إلى دولة منبوذة.

ويرى المسؤولون الأمريكيون أن عزلة بوتين ستزيد. وعندما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أيار/ مايو، إن على الغرب مقاومة إغراءات “إذلال” بوتين، فقد كانت أول إشارة عن الصدع في الإستراتيجية الأساسية وكيفية التعامل مع بوتين كزعيم، بدون اللجوء لإرسال قوات الناتو، وهو أمر لا نيّة لبايدن أو قادة الناتو في عمله.

ويعلق ريتشارد فونتين، المدير التنفيذي لمركز الأمن الجديد، أنه “مقارنة مع رحلة آذار/ مارس، فسيواجه بايدن قدرا عاليا من المقايضة بين أهداف السياسة المحلية والخارجية، ستكون الأولوية هي زيادة الضغط على روسيا ومساعدة أوكرانيا، ولكن فعل هذا أثناء قلق الغرب على أسعار النفط والطعام وما تبقى من مخزون السلاح  وحرب لا تظهر إشارة على النهاية”.

وفي الوقت الحالي، لا يواجه بايدن ضغوطا داخل أمريكية حول المدى الذي يجب أن يذهب فيه لمواجهة بوتين، وكل النقاش حول تشديد الخناق على روسيا بدون التصعيد نحو حرب. ولكن هناك مخاوف من أن تؤدي أسعار الغاز وكلفة تسليح وتغذية أوكرانيا، إلى تراجع الحماس، خاصة لو نفذ بوتين وعوده بتقليل إمدادات الغاز لأوروبا بحلول الخريف. وقال فونتين: “كل القادة الذين يلتقيهم يواجهون نفس المعضلة، والانتخابات تقترب في الولايات المتحدة ودول أخرى، والوحدة الأوروبية لدعم أوكرانيا ومقاومة بوتين ستبقى قوية”. لكن القمة ستظهر بطريقة أخرى ديمومة الجهود، في الوقت الذي تستمر فيه الحرب بدون هوادة.

ويخيم النزاع الأوكراني على قمة مجموعة الدول السبع وقمة الناتو. وقبل شهرين، كان الأمريكيون يتحدثون بشكل مفتوح عن النصر على روسيا وإجبار قواتها على التراجع للخطوط التي كانت موجودة قبل 24 شباط/ فبراير. وفي نهاية خطابه في العاصمة البولندية وارسو، قال بايدن: “بحق السماء، هذا الرجل لا يمكنه البقاء في السلطة” في إشارة إلى بوتين. خروج عن النص، فُسّر على أنه دعوة لتغيير النظام في موسكو. وسارع المسؤولون في البيت الأبيض للتوضيح أن واشنطن لا تعمل على هندسة انقلاب في روسيا، وفعلوا نفس الأمر بعد شهر عندما قال وزير الدفاع لويد أوستن: “نريد رؤية روسيا ضعيفة لمستوى لا يمكنها تكرار عمل مثل غزو أوكرانيا”.

وأصبح بايدن أكثر حذرا في تصريحاته، مع أن أهدافه لم تتغير، والتحدي أمامه هو الحفاظ على زخم الدعم لأوكرانيا مع  استمرار زيادة كلفة الدعم بشكل مستمر، ومحاولة بوتين استخدام كل الوسائل المتوفرة لديه للضغط، مثل الحد من تصدير الغاز ومنع الصادرات من أوكرانيا.

وكتب وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا في دورية “فورين أفيرز” هذا الشهر: “من الطبيعي فقدان الناس الاهتمام بالنزاعات عندما تطول”. وقال إن العالم توقف عن الاهتمام بليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافي، وتراجع عن الاهتمام باليمن ونزاعات أخرى كانت تحتل العناوين الأولى للصحف، ونفس الأمر حصل بعد ضم روسيا القرم. وقال إن التنازل يبدو حلا مغريا لمن هم في الخارج كثمن لوقف الحرب، مؤكدا على أن الطريق الوحيد هو “انتصار كامل وشامل للأوكرانيين”.

ولا أحد يختلف مع هذا الكلام، مع أن بايدن لن يتحدث عن هذه الأهداف علنا، وهي موضوع نقاش أسبوعي في غرفة الوضع بالبيت الأبيض بينه وبين مساعديه. وهو نقاش حول ما يجب إرساله من سلاح وفعاليته، سواء الأسلحة المتقدمة التي وصلت للميدان، أو المسيّرات التي تفكر الإدارة الأمريكية بإرسالها إلى أوكرانيا.

ويرغب بايدن في أن يخسر بوتين في الحرب، قبل أن تنهي هذه الأسلحة المتفوقة الحرب سريعا. ويحوم حول اللقاءين، الوضع الخطير للاقتصاد العالمي، والتضخم في الولايات المتحدة وأوروبا، نظرا لعرقلة سلاسل التوريد وكوفيد-19، وزيادة طلب المستهلكين في الأشهر الأخيرة، وزيادة أسعار الطعام بسبب الغزو الروسي، وكلها عوامل أدت لتراجع شعبية القادة بمن فيهم بايدن. ورغم دعوات الحفاظ على الوحدة، فسيجد القادة أنفسهم تحت ضغط العثور على حل سريع لتخفيف المصاعب الاقتصادية والسياسية.

وسيناقش القادة الأوروبيون موضوعات تتعلق بالبنية التحتية وسلاسل التوريد وممارسات الصين التي ينظر إليها بالمتصيدة، وأيضا الخوف من أن ارتفاع معدلات الفائدة، سيقود إلى ركود قادم. كما سيناقش القادة طرقا لتخفيض أسعار النفط، الموضوع الملح بعد زيادة أسعار الطاقة في محطات الوقود بالإضافة للزراعة وكيفية توفير المصادر  الأساسية من الحبوب بعدما ضربت الحرب الدول الغنية والفقيرة.

وفشلت جهود بايدن حتى الآن في البحث عن طرق تصدر فيها أوكرانيا منتجاتها من الحبوب. وتعمل روسيا كل ما لديها لتشديد الخناق، في جهد يظهر أنه محاولة لدفع أوكرانيا نحو الانهيار الإقتصادي. وبالمحصلة، فمهمة بايدن هي ترجمة الوحدة قصيرة الأمد والناجمة عن الرد، إلى سياسة متماسكة ودائمة بأهداف ثابتة كما يقول علي وين، مؤلف كتاب “فرصة القوة العظمى لأمريكا”.

القدس العربي

————————

أوكرانيا… مقدّمات لاصطدام روسي – غربي مباشر/ سميح صعب

أوكرانيا تشق طريقها نحو صفة الدولة المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، بينما تلقت الدفعة الأولى من راجمات “هيمارس” الأميركية المتطورة ومدافع “هاوتزر” الألمانية، وهناك المزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية والأوروبية.

لكن روسيا تستمر في تقدمها البطيء في منطقة الدونباس. ويستعر التوتر بين موسكو وليتوانيا بسبب القيود التي فرضتها فيلنيوس على الإمدادات التي ترسلها روسيا إلى كالينينغراد، جيبها على بحر البلطيق، وتهدد بخطوات “غير دبلوماسية” رداً على الخطوة الليتوانية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلوح باستخدام صواريخ “سارمات” التي يستطيع الواحد منها حمل عشرة رؤوس متفجرة، أي أن صاروخاً واحداً كفيل بإزالة مدينة.

وأزمة الغذاء في العالم إلى تصاعد في ظل منع سفن القمح الروسية من الرسو في الموانئ الأوروبية، والحصار الذي تفرضه البحرية الروسية على ميناء أوديسا الأوكراني، وفشلت الوساطات التركية والأممية في هذا الشأن، وسط أطروحات بأن حلف شمال الأطلسي ربما سيتعين عليه فك الحصار بالقوة عن أوديسا، رغم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر الاصطدام العسكري المباشر مع روسيا. وهناك 12 دولة في العالم تواجه حصول اضطرابات اجتماعية وسياسية تحت وطأة نقص الغذاء.

وإذا ما انتقلنا إلى أزمة التضخم التي تضرب أميركا والدول الأوروبية بشكل غير مسبوق منذ عقود، نكون أمام موجة من الإضرابات العمالية على غرار ما تشهده بريطانيا في قطاعات السكك الحديد. وها هي ألمانيا تعتبر أن خفض روسيا إمدادات الغاز عنها يعتبر بمثابة إعلان “حرب اقتصادية” عليها، وتعلو النبرة في برلين مطالبة ببناء جيش أقوى تبعاً لضرورات المرحلة التي فرضتها الحرب الروسية – الأوكرانية.

كل هذه العوامل تقود مجتمعة إلى استنتاج مفاده أن الصدام المباشر بين روسيا والغرب، لم يعد من الأمور المستحيلة. لا بل إن الحرب تدخل طوراً من الاتساع الذي ينذر بتحولها حرباً عالمية فعلية وليست حرباً بالوكالة بين روسيا والغرب تدور رحاها فوق الأراضي الأوكرانية.

وما يساهم في تعزيز هذه النظرة التشاؤمية، غياب أي مفاوضات مباشرة أو بالواسطة بين روسيا وأوكرانيا حول احتمالات إيجاد تسوية سلمية للنزاع، ويقتصر الأمر على اتصالات لتبادل الأسرى والجثث في مناطق معينة.

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام المنتدى الاقتصادي السنوي في سان بطرسبرغ الأسبوع الماضي، إن العالم قد تغير منذ دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، وأن “عهد أحادية القطب قد انتهى”، وأن الولايات المتحدة تحاول “عبثاً” بشتى السبل الدفاع عن النظام العالمي الذي نشأ قبل أكثر من 30 عاماً.

إن هذا هو جوهر الصراع الدائر حالياً في العالم، من حيث الاصطفافات بين عالمين: العالم القائم حالياً بقيادة الولايات المتحدة والعالم الآخر الذي تحاول روسيا والصين والهند ودول أخرى، مثل البرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا، السعي إليه.

وهذا صراع مرشح للاستطالة وللتوسع. والأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ يتحدث عن “حرب لسنوات”. وكثير من هذه الدول بدأت تكيف أوضاعها العسكرية مع أزمة دولية مفتوحة.

لكن انفجاراً شاملاً بين روسيا والغرب يهدد العالم بكارثة أخرى، تفوق بشدتها الحربين العالميتين الأولى والثانية، لا سيما أن الحديث عن استخدام الأسلحة النووية لم يعد محرماً. فهل يمضي العالم بكامل وعيه إلى حرب تفني التاريخ البشري؟

أمام ما يجري في أوكرانيا وغياب الحلول الدبلوماسية، يصير كل شيء جائزاً.

النهار العربي

———————-

شرح الصراع: لماذا غزت روسيا أوكرانيا؟/ توماس كينغسلي و جو سومرلاد

فلاديمير بوتين يواصل الهجوم العسكري وسط إدانة شبه جماعية دولية

لا يزال الغزو الروسي لأوكرانيا الذي لطالما خشي العالم وقوعه مستمراً منذ إعلان فلاديمير بوتين عن “عمليته العسكرية الخاصة” ضد الدولة المجاورة، في الساعات الأولى من 24 فبراير (شباط) الفائت، عندما، من دون أي أساس مبرر، أن هناك حاجة “لنزع السلاح واستئصال النازية” من أوكرانيا، بعد نحو ثمانية أعوام من القتال في إقليم دونباس.

وفيما يقدم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مثالاً يُحتذى به في القيادة بنزوله إلى شوارع كييف، حاشداً بلا كلل المجتمع الدولي للحصول على دعم لبلاده، يقاوم شعبه ميدانياً بشكل مثير للإعجاب، الأمر الذي يعيق ما أمكن تقدم القوات المسلحة الروسية.

في غضون ذلك، يواصل الجانب المعتدي استخدام أساليب وحشية في حرب الحصار، بحيث يطوق مدناً في البلاد ويخضعها لحملات مكثفة من القصف، وهي استراتيجية روسية شاهدها العالم سابقاً في كل من الشيشان وسوريا.

وتعرضت مدن أوكرانية مثل خاركيف وماريوبول لقصف بصواريخ روسية في سعي من القوى المهاجمة لتحقيق مكاسب تدريجية في مناطق شرق أوكرانيا وجنوبها، فيما أدى استهداف مبان سكنية ومستشفيات ودور حضانة إلى صدور اتهامات غاضبة بأن القوات الروسية تستهدف المدنيين عمداً وترتكب في حقهم جرائم حرب.

لكن النداءات الأولى التي كان الرئيس زيلينسكي وجّهها إلى “حلف شمال الأطلسي” (ناتو) لفرض منطقة حظر طيران فوق بلاده، ظلت بلا استجابة، مع خشية الغرب أن تُفسر خطوة من هذا النوع بأنها استفزاز لروسيا، وأن ينجر هذا التحالف الغربي إلى حرب أكبر بكثير على أوروبا الشرقية.

إلا أن الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ونظراءهما الأوروبيين والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، دانوا هجوم موسكو الذي كان بحسب وصفهم “غير مبرر ومن دون سابق استفزاز”، واعدين بمحاسبتها من خلال فرض دول الغرب حزماً متسلسلة من العقوبات الاقتصادية الصارمة في حق الكرملين، شملت من جهة عقوبات ضد بنوك وشركات وعدد من الأوليغارشيين المؤيدين للحكومة الروسية، وإمداد أوكرانيا بأسلحة ومعدات إضافية وتأمين تمويل دفاعي لها من جهة ثانية.

وعلى الرغم من ذلك، تعرض الحلفاء أيضاً لانتقادات بسبب عدم قيامهم بما يكفي لدعم أكثر من 5 ملايين لاجئ هم ضحايا النزاع، هربوا من بلادهم إلى دول مجاورة مثل بولندا والمجر وسلوفاكيا ورومانيا ومولدوفا.

هذه التوترات التي يتردد صداها في المنطقة، والتي كانت  بدأت في شهر ديسمبر (كانون الأول) عندما تم حشد قوات روسية على الحدود مع أوكرانيا، وتصاعدت في الأسبوع الأخير من شهر فبراير (شباط) عندما بادر السيد بوتين إلى الاعتراف رسمياً بالإقليمَين الانفصاليين المواليَين لروسيا، وهما جمهورية دونيتسك الشعبية Donetsk People’s Republic (DPR) وجمهورية لوغانسك الشعبية Luhansk People’s Republic (LPR)، كدولتين مستقلتين.

هذا الاعتراف مكّن الزعيم الروسي من نقل موارد عسكرية إلى تلك المناطق الأوكرانية، استباقاً للهجوم المقبل، بذريعة تأمين الحماية لحلفاء موسكو هناك.

وأطلق هذا التطور موجة من المفاوضات الدبلوماسية المحمومة، شملت عدداً من المسؤولين الغربيين أمثال وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز ووزيرة خارجية المملكة المتحدة ليز تراس، الذين قاموا بمساعٍ على مدى أشهر هدفها تجنب وقوع الكارثة، إلا أنها لم تسفر في نهاية المطاف عن أي نتيجة.

لكن ما هي القضايا الرئيسة الكامنة وراء هذا الصراع، وأين بدأ كل شيء، وإلى ماذا يمكن أن تفضي هذه المحنة؟

كيف اندلعت الأزمة؟

يمكن للعودة بالتاريخ إلى عام 2014 أن تعطي مزيداً من الإجابات التي من شأنها إيضاح خلفية ما يجري في الوقت الراهن. ففي ذلك العام، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، في رد على إقصاء فيكتور يانوكوفيتش، الرئيس الأوكراني آنذاك الذي كان صديقاً لموسكو، عن السلطة، على أثر احتجاجات شعبية نُظمت في كييف.

وبعد أسابيع، ألقت روسيا بثقلها خلف حركتَي تمرد انفصاليتين في دونباس، المنطقة الصناعية الشرقية لأوكرانيا، التي شهدت في نهاية الأمر قيام متمردين موالين لموسكو في دونيتسك ولوغانسك بإعلان جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية، دولتين مستقلتين، على الرغم من عدم صدور أي اعتراف بهما من جانب المجتمع الدولي.

ومنذ ذلك الحين، قُتل أكثر من 14 ألف شخص في النزاع الذي استمر طيلة الأعوام الماضية، ما ألحق بالمنطقة دماراً وخراباً على نطاق واسع.

ووجهت أوكرانيا والغرب الاتهام لروسيا بإرسال قوات وأسلحة لدعم المتمردين، لكن موسكو نفت هذه المزاعم، مدعية أن الروس الذين انضموا إلى الانفصاليين إنما قاموا بذلك طواعية.

عام 2015، جرى التوصل إلى اتفاق سلام – أُطلقت عليه تسمية “اتفاق مينسك 2” Minsk II Agreement  – بوساطة فرنسية وألمانية، للمساعدة في وضع حد للمعارك الدائرة. وألزم الاتفاق، المؤلف من 13 بنداً أوكرانيا إعطاء المناطق الانفصالية الحق في إقامة حكم ذاتي، ومنح المتمردين عفواً، في مقابل استعادة كييف سيطرة كاملة على حدودها مع روسيا في الأراضي الخاضعة لنفوذ المتمردين.

الاتفاق كان شديد التعقيد، لأن موسكو كانت لا تزال تصر على أنها لم تكُن طرفاً في النزاع، ما يعني تالياً أنها كانت غير ملزمة بشروطه.

ففي البند العاشر من الاتفاق، كانت هناك دعوة إلى سحب جميع التشكيلات المسلحة الأجنبية والمعدات العسكرية من جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية المتنازع عليهما. وتقول أوكرانيا إن هذه النقطة تشير إلى قوات من روسيا موجودة هناك، لكن موسكو نفت في وقت سابق أن يكون هناك وجود لقواتها في الدولتين.

في العام الماضي، تسبب تصاعد انتهاكات وقف النار في شرق أوكرانيا، وتمركز قوات روسية بالقرب من حدود أوكرانيا، في تأجيج المخاوف من اندلاع حرب جديدة، سرعان ما انحسرت عندما سحبت موسكو الجزء الأكبر من قواتها عقب مناورات أجرتها في المنطقة في شهر أبريل (نيسان).

كيف هو الوضع في الوقت الراهن؟

في مطلع شهر ديسمبر من عام 2021، أفاد مسؤولون في الاستخبارات الأميركية بأن روسيا كانت تخطط لنشر ما يصل إلى 175 ألف جندي لها بالقرب من حدودها مع أوكرانيا، استعداداً لغزو محتمل، رجحوا أن يبدأ في مطلع العام الحالي 2022.

كييف اشتكت هي أيضاً من أن موسكو حشدت أكثر من 90 ألف جندي بالقرب من حدود البلدين، محذرة من احتمال حدوث “تصعيد على نطاق واسع” في شهر يناير (كانون الثاني).

وعلاوة على ذلك، اتهم القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية روسيا، بإدخال نحو 2100 عنصر من عسكرها إلى شرق أوكرانيا، المنطقة التي يسيطر عليه المتمردون الموالون لموسكو، مشيراً إلى أن عدداً من الضباط الروس يتولون جميع المناصب القيادية ضمن تنظيمات القوات الانفصالية.

لكن موسكو كررت غير مرة في وقت سابق نفي أن يكون لقواتها وجود في شرق أوكرانيا، ولم تعطِ تفاصيل عن عدد وحداتها العسكرية ومواقعها، معتبرة أن انتشار قواتها على أراضيها لا يعني أحداً.

واتهمت موسكو من ناحية أخرى كييف بانتهاك “اتفاق مينسك 2″، وانتقدت الغرب على ما سمّته فشلاً في تشجيع أوكرانيا على الامتثال لشروط الاتفاق.

ووسط هذا التوتر المتصاعد، رفض بوتين عقد اجتماع رباعي مع كل من أوكرانيا وفرنسا وألمانيا، معتبراً ألا جدوى منه، في ظل رفض أوكرانيا التزام اتفاق عام 2015 بين الدولتين.

وانتقد الكرملين بشدة الولايات المتحدة وحلفاءها في “ناتو”، على تزويدهم أوكرانيا بالأسلحة وإجراء مناورات مشتركة، قائلاً إن هذا المنحى يشجع الصقور الأوكرانيين على محاولة استعادة المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، بالقوة.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن بوتين يشعر باستياء شديد مما يعتبره توسعاً تدريجياً لـ”حلف شمال الأطلسي” إلى الشرق، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989، وأكد تصميمه منع التحاق أوكرانيا بصفوف الحلف.

ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك؟

بعد إعلان 24 شباط لفلاديمير بوتين، تحقق الآن على الأرض السيناريو الأسوأ. ففيما كان الكرملين ينفي بشكل روتيني في السابق أن تكون لديه خطط لغزو جارته – وهي مزاعم لم يصدقها كثيرون – بناءً على أسباب وجيهة، اتضح في وقت لاحق نقيض ذلك.

وحتى بعد إعلان الرئيس الروسي الحرب، نفى المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة أن تكون لموسكو أي مشكلة مع الشعب الأوكراني، مؤكداً حرص بلاده على أنه لن يجري استهداف المدنيين، وحاصراً المشكلة مع المسؤولين الذين هم في السلطة في أوكرانيا. لكن مرة جديدة، ثبت أن هذا غير صحيح على الإطلاق.

هذا الواقع حدا بالقادة الغربيين المتفقين بالإجماع على إدانة موسكو، على تحويل روسيا إلى دولة منبوذة على الساحة العالمية، وتوعدوا بفرض عقوبات بتدمير الاقتصاد الروسي، الأمر الذي قد يفرض في نهاية المطاف ضغطاً إضافياً على بوتين في الداخل الروسي، على الرغم مما بذله من جهود حثيثة لإسكات وسائل الإعلام المنتقدة أداءه، والحركات الاحتجاجية الناشئة.

في هذا الوقت، تحرك الرئيس الأميركي جو بايدن ليطمئن المجتمع الدولي إلى أن موسكو ستُحاسَب على أفعالها. وقال أخيراً في هذا الإطار إن “روسيا وحدها هي المسؤولة عما يحل من موت ودمار جراء هذا الهجوم، وإن رد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها سيكون موحداً وحاسماً”.

اندبندنت عربية

————————

خيار أوروبا النووي المزدوج …والمتأخر/ محمد العزير

أدخل العدوان الروسي غير المبرر على أوكرانيا دول الاتحاد الأوروبي في مأزق موصوف، وأجبر القارة الشحيحة الموارد الطبيعية على إعادة فتح ملف كانت تظن أنه، وبعد عقود من التجميد، سيدخل مسار التصفية التدريجية، وهو الملف النووي واستخدام التقنيات الذرية لإنتاج الطاقة التي تعتبر الشريان الأساس للإقتصاد والخدمات والأمن الاجتماعي. هذا الملف الذي تحول عشية انتهاء الحرب الباردة الى نقطة استقطاب سياسية وانتخابية كبيرة للأحزاب الخضراء التي وضعت التخلص منه هدفًا محددًا ونجحت في فرض نفسها كلاعب أساس وخصوصًا في الجزء الغربي من القارة.

بين التعثر الميداني للغزو والذي حوّل “العملية العسكرية الخاصة” لفلاديمير بوتين الى حرب خنادق واستنزاف، وبين الموقف الأوروبي والغربي شبه الموحد لفرض عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على موسكو، انخفضت واردات النفط والغاز الروسية الى أوروبا بوتيرة متسارعة ترجمت نفسها على الفور أولًا، بارتفاع مضطرد في أسعار البنزين والوقود، زاد من ارتفاع مؤشر التضخم، وثانيًا في انطلاق النقاش العام حول البدائل الممكنة، ليس لسد النقص في الواردات آنيا فقط، وانما لكيفية الإستغناء التدريجي عن الصادرات الروسية، حتى لا يبقى هذا القطاع شديد الحساسية والحيوية تحت رحمة موسكو ورهينة اطماعها الإقليمية، ليعود الموضوع النووي الى التداول من منطلقات براغماتية.

تشكل الطاقة النووية مصدرًا لربع استهلاك دول الاتحاد الأوروبي من الكهرباء التي يستهلك منها سكان الدول السبع والعشرين البالغ عددهم اربعمئة وخمسين مليون نسمة 2664 تيراوات في الساعة للإستخدامات المنزلية والتجارية والصناعية، فيما يشكل النفط والغاز والفحم الحجري 46 بالمئة ويتوزع الباقي، 29 بالمئة، على الطاقة الشمسية وطواحين الهواء والسدود المائية، وإذا اضيف استهلاك الوقود للنقل والصناعة والتدفئة يتضح مدى الإتكال الأوروبي على الخارج، حيث يتم استيراد 2.2 مليون برميل نفط خام و1.2 مليون برميل من المشتقات النفطية يوميًا، يأتي حوالي ثلثها عبر شبكة الانابيب الآتية من روسيا، كما يتم استيراد 1.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.

من أبرز المفارقات التي تطبع مقاربة الطاقة النووية أنها، وفي زمن يتصاعد فيه السعي للحد من التلوث البيئي والإحتباس الحراري، تعتبر من “أنظف” مصادر الطاقة بيئيًا، وفي الوقت نفسه من أخطر التقنيات الحديثة على حياة البشر كما اتضح بعد حوادث التسرب من المفاعلات الأميركية على جزيرة “ثريمايلز” في ولاية بنسلفانيا عام 1979، وكارثة مفاعل تشيرنوبيل في أوكرانيا عام 1986، والحوادث المتوالية في المفاعلات اليابانية من مفاعل “توكاي” عامي 1997 و1999، الى مفاعل “فوكوشيما” عام 2011. تشكل هذه الحوادث المميتة والتي تؤدي الى تلوث يصعب التخلص منه لعشرات السنين المادة الدسمة لمناهضي الطاقة النووية واستخداماتها السلمية أو الحربية، والذين كانت لهم حملة عالمية مشهودة في وجه الحكومة الفرنسية عندما أمر جاك شيراك بإجراء تجارب نووية على أراضي الجزيرة التابعة لفرنسا في المحيط الهادئ عام 1993.

وبين القوة الخضراء المناوئة للطاقة النووية وقوة أنصار البيئة المتعاظمة والداعية الى بدائل تعتمد الطاقة المتجددة كان من الطبيعي أن تبتعد أوروبا تدريجيًا عن المصادر التقليدية للطاقة وتتجه الى التقنيات الجديدة، وخصوصًا الشمس والهواء، باعتبار الكلفة البيئية للسدود عالية، فيما انصب الجهد النووي على تغيير طريقة الإنتاج واستبدال تقنية الإنشطار المعتدة حاليًا بتقنية الإنصهار التي ستشكل إن نجحت فتحًا علميًا عظيمًا يفتح الباب واسعًا أمام الحصول على كميات لا متناهية من الطاقة النظيفة بلا اشعاعات ولا نفايات خطرة وبلا حاجة الى مواد خام باهظة الثمن مثل اليورانيوم والبلوتونيوم والثوريوم، حيث تعمل مفاعلات الإنصهار على أكثر المواد انتشارًا في العالم وهي الهيدروجين.

وفي حين كانت فنلندا إحدى أصغر دول الإتحاد وأقلها موارد تشهد في العقود الثلاثة الماضية تبعات التخلي الأوروبي عن الطاقة النووية التقليدية، حيث عانت الكثير من أجل بناء مفاعل نووي ثالث لتوليد الكهرباء على جزيرة “اوكيليوتو”. بدأ العمل في المفاعل الجديد عام 2005ـ على أمل أن يبدأ الإنتاج في العام 2009. الّا أن المشروع الذي كان الأول من نوعه في القارة لقرابة 15 سنة، كشف لحكومة هلسنكي مدى ابتعاد أوروبا فعليًا عن الاستثمار في تقنية غير مستحبة. فالعمل، الذي لم يجد ما يلزم من الخبرات والمكونات الأساسية، لم ينته بعد، وجاء الإعلان الرسمي الشهر الماضي ليؤجل تاريخ البدء بالتشغيل الى الخريف المقبل.

مقابل ذلك تستبشر تقنية الإنصهار بمستقبل أفضل. ففي المجمع العلمي “كوكاراش” القريب من مدينة سان بول ليدورانس على السفوح الغربية لجبال الألب جنوب فرنسا، يوشك العمل على انشاء مفاعل (ITER) أن ينتهي، لتتويج مرحلة مهمة من التعاون الدولي الذي بدأ عام 2006، لإختبار إمكانية انتاج الطاقة عبر تقنية الإنصهار في مشروع تتراوح كلفته بين 45 و60 مليار دولار ويفترض أن يبدأ في انتاج الطاقة بمعدلات عالية عام 2030، بعد نجاح التجارب الأولى السنة الماضية في صهر ذرات الهيدروجين تحت ضغط وحرارة مرتفعين جدًا وإنتاج بلازما كافية للتحول الى كهرباء، في مختبر (JET) الذي مهد الطريق للمفاعل الجديد.

وسواء نجح هذا المشروع الذي تتشارك في تمويله أميركا والصين وروسيا والإتحاد الأوروبي وبريطانيا وعدد من دول العالم، أو استقر الرأي على اعتماد الخيار النووي التقليدي، الذي يحتاج انشاء مفاعل واحد له لأكثر من عشر سنوات في أحسن تقدير، يبدو أن البدائل النووية المزدوجة لأوروبا متأخرة كثيرًا، وأن على بروكسل أن تعمل بسرعة قبل حلول الشتاء لبناء منشآت جديدة ومصاف وخزانات لإستيعاب واردات النفط والغاز من مصادر غير روسية، وهذا هو الخيار المعتمد حتى الآن على ما يبدو.

المدن

————————–

جون ب. ألترمان: الشرق الأوسط بعد غزو روسيا لأوكرانيا

لقاء مع مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن

 ستمتد آثار غزو روسيا لأوكرانيا، في 24 شباط / فبراير 2022، لتشمل جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وسيتكشف الغزو المذكور عن ظواهر جديدة يمكن أن تشمل: تحالفات جيواستراتيجية مختلفة، ونقصاً كبيراً في الأمن الغذائي، ربما يهددان بإشعال مواجهات عسكرية جديدة. وإذا طال أمد المواجهة بين روسيا وجزء كبير من بقية العالم، كما يبدو الأمر مرجحاً، فقد تظهر آثارٌ أكثر خطورة على المدى البعيد أكثر منها على المدى القصير.

هنا، لقاءٌ مع جون ألترمان، نائب أول لرئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، لاستعراض القضايا الرئيسة المتعلقة بهذا الموضوع.

 س 1: كيف ترى استجابة دول الشرق الأوسط لغزو روسيا لأوكرانيا؟

ج1: لقد اتخذت إيران وسوريا مواقف معادية للغرب كما هو متوقع. فأعلن بشار الأسد أن سوريا ستعترف باستقلال منطقتين انفصاليتين تدعمهما روسيا في شرق أوكرانيا، أما وزير الخارجية الإيراني فقد قال إن الأزمة “متجذرة في استفزازات حلف شمال الأطلسي”.

لكن حلفاء وشركاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة كانوا حذرين بشكلٍ مدروس. فبينما أدان وزير الخارجية الإسرائيلي روسيا، امتنع رئيس وزرائها، وبشكلٍ ملحوظ، عن القيام بذلك. إن إسرائيل تعتبر روسيا شريكا مهماً، والمهاجرون الروس يُعتبرون شريحةً انتخابية مهمة في صفوف الناخبين الإسرائيليين.

أما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر فإنها تعتبر روسيا مُنتجاً مهماً للطاقة، ومصدراً مُحتملاً للأسلحة والاستثمار والسلع الأخرى. وإن كانوا قد عبروا عن قلقهم من اندلاع النزاع، إلا إنهم تجنبوا إلقاء اللوم على روسيا. كما يحاول أمير قطر الاستفادة من العلاقات مع الأطراف على جانبي الصراع للتوسط.

وفي الخلاصة، يبدو رفض إدانة الهجوم الروسي كأنه انعكاسٌ صارخ لاستراتيجية القوى الإقليمية الجديدة المتمثلة في التحوط للبقاء متحالفين مع الولايات المتحدة، ولكن في نفس الوقت تجنب المواجهة مع الصين أو روسيا.

س 2: كيف سيؤثر ارتفاع أسعار النفط على دول الخليج؟

ج2: لقد ارتفع سعر النفط فوق 100 دولار للبرميل للمرة الأولى منذ عام 2014 بعد الغزو الروسي الأسبوع الماضي. وبالنسبة للدول المصدرة للنفط في المنطقة، سيوفر ارتفاع الأسعار هذا إنعاشاً مرحباً به في الميزانية على المدى القصير بعد الضربة الاقتصادية لجائحة كوفيد-19.

إن من غير المتوقع، على المدى الطويل، أن يؤدي استمرار ارتفاع أسعار النفط إلى تسريع انتقال طريقة الاعتماد على الطاقة في دول الخليج، وذلك من خلال جعل مصادر الطاقة المتجددة والكهربية أكثر جاذبيةً من الناحية الاقتصادية. فهناك دائما توجهٌ لدى الدول المصدرة للنفط لتوجيه المكاسب غير المتوقعة واستخدامها أساساً في مجالات الرواتب العامة والإعانات الداخلية، إلا أن بعض الحكومات الخليجية قد تستخدم جزءاً من الأرباح المتحصلة حديثاً للاستثمار في الجهود الرامية إلى تنويع استثماراتها في الطاقة، ولا سيما في مصادر الطاقة المتجددة والهيدروجين.

وعلى الرغم من أن دول الخليج ستواجه تحديات في صياغة علاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة، إلا أن بعضها قد يستفيد سياسياً من الأزمة. فمثلاً، سعت المملكة العربية السعودية لمحاولة تفعيل شراكتها السياسية مع أميركا بشكلٍ أعمق بكثير مما هو عليه الحال الآن، لكن القيادة شعرت، ولاتزال، بالإحباط لأن كبار المسؤولين الأميركيين يترددون في التعامل مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. لكن أزمة الطاقة العالمية الراهنة قد تعزز موقف السعوديين في هذا الصدد.

س 3: كيف سيؤثر الصراع على الأمن الغذائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

ج3: لقد ارتفعت أسعار السلع العالمية لأن روسيا وأوكرانيا تُنتجان معاً حوالي ربع صادرات القمح العالمية. وقد أدت جائحة كوفيد، والتحديات اللوجستية الناتجة عنها، إلى زيادة أسعار القمح بنسبة 80٪ منذ أبريل 2020. فمثلاً، ارتفعت أسعار العقود الآجلة للقمح في باريس بنسبة 16٪ في 24 شباط / فبراير. فضلاً عن ذلك، قطعت روسيا صادرات سماد نترات الأمونيوم. ولكل هذا، فالعديد من البلدان في الشرق الأوسط معرضةٌ بشكل خاص لارتفاع الأسعار وتعطل الإمدادات.

نذكر هنا أن مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، والعديد من وارداتها تأتي من منطقة البحر الأسود. وعلى الرغم من أن الحكومة حاولت تنويع إمداداتها ومخزونها في الفترة التي سبقت الغزو، إلا أن علامات نقص الإمدادات باتت واضحة بالفعل. لقد تلقت مصر عددا كبيراً من العطاءات لمناقصات القمح الأسبوع الماضي، لكن هذا الأسبوع شهد إلغاءها والاقتصار على تلقي عرض واحد فقط باهظ الثمن. لهذا، سيستمر مخزونها الاستراتيجي من القمح لمدة تقل عن خمسة أشهر. ونحن نعلم طبعاً أن ما يقرب من 30٪ من سكان مصر يعيشون في فقر،  وأن العديد من الفقراء يعتمدون على الخبز المدعوم للتغذية.

وفي أماكن أخرى من شمال أفريقيا، يتزامن ارتفاع الأسعار وانقطاع الإمدادات مع موجات جفاف شديدة. وفي تونس مثلاً، ستأتي التحديات الاقتصادية في وقت صعب بالنسبة للرئيس قيس سعيد، الذي يجدد محاولاته لتوطيد السلطة بعدما حلَّ البرلمان في الصيف الماضي، والبلاد تواجه بشكلٍ عام ركوداً اقتصاديا عنيداً بدرجةٍ متزايةد.

وعموماً، سيضرب نقص القمح الدول الهشة في المنطقة بشكل أكبر. فقد قوضت الأزمة الاقتصادية في لبنان بالفعل قدرة سكانه على شراء المواد الغذائية، خاصةً مع ارتفاع الأسعار بنسبة 1000٪ في أقل من ثلاث سنوات. ويستورد لبنان القمح لتلبية معظم احتياجاته، حيث يأتي نحو 60٪ منه من أوكرانيا. ولدى لبنان حالياً من المخزون ما يقرب من شهر واحدٍ فقط من القمح.

وبنفس الطريقة، ستكون ليبيا واليمن اللتين مزقتهما الحرب معرضتين لنقص القمح.

س 4: ماهي تبِعات تدهور العلاقات بين روسيا والغرب في الشرق الأوسط؟

ج4: لقد وعد الرئيس بوتين الدول التي تتدخل في العمليات الروسية في أوكرانيا “بعواقب لم ترها من قبل”. ولدى روسيا فعلاً العديد من الخيارات لإلحاق الأذى بالغرب في الشرق الأوسط رداً على العقوبات.

يمكن أن تؤدي التوترات، مثلاً، إلى قيام روسيا بدور المُخرِّب لأي ترتيبات سياسية قادمة في سوريا. فقد حذَّر قائد القيادة المركزية الأميركية الجديد، اللفتنانت جنرال مايكل كوريلا، من أن روسيا انتهكت بشكل متزايد بروتوكولات عدم الاشتباك مع الولايات المتحدة في شرق سوريا خلال الأشهر الأخيرة. وإذا ما تدهورت العلاقات أكثر، وتجاهلت روسيا آليات وقواعد فك الاشتباك الموجودة حالياً، فإن خطر حدوث مواجهة أكثر خطورة سيتصاعد بشكلٍ كبير.

كما أن بعض دول المنطقة أيضا تخشى أن تفتقر روسيا بشكلٍ متزايد إلى الموارد اللازمة للحفاظ على دورها في سوريا، مما سيترك فراغاً ستملأه القوات الإيرانية، خاصةً إذا تم إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي)، ووَضع ارتفاعُ أسعار النفط المزيد من الأموال في الخزانة الإيرانية.

فوق هذا، ستتاح لروسيا فرصة واضحة لتقويض خطط الغرب في تموز / يوليو القادم، عندما يصوت مجلس الأمن الدولي على استئناف العمليات الإنسانية عبر الحدود في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غرب سوريا. وفي هذه الحالة، فإن من شأن الفيتو الروسي أن يعرض للخطر 4 ملايين سوري يعتمدون على المساعدات الإنسانية، ويزيدَ الضغط بشكل حادٍ على تركيا، بل قد يؤدي إلى موجةٍ كبيرة من الهجرة القسرية في شرق البحر الأبيض المتوسط. نحن نعرف أن إدارة بايدن ركزت بشكلٍ كبير حتى الآن على دبلوماسية المساعدات الإنسانية في سوريا، ومن المرجح أن يلغي الفيتو الروسي، في حال حصوله، أي آمال في التعاون الجاد بشأن الملف السوري بين الولايات المتحدة وروسيا.

إلى هذا، قد تسعى روسيا لزيادة الضغط على أوروبا من خلال تأجيج الصراع في ليبيا في وقتٍ حساس جداً بالنسبة لعملية السلام في البلاد. كما يمكن لروسيا أن تستغل تهديد الهجرة غير النظامية من ليبيا لزعزعة استقرار أوروبا، في الوقت الذي تحاول فيه هذه الأخيرة التعامل مع مسألة اللاجئين المستجدة من أوكرانيا.

أخيراً، يمكن لروسيا أن تُعقِّدَ الدبلوماسية الدولية بشأن الملف النووي الإيراني. وفي حين أن غزو أوكرانيا لم يُخرج مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة في فيينا، والمتعلقة بأي اتفاق نووي قادم، عن مسارها حتى الآن، فإن المفاوضات الناجحة ستظل تتطلب عملية تنفيذ جماعية دقيقة، ويمكن لروسيا، بطبيعة الحال، أن تسعى إلى لعب دور المعطل.

جون ب. ألترمان هو نائب أول للرئيس، ويشغل كرسي زبيغنيو بريجنسكي في الأمن العالمي والجيو/استراتيجية، وهو مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن العاصمة.

المصدر الأصلي للحوار:

انظر الرابط.

—————————-

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

=================

تحديث 30 حزيران 2022

————————

عدد يفوق الخيال”من الضحايا بقصف روسي لمركز تجاري اوكراني

قُتل عشرة أشخاص على الأقل وأصيب أكثر من 40 آخرين في ضربة صاروخية روسية الاثنين على مركز تجاري “مكتظ جداً” في وسط أوكرانيا أدت الى احتراقه.

أعلن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الاثنين، سقوط “عدد لا يمكن تخيله” من الضحايا إثر ضربة صاروخية استهدفت مركز تسوق يتواجد فيه أكثر من ألف مدني في مدينة كرمنشوك وسط البلاد.

وقال زيلينسكي في منشور على “فايسبوك”، إن “أكثر من ألف شخص كانوا متواجدين داخل مركز تسوق في مدينة كرمنشوك” عندما تم استهدافه بصواريخ روسية. وأضاف أنه “من المستحيل تصور عدد الضحايا”. ولفت إلى أن موقع مركز التسوق “لا يشكل أي خطر على الجيش الروسي” ولا يحمل “أي قيمة استراتيجية”.

وفي لقطات نشرها زيلينسكي يظهر حريق هائل بمبنى مترامي الأطراف ودخان كثيف يتصاعد إلى السماء، بينما كان مواطنون واقفين في الخارج.

    ⚡️ Zelensky: ‘Russia strikes shopping center in Kremenchuk, while over thousand people inside.’

    “The mall is on fire, firefighters are trying to extinguish the fire, the number of victims is impossible to imagine,” said President Volodymyr Zelensky.

    Volodymyr Zelensky/Telegram pic.twitter.com/Pb8IGeAevD

    — The Kyiv Independent (@KyivIndependent) June 27, 2022

وتعليقاً، قال وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إن “العالم يشعر بالرعب من الضربة الصاروخية الروسية، التي استهدفت مركزا تجارياً مزدحماً في وسط أوكرانيا.

ووصف في تغريدة، الضربة الصاروخية بأنها “الأحدث في سلسلة من الفظائع”. وأكد أن الولايات المتحدة ستواصل دعم شركائها الأوكرانيين و”محاسبة روسيا، بما في ذلك المسؤولون عن الفظائع”.

    The world is horrified by Russia’s missile strike today, which hit a crowded Ukrainian shopping mall — the latest in a string of atrocities. We will continue to support our Ukrainian partners and hold Russia, including those responsible for atrocities, to account.

    — Secretary Antony Blinken (@SecBlinken) June 27, 2022

من جانبه، ندد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بالضربة على مركز التسوق التي تُظهر وفق قوله، “وحشية وهمجية” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا تفعل سوى “تعزيز تصميم” الغرب على دعم كييف.

وقال حاكم منطقة بولتافا الأوكرانية دميترو لونين إن عشرة أشخاص على الأقل قُتلوا في الهجوم الصاروخي وأن 40 آخرين أصيبوا.

كذلك أوضح سلاح الجو الأوكراني أن المركز التجاري أصيب بصواريخ مضادة للسفن من نوع “كي اتش 22” أطلقتها قاذفات تعمل من مسافة بعيدة من نوع “تو-22” من منطقة كورسك الروسية.

وكريمنشوك مدينة صناعية كان عدد سكانها 217 ألف نسمة قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير شباط، وتقع على نهر دنيبرو في منطقة بولتافا. وهي موقع أكبر مصفاة لتكرير النفط في أوكرانيا.

ونقلت وكالة “تاس” عن مصدر عسكري روسي قوله إن القوات الروسية اقتحمت مدينة ليسيتشانسك، آخر مدينة تسيطر عليها أوكرانيا في مقاطعة لوغانسك.

وقال المصدر العسكري الروسي إن اقتحام مدينة ليسيتشانسك ينفذ من 5 محاور، مضيفاً أن القوات الأوكرانية تقوم بتصفية من سماهم المرتزقة الأجانب الذين يقاتلون في صفوفها تجنبا لوقوعهم في الأسر.

————————————

لوفيغارو: بوتين يصلّب مواجهته مع الناتو

تحت عنوان “بوتين يصلّب مواجهته مع الناتو”، قالت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية إنه إذا كان للتدخل في أوكرانيا، الذي أطلقه الرئيس الروسي، تأثير متناقض يتمثل في إحباط هدفه المتمثل في إضعاف الحلف الأطلسي، فإن سيد الكرملين لم يتخلَّ عن “خطوطه الحمراء”، المتمثّلة في عدم التوسع والانتشار غير النووي في الشرق.

“لوفيغارو” تساءلت إن كان من الممكن أن يمتد النزاع الأوكراني إلى حلف الناتو، الذي سيجتمع في مدريد هذا الثلاثاء، في قمة ستدوّي فيها أصوات المدافع، موضحة أن السؤال يدور في أذهان الجميع، حيث أظهر فلاديمير بوتين عناده لمدة أربعة أشهر لتحقيق “أهداف” ”عمليته العسكرية الخاصة”، لدرجة أن التدخل العسكري الروسي لن يجني إلا ثمارًا مريرة فيما يتعلق بالهدف الذي أعلنته موسكو لعدة عقود: إضعاف أو حتى اختفاء حلف الأطلسي (الناتو). ومع ذلك، من الواضح أن تراكم الظواهر الكبرى، التي أثارتها أو تسارعت بسبب الحرب في أوكرانيا، أوجد مؤخرًا سيناريو غير موات لموسكو، يتمثل في طلب السويد وفنلندا الانضمام إلى الحلف، وتعزيز القدرات العسكرية الغربية في رومانيا، وربما في البحر الأسود، وزيادة الميزانيات الدفاعية لدول الناتو: جميع عواقب الصراع التي تحمل علامة عدم الثقة المتزايد الذي تثيره روسيا في الغرب. حتى في ألمانيا، حيث سقطت التابوهات (المحرمات) فيما يتعلق بإعادة تسليح البلاد، وتقديم المساعدة العسكرية للقوات المسلحة في كييف، تصرح “لوفيغارو”.

ومضت “لوفيغارو” إلى التساؤل إن كانت هذه الظروف والمعطيات الحالية قد تغري بوتين بالتصعيد، قائلة إنه في مدريد من المؤكد أن الضغط سيتصاعد على روسيا، التي يعتبر مفهوم “الشراكة” معها مجرد ذكرى بعيدة يعود تاريخها إلى ربع قرن. فمن المحتمل أنه خلال القمة سيتخلى الحلف رسميًا عن أي قيود (فيما يتعلق بنشر القوات في أوروبا الشرقية)، وسيتيح لنفسه أن يسترشد فقط بمفهومه لـ “التهديد الروسي”، وفق ما نقلت الصحيفة عن أندريه كورتونوف، مدير المجلس الروسي للشؤون الدولية، موضحاً أن ذلك يعني أننا، على الجانب الشرقي لحلف شمال الأطلسي، لن نرى الكتائب فحسب، بل ألوية كاملة وفرقًا على أساس دائم، على حد تعبيره.

مع اقتراب قمة مدريد، أتى ردّ فعل فلاديمير بوتين، و تم تقديم الذريعة له أيضًا من خلال أزمة كالينينغراد، التي اندلعت الأسبوع الماضي بقرار ليتوانيا تقييد الحركة التجارية بالسكك الحديدية مع الجيب المجاور لعضو آخر في الناتو، وهو بولندا.

“القواعد النووية”

وأشارت ”لوفيغارو” إلى أنه قبل أربعة أيام من الاجتماع في مدريد، استقبل الرئيس الروسي أقرب حليف له، البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، في سانت بطرسبرغ. فبالإضافة إلى “قلقه” بشأن “سياسة المواجهة” لبولندا وليتوانيا، انتهز سيد الكرملين الفرصة للتنديد بوجود “200 سلاح نووي تكتيكي، معظمها في ست دول أوروبية أعضاء في الناتو”، مضيفاً أنه “من أجل تشغيل هذه الأسلحة، تم تجهيز 257 طائرة أمريكية وأوروبية”.. ونتيجة لذلك، أعلن أن بلاده ستسلم “في الأشهر المقبلة” صواريخ قادرة على حمل رؤوس حربية نووية إلى بيلاروسيا الكسندر لوكاشينكو. وخلال التبادلات التي نُشرت على موقع الكرملين على الإنترنت، والتي تهدد بمزيد من التوتر في العلاقات بين موسكو والغرب، قال الزعيمان أيضًا إنهما يريدان تحديث الطيران البيلاروسي لجعله قادرًا على نقل الأسلحة النووية. وهي مبادرات تستحضر لهجة “الحرب الباردة” ذاتها التي ستهيمن في مدريد.

كما لمّح الزعيم الروسي عدة مرات، في الأشهر الأخيرة، إلى استخدام النيران النووية. وذلك لأن الناتو في نظره لم يتغير. فوفقًا له، فإن “الحلف الأطلسي ما يزال يمثل تهديدًا، لأسباب تاريخية، باعتباره جهة فاعلة” مزعزعة للاستقرار كما كان الحال، في نظر موسكو، في كوسوفو في عام 1999 أو في ليبيا في عام 2011، كما نقلت “لوفيغارو” عن إيغور ديلانوي، نائب مدير المرصد الفرنسي الروسي في موسكو.

وتابعت الصحيفة الفرنسية التّذْكير أنه في مواجهة دول الناتو الواقعة بالقرب من أراضيها، وضعت روسيا “خطين أحمرين”: عدم إقامة قواعد عسكرية، وعدم نشر أسلحة نووية. وهما ذريعتان يمكن لبوتين أن يتذرّع بهما للتدخل عسكريًا، كان هو الحال في 24 فبراير ضد أوكرانيا، ولكن أيضًا للمناقشة والتفاوض. وظهر هذان الشرطان أيضًا في مسودة المعاهدة المجهضة التي أرسلتها موسكو في ديسمبر الماضي إلى حلف الناتو.

ويمكنهم العمل مرة أخرى، إذا لزم الأمر، في المستقبل، كأهداف للتفاوض، وفقًا لإيغنر ديلانوي، نائب مدير المرصد الفرنسي الروسي في موسكو. يشير هذا الخبير بالفعل إلى أنه عندما طلبت السويد وفنلندا مؤخرًا الانضمام إلى الحلف، أوضح فلاديمير بوتين أنه ليس تهديدًا، لأنه لن تكون هناك قواعد أمريكية في فنلندا، ولن يتم نشر أسلحة نووية. وتتوافق هذه الحجة مع حجة أولئك الذين يزعمون أن بوتين يعرف “قواعده النووية”، ولا يرغب في تجاوز الروبيكون. يضاف إلى ذلك عامل آخر وهو أن “الصين لن تسمح بحدوث ذلك …”، كما تنقل “لوفيغارو” عن مصدر وصفته بالجيد.

القدس العربي”

————————–

ديلي ميل: مصير أوكرانيا سيقرّره الشرق الأوسط وأفريقيا وربما كان في صالح روسيا

إبراهيم درويش

قالت صحيفة “ديلي ميل”، في تقرير أعده كريس بليسانس، إن دول أفريقيا والشرق الأوسط قد تحرف مسار الحرب في أوكرانيا لصالح روسيا، ذلك أن الحرب خلقت أزمة غذاء يواجه فيها 44 مليون المجاعة وملايين يعانون نقصا في المواد الأساسية. وهو ما دعا الاتحاد الأفريقي وجنوب أفريقيا للانضمام إلى دول مثل تركيا والسعودية المطالبة بحل سلمي للأزمة. وقال إن أوكرانيا تعتقد بأن مصيرها سيقرر في طين ودم دونباس، حيث تحاول قواتها طحن الجيش الروسي ودفنه في التراب باستخدام الشجاعة والمهارة والترسانة العسكرية من الغرب. إلا أن هناك منظوراً آخر لتقرير مسار الحرب وفي جبهة أخرى، وبعيدا آلاف الأميال، في صحارى الشرق الأوسط والمزارع المتصحرة في أفريقيا، حيث يواجه 44 مليون شخص المجاعة نظراً لاعتمادهم على حبوب وزيت أوكرانيا، إلا في حالة وقف الحرب وبشكل سريع. وقال إن الحصار المفروض على موانئ البحر الأسود الرئيسية أدى لمنع تصدير الحبوب، والتي أطعمت 400 مليون شخصا، بشكل يهدد بالجوع والشغب من ليبيا إلى ليبريا، ومن سوريا إلى جنوب السودان.

وعلى هذه الجبهة، يبدو أن بوتين قد حقق انتصارا. وهناك جوقة من القادة، انضم إليهم رئيس الاتحاد الأفريقي ماكي سال، يمارسون الضغوط على الغرب لفتح الطريق أمام السلام الذي يرى معظم المحللين أنه سيكون في صالح روسيا، لكنه يسمح بعودة تدفق الإمدادات من أوكرانيا.

وفي محاولة للحاق بالركب تعهد قادة مجموعة الدول السبع، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون “بعمل ما يمكن عمله” وفتح الموانئ، لكنهم يواجهون مشكلة عويصة لتسيير ناقلات الحبوب ومرورها عبر السفن الحربية الروسية، ومن خلال حقول الألغام التي زرعت في البحر الأسود. ويرى الكاتب أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ربما تمكّن، وسط المخاوف من مجاعات عالمية متتابعة، من تحقيق نصر رغم شجاعة الأوكرانيين في ساحة القتال.

وزودت أوكرانيا قبل الحرب في 24 شباط/فبراير نسبة 11% من الاحتياجات العالمية من الحبوب وبقيمة 18.5 مليار دولار في عام 2018، وذلك حسب بيانات من البنك الدولي. وذهبت نصف الصادرات إلى أوروبا، وربع منها إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو دول الصحراء الأفريقية، وهما منطقتان تواجهان الآن مخاطر نقص المواد الغذائية، نظرا لعدم وجود بدائل للاعتماد عليها. وتعتبر أوكرانيا المزود الأكبر لبرنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة الذي يوفر الطعام للمحتاجين ويأخذ نسبة 40% من احتياجاته من أوكرانيا. وفي الوقت الحالي فالأزمة هي لوجيستية، فهناك الكثير من الطعام، ولكن المشكلة هي الحصول عليه وإيصاله لمن يحتاجون إليه. ويعتبر الطريق الرئيسي لتصدير المواد الغذائية هو موانئ البحر الأسود، مثل أوديسا وميكوليف، واللذان يتم منهما شحن ملايين الأطنان كل عام، ولكنهما مغلقان تماما منذ بداية الحرب، وتم تلغيم المياه القريبة منهما، وتحت رقابة مدافع البحرية الروسية. ويحاول القادة البحث عن وسائل أخرى لنقل الحبوب، مثل القطارات، لكن الكميات بملايين الأطنان، وليس من المؤكد أنها ستصل إلى الدول المقصودة. وتم الحديث عن خطة طموحة لإرسال السفن التركية والمصرية عبر ما أطلق عليها “ممرات إنسانية”، ولم يحدث بعد أي شيء. ونقل عن سيدهارت كوشال من معهد “روسي” في لندن قوله “أعتقد أنه يمكن تحقيقها، وسواء تحققت أم لا، سؤال مفتوح”. وحتى لو تم نقل كل الحبوب المتوفرة إلا أنه لن يحل الأزمة، فالمحصول الأوكراني للسنوات القادمة سيكون أقل، بسبب ما خلفته الحرب من آثار على المزارع وتجنيد المزراعين للقتال مع الجيش إلى جانب مقتل الآلاف وجرحهم. وتعتبر أوكرانيا مصدراً مهماً للأسمدة، مما يعني أن المحاصيل في العالم ستكون متدنية ولسنوات مقبلة.

وفي ظل الظرف الحالي، ربما كان لقادة الشرق الأوسط وأفريقيا مصلحة مشتركة مع أوكرانيا لنهاية الحرب، إلا أن كلا المنطقتين تشكّان بالغرب وتعتمدان بشكل متزايد على روسيا في مجال التجارة والأمن. ووقعت عدة دول أفريقية على صفقات أسلحة مع موسكو التي نشرت مرتزقة شركة فاغنر في عدد من الدول الأفريقية. وطورت روسيا شبكة دبلوماسية تقوم بضخ الدعاية التي تحمل الغرب مسؤولية الحرب. وأثمرت هذه الجهود عندما اجتمع سال، رئيس الاتحاد الأفريقي مع بوتين وحمل بعد خروجه من الاجتماع الغرب مسؤولية نقص المواد الغذائية. وكذا رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوسا، الذي حمل الناتو مسؤولية الحرب، واتهمه بالعدوان، ودعا أوكرانيا للتوصل إلى صفقة مع موسكو والتفاوض المباشر معها.

وفي الشرق الأوسط دعمت سوريا الأسد وإيران بوتين، إلا أن تركيا والإمارات العربية المتحدة والسعودية رفضوا التعبير عن مواقف داعمة لطرف ضد آخر. ومن 35 دولة امتنعت دول عن التصويت في آذار/مارس دعما لقرار في الأمم المتحدة لشجب الحرب، نصفها من الشرق الأوسط وأفريقيا. ومن بين الدول الخمس التي صوتت ضد القرار سوريا وإريتريا، أما البقية فهي روسيا وكوريا الشمالية وبيلاروسيا. وبعد تأخر، عقد الرئيس الأوكراني مؤتمرا مع الاتحاد الأفريقي، حيث حضر 4 رؤوساء دول للاستماع إلى خطابه واكتفى البقية بإرسال ممثلين عنهم. وتم إرسال أكبر مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، أورسلا فوندرلين وتشارلس ميشيل إلى الشرق الأوسط وأفريقيا لحشد الدعم وراء الحرب، وعرضا تقديم 630 مليون دولار لتخفيف الأزمة بدون شروط للدعم. وكان قادة جنوب أفريقيا والهند وأندونيسيا والاتحاد الأفريقي من المشاركين في قمة الدول السبع حيث أصدرت بياناً دعم فيه الحرب بأوكرانيا ومواصلة الدعم مهما اقتضى الأمر. لكن قادة دول الجنوب يعرفون أنه بدون وقف للحرب فلن تحل أزمة نقص الطعام وسيواجهون مصاعب ومخاوف من نزاعات.

وآخر مرة عانى فيها العالم من أزمة غذاء حادة كانت بين 2010- 2012، وقادت إلى عدم استقرار، والتي يقول الخبراء إنها أشعلت الانتفاضات العربية. وأثرت الحرب الأهلية السورية والليبية على الغرب وساهمت في ظهور “تنظيم الدولة”، ولم يتعاف البلدان بعد. وسيكون البلدان من ضمن المتأثرين بالأزمة الحالية إلى جانب القرن الأفريقي- كينيا والصومال وإثيوبيا. وكان هناك 18.5 مليون في هذه المناطق المتقلبة يعانون من مخاطر المجاعة، حتى قبل أوكرانيا بسبب الجفاف المستمر منذ أربعة أعوام..

القدس العربي

————————

إندبندنت: العالم على حافة المجاعة بسبب أوكرانيا.. و”السبعة الكبار” تقاعسوا عن العمل

إبراهيم درويش

علقت صحيفة “إندبندنت” في افتتاحيتها على خيارات الغرب في تعامله مع المجاعة التي تسببت بها الحرب في أوكرانيا. ومن الخيارات، التقاعس عن العمل، وهو الصمت الذي يصم الآذان الذي بدا في قمة مجموعة الدول السبع.

وقالت الصحيفة “في الكثير من الأحيان، ما لا يتمخض عليه في قمة دولية هو الأهم، وهذا ينطبق بشكل مفجع على قمة الدول السبع”.

فقد تجاهل قادتها، كما تقول الصحيفة، المجاعة المنتشرة على نطاق واسع نتيجة للغزو الروسي ضد أوكرانيا. وبسبب الحرب، وزرع البحرية الروسية المياه حول ميناء أوديسا بالألغام، فهناك ملايين من أطنان الحبوب وزيت النخيل عالقة في المخازن تنتظر التصدير، أو سرقت ونقلت إلى روسيا. وهي أطنان من المفترض أنها ستطعم الشعوب في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا. وعندما نشاهد طوابير أمام المخابز في أوكرانيا فعلينا أن نقلق. ولدى الغرب ثلاثة خيارات كلها محفوفة بالمخاطر وليست مستساغة.

الخيار الأول، هو التقاعس عن العمل كما بدا في قمة الدول السبع، وهذا يعني التخلي عن ملايين الناس من اليمن إلى غانا وتركهم للجوع. وكما هو الحال، فمن يقبعون في القاع يجوعون أولا، وسيتبعهم الكثيرون مع زيادة أسعار المواد الغذائية في الأسواق. وهو وضع مريع، وزادت من خطورته، حقيقة أن المحاصيل المقبلة ستكون نصف الكمية الطبيعية بسبب الحرب وتشريد المزارعين الأوكرانيين.

وستزيد التغيرات المناخية والمواسم الفقيرة في مناطق أخرى من العالم، الوضع سوءا. وعلى أي حال، فالوضع مرشح لأن يتطور للأسوأ. وإضافة إلى الأزمة الإنسانية المحتومة، فإن عدم الاستقرار الناجم عنها في مناطق واسعة من العالم، سيقود إلى أعمال شغب، ويثير نزاعات ويدفع بموجات هجرة جديدة إلى الغرب. وتعلق الصحيفة أن الضغوط الدولية لتوفير الطعام الكافي للأمعدة الخاوية سيجبر الدول الغنية على التحرك، ولكنه سيكون متأخرا بالنسبة للبعض.

أما الخيار الثاني، وهو ما اقترحه الكرملين، أي سماح روسيا بممرات آمنة للحبوب وزيت الطعام من أوكرانيا وعبر البحر الأسود إلى  شمال أفريقيا وما بعدها، لو تم تخفيف العقوبات. وهذا نوع من الابتزاز الذي سيعجّل من هزيمة أوكرانيا. فالعقوبات وخاصة المتشددة منها، تحتاج إلى وقت كي تترك آثارا، في ظل استمرار أوروبا باستيراد الغاز الروسي. ولأن روسيا قادرة على التحكم بالزراعة الأوكرانية، مباشرة وبشكل غير مباشر، فإنها ستكون قادرة على جعل أوروبا وبقية العالم رهينة مطالبها. ولن يوقف هذا طموحات فلاديمير بوتين لإحياء الإمبراطورية الروسية.

أما الخيار الثالث، فهو اللجوء إلى فتح ممرات آمنة بالقوة، بشكل يسمح بمرور أطنان الحبوب والزيت من ميناء أوديسا. وخيار كهذا، يقتضي تعاونا دوليا غير مسبوق. وحتى ينجح، يجب أن يتم دعمه من خلال “تحالف المستعدين”، ولا ينحصر بالناتو فقط، بل تدعمه قوى بحرية تابعة لعدة دول، حتى لو شاركت دول بقوات رمزية.

ويقتضي هذا الخيار، إنشاء مظلة ضخمة تسيطر على المياه الأوكرانية والدولية لمنع الروس من محاولة إغراق السفن. ولا يمكن تحقيق هذا الخيار بدون إقناع تركيا، حارسة بوابة البحر الأسود، والضامنة لمعاهدة مونترو الدولية، كي تسمح بالحركة العسكرية في البحر الأسود. وحتى هذا الوقت، أثبت الرئيس رجب طيب أردوغان أنه حليف غير واضح، مع أن جهوده لتحقيق السلام قد تكون مخلصة.

وربما تم حث الرئيس التركي على إغضاب الكرملين من خلال ضغوط مجتمعة وحوافز صديقة من الحلفاء في الناتو، والجيران في الاتحاد الأوروبي. وليس من مصلحة تركيا طويلة الأمد، أن تكون لها جارة توسعية مثل روسيا وتثير المشاكل في الجوار. ولا تحتاج إلى موجة من الانقلابات والعنف بشكل يردد صدى الربيع العربي في المنطقة، وفي النهاية فروسيا وتركيا هما خصمان طبيعيان.

 لكن السبعة الكبار، لم يعالجوا أياً من الخيارات هذه غير المريحة. ومع مرور كل يوم بدون تحرك حاسم، فهناك فرصة أن تجبر روسيا العالم على الخضوع من خلال الجوع. ويجب ألا يساور أحد الشك أن بوتين مستعد للتضحية بمزيد من الأوراح من أجل تنفيذ مشروعه المصاب بجنون العظمة، بحسب ما تقول الصحيفة.

——————————-

كيف حوّل بوتين القمح إلى سلاح فتاك؟/ عبد التواب بركات

احتفظ القمح بمكانة تاريخية كسلعة عالمية ورمز للسيادة والحضارة والثروة الغذائية على حدٍ سواء. واشتهر باستخدامه عبر التاريخ كسلاح فعال وحاسم في الأزمات السياسية والمواجهات العسكرية.

استخدمه زعيم الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين، لإخضاع المزارعين في أوكرانيا في الفترة ما بين 1932 و1933، وإجبارهم على العمل في المزارع الجماعية، ومصادرة مزارعهم الخاصة، من خلال اقتحام البيوت ومصادرة ما بها من قمح وخبز، وهي السياسة التي أودت بحياة 4.5 ملايين شخص.

واستخدمته الولايات المتحدة ضد العرب لما قطعوا البترول عن الغرب في حرب أكتوبر 1973. وقال هنري كسينجر، ثعلب الخارجية الأميركي: “سنعطيهم بكلّ قطرة بترول حبة قمح”. ووضعت معادلة البترول في مقابل القمح. وأجهضت، بالترغيب والترهيب، خططاً عربية للاكتفاء من القمح، حفاظاً على توازن القوى بين سلاحي القمح والبترول.

واستخدمه ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، كسلاح للسيطرة على السكان في ولاية البنغال الهندية الذين انتفضوا ضد الاحتلال الإنكليزي، واستغل موجة الجفاف بالولاية في عام 1943، ومنع الأسطول التجاري البريطاني الذي كان في أستراليا من توصيل القمح والأرز بهدف إخضاعهم وتقويض حركة الاستقلال، ما أدى إلى مقتل ثلاثة ملايين ونصف المليون هندي جوعاً.

واستخدمه جورج بوش كسلاح حاسم في إخضاع نظام صدام حسين خلال عقد التسعينيات تمهيداً لاحتلال العراق. وتحت غطاء النفط مقابل الغذاء، تسبب في وفاة 1.72 مليون طفل عراقي وهجرة ثلاثة ملايين من الكفاءات المهنية.

غياب القمح لأسباب مناخية، كالجفاف والفيضانات، أو لسوء تدبير وإدارة المخزون الاستراتيجي، يؤدي إلى اضطرابات شعبية، وتهديد السلم والأمن المجتمعي، وتهديد استقرار الأنظمة السياسية. قبل ألف عام تقريباً، سجل المقريزي مجاعة في مصر، أطلق عليها المؤرخون “الشدة المستنصرية”، وفيها ارتفعت أسعار القمح ونفد من المخازن، واختفى الخبز من الأسواق بسبب انحسار مياه النيل وغياب الفيضان، وخيّم شبح الجوع والموت على القُطر المصري سبع سنين.

في منتصف سنة 2010، دمر الجفاف الشديد والحرائق 20 بالمائة من محاصيل الحبوب في روسيا. فأعلن رئيس الوزراء في حينه، فلاديمير بوتين، خلال جلسة متلفزة لمجلس الوزراء، حظر روسيا تصدير 21 مليون طن من القمح والدقيق. وتوقعت صحيفة آسيا نيوز، التي نقلت الخبر أن يؤدي الحظر إلى زيادة الأسعار العالمية للخبز، وأن يتسبب في تجويع مناطق بأكملها في الشرق الأوسط. ولم تمر عدة أشهر حتى وقعت أزمة الخبز في المنطقة العربية، ثم تفجرت ثورات الربيع العربي، وكان رغيف العيش أول مطالبها، وثارت الجماهير على الأنظمة التي أهملت الاكتفاء الذاتي من القمح.

بعد حرب روسيا على أوكرانيا، أوقف بوتين صادرات القمح الأوكراني في أوائل شهر مارس/آذار. وقبل الحرب بشهرين، حظر تصدير القمح الروسي. وصلت أسعار الحبوب إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وفق مؤشر أسعار الغذاء العالمي لمنظمة الأغذية والزراعة “فاو”. وخرجت عناوين الأخبار تتحدث بالخط العريض الأحمر عن نقص الغذاء في جميع أنحاء العالم. وحذر الخبراء من مجاعة عالمية.

وارتفعت الأسعار إلى درجة أن بورصة شيكاغو، إذ يتداول التجار أسعار عقود القمح المستقبلية، وصلت إلى حدودها القصوى، واضطرت إلى التوقف عن التداول لمدة خمسة أيام متتالية. وكردّ فعل مباشر، فرض العديد من الدول المصدرة والمستوردة قيوداً صارمة على صادرات القمح والدقيق ومنتجاتهما، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى من خلال نظرية خلق الندرة المصطنعة.

وتولد ما يسمى “التأثير المضاعف” على الأسعار العالمية للقمح. في الأول من إبريل/نيسان الماضي، قال الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف على “تليغرام” إنّ الغذاء سلاح في وقت الحرب، وسنقوم بتزويد أصدقائنا فقط بالمنتجات الغذائية والزراعية. ما يؤكد أنّ بوتين يستخدم القمح كسلاح في الحرب ضد الغرب في أوكرانيا. ومن دون مبالغة، يمكن أن يسبب مجاعة غذائية حول العالم. فهو يسيطر حالياً على موارد الغذاء في روسيا وأوكرانيا.

يتحكم في ثلث إمدادات القمح في العالم، ما يشكل حوالي 60 مليون طن تقريباً. في موعظته الأسبوعية في الأول من يونيو/حزيران الحالي، دعا بابا الفاتيكان زعيم الكاثوليك حول العالم، إلى رفع الحظر العاجل عن الموانئ الأوكرانية للسماح باستئناف صادرات القمح ودرء أزمة إنسانية عالمية، حتى أنه ترجّى بوتين وقال له: من فضلك لا تستخدم القمح كسلاح حرب! لكنّ بوتين الأرثوذكسي لم يسمع للبابا ولم يستأنف تصدير القمح. في يوم 5 إبريل/نيسان، ألمح بوتين إلى أنّ نقص الأسمدة أمر لا مفر منه، ويتعين على روسيا أن تراقب بعناية صادرات الأسمدة “إلى الدول المعادية لنا”.

وهو دليل آخر على استخدام الغذاء كسلاح، وهو ما تأكد بعد أسبوع من تهديدات بوتين، حيث أعلن رئيس الوزراء الروسي وقف تصدير الأسمدة تماماً. منع بوتين تصدير الأسمدة يحرم المزارعين حول العالم من 50 بالمائة من إمدادات الأسمدة الأزوتية. غياب الأسمدة يؤدي إلى انخفاض إنتاج القمح وجميع المحاصيل، ما يقضي على فرص تعويض فجوة القمح المفتعلة في أوكرانيا.

لكن، هل يمكن لبوتين أن يخلق أزمة غذاء عالمية، لمواجهة الحصار الغربي ومساومة الولايات المتحدة في أوكرانيا؟! نعم، يمكن أن ينجح بوتين في إحداث أزمة قمح عالمية تهدد استقرار الشعوب والأنظمة السياسية حول العالم. وسيساعده في ذلك تراجع الإنتاج في دول إنتاج وتصدير القمح التقليدية بفعل موجة جفاف غير مسبوقة، والتي تضرب أقاليم إنتاج القمح من اتجاهاتها الأربعة، وهي ظاهرة نادرا ما تحدث في نفس الموسم الزراعي.

حيث تأكد انخفاض صادرات الولايات المتحدة من القمح بنحو 7 ملايين طن عن العام الماضي بسبب الجفاف. وكذلك في الأرجنتين والهند بمعدل 10 ملايين طن لكلّ دولة ولنفس السبب. وقريب من هذا الانخفاض في فرنسا، أكبر منتج ومصدر للقمح في الاتحاد الأوروبي. وهناك أنباء عن إمكانية أن تستورد الصين، أكبر منتج ومستهلك للقمح في العالم والمكتفية ذاتيا لعقود طويلة، عدة ملايين من أطنان القمح بسبب الجفاف أيضا، ما يشكل كارثة حقيقية على الدول المستوردة للقمح.

وفي ظل الذعر الذي ينتاب الدول الغنية القادرة على استيراد القمح بأسعار مرتفعة، فستكون تكلفة الخبز باهظة الثمن بالنسبة للشعوب الفقيرة في العالم العربي وأفريقيا وشرق آسيا، التي لا تستطيع منافسة الدول الغنية على شراء القمح من السوق الدولية المحدودة.

ولا نغفل أنّ تضخم أسعار الغذاء هي استراتيجية استثمارية رابحة للشركات والحكومات. في أزمة الغذاء العالمية سنة 2008، رصد خبراء منظمة الأغذية والزراعة استقبال أسواق الحبوب العالمية قدرا ضئيلا من كمية الإنتاج العالمي من القمح، مع تقلب الأسعار بدرجة هائلة مع كل تغير ضئيل في حجم العرض والطلب الدولي على السلعة الاستراتيجية.

فبينما يتم تصدير 18 بالمائة فقط من الإنتاج العالمي من القمح، يتم استهلاك النسبة العظمى محلياً داخل الدول المنتجة. لذلك أعلنت لجنة تابعة لمجلس الشيوخ الأميركي بعد ارتفاع الأسعار إلى مستويات تاريخية في سنة 2009، أنّ دور القمح في الحضارة الحديثة أكثر مركزية وفاعلية من النفط.

وأكدوا على أنّ المخزون الاحتياطي الاستراتيجي من القمح هو أهم مكونات الأمن الغذائي، ومقياس الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمن القومي في الدولة. حالياً، وصلت نسبة الصادرات إلى 25 بالمائة من حجم الإنتاج. في سنة 2021 وصل الإنتاج العالمي من القمح إلى 780 مليون طن، تم تصدير 197 مليون طن منها. ورغم تحسن النسبة، تخطى السعر العالمي للقمح مستواه الأعلى في سنة 2007. في عام 2017، عندما أصبحت روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، طرح بوتين نفسه مورداً للحبوب بسعر منخفض بدلاً من الولايات المتحدة التي قامت بالدور لعدة عقود. في العام الماضي، وفرت روسيا 35 مليون طن للتجارة الدولية، وقدمت 42 بالمائة من احتياجات المنطقة العربية من القمح. وأمدت مصر بأكثر من نصف احتياجاتها، ومن أوكرانيا الثلث.

واشترى برنامج الغذاء العالمي، أكبر منظمة إنسانية على كوكب الأرض، نصف قمحها من هناك. وإذا كان ارتفاع الأسعار خبراً سيئاً لمن يستوردون القمح- فإنه مفيد للشركات الزراعية متعددة الجنسيات وتجار القمح وشركات الشحن الأربعة الكبرى المتحكمة في شحن 90 بالمائة من القمح، آرتشر دانيلز ميدلاند، وبونج، وكارجيل، ولويس دريفوس. وهي شركات ينتعش دخلها في الأزمات وتقلبات الأسعار وقد تدعمها. ارتفاع أسعار القمح مفيد أيضاً لبوتين في تمويل الحرب.

ومن المتوقع أن يصدر 40 مليون طن الموسم المقبل أو يستخدمها كسلاح سياسي. أن يجتمع تراجع الإنتاج في كلّ الدول المنتجة مع ارتفاع الأسعار العالمية في آن واحد إلى درجة تمكن من استخدام القمح كسلاح حرب عالمي التأثير، هو سيناريو نادر أو مستحيل، لكنّه حدث بالفعل. وكلما طالت مدة الحرب زاد الذعر على القمح، وزادت فرص حدوث اضطرابات الخبز في الدول الفقيرة، وجميعها حليف للولايات المتحدة، وكان موقف بوتين التفاوضي في أوكرانيا أفضل، فيتمكن من قضم شرقيها أو يلتهمها جميعاً.

العربي الجديد

———————–

غذاء العالم رهينة حرب بوتين/ بسام مقداد

في الوقت الذي تعلن منظمة التغذية العالمية عن مجاعة “توراتية” تهدد العالم، خاصة إفريقيا والشرق الأوسط، تحاصر روسيا ملايين الأطنان من الحبوب في الموانئ الأوكرانية. وترفض روسيا إتهامها بمنع أوكرانيا من تصدير الحبوب، وترد بإتهام أوكرانيا بتصدير الحبوب إلى أوروبا تسديداً لثمن السلاح. وتؤكد أنها أعلنت عن فتح ممر بحري أمام السفن الأوكرانية المحملة بالحبوب، لكن أوكرانيا ترفض نزع الألغام حول موانئها، متذرعة بالخشية من إنزال بحري روسي.

الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس صرح الإثنين بأن العالم لا يمكنه الإستغناء عن الحبوب والأسمدة الروسية. وأشار إلى أن إتصالات مكثفة تجري بين روسيا، أوكرانيا، تركيا، الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن تصدير المنتجات الأوكرانية عبر البحر الأسود، وكذلك بشأن تصدير الحبوب والأسمدة الروسية. وسبق له أن صرح الشهر المنصرم بأن أزمة الغذاء العالمية بسبب الحرب في أوكرانيا قد تمتد لسنوات، كما نقل موقع أوكراني.

موقع RBK الروسي الذي نقل كلام الأمين العام أشار إلى أن بوتين صرح بأن موسكو مستعدة للمساعدة في حل أزمة الغذاء العالمية، وإقترح رفع حجم صادرات الأسمدة والسلع الزراعية مقابل رفع العقوبات الغربية عن روسيا. ورأى أن الوضع الراهن في سوق المواد الغذائية تسببت به السياسة الإقتصادية والمالية الخاطئة لبلدان الغرب وعقوباتها ضد روسيا.

وسبق للموقع عينه أن أشار في 25 الجاري إلى إعلان مشترك بين بوتين والرئيس البيلوروسي لوكاشنكو بأنهما على إستعداد لإشباع الأسواق بالسماد، وبأنهما مصدران كبيران لهذه السلعة إلى الأسواق العالمية.

وكان موقع وكالة الأنباء الإلكترونية الروسية REGNUM قد نشر في 3 الجاري تصريحاً للرئيس الروسي قال فيه بأن صادرات الحبوب من أوكرانيا ليست بالأهمية التي يتحدثون عنها في الغرب لغايات سياسية. وأشار إلى أن صادرات القمح الأوكرانية السنوية تشكل 0,5% من حجم إنتاج العالم السنوي ــــــ 800 مليون طن. وذكّر بأن روسيا ستصدر في موسم العام   21/22، 37 مليون طن، وترفع هذا الحجم السنة القادمة إلى 50 مليون طن.

في إجتماع البرلمان الأوروبي في 23 الجاري، إتهم النواب الأوروبيون روسيا بإبتزاز العالم بالجوع من أجل رفع العقوبات الغربية عنها. ويقول موقع الخدمة الروسية في دويتشيه فيله DW أن جميع الموانئ البحرية الأوكرانية مغلقة بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. ويبقى حوالي 25 مليون طن من الحبوب الأوكرانية في عنابر الموانئ البحرية لايمكن شحنها، وفقاً لعقود تصديرها، إلى بلدان إفريقيا والشرق الأوسط  بصورة رئيسية. وإذا لم يتم العثور على حل للمشكلة الناشئة، فهي ستتطور حتماً إلى كارثة غذاء عالمية. ودعا النواب الأوروبيون إلى إصدار قرار من الأمم المتحدة بإنشاء ممر إنساني لتصدير الحبوب الأوكرانية.

وينقل الموقع عن نائب سويسري قوله بأن بوتين يستخدم القمح كسلاح للضغط على الغرب لإجباره على رفع العقوبات التي فرضت على روسيا بسبب غزوها أوكرانيا. ويرى النائب أن الحصار الروسي للبحر الأسود، وكذلك تلغيم أوكرانيا موانئها،خاصة أوديسا، يعني أن تصدير الحبوب الأوكرانية متعذر في المدى القريب. ويعتبر أن مرافقة المدمرات الغربية لسفن شحن الحبوب الأوكرانية أمر خطير قد يؤدي إلى “تصعيد كارثي”. ويقول أن “بوسعنا” محاولة الإتفاق مع الروس حول هذه المسألة، “لكننا نعرف أنه لا يمكن الثقة بالروس”.

وينقل عن نائب فرنسي قوله بأن لبنان يعتمد بنسبة حوالي 80 % على القمح الأوكراني. وبين البلدان الأكثر إعتماداً على صادرات الحبوب الأوكرانية يذكر النائب كلاً من مصر، باكستان، اليمن، بنغلاديش، قطر وسواها.

ويقول نائب أوكراني عضو وفد بلاده إلى إجتماع البرلمان الأوروبي تأكيده بأن البلدان النامية ليست وحدها التي تعاني من حصار الموانئ الأوكرانية. فمنذ بداية حرب روسيا على أوكرانيا إرتفعت أسعار السلع الإستهلاكية في الإتحاد الأوروبي بنسبة 8%، وارتفعت أسعار تلك السلع الأساسية التي يستهلكها المواطن العادي. فثمن الخبز المصنوع من القمح الأوكراني تضاعف مرتين بالنسبة للمواطن الألماني، كما إرتفع ثمن وجبة السمك مع البطاطا بنسبة 20% للمواطن البريطاني، وذلك بسب إستخدام زيت دوار الشمس الأوكراني لقلي السمك والبطاطا.

أوكرانيا تتهم روسيا بسرقة حبوب المناطق المحتلة، وهذه لا تنفي ذلك. فقد نشرت الصحيفة الرسمية للحكومة الروسية RG آخر الشهر المنصرم نصاً بعنوان “منطقة خيرسون(المحتلة) بدأت تصدير الحبوب إلى روسيا”، والمنطقة تناقش تصدير دوار الشمس أيضاً. وبعد أن ذكرت أن كميات الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية تبلغ 4,5 مليون طن، قالت بأن النقص في صادرات الحبوب الروسية والأوكرانية إلى السوق العالمية بسبب العقوبات، يفاقم مشكلة أزمة الغذاء في العالم. ورأت أن عدم تصدير الحبوب يفتح أمام روسيا آفاقاً جديدة، حيث بوسعها تحويل الحبوب “الفائضة” إلى طحين أو مادة النشا، وتستغني عن الإستيراد وتكسب من تصديرها. 

في توجهه إلى إجتماع مكتب برلمان الإتحاد الإفريقي في 20 الجاري، قال الرئيس الأوكراني بأنه، لتجنب خطر المجاعة، يجب أن تتوقف محاولات روسيا العودة إلى سياسة الإستعمار العدوانية. ونقل موقع الرئاسة الأوكرانية كلمة زيلينسكي بالروسية الذي توجه إلى المجتمعين بالقول أن إفريقيا، في هذه الظروف الإستثنائية للعالم بأسره، هي رهينة أولئك الذين فجروا الحرب ضد “دولتنا”. “نعم، إنها حرب روسيا ضد أوكرانيا، ليست أزمة، ليست صراعاً، كما يصفوها أحياناً حتى الآن، بل هي الحرب”. قد تبدو الحرب للبعض بأنها بعيدة عنه وبلاده، لكن أسعار المواد الغذائية التي إرتفعت بصورة كارثية، أتت بالحرب إلى بيوت ملايين الأسر الإفريقية، كما إلى بيوت أسر كثيرة في بلدان آسيا، أوروبا، أميركا اللاتينية وأميركا.

يضيف زيلينسكي بأنه لم يكن من مشكلة نقص غذاء في 23 شباط/فبراير، لكنه برز في اليوم التالي، حين حاصر الأسطول الحربي الروسي الموانيئ الأوكرانية في البحرين الأسود وآزوف. ويقول بأنه وفق تقديرات الخبراء، تعتمد على الحبوب الأوكرانية حياة حوالي 400 مليون أنسان في مختلف بلدان العالم. الوضع الراهن يثبت أن كل شيئ في العالم مرتبط ببعضه البعض. ومحاولة روسيا إحتلال “ارضنا” وتحويل أوكرانيا إلى مستعمرة، غدت السبب ليصبح صعباً في كل مكان الحصول على الغذاء، وليتصاعد خطر المجاعة.

في حين يقول بوتين أن صادرات الحبوب الأوكرانية ليست بالأهمية التي يتحدث عنها الغرب بغية  إبتزاز روسيا، يقول زيلينسكي بأن حياة مئات ملايين البشر تعتمد على الحبوب الأوكرانية. وفي حين تذكر صحيفة الحكومة الروسية أن كمية الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية تبلغ 4,5 مليون طن، يذكر موقع Meduza الروسي المعارض بأن كييف تقدر حجم هذه الحبوب بنحو 20 مليون طن. وجاء كلام الموقع في نص نشره في 21 الجاري بعنوان “العالم جدياً يخشى المجاعة بسبب بقاء ملايين الأطنان من الحبوب غير مصدرة  في موانئ أوكرانيا الملغمة؟ ما مدى واقعية الخطر”. ويرى الموقع أن غياب إمدادات الحبوب الأوكرانية قد يؤدي إلى مجاعة في بعض مناطق العالم، وإلى إرتفاع حاد في أسعار الغذاء في العالم بأسره. وقال بأن تركيا إقترحت بإسم الأمم المتحدة خطة جديدة لإخراج الحبوب من أوكرانيا، حيث فشلت خطتها السابقة التي كانت تفترض نزع الألغام في مداخل الموانئ الأوكرانية، مما جعل كييف ترفضها لخشيتها من إنزال روسي، خاصة في منطقة أوديسا.

المدن

———————————

حرب العقوبات الغربية تستعر.. الذهب الروسي على “مذبح” قمة السبع الكبار

موسكو- يوشك الذهب الروسي أن يصبح الضحية الجديدة على “مذبح” العقوبات الغربية خلال القمة الحالية لزعماء الاتحاد الأوروبي، بعد إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن أن دول مجموعة السبع -الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان- ستعلن حظرا على استيراد الذهب الروسي.

وفيما يعكس تباينا في المواقف تجاه حزمة العقوبات الجديدة، كانت الدول الإسكندنافية ودولا أوروبية شرقية اقترحت أن يتم عقب القمة الإعلان عن الحزمة السابعة من العقوبات، بينما دعت دول أخرى -من بينها ألمانيا وبلجيكا- إلى التركيز على تنفيذ الإجراءات (العقوبات) التي تم اتخاذها قبل ذلك.

ولا تزال المعلومات الرسمية غامضة حتى الآن، إذ ليس معروفا بعد هل هو حظر للواردات أم للصادرات، أو أي معاملات أخرى مع “المعدن الأصفر”.

ويبدو أن الاقتصاديين في حيرة من أمرهم بشأن الهدف من جدوى هذا الإجراء، إذا تم الأخذ بعين الاعتبار أن لدى روسيا أسواق مبيعات فائضة في الصين والهند والإمارات العربية المتحدة وغيرها، ولا تعتمد عمليا على الواردات.

وتجدر الإشارة إلى أن الإجراءات الجديدة لن تنطبق على الذهب المشترى بالفعل، فقد بلغ حجم شحنات الذهب الروسي في عام 2021 حوالي 12.6 مليار جنيه إسترليني (15.5 مليار دولار).

وفي العام نفسه، بلغت حصة صادرات الذهب من روسيا 9.2% من السوق العالمية، وتضاعفت هذه القيمة 3 مرات بعد بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا. وتقول لندن إن رجال الأعمال الروس قرروا شراء المعدن النفيس لتجنب العقوبات.

    الخبير الاقتصادي ألكسندر رازوفاييف يؤكد أنه حتى لو فرض الاتحاد الأوروبي قيودا على بيع الذهب الروسي، فلن يكون لذلك تأثير يذكر على صناعة تعدين الذهب الروسية، لأن هذا الحظر موجود بشكل غير معلن منذ مارس/آذار الماضي، مضيفا أن الذهب سيصبح أكثر تكلفة في السوق العالمية، لكن ليس كثيرا.

لماذا ستطال العقوبات الذهب الروسي؟

بحسب ما أعلنه كل من الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بخصوص فرض حظر على استيراد الذهب الروسي، فإن الدافع هو أهمية الذهب بالنسبة إلى “الأوليغارشية” الروسية التي تبحث عن طرق لتجنب تداعيات العقوبات، بحسب جونسون، فضلا عن أن صادرات الذهب تجلب لروسيا عشرات المليارات من الدولارات وتشكل حصة كبيرة، مما يعني أن في حظره محاولة لمنع روسيا من أحد أهم مصادرالتمويل لديها، وفق بايدن.

وبحسب البنك المركزي الروسي، فقد قدرت حصة الذهب النقدي اعتبارا من 1 يناير/كانون الأول 2022 بنحو 133.07 مليار دولار. ووفق إحصاءات البنك نفسه، انخفض حجم احتياطي الذهب في البنوك الروسية للفترة من 1 فبراير/شباط إلى 1 أبريل/نيسان 2022 بأكثر من 20%.

وتعكف روسيا حاليا على الطعن في قرار محكمة أمستردام بتسليم الذهب السكيثي (قطع ذهبية أثرية من جزيرة القرم) لأوكرانيا، بعد اعتباره ملكية لها، كما أثارت الدوما الروسية قضية نقل جميع الذهب المستخرج من روسيا تقريبا إلى الخارج، وأسباب التصدير القياسي للذهب من روسيا.

ما تأثيرات ذلك على قدرة روسيا في تمويل حربها؟

يرى اقتصاديون روس أن الحظر المحتمل على تصدير الذهب الروسي قد تكون له عواقب معينة، لكنها ليست كبيرة، ولن تؤثر في كل الأحوال على العمليات العسكرية الجارية في أوكرانيا من حيث التمويل.

وفي حديث للجزيرة نت، يوضح الخبير في المدرسة العليا للاقتصاد فلاديمير أوليتشينكو أن ذلك يعود لأسباب تتعلق بوجود أسواق بديلة لتصدير الذهب مما يحجّم من تداعيات القرار، فضلا عن امتلاك روسيا كميات هائلة من النفط والغاز وغيرها من مصادر ضخ الميزانية التي يمكنها تعويض أي نقص قد يتسبب به قرار مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، فرض حظر على واردات الذهب الجديدة من روسيا.

ما أهم أسواق تصدير الذهب الروسي؟

وفقا لتقديرات أولية:

    صدرت روسيا 302.2 طنا من الذهب بقيمة 17.4 مليار دولار عام 2021، وهذا أقل بنسبة 6% مما كان عليه في عام 2020.

    كانت المملكة المتحدة المتلقي الرئيسي للذهب الروسي عام 2021، بـ266.1 طنا بقيمة 15.4 مليار دولار.

    لكن من الصعب الاستنتاج من الإحصائيات ما إذا كان الذهب لا يزال هناك في المملكة المتحدة أم يذهب إلى دول أخرى، لأن لندن تعد مركزا عالميا مهما لتداول وتخزين المعادن الثمينة.

وبحسب بيانات هيئة الجمارك الفدرالية الروسية، فقد تم تصدير:

    8.1 أطنان من الذهب إلى كازاخستان.

    7.3 أطنان إلى سويسرا.

    5.7 أطنان إلى الهند.

    5.5 أطنان إلى ألمانيا.

    3.7 أطنان إلى بيلاروسيا.

    2.1 طن إلى تركيا.

    3.7 أطنان لجهات أخرى.

ما أهم المناجم والشركات العاملة في القطاع؟

    يتم إنتاج الذهب في 26 منطقة بروسيا، لكن الاحتياطيات الرئيسية والإنتاج يتركزان في شرق سيبيريا والشرق الأقصى. وينتج نحو 85% من الذهب في مقاطعات كراسنويارسك وخاباروفسك ومناطق إيركوتسك وماغادان وأمور وياكوتيا وتشوكوتكا.

    تعتبر شركة “بوليوس” (POLIUS) أهم شركة روسية في قطاع استخراج وإنتاج الذهب، تليها في قائمة “السبع الكبار”: بوليميتال (Polymetal)، ونورد غولد (Nordgold)، وكينروس غولد (Kinross Gold)، ويوج أورال زولوتو (Yuzhuralzoloto)، ومجموعة شركات بيتوربافلوفسك (Petropavlovsk)، وفيسوتشايشي (Vysochaishy).

ما حجم مساهمة قطاع الذهب في الاقتصاد الروسي؟

بالنسبة لروسيا، يعتبر الذهب وسعره عاملان مهمان من عوامل الاقتصاد الكلي، نظرًا إلى أن صناعة تعدين الذهب تلعب دورا مهما في الميزان التجاري، على الرغم من أنها أدنى بكثير من صناعة النفط والغاز.

وفضلا عن ذلك، تحتفظ الاحتياطيات الدولية لروسيا بحصة أعلى من الذهب مقارنة بمتوسط الدول التي لا تصدر عملات احتياطية، مما يعني أنها بحاجة إلى احتياطيات كحماية ضد العقوبات المحتملة. وفي السنوات الأخيرة، ساهم هذا في إعادة تقييم الاحتياطيات، ولكن في حال انخفضت الأسعار، فهناك خطر حدوث ضربة مزدوجة على كل من الإيرادات والاحتياطيات.

ما سيناريوهات الردّ الروسي داخليا وخارجيا لمواجهة هذه الخطوة؟

يؤكد الخبير الاقتصادي ألكسندر رازوفاييف أنه حتى لو فرض الاتحاد الأوروبي قيودا على بيع الذهب الروسي، فلن يكون لذلك تأثير يذكر على صناعة تعدين الذهب الروسية، لأن هذا الحظر موجود بشكل غير معلن منذ مارس/آذار الماضي، مضيفا أن الذهب سيصبح أكثر تكلفة في السوق العالمية، لكن ليس كثيرا.

أما فيما يخص شركات تعدين الذهب المحلية، فإنها على الأرجح لن تتعرض للأذى، لأنه سيتم شراء الإنتاج بالكامل من قبل البنك المركزي، بحسب رأيه.

ويذهب إلى خلاصة مفادها أن الذهب أصبح الأصل المالي الوحيد الأكثر شهرة والخالي من المخاطر، والذي أصبح مثيرا للاهتمام وشائعًا بشكل متزايد في الاقتصاد العالمي وسط تراجع الثقة في الدولار واليورو.

المصدر : الجزيرة

————————

4 طرق تدمر بها الحرب الروسية على أوكرانيا الاقتصاد العالمي

حرب روسيا على أوكرانيا شُنت ضد دولة واحدة، لكن تبعاتها أضرت بالعديد من البلدان، بما في ذلك بعض أكثر دول العالم ضعفا، ومع عدم وجود نهاية تلوح في الأفق، يمكن للخسائر الاقتصادية لهذه الحرب أن تكون مدمرة في بعض أجزاء العالم بحلول منتصف ونهاية عام 2022.

وقد قال الكاتب ريك نيومان في مقال له بموقع “ياهوو نيوز” (Yahoo News) إن الصدمة الاقتصادية من الحرب الروسية على أوكرانيا ستنتشر على نطاق أوسع وأعمق مع تذبذب الاقتصاد الأوكراني والعقوبات التي تخنق الصادرات الروسية والبيلاروسية.

فقد ينخفض إنتاج أوكرانيا بنسبة 45% هذا العام، وفقا للبنك الدولي، حيث تعاني أوروبا الشرقية من ركود بنسبة 4.1%، ومن المحتمل أن تتجه أوروبا الغربية إلى الركود أيضا.

ومن جانبها، توقفت روسيا عن نشر بعض البيانات الاقتصادية، لكنها تواجه أيضا ركودا عميقا، ولا يبدو أن الولايات المتحدة متجهة إلى الركود في الوقت الحالي، لكن النمو يتباطأ والمستهلكون متشائمون.

وأوضح نيومان أن البلدان الأفقر في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا قد تعاني أكثر من أوروبا أو الولايات المتحدة، قائلا إن العدوان الروسي يضرب العالم بأسره بـ4 طرق رئيسية.

الطاقة

تعد روسيا ثالث أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي في العالم، وتحاول العديد من الدول تقييد أو وقف مشتريات الطاقة الروسية وحرمان موسكو من عائدات الطاقة التي تشتد الحاجة إليها، وفي ظل أفضل السيناريوهات، قد يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط وزيادة أسعار البنزين في الولايات المتحدة فوق 5 دولارات للغالون في المتوسط، وكان ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، التي تعتمد بشكل أكبر على الطاقة الروسية، أكثر حدة، ولا يزال من الممكن حدوث صدمة طاقة كاملة، مع ارتفاع الأسعار بشكل دراماتيكي.

الغذاء

والضرر الذي لحق بأسواق الغذاء العالمية ليس فوريا مثل الضرر في أسواق النفط والغاز، لكن بعض الخبراء يحذرون من أن الكارثة تلوح في الأفق، فقبل الحرب، أنتجت أوكرانيا 30% من زيت عباد الشمس في العالم، و6% من الشعير، و4% من القمح و3% من الذرة.

وحاصرت روسيا جميع موانئ أوكرانيا المطلة على البحر الأسود، وهي الطريقة الرئيسية لتصدير أوكرانيا الغذاء إلى بقية العالم، ولا شيء يتحرك عبر تلك المنافذ، ولا تستطيع روابط السكك الحديدية والطرق المؤدية إلى أوروبا نقل كل الإنتاج في أوكرانيا، هذا هو قطع الإمدادات الحالية، كما يمكن أن تقلل الحرب نفسها من زراعة المحاصيل المستقبلية بنسبة 10% إلى 35%، وفقا للتقديرات.

وتعد روسيا أيضا مُصدرا رئيسيا لزيت عباد الشمس والقمح والشعير، ولا توجد عقوبات مباشرة على الصادرات الغذائية الروسية، لكن العقوبات الواسعة على أجزاء أخرى من الاقتصاد الروسي تقطع هذه الشحنات.

أما الأسمدة فمشكلة أخرى، لأن روسيا هي أكبر مصدر للأسمدة النيتروجينية، وأوقفت الحكومة الروسية الصادرات، وتعد روسيا وبيلاروسيا -وهما الحليفان الوثيقان- منتجين رئيسيين للبوتاس، وهو مكون رئيسي في العديد من الأسمدة، وتؤثر العقوبات على إمدادات البوتاس من كلا البلدين.

كما أن ارتفاع أسعار الطاقة يؤدي إلى ارتفاع تكلفة إنتاج الغذاء، لأن الزراعة والنقل يصبحان أكثر تكلفة، فمنذ بدء الحرب الروسية، قفزت أسعار القمح بنحو 30%، وزيت عباد الشمس ارتفع بحوالي 50%، كما ارتفعت التكلفة العالمية للأسمدة بنسبة 230%، مما ينذر بارتفاع أسعار المواد الغذائية في المستقبل، أو انخفاض الغلة من قبل المزارعين الذين يقللون من استخدام الأسمدة.

ويوضح الكاتب أن الدول المتقدمة ستكون قادرة على استيعاب ارتفاع الأسعار وإيجاد حلول بديلة، مثل مصادر جديدة للأغذية المطلوبة، أما الدول النامية فسوف تعاني أكثر.

ويقدر تقرير جديد صادر عن مجموعة “أوراسيا والإستراتيجيات المستدامة” (DevryBV) أن حرب أوكرانيا وحدها يمكن أن تزيد عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بمقدار 101 مليون بحلول نهاية عام 2022، وقد يرتفع عدد الذين يعيشون في فقر مدقع بما يصل إلى 201 مليون، وستكون التأثيرات أسوأ في أجزاء من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، التي تحصل على الكثير من الأغذية الضرورية من أوكرانيا وروسيا.

ويمكن للمنتجين الآخرين في النهاية تعويض الإمدادات الغذائية، وكما تعلمنا من جائحة “كوفيد-19″، لا يمكن إعادة تكوين سلاسل التوريد التي تم بناؤها على مدى عقود في غضون شهر. وبعض البلدان محظوظة بما يكفي لامتلاك إمدادات داخلية يمكنها الاستفادة منها، لكن الكثير منها يعتمد على الغذاء من أماكن أخرى.

ونقل نيومان عن سارة تابر مستشارة المحاصيل في مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy)‏ قولها في أبريل/نيسان الماضي “المشكلة ليست في نقص القمح، إنه نقص في السفن الكافية لتحريكها ونقص الأموال لشرائها”.

تجدر الإشارة إلى أن رئيس برنامج الغذاء العالمي ديفيد بيزلي، قال إن غلق روسيا موانئ جنوب أوكرانيا وعرقلة صادرات الحبوب وغيرها من المنتجات الزراعية القادمة منها، سيكون بمثابة “إعلان حرب على الأمن الغذائي العالمي، وسيؤدي إلى مجاعة وزعزعة الاستقرار، وهجرة جماعية حول العالم”.

وشدد بيزلي على أن “الأمن الغذائي أمر بالغ الأهمية لتحقيق السلام والاستقرار” على الصعيد العالمي، في الوقت الذي يكافح فيه 276 مليون شخص للعثور على الغذاء، و49 مليونًا في 43 دولة “على شفا المجاعة”، بحسب ما نقل موقع مودرن دبلوماسي.

وأضاف أن توافر الغذاء سيكون مصدر القلق الأكبر في عام 2023، وشدد على أهمية زيادة الإنتاج وفتح موانئ أوكرانيا وإفراغ صوامعها لتحقيق الاستقرار داخل الأسواق ومعالجة أزمة الغذاء العالمية.

أما الأمين العام للأمم المتحدة، فقال إن الحرب في أوكرانيا الآن تضيف بعدًا جديدًا ومرعبًا إلى حالة الجوع العالمية الحالية، حيث أدت إلى انخفاض هائل في صادرات المواد الغذائية، وزيادة أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة تصل إلى 30%، مما يهدد الناس في بلدان أفريقيا والشرق الأوسط.

زعزعة الاستقرار

وقد لا تمانع روسيا في أن تتسبب وحشيتها في أوكرانيا في حدوث صعوبات في جميع أنحاء العالم، وقال روديغر فون فريتش -الذي قضى عقدا من الزمن سفيرا لألمانيا في بولندا ثم روسيا- لمجلة “دير شبيغل” (Der Spiegel) الألمانية مؤخرا إن “حسابات بوتين هي أنه بعد انهيار إمدادات الحبوب، سوف يفر الأشخاص الجائعون من هذه المناطق ويحاولون الوصول إلى أوروبا، إنه يريد زعزعة استقرار أوروبا بتدفقات جديدة من اللاجئين وتكثيف الضغط السياسي حتى تتخلى الدول الغربية عن موقفها المتشدد ضد روسيا، هذه هي حربه الهجينة الجديدة”.

وسيكون ذلك مماثلا للإستراتيجية التي اتبعتها روسيا بعد دعمها للحكومة السورية في الحرب الأهلية هناك، والتي أدت إلى فرار أكثر من 13 مليون لاجئ إلى أوروبا وأماكن أخرى.

الشحن والنقل

وتسبب “كوفيد-19” في تعقيد الممرات البحرية في العالم، وتتسبب النزعة العسكرية الروسية الآن في تعقيدات إضافية، فحوالي 11% من القوى العاملة في مجال الشحن البحري العالمي من روسيا، و4% من أوكرانيا.

وقد تتسبب العقوبات والالتزامات المحتملة في زمن الحرب في نقص العمال وتفاقم ازدحام الموانئ في بعض المناطق، وجزء كبير من البحر الأسود محظور على الشحن التجاري، وبالنظر إلى الحصار الروسي لأوكرانيا وإحجام شركات التأمين عن كتابة سياسات للطرق في أي مكان بالقرب من منطقة حرب؛ لا تزال خطوط الشحن تشحن البضائع غير الخاضعة للعقوبات داخل وخارج روسيا للوفاء بالعقود، لكن معظمها يشير إلى أنها ستتوقف عن الشحن بمجرد انتهاء صلاحية العقود، وسيؤدي ذلك إلى الإضرار بروسيا، لكنه سيسبب اضطرابات في أماكن أخرى أيضا.

ومن الواضح أن نتائج حرب روسيا في أوكرانيا لا يمكن التنبؤ بها، ويمكن أن تنتهي بشكل غير متوقع إذا أطاح شخص ما ببوتين أو حققت أوكرانيا سلسلة من النجاحات في ساحة المعركة التي تبدو بعيدة المنال في الوقت الحالي.

وفي يوم من الأيام، قد تتمتع الأسواق بارتفاع هائل مع اقتراب طريق السلام، ولكن حتى ذلك الحين، من المرجح أن تنتشر الأضرار الجانبية في الاقتصاد العالمي مع استمرار القتال. وبهذه الطريقة، فإن حرب بوتين ضد أوكرانيا هي حرب ضد الكثير من دول العالم، وفقا للمقال.

المصدر : مواقع إلكترونية + مودرن دبلوماسي

————————-

لماذا يتفهّم الشرق الأوسط بوتين/ مايكل يونغ

يرى القادة في الشرق الأوسط أن الرئيس الروسي يتعاطى مع النزاع الأوكراني وفقًا للمقاربة نفسها التي كانوا ليتّبعوها لو واجهوا وضعًا مماثلًا.

لا يودّ المرء الوقوع في الحتمية الثقافية، لكن النزاع الأوكراني سلّط الضوء على المفاهيم المختلفة جدًّا للقوة والنصر في البلدان الغربية وروسيا. وليس مفاجئًا أن الكثير من الحكومات العربية بدت أكثر مهارةً في فهم منطق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحساباته، من منتقديه الغربيين.

حين قام الروس بغزو أوكرانيا، وقاومهم الأوكرانيون، وكانت مقاومتهم ناجحة في البداية، بدت السردية وكأنّها كُتِبت لفيلم هوليوودي. كان المستضعَف يهزم معتديًا شرّيرًا، وبدا أن نهاية سعيدة تلوح في الأفق. في أواخر نيسان/أبريل، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في اجتماع لوزراء الدفاع: “من الواضح أن أوكرانيا تعتقد أن بإمكانها الفوز، وهذا ما يعتقده أيضًا جميع الحاضرين هنا”. تزامن هذا التصريح مع إعلان أوستن أن روسيا تفشل في غزوها وأن الولايات المتحدة تريد أن ترى الجيش الروسي “ضعيفًا بحيث لا يمكنه القيام بالأمور التي أقدم عليها في اجتياحه لأوكرانيا”. حتى إن الرئيس جو بايدن ذهب أبعد من ذلك، مشدّدًا على أن بوتين “لا يمكنه البقاء في السلطة”.

أما اليوم، فتبدو الأمور مختلفة إلى حدٍّ كبير، إذ تحقّق القوات الروسية مكاسب كبرى في شرق أوكرانيا وتعاني الاقتصادات الغربية من ارتفاع أسعار النفط والغاز، الأمر الذي يعود بالفائدة على روسيا. وقد صرّح بايدن، في محاولة واضحة لإبعاد الملامة عنه، أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي “لم يرد أن يسمع” في مطلع العام الجاري أن روسيا على وشك أن تغزو بلاده. لقد كان التلميح الضمني أن زيلينسكي، لو أجرى تقييمًا أفضل للوضع، لسلك ربما مسارًا مختلفًا، وأنقذ أوكرانيا مما تمرّ به الآن. وهذا الكلام بعيدٌ كل البعد عن مقارنة زيلينسكي بوينستون تشرشل في الأسابيع الأولى للنزاع. فالبلدان الغربية تشكّك الآن في احتمال أن تخرج أوكرانيا منتصرةً، في ظلّ تعمّق الانقسام بينها حول الخطوات اللاحقة. وعلى الرغم من كل ما قيل عن جنون بوتين، روسيا هي التي تنتصر.

مما لا شك فيه أن روسيا ستعاني لوقت طويل بسبب العقوبات الغربية. لكن بوتين مستعدٌّ لدفع هذا الثمن ولطالما كان مستعدًّا لدفعه إذا كان البديل هو هزيمة بلاده في أوكرانيا. الوقت كفيلٌ بأن يحسم إذا سينجح الروس في الاحتفاظ بسيطرتهم على شرق أوكرانيا، ولكن في الوقت الراهن، وطّدت روسيا قدرتها على الوصول إلى القرم، وحرمت أوكرانيا من منطقتها الصناعية، وجعلت الغرب يدرك أن جزءًا كبيرًا من أوكرانيا سيبقى على الأرجح تحت سيطرة موسكو، وأظهرت كذلك للأوكرانيين أن ثمة حدودًا حقيقية للخطوات التي يمكن أن يقدم عليها الغرب لمساعدتهم في الدفاع عن أنفسهم.

من وجهة نظر عربية، قد يبدو ذلك كلّه مألوفًا. فما تعتبره البلدان الغربية معايير للنصر والهزيمة في الحرب يكاد يكون في معظم الأحيان غير ذي قيمة في الشرق الأوسط. لا يتمثّل النصر عادةً في فرض القوة بشكل فعّال، حتى لو كان ذلك مهمًا، بل يتمثّل في الصمود بوجه عدوٍّ أقوى. فقد نجح حزب الله نوعًا ما بتصوير حربه ضد إسرائيل في العام 2016 بأنها “نصر” سُجِّل له، على الرغم من أنها لم تستوفِ أيًّا من المعايير الكلاسيكية التي كان المسؤولون الغربيون ليستخدموها من أجل تعريف النصر. كذلك، تخضع إيران للعقوبات الأميركية منذ عقود، ما يسبّب لها معاناة كبيرة، لكنها لم تبدّل سلوكها، بل ازدادت تمسّكًا بموقفها وحققت مكاسب كبرى في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. لا يعتبر قادة إيران أن النصر يقوم على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر فحسب، بل أيضًا على مواصلة المسار الإيديولوجي.

ينطبق الأمر نفسه إلى حدٍّ كبير على روسيا في مواجهة عالمٍ غربي أقوى. حين يقول القادة الغربيون إن الروس سيشعرون بوطأة المعاناة وينقلبون على بوتين، يبدون وكأنهم يعيشون في فقّاعة. لا شك أن الرئيس الروسي ليس مسرورًا برؤية مجتمعه يزداد استياءً، لكن الأمر الوحيد الذي سيراقبه هو ما إذا سيهدّد ذلك سلطته. لقد اعتمد القادة في العالم العربي – بدءًا من سورية ومرورًا بلبنان والسودان ووصولًا إلى مصر والجزائر – سلوكًا مماثلًا حين شعرت الأوليغارشيات الحاكمة بالضعف. يُجري المسؤولون الغربيون انتخابات ديمقراطية، لكن بإمكان الأنظمة السلطوية في العالم العربي وروسيا أن تلجأ دومًا إلى التلاعب بنتائج الانتخابات، وإلى العنف، في حال خسرت قبضتها مؤقتًا.

الأمر الذي لن يتعاطف معه القادة العرب هو قراءة الأوكرانيين غير المرنة للخيارات المتاحة أمامهم. في لحظة معيّنة، كان بإمكان زيلينسكي أن يلعب لعبة البقاء، ما يتيح له هامشًا للمناورة. في شباط/فبراير الماضي، توجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى موسكو وكييف للتفاوض على حلٍّ للأزمة المتفاقمة. وعلى متن الرحلة إلى روسيا، طرح ماكرون فكرة أن أوكرانيا قد تنظر في ترتيبٍ مشابه لنموذج “الفَنْلَندة” (Finlandization)، كسبيل للخروج من المأزق، وتعرّض للانتقادات بسبب كلامه هذا. لكن، هل كان ماكرون على خطأ؟ ينظر الفنلنديون إلى “الفَنْلَندة” بامتعاض، متذكّرين حين كانت سيادتهم منقوصة بسبب موقع بلادهم في جوار الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. لكن فنلندا بقيت حرّة، وظلّت أيضًا جزءًا من أوروبا الغربية.

أجاب زميلي السابق ديميتري ترينين، حين سُئِل في مقابلة مع “ديوان” عن إمكانية تطبيق نموذج “الفَنْلَندة” في أوكرانيا، أن البلاد تواجه خيارًا قاسيًا: “علينا ببساطة معاينة الوضع الجيوسياسي والاستراتيجي الفعلي لأوكرانيا. فقد أوضح الرئيس الأميركي جو بايدن أن الولايات المتحدة لن تدافع عن أوكرانيا، حتى في حال تعرّضت إلى الغزو واحتُلَّت أراضيها”. بعبارة أخرى، حين يوشك عدوٌّ أقوى منك على شنّ هجوم عليك، قد يكون التصرّف الأمثل في هذه الحالة إبرام صفقة للحفاظ على ما لديك.

لا شكّ أن الكثير من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تدرك جيّدًا حدود سيادتها، وتتكيّف مع ذلك في الكثير من الأحيان. بقي لبنان لفترة طويلة رازحًا تحت نفوذ سوريا، والآن إيران. ومع أن شرائح من اللبنانيين قاومت ذلك في مراحل مختلفة، يشكّل هذا الأمر واقعًا قَبِل معظم الناس التعايش معه. وقد تمتّعت السعودية بنفوذ كبير في اليمن لفترة طويل، إلى أن وطّدت إيران دورها في البلاد. واليوم، تمارس طهران تأثيرًا في العراق وسورية، فيما تسيطر تركيا على مناطق شاسعة في شمال سورية، وقد تسعى قريبًا إلى توسيع دائرة نفوذها هناك بشكل أكبر. وبالمثل، لطالما كان لمصر دورٌ نشط في السودان.

واقع الحال أن السيادة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تزال ملتبسة وغير واضحة المعالم. هذا الوضع ليس مثاليًا إطلاقًا، لكن دول المنطقة اضطرّت للتكيّف معه، وإن كان ذلك لمجرّد كسب الوقت بانتظار حلول وضع أفضل. لو أن أوكرانيا أخّرت الغزو الروسي بالوسائل الدبلوماسية والمساومة بشأن اتفاقيات مينسك، لكان بإمكانها ربما تفادي الهجوم الروسي واستخدام هذه المهلة لتعزيز قوتها. بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1990، فرضت دمشق مجموعة من الاتفاقيات التي شكّلت عبئًا على لبنان. لكن الوضع انقلب بشكل حاسم في العام 2005، حين أرغمت المظاهرات الحاشدة المعادية لسورية بعد اغتيال رفيق الحريري السوريين على سحب قواتهم من لبنان.

إن الدفاع عن مبادئ مثل الحرية والسيادة أمرٌ مفهوم. وهذه مبادئ مهمة، لكن فقط إذا كان من الممكن الدفاع عنها. أما إذا لم يكن ذلك ممكنًا، فالتعنّت الانتحاري في المقاومة ليس دائمًا البديل الأمثل. فدمار أوكرانيا قد يدفع كثيرين إلى إعادة النظر بسردية المواجهة البطولية التي سادت خلال الأسابيع الأولى من الغزو. وقد تبدأ خطابات زيلينسكي “التشرشلية” بإثارة الامتعاض إذا كان الثمن الذي يجب تكبّده هو خراب أوكرانيا، والهجرة الجماعية، والإفقار الاقتصادي. وغالبًا ما يكنّ التاريخ اعتبارًا لأولئك الذين يتجنّبون الانجراف وراء انفعالات اللحظة، ويفضّلون التريّث لبلوغ فهم طويل الأمد لما من شأنه تحقيق المصلحة الوطنية العليا.

لعلّ الدول العربية يقودها حكّام سلطويّون عتاة وفاشلون، لكن هؤلاء أثبتوا أنهم يتقنون فنّ البقاء. فحين يتعلق الأمر بفرض سطوتهم، لم تؤرقهم العوامل التي تردع نظراءهم الغربيين. لهذا السبب، امتنعوا إلى حدٍّ كبير عن إدانة الرئيس الروسي الذي يبدو أنهم باتوا يعتبرونه واحدًا منهم.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

——————————-

شبح المجاعة يهدد العالم.. الغرب يواجه “خيارا صعبا” وبوتين “يتبنى” الأزمة

قالت صحيفة نيويورك تايمز في تحليل إن الدول الغربية تواجه “خيارا صعبا” بشأن العقوبات المفروضة على روسيا مع تفاقم أزمة الغذاء العالمية والتهديد بحدوث مجاعات.

وتشير إلى أن أحدث تقرير للبنك الدولي عن الآفاق الاقتصادية العالمية يقول إن ما يقرب من نصف سكان البلدان المنخفضة الدخل يواجهون نقصا في الغذاء، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى اضطرابات اجتماعية.

وقال ديفيد ماليباس، رئيس البنك الدولي، إن “هناك خطرا شديدا من سوء التغذية وتعميق الجوع وحتى المجاعة في بعض المناطق”.

وتقول صحيفة نيويورك تايمز إن غالبية سكان الدول ذات الاقتصاديات الناشئة ينفقون الجزء الأكبر من ميزانياتهم اليومية على الغذاء، وهذه النفقات آخذة في الارتفاع بسبب عدة عوامل أهمها الحرب في أوكرانيا.

ووفقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية في مايو بنحو 30 في المئة عن العام السابق، مدفوعة بارتفاع أسعار الحبوب واللحوم.

وبينما تفكر الولايات المتحدة وأوروبا في فرض عقبوات جديدة لحرمان روسيا من الإيرادات التي تمول حربها في أوكرانيا، هناك قلق متزايد من أن تداعيات ذلك ستغذي مشكلة جوع مقلقة في جميع أنحاء العالم لن يتم حلها بسهولة.

ويسعى صانعو السياسات إلى وضع خطط لفتح سلاسل توريد وتوفير التمويل الغذائي للبلدان النامية، لكن الجمع بين ارتفاع تكاليف الطاقة وتقييد الصادرات من روسيا وأوكرانيا يهدد بعض السكان الأكثر ضعفا في جميع أنحاء العالم.

وفي اليمن، ارتفع سعر الخبز بنسبة 35 في المئة في الأسبوع الذي غزت فيه روسيا أوكرانيا، وفقا للصحيفة، بينما أوقفت مطاحن القمح التي تفتقر إلى الحبوب في لبنان عملياتها في الأشهر الأخيرة، ما أجبر المخابز على الإغلاق.

بوتين “يستثمر” الأزمة

وتشير الصحيفة إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تبنى الأزمة وفاقمها، بعد أن منع تصدير الغذاء والحبوب من المنطقة واستخدم النقص وسيلة للضغط من أجل إلغاء العقوبات الغربية.

ورفض مسؤولون كبار من الولايات المتحدة وأوروبا حتى الآن تخفيف العقوبات، بينما يدرسون كيفية تمديد العقوبات دون توسيع الأضرار التي قد تحدث نتيجة لها.

وقال أليكس زيردين، المسؤول السابق بوزارة الخزانة في إدارتي أوباما وترامب: “إن احتجاز روسيا للإمدادات الغذائية رهينة أمر يستحق اللوم… حقيقة أنهم يسعون إلى التفاوض بشأن تخفيف العقوبات للسماح ببعض صادرات الحبوب يظهر أن روسيا يمكنها بشكل أحادي توسيع الإمدادات الغذائية العالمية لمساعدة أولئك الأكثر عرضة للخطر”.

وتقول الصحيفة إن ارتفاع أسعار الأسمدة يوسع نطاق نقص الغذاء لأنه يزيد تكلفة إنتاج ونقل الأغذية في جميع أنحاء العالم.

وقال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش: “بدون أسمدة، سينتشر النقص من الذرة والقمح إلى جميع المحاصيل الأساسية، بما في ذلك الأرز، مع تأثير مدمر على مليارات الأشخاص في آسيا وأميركا الجنوبية أيضا”.

وفرضت بلدان مثل إندونيسيا وماليزيا والهند قيودا على صادرات زيت الطهي والقمح والدجاج لحماية أسواقها المحلية.

وسن الاتحاد الأوروبي تشريعات هذا الشهر تحظر غالبية واردات النفط الروسية. ولتشديد القيود، تقوم أيضا بفرض حظر تدريجي على شركات التأمين البحري على سفن الشحن الروسية، وهي خطوة تهدف إلى إعاقة قدرة روسيا على إعادة توجيه نفطها إلى أجزاء أخرى من العالم.

وحذر مسؤولو وزارة الخزانة الأميركية من مثل هذه الخطوة خوفا من أن تتأثر شحنات المواد الغذائية أيضا.

وإذا أصبحت شركات التأمين حذرة بشكل مفرط بشأن انتهاك العقوبات، فيمكنها الانخراط في ما يسمى “العقوبات الذاتية”، حيث ترفض نقل أي شحنة بسبب مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى وقوعها في ورطة، وفقا للصحيفة.

ولمنع مثل هذا التطور، ذكرت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، شركات الزراعة والشحن بأن العقوبات الأميركية لا تمنعها من شراء الأسمدة الروسية ونقلها.

وقالت وزيرة الخزانة، جانيت يلين، في أبريل إن الولايات المتحدة تقوم بصياغة عقوباتها مع وضع الإمدادات الغذائية العالمية في الاعتبار.

وفي قمة للاتحاد الأوروبي في أواخر مايو، حذر ماكي سال، رئيس الاتحاد الأفريقي، المسؤولين من أن قطع البنوك الروسية الكبرى عن نظام “سويفت” الدولي للتحويلات المالية يعوق قدرة الدول الأفريقية على شراء الأغذية والأسمدة الروسية.

ومع استمرار الحرب في أوكرانيا وتفاقم نقص الغذاء، من المرجح أن يشتد الجدل حول ما إذا كان ينبغي أن يكون هناك تخفيف لبعض العقوبات على الطاولة إذا كان من شأن ذلك تجنب المجاعة.

وقال إيان ميتشل، من مركز التنمية العالمية، إن أوكرانيا أصبحت نقطة جذب عالمية للمساعدات الإنسانية على حساب البلدان منخفضة الدخل في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا الوسطى التي تواجه بالفعل انعداما في الأمن الغذائي ويجب عليها الآن التعامل مع ارتفاع الأسعار. وقال إن تخفيف العقوبات ينبغي أن يكون مطروحا على الطاولة.

وتعهد البنك الدولي باستثمار 12 مليار دولار في مشاريع جديدة على مدى الأشهر الـ 15 المقبلة لدعم المزارعين وتسهيل التجارة، وتعهدت العديد من المؤسسات المالية الدولية الكبرى في العالم بطرح خطط للمساعدات والتمويل للمساعدة في تخفيف نقص الغذاء.

الحرة / ترجمات – واشنطن

—————————

كيف ستفوز أوكرانيا؟/ دميترو كوليبا

لنتحدث عن استراتيجية معينة إذا اتبعتها كييف فستنتصر على موسكو

مع دخول العدوان الروسي الشامل على أوكرانيا شهره الرابع تتصاعد الدعوات إلى عقد صفقات خطرة، فمع تزايد الشعور العام بالتعب وتشتت الانتباه يقترح مزيد ومزيد من المعلقين الميالين إلى الكرملين التضحية بأوكرانيا بهدف تحقيق السلام والاستقرار الاقتصادي في بلدانهم. وعلى الرغم من أنهم قد يظهرون بمظهر المسالمين أو الواقعيين إلا أنه سيكون من الأفضل فهمهم على أنهم عناصر تمكين للإمبريالية الروسية وجرائم الحرب.

ومن الطبيعي أن تفقد الشعوب والحكومات اهتمامها بالنزاعات متى طال أمدها، وقد سجل التاريخ على امتداد مساره حالات مماثلة عدة، ففي عام 2011 توقف العالم عن الاهتمام بتفاصيل الحرب في ليبيا بعد الإطاحة بزعيمها السابق معمر القذافي، وينسحب الأمر على سوريا واليمن وغيرهما من الصراعات المستمرة التي اعتادت تصدر الصفحات الأولى في الأخبار.

وعلى حد علمي فإن بقية العالم فقد اهتمامه بأوكرانيا بعد عام 2015، مع أننا لم نتوقف يوماً عن محاربة القوات الروسية التي تحاول بسط سيطرتها على الجزء الشرقي من البلاد.

لكن الغزو الروسي الحالي أخطر بكثير من الغزو السابق ولا يمكن للعالم أن يشيح بنظره، إذ لن يكتفي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاستيلاء على مزيد من الأراضي الأوكرانية، ولا تتوقف طموحاته لا عند حد إحكام قبضته على أوكرانيا ككل، بل تتعداها لتشمل اجتثاث الأمة الأوكرانية ومسح شعبنا عن الخريطة، سواء بذبحنا أو بتدمير المعالم المميزة لهويتنا. بكلام آخر، بوتين عازم على تنفيذ حملة إبادة جماعية.

ومن أجل تلافي الشعور بالسأم من الحرب والوقوع ضحية روايات مضللة يجب أن يفهم الغرب على وجه الدقة السبيل الذي يمكن أن يحقق لأوكرانيا النصر ويقدم لنا الدعم اللازم على أساس ذلك، وبالنسبة إلينا فهذه الحرب هي حرب وجودية ولدينا دافع للمضي قدماً بها، ولو تمكنت قواتنا من الحصول على الأسلحة اللازمة فسيكون المجال مفتوحاً أمامها لدحر قوات بوتين المنهكة بالفعل بعد أن تصل إلى نقطة الانهيار.

أعتقد أن بإمكاننا شن هجوم مضاد على القوات الروسية في جنوب أوكرانيا وشرقيها على حد سواء مع الضغط على بوتين كي يختار بينهما، ولكن كي يكتب لهذا الهجوم النجاح على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين تزويد بلادنا سريعاً بالكميات المناسبة من الأسلحة الثقيلة المتقدمة، وعليهم كذلك مواصلة فرض العقوبات على روسيا وتشديدها، والأهم من ذلك عليهم تجاهل الدعوات المطالبة بتسويات دبلوماسية من شأنها أن تساعد بوتين قبل أن يقدم تنازلات جادة.

وقد يتهيأ لبعضهم في الخارج أن التسوية مع روسيا أمر مغر، لا سيما مع ارتفاع كلف الحرب، لكن الانصياع لعدوان بوتين يصب في مصلحته وسيساعده في التسبب بمزيد من التدمير لأمتنا، ومن شأن ذلك أيضاً أن يشجع حكومته على تنفيذ هجمات في أماكن أخرى من العالم مما يسمح له بإعادة صياغة قواعد النظام العالمي.

وفي ما يتعلق بنهجه في المحادثات فمن الممكن أن يتغير. أتصور أننا لو نجحنا في دفع القوات الروسية بعيداً بما فيه الكفاية فسيجد بوتين نفسه مضطراً للجلوس إلى طاولة المفاوضات والتعاطي بحسن نية. في المقابل، إن تحقيق ذلك يستوجب من الغرب التحلي بالصبر والتفاني في سبيل تأمين حاصل واحد يتمثل في تحقيق انتصار أوكراني شامل وكامل.

لن نتراجع

منذ اللحظة التي بدأت فيها القوات الروسية بالتدفق عبر حدود أوكرانيا دعا بعض المعلقين الغربيين إلى التوصل لحل وسط مع موسكو، ونحن معتادون على هذه الأنواع من الاقتراحات وقد سمعنا بها مراراً وتكراراً بين 2014 و2022، لكن حرب اليوم تختلف عن الحرب التي اندلعت قبل فبراير (شباط)، وفي الأسابيع الأخيرة بدأت هذه الدعوات تردنا من نخب بارزة في مجال السياسة الخارجية، ففي أوائل يونيو (حزيران) صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للصحافيين أنه “ينبغي على ]الغرب[ ألا يذل روسيا” حتى يتاح لها إمكان “بناء منحدر للخروج” من الحرب، وكذلك ذهب وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إلى أبعد من ذلك.

وفي سياق الكلمة التي ألقاها كيسنجر في “المنتدى الاقتصادي العالمي” في مايو (أيار) أشار بالفم الملآن إلى أنه ينبغي على أوكرانيا أن تتنازل عن الأراضي لروسيا مقابل السلام.

وبرأيي، تستند هذه التصريحات إلى الفرضية القائلة بأن الأوكرانيين حتى لو قاتلوا بشكل جيد فإنهم غير قادرين على إلحاق الهزيمة بقوات موسكو، لكن هذه الفرضية عارية من الصحة، وقد برهنت أوكرانيا عن قوتها وقدرتها على المواجهة بإحرازها انتصارات مهمة في معارك “تشيرنيهي” و”خاركيف” و”كييف” و”سومي”، ضاربة عرض الحائط بمخطط بوتين لخوض حرب خاطفة.

صحيح أن كسب هذه المعارك كلف الأوكرانيين ثمناً باهظاً، لكننا كنا سندفع ثمناً أشد فداحة بكثير لو أننا خسرناها. نحن نعلم جيداً ما الذي يعنيه النصر الروسي بالنسبة إلى قرانا وبلداتنا. انظروا مثلاً إلى مدينة “بوتشا” التي تحولت إلى مقبرة لمئات الأوكرانيين الذين قتلوا بوحشية على يد القوات الروسية المحتلة في مارس (آذار) 2022.

للأسف، تؤدي إمبريالية بوتين المريضة إلى إلزام موسكو بالحرب على الرغم من ارتفاع كلفتها بشكل صادم، وقد فقدت روسيا بالفعل ثلاثة أضعاف عدد الجنود الذين خسرهم الاتحاد السوفياتي طوال فترة وجوده في أفغانستان التي دامت عقداً من الزمن.

وعلى الرغم من ذلك تستمر موسكو في التضحية بقواتها من أجل الاستيلاء على المنطقتين الشرقيتين “دونيتسك” و”لوهانسك” (المعروفتين معاً بإقليم دونباس) وإبقاء جنوب أوكرانيا تحت سيطرتها، ومن المحتمل أن تمتد حصيلة الوفيات قريباً إلى ما هو أبعد من حدود روسيا وأوكرانيا وحتى أوروبا، وكذلك فإن الحصار الذي يفرضه بوتين على صادرات الحبوب الأوكرانية للضغط على الغرب من أجل رفع العقوبات عن بلاده قد يتسبب في تفشي المجاعة في جميع أنحاء العالم النامي.

وعلى الرغم من هذه المجزرة يبدو الرئيس الروسي في مزاج جيد، ووفقاً للقادة الذين تحدثوا إليه أخيراً فإن بوتين متأكد من أن “عمليته الخاصة”، وفق ما أخبر أحد القادة الأوروبيين، “ستحقق أهدافها”، وليس من الصعب علينا معرفة السبب في ذلك، فبعد نجاح الغزاة الروس في التقدم في “دونباس” باستخدام قصف مدفعي شامل بدأ بوتين في مقارنة نفسه ببطرس الأكبر الذي هو على الأغلب أشهر فاتح في تاريخ الإمبراطورية الروسية.

وإذا كان هذا هو السبب فعلاً فما جاء على لسان بوتين إذاً هو كلام مشؤوم كونه يلمح إلى احتمال عدم اكتفاء القيصر بالاستحواذ على “دونباس” أو حتى أوكرانيا كاملة.

ولا شك في أن الطريقة الأكثر فعالية لوضع حد لخطط بوتين التوسعية تتمثل في وقف تقدمه شرق أوكرانيا قبل أن يتمكن من المضي أبعد من ذلك، وطرد قواته المحتلة من جنوب أوكرانيا التي ينوي ضمها إلى روسيا، وهذا يستدعي مساعدة أوكرانيا في هزيمة بوتين على ساحة المعركة، وقد اتخذت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بعض القرارات غير المسبوقة بغية إعانتنا على إنجاز هذه المهمة، وفي مقدمها إحياء برنامج إعارة وتأجير تاريخي يسهل على الولايات المتحدة مد أوكرانيا بالأسلحة، وتلبية مناشدات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بإعطائنا أربعة أنظمة صاروخية متعددة الإطلاق في مايو (أيار) 2022.

يذكر أن نظيري وصديقي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن شارك بفعالية في صياغة هذه القرارات، شأنه شأن القادة العسكريين الأوكرانيين الذين كانوا على اتصال مباشر بوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن والجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، وهو من كبار الداعمين لقضيتنا.

وما برحت هذه المساعدة خطوة أولى حاسمة ونحن ممتنون لها، لكننا نتمنى لو أنها وصلتنا في وقت أبكر وفيما كانت لا تزال الحوادث في بداياتها.

لقد حان الآن الوقت كي تتحول القرارات السياسية إلى أفعال حقيقية قادرة على تغيير قواعد اللعبة، وبما أن المدفعية الروسية تتفوق على مدفعيتنا بواقع واحد إلى 15 عند أكثر المحاور أهمية على خط المواجهة، فإن إمدادنا بعدد قليل من أنظمة الصواريخ الأميركية لن يكفي لمنحنا الغلبة في نهاية المطاف.

نحن بحاجة ماسة إلى مزيد من الأسلحة الثقيلة من جهات مختلفة كي نقلب الموازين لمصلحتنا، وكذلك بغية إنقاذ الأرواح، وتتمثل أكثر حاجاتنا إلحاحاً في مئات من أنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة وقطع مدفعية مختلفة من عيار 155 مليمتر، إذ ستتيح لنا هذه الأنواع من الأسلحة قمع المدفعية الروسية، لكن وقف المدفعية ليس الشغل الشاغل الوحيد لأوكرانيا، وكي ننجح في تنفيذ هجمات مضادة فعالة فنحن بحاجة أيضاً إلى صواريخ مضادة للسفن ودبابات ومدرعات ودفاع جوي وطائرات مقاتلة.

باختصار، نحن بأمس الحاجة إلى أسلحة تثبت أن الغرب ملتزم بمساعدتنا في تحقيق فوز فعلي، وليس مجرد تلافي خسارة محتمة.

لنعش أحراراً أو نمت أبطالاً

منذ بداية الغزو سعت أوكرانيا مرات عدة للتوصل إلى تسوية دبلوماسية مع روسيا، لكن بوتين رفض المضي قدماً بأي محادثات ذات مغزى ظناً منه أن الدعم الغربي لأوكرانيا سيتضاءل مع استمرار القتال، وأن شعور الإرهاق سيفرض نفسه على الأطراف كافة بعد أشهر من حرب شاملة، وفي المقابل لأن الدافع الرئيس للحرب الروسية الحالية يتمثل في الإبادة الجماعية، لم يكن بوسع أوكرانيا والغرب بأسره الموافقة ببساطة على مطالب موسكو، فقبل يومين من الغزو صرح بوتين أن وجود أوكرانيا بحد ذاته خطأ وأن الاتحاد السوفياتي “خلق” أوكرانيا من طريق رسم حدود عرضية على الخريطة، ولهذا يجب أن يمحى كل أثر لها، ومن وجهة نظره فعلى الأوكرانيين أن يختاروا إما الانضمام إلى روسيا وإما الموت قتلاً.

ولم يخلف بوتين بهذا الوعد أبداً، فبعد دخول قواته الأراضي الأوكرانية عنوة، راحوا يطرقون أبواب المنازل بحثاً عمن وردت أسماؤهم في قوائم القتل التي أعدها لهم “جهاز الأمن الفيدرالي”، وبعدما عذبوا وأعدموا الأشخاص الذين يدرسون لغة أوكرانيا وتاريخها ونشطاء المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان والجنود الأوكرانيين السابقين والسلطات المحلية وكثير غيرهم، غيروا لافتات الطرق من الأوكرانية إلى الروسية ودمروا الآثار الأوكرانية وحظروا التلفزيون الأوكراني ومنعوا استخدام اللغة الأوكرانية في المدارس.

ونحن في أوكرانيا لم نتفاجأ بهذه الحملة الوحشية فمعرفتنا عميقة بروسيا، وقد شهدنا على مدى قرون طويلة المثقفين الروس ووسائل الإعلام الخاضعة للدولة الروسية وهم يحرضون على الكراهية تجاه أمتنا، وكذلك شهدنا عدائية موسكو أثناء تمددها إلى ما وراء حدودنا مع إدانة وسائل الإعلام الروسية بشكل روتيني دول الغرب عموماً والدول المجاورة الأخرى خصوصاً، ومجموعة منوعة من الأقليات، لا سيما اليهود وأفراد مجتمع “الميم”، ويظهر أن النخبة السياسية الروسية تكن كراهية عامة وعميقة للآخرين، وليست هذه الكراهية سوى سبب آخر لعدم تجرؤ الغرب على رفع الراية البيضاء.

إن إحراز موسكو نصراً عسكرياً لن يتيح مجرد تعذيب واغتصاب وقتل آلاف الأوكرانيين الأبرياء الآخرين وحسب، بل سوف يقوض القيم الليبرالية كذلك ويفتح ذلك الأمر المجال أمام روسيا لتهديد أوروبا الوسطى ثم العالم الغربي بكامله. صدقوا أو لا تصدقوا، لا يوجد شيء أكثر خطورة على الاتحاد الأوروبي وحلف الـ “ناتو” من وجود روسيا أكثر جرأة أو وكيل موال لروسيا في مواقع إضافية على طول حدودها الشرقية.

ولحسن حظ أوروبا والولايات المتحدة أن أوكرانيا تقاتل هذه القوة الظلامية، وكييف على أهبة الاستعداد لمواصلة مهمتها حتى الفوز، لكن الحقيقة أننا عاجزون عن الفوز بمفردنا ولا بد من أن يفهم الغرب فداحة الأخطار والتداعيات التي قد تترتب على فشلنا، وإذا ما خسرنا الحرب فستختفي أوكرانيا من على وجه البسيطة ولن يعود هناك ازدهار أو أمن في أوروبا.

من سيء إلى أسوأ

من غير المنطقي التلميح إلى أن أوكرانيا قد تضحي بشعبها وأراضيها وسيادتها في مقابل سلام مفترض، أو اعتبار أن هذه الدعوات الأخيرة للتوصل إلى تسوية تشكل مجرد نتيجة ثانوية للإرهاق المتزايد، وأثناء حديثي مع عدد من صناع القرار في الدول الأفريقية والعربية والآسيوية، لاحظت أن بعضهم بدأ كلامه بالتأكيد على دعمه لقضيتنا كي يسارع بعدها إلى التعبير عن موقف أكثر جرأة، مقترحاً علينا بكل أدب ولباقة التوقف عن المقاومة، وصحيح أن ما اقترحه هؤلاء هو أمر مرفوض وغير وارد بالنسبة إلينا، لكن منطقهم بسيط، إذ إنهم يريدون شحنات الحبوب المكدسة في موانئنا جراء الحصار البحري الروسي، وهم على استعداد تام للتضحية باستقلال أوكرانيا من أجل الحصول عليها، وثمة صناع سياسة آخرين يبيعون ويشترون في التنازلات، فقد أعربوا عن مخاوفهم من أزمات اقتصادية مماثلة يمكن أن تتسبب بها روسيا، من قبيل الارتفاع الحاد في التضخم وأسعار الطاقة.

وبالتأكيد، يمثل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة مشكلة خطرة، لكن الاستسلام لموسكو ليس هو الحل، بغض النظر عما سيعنيه ذلك للأوكرانيين.

إن روسيا دولة انتقامية ولديها عزم قوي على إعادة تخطيط العالم كله تحت تهديد السلاح، وتدأب موسكو حالياً على محاولة زعزعة استقرار الدول الأفريقية والعربية والآسيوية سواء من خلال جيشها أو عبر وكلائها، وقد نتج من هذه الصراعات أزمات إنسانية لا يمكن إلا أن تزداد سوءاً بخسارة أوكرانيا، أو بالأحرى انتصار موسكو الذي سيحض بوتين أكثر فأكثر على تجاوز كل الحدود وإثارة مزيد من الاضطرابات والكوارث في أنحاء العالم النامي.

ولن يقتصر عدوان بوتين المتزايد على العالم النامي بل سيتعداه إلى السياسات الأميركية والأوروبية التي سيرغب في التدخل فيها بقوة أكبر، وإذا نجح في غزو جنوب أوكرانيا فقد يتوغل إلى أعماق القارة العجوز بوضع اليد على “مولدوفا” الخاضعة في جزء منها لوكلاء روسيا، ويمكنه حتى إشعال أتون حرب جديدة في غرب البلقان، حيث تتطلع النخب الصربية المتزايدة العدائية إلى موسكو كمصدر للإلهام والدعم.

وبناء عليه يتعين على الغرب مساعدة أوكرانيا في كسب الحرب عوضاً عن اقتراح مبادرات سلام بشروط غير مقبولة، ويعني ذلك عدم الاكتفاء بتزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة التي تحتاجها لمحاربة قوات موسكو، بل الإبقاء أيضاً على العقوبات ضد روسيا وتشديدها، والأهم من ذلك تقويض الصادرات الروسية من طريق فرض حظر شامل على الطاقة من روسيا وعرقلة وصول موسكو إلى اقتصاد الشحن البحري الدولية، وقد تبدو الخطوة الأخيرة صعبة التنفيذ لكنها في الحقيقة قابلة للتنفيذ إلى حد كبير، لا سيما أن الاقتصاد الروسي يتسم بتوجه إلى التصدير ويعتمد بدرجة كبيرة على الأساطيل الأجنبية لتسليم بضائعه إلى الخارج، وبالتالي يمكن لهذه الأساطيل أن تتوقف عن خدمة بلاده.

إذاً تعتبر تلك التدابير الاقتصادية مفتاحاً أساساً، فلقد أنهكت العقوبات الاقتصاد الروسي وأعاقت قدرته على مواصلة الحرب، ومع ذلك لا تزال موسكو واثقة من قرارها وبالتالي لا يستطيع الغرب تحمل أي ضعف في العزم بشأن العقوبات، بصرف النظر عن الكلف الاقتصادية الأوسع نطاقاً.

الطريق إلى النصر

على الرغم من الانتصارات التي حققتها أوكرانيا في مرحلة باكرة من الحرب، قد يكون من الصعب على صناع السياسة الغربيين تصور الكيفية التي سنهزم بها القوات الروسية الأكثر عدداً والأفضل تجهيزاً، ولكن طريقنا إلى النصر جلي وبيّن، وإذا حظينا بالدعم الكافي فلا شك سنتمكن من إحباط تقدم روسيا واستعادة مزيد من أراضينا.

فعلى جبهة القتال في الشرق يمكن لأوكرانيا أن تتفوق باستخدام أسلحة ثقيلة أكثر تطوراً مما سيتيح لنا تعطيل غزو موسكو المتداعي في “دونباس” بصورة تدريجية. (قد تتصدر مكاسب الكرملين في هذه المنطقة العناوين، لكن من المهم أن نتذكر أن هذه المكاسب محدودة وقد أسفرت عن خسائر فادحة في صفوف القوات الروسية)، وستأتي اللحظة الحاسمة حين ستستخدم قواتنا المسلحة أنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة التي زودنا بها الغرب لتدمير المدفعية الروسية وقلب الموازين لمصلحة أوكرانيا على طول خط المواجهة، ومن بعدها ستحول قواتنا تركيزها نحو استعادة بعض الأراضي المغصوبة مع إرغام الروس على التقهقر هنا وهناك.

واستطراداً، تشن القوات المسلحة الأوكرانية بالفعل هجمات مضادة في الجنوب، ومن المزمع أن نستخدم أسلحة متطورة لاختراق دفاعات العدو أكثر فأكثر، دافعين بالروس إلى التخلي عن “خيرسون”، المدينة التي تعتبر مفتاح الاستقرار الاستراتيجي في أوكرانيا. وأعتقد أننا لو أحرزنا تقدماً ​​في كل من الجنوب والشرق فسنتمكن من تخيير بوتين بين التخلي عن المدن الجنوبية، بما فيها “خيرسون” و”مليتوبول”، في مقابل الاحتفاظ بجبال “دونباس”، وبين التخلي عن الأراضي المحتلة حديثاً في “دونيتسك” و”لوهانسك” في مقابل إحكام القبضة الروسية على الجنوب.

ومتى وصلنا إلى هذه اللحظة سيمسي بوتين على الأرجح أكثر جدية في شأن مفاوضات وقف إطلاق النار، أما نحن فسنظل ثابتين ومتمسكين بهدفنا المتمثل بدحر القوات الروسية عن أوكرانيا، ولو استمرينا في ممارسة الضغوط في هذا الاتجاه فقد يجد بوتين نفسه مرغماً على القبول بحل تفاوضي يقضي بانسحاب القوات الروسية من جميع الأراضي المحتلة، وقد سبق لبوتين أن سحب قواته من المناطق المحيطة بكييف بعد تعرضها لانتكاسات كافية على يد قواتنا، وإذا ما ازداد جيشنا قوة وتهديداً فسيكون لدى الرئيس الروسي أسباب وجيهة لتكرار تلك الخطوة، وعندئذ سيكون من السهل عليه تقديم التراجع على أنه بادرة حسن نية وخطوة تمهيدية للمفاوضات القادمة بدلاً من أن يبدو التراجع ضرورة محرجة، حتى لو جرت بطريقة منظمة وغير متسرعة، وستكون له حتى فرصة الادعاء بأن “العملية الخاصة” نجحت في تحقيق أهدافها المتمثلة في تجريد أوكرانيا من السلاح وتشويه سمعتها، بغض النظر عما يعنيه ذلك بالنسبة إليه.

وفي هذا السياق، يمكن لإقدام آلة الدعاية الروسية على نشر صور للوحدات والمعدات الأوكرانية المدمرة أن تدعم ادعاء بوتين وتساعده في تكريس الانسحاب دليلاً على معاملته الإنسانية للجنود الروس وخطوة حكيمة باتجاه السلام بوجه عام.

وفي المقابل، فإذا ما تمادى بوتين بتعنته وعناده فستواصل أوكرانيا زحفها نحو “لوهانسك” و”دونيتسك” ولن تتوقف حتى يعرب القيصر عن استعداده للتفاوض بحسن نية أو حتى يصل جيشنا إلى حدود أوكرانيا المعترف بها دولياً ويؤمنها، وسواء اختارت القوات الروسية الانسحاب أو أجبرت عليه فستكون أوكرانيا قادرة على خوض المحادثات مع موسكو من موقع قوة، وسنتمكن من السعي إلى تسوية دبلوماسية عادلة مع روسيا ضعيفة وأكثر إيجابية، وهذا يعني في النهاية أن بوتين سيجبر على الرضوخ للشروط الأوكرانية حتى لو لم يعترف بذلك علانية.

يتحفظ بعض صناع القرار الغربيين إزاء بذل جهد كبير لمساندة أوكرانيا خوفاً من رد فعل بوتين إذا تعرض لهزيمة نكراء في ساحة المعركة، ومن وجهة نظرهم يمكن لوضع مماثل أن يدفع بالرئيس الروسي الحانق والمعزول إلى خوض حملات جديدة من الاعتداءات الدولية، وفيما يسري بين القادة شعور عام بالقلق من أن يصبح بوتين إجمالاً أكثر خطورة وأصعب مراساً، يخشى بعضهم من إمكان استخدامه ترسانة بلاده النووية الهائلة.

في المقابل، إن بوتين ليس انتحارياً ولا أظن أن نصراً أوكرانياً سيفضي إلى حرب نووية، ومن المحتمل جداً أن يكون الكرملين بذاته قد تعمد إثارة هذه المخاوف وتغذيتها لأهداف استراتيجية.

إن بوتين سيد المناورات وأنا واثق تمام الثقة من أن الروس هم الذين يروجون لمخاوف تحذر من تداعيات محاصرة بوتين من أجل إضعاف الدعم الغربي لأوكرانيا، ولا ينبغي للولايات المتحدة وأوروبا الانخداع بترويجات مماثلة، فقد أثبتت لنا التجربة الفعلية أنه كلما تعرض بوتين للفشل فضّل التقليل من أهمية هذا الفشل والتستر عليه بدلاً من مضاعفته، على غرار حدث في موضوع فنلندا والسويد اللتين تقدمتا بطلبين رسميين للانضمام إلى عضوية حلف الـ “ناتو”، ولا شك في أن هذه الخطوة قد شكلت ضربة سياسية موجعة لبوتين الذي ادعى بأنه أغار على أوكرانيا بحجة وقف توسع الحلف، إلا أنها لم تستتبع بأي تصعيد. وعلى العكس من ذلك فقد حرصت الحملات الدعائية الروسية على التقليل من أهميتها، إذ زعم الكرملين أن الانسحاب من كييف، وهو فشل واضح آخر، كان بادرة “حسن نية” لتسهيل المفاوضات، وهذا هو بالتحديد النمط الذي سينطبق على هزيمة أوسع في ساحة المعركة لو حدثت. (وبمعنى آخر ستلعب أجهزة بوتين الدعائية دوراً في التقليل إلى أدنى حد من ردود الفعل المحلية التي قد يواجهها بسبب خسارته في أوكرانيا).

وبدلاً من التركيز على مشاعر بوتين يتوجب على الولايات المتحدة وأوروبا التركيز على الخطوات العملية التي يمكن أن تساعد بها أوكرانيا في تحقيق النصر، على اعتبار أن هذا النصر سيجعل العالم أكثر أماناً وسيستنزف القوات الروسية بحيث لا تعود موسكو قادرة على التدخل في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وغرب البلقان، وكذلك سيؤدي ذلك الانتصار إلى تعميم الاستقرار العالمي من خلال تعزيز القانون الدولي والإثبات للمعتدين المحتملين الآخرين أن الهمجية نهايتها سيئة، ومن هذا المنطلق يتوجب على الغرب أن يعطي كييف ما تحتاج إليه في دفع الغزاة الروس إلى التراجع.

وإضافة إلى ما تقدم فسيكون لالتزام الغرب بدعم أوكرانيا حتى تحقيق النصر فائدة إضافية أخيرة تتمثل في إزالة الغموض الذي يكتنف الاستراتيجيات طويلة الأجل للولايات المتحدة وأوروبا تجاه روسيا.

واستطراداً، فمن شأن زوال ذلك الغموض أن يحفزها [الولايات المتحدة وأوروبا] على المدى الطويل ويساعدها في تجنب الإرهاق من الحرب، ويؤكد لها أن مهمتنا المتمثلة في إضعاف روسيا بشكل ملحوظ، ستمكنها [الولايات المتحدة وأوروبا] وبقية العالم من التفاوض بجدية مع موسكو متواضعة وأكثر إيجابية.

ونحن نتطلع قدماً إلى تحقيق ذلك لأن الديبلوماسية هي مصير كل الحروب، وفي المقابل فإن ساعتها لم تأت بعد، وفي الوقت الحاضر يبدو واضحاً أن الهزائم في ساحة المعركة تشكل طريق بوتين الوحيد إلى طاولة الحوار.

* ديمترو كوليبا هو وزير الخارجية الأوكراني

فورين آفيرز

يونيو (حزيران)/ يوليو (تموز) 2022

اندبندنت عربية

————————–

الغرق الروسي في أوكرانيا/ زكريا ملاحفجي

تقاوم أوكرانيا العدوان الروسي على مدى أكثر من أربعة أشهر مدافعة ليس عن وحدة أراضيها فحسب، بل تضمن أمن أوروبا بأسرها، وتثبت أوكرانيا أنها لا تزال ديمقراطية وأكثر مناهضة للاستبداد في العالم في الوقت نفسه، وأنها ملتزمة بحرية التعبير والمبادئ الديمقراطية.

الرئيس الروسي بوتين اعتبر الولايات المتحدة وحلفاءها ضعفاء عسكرياً وأنها غير راغبة في حوض الحرب ما عزز نيته لغزو أوكرانيا، ولعلّ انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، على وجه الخصوص، كان دافعاً له، فضلاً عن عدم إدراك بعض دول الاتحاد الأوروبي (في المقام الأول فرنسا وألمانيا) لخطر اللعب مع الديكتاتور الروسي الذي ستواجه أوروبا عواقبه الوخيمة هذا الشتاء بسبب أزمة الطاقة التي تُسبّبها موسكو.

استندت استراتيجية الاحتواء كلها إلى الاعتقاد بأنه من الممكن ردع بوتين عن طريق فرض عقوبات اقتصادية، ولذا لم تتكلل المحاولات الغربية لاسترضاء بوتين بالنجاح، مثلما فشلت محاولات استرضاء هتلر عشية الحرب العالمية الثانية. إن مهمة بوتين الرئيسية حالياً تتمثل في توسيع حدود ما هو مسموح به، فضلاً عن غزو أوكرانيا.

منذ بداية الحرب على أوكرنيا والأعمال القتالية واسعة النطاق يقوم الجيش الروسي بشن غارات جوية وصاروخية وضربات مكثفة على الأراضي الأوكرانية يومياً مستخدماً المدفعية الثقيلة والصواريخ والقنابل الجوية الحربية التي يبلغ وزنها عدة  أطنان وغيرها من أسلحة الدمار الشامل. وهكذا يمسح الغزاة الروس المدن والقرى الأوكرانية عن وجه الأرض ويقتلون سكانها المدنيين.

مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا يعد التسليم السريع للمساعدات العسكرية إلى أوكرنيا أمراً بالغ الأهمية لتعزيز قدرة أوكرانيا على الدفاع عن نفسها وأوروبا كلها في مواجهة العدوان الروسي، إذ ينفذ الكرملين هجمات مروعة على البنية التحتية المدنية في جميع أنحاء أوكرانيا راغباً في إبادة الشعب الأوكراني.

في وقت سابق أي الأسابيع الأولى من الحرب، حذر وزير الدفاع السابق في ما يسمى بـ”جمهورية دونيتسك الشعبية”، إيغور جيركين، القيادة الروسية من الفشل المحتمل لـ”العملية العسكرية الخاصة” في حال زود الغرب أوكرانيا بأسلحة ثقيلة.

في الحرب على أوكرانيا يواجه الجيش الروسي، الذي يقاتل وفق التعليمات وأنظمة القوات المسلحة السوفيتية، نوعاً جديداً من الجيوش، حيث تمكنت القوات المسلحة الأوكرانية من تطوير تكتيكات وتنظيم صفوفها على نحو مرن أكثر، وأثبت الجيش الأوكراني قدرته على صد القوات الروسية التي تقصف المدن الأوكرانية لأربعة أشهر على التوالي.

لا ريب في أن انتصار الجيش الأوكراني يؤدي إلى انهيار نظام بوتين بشرط تقديم الدول الغربية دعمها العسكري المعزز إلى أوكرانيا، وإلا قد يستمر العدوان الروسي إلى وقت وبطريقة غير متوقعين، ولكن تعزيز المساعدة الغربية العسكرية لأوكرانيا قد يكون ضماناً لهزيمة روسيا في هذه الحرب.

في الوقت الحاضر، تضيق دائرة الفرص المتاحة لروسيا الاتحادية، إذ بدأت تعاني من الصعوبات في مواصلة الأعمال القتالية ما يزيد سناريوهات قد تتخذها الحرب على أوكرانيا سوءاً. في الوقت عينه، يدرك الكرملين إدراكاً جيداً أن استخدام القوات المسلحة الأوكرانية للأسلحة الثقيلة قد يضع حداً لـ”العملية الخاصة” في أوكرانيا بسبب أن الجيش الروسي سيعجز عن الصمود على الجبهة.

إن أوكرانيا بحاجة إلى صواريخ ومدافع وذخائر عالية الدقة ومدرعات وأنظمة للدفاع الجوي وطائرات بدون طيار وصواريخ مضادة للسفن إلى جانب طائرات مقاتلة ومروحيات. نظراً إلى أن العديد من الأسلحة الغربية تتفوق على الأسلحة الروسية من حيث المدى والدقة والفعالية الكلية، ستقدر القوات الأوكرانية على شن ضربات على القوات الروسية، في المقام الأول، المدفعية الروسية من مسافة أبعد بكثير مما يكون عليه حالياً بعد أن تستلم أنظمة المدفعية الغربية بعيدة المدى.

ومن المرجح أن بوتين سيوقف الأعمال القتالية ويعطي الأمر لجيشه بالانسحاب من الأراضي الأوكرانية إن أدرك أنه لا يملك الموارد العسكرية الكافية لمواصلة العملية العسكرية وأنه ليس لديه فرصة للنجاح. ويسهم تزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة الغربية إسهاماً حقيقياً في ذلك.

وينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن بوتين قد يكتفي بالاستيلاء على دونباس وجنوب أوكرانيا بأكملها للاحتفال بانتصاره على أوكرانيا والدول الغربية. ولذلك، يتمثل انتصار أوكرانيا والعالم المتحضر بأسره على روسيا الاتحادية في استعادة جميع أراضي أوكرانيا التي احتلتها روسيا الاتحادية، بما في ذلك دونباس وشبه جزيرة القرم، فضلاً عن قيام روسيا بتعويض كل الخسائر التي منيت بها أوكرانيا في هذه الحرب.

———————————

الناتو” يعزّز وجوده على أبواب روسيا: موسكو التهديد الأكبر

ا ف ب

قررت دول حلف شمال الأطلسي ( الناتو) خلال قمة مهمة في مدريد، اليوم الاربعاء، تعزيز وجودها العسكري على أبواب روسيا، وإطلاق آلية التوسيع لضم السويد وفنلندا، في خطوة اعتبرتها موسكو “عدائية” و”مزعزعة للاستقرار”.

وأعلن أمين عام “الناتو” ينس ستولتنبرغ، عند افتتاح النقاشات التي يشارك فيها كل قادة الحلف حتى الغد، أنّ الحلف “في لحظة محورية” من تاريخه.

وخلال هذه القمة التي اعتمد خلالها الحلف خريطة طريق استراتيجية جديدة بعد مراجعة تلك المعتمدة منذ العام 2010 للمرة الأولى، ندد قادة الحلف بـ”الوحشية المروعة” التي تمارسها روسيا في أوكرانيا وتعهدوا بتقديم المزيد من الدعم لكييف.

وقال ستولتنبر: “أوكرانيا يمكن أن تعتمد علينا طالما لزم الأمر”.

كما اعتبر الحلف أن الصين تشكل “تحدّيا لمصالح” دول الناتو و”أمنها”.

“روسيا التهديد الأكبر”

هذا اللقاء بعد أكثر من أربعة أشهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط (فبراير) سيصادق على تعزيز الوجود العسكري على الضفة الشرقية للاطلسي الذي سيرفع من جانب آخر عدد القوات في حالة الجهوزية العالية الى أكثر من 300 الف عسكري.

وقال ستولتنبرغ “إنها إعادة التنظيم الأكبر لدفاعنا الجماعي منذ الحرب الباردة”.

وأضاف أنّ “ما نشهده حالياً هو تغير جذري في بيئتنا الأمنية لذلك تم إقرار المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف، مشيراً إلى أن “قادة الحلف اتفقوا على اعتبار روسيا التهديد المباشر الأكبر في المفهوم الاستراتيجي الجديد”.

من جهته، قال الرئيس الأميركي جو بايدن: “نحن على الموعد… وسنثبت أن حلف الاطلسي ضروري أكثر من أي وقت مضى”، معلناً عن تعزيز الوجود العسكري الأميركي في كل أنحاء أوروبا وخصوصا في دول البلطيق.

“المزيد من الحلف”

وطلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، متحدثاً عبر الفيديو أمام قادة الحلف، دعماً إضافياً من “الناتو” لافساح المجال امام كييف لمواجهة القوات الروسية.

وقال زيلينسكي: “لكي نكسر هيمنة المدفعية الروسية نحن بحاجة إلى الكثير من هذه المدفعية الحديثة”، مشيراً إلى أنّ كييف بحاجة إلى “حوالى 5 مليار دولار شهرياً” لتأمين دفاعها.

ويفترض ان تتفق دول الأطلسي التي سبق ان قدمت مليارات الدولارات من المساعدة لكييف، في مدريد على “برنامج مساعدة كامل لاوكرانيا لمساعدتها على فرض احترام حقها في الدفاع المشروع”، كما قال ستولتنبرغ.

في موازاة ذلك أعلنت النروج عن إرسال ثلاث بطاريات قاذفات صواريخ بعيدة المدى من نوع “ام ال ار اس”. وأمس، أعلن وزيرا الدفاع الالماني والهولندي عن تسليم ست قاذفات صواريخ إضافية.

وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي برر الهجوم على أوكرانيا بشكل خاص بالخوف من توسع جديد نحو شرق حلف الأطلسي “كان يأمل بتواجد أقل للحلف على جبهته الغربية بعد غزوه غير الشرعي لأوكرانيا” لكنه “كان مخطئا تماما لأن حصل على المزيد من الحلف”.

“وحشية مروّعة”

إلى ذلك، ندد قادة “الناتو” بـ”الوحشية المروعّة” التي تمارسها روسيا في أوكرانيا وتعهدوا تقديم المزيد من الدعم لكييف لمواجهة الهجوم الروسي.

وأفاد بيان للحلف بأنّ “الوحشية المروعة التي تمارسها روسيا تسببت في معاناة إنسانية هائلة ونزوح جماعي، ما أثر خصوصا على النساء والأطفال”.

وأعلن ستولتنبرغ حزمة مشتركة جديدة من المساعدات العسكرية غير الفتاكة، تشمل معدات اتصالات آمنة وأنظمة مضادة للطائرات المسيّرة.

وتشمل المساعدات أيضا تدريب قوات أوكرانية على استخدام أسلحة غربية أكثر حداثة على المدى الطويل.

ولفت ستولتنبرغ إلى أنّ الحلف سيساعد “أوكرانيا على المدى الطويل للتحول من المعدات السوفيتية إلى معدات الناتو”. وقال: “أوكرانيا يمكن أن تعتمد علينا طالما لزم الأمر”.

رفع الفيتو التركي

وتشكل قمة مدريد ايضا فرصة لإطلاق عملية انضمام السويد وفنلندا اللتين قررتا الانضمام الى الحلف بعد حياد تقليدي استمر لفترة طويلة.

واتفق قادة “الناتو” على دعوة فنلندا والسويد رسميا للانضمام إلى الحلف بعدما أبرمت تركيا اتفاقا مع الدولتين الاسكندنافيتين لرفع اعتراضها على عضويتيهما، كما أفاد بيان.

وأوضح بيان عن قمة التحالف: “اليوم، قررنا دعوة فنلندا والسويد للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي ووافقنا على توقيع بروتوكولات الانضمام”.

ورحّب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ”التوافق” الذي تمّ التوصل إليه. وقال وفق ما نقله عنه قصر الإليزيه إنّ “انضمام البلدين اللذين يمتلكان قدرات قوية إلى الناتو، سيساهم بشكل كبير في أمن جميع الحلفاء”.

وكانت تركيا العضو في الحلف منذ 1952 تعطل انضمام البلدين، متهمة خصوصا ستوكهولم وهلسنكي بإيواء ناشطين من حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة “منظمة إرهابية”.

لكن بعد اجتماعات طويلة على هامش القمة، أعطت تركيا الضوء الأخضر لدخول هذين البلدين إلى الحلف. واعتبر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أنه حصل على “تعاون كامل” في مكافحة حزب العمال الكردستاني.

وأعلنت تركيا أنها ستطالب فنلندا والسويد بتسليمها 33 شخصا ينتمون الى “الكردستاني” وحركة فتح الله غولن (فيتو) اللذين تعتبرهما إرهابيين.

وقال وزير العدل التركي بكر بوزداغ: “في إطار الاتفاق الجديد، سنطلب من فنلندا تسليم ستة عناصر من حزب العمال الكردستاني وستة من فيتو، ومن السويد تسليم عشرة عناصر من فيتو و11 من حزب العمال الكردستاني”.

وتصنف انقرة وحلفاؤها الغربيون حزب العمال الكردستاني “منظمة إرهابية”.

“عدائية” حيال روسيا

من جهته، اعتبر نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف أنّ قمة حلف شمال الأطلسي في مدريد تؤكد “عدائيته” حيال روسيا، واصفا توسيع عضويته إلى فنلندا والسويد بأنه خطوة “مزعزعة للاستقرار الى حد كبير”.

وأضاف ريابكوف، في تصريح لوكالات الأنباء الروسية، أنّ “قمة مدريد تعزز مسار الاحتواء العدواني الذي ينتهجه الحلف حيال روسيا”.

كما قال ريابكوف إنّ بلاده ليست “خائفة” من إعلان الرئيس الأميركي تعزيز الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، على خلفية توترات شديدة مع موسكو.

“ذكورية سامة”

وتنعقد قمة الحلف، في حين تستمر أوكرانيا على الأرض بدفع ثمن الغزو الروسي غاليا. واعلنت السلطات الأوكرانية عن ضربات دامية على مدنيين لا سيما في مناطق ميكولاييف (جنوب) ودنيبرو (وسط شرق).

وتأتي هذه الضربات بعد يومين على هجوم استهدف مركزاً تجارياً مكتظاً في كريمنتشوك على بعد 330 كيلومترا جنوب شرق كييف، ما أسفر عن سقوط ما لا يقل عن 18 قتيلا وفقدان نحو أربعين شخصا بحسب السلطات الأوكرانية.

وقال الرئيس الأوكراني إنّ عملية القصف هذه “هي من أفظع الأعمال الإرهابية في تاريخ أوروبا”، داعياً إلى اعتبار روسيا “دولة راعية للإرهاب” بعد هذه الضربة التي استهدفت “مدينة هانئة”.

ورغم بعض التقدم للقوات الروسية على الأرض في الأيام الماضية، اعتبر وزير الدفاع البريطاني بن والاس أنّ روسيا “فشلت في كل أهدافها الرئيسية”.

وقال في مقابلة مع إذاعة “ال بي سي” إنّ القوات الروسية لا تتقدم “إلا بعض الأمتار في عدة أيام” لقاء “كلفة هائلة” لموسكو، مقدّراً بأن عدد الجنود الذين قتلوا من الجانب الروسي منذ بدء النزاع بلغ “25 ألفاً”.

وهذا ما نسبه جونسون الى “ذكورية سامة” من جانب بوتين. وقال لشبكة التلفزيون الألمانية “زي دي اف” مساء أمس: “لو كان بوتين امرأة وهو ليس كذلك كما هو واضح، فأنا لا أظن أنه كان سيشن هذه الحرب الذكورية المجنونة” التي تهدف إلى “غزو” أوكرانيا.

الصين و”تحدي مصالح الناتو”

كما اعتبر “الناتو” أنّ الصين تشكّل “تحدّيا لمصالح” دوله و”أمنها”.

وكتب الحلف في “المفهوم الاستراتيجي” الجديد، أنّ “طموحات الصين المعلنة وسياساتها القسرية تتحديان مصالحنا وأمننا وقيمنا”، مدينا “الشراكة الاستراتيجية” بين بكين وموسكو ضد “النظام الدولي”.

النهار العربي

———————–

الصواريخ الروسية تمطر أوكرانيا.. والغرب يتعهد بدعم دائم لكييف

قصفت القوات الروسية أهدافا في منطقة ميكولايف بجنوب أوكرانيا اليوم الأربعاء وصعدت الهجمات على جبهات في جميع أنحاء البلاد في الوقت الذي يلتقي فيه أعضاء حلف شمال الأطلسي في مدريد للتخطيط للمستقبل في مواجهة التحدي الروسي.

وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لقادة الحلف إن بلاده بحاجة إلى المزيد من الأسلحة والأموال للدفاع عن نفسها في مواجهة روسيا، محذرا من أن طموحات موسكو لن تتوقف عند أوكرانيا.

وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال القمة عمليات نشر إضافية للقوات الأمريكية برا وبحرا وجوا في أنحاء أوروبا، بما في ذلك قاعدة دائمة في بولندا، ردا على تهديدات روسيا.

وقال رئيس بلدية مدينة ميكولايف إن ضربة صاروخية روسية قتلت ثلاثة أشخاص على الأقل في مبنى سكني هناك، بينما قالت موسكو إن قواتها قصفت ما وصفته بقاعدة تدريب للمرتزقة الأجانب في المنطقة.

وفي الشرق، قال حاكم منطقة لوجانسك إن “القتال دائر في كل مكان” بمحيط مدينة ليسيتشانسك الواقعة على قمة تل والتي تحاول القوات الروسية تطويقها.

وقال أولكسندر فيلكول حاكم منطقة كريفي ريه بوسط أوكرانيا إن القصف الروسي زاد هناك أيضا في الأيام القليلة الماضية.

وأضاف “لقد تم محو عدة قرى من على وجه الأرض”.

تأتي الهجمات المتصاعدة في أعقاب هجوم صاروخي على مركز تجاري أودى بحياة 18 شخصا على الأقل في وسط أوكرانيا يوم الاثنين، في الوقت الذي تحرز فيه القوات الروسية تقدما بطيئا لكنه مستمر في الحرب التي دخلت الآن شهرها الخامس.

ومع ذلك، يقول محللون غربيون إن خسائر فادحة لحقت بالقوات الروسية التي بدأت مواردها في النفاد، في حين أن احتمال وصول المزيد من الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، ومنها أنظمة الصواريخ طويلة المدى، جعل حاجة موسكو لتعزيز أي مكاسب أكثر إلحاحا.

وبعيدا عن مناطق القتال، اجتمع قادة حلف شمال الأطلسي في العاصمة الإسبانية مدريد لصياغة سياسة للرد على الإجراءات الروسية.

وطالب زيلينسكي، في اتصال عبر الفيديو من العاصمة كييف، بمزيد من الأسلحة، وقال إن الدفاع عن أوكرانيا وحمايتها يتطلب خمسة مليارات دولار شهريا.

وحذر من أن روسيا ستوجه أنظارها إلى دول أخرى، قائلا إن موسكو تريد “استعباد” ليتوانيا العضو في حلف شمال الأطلسي.

وقال “هذه ليست حربا تشنها روسيا ضد أوكرانيا فقط. إنها حرب من أجل الحق في إملاء الشروط في أوروبا على الشكل الذي سيكون عليه النظام العالمي في المستقبل”.

ستكون القاعدة العسكرية الأمريكية التي أعلنها بايدن خلال القمة في بولندا، بها كتيبة عسكرية، وهو أول انتشار دائم للولايات المتحدة على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي.

تتضمن خطط بايدن كذلك إرسال سفن حربية إضافية إلى إسبانيا وأسراب طائرات مقاتلة إلى بريطانيا وقوات برية إلى رومانيا ووحدات دفاع جوي إلى ألمانيا وإيطاليا، ومجموعة من الموارد العسكرية الأخرى إلى دول البلطيق.

وقال للصحفيين إن حلف الأطلسي “يدافع عن كل شبر” من أراضيه. وأضاف “عندما نقول إن الهجوم على أحد (الأعضاء) هو هجوم على الجميع، فإننا نعني ذلك تماما”.

وسيتم خلال قمة الحلف أيضا تلقي طلبي العضوية من السويد وفنلندا بعد نجاحهما في التعامل مع اعتراضات تركيا.

وتشكو موسكو منذ زمن بعيد من التوسع الملحوظ للتكتل الغربي باتجاه الحدود الروسية، لكن غزوها لأوكرانيا، الذي تسميه “عملية عسكرية خاصة”، أعطى دفعة جديدة لحلف شمال الأطلسي، كما منح الاتحاد الأوروبي أوكرانيا وضع المرشح بسبب هذا الغزو.

وفي موسكو، قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف إن توسع حلف الأطلسي “يزعزع الاستقرار” ولا يعزز أمن أعضائه.

قتلى ومصابين من المدنيين

قال أولكسندر سينكيفيتش رئيس بلدية ميكولايف إن ثمانية صواريخ روسية سقطت على المدينة وأصابت أهدافا منها مبنى سكني. وأظهرت صور دخانا يتصاعد من مبنى مكون من أربعة طوابق، وقد لحق دمار جزئي بالطابق العلوي منه.

وقالت وزارة الدفاع الروسية إن قواتها نفذت ضربات على قاعدة تدريب عسكرية “لمرتزقة أجانب” بالقرب من المدينة، كما أصابت مستودعات مخصصة للوقود والذخائر. ولم يتسن لرويترز التحقق بشكل مستقل من صحة تلك التقارير.

وقال فيتالي كيم حاكم ميكولايف إن القصف الروسي زاد وإن المباني غير العسكرية صارت في الغالب هدفا للقصف.

وأضاف “صار الوضع الحالي خطرا في ميكولايف، بل وأكثر خطورة مما كان عليه قبل ثلاثة أسابيع”.

ووقعت ضربات على ميكولايف اليوم الأربعاء بعد يومين فقط من سقوط صاروخ روسي على مركز التسوق في كريمنتشوك. ولا يزال عمال الإنقاذ يبحثون عن عشرات المفقودين حتى اليوم.

وانضم البابا فرنسيس إلى الإدانات الدولية للهجوم على كريمنتشوك، واصفا إياه بأنه “بربري”.

ونفت موسكو استهداف المركز التجاري، وقالت إنها قصفت مستودع أسلحة في الجوار وانفجر.

وقالت وزارة الدفاع البريطانية إنها تتوقع أن تواصل روسيا شن الضربات في محاولة لعرقلة عمليات الإمداد الأوكرانية إلى جبهات القتال، ومن المرجح أن يسقط المزيد من الضحايا المدنيين.

ونفت روسيا استهداف مناطق مدنية، لكن الأمم المتحدة تقول إن ما لا يقل عن 4700 مدني قُتلوا منذ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير شباط. وتعتقد أوكرانيا أن العدد الحقيقي للضحايا المدنيين أكبر بعدة أمثال.

الجبهة الشرقية

كما احتدم القتال شرقا في منطقة لوجانسك، وهي ساحة معركة رئيسية في هجوم روسيا على القلب الصناعي لمنطقة دونباس.

وقال سيرهي جايداي حاكم لوجانسك في التلفزيون “القتال دائر في كل مكان. العدو يحاول اختراق دفاعاتنا”.

تأتي معركة ليسيتشانسك في لوجانسك في أعقاب سقوط مدينة سيفيرودونيتسك المجاورة الواقعة على الضفة الأخرى من نهر سيفيرسكي دونيتس يوم السبت.

وسيؤدي سقوط ليسيتشانسك إلى بسط السيطرة الروسية على نهر سيفيرسكي دونيتس، وهو أحد الأهداف الاستراتيجية لموسكو منذ فشلها في السيطرة على كييف في المراحل الأولى من الحرب.

وذكرت وكالة تاس الروسية للأنباء أن الإدارة المشتركة من عسكريين ومدنيين، التي فرضتها موسكو في منطقة خيرسون، قالت إنها بدأت الاستعدادات لإجراء استفتاء على الانضمام إلى روسيا.

وخيرسون مدينة ساحلية على البحر الأسود تقع مباشرة شمال غربي شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014.

    المصدر :رويترز

————————

البابا يصف القصف الروسي على كريمنتشوك بـ”الهجمات البربرية

وصف البابا فرنسيس اليوم الأربعاء القصف الذي أصاب مركز تسوق مزدحما في مدينة كريمنتشوك بأنه الأحدث في سلسلة “هجمات بربرية” ضد أوكرانيا.

وقالت أوكرانيا إن 18 شخصا على الأقل قتلوا وأصيب نحو 60 آخرين يوم الاثنين في هجوم صاروخي روسي. وقالت وزارة الدفاع الروسية إنها قصفت هدفا عسكريا مشروعا في المدينة وإن المركز التجاري لم يكن مستخدما.

وقال البابا فرنسيس للحشد الذي تجمع في ساحة القديس بطرس في عظة بمناسبة عيد القديسين بطرس وبولس “أحمل كل يوم أوكرانيا العزيزة والمعذبة في قلبي، والتي لا تزال تعاني من الاعتداءات البربرية، مثل تلك التي ضربت مركز التسوق في كريمنتشوك

“أصلي لكي تنتهي هذه الحرب المجنونة قريبا، وأجدد دعوتي للمثابرة، بدون كلل، في الصلاة من أجل السلام”.

واستهدفت صواريخ روسية مركزا تجاريا مزدحما في وسط أوكرانيا ما أسفر عن ما لا يقل عن 10 قتلى و40 جريحا.

وقال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إن “العالم يشعر بالرعب من الضربة الصاروخية الروسية”، ووصف الضربة في تغريدة بأنها “الأحدث في سلسلة من الفظائع”.

ومن جانبه، ندد رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بالقصف ووصفه بـ”وحشية وهمجية” ولا تفعل سوى “تعزيز تصميم” الغرب على دعم كييف.

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن ضربة صاروخية روسية أصابت مركزا تجاريا مزدحما في مدينة كريمنشوك بوسط البلاد اليوم الاثنين.

وأضاف أن أكثر من ألف شخص كانوا في المركز التجاري وقت الهجوم. ولم يذكر تفاصيل عن الضحايا لكنه قال “من المستحيل حتى تخيل عدد الضحايا”.

المصدر :رويترز

——————-

تركيا توجّه الصفعة الأخيرة لبوتين.. زلزال دولي بدخول السويد وفنلندا الناتو وفتح الباب على مصراعيه

تلقت موسكو صفعة عسكرية ودبلوماسية مزدوجة إزاء أمالها في بعثرة أوراق الناتو وعرقلة توسعه نحو الدول الإسكندنافية، بعد أن وافقت أنقرة في اللحظات الأخيرة على إزالة تحفظها على انضمام كل من السويد وفنلندا للتكتل الغربي الأكبر، في خطوة من شأنها تضييق الخناق على موسكو وزيادة عزلتها.

وقالت وكالة رويترز إن تركيا رفعت حقّ النقض (الفيتو) بشأن محاولة فنلندا والسويد للانضمام إلى الحلف الغربي يوم الثلاثاء، في اختراق بعد قبيل بدء قمة الناتو في مدريد التي تهدف إلى إظهار العزم ضد روسيا، واعتبارها تهديداً أمنياً مباشراً وليس خصماً محتملاً.

خرق بعد 4 ساعات من المباحثات

الخرق الذي كانت تخشى موسكو حدوثه أعقب مباحثات استمرت لأربع ساعات، جمعت الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ والرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيسة الوزراء السويدية ماجدالينا أندرسون والرئيس الفنلندي ساولي نينيستو. وفي الوقت الذي أعلنت فيه الرئاسة التركية أن أنقرة نالت ما أرادته من فنلندا والسويد الراغبتين في الانضمام إلى “الناتو”، قال الرئيس الفنلندي نينيستو في بيان إن تركيا ستدعم دعوة فنلندا والسويد للانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي”، وهو ما يعني أن هلسنكي وستوكهولم يمكنهما المضي قدماً في طلبهما للانضمام إلى التحالف المسلح نووياً، ما يُعدّ أكبر تحول في الأمن الأوروبي منذ عقود، حيث تسعى دولتا الشمال الأوروبي المحايدتين منذ فترة طويلة إلى حماية الناتو.

بدورها قالت رئيسة الوزراء السويدية ماجدالينا أندرسون في تغريدة على تويتر: “تم التوصل إلى مذكرة رئيسية بين السويد وفنلندا وتركيا تمهد الطريق لانضمام السويد إلى الناتو”.

كما أشادت بالاتفاق ووصفته بأنه “اتفاق جيد للغاية”، مضيفة أن “اتخاذ الخطوة التالية نحو عضوية كاملة في الناتو أمر مهم بالطبع للسويد وفنلندا، لكنها أيضاً خطوة مهمة جداً لحلف الناتو، لأن السويد ستكون من مزودي الخدمات الأمنية داخل الناتو”.

روسيا تهدد

على الجانب الآخر لم تخف روسيا امتعاضها من اللطمة التي تعرضت لها، حيث قال نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، إن روسيا تنظر بسلبية تجاه انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، وتوسيع الحلف عامل لزعزعة الاستقرار.

وأضاف ريابكوف أن الجانب الروسي “يدين المسار غير المسؤول لحلف شمال الأطلسي، والذي يقضي على البنية الأمنية الأوروبية” معتبراً أن “دول الناتو، بما في ذلك تلك التي تسعى للانضمام إلى الحلف، فنلندا والسويد، تتنازل في الواقع عن جزء من سيادتها الدفاعية للولايات المتحدة”.

وفي تهديد مباشر لتلك الدول، تابع ريابكوف قائلاً: “لدي شكوك جدية حول كم ستكون الفترة المقبلة هادئة بالنسبة لجيراننا في شمال أوروبا.. وفي النهاية، أعطوا جزءاً من سياستهم الخارجية وسيادتهم الدفاعية لواشنطن، ومن يسمون شركاء كبار آخرين في الناتو”. كما اعتبر أن “المحادثات حول التضامن الأوروبي الأطلسي، والتي تستخدم كغطاء للخطط العدوانية للتحالف ضد روسيا”.

الهيمنة على البلطيق

ومن شأن انضمام الدولتين أن يساعد في تعزيز استجابة الحلف للتوسع الروسي، ولا سيما عقب الأزمة الأوكرانية، بينما سيبدو أثر الخطوة  أكثر وضوحاً في بحر البلطيق، إذ ستمنح العضوية الفنلندية والسويدية التفوق العسكري لحلف الناتو.

وكانت السويد وفنلندا ترفضان تاريخياً السعي للحصول على عضوية الناتو، بسبب الرأي العام المختلط من جهة، والحذر بشأن علاقتهما الأمنية مع روسيا من جهة أخرى، إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا دفع كلا البلدين إلى السعي نحو طلب الانضمام للحلف الغربي خوفاً من أن تصبحا لقمة سائغة في فم بوتين بعد الفراغ من أوكرانيا.

———————————

حرب أوكرانيا في أمريكا: صراع بين «النيوليبرالية» و»الواقعية السياسية»/ إبراهيم نوار

بعيدا عن ظاهرة الضحالة الفكرية التي تسيطر على الخطاب السياسي والإعلامي الذي نتناول به شؤوننا العامة وشؤون العالم، قررت خلال الأيام القليلة الماضية أن أعكف على متابعة الجدل الحاد الذي انفجر بين مفكري مدرسة «الليبرالية الجديدة» ونظرائهم في مدرسة «الواقعية السياسية» في تقييم الصراع الحالي في أوكرانيا.

هذا الجدل أشعله هنري كيسنجر بعد أن كشف عن رؤيته لطبيعة الصراع، ودعوته إلى تشجيع الطرفين المتحاربين على التفاوض، والمقالات والدراسات التي كتبها عدد من أقطاب «الواقعية السياسية» وعلى رأسهم جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو – وهو بالمناسبة مؤلف كتاب «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية» بالاشتراك مع ستيفن والت – الذي يقدم خطابا نقديا لاذعا للحرب، ويحذر من خطورتها على الديمقراطية الأمريكية.

أنصار الليبرالية الجديدة، خصوصا ذوي النزعة المحافظة، وعلى رأسهم فرانسيس فوكوياما أستاذ العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في جامعة ستانفورد، يعتبرون أن جوهر الصراع هو الدفاع عن النظام الليبرالي العالمي، ضد تهديدات الأنظمة التسلطية المستبدة. جوهر مقاربة فوكوياما هو الاحتفاظ بحق الاختيار للولايات المتحدة، ثم على الجميع أن يتبعها. ميرشايمر يرد بأن الليبرالية ترسم طريقا إلى الحرب وإلى تخريب الديمقراطية.

وبينما مفكرو «الواقعية السياسية» يدفعون بأن أحد أهم أسباب الصراع هو نزعة حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي إلى التوسع شرقا، وأن إنهاء الصراع يتوقف على التخلص من هذه النزعة، وتوفير أرضية إيجابية لإحلال السلام من خلال المفاوضات، فإن مفكري «الليبرالية الجديدة» يعتبرون أن البشرية بلغت نضجها السياسي بانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، وهو ما وصفه فوكوياما بأنه «نهاية التاريخ»، ولا يمكن أن تعود بعده إلى الوراء، وأنه من الضروري حشد كل القوى لهزيمة النظام السياسي والعسكري الذي يقوده فلاديمير بوتين، لأنه يقوم على كل القيم النقيضه للنظام الليبرالي العالمي. ونظرا لأنني عرضت وجهة نظر هنري كيسنجر في ثنايا مقالات سابقة، فإنني في هذا المقال سأعرض وجهة نظر جون ميرشايمر من المدرسة الواقعية، وفي مقابلها وجهة نظر فرانسيس فوكوياما من المدرسة الليبرالية الجديدة.

يتعرض كل من هنري كيسنجر وجون ميرشايمر في الوقت الحاضر لهجوم عنيف من جانب المحافظين وأنصار الليبرالية الجديدة، خصوصا بعد مداخلة كيسنجر في منتدى دافوس، ومقالات ميرشماير في نقد السياسة الأمريكية تجاه الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن قبلها حرب العراق والتدخل في سوريا. أهمية الخطاب النقدي الذي عبر عنه كيسنجر وميرشايمر تعود إلى خبرة الأول بالدبلوماسية العالمية ودهاليزها منذ منتصف القرن الماضي، وحالة الاشتباك الفكري والفلسفي التي يقودها ميرشايمر داخل الولايات المتحدة ضد تيار الليبرالية الجديدة، ذات الطابع المحافظ. كما أن تلك الأهمية تنسحب على حقيقة أن الاشتباك النقدي بين الطرفين، الواقعي والليبرالي تدور على أرضية أمريكية، بين مفكرين أمريكيين لهم قدرهم وثقلهم العلمي. وتعتبر أفكار ميرشماير امتدادا لفلسفة هانز مورجنتاو وجون هيرتز وهنري كيسنجر وآرثر شليزنجر (الابن)، وهي فلسفة تعتبر الحرب قوة تدميرية، تهدد الديمقراطية والسلام، وتقلل من فاعلية المساءلة السياسية للحكام، وتزيد من نزعة تركيز السلطة في أيديهم. كما أن خطورتها تمتد على المدى الطويل إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للمجتمعات. وقد انتقد رواد هذه المدرسة حرب فيتنام في وقتها، والحروب التي دخلت فيها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن. كما عقد مفكرو «الواقعية السياسية» مشابهة تاريخية بين النظام السياسي الأمريكي والنظام القديم الذي كان سائدا في جمهوريتي أثينا و روما، وحذروا من أن الإفراط في التمدد العسكري، يعَرِّض الولايات المتحدة للمصير نفسه الذي لقيته أثينا وروما، بعد أن تحولت كل منهما من جمهورية إلى إمبراطورية. وحذر ميرشايمر من الأضرار التي يمكن أن تتسبب فيها النزعة العسكرية والدولة الأمنية على المجتمع الأمريكي. وفي ذلك فإنه كان يسير على الطريق نفسه الذي بدأه هانز مورجنتاو، الذي خاض جدلا حادا بشأن ماهية الوجود الأمريكي في إطار منظومة الأخلاق والقيم السياسية الأمريكية. وحذر من خطورة زيادة الاعتماد على القوة العسكرية، والتحدي الذي يواجه المجتمع بسبب تنامي قوة التجمع العسكري- الصناعي. وكان مورجنتاو بذلك يتفق مع أطروحة الاقتصادي الأمريكي جون كينيث جالبريث، التي لقيت صدى واسعا بعد الحرب العالمية الثانية. ويعتبر كتاب ميرشايمر «الوهم الكبير: أحلام الليبرالية والحقائق الدولية» (2018) من أهم الكتب التي تعبر عن أفكار مدرسة الواقعية السياسية في الوقت الحاضر.

الليبرالية الجديدة والهيمنة الأمريكية

تعود أصول الليبرالية الجديدة إلى الفلسفة التي سهر على وضع أركانها ثلاثة من أهم مفكري النصف الثاني من القرن العشرين، وهم فريدريك حايك، وميلتون فريدمان، وجيمس بوكانان (الابن). وقد جاءت الليبرالية الجديدة لتضع أسسا لتشغيل الاقتصاد، تختلف عن تلك التي كان يعمل على أساسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كان الاقتصاد العالمي يسترشد بنظرية كينز عن الطلب الكلى، وقدرة الدولة على تشغيل الاقتصاد وتجنب الأزمات، لكن هذه النظرية لم تصمد في وجه موجة «الركود التضخمي» التي أعقبت الصدمة النفطية الأولى عام 1973، التي يعيش العالم مثلها في الوقت الحاضر. ومع فشل السياسات الكينزية بدأت تروج أفكار فريدريك حايك وميلتون فريدمان وبوكانان عن أهمية الحرية الفردية، وكفاءة القطاع الخاص، وحرية التجارة، وضرورة ابتعاد الدولة عن مجالات الإنتاج، وإهمال الدور الاجتماعي للدولة، على اعتبار ان تنمية الثروة الخاصة ستخلق أثرا إيجابيا يتمثل في تساقط رذاذها من أسفل إلى أعلى على الفقراء. تلك كانت المبادئ التي كونت «إجماع واشنطن»، وتحولت إلى سياسة رسمية لصندوق النقد والبنك الدولي والولايات المتحدة ومؤسسات التمويل الدولية الخاضعة لها. واتفق رواد هذه المدرسة على أن الليبرالية الاقتصادية الجديدة لا تعيش إلا في عالم تسوده الليبرالية السياسية، بما ينطوي عليه ذلك من وجود تشريعات ومؤسسات وقيادة على المستوى العالمي. وقد وصف فرانسيس فوكوياما حرب أوكرانيا بأنها «حرب بوتين على النظام الليبرالي» وشن هجوما عنيفا على روسيا في مقال نشرته صحيفة «فاينتشال تايمز» في 4 مارس الماضي. عبّر فيه بوضوح عن وجهة نظر المدرسة الليبرالية الجديدة في الحرب، وما يجب أن تنتهي إليه. وقال إن بوتين يريد إرجاع التاريخ للوراء، وإن العالم الليبرالي يجب أن لا يسمح له بذلك، وأن نهاية الحرب الباردة يجب أن لا تعني بالنسبة لأوروبا غير أن تكون القارة «وحدة واحدة وحرة». وقال إن الأزمة الحالية في أوكرانيا «تعلمنا ألا نعتبر وجود «النظام الليبرالي» أمرا مسلما به أو مفروغا منه، بل إنه هدف يجب أن نناضل دفاعا عنه على الدوام، لأنه يمكن أن يختفي في اللحظة التي نتوقف فيها عن حراسته وحمايته والدفاع عنه، لأن الليبرالية تتعرض لهجوم متواصل من اليمين ومن اليسار في آن واحد. وقال فوكوياما إن مهمة الليبرالية لن تنتهي، حتى مع هزيمة بوتين، فهناك طابور من الدول الأخرى تنتظر مثل الصين وإيران وفنزويلا وكوبا، والأنظمة الشعبوية في الدول الغربية. ويرى أصحاب النزعة الليبرالية الجديدة أن غزو أوكرانيا هو عدوان على الديمقراطية العالمية، وعلى القيم الليبرالية الغربية. ومن ثم فإن الرد عليه من وجهة نظرهم يتمثل في مضاعفة التوجه إلى توسيع الاتحاد الأوروبي، وتوسيع حلف الناتو شرقا، وإقامة نظام ليبرالي عالمي أقوى، بواسطة التدخل المباشر إذا لزم الأمر، ومن ثم فإنهم يرفضون وجهة نظر ميرشايمر، التي تقول إن الصراع في أوكرانيا قد تسببت فيه نزعة الغرب للتوسع شرقا، وعدم احترام مبدأ توازن القوى.

المدرسة الليبرالية الجديدة بموقفها من الحرب الأوكرانية تعود في حقيقة الأمر إلى استلهام مبدأ بوش الابن في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية الذي يتألف من ثلاثة أضلاع هي: «انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم»، و»شن حروب استباقية» تؤكد الهيمنة الأمريكية، و»تغيير نظم الحكم» حول العالم، بما يتوافق «شكلا» مع منظومة القيم السياسية الأمريكية. ولا توجد حتى الآن أرضية مشتركة بين أصحاب المدرستين، بل على العكس من ذلك تتزايد حدة الاتهامات الموجهة من كل طرف للآخر. وقد نشر ديمتري سايمز رئيس مركز «ناشيونال إنترست»، وناشر المجلة المعروفة بهذا الاسم، هجوما حادا على الليبراليين، قال فيه إنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم حتى الآن، وإن بوتين استطاع بحنكة تطوير استراتيجية مضادة للعقوبات الاقتصادية، وقفت أوروبا عاجزة أمامها، وحذّر من أن استمرار الوضع الحالي يهدد بانتشار نيران الحرب، وصعوبة محاصرتها بعد ذلك، لأن أيا من الطرفين لن يستطيع حسمها لمصلحته في وقت قريب.

كاتب مصري

القدس العربي

——————————

حلف الناتو بين الهائج والهادئ/ جلبير الأشقر

تنعقد قمة الناتو في مدريد، وهي ثاني قمم الحلف في العاصمة الإسبانية بعد ربع قرن، والتعليقات تتكاثر حول كونها إحدى أخطر قممه منذ تأسيسه في عام 1949، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق. والحال أن ما نشأ بوصفه حلفاً دفاعياً بين ضفتي المحيط الأطلسي الشماليتين، أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، في مواجهة الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية التي هيمن عليها إثر الحرب العالمية الثانية، لم يطلق طلقة واحدة طوال الأربعين عاماً ونيف التي عاصر فيها الحكم «الشيوعي» في موسكو. أي أن الحلف لم يشترك بذاته رسمياً في أي حرب طوال تلك الفترة، بل اكتفى بممارسة «الردع» إزاء المعسكر المضاد.

وقد عرف الحلف الأطلسي نقلة نوعية بالغة الأهمية إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ومن ثم زواله في آخر عام 1991، عندما واجه خياراً بين الزوال بدوره لانتفاء غرضه الأصلي والتحوّل، فاختار الثاني. هكذا استحال الحلف الدفاعي «منظمة أمنية» بما عنى انخراطه في مهام عسكرية، وذلك خارج دائرته الأصلية المقتصرة على أراضي دوله الأعضاء. فأخذ يتدخل في ساحات أخرى بدءاً من البلقان في التسعينيات، حيث شنّ أولى حروبه في عام 1999، وصولاً إلى أفغانستان، ومروراً بالعراق حيث أناط به المحتل الأمريكي بعض المهام الثانوية.

أما التحول الأخطر في طبيعة الحلف، فقد نجم عن قرار فتح أبوابه أمام الدول التي كانت تدور سابقاً في فلك الاتحاد السوفييتي، بل حتى أمام الجمهوريات السوفييتية السابقة المجاورة لدول الحلف الأطلسي في أوروبا والقوقاز، وهو ما رأت فيه روسيا ما بعد السوفييتية تعبيراً عن عداء لها إذ كان واضحاً أن الدعوة لم تشملها. وقد تقرّر أول توسّع للحلف شرقاً في القمة الأولى التي عقدها في مدريد سنة 1997، عندما وجّه دعوة رسمية لبولندا والمجر والجمهورية التشيكية، التي التحقت بالناتو رسمياً في القمة التي انعقدت في واشنطن عام 1999، سنة الذكرى الخمسين لتأسيس الحلف.

شكّل قرار توسيع الناتو شرقاً مدخلاً إلى تصعيد متدرّج للتوتّر في العلاقات بين روسيا وبين الناتو، وعلى الأخص زعيمته الأمريكية. وقد بلغ التوتّر ذروة أولى مع انضمام دول البلطيق الثلاث في عام 2004 الذي خلق حدوداً بين روسيا والناتو في لاتفيا وإستونيا، علاوة على الحدود بين بولندا وليتوانيا من جهة، وكالينينغراد من الجهة الأخرى، وهي الأرض الحبيسة ألمانية الأصل (كونيغسبرغ) التي استولى عليها الاتحاد السوفييتي إثر الحرب العالمية الثانية. ولمّا تبيّن أن الحلف متّجه إلى فتح أبوابه لجورجيا وأوكرانيا في عام 2008، وهما أيضاً محاذيتان لروسيا، كان رد فعل فلاديمير بوتين أن تدخل عسكرياً في جورجيا بعد تأجيج صراع إثني داخل حدودها، وهو يراهن على أن ذلك كافٍ لردع أوكرانيا.

لكن ثورة «ميدان» في أوكرانيا في عام 2014 قضت على تلك المراهنة، فاحتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمّتها رسمياً إلى أراضيها، كما تدخلت عسكرياً في شرقي أوكرانيا القارية بما شكّل تكراراً لما فعلته في جورجيا. وبذلك حالت روسيا دون انضمام الدولتين إلى الناتو، إذ إن انضمام أي منهما وهي في حالة مواجهة عسكرية شبه مباشرة مع روسيا يعني دخول الحلف ذاته في تلك المواجهة.

والحقيقة أن فرصة انضمام أوكرانيا للناتو باتت منعدمة تماماً منذ عام 2014، بحيث إن تفسير اجتياح روسيا الأخير للأراضي الأوكرانية بالتصدّي لخطر ذاك الانضمام إنما هو تفسير باطل. فلم يخفِ بوتين طموحه باستعادة سيطرة روسيا على أوكرانيا التي ينظر إليها كجزء مما يسمّى باللغة الروسية «العالم الروسي»، وهو نمط من التفكير أدانه لينين، مؤسس الاتحاد السوفييتي، واصفاً إياه بأنه فكر توسّعي مستمدّ من «شوفينية روسية كبرى» (وهو سبب إدانة بوتين للينين المتكرّرة في خطبه).

هذا وتنعقد قمة مدريد الجديدة وسط أخطر حرب شنّتها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية (أخطر من حربي أفغانستان وسوريا) وأخطر مواجهة بين روسيا وحلف الناتو منذ تأسيسه. وتكتمل بالتالي حالة العداء السافر بين الحلف وروسيا بما يعيده إلى مستوىً من المواجهة شبيه بما كان قائماً في أخطر مراحل «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي انعكس في قرار مضاعفة تعداد قوات الناتو الجاهزة للتدخل من 40,000 إلى 300,000. وهذا تحول عظيم الأهمية بالتأكيد، شأنه في ذلك شأن قرار السويد وفنلندا الانضمام إلى الحلف بدورهما، علماً أن لفنلندا 1,340 كيلومتراً من الحدود مع روسيا.

أما الأخطر من ذلك بعد فهو أن قمة مدريد سوف تعيّن الصين رسمياً للمرة الأولى كمصدر قلق، وقد تمت دعوة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاندا إلى حضور الاجتماع بوصفها دول «شريكة» للحلف في منطقة الشطر الآسيوي للمحيط الهادئ. هذا ما سوف يسجله التاريخ على الأرجح كأخطر تحول في وظيفة الناتو منذ ما تلى انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ إن انتقال حلف شمال الأطلسي إلى الاهتمام بالمحيط الهادئ إنما يتوّج استراتيجية واشنطن في توحيد شبكتها العالمية في مواجهة الدولتين اللتين عينّتهما خصمين لمنظومتها بما يتيح لها تعزيز هيمنتها على معظم دول أوروبا من جهة وشرقي آسيا وأوقيانوسيا من الجهة الأخرى.

وهي سياسة تنقصها الحنكة في الحقيقة إذ تدفع الصين نحو تعزيز العلاقات مع روسيا بالرغم من محاولة بكين التزام شيء من الحياد عملياً، إن لم يكن سياسياً، منذ بدء الاجتياح الروسي (على سبيل المثال، امتنعت الصين عن التصويت على قرار إدانة الغزو الروسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدل التصويت ضده مثلما فعلت روسيا ومعها بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وأريتريا، كما لم تتعمّد الصين خرق العقوبات الغربية على روسيا إلى الآن). أما أوروبا ودول المحيط الهادئ فإن قبولها السير وراء واشنطن في تصعيد المواجهة مع الصين إنما يضحّي بمصالحها الأساسية لصالح الولايات المتحدة. وما كانت لتقبل بذلك لولا تعاظم ارتهانها الأمني بواشنطن بفضل الاجتياح الروسي، الذي هو بالتأكيد أحد أكثر الاجتياحات رعونة في التاريخ من حيث ارتداده على من ارتكبه.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

———————–

خسائر روسيا فادحة بسبب المسيّرات والصواريخ المضادة

هل أنهت حرب أوكرانيا عصر الدبابة؟

مروان شلالا

خوض الحرب أمر مكلف ويستهلك قدرًا هائلاً من الموارد الاقتصادية والمواد الحربية. لهذا السبب، في الـ 150 عامًا الماضية، راهن معظم الغزاة دائمًا على قدرة قواتهم المسلحة على الانتصار في وقت قصير جدًا، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا، تجنب الاتصال المباشر بين قواتهم وقوات الخصم..

لفترة طويلة، جرت محاولات لتقليل طول القتال من خلال التخطيط لهجوم مشترك ضخم يهدف إلى التغلب على دفاعات العدو بمعركة حركية، وضرب نقاط الضعف في منشأة الخصم وتدمير قدراته الدفاعية قبل أن يتمكن من ذلك. تتفاعل.

تجمع الدبابة بين القوة النارية والقدرة على الحركة والتحمل، ولهذا كانت في قلب هذا النهج للحرب لعقود. منذ تسعينيات القرن الماضي فصاعدًا، بدأ القضاء على المراكز العصبية للعدو في مركز العقيدة العسكرية، لكنه يستثمر بشكل كبير في المكونات الجوية والصاروخية والإلكترونية والسيبرانية. إذا كانت المواجهة الطويلة أمرًا لا مفر منه، فإن الطريقة الرئيسية هي تقليل المواجهات المباشرة – ومن هنا أيضًا تعبير “الحرب غير المباشرة” – والبحث عن حلول عملية بشكل رئيسي في التقنيات الجديدة، كما تم القيام به لثني بلغراد دون نشر “جنود على الأرض”..

نحن نتعامل هنا مع نماذج مثالية غير موجودة في الواقع. في الواقع، تتحرك الحروب المعاصرة في طيف بين هذين النقيضين وتستخدم في أي حال جميع أدوات الحرب المتاحة في ترسانة الأسلحة. ومع ذلك، فمن الموضوعي، لأسباب سياسية وثقافية واقتصادية، أن تمتاز الولايات المتحدة ودول الناتو بالتفوق التقني في السنوات الأخيرة كي تسود في الاشتباكات المسلحة.

لماذا هذا التغيير؟

ليس مألوفاً هذه الأيام الاقتباس من المؤلفين الروس؛ مع ذلك، فإن الكراهية العميقة للينين تبرر التشكيك في الزعيم الثوري. كتب لينين في عام 1913 أن الطريقة التي يتم بها خوض الصراع تعتمد بشكل مباشر على النظام الاقتصادي الذي يقوم عليه إنتاج الأسلحة. أعطت تجربة التدخلات في الشرق الأوسط وإفريقيا وإلغاء التجنيد، فضلاً عن التدهور الديموغرافي لنصف الكرة الشمالي بأكمله، مبررًا عسكريًا مقنعًا للتحرك نحو نماذج الأعمال الجديدة الراسخة أيضًا في قطاع الدفاع. العقود الماضية. لقد أفسحت القدرة الصناعية المجال للملكية الفكرية وأصبحت أنظمة الأسلحة معقدة بشكل متزايد وكثيفة من الناحية التكنولوجية.

لهذا السبب أيضًا، أعتقد أن العديد من المعلقين يحللون بارتياح الأحداث في أوكرانيا: لقد تبين أن هجوم البرق الذي شنه الروس كان كارثة هائلة ويبدو أنه يقلل من أهمية أحد أنظمة الأسلحة، الدبابة، التي تمتعت روسيا حتى الآن بتفوق عددي واضح على الناتو. حتى أولئك الذين لم يصدقوا أبدًا أن القفزات التكنولوجية إلى الأمام التي تخشاها القوات المسلحة الروسية تتوافق مع الواقع، افترضوا دائمًا أن قدرات “القرن العشرين” للتجنيد الإجباري الروسي لا تزال تمثل حلاً احتياطيًا فعالاً.

مع ذلك، فإن مجزرة دبابات T-72 و T-80 الروسية في أوكرانيا تثير الكثير من الشكوك في هذا الصدد. في غضون أربعة أشهر، فقد الروس 786 دبابة، أي ثلاثة أضعاف عدد الدبابات المتاحة للجيش الألماني. يبدو أن انتشار الطائرات بدون طيار وأنظمة الصواريخ التي تطلق عن الكتف (Stinger و Javelin) يشير إلى نهاية المدرعات.

مستوحى من أوبر

مع أنظمة غير مكلفة نسبيًا ولكنها عالية التقنية، تمكن المدافعون من إيقاف آلة الحرب ذات النكهة السوفياتية. باستخدام نظام مستوحى من أوبر، يمكن المواقع المتقدمة أن تخبر المدفعية بالمواقع التي يجب أن تقصف. الإغراء هو إعلان انتصار وادي السيليكون على مصنع أورال واغن (صانعي دبابة T-72).

مع ذلك، سيكون خطأ الانغماس في الغطرسة التكنولوجية. غالبًا ما كانت الخسائر الروسية في المدرعات ناتجة عن أخطاء تكتيكية أكثر من تفوق تكنولوجي لا مفر منه. إضافة إلى طوابير الدبابات في الأيام الأولى للحرب المعرضة للكمائن والطائرات من دون طيار، فشل الروس في كثير من الأحيان في إضافة تشكيلات مشاة كافية إلى دباباتهم لتخليص مسارها وحمايتها من الأنظمة المضادة للدبابات.

إضافة إلى ذلك، فإن طلبات الحصول على الدبابات التي قدمتها كييف في الأيام الأخيرة تؤكد السياقات التي تكون فيها القوات المدرعة ضرورية: الأراضي المفتوحة مثل سهوب دونباس، حيث يكون التنقل والقدرة على اختراق دروع مركبات العدو أمرًا أساسيًا.

من غير المعقول أن تكون قادرًا على شن هجوم مضاد يستغل أي نقاط ضعف في خط العدو من دون أن تكون قادرًا على الاعتماد على المركبات التي، رغم أنها ليست مفيدة عالميًا، لا تزال صالحة بما يكفي لتركيز القوة النارية الكافية والمناورة خارج مواقع العدو. بالفعل، بعد الخسائر الفادحة التي لحقت بالدبابات الإسرائيلية خلال حرب يوم الغفران كان هناك حديث عن غروب شمس الدبابة. بعد أربعين عامًا، وبفضل العديد من أنظمة الإجراءات المضادة والقدرة على البقاء، لا تزال القوات المدرعة تلعب دورًا مركزيًا في ساحة المعركة.

في ألمانيا، كان من المتوقع إنتاج 104 دبابة من طراز ليوبارد بين عامي 2017 و 2023. منذ 24 فبراير، سجلت أوكرانيا 196 خسارة مؤكدة، ومن المرجح أن يكون الرقم الحقيقي أعلى. واضح أن انخفاض الإنتاج يرجع إلى نقص الطلب على مدار عقد من الزمان، لكن ثمة شك في ما إذا كان النهج الصناعي والتكنولوجي الذي ركز على منتجات التكنولوجيا العالية على أنظمة أبسط نسبيًا ملائماً للحرب عالية الكثافة. تتلخص العمليات المنسقة التي تنطوي على استخدام مكثف للقوات البرية في النهاية في القدرة على إدارة العمليات الصناعية الكبيرة وتنظيم إنتاج مئات المركبات المدرعة القياسية والموثوقة مع التقدم التكنولوجي.

هذه امتيازات مختلفة تمامًا عن الاستثمار بكثافة في أنظمة طائرات متعددة الأدوار مصقولة أو مجموعات فردية عالية التقنية للمشاة، أو تخيل حلول عالية التقنية لضمان التفوق الجوي دون تعريض طياريهم للخطر.

تؤدي التقانة دورًا مركزيًا في الحالتين، لكن من منظور الإنتاج، يكون الاختلاف هو نفسه الموجود بين شركة تصنيع سيارات وتقنية كبيرة.

تتطلب حرب المناورة في المقام الأول أنظمة موثوقة ومرنة ودقة حرب غير مباشرة واتقان تقني. بعد التفكير لعقود من الزمان في أن تطوير أنظمة أسلحة جديدة كان مثل شراء iPhone جديد، وأنه كان كافياً لتكليف مركبات أكثر تعقيدًا للتغلب على الحرب المدرعة، فإننا نواجه اليوم عجزًا محرجًا عن تزويد حلفائنا. إنه نظام اقتصادي-صناعي غير مستعد إطلاقا لخوض نوع من الحرب ليس سوى الماضي.

أعدت “إيلاف” هذا التقرير عن موقع “لينكيستا” الإيطالي

—————————

«الناتو» يبدأ إجراءات ضمّ فنلندا والسويد… ويعتبر روسيا «خطراً مباشرا»

قررت دول حلف شمال الأطلسي، خلال قمة مهمة في مدريد، أمس الأربعاء، تعزيز وجودها العسكري على أبواب روسيا، وإطلاق آلية التوسيع لضم السويد وفنلندا، في خطوة اعتبرتها موسكو “عدائية” و”مزعزعة للاستقرار”، فيما قال الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إن بلاده نشرت هذا العام 20 ألف عسكري إضافيين في أوروبا لـ”تعزيز صفوفنا ردا على الخطوات العدوانية التي تقوم بها روسيا”، ما يرفع العدد الإجمالي للأمريكيين المتمركزين في القارة إلى أكثر من 100 ألف.

كما شكر بايدن نظيره التركي رجب طيب اردوغان، لرفع معارضته لدخول فنلندا والسويد إلى “الناتو”، فيما أشارت الولايات المتحدة أيضا إلى دعمها خطة تركيا لشراء مقاتلات من طراز أف – 16 .

وقال بايدن للرئيس التركي، فيما كان جالسا إلى جانبه “أود أن أشكرك على ما قمت به لإصلاح الوضع فيما يتعلق بالسويد وفنلندا وعلى العمل الرائع الذي تقوم به” لإنعاش عملية تصدير الحبوب من أوكرانيا.

واتفق قادة حلف شمال الاطلسي على دعوة فنلندا والسويد رسميا للانضمام إلى الحلف، بعدما أبرمت تركيا اتفاقا مع الدولتين الاسكندنافيتين لرفع اعتراضها على عضويتيهما.

وأكد الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، عند افتتاح النقاشات التي يشارك فيها كل قادة “الناتو” حتى اليوم الخميس، أن الحلف “في لحظة محورية” من تاريخه.

وزاد: “أوكرانيا يمكن أن تعتمد علينا طالما لزم الأمر”.

وقال إن “روسيا كانت شريكا خارجيا في المفهوم الاستراتيجي لعام 2010، والآن يتم تعريفها على أنها خطر مباشر”.

في المقابل، اعتبر سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، أن قمة حلف شمال الأطلسي في مدريد تؤكد “عدائية” الحلف حيال روسيا، واصفا توسيع عضويته إلى فنلندا والسويد، بأنه خطوة “مزعزعة للاستقرار إلى حد كبير”.

وعلى هامش قمة الحلف الأطلسي في العاصمة مدريد، وقعت إسبانيا والولايات المتحدة، أول أمس الثلاثاء، اتفاقاً عسكرياً، يتم بموجبه نشر سفينتين حربيتين أمريكيتين في قاعدة “روتا”.

————————

تمدد الناتو والفضل لبوتين وصدّام وخامنئي/ ياسر أبو هلالة

حصلت تركيا على صفقةٍ مناسبة، تراجعت فيها عن اعتراضاتها على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، وبذلك باعت بوتين بثمن يناسبها. وهو بالنسبة لتركيا له وظيفة أساسية؛ رفع سعرها عند الإدارة الأميركية، ويدرك بوتين ذلك جيدا، فلم تكن روسيا، تاريخيا، حليفا موثوقا لدى تركيا، وظلت تتقلّب في عين أردوغان بين عدو وصديق؛ تخوض معه معركةً جويةُ وتُسقط طائرةً لجيشه في سورية، وحليف عقب المحاولة الانقلابية في 2015. وهو مزوّد تركيا بصواريخ إس 400، وهو الذي يحاربها وكالة في أرمينيا، وتركيا تحاربه بمسيّراتها وكالةً في أوكرانيا. والواقع أنه لولا حماقته في أوكرانيا لما باعه أردوغان الذي حاول المضي في استراتيجية أوراسيا (التمدّد آسيويا) بدلا من “الناتو” والاتحاد الأوروبي.

كرّر خطأ صدّام حسين حرفيا، فمن حيث أراد فرض نفسه قوة عربية في المنطقة تواجه النفوذ الغربي، أعاد القواعد الأميركية إلى المنطقة بعد غزوه الكويت. كانت أميركا قد خرجت من المنطقة عسكرياً بعد سقوط الشاه، واعتبرت دول الخليج صدّام ظهيرا لها في مواجهة إيران التي تبنّت عقيدة تصدير الثورة. وفضّلت أن تدعمه في حربه على أن تستعين بقواعد أميركية. بعد غزو الكويت انهارت الثقة ليس في العراق، وإنما بمنظومة الأمن القومي العربي. هذا ما فعله بوتين بأوروبا، حقّق تماسكا غير مسبوق للحلف، ووسّعه بانضمام السويد وفنلندا. مع التذكير بأن ترامب كان ينظر بازدراء إلى الحلف الذي تنفق عليه أميركا من دون مقابل.

يتمدّد الحلف عربيا بمعزلٍ عن التسميات والاتفاقات. ورغم النفي الذي صدر عن وزير الخارجية الأردني لانضمام إسرائيل إلى “ناتو” عربي، إلا إن ذلك لا ينفي واقع أنها حليفٌ ضمني، سواء للدول الموقّعة على اتفاقات سلام وتطبيع أم الدول غير الموقّعة. والعرب عموما لا يتحالفون كتلة واحدة، إنما بشكل ثنائي. فكل دولةٍ تقلّع شوكها بيدها، فدولٌ تعتبر إيران صديقا، وأخرى تعتبرها عدوا. وثالثة ما بينهما. هذا التمدّد لا ينفصل عن سياق تاريخي من حلف بغداد في مواجهة المدّ الناصري إلى حرب الخليج الثانية، واحتلال العراق في 2003.

الفضل في التمدّد الأميركي خصوصا، و”الناتو” عموما، يرجع إلى أعداء أميركا. من حيث أرادوا إخراجها أشرعوا لها الأبواب. لو لم يغزُ صدّام الكويت لما عادت القواعد العسكرية الأميركية إلى المنطقة العربية، ولو لم يغز بوتين أوكرانيا لما توسّع حلف الناتو. وفوق ذلك، لو لم تمارس إيران سياستها العدوانية تجاه العالم العربي، سواء في العراق أم سورية أم لبنان أم اليمن، لما احتمت الدول المهددة بأميركا. طبعا إسرائيل هي المستفيد الأول والمقاول بالباطن.

يرفع الحوثي شعاراتٍ تزايد على إيران “الموت لأميركا واللعنة على اليهود”، وفي الواقع، هو من مكّن لهما. كانت اليمن في حكم علي عبدالله صالح تنتهج سياسة متوازنة تلاعب أميركا والسعودية بتهديدها مرّة بخطر إيران من خلال الحوثي، ومرّة من خلال القاعدة، وظل البلد ملتزما بمواقف ملتزمة بدعم القضية الفلسطينية. بعد ثورة شباب الميادين، وخلع علي عبدالله صالح، كانت البلاد مقبلةً على نظام ديمقراطي أكثر التزاما بالقضية الفلسطينية والقضايا العربية، في ظل الإجماع اليمني على دعم المقاومة ورفض التطبيع من خلال أحزاب المؤتمر والإصلاح والاشتراكي واللقاء المشترك والحوثي من بعد. نكث الحوثي هذا الإجماع، وانقلب عسكريا وبرؤية طائفية مناطقية، وطرد القيادة الشرعية، وصولا إلى ما نشهده اليوم.

فوق الكارثة التي حلّت بالشعب اليمني نتيجة انقلاب الحوثي وفشل “عاصفة الحزم”، شعرت بعض دول المنطقة بالتهديد الذي يستدعي توثيق التحالف مع أميركا، لا بل التعاون مع العدو الصهيوني في البحر الأحمر. وعندما يكون لأميركا أعداء كهؤلاء لا تحتاج أصدقاء.

العربي الجديد

—————————————-

لماذا وافقت تركيا على انضمام السويد وفنلندا للناتو؟/ سعيد الحاج

وقعت تركيا في الـ28 من يونيو/حزيران الجاري مذكرة تفاهم مع كل من السويد وفنلندا، بعد اجتماع لرؤساء الدول الثلاث في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مدريد برعاية أمينه العام، بما يعدّ بمنزلة موافقة تركية على انضمام الدولتين للحلف بعد اعتراضها الأوّلي على ذلك.

شروط تركيا

كانت أنقرة، بعد إعلان السويد وفنلندا رغبتهما في الانضمام للحلف على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، قد أعلنت رسميا وعلى لسان الرئيس أردوغان عدم موافقتها على ذلك قبل تجاوبهما مع مطالب لها متعلقة بأمنها القومي.

وقال الرئيس التركي إن الناتو حلف عسكري أمني في المقام الأول، ومن ثم فمن البديهي أن من أولى مهماته مكافحة الإرهاب والمنظمات الإرهابية، وأن من أَولى مهمات الدول الأعضاء التعاوُنَ في هذا المجال وليس غض الطرف عن منظمات إرهابية تضرّ بدول أعضاء أخرى فضلًا عن توفير الدعم والحماية لها.

أكد أردوغان في أكثر من حديث له إصرار بلاده على موقفها، لدرجة أنه نصح وفود البلدين التي كانت تنوي زيارة أنقرة للحديث في الأمر بـ”عدم تجشم عناء السفر” إن لم يكن لديهم استعداد واضح للتجاوب العملي والأكيد مع المطالب التركية.

وفي مقدمة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية جاء تخلّي السويد وفنلندا عن سياسة الحياد وتقديمهما طلبًا رسميًّا للانضمام إلى الحلف وكذلك رغبة الحلف والولايات المتحدة بتسريع مسألة الانضمام، وذلك منح تركيا يدًا عليا في هذا الإطار، لكنه أيضًا من جهة أخرى كان يوحي بعدم إمكانية وقوفها في وجه العضوية حتى نهاية الشوط.

وفي الأصل كانت أنقرة دائمًا مع سياسة توسيع التحالف، فقد قدّمه أردوغان في أكثر من خطاب سابق في إطار “الحفاظ على السلام والاستقرار في العالم”، ولذا فقد كان الاعتراض التركي مسبّبًا وليس مبدئيًّا، وذلك يعني أن تركيا ضمنًا مع توسيع الناتو وضمّ الدولتين ولكن “بعد استجابتهما لمطالبها”.

بيد أن أنقرة قاومت الضغوط الممارسة عليها ضمنًا، وأكد الناطق باسم الرئاسة إبراهيم قالن أن بلاده ليست في عجلة من أمرها، وأن الأمر لن يحلّ بالضرورة “قبل قمة مدريد” كما طالب أكثر من مسؤول في التحالف.

تعلقت الشروط التركية بما عدَّته دعمًا من السويد وفنلندا لمنظمات إرهابية (تحديدًا حزب العمال الكردستاني والمنظمات المرتبطة به وكذلك جماعة غولن)، واحتضان مؤسسات داعمة لها، والسماح لها بالتمويل والبروباغندا وحشد الأنصار، فضلًا عن عدم التعاون مع أنقرة في تسليم المطلوبين في قضايا تتعلق بالإرهاب، واستمرار حظر بيع الأسلحة لها على خلفية عملياتها العسكرية في الشمال السوري ضد الامتداد السوري للكردستاني.

مذكرة التفاهم

زارت وفود من البلدين تركيا، وبدأ مسار من التفاوض، ولم تكن التصريحات التركية الرسمية متفائلة في البداية، ولذا فقد كانت قمة مدريد محطة مهمة في هذا المسار، لا سيما بعد إعلان أمينه العام ينس ستولتنبرغ موافقة رؤساء الدول الثلاث على الاجتماع الذي دعا له على هامش القمة، وذلك ما رفع من سقف التوقعات بإمكانية التوصل إلى تفاهم ما.

لم يكن التفاهم الذي توصلت إليه تركيا مع فنلندا والسويد مفاجئًا ولا بنوده خارج التوقعات؛ فتركيا لم تكن ضد انضمام البلدين إلى الناتو بالمطلق، وإنما قدمت مطالب قبل موافقتها على ذلك، والبلدان ينظران إلى عضوية الناتو على أنها خطوة حيوية لا بد منها لتجنب أي خطوة روسية باتجاههما. ولذلك، كان الأمر منذ البداية عبارة عن مسألة تفاوضية بين الجانبين، وكان المتوقع أن توافق تركيا على خطوة الانضمام بعد استجابتهما لمطالبها. ولكن السؤال كان يدور حول: أي مطالب سيوافق عليها البلدان؟ وبأي سقف؟ وأي آلية؟ وأي أدوات؟.. إلخ.

نصّت مذكرة التفاهم التي توصلت إليها الأطراف برعاية الأمين العام للحلف على “دعم السويد وفنلندا -كأعضاء مستقبليين في الناتو- الكامل لتركيا في مواجهة جميع التهديدات لأمنها القومي”، وفي هذا الإطار “عدم تقديمهما أي دعم لوحدات الحماية/حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD/YPG) وما يعرف في تركيا بمنظمة فيتو” أو القيادة المتنفذة في جماعة غولن.

وتتعهد الدولتان -وفق مذكرة التفاهم- بمنع أنشطة العمال الكردستاني وجميع المنظمات الإرهابية الأخرى وامتداداتها، والأشخاص الموجودين في المؤسسات المرتبطة بها والمنظمات التي تعمل كواجهة لها، والأشخاص المرتبطين بهذه المنظمات الإرهابية. وستباشر الدولتان التحقيق في أنشطة جمع المال وحشد الأنصار من قبل هذه المنظمات وستحظرها، كما اتفقت الدول الثلاث على رفع منسوب الحوار والتعاون بينها لمنع أنشطة هذه المنظمات الإرهابية، وعلى انتهاج “خطوات عملية” في المستقبل القريب في هذا السياق.

وأشارت المذكرة إلى المسار القانوني والتشريعي الذي ستعتمده الدولتان، فقد أقرّت فنلندا أخيرًا تعديلًا على قانون العقوبات، في حين ستبدأ السويد تطبيق قانون جرائم الإرهاب في الأول من يوليو/تموز المقبل، وتؤكد الدول الثلاث “عدم وجود أي نوع من حظر توريد الأسلحة فيما بينها”.

ونصت المذكرة على تفاعل الدولتين “بسرعة وبكل الأبعاد” مع مطالب تركيا المتعلقة بالإبعاد وإعادة المتهمين في قضايا الإرهاب، “في ضوء المعلومات والأدلة التي ستقدمها تركيا ووفق الاتفاقية الأوروبية الخاصة بتسليم المجرمين”.

أسباب الموافقة

مباشرة بعد توقيع مذكرة التفاهم، قالت مصادر في السويد وفنلندا إن الطريق بات ممهدًا أمام انضمامهما للناتو، في حين قال ستولتنبرغ إنه يأمل بفترة انتقالية سريعة لتحقيق “الانضمام الأسرع في تاريخ الحلف”، كما ذكر بيان للرئاسة التركية أن “تركيا حصلت على ما تريده من المحادثات”.

قد يبدو ظاهريًّا أن أنقرة تراجعت عن موقفها المتشدد لمصلحة إعطاء ضوء أخضر لانضمام الدولتين، لكن نظرة متعمقة لما حدث لا تقول بذلك.

ففي المقام الأول، لم يكن الرفض التركي لعضوية البلدين مبدئيًّا أو قاطعًا ونهائيًّا، بل كان مشروطًا ومسبّبًا مع التزام بالموافقة في حال استجابت الدولتان للمطالب. ثانيًا، وفي هذا الإطار، يمكن القول إن السويد وفنلندا قد استجابتا -وفق بنود المذكرة- لمعظم إن لم يكن كل الشروط التركية المعلنة، وهو ما دفع أنقرة إلى الاحتفاء بما عدّته انتصارًا دبلوماسيًّا لها.

وثالثًا، فإن الموقف التركي والشروط المعلنة أسهما في فتح باب التفاوض أو تسريعه مع الولايات المتحدة الأميركية بخصوص الملفات العالقة ولا سيما ملف التسلح. ولعل من الممكن توقع حصول تقدم ما خلف الأبواب المغلقة بين أنقرة وواشنطن، إذ ليس من المصادفات أن تبرم تركيا الاتفاق في اليوم الأول من قمة مدريد وقبيل لقاء أردوغان مع الرئيس الأميركي.

كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن تعلن واشنطن دعمها لخطط “تحديث أسطول تركيا من مقاتلات إف16” بعد ساعات من توقيع مذكرة التفاهم والتأكيد أن “أمن تركيا من أمن حلف الناتو”، على لسان المستشارة المسؤولة عن شؤون الأمن الدولي في وزارة الدفاع الأميركية سيليست والاندر.

كما أنه لا ينبغي أن يغيب عن التقييم أنه رغم التقارب الملحوظ بين تركيا وروسيا في السنوات الماضية فإن موسكو ما زالت خصمًا تقليديًّا لأنقرة، إذ تملكان رؤى مختلفة وأحيانًا متناقضة إزاء مجمل القضايا الإقليمية. استشعار أنقرة للخطر الإستراتيجي من موسكو تزايد بعد التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا 2015 حيث باتت روسيا على حدودها الجنوبية، وتعمّق بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي تهدد بنسف التوازن القائم في حوض البحر الأسود لمصلحة موسكو.

وأخيرًا، لا يبدو أن للقرار بإعطاء ضوء أخضر لعضوية البلدين تأثيرًا سلبيًّا مباشرًا على علاقات تركيا بروسيا، إذ تحولت روسيا منذ مدة من التهديد برد فعل إذا ما قبلت عضوية البلدين إلى التهديد بالرد في حال نشر الناتو منظومات عسكرية محددة على أراضيهما مع التأكيد أن مجرد العضوية ليس بالضرورة تهديدًا لها.

ختامًا، سيكون الفعل هو المحك الأهم لمذكرة التفاهم الموقعة بين تركيا من جهة والسويد وفنلندا من جهة أخرى، وهناك تخوفات تركية من تنصل الدولتين لاحقًا من التزاماتهما إذ لأنقرة تجارب سلبية في هذا الإطار. لكن أهمية الفترة الانتقالية للبلدين، والحاجة إلى موافقة أنقرة على بعض القرارات المهمة لهما في المستقبل يقللان من احتمال التنصل وإن كانت بعض البنود مفتوحة على أكثر من تفسير في التطبيق العملي.

لكن بكل الأحوال، لا تبالغ أنقرة حين تعدّ ما حدث انتصارًا لها، فقد أثبتت أنها كانت محقة في مطالبها، وثبّتت سرديتها، ونصت بنود المذكرة على الامتدادات السورية للعمال الكردستاني كما كانت تريد، وهو أمر سيقوي من موقفها إزاء دول أخرى تتبنّى النهج السابق نفسه للسويد وفنلندا، وهي نقطة بحاجة إلى تفصيل أكثر في مقال قادم.

سعيد الحاج

كاتب وباحث في الشأن التركي

—————————

الممانعون الأميركيون واجتياح أوكرانيا/ دلال البزري

السجال دائر على الشبكة بين اليساريين الأميركيين عن اجتياح أوكرانيا. وانقسامهم لا يختلف كثيراً عن انقسامنا. ولا عجب. فكلّ من كانت أولويته قبل هذا الاجتياح مناهَضة الإمبريالية الأميركية، وقفَ مع بوتين؛ بكلّ “الحزن” الواجب أمام دمار أوكرانيا. وهذا الحزن مقدّمة “إنسانية” لا بد منها عندهم. ومهما أطال واحدهم من الأضرار اللاحقة بأوكرانيا نتيجة هذا الاجتياح، ومهما تلوّع على ضحاياه… تأتي تلك اللحظة التي يطلق فيها “لكن” الشهيرة، وخلفيتها جملة واحدة قالها الفيلسوف الأميركي، نعوم تشومسكي، وقوامها: “اجتياح روسيا أوكرانيا جريمة بالغة، مثل الاجتياح الأميركي للعراق، لكنّ الأزمة كان يمكن تجنّبها منذ خمس وعشرين سنة، لو لم تهمل أميركا، بكثير من الاحتقار، القلق الروسي في المجال الأمني”.

أوجد تشومكسي معادلة التحفّظ الممانع بهذه الـ”لكن”. وعلى أساسها انقسمت “بنية” الموقف الأميركي الممانع إلى اثنين: في الأول، يتفجّع على ضحايا الحرب الأوكرانية، يمرِّر حبّه السلام، ولا ينسى في طريقه ذنوباً سابقة للإمبريالية الأميركية. وفي الثاني، ينقضّ على أميركا، أنّها عملت وفعلت بحلف شمال الأطلسي (الناتو) ما لم يفعله الشيطان. وأخيراً تلك التمريرة اللبِقة، حول “احتقار” أميركا “القلق” الروسي. أي إنّ روسيا تستحق “كلّ الاحترام”.

ماذا تستنتج من جملة تشومسكي، وقد تحوّلت إلى لازِمة لا بد منها، مهما استطالت آراء الأوفياء لفلسفته، ومهما اختلفت صياغاتهم؟ ثلاث نقاط أساسية:

أُولاها، أنّ المخيّلة المستوطنة في عقل الممانع الغربي مأخوذة بالجيوسياسة أكثر من اللزوم. معه، خرجت الجيوسياسة من دوائر القرار، وصارت من اختصاص كلّ من يسْتأنس بحرب بوتين على أوكرانيا. وكلّ الموضوع عنده أنّ روسيا منزعجة من تقدم “الناتو” على حدودها الغربية. ومكائد “الناتو” معروفة تاريخياً، إنّها خيوط عسكرية بقيادة الأميركيين. إذاً، الحرب الدائرة في أوكرانيا من حقّ بوتين، لأنّه بذلك يدافع عن “مجاله الحيوي”. ردود اليساريين الأميركيين غير الممانعين على هذا “التفسير” للحرب لا ينبض. يغوصون في تاريخ “الناتو”، ويفصلون المراحل والمواقف إلخ، من دون أن يقتصر منهجهم على الجيوسياسة. وهم أيضاً يعبّرون عن عدائهم تجاه الإمبريالية الأميركية. وفي خضم هذا السجال، يذكر أحدهم أن مفهوم “المجال الحيوي” أي قاعدة التفكير الجيوسياسي، هي من اختراع هتلر. “المجال الحيوي” لهتلر كان أوروبا الشرقية في البداية. كان يراها حقاً طبيعياً لألمانيا، تعويضاً عن احتكار البريطانيين والفرنسيين الاستعمار في آسيا وأفريقيا. وأيضاً، بداية لاستعادة المجد الألماني الضائع، بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى. ويتابع أولئك اليساريون غير الممانعين بأنّ بوتين إنما يناور بإرث هتلر، أي “النازية”. فتارّة تكون مبرّراً لاجتياحه أوكرانيا، لأنّها “نازية”. وتارة أخرى يلهمه “المجال الحيوي” المفهوم النازي بامتياز، وهو أثقل حججه. حجّة من النوع التي تخرس خصمها، أو تفترض كذلك.

النقطة الثانية: روسيا من “الكبار”، من “عزيز قوم ذُلّ”. يجب “احترامها” يقول تشومسكي. ولا يقول السبب. تلامذته يفصّلون. بعضهم يعتمد على حنين أيامٍ مضت، عندما كان الاتحاد السوفييتي “صديقاً للشعوب”، و”نموذجاً اشتراكياً”. وكلّ انجازات روسيا “المحترمة” لا يجب أن تُنْسى. وهؤلاء أقل المُمَجِّدين ضَرَراً. الآخرون يسردون في تاريخ روسيا المجيد، الذي لا يتضمّن غير توسيع حدودها، ونزوعها إلى التمدّد غرباً، بعدما استوفت شرقها ببلوغها المحيط الهادئ. القياصرة، تقاليد القتال، العظَمة… “كانت” روسيا هي الأغرّ دائماً.. وهي الآن، عشيّة اجتياحها أوكرانيا متعذِّبة من أنّها لم تعُد قوة عظمى كما كانت. وبناءً على هذه الرغبة، هذه الحاجة الملحّة، تستحق روسيا مزيداً من الحدود، فيما هي أكبر الدول مساحةً (الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحمل اللوثة نفسها، إذ يدافع عن “كرامة” بوتين، ويحذّر من أنّه يجب “عدم إذلاله”).

النقطة الثالثة في هذا السجال الأنغلو ساكسوني، هي الإمبريالية الأميركية شرّاً أبدياً وثابتاً حتى نهاية الزمان. وكلّ من يتصدّى لها هو أوتوماتيكياً من معسكر الخير. أي، بما أنّ الذي يحصل الآن في أوكرانيا هو صراع “جيوستراتيجي” بين أميركا وروسيا، فإنّنا نقف ضد الإمبريالية الأميركية، الخالدة. ثم إعادة التذكير بجرائم هذه الأخيرة: اجتياح أفغانستان والعراق، وقبلهما فيتنام وكمبوديا، إسقاط أنظمة ديمقراطية، دعم ديكتاتوريات عسكرية رجعية استغلالية، إلخ. أميركا فعلت هذا كله. وكلّ من يقف بوجهها هو خير مطلق. لا يتلفظ ممانعونا الأميركيون بهذه العبارات بالذات. يتركون خصومهم ليقولوا كم هي جوهرانية تلك الصفة التي يُلصقونها بالإمبريالية الأميركية. وكأن إمبريالياتٍ لم تسبقها، وإمبرياليات أخرى لا تنافسها، أو ستلحقها. ويضيفون أنّ الشرّ والخير يختلطان في أوكرانيا. أنّ أميركا الشرّيرة تدير حرباً ضد روسيا الشريرة.. وفي كلّ الأحوال، يضيفون أنّ المسألة في مكان آخر: في أنّ شعباً بعينه يكافح بالسلاح لطرد الاحتلال الروسي، وكفّ يد بوتين عن تقرير مصيره.

هكذا يشتبك “المجال الحيوي” مع “الشرّ الأميركي الأبدي” و”إرضاء الغرور الروسي”، ليخرج ذاك الموقف العملي، لا “التحليلي” وحسب: نحن مع روسيا، مهما غلطت الأقنعة “الإنسانية” والسلمية المعادية للحرب ولكلّ الحروب… “المجال الحيوي”، “الشر المطلق”، “العظَمة المستعادة”: ثلاث لوازم (جمع لازِمة) تعتمدها مرْوحة من الحركات والشخصيات والأحزاب، تحمل كلّها بصمة هلاك. من أسامة بن لادن صاحب “الفسطاطَين” خيره وشرّ أعدائه، والشياطين الكبيرة والصغيرة، ومحاور الشرّ.. واستعادة المجد الإسلامي العتيد، إلى هتلر، زعيم النازية، وذريعة بوتين في آن واحد، إلى أحزاب اليمين المتطرّف الغربي التي لا تختلف حججها عن تلك التي يطرحها ممانعو الغرب هؤلاء، فيؤيدون بوتين ويعجبون بقدراته، ولا ينظرون إلى الشعب الأوكراني إلّا رفعاً للعتَب.

ونقطة واحدة غابت عن هذا السجال: الممانعون الأميركيون، ومعهم معظم الغربيين، يتعامون عن أحد المبادئ “التأسيسية” ليساريتهم: حق الشعوب بتقرير مصيرها، مهما صغر حجمها وحضورها. فيتنام، فلسطين، ايرلندا، كوبا… شعوب العالم المقهورة، فعندما يؤيدون شعوباً تكافح الإمبريالية الأميركية، ويصدّقون على إمبريالية أخرى، تعتدي على شعوب أخرى .. فهذا يعني واحداً من اثنين: إما أنّهم غير عادلين، يكيلون بمكيالين، بوعي أو من دونه، أو أنّهم أصدقاء “موازين القوى” وبوتين في نظرهم قوي. وسينتصر، حتى لو هُزِم. وسيفرض السردية التي تعجبه. من أنّ الأوكرانيين كانوا جواسيس، فحرّر بوتين أوكرانيا منهم.

لا تستطيع أن تؤيد شعوباً هنا وتتجاهل شعوباً أخرى هناك. وإلّا فستستحق يوماً ما درساً .. لكن ما النفع؟ ربما لن يكون هناك درس بالنسبة إليك، ولا من يحزنون… طالما أنّ القضية ليست بالحجج والبراهين، إنّما بـ”موازين القوى على الأرض”، حيث بوتين هو المنتصر الأكبر حتماً، مهما أخفقَ.

العربي الجديد

————————-

زيلينسكي يقطع العلاقات مع سوريا:الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك”قرار تافه

أعلن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي مساء الأربعاء، إنهاء العلاقات الدبلوماسية مع سوريا بعد اعترافها باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين المواليتين لروسيا.

وقال زيلينسكي: “حصلت روسيا في النهاية على بيان من سوريا بشأن الاعتراف المزعوم بهياكل الاحتلال في دونباس على أنها دولة مزعومة”. وأضاف “في هذه الحالة لن يكون هناك مزيد من العلاقات مع سوريا”.

وأضاف زيلينسكي في تسجيل مصور عبر تطبيق “تلغرام”: “انتهت العلاقات بين أوكرانيا وسوريا”، مضيفا أن “ضغوط العقوبات” على دمشق الحليفة لموسكو “ستزداد شدّة”. وأضاف أنه يعتبر أن القرار السوري “موضوع تافه” ويفضل التركيز على مسائل أخرى.

وأعلنت سوريا في وقت سابق الأربعاء، الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين لتصبح أول دولة تقدم على ذلك بعد روسيا التي اعترفت بهما في 21 شباط/فبراير، قبل يومين من بدء الغزو.

وكان رئيس النظام السوري بشار الأسد قد أعلن في وقت سابق من حزيران/يونيو، خلال لقائه وفداً روسياً وممثلين عن جمهورية دونيتسك استعداد بلاده “للبدء بالعمل على رفع العلاقات… إلى المستوى السياسي” مع الأخيرة.

وهذه ليست المرة الأولى التي تنضم فيها دمشق إلى حليفتها روسيا، إذ اعترفت الحكومة السورية في أيار/مايو 2018، بمنطقتي أبخازيا وأوسيتيا الانفصاليتين في جورجيا الواقعتين تحت النفوذ الروسي.

وتعد روسيا أحد أبرز حلفاء دمشق، وقدمت لها منذ بداية النزاع في العام 2011 دعماً عسكريا واقتصادياً ودبلوماسياً خصوصاً في مجلس الأمن الدولي حيث منعت مشاريع قرارات عدة تدين النظام السوري.

———————-

خبراء يجيبون الجزيرة نت على احتمال نشوب حرب بين روسيا والناتو

حسب وثيقة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن “أغلب الأوروبيين يرون أن روسيا مخطئة في حربها على أوكرانيا، ولكنهم يؤيدون تخلي أوكرانيا عن منطقة الشرق مقابل توقف الحرب”.

أيوب الريمي

لندن- للمرة الثانية على التوالي يتحدث قائد الجيش البريطاني الجنرال باتريك ساندرز عن ضرورة التحضير لمواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مشبّها الأيام الحالية التي يعيشها العالم بالأيام التي سبقت الحرب العالمية الثانية.

ومتى تحدث قائد عسكري من وزن قائد للجيش البريطاني فيجب الانتباه لما يقول، خصوصا أن العديد من التقارير الإعلامية البريطانية كشفت أن تصريحاته تعكس تقييما دقيقا للواقع على الأرض وليس مجرد محاولة استنفار للقوات أو للتعبئة الداخلية.

وفي الأيام الأولى لاندلاع الحرب في أوكرانيا، عندما كانت الجزيرة نت تسأل عددا من الخبراء الإستراتيجيين البريطانيين عن إمكان نشوب مواجهة بين روسيا وحلف الناتو، كانت أغلب التقديرات تستبعد هذا السيناريو.

أما بعد مرور أشهر على هذه الحرب التي يبدو أنها طالت أكثر مما توقع كثيرون، فإن عددا من كبار الخبراء في السياسة الدولية قد تغيرت وجهات نظرهم كثيرا، وما كان مستبعدا يبدو أنه بات محتملا.

في هذا السياق، طرحت الجزيرة نت سؤالا يقول: هل نحن مقبلون على حرب وشيكة بين الناتو وروسيا؟ على أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، البروفيسور ريتشارد كابلان، ورئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة لندن للاقتصاد (LSE)، البروفيسور جرجس فواز، وهذه كانت توقعاتهم.

البروفيسور ريتشارد كابلان: الحرب المباشرة ممكنة ومستبعدة في آن معا (مواقع الإنترنت)

حرب ممكنة ولكن..

يميّز البروفيسور ريتشارد كابلان أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد بين إمكانية نشوب المواجهة بين حلف الناتو وروسيا بشكل متعمد أو عن طريق حادث غير مقصود. ويقول “في كلا الحالتين فإن الحرب المباشرة بالتأكيد باتت ممكنة رغم أنها ما زالت مستبعدة بعض الشيء”.

وفي تحليله لسلوك دول حلف الناتو وكذلك روسيا، يرى البروفيسور البريطاني أن كلا الطرفين ما زال حريصا على “تفادي المواجهة المباشرة”، منبّها في الوقت ذاته من أن “الانزلاق نحو المواجهة المباشرة قد يحدث بشكل سريع وستكون تبعاته جدية وخطيرة على جميع الأطراف”.

ويقول الأكاديمي البريطاني إن هذا الخطر في ازدياد إذا طال أمد الحرب الأوكرانية، و”حاليا لا توجد أي مؤشرات على أن هذه الحرب دخلت في مراحلها النهائية” ، ويضيف أن الغرب يتوقع قيام روسيا بتجميد عملياتها لتجميع قواتها والضرب بقوة من جديد.

في المقابل، فإن أوكرانيا ما زالت تطلب الصواريخ البعيدة المدى والأسلحة الثقيلة من الغرب بهدف إيقاف روسيا، “لكن حتى إن نجحت الأسلحة الغربية في إيقاف الزحف الروسي فهذا لن يعني أبدا نهاية الحرب” برأي كابلان.

وشدد البروفيسور على أن تصوّر بوتين للربح والخسارة في هذه الحرب قابل للتغيير، “فحتى لا يضطر مثلا إلى الانسحاب من كل الأراضي الأوكرانية مقابل الحصول على تعهد بعدم انضمام أوكرانيا للناتو، فهو قادر على ترويج هذا الأمر كانتصار لعمليته العسكرية”، مفسّرا هذا الأمر “بسيطرة بوتين على السردية في الداخل وهو قادر وبسهولة على بيع صورة القوي والمنتصر لأتباعه”.

بوتين لن يتراجع

يتفق البروفيسور فواز جرجس رئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة لندن للاقتصاد مع البروفيسور ريتشارد كابلان في تحليل سلوك حلف الناتو وروسيا وكونهما لا يسعيان للمواجهة المباشرة، “وخير دليل على ذلك أن الناتو حريص على عدم تسليم الأسلحة لأوكرانيا باسمه بل باسم كل دولة في الغرب”.

ويحذر جرجس من أن الحروب الكبرى لا تقع دائما عن قصد، “فأحيانا تحدث المواجهات المباشرة نتيجة للتصعيد غير المباشر ولحوادث غير مقصودة”.

ومن بين أوجه التصعيد غير المباشر “إصرار الغرب على تسليح أوكرانيا بأسلحة نوعية”، وهو “ما يوصل القيادة الروسية إلى قناعة مفادها أن الغرب يريد إذلالها وتحويل أوكرانيا إلى مستنقع للجيش الروسي؛ وحينئذ ستوسّع روسيا من رقعة المواجهة”، حسب تقدير الأكاديمي البريطاني.

ولعل أخطر سيناريو يمكن أن يقع هو أن تتخذ القيادة الروسية قرارا بالتصعيد الإستراتيجي، يفسره البروفيسور جرجس بأنه “الوصول لاستعمال روسيا لأسلحتها الإستراتيجية بدءا من الأسلحة البيولوجية وصولا إلى الأسلحة النووية”.

ما وراء الخبر 28/05/2013 – البروفيسور/ فواز جرجس ـ رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة لندن

البروفيسور فواز جرجس: المعسكر الغربي منقسم بسبب الارتدادات الاقتصادية الصعبة للحرب على أوكرانيا (الجزيرة)

بوتين مصمم والغرب منقسم

وبتتبع السلوك السياسي والأمني للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يؤكد جرجس أنه “لن يتراجع إلا إذا تحققت معظم الأهداف التي وضعها لهذه العملية، وأولها السيطرة على الشرق وأقلها الحصول على ضمانات لعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو”، داعيا الدول الغربية للتعامل مع هذا المنطق.

ويرى الخبير في العلاقات الدولية أن المعسكر الغربي ليس على قلب رجل واحد، “فهناك معسكر الحمائم الذي تمثله كل من ألمانيا وفرنسا، ومعسكر الصقور الذي تمثله بريطانيا والولايات المتحدة، وهناك انقسامات متزايدة داخل المعسكر الغربي بسبب الارتدادات الاقتصادية لهذه الأزمة”.

وحسب وثيقة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، اطلع عليها البروفيسور فواز جرجس، فإن “أغلب الأوروبيين يرون أن روسيا مخطئة في حربها على أوكرانيا ولكنهم يؤيدون تخلي أوكرانيا عن منطقة الشرق مقابل توقف الحرب”.

والسبب حسب المتحدث هو “تضرر القدرة الشرائية للمواطن الأوروبي من هذه الحرب فكلما طالت صعّبت الأزمة داخل دول الغرب”.

المصدر : الجزيرة

————————–

صفعة تركيّة لروسيا بسبب “الناتو”.. ما تأثيرها في الملف السوري؟/ رامز الحمصي

تعد موافقة تركيا على انضمام فنلندا والسويد إلى “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، وتبخر آمال روسيا في عرقلة انضمام الدولتين المجاورتين لروسيا، وتبدد الفرضية التي انتشرت مؤخرا أن تركيا سترفض انضمامهما من أجل روسيا، مقابل تفاهمات بين موسكو وأنقرة في الملف السوري، تشير التطورات إلى أن مزيداً من التوترات ستطرأ على العلاقات الروسية – التركية.

وبما أن الملف السوري، هو أحد الملفات المشتركة بين أنقرة وموسكو، فقد تذهب الأخيرة نحو التأكيد على رفضها للعملية العسكرية التركية المحتملة في شمال سوريا، فضلا عن مساومتها في ملف المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا من خلال معبر “باب الهوى” على الحدود التركية (التي تسيطر عليه أنقرة ضمنيا)، فهل سيكون التصعيد بين الطرفين في سوريا، هو عنوان المرحلة المقبلة، أم تذهب موسكو إلى أبعد من ذلك؟

نافذة الفرص أغلقت

خلال اجتماع دول “حلف الشمال الأطلسي” في اليومين السابقين، رفعت تركيا حق النقض (الفيتو) بشأن محاولة فنلندا والسويد للانضمام إلى الناتو، منهية نزاعا استمر لأسابيع، واختبر وحدة الحلف ضد الغزو الروسي لأوكرانيا.

اشترك ليصلك آخر الأخبار و التحليلات عن طريق الواتس آب

وجاء الاختراق في القرار يوم الثلاثاء الماضي، بعد أربع ساعات من المحادثات قبيل بدء قمة “الناتو” في العاصمة الإسبانية مدريد، حيث سمحت بتجمع 30 زعيما في العاصمة الإسبانية لإظهار جبهة موحدة ضد موسكو، وبدء عملية انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، بجدية.

الإعلان عن اتفاقية، يراه المحلل السياسي الروسي، أليكاس موخين، بأنه يعزز التحول الأكبر في الأمن الأوروبي منذ عقود، حيث تخلت دول الشمال الأوروبي عن حيادها المستمر منذ عقود للانضمام إلى التحالف العسكري، إلا أنه وضع أنقرة في مواجهة مباشرة مع روسيا، قد لا يستطيع حلف “الناتو” إنقاذها منها.

وكانت روسيا عارضت بشدة انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو”، معتبرة ذلك بمثابة تعدي إضافي للتحالف “الأطلسي” تجاه الأراضي الروسية، إذ تأسس “الناتو” في عام 1949 كتحالف دفاعي بهدف أساسي، هو مواجهة الاتحاد السوفيتي، ولا تزال روسيا تنظر إليه على أنه تهديد.

ويشير موخين، إلى أنه بعد أربعة أشهر فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأت آثار التموجات الجيوسياسية محسوسة في جميع أنحاء القارة الأوروبية، للنجاة من عدوان موسكو، تقدمت فنلندا والسويد بطلب للانضمام إلى “الناتو”، منهيتا عقودا من عدم الانحياز لكلتا الدولتين، ومن شأن انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو” أن يعزز قدرات الحلف وقابليته للدفاع ضد التهديدات الروسية.

وبيّن المحلل الروسي، أن موافقة تركيا على انضمام الدولتين إلى حلف “شمال الأطلسي”، بمثابة ضربة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أثار استياءه من توسع الحلف بعد الحرب الباردة و استخدامه كذريعة لتوغله في أوكرانيا، و”هي مسألة لن تنساها موسكو بسهولة”.

الحيرة في العلاقة المعقدة بين روسيا وتركيا، إذ يعتبران منافسين شرسين، فموسكو وأنقرة تدعمان المعسكرات المتعارضة في ليبيا وسوريا وناغورنو كاراباخ، وتركيا عضو في حلف “الناتو” (الحلف الذي تعتبره روسيا خصما وتهديدا)، ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع التعاون بين القوتين، إلا أن هذا التعاون قد يتوقف حاليا، بحسب موخين.

تداعيات توسع “الناتو” ورد بوتين المحتمل، سيبدأ برأي موخين، بتقويض الهندسة الأمنية والجغرافيا السياسية في أوروبا، والبداية ستكون من تركيا، حيث يشكك المحلل الروسي، مما إذا كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قادرا على تحمل تأجيج النيران في سوريا، لا سيما، وأنه كان يتخذ من الحرب في أوكرانيا نافذة للفرص.

كيف سيكون الرد؟

ومع عدم أخذ أنقرة التحذيرات الروسية من انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو” بعين الاعتبار، من المؤكد بحسب الصحفي المصري، محمد حسين، أن هذا الخيار سيعمل على تغيير مسار العلاقات بين روسيا وتركيا، وقد يتصدى الزعيم الروسي، فلاديمير بوتين، لمباراة أردوغان المزدوجة.

واستشهد حسين خلال حديثه لـ”الحل نت”، بطريقة الرد الروسي، عندما أسقطت تركيا طائرة روسية في سوريا في عام 2015، من خلال انتظار الوقت المناسب للانتقام، وفي الوقت نفسه الاستفادة من تركيا وسط العقوبات الغربية، إذ بات نهج أردوغان لا يضمن “لعبة آمنة” لأنقرة، لا سيما في جبهات المواجهة المحتملة مع روسيا بما في ذلك سوريا وليبيا.

ويشير حسين، إلى أن خطوة قبول أنقرة بتوسيع “الناتو”، ستكون حتما مصدر محتمل للخلاف بين أنقرة وموسكو، لا سيما وأن هناك إرهاصات سابقة منذ بدء روسيا غزوها لأوكرانيا، كإغلاق المضائق التركية التي تربط البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأسود بالسفن الحربية من خلال تطبيق أحكام اتفاقية “مونترو” أمام السفن الروسية، ودعم أنقرة لأوكرانيا بالطائرات التركية بدون طيار، وحظر الطيران الروسي للوصول إلى سوريا عبر الأجواء التركية.

ويرى حسين، أنه تكمن معضلة بوتين، في أنه يتعين عليه الرد بطريقة ما على تحركات فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي لتجنب الظهور بمظهر ضعيف، ولذا سيكون رد بوتين المعتاد هو إرسال القوات التقليدية الروسية إلى الحدود مع فنلندا، ونشر الطائرات والسفن الروسية في شرق البلطيق، هذا على المستوى المحلي الروسي.

أما رد بوتين على تركيا الأكثر ترجيحا، تهيئة حرب أوروبا القادمة بين اليونان وتركيا، لا سيما بعد توتر العلاقات بين البلدين خلال الشهور الماضية، رغم انخراطهما بنفس الحلف، ففي السنوات التي سبقت حرب أوكرانيا، أصبحت روسيا والصين أكثر نشاطا في شرق البحر المتوسط بمبادرات اقتصادية، ودعم اليونان عن بُعد، وكان التصدي لهذا الأمر يتطلب قيام تركيا بإيجاد طريقة لمصالحة اليونان، وهو احتمال يبدو الآن لا حظوظ له.

كما رجح الصحفي المصري أيضاً، أن تعتمد روسيا سياسة تعقيد مهمة تركيا على الجبهات السورية، والليبية والقوقازية، في قادم الأيام، دون إظهار الرد على قبول تركيا بانضمام فنلندا والسويد إلى حلف “الناتو” بشكل سريع.

تحذير روسي

بعد الإعلان عن توسيع حلف “الناتو” بدولتين جديدتين، حذّر رئيس لجنة الشؤون الخارجية، في مجلس “الدوما” الروسي، ليونيد سلوتسكي، أمس الأربعاء، من عواقب انضمام السويد وفنلندا إلى حلف “شمال الأطلسي”.

واعتبر سلوتسكي، أن التخلي عن الحياد، والانتساب إلى عضوية حلف “شمال الأطلسي”، هو الخيار الذي يتبناه كل من السويد وفنلندا بمشيئتهما، داعيا الدولتين “ألا تتجاهلا عواقب قرارهما على العلاقات مع روسيا والأمن الأوروبي”.

وعن موافقة تركيا على تأييد الدعوة الموجهة إلى السويد وفنلندا للانضمام إلى الحلف، استشهد سلوتسكي بقصة قديمة في الإشارة إلى ما تلقته تركيا، من تطمينات لكيلا تعارض ضم البلدين، وقال الدبلوماسي الروسي، إن “الرئيس السوفيتي غورباتشوف تلقى في حينه تطمينات تعِد بعدم توسّع حلف شمال الأطلسي، ولكن تلك الوعود تم نكثها”.

—————————-

سوريا تتحول لمقاطعة روسية؟/ عاصم الزعبي

حكومة دمشق، تثبت في كل مرة أنها منخرطة في التبعية العمياء لروسيا، فمساء أمس الأربعاء، أعلنت وزارة الخارجية السورية، قرار الحكومة بالاعتراف باستقلال وسيادة ما يسمى جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وهي المناطق الأوكرانية التي احتلتها روسيا بشكل كامل بعد إطلاق عملية غزو أوكرانيا في شهر شباط/فبراير الماضي، ولذلك فإن هذا الاعتراف النادر بين دول العالم، يدفع للتساؤل حول أسباب اعتراف دمشق بهاتين الجمهوريتين.

لماذا اعترفت دمشق بالجمهوريتين؟

الأمم المتحدة، وفي ردّها على اعتراف دمشق بما يسمى جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، قالت على لسان ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، خلال مؤتمر صحفي له، يوم أمس الأربعاء، أن موقف الأمم المتحدة واضح، وهو الاعتماد على القرار المعني للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي يؤكد على وحدة أراضي أوكرانيا.

من جهته، الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أعلن قطع كييف جميع العلاقات مع سوريا، بعد اعترافها باستقلال، وسيادة جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين المواليتين لروسيا، واصفا قرار حكومة دمشق بالاعتراف بالإقليمين الانفصاليين بأنه “موضوع تافه”، وبأنه يفضل التركيز على مسائل أخرى.

الباحث في الشأن الروسي، سامر إلياس، يرى خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن دمشق تحاول تسجيل موقف لصالح روسيا في هذا الاعتراف، مشيرا إلى أن حكومة دمشق، التي تمدها روسيا بكل أشكال الحياة منذ تدخلها في سوريا منذ العام 2015، باتت تعتمد على روسيا بشكل أساسي لبقائها في السلطة.

وأضاف إلياس، أن اللافت في موضوع الاعتراف، بـ لوغانسك ودونيتسك، أن بُلدان الاتحاد السوفييتي السابق جميعها، ومن بينها الدول المتحالفة مع روسيا بشكل أساسي ضمن أحلاف عسكرية، في منظمة شانغهاي، ومعاهدة الأمن الجماعي، والاتحاد الأوراسي، كلها لم تعترف باستقلال الجمهوريتين.

وبيّن إلياس، أن دمشق تُزايد على هذه الدول، في سبيل كسب المزيد من الود الروسي، كما تريد أن تربط بين ما حدث في سوريا منذ العام 2011 على أنه محاولة غربية لتدمير سوريا، وتدمير الدول العربية، من خلال ما عُرف بـ”الربيع العربي”، وأن روسيا تسعى اليوم لتشكيل عالم جديد مناهض للغرب.

من جهته، الباحث السياسي، طارق وهبي، يرى خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن السياسة الخارجية السورية، لم تعد ذات قيمة في المنطقة، لذلك تدفع سوريا ولائها السياسي عبر هذا الاعتراف لروسيا، بغية استمرار الدعم من جهة، وفي محاولة لشطب الديون المتراكمة عليها ،والتي أوصلتها لخطر الإفلاس الاقتصادي.

سوريا لا ترقى لتكون مقاطعة روسية؟

روسيا استطاعت خلال السنوات السابقة جعل سوريا، وحكومتها رهينة بيدها، لذلك، ومنذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، أعلن الرئيس السوري بشار الأسد تأييده للعملية العسكرية الروسية، وأمس اعترفت حكومته باستقلال جمهوريتي لوغانسك، ودونيتسك.

سامر إلياس، يرى أن أوكرانيا، والجمهوريتين الانفصاليتين، أهم بالنسبة لروسيا من سوريا، فأوكرانيا مسألة وجودية بالنسبة لروسيا.

وعلى الرغم من اعتراف دمشق بالجمهوريتين، وتزلّفها لموسكو، إلا أن الأخيرة ما زالت تنظر إلى سوريا كورقة ضمن أوراق متعددة، في معركتها مع الغرب، ومن الممكن أن ترمي بها في أي مساومة، في حال حصلت على ما تريد في أوكرانيا، أو لخفض التوتر مع حلف “الناتو”، أو من أجل رفع العقوبات التي سيكون لها تأثير كارثي على روسيا على المدى المتوسط والبعيد، فسوريا لا ترقى من وجهة النظر الروسية لأن تكون مقاطعة روسية، بحسب إلياس.

وأشار إلياس، إلى أن اعتراف دمشق باستقلال الجمهوريتين، لن يغير كثيرا من الدعم الروسي لحكومة دمشق، نظرا لأن التركيز الروسي منصب بشكل كبير على أوكرانيا، بينما سوريا حاليا مسألة ثانوية.

أما طارق وهبي، فيرى أن سوريا، ومن خلال اتفاقية الدفاع المشترك مع روسيا تدور في فلك الأخيرة، وبعض دول الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا ما جعلها تبحث عن دور ما في السياسة الخارجية للدول التي تساندها ضد الشعب السوري.

وختم وهبي، بأن روسيا تدفع بسوريا إلى عزلة دولية قد تدفع دمشق ثمنها غاليا، في حال تم زعزعة القيادة الروسية من قبل الغرب، فالرهان السوري خطير، سيدفع السوريين إلى منزلق، قد يعزل سوريا عن العالم.

قد يهمك:بعد دعمها لأوكرانيا.. هل بدأ العقاب الروسي لتركيا في سوريا؟

من الواضح أن حكومة دمشق باتت تذعن لروسيا بشكل كامل في معظم قراراتها السياسية، كاعترافها بالجمهوريتين الانفصاليتين، رغم علمها أن اعترافها غير مؤثر، ولن يكون له أي نتيجة على الساحة الدولية، سوى زيادة عزل دمشق، وهو ما سينعكس سلبا بشكل أكبر على السوريين الذين ستزداد معاناتهم في المرحلة المقبلة نتيجة التدهور في كل المجالات في سوريا.

—————————-

==================

تحديث 02 تموز 2022

——————————

كيسنجر يتوقع 3 نتائج للحرب في أوكرانيا… وينتقد المحادثات مع إيران

توقع وزير الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر أن تؤدي الحرب الروسية على أوكرانيا إلى نتيجة من ثلاث، “لا يزال كل منها مفتوحاً إلى حد كبير على عدة احتمالات”. وقال في مقابلة أجرتها معه مجلة “السبكتاتور” اللندنية: “إذا بقيت روسيا حيث هي اليوم، ستكون قد سيطرت على 20 في المئة من أوكرانيا ومعظم دونباس، المنطقة الصناعية والزراعية الرئيسية، إلى جانب شريط بري مطل على البحر الأسود… وهكذا، تكون روسيا قد حققت نصراً، على رغم النكسات كلها التي عانت منها في البداية. وسيكون دور حلف شمال الأطلسي غير حاسم خلافاً لما اعتُقِد في وقت أسبق”.

وأضاف السياسي الأميركي المولود في ألمانيا والبالغ من العمر 99 سنة: “النتيجة الثانية تتمثل في بذل محاولة لإخراج روسيا من الأراضي التي استولت عليها قبل هذه الحرب، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، وعندئذ ستصبح الحرب في حال استمرارها حرباً على روسيا. أما النتيجة الثالثة، التي عرضتها في منتدى دافوس ولدي انطباع بأن [الرئيس الأوكراني فولودومير] زيلينسكي يتقبلها الآن، فهي أن العدوان الحالي سيُهزَم إذا استطاع الأحرار منع روسيا من تحقيق أي احتلالات عسكرية وإذا عاد خط القتال إلى الوضع الذي كان عليه حين بدأت الحرب… [أي] خط القتال التالي لعام 2014. وسيعاد تسليح أوكرانيا وربطها في شكل وثيق بحلف شمال الأطلسي إن لم تنضم إليه. وتحال بقية المسائل إلى مفاوضات. قد يبقى الوضع مجمداً لفترة ما، لكن كما رأينا مع إعادة توحيد أوروبا، يمكن للحلول أن تتحقق بعد فترة من الزمن”.

ولدى سؤاله عن معاقبة الرئيس فلاديمير بوتين على عدوانه، قال كيسنجر: “إذا انتهت الحرب وفق تصوري المعلن في دافوس، أعتقد بأن ذلك سيكون إنجازاً كبيراً للحلفاء. سيكون حلف شمال الأطلسي قد قوي بانضمام فنلندا والسويد إليه، ما يعزز احتمال الدفاع عن دول البلطيق. وستكون لدى أوكرانيا أكبر قوة برية تقليدية في أوروبا متصلة بالحلف أو عضو فيه. وسيُبرهَن لروسيا أن الخوف الذي هيمن على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، الخوف من هجوم يشنه الجيش التقليدي على أوروبا عبر الحدود المكرسة، يمكن أن يمنعه الحلف بطرق تقليدية. وسيكون على روسيا للمرة الأولى في التاريخ الأخير أن تواجه الحاجة إلى التعايش مع أوروبا ككيان، بدلاً من أن تكون أميركا عنصر الدفاع الأول عن أوروبا بأسلحتها النووية”.

لتقادي المواجهة مع الصين

وإذ حلت أخيراً الذكرى الخمسين لزيارة كيسنجر السرية إلى الصين في فبراير (شباط) 1972، والتي مهدت لانفتاح واشنطن على بكين، سُئل الرجل الذي كتب كتباً كثيرة، منها مذكراته عن سنوات عمله مهندساً للسياسة الخارجية الأميركية، وكتابه المرجعي “الدبلوماسية”، إلى جانب عمل يصدر قريباً باسم “القيادة”، عن كيفية وجوب تعامل الغرب مع القوة الآسيوية الناشئة. قال: “منذ عهد [الرئيس السابق دونالد] ترمب، تنفذ الولايات المتحدة سياسة إزاء الصين تقوم على مبدأ بناء تحالفات حول الصين لكي تقتنع الأخيرة بقبول قواعد سلوك موضوعة في الغرب. غير أن نهج الصين في ما يتعلق بالسياسات يختلف عن النهج الأوروبي. فالنهج الأوروبي وضعته بلدان صغيرة نسبياً كانت تدرك وزن [ونفوذ] البلدان المحيطة بها، ما تطلب تعديلات مستمرة على توازن القوى. أما تاريخ الصين الممتد لآلاف السنوات فيتعلق ببلد مهيمن في منطقته إلى حد كبير. وهكذا برز أسلوب في السياسة الخارجية يسعى الصينيون من خلاله إلى تحقيق نفوذهم من خلال نطاق إنجازاتهم… معززاً حيث يجب بالقوة العسكرية من دون أن تكون لهذه القوة هيمنة. لذلك تحتاج السياسة البعيدة الأجل إزاء الصين إلى عنصرين: القوة الكافية لكي تُوازَى القوة الصينية حيث تبدو مهيمنة، لكن في الوقت نفسه، يجب التزام مقاربة تجد الصين نفسها فيه تُعامَل كمثيل وكمشارك في النظام”. وحذر واشنطن من الإفراط في التركيز على مسألة تايوان لئلا تصل إلى مواجهة مع الصين.

وعن المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران في شأن البرنامج النووي للأخيرة، قال كيسنجر لـ”سبكتاتور”: “كنت شديد التشكيك في الاتفاقية النووية الأصلية، فقد اعتقدتُ بأن تعهدات  إيران سيصعب جداً التأكد منها [التحقق من الالتزام بها]، وأن المحادثات أنشأت نمطاً [إطاراً] ساهم في إبطاء وتيرة التقدم النووي إلى حد ما لكنها جعلته أكثر حتمية. والنتيجة أن بلدان المنطقة، ولاسيما إسرائيل، العدو الرئيسي لإيران دُفِعت إلى ردود فعل قد تجعل الوضع أكثر قابلية للانفجار. والآن، تتمثل المشكلة مع المحادثات النووية الحالية في أن من قبيل الخطورة الشديدة العودة إلى اتفاقية كانت غير مناسبة بادئ ذي بدء بغرض تعديلها لتبدو أكثر قابلية للتقبل من قبل أي معارض لها. المخاوف كلها التي انتابتني إزاء الاتفاقية الأساسية تنتابني اليوم. لم أر البنود [الجديدة] بعد، لكن ليس هناك حقاً بديل عن القضاء على القوة النووية الإيرانية. لا يمكن أبداً إرساء السلام في الشرق الأوسط ولدى إيران أسلحة نووية”. فقبيل حيازة إيران أسلحة نووية، ثمة خطر كبير أن تبادر إسرائيل إلى عمل استباقي [ضربة استباقية]، فإسرائيل لا تستطيع انتظار عوامل [توازان] الردع. وهي لا تملك غير ضربة واحدة حاسمة. هذا لب الأزمة”.

الحرب السيبرانية

وعن العمل الحربي السيبراني بوصفه الجبهة الجديدة [ميدان الحرب الجديد]، على حد تعبير كيسنجر في مقابلة أجرتها معه المجلة عام 2014، قال في المقابلة الأحدث: “أعتقد بأن الجانب الفريد تاريخياً للعالم المعاصر هو أن التكنولوجيا تنتج الآن ضرورات للمواجهة، تمتلك القدرة القصوى على تدمير الحضارة كما نفهمها. ومما يعزز هذه التعقيدات غياب أي خبرة على الإطلاق في استخدام هذه الأسلحة. فمزيج قدرتها التدميرية واستقلاليتها إذ تستطيع اختيار هدفها وقدرتها على تحديد خطرها الخاص يفرض ضرورة الحد من نطاقها. لكن هذا غائب الآن، فلا مناقشات بين البلدان ذات التكنولوجيا الفائقة [في هذا الشأن]. وهذه المناقشات من المهام الرئيسية الخاصة بالمرحلة المقبلة من السياسة الخارجية والتي لا يمكن تجنبها. والسؤال الوحيد هنا: هل ستحصل المناقشات قبل كارثة ما أم بعدها؟”.

عن كتابه الجديد، الذي يحلل فيه ست قيادات عالمية راحلة، هي المستشار الألماني كونراد أديناور، والرئيس الفرنسي شارل ديغول، والرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، والرئيس المصري أنور السادات، ورئيس الوزراء السنغافوري لي كوان يو، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر، قال مشدداً على أسباب اختياره هؤلاء: “قررت أن أكتب كتاباً عن القيادة لأنني قضيت حياتي بالتعاون مع أفراد كانوا يحاولون تشكيل الأحداث [رسم وجهها]. لقد فعلت ذلك في ظل ظروف من الاضطراب الشديد. يجب تفسير الأحداث، وإعطائها اتجاهاً، ومعنى تقنياً واستراتيجياً من قبل قيادة المجتمع. وهكذا، اعتقدت بأن من الممكن القيام بذلك في شكل أفضل من خلال النظر إلى إدارات قادة معينين. لقد اخترت هؤلاء الستة لأن الفرصة أُتيحَت لي لمراقبة كل واحد منهم وهو يعمل والمشاركة في بعض أعمالهم – أحياناً على مستوى السياسة العامة ودائماً على مستوى المناقشة. بدا لي أن المرء إذا أراد أن يفهم ما هو مطلوب لتشكيل الأحداث التي يواجهها المجتمع بطريقة بناءة أو مفيدة، تكون مراجعة للقادة طريقة جيدة لهذا الفهم”.

اندبندنت عربية

————————

 “يمكن أن تؤدي إلى نهاية نظامه”.. تحليل يتحدث عن مقامرة الأسد في حرب أوكرانيا

الحرة / ترجمات – واشنطن

في تحليله لموقف الرئيس السوري من الحرب الجارية في أوكرانيا، قال تقرير لموقع “جيوبوليتيكل مونيتور”  إن بشار الأسد يراهن على “نجاح” حرب حليفه الروسي، فلاديمير بوتين، حتى يضمن بقاءه في السلطة، بينما تشهد الساحة الدولية تطورات ربما تهدد بقاءه على رأس النظام.

وفي 29 يونيو، اعترفت سوريا رسميا بالدول الانفصالية التي أعلنتها روسيا، والمعروفة باسم جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوهانسك الشعبية كدولتين ذواتي سيادة، لتصبح بذلك ثاني دولة تفعل ذلك، بعد روسيا.

وأثار القرار إدانة دولية سريعة وشرخا في العلاقات الدبلوماسية بين سوريا وأوكرانيا، بينما “أصبح الأسد أكثر حاكم يحس بالأمان بين الذين يحميهم الكرملين”.

والأربعاء، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنهاء العلاقات الدبلوماسية مع سوريا.

وقال زيلينسكي في فيديو عبر تطبيق تلغرام “انتهت العلاقات بين أوكرانيا وسوريا”، مضيفا أن “ضغوط العقوبات” على دمشق الحليفة لموسكو “ستزداد شدّة”.

وهذه ليست المرة الأولى التي تنضم فيها دمشق إلى حليفتها روسيا، إذ اعترفت الحكومة السورية في مايو 2018 بمنطقتي أبخازيا وأوسيتيا الانفصاليتين في جورجيا الواقعتين تحت النفوذ الروسي.

وتربط سوريا وروسيا علاقات اقتصادية كذلك، إذ وقعت موسكو خلال السنوات الماضية اتفاقات ثنائية مع دمشق وعقوداً طويلة المدى في مجالات عدة أبرزها الطاقة والبناء والنفط والزراعة.

وبينما سارع الأسد لمماهاة موقف حليفه في الحرب على أوكرانيا، طلبا للاستقرار في منصبه، “يمكن أن تأتي مواقفه بنتائج عكسية على حكومته في سوريا” يقول التقرير.

العلاقات العميقة التي أقامها النظام السوري مع روسيا، ليست سرية، وهي علاقة زرعت منذ أوائل السبعينيات في ذروة الحرب الباردة، وسوريا الآن هي المعقل الوحيد في الشرق الأوسط المتبقي لروسيا، وريثة الاتحاد السابق.

وخلال ما يعرف برياح “الربيع العربي” عندما بدا أن حكومة الأسد كانت في حالة انهيار، تحت حصار داعش وسلسلة انتصارات المعارضة السورية المسلحة، تدخلت روسيا رسميًا نيابة عن الأسد، لتغير مسار الحرب بشكل حاسم، مما ضمن في نهاية المطاف بقاءه ونظامه في السلطة.

لكن هذا التدخل أثار تنديدا دوليا إثر ورود تقارير عديدة عن انتهاكات إنسانية، شملت حملات قصف روسي عشوائي ضد المدنيين، وهو ما يواصل الكرملين إنكاره.

ومع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي يمكن القول إنه العمل العسكري الأكثر إدانة دوليًا منذ الحروب اليوغوسلافية، كان الكرملين في أمس الحاجة إلى حلفاء، وهو ما سارع الأسد إلى فعله.

الأسد كان ملاذ موسكو الوحيد بعد اتخاذ الصين موقفًا محايدًا علنا، لكنه مؤيد لروسيا ضمنيا، وحياد الهند، وتحفظ كل من كازاخستان وقيرغيزستان استجابة للقانون الدولي.

ولم تتلق روسيا أي دعم إلا من الدول ذات الأنظمة الاستبدادية، مثل إريتريا ونيكاراغوا وكوريا الشمالية وبيلاروسيا وسوريا وإيران وكوبا.

وكانت نفس هذه الدول، هي الدول الأعضاء الوحيدة في الأمم المتحدة التي صوتت بـ “لا” في تصويت الأمم المتحدة لإدانة العدوان العسكري الروسي في أوكرانيا.

وفي حين أن استراتيجية الأسد هي الاستمرار في إرضاء الكرملين من أجل البقاء، إلا أن التوقعات بنجاح خطته “تزداد قتامة” على حد تعبير التقرير.

وفي أبريل، عيّن بوتين الجنرال الذي قاد الحملات العسكرية الروسية في سوريا، ألكسندر دفورنيكوف، لقيادة القوات العسكرية الروسية في منطقة دونباس.

كما أعادت مجموعة فاغنر، سيئة السمعة، نشر مرتزقتها من سوريا وأجزاء أخرى من إفريقيا.

وفي مايو، استدعت روسيا أيضا عددا من القوات من سوريا إلى أوكرانيا، مما يشير إلى نقص كبير في القوى التي تساند الأسد.

هذا الوضع، ترك فراغًا في القوى العسكرية المساندة للسلطة في سوريا، حيث يمكن للقوى المناوئة لحكومة الأسد، مثل تركيا أو إسرائيل أو فصائل المعارضة السورية أو حتى تنظيم داعش، استغلالها، وفق التقرير.

وفي الآونة الأخيرة، أعلن الرئيس رجب طيب إردوغان عن خطط للتوسع أكثر في سوريا من أجل إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود المشتركة.

وأدى ذلك إلى زيادة التوترات مع حكومة الأسد، كما أدى إلى نشر وحدات عسكرية سورية إلى جانب القوات الكردية في الشمال.

ومع الإشادات الأخيرة لإردوغان من قبل الرئيس الأميركي، جو بايدن، لرفعه حق النقض ضد عضوية فنلندا والسويد في الناتو، أصبحت سوريا في موقف سيئ للغاية!

التقرير ختم بالقول إن الصعوبات التي تواجهها روسيا في أوكرانيا، تجعل الدعم العسكري للأسد ضعيفا، وذلك في غمرة وضع جيوسياسي يبدو أنه يتجدد في منحى مضاد لهما (روسيا وسوريا) “وهذه المرة، يمكن لهذه المعطيات أن تؤدي إلى نهاية نظامه”.

الحرة / ترجمات – واشنطن

الحرة

————————–

ثرثرة غبية بين مدريد وقزوين/ بيار عقيقي

حين كنّا أطفالاً، ولم يكن هناك لا إنترنت ولا وسائل إعلام عابرة للقارّات، كان مجرد اكتشاف عبارة لسياسي أو قائد عسكري، عربي أم غير عربي، يُعدّ إنجازاً لنا. ففي مكانٍ ما، مثل هذه الاكتشافات تعني أننا اكتسبنا معرفة إضافية على دربٍ ثقافي. لذلك، فإن كلمات لأشخاص تحت مسمّى “أقوال مأثورة”، تبقى عالقة معنا إلى الأبد، وتصمُد أمام أي غزو للنسيان في مرحلة ما مستقبلاً.

في مدريد الإسبانية، بدت ثرثرة بعضٍ من زعماء الدول السبع أشبه بمحاولة فاشلة لإثارة ضحك الجمهور. ولم يكن غريباً، قياساً على شخصيته المندفعة، أن يبدأ رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، هذه الثرثرة بسؤاله ما إذا “كان عليهم خلع السترات وما تحتها أيضاً”. بهذه العبارة، كان جونسون يريد “كسر جليدٍ ما” لتجاوز الخلافات التي لا تنضب بين هذه الدول، عبر توحيد الجبهة ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولم يكتفِ جونسون بهذه الافتتاحية، بل واصل: “يجب أن نظهر أننا أشدّ بأساً من بوتين”، ما دفع بعض الزعماء إلى الضحك. ويقصد جونسون، هنا، الصور التي دأب فريق عمل الرئيس الروسي على نشرها لبوتين، رجلا عاري الصدر، يسبح في مياه سيبيريا الباردة، ويقود حصاناً عبر مجاري الأنهر، ويصيد السمك ويقود سيارة للفورمولا 1، وغيرها من المشهديات التي يُراد منها تصوير سيد الكرملين بأنه شخص قوي ذو عزيمة لا تلين. وغنيّ عن التعريف أن كل صورة من هذا النوع تشرح الكثير عن الضعف الداخلي للإنسان، عكس ما يريد إظهاره من خلالها. وكثافة الصور هنا تعني الكثير عن رجلٍ يريد الإيحاء بأنه الأقوى على وجه الأرض.

تتواصل ثرثرة مدريد. يردّ رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو على جونسون بالقول بصوت مرتفع إن علينا “ركوب الخيل بصدر عار”. وهو أمر لاقى تفاعلاً إيجابياً من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي وصفت هذه الرياضة بأنها “الأفضل”. ولم تقف الأمور هنا، بل ردّ الرئيس الروسي عليهم جميعاً، خلال مشاركته في قمة بحر قزوين في تركمانستان، وقال بنبرة تقليدية معروفة عنه: “لا أعرف ما إذا كانوا يريدون خلع ملابسهم حتى الخصر أو تحت الخصر، لكنني أعتقد أنه سيكون مشهداً مثيراً للاشمئزاز في كلتا الحالتين”.

هذا النوع من العبارات بين ثماني دول واتحاد أوروبي يُظهر، في زاويةٍ ما، ضحالة فكرية في منطق التعاطي بين الأفراد والدول. وكأنهم جميعاً مراهقون على مشارف المرحلة الجديدة من حياتهم. في مثل هذا السنّ، مغفورة خطايانا باسم التطوّر. يمرّ المراهقون بحالات طبيعية من اكتشاف الفكر والذات. ويتعلّمون من الأخطاء لبناء مستقبل أفضل، أما من يبقى مراهقاً مدى العمر، خصوصاً في إطار تكرار الأخطاء، فلا عتب عليه.

كما أظهرت هذه الثرثرة أن القادة في مدريد بدوا كأسوأ نسخة حداثوية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) من طبقةٍ وسطى أو ثريةٍ من عالم غربي تائه بين رأسمالية عشوائية وليبرالية متقدّمة. في المقابل، ظهر بوتين كطفلٍ تعرّض للتنمّر، لكنه يعشق المجموعة التي تنمّرت عليه، خصوصاً بقوله “أعرفهم جميعاً شخصياً”. وهي عبارة تحمل أوجه حنين كثيرة للقاءات سالفة بينه وبينهم، أو مع أسلافهم.

وفي مقابل كل هذا الغباء المتناثر بين المتوسط وقزوين، كم يبدو تافهاً الحديث عن الأمن الغذائي والاقتصاد العالمي وسلاسل التوريد وتأمين مصادر الطاقة وديمومتها. تخيّلوا أن هؤلاء المنشغلين بهذا النوع من الجدال هم من سيقرّر ماذا نريد لإكمال مسيرتنا البشرية في كوكبٍ معرّض لاهتزازاتٍ لا تنتهي. صحيح أنه لا يُمكن إجراء مقارنة مع قادة في أزمنة ماضية، لكن الأكيد أن الجيل العتيد من القادة في الغرب والشرق لن يكون مثل مجموعة مدريد ولا مثل قيصر موسكو.

العربي الجديد

——————————-

أوكرانيا وليتوانيا.. والمواجهة بين روسيا والغرب/ يمان دابقي

بينما ينشغل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في طلب مزيد من المساعدات الغربية لبلاده، وتطوير مباحثات عضوية الانضمام للاتحاد الأوروبي، تستعر بوادر الصدام الروسي الغربي، مع إعلان الرئيس الروسي، بوتين، نيته تزويد بيلاروسيا بأسلحة متطوّرة ذات رؤوس نووية كصواريخ إسكندر. جاء ذلك عقب لقاء بوتين الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو في سان بطرسبرغ، في 25 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وسبق الإعلان بساعات قصف الجبهة الشمالية الأوكرانية بصواريخ روسية انطلقت من داخل الأراضي البيلاروسية، في خطوة اعتبرتها وزارة الدفاع الأوكرانية محاولة من الكرملين لجر بيلاروسيا للمشاركة المباشرة في الحرب، واستفزازاً واسع النطاق. لكن الرئيس الروسي اعتبرها إجراءات ضرورية في وجه ما عدّها تهديدات وجودية، سببها دول الغرب وأوروبا. ويبدو أنّ الرئيس بوتين بدأ تنفيذ أولى خطواته ورفع تصعيد المواجهة مع الغرب، عبر إعادة التلويح بورقة السلاح النووي، بعدما أقدمت ليتوانيا قبل أيام على فرض حظر على البضائع الروسية في جيب كالينينغراد، استجابة للعقوبات التي فُرضت على روسيا من أوروبا والولايات المتحدة. لكن روسيا أزعجها القرار، واستدعت على الفور سفير الاتحاد الأوروبي لتقديم مذكّرة احتجاج له. إلى جانب ذلك، قال سكرتير الأمن الروسي، نيكولاي باتروشيف، إنّ بلاده ستردّ في أقرب وقت على الحظر الذي فرضته ليتوانيا، مضيفاً أنّ إجراءات الرد الروسي ستكون لها عواقب على الشعب الليتواني، وربما تخصيص كلمة “شعب” جاءت مُحمّلة ضمن خيارات الكرملين القادمة وفقَ تقييمها اليومي على الأرض، فعلى سبيل الذكر، تستطيع روسيا تحقيق نوع من الألم والضغط على ليتوانيا، شعبياً، في حال عزلها عن طريق استهداف ممر “سوالكي” الذي يبلغ طوله 50 ميلاً، والذي يربط بين كالينينغراد وبيلاروسيا عبر بولندا وليتوانيا، هذا فضلاً عن أنّ القرار الروسي تزويد بيلاروسيا بصواريخ إسكندر سيرفع من حجم التهديد على دول البلطيق، إلى جانب فنلندا والسويد اللتين باتتا تخشيان من أن يقود اتساع رقعة المواجهة إلى أبعد من أوكرانيا، وتفعيل ورقة السلاح النووي التكتيكي بحيث يضعها أما مخاوف إقدام روسيا على احتلال جزيرة غوتلاند الاستراتيجية المطلّة على سواحل بحر البلطيق. وهذا احتمالٌ لا يمكن استبعاده بعد توتّر في العلاقات بين روسيا وفنلندا والسويد على هامش طلب الأخيرتين الانضمام لحلف الناتو، كما أنّ مؤشّرات التصعيد وبوادر الاتهامات كانت حاضرة قبل شهرين بين موسكو والسويد، على خلفية اختراق السواحل السويدية من قبل طائرات موسكو، وصفتها بالعمل الاستفزازي، كما أنّ مصادر عدّة كانت قد أكدت قبل أسابيع نشر روسيا 20 سفينة روسية على مقربة من جزيرة غوتلاند إلى جانب نشر عشرات من القوات في منطقة “فيسبي” الساحلية القريبة من الجزيرة. وفي حقيقة الأمر، تُولي روسيا أهمية كبيرة لهذه الجزيرة، فالسيطرة عليها تسمح لها بالاستحواذ التام على مداخل بحر البلطيق، وتُتيح لقواتها الولوج إلى تلك المياه والتحكّم في قلب أوروبا.

بالعودة إلى التصعيد الليتواني الروسي، يرى مراقبون أنّ خطوة الحظر على البضائع الروسية في كالينينغراد مدفوعة من الغرب، وبعض دول أوروبا، بهدف التضييق أكثر على الاقتصاد الروسي، وحرمانه من دعم آلته العسكرية، إذ إنّ ما يقارب نصف البضائع المارّة مشمولة في حزم العقوبات وتستهدف قطاع البناء والمعادن، بالتالي، حرمان روسيا منها سوف يُحقق مزيداً من الألم على اقتصادها. لكن في واقع الأمر قد تُسبب هذه الخطوة اتساعاً في رقعة المواجهة بين الغرب وروسيا، وتُطيل من أمد الحرب السارية على الساحة الأوكرانية. وبحسب تصريح الأمين العام لحلف الناتو، ستولتنبرغ، قد تستمر سنوات، وبموجب هذه الخطوة، قد تدفع بوتين هذه المرّة لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية ربما عن طريق حليفة البيلاروسي، إذا ما شعر بأنّ الوضع أصبح يستدعي ذلك، لكن المقصود بالاستخدام النووي التكتيكي، الردعي وليس الهجومي. ويرى خبراء عسكريون أنه من غير الواضح بعد هدف بوتين الجوهري من هذه الخطوة، وهي ليست المرّة الأولى التي يُشير فيها إلى السلاح النووي، فخلال الأسابيع الأولى للحرب خصيصاً عندما كانت قواته تُعاني في كييف قبل الانسحاب منها، أعلن حينها عن رفع الجاهزية النووية بقدراتها الكاملة في الحدود المشتركة مع أوكرانيا. لكن هذه المرّة هل يفعلها بوتين عن طريق حليفه لوكاشينكو الذي صرّح، عقب لقائه مع بوتين، عن “الاستعداد الكامل لاستخدام أسلحة فتاكة” وهل يدخل ذلك كله في إطار أوسع بالمواجهة مع الغرب، ويعدّ أيضاً ترجمة لتصريح بوتين قبل أسابيع في خطابٍ من سان بطرسبرغ: “القطبية الأحادية انتهت وعلى الغرب أن يعي ذلك”؟

بطبيعة الحال، يتفق كبار الخبراء على أنّ مسار الحرب مفتوح، ولا آفاق موجودة لوضع أوزارها، فالمفاوضات الروسية الأوكرانية متوقّفة، ومسار إسطنبول للمباحثات مهتم الآن بإيجاد مخرج لتصدير القمح الأوكراني، وحل قضية السفن العالقة في موانئ أوديسا المحاصرة، واللغز هنا القوة الروسية التي يعتقد بعضهم أنها وراء أزمة الغذاء وتوظيفها ورقة ضغط على الأوروبيين والغرب لتغيير سلوكهم، وإلى حدّ ما بدأت تظهر مؤشّرات التكتيك الروسي، بعد ارتفاع مستويات الغلاء من سلع وطاقة ومواد أخرى، حتى في داخل الولايات المتحدة التي باتت عبر إدارة جو بايدن تشعر ببعض الإحراج، وربما هناك تخوّف من انعكاس ذلك على الانتخابات النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، لا سيما بعد ارتفاع غير مسبوق في مضخّات الطاقة الأميركية. لعل ذلك ما دفع إدارة بايدن إلى رفع التأثير على روسيا عن طريق الحلفاء في بحر البلطيق والضرب بالخاصرة الأهم للرئيس الروسي، كالينينغراد، وهي منطقة روسية استطاعت نزعها من الألمان بعد الحرب العالمية الثانية 1945، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بقي الجيب محاصراً وتابعاً لروسيا، وفق تفاهمات جرى ترتيبها مع دول أوروبا، وتحوي أسطولاً بحرياً كبيراً، إلى جانب منظومات دفاع إس 400، وإسكندر ورؤوس نووية قصيرة المدى، وهي واقعة بين بولندا وليتوانيا على بحر البلطيق، وهما دولتان في الاتحاد الأوروبي.

إلى جانب تسخين الجبهات في بحر البلطيق، تنتظر أوكرانيا أيضاً الدفعة الثانية من راجمات “هيمارس” الأميركية المتطورة، ومدافع “هاوتزر” الاستراتيجية، وينتظر بعضهم أن تُحدث هذه الأسلحة تعديلاً في موازين القوى على الأرض، خصوصاً بعدما استطاعت روسيا إحراز تقدّم بعد مسكها زمام المبادرة عسكرياً في سيفرودينتسيك، وماريوبول وخيروسون، وتأتي هذه التقدّمات في وقت بدأ فيه بعض الدول الأوروبية والغربية تُرسل رسائل يأس على امتداد الأزمة؛ إذ قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في تصريح له، بعد عودته من زيارة كييف، إنه متخوف من أنّ الفتور في دعم أوكرانيا واستمرار مسار المعارك قد يقودان إلى مفاوضات لن تصب في صالح أوكرانيا. ويعد هذا التصريح الأخطر، ويعكس حجم الملل والإحباط من دول كانت قائدة القطار الأوروبي في تعزيز فرض العقوبات على روسيا.

أخيراً، على الصعيد الاستراتيجي، في ظل الانشغال الأميركي بالمشكلات الداخلية وتركيز الاهتمام على احتواء الصين، وعودة الاهتمام لردع إيران، واستمرار روسيا في التقدم البطيء، وظهور شلل أوروبي وتصعيد في حوض البلطيق، لا يبدو أن بوتين سيقف عن حملته العسكرية، وهو يقرأ بتمعّن أنّ الولايات المتحدة ما زالت ترمي بحلفائها وتدفعهم إلى التصعيد على الساحة الأوكرانية، لتحقيق هدف الاستراتيجي في تحقيق إضعاف الجميع والحفاظ على نهج القطبية الواحدة، لذا مع دخول ليتوانيا على خط الصراع، وبيلاروسيا رأساً نووياً في الجبهة الشمالية الأوكرانية وعودة تهديد العاصمة كييف، بسلاح تكتيكي نووي، يبقى مسار المواجهة الغربية الروسية مطروحاً، وكل يوم يقترب أكثر، وهو ما يُحتّم على الولايات المتحدة أن تُعيد النظر في خياراتها المقبلة، كإعادة الزخم العملي لدعم أوكرانيا، والنظر من جديد في مصير قانون “الإعارة والتأجير” الرامي إلى تسريع وتيرة المساعدات العسكرية لأوكرانيا عبر جسر مفتوح على غرار ما فعلت في الحرب العالمية الثانية، وإلّا ستجد نفسها مضطرّة للانخراط في الحرب مهما عملت على تجنبها، وبالنسبة لدول أوروبا المنقسمة تحتاج لتوحيد الصف أكثر والسعي جاهداً إلى تحقيق استقلالية في القرار والضغط على جميع الأطراف، بهدف إيقاف الحرب عبر مفاوضاتٍ تحمي أمنها القومي، وبمعنى آخر، يجب إرضاء بوتين قبل فوات الأوان؟

العربي الجديد

—————————–

بوتين يجب أن يُهزَم لا أن يُفاوَض/ بسام مقداد

في يوم إفتتاح قمة الناتو في مدريد 29 من الشهر المنصرم، نشر موقع  Meduza الروسي المعارض نصاً بعنوان “لا معنى للتفاوض مع بوتين. ينبغي الإنتصار عليه”. إستخلص الموقع عنوان النص من مقالة نشرها كاتب أميركي في الصحيفة إلإيطالية Corriere della Serra، وستنشر هذا الأسبوع في  مواقع إعلامية أوروبية، حسب الموقع الروسي. الكاتب الأميركي من أصول فرنسية يبدو أنه يولي إهتماماً كبيراً لجرائم الأنظمة الدموية، حيث يذكر الموقع بأنه وضع رواية عن جرائم النازية وكتاباً عن نظام رمضان قاديروف في السنة الثالثة من قبضه على السلطة في الشيشان. ومع أن الكاتب لم يصرح بأنه تقصد نشر مقالته في يوم إفتتاح قمة الناتو، إلا أنه لا يخفي في نصه إنتقاده اللاذع لسياسة الزعماء المجتمعين في مدريد حيال روسيا وتخاذلهم أمام بوتين وحربه في أوكرانيا.

ينتقد الكاتب الأصوات التي ترتفع في الأيام الأخيرة، وتردد نغمة رتيبة عن مبالغة الأوكران في تصوير وضعهم، ذهاب الناتو بعيداً في أوكرانيا، إرتفاع معدلات التضخم، التروي في التعامل مع بوتين وإلخ. ويعتبر هذه الأصوات دلالة عجز يتمثل في غياب الرؤية الإستراتيجية التي لن يتوانى بوتين عن إستغلالها. ويستشهد بكلام صحافية بريطانية نقلته عن بوتين من أنه مقتنع بأن الغرب سوف يضعف ولن يربح على المدى الطويل. وللتعجيل بإستسلام الغرب يستخدم كافة الوسائل المتاحة: تخفيض إمدادات النفط والغاز، زعزعة الوضع في البلقان، إبتزاز النقص في المواد الغذائية لإستثارة موجة هجرة جديدة إلى أوروبا والتهديد بالسلاح النووي.

يرى الكاتب أن بوتين، كما وزير خارجيته، تدرب على الكذب، والنفاق أداته الطبيعية. الحوار بالنسبة له، ليس سوى طريقة للحصول على أفضلية لتحريك أحجاره قبل أن يعود مجدداً للجوء إلى الأدوات العسكرية حين يتطلب الأمر.

وفي معرض إنتقاده لكلام كيسنجر في دافوس، يقول بأن المفاوضات للإتفاق على غرار إتفاقيات مينسك التي كان يجب أن تضع حداً للحرب، ليست سوى فرصة لبوتين لتعزيز نجاحاته، ريثما تسنح فرصة لتحقيق أخرى جديدة. والتفكير بأنه يمكن إجبار بوتين على إجراء مفاوضات بصورة نزيهة، وبأنه سوف يحترم شروط الإتفاقيات، “هو ببساطة تفكير مضحك”.

ويرى الكاتب أن بوتين هو إنسان في القرن الحادي والعشرين يخوض حرب القرن العشرين لتحقق أهداف من القرن التاسع عشر. وهو لا يخضع سوى لمنطق القوة، وأي حل توافقي معه في الوضع الراهن يعني إنهيار المثل الآوروبية، ويصب الزيت على طموحات بوتين الإمبراطورية. والكاتب مقتنع بأن الإستسلام غير المشروط للقوات العسكرية الروسية في أوكرانيا فقط، هو الكفيل بإستعادة الأمن إلى أوروبا.

في اليوم عينه من إنطلاق قمة الناتو، افتتحت أعمالها “قمة قزوين” السادسة للدول المجاورة لبحر قزوين: روسيا، إيران، تركمانيا، أذربيجان وكازاخستان. وفي لقاء مع الصحافيين الروس المنتدبين لتغطية القمة، إستعرض بوتين معظم قضايا النزاع مع الغرب، وذلك في رد غير معلن على معظم القضايا المطروحة على جدول أعمال قمة الناتو. وقد نشرت نوفوستي في 29 الشهر المنصرم مقاطع موجزة من حديث بوتين، والذي يستعرض فيه آراءه في توسع الناتو شرقاً، وفي “العملية الخاصة” في أوكرانيا، وفي تهجمات زعماء الدول السبع الكبار G7.

عن توسع الناتو  يقول بوتين بأنه ليس لدى روسيا ما يقلقها من إنضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، على عكس ما هو مع أوكرانيا. ونفى ما كان يصر على تأكيده دائماً من أن روسيا تريد إبعاد قوات حلف الأطلسي عن حدودها، ووصف هذه المقولة بأنها خاطئة و”لا تمت إلى الحقيقة بصلة”. ورأى أن مقولة رفض روسيا توسع الناتو إلى حدودها يهدف إلى إيهام الرأي العام بأن روسيا التي ترفض إنضمام أوكرانيا إلى الناتو، قد تلقت الضربة مزدوجة برضوخها وعدم إعتراضها على إنضمام السويد وفنلندا.

كرر بوتين موقفه المعروف من حربه على أوكرانيا وأهدافها ب”تحرير” منطقة الدونباس وضمان أمن روسيا. وقال بأن روسيا لن تسمح لنفسها أن تبقى تحت التهديد المستمر، بل ستتخذ الإجراءات الكفيلة بخلق تهديد مقابل. وكعادته بإتهام الأوكران بقتل أنفسهم وارتكاب المجازر بحق مواطنيهم، نفى بوتين أية علاقة للقوات الروسية بقصف المتجر وسط أوكرانيا. وفي حين تصف نوفوستي مجزرة المتجر في المدينة  الأوكرانية ب”حادثة كريمنتشوك”، أعلنت كييف عن تقديم دعوى إلى المحكمة الأوروبية تتهم روسيا بالقتل الجماعي المتعمد في المتجر.

موقع الخدمة الروسية في “الحرة” نشر آخر الشهر المنصرم نصاً بعنوان “بوتين يعيد الزمن إلى الوراء. قمة الناتو دعمت أوكرانيا”. يقول الموقع بأن قمة الناتو أقرت إستراتيجية جديدة “خريطة طريق” للعقود القريبة القادمة، وهي تهدف إلى تعزيز أمن بلدان الحلف ضد “التهديد الروسي المتصاعد”. ويشير إلى أن مناقشة الوضع الناشئ في أوروبا نتيجة الإجتياح الروسي لأوكرانيا إحتلت المكان الرئيسي في القمة. وترى الوثيقة النهائية للقمة بأن العديد من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية شعرت بعد غزو أوكرانيا بأن أمنها مهدد. وروسيا متهمة بخرق المبادئ والقواعد التي يقوم عليها الأمن الأوروبي، وبتصميم أنظمة اسلحة جديدة لا تراعي الضوابط التي تلحظها الإتفاقات الدولية، وبالتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان حلف الناتو، وبحملات التضليل والضغط على الدول التي تعتمد على صادراتها من مصادر الطاقة.

الوثيقة النهائية للقمة تصف روسيا بأنها “التهديد الأهم والمباشر” للعالم وللأمن في المنطقة الأوروبية للحلف. وهي متهمة  في محاولة “إقامة مناطق نفوذها وسيطرتها المباشرة” على أراضي الغير، بواسطة الإكراه، الأعمال التخريبية، العدوان والضم. ويرى الموقع أن هذه الصياغة تشير إلى التغير الجذري في علاقات الحلف بروسيا. في الإستراتيجية السابقة للعام 2010 كانت روسيا تعتبر بمثابة الشريك في بناء “فضاء عام للسلام والإستقرار والأمن”.

موقع 24saat الأذري المعارض الناطق بالروسية والأذرية والإنجليزية نشر في 29 المنصرم  نصاً بعنوان “”الحرب عادت إلى أوروبا”. هل يوقف الناتو بوتين؟”. عنوان نص الموقع تكرار جزئي لكلمة الملك الإسباني في حفل العشاء التكريمي الذي أقامه عشية إفتتاح قمة الناتو في مدريد، وقال فيها بأن الحرب عادت إلى أوروبا.

يستضيف الموقع محللاعسكرياً سياسياً وإقتصادياً روسيين، ناقشا الأبعاد السياسية الإقتصادية لدعوة الناتو فنلندا والسويد إلى حضور قمته في مدريد، وردة فعل روسيا على هذا التوسع للناتو.  المحلل العسكري يتحدث عن إتقاق تركيا مع فنلندا والسويد، والذي مهد طريق الدولتين للإنضمام إلى الناتو. ويطيل في تقييم الإتفاق والحديث عن الأكراد ووضعهم في تركيا، ويتوسع في تفاصيل رفع القدرات العسكرية الأميركية “بشكل جدي”وسط أوروبا وشرقها”، مما سيؤدي، برأيه، إلى سباق تسلح جديد.

وعن الوصف الجديد للناتو روسيا بأنها التهديد المباشر الأهم للأمن، وما إن كان سيؤدي إلى عسكرة الإقتصاد الأوروبي والعالمي، يقول الإقتصادي بأن العسكرة تجري منذ سنوات، وعلى الرغم من جائحة كورونا، شهد العالم رقماً قياسياً السنة الماضية في الإنفاق العسكري الذي تخطى 2 تريليون دولار.

وعن سيناريوهات إنتهاء الحرب في أوكرانيا بهزيمة روسيا، يوافق العسكري على إحتمال تحقق السيناريو. ويقول الإقتصادي بأن نهاية هذه الحرب سوف تكون شبيهة بالحرب الروسية اليابانية مطلع القرن الماضي وهزيمة روسيا فيها. ويرى أن فترة الحرب وآثارها سوف ترافق حكم بوتين حتى نهايته، وسوف تبقى الظل الذي يرافقه مهما طالت مدة هذه النهاية.

المدن

—————————-

حرب أوكرانيا.. والأهداف بعيدة الأمد/ جيفري كمب

توضح قمة مجموعة الدول السبع الكبرى المنعقدة في ألمانيا خلال الأيام القليلة الماضية، وقمة حلف شمال الأطلسي «الناتو» المنعقدة في مدريد حالياً، استمرارَ عزم الدول الغربية على مساعدة أوكرانيا في حربها مع روسيا. وقد أوضحت روسيا أنها ليست في عجلة من أمرها للتفاوض على إنهاء الحرب على الرغم مما يقال حول الخسائر في الجنود والمعدات العسكرية.

وما لم يحدث تغيّر جذري في ساحة المعركة، فسيستمر الصراعُ الأكثرَ تكلفةً وسفكاً للدماء في أوروبا منذ عام 1945.

وكلما طال أمد الحرب، زاد تأثيرها على أوروبا والمجتمع الدولي بأسره. وستعاني دول كثيرة اقتصادياً من تداعيات الحرب، لا سيما تلك التي تعتمد على كل من أوكرانيا وروسيا للحصول على الإمدادات الغذائية والزراعية.

وتخشى الدول الصغيرة في أوروبا، بما في ذلك مولدوفا ودول البلطيق، من أن توجه روسيا قواتها ضدها في مرحلة ما. وتخشى دول أوروبية أكبر، مثل بولندا، من تفاقم مجريات الحرب حتى تبلغ أراضي هذه الدول ويتورط فيها حلفاؤها في «الناتو». وتخلت السويد وفنلندا عن حيادهما التقليدي، وتقدمتا بطلب للحصول على عضوية «الناتو».

وتعمل جميع دول «الناتو» على زيادة ميزانياتها الدفاعية. وتعهد الحلف بزيادة قواته الجاهزة للقتال من 40 ألفاً إلى 300 ألف، في تغيير جذري للسياسات. وعلى الرغم من عدم وجود حافز لدى أوكرانيا أو روسيا لوقف القتال حالياً، فهناك عدد من الأحداث قد تغيِّر تطورات المأزق الحالي. فإذا نجحت روسيا في احتلال أوديسا، فلن يكون لأوكرانيا منفذ إلى البحر.

وإذا شنت روسيا هجوماً جديداً على كييف ونجحت هذه المرة في احتلال المدينة، فمن المحتمل أن تسقط الحكومة الأوكرانية وتلجأ إلى الغرب. ونظراً لأن كلا الاحتمالين سيؤدي إلى كارثة للغرب، فسيواصل جهودَه الجاريةَ لتزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة قد تعرقل العمليات العسكرية الروسية. وهذا الالتزام سيتوقف على استمرار الوحدة بين حلفاء «الناتو».

وقد تفشل هذه الاستراتيجية، إذا حدثت خلافات كبيرة، خاصة إذا تسبب الانتقام الاقتصادي الروسي، بما في ذلك حدوث اضطرابات في إمدادات الطاقة، في تكلفة مؤلمة حقاً. وفي هذا الوقت، كان التأثير الأكثر عمقاً للحرب، بخلاف التكلفة البشرية، هو المواقف المتغيرة في الغرب تجاه موسكو وأهدافها الاستراتيجية. وهذه المواقف يُنظر إليها الآن من زاوية أكثر تشاؤماً مما كان عليه الأمر في الماضي القريب.

وحتى وقت اندلاع الحرب، في 24 فبراير الماضي، كان كثير من المحللين الغربيين يجادلون بأن لدى روسيا مخاوف أمنية حقيقية بشأن علاقة أوكرانيا المتنامية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبأن هذه المخاوف يتعين تفهمها. ولهذه الأسباب، يجب اتخاذ خطوات لتقليص المخاوف الروسية من خلال وضع إطار أمني جديد للقارة.

صحيح أنه مازال هناك عدد من الباحثين الغربيين يعتقدون أن هذه الحجة لها وجاهتها، لكن هناك إجماع متزايد على أن شن الحرب بشكل مفاجئ في أوكرانيا يتطلب تقديم رؤية مختلفة لنوايا موسكو. فهدف روسيا طويل الأمد يتمثل في استعادة الهيمنة على أوروبا الشرقية، وتحييد أوروبا الغربية وتقسيمها، والعمل على رحيل القوات العسكرية الأميركية من القارة.

وفي ظل هذا التصور، يتعين على الغرب القيام بعملية تعديل مكلفة ومؤلمة لتوفير الموارد العسكرية والاقتصادية لإنقاذ أوكرانيا. وهذه الأهداف الغربية لا يمكن تحقيقها إذا زادت السياسات المحلية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا من الانقسامات داخل حلف «الناتو». فأي تحرك في الولايات المتحدة للتراجع نحو موقف أكثر انعزاليةً سيكون كارثياً. ومن المحتمل أيضاً أن تجد روسيا صعوبةً في مواصلة سلوكها مع تحول البلاد نحو عزلة أكبر ومع استمرار تراجع الرفاهية الاقتصادية لمواطنيها. وعموماً، فتوقعات الأشهر القادمة ليست جيدة.

—————————–

===================

تحديث 04 تموز 2022

———————–

هل سينجو بوتين من تبعات الحملة الأوكرانية؟:  الدروس المستفادة من انهيار الاتحاد السوفياتي/ فلاديسلاف زوبوك

في 9 مايو (أيار) 2022، انطلق صف من الدبابات والمدافع هادراً في الساحة الحمراء في موسكو. وسار أكثر من عشرة آلاف جندي في شوارع المدينة. كان العرض العسكري هذا احتفالاً بذكرى النصر الروسية السابعة والسبعين، إحياء لانتصار الاتحاد السوفياتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. وفي المناسبة، ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المشرف على الاحتفالات، خطاباً أشاد فيه بالجيش وبثبات بلاده. وقال “لطالما اعتبرنا الدفاع عن وطننا الأم، عندما يكون مصيره على المحك، أمراً مقدساً. نحن لن نستسلم مطلقاً”. والحق أن بوتين كان يتحدث عن الماضي، وكذلك عن الحاضر، برسالة واضحة إلى بقية العالم: روسيا مصممة على مواصلة حربها ضد أوكرانيا.

وتبدو الحرب في رواية بوتين مختلفة للغاية عما تبدو عليه في نظر الغرب. فهي عادلة وشجاعة، كما أنها ناجحة. وفي ذلك الإطار قال بوتين “محاربونا من أعراق مختلفة يقاتلون معاً، يحمون بعضهم بعضاً من الرصاص والشظايا مثل الإخوة”. وحاول أعداء روسيا استخدام “العصابات الإرهابية الدولية” ضد البلاد، لكنهم “فشلوا تماماً”. ولا شك في أن القوات الروسية قوبلت بمقاومة محلية شرسة عوضاً عن الدعم، ولم تتمكن من الاستيلاء على كييف وإقالة الحكومة الأوكرانية، ولكن بالنسبة إلى بوتين، النصر هو النتيجة الوحيدة المقبولة علناً، ولا مناقشة لنتائج بديلة، في روسيا.

وفي المقابل، تلك النتائج ناقشها الغرب الفرح إلى حد ما بنجاح أوكرانيا. وأدت النكسات العسكرية الروسية إلى تجديد نشاط التحالف عبر الأطلسي، وصورت موسكو في صورة قوة من الدرجة الثالثة يقوم نظامها على السرقة والسطو. واليوم، يحلم كثير من صانعي السياسة والمحللين بأن ينتهي الصراع ليس بانتصار أوكرانيا في نهاية المطاف فحسب، بل يأملون في أن يعاني نظام بوتين المصير الذي لقيه الاتحاد السوفياتي: الانهيار. ويتجلى هذا الأمل في عدد من المقالات والخطب التي تقارن بين حرب الاتحاد السوفياتي الكارثية في أفغانستان، والغزو الروسي لأوكرانيا. ويبدو ذلك باعثاً دفيناً للعقوبات القاسية المفروضة على روسيا. ويؤكد الحديث الأخير عن الوحدة الجديدة للعالم الديمقراطي. ويتوقع أن تسهم الحرب في إضعاف الدعم الشعبي للكرملين مع تعاظم الخسائر وتدمير العقوبات للاقتصاد الروسي. وبسبب امتناع وصولهم إلى السلع والأسواق والثقافة الغربية، سيطفح كيل كل النخب الروسية وعامة الروس من بوتين طرداً، وربما خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بمستقبل أفضل. وفي نهاية المطاف، قد ينحى بوتين ونظامه، إما في انقلاب أو في موجة من الاحتجاجات الجماهيرية.

بيد أن هذا التفكير قائم على قراءة خاطئة للتاريخ. الاتحاد السوفياتي لم يتفكك للأسباب التي يحب الغربيون التعليل بها، على غرار الهزيمة المذلة في أفغانستان، وضغط الولايات المتحدة وأوروبا العسكري، والتوترات القومية في جمهوريات الاتحاد، وإغراءات الديمقراطية المزعزعة. والحق أن السياسات الاقتصادية السوفياتية المضللة، وسلسلة الأخطاء السياسية التي تعثر بها الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، هي التي تسببت في تدمير البلاد ذاتياً. وتعلم بوتين أموراً كثيرة من الانهيار السوفياتي، وتمكن من تجنب الفوضى المالية التي حتمت القدر المشؤوم للدولة السوفياتية على الرغم من العقوبات الشديدة. وإلى ذلك، تتميز روسيا اليوم بمزيج من الصمود والضعف، مختلف جداً عن ذلك الذي طبع الاتحاد السوفياتي في أواخر عهده. وهذا التاريخ جدير بالاعتبار، وعند التفكير في الحرب في أوكرانيا وعواقبها، على الغرب تجنب إسقاط مفاهيمه الخاطئة عن انهيار الاتحاد السوفياتي على روسيا الحالية.

إلا أن هذا لا يعني أن الغرب عاجز عن رسم مستقبل روسيا. وصحيح أن نظام بوتين أكثر استقراراً مما كان عليه نظام غورباتشوف. فإذا تمكن الغرب من البقاء موحداً، فقد يظل قادراً على تقويض سلطة الرئيس الروسي ببطء. وبغزو أوكرانيا، أخطأ بوتين في الحساب على نحو فادح. وكشف عن نقاط ضعف النظام، وهي اقتصاد أكثر ارتباطاً بالاقتصادات الغربية مما كان عليه سلفه السوفياتي، فضلاً عن نظام شديد التركيز على السياسة، ويفتقر إلى أدوات التعبئة السياسية والعسكرية التي كان الحزب الشيوعي يمتلكها. وإذا استمرت الحرب، فستصبح روسيا لاعباً دولياً ضعيفاً. وقد يؤدي الغزو المتطاول زمناً إلى نوع من الفوضى التي أسقطت الاتحاد السوفياتي. ولا يسع الزعماء الغربيين الأمل في مثل هذا النصر، السريع والحاسم. وعليهم التعاطي مع روسيا الاستبدادية، مهما كانت ضعيفة، في المستقبل المنظور.

التدمير الخلاق

في الولايات المتحدة وأوروبا، يفترض عدد من الخبراء أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان محتوماً. وفي الرواية هذه، كان الاتحاد السوفياتي متحجراً اقتصادياً وأيديولوجياً مدة طويلة، وأجهد جيشه فوق الضرورة. واستغرق فعل الثغرات الاقتصادية، والتناقضات الداخلية وقتاً قبل أن يؤدي إلى تفكيك الدولة. ومع ازدياد الضغط الغربي على الكرملين، من طريق تعزيز القوة العسكرية، بدأت البلاد تنهار. وعندما اكتسبت حركات تقرير المصير الوطنية في جمهوريات الاتحاد الأولى زخماً، تداعى الاتحاد. ولم تستطع محاولات الإصلاح التي بذلها غورباتشوف، على الرغم من حسن النية، أن تنقذ نظاماً يحتضر.

وينبغي الإقرار بأن هناك بعض الحقيقة في هذه الرواية. فالاتحاد السوفياتي لم يقوَ على منافسة الولايات المتحدة وحلفائها لا عسكرياً ولا تقنياً. وفي السياق هذا بذل القادة السوفيات جهوداً كبيرة وغير مجدية للحاق بالغرب. وبقيت بلادهم متخلفة على الدوام عن الركب. وفي ساحة معركة الأفكار والصور، ساعد الازدهار والحرية الغربيان في تسريع زوال الأيديولوجية الشيوعية، وفقدت النخب السوفياتية الشابة إيمانها بالشيوعية وأولت اهتماماً شديداً السلع الأجنبية المرغوبة، والسفر، والثقافة الشعبية الغربية. ولا ريب أن المشروع الإمبراطوري السوفياتي لاقى استياء الأقليات العرقية الداخلية وازدراءها.

بيد أن تلك المشكلات لم تكن جديدة، ولم تكن في حد ذاتها كافية لعزل الحزب الشيوعي من السلطة بسرعة في نهاية الثمانينيات. وفي الصين، واجه القادة الشيوعيون أشباه هذه الأزمات، في الوقت نفسه تقريباً، لكنهم قابلوا الاستياء المتزايد بتحرير الاقتصاد الصيني، واستخدموا القوة في قمع الاحتجاجات الجماهيرية. ونجح مزيج الرأسمالية من دون ديمقراطية، وبات قادة الحزب الشيوعي الصيني يحكمون بواسطة رأسمالية الدولة واستغلالها، وهم يقفون أمام عدسات التصوير تحت لوحات كارل ماركس وفلاديمير لينين وماو تسي تونغ. وفي الأثناء، خاضت أنظمة شيوعية أخرى، شأن النظام الحاكم في فيتنام، تحولات مماثلة.

ولم تسهم العيوب الهيكلية في تدمير الاتحاد السوفياتي على قدر ما فعلت الإصلاحات في حد ذاتها، في عهد غورباتشوف. ومثلما جادل اقتصاديون مثل مايكل بيرنستام، ومايكل إلمان، وفلاديمير كونتوروفيتش، أطلقت البيريسترويكا [إصلاحات إعادة الهيكلة] العنان لطاقات رجال الأعمال، إنما على نحو لم ينشئ اقتصاد سوق جديداً ولم يملأ رفوف المستهلكين السوفيات بالسلع. وبدلاً من ذلك، أدت هذه الطاقة إلى الدمار، فرواد الأعمال، على النمط السوفياتي، سطوا على الأصول الاقتصادية للدولة، وصدروا موارد ثمينة بالدولار، وسددوا الضرائب بالروبل. فحولوا الإيرادات إلى مواقع خارجية، ما مهد الطريق لحكم الأوليغارشية الفاسد. وسرعان ما تعلمت البنوك التجارية طرقاً ملتوية وبارعة لاستغلال الدولة السوفياتية، فاضطر البنك المركزي إلى طباعة الروبلات لتغطية التزامات البنوك التجارية المالية، فتوسع العجز الحكومي. وفي عامي 1986 و1987، مع انخفاض مبيعات الفودكا وأسعار النفط، والتداعيات التي جرتها كارثة تشيرنوبيل النووية، لم تطبع وزارة المالية سوى 3.9 مليار و5.9 مليار روبل، على التوالي، ولكن في عامي 1988 و1989، عند إقرار إصلاحات غورباتشوف، بلغ ضخ السيولة بالروبل 11.7 مليار ثم 18.3 مليار.

وعلى أي حال، تقدم غورباتشوف والإصلاحيون الآخرون بجهد جهيد. وفوض الزعيم السوفياتي مزيداً من السلطة السياسية والاقتصادية إلى الجمهوريات الخمس عشرة في الاتحاد. وسمح الحزب الشيوعي بإجراء انتخابات مجالس وطنية مخولة بالسلطة التشريعية والدستورية، وأدت إلى إخراج الأحزاب الشيوعية المحلية. وكان تصميم غورباتشوف صادراً عن قصد حسن، إلا أنه أدى إلى تعظيم الفوضى الاقتصادية، وعدم الاستقرار المالي. واحتجزت روسيا والجمهوريات الأخرى ثلثي الإيرادات التي كان من المفترض أن تذهب إلى الميزانية الفيدرالية، ما حمل وزارة المالية السوفياتية على طباعة 28.4 مليار روبل في عام 1990. وفي الوقت نفسه، تفككت الطبقة السوفياتية الحاكمة إلى جماعات عرقية: بدأت النخب الشيوعية في الجمهوريات المختلفة، على غرار الكازاخيين والليتوانيين والأوكرانيين وغيرهم، تشعر بالانتماء إلى “أممها” أكثر من ارتباطها بالمركز الإمبراطوري. وفاضت النزعة الانفصالية القومية وغلبت من غير مقاومة.

وإذا استعدنا تسلسل الحوادث، بدا تغير الموقف مدهشاً بشكل خاص في حال الروس. ففي الحرب العالمية الثانية، قاموا بمعظم أعباء القتال نيابة عن الاتحاد السوفياتي. واعتبر كثر في الغرب أن الإمبراطورية الشيوعية هي مجرد امتداد لروسيا، ولكن في 1990-1991، تولى عشرات الملايين من الروس، بقيادة بوريس يلتسين هدم الدولة السوفياتية. وكانوا مجموعة متنوعة، تضم مثقفين ليبراليين من موسكو، و”أباراتشيك” [رجال جهاز السلطة] في المقاطعات الروسية، وحتى ضباطاً في الاستخبارات السوفياتية والجيش. وما وحدهم هو رفضهم غورباتشوف وحكمه الفاشل. وبدوره، أدى ضعف الزعيم السوفياتي الملحوظ إلى محاولة انقلاب في أغسطس (آب) 1991. ووضع الانقلابيون غورباتشوف قيد الإقامة الجبرية، وأرسلوا الدبابات إلى موسكو على أمل إحداث صدمة لدى الناس وإجبارهم على الخضوع. وفشلوا على الجبهتين. وهم ترددوا في استخدام القوة الوحشية، وبعثوا احتجاجات جماهيرية على سيطرة الكرملين، ما تبع ذلك كان من قبيل التدمير الذاتي لهياكل القوة في الاتحاد السوفياتي. وأزاح يلتسين غورباتشوف جانباً، وحظر الحزب الشيوعي، وتصرف كحاكم يملك السلطة العليا. وفي 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991، أعلن يلتسين وزعماء بيلاروس وأوكرانيا أن الاتحاد السوفياتي “بناء على القانون الدولي والواقع الجيوسياسي، لم يعد قائماً”.

ولولا إعلان يلتسين ربما، لاستمر الاتحاد السوفياتي قائماً. وحتى بعد أن زالت الإمبراطورية عن الوجود رسمياً، بقيت على قيد الحياة لسنوات على هيئة منطقة روبل مشتركة من غير حدود وجمارك. وافتقرت دول ما بعد الاتحاد السوفياتي إلى الاستقلال المالي. وبعد استفتاءات الاستقلال الوطني، ثم الاحتفال بالحرية المستعادة، استغرق الأمر سنوات، في حال عشرات الملايين من مواطني الاتحاد السوفياتي السابق، خارج روسيا، قبل تطوير هويات ما بعد الإمبراطورية، والتفكير والتصرف على صورة مواطنين بيلاروس وأوكرانيين ومواطني دول جديدة. وعلى هذا، أظهر الاتحاد السوفياتي صموداً فاق هشاشته. ولم يشذ في ذلك عن الإمبراطوريات الأخرى التي استغرق تفككها عقوداً وليس شهوراً.

التعلم من الماضي

وبوتين يعرف هذا التاريخ معرفة عميقة. وهو أعلن ذات مرة أن “زوال الاتحاد السوفياتي كان أعظم كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين. وهو بنى نظامه لتجنب المصير هذا. وأقر بأن ماركس ولينين كانا مخطئين في ما يتعلق بالاقتصاد. وعمل بجد لمعرفة كيف يمكن لروسيا البقاء والازدهار في ظل الرأسمالية العالمية. واستخدم اقتصاديين أكفاء، وجعل من بين أولوياته الملحة استقرار الاقتصاد العام ووضع ميزانية متوازنة. وخلال العقد الأول من حكمه، ملأت أسعار النفط المرتفعة خزائن روسيا، وسرعان ما انتهى من سداد الدين البالغ 130 مليار دولار والمستحق على روسيا في البنوك الغربية. وأبقى الديون اللاحقة عند الحد الأدنى. وبدأت حكومته في تكديس الاحتياطي من العملات الأجنبية والذهب. وأثمرت تلك الاحتياطات خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، فوسع روسيا من غير حرج إنقاذ شركاتها الحيوية (الخاضعة لإدارة شركاء بوتين).

غداة ضم بوتين شبه جزيرة القرم في عام 2014، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على النفط الروسي وصناعات أخرى، وانخفضت أسعار النفط بسرعة إلى المستوى الذي سجلته في عهد غورباتشوف، ولكن الحكومة الروسية تصرفت بمهارة. ففي قيادة حاكمة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، ووزير المالية، أنطون سيلوانوف، سمحت الحكومة بتخفيض قيمة الروبل، فاستعادت استقرار الاقتصاد العام. وبعد تراجع قصير، انتعش الاقتصاد الروسي مجدداً. وفي أثناء جائحة كورونا، حافظت البلاد على انضباط مالي صارم. وبينما طبعت الدول الغربية تريليونات الدولارات لدعم اقتصاداتها، زادت روسيا فائض ميزانيتها. ووفق ما قاله ديمتري نيكراسوف، وهو اقتصادي سابق في الدولة الروسية، كان علماء الاقتصاد الحكوميون أكثر من البابا تمسكاً بتطبيق النهج الذي دعا إليه صندوق النقد الدولي. وخلال السنوات العشر الماضية، لم يكن في العالم بلد يتقيد بمثل تلك السياسة المحافظة والمتشددة، المبنية على [أحد] النماذج الليبرالية للاقتصاد الكلي على قدر روسيا. ومع عام 2022، كانت دولة بوتين جمعت أكثر من 600 مليار دولار من الاحتياطات المالية، وهي من أضخم المدخرات في العالم.

لكن بالنسبة إلى بوتين، لم يكن الغرض الأساسي من انتهاج السياسة المالية السليمة تلك كسب الثناء الدولي، أو حتى مساعدة الروس العاديين على الاحتفاظ بمدخراتهم. كان الهدف هو تعزيز قوته. وهو استخدم الاحتياطات المتراكمة من أجل استعادة قوة الدولة الاستبدادية من خلال بناء الدوائر الأمنية، وتوسيع الجيش وقطاع التسليح الروسي، ودفع المال لرئيس الشيشان، رمضان قديروف، وقواته شبه العسكرية (وهي ركيزة أخرى من ركائز ديكتاتورية الكرملين).

وعندما قرر بوتين غزو أوكرانيا في وقت سابق من هذا العام، كان يعتقد أن الاحتياطيات الكبيرة في روسيا ستسمح للبلاد بالنجاة من العقوبات المترتبة على غزوه، ولكن رد الغرب المالي كان أقسى بكثير مما توقع. والصقور المتحمسون والمناهضون لروسيا في الغرب فوجئوا بذلك. وأخرج الغرب وحلفاؤه عدداً من البنوك الروسية الكبرى من نظام “سويفت” SWIFT، الشبكة الدولية لتسوية المدفوعات، وجمدوا 400 مليار دولار من الاحتياطيات الدولية الروسية التي كانت مودعة فعلياً في دول مجموعة السبع. ومنعت واشنطن وحلفاؤها مجموعة من شركات التصنيع من العمل مع الحكومة الروسية أو مع الشركات الروسية، في آن واحد. وبقرار مستقل ومنفرد، انسحب من روسيا أكثر من 700 شركة غربية متخصصة في التصنيع والبيع بالتجزئة، خجلاً من الرأي العام في بلدانها الأصلية. وتوقفت شركات النقل الدولية والمالية الكبرى والوسطاء عن العمل مع الشركات المرتبطة بموسكو. في الحقيقة، لا يشبه فك الارتباط هذا سابقة شهدها العالم منذ حصار ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية.

في الغرب، قوبلت تلك الإجراءات بالابتهاج. وأعلن النقاد أن العملة الروسية ستنهار وأن احتجاجات واسعة النطاق ستنتشر، بل إن بعضهم تكهن بإمكانية إطاحة بوتين. ولم يتحقق أي من تلك السيناريوهات. وفي البداية، انهار الروبل، بيد أن نابيولينا وسيلوانوف تصرفا بسرعة لإنقاذه. فعلقت الدولة الروسية حرية تحويل العملة، وأصدرت مرسوماً يقضي ببيع 80 في المئة من عائدات نفط الشركات الروسية والمصدرين الآخرين (بما في ذلك الإيرادات بالدولار) إلى البنك المركزي. وإلى ذلك، منعت الدولة المواطنين الروس من تحويل أكثر من عشرة آلاف دولار شهرياً إلى الخارج، فقمعت فورة الذعر الداعية إلى تحويل الروبل إلى الدولار. وعادت العملة الروسية في النهاية إلى مستويات ما قبل الغزو. ولو استعان غورباتشوف بخبرة مماثلة، ربما كان الاتحاد السوفياتي نجا بجلده.

في غضون ذلك، يتعلم رواد الأعمال في روسيا التكيف مع واقعهم الجديد. أغلقت أبواب أمامية كثيرة يملكها الاقتصاد الدولي. ورجال الأعمال الروس، بمن فيهم أولئك الذين يشرفون على صناعة الأسلحة، يعرفون كيفية استخدام الأبواب الخلفية للعثور على ما يحتاجون إليه. ولا تزال الشركات الروسية تتمتع بإمكان الوصول القانوني إلى عدد من الاقتصادات الرئيسة، بما في ذلك اقتصادات الصين والهند، اللتين ما زالتا على استعداد للاتجار مع روسيا. ولا يوجد سبب اقتصادي يمنعهم من ذلك، إذ إن قيمة الروبل تجعل من المربح شراء الطاقة الروسية والمواد الأخرى بسعر مخفض. ويمكن للحكومة الروسية بعد ذلك فرض ضرائب على تلك الأرباح، ثم فرض تحويلها إلى الروبل، ما يحافظ على السيولة المالية للدولة. إذن، على المدى القصير، من غير المرجح أن تؤدي العقوبات القاسية التي يفرضها الغرب إلى انهيار الروبل وإجبار الكرملين على الانصياع.

فرق تسد

قد لا تغير العقوبات الغربية تفكير موسكو، لكنها تضر بشكل لا لبس فيه بأجزاء من سكان روسيا: على وجه التحديد، النخبة في البلاد والطبقة الوسطى الحضرية. وقد ألغت الحكومات والجامعات والمؤسسات الأخرى حول العالم آلاف المشاريع العلمية والأكاديمية مع الباحثين الروس. والخدمات التي أصبحت جزءاً من حياة ذوي الياقات البيض الروس، من “فيسبوك” إلى “نتفليكس”، و”زوم”، اختفت فجأة. ولا يمكن للروس ترقية أجهزة “ماك بوك” MacBook أو “آي فون” iPhone الخاصة بهم. كذلك، أصبح من الصعب جداً عليهم الحصول على تأشيرات لدخول المملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. وإذا نجحوا في الحصول عليها، فلا رحلات جوية مباشرة أو قطارات يمكنها أن تنقلهم إلى هناك. وعلاوة على ذلك، لم يعد في مستطاعهم استخدام بطاقات الائتمان الخاصة بهم في الخارج، أو دفع ثمن السلع والخدمات الأجنبية. بالنسبة إلى الكوزموبوليتانيين في البلاد، فالغزو ضيق الخناق على الكوزموبوليتانيين المحليين.

وقد يبدو هذا نذير بالسوء لبوتين. فخلال الأزمة السياسية السوفياتية بين 1990 و1991، لعب أفراد الطبقة الوسطى والعليا دوراً كبيراً في انهيار الدولة. واحتشد مئات الآلاف من السوفيات المتعلمين في الساحات الرئيسة في موسكو وسانت بطرسبورغ، مطالبين بالتغيير. وبعد الانتخابات التي أجريت في عام 1990، استحوذت على السلطة نخبة روسية جديدة، اعتنقت القومية، وجابهت الحرس السوفياتي القديم. وتعاون منتجو المعرفة والمثقفون في البلاد مع تلك النخبة الجديدة على إسقاط الإمبراطورية.

وتقبل غورباتشوف مثل هذا النشاط السياسي، ويصح القول إنه شجعه. على خلافه، بوتين لم يفعل، فلم يسمح للمعارضين بالمنافسة في الانتخابات، وتصدى لظهور أي مواطن روسي قد يهدده. وأخيراً، سمم ثم اعتقل زعيم المعارضة أليكسي نافالني، في أغسطس (آب) 2021. ولم تسر تظاهرات ضد الحرب على النطاق الذي سمح به غورباتشوف. ويرجع الفضل في ذلك، إلى حد كبير، إلى فاعلية أجهزة الأمن الروسية التي تعمل بلا رحمة. ورجال أجهزة دولة بوتين البوليسية يملكون القوة والمهارات لقمع احتجاجات في الشوارع، ولا يتورعون عن أعمال التخويف والاعتقالات والعقوبات المتنوعة الأخرى، مثل الغرامات الباهظة. وعلى نحو مماثل، تنشط الدولة الروسية بقوة للسيطرة على عقول الناس. وفي الأيام الأولى للغزو، أقر المجلس التشريعي الروسي قوانين تجرم المناقشة المفتوحة، ونشر المعلومات عن الحرب. وأجبرت الحكومة وسائل الإعلام المستقلة في البلاد على الإغلاق.

بيد أن هذه ليست سوى الأدوات البارزة في نظام سيطرة بوتين. وعلى غرار عدد من المستبدين الآخرين، تعلم الرئيس الروسي أيضاً استغلال عدم المساواة الاقتصادية لإنشاء قاعدة دعم متينة، مستفيداً من الفروق بين ما تسميه العالمة الروسية ناتاليا زوباريفيتش “أربع دويلات روسية”. دويلة روسيا الأولى هي سكان المدن الكبيرة. ويعمل كثيرون منهم في اقتصاد ما بعد الصناعة، ويرتبطون ثقافياً بالغرب. وهم مصدر معظم معارضة بوتين، وقد نظموا احتجاجات ضد الرئيس من قبل، لكنهم لا يشكلون سوى خمس السكان، بحسب تقدير زوباريفيتش. وفي المقابل، سكان الدويلات الثلاث الأخرى هم من سكان المدن الصناعية الأفقر، ويحنون إلى الماضي السوفياتي، والذين يعيشون في البلدات الريفية المتردية الحال، ومن غير الروس المتعددي الأعراق في شمال القوقاز (بما في ذلك الشيشان) وجنوب سيبيريا. وسكان الدويلات الثلاث يدعمون بوتين في أغلبيتهم الساحقة لأنهم يعتمدون على إعانات الدولة، ويلتزمون القيم التقليدية عندما يتعلق الأمر بالتسلسل الهرمي، والدين، والنظرة إلى العالم، أي ما يعود إلى المواقف الثقافية التي دافع عنها بوتين في بروباغندا الكرملين الإمبريالية والقومية ونشطت على نحو مفرط منذ بدء غزو أوكرانيا.

إذن، لا يحتاج بوتين إلى الانخراط في قمع جماعي ليحافظ على زمام القيادة. فمع الاعتراف بأن معارضة الدولة لا جدوى منها على ما يبدو، فر عدد من أهل روسيا الأولى، الذين سئموا بوتين، من البلاد. وهذا أمر يؤيده الرئيس الروسي علناً. وصرح بأن مغادرتهم تعتبر “تطهيراً ذاتياً طبيعياً” وضرورياً للمجتمع [الروسي] من “الطابور الخامس” الموالي للغرب. وإلى اليوم، لم يؤثر الغزو أثراً يقوض تأييد بوتين في الدويلات الثلاث الأخرى، ومعظم تلك الجماعات لا يشعرون بالارتباط بالاقتصاد العالمي، بالتالي، فهم لا يضيق عليهم حرمان الغرب روسيا ما تحرمها إياه العقوبات والحظر. وللحفاظ على تأييد هذه الجماعات، في وسع بوتين الاستمرار على دعم بعض المناطق، وضخ المليارات في مشاريع البنية التحتية والبناء في مناطق أخرى.

ويسعه مناشدة مشاعرهم المحافظة والحنين إلى الماضي. وهو ما لم يستطع غورباتشوف فعله أبداً. والحق أن تاريخ روسيا المضطرب حمل معظم شعبها على الرغبة في قائد قوي وتعزيز الدولة، بدلاً من الديمقراطية، والحقوق المدنية، وتقرير المصير الوطني. وغورباتشوف لم يكن رجلاً قوياً. وما كان يحرك الزعيم السوفياتي هو رؤية مثالية سامية، ورفض استخدام القوة للحفاظ على الإمبراطورية فحشد أكثر المجموعات تقدمية في المجتمع الروسي، وبخاصة المثقفين والمهنيين الحضريين، في سبيل مساعدته على إخراج الاتحاد السوفياتي من عزلته، وركوده، وممارساته المحافظة الراسخة. وعليه، دعم بقية روسيا وأجبر على التنحي عن منصبه، تاركاً وراءه اقتصاداً مأزوماً وعدم انتماء وفوضى ورغبة في الانفصال. فانخفض متوسط ​​العمر المتوقع للروس من 69 عاماً في عام 1990 إلى 64.5 عام في عام 1994. وتراجع هذا المتوسط بين الذكور، من 64 عاماً إلى 58 عاماً. وانخفض عدد سكان روسيا، وواجهت البلاد نقصاً في الغذاء. فلا عجب في أن يريد روس كثيرون رجلاً قوياً مثل بوتين، وعدهم بحمايتهم من عالم معاد واستعادة الإمبراطورية الروسية. وفي الأسابيع التي أعقبت غزو أوكرانيا، كان رد فعل الشعب الروسي التلقائي الالتفاف حول القيصر، عوض اتهامه بالعدوان غير المبرر.

تحت الضغط

ولا شيء من هذا يعد الغربيين الذين يريدون سقوط نظام بوتين بالخير، أو يزف إلى الأوكرانيين الذين يقاتلون في سبيل هزيمة الآلة العسكرية الروسية بشرى فأل، ولكن على الرغم من أن انهيار الاتحاد السوفياتي لا يرسم صورة عن مستقبل روسيا، فإن هذا لا يعني أن إجراءات الغرب لن يكون لها أي تأثير في مستقبل البلاد. وهناك إجماع بين الاقتصاديين الغربيين والروس البارزين على أن العقوبات ستؤدي على المدى الطويل، إلى انكماش الاقتصاد الروسي، وتفشي الاضطرابات في سلاسل التوريد. ويعتبر قطاعا النقل والاتصالات في البلاد عرضة للخطر بشكل خاص، فطائرات الركاب الروسية، وأسرع قطاراتها، ومعظم سياراتها، تصنع في الغرب. وهم الآن معزولون عن الشركات التي تحسن صيانتها. والإحصاءات الحكومية الرسمية نفسها تشير إلى أن تجميع (تركيب) السيارات الجديدة في روسيا انخفض بشكل حاد، ولو جزئياً، لأن المصانع الروسية محرومة من القطع الأجنبية. وقد يستمر اليوم المجمع الصناعي العسكري الروسي في العمل من دون عوائق، لكنه سيواجه نقصاً في النهاية. وفي الأمس، استمرت الشركات الغربية على إمداد مصنعي الأسلحة الروس، حتى بعد ضمها شبه جزيرة القرم، ولكنها لن تفعل اليوم، لأسباب أخلاقية لا غير، ما فعلته من قبل.

وأفلت قطاع الطاقة الروسي إلى حد كبير من العقوبات، ويكسب مع ارتفاع الأسعار أموالاً من الصادرات أكثر مما كان يجني قبل الحرب. وفي نهاية المطاف لن يتجنب إنتاج الطاقة الانكماش، وسيحتاج القطاع إلى قطع غيار، وتحديثات تكنولوجية لا يمكن أن يقدمها إلا الغرب على الوجه المطلوب، واعترفت السلطات الروسية، في هذا الشأن، بأن إنتاج النفط في البلاد انخفض بنسبة 7.5 في المئة في مارس (آذار) وقد ينخفض ​​إلى مستويات لم تشهد منذ عام 2003. ومن المرجح أن يصبح بيع الطاقة مشكلة، بخاصة إذا كان في إمكان الاتحاد الأوروبي أن يفطم نفسه عن النفط والغاز الروسيين.

بيد أن بوتين ينفي حدوث ذلك. وفي اجتماع مع رؤساء شركات الطاقة، وصف العقوبات الغربية بـ”الفوضوية”. وقال إنها ستضر بالاقتصادات الغربية والمستهلكين أكثر من أضرارها بالروس بسبب التضخم، بل إنه تحدث عن “انتحار (أوروبا) الاقتصادي”، ووعد باستباق إجراءات الغرب المعادية. وأقنع نفسه بأن الغرب لم يعد يحتل صدارة الاقتصاد العالمي، نظراً إلى تعدد الأقطاب المطرد في العالم. وهو لا ينفرد بهذا التفكير. فالاقتصاديون الروس الذين يعارضون بوتين مقتنعون بأنه طالما أن الوضع المالي للبلاد مستقر، فبقية العالم، وبعض الشركات الغربية والتجار والوسطاء كذلك، سيخاطرون بانتهاك العقوبات، وعقد صفقات تجارية مع روسيا. ومع تداعي الاقتصاد العالمي تحت وطأة الحرب، وتلاشي صدمة الغزو، يعتقد هؤلاء أن علاقة روسيا بالعالم ستعود إلى طبيعتها، تماماً على نحو ما جرى بعد عام 2014.

وعلى الناحية المقابلة، يبدو أن الغرب مصمم على الاستمرار على سياسته. وقبل يوم واحد من احتفال بوتين بيوم النصر، أصدر قادة مجموعة الدول السبع إعلاناً بدعم أوكرانيا اعترفوا فيه بالبلد كحليف للغرب، وتعهدوا تقديم الدعم المالي له، وتزويده بالأسلحة بشكل ثابت، وتوفير الوصول إلى استخبارات “الناتو”، واستمرار الضغط الاقتصادي على روسيا على نحو حاسم. والجزء الأهم في الإعلان التصريح بالعمل على “عزل روسيا في جميع قطاعات اقتصادها”. وهذا يترجم ما وصفته أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بأهداف الاتحاد الأوروبي، وأولها “منع البنوك الروسية من العمل في جميع أنحاء العالم”، و”منع الصادرات والواردات الروسية بشكل فعال”، و”جعل تصفية الأصول أمراً مستحيلاً على البنك المركزي [الروسي]”.

لن يكون من السهل الحفاظ على هذا المستوى من الوحدة أو توسيع الضغط ليشمل مزيداً من القطاعات الروسية، على غرار فرض حظر الاتحاد الأوروبي على النفط والغاز الروسيين. وتدرك دول كثيرة، بما في ذلك المجر (التي لا يزال رئيس وزرائها، فيكتور أوربان، أحد أصدقاء بوتين القلائل في أوروبا) وكذلك ألمانيا وإيطاليا، أن فرض حظر على الطاقة يوجه ضربة قاسية لاقتصاداتها. وإذا فرضت أوروبا حظراً على الطاقة، فلن يؤدي ذلك إلى أزمة فورية في روسيا. والحق أن الاتحاد السوفياتي شهد انخفاضاً حاداً في عائدات النفط في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. ولم يكن هذا ما أدى إلى إفلاس البلاد، بل فقدان غورباتشوف السيطرة على البنك المركزي والروبل والآليات المالية للدولة. فطالما احتفظ بوتين بالسلطة على تلك الأصول واتبع النصائح المهنية، فإن انخفاض أرباح الطاقة لن يقوض قدرة نظامه على الصمود.

ولكن إذا كان الغرب جاداً في شأن إيقاف بوتين، فسيتعين عليه محاولة مواصلة الضغط على أي حال. وكلما طالت مدة العقوبات واشتدت قسوتها، ستقوم الجهات الفاعلة الأخرى في الاقتصاد العالمي بتنفيذ النظام الاقتصادي الغربي المناهض لروسيا وستتبناه بشكل أكبر، وتزداد مخاوف الدول والشركات خارج الغرب من العقوبات الثانوية. وبعض الشركات قد تقلق على سمعتها. وقد علقت شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” بالفعل العقود الجديدة مع روسيا. وفي المقابل، تتعرض الشركات الهندية التي أعلنت استعدادها لشراء النفط الروسي بحسم 30 في المئة، لضغوط شديدة لكي تتراجع.

وإذا دام نظام العقوبات وارتدى صفة مؤسسية، قد ينجح الغرب في تقويض نظام بوتين. وفي نهاية المطاف، لن يستطيع الاقتصاديون الموهوبون في موسكو حماية البلاد من التأثيرات المدمرة على الاقتصاد الكلي. وعلى الرغم من تريليونات الدولارات من الاستثمارات في البنية التحتية، وغيرها من تدابير التحفيز، لن تتمكن الدولة الروسية من التغلب على آثار الإقصاء، في ظل تعاظم أكلاف تلك المشاريع، وخصوصاً مع الفساد المصاحب. ومن دون الدراية التي يؤمنها الأجانب، ستعود كفاءة إنتاج البضائع الروسية وجودتها إلى ما كانت عليه في أوائل التسعينيات. ولسوف يراود الدويلات الثلاث الأخرى الروسية، وسكانها يعتمدون على الدولة في معاشهم، شعور حاد بضعف بلادهم وعزلتها المتزايدة في صورة لا يشعرون بها اليوم. وقد يصعب على الناس تحصيل لقمة العيش. وهذا من شأنه أن يقوض بشكل خطير رواية بوتين: الزعيم المختار والقادر على تشييد “روسيا عظيمة وسيدة”، وناهضة من عثرتها في عهده.

وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى إضعاف الدولة الروسية إلى حد خطير. وقد تتعاظم النزعة الانفصالية أو تُبعث في بعض المناطق، مثل الشيشان، إذا توقف الكرملين عن تسديد فواتير سكانها، وتتصاعد التوترات بشكل عام بين موسكو، حيث تجمع الأموال، والمدن والمناطق الصناعية التي تعتمد على الواردات والصادرات. ومن المرجح أن يحدث ذلك في المناطق المنتجة للنفط في شرق سيبيريا ووسط الفولغا، التي قد تجد نفسها مجبرة على إعطاء الكرملين حصصاً أكبر من الأرباح المتقلصة.

إن روسيا، في حال ضعف شديد، ليس مصيرها المحتوم أن تعاني التفكك على غرار الاتحاد السوفياتي. وخلافاً لما كان عليه الحال في الاتحاد السوفياتي، لا تمثل النزعة الانفصالية القومية تهديداً كبيراً لروسيا الحالية، حيث يعتبر ما يقرب من 80 في المئة من مواطني الدولة أنفسهم روساً أصيلين. وفي مقدور المؤسسات القمعية القوية في موسكو ضمان ألا تشهد روسيا تغييراً في النظام، أو ليس صنف تغيير النظام الذي حدث في عام 1991. وعلى الأرجح، ولو انقلب الروس ضد الحرب، فهم لن يقوموا بثورة أخرى تدمر دولتهم.

وعلى الغرب، على الرغم من ذلك، أن يكمل هذا المسار. وسوف تستنزف العقوبات صندوق تمويل الحرب الروسي تدريجياً، وتشل قدرة الدولة على القتال. ومع النكسات المتزايدة في ساحة المعركة، قد يوافق الكرملين على هدنة غير سهلة. وفي الوقت نفسه على الغرب أن يظل واقعياً. فلا يمكن لأحد أن يصدق أنه في عام 1991 لم تكن هناك بدائل للانهيار السوفياتي، غير أنصار “مبدأ” الحتمية المتشددين. وكان المسار الأكثر احتمالاً هو دوام استبداد الدولة السوفياتية، جنباً إلى جنب تحرير السوق الراديكالي، والازدهار لمجموعات مختارة، على غرار الطريق الذي سلكته الصين تقريباً. وعلى نحو يتحتم على الغرب أن يتوقع سقوط روسيا الضعيفة. وفي الأثناء قد يتعين على أوكرانيا والغرب التعايش مع دولة روسية ضعيفة ذليلة، ومقيمة على استبدادها. وعليه، ينبغي لصانعي السياسة الغربيين الاستعداد لهذا الاحتمال عوضاً عن الحلم بانهيار موسكو.

*فلاديسلاف زوبوك أستاذ التاريخ الدولي بكلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب “الانهيار: سقوط الاتحاد السوفياتي”.

مترجم من فورين أفيرز، يوليو (تموز)/ أغسطس (آب)، 2022

اندبندنت عربية

—————————

استنزاف روسيا وملاعبة الغرب/ سامح راشد

رغم أن الأوكرانيين يشعرون بالمرارة والألم لما يعتبرونها خيانة من الغرب، خصوصاً حلف الناتو، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لا يزال الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، يبحث عن مزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية الغربية لبلاده، وهو في ذلك مجبرٌ لا بطل. بل إنه يكاد لا يملك من أمره هو شخصياً شيئاً، ولولا أن القيصر الروسي بوتين ليس في عجلةٍ من أمره، لاغتال زيلينسكي أو اعتقله من الأيام الأولى للحرب. وبشكل عام، يمكن بسهولة ملاحظة الاستراتيجية الروسية في إدارة الأزمة وتسيير العمليات العسكرية هناك. والتي تقوم على سياسة الخطوة خطوة، وعدم الاندفاع العملياتي، تجنّباً لتكبد خسائر كبيرة ستنتقص كثيراً من قيمة النصر العسكري الذي يرى بوتين أنه قادر على تحقيقه وقتما يريد. وبالتالي، لا داعي لدفع ثمن باهظ فيما يمكن تحقيقه بكلفة أقل.

هذا الحذر الروسي منطقي ويعبر عن ذكاء بوتين، رجل الاستخبارات العتيد الذي يعتبر الأزمة جزءاً من صراعٍ أوسع وأعمق مع الغرب، حيث أوكرانيا، بحد ذاتها، ليست غاية، ولا هي بتلك الأهمية الجيواستراتيجية الكبيرة بالنسبة للغرب. كما يدرك بوتين أيضاً أن أغراض واشنطن لا تقف عند إظهار موسكو قوة احتلال متوحّشة، وإنما أيضاً استظهار ما لدى موسكو من قدراتٍ وإمكاناتٍ متقدّمة لم يختبرها الغرب بعد. لذا، يجري استخدام القوات الروسية الأسلحة الحديثة في العمليات ضد أوكرانيا بشكل محدود وبالتدريج. فيما يشبه الكشف الاضطراري الذي توجبه التطورات العملياتية على الأرض، وليس من قبيل الاستعراض العسكري.

ثم يأتي الغرض الأبعد والأهم بالنسبة لواشنطن وبعض حلفائها الغربيين، وهو استنزاف القوة الروسية، ليس فقط عسكرياً وإنما اقتصادياً وسياسياً، بل معنوياً أيضاً، بالتركيز الإعلامي على الجوانب الإنسانية في الأزمة وأعداد اللاجئين والمآسي التي يتعرّض لها الأوكرانيون الفارّون من ويلات القصف الروسي. فضلاً، بالطبع، عن العقوبات الاقتصادية التي نجحت واشنطن في تمريرها بصعوبة لدى بعض حلفائها، بينما لا تزال معطلةً عن التنفيذ من حلفاء كثيرين لهم مواقف متحفّظة حيال منطق العقوبات وجدواها، بل ومبرّرات إشعال الأزمة ككل من بداياتها.

وعلى الرغم من هذه السجالات التي زادت الأزمة تعقيداً، وتبدو كأنها أطالت أمد الحرب، الواقع أن الحرب مرشّحة للاستمرار لفترة غير معلومة، والأزمة ستطول ربما إلى أمد مفتوح. هناك أسباب كثيرة واقعية لهذا التوقع، تبدأ من صعوبة إنهاء عملية غزو شاملة من دون وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والمنشآت الحيوية، وهي مسألةٌ ليست شكلية أو هامشية في الوقت الحاضر، خصوصا في ظل تداخل المواقف والحسابات الخاصة بالعقوبات على موسكو.

ثمّة سببٌ جوهريٌّ آخر لاستمرار الحرب إلى زمن غير محدّد، هو إصرار واشنطن على عدم الاكتفاء بما تم من استنزاف لموسكو. ويتّضح هذا الإصرار من تقديم واشنطن وبعض الدول الغربية، مثل بريطانيا وإيطاليا، الأسلحة والمعلومات الاستخبارية إلى أوكرانيا، بشكل تدريجي وبطيء. وفق وتيرة “نقطة .. نقطة”، بحيث يظلّ حجم التسليح الغربي لأوكرانيا وفعاليته أقل من المطلوب لتحقيق نصر حاسم وطرد الروس، لكن يكفي لتمديد الحرب واستمرار استنزاف الروس. أي ببساطة هي عملية “إدارة” عن بعد للحرب، لضمان استمرارها والتحكّم في وتيرتها بواسطة دعم عسكري غربي لكييف، لا هو كافٍ لهزيمة روسيا وخروجها، ولا هو يسمح بانهيار أوكرانيا ووقوعها كاملة تحت الاحتلال الروسي.

إنه توافقٌ غريبٌ بين طرفٍ يستنزف الآخر إلى آخر مدى، فيما الثاني ليس في عجلةٍ ولا مشكلة لديه في الوقت ولا الخسائر، ما دام يحقّق أهدافه وفق خططه. وهكذا يرى كل منهما أنه من يدير الأزمة ويتحكّم في الحرب، ويُنهك بها الطرف الآخر.

————————-

قمة الناتو والحرب الروسية/ فاطمة ياسين

أظهر زعماء حلف الناتو الذين عقدوا مؤتمر قمة في مدريد تضامنا كثيرا مع أوكرانيا، وحرصوا، في بيانهم الختامي، على أن يُبدوا وحدة وتكتلا صلبا في مواجهة روسيا التي حمّلها البيان مسؤولية الحرب، ودعاها إلى وقفها فورا، وأظهر اندفاعا نحو أوكرانيا وتعهّد بتقديم كل المساعدات لها للوقوف في وجه الهجوم الروسي، واستمرار الدعم إلى مراحل ما بعد الحرب، بمساعدتها في إعادة الإعمار على المدى الطويل، وكأن من نسج البيان أراد أن يخفي أي تباينٍ من أعضاء الحلف في الموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا، وكان حريصا على تأكيد أن المجموعة العسكرية الغربية تؤيد، بلا تحفّظ، موقف أوكرانيا في وجه المعتدي، وتمدّد الموقف، ليشمل جانب الصين أيضا، باعتبارها تقف خلف روسيا في حربها، ووضعها بمثابة المهدِّد للأمن والاستقرار ولمصالح دول “الناتو”، بعد أن اعتبر روسيا هي التهديد الأول والمباشر. يمكن أن يزيد مثل هذا البيان من التوتر، ويجعل الأطراف تتمسّك بموقفها أكثر وخصوصا روسيا والصين، وهما تدركان أن انفراد الحلف بكل دولةٍ منهما على حدة يمكن أن يوقعهما في الخسارة. بعيدا عن البيان الختامي ذي اللهجة المتشدّدة، يمكن أن نلمس من خلال قراءة مواقف الدول الأعضاء بعض التباين في ردود الفعل تجاه الموقف من روسيا، وكذلك من الحرب القائمة في أوكرانيا.

عانت الدول التي كانت تسمّى الكتلة الشرقية من الهيمنة الروسية، وخصوصا بولندا، كما وقعت دول البلطيق الثلاث تحت السيطرة الشيوعية مباشرة في ما سمّي الاتحاد السوفييتي، وهذه الدول التي تستحضر دروس التاريخ تحمل موقفا متشدّدا من روسيا، ويضاف لها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا. من الجانب الفعلي لدى دول البلطيق وبولونيا ما يبرّر تخوفها من تصريحات فلاديمير بوتين الذي ما زال يطالب بمناطق تابعة لإستونيا، ويفضّلون رؤية روسيا ضعيفة ومن دون مخالب، ويمكن أن تتبنّى هذا الموقف أو موقفا قريبا منه كل المنظمة التي كانت تسمّى شرقية مع بعض الشواذ، كروسيا البيضاء التي ما زالت تعزف ضمن الجوقة الروسية أو هنغاريا التي ترتبط اقتصاديا بشكل وثيق مع روسيا. وجانب المعسكر الشرقي المتشدّد، هناك معسكر غربي قد يكون أكثر تسامحا، رغم أن أعضاءه جميعا قد وقعوا على بيان قمة “الناتو” المدريدية، فكل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ركّزوا أكثر على وقف لإطلاق النار أو الشروع في محادثاتٍ جادّة تفضي إلى وقف النار ثم محادثات أخرى تنظم الوضع النهائي، وهذه الدول لا تشعر بخطر روسي محدق، ولا توجد حدود مشتركة بينها وبين بوتين، وهي تستورد منه جزءا من وقودها وغازها وقمحها، وتبدي ميلا إلى الحفاظ على الشعرة الدقيقة بين الطرفين، وتبني أملا على نجاح مسعاها، ولربما كانت مستعدّة لأن تغضّ الطرف عن احتلال شرق أوكرانيا في سبيل استمرار تدفق الطاقة.

من غير المؤكّد معرفة كيف ستتطوّر المواقف وبأي اتجاه ستنحرف، فلدى دول الغرب جمهور انتخابي قد يتمرّد إذا عانى أكثر من ضعف توريد الطاقة، وحتى في الولايات المتحدة فإن التورّط كثيرا في الشؤون الأوروبية لا يعجب أميركيين يحاولون التركيز أكثر على الداخل، وهم الأميركيون ذاتهم الذين راقبوا هتلر في الحرب العالمية الثانية يجتاح باريس ويقصف لندن ليلا ونهارا، ولم يتحرّكوا وحافظوا على “حياد” ما، لولا هجمات بيرل هاربور حيث قضى آلاف القتلى منهم، ما أجبر القيادة الأميركية على التحرّك، ربما ينتظر بوتين القادر بوصفه ديكتاتورا على ضبط شارعه، أن يرى شوارع أوروبية، وهي ملتهبة ما قد يخفّف المواقف الرسمية ضدّه، وقد يراهن على الوقت الذي يفيده في هذا السياق، ولكن الإفراط في خسارة الوقت قد يستنزفه هو الآخر، عندما يَظهر الأثر المدمّر للعقوبات، وحينها سيكون للمعادلة حساب من نوع مختلف.

العربي الجديد

———————

هل تُبحر كازاخستان عكس رياح روسيا؟/ باسل الحاج جاسم

تتحوّل آسيا الوسطى، بشكل متزايد يوماً بعد يوم، إلى ساحة للمنافسة بين الصين، جارتها العملاقة التي لها مصالح في مجالات عديدة، والولايات المتحدة التي أرادت تعزيز هيمنتها بعد الانتصار في الحرب الباردة، وإضعاف روسيا مع انهيار الاتحاد السوفييتي، واستقلال الجمهوريات التي كانت تحت عباءته. وفسّرت نخب هذه الدول استقلالها مع انهيار الاتحاد السوفييتي بأنه استقلال عن موسكو، ما جعلهم يعتمدون على مراكز القوى الأخرى، بكين وواشنطن، وأنقرة جزئياً، إلا أنها تناشد روسيا وتلجأ إليها عند التهديدات القصوى، كما حدث مع كازاخستان مطلع العام الجاري (2022)، ومع طاجيكستان خلال الحرب الأهلية أوائل التسعينيات.

ويرى بعضهم أن الرعونة في السياسة الخارجية الروسية لإدارة ملف دول الاتحاد السوفييتي السابق، مع قصر النظر الاستراتيجي لقيادة الجمهوريات المستقلة، أدّت إلى جعل تلك الدول مسرحاً للتنافس بين اللاعبين الدوليين، كما أدّت هيمنة مبدأ المساواة الشكلية في العلاقات الدولية على محتواها الواقعي والحقيقي إلى خسارة كبيرة للنفوذ الروسي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي.

اعتبرت الدول السوفييتية السابقة أن من الطبيعي أن تقدّم روسيا لهم المزايا السياسية والتفضيلات الاقتصادية، مقابل الصداقة الرسمية والمشاركة في هياكل الاندماج التي أنشئت تحت رعاية روسيا، الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. وفي الواقع، تستخدم الدول الأعضاء أي منصّة تكامل في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي لترويج (وتقديم) مصالحها الوطنية، والتي تتغيّر اعتماداً على المعادلات الإقليمية – الدولية، المعلن منها أو وراء الكواليس.

ويكشف السلوك الصريح لرئيس كازاخستان، قاسم جومارت توكاييف، في زيارته روسيا قبل أيام، مثالاً واضحاً على الاعتبارات أعلاه، من خلال تصريحه عن التزام بلاده بسياسة العقوبات المناهضة لموسكو، والذي يضع كازاخستان في موقف دولةٍ غير صديقة لروسيا. ومع أنه، وفقاً للتصريحات الرسمية الروسية، أي دولةٍ تدعم الحرب التي شنّها الغرب ضد روسيا تصبح غير صديقة، إلا أن من غير المتوقع أن يعترف المسؤولون الروس بذلك علناً حيال كازاخستان، وهم الذين اعتادوا التحدّث عن ذلك بوضوح، حتى تركيا الدولة العضو في حلف الناتو، التي تتخذ موقفاً مؤيداً لكييف علناً، لم تعلن دعمها نظام العقوبات.

ويأتي موقف رئيس كازاخستان هذا بعد أشهر على طلبه المساعدة الأمنية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، والتزمت بسهولة بإرسالها قوات، مع انتشار الاحتجاجات، ووصولها إلى الماآتا، أكبر مدن كازاخستان. ولم تمض سوى عدة أشهر على استعادة الهدوء في البلاد، بعد دخول قوات حفظ السلام من المنظمة التي يُنظر على أنها حلف ناتو على الطريقة الروسية. وما تلا ذلك من سرعة إعلان نجاح مهمة تلك القوات، وبدء انسحاب وحدة حفظ السلام من الجمهورية بعد أيام من وصولها.

بالإضافة إلى ذلك، تحدّث توكاييف في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، رداً على سؤال بشأن موقف بلاده من لوغانسك ودونيتسك، الإقليمين الانفصالين اللذين اعترفت بهما روسيا جمهوريتين مستقلتين، أن هناك آراء مختلفة في كازاخستان في هذا، لكن القانون الدولي الحديث هو ميثاق الأمم المتحدة، فيما المبدآن الرئيسيان المجسّدان فيه أصبحا متعارضين مع بعضهما: وحدة أراضي الدولة وحق الشعوب في تقرير المصير. كما لاحظ الرئيس الكازاخستاني، مع وجود مبدأين متناقضين، أن هناك تفاهمات ومواقف مختلفة، حيث يقول بعضهم إن وحدة أراضي الدول شيء أساسي، بينما يقول آخرون إن أي شعب هو جزء من دولة، وله الحق في دولته الخاصة، ويمكنه إنشاء دولته الخاصة ضمنها، والانفصال عنها متى شاء. ويعتبر أنه إذا كان حق الشعوب في تقرير المصير ينظم فعلياً في جميع أنحاء العالم، فبدلاً من 193 دولة الآن أعضاء في الأمم المتحدة، ستظهر نحو 600 دولة، وبالطبع، ستكون الفوضى عارمة. وختم توكاييف “لهذا السبب، لا نعترف بتايوان أو كوسوفو أو أوسيتيا الجنوبية أو أبخازيا، ويبدو أنه سيجري تطبيق هذا المبدأ أيضاً على مناطق شبه الدولة، والتي في رأينا، هي لوغانسك ودونيتسك”.

وتثير تصريحات مسؤولين روس، بين حين وآخر، والداعية إلى ضم أجزاء من أراضي دول سوفييتية سابقة، مخاوف كازاخستان ودول أخرى، إذ هناك أقليات روسية تصل في بعضها إلى 22% من التركيبة الديموغرافية، وتخشى هذه الدول تكرار سيناريوهات شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا.

يبقى القول، بالنسبة لموسكو المنخرطة في حرب وجودية مع الغرب، من الضروري مراجعة منطق هياكل التكامل السياسية والاقتصادية والعسكرية ووظائفها في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، والمفترض أنها مؤيدة لروسيا، مع أهمية التفاهم المتبادل للمصالح الاستراتيجية بين موسكو وبكين، والذي يمكنه الحدّ من التوسع الغربي في آسيا الوسطى، ويمنع التهديدات من أفغانستان المضطربة، لحماية أمنهم من تحول المنطقة الى بؤرة توتر تقلق روسيا والصين وتشغلهما.

العربي الجديد

—————————-

أوكرانيا… حرب على ألكسندر بوشكين

منذ بدء الحرب الروسية البوتينية على أوكرانيا، وتنامي الشعور القومي، تقوم السلطات الأوكرانية بحملة من أجل “إقصاء” كل ما هو ثقافي روسي، وآخِرها تماثيل الشاعر الروسي المعروف الكسندر بوشكين. ففي نهاية نيسان/أبريل، بذل فريق بلدية تشيرنيهيف (أوكرانيا) كل ما في وسعه لجعل بوشكين، العبقري الأدبي في القرن التاسع عشر، يدفع “ديونه”. وأزيل تمثاله النصفي من الحديقة حيث كان موجوداً منذ 122 عامًا. ووضع الفناء الخلفي لمتحف التاريخ المحلي، بصحبة شخصيات من الحقبة السوفياتية. وهو الذي عرف أوكرانيا لبضع سنوات، خلال المنفى (1820-1826) الذي فرضه القيصر ألكسندر الأول. والحملة على الرموز الثقافية الروسية تشبه الحملة على تماثيل لينين الشيوعي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

ولوحظت مشاهد مماثلة لإسقاط تمثال بوشكين في مدن ميكولايف وموكاتشيفو وزابولوتيف. وأعلن عمدة ترنوبل في وداع الشاعر: “ليس لدينا خيار: يجب تفكيك كل ما هو روسي”. حتى الآن، تمت إزالة عشرات التماثيل للكاتب في أنحاء البلاد، وفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية، التي حددت على نطاق أوسع 80 تدميرًا للآثار… ولم تقتصر الأمور على التماثيل، فقد استُبدلت أسماء المسارح والشوارع ومحطات القطارات التي تحمل اسم بوشكين.

وفي موقع “فورين بوليسي” نشر الكاتب الأوكراني فولوديمير يرمولينكو، مقالاً يعكس بوضوح حجم الشرخ الذي أصاب العلاقات الثقافية بين أوكرانيا وروسيا. يشير يرمولينكو في مطلع مقاله إلى العدد الكبير من الشوارع والساحات الأوكرانية التي تحمل أسماء أدباء وشخصيات ثقافية روسية، الأمر الذي يعتبره تراثاً من الماضي الإمبراطوري الروسي. و”لرسم حدود فضائها الاستعماري والتحكم فيه”. يقول ليرمولينكو: “إذا كنت تبحث عن جذور عنف روسيا ضد جيرانها ورغبتها في محو تاريخهم، ورفضها لأفكار الديموقراطية الليبرالية، فإنك ستجد الكثير من الإجابات في صفحات مؤلفات بوشكين وليرمونتوف ودوستويفسكي”.

وتتوالي فصول الحرب الثقافية بين روسيا وأوكرانيا. فقصائد ليرمونتوف، بحسب الأوكرانيين، حملت نظرة استعمارية مؤيدة للاحتلال الروسي للقوقاز. ومع أن البعض جرب أن ينسب أسماء روسية الى أوكرانيا من حيث الجنسية، لكن سرعان ما تبدلت الأمور بعد التعمق في الهوية الثقافية… فنيكولاي غوغول، بحسب القراءات، تخلى عن هويته الأوكرانية، وتمسك بالهوية الإمبراطورية الروسية، وبذل الكثير من مواهبه لإثبات أن الهوية الأوكرانية عفا عليها الزمن، وأن الأوكرانيين بحاجة للروس حتى يتعلموا منهم الحضارة.

أما التهمة الموجهة إلى بوشكين فهي تمجيد “الاعتداءات التي ارتكبها بطرس الأكبر ضد الأمم المجاورة”، في مقطع من قصيدة بولتافا (1828) التي كتبها في مدح القيصر. وهي تستعيد، كخلفية تاريخية لها، موقعة عام 1709 المنتهية بفوز بطرس الأكبر، قيصر الروس، على شارل الثاني عشر، ملك السويد، في بولتافا… وعلى عكس الرومانسيين الغربيين، ومنهم فكتور هوغو وبايرون، بوشكين متهم أيضًا بتقديم صورة مزعجة للأوكراني إيفان مازيبا، الذي تمرد على القيصر بطرس الأكبر حينما كان يشدد السيطرة الروسية على أوكرانيا. بالنسبة إلى الأوكرانيين، كان مازيبا رمزاً للمقاومة الوطنية ضد الهيمنة الروسية، وتذكيراً بأن روسيا القيصرية خرقت معاهدة القرن السابع عشر التي تحافظ على استقلال القوزاق (الأوكرانيين المستقبليين) مقابل الولاء لسكان موسكو (الروس المستقبليين). لكن بطرس نكث ببنود الصفقة بالنسبة إلى الأوكرانيين. فقد كانت أي دعوة أوكرانية للحكم الذاتي بمثابة الخيانة عند الروس، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى بوتين الآن.

ويأخذ بوشكين وجهة النظر الروسية من خلال تصوير مازيبا على أنه خائن فاسق يسكب الدم. وتقترح القصيدة أن الأوكرانيين يجب أن يُشفَق عليهم ويحتقروا كونهم “أصدقاء العصور القديمة والدموية”.

أيضاً تقوم وزارة الثقافة وسياسة الإعلام بإعداد أنظمة للمكتبات العامة والمدرسية، من أجل تشغيل سحب المصنفات المعنية بالترتيب التالي: الكتب المؤيدة لروسيا، والكتب الروسية المنشورة بعد العام 1991، ثم الكتب الكلاسيكية. ويُحظر استيراد وبيع الكتب المطبوعة في روسيا. ويُحظر أيضًا بث الموسيقى الروسية في الفضاء العام. والاستياء من اللغة الروسية لم يولد مع حرب 2022، ولا حتى في 2014 مع الصراع في دونباس. ففي زمن القياصرة، كانت الأوكرانية ممنوعة ومحتقرة بالفعل، ومهما كان الأمر، فمن الواضح أن الحرب الحالية ستكون لها عواقب دائمة على استخدام اللغة الروسية والسورجيك [مزيج من الأوكرانية والروسية] في هذا البلد.

————————

مأزق كاليننغراد سيزيد حدة المواجهة بين الغرب وروسيا/ شون أوغرايدي

الطريق المسدود في دول البلطيق يختبر إلى حد كبير مدى صبر موسكو

يشكّل إقليم كاليننغراد أكثر المناطق الغريبة وموضع اهتمام استثنائي في أوروبا. إذ اعتُبِرَ ذلك الإقليم جزءاً من شواطئ بحر البلطيق حينما انحسر نفوذ الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود من الزمن، لكنه يعتبر اليوم جيباً مغلقاً من الجهات كافة إذ تحده الأراضي البولندية من الجنوب وليتوانيا من الشمال، فيما يستمر في كونه تابعاً لروسيا.

قبل عام 1945، عرفت تلك المنطقة باسم “كونينغسبرغ” Konigsberg فيما كان حينئذٍ منطقة شرق [الإمبراطورية] البروسية. ثم جرى احتلالها من قِبَلْ الاتحاد السوفياتي وُفق مقررات “مؤتمر بوتسدام” [الذي عقده الحلفاء مع نهاية الحرب العالمية الثانية] لتقسيم القارة الأوروبية.

ونتيجة لذلك طرد الشعب الألماني عموماً من “كونينغسبرغ”. وأُعيدَ إعمار الإقليم وحصل على اسمه تيمناً بزعيم بلشفي قديم [في مطالع القرن العشرين، عُرِف الشيوعيون الذين قادهم فلاديمير لينين آنذاك في روسيا باسم البلاشفة]، هو ميخائيل كالينين. اليوم، كالينينغراد هي مدينة يقطنها حوالى مليون شخص، وتعتبر قاعدة بحرية تعمل طوال أيام السنة تابعة لأسطول البلطيق الروسي وقطعات عسكرية روسية أخرى. يتمتع الإقليم بأهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة إلى روسيا، ما جعل الكرملين يتمسك به حينما حُلَّتْ الإمبراطورية السوفياتية عام 1991.

اليوم، تهدد ليتوانيا عملياً بقطع خطوط السكك الحديد التي تربط كاليننغراد بالأراضي الروسية، بالتالي سيؤدي ذلك إلى عزل الإقليم عن بقية الأراضي الروسية. ويجري ذلك باسم [تطبيق] العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. ويمر نصف ما تستورده كالينينغراد من الوطن الأم عبر أراضٍ تعتبر عدوة لروسيا. والكرملين غاضب للغاية جراء ذلك.

إذا كان الرئيس فلاديمير بوتين يرغب في اجتياح أوكرانيا لاستعادة عظمة الدولة الروسية من جديد، فإن تنمر دولة صغيرة كليتوانيا على موسكو، بعدما كانت ذات يوم دولة صغيرة جداً ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، ويقطنها حوالى 2.8 مليون مواطن، جعل من الرئيس الروسي يبدو كأنه سخيف بعض الشيء، بالمقارنة مع سعيه لاستعادة عظمة ماضية.

لا يبدو معقولاً أن تكون ليتوانيا قادرة على فرض عقوبات كتلك ضد جارتها القوية لو لم تكن [ليتوانيا] دولة عضوة في الاتحاد الأوروبي وحلف ناتو. ولا يبدو معقولاً أيضاً أن تكون ليتوانيا على هذا القدر من الشجاعة للقيام بذلك [منفردة] لولا وجود موافقة ضمنية من حلف الأطلسي، ما يعني أن الولايات المتحدة قد أعطت الضوء الأخضر أيضاً. في المقابل، يعطي ذلك الأمر شعوراً بأن المواجهة بين الدول العظمى تقترب أكثر فأكثر.

واستطراداً، ستكون تلك المواجهة بمثابة اختبار قاس لقدرة روسيا على ضبط أعصابها. إذ توعَّدَ الكرملين بعواقب وخيمة لم يُحدّدها [رداً على خطوة ليتوانيا حيال كاليننغراد]، وقد يكون هناك من دون أدنى شك نوع من الرد. وبحسب وزارة الخارجية الروسية، “تحتفظ روسيا بحق الرد واتخاذ التدابير لحماية مصالحها الوطنية”. لكن موسكو لا يمكنها استخدام القوة بشكل مباشر ضد ليتوانيا أو بولندا حتى بالتنسيق مع حليفتها الوفية دولة بيلاروس، من دون المخاطرة باندلاع مواجهة مع دول حلف الأطلسي ككل. وقد تلجأ روسيا وبيلاروس إلى تعقيد حياة الراغبين بالانتقال من دولة إستونيا ولاتفيا جنوباً عبر كالينينغراد، وعرقلة حركة التجارة عموماً في المنطقة.

ولكن هذه ستكون حدود التحرك الروسي [السلمي]. وليس من المستبعد أن يرفض الرئيس إلكسندر لوكاتشينكو، الحليف الوفي للرئيس بوتين، جرّه إلى حرب مع حلف الأطلسي إذا سمح لروسيا باستخدام أراضي بلاده كقاعدة لانطلاق العمليات العسكرية ضد بولندا أو ليتوانيا. من سخرية القدر أن جزّار “مينسك” [عاصمة بيلاروس]، قد يتحول إلى عامل مؤثر يهدئ بوتين، حتى لو جاء ذلك من محض عِلمِه بمدى الكُره الذي يكنه له شعبه، وأنه ربما لن ينجح في الحفاظ على سلطته بعد خوض حرب مع الغرب.

يجري كل ذلك فيما تبقى الأعين شاخصة على ما يجري في شرق أوكرانيا من تقدم واضح، ولو بطيء، للجيش الأحمر هناك. وفيما تستمر القيادة الضعيفة للقوات الروسية المسلحة تسليحاً غير مناسب بالمقارنة مع المهمات المنوطة بها، تُبرز القوات الروسية ولو ببطء أهمية التفوق العددي وكذلك تفوق القوة النارية للمدفعية الثقيلة التي تقصف مناطق إقليم “دونباس” من أجل إخضاعها. وتسمح عملية قضم الأراضي للروس بإحكام سيطرتهم على موانئ البحر الأسود ومخزوناته الكبيرة من القمح التي تنتظر التصدير للمساعدة في إطعام العالم والتخفيف من نسبة التضخم المرتفعة عالمياً.

إذاً، حتى إذا لم تتجرأ روسيا على مهاجمة بولندا أو ليتوانيا، فيمكن لتلك الأمور [فرض العقوبات الأوروبية على كاليننغراد] أن تزيد قسوة حملتها الحالية [في أوكرانيا]. إذ يستطيع الكرملين أن يحجب بشكل أكبر تصدير النفط والغاز الروسيين للدول الغربية، ويمكنه أيضاً تحويل تصدير القمح وزيت دوار الشمس إلى سلاح عبر تجويع الدول الفقيرة الهشة في الشرق الأوسط وآسيا وشمال أفريقيا. بالتالي، فقد تتزايد الضغوط الدولية على الدول الغربية لإنهاء الحرب ودعوة أوكرانيا للاستسلام. وقد تؤدي تلك الضغوط إلى أزمة إنسانية تضاف إلى الأزمات الأخرى المتفاقمة.

واستطراداً، لا شك في أن أكثر القرارات صعوبة بالنسبة للدول الغربية باتت قادمة. حاضراً، من شأن استمرار تدفق الرساميل والمعلومات الاستخبارية والتدريب والأسلحة أن يساعد القوات الأوكرانية على الصمود في وجه غالبية الهجمات الروسية، لكن كل تلك المساعدات المقدمة لا يبدو أنها كافية لدحر القوات الروسية المهاجمة.

بالتالي، ثمة سؤال بات يطرح الآن مجدداً يتناول أهداف الحرب الغربية وإمكانية تطورها. ماذا سيحدث لو أراد الغرب تأمين طريق لتصدير القمح والحبوب وزيت الطبخ من أوكرانيا عبر البحر الأسود، على الرغم من استمرار تركيا في عدم تعاونها فيما تواصل روسيا في إطلاق تهديداتها؟

في حرب وصلت الآن تقريباً إلى مرحلة من الجمود [طريق مسدود]، سيسعى الجانبان إلى فتح جبهات جديدة بغية تحقيق تقدّم، وهنا تصبح مخاطر وقوع حوادث أو سوء فهم، أمراً محتملاً جداً.

نشر في “اندبندنت” بتاريخ 24 يونيو 2022

© The Independent

———————–

تغيُّر وشيك بآسيا الوسطى.. سر اختيار بوتين لطاجيكستان لتكون أول دولة يزورها منذ بدء حرب أوكرانيا

عربي بوست

“دولة فقيرة ومعزولة في آسيا الوسطى”، كانت محطة أول زيارة خارجية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ بداية حرب أوكرانيا، حيث أثارت زيارة بوتين لطاجيكستان التي تعد واحدة من أفقر دول آسيا الوسطى، تساؤلات عما إذا كان لديه خطط جديدة لهذه المنطقة بعدما أصبح معزولاً عن أوروبا.

وازدادت أهمية منطقة آسيا الوسطى بالنسبة لروسيا منذ أن تعرضت الأخيرة لحصار غربي شامل، بعد أن أرسل بوتين قوات بلاده المسلحة إلى أوكرانيا في فبراير/شباط 2022.

ولكن هناك في آسيا الوسطى دول تبدو أكثر أهمية من طاجيكستان، فهناك كازاخستان الدولة شاسعة المساحة المجاورة لروسيا والغنية بالنفط والغاز واليورانيوم والقمح والتي يمثل ذوو الأصول الروسية فيها نسبة كبيرة من سكانها.

كما توجد تركمانستان، البلد شبه الصحراوي شديد العزلة والغني بالطاقة لاسيما الغاز، والذي يتشاطر مع روسيا ودول أخرى بحر قزوين، وهناك أيضاً أوزبكستان أكبر جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية السابقة سكاناً، والبلد الذي يمكن وصفه بـ”مصر آسيا الوسطى”، بحضارتها الإسلامية العريقة التي ازدهرت في بخارى وسمرقند لقرون، ونهريها الكبيرين اللذين يمثلان أهمية كبيرة في المنطقة شبه الصحراوية تشبه أهمية النيل ودجلة والفرات في العالم العربي.

في المقابل تبدو طاجيكستان وقرغيزستان، البلدين الجبليين، الأفقر في المنطقة، والأقل جاذبية للقوى العظمى في ظل افتقارهما إلى موارد طاقة كبيرة أو مناطق زراعية واسعة أو حتى عدد سكان كبير.

ولذا فقليلون من هم متأكدون تماماً من سبب زيارة بوتين لطاجيكستان، حسب وصف تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.

أجندة زيارة بوتين لطاجيكستان تبدو عادية، فهل يريد ضمها للاتحاد الأوراسي؟

بدت الأجندة الرسمية لزيارة عمل بوتين في 28 يونيو/حزيران، غير استثنائية في الغالب.

وقال الكرملين، في بيان قبل الرحلة، إنَّ المحادثات مع الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمون ستتناول التحالف الاستراتيجي بين موسكو ودوشنبه والوضع في أفغانستان، دون تقديم أية تفاصيل.

وقال يوري أوشاكوف، مستشار بوتين للشؤون الخارجية، إنَّ روسيا ستحاول مرة أخرى عرض قضية انضمام طاجيكستان إلى الكتلة التجارية للاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة موسكو. وهذا أيضاً ليس شيئاً جديداً.

يضم هذا الاتحاد، روسيا وروسيا البيضاء وكازاخستان وأرمينيا وقرغيزستان.

هل يمكن أن تساعد طاجيكستان روسيا على التغلب على الحصار الغربي؟

وهناك تكهنات، بأنَّ الطرفين قد ناقشا بعض الموضوعات الأخرى الأكثر حساسية. وأشارت الإذاعة إلى أنَّ بوتين وعلي رحمون سيلتقيان وجهاً لوجه، وهو تنسيق يشير إلى أنَّ المناقشة ستتطرق إلى ملفات حساسة، حسبما قالت خدمة Radioi Ozodi الطاجيكية، التابعة لإذاعة Radio Free Europe/Radio Liberty الأمريكية.

وتضمنت بنود جدول الأعمال التي توقعها المحللون، “الوضع الداخلي” في طاجيكستان، والمساعدة المحتملة التي يمكن أن تقدمها دوشنبه لموسكو في سبيل تجنُّب التأثير الكامل للعقوبات الغربية، وضرورة أن يتصالح رحمون مع حكم طالبان في أفغانستان المجاورة، والسؤال المشحون عن مسألة من سيخلف رحمون في الرئاسة.

من المؤكد أنَّ هذه التأويلات تبدو أكثر إثارة للاهتمام وإقناعاً؛ بالنظر إلى أنَّ طاجيكستان شريك من الدرجة الثانية نسبياً لروسيا في معظم النواحي الأخرى، حسب موقع Responsible Statecraft.

ومع ذلك، حاول الرئيسان ترويج قصة حول العلاقات المزدهرة. وأشارا إلى أنَّ التجارة الثنائية في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022 شهدت زيادة بنسبة 46.2% على أساس سنوي مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021. وقال مكتب رحمون إنَّ منتدى الاستثمار المقرر عقده في دوشنبه في سبتمبر/أيلول، ينبغي أن يبني على ذلك.

طاجيكستان قد تتعرض لأزمة كبيرة بسبب العقوبات الغربية ضد موسكو

تعمل روسيا على توسيع نفوذها بطرق أخرى أيضاً، من خلال بناء المدارس. إذ من المقرر افتتاح خمس مدارس جديدة باللغة الروسية بُنِيَت بتمويل من موسكو في سبتمبر/أيلول.

لكن شبح الانهيار السريع للازدهار الروسي، الناجم عن العقوبات، يهدد كلاً من الزوايا الاقتصادية والثقافية لهذه العلاقة. ويُقدِّر البنك الدولي أنَّ التحويلات المالية التي يرسلها العمال المهاجرون الطاجيكيون إلى بلادهم، والذين يذهب معظمهم عادةً إلى روسيا للعمل، قد تنخفض بنسبة 40% في عام 2022. وقد يتسبب هذا في انكماش الاقتصاد الطاجيكي بنسبة 2%، كما يقول البنك.

زيارة بوتين لطاجيكستان

طاجيكستان تعتمد على التحويلات المالية من مهاجريها لدى روسيا/رويترز

لطالما مثَّلت التحويلات المالية من مصادر روسية شريان حياة لحكام طاجيكستان الفاسدين وغير الأكْفاء، من خلال تمكين السكان من العيش على حد الكفاف، حسب وصف موقع Responsible Statecraft الأمريكي.

ومع ذلك، فإنَّ أحد الجوانب السلبية العديدة لوجود العمالة الطاجيكية في روسيا هو أنه يمنح موسكو نفوذاً قوياً للتأثير في الشؤون الداخلية لطاجيكستان، حيث يحتفظ الكرملين دائماً بالحق في إغلاق حدوده أمام العمال الطاجيك. وكثيراً ما وُجهت تهديدات مبطنة بتنفيذ هذا الاحتمال.

موسكو تقدم نفسها كحامٍ للنظام الطاجيكي

تصوِّر موسكو نفسها على أنها الشريك الذي لا غنى عنه من نواحٍ أخرى.

وتعد القاعدة العسكرية الروسية رقم 201 في طاجيكستان، أكبر قاعدة لها في أي مكان خارج حدودها. وتهدف التدريبات العسكرية المشتركة المنتظمة مع القوات الطاجيكية إلى إيصال رسالة، مفادها أنه إذا حدث اندفاع وقررت عناصر خطيرة من الجنوب التدفق عبر الحدود، فإنَّ القوات الروسية ستعيقهم.

ومع ذلك، أدت الأحداث في أوكرانيا إلى توتر خطير في هذه الرواية. فقد أثبت الجيش الروسي القوي أنه نمر من ورق وعرضة للاعتماد على الفظائع عند قتال خصوم متحركين وذوي دوافع عالية، حسب تقرير الموقع الأمريكي.

بوتين يريد من رحمون التطبيع مع طالبان

في غضون ذلك، تتجه روسيا ببطء نحو منح نظام طالبان شيئاً أقرب إلى الاعتراف به. طاجيكستان هي أقوى معقل ضد طالبان من بين حلفاء روسيا المقربين في آسيا الوسطى، وانتقدت بشدةٍ عداء طالبان المتصوَّر لمجموعات الأقليات العرقية، وعلى الأخص الطاجيك (الذين ينتمي إليهم بشكل كبير، المجموعة التي كانت مسيطرة على حكم أفغانستان الأول وأغلبهم من أتباع قائد التحالف الشمالي الراحل أحمد شاه مسعود).

وحاول بوتين طمأنة رحمون على هذه الجبهة، من خلال تأكيد أنَّ أي حوار مع حكومة طالبان سيتطلب منها الاعتراف بالتنوع العرقي في أفغانستان.

وقال بوتين: “نحاول بناء علاقات مع القوى السياسية التي تسيطر على الوضع. ونعمل من منطلق أنَّ جميع المجموعات العرقية في أفغانستان، كما قيل بالفعل، يجب أن تشارك كما يجب في إدارة البلاد”، حسبما ورد في تقرير لوكالة The Associated Press الأمريكية.

بينما الرئيس الطاجيكي يريد توريث السلطة لابنه

ومع ذلك، قد يكون الاستقرار الأمني ​​والاقتصادي مصدر قلق ثانوياً لنظام رحمون.

يعتقد العديد من المراقبين أنَّ أولوية الرئيس الطاجيكي، البالغ من العمر 69 عاماً، هي رؤية عائلته الكليبتوقراطية تحتفظ بالسلطة، والثروة التي تأتي معها، وأن يحدث هذا عن طريق تولية ابنه رستم إيمومالي، البالغ من العمر 34 عاماً، مقاليد الحكم.

اقتربت هذه العملية من الاكتمال في أبريل/نيسان 2020، عندما انتُخِب إيمومالي رئيساً لمجلس الشيوخ في البرلمان؛ مما جعله بالواقع في مركز الصدارة لتولي مهام والده، الذي يدير البلاد منذ أوائل التسعينيات. وعند توليه هذا المنصب، أزاح محمد سعيد عبيد اللهوف، المساعد المخضرم لرحمون المعروف منذ فترة طويلة بأنه المفضل لدى الحكومة الروسية.

كانت هناك تكهنات بأنَّ إيمومالي قد يخوض انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2020، لكن هذه الفكرة تلاشت عندما أكد والده أنه سيترشح مرة أخرى للرئاسة.

ومن المعتقدات السائدة على نطاق واسع، أنَّ أي تسليم للسلطة سيحتاج، في أي حال، إلى مباركة الكرملين. وإذا منح بوتين تلك الموافقة المطلوبة، فقد يكون التغيير في طاجيكستان وشيكاً وقد يصبح المنطق وراء هذه الرحلة الهادئة أوضح.

اقترح تصحيحاً

———————————-

أنقرة – موسكو بعد قمة مدريد؟/ سمير صالحة

يشكر الرئيس الأميركي جو بايدن أنقرة على كل الجهود التي بذلتها في ملف الأزمة الأوكرانية رغم أن المسار ما زال في بدايته. هو يفعل ذلك عمدا لإغضاب موسكو وعرقلة فرص الحوار والتفاهم التركي الروسي في ملف الأزمة الأوكرانية. فهل تتوتر العلاقات بينهما بعد مضمون البيان الختامي لقمة حلف شمال الأطلسي وتسريع القيادة التركية لإنجاز مذكرة التفاهم الثلاثية مع السويد وفنلندا التي فتحت الطريق أمامهما باتجاه العضوية في الناتو؟ أين وكيف سيكون ذلك؟ وهل ستتضرر برغماتية أردوغان بوتين التي سهلت تجنب وإنهاء أكثر من أزمة وملف توتر محتمل في قضايا ثنائية وإقليمية؟ وهل يوافق الكرملين على استمرار الوساطة التركية بين موسكو وكييف بعد كل ما حصل؟ ألا يزعج الاتصال الهاتفي المفاجئ بين الرئيسين بايدن وأردوغان ثم لقاؤهما المطول في مدريد الرئيس الروسي بوتين ويدفعه للقلق حول احتمال حدوث تفاهمات إقليمية تتعارض مع حسابات ومصالح موسكو؟

كانت القيادة الروسية فرحة بطاولة الحوار والتفاوض مع أوكرانيا برعاية تركية لأنها منحتها فرصة المماطلة والوقت للوصول إلى ما تريد أو عرقلة منح الطرف المقابل ما يهدف إليه. نجحت واشنطن في استبدال الطاولة إلى ثلاثية تركية سويدية فنلندية أولا. ثم حولتها إلى رباعية بمشاركة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي كطرف ضامن ثانيا. وفي النهاية أنزلت ضربتها القاضية وإنجاز اختراق المذكرة الثلاثية التي فاجأت الجميع بالتحول السريع في موقف أنقرة والتخلي عن الضوء الأحمر لصالح الأصفر في مسألة عضوية استوكهولم وهلسنكي الأطلسية.

المقايضة كانت روسية تركية أوكرانية فتحولت إلى تركية سويدية فنلندية سبقها حتما صفقة تركية أميركية. أين وكيف سترد روسيا لتعيد توازن المعادلات التي مالت الكفة فيها لصالح واشنطن والأطلسي والغرب؟ وما هو ثمن إغضاب تركيا روسيا؟

تعتبر تركيا طرفا أساسيا في البيان الختامي لقمة دول الأطلسي الأخيرة المنعقدة في مدريد. دول الحلف تعهدت بدعم أوكرانيا حتى تسترد سيادتها الكاملة على أراضيها ووصفت روسيا بأكبر تهديد للحلف وسلامته واستقراره. وهناك دعم تركي لرفع جاهزية قوات التدخل الأطلسي من 40 ألف إلى 300 ألف جندي، والإسهام في بناء الجبهة العسكرية الأطلسية الغربية الجديدة في مواجهة روسيا؟

لن تغامر تركيا بإغضاب موسكو بالمجان. لا بد أن يكون هناك هدايا ومكآفات قيمة تسد الفراغ الاستراتيجي في العلاقات التركية الروسية.

 تقول موسكو إن “قمة مدريد تعزز مسار الاحتواء العدواني الذي ينتهجه الحلف حيال روسيا”. ويقول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن ستارا حديديا أسدل بين روسيا والغرب. منذ اليوم الأول كانت موسكو تعرف أن تفاهمات تركية سويدية فنلندية تفتح الطريق أمام عضوية البلدين الأطلسية ستحدث عاجلا أم آجلا لأن 29 دولة تريد ذلك، لكنها لم تكن تتوقع أن يتم ذلك بمثل هذه السهولة والسرعة.

جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طريق عودته من قمة مدريد الأطلسية التذكير بالعملية العسكرية الخامسة التي تنوي أنقرة القيام بها في الشمال السوري معلنا أنها “ستكون الأكبر في سوريا، وأنها تحمل مفاجآت.. وأن تركيا ستتحرك بلغة يفهمها المجتمع الدولي” ما أن تكتمل الاستعدادات اللوجستية لخطة المنطقة الآمنة التي تريدها بلاده على طول الحدود التركية السورية.

وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أعلن من العاصمة التركية قبل أيام عن تحول وليونة في موقف بلاده وتفهم إيراني للمسائل التي تقلق أنقرة وتدفعها للقيام “بعملية خاصة محددة”. لكن المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا ما زالت على موقفها بدعوة تركيا إلى الامتناع عن اتخاذ خطوات في شمالي سوريا من شأنها أن تؤدي إلى تصعيد خطير للتوتر. “العمليات العسكرية دون موافقة السلطات الشرعية في سوريا ستكون انتهاكا للسيادة ووحدة الأراضي”. حصة أنقرة التي ما زالت متمسكة بقدرتها على مواصلة سياسة انفتاحية متوازنة على خط كييف – موسكو وسط كل هذا التصعيد الجديد بعد قمة مدريد الأطلسية كبيرة دون شك. من مصلحة روسيا حماية ما تبقى بيدها من فرص إبقاء شعرة معاوية مع الغرب عبر الخط التركي. فقرار روسي مغاير باتجاه مراجعة التعامل مع أنقرة، سيعني حتما المخاطرة باتفاقيات ومشاريع التجارة والسياحة، والخطط الاستراتيجية المشتركة والملف السوري وتوازنات البحر الأسود وخطوط الطاقة وهي في غالبيتها ملفات مترابطة بحبال من القطن معرضة للانقطاع في كل لحظة. فكيف ستتصرف روسيا؟

 قال رئيس مجلس الأمن الدولي للدورة الحالية السفير البرازيلي رونالدو كوستا فيلهو، إن المحاولات الأممية الحثيثة مستمرة بالتعاون مع تركيا لنقل الحبوب الأوكرانية إلى السوق العالمية. “هذا الملف أصبح يؤثر الآن على أوكرانيا وروسيا وأوروبا، بل وعلى العالم بأسره”. لعبة موازنة العلاقات التركية على خط موسكو – كييف لإنجاح جهود الوساطة بشقها السياسي والغذائي، ستكون رهن الموقف الروسي وطريقة التعامل مع حدود أطلسية جديدة بطول 1340 كلم إضافية مجاورة لها.

الإجابة على سؤال كيف سيكون شكل العلاقة التركية الروسية بعد قمة الأطلسي ستكون عند الجانب الروسي أكثر مما سيتم البحث عنها في الجانب التركي. موسكو لم تقل كلمتها النهائية بعد حيال الخطوة التركية المباغتة والصادمة التي قلبت حساباتها رأسا على عقب في موضوع توسعة الحلف وفتح الأبواب أمام السويد وفنلندا. بوتين كان يعول على لعبة الوقت والمماطلة واحتمال إطالة أنقرة لمسألة التوسعة ريثما يسجل هو اختراقا جديدا في الملف الأوكراني، يمكنه من الذهاب إلى أية طاولة حوار وتفاوض بأوراق إضافية أقوى لكن التحول السريع في الموقف التركي خيب آماله.

قد تكون أنقرة نجحت في انتزاع بعض المطالب الاستراتيجية من واشنطن بعد لقاء القمة الأخير بين أردوغان وبايدن وبينها الملف السوري وعمليتها المرتقبة في الشمال والتي تهدف إلى إنشاء المنطقة الآمنة التي تعدّ لتنفيذها على طول الحدود التركية السورية بطول 470 كلم وعمق 30 كلم، وتحريك ملفّ الأزمة السورية نحو الحلحلة. وقد نرى مفاجأة أميركية أكبر في التعامل مع الملف السوري ومنطقة شرق الفرات حيال حليفتها قسد ومسألة داعش التي طالت أكثر من اللزوم. لكن الجزء الآخر من المعادلة التركية في سوريا مرتبط بالمواقف الروسية أيضا فكيف سينجح أردوغان في إقناع بوتين بإعطائه ما يريد والأخير يردد إن العالم سيتغير بشكل جذري بعد قرار قبول انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الأطلسي؟

المفاجأة التركية التي أدت إلى مذكرة التفاهم الثلاثي سيكون لها حتما ارتداداتها على التقارب والتنسيق التركي الروسي في ملفات ثنائية وإقليمية. أزمة الثقة التي نجحت واشنطن في زرعها مرة أخرى ستكون أبرز العقبات في طريق الجهود التي تبذلها أنقرة على خط التسوية السياسية للحرب الروسية الأوكرانية ومشروع نقل آلاف الأطنان من الحبوب إلى خارج البلدين المتحاربين. هناك نفوذ أطلسي جغرافي بشري اقتصادي عسكري أكبر على خط الحدود الغربية لروسيا ومن المحتمل أن تحمل موسكو لأنقرة جزءا من المسؤولية في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم.

أعلنت مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية أفريل هاينس أن الولايات المتحدة لا ترى في الوقت الراهن إمكانية لعقد اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا. التحركات والاستعدادات العسكرية الأطلسية على الأرض تقول أيضا إن السيناريوهات العسكرية والميدانية كثيرة ومتنوعة وبينها توسيع رقعة الجبهات في كل لحظة. ما ينقذ أنقرة من ورطة محتملة في العلاقات مع روسيا هو إقناع واشنطن قبل إقناع بوتين بمخاطر التصعيد العسكري والأمني في الملف الأوكراني وارتداداته المحتملة على تفاعلات ملف الطاقة والغذاء والأمن في العالم وأن التضحية بزيلينسكي قد تكون أفضل من التضحية بأوكرانيا وقد يكون بالتالي الخيار الأقل خطورة من التضحية بالتوازنات الإقليمية والدولية التي باتت في غاية الحساسية والدقة. ربما أوروبا نفسها تعول على دور تركي من هذا النوع بعدما وصلت إلى قناعة أن الحرب ستطول وأنها ستحمل لها المزيد من الأعباء والمخاطر، وأن البحث عن العلاج لأزمة الغاز والغذاء الكارثية التي ستقرع الأبواب بعد أسابيع أفضل من اللجوء إلى المسكنات التي يجري البحث عنها.

هزيم الرعد يسبق ارتعاش الجفن.

تلفزيون سوريا

————————

محطات في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية/ حسان الأسود

لطالما ارتبطت الكنيسة بالسلطة على مرّ التاريخ، شأنها شأن بقيّة المؤسسات الدينية والأديان، لكنّ مسيرة العلمنة – التي هي في جوهرها نزع القداسة عن جوانب متعددة من حياة البشر وفهمها وفق قوانينها الداخلية بعيداً عن التفسيرات الغيبية – أخرجت الأديان من ساحات كثيرة، كالعلوم التطبيقية والاجتماعية، وكذلك من الفنون والسياسة والقانون والعلاقات الدولية. مع ذلك لم يعنِ هذا بالضرورة إزاحة الدين تماماً من هذه المجالات، خاصّة ذات الطبيعة التفاعلية التي تمسّ شرائح بشرية واسعة، مثل السياسة والاجتماع. لقد كان الدينُ، وما زال، وسيبقى لآمادٍ طويلة صاحب أثرٍ كبيرٍ في تشكيل الأمم وبناء الهويات الوطنية للشعوب وفي التأثير بحياة الأفراد وشخصياتهم وسلوكهم.

جاء الإصلاح البروتستانتي مقدّمة دينية للعلمنة، فبدأ بنزع القداسة عن أفعال وتصرفات رجال الدين، وعمّم فكرة قدرة الإنسان، أيّ إنسانٍ، على التواصل مع الله، ففتح أمامه آفاقاً واسعة كانت مقصورة من قبل على فئة محددة من البشر القادرين على القراءة، مثل الكهنة والنبلاء والأمراء والملوك. لكنّ هذه العلمنة لم تُصب الكنيستين التقليديتين بنفس الدرجة، فقد تركّز الصراع بين البروتستانتية والكاثوليكية بالدرجة الأولى، وساعد على ذلك أنّ النهضة العلمية وقبلها عصر الأنوار كانا قد جاءا من المساحات الأوروبية التي شغلتها الكنيسة الكاثوليكية، وليس من روسيا حيث سادت الأرثوذكسية منذ العام 988 ميلادي.

لا يعني هذا أنّ العلمنة لم تُصب المجتمعات الشرقية ومنها المجتمع الروسي، بل على العكس من ذلك، فقد مرّت الكنيسة الأرثوذكسية عموماً والروسية خصوصاً بأكبر محنة في تاريخها مع تسلم البلاشفة الحكم، فقد تعرّض المؤمنون المسيحيون لموجات إكراه متصاعدة مستمرة من تعميم الإلحاد، فالدولة السوفييتية كانت بالتعريف الدستوري ملحدة، وكانت تطبّق الإلحاد على مواطنيها، بل وتمتحنهم به عند التقدّم لشغل الوظائف العامّة المدنية والعسكرية أو لمتابعة التعليم وفي كثيرٍ من نواحي الحياة الأخرى. لكنّ ما قام به البلاشفة لم يكن علمنة بالمعنى التاريخي التطوري الطبيعي، بل عمليّة إقصاءٍ جبرية للدين من جميع مناحي الحياة، بما فيها السياسة والشأن العام والمجتمع وحتى الحياة الخاصّة بالأفراد. لكنّ هذا لم يدم إلا خلال فترة حكم الحزب الشيوعي، وقد اختلف الأمر مع سقوط الاتحاد السوفييتي.

عادت الكنيسة الأرثوذكسية لتلعب دورها التقليدي في المجتمع الروسي، بل أخذت أدواراً أقوى وأعمق في إعادة بناء الأمّة الروسية بعد أن أطلقت السلطات السياسية لها العنان. ولفهمٍ أكثر عمقاً للترابط الذي لا تنفكّ عُراه بين الكنيسة الأرثوذكسية والدولة، علينا أن نرجع إلى التباين في نظرة هذه الأخيرة عن نظرة الكنيسة الكاثوليكية، فالأولى تعتبر قسطنطين قدّيساً لأنه حوّل الدولة إلى حامٍ للعقيدة المسيحية بعد أن كانت مصدر اضطهادها، بعكس الكاثوليكية التي تعتبره مجرّد حاكمٍ استغلّ الدين الصاعد لإحكام قبضته على السلطة الدنيوية. وعلى مدار التاريخ المسيحي خاضت الكنيسة الكاثوليكية صراع السيطرة على المجتمعات التي تسودها مع السلطات السياسية، فكانت علاقتها بالسلطة والمُلك ندّية في الغالب خاصّة بعد أن استطاعت الحفاظ على المجتمعات الأوروبية إثر انهيار الإمبراطورية الرومانية على أيدي القبائل الجرمانية الغازية، على العكس مما كان يجري مع الكنيسة الأرثوذكسية التي كانت تتماهى مع السلطة السياسية وتتبعها وتبجّل أعمالها على طول الخط ولم تدخل معها في صراعاتٍ بينيّة على حكم المجتمع إلا ما ندر.

على العكس من الوضع في روسيا، نشأت الدولة الأميركية قبل مئتين وخمسين عاماً على أسس العلمانية الواضحة، فتمّ فصل السياسة عن الدين تماماً وتمّ منع الدولة من أن يكون لها كنيسة أو أن تتبنى إحدى الكنائس، فكانت البروتستانتيّة الهاربة من الحروب مع الكاثوليكية في أوروبا هي الرائجة بشكل كبير، حتى إنّ التعبير عن الفردانية الأميركية أثّر على ذلك فبات الانقسام في الكنيسة تعبيراً عن حرية الاعتقاد والفرادة والتميّز، باعتبار أنّ كل إنسان قادر على التواصل مباشرة مع الخالق، فكان بإمكان أيّ امرئ إنشاء كنيسته الخاصة.

أمّا في روسيا فالوضع معاكس تماماً، حيث تتبنّى الكنيسة الروسية الأرثوذكسية عقيدة واضحة تقوم على افتراض وجود علاقة بنيوية راسخة بينها وبين الأمّة، كما تؤمن بوجود دورٍ كبير للجيش في بناء الأمة الروسية وفي تكوين الهوية القومية الروسية. وهذا لم يأت من فراغ، بل هو التاريخ الذي يخبرنا أنّ روسيا تأسست وتوسعت نتيجة طموح حكامها وبفعل الحروب الدائمة التي خاضوها مع جيرانهم منذ نشأةِ مملكتهم في العاصمة القديمة روس كييف، التي هي بالمناسبة إحدى الحجج التي يستند إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا الآن، حيث يعتبر أوكرانيا بمجملها جزءًا من روسيا وكنيستها جزءًا من الكنيسة الروسية، ولا بدّ للفرع من العودة للأصل.

من هنا يمكن قراءة المشاهد التي أبرزها الإعلام الروسي لرجال الدين الأرثوذكس وهم يباركون الطائرات والصواريخ والأسلحة وحتى الجنود والقادة، ويرشّونهم بالماء المقدّس قبل مشاركتهم في الحروب التي خاضوها في سوريا والقرم والشيشان وجورجيا. المشهد برمّته جزء من التكوين النفسي للكنيسة والقائمين عليها، وهذا الدور معترفُ به عن قناعة لدى الروس بشكل واضح، فأغلبية الشعب الروسي تعرّف نفسها باعتبارها من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية حتى وإن كان أفرادها غير مؤمنين أساساً.

——————————-

ثأر روسي من تركيا في سوريا.. التصادم قريب؟/ رامز الحمصي

وصلت مؤخرا قوات مظلية روسية إلى شمال شرقي سوريا، في الوقت الذي تستعد فيه تركيا لبدء عمليتها العسكرية المحتملة في مناطق من الشمال السوري حيث يتواجد فيها النفوذ الروسي (تل رفعت ومنبج). التحرك الروسي الأخير يأتي بعد قبول تركيا انضمام السويد وفنلندا إلى حلف “شمال الأطلسي” (الناتو) في قرار اعتبره مراقبون بأنه سيولد صراعات جديدة بين الروس والأتراك، كون قرار أنقرة الأخير يضر بمخططات روسيا.

تشير التطورات غير المباشرة، إلى أن هناك “ثأر” روسي من تركيا قد يظهر من خلال مواجهة أي تصعيد عسكري تركي عبر عمليتها العسكرية التي تهدد بها أنقرة، خاصة وأن الرفض الروسي للعملية العسكرية ما يزال مستمرا، لا سيما وأن روسيا لم ترد بشكل مباشر أو تعلن موقفها رسميا من قرار أنقرة الأخير بخصوص “الناتو”.

انقلاب أردوغان على بوتين؟

في آخر اجتماع لمجموعة “أستانا” بشأن سوريا، حاولت روسيا وإيران في إعلان مشترك، تهدئة تركيا من خلال إعلان “رفض الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا” وهو أحد البنود المعتادة في البيانات الختامية ضمن اجتماعات مسار “أستانا”، إلا أن موافقة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على رغبات روسيا ومطامعها بعد غزوها لأوكرانيا، حينما وافق على توسيع حلف “الناتو” ودخول فنلندا والسويد، يعتبر وفق مراقبين بمثابة “الانقلاب” على موسكو التي على ما يبدو ستعيد حساباتها مع تركيا، لا سيما في الملف الملف السوري.

يعد الملف السوري، من أبرز الملفات التي يتشارك فيها الروس والأتراك والإيرانيون، وحتى الآن فشلت تركيا في حشد الدعم الروسي والإيراني لتدخل عسكري جديد في شمال سوريا، وازدادت العراقيل أمام أنقرة، بعد تساهلها وتغاضيها عن المخاوف الروسية في توسيع حلف “الناتو”، حسب المحلل السياسي الروسي، فاتسلاف ماتوزوف.

ووفقا لحديث ماتوزوف، لـ”الحل نت”، فإن موسكو أوضحت للأتراك أن خطة التدخل التركية غير منطقية وغير عقلانية، وأن تصعيد التوتر وحصول مواجهة عسكرية جديدة في تلك المناطق لن تجعل روسيا تغض الطرف عنها، وهو بالتأكيد تصرف “في مقابل قيام تركيا بقبول انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو” وفق الدبلوماسي الروسي السابق.

ماتوزوف لفت إلى أن روسيا اتخذت عددا من الخطوات في إشارة إلى التضامن مع الجيش السوري ورفضها للعملية التركية، بما في ذلك مناورات عسكرية مشتركة في جنوب إدلب مؤخرا؛ ونشر دبابات ومدرعات وأسلحة مضادة للطائرات وصواريخ في قاعدة بالمنطقة نفسها. كما أرسلت روسيا ثماني طائرات عمودية إلى قاعدة “أبو الظهور” شرقي إدلب، وأغرقت الطائرات والمروحيات الروسية في سماء المدن الشمالية الشرقية مثل القامشلي وتل تمر وعامودا والدرباسية.

ومن أجل توضيح موقف موسكو من تهديد تدخل أنقرة، لأن ردود أفعالها الأولية كانت أكثر ليونة وأكثر تناقضا مقارنة بالتوترات المماثلة في الماضي، فقد سمحت موسكو للإيرانيين بنشر تعزيزات في محيط تل رفعت ونقل القوات الموالية لها من دير الزور إلى قاعدة “النيرب” شرق حلب.

مسار جديد في سوريا؟

رغم الترجيحات التركية بقرب عمل عسكري مباشر في شمال سوريا، إلا أن التحليلات تشير إلى أن أنقرة أوقفت عملياتها في الوقت الحالي، نتيجة استمرار الرفض الروسي وغياب أي توافق في هذا الصدد، فضلا عن الموقف الأميركي الرافض بحزم لأي عملية عسكرية خلال الوقت الحالي.

وعبرت روسيا بشكل غير مباشر عن رفضها، من خلال إجراء تدريبات في ريف الحسكة الشمالي الغربي شرقي نهر الفرات، مع قوات الحكومة السورية و”قسد”، كل على حدة، كما خطى الروس خطوة أخرى بإرسال مقاتلة من طراز “سوخوي سو 57” إلى مطار القامشلي، غير البعيد عن الحدود السورية التركية، في مؤشر واضح على استياء موسكو من تصرفات أنقرة إزاء احتمالية قيامها بأي عملية عسكرية دون موافقتها.

وعليه يرى المحلل السياسي الروسي، أنه “بعبارة أخرى، كانت روسيا وإيران ترفضان التدخل التركي بأفعالهما على الأرض، وأي توقع بتراجعهما في محادثات سابقة بات غير واقعيا بعد موافقة تركيا على توسيع حلف الناتو، وعلى الرغم من أن البيان الختامي لأستانا قد تطرق بشكل بارز إلى مخاوف تركيا، إلا أن المسار الجديد الذي تحدده موسكو يرفض التدخل العسكري التركي في سوريا”.

قوات مظلية روسية

في تطور لافت، كشفت وسائل إعلام روسية، صباح اليوم الاثنين، عن وصول قوات عسكرية تابعة لفرقة المظليين التابعة للجيش الروسي إلى شمال شرقي سوريا، حيث نشرت صفحة “النطاق الروسي” على منصة “تلغرام” معلومات عن نقل روسيا لفرقة المظليين إلى منطقة القامشلي في سوريا.

وأرفقت الصفحة المعلومات بصور خاصة حصلت عليها، وقالت “وصلت قوات عسكرية مظلية روسية إلى منطقة القامشلي السورية، حيث شهدت الأجواء في تلك المنطقة نشاطا جويا من خلال هبوط طائرات نقل عسكرية روسية نقلت أكثر من 500 جندي مظلي روسي”.

وأضافت الصفحة: “بحسب مصادر خاصة، يهدف وصول هذه الفرقة العسكرية لمواجهة العصابات المسلحة المدعومة من تركيا التي أعلنت في وقت سابق عن إطلاق عملية عسكرية شمالي سوريا”.

وتعليقا على هذه الأنباء، رفض وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو مجددا، محاولات روسيا لثني أنقرة عن تنفيذ عملية عسكرية في شمال سوريا، وذلك في مقابلة أجرتها معه قناة “إن تي في” التركية، اليوم الاثنين، واعتبر وزير الخارجية التركي، أنه لا يحق لروسيا والولايات المتحدة قول أي شيء لبلاده، وأضاف: “نحن غير راضين عن الخطوات التي تتخذها روسيا، ونتحلى بالشفافية حيال ذلك”.

وبحسب ما رصده “الحل نت” في تحليلات سابقة، فإن رد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على تركيا الأكثر ترجيحا خارج الملف السوري، هو تهيئة حرب أوروبا القادمة بين اليونان وتركيا، لا سيما بعد توتر العلاقات بين البلدين خلال الشهور الماضية، رغم انخراطهما بنفس الحلف، ففي السنوات التي سبقت حرب أوكرانيا، أصبحت روسيا والصين أكثر نشاطا في شرق البحر المتوسط بمبادرات اقتصادية، ودعم اليونان عن بُعد، وكان التصدي لهذا الأمر يتطلب قيام تركيا بإيجاد طريقة لمصالحة اليونان، وهو احتمال يبدو الآن لا حظوظ له.

ومع عدم أخذ أنقرة التحذيرات الروسية من انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو” بعين الاعتبار، تشير تحليلات المراقبين، أن هناك تغييرا في مسار العلاقات بين روسيا وتركيا، وقد يتصدى الزعيم الروسي، فلاديمير بوتين، لأي مناورات يقوم بها أردوغان.

الحل نت

—————————–

===================

تحديث 05 تموز 2022

——————–

تلغراف: مع تساقط المدن الأوكرانية تحتاج كييف لنصر بحلول الخريف كي تنهي الحرب بشروطها

إبراهيم درويش

 نشرت صحيفة “ديلي تلغراف” تقريرا أعده كبير مراسلي الشؤون الأجنبية رولاند أوليفانت قال فيه إن أوكرانيا تحتاج لنصر بحلول الخريف حتى تسكت المتشككين في الغرب. وقال فيه إن الوقت ينفد من يد الرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي وهو يحاول حشد الدعم وسط اعتقاد البعض أن معركة بلاده مع روسيا عبثية. وجاء فيه أن المعركة على لوغانسك استغرقت ثلاثة أشهر، ولكنها انتهت، ففي نهاية الأسبوع تراجعت القوات الأوكرانية من ليسيتشانسك الصناعية، والتي كانت آخر موطئ قدم لهم في المنطقة، هربا من الحصار.

وتقدمت القوات الروسية المنتصرة إلى مركز المدينة المحطم، محققة واحدا من أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو “التحرير الكامل” لـ “شعب جمهورية لوغانسك”، وكان الانتصار مكلفا ودمويا وبطيئا.

وتقول الصحيفة إن الانتصار التكتيكي لم يقدم فائدة لأهداف معركة روسيا الكبرى وهي محاصرة دونباس وتدمير الجيش الأوكراني. فلا يزال الجيش الأوكراني يقاتل ولن تكون المعارك المقبلة على سيفيرسكي وسلافيناسك وبخموت وكرامتورسك أقل صعوبة. والمشكلة أن الوقت ليس في صالح أوكرانيا. وقال سيرغي غيداي، حاكم منطقة لوغانسك في مقابلة مع الصحيفة بأيار/مايو بأنه يجب الحفاظ على مدينة سيفيريدونستك قدر الإمكان، برغم الموت، وتوريط القوات الروسية وتكبيدها أكبر قدر من الخسائر وشراء الوقت حتى يتم التحضير لهجوم مضاد.

وتحولت الآمال الآن إلى منطقة خيرسون التي تحقق فيها كييف تقدما بطيئا. وهي الآن قريبة من خيرسون التي سقطت بيد الروس في الأيام الأولى من الحرب. وستكون السيطرة عليها إنجازا مهما للأوكرانيين وضربة لثقة الروس بأنفسهم. ومثل الروس في دونباس، فشل الأوكرانيون بتحقيق نصر حاسم، وليس من الواضح إن كانوا قادرين على حشد القوات والعتاد الذي يريدونه. وفي ذلك الوقت، قامت الفكرة على قدرة أوكرانيا على نشر قوات جديدة أنهت تدريبها في آب/أغسطس هذا العام. لكن معظم المتدربين الجدد بمن فيهم القوات غير النظامية من قوات الحدود تم نشرهم في دونباس للوقوف أمام الهجوم الروسي.

وليس من الواضح وجود فرق عسكرية وإن كانت ستصل إلى الجبهة. وكل هذا يجري على خلفية التغير في المواقف الدولية. ونصر حاسم، سيكون تأكيدا للسياسة التي دعمتها بريطانيا وبولندا وإدارة جوي بايدن، في الوقت الحالي. وباختصار فهناك حاجة لأن تنتصر أوكرانيا في الحرب وعلى الغرب عمل ما بوسعه لمساعدتها على عمل هذا. ولو تم الحفاظ على هذه الجهود فالنصر سيكون محتوما على المدى البعيد، ولا يمكن لروسيا التفوق على الاقتصاديات الغربية. لكن هناك أصواتا كثيرة ومؤثرة في العواصم الغربية -وتحديدا في واشنطن وبرلين وباريس- ترى أن الدعم الغربي لأوكرانيا عبثي. ربما أصبح جيش بوتين أجوفا، ربما أصبح على رجال وأسلحة صنعت في الستينات من القرن الماضي، وربما دفع الثمن الباهظ في كل معركة خاضها، لكن الروس لا يزالون يتقدمون ويتراجع الأوكرانيون. وباستثناء انسحاب القوات الروسية من كييف في آذار/مارس وخاركيف في أيار/مايو، فقد انتهت معارك الاستنزاف الطاحنة لصالح روسيا. فمن ماريوبول إلى سيفيرودونستيك إلى ليسيتشانسك تفوقت الأعداد الروسية الكبرى. وبدأت القنابل المدفعية تضرب ضواحي خاركيف.

 وحتى يتمكن الجيش الأوكراني من محاصرة الروس، فسيظل دعاة الواقعية يؤكدون أنهم محقون في دعواتهم لوقف إطلاق النار وتسوية لصالح روسيا. ولهذا تحتاج أوكرانيا لانتصار على المدى القصير. وقد استخدموا المعدات العسكرية الجديدة من الغرب لإخراج الروس من جزيرة الثعبان، ويقومون بإطلاق صواريخ هيرماس كل يوم لتدمير مخازن الأسلحة في مؤخرة الجيش الروسي، وربما استطاعوا مع مرور الوقت خنق القوات الروسية. وأخبر زيلينسكي حلفاءه الغربيين أنه يريد نهاية للحرب بحلول حفلات أعياد الميلاد، وعليه العمل على حرف التيار بحلول الخريف حتى تكون له فرصة نهاية الحرب.

———————-

هل استفاق الناتو من حالة الموت السريري؟/ مثنى عبد الله

قبل أقل من ثلاث سنوات وصف الرئيس الفرنسي ماكرون حلف الناتو بأنه في حالة موت سريري. كما استخف الرئيس الأمريكي السابق ترامب بالحلف، وهدد بالانسحاب منه. واليوم يُعلن الحلف عن مفهوم استراتيجي جديد في قمة استثنائية، ويشهد توسعا في البلطيق على تخوم روسيا، فهل استفاق الناتو من حالته السابقة؟ وما المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف؟

تأسس الناتو عام 1949 بهدف الدفاع عن أعضائه في مواجهة تمدد الاتحاد السوفييتي، عندما كان في زمن ستالين يتوسع غربا، فبعد الحرب العالمية الثانية استولت روسيا على عدة دول، وبسطت سيطرتها عليها، مثل ألمانيا الشرقية، بلغاريا، رومانيا ودول أخرى. كما كان لديها نفوذ كبير في دول البلقان وتحتل دول البلطيق. كان الاعتقاد السائد لدى النظام الرأسمالي، أن انتشار النظام الشيوعي خطر محدق وسيؤدي إلى دمار الدول الرأسمالية، لذلك أنشأت حلف الناتو الذي ضم في عضويته 12 دولة آنذاك، كانت أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، إضافة إلى دول أخرى، لكن النقلة النوعية حدثت في عام 1997، حين مدّ جناحيه في عدد من دول أوروبا الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

وإذا كان الحلف قد استمتع بحالة من السلم والأوقات الهادئة، التي سادت بين أربعينيات القرن المنصرم حتى غزو العراق وأفغانستان في بداية الألفية الثالثة، فإن التحديات التي يواجهها اليوم تبدو جمة. صحيح أن في الحلف دولا أعضاء تمتلك ترسانة نووية هي، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لكن التحدي الأول هو كيفية تفادي مواجهة نووية مع روسيا. كذلك يبرز التحدي الآخر في كيفية بقاء أعضائه في حالة تماسك صميمي وليس شكليا، لمواجهة الأزمات الدولية. ويرى بعض المراقبين أن التحدي الثاني يتفوق على الأول، لأنه يمس الوحدة الداخلية للحلف، فقد مرّ وقت كانت فيه باريس من أشد المتمسكين بالاستقلالية الاستراتيجية عن الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن هذه الفكرة ما زالت موجودة وتتخذ زخما مع الوقت، وأن الكثير من الأوروبيين يتناغمون معها، بل يعتقدون أن توليهم زمام أمورهم في النواحي الأمنية والعسكرية مطلوب، لأن أوروبا باتت مختلفة عن الولايات المتحدة الأمريكية. في حين ترى واشنطن عكس ذلك. ومع ذلك ورغم كل التحفظات فإن الأوروبيين اليوم يساهمون في رفع معنويات الولايات المتحدة، من خلال تبنيهم استراتيجية بايدن في الحكم، والقبول بتصنيفاته لخطورة الدول الأخرى على الأمن الدولي، بما فيه الأمن الأوروبي، حيث يمكن رؤيتهم بصورة واضحة وهم يحاولون إرضاءه ويسيرون خلفه في هذه التوجهات لكنهم مرغمون. وهذه كلها عناصر تغذي الأطروحة الأمريكية داخل حلف شمال الأطلسي، أكثر من جدلية ما هو أوروبي وما هو أمريكي. وإذا كانت أوروبا قد استكانت للرأي القائل بأن الناتو غطاء مهم لها، فإنها في الوقت نفسه ترى أنه لا بد من إعطائها بعض الحرية، أو بعض الاستقلالية في بعض المجالات، كي تتمكن من توفير أمنها القومي بعيدا عن الولايات المتحدة، لكن ماذا عن المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف الذي سيضع الاوروبيين في مواجهة جار قريب هو روسيا، وحليف تجاري كبير هو الصين؟

يُعتبر المفهوم الاستراتيجي هو المنظومة التي تحدد التوجهات والتحديات للسنوات العشر المقبلة للحلف، وكذلك طبيعة التصدي لها والرد عليها. وكان آخر تحديد للمفهوم الاستراتيجي قد حدث في عام 2000 في القمة التي عقدت آنذاك في مدريد أيضا، وقد أعلن الحلف في قمته الأخيرة عن مفهوم استراتيجي جديد يغطي السنوات العشر المقبلة. وتضمن زيادة حجم قوات التدخل السريع إلى 300 ألف جندي، وزيادة الدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا على المدين القريب والبعيد، ونشر قوات إضافية جاهزة للقتال على الجناح الشرقي لأوروبا. لكن الأبرز والأهم في هذا المفهوم الاستراتيجي الجديد، هو تصنيف روسيا بأنها التهديد الأخطر على دول الحلف، وتصنيف الصين على أنها تهديد متصاعد وخطر مستقبلي، وهذه أول مرة في التاريخ يصف الحلف في وثيقة المفهوم تعاظم قوة الصين العسكرية، وأنه يجب الانتباه إلى التحديات التي تمثلها. وإذا كانت خطورة روسيا قد أتت من غزوها لأوكرانيا، فإن التهديد الصيني للحلف جاء مدفوعا بالاستياء من موقفها في أوكرانيا، حيث رفضت إدانة الغزو الروسي كما يدعي الغرب. كما أنهم يقولون بأن الشراكة العسكرية والاقتصادية بين موسكو وبكين تتوثق. وعلى الرغم من أن بعض الأوروبيين يتحفظون على هذا الاتجاه، ويرونه مطلبا يخص المصالح الأمريكية وليس الأوروبية، لكن المملكة المتحدة تدفع لتبني الرؤية الأمريكية تجاه الصين. فوزيرة الخارجية البريطانية دعت الغرب إلى أخذ الدروس والعبر من الأزمة الاوكرانية، وذلك بتقوية تايوان لصد أي غزو صيني محتمل لها، كما يبدو أن هنالك ضغطا أمريكيا بريطانيا على دول كاليابان وأستراليا ونيوزيلندا، لحثها على إيجاد منظومة عسكرية تحميها من الجار الصيني. وقد شاركت هذه الدول في قمة الناتو الأخيرة لأول مرة.

إن تحديد روسيا والصين كتهديد رئيسي للناتو ينطوي على بُعد استراتيجي مهم جدا، وهو الشروع باستقطاب دول الجوار لهذين البلدين، رغم أن هذه الدول بعيدة عن أوروبا وأمريكا، وبذلك سيصبح ميزان القوى يعمل ضد روسيا، ويوفر مراقبة دائمة للصين. الجديد في هذا الموقف أيضا، هو أن هذا الإعلان سيدفع إلى بدء دورة جديدة من الصراعات والتنافس الدولي، وقد يشهد العالم أشكالا جديدة من النزاعات والحروب المباشرة وغير المباشرة. فإذا شرعت الولايات المتحدة في ضم دول الجوار الصيني إلى الناتو، فمن المؤكد أن الصين ستُسارع إلى الرد بالعمل على تهديد المصالح الغربية مع شركائها الإقليميين مثل كوريا الشمالية، مينمار، باكستان، أفغانستان ودول أخرى. كما أن هذا الموقف الغربي من روسيا والصين سيدفع بهما نحو بعضهما الآخر. فالتقارب الصيني الروسي هو تقارب مصالح في الدرجة الأولى، بمعنى أنه لا يوجد ادعاء صيني ولا ادعاء روسي بالمشاركة في الدفاع عن قيمهما كما يدعي الغرب، إنما هي مصالح تدفعهما للتعاون. وعندما يضعهما الغرب في سلة تصنيف واحدة فإن هذا سيعزز من التقارب والتفاهم بينهما، خاصة أن الرئيس الروسي والرئيس الصيني عند لقائهما عشية الألعاب الأولمبية الشتوية، بدا واضحا أنه كانت بينهما تفاهمات مفتوحة في مجالات واسعة، وقد تتعزز هذه النزعة اليوم أكثر من أي وقت مضى.

إن أحد أساليب النفوذ الأمريكي هو إبقاء الدول الأوروبية تحت سيطرتها ونفوذها، وتدعمها في هذا التوجه المملكة المتحدة التي لم تكن يوما تؤمن بالوحدة الأوروبية. وقد حاولت أمانيا وفرنسا وإيطاليا إيجاد مخرج للأزمة الأوكرانية قبل نشوبها وبعد نشوبها، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا تراهنان على الحرب. هذا الموقف الأوروبي كان نابعا من أن الخسائر ستتحملها أوروبا وليس غيرها، بينما الفوائد ستجنيها واشنطن، التي اعتمدت أسلوب التخويف من روسيا، ما دفع أوروبا إلى أن تأتي تحت العباءة الامريكية.

كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

القدس العربي

————————-

لم تعد أوكرانيا الأمس هي أوكرانيا اليوم/ حسين مجدوبي

يقترب الجيش الروسي من السيطرة على 30% من الأراضي الأوكرانية، وهي أراض قد تصبح مرتبطة بروسيا إلى الأبد. وتوجد مؤشرات إلى أنه إذا استمرت الحرب قد تسيطر موسكو على نصف البلاد. تجري هذه التطورات في ظل استحالة إمكانية الدول الغربية تغيير ميزان الحرب، نظرا لمحدودية الدعم المسلح للجيش الأوكراني وبسبب التفوق العسكري الروسي.

وتفيد آخر التطورات الميدانية بسقوط مدينة ليسيتشانسك في يد القوات الموالية لروسيا، نهاية الأسبوع الماضي. وسقوط مدينة يعني السيطرة على الإقليم الذي توجد فيه والتحكم في شبكة الطرق التي تربطها بباقي المناطق. وبعد مرور أربعة أشهر على حرب أوكرانيا، لم يعد الجيش الروسي يواجه القوات الأوكرانية في مجموع البلاد، بل ينهج استراتيجية مختلفة تقوم على ما يلي:

أولا، تجنب المواجهة مع القوات الأوكرانية، فهي لم تعد قوات تشكل خطرا على الوجود الروسي، ويكون التدخل فقط في الحالات الاستثنائية مثل، الهجمات عليها في حالة تقدمها ضد مواقع يعزز الروس فيها سيطرتهم، أو قصف قافلات عسكرية خاصة، إذا كانت تحمل أسلحة غربية. وقد دمر الجيش الروسي أكثر من 80% من البنية العسكرية الأوكرانية خاصة الجوية منها.

ثانيا، يعزز الجيش الروسي سيطرته على الأراضي التي يحصل عليها، لتصبح مناطق تابعة مباشرة لموسكو عبر الجمهوريات التي يخلقها مثل جمهورية لوغانسك ودونيتسك. وبالتالي، لم يعد يهتم بالتقدم العسكري في أوكرانيا، بل المساحات التي تصبح روسية أو تابعة لروسيا عبر كيانات مرتبطة به.

ثالثا، يتمركز الجيش الروسي في عدد من المناطق الحساسة في شرق البلاد، وهذا سيسمح له بالتقدم متى شاء إلى وسط البلاد وخلق واقع جديد.

وارتباطا بهذا، أصبحت روسيا تطبق أجندة عسكرية مختلفة عن تلك التي رسمتها في البدء، إذ تخوض معارك ومواجهات من أجل السيطرة على مناطق معينة، وإضافتها إلى الأراضي التي تمت السيطرة عليه. وكانت الأجندة الأولى لموسكو هي التسبب في سقوط رئاسة زيلينسكي عبر انقلاب عسكري ثم دعم إقليم دونباس للاستقلال عن كييف، غير أنها تغيرت نحو ضم نسبة مهمة من الأراضي الأوكرانية. وكانت رئاسة كييف قد اعترفت الشهر الماضي بسيطرة روسيا والقوات الانفصالية على 20% من أراضي أوكرانيا، وبعد شهر، ونتيجة التقدم الذي حققته القوات الروسية تكون هذه المساحة قد ارتفعت إلى 30% من الأراضي الأوكرانية التي أصبحت تحت السيطرة المباشرة للقوات الروسية. وهناك مؤشرات قوية على تقدم القوات الروسية نحو العمق الأوكراني، إذا استمرت الحرب. ويتعاظم هذا الرهان بسبب ما تعتقده موسكو مخططا غربيا يجعل من أوكرانيا تحت الوصاية الغربية ويربطها بطريقة أو أخرى ببولندا. وصرح مدير الاستخبارات الخارجية الروسية سيرجي نارسكين، وفق موقع سبوتنيك الروسي مؤخرا، أنه تجري عملية تفكيك أوكرانيا من طرف بولندا وبدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا. وعمليا، أصبحت كل المناطق الواقعة شرق نهر دنيبر الفاصل لأوكرانيا إلى قسمين تحت سيطرة روسيا المباشرة، أو غير المباشرة.

في غضون ذلك، تؤكد التطورات الميدانية للحرب أن الأسلحة الغربية التي يقدمها أعضاء الحلف الأطلسي لم تغير نهائيا من الأوضاع في الحرب الدائرة في أوكرانيا. فمن جهة، أغلب الدول تقدم أسلحة محدودة للغاية وغير فعالة، لأنها تفتقد لمخزون كاف وتتخوف من تطور الحرب وامتدادها وتحتفظ بأسلحتها للسيناريو الأسوأ. كما أن السلاح الأمريكي الذي يتميز بفعالية لا يصل إلى القوات الأوكرانية بالكامل نظرا للهجمات الجوية الروسية التي تستهدفه بمجرد وصوله إلى الأراضي الأوكرانية. ومن جهة أخرى، مهما كان الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، لن يجدي في مواجهة الآلة العسكرية الروسية المعززة بأسلحة نوعية مثل مقاتلات سوخوي والصواريخ فرط صوتية والصواريخ الدقيقة مثل كاليبر وإسكندر. لقد أصبح مصير ومستقبل أوكرانيا قاتما وتغيرت ملامحها بشكل كبير، إذ لم تعد أوكرانيا الأمس هي أوكرانيا اليوم. كانت مساحة البلاد قبل الحرب 603 آلاف كلم مربع، والآن أصبحت المساحة التابعة لكييف قرابة 420 ألف كلم مربع. وكان ساكنتها 42 مليون نسمة، والآن أصبحت قرابة 30 مليونا بسبب انفصال ساكنة الشرق وهجرة الملايين نحو أوروبا. لقد فقدت نسبة مهمة من بنياتها الصناعية، وتعرضت بعض أجزاء من المدن للخراب.  وكلما امتدت الحرب، ستتغير أوكرانيا أكثر، ولم تعد تلك أوكرانيا التي حصلت على استقلالها وشكلها القانوني – الجغرافي سنة 1991، تاريخ انفصالها عن الاتحاد السوفييتي الذي تفكك.

الغرب فشل في حرب استنزاف في أوكرانيا ضد روسيا، لأن الأخيرة عدلت من خططها لتفادي السقوط في فخ أفغانستان، ولن تساعد الأسلحة الغربية أوكرانيا على استعادة الأراضي التي فقدتها في هذه الحرب، فقد فقدت إقليم دونباس إلى الأبد، ولن ينخرط الغرب في حرب ضد روسيا، وهو يدرك أنها ستكون مدمرة لعدد من الدول الأوروبية بما فيها الكبرى. ويحرص الغرب حاليا على تفادي امتداد الحرب إلى مناطق أوروبية أخرى، لأنه غير مهيأ لمواجهة حربية مع روسيا باستثناء في حالة اللجوء إلى السلاح النووي. أصبحت أوكرانيا أمام امتحان صعب، إما أن تنهج البراغماتية السياسية وتعمل على إيقاف الحرب وفتح مفاوضات مع روسيا بكل استقلالية للحفاظ على ما تبقى من خريطتها السياسية، أو ستفقد الكثير من أراضيها بعدما فقدت 30% حتى الآن. من خلال استراتيجيتها العسكرية في أوكرانيا، أي سياسة السيطرة على الأراضي، توجه موسكو رسالة واضحة الى الجمهوريات السوفييتية السابقة، بأن كل تهديد للأمن القومي لروسيا يعني قضم الخريطة السياسية، وبعدما أقدمت لتوانيا على فرض منع مرور بعض البضائع من روسيا إلى الجيب الروسي كالينينغراد، كان جواب موسكو: هناك أراض روسية تحت سيطرة ليتوانيا يجب استعادتها، أي مقدمة لنزاع مستقبلا.

القدس العربي

—————————

الصحافة الروسية في زمن حرب بوتين/ بسام مقداد

في مقابلة على قناة التلفزة الخاصة المحظورة في روسيا RTVI في 22 الشهر المنصرم مع الحائز على نوبل للسلام السنة الماضية دمتري موراتوف، قال بأنه لم يكن يتوقع، لا هو ولا غيره، النتيجة المذهلة التي أسفر عنها المزاد العلني على ميدالية الجائزة. وكان موراتوف، رئيس تحرير صحيفة Novaya المعارضة التي توقفت عن الصدور أواخر آذار/مارس المنصرم، قد أعلن عن إنطلاق المزاد العلني في اليوم العالمي للطفل أول الشهر المنصرم، وإختتامه في اليوم العالمي للاجئ في العشرين منه. وجرى المزاد في قاعة الصحافة في “نيويورك تايمز” في 21 الشهر. وقال بأنه كان يذهل كيف كانت تقفز أرقام المزاد بين لحظة وأخرى عشرات آلاف الدولارات، ليستقر على مبلغ  103,5 مليون دولار ( ثمن ذهب الميدالية لا يتجاوز 10 آلاف دولار). سلم الرجل شيكاً بقيمة المبلغ  كاملة إلى مندوب منظمة اليونيسيف في القاعة. وحسب الإتفاق مع لجنة جائزة نوبل، تتولى المنظمة توزيع المبلغ على المنظمات المعنية بتقديم المساعدات الإنسانية للاجئين الأوكران أينما وجدوا.

في تفسير هذا السخاء الكبير للمشاركين المجهولين في المزاد، قال موراتوف في المقابلة بأنه لا يعرف أحداً منهم، وبقوا مكتومي الأسماء والهوية تطبيقاً لشروط المزاد العلني. لكن المشاركين كانوا يعرفون ما يقومون به من مساعدة الأوكران وأطفالهم الذين إضطروا لترك بيوتهم واللجوء إلى مختلف البلدان، هاربين من قصف الروس ومجازرهم الجماعية في أنحاء أوكرانيا.

وفي رد على سؤاله عن مكان إقامته وعمله، قال موراتوف بأنه تعهد على نفسه بألا يجيب على “الأسئلة الحمقاء”. لكنه أكد أنه يقيم في موسكو ومنهمك بالعمل على إصدار مجلة شهرية “NO” (الحرفين الأولين من إسم صحيفته المتوقفة، وتعني “ولكن”) مع الباقين من هيئة التحرير في روسيا, ولن يبارح روسيا كي لا يفقد معايشة نبض الحياة الروسية وهو يكتب عن قضاياها وتطوراتها في ظل الحرب على أوكرانيا. وسبق أن أصدر صحيفته في اليوم التالي للحرب والسواد يغطي صفحتها الرئيسية، يتوسطها عنوان كبير”روسيا تقصف أوكرانيا”.

في كلمته المؤثرة التي ألقاها قبل إفتتاح المزاد العلني، قال موراتوف بأن الأطفال يشكلون 40% من اللاجئين الأوكران الذين يبلغ عددهم 16 مليون شخص، وهو رقم لم تبلغه موجة تهجير في التاريخ، ويفوق أعداد الموجة التي سبقت الحرب العالمية الثانية. وقال “لقد حطموا ماضي الأطفال، ويريدون الآن تحطيم مستقبلهم، فهل نقف أمام هذا عاجزين، كما سبق أن وقفنا في الصحيفة؟”. وحدّث القاعة عن صلاة طفل من مدينة ماريوبول: “ساعدني يا رب على تشريج الهاتف لأتصل بأمي”، وقال أرجو الجميع في القاعة أن يعتبروا هذا الولد طفلهم. ليس في هذا المزاد مطرقة، فلو كانت متوفرة “لطلبتها كي أدق مسماراً في نعش الحرب”. وإختتم كلمته بشكر لجنة جائزة نوبل لدعمها فكرة بيع الميدالية بالمزاد العلني وتخصيص المبلغ المتحصل لدعم المهاجرين الأوكران وأطفالهم.

تحدثت “المدن” إلى نائب رئيس تحرير الصحيفة أولغا بابروفا، لتسألها عن إمكانية طرح عدد من الأسئلة على دمتري موراتوف، فقالت بأن الرجل فيى الولايات المتحدة الآن، وليس معروفاً موعد عودته. وحين تم تذكيرها بمقابلته مع قناة التلفزة المذكورة وتأكيده بأنه لن يغادر روسيا ويعمل ويقيم في موسكو، قالت بأنه من الصعب تحديد مكان تواجده، حتى على أقرب المقربين إليه. وكرر تأكيدات بابروفا المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط في الصحيفة، وقال بأنه من الصعب ليس تحديد مكان تواجده فحسب، بل والتواصل معه، وذلك بسبب التضييق الذي تفرضه السلطة على الصحافيين والصحافة الليبرالية في ظل حربها على أوكرانيا.

  أوجزت بابروفا ل”المدن” ظروف عمل الصحيفة بعد إعلان حرب بوتين على أوكرانيا، ولماذا إضطرت لتقرر التوقف عن الصدور قبل أن تعلن السلطة حظرها، وعلاقة الصحيفة بمطبوعة “نوفايا أوروبا”، وعن توجهات الشهرية الجديدة NO. وقالت بأن الشهر الذي انقضى بين بداية الحرب على أوكرانيا وتوقف الصحيفة عن الصدور، كان الأصعب خلال 20 سنة من عملها في هيئة التحرير. في كل يوم كانت السلطة تفرض محظورات “خيالية” تجعل من المستحيل الإضاءة على التطورات في أوكرانيا، إلى أن كان يوم “شعرنا” أنه من المستحيل التحدث عن أي شيء لتفادي مفاعيل قانون العقوبات الروسي. وقالت بأن الصحيفة صدرت بصفحات بيضاء في وقت من الأوقات خلال هذا الشهر، وذلك في إشارة إلى أنهم لا يستطيعون قول ما يجب قوله عن أوكرانيا.

وتقول أنه بعد مرور 4 أشهر على “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، قررت هيئة تحرير الصحيفة إصدار شهرية لا يعرفون كم من الوقت ستسمح لها السلطات بالإستمرار في الصدور. وإلى أن يصدر قرار الحظر المؤكد صدوره، كما يبدو، سوف تتحدث الشهرية عن ما يجري في روسيا، حيث يبرز في الفترة الأخيرة “نقص هائل” في المعلومات عن روسيا ومنها، وهو ما لم يسبق أن منعت السلطة الحديث عنه. وبالطبع سوف يستمرون في نشر “ما نحب ونجيد” من تحقيقات من مختلف أنحاء روسيا، وكيف  تؤثر “العملية الخاصة” على روسيا. و”العملية الخاصة” في أوكرانيا ليست العملية الوحيدة التي قامت بها روسيا، بل كان “لوطننا” عمليات خاصة كثيرة في السنوات الأخيرة.

وتقول أنه، بعد توقف الصحيفة عن الصدور، قرر قسم من العاملين فيها، كما في مطبوعات أخرى ايضاً، مواصلة العمل خارج روسيا، خوفاً على أمنهم الشخصي. في روسيا اليوم يستحيل التحدث علناً عن أمور كثيرة، وذلك للخوف من الملاحقة القضائية.

وتقول بابروفا بأن كثيرين ممن غادروا العمل في الصحيفة إلى الخارج، يواصلون عملهم في  مطبوعة  “نوفايا أوروبا”، والتشابه بين أسماء المطبوعتين يشير إلى أنهم يواصلون تقاليد Novaya  في أوروبا في عمل صحافة نزيهة. لكن لا علاقة قانونية أو إدارية للصحيفة مع المطبوعة الأوروبية، “لكننا نتعاطف بود مع عمل زملائنا الشباب في أوروبا، ونأمل أن نتمكن يوماً ما من إعادة إصدار صحيفة  Novaya في روسيا”.

وتشير إلى أن لجنة جائزة نوبل دعمت كلياً فكرة دمتري موراتوف طرح ميدالية الجائزة في المزاد العلني، وأعلنت بأنه ليس من خيار أفضل لإستخدام ميدالية الجائزة. وكانوا في الصحيفة يتوقعون أن يكون المبلغ كبيراً، “لكن ليس 103.5 مليون دولار”. ومع أن موراتوف ليست له أي علاقة بكيفية توزيع المبلغ، إلا أن البروباغنديين الروس وجدوا الفرصة  سانحة للإبتزاز والقول بأن المبلغ لن يستخدم وفق الوجهة المعلنة. وتقول بأنهم في الصحيفة واثقون من أن المؤسسات الدولية عليها أن تحدد مصير “هذا المبلغ الكبير”، وليس من تقسيم بين مهجرين روس وغير روس.

ورداً على سؤال ما إن كان من خطر في إدراج دمتري موراتوف على قائمة “عميل أجنبي”، نفت وجود مثل هذا الخطر “لأنه لم يتسلم سنتاً واحداً من المبلغ”.

وعن تخصيص جزء من المبلغ للاجئين السوريين، سيما وأن موراتوف ذكر في كلمته أن جزءاً سوف تخصصه الأونيسكو إلى إفريقيا ولاوس، قالت بابروفا أن اليونيسيف وحدها مسؤولة عن توزيع المبلغ.

المدن

——————————–

روسيا تبيع قمح أوكرانيا لدول في الشرق الأوسط

نقلت وكالة الأنباء الروسية “تاس” الثلاثاء، عن مدير إدارة زابوريجيا الموالي لروسيا أنه تم التوصل لاتفاق لبيع الحبوب لدول معظمها في الشرق الأوسط، من دون إضافة تفاصيل إضافية.

وكان مكتب المدعي الأوكراني قد ذكر في بيان الإثنين، إنه تم بدء تحقيقات جنائية في سرقة الحبوب الأوكرانية في زابوريجيا، في دعوى أوكرانية جديدة تتهم روسيا بأخذ الحبوب وهو الأمر الذي تنفيه روسيا باستمرار.

وجاء في البيان: “بحسب التحقيق، قامت القوات العسكرية للدولة المعتدية (روسيا) بدعوى الحرب وانتهاك القانون الدولي، بدخول المخازن وسرقة ما يقرب من 200 طن من القمح و210 أطنان من بذور عباد الشمس”.

وكانت السلطات التي نصبتها القوات الموالية لروسيا في جنوب أوكرانيا قد أعلنت الخميس، انطلاق أول سفينة محملة بسبعة آلاف طن من الحبوب الأوكرانية من مرفأ بيرديانسك، في أول عملية تصدير من نوعها وفق ما ذكرت وكالة “فرانس برس”.

وقال رئيس الإدارة المحلية الموالية لموسكو في المنطقة إيفغيني باليتسكي على “تلغرام”: “بعد أشهر من التوقف، أبحرت سفينة شحن أولى من ميناء بيرديانسك التجاري، تحمل سبعة آلاف طن من الحبوب إلى دول صديقة”. وأضاف أن “سفن وزوارق القاعدة العسكرية البحرية التابعة لأسطول البحر الأسود في نوفوروسيك تتولى ضمان أمن سفينة الشحن”، من دون أن يوضح وجهة الحمولة.

واحتل الجيش الروسي ميناء بيرديانسك على بحر آزوف منذ بدء الغزو في 24 شباط/فبراير. ويقع المرفأ في منطقة زابوريجيا التي تسيطر روسيا على القسم الأكبر منها، كما تسيطر على منطقة خيرسون المجاورة لها. وأعلنت سلطات المنطقتين تأميم كل البنى التحتية والمنشآت التجارية التابعة للدولة الأوكرانية وشراء محاصيل المزارعين في المنطقة.

وتتهم كييف روسيا بسرقة محاصيلها من القمح في المناطق التي سيطرت عليها في جنوب البلاد لإعادة بيعها بصورة غير مشروعة في العالم. وكانت الشحنات تصدر حتى الآن براً وعبر السكك الحديدية بحسب وسائل إعلام وكييف. وفتحت روسيا الآن خطاً بحرياً لتصدير القمح الأوكراني إلى دول أخرى.

وأبحرت السفينة المحملة قمحاً في ظل مخاوف عالمية من حدوث أزمة غذائية حادة بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا، التي تعد من كبار منتجي الحبوب في العالم ولم يعد بوسعها تصدير محاصيلها من المرافئ التي لا تزال تسيطر عليها.

من جهتها، تؤكد روسيا أنها ستسمح بإبحار السفن الأوكرانية المحملة بالمواد الغذائية إذا نزع الجيش الأوكراني الألغام التي زرعها في مياهه. وترفض كييف إزالة الألغام خشية أن تهاجم القوات الروسية السواحل الأوكرانية على البحر الأسود، في حين أنها خسرت كل شواطئها المطلة على بحر آزوف. ولم تفضِ محادثات بهذا الصدد بمشاركة تركيا والأمم المتحدة إلى أي نتيجة حتى الآن.

القمح المسروق إلى سوريا

وقالت السفارة الأوكرانية في بيروت إن روسيا أرسلت لحليفتها سوريا ما يقدر بنحو 100 ألف طن من القمح سُرقت من أوكرانيا منذ غزوها البلاد، واصفة الشحنات بأنها “نشاط إجرامي”.

وفي بيان تلقته وكالة “رويترز” في 2 حزيران/يونيو، أفادت السفارة بأن الشحنات نُقلت بواسطة السفينة “ماتروس بوزينيتش” التي ترفع العلم الروسي، والتي رست في ميناء اللاذقية البحري الرئيسي في سوريا شهر أيار/مايو.

وأظهرت بيانات من شركة “Refinitiv”، وهي واحدة من أكبر مزودي بيانات الأسواق المالية والبنية التحتية في العالم، تحميل القمح في السفينة في ميناء سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا من أوكرانيا في عام 2014، إذ غادرت السفينة بتاريخ 19 أيار/مايو وموقع تفريغ الشُحنة كان في سوريا.

وأظهرت صور الأقمار الصناعية من “Planet Labs PBC” في 29  أيار/مايو، أن نفس السفينة راسية في اللاذقية.

تركيا تحتجز سفينة قمح مسروق

وفي السياق، قال مسؤول في الجمارك التركية إن تركيا تحقق بمزاعم أوكرانيا حول القمح المسروق على متن سفينة الشحن “زهيبيك زولي” بتعاون أممي.

ونقلت “رويترز” عن مسؤول تركي أن  السلطات التركية تجري حتى الآن عمليات البحث حول موضوع السفينة والقمح المسروق “بدقة شديدة” وفق تعبيره، وذلك بعد مطالب أوكرانيا بتوقيف السفينة.

وفي مقابلة للسفير الأوكراني في تركيا عبر التلفزيون الأوكراني، قال: “لدينا تعاون كامل مع الأتراك. السفينة تقف حاليًا عند مدخل الميناء بعد أن احتجزتها الجمارك”. وكان السفير قد أشار إلى أن مصير السفينة سيحدده اجتماع للمحققين الذي كان مخطط أن يعقد في 4 من تموز آملًا بمصادرة الحبوب. وقال إن تركيا هي واحدة من الدول التي تشتري القمح المسروق من أوكرانيا.

———————————-

اقتصاد روسيا في ظل عقوبات غير مسبوقة أفضل مما تتصور

تناول مقال لمجلة إيكونوميست (The Economist) البريطانية وضع الاقتصاد الروسي في ظل ما وصفه بالعقوبات الغربية غير المسبوقة ردا على حرب روسيا في أوكرانيا، حيث حظرت أميركا بيع مجموعة واسعة من البضائع إلى موسكو، وانسحبت العشرات من الشركات الكبرى، وجمد عدد من البلدان مجتمعة 60% من الاحتياطات الدولية للبنك المركزي.

وكانت الخطة تهدف إلى تحقيق هبوط حاد لاقتصاد روسيا، ومعاقبة رئيسها فلاديمير بوتين على عدوانه. وفي الأسبوع الذي أعقب الحرب انخفض الروبل بمقدار الثلث مقابل الدولار، وانهارت أسعار أسهم العديد من الشركات الروسية.

وتساءلت المجلة: هل ما زالت إستراتيجية الغرب تسير وفق الخطة؟ وعلقت بأن الفوضى في الأسواق الروسية تبدو قد هدأت. فمنذ انخفاضه أوائل مارس/آذار، قفز الروبل ويقترب الآن من مستوى ما قبل الحرب.

وانخفض المؤشر الرئيسي للأسهم الروسية بمقدار الثلث، لكنه استرد جزءا كبيرا من خسائره. وتقوم الحكومة ومعظم الشركات بتسديد مدفوعات السندات بالعملات الأجنبية. وانتهى التدافع على البنوك التي شهدت سحب ما يقرب من 3 تريليونات روبل (31 مليار دولار) حيث أعاد الروس الكثير من الأموال إلى حساباتهم.

وساعدت مجموعة من السياسات، بعضها صارمة، على استقرار الأسواق. ورفع “المركزي” أسعار الفائدة من 9.5% إلى 20%، مما شجع الناس على امتلاك أصول روسية بفائدة، وسياسات أخرى أقل تقليدية.

الاقتصاد الحقيقي

وأصدرت الحكومة مرسوما يقضي بضرورة تحويل المصدرين 80% من عائدات النقد الأجنبي إلى روبل. وأصبح التداول في بورصة موسكو، حسب تعبير البنك المركزي الملطف “متفاوضا عليه”. وصار البيع على المكشوف محظورا، ولا يمكن لغير المقيمين سحب الأرصدة حتى الأول من أبريل/نيسان.

وعلقت إيكونوميست بأن الاقتصاد الحقيقي في بعض النواحي صورة للاقتصاد المالي، أي أكثر صحة مما يبدو للوهلة الأولى. إذ يظهر المقياس الأسبوعي لأسعار المستهلكين أنها ارتفعت بأكثر من 5% منذ بداية مارس/آذار وحده. وانسحبت العديد من الشركات الأجنبية مما أدى إلى تقليص المعروض من السلع، في حين أدى ضعف العملة والعقوبات إلى زيادة تكلفة الواردات.

ولكن ليس كل شيء يرتفع سعره. فالفودكا (الخمر) المنتجة محليا إلى حد كبير تكلف أكثر قليلا مما كانت عليه قبل الحرب. وتكلفة البنزين هي نفسها تقريبا. وعلى الرغم من أنها الأيام الأولى، فإنه لا يوجد دليل يذكر على حدوث ضربة كبيرة للنشاط الاقتصادي.

ووفقا لتقدير باستخدام بيانات البحث على الإنترنت التي أصدرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كان الناتج المحلي الإجمالي لروسيا الأسبوع المنتهي في 26 مارس/آذار أعلى بنحو 5% عن العام السابق.

والبيانات الأخرى “في الوقت الفعلي” التي جمعتها إيكونوميست، مثل استهلاك الكهرباء وتحميل البضائع بالسكك الحديدية، لا تزال معلقة. وارتفعت أداة تتبع الإنفاق التي أنتجها سبير بنك Sberbank، أكبر بنك في روسيا، بشكل طفيف على أساس سنوي.

ويعكس جزء من هذا قيام الناس، بتخزين البضائع قبل ارتفاع الأسعار، الإنفاق القوي على الأجهزة المنزلية بشكل خاص. لكن الإنفاق على الخدمات انخفض قليلا فقط، ولا يزال أكثر صحة مما كان عليه خلال معظم فترات الوباء.

وأشارت المجلة إلى أنه لا يزال يبدو أن روسيا غير متشككة من أنها ستدخل في ركود هذا العام. ولكن ما إذا كان الأمر سيئا كما يتوقع معظم الاقتصاديين يعتمد على 3 عوامل. الأول: ما إذا كان المواطنون الروس العاديون سيبدؤون في القلق بشأن الاقتصاد مع استمرار الحرب، وخفض الإنفاق كما حدث عام 2014 عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم.

العقوبات

والعامل الثاني: ما إذا كان الإنتاج سيتوقف نهاية المطاف لأن العقوبات تمنع وصول الشركات إلى الواردات من الغرب. ويبدو قطاع الطيران الروسي معرضا للخطر بشكل خاص، وكذلك صناعة السيارات. ومع ذلك، فإن العديد من الشركات الكبرى، التي بدأت خلال الحقبة السوفياتية، معتادة على العمل بدون واردات. وإذا كان أي اقتصاد يمكن أن يقترب من التكيف مع الانقطاع عن العالم، فسيكون ذلك اقتصاد روسيا.

والعامل الثالث والأهم يتعلق بالصادرات من الوقود الأحفوري. فرغم العدد الهائل للعقوبات المفروضة عليها، لا تزال روسيا تبيع ما قيمته 10 مليارات دولار من النفط شهريا للمشترين الأجانب، أي ما يعادل ربع صادراتها قبل الحرب. ولا تزال عائدات بيع الغاز الطبيعي والمنتجات البترولية الأخرى تتدفق أيضا. ويوفر هذا مصدرا قيما للعملات الأجنبية التي يمكن من خلالها شراء بعض السلع الاستهلاكية وقطع الغيار من دول محايدة أو صديقة. وما لم يتغير ذلك، فقد يتعثر الاقتصاد الروسي لبعض الوقت.

المصدر : إيكونوميست

—————————

محللون: حظر النفط على مراحل يتيح لروسيا الوقت للتكيف.. هل تجدي العقوبات الغربية نفعا؟

رأى محللون وتجار روس الثلاثاء أن فرض أوروبا حظرا تدريجيا على النفط الروسي بدلا من الحظر الفوري يمنح موسكو الوقت لإعادة توجيه إنتاجها إلى عملاء جدد في آسيا في الأشهر الستة المقبلة، بحسب ما أوردت رويترز.

وقال الاتحاد الأوروبي الاثنين إنه يهدف إلى خفض واردات النفط الروسية 90% بحلول نهاية العام، لكنه أضاف أن الإمدادات عبر الأنابيب وبطريق البحر ستظل مستمرة بصورة قانونية حتى ذلك الحين.

ويأتي ثلثا إمدادات النفط الروسية للاتحاد الأوروبي عبر ناقلات والثلث الأخير عبر خط أنابيب دروغبا.

ووصف محللون غربيون ومراقبون من الاتحاد الأوروبي العقوبات بأنها مخففة، وقالوا إن هناك شعورا واضحا بالارتياح في موسكو.

وقال محللون في بنك سينارا للاستثمار ومقره روسيا “رغم أن الإجراءات التي أعلنها الاتحاد الأوروبي تأخذ صورة التهديد، فإننا لا نتوقع تأثيرا قويا لها على قطاع النفط الروسي الآن ولا في غضون 6 أشهر. لدى منتجي النفط الروس الوقت الكافي لحل المشاكل اللوجستية وتغيير قاعدة عملائهم”.

وأشاروا إلى أن آسيا تشتري بالفعل نفطا روسيا أكثر من أوروبا، بينما كان الاتحاد الأوروبي في نهاية عام 2021 يستحوذ على 60% من صادرات النفط الروسية، أي حوالي 3 ملايين برميل يوميا من إجمالي 5 ملايين.

ماذا تشمل الحزمة السادسة من العقوبات الغربية على روسيا؟

 توصل قادة الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق سياسي بشأن حزمة العقوبات السادسة التي تفرضها دول التكتل ضد روسيا.

وتشمل هذه الحزمة من العقوبات، التي أقرت بنهاية قمة أوروبية استمرت يومين في العاصمة بروكسل على روسيا:

    خفض دول الاتحاد الأوروبي 90% من واردات النفط الروسية بحلول نهاية العام، لكنها ستعفي النفط الخام المنقول عبر خط الأنابيب من الحظر.

    وافقت دول الاتحاد على إقصاء مصرف “سبيربنك” -أكبر المصارف الروسية- من نظام سويفت للتحويلات المالية الدولية.

    تحظر العقوبات 3 محطات إذاعية روسية جديدة مملوكة للدولة من البث في دول الاتحاد الأوروبي.

    وأقر الزعماء الأوروبيون خطة المفوضية الأوروبية البالغة 300 مليار يورو (321 مليار دولار) لاستبدال الوقود الأحفوري الروسي.

وبهذا الصدد قال المستشار الألماني أولاف شولتز، الثلاثاء، إن الغرض من عقوبات الاتحاد الأوروبي هو إجبار روسيا على إنهاء حربها على أوكرانيا ودفع عواقب أفعالها.

وأضاف شولتز، في مؤتمر صحفي أن العقوبات ستساهم بإجبار روسيا على دفع عواقب أفعالها، مؤكدا أن هذه العقوبات قدمت صورة واضحة للوحدة الأوروبية، وأظهرت تضامنا كبيرا مع أوكرانيا.

عقوبات بلا جدوى؟

في الأثناء اعتبر مقال نشره موقع مودرن دبلوماسي الأميركي (Modern Diplomacy) أن العقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا منذ أكثر من 8 سنوات، لم تؤثر سلبا على روسيا ولم تحقق نتائج إيجابية لمن فرضوها، ولا تزال روسيا موجودة، وتتكيف معها بنجاح كبير.

وأوضحت كاتبة المقال الدكتورة آنا كولوتوفا المتخصصة في العلاقات الدولية من جامعة غيلين بالصين أن الغرب فرض 10 آلاف و128 عقوبة ضد روسيا منذ 2014 (قضية القرم) وحتى اليوم، وهو عدد أكبر مما فُرض على أي دولة أخرى. كان ذلك قبل أن يتخذ الاتحاد الأوروبي مزيدا من العقوبات أمس الثلاثاء.

وأوردت الكاتبة، للمقارنة، أرقاما عن عدد العقوبات التي فرضها الغرب على دول العالم الأخرى كالآتي:

    3161 عقوبة على إيران

    2608 ضد سوريا

    و2077 ضد كوريا الشمالية.

وقالت إن العقوبات طالت كل قطاع تقريبا في روسيا بدءا من الأفراد، الذين بلغ عددهم المئات، إلى مجالات الطاقة والاقتصاد والتجارة، ولم يتبق عمليا قطاع واحد لم يتأثر بها.

لكن كولوتوفا أضافت أنه بعد الحظر على تصدير العديد من الأنواع المختلفة من المنتجات، فضلا عن مغادرة العديد من الشركات العاملة في مختلف المجالات، أدخلت الحكومة الروسية عددا من الإجراءات لدعم المجالات المختلفة، والتي بدأت بالفعل تُظهر نتائج إيجابية.

وأشارت الكاتبة إلى أن العديد من قطاعات الاقتصاد الروسي أظهرت ديناميكيات إيجابية.

ولفت إلى أنه في حال مقارنة وضع العديد من القطاعات خلال مارس/آذار الماضي بما كان عليه بالفترة نفسها من عام 2021، نجد أن نموا قد حدث في صناعة التعدين بنسبة 7.8%، وفي إمدادات الطاقة والغاز بنسبة 1.5%، وفي إمدادات المياه والتخلص من النفايات بنسبة 7.2%، كما أن هناك زيادة في قطاع الأغذية بنسبة 1.1%، والإنتاج الطبي بنسبة 46.8%.

وأفادت الكاتبة بأن التقدير الأولي للناتج المحلي الإجمالي لروسيا للربع الأول من عام 2022، أظهر نموا إيجابيا بنسبة 103.5% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي.

كما أشارت مجلة الإيكونوميست البريطانية -حسب الكاتبة- إلى أنه مع انخفاض الواردات وصعود الصادرات، حققت روسيا فائضا تجاريا قياسيا يصل إلى 250 مليار دولار (15% من الناتج المحلي الإجمالي للعام الماضي)، أي أكثر من ضعف الـ 120 مليار دولار المسجلة في عام 2021.

ومع ذلك، فإن عواقب العقوبات لم تواجهها روسيا وبيلاروسيا فقط، بل تأثرت بها العديد من دول العالم الأخرى، بما في ذلك التي ليس لها علاقة بالقضية، بحسب الكاتبة التي أشارت إلى شكوى بعض البلدان من نقص الغذاء بسبب العقوبات، وإلى رفض المجر التي أصبحت الآن إحدى العقبات ضد العقوبات الأوروبية.

ونقلت الكاتبة تشبيه رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان تأثير العقوبات على الاقتصاد المجري بتأثير القنبلة الذرية على البلد الذي تُلقى عليه.

نمو نشاط الصناعات التحويلية الروسية

وفي أحدث التقارير لرويترز، أظهر مسح اليوم الأربعاء أن نشاط الصناعات التحويلية الروسي نما في مايو/أيار بعد انكماشه على مدى 3 أشهر وتراجعت ضغوط الأسعار بشكل ملحوظ لكن العقوبات ما زالت تؤثر على الطلب.

وبحسب رويترز، ارتفع مؤشر مديري المشتريات الذي تصدره مؤسسة ستاندرد آند بورز غلوبال إلى 50.8 نقطة من 48.2 في الشهر السابق، متجاوزا مستوى 50 نقطة الذي يفصل بين النمو والانكماش لأول مرة منذ يناير/كانون الثاني.

لكن ستاندرد آند بورز غلوبال قالت إنه رغم ارتفاع المؤشر الأساسي فإن الناتج الفعلي للصناعات التحويلية واصل انخفاضه في مايو/أيار الماضي.

واستنفدت الشركات أعداد القوى العاملة بدرجة أكبر في مايو/أيار، لكن الثقة تحسنت إلى أعلى مستوياتها منذ فبراير/شباط، إذ تتطلع الشركات إلى استقرار اقتصادي وطلب أعلى في الأشهر المقبلة.

المصدر : رويترز + مودرن دبلوماسي + وكالة الأناضول

———————–

بسبب العقوبات.. شبح “هجرة الأدمغة” يخيّم على سوق تكنولوجيا المعلومات في روسيا

في تعبير واضح عن ارتدادات العقوبات الغربية على روسيا والأزمة الاقتصادية التي حلت بها نتيجة لذلك، بدأ قطاع تكنولوجيا المعلومات في روسيا يشهد نزوحا ملحوظا للخبراء العاملين فيه مع اتجاههم لمغادرة البلاد.

ووفقا للجمعية الروسية للاتصالات الإلكترونية، فقد غادر البلاد حوالي 50-70 ألف شخص يعملون في مجال تكنولوجيا المعلومات في الفترة من فبراير/شباط إلى مارس/آذار 2022، وهذا العدد -بحسب الجمعية- سيزداد في المستقبل.

وتعرّف هجرة الأدمغة بأنها هجرة العلماء وأصحاب الاختصاص من مختلف القطاعات من موطنهم الأصلي إلى بيئة أكثر ملاءمة لهم مهنيا أو اقتصاديا، وعادة ما يكون الانتقال من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة.

وقد يؤثر هذا النوع من الهجرة سلبا على البلد الأم من ناحية فقدان القوى العاملة، مما يتسبب في خسارة الكفاءات الموجودة، وهو ما سيسبب بدوره ضررا على اقتصاد البلاد.

نزوح جماعي

ولم يقتصر الأمر على المختصين، بل إن الكثير من شركات تكنولوجيا المعلومات انسحبت بدورها من السوق الروسية، كما تقول ناتاليا كاسبيرسكايا رئيسة مجموعة “إنفو واتش” لهندسة البرمجيات، التي أكدت حصول “نزوح جماعي” للخبراء ولعشرات الشركات الأجنبية في مجال تقنية المعلومات، بسبب تراجع قيمة العملة المحلية، مضيفة أن “التدفق” ارتفع بشكل كبير في شهري فبراير/شباط ومارس/آذار. وتوقعت كاسبيرسكايا أن 100 ألف خبير سيحذون حذو هؤلاء في أبريل/نيسان المقبل.

وأوضحت كاسبيرسكايا أنها حذرت في يونيو/حزيران 2020 من أن روسيا على وشك نزوح جماعي لموظفي تكنولوجيا المعلومات إلى الخارج، وذكرت حينها أن التدفق الهائل إلى الخارج سيستمر عامين بسبب تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.

لكنها لفتت إلى أن المشكلة في ذلك الوقت كانت مخفية فقط بسبب جائحة فيروس كورونا الذي بسببه دخلت روسيا في عزلة ذاتية، أما الآن فالوضع مختلف، فروسيا تحت نير العقوبات الدولية، فضلا عن انخفاض الروبل إلى مستويات متدنية تاريخيًا مقابل الغالبية العظمى من العملات الرئيسية في العالم، مما أدى لقفزة حادة في الأسعار ونقص في بعض السلع.

وتجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي تدقّ فيها الجهات المعنية في روسيا ناقوس خطر فقدان الأسواق المحلية للكفاءات في مجال التكنولوجيا الرقمية.

ففي أوائل العام 2021، شهدت البلاد نقصا حادا في موظفي تكنولوجيا المعلومات في الدولة. وبحسب وزارة التنمية الرقمية، فإن روسيا فقدت في فبراير/شباط من العام الماضي من 500 ألف إلى مليون متخصص في مختلف مجالات تكنولوجيا المعلومات.

إضافة إلى ذلك، أكد محللو الوزارة أنه لا يوجد عدد كافٍ من الأماكن التي تمولها الدولة لتخصصات تكنولوجيا المعلومات في الجامعات الروسية، فهناك 80 ألفا فقط منهم.

ويقول مختصون في هذا القطاع إن كثيرا من الخبراء في مجال تكنولوجيا المعلومات يستعجلون مغادرة البلاد في أقرب وقت ممكن، لعدم رغبتهم في تحمل الوضع الاقتصادي المتدهور بشكل حاد، وعدم الاهتمام بالإجراءات العديدة لدعم صناعة تكنولوجيا المعلومات من الدولة، بحسب قولهم.

فوبيا المستقبل

ووفقا للمختصين أيضا، يرجع هذا إلى “التنظيم العقلي الجيد” لمتخصصي تكنولوجيا المعلومات، فهم شباب مرتبطون في كثير من النواحي بالغرب، وعملوا على الأجهزة الغربية، لكنهم مرتعدون من تداعيات العقوبات على مستقبلهم المهني، داعين الدولة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لطمأنتهم. وتبذل السلطات الروسية قصارى جهدها لإبقاء متخصصي تكنولوجيا المعلومات في البلاد.

ورغم عدم الحديث عن حظر مباشر للمغادرة، تعمل الدولة على اتخاذ تدابير حافزة مختلفة لمواجهة هذا الاستحقاق.

تدخّل سريع

وعلى سبيل المثال، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوائل مارس/آذار مرسوما بشأن تنفيذ الحزمة الثالثة من التدابير لدعم صناعة تكنولوجيا المعلومات في روسيا، وكانت إحدى النقاط الرئيسية فيها: تأجيل الخدمة في الجيش لموظفي شركات تكنولوجيا المعلومات، كما حصلت الشركات نفسها على مزايا ضريبية كبيرة، بحيث يمكنها الاعتماد على مختلف المنح والقروض التفضيلية التي تقدمها الدولة.

وتوقعا لتدفق متخصصي تكنولوجيا المعلومات الروس، قامت السلطات بتبسيط إجراءات توظيف منافسيها الأجانب في شركات تكنولوجيا المعلومات الروسية، في الحزمة الثالثة من تدابير الدعم.

كما تقدم البنوك الروسية أيضا مساهمتها في محاولة منع موظفي تكنولوجيا المعلومات من مغادرة البلاد، كما ضاعفت البنوك الروسية في مارس/آذار المنصرم عدد الوظائف الشاغرة في مجال تكنولوجيا المعلومات، كما قامت مختلف الإدارات الحكومية بالشيء نفسه.

ديناميكيات معاكسة

علاوة على ذلك، وصف نائب رئيس لجنة مجلس الدوما لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أوليج ماتفيشيف الحديث عن أزمة هجرة جماعية للأدمغة بأنه أسطورة، ورأى أن المشكلة الحالية تكمن في التفسير السلبي للبيانات المقدمة في وسائل الإعلام، مؤكدا أنه رغم الظروف الحالية، فإنه يمكن الحديث عن ديناميكيات إيجابية في سوق تكنولوجيا المعلومات.

في المقابل، يرى خبراء أن الإجراءات التي سعت الدولة لاتخاذها للحد من تدفق “العقول إلى الخارج” لم تسفرعن نتائج ملموسة، فقد ذكرت سي نيوز أن ما يقرب من ثلث شركات أمن المعلومات العاملة في روسيا ستغادر البلاد في المستقبل القريب، وتأخذ موظفيها معهم.

وقال الباحث الاقتصادي أوليغ روسانوف إنه -وقبل وقت طويل من العملية الخاصة في أوكرانيا والعقوبات التي تلتها- كان من الواضح أن أزمة مع موظفي تكنولوجيا المعلومات تختمر في البلاد، متابعا أنه حتى ذلك الحين، كان معظم المتخصصين مستعدين لمغادرة البلاد أو العمل لدى شركة أجنبية، بسبب عدم الرغبة في تحمل الوضع الاقتصادي والسعي لكسب المزيد من أجل رفع مستوى معيشتهم.

وأشار -في حديث للجزيرة نت- إلى أن السؤال عما إذا كان المتخصصون الروس يريدون مغادرة وطنهم لا يستحق كل هذا العناء، فالأمر يتعلق بموعد القيام بذلك وكيف، بسبب وجود قيود خطيرة على التنقل نتيجة للعقوبات.

وبحسب رأيه، فإن الهجرة الجماعية للمواطنين المؤهلين تأهيلا عاليا وذوي التعليم العالي في روسيا، يمكن أن تتحول لمشكلة اقتصادية خطيرة. وعلى المدى الطويل، يمكن أن تصبح المعضلة الأكثر خطورة في البلاد.

المصدر : الجزيرة

————————-

=================

تحديث 07 تموز 2022

———————

ما بعد قمة مدريد/ بكر صدقي

لم يكن اجتماع القمة لقادة دول حلف شمال الأطلسي في مدريد اجتماعاً عادياً كسوابقه، وما كان له أن يكون بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا. فقد خرج الاجتماع بمفهوم استراتيجي جديد يعتبر أن «روسيا تشكل التهديد الأول والمباشر للسلام ولأمن واستقرار الدول الحليفة على ضفتي المحيط الأطلسي» ويدعو الدول الأعضاء إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الخطر الروسي.

يعود المفهوم الاستراتيجي السابق للحلف إلى العام 2010 وفيه اعتبرت روسياً «شريكاً» للحلف. هذه النقلة من شريك إلى الخطر الرئيسي والمباشر ستكون لها تداعيات كبيرة سواء بالنسبة للدول الأعضاء أو لسائر العالم. حلف الناتو الذي كان في حالة «موت سريري» قبل بضع سنوات، ودعا الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى حله، يعود اليوم إلى الواجهة كأكبر تحالف عسكري وسياسي في العالم، سواء بعدد أعضائه الذي ارتفع من 16 دولة في نهاية الحرب الباردة إلى 30، أو بإمكاناته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ونفوذه الذي يتجاوز عضويته المباشرة. وتبدو الولايات المتحدة، المحرك الأبرز لهذا التطور، وكأنها بصدد استعادة دورها القيادي في أوروبا بعدما نجحت في اجتذاب الدول الأوروبية إلى الاصطفاف وراءها في مواجهة روسيا. وبالنظر إلى عودة ألمانيا وغيرها من البلدان إلى الاهتمام بتسليح قواتها، ورصد ميزانيات ضخمة لهذه الغاية، لم يعد هناك هامش للتردد لدى الدول الأخرى، فتم تبني هذا المفهوم الاستراتيجي الجديد الذي يعني الاستعداد للحرب.

هناك دول قد لا يمكنها التكيف بسهولة مع هذا التغيير الطارئ على «المفهوم الاستراتيجي» لعل أبرزها تركيا المرتبطة مع روسيا بعلاقات قلقة. فمن جهة لا يمكن لتركيا أن تنتقل بسهولة من خانة الشريك لروسيا في مسار آستانا الخاص بالصراع في سوريا إلى خانة الأطلسي الذي يعتبر روسياً خطراً مباشراً على أمن الدول الأعضاء، وتملك روسيا وسائل كثيرة لإيقاع الأذى بجارها التركي من غير أن تتمتع تركيا بحماية أطلسية رادعة بالقدر الكافي.

في الطائرة التي أقلت الرئيس التركي في رحلة العودة إلى بلاده، قال أردوغان للصحافيين المرافقين إن «تركيا ستستمر في سياستها المتوازنة بين روسيا والغرب» هل هذا ممكن بعد توقيع تركيا على الوثيقة الاستراتيجية الجديدة التي تعتبر روسيا الخطر الأول والمباشر على أمن واستقرار الدول الأعضاء؟ وخاصة بعد تخليها عن الفيتو بشأن انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف؟

فقبيل انعقاد القمة الأطلسية تم التوقيع على تفاهمات ثلاثية بين تركيا والسويد وفنلندا على رفع الفيتو التركي المشار إليه مقابل تعهدات غامضة من الدولتين لتركيا بخصوص التوقف عن دعم «المنظمات الإرهابية» التي تختلف على تحديدها تركيا والدولتين المذكورتين، مقابل اتفاق الثلاثة على إرهابية حزب العمال الكردستاني حصراً. فيما تنفرد تركيا في اعتبار كل من جماعة فتح الله غولن وحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب (منظمات سورية) كمنظمات إرهابية. وبما أن مسار عضوية الدولتين في حلف الناتو يمتد على فترة أشهر ولا تنتهي إلا بمصادقة برلمانات الدول الأعضاء عليه، فالحكومة التركية ما زالت تمسك بورقة الفيتو البرلماني في حال لم تلب الدولتان مطالبها المتمثلة مبدئياً في تسليم عدد من المطلوبين الموجودين هناك. في حين أن تسليم المطلوبين يخضع في كل من السويد وفنلندا لقرارات القضاء المستقل عن السلطة التنفيذية.

الأشهر الثمانية التي من المفترض أن تستغرقها إجراءات الانضمام ستتيح للأطراف مساحة كبيرة للمماحكة، وفي الغضون لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تصل العمليات القتالية في شرق أوكرانيا، وما التغيرات السياسية التي يمكن أن تغير وجه أوروبا والعالم. كذلك ستكون الأشهر القادمة هي فترة استعداد الأحزاب والتحالفات السياسية في تركيا للانتخابات البرلمانية والرئاسية. لذلك لا يمكن التكهن بشان نتيجة المماحكات المذكورة بين تركيا والدولتين المرشحتين لعضوية الحلف. أما الثابت الذي نعرفه فهو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد وعد نظيره التركي بالموافقة على بيع تركيا طائرات F16. وذلك مقابل تراجع تركيا عن رفضها لانضمام الدولتين للحلف.

هل يتجه العالم نحو حرب جديدة مدمرة تكون أكثر فتكاً من الحرب العالمية الثانية؟ أم ينتصر العقل على الجنون؟ الحرب التي تطحن الأوكرانيين والروس أيضاً من يملك مفاتيح وقفها؟

لا تبدو الولايات المتحدة البعيدة جغرافياً عن ساحة الحرب بصدد أي خطة لاحتواء الصراع، بل تعمل كطرف في الحرب من غير أن تخاطر بزج جنودها في القتال. بل هي تحشد وراءها دول الحلف الأطلسي ويدعمون معاً أوكرانيا بالسلاح. في حين يزيد بوتين من وحشية هجماته على الأهداف المدنية والبنى التحتية في أوكرانيا بهدف تركيع القيادة الأوكرانية ودفعها للاستسلام للمطالب الروسية.

بصرف النظر عن الخسائر الروسية الكبيرة في الحرب، لن يسلم بوتين بالهزيمة مادامت أوكرانيا غير قادرة على نقل الحرب إلى داخل الأراضي الروسية. وحتى لو تمكنت من ذلك فقد يصبح تهديد بوتين باستخدام السلاح النووي على الطاولة، الأمر الذي يجعل روسيا بوتين منيعة أمام الهزيمة حتى لو كانت غير قادرة على تحقيق النصر. وهو ما يعني أنه لا مفر من تسوية سياسية تمنح بوتين مخرجاً «مشرّفاً» أمام الرأي العام الروسي. وهو ما لا يبدو الحلف الأطلسي بصدد التفكير فيه.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————-

حقيقة لن يستطيع بوتين تغييرها/ د. عماد بوظو

مضى أكثر من 130 يوم  على الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي قال بوتين إن هدفه هو منع تمدّد الناتو والإتحاد الأوروبي شرقاً نحو روسيا ونزع سلاح أوكرانيا وإزاحة النازيين عن السلطة فيها، كما قال في استعراض تاريخي سبق الحرب بعدّة ساعات إن أوكرانيا بلد مصطنع لم يكن له وجود سابقاً مما ترك انطباعا بأن ما كان يسعى إليه حقيقةً هو احتلال هذا البلد، وتأكيداً على ذلك فقد استهدف الهجوم الروسي في أيامه الأولى العاصمة كييف، والملاحظ اليوم وبعد مرور كل هذه الأيام على الحرب أن أيّا من الأهداف التي أعلنها بوتين لم يتحقّق، بل إن حلف شمال الأطلسي قد توسّع شرقاً وزادت حدوده المشتركة مع روسيا بأكثر من 1300 كلم بانضمام فنلندا والسويد إليه.

كما عزّزت القوات الأميركية من تواجدها في أوروبا بعشرات آلاف الجنود وستقيم قاعدة دائمة لها في بولندا، وسيتم نشر قوات أميركية أخرى في رومانيا وجمهوريات البلطيق، وجميع هذه الدول كانت سابقاً ضمن الإتحاد السوفييتي أو حلف وارسو، كما ستزيد أميركا من تواجدها العسكري في الكثير من دول أوروبا الغربية، والأهم من كل ذلك أن ألمانيا ستعيد بناء جيشها بحيث يكون قويّاً وقادراً على حمايتها وحماية أوروبا من أي تهديد عسكري، كما ستقوم كافة الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها العسكري بما يعني بداية سباق تسلّح سيكون مرهقاً لروسيا، وفي نفس الوقت بدأت عملية انضمام أوكرانيا ومولدوفا إلى الإتحاد الأوروبي، وهذا الموضوع تحديداً كان سبب بداية التوتّر بين روسيا واكرانيا في عام 2014.

أي أن أهداف بوتين السياسية من غزوه لأوكرانيا قد أتت بنتائج عكسيّة، ومن ناحية أخرى قالت وزارة الخزانة الأميركية إنه تمّ تجميد 330 مليار دولار من الأموال الروسية، كما أن أوروبا في طريقها للاستغناء نهائياً عن كافّة المنتجات الروسية بما فيها الغاز والبترول بما يمثّل خسارة اقتصادية ومالية لروسيا لن تستطيع تعويضها عن طريق التجارة مع الصين أو الهند أو دول العالم الأخرى.

أمّا على المستوى العسكري فقد تكبّدت روسيا خلال تقدمها العسكري البطيء في شرق أوكرانيا خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ويتم الآن تدريب القوات الأوكرانية على أسلحة غربية أحدث من أسلحتها السوفييتية التي تستعملها حالياً مما سيرفع من كفاءتها القتالية، وهذا سيجعل من المستبعد انتهاء هذه الحرب على المدى القريب باستسلام أوكرانيا كما كان يتأمّل بوتين وحلفاؤه، أي قد يتحوّل الغزو الروسي لأوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد وهو أمر ليس من السهل على روسيا تحمّله.

كما عقد قبل أيام في مدريد مؤتمر لحلف الناتو حضره قادة 44 دولة بينهم الدول الثلاثين الأعضاء في هذا الحلف بالإضافة إلى فنلندا والسويد المرشّحتين لعضويته، واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وأوكرانيا والنمسا وإيرلندا، أي أن أغنى دول العالم والتي يشكّل اقتصادها أكثر من ستين في المائة من الاقتصاد العالمي قد حضرت هذا المؤتمر الذي تبنّي إستراتيجية جديدة اعتبرت روسيا أكبر تهديد للحلف بعد أن كانت في الإستراتيجية السابقة شريكة له، وللردّ على هذا المؤتمر وحتى لا يبدو بوتين كرئيس معزول عن بقية العالم فقد سافر إلى طاجيكستان وتركمانستان وهما دولتان ديكتاتوريتان فقيرتان في آسيا الوسطى بحيث بدت زيارته تلك بمنتهى البؤس عند مقارنتها مع قمة مدريد.

وهذا يدعو للتساؤل عن حقيقة الأسباب التي دعت بوتين إلى غزو أوكرانيا، ولماذا غامر بحدوث هذه المواجهة الشاملة سياسياً ومالياً واقتصادياً مع الغرب، ويبدو التفسير الوحيد لذلك أنه أراد عن عمد إحداث قطيعة بين المجتمع الروسي وأوروبا والثقافة الغربية التي تقوم على الديمقراطية وحريّة التعبير واحترام حقوق الإنسان.

وذلك لأنه كحاكم مطلق لروسيا منذ أكثر من 22 عاماً ويخطّط للبقاء في السلطة إلى ما شاء الله، وجد أن من الأفضل له أن يعمل على تصوير الغرب وكل ما يمثّله من ثقافة وقيم كعدوّ تاريخي لروسيا، مع أن معلومات التاريخ تقول إنه رغم حدوث بعض الحروب بين روسيا وعدة دول أوروبية، ولكنها كانت قصيرة المدّة ولا يمكن مقارنتها مثلاً بالحروب التي استمرت لقرون بين فرنسا وإنكلترا أو بين ألمانيا والدول المحيطة بها، ومع ذلك فقد تجاوزت الدول الأوروبية صراعات الماضي وبنت كيان سياسي وثقافي واقتصادي جمعها تحت مظلة واحدة.

والسبب الرئيسي لمخاوف بوتين من تغلغل الثقافة الغربية إلى المجتمع الروسي هو أن ولادة هذه الثقافة حدثت في أوروبا، والشعب الروسي هو شعب أوروبي أولاً وأخيراً، حيث تعود أصوله إلى شبه الجزيرة الإسكندنافية وتحديداً إلى مناطق السويد الشرقية وتولّى أسلاف الروس في القرن الثامن التجارة بين بحر البلطيق والبحر الأسود، كما تداخل هذا الشعب اجتماعيا وثقافياً مع الفنلنديين إلى أن تم تأسيس أول إمارة روسية في كييف حيث اندمج الروس مع بقية الشعوب السلافية وتوسّعوا شيئاً فشيئاً باتجاه الجنوب والشرق.

وفي عام 988 اعتنق الروس الديانة المسيحية عن طريق الإمبراطورية البيزنطية وأوجد ذلك تركيبة ثقافية جمعت بين البيزنطيين والسلاف وشكّلت الهويّة الروسية المعروفة حتى اليوم، ثم تفكّكت إمارة كييف وأصبحت موسكو المركز الرئيسي للروس في القرن الثالث عشر، وفي القرن السادس عشر تشكّلت قيصريّة روسيا وأخيرا في عام 1721 أطلق بطرس الأكبر اسم الإمبراطورية الروسية على مملكته، وجميع هذه الأحداث التي تشكّل التاريخ الروسي دارت ضمن ما يعرف جغرافياً بالقارّة الأوروبية.

إذاً الروس شعب أوروبي وهم جزء من العائلة السلافيّة التي تنضوي أغلب دولها اليوم ضمن الإتحاد الأوروبي أو حلف الناتو مثل بولندا وتشيكيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وكرواتيا وبلغاريا وصربيا وأوكرانيا، وتتبنّى جميع هذه الدول النظام الديمقراطي، ولذلك رأى بوتين أن عليه منع الروس من الشعور بأنهم أوروبيين حتى لا يطمحوا بالانضمام إلى الإتحاد الأوروبي الثري والمزدهر وحتى لا يقارنون حياتهم مع حياة الأوروبيين، فلجأ إلى الترويج لوجود عداء مستمرّ من قبل الأوروبيين تجاه الروس.

وقد عبّرت عن ذلك وكالة الأنباء الروسية الرسميّة “سبوتنيك” في أحد استطلاعاتها تحت عنوان: روسيا ليست أوروبا، ادعت فيه أن نسبة كبيرة من الأوروبيين يرفضون اعتبار الروس أوروبيين، وعلّق خبير روسي على ذلك بالقول: “ليست هذه النتائج مستغربة ولماذا نسعى لنكون جزءا من حضارة غربية، في آخر مرة نحن أوقفنا توسّع هذه القيم الأوروبية في أراضينا كان في الحرب العالمية الثانية، وعندما يقول السياسيون الأوروبيون أنهم يعتبرون  الروس جزءا من الحضارة الغربية فهذا ليس سوى وسيلة دعائية للاستدراج، الغرب لا يحتاج إلى غريب في منزله له حقوق متساوية معه، إنهم يريدوننا أن نركع”، واختتم حديثه بالتأكيد على أن الجغرافيا ليست مهمّة هنا، وروسيا بلد غير أوروبي!.

وهذا الرأي رغم بعده عن الحقيقة ولكن يمكن مشاهدته وسماعه في كلّ خطابات بوتين والتي كانت تركّز دائماً على تصوير الغرب كعدوّ أهان روسيا في الماضي وأنه هو “بوتين” من سيعيد لروسيا أمجادها، ومن الطبيعي أن تؤثّر مثل هذه الطروحات الشعبويّة على بعض العوام والمراهقين الروس، ولكن الغريب أن الكثير من السياسيين والخبراء الغربيين يردّدون اليوم قصة إهانة الغرب لروسيا، مع تجاهل أنّ من أنهى حلف وارسو هو ثورات شعوب أوروبا الشرقية على حكّامها الذين عينتهم موسكو، وأن الذي حلّ الإتحاد السوفييتي هو الثورة الشعبية ضدّه من قبل كل شعوبه وعلى رأسهم الشعب الروسي نفسه، وأن بوتين لا يستخدم عبارة الإهانة هذه إلّا لتبرير نظام حكمه الفردي الذي يبدو شاذّا ضمن هذه القارة الديمقراطية.

ولكن هناك عدّة مؤشرات اليوم تدلّ على أن نسبة غير قليلة من النخبة الثقافية والمالية الروسية قد أدركت هذه الحقيقة ولم تقتنع بعزل روسيا عن أوروبا ولا بالمبرّرات التي قدّمها بوتين لغزو أوكرانيا، فحسب صحيفة وول ستريت جورنال غادر روسيا خلال الأسابيع الأولى للحرب 300 ألف من المتعلّمين وأصحاب المهارات وبعضهم عبّر في الخارج عن رفضه علنيّاً لهذا الصراع المصطنع مع الأوكرانيين الذين يتداخلون اجتماعيا وثقافياً مع الروس.

وفي النهاية فإن دروس التاريخ تقول إنه كما تحوّلت أغلب الشعوب السلافية إلى النظام الديمقراطي فإن مصير الروس سيكون كذلك ضمن محيطهم الطبيعي الأوروبي، وسيبنون نظامهم الديمقراطي عاجلاً او آجلاً بعد تخلّصهم من حكم بوتين، الذي استطاع إعاقة حركة التاريخ لبعض الوقت وزيادة شعبيته عند العامّة من خلال تحقيق انتصارات عسكرية محدودة على بعض الدول الصغيرة، ولكنه لن يستطيع إيقاف حركة التاريخ إلى الأبد خصوصاً لأن حياة المواطن الروسي بائسة على جميع المقاييس عند مقارنتها مع حياة نظيره المواطن الأوروبي.

الحرة

———————

الناتو والاتحاد الأوروبي… تكامل استراتيجي دائم أم تناغم فرضته الحرب؟/ أنطوان الحاج

من النتائج المباشرة للحرب في أوكرانيا الاستفاقة المزدوجة للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، كمنظمتين تنشطان على أرض القارة الأوروبية التي لا حاجة للتكرار أنها تشكل المسرح الأول للمواجهات الكبرى بين المعسكرات العالمية المتنافسة. وقد هرع القادة الأساسيون للدول الأعضاء في الكيانين إلى تدعيم أسس التعاون بينهما، وبناء قاعدة تحقق مقداراً من التكامل في جوانب تُعتبر حيوية في المواجهة الدائرة حالياً في أوروبا، أو بتعبير آخر في التصدّي لروسيا ورئيسها فلاديمير بوتين.

يقول الموقع الرسمي للناتو عن هذه العلاقة المتزخّمة لكن غير المستجدّة: «من خلال التشارك في المصالح الاستراتيجية ومواجهة التحديات نفسها، يتعاون الناتو والاتحاد الأوروبي في القضايا ذات الأهمية المشتركة ويعملان جنبًا إلى جنب في إدارة الأزمات وتطوير القدرات والتشاور السياسي، فضلاً عن تقديم الدعم لشركائهما في الشرق والجنوب. يُعتبر الاتحاد الأوروبي شريكًا فريدًا وأساسيًا لحلف الناتو. تشترك المنظمتان في غالبية الأعضاء، ولديهما قيم مشتركة وتواجهان تهديدات وتحديات واحدة».

والواقع أن الجانبين عملا بجدية منذ بداية القرن الحادي والعشرين على وضع الأطر الضرورية لهيكلة التعاون الاستراتيجي، بدءاً من آلية التنسيق بين الناتو واتحاد أوروبا الغربية (تحالف عسكري أنشئ بموجب معاهدة بروكسل عام 1948). وفي العام 2002 عُقد اتفاق «برلين بلاس» الذي سمح بشكل أساسي للاتحاد الأوروبي بالاستفادة من مقدّرات عسكرية معينة للناتو.

وفي قمة لشبونة 2010، أكد الحلفاء عزمهم على تحسين الشراكة الاستراتيجية بين الحلف والاتحاد الأوروبي في التعامل مع المنظمات الدولية الأخرى لمنع الأزمات وإدارة النزاعات وتحقيق الاستقرار في حالات ما بعد الصراع. ومن المحطات البارزة الأخرى في هذا الإطار، صدور إعلان مشترك في 10 يوليو (تموز) 2018، اتفقت فيه المنظمتان على تحقيق تقدم سريع في مجالات اللوجستية العسكرية ومكافحة الإرهاب وتعزيز المرونة في مواجهة الأخطار الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية.

الامين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ بين وزيرة خارجية السويد آن ليند ونظيرها الفنلندي بيكا هافيستو (رويترز)

يضم حلف شمال الأطلسي 30 دولة والاتحاد الأوروبي 27، وبين المنظمتين 21 دولة مشتركة. من هنا تبرز أهمية العلاقة بين الطرفين لضمان الأمن في أوروبا، خصوصاً أن الحرب في أوكرانيا التي اندلعت في 24 فبراير (شباط) الماضي – بعد ثماني سنوات من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وإعلان جمهوريتين انفصاليتين في حوض الدونباس – تضع كل منظومة الأمن الأوروبي على المحك.

والحقيقة أن الجانبين استجابا بسرعة للأزمة، فنشر الناتو تعزيزات عسكرية في جمهوريات البلطيق الثلاث، ليتوانيا أستونيا ولاتفيا، وفي رومانيا، لتحصين جناحيه الشرقي والجنوبي، علماً أن الدول الأربع أعضاء في الاتحاد الأوروبي. وقد فاجأت فنلندا والسويد العالم بالتخلي عن حيادهما العسكري والانضمام إلى «الأطلسي»، بما يحصّن الجناح الشمالي للحلف.

*علاقة مثالية؟

يجدر السؤال: هل صارت العلاقة مثالية بين المنظمتين وهل تحقق التكامل؟

الناتو منظمة عسكرية، فيما الاتحاد الأوروبي هو اتحاد اقتصادي وسياسي. بمعنى آخر، الأول «أداة»، فيما الثاني «لاعب». وإذا كان الوضع المستجد في أوكرانيا قد فرض تناغماً بينهما، فإنه لا يلغي وجود فوارق وتباينات هددت في الماضي ويمكن أن تهدد في المستقبل الشراكة الاستراتيجية الغربية. وهنا نستعيد الخلافات بين الأعضاء الأطلسيين الأوروبيين وكيف كاد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 أن يدمر الناتو. فقد عارضت فرنسا وألمانيا العملية، وتوافقتا في موقفيهما مع الموقف الروسي. كما كان للتدخل العسكري للناتو في ليبيا عام 2011 وانسحابه الأخير من أفغانستان آثار سلبية لا تخفى على أحد. كذلك، لا تزال في الذاكرة مواقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب من الشركاء الأوروبيين في الأطلسي وانتقاداته الحادة لتقصيرهم في تغذية الميزانية العسكرية للحلف واتكالهم على القوة العسكرية الأميركية لحمايتهم. ووصل الأمر بكثير من الساسة والمراقبين إلى حد السؤال عن جدوى وجود الناتو…

دمار أحدثه القصف الروسي لإحدى الجامعات في خاركيف الأوكرانية (رويترز)

غيرت الحرب في أوكرانيا كل شيء وأزالت من المشهد عناصر التشكيك في ضرورة وجود حلف الأطلسي عند قادة الدول الأعضاء والجزء الأكبر من الرأي العام.

إلا أن الموجة متى انحسرت ستكشف مجدداً التباينات الحادة التي يرى محللون أن أهمها هي تلك القائمة بين دول الاتحاد الأوروبي نفسها. فليس الكل، على سبيل المثال، متفقاً على مقاربة موحدة لفرض العقوبات على موسكو، خصوصاً في ما يخص مقاطعة شراء النفط والغاز الروسيين.

هنا يسأل بعض المراقبين، أيضاً، عن حكم القانون في دول مثل المجر وبولندا، ومدى توافق طبيعة بعض الأنظمة مع مُثُل الاتحاد الأوروبي ومبادئه. ويذهب التفكير أبعد من ذلك متخوفاً من أن تصبح بعض الدول الأوروبية مجرد قواعد عسكرية أطلسية، فيما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى بلوغ الهدف الأسمى لوجوده: الحؤول دون وقوع حروب في أوروبا، وتحقيق الاستقرار والازدهار.

استطراداً، كيف ستتعامل دول الاتحاد الأوروبي مع روسيا بعد أن تنتهي هذه الحرب، هل وفق المقاربة العقلانية والبراغماتية التي تنتهجها ألمانيا وفرنسا؟ أم من منظار العدائية الذي تنظر عبره دول حلف وارسو السابق إلى روسيا؟

والأهم هو كيف ستتعامل الولايات المتحدة، قائدة الناتو، مع حلفائها الأوروبيين: هل ستعتبرهم مجرد شركاء عسكريين يساهمون في التصدي لروسيا وترضى عنهم إذا زادوا قدراتهم العسكرية – كما يفعلون الآن – وتغضب إذا تقاعسوا؟ أم أنها ستراعي قواعد عمل الاتحاد الأوروبي والحقائق الجيوسياسية التي لا بد أن يبني عليها سياساته؟

هل يمكن أن تتناغم العلاقة بين حلف عسكري وتكتل سياسي – اقتصادي؟ وهل تبقى «اللغة» التي يتكلمان بها واحدة؟

سؤالان لا تمكن الإجابة عنهما إلا بعد زوال «المصيبة» الحالية التي تجمع…

————————–

بوتين وخامنئي وإعادة عسكرة العالم!/ موفق نيربية

على الرغم من غرابة أن يتذكّر المرء الرئيس ريغان في أيام الرئيس بايدن، لأسبابٍ متعددة لا ضرورة لإيرادها هنا؛ إلّا أن ذلك يخطر في البال بقوة هذه الأيام. لم يعد هنالك جدار برلين يطوّق بوابة براندنبورغ، التي وقف في مواجهتها ريغان في يونيو/حزيران 1987، وقال «إذا كنت تسعى إلى التحرر، تعالَ إلى هذه البوابة. سيد غورباتشوف، افتح هذه البوابة. سيد غورباتشوف، اهدم هذا الجدار».

ولم يكن ذلك الخطاب ما أدّى إلى سقوط الجدار وانهيار الاتّحاد السوفييتي، بل سياسة التحدّي، وسباق القوة الذي استمرّ لعقد كامل، خصوصاً سباق التسلّح الذي أركع الاقتصاد السوفييتي، الذي كان يحمل عوامل ضعفه في ذاته، وأركع النخبة السياسية السائدة، التي كانت بدورها تحمل بذرة نهايتها في داخلها.

يدور في هذه الأيام دولاب جديد شبيه بذلك ومختلف عنه، مع وجود قيادة روسية يقف على رأسها فلاديمير بوتين، الذي يرى في نفسه إمكانية تكرار دور إيفان الرهيب وبطرس الأكبر وكاترين الثانية وجوزيف ستالين. هو يرى في نفسه أيضاً القدرة على توتير أوضاع القارة الأوروبية بحربه على أوكرانيا ومحاولته تقطيع أوصالها، بعد فشله في ابتلاعها بمجملها. وكان قد أجرى «مناورة» تجريبية ناجحة في الشرق الأوسط على الساحل الشرقي للبحر المتوسّط بمغامرته عام 2015 في سوريا، ورأى حالة من العجز والامتناع عن المواجهة من الطرف الآخر، في ولاية أوباما ثمّ ترامب، كليهما. كانت الاستراتيجية الأمريكية في حالة تغيير درامية جذرية قبل ذلك، تنتقل إلى المواجهة في نطاق المحيط الهندي والهادئ، لتتمركز أمام التنين الصيني المتصاعد بهدوء ينذر بالعواصف. أثمر ذلك اتفاقية «أوكوس» مع بريطانيا وأستراليا، وأوحى بسياسات مستقبلية تبتعد عن الفضاء في أوروبا والشرق الأوسط، حتى استطاع بوتين تغيير ذلك الاتّجاه، أو تعديله على الأقل. سوف يستطيع حليفه أيضاً: خامنئي، تغيير الاتّجاه جذرياً في الشرق الأوسط، أو كاد يفعل!

يجري السباق في أوروبا على طريقة المباريات العشرية، التي تجمع الإنجاز في عشرة أشكال من مظاهر القوة والأداء. كانت الأرض الأوكرانية حقل ذلك السباق المباشر العنيف الأول، ولكنّ دورها تراجع قليلاً مع استنقاعها ودورانها في المنطقة الشرقية، بعد تقليص الطموح الروسي إلى حدود الدونباس. ظهرت أشكال أولية للعجز الروسي عن استمرار السباق، قد تتطوّر لاحقاً.. مع رفع مستوى تجهيز الأوكرانيين بالسلاح المتطور خطوة خطوة، بحيث يستمر الروس في المعركة ولا يخرجون منها حالياً، إلّا بعد إنهاكهم استراتيجياً. في خلفية ذلك الصراع هنالك العقوبات الغربية، التي تستطيع سحب دماء الاقتصاد الروسي تدريجياً أيضاً، والتي ستظهر نتائجها ونتائج سباق الحرب والتسلّح لا محالة لاحقاً، كما ظهرت في النصف الثاني للثمانينيات، مع إطلاق ريغان لمبادرة الدفاع الاستراتيجي، التي حملت الاسم الدرامي المثير «حرب النجوم»، وخُصّص لها مئات المليارات في الموازنات الدفاعية يومذاك، ما أسهم في رفع الاقتصاد الروسي للرايات البيضاء، وانتصار الاعتدال ومجيء غورباتشوف. توحي كلّ المظاهر أن سلطة روسيا اليوم أكثر ضعفاً وحماقة من السلطة السوفييتية يومذاك، التي لم يخطر في ذهنها الحديث عن استخدام السلاح النووي، أو التلويح بذلك. في حين فعل بوتين، قبل بدئه الحرب على أوكرانيا. وليس بوتين وحده، بل إن حوله من» المفكرين والفلاسفة والمستشارين» من هو أكثر حماقة منه، ويدفع باتّجاه المزيد من المغامرة. واللعب على حافة الهاوية نمط خاص لا تنتهي مواسمه، منذ بداية التاريخ البشري؛ إلّا أنّ لذلك حدوداً وأقداراً تشلّه في اللحظات المناسبة دائماً، وحتى الآن.

سوف نضرب مثلين عن تطور عسكرة أوروبا في وجه روسيا: أولهما يتعلّق بألمانيا، العملاق الاقتصادي، الذي كان ممتنعاً منذ الحرب العالمية الأخيرة عن الإمعان في التسلّح، لم يستطع دونالد ترامب إقناع ميركل حين قال لها: «أنغيلا، ينبغي أن تدفعوا!»، واستطاع ذلك فلاديمير بوتين. كان لا بدّ من تعديل الدستور الألماني من أجل ذلك، بحيث يسمح بإنشاء صندوق مموّل بالديون لا يخضع لإمكانية «فرملة الديون»، وقد دعم الديمقراطيون المسيحيون ذلك التعديل بقوة، وتمكن البوندستاغ من التصويت بما يفوق أغلبية الثلثين المطلوبة للتعديل: 567 نائباً لصالح التعديل ضد 96، وامتنع 20 نائباً عن التصويت. سوف يضمن ذلك أن تكون ألمانيا أقوى قوة عسكرية في الاتّحاد الأوروبي خلال فترة من الزمن، بعد أن احتلت فرنسا ذلك الموقع طويلاً. والمثال الثاني والأحدث هو موافقة الناتو على دعوة فنلندا والسويد للانضمام إليه، والتغلّب على العقدة التركية ببساطة مفاجئة لكثيرين، بعد تمنّع واتهام للدولتين بدعم وإيواء حزب العمال الكردستاني- المصنف إرهابياً- وقوى ترى تركيا أنها محسوبة عليه، مع مطلب آخر يتوارى قليلاً قبل الأول عمداً، وهو طلب رفع فيتو تصدير السلاح إلى تركيا من قبل الدولتين. تمّ توقيع اتّفاق بين الدول الثلاث، تستجيب فيها الدولتان للطلبات التركية بلغة مرنة قد لا تؤذي أو تغيّر الواقع بطريقة درامية، وصوّت الناتو على دعوة الدولتين، التي ستتيح له استكمال استحكاماته أمام روسيا، من جهة بطرسبورغ أقصى الشمال الغربي. يتعلّق الانعطاف الدراماتيكي الثالث بالشرق الأوسط، بعد اتفاق «أوكوس» ثم تحوّلات الناتو. في شرقنا الأوسط هذا، الذي فرض وجوده وإحداثياته وأسبقيته على صفة «العالم العربي»، ثم «الشرق الأوسط وشمال افريقيا»، ليصبح وحده السائد بعد الحرائق التي اشتعلت فيه من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين واليمن. في هذا المشهد تنتصب إيران وحدها متّهماً بإثارة الفوضى والتوتّر، وتنعزل بأيديولوجيّتها وسلطتها الدينية التي تطلب معاً القداسة والثأر من اليهود والأمريكيين، وتعرّج بطريقها على السنة والعرب بشكل غير مباشر. بذلك استطاعت تحقيق ما عجزت عنه «الإمبريالية» بسطوتها لعقود خلت، وتكاد تجمع إسرائيل مع عديد الدول العربية في حلف علني، أو مختلط بتفاوت ما بين العلنية والسرية. احتلّت إيران في هذا العام المرتبة 14 بين جيوش العالم، ويكاد حرسها الثوري الخارج على القانون والدولة والحكومة، يكون جيشاً على الجيش وسلطة على السلطة، يرتبط مباشرة بالمرشد العام، ويخصص وقته واهتمامه كلّه لتصدير الثورة والنفوذ والدعوة والهيمنة، أيضاً معاً. هنالك 3000 صاروخ باليستي يصل مدى معظمها إلى تل أبيب، ولا يذكرون أنه بذلك يصل أيضاً إلى معظم عواصم العرب. لدى حزب الله حوالي 150000 قذيفة صاروخية وبعض الباليستية، مع مدخل إلى تكنولوجيا رفع دقة الإصابة.. إضافة إلى طائرات متنوعة من دون طيار. لدى الحوثيين مثلها، أقل أو أكثر، واستخدمتها بفعالية ضد السعودية والإمارات، وكادت تحدث أزمة دولية حين أصابت أرامكو بضربة مباشرة. ولدى حماس وأخواتها أيضاً وأيضاً، ولدى قوى معينة من «الحشد الشعبي» العراقي، وربّما من الميليشيات الشيعية الدولية التي تمّ حشدها حول نظام الأسد في سوريا. يبدو أيضاً أن الاتفاق النووي سوف يتعثّر، ليفتح طريق السلاح النووي أمام المرشد الأعلى، إضافة إلى ترسانته من أسلحة الدمار الشامل الأخرى. ليعود الشرق الأوسط بسرعة قياسية من دائرة الإهمال الأمريكية إلى دائرة الاهتمام، ويدفع إلى تراجع استراتيجي غير مسبوق. يحدث ذلك مع بحث في إمكانية بناء «ناتو أوسطي» يجمع بين إسرائيل ودول عربية أخرى، ربّما تتجمّع عوامل جديدة قادرة على ضم تركيا لاحقاً أيضاً إلى هذا المسار.

بين الدول الأعلى إنفاقاً في المجال العسكري لكلْ شخص من السكان في عام 2021 تقع قطر في المركز الأول ( 3955 دولار/ نسمة) ثم إسرائيل ثانياً (2769) فالولايات المتحدة، ثالثاً (2405) فالكويت رابعاً ( 2084) فالسعودية سادساً (1572) فعمان في المركز التاسع (1107). ولا يمكن قياس الإنفاق الفعلي لإيران، علماً بأنه يستغرق رفاهية سكانها، بل حاجاتها الأولية، ويأتي من طريق الدولة مباشرة، أو من صندوق المرشد الأعلى الذي يحتوي ويستثمر أكثر من 150 مليار دولار، رغم المجاعة. كأن العالم على حافّة الجنون وتحليل المحرّمات، بفعل بوتين وخامنئي وملحقاتهما هنا وهناك!

*كاتب سوري

القدس العربي

————————–

ماذا فعلت أوكرانيا بمعادلات قوى المشرق العربي؟/ مروان قبلان

لم يعد هناك جديدٌ مهم يضيفه المرء في الحديث عن التداعيات التي خلّفتها، وتخلّفها، الحرب الروسية الأوكرانية في قضايا الأمن والغذاء والطاقة على مستوى العالم. ما لم يأخذ حقّه من النقاش حقًا هو تداعيات تلك الحرب على أوضاع المشرق العربي والعلاقة بين القوى التي تتنافس على النفوذ فيه، وهي إلى جانب روسيا، الطرف الأصيل في الحرب الأوكرانية، تركيا وإيران، إضافة طبعًا إلى إسرائيل (الحاضرة في كل ملفات المنطقة) والعرب، ونعني هنا السعودية تحديدًا، باعتبارها القطب العربي الأهم في غياب مصر والعراق وسورية.

نبدأ بروسيا، وهي، نتيجة خطأ حساباتها، سوف تتضرّر، على المستوى الاستراتيجي، بفعل العقوبات القاسية التي فرضت عليها، وضعف قبضتها على أسواق الطاقة الأوروبية، وزيادة اعتمادها على الصين في معركتها مع الغرب، لكنها، وبعكس ما ذهبت إليه تحليلات إعلامية في بداية الحرب، لن تقلّص اهتمامها بمنطقة المشرق العربي، ولم تسحب أي قوات مهمة من سورية، كما أكّدت مساعد نائب وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، دانا سترول، في شهادة أمام الكونغرس في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وناقضت فيها كل التقديرات بهذا الخصوص، وقالت إن روسيا لم تنقل حتى مقاتلين من جنسيات أخرى من سورية إلى أوكرانيا. ورغم أن طرق الإمداد الروسية تجاه سورية صارت أصعب نتيجة إغلاق تركيا مجالها الجوي في وجه الطيران العسكري الروسي وتقييد حرية الملاحة عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، إلا أن النشاط العسكري الروسي في سورية ظلّ على حاله، ما يعني أن موسكو تعتبر وجودها في شرق المتوسط جزءا محوريا في صراعها مع الغرب. ليس هذا فحسب، بل تعتبر أن خروجها من سورية يعني خروجها من قلب “اللعبة الكبرى” في الشرق الأوسط، حيث تمتلك، من خلال وجودها هناك، أدوات ضغط مهمة على تركيا وإيران وإسرائيل والسعودية، وحتى على الولايات المتحدة وأوروبا.

أما إيران، ورغم أنها وجدت في حرب أوكرانيا فرصةً يمكن الاستفادة منها على أكثر من صعيد، إلا أنه تبيّن لاحقا أن خسائرها منها كانت أكبر. اعتقدت طهران أول الأمر أن أزمة الطاقة التي زادتها سوءا الحرب الأوكرانية سوف تدفع الولايات المتحدة إلى تقديم تنازلاتٍ في مفاوضات فيينا النووية. ليس أن هذا لم يحصل، بل تضرّرت صادرات إيران النفطية إلى الصين التي صارت تشتري كمياتٍ أكبر من النفط الروسي (بدل الإيراني)، وقد بات سعره أرخص بسبب العقوبات الغربية. فوق ذلك، لم تستفد طهران كثيرا من انشغال موسكو بحرب أوكرانيا لتعزيز نفوذها في سورية، بل زادت حاجتها إلى روسيا لمنع تركيا من إطلاق عملية عسكرية جديدة، خصوصا في منطقة تل رفعت التي توليها إيران أهمية كبرى، لقربها من بلدتي نبل والزهراء. وما زاد الأمر سوءا أن إسرائيل استغلّت انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، وسعيها إلى تجنّب أي تصعيد محتمل شرق المتوسط لزيادة معدل استهداف مصالح إيران في سورية. ومنذ الحرب الأوكرانية لوحظت زيادة كبيرة في حجم الهجمات الإسرائيلية ضد أهداف ومصالح إيرانية في سورية، وحتى داخل إيران نفسها، نتيجة رفع واشنطن الفيتو عن إسرائيل، بعد تعطل المفاوضات النووية في فيينا بتأثير الحرب الأوكرانية.

أما تركيا التي تعزّز موقفها بصورة كبيرة نتيجة حاجة الطرفين، الروسي والأطلسي، إليها في الصراع الدائر في أوكرانيا، فلم تكن مكاسبها بالحجم المتوقع، أيضا، رغم أنها تعدّ أبرز الرابحين، فقد زادت فاتورة الطاقة مثلا بشكل كبير عليها، ويتوقّع أن تبلغ هذا العام نحو 50 مليار دولار، كما تفاقم معدل التضخم ليصل حاليا إلى 78%، وهو الأعلى منذ أزمة 1998 الاقتصادية. لم تستطع تركيا أيضا ترجمة حاجة روسيا وأميركا إليها في الصراع الأوكراني، ولا بشأن منع توسع حلف شمال الأطلسي لإطلاق عملية عسكرية جديدة في سورية ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة أميركيا شرق الفرات.

أخيرا، لا يبدو أن السعودية، التي تعد الرابح الأكبر بحقّ من الحرب الأوكرانية، في وارد تحقيق مكاسب سياسية فعلية من وضعها الفريد في سوق الطاقة العالمي، سوى مراكمة مزيد من عوائد بيع النفط، لا لشيء إلا لأنها لا تملك أي استراتيجية لتحقيق ذلك.

———————–

بحث أمريكي: المواجهة بين روسيا والغرب حتمية بعد أوكرانيا.. وأوروبا ستكون أرض معركة

يتوقع مايكل كيماج، أستاذ ورئيس قسم التاريخ في الجامعة الكاثوليكية الأمريكية، احتمال استمرار الحرب في أوكرانيا طوال سنوات، وأن نهايتها ستشهد هزيمة روسيا بطريقة أو أخرى.

ويقول كيماج، في تقرير نشرته مجلة ناشونال انتريست الأمريكية، إن جوهر هذه الحرب، بغض النظر عن المعاناة الجسيمة التي أسفرت عنها، هو أن فلاديمير بوتين ارتكب خطأ استراتيجيا ملحميا بشنّه تلك الحرب، وأن النظام السياسي الروسي لا يتمتع بالمرونة أو القدرة على تغيير المسار. ولا ينبىء ذلك بسقوط بوتين من السلطة أو ظهور الديمقراطية في روسيا.

ومع ذلك، فإن شنّ حرب كارثية من جانب دولة تعتبر عظمى جزئياً فقط ، وليست بأي حال من الأحوال قوة اقتصادية كبرى، سوف يفرض تكاليف طويلة المدى بالنسبة لروسيا. وستواجه البلاد صعوبة بالغة في التعامل مع هذه التكاليف.

ويضيف كيماج أنه في العالم الذي سيوجد بعد الحرب، ستكون لهزيمة روسيا شبه الحتمية نتيجة إيجابية واحدة، وأخرى سلبية بالنسبة للولايات المتحدة. وسوف تكون النتيجة الإيجابية عالمية. فقبل الحرب التي بدأتها روسيا في شباط/ فبراير هذا العام، كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لإيجاد دور لها.

فلم تعد الولايات المتحدة القوة المهيمنة بلا منازع. وكانت لا تزال تتعافى من التحول المحفوف بالمخاطر من إدارة ترامب إلى إدارة بايدن. وتعثرت في الإدارة العملية للانسحاب من أفغانستان في صيف العام الماضي. وكان تقسيم إدارة بايدن للعالم إلى دول استبدادية وأخرى ديمقراطية تمييزا واضحا بما فيه الكفاية. ولكن من الممكن أن ذلك كان يبدو أمراً مجرداً، ليس له علاقة بالسياسة الخارجية الأمريكية عمليا.

وعلى أية حال، فقد أظهرت الولايات المتحدة بالفعل قدرتها على الدبلوماسية الفعالة من خلال تعاملها مع الغزو الروسي لأوكرانيا. فقد كان تنسيقها مع الدول داخل أوروبا وخارجها، ووضع نظام عقوبات طموح ضد روسيا، وسرعة تزويد أوكرانيا بالمساعدات العسكرية عملا استثنائيا، ومن الواضح حدوث ذلك تحت مظلة القيادة الأمريكية.

ويشير كيماج إلى أنه بدا أن الصين فاترة ومضطربة فيما يتعلق بالحرب الروسية. فهي ليست شريكا حقيقيا لروسيا أو أوكرانيا؛ وليس لديها رؤية بالنسبة للحرب أو عالم ما بعد الحرب. وعلى النقيض من ذلك، تظهر الولايات المتحدة درجة هائلة من الطاقة. فقد كشفت واشنطن أن بوسعها ضمان الأمن الإقليمي في أوروبا، رغم أنه ليس بالنسبة لكل أوكرانيا بطبيعة الحال.

وهذا من شأنه أن يبقي الولايات المتحدة أيضا في وضعها التقليدي لفترة ما بعد 1945 في أوروبا باعتبارها النقطة المحورية للأمن الأوروبي. كما سيجعل الولايات المتحدة منافسا محتملا لشغل وضع مماثل في آسيا. وعندما تنتهي الحرب في أوكرانيا، سوف تلوح مصداقية الولايات المتحدة بدرجة أكبر إلى حد ما في نظر الكثيرين الذين يتطلعون إليها.

أما النتيجة السلبية لحرب بوتين المروعة فسوف تتركز في أوروبا. فليس لدى روسيا القدرة العسكرية للسيطرة على أوكرانيا. وإلى حد كبير ليس لديها القدرة العسكرية على تهديد أي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي( الناتو)، بما في ذلك فنلندا والسويد في حالة انضمامها للحلف.

وروسيا تواجه خطر خسارة الحرب في أوكرانيا. ورغم ذلك، لن تتوقف عن أن تكون عاملا في الشؤون الأوروبية. فمهما يحدث على الأراضي الأوكرانية، قد تم رسم خط جديد عبر أوروبا. وهو خط غامض وغير مؤكد. فعلى أحد جانبيه هناك بيلاروس وروسيا. وعلى الجانب الآخر هناك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وسوف يكون خط تماس- طويل، ومتغير، وخطير- طوال عقود مقبلة. ولن تكون لدى روسيا القوة لتجاوز هذا الخط، وليس أيضا من خلال المغناطيسية أو القسر لجذب أوروبا إلى فلكها.

ولكن أيضا لن يكون لدى أوروبا غير الروسية أو حلف الأطلسي أو الغرب القدرة على إخضاع روسيا أو محو نفوذها. وسوف يتكون هذا النفوذ من خلال محاولة روسيا تحويل أي مصدر لعدم الاستقرار الأوروبي لصالحها، وهو أمر سيتم الشعور به كلما كانت هناك انتخابات، وكلما سقطت حكومة، وكلما دخلت دولتان أوروبيتان أو أكثر في صراع فيما بينهم.

وأضاف كيماج أنه سيتم التعبير عن النفوذ السلبي من جانب روسيا عبر الهجمات السيبرانية، وربما الهجمات العسكرية أحيانا، في ضوء أن روسيا لن تخسر الكثير الآن من خلال مضايقة الغرب ومحاولة إفقاده توازنه. كما سيتم التعبير عن النفوذ الروسي السلبي من خلال التهديدات النووية، التي لن يتم الاهتمام ببعضها (إذا كانت مجرد تهديد زائف)، وقد يكون بعضها مدعوماً بنية مبيتة لجعلها تبدو قابلة للتصديق بقدر الإمكان.

واختتم كيماج تقريره بأن هذا الحال سيكون مأساة بالنسبة للولايات المتحدة، وكذلك بالنسبة لأوروبا. فلن تكون هناك أوروبا كاملة، وحرة، وفي سلام. وسوف تكون أوروبا، التي كانت في وقت من الأوقات دخاناً وغباراً لتسوية الحرب في أوكرانيا، على ما كانت عليه دائما؛ أرض معركة، وعلى هذه الأرض لن تكون الولايات المتحدة مراقباً بعيداً. سوف تكون مع أحد الطرفين، مع الكثير من حلفائها عبر الخنادق أمام أقدم خصم لها، وهو معروف للغاية.

(د ب أ)

—————————

على خطوط القتال الأمامية.. قرى أوكرانية تنتظر الأسوأ

الحرة / ترجمات – دبي

 يعيش أبناء القرى والبلدات الأوكرانية الواقعة على خطوط القتال الأمامية أوضاعا إنسانية صعبة للغاية وسط قصف عنيف للقوات الروسية الغازية على أماكن سكناهم، وفقا لتقرير خاص نشرته صحيفة “إندبندنت” البريطانية.

فقد كانت أولينا وزوجها نيكولاي يحاولان دفن أحد الجيران المسنين عندما انفتحت السماء عن حمم وقذائف مدافع روسية مدفعية انهمرت على قريتهما مما أدى إلى مقتل ابنتهم المراهقة البالغة من العمر 15 عاما.

ويقول نيكولاي، البالغ من العمر 52 عاما، أن القصف الروسي بدأ بينما كان يحمل جثه جاره لدفنها، قائلا إنه اضطر أن يستخدمها كدرع لحمايته من شظايا القذائف قائلا أنه قضى لحظات رعب وهو تحت الجسد الميت، قبل أن يرى بعض الشظايا التي قتلت طفلته بينما أصيبت زوجته ببعض الجروح

أما أولينا، 51 عامًا، فتصف تلك الدقائق المخيفة من على سريرها أحدى المستشفيات في مدينة كراماتورسك، قائلة:  كنت أهجس باسم ابنتي صارخة..أنستازيا، مضيفة: “كان رأسها مفتحا وبالإمكان رؤية دماغها.. إنها طفلتي الوحيدة”.

وترقد بجانب أولينا جارتها، أولغا، التي أشرفت على دفن أناستازيا عند الفجر، بيد أنها أصيت هي الأخرى بجروح في وقت لاحق عندما كانت تقطف بعد التوت البري، ليجرى نقلها إلى مستشفى حيث لا تزال تعاني من إصابة خطيرة في الرأس.

وتقول أولغا: “كل يوم يصاب منزل في قريتنا بشتى أنواع القذائف بما فيها الفسفور الأبيض”، مردفة:  “من غير الآمن دفن الناس بشكل لائق في المقابر، فنحنالآن نلف الجثث في بطانية ونضعها في حفر داخل حدائق منازلنا”.

“الاستعداد للأسوأ”

من جانبه يقول المتحدث باسم الإدارة المحلية في كراماتورسك، إيغور إسكوف، إن مدينته تستعد للأسوأ، متوقعًا أن تقوم القوات الروسية الغازي مع ميليشيات الانفصاليين والقوات التابعة بحصارهم على طريقة “الكماشة” من الشرق والغرب.

وتابع: “بعد ماريوبول، هذه هي أكبر مدينة متبقية في دونيتسك؛ إنها الأهم سياسياً واستراتيجياً في المنطقة”.

وأردف: “كراماتورسك هو المركز الإداري لدونيتسك. وسوف يسعى الغزاة للحصول على أكبر مساحة ممكنة  فيها”.

ويقول العاملون في المستشفى حيث تُعالج أولينا في كراماتورسك، والتي تستقبل الجرحى من جميع أنحاء المنطقة، إنهم يعانون من الإرهاق الشديد بالإضافة إلى نقص في التجهيزات وقلة أعداد الطواقم الطبية.

ويضيف الطبيب فيتالي البالغ من العمر 46 عاما: “نعمل على نوبات على مدار 24 ساعة، وأحاول أن أغفو قليلا، ولكن لا أستطيع فعل ذلك في أغلب الأحيان”.

ويتابع: ” “كنا نجري جراحة العظام قبل الحرب، ولكني الآن أتعامل مع إصابات لم أعتد عليها، أنه عمل مختلف مليء براحة الذخائر العنقودية”.

ويشير إلى أنه يتعين عليه هو وزملاؤه الارتجال باستخدام مختلف لبعض المعدات، موضحا: “فعلى  سبيل المثال، قبل الحرب استأجرنا مثاقب جراحية جراحية لإجراء عمليات جراحة العظام، ولكننا الآن نستخدم المثاقب المنزلية بعد أن توفقت الشركات التي تؤجر المعدات الطبية عن العمل في أوكرانيا.

وزاد: “”نحتاج إلى معدات جديدة والمزيد من الموظفين. الذخائر العنقودية والإصابات الناجمة عن الألغام تحدث في كثير من الأحيان، ففي الأسبوع الماضي فقط عالجنا امرأة من ليسيتشانسك، وهي جدة كانت تعتني بماعزها عندما داست على قنبلة صغيرة من ذخيرة عنقودية”.. ويضيف: “رجل آخر التقط واحدة بينما كان يجمع الحطب”.

من القصف إلى الجوع

مشكلة أخرى تطارد سكان كراماتورسك والقرى المحيطة بها هي الجوع، إذ ارتفعت الأسعار بشدة منذ بدء الحرب، في حين توقفت الرواتب وحتى بعض المعاشات التقاعدية.

ويقول الأهالي كانوا ينتظرون منذ أيام فقط للحصول على حقيبة من المواد الغذائية والإمدادات التي قدمتها المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، مشيرين إلى  إن كيلو البطاطس أصبح  بدولار بينما الراتب التقاعدي لا يزيد عن 100 دولار.

وتوضح سيدة تدعى أولغا، وتبلغ من العمر 85 عامًا وتعاني من مشاكل صحية متعددة، أنها سجلت 707 مكتوبًا على ذراعها لتتذكر عندما يذيعون على دورها في استلام المساعدات.

ولفتت إلى أنها تأتي إلى مركز المساعدة منذ ثلاثة أيام لتقف في الحر متكئة على عكازها، قبل أن تضيف أنها تخشى تخشى مغادرة كراماتورسك لأنها غير متأكدة من قدرتها على تحمل مشقة الرحلة بسبب الظروف الصحية.

وتقول مارينا، 76، التي هي نفسها مريضة وترعى ابنة أختها ذات الإعاقة والمصابة بداء السكري إن هذا هو يومها الرابع في الانتظار، مشددة هي الأخرى أنها لا تستطيع مغادرة كراماتورسك لأن ابنة أختها لا تستطيع الحركة.

وتتابع بيأس بعد أن أغلق مركز المساعدات أبوابه: “سأعود غدا في الساعة 4 صباحًا غدًا..”كل ما يمكننا فعله الآن هو الانتظار”.

وخلفها تقف تمارا، 82 عامًا، التي تقول إنه ليس لديها ما يكفي من المال للمغادرة وليس لديها مكان تذهب إليه على أي حال، قائلة: “لقد ولدت أثناء الحرب وسأموت أثناء الحرب. لم أفكر أبدًا أن هذه هي الطريقة التي سأقضي بها سحابة تقاعدي”.

وفي داخل المركز، يقول المتطوعون المرهقون إنهم يبذلون قصارى جهدهم لمساعدة الناس، إذ يشرح أحدهم ويدعى إيغور: “نحن فريق مكون من 10 أفراد، ونساعد ما يقرب من 500 إلى 600 شخص يوميا ولكن هذا لا يكفي

وإيغور البالغ من العمر 55 عاما كان يعمل في مصنع للصلب قبل الغزو، قائلا إن “المشكلة الرئيسية هي ارتفاع الأسعار وحقيقة أن كل معظم الناس فقدت أعمالها ووظائفها، والآن أنا قلق من أن القتال قد يصل إلى هنا”.

ويردف: “السلطات تطلب من السكان مغادرة المنطقة والذهاب إلى أماكن أكثر أمنا، ولكن الكثير منا ليس لديهم مكان يلجؤون إليه، وفي نفس الوقت ليس هناك وسائل وطرق لإعالة أنفسهم”.

الحرة / ترجمات – دبي

———————-

 هدوء روسي مفاجئ ينذر بالاستعداد لأهداف “أكثر طموحا

أسوشيتد برس

تلوح مؤشرات على تهدئة روسية مؤقتة في أوكرانيا، في وقت يعيد الجيش الروسي تجميع قواته لشن هجوم جديد لمهام “أكثر طموحا”، وفقا لما ذكره محللون لوكالة “أسوشيتد برس”.

ويوم الأربعاء، لم تحقق القوات الروسية أي ادعاء أو تقييم للمكاسب الإقليمية في أوكرانيا “لأول مرة خلال 133 يوما من الحرب”، وفقا لمعهد “Study of War”.

واقترح مركز الأبحاث، ومقره واشنطن، أن موسكو ربما تكون قد اتخذت “وقفة عملياتية”، لكن ذلك لا يستلزم “الوقف الكامل للأعمال العدائية النشطة”.

وقال المعهد: “من المرجح أن تحصر القوات الروسية نفسها في عمليات هجومية صغيرة الحجم نسبيا، لأنها تحاول وضع شروط لعمليات هجومية أكثر أهمية وإعادة بناء القوة القتالية اللازمة لمحاولة تنفيذ تلك المهام الأكثر طموحا”.

ويبدو أن بيانا صدر، الخميس، عن وزارة الدفاع الروسية يؤكد هذا التقييم، إذ قالت إن الوحدات العسكرية الروسية المشاركة في القتال في أوكرانيا أعطيت وقتا للراحة.

وأضافت أن “الوحدات التي انخرطت بمهام قتالية خلال العملية العسكرية الخاصة تتخذ إجراءات لاستعادة قدراتها القتالية. مُنِح الجنود فرصة للراحة وتلقي الرسائل والطرود من منازلهم”، وفقا لما نقلته وكالة “تاس” الرسمية.

 من جهة أخرى، استمر القصف في شرق أوكرانيا، حيث قتل تسعة مدنيين على الأقل وأصيب ستة خلال 24 ساعة، وفقا لمسؤولين أوكرانيين.

وذكر مكتب الرئاسة الأوكرانية في تحديثه، صباح الخميس، أن مدنا وقرى في سبع مناطق أوكرانية تعرضت للقصف في اليوم الماضي، ووقعت معظم الوفيات المدنية في مقاطعة دونيتسك، حيث القتال مستمر. وأشار المكتب الرئاسي إلى أن سبعة مدنيين قتلوا هناك بينهم طفل.

وقال مسؤولون إن عشر مدن وقرى تعرضت للقصف في دونيتسك، ودُمر 35 مبنى، بما في ذلك مدرسة وكلية مهنية ومستشفى.

وتعد دونيتسك جزءا من إقليم دونباس، وهي منطقة صناعية تتحدث غالبيتها الروسية، حيث يتركز جنود أوكرانيا الأكثر خبرة عسكريا.

وحارب الانفصاليون الموالون لروسيا القوات الأوكرانية وسيطروا على جزء كبير من دونباس طوال ثماني سنوات، واعترف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بشكل أحادي باستقلال “جمهوريتي” دونيتسك ولوهانسك، قبل غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير.

وأعلن بوتين يوم الإثنين انتصاره في لوهانسك، المقاطعة الأخرى التي تشكل دونباس، بعد انسحاب القوات الأوكرانية من آخر مدينة كانت تسيطر عليها هناك. ونفى حاكم لوهانسك، سيرهي هايداي، الأربعاء، أن يكون الروس قد استولوا على الإقليم بالكامل.

وفي خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، تعرضت مدرسة داخلية للقصف، دون وقوع أي إصابات.

وتتعرض خاركيف، الواقعة على طول الحدود مع روسيا، لقصف يومي، حيث قتل مدنيان فيها خلال الـ24 ساعة الماضية.

وقال الجيش الأوكراني، الخميس، إن القوات الروسية قصفت أيضا بغارات ضمت طائرات هليكوبتر، منطقة سومي شمال شرقي البلاد.

ورغم استمرار القتال، قالت وزارة الدفاع البريطانية إنها تعتقد أن الجيش الروسي “يعيد تشكيل” قواته.

وأشار تقييم استخباراتي للوزارة صدر، الخميس، إلى أن القصف العنيف على طول خط المواجهة في دونيتسك يهدف على الأرجح إلى تأمين مكاسب روسية سابقة.

القتال يشتعل في البحر الأسود

ووردت أنباء عن مزيد من الأعمال العدائية في البحر الأسود، حيث قال الجيش الأوكراني، الخميس، إن العلم الأوكراني قد وضع على جزيرة استراتيجية انسحبت منها القوات الروسية الشهر الماضي.

وقالت قيادة العمليات الأوكرانية الجنوبية في بيان إن الوحدات العسكرية الأوكرانية طهرت جزيرة “الثعبان”، الواقعة قبالة الساحل الجنوبي الغربي لأوكرانيا وهي نقطة حيوية لضمان الممرات البحرية خارج ميناء أوديسا الرئيسي.

وأكدت القيادة أيضا أن الجيش الأوكراني دمر حوالي 30 قطعة من المعدات العسكرية الروسية، واصفة اكتشاف “ذخيرة مهجورة وأنقاض شاسعة”.

وانسحبت القوات الروسية من الجزيرة، في 30 يونيو، فيما وصفته وزارة الدفاع الروسية بـ “بادرة حسن نية”. لكنها قالت، الخميس، إن طائرة تابعة للقوات الجوية الروسية شنت هجوما صاروخيا على الجزيرة بينما حاولت القوات الأوكرانية رفع العلم.

وقالت الوزارة: “نتيجة لذلك، تم تدمير بعض أفراد الجيش الأوكراني، وفر الباقون”.

وأشارت أوكرانيا أيضا إلى أن روسيا أطلقت صاروخين على ناقلة نفط ترفع علم مولدوفا في البحر الأسود مما أدى إلى اشتعال النيران فيها.

وقالت القيادة العسكرية في جنوب أوكرانيا إن الضربة أصابت سفينة “Millennial Spirit,” (روح الألفية)، التي تحمل أكثر من 500 طن من وقود الديزل، وأكدت أوكرانيا أن أحد الصواريخ أصاب السفينة بينما اتجه الآخر بعيدا.

وأظهرت صور على مواقع التواصل الاجتماعي دخانًا يتصاعد قبالة ساحل أوديسا، صباح الخميس.

والسفينة بلا طاقم وهي تبحر في البحر منذ اندلاع الحرب في فبراير. ولم تعترف روسيا على الفور بالضربة على السفينة، كما أن أجهزة تتبع السفينة معطلة منذ أن هجرها طاقمها.

وقالت وزارة الخارجية الأوكرانية إنها استدعت السفير التركي في كييف يوم الخميس، بسبب ما وصفته بسرقة حبوب أوكرانية بواسطة سفينة روسية.

وذكرت أنه سُمح للسفينة الروسية “زيبيك زولي” بمغادرة ساحل تركيا على البحر الأسود بعد أن احتجزتها السلطات التركية لفترة وجيزة بناءً على طلب أوكرانيا، واستدعت أوكرانيا السفير للشكوى من “الوضع غير المقبول”.

تعد تركيا بمضيق البوسفور طريقا رئيسيا لعبور سفن الشحن من البحر الأسود. وسعت أوكرانيا للضغط على أنقرة لوقف الشحنات الروسية من الحبوب، التي تشكل مصدرا حيويا لإيرادات البلاد.

أسوشيتد برس

—————————————

قبل “الارتطام الكبير”… تحذيرات كيسنجر وحوادث الشّرق الأوسط!/ محمد حسين أبو الحسن

وسط تناحر استراتيجي دولي وتنابذ إقليمي، يلقي الرئيس الأميركي جو بايدن مرساته في بعض عواصم الشرق الأوسط. يزور المنطقة المتفحمة بالحروب، المتخمة بالأزمات، منذ أكثر من نصف قرن، زيارة تفتح الباب لكل الاحتمالات، وتنذر برفع حرارة التنافس على المنطقة، بين أميركا وأوروبا من جانب، والصين وروسيا من جانب آخر، ناهيك بالاحتراب الإقليمي والحرائق القديمة بين أهل المنطقة؛ ما دفع هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق، إلى دق ناقوس الخطر، محذراً من “حوادث كبرى آتية، في الشرق الأوسط وآسيا”؛ وكأنه يزيح الغشاوة عن الأبصار، لتخفيف حدة “الارتطام الكبير” المرتقب.

النّظام العالمي

كيسنجر هو أحد أشهر صانعي السياسة الخارجية الأميركية؛ سياسي متمرس ومفكر استراتيجي بارز، له تأثير واسع في الشأنين العربي والعالمي، في القرن العشرين. تعمد كيسنجر – في تصريح إلى صحيفة “صنداي تايمز” أخيراً – الغموض إزاء ما يقصده بمصطلح “حوادث كبرى” في الشرق الأوسط وآسيا: هل هي حروب أم صراعات من دون الحرب أم توترات… إلخ، لم يوجه بوصلته باتجاه محدد، لكن يُفهم منه أن المنطقتين ستكونان مسرح عمليات لحوادث خطيرة. قال الرئيس الأميركي: “لا أذهب إلى الشرق الأوسط من أجل الطاقة، بل من أجل الأمن”، زيادة إمدادات النفط والغاز ومحاصرة النفوذ الصيني والروسي واحتواء إيران، والعلاقات مع دول الشرق الأوسط أولويات على أجندة بايدن، قبل الزيارة وبعدها.

أمام الضغوط الغربية على الكرملين، طالب كيسنجر الدول الغربية بأن تراعي المصالح الروسية، عند مناقشة تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية، داعياً الغرب إلى “إيجاد مكان” لروسيا، بعد الحرب؛ حتى لا تتحول إلى “موقع أمامي للصين” في أوروبا. يدرك كيسنجر أن إذلال موسكو ليس في مصلحة أميركا أو أوروبا، الضغوط الثقيلة على روسيا تحوّلها إلى مخلب للتنين، بدلاً من أن تكون قفازاً للغرب.

 على مدار التاريخ الروسي، أدرك القياصرة مدى هشاشة إمبراطوريتهم الشاسعة؛ فأقاموا استراتيجيتهم الدفاعية على أساس إنشاء طوق إقليمي؛ للحفاظ على الأمن القومي الروسي. بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت الشعوب الأوروبية من الصراع إلى التنافس، في ظل توازن القوى؛ ما أدى إلى الترابط الاقتصادي بديلاً للصراعات التقليدية.

أجزاء من العالم لم تشارك في صوغ هذا النظام؛ أذعنت للثنائية القطبية منذ عام 1948 إلى 1989، حتى بدأت التحفظات تعبّر عن نفسها الآن كما يظهر في الأزمة الأوكرانية مع روسيا أو في بحر الصين الجنوبي أو الشرق الأوسط؛ ما يؤشر إلى أن النظام العالمي الراهن يواجه منعطفاً حاداً.

بعين الخبير، يرى كيسنجر أن عودة التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وتراجع الاقتصاد العالمي معطيات تستدعي التفكير في تأسيس نظام عالمي جديد؛ للخروج من مآزق النظام الحالي وتصدعاته؛ مبيناً أن النتيجة الحتمية لفشل القوى الكبرى في حل القضايا العالمية جذرياً هي “الحرب الكبرى” بين الدول – كما سمّاها كيسنجر في كتابه “النظام العالمي” – ذلك أن الصراع على مناطق النفوذ يمكن أن يتطور بسهولة إلى صراع بين الأمم والدول الكبرى.

حلبة المصارعة

قبل “الارتطام الكبير”… تحذيرات كيسنجر وحوادث الشرق الأوسط! دول الخليج – وعلى رأسها السعودية التي تستضيف بايدن وقادة مجلس التعاون ومصر والعراق والأردن – تسعى إلى استثمار القمة لتعديل نهج الولايات المتحدة وإعادة هيكلة العلاقات معها، وإحياء أو استحداث ترتيبات دفاعية بديلة من الانكماش الأميركي؛ ما يبقي الخطر الإيراني في ظل احتمالات فشل المفاوضات حول البرنامج النووي، في حدود السيطرة، بمعنى أنه يمكن إدارته وتلافي ارتداداته. لذا تمثل الحرب في أوكرانيا فرصة ثمينة لهذه الدول العربية؛ لفرض أولوياتها عبر ربط ملفات الأمن والطاقة والملاحة، بعد سنوات من تجريب مبدأ الفصل بينها.

صحيح أن إحداثيات الدول العربية لا تتطابق في ما بينها، ولا مع الإحداثيات الأميركية، وفي ركابها إسرائيل أو تركيا، لكن ذلك ليس شرطاً، بل قد يكون ورقة ضغط مثالية، رفضت السعودية والإمارات الاستجابة لضغوط الرئيس الأميركي لزيادة إنتاج النفط زيادةً مبالغاً فيها، لتركيع روسيا، وخرج وزير خارجية مصر أخيراً رافضاً فكرة “ناتو الشرق الأوسط”، مذكراً بأهمية “الناتو العربي” إن جاز الوصف، أي الاعتماد العربي على القوة العربية. كلها إشارات تلمح إلى أن بايدن قد لا يجد آذاناً صاغية في كثير من الملفات؛ تعمل إدارة بايدن على التواصل مع منطقة، جرى التشكيك في مدى التزام واشنطن تجاهها، بينما ينشغل قاطنو الشرق الأوسط بحسابات تقترب أحياناً وتبتعد أحياناً عن أولويات أميركا وأوروبا، كالتهديد النووي الإيراني والتوترات العنيفة في ليبيا وسوريا والعراق والسودان وتونس، والانتشار الواسع لصراعات مذهبية وعرقية؛ وجماعات متشددة تقوّض سيادة الدول، وتجعلها عاجزة أو فاشلة، كذلك الخلافات على مياه الأنهار الدولية، مثل النيل والفرات، ناهيك بالانتكاسات الاقتصادية وانكشاف موازنات دول المنطقة، بخاصة غير المنتجة للنفط، وجمود عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية، وأخطار التغير المناخي… إلخ.

كل هذا يبرز صعوبة التوفيق بين أهداف دول الإقليم وأهداف القوى العالمية، وسط محاولات حثيثة من جانب أميركا وأوروبا والصين وروسيا جذب المنطقة كل إلى معسكرها، وإن كان الغرب هو الأوفر حظاً حتى الآن. المفاجآت واردة بقوة في عالم يتغير؛ على العرب أن يلتفتوا إلى مواقع أقدامهم، قبل كل خطوة، ربما تكون مصيدة أو شركاً، عليهم الإمساك بأوراقهم وعدم التفريط بها لهذا الطرف أو ذاك، إلا على مقاس مصالحهم الثابتة.

المصلحة الإنسانيّة

إن جنوب آسيا هو مسرح التنافس الرئيسي بين الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصادين في العالم، معركة محتدمة لا تقتصر علی جنوب آسيا، إنما تتعداها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، تمدد الناتو حتى حدود روسيا وما يجري في أوكرانيا يعتبره بعض الخبراء مجرد حلقة في سلسلة، هدفها النهائي “حصار الصين” وعرقلة صعودها إلى مقعد القوة العظمى، على حساب الولايات المتحدة وبالتبعية القوى الأوروبية. طلب الرئيس الأميركي خلال “قمة السبع” الأخيرة جمع 600 مليار دولار؛ لمواجهة مشروع الصين “الحزام والطريق”؛ بوصفه تهديداً للنفوذ الاقتصادي الأميركي في قارات العالم القديم – من ضمنها المنطقة العربية – الحديقة الخلفية للرأسمالية والليبرالية الغربية.

في المقابل، نفى كيسنجر إمكان تحول الصين إلى “قوة عالمية مهيمنة”، رغم أنها يمكن أن تصبح قوية للغاية، ما يزعج واشنطن، وحذر من غياب آلية عالمية فعالة للتشاور بين القوى العظمى. يميل كيسنجر إلى الواقعية والتدرج في حل المشكلات، خطوة خطوة، بحسب مارتن إنديك مبعوث أوباما السابق للسلام في الشرق الأوسط، في كتابه “سيد اللعبة”.

يدعو كيسنجر إلى تشكيل نظام عالمي أكثر تشاركية، موضحاً أن حدوث صدام بين الاقتصاد الدولي والمؤسسات السياسية التي تتحكم فيه، يزعزع الشعور بالهدف المشترك للنظام العالمي، ومن ثمّ فإن هيمنة دولة واحدة على النظام العالمي تسفر عن أزمات يصعب حلها، حتى وإن بدا في ظاهره وكأنه يجلب النظام والاستقرار؛ الأمر الذي يتطلب حتمية التعاون الدولي، وفقاً لقواعد يتفق عليها الجميع، لا بالمفهوم الغربي فقط، تشمل الثقافات الصينية والروسية والإسلامية والأوروبية وغيرها.

إرساء نظام عالمي معاصر يستلزم استراتيجية متماسكة، لا تحركها المصالح الذاتية للدول، بل تجمعها المصلحة العامة للإنسانية، للحيلولة دون إرباك النظام، كما يحدث حالياً. وربما تكون الفرصة مهيأة، لإنشاء نظام مستقر، وليس تحقيق السلام، سواء في الشرق الأوسط أم في جنوب آسيا، فإن أفلتت فإن ما يجرى في أوكرانيا مجرد “بروفة” لما ينتظر الجميع من “حوادث كبرى”!

النهار العربي

————————

==================

تحديث 11 تموز 2022

————————-

البوصلة الأميركيّة والفرز الاستراتيجي في الشّرق الأوسط/ راغدة درغام

الاصطفافات الجغرافية – السياسية في منطقة الشرق الأوسط، لها نكهة أوكرانية نتيجة إفرازات الحرب الروسية ذات العلاقة بالنفط والغاز والصناعة العسكرية، وبالذات الصواريخ والمسيّرات، لكنها في صلبها محليّة المخاوف والتطلعات الأمنية. إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قلقة من تداعيات احتمال انهيار المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأنها تعرف تماماً أن طهران تستعدّ للانتقام، ولأن فشل مفاوضات فيينا التي انتقلت إلى الدوحة، سيبدو فشلاً لها، لأنها استثمرت كثيراً في إحياء الصفقة النووية JCPOA التي سبق ومزّقها الرئيس الأسبق دونالد ترامب باعتبارها غير صالحة.

الأسوأ، أن عدم التوصل إلى اتفاق مع إيران سيكون، في رأي إدارة بايدن، ذخيرة في أيادي ترامب الذي يتربّص لها بكراهية متبادلة. لذلك تبذل واشنطن جهداً في إطار خطة لمنظومة متكاملة لدفاعات جوية في الشرق الأوسط تتزامن مع زيارة الرئيس بايدن للشرق الأوسط، وتحديداً في محطة الرياض، حيث من المفترض أن يجتمع بالعاهل السعودي وولي العهد، كما يشارك في قمّة تضم دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والأردن والعراق تكون فيها إسرائيل وإيران غائباً – حاضراً.

صفحة جديدة في العلاقات مع دول الشرق الأوسط والخليج يفتحها الرئيس بايدن، فرضتها التطورات بأبعادها الأوكرانية والإيرانية وليس بمبادرة وديّة منه نحو الدول الخليجية العربية استفاق عليها، ولذلك ستتميّز زيارته بالإرباك الاستراتيجي. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنه واثق جداً من نفسه، أو هكذا يريد للعالم أن يراه، يخطط لاصطفافٍ في الشرق الأوسط ضمن الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية، ويلعب الورقة الإسرائيلية بمغامرة وبحسابات.

البداية مع فلاديمير بوتين الذي ظهر هذا الأسبوع متحدّياً “الناتو”، وبالذات الولايات المتحدة، من منطلق العزم على إثبات فشل رهان الفشل الاستراتيجي لروسيا. بوتين، بعكس العالم، لا ينظر إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على أنه ينصر أوكرانيا وينتصر شخصياً بدعمٍ غربي خارق وقد أصبح في نظر الكثيرين أيقونة العزم والقيادة والصمود في وجه خطة روسيا لإطاحته. زيلينسكي، في رأي بوتين، خاسر حرب وإن ربح معارك، ساهم في تدمير بلاده بإيحاء من الغرب، والتاريخ سيسجّل له، ليس إنقاذ أوكرانيا من روسيا بل تقديم أوكرانيا فدية لحرب الناتو على روسيا. حرب روسيا في أوكرانيا، في نظر بوتين، ستؤدّي إلى انتصار روسيا مهما كانت الكلفة ضخمة بكل المقاييس، وضمنها العزلة الدولية.

من بين أدوات إبراز استعادة روسيا حيويتها، الوضع في سوريا، حيث قرّر الرئيس الروسي إبلاغ الحكومة الإسرائيلية جدّية الإنذارات الروسية وإبراز عواقبها، وقد فعل ذلك تكراراً في الآونة الأخيرة. إصدار موسكو أمر التوقف عن كامل نشاطات “الوكالة اليهودية” لتأهيل اليهود في إسرائيل إجراء له دلالات سياسية مهمّة، وقد تقوم موسكو بإغلاق الوكالة بأكملها لأول مرة منذ إنشائها قبل حوالي 30 سنة.

الرسالة الروسية إلى الحكومة الإسرائيلية هي أن على إسرائيل التوقف عن عملياتها العسكرية في سوريا ضد إيران و”حزب الله” وليس فقط ضد سوريا. الإنذارات، إذا تجاهلتها إسرائيل، قد تكون “بداية لقصة سيئة”، حسب تعبير روسي مخضرم، ذلك أن موسكو قد تلجأ إلى استخدام قدراتها العسكرية كتلك المضادة للصواريخ الإسرائيلية المتوجِّهة نحو سوريا.

ترى موسكو أن حكومات إسرائيل التي توالت منذ انتهاء ولاية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لم تفِ بالوعود والتفاهمات.

رأي موسكو أن في وسع روسيا أن تسبّب الضرر الجدّي لإسرائيل إذا تصرّفت عسكرياً نحوها لإيقافها، إذا لم تتوقف بنفسها عن عملياتها العسكرية في سوريا، والتي باتت تعتبرها موسكو خطاً أحمرَ. فالكرملين يريد إبراز عضلاته في سوريا وهو لا يمانع أبداً أن يساهم في عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم، علماً أن علاقة شخصية متينة دامت لسنوات بين بوتين ونتنياهو.

“الحرس الثوري” الإيراني يستعد بدوره للقيام بعمل ما ضد إسرائيل من الجبهة السورية، باعتبارها الأكثر “شرعية” لضربات انتقامية من الهجمات الإسرائيلية. فإذا انخرطت روسيا وإيران و”حزب الله” معاً في التصدّي لإسرائيل في سوريا، فليس واضحاً ما ستكون عليه آفاق هذا التطور داخل سوريا وخارجها، وتحديداً في لبنان. فليس أمراً بسيطاً أن تنخرط روسيا في عمليات عسكرية مباشرة ضد إسرائيل حتى ولو بصورة محدودة لإبراز هيبتها وجدّية إنذاراتها. ثم إن لجم تطوّر المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل ليس أمراً يستهان به حتى ولو كانت المعادلة التاريخية الثنائية بينهما تهادنية على مر العصور، وبالتالي يُستبعد وقوع مواجهة إيرانية – إسرائيلية مباشرة.

الخط العريض لسياسات روسيا في الشرق الأوسط هو الاعتماد على الشراكة الاستراتيجية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتنمية القدرات الإيرانية في الشرق الأوسط كي تكون طهران ركناً ثابتاً في الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية. عدا ذلك، يعتبر الكرملين علاقات روسيا الجيدة بالدول الخليجية العربية ضرورية، لكنه يدرك أن العلاقة الاستراتيجية الأساسية هي بين هذه الدول والولايات المتحدة مهما شابها من نكسات، بغضّ النظر إن كان جو بايدن أو دونالد ترامب في البيت الأبيض.

وللتأكيد، إن الكرملين يتوقع أن تؤدي حرب أوكرانيا إلى إخراج الحزب الديموقراطي الأميركي من السلطة، وانتهاء ولاية بايدن عبر الانتخابات وعبر غضب الأميركيين من سياساته الاقتصادية، غير آبهين إن كان قد حقّق لحلف الناتو انتصار توسيع عضويته أو التصدّي لفلاديمير بوتين. وبحسب القراءة الروسية للمشهد الانتخابي الأميركي، إن دونالد ترامب عائد إلى البيت الأبيض، وهذا موسيقى جميلة في الآذان الروسية.

إدارة بايدن لا تستهتر بالحسابات الروسية، لكنها لن تدعها تحوّل مسيرتها أو مسارها. في أوكرانيا، لن تتمكن إدارة بايدن أو حكومات دول الناتو من التلكّؤ في دعم أوكرانيا، لكنها تعي خطورة الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا. لن تتمكن من التملّص من وعود تحقيق الفشل الاستراتيجي لروسيا، لكن المشاهد الميدانية تجعلها تفكّر ملياً، وتتردد قليلاً. تدرك أن فلاديمير بوتين لن يقع في حفرة على نسق تلك التي وقع فيها الرئيس العراقي صدام حسين، بل إنه ينصب المصيدة لأكثر من عدو له، رافضاً أن يكون وحده من وقع في الفخ.

لعلّه لم يكن في بال إدارة بايدن الانقلاب على نفسها وعلى ما فعلته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما للعلاقات الأميركية مع الدول الخليجية العربية، وبالذات السعودية. حرب بوتين على أوكرانيا دفعت بأقطاب إدارة بايدن – وكثير منهم هم أقطاب إدارة أوباما – إلى إعادة العقارب إلى الوراء والتفكير الجدّي بأهمية العلاقات الأميركية الاستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي، الأمنية منها والاقتصادية والنفطية والسياسية وتلك التي تدخل في خانة بيع السلاح. والمؤسسة الفائقة النفوذ المعنية بصناعة الأسلحة وتصديرها واختبارها في الحروب، أي “المجمع الصناعي العسكري”، تسير بخطى تكاملية أو تنافسية مع شركات أخرى ذات نفوذ قاطع داخل الولايات المتحدة وخارجها، أي الشركات النفطية. وفي هذا المنعطف، تتلاقى مصالح الصناعتين في الحرب الأوكرانية كما في منطقة الشرق الأوسط.

سيرتبك الرئيس بايدن عند اجتماعه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وقد يرتكب خطأً أو يقع في زلّة لسان بسبب كراهية غريزية نحو السعودية عامة ونحو محمد بن سلمان خاصة، بسبب الجريمة المروّعة ضد الصحافي جمال خاشقجي. سيتنبّه إلى الحملة الإعلامية ضد مثل هذا اللقاء بالذات من الإعلام اليساري الأميركي الذي سيراقب كل خطوة من خطواته في السعودية، والذي بدأ يطالب الرئيس بايدن بعدم تغيير سياساته الباردة نحو السعودية وتلك الجافة نحو ولي العهد.

حلف الناتو الذي يضم تركيا له مصلحة الآن في إصلاح العلاقات مع الدول الخليجية العربية، ليس فقط بسبب احتياج أوروبا للنفط تعويضاً عن النفط الروسي، بل أيضاً بسبب إمكان انتهاء المفاوضات النووية مع إيران بفشل يحول دون تمكّن أوروبا من استيراد النفط الإيراني. تركيا مهّدت لعلاقات جيدة مع الدول التي كان لها علاقات معقدة وصعبة معها، ففتحت صفحة جديدة مع مصر والإمارات ومع السعودية وإسرائيل، وكان ذلك بمثابة نقلة نوعية في إطار التموضع والاصطفافات الشرق أوسطية. ثم إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حرص كثيراً على الاستفادة من حاجة دول الناتو إليه في زمن الحرب الأوكرانية. فهو ضَمنَ إعادة تأهيل تركيا في الناتو في أعقاب معاقبتها بسبب إقبالها على شراء شبكة S-400 الروسية المضادة للصواريخ. وهو وجد في الحرب الأوكرانية فرصة لمبيعات “الدرونز” أي المسيّرات التركية المتفوقة إلى أوكرانيا، بالرغم من حرصه على الظهور بمظهر الوسيط بين روسيا وأوكرانيا.

ملامح الشبكة الشرق أوسطية لما يُطلق عليه لقب الناتو العربي ما زالت غير واضحة تماماً، لكن القمة التي سيشارك فيها الرئيس بايدن في الرياض تشكّل دعامة أساسية ذات دلالات أمنية واقتصادية. القمة ستضم دول مجلس التعاون الخليجي، وهي السعودية والإمارات وقطر وعُمان والكويت والبحرين، والأمين العام لمجلس التعاون نايف الحجرف، وستشمل كلاً من مصر والعراق والأردن. وستكون إيران وإسرائيل حاضرتين غيابياً.

إسرائيل لها علاقات رسمية مع كل من مصر والأردن بموجب اتفاقات سلام ثنائية، وهي بدأت بالتطبيع مع دول خليجية، في طليعتها الإمارات وعُمان والبحرين، وهي تأمل أن تستمر إدارة بايدن بما بدأته إدارة ترامب في إطار اتفاقات أبراهامز، وفي ذهنها الجائزة الكبرى، أي السعودية.

إيران قلقة من زيارة بايدن واجتماعاته، لأنها ستكون خارج النظام الأمني الإقليمي، وستنقلب كل حساباتها رأساً على عقب إذا توطّد التوافق الأميركي – العربي والشراكات الاستراتيجية. طهران سعت تكراراً لأن تكون في مقعد القيادة لنظام أمني جديد مع دول مجلس التعاون واليمن والعراق. اليوم، إن العراق يحاول الاستقلال بقدر الإمكان عن الإملاءات الإيرانية، ومشاركته في القمة فائقة الأهمية.

لكن إيران تعرف أيضاً أن دول مجلس التعاون الخليجي لا تريد العداء معها، بل تودّ تطبيع العلاقات شرط ألا تتدخّل في شؤونها. الحوار السعودي – الإيراني مثال على هذه الرغبة، وما تتمناه الدول الخليجية العربية هو أن يحدث تغيير في العقيدة الإيرانية، وهذا يبدو اليوم مستبعداً تماماً، لأن “الحرس الثوري” الإيراني لن يتخلى عن شركائه وأدواته ومشروعه في سوريا ولبنان والعراق واليمن.

الفرز الإستراتيجي بدأ في الشرق الأوسط، ونتائجه تعتمد إلى حد كبير على البوصلة الاستراتيجية لإدارة بايدن وللولايات المتحدة الأميركية.

 النهار العربي

———————–

الحرب في أوكرانيا وحتمية إصلاح الأمم المتحدة/ حسن نافعة

ليس من المبالغة القول إن الأمم المتحدة هي أكبر الخاسرين من اندلاع الحرب الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية واستمرارها، خصوصا أن كل الأطراف المشاركة في هذه الحرب انتهكت ميثاق الأمم المتحدة، وتصرفت كأن المنظمة المسؤولة عن حفظ السلم والأمن في العالم غير موجودة أصلا، فروسيا انتهكت ميثاقها، حين أقدمت على استخدام القوة المسلحة ضد أوكرانيا، رغم التحريم القاطع لاستخدام القوة أو حتى مجرّد التهديد بها. والولايات المتحدة وحلفاؤها انتهكوه، حين أقدموا على فرض عقوبات اقتصادية خارج إطار الآلية المعمول بها في منظومة الأمن الجماعي، ما تسبّب في إحداث ضرر فادح بدول وشعوب لا علاقة لها بالصراع. ومعروفٌ أن ميثاق الأمم المتحدة يبيح استخدام القوة في حالتين فقط: الدفاع الشرعي عن النفس (الفردي والجماعي)، واستخدامها في إطار منظومة الأمن الجماعي، أي بقرار من مجلس الأمن وتحت إشرافه. ولأن أيا من هذين الشرطين لا يتوفر في الأزمة الأوكرانية، فمن الطبيعي أن يعد لجوء روسيا لاستخدام القوة المسلحة ضد أوكرانيا عملا غير مشروع، وانتهاكا سافرا لقواعد القانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة. في المقابل، وإن يعد إقدام الولايات المتحدة وحلفائها على فرض عقوبات اقتصادية على روسيا وتزويد أوكرانيا بالسلاح تصرّفا لا يتسق كليا مع منظومة الأمن الجماعي أو مع المبادئ والقواعد المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، فالعقوبات الدولية، خصوصا حين تتسبّب في إلحاق الضرر بدول وشعوب لا علاقة لها بالنزاع، لا تكون شرعية إلا حين يصدر بها قرار من مجلس الأمن، وتأتي مصحوبة بآلية تسمح بتعويض الأطراف المتضرّرة منها.

في سياق ما تقدّم، يمكن القول إن الاستخدام غير المشروع للقوة من طرفي النزاع المحتدم على الساحة الأوكرانية، سواء اتخذ شكل العمل العسكري المفضي إلى القتل والتدمير، أو شكل العقوبات الاقتصادية التي تؤدي إلى الإفقار والتجويع، تصرف غير مقبول، ولا يسوّغ لأي طرف الادّعاء بتفوقه الأخلاقي أو المعنوي على حساب الطرف الآخر. صحيحٌ أن الفعل يختلف عن رد الفعل، وأن المساواة بين استخدام القوة المسلحة وغيرها من أشكال القوة قد تنطوي على قدر ما من التعسّف، غير أنه ليس من الإنصاف، في الوقت نفسه، قبول ادّعاء أيّ من الأطراف المنخرطة في هذا النزاع باحتكار الفضيلة لنفسه، خصوصا أن لها جميعا سوابق عديدة في الاستخدام غير المشروع للقوة المسلحة، وبالتالي، في الخروج على الشرعية وفي انتهاك أحكام العدالة والقانون الدولي. وصحيحٌ أيضا أن الأزمة الأوكرانية ليست الوحيدة الكاشفة عن عجز الأمم المتحدة وقلة حيلتها، لكنها ربما تكون أكثرها خطورة و تأثيرا على مستقبلها. وفي تقديري، لن يكون بمقدور أحد العثور على مخرج من هذه الأزمة إلا إذا ارتبط عضويا بإدخال إصلاحاتٍ جذريةٍ على هياكل عمل الأمم المتحدة وبنيته وآلياته، فالصراع على الساحة الأوكرانية تتنازعه جبهتان:

– جبهة ترى أن المبادئ والقواعد والقيم التي تحكم عمل النظام الدولي السائد حاليا ليست منصفة، خصوصا أنها مفروضة من طرف واحد يسخّرها لحسابه ومصالحه الذاتية. ولأن روسيا هي الدولة الأكثر تضرّرا من هذا النظام، بحكم كونها الدولة المستهدفة من موجات التوسّع المتعاقبة لحلف الناتو، والقوة الدولية المطلوب محاصرتها ومنعها من استعادة المكانة التي سبق للاتحاد السوفييتي أن تمتّع بها في النظام الدولي ثنائي القطبية، فقد كان من الطبيعي أن تتبوأ موقع القيادة، في المرحلة الحالية على الأقل، وأن تبدي تصميما أكبر على تغيير قواعد النظام الدولي الحالي. لذا، هي لم تكتف باستخدام القوة المسلحة، وإنما تبدو مستعدّة للذهاب إلى أبعد مدى ممكن من أجل تحقيق هذا الهدف، حتى لو تطلب الأمر الدخول في مواجهة نووية. صحيحٌ أن روسيا تطلق على الحرب التي أشعلتها في أوكرانيا ابتداء من يوم 26 فبراير/ الماضي، والتي ما تزال مشتعلة، “عملية عسكرية خاصة”، تستهدف حماية سكان إقليم دونباس، وتمكين جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك من الحصول على استقلالهما، لكن الجبهة الأخرى المعادية لها لا ترى الأمور على هذا النحو. ويلاحظ أن روسيا لا تقف هنا وحيدة، وإنما تساندها، وتقف من خلفها دول أخرى، لها مصلحة واضحة في تغيير قواعد النظام الدولي، مثل الصين وإيران والهند وفنزويلا والبرازيل وجنوب أفريقيا، حتى ولو لم تشارك مباشرة في القتال الدائر على الساحة الأوكرانية.

ــ وجبهة أخرى ترى أنها الأقدر على قيادة النظام الدولي في المرحلة الراهنة، بحكم ما حققته من انتصار في الحرب الباردة، ومن ثم هي الأحقّ بتحديد (وفرض) المبادئ والقواعد والقيم التي تحكم عمل هذا النظام. ولأن الولايات المتحدة هي الطرف الأقوى في هذه الجبهة، وصاحبة المصالح الأوسع في المحافظة على النظام الدولي الحالي، فقد كان من الطبيعي أن تتولى بنفسها قيادة هذه الجبهة. وهي على قناعة تامة بأن روسيا لن تكتفي بالسيطرة على إقليم دونباس، لأن هدفها الحقيقي تغيير النظام الدولي ككل، ومن ثم تبدو مصرّة ليس فقط على منع روسيا من تحقيق أهدافها، وإنما أيضا على إلحاق هزيمة استراتيجية بها، حتى لو تطلب الأمر تحويل الحرب التي أشعلتها في أوكرانيا إلى حرب استنزاف لها تستمر سنوات. ومع ذلك، هي تبدو شديدة الحرص، في الوقت نفسه، على ألا تتورّط بنفسها أو تتورّط أي دولة عضو في حلف الناتو مباشرة في هذه الحرب، حرصا منها على تجنّب الذهاب إلى حافّة المواجهة النووية.

لن يكون في مقدور أي من الجبهتين المتصارعتين فرض إرادتها بالكامل على الطرف الآخر. صحيحٌ أن روسيا تقترب حاليا من تحقيق الحد الأدنى من أهدافها المعلنة، بالسيطرة عسكريا على إقليم دونباس، وربما عزل أوكرانيا كليا عن سواحلها البحرية، وصحيحٌ أيضا أن الرهان على مفعول العقوبات الاقتصادية، وعلى قدرة الجيش الأوكراني على الصمود في حربٍ مفتوحة بلا سقف زمني يتآكلان، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها يملكان من الموارد والإمكانات ما يجعلهما قادرين على إطالة الصراع الدائر على الساحة الأوكرانية سنوات أخرى مقبلة، ولو بوتيرة قتالية أقل. السؤال هنا: هل يتحمّل النظام الدولي صراعا بهذا الحجم من دون المخاطرة بانهيار المعبد فوق رؤوس الجميع؟ فروسيا، ومعها الجبهة التي تقودها، سيتضرّران حتما من استمرار العقوبات الاقتصادية، على الرغم من أن هذه العقوبات قد لا تكفي وحدها لإجبارهما على الاستسلام، ومن ثم يفترض أن تكون لهما مصلحة في السعي إلى إنهاء الصراع في أقرب وقت ممكن. والولايات المتحدة، ومعها الجبهة التي تقودها، سيتضرّران كثيرا من الارتفاع المستمر في أسعار الطاقة ومن كساد يتوقع أن يدخل فيه النظام الاقتصادي العالمي بسرعة متزايدة، ومن ثم يفترض أن يكون لهما مصلحة في السعي إلى إنهاء الصراع في أقرب وقت ممكن، وكذا بقية الدول غير المنخرطة مباشرة في الصراع على الساحة الأوكرانية، خصوصا النامية منها، ستتضرّر كثيرا من ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومواد أخرى شديدة الحيوية بالنسبة لها، إلى الدرجة التي قد تهدّد باندلاع موجة جديدة من الاضطرابات الكبرى وعدم الاستقرار، ومن ثم يفترض أن يكون لهذه الدول جميعا مصلحة واضحة في السعي إلى إنهاء الصراع في أقرب وقت ممكن. ولأنه لن يكون بمقدور أي طرف، أو جبهة أو أي فريق، فرض أجندته الخاصة للتغيير على الأطراف الأخرى، فليس هناك من مخرج آخر سوى أن تنبع الدعوة إلى إصلاح النظام الدولي من داخل أروقة الأمم المتحدة نفسها، وأن يكون إصلاح هذه المنظمة العالمية المدخل الطبيعي لإصلاح النظام الدولي ككل.

لن يتغيّر النظام الدولي الحالي إلى الأفضل بالضرورة، إذا انتصرت إحدى الجبهتين المتصارعتين حاليا على الساحة الأوكرانية، لسبب بسيط، أن الجبهة المنتصرة ستسعى إلى فرض قيمها ومصالحها على النظام الدولي الجديد، حتى ولو تحوّل إلى نظام متعدّد القطبية. لذا يمكن القول إن النظام العالمي المنشود يجب أن يكون قادرا على إدارة العولمة لصالح البشرية ككل، وليس لصالح دول أو شعوب بعينها. وأظن أن الوقت قد حان لكي تتولى الجمعية العامة للأمم المتحدة الدعوة إلى مؤتمر عالمي لا يستهدف فقط تعديل ميثاقها، وإنما كتابة ميثاق جديد لأمم متحدّة جديدة. ولضمان النجاح والفاعلية، لا بد وأن تسبق هذه الدعوة مشاورات بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، للاتفاق على مشروع لهذا الميثاق، يتضمن تحديدا للأخطار الجديدة التي تواجهها البشرية في القرن الواحد والعشرين، خصوصا الناجمة عن التغيرات المناخية والبيئية والفقر والجريمة المنظمة وغيرها، ويرسي الدعائم القوية لمؤسساتٍ تستطيع مواجهة هذه التحدّيات، ثم يعرض المشروع المقترح على الجمعية العامة للأمم المتحدة لإقراره، ولضمان أن تعمل المؤسسات المقترحة بروح الحرص على مصالح البشرية ككل، فعندما يتحول العالم بالفعل إلى قرية كونية صغيرة، من الطبيعي أن يصبح المجتمع العالمي كله مسؤولا عن كل إنسانٍ يعيش في هذه القرية، بصرف النظر عن لونه أو دينه أو جنسيته.

العربي الجديد،

————————

الأزمة السورية وتحولات دور الفاعل الخارجي بعد الأزمة الأوكرانية/ عبد الوهاب عاصي

مثلما أدى تدخل روسيا في سوريا، عام 2015، إلى تغير خارطة السيطرة والنفوذ بين الفاعلين المحليين وأدوار الفاعلين الخارجيين، لا شيء يمنع أن تتغير مرة أخرى بانشغال موسكو في الحرب الأوكرانية والتي لا تزال مفتوحة على العديد من السيناريوهات. تهدف هذه الورقة إلى دراسة واقع الأزمة السورية في السياسات الراهنة للفاعلين الأساسيين الخارجيين بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا.

بينما شكَّل وجود روسيا في سوريا “مصدر تهدئة” واستقرار لبعض القوى الإقليمية والدولية كان عامل تقييد لوصول ونفوذ بعضها الآخر عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا. ومع بوادر تراجع حضور روسيا في سوريا بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا بدأت تظهر مخاوف وطموحات تلك القوى، من حيث تعزيز أو تراجع أدوارها، بعدما أسهم تجميد النزاع منذ عام 2020 في تكريس أدوار بعضها على حساب الآخر، لاسيما حلفاء النظام السوري، الذي انهمك في استعادة السيادة والسلطة ضمن مناطق سيطرته وتقليص أثر الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت خلال الأعوام الفائتة. إن السياق الإقليمي المفتوح على الأزمات الدولية والمتأثر بموازين القوى المحلية في سوريا، سيكون له دور رئيسي في تحديد مسار النزاع وتحولاته القادمة.

تهدف هذه الورقة إلى دراسة واقع الأزمة السورية في السياسات الراهنة للفاعلين الأساسيين بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا، وأثر التغيرات الطارئة على مواقفهم ومستقبل الأزمة السورية.

أولًا: الأزمة السورية في السياسات الراهنة للفاعلين

تتوزع الجغرافيا السورية، فضلًا عن القوى المحلية، مناطق نفوذ لقوى دولية إقليمية متعددة، أبرزها تركيا، وتحتضن وتدعم قوى معارضة، وإيران وروسيا إلى جانب النظام السوري. وهناك إسرائيل المعنية بأمنها على الحدود وبما تؤول إليه الأوضاع في سوريا، إضافة إلى الدور الروسي المحوري، ويقابله وجود عسكري أميركي محدود – لكنه فعال- لمحاربة الإرهاب وداعش وتقديم بعض الدعم لقسد (قوات سوريا الديمقراطية). مناطق النفوذ هذه هي محل تماس عسكري وسياسي بين القوى الإقليمية لاسيما الأساسية منها، وهي تؤثر وتدل على طبيعة واتجاه الأدوار السياسية لهذه الأخيرة في الأزمة السورية.

    الأزمة عسكريًّا

عندما اندلع الصراع في أوكرانيا، نهاية فبراير/شباط 2022، كان قد مضى عامان على خفض التصعيد في سوريا، وهي أطول فترة تهدئة شهدتها البلاد منذ بداية الأزمة عام 2011؛ حيث تعثرت سابقًا جميع التفاهمات الدولية في التوصل إلى اتفاق -لإنهاء أو خفض العمليات القتالية- يقود إلى تهدئة متوسطة أو طويلة الأمد. ومنذ مارس/آذار 2020، تُسيطر المعارضة السورية على قرابة 11% من جغرافيا البلاد، التي بلغت نسبة استحواذ النظام عليها أكثر من 63%، وقوات سوريا الديمقراطية أقل من 26%(1).

كان الحفاظ على التهدئة كل تلك المدة نتيجة لعدة عوامل، أبرزها: حرص روسيا على استمرار التنسيق والتعاون مع بقية الفاعلين الدوليين، بما يؤدي لتحويل الإنجاز العسكري إلى مكاسب سياسية واقتصادية؛ أي إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري ورفع العقوبات الاقتصادية تدريجيًّا عنه أو تقليص أثرها على أقل تقدير. إضافة إلى رغبة الولايات المتحدة وتركيا في عدم تقويض الاستقرار والأمن، حتى إن حرص واشنطن على استمرار تدفق المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا دفعها إلى قبول مطالب روسيا بتوسيع عمليات التمويل لتشمل التعافي المبكر وليس الاستجابة والطوارئ فقط(2).

أسهم جمود النزاع في تقليص حدَّة التنافس نسبيًّا بين الفاعلين الدوليين والمحليين في سوريا إلا أن اندلاع الصراع في أوكرانيا أظهر بوادر للتراجع في التزام كل من تركيا وإيران وإسرائيل بخفض التصعيد في مناطق الشمال والجنوب السوري. ويبدو ذلك مرتبطًا بإعلان روسيا تغيير مهام قواتها؛ حيث بات تركيزها منصبًّا على ضمان الاستقرار والأمن على حساب العمليات القتالية(3).

في الشمال الغربي من سوريا: تتخوف تركيا من أن يؤدي انشغال روسيا في أوكرانيا إلى التراجع عن التزاماتها في تنفيذ مذكرات التفاهم المشتركة، والتي تنص على قيام القوات الروسية بإخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من تل رفعت ومنبج شمال وشرق حلب ومن عمق 30 كم على طول الحدود السورية-التركية شرق الفرات(4). هذا ما قد يُفسر عودة حديث تركيا بجدية منذ أواخر مايو/أيار 2022، عن نيتها شنَّ عملية عسكرية جديدة لاستكمال الخطوات المتعلقة بالجزء المتبقي من إنشاء المنطقة الآمنة بعمق 30كم على طول حدودها الجنوبية مع سوريا. وقد قامت القوات التركية وفصائل المعارضة السورية برفع مستوى الجاهزية وتوزيع محاور القتال على خطوط التماس في مناطق مثل منبج وتل رفعت شرق وشمال حلب(5)، إضافة إلى تكثيف عمليات القصف الجوي لأهداف تابعة لحزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية على طول الشريط الحدودي. أما روسيا فقد واجهت مطالب تركيا بشن عملية عسكرية جديدة في سوريا بالرفض والتحفظ؛ لاعتبارها خطوة تُهدد الاستقرار. كذلك، قابلت إيران مخاوف تركيا التي تدفعها لشنِّ عملية محتملة بالرفض مرة والتفهم في أخرى، لكنها استكملت فعليًّا الاستعداد لأي انهيار لوقف إطلاق النار؛ حيث أنشأت، نهاية مايو/أيار 2022، غرفة عمليات مشتركة مع قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية في منطقة تل رفعت حملت اسم “صاعقة الشمال”.

في إدلب: زادت القوات الإيرانية من نشاطها وحضورها في معظم القطاعات العسكرية منذ فبراير/شباط 2022، ومع أن ذلك قد يكون نتيجة تنسيق مسبق مع القوات الروسية في إطار استبدال المهام العسكرية، إلا أنه أثار لاحقًا قلق فصائل المعارضة والقوات التركية في إدلب من استئناف العمليات القتالية في المنطقة، حال شنِّ هجوم على مناطق قوات سوريا الديمقراطية في تل رفعت أو منبج، لاسيما أن إيران تبدو أقل التزامًا من روسيا بالحفاظ على خفض التصعيد في إدلب(6).

في الشمال الشرقي من سوريا: قامت روسيا، ومنذ مطلع يونيو/حزيران 2022، برفع مستوى التنسيق الثنائي مع تركيا عبر زيادة معدل تسيير الدوريات المشتركة ضمن جميع المسارات(7)؛ لإعادة تأكيد الثقة بقدرتها على تنفيذ الالتزامات المتعلقة بإقامة المنطقة الآمنة وفق مذكرة سوتشي (2019)، رغم الانشغال في الصراع بأوكرانيا. ومع أن تركيا أظهرت الاستعداد للتعاون مع روسيا شرق الفرات إلا أنها تمسكت بتنفيذ العملية العسكرية غربه، بما يُظهر أنها لا تُفضِّل تبديد مخاوفها الأمنية بمجرد الاعتماد على أدوات العمل المشترك مع روسيا؛ بل عبر ضمان ذلك بمفردها أيضًا، وهي غالبًا ما تُحاول الضغط على روسيا من أجل السماح بذلك؛ عبر أدوات عديدة مثل تقييد عمليات الإمداد والتجديد المنتظم للقوات الروسية في سوريا جوًّا وبحرًا؛ وهو قرار لم يكن لتركيا أن تتخذه لولا أن الظروف الدولية الراهنة تُساعدها على ذلك.

قد يكون تفضيل تركيا للعودة إلى أدوات العمل المشترك مع روسيا شرق الفرات مرتبطًا بموقف الولايات المتحدة الرافض أيضًا لأي أنشطة عسكرية تُهدد استقرار المنطقة، لاسيما أن القوات الأميركية عملت، ومنذ مايو/أيار 2022، على إظهار أهمية الحفاظ على الاستقرار العسكري في مناطق مثل عين العرب(8)؛ بإعادة تفعيل النشاط ضِمن قاعدة خراب عشق قرب عين العرب من أجل تنفيذ العمليات ضد قادة تنظيم الدولة (داعش) في مناطق حلب وإدلب شمال غرب سوريا.

في مناطق الحسكة، وبخلاف ما هو عليه الحال في مناطق حلب وإدلب، هناك استمرار واضح للتنافس بين القوات الروسية والإيرانية؛ حيث حاولت القوات الإيرانية الاستفادة من تراجع دور موسكو كوسيط بين النظام والإدارة الذاتية بالضغط على الأخيرة لحملها على تقديم تنازلات؛ عبر حصار حي الشيخ مقصود في حلب، في أبريل/نيسان 2022، والذي أدى بالمقابل لقيام قوات الأسايش -قوى الأمن الداخلي التابعة للإدارة الذاتية التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي في مناطق قسد- بحصار القامشلي شمال الحسكة؛ قبل أن تتدخل موسكو وتخفض التصعيد مجددًا بين الطرفين(9).

وغالبًا ما تريد إيران استعادة وتوسيع حضورها في محافظة الحسكة، الذي تراجع منذ أبريل/نيسان 2021 بعد إخراج قوات الدفاع الوطني التابعة لها من حي طي في القامشلي لصالح قوات سوريا الديمقراطية بموجب اتفاق رعته روسيا(10). وبالفعل، فقد زادت طهران من نشاطها في المنطقة بعد انشغال روسيا في أوكرانيا.

في الجنوب من سوريا: هناك أيضًا تراجع واضح لمستوى خفض التصعيد منذ اندلاع الصراع في أوكرانيا حيث زادت القوات الإيرانية من نشاطها العسكري والأمني في محافظتي درعا والقنيطرة بنشر عدد أكبر من القواعد والنقاط العسكرية ورفع حجم ومستوى تهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود الأردنية-السورية، وقد تسبب ذلك في قيام القوات الأردنية بتنفيذ عمليات أمنية عديدة على طول الشريط الشائك بين البلدين، إضافة لإجراء محاكاة عسكرية لسيناريو ملاحقة ضد الميليشيات والمهربين في المنطقة الحدودية(11).

ويبدو أن نشاط إيران المتزايد في الجنوب السوري أدى إلى قيام إسرائيل بتوسيع عدد ونطاق ضرباتها الجوية والصاروخية على سوريا؛ بما شمل -لأول مرة منذ تدخلها في سوريا عام 2013- استهداف مطار دمشق الدولي في 10 يونيو/حزيران 2022. من الواضح أن تل أبيب تتخوف من زيادة التنسيق الأمني بين النظام السوري وإيران؛ بعد تراجع دور روسيا، لاسيما أن زيارة بشار الأسد لطهران، مطلع مايو/أيار 2022، ناقشت غالبًا قضية إيجاد بدائل عن صعوبة نقل الأسلحة عبر الطرق البرية(12). وقد يُعطي ذلك تفسيرًا لاستهداف مطار دمشق؛ أي لقطع الطريق أمام طهران لعدم توسيع أو تكثيف استخدام النقل الجوي لشحنات الأسلحة عبر المطارات المدنية. وقد تتخوف إسرائيل أيضًا من أن يؤدي تراجع التنسيق مع روسيا(13)؛ بسبب الصراع في أوكرانيا، إلى زيادة نشاط حزب الله وقوات النظام السوري في منطقة فض الاشتباك (1974).

    الأزمة سياسيًّا

تمر العملية السياسية في سوريا بحالة من الجمود منذ انطلاق مسار الإصلاح الدستوري نهاية عام 2019، وبسبب اندلاع الصراع في أوكرانيا أصبحت “الدبلوماسية البنَّاءة” التي يعتمد عليها المبعوث الأممي، غير بيدرسون، في دعم جهوده من قبل الدول الفاعلة في سوريا أكثر صعوبة(14).

كانت الأمم المتحدة قد تبنَّت منذ نهاية عام 2021 مقاربة “خطوة مقابل خطوة، وخطوة بخطوة” من أجل تطوير العملية السياسية في سوريا(15)، وباتت تعتمد على تضافر الجهود الدولية الدبلوماسية لدعم هذا النهج، الذي يتألف من مجموعة إجراءات متبادلة من النظام السوري والمعارضة في عدد من القضايا، مثل: “المعتقلين والمختطفين والمفقودين، والمساعدات الإنسانية والتعافي المبكر، وشروط العودة الآمنة والطوعية للاجئين، وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وترسيخ الهدوء وتحقيق الاستقرار والتعاون في مكافحة الإرهاب، والمسائل الدبلوماسية”(16).

ورغم مخاوف المبعوث الأممي من تأثير الصراع في أوكرانيا على الدعم الدولي لمقاربة خطوة بخطوة إلا أنها حظيت في مارس/آذار 2022، بدعم من المجموعة المصغرة لأجل سوريا، والتي تضم 11 دولة بما فيها الولايات المتحدة ودول أوروبية وعربية(17).

قد يكون الدعم الغربي مرتبطًا بمحاولة نقل مناطق النزاع في سوريا إلى مرحلة أكثر تقدمًا يتمكن فيها السكان واللاجئون من الاعتماد على أنفسهم، وبالتالي تخفيف العبء على المانحين خلال السنوات المقبلة؛ فمؤتمر بروكسل لدعم سوريا والمنطقة، الذي عُقدت النسخة السادسة منه بين 9 و10 مايو/أيار 2022، أكد لأول مرة على ضرورة الاهتمام بمسائل التعافي المبكر وليس الإغاثة الإنسانية فحسب. ومع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة لا تزال غير واثقة من استمرار منح النظام السوري استثناءات من العقوبات الاقتصادية التي يفرضها قانون قيصر؛ فاللائحة الصادرة منتصف مايو/أيار 2022(18)، والخاصة بمسائل التعافي المبكر أقصت النظام بشكل واضح على خلاف ما قامت به عامي 2020 و2021 عندما منحته بعض الاستثناءات.

عمومًا، أسهم الموقف الغربي الداعم نسبيًّا لنهج الأمم المتحدة، في عقد جولتين من الجولة رقم (7) و(8) من مباحثات اللجنة الدستورية بين مارس/آذار ويونيو/حزيران 2022، لكن دون تحقيق أي تقدم أو اختراق في صياغة إصلاح دستوري. وعلى غرار الدول الغربية والعربية تدعم كل من تركيا وروسيا استمرار العملية السياسية في إطار الإصلاح الدستوري رغم الجمود الذي تمر به المباحثات، ولا يبدو ذلك مرتبطًا فقط بأهمية المسار من أجل الاستقرار ووقف الأعمال القتالية ومكافحة الإرهاب، إنما لكونه يعكس قدرة كل منهما كوسيط على المساهمة في حل النزاع ويحافظ على استمرار آلية العمل المشترك في سوريا؛ باعتبار المسار أحد مخرجات منصة أستانا الثلاثية، التي حرصت أنقرة وموسكو وطهران على انعقاد جولة جديدة منها حملت الرقم (18)، منتصف يونيو/حزيران 2022.

ثانيًا: التغيرات الإقليمية والدولية وسياسات الفاعلين

إن التغيرات الإقليمية والدولية -كالصراع في أوكرانيا ومفاوضات الاتفاق النووي- قد تضع الأزمة السورية أمام أحد خيارين؛ فإما الحفاظ على الوضع الراهن القائم على الاستقرار الهش أو العودة إلى التصعيد مجددًا.

1. تعزيز الاستقرار الهش

إن استمرار الوضع الراهن القائم على الاستقرار الهش في سوريا يعني عدم حصول أي تغيير على خطوط التماس في مناطق خفض التصعيد سواءً بين قوات سوريا الديمقراطية وفصائل المعارضة أو بين الأخيرة وقوات النظام السوري. وبالتالي، تراجع تركيا عن نيتها شن عملية عسكرية جديدة شمال سوريا، وعدم تحول التصعيد الإسرائيلي جنوب البلاد إلى تهديد يُفضي لتغير قواعد الاشتباك وانتهاء التسوية بين النظام والمعارضة السورية بموجب اتفاق عام 2018، الذي جرى توقيعه برعاية روسيَّة.

في الشمال السوري: إن تخلي تركيا عن العملية العسكرية مرتبط بإصرار الولايات المتحدة وروسيا وإيران على رفض أي تحرك يُهدد الاستقرار القائم، مقابل حصولها على ضمانات جديدة بإخراج حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب من مناطق تل رفعت ومنبج ضمن خارطة طريق جديدة، أو أي أدوات أخرى تسهم في حصولها على تطمينات كإقامة نقاط عسكرية مشتركة مع روسيا أو تنفيذ عمليات أمنية مشتركة معها أو حتى القبول بدخول قوات النظام السوري لتلك المناطق أو التعامل معها كمناطق منزوعة من السلاح والمقاتلين. وطالما أن دوافع أنقرة لشنِّ عملية عسكرية مرتبطة أيضًا بتوفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين فإن ذلك قد يحملها على المطالبة بإعادة تفعيل المنطقة العازلة في إدلب المنصوص عليها بمذكرة سوتشي (2018)، والتي سيطرت عليها قوات النظام السوري عام 2020.

وغالبًا لن تكتفي تركيا بالإجراءات العسكرية والأمنية التي قد يجري تقديمها من قبل الفاعلين الدوليين لثنيها عن العملية العسكرية شمال سوريا، بل قد تُطالب بحزمة إجراءات اقتصادية أيضًا لتعزيز استقرار المنطقة ودعم المشروع الذي أعلن عنه الرئيس رجب طيب أردوغان، مطلع مايو/أيار 2022، ويهدف لتوفير بيئة لعودة مليون لاجئ من تركيا إلى الشمال السوري بشكل طوعي بعد إنشاء 13 منطقة تحوي 200 ألف وحدة سكنية(19).

هذا يتطلب منح استثناءات من العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة بموجب قانون قيصر، على أن يشمل ذلك عموم مناطق الشمال السوري الواقعة ضمن نطاق المنطقة الآمنة التي تُطالب بها تركيا، بما في ذلك إدلب وعفرين، دون أن يطول مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. يُمكن توقع هذا الموقف من تركيا مقارنة مع رد الفعل المتحفظ الذي أبدته بعد إعلان الولايات المتحدة منح استثناءات لمناطق شمال شرق وشمال غرب سوريا، منتصف مايو/أيار 2022[1](20).

على أية حال، إن إصرار الفاعلين الدوليين على إبقاء الوضع في الشمال السوري قد يكون نتيجة رغبة من الولايات المتحدة بعدم توسيع المواجهة مع روسيا لتشمل سوريا وأوكرانيا، واستمرار “تطلعها” للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وهذه الأخيرة تبذل بدورها جهودًا دبلوماسية لمنع أية عملية عسكرية تركية من خلال التوسط وإقامة حوار بين النظام السوري وتركيا لتقليل المخاوف الأمنية(21).

في الجنوب السوري: إن إعادة الثقة باتفاق خفض التصعيد واستمرار أو تطوير العمل به يقتضي حصول إسرائيل على تطمينات كثيرة سواء من روسيا أو الولايات المتحدة، وتتعلق تحديدًا بنفوذ إيران في سوريا ولبنان. وبالتالي، ضمان إبعاد القوات الإيرانية مسافة 80 كم عن الشريط الحدودي مع الجولان المحتل بما في ذلك عدم دخول قوات النظام السوري لمنطقة فض الاشتباك، إضافة إلى ضمان عدم استمرار تدفق الأسلحة الإيرانية إلى سوريا ولبنان سواء عبر الطرق البرية أو الجوية. ولا يعني حصول تل أبيب على تلك الضمانات أو التطمينات توقفها بالضرورة عن تنفيذ ضربات جوية ضد مصالح إيران في سوريا سواء بإعادة قنوات الاتصال العسكرية مع روسيا أو بزيادة التنسيق مع الولايات المتحدة والأردن لاستخدام أجواء المملكة الشمالية وأجواء قاعدة التنف في سوريا، وقد بلغ عدد الضربات الإسرائيلية خلال النصف الأول من عام 2022 قرابة 15 غارة.

واستمرار إسرائيل بتنفيذ الضربات الجوية في سوريا مرتبط بعدم تخليها عن إستراتيجيتها “المعركة بين الحروب” التي تهدف لإضعاف إيران وحلفائها ومنعهم من الاستقرار ومراكمة القوة(22). كما أن الحفاظ على الاستقرار في المنطقة الجنوبية من سوريا لا يعني عدم وقوع مواجهة محدودة بين إسرائيل والقوات الإيرانية لكن دون أن تؤثر على الوضع الراهن.

عمليًّا، يرتبط الاستقرار في الجنوب السوري بعاملين رئيسيين، هما: استمرار تراجع التنسيق الروسي الإسرائيلي في سوريا بسبب الصراع الأوكراني، ونتائج المباحثات بين إيران والولايات المتحدة حول الاتفاق النووي، ورغم التعثر المستمر في المفاوضات -وآخرها تلك التي عُقدت بشكل غير مباشر في الدوحة- إلا أن استمرار مبدأ التفاوض يساعد العقوبات الأميركية على ممارسة تأثيرها لتخفيض نشاط القوات الإيرانية في جنوب سوريا ووضع خارطة طريق لخروجها.

لا توجد لإيران مصلحة في تحويل أي صدام مع إسرائيل في الجنوب السوري إلى مواجهة مفتوحة أو واسعة، لأن مصالحها تقتضي عمليًّا استمرار الاستقرار الهش في عموم البلاد، خاصة في حال التوصل لاتفاق نووي مقبول لديها. وهذا النوع من الاستقرار يساعد إيران على تحقيق بعض مساعيها لتعويض ما استطاعت من تكلفة نفقاتها في سوريا، والتي تتراوح قيمتها فيما يبدو بين 20 و30 مليار دولار(23)، عَبْر ضمان الانخراط الفعال في عمليات إعادة الإعمار أو التعافي المبكر. وبالتالي، توسيع الاستحواذ على الاقتصاد السوري الذي لا تتجاوز حصة إيران فيه 3%(24).

بناءً على ما سبق، سيُوفر الحفاظ على خفض التصعيد في سوريا فرصة لاستمرار العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وضامنو مسار أستانا، غير أن ذلك لا يعني بالضرورة نجاح مقاربة “الخطوة بخطوة”، خصوصًا إذا رفضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الإقدام على خطوة رفع العقوبات عن النظام السوري سواءً لتعثر الاتفاق النووي مع إيران أو لاشتراط مسبق بتطبيق حزمة من تدابير بناء الثقة، كوقف استهداف البنية التحتية وإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق للمحتاجين في جميع أنحاء البلاد ووقف الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري والتعذيب وإنشاء آلية محايدة للتحقيق بالانتهاكات(25).

وعلى فرض تعثر مقاربة “الخطوة بخطوة” قد تلجأ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع تركيا لاتخاذ مزيد من الإجراءات بهدف تعزيز الاستقرار الهش في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوي، أي شمال شرق وشمال غرب سوريا، على غرار لائحة الإعفاءات التي أصدرتها الخزانة الأميركية، منتصف مايو/أيار 2022، وأقصت مناطق النظام منها. قد يكون ذلك أكثر إلحاحًا إذا ما قررت روسيا إيقاف آلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا، وما يترتب عليه من إغلاق معبر باب الهوى وحرمان مناطق شمال غرب البلاد من الاستجابة الطارئة، وبالتالي ضرورة توفير بدائل للمساعدة في المنطقة.

إن تعزيز الاستقرار الهش في مناطق شمال شرق وشمال غرب سوريا، والذي يشبه إلى حدٍّ كبير المبادرة البحثية التي حملت عنوان “التجميد والبناء”(26)، يُمكن أن يُصبح الاستقرار الهش أداة فعالة لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للضغط على روسيا وإيران، من خلال الحفاظ على العقوبات على النظام السوري أو حتى تشديدها والامتناع عن منحه أي استثناءات والالتزام بمواصلة جهود المساءلة، مقابل العمل على فرض الاستقرار العسكري والأمني في المناطق الخارجة عن سيطرته وتعزيز التنمية الاقتصادية فيها.

2. عودة تصعيد النزاع

إن عودة تصعيد النزاع في سوريا تعني تغير قواعد الاشتباك وخطوط التماس في مناطق شمال وجنوب البلاد سواءً بين قوات سوريا الديمقراطية وفصائل المعارضة أو بين الأخيرة وقوات النظام السوري. وتعني أيضًا إصرار تركيا على شن عملية عسكرية جديدة في سوريا، واحتمال انتهاء التسوية القائمة في محافظتي درعا والقنيطرة منذ عام 2018، وربما تخلي التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة عن التزام باتفاق خفض التصعيد في المنطقة 55 بقاعدة التنف.

وأسباب عودة التصعيد عديدة تتراوح بين ما هو دولي وإقليمي، كعدم قناعة تركيا بكل التطمينات التي قُدمت إليها للتخلي عن العملية العسكرية في شمال سوريا، ووجود فرصة دبلوماسية لضمان عدم الاصطدام بالقوات الأميركية والروسية والإيرانية أو أحدها. كذلك، رغبة إسرائيل بعدم العودة للاتفاق النووي واستمرار التوتر في الحدود البحرية مع لبنان، وعدم قناعة إسرائيل بأي ضمانات لتقليص نفوذ ونشاط إيران جنوب سوريا، ورغبة الولايات المتحدة بنقل المواجهة مع روسيا إلى سوريا وعدم اقتصارها على أوكرانيا.

في الواقع، إن عودة التصعيد في سوريا لن تؤدي إلى تغيير قواعد الاشتباك في سوريا فقط بل احتمال إعادة تعريف أدوار وسياسات الفاعلين وحتى الأزمة السورية.

خاتمة

مثلما أدى تدخل روسيا في سوريا عام 2015 إلى تغير خارطة السيطرة والنفوذ بين الفاعلين المحليين، يبدو أن تدخلها في أوكرانيا قد ينعكس على قواعد الاشتباك التي فرضتها في سوريا منذ 7 سنوات. إن انهيار نظام وقف إطلاق النار في شمال أو جنوب سوريا أو كليهما والعودة إلى تصعيد النزاع مرتبط بسياق تغير مواقف وسياسات الولايات المتحدة وروسيا وإيران وإسرائيل وتركيا. وهو سياق تحكمه المباحثات الثنائية أو المتعددة بين الفاعلين الدوليين والإقليميين.

ومع أن أسباب عودة التصعيد في سوريا قائمة بقوة إلا أن فرص الحفاظ على الوضع الراهن وتعزيز الاستقرار الهش تبدو أكثر، لاسيما في حال قررت الولايات المتحدة عدم نقل المواجهة مع روسيا من أوكرانيا إلى سوريا، غير أن ذلك لا يكفي للحيلولة دون تنفيذ تركيا عملية عسكرية جديدة في شمال البلاد. وحتى في حال إصرار تركيا على تنفيذ عملية في محافظة حلب ضمن منطقتي تل رفعت ومنبج أو إحداهما، فإن ذلك لا يعدم فرص الحفاظ على الوضع القائم في بقية خطوط التماس شرق الفرات، وبالتالي إمكانية التعاون بين أنقرة وواشنطن لتعزيز الاستقرار الهش بعد التغير المحدود الذي قد يطرأ على خريطة السيطرة والنفوذ في سوريا.

نبذة عن الكاتب

عبد الوهاب عاصي

باحث رئيسي في مركز جسور للدراسات، مختص في الشأن السوري، تُغطي اهتماماته البحثية سياسات وتفاعلات القوى المحلية والدولية في سوريا. له مساهمات وبحوث عدة، منها: “تنظيم داعش في سوريا: عودة الظهور والمستقبل المتوقع”، و”تحولات المواقف العربية والإقليمية إزاء النزاع في سوريا”، و”مُستقبَل القوات الأجنبية في سوريا”، و”نماذج اندماج فصائل المعارضة المسلحة مع القوات الرسمية في سوريا”.

مراجع

    “خريطة السيطرة العسكرية في سورية نهاية 2021 وبداية 2022″، مركز جسور للدراسات، 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول: 5 يوليو/تموز 2022)، https://cutt.us/LTbe0.

    “مقايضات سهلت تمديد قرار عبور المساعدات عبر الحدود في سوريا”، عنب بلدي، 16 يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/HvjXZ.

    “لافروف: لم يتبق عمليًّا أي مهام عسكرية لقواتنا في سوريا وإنما ضمان الاستقرار والأمن”، روسيا اليوم، 26 مايو/أيار 2022، (تاريخ الدخول: 9 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/zqimR.

    “نص الإعلان التركي الروسي المشترك عقب قمة أردوغان-بوتين (وثيقة)،” وكالة الأناضول، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تاريخ الدخول: 4 يوليو/تموز 2022)، https://cutt.us/7M10b.

    مقابلة عبر الهاتف مع قائد عسكري في الجيش الوطني السوري، 21 يونيو/حزيران 2022.

    مصدر سابق، مقابلة مع قائد عسكري في الجيش الوطني السوري.

    “ارتفاع كبير في معدل الدوريات المشتركة التركية والروسية في سورية.. ما الدلالة؟​”، مركز جسور للدراسات، 30 يونيو/حزيران 2022، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2022)، https://cutt.us/6hepc

    “بعد 3 أعوام من انسحابها.. أميركا بصدد العودة إلى قاعدة في عين العرب​”، تليفزيون سوريا، 10 يونيو/حزيران 2022، (تاريخ الدخول: 5 يوليو/تموز 2022)، https://cutt.us/3mD9Z.

    “حصار متبادل في الشيخ مقصود والقامشلي بين قسد والنظام السوري.. الأسباب والسيناريوهات”، مركز جسور للدراسات، 12 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 5 يوليو/تموز 2022): https://cutt.us/hlRg1

    “مصادر لـ RT: حل مرتقب للتوتر في القامشلي و”الشيخ مقصود” بسوريا بوساطة روسية”، روسيا اليوم، 14 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/fTWnY.

    تامر الصمادي، “ما علاقة ماهر الأسد والميليشيات المسلحة؟.. تفاصيل مواجهة أردنية سورية مكتومة عنوانها تهريب السلاح والمخدرات”، الجزيرة نت، 23 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 5 يوليو/تموز 2022)، https://cutt.us/CtD3c.

    ”Iran official says Iran won’t replace Russia in Syria,” Jerusalem Post, Jun 5, 2022, “accessed June 23, 2022” https://cutt.us/ucSf9.

    “مؤشرات على تراجُع التنسيق الروسي الإسرائيلي في سورية”، مركز جسور للدراسات، 24 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/3nSi7.

    “إحاطة المبعوث الدولي لسوريا غير بيدرسون إلى مجلس الأمن”، مكتب المبعوث الخاص للأمين العام في سوريا، 24 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/o12Qo.

    “إحاطة المبعوث الدولي لسوريا غير بيدرسون إلى مجلس الأمن”، مكتب المبعوث الخاص للأمين العام في سوريا، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2021، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/rhXh0.

    “إحاطة المبعوث الدولي لسوريا غير بيدرسون إلى مجلس الأمن”، مكتب المبعوث الخاص للأمين العام في سوريا، 26 يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/MQxrM.

    ”Joint Statement of the Syria Special Envoy Meeting,” U.S. Department of State, Mar 3, 2022, “accessed June 17, 2022”. https://cutt.us/jNteh.

    ”Authorizing Activities in Certain Economic Sectors in Non-Regime Held Areas of Northeast and Northwest Syria,” OFFICE OF FOREIGN ASSETS CONTROL, May 5, 2022, “accessed June 13, 2022”. https://cutt.us/y7nz2.

    “أردوغان: أكثر من مليون سوري مستعدون للعودة الطوعية”، وكالة الأناضول، 9 مايو/أيار 2022، (تاريخ الدخول: 4 يوليو/تموز 2022)، https://cutt.us/ftY86

    Ibid, ”Joint Statement of the Syria Special Envoy Meeting,”.

    “زيارة أمير عبد اللهيان إلى أنقرة ودمشق والمعارضة الصريحة لعمل عسكري تركي محتمل في المنطقة”، وكالة فارس للأنباء، 3 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 3 يوليو/تموز 2022)، https://cutt.us/3zpoc.

    شفيق شقير، “لبنان في مواجهة تحدي منصة الغاز الإسرائيلية “كاريش”،، مركز الجزيرة للدراسات”، 7 يونيو/حزيران 2022، (تاريخ الدخول: 5 يوليو/تموز 2022)، https://cutt.us/nr4Mh.

    “برخی روسای جمهور سعی می‌کنند مجلس را از رأس امور بیندازند،” اعتماد آنلاین، 8 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/Y5hWE.

    “ترکیه ۳۰ درصد اقتصاد سوریه را گرفته، ایران ۳ درصد!،” ایسنا، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2022)، https://cutt.us/PEDUC.

    ”A Path to Conflict Transformation in Syria A Framework for a Phased Approach,” The Carter Center, Jan, 2021, “accessed July 1, 2022”. https://cutt.us/AnKRt.

    Charles Lister,” Freeze and Build: A Strategic Approach to Syria Policy,” Middle East Institute, Mar 14, 2022, “accessed June 30, 2022”. https://cutt.us/25vfS.

———————————–

==================

تحديث 15 تموز 2022

—————————

خيوط تجمعنا من سوريا إلى أوكرانيا

في منتصف شهر نيسان (أبريل) الماضي، قامت المؤسستان البريطانيتان وور أون وونت المهتمة بالكفاح السياسي ضد الفقر وتيبينغ بوينت العاملة في مجال العدالة المناخية، بالتعاون مع هونته هنته البورتوريكية المناهضة للرأسمالية وبودكاست فاير ذيز تايمز الذي يقدّمه الكاتب والناشط اللبناني جوي أيوب، باستضافة محادثة متعددة اللغات عبر الإنترنت جمعت مجموعة من قادة الرأي في سوريا وأوكرانيا للحديث عن تداعيات الحرب الروسية الحالية.

شارك في المحادثة الكاتب السوري والسجين السياسي السابق ياسين الحاج صالح، وهو زوج سميرة الخليل التي اختطفها جيش الإسلام في كانون الأول (ديسمبر) 2013. والناشطة والصحفية السورية والناجية من الاعتقال وفا مصطفى، التي غادرت بلادها يوم 9 تموز (يوليو) 2013، بعد أسبوع بالضبط من إخفاء النظام السوري لوالدها قسرياً في دمشق. ويوليا يورتشنكو، الباحثة الأوكرانية والمحاضرة في مجال الاقتصاد السياسي. والمؤرخ الأوكراني تاراس بيلوس، الناشط في منظمة الحركة الاجتماعية. أدار هذا الحوار جوي أيوب. وقد تحدَّثَ ثلاثة من الضيوف بالانكليزية، فيما تحدث تاراس بيلوس بالأوكرانية، لكن الحوار كلّه كان مترافقاً مع ترجمة فورية إلى اللغات الإنكليزية والأوكرانية والروسية والإسبانية والعربية.

تقاطعات وتباينات

ثمة تبيانات عديدة بين الحكايتين السورية والأوكرانية، غير أن هناك خيوطاً عديدة تربطهما بصرف النظر عن الوقائع السياسية المباشرة والمآلات المحتملة للصراع في البلدين، كما أن هناك جسوراً يمكن بناؤها على طريق الكفاح من أجل عالم أفضل. وقد تناول الحوار هذه الجوانب تباعاً، على نحو يشرح مقدار التشابك بين سائر قضايا عالم اليوم.

عن الصراع في سوريا، شرح ياسين الحاج صالح المسار الذي سلكته الأحداث مبيناً كيف واجه النظامُ المظاهرات بالحرب منذ اللحظة الأولى، وكيف تحولت المواجهة بين النظام ومعارضيه من صراع سوري-سوري إلى صراع دولي تشارك فيه دول عديدة بشكل مباشر، وكيف تسبَّبَ كل هذا بعدد هائل من الضحايا ونزوح ملايين السوريين إلى 127 دولة في العالم: «لدينا إذاً خمس دول داخل سوريا، وسوريون في كل مكان في العالم. لا أعتقد أن العالم شهد مثالاً مشابهاً… يقول كثيرون إن الوضع في سوريا مُعقَّد، وهذا صحيح. ولكنه، في الوقت نفسه، قابل للتحليل، والنقطة الأهم لتحليله هي الحديث عن مُعقِّداته (العناصر والجهات التي تجعله معقداً). حين تُرتَكب مجزرة مروعة بالسلاح الكيماوي، وعوضاً عن معاقبة المجرم، يُطبَّق القانون الدولي بشكل مثير للسخرية، يصبح الوضع معقداً حقاً».

وفي سياق شرح الأوضاع الراهنة في سوريا أيضاً، قالت وفا مصطفى إن جهات عدّة قدّمت تقديرات لأعداد الضحايا: «سمعنا العديد من الأرقام، بعضها وصل إلى مليون قتيل في سوريا. وهذا من أصعب ما في المأساة السورية: لا أحد يعرف حقاً». وتحدثت أيضاً عن الأوضاع الإنسانية والكارثية في سوريا اليوم، وعن الآلام الرهيبة التي يتسبب بها الاختفاء القسري: «أخفى نظام الأسد والدي قسرياً منذ 8 سنوات و9 أشهر و12 يوماً. لا نعلم إنْ كان على قيد الحياة أم لا. هذا ما يعنيه الاختفاء القسري في سوريا: لا مكالمات هاتفية ولا رسائل ولا أي شكل من الاتصال. يتعرض أفراد العائلات التي في ظرف كظرف عائلتي لتعذيب النظام، فهم يمضون أيامهم وهم يتساءلون ما إذا كان أحباؤهم على قيد الحياة أم لا».

بشأن أوكرانيا، تحدثت يوليا يورتشنكو عن «التشابهات المخيفة» بين ما يجري في سوريا وما يجري في بلدها: «ناسٌ يرزحون تحت معاناة قاسية، دمار المدن، اختطاف، تعذيب، قتل، وفوق ذلك كله، حين نبحث عن تلبية الاحتياجات الإنسانية والعسكرية الملحة للبلاد، نضطر إلى مصارعة من يُشكّكون فيما يحدث في البلاد. ولا أتحدث هنا عن بروباغاندا الكرملين وحدها، بل عمّن يسمّون أنفسهم اليسار الغربي أيضاً، أو أياً تكن الأسماء التي يختارونها لأنفسهم… نسمع كثيراً أنه صراع بين قوى إمبريالية، وأن القوى الكبرى تتصارع فيما بينها، وأن أرضنا وشعبنا مجرد بيادق بأيديهم. نعم، هذا واضح جداً. ولكن القصة أعقد من ذلك. أين الأفراد؟ أين إرادتهم ورؤيتهم؟ أين هي قصصهم؟ أين هي رغباتهم وأحلامهم».

هذا إذاً جانبٌ من التشابه بين القضيتين، إذ ينكر كثيرون المعاناة الهائلة التي تتسبب بها روسيا في البلدين، ويمتنعون عن دعم الكفاح ضد روسيا تحت غطاء من خطاب العداء للإمبريالية، ويعطون شرعية لخطاب الكرملين. وقد تحدثت يوليا يورتشنكو عن البروباغندا الروسية لتبرير غزو أوكرانيا، مبينةً أن المخاوف الروسية المزعومة هي مخاوف فقدان السيطرة على الاقتصاد الأوكراني وموانئ البحر الأسود في سمفربول وسيفاستوبول، و«هذه مخاوف إمبريالية، وليست محاولة تغيير وصفها إلا سُخفاً». تقول أيضاً إنّ «علينا القيام بمهمة صعبة جداً، وهي مواجهة هذه السرديات غير المنطقية، وتبيان أن القصة أعقد من ذلك. لا يصح أن تؤدي المواقف المعادية للولايات المتحدة أو لحلف الناتو إلى تبرير حرمان الأوكرانيين من سلاح يدافعون به عن أنفسهم، أو حرمان السوريين من السلاح نفسه. ليس في هذا أي منطق. حدث أن نقابات عمالية في اليونان وإيطاليا رفضت تحميل السفن بالسلاح لأنها متجهة إلى أوكرانيا، وتم التباهي بذلك على أنه فعلٌ بطولي لأنهم غامروا بوظائفهم. فليكن! فليحافظوا على عملهم. لا نريد دعم مثل هؤلاء».

وعن مزيد من التشابهات بين الحكايتين السورية والأوكرانية، قال تاراس بيلوس: «في حالتنا، بدأ الأمر بثورة ميدان عام 2014، التي شكّلت جزءاً من الاحتجاجات الشعبية حول العالم، مثل الربيع العربي والثورة السورية. ولكننا كنا أكثر حظاً، لأن ثورة ميدان انتصرت، وعلى عكس الحال في سوريا، سقط نظام يانوكوفيتش. ولكننا وُوجِهنا بعد ذلك مباشرة بالعدوان الروسي. أتذكّر أننا كنا نخشى أن تصل الدبّابات الروسية إلى كييف، ولكن، لحسن الحظ، اكتفت روسيا حينها بضمّ القِرَم وغزو دونباس، ومعظم المناطق الأوكرانية الموالية لروسيا… خلال هذه السنوات، رأينا الفظائع في سوريا، وخشيتُ في فترات معينة أن يحدث ذلك لنا. ولكنني ظننت أيضاً أن الحرب الشاملة لا يمكن أن تندلع إلا إذا عصفت بأوكرانيا أزمة سياسية خطيرة، أو إذا اندلعت ثورة ميدان ثالثة (وكان كثيرون يتحدثون عن ذلك) يمكن لروسيا أن تستغلها. ولكنني كنتُ مخطئاً تماماً».

يؤكد ياسين الحاج صالح على وجود تشابهات: «ما يذهلني أكثر من أي شيء آخر، هو قدرة الروس على الكذب، ومحاولة إقناع العالم بأسره بكذبهم، بأن السلاح الكيماوي لم يُستَخدم قط في سوريا، وبعدم وجود ضحايا من المدنيين، وبأن السوريين جميعاً إرهابيون، كما يصفون الجميع في أوكرانيا اليوم بأنهم نازيون»، وعدا عن ذلك، «ثمة شعور بأن القضية واحدة… هدف روسيا هو سحق الديمقراطية في أوكرانيا ومنعها في سوريا». إلا أن الاختلاف الرئيسي بحسب الحاج صالح هو أن «الولايات المتحدة، في أوكرانيا، تقف ضد روسيا. (أما) في سوريا، لطالما كانت الولايات المتحدة روسيا أخرى. لم يلقَ التدخل الروسي إدانةً من الولايات المتحدة، أو أي من القوى الأوروبية. وهذا مصدر إضافي للتعقيد في سوريا، لأن القوى الديمقراطية لم تكن ديمقراطية مطلقاً في سوريا أو في الشرق الأوسط بشكل عام. هذه قصة طويلة، قصة طويلة وقبيحة ومزعجة ويصعب سماعها».

في هذا الشأن قالت يوليا يورتشنكو إن إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا أقدموا مراراً على انتهاك القانون الدولي، بحيث أنهم عجزوا عن الاعتراض على أفعال بوتين: «على أي أساس يمكن لهذه الدول أن تعترض؟ يمكنه الآن أن يجلس في مجلس الأمن بابتسامة صفراء ويقول: لم نفعل ما لم تفعلوه أنتم قبلنا، وهو محق في ذلك. لا يبرر هذا ما تفعله روسيا. ولكن المنظومة معطلة منذ زمن بعيد، وهي تعيد إنتاج الهَرَميات السلطوية في النظام الدولي منذ تأسيسها، وذلك لأسباب بنيوية». وقال تاراس بيلوس: «ستتردد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على الأرجح في دعم محاكمة بوتين ومجرمي الحرب الروس دولياً، لأن محكمة كهذه يمكن أن تحاكم المسؤولين في هذه الدول أيضاً عن الجرائم التي ارتكبوها. رأينا روسيا تستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن، وأنا واثق من الولايات المتحدة لا ترغب في تغيير منظومة الفيتو لأنها هي أيضاً تستخدم حق الفيتو، وتريد أن تحتفظ بهذا الحق». لكن رغم ذلك، يرى بيلوس أنّ «أمامنا فرصة حقيقية لإصلاح الأمم المتحدة، مثلاً، ولفعل شيء بشأن الدول التي لها حق الفيتو في مجلس الأمن. ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى ضغط دولي».

القضايا المتشابكة

قالت وفا مصطفى إن «عدم الوقوف في وجه روسيا عام 2015، وعدم الوقوف في وجه نظام الأسد، كان رسالة واضحة لبوتين والأنظمة الديكتاتورية حول العالم: من فضلكم، افعلوا ما تشاؤون، اقصفوا مواطنيكم، استخدموا السلاح الكيميائي ضدهم، اقتلوهم، اعتقلوهم، حاصروهم، لا بأس في ذلك. ستظلون رؤساء وسنرحب بكم… هذا يزيدني غضباً. ولكنني لهذا السبب ازددتُ إصراراً أيضاً. أعتقد أن معركتنا حول العالم واحدة. يقول لي البعض إن الصراع من أجل الحرية فكرة رومانسية. للأسف، أثبتت أوكرانيا أنها ليست رومانسية، بل عملية وواقعية. ما كنا لنرى ما نراه في أوكرانيا اليوم لو أن روسيا أوقِفت عند حدها قبل بضع سنوات».

وقال تاراس بيلوس إن «ثورة ميدان في أوكرانيا والثورة السورية كانا جزءاً من موجة الاحتجاجات الشعبية نفسها حول العالم. المهمة في أوكرانيا كانت، بأشكال متعددة، أبسط من المهمة التي واجهها السوريون. بشكل أو بآخر، كان الدرس السوري هو لمحة مما كان يمكن أن يحدث لنا لو فشلنا، لو لم يسقط نظام يانوكوفيتش، الذي هرب، ولو دعمته روسيا علناً كما دعمت الأسد، لو حاولوا إعادة يانوكوفيتش إلى السلطة. هذا هو الدرس الذي تلقيناه. أصيب كثير من الأوكرانيين بعد ثورة ميدان عام 2014 بخيبة أمل من إنجازاتها. فقد شعروا بأن تطلعاتهم التي خرجوا من أجلها، وخاضوا صراعهم ضد يانوكوفيتش من أجلها، تعرضت للخيانة ولم تتحقق. ولكنني أعتقد أن المقارنة يجب أن تتم لا مع الوضع في أوكرانيا قبل الثورة، بل مع احتمالات ما كان يمكن أن يكون».

تحدَّثَ بيلوس أيضاً عن البروباغندا الروسية التي تحاول تصوير السوريين جميعاً على أنهم إرهابيون، والأوكرانيين جميعاً على أنهم نازيون. لكنه يقول بالمقابل إنه في البلدين «شاركت قوى لا يسرّنا وجودها في الاحتجاجات. فيوجد في أوكرانيا فعلاً يمين متطرف، ويوجد في سوريا جهاديون. ولكن ما علينا إدراكه هو أن روسيا تستغل الفرصة دائماً لتزيد من حجم هذه القوى وتركز عليها، وتقول إن الجميع ينتمي إليها، وبمجرد وجود مشارك واحد من هذه القوى، يوصَف الجميع بأنهم مثله».

بناء على كل الوقائع والآراء التي ذكرها الضيوف، سألَ جوي أيوب عن إمكانيات التعاون في المستقبل، وعن هذا قالت يوليا يورتشينكو: «علينا أن ننظر إلى التقاطعية والعمل متعدد الاختصاصات كما يجب. عندما ننظر إلى السياسات التي تتبعها القوى الاستعمارية والإمبريالية، القائمة على قناعة بأن من حقها أن تفعل ما تريد، نجدها مشابهة لحالات العنف المنزلي من الناحية النفسية. فهذه حرب نفسية، قائمة على تحقير الآخر وكسر روحه المعنوية ولوم الضحية. رأينا ذلك في سوريا، ونراه مراراً في أوكرانيا. حسب الرواية الروسية، الأوكرانيون هم من أجبروا الروس على مهاجمة بلادهم وقصف مدنهم. إنها علاقة تعنيف… أدركُ أيضاً أن هذا صراع وجودي. إذا لم نُخرِج جيش بوتين، فلسوف تستمر الحرب والمعاناة. أتفق معك يا وفا، لقد أصبتِ عين الحقيقة بما قلتِ: لو أوقِف جيش بوتين عام 2014، لما كنا نتحدث عن الحرب الآن، لأنها لم تكن لتحدث».

يعتبر تاراس بيلوس أن أكبر مساعدة يمكن للأوكرانيين تقديمها للسوريين اليوم هي الانتصار في هذه الحرب، لأن «من شأن هذا أن يغير الوضع الدولي ويمنح فرصة لشيء من التغيير في سوريا. في الوقت نفسه، يتمثل دورنا الآن، في الوقت الذي يتركز فيه الاهتمام على أوكرانيا على المستوى الدولي، في تعزيز ورفع أصوات السوريين، وتذكير العالم بما يجري هناك في كل فرصة». وتقول وفا مصطفى إن التواصل بين الأوكرانيين والسوريين الأمر ليس مهماً فحسب، بل« إنه الخيار الوحيد المتاح أمامنا، أن نتواصل ليدعم بعضنا بعضاً… آمل ألا يبدو ما سأقوله تشاؤماً، ولكنني إذا تعلمتُ درساً واحداً خلال أحد عشر عاماً، فهو أن النضال طويل. وصلتُ إلى تقبّل فكرة أنني لن أرى سوريا دولةً حرةً وديمقراطية. وقد لا يراها الجيل المقبل كذلك. فليكن، لأنني أعلم أننا نقاتل الوحشية والإجرام… وجودنا هنا اليوم معاً هو من الوسائل الممكنة ليعرف كل منا بما يجري، ولنحارب ضد السرديات المختلقة… معركة الحقيقة مستمرة، وأقل ما يمكننا فعله هو الوقوف في وجه البروباغاندا ورواية الحقيقة المخالفة لسرديات روسيا وغيرها من الدكتاتوريات».

يؤكد ياسين الحاج صالح على ما قاله تاراس بيلوس بشأن ضرورة انتصار الأوكرانيين: «أرجوكم انتصروا في هذه الحرب. سيساعدنا ذلك. قبل كل شيء، سيكون من مصلحتكم الانتصار في الحرب. وسيكون من مصلحة روسيا أيضاً. هناك العديد من الشجعان والشرفاء المناهضين لبوتين ونظامه، وآلة الحرب والأكاذيب والبروباغاندا الروسية. وستكون هزيمة نظام بوتين من مصلحتهم… كلما ازددنا تعارفاً ولقاءً، اتسع الفضاء الذي نتقاسمه… أقرأ اليوم عن السوريين الذين ذهبوا إلى أوكرانيا في حافلة، وأخذوا معهم بعض الطعام والدواء، واصطحبوا معهم لاجئين. هذا نشاط رائع، ومفيد جداً. صحيح أنه نشاط رمزي، ولكننا بحاجة إلى هذه الأنشطة، وإلى مواصلة اللقاء والحديث والإصغاء».

*****

قام فريق دوكستريم بترجمة الحوار كاملاً إلى العربية، ويمكن مشاهدته مع الترجمة على هذا الرابط:

موقع الجمهورية

———————————-

ما الأولوية الروسية في سوريا اليوم؟

موسكو: رائد جبر

أثار الإعلان قبل أيام، عن عزم موسكو توسيع قائمة المطارات الروسية التي سيتم ربطها بالمطارات السورية، تساؤلات حول دلالات الخطوة في ظل تداعيات الحصار الغربي المفروض على روسيا، والتوقعات المرتبطة بتفاقم الموقف بين موسكو وواشنطن على الأرض السورية، فضلاً عن المشكلة الأبرز في هذا الصدد، المتعلقة بتصاعد عمليات الاستهداف الإسرائيلي للمطارات السورية، خصوصاً مطار دمشق الذي كان خرج عن الخدمة لأسابيع الشهر الماضي بعد تعرضه لهجوم إسرائيلي واسع دمر جزءاً من مدرجاته.

ونقلت مصادر روسية أنه من المنتظر البدء بفتح خط للنقل الجوي بين داغستان وسوريا منتصف الشهر يوليو (تموز) الحالي.

وقالت الممثلية التجارية الروسية في سوريا إن «توسيع شبكات الربط الجوي بين روسيا وسوريا جاء تلبية للحاجة التي فرضها تطور العلاقات الشاملة بين روسيا الاتحادية وسوريا في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية، وازدياد حجم التبادل التجاري بين الدولتين بحدود 3 – 5 أضعاف في عام 2021 عن سابقه».

وأفادت شبكة «سبوتنيك» الحكومية بأن تشغيل الرحلات الجوية سيتم وفقاً لبرنامج مبدئي يتضمن من رحلة إلى رحلتين أسبوعياً، على متن طائرات من طراز (ياك 42) التابعة لشركة الطيران الروسية «كوسموس». ونقلت عن الممثل التجاري لروسيا الاتحادية في دمشق جورج أساتريان قوله إن الخط الجوي الجديد سيسهم في إطلاق عدد من البرامج السياحية الجديدة بين الدولتين، وتفعيل زيارات الحج الدينية إلى سوريا، مبيناً أن الخطط الموضوعة تنطوي على برامج زمنية لتوسيع قائمة المطارات الروسية التي سيتم ربطها عن طريق الرحلات الجوية المباشرة مع سوريا.

ومع البرامج السياحية، قالت مصادر روسية لـ«الشرق الأوسط» إن هدف تعزيز مجالات تبادل البضائع وحركة رجال الأعمال بين سوريا والأقاليم الروسية يشكل أولوية حالياً، في إطار البحث الروسي الدائم عن بدائل مناسبة بعد إغلاق أوروبا وجزء كبير من بلدان العالم أجواءها أمام حركة الطيران الروسي. وأصاب هذا التطور قطاع السياحة الخارجية في روسيا بنوع من الشلل، فضلاً عن تأثيراته على حركة البضائع.

في هذا الإطار، كانت الخارجية الروسية أصدرت رزمة من التعليمات الإرشادية للروس حددت فيها البلدان «الآمنة» للمواطنين الروس، التي ضمت عدداً من البلدان «الصديقة» في أوروبا والشرق الأوسط والقارة الآسيوية.

لكن اسم سوريا لم يرد على تلك اللائحة، مما أثار تكهنات عندما تم الإعلان قبل نحو أسبوعين، عن «خطة واسعة النطاق لإطلاق برامج للتبادل السياحي روسيا وسوريا».

وكان السفير السوري في موسكو رياض حداد أشار الشهر الماضي إلى هذه النقطة عندما قال إن روسيا وسوريا تعملان بنشاط على تنظيم التدفق السياحي بين البلدين في إطار التعاون الاقتصادي الثنائي.

وفي إشارة إلى الدول الغربية المدرجة على لائحة «البلدان غير الصديقة»، قال السفير إن الشعب السوري «مستعد لاستقبال الأصدقاء الروس بأذرع مفتوحة، كون العلاقات الممتازة بين بلدينا لا تقتصر على المستوى السياسي».

ولا شك أن توسيع شبكة الربط الجوي بين المطارات الروسية والسورية يلعب دوراً أساسياً في تنشيط المسار السياحي وعمليات النقل التجاري. خصوصاً في إطار تسيير الرحلات من الأقاليم الروسية المختلفة مباشرة وليس عبر المرور بموسكو، مثلما هي الحال مع تركيا مثلاً التي تعد شريكاً سياحياً وتجارياً مهماً لروسيا.

ومع الخطط الطموحة لروسيا في هذا الشأن، فإن آراء الخبراء عززت هذا التوجه وفقاً لجورجي ليونتييف، خبير السياحة في الشرق الأوسط، والذي عمل سابقاً في مكاتب السياحة في عمان والأردن، ويتعاون حالياً، مع إحدى الشركات السورية المضيفة، وهو قال إن «التدفق السياحي إلى سوريا موجود وهو يتعافى تدريجياً منذ عدة سنوات، مع انقطاع دام نحو عام و4 أشهر خلال الوباء. الآن يأتي السياح من أوروبا الغربية والدول المجاورة بنشاط كبير إلى سوريا».

تشير معطيات شبكات روسية متخصصة في المجال السياحي إلى وجود بنى تحتية جاهزة لذلك، ومع الخطوط الجوية الحكومية السورية تقوم شركة أجنحة الشام الخاصة بتسيير رحلات إلى روسيا، وثمة إقبال لا بأس به على الرحلات الجوية عبر بيروت، مما يعني أن فتح خطوط ربط جديدة مع الأقاليم الروسية سوف يعزز أكثر هذا المسار.

يروج خبراء السياحة الروس لمقولة أن «جميع المعالم السياحية الرئيسية في سوريا باتت مفتوحة للسياح، بما في ذلك حتى تدمر، حيث تم بالفعل إنشاء حياة سلمية. وحلب، ثاني أكبر مدينة في البلاد، قلعة الحصن، الأديرة المسيحية الشهيرة، وكذلك مدينة بصرى القديمة في جنوب البلاد».

في الوقت ذاته، يبرز التأكيد على أن مستوى الأمن في البلاد قد ارتفع بشكل كبير، مقارنة بعام 2019. وأنه تم تقليص القيود وتقليل عدد حواجز الطرق بشكل كبير. والأهم من ذلك أن الدعاية السياحية لا تهمل عنصر التحفيز والتسويق في إطار البحث عن المغامرين الساعين إلى زيارة البلد الذي أحرقته الحروب و«أنقذته روسيا».

لكن هذه الإشارات تواجهها مشكلات جدية. ومع التركيز على فكرة السياحة إلى «بلد صديق» كبديل عن «الغرب المعادي» لا يمكن لشركات الترويج تجاهل أن السياحة المستقلة في البلاد محظورة بالفعل. إذ لا تستطيع أفواج السياح المنتظرين التنقل بين المدن من دون أن تكون مصحوبة بمرشدين مدربين وبدعم أمني.

لذلك يقول خبراء إنه في الوقت الحالي، هناك حاجة إلى دعم مستمر من الشركات المضيفة المحلية التي تعتمدها الدولة. وحالياً وفقاً لتقديرات مجلات روسية متخصصة هناك نحو ثماني منظمات من هذا القبيل في سوريا.

بالإضافة إلى ذلك، لا يزال هناك نقص خطير في المرشدين في سوريا، وخاصة الناطقين بالروسية.

كما أن روسيا تواجه مهمة صعبة أخرى تتمثل في تطوير قاعدة فندقية وخدمية في سوريا التي أصابت الحرب بناها الفندقية بضرر كبير.

وقال أحد الخبراء إن «سوريا لديها فنادق عالية الجودة وذات مستوى جيد، ولكن جميعها مطلوبة بشدة، وببساطة لن يكون هناك ما يكفي منها للسياحة الجماعية. بالنسبة للغالبية المتبقية من المنشآت الفندقية، فإن السياح الروس لن يكونوا راضين عن مستواها وجودتها. ولا يتعلق الأمر بالخدمة فقط. على سبيل المثال، نادراً ما يتوفر الإنترنت على مدار 24 ساعة في أي مكان، ولا تزال الكهرباء مقطوعة في بعض الأماكن».

المثير أن كل «المشكلات» التي يتحدث عنها الخبراء الروس لا تتعرض للوضع الأمني إلا بشكل محدود، ولا يتحدث كثيرون عن عمليات قصف البنى التحتية بما فيها المطارات.

وبالعكس من ذلك، يتم إبراز القدرات الاستثمارية الكبرى في المجال السياحي. وتم التركيز أخيراً، على أكثر من مشروع ضخم تقوم الحكومة الروسية أو قطاع رجال الأعمال والإسهام فيه بشكل مباشر أو غير مباشر.

وأخيراً، تم الإعلان عن أن شركة «سينارا إنت» الروسية وقعت عقداً استثمارياً لبناء مجمع سياحي في منطقة «جول جمال» على شواطئ مدينة اللاذقية، شمال غربي سوريا.

وينص العقد على استثمار الموقع السياحي المهم لبناء مجمع ضخم بكلفة بلغت 5 مليارات ليرة سورية، أي نحو (28 مليون دولار). وينتظر أن يضم المنتجع الذي يشكل باكورة هذا التوجه الاستثماري الروسي في قطاع السياحة 350 غرفة مع عدد كبير من الشاليهات إضافة إلى مسابح صيفية وشتوية ومطاعم وأنشطة سياحية تسهم بتنشيط السياحة في اللاذقية صيفاً وشتاء، على أن تقوم شركة روسية متخصصة بإدارة المنتجع.

ومع انطلاق نشاطها في سوريا، قالت «سينارا إنت» إنها تسعى لتدشين مرحلة جديدة تضع سوريا على قائمة الوجهات الرئيسية التي يمكن للسياح الروس اختيارها.

—————————-

الركوع أو الجوع.. من بشار الأسد إلى بوتين/ بسام يوسف

في شهر آب عام 2011م، وبعد شهرين من الحصار، اقتحم الجيش الأسدي حي الرمل الجنوبي في اللاذقية، وبعد انتهاء أعمال التفتيش والاعتقال والقتل، أُعلن عن خروج الجيش من الحي، يومها، وبعد مضي أقل من ساعة على خروج الجيش، اتصل بي صديق كان منزله في هذا الحي، ويعمل سائق سيارة أجرة، واضطر للخروج منه مع عائلته بعد أيام من بدء الحصار، كان متردداً ومرتبكاً، وهو يطلب مني أن أرافقه ليرى ماذا حل بمنزله، أدركت على الفور سبب اختياره لي، فهو يريد معرفة ما حل بمنزله، لكنه يخشى الذهاب بمفرده، ويعتقد أن منبتي الطائفي قد يحميه، وربما يساعده في تجاوز الحواجز والتعقيدات التي قد تصادفه، فوافقت على الفور.

ما إن عبرنا الحاجز الأول عند محطة القطار، وراحت السيارة تنحدر باتجاه البحر، حتى بدأت مظاهر الحي الخارج لتوه من عملية اقتحام عسكرية تخبرنا عن حجم الخراب الحاصل، على مدخل الحي كانت تستقر دبابة توجه فوهة مدفعها باتجاه البيوت الخالية، ومن فتحة برجها المفتوحة ظهر جندي بخوذته العسكرية، وبجانبها جلس جنديان آخران على كرسيين.

كان الخوف يملأ المكان، فالشوارع الضيقة خالية تماماً من البشر، شوارع بلا أرصفة، وعلى جانبيها تراكمت أكوام الزجاج المحطم، والألواح الخشبية المبعثرة، وركام حجارة وإسمنت تساقط من شرفات أو جدران الأبنية المجاورة.

كانت السيارة تمشي ببطء، وكنا مسكونين بالرعب، ومذهولين ومفجوعين وصامتين، جدران مثقبة بالرصاص وأبواب ونوافذ محطمة، وصمت عميق، رغم أن الوقت كان بعد الظهر.

توقف صديقي أمام بناء من أربع طبقات، ثم قال بصوت منخفض: هنا بيتي، في الطابق الثالث.

تركت صديقي يصعد إلى بيته، ورحت أتفحص الطوابق السفلى، كانت أبواب الشقق محطمة، ويمكن لمن يشاء دخولها، وفي الشقتين اللتين دخلتهما، فوجئت واستغربت ما رأيته بداخلهما.

 كان عناصر النظام وشبيحته الذين اقتحموا الحي، قد رموا كل ما تحتويه البيوت التي دخلوها من مواد غذائية على الأرض، منظر المؤن المهدورة والمسفوحة، زيت، وزيتون، وبرغل، ورز، وحمص، ومكدوس، وعدس وكل ما اعتاد السوريون على تخزينه كمؤونة، كلّه مرمي على الأرض، وآثار أحذية ترتسم واضحة في كل أنحاء الشقة، بعد قليل سأنتبه إلى البرادات التي تشوّهت سطوحها بثقوب الرصاص، وإلى الخزائن والأسرّة المحطمة، وإلى النوافذ المحطمة.

كنتُ عاجزاً عن تفسير ما رأيت، وكان السؤال الذي يصفعني في كل زاوية: لماذا؟

لماذا أهدروا مؤونة البيوت، لماذا رشقوا البرادات والغسالات وكل الأجهزة الكهربائية بالرصاص، لماذا حطموا النوافذ، والأبواب؟؟!!

يومها كانت الثورة في بداياتها، ولم يكن أحد يفكر أن النظام يريد أكثر من قمع الثورة، وإعادة السوريين إلى بيت الطاعة، لكن فيما بعد وعندما بدأت تصل تفاصيل ما يحصل في كل المناطق التي تظاهرت، ستجد نفسك مضطراً للبحث عن أجوبة جديدة لما كنت تظنه واضحاً، سأسمع فيما بعد عن حصار درعا، وحصار مضايا التي تحدثت تقارير دولية أنه بعد ستة أشهر من حصار جيش النظام وحلفائه كميليشيا حزب الله، اضطر أهلها لأكل العشب والقطط من أجل البقاء على قيد الحياة، ثم حصار بانياس، وداريا، والغوطة، ثم حمص، والوعر ومخيم اليرموك و..و…

في تفاصيل كل الحصارات سنسمع قصصاً فاجعة، كنا نعتقد أن البشرية لن تعرفها إلا في الذاكرة، ولن تشهدها في تاريخها المعاصر، وسنعرف حينذاك أن النظام ومن معه إنّما يريدون ما هو أبعد من إركاع السوريين، وإخضاعهم، إنهم يريدون أن يدمّروا كل ما يمكن أن يساعد السوريين في مناطق الثورة على البقاء في مناطقهم، أي إرغماهم على النزوح.

منذ البداية، ومنذ أن تجرأ قسم كبير من السوريين على المطالبة بحياة ديمقراطية كريمة، قام النظام بانتهاج سياسة قمع أشد وحشية وقسوة، فزج الجيش في مواجهة المدنيين، واعتمد سياسة التجويع والحصار، والأشد من كل هذا أنه خطط لتهجير المواطنين من المناطق التي ثارت بوجهه، ومن ذلك الحين وسياسة تدمير البيوت، ونسف كل مقومات البقاء من مشافي ومدارس، وأفران وأسواق هي التي تحكم علاقة قوات الأسد وحلفائه بهذه المناطق، الأمر الذى تسبب في تكدّس ملايين السوريين في مناطق صغيرة حدودية.

أربعة ملايين سوري شردتهم همجية بشار الأسد، بمساعدة حلفاء لايقلون بشاعة وإجراماً، وفي مقدمتهم ميليشيات إيران الطائفية، وحليفه بوتين الذي قصفت طائراته بيوتهم ومستشفياتهم ومخابزهم، وأرغموهم على الرحيل، ولأن العالم ليس رحباً وإنسانياً بما يكفي لكي يمنع قتلهم، أو لكي يمنحهم مكاناً آمناً، فقد أغلق أبوابه في وجوههم، ليظلوا عالقين بآخر مساحة تبقيهم على قيد الحياة.

لم يقم النظام بتهجيرهم فقط، بل أفشل كل جولات التفاوض التي جرت بين النظام السوري والمعارضة تحت إشراف الأمم المتحدة، في إخراج قضية حصار المدنيين وتجويعهم من الصراع، وفي إحدى جولات التفاوض تلك صرح الوسيط الأممي المنتدب من الأمم المتحدة، وكان يومها “دي مستورا: (إن النظام السوري يرفض رفع الحصار الذي يجوع مئات الآلاف في مختلف أنحاء البلاد).

لم يكن لدى بوتين ومن معه بقية من ضمير، لتجنيب المدنيين السوريين ويلات الحرب، وراح ومن معه يقتلعون السوريين من بيوتهم وأراضيهم على مرأى البشرية كلّها، ويرمون بهم في مناطق حدودية، وفي مخيمات لاتوفر الحد الأدنى من مقومات الحياة لساكنيها، وهاهو اليوم يواصل جريمته في جلسة مجلس الأمن، المتعلقة بتدفق المساعدات لهؤلاء المحاصرين.

اليوم وفي اجتماع مجلس الأمن الأخير، والذي ناقش تمديد عمل المعابر التي تدخل منها المساعدات الإنسانية للسوريين صوتت 13 دولة بالموافقة، وامتنعت الصين عن التصويت، لكن، وببساطة شديدة، وبهدوء شديد، وبلا أي وخزة ضمير، أو أي شعور بالعار، وكما لو أنه يقرر أمراً في غاية العادية، يرفع مندوب روسيا يده واضعاً فيتو دولته على قرار مجلس الأمن، بمواصلة إيصال المساعدات لما يزيد عن أربعة ملايين سوري محاصرين في مخيماتهم.

ببساطة شديدة يبتز بوتين العالم بالتجويع، أي جريمة هذه ؟!!

فيما يخص القانون الدولي حول جريمة التجويع، لم يكن التجويع المتعمّد للمدنيين مدرجا ضمن قانون المحكمة الجنائية الدولية مثل جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ولم يكن بإمكانها مقاضاة المتسببين به، بوصفه جريمة حرب إلا حينما يكون النزاع ذا طابع دولي. لكن وفي عام 2019 تقدمت سويسرا باقتراح وافقت عليه 122 دولة، أي بإجماع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، وبفضل الاقتراح السويسري فقد تم توسيع صلاحية محكمة الجنايات، ليشمل أيضاً تجويع المدنيين في النزاعات المسلحة غير الدولية. لكن سوريا ليست من الدول الموقعة على قانون المحكمة الجنائية الدولية.

———————-

مركز أبحاث سوري يشرح أسباب زيارة فلاديمير بوتين إلى طهران الأسبوع المقبل

نشر مركز “مسارات للحوار والتنمية السياسية” ورقة تحليلية يشرح خلالها دوافع وأسباب زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران الأسبوع المقبل، والتي من المقرر أن يلتقي خلالها بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي والتركي رجب طيب أروغان.

وأشار المركز في الورقة التي حملت عنوان “زيارة بوتين المرتقبة إلى طهران… التوقيت والدلالات” إلى أن الزيارة “تتزامن مع تصاعد وتيرة الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وتشديد العقوبات الغربية والأمريكية ضد موسكو على خلفية قمة الـ G7، وتكثيفها الدعم العسكري المقدم لكييف”، وأنها تأتي “بهدف تعزيز التحالف الشرقي في مواجهة أوروبا وأمريكا، وربما نقل التحالف الروسي ـ الإيراني لمراحل متقدمة من التعاون الاستراتيجي والاقتصادي في مواجهة بروكسل وواشنطن”.

وأضاف المركز أنه من المقرر أن يلتقي بوتين خلال زيارته بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مضيفًا “من المتوقع أن يمارس بوتين خلال لقائه بأردوغان ضغوطات كبيرة على تركيا لتعديل موقفها من الحرب الأوكرانية، ومحاولة جذبها للمحور الروسي ـ الإيراني، عقب موافقتها على انضمام فنلندا والسويد لحلف “النيتو” وضعف تجاوب الأخيرتين مع المطالب التركية”، كما توقع المركز تقديم روسيا بعض التنازلات لأنقرة في الملف السوري، مستدركًا ” من المتوقع أيضا أن نشهد بعض التصعيد في سوريا بحال تعثر المفاوضات بين الجانبين”.

وأشار المركز إلى أن الإعلان عن الزيارة، سبق بزيارة محافظ البنك المركزي الإيراني، علي صالح آبادي، قبل أيام إلى موسكو، حيث التقى نائب رئيس وزراء روسيا، ألكساندر نوفاك، وأعلن من هناك التوصل لاتفاق بين البنكين المركزيين في البلدين “لتطوير التعاون النقدي والمصرفي وتوسيع الاستثمار المشترك”، مشيرا إلى التفاهم المبدئي على عدد من الاتفاقيات، ليعلق المركز على ذلك بأن الزيارة تأتي “استكمالا لتلك التفاهمات”، مضيفًا “من المتوقع أن نشهد توقيع الرئيس الروسي ونظيره الإيراني عدة اتفاقيات اقتصادية بمختلف المجالات، وسعيهم في بلورة حلول مشتركة لتفادي العقوبات الأمريكية المفروضة على البلدين خلال اللقاء”. 

وتطرق المركز لصفقة الطائرات التي تحدث عنها مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جيك سولفيان، والذي قال “إن الولايات المتحدة تلقت معلومات تشير إلى أن إيران تخطط لتزويد روسيا بمئات الطائرات بدون طيار لمساعدتها في حربها في أوكرانيا”، ليشير المركز إلى زيارة بوتين “ستشمل في الغالب تعزيز التعاون العسكري وإتمام صفقة الطائرات المسيرة”.

كما تناولت الورقة الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط والتي ستشمل كلًا من تل أبيب والسعودية، وتهدف بحسب ما ذكره بايدن “إلى الاستفادة من موارد الطاقة في الشرق الأوسط لتخفيف الضغط عن أوكرانيا”، وكذلك بحث “كيفية الحد من دور إيران في المنطقة”، ليشير المركز أن زيارة بوتين تأتي “كرد استباقي” على الزيارة الأمريكية بهدف “دعم الموقف الإيراني في مواجهة واشنطن سواء في مفاوضاتها النووية أو مواجهتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل”.

وأشارت الورقة لتزامن الزيارة مع تنامي الخلافات الروسية ـ الإسرائيلية، وذلك على خلفية موقف تل أبيب من الحرب على أوكرانيا، وإدانة موسكو للمرة للأولى للهجمات الإسرائيلية في سوريا، والتي استهدفت مطار دمشق الدولي قبل أسابيع قليلة، وتوجهها بطلب من مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يدين الهجوم الإسرائيلي؛ وهو ما يشير ـ بحسب المركز ـ لـ”احتمالية تقديم موسكو تنازلات لطهران في مواجهة الهجمات الإسرائيلية مقابل “صفقة المسيرات”، وتصعيد طهران لهجماتها ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق”.

———————-

 بوتين يسعى لـ«ضبط الساعات» مع إردوغان ورئيسي

موسكو: رائد جبر

أثار إعلان الكرملين، الثلاثاء، عن زيارة مرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران الأسبوع المقبل، تساؤلات عدة، حول التوقيت، وأجندة النقاشات المنتظرة على خلفية المواجهة المفتوحة بين روسيا والغرب، وتداعيات الحرب في أوكرانيا على الملفات الإقليمية، وخصوصاً على صعيد التطورات المنتظرة في سوريا وحولها.

جاء الإعلان عن الزيارة في هذا التوقيت مفاجئاً لكثيرين، رغم أنها كانت مقررة منذ وقت طويل؛ لكن تم تأجيلها عدة مرات خلال العامين الأخيرين. وقبل أسابيع كان الكرملين قد أعلن أن الزيارة قد تتم قبل نهاية الصيف، من دون أن يحدد تفاصيل إضافية.

يذكر أن اللقاء الأخير على المستوى الرئاسي لضامني مسار آستانة (روسيا وتركيا وإيران) كان قد انعقد قبل عامين عبر تقنية «الفيديو كونفرنس»، واتفق الأطراف في حينها على عقد لقاء مباشر للرؤساء في طهران «عندما تسمح الظروف الوبائية بذلك». ومع تراجع حدة انتشار الوباء في الفترة الأخيرة، برزت رزمة من التطورات البارزة، على رأسها الحرب في أوكرانيا، ما دفع إلى ترجيح أن انشغال الكرملين بالحرب والمواجهة المتصاعدة مع الغرب سوف يسفران عن تغييب الانخراط الروسي المباشر في الملفات الإقليمية، بما في ذلك في سوريا. لكن بالعكس من ذلك، جاء الإعلان الحالي عن تحديد موعد القمة الثلاثية التي تجمع بوتين بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي والتركي رجب طيب إردوغان، ليربط الزيارة بالتطورات المحيطة بروسيا، وحاجتها إلى تعزيز التنسيق مع شركائها في الملفات المطروحة للبحث.

لم يحمل الإعلان المقتضب الذي صدر عن الكرملين، تفاصيل تكشف أهداف الزيارة ومضامينها، إذ اكتفى الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف بالقول إنه يتم التحضير لزيارة الرئيس إلى طهران في 19 يوليو (تموز)، مع إشارة إلى أنه سيناقش الملف السوري مع نظيريه الإيراني والتركي. وذكر الكرملين أن بوتين سيعقد محادثات منفصلة مع إردوغان، فضلاً عن اللقاء المنتظر مع رئيسي.

اللافت أنه مع التكتم الرسمي على جدول أعمال الزيارة، فقد حرصت أوساط مقربة من الخارجية على نفي أن يكون اختيار التوقيت أو سرعة تنظيم الزيارة المؤجلة منذ وقت طويل مرتبطاً بزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة، وقال دبلوماسي روسي لـ«الشرق الأوسط»، إن تحرك بوتين يأتي «ضمن جدول مُعَد سلفاً، واستناداً لعمل دبلوماسي دؤوب بين المسؤولين في موسكو وطهران وأنقرة، وهي ليست زيارة مفاجئة، أو مرتبطة بأي شكل بزيارة بايدن إلى المنطقة. فروسيا لا تستند في مواقفها السياسية أو في أنشطتها الدبلوماسية إلى منطق رد الفعل».

وتقوم توقعات الأوساط الروسية الرسمية على أن «سياسة روسيا واضحة وشفافة فيما يتعلق بالوضع الإقليمي والدولي، وفيما يخص منطقة الشرق الأوسط تحديداً؛ حيث تتشابه مواقف الدول الضامنة لمسار آستانة (روسيا وإيران وتركيا) بخصوص الأزمة السورية والقضية الفلسطينية، وغيرها من القضايا».

ورغم الإشارة إلى أن الملف النووي الإيراني سيكون حاضراً خلال لقاء بوتين ورئيسي، قال المصدر إن التركيز الأساسي خلال المباحثات «سينصب بطبيعة الحال على الوضع السوري، مع حاجة الأطراف إلى مناقشة التطورات التي شهدتها سوريا ومحيطها منذ اللقاء الرئاسي الأخير، وعلى ضوء الاجتماعات التي جرت في نور سلطان وفي عواصم أخرى».

في المقابل، أشار خبراء روس إلى أن اختيار توقيت الزيارة ومضمونها له أهمية خاصة للغاية في هذه الظروف؛ خصوصاً لجهة أن الوضع ازداد سخونة حول سوريا في الفترة الأخيرة، وبرزت تكهنات حول احتمال انزلاق الموقف نحو مواجهة روسية- أميركية، فضلاً عن التطورات المحيطة بالعملية العسكرية التركية المحتملة في مناطق الشمال الشرقي، والوضع في الجنوب؛ حيث تدور نقاشات بشأن أهمية إنشاء منطقة آمنة.

وقالت لـ«الشرق الأوسط» ماريانا بيلينكايا، المعلقة السياسية لشؤون الشرق الأوسط في صحيفة «كوميرسانت»، وهي كبرى الصحف الروسية، إنه «إذا لم تتم هذه الزيارة حالياً، فلن يكون من الممكن التكهن متى ستسمح الظروف بتنظيمها لاحقاً، على ضوء التطورات المتسارعة حول سوريا وفي المنطقة والعالم». وفقاً للخبيرة، فإن الملفات الأساسية المطروحة للبحث هي العملية العسكرية التركية، والموقف الثلاثي حيال الضربات الإسرائيلية المتواصلة على مواقع في سوريا، والتي تعمدت موسكو إدانتها بشكل حاسم أخيراً، ما يعني تبلور سياسة روسية واضحة تجاهها.

بالإضافة إلى ذلك، في حقيبة بوتين، كما يبدو: «الشكاوى المستمرة التي تصل إلى موسكو من إسرائيل والأردن وأطراف عدة، حول التمدد الإيراني في سوريا، والمخاوف من تطورات متعلقة بهذا الشأن».

وعموماً، ترى الخبيرة أن الوضع حول سوريا «بات مقلقاً، ويستدعي التنسيق وإعادة ضبط الساعات بين الأطراف الثلاثة». وبعبارة أخرى، فإن الزيارة رغم عدم توقع خروجها باتفاقات معلنة أو تصريحات مشتركة تشكل تطوراً صارخاً؛ فإنها تمهد لتفاهمات يمكن أن تظهر تأثيراتها خلال الفترة اللاحقة؛ خصوصاً على صعيد العناصر الرئيسية التي تتركز في توضيح الموقف حيال الوضع في الجنوب، وملف التمدد الإيراني والمخاوف المحيطة به، وحيال التطورات المحتملة في الشمال، وخصوصاً لجهة العملية العسكرية التركية التي يبدو واضحاً أن موسكو رغم أنها لا ترحب بها فإنها لن تكون قادرة على منعها.

بالإضافة إلى ذلك، سيكون موضوع التعامل مع الجانب الأميركي في سوريا، خلال المرحلة المقبلة، بين أولويات السياسة الروسية، ما يحتاج تنسيقاً أقوى مع الشريكين الإيراني والتركي.

واللافت أنه مع التأكيدات على عدم ربط الزيارة مع توقيت زيارة بايدن إلى المنطقة، وكون هذا التزامن «مجرد مصادفة»؛ فقد كان واضحاً في الوقت ذاته أن الإشارات المتزايدة إلى أن زيارة بوتين إلى طهران رغم أن عنوانها سوري؛ فإنها مرتبطة بشكل مباشر بالوضع العام الذي كرسته الحرب الأوكرانية والمواجهة القائمة مع الغرب. ورأت أوساط روسية أن تصريحات الجانب الأميركي حول أن إيران عازمة على تسليم طائرات مُسيَّرة مسلحة إلى روسيا، تحمل مؤشرات مهمة لهذا الربط؛ خصوصاً أنها استبقت زيارة بايدن إلى المنطقة، وكون هذا الموضوع سيكون مطروحاً في الغالب خلال المحادثات الثنائية بين موسكو وطهران. والحديث يدور عن طائرات إيرانية تسعى روسيا، وفقاً للجانب الأميركي، إلى استخدامها في أوكرانيا لتعزيز قدراتها الهجومية مقابل تعزيز الغرب عمليات تسليح كييف.

وبهذا المعنى، فإنه فضلاً عن خصوصية مناقشة الملف السوري في أجندة بوتين في طهران، فإن الحرب الأوكرانية وآلية إدارة التحالفات في المرحلة المقبلة تغدو عنواناً رئيساً يربط بين زيارتي بايدن وبوتين.

————————-

توماس فريدمان: حرب أوكرانيا توشك أن تدخل مرحلة جديدة هي الأخطر منذ بدايتها

قال الكاتب الصحفي الأميركي البارز توماس فريدمان إن الحرب في أوكرانيا توشك أن تدخل مرحلة جديدة هي الأخطر منذ بداية الصراع، مشيرا إلى تحسن أداء القوات الروسية مقارنة بأدائها المتعثر -الذي أودى بحياة آلاف الجنود الروس- في بداية الحرب.

وأبرز فريدمان -في مقال له بصحيفة نيويورك تايمز (New York Times) الأميركية- أن اعتقاده بقرب دخول الحرب مرحلة جديدة مبني على أنه بالرغم من خسائر الجيش الروسي الذي فقد العديد من جنوده وجنرالاته خلال الحرب، فإن حلفاء أوكرانيا الصامدين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) متعبون بسبب تداعيات الحرب.

وأوضح أن الحرب أسهمت في ارتفاع كبير في أسعار الغاز الطبيعي والبنزين والمواد الغذائية في أوروبا، وإذا استمرت الحال على هذا المنوال خلال فصل الشتاء، فقد تضطر العديد من العائلات في دول الاتحاد الأوروبي للاختيار بين التدفئة والغذاء.

الشتاء صديق بوتين!

وبناء على ذلك، يرى فريدمان أن المرحلة الجديدة للحرب هي ما أطلق عليه اسم “إستراتيجية الشتاء” للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقابل “إستراتيجية الصيف” لحلف الناتو.

وقال إنه من الواضح أن بوتين مستعد لمواصلة الحرب في أوكرانيا، على أمل أن يؤدي التضخم المرتفع في أسعار الطاقة والغذاء في أوروبا إلى شق صف حلف الناتو في نهاية المطاف.

ويرى فريدمان أن بوتين يراهن على جملة من العوامل، من بينها انخفاض درجات الحرارة في أوروبا خلال الشتاء أكثر من المعتاد، وتراجع إمدادات النفط والغاز عالميا مع ارتفاع أسعار الطاقة، والانقطاع المتكرر للكهرباء في عدة بلدان بسبب نقص الطاقة، لأن ذلك من المرجح أن يحمل أعضاء الناتو الأوروبيين للضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لعقد اتفاق مع روسيا -أيا كانت طبيعته- لوقف القتال.

وقال فريدمان “لا بد أن بوتين يقول لجنوده وجنرالاته المنهكين: فقط استمروا حتى حلول أعياد الميلاد، فإن الشتاء صديقنا”.

ويرى الكاتب أن إستراتيجية بوتين وجيهة، فقد أفاد تقرير نشرته نيويورك تايمز الأسبوع الماضي أن المسؤولين بالبيت الأبيض يخشون من أن تؤدي جولة جديدة من العقوبات الأوروبية الهادفة إلى الحد من تدفق النفط الروسي إلى أوروبا بحلول نهاية العام إلى ارتفاع جديد لأسعار الطاقة، الأمر الذي سيشكل ضربة للمستهلكين تفاقم معاناتهم، كما قد يؤدي إلى انكماش حاد في اقتصاد الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الغربية. وقد تؤدي سلسلة الأحداث هذه إلى تفاقم أزمة الغذاء الحادة التي تعاني منها الدول في جميع أنحاء العالم.

كما يشير التقرير نفسه إلى أن جهود الناتو والاتحاد الأوروبي للحد من الاعتماد على صادرات النفط الروسي إلى أوروبا قد تؤدي إلى ارتفاع في أسعار النفط يبلغ نحو 200 دولار للبرميل أو أكثر. وقد ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بنحو 700% منذ بداية العام الماضي، الأمر الذي وضع القارة الأوروبية على شفا الركود الاقتصادي.

مدة الفيديو 02 minutes 44 seconds 02:44

الناتو و”إستراتيجية الصيف”

ومقابل إستراتيجية الشتاء -كما يسميها الكاتب- التي يعتمدها بوتين، يرى فريدمان أن المسؤولين في الناتو والولايات المتحدة وأوكرانيا يفكرون بمنطق يقول “نعم.. قد يكون الشتاء عدونا. لكن الصيف والخريف قد يكونان صديقين لنا؛ فإذا تمكنا من إلحاق أضرار معتبرة بجيش بوتين المتعب الآن، فإنه سيقبل -على الأقل- بوقف إطلاق النار”.

كما يرى أن هذه الإستراتيجية أيضا ليست سيئة، وذلك لأن بوتين قد يكون حقق بعض المكاسب الآن شرقي أوكرانيا، ولكن تكلفتها باهظة للغاية، حيث تشير العديد من التحليلات العسكرية إلى أن الجيش الروسي خسر نحو 15 ألف جندي في أقل من 5 أشهر خلال الحرب، وهو رقم مذهل. وقد يكون عدد الجرحى ضعف هذا الرقم، كما تم تدمير نحو ألف دبابة روسية.

وقال فريدمان إن مسؤولين في الإدارة الأميركية أخبروه بأن بوتين ليس لديه ما يكفي من القوات في الوقت الحالي لمحاولة الخروج من شرقي أوكرانيا والاستيلاء على ميناء أوديسا، حتى يتمكن من فرض حصار بحري على أوكرانيا وخنق اقتصادها.

وأشار إلى أن بوتين لا يرغب في زيادة التجنيد؛ لأن ذلك سيكشف أمام شعبه أن ما قال إنها مجرد “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا هي حرب أكبر من ذلك بكثير، بل وتزداد سوءا.

وقال فريدمان إنه من الواضح أن الناتو يأمل في أن يتمكن الجيش الأوكراني من استخدام أنظمة الصواريخ المدفعية الجديدة “إم 142” (M142) المتطورة أو صواريخ “هيمارس” التي زودت بها الولايات المتحدة كييف مؤخرا، لإلحاق مزيد من الأضرار البشرية واللوجستية بالقوات الروسية في أوكرانيا خلال فصلي الصيف والخريف.

الأمر الذي لو تحقق، فإنه لن يوقف تقدم القوات الروسية فحسب، بل سيقود كذلك لخسارة الأراضي التي سيطرت عليها، مما قد يحمل الرئيس الروسي على الموافقة على وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، والسماح بعمليات إجلاء إنسانية، وتوفير ظروف أفضل لصادرات الغذاء الأوكرانية. وهي أمور من شأنها المساعدة في تخفيف التضخم، وبالتالي تخفيف الضغط على حلفاء أوكرانيا الأوروبيين الذين قد يسعون إلى الدفع نحو عقد أي اتفاق مع بوتين لإنهاء الحرب.

ويرى الكاتب أنه لا توجد مؤشرات في الوقت الراهن على استعداد بوتين لعقد اتفاق سلام نهائي، ولكن قد يكون بالإمكان حمله على الموافقة على وقف إطلاق النار عن طريق السيناريو المذكور آنفا، الأمر الذي سيشكل إغاثة لأسواق الطاقة والغذاء.

وختم فريدمان مقاله بأنه يرى “نظرا لكل هذه الأسباب أن الحرب في أوكرانيا على وشك الدخول في أخطر مراحلها منذ بداية الغزو الروسي فبراير/شباط”؛ وهي مرحلة تقوم على “إستراتيجية الشتاء” لبوتين في مقابل “إستراتيجية الصيف” التي يتبعها الناتو.

المصدر : نيويورك تايمز

———————————-

=================

تحديث 22 تموز 2022

———————–

لماذا تريد روسيا إخراج العملية السياسية السورية من جنيف؟/ إبراهيم حميدي

أبلغت دمشق المبعوث الأممي، غیر بیدرسن، أنها لن ترسل وفدها إلى جنيف للمشاركة في الجولة التاسعة من أعمال اللجنة الدستورية في 25 يوليو (تموز) الحالي؛ أي تجميد مسار العملية السياسية السورية برعاية الأمم المتحدة.

السبب الفعلي لا يتعلق باعتراض دمشق على آلیة عمل «الدستورية» أو مضمون «المناقشات» بين وفدين؛ أحدهما مسمى من الحكومة، والثاني يمثل «هيئة التفاوض» المعارضة. واقع الحال أن قرار دمشق جاء بناء على توصية من موسكو. وهو لا يتعلق، أيضاً، باعتراض روسيا على مضمون جهود الإصلاح الدستوري السوري ومسائل مثل السيادة والأجندات الخارجية و«الاحتلالات»؛ بل یخص موقف سويسرا من الحرب الأوكرانية وطلاقها مع الحیادیة الأبدیة. باختصار، موسكو لیست راضیة عن «خروج سويسرا من حیاديتها بالانضمام إلى العقوبات الغربیة ضد روسیا» بسبب الحرب الأوكرانية.

في حال كهذه… ما الحل الروسي؟

معاقبة موسكو جنیف ومحاولة هز الوحدة الأوروبية ضدها بسبب أوكرانيا، وهي عاصمة أوروبية رئيسية للأمم المتحدة ومؤسساتها، شرط أن یكون هذا بأقل ثمن، لیس عبر انسحاب روسیا نفسها من مؤسسات الأمم المتحدة أو مقاطعة اجتماعاتها بشأن الأزمة السوریة. فالعقاب جاء من الخاصرة الرخوة؛ البوابة السورية. وعليه؛ طلبت موسكو من دمشق رفض المشاركة في اجتماعات اللجنة الدستوریة في جنیف تحدیداً، واقتراح سوتشي أو موسكو أو دمشق أو الجزائر أو مسقط أماكنَ ممكنة لاستضافة «المناقشات الدستوریة».

ما خلفیة الموضوع؟

لدى انتهاء اجتماعات الجولة الثامنة من «الدستوریة» في مایو (أیار) الماضي، اتفق بیدرسن مع رئيسي الوفدين؛ الحكومي أحمد الكزبري، والمعارض هادي البحرة، على عقد الجولة التاسعة بعد عطلة عید الأضحى المبارك، بین 25 و29 یولیو الحالي. وقتذاك؛ همس المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرینییف في الأروقة الأممیة أنه لم یكن راضیاً عن سرعة تعاطي السلطات السويسرية مع تأشيرات الدخول (فیزا) للوفد الروسي وبرود الاستقبالات والتشريفات.

ماذا يريد بيدرسن؟

أما بيدرسن؛ فإنه استند إلى ما هو متفق علیه بین السوریین والرعاة الإقلیمیین والدولیین في الجولة السابقة في يونيو (حزيران)، ووجه دعوات خطیة إلى الكزبري والبحرة والمجتمع المدني لـ«عرض بعض الأفكار حول كیفیة تسریع وتیرة عمل اللجنة لتحقيق الهدف المنصوص علیه في المعاییر المرجعية والعناصر الأساسية للائحة الداخلیة، للعمل بشكل سریع ومتواصل بهدف تحقیق نتائج وتقدم مستمر من دون تدخل خارجي أو أطر زمنیة مفروضة من الخارج». والهدف الذي حدده بيدرسن هو تقديم مقترحات عملیة لتعجیل المناقشات الدستوریة ضمن 3 خیارات: مناقشة أكثر من عنوان في الیوم، ومناقشة فصل من فصول الدستور في كل جولة، وتقدیم مسودات ومناقشة فصل واحد من فصول الدستور في كل دورة، حتى یتم استكمال الفصول كافة.

وبقیت الأجواء والاتصالات الدبلوماسية إیجابیة، توحي بأن الاجتماعات حاصلة. وقال مسؤولون سوريون إن وفدهم سیشارك في الاجتماعات في حال تم حل «مشاكل لوجيستیة للأصدقاء الروس».

بالفعل؛ سهلت السلطات السويسرية حصول الوفد الروسي على التأشيرات. لكن فجأة؛ وصل إلى جنیف من دمشق قرار المقاطعة بعد ساعات من «اختراق» تمثل في قبول غربي شروطاً روسية حول تمديد قرار مجلس الأمن لإیصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود لـ6 أشهر فقط.

ما إشكالات الفيتو الروسي؟

المشكلة في قرار مقاطعة اجتماعات «الدستوریة» أن فیه إشكالات كثیرة. فهو بدایة یُظهر حقیقة الاجتماعات ومحدودیة جدیتها، ویصطدم بالخطاب العلني لموسكو، ویحرج دمشق التي لا تجد حرجاً في الخروج من المظلة الأممیة في مناقشة دستورها وشأن سیادي يتعلق بها. والأهم؛ أنه یتناقض مع وثائق العملية السیاسیة؛ إذ إن القرار الدولي «2254» نص على أن إصلاح الدستور السوري «عملیة بملكیة سوریة وقیادة سوریة» ولیست روسیة. وأكدت على ذلك خطیاً وثیقة معایير العمل المنجزة بین الأطراف السوریین في عام 2019، كما أن المؤتمر الوطني السوري في سوتشي الروسیة، بدایة عام 2018 نص على أن الإصلاح یجري نقاشه في جنیف، إضافة إلى ورود ذلك في بیانات عدة من «ضامني» عملیة آستانة، تشدد على أن عمل اللجنة الدستوریة یجب أن یتم «دون تدخل خارجي».

ما الخيارات؟

مبعوث دولة غربیة شارك في اجتماعات جنیف، قال بعد تلقیه رسالة من مكتب بیدرسن عن الإلغاء: «عندما تهاجم دولة أخرى ویكون استهداف المدنیین ركیزة أساسیة للاستراتيجية العسكرية، سواء أكان ذلك في أوكرانيا أم في سوریا، فإن النفاق السياسي یأتي میزةً أساسیة متضمنة في سیاستك الخارجیة». أما بالنسبة إلى المعارضة التي وجدت في «مسار جنیف» منصة تعطیها معنى سیاسیاً وندیة مع دمشق، فإن القرار وقع عليها مفاجأة. ویقول قیادي فیها إن الوفد الحكومي رهن المشاركة بـ«تلبية مطالب روسية. نحن أمام أزمة عمیقة للغایة ستستمر لأكثر من بضعة أشهر، دون عقد اجتماع للجنة الدستوریة. هذه الأزمة المصطنعة لیست من صنع أي طرف سوري، بل من طرف أجنبي هو روسیا. وهذا تدخل أجنبي صارخ في عمل ما یفترض أنه لجنة یملكها ویقودها سوریون. روسیا لیست طرفاً في اللجنة الدستوریة كي تقرر عدم سفرهم».

لا شك في أن القرار الذي أبلغته دمشق، نیابة عن موسكو، إلى جنیف، سیكون على طاولة رؤساء «ضامني» آستانة؛ الرؤساء: الروسي فلادیمیر بوتین، والتركي رجب طیب إردوغان، والإیراني إبراهیم رئیسي، في طهران الثلاثاء المقبل. صحیح أن طهران تبحث عن إنجاز في الملعب السوري، ومعها أنقرة في ذلك. لكن أغلب الظن أن العاجل والملح على المائدة الرئاسية سیكون مصیر العملية العسكرية التركية المحتملة في شمال سوریا، ومجالات «التعاون العدائي» بین أنقرة وموسكو في أوكرانيا، مع وجود رغبة إيرانية في طرح ملفات أخرى تخص دورها وجولة الرئيس الأميركي جو بايدن.

معروف أن اللجنة الدستوریة لیست لجنة ولا تعمل على الدستور، وهي ليست سوى ورقة توت تسمح لـ«اللاعبين» بالتظاهر بأن هناك عملیة سیاسیة لتبریر الخیارات العسكرية والهندسات الاجتماعية، وكذلك تمنع عملیة أخرى حقيقية من التبلور. فالثابت أن هناك من يريد عملیة دستورية دون مظلة أممية. وفي وقت تستخدم فيه روسیا سوریا و«عملیتها السیاسیة» ساحة لضبط شركائها ومعاقبة خصومها و«اختبار» منافسیها، فإن اللجنة الدستوریة مثال صغیر على ذلك. وهنا؛ «إذا عرف السبب بطل العجب».

الشرق الأوسط

———————–

هل يمسح بوتين ما كتبه بايدن؟/ أدهم صفي الدين

من المفترض ان تشهد المنطقة في الايام القليلة المقبلة، زيارة مفصلية جديدة على غرار الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن الى إسرائيل والسعودية، هي زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى العاصمة الإيرانية طهران. وعلى غرار القمة التي عقدها بايدن في مدينة جدة السعودية مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي والاردن ومصر العراق، فإن طهران ستشهد عقد قمة ثلاثية، هي امتداد لمسار أستانة، بين بوتن والرئيسين الإيراني ابراهيم رئيسي والتركي رجب طيب أردوغان.

وفي حين حملت قمة جدة عنوان الأمن والتنمية، سعى الجانب الأميركي للحصول على وعود خليجية تتعلق برفع مستويات انتاج النفط والغاز، قد تساعده أولاً في تهدئة الرأي العام الأميركي وتكبح المسار التراجعي للحزب الديموقراطي في الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر، وثانياً تعمل هذه الزيارة على سد حاجات الأسواق العالمية، وتهدئة المخاوف الأوروبية من تداعيات الأزمة التي تمر بها اقتصادات هذه الدول. وذلك من دون التوصل إلى رؤية واضحة وحاسمة في التعامل مع مصادر القلق الأمني لدول المنطقة جراء تصاعد مخاوفها من حجم الدور والنفوذ الإيراني، فضلاً عن الغموض المحيط بطموحات طهران النووية، باستثناء العودة الى تكرار الموقف التقليدي للإدارات الأميركية بعدم السماح للنظام الإيراني بامتلاك سلاح نووي بأي شكل من الاشكال.

في المقابل، فان بوتين يأتي الى طهران، متسلحاً بالعلاقة التي نسجها مع النظام الايراني، وسمحت بتنسيق المواقف المشتركة بينهما من مختلف الأزمات الاقليمية والدولية، وساعدت في استيعاب الارتدادات السلبية للحرب التي شنتها موسكو ضد أوكرانيا، خصوصاً في ما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها.

وعلى العكس من الزيارة البروتوكولية للرئيس الأميركي، فان نظيره الروسي سيعمل على تعزيز التحالف مع النظام الايراني ورفع مستوى التنسيق في الملفات المشتركة بشكل اوسع واعمق، سواء ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، او منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى وما بينهما الهضبة الإيرانية.

واذا ما كان ملف الازمة السورية يشكل الموضوع الأساس لهذه القمة، لا سيما أنها تأتي امتداداً لمسار أستانة، فإن الطرفين الروسي والايراني سيضغطان على الشريك التركي لمزيد من التعاون والتنسيق، بهدف التوصل الى تفاهمات حول حدود ومناطق نفوذ كل من هذه الاطراف على الساحة السورية. خصوصاً أن موسكو وطهران لا ترغبان بحصول اي متغيرات جيوسياسية في توزيع مناطق النفوذ على هذه الساحة، في ظل الحديث التركي المتزايد عن امكانية القيام بعملية عسكرية في الشمال السوري بعمق 30 كليومتراً بهدف نقل اللاجئين من تركيا الى داخل الأراضي السورية، بالاضافة الى السعي لإبعاد ما تسميه تركيا الخطر الكردي عن حدودها.

وقد يكون الطرف التركي مجبراً على التعاون الايجابي مع الموقفين الروسي والإيراني في الساحة السورية، لجهة ما يشعر به من استبعاد عن تطورات المنطقة، وبعد استبعاده عن “القمم” التي عقدها الرئيس الأميركي في زيارته الخليجية، على العكس مما حدث في زيارة سلفه دونالد ترمب. وذلك بعدما فشل في توظيف الانفتاح الذي قام به في الاشهر الاخيرة باتجاه تل أبيب والرياض وأبوظبي، ليكون في صلب المعادلات الاقليمية وعاملا مساعدا في الحلول التي تنتظرها المنطقة.

ومشاركة الرئيس التركي في قمة طهران، لن تكون ايضاً على حجم الآمال، فهو يذهب الى طهران بالتزامن مع الحديث عن تسارع الحوار بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديموقراطية (قسد)، للتوصل الى تفاهمات حول المستقبل السياسي للمناطق التي تسيطر عليها هذه الجماعة وعلاقتها مع الحكومة المركزية. بالاضافة الى زيادة عديد القوات السورية التابعة لحكومة دمشق وانتشارها في مناطق وجود “قسد”، ما يعني رسالة واضحة من النظام والحليفين الروسي والإيراني بأن الدخول العسكري أو أي عملية امنية تركية في هذه المناطق ستضعه في مواجهة مباشرة مع قوات النظام.

والى جانب مهمة قمة طهران في تثبيت قواعد الاشتباك والنفوذ بين الفاعلين الثلاثة في الساحة السورية، فإن المتوقع لها أن تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والتجاري والمالي بين هذه الدول، تحديداً في ما يتعلق بخطوط النقل البري القادرة على ربط تركيا بموسكو عبر إيران، بالاضافة الى تعزيز الدور الذي تلعبه أنقره كنقطة التقاء لخطوط الغاز الروسي والإيراني باتجاه الغرب. الى جانب دورها في تسهيل عمليات فك الحصار عن الموانئ الأوكرانية والروسية لنقل المواد الغذائية وتخفيف ازمة الغذاء العالمية نتيجة الحرب الروسية ضد اوكرانيا.

وفي موازاة الزيارة غير المعلنة التي قام بها رئيس جهاز الاستخبارات الأميركية وليم برنز الى العاصمة الأرمينية يريفان، فإن نشاطاً واضحاً ومتعدد الوجوه يشهده خط العلاقة بين طهران والعاصمة الأذربايجانية باكو، والزيارات المتبادلة التي تجري بين العاصمتين، سواء على المستوى السياسي والدبلوماسي او على مستوى الأمن القومي، وما يعنيه ذلك من رفع مستوى التنسيق بين الطرفين، ليس بعيداً من أنقره وموسكو، لما تمثله هذه المنطقة وما وراءها في القوقاز وفي اتجاه آسيا الوسطى، من مناطق لتداخل النفوذ والمصالح والادوار، تصب في سياق استكمال ما جرى في طهران في الشهرين الماضيين والمعاهدات التي وقعتها مع أوزبكستان وتركمنستان وطاجيكستان، وتوجت بتفعيل العمل بالاتفاقية الاقتصادية الاستراتيجية مع موسكو خلال زيارة لافروف الاخيرة الى ايران.

وفي حين لم تحدث زيارة الرئيس الأميركي الى الشرق الاوسط، الخرق الذي راهن على حدوثه كثيرون، سواء في الدفع لتشكيل منظومة أمنية إقليمية، او في إجبار إيران على العودة الى المفاوضات النووية من دون شروط، يبدو ان قمة طهران ستحاول التأسيس لمسار من التعاون الاقليمي بين اطرافها بهدف تكريس دور كل طرف من اطرافها وحدود نفوذه.

—————————-

المنطقة بين قمتي جدّة وطهران/ غازي دحمان

هل هي مصادفة أن تختار الولايات المتحدة مدينة جدة لعقد قمّة، أقلّ ما يقال فيها إنها ستؤسّس لمساراتٍ جديدة في مستقبل المنطقة، ويختار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، طهران لما يمكن أن يكون رداً على الحراك الأميركي في المنطقة؟

لهذه الأماكن رمزية كبيرة، فلو أنّ أميركا وأصدقاءها مثلاً عقدوا قمتهم في أبوظبي، وفي المقابل عقد الطرف الآخر قمته في أنقرة، هل سيكون لهاتين القمّتين كلّ تلك الحمولات السياسية، فلا الإمارات تطرح نفسها قائدة للشرق الأوسط، ولا تركيا تطالب بنظام دولي جديد تتراجع فيه الهيمنة الأميركية.

يطرح الحراك الدولي الذي تشهده المنطقة السؤال عمّا إذا كان الشرق الأوسط عاد ليصبح بيضة القبّان في السياسة الدولية، بحيث تصبح مساحة النفوذ ودرجة التأثير التي يمتلكها الفاعلون الدوليون في هذه المنطقة مقياساً وانعكاساً لتراتبية القوى في النظام الدولي، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه مسألة ظرفية متعلقة بأزمة الطاقة، وعندما تنتهي هذه الأزمة، برفع العقوبات عن روسيا أو إيجاد بدائل طاقوية، سينفضّ المولد ويتابع الشرق الأوسط مساراته القديمة، بوصفه قوة هامشية خارج سياقات التأثير العالمية؟

لا يمكن نكران حقيقة وجود فاعليةٍ عربيةٍ، لكنها لا تزال في طور الولادة، إذ استطاعت الدول العربية، الخليجية تحديداً، صناعة ديناميات جديدة وضعتها في قلب المعادلات الدولية؛ تحرّكات قطر في ملف الاتفاق النووي، والمواقف من الحرب الأوكرانية، وأزمة تراجع كميات النفط في السوق الدولية، وهذه الفاعلية هي التي دفعت الفاعلين الدوليين الكبار إلى محاولات استقطاب الدول العربية إلى جانبها. لكن يبدو أن الأطراف العربية لم تصل بعد إلى فهم جوهر السياسات الدولية الحقيقي، ولا الأهداف المتوسطة والبعيدة التي تسعى تلك الأطراف إلى تحقيقها، في وقتٍ تركّز غالبية الأطراف على تحقيق مكاسب سريعة وآنية، في الغالب، ستحصل عليها، لكنها لن تكون ذات قيمة كبيرة بعد مرور وقتٍ قد لا يكون بعيداً. ويستدعي فهم ذلك، بدرجة كبيرة، فهم المعادلات المُراد صناعتها من تحرّكات واشنطن وموسكو في المنطقة، ومعرفة ما إذا كانت هذه المعادلات تتناسق مع السياقات التي ترسمها دول المنطقة لمستقبل فاعليتها وأدوارها الإقليمية والدولية.

تسعى إدارة الرئيس جو بايدن من حراكها الشرق أوسطي إلى تحقيق جملة من الأهداف، التي لم تعد خافية على أحد: إعادة ضبط إيقاعات المنطقة، التي باتت تشكّل الفوضى إحدى أهم سماتها، على وقع الصراع الدولي الذي باتت نُذره ترتسم في أفق السياسة الدولية. دمج إسرائيل، بأي شكل، ضمن النسق الأمني للمنطقة، في مرحلة أولى، على أن تكمل دول المنطقة نفسها استكمال الاستحقاقات الأخرى. إضعاف أوراق إيران ودفعها إلى خفض سقف طلباتها في مفاوضات النووي، وسيترك الباب موارباً بشدّة لعبور إيران منه إلى هذه البنية قيد التشكّل، بسبب الحاجة الأميركية إلى عودة النفط الإيراني إلى الأسواق الدولية.

على الطرف الآخر، يقرأ الرئيس الروسي بوتين الحراك الأميركي، بالإضافة إلى كونه محاولة لإعادة هندسة الشرق الأوسط، أنه استراتيجية أميركية تهدف إلى حرق أوراق روسيا وإضعاف تأثيرات قوّة ورقة الطاقة التي تمنحها هامش مناورة واسعاً في حربها الأوكرانية، وتعطيها القدرة على الاستمرار في الحرب حتى تحقيق أهدافها في أوكرانيا، وربما على صعيد إعادة بناء موازين القوّة في أوروبا والعالم.

بالطبع، ثمّة فرق كبير بين قدرات واشنطن وموسكو وأدواتهما التأثيرية في الشرق الأوسط، إذ يقتصر التأثير الروسي على الحضور العسكري في سورية، والذي يشكّل محور فعاليتها، وارتكازاً على هذا الحضور نسجت موسكو تفاعلات واسعة مع دول الإقليم، وتحديداً مع تركيا وإيران، في حين تتغلغل واشنطن في نسج المنطقة وبناها الأمنية والعسكرية والتقنية والاقتصادية، الأمر الذي يضعها في موقع تفضيلات أطراف المنطقة في أي علاقة تحالفية.

لكن، ثمّة ما يجب قراءته تحت سطح التحرّكات الجارية، وخصوصاً في شقها الأميركي، حيث يمهّد التحرك الأميركي إلى الخروج من المنطقة، بعد أن يُصار إلى ضبط إيقاعاتها وضمان عدم استقطابها من الصين وروسيا، مؤشّرات عديدة تؤيد هذه الفرضية، إذ يبدو أن الإدارات الأميركية استسلمت أمام فكرة استحالة تغيير الأوضاع السياسة في المنطقة، وضعف احتمالات نجاح برامجها في الديمقراطية، وخصوصاً بعد الفوضى التي صنعتها الأنظمة الاستبدادية بعد الربيع العربي.

أما روسيا، ورغم ما يطرحه إعلامها من أن النظام الدولي مقبلٌ على تغيرات هيكلية، وأن زمن الأحادية القطبية إلى الزوال، لكن سلوكها، وخصوصاً على صعيد علاقاتها الخارجية، ينطوي على إحساسٍ بالضعف والتراجع، وهي لا تملك سوى الرهانات، أو حتى التمنيات، للإبقاء على صيغ العلاقات مع دول المنطقة كما كانت عليه في مرحلة ما قبل الحرب الأوكرانية.

بين قمّتي جدّة وطهران، ثمّة متغيرات متوقعة على صعيد التحالفات والعلاقات بين الفاعلين في المنطقة، لكنّ المؤكّد أن زخم قوّة اللاعبين الكبار في تراجع، وهو ما يمنح دول المنطقة فرصة للخروج من ظل العلاقات التبعية التي طالما وسمت علاقات دول المنطقة باللاعبين الخارجيين، لكن ثمّة فرصة مهمة تنطوي عليها هذه التطورات، إذا أحسنت دول المنطقة استثمارها، واستطاعت تثبيت أنفسها فواعل مؤثرة في النظام الدولي الحالي، أو الذي على قيد التشكّل.

العربي الجديد

——————————

خامنئي يدعو بوتين لطرد الأميركيين من سوريا

دعا المرشد الإيراني علي خامنئي خلال لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والوفد المرافق له في طهران، الثلاثاء، لطرد الأميركيين من منطقة شرق الفرات في سوريا. وأكد أهمية القضية السورية ومعارضة طهران لأي هجوم عسكري على هذا البلد.

وأضاف أن هناك قضية أخرى مهمة في سوريا وهي احتلال الأميركيين للمناطق الخصبة والغنية بالنفط شرق الفرات، والتي يجب حلها بطردهم من تلك المنطقة.

وقال خامنئي إن الحرب أمر عنيف وقاس وصعب ولا تحبذها إيران، لكن في القضية الأوكرانية إن لم تأخذ روسيا زمام المبادرة، لكان الطرف الآخر تسبب باندلاع الحرب.

وصرح المرشد الإيراني الأعلى بأن الغرب لا يريد روسيا قوية ومستقلة، معتبراً أن الناتو كيان خطير. وتابع قائلاً: “إذا كان الطريق مفتوحاً أمام الناتو، فلا يعرف هذا الحلف حدوداً، وإن لم يتم إيقافه في أوكرانيا لكانوا بداأوا الحرب نفسها في وقت لاحق وتحت ذريعة شبه جزيرة القرم”.

وأشار خامنئي إلى أن أميركا والغرب اليوم أضعف من السابق، وعلى الرغم من الجهود والكلفة الكبيرة التي تحملها الغرب، فإن نجاح سياساتهما في المنطقة لا سيما في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، قد تضاءل بشكل كبير.

ودان خامنئي تدخل إسرائيل في شؤون المنطقة، وذكر أن إيران تعارض ولن تتحمل أي خطة وسياسة تؤدي لإغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا.

وأيد خامنئي سياسة استخدام العملات الوطنية في العلاقات بين البلدين والتخلي عن الدولار، قائلاً: “يجب إبعاد الدولار تدريجياً عن مسار التعاملات العالمية، وهذا ممكن تدريجياً”.

واعتبر أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين ضرورة تخدم مصالح طهران وموسكو لا سيما مع العقوبات المفروضة عليهما، مشيراً إلى أن هناك العديد من التفاهمات والعقود بين البلدين، لا سيما في قطاع النفط والغاز، يجب متابعتها حتى النهاية وتنفيذها.

وقبل وصول بوتين أبرمت شركة النفط الوطنية الإيرانية وشركة غازبروم الروسية مذكرة تفاهم تبلغ قيمتها نحو 40 مليار دولار.

من جهته أطلع بوتين خامنئي على عوامل وجذور الخلافات بين روسيا وأوكرانيا، خصوصاً “الأعمال الاستفزازية للغرب وأميركا في السنوات الأخيرة، وسياسة الناتو التوسعية”.

وأعرب بوتين عن اتفاقه مع موقف خامنئي تجاه منطقة القوقاز وكذلك حول الملف السوري، بما في ذلك معارضة التدخل العسكري على شمال هذا البلد.

ووصل بوتين إلى طهران الثلاثاء للمشاركة في زيارة هي الثانية له خارج روسيا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، سيعقد خلالها لقاءات مع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ومع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وسيحضر قمة روسية إيرانية تركية بحضور كل من أردوغان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.

بوتين أردوغان

وتحدّث بوتين عن إحراز تقدم في المحادثات حول تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، وذلك خلال لقائه نظيره التركي رجب طيب إردوغان في طهران. وبحث الطرفان، على هامش القمة في طهران سبل التسوية السورية، وسير تطبيق اتفاقات قره باغ، والأجندة الثنائية.

وقال بوتين متوجّهاً إلى إردوغان، بحسب تصريحات أوردها الكرملين في بيان: “أودّ أن أشكركم لجهود الوساطة التي بذلتموها، لاقتراحكم تركيا كميدان مفاوضات حول مشكلات الإنتاج الغذائي ومشكلات تصدير الحبوب عبر البحر الأسود”.

وأضاف: “بفضل وساطتكم، أحرزنا تقدّماً. لم تحلّ كل المسائل بعد، هذا صحيح، لكن هناك حركة وهذا أمر جيّد”.

بوتين رئيسي

وأكد بوتين خلال لقاء مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، أن العلاقات بين البلدين تتطور، لافتاً إلى أنه “يمكننا بالفعل الفخر بكسر أرقام قياسية في التبادل التجاري”.

بدوره، أعرب رئيسي عن أمله في أن تكون زيارة بوتين للجمهورية الإسلامية نقطة تحول في العلاقات الثنائية.

رئيسي أردوغان

وفي مؤتمر صحافي مشترك بين رئيسي وأردوغان، قال الرئيس الإيراني إن زيارة أردوغان لطهران تمثل منعطفاً مهماً في العلاقات بين البلدين، مضيفاً أنهما ناقشا القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك بين البلدين.

كما قال رئيسي إنه يأمل أن تسهم الوثيقة الإستراتيجية التي تم توقيعها اليوم في توطيد العلاقات بين إيران وتركيا.

وأكد رئيسي على “محاربة الإرهاب الذي يهدد أمن المنطقة، لكن ينظر إليه الغرب بازدواجية”، وقال إنه أكد مع نظيره التركي على وحدة الأراضي السورية.

فيما أكد الرئيس التركي أن المرحلة المقبلة ستشهد إعادة تقييم لمسار أستانة بخصوص سوريا وتفعيله مجدداً. وبخصوص مكافحة الإرهاب، قال أردوغان إن تنظيمات “حزب العمال الكردستاني” و”جماعة غولن” بلاء خطير لتركيا وإيران، وينبغي التعاون لمكافحتها حسب تعبيره، مشيراً إلى أن بلاده فرضت مكافحة التنظيمات الإرهابية في ميثاق حلف شمال الأطلسي “ناتو”.

————————–

حينما يتصارع الكبار ينفرج الصغار/ جلبير الأشقر

إن حكومات دول الصفّ العالمي الثالث، بمعنى الدول غير تلك الحائزة على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي وغير تلك المصنّفة بأنها مصنّعة أو متقدّمة اقتصادياً، أي الغالبية العظمى من دول العالم، حنّت إلى زمن الحرب الباردة بُعيد زواله إذ كان زمناً ملائماً لاستقلالها النسبي. فإن تصارع المعسكرين العالميين بقيادة الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفييتي في الجهة المقابلة، خلق هامشاً واسعاً من الاستقلالية استفادت منه دول الصف الثالث غير الخاضعة لسيطرة مباشرة من إحدى دول الصفّين الأول والثاني، أي غير دول أوروبا الشرقية التي تحكمت موسكو بمصيرها وغير الدول الخاضعة لسيطرة مباشرة استعمارية الطراز من إحدى الدول الغربية.

فإن تصارع القوتين العظميين في لعبة عالمية ذات مجموع صفري، أي في تنافس يشكّل فيه أي مكسب يحققه أحد الخصمين خسارة يُمنى بها الآخر والعكس بالعكس، إن ذلك التصارع كان من شأنه أن يجيز لدول الصف الثالث أن تناور بين الخصمين وتستفيد من استعداد كل منهما على تحمّل ما لا يروقه من أي من دول الصف الثالث ما دامت لم تنتقل إلى معسكر الخصم. لا بل تمكّنت تلك الدول من أن تخوض في اللعبة ذات مجموع صفري تلك بحيث انتزعت من كلتا القوتين العظميين تنازلات جمّة لقاء عدم تعاونها مع الخصم.

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي دخل العالم في ما أسماه أحد المعلقين الأمريكيين «البرهة أحادية القطبية» إذ لم يبق في ساحة القوة العظمى سوى قطب واحد، ألا وهو الولايات المتحدة. وقد عرفت البرهة أوجّها خلال العقد الأخير من القرن المنصرم، بما تجلّى في المنطقة العربية، على سبيل المثال، بانهيار النظام «الشيوعي» في اليمن الجنوبية واندماجها بالشطر الشمالي على غرار انهيار النظام «الشيوعي» في ألمانيا الشرقية واندماجها بألمانيا الغربية. والحال أن الاندماج الأخير وحده يأتي في بال معظم الناس عندما يفكّرون بنهاية الحرب الباردة وانهيار المنظومة السوفييتية بينما تنتمي الحالة اليمنية إلى السياق ذاته.

    أخذت الأوضاع العالمية والإقليمية تتبدّل في السنوات اللاحقة مع صعود القوة العسكرية الروسية بفضل عودة أسعار النفط إلى الصعود، وصعود قوة الصين الاقتصادية بفضل وتائر النموّ المذهلة التي شهدتها منذ التسعينيات

كما تجلّت «البرهة أحادية القطبية» في المنطقة العربية بالتحاق نظام حافظ الأسد، حليف موسكو القديم، بالبيت الأمريكي لبعض الوقت في التسعينيات، إثر مشاركته بالحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق. شهد ذلك العقد الأخير من القرن العشرين ذروة الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، بما سمح لإدارة بوش الأب أن تتحدّث في عام 1992 عن «نظام عربي جديد» يندرج في إطار «النظام العالمي الجديد» الذي أعلنه قُبيل انقضاضه على العراق. وحتى النظام الإيراني، ولو بقي مستعصياً على الهيمنة الأمريكية، إنما ارتاح لتدمير خصمه العراقي وتصرّف بحذر شديد، بل وتودّد، طوال تلك المرحلة التي توّجها تعاون المعارضة العراقية الموالية لطهران مع واشنطن وعودتها إلى بغداد ومشاركتها بالحكم في العراق تحت إشراف المحتلّ الأمريكي.

ثم أخذت الأوضاع العالمية والإقليمية تتبدّل في السنوات اللاحقة مع صعود القوة العسكرية الروسية بفضل عودة أسعار النفط إلى الصعود، وصعود قوة الصين الاقتصادية بفضل وتائر النموّ المذهلة التي شهدتها منذ التسعينيات وخلال العقد الأول من قرننا الراهن. وقد انعكس ذلك التبدّل انعكاساً ساطعاً في منطقة الشرق الأوسط يحكمه فارقٌ عظيم يميّزه عن زمن الحرب الباردة وثنائية القطبية، فارقٌ يكمن في أن نظام روسيا ما بعد السوفييتية لم يعد متعارضاً بطبيعته مع أنظمة الدول الخليجية، العربية منها كما والإيرانية، مثلما كانت الحال في زمن «الشيوعية». وينسحب الأمر ذاته على الصين التي باتت منفتحة انفتاحاً كاملاً على السوق الرأسمالية، وإن كان اسم حزبها الحاكم لا يزال «شيوعياً».

أما نتيجة هذا الفارق فهي مفارِقة للنمط العالمي إذ إن هامش المناورة تعاظم لدى الدول الخليجية عمّا كان عليه زمن الحرب الباردة. ذلك أن تلك الدول باتت قادرة على الدخول في لعبة المجموع الصفري أكثر بكثير مما كان الأمر عليه عندما كانت موسكو «مكّة الشيوعيين» كما كان يُقال. فعندما انتهى شهر العسل بين واشنطن وطهران، بعد أن بلغ أوجّه تحت رئاسة باراك أوباما، وانحطّت العلاقات بينهما مع اعتلاء دونالد ترامب سدّة الرئاسة الأمريكية، تمكّنت طهران من شدّ أواصر تعاونها مع كلّ من روسيا والصين.

جرى ذلك بينما روسيا والصين تشدّان كلتاهما أواصر علاقاتهما بدول الخليج العربية في الوقت ذاته، بما أتاح لهذه الأخيرة توسيعاً كبيراً لدائرة استقلال قرارها عمّا كانت عليه في القرن العشرين. وقد رأيناها تناور بين الأقطاب العالمية بعدما حلّ جو بايدن محلّ ترامب وهو يعد بمواصلة سياسة أوباما القائمة على الازدراء بعرب الخليج، بل أن يفاقمها في ضوء ما ترتّب على قضية اغتيال جمال خاشقجي.

وها أن شنّ روسيا لعدوانها الغاشم على أوكرانيا أجّج الصراع العالمي إلى ما عادل أكثر مراحل الحرب الباردة حدّةً أو كاد يفوقه، بحيث باتت الدول الخليجية كافة مستفيدة رئيسية، لاسيما أن ظروف الحرب أدّت إلى ارتفاع في أسعار المحروقات التي هي مصدر أهمّية الخليج الاقتصادية الأوحد، مع ازدياد حاجة أوروبا الغربية إلى استيرادها من غير روسيا بعد أن فرضت عليها عقوبات اقتصادية قاسية.

وقد انجلى تصاعد أهمية الدول الخليجية في مشهدين لم يكنا بالممكنين لولا الحرب الدائرة في أوكرانيا: رئيس أمريكي يبلع المرّ ويزور المملكة السعودية بعد أن وعد بمعاملة وليّ عهدها معاملة المنبوذ، ورئيس روسي يزور طهران في ثاني زيارة له خارج بلاده منذ جائحة كوفيدـ19 بعد زيارته لبكين قُبيل اجتياح قواته لأوكرانيا.

والحال أن تغلّب فلاديمير بوتين على هاجسه الأقصى من الوباء بذهابه إلى بلد انتشر فيه هذا الوباء خلافاً للصين، إنما يشير بذاته إلى احتياج روسيا لمعونة إيران مثلما تحتاج أمريكا لمعونة عرب الخليج.

كاتب وأكاديمي من لبنان

——————————

يتفق الجميع على وحدة سورية وتقسيمها/ يمان دابقي

الجميع متّفقٌ على أنّ تركيا مُصرّة، في نهاية المطاف، على تنفيذ عمليتها العسكرية في مناطق غرب الفرات، وتحديداً في منطقتي تل رفعت وربما منبج، في حال فشلت المشاورات السياسية، بين ثلاثي أستانة، وتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه في سوتشي 2019 بين روسيا وتركيا لإنشاء منطقة آمنة، بعمق 30 كلم وطول 480 كلم، تكون خالية من أذرع حزب العمال الكردستاني، قوات حماية الشعب، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المصنفة إرهابية لدى تركيا.

التصلّب في الموقف التركي وأجواء التسخين العسكري والسياسي، ارتفعت وتيرتهما، بعد قمة مدريد، والتي حسب التسريبات أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حصل على مكاسب سياسية خلال اللقاء الذي جمعه مع الرئيس الأميركي جو بايدن، تجلّى ذلك عبر إشارة أولى أتت من على متن الطائرة خلال رحلة العودة. بقول أردوغان عن العملية العسكرية “إنها ستأتي على حين غرة”. وجاءت الإشارة الثانية من نتائج زيارة وفد التحالف الدولي مناطق شرق الفرات بقيادة السيناتور ليندسي غراهام، وما حمله من عروض لقيادات “قسد” كان من شأنها إيقاف العملية العسكرية، وتقريب وجهات النظر بين جميع الأطراف. العرض قِيل إنّ تركيا أبدت موافقتها عليه، كونه يقضي بانسحاب قيادات الصف الأول من مليشيات “قنديل” التابعة لحزب العمل الكردستاني، استناداً إلى اتفاق سابق على المدينة، كان قد عُقد بين تركيا وإدارة الرئيس السابق ترامب، بالإضافة إلى فرض شروط أخرى على قوات “قسد”، أهمها منع التعامل مع النظام السوري وروسيا وإيران.

كان ذلك ما يتعلّق بمناطق شرق الفرات. أما الحديث عن منطقة تل رفعت، فقد أخبر الوفد أنّ هذا شأن ليسوا على علاقة به، ومعنى ذلك أنّ الضوء الأخضر الأميركي في تل رفعت موجود لتقويض النفوذ الروسي في غرب الفرات.

رفضت قوات سوريا الديمقراطية عرض التحالف، علماً أنّه جاء جزءا متكاملا لمناطق شرق الفرات، وسيجري نقاشُه في جلسة تعقد في أربيل لاحقاً، تهدف من خلاله واشنطن إلى تعزيز عوامل الاستقرار، وإنهاء حالة التوترات الأمنية مع تركيا، وتفعيل قرارات الإنعاش الأميركي للمنطقة بعد حزمة الاستثناء للمنطقة من قانون قيصر. فيما يكمن الهدف الفعلي في قطع الطريق على النفوذ الروسي، ومنعه من تثبيت نفوذه شرق الفرات. بدا الاستعجال لدى قوات “قسد” مدفوعا بقرار روسي ودعم من إيران، وقد أعلنت الأخيرة حالة الطوارئ، وبدأت تُروّج مشروع تحالف عسكري مع النظام السوري عبر إرساله أسلحة نوعية مع أرتال من الجنود وصلت إلى مناطق التماس، في ريفي منبج والرقة وحلب، تزامناً مع تعزيزات روسية جديدة من مدرعات وقوات مظلية إلى القامشلي وعين عيسى، ومحيط تل رفعت، دفع ذلك تركيا إلى إرسال تعزيزات جديدة انتشرت في مناطق التماسّ. وبذلك أصبح المشهد تحشيدا سورياليا متبادلا وتصعيدا من كل الأطراف في انتظار ساعة الصفر التي تبدو صعبة في الوقت الحالي، فإيران دخلت على الوساطة بين دمشق أنقرة، وواضح من سلوكها أنها لا ترغب في فتح جبهة جديدة ضدها، وخسارة الحليف التركي، بعدما شعرت بحجم الحرج الحالي بفعل التقارب التركي السعودي، والتركي الإسرائيلي، والهواجس المخفية من زيارة بايدن المنطقة. وبدأت روسيا تُمارس أساليب ضغط ناعم على خطوة تركيا الأولية بفتح باب حلف الناتو أمام السويد وفنلندا، من خلال رفع التأثير العسكري والوجود في شرق الفرات وغربه، وتوسيع هامش المناورة والوجود الإيراني في سورية، وحث الأكراد على رفض عرض غراهام إلى جانب استخدام فيتو أخيرا ضد مشروع قرار غربي لتمديد المساعدات الدولية عبر الحدود.

جديد الرسائل الروسية منح بشار الأسد رخصة الظهور في ساحات مدينة حلب، لأول مرة بعد سقوطها 2016، وقد جاءت الزيارة في محاولة إعطاء شرعية روسية لبشار ومن خلفه روسيا على بسط النفوذ شمال حلب، وأنّ أمام تركيا فرصة لإعادة التفكير باتفاق أضنة 1998 والتنسيق مع دمشق للتفاهم على وضع الحدود الأمنية، بدون الاستدارة نحو المقترح الأميركي.

وواقع الحال أنّ الوضع السوري ذاهب نحو مزيد من الاستعصاء والتصعيد الدولي، والصورة الحالية انعكاس فعلي عن مسألة التدويل للملف السوري، وربطه اليوم بشكل مباشر في الصراع الغربي الروسي الأوكراني الأوروبي، فلا روسيا عازمة على قطع شعرة معاوية مع الأتراك مدخلا إلى حل مستقبلي مع حلف الناتو، إلى جانب الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية وملفات التنسيق الدولي في البحر الأسود وشرق المتوسط، ودول البلقان، ولا تركيا راغبة في الانزياح الكامل نحو الحلف الغربي. وقد اتضح ذلك من خلال مسكها ورقة البرلمان التركي أمام مناورات السويد وفنلندا. وبهذه الورقة، اتضح أنّ أردوغان عندما ذهب إلى قمة مدريد قد نجا من مأزق دولي وقفز إلى الأمام، فبدلاً من أن يضع نفسه أمام كتلة أوروبية غربية ضده، رمى الكرة في أحضانهم وعاد منتصراً إلى تركيا محمّلا بثناء غربي أوروبي.

أما “قسد” فهي أقرب اليوم إلى الخيارات الصفرية، فكل حديثها عن دعم النظام السوري لها مجرد هالة إعلامية، فالقرار الأخير بيد روسيا، وعندما تحين لحظة الصفر، سيتم انسحاب سريع وإخلاء للمواقع التي سيجري التوافق عليها مع روسيا والأتراك، وإنْ هناك خصوصية لمناطق شرق الفرات، فطريق تل رفعت مفتوحٌ إما لفرض واقع جديد أمام روسيا أو بالتفاهم معها.

في جميع الأحوال، ومهما علت ذروة الخلافات التركية الروسية، فالمعارك والتجارب السابقة أعطتنا دروسا لا زالت صالحة، مفادها أنّ الجميع سيبقى يُراوغ سياسياً. أما ضمنياً، فهناك تفاهمات على الحفاظ على وحدة سورية وتقسيمها في آنٍ معاً.

العربي الجديد

—————————

عن عودة الوضع في سورية إلى “طبيعته”/ سوسن جميل حسن

قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في نهاية القمة التي انعقدت في طهران، وجمعته مع الرئيسين الإيراني، رئيسي، والتركي، أردوغان: إن الأطراف الثلاثة ملتزمة مواصلة الجهود الرامية إلى عودة الوضع في سورية إلى “طبيعته”.

أي طبيعة هذه التي يعملون على إعادة سورية إليها؟ لم يعد خافياً على أحد ما قامت به هذه الأطراف، وصنعت واقعاً في سورية، صار من الصعوبة البالغة إعادتها إلى نقطة انطلاق أحلام أبنائها بمستقبلٍ طالما تطلعوا إليه. فما الجديد في ما اتفق عليه، أو تداوله الرؤساء الثلاثة، عن الأزمة السورية الممتدة منذ سنوات، والمفتوحة على آجالٍ لا يمكن التكهّن بها؟

العنوان العريض، الذي شكّل حمّالة الذرائع على طول الأزمة السورية هو: محاربة الإرهاب، ولأجل هذا “الإرهاب” متعدّد الوجوه، دارت المعارك الطاحنة، معارك حرب المصالح بين قوى العالم، الكبرى والإقليمية، على أرض سورية، فكانت النتيجة دماراً شاملاً وتهجير نصف الشعب وإفقار الباقي وتجويعهم. لقد مارسوا الإرهاب بأبشع أساليبه وصوره بحق شعب ودولة يُفترض أنها ذات سيادة، لكن المؤسف أن الحقيقة التي يجب عدم إغماض العينين عنها، أن الشعب السوري، في الأساس، كان فاقد السيادة على قراره ومصيره ومستقبله، فكانت النتيجة استدعاء هذه القوى وانقسام الشعب وتشرذمه وارتهانه إلى تلك الإرادات الخارجية، وفقدانه حتى القليل الذي كان يمتلكه من قراره وحياته.

أعرب الرؤساء عن رفضهم المحاولات الرامية إلى “إيجاد حقائق جديدة على الأرض بذريعة مكافحة الإرهاب، بما في ذلك مبادرة الحكم الذاتي غير المشروعة، وأعربوا عن تصميمهم على الوقوف في وجه المخطّطات الانفصالية الهادفة إلى تقويض سيادة سورية وسلامتها الإقليمية”. والواقع أن تركيا ماضية في هدفها بشنّ عملية عسكرية لضمان عمق ثلاثين كيلومتراً في الأراضي السورية، وإيران تدافع عن وجودها الراسخ في سورية، وروسيا التي لها عدة قواعد عسكرية، والاثنتان لهما عدو يجاهران بعداوته: أميركا. هكذا، بمنتهى الوضوح والفجور يتكلمون عن السيادة، بينما يجتمعون ليتدارسوا قضية شعبٍ بكامله، ويتفاوضوا ويجترحوا الحلول، ولا وجود لممثلٍ عن هذا الشعب، فأين السيادة، يا سادة؟

وهم إذ جدّدوا تأكيد التزامهم استقلال الأراضي السورية ووحدتها، فهذا لا يعدو أن يكون كلاماً بلا حياء، لأن واقع سورية بات مقسّماً، تحتل سماءه راياتٌ بألوان متعدّدة، وفوق أرضه مئاتٌ من المواقع العسكرية لجيوش لا عدّ لها. وفي ما يتعلق باللاجئين والنازحين وضرورة عودتهم الآمنة إلى بلادهم، فإن عودتهم التي يطالبون بها مرهونة بما تؤول إليه المفاوضات والاتفاقيات ومدى القدرة على تنفيذها، ومدى توافر الشروط اللازمة لهذه العودة في سورية، فإلى أين يعود المهجّرون، وما زالت سورية بلاداً ترزح تحت ركامها على مختلف الأصعدة؟ لا بنى تحتية، لا مساكن تُؤوي العائدين، لا خدمات، لا فرص عمل، لا أمن لا أمان، مهما قيل عن انتصارات وعن عودة الحياة إلى “طبيعتها”، وهذا معروف للقاصي والداني، عدا عن أن اللاجئين ورقة في بازارات السياسة في بلدان الجوار التي يشكلون فيها الغالبية العظمى من حالات اللجوء، كلبنان وتركيا.

أمّا تأكيدهم ضرورة “الحفاظ على الهدوء في منطقة خفض التصعيد في إدلب، عبر تنفيذ جميع الاتفاقيات المتعلقة بها بشكل كامل” مع التعبير عن “القلق” من وجود أنشطة “الجماعات الإرهابية” التي تشكل خطراً على المدنيين داخل المنطقة وخارجها، فيستدعي هذا الكلام إلى البال مباشرة ظهور زعيم هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، أبو محمد الجولاني، الذي عوّدنا على ظهوره كل مرّة بجديد يبثه إلى الخارج والداخل، إنْ بواسطة هيئته، أو خطابه، في محاولة لتمويه صورته ومنحها بعضاً من الحداثة وخطب ودّ أميركا والغرب من أجل شطبه عن لائحة الإرهاب، منذ تصريحه للصحافي الأميركي، مارتن سميث، في فبراير/ شباط 2021، عندما قال: “هيئة تحرير الشام لا تشكل أي تهديد للولايات المتحدة، وعلى الإدارة الأميركية رفعها عن قائمتها للإرهاب”. وأضاف: “كنا ننتقد بعض السياسات الغربية في المنطقة، أما أن نشن هجمات على الدول الغربية، فلا نريد ذلك”، متراجعاً عن تصريحاته السابقة عن محاربة أميركا، كما جاء في رسالته الصوتية في 28 سبتمبر/ أيلول 2014، بأنه سيحارب الولايات المتحدة وحلفاءها، وحثّ مقاتليه على عدم قبول مساعدة الغرب في معركتهم مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

الجولاني، الشخصية البراغماتية، الذي ظهر، أخيراً، في اجتماعه مع وجهاء إدلب وأعضاء حكومة الإنقاذ، في أيام عيد الأضحى، وقدّم نفسه فيه زعيم دولة، يفصح عن طموحه في محاربة نظام الأسد، وتحرير مناطق سورية، وعدّدها مبتدئاً بمدينة حلب، وإقامة الكيان “السُّني” باعتبار أن جماعة السُّنة التي تشكل الأغلبية الكبرى من الشعب السوري تعرّضت للظلم والتهجير والإبعاد والاعتقال وغيره، وأكّد أنه يمتلك قرار الحرب والسلم، وليس التأخر في بدء المعارك إلا بسبب الظروف الإقليمية والدولية، مع تأكيده أن روسيا لم تضعف في سورية، بسبب حربها في أوكرانيا، مثلما لو أنه يستبق معركته بإعطائها أهمية كبرى، لكونها ستقارع دولة قوية، كأنه يلوّح بقوته التي مع غيرها من المعطيات والطروحات التي جاءت في خطابه تجعلنا نتساءل: ما معنى ظهوره أخيراً هذا، بهذه الأفكار واللهجة والوعيد؟ إذ لا يمكن أي عمل عسكري بهذا الحجم والهدف أن يجري من دون موافقة الدول العظمى، والإقليمية، وخصوصاً روسيا وتركيا وإيران. وبدا أن مشروعه بات يتخذ ملامح أخرى، فأهدافه لا تقف عند المنطقة التي يديرها، بل يسعى إلى مزيد من التوسّع ومزيد من السيطرة، وهو لا يمانع الاندماج مع الجيش الوطني، متكئاً على حجّة أن الأهالي يطالبونه من أجل إدارة مناطقهم وضبط الفوضى التي تتفشّى ويعانون منها في ريفي حلب الشرقي والشمالي. فهل يستطيع الجولاني، الذي لم يستطع أحد التأكد من اسمه الحقيقي بين من يقول إنه أسامة العبسي الواحدي، ومن يؤكّد أنه أحمد حسين الشرع، تسويق نفسه ومشروعه؟ وهل ما يطمح إليه السوريون، بعد كل هذا الجحيم والخراب الناجمين عن صرخة الحرية، أن يكون لديهم “كيان” عوضاً عن دولة حديثة، يتزعمها رجل لا أحد يستطيع تأكيد اسمه؟

يثير ظهور الجولاني هذا، قبيل انعقاد قمة ضامني أستانة في طهران، الأسئلة عن علاقته في ما يحضّر في القريب لسورية والشعب السوري، والواضح أن الأطراف لم تأتِ بجديد سوى الكلام المستعاد والعبارات الفضفاضة، وعلى المختصّين والخبراء أن يفتشوا ما بين السطور، أما الأناس العاديون فليس لديهم ما يؤهلهم ليفهموا خطابات السياسيين ومراوغاتهم، عدا عن مشكلاتهم وقضاياهم الكبرى التي باتت تنحصر في رغيف الخبز وتأمين الحد الدنى من أسباب البقاء. لكنهم، وللحق والحقيقة، أعادوا الكلام الممجوج، منذ بيان جنيف في عام 2012، أن لا حلّ للصراع في سورية من طريق الحل العسكري، بل بإطلاق عملية سياسية يقودها السوريون، تماشياً مع قرار مجلس الأمن 2254، مع الإشارة إلى الدور المهم للجنة الدستورية المنبثقة من جهود ضامني أستانة، التي أوشكت على إتمام الأعوام الثلاثة على تأسيسها من دون التقدم خطوة إلى الأمام، وتنفيذ قرارات مؤتمر الحوار السوري في سوتشي. وأعربوا عن استعدادهم لدعم التفاعل المستمر مع أعضاء اللجنة والمبعوث الخاص، غير بيدرسون، من أجل أن تتمكّن اللجنة من تنفيذ مهامها في إعداد إصلاحات الدستور وصياغتها لإخضاعه للتصويت الشعبي “من دون تدخل أجنبي”، هذه الجملة التي تتكرّر دائماً بلا خجل.

ودرءاً للخجل، جاء في نهاية البيان المنبثق من القمة المذكورة، إدانة للعمليات العسكرية الإسرائيلية في سورية، واعتبارها انتهاكاً للقانون الدولي، و”سيادة” سورية ووحدة أراضيها، وتزيد من التوتر في المنطقة، وهذا صحيح، لكن ماذا عن انتهاكات كل هذه الأطراف القوانين الدولية والسيادة والسطو على الأرض والثروات وحياة الشعب ومصيره؟ هذا ما وصل إليه الزعماء الضالعون في مأساة الشعب السوري، فأين الوضع الطبيعي الذي يصرّح بوتين بأن سورية يجب أن تعود إليه؟

العربي الجديد

———————

أخوّة العقوبات بين روسيا وإيران/ بسام مقداد

على الرغم من أن نتائجها جاءت متواضعة، إلا أن قمة ترويكا أستانة في طهران لا تزال تحظى بحيز واسع من إهتمام مواقع الإعلام الروسية والناطقة بالروسية. أحد الخبراء بالشأن التركي والإيراني وصف القمة بأنها “سياسية أيدولوجية” في المقام الأول. ونقلت عنه الخدمة الروسية في”الحرة” الأميركية  قوله بأن المقصود منها،كما يبدو، كان الرد على زيارة الرئيس الأميركي للشرق الأوسط. فواشنطن تحاول جمع تكتل مؤيد لها في المنطقة، يجمع بين إسرائيل ودول الخليج السنية، وذلك للحد من نفوذ إيران وروسيا في المنطقة وإستقلالية تركيا المتعاظمة بقيادة أردوغان التي تثير حذر واشنطن. ولذلك رأى الخبير أن قمة قادة ترويكا أستانة كانت تهدف لإبراز إستقلالية سياسة هذه الدول، وأكثر ما كان يهم الإيرانيين فيها إستخدامها كورقة ضغط على الولايات المتحدة لتحريك مفاوضات فيينا. والأمر عينه بالنسبة لأردوغان الذي يحاول أن يقول للأميركيين “من الأفضل لكم أن تستمعوا إلي، أو سأتصادق مع أعدائكم”.

وينقل الموقع عن خبير روسي آخر بالشأن الإيراني بأنه خلال 10 – 15 سنة الأخيرة، وعل الرغم من جميع التصريحات الرنانة التي تتردد دورياً برفع حجم التبادل التجاري إلى 10 مليارات دولار، لم يتعد هذا الحجم 3 مليارات.

قبل يومين من القمة قال مستشار الرئيس الروسي يوري أوشاكوف بأن روسيا وإيران ستناقشان إتفاقية بين الدولتين كفيلة “برفع العلاقات الثنائية إلى مستوى جديد من الشراكة الإستراتيجية”. ورأى الناطق بإسم الكرملين في مقابلة مع صحافي إيراني عشية القمة بأن  ما يجمع إيران وروسيا بشدة هو “تعودهما على العيش في ظل العقوبات الغربية.

الإتفاقية التي تحدث عنها أوشاكوف لم يأت على ذكرها أحد أثناء محادثات بوتين مع المرشد علي خامنئي والرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي. والحديث عن الإتفاقية رافق زيارة الرئيس الإيراني إلى موسكو مطلع السنة الحالية، إلا أنه قيل حينها أنه لن يتم التوقيع عليها لأن الجانب الإيراني كان لا يزال يحتاج إلى وقت لاستكمال نصوصها، حسب ما أكدت ل”المدن” منذ أيام الباحثة الروسية من أصل إيراني لانا راوندي فدايي.

تطور العلاقات الروسية الإيرانية في ظل العقوبات الغربية على البلدين كان محور إهتمام المواقع الإعلامية المذكورة. فقد نشرت صحيفة NG الروسية يوم إنعقاد القمة نصاً بعنوان “إيران تُعلّم روسيا التعود على العقوبات”. قالت الصحيفة إن زيارة بوتين لطهران هي الثانية له إلى الخارج، بعد زيارته تركمانيا لحضور قمة قزوين السادسة نهاية الشهر المنصرم. ورأت أن روسيا وإيران حاولتا إثبات أن التطابقات في سياستهما الخارجية أكثر من الإختلافات.

تقول الصحيفة أن رفض روسيا لسويسرا  كمكان لمفاوضات الدستورية السورية بسبب إنضمامها إلى العقوبات الغربية ضد روسيا، جعل البحث مؤكداً في مكان آخر للمفاوضات خلال قمة ترويكا أستانة. وتنقل عن الممثل الخاص للرئيس الروسيا في سوريا ألكسندر لافرنتيف إقتراح الإمارات، البحرين، كازاخستان وعُمان كمكان محتمل للمفاوضات الدستورية السورية.

تشير الصحيفة إلى أن إستطلاعات السوسيولجيين تقول بأن الروس ليسوا، إجمالاً، ضد تطوير العلاقات مع إيران، “إلا أنهم لا يعقدون آمالاً كبيرة عليها”. والأصح، برأيها، القول أن هذا البلد بالنسبة “لمواطنينا” هو “قيمة غير محددة”. وتنسب إلى إستطلاع رأي إستنتاجه بأن 43% من الروس يعتبرون إيران بلداً صديقاً و15% لا يعتبرونها كذلك، في حين أن 43% يجدون صعوبة في الإجابة. وتقول بأن جيل الشباب هو الأكثر سلبية في موقفه من إيران ، في حين أن الأجيال الأكبر سناً أكثر إيجابية في موقفها. وينسحب هذا التقسيم في الرأي العام الروسي على المواجهة مع الغرب وعلى “العملية” الخاصة في أوكرانيا.

تنقل الصحيفة ما نشره عدد من الناشطين الروس عن العلاقات مع إيران، وكان معظم ما نشر يتماهى مع الموقف الرسمي الروسي في تفاؤله بتطور هذه العلاقات. وتعلق الصحيفة بالقول أن بين المشاركين في الإستطلاع تعددت الآراء التي ترى أن المهم لروسيا دراسة تجربة إيران العيش في ظل العقوبات، “من يدري، قد نحتاج إلى هذا”.

موقع News.ru الروسي أشار إلى أنه تم التوقيع خلال زيارة بوتين على مذكرة تقضي بإستثمار عملاق الغاز الروسي”غازبروم” على إستثمار 40 مليار دولار في الصناعة النفطية الإيرانية. ورأى خبير روسي في الشأن الإيراني أن المذكرة كفيلة بتدوير زوايا أية تناقضات قد تبرز بين الطرفين في حال رفعت إيران صادراتها من النفط والغاز بعد إختتام مفاوضات فيينا إيجابياً. والمذكرة، برأيه، تجعل إيران وروسيا شريكين وليس متنافسين فقط في تصدير الهيدروكربونيات.

خبير روسي آخر عبر للموقع عن رأي معاكس كلياً لرأي الخبير الأول، حيث رأى أن المذكرة ليست سوى إعلان نوايا فقط. وسبق للطرفين أن وقعا على العديد من المذكرات التي لم تنفذ.

نهاية شهر أيار/مايو المنصرم نشر موقع المجلس الروسي للعلاقات الخارجية RIAC نصاً بعنوان “الإتجاه الإيراني: لماذا تحتاج روسيا للإنهماك بالجمهورية الإسلامية”. يرى كاتب النص، خبير المجلس بالشأن الإيراني، أن العلاقات الروسية الإيرانية ستتطور في المرحلة الراهنة إلى مستوى جديد . فلا يلوح في المستقبل الكثير من الخيارات، ومواطني البلدين سوف يبحثون عن فرص التعاون المتبادل. وفي الوقت عينه لا تزال ضعيفة ملامح أشكال هذا التعاون، بل يمكن القول بأن علاقات البلدين هي في مرحلة إنتقالية. وما هو في غاية الأهمية لروسيا، برأيه، ليس التعاون الإقتصادي التجاري مع كل أهميته، بل ما يمكن أن تقدمه إيران لروسيا من تجربة التطور في ظل العقوبات الغربية القاسية.

يشير الكاتب إلى حدثين مهمين في العلاقات بين البلدين في العام الجاري: زيارة الرئيس الإيراني لموسكو مطلع السنة الحالية وزيارة نائب رئيس الوزراء الروسي لشؤون الطاقة ألكسندر نوفاك لطهران خلال أيار/مايو. وجاءت زيارة نوفاك على خلفية العقوبات القاسية غير المسبوقة ضد روسيا نتيجة “الأحداث” في أوكرانيا.

يتحدث الكاتب عن تطور التبادل التجاري الذي تغلب عليه السلع الزراعية، وعن علاقة الإيرانيين السلبية تجاه التعاون مع روسيا، خاصة وسط الفئات المتوسطة في المدن الإيرانية، وعن أهمية تطوير التبادل التجاري بالعملتين الوطنيتين.

ويقول إن أشد ما يعني روسيا في إيران هو تجربتها مع العقوبات الغربية. روسيا اليوم هي في وضع مجابهة إقتصادية غير مسبوقة مع الغرب، والبلد الوحيد الذي يقارن وضعه بوضع روسيا هو إيران في  الحرب المالية الضروس التي أعلنتها ضدها الولايات المتحدة وأوروبا. وتجربة إيران بين العامين 2012 و2018 أظهرت أن ليس الإقتصاد الأكثر دينامية وتطوراً تكنولوجيا هو القابل للتحولات البنيوية في ظل ضغط العقوبات. وتظهر هذه التجربة الآثار السلبية للعقوبات أنه لا يمكن التخلص منها كلياً لا على المدى القريب ولا البعيد. لكن الجدير بالذكر أن طهران تمكنت من تخفيف وطأة العقوبات في فروع الإقتصاد الرئيسية، وثمة ما يبرر الإفتراض أن روسيا ستصمد أمام ضغط العقوبات. فالدولة الروسية هي في وضع أقوى من الوضع الذي كانت فيه إيران في بداية الحرب المالية.

لكن الإستخدام الفعال لتجربة الآخر تتطلب، برأيه، دراستها المعمقة، وبالتالي فإن دراسة إيران المعاصرة تصبح مسألة ضرورية من أجل تطور روسيا الطبيعي

المدن

—————————

قمّة طهران.. إلى أين تتجه العملية السياسية؟/ محمد السكري

تزامنت قمّة طهران الأخيرة في إطار مسار أستانا، على صعيد الرؤساء مع تعطّل العملية السياسية أي اللجنة الدستورية لأول مرّة منذ بداية المسار في تشرين الثاني/ نوفمبر، 2019. مع أنّه يُعنى بالملفات الأمنية والاقتصادية لا سيما تلك الخاصة بالعملية العسكرية التركية ومساعي المنطقة الآمنة، إلّا أن الملف السياسي السوري لم يغب عن مخرجات القمّة فقد أشار لبيان جنيف (1) والقرارات ذات الصلة لا سيما القرار الأممي (2254) كمرجع أساسي للعملية السياسية واستمرار العمل والتنسيق وصولاً لإيجاد حل مستدام.

اللافت، عدم الإشارة إلى مصير النظام السوري أو الانتقال السياسي، من قبل الدول الثلاثة. في حين، كان التركيز على مسارٍ سياسي يحافظ على سيادة الدولة ووحدة الأراضي السورية، لربما هذه محاولة لترحيل الملفات الخلافية لا سيما مصير رئيس النظام السوري “بشار الأسد” وماهية العملية السياسية. لعلّ الخلاف المركزي في هذا المحور حول طبيعة العملية السياسية، أي القراءات المتباينة للقرارات الدولية بين ما نتج عن مؤتمر سوتشي الروسي، والمسار الذي ترعاه الأمم المتحدة، مع ذلك كان هناك تماهٍ تركي مع موسكو وطهران في الانتقال لسلة الدستور رغبةً منها في ربط المسار السياسي بتطورات “تجميد النزاع”.

مع ذلك، لم ينتج عن إدارة هذه التقاطعات أي بوادر للتقارب، بل عمّقت الفجوة وأفقدت العملية السياسية جوهرها لا سيما حول “الانتقال السياسي” الذي على ما يبدو بات خارج إطار الطرح كلياً مع أنّه في صلب القرار كنتيجة ومحصلة. لكن القراءة الروسية-الإيرانية مختلفة بشكل كامل فروسيا باتت غير مقتنعة لحدٍ بعيد حتّى بالمسار الذي فرضته كأمرٍ واقع مع تراجع الاهتمام الأميركي لا سيما خلال ولاية الرئيس السابق “دونالد ترامب” وهذا ما دفعها لأن تصبح جزءًا من التعطيل أكثر من أنها جزء من الحل، متماهية مع الموقف الإيراني.

فعلى سبيل المثال؛ صرّحت روسيا على المستويين الفني والرئاسي كان آخرها على لسان المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتيف، في كانون الأول/ ديسمبر، 2021 بأنّ الغرض من اللجنة الدستورية يجب ألا يهدف إلى تغيير السلطة في سوريا، وهذه كانت نقطة ارتكاز تعّبر بوضوح عن النظرة الروسية للقرارات الدولية التي لطالما تشير لها؛ أي أنّها لا تخرج عن إطار تشكيل “حكومة تكنوقراط” مع إبقاء الهيمنة للنظام السوري على شكل السلطة وإدارة الحكم.

ومن هنا، يمكن الإشارة إلى نقطة عدم التقاطع بين الموقفين التركي والروسي، فتركيا قد تكون تنازلت عن فكرة الانتقال السياسي وما يتبعه من تحوّل ديمقراطي، الذي قد يرافق العملية السياسية بما في ذلك مصير رئيس النظام السوري، لكنها تدعم بقوّة ضرورة إشراك المعارضة في السلطة، وقد يكون الهدف من ذلك غير مرتبط فقط بضرورة التوصل لتفاهم أو حل، بقدر الحفاظ على مكاسبها التي حققتها في سوريا، والتي لا بدّ أن تمر عبر المشاركة في السلطة والتأثير في الحياة السياسية السورية بالقدر الذي يساعدها على تنفيذ أو تمرير سياستها والحفاظ على استدامة “المنطقة الأمنية” التي تريدها أي طوق عمقها الجيواستراتجي في الأراضي السورية.

لذا، تعتبر موسكو، هذا الطرح غير مقبول، مما يدفعها لمعارضة أي عملية عسكرية تركية، فالقضية بالنسبة لها غير مرتبطة فقط بتوزع النفوذ، وإنما الخشية من الاستثمار التركي من هذا التوسع لينعكس على العملية السياسية، وهذا يفضي لمنح أنقرة نقاطا بالمجان على حساب منافسيها. مما يعني أنّ طبيعة هذه العملية التي تتوافق عليها الأطراف غير موجودة من الأساس. ما يعزز القول بأنّها مجرد غطاء لاستمرار حالة إدارة الوقت والتمترس النسبي خلف المنجزات المرحلية التي تحققت على الصعيد النفوذي.

الحقيقة، أنَّ جوهر العملية السياسية بالنسبة لقوى الصراع بالقياس إلى الملفات المركز عليها هي أدوات بناء الثقة أي؛ التعافي المبكر، فكلِ دولة تنظر لهذا المسار بكونه مؤصّلا لمرحلة قادمة قد تفتح الأفق أمام جملة من المتغيرات. بالتالي، قد تساهم في إحداث خرقٍ بصرف النظر عن ماهيته. تركيا، ترنو لأن يساهم المسار في إنماء المناطق التي تسطير عليها وإعادة اللاجئين السوريين وبناء المنطقة الأمنية التي تريدها، وتنظيم ومأسسة عمل هياكل المعارضة، لا سيما على صعيد الإنماء والإدارة والحوكمة. في حين، موسكو تأمل بأنّ التعافي قد يمنحها القدرة على التحرك في خضم تحريك ملف إعادة إنتاج النظام على الصعيد الدولي والإقليمي لا سيما في إطار مسار تطبيع العلاقات الذي يشهد مداً وجزراً.

صحيح، أن لإيران وجهة نظر مختلفة عن روسيا، إلّا أنّها متماهية معها لحدٍ بعيد، في الأصل طهران موقفها أكثر صلابةً من موسكو، إذ ترفض إشراك المعارضة في السلطة على جميع المستويات. لكن، يبدو أنّ تعقّد المشهد جعلها منساقة مع الموقف الروسي، طالما أن المسار السياسي لن يؤدي إلى النتائج المرغوب بها. وهنا، يكمن التركيز الإيراني، على مسار التعافي في تقويض العقوبات الاقتصادية التي تستهدف شخصيات مرتبطة بها بشكل شللي، والاستفادة منه في الاستثمار بملف المساعدات الإنسانية لأجل إعادة الإعمار لا سيما بشأن المشاريع التي تشرف عليها في دمشق ومحيطها.

على أيّ حال، كل هذه المعطيات تُشير بأنّ مخرجات قمّة طهران على الصعيد السياسي، توحي برغبة العودة إلى اللجنة الدستورية، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة النظر بملفين؛ الأول، مرتبط بالمكان الذي بات لدى روسيا تحفظات حوله في انعكاسٍ للحرب الأوكرانية. الثاني، بتقليل الهوّة بين وفدي النظام والمعارضة.

والمؤشرات قد تدل، بأنّ المطلوب ليس تقديم النظام التنازلات، بل المعارضة خاصةً على صعيد أجندة التفاوض، وآليات الخطاب الذي بالفعل قدمت المعارضة فيه تنازلات كبيرة كان آخرها وصف وفد النظام بـ “وفد الجمهورية العربية السورية” في بيانٍ صحفي للمرّة الأولى خلال تعطيل روسيا للجنة الدستورية.

تلفزيون سوريا

———————–

قمة طهران و”الإرهاب” في سوريا/ رضوان زيادة

اجتمع رؤساء الدول الثلاث الضامنة لما يسمى “مسار أستانا” تركيا وروسيا وإيران في طهران، وحظيت هذه القمة باهتمام إعلامي كبير، طبعا ليس بسبب الاهتمام بسوريا فجأة وإنما بسبب حضور الرئيس بوتين لها في أول لقاء بين الرئيس الروسي خارج موسكو منذ بدء حربه على أوكرانيا ودولة عضو في حلف الناتو وهي تركيا، وهو ما اعتبر فرصة للمفاوضات حول تصدير القمح الأوكراني الذي يفوق على 22 مليون طن من القمح تمنع روسيا تصديره من الموانئ الأوكرانية وهو ما سينعكس كأزمة غذاء عالمية خاصة على دول الشرق الأوسط وأفريقيا التي تعاني من نقص الحبوب منذ بدء الحرب على أوكرانيا.

بالعودة إلى سوريا في القمة كانت مثيرا ولافتاً ما جاء في البيان الختامي عن “وحدة الأراضي” السورية وعن “محاربة الإرهاب في سوريا” فالكل يستخدم سوريا أرضا لمحاربة الإرهاب لكن الكل يفهم الإرهاب كما يرغبه ويعنيه، فروسيا كما إيران تعتبر كل من عارض نظام الأسد إرهابيا وجب قصفه وقتله كما فعلت منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015 كما مارست إيران حملة أمنية شرسة لتساعد نظام الأسد في اعتقال المعارضين وتعذيبهم حتى الموت مع بدء الثورة السورية عام 2011 حيث أعارت نظام الأسد خبرتها في قمع الثورة الخضراء في إيران عام 2008 والتي زجت خلالها إيران ميليشيات موالية لها على الأرض من اعتقال المعارضين وسحلهم في الشوارع وقتلهم ومن ثم اتهام مجموعات مسلحة بالقيام بذلك كي تضيع المسؤولية القانونية كليا وكي تشيع الرعب والخوف في نفوس المتظاهرين السلميين، وقد طبق الأسد هذه الاستراتيجية بحرفيتها مع ما يسمى ميليشيا الدفاع الوطني والشبيحة وغيرهم من الميليشيات الحكومية التي أبدعت في إدخال الرعب لدى المتظاهرين السلميين السوريين ومن ثم القيام بقتلهم وتعذيبهم مسكونة بحقد طائفي لا حدود له، ومتحركة على مبدأ اللامسؤولية القانونية الكاملة على كل ما تفعله عبر القتل والتعذيب لأي مشارك في هذه المظاهرات دون محاسبة أو عقاب، فقد أصبح القتل مشروعا تماما بل وتشجعه الحكومة وتكافئ من يقوم به ضد هؤلاء “الإرهابيين” وربما ما ظهر في فيديو مجزرة التضامن عينة بسيطة جدا مما مارسته هذه الميليشيات من عام 2011 وحتى عام 2015 وربما بشكل أقل بعد ذلك.

أما تركيا فمفهومها للإرهاب مختلف كليا إذ هي تعني قسد أو ما يطلق عليها قوات سوريا الديمقراطية التي هي النسخة السورية الحرفية من حزب العمال الكردستاني في سوريا والتي تهدف إلى بناء حكم ذاتي لها مستقل في سوريا وتخاف اليوم من العملية العسكرية التركية التي تحدث عنها الرئيس التركي مرارا مما دفعها للتحالف مع نظام الأسد ضد تركيا، ولذلك كان طريفا أن يتحدث البيان عن مكافحة الإرهاب لكن دون تحديد ما هو الإرهاب حقاً خاصة أن معظم الشعب السوري بما فيهم المعارضة السورية تعتبر أن الحكومة السورية هي التي تمارس إرهاب الدولة على مستويات لم يسبق لها مثيل من خلال قصف البراميل المتفجرة والقصف العشوائي والاعتقال والتعذيب حتى الموت إلى غير ذلك مما وثقته كل التقارير الدولية كتقارير الأمم المتحدة وتقارير المنظمات الدولية ولذلك كيف يقوم الرؤساء الثلاث بإصدار بيان يعرفون تماما أن تطبيقه يجري على عكسه وأن كل طرف على الأرض ينفذ وفقا لما يريد وفق معادلة تغيير الحسابات على أرض الواقع، برأيي هذا أكبر دليل على فشل هذه القمة حيث يستمر هذا المسار في تكرار الكذب حول سوريا دون أن يكون هناك توجه لقبول ما يرغب به الشعب السوري من حقه في تغيير حكومته واختيار رئيسه عبر انتخابات نزيهة وديمقراطية وهو ما يؤكد مجددا ما رددته البيانات الدولية الجوفاء منذ سنين حول “الحل السياسي” في سوريا وحول “وحدة الأراضي السورية” بينما التقسيم هو الحل والخيار الوحيد على الأرض.

تلفزيون سوريا

—————————

أقوى من الصواريخ”.. على ماذا يراهن بوتين الآن في حرب أوكرانيا؟

كشف تحليل نشرته وكالة رويترز للأنباء أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يراهن على “سلاح” قديم اعتبرته أقوى من الصواريخ التي تزودها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بها أوكرانيا، وهو الوقت.

فبعد ما يقرب من خمسة أشهر منذ أمر بوتين بغزو أوكرانيا في 24 فبراير، تأمل روسيا في أن يضعف عزم الغرب بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء العالمية التي ساعدت الحرب على تأجيجها.

وعبر مسؤولون روس ومحطات تلفزيونية حكومية عن سعادتهم علنًا بسقوط رئيسي الوزراء البريطاني والإيطالي بوريس جونسون وماريو دراجي، على التوالي، ووصفوا استقالاتهما كنتيجة لعقوبات “إيذاء النفس” التي فرضها الغرب على روسيا.

وسأل بعضهم ساخرا.. من سيكون التالي الذي يسقط؟

أخبر بوتين، الذي سيبلغ السبعين من عمره في أكتوبر، الغرب هذا الشهر أنه بدأ لتوه حربه على أوكرانيا وتجرأ على الولايات المتحدة، التي تتمتع بتفوق عسكري اقتصادي وتقليدي على روسيا، في أن تحاول هزيمة موسكو،  وقال: “سوف تفشلون”.

مدير وكالة المخابرات المركزية، والسفير الأميركي السابق في موسكو، وليام بيرنز قال خلال منتدى آسبن الأمني هذا الأسبوع: “رهان بوتين أنه يمكن أن ينجح في حرب استنزاف طاحنة”.

ويراهن بوتين، على أنه يستطيع “خنق الاقتصاد الأوكراني، وإرهاق القيادات الأوروبية، وحتى الولايات المتحدة”، وفق بيرنز.

وقال بيرنز، الذي أرسله الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى موسكو في نوفمبر الماضي لتحذير بوتين من عواقب غزو أوكرانيا، إنه يعتقد أن رهان الرئيس الروسي سيفشل.

لكن الكرملين لا يظهر أي علامة على التراجع، حيث يصر على أن  روسيا ستحقق جميع أهدافها في أوكرانيا.

وزير خارجية بوتين منذ 18 عامًا، سيرغي لافروف، قال الأربعاء، إن طموحات روسيا في أوكرانيا تتجاوز الآن منطقة دونباس الشرقية لتشمل مساحة كبيرة من الأراضي في الجنوب و “عددًا من الأقاليم الأخرى”.

مسيرة الضم

قال مجلس الأمن القومي الأميركي، الثلاثاء، إن لديه معلومات استخبارية تفيد بأن روسيا تستعد لضم كل منطقة دونباس، وكذلك الأراضي الواقعة على طول الساحل الجنوبي لأوكرانيا، بما في ذلك خيرسون وزابوريجيه.

وهذا من شأنه إضفاء الطابع الرسمي على السيطرة الروسية على أكثر من 18٪ من الأراضي الأوكرانية بالإضافة إلى حوالي 4.5٪ التي استولت عليها موسكو في عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم.

وقال لافروف إنه إذا قدم الغرب المزيد من الأسلحة طويلة المدى لأوكرانيا، مثل أنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة (HIMARS)، فإن “شهية” روسيا ستزداد أكثر.

تعليقا على ذلك،  قال فلاديسلاف زوبوك، وهو أستاذ التاريخ الدولي في كلية لندن للاقتصاد: “يبدو أن الرسالة الخطابية التي يرسلها لافروف إلى الغرب هي: كلما طال أمد الحرب، زاد عزمنا”.

يذكر أن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، قال في مناسبة سابقة إن الولايات المتحدة، التي قدمت أكثر من ثمانية مليارات دولار كمساعدات أمنية لأوكرانيا، سترسل أربعة أخرى من أنظمة HIMARS إلى كييف.

كيف ستنتهي الحرب؟

قال باري آر بوزن، أستاذ فورد الدولي للعلوم السياسية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: “أفضل السيناريوهات هو أن الحرب ستنتهي إلى مأزق، نحن متجهون نحو فترة قبيحة من التجارب السياسية والعسكرية تليها تسوية غير مريحة وغير مشروعة لنزاع مجمّد”.

ومنذ أن سلم بوريس يلتسين، رئيس روسيا السابق، الحقيبة النووية لبوتين في اليوم الأخير من عام 1999 ، كانت أولوية بوتين هي استعادة بعض من مكانة القوة العظمى على الأقل التي فقدتها موسكو عندما انهار الاتحاد السوفيتي في عام 1991.

ووجه بوتين انتقادات متكررة للولايات المتحدة لقيادتها توسع حلف الناتو شرقا، وخاصة ما وصفه بمغازلتها الجمهوريات السوفيتية السابقة مثل أوكرانيا وجورجيا اللتين تعتبرهما روسيا جزءًا من مجال نفوذها.

وأشار بوتين إلى أن مثل هذه التحركات تهدف إلى إضعاف روسيا عن عمد، وحتى تدميرها.

بوتين قدم مجموعة متنوعة من التبريرات لغزوه أوكرانيا، لكنه صورها بشكل متزايد على أنها معركة وجودية مع الغرب ستعيد نتيجتها تشكيل النظام السياسي العالمي.

ومع استمرار روسيا في تصدير ثروتها الهائلة من الموارد الطبيعية، وبدعم حاسم من الصين، يراهن بوتين على أن روسيا يمكن أن تقيد أوكرانيا ببطء.

الخسائر

تقدر المخابرات الأميركية أن حوالي 15000 روسي قتلوا حتى الآن في أوكرانيا، وهو ما يعادل إجمالي عدد القتلى السوفييت خلال احتلال موسكو لأفغانستان في 1979-1989.

قال بيرنز إن الخسائر الأوكرانية ربما تكون أقل بقليل من ذلك، كما تعتقد المخابرات الأميركية، بينما لم تقدم أوكرانيا ولا روسيا تقديرات مفصلة لخسائرهما.

وقال بيرنز “(بوتين) حقا رسول الثأر” وأضاف “انه مقتنع بأن مصيره.. هو استعادة روسيا كقوة عظمى”.

ثم أكد أن الوقت وحده هو الذي سيحدد ما إذا كان الرهان الأكثر خطورة من حكم بوتين الذي دام 22 عامًا سيؤتي ثماره.

الحرة

——————————

روسيا وتركيا وإيران «تدفن» مسار جنيف السوري

البيان الختامي لـ«قمة طهران» لم يعكس الخلافات بين البلدان الثلاثة

موسكو: رائد جبر

قد يكون على المتابع أن يعيد قراءة البيان الختامي المشترك بتمعن مرات عدة، ليعثر على بعض الفروقات الطفيفة التي ميزت القمة الأخيرة لرؤساء البلدان الضامنة وقف النار في سوريا عن سابقاتها من اللقاءات المماثلة.

لا يختلف كثيرون في أهمية القمة الحالية، بسبب الظروف الإقليمية والدولية التي تحيط بسوريا والمنطقة والعالم، لكن اللقاء الذي حمل عنواناً سورياً كون القمة لرؤساء «محور آستانة» لم يحمل الكثير على خلفية تراكم الملفات والتطورات خلال العامين الماضيين، ما استوجب عقد لقاء مباشر بين الرؤساء لـ«ضبط الساعات» والتمهيد لـ«خطوات محددة مشتركة»، وفقاً لما جاء في بيان أصدره الكرملين قبل القمة.

البيان الختامي الذي جاء في 16 بنداً، يكاد يكون تكراراً حرفياً للبيانات السابقة، بل إنه لم يزد في جوهره عن بيانات اللقاءات الدورية على مستوى الدبلوماسيين في العاصمة الكازاخية نور سلطان.

وقد توقفت البنود الستة الأولى عند العبارات البروتوكولية المكررة التي تصر على «سيادة ووحدة أراضي سوريا»، وتؤكد العزم على مواصلة مكافحة الإرهاب، فضلاً عن الإشادة بدور «مسار آستانة» بصفته الآلية الوحيدة «الفعالة وذات المصداقية» التي نجحت في تخفيف التوتر على الأرض السورية ودفعت لإطلاق عملية سياسية تمثلت في اجتماعات اللجنة الدستورية.

غير ذلك، جاءت البنود التي تعكس الرغبة في المحافظة على مصالح كل طرف وإبراز الملفات التي تؤرقه. هناك ملف مشترك بالنسبة إلى روسيا وإيران وتركيا، انعكس في التنديد المستمر بالوجود الأميركي «غير الشرعي» و«نهب ثروات سوريا» و«تشجيع النزعات الانفصالية». بعد ذلك يأتي البند الذي يرضي إيران عبر التنديد بالهجمات الإسرائيلية المتواصلة، وآخر يرضي تركيا عبر التأكيد على الاتفاقات السابقة في إدلب ومناطق الشمال. وأخيراً، العبارات المكررة التي لطالما تضمنتها بيانات «آستانة» حول تحسين الظروف المعيشة وتشجيع تبادل السجناء وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين.

كان يمكن لبيان على المستوى الرئاسي للفاعلين الأساسيين على الأرض السورية أن يكون أكثر زخماً وأن يتضمن إشارات جدية إلى تحركات مشتركة. لكن الخلافات التي لم يشأ أصحاب القرار في البلدان الثلاثة أن تنعكس في بيانهم المشترك، حالت دون منح الأهمية الكبرى التي رافقت الإعلان عنها والتحضير لها.

والإشارات السريعة خلال المؤتمر الصحافي المشترك للرؤساء الثلاثة عكست جانبا منها من دون أن تسمح الأطراف بالمبالغة في تقدير تداعيات هذه الخلافات.

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لم يحصل على ضوء أخضر لعمليته العسكرية في الشمال السوري، فطالب زميليه بترجمة الأقوال الجميلة التي تؤكد تفهم «المصالح الأمنية» التركية إلى أفعال. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين أقر بوجود «بعض الخلافات التي لا تعرقل تعزيز التعاون والتنسيق» لكن كان ملاحظاً أن الكرملين تعمد تغييب كلام إردوغان في المؤتمر الصحافي المشترك، مكتفياً ببث تصريحي إبراهيم رئيسي وفلاديمير بوتين كاملين. والجانب الإيراني بدا مرتاحاً لأدواته التنظيمية التي غيبت عن وثائق اللقاء وعن التصريحات الختامية أي إشارة إلى القلق الإقليمي والدولي بسبب التمدد الإيراني في عدة مناطق في سوريا على رأسها في منطقة الجنوب. وهنا بالمناسبة واحد من العناصر المهمة المرتبطة بالعملية التركية، إذ لم يخف محللون روس قناعة بأن فشل إردوغان في إطلاق عمليته حالياً سيمنح أوراقاً إضافية للتمدد الإيراني في مناطق الشمال أيضاً.

مع السجالات المستمرة حول العملية التركية، بانتظار اتضاح موقف إردوغان وما إذا كان سيستمع إلى نصائح شريكيه، برز عنصر آخر، في نتائج هذه القمة، قد يكون الأهم على خلفية الحرب التي أطلقتها روسيا أخيراً على جنيف بصفتها عاصمة لقاءات اللجنة الدستورية. فقد كان ملاحظاً أن التصريحات والبيانات الرسمية ركزت على «فضل» محور آستانة في إطلاق عملية الإصلاح الدستوري، وأنه لعب الدور الأهم في ذلك عبر اجتماع سوتشي.

لكن في الوقت ذاته، لم يرد أي ذكر لا في البيان الختامي ولا في تصريحات الرئيس الروسي بعد القمة لـ«مسار جنيف». وبدلاً من ذلك قال بوتين إن المجموعة الثلاثية «قادرة على دفع عملية التفاوض بين الأطراف السورية»، من دون أن يحدد كيف ومتى وأين؟

أيضاً، ورد في ذيل الفقرة التي تحدثت عن اللجنة الدستورية في البيان الختامي عبارة لافتة فحواها أنه «لا يمكن السماح بوضع مهل زمنية مصطنعة أو ممارسة ضغوط خارجية» أو محاولة فرض «معوقات لوجيستية وبيروقراطية».

تبدو الإشارة واضحة إلى استكمال موسكو «دفن» مسار جنيف في هذه القمة، والاكتفاء بالتلويح بأن مجموعة آستانة قادرة على إيجاد بدائل.

المكسب الأساسي بالنسبة إلى الكرملين هو تأكيد مكانة ودور محور آستانة، ورغم أن بوتين لا يمتلك كثيراً من أدوات الضغط لحمل إردوغان على التراجع نهائياً عن فكرة العملية العسكرية، لكن نجح مع الضغط الإيراني في جعل مهمة الرئيس التركي أكثر صعوبة. الأهم من ذلك، أن بوتين وجه رسالة واضحة وقوية بأنه مع الانخراط في الحرب الأوكرانية وتزايد الضغوط عليه، لكنه لن يتخلى عن الورقة السورية التي باتت لها أهمية خاصة جديدة بسبب المواجهة القائمة مع الغرب، ولا يخفى هنا مغزى التصريحات العسكرية الروسية المتعاقبة بتحول دور القواعد الجوية والبحرية الروسية في سوريا إلى منصة متقدمة لموسكو في حوض المتوسط وشمال أفريقيا. لذلك من راهن على أن موسكو تتراجع في سوريا بسبب انشغالها في أوكرانيا، يبدو أنه كان واهماً.

ومع الرسائل الروسية الأخرى إلى الغرب وإلى المحيط الإقليمي حول أهمية العلاقة مع إيران وإصرار الكرملين على تعزيزها وتسريع عملية إبرام معاهدة استراتيجية خلال الشهور المقبلة، فإن العنصر الجديد هنا، هو تزايد الاستياء الروسي من إسرائيل بسبب دعمها عسكرياً لأوكرانيا، وهذا انعكس في تشديد بيانات الإدانة للهجمات الإسرائيلية المتواصلة في سوريا، لكن الأهم من ذلك معرفة كيف سينعكس ذلك على مواقف موسكو من عمليات التمدد الإيراني المتواصلة في سوريا، وهو أمر غاب عن التصريحات الرسمية الروسية أخيراً.

وبالنسبة إلى العلاقة مع تركيا، لا يخفي الكرملين أنها باتت تحظى بأهمية إضافية على خلفية الحاجة إلى التنسيق المستمر في سوريا، والدور التركي النشط في الوساطة في الملف الأوكراني. لذلك لا يرغب الكرملين في الذهاب بعيداً في توسيع الهوة مع أنقرة، حتى لو جاءت سياساتها في سوريا خلال المرحلة المقبلة مخالفة بعض الشيء لأهوائه.

عموماً، تبدو نتائج قمة طهران مرضية لبوتين ورئيسي بشكل كبير، وبدرجة أقل بكثير بالنسبة إلى إردوغان.

—————————-

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

======================

تحديث 24 تموز 2022

————————–

روسيا في سوريا… «سيف ذو حدين»/ ابراهيم حميدي

ماذا سيحصل إذا قررت أميركا الانسحاب المفاجئ من شمال شرقي سوريا؟ ماذا لو نفذت تركيا تهديداتها بالتوغل شمال سوريا؟ ماذا لو تم بالفعل، عقد صفقة يتم تداولها سراً بتسليم حقول نفط دير الزور إلى دمشق مقابل معلومات من الأخيرة عن الصحافي الأميركي المفقود أوستن تايس؟

واقع الحال أن روسيا تستعمل هذه السيناريوهات لدفع خصوم ومتحاربين إلى البحث عن ترتيبات معينة وملء الفراغ الأميركي. موسكو دائما تحاول الموازنة بين الأعداء. تستخدم سوريا منصة لأهداف تفاوضية في ملفات أخرى في الإقليم والعالم. تفعل ذلك منذ سنوات بين إيران وإسرائيل. اجترعت بعض التسويات في الجنوب السوري، دون أن تصل إلى صفقة نهائية في البلاد. لا توقف التموضعات والمسيرات الآتية من طهران عبر حدود الإمداد. ولا تشغل منظومات صواريخها ضد القصف القادم من تل أبيب. هذه المعادلة باتت معروفة، وإن شابتها تهديدات وتحديدات عدة، آخرها التوتر الحالي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد بسبب تصريحات الأخير عندما كان وزيراً للخارجية عن «جرائم حرب» روسية في أوكرانيا وضغوطات موسكو على الوكالة اليهودية في روسيا. لذلك، كان القصف الإسرائيلي الأخير ضد أهداف سورية و«مسيرات إيرانية»، بمثابة إشارة «لبيدية» بالتصميم على تنفيذ «الخطوط الحمر».

منذ التدخل المباشر نهاية 2015، كانت السياسة الروسية في سوريا عبارة عن «سيف بحدين». فيها كثير من العسكرة بين الأعداء وقليل من السياسية. تسويات مع الفرقاء الأجانب واستهتار بالفرقاء السوريين. الإعلام والسياسة، غطاء الخيار العسكري ومستلزمات الطروحات الأمنية. في «الدويلات» السورية الثلاث، القائمة تحت «المظلة الروسية»، هناك ترتيبات بين واشنطن وموسكو، وبين أنقرة وموسكو، وبين تل أبيب وموسكو، وبين طهران وموسكو. هناك أيضاً، خط سياسي وهمي بين الأطراف السورية. كان مربوطا في جنيف قبل أن تقرر موسكو قطعه لأنها غاضبة من سويسرا والغرب و«توحدهما» ضدها بسبب أوكرانيا.

جديد «سياسة الحدين»، ما تقوم به روسيا سراً بين دمشق وأنقرة وبين دمشق والقامشلي. كيف؟

بعد الارتباك الأميركي خلال الانسحاب من أفغانستان وبعد التردد خلال إدارة دونالد ترمب، باتت إدارة جو بايدن أكثر استقراراً في بقائها العسكري شمال شرقي سوريا. لكن هناك حالياً ثلاثة تطورات:

الأول، بعد الهجوم على أوكرانيا، حاول الجيش الروسي أكثر من مرة اختبار نظيره الأميركي لدفع واشنطن لحوارات سياسية وعسكرية ثنائية وفك العزلة بسبب أوكرانيا، علما بأن اتفاقا عسكرياً ينظم العلاقة بينهما في سوريا منذ 2017.

الثاني، يريد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن يستثمر تنامي أهمية دوره بسبب «مستنقع أوكرانيا» لتوجيه ضربة قاصمة لأكراد شمال سوريا.

الثالث، الرئيس بايدن وعد عائلة الصحافي تايس بالتواصل مباشرة مع فريق الرئيس بشار الأسد بحثا عن معلومات عن الصحافي المفقود منذ حوالي عقد. وبين الأفكار المتداولة تسليم نفط دير الزور لدمشق كبداية تفاوضية، علما بأن مبعوثي ترمب كانا عرضا في صيف 2019، انسحابات عسكرية من شمال شرقي سوريا مقابل إطلاق تايس.

وجدت موسكو في هذه الإشارات، فرصة. رتبت محادثات أمنية غير علنية بين دمشق وأنقرة، ترمي للوصول إلى ترتيبات وتعاون بين الطرفين ضد «حزب العمال الكردستاني» والإرهاب شمال سوريا. وأحد الخيارات المطروحة فعلاً، إحياء اتفاق أضنة الذي وقع في 1998 وسمح للجيش التركي بالتوغل بعمق خمسة كيلومترات في العمق السوري لملاحقة مقاتلين أكراد. طبعاً، سوريا تغيرت والإقليم تغير والعالم تغير. المفاوضات المدفوعة روسيا ترمي إلى البحث عن صيغة معدلة للاتفاق. ولا شك أن القمة الثلاثية في طهران التي لامستها زيارة وزير خارجية سوريا فيصل المقداد، أعطت دفعة إضافية لخط أنقرة – دمشق تحت خيمة موسكو.

اللافت وغير المفاجئ، أن موسكو تقوم بالوقت نفسه برعاية اتفاق آخر، بين دمشق و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي يفترض أن الخط الأول من الوساطة يقوم ضدها أو على الأقل ضد المكون الأساسي فيها وهي «وحدات حماية الشعب» الكردية. هنا، رعت قاعدة حميميم محادثات لتطبيق مذكرة تفاهم كانت أنجزت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بين قائد «قوات سوريا الديمقراطية» مظلوم عبدي ومدير الأمن الوطني اللواء علي مملوك. وقتذاك، ترددت «قسد» في تطبيق كل بنود الاتفاق – المذكرة بعدما وافقت أميركا على تأجيل الانسحاب وتمديد البقاء. أما الآن، فباتت «قسد» مستعدة لتنفيذ هذه البنود، بحيث تم نشر 574 جندياً سوريا في مناطق مختلفة قرب المالكية والمثلث السوري – العراقي – التركي، وعين العرب (كوباني) وعين عيسى ومنبج في ريف حلب، بحيث تكون «رادعا» للشهوات التركية.

يواكب كل ذلك، تفكير في عواصم غربية بضرورة البدء بوضع «خطة بي» كي يكون الانسحاب العسكري الغربي منظما في حال حصوله، لعدم تكرار تجربة أفغانستان. كما تواكب ذلك، نصائح غربية لـ«قسد» بضرورة البحث عن اتفاقات وترتيبات مع دمشق «لأننا سنغادر عاجلاً أو آجلاً». أما دمشق، فإن كل المعلومات تفيد بأنها لم توافق إلى الآن على إجراء محادثات سياسية. الترتيبات العسكرية ممكنة، لكن التنازلات السياسية غير واردة. صحيح أن مفاوضات بين دمشق والقامشلي في 2018، أظهرت خلافات حول مستقبل «قسد» والإدارة الذاتية والمعابر الحدودية واللغة والرموز، لكن إلى الآن لا تزال دمشق متمنعة على جرعات اللقاح الروسي الذي تكرره موسكو في كل مناسبة.

أميركا أجرت تدريبات واستنفارات وإنزالات واغتيالات شرق الفرات. إسرائيل قصفت «مسيرات إيرانية» قرب دمشق. «مسيرات تركية» قصف أهداف كردية شمال سوريا. ومسيرات «معارضة» استهدفت قاعدة حميميم غرب البلاد. طائرات روسية قصف «المنطقة التركية» شمال غربي البلاد. كل هذا يتم في سوريا، بعد ساعات من القمة الثلاثية في طهران والوساطة التركية بين أوكرانيا وروسيا لعقد «صفقة الحبوب»، ونجاح موسكو في «وأد» مسار جنيف بين الأطراف السورية. عناصر معقدة تساهم في تعقيد شيفرة اللغز السوري بدلا من تفكيكها، وتعظيم المعاناة وسراب المآلات السورية.

الشرق الأوسط

—————————–

لماذا أخفق بوتين في استشراف عواقب غزو أوكرانيا؟/ جورج عيسى

ألحق الغزو الروسي ل#أوكرانيا أضراراً كبيرة بموقع #روسيا العالمي قد لا تكون قابلة للتعويض في المستقبل القريب مهما تكن نتيجة الحرب. السؤال الذي لا يزال يتردد بين المراقبين يتعلق بحسابات الرئيس الروسي فلاديمير #بوتين التي دفعته لاتخاذ قرار الحرب أو “العملية العسكرية الخاصة” وفقاً للتسمية الروسية. من الواضح أنّ كلفة الحرب باتت أكبر من أيّ مكاسب مرتجاة منها. إذاً أين أخطأ بوتين في حساباته؟

على هذا السؤال أجابت العميدة المؤسّسة لكلّيّة بلافاتنيك للحوكمة في جامعة أكسفورد نايري وودز في العدد الحالي من مجلة “فورين أفيرز”. إذا كان الجواب الكلاسيكي على خطأ بوتين يتمحور حول رفضه الإصغاء إلى مستشاريه، فإجابة وودز أكدت هذا المنحى لكنّها ذهبت أبعد عبر تعداد أسباب أخرى وإصدار تنبيهات إلى أنّ النظام الأوتوقراطي ليس وحده المسؤول عن قرارات استراتيجية خاطئة. في هكذا أحوال، حتى المسؤولون في الأنظمة الديموقراطية قادرون على ارتكاب الأخطاء نفسها.

طبيعة السلطة… وعلم النفس

غالباً ما تقنع السلطة حامليها بأنهم استثنائيون وبأنّ القواعد لا تنطبق عليهم. انتهك بوتين قوانين الأمم المتحدة التي تحرّم استخدام القوة ضد وحدة أراضي دولة أخرى أو ضدّ استقلالها السياسي. وأصرّ على أنّ توغله ليس سوى ضربة استباقية ضد هجوم أوكراني ودفاع مقدّس عن الوطن الأم واستمرار للحرب السوفياتية ضد #النازية. هذه التبريرات “جوفاء” ولا تقنع أي أحد خارج روسيا. لكنّ هذه البراهين “الوهمية” أو “السينيكية” ليست ملك الأوتوقراطيين وحدهم بحسب وودز. قالت واشنطن ولندن إنّ فشل ##العراق بالامتثال للتفتيش الأممي بشأن أسلحة الدمار الشامل شكّل “انتهاكاً مادياً” لوقف إطلاق النار المتوافق عليه منذ عقد وبالتالي كان يحق لهما مواصلة الأعمال العدائية ضد العراق. وظلّ المحامون الدوليون مشكّكين بهذه التبريرات على أساس أنها ذرائع للاحتلال.

ترى وودز أنّ علم النفس يفسّر جزئياً سبب انتهاك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة القانون الدولي علماً أنّهما بذلتا الكثير للدفاع عنه. غالباً ما يكسر القويّ القواعد التي صنعها والتي يستفيد منها لأنه يظن أنه يستطيع ذلك. ووجد علماء النفس أنّه يُرجَّح أن يكذب الأثرياء أكثر من غيرهم عند المقامرة أو التفاوض وأن يبدوا سلوكاً غير أخلاقي في العمل على الرغم من أنّ القوانين تحمي مصالحهم إن لم تكن توفّر لهم مزايا أكثر من غيرهم. لكن بإمكان مكانة الأثرياء أن تدفعهم إلى الإيمان بأنّ حاجاتهم ورغباتهم أهم من أي قواعد. والظاهرة نفسها موجودة في العلاقات الدولية. علماً أنّ وودز لم تذكر الدراسة التي تؤيّد فرضيّتها بشأن سلوك الأثرياء.

أكلاف

لانتهاك القواعد الدولية أكلاف حتى على القوى الكبرى عبر تآكل الثقة بقدرتها ورغبتها بحماية القوانين كما عبر إضعاف عزم جميع الدول على الامتثال لها. بالتالي، تنتهي الدول الكبرى بتقويض النظام الاجتماعي الذي أسّسته بنفسها. ومن الأكلاف الملموسة التي واجهتها روسيا بسبب خطأ بوتين زيادة عدد دول حلف شمال الأطلسي على حدودها بعد الغزو.

علاوة على ذلك، تابعت وودز، يؤمّن القانون الدولي توجيهات وضمانات للمسؤولين داخل الحكومات الذين يعملون تحت الضغوط ووسط الضبابية. إعلان وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد بعد هجمات 11 أيلول أنّ بلاده قد لا تلتزم باتفاقيات جنيف ألقى بحكومته وقواته المسلحة في اللايقين مما أدى إلى ارتكابات سجن أبو غريب والإضرار بموقع #أميركا العالمي. وأدى اقتراح الحكومة البريطانية تشريعاً لا يمتثل للاتفاق الموقع مع الاتحاد الأوروبي إلى شلل سياسي لدى مسؤوليها.

حماقة القوة

بفعل نجاحه في القرم وفي الحرب السورية وبفعل تحديث جيشه وإعادة تسليحه بدءاً من 2008، ظنّ بوتين أنّ بإمكانه الفوز سريعاً في أوكرانيا. لكنّ برامج التحديث والتسليح كانت مشوبة بالفساد وغياب الفاعلية كما كتبت وودز. وغالباً ما يقيس القادة قوتهم العسكرية على مستوى أعداد حاملات الطائرات والغواصات والمقاتلات الحديثة… لكنّهم يخفقون مراراً وتكراراً في خوض الحروب: الهولنديون في إندونيسيا (1949) الفرنسيون في الهند الصينية (1954) والجزائر (1962) والأميركيون في فيتنام (1975) والسوفيات في فيتنام. واعترف وزير الدفاع الأسبق روبرت ماكنامارا بأنّ بلاده قللت من أهمية القومية في تحفيز شعب على القتال والموت في سبيل قيمه وأرضه. وواجه بوتين الدينامية نفسها في أوكرانيا.

وحيداً في القمة

كما بإمكان القوة دفع القادة إلى الظن أنهم أقوى مما هم عليه، بإمكانها أيضاً أن تعزلهم وتشجعهم على عدم الإصغاء للآخرين بحسب وودز. كان ذلك واضحاً حين أذلّ بوتين مدير جهاز الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين على التلفاز. وذكرت صحيفة “تايمس” اللندنية أنّ بوتين أقال ثمانية جنرالات و150 مسؤولاً في جهاز الأمن الفيديرالي الروسي “أف أس بي” وسجن رئيسه السابق. وبإمكان القادة الديموقراطيين أن يبدوا سلوكاً كهذا كما فعل دونالد ترامب مع مسؤولين في “أف بي آي” وفقاً لمقال الرئيس السابق للجهاز جيمس كومي الذي تحدث عن كيفية “قضم” الرئيس السابق معنويات الحاضرين مما يجعلهم متواطئين من خلال الصمت. وقام رئيس الوزراء الأسبق طوني بلير بالفعل نفسه ولو بطريقة أكثر لباقة قبل حرب العراق فتفادى الاجتماعات الحكومية الرسمية لصالح محادثات وزارية ثنائية مما صعّب على الوزراء تكوين وجهات نظر مختلفة أو تحدي وجهة نظر بلير. وهذا ما وجدته تحقيقات بريطانية لاحقة.

ويبدو أنّ بوتين لم يشاور أصدقاءه حيث أعرب الرئيس الصيني شي جينبينغ عن “ألمه لرؤية نيران الحرب تستعر مجدداً في أوروبا” وأصدرت الحكومة الهندية بياناً حاداً يؤكد فيه مبدأ السيادة الوطنية بينما أدانت صربيا المقربة من روسيا الغزو في الأمم المتحدة. ورفض قادة قرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان دعم الغزو الروسي.

عن خطوات الغرب

وحين يريد الغرب فرض عقوبات سيتعيّن عليه أيضاً التفاوض وعقد تسويات مع دول مختلفة من بينها شركاء موسكو التجاريون. فهناك قوى تريد الحفاظ على وحدة الدول وسلامة أراضيها لكنها لا تريد “إضعاف” روسيا بحسب تعبير وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين. وتنتقد دول أفريقية ازدواجية المعايير الغربية لعدم إدانة معتدين آخرين مثل إسرائيل أو عدم اهتمام الغرب بالنزاعات التي تحصل في القارة السمراء. وثمة مصلحة أفريقية عميقة مع روسيا والصين اللتين حققتا خرقاً كبيراً في أفريقيا من حيث الأمن والاستثمارات. كذلك، ثمّة صعوبة في إخراج روسيا من صندوق النقد الدولي بحسب طلب أوكرانيا لأنّ الدول الممتنعة أو المصوّتة ضدّ طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان تشكّل نحو 30% من القوى المصوّتة في “الصندوق” بينما هنالك حاجة لتصويت 85% لصالح قرار إبطال عضوية روسيا فيه.

يؤكّد ذلك خطأ تعلّق الغرب بفكرة مجموعة السبع كدول صانعة للقرار على الرغم من تحوّل ميزان القوة الاقتصادي وخطأ تقسيم العالم إلى صراع بين دول ديموقراطية وأوتوقراطية بحسب الكاتبة.

بين التشابه والاختلاف

لا شكّ في أنّ المقارنات بين غزو روسيا لأوكرانيا وغزو أميركا للعراق تحمل جاذبيتها الخاصة بفعل نقاط التشابه الكثيرة بين الحربين. تسبّبت كلتا التجربتين بمآس كبيرة للشعبين العراقي والأوكراني كما أضرّتا بمكانتي الولايات المتحدة وروسيا على المدى البعيد. وأظهرت التجربتان فعلاً أنّ حاملي السلطة يظنّون أنّهم أقوى ممّا هم عليه وقادرون على تغيير الأنظمة واستبدالها بما يناسب تطلّعاتهم. لكن لهذه المقارنة حدودها أيضاً.

لم يقل الرئيس الأسبق جورج بوش الابن إنّه ما من شيء اسمه العراق، كما قال بوتين عن أوكرانيا سنة 2008 على ما يُنسب إليه حتى في الصحافة الروسية. ولم يعتمد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مناورات مع المجتمع الدولي على عكس الرئيس العراقي الأسبق #صدام حسين الذي أوحى بأنّه يملك أسلحة للدمار الشامل ظناً منه أنّه يردع إيران. وبعكس عراق صدام، لم تظهر أوكرانيا سلوكاً عدوانياً تجاه جيرانها. صحيح أنّ توق كييف للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لم يكن مريحاً بالنسبة إلى موسكو، لكن لا أحد توقّع حصول كييف على هذه العضوية في المستقبل القريب، أو حتى البعيد بحسب تعبير أمين عام الناتو الأسبق ياب دي هوب شيفر. حتى روسيا المعارضة للحرب على العراق كانت متأكدة بأنّ صدام لن يسمح للمفتشين بدخول العراق ولن يمتثل للقرارات الدولية من دون استخدام القوة العسكرية بحسب وثائق بريطانية رسمية. ولم تجد لجنة تحقيق خاصة في الكونغرس أنّ إدارة بوش ضغطت على مسؤوليها كي تقدّم أدلّة تؤيّد الحرب.

وبدا الحديث عن النازية في أوكرانيا مضخماً. على الرغم من أنّ لأوكرانيا “مشكلة حقيقية” مع تشكيلات نازية، ما من دليل على أنّ هذه التشكيلات تمارس القتل الجماعي والتطهير العرقي، أو أنّها تمارس سلوكها برعاية من الدولة. وأداؤها على مستوى الانتخابات التشريعية سيئ جداً. كما أنّ الغرب يتّهم فرقاً تشارك في القتال مع روسيا باستخدام شعارات نازية. أخيراً، ما من شبهات بارتباط حكومة كييف بتنظيمات إرهابية مثل “#القاعدة” أو جماعات مقرّبة منها كما كانت الشبهات سائدة بحق صدام حسين.

تبقى نقطة التشابه الأساسية وربما الأخطر بين حربي العراق وأوكرانيا حجم انحياز الحكومات إلى استخدام القوة العسكرية كسبيل غالباً ما يبدو الأسهل أو الأوحد لتحقيق الأهداف مهما كانت التصورات التي تستند إليها. لكن، بعد حربي العراق و#أفغانستان أصبحت الولايات المتحدة أقل ميلاً لشنّ الحروب الخارجية حتى أصبح شعار “إنهاء الحروب التي لا تنتهي” شعاراً مشتركاً بين الإدارات الجمهورية والديموقراطية. سيكون مثيراً للاهتمام معرفة ما إذا كان الإخفاق في أوكرانيا سيدفع روسيا إلى اعتناق حذر مشابه بعد فترة من الزمن.

النهار العربي

————————-

“انتصارات” بوتين/ سلام الكواكبي

بعد مرور خمسة أشهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي منيت بها القوات الروسية، حيث أشارت وكالات الاستخبارات الغربية إلى مقتل ما يزيد عن 15 ألف عسكري وتدمير آلاف المدرعات وعشرات الطائرات والمروحيات، وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية شديدة الوطء المفروضة على الدولة الغازية من المجتمع الدولي، وعلى الرغم من آلاف ساعات البثّ الغربية التي تشرح لرأيها العام مدى تسلطية قيصر الكرملين ودموية أعماله الحربية، من الشيشان مرورا بجورجيا وعبوراً مستداماً في سورية ووصولاً، أخيراً وليس آخراً، الى أوكرانيا، إلا أن القيادة الروسية المحصورة بشخص بوتين نفسه ما فتئت تسجّل انتصارات مهمة، ربما ستساهم في تغيير مسارات تطوّرات المشهد الدولي في وقت قريب. وتتوزّع هذه الانتصارات على عدة سلال عسكرية، وإعلامية، واقتصادية، وسياسية.

عسكريا، ومع الحجم الهائل للخسائر البشرية لدى الجيش الروسي، إلا أن نظام الكرملين، كعادة الأنظمة الديكتاتورية، لا يعطي هذا البعد الإنساني أهمية تُذكر. فمن العادي إذاً ألا يأخذ المتحكّم بحيوات المواطنين ردود فعل الأمهات الثكالى بالحسبان، فكما تحتفل ديكتاتوريات العالم الثالث بـ”الشهداء” من جيوشها الذين يموتون للدفاع عن كرسي الحاكم أو مصالحه الذاتية، فالحكومة الروسية تعتبر قتلاها في أوكرانيا أبطالاً ما داموا يموتون ويحاربون من يريد حاكمهم لتنفيذ أحلامه الشخصية التي يُسقطها على آمال شعبٍ بأكمله. في المقابل، وعلى الرغم من أن الجيش الأوكراني والوحدات المقاتلة الرديفة له قد نجحت في إظهار قدرة كبيرة على المقاومة مع تسليح غربي متطوّر، إلا أن الروس يعتمدون على الاستفادة من عامل الوقت. استمرار القتال أشهرا أخرى ينعكس إيجابياً على موسكو التي لن يضيرها خسارة آلاف الدبابات والمدرّعات لأن لديها منها عشرات الآلاف، في حين تمتلك أوكرانيا ما لا يتجاوز ثلاثة آلاف. وينسحب هذا المنطق الحسابي على بقية الأسلحة التقليدية، وحتى على القدرات البشرية. كما أن وقع موت الأوكرانيين لا يمكن للقيادة في كييف أن تتعامل معه بالدرجة نفسها من الاستخفاف التي يتعامل من خلالها الروس مع موتاهم. والاعتماد على التسليح الغربي المتدفق حالياً لن يكفي طويلاً، لأن المخزون الكمّي في الغرب محدود.

إعلامياً، تمكّنت وسائل إعلام روسية أو تابعة، تُضخّ فيها أموالٌ طائلة، من فرض سرديتها عسكرياً وسياسياً. وصار من الواضح أن لدى موسكو قدرة للسيطرة على جزءٍ كبير من الرأي العام بإعلامٍ على الطريقة الغوبلزية، التي تعتمد على الكذب الصريح. من خلال هذا الإعلام، تمكّنت الدعاية من اختراق حصون العقل والمنطق، ليس في روسيا وحدها، وإنما في مجتمعات كثيرة خارج البلاد. ومن يتابع خطاب إعلام دول الجنوب، وخصوصاً في أفريقيا والمنطقة العربية، يرى مدى تأثير الدعاية الروسية، فهي تطوّر نفوذها التخريبي في عقول مجموعات كبرى من شعوب هذا العالم الثالث، المتطلّعة إلى وضع حد للهيمنة الغربية، على حد اعتقادها. وهذا ما يدفعها، بالتالي، إلى رؤية أنياب الليث السيبيري مصابيح ساطعة تُضيئ درب تحرّرها المنشود، فالجيش الروسي يُحارب في أوكرانيا لاجتثاث “النازيين الجدد”، كما هو في سورية لاجتثاث “الإرهاب”.

اقتصادياً، تتعامل الأنظمة التسلطية مع جوع شعبها كما تتعامل مع موته، أي باستخفاف شديد. والعقوبات القاسية المفروضة منذ سنوات، والتي تعزّزت مع غزو أوكرانيا، لم تدفع القيادة السياسية إلى تعديل مواقفها، بل على العكس، ما دام الأوليغارشيون غير متأثرين بشكل مباشر بها. كما أن روسيا استطاعت، وبمساعدة بعض الدول الصغيرة النشيطة في غسيل الأموال، بالالتفاف على محظوراتٍ كثيرة. بالمقابل، يتعرّض الاقتصاد العالمي إلى عواقب جمّة نتيجة انخفاض تزويد روسيا العالم “الحر” بالطاقة وتأثّر أسواق المواد الغذائية بفداحة الوضع العسكري القائم الذي يفرض رفع الميزانيات الدفاعية والإنفاق على التسلّح.

سياسياً، تجري رياح السياسات الداخلية الغربية كما تشتهي سفن موسكو. فواشنطن، تتخبّط سياساتها من جهة بين تصريحات الرئيس جون بايدن العشوائية والتي تحمل استعراضا لعضلات هرمة عوضاً عن أن تحمل تصوّرات سياسية واقعية. ومن جهة أخرى، في سعي قديمٍ/ جديد لتجنّب أي اصطدام فعلي مع طموحات الكرملين، اعتقاداً بأن صاحبه هو الذي سيسهر على خرابه. أما أوروبياً، فالإجماع الذي تغنّى به الفرنسيون والألمان، وتحقق عبر تصريحات الاتحاد الأوروبي الصارمة، لم يجد انعكاساته على أرض الواقع، فعدد من عواصم الاتحاد الأوروبي ما زال يراهن على علاقاته الاستراتيجية مع موسكو، كما اليمينيون المتطرّفون في هنغاريا وزعيمهم فيكتور أوربان. وهناك تقدّم ملحوظ ليمينٍ متطرّف فاشي في كل من إسبانيا وفرنسا وإيطاليا على الأقل، ما فتئ بوتين يدعمه سياسياً ومالياً إلى جانب يسارٍ متشدّد ما زال رموزه يعتقدون أن موسكو تقود مواجهة المشروع الإمبريالي.

بالأمس، استقالت الحكومة الإيطالية التي يرأسها اقتصادي مشهود له بالكفاءة وبالانتماء الصارم إلى المشروع الأوروبي، وذلك بفعل تحالف اليمين الوسط مع فاشيين جدد. وبعد حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مسبقة، تمنح استطلاعات الرأي أصدقاء موسكو كبير الحظوظ في الوصول إلى سدة الحكم. اليمين الفاشي القريب من موسكو يُعزّز مواقعه في أوروبا الغربية، ويدفع معتدليها المعادين للغزو الروسي إلى الالتفات إلى شجونهم المحلية، والابتعاد بالتالي عن خط مواجهة موسكو.

انتصارات التسلطيين على شعوبهم وشعوب غيرهم لا يمكن إيقافها إلا عبر تغيّر ديمقراطي حقيقي، وهو بالنسبة للشعب الروسي سرابٌ.

العربي

———————–

صاندي تايمز: العقوبات الغربية على روسيا أضعفت اقتصادها ولكنها قوّت بوتين

إبراهيم درويش

لندن- “القدس العربي”: نشرت صحيفة “صاندي تايمز” البريطانية، تقريرا أعده ريتشارد كونولي، حلل فيه أثر العقوبات الغربية على روسيا، قائلا إنها جعلت روسيا ضعيفة، ولكنها قوّت الرئيس فلاديمير بوتين.

فبعد غزو روسيا لأوكرانيا، فرض الغرب وحلفاؤه حزمة من العقوبات ليست مسبوقة في حجمها ومنظورها على موسكو. وكان الهدف من ورائها، إجبار بوتين على تغيير حساباته وسحب قواته من أوكرانيا.

وتركت العقوبات آثارها المباشرة على روسيا، حيث تم تجميد كل أرصدة الدولة في الخارج، وحرمت البنوك الروسية من التعامل مع النظام الدولي، إلا في العقود المالية الضرورية. ولم تعد الشركات الروسية قادرة على استيراد التكنولوجيا الضروروية مثل الرقائق الإلكترونية وتلك المتعلقة بالطائرات المدنية وقطع الغيار لتشغيل قطاع الغاز والنفط.

 ومما زاد من تعقيد الوضع الاقتصادي، هو اختيار مئات الشركات الدولية سحب ووقف عملياتها في روسيا خشية ألا تتضرر سمعتها لو استمرت بالتعامل التجاري هناك.

ورغم ما لوحظ من إشارات تغير في روسيا خلال الأشهر الماضية، إلا أن البلد بدأ بالتكيف مع الظروف الجديدة. وبالتأكيد يعاني البلد من الركود، لكنع ليس بالخطورة الشديدة.

وأعطت زيادة أسعار النفط والغاز، الكرملين المال الكافي لمواصلة حملاته العسكرية وحماية قاعدته من آثار الحصار الدولي. وبطريقة غير مقصودة، دفعت العقوبات النخبة الروسية قريبا من الدولة، وسرّعت من اعتمادها على الصين.

وبتحليل أثر العقوبات، فبعد خمسة أشهر على أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، والعقوبات التي فُرضت بسبب ذلك، فقد تم تجميد نصف الأرصدة الروسية المحفوظة بالعملات الأجنبية، كما انهار الاستيراد بسبب تراجع الروبل في الشهرين الأولين للحرب، لأن روسيا لا تستطيع استيراد البضائع من أوروبا وحلفائها.

ولم تكن روسيا قادرة على بيع منتجات تقدر بمليارات الدولارات من الذهب والفحم الحجري للدول التي فرضت عليها عقوبات. فالحصول على عدة بضائع بات مستحيلا أو مكلفا. وفي الوقت الذي ستحاول فيه الحكومة الحصول على بدائل للبضائع الأوروبية إما من الصين أو المصنّعة محليا، إلا أن النوعية لا تقارن.

والحبل يلتف حول عنق روسيا، ففي بداية العام المقبل سيبدأ تنفيذ حظر استيراد أوروبا للنفط الروسي، بالإضافة لجهود أخرى لفطم القارة الأوروبية نفسها عن الغاز الروسي رخيص الثمن. وهناك محاولة، مع أنها ليست ناجحة بعد، تهدف لإقناع الدول في الشرق الأوسط وآسيا بالانضمام لحملة المقاطعة ضد روسيا.

ومن المتوقع أن يتراجع الإنتاج الروسي من الغاز والنفط اللذين حوّلا موسكو إلى “قوة عظمى في الطاقة” بسبب عدم توفر التكنولوجيا والمعرفة. وستحد العقوبات من قدرة موسكو على إنتاج الأسلحة نظرا لاعتماد الصناعة العسكرية على مكونات مستوردة من أوروبا، واكتُشف الكثير منها في الأسلحة التي استخدمتها روسيا في أوكرانيا. وأنفقت روسيا ثمانية أعوام لتكييف صناعاتها العسكرية مع العقوبات التي فرضت عليها بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، فقد عرقلت جهودها لإنتاج قنابل دقيقة موجهة وأنظمة للقوة البحرية. وستؤدي العقوبات الأشد إلى عرقلة أكبر.

وباتت العقوبات سببا في المعاناة الاقتصادية، إلا أنها ليست كافية لكي تدفع لتغيير في السلوك. ولو كان هناك ارتباط بين المعاناة الاقتصادية والنتائج السياسية، لتوقفت إيران عن برامجها النووية منذ سنين، ولما استمرت كوريا الشمالية بالاختبارات النووية. وتعيش روسيا في ظل نظام عقوبات منذ عام 2014، إلا أن منظور عقوبات شديدة لم يمنعها من شن حرب في أوكرانيا.

وهناك سجل فقير للعقوبات لأسباب تدعو للشك في قدرتها للحد من سلوك نظام بعينه، منها أن العقوبات عادة ما تفتح مجالا للثراء. فأسعار البضائع التي تفرض عليها العقوبات، تزيد بشكل حاد، وهو ما يعطي القيادة في الدولة التي فُرضت العقوبات عليها، الفرصة لتحويل المصادر إلى النخب السياسية التي تعد بتوفيرها. كما تمنح العقود المربحة لمن يعدون بتوفير البضائع التي حُظرت واستبدالها بمنتجات محلية. وروسيا ليست استثناء، فالجهود لإنتاج بدائل تكنولوجية عن تلك الممنوعة تجري على قدم وساق، والمستفيد منها هم المقربون من القيادة. وفي الوقت الذي  تكون فيه التراكمات الناتجة عن الحصارة مدمرة للاقتصاد، إلا أن النخب المقربة من النظام هي التي تستفيد دائما. وهو ما يؤدي في النهاية لتقوية تماسك النظام وليس إضعافه.

سبب ثان، فكلما طالت مدة العقوبات، كلما تكيف البلد المستهدف مع الوضع، وهذا ما يحصل حاليا في روسيا. وكان انهيار قيمة الروبل في آذار/ مارس مثالا. ففي الأيام الأولى للحرب، قُدّم الانهيار على أنه نجاح للسياسة الغربية. إلا أن الحكومة الروسية وضعت سياسات تكيف مع الوضع وعلى شكل التحكم برأس المال. ومشكلة روسيا اليوم ليست في كون الروبل ضعيفا، بل في كونه قويا ويضرّ بمصدري النفط والغاز الذين يعتمدون على الأرباح من خلال العملات الأجنبية.

وفي مجالات أخرى، يستطيع المستوردون التحايل على العقوبات من خلال استيراد البضائع عبر طرف ثالث، من الصين وقازخستان، وكلاهما يشترك مع روسيا بحدود طويلة. وهناك إشارات عن تخفيفها للضغط على بضائع المستهلكين في الأسواق. وطالما شعر المواطن العادي بأن حياته عادية بشكل نسبي، وكلما استمرت النخبة في الاستفادة والإثراء من الوضع، فلن تكون هناك رغبة في تغيير المسار. وهذا هو الوضع اليوم في روسيا، ففي الوقت الذي صغر فيه حجم الاقتصاد وتضاءل حجم البضائع التي كانت متوفرة قبل الحرب، إلا أن الحياة عادت لطبيعتها بعد صدمة الأسابيع الأولى. وعادت أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة الأجنبية إلى رفوف المحلات التجارية وإن بأسعار أعلى. وتم استبدال ماكدونالدز بسلسلة “فوكسونو إي توكشا” والتي “طيب، نقطة”. وتم تصميم برنامج للتأكد من “السيادة التكنولوجية” الروسية.

ولن يستفيد المستهلك الروسي من كل هذا، بل النخبة المقربة من بوتين وحاشيته التي ستحصل على أموال لتوفير مواد رديئة وبأسعار باهظة. صحيح أن الكثير من الروس عبّروا عن امتعاضهم من شن الحرب على أوكرانيا، لكن هؤلاء أقلية لم يدعموا أبدا بوتين. فغالبية الروس يعتمدون على الدولة أو المؤسسات التابعة لها للحصول على لقمة عيشهم. ويتم التحكم بالإعلام، ولن تدفع القاعدة الموثوقة والمؤيدة لبوتين باتجاه التغيير، ولن يكون الأثرياء أو الأوليغاريش بحال أحسن من بقية الشعب، ولن يدفعوا لتعديل المسار، وهذا بسبب تجميد أرصدتهم وخسارتهم السوق الغربية. وحتى يحصلوا على مباركة الكرملين، فعليهم إظهار الولاء القوي حتى لا توجه إليهم تهم التجسس أو الطابور الخامس.

وتعززت قدرة بوتين في التغلب على عاصفة العقوبات والحفاظ على دعم قاعدته من تداعيات ثانية للحرب الاقتصادية. وتتاجر روسيا بالبضائع الجيوسياسية الحساسة مثل النفط والغاز والحبوب والتي ارتفعت قيمتها مع زيادة المخاطر السياسية. فالوضع المتقلب للعرض، يعني زيادة قيمة هذه السلع. فمع قيام الحكومة بالتحكم برأس المال إلى جانب العوائد المرتفعة من صادرتها، فقد أصبح لدى روسيا فائض مالي. وطالما ظل الكرملين متربعا على خزينة من المال كهذه، فلن يخسر قاعدته.

وهذا يقود إلى سؤال حول فعالية العقوبات الغربية على النظام الروسي، وإن كانت ستجبره على تغيير مساره، والجواب هو لا. فالهجوم على أوكرانيا والرد الغربي القاسي، أدى لتدهور العلاقات مع روسيا بطريقة لم تشهدها الحرب الباردة. وعززت الحرب التحول الجيوسياسي المحلي من خلال تعزيز العلاقات مع الدول “غير الغربية” مثل الصين، والتي يُنظر إليها على أنها افضل من إصلاح العلاقات المتوترة مع التحالف الأوروبي- الأطلنطي.

ويرى الكرملين أن الغربَ في حالة انحسار، ومستقبل روسيا وازدهارها يكمن من خلال تكييف مركز الجاذبية نحو الشرق. وهذا هو ما يحصل الآن، فردّ روسيا على عقوبات السنوات الثمانية الماضية يلخص كل هذا. فقد تحولت الصين لأهم شريك تجاري لروسيا، وتوثقت العلاقات بعد 2014. وفي الوقت الذي انخفضت فيه مستويات ورادات روسيا من دول آسيا الحليفة للغرب، إلا أن حجم الوارادات مع الصين لم يتغير.

وتكشف بيانات التجارة عن حلول البضائع الصينية في مجال الكمبيوتر والرقائق الإلكترونية محل الغربية. وزادت صادرات روسيا للصين من النفط مخفض السعر، فيما تشير تقارير إلى استيراد روسيا مسيرات من إيران، وابتعاد موسكو وتحصنها عن الغرب.

وبالمحصلة، سيواصل بوتين استخدام العقوبات لصالحه، وشن حرب ضد المعارضين وتبني سياسات معادية للغرب في الخارج. وعلى الغرب مراجعة سياسة العقوبات، وما يمكن أن تحققه بطريقة عملية، فهي بالتأكيد ستجعل روسيا فقيرة وضعيفة، لكنها لن تغير طريقة تفكير الكرملين، ولن تفعل الكثير لتقوية اقتصاديات الدول الغربية، والأهم من كل هذ،ا لن تساعد أوكرانيا.

القدس العربي

———————–

شتاء مُظلم ينتظر أوروبا.. لماذا فشلت القارة العجوز في فطم نفسها عن الغاز الروسي؟/ محمد العربي

بمجرد تحرُّك آلة الحرب الروسية لغزو عاصمة أوكرانيا كييف، أدرك المجتمع الدولي أن العالم يسير نحو غد مختلف ومجهول، فالحرب التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مُستهدِفا جارته الغربية ليست في حقيقتها -حسب رؤية خصوم روسيا- سوى عودة قسرية لتاريخ ظنَّت أوروبا أنها تجاوزته، ومحاولة جدية لتحقيق العهد الذي قطعه الرئيس الروسي على نفسه ذات يوم بإعادة أمجاد روسيا. وأمام هذا المنعطف الجديد في القارة العجوز، تخشى الدول الأخرى التي تُجاور روسيا من مصير أوكرانيا، خاصة الجمهوريات السوفيتية السابقة التي تجد نفسها اليوم أمام خيارين صعبين؛ فإما أن تكون روسية مُخلصة للكرملين، وإما أوروبية مُنحازة للغرب، مُتخلِّية بذلك عن سياسة الحياد القائمة منذ عقود.

أما الوضع في أقصى الغرب فليس أقل اشتعالا مما يحدث في مدن الحرب المُحترِقة، فالحلفاء الغربيون فشلوا جميعا في فرض حظر طيران فوق سماء أوكرانيا، واستعاضوا بأشد حزمة عقوبات اقتصادية على الإطلاق، وبينما يُقلِّل الروس من جدوى العقوبات، مُذكِّرين العالم بإيران وكوريا الشمالية، يمضي بوتين في طريقه مُحتميا من خطر العقوبات بتحالفه الوثيق مع الصين أولا، والأهم بعلمه أن الطاقة الروسية، وإن كانت منبوذة، فإنها تظل سلاحا فتاكا قد يضرب استقرار القارة العجوز برُمَّتها، فحتى الآن يفشل الأوروبيون وخاصة الألمان في التحرر من إدمان الغاز الروسي، وفيما يبدو، لا أحد قادر في المدى المنظور على تقديم حل عاجل، أو طرح نفسه بديلا قادرا على تعويض روسيا التي توفر نحو 40% من الحاجيات الغازية لأوروبا، ما يعني أنَّ منازل القارة ستظل مُهدَّدة في مواجهة برودة الشتاء، فيما تواجه مصانعها خطر الإغلاق بسبب سلاح الطاقة الفتاك.

الغاز الروسي.. سيف ذو حدين

منذ عام 2014، أصبحت العقوبات الغربية والاقتصاد الروسي رفيقين حميمين بعدما ضمَّت روسيا إليها شبه جزيرة القرم، فارِضة بذلك تسوية جغرافية جديدة غير تلك التي وضعتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، لكنَّ هذه العقوبات -وعلى شدتها- لم يكن لها ذلك التأثير المُوجِع الذي سعت له واشنطن، فموسكو ليست طهران مهما تكالبت عليها العقوبات، ورغم أن اقتصادها يُماثل بالكاد نصف حجم اقتصاد إيطاليا، فإنها قادرة بجدارة على خلق فوضى عالمية في أسعار النفط إلى جانب الحبوب والمواد الخام، كونها المُصدِّر الرئيس لتلك المواد، والأهم من ذلك كله قدرتها الهائلة في مجال الغاز، إذ تستطيع توفير أكثر من 300 مليار متر مكعب منه سنويا، ما يجعلها محطة وقود عملاقة بامتياز.

يُفسِّر جاسون فورمان، مستشار الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، عدم نجاح العقوبات الغربية في تركيع الاقتصاد الروسي بعدم لعب هذا الأخير أدوارا كبرى في الاقتصاد العالمي باستثناء الغاز والنفط، أما الجانب الخفي لهذه الأسباب الذي لم يتطرَّق إليه فورمان في كلامه فتكشفه الأرقام الرسمية التي تؤكد الاعتماد الضخم للدول الأوروبية على الغاز والنفط الروسي، وهو ما قلب المعادلة رأسا على عقب، وغيَّر معها سياق التأثير، فبينما لا يمكن لأوروبا والولايات المتحدة فرض عقوبات على الطاقة الروسية بسبب الخوف على السوق العالمي، يمكن لبوتين من جهة أخرى أن يفرض حظرا جزئيا على توريد موارد بلاده الطاقوية، مُثيرا الفوضى والذعر لدى جيرانه الأوروبيين، ومُستفيدا في الوقت نفسه من الارتفاع الجنوني للأسعار.

ظهرت هذه المخاطر بوضوح مع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ قفزت أسعار النفط إلى مستويات قياسية، ملامسة حاجز 140 دولارا للبرميل (قبل أن تتراجع لاحقا حول مستوى 100 دولار لحظة كتابة هذا التقرير)، كما وصلت أسعار الغاز إلى مستوى تاريخي بـ 3300 دولار لكل 1000 متر مكعب بسبب مخاوف تعطل الإمداد، ومع تمدد أيام الحرب، يخشى العالم من ثورة مُدمِّرة أخرى في الأسعار، حال قرَّرت أوروبا حظر صادرات الطاقة الروسية، أو قرَّرت موسكو بنفسها اتخاذ هذه الخطوة في اندفاع غير مسبوق، خوفا من انهيار اقتصادها تحت وطأة العقوبات، وهو ما سوف يقود في النهاية إلى ارتفاع جنوني في الأسعار يؤثر على اقتصادات العديد من الدول ويدفعها ربما إلى الانهيار.

رغم ذلك، تبدو روسيا اليوم أقل قلقا من أوروبا فيما يتعلَّق بمَن سيبدأ فرض الحظر في مجال الطاقة أولا، خاصة أنها خلال العام الماضي تعمَّدت خفض إمدادات الغاز لأوروبا، وخلقت بذلك أزمة طاقة بالدول الأوروبية خلال برد الشتاء القارس، بهدف الضغط على مفوضية الطاقة الأوروبية في بروكسل، لتسريع الحصول على ترخيص مشروع “نورد ستريم 2” الذي يمد ألمانيا بنحو 55 مليار متر مكعب سنويا من الغاز المُسال، كما لعبت موسكو بالورقة نفسها قبيل غزوها لأوكرانيا لشق صفوف الأوروبيين المحتاجين إلى الطاقة وتقسيمهم إلى فريقين، فريق داعم لأوكرانيا، وثانٍ مُتخوِّف من فاتورة هذا الدعم على احتياجاته الطاقية.

يستذكر أنصار الفريق الثاني ذلك المشهد المُصغَّر الصعب الذي شهدته أوروبا عام 2009. في ذلك العام، تجمَّدت أوروبا من البرد، وسقطت عدة دول فيها تحت طائلة الديون، إثر اتهام موسكو لكييف بسرقة الغاز المخصَّص لأوروبا الذي يمر عبر أراضيها، لتدفع هذه الأزمة روسيا إلى اتخاذ خطوات عقابية شملت قطع الغاز عن أوكرانيا وعن كل الزبائن الأوروبيين من خلفها. دفع هذا الدرس القارة العجوز إلى البحث جديا عن بديل للطاقة الروسية، لكن رحلة البحث هذه انتهت بالفشل بعد أن عجز البدلاء الجُدد عن الوفاء بوعودهم، فالنرويج، وهي ثاني أكبر مورد للغاز لأوروبا بعد روسيا، تتجه حقولها إلى النضوب، أما هولندا، فقد اتجهت مضطرة لتخفيض إنتاجها إلى أقل من النصف بنحو 21.6 مليار متر مكعب، للحد من مخاطر الزلازل التي سبَّبها سحب الغاز من باطن الأرض، لتزيد روسيا بذلك من سطوتها على سوق الطاقة الأوروبي.

أوروبا والبدلاء.. كل الطرق تؤدي إلى موسكو

فشلت إذن كل محاولات أوروبا لفطم نفسها عن الغاز الروسي رغم المساعي الحثيثة لواشنطن التي حاولت رفع صادراتها إلى القارة العجوز، مُستفيدة من تربُّعها على عرش قائمة الدول المنتجة للغاز بنحو 914 مليار متر مكعب، وهو ما يفوق الحصة الروسية بنحو 300 مليار متر مكعب. خاضت الولايات المتحدة مباحثات مُضنية مع أوروبا بهدف إعادة تسعير الغاز الأميركي لجعله أكثر تنافسية مع الغاز الروسي، لكن كل ذلك لم يكن كافيا لسحب يد الروس، نظرا لعدة اعتبارات اقتصادية بحتة، أبرزها أن الغاز الروسي يتمتع بأفضلية سعرية، نظرا لوصوله إلى العملاء عبر الأنابيب، بحكم القُرب الجغرافي وتوفر البنية التحتية، بعكس الغاز الأميركي الذي يُنقل مُسالا، بتكلفة عالية، عبر البحار.

وبخلاف البديل الأميركي، انخرطت أوروبا في خطط مختلفة، تركية وإسرائيلية وإيرانية وقطرية، تهدف جميعها إلى اقتطاع حصة أكبر من المورد الرئيسي التقليدي للأوروبيين، أهمها كان مشروع “ممر الغاز الجنوبي” الذي يبدأ من أذربيجان ويمر بتركيا وصولا إلى أوروبا، وهو المشروع المُفضَّل للقارة العجوز الذي دعمته الولايات المتحدة أيضا، التي فرضت في السياق نفسه عقوبات على الشركات الأوروبية المشاركة في مشروع “نورد ستريم 2″، الذي ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، وهي الصفقة التي وصفها الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن حين كان نائبا لباراك أوباما بـ “السيئة لأوروبا بأكملها”. وقد عاد مشروع الممر الجنوبي إلى الواجهة مرة أخرى بسبب الحرب الأخيرة، لكن بغض النظر عن الحماس الغربي، من غير المرجَّح أن يتمكَّن هذا المشروع من تعويض الغاز الروسي نظرا إلى محدودية قدرة أذربيجان على إنتاج وتصدير المزيد من الغاز الطبيعي.

اتجهت الأنظار بعد ذلك إلى قطر على أمل أن تُقدِّم حلولا عاجلة للسوق الأوروبي، بعدما أعلنت في وقت سابق رفع إنتاجها السنوي من الغاز الطبيعي المُسال من 77 مليون طن سنويا إلى 126 مليون طن بحلول عام 2026، لكن الغاز القطري رغم ذلك لن يكون هو الآخر قادرا بمفرده على إغناء أوروبا عن موسكو، وذلك لاعتبارات مهمة: أولها ما جاء على لسان وزير الطاقة القطري الذي قال إنه لا يمكن لأي دولة بمفردها تعويض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، أما ثانيها، لأن الدوحة ترتبط فعليا بعقود طويلة الأجل تمتد لثلاثة عقود مع دول شرق آسيا، ولا يمكنها نظريا تحويل إلا 10-15% من صادراتها إلى أوروبا، وآخرها أن هذا الحل يظل قصير الأمد وغير مستدام بالنظر إلى التكلفة المرتفعة نسبيا لنقل الغاز المُسال.

وبعدما خابت مساعي الاعتماد الكُلي على قطر وأذربيجان وأميركا والنرويج، لجأت أوروبا إلى جس نبض دول أخرى أبرزها الجزائر باعتبارها من أكبر مصدري الغاز الطبيعي في العالم، لكن الجزائر قبل انطلاق الحرب كانت قد أبلغت عملاءها الأوروبيين بأنها ربما تُقلِّل تصدير الغاز بسبب ارتفاع الطلب المحلي، كما أنها الآن تلزم موقف الحياد في الحرب الدائرة، وحتى في حالة قبول الجزائر لتصدير طاقتها لأوروبا، تُشكِّك الصحافة الأوروبية في قدرة البلد المغاربي على سد الفجوة الهائلة في تعويض إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، نظرا إلى الفرق الهائل في إنتاج الدولتين، فأقصى ما يمكن أن يحمله خط الأنابيب المغاربي هو 32 مليار متر مكعب من الغاز، مقابل 300 مليار متر مكعب توفرها روسيا من الغاز سنويا لأوروبا.

وإلى جانب الغاز، يُفكِّر الغرب في بدلاء أكثر موثوقية لتعويض حصة روسيا من النفط التي تُقدَّر بنحو 11 مليون برميل يوميا، يذهب نصفها لتلبية احتياجاتها الداخلية. وقد دخلت الولايات المتحدة مؤخرا في مباحثات ومفاوضات تهدف إلى وقف تدفُّق النفط الروسي إلى أوروبا، لحرمان روسيا من أحد أكبر الأسواق المستهلِكة لمنتجاتها النفطية في العالم. ولكن مثلما هو الحال مع الغاز، تُراهن موسكو على إمكاناتها النفطية الهائلة التي تُمكِّنها من إلحاق أضرار بالغة بسوق النفط العالمي، دون أن تتمكَّن الدول النفطية الأخرى كالعراق وإيران وفنزويلا وحتى السعودية من تعويض العجز، لتُثبت للمرة الثانية أن كل طرق أوروبا الطاقية تؤدي حتما إلى موسكو، على الأقل في المدى القريب.

حظر الغاز.. مَن يُطلق النار على قدميه أولا؟

لم تُشكِّل الحرب الروسية أبدا مجرد صراع بين بلدين، أول يقوده مُمثِّل شاب بلا تجربة، يخوض مغامرة أكبر من قدرته على تحمُّل عواقبها مدفوعا بدعم غربي متذبذب، وثانٍ يجلس على عرشه رئيس مخضرم تحيطه هالة من الكاريزما الغامضة، ويزداد ضراوة مع كل عام يقضيه في الحكم، فقد أثَّر الصراع منذ اليوم الأول على عدة ملفات دولية متشابكة، لا تُعتبر فيها روسيا الخاسر الوحيد على كل حال.

لطالما منحت سردية النفع المتبادل التي صنعتها الشراكة الاقتصادية بين الغرب وروسيا كل طرف الأدوات والنفوذ اللازمين لمواجهة الطرف الآخر، فأوروبا التي تستورد نحو 60% من النفط الروسي باتت تمتلك يدا قوية لعقاب بوتين نظريا، لأن خسارة السوق الأوروبي لا شك يعني خسائر كبيرة لروسيا، لكن روسيا في المقابل تملك أسواقا بديلة هائلة من حيث حجم الاستهلاك، كالصين والهند وجمهوريات آسيا الوسطى وبلدان جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى أسواق مستقبلية متاحة كالدول الأفريقية، وتستغل موسكو هذه الورقة جيدا للضغط على أوروبا المتعطشة لمصادر الطاقة بهدف ثنيها عن اتخاذ أي قرار يحظر تصدير الطاقة الروسية لدول القارة العجوز، لأن هذه الدول ستكون هي نفسها المُتضرِّر الأهم من أي قرار من هذا النوع.

على الجهة المقابلة لا تملك روسيا خيارات أوسع للإضرار بأوروبا دون أن ترتد هذه الخطوات على اقتصادها، فرغم أن بوتين لديه محفظة اقتصادية واحتياطي أجنبي نقدي ضخم يُقدَّر بنحو 630 مليار دولار، وهو ما يُمكِّنه من تحمُّل توقُّف إيرادات الغاز القادمة من أوروبا عدة أشهر، فإن تبعات هذه السياسة الاقتصادية قد تكون مُدمِّرة على موسكو من جهة أخرى، من بوابة الغرامات المالية التي ستدفعها موسكو تعويضات للموردين. وفي حين تحاول روسيا رسم صورة موثوقة عن نفسها في الأسواق العالمية، فإنها لا ترغب في أن ينظر إليها زبائنها على أنها الدولة التي تضرب بسلاح الطاقة بمجرد صعود أي خلافات سياسية على السطح.

رغم أن بوتين لديه محفظة اقتصادية واحتياطي أجنبي نقدي ضخم يُمكِّنه من تحمُّل توقُّف إيرادات الغاز القادمة من أوروبا عدة أشهر، فإن تبعات هذه السياسة الاقتصادية قد تكون مُدمِّرة على موسكو من جهة أخرى.

رغم أن بوتين لديه محفظة اقتصادية واحتياطي أجنبي نقدي ضخم يُمكِّنه من تحمُّل توقُّف إيرادات الغاز القادمة من أوروبا عدة أشهر، فإن تبعات هذه السياسة الاقتصادية قد تكون مُدمِّرة على موسكو من جهة أخرى.

ينطبق الحال نفسه على أوروبا التي لم تغامر حتى الآن بلي ذراع بوتين من بوابة حظر قطاع الطاقة، رغم وضع الوكالة الدولية للطاقة خطة عاجلة من عشر خطوات للاتحاد الأوروبي، بهدف الاستغناء عن الغاز الروسي في غضون عام، حتى لا يقع الأوروبيون فريسة لبوتين في الشتاء المُقبل، وتتضمَّن هذه السياسة البدء الفوري بتنويع إمدادات الوقود الأحفوري من عدة دول بعيدا عن روسيا، وتقليص نسبة الاعتماد من روسيا، والتحوُّل بشكل أسرع إلى الطاقة المتجددة، والأهم من ذلك عدم تجديد العقود مع موسكو بعد انتهائها.

يراهن الغرب عبر هذه الخطوات، التي يُشكِّك الروس في أن تؤتي أُكلها في المدى القريب، على بدء فصل جديد من العقوبات لا تستطيع موسكو الرد عليها تشمل قطاع الطاقة. لكن المؤكَّد أن روسيا ليست إيران أو فنزويلا، وهي تمتلك أوراقا يَعُدُّها اقتصاديون ذات تأثير فتاك في الاقتصاد العالمي، مثل كونها أكبر مصدر للمعادن في العالم، بما يعنيه ذلك من قدرتها على عرقلة الصناعات الرئيسية في الولايات المتحدة وأوروبا من خلال تقييد إمدادات المعادن. تبدو اللعبة الاقتصادية بين الغرب وروسيا إذن بمنزلة سباق على مَن يطلق النار على قدميه أولا، ولا يمكن لأي طرف فيها أن يدَّعي أنه سيكون قادرا على إلحاق الضرر بخصمه دون أن ينال نصيبه من الأضرار أولا، الأمر كله يتعلَّق بحساب هذه الأضرار، ومدى الرغبة في تحمُّلها في نهاية المطاف.

المصدر : الجزيرة

——————–

ناشونال إنترست: كيف فشل الغرب في عزل روسيا؟

كومبو ثلاثي يجمع الرئيس الإيراني و أردوغان وبوتين.

على الرغم من عزلة روسيا بشكل متزايد عن الغرب وبعض المؤسسات التي يقودها الغرب، فإن القمة الثلاثية التي حضرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في طهران مؤخرا وجمعته بنظيريه التركي والإيراني تشير إلى ظاهرة مختلفة ومقلقة تماما، وهي حصول روسيا على تأييد الصين وإيران، على الأقل، وحياد قطاع كبير من العالم غير الغربي، وفق تقرير نشره موقع “ناشونال إنترست” (National Interest) الأميركي.

وكان بوتين قد منح الضوء الأخضر لاتفاق تصدير الحبوب عبر موانئ في البحر الأسود -وهو أول اتفاق رئيسي بين موسكو وكييف منذ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي.

ويحدد الاتفاق -الذي تفاوضت عليه أوكرانيا وتركيا وروسيا والأمم المتحدة- إطارا لاستئناف شحنات الحبوب من أوكرانيا إلى أنحاء العالم.

وتنص الاتفاقية على إنشاء “مركز مراقبة” يعمل به مسؤولون من الأمم المتحدة وتركيا وروسيا وأوكرانيا في إسطنبول لمراقبة وتنسيق صادرات الحبوب من ممر بحري آمن.

ولم تُنشر تفاصيل الاتفاق في الحال، إلا أن مسؤولين روسا كانوا قد أصروا في السابق على إخضاع السفن الأوكرانية التي تحمل الحبوب إلى خارج البلاد للتفتيش من قبل البحرية الروسية في رحلة العودة، لخشيتهم من أن هذه السفن يمكن أن تُستغل في تهريب المعدات العسكرية إلى أوكرانيا.

وأُوكل للجيش التركي، بموجب النسخة النهائية للاتفاقية، مهمة فحص السفن الأوكرانية الواردة.

غير أن ميخايلو بودولياك، مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، نفى وجود اتفاق مباشر من الناحية الفنية بين بلاده وروسيا. وعوضا عن ذلك، وقع البلدان “اتفاقا مماثلا” مع تركيا والأمم المتحدة.

ومع ذلك، فإن الصفقة تعد أول اتفاق “موضوعي” -وإن كان بالوكالة- بين موسكو وكييف منذ بداية الحرب، طبقا لتقرير ناشونال إنترست.

وأشار الموقع الأميركي إلى زيارة فلاديمير بوتين إلى إيران الثلاثاء الماضي، والتي حصل أثناءها على دعم طهران له. ففي بيان أصدره بالمناسبة، أعلن المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي دعم بلاده للمجهود الحربي الروسي في أوكرانيا، قائلا -في تغريدة على تويتر- “لو لم تبادر روسيا بالتصرف لكان الطرف الآخر قد بدأ بشن الحرب”.

دعم إيراني صريح لروسيا

وأنحى الزعيم الديني الإيراني باللائمة على حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ووصفه بأنه “كيان خطير”، مضيفا أن الغرب يعارض تماما وجود “روسيا قوية ومستقلة”، وأنه إذا أُتيح مجال للناتو “فلن يعترف بأي حدود”.

وبحسب تقرير الموقع، فقد توج اتفاق الحبوب أسبوعا من الدبلوماسية الروسية التي يقول الخبراء إنها كانت تهدف إلى إظهار أن الحملة الغربية لعزل موسكو اقتصاديا وسياسيا قد باءت بالفشل.

وتعليقا على القمة الثلاثية التي جمعت بين الرؤساء التركي رجب طيب أردوغان والإيراني إبراهيم رئيسي والروسي بوتين يوم الثلاثاء الماضي في طهران، أعرب جون درينان من المعهد الأميركي للسلام عن اعتقاده بأن “الروس سوف يفسرون انعقاد الاجتماع بأنه دليل على أنهم ليسوا معزولين في الواقع، وأنهم لا يزالون لاعبا رئيسيا في الشرق الأوسط”.

ويخلص التقرير إلى أن روسيا ظلت معزولة بشكل متزايد عن الغرب وبعض المؤسسات التي يقودها الغرب، إلا أن اجتماعات بوتين في طهران تشير إلى ظاهرة مختلفة ومقلقة تماما، وهي أنه رغم المحاولات المستمرة من قبل صانعي السياسة الأوروبيين والأميركيين لحشد جبهة عالمية موحدة ضد الكرملين، فإن قطاعا كبيرا من العالم غير الغربي حافظ على حياده أو -كما في حالة الصين وإيران- أيد صراحة تعامل روسيا مع الصراع.

المصدر : ناشونال إنترست

—————————-

هذه أهم ورقة متبقية للغرب يمكنه أن يلعبها في مواجهة روسيا/ ماري ديجيفسكي

لا توحي تصرفات الرئيس بوتين أنه مستعد للتخلي عن آفاق استئناف العلاقات مع الدول الغربية

من الملاحظ أن كثيراً من الرسائل يتم تبادلها في الآونة الأخيرة حول العالم، وذلك جهد يشكر عليه زعيما كل من الولايات المتحدة وروسيا. ولكن وفيما أن المؤشرات الصادرة عن الولايات المتحدة كانت وفي أغلبيتها رسائل مباشرة، كانت  الرسائل الصادرة عن موسكو تشي بأن هناك كثيراً من الأمور المعقدة [البارزة] التي تجري هذه الأيام.

فيما يلوح موعد إجراء الانتخابات النصفية الأميركية في الأفق، قام الرئيس جو بايدن بجولة على بعض دول الشرق الأوسط في رحلة مثلت عودة إلى سابق عهد السياسات الأميركية [في تلك المنطقة]. فبعد فترة من الانقطاع تعود في جزء منها إلى مساعي الرئيس دونالد ترمب لإعادة تشكيل [تحديد] الأولويات الأميركية في الخارج، إضافة إلى جهود من سبقه مثل الرئيس باراك أوباما، والرئيس جورج دبليو بوش، لصرف التركيز الأميركي بعيداً عن أوروبا والشرق الأوسط من أجل الإنشغال [الاستدارة إلى الشرق] بما يجري في مناطق آسيا والمحيط الهادئ والصين، سعى الرئيس بايدن [في جولته الأخيرة] لتحويل مسار السياسات الأميركية وتوجيهها نحو المسارات التي كانت معتمدة في العقود الماضية.

في عامه الأول كرئيس للولايات المتحدة سار الرئيس بايدن على خطى كثير من اتجاهات السياسات الخارجية الأميركية – التي لم تكن موضع ترحيب- التي عمل على إرسائها الرئيس ترمب، ومن ضمنها قرار الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وهو كان مصيباً ومبرراً، ولكنه نُفذ على نحو سيئ، إضافة إلى النهج الخجول [المتساهل] في التعامل مع التدخل الروسي في سوريا. ولكن كل ذلك انتهى في تاريخ 24 فبراير (شباط) مع بدء الاجتياح الروسي لدولة أوكرانيا.

الولايات المتحدة الأميركية جددت التأكيد ومن دون تأخير التزامها الدفاع عن أوروبا عبر حلف الأطلسي. وكان لرحلة الرئيس بايدن إلى الشرق الأوسط- وهي الرحلة الأولى له إلى المنطقة منذ بلوغه سدة الرئاسة الأميركية، أن أعادت تأكيد الالتزام الأميركي بدعم إسرائيل، إضافة إلى طي الشقاق مع السعودية، بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في عام 2018، معيداً التأكيد على استمرار الدعم الأميركي لتلك المنطقة.

وكان بايدن يسعى للحصول في مقابل ذلك على التزام تلك الدول زيادة إنتاج النفط من أجل تحقيق استقرار أسواق النفط العالمية والعمل على خفض الأسعار. في زمن الرئيس بوش، كانت إدارته ترغب ربما في العمل على خفض نطاق التدخلات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط عبر إنهاء الاعتماد الأميركي على الطاقة المستوردة من تلك المنطقة، وهو أمر لم يتم تقديره كثيراً خلال فترتيه الرئاسيتين، لكن الاجتياح الروسي لأوكرانيا والعقوبات الدولية [التي فُرضت على روسيا] التي تلت ذلك قامت بتغيير صورة أسواق الطاقة العالمية رأساً على عقب.

الأمر الوحيد الجديد، وعن طريق الصدفة، ويمكن اعتباره استمرارية لعهد ترمب، كان رحلة الرئيس الأميركي الجوية الفريدة والمباشرة بين الأراضي الإسرائيلية والسعودية، والتي ترتبت على الاتفاق الإبراهيمي الذي كان قد بدأ عملية كسر الجليد بشكل مبدئي بين إسرائيل ودول الخليج العربية. غير ذلك، فقد شكلت الزيارة عملية عودة إلى النهج القديم وإشارة إلى أن عملية فك الارتباط الأميركي مع قضايا المنطقة قد انتهت الآن. جولة الرئيس بايدن لم تكن مجرد فرصة للقول للناخبين الأميركيين إن رئيسهم كان يفعل كل ما هو متوقع من رئيس أميركي في الشرق الأوسط وأبعد منه، بل أيضاً، الغمز من القناة الروسية بأن الولايات المتحدة الأميركية قد عادت إلى المنطقة، إذا صح الحسبان بأنها غادرتها في يوم من الأيام. 

ولكن وفيما كانت الطائرة الرئاسية الأميركية الأولى تغادر واشنطن، أعلن في موسكو أن الرئيس فلاديمير بوتين كان في طريقه لزيارة إيران، وحطت طائرته هناك بعد مجرد يومين على عودة الرئيس بايدن إلى بلاده.

ما الرسائل التي يمكن لزيارة خارجية واحدة أن تبعث بها؟ فقد تضمنت زيارة بوتين إلى إيران مجموعة من الرسائل المختلفة. إذ تعتبر زيارة بوتين إلى إيران رحلته الخارجية الثانية فقط منذ بدء اجتياح أوكرانيا، وكانت الرحلة الأولى زيارة قام بها إلى كل من الجمهوريتين السوفياتيين السابقتين طاجيكستان وتركمانستان، حيث شارك بوتين في أعمال قمة دول بحر قزوين.

كان مثيراً في تلك الزيارة عاملان أساسيان هما التوقيت والوجهة. فربما ليست هناك أي دولة أخرى في العالم تسود علاقات الولايات المتحدة معها هذا المستوى من السوء مثل العلاقة مع إيران، فليس بين البلدين علاقات دبلوماسية منذ اندلاع “الثورة الإسلامية” هناك وأزمة الرهائن التي تلت، وروسيا تدرك ذلك تماماً. ولا بد من الإشارة إلى أن علاقات روسيا نفسها مع إيران لا يمكن اعتبارها علاقة تسير على أفضل ما يرام، لاعتبارها جاراً لا يمكن التنبوء بمواقفه. فموسكو تتعامل مع طهران بحذر، ولقد نجح الجانبان في التوصل إلى تسوية، وكان من شأن ذلك تلطيف العزلة الدولية التي تعيشها إيران مما ساعد طهران على تأمين الحصول على ما تحتاجه من الطاقة وسد أي عجز تعانيه أيضاً.

لكن ومن خلال زيارته إلى إيران لم يكن الرئيس بوتين يقدم “عدو عدوه” على أنه صديق، خصوصاً وأن روسيا تعتبر الحرب الأوكرانية “حرباً بالوكالة” يخوضها كل من حلف الأطلسي والولايات المتحدة ضدها. من خلال تلك الزيارة حاول بوتين أيضاً التأكيد على دور روسيا ووجودها على المستوى الإقليمي. وتضمنت زيارة الرئيس بوتين اجتماعاً مع كل من الرئيس الإيراني والمرشد الأعلى، لكن الأهم من ذلك كانت القمة الثلاثية التي عقدت مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث كان التوتر بين الدول الثلاث في سوريا في صلب المحادثات، إضافة إلى مسألة إمكانية التوصل لترتيبات لتسهيل عملية تصدير الحبوب الأوكرانية عن طريق البحر.  

الكثير وربما الكثير جداً يثار حول سياسة روسيا الخارجية واستدارتها نحو الشرق كرد على نبذها من قبل الدول الغربية بعد اجتياحها أوكرانيا. إلى حد ما، فإن بوتين لطالما اجتهد لموازنة علاقات بلاده بين الغرب والشرق. فإحدى أولى السياسات الخارجية التي انتهجها كرئيس لروسيا كانت العمل من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي لتسوية وضع حدود بلاده مع الصين [التي كان متنازع عليها]، وقامت روسيا بعقد صفقات لتوريد الطاقة إلى الصين منذ ذلك الوقت.

وبدلاً من القيام بانعطافة مفاجئة، كان هناك تطور تدريجي في تلك العلاقة. وعندما تحرك حلف الأطلسي نحو الشرق وقامت الدول الغربية بفرض العقوبات على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014، كانت روسيا مهتمة بإظهار حوزتها على البدائل لعلاقاتها مع الدول الغربية. هذا البحث [عن علاقات] أصبح أكثر إلحاحاً بالطبع منذ الاجتياح الروسي لأوكرانيا. 

ولكن ليس كل ما يلمع ذهباً. بداية فإن الاجتياح الروسي لأوكرانيا لم يضعف وضع موسكو المالي، كما لم ينجح في عزلها دبلوماسياً بحسب الحسابات الغربية. فقد كان للعقوبات التي فرضت على قطاع الطاقة الروسي مفعول معاكس على وضع المالية الروسية، وفيما لم تحصل موسكو إلا على دعم تأييد خجول لحربها، فإن مجموعة من الدول، بما فيها الصين والهند وغيرهما في الشرق الأوسط وأفريقيا، فضلت عدم التنديد بالخطوة الروسية أيضاً. فكثيرون من هؤلاء يرون أن النزاع هو مسألة إقليمية ويفضلون، ولأسباب مختلفة، أن يبقوا على علاقاتهم الطيبة مع روسيا.

هذا ولم تكن الانعطافة الروسية، وفي كل الأحوال نحو اختيار الدول غير الغربية مكتملة كما سعت [موسكو] إلى تصويرها. في طهران، كان الرئيس بوتين يناقش إضافة إلى أمور أخرى، ترتيبات قد تسمح لأوكرانيا بتصدير مخزونها من الحبوب عن طريق البحر. لماذا، وخصوصاً خلال الحرب المستعرة، يمكنك أن تطرح السؤال، قد تقوم روسيا بعدم استخدام كل الأسلحة المتوفرة في ترسانتها وبما فيها مخزونات الحبوب الأوكرانية؟ ولماذا أيضاً هي لم تقم حتى بقطع واردات الغاز والنفط عن الاتحاد الأوروبي حتى قبل أن تبدأ أوروبا بفرض عقوبات على موسكو، ولكنها قامت بذلك اليوم، على خلاف ما توقعه كثيرون، واستأنفت تزويد أوروبا بالغاز عن طريق أنبوب خط السيل الشمالي واحد؟

دعوني هنا أقوم ببعض التخمينات العشوائية. أولاً، إن روسيا ربما تترك مسألة قطع تصدير الغاز تماماً عن أوروبا خياراً محتملاً لاحقاً (ربما لاستخدامه ورقة في فصل الشتاء)، أو أن تستخدم ذلك كورقة مساومة في مرحلة الحل النهائي للمسألة الأوكرانية. ثانياً، إن روسيا تبدو متخوفة وبشكل صادق من أن يتم تحميلها مسؤولية نقص الغذاء على المستوى العالمي، بسبب قلقها ربما من أن حال عدم الاستقرار التي قد تنشأ قد تؤثر على دول تشتري منها وارداتها من الطاقة بنسبة أكبر من أي اعتبارات إنسانية لديها، وربما أيضاً لأن فساد مخزونات الحبوب في أوكرانيا قد يؤدي إلى تغيير المواقف بشكل مؤثر أكثر ضد روسيا في الأمم المتحدة.  

السبب الثالث، هو ربما لأن روسيا تعلم أن الحرب في أوكرانيا، قد سمحت بفضح حقيقة قوتها العسكرية، وقد أدت إلى ضرب مصداقيتها ومكانتها كدولة عظمى خارج المعسكر الغربي. ورابعاً، وفيما يبدو أن روسيا بصدد القيام بانعطافة نحو الشرق، ولكن الهدف من ذلك أن تثبت موسكو للدول الغربية أن لديها خيارات أخرى. في الواقع، لا يبدو أن روسيا مستعدة للقضاء على كل احتمالات استئناف العلاقات مع الدول الغربية وعودتها إلى سابق عهدها. فهي لا تزال تعتبر نفسها، وتود أن ينظر إليها على المدى البعيد على أنها قوة أوروبية. وفيما تتواصل الحرب الأوكرانية، ربما تكون هذه أهم أوراق المساومة المتاحة أمام الدول الغربية.

—————————

=================

تحديث 27 تموز 2022

—————————

القضية السورية بين استعلاء بايدن وأنياب بوتين/ محمود الوهب

وصل الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى منطقة الشرق الأوسط بعد حملة إعلامية واسعة عن مضمون زيارته، ولكنه لم يحمل غير استعلائه على حكام المنطقة، وشغفه بما لديهم من براميل نفط وصفقات اقتصادية تنعش اقتصاد بلاده وتنقذه في الملمّات، وتدعم مواقفها قوةً وحيدةً عظمى. وأميركا إذ تربطها علاقاتٌ حميمة ببعض دول المنطقة تعود إلى أكثر من سبعة عقود، ترى أنّ ثمّة فراغًا عسكريًا واقتصاديًا تحاول إيران أن تملأه، بينما تفترض الرؤية الأميركية أن تشغله إسرائيل التي تخشى التمدّد الإيراني، ويتملكها الرعب من امتلاك إيران القدرة على تصنيع القنبلة النووية. وعلى الرغم من أنَّ في مجرّد مجيء بايدن نوعا من الاعتذار عن تصريحات سابقة بحق أكبر دولة نفطية في المنطقة، العربية السعودية، إلا أنَّ نظرة الاستعلاء كانت بادية في ما خصّصه من وقت لكل من إسرائيل ولرئيس فلسطين، محمود عبّاس، وفي أولوية الموضوعات التي قاربها، وهي زيادة ضخ النفط وتحجيم إيران والضغط عليها للعودة إلى الاتفاق النووي. ولم ينس أن يعرِّج على حقوق الإنسان المفقودة في المنطقة، من دون الإشارة إلى إسرائيل التي تمارس أشكال العنصرية كلّها ضد الشعب الفلسطيني قتلًا وسجنًا واقتطاع أراض وبناء مستوطنات وتجاهلًا لقرارات الأمم المتحدة التي تبلغ، بحسب الرئيس عباس، نحو 700 قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة و87 قرارًا عن مجلس الأمن. وإذا ما تمرّد أحد المعتدى عليهم محتجًا على السياسة الإسرائيلية التي لا وجود فيها لأي شرط من حقوق الإنسان، يتهم بالإرهاب!

وإذا كان الرئيس الأميركي قد تعرَّض لجريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، بحسب إعلاميين، فإنه تجاهل أيّة إشارة إلى جريمة قتل الصحافية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، حاملة الجنسية الأميركية. ومع ذلك، حظي بعدة صفقات اقتصادية، فيما لم تحظ القضية السورية منه بغير إشارات عابرة، وإنْ تعرّض زعماء عرب لها في كلماتهم الرسمية، وخصوصا أميرَيْ الكويت وقطر، كما أكَّد بعضهم أن َّأسباب التوتر في المنطقة بقاء الاحتلال الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية في حدودها قبل 1967.

في مقابل تلك القمة، سارع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الغارق اليوم في أوكرانيا، وما خلفته في العالم من أوجاع إلى عقد قمة أستانة في طهران، غايتها القول إنه موجود، وإنَّ أوان قيادة القطب الواحد قد ولَّى (بغض النظر عمّا سوف تؤول إليه نتائج الحرب على أوكرانيا) إذ لم تكن القمة بعيدة في محتواها عن موضوعات قمة “أميركا – دول الخليج”، وخصوصًا تجاه النفط والغاز وتخلخل الأمن الغذائي. ورغم أنّ أقطاب هذه القمة قد تآلفوا بشأن القضية السورية، إلا أنّ سورية لم تأخذ منهم غير عبارات عامة ومكررة، فالرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أكد فكرة إيجاد حل للقضية السورية من داخلها، “أن إيران تدعم التوصل إلى حل سياسي للأزمة في سورية. ومصير سورية يجب أن يقرّره شعبها من دون أي تدخل أجنبي”، وكلك فعل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين إذ “أكَّد ضرورة إيجاد الظروف اللازمة لتمكين السوريين من تقرير مصير بلادهم، بمعزل عن أيّ تدخل خارجي”، وأشار إلى أهمية وجوب الاتفاق “على خطوات محدّدة لتعزيز الحوار السياسي الداخلي السوري الشامل، لتقرير مصير بلدهم دون أي تدخل خارجي”.

لكنَّ الجانبين الإيراني والروسي لا يعدان دولتيهما ضمن المتدخلين الخارجيين، فكلاهما يؤكّد ضرورة أن يكون الحل السوري شأنًا داخليًا، فمن هم الأغراب في سورية إذًا؟ هل هي تركيا التي تستقبل منذ عشر سنوات نحو أربعة ملايين داخل بلادها وتؤمن لثلاثة ملايين آخرين خدمات ضرورية يفتقر إليها السوريون الذين هم بحماية الروس والإيرانيين، ثم إنّ الروس والإيرانيين شجّعا، منذ البداية، النظام على ما سمّي الحل الأمني، وأخذ الروس يستخدمون حق النقض منذ المبادرة الأولى عام 2011 وما تلاها مرورا بقرار مجلس الأمن 2254 الذي اختصر باللجنة الدستورية (تحاول روسيا اليوم إخراجها، وبعد ثلاث سنوات، من تحت عباءة الأمم المتحدة) وإلى أحدث “فيتو” في 9 يوليو/ تموز 2022 ضد مشروع قرار مجلس الأمن الذي يوصل المساعدات الغذائية إلى ثلاثة ملايين سوري في المخيمات، والغرض تجويع هؤلاء، أو جعلهم تحت رحمة النظام ليتحكّم بلقمة عيشهم، ويأخذ أولادهم إلى الموت بعد أن كان هجَّرهم بقصف الروس أنفسهم.

ثم أليس الأوْلى بمن يدعو إلى وحدة الأراضي السورية أن يسهل عودة السوريين كافة، وبذلك يؤكد وحدة الشعب السوري في الداخل والخارج، أم إنّ هؤلاء المهجرين الذين نزحوا عن دمشق وحمص وحلب وإدلب والرقة ودير الزور ليسوا سوريين؟! وما الغاية من إطالة أمد هذا التجاهل غير تأكيد لرغبةٍ دفينة غامضة، فإن من يريد خلاصاً للشعب السوري يناقش قضيته أمام الملأ، وقد اتخذت الأمم المتحدة قرارها في هذا الشأن، رغم استخدام روسيا حق النقض مرارًا، ودونما وجه حق سوى المماطلة وتعميق الأزمة السورية للحصول على مكاسب خاصة.

أما النظام فلم يرد الانعزال عن تلك القمة، وإن شكليًا، فأرسل وزير خارجيته، فيصل المقداد، إلى طهران، ليقول إن للنظام حصة في القمة (بحسب المقداد نفسه) “لم يكن وجودي في طهران مستبعدًا” وقال إن الرئيس حمّله تحياته إلى المرشد علي خامنئي، وشكر الإيرانيين على موقفهم تجاه “تأكيدهم وحدة الأراضي السورية واستقلالها”. وأشار إلى موقف تركيا من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) واحتمال إبعادها عن حدودها، فقال: “لا فائدة لتركيا من دخول حدود سورية”، وبيَّن ذلك بقوله إن ذلك سوف يؤدّي إلى “صراع بين الحكومة السورية وتركيا، ويؤثر على الشعبين الصديقين والشقيقين”. ورغم الإحالات الإيجابية المستقبلية لهاتين الصفتين، إذ ارتبطا بقوة العلاقات السابقة بين سورية وتركيا ومساهمتها في نمو اقتصادي البلدين، إلا أنَّ المقداد عاد ليحمِّل تركيا مسؤولية دخول الإرهابيين، متجاهلًا دور تركيا الديبلوماسي، آنذاك، ونصائحها بعدم الانجرار إلى الحلول الأمنية التي نقلها عبر رحلات مكوكية وزير الخارجية التركي آنذاك، أحمد داود أوغلو، لكن الأسد لم يكترث، وربما كان لأعوانه، ولأخيه قائد الفرقة الرابعة، ماهر الأسد، بالذات، والمتهم بتصفية خلية الأزمة في يوليو/ تموز 2012، دور رئيسي في ذلك.

أما المعارضة السورية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة)، فلم يبد منها أي موقف من تلك القمة يظهر موقفها ويشير إلى وجودها، أو ما تأمله من القمة، وهي التي انجرَّت قبل ذلك إلى مجموعة أستانة، وأدارت الظهر إلى الأمم المتحدة، ومسؤولياتها تجاه قراراتها المتعلقة بإنهاء عذابات السوريين، واستصدارها القرار 2254 الذي تساوق، على نحو أو آخر، مع توجهات جنيف السابقة، وتقاطع عنده جميع المعنيين بالقضية السورية.

العربي الجديد

————————

شتاء أوروبا قاتم لكن شتاء موسكو طويل/ مروان قبلان

بعد مرور خمسة أشهر على اندلاعها، بدأت تتضح أكثر تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وقد طاولت العالم كله، نتيجة إسهامها في رفع أسعار الطاقة والغذاء، والتي تسبّبت بأزمة تضخّم أدت بدورها إلى أزمة ديون مع ارتفاع معدلات الفائدة وعجز دول عديدة عن السداد. ورغم أن لدى القارّة الأوروبية إمكانات أكبر على الصمود من دول فقيرة عديدة (سريلانكا مثلا) إلا أن فاتورة الحرب قد تصبح قريبا غير محتملة، ليس فقط اقتصاديا، وإنما سياسيا واجتماعيا أيضا.

اقتصاديا، تُنذر أرقام التضخّم التي وصلت إلى نحو 10% تقريبا (ارتفاعا من 2,2% العام الماضي) بدخول أوروبا في حالة ركود اقتصادي، وهي لمّا تتعاف بعد من آثار أزمة وباء كورونا، هذا يعني انخفاض نسب النمو وتزايد معدلات البطالة، مترافقا مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء (ركود تضخّمي)، ما يهدّد بدفع جزء معتبر من المجتمعات الأوروبية إلى حافّة الفقر والجوع. ولكن هذا لن يكون هم الحكومات الأوروبية الوحيد هذا العام، إذ تعيش دول أوروبية عديدة تحت وطأة احتمال انقطاع إمدادات الغاز الروسية كليا عنها كرد فعل على العقوبات المفروضة على موسكو، وعلى دعم أوكرانيا عسكريا واقتصاديا. شركة “غاز بروم” خفضت بالفعل ضخّ الغاز إلى أوروبا بنسبة 20%، وهي توقف، بين الفينة والأخرى، ضخّ الغاز في خط نورد ستريم1 بحجة إجراء صيانة، والهدف على ما يبدو منع الدول الأوروبية من تخزين كميات كافية من الغاز استعدادا للشتاء. ورغم تدفق الغاز من الولايات المتحدة ودول أخرى، لن تستطيع أوروبا قبل عامين على الأقل إيجاد بديل فعلي للغاز الروسي، ما يؤدّي إلى خفض تنافسية الصناعات الأوروبية نتيجة ارتفاع كلف الإنتاج، مقارنة بالصين والهند اللتين تحصلان على حسوماتٍ كبيرةٍ على الطاقة الروسية.

ويتوقع أن يلعب الغاز دورا مهما في تقويض الوحدة التي أبداها الأوروبيون في مواجهة روسيا، ويتبلور في أوروبا حاليا معسكران: الأول يريد التفاهم مع روسيا والاستجابة لبعض احتياجاتها الأمنية في أوكرانيا، وتمثل هذا الاتجاه المجر، وإلى حد ما ألمانيا وإيطاليا وحتى فرنسا. أما المعسكر الآخر فيريد قتال روسيا حتى آخر قطرة دم أوكرانية، وتمثله بولندا ودول البلطيق، دع جانبا بريطانيا. لا يسري هذا الانقسام فقط بين دول أوروبا، بل ينتقل إلى دواخلها. ومع ضيق صدر المواطن الأوروبي بتداعيات الأزمة الأوكرانية في ظروف معيشته، تزداد قوى اليمين الأوروبي المتعاطفة عموما مع روسيا قوة، وتتفاعل أزمة اللجوء الأوكراني، حتى في أكثر دول أوروبا عداء لروسيا (بولندا مثلا). ويتوقع بحلول الشتاء أن تتجه دول أوروبية عديدة، عملا بتوصيات المفوضية الأوروبية، إلى ترشيد استهلاك الغاز بنسب قد تصل الى 15%، ما يعني تقنين وقود التدفئة شتاء وتأثر ملايين العوائل (20% من سكان أوروبا فوق 65 عاما). وقد رفضت إسبانيا والبرتغال هذه التوصية لارتفاع تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، سقطت حكومات بلغاريا وسلوفينيا وإستونيا وإيطاليا وغادر الحكم رئيس وزراء بريطانيا، وإن لم تلعب حرب أوكرانيا دورا في إطاحته، ويتوقع بحلول الشتاء سقوط حكومات عديدة أخرى.

تقول هذه المؤشّرات إن أوروبا تخسر كثيرا على المدى القصير بسبب حرب الغاز، لكن على المدى الأبعد ستكون روسيا الخاسر الأكبر، ذلك أن 85% من كل إنتاجها من الغاز يذهب باتجاه أوروبا (160 مليار متر مكعب سنويا)، في حين أن أوروبا تستورد 40% فقط من احتياجاتها من الغاز من روسيا، هذا يعني أن اعتماد روسيا على أوروبا يساوي ضعف اعتماد أوروبا على روسيا. وفي حين أن أوروبا سوف تتمكّن خلال أعوام قليلة من توفير بدائل للغاز الروسي، لن تستطيع روسيا التعويض عن السوق الأوروبية خلال الفترة نفسها. إذ تبلغ القدرة التصديرية لخط الغاز الروسي الى الصين نحو 10% فقط من إنتاج روسيا، وقدرتها على تسييل الغاز تصل إلى 10% أيضًا، هذا يعني أن روسيا سوف تخسر 80% من حصتها السوقية إلى الأبد لصالح دول مثل قطر وأستراليا والولايات المتحدة، وبالتالي انتهاء دورها كقوى عظمى طاقويا.

العربي الجديد

————————-

من يكسب الحرب في أوكرانيا؟/ إبراهيم فريحات

يسود اعتقاد واسع بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لم يتوقع حجم العقوبات التي تعرّضت لها بلاده لإقدامه على غزو أوكرانيا. لا بل يذهب بعضهم إلى المجادلة في أن أوكرانيا كانت فخّاً غربياً لرجل الكرملين، لاستنزافه فيها، ما يسهّل القضاء على دوره منافسا للولايات المتحدة في النظام الدولي. لن تدخل هذه المقالة في محاكمات بشأن ما كان يختمر في ذهن بوتين عند اتخاذه قرار الغزو، ولكن يمكن تقييم المؤشّرات المتوفرة لدينا بعد خمس أشهر من بدء الحرب، والتي تفيد بأن روسيا قد حققت مكاسب استراتيجية، في حين أن المكاسب التي حققها الغرب تكتيكية مرحلية، لا تؤثر على النتيجة النهائية للحرب.

نعم، كان الثمن باهظاً الذي قام الغرب بتدفيعه لبوتين منذ بدء الحرب، وبشكل محدّد في الجانبين الاقتصادي والبشري، أي عدد القتلى من الجيش الروسي الذي يُعتقد، حسب وكالة المخابرات المركزية الأميركية، أنه وصل إلى 15 ألف جندي. والعقوبات الاقتصادية هي الأقسى التي تُفرض على روسيا، رغم أن تأثيرها المباشر على الاقتصاد الروسي لم يظهر بعد. انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو مكسب مهم، وخسارة معتبرة لروسيا، بانتقال دولتي الجوار من معسكر الحياد إلى حلف المعسكر المعادي، رغم أن دخولهما في “الناتو” لم يتحقق رسمياً بعد، وما زالت تركيا تهدّد، بين فينةٍ وأخرى، بعرقلة انضمامهما. يصف بعض المحللين ما أسموها “الوحدة الأوروبية” ضد روسيا وإعادة التحالف الأميركي الأوروبي الى أوجه بأنه خسارة روسية كبيرة، ومكسب غربي. إلا أن هناك محاذير كبيرة حول هذا الاعتقاد، لأسبابٍ منها أن مثل هذه المواقف في السياسة الخارجية عادة ما تكون مؤقتة، أو تلتقي حول ملفّ واحد يصعب تمريره على ملفات أخرى، ما يجعل الاعتقاد بوحدة أوروبية مجرّد وهم، فالسياسة الخارجية الأوروبية متباينة كثيراً في ملفاتٍ دوليةٍ كثيرة. وحتى في ما يخصّ روسيا، موقف حكومة اليمين في هنغاريا آخذٌ بالابتعاد عن توجهات بروكسل، وربما تلحق إيطاليا قريباً بعد سقوط حكومة الوحدة الوطنية بقيادة رجل الوحدة مع أوروبا ماريو دراغي، وحل البرلمان، والذهاب إلى انتخابات مبكرة في شهر سبتمبر/ أيلول، والتي تظهر استطلاعات الرأي أن ائتلاف اليمين، بقيادة حزب “إخوة إيطاليا” بقيادة جورجيا ميلوني، سيحقق فوزاً سهلاً، فاليمين المتطرّف في هنغاريا وإيطاليا آخذ بالاقتراب من بوتين، رغم أن الأخير يعزو أحد أسباب غزوه أوكرانيا إلى القضاء على اليمين “النازي” هناك.

في المقابل، ما حققته روسيا من مكاسب من الحرب، رغم الخسائر الاقتصادية والبشرية، تعدّ استراتيجية ذات وزن مؤثر في حسابات ربح الحروب وخسارتها، وأهم هذه المكاسب الأرض، فالإقليم المتنازع عليه “دونباس” الذي كان السبب في نشوب الحرب أصبح تحت السيطرة الروسية بالكامل. لا بل طاولت شهية التمدّد الروسي مناطق إضافية أخرى، مثل مقاطعة خيرسون وغيرها. وعلى الدرجة نفسها من الأهمية، يمكن السؤال: من يذكر القرم اليوم، وإمكانية انسحاب روسيا منها؟ إحدى النتائج الفعلية للحرب الدائرة وحقيقة سيطرة موسكو على دونباس ومناطق إضافية أخرى أن القرم أصبحت عملياً من الماضي، فالمطالبات الآن ترتكز على الأراضي المحتلة حديثاً. للأسف، هكذا تعمل الصراعات الدولية في ما يخصّ الأرض، إذ يدور الحديث عن آخر قطعة جرى احتلالها ضمن أي تسوية مستقبلية، تماماً كما فعلت إسرائيل عندما احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة في 1967، فتوقف الحديث عن أراضي 1948، وبعد أن بنت مستوطنات عملاقة في الأراضي المحتلة في 1967، مثل أرئيل ومعاليه أدوميم، تحوّل الحديث عن انسحابٍ مع “تبادل أراضٍ” بدل هذه المستوطنات. مقابل هذه الإنجازات الهائلة بالسيطرة على الأرض، هل يمكن الالتفات إلى الخسائر الاقتصادية أو دخول موسكو نظام الـ”سويفت كود” معايير لقياس من يكسب الحرب ويخسرها في أوكرانيا.

المؤشّر الاستراتيجي الثاني الذي حققته روسيا منذ غزوها الاختلال الكبير في العامل الديموغرافي في شرق أوكرانيا لصالح روسيا، والذي نجمت عن حركة لجوء أوكرانية واسعة زادت عن ستة ملايين، ما يعني تطهيراً عرقياً في شرق أوكرانيا حتى لو لم يكن مقصوداً. الغالبية العظمى اليوم في الشرق الأوكراني أصبحت لصالح الإثنية الناطقة بالروسية، فكيف ستعاود أوكرانيا السيطرة على إقليم دونباس الذي فقد الكثير من أوكرانييه! اللاجئون لا يعودون بمعظمهم، هكذا بينت كثير من دراسات الصراع في العالم حتى ولو أعطوا حق العودة بالكامل، تماماً كما حدث في البوسنة التي أعطى فيها اتفاق دايتون حق العودة للجميع، لكن نسبة العودة للبوسنيين لم تتجاوز 20% في مناطق كثيرة. كان للتشجيع الأوروبي الأميركي دور رئيسي في حالة النزوح الكبيرة من شرق أوكرانيا باتجاه العواصم الأوروبية، معتقدين أنها مسألة وقت، وأن “الناتو” سيعيدهم إلى بيوتهم بعد هزيمة موسكو هناك، وهذا يذكّرنا باللاجئين الفلسطينيين عام 1948، الذين وعدتهم بعض القيادات العربية أنها مسألة وقت عندما غادروا بيوتهم ذلك العام.

يمكن تسمية النموذج الذي يحكم سير المعارك في أوكرانيا على مدار الأشهر الخمسة الماضية بـ”الزحف الحلزوني المكلف”، أي أنّ الغرب يرفع كلفة الحرب على روسيا، لكنّ الأخيرة تتقدّم على الأرض ببطء أو بسرعة حلزونية. وهذا الزحف إذا ما استمر على هذا المنوال، ولا مؤشّرات على تغييره، يقترح أن روسيا قد تتمكّن فعلاً من السيطرة على المدخل المائي المتبقي لأوكرانيا على البحر الأسود بعد أشهر ولو بتكلفة عالية، وبذلك يجرى تحويل أوكرانيا الى منطقة مغلقة Landlocked من دون منافذ مائية، بعدما خسرت ميناء ماريوبيل، وبذلك تكون موسكو قد حققت أكبر مكسب استراتيجي لها، في حين أن بريطانيا والولايات المتحدة لا زالتا تناقشان مدى الصواريخ التي يمكن لهم منحها لأوكرانيا.

أخيراً، يمكن القول بأن الدعم الأميركي البريطاني لأوكرانيا ربما وصل إلى آخر حدوده، وذلك بما تسمح به قواعد الصراع بين اللاعبين الكبار، وهذا يفسّر تصريحات بايدن عن العودة إلى الشرق الأوسط لمنع التمدد الروسي الصيني، ما يشير إلى نفاد خياراته في هزيمة روسيا في أوكرانيا بطريقة الحرب بالوكالة، وأصبح يبحث عن مناطق جديدة يمدّد بها حروب الوكالة، والمرشح الأول هنا هو للأسف العالم العربي.

العربي الجديد

————————

توكاييف رافضاً حرب بوتين على أوكرانيا… كازاخستان تتمرد على حليفها الروسي/ محمد خلف

الانتقام الروسي لم يتأخر طويلاً وأظهر أن بوتين فقد صبره من توكاييف الذي جرح كرامته وطعن هيبته، وجاء رده صاعقاً بقراره وقف شحن النفط الكازاخي عبر خط قزوين إلى الأسواق العالمية.

يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يراجع تحالفاته جراء الموقف المفاجئ لرئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف أمام حشد من رؤساء الدول والمسؤولين الكبار الذين حضروا منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي.

توكاييف أعلن صراحة رفضه الاعتراف باستقلال اقليمي لوغانسك ودونيتسك عن أوكرانيا.

لم يدر بخلد الديكتاتور الروسي ربما أن توكاييف الذي ترتبط بلاده مع روسيا بتحالف مؤطر باتفاقيات ثنائية واقليمية ستبلغ به الجرأة أن يتمرد علناً ملقياً بسياسيين دوليين وصحافيين ومحللين في غياهب التكهنات والتفسيرات عما يقف وراء هذا التحدي، لا سيما بعد إعلانه أن بلاده لن تعترف بما وصفه بـ”جمهوريات مزعومة في لوغانسك ودونيتسك”، مستدركاً الإشارة إلى أن عدم الاعتراف هذا يسري على تايوان، وكوسوفو واوسيتيا وأبخازيا، وهما الاقليمان الجورجيان اللذان أعلنا وبدعم من بوتين الانفصال بعد الهجوم الروسي على هذه الدولة التي اختارت التحالف مع الغرب عام 2008.

بوتين اكتفى بالصمت ولم ينطق بأي كلمة وتجاهل انتقادات توكاييف الذي عاد الى مكانه جنب الزعيم الروسي الذي جلس كالصنم يراقب بغيض مكتوم، الذهول الذي طبع على وجوه الزعماء الحاضرين في المنتدى.

يطرح موقف رئيس كازاخستان الرافض للحرب الروسية على أوكرانيا، واحتلالها ومصادرتها الأراضي الاوكرانية المزيد من الغموض بشأن مستقبل العلاقات بين روسيا وكازاخستان، وإذا ما كانت ستهدد عضوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تتكون من ست جمهوريات سوفياتية سابقة بقيادة روسيا. هذه المنظمة لعبت دوراً محورياً في تشكيل تحالف تريده روسيا أن يكون منظومة مشابهة في تكوينها للحلف الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة.

وفقاً للخبير في الشؤون الأوروبية- الآسيوية ديفيد تيورتري، فإن هذه المنظمة تعد “نوعاً من الثقل الموازن في مواجهة الحلف الأطلسي”، موضحاً أنها “تعتمد على القدرة العسكرية الروسية لإظهار القوة”.

قوة في مواجهة الغرب

تأسست “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1992، وهي اتفاقية دفاع متبادل أخذت شكلها الحالي عام 2002، وحصلت على صفة مراقب في الأمم المتحدة عام 2004، إذ تضم طاجيكستان وقيرغيزستان وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان بالإضافة إلى روسيا.

تستند المعاهدة على مبدأ الدفاع الجماعي مثل حلف الناتو، ما يعني أن تعرّض أي دولة من الدول الأعضاء إلى اي هجوم يُعد هجوماً على جميع أعضاء الحلف، كما وتجري تلك الدول مناورات عسكرية مشتركة، وتسهل بيع الأسلحة في ما بينها. لكن برغم ما تنص عليه المعاهدة، يعتبر تدخل القوات الروسية في كازاخستان مطلع العام هو الأول من نوعه في تاريخ المنظمة الممتد 30 عاماً، وبرغم تعرض بعض الدول إلى ظروف أكبر من الاضطرابات الحالية في كازاخستان، لم تستجب المنظمة وتنشر قواتها، وفق “فورين بوليسي”.

بالتأكيد إن تمرد توكاييف ورفضه الحرب على أوكرانيا التي هي برأيه انتهاك صارخ للمواثيق الدولية وسيادة الدول، ليس مصادفة ولم يأت من العدم، على رغم أنه كان مفاجئاً للكثير من المحللين والمراقبين، وصاعقاً للكرملين لا سيما أن العلاقات مع روسيا تخيم عليها سحب كثيفة من الغيوم لم يبددها التدخل الروسي العسكري لإنقاذ نظام توكاييف الذي واجه موجة ساحقة من الاحتجاجات الشعبية على تدهور وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد في أوائل العام الجاري.

العنجهية والرعونة الروسية

توكاييف كان لمح في أحد تصريحاته، ولكن من دون الكشف عن أي تفاصيل إلى أزمة جدية في علاقات الحليفين بقوله “أنا، وعلى رغم من أنه ربما لن يكون مناسباً تماماً، أود أن أعبر عن بعض الشكاوى حول تصريحات عدد من النواب الروس، وتصريحات خاطئة تماماً حول كازاخستان، والبيانات غير الدقيقة، كما يمكنني القول إن ذلك ينسحب أيضاً على عدد من الصحافيين وحتى الشخصيات الثقافية”، واصفاً ما يتناوله عدد من النواب والصحافيين الروس من تصريحات بأنها “غير واضحة”، مكتفياً بالإشارة إلى “أنهم يبالغون بتعليقاتهم الغريبة على قرارات قيادة كازاخستان، أو الأحداث التي تجري في بلادنا”.

هذه المواقف اكتفى الرئيس فلاديمير بوتين بالتعليق عليها بقوله، “روسيا وكازاخستان قادرتان على إيجاد حل لأي مشكلات”.

يشير المحلل في الشؤون الروسية سامي عمارة الى وجود مشكلات بين قيادتي الدولتين سبق أن تداولتها  أجهزة الإعلام ومنها الرسمية، من بينها خبر “رفض” قاسم توكاييف قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منحه وسام “ألكسندر نيفسكي”، أحد أعلى أوسمة الدولة الروسية، على هامش أعمال منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي.

وكان المحلل السياسي الكازاخستاني يربول يديلوف من أوائل الذين أذاعوا ذلك الخبر عبر قناته على Telegram، وهو ما أكده روسلان زيلديباي، السكرتير الصحافي لتوكاييف، رداً على طلب من وكالة Tengrinews. وبحسب يديلوف، فإن توكاييف “شكر المعنيين على التكريم”، لكنه “قرر عدم قبول أي جوائز، محلية وأجنبية، طوال فترة توليه منصبه الرسمي كرئيس للدولة”. وأضاف إديلوف”توكاييف لم يقبل أيضاً قبل ذلك منحه أعلى وسام الدولة في قيرغيزستان، “وسام ماناس من الدرجة الأولى”.

أسباب عدم اعتراف كازاخستان باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، رددتها بكثير من الصراحة  بعض المواقع الإعلامية الصحافية والإلكترونية الكازاخستانية، ومنها “ألتين أوردا” (القبيلة الذهبية) وهو الاسم التاريخي القديم لكازاخستان وشركائها من أخلاف إمبراطورية المغول والأسرة الطورانية.

روسيا الرسمية حاولت في أكثر من مناسبة توضيح موقفها الهادف كما أشارت إلى “لمّ شمل ما بقي من جمهوريات سوفياتية سابقة في إطار التعاون المتكافئ القائم على المنفعة المتبادلة”، إلا أن معطيات الواقع الداخلي ومتغيرات السياسة الدولية وتغليب المصالح الوطنية، تظهر أن كازاخستان وغيرها من جمهوريات الفضاء السوفياتي السابق لا تخفي رغبتها الجامحة في هدم الأسوار والتحرر من شباك الماضي الذي يريد بوتين إعادتها إليه بالقوة.

اعتبر مراقبون كثر في موسكو أن ما يحصل من تحولات في كازاخستان وغيرها من بعض بلدان آسيا الوسطى، ينذر بضرورة تغيير السياسات الروسية وفي مقدمتها السياسات الإعلامية، التي يبلغ الشطط ببعضها حد السقوط في شرك بعض “الممارسات السوفياتية القديمة”.على حد تعبير سامي عمارة.

واللافت أن كثراً من المراقبين والمحللين الروس اقروا بما وصفه بعضهم بالرعونة في السياسة الخارجية الروسية في إدارة ملف دول الاتحاد السوفياتي السابق، مع قصر النظر الاستراتيجي لقيادة الجمهوريات المستقلة، هذا القصور في إدارة هذه الملفات أدى إلى جعل تلك الدول مسرحاً للتنافس بين اللاعبين الدوليين، كما أدّت هيمنة مبدأ المساواة الشكلية في العلاقات الدولية على محتواها الواقعي والحقيقي إلى خسارة كبيرة للنفوذ الروسي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي.

مسيرة الاهتزازات و النكسات و الخوف

ما يمكن رؤيته في موقف توكاييف هو أن تصريحات المسؤولين الروس، والمواقف التي تصدر عنهم بين حين وآخر، وبشكل خاص تلك الداعية إلى ضم أجزاء من أراضي دول سوفياتية سابقة، تثير مخاوف ليس كازاخستان وحدها، وانما الجمهوريات السوفياتية السابقة الاخرى، إذ هناك أقليات روسية تصل في بعضها إلى 22 في المئة من التركيبة الديموغرافية، وتخشى هذه الدول تكرار سيناريوات شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا.

مرت العلاقات بين روسيا وكازاخستان بمطبات كثيرة واهتزازات تردد صداها في وسائل إعلام البلدين، منها ما يعود إلى سنوات حكم الرئيس السابق نور سلطان نزاربايف، لكن هناك الجديد منها، ويتعلق بما يمكن أن ينسحب على الولاية الحالية للرئيس قاسم توكاييف، وما يتعلق منها بما قدمته روسيا من مساعدات ودعم.

يعيد عمارة التذكير بما قاله الرئيس فلاديمير بوتين حول أن لروسيا ديوناً قديمة لدول الاتحاد السوفياتي السابق، ومنها ما يتعلق بما تم إهداؤه إليها من أراض روسية تاريخياً. وإذا كان ما قاله بوتين بهذا الشأن يتعلق بالدرجة الأولى بأوكرانيا، وما تم ضمه إليها من أراضي منطقة الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا، لكن كازاخستان لم تكن بمنأى عن التداعيات المماثلة، وهي التي حصلت على مساحات هائلة تقع اليوم في الشمال من خريطتها الجغرافية.

كلمات بوتين هذه  نبشت في ذاكرة المسؤولين الكازاخيين وأعادتهم الى جرح وربما إهانة، بل راى البعض انها ترتقي إلى تهديدات كانوا سمعوها من بوتين، وذلك في معرض حديث جمعه مع شباب بلاده عام 2014، حيث قال، “نزاربايف زعيم كفؤ للغاية، وفعل شيئاً فريداً. لقد أنشأ دولة على أرض لم تكن فيها دولة على الإطلاق”. عبارة بوتين التي قال فيها “لم يكن لدى الكازاخ دولة” أثارت غضب الرئيس السابق نزاربايف، ما دفع  دوائر الكرملين الى الاسراع بتقديم اعتذار غير مباشر قالت فيه إنه تم تحريف تصريحات بوتين.

وفي الواقع، أشارت بحوث ودراسات إلى أن الكازاخ لم تكن لديهم حدود لدولتهم، بل، وأن الكازاخستانيين لم يؤسسوا أبداً عاصمتهم بمحض إرادتهم. يقول عمارة، “المعروف تاريخياً أن كازاخستان انضمت في السابق إلى الاتحاد السوفياتي كوحدة إدارية، ضمن أراضي قرغيزيا السوفياتية ذات الحكم الذاتي، قبل تحولها إلى جمهورية سوفياتية عام 1936.

تتهم بعض الدوائر الرسمية ووسائل الإعلام الروسية كازاخستان الرسمية بأضطهاد الناطقين باللغة الروسية إلى ما يتعرض له بعض أبناء القومية الروسية في كازاخستان، وعادت هذه الأصوات تنتقد قرارات توكاييف حول الرحيل المبكر لقوات حفظ السلام التي هرعت لإنقاذ بلاده من ويلات محاولات الانقلاب التي شهدتها في كانون الثاني/ يناير الماضي، فضلاً عن العودة إلى المطالبة بما تنازلت عنه روسيا من أراض إبان سنوات الاتحاد السوفياتي السابق لكازاخستان وغيرها من الجمهوريات السوفياتية.

تجدد وتزايد الانتقادات الروسية للقيادة السياسية في كازاخستان سببه برأي المراقبين موقفها “الحيادي” من الأزمة الأوكرانية الراهنة، وإعلان الرئيس توكاييف أنه لن يعترف بجمهوريتي “دونيتسك” و”لوغانسك”.

وكان توكاييف فسر موقف بلاده من عدم الاعتراف بجمهوريتي منطقة الدونباس بأنه “إذا تحقق حق الأمم في تقرير المصير فعلياً في جميع أنحاء العالم، فبدلاً من 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة الآن، ستظهر أكثر من 500 – 600 دولة على الأرض”. واختتم حديثه قائلاً، “بالطبع ستكون الفوضى”. وعلى وجه الخصوص، لا تعترف كازاخستان بسيادة تايوان وكوسوفو وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وقال توكاييف، “ومن الواضح أن مبدأ عدم الاعتراف سيطبق على مناطق شبه الدولة، والتي هي في رأينا على غرار لوغانسك ودونيتسك”.

 كازاخستان تطبق العقوبات الغربية على روسيا

ولعل الشعرة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل العربي في العلاقات الروسية- الكازاخية تتجلى بتعهد لتوكاييف في مقابلة مع قناة “روسيا 24” التلفزيونية الإخبارية الرسمية، “باتباع العقوبات الغربية ضد روسيا”. وقال إن بلاده لا ترفض التزامات الحلفاء تجاه روسيا، لكن التفاعل مع موسكو سيبنى في إطار نظام العقوبات. وأضاف أن كازاخستان تمتثل لجميع القيود التي فرضها المجتمع الدولي على روسيا، على رغم استمرار العمل مع موسكو. وأوضح أن “العقوبات هي العقوبات، يجب ألا نخرقها، بخاصة أننا نتلقى إخطارات بأنه في حال انتهاك العقوبات، فإن ما يسمى العقوبات الثانوية من الغرب ستأتي على اقتصادنا”.

الانتقام الروسي لم يتأخر طويلاً وأظهر أن بوتين فقد صبره من توكاييف الذي جرح كرامته وطعن هيبته، وجاء رده صاعقاً بقراره وقف شحن النفط الكازاخي عبر خط قزوين إلى الأسواق العالمية، وذلك للمرة الثالثة خلال أربعة أشهر. ولم يكن صعباً على الكرملين الايعاز الى احدى المحاكم الروسية لإصدار حكم يستند إليه القرار الرسمي، إذ ذكرت قناة “روسيا اليوم” التي تديرها الحكومة، إنه تم وقف عمل خط نقل النفط المذكور بقرار من محكمة مدينة نوفوروسيسك، جنوب روسيا، لمدة 30 يوماً، وذلك بسبب ما سمته”خروقات بيئية”، تجب معالجتها لكي يستأنف الخط عمله. ويعتمد اقتصاد كازاخستان بشكل رئيس على صادرات النفط، التي تمثل 56 في المئة من قيمة الصادرات الخارجية و55 في المئة من ميزانية الدولة.

توكاييف استقبل القرار الروسي بالتحدي إذ نقلت وكالة “تاس” الروسية تصريحات له حول حاجة بلاده إلى تنويع مسارات نقل النفط والغاز إلى الخارج، واعتباره هذه المهمة “شديدة الأهمية”، مؤكداً أن الأولوية في هذا الصدد يجب أن تكون “المسار العابر لبحر قزوين”. توكاييف قال إنه سيطرح على حكومته مهمة استراتيجية جديدة تقضي بتحويل موانئ كازاخستان إلى أحد المحاور الرئيسة للبنية التحتية لأسطول بحر قزوين وإنشاء مركز حاويات في ميناء أكتا على ضفافه. وطالب المؤسسات الدولية المتخصصة بالعمل في اتجاه زيادة قدرة خطوط أنابيب النفط أتيراو-كينكياك وكينكياك-كومكول، بما يعني أن كازاخستان تبحث عن طرق لنقل النفط عبر إيران وآذربيجان. فعبر إيران، يصبح من الممكن الوصول إلى موانئ الخليج، بينما يمكن أن تتصل كازاخستان عبر بحر قزوين بآذربيجان ومنها إلى جورجيا وحوض البحر الأسود، ثم أوروبا، بما يعني أيضاً الالتفاف على كل الطرق السابقة التي كانت تمر بالأراضي الروسية.

لا يحتاج المراقب، بل وحتى المتابع العادي إلى اكتشاف ما أراد توكاييف ابلاغه ليس للقادة الروس وحسب، بل أيضاً لخصومهم الأميركيين برغبته تغيير بوصلة البلاد بحيث تبتعد من روسيا. المعلقون الروس وجدوا أن كل هذه الطرق التي تحدث عنها توكاييف “تمر خارج أراضي روسيا”، ما دفعهم الى الاستنتاج، “أن كازاخستان الحليف الرئيس لروسيا تبحث عن البدائل”.

لا شك في أن هذا الموقف وما سيتبعه من تطورات، يفتح الباب أمام شتى الاحتمالات من بينها تفكك وحدة بلدان الأسرة الأوروآسيوية، فيما روسيا ما زالت تحترق بأتون حربها على أوكرانيا والعقوبات الغربية التي ستظهر بعد أشهر تأثيراتها الكارثية على البلاد.

درج

————————–

روسيا – إسرائيل: هل يترجم التوتر في أوكرانيا صراعًا في سوريا؟/  مروان شلالا

من التسامح مع الغارات إلى التهديد بـ “أس-400”

إيلاف من بيروت: ربما يؤدي الضغط الروسي على إسرائيل لتقليل دعمها لأوكرانيا وتخفيف الضربات الجوية ضد أهداف إيرانية في سوريا إلى حدوث أزمة دبلوماسية أو تصعيد عسكري عرضي بين البلدين، لا سيما في سوريا، حيث تتوتر العلاقات الإسرائيلية الروسية.

في 5 يوليو، طالبت وزارة الخارجية الروسية إسرائيل بوقف حملة جوية سرية طويلة الأمد ضد أهداف إيرانية في سوريا بعد أن ضربت الطائرات الحربية الإسرائيلية موقعًا إيرانيًا قريبًا نسبيًا من القاعدة البحرية الروسية في طرطوس. في اليوم نفسه، اتهمت إسرائيل موسكو بالتهديد بإغلاق الوكالة اليهودية في روسيا، التي تساعد على الهجرة اليهودية وزيارات اليهود إلى إسرائيل. في يونيو، انتقدت روسيا أيضًا غارة جوية إسرائيلية على مطار دمشق أغلقت المطار عدة أيام.

كانت العلاقات الإسرائيلية الروسية في سوريا براغماتية إلى حد كبير. حتى وقت قريب، كانت موسكو تتسامح مع الضربات الجوية الإسرائيلية التي تهدف إلى إضعاف النفوذ العسكري الإيراني، بما في ذلك الضربات في محافظة اللاذقية السورية، حيث تقع القواعد الجوية والبحرية الروسية.

لكن الحرب الروسية المستمرة في أوكرانيا أصبحت تستنزف مواردها العسكرية في سوريا، حيث سحبت موسكو بعض قواتها للقتال في أوروبا. جعل هذا الحفاظ على النفوذ العسكري الإيراني أكثر أهمية في تحقيق هدف روسيا المتمثل في تعزيز سيطرة بشار الأسد على البلاد. أصبحت موسكو بدورها أكثر حذرًا من الضربات الجوية الإسرائيلية ضد إيران في سوريا، حيث اعتبرتها مزعزعة لاستقرار نظام الأسد.

موسكو غاضبة

أعربت روسيا عن استيائها الشديد من الدعم المادي الدبلوماسي والدفاعي لإسرائيل لأوكرانيا. أرسلت إسرائيل أعدادًا محدودة من الخوذات إلى القوات الأوكرانية التي تقاتل القوات الروسية. بعد شهر تقريبًا من شن روسيا غزوها في فبراير، سمحت إسرائيل أيضًا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالتحدث إلى نواب في الكنيست الإسرائيلي.

أثارت هذه التصرفات غضب روسيا، التي اتهمت إسرائيل في أوائل مايو بدعم “النازيين الجدد” في أوكرانيا وإرسال مرتزقة للقتال ضد روسيا. خلال زيارته لإسرائيل في 14 يوليو، ورد أن الرئيس الأميركي جو بايدن طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد توسيع المساعدة العسكرية الإسرائيلية لأوكرانيا، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد التوترات مع موسكو.

لا تزال العلاقات الروسية الإسرائيلية ترتكز على رغبة قوية متبادلة لتجنب الصراع، ما يجعل من غير المرجح أن يسعى أي من البلدين إلى مواجهة في سوريا. ليس لروسيا مصلحة في حملة إيران الإقليمية المناهضة لإسرائيل، والتي شهدت في السابق تجاهل موسكو إلى حد كبير للنشاط الجوي الإسرائيلي فوق سوريا – خاصةً عندما لا تؤثر أهداف تلك الضربات على الحرب الأهلية الشاملة.

من جانبها، لم تعترض إسرائيل أيضًا تاريخيًا على موقف روسيا في سوريا وتحالفها مع نظام الأسد، الذي لا يستهدف إسرائيل أو يؤثر عليها. أدى هذا الحياد المتبادل في سوريا إلى خروج روسيا وإسرائيل بشكل منتظم من الصراع في البلاد. في الواقع، بعد وقت قصير من غزو روسيا لأوكرانيا، سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت إلى موسكو في أوائل مارس لمحاولة ترسيخ إسرائيل وسيطًا محتملًا في وقف إطلاق النار مع كييف.

إرث سوفياتي

أنشأ الاتحاد السوفياتي منشأة طرطوس البحرية في عام 1971 حيث دعم سوريا ضد إسرائيل المتحالفة مع الولايات المتحدة في الحرب الباردة. لكن الأعمال العدائية بين موسكو وإسرائيل انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1991. منذ ذلك الحين، استخدم الاتحاد الروسي القاعدة البحرية التي تعود إلى الحقبة السوفياتية في سوريا للاحتفاظ بنفوذه في شرق المتوسط ، وليس لاستهداف حلفاء الولايات المتحدة مثل إسرائيل.

مع ذلك، اعتماد روسيا المتزايد على إيران لتأمين مكاسب استراتيجية في سوريا يزيد من استعدادها لإبطاء الضربات الجوية الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية. إن الضربات الجوية الإسرائيلية ضد إيران – الحليف الوثيق للنظام المدعوم من روسيا في دمشق – تحمل الآن خطرًا أكبر لزعزعة استقرار الحكومة السورية، حيث تستمر الحرب في أوكرانيا في إجهاد قدرة موسكو على حماية قوات الأسد.

بالنسبة إلى روسيا، فإن الاستمرار في السماح لإسرائيل بشن مثل هذه الهجمات يهدد أيضًا بتعريض علاقتها مع طهران – أحد الحلفاء الرئيسيين لموسكو ضد حملة العزلة الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة وأوروبا. مرجح أن يدفع هذا الاعتماد الاقتصادي والأمني المتزايد على دور طهران في سوريا موسكو إلى محاولة إبطاء الضربات الجوية الإسرائيلية. قد تحاول موسكو إقناع تل أبيب بعدم ضرب أهداف أو مناطق معينة، مثل محافظة اللاذقية الحساسة ومطار دمشق، إضافة إلى مواقع إستراتيجية أخرى مرتبطة بالاقتصاد السوري أو ذات أهمية خاصة لإيران.

ضوء أخضر

قد تهدد روسيا أيضًا بمنح القوات السورية الضوء الأخضر لاستخدام الأسلحة الروسية الصنع، مثل نظام الدفاع الجوي S-300، لاستهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية بشكل متكرر – إما من طريق تتبع الطائرات أو بإطلاق النار عليها فعليًا. في الحالة القصوى، قد تهدد موسكو باستخدام نظام الدفاع الصاروخي S-400 ضد الطائرات الحربية الإسرائيلية إذا استهدفت مواقع تعتبرها روسيا حساسة. مع ذلك، من غير المرجح أن تتابع روسيا مثل هذا التهديد، على عكس S-300 في سوريا، يتم تشغيل S-400 مباشرة من قبل الجيش الروسي. مؤكد أن استخدام هذا النظام مباشرة على الطائرات الحربية الإسرائيلية سيؤدي إلى أزمة عسكرية مباشرة بين روسيا وإسرائيل.

تضر الضربات الجوية الإسرائيلية بالاقتصاد السوري من خلال تدمير البنية التحتية. وهذا يردع التجارة والأعمال التي تحتاجها دمشق، ويقوض الاستقرار السوري.

تزيد العلاقات الدافئة بين إسرائيل وأوكرانيا من احتمال استمرار روسيا في قطع علاقاتها الدبلوماسية والثقافية مع إسرائيل. بقي أكثر من 150.000 يهودي في روسيا، حوالي 900000 يهودي في إسرائيل هم من الروس أو من أصل روسي. يمنح هذا الارتباط الثقافي والاجتماعي العميق إسرائيل حافزًا سياسيًا قويًا للحفاظ على العلاقات مع موسكو، كما يتضح من مقاومة إسرائيل لفرض العقوبات المتعلقة بأوكرانيا. لكن هذا يمنح موسكو أيضًا بعض النفوذ لمحاولة الحد من علاقات إسرائيل مع أوكرانيا، حيث يمكن روسيا التهديد بحظر السفر، ومنع الاتصالات، وتعطيل الهجرة والسفر إلى إسرائيل، وفي الحالات القصوى، اعتقال يهود بارزين في روسيا. تعد روسيا أيضًا مصدرًا بارزًا للسياحة لإسرائيل، حيث شكل السياح الروس حوالي 10 في المئة من إجمالي السياح في عام 2021، في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة.

تصعيد عرضي ممكن

لا يزال التصعيد العرضي ممكنًا مع محاولات روسيا إعادة صوغ هذه العلاقة، ما قد يؤدي إلى قطع دبلوماسي أو مواجهة عسكرية في سوريا. قد لا تلبي إسرائيل المطالب الروسية لتقليل الضربات الجوية، خاصة إذا انهارت المحادثات النووية بين الولايات المتحدة وإيران وحفزت تصعيدًا عسكريًا إقليميًا. عندها ستضطر روسيا إما إلى المخاطرة بصدقيتها كحامية للحكومة السورية أو مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل.

حتى استخدام صواريخ إس -300 المملوكة من سوريا ضد إسرائيل يمكن أن يشعل مواجهة إذا دمرت الطائرات الحربية الإسرائيلية بطارية إس -300 وتسببت في خسائر روسية. في هذه الأثناء، إذا بالغت روسيا في استخدام نفوذها الاجتماعي والاقتصادي لإبعاد إسرائيل عن أوكرانيا، فقد يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية من خلال جعل إسرائيل تتماشى أكثر مع أوكرانيا وحملة العزلة التي يشنها الغرب ضد روسيا.

يمكن المحاولات الروسية للاستفادة من نفوذها الاجتماعي والاقتصادي ضد إسرائيل أن تشجع العناصر المعادية للسامية الراسخة منذ فترة طويلة في البلاد. يذكر اليهود الروس بالفعل زيادة في حوادث معاداة السامية في روسيا.

منذ إعادة فرض العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة على إيران في 2018، صعدت إسرائيل حملتها السرية ضد برامج إيران النووية والصاروخية، بما في ذلك تنفيذ اغتيالات وضربات بطائرات مسيرة داخل إيران نفسها. تنطوي الحملة السرية على مخاطر تصعيد إقليمي كامن.

أعدت “إيلاف” هذا التقرير عن موقع “ستراتفور

———————–

في اللجوء “المضياف”/ باسم النبريص

بينما تستمرُّ الحرب في أوكرانيا في مسارها الكارثي، لم يكن أمام أكثر من أربعة ملايين ونصف مليون من المتضرّرين الأوكرانيّين خيارٌ سوى الفرار إلى الدول المجاورة بحثاً عن الأمان. يبدو أن الإصرار السياسي والإعلامي يتركّز على رسم خطٍّ واضح بين اللاجئين (من أوكرانيا) والمُهاجرين (من دُول الجنوب)، ما يسلّط الضوء على محوِ الظروف التي تفرز أعداداً كبيرة من الشتات، مع الاستقلال النسبي عن الرقم القانوني المخصَّص للمشرّدين، على التوالي.

وهنا، كما نلاحظ، تتمثّل الاستراتيجية الخطابية المُهيمنة بطرح ثنائية هيكليّة على نطاقٍ من التمييز المفاهيمي بين الأشكال المتباينة من الإزاحة. إنّ تحويل هذا التمييز إلى تبريرٍ للمعاملة غير المتكافئة التي يتلقّاها الناس وفقاً لأصلهم، هو بالضبط ما تفعله حتى وسائل الإعلام التقدمية المُعلَنة في أوروبا.

ليس من المستغرب إذاً أن تستنكر الحركات الاجتماعية المناهضة للعنصرية هذه المعاملة المزدوجة التي تظهر فيها سياسة أوروبية تمييزية واضحة. فَهُم، بينما يعبّرون عن تضامنهم مع الشعب الأوكراني، اختاروا سياسة النعام في ما يتعلّق بالنزوح من أفريقيا والشرق الأوسط على وجه الخصوص، وبعضها نتج أيضاً من النزاعات المسلحة، كما في حالة الصومال والعراق واليمن، وإريتريا وليبيا وسورية وأفغانستان ومالي، من بين دول أخرى. على الرغم من أنّه بطريقة متباينة، لا ينبغي أن نفكّر في مواقف أُخرى معقّدة مماثلة وليست أقل قسوة، على سبيل المثال، مذابح المدنيّين في ميانمار أو كولومبيا أو احتلال فلسطين من قبل كيانٍ لصٍّ، لصياغة سياسة لجوء أوروبي مضياف يستجيب لنزف عصرنا.

وبالاقتراب قدر الإمكان من المفارقات، فحيثُ تكرّس الصور التلفزيونية لوسائل الإعلام الرئيسية مساحةً إعلامية غير عادية لإظهار التضامُن الأوروبي مع الأوكرانيين المشرّدين، فإنّها بالكاد تقدّم وصفاً لسوء المعاملة المنتظم الذي يحدث في الحدود الجنوبية للبلاد، إسبانيا، أو ما هو أسوأ، ولا تتردّد في تصنيف “غزو” الوصول غير النظامي إلى الأراضي الإسبانية من وقت لآخر. أو بلجيكا كمثال مُمَكيَج أكثر من بلد سرفانتس.

إنّها بالطبع ليست مسألة إنكار الخصائص الملموسة في عمليات النزوح، بشكلٍ أو بآخر في طوعية تصرّف. ومع ذلك، فإنّ جعلَ هذه الخصائص الخاصّة سبباً لعدم المُساواة في المعاملة، أمرٌ تمييزي بالمُطلق. علاوةً على ذلك، إذا كان هذا التمييز مرتبطاً بشكلٍ مشبوهٍ بالتقارُب الإثني – العرقي مع شعبٍ أوروبيٍّ آخرَ، فإنّ الاشتباه في العنصرية يُقدَّم جهاراً نهاراً، ودون حياءٍ أوروبيٍّ قارّيٍّ، هذه المرّة. إنّ الإصرار على “استثنائية” القضية جزءٌ من حجّة الاتحاد الأوروبي، لإضفاء الشرعيّة على التسهيلات التي يقدّمها إلى السكّان المدنيّين الأوكرانيّين، للانتقال إلى دول أوروبية أخرى، مع الاستمرار في رفض سكان الجنوب المتأثرين بظواهر مماثلة.

في الواقع، الاتحاد الأوروبي عنصري بامتياز.

وهنا تُظهر السرعة التي أُدير بها استقبال الأوكرانيين مع الافتقار إلى الإرادة السياسية لمعاملة جميع الأشخاص المهجرين قسراً على قدَم المساواة، بغضِّ النظر عن أصلِهم أو رأيهم السياسي أو مجموعتهم الاجتماعية أو عرقِهم أو لونِهم أو حتى توجّههم الجنسي. بالمقابل، هناك نقطة واضحة: بينما تُنشَّط أجهزة الطوارئ، وتُسرَّع العمليات الإدارية، بحيث يُسمَح للأشخاص من أوكرانيا بالعمل على الفور، ويكون الرأي العام ميّالاً بشكل إيجابي نحو “الاستقبال الإنساني”، حيثُ يحصّل اللاجئ 1500 يورو شهرياً، في بلجيكا، مع بيت سوسيال، وفرصة عمل فوري، بينما سواه من اللاجئين أمثالنا، يحصل على يورو واحد ونيف من السنتات في مخيّمات اللجوء، كمصروف يومي.

كاتب هذا السطر مثلاً، جمع في ثلاث سنوات ونيف من المكوث في المخيم، أكثر من 231 يورو بشكل متفرّد واستثنائي، ولله الشكر. إنها تحويشة العمر فوق البرّ الأوروبي الفلاندري الأبيض جدّاً.

هل تواصل الدولة هنا، في بلجيكا، كما الإسبانية هناك، عرقلة ممارسة الحق في اللجوء، عندما يتعلّق الأمر بمجموعاتٍ أُخرى من النازحين. هذه جريمة مقارنة، خاصة إذا أخذ المرء في الاعتبار أنّ طالب اللجوء، عند قبولِ طلبِه للمعالجة من قِبل الإدارة العامّة، عليه الانتظارُ لمدّة 6 أشهر على الأقلّ للحصول على تصريح عمل، وغالباً ما يكون أكثر من عام لمعرفة ما إذا كان القرار مواتياً أو لا؟

* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

العربي الجديد

—————–

روسيا تحدد «إطاحة حكومة زيلينسكي» هدفاً لها في أوكرانيا

موسكو لا ترى في «اتفاق الحبوب» عائقاً أمام عمليتها العسكرية… وكييف تتوقع تصدير أولى شحناتها الأسبوع

موسكو: رائد جبر كييف: «الشرق الأوسط»

وسط الجدل الروسي الأوكراني حول استئناف صادرات الحبوب عبر البحر الأسود، أطلق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أقسى تصريحات ضد أوكرانيا، قال فيها إن الهدف الشامل لروسيا في هذا البلد هو الإطاحة بحكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي.

وفي حديثه إلى مبعوثين في قمة جامعة الدول العربية في القاهرة في وقت متأخر الأحد، قال لافروف إن موسكو مصممة على مساعدة الأوكرانيين «على تحرير أنفسهم من عبء هذا النظام غير المقبول على الإطلاق»، حسبما نقلت عنه وكالة «أسوشيتد برس» الأميركية.

واتهم لافروف كييف وحلفاءها الغربيين بإطلاق دعاية تهدف إلى ضمان أن تصبح أوكرانيا «العدو الأبدي لروسيا». وقال: «سيستمر الشعبان الروسي والأوكراني في العيش معاً. سنساعد الشعب الأوكراني بالتأكيد على التخلص من النظام الذي هو على الإطلاق معادٍ للشعب ومعادٍ للتاريخ».

وجاءت هذه التصريحات الجديدة للافروف متناقضة مع الموقف الذي عبر عنه الكرملين خلال بدء الحرب، عندما أكد أن روسيا لم تكن تسعى للإطاحة بحكومة زيلينسكي، حتى مع اقتراب قوات موسكو من كييف. وتراجعت روسيا لاحقاً عن العاصمة وحولت اهتمامها إلى الاستيلاء على منطقة دونباس الصناعية الأوكرانية في الشرق.

ومع دخول الحرب شهرها السادس الآن، قال لافروف إن روسيا كانت مستعدة للتفاوض على اتفاق لإنهاء الأعمال العدائية في مارس (آذار) عندما غيرت كييف مسارها وأعلنت عزمها على هزيمة روسيا في ساحة المعركة. وقال إن الغرب شجع أوكرانيا على مواصلة القتال.

وبعد مرور يومين على توقيع «صفقة الحبوب» التي مهدت لانطلاق عمليات الإمداد من الحبوب والأسمدة من أوكرانيا وروسيا، وجه الكرملين رسالة تحذيرية إلى الأمم المتحدة بضرورة تنفيذ الشق المتعلق بإزالة القيود على الصادرات الروسية ملوحاً بأنه «يتعين الانتظار لتقييم فعالية آليات التنفيذ».

وأفاد الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف بأن الأمم المتحدة عليها بصفتها الراعي والمشرف على تنفيذ الاتفاق أن تعمل على رفع القيود الغربية غير المباشرة المفروضة على روسيا في هذا المجال. وقال إن بلاده «بذلت جهوداً كبيرة للتوصل في إسطنبول لاتفاقية المواد الغذائية»، مضيفاً أنه «يتعين الانتظار لإعطاء التقييمات لفاعلية عمل آليات التنفيذ». وزاد بيسكوف: «بالتأكيد تم إنجاز الكثير، وقد بذل الجانب الروسي الكثير من الجهود. ولكن دعونا ننتظر لإعطاء بعض التقييمات لفاعلية عمل الآليات التي تم التوصل إليها نتيجة لهذه الاتفاقيات».

وكان الاتفاق المكون من شطرين واحد وقعته روسيا مع تركيا والأمم المتحدة والثاني وقعه الجانب الأوكراني مع الطرفين الوسيطين، نص على منح ضمانات بتسهيل صادرات الحبوب والأسمدة من كل من روسيا وأوكرانيا، علماً بأن العقوبات الغربية لم تطاول مباشرة المواد الغذائية لكن القيود المفروضة على حركة السفن والموانئ الروسية عرقلت حتى الآن إطلاق عمليات التصدير من روسيا.

وتطرق بيسكوف، إلى استهداف مواقع في ميناء أوديسا الأوكراني الأحد بضربات صاروخية روسية، وقال إن الهجوم «مرتبط بالبنية التحتية العسكرية، ولا ينبغي أن يؤثر على تنفيذ صفقة شحن الحبوب بأي شكل من الأشكال».

وكانت أوكرانيا قد اشتكت من أن الضربة الروسية تستهدف تقويض الاتفاق، لكن الناطق الروسي قال إن البنية التحتية المستخدمة لتنفيذ الاتفاقات الخاصة بتصدير الحبوب «لم تتأثر» مضيفاً أن الضربة وجهت إلى منشآت تستخدم لتطوير ودعم القوات العسكرية في الميناء.

بدورها، أعلنت كييف أمس الاثنين أنها تتوقع تصدير أولى شحنات الحبوب «الأسبوع الحالي» عملاً بالاتفاق الموقع مع موسكو، رغم القصف الروسي الذي استهدف السبت ميناء أوديسا. وقال وزير البنى التحتية أولكسندر كوبراكوف في مؤتمر صحافي «نتوقع أن يبدأ العمل بالاتفاق في الأيام القليلة المقبلة ونتوقع إنشاء مركز تنسيق في إسطنبول في الأيام القليلة المقبلة. نحن نعد كل شيء للبدء هذا الأسبوع». وأشار إلى أن العقبة الرئيسية بوجه تصدير الحبوب هي مخاطر القصف الروسي، ولا سيما بعد الضربة التي استهدفت السبت مرفأ أوديسا على البحر الأسود، الذي يعتبر محورياً لشحن الحبوب.

ودعا كوبراكوف تركيا والأمم المتحدة، الضامنتين للاتفاق، إلى تأمين الشحنات الأوكرانية، محذراً بأنه «إذا لم تضمن الأطراف الأمن، فلن ينجح الأمر». وما يعرقل تصدير الحبوب أيضاً وجود ألغام بحرية زرعتها القوات الأوكرانية لمنع روسيا من تنفيذ عملية إنزال على سواحلها. وقال الوزير إنه لن تتم إزالة الألغام إلا «في الممر الضروري لعمليات التصدير». وأضاف أن سفناً أوكرانية ستواكب الشحنات التي يمكنها نقل أسمدة أيضاً فضلاً عن الحبوب.

وكانت وزارة الدفاع الروسية، قد أعلنت الأحد، عن تدمير سفينة حربية أوكرانية ومخزن صواريخ أميركية مضادة للسفن من طراز «هاربون»، في ميناء أوديسا، بضربة صاروخية عالية الدقة.

في غضون ذلك، حذرت وزارة الدفاع الروسية من أن كييف تخطط للقيام بـ«أعمال استفزازية» تتمثل في تفجير حاويات تحتوي على مواد كيماوية خطرة بمصنع زيوت ودهون في مدينة سلافيانسك. وقال رئيس مركز إدارة شؤون الدفاع، ميخائيل ميزينتسيف، إن كييف خططت لتنفيذ الاستفزاز بهدف تحميل القوات الروسية المسؤولية عن وقوع كارثة وزاد أن المخطط هدف إلى تفجير حاويات فيها ما يزيد على 120 طناً من مادة «الهكسان» السامة. وأضاف ميزينتسيف أن «وزارة الدفاع الروسية تحذر سكان سلوفيانسك من أن «نظام كييف قد أكمل الاستعدادات لاستفزاز وحشي آخر باستخدام مواد سامة قوية، في معمل الزيوت والدهون».

ميدانياً، نشرت وزارة الدفاع حصيلة عملياتها العسكرية في الساعات الـ24 الماضية. وأفادت في بيان بأن قواتها دمرت بأسلحة عالية الدقة موجهة من البحر، قاعدة عسكرية أوكرانية في منطقة خميلنيتسكي تحوي ذخيرة لصواريخ «هيمارس» الأميركية مجهزة لإعادة الشحن. كما دمرت القوات الروسية وفقاً للبيان، أربع فصائل من أنظمة إطلاق صواريخ غراد المتعددة التابعة للقوات المسلحة الأوكرانية في منطقة دونيتسك.

واستهدفت نيران المدفعية الروسية والمقاتلات الروسية، أربعة مستودعات للقوات المسلحة الأوكرانية ونظام دفاع جوي من طراز «إس300». ولفت بيان الوزارة إلى حصيلة خسائر القوات الأوكرانية وكتائب المتطوعين الأجانب الذين يقاتلون إلى جانبها بلغت خلال اليوم الأخير 100 قتيل ينشطون ضمن عمليات اللواء 95 من القوات المسلحة لأوكرانيا في منطقة دونيتسك.

كما استهدفت البحرية الروسية زورقي إنزال تابعين للبحرية الأوكرانية قالت إنهما حاولا «نقل مرتزقة أجانب» في مياه نهر دنيبر ليمان. وزاد بيان العسكرية الروسية أن أنظمة الدفاع الجوي الروسية أسقطت ست طائرات أوكرانية بدون طيار، في مناطق كامينكا، وبرازكوفا، ومالايا كاميشيفاخا في خاركوف، وخرتسيزك في دونيتسك. كما اعترضت ستة صواريخ من نظام الإطلاق الصاروخي «أورغان» استهدفت ستاخانوف في لوغانسك وباباسنوي في دونيتسك.

————————

تفاقم أزمة الغاز بأوروبا.. الأسعار تقفز وروسيا تخفض الضخ وخلافات حول تقليل الاستهلاك

الكرملين علل خفض ضخ الغاز لأوروبا بعمليات الصيانة، لكن الأوروبيين يرفضون المبرر التقني ويتهمون موسكو

أعلنت شركة “غازبروم” الروسية، اليوم الأربعاء، وقف عمل توربين آخر من طراز “سيمينز”، لإجراء صيانة دورية عليه، وربطت أي تعديل للكميات بإصلاح توربينات الضخّ، بالتزامن مع اعتماد اتفاق أوروبي على خفض طارئ لاستهلاك الغاز الروسي.

وجراء هذه الخطوة، سينخفض -مجددا- حجم الضخ اليومي للغاز الروسي إلى أوروبا عبر خط أنابيب “نورد ستريم 1” إلى 31 مليون متر مكعب يوميا، من أصل 60 مليون متر مكعب، وذلك وفقا لشركة “غازكاد” المشغلة لخط أنابيب “نورد ستريم 1”.

وكان الكرملين قد أعلن أمس الثلاثاء أن مشكلة تقنية تواجه أحد التوربينات في خط “نورد ستريم 1″، بعد إصلاح توربين آخر في كندا، هو الآن في طريقه إلى موقعه، وأشار إلى أن المشاكل التقنية في خط الأنابيب المذكور معقدة للغاية، بسبب القيود والعقوبات المفروضة على روسيا، وحذر من تداعيات العقوبات الغربية على استكمال عمليات الصيانة.

لكن الأوروبيين يرفضون المبرر التقني ويتهمون موسكو باستخدام الغاز كسلاح اقتصادي وسياسي، وقالت متحدثة باسم الحكومة الألمانية إنها “لعبة قوة” وتخفيض “ليس له سبب تقني”.

خفض إنتاج وارتفاع أسعار

وكان الإعلان الروسي عن خفض جديد لتدفق الغاز الطبيعي أدى إلى ارتفاع في أسعار الكهرباء في أوروبا إلى مستويات قياسية.

ووفقا لوكالة “بلومبيرغ”، فقد ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بنسبة تزيد على 21%، كما وصلت أسعار العقود الآجلة للفحم إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.

وارتفعت أسعار العقود الآجلة للكهرباء في ألمانيا بأكثر من 10%، وفي فرنسا بأكثر من 6%. وقالت بلومبيرغ إن هذه الارتفاعات ستزيد من معاناة المستهلكين، والشركات، والقطاع الصناعي الذي يعاني أصلا من تداعيات ارتفاع نفقات معدلات التضخم إلى مستويات قياسية.

وكان الاتحاد الأوروبي أقر، خلال اجتماع وزراء الطاقة في بروكسل، خطة خفض طوعية لتخفيض استهلاك الغاز الروسي بنسبة 15% بداية من الشهر المقبل وحتى 31 مارس/آذار 2023 مقارنة بمتوسط استهلاكها في السنوات الخمس الماضية.

وجاء في بيان للاتحاد الأوروبي أن الاتفاق رد على روسيا التي تستخدم إمدادات الطاقة سلاحا ضد دول الاتحاد. وأوضح بيان الاتحاد أن خفض الاستهلاك هدفه توفير الاحتياجات اللازمة لفصل الشتاء، استعدادا لقطع محتمل للغاز من روسيا.

من جهته، قال وزير الصناعة والتجارة التشيكي جوزيف سيكيلا إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخفق في تقسيم الاتحاد الأوروبي، متعهدا بعدم السماح بتهديد أمن الأوروبيين بقطع إمدادات الغاز.

وأضاف سيكيلا، في مقابلة مع الجزيرة، أن الأوروبيين اتفقوا على الحد من الاعتماد على الغاز الروسي بنسبة 15%، واتخاذ إجراءات في حال قطع إمدادات الغاز.

خلافات أوروبية

انخفاض تدفق الغاز الروسي نحو أوروبا يأتي في وقت تشكل فيه واردات الغاز الروسي لأوروبا نحو 68% من مجمل صادرات شركة “غازبروم” الروسية، وفق بيانات الشركة لعام 2020.

ووفقا لوكالة الطاقة الدولية فإنّ الدخل الناتج من صادرات الغاز والنفط شكّل في يناير/كانون الثاني 2022 ما نسبته 45% من الميزانية الفدرالية الروسية، وتدفع دول الاتحاد الأوروبي يوميا 400 مليون دولار لروسيا ثمنا للغاز.

وفي الاتحاد الأوروبي هناك دول يمثل الغاز والنفط الروسيان عصب حياة لها كالمجر التي تستورد 65% من نفطها من روسيا و80% من الغاز الذي تستخدمه.

وقبيل اعتماد خطة الدول الأوروبية بشأن خطة تخفيض الغاز، عبرت دول أوروبية عدة عن رفضها للخطة.

المجر كانت أشد المعارضين للخطة، وقد صوتت ضدها، وذهب وزير خارجيتها إلى روسيا لبحث صفقات غاز جديدة مع موسكو.

فرنسا كانت قد أعلنت أيضا رفضها للخطة، وقالت أنياس بانييه روناشير، وزيرة انتقال الطاقة الفرنسية، في وقت سابق، إنها لا تتمنى اعتماد أهداف موحدة لا تتكيف مع واقع كل طرف.

من جانبه، قال وزير الطاقة البرتغالي خواو غالامبا إن الحكومة البرتغالية لن تدعم الخطة الهادفة إلى خفض الطلب الأوروبي من الغاز بنسبة 15%.

بلجيكا، بدورها، تعارض الخطة، وفق ما ذكرت صحيفتا “ليكو” و”دي تيجد” البلجيكيتان، وقالت الصحيفتان إن بروكسل طلبت استثناءها من الطبيعة الإلزامية لهذه للخطة.

في المقابل، أشاد سفين غيغولد، وزير الدولة في وزارة البيئة الألمانية، بالاتفاق على الخطة، وقال إنه تم بأغلبية عظمى، وبمعارضة المجر فقط، على حد تعبيره، وكانت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك قد قالت أمس الثلاثاء “من المهم جدا بالنسبة لنا وقف الاعتماد على وارادات الوقود الأحفوري الروسي”.

من جهتها، أشادت إسبانيا بالخطة، بعد أن كانت وزيرة البيئة الإسبانية تيريزا ريبيرا قالت، في وقت سابق، إنه “مهما حدث، فلن تنقطع الكهرباء أو الغاز عن العائلات الإسبانية، وستدافع إسبانيا عن صناعتها”، على حد تعبيرها.

اليورو والدولار

وارتفع اليورو بشكل طفيف مقابل الدولار، دون أن يتمكن من تعويض خسائره أمس الناجمة عن وقف إمدادات الغاز الروسية لأوروبا عبر خط “نورد ستريم 1”.

يأتي ذلك بعد أن سجل اليورو أمس هبوطا بأكثر من 1%، نتيجة القلق من تأثير اضطراب إمدادات الغاز الروسية على الاقتصادات الأوروبية. ويشهد اليورو هبوطا زادت من حدته تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا، وقد انخفض قبل نحو أسبوعين دون سعر التساوي مع الدولار، وسط مخاوف من تفاقم التضخم واحتمال دخول دول الاتحاد في ركود اقتصادي.

من جانب آخر، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن أوروبا وضعت العقبات أمام مشاريع الطاقة الروسية نورد ستريم 1 و2، وأضاف خلال لقائه ممثلي السلك الدبلوماسي الأفارقة في العاصمة الإثيوبية أن أوروبا حرمت نفسها من 50% من الغاز الروسي الرخيص دون سبب وجيه، فقط بهدف استبعاد مشاريع الطاقة الروسية.

خطة أميركية

في هذه الأثناء، بحثت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين مقترحا لفرض حد أقصى لسعر النفط الروسي.

ورد ذلك في مكالمة هاتفية أجرتها أمس مع وزير المالية البريطاني ناظم الزهاوي، في خطوة تهدف للحد من تأثير الحرب في أوكرانيا على أسعار الطاقة العالمية.

وقالت وزارة الخزانة الأميركية، في بيان، إن الوزيرين ناقشا الحاجة إلى مواصلة تسريع دعم ميزانية أوكرانيا، وفرص تشديد العقوبات المفروضة على روسيا.

تفاقم أزمة الغاز

وانخفضت شحنات الغاز عبر خط الأنابيب “نورد ستريم” اليوم الأربعاء إلى حوالي 20% من سعته حسب بيانات الهيئة الألمانية المشغلة، مما يعزز خطر حدوث نقص هذا الشتاء في أوروبا.

وقالت الهيئة المشغلة “غاسكاد” إن نحو 14.4 غيغاواتا/ساعة من شحنات الغاز الروسي تصل إلى ألمانيا منذ الساعة التاسعة (7.00 ت غ) مقارنة بنحو 29 غيغاواتا/ساعة في المتوسط في الأيام الأخيرة.

وكانت المجموعة الروسية للطاقة “غازبروم” أعلنت، الاثنين الماضي، عن هذا الانخفاض الحاد الجديد في حجم الشحنات الذي يأتي في أجواء أزمة الطاقة بين موسكو والغرب منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا.

في الوقت نفسه، أعلنت مجموعة إيني الإيطالية أن غازبروم أبلغتها أن شحنات الغاز ستكون محددة بـ27 مليون متر مكعب الأربعاء في مقابل 34 مليونا “في الأيام الأخيرة”.

وقبل الحرب في أوكرانيا، كان “نورد ستريم” ينقل حوالى 73 غيغاواتا في الساعة لتزويد ألمانيا -التي تعتمد خصوصا على الغاز الروسي- وكذلك الدول الأوروبية الأخرى عبر الخط الذي يمر تحت بحر البلطيق.

لكن الإمدادات انخفضت إلى 40% عن المعدل الطبيعي بحلول منتصف يونيو/حزيران قبل إغلاق الخط بشكل كامل لمدة 10 أيام لأعمال الصيانة السنوية بين 11 و21 يوليو/تموز. ومنذ ذلك الحين استؤنف تدفق الغاز.

ويؤدي النزاع إلى ارتفاع أسعار الغاز الأوروبي التي سجلت الثلاثاء أعلى مستوى لها منذ مارس/آذار.

المصدر : الجزيرة + وكالات

———————–

العلاقات الإيرانية-الروسية.. ترسيخ إيران في سوريا وتركها معزولة

المونيتور – ترجمة: ربى خدام الجامع

زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جولته الخارجية الثانية منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، العاصمة طهران في 19 تموز الحالي، وهناك التقى بالمسؤولين الإيرانيين. وعلى الرغم من أن زيارته أسعدت المتشددين في إيران كثيراً، فإن موسكو بدت أكثر طرف استفاد من تلك الزيارة.

استُقبل الرئيس الروسي بحفاوة بالغة خلال إقامته القصيرة بطهران، في الوقت الذي لم تُبد فيه عواصم كثيرة في العالم رغبتها بفرش السجاد الأحمر له بسبب غزوه لأوكرانيا. وعلى الرغم من عدم إجراء مراسم استقبال خاصة له عند وصوله، فإن ذلك منح زيارته المصداقية التي أصبحت بأمس الحاجة إليها، بحسب ما ذكره كبار المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم الرئيس إبراهيم رئيسي والمرشد الأعلى علي خامنئي، خلال اجتماعاتهم بالرئيس الروسي.

إيران السباقة وروسيا الرابحة

يمكن اعتبار الترحيب ببوتين بمثابة مكسب كبير لموسكو، خاصة إذا علمنا أن زيارته لطهران أتت بعد أيام قليلة من زيارة بايدن للشرق الأوسط، والتي التقى فيها بقادة عرب وإسرائيليين.

إلا أن ذلك ليس كل شيء، وذلك لأن المرشد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي، أصبح أول زعيم في العالم يصدق وبشكل رسمي التبريرات التي ساقتها روسيا لتشن حربها على أوكرانيا، وذلك عندما قال مخاطباً الرئيس الروسي: “بالنسبة لأوكرانيا، إن لم تبادروا، فسيكون الطرف الآخر هو البادئ بالحرب من خلال مبادرته بها”. كما وصف خامنئي حلف شمال الأطلسي بالكيان الخطير وأضاف: “لو لم يتم إيقافه في أوكرانيا، فسيشن حرباً مماثلة في القرم”.

القرم تعتزم إبرام اتفاقية مع النظام لاستقطاب السياح السوريين

بيد أن المرشد الأعلى لم يقم -في الحقيقة- بأكثر من ترديد التصريحات التي أطلقها بوتين في التاسع من أيار خلال الاحتفال بالذكرى السابعة والسبعين ليوم النصر في موسكو.

وبعد مرور ساعة على ذلك، استغل الرئيس رئيسي لقاءه ببوتين لتأييد الفيتو الروسي ضد تمرير المساعدات الإنسانية الأممية عبر الحدود للمقيمين بشمال غربي سوريا، حيث قال: “إن إرسال المساعدات الإنسانية إلى سوريا للضغط على حكومة تلك البلاد، لن يضمن استقرارها”.

إذ في مجلس الأمن الدولي، وتحديداً في الثامن من تموز الجاري، صوتت روسيا ضد تمرير المساعدات، أملاً منها بمساعدة نظام الأسد في دمشق على استعادة السيطرة على آخر معقل للثوار في سوريا.

تنازلات اقتصادية

وبعيداً عن القضايا السياسية، وعد بوتين بالتعاون مع إيران على الصعيد الاقتصادي خلال تلك الزيارة، ويشمل ذلك توقيع عقد قيمته 40 مليار دولار من قبل شركة غازبروم بهدف الاستثمار في حقول النفط والغاز الإيرانية، إلا أنه من الواضح بأن هذا الوعد لن يتم الوفاء به على ما يبدو، نظراً للضغوطات المالية التي تتعرض لها روسيا بسبب العقوبات الغربية القاسية المفروضة عليها.

وحول ذلك يخبرنا حميد رضا عزيزي وهو باحث لدى المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين، وخبير بالعلاقات الإيرانية-الروسية، أنه حتى بعيداً عن المال والاقتصاد: “تتنافس إيران وروسيا في مجال الطاقة، ولهذا من غير المتوقع أن تدخل روسيا في عملية من شأنها أن تزيد عائدات إيران في مجال الطاقة، لأن ذلك لا بد أن يضر بمصلحتها”.

إيران تتعلق بالعباءة الروسية

وبالرغم من ذلك، يبدو كأن صناع القرار في طهران قد وضعوا ثقتهم في أصدقائهم الروس، إذ ذكر علي أكبر ولايتي مستشار خامنئي للشؤون الدولية في مقابلة أجريت معه بتاريخ 22 تموز الجاري: “إن سلوك السيد بوتين وقناعاته التي تترجمها أفعاله، تنبع من إيمانه بالروحانيات.. وفي حالات كثيرة، ساعدت روسيا إيران عبر مدها بتقنيات متطورة.. في الوقت الذي بقي فيه الأوروبيون تابعين للولايات المتحدة طوال السنين الماضية”.

يرسم ما ذكره ولايتي صورة دقيقة للاستراتيجية التي يتبناها القادة السياسيون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ يرى قادة إيران أنه من الأفضل الانحياز لروسيا في خضم هذه الظروف، حتى لو حرمهم ذلك من الأسواق العالمية بما أن العقوبات بقيت مفروضة عليهم.

ويفضل هؤلاء أن يروا في روسيا تلك الدولة التي ستعوضهم يوماً ما وذلك عبر تقديمها لتنازلات تخدم صالحهم في سوريا. إذ خلال لقائه ببوتين، تحدث خامنئي لأول مرة حول ضرورة سحب الولايات المتحدة لقواتها الموجودة شرقي الفرات، فرد بوتين على هذا المطلب الإيراني بصيغة إيجابية، لكن نبرته أصبحت ألطف بعد ساعات خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمعه بالرئيسين رئيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. إذ في الوقت الذي اتهم فيه بوتين الولايات المتحدة بزعزعة استقرار الدول، وصف فيه وجود القوات الأميركية في سوريا بأنه “غير شرعي” ومزعزع للاستقرار أيضاً، وهذا قد يخدم إيران في ترسيخ نفوذها في سوريا.

وفي الوقت ذاته، لم تكن روسيا على استعداد لتقديم مثل تلك التنازلات لإيران خلال السنوات القليلة الماضية، بيد أن التغيرات الحاصلة في الظروف الدولية والإقليمية أجبرت موسكو على الرضوخ لإيران في سوريا، وذلك لتحقيق أهدافها الكبرى المتمثلة على سبيل المثال بزيادة اعتماد إيران على روسيا، وهذا مهم لإيران بنسبة كبيرة، وذلك لأن الحكومة الإيرانية استأنفت خلال الأشهر الماضية المحادثات الساعية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، وهذا ما يشير إلى أنهم يفضلون الحصول على تنازلات أمنية بدلاً من التنازلات الاقتصادية. فقد حرمت إيران نفسها خلال الأشهر الماضية من الاستفادة اقتصادياً من العقوبات التي سترفع عنها في حال إحياء الاتفاقية التي تعرف رسمياً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، وذلك عندما ربطت تلك المحادثات الخاصة بالملف النووي بقضايا أمنية وكذلك بمصالح الحرس الثوري الإيراني.

لذا لا عجب، في ظل هذه الظروف، أن يسمح المخططون الاستراتيجيون الروس لإيران بترسيخ وجودها في سوريا لإبقاء طهران تحت السيطرة مع ازدياد عزلتها الدولية.

 المصدر: المونيتور  

تلفزيون سوريا

————————-

قمة طهران الثلاثية.. حوار المصالح والتناقضات

قسم الدراسات

عُقدَت، في 19 تموز/ يوليو، ثلاثة اجتماعات في طهران، ثنائية وثلاثية، ضمّت رؤساء الدول الراعية لمسار “آستانة”، روسيا وتركيا وإيران، التي ترتبط بعلاقات متشابكة، تقوم على أساس المصالح المشتركة من جهة، وعلى مصالح متنافسة من جهة ثانية.

وعلى الرغم من أن التصريحات المعلنة أكدت تخصيص قمة طهران لبحث الملفّ السوري، خاصة مع تصاعد الحديث عن العملية العسكرية التركية المرتقبة في الشمال السوري؛ فإن المحادثات الثنائية والثلاثية ذهبت إلى الاهتمام أكثر بملفات العلاقات الاقتصادية بين الدول الثلاثة، وركزت على تعزيز التبادل التجاري الثنائي، من دون أن تحقق نتائج ملموسة على صعيد القضية السورية، مع الإشارة إلى أن هناك دلالاتٍ لافتة تضمنتها تصريحات القادة بخصوص الملف السوري على هامش القمة.

أولًا: السياقات الخاصة بقمة طهران

انعقدت القمة في ظروف إقليمية ودولية متوترة وغير مستقرة، وجاءت بعد قمة جدّة للأمن والتنمية، التي جمعت الرئيس الأميركي جو بايدن بزعماء عرب، واكتسبت أهمية كبرى في ظل تصاعد الصدام بين الدول الغربية وروسيا على خلفية غزو جيشها لأوكرانيا.

ويتأتى السياق الخاص بالقمة الثلاثية من تناقض مصالح الدول الثلاثة في ملفات عديدة؛ فروسيا وإيران تدعمان نظام الأسد، عسكريًا وسياسيًا، وتشتركان في مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي، سواء بسبب الملف النووي الإيراني أو الغزو الروسي لأوكرانيا، في حين أن تركيا عضو في التحالف الغربي “ناتو” الذي يواجه روسيا في الأزمة الأوكرانية، وهي أيضًا أبرز دول الجوار خصومة مع النظام وأظهرها دعمًا للمعارضة السورية.

وفي الوقت نفسه، تجمع روسيا وإيران مصلحة مشتركة في استثمار الكارثة السورية في صراعهما مع الغرب، سواء في سياق التنافس الإقليمي أو في قضية المفاوضات النووية بالنسبة إلى إيران، وفي سياق الحرب الأوكرانية بالنسبة إلى روسيا. وكلاهما يريد تحقيق مصالح خاصة بهما، وهو ما يفسر اتفاقهما في هذه القمة على المطالبة بخروج القوات الأميركية من مناطق شرقي الفرات.

  أما بالنسبة إلى تركيا، فقد جاءت قمة طهران بالتزامن مع إعلان نيتها القيام بعملية عسكرية محدودة، في منطقتي تل رفعت ومنبج، بما يوسع نفوذها من جهة، ويقطع الطريق على مشروع الكيان الكردي في الشمال السوري، الذي تقوده الميليشيات الكردية (قسد)، لإبعاد خطرها من المناطق الحدودية وتهديدها للأمن القومي التركي، من جهة ثانية، وبالرغم من أن روسيا وإيران تعارضان العملية العسكرية التركية، فإنهما تجدان في ضغط أنقرة لتنفيذ الهجوم فائدةً تتمثل في دفع ميليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” التي يهيمن عليها مقاتلو ميليشيا “وحدات الحماية الكردية”، إلى اللجوء إلى النظام السوري وروسيا، لحمايتها من الهجوم التركي، أو لتخفيف آثاره على الأقل، إن حصل. وفي هذا السياق، برزت جهود طهران بالعمل على بلورة موقف موحد مع موسكو، لمحاصرة الدور التركي وما يحمله من تحدّيات لكلا الطرفين.

وبخصوص الملفّ السوري، تتمسك الدول الثلاثة بمسار آستانة، الذي أُطلق في العام 2017 بهدف التوصل إلى ترتيبات حل سياسي يتوافق مع مصالحها، من خلال فرض تهدئة الجبهات أولًا، تحت عنوان “خفض التصعيد”، وتمكين النظام من استعادة السيطرة لاحقًا على تلك المناطق، وهو ما أدى في الواقع إلى موجات من التهجير القسري رافقتها عمليات تغيير ديموغرافي، ويعكس استمرارُ تمسّك الدول الثلاثة بهذا المسار تفاهماتِها على مجمل المصالح المشتركة، لا على المسألة السورية فقط، وقد ترافق إعلان تمسكها بمسار آستانة مع تعطيل النظام السوري اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، بطلب روسي، وفي هذا السياق، حققت قمة طهران نتائج ملموسة على صعيد العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول الثلاث، وكانت هناك نتائج سياسية كذلك، ولكن ليس من بينها أي توافق في المسألة السورية.

ثانيًا: أهمّ أولويات أجندة القمة

طغت على أجندة القمّة كثيرٌ من الأولويات التي تختلف وتتمايز بحسب مصالح هذه الدول وانشغالاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وأبرز هذه الأولويات -وفق ما تضمنه البيان الختامي للقمة وتصريحات القادة على هامشها- ما يلي:

1 – التأكيد على الدور الريادي لمسار آستانة، في الحلّ السلمي والمستدام للأزمة السورية، وتشديد القادة على استحالة تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، ما دامت الولايات المتحدة تثير الفوضى، بدلًا من معالجة المشاكل، وتولي الأولوية لضمان مصالح إسرائيل، وهو ما يعكس رغبة روسيا وإيران في أن يكون مسار آستانة بديلًا لمسار جنيف، بالرغم من حاجتهما إلى غطاء الشرعية الأممية المستمد من مسار “جنيف”.

2- إصرار طهران على دعم النظام السوري، لاستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، وتأكيد الحضور القوي للجيش السوري على هذه الحدود الدولية، والضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها، واتهامها بـ “نهب الثروات والموارد السورية”، وجاء حضور وزير خارجية النظام السوري فيصل مقداد إلى طهران في يوم القمة، لإبراز موقف النظام من شرعية وقانونية وجود روسيا وإيران في سورية، واعتبار أن الوجود التركي في سورية غير شرعي، وهو ما عبّر عنه رفض المقداد للهجوم التركي المحتمل، و”سياسات التتريك والتدخلات التركية في شؤون سورية”.

3- لم تتمكن تركيا من استثمار القمة، ووساطتها في ملفّ تسوية أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية، للحصول على موافقة روسيا وإيران على العملية العسكرية التي تسعى أنقرة لإطلاقها في الشمال السوري لطرد قوات (قسد) من منطقتي تل رفعت ومنبج، على الرغم من تضمين بيانهم الختامي “تصميمهم على الوقوف في وجه المخططات الانفصالية الهادفة إلى تقويض سيادة سورية وسلامتها الإقليمية”، وتصريح كل من روسيا وإيران بأنهما تدركان مخاوف تركيا الأمنية.

وعلى الرغم من الموقف التركي السلبي من نظام الأسد، فإنّ أولويات تركيا تكمن في الحفاظ على أمنها القومي، ومنع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، إضافة إلى حرصها على عودة قسم كبير من اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وكذلك فتح طريق تجارتها البرية مع دول الخليج عبر سورية. وهي مصالح قد تدفع تركيا إلى القبول باستعادة النظام سيطرته على منطقة شرق الفرات.

ثالثًا: مظاهر التنافس والتوافق بين أطراف القمة

حققت القمة توافقات سهلة، من خلال اللقاءات الثنائية على تعزيز العلاقات الاقتصادية ورفع وتيرة التبادل التجاري، في حين برز الخلاف بين الأطراف في الملف السوري.

وعلى الرغم من توافق إيران مع روسيا في ملفّ غزو أوكرانيا وتقاربهما، كنظامين يعانيان العزلة الغربية ويواجهان العقوبات، وعلى الرغم من سعيها لتعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الكرملين، بالتزامن مع بروز احتمال بلورة تكتل عربي – إسرائيلي بدعم أميركي في المنطقة لمواجهة التهديد الإيراني؛ فإن طهران لا تزال ترتاب من بعض المواقف الروسية في الاتفاق النووي، ومن غضّ الطرف الروسي عن العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف مواقع قواتها وميليشياتها في سورية.

أما بالنسبة إلى روسيا، فإن في حضور بوتين القمة رسالةً للغرب، مفادها بأنّ روسيا حاضرة في الساحة الدولية، ويبقى القلق الروسي الأكبر من الغاز الإيراني الذي يشكل بديلًا سريعًا لغازها، وذلك على الرغم مما قيل عن مذكرة تفاهم وقعتها “غازبروم” الروسية في طهران، لاستثمارات في الغاز بقيمة 40 مليار دولار، ومن دعوة وزير الخارجية الروسي لافروف إلى مبادرات اقتصادية جديدة لإقامة سلاسل توريد جديدة، مثل ممر “شمال – جنوب” الممتد من سان بطرسبورغ إلى المحيط الهندي، ومن الهند إلى “فلاديفوستوك” مرورًا بإيران. ومن جهة أخرى، تتعارض مصالح إيران وروسيا في بعض القضايا، مثل التنافس على بيع النفط للأسواق في الصين.

أما تركيا، الطرف الثالث في القمة، والعضو في حلف الناتو، والذي ينازعهما على النفوذ في سورية وفي جنوب القوقاز ووسط آسيا، فلا يمكن أن يكون شريكًا كاملًا لهما، وقد برز ذلك في الضغط عليه لوقف العملية العسكرية في شرق الفرات، وفي دعوته إلى التنسيق مع نظام الأسد لحماية حدوده، كما لا يمكن لهما التعويل على تموضع تركي جديد، يبعده عن حلفائه التقليديين في الغرب.

وعلى الرغم من توقيع الوزراء الأتراك على هامش القمة 8 اتفاقيات، و10 مذكرات تفاهم، مع نظرائهم الإيرانيين، من شأنها تعزيز العلاقات بين البلدين، ومن أهمّها تمديد اتفاقية تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا لمدة 25 عامًا؛ فإن اختلاف طهران وأنقرة في الساحة السورية لا تحلّه الاتفاقات الاقتصادية، ففي الوقت الذي كان الرئيس التركي يدلي بتصريحاته من طهران، بشنّ عملية عسكرية في سورية، نظّمت ميليشيا “فيلق المدافعين عن حلب” المدعومة من إيران عرسًا جماعيًا، في بلدتي ‎نبّل والزهراء الشيعيتين شمالي حلب، وقالت في صفحتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي: “هو رسالة لتركيا. إننا باقون في هذه الأرض وسندافع عنها، وها هنا نقيم الأفراح ونزف 260 عريسًا، ولا نكترث بتهديداتكم أبدًا”.

في ما يتعلق بالعلاقة الروسية مع تركيا، أفاد البيان الرئاسي الروسي بأنّ أبرز محاور اللقاء الثنائي هي “الجوانب الرئيسية للتعاون الروسي – التركي، والتقدّم المحرز في تنفيذ المشاريع الرائدة في المجال التجاري والاقتصادي، وآليات العمل المشترك في الوضع حول أوكرانيا”. ورأى الكرملين أنّ تسوية قضية تصدير الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، وفقًا لمخرجات المفاوضات التي عُقدت أخيرًا في إسطنبول، بين الوفود العسكرية لروسيا وتركيا وأوكرانيا وممثلي الأمم المتحدة، تشكّل أحد العناصر الرئيسية لمواصلة التنسيق مع أنقرة. ومن المعروف أنّ تركيا لا تلتزم بالعقوبات الغربية على روسيا، وهي منفذ خارجي، تجاري ومالي، لموسكو ضد الحصار الغربي.

وهكذا، إذا ما دققنا في أهداف أردوغان في سورية، وأهداف خامنئي بمواجهة النظام العربي، وأهداف بوتين للتشويش على بايدن، فإننا سرعان ما نكتشف أنّ الأطراف الثلاثة اجتمعت لأغراض ومصالح عدة، بعضها متوافق، وبعضها الآخر يتسم بالتنافس أو بالتناقض؛ إذ تشكل سورية نقطة الخلاف الأساسي بين الدول الثلاث، ففي حين تعمل روسيا وإيران على استعادة النظام السيطرة على كامل الأرض السورية، وشرعنته دوليًا، تجد تركيا مصلحتها في ضمان أمن حدودها بتعزيز نفوذها في الشمال السوري، لإنهاء خطر قيام كيان كردي، وتأمين المنطقة الآمنة، لإعادة الآلاف من اللاجئين السوريين، واحتواء ضغط المعارضة التركية على هذا الصعيد، واسترضاء الشارع التركي قبيل الانتخابات المفصلية القادمة، وهذه الأهداف من غير الممكن تحقيقها في ظل وجود أميركي يعوق تنفيذ خططها على هذا الصعيد.

ولا أدلّ على التناقض بين الأطراف الثلاثة في القمة من عبارة “محاربة الإرهاب في سورية”، التي تضمنها البيان الختامي المتفق عليه، فالكل يستخدم سورية أرضًا لمحاربة الإرهاب، لكن كل طرف يحدد “الأطراف الإرهابية”، وفق مصالحه وهواجسه الأمنية؛ فروسيا -كما إيران- تعتبر كل من عارض نظام الأسد إرهابيًا، وتركيا يقلقها إرهاب الميليشيات الكردية ومشروعها، وهي طرف يحظى بدعم إيران وروسيا وأميركا بنسب متفاوتة، وكلٌّ حسب مصالحه، وفي حين يتحدث البيان عن العمل المشترك في “مكافحة الإرهاب”، يتابع كل طرف حربه ضد خصومه “الإرهابيين”، الذين يعدّهم شركاء آخرون في القمة الثلاثية أدواتٍ ضرورية لتحقيق مصالحه.

رابعًا: حول الآفاق المستقبلية لمسار آستانة

تشير معطيات خلافات الدول الثلاثة على الأرض السورية إلى أن بينها، من المشكلات والتعقيدات ولها من المصالح الذاتية، ما يجعل من وضع الأوراق السورية في عهدتها أقرب منه إلى تعزيز الصراع لا حلّه، فمن جانب، لا يمكن أن تقبل إيران بأي حل سياسي لا يكون الأسد في مركزه، فيما يمكن لروسيا أن تقبل بآلية تدريجية، تصل في نهايتها إلى الأهداف الإيرانية ذاتها. أما تركيا، فقد تحوّل هدفها اليوم إلى إيجاد تسوية سياسية تنهي التوتر على حدودها الجنوبية، وكحل آني سريع، فهي تسعى إلى شريط حدودي آمن شمال سورية، يكون مأوًى لنحو مليون سوري يقيمون حاليًا في تركيا، ويمكن أن تخفف عودتهم من حدة أزمة اللاجئين في السياق الانتخابي الشرس خلال العام المقبل.

ولا يبدو أن مثل هذه المواقف يمكن أن تُنتج حلًا قابلًا للحياة للمسألة السورية، وبالرغم من أن الملف السوري سيكون محور قمة موسكو لاجتماع مسار آستانة القادم الذي أعلن خلال قمة طهران؛ فلا يتوقع حدوث اختراق حقيقي يتضمّن حلًا أو خريطة حل عادل وناجز وقابل للحياة. ومع غياب أي رؤية دولية جادة، فإنّ ما فعلته قمة طهران أنها أكّدت “احتكار” المسألة السورية من جانب، وكررت أولوية المصالح المرتبطة بكل من دولها الثلاث، وإنّ إصرار روسيا وإيران على دعم نظام الأسد يعني أن لا جدوى ولا مستقبل لأيّ من الحلول، ولا سيما في ظلّ سلبية المجتمع الدولي وانشغاله بأولوياته التي لم تعد سورية جزءًا منها، كما ظهر واضحًا بعد جولة الرئيس بايدن في الشرق الأوسط.

لقد انتهت قمة طهران بحصاد سياسي واقتصادي وفير، في ما يخص الدول الثلاث، إلا أنّ وفرة هذا الحصاد لا تشمل السوريين ولا قضيتهم في ما اتفق عليه أطراف آستانة الثلاثة، وهو أن تبقى هدنة وقف إطلاق النار قائمة (هاجمت روسيا ريف إدلب، وأوقعت قتلى وجرحى، وردت فصائل المعارضة بقصف مواقع عدة للنظام)، وبوجود الهدنة ينتفي وجود الحلول، ومن ثم لا بأس من ترحيل الخلافات حول القضية السورية إلى لقاءات قادمة، ذلك أن ما تريده روسيا وإيران هو التأكيد أنّ قمة طهران قد أنتجت ردًا مناسبًا على قمة جدة الخليجية الأميركية.

وهكذا، لا تمثّل القمة الثلاثية في طهران أي تحوّل يتعلق بتسوية دولية في إطار الإعداد للمسألة السورية. ولا شيء سيتحرك في هذا الملف، وفي ملفات أخرى ذات صلة، قبل أن تظهر النتائج الدولية للحرب في أوكرانيا، وما ستنتجه الحرب من موازين قوى، وقد يُحدّد حينذاك شكل التسوية في سورية ومضمونها.

مركز حرمون

————————-

تحديات ما بعد قمة طهران/ فراس رضوان أوغلو

كل يغني على ليلاه، هذا ما أفرزته قمة طهران الروسية التركية الإيرانية نعم هناك بيان ختامي مشترك لكن لا جديد فيه، نعم هناك استمرار لاتفاق أستانا لكن لا جديد فيه، فكل من طهران وأنقرة تسعيان لجذب وكسب روسيا نحوها أكثر فأكثر للاستفادة من الوضع الإقليمي الجديد بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ومن الواضح أن منطقة الشرق الأوسط تتجه نحو سياسة التكتلات السياسية والاقتصادية فالرئيس الأميركي يلتقي بحلفائه في جدة وبوتين يفعل نفس الشيء في طهران وتبقى تركيا بيضة القبان في المنطقة.

تركيا المنتشية بنجاحها في إقناع الطرفين الروسي والأوكراني بتوقيع اتفاقية وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من  الموانئ الأوكرانية وبوادر حل لمعضلة كانت تؤرق المجتمع الدولي تصطدم مع العراق بما سمي قضية قصف منتجع دهوك في الشمال العراقي، وبغض النظر عن التحليلات التي قيلت عن هذا العمل ومن كان وراءه وغايته وأهدافه إلا أن على تركيا التعامل معه بشكل جدي وباهتمام بالغ، وعليها أن تنجح في هذا الملف كما نجحت في ملف الحبوب لتثبت للمجتمع الدولي قوتها وقدرتها وثقلها السياسي على حل مشاكلها بشكل عام في منطقة لا تخلو من تطورات يومية سلبية أم إيجابية، أما فيما يخص الشمال السوري وتحديداً بعد إعلان تركيا التريث عن العملية العسكرية التي كانت تعتزم القيام بها فعليها إثبات أن التوقف جاء لتوافقات مع الأصدقاء وأن هناك مكاسب سياسة أو ميدانية ستحصل عليها لاحقاً وإلا فإن هذا التوقف جاء نتيجة ضغوطات لم تقدر عليها أنقرة وهذا يعني تقدماً ملحوظاً لصالح طهران الرافضة للعملية، وهذا التراجع سينعكس على الداخل التركي المقبل على انتخابات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها حرجة وصعبة وهامة للغاية.

لا شك أن قمة طهران تعتبر رداً بروتوكولياً لروسيا على قمة جدة وتأتي ضمن استراتيجية روسيا وهي التحول نحو الشرق بعد العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا بسبب الحرب على أوكرانيا، ولذلك سعى الرئيس بوتين لإظهار أن روسيا ما زال لديها حلفاء وأصدقاء أقوياء ويأتي تأكيد بوتين بالشكر لتركيا على جهودها في حل مشكلة الحبوب العالقة عند الشواطئ الأوكرانية وحتى الحبوب الروسية، ليظهر للعالم أن ادعاءات الغرب على أن روسيا تستخدم الحبوب كسلاح للضغط على المجتمع الدولي ما هو إلا ادعاء غير صحيح، وأيضاً لتثبت لهم أنه ليس جميع أعضاء الناتو متفقين في مسألة العقوبات على روسيا أو اعتبار روسيا نفسها عدواً للناتو، وتركيا أكبر دليل على ذلك، وعلى صعيد آخر تريد روسيا إثبات أنها ما زالت على سياسة دعمها لحلفائها في مجالات عدة وهذا طبعاً يقصد به إيران التي تتشابه بكثير من الأمور مع روسيا، فكلاهما أصبحا عدواً للغرب وكلاهما تحت العقوبات الغربية وكلاهما منافسان غير مرغوب بهما للولايات المتحدة الأميركية لملء أي فراغ في منطقة الشرق الأوسط، وأما على صعيد الملف السوري فتؤكد روسيا على وحدة موقفها مع إيران في رفض العملية العسكرية التي تعتزم تركيا القيام بها ضد قسد في الشمال السوري وتفضل الحل السياسي عبر الأصدقاء، وهذا الحل لا بد أن يمر عبر دمشق الممثل المعترف به في الأمم المتحدة للدولة السورية ومجرد زيارة بوتين لطهران يظهر للغرب على أنه زعيم الشرق وأنه قادر على تشكيل تكتلات سياسة وحتى اقتصادية وفق الحاجة للرد على الغرب وخاصة أن بلاده تمتلك مفتاح الطاقة الذي يعد مصدر قوة إضافة للقوة النووية الهائلة التي تمتلكها.

إيران التي استبقت القمة بإعلان الشركة الوطنية الإيرانية للنفط توقيع وثيقة تفاهم قيمتها 40 مليار دولار مع شركة غازبروم الحكومية الروسية بعيد وصول الرئيس بوتين إلى طهران يعطي انطباعاً على أن طهران لم تعد تفكر في الاتفاق مع شركات الغرب، وأنها حسمت أمرها نحو روسيا ولعل هذا الاتفاق نوع من التراضي بين روسيا وإيران بعد بيع موسكو النفط بأسعار مخفضة لكل من الصين والهند والذي أثر سلبا على مبيعات إيران لتلك الدولتين، وأيضا نجحت روسيا بأن تضع يدها على مصدر طاقة يعد الأكبر بعد المخزون الروسي وبهذا نجحت روسيا بإبعاد الغرب عن تلك الحقول في الوقت الحالي ونجحت إيران في الالتفاف على العقوبات الأميركية والغربية وإنشاء تكتل طاقي اقتصادي مع روسيا.

ويمكننا اعتبار قمة طهران بأنها أوضحت الرؤية الاستراتيجية الخاصة لكل دولة من الدول الثلاث المشاركة، وأنه رغم تباين الأهداف والأولويات بين تلك الدول إلا أنها نجحت في إصدار بيان ختامي مشترك، ولكن لا يمكن اعتبار أن القمة كانت ناجحة تماماً فالاختلاف ما زال قائماً في ملفات عدة بين دول القمة الثلاث، فتركيا ورغم إعطائها فرصة للأصدقاء من أجل إيجاد حل سياسي بدلاً من العملية العسكرية في سوريا إلا أنها لم توقف الاستعدادت العسكرية لتلك العملية، وأنها لن تنتظر أو تأخذ إذناً من أحد على حسب تعبير وزير الخارجية التركي، وحتى الرؤية السياسية للحل في سوريا فتركيا ترى وفق البيان الختامي ضرورة إنهاء الأزمة السورية وفق حلول مستدامة ووضع آلية عمل لصوغ دستور جديد للدولة السورية وأن على المعارضة والنظام الجلوس وبدء الحوار من أجل ذلك بينما ترى روسيا ضرورة محاربة أي تحرك انفصالي من أي جهة كانت وضرورة عودة جميع المناطق إلى سيادة سوريا وهذا ما تتفق فيه مع إيران التي تريد إعادة تموقعها في المنطقة مع الشريك الروسي.

————————-

قمة جديدة بمرحلة “مفصلية”.. 3 ملفات على طاولة بوتين- أردوغان

تأتي قمة سوتشي، المزمع انعقادها بين الرئيسين التركي والروسي، في مرحلة مفصلية وحساسة تشهدها المنطقة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، وسط احتمالات بوجود نقاط خلاف، أفضت إلى تواتر اللقاءات والاتصالات الهاتفية بين الجانبين.

وبعد أسبوعين على لقائهما في طهران، ضمن قمة ثلاثية لـ “الدول الضامنة” (تركيا- روسيا- إيران)، أعلن الجانبان الروسي والتركي عن زيارة سيجريها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى مدينة سوتشي الروسية، في 5 أغسطس/ آب المقبل، حاملاً معه ملفات عدة، أبرزها أزمة الحبوب العالقة، والعملية العسكرية شمالي سورية.

سجالات العملية التركية

بحسب السفير الروسي لدى أنقرة، أليكسي ييرخوف، سيناقش الزعيمان خلال قمة سوتشي المرتقبة ملفات عدة بشكل أوسع، قياساً بقمة طهران، مشيراً إلى أن الوضع في سورية سيكون ضمن أجندة اللقاء.

وخلال لقائه مع قناة “روسيا 24” التلفزيونية، قال ييرخوف إن أجندة قمة “سوتشي” سيتم تحديدها من قبل الرئيسين أنفسهما، لكن “كقاعدة عامة في المحادثات رفيعة المستوى بين القادة الروس والأتراك، تتم مناقشة مجموعة واسعة إلى حد ما من الموضوعات التي تهم بلدينا”.

مضيفاً أن “الوضع في سورية وأوكرانيا والبحر الأسود” سيكون ضمن الموضوعات الرئيسية خلال هذه القمة.

من جانبها، ذكرت صحيفة “ملييت” التركية أن الرئيسان سيناقشان خلال قمة سوتشي موضوعات مكافحة “الإرهاب” في سورية، إلى جانب العملية العسكرية التركية شمالي سورية، ضد “وحدات حماية الشعب” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي ستكون على رأس جدول الأعمال.

وتهدد أنقرة بأن عمليتها العسكرية سوف تنطلق “في أي وقت”، حسبما ورد على لسان المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، اليوم الأربعاء.

وقال كالن لقناة “TRT” التركية: “لن نطلب الإذن من أحد لتنفيذ العملية العسكرية بشمال سورية (…) لسنا مضطرين لإخبار أحد عن موعدها”.

أزمة الحبوب

من جانبه، قال السكرتير الصحفي للرئيس الروسي، ديمتري بيسكوف، إن القادة سيتبادلون الآراء حول عمل مركز تصدير الحبوب الأوكرانية، والذي تم افتتاحه اليوم الأربعاء في مدينة اسطنبول التركية.

وأضاف في حديثه للصحفيين: “الآن يجب أن يبدأ التنفيذ الفعلي لصفقة الحبوب، وستكون هذه فرصة جيدة لتبادل وجهات النظر في سوتشي، ومناقشة مدى التوافق مع تلك الاتفاقيات التي تم التواصل إليها”.

وأعلن وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، اليوم الأربعاء، عن بدء عمل مركز تنسيق الحبوب في مدينة اسطنبول، من أجل تأمين نقل الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود.

وبحسب آكار، فإن مدة الاتفاقية 120 يوماً فقط، وستبقى حيز التنفيذ طالما لم يطالب أحد الأطراف بإنهائها، ومن المقرر نقل 25 مليون طناً من الحبوب العالقة بموجب تلك الاتفاقية.

وتتوقع السلطات التركية أن يبدأ نقل الحبوب عبر البحر الأسود خلال الأيام القليلة المقبلة.

التعاون العسكري التقني

تناقش قمة بوتين- أردوغان أيضاً ملف التعاون العسكري التقني بين الدولتين، بحسب السكرتير الصحفي للرئيس الروسي، ديمتري بيسكوف.

وقال بيسكوف إن “التعاون العسكري التقني بين البلدين مدرج باستمرار على جدول الأعمال، وحقيقة أن تفاعلنا يتطور في مثل هذا المجال الحساس يشير إلى أن النطاق الكامل لعلاقاتنا بشكل عام على مستوى عالٍ جداً”.

وكانت شبكة “CNN TURK” تحدثت في وقت سابق، أن بوتين عرض على نظيره التركي إنشاء مصنع لإنتاج طائرات بدون طيار في روسيا، من قبل شركة “Baikar Makina” التركية.

وأضافت في تقرير لها، الاثنين الماضي، أن أردوغان تلقى عرضاً من روسيا بهذا الخصوص.

إلا أن بيسكوف لم يرد على سؤال للصحفيين حول ما إذا كان التعاون في إنتاج طائرات بدون طيار، سيكون على جدول الأعمال في قمة سوتشي المرتقبة.

————————-

بين مساوئ الرعب وفوائد الخوف البنّاء في بلاد الشام/ راغدة درغام

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبلغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائهما الأسبوع الماضي في طهران، أنه ليس مُعجَباً أبداً بفكرة الكرملين بإيكال سوريا الى إيران ولن يقبل بها على الإطلاق. بل أكثر، حسبما نقلت مصادر وثيقة الاطلاع على القمّة الثلاثية الروسية – التركية – الإيرانية التي تظاهرت وأنها تُحيي عملية آستانة للسلام في سوريا. السيد أردوغان لطّف إنذاره لإيران بأن أنقرة لن تقبل بما تصمّمه طهران لنفوذٍ عارمٍ لها في سوريا ومدّها الدعم على طريقتها للرئيس السوري بشار الأسد، قائلاً إنها مجرّد تمنيات لا مستقبل لها. وعندما أراد أن يوضح أكثر، قال إن أي محاولة لبسط سيطرة إيران على سوريا إنما تتناقض مباشرة مع المصالح القومية لتركيا- وأنقرة جدّيّة جدّاً عندما يتعلق الأمر بمصلحتها القومية.

أما القيادة الإيرانية، فإنها أبلغت السيد بوتين أنها جاهزة ومستعدة وقادرة على السيطرة على سوريا وإنقاذ الأسد. السيد بوتين اعترف أن سُلّطة وقوة روسيا في سوريا تتآكل بسبب انشغال موسكو بالعمليات العسكرية في أوكرانيا وأن موسكو ليست متحمّسة اليوم لزيادة نفوذها في سوريا. تقبّل السيد بوتين إنذار السيد أردوغان لإيران على مضض، وأخذ علماً أن الرئيس التركي يلعب أوراقه اليوم بثقة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تنتمي اليه تركيا، وعبر تقديم نفسه وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا. إنما ما أبلغه الرئيس الروسي الى القيادات الإيرانية هو أن روسيا ستبقى حليف الجمهورية الإسلامية الإيرانية الاستراتيجي، وأن الكرملين يقدّم الى القيادات الإيرانية كامل الدعم لصلاحيات واسعة لها في سوريا تحلّ مكان روسيا في هذا المنعطف، بغض النظر عن رأي وتهديد السيد أردوغان. بل أكثر. ما أكده السيد بوتين هو موافقته على أن لبنان مرتبط مئة في المئة بالقرار الإيراني، وأن الكرملين يتفهّم ويفهم المصالح الإيرانية في لبنان ويقرّ بأن مستقبل لبنان لا يمكن فصله عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

لم تكن قمّة طهران ردّاً على قمّة جدّة كما ظن البعض. كانت قمّة محاولة التفاهم ثلاثياً على الأدوار في سوريا، ولم يتم الاتفاق. الإيجابي الوحيد الذي صدر عن قمّة طهران هو الاتفاق على استمرار الحوار. فلا اختراق لجهة تقريب وجهات النظر أو تنظيم نفوذ الدول الثلاث في سوريا، ولا تراجع في خطط أي من الأطراف الثلاثة العسكرية منها أو الاستراتيجية.

أردوغان تمسّك بمواقفه ولم يبدِ أي استعداد للتعاون مع روسيا في سوريا مؤكداً أن تقويم مصالح تركيا لم يتغيّر، وأن تركيا لن تتراجع عن القيام بعمليات عسكرية داخل سوريا عند الحاجة. طلب من نظيره الروسي ألاّ يضغط عليه أو على تركيا، لأن لا مجال لأخذ خطوة الى الوراء.

ما أكده أردوغان لبوتين هو أنه يأمل ويتمنى كثيراً بألاّ تقع مواجهة بين تركيا وروسيا في سوريا، وأنه يعتزم أن يجد دائماً لغة مشتركة بين الدولتين والقيادتين لتجنّب المواجهة، حسبما أكّدت المصادر المطلِعة على اللقاء. أما إيران، فإنها أمرٌّ آخر وأسلوب التعاطي مع أدوارها في سوريا مختلف وهو ينطلق من اعتبار أنقرة أن محاولات طهران للسيطرة على سوريا تتعارض تماماً مع مصالح تركيا القومية.

فكرة بوتين أن يجعل من إيران اللاعب الأقوى في سوريا والضامن للنظام في دمشق اصطدمت برفضٍ قاطع من أردوغان وصعّدت الشكوك التركيّة من المخططات الإيرانية. هذه الفكرة لا تعجب الولايات المتحدة ولا إسرائيل لكن إيران تريدها بشدّة وتعتبرها حيويّة لمشروعها الإقليمي أتت “هدية” لها من الحرب الروسية على أوكرانيا.

نصْب الجمهورية الإسلامية الإيرانية حاكم الأمر الواقع في سوريا قد يكون مشروع توريط لإيران، لكن القيادة الإيرانية تعتبره إنجازاً استراتيجياً تريده طهران لأنه يضعها على البحر المتوسط. امتداد خطوط المواجهة الإيرانية المباشرة مع إسرائيل من لبنان الى سوريا أمرٌ تريده طهران في زمن السلم كما في زمن الحرب لأنه يشكّل لها أدوات مقايضة وجبهات مواجهة. وهذا يناسبها تماماً اليوم لا سيّما أن القيادة الإيرانية واثقة تماماً من نفسها في وجه إسرائيل عسكرياً وليس فقط تهادنياً. ثم أنها لا تفكّر بمجرّد معطيات اليوم، فإيران تبني لبنة لبنة دورها في ذلك الحلف الثلاثي أي الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية.

أثناء لقاء الرئيسين الروسي والإيراني في طهران، طلب الرئيس إبراهيم رئيسي تصعيد الضغط الروسي في موضوع المحادثات النووية في فيينا والهادفة الى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA لعام 2018 والتي وقّعتها الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا مع إيران. لكن رئيسي أكّد لبوتين أن إيران لن تتخذ أيّة خطوات تجعلها تبدو ضعيفة في نظر الولايات المتحدة والعالم. قال إن طهران جاهزة لبعض التنازل إنما ليس في مسألة إصرارها على شطب “الحرس الثوري” الإيراني من قائمة الإرهاب، ولا في إصرارها القاطع على عدم السماح للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بأن تسيطر على مستقبل الصناعات النووية في إيران. فالأمل يتضاءل والضوء في نهاية نفق المحادثات النووية بات باهتاً.

ما تحدّث الرئيسان في شأنه بكل شغف واهتمام هو تلك المعاهدة الثنائية الشاملة بين روسيا وإيران والتي بدأ الإعداد لها لأن إتمامها بأسرع ما يمكن مهمّ جدّاً للطرفين لأسباب عديدة. وبحسب المصادر المطلِعة تحدّث الرئيسان عن قيام بوتين بزيارة رسمية الى طهران في أواخر هذه السنة بهدف توقيع تلك المعاهدة الثنائية التي تشابه المعاهدة الاستراتيجية التي وقعتها إيران مع الصين.

فالتقويم الروسي والإيراني لمستقبل المحاور في الشرق الأوسط هو أن الولايات المتحدة تتراجع في لغة وإجراءات المحاور فيما الترويكا تتقدّم ببراغماتية وعناية وحذر وعزم وتصميم. زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الشرق أوسطية لم تفلح في محو تطوّر بالغ الأهمية في الدول الخليجية العربية وفي مقدمها السعودية وهو الاستقلالية التي تبنّتها هذه الدول في أعقاب تجربتها مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ونائبه حينذاك جو بايدن. وطالما أن السعودية لم تعد الى الفلك الأميركي بالطريقة التقليدية، فإن المحور المرجو بقيادة أميركية يبقى ضعيفاً. زيارة بايدن لم تحقق اختراقاً في هذا الأمر، ولذلك موسكو وطهران ليستا قلقتين كثيراً، لا أمنياً ولا نفطيّاً.

ما يثير قلق موسكو هو مستقبل “أوبك+” لأن ذلك سيؤثِر في روسيا بصورة مباشرة. وموسكو تتطلّع بحذر واهتمام الى الاجتماعات المقبلة لمنظمة الـ”أوبك” في أيلول (سبتمبر) المقبل.

عودةً الى تركيا، تَقلق روسيا من رؤية ومشروع رجب طيب أردوغان بشمولية وليس فقط في سوريا. تدرك أن الحزام الأمني الذي يريده أردوغان لتركيا داخل الأراضي السورية بات موضع إصرار أكبر من أردوغان لأنه يرى أن الفرصة مواتية جدّاً لتنفيذه، أولاً بسبب إنشغال روسيا بأوكرانيا، وثانياً بسبب انشغال أميركا بروسيا وبأوكرانيا وبإيران، وثالثاً لأنه استعاد نفوذه وتموضعه داخل حلف شمال الأطلسي لأن “الناتو” في حاجة اليه.

هذا لا يعني أن الرئيس التركي بات محصّناً ومقبولاً تماماً لدى دول “الناتو” أو لدى جيرته لا سيّما عندما ترتكب تركيا أخطاء فادحة ناتجة من عجرفة أردوغان كما حدث في آخر عمليات اقتحام الأراضي العراقية بالذات في مأساة قصف المنتجع العراقي بكردستان الذي أسفر عن مقتل مدنيين. بغداد حمّلت أنقرة مسؤولية القصف لكن أنقرة نفت مسؤوليتها.

المشكلة أعمق وهي تكمن في ثقة أردوغان أن تركيا فوق المحاسبة فيما تلاحق ما تصنّفه الإرهاب الكردي في العراق وسوريا، وأنها نجحت في إخضاع الدول الأورويية مثل السويد بإصرارها على رفض عضويتها في “الناتو” ما لم تتخذ استوكهولم إجراءات طالبت بها أنقرة.

كلمة أخيرة عن قمّة طهران التي حضرها غيابياً “حزب الله” بصفته الذراع الأقوى لإيران داخل سوريا وفي لبنان. الرئيس التركي لا يتعرّض مباشرة لـ”حزب الله” تقليدياً لكنه سيفعل إذا ما اضطر في سوريا حين تبدأ إيران تنفيذ مشروع بوتين هناك.

“حزب الله” يتربّص ليتموضع، إما بجانب إيران أو بالنيابة عنها- حسبما تتطلّب الظروف. إنه يهادن عندما تحتاج طهران المهادنة، ويصعِّد عندما ترتأي القيادة الإيرانية أن الوقت حان. أجندته ليست من أجل استفادة لبنان، ولذلك حوّل مستقبل ثروة الغاز والنفط الى ذخيرة لـ”المقاومة” بدلاً من أن تكون وسيلة انتشال اللبنانيين من كارثة الانهيار الاقتصادي التي تدمّرهم.

“بارومتر” “حزب الله” اليوم يفيد بأنه قد يعرقل ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية ليس فقط بموجب مراقبته لنتائج المفاوضات النووية الإيرانية، وإنما أيضاً لأنه يريد أمرين أساسيين آخرين هما: أولاً، ضمان حصته من الثروة بدلاً من اعتبارها ثروة سيادية ذلك لأنه لا يعترف بسيادة الدولة ولا حتى بالوطن لبنان. وثانياً، “حزب الله” يرفض أي ترسيم أو مراقبة لأيّة حدود لبنانية – سورية، ولذلك، إنه يخشى فكرة ترسيم الحدود البحرية لأنها تكبّل تحركاته البحرية والبرية وبالذات عمليات التهريب التي يتطلّبها المشروع الإيراني المدعوم روسياً في سوريا بمباركة فلاديمير بوتين شخصياً.

لمن سخرية القدر أن يكون خيار صفقة أميركية – إيرانية – إسرائيلية نووية وأمنية وتهادنية أفضل بكثير لبلادٍ مثل سوريا ولبنان بكل ما تمنحه لإيران ولإسرائيل من أدوات هيمنة واستقواء، مما هو خيار المواجهة العسكرية. فواضح أن روسيا وإيران اتخذتا قرار مصادرة سوريا ولبنان لغاياتهما ومصالحهما القومية وفي حساباتهما التصدّي لإسرائيل هناك حسب الحاجة. أما إدارة بايدن، فإنها ما زالت تتأرجح بين التمنيات بصفقة مع إيران، وبين التردّد بالضغط على طهران وعلى “حزب الله” خوفاً من الانتقام، وبين التهديد باستعادة عقوبات الضغوط القصوى على إيران التي تبناها دونالد ترامب، وبين إلقاء كل اللوم على ترامب لأنه مزّق الاتفاقية النووية مع طهران.

الفرز مستمر، وسط بلبلة سياسية عالمية، يرافقه كثيرٌ من الرعب وقليلٌ من الأمل والخوف البنّاء. لربما أفضل الأحوال في هذا المنعطف هو استمرار الوضع الراهن Status quo في المنطقة العربية بكل سيّئاته في بلاد الشام.

 النهار العربي

 ———————-

بوتين يتخلى عن سلاح الغذاء/ بسام مقداد

لم يكن بوتين يخفي إبتزازه العالم بحؤوله دون تصدير الحبوب المخزنة في عنابر الموانئ الأوكرانية، والتي فرض عليها الحصار منذ اليوم الأول لحربه على أوكرانيا. وكان يعلن أن الحبوب الأوكرانية لن تصدر قبل إسقاط العقوبات الغربية على روسيا بسبب حربه على أوكرانيا، ويحمل كييف مسؤولية الجوع الذي يهدد العالم لتفخيخها موانئها البحرية خشية إنزال روسي. وأثارت موافقته في إسطنبول على التخلي عن سلاح الغذاء تساؤلاً لدى الجميع عن الأسباب التي دفعته لتقديم هذا التنازل، وليس لأوكرانيا، بمقدار ما هو للعالم الذي كان يبتزه بالجوع، وعما إن كان سيلتزم بتوقيعه.

مذكرة الإفراج عن الحبوب الأوكرانية، عكست طريقة إخراجها إلى النور واقع الحرب الضروس بين الدولتين، اللتين وجدتا فرصة بين المعارك الدائرة، وكل منهما لأسبابه، للتفاوض على مسألة لا علاقة لها بالجبهات التي ذكّرت بها روسيا بقصف ميناء أوديسا في اليوم التالي لإعلان المذكرة. وجاءت المذكرة فريدة من نوعها، حيث وقع كل منهما مع الأمم المتحدة وتركيا نسخته من المذكرة المطابقة للنسخة الأخرى. وكان من اللافت أن النسخة الروسية حملت توقيع وزير الدفاع، في حين وقع على النسخة الأوكرانية وزير البنية التحتية، عضو الوفد الأوكراني الذي ترأسه رئيس المخابرات العسكرية.

توقيع مذكرة إسطنبول لا يعني أن الحبوب سيبدأ تصديرها في الأيام القادمة، بل سيتطلب الأمر بين 8 و 9 أشهر، حسب ما أعلن مستشار الرئيس الأوكراني. ونقل عنه راديو سبوتنيك قوله بأنه، في حال لم يستعد العمل في الموانئ الأوكرانية، فقد يتطلب الأمر عامين لتصدير الحبوب الأوكرانية.

كما لا تتطابق الأرقام التي يعلنها الروس والأوكران حول كميات الحبوب المخزنة في الموانئ الأوكرانية، حيث يعلن الروس أن رقم 20 مليون طن من الحبوب متوفرة في الموانئ الأوكرانية مبالغ به جداً، ولا تتخطى الكمية 4 مليون طن. وتنقل صحيفة الكرملين vz عن خبير إقتصادي روسي قوله بأن رقم 20 مليون طن أعلنه رئيس الدبلوماسية في الإتحاد الأوروبي والرئيس الأميركي، ويؤكد أن 55% من الحبوب الأوكرانية تم تصديرها السنة الماضية من أوكرانيا.

في اليوم التالي لتوقيع مذكرة إسطنبول نشرت الأسبوعية الروسية الموالية versya  نصاً بعنوان “حبوب من القشور”، وأردفته بآخر ثانوي “لماذا وافقت روسيا على بدء تصدير الحبوب من أوديسا إلى الخارج”. تقول المجلة أن  التوقيع على مذكرة تصدير الحبوب من أوديسا ليس نهاية المطاف، فالتصدير ثنائي القاع، بل قد يكون ثلاثياً. وحسب قولها صرح مستشار مكتب الرئيس الأوكراني عشية التوقيع على المذكرة بأنه لن يكون هناك من إتفاق مباشر بين كييف وموسكو بشأن تصدير الحبوب. تصف كلام المستشار بالإبتزاز، وتقول بأن الدهشة قد تكون  إذا تبين أن ليس من حبوب في مستودعات ميناء أوديسا، أو أن الموجود “قليل للغاية”.

ترى المجلة أن الإتفاق تم، في الحقيقة، بين روسيا وتركيا، أما أوكرانيا فاحتفظت بمفاجأتها حتى اللحظة الأخيرة، حيث أعلن نائب في البرلمان الأوكراني (كان الشخصية الأبرز في الوفد الأوكراني) بأنه لا ينبغي أن تتواجد أي سفينة حربية روسية أثناء عملية التصدير في المياه الإقليمية الأوكرانية. وتفسر المجلة هذا الكلام بأنه إبتزاز أيضاً أن تشترط كييف ألا يتواجد الأسطول الروسي أثناء عملية التصدير في المنطقة التي تعتبرها مياهها الإقليمية.

تعتبر المجلة أن أوكرانيا تريد بهذا الكلام إصابة عصفورين برمية واحدة: الإفراج عن تصدير الحبوب والتخلص من خطر الإنزال العسكري الروسي، وإذا لم تسر الأمور كما يجب، تعلن للمجتمع الدولي بأن موسكو خرقت الإتفاق وغدرت بالجميع.

 أما روسيا، برأي المطبوعة، أقدمت بنفسها على الإفراج عن صادرات الحبوب الأوكرانية لأن أوروبا، ولأول مرة، لن تتشدد في العقوبات، بل ستتساهل بها. وستتمكن المصارف الروسية التي فرضت عليها العقوبات من أن تستفيد جزئياً من حساباتها المجمدة، وذلك لتأمين متطلبات تجارة المواد الغذائية. كما تفترض أن التساهل الأوروبي سوف يشمل شروط إمدادات الحبوب الروسية والأسمدة للسوق العالمية. إضافة إلى التسهيلات ترى أنه سيعود تصدير المواد الغذائية من الموانئ الروسية، بعد أن كان غادرها التجار إثر فرض العقوبات.

وتشير إلى أن محصول روسيا من الحبوب هذه السنة قد يبلغ 130 مليون طن، 87 مليون منها من القمح. أما في اوديسا فلا تزيد الكمية الموجودة عن 4-5 طن ليس من قمح الطعام ، بل علف مشكوك بجودته. وما تبقى من محصول السنة الماضية وسابقتها من القمح الأوكراني تم تصديره في شباط المنصرم.

ترى الصحيفة أن الأسباب، عدا عن سبب ضآلة المتوفر من الحبوب في أوديسا، التي جعلت روسيا تقدم على الإتفاق قد تكون ثلاثة. أول الأسباب المحتملة هو رغبة روسيا في التعاون الوثيق مع أنقرة التي تعمل وفق معادلة ــــ أنا أعطيك لكي تعطيني. وبالنسبة لموسكو كل شريك دولي الآن “يساوي وزنه ذهبا”.

ثاني هذه الأسباب هو رغبة موسكو في تحسين تعاطيها مع أوروبا، طمعاً في تخفيف العقوبات ضدها.

ثالث الأسباب المحتملة تراه المجلة في رغبة موسكو التشهير بالرئيس الأوكراني الذي تعتبر بأنه يبتز العالم بالقول بنوافر بين 40 و60 مليون طن من الحبوب في مستودعات موانئه، وذك من أجل أن يضغط العالم لتأجيل التقدم الروسي على إتجاه أوديسا، والإحتفاظ بثلاثة موانئ بحرية أطول مدة ممكنة.

مواقع إعلام أوكرانية لم ترحب بمذكرة إسطنبول، ورأت أسبوعية zn (مرآة الأسبوع) أن إتفاقية الحبوب فأل شؤم لأوكرانيا. وقالت بأن مجرد توقع الإتفاق أدى إلى تراجع سعر القمح، وعاد سعره إلى ما كان عليه قبل الحرب على أوكرانيا.

طرحت الأسبوعية العديد من الأسئلة حول تأثير الإتفاق على أمن الحدود الجنوبية والمدن الساحلية، وحول الضمانات التي يمكن أن تتعهد بها روسيا وإمكانية الوثوق بها، وعما إذا كانت سيتم إعلان هدنة ومدتها وفي أية مناطق وسواها من الأسئلة.

تقول المجلة أن من بين ما دفع أوكرانيا لعقد هذا الإتفاق هي حاجة معظم بلدان آسيا وإفريقيا للغذاء، والخشية من أن تتخلى هذه الدول عن موقفها المحايد من الحرب الأوكرانية، وتتحول إلى التأييد المباشر لروسيا. يضاف إلى ذلك مليارات الدولارات من عائدات الحبوب المصدرة،  التي يحتاجها “إقتصادنا”، وحاجة المزارعين إلى إخلاء المستودعات لمحصول الحبوب الجديد. كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت الأوكران يجلسون إلى طاولة المفاوضات مع الروس. وعدا عن كل هذه الأسباب، ثمة رغبة اوكرانية في عدم إغضاب أردوغان الذي، على الرغم من شرائه القمح الذي نهبته روسيا من أوكرانيا، استمر في “مدنا” بمسيرات بيرقدار.

أما الأسباب التي جعلت بوتين يفاوض على الإفراج عن صادرات الحبوب الأوكرانية، تراها المجلة أبعد ما تكون عن المشاعر الإنسانية لسيد الكرملين، وهو الذي دفعته طموحاته الإمبراطورية إلى شن عدوانه على أوكرانيا. وتنقل عن وزير الخارجية الأوكراني قوله بأن السبب الذي جعل بوتين يفاوض على الإفراج عن صادرات الحبوب الأوكرانية، هو سعيه لكي يظهر للدول المحايدة أو المنحازة إلى روسيا بأنه أنقذها من الجوع ومن إرتفاع أسعار المواد الغذائية. ويضيف قائلاً “عدا ذلك، لا افهم لماذا قد يحتاج إليها(المفاوضات)، فهو إذ يقبل بفك الحصار عن الموانئ الأوكرانية يضرب جهوده لخنق الإقتصاد الأوكراني”.

————————

هل تستطيع روسيا إحياء «اتفاقية أضنة» بين سوريا وتركيا؟/ إبراهيم حميدي

كلما لوحت تركيا بشن عملية عسكرية شمال سوريا لإقامة «منطقة آمنة»، تضع روسيا على طاولة الوساطة إحياء «اتفاق سوتشي» حول شرق الفرات تمهيداً لتنفيذ «اتفاق أضنة» الذي وقعته أنقرة ودمشق في يوليو (تموز) 1998، وأسس لتعاون أمني بين الطرفين، وسمح للجيش التركي بملاحقة «حزب العمال الكردستاني» بعمق الأراضي السورية.

ومنذ الحرب الروسية في أوكرانيا، أعاد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إحياء خطة قديمة لديه بإقامة «منطقة آمنة» بعمق 35 كيلومتراً، محاولاً الإفادة من تحسن موقف أنقرة التفاوضي بسبب «حاجة» واشنطن وموسكو لدور تركيا.

أميركا أعلنت بوضوح رفض العملية العسكرية شرق الفرات، فيما تولت موسكو التوسط بين دمشق وأنقرة والأكراد، ونشر قوات الجيش السوري في مناطق مختلفة في شمال البلاد لـ«ردع» الجيش التركي، قبل القمة الروسية – التركية – الإيرانية في طهران أمس (الثلاثاء).

أنقرة تريد توغلات جديدة تربط «جيوبها» العسكرية شمال سوريا، وهي «درع الفرات» شمال حلب التي أسست في 2016، و«غصن الزيتون» في عفرين في 2018، و«نبع السلام» شرق الفرات نهاية 2019، و«درع السلام» في بداية 2020. فيما تقترح موسكو إما تفعيل «اتفاق أضنة» وإما التنفيذ الكامل لـ«اتفاق سوتشي – 2019»، إضافة إلى مذكرة عسكرية بين دمشق والقامشلي مقابل اتفاق بين أنقرة وواشنطن. وهنا أهم الاتفاقات وقراءة فيها:

> ما بنود «اتفاقية أضنة»؟

بعد تلويح تركيا بالهجوم على سوريا منتصف 1998، توسط الرئيس المصري الراحل حسني مبارك بين الطرفين، إلى أن تم إنجاز اتفاق أمني بين أنقرة ودمشق في مدينة أضنة التركية. ونص الاتفاق وملحقاته على عناصر؛ بينها:

– اعتباراً من الآن؛ زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان (المعتقل في تركيا منذ بداية 1999) لن يكون في سوريا، وبالتأكيد لن يسمح له بدخول سوريا.

– لن يسمح لعناصر «حزب العمال الكردستاني» في الخارج بدخول سوريا.

– اعتباراً من الآن؛ معسكرات «حزب العمال الكردستاني» لن تعمل على الأراضي السورية، وبالتأكيد لن يسمح لها بأن تصبح نشطة.

– كثير من أعضاء «حزب العمال الكردستاني» جرى اعتقالهم وإحالتهم إلى المحكمة، وتم إعداد اللوائح المتعلقة بأسمائهم، وقدمت سوريا هذه اللوائح إلى الجانب التركي.

– إن سوريا، على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، لن تسمح بأي نشاط ينطلق من أراضيها، بهدف الإضرار بأمن واستقرار تركيا. كما لن تسمح سوريا بتوريد الأسلحة والمواد اللوجيستية والدعم المالي والترويجي لأنشطة «حزب العمال الكردستاني» على أراضيها.

– صنفت سوريا «حزب العمال الكردستاني» على أنه منظمة إرهابية، كما حظرت أنشطة الحزب والمنظمات التابعة له على أراضيها، إلى جانب منظمات إرهابية أخرى.

– لن تسمح سوريا لـ«حزب العمال الكردستاني» بإنشاء مخيمات أو مرافق أخرى لغايات التدريب والمأوى أو ممارسة أنشطة تجارية على أراضيها.

– لن تسمح سوريا لأعضاء «حزب العمال الكردستاني» باستخدام أراضيها للعبور إلى دول ثالثة.

– إقامة وتشغيل خط اتصال هاتفي مباشر فوراً بين السلطات الأمنية العليا لدى البلدين.

– يقوم الطرفان بتعيين ممثلين خاصين أمنيين في بعثتيهما الدبلوماسيتين في أنقرة ودمشق، ويتم تقديم هذين الممثلين إلى سلطات البلد المضيف من قبل رؤساء البعثة.

– الملحق رقم 3: اعتباراً من الآن؛ يعتبر الطرفان أن الخلافات الحدودية بينهما منتهية، وأن أياً منهما ليست له أي مطالب أو حقوق مستحقة في أراضي الطرف الآخر.

– الملحق رقم 4: يفهم الجانب السوري أن إخفاقه في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية، المنصوص عليها في هذا الاتفاق، يعطي تركيا الحق في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كيلومترات.

ماذا تعني «اتفاقية أضنة» سياسياً وأمنياً؟

– إعطاء الجيش التركي الحق في ملاحقة «حزب العمال الكردستاني» بعمق 5 كيلومترات شمال سوريا، بموجب «الملحق رقم 4».

– تتخلى دمشق عن أي مطالبة بحقوقها في لواء الإسكندرون (إقليم هاتاي) الذي ضمته تركيا في 1939، بموجب «الملحق رقم 3».

– اعتبار «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبد الله أوجلان، «تنظيماً إرهابياً»، بموجب نصوص الاتفاق.

– أنقرة تفسر الاتفاق على أنه يعني أن «وحدات حماية الشعب» الكردية «تنظيم إرهابي»، باعتبار أن أنقرة تعدّها امتداداً لـ«العمال الكردستاني».

– يعني بدء اتصالات أمنية مباشرة، علماً بأن مدير الأمن الوطني السوري علي مملوك التقى أكثر من مرة مدير المخابرات التركية حقان فيدان.

– يعني أيضاً إعادة تشغيل السفارة التركية في دمشق، والسفارة السورية في أنقرة، علماً بأن لدمشق قنصلية في إسطنبول (تم تعيين عنصر جديد فيها قبل فترة)، باعتبار أن الاتفاق يتطلب تعيين ضابط ارتباط أمني في كل سفارة.

– يعني تنفيذ الاتفاق «اتصالات غير مباشرة» أقر بها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، واعتراف أنقرة بشرعية الحكومة السورية؛ لأن تنفيذ الاتفاق يتطلب كثيراً من الإجراءات، بينها تشكيل لجنة مشتركة وتشغيل خط ساخن.

– يقدم الاتفاق بديلاً للتفاهم التركي – الأميركي حول عمق «المنطقة العازلة» البالغ 32 كيلومتراً شمال شرقي سوريا، ويفتح المجال لتنفيذ «اتفاق سوتشي» بين إردوغان والرئيس فلاديمير بوتين في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب سحب قواته من شرق الفرات، الأمر الذي مهد لهجوم تركي وقتذاك.

> ما «اتفاق سوتشي» لعام 2019؟

اتفق إردوغان وبوتين على 10 نقاط؛ بينها:

أكدا التصميم على محاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، وتعطيل المشروعات الانفصالية في الأراضي السورية.

– سيتم في هذا الإطار الحفاظ على الوضع الراهن في منطقة عملية «نبع السلام» الحالية التي تغطي تل أبيض ورأس العين بعمق 32 كيلومتراً.

– كلا الطرفين أكد مجدداً على أهمية «اتفاقية أضنة»، وستسهل روسيا تنفيذ هذه الاتفاقية في ظل الظروف الحالية.

– الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري سيدخلان إلى الجانب السوري من الحدود السورية – التركية، خارج منطقة عملية «نبع السلام» (بين تل أبيض وراس العين)، بغية تسهيل إخراج عناصر «وحدات حماية الشعب» الكردية وأسلحتهم حتى عمق 30 كيلومتراً من الحدود السورية – التركية.

– تسيير دوريات تركية وروسية مشتركة غرب وشرق منطقة عملية «نبع السلام» بعمق 10 كيلومترات، باستثناء مدينة القامشلي.

– إخراج جميع عناصر «وحدات حماية الشعب» الكردية وأسلحتهم من منبج وتل رفعت.

ماذا عن الاتفاق الأميركي ـ التركي لعام 2019؟

وقبل ذلك، جرى توقيع اتفاق بين إردوغان ونائب الرئيس الأميركي السابق مايك بنس في أكتوبر 2019، تضمن 13 بنداً؛ بينها:

– تؤكد الولايات المتحدة وتركيا علاقتهما بصفتهما زميلين في «حلف شمال الأطلسي (ناتو)»، وتتفهم الولايات المتحدة المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا على الحدود الجنوبية لتركيا.

– اتفق الجانبان على استمرار أهمية وفاعلية سلامة المنطقة، من أجل معالجة المخاوف الأمنية الوطنية في تركيا، لتشمل إعادة جمع الأسلحة الثقيلة من «وحدات حماية الشعب» (الكردية) وتعطيل تحصيناتهم وجميع مواقع القتال الأخرى.

– سيقوم الجانب التركي بإيقاف عملية «نبع السلام» مؤقتاً للسماح بسحب «وحدات حماية الشعب» من منطقة النبع. وسيتم إيقاف عملية «نبع السلام» عند الانتهاء من هذا الانسحاب.

– بمجرد إيقاف عملية «نبع السلام»، توافق الولايات المتحدة على عدم مواصلة فرض العقوبات بموجب الأمر التنفيذي الصادر في 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 بحظر الممتلكات وتعليق دخول أشخاص معينين يساهمون في الوضع في سوريا.

كيف عاد الجيش السوري إلى شرق الفرات؟

بالتوازي مع هذه الاتفاقات الروسية – التركية – الأميركية التي أعقبت إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الانسحاب من حدود تركيا شمال شرقي سوريا؛ الأمر الذي فتح المجال لتوغل أنقرة، جرى التوصل إلى مذكرة تفاهم بين «قوات سوريا الديمقراطية»؛ حلفاء واشنطن، وبين دمشق. هنا بعض نقاطها:

– وافقت «قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تضم «وحدات حماية الشعب» الكردية) على دخول قوات الجيش العربي السوري، وبسط سيطرته على كامل المنطقة ابتداءً من عين ديوار شرقاً، وحتى جرابلس غرباً، حيث ستنطلق القوات من ثلاثة محاور:

1- محور الطبقة شمالاً باتجاه عين عيسى وريفها وشمالاً إلى الحدود السورية – التركية عند تل أبيض وباتجاه الغرب.

2- محور منبج باتجاه عين العرب على الحدود السورية – التركية وحتى نقطة تل أبيض وباتجاه الغرب.

3- محور الحكسة – تل تمر وصولاً إلى رأس العين ومنه باتجاه الشرق وصولاً إلى القامشلي وثم المالكية وباتجاه الجنوب.

4- تنتشر القوات في منطقة منبج بدءاً من عريمة وعلى طول خط نهر الساجور وفق الاتفاقية السابقة المتعلقة بانتشار القوات في عريمة.

في هذه المذكرة، «أكدت قوات (قسد) على جاهزيتها للحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الجمهورية العربية السورية وتحت علم الجمهورية العربية السورية، والوقوف إلى جانب الجيش العربي السوري في مواجهة التهديدات التركية للأراضي السورية بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد».

لكن تراجع ترمب عن قرار الانسحاب ثم الإبقاء على قواته شرق الفرات، دفع إلى بطء تنفيذ هذه المذكرة. وأمام التهديدات التركية الأخيرة، عادت روسيا لدفع «قسد» ودمشق لتنفيذ مذكرة عام 2019.

ومثلما طبقت روسيا اتفاقية «فك الاشتباك» بين سوريا وإسرائيل ونشرت قوات دولية في الجولان، تسعى إلى تنفيذ الاتفاقات المرحلية وصولاً إلى إعادة تفعيل «اتفاقية أضنة» بوصفها مدخلاً لـ«شرعنة» الحكومة وتوسيع بسط سيادتها في البلاد. وسبق أن اقترحت روسيا ذلك، وأعادت هذا الاقتراح خلال التمهيد للقمة الثلاثية في طهران، وستواصل الدفع تدرجياً لتنفيذه؛ وإن كان بعمق أكثر من «أضنة» وأقل من «سوتشي» و«تفسيرات روسية» له.

الشرق الأوسط

————————-

على الغرب تحديد أولوياته في سوريا/ روبرت فورد

ينبغي أن تدفع المفاوضات العاجلة في مجلس الأمن خلال الأسبوع الماضي، من يطلق عليهم «أصدقاء سوريا» نحو الاستعداد ليوم قريب لن تتمكن فيه منظمة الأمم المتحدة من الإشراف على توصيل المساعدات الإنسانية إلى مناطق شمال غربي سوريا، الخاضعة لسيطرة المتمردين.

لقد استخدمت روسيا حق النقض بمجلس الأمن في 8 يوليو (تموز) في الاعتراض على قرار بتمديد عملية توصيل الأمم المتحدة لعام آخر، وهو ما يعرقل حركة بعض الشاحنات. ويصرّ الروس على ضرورة إرسال مزيد من المساعدات الموجهة إلى شمال غربي سوريا، من مناطق تخضع لسيطرة النظام في سوريا. مع ذلك، يحذر مسؤولون إنسانيون في الأمم المتحدة، مشيرين إلى أن المساعدات الإنسانية المقبلة من تركيا إلى شمال غربي سوريا أكبر من تلك المقبلة من دمشق بمقدار عشرة أمثال.

نحن نعلم الأسباب الرئيسية لهذا الأمر. فنظام الأسد يقيد المساعدات الإنسانية لمعاقبة وإرهاب وترويع المدنيين الذين يعيشون في كنف المتمردين، وهناك مشكلة الفساد الشامل في نظام الأسد. في النهاية، لا تهتم روسيا بالمدنيين السوريين في شمال غربي سوريا، وهم لا يقدمون أي مساعدات إنسانية، بل تهتم موسكو بسلطات الدول ذات السيادة، وليس بحق المدنيين في الفرار من براثن المجاعة. فقط، في 12 يوليو (تموز)، قبلت روسيا تمديد إشراف الأمم المتحدة على المساعدات الإنسانية المقبلة من تركيا إلى شمال غربي سوريا لستة أشهر فقط.

ماذا بعد الأشهر الستة؟ سوف تعارض روسيا مرة أخرى عمليات توصيل المساعدات الإنسانية المقدّمة من تركيا مع بدء فصل الشتاء، وأي التماسات مقدمة إلى الكرملين بشأن الأخلاق ستكون غير مجدية. وقد أقرّ أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، بأن واشنطن لن تحاول الحديث مع موسكو الآن.

ولم تقبل موسكو تمديد العمليات لستة أشهر بسبب ضغوط واشنطن عليها، بل بسبب أنقرة، حيث تحدث الرئيس إردوغان إلى الرئيس بوتين في 11 يوليو، وقبلت موسكو التمديد في اليوم التالي.

ولفهم القوى المحركة للوضع في شمال سوريا، على المرء أن يتذكر أن تركيا لم تفرض حتى هذه اللحظة أي عقوبات على روسيا. كذلك يريد الروس من تركيا قبول نقل المحادثات السياسية السورية من جنيف إلى دولة أخرى لديها علاقات دبلوماسية مع سوريا. وتفضل روسيا ألا تهاجم تركيا كلاً من منبج وتل رفعت، حيث تريد أن يسيطر نظام الأسد على تلك البلدتين.

بوتين لديه إذن أسباب لتقديم تنازل صغير إلى أنقرة في 12 يوليو بالموافقة على ذلك التمديد، وهكذا، يعيش المدنيون السوريون البالغ عددهم مليونين ونصف المليون، ويوجدون في شمال غربي سوريا، ويعتمدون على المساعدات الإنسانية، تحت تهديد أي تراجع خطير في العلاقات بين روسيا وتركيا.

لقد حان وقت استعداد الأميركيين والأوروبيين، بالتعاون مع تركيا، لليوم الذي يرفض فيه الروس تماماً إدارة الأمم المتحدة لعمليات توصيل المساعدات من تركيا إلى شمال غربي سوريا. وقد بدأت المنظمات الخاصة التي تعمل في مجال المساعدات الإنسانية التخطيط لكيفية الاستمرار في توصيل الطعام والمستلزمات والمواد الطبية في ظل عدم وجود دور للأمم المتحدة. وليس لدى المنظمات غير الحكومية حالياً القدرة على إدارة الدعم اللوجيستي والتخطيط، حيث لا يمكنها توفير 800 شاحنة شهرياً مثل تلك المقبلة من تركيا عبر معبر «باب الهوى»، ليتم توزيعها في شمال غربي سوريا. وعلى الحكومات الأوروبية والحكومة الأميركية إصدار توجيهات للمؤسسات العاملة في مجال المساعدات الإنسانية والاقتصادية لديها، ببدء بناء قدرات تلك المنظمات الخاصة فوراً وبشكل عاجل، إذ إن ديسمبر (كانون الأول) قد اقترب.

وهناك تحديان مهمان؛ الأول هو: كيف ستعمل منظمات المساعدات مع جماعة «هيئة تحرير الشام»، التي تم إدراج اسمها على قائمة الإرهاب الأميركية وقائمة الإرهاب الخاصة بالأمم المتحدة، والتي تسيطر على الجزء الأكبر من شمال غربي سوريا؟ الأمم المتحدة تدير حالياً العلاقات مع «هيئة تحرير الشام»، وعلى كل من واشنطن والعواصم الأوروبية إتاحة طريقة قانونية لمنظمات الإغاثة للقيام بالتخطيط وتوزيع المساعدات مع مسؤولين على صلة بـ«هيئة تحرير الشام». كذلك، على تلك الجماعة ضمان سلامة مسؤولي منظمات الإغاثة والتعاون معهم. وستكون الخطوة الأولى هي إرسال المنظمات الخاصة التي تعمل في مجال المساعدات الإنسانية، فريق تخطيط إلى شمال غربي سوريا لمقابلة مسؤولين من حكومة الإنقاذ السورية، التي تسيطر عليها جماعة «هيئة تحرير الشام»، والحكومة السورية المؤقتة التابعة للمعارضة.

التحدي الثاني أكبر، ويتمثل في كيفية حماية قوافل المساعدات الخاصة بالمنظمات الخاصة من الهجمات الجوية الروسية والسورية، مثل ذلك الهجوم الذي حدث في سبتمبر (أيلول) 2016. لن يتصدى الأميركيون للقوة الجوية الروسية في المجال الجوي لإدلب. لذا، تحتاج وحدات الجيش التركي المنتشرة في شمال غربي سوريا إلى قدرات دفاع جوي لردع الهجمات الجوية الروسية. وسوف يحتاجون إلى دعم عسكري واضح من العواصم الغربية والأوروبية. مع ذلك، فالعلاقات بين أنقرة والعواصم الأوروبية ضعيفة، وكان آخر مثال على ذلك هو تردد الكونغرس الأميركي في بيع طائرات «إف – 16» المقاتلة إلى تركيا.

ولحماية قوافل المساعدات الإنسانية المتوجهة إلى شمال غربي سوريا، سوف يتعين على واشنطن بوجه خاص، جعل توصيل المساعدات الإنسانية، لا مطاردة فلول تنظيم «داعش» ودعم الدويلات السورية الكردية التي تخضع لقيادة «وحدات حماية الشعب» (واي بي جي)، على قائمة أولوياتها في سوريا.

للأسف، لا يوجد في الوقت الحاضر كثيرون في واشنطن يرغبون في تحديد أولويات السياسة الخارجية، سواء كانت أولويات خاصة بالاستراتيجية العالمية، أو أولويات خاصة بملف سوريا الأصغر.

الوقت ضيق، وديسمبر قد اقترب.

* خاص بـ«الشرق الأوسط»

—————————–

====================

تحديث 29 تموز 2022

——————–

التوتر الروسي الإسرائيلي وسوريا/ محمود سمير الرنتيسي

لم تكن الحرب الروسية في أوكرانيا بداية التوتر في العلاقات الروسية مع الاحتلال الإسرائيلي فثمة عوامل توتر تاريخية سابقة كانت موجودة وحاضرة بالرغم من عدم بروزها لتركيز الطرفين على إدارة مصالحهما، ولكن يمكن القول إن الحرب الروسية في أوكرانيا قد تسلط الضوء على الشقوق الموجودة بل يمكن أن تكون أكبر من مجرد تسليط للضوء في حال حدثت مفاصلة أكبر في المواقف وتبنى كل طرف مواقف تزيد من استياء وإزعاج الآخر وشعوره بالتهديد، ويرجح أن المكان الأول الذي يمكن أن ترى فيه نتائج هذا التوتر هو سوريا.

تدرك روسيا أن دولة الاحتلال الإسرائيلي حليف أساسي لواشنطن في المنطقة ومع ذلك غلّبت روسيا بوتين لهجة المصالح خلال الفترة الماضية خاصة أنه لم يكن هناك تهديد بارز من دولة الاحتلال عليها بل كان هناك مصالح متبادلة كبيرة.

تاريخيا حدث انقطاع في العلاقات مرة عندما قطع الاتحاد السوفييتي علاقاته مع الكيان الإسرائيلي في 1953 بعد تفجير جماعة شتيرن اليهودية مبنى البعثة الدبلوماسية السوفييتية في تل أبيب، وفي 2018 حدث بعض التوتر من جراء تسليم روسيا منظومة إس 300 لسوريا، وقد برزت بعض المؤشرات في 2019 حيث حاول نتنياهو لقاء بوتين لمدة 8 أشهر حتى استطاع بالنهاية تأمين لقاء معه، وقد يشير هذا الأمر إلى تصور بوتين عن دولة الاحتلال والذي ذكر خبراء أن بوتين لا يحمل تصورا جيدا عن العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي وزعمائه.

لقد كان آخر هذه المواقف نهاية شهر يوليو الحالي هو إعراب المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية عن أسفها لمواقف إسرائيل غير البناءة بشأن الوضع في أوكرانيا، وحاليا تدرس الجهات القانونية في روسيا إغلاق مؤسسة الوكالة اليهودية المسؤولة عن هجرة اليهود في روسيا.

وبالطبع فإن موسكو مغتاظة جدا من الموقف الإسرائيلي من الحرب في أوكرانيا، سواء أمنيا وعسكريا من خلال دور الموساد وتسليم جزء من الأسلحة الإسرائيلية في أستونيا إلى أوكرانيا، أو سياسيا وتحديدا من موقف رئيس الوزراء الحالي لابيد التصعيدي ضد روسيا والذي أكد صراحة دعم الاحتلال الإسرائيلي لأوكرانيا كما قام بإرسال وسائل دفاعية وعسكرية إلى أوكرانيا منذ أن كان وزيرا للخارجية في الأشهر الماضية، ولأن روسيا تريد الضغط على إسرائيل لتخفيف الأخيرة من دعمها لأوكرانيا، وفضلا عن الأصول اليهودية والإسرائيلية في داخل روسيا فقد تكون سوريا هي الساحة التي يمكن لروسيا أن تفعل فيها ذلك، وقد لوحظ أن روسيا انتقدت بشدة قصف إسرائيل على مطار دمشق وفي القمة الأخيرة في طهران طالبت روسيا إسرائيل بوقف الغارات الجوية في سوريا.

    وبالطبع فإن موسكو مغتاظة جدا من الموقف الإسرائيلي من الحرب في أوكرانيا، سواء أمنيا وعسكريا من خلال دور الموساد وتسليم جزء من الأسلحة الإسرائيلية في أستونيا إلى أوكرانيا

من الواضح أنه كان هناك تفاهمات بين إسرائيل وروسيا حول قضايا تخص سوريا فلقد تجاهلت روسيا سابقا ضربات إسرائيل على الوجود الإيراني في سوريا كما لم تشعر دولة الاحتلال بالروس كتهديد لها في سوريا بل اعتبرتهم موازنا للوجود الإيراني.

ولكن مع الموقف الإسرائيلي الداعم لأوكرانيا ومع انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا لا يريد بوتين أن تتعرض المكاسب التي حققها في سوريا للخطر وبالتالي كان أول توجه هو منع إسرائيل من مواصلة ضرباتها في سوريا. وبالتأكيد فإن إيران التي تشعر أن روسيا محتاجة لها في ظل الأزمة في أوكرانيا ترى أنه من المناسب أن تضغط على روسيا لتقوم روسيا بدورها بالضغط لمنع الغارات الإسرائيلية. وإذا تدهورت الأمور فإن روسيا ستغض النظر عن بعض الأعمال ضد إسرائيل سواء من الجولان أو من أماكن أخرى من داخل سوريا.

وقد ذكرت تقارير عدة أن روسيا قد تعمل على تحديد مناطق معينة بحد ذاتها تعتبرها حيوية للاستقرار في سوريا وتحذر إسرائيل من استهدافها، أو تقوم بتشغيل منظومات دفاعية لمنع إسرائيل من استهدافها.

لا يتوقع أن تغامر إسرائيل بانتهاك حظر روسي في سوريا ولكن إذا وقع أمر من هذا القبيل فإن هذه ستكون نقطة تحول مهمة. وعند هذه النقطة تحديدا فإن نتيجة مباحثات الاتفاق النووي مع إيران سيكون لها انعكاسات على هذه النقطة حيث إن سيناريو انهيار المباحثات قد يزيد من فرص التصعيد بين إيران وإسرائيل في سوريا وسيكون موقف روسيا على المحك.

أما الأمر الآخر فهو موقف إسرائيل من العقوبات على روسيا فحتى الآن لم تشارك إسرائيل في هذه العقوبات ولكن إذا اكتشفت موسكو أن تل أبيب تلعب دورا تخريبيا ضدها سواء في العلن أو الخفاء فإن الأمور هنا أيضا مرشحة للتصعيد.

على الأغلب أن دولة الاحتلال الإسرائيلي ستعمل على تخفيف حدة التوتر لأنها في حالة مفككة داخليا وبسبب الانشغال الأميركي عن المنطقة، واحتمالات المواجهة مع إيران فهي لن تريد أن تخسر العامل الروسي في هذه المعادلة التي تحافظ على أمنها ولكن خطأ ما هنا أو هناك قد يزيد من الشقوق الموجودة في العلاقة.

تلفزيون سوريا

———————

الولايات المتحدة وروسيا في حاجة إلى بدء الحديث قبل فوات الأوان/ صموئيل شاراب وجيريمي شابيرو.

خدمة «نيويورك تايمز»

في الأشهر الخمسة التي انقضت منذ أن شنت روسيا حربها على أوكرانيا، تعهدت الولايات المتحدة بتقديم نحو 24 مليار دولار مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وهو مبلغ يتخطى 4 أضعاف ميزانية الدفاع الأوكرانية لعام 2021. وتعهد شركاء أميركا في أوروبا وخارجها بمبلغ إضافي قدره 12 مليار دولار، وفقاً لـ«معهد كيل للاقتصاد العالمي».

ومع ذلك، فإن هذه العشرات من المليارات لا تزال أقل من القائمة الطويلة التي تحوي الأسلحة التي ترغب الحكومة الأوكرانية في الحصول عليها، والتي أعلنتها حكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي الشهر الماضي. يعكس هذا الاختلاف بين ما تريده أوكرانيا وما يستعد شركاؤها الغربيون لتقديمه حقيقة أن القادة الغربيين ينجذبون في اتجاهين؛ الأول أنهم ملتزمون بمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد العدوان الروسي، والثاني أنهم يحاولون أيضاً منع الصراع من التصعيد إلى حرب قوى عظمى.

لكن هذا التصعيد، على الرغم من تصاعده واحتوائه حتى الآن في أوكرانيا، فإنه جارٍ بالفعل، إذ يقدم الغرب مزيداً من الأسلحة القوية، وروسيا تطلق المزيد والمزيد من الموت والدمار. وما دام كل من روسيا والغرب عازمين على التغلب على الآخر في أوكرانيا ومستعدين لتكريس احتياطياتهما العميقة من الأسلحة لتحقيق هذا الهدف، فإن مزيداً من التصعيد يبدو أمراً مقدراً.

بكل تأكيد، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الاستمرار في تزويد أوكرانيا بالمواد التي تحتاجها، ولكن ينبغي عليهم أيضاً – بالتشاور الوثيق مع كييف – البدء في فتح قنوات اتصال مع روسيا. ويجب أن يكون وقف إطلاق النار في نهاية المطاف هو الهدف، حتى مع بقاء الطريق إليه غير مؤكد.

إن بدء المحادثات أثناء احتدام القتال سيكون محفوفاً بالمخاطر السياسية، وسيتطلب جهوداً دبلوماسية كبيرة، خاصة مع أوكرانيا، والنجاح ليس مضموناً على الإطلاق. لكن الحديث يمكن أن يكشف عن المساحة المحتملة للتسوية وتحديد طريقة للخروج من المتاهة. خلاف ذلك، قد تؤدي هذه الحرب في النهاية إلى دخول روسيا وحلف شمال الأطلسي في صراع مباشر.

يفترض النهج الأميركي الحالي أن هذا لن يحدث إلا إذا تم منح الأوكرانيين أنظمة أو قدرات معينة تتجاوز الخط الأحمر الروسي. لذلك عندما أعلن الرئيس جو بايدن مؤخراً عن قراره تزويد أوكرانيا بنظام الصواريخ المتعدد الإطلاق الذي تقول كييف إنها في أمس الحاجة إليه، فقد تعمد حجب الذخائر الطويلة المدى التي يمكن أن تضرب روسيا. كان منطلق القرار أن موسكو لن تصعّد – أي لن تشن هجوماً على «ناتو» – فقط حال تم توفير أنواع معينة من الأسلحة أو إذا تم استخدامها لاستهداف الأراضي الروسية. الهدف هو توخي الحذر للتوقف عن هذا الخط مع إعطاء الأوكرانيين ما يحتاجون إليه «للدفاع عن أراضيهم ضد التقدم الروسي»، بحسب بايدن في بيان في يونيو (حزيران).

المنطق مشكوك فيه حيث ينصب تركيز الكرملين تحديداً على إحراز تقدم في الأراضي الأوكرانية. ولا تكمن المشكلة في أن تزويد أوكرانيا ببعض الأسلحة المحددة قد يتسبب في حدوث تصعيد، بل تكمن في أنه إذا نجح دعم الغرب لأوكرانيا في وقف تقدم روسيا، فإن ذلك سيشكل هزيمة غير مقبولة للكرملين. والنصر الروسي في ساحة المعركة غير مقبول بنفس القدر بالنسبة للغرب.

إذا استمرت روسيا في التوغل أكثر في أوكرانيا، فمن المرجح أن يقدم الشركاء الغربيون أسلحة أكثر وأفضل. إذا سمحت هذه الأسلحة لأوكرانيا بقلب مكاسب روسيا إلى خسائر، فقد تشعر موسكو بأنها مضطرة إلى مضاعفة حجمها، وإذا كانت تخسر حقاً، فقد تفكر جيداً في شن هجمات مباشرة ضد «ناتو». بعبارة أخرى، لا توجد نتيجة مقبولة للطرفين في الوقت الحالي. لكن المحادثات يمكن أن تساعد في تحديد الحلول الوسط اللازمة لإيجاد حل وسط.

إن تصميم الغرب وروسيا على القيام بكل ما يلزم للفوز بأوكرانيا هو المحرك الرئيسي للتصعيد. يجب أن يفهم القادة الغربيون أن خطر التصعيد ينبع من عدم التوافق التام لأهدافهم مع أهداف الكرملين. قد تكون معايرة الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا بعناية أمراً معقولاً، لكن من المحتمل أن يكون خارج الموضوع. ما يهم هو تأثير تلك الأسلحة على الحرب، الذي يكاد يكون من المستحيل معرفته مسبقاً.

قد يعني عدم وجود خطوط حمراء روسية دقيقة أن إمداد بايدن بالذخائر الطويلة المدى التي يحجبها لن يكون مشكلة كما كان يُخشى. لكن لو لم يتسبب أي نظام سلاح محدد في حدوث تصعيد كبير، فإن مجرد إلقاء مزيد من الأسلحة وأفضلها من غير المرجح أن يحل المشكلة. من الواضح أن الأسلحة الغربية دعمت الجيش الأوكراني في ساحة المعركة، لكن الروس كانوا على استعداد لمواجهة أي مستوى من الموارد والدمار لتحقيق الانتصار أو على الأقل عدم الهزيمة.

إننا نشهد دوامة كلاسيكية يشعر فيها كلا الجانبين بضرورة بذل المزيد بمجرد أن يبدأ الجانب الآخر في إحراز بعض التقدم. وأفضل طريقة لمنع هذه الديناميكية من الخروج عن نطاق السيطرة بدء الحديث قبل فوات الأوان.

الشرق الأوسط

————————–

قمة جديدة بين تركيا وروسيا في سوتشي.. ماذا ستبحث؟/ رامز الحمصي

بعد أيام من انعقاد قمة طهران الثلاثية التي جمعت كل من رئيس إيران، إبراهيم رئيسي، ونظرائه الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، حيث بحثوا فيما بينهم الملف السوري بشكل رئيسي إضافة إلى ملفات مشتركة أخرى. تنتظر مدينة سوتشي الروسية، انعقاد قمة جديدة؛ ثنائية هذه المرة، تجمع الرئيسين التركي والروسي، في الخامس من شهر آب/أغسطس المقبل.

القمة الثنائية، تأتي في وقت حساس سواء في ظل وجود عدة نقاط خلافية بين الطرفين داخل الملف السوري، أو في التطورات المتوقع أن تشهدها أروقة الملف السوري، وذلك بعد تهديدات تركية بشن عملية عسكرية في مناطق من الشمال السوري قابله رفض روسي، وتصعيد عسكري وسياسي روسي، بدأ في استهداف مناطق من محافظة إدلب، قبل أن يتم تأجيل الجولة التاسعة من اللجنة الدستورية السورية، إلى موعد غير محدد بعد شروط روسية اعتبرها مراقبون بأنها تهدف لنسف هذا المسار.

تسوية خلاف طهران

في السنوات السابقة، لم تحظَ قمة بين بوتين وأردوغان ورئيسي بالاهتمام الذي حظيت به القمة السابقة في طهران، فالقمة السابعة في مسار “أستانا” كانت الأولى بين الرؤساء الثلاثة منذ بداية جائحة “كورونا”، وأول زيارة للرئيس الروسي خارج المنطقة منذ بداية غزو قوات بلاده لأوكرانيا.

عودة انعقاد قمّة جديدة بين بوتين وأردوغان بعد أقل من شهر على لقاء لهما، يقرأه المحلل والسياسي الروسي، أليكاس موخين، كدليل على وجود خلاف عميق لم يُسوّى في القمة السابقة بطهران، ويبدو أن خلاف طهران وأنقرة، هو لب القضية، كون القمة القادمة لم تدع إليها إيران.

وبحسب حديث موخين لـ”الحل نت”، فإن أردوغان خرج خالي الوفاض من القمة السابقة، والتي كان يأمل فيها الحصول على ضوء أخضر للعملية العسكرية في سوريا، والتي كان يروّج لها منذ شهر أيار/مايو الفائت، فالصدام كان واضحا مع طهران بشكل أكبر من روسيا.

ووفقا لتحليل موخين، للموقف بعد القمة الثلاثية في طهران، فإن أردوغان حصل على رسالة واضحة بأن موسكو وطهران وثقا تحالفهما ضده، خصوصا بعد الاتفاق العسكري الذي حصل بين الطرفين، ودخول إيران العسكري في الحرب بأوكرانيا، التي تقف فيها تركيا ضد روسيا، ولذا فإن ذهابه إلى موسكو هو لمحاولة تسوية الخلاف.

مصير عملية تركيا في سوريا

بحسب السفير الروسي لدى أنقرة، أليكسي ييرخوف، سيناقش الزعيمان خلال قمة سوتشي المرتقبة ملفات عدة بشكل أوسع، قياسا بقمة طهران، مشيرا إلى أن الوضع في سوريا، سيكون ضمن أجندة اللقاء.

خلال قمة طهران، أكدت أنقرة مجددا على حقها في “مكافحة الإرهاب” وأن العمليات العسكرية في شمال سوريا لا تزال على جدول أعمالها، وفقا لتصريحات قادة الدول الثلاث قبل وبعد الاجتماع قال أردوغان، في رسالة نصية “سنستأنف قريبا نضالنا ضد الجماعات الإرهابية”.

غير أنه في سياق سياسي، يرى موخين، أن موسكو وطهران أكدتا مجددا الحاجة إلى تهدئة المخاوف الأمنية لتركيا، وشدد بوتين على “ضرورة إعادة كل الأراضي إلى السيادة السورية، بينما حذر رئيسي، من وجود أعمال تتعارض مع السيادة السورية، وأن العملية التركية ستؤثر على تركيا وسوريا والمنطقة، وهذا بدوره يعد “تحذيرا أو تهديدا من طهران إلى أنقرة”، وفقا لحديث موخين.

ونتيجة لهذا فإن البيان الختامي، مثله في ذلك كمثل سابقيه، كان غامضا وتضمن عناصر ربما تستخدم لدعم قصة كل بلد بشكل مستقل. ولكن المتفق عليه طبقا لحديث موخين، أن تركيا لم تنجح في إقناع شريكيها بدعم العملية العسكرية المخطط لها فيما يتعلق بالملف الأكثر أهمية وهو سوريا، على الرغم من أنهما أظهرا فهما لمتطلبات أمنها القومي ورغبة واضحة في سد الفجوة فيما يتعلق في “المنطقة الآمنة” التي تروّج لها.

وعليه، يعتقد موخين، أن نتائج القمة ستنحصر بالإعلان عن اتفاق ثنائي لتصدير الحبوب من أوكرانيا، وتجديد التعاون العسكري والتقني بين البلدين، لمنع صدام عسكري للبلدان الثلاثة في أوكرانيا، خصوصا بعد دخول طهران على خط الحرب هناك.

قمة مفصلية

المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، أعلن يوم الثلاثاء الفائت، أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سيلتقي نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في قمة ثنائية بمنتجع سوتشي يوم الـ 5 من شهر آب/أغسطس المقبل، حيث يعقدان جلسة مباحثات.

وأعلن بيسكوف، أمس الأربعاء، أن الكرملين لا يستبعد أن تناقش روسيا وتركيا خلال لقاء سوتشي التعاون العسكري التقني وتنفيذ “صفقة الغذاء”، مضيفا أن “الوضع في سورية وأوكرانيا والبحر الأسود” سيكون ضمن الموضوعات الرئيسية خلال هذه القمة.

من جانبها، ذكرت صحيفة “ملييت” التركية، أن الرئيسان سيناقشان خلال قمة سوتشي موضوعات مكافحة “الإرهاب” في سوريا، إلى جانب العملية العسكرية التركية شمالي البلاد، ضد “وحدات حماية الشعب” و” قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي ستكون على رأس جدول الأعمال.

وتهدد أنقرة، بأن عمليتها العسكرية سوف تنطلق “في أي وقت”، حسبما ورد على لسان المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، أمس الأربعاء.

من جانبه، ذكر وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، أمس الأربعاء، أن مركز تنسيق الحبوب في مدينة إسطنبول بدأ عمله، من أجل تأمين نقل الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود. وبحسب آكار، فإن مدة الاتفاقية 120 يوما فقط، وستبقى حيز التنفيذ طالما لم يطالب أحد الأطراف بإنهائها، ومن المقرر نقل 25 مليون طنا من الحبوب العالقة بموجب تلك الاتفاقية.

إلا أن الملف الأبرز، هو ما ذكره موقع “سي إن إن” الناطق بالتركية، حول أن بوتين، عرض على نظيره التركي، إنشاء مصنع لإنتاج طائرات بدون طيار في روسيا، من قبل شركة “بايكار ماكينا” التركية.

الجدير ذكره، أن القمة الثلاثية التي عُقدت في طهران، في التاسع عشر من الشهر الحالي لم تتمكن من إزالة الخلافات بين الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، على الرغم من أن البيان الختامي الذي جاء روتينيا، في محاولة لإظهار اتفاق الدول، في الوقت الذي حملت المباحثات خلافات تبدو عميقة بينها، وخاصة في الملف السوري.

ففي سوريا، تحاول كل من هذه الدول تحقيق مصالحها بالتنسيق مع الدول الأخرى، إلا أن بعض القضايا في الملف السوري تشكل نقاطا خلافيا لا يبدو أنه سيتم التوصل إلى حلها بسهولة، مع تعقيدات بالغة في بعضها الآخر، وخاصة الاستهداف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية في سوريا.

الحل نت

———————–

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

===================

تحديث 07 آب 2022

—————————

روسيا في سورية بعيون غربية .. “واجب التدخل” لحماية نظام يقتل شعبه/ نبيل الخوري

إذا كان هناك مآخذ على الغرب بسبب سياساته الانتقائية وتصرفاته وفق منطق ازدواجية المعايير في التعامل مع المشكلات والأزمات الدولية، فإن أسباب المآخذ على روسيا تتمثل في انقلابها الكليّ على المعايير، وفق ما تظهره ليس حربها ضد أوكرانيا وحسب، بل قبل ذلك سياستها بشأن سورية منذ العام 2011 أيضاً. هذا التصرّف يعرّضها لنقد لاذع في الأوساط الفكرية والأكاديمية العالمية، سيما في الغرب، حيث تبقى الحريات الأكاديمية ميزة، قد يتجرأ بعضهم على إساءة استخدامها، لكن أحدا لا يستطيع انتهاكها.

الدبلوماسية الروسية لم تعش، على غرار الدبلوماسيات الغربية، الهاجس الأخلاقي بشأن ما يسمّى “واجب التدخل”. بينما احتاج السوريون لتدخل دولي لحمايتهم من آلة قمع مروّعة قضت على ثورتهم وطموحهم بالتغيير السياسي الديمقراطي، فإن النظام الاستبدادي هو الذي حَظِيَ، أولاً، بـ”درع حماية دبلوماسية”، على حد تعبير المدرّس في جامعة أكسفورد، روي أليسون (Roy Allison)، في مقالة بعنوان “Russia And Syria: Explaining Alignment With a Regime In Crisis”، نشرتها مجلة International Affairs، في 2013. ثم نَعِمَ بحماية عسكرية تالياً. في سورية، لم تطرح روسيا على نفسها ذلك السؤال المحوري في فلسفة العلاقات الدولية، بحسب الباحث الفرنسي، فريدريك راميل (Frédéric Ramel)، حول ما إذا كان يتوجب، من الناحية الأخلاقية، القيام بتدخل عسكري خارجي من أجل حماية سكان بلد ما من القمع والتنكيل على يد النظام الاستبدادي الحاكم في هذا البلد؟ [1]على العكس، بدت وكأنها تروّج، بالأفعال، ما لم يكن بالأقوال، لمقولة أخرى أو بالأحرى لواجب آخر: واجب التدخل لحماية نظامٍ يقمع شعبه وينكّل به.

تضطلع روسيا، من دون أي تردّد، بهذا النسف الواضح لأهداف القانون الإنساني الدولي، من خلال دعمها لنظام بشار الأسد وحمايته له في مجلس الأمن منذ العام 2011، ثم من خلال تدخلها العسكري المباشر في الحرب السورية منذ 2015، والذي يدخل عامه الثامن في الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)

أحكام تخفيفية؟

للوهلة الأولى، تبدو بعض التفسيرات الغربية للتصرف الروسي وكأنها أحكام تخفيفية أو محاولة تنمّ عن تفهّم ما له، من دون أن يعني ذلك مصادقةً عليه، فيُقال مثلاً إن ما قامت به موسكو في سورية يندرج عموماً في خانة عقيدتها المناقضة لما تعتبره “تدخلا دوليا” في الشؤون الداخلية للبلدان، كما يذكر الباحثان، جيل أندرياني (Gilles Andréani)، وبيار هاسنر(Pierre Hasner)، في كتابهما “Justifier la guerre?)، الصادر في باريس سنة 2013. بمعنى آخر، هو ردّ على سياسة “تغيير النظام” التي طبقتها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيين في ليبيا سنة 2011، كما يعود ويشير أليسون. حينها، شعرت موسكو بـ”خيانة” الغربيين لها، بحسب وصْف الباحث ديديي بيليون (Didier Billion)، في كتاب له عن “جيوبوليتيك العالم العربي”، الصادر بالفرنسية في باريس سنة 2018. أما الذريعة التي استندت إليها فتتمثل بالالتفاف الغربي على القرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن، وأسقطوا النظام الليبي من دون تفويض أممي، وفق ما يشير إليه الدبلوماسي والباحث الفرنسي، شارل تيبو (Charles Thépaut)، في كتابه الصادر في باريس سنة 2017، بعنوان “Le monde arabe en morceaux. Des printemps arabes à Daëch”.

تعطي تبريراتٌ كهذه انطباعاً بأن روسيا هي الحريصة على المعايير الدولية. ولكن هل أنّ قطْع الطريق على فكرة إسقاط النظام السوري، بواسطة تدخل غربي، يبرّر امتناع روسيا عن القيام بأي فعل من شأنه ردع هذا النظام عن ارتكاب الجرائم والمجازر بحق شعبه، وتهجيره؟ ناهيك بالامتناع عن أي إجراء يهدف إلى معاقبته على أفعاله؟ يتعلق الأمر إذاً بـ”سقطةٍ” أخلاقية لا يمكن تبريرها بحسابات جيوسياسية، كالقول مثلاً، بحسب المؤرّخ والجامعي الروسي المقيم في باريس منذ 1990، أندريه غراتشيف (Andreï Gratchev)، إن روسيا أرادت أن تكون ذلك اللاعب العازم على مواجهة “النظام الدولي الذي فرضه الغربيون”[2]، عبر ما يسمّى “محور الرفض: رفض الغرب”، وفق تعبير رئيس تحرير مجلة “Politique étrangère”، دومينيك دافيد (Dominique David)، في مقالة له عنوانها (Vivre avec la Russie)، نشرها في المجلة نفسها، ربيع 2017. وتلك السقطة لا يمكن السكوت عنها بمجرّد أن ما فعلته روسيا يندرج في إطار الانتقام الاستراتيجي من الغربيين بسبب تجاهلهم لها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، على حد توصيف الباحثين الفرنسيين، أوبير فيدرين (Hubert Védrine)، وباسكال بونيفاس (Pascal Boniface)، في أطلسهما عن الأزمات والصراعات في العالم، الصادر في باريس سنة 2016. حتى الحديث عن أهدافها المتمثلة في “منع الجماعات الجهادية السورية والعراقية من الانتشار” في مناطقها التي تضم مسلمين، كما يقول وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في كتابه (World Order)، الصادر في نيويورك سنة 2016، أو حتى الإشارة إلى غاية روسيا تتمثل في “حماية المؤسسات الدولتية السورية”، كما يفعل الباحث جيل كيبيل (Gilles Kepel)، في كتاب بعنوان (Sortir du Chaos. Les crises en Méditerranée et au Moyen-Orient)، الذي صدر في باريس سنة 2018، لا يُراد منهما تبرير التغطية الروسية لجرائم النظام السوري. وهذا ما دفع المحللين إلى بناء سردية مختلفة للدور الروسي في سورية. سردية لا تحتكم فقط لمنطق التحليل الواقعي (غير التبريري) في العلاقات الدولية، بل للمنطق الأخلاقي.

لاعب متمرّس بالحروب القذرة

هكذا، بدأ توجيه الاتهام لروسيا بأن حساباتها غير مستقيمة، غير أخلاقية، وتفتقد للواقعية، فضلاً عن أنها تدعم نظام تُدينه محكمة التاريخ؛ إذا كان هناك إقرار بأن روسيا “تعرضت للإهانة” في البلقان (خلال حرب كوسوفو سنة 1999)، وفي ليبيا سنة 2011، إلا أن هذا لا يبرر لها أن تستخدم قدرتها على “إلحاق الضرر” وأن تكون “سعيدة” بمنع مجلس الأمن من إدانة مجازر النظام السوري، بحسب ملاحظات وانتقادات الباحث دومينيك مويزي (Dominique Moïsi)، في مقالات له في صحيفة “ليزيكو” الفرنسية (Les Echos)، عاد ونشرها في كتاب بعنوان (Le nouveau déséquilibre du monde) سنة 2017.

المقاربة الغربية للسياسة الروسية حيال سورية لا تتجاهل أن حماية النظام ثم منع سقوطه في العام 2015، يرتبطان أولاً بالطموح التاريخي للوصول إلى البحار الدافئة، وثانياً بمصالح موسكو النفطية والغازية. هذان الدافعان كانا يتطلّبان أن تحافظ روسيا على موطئ قدم لها في منطقة البحر المتوسط، مع ما يتيحه لها ذلك من تعزيز قدرتها على التحكّم بطرق إمدادات مصادر الطاقة من الشرق الأوسط إلى أوروبا. لكن تحقيق مُرادها كان مكلفاً على صعيد سمعتها أو صورتها في العالم، لأن اسم روسيا بات يرمز إلى لاعبٍ لديه “تجربة في (خوض) الحروب القذرة”، التي جرى اختبارها في الشيشان وتطبيقها من جديد في سورية، على حد تعبير وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، دومينيك دوفيلبان، صاحب الخطاب الشهير في مجلس الأمن ضد التدخل العسكري الأميركي في العراق في العام 2003، وذلك في كتاب مذكّراته “Mémoire de paix pour temps de guerre”، الصادرة في باريس سنة 2016.

المعضلة الروسية

بالطبع، كانت حسابات الرئيس الروسي بوتين أبعد من مجرّد التفكير بهاجس حماية صورة روسيا من التشويه. كان “استعراضه القوة” في سورية يهدف، بحسب ما ورد في مقالة للكاتب الروسي فيودور لوكيانوف في مجلة “Foreign Affaires” سنة 2016، إلى جرّ الغربيين إلى التفاوض معه على قدم من المساواة[3]. كذلك، أراد الرئيس الروسي أن يقول لهؤلاء إن من غير الممكن حل أي مشكلة في الشرق الأوسط “إذا تم استبعاد روسيا”[4]، وفق تأكيد الباحثة الروسية إكاترينا ستيبانوفا، في مقالة لها نشرتها مجلة “Politique étrangère” سنة 2016 أيضاً. بيد أن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر. وسرعان ما بدأت روسيا تصطدم بمحدودية انتصاراتها في سورية، على الرغم من نجاحها في حماية نظام الأسد أو في تحقيق أهداف الإستراتيجية الأخرى. في الواقع، لقد انقلب السحر على الساحر. هذا ما تظهره عملية الرصد والتحليل التي يقوم بها باحثون غربيون، لأن روسيا باتت تواجه معضلةً في سورية نتيجة عجزها هي عن حل الصراع السوري، من دون التفاوض مع الغربيين، ونتيجة حاجتها للتوافق مع كل اللاعبين الإقليميين والدوليين المؤثرين في هذا الصراع، والذين لديهم مصالح وأهداف لا يمكن التوفيق في ما بينها، لا سيما إيران وتركيا وإسرائيل، كما يعود ويكتب جيل كيبيل في كتابه.

أكثر من ذلك، ظهور روسيا بمظهر اللاعب العاجز أمام الغربيين في سورية عندما ينوي هؤلاء القيام بعمل حازم هناك، ساهم في كسر صورتها أمام العالم. حصل ذلك في شهر أبريل/ نيسان 2018، حين نفذت القوات الأميركية، بالاشتراك مع القوات البريطانية والفرنسية، هجوماً صاروخياً ضد جيش النظام السوري، إثر هجمات كيماوية في مدينة دوما في منطقة الغوطة الشرقية. لم يكن هدف الغربيين معاقبة نظام الأسد وحده في هذه العملية العسكرية، بل أرادوا أيضاً إفهام روسيا بأنها “ليست القوة الوحيدة التي تتحكم بتطوّر الوضع الميداني” السوري[5]، بحسب ما ورد في مقالة في مجلة “لوموند ديبلوماتيك”، سنة 2018، للأكاديمي الروسي، العامل في مؤسسات بحثية دولية وغربية عدة، نيكولاي كوزانوفا. هذه الضربة فاقمت من المعضلة الروسية. فهي بدت عاجزة عن حماية النظام السوري، عندما قرّر الأميركيون التحرّك، وأعطت مؤشّرا على عدم رغبتها بحصول أي تصعيد باتجاه تدويل الصراع السوري، لأن “لديها الكثير لتخسره”، وفي الوقت نفسه، هي غير قادرة على الانسحاب من سورية من دون أن يتسبّب ذلك بإساءة لهيبتها أمام الرأي العام الروسي والعالمي، بحسب ما يلاحظ كل من الجامعي والباحث في معهد العلاقات الدولية في براغ، إميل سليمانوف (Emil A. Souleimanov)، الباحث في جامعة Kansas في الولايات المتحدة، فاليري دزوتساتي (Valery Dzutsati)، في مقالة لهما نشرتها مجلة “Middle East Policy”، سنة 2018، بعنوان (Russia’s Syria War: A Strategic Trap?).

أضرار معنوية

للتخفيف من وقْع هذه المعضلة ولتجنّب الأسوأ، تمسّكت روسيا أكثر فأكثر بتحالفها مع إيران في سورية، حتى لو أدى ذلك إلى إطالة أمد الأزمة، فانفتاح موسكو على جميع اللاعبين المعنيين بهذه الأزمة لم يؤد إلى تخليها عن تقاربها الحيوي مع طهران، بحسب توصيف الباحثة في معهد واشنطن، آنا بورشيفسكايا، في مقالة لها نشرتها مجلة “Middle East Quarterly”، سنة 2018، تحت عنوان “Moscow’s Middle East Resurgence Russia’s Goals Go Beyond Damascus”.

كذلك، خيّبت موسكو آمال كل من كان يتوقع أنها مستعدّة يوماً ما للتضحية برأس النظام، أي ببشار الأسد، بعد ضمان مصالحها. على العكس، صدقت التقديرات أن القوات الروسية فعلت كل شيء من أجل تحقيق هدفين: جعل الواقع غير ملائم بالمطلق للمعارضة المسلحة السورية، وتجنّب أي حل سياسي من دون الأسد، أي قطع الطريق على الحل الذي يريده الغربيون، كما يقول الباحث سفانت كورنيل (Cornell Svante E.)، في مقالة له بعنوان “The Fallacy of ‘Compartmentalisation’: The West and Russia from Ukraine to Syria)، نشرتها مجلة “European View”، سنة 2016. ولهذا التصرّف تفسير مفاده بأن حماية الأسد تعني حماية روسيا (وفق المنظور الجيوسياسي)، على حد تعبير بورشيفسكايا. لكن من شأن هذا الخيار الذي يكرّس معادلة الإجرام بحق الشعب السوري والإفلات من العقاب، أن يشوّه أكثر فأكثر سمعة روسيا دولياً. بمعنى آخر، كل مكسب مادّي حققته روسيا بفضل سياستها هذه، يقابله ضرر معنوي لا يمكن تجاهله.

في المحصلة، يَعتبر بعضهم أن التحليلات السياسية للدور الروسي في سورية، وتتداولها أوساط ومؤسسات أكاديمية وبحثية غربية، تفتقد للموضوعية بمجرّد أنها غربية. لكن هذه التحليلات لا تتعامل بمنطق نقدي مع هذا الدور حصرياً، بل هي لا ترحم أدوار الدول الغربية وتصرفاتها نفسها، التي يحفل تاريخها بالأخطاء والارتكابات. وعليه، تبقى الحقيقة أن قراءة السياسة الروسية في سورية، من منظور أكاديمي، تؤدّي إلى تعريتها، ونزع مصداقية روسيا على الساحة الدولية، فهي تزعم أنها تتدخل عسكرياً في أوكرانيا “لحماية” السكان في شرق هذا البلد، بينما تدافع عن نظام اضطهد ولا يزال يضطهد شعبه، وارتكب واحدةً من أكبر الجرائم في التاريخ. وهي بذلك تضرب بعرض الحائط كل المعايير الدولية والقانون الإنساني الدولي.

[1] Frédéric Ramel, Attraction mondiale, Paris, Presses de Sciences Po, 2012, p.. 22.

[2] Andreï Gratchev « La Russie à la recherche de sa grandeur perdue », In Bertrand Badie, Dominique Vidal (dir.), Qui gouverne le monde. L’état du monde 2017, Paris, La Découverte, 2016, pp. 214-223., p. 215.

[3] Fyodor Lukyanov, “Putin’s Foreign Policy. The Quest to Restore Russia’s Rightful Place”, Foreign Affaires, May-June 2016, 95(3), pp.30-37.

[4] Ekaterina Stepanova, « La Russie a-t-elle une grande stratégie au Moyen-Orient », Politique Étrangère, 2016/2 (Été), pp. 23-35.

[5] Nikolaï Kožhanov, « Que cherche la Russie au Proche-Orient ? Succès militaires, casse-tête géopolitique », Le Monde Diplomatique, Mai 2018, pp. 4-5.

العربي الجديد

——————————

طرطوس في عقيدة بوتين البحرية/ عمر قدور

انطلاقاً من القاعدة العسكرية البحرية في طرطوس، يطمح بوتين إلى إنشاء قواعد أخرى في المتوسط وفي البحر الأحمر، وصولاً إلى الخليج، إذا أمكن. هذه ليست تكهنات، هي أهداف في العقيدة البحرية الروسية الجديدة التي وقّع عليها بوتين يوم الأحد الفائت، من ضمن الاحتفالات بيوم البحرية، والوثيقة الجديدة معلنة على منصة المعلومات الحكومية الرسمية.

تشير الوثيقة إلى طرطوس بوصفها المركز اللوجستي الأساسي التابع للبحرية في المنطقة، مع الهدف المتمثل بإنشاء مراكز دعم أخرى يُستنتج أنها أقل أهمية بحكم عدم وجود بلدان مؤهلة لتوقيع اتفاقيات مماثلة. بموجب نص الوثيقة: “في البحر الأبيض المتوسط من المتوخى ضمان الوجود البحري للاتحاد الروسي على أساس دائم في البحر الأبيض المتوسط انطلاقاً من اتفاق الوجود على أراضي الجمهورية العربية السورية، وإنشاء وتطوير مراكز دعم لوجستية أخرى للأسطول على أراضي دول أخرى في المنطقة”.

الجديد في الأمر وضعُ طرطوس، لأول مرة على هذا النحو، ضمن عقيدة البحرية الروسية، ومنحها مكانة رئيسية لدعم الوجود الدائم في المتوسط، مع تشديدنا على تعبير “الوجود الدائم” المتصل في هذا السياق بوجود طويل الأمد في طرطوس. فقبل خمس سنوات تم توقيع اتفاقية توسيع القاعدة العسكرية، لتنتقل فعلياً مما يشبه مركزاً متواضعاً لصيانة السفن الحربية إلى قاعدة بحرية متكاملة، بما في ذلك القدرة على استقبال الطرادات النووية بموجب عقد مدته 49 سنة، يُجدد تلقائياً لمدة 25 سنة ما لم يطالب أحد من الطرفين بإنهائه مع انقضاء مدته الأصلية.

يُذكر أن وضع العقيدة الجديدة أتى على خلفية الاشتباك الروسي-الغربي في أوكرانيا، وهي تُنذر ببدء استخدام الصواريخ فوق الصوتية ضمن الأسطول الروسي، والأهم أنها تنذر بمواجهة ما تصفه تهديدات للغرب أو الناتو في مختلف البحار والمحيطات. هذا سبب إضافي لإعطاء طرطوس مكانة أكبر من قبل، بوصفها الموطئ الأهم للقدم الروسية في “المياه الدافئة” التي كان الوصول إليها حلم القياصرة.

إدخال طرطوس ضمن الاستراتيجية العسكرية الروسية ينطوي على النظر إلى باقي سوريا من الزاوية نفسها، أي كجزء من المجال الحيوي الروسي، وإن لم تكن سوريا بأكملها، فعلى الأقل سوريا التي تتضمن الساحل وصولاً إلى العاصمة دمشق. بعبارة أخرى، لن تسمح موسكو بوجود حكم في دمشق لا يقبل ببقائها في طرطوس “وحميميم أيضاً”، سواء ضمن الترسيمة الحالية لتقاسم النفوذ في سوريا، أو ضمن تسوية نهائية بين الدول الضالعة في الشأن السوري.

ورغم ما نعرفه عن ممانعة موسكو التغيير في سوريا، تحت مختلف الذرائع مثل “احترام سيادة الدول”، فإن النظر إلى الممانعة ينبغي أن يكون أكثر جدية، إذ من المستحيل قبول موسكو بتحول ديموقراطي في سوريا. لن تقبل موسكو بمثل هذا التحول لأنه يُنذر سلفاً بمجيء حكومة تطالب بإنهاء الوجود العسكري الروسي في سوريا، ما بات منافياً للعقيدة البحرية الروسية. هذا وإن كان معلوماً منذ توقيع اتفاقية التوسيع قبل خمس سنوات إلا أنه اليوم يأخذ صفة التأكيد الاستراتيجي، وفي توقيت تُظهر فيه موسكو عزماً أشدّ على الاحتفاظ بمناطق نفوذها للقول أن المستنقع الأوكراني لم ينل منها كقوة عظمى.

في الواقع، موسكو غير مضطرة للتحدي في سوريا، فخلال حرب بوتين الأوكرانية لم تتعرض لأي استفزاز أمريكي في سوريا، والتنسيق الميداني بين الجانبين لم يتوقف، وربما كذلك هو حال التنسيق على مستويات متعددة، منها اتفاق الجانبين حتى الآن على رفض التهديدات التركية بعملية عسكرية. وواشنطن سبق أن تخلت عن تهديد منطقة نفوذ موسكو الكبرى، أي تلك التي اسمياً تحت سيطرة الأسد، وكذلك هو حال عموم الغرب الذي ليس له مطامع في سوريا، مع تفضيله لعملية سياسية تعيد تدوير النظام من دون الأسد.

استطراداً، لا تثير القاعدة البحرية في طرطوس حساسية واشنطن، ولا يبدو أنها تأخذها على محمل التهديد، أو حتى التنافس الاستراتيجي. الاطمئنان الأمريكي الدائم مردّه القناعة بوجود تفوق عسكري مطلق، وأن الصناعات الحربية الروسية غير قادرة على مقارعة نظيرتها الأمريكية في أي اشتباك بين الجانبين. كان تدمير الطراد موسكوفا الملقّب بـ”قاتل حاملة الطائرات”، بقصف من القوات الأوكرانية، آخر الإشارات على أحوال البحرية الروسية.

لا يخدم التفوق العسكري الأمريكي الحاسم تلك التمنيات المتعلقة بحدوث اشتباك أمريكي-روسي، تخسر بمحصلته روسيا مكانتها الدولية لمرة أخيرة. تكتفي واشنطن بالمستنقع الأوكراني، وهو قد يكون أشد تأثيراً من نظيره الأفغاني على الاتحاد السوفيتي آنذاك، بينما بقيت فرضية تحويل سوريا إلى مستنقع للقوات الروسية حلم يقظة يراود بعض المعارضين السوريين ليس إلا.

السوريون معنيّون مباشرة بالعقيدة البحرية الروسية المعلنة، لتأثيراتها على مجمل قضية التغيير في سوريا. هذه العقيدة تؤكد على استحالة حدوث ما لا ترغب فيه موسكو، على الأقل لأربعة عقود ونصف مقبلة “هي المدة المتبقية من اتفاقية قاعدة طرطوس”، وذلك في غياب أية قوة دولية وازنة معادية لموسكو. وهو بدوره ما يطرح أسئلة على هيئات المعارضة السورية الحالية، أو التي قد تؤسَّس في السنوات المقبلة.

من الأسئلة المطروحة، الاضطرار للتواصل مع موسكو من دون امتلاك أوراق قوة، بينما تتوسع السيطرة الروسية على المفاصل العسكرية والمخابراتية في دمشق. وفي الأسئلة أيضاً، استحالة الجمع واقعياً بين مطلب تنحية الأسد ومطلب خروج قوات الاحتلال الروسي، مرة أخرى بغياب دعم خارجي وازن. أما منافسة الأسد، من بوابة القبول بما قبل به من وصاية خارجية، فهي خاسرة لأن موسكو اختبرت الأسد وليس هناك ما يدعوها إلى المخاطرة ببديل لم تختبره من قبل، إذا لم نأخذ في الحسبان وجود بدائل لديها مهيَّأة برعايتها إذا طرأ في مصالحها ما يستوجب تنحية الأسد.

تعيد العقيدة البحرية الروسية التذكير بجانب أساسي، في وقت يبدو فيه الاستحقاق الروسي خارج اهتمامات المعارضة السورية. الشائع أن التخلص من الأسد سيكون العتبة الأهم لمعالجة باقي الاستحقاقات، إلا أن مصيره متعلق على نحو وثيق بتلك الاستحقاقات المؤجلة. الدب الروسي، المعروف ببطئه وقلة مرونته، ينفرد ويسبق بوضع سوريا ضمن حساباته الاستراتيجية؛ إنه أولاً “وربما أخيراً” يسبق بنصف قرن أصحاب الشأن من السوريين.

المدن

—————————

“البوتينية”..أيديولوجية روسيا الجديدة/ بسام مقداد

على الرغم من أن الدستور الروسي يحظر إلتزام الدولة بأية أيديولوجيا، إلا أنه ومنذ سقوط الإتحاد السوفياتي والنقاش بشأن الأيديولوجيا محتدم في روسيا: هل هي بحاجة إلى أيديولوجيا، وما هي هذه الأيديولوجيا إن كانت بحاجة إليها، هل جميع البلدان المتطورة تمتلك إيديولوجيا، أم من يمتلكها مذموم ويشكل خطراً على شعبه مستقبله ومحيطه، وسواها الكثير من الأسئلة. 

الأدلجة الصارمة المتزمتة لسائر مجالات الحياة في الإتحاد السوفياتي، أثار إنهيارها ردة فعل سلبية على الأيديولجيا، ليس لدى الروس فحسب، بل أصبحت بمثابة الشتيمة حتى على مستوى العلاقات الفردية. فالشخص المؤدلج أصبح مذموماً ومتهماً بالإنفصال عن الواقع وعصياً على المناقشة وتبادل الآراء، ويتمسك بأيديولجيته التي هي “دائماً على حق”. الجدال بشأن الإيديولوجيا في روسيا يتجاوز هذا الإتهام للفرد الذي يحمل قدراً كبيراً من الصحة يضيّق حيز النقاش فيه، ويدور حول حاجة روسيا، أو انتفائها، إلى الأيديولوجيا. وجاءت الحرب على أوكرانيا ــــ “العملية العسكرية الخاصة” ــــــ لتطرح بقوة مسألة وجود ايديولوجيا تعزز تبرير الحرب وتقدم للروس مسوغاً لتحمل العقوبات القاسية والالتفاف حول قيادتهم، وتجعل الجدل الأيديولوجي أكثر احتداماً وإلحاحاً.

آخر الشهر المنصرم نشرت صحيفة القوميين الروس SP نصاً بعنوان “أي أيديولوجيا تحتاجها روسيا؟”. يقول كاتب النص منسق حركة “الجبهة اليسارية” أنه بعد إنطلاق “العملية الخاصة” في الدونباس تجدد النقاش وتكثف بشأن ضرورة صورة جذابة للمستقبل وأيديولوجيا جديدة لروسيا. ويحضر هذا النقاش في جميع وسائل التواصل الإجتماعي وفي كل برنامج بروباغنديي الكرملين الأبرز، ويردده الخبراء، لكن كثرة الحديث عن الحاجة إلى أيديولوجيا جديدة لن يخلق أيديولوجيا، وما كثرة الحديث عنها سوى دعم معنوي للشرائح المتنورة في المجتمع الروسي. لكن لا الغرف السرية للسلطة ولا عبقريي العلوم الفلسفية قادرون اليوم على صياغة أيديولوجيا جديدة لروسيا. وينقل عن بوليتولوغ روسي قوله “ها نحن نشهد من جديد محاولة إختراع الدراجة الهوائية”، فالأيديولوجيات الرئيسية متشكلة منذ زمن طويل، ومروحة الإختيار واسعة: من الشيوعية والليبرالية حتى الفاشية والمحافظة conservatism.

وبعد أن يستبعد الفاشية ويستعرض في شرح مطول المحافظة والليبرالية التي وقف أتباعها ضد “العملية الخاصة” وأصبحوا “خونة وطنيين”، يقول بأنه لم يتبق من بين الأيديولوجيات سوى الأيديولوجيا الشيوعية المتأقلمة مع الظروف المعاصرة.

أوائل حزيران/يونيو المنصرم نشرت الصحيفة الرسمية للحكومة الروسية RG حصيلة طاولة مستديرة عقدها معهد خبراء البحوث الإجتماعية بعنوان “أي أيديولوجيا نحن بحاجة إليها”. يقول النص بأن البحث عن أيديولوجيا جديدة أو عقيدة قومية يتواصل في روسيا منذ أن إتضح أن الأفكار الشيوعية قد فقدت مواقعها في الوعي الإجتماعي. في أواخر الثمانينات جرت نقاشات مهمة تمحورت حول: من نحن، إلى أين نحن، لماذا نحن. لكن هذه النقاشات إنقطعت مع إنهيار السوفياتي، وتخطاها السؤال ليصبح حينها “كيف نبقى على قيد الحياة”. واعتبر سكان الإتحاد السوفياتي السابق أن من الأفضل سلوك الطريق التي عبدتها البلدان الغربية.

أحد الخبراء رأى أن الوقت قد حان لاستكمال ما انقطع، سيما أنه لم يعد هناك من طرق معبدة ولن تكون، والعالم كفّ عن أن يكون واحداً وسوف يتشظى أكثر لاحقاً. واعتبر أن على الروس أنفسهم أن يحددوا ما الذي يجب أن يقوموا به، من دون أن يلزموا أحداً بشيء، وسيحدد الأخرون في ما بناه الروس النقطة التي يرتكزون إليها لبناء العلاقات مع روسيا.

خبير آخر اقترح إستبعاد مفهوم الأيديولوجيا عن النقاشات والتركيز على القيم المشتركة المهمة لجميع الروس. هذه القيم مرتبطة جداً بالمحافظة: العائلة، السيادة ، التضامن، وهي القيم التي تصف كيف ينبغي أن يكون المجتمع لكي تبقى روسيا قوية، متمتعة بسيادتها، وأن تستمر بالوجود، بل “الوجود الجيد إن أمكن”. لكن هذه القيم لا ينبغي أن تغتني بالمحافظة فقط، بل عليها أن تدور أيضاً حول المستقبل وصورته، وكيف على الشعب الروسي أن يبلغه. على هذه القيم الأيديولوجية أن تبدو كدولة إقتصاد إجتماعي قوي، لكنه عادل.

يضيف الخبير الأول أن على الروس أن يحدوا من التلفت على الجوانب، وأن يخفضوا إلى الحد الأدنى المكون السياسي الخارجي في قيمهم. فالسياسة الخارجية، برأيه، بقيت طويلاً تحل محل  المهم لتطور روسيا كمجتمع ودولة ونظام قادر على الخلق. الأيديولوجيا يجب أن تكون مرتبطة بحل المهمات الوطنية، لا الإلتفات “كيف ينظرون إلينا في العالم”. إذا كانت روسيا تسعى للنجاح في تنفيذ مهماتها والصمود تحت وطأة الضغوط غير المسبوقة، فهذا وحده يؤثر على النظام العالمي وعلى علاقات الشركاء الخارجيين بروسيا. والفشل على جميع هذه الإتجاهات يعني أن النظام العالمي سوف يبنى بمشاركة روسيا المنخفضة لأقصى الحدود.

موقع  Kasparov المعارض نشر في 18 الشهر المنصرم نصاً بعنوان “عبادة بوتين”، وأردفه بآخر ثانوي “في روسيا يقترحون خلق أيديولوجية “البوتينية”. قال النص بأن فيلسوف بلاط الكرملين ألكسندر دوغين دعا لترسيخ “البوتينية “مؤسساتيا” كأيديولوجيا رسمية. وينقل عن مركز Center for European Policy Analysis قوله بأنها ليست السنة الأولى التي توجد في روسيا عبادة حقيقية لبوتين.

ألكسندر دوغين يدعو منذ عشرات السنين لأيديولوجيا “أوراسية” في روسيا. وأفصح أوائل الشهر المنصرم عن أن ما يقصده بهذه الأيديولوجيا هو “مأسسة نهج بوتين، وليس فقط الولاء الشخصي له”.

يرى النص أن “البوتينية كأيديولوجيا” موجودة في روسيا منذ سنوات عديدة. وينقل عن بروفسور جورجي وصفه لمراحل وطرق تشكيل عبادة بوتين منذ العام 2014 على يد الميديا بروباغندا. فقد بدأت العملية بإطلاق البروباغندا وفرض الرقابة الرسمية، ثم تبعها تشكيل صورة بوتين “الزعيم”: بوتين لاعب الجيدو، البطل الخارق، المؤمن المسيحي وهكذا دواليك. ويضيف البروفسور إلى هذه العملية خلق المنظمات الشبابية الموالية للكرملين مثل “الحرس الشباب” و”جماعتنا”.

في العام 2011 كانت لا تزال مسألة وجود عبادة لبوتين موضع جدل. وكان معظم المحللين في تلك الفترة  يفترض أنه كان يمكن الحديث عن “هوس بوتين” منذ بداية عهده، لكن الهوس كان يختلف عن عبادة ستالين التي كانت قائمة على الخوف  والتبجيل.

يستعرض الموقع كيف تطورت عبادة بوتين من “إذا لم يكن بوتين فمن غيره؟”، “لا بوتين، لا روسيا” إلى ترسيخه، بعد غزو أوكرانيا، في صورة “القيصر” و “القائد الإعلى” الذي لا يخطئ وينبغي أن تكون هيبته خارج كل نقاش. البروباغنديون أخذوا يتحدثون عن النظام السياسي الروسي التليد الذي يلعب فيه القيصر الدور الرئيسي مستنداً إلى تطلعات الشعب. ويجري تصوير بداية الحرب على أوكرانيا في هذا النظام بأنه “قرار قيصري حقاً، كان الشعب ينتظره من السلطة.

يقول الموقع أنه إستناداً إلى كل ذلك، من الصعب التصور إلى أي مأسسة للبوتينية يدعو دوغين. من المحتمل جداً أن يكون المقصود ليس تعزيز عبادة بوتين التي بلغت عبادة الفرد الستالينية، بل إلى مأسسة الديكتاتورية الحالية لكي تتمكن من البقاء بعد بوتين ولا تنتهي بموته. ونظراً إلى تشويه البروباغندا لمزاج المجتمع الروسي وتوقعاته خلال هذه السنوات، فإن خطر تحقق هذا السيناريو كبير للغاية.

المدن

———————–

بوتين وأردوغان يتفقان على محاربة”التنظيمات الإرهابية كافة” في سوريا

أعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف أن المحادثات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان في مدينة سوتشي الروسية الجمعة، بعد استمرت 4 ساعات، بحثا خلالها في ملفات متعدّدة، أبرزها ملفات سوريا وليبيا وأوكرانيا والطاقة.

الملف السوري

 وجاء في البيان الختامي للقاء الثنائي أنهما “يوليان أهمية كبيرة لتفعيل العملية السياسية”

في سوريا. وتم التأكيد على أهمية “الحفاظ على الوحدة السياسية لسوريا وسلامة أراضيها”. وجدد الرئيسان التأكيد على عزمهما على “العمل المشترك والتنسيق بين البلدين في محاربة التنظيمات الإرهابية كافة”.

وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف في تصريح صحافي قبيل اللقاء بين بوتين وأردوغان، إن تركيا لديها مخاوف أمنية “مشروعة” بشأن سوريا، وإن روسيا تأخذ ذلك في الحسبان.

وعما إذا كانت روسيا قلقة من قيام تركيا بعملية عسكرية شمالي سوريا، أفاد بيسكوف أنه سيتم بحث الموضوع خلال اللقاء. وأضاف: “تركيا لديها مخاوف أمنية مشروعة، ونأخذ تلك المخاوف في الحسبان، لكن يتعين تجنب الأعمال التي من شأنها زعزعة الوضع في سوريا وتهديد سلامة أراضيها ووحدتها السياسية”.

وكانت قناة “تي آر تي” التركية قد ذكرت أن “الهجوم العسكري الذي تعتزم تركيا تنفيذه ضد “مليشيا وحدات حماية الشعب الكردية بشمال سوريا سيتصدر جدول أعمال المحادثات، ضمن قضايا إقليمية أخرى”، بعدما أوصت موسكو مؤخراً بعدم شن الهجوم.

وتعتبر أنقرة وحدات حماية الشعب، المدعومة من الولايات المتحدة، مجموعة إرهابية وتعتقد أن لها صلات بمتمردين محليين.

وكان أردوغان قد هدد بإصدار أوامر بشن عمليات عسكرية جديدة في سوريا لتوسيع “مناطق آمنة” بعمق 30 كيلومتراً على الحدود.

ملف الحبوب

وأكد الرئيسان على أهمية الاتفاق حول النقل الآمن للحبوب من الموانئ الأوكرانية، مشددين على ضرورة تنفيذه بالكامل.

وأكد الرئيسان على أهمية العلاقات الصريحة والصادقة والمبنية على الثقة بين روسيا وتركيا بالنسبة لتحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي.

وفي هذا السياق اعترف الزعيمان بالدور المهم للعلاقات البناءة بين البلدين في الاتفاق على مبادرة النقل الآمن للحبوب من الموانئ الأوكرانية. وجرى التأكيد على ضرورة ضمان تنفيذ صفقة اسطنبول بالكامل، بما في ذلك تصدير الحبوب والأسمدة الروسية.

وتوسطت تركيا في اتفاق وقعته أوكرانيا وروسيا والأمم المتحدة في إسطنبول الشهر الماضي استؤنفت بموجبه صادرات الحبوب من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود بعد أشهر من الحظر.

الملف الاقتصادي

وفي الشق الاقتصادي، اتفق الرئيسان، على “زيادة حجم التجارة بين البلدين على أساس التوازن وتحقيق الأهداف المحددة، والسعي للاستجابة إلى توقعات الطرف الآخر في مجال الاقتصاد والطاقة، واتخاذ خطوات محددة بهدف تكثيف التعاون بشأن القضايا التي كانت على جدول أعمال البلدين منذ فترة طويلة في القطاعات مثل النقل والتجارة والصناعة والزراعة والقطاع المالي والسياحة والبناء”.

وأعلن نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك أن الرئيسين الروسي والتركي اتفقا على بيع جزء من الغاز الروسي لتركيا بالروبل.

وقال: “تم بحث إمدادات الغاز إلى تركيا، والتي يتم توريدها بكميات كبيرة إلى حد ما. واتفق الرئيسان على أن يتم دفع ثمن جزء من إمدادات الغاز بالروبل”.

وأضاف: “إننا نتحدث حول التحول إلى العملات الوطنية بشكل تدريجي، وفي المرحلة الأولى سيتم دفع جزء من التوريدات بالروبل الروسي”.

——————————

قمة سوتشي..لقاء الضرورة وربما الفرصة الأخيرة/ العقيد عبد الجبار العكيدي

لعله من غير المعتاد ان تتعاقب قمتان رئاسيتان بين تركيا وروسيا يفصل بينهما أقل من 3 أسابيع. وإن كانت قمة طهران التي انعقدت في 19 تموز/يوليو، والتي جمعت رؤساء الدول الثلاث الراعية لمسار استانة، يمكن إدراجها في سياق اللقاءات ذات الطابع الدوري، الا أن هذا الطابع لا يمكن إسقاطه على القمة التي سيعقدها الرئيس رجب طيب أردوغان الجمعة، مع الرئيس فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي.

ولعل هذا ما يستدعي الوقوف بجدية عند صحة مجمل الاستنتاجات التي أعقبت قمة طهران والتي تذهب الى خواء اللقاء الرئاسي الثلاثي من أي توافقات سياسية توجبها مصالح الأطراف الثلاثة، إذ عاد كل زعيم الى بلده دون الحصول على ما يريده من الطرفين الآخرين، ولعل علامات هذا الخلاف لم تتأخر تجلياتها، إذ كانت أبرز تلك التجليات مجزرة بلدة الجديدة التي ارتكبها الروس في ريف جسر الشغور في 22 تموز، أي بعد القمة بثلاثة أيام فقط، أودت بحياة سبعة مواطنين سوريين أربعة منهم أطفال، ثم تلا ذلك تصعيد عسكري روسي استهدف منطقة جبل الزاوية والعديد من بلدات ريف إدلب، وذلك دون أن تظهر ردة فعل من الجانب التركي أو فصائل الجيش الوطني توازي  بجديتها فظاعة العدوان الروسي، في موازاة ذلك شهدنا خفوتاً في وتيرة الخطاب التركي عن العملية العسكرية المرتقبة تجاه بلدتي منبج وتل رفعت.

لعلنا لا نحتاج إلى التأكيد على أن مبدأ تبادل المصالح كان الناظم الأساسي لمحور استانة الثلاثي طيلة ما يزيد على خمسة أعوام خلت، ولم تعد تلك المصالح محصورة بالشأن السوري فحسب، بل ربما امتدت الى حيث تقتضي الحاجة أو الضرورة، كما يمكن التأكيد من جهة أخرى على أن عملية تبادل المصالح التي غالباً ما كانت تُترجم إلى صفقات متبادلة على أرض الواقع، إنما تستند في جوهرها على مقدار ما يحوز كل طرف من أوراق القوة ، وعلى ضوء هذه الثوابت يمكن التساؤل: ما الذي تريده تركيا من روسيا، وما الذي بيدها من أوراق القوة الداعمة لمطلبها؟

لعله من البدهي القول إن العلاقة الروسية التركية بعد 24 شباط/فبراير، موعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ليست كما قبلها.ولإن كان بوتين يحرص فيما سبق على إبداء القوة والعنفوان باعتباره القابض المتفرد على الشأن السوري، الا أن حربه على أوكرانيا ومواجهة الغرب الأميركي-الأوروبي جديرة بأن تنزع عنه بعضاً من صلفه وجبروته لتجعله أكثر عوزاً وحاجة لتركيا، التي يحرص بوتين نفسه على الا تذهب بعيداً عنه تجاه الغرب، بل ربما يجد بوتين أن أنقرة باتت بمثابة رئة سياسية واقتصادية ينبغي أن تبقى مشرعة أمام موسكو، وبطبيعة الحال فإن تركيا تدرك ذلك وهي بدورها ترى أنه حان الأوان لتأخذ ما تريد دون أن تخضع لمبدأ الصفقات الذي فرضه بوتين بقوة فيما مضى.

هذا يدعونا للرجوع الى قمة طهران من أجل التأكيد على أن روسيا اشترطت أن يكون ثمن العملية العسكرية تجاه تل رفعت ومنبج هو سيطرة النظام وحلفائه على جبل الزاوية ومن ثم إحكام السيطرة على طريق “إم-4” بالكامل، الا أن الحسابات التركية أوجبت الرفض القاطع نظراً للتداعيات الخطيرة التي سيتركها نزوح عشرات الآلاف من الجنوب إدلب باتجاه الحدود التركية، فضلاً عن حصار قد يحكمه النظام على إدلب المدينة.

اليوم ومع تناقص الوقت الفاصل عن العملية الانتخابية التركية صيف العام القادم تبدو حاجة أنقرة شديدة لتنفيذ العملية العسكرية، وخاصة أن الفيتو الأميركي حيال العملية المرتقبة يبدو أكثر رخاوةً عما كان من ذي قبل، فلا بد إذاً من استثمار كافة الجهود الدبلوماسية مع موسكو ولو استدعى الأمر لقاءً رئاسياً كما سيحصل اليوم، ومما لا شك فيه أنه سوف تحضر كل القضايا المشتركة في هذه القمة، ولن يدخر كلا الطرفين أن يحشد كل أوراقه ، فهي فرصة أمام بوتين لكي يأمن أن أنقرة لن تقف حيث يقف الأعداء الغربيون، فهل سينجح الطرفان في تطويع مبدأ الصفقات ليكون خادماً لمصلحة كليهما؟

وفي هذا السياق تبدو أمامنا ثلاثة سيناريوهات لنتائج هذه القمة كل منها يحمل جانبا من المشروعية.

السيناريو الأول، استمرار صانع القرار التركي بتكثيف الضغط على القيصر المتورط في أوكرانيا وانتزاع موافقة على العملية العسكرية مقابل تفاهمات أخرى، قد تكون في سوريا وربما تكون في ملفات أخرى خارجها، وقد تتعلق بالموقف التركي من الغزو الروسي لأوكرانيا، وإبقاء الموقف التركي على حاله كوسيط بين الطرفين المتحاربين، وأن تبتعد تركيا عن الرؤية الأميركية والغربية بخصوص العقوبات الاقتصادية على روسيا، بالإضافة الى ضمان تسهيل حركة مرور السفن عبر مضائقها.

السيناريو الثاني، انتزاع الاتراك لموافقة روسية جزئية على عملية محدودة تنحصر في منطقتي تل رفعت ومنبج، ورغم أن ذلك لن يرضي الطرف التركي بصورة كاملة الا أنه يحرره من الحرج الذي وقع فيه طيلة الفترة الماضية، وربما يكون بوتين في هذه المرحلة حريصاً على كسب ود الرئيس التركي وإنقاذه من الحرج الداخلي بمواجهة خصومه السياسيين في ظل الاستحقاق الانتخابي القادم صيف 2023.

السيناريو الثالث، فشل اللقاء وعدم خروجه بموقف روسي يغطي العملية العسكرية التركية، وهو الخيار الأسوأ الذي ستترتب عليه تداعيات سياسية وميدانية خطيرة، لا سيما في حال ذهاب الأتراك نحو تنفيذ العملية دون موافقة روسية، وما سيتبعه من ردة فعل روسية ربما تكون وجهتها فتح جبهات إدلب وجبل الزاوية وسهل الغاب وجبال الساحل، ونسف كل تفاهمات خفض التصعيد فيها، وما سينجم عن ذلك من توترات في العلاقات الروسية التركية في مختلف الملفات الأخرى المتعلقة بالطرفين.

ربما كان من الصحيح أن مسائل عديدة تخص البلدين ستكون حاضرة في قمة سوتشي، إلّا أن الشأن السوري سيكون طاغياً، وهذا ما سيجعل لقاء الرئيسين التركي والروسي محطّ رهانٍ كبير ليس بخصوص التوافق أو الاختلاف حول المسألة السورية فحسب، بل يمكن الذهاب إلى أن مستقبل العلاقات بين أنقرة وموسكو سيكون وثيق الصلة بقدرة الرئيسين أو إخفاقهما بالوصول إلى تفاهمات مرضية لكليهما معاً.

المدن

————————-

بوتين وأردوغان الصديقان اللدودان: من يستفيد من الآخر

روسيا تستفيد من الدور التركي كقناة تواصل مع الغرب في ملفّ الحبوب.

موسكو – تكررت اللقاءات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أماكن مختلفة خلال السنوات الأخيرة، وصارت لهما مصالح مشتركة في ملفات كثيرة بالرغم مما يبدو أحيانا من تناقض في الأجندات.

والتقى بوتين وأردوغان الجمعة في سوتشي بجنوب روسيا بعد انقضاء سبعة عشر يوما على لقائهما في قمة طهران وما انتهى إليه من توتر ظاهر بسبب معارضة موسكو سعي أنقرة لشن هجوم على مواقع كردية شمال سوريا ضمن خطتها لفرض منطقة عازلة على طول الحدود مع سوريا.

ويقول أنصار بوتين إنه نجح في أن يستقطب عضوا في الناتو لديه معه مشاكل كبرى في سوريا ليكون على تنسيق قريب معه في أمور خطيرة اختبرت في أكثر من حرب، بدءا من سوريا ومرورا بليبيا وليس انتهاء بأوكرانيا، معتبرين أن الرئيس التركي صار القناة التي يتواصل بها بوتين مع الغرب في موضوع أوكرانيا ككل، سواء ما تعلق منه بالحبوب أو الغاز أو التسوية السياسية التي تحافظ على المكاسب الميدانية لموسكو.

وأعرب الرئيس الروسي الجمعة عن أمله في توقيع اتفاق لتعزيز التعاون الاقتصادي مع تركيا، شاكرا نظيره التركي على الجهود التي بذلها وسمحت بالتوصل إلى اتفاق بين موسكو وأوكرانيا لاستئناف تصدير الحبوب.

وقال بوتين لأردوغان “بفضل مشاركتكم المباشرة ووساطة الأمين العام للأمم المتحدة، تمت تسوية المشكلة المرتبطة بإمدادات الحبوب الأوكرانية القادمة من موانئ البحر الأسود”.

كما شدد على دور أنقرة في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر خط أنابيب ترك ستريم، وقال “يجب أن يكون الشركاء الأوروبيون ممتنين لتركيا لأنها أمّنت نقل الغاز الروسي دون توقف”.

ويقول أنصار الرئيس أردوغان إن الاتفاق، الذي يمكن أن يحد من ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، يسلط الضوء على أهمية الاتصالات الدبلوماسية لتركيا العضو في حلف شمال الأطلسي مع الجانبين.

وعلى الرغم من أن تركيا انتقدت الغزو الروسي وزودت أوكرانيا بالسلاح، إلا أنها خالفت الحلفاء الغربيين بعدم الموافقة على فرض عقوبات على روسيا.

ويعكس هذا التوازن الدقيق مدى تعقيد علاقاتها مع روسيا، بداية من التعاون الوثيق في إمدادات الطاقة وصولا إلى المنافسة العسكرية في سوريا وليبيا وأذربيجان.

بوتين نجح في استقطاب عضو في الناتو ليكون على تنسيق قريب معه في أمور خطيرة اختبرت في أكثر من حرب

ولعبت طائرات بيرقدار التركية المسيرة التي بيعت لأوكرانيا دورا بارزا في إبطاء تقدم القوات الروسية عندما توغلت في الأراضي الأوكرانية خلال فبراير الماضي.

لكن تركيا لديها أيضا علاقات دفاعية متنامية مع روسيا؛ فقد اشترت بطاريات منظومة الدفاع الصاروخي الروسية من طراز أس – 400 في عام 2019، وأشارت إلى أنها قد تشتري المزيد، مما أغضب واشنطن التي ألغت بيع طائرات مقاتلة أميركية من طراز أف – 35 وفرضت عقوبات على الصناعات الدفاعية التركية.

وأشار أردوغان في العام الماضي إلى أن تركيا تدرس المزيد من الخطوات المشتركة في مجال الدفاع مع روسيا، ليشمل ذلك الطائرات المقاتلة والغواصات.

وفي سوريا تدعم تركيا مقاتلي المعارضة الذين بدوا ذات يوم أنهم على وشك الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، إلى أن دعم التدخل الروسي بقاء الأسد وساعد على تراجع المعارضة المسلحة إلى جيب صغير في شمال غرب سوريا على الحدود التركية.

لكن نقطة الخلاف الرئيسية هي سعي الرئيس التركي لاستغلال انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا ونقل جزء من قواتها وعتادها إلى هناك، وتنفيذ خطته بشأن المنطقة العازلة، مما أثار انتقادات من قِبل روسيا وإيران والولايات المتحدة.

وقال أردوغان الجمعة إن مباحثاته مع بوتين بشأن التطورات في سوريا “ستجلب أجواء الارتياح إلى المنطقة”. ولم يُعرف ما إذا كان هذا التصريح جزءا من البروباغندا التركية أم أن هناك توافقا غير معلن يسمح للرئيس التركي بتنفيذ خططه، وهو أمر يبدو مستبعدا حاليا.

وفي ليبيا نجحت المسيّرات التركية في فك الحصار عن العاصمة طرابلس وطرد القوات الموالية لقائد الجيش المشير خليفة حفتر، والتي كانت تتلقى دعما من مقاتلين ينتمون إلى مجموعة فاغنر الروسية. ويقال إن روسيا وضعت فيتو أمام تمدد الميليشيات المدعومة من أنقرة إلى مدينة سرت خلال مطاردتها للقوات القادمة من الشرق الليبي.

وفي أذربيجان دعمت تركيا هجوما عسكريا لطرد القوات العرقية الأرمنية من جزء كبير من منطقة ناغورني قره باغ الجبلية في جنوب القوقاز، وهي منطقة تعتبرها روسيا جزءا من مجال نفوذها.

لكن المصالح الاقتصادية حالت دون أن يتحول تناقض الأجندات بين البلدين في مناطق الصراعات إلى تصعيد أو حرب مباشرة.

وشكل الغاز الطبيعي الروسي 45 في المئة من مشتريات الغاز التركية المعتمدة على الاستيراد خلال العام الماضي، والتي سجلت مستوى قياسيا نتيجة الجفاف والزيادة المرتبطة بإنتاج الطاقة الكهربائية المعتمد على الغاز.

كما تشيد شركة روساتوم الروسية العملاقة المتخصصة في الطاقة النووية محطة نووية في أكويو بجنوب تركيا، والتي قال بوتين إنها ستبدأ العمل في العام المقبل.

ومن المتوقع أن توفر المحطة ما يصل إلى 10 في المئة من احتياجات تركيا إلى الطاقة وستستمر شركة روساتوم في تشغيلها وإدارتها لعدة عقود.

وزار سبعة ملايين سائح روسي تركيا في عام 2019، وهو أكبر عدد تستقبله تركيا من دولة أخرى، قبل أن تعطل جائحة كورونا بشكل كبير السفر إلى الخارج. ولا تزال السياحة بالنسبة إلى تركيا مصدرا مهما للعملة الصعبة.

العرب

———————-

هل أطلقت الحرب الأوكرانية شرارة المنافسة لخلافة بوتين؟

نيويورك: «الشرق الأوسط»

يرى الكاتب والباحث بمؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي، أندريه بيرتسيف، أن الحرب في أوكرانيا وما ترتب عليها من عقوبات لم تعزز سلطة قيادة روسيا أو توحد الجماعات السياسية والاقتصادية المؤثرة في البلاد. ولو كان الرئيس فلاديمير بوتين قد حقق النصر السريع، الذي من الواضح أنه كان يعتمد عليه عندما أطلق «عمليته الخاصة»، لكان قد دعم مركزه كحاكم، ولكن مع إطالة أمد الحرب، تضطر النخب إلى التفكير في مستقبلها ومحاولة إيجاد مكان لها فيه.

ولا يظهر بوتين نفسه أي نية للتخلي عن السلطة، ولكن يبدو بصورة متزايدة مشدوداً للماضي. وتراقب النخب وخلفاؤه المحتملون كل دافع عسكري له، ولكن يمكنهم بالفعل أن يروا أنه ليس له مكان في رؤيتهم للمستقبل لفترة ما بعد الحرب. ودوره الباقي الوحيد في تصورهم لعهد السلام الجديد سيكون ترشيح خليفة له ومغادرة مسرح الأحداث. ويقول بيرتسيف في تقرير نشره موقع مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي؛ إنه لذلك فإن الحرب حركت سباقاً عاماً للمرشحين. وفي السنوات الأخيرة، كانت المناورات السياسية في روسيا تتم في طي الكتمان، ولكن في العهد الجديد، أصبحت التصريحات الصاخبة والمبادرات السياسية الواضحة تماماً هي السائدة مرة أخرى.

إن الوضع الحالي يبدو كما لو أن هناك بالفعل حملة انتخابية نشطة، حيث يبذل البيروقراطيون والمسؤولون داخل الحزب الحاكم كل ما في وسعهم للظهور تحت الأضواء، وحتى مهاجمة كل منهما الآخر. وحتى آونة أخيرة؛ كان من المستحيل تقريباً التفكير في أن يكون هناك مثل هذا التصرف: فالإدارة الرئاسية تعمل في صمت، بينما حصر كبار المسؤولين في حزب روسيا المتحدة الحاكم أنفسهم في الإدلاء بوعود تتعلق بالسياسات الاجتماعية.

وبوجه خاص، انشغل دميتري ميدفيديف، الرئيس السابق ورئيس الوزراء السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن، بالإدلاء بالتصريحات. وغالباً ما تبدو تصريحاته المتشددة المبالَغ فيها المتعلقة بقضايا السياسة الخارجية والإهانات الموجهة للقادة الغربيين هزلية، ولكن الدور الذي يحاول القيام به واضح. وهو يشدد على أن المتاعب الداخلية سببها الأعداء الخارجيون.

وهناك سياسي آخر يدلي لأول مرة بتلميحات بصوت عالٍ، وهو سيرغي كرينكو، النائب الأول لرئيس شؤون الرئاسة، ومنظم الكتلة السياسية للكرملين، والذي كُلف الآن مسؤولية الإشراف على الجمهوريات المنفصلة في دونباس.

لقد أصبح أحد أبرز السياسيين في العهد الجديد، على الرغم من أنه في السابق – منذ أن أصبح مبعوثاً رئاسياً في مطلع القرن الحالي – لم يظهر مطلقاً أي ميل للأضواء.

ففي الوقت الحالي، اعتاد كرينكو على ارتداء الزي الكاكي والتحدث بصوت عالٍ عن الفاشيين، والنازيين، والمهمة الفريدة للشعب الروسي. وأصبح يتصدر الأحداث العامة، ومن الواضح أنه يؤكد وضعه بأنه المنسق وراء قيام الجمهوريتين الشعبيتين دونيتسك ولوهانسك اللتين أعلنتا استقلالهما، وهو أمر لم يفعله من تولوا مهمته من قبل. وعلى الرغم من أن كرينكو لم يشارك بصورة مباشرة في الحملة العسكرية، فإنه نجح بوضوح في أن تكون له مكانة لدى بوتين. وهناك مرشح آخر في معركة الصقور، وهو رئيس مجلس الدوما، فياتشيسلاف فولدين. فمنذ انتقاله من الكرملين (كنائب أول لرئيس ديوان الرئاسة) إلى مجلس الدوما، كثف فولدين من تواجده العلني، بإدلائه بالعديد من التصريحات الاستفزازية، والتي من المضمون اعتبارها لسعات مفيدة. وهو الآن يضاعف جهوده، حيث يدعم فرض حظر على استخدام كلمات أجنبية على واجهات المحال، ودعوته للإبقاء على عقوبة الإعدام في الجمهوريتين الحديثتين.

وهناك مسؤولون بارزون آخرون تبنّوا استراتيجية مختلفة تماماً، حيث اختاروا الابتعاد بقدر الإمكان عن موضوع «العملية الخاصة». وهذا الصمت في حد ذاته يعدّ بادرة سياسية. فرئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، وعمدة موسكو سيرغي سوبيانين، وكلاهما كانا يعدّان من المنافسين لخلافة بوتين قبل الحرب، التزما الصمت بالنسبة لـ«العملية الخاصة» في أوكرانيا. وتفسيرهما المنطقي لصمتهما، هو أن الحرب أمر مؤقت، وأن العلاقات مع الغرب وحتى مع أوكرانيا، سوف يتعين استعادتها في وقت ما وبشكل ما. وعندما يحين ذلك الوقت، سوف يكون من لم يوجه إهانات لـ«الدول المعادية»، ولم يشارك بصورة مباشرة في الحملة العسكرية في وضع أفضل للتعامل في الظروف الجديدة.

ويقول بيرتسيف، إن التزام الصمت مع ذلك له مخاطره. فإذا طلب بوتين في نهاية المطاف التزاماً كاملاً من جانب جميع المسؤولين بالنسبة لدونباس والعملية العسكرية، فإن حقيقة التزامهم الصمت لن تكون في صالحهم.

وتعكس الاستراتيجيتان – المبادرات العالية الصوت والصمت المطبق – المواقف والافتراضات المختلفة لمن ينتهجونهما. فالصقور يتصرفون على أساس أن بوتين هو الذي سيختار خليفته؛ لذلك فهم يقلدون تصرفاته في محاولاتهم لكسب وده. أما من يلتزمون الصمت فإنهم يعتمدون على سيناريو مختلف للخلافة، والذي يتمثل في انتخاب النخب لخليفة بوتين.

وعلى أي حال، فإن رؤية 2022 لسباق الخلافة هي أمر افتراضي بطبيعة الحال. فبوتين لم يعلن عن بداية مثل هذه العملية، كما أنه من الواضح أنه لا يعتزم ترك منصبه: وإدارة الرئاسة تعد للانتخابات في 2024، ومن الواضح من الذي سيكون له الدور المركزي. فالحرب واحتمال ضم المزيد من الأراضي سيحولان دون أن تكون هناك حاجة إلى أن يقدم بوتين برنامجاً من أي نوع. فهو يريد أن يشارك في الانتخابات باعتباره الرجل الذي هزم النازية (بغض النظر عن النتائج الفعلية للغزو) وكشخصية تاريخية ليس في حاجة إلى تقديم أي وعود لشعبه.

وفي ختام تقريره، يقول بيرتسيف، إن الاهتمام الواضح في سباق الخلافة من جانب معظم كبار أفراد النخب – ناهيك عن حماس المشاركين فيه – يظهر مع ذلك، أن النظام يريد مناقشة «ورؤية» مستقبل ما بعد بوتين. ولكن مهما كان شكل ذلك المستقبل، يبدو أن فرصة بوتين فيه ضئيلة للغاية.

الشرق الأوسط

————————

إردوغان: مباحثات سوتشي مع بوتين حول سوريا ستجلب الارتياح للمنطقة

أنقرة: سعيد عبد الرازق

عبر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن اعتقاده بأن مباحثاته مع نظيره الروسي فلاديمير حول سوريا خلال قمتهما التي عقدت في منتجع سوتشي المطل على البحر الأسود جنوب روسيا، الجمعة، «ستجلب أجواء الارتياح إلى المنطقة».

وقال إردوغان، في كلمة في مستهل اجتماعه مع بوتين بحسب ما نقلت وكالة «الأناضول» التركية الرسمية، إن الاجتماع مع بوتين «مهم للغاية من حيث إبراز الدور الذي تلعبه تركيا وروسيا في المنطقة»، معرباً عن سعادته بلقاء الرئيس الروسي مجدداً بعد 17 يوماً من لقائهما في طهران، حيث عقدت القمة الثلاثية للدول الضامنة لمسار آستانة في سوريا في 19 يوليو (تموز) الماضي، والتي ضمت إلى جانب بوتين وإردوغان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.

وأضاف إردوغان أن «تضامن البلدين في مكافحة الإرهاب يحمل أهمية كبيرة وأن المباحثات في سوتشي تدعم الخطوات التي سيتم الإقدام عليها بهذا الصدد».

بدوره، أشار بوتين إلى بحث قضايا إقليمية خلال لقائه مع إردوغان في مقدمتها الأزمة السورية، قائلاً إن «تركيا تقدم إسهاماً كبيراً في تطبيع الوضع في سوريا».

وحذرت روسيا من قيام تركيا بعملية عسكرية تستهدف مواقع قوات تحالف سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة تنظيماً إرهابياً وامتداداً لحزب العمال الكردستاني في سوريا غالبية قوامها، في منبج وتل رفعت بغية استكمال مناطق أمنية بعمق 30 كيلومتراً في الأراضي السورية لتكون بمثابة حزام أمني على حدود تركيا الجنوبية.

ورغم إعلان تركيا عن العملية المحتملة في مايو (أيار) الماضي، فإنها لم تنفذ حتى الآن، رغم تأكيد أنقرة أنها قد تنطلق في أي لحظة، بسبب إعلان الولايات المتحدة رفضها لها وكذلك الدول الأوروبية.

كما أعلنت روسيا وإيران بشكل صريح خلال قمة طهران رفضها أي تحرك عسكري تركي في شمال سوريا، مع الإقرار بالمخاوف الأمنية لتركيا وضرورة وضعها بالاعتبار.

وقبل انطلاق قمة سوتشي بين بوتين وإردوغان، قال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إن تركيا لديها مخاوف أمنية «مشروعة» بشأن سوريا، وإن روسيا تأخذ ذلك في الحسبان.

ورداً على سؤال بشأن ما إذا كانت روسيا قلقة من قيام تركيا بعملية محتملة شمال سوريا، قال بيسكوف إنه سيتم بحث الموضوع خلال لقاء بوتين وإردوغان، مضيفاً: «تركيا لديها مخاوف أمنية مشروعة، ونأخذ تلك المخاوف في الحسبان، لكن يتعين تجنب الأعمال التي من شأنها زعزعة الوضع في سوريا وتهديد سلامة أراضيها ووحدتها السياسية»، فيما اعتبر إشارة إلى العملية العسكرية المحتملة، التي قال إردوغان، عقب قمة طهران إنها ستبقى على أجندة أنقرة، وقد تنفذ في أي وقت دون إذن من أحد.

———————————

أكاديمية إيطالية: ربما ينجح بوتين في تقسيم أوروبا وتدمير الاتحاد الأوروبي

كتبت الإيطالية ناتالي توتشي عالمة السياسة والخبيرة في العلاقات الدولية ودور الاتحاد الأوروبي في الشؤون الدولية أن هناك احتمال أن تنقسم الدول الأوروبية حول أوكرانيا وروسيا بسبب الضغوط الاقتصادية المتزايدة وأن الخلافات الحالية بينها ما هي إلا مجرد مقدمة لما سيأتي من انهيار لوحدتها.

وأوضحت توتشي ذلك في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) الأميركية، قائلة إنه بعد 6 أشهر من “الغزو” الروسي لأوكرانيا، وبعد رد الفعل الأوروبي القوي والسريع على الهجوم الروسي، هناك مؤشرات على أن أوروبا تجد صعوبة من أجل الاستمرار موحدة في مسار حرب مكلفة بشكل متزايد. فمع ارتفاع التضخم، وأزمة الطاقة المتصاعدة، والتهديد المتزايد بالركود، أصبح القادة الأوروبيون يتحدثون بشكل متزايد حول التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للصراع وآثاره السياسية والجيوسياسية.

توترات محتدمة تحت إجماع ظاهري

وتضيف أنه تحت الإجماع الظاهري للاتحاد الأوروبي، هناك توترات محتدمة حول كيفية التعامل مع الحرب. فألمانيا، على سبيل المثال، تباطأت بشأن شحنات الأسلحة الموعودة إلى أوكرانيا. وفي إيطاليا، حيث سقطت الحكومة الائتلافية، هناك معارضة سياسية متزايدة للدعم العسكري لكييف بين الأحزاب الشعبوية في البلاد.

وعلى الرغم من الموافقة على 5 حزم من العقوبات ضد روسيا بسرعة البرق، فقد أمضى الأوروبيون الأسابيع الأخيرة في مشاحنات بشأن حزمة سادسة.

الخطر الأكبر هو الهدوء النسبي

وتقول توتشي إن التهديد الأكبر للتحالف الأوروبي قد لا يكون هو عدم إحراز تقدم في إنهاء العنف المتصاعد في أوكرانيا، كما كان الحال حتى الآن، بل الهدوء النسبي في الصراع، والذي قد يسمح لموسكو بإغراء بعض الدول الأوروبية للضغط على أوكرانيا لتقديم تنازلات، خاصة إذا استمرت أزمة الطاقة في التفاقم. ومن المفارقات، أنه من خلال الاستسلام لوهم السلام، يمكن أن ينتهي الأمر بأوروبا والغرب إلى إطالة أمد الحرب على حساب الجميع.

وتستمر توتشي لتقول إن الضغوط الاقتصادية المتزايدة على الدول الأوروبية بدأت تحدث عواقب مقلقة في السياسة الأوروبية. ففي بلدان مثل إيطاليا وفرنسا، تستخدم الأحزاب القومية الشعبوية واليمينية تكاليف الحرب لحشد الدعم الشعبي لها، وتجادل بأنه من خلال معاقبة روسيا واعتناق الأجندة الخضراء، تعمل الحكومات الأوروبية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي على تغذية التضخم وتفريغ الصناعة وتدمير الوظائف، وقد كان أداء هذه الأحزاب قويا.

وقالت إن الديناميكية التي اكتسبتها القوى اليمينية الشعبوية في أوروبا يمكنها خلق طفرة جديدة لها لن تؤدي فقط إلى تعريض وحدة مواقف الدول الأوروبية للخطر فحسب، بل هي أيضا خطر على وجود الاتحاد الأوروبي ككل.

عودة الانقسامات القديمة

وأضافت أن الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لأوروبا هو عودة الانقسامات الجيوسياسية القديمة. فهناك الانقسام المتزايد بين شرق القارة وغربها، حيث تدعو الدول الواقعة على حدود أوكرانيا -مثل دول البلطيق وبولندا- إلى زيادة العقوبات ضد روسيا والدعم العسكري القوي لأوكرانيا، بينما بدأت الدول في أوروبا الغربية -مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا- تميل نحو التسوية مع روسيا.

والانقسام الثاني بين الشمال والجنوب، وهو الانقسام الذي أوشك على تمزيق منطقة اليورو خلال أزمة الديون السيادية قبل عقد من الزمان. ومع احتمال حدوث ركود على المدى القريب، وربما حتى تضخم مصحوب بالركود، فإن الفرق في تكاليف الاقتراض بين الدول الأعضاء في شمال وجنوب الاتحاد الأوروبي، لا سيما بين ألمانيا وإيطاليا، آخذ في الارتفاع.

رهان بوتين

وقالت الكاتبة إن هذه الانقسامات هي بالضبط ما كان يأمل فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. واقتناعا منه بأن الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا ضعيفة وفاسدة أخلاقيا، اعتمد الزعيم الروسي على افتراض أن وحدة الغرب بشأن أوكرانيا سوف تنهار ويمكن أن تنهار في نهاية المطاف في الأشهر المقبلة بسبب لعبة القط والفأر على الغاز، وخلق أزمة غذاء عالمية عن طريق منع تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، واتباع إستراتيجية الأرض المحروقة في أوكرانيا. وقد يراهن بوتين على أنها مجرد مسألة وقت حتى يتم تفكيك الغرب، بدءا من أوروبا.

بوتين يراهن على انكسار أوروبا أولا

وتدرك موسكو أن العقوبات تلحق أضرارا جسيمة بروسيا. فقد اعترف بوتين بهذا الأمر في العلن. ويعرف الكرملين أيضا أن الضرر سيزداد بمرور الوقت، لكن حساباته تشير على الأرجح إلى أن أوروبا ستنكسر أولا، بالنظر إلى وحدتها الهشة، وستسمح له الضغوط الداخلية في القارة بتحقيق أهدافه الحربية في أوكرانيا، وربما، عاجلا أم آجلا، العودة إلى العمل كالمعتاد مع أوروبا، أو على الأقل مع بعض الدول الأوروبية. وكما يرى الكرملين، فإن الانقسامات ونقاط الضعف في أوروبا ستمنع سيناريو طويل الأمد تتحمل فيه روسيا التكاليف الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية لغزوها.

وقالت توتشي إذا واصلت روسيا حملة الفظائع والدمار في أوكرانيا والتي اتسمت بها الأشهر الستة الماضية، يمكن للقادة الأوروبيين أن يستمروا موحدين تجاه أوكرانيا. وإذا غيّرت روسيا، بدافع الضرورة وليس الاختيار، تكتيكاتها وخففت الضغط على أوكرانيا، وبدأت موسكو في التلميح إلى نوع من التسوية أو الهدنة فقد يقع الأوروبيون في الفخ، خاصة إذا تزامن الإغراء الروسي مع أزمة طاقة متصاعدة في أوروبا، وسيبدأ القادة الأوروبيون ليس فقط بالمجادلة والاختلاف والتردد، بل بالانقسام كليا.

المصدر : فورين أفيرز

———————-

بوتين وتحديد عتبة الألم/ أمير طاهري

في أي صراع دولي ينطوي على إجراءات سياسية ودبلوماسية صارمة وعنف من نوع أو آخر، يواجه الخصومَ من كلا الجانبين تساؤلٌ محوريٌ: ما عتبة الألم لدى الطرف الآخر، أي النقطة التي يبدأ عندها الطرف الآخر في الشعور بالألم؟

بعد مرور أكثر من ستة أشهر على اجتياح فلاديمير بوتين لأوكرانيا، من الأفضل لخصومه التفكير في هذا التساؤل.

والمقصود بعتبة الألم النقطة التي عند الوصول إليها يضطر الخصم لإعادة التفكير في استراتيجيته الحالية، والسعي للحصول على بعض الراحة. وقد يحاول بعض الأعداء دفع هذه العتبة إلى أقصى حد ممكن حتى بعد سماع صوت عظامهم تسحق. وكان هذا الحال مع أدولف هتلر الذي كان على استعداد لرؤية ألمانيا بأكملها تتحول إلى كومة من تراب، لكنه لم يستطع التفكير في الاستسلام.

وهناك آخرون، مثل ما فعله آية الله الخميني في أغسطس (آب) 1988، «يتجرعون كأس السم» لتجنب انهيار نظامهم.

وقدم لنا صدام حسين ذات مرة تعريفه الخاص لعتبة الألم، وروى كيف أنه عندما كان مراهقاً كان يقفز هو ورفاقه في تكريت على شاحنات تحمل البضائع إلى بغداد للحصول على رحلة مجانية. إلا أن المشكلة كانت أن حارس الشاحنة كان يضربهم على أصابعهم بسوط سلكي يسيل الدماء.

وتبعاً لما ذكره صدام، كان جميع الأولاد يقفزون بعد بضعة جلدات بالسوط، بينما كان يستمر صدام لفترة أطول والدم يتساقط من يديه. وقال صدام عن ذلك: «كنت فخوراً برؤية أنه مع مرور الوقت، أصبحت قادراً على الصمود لفترة أطول قليلاً».

من جهته، أثبت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أن لديه عتبة مرتفعة من الألم، وأخيراً قرر الاستسلام ليس بسبب العقوبات والضغوط، وإنما نتيجة التغييرات النفسية والسياسية التي طرأت على النخب الحاكمة البيضاء.

في كوريا الشمالية والجمهورية الإسلامية في إيران، يجري تحديد عتبة الألم حسب درجة التهديد للنظام، وليس معاناة الجماهير. في بيونغ يانغ وطهران، كل ألم يستحق الصبر عليه وتحمله ما دام بقاء النظام مضموناً.

والآن، ما عتبة الألم لدى بوتين؟

على ما يبدو، افترض بعض القادة الغربيين عتبة منخفضة نوعاً ما، وظنوا أن بوتين سيستسلم بمجرد أن تبدأ تأثيرات «العقوبات الساحقة» في الظهور.

المؤكد أن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وعدد من القوى الأخرى، وعلى رأسها اليابان، لم يتح أمامها الوقت الكافي للتأثير على سلوك بوتين. في الواقع، بقيت بعض العقوبات على مستوى الإعلان فحسب. وتواصل روسيا تصدير الطاقة، وإن كان بخصومات سخية، من خلال «السوق البنية» خارج أوروبا، في الوقت الذي تمكن بوتين من السيطرة على التضخم، وبفضل صندوق الحرب الذي جرى إنشاؤه على مدى سنوات عديدة، نجح بوتين في الحيلولة دون وقوع الروبل في حالة من السقوط الحر.

والواضح أن بوتين يتحول الآن نحو استراتيجية جديدة للحرب منخفضة الحدة بإيقاع ووتيرة أبطأ تحت سيطرته. ونظراً لثقته بأن الأراضي الروسية يجري التعامل معها كملاذ آمن، فإن بإمكانه أن يختار متى وأين يضغط على أوكرانيا وحلفاء «الناتو» الداعمين لها.

والأسوأ من ذلك، أنه ربما كان يخطط بالفعل لفتح جبهات أخرى لإرباك خصومه والضغط على مواردهم. واليوم، تتشكل إحدى هذه الجبهات بالفعل حيث تستعد صربيا، تحت قيادة فريق مؤيد لبوتين، لغزو كوسوفو، الأمر الذي من المحتمل أن يجر ألبانيا هي الأخرى. هناك جبهة أخرى تلوح في الأفق في مولدوفا، حيث عكف بوتين على شحن كميات هائلة من الأسلحة لصالح فصيل مؤيد لموسكو.

كما تبحث روسيا في إمكانية إثارة بلبلة في المستعمرات الفرنسية السابقة داخل أفريقيا لتهديد إمدادات المعادن النادرة التي تحتاج إليها الصناعة الأوروبية. ولا ينبغي لنا أن نتفاجأ إذا تعرضت إستونيا، عضو الناتو، إلى ما يعرف باسم «ضغوط القرب الجغرافي».

وفيما يتعلق الأمر بالخسائر البشرية الروسية، نجح بوتين كذلك في دفع عتبة الألم إلى أعلى مما كان متوقعاً. ومن أجل حماية قلب الأراضي الروسية من الخسائر الكبيرة، اعتمد بوتين بدرجة كبيرة للغاية على «المتطوعين» والمرتزقة من الأقليات العرقية. وتشير التقديرات إلى أن روسيا فقدت أكثر عن 70.000 قتيل وربما ثلاثة أضعاف هذا العدد من جرحى أو مفقودين في القتال. وتشير أدلة شفاهية إلى أن الخسائر التي تكبدتها الجمهوريات غير الروسية داخل الاتحاد أعلى بنسبة 30 في المائة على الأقل عن تلك التي تقع في «قلب الأراضي الروسية».

من جهته، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن «العملية الخاصة» لبوتين ستستمر ما دام ذلك ضرورياً لتحقيق كل أهدافها. إلا أنه لم يوضح ماهية هذه الأهداف. أما بوتين، فيرى أن السياسات قصيرة الأمد داخل الديمقراطيات الغربية ستؤدي إلى تغيير في الرأي العام ضد ما أصبح حرباً متزايدة التكلفة مع عدم وجود أي علامة على وعود «النصر» من قبل رئيس الوزراء البريطاني المنتهية ولايته بوريس جونسون ونانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي.

وتشجع حقيقة أن أخبار الحرب في أوكرانيا قد تراجعت إلى الصفحات الداخلية في نشرات الأخبار التلفزيونية في الغرب.

وكان من تأثيرات استراتيجية بوتين تصوير روسيا باعتبارها تهديداً وجودياً للنظام العالمي، يمتد خطره لدول أخرى خارج الناتو والاتحاد الأوروبي. والمؤكد أن بوتين موهوم تماماً إذا ظنَّ أنه يمكن أن يثير الفوضى ويتوقع في المقابل تعاطفاً ودعماً من الصين والهند والبرازيل، بجانب الدول الأخرى التي يحاول اجتذابها إلى صفه.

وينبغي الانتباه هنا إلى أن القيادة الضعيفة في الديمقراطيات الغربية الرئيسية، ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لا تعني الضعف من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية، مقارنةً بروسيا التي يقودها زعيم طموح نحو المجهول.

قد يكون لدى بوتين عتبة ألم أعلى مما توقعه الخبراء الغربيون. ومع ذلك، فإنه عاجلاً أم آجلاً، سيصل إلى هذا الحد. وينبئنا التاريخ أنه حتى في القرن التاسع عشر، عندما كانت روسيا، بعد هزيمة نابليون، أعظم قوة عسكرية في العالم، فإنها ظلَّت عاجزة عن إعادة تشكيل أوروبا.

قد لا يكون بوتين مستعداً بعد لإعادة النظر في موقفه، لكن رفضه إنهاء الحرب لم ينتج عنه سوى المزيد من الجثث، الأوكرانية والروسية والداغستانية والشيشانية والإنغوشية والتتارية وغيرها.

وفي روايته «النفوس الميتة»، يشير غوغول إلى أنه: «نحن الروس نميل إلى إلقاء اللوم على الآخرين عن مآسينا، ولا ندري أن أي خطأ يرتكب بحقنا هو من فعلنا». من الأفضل أن ينصت بوتين جيداً إلى أستاذ الأدب الروسي، رغم أنه من أصل أوكراني.

نقلا عن الشرق الأوسط

——————–

معقدة صعبة ووثيقة.. أبرز محطات العلاقات التركية الروسية

إسطنبول – متابعات

التقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، اليوم الجمعة، للمرة الثانية خلال ما يزيد قليلاً عن أسبوعين، وبعد أن ساعدت تركيا في التوصل لاتفاق لاستئناف صادرات الحبوب من أوكرانيا عبر البحر الأسود، التي توقفت عقب الغزو الروسي.

ووفق وكالة “رويترز”، فإن الجانب التركي يعتبر الاتفاقية، التي يمكن أن تحد من ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، تسلّط الضوء على أهمية الاتصالات الدبلوماسية لتركيا، الدولة العضو في حلف “الناتو”، مع الجانبين.

وعلى الرغم من أن تركيا انتقدت الغزو الروسي، وزودت أوكرانيا بالسلاح، خاصة المسيّرات، إلا أنها انفصلت عن الحلفاء الغربيين بعدم فرض عقوبات على روسيا.

في العام 2015، أسقط الجيش التركي طائرة روسية عبرت إلى المجال الجوي التركي، مما أدى إلى أزمة في العلاقات، لكن بعد أقل من عام، كان بوتين من أوائل زعماء العالم الذين أعربوا عن دعمهم لأردوغان عقب محاولة الانقلاب في تركيا في تموز 2016، ووضع الأساس لعلاقاتهم الدفاعية المتنامية.

وقالت “رويترز” إن “هذا التوازن الدقيق يعكس مدى تعقيد العلاقات التركية الروسية، بدءاً من التعاون الوثيق في إمدادات الطاقة، إلى المنافسة العسكرية في سوريا وليبيا وأذربيجان”، مشيرة إلى أبرز المحطات في هذه العلاقات.

خصوم في سوريا وليبيا وأذربيجان

في سوريا، تدعم تركيا فصائل من المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد، فيما دعم التدخل الروسي النظام، وساعد في إعادة سيطرته على معظم الأراضي التي كانت تسيطر عليها المعارضة، وبقائها في محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب شمالي سوريا.

في شباط من العام 2020، قتلت غارة جوية ما لا يقل عن 34 جندياً تركياً، ما دفع بتركيا لإرسال تعزيزات إلى محافظة إدلب، لوقف تقدم قوات النظام السوري المدعومة من روسيا، والتي تسببت في نزوح نحو مليون شخص.

وقبل أسابيع، قال أردوغان إن تركيا تخطط لتوغل آخر في شمالي سوريا، مستهدفاً مناطق تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، مما أثار انتقادات من روسيا وإيران والولايات المتحدة.

في ليبيا، أدى التدخل العسكري التركي إلى تراجع الهجوم على الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس من قبل قوات متمركزة في الشرق، يدعمها مقاتلون من مجموعة مرتزقة “فاغنر” الروسية.

أما في أذربيجان، دعمت تركيا هجوماً عسكرياً لطرد القوات الأرمنية من جزء كبير من منطقة ناغورنو كاراباخ الجبلية في جنوب القوقاز، وهي منطقة تعتبرها روسيا جزءاً من مجال نفوذها.

الحبوب الأوكرانية

بعد أيام من اجتماع الرئيسين بوتين وأردوغان، في طهران الشهر الماضي، أشرفت تركيا على اتفاق لاستئناف صادرات الحبوب الأوكرانية.

وبموجب الاتفاقية، تستضيف تركيا مركزاً مشتركاً، حيث سيعمل ممثلو روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة على ضمان النقل الآمن لصادرات أوكرانيا إلى الأسواق العالمية.

وتعتمد تركيا بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا للحصول على الحبوب، فيما استحوذت روسيا على 56 % من واردات الحبوب التركية في العام 2021، بقيمة 2.24 مليار دولار، في حين بلغت الواردات من أوكرانيا 861 مليون دولار.

مبيعات الأسلحة

لعبت طائرات “بيرقدار” التركية المسيّرة، التي بيعت لأوكرانيا، دوراً بارزاً في إبطاء تقدم القوات الروسية عندما توغلت في الأراضي الأوكرانية في فبراير.

وفي الوقت نفسه، لدى تركيا أيضاً علاقات دفاعية متنامية مع روسيا، حيث اشترت نظام “S-400” الروسي للدفاع الصاروخي في العام 2019، وأشارت إلى أنها قد تشتري المزيد.

وأثارت الصفقة بين تركيا وروسيا غضب واشنطن، التي ألغت صفقة بيع مقاتلات من طراز “F-35″، وفرضت عقوبات على الصناعات الدفاعية التركية.

وسبق أن أعلن أردوغان أن تركيا تدرس المزيد من الخطوات المشتركة في صناعة الدفاع مع روسيا، بما في ذلك بالنسبة للطائرات المقاتلة والغواصات.

الطاقة

يشكل الغاز الطبيعي الروسي نحو 45 % من مشتريات الغاز التركية المعتمدة على الاستيراد العام الماضي، والتي سجلت مستوى قياسياً نتيجة للجفاف وما يرتبط به من زيادة في إنتاج الطاقة المدفوعة بالغاز.

كما تبني شركة “روساتوم” النووية الروسية العملاقة محطة نووية في أكويو جنوبي تركيا، قال بوتين العمل بإنشائها سيبدأ العام المقبل.

ومن المتوقع أن توفر المحطة نحو 10 % من احتياجات تركيا من الطاقة، في حين ستستمر شركة “روساتوم” في تشغيلها وإدارتها لعدة عقود، وفق اتفاق موقع بين الجانبين في أيار من العام 2010.

السياحة

في العام 2029، زار سبعة ملايين سائح روسي تركيا، وهو أكبر عدد من أي دولة أخرى، قبل أن توقف جائحة “كورونا” بشكل كبير السفر إلى الخارج، إلا أن السياحة الروسية ما تزال مصدراً مهماً للعملة الصعبة للاقتصاد التركي.

————————————

في القمة ، أردوغان ، بوتين لا يزال منقسمًا بشأن سوريا

اتفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن تحوّل أنقرة جزءًا من مدفوعاتها مقابل الغاز الطبيعي الروسي إلى روبل ، فيما يبدو أنه النتيجة الأكثر واقعية لاجتماعهما الذي استمر أربع ساعات في منتجع سوتشي المطل على البحر الأسود. اليوم.

نحن نتحول تدريجياً إلى العملات الوطنية ، وفي المرحلة الأولى سيتم دفع جزء من الإمدادات بالروبل الروسي. وقال نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك للصحفيين  بعد الاجتماع ” هذه حقًا مرحلة جديدة وفرص جديدة ، بما في ذلك تطوير علاقاتنا النقدية والمالية” .

واتفق الزوجان في بيان مشترك على تعزيز التعاون في مجالات النقل والزراعة والتمويل والبناء. وقال البيان إن الزعيمين “أكدا عزمهما على العمل بالتنسيق والتضامن في مكافحة كل التنظيمات الإرهابية” في سوريا.

لكن لم ترد أنباء عن الضوء الأخضر للتدخل العسكري التركي المخطط له ضد القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا. يُعتقد أن بوتين قد أوضح معارضته لتدخل آخر واسع النطاق في اجتماع 19 يوليو مع أردوغان في طهران. ويقول مسؤول روسي إن مثل هذه الخطوة ستزيد من زعزعة الاستقرار في سوريا. إيران ، الداعم الرئيسي الآخر لنظام الأسد ، تعارض أيضًا توسع الاحتلال التركي الكبير بالفعل لسوريا.

وقبل الاجتماع قال أردوغان للصحفيين إن “مناقشة التطورات في سوريا ستساعد في تخفيف التوترات في المنطقة”. ولم يخض في التفاصيل. وقال أردوغان أيضًا إنه يتوقع أن يضمن إطلاق أول محطة نووية تركية تقوم شركة روساتوم الروسية ببنائها كما هو مقرر العام المقبل. وقال نوفاك إن الزعيمين اتفقا على موعد الإطلاق عام 2023.

واجه المشروع الذي تبلغ تكلفته 20 مليار دولار اضطرابًا بعد أن وقعت روساتوم عقدًا مع كونسورتيوم من ثلاث شركات روسية لإكمال العمل في المشروع وأنهت مشروعها الحالي مع شركة تركية.

وتوقع أردوغان “أعتقد أن (اجتماع اليوم) سيفتح صفحة مختلفة تماما في العلاقات التركية الروسية”.

وبدا بوتين ملاحظة إيجابية مماثلة ، حيث قال للصحفيين ، “بدءًا من سوريا ، سنناقش القضايا الإقليمية. تساهم تركيا بشكل كبير في تطبيع الوضع هنا “.

في وقت سابق اليوم ، أعلنت وزارة الدفاع التركية أن ثلاث سفن أخرى تحمل الحبوب غادرت الموانئ الأوكرانية بموجب الاتفاق. ستجتاز السفن الثلاث ، التي تحمل 58 ألف طن من الحبوب إلى أيرلندا والمملكة المتحدة على التوالي ، عمليات التفتيش أولاً في مركز مراقبة أقيم في اسطنبول.

غادرت أول سفينة أوديسا الأسبوع الماضي. وأشاد بوتين بأردوغان لمساعدته في تنظيم استئناف شحنات الحبوب الأوكرانية.

وقال بوتين: “لقد بدأت عمليات التسليم بالفعل ، وأود أن أشكركم على ذلك وعلى حقيقة أنه في نفس الوقت تم اتخاذ قرار مصاحب بشأن الإمدادات المستمرة من المواد الغذائية والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية”.

على الرغم من كل تعليقاتهما المتفائلة ، بدا أردوغان وبوتين متعبين وبائسين أمام الكاميرات. ولم يعقدوا مؤتمرا صحفيا بعد المحادثات.

من غير المرجح أن تتحقق توقعاتهم الخاصة من القمة. ذكرت صحيفة واشنطن بوست ، نقلاً عن مسؤولين في المخابرات الأوكرانية لم تسمهم ، اليوم أن بوتين يريد من أردوغان السماح لروسيا بشراء حصص في مصافي النفط التركية ومحطات النفط والخزانات ، وهي خطوة يقول الاقتصاديون إنها قد تساعد في إخفاء مصدر صادراتها بعد الاتحاد الأوروبي. يبدأ الحظر بالكامل العام المقبل “. يبدو أن بوتين يريد أيضًا من البنوك التركية المملوكة للدولة السماح بحسابات مراسلة لأكبر البنوك الروسية التي تخضع لعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. من غير المحتمل أن يوافق أردوغان على أيٍّ من هذه المخططات ويواجه الغضب الغربي عندما يكون اقتصاد تركيا هشًا للغاية بالفعل.

—————————-

أبرز ما جاء في البيان الختامي لقمة “سوتشي

عقد الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، اجتماعاً في مدينة “سوتشي” الروسية يوم أمس الجمعة، استغرق 4 ساعات، وتناول عدداً من الملفات الثنائية والإقليمية.

وشدد الزعيمان في البيان الختامي المشترك على أهمية صون وحدة سورية السياسية وسلامة أراضيها، وعلى عزم تركيا وروسيا على العمل المشترك والتنسيق بين البلدين في محاربة كافة التنظيمات الإرهابية.

كذلك أكدا على الأهمية الكبيرة لدفع العملية السياسية من أجل التوصل إلى حل دائم في البلاد.

وسبق اللقاء إطلاق الرئيسين تصريحات تتحدث عن “رياح تغيير” واستقرار في المنطقة، حيث قال بوتين: “سأبحث الوضع السوري مع نظيري التركي، وما سيظهر من نتائج في هذه القمة سيحمل رياح تغيير إلى المنطقة”.

وأوضح أن القضية السورية ستكون في مقدمة المباحثات، وأن تركيا قدمت إسهاماً كبيراً في تطبيع الوضع في سورية”.

من جانبه، أكد أردوغان أن مباحثاته مع بوتين حول سورية “ستجلب الاستقرار للمنطقة”، معتبراً أن “تضامن البلدين في مكافحة الإرهاب يحمل أهمية كبيرة”، وأن المباحثات ستدعم الخطوات التي سيتم الإقدام عليها بهذا الصدد.

كما أشار إلى أن اجتماعه الثنائي مع بوتين “مهم للغاية من حيث إبراز الدور الذي تلعبه تركيا وروسيا في المنطقة.

في سياق آخر، أكد الزعيمان على الإرادة المشتركة لمواصلة تطوير العلاقات “الروسية – التركية” على أساس الاحترام والاعتراف بمصالح الطرف الآخر وبناء على التزاماتهما الدولية، على الرغم من التحديات الإقليمية والعالمية القائمة.

كما أكدا “أهمية العلاقات الصريحة والصادقة والمبنية على الثقة بين روسيا وتركيا بالنسبة لتحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي”.

وأيضاً أعربا عن تمسُّكهما الثابت بسلامة الأراضي والوحدة الوطنية الليبية، وأشارا إلى أهمية إجراء انتخابات حرة وعادلة ذات مصداقية على أساس التوافق الواسع، ودعمهما للعملية السياسية المستمرة المبنية على الدور القيادي لليبيين.

وعلى الصعيد الاقتصادي، أشار البيان إلى أن الرئيسين أجريا مشاورات واسعة حول مسائل جدول الأعمال الثنائي.

واتفق الجانبان على “زيادة حجم التجارة بين البلدين على أساس التوازن وتحقيق الأهداف المحددة، والسعي للاستجابة إلى توقعات الطرف الآخر في مجال الاقتصاد والطاقة، واتخاذ خطوات محددة بهدف تكثيف التعاون بشأن القضايا التي كانت على جدول أعمال البلدين منذ فترة طويلة في القطاعات المختلفة مثل النقل والتجارة والصناعة والزراعة والقطاع المالي والسياحة والبناء”.

الجدير بالذكر أن أردوغان وبوتين اتفقا على عقد الاجتماع القادم لمجلس التعاون “التركي ـ الروسي” رفيع المستوى في تركيا، دون تحديد موعد معين

——————————-

قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان… ماذا استجد منذ قمة طهران؟

باكتسابها شهرة كطريق التفافيّ على الملفات الخلافية بين روسيا وتركيا، تنتظر مدينة سوتشي وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إليها، يوم الجمعة، لعقد قمة، وصفها مراقبون بـ “المصيرية”، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك بعد أقل من شهر على قمة ثلاثية عقدها الرئيسان الروسي والتركي مع الرئيس الإيراني في طهران ضمن مسار آستانا لحل الأزمة السورية.

وكان الملفّ السوري بتشعباته الميدانية والسياسية هو المحور الأساسيّ الذي ناقشته قمة طهران الثلاثية، وقد تم في ختامها صوغ بيان ختامي لا يختلف كثيراً في مضمونه عن البيانات السابقة التي كانت تصدر عن اجتماعات آستانا على مختلف مستوياتها، ولكن المتوقّع من قمة سوتشي الثنائية بين أردوغان وبوتين أن تتناول الملفّ السوري في سياق الارتباطات التي تجمعه مع ملفات إقليمية ودولية أخرى ويكون مؤثراً فيها أو متأثراً بها.

ونظراً الى قرب موعد انعقاد قمة سوتشي بعد أسابيع قليلة من انعقاد قمة طهران، وهو ما لم تحدث تطورات هامة تستوجب تقديمه أو تتطلب من الرئيسين التركي والروسي التوجّه لعقد لقاء قمة ثانٍ خلال هذه الفترة القصيرة، يبدو أنه يوجد تفسيران اثنان لا ثالث لهما للاستعجال في عقد قمة سوتشي: يذهب التفسير الأول إلى أن قمة طهران لم تنجح في ردم الهوة بين مواقف الدول الثلاث حول النقاط الخلافية في ما بينها في الملف السوري وعلى رأسها العملية العسكرية التي يهدد أردوغان بشنّها، وهو ما تطلب من الأخير أن يطلب عقد قمة ثنائية مع الرئيس الروسي مستشعراً تشدد الموقف الإيراني من تهديداته، واحتمال أن تكون روسيا لديها القدرة وربما الإرادة على إبداء مرونة أكبر في تلبية المطالب التركية.

ويذهب التفسير الثاني إلى العكس من ذلك تماماً، ويرى أن انعقاد القمة الثنائية بين أردوغان وبوتين إنما يأتي في إطار استكمال ما تم التفاهم عليه من تحت الطاولة في طهران، وأنه بعد أن شهدت قمة طهران توافقات سرية حول مصير العملية العسكرية التركية في سياق الوساطة التي تقودها طهران بين دمشق وأنقرة، ووضعت طهران خطوطها الحمر، سيجتمع الرئيسان الروسي والتركي من أجل التوصل إلى تفاهمات تفصيلية حول المرجعية السياسية والأمنية التي تحكم علاقة أنقرة بدمشق وكيفية تحقيق مطالب أنقرة الأمنية من دون انتهاك تلك المرجعية.

ولم يكن من قبيل الصدفة أن يدلي وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بعد أيام قليلة من إعلان موعد قمة سوتشي بتصريح جدليّ أكد فيه استعداد بلاده لتقديم الدعم للنظام السوري في محاربته التنظيمات الإرهابية.

ورغم أن دمشق مضت قدماً في مسار التنسيق العسكري مع “قوات سوريا الديموقراطية” معربة عن استعدادها لمواجهة أي عدوان تركي، غير أن هذا التنسيق العسكري الذي توج بإجراء مناورات تدريبية نادرة بين الطرفين، لم يتكلل بتقارب سياسي بين الطرفين.

وفي هذا السياق أكد رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي صالح مسلم، الذراع السياسية لـ”قسد”، أن الوفد الكردي الذي طرق باب دمشق عاد خائباً، وقال في لقاء مصور مع وكالة “باز” (BAZ) الكردية أن “لقاء الوفد مع النظام لم تصدر عنه نتائج لأنه لم تكن هناك مباحثات، ولكن بسبب التهديدات التركية، كان هناك اتفاق سابق عام 2019 مع النظام بوقف إطلاق النار، والروس لعبوا دور الضامن لهذه الاتفاقية، ولذلك جرى تنسيق الأطراف العسكرية بين “قسد” والنظام”.

ولم تستبعد صحيفة “الوطن السورية” المقربة من الحكومة السورية، أن تشهد قمة سوتشي المرتقبة “احتمال التوصل، وعبر مباحثات مفصلة، إلى صيغ واتفاقيات تحكم مستقبل خطوط الاشتباك السورية شمال وشمال شرقي البلاد، كما هي عادة القمم الثنائية بين الرئيسين التركي والروسي، وخصوصاً في محطات “سوتشي” القادرة على تحقيق اختراقات وإنتاج “تفاهمات” جديدة تقرب مصالح البلدين المتضاربة والمتنافرة”.

في مقدم التوقعات لمخرجات القمة المقبلة، بحسب المراقبين، استمرار وضع العملية العسكرية التركية التي هدد نظام أردوغان بشنها منذ 23 أيار (مايو) الماضي لاقتطاع أراضٍ سورية جديدة لإقامة ما سماه “المنطقة الآمنة” المزعومة، وخصوصاً في تل رفعت ومنبج، على الرف أو في الثلاجة، مع البحث عن “مسارات بديلة” تنقذ ماء وجه أردوغان أمام ناخبيه في الداخل التركي قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في تموز (يوليو) المقبل.

وذكرت الصحيفة أن من تلك المسارات، “وضع اتفاق أضنة الأمني بين دمشق وأنقرة لعام 1998 حيز التنفيذ، ولو على مراحل، بحيث “يقنع” الضامنان الروسي والإيراني لمسار آستانا ميليشيات “قوات سوريا الديمقراطية”، بتطبيقه على الرغم من ضغوط واشنطن عليها للابتعاد من محور موسكو- طهران- دمشق”.

وقد أكد الكاتب السوري الدكتور أحمد الدرزي هذا السيناريو حيث أشار في إحدى مقالاته الى أن “هذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا بإعطاء مؤشر أولي بالانسحاب إلى شمال طريق “M4″، تنفيذاً لاتفاق 5 آذار (مارس) 2020 بين الرئيسين، والذهاب نحو العودة إلى اتفاق أضنة 1999 بين سوريا وتركيا، في مقابل إزالة هواجس الأمن القومي التركي في الشمال السوري، والاعتراف الرسمي بالواقع السياسي في سوريا، والعودة إلى العلاقة مع دمشق ضمن رؤية إقليمية مختلفة لا وجود فيها للولايات المتحدة الأميركية”.

وأشار موقع “أوغاريت” المعارض في افتتاحيته، الأربعاء، إلى أن “قرار أي عملية عسكرية تركية في سوريا هو بيد بوتين أكثر من أي طرف آخر متدخل في الأزمة السورية”. ولم يستبعد الموقع أن “توافق روسيا على النوايا التركية بشن عملية عسكرية، كونها ستضعف “قوات سوريا الديموقراطية” وتقلص مساحة سيطرتها إضافة الى إمكان أن تنسحب القوات الأميركية من البلاد، وهو ما سبق أن طلبته روسيا وإيران وتركيا خلال قمة طهران وأيضاً تريده الحكومة السورية”، مرجحاً أنه في حال بدأ أي هجوم فإن الولايات المتحدة ستكون مجبرة مجدداً بسحب قواتها من شمال سوريا، كما حصل في 2019″.

ويمكن أيضاً أن تقدم أنقرة مناطق تحت نفوذها للروس والإيرانيين مقابل السماح لها بشن عمليتها العسكرية،فهناك حديث عن امكان تغاضي تركيا عن هجوم لقوات الحكومة وإيران على مناطق سيطرة فصائل “الجيش الوطني” في “درع الفرات وغصن الزيتون” بدعم جوي روسي، حيث تشهد تلك المناطق منذ أيام تصعيداً عسكرياً عنيفاً، بحسب الموقع ذاته.

ويرى مراقبون أن الرئيس الروسي في حال قبوله بأي عملية عسكرية تركية في شمال سوريا، فإنها ستكون محدودة جداً، حيث تضعف “قوات سوريا الديموقراطية” ويمكن أن تقدم تنازلات أكثر لدمشق في الشق العسكري والسياسي، كما ستقلل من النفوذ الأميركي، مشيرين إلى إمكان أن تدفع روسيا أنقرة للهجوم على مناطق “شرق الفرات” وهي مناطق نفوذ التحالف وأميركا، مستبعدين أن توافق موسكو على أن توسع تركيا نفوذها على حسابها في سوريا.

النهار العربي

——————–

التحالف الروسي-الإيراني إلى توسّع… “عديقان” مجبران على التعاون/ عمار جلّو

بالتزامن مع زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران، لحضور مؤتمر أستانا، وقّعت شركتا النفط، الإيرانية الوطنية وغازبروم الروسية، مذكرة تفاهم بقيمة 40 مليار دولار تقريباً، تساعد “غازبروم” بموجبها شركة النفط الإيرانية الوطنية على تطوير حقلي غاز وستة حقول نفط، فضلاً عن المشاركة في مشروعات الغاز الطبيعي المسال ومد خطوط أنابيب لتصدير الغاز.

إذ استضافت العاصمة الإيرانية، طهران، في 19 تموز/ يوليو الفائت، القمة السابعة لقادة دول مسار أستانا الذي تأسس إثر توافق روسي-تركي عام 2017، انضوت إيران فيه لاحقاً. وبالرغم من أنّ الاجتماع كان مخصصاً للمسألة السورية، فقد ناقش الزعماء الثلاثة أهم القضايا على الساحتين الإقليمية والدولية، كالحرب الأوكرانية، وأزمة الغذاء والطاقة؛ بالإضافة إلى قضايا ثنائية.

سعى بوتين من خلال لقائه بالمسؤولين الإيرانيين، وفي مقدمتهم المرشد الأعلى علي خامنئي، إلى ترسيخ التحالف الإيراني-الروسي، كثقل موازٍ للجهود التي تقودها الولايات المتحدة لاحتواء الدولتين.

وقال مكتب خامنئي في بيان إثر اللقاء، إن “الحرب مسعى عنيف وصعب، والجمهورية الإسلامية ليست سعيدةً على الإطلاق لأن الناس محاصرون في الحرب، لكن في حالة أوكرانيا، إذا لم تتولَ القيادة الروسية المبادرة، لكان الطرف الآخر قد فعل ذلك وبدأ الحرب”، وأشار البيان إلى أهمية التعاون بين البلدين في ظل العقوبات الغربية على روسيا، ومثيلاتها التي خنقت الاقتصاد الإيراني لسنوات.

في المقابل، صرّح مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، بأن “الولايات المتحدة تلقت معلومات تشير إلى أن إيران تخطط لتزويد روسيا بمئات الطائرات من دون طيار لمساعدتها في حربها في أوكرانيا”، مضيفاً أنّ “تعميق روسيا لتحالفها مع إيران من أجل قتل الأوكرانيين، أمر ينبغي للعالم بأسره النظر إليه كتهديد حقيقي”.

وبعد القمّة، تداولت معلومات صحافية قيام وفود روسية بزيارة إلى مطار كاشان جنوب طهران مرتين خلال الشهر الماضي للاطلاع على طائرات شاهد191، وشاهد129، من دون طيار، اللتين يمكن تجهيزهما بصواريخ دقيقة التوجيه.

تتويج التفاهم

يرى الأكاديمي والمحلل السياسي الخبير في الشأن الروسي، نصر اليوسف، أن “العلاقة الطيبة بين موسكو وطهران في مستويات متقدمة قد تحملها إلى شراكة إستراتيجية. ولطالما دافعت موسكو عن إيران في مجلس الأمن والمحافل الدولية، وكانت من الداعمين الرئيسيين لاتفاقية الملف النووي الإيراني عام 2015، بالإضافة إلى استخدام موسكو للأراضي الإيرانية كنقطة لوجيستية لتنفيذ عملياتها العسكرية في سوريا. وبالرغم من تشعب العلاقات بينهما إلا أن ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما”.

ويضيف في حديثه إلى رصيف22: “أدت القمّة الثلاثية التي عُقدت في طهران مؤخراً إلى تفاهمات ثنائية للارتقاء بالعلاقات بين البلدين إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية، كتتويج لحالة التفاهم والتناغم بين البلدين في النظر إلى كثير من الأحداث والصراعات التي يشهدها العالم بدءاً من سوريا وأذربيجان وأرمينيا والعلاقات بين الشرق والغرب عموماً”.

ومن المفارقات أن سوريا التي ساهمت أحداثها في خلق نوع من التقارب/ الشراكة الروسية-الإيرانية، شكلت في الوقت ذاته سبباً للخلاف الذي يظهر بحدة أحياناً ليشكّل أكبر تهديد للعلاقة بين الجانبين.

وينفي الدبلوماسي السوري السابق، بسام بربندي، وجود تنافس روسي إيراني، فـ”العلاقة بينهما علاقة تكامل وتفاهم، يمكن وصفها بالمرحلة الإيجابية، وصل خلالها التبادل التجاري بين موسكو وطهران إلى أربع مليارات دولار، مع الاتفاق على زيادته إلى أربعين ملياراً”.

ويضيف بربندي لرصيف22: “حينما طلبت روسيا من المجتمع الغربي (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا)، ألا يشمل علاقتها بإيران أي حظر مما فُرض عليها بسبب الحرب الأوكرانية، ثم أبدت الأخيرة تفهمها للطلب الروسي بعد امتعاضها منه بدايةً، بسبب تأثيره على المفاوضات النووية، مما يوحي بحالة التفاهم والتناغم بين الدولتين”.

التحالف الإستراتيجي

ينظر الباحث المشارك في مركز تحليل السياسات الإيرانية، مصطفى النعيمي، إلى الغزو الروسي لأوكرانيا كمساهم في تشكيل تحالف إستراتيجي بين إيران وروسيا، من منظور حالة التخادم بين الطرفين في مواجهة العقوبات الأمريكية، بالإضافة إلى الدعم العسكري في ما بينهما، ومساعي إيران إلى استغلال نفوذ روسيا لتحقيق مآربها في المجالات كافة.

وعليه، يفسر النعيمي، في حديثه إلى رصيف22، ترك الباب مفتوحاً من قبل طهران أمام تزويد روسيا للصين بالنفط، إذ “يأتي هذا التفهم في إطار إستراتيجية تخدم الضرورة وأولويات الأهداف للأطراف الثلاثة بعيداً عن أنظمة التجارة العالمية “سويفت”، مع مساعي الدول الثلاث إلى إنشاء تحالف اقتصادي CIPS، بديل من نظام سويفت، يقوم بإيصال المال عبر الحدود بين بنوك الدول الثلاث، ما يمنحها هامش القدرة على تجاوز العقوبات بنسبة تتعدى 30% وتساهم في تعافي اقتصاداتها التي تتجه صوب حافة الانهيار”.

وفي مستهلّ زيارته إلى روسيا مطلع هذا العام، صرّح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بأنّ المصالح المشتركة بين إيران وروسيا في المنطقة “ستضمن الأمن وتضع حداً لنهج الأحادية في المنطقة. ويمكن للبلدین توظيف إمكاناتهما لتحسين الأوضاع في المنطقة”.

وبالتزامن مع تلك الزيارة، صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، أنّ “صياغة وثيقة التعاون التي تبلغ مدتها 20 عاماً مع روسيا أوشكت أن تنتهي”، وأنّها ستكون مماثلةً لـ”وثيقة التعاون الإيرانية الصينية التي تبلغ مدتها 25 عاماً”.

وُقعت هذه الاتفاقية للمرة الأولى في 12 آذار/ مارس 2001، في موسكو، بحضور رئيسي البلدين، محمد خاتمي وفلاديمير بوتين، تحت عنوان “قانون الاتفاقية الأساسية للعلاقات المتبادلة ومبادئ التعاون بين جمهورية إيران الإسلامية والاتحاد الروسي”، وهي تنصّ على إبرامها لمدة 10 سنوات، و”إذا لم يقم أي من الطرفين بإخطار الطرف الآخر كتابياً بنيته إنهاء الاتفاقية قبل عام واحد على الأقل من انتهاء سريانها، فسيتم تمديدها تلقائياً لمدة 5 سنوات”.

وتحتوي الاتفاقية مقدمةً و21 مادةً. وتشير المادة 6 من المعاهدة، إلى التعاون بين البلدين في مجال الطاقة، بما في ذلك الطاقة النووية، وتنص على أن “يتعاون الطرفان بهدف توسيع علاقات طويلة الأمد لتنفيذ مشاريع مشتركة في مجالي النقل والطاقة، بما في ذلك الاستخدام السلمي للطاقة النووية وبناء محطات الطاقة النووية والصناعات والعلوم والتكنولوجيا والزراعة والصحة العامة”.

بحسب اليوسف، فإن “التنافس الظاهر بين موسكو وطهران لا يصل إلى حد العداء، بل على العكس، تستنجد طهران بموسكو كلّما ضاق الأمر عليها والمثال السوري حاضر، كذلك الوقوف الواضح للدولتين إلى جانب أرمينيا في صراعها مع أذربيجان، على الرغم من العامل الأيديولوجي المذهبي الذي يجمع إيران بأذربيجان. وجاءت العملية العسكرية التي تخوضها موسكو في أوكرانيا محفزاً لبحث موسكو عن شركاء جدد، لتحقيق ما تبتغيه وتعلن عنه منذ زمن بعيد من إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، وتمثل إيران أحد الداعمين لهذا التوجه”.

تكامل الأدوار

يقول بربندي، إن “حالة تقاسم الأدوار ظاهرة بين روسيا وإيران، بالرغم من الأهداف المتمايزة بينهما، فكلتاهما تسعيان إلى ضرب المصالح الأمريكية أو مواجهتها بالحد الأدنى، كما أن الأهداف التي تجمعهما أكثر مما يفرقهما، وهذا يصب في خانة الأهداف الإستراتيجية. بالإضافة إلى أن تضاعف حدة اللهجة الأمريكية ضد روسيا بسبب أوكرانيا، وضد إيران بسبب مشروعها النووي، قوّت روابط العلاقة بينهما، ناهيك عن النظر إلى تقاطع المصالح بين موسكو وطهران حول بحر قزوين ومنظمة شنغهاي ودول وسط آسيا”.

ويمثل التعاون فى المجالين النووي والعسكري حيزاً كبيراً من الشراكة بين البلدين، إذ تُعدّ روسيا الشريك الأساسي لإيران في برنامجها النووي ومصدر تزويدها بالتكنولوجيا النووية، بالإضافة إلى التعاون في الحفاظ على “أمن المنطقة”. مع ذلك امتنعت موسكو حتى الآن، عن تزويد طهران بالأسلحة التقليدية المتطورة، ومنها منظومة الدفاع الصاروخي أس 400.

ويرى اليوسف أن العلاقة القوية بين دولة عظمى عالمية ودولة عظمى إقليمية تفيد الطرفين، وعليه، فروسيا التي تسعى إلى تشكيل عالم متعدد الأقطاب ستستفيد من الوزن الإقليمي لإيران، في مقابل استفادة الأخيرة من وجود محامٍ عنها يمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن.

إلا أن العقدة الروسية في تحقيق التوازن بين علاقتها بطهران، وعلاقتها بدول الخليج العربي، من خلال إقناع الطرفين بأن العلاقة مع أحدهما ليست موجهةً ضد الطرف الآخر. ولكن هل تتمكن موسكو من إقامة هذا التوازن في العلاقات؟ يسأل اليوسف.

ويضيف: “بعد إحجام الكرملين عن بيع أسلحة متطورة إلى طهران في السنوات الماضية، خشية وقوع الشركات الروسية تحت مقصلة العقوبات الغربية، فإن العقوبات الأخيرة والشديدة على الجانب الروسي فتحت الباب أمامها من أجل تزويد طهران بهذه الأسلحة. فلم يعد أمام الكرملين والشركات الروسية ما تخشاه، بعد أن فعل الغرب ما في استطاعته فعله”.

لسنوات مضت كانت موسكو حريصةً على عدم الاقتراب أكثر من اللازم من طهران، بالرغم من العدائية المشتركة بينهما للولايات المتحدة الأمريكية، وتعاون موسكو وطهران عسكرياً في حرب سوريا. فبالنسبة إلى بوتين، ضيّقت محاولاته بناء علاقات مع إسرائيل والدول العربية من هامش مناوراته في إقامة تحالف كامل مع طهران، إلا أن الحرب الأوكرانية غيّرت المعادلة.

غير أن النعيمي، يرى أن “الحاجة الماسة إلى إمداد القوات الروسية المساهمة في غزوها لأوكرانيا والعقوبات المفروضة على موسكو تصّعبان رجحان كفة على أخرى لدى موسكو التي تمسك العصا من المنتصف في تفاهماتها، لا سيما العسكرية في مناطق التوتر والنزاع، ضمن أولويات إدارة الأزمة في روسيا، بالإضافة إلى حالة عدم الثقة التي يبديها الجانب الإيراني تجاه روسيا، نظراً إلى انحياز موسكو الواضح إلى حلفائها بعيداً عن الأولوية الإيرانية”.

وعليه، “من المبكر جداً الحديث عن صفقات عسكرية وفقاً للتكتيكات التي تتبعها روسيا مع حلفائها وخصومها لما قد يعود من أضرار على بنية المؤسسة العسكرية الروسية، خاصةً أنها تخوض معركةً تُعدّ الأكبر في الحروب التي تجري في العالم، لكنها تترك الباب مفتوحاً تجاه تأمين عجزها الحاد في مجال المسيّرات مستعينةً بطهران لسد العجز الحاصل عن تعثر تقدم قواتها في المعارك المختلفة التي تحوضها في أوكرانيا”، يختم النعيمي.

يلخص أحد كبار الباحثين الروس المتخصصين في الشأن الإيراني، رجب سافاروف، في حديث صحافي، العلاقة الروسية الإيرانية بالقول: “إيران الموجّهة نحو الغرب ستكون أسوأ لروسيا من إيران المسلّحة نووياً، وستقود إلى انهيار روسيا”.

رصيف 22

—————————-

بين بوتين واردوغان: قمة سوتشي الناجحة عدا سوريا/ منهل باريش

نجحت قمة سوتشي بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان، الجمعة، بتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين إضافة إلى قضية القمح الأوكراني. إلا أنه من الواضح أنها أخفقت بشأن العملية العسكرية التركية التي تنوي أنقرة شنها ضد قوات سوريا الديمقراطية «قسد». وتعتبر العملية العسكرية الهدف الرئيسي من زيارة اردوغان إلى روسيا، خصوصا بعد الرفض الإيراني الصريح على كافة المستويات لمطلب الرئيسي التركي، فحاول تدوير الزوايا مع بوتين منفردا. إلا أن مؤشرات رفض الكرملين لتلك العملية توضحت مع شطب المؤتمر الصحافي للزعيمين من برنامجها.

وأعرب بوتين قبيل لقائه اردوغان أنه سيناقش معه «قضايا إقليمية في مقدمتها الأزمة السورية، فتركيا تقدم إسهاما كبيرا في تطبيع الوضع هناك» بدون الخوض في التفاصيل.

وفي السياق، كان المتحدث الرسمي باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، أعلن قبل عدة أيام أن «المفاوضات ستخصص مع اردوغان لقضايا التعاون الثنائي والاقتصاد ومناقشة المشاكل الإقليمية، بالإضافة إلى سوريا وأوكرانيا». ووصف بيسكوف المخاوف الأمنية التركية قبيل القمة أنها «مشروعة» واستدرك في تصريح للصحافيين «من المهم تجنب الأعمال التي يمكن أن تهدد سلامة أراضي سوريا ووحدتها السياسية».

وواجهت تركيا في قمة طهران 19 تموز (يوليو) رفضا مزدوجا من قبل روسيا وطهران للعملية العسكرية التركية التي أعلن اردوغان العزم على شنها منذ مطلع شهر حزيران (يونيو) غير مرة.

وتُصر تركيا على شن عملية عسكرية ضد المقاتلين الأكراد الذين تصنفهم على لوائح الإرهاب بصفتهم ذراع سوريا لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا ضد الحكومة التركية منذ 1984. وأعلنت أنقرة نيتها شن عملية عسكرية ضد وحدات حماية الشعب الكردية «PYD» وإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كم، مستندة بذلك إلى اتفاقية أضنة الأمنية مع دمشق والتي وقعت في عهد الرئيس حافظ الأسد 1998 وتعديلاتها. وركزت في الآونة الأخيرة على شن هجوم على منطقة تل رفعت وتخلت نسبيا عن التهديد باجتياح منبج وبدأت حملة دعائية في تركيا والأوساط الإعلامية والسياسية بقرب موعد عملية تل رفعت التي ذكرها اردوغان في عدة خطابات ولقاءات داخل بلاده، وتجنب فتح معركة في منطقة شرق الفرات أو التهديد بالاجتياح باعتبارها منطقة نفوذ أمريكية ولا تفضل تركيا عودة التوتر مع أمريكا ودول حلف شمال الأطلسي لعدة أسباب، خصوصا بعد فرض شروطها على فنلندا والسويد، في قمة قادة الحلف بمدريد في 28 حزيران (يونيو) بما يتعلق بقضية حزب العمال الكردستاني وقادته المتواجدين هناك أو تسليم المطلوبين لأنقرة وهو ضمن الموافقة التركية على انضمام الدولتين إلى الحلف.

ويضاف إلى تلك الأسباب رغبة تركية بتلطيف الأجواء مع أمريكا من أجل تمرير صفقة تعمير وتعديل طائرات اف-16 التركية التي تشكل القوة الضاربة للأسطول الجوي التركي. ورفض الكونغرس الأمريكي لتلك الصفقة سيؤخر من مقدرات تركيا الجوية كونها تبلغ 80 طائرة ولا تقتصر الصفقة على تعديل وترقية هذا العدد الكبير، بل تسعى أنقرة إلى شراء 40 طائرة جديدة في أكبر صفقات شراء السلاح التي ترغب بها.

ميدانياً وفي سابقة رفع العلم الإيراني في مطار منغ العسكري القريب من مدينة إعزاز الحدودية مع تركيا، كذلك عززت قوات النظام السوري مواقع جديدة في خطوط الجبهات مع الجيش الوطني السوري المعارض والجيش التركي في عفرين. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية عن مناورات مشتركة بين جيش النظام وقوات سوريا الديمقراطية «قسد» في ريف حلب الشرقي. وبثت الوزارة في سياق التدريبات شريطا مصورا يظهر قيام القوات الروسية وجيش النظام بمناورات بالذخيرة الحية على أحد جوانب بحيرة الطبقة، شاركت فيها المقاتلات الجوية الروسية والطائرات المروحية الهجومية ونفذت مناورات برمائية وقفز من المروحيات في المياه، إضافة إلى عمليات قصف صاروخي. ولم يظهر في المناورة المعلنة أية مشاركة لـ «قسد» باعتبارها سبقت المناورات التي شاركت بها بنحو أسبوع.

ويعزز رفع العلم الإيراني في مطار منغ من رفض طهران للمعركة العسكرية التركية باعتبارها تهدد النفوذ والتواجد الشيعي في بلدتي نبل والزهراء بسبب التداخل بين منطقة تل رفعت والبلدتين المذكورتين، حيث يفصل بين المنطقتين بلدتا دير جمال وكفر نايل فيما تعتبر ماير ملاصقة لهما. وأي تغيير في خريطة السيطرة لصالح الجيش الوطني السوري المعارض الموالي لأنقرة يجعل البلدتين تحت نيران مدفعية الجيش المذكور ويجعل ذلك ورقة مساومة ضد إيران، وهي ما لا تفضله خصوصا بعد تجربتها السابقة عندما حاصرت فصائل المعارضة السورية ممثلة بجيش الفتح بلدتي الفوعة وكفريا وهما شيعيتان منذ السيطرة على مدينة إدلب في ربيع 2015 حتى إجلاء آخر المحاصرين من العسكريين والمدنيين 2018 في صفقة المدن الأربع الشهيرة وهما بلدتا الفوعة وكفريا مقابل الزبداني ومضايا.

ويضاف إلى أسباب الرفض الإيراني للعملية العسكرية التركية، الرغبة الإيرانية بالتحكم بطريق التجارة مستقبلا بين غازي عنتاب وحلب، وإبعاد تركيا عن مدينة حلب بالمعنى السياسي أيضا وتكريس خروج الأخيرة منها بعد عملية سقوطها بيد النظام وطرد فصائل المعارضة منها في كانون الأول (ديسمبر) 2016.

على صعيد آخر، فإن روسيا لا تفضل تغيير خريطة السيطرة في ريف حلب الشمالي لكي تبقي المقاتلين الأكراد كورقة ضغط على أنقرة وفصائل المعارضة بشكل دائم، كما أنها لا تريد دفعهم لان يصبحوا أكثر تشددا ضد النظام وان ينتهوا بالحضن الأمريكي دون رجعة، بعد أن أبدوا ليونة في المفاوضات عدة مرات وسمحوا للنظام السوري والقوات الروسية بالتقدم على عدة مناطق في شرق الفرات وتسليمهم لنقاط عسكرية عديدة للنظام لها رمزية عسكرية كبيرة ومنها اللواء 93 في عين عيسى غربي محافظة الرقة.

ويبدو من الجلي أن المنطقة الوحيدة التي توافق موسكو خلالها على عملية عسكرية تركية هو أن يكون محور الهجوم في منطقة شرق القامشلي وهي المنطقة التي فشلت روسيا بالوصول إليها عدة مرات والتمركز بها. وهي منطقة النفوذ الأمريكي والتي لا تسمح القوات الأمريكية بالتغلغل الروسي فيها وتعتبرها خطا أحمر. إلا أن أنقرة تتجنب ذلك في الوقت الحالي وتدرك عواقب الأمر، وتسعى إلى تهدئة التوتر مع واشنطن.

إن عدم مقدرة اردوغان انتزاع موافقة بوتين على العملية العسكرية في سوريا ضد المقاتلين الأكراد لا يعني انتهاء الإصرار التركي على العملية، ولكنه سيدفع الرئيس التركي للبحث عن سبب آخر وورقة مفاوضة جديدة يقدمها لبوتين مقابل إطلاق يده في شمال سوريا. ولعل الرفض الإيراني الروسي المزدوج سيجعله يبحث عن هدف لا يثير الرفض المزدوج، فاردوغان بحاجة لانتصار عسكري جديد ضد المقاتلين المرتبطين بحزب العمال الكردستاني يسهل انتخابه لولاية رئاسية جديدة في الصيف المقبل.

القدس العربي

————————-

من طهران إلى سوتشي.. تبادل رسائل النار والمصالح/ صلاح الدين هوى

لم يكد يجف حبر بيان قمة طهران التي جمعت رؤساء تركيا وإيران وروسيا أواخر تموز الفائت، حتى تحول التفاوض بين الدول المجتمعة إلى مواجهات في الميدان. حيث لم تستطع الابتسامات والعبارات الدبلوماسية المنمقة إخفاء صراع الإرادات وتضارب المصالح على الأرض. وفي حين انصرفت تركيا لاستكمال الاستعدادات لشن عملية عسكرية شمالي سوريا، عملت روسيا وإيران وأذرعهما على تشكيل جبهة موحدة للتصدي للقوات التركية. فرض مشهد ما قبل اندلاع حرب حقيقية بين هذه الأطراف، الإسراع في عقد قمة تركية – روسية في سوتشي في 5 آب بهدف الوصول إلى تفاهم مرضٍ لجميع الأطراف. فكان الاجتماع الماراثوني بين الرئيسين إردوغان وبوتين مؤشراً على ضراوة وربما شمولية المفاوضات بين الجانبين.

قمة طهران.. تبادل رسائل النار

على وقع التحضيرات التركية لشن عملية عسكرية بالاشتراك مع فصائل الجيش الوطني السوري، عقد رؤساء إيران وروسيا وتركيا قمة ثلاثية في طهران في تموز الفائت. وقد سبق قمة طهران تصريحات متتالية للرئيس التركي وأركان حكومته عن عزمهم تنفيذ عملية عسكرية تهدف لتحرير مدينتي تل رفعت ومنبج والمناطق المحيطة بهما من سيطرة ميليشيات قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ورغم خيبة أمل قسد بعد تخلي حلفائها الولايات المتحدة وروسيا عنها، إلا أنها تنفست الصعداء بعد قمة طهران التي كشفت تضارب المصالح بين تركيا وإيران وروسيا. فلم تكد وفود الأطراف الثلاثة تصل إلى بلدانها، حتى بدأت نتائج القمة تتكشف عن رسائل نارية تمثلت بتعرض القواعد التركية لقصف نفذته قسد والميليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق. كما خطَت روسيا خطوات تصعيدية إضافية من خلال إشرافها على تشكيل غرفة عمليات موحدة ضمتها مع إيران والنظام السوري وقسد وما تلا ذلك من مناورات مشتركة لهذه الأطراف لمواجهة القوات التركية.

كل هذه التطورات وضعها الرئيس إردوغان أمام أعضاء مجلس الأمن القومي التركي الذين فضّلوا على ما يبدو استمرار التحضيرات للعملية العسكرية جنباً إلى جنب مع استخدام مسيرات بيرقدار “لاصطياد” كبار قادة قسد. فكان تأجيل البدء بالعملية العسكرية الخيار الأنسب ريثما تجري القيادة التركية مباحثات جديدة مع الجانب الروسي الذي يمسك بخيوط اللعبة السورية كلها تقريباً. الأمر الذي دفع الجانب التركي لطلب عقد قمة ثنائية روسية-تركية (دون دعوة الجانب الإيراني) انطلاقاً من إدراك تركيا أن روسيا قادرة على إلزام باقي الأطراف بالانصياع لأي اتفاق يتوصل له الطرفان. كما تدرك تركيا جيداً أن الجانب الإيراني يحاول جرها إلى حرب استنزاف ضد وكلاء إيران في العراق وسوريا بشكل مشابه تماماً لحرب الاستنزاف التي تخوضها السعودية ضد الحوثيين -وكلاء إيران في اليمن.  لكن ما الأوراق التي استخدمها الرئيس إردوغان لإقناع الرئيس بوتين بالقبول بخطط تركيا في الشمال السوري؟

قمة سوتشي.. تبادل رسائل المصالح

رغم أنه لم ترشح معلومات مؤكدة عمّا جرى في قمة سوتشي بين الرئيسين إردوغان وبوتين، إلا أن لغة الواقعية السياسية التي يمتاز بها الرئيسان والتي أسهمت بحل عدة نزاعات إقليمية ودولية هي ما ميّزت اللقاء. ففي حين يبدو الموقف التركي متأزماً في الشمال السوري، فإن الموقف الروسي أشد تأزماً بعد غزو أوكرانيا وتحوله إلى حرب طويلة الأمد. فالرئيس التركي في موقف محرج أمام الشعب والمعارضة التركية التي تُعدّ لإسقاطه في الانتخابات القادمة، وكذلك أمام أعدائه الخارجيين كالنظام السوري وقسد بسبب عدم قدرته على تنفيذ العملية التي توعد بها مؤخراً. من ناحية أخرى، يبدو الرئيس الروسي غارقاً في حرب وعَد شعبه أن يحسمها خلال أسابيع قليلة. لكن ها هي تدخل شهرها السادس مع ما حَملَتْه من خسائر فادحة للقوات الروسية وما جرّتْه على البلاد من عقوبات اقتصادية وسياسية قاسية جعلت الرئيس بوتين في موقف لا يحسد عليه.

عوامل القوة التركية.. بوادر أمل

تشير الساعات الأربع التي استغرقتها محادثات الرئيسين في سوتشي أن الرئيس إردوغان ألقى ما في جعبته من أوراق القوة أمام الرئيس بوتين لينتزع منه ما جاء لأجله. فمع انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، استطاعت تركيا الاحتفاظ بموقف محايد رغم تزويدها الجيش الأوكراني بعدد من طائرات بيرقدار التي لعبت دوراً حاسماً في الأشهر الأولى من الغزو. لكن يبدو أن تركيا جمدت لاحقاً تزويد أوكرانيا بأعداد إضافية من هذه الطائرات (لتجنب التصادم مع روسيا)، كما استضافت المباحثات الأوكرانية الروسية لمحاولة إنهاء الحرب. فاستغل الرئيس بوتين هذه المباحثات ليسحب قواته من محيط كييف ويعيد نشرها في إقليمي لوهانسك ودونيتسك، وليتلافى بذلك الخسائر التي كادت تطيح به في الأشهر الأولى من الغزو. كما استطاعت تركيا التوسط مجدداً بين الطرفين لتنجح بالتوصل لاتفاق إسطنبول لتصدير القمح الأوكراني إلى دول العالم. وجاءت معارضة تركيا انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو لتزيد من الحاجة الروسية لتركيا إذْ وفرت عليها إعلان الحرب على دول جديدة على غرار ما فعلت مع أوكرانيا.

رغم الملفات الأخرى التي تناولتها قمة سوتشي، إلا أن الشعب السوري يترقب “رياح التغيير” التي وعد بها الرئيس بوتين كما ينتظر إثبات الرئيسين قدرتهما مجدداً على تجاوز المأزق الراهن في الشمال السوري. وفيما تبدو مرحلة الانتقال السياسي بعيدة المنال، فإن أهالي منبج وتل رفعت يتوقون للعودة إلى بيوتهم التي هجرهم منها تنظيم قسد بدعم روسي. حتى إذا لم تحصل تركيا على ضوء أخضر روسي للسيطرة عليهما معاً (بسبب تمسك إيران الشديد بتل رفعت التي تشكل حزاماً يحيط ببلدتي نبل والزهراء الشيعيتين)، فمن المرجح أن تكون السيطرة على منبج فقط حلّاً مُرْضياً لجميع الأطراف. وستبرهن الأيام القادمة أن لغة المصالح في قمة سوتشي أقوى من رسائل النار بعد لقمة طهران.

تلفزيون سوريا

———————–

بوتين وأردوغان… براغماتية بلا حدود/ أسعد عبود

عندما يريد الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، تجنب تسمية الأمور بأسمائها في سوريا، فإنهما يعتمدان صيغة مبهمة كمثل الاتفاق على “محاربة الإرهاب” في هذا البلد، علماً أن الإرهاب في نظر موسكو هو “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل جهادية أخرى تتمركز في الشطر الذي تهيمن عليه تركيا في شمال سوريا، بينما الإرهاب في نظر تركيا، يتمثل في “وحدات حماية الشعب” الكردية وحزب “الاتحاد” الكردي اللذين تعتبرهما أنقرة النسخة السورية لـ”حزب العمال الكردستاني” الذي يقاتل منذ عام 1984 للحصول على حكم ذاتي للأكراد في جنوب شرقي سوريا.

الاتفاق على “محاربة الإرهاب” في سوريا، كان من بين النتائج التي خلصت إليها القمة بين بوتين وأردوغان في سوتشي الجمعة. وهذا يعني أن الرجلين قررا أن ينحيا خلافاتهما جانباً في ما يتعلق بسوريا. وأقصى طموح بوتين، هو أن يحول دون شن أردوغان عملية عسكرية تركية جديدة في الشمال السوري، في توقيت غير مناسب لروسيا المنشغلة بكليتها للحرب في أوكرانيا. وأي هجوم تركي في الظرف الراهن من شأنه أن يترك تداعيات سلبية على الحكومة السورية، وهذا ما لا تريده موسكو.

وفي مقابل إرجاء هجومه الذي يلوح به منذ أشهر، حصل الرئيس التركي على مقابل لا يستهان به. ذلك، أن روسيا كرسته وسيطاً ناجحاً في اتفاق معاودة تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية، ما جعله يظهر بمظهر المنقذ لعشرات الملايين من البشر من جوع محتم، على أثر معاناة دول كثيرة من نقص في الغذاء بعد نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية.

منح بوتين هذا الامتياز الإقليمي والدولي لأردوغان وحده، علماً أن زعماء دوليين آخرين حاولوا لعب دور الوساطة على هذا الصعيد.

ليس هذا فحسب. بل إن استمرار تزويد روسيا لتركيا بالنفط والغاز واستمرار تدفق السياح الروس على المنتجعات التركية، يوفر لتركيا ما يصل إلى 35 مليار دولار سنوياً. وهذا مبلغ يبدو الاقتصاد التركي في حاجة ماسة إليه لإنقاذه من الركود والحد من تدهوره.

ولذلك، لم ينضم أردوغان إلى العقوبات الغربية على روسيا وبقي محتفظاً بعلاقة ودية مع كل من موسكو وكييف.

إن أردوغان يحاول التأقلم مع ظروف الحرب وإخراج تركيا بأقل الخسائر منها، على عكس دول أوروبية تعاني الأمرين، بحكم العقوبات التي فرضتها على روسيا.

أردوغان نجح في عدم معاداة روسيا أو أوكرانيا. وأبقى مصلحة تركيا هي الأولوية في سياسته الخارجية. ووقف في وجه انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، عندما اقتضت مصلحة بلاده ذلك، وحصل على ثمن سياسي وأمني كبير، لرفع الفيتو التركي عن عملية الإنضمام.

وها هو اليوم يوطد علاقاته بروسيا، ولا يلتفت إلى الانتقادات الغربية، ويحصل في المقابل على تعزيز لموقع تركيا، كقوة إقليمية متقدمة، من البحر الأسود إلى البحر المتوسط. وهذا دور جيوسياسي كبير من شأنه رفع شعبية الرئيس التركي على مسافة أقل من سنة من الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

لا شك في أن عدم تهور أردوغان في اتخاذ مواقف معادية لروسيا عقب غزو أوكرانيا، قد عاد عليه بفوائد جمة. هذا، رغم أن أنقرة سارعت منذ اليوم الأول إلى التنديد بالهجوم الروسي. لكن احتفاظ أردوغان بخطوط التواصل مع بوتين، أثمر توسيعاً لدور تركيا في المنطقة.

وفرضت الواقعية السياسية على كل من بوتين وأردوغان أن يسيرا على حبل مشدود وأن يعرفا كيف يوظفان العلاقة الروسية – التركية لخدمة روسيا وتركيا، وأن لا ينجرفا في سياق المواقف العاطفية التي يتبين حجم الدمار الذي تلحقه ببلدان كثيرة.

النهار العربي

————————

أكراد سوريا و«الخيانات» الأميركية… والروسية/ إبراهيم حميدي

سأل مسؤول عربي وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قبل أيام، عن سر التعاون الفريد بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان، فأجاب لافروف بأن هناك «علاقة شخصية خاصة بينهما. الرئيس بوتين يعتقد أن إردوغان ينفذ ما يتعهد به، رغم الصعوبة والمنافسة بينهما والتاريخ العدائي بين البلدين. تركيا لها نفوذ عسكري في ساحات مختلفة، من ليبيا إلى ناغورنو قرة باغ إلى أوكرانيا، وانتهاء بسوريا، وبوتين يعتقد بإمكانية إيجاد صيغ للتعاون مع إردوغان».

النموذج السوري الأخير لهذا «التعاون العدائي»، يتعلق بنيات إردوغان شن عملية عسكرية في شمال سوريا ضد «وحدات حماية الشعب» الكردية، عمود «قوات سوريا الديمقراطية»، الحليفة لأميركا؛ إذ إنه رغم التهديدات المتكررة من إردوغان والاستعدادات العسكرية لجيشه وفصائل سورية موالية لأنقرة، فإن الهجمات الواسعة لم تبدأ؛ لأن موسكو لم تعطِ الضوء الأخضر لذلك، كما هو الحال في التوغلات التركية السابقة في 2016 و2018 و2019 و2020 التي جرت بتفاهمات روسية-تركية.

الوصفة الجديدة التي أبلغها بوتين لإردوغان لدى لقائهما على هامش القمة الثلاثية (مع الرئيس الإيراني) في طهران، أو الثنائية في سوتشي، كانت مختلفة هذه المرة، وتتضمن:

أولاً، السماح بتوسيع ضربات المُسيَّرات (الدرون) ضد قياديين من «حزب العمال الكردستاني» أو من «وحدات الحماية»، تقول أنقرة إنهم على علاقة بـ«الكردستاني» بدلاً من التوغل العسكري. أي استهدافات جوية تسمح بها منظومة الصواريخ الروسية، واستبعاد الهجوم البري والصدام مع القوات السورية والكردية. وهذا ما حصل، علماً بأن الأكراد يتحدثون عن استهدافات لقادة ليسوا من «الكردستاني» أو مدنيين.

ثانياً، استضافة موسكو سلسلة من الاجتماعات الأمنية رفيعة المستوى بين مسؤولين سوريين وأتراك، للبحث عن إمكانية تلبية المطالب التركية دون التوغل البري والإقامة في الأراضي السورية. وهذا حصل فعلاً في الأيام الأخيرة بالعاصمة الروسية.

ثالثاً، وضع اتفاق أضنة بين أنقرة ودمشق لعام 1998 على مائدة التفاوض، وإمكانية البحث عن توقيع اتفاق «أضنة-2» بما يعكس الواقع السوري الجديد ويسمح لتنسيق أمني سوري- تركي لضمان أمن الحدود ومحاربة الإرهاب، وتعاون سياسي مستقبلي. هنا، كان لافتاً كلام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن «دعم سياسي» لدمشق ضد الأكراد.

رابعاً، دفع دمشق و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) للتعاون بإجراء تنسيق عسكري ومناورات مشتركة، وتمديد انتشار الجيش السوري في مناطق النفوذ شرق الفرات، وصولاً إلى أن تكون يد دمشق هي الأعلى على «قسد»، بانتظار نضوج ظروف الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سوريا، أو «تفكيك» الوجود العسكري الموالي لواشنطن، من الداخل مع مرور الزمن. أي أن تنسج موسكو سجادة تسير عليها «قسد» بالطريق إلى الحضن السوري، وطريقاً لعودة الجيش السوري إلى شرق الفرات.

خامساً، إمكانية السماح الروسي بعملية عسكرية تركية محدودة في تل رفعت في ريف حلب، لتحييد منصات الصواريخ التي تشكل تهديداً ومصدراً للهجمات على الجيش التركي وفصائل موالية له في عفرين. موعد هذه العملية مرتبط بمواعيد تركية تخص الانتخابات، وتفاهمات بين موسكو وأنقرة تخص ملفات أخرى، بما فيها «صفقة الحبوب» الأوكرانية. وربما تخص أيضاً المكاسرة الأميركية- الروسية على المسار السياسي في جنيف؛ إذ إنه بعد إصرار موسكو على عدم انعقاد اللجنة الدستورية السورية في جنيف، تعمل واشنطن على استضافة اجتماع سياسي يخص سوريا في جنيف بداية الشهر المقبل. وبين المكاسرة القطبية، اقترحت أنقرة عقد اجتماعات «الدستورية» في مقر أممي في دول ما، وكأنها اقتربت من الطرح الروسي على حساب الاستعراض الأميركي.

واقع الحال، لم يأتِ «الفيتو» ضد العملية التركية البرية الواسعة، من موسكو فقط؛ بل إنه جاء من طهران وواشنطن، ولكل عاصمة أسبابها. بالنسبة لطهران، يتعلق الأمر بعلاقتها مع دمشق. أما بالنسبة للجانب الأميركي والغربي، فـمصدر «الفيتو»، هو القلق من أن تؤدي العملية إلى تراجع انخراط «قسد» في الحرب ضد «داعش». بالفعل، تبلغت أنقرة تحذيرات واشنطن التي تضمنت تلويحاً بعقوبات لا يريدها إردوغان، مع اقتراب موعد الانتخابات منتصف العام المقبل. عدا عن ذلك، ليس هناك مانع لدى واشنطن في إنجاز موسكو ترتيبات أمنية وسياسية وعسكرية واقتصادية بين دمشق والقامشلي؛ خصوصاً أن المسؤولين الأميركيين يقولون دائماً إن إقامتهم العسكرية مستمرة مع إدارة الرئيس جو بايدن؛ لكنها ليست أبدية، وعلى الأكراد أخذ هذا بالحسبان.

لكن هذا «الفيتو»، لم يوفر مظلة أميركية ضد «المسيرات التركية». تراخي واشنطن في الحسم «الأحمر» ضد أنقرة، ذكَّر الأكراد بـ«خيانات أميركية» سابقة في الشرق الأوسط. بعضها كان في سوريا لدى الانسحاب المفاجئ من مناطق في شرق الفرات نهاية 2019. وقتذاك، اندفع الأكراد للتعاون مع دمشق بمظلة روسية. كما أن إغراءات موسكو ذكَّرت الأكراد أيضاً بـ«الخيانات الروسية» في 2016 بعملية «درع الفرات»، وفي 2018 بعملية «غصن الزيتون». فهل تمهد «الخيانات» الأميركية والروسية طريق الأكراد إلى دمشق؟

الشرق الأوسط

———————-

===================

تحديث 10 آب 2022

—————————

السياسة الخارجية الجديدة لروسيا.. عقيدة پوتين: المواجهة الروسية مع الناتو مجرد بداية/ سيرغي كاراغانوڤ

من التدمير البنّاء إلى إعادة التجميع

يبدو أن روسيا دخلت حقًا نحو حقبة جديدة من سياستها الخارجية، يمكن تسميتها بنهج “التدمير البنّاء” لنموذج العلاقات السابق مع الغرب– شوهدت بوضوح أجزاء من طريقة التفكير الجديدة هذه على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، وذلك منذ خطاب ڤلاديمير پوتين الشهير في مؤتمر ميونيخ عام 2007 – لكنَّ كثيرًا من نمط التفكير هذا قد أصبح واضحًا الآن بالتزامن مع تلك الجهود الباهتة للاندماج في النظام الغربي، مع الاحتفاظ بالموقف الدفاعي الصلب عن مصالحنا، وهو ما مثل الاتجاه العام في الخطاب والسياسة الروسية.

عملية التدمير البناء الحالية ليست عدوانية؛ حيث تؤكد روسيا أنها لن تهاجم أو توجه ضرباتها إلى أي جهة: “هذه العملية ببساطة لا تحتاج إلى ذلك”. توفر الظروف الخارجية الحالية في العالم مزيدًا من الفرص الجيوسياسية لروسيا لتنمية مصالحها على المدى المتوسط، مع وجود استثناء واحد، وهو توسع حلف الناتو عبر إدماج أوكرانيا فيه، بشكل رسمي أو غير رسمي، مع ما يمثله ذلك من خطر كبير على أمن البلاد، وهو ما لن تقبله موسكو ببساطة.

في الوقت الحالي، يمضي الغرب في طريقه نحو الانهيار، وإن كان بشكل بطيء، ولكنه حتمي، سواء من حيث الشؤون الداخلية والخارجية، أو حتى الاقتصاد. وهذا الوضع تحديدًا هو سبب اندلاع هذه الحرب الباردة الجديدة بعد ما يقرب من (500) عام من الهيمنة العالمية للغرب على السياسة، والاقتصاد، والثقافة، وهو ما توّج بشكل خاص في التسعينيات، بعد انتصاره الحاسم الذي استمر حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ما أعتقده أن الغرب على الأرجح سيخسر هذه المعركة، وسيتنحى جانبًا عن مركز القيادة العالمي ليصبح شريكًا، وهو الشكل الأكثر منطقية. وفي لحظة ليست بالمبكرة: “ستحتاج روسيا إلى موازنة العلاقات مع الصين الصديقة، ولكنها الأكثر قوة أيضًا على نحوٍ متزايد”.

في الوقت الحاضر، يحاول الغرب يائسًا الدفاع عن هذه الهيمنة عبر خطابه العدواني الحالي الذي يهدف إلى توحيد معسكره، واللعب بما تبقى لديه من أوراق رابحة لعكس هذا الاتجاه. إحدى هذه الأوراق محاولة استخدام أوكرانيا لإلحاق الضرر بروسيا وتحييدها. من المهم في هذا الشأن منع هذه المحاولات المتشنجة الحالية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من أن تتحول إلى مواجهة شاملة؛ لأن ذلك قد يأتي بنتائج عكسية وخطيرة، على الرغم من عدم إدراك الغرب نسبيًا لخطورة هذا النهج. لا يزال يتعين علينا إقناع الغربيين بأنهم فقط يضرون أنفسهم.

الورقة الرابحة الأخرى هي الدور المهيمن للغرب في نظام الأمن الأوروبي- الأطلسي الحالي الذي تأسس في وقت كانت فيه روسيا ضعيفة بشكل حاد في أعقاب الحرب الباردة. هناك ميزة تكمن في هدم هذا النظام تدريجيًا، ويعود ذلك- في المقام الأول- إلى رفض المشاركة فيه واللعب وفقًا لقواعده التي باتت بالية، وغير مواتية بطبيعتها لنا. بالنسبة إلى روسيا، يجب أن يصبح المسار الغربي ثانويًا بالنسبة إلى دبلوماسيتها الأوراسية- قد يؤدي الحفاظ على العلاقات البناءة مع الدول الواقعة في الجزء الغربي من القارة الأوروبية إلى تسهيل اندماج روسيا في منطقة أوراسيا الكبرى، ولكن النظام القديم يحول دون ذلك؛ ولذا لا بد من تفكيكه. سيكون من الرائع لو كان لدينا مزيد من الوقت للقيام بذلك، لكن التاريخ يُظهر أنه منذ انهيار الاتحاد السوڤيتي قبل 30 عامًا، فقط قلة من دول ما بعد الاتحاد السوڤيتي هي مَن تمكنت أن تصبح حقًا مستقلة. وبعضها قد لا يصل إلى هذه المرحلة، ولذلك أسباب مختلفة، وهو موضوع جدير بالبحث والتحليل، في ظروفٍ أخرى.

في الوقت الحالي، لا يمكنني إلا أن أشير إلى ما هو واضح بالفعل: “معظم النخب المحلية للبلدان المستقلة عن الاتحاد السوڤيتي لا تملك الخبرة التاريخية أو الثقافية لبناء الدولة”. لقد أثبتوا أنهم غير قادرين على أن يشكلوا نواة أمة، ولم يكن لديهم الوقت الكافي لذلك. عندما اختفى الفضاء الفكري والثقافي السوڤيتي المشترك، كانت الدول الصغيرة هي الأكثر تضررًا؛ حيث تبين لها أن الفرص الجديدة لبناء العلاقات مع الغرب ليست بديلًا. كما أن أولئك الذين وجدوا أنفسهم على رأس هذه الدول كانوا يبيعون بلادهم لمصلحتهم الشخصية؛ وذلك لعدم وجود فكرة وطنية يمكن لأحد أن يقاتل من أجلها. وليس أمام هذه الدول إلا أن تحذو حذو دول البلطيق، وذلك من خلال قبول السيطرة الخارجية، أو أن تتجه نحو الفوضى والخروج عن نطاق السيطرة، وهو الأمر الذي قد يكون في بعض الحالات خطيرًا جدًا.

دعونا الآن نترك النقاش عن “التوحيد” الذي يفرضه علينا التاريخ إلى يوم آخر. ولنتحدث هذه المرة عن الحاجة الموضوعية إلى اتخاذ قرار صارم  نحو اعتماد سياسة “التدمير البناء”، والتركيز عليها.

المحطات التي مررنا بها

اليوم نشهد بداية العصر الرابع لسياسة روسيا الخارجية: “بدأ العصر الأول في أواخر الثمانينيات، وكان يمثل وقت الضعف والأوهام”. لقد فقدت الأمة آنذاك إرادة القتال، وأراد الناس تصديق دعاية الديمقراطية، وأن الغرب سيأتي وينقذهم. انتهى كل هذا في عام 1999 بعد الموجات الأولى من توسع الناتو، وهو ما اعتبره الروس طعنةً في الظهر، وبخاصةٍ عندما مزق الغرب ما تبقى من يوغوسلاڤيا.

بعد ذلك، بدأت روسيا بالوقوف على ركبتيها، وإعادة بناء نفسها خلسةً وبشكل سري، في الوقت الذي بدت فيه- في الظاهر- ودودة ومتواضعة. إلا أن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية (ABM) أشار إلى نيتها استعادة هيمنتها الإستراتيجية؛ لذلك اتخذت روسيا- التي كانت لا تزال مُنكسرة- قرارًا مصيريًا لتطوير أنظمة تسليح قادرة على تحدي التطلعات الأمريكية.

إن خطاب مؤتمر ميونيخ، والحرب الجورجية، وإطلاق عملية إصلاح الجيش التي أجريت وسط أزمة اقتصادية عالمية، أدت إلى نهاية الإمبريالية الليبرالية العالمية الغربية (المصطلح الذي صاغه الخبير البارز في الشؤون الدولية، ريتشارد ساكوا   Richard Sakwa). بعد ذلك ظهر هدف جديد لروسيا في مجال السياسة الخارجية؛ وهو أن تصبح- مرة أخرى- قوة عالمية رائدة يمكنها الدفاع عن سيادتها ومصالحها. تبعت ذلك أحداث شبه جزيرة القرم وسوريا، وتبني سياسة الحشود، ومنع الغرب من التدخل في الشؤون الداخلية لروسيا، واستبعاد من دخلوا في شراكة مع الغرب على حساب وطنهم من الخدمة العامة، بما في ذلك من خلال الاستخدام البارع لرد الفعل الغربي على تلك التطورات. مع استمرار التوترات في التصاعد، أصبح التقييم العام للاحتفاظ بالعلاقات مع الغرب ينظر إليه على أنه أقل ربحًا بشكلٍ متزايد، وتزامن ذلك مع الصعود المذهل للصين، وتحول علاقتنا مع بكين نحو التحالف الفعلي بدءًا من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبناء محور يتجه نحو الشرق، وما رافقه من أزمة متعددة الأبعاد أحاطت بالغرب، وقد أدى هذا كله إلى تحول كبير في التوازن السياسي والجغرافي الاقتصادي لصالح روسيا. وقد بات هذا الأمر واضحًا بشكل خاص في أوروبا. قبل عقد واحد فقط، كان الاتحاد الأوروبي لا يرى في روسيا سوى ضواحٍ متخلفة، وبلد ضعيف يحاول مواجهة القوى الكبرى في القارة. أما الآن، فهو يحاول- بشكل يائس- التمسك بالاستقلال الجيوسياسي والجيواقتصادي الذي ينزلق من بين أصابعه.

انتهت فترة “العودة إلى العظمة” بين عامي 2017 و2018. بعد ذلك وصلت روسيا إلى مرحلة الاستقرار، مع استمرار عملية التحديث، لكن الاقتصاد الضعيف كان يهدد بفقدان كل هذه الإنجازات. كان الناس (ومنهم أنا) محبطين خوفًا من أن روسيا ستتعرض- مرة أخرى- لعملية “انتزاع الهزيمة من فكي النصر“، لكن تبين أنها كانت فترة أخرى من أجل مزيد من التعزيزات، خاصةً فيما يتعلق بالقدرات الدفاعية.

الإنذار الذي وجهته روسيا إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي نهاية عام 2021، يمثل مطالبتهما بالتوقف عن تطوير البنية التحتية العسكرية بالقرب من الحدود الروسية، وإيقاف التوسع شرقًا، وهو ما يمثل بداية لعملية “التدمير البناء” لوضع الأساس لنوع جديد من العلاقات بين روسيا والغرب، يختلف عما استقرت عليه في التسعينيات.

قد تعني القدرات العسكرية الروسية، وعودة الشعور بالصلاح الأخلاقي، والدروس المستفادة من أخطاء الماضي، والتحالف الوثيق مع الصين، أن الغرب الذي اختار أداء دور الخصم، سيبدأ في إعادة حساباته بشكل عقلاني، حتى لو لم يكن طوال الوقت. بعد ذلك، في غضون عقد، أو ربما قبل ذلك، آمل أن يتم بناء نظام جديد للأمن والتعاون الدوليين، يشمل منطقة أوراسيا الكبرى بكاملها هذه المرة، وسوف يستند إلى مبادئ الأمم المتحدة، والقانون الدولي، وليس “القواعد” الأحادية الجانب التي كان الغرب يحاول أن يفرضها على العالم في العقود الأخيرة.

تصحيح الأخطاء

قبل أن أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، اسمحوا لي أن أقول إنني أقدر كثيرًا الدبلوماسية الروسية؛ فلقد كانت أكثر من رائعة في السنوات الخمس والعشرين الماضية. كانت يد موسكو ما زالت ضعيفة، لكنها مع ذلك تمكنت من لعب مباراة رائعة. أولًا، لم تسمح للغرب “بإنهاء” الوضعية الرسمية لروسيا بوصفها دولة عظمى، واحتفظت بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وكذلك بترساناتها النووية، ثم حسّنت تدريجيًا مكانتها العالمية من خلال الاستفادة من نقاط ضعف منافسيها، وقوة شركائها. لقد كان بناء صداقة قوية مع الصين إنجازًا كبيرًا. كما أن روسيا تتمتع ببعض المزايا الجيوسياسية التي لم تكن لدى الاتحاد السوڤيتي.

مع ذلك، يجب ألا ننسى الأخطاء التي ارتكبناها حتى لا نكررها. لقد أدى كسلنا وضعفنا وجمودنا البيروقراطي في المساعدة، إلى خلق وإبقاء النظام الجائر وغير المستقر للأمن الأوروبي الذي نعيش فيه اليوم.

تضمن ميثاق باريس لأوروبا الجديدة المَصوغ صياغةً جميلة، الذي تم التوقيع عليه عام 1990، بندًا عن حرية تكوين التجمعات- يمكن للبلدان أن تختار حلفاءها، وهو أمر كان من الممكن أن يكون مستحيلًا بموجب إعلان هلسنكي عام 1975؛ نظرًا إلى أن حلف وارسو كان قائمًا في تلك المرحلة؛ لذا فإن هذا البند يعني أن الناتو سيكون حرًا في التوسع. هذه هي الوثيقة التي لا يزال الجميع يشير إليها حتى في روسيا. ومع ذلك، بالعودة إلى عام 1990 على الأقل، كان الناتو يُعد منظمة “دفاعية”، ولكن بعد ذلك شن معظم أعضائه عددًا من الحملات العسكرية العدوانية ضد ما تبقى من يوغوسلاڤيا، وكذلك في العراق وليبيا.

بعد محادثة من “القلب إلى القلب” مع ليخ ڤاليسا عام 1993، وقع بوريس يلتسين وثيقة تنص على أن روسيا “تتفهم خطة بولندا للانضمام إلى الناتو”. عندما علم أندريه كوزيريڤ، وزير خارجية روسيا آنذاك، بخطط توسع الناتو عام 1994، بدأ بعملية مساومة نيابةً عن روسيا، ودون استشارة الرئيس، وهو ما اعتبره الجانب الآخر علامة على أن روسيا موافقة على المفهوم العام، لأنها كانت تحاول التفاوض على شروط مقبولة. في عام 1995، ضغطت موسكو على “الفرامل”، لكن الأوان كان قد فات- انهار السد، وأزيلت أي تحفظات بشأن جهود التوسيع التي سعى إليها الغرب.

عام 1997، وقعت روسيا، التي كانت ضعيفة اقتصاديًا، وتعتمد كليًا على الغرب، على القانون التأسيسي للعلاقات المتبادلة والتعاون والأمن مع الناتو. كانت موسكو قادرة على إجبار الغرب على تقديم تنازلات معينة، مثل التعهد بعدم نشر وحدات عسكرية كبيرة في الدول التي نالت العضوية حديثًا، وهو التزام كثيرًا ما انتهكه الناتو.

اتفاقية أخرى تم توقيعها للحفاظ على هذه الأراضي خالية من الأسلحة النووية. كانت الولايات المتحدة تريد أن تنأى بنفسها عن أي صراع نووي محتمل في أوروبا قدر الإمكان (على الرغم من رغبات حلفائها)؛ لأنه سيسبب- بلا شك- ضربة نووية ضد أمريكا. في الواقع، أضفت الوثيقة الشرعية على توسع الناتو.

كانت هناك أخطاء أخرى، ليست كبيرة؛ ولكنها مؤلمة جدًا. شاركت روسيا في برنامج الشراكة من أجل السلام (PfP)، الذي كان الهدف الوحيد منه هو جعل الناتو يبدو وكأنه مستعد للاستماع إلى موسكو، لكن الحلف في الواقع كان يستخدم المشروع لتبرير وجوده، وزيادة توسعه المستمر. خطأ آخر مُحبط، ألا وهو مشاركتنا في “مجلس الناتو وروسيا” بعد عدوان يوغوسلاڤيا، حيث كانت الموضوعات التي نُوقشت على هذا المستوى من “المجالس المشتركة” تفتقر بشدة إلى المضمون. كان ينبغي أن تركز على القضية المهمة حقًا، وهي تقييد توسع الحلف، وتعزيز بنيته التحتية العسكرية بالقرب من الحدود الروسية. مع الأسف، لم يصل هذا النقاش إلى جدول الأعمال، واستمر المجلس في العمل حتى بعد أن بدأت غالبية أعضاء الناتو الحرب في العراق، ثم ليبيا عام 2011.

من المؤسف جدًا أننا لم نمتلك الجرأة قط لقول ذلك علانية- لقد أصبح الناتو معتديًا بشكل متزايد، حيث ارتكب كثيرًا من جرائم الحرب. قد تكون هذه حقيقة مفهومة لدى كثير من الدوائر السياسية في أوروبا، مثل فنلندا والسويد على سبيل المثال، عندما يفكرون في مزايا الانضمام إلى الحلف في ظل شعاره المعلن بأنه “تحالف دفاع”، ورادع يحتاج إلى مزيد من التعزيز حتى يتمكن من الوقوف في وجه أعداء وهميين. أستطيع أن فهم دوافع أولئك الشركاء الصغار في الغرب، الذين اعتادوا ذلك النظام الذي يسمح للأمريكيين بشراء طاعتهم، ليس فقط عبر الدعم العسكري؛ ولكن أيضًا من خلال توفيرهم بعض النفقات الأمنية من خلال بيع جزء من سيادتهم.. لكن ما الذي نستفيده نحن من هذا النظام؟ خاصةً بعد أن أصبح واضحًا أنه يسعى إلى تصعيد المواجهة على حدودنا الغربية، وفي العالم كله.

كما أن هذا الحلف “الناتو” أصبح يشكل تهديدًا لأعضائه أيضًا؛ ففي حين أنه يدفع نحو المواجهة، فإنه فعليًا لا يضمن الحماية. ليس صحيحًا أن المادة (الخامسة) من معاهدة حلف شمال الأطلسي تستدعي الدفاع الجماعي إذا تعرض أحد الحلفاء للهجوم. لا تذكر هذه المادة أن هذا الأمر مضمون تلقائيًا. إنني على دراية بتاريخ الحلف والمناقشات في أمريكا بشأن إنشائه. كما أعرف حقيقة أن الولايات المتحدة لن تنشر أبدًا أسلحة نووية “لحماية” حلفائها إذا كان هناك صراع مع دولة نووية أخرى. كذلك فإن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) قد عفا عليها الزمن، وبات يسيطر عليها الناتو والاتحاد الأوروبي اللذان يستخدمان المنظمة لإطالة أمد المواجهة، وفرض القيم والمعايير السياسية للغرب على الجميع. لحسن الحظ، أصبحت هذه السياسة أقل فاعلية. في منتصف عام 2010، أتيحت لي الفرصة للعمل مع فريق من الشخصيات البارزة، تابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (يا له من اسم جذاب!)، كان من المفترض أن يطور تفويضًا جديدًا لمهام عمل المنظمة. مع أنه كانت لديّ شكوك بشأن فاعلية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا قبل ذلك، فإن هذه التجربة أقنعتني بأنها مؤسسة مدمرة إلى أبعد الحدود. إنها منظمة قديمة، مهمتها الحفاظ على الأشياء التي عفا عليها الزمن. في التسعينيات كانت أشبه بأداة لدفن أي محاولة قامت بها روسيا، أو غيرها من الدول، لإنشاء نظام أمني أوروبي مشترك. أما في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد أعاقت ما يسمى بعملية كورفو (Corfu)، وهي مبادرة الأمن الروسية الجديدة.

عمليًا، تم إخراج جميع مؤسسات الأمم المتحدة من القارة، بما في ذلك لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا، ومجلس حقوق الإنسان، ومجلس الأمن. ذات مرة، كان يُنظر إلى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا على أنها منظمة مفيدة، من شأنها تعزيز نظام الأمم المتحدة ومبادئها، وهذا ما لم يحدث. أما بالنسبة إلى حلف الناتو، فمن الواضح جدًا ما يجب أن نفعله. نحن بحاجة إلى تقويض الشرعية الأخلاقية والسياسية لهذا الحلف، ورفض أي شراكة مؤسسية معه؛ لأنها تأتي بنتائج عكسية واضحة.

يجب على الجيش فقط الاستمرار في التواصل، ولكن كقناة مساعدة، من شأنها أن تكمل الحوار مع وزارة الدفاع، ووزارات الدفاع في الدول الأوروبية الرائدة. بعد كل شيء، ليست بروكسل هي التي تتخذ قرارات مهمة من الناحية الإستراتيجية. يمكن اعتماد السياسة نفسها عندما يتعلق الأمر بمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. نعم، هناك فرق بالتأكيد، لأنه مع أن هذه المنظمة مدمرة وعديمة الفائدة، فإنها لم تبدأ أي حروب، أو زعزعة استقرار، أو قتل؛ لذلك نحن بحاجة إلى الحفاظ على مشاركتنا عبر هذا الشكل إلى الحد الأدنى. يقول البعض إن هذا هو السياق الوحيد الذي يمنح وزير الخارجية الروسي فرصة لرؤية نظرائه الأوروبيين. ليس هذا صحيحًا؛ يمكن للأمم المتحدة أن تقدم سياقًا أفضل. تعد المحادثات الثنائية أكثر فاعلية على أي حال؛ لأنه من السهل على أي تحالف أو تكتل أن يفسد جدول الأعمال عندما تكون هناك عدة أطراف. سيكون إرسال مراقبين وقوات حفظ سلام عبر الأمم المتحدة أكثر منطقية.

لا يسمح لي موضوع المقال ومحدوديته بالتفكير في السياسات المحددة التي ينبغي لنا انتهاجها تجاه كل منظمة أوروبية، مثل “مجلس أوروبا”، لكنني سأحدد المبدأ العام بهذه الطريقة: “نشارك حيث نرى فوائد لأنفسنا، ونحافظ على مسافة بيننا”.

أثبتت ثلاثون عامًا في ظل النظام الحالي للمؤسسات الأوروبية أن الاستمرار فيها سيكون ضارًا، ولا تستفيد روسيا منه بأي شكل من الأشكال، خاصةً في ظل نزعة أوروبا نحو تصعيد المواجهة، أو حتى تشكيل تهديد عسكري لشبه القارة، والعالم بأسره. في الماضي، كان بإمكاننا أن نحلم بأن تساعدنا أوروبا على تعزيز الأمن، فضلًا عن التحديث السياسي والاقتصادي. بدلاً من ذلك، هم يقوضون الأمن، فلماذا إذن ننسخ النظام السياسي الغربي المختل وظيفيًا والمتدهور؟ وهل نحتاج حقًا إلى هذه القيم الجديدة التي اعتمدوها؟ يتعين علينا الحد من التوسع؛ من خلال رفض التعاون في إطار نظام متآكل. نأمل، من خلال اتخاذ موقف حازم كهذا، وترك جيراننا “المتحضرين” من الغرب إلى أنظمتهم الخاصة، أن نكون بذلك قد ساعدناهم بالفعل.

قد تعودت النخب الأوروبية ممارسة سياسة انتحارية أقل أمانًا للجميع. بالطبع، يجب أن نكون أذكياء من خلال إخراج أنفسنا من هذه المعادلة، مع التأكد من تقليل الأضرار الجانبية التي سيحدثها هذا النظام الفاشل حتمًا. مع مراعاة أن الحفاظ عليه في شكله الحالي هو- ببساطة- “أمر خطير”.

سياسات لروسيا الغد

مع استمرار النظام العالمي القائم في الانهيار، يبدو أن المسار الأكثر حكمة لروسيا هو البقاء خارجه أطولَ فترةٍ ممكنة، “من خلال الاختباء داخل جدران حصنها الانعزالي الجديد”، والتعامل مع الأمور الداخلية، لكن التاريخ- هذه المرة- يتطلب منا أن نتحرك. إن كثيرًا من اقتراحاتي فيما يتعلق بنهج السياسة الخارجية الذي أسميته مؤقتًا “التدمير البنّاء”، ينبثق- بشكل طبيعي- من التحليل المقدم أعلاه.

ليست هناك حاجة إلى التدخل، أو محاولة التأثير في الديناميكيات الداخلية للغرب، الذي أصبحت نخبته يائسة بما يكفي، حتى إنها باتت مستعدة للدفع إلى بدء حرب باردة جديدة ضد روسيا. ما يجب أن نفعله- بدلًا من ذلك- هو استخدام أدوات السياسة الخارجية المختلفة، بما في ذلك الأدوات العسكرية، لوضع خطوط حمراء معينة. في هذه الأثناء، ومع استمرار النظام الغربي في التوجه نحو التدهور الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، ستشهد القوى غير الغربية (مع روسيا كلاعب رئيسي) حتمًا تعزيزًا لمواقفها الجيوسياسية، والجيواقتصادية، والجيوأيديولوجية.

من المتوقع أن يحاول شركاؤنا الغربيون إسكات دعوات روسيا إلى الحصول على ضمانات أمنية، والاستفادة من العملية الدبلوماسية الجارية من أجل إطالة عمر مؤسساتهم. ليست هناك حاجة إلى التخلي عن الحوار، أو التعاون في مسائل التجارة، والسياسة، والثقافة، والتعليم، والرعاية الصحية، وما شابه، متى كان ذلك مفيدًا، لكن يجب علينا أيضًا أن نستغل الوقت المتاح لدينا لتكثيف الضغط العسكري- السياسي- النفسي، وحتى العسكري- التقني، ولكن دون أن يتوجه الضغط الأكبر نحو أوكرانيا التي تحول شعبها إلى وقود لمدافع الحرب الباردة الجديدة، ولكن نحو الغرب بشكل جماعي؛ لإجباره على تغيير رأيه، والتراجع عن السياسات التي اتبعها على مدى العقود الكثيرة الماضية. لا يوجد ما نخشاه من تصاعد المواجهة: “لقد رأينا التوترات تتصاعد حتى عندما كانت روسيا تحاول استرضاء العالم الغربي”. ما يجب أن نفعله هو الاستعداد للتصدي للسياسات الغربية بشكل أقوى، كما يجب على روسيا أيضًا أن تكون قادرة على تقديم بديل طويل الأجل للعالم عبر إطار سياسي جديد قائم على السلام والتعاون. بطبيعة الحال، من المفيد تذكير شركائنا الغربيين من وقتٍ إلى آخر، بوجود بديل مفيد لكلا الطرفين.

إذا نفذت روسيا سياسات معقولة، ولكنها حازمة (محليًا أيضًا)، فسوف تتغلب بنجاح (وبشكل سلمي نسبيًا) على أحدث موجة تتعرض لها من العداء الغربي. كما كتبت من قبل، لدينا فرصة جيدة للفوز في هذه الحرب الباردة الجديدة، وما يلهمنا إلى هذا التفاؤل أيضًا هو سجل روسيا السابق: “لقد تمكنا أكثر من مرة من ترويض الطموحات الإمبريالية للقوى الأجنبية لمصلحتنا، ولصالح الإنسانية كلها”. كانت روسيا قادرة على تحويل الإمبراطوريات المحتملة إلى جيران مُروضين وغير مؤذين نسبيًا: “السويد بعد معركة بولتاڤا (1709)، وفرنسا بعد معركة بورودينو (1812)، وألمانيا بعد معركة ستالينغراد (1943)، ومعركة برلين (1945)”.

يمكننا أن نجد شعارًا للسياسة الروسية الجديدة تجاه الغرب عبر مقطع من قصيدة ألكسندر بلوك “السكوثيون”، وهي قصيدة رائعة، تبدو ذات صلة خاصة بأحداث اليوم: “تعالوا وانضموا إلينا، ودعوا عنكم إنذارات الحرب والحرب المضادة، واستمسكوا بالسلام والصداقة؛ لا يزال هناك متسع من الوقت أيها الرفاق، مدّوا أياديكم إلينا لنتحد في أخوة حقيقية!”.

في أثناء محاولتنا معالجة علاقاتنا مع الغرب (حتى لو كان ذلك يتطلب بعض العلاج المر)، يجب أن نتذكر أنه على الرغم من قربنا ثقافيًا منه، فإن العالم الغربي يتلاشى من الوقت: “في الواقع، بدأت هذه العملية منذ عقدين من الزمن”.

يمكن القول إن العلاقات مع الغرب هدفها تقليل الضرر، والتعاون كلما كان ذلك ممكنًا. إن الآفاق والتحديات الحقيقية لحاضرنا ومستقبلنا تكمن في الشرق والجنوب. إن اتخاذ موقف أكثر تشددًا مع الدول الغربية يجب ألا يصرف انتباه روسيا عن الحفاظ على محورها في الشرق. وقد رأينا هذا المحور يتباطأ في العامين أو الثلاثة أعوام الماضية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بتطوير مناطق خارج جبال الأورال. يجب ألا نسمح لأوكرانيا بأن تصبح تهديدًا أمنيًا لروسيا. بعد قولي هذا سيكون من غير المجدي إنفاق كثير من الموارد الإدارية والسياسية (فضلًا عن الاقتصادية) عليها. يجب أن تتعلم روسيا كيفية إدارة هذا الوضع المتقلب بفاعلية، وإبقائه ضمن حدود السيطرة.

سيكون الاستثمار في الشرق عبر الشروع في عملية تنمية سيبيريا أكثر فاعلية، وذلك من خلال خلق ظروف عمل ومعيشة مواتية. لن نجتذب فقط المواطنين الروس، ولكن أيضًا الأشخاص من الأجزاء الأخرى من الإمبراطورية الروسية السابقة، بمن في ذلك الأوكرانيون الذين أسهموا تاريخيًا، بقدر كبير، في تطوير سيبيريا.

أرجو أن يسمح لي القراء بتكرار نقطة سبق أن ذكرتها في مقالاتي الأخرى: “لقد كان اندماج سيبيريا تحت حكم إيڤان الرهيب، هو وحده ما جعل روسيا قوة عظمى، وليس انضمام أوكرانيا تحت قيادة أليكسي ميخايلوڤيتش رومانوڤ، المعروف باسم “تيشاتشي”، أي “الأكثر هدوءًا وسلمية”. لقد حان الوقت لأن نتوقف عن تكرار تأكيد ذلك البولندي المخادع زبيغنيو بريجنسكي: “بأن روسيا لا يمكن أن تكون قوة عظمى بدون أوكرانيا”. إن العكس هو الأقرب إلى الحقيقة: “لا يمكن لروسيا أن تكون قوة عظمى عندما تكون مثقلة بأعباء بلد مثل أوكرانيا”، وهي أعباء شديدة الصعوبة لإدارة هذا الكيان السياسي المصطنع الذي أنشأه لينين، والذي توسع لاحقًا غربًا في عهد ستالين.

يكمن المسار الواعد لروسيا في تنمية العلاقات مع الصين وتعزيزها: “من شأن الشراكة مع بكين أن تضاعف إمكانات كلا البلدين عدة مرات”. إذا استمر الغرب في سياساته العدائية المريرة فلن يكون من غير المعقول التفكير في تحالف دفاعي مؤقت لمدة خمس سنوات مع الصين.

بطبيعة الحال، يجب علينا أن نحرص على حماية الصين من “الشعور بالدوار من النجاح”، وذلك حتى لا تعود إلى نموذج الإمبراطورية الصينية في العصور الوسطى، التي نمت ثم حولت جيرانها إلى تابعين. يجب أن نساعد بكين حيثما أمكننا لمنعها من المعاناة حتى من هزيمة مؤقتة في الحرب الباردة الجديدة التي أطلقها الغرب ضدها، هذه الهزيمة ستضعفنا أيضًا. إضافة إلى ذلك، نحن نعلم جيدًا ما الذي يتحول إليه الغرب عندما يعتقد أنه يفوز. لقد تطلب الأمر بعض العلاجات القاسية لعلاج مخلفات أمريكا بعد نشوة النصر وسكرتها بالسلطة في التسعينيات.

من الواضح أن السياسة الموجهة نحو الشرق يجب ألا تركز فقط على الصين. يشهد كل من الشرق والجنوب تصاعدًا في السياسة، والاقتصاد، والثقافة العالمية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تقويضنا للتفوق العسكري للغرب “المصدر الأساسي لهيمنته على مدى 500 عام”.

عندما يحين الوقت لتأسيس نظام جديد للأمن الأوروبي ليحل محل النظام الحالي الذي عفا عليه الزمن بشكل خطير، يجب أن يتم ذلك في إطار مشروع أوراسيا الكبرى. لا شيء يستحق العناء يمكن أن يولّد هذا النظام الجديد من رحم النظام الأوروبي الأطلسي القديم. من البديهي أن النجاح يتطلب تطوير الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية للبلاد وتحديثها، مع جميع ركائز القوة العسكرية التي تمثل لأي دولة العمود الفقري لسيادتها وأمنها. لا يمكن أن تنجح روسيا دون تحسين نوعية الحياة لغالبية شعبها، “يشمل هذا الازدهار العام، والرعاية الصحية، والتعليم، والبيئة”.

إن تقييد الحريات السياسية، وهو أمر حتمي عند مواجهة الغرب وهو متكتل بشكل جماعي ضدنا، يجب ألا يمتد- بأي حال من الأحوال- إلى المجال الفكري، خاصةً لدى الجزء الموهوب وذي العقلية الإبداعية من السكان المستعدين لخدمة وطنهم. يجب علينا الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الحرية الفكرية. التطور العلمي من خلال “شاراشكا” على الطراز السوڤيتي (مختبرات البحث والتطوير التي تعمل ضمن نظام معسكر العمل السوڤيتي) ليس شيئًا من شأنه أن ينجح في العالم الحديث. تعزز الحرية مواهب الشعب الروسي، والابتكار يسري في دمائنا. حتى في السياسة الخارجية، فإن التحرر من القيود الأيديولوجية التي نتمتع بها يوفر لنا مزايا كبيرة مقارنة بجيراننا الأكثر انغلاقًا. يعلمنا التاريخ أن التقييد الوحشي لحرية الفكر، الذي فرضه النظام الشيوعي على شعبه، أدى إلى خراب الاتحاد السوڤيتي. الحفاظ على الحرية الشخصية شرط أساسي لتنمية أي أمة.

إذا أردنا أن ننمو كمجتمع وننتصر، فمن الأهمية بمكان أن نطور العمود الفقري الروحي لبلادنا؛ “من خلال إطلاق فكرة وطنية أيديولوجية توحد وتضيء لنا الطريق إلى الأمام”. إنها حقيقة أساسية مفادها أن الدول العظيمة لا يمكن أن تكون عظيمة حقًا بدون وجود هذه الفكرة في صميمها. هذا جزء من المأساة التي حدثت لنا في السبعينيات والثمانينيات. نأمل أن تبدأ النخب الحاكمة بعدم معارضة تقديم أيديولوجيا جديدة، والتخلي عن الخوف من الأيديولوجيا المتجذرة بسبب آلام الحقبة الشيوعية. كان خطاب ڤلاديمير پوتين، في الاجتماع السنوي في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 لنادي ڤالداي للحوار، إشارة مطمئنة في هذا الصدد. مثل العدد المتزايد باستمرار من الفلاسفة والمؤلفين الروس، طرحت رؤيتي الخاصة “لـلفكرة الروسية”، التي لا يتسع المقال لذكرها.

أسئلة للمستقبل

والآن دعونا نناقش جانبًا مهمًا، ولكن غالبًا ما يتم تجاهله من السياسة الجديدة، غير أنه يحتاج إلى معالجة. نحن بحاجة إلى رفض إصلاح الأساس الأيديولوجي المتقادم، الذي غالبًا ما يكون ضارًا لعلومنا الاجتماعية، والحياة العامة. ولكي يتم تنفيذ هذه السياسة الجديدة، فضلًا عن النجاح،

فإن هذا لا يعني أن علينا أن نرفض- مرة أخرى- التطورات في العلوم السياسية، والاقتصاد، والشؤون الخارجية لأسلافنا. حاول البلاشفة التخلص من الأفكار الاجتماعية لروسيا القيصرية، والجميع يعرف كيف حدث ذلك.

لقد رفضنا الماركسية، ولكن ما زال لدى ماركس وإنجلز ولينين أفكار سليمة في نظريتهم عن الإمبريالية التي يمكننا استخدامها. العلوم الاجتماعية التي تدرس طرق الحياة العامة والخاصة يجب أن تأخذ الحُسبان السياق الوطني، وأن يكون لديها منهج شامل ينبع من التاريخ الوطني، ويهدف- في النهاية- إلى مساعدة الأمة، وحكومتها، ونخبها. إن التطبيق الطائش للحلول الصالحة في بلد ما، في بلد آخر، أمر لا طائل من ورائه، ولا يؤدي إلا إلى الفظائع.

نحتاج أن نبدأ العمل نحو الاستقلال الفكري بعد أن نحقق الأمن العسكري، والسيادة السياسية والاقتصادية. في العالم الجديد، من الضروري تحقيق التنمية، وممارسة التأثير. كان ميخائيل ريميزوڤ (Mikhail Remizov)، وهو عالم سياسي روسي بارز، أول من أطلق- حسب علمي- مصطلح “إنهاء الاستعمار الفكري”. بعد أن أمضينا عقودًا في ظل الماركسية المستوردة، بدأنا بالانتقال إلى أيديولوجيا أجنبية أخرى، مثل الديمقراطية الليبرالية في الاقتصاد والعلوم السياسية، وإلى حد معين حتى في السياسة الخارجية، والدفاع. لم ينفعنا هذا السحر “الجديد”، فقد خسرنا الأرض، والتكنولوجيا، والمجتمع. في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأنا بممارسة سيادتنا، لكن كان علينا الاعتماد على غرائزنا بدلًا من المبادئ العلمية والأيديولوجية الواضحة (مرة أخرى، لا يمكن أن نتوقع- في ظل هذه الظروف- شيئًا آخر).

لتوضيح هذه النقطة، إليك بعض الأسئلة المختارة عشوائيًا من قائمتي الطويلة جدًا:

سأبدأ بقضايا وجودية فلسفية بحتة:

ما الذي يأتي أولاً ويؤثر في الإنسان؟ الروح أم المادة؟ وبمعنى سياسي أكثر دنيوية: ما الدافع الرئيسي للناس والدول في العالم الحديث؟ بالنسبة إلى عامة الماركسيين والليبراليين، الجواب هو الاقتصاد. فقط تذكر أنه حتى وقت قريب، كان يُعتقد أن عبارة “إنه الاقتصاد يا غبي”، الشهيرة لبيل كلينتون، كانت بديهية، لكن الناس يبحثون عن شيء أكبر عندما تُشبَع الحاجة الأساسية للطعام، حبهم لأسرهم ووطنهم، ورغبتهم في الكرامة الوطنية، والحريات الشخصية، والسلطة، والشهرة. لقد عرفنا التسلسل الهرمي للاحتياجات منذ أن قدمه ماسلو، في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، في هرمه الشهير، غير أن الرأسمالية الحديثة أفسدته، وتم التسويق لثقافة الاستهلاك باستمرار، وبشكل متزايد، عبر الوسائط التقليدية في البداية، والشبكات الرقمية الشاملة لاحقًا الأثرياء والفقراء، كل حسب قدرته.

ماذا يمكننا أن نفعل عندما تحرض الرأسمالية الحديثة، المجردة من الأسس الأخلاقية أو الدينية، على الاستهلاك غير المحدود، وتكسر الحدود الأخلاقية والجغرافية، وتتعارض مع الطبيعة، وتهدد وجود جنسنا البشري ذاته؟

نحن الروس، نفهم أفضل من أي شخص آخر، أن التخلص من رواد الأعمال والرأسماليين الذين تحركهم الرغبة في بناء الثروة، ستكون له عواقب وخيمة على الناس، وبيئة المجتمع (لم يكن نموذج الاقتصاد الاشتراكي صديقًا للبيئة تمامًا).

ماذا نفعل بالقيم “الحديثة” التي تدعو إلى رفض تاريخك، ووطنك، وجنسك، ومعتقداتك، بالإضافة إلى الدعاية العدوانية لما يسمى مجتمع الميم (LGBT)، والحركات النسوية المتطرفة؟ أنا أحترم حق كل فرد في اتباع ما يريد، لكنني أعتقد أنهم ما بعد إنسانيين. هل يجب أن نتعامل مع هذا على أنه مجرد مرحلة أخرى من التطور الاجتماعي؟ لا أعتقد ذلك. هل يجب أن نحاول درء خطره، والحد من انتشاره، أم الانتظار حتى يعيش المجتمع داخل هذا الوباء الأخلاقي؟ أم يجب علينا محاربة تلك القيم “الحديثة” بنشاط، وقيادة غالبية البشرية التي تتمسك بما يسمى بالقيم “المحافظة”، أو ببساطة، القيم الإنسانية العادية؟ هل يجب أن ندخل في القتال لتصعيد المواجهة الخطيرة بالفعل مع النخب الغربية؟

ساعد التطور التكنولوجي وزيادة إنتاجية العمل على إطعام غالبية الناس، لكن العالم نفسه انزلق إلى الفوضى، وفقد كثيرًا من المبادئ التوجيهية على المستوى العالمي. ربما تسود المخاوف الأمنية على الاقتصاد مرة أخرى. قد تأخذ الأدوات العسكرية والإرادة السياسية زمام المبادرة من الآن فصاعدًا.

ما الردع العسكري في العالم الحديث؟ هل يتمثل التهديد في إلحاق الضرر بالأصول الوطنية والفردية، أو الأصول الأجنبية، والبنية التحتية للمعلومات التي ترتبط بها النخب الغربية اليوم ارتباطًا وثيقًا؟ ماذا سيحدث للعالم الغربي إذا انهارت هذه البنية التحتية؟

سؤال آخر ذو صلة: ما التكافؤ الإستراتيجي الذي ما زلنا نتحدث عنه اليوم؟ هل هو نوع من الهراء الفكري المستورد من الخارج الذي اختاره القادة السوڤيت الذين أدخلوا شعبهم في سباق تسلح مرهق بسبب عقدة النقص لديهم، النابعة من متلازمة 22 يونيو (حزيران) 1941؟

يبدو أننا نجيب بالفعل عن هذا السؤال، مع أننا ما زلنا نطلق الخطب عن المساواة والمقاييس المتكافئة- ما الحد من التسلح الذي يعتقد الكثيرون أنه مفيد؟ هل هو محاولة لكبح سباق التسلح المكلف الذي يعود بالنفع على الاقتصاد الأكثر ثراءً للحد من أخطار الأعمال العدائية، أو شيء آخر، مثل أداة لإضفاء الشرعية على سباق الأسلحة وتطويرها، وعملية الإنفاق غير الضرورية على خصمك؟ لا توجد إجابة واضحة عن ذلك.

لكن دعونا نَعُد إلى الأسئلة الأكثر وجودية:

هل الديمقراطية حقًا هي قمة التطور السياسي؟ أم مجرد أداة أخرى تساعد النخب على السيطرة على المجتمع، إذا لم نتحدث عن ديمقراطية أرسطو النقية (التي لها أيضًا قيود معينة)؟

هناك كثير من الأدوات التي تأتي وتذهب مع تغير المجتمع والظروف. في بعض الأحيان نتخلى عنها فقط لاستعادتها عندما يحين الوقت، ويكون هناك طلب خارجي وداخلي عليها. أنا لا أدعو إلى سلطوية لا حدود لها أو ملكية. أعتقد أننا قد بالغنا بالفعل في المركزية، خاصةً على مستوى الحكومة المحلية. لكن إذا كانت هذه مجرد أداة، ألا يجب أن نتوقف عن التظاهر بأننا نسعى جاهدين من أجل الديمقراطية ونضعها في نصابها الصحيح؟ نريد الحريات الشخصية، ومجتمعًا مزدهرًا، وأمنًا، وكرامة وطنية؟ لكن كيف نبرر للناس استخدام القوة إذن؟

هل الدولة مقدر حقًا لها أن تموت كما اعتاد الماركسيون ودعاة العولمة الليبراليون الاعتقاد، أو كما كانوا يحلمون بتحالفات بين الشركات غير الوطنية والمنظمات غير الحكومية الدولية (كلتاهما كانت تمر بالتأميم والخصخصة)، والهيئات السياسية فوق الوطنية؟ سنرى إلى متى يمكن للاتحاد الأوروبي البقاء في شكله الحالي. هل نسعى إلى إزالة الحواجز الجمركية الباهظة الثمن، أو تقديم سياسات بيئية مشتركة، أم سيكون من الأفضل التركيز على تطوير دولتك، ودعم جيرانك، مع تجاهل المشكلات العالمية التي يخلقها الآخرون؟

ما دور الأراضي والمناطق؟ هل هي أصول متضائلة، فقط مجرد عبء كما اعتقد علماء السياسة مؤخرًا؟ أم أعظم ثروة وطنية، خاصة في مواجهة الأزمة البيئية، والتغير المناخي، وتزايد عجز المياه والغذاء في بعض المناطق، وغيابها التام في مناطق أخرى؟

ماذا يجب أن نفعل بعد ذلك بمئات الملايين من الباكستانيين والهنود والعرب، وغيرهم ممن قد تصبح أراضيهم غير صالحة للسكن قريبًا؟ هل يجب أن ندعوهم الآن كما بدأت الولايات المتحدة وأوروبا في الستينيات بجذب المهاجرين لخفض تكلفة العمالة المحلية، وتقويض النقابات العمالية؟ أم يجب أن نستعد للدفاع عن أراضينا من الغرباء؟ في هذه الحالة، يجب أن نتخلى عن كل أمل في تطوير الديمقراطية، كما تظهر تجربة إسرائيل مع سكانها العرب.

هل سيساعد تطوير “الروبوتات” على تعويض نقص القوى العاملة، وجعل تلك المناطق قابلة للعيش مرة أخرى؟ ما دور السكان الأصليين الروس في بلدنا، مع الأخذ في الحُسبان أن عددهم سيتقلص حتمًا؟ بالنظر إلى أن الروس كانوا تاريخيًا شعبًا منفتحًا، فقد تكون الآفاق متفائلة، لكن الأمر غير واضح حتى الآن.

يمكنني المضي قدمًا، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد. يجب طرح هذه الأسئلة، ومن الضروري العثور على إجابات في أقرب وقت ممكن؛ من أجل النمو والظهور في المقدمة. تحتاج روسيا إلى اقتصاد سياسي جديد، خالٍ من العقائد الماركسية والليبرالية، ولكنه يملك أيضًا شيئًا أكثر من البراغماتية الحالية التي تستند إليها سياستنا الخارجية. يجب أن تتضمن المثالية الموجهة إلى الأمام أيديولوجيا روسية جديدة تدمج معها تاريخنا وتقاليدنا الفلسفية. هذا يعكس الأفكار التي طرحها الأكاديمي باڤل تسيغانكوڤ (Pavel Tsygankov).

أعتقد أن هذا هو الهدف النهائي لجميع أبحاثنا في الشؤون الخارجية، والعلوم السياسية، والاقتصاد، والفلسفة. هذه المهمة كبيرة، وأكثر من كونها صعبة. لا يمكننا الاستمرار في المساهمة في مجتمعنا وبلدنا إلا من خلال كسر أنماط تفكيرنا القديمة. ولكن في الختام، بملاحظة متفائلة، إليك فكرة فكاهية: “ألم يحن الوقت للاعتراف بأن موضوع دراستنا- الشؤون الخارجية، والسياسات الداخلية، والاقتصاد- هو نتيجة عملية إبداعية يشارك فيها الجماهير والقادة على حدٍ سواء؟ أم إنه- بطريقةٍ ما- فن، إلى حد كبير، يتحدى التفسير، وينبع من الحدس والموهبة؟ ولذا فنحن مثل خبراء الفن: “نتحدث عنه، ونحدد الاتجاهات، ونعلم الفنانين، وهم في حالتنا الجماهير والقادة– التاريخ، وهو أمر مفيد لهم. غالبًا ما نغرق في الجانب النظري، ونخرج بأفكار منفصلة عن الواقع، أو نشوهها من خلال التركيز على أجزاء منفصلة، ولكننا أحيانًا نصنع التاريخ: “فكر في يفغيني بريماكوف، أو هنري كيسنجر”.

لكنني أزعم أنهم لم يهتموا بمقاربات تاريخ الفن الذي يمثلونه. لقد استندوا إلى معرفتهم، وخبرتهم الشخصية، ومبادئهم الأخلاقية، وحدسهم. تعجبني فكرة كوننا نوعًا من الخبراء في الفن، وأعتقد أنه يمكن أن يجعل تلك المهمة الشاقة لمراجعة بعض العقائد الراسخة أسهل قليلًا.[1]

ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية

ما ورد في  المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير

[1] От конструктивного разрушения к собиранию – Россия в глобальной политике – СЕРГЕЙ КАРАГАНОВ – 16.02.2022, https://globalaffairs.ru/articles/ot-razrusheniya-k-sobiraniyu/

مختارات أوراسية

—————————

روسيا وأوكرانيا أمام «مأزق تكافؤ القوات»

{البنتاغون}: مليار دولار إضافية لـ«منع انتصار موسكو»

واشنطن: إيلي يوسف

أكد وكيل وزارة الدفاع الأميركية للشؤون السياسية، كولن كال، أن المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة وحلفاؤها، مكنت الأوكرانيين من تغيير مسار الحرب مع روسيا، وأن واشنطن مصممة على مواصلة تقديم هذه المساعدات مهما تطلب الأمر.

وقال كال في مؤتمر صحافي في البنتاغون مساء الاثنين، إن القوات الروسية فقدت ما بين 70 إلى 80 ألف جندي بين قتيل وجريح، منذ بدء الغزو. وأوضح كال أن منظومة الصواريخ «هيمارس» الأميركية وغيرها من المنظومات الغربية التي زودت بها القوات الأوكرانية، لعبت

دوراً كبيراً في منع القوات الروسية من تحقيق أي تقدم على جبهات إقليم دونباس منذ بداية الصيف وحتى الآن. وكشف كال عن أكبر مساعدة عسكرية أميركية بقيمة مليار دولار، تقدم من مخزونات وزارة الدفاع، ما يرفع قيمة المساعدات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا منذ بداية عهد الرئيس بايدن إلى 9.8 مليار دولار، بينها 9.1 مليار دولار منذ بداية الغزو.

وتشمل المساعدة ذخيرة إضافية لأنظمة الصواريخ «هيمارس» و75 ألف طلقة مدفعية من عيار 155 ملم، و20 مدفع هاون من عيار 120 ملم، و20 ألف طلقة مدفعية من ذخيرتها، وذخائر صواريخ أرض – جو من طراز «ناسامس»، وألف صاروخ «جافلين» المضاد للدروع، ومئات من أنظمة «إيه تي – 4» المضادة للدروع، و50 مركبة علاج طبي مدرعة، وذخائر مضادة للأفراد، ومتفجرات «سي – 4»، وإمدادات طبية. وأضاف أن هذه كلها قدرات حاسمة لمساعدة الأوكرانيين على صد الهجوم الروسي في الشرق، وكذلك لمعالجة التطورات في الجنوب وفي أماكن أخرى.

وجاءت إشارته للتطورات في الجنوب الأوكراني، في ظل معلومات عن قيام القوات الروسية بتعزيز مواقعها في تلك المنطقة.

ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن محللين مستقلين قولهم إن الخسائر الفادحة في صفوف القوات الروسية، ستجبرها على إعادة تشكيل الوحدات، ويؤكدون أنه رغم أن موسكو أعادت تجميع وحداتها، فإنها ستستمر في مواجهة المشاكل اللوجيستية في الأشهر المقبلة. وأضاف التقرير أنه عقب «صيف من الخدع والمناورات مع القليل من المعارك الحاسمة»، يواجه كل من الجيش الأوكراني والقوات الروسية، مأزقاً بشأن كيفية تركيز قواتهم، ما يترك القادة في لعبة تخمين حول المكان والزمان وكيف يمكن أن يتحرك الخصم.

ويرى قائد أوكراني في الحرس الوطني، الذي يقاتل خارج مدينة سلوفيانسك الشرقية، أن القوات الأوكرانية «وصلت اليوم إلى حالة من التكافؤ في الحرب شرق البلاد». وقال يوري بيريزا، إن الفضل في الصمود في ساحة المعركة، منذ نحو شهر، يعود لأنظمة الصواريخ «هيمارس» التي تستطيع أن تصيب الأهداف الروسية بدقة من مسافات بعيدة. وأضاف: «في المرة الأولى التي سمعت فيها إطلاق صواريخ «هيمارس» كان الأمر أشبه بالموسيقى في أذني… إنها أجمل موسيقى للجنود الأوكرانيين».

وفيما يشير المسؤولون الأميركيون إلى أن منظومة «هيمارس» تحدث فرقاً، يقول بعض المحللين إن تباطؤ التقدم الروسي في الشرق ليس له علاقة بتشتت انتباهها أو الأسلحة التي بحوزة أوكرانيا، بقدر ما يتعلق بالحاجة إلى إعادة بناء ونشر قواتها المنهارة. وهو ما سلط عليه الضوء وكيل وزارة الدفاع في البنتاغون، عندما أشار إلى حجم الخسائر التي منيت بها القوات الروسية منذ بدء الغزو.

وتحدث محللون عسكريون غربيون عن تحويل مسار القوات الروسية وتقليل العنف ونيران المدفعية في إقليم دونباس، الذي كان محور تركيز موسكو منذ أن فشلت في السيطرة على كييف في الربيع الماضي. ومنذ ذلك الحين، انقسمت الحرب الروسية في أوكرانيا فعلياً إلى مسرحين، في الشرق والجنوب، حيث تسعى أوكرانيا إلى إبطاء أو وقف التقدم الروسي في الشرق خلال شنها هجوماً مضاداً في الجنوب.

ومن وجهة نظر أوكرانية فإن الروس هم الأكثر عرضة للخطر على الأراضي التي يسيطرون في منطقة خيرسون على الضفة الغربية لنهر دنيبرو. وفي الأسابيع الأخيرة، قصف الجيش الأوكراني جسرين يستخدمان لإعادة الإمداد، وضربهما مرة أخرى يوم السبت، ما هدد بمحاصرة القوات الروسية في تلك المدينة، التي كانت قد سقطت في بداية الغزو.

ونقلت الصحيفة عن العقيد الأوكراني المتقاعد سيرغي غرابسكي، قوله لوسائل إعلام محلية، إن روسيا حولت نحو 10 آلاف مظلي من الجبهة شمال سلوفيانسك إلى منطقة خيرسون الجنوبية. وفي الأسبوع الماضي، تقدم الجنود الأوكرانيون شمال سلوفيانسك، مؤكدين تحرير قرية دوفنكه التي شهدت معارك عنيفة على مدى شهور. ويقول غرابسكي إن القوات الروسية «عالقة بصراحة في دونباس، والآن لديهم صداع جديد في الجنوب».

وعلى عكس انسحاب روسيا من محيط كييف في الشتاء الماضي، والذي عده المسؤولون الروس على أنه «تحول في التركيز على دونباس»، كانت إعادة الانتشار في الجنوب تدريجية وغير معلنة. ويقول محللون إن التحول كان كبيراً أيضاً، فقد عززت روسيا قواتها بالجنوب بشكل كبير، ويبدو أنها تنشئ قوة احتياط متنقلة كبيرة، وفقاً لمايكل كوفمان، مدير الدراسات الروسية في معهد أبحاث «سي إن إيه» في أرلينغتون بولاية فيرجينيا.

وأوضح كوفمان: «قد يكون ذلك بسبب عدم تأكدهم بالضبط من الخطط الأوكرانية لكنهم يتوقعون نوعاً من الهجوم في الجنوب». وتابع قائلاً إن القوات الروسية ما زالت تختبر جبهات القتال في الشرق، وتضغط على القوات الأوكرانية في الشمال الشرقي، وتشن على الأقل هجوماً محدوداً في الجنوب، «لذلك ترى الآن أي ساحة معركة نشطة بشكل واضح».

———————–

روسيا تتجه لضم مقاطعتي خيرسون وزاباروجيا الأوكرانيتين.. فما خيارات الرد لدى كييف والغرب؟

تجري الاستعدادات فعليا في مقاطعتي خيرسون وزاباروجيا الأوكرانيتين، اللتين تخضعان منذ أشهر لسيطرة القوات الروسية، لتنظيم استفتاء قد يفضي إما لانفصالهما ضمن كيان جديد أو ضمهما لروسيا، في تكرار لسيناريو شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، في حين تضيق خيارات كييف وحلفائها الغربيين في مواجهة ما بات يبدو أمرا واقعا تفرضه موسكو بالقوة.

وبعد خطوة سابقة من الإدارة المنصبة من قبل الروس في خيرسون، أعلنت الإدارة الموالية لهم في زاباروجيا أمس الاثنين اعتزامها تنظيم استفتاء بحلول الخريف من أجل الانضمام لروسيا.

وقال يفغيني باليتسكي رئيس الإدارة المدنية والعسكرية في زاباروجيا إنه وقّع أمرا لتبدأ لجنة الانتخابات المركزية العمل على تنظيم الاستفتاء، وكان باليتسكي أعلن منتصف يوليو/تموز الماضي أنه اتخذ قرارا بإجراء الاقتراع في بداية الخريف.

موعد الاستفتاء

ولم تحدد السلطات الموالية لروسيا في المقاطعتين الواقعتين جنوبي أوكرانيا موعدا دقيقا للاستفتاء، ولكن هناك توقعات بأن يتم في النصف الأول من سبتمبر/أيلول المقبل، وبدا أن الاستعدادات لهذا الحدث جارية على قدم وساق.

ونقلت صحيفة “الغارديان” (The Guardian) البريطانية عن مسؤولين في الإدارة المحلية بزاباروجيا أنهم يعتزمون تنظيم الاستفتاء في المقاطعة حتى لو لم تسيطر القوات الروسية عليها بالكامل، في حين قال عمدة مدينة ميليتيبول الأوكراني إن المقاومة الأوكرانية اضطرت الروس لتعديل خططهم بشأن الاستفتاء.

وسيطرت القوات الروسية على مدينة خيرسون وأجزاء من ريفها في الأيام الأولى من الحرب التي بدأتها روسيا في 24 فبراير/شباط الماضي، ووفقا للغارديان فإن الروس يسيطرون حاليا على نحو ثلثي مساحة مقاطعة زاباروجيا، ولكن المدينة التي تحمل نفسم الاسم لا تزال تحت سيطرة القوات الأوكرانية.

ومدينة خيرسون كانت تضم قبل الحرب 300 ألف نسمة، والآن بقي فيها نحو 100 ألف ساكن، وهي المدينة الأوكرانية الرئيسية الوحيدة التي سيطرت عليها روسيا بدون أن تتعرض لأضرار كبيرة.

وللمنطقتين أهمية إستراتيجية، فخيرسون التي تقع على البحر الأسود ونهر دنيبرو إلى الشمال من شبه جزيرة القرم؛ منطقة صناعية مهمة، وفيها جسر “قناة الشمال” الذي كان يقطع إمدادات المياه العذبة عن القرم التي ضمتها روسيا من جانب واحد عام 2014.

أما زاباروجيا التي تقع على نهر دنيبرو، وتضم أكبر محطة نووية هي الأكبر في أوروبا، فهي بدورها منطقة صناعية مهمة، وكانت تضم قبل الحرب نحو 750 ألف ساكن.

“تقرير المصير”

وتشير تصريحات وقرارات تصدر من أعلى المستويات إلى أن روسيا في طريقها لتكرار سيناريو القرم ودونباس في جنوب أوكرانيا، وذلك على الرغم من التحذيرات الأوكرانية والغربية بأن أي خطوة في هذا الاتجاه ستعتبر غير مشروعة وستقابل برد.

وكانت روسيا نظمت عام 2014 استفتاء في شبه جزيرة القرم ثم ضمتها في نفس العام، وأعادت الكرة في إقليم دونباس، وفي فبراير/شباط الماضي، وقبل أيام من إطلاقها ما تسميه “عملية عسكرية خاصة”، اعترفت موسكو رسميا بـ”جمهورية دونيتسك الشعبية” و”جمهورية لوغانسك الشعبية” اللتين أعلنهما الانفصاليون قبل 8 سنوات من الآن.

وفي يوليو/تموز الماضي، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن “الجغرافيا قد تغيرت”، وإن اهتمام بلاده يتجاوز إقليم دونباس في الشرق إلى خيرسون وزاباروجيا، مضيفا أن بلاده ستحمي المناطق التي تقوم بـ”تقرير مصيرها”.

وعلى الأرض، وبالتوازي مع الاستعدادات للاستفتاء، يوطد الروس وجودهم في خيرسون وزاباروجيا من خلال إجراءات مختلفة تشمل منح الجنسية الروسية لسكان المقاطعتين بموجب مرسوم أصدره الرئيس فلاديمير بوتين، وفرض الأنظمة الإدارية والمصرفية الروسية.

وعن السيناريوهات المحتملة بالنسبة لخيرسون وزاباروجيا، قال المحلل السياسي الأوكراني كونستانتين سكوركين إن هناك سيناريوهين جربتهما روسيا؛ الأول هو سيناريو دونباس بحيث يتم تنظيم استفتاء لإعلان “جمهورية خيرسون الشعبية”، والسيناريو الثاني هو الضم إما عبر مرسوم رئاسي وإما عبر استفتاء على غرار استفتاء القرم عام 2014.

وتقول صحيفة “الفايننشال تايمز” (The Financial Times) البريطانية إن نموذج الاحتلال في خيرسون استخدم من قبل في القرم وفي دونباس منذ عام 2014، ويشمل ذلك الجوازات الروسية والعملة والتلفزيون والإنترنت والمعاملات المصرفية وتغيير إشارات الطرق لتصبح باللغة الروسية بدلا من اللغة الأوكرانية.

حماية نووية

ووفقا لصحيفة الغارديان البريطانية، فإن ضم روسيا منطقتي خيرسون وزاباروجيا وتوفير الحماية لهما بواسطة الأسلحة النووية سيعقّد مهمة أوكرانيا لاستعادتهما.

بدوره، نقل تلفزيون “بي بي سي” (BBC) عن الجنرال البريطاني المتقاعد ريتشارد بارونس أن روسيا قد ترد بأسلحة نووية صغيرة على أي هجوم أوكراني مضاد في المناطق الجنوبية التي قد يتم ضمها.

خيارات أوكرانيا والغرب

وخشية خسارة مساحات إضافية كبيرة من أراضيها، تسابق أوكرانيا الوقت للحيلولة دون تمكن الروس من فرض أمر واقع في المناطق الجنوبية. ولهذه الغاية، تشن القوات الأوكرانية منذ أسابيع هجمات مضادة في خيرسون وزاباروجيا، وتتحدث عن تحول في العمليات القتالية لصالحها.

وبالتزامن مع ذلك، تتوالى المطالبات الأوكرانية للغرب بضخ المزيد من الأسلحة والذخائر.

وفي المقابل، ترسل روسيا تعزيزات من إقليم دونباس إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها جنوبي أوكرانيا، وهو ما أكده مؤخرا مسؤولون أوكرانيون والاستخبارات البريطانية.

وأول أمس الأحد، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه إذا نظمت موسكو استفتاءات لضم المناطق الجنوبية من البلاد، فلن تكون هناك أي محادثات معها أو حلفائها. وأضاف زيلينسكي أن بلاده تتمسك بموقفها المتمثل في عدم التنازل عن أي أرض لصالح روسيا.

أما بالنسبة لحلفاء كييف فهامش التحرك لمنع روسيا من تنفيذ خططها في المناطق الأوكرانية يبدو ضئيلا ومحصورا في العقوبات، خاصة مع استبعاد الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى القتال إلى جانب أوكرانيا تجنبا لصدام عسكري محتمل مع روسيا، وبدلا من ذلك تزويد القوات الأوكرانية بأسلحة حديثة يمكن أن تساعدها على وقف الهجمات الروسية.

وخلال الأشهر الخمسة الماضية، فرض الغرب عقوبات واسعة على روسيا كان لها تأثير سلبي على اقتصادها -وفق تقييمات أميركية وأوروبية- ولكنها لم تردعها عن مواصلة الحرب على أوكرانيا.

وفي يوليو/تموز الماضي، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي إن لدى واشنطن معلومات استخبارية بأن روسيا تتخذ خطوات لضم مناطق أوكرانية سيطرت عليها خلال الحرب الحالية.

وأضاف كيربي أن روسيا تتخذ في المناطق الأوكرانية التي سيطرت عليها قواتها خطوات مماثلة لما قامت به حين ضمت شبه جزيرة القرم، مشيرا بهذا الصدد إلى تنصيب مسؤولين موالين لها، وإنشاء فروع للمصارف الروسية، وفرض التعامل بالروبل، والسيطرة على الاتصالات، فضلا عن إجبار السكان على استخراج جوازات روسية.

بدوره، حذر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ومسؤولون آخرون روسيا من أنها ستدفع أثمانا إضافية في حال ضمت مناطق أوكرانية جديدة، وكان يشير بذلك -على الأرجح- إلى تشديد العقوبات عليها.

وفي السياق، أشارت صحيفة “واشنطن بوست” (The Washington Post) الأميركية إلى تزايد المخاوف في واشنطن وكييف من أن الغرب في وضع لا يسمح له بتجنب نقطة تحول في هذه الحرب تتمثل في ضم روسيا مناطق أوكرانية.

وقالت إن المخاوف تتزايد من أنه في حال أعلنت روسيا فرض سيادتها على المناطق الجنوبية الأوكرانية، فإنها ستستغل أشهر الخريف والشتاء لتشديد قبضتها على تلك المناطق، وتصبح أوكرانيا في وضع يصعب عليها استعادة أراضيها.

الوقت في صالح بوتين

ونقلت الصحيفة عن النائب الجمهوري مايكل والتز قوله إن الوقت في صالح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإن احتلال الأراضي الأوكرانية يصبح بمرور الوقت أمرا واقعا.

كما ذكرت واشنطن بوست أن مسؤولي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن يؤكدون أنهم يستكشفون سبل الرد على احتمالات عديدة من بينها ضم روسيا مناطق أوكرانية، لكن الصحيفة قالت إن هناك أدلة قليلة على أن إعلان روسيا سيادتها على أراضي أوكرانية سيغير مجرى الحرب بشكل جذري، أو أن التهديد بالضم لوحده يمكن أن يبرر زيادة دراماتيكية في الدعم العسكري الموجه لكييف.

ووفق الصحيفة، فإن مسؤولين في البيت الأبيض والخارجية والدفاع والاستخبارات الأميركية لا يرون أن قيام روسيا بضم مناطق محتلة سيكون نقطة تحول في الحرب الحالية، ويعبرون عن ثقتهم في أن الاستمرار في تزويد أوكرانيا بالأسلحة سيمكن رئيسها فولوديمير زيلينسكي من تحقيق أهدافه.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأجنبية + مواقع إلكترونية

————————–

————————

أردوغان والبوابة الروسيّة… إلى سوريا/ خيرالله خيرالله

ليس لدى تركيا في عهد رجب طيب أردوغان ما تفعله غير السعي إلى تفادي الوضوح السياسي. تتفادى تركيا الوضوح السياسي، بما في ذلك ما يخصّ علاقتها بإسرائيل، في عالم معقّد يحتاج إلى الوضوح. يحتاج هذا العالم إلى الوضوح بدل التذبذب واللعب على الحبال في كلّ المجالات.

يبدو أنّ أردوغان شعر فجأة بحاجة الرئيس فلاديمير بوتين إليه كي يخرج الأخير من حضن إيران. لبّى بعض المطلوب منه معتقدا أن ذلك يمثّل نوعا من الحذاقة في وقت ليس في وارد أوروبا، كلّ أوروبا، التعاطي مع روسيا ما دام بوتين في موقع الرئيس.

ساهم أردوغان في إخراج الرئيس الروسي من هذا الحضن الإيراني أم لم يساهم، ثمّة ألاعيب سياسيّة تجاوزها الزمن.

لا تليق هذه الألاعيب لا بدولة مثل روسيا ولا بدولة مثل تركيا، علما أنّه لا بدّ من التمييز بين شخصي أردوغان وبوتين. لم يغرق الرئيس التركي كلّيا بأيّ وحول بعد، باستثناء وحول الإخوان المسلمين وفكرهم المتخلّف الذي عشش في رأسه. لكنّ هناك نصف غرق تركي في الوحول السوريّة. هل يستطيع رجل غارق في الوحول الأوكرانيّة مثل فلاديمير بوتين انتشال الرئيس التركي من الوحول السوريّة أم سيدفعه إلى الغرق فيها أكثر كي يصبح هذا الغرق مكتملا؟

في مقابل نصف الغرق التركي في سوريا، ذهب الرئيس الروسي إلى أوكرانيا متسببا بكارثة عالميّة في مجال الطاقة والغذاء. ستترك الكارثة الناجمة عن سعي بوتين إلى تدمير أوكرانيا آثارها على العالم كلّه، خصوصا على العلاقات الروسيّة – الأوروبيّة. نجح بوتين في عزل روسيا عن أوروبا معتقدا أن احتلال أوكرانيا نزهة. لم يدرك في أيّ لحظة أخطار المغامرة التي أقدم عليها وما الذي تعنيه في داخل كلّ بلد أوروبي. تذكّر كل مواطن أوروبي فجأة صعود هتلر في ثلاثينات القرن الماضي. تذكّر كلّ أوروبي معنى أيّ تهاون مع بوتين بعدما أدّى التهاون مع هتلر إلى الحرب العالميّة الثانيّة.

قبل أيّام، التقى الرئيس التركي الرئيس الروسي في منتجع سوتشي الروسي بعد ثلاثة أسابيع من القمّة الثلاثيّة التي انعقدت في طهران، وهي قمّة استهدفت الردّ على زيارة الرئيس جو بايدن إلى إسرائيل ثم إلى المملكة العربيّة السعوديّة. ليس معروفا، أقلّه إلى الآن، ما الفائدة التركيّة من الذهاب إلى طهران ومشاركة أردوغان في قمّة مع بوتين والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي يرمز إلى كلّ ما تمثله سياسة “الحرس الثوري” في المنطقة. يختزل هذه السياسة مشروع توسّعي لا أفق سياسيا له… باستثناء عقد صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي أو “الشيطان الأصغر” الإسرائيلي!

لا بدّ من العودة إلى الوضوح. لا شيء أفضل من الوضوح. في سوريا، يدفع رجب طيب أردوغان ثمن غياب الوضوح. الواقع أنّه يدفع ثمن الاعتقاد أنّ تركيا دولة قادرة على لعب أدوار تفوق حجمها

في سوتشي، طلب بوتين من أردوغان فتح خط مباشر مع نظام بشّار الأسد بغية التعاون من أجل القضاء على “قوات سوريا الديمقراطيّة” (قسد) في الشمال السوري. يعرف الرئيس الروسي تماما أنّ الأكراد نقطة ضعف تركيّة وأنّ في استطاعته استغلال هذه النقطة من أجل إيجاد تقارب بين نظام بشّار الأسد وتركيا. إلى أين يمكن أن يؤدي هذا التقارب وما الفائدة منه في نهاية المطاف؟ لا شكّ في أن خطوة الرئيس الروسي خطوة تكتيكيّة ذكيّة. إنّه يضرب غير عصفور بحجر واحد. فهو يعيد، أوّلا، الاعتبار إلى النظام السوري وإلى الدور الروسي في سوريا. وهذا الدور الروسي تقلّص إلى حد كبير بعدما انشغلت روسيا بحرب أوكرانيا وباتت ايران اللاعب الأوّل في سوريا. بات على بوتين الاستعانة برجب طيّب أردوغان لتعويم روسيا ودورها في سوريا!

حسنا، يظلّ الأكراد همّا تركيا أساسيا، لكن ما الفائدة من دور تركي في إعادة الاعتبار إلى نظام سوري لا يمكن أن تقوم له قيامة في يوم من الأيّام؟ هذا ما يفترض أن يفكّر فيه الرئيس التركي جدّيا قبل إقدامه على خطوة في اتجاه بشّار الأسد خدمة لفلاديمير بوتين الذي وجد نفسه في الحضن الإيراني.

يصعب استبعاد وقوع الرئيس التركي في الفخّ الروسي الذي ينصبه له بوتين. الرجل مغامر من الطراز الأوّل. يعتقد أنّ العالم لا يعرف شيئا عن تركيا ومصاعبها ووضعها الاقتصادي. ما يعرفه العالم أنّ رجب طيّب أردوغان على استعداد دائم للعب كلّ الأوراق المطلوب منه أن يلعبها من أجل البقاء في السلطة. أراد فكّ الحصار عن غزّة في العام 2010. أرسل مواد غذائية على سفينة إلى القطاع. كانت النتيجة اضطراره إلى التراجع ثمّ العمل على إعادة مدّ الجسور مع إسرائيل. ليس ما يدعو إلى إعادة رواية قصة الفشل التركي في التعاطي مع فلسطين والفلسطينيين…

كانت سوريا المكان الوحيد الذي تستطيع فيه تركيا إظهار أنّها دولة جدّية، خصوصا في مرحلة ما بعد اندلاع الثورة الشعبيّة على النظام الأقلّوي الذي حوّل السوريين إلى عبيد في آذار – مارس 2011. فوتت تركيا كلّ الفرص التي أتيحت لها لتكون اللاعب الأساسي في سوريا. تراجعت أمام إيران التي لم يكن لديها من همّ سوى إنقاذ النظام وما لبثت أن تراجعت أمام روسيا.

بعد سلسلة الأخطاء التي ارتكبها أردوغان في سوريا، بات عليه الآن العودة إليها من البوابة الروسيّة. هذه ليست عودة مشرفة وذلك على الرغم من وجود رغبة حقيقيّة في تصفية الحسابات مع أكراد سوريا ومع الكيان شبه المستقلّ الذي أقامته “قسد” في شمال البلد.

لا بدّ من العودة إلى الوضوح. لا شيء أفضل من الوضوح. في سوريا، يدفع رجب طيب أردوغان ثمن غياب الوضوح. الواقع أنّه يدفع ثمن الاعتقاد أنّ تركيا دولة قادرة على لعب أدوار تفوق حجمها. لا يدري أنّ هناك ثمنا لكلّ شيء، بما في ذلك ثمن للتعاون مع إيران وثمن للتعاون مع روسيا في منطقة لا تزال فيها أميركا قادرة، إلى إشعار آخر، على لعب دور في غاية الأهمّية على غير صعيد!

إعلامي لبناني

العرب

——————–

رسائل قمة سوتشي الجديدة/ فراس رضوان أوغلو

لا شك أن قمة سوتشي الأخيرة بين الرئيسين الروسي والتركي تختلف عن سابقاتها من اللقاءات نظرًا للتطورات والمستجدات الدولية والإقليمية، فروسيا اليوم أصبحت أكثر حاجة لتوطيد العلاقات مع تركيا تماشياً مع الاستراتيجيات المستجدة بعد الحرب على أوكرانيا وهذا يعني أن الملفات المختلف عليها لا بد من تليين تناقض مواقف البلدين فيها لزيادة ذلك التعاون بينهما.

ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس أردوغان عن تواصل جهاز الاستخبارات التركي مع جهاز الاستخبارات في دمشق، لكن المستجد الجديد هو ذكره أنه إذا سلكت تركيا طريق التعاون مع دمشق لحل مسائل التنظيمات الإرهابية فإن ذلك سيكون أكثر صواباً طالما كان ممكناً وفق رؤية الرئيس بوتين، وهذه الرؤية الروسية ليست جديدة بل كانت تصر عليها منذ عدة سنوات ولكن لم يتم ذكرها من قِبل الجانب التركي سابقًا. علاوة على أن الرئيس أردوغان طالب في مستهل حديثة بالوصول إلى نتائج ملموسة على أرض الميدان في مكافحة الإرهاب وأنه ينتظر دعم صديقه بوتين في هذا الملف، وهذا يتوافق مع تصريحات جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي عندما قال إنه من حق دمشق أن تزيل التنظيمات الإرهابية من أراضيها وأنه ليس من الصواب اعتبار المعارضة المعتدلة إرهابيين.

ولو أضفنا على ما سبق توقف العملية العسكرية ضد قسد والتي أعلنت عنها تركيا مراراً وتكراراً تأتي في إطار هذا التنسيق والتفاهم التركي الروسي، وبالطبع إن هذا التنسيق قد مر على طهران ودمشق، لكن هذا لا يعني أن هناك خطوات كبيرة قد اتخذت في هذا الإطار وإنما من الواضح أن تَسارع تلك الخطوات زاد بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل وأن تأثير تبعات الحرب الروسية الأوكرانية وخاصة في مسألة الغذاء والطاقة جعلت الجميع يتأنى ويتراجع عن حدة مواقفه فالسعي نحو التهدئة بات الخيار الاستراتيجي المفضل أكثر لدى أنقرة.

على أوروبا أن تكون ممتنة لتركيا إزاء تدفق الغاز الطبيعي من روسيا إليها دون انقطاع. تصريح هام من الرئيس الروسي يرسل من خلاله رسائل مهمة ويعطي زخماً ودعماً سياسياً لتركيا للاستمرار في سياستها التي تتبعها في ملف الحرب الروسية الأوكرانية، وفي نفس الوقت يقول للأوروبيين والعالم إن العقوبات الغربية على روسيا لم تؤثر عليها وإن أوروبا ما زالت تحتاج الغاز الروسي. وربما الرسالة الأهم أنه ممكن لتركيا أن تلعب دور الوسيط المالي بين روسيا والغرب وخاصةً أن البنوك الروسية تتواجد في تركيا واعتماد خمسة بنوك تركية نظام المدفوعات الروسية مير وأن كثيراً من الشركات الروسية توجهت نحو تركيا التي بدورها رفضت فرض عقوبات على روسيا واعتبرت أنه لا بد من وجود طرف ثالث شبه محايد من أجل إبقاء قنوات التواصل فعالة رغم القطيعة بين روسيا والغرب وفي حال نجحت تركيا في أداء هذا الدور فإن مكاسبها المالية والسياسية وحتى الاستراتيجية ستكون كبيرة جداً وبهذا تكون تركيا نوعاً ما نجحت في تحويل تبعات الحرب الروسية الأوكرانية من تبعات سلبية كارثية إلى تبعات إيجابية تستفيد منها وتستغلها في ملفات أخرى.

تحاول تركيا تكثيف جهودها ضد قسد مستفيدة من التوتر الجديد الحاصل بين الولايات المتحدة الأميركية والصين حول زيارة بيلوسي لجزيرة تايوان، فقمة طهران قد أوضحت أن الفرقاء الثلاثة روسيا وإيران وتركيا متفقون على أن التواجد الأميركي يرسخ فكرة تقسيم الأراضي السورية، علاوة على أن واشنطن هي من تحمي قسد التي تعتبرها تركيا الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وفي حال خروج الولايات المتحدة الأميركية من الشمال السوري يصبح التفاهم أسهل مع روسيا حول الوضع السياسي في سوريا.

ما يهم تركيا هي الحدود الشمالية لسوريا التي تتواصل مع العراق وتركيا من الناحية الجغرافية، وحتى السكانية أما بقاء الأميركيين في مناطق أخرى من الجغرافية السورية فلا أظن أن هذا يقلق أنقرة أو حتى أنها ممكن أن تنشغل به، ولكن هذا المطلب لا يمكن اعتباره واقعياً فالتواجد الأميركي في سوريا يعتبر مطلباً لبعض الدول العربية من أجل إحقاق التوازن العسكري والاستراتيجي مع روسيا ومع إيران ولذلك لا يمكن لواشنطن أن تستمع لأنقرة وتتجاهل حلفاءها الآخرين في المنطقة.

من الواضح أن قمة سوتشي رسخت التعاون التركي الروسي في مجالات عدة ولعل أهمها القراءة الاستراتيجية المشتركة في ملفات عدة كالطاقة والغذاء والتبادل التجاري المشترك بين الطرفين الذي سيزداد مع الأيام القادمة، وذلك لحاجة روسيا لتركيا في مسائل التحويل المالي والوساطة المالية بين الغرب وروسيا المستفيدة سياسياً وإعلامياً من زيارة أحد قادة الناتو (القوة العسكرية الثانية في الحلف) بعد المقاطعة الغربية لها وفرض عقوبات عليها.

تلفزيون سوريا

——————————–

روسيا وتركيا: “أحبك وأنا لا أحبك أيضا”/ حسناء بو حرفوش

في الوقت الذي تواصل فيه روسيا وتركيا توسيع شبكة العلاقات الاقتصادية، يستمر الخلاف الجيوسياسي بين البلدين على الأغلب، لكن براغماتية العلاقة تظهر حاليا أنه على الرغم من الخلافات التي تفرق بين الاثنين، يحتاج كل منهما للآخر، حسب تحليل للكاتب الصربي المتخصص بالشؤون الروسية والبيلاروسية والأوكرانية، نيكولا ميكوفيتش.

ووفقا لميكوفيتش، “على الرغم من الغزو الأوكراني والتوترات المتزايدة بين أرمينيا وأذربيجان، تحظى مصالح الطاقة لموسكو وأنقرة على ما يبدو بالأولوية مقارنة بالأهداف الجيوسياسية المختلفة للبلدين في أماكن مثل سوريا ومنطقة البحر الأسود وجنوب القوقاز. وعلى الرغم من أنهما على طرفي نقيض في نزاعات مختلفة بالوكالة في جميع أنحاء العالم، تواصل كل من روسيا وتركيا زيادة تعاونهما الاقتصادي. و يلتزم كلا البلدين بالحفاظ على شراكتهما الاقتصادية حتى مع تصاعد التوترات في المناطق التي تتنافس فيها مصالح روسيا وتركيا.

كما تواظب روسيا على أعمالها مع تركيا على الرغم من العقوبات التي فرضها الغرب على الاتحاد الروسي بسبب أفعاله في أوكرانيا. وتقدّر مصادر روسية حجم التجارة بين روسيا وتركيا عام 2021 بنحو 35 مليار دولار وهو رقم يتوقع أن ينمو إلى 50-60 مليار دولار في 2022. وفي الوقت عينه، وفي ظل أزمة الغاز الأوروبية، لا يزال خط أنابيب الغاز الطبيعي ترك ستريم، الذي يربط روسيا وتركيا عبر البحر الأسود، الوحيد الذي يستمر بتوفير الغاز لأوروبا بشكل لا تشوبه شائبة. وفي حين أن قدرة ترك ستريم أقل من نورد ستريم 1 (31.5 مليار متر مكعب مقارنة بـ55 مليار متر مكعب)، إلا أنها تظل كبيرة، خصوصا بعد أن خفضت روسيا حجم الغاز الطبيعي الذي ترسله إلى أوروبا عبر خط أنابيب نورد ستريم 1.

وخلال القمة الأخيرة بين الزعيمين الروسي والتركي التي عقدت في 5 آب، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظيره التركي رجب طيب أردوغان أن الأوروبيين يجب أن يشعروا بالامتنان لتركيا لضمان النقل غير المنقطع للغاز الروسي إلى الأسواق الأوروبية. وتشير التقارير إلى أن بوتين واردوغان اتفقا على أن تبدأ أنقرة بسداد مدفوعات الغاز الطبيعي الروسي بالروبل. وفي عام 2021، أمّنت روسيا ربع واردات تركيا من النفط تقريبا وما يقرب من نصف مشترياتها من الغاز الطبيعي. لذلك، ليس من المستغرب أن ترفض أنقرة الانضمام إلى العقوبات المناهضة لروسيا وتحاول موازنة تحالفها في الناتو مع علاقاتها الاقتصادية مع موسكو.

عداوة تاريخية وحروب بالوكالة

ومع ذلك، هذا لا يعني أن تركيا ترى روسيا كدولة صديقة. في الواقع، ليست الدولتان صديقتين ولا حليفتين، مع الإشارة إلى العداوة التاريخية التي تفرقهما مع خوض عدة حروب. واليوم، ينخرط البلدان في نزاعين بالوكالة على الأقل: في سوريا، حيث تدعم روسيا الرئيس بشار الأسد، وتدعم تركيا فصائل معارضة مختلفة شمال البلاد، وأيضًا في ليبيا حيث الجيش الوطني الليبي الذي ترعاه روسيا يقاتل حكومة الوفاق الوطني المدعومة من أنقرة. وبالمثل، في منطقة جنوب القوقاز، حيث خاضت أذربيجان وأرمينيا حربًا استمرت 44 يومًا في منطقة ناغورنو كاراباخ الجبلية. وتدعم تركيا بشكل علني باكو في حين أن الكرملين لديه تحالف اسمي مع يريفان من خلال منظمة معاهدة الأمن الجماعي. وبالنظر إلى أن التوتر في ناغورنو كاراباخ قد تصاعد مؤخرًا، من المحتمل جدًا أن تُدرج العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان على جدول أعمال قمة سوتشي.

وفي حين أن التوترات المتزايدة في كل من سوريا وجنوب القوقاز قد تسبب مشاكل للشراكة الروسية التركية، قد توفر هاتين النقطتين أيضًا فرصة للبلدين لإيجاد مساحة لاستمرار المفاوضات. في سوريا، تحتاج تركيا للضوء الأخضر الروسي لشن “عمليتها العسكرية الخاصة” ضد الأكراد شمال البلاد. ومع ذلك، تواصل القوات الروسية تعزيز وجودها في المنطقة ودعا الكرملين أنقرة مرارًا إلى عدم شن غزو لشمال سوريا. وبالنسبة لموسكو، يتمثل التحدي في أن أنقرة تزيد بشكل كبير من نفوذها في منطقة جنوب القوقاز. ولا يزال لدى روسيا حوالي 2000 جندي حفظ سلام في ناغورنو كاراباخ، لكنها أثبتت عدم قدرتها على منع أذربيجان من الاستيلاء على أراضٍ إضافية في المنطقة. وقد يعني ذلك أن تركيا قادرة على استخدام نفوذ باكو على يريفان للضغط على موسكو لتقديم تنازلات لأنقرة. وستظهر الأسابيع المقبلة ما إذا كان بوتين وإردوغان قد توصلا لاتفاق.

وبالتزامن، تواصل تركيا، بوصفها عضوًا في الناتو، دعم وتسليح أوكرانيا بينما تغض موسكو الطرف إذ أن مصالح الطاقة ذات أهمية قصوى للكرملين، وبالتالي لن تسمح روسيا بتدهور العلاقات مع أنقرة. وتدرك تركيا ذلك تمامًا، وتسعى لتصوير نفسها على أنها وسيط في الصراع الروسي الأوكراني وزيادة نفوذها في منطقة البحر الأسود. حتى أن بوتين اعترف بمساهمة اردوغان المباشرة، في حل المشكلة المتعلقة بتوريد الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود.

علاوة على ذلك، تملك تركيا فرصة للاستفادة من صفقة الحبوب التي توصلت إليها روسيا وأوكرانيا في إسطنبول في 22 تموز. وقد أعربت الشركات التركية بالفعل عن استعدادها لمعالجة الحبوب الروسية والأوكرانية وبيعها إلى أجزاء أخرى من البلاد والعالم. كما ستتمكن تركيا حاليا من شراء الحبوب من أوكرانيا والاتحاد الروسي بأسعار منخفضة، مما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد التركي المتضرر من التضخم. وكل هذه الحوافز الاقتصادية تؤكد أقله في المستقبل المنظور، على أن العلاقات الروسية التركية ستبقى ديناميكية وعملية قدر الإمكان”.

———————————

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

==================

تحديث 19 آب 2022

———————

الطريق للحرب في أوكرانيا: فشل للمخابرات الروسية وسوء تقدير المزاج العام قادا لانهيار الخطط العسكرية

إبراهيم درويش

كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن خطأ في تقدير الاستخبارات الروسية عن الوضع في أوكرانيا قاد إلى الأخطاء الأولى التي ارتكبها الجيش في بداية غزوه لأوكرانيا.

وفي تقرير أعده كريك ميلر وكاثرين بيلتون قالا إن الخدمات الأمنية الروسية بدأت في الأيام الأخيرة قبل الغزو بإرسال رسائل مشفرة للعملاء والمخبرين في العاصمة الأوكرانية كييف: احزموا أمتعتكم وغادروا ولكن اتركوا خلفكم مفاتيح بيوتكم.

وجاء التوجيه من ضباط في وحدة متخصصة في خدمة الأمن الفدرالية الروسية (أف أس بي) واسمها “دائرة عمليات المعلومات”، أوكل لها مهمة مشؤومة: تأكدوا من قطع رأس الحكومة الأوكرانية ونصبوا حكومة موالية لروسيا بدلا عنها. وكانت الرسائل تعبيرا عن مستوى من الثقة لدرجة أن العملاء الروس انشغلوا في الأيام الأخيرة قبل الغزو في عملية تأمين البيوت والمحلات الآمنة تحضيرا لتدفق جنودهم. وكتب ضابط في أف أس بي لزميل آخر أرسل للإشراف على عملية الاحتلال “رحلة ناجحة”، ولا توجد أدلة عن نجاح متلقي الرسالة بالوصول إلى أوكرانيا بعد انهيار خطة المخابرات الروسية وتراجع الجيش الروسي في الأشهر الأولى للحرب.

وتقول الصحيفة إنها راجعت كمية من المراسلات والوثائق التي حصلت عليها المخابرات الأوكرانية وغيرها من المخابرات الغربية، تكشف عن التحضيرات، وتعطي صورة عن نشاطات أف أس بي- مؤسسة الاستخبارات الضخمة التي تتحمل المسؤولية الكبرى في فشل خطة الحرب الروسية والغطرسة التي دفعتها لهذا.

فقد قضت هذه المؤسسة المسؤولة عن المخابرات الداخلية والتجسس على دول الاتحاد السوفييتي السابق عقودا في مراقبة أوكرانيا ومحاولة تحييد مؤسساتها والدفع للمسؤولين ومنع أي إشارة عن تحول نحو للغرب. ولم يكن أي ملمح من عمل أف أس بي خارج روسيا، أهم من اختراق كل مستويات المجتمع الأوكراني. لكنها فشلت في شل الحكومة الأوكرانية، ونشر مظهر من مظاهر الولاء لروسيا أو إضعاف سيطرة الرئيس فولدومير زيلينسكي على الحكم.

ويقول المسؤولون الأوكرانيون والغربيون إن قادة الوكالة الاستخباراتية لم يفكروا بطريقة الرد الأوكراني على الغزو أو أنهم فهموا لكنهم لم يكونوا قادرين على إيصال التقييم الرصين إلى الرئيس فلاديمير بوتين. وطغى الفشل الذي واجه الجيش الروسي على فشل مؤسسات خدمات الاستخبارات الفدرالية (أف أس بي)، وكان الفشل هذا وبطرق أخرى غير مفهوم وترك تداعيات كبرى أثرت على كل قرار اتخذه الكرملين بشأن الحرب. وقال مسؤول أمريكي “كان الروس مخطئين بشكل كبير” و”خططوا لجهود حربية شاملة من أجل تحقيق أهداف خارجة عن قدرتهم”. وتعلق الصحيفة أن المخابرات الأوكرانية مهتمة من خلال تسريب الوثائق والاتصالات بتشويه المخابرات الروسية، إلا أن المعلومات تم التثبت منها ومقارنتها بتقييمات للمخابرات الغربية.

وتظهر الوثائق أن عملاء المخابرات الروسية تدفقوا في الأشهر التي سبقت الحرب بأعداد كبيرة وكانوا يعولون على دعم عملائهم في داخل مؤسسات الأمن الأوكرانية. ويقول المسؤولون إن البعض قام بعمل ما طلب منه وتخريب الدفاعات الأوكرانية، فيما رفض آخرون عمل ما طلب منهم وأخذوا الأموال التي حصلوا عليها. وهناك سجلات تضيف إلى لغز سوء تقدير الروس. فالاستطلاعات التي نظمتها المخابرات الروسية أظهرت أن قطاعا كبيرا من المجتمع الأوكراني مستعد لمواجهة أي توغل روسي وأن أي حديث عن استقبال الأوكرانيين للروس كمحررين لا أساس له من الصحة. ومع ذلك ظلت المخابرات تغذي الكرملين بالتقييم الوردي وأن الأوكرانيين سيرحبون بعودة الحكم الموالي لموسكو. وقال مسؤول غربي بارز “كان هناك تعلل بالأماني في داخل جي أر يو (وكالة الاستخبارات العسكرية) والجيش، لكن البداية كانت من أف أس بي”.

 وبناء على هذه الافتراضات الضخمة، دعت المخابرات الفدرالية الروسية إلى حرب سريعة يتم فيها عزل الحكومة الأوكرانية بمدى أيام وقتل أو أسر أو نفي زيلينسكي بشكل يفتح الباب أمام عملاء أف أس بي لملء الفراغ. وبدلا من ذلك انسحب الجواسيس الروس الذين وصلوا إلى ضواحي كييف إلى جانب الجيش الروسي، حسب قول المسؤولين الأوكرانيين. وبدلا من تشكيل حكومة في كييف، يواجه المسؤولون الأمنيون الروس أسئلة حول عملياتهم والأموال الضخمة التي أنفقت على العملاء الأوكرانيين وما حققته. ولم ترد المخابرات الروسية للتعليق.

وترى الصحيفة أن جهود أف أس بي ومحاولة المخابرات الأوكرانية بدعم من سي آي إيه وأم أي6 البريطانية والمخابرات الغربية لوقفها، هي جزء من حرب الظل التي شنت بشكل مواز مع العمل العسكري. وبدأت قبل الحرب في 24 شباط/فبراير والتي تشابكت فيها الخيوط بين المخابرات الروسية والأوكرانية وكلاهما ظهرا من “كي جي بي” السوفييتية. وبعد ستة أشهر لا يبدو أن أيا من الطرفين لديه اليد العليا في الحرب. وحققت المخابرات الأوكرانية في البداية انتصارات مثل نشر منظمة غير حكومية أسماء وصور وأرقام جوازات العملاء لروسيا وخطط أف أس بي في محاولة لعرقلة جهودها. وقال شخص مرتبط بالمنظمة واسمها “ميروتفيرتس” (صناع السلام) إنها حصلت على المعلومات من المخابرات الأوكرانية. وفي نفس الوقت كافحت المخابرات الأوكرانية (أس بي يو) للتخلص من العملاء الروس في صفوفها، وتم عزل الكثير من الضباط الكبار ووصفهم زيلينسكي بالخونة والذي اتخذ خطوة غير عادية في تموز/يوليو بعزل مدير أس بي يو، إيغور باكنوف، صديق الطفولة.

 ويعتقد أن بوتين لم يتخذ إجراءات مماثلة ضد المخابرات رغم سوء التقدير. ويقول ويليام بي تيلور جي أر، السفير الأمريكي السابق في أوكرانيا “لو وضعت مخابراتك أولوية كبرى على فهم أوكرانيا وقامت خطتك على هذا الفهم، فأين الخطأ؟” و”كيف افترضوا عدم قتال الأوكرانيين، وأن الرئيس فولدومير زيلينسكي سيقاومهم بشجاعة؟ ويجب أن يكون الانفصام بين أف أس بي والقمة”. وكان من بين الذين يحضرون أنفسهم للوصول إلى كييف في شباط/فبراير إيغور كوفالينكو، الذي وصفته المخابرات الأوكرانية بالمسؤول البارز والذي ظل على مدى سنوات المسؤول عن الساسة الأوكرانيين البارزين والمسؤولين الذين يتلقون دعما من الكرملين، بمن فيهم أعضاء في الحزب المعارض الذي يترأسه فيكتور ميدفيدتشاك، صديق بوتين.

 وفي مراسلات بين كوفالينكو ومسؤول أصغر منه، كان يريد شقة سكنية في حي راق في أوبولوم على ضفة نهر دنيبر في كييف. وتظهر الرسائل التي تم التنصت عليها أنه سأل عن رقم الشقة والشخص التابع للمخابرات الروسية الذي يسكنها. ورد المسؤول بإرسال العنوان وهواتف والرموز المستخدمة للتواصل مع المخبر الذي عمل في حكومة زيلينسكي. ورفض المسؤول تحديد هوية المخبر، لكنه اعترف أنه تلقى تعليمات بمغادرة كييف وترك مفاتيح بيته للتأكد من سلامته في المراحل الأولى للحرب. واعترف آخرون بتلقيهم نفس التعليمات و”عندما تعودون ستكون الأمور مختلفة”.

وتم وصف كوفالينكو، 47 عاما، بأنه رجل جاسوسية مخضرم كان مسؤولا عن إدارة العلاقات السرية في البرلمان والحزب الموالي لروسيا. ولم يرد على أسئلة الصحيفة للتعليق. وتعتقد السلطات الأوكرانية أن كوفالينكو ربما كان على بعد أميال من كييف في آذار/مارس عندما فشل الفريق داخل العاصمة في تنفيذ الخطة وبدأ الجيش الروسي بالانسحاب. وتعود جهود روسيا لتغيير نظام الحكم إلى الانتفاضة الشعبية في عام 2013 والتي أطاحت برجل موسكو فيكتور يانوكوفيتش والذي فر إلى روسيا مع مجموعة من مستشاريه يشك بتعاونهم مع عميل روسي اسمه سيرغي بيسيدا. وهو مسؤول عن الوحدة التاسعة في أف أس بي “وحدة عمليات المعلومات” بمهمة بقاء أوكرانيا في الفلك الروسي.

وفي عام 2019 بدأت أف أس بي بتوسيع الوحدة وزاد عدد العاملين فيها من 30 إلى 160 عميلا. وتم تحفيز العملاء بشقق في موسكو وعلاوات، ومن أرسل منهم إلى أوكرانيا كلفوا بمراقبة مناطق هناك وإعداد قوائم للعملاء. وفي البداية نظر إلى عملية حشد القوات العام الماضي بأنها محاولة لبوتين لتوسيع التأثير الروسي في أوكرانيا، لكن تبين أنها عملية سيطرة على أوكرانيا كما يقول مسؤول هناك. وفي 12 كانون الثاني/يناير وصل مدير المخابرات الأمريكية ويليام بيرنز مع عدد من المسؤولين الأمريكيين وبحوزته ملف حاول فيه إقناع المسؤولين الأوكرانيين أن الحرب قادمة. وبعد رحيل الوفد الأمريكي اجتمع المسؤولون الأمنيون مع زيلينسكي وأطلعوه على الملف الأمريكي، لكن معلوماتهم لم تظهر أن هناك عملية عسكرية واسعة. وشهدت الأسابيع التي سبقت الحرب تقارير استخباراتية مشوشة، ورسائل متناقضة من المسؤولين الأوروبيين.

وقبل أسابيع كشفت المخابرات البريطانية أن لديها معلومات عن خطط روسية لتنصيب حكومة موالية لها في كييف. وحددت عضو البرلمان يفين مراييف كمرشح محتمل، وهو ما نفاه مراييف بنفسه واعتبره “سخيفا ومثيرا للسخرية”. وفي نفس الوقت التقطت المخابرات الأوكرانية إشارات عن اتصالات بين أف أس بي والقوات الروسية المحمولة جوا، مما كشف عن عملية مشتركة. ولعبت القوات هذه دورا في السيطرة على مطار هوستوميل في نواحي كييف بالساعات الأولى من الغزو.

وبدت التقارير الأمنية من الجواسيس الأوكرانية متناقضة حول نوايا فلاديمير بوتين، وحتى الأوروبيين، حيث تلقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تأكيدات من بوتين أنه لن يغزو أوكرانيا، مما قاد المسؤولين الأوكرانيين للتوصل إلى أن الحشد هو حرب نفسية. وقال مسؤول استخبارات أوكراني “لم نتصور غزوا كلاسيكيا كما حدث في الحرب العالمية الثانية بدبابات ومدافع وجنود”. وربما لم تتوقع موسكو حربا طويلة “فقد توقعوا شخصا يفتح الباب وبدون مقاومة”. وقال مسؤول أمني أوكراني “عندما بدأوا في 24 شباط/فبراير كانت المهمة هي السيطرة على كييف” و”توقعوا أن تسقط البلاد مثل الدومينو” و”سيسيطرون على السلطة المركزية وبعدها سيركزون حضورهم في الأقاليم”. وكان الروس قد جهزوا حكومة موالية لروسيا لكن ليس مثل الحكومة التي كشفت عنها بريطانيا. وفي الوقت الذي كان فيه تقدير سي آي إيه دقيقا حول الخطط الروسية إلا أنها أخطأت في تقدير المقاومة الأوكرانية للغزو.

 وبالنسبة للمخابرات الروسية فقد فشلت بسبب المعلومات الصادرة عن مصادر غير موثوقة ومتناقضة واستخدمتها لتقديم أنصاف حقائق للكرملين. والمثير في الأمر هو سبب تجاهل المخابرات الروسية التحذيرات بأن الحرب لن تكون سهلة، فالاستطلاعات التي نظمتها أف أس بي كشفت عن عدم شعبية بوتين في أوكرانيا وأن ترحيب السكان بالروس كمحررين هو خيال. وفي استطلاع نظم في نيسان/إبريل 2021 كشف أن نسبة 84% من السكان ستنظر لأي توغل في بلادهم كاحتلال.

 القدس العربي

————————

ستة أشهر على الحرب الأوكرانيّة/ خيرالله خيرالله

بعد أيّام قليلة، تمرّ ستة أشهر على الحرب الأوكرانيّة التي افتعلها فلاديمير بوتين. بالنسبة إلى الكثيرين، صارت الحرب أقرب إلى أن تكون منسيّة، على الرغم من كلّ ما خلّفته من دمار. صارت حربا شبه منسيّة علما أن العالم كلّه يعيش في ظلّ تأثيراتها وتسبّبها بأزمتي طاقة ومواد غذائيّة. إذا وضعنا جانبا الحروب البلقانية التي نجمت عن تفكّك يوغوسلافيا في تسعينات القرن الماضي، فإنّ حرب أوكرانيا هي الأولى التي تدور في قلب أوروبا منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة في العام 1945!

 كان في حسابات الرئيس الروسي، الذي يتبيّن كلّ يوم أنّه لا يعرف شيئا عن العالم، أن الحرب ستكون خاطفة وأنّ الأوكرانيين سيركعون أمامه. حصل العكس تماما. لم تسقط العاصمة كييف واضطرت القيادة الروسيّة إلى تغيير استراتيجيتها، جذريا، مكتفية باحتلال جزء من أوكرانيا بعدما ضمّت شبه جزيرة القرم في العام 2014.

لم يبق العالم متفرّجا على ما يدور في أوكرانيا. اكتشف بوتين متأخّرا أنّ أوكرانيا ليست سوريا حيث راح يسرح ويمرح ابتداء من خريف العالم 2015، ويقصف المدنيين مع تركيز خاص على المستشفيات والمدارس. كان الهدف الروسي في سوريا واضحا. إلى جانب دعم النظام الأقلّوي المنهار، كان مطلوبا وقتذاك الحؤول دون سقوط الساحل السوري حيث الثقل العلوي. هبّ سلاح الجوّ الروسي لنجدة النظام السوري والميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران. في العام 2015، كانت إيران التي بعثت بقاسم سليماني قائد “فيلق القدس”، وقتذاك، إلى موسكو للاستنجاد بها، في حاجة إلى روسيا. في العام 2022 وبسبب حرب أوكرانيا، صارت روسيا في الحضن الإيراني، خصوصا في سوريا حيث باتت كلّ مفاصل السلطة تحت سيطرة “الحرس الثوري”.

لم يدرك فلاديمير بوتين، منذ اللحظة الأولى لشن الهجوم على أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي، معنى افتعال حرب في أوروبا. سيطر كل نوع من الأوهام على الرجل الذي أيقظ الغرائز، ذات الطابع الوطني، عند الروس لمجرّد استعادة شبه جزيرة القرم، وهي في الأصل روسيّة. ليس سرّا أن شبيه جزيرة القرم روسيّة منذ القرن الثامن عشر، لكن الأمين العام للحزب الشيوعي نيكيتا خروتشوف وهبها لأوكرانيا في العام 1964 عندما كانت لا تزال جزءا من الاتحاد السوفياتي.

بوتين لم يدرك الفارق بين أوكرانيا وسوريا حيث مسموح له بقتل العدد الذي يشاء من المواطنين السوريين، في حين أن وجوده في أوروبا يجعل كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنّها صارت مهددة

في وقت بدأت الحرب تتخذ شكلا مختلفا بعد توجيه ضربات أوكرانيّة إلى الجيش الروسي ومستودعاته في شبه جزيرة القرم، ليس ما يشير إلى أن فلاديمير بوتين يستطيع التصالح مع الواقع. لم يترك أمامه سوى باب التصعيد. هذه مشكلة كلّ زعماء الدول الذين لا يعرفون العالم والذين يعتقدون أنّ من السهل لعب دور القوّة العظمى أو الدولة الإقليمية المهيمنة، كما تفعل إيران، بمجرد امتلاك صواريخ ودبابات وقاذفات وراجمات وطائرات.. وسلاح نووي.

ما يصنع دولا عظيمة وراقية هو الاقتصاد المتطور وبرامج التعليم. لا يمكن لدولة مثل روسيا تمتلك ثروات طبيعيّة كبيرة العودة إلى لعب دور الاتحاد السوفياتي في حين أنّ حجم اقتصادها أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي. بكلام أوضح، لا يمتلك فلاديمير بوتين ما يمكن تسميته بالرؤية. لم يدرك الفارق بين أوكرانيا وسوريا حيث مسموح له بقتل العدد الذي يشاء من المواطنين السوريين، في حين أن وجوده في أوروبا يجعل كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنّها صارت مهددة.

كان مسموحا للرئيس الراحل صدّام حسين عمل ما يشاء في داخل العراق وفي حربه مع إيران، لكنّ العالم كلّه وقف في وجهه بمجرّد اجتياح الكويت. ما حصل مع صدّام يتكرّر الآن مع بوتين. لم تعد من ثقة بالرئيس العراقي الراحل الذي اعتقد، وقتذاك، أنّ الإدارة الأميركيّة ستكون مستعدة للتفاوض معه في شأن مستقبل الكويت وأنّه يكفي، من أجل ذلك، أن يبعث برسالة إلى واشنطن فحواها أنّ في استطاعة الأميركيين، بعد الآن، تحديد السعر الذي يريدونه للنفط. لم يكتشف سوى متأخّرا أن ليس مسموحا للعراق التحكم بنفط الكويت وأنّ عليه الاهتمام بشؤونه الداخلية بدل السعي إلى لعب أدوار أكبر من حجمه.

لم تعد من ثقة في فلاديمير بوتين. يؤكّد ذلك انضمام دولتين محايدتين تاريخيا، هما السويد وفنلندا، إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). يرفض الرئيس الروسي فهم هذه الرسالة الأوروبيّة الواضحة التي تعني بين ما تعنيه أنّ ليس في أوروبا من يريد التعاطي معه بعد الآن. نجح في إدخال بلده في حرب طويلة يصعب التكهّن بما ستخلّفه من مصائب على الصعيد العالمي وفي أوروبا نفسها.

يبقى أخطر ما في الأمر أن الحرب الأوكرانيّة تدور فيما لا وجود لقيادات سياسيّة ذات ثقل في هذا العالم. لا وجود في الوقت الحاضر لأيّ زعيم أوروبي لديه وزنه في بلده أو في القارة العجوز أو في العالم. هناك حال ضياع في أكثر من دولة أوروبيّة. تكفي متابعة حال الفراغ التي تعاني منها بريطانيا للتثبّت من هذا الأمر…

يعكس ذلك الحذر الذي يتعاطى فيه الأوربيون وأهل الخليج، خصوصا، مع الإدارة الأميركيّة الساعية إلى عقد صفقة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. حسنا، مفهومة تماما الحماسة الأوروبيّة إلى مثل هذه الصفقة الأميركيّة – الإيرانيّة في ظلّ حاجة أوروبا إلى الغاز الإيراني، لكن السؤال هل تسير إدارة جو بايدن إلى النهاية مع ايران من دون ضمانات في شأن سلوكها خارج حدودها وما تفعله ميليشياتها المذهبيّة في غير دولة من دول المنطقة، وفي مقدمتها العراق وسوريا ولبنان واليمن؟

عندما وقف العالم موقف المتفرّج من التدخل الروسي في سوريا، قبل سبع سنوات من الآن، كان على هذا العالم توقع ذهاب فلاديمير بوتين إلى أوكرانيا بحجة إصرار رئيسها فولوديمير زيلينسكي على انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. هل يستحقّ ذلك ردّا من نوع شن حرب روسية كشفت أوّل ما كشفت أن أوروبا ذاهبة إلى المجهول فيما روسيا نفسها ستبقى في أزمة عميقة مع نفسها ما دام فلاديمير بوتين في الكرملين؟

إعلامي لبناني

العرب

————————-

مسلسل تفجير مستودعات الذخائر ينتقل إلى روسيا… وموسكو: النووي إجراء للرد فقط

تم إخلاء قريتين روسيتين أمس الخميس بسبب حريق اندلع في مستودع للذخائر يقع قرب الحدود مع أوكرانيا، وفق ما أعلنت السلطات المحلية.

ويأتي هذا الحريق بعد بضعة أيام من انفجارات وقعت في قاعدة عسكرية ومستودع ذخائر في شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي ضمّتها موسكو عام 2014. واعتبرت روسيا ما حصل في مستودع الذخائر في القرم عملًا “تخريبيًا” من جانب كييف.

وقال حاكم المنطقة فياتشيسلاف غلادكوف في بيان إن “مستودعا للذخائر اشتعل قرب قرية تيمونوفو” الواقعة على بعد أقل من خمسين كلم من الحدود الأوكرانية في إقليم بيلغورود.

وأشار إلى أنه لم يتم تسجيل سقوط أي ضحية لكن سكان تيمونوفو وبلدة سولوتي المجاورة “نُقلوا إلى مسافة آمنة”، مضيفًا أن السلطات تحقق في أسباب هذا الحريق. وأظهر مقطع فيديو نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي كرة نار عملاقة يتصاعد منها دخان أسود كثيف. وفي مقطع فيديو آخر، كان بالإمكان رؤية عدة انفجارات متتالية.

ويأتي الحريق الذي اندلع الخميس، في خضمّ سلسلة انفجارات تضرب منشآت عسكرية روسية قريبة من الأراضي الأوكرانية.

واجتمع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في مدينة لفيف غربي أوكرانيا، أمس الخميس.

وأكد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان دعم بلاده لأوكرانيا مبديا قلقه من خطر حصول كارثة “تشيرنوبيل أخرى”، في إشارة إلى الأخطار التي تحوط بمحطة زابوريجيا النووية والتي تحتلها روسيا. وقال إردوغان في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الاوكراني فولوديمير زيلينسكي والامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش في لفيف باوكرانيا، “في وقت نواصل جهودنا من أجل حل، كنا وسنبقى الى جانب أصدقائنا الأوكرانيين”.

واضاف “نحن قلقون. لا نريد أن نعيش تشيرنوبيل اخرى” في اشارة الى محطة زابوريجيا النووية التي تحتلها القوات الروسية.

واوضح الرئيس التركي أن القمة الثلاثية تطرقت ايضا الى مسألة تبادل الاسرى بين أوكرانيا وروسيا. وقال “أريد أن اوضح أنه موضوع مهم بالنسبة الينا (…) سنواصل إجراء مشاورات في هذا الصدد مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين”. وأعرب عن قلق بلاده إزاء الاشتباكات المستمرة حول محطة زابوريجيا الأوكرانية للطاقة النووية، مبينا أن أنقرة لا تريد حدوث كارثة تشيرنوبيل جديدة.

وحول الاجتماع الثلاثي، قال أردوغان: “بحثنا في اجتماعنا الثلاثي إمكانية تحويل المناخ الإيجابي الناجم عن اتفاق إسطنبول إلى سلام دائم” في أوكرانيا. واستطرد: “أكدنا على ضرورة تحمل المجتمع الدولي مزيدا من المسؤولية من أجل إحياء المسار الدبلوماسي (في الحرب في أوكرانيا)”. أما حول محطة زابوريجيا النووية، فقال غوتيريش: “علينا أن نقول الأمر كما هو: أي ضرر محتمل لزابوريجيا سيكون بمثابة انتحار”، داعيا مرةً جديدة إلى جعل المحطة التي يحتلّها الجيش الروسي منطقة “منزوعة السلاح”. وإذ أعرب عن “قلقه البالغ” حيال الوضع في أكبر محطة نووية في أوروبا، طالب بعدم استخدامها “في أي عملية عسكرية مهما كانت”.

وقالت روسيا، الخميس، إنها قد تغلق المحطة. كما رفضت موسكو دعوات دولية لإنشاء منطقة منزوعة السلاح حول المحطة.

وتقع محطة الطاقة على الضفة الجنوبية التي تسيطر عليها روسيا لحوض نهر ضخم. وتسيطر القوات الأوكرانية على الضفة الشمالية.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية، الخميس، إن الدعوات لإنشاء منطقة منزوعة السلاح حول المحطة “غير مقبولة”.

واتهم مسؤولون أوكرانيون روسيا بالتخطيط لإغلاق المحطة لفصلها عن شبكة الكهرباء الأوكرانية وتحويلها إلى الشبكة الروسية، وهذا يعني سرقة إنتاجها فعليا.

كما ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية إيفان نيتشايف في إفادة صحافية أن الأسلحة النووية ستستخدم فقط كإجراء “للرد” .

——————————–

أردوغان: سأبحث موضوع محطة زابوريجيا النووية مع بوتين

قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال رحلة عودته من زيارة إلى أوكرانيا، إنه سيبحث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين موضوع محطة زابوريجيا النووية.

وأشار إلى أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي طلب من خلال تركيا أن تزيل روسيا جميع الألغام في محيط المحطة النووية. وأضاف “سأبحث موضوع المحطة النووية مع بوتين، ويتعين على روسيا القيام بما يترتب عليها في هذا الشأن كخطوة مهمة من أجل السلام العالمي، وسأطلب ذلك على وجه الخصوص”.

وكان أردوغان قد حذّر من كارثة نووية في أوكرانيا، خلال أول محادثات مباشرة مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي منذ الغزو الروسي، مكرراً بذلك دعوات أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، الذي يزور الجمعة أوديسا.

ودفع اندلاع القتال حول أكبر منشأة نووية في أوروبا، تقع في جنوب أوكرانيا وتخضع للسيطرة الروسية، عدداً من قادة العالم إلى إطلاق تحذيرات عاجلة، من بينهم غوتيريس الذي حذر خلال محادثات مع أردوغان من أن أي ضرر يلحق بالمحطة سيكون بمثابة “انتحار”.

وقال أردوغان في مؤتمر صحافي في مدينة لفيف بغرب أوكرانيا: “نحن قلقون. لا نريد أن نعيش تشيرنوبيل أخرى”، مؤكداً للرئيس زيلينسكي أن تركيا حليف قوي لأوكرانيا. وصرح الرئيس التركي: “في وقت نواصل جهودنا من أجل حل، كنا وسنبقى إلى جانب أصدقائنا الأوكرانيين”.

من جهته، قال غوتيريس إنه يشعر “بقلق بالغ” بشأن الوضع في المحطة، التي أكد أنه يجب جعلها “منزوعة السلاح”. وأضاف: “علينا أن نقول الأمور كما هي: أي ضرر محتمل لزابوريجيا سيكون بمثابة انتحار”.

وأردوغان الذي يخوض منافسة جيوسياسية كبيرة مع الكرملين لكنه يبقي على علاقة عمل وثيقة مع فلاديمير بوتين، التقى الرئيس الروسي قبل أقل من أسبوعين في منتجع سوتشي على البحر الأسود.

وكان الرئيس التركي وغوتيريس وسيطين رئيسيين في اتفاق تم توقيعه في إسطنبول الشهر الماضي، سمح باستئناف صادرات الحبوب من أوكرانيا بعد أن منع الغزو الروسي الإمدادات العالمية الأساسية.

وقبل المؤتمر الصحافي مع زيلينسكي، أعلنت هيئة الموانئ الأوكرانية أن سفينة الشحن الخامسة والعشرين أبحرت، بموجب هذا الاتفاق، إلى مصر محملة بـ33 ألف طن من الحبوب.

وأوكرانيا وروسيا هما من أكبر الدول المصدرة للحبوب في العالم. وقد أدى توقف الصادرات إلى ارتفاع أسعار الحبوب وتزايد المخاوف من نقص في الغذاء العالمي.

وقال غوتيريس خلال اجتماع مع صحافيين إن الأطراف تأمل في تكثيف الجهود لتعزيز العمليات في ثلاثة موانئ جنوبية مخصصة للتعامل مع الصادرات بموجب الاتفاق، مؤكداً: “سنفعل كل ما في وسعنا لتكثيف عملياتنا بهدف مواجهة صعوبات الشتاء المقبل”.

ويواصل غوتيريس، الجمعة، زيارته إلى أوكرانيا برحلة إلى أوديسا، أحد الموانئ التي يشملها اتفاق استئناف تصدير الحبوب. ويتوقع أن يتوجه في وقت لاحق إلى تركيا لزيارة الهيئة المكلفة بالإشراف على اتفاق الصادرات.

يجب أن يرحلوا أولاً

جاء نجاح الاتفاق المتعلق بالحبوب مناقضاً لفشل محادثات السلام في بداية الحرب. ورفض زيلينسكي، الخميس، أي سلام مع روسيا ما لم تسحب قواتها من أوكرانيا. وقال للصحافيين إنه “فوجئ جداً” بالسماع من أردوغان أن روسيا “مستعدة لسلام ما”. وأضاف: “يجب أن يغادروا أولاً أراضينا، وبعدها سنرى”.

واحتدم القتال على طول خط الجبهة الخميس وفجر الجمعة.

وأدت عمليات قصف على مدينتي خاركيف وكراسنوغراد المجاورة إلى مقتل ستة أشخاص على الأقل وجرح 25 آخرين الخميس، بعد يوم واحد فقط من قصف روسي أسفر عن مقتل 13 شخصاً في ثاني أكبر مدينة في البلاد.

واستهدف القصف في وقت مبكر من صباح الجمعة مدينة نيكوبول، حسب مسؤول عسكري محلي، بينما تحدث رئيس بلدية ميكولايف عن “انفجارات ضخمة” في الوقت نفسه تقريباً.

على خط مواز، أُخليت قريتان روسيتان في إقليم بيلغورود الخميس بعد اندلاع حريق في مستودع للذخائر بالقرب من الحدود الأوكرانية، حسب السلطات المحلية. واندلع الحريق إثر سلسلة من الانفجارات في منشآت عسكرية روسية بالقرب من أوكرانيا، اعترفت موسكو بأن أحدها نجم عن عمل “تخريبي”.

استفزاز في زابوريجيا؟

تركز القتال في الأسابيع الأخيرة حول منطقة زابوريجيا، في الجنوب، والمنشأة النووية الواقعة فيها. ودعا زيلينسكي، بعد محادثات مباشرة مع غوتيريس، الأمم المتحدة إلى ضمان الأمن في المحطة، متهماً روسيا بشن هجمات “متعمدة” على المنشأة.

وسيطرت القوات الروسية على المحطة في مارس/ آذار. وأثار غموض الوضع فيها مخاوف من وقوع حادث نووي.

ونفت موسكو التصريحات الأوكرانية الخميس، مؤكدة أن قواتها لم تنشر أسلحة ثقيلة في زابوريجيا، متهمة كييف بالتحضير “لاستفزاز” هناك من شأنه أن يجعل روسيا “متهمة بالتسبب في كارثة من صنع الإنسان في المحطة”. لكن كييف أصرت على أن موسكو هي التي تخطط لـ”استفزاز” في المنشأة.

وكتبت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية في منشور على “فيسبوك”، ليل الخميس الجمعة، أنها تلقت تقارير تفيد بأن كل طاقم تشغيل المحطة، باستثناء “جزء صغير من العاملين” فيها، تلقوا أوامر بالبقاء في منازلهم الجمعة، بينما “غادر موقع المنشأة” ممثلو شركة الطاقة النووية الحكومية الروسية.

وأضافت: “بالنظر إلى عدد الاسلحة الموجودة حاليا في أراضي المفاعل النووي، وكذلك القصف الاستفزازي المتكرر، هناك احتمال كبير بوقوع هجوم إرهابي واسع على المنشأة النووية”.

وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) ينس ستولتنبرغ إن استيلاء روسيا على المحطة “يشكل تهديداً خطيراً”، ودعا إلى انسحاب روسيا وتفتيش المنشأة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة.

(فرانس برس، الأناضول)

——————————

تركيا و”إس 400″.. ماذا يعني الإعلان الروسي بشأن “توقيع” عقد الدفعة الثانية؟

ضياء عودة – إسطنبول

ية منظومة الدفاع الجوي “إس 400” والمتعلقة بتركيا إلى الواجهة من جديد، خلال الأيام الماضية، بعدما أعلن رئيس هيئة التعاون العسكري الروسية، دميتري شوغاييف أن “موسكو وأنقرة وقعتا عقدا لتوريد الدفعة الثانية منها”، وفق ما نقلته وكالة “تاس”.

وهذا الإعلان سرعان ما دفع الجانب التركي إلى التعليق بـ”النفي”، فيما أعربت الأوساط الأمريكية عن قلقها إزاء هذه التقارير، إذ اعتبرت رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، بوب مينديز أن الخطوة “ستكون انتهاكا واضحا آخر للعقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية على روسيا، بينما تواصل غزوها الوحشي وغير القانوني لأوكرانيا”.

ونقلت وكالة “الأناضول” شبه الرسمية عن مسؤول تركي، يوم الأربعاء، قوله إن “العقد الأصلي الذي وقعته أنقرة مع موسكو لشراء منظومة الدفاع الجوي الصاروخية (إس – 400) يشمل دفعتين”، مضيفا أنه “لا توجد اتفاقات جديدة”.

وأكد المسؤول التركي في “رئاسة الصناعات الدفاعية التركية” أن “شراء الدفعة الثانية كان ضمن الخطة الأصلية والعقد ذي الصلة”، وأن “العملية مستمرة، ولا توجد أي اتفاقيات جديدة”.

وإلى اليوم تبدي واشنطن رفضها شراء أنقرة منظومة الصواريخ الروسية “إس 400”. واتجهت مؤخرا إلى فرض عقوبات عليها بموجب قانون “كاتسا”، كما أقدمت أيضا على إخراجها من برنامج مقاتلات “إف 35”.

ولم تفض محاولات أنقرة لتبديد مخاوف واشنطن من صفقة المنظومة الروسية إلى أي نتيجة في الفترة الماضية، وبقيت هذه القضية “معلّقة”، إلى أن جاء الإعلان الروسي قبل أيام، مثيرا الجدل من جهة وتساؤلات بشأن الأهداف الذي تريده موسكو من ورائه، وخاصة أنه قوبل بـ”نفي تركي” فوري و”قلق وتحذير أمريكي”.

ماذا تريد موسكو؟

وكان لافتا أن ما أثارته موسكو بخصوص صفقة “إس 400” جاء بالتزامن مع وصول وفد تركي إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، لمتابعة القضية الأخرى المتعلقة بحصول أنقرة على دفعة طائرات من نوع “إف 16”.

كما جاء عقب اللقاء الذي جمع الرئيسين التركي والروسي رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين في مدينة سوتشي. وفي أثناء اللقاء تحدث الطرفان عن تفاهمات انسحبت على مستويات مختلفة، سياسية واقتصادية، ودفاعية أيضا.

ورغم أن توريد الدفعة الثانية من المنظومة الروسية هو جزء من العقد الرئيسي، إلآّ أن روسيا “تعمّدت على ما يبدو إثارة هذه المسألة”، في الوقت الحالي، حسب قراءة الباحث المختص بالشأن التركي، محمود علوش.

فمن جانب، يقول الباحث لموقع “الحرة”: “تحرص موسكو على إظهار أنها ليست معزولة كما يقول الغرب وبأنها لا تزال قادرة على مواصلة مبيعاتها العسكرية رغم العقوبات”.

ومن جانب آخر “تُدرك موسكو أن إثارة هذه القضية في الوقت الحالي ستؤثر سلبا على المفاوضات التركية الأمريكية بشأن مقاتلات إف 16”.

ويضيف علوش: “ستُربك أيضا الجهود المبذولة لإعادة إصلاح العلاقات بين أنقرة وواشنطن”.

وذلك ما يشير إليه أنطون مارداسوف، وهو محلل روسي وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط، حيث يربط “الإعلان الروسي” بالزيارة التي أجراها وفد تركي إلى واشنطن، لمتابعة قضية “إف 16”.

ويقول مارداسوف لموقع “الحرة”: “في قصة تسليم فوج S-400 الثاني، تتفاوض جميع الأطراف علنا، لكن ربما لا ينبغي لنا أن نعقّد الموقف. استدعت موسكو هذا العقد في وقت يتفاوض فيه الوفد التركي بنشاط مع الولايات المتحدة”.

وكان عقد توريد أول فوج من صواريخ “إس 400” تتويجا للتقارب الروسي التركي، بعد التصعيد الذي حصل في عام 2015.

ويضيف الباحث الروسي: “هذه الصفقة السياسية هي التي ساعدت تركيا في الحصول على نظام دفاع جوي مستقل ذي أهداف محددة يمكن دمجه تقنيا في نظام الدفاع الجوي لحلف الناتو”.

وعلى الرغم من ذلك، إلا أن مارداسوف يرى أن عملية الدمج “مكلفة للغاية”، موضحا: “لتحقيق هذا التكامل، يحتاج الخبراء إلى حل مشكلات مثل تنسيق التردد، وتوافق معدات الاتصالات، وتركيب نظام تحديد الهدف والترميز”.

“خطوة سياسية”

وتقول واشنطن إن “إس 400” لا تتوافق مع أنظمة الدفاع لدى حلف شمال الأطلسي الذي تنتمي إليه تركيا، وكذلك الولايات المتحدة.

وحظرت واشنطن، في ديسمبر 2020، منح أي تصاريح لتصدير الأسلحة للوكالة الحكومية التركية المكلفة بشراء تجهيزات عسكرية، لمعاقبة أنقرة على شراء صواريخ “إس 400”.

قبل العقوبات، علقت الولايات المتحدة مشاركة تركيا في برنامج تصنيع الطائرة الحربية الأميركية الأحدث من نوع إف-35، معتبرة أن صواريخ “إس 400” يمكن أن تكشف أسرارها التكنولوجية.

واعتبر الباحث علوش أن “مسارعة أنقرة إلى نفي الإعلان الروسي يُشير إلى إدراكها للمخاطر المؤكدة على مساعيها لشراء مقاتلات إف 16 من واشنطن”.

“تركيا حريصة على توفير الظروف الملائمة لإنجاح الصفقة، وعدم الإقدام على خطوات من شأنها أن تُعطي مبررات إضافية للجناح المتشدد ضدها في الكونغرس لعرقلة الصفقة”، وفق الباحث.

من ناحية أخرى، يوضح الباحث الروسي مارداسوف أن “التصريح الأخير الذي أدلى به دمتري شوغاييف، مدير الخدمة الفيدرالية للتعاون العسكري الفني لا يكاد يكون سياسيا”.

ويقول: “لأنه في المنتدى العسكري الصيفي يُسأل شوغاييف باستمرار عن هذا العقد، وهو يجيب دائما على نفس الشيء تقريبا”.

وفي أغسطس من عام 2020 كان شوغاييف قد قال أيضا إنه “تم توقيع العقد مع تركيا، وكان السؤال الوحيد هو كيف سيتم تنفيذ القضايا المتعلقة بالتمويل”.

ويتابع الباحث الروسي: “هناك شيء آخر هو أنه بسبب ضغوط العقوبات وموقعها الفريد في ظروف الصراع الأوكراني الروسي، فإن تركيا بالكاد قادرة ومستعدة للتحدث عن هذا العقد علنا”.

ماذا بعد؟

في غضون ذلك يرى بعض المراقبين أن تجميد تركيا وضع هذه الصواريخ الروسية يمكن أن يلبي المطالب الأميركية، لكن هناك تساؤلات تتعلق بالإطار الزمني الذي يمكن أن تبقى فيه تركيا بخصوص “تبطيء” عملية إكمال أجزاء منظومة الدفاع.

وهناك معادلة كانت الأوساط التركية قد أشارت إليها، وتتلخص بأن شراء الدفعة الثانية من “إس 400” سيؤدي “بصورة حتمية” لقتل الصفقة المتعلقة بـ”إف 16″.

حيث أنه وبمجرد اتخاذ أنقرة لهذه الخطوة مع روسيا سيتجه “الكونغرس” الأمريكي لعدم تمرير الصفقة المتعلقة بالطائرات الحربية، بينما سيكون هناك موقفا أكثر حدة من جانب البيت الأبيض.

وبوجهة نظر الباحث محمود علوش فإن “الجيش التركي بحاجة ماسة إلى تحديث أسطوله الجوي”، وبالتالي فإن “شراء الطائرات الأمريكية يُمثل أولوية لأنقرة في الوقت الراهن”.

كما يعتقد الأتراك أن “إنجاح هذه الصفقة (إف 16) سيُعزز موقفهم في واشنطن. “ليس لدى الرئيس إردوغان مصلحة في تأجيج التوتر مع إدارة بايدن”، وفق علوش.

ويشير إلى أن أنقرة لا تنظر إلى التعاون الدفاعي مع روسيا وأمريكا من منظور حاجتها العسكرية فحسب، بل أيضا “من منظور متطلبات عملية التوازن بين موسكو وواشنطن. وهذا يتطلب توازنا دقيقا في إدارة العلاقة مع البلدين”.

وبالتالي فإن “تعميق التعاون الدفاعي التركي مع موسكو لا يخدم مصالح أنقرة”، فيما “سيؤدي ذلك إلى مزيد من العقوبات الأمريكية وسيضر أيضا بتوسع صناعة الدفاع المحلية”.

لكن وفي مقابل ما سبق يرجّح علوش إنه “وفي حال واصل الأمريكيون الممطالة في بيع تركيا مقاتلات إف 16، فإنه لن يكون لدى أنقرة خيارا آخر سوى اللجوء إلى روسيا”.

بدوره يرى الأكاديمي والباحث السياسي، مهند حافظ أوغلو أن “صفقة إف 16 وإس 400 تحتاجهما تركيا بشكل مزدوج، لأن الأول سلاح هجومي والآخر دفاعي”.

وما يجمع الصفقتين أنهما تحولا إلى “سلاح ثالث”، حسب الباحث، الذي يقول لموقع “الحرة”: “هذا السلاح هو سياسي إعلامي، والسبب هو أن واشنطن لم تحسم أمرها بعد في علاقتها الاستراتيجية الحقيقية مع أنقرة، وليس برنامج F35 ببعيد”.

و”تصر تركيا في الوقت الحالي على حقوقها في الطائرات المقاتلة، وتلوح من بعيد إلى أن التفاهمات مع روسيا ربما تزداد مع تعنت الولايات المتحدة ضد تركيا”. “سيبقى هذا الاحتمال في ازدياد جاد إذا لم تغير الإدارة الأمريكية نظرتها للحليفة تركيا!”، حسب تعبير الباحث.

ضياء عودة

—————————

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

===================

تحديث 17 أيلول 2022

————————

الوجود العسكري الروسي في سورية والعقيدة البحرية الروسية الجديدة/ طارق عزيزة

المحتويات:

    ملخص تنفيذي

    لمحة تاريخية موجزة

    نبذة عن العقيدة البحرية الروسية الجديدة

    أهمية سورية الاستراتيجية بالنسبة إلى روسيا

    حرب أوكرانيا وتحدّيات الوجود العسكري الروسي في سورية

    خاتمة

    ملخّص تنفيذي

في ظلّ المستجدّات الحاصلة على الساحة الدولية، وبالتوازي مع حالة التوتّر الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 31 تموز/ يوليو الماضي، وثيقةً تتضمّن “العقيدة البحرية الروسية” الجديدة، وفيها تحدّد روسيا المناطق التي توليها أهميةً استراتيجية أو تعدّها ذات صلة بأمنها القومي حول العالم، وتُبيّن سبل التعامل مع المتغيّرات لضمان مصالحها. صنّفت الوثيقة سياسة الولايات المتحدة الرامية إلى الهيمنة على المحيطات العالمية في خانة العداء، بوصفها التهديد الرئيس الذي يواجه المصالح الروسية في العالم، وهو ما لم يرد من قبلُ في “العقيدة البحرية الروسية” السابقة. ولمّا كان من بين بنود الإستراتيجية الروسية التأكيد على أهمية وجود روسي مستدام في البحر الأبيض المتوسط، فإنّ القواعد العسكرية في سورية تمثّل أولوية كبرى لروسيا، بالنظر إلى أهمية موقع سورية بالنسبة إليها، سواء عبر التاريخ أو في العقيدة الجديدة، بما يعنيه ذلك من تحدّيات قد تواجه الوجود العسكري الروسي في سورية والبحر المتوسط، نتيجة التصعيد بينها وبين الولايات المتحدة وحلفاء واشنطن الأوروبيين، في إثر الحرب الأوكرانية.

وإذ تعدّ روسيا فاعلًا أساسيًّا في المشهد السوري، وقد تَعزَّزَ دورها بصورة أكبر بعد تدخّلها العسكري المباشر لدعم نظام الأسد، منذ العام 2015، فإنّ فهم المتغيّرات التي تطرأ على استراتيجيتها، ومن ضمنها العقيدة البحرية الجديدة والصعوبات التي تعترضها، من شأنه المساعدة في تطوير المقاربات المتعلّقة بالشأن السوري، وتحديثها في ضوء المستجدّات، وهو ما تسعى هذه الدراسة إلى الإسهام فيه.

    لمحة تاريخية موجزة

يعود النشاط العسكري الروسي في شرق المتوسط إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إبان العهد القيصري. ففي الحرب الروسية – العثمانية (1768 – 1774)، أرسلت الإمبراطورة كاترينا الثانية الأسطولَ الروسي من بحر البلطيق إلى البحر المتوسط، لمحاربة الأسطول التركي، ودعم حركة اليونانيين والسلافيين المناهضة لتركيا، وبعد هزيمة الأسطول التركي في معركة جشمة بتاريخ 26 حزيران/ يونيو 1770، سيطر الأسطول الروسي على الجزء الشرقي من المتوسط، وحاصر السواحل التركية[1]. في ذلك الحين، كان لروسيا دور مؤثّر في الصراعات بين الولاة والقادة العثمانيين في مدن الساحل السوري، ووصلت سفنها أول مرة إلى الشواطئ السورية سنة 1772، وأنزل الروس قواتهم في بيروت صيف ذلك العام، ولم ينسحبوا إلا بعد الحصول على الغرامة السنوية التي تدفعها المدينة للسلطان[2].

أمّا الوجود القنصلي الروسي في سورية، فقد بدأ في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حيث أقيم أول مركز قنصلي روسي في يافا عام 1820، وفي الثلاثينيات من القرن نفسه، كانت توجد وكالات قنصلية لروسيا في كل من حلب واللاذقية وبيروت وصيدا[3]. وكانت روسيا، شأنها شأن القوى الأوروبية الكبرى الأخرى، تحصل على الامتيازات وتعزّز مكانتها في الدولة العثمانية بذريعة “حماية الأقليات”.

استمرّ الاهتمام الروسي منصبًّا على سورية خلال الحقبة السوفييتية، ولا يخلو من دلالةٍ حول مركزية سورية وأهميتها في السياسة الخارجية السوفييتية، أنّ أوّل مرة استُعمل حق النقض (فيتو) في مجلس الأمن الدولي كانت من قبل فيشنسكي مندوب الاتحاد السوفييتي، في 16 شباط/ فبراير 1946، عند مناقشة المجلس مسألةَ جلاء القوات الفرنسية عن سورية. حينها اعترض المندوب السوفييتي على مشروع قرار قدّمت الولايات المتّحدة، لتضمّنه عبارة “الانسحاب بأسرع وقت ممكن”، مصرًّا على “الانسحاب فورًا”. ورفض فيشنسكي أيّ مقترحات بإجراء مفاوضات حول الجلاء، وعلى ذلك قبل المجلس مبدأ جلاء الجيوش الأجنبية عن سورية ولبنان[4].

وخلال صراعهم مع الغرب، عمل السوفييت على تعزيز نفوذهم في الشرق الأوسط، وسورية خصوصًا، فكانت من أبرز ميادين الحرب الباردة، بدءًا من خمسينيات القرن الماضي. وقد شكّل الصراع العربي – الإسرائيلي أحد المفاتيح المهمة للدور الروسي في المنطقة، سواء لجهة مدّ الدول العربية، وفي مقدّمتها سورية، بالسلاح والخبراء، أو عبر دعمها النسبي المواقفَ العربية في المحافل الدولية.

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، انعطفت سياسة روسيا الخارجية نحو الغرب، بدايةَ عهد الرئيس بوريس يلتسن، وانكفأت عن مواقع النفوذ السوفييتي التقليدية. رأى يلتسن أن إدماج روسيا مع الحضارة الغربية وحلف الأطلسي يشكّل الوسيلة الوحيدة لتمكينها من النهوض اقتصاديًا، مع الاعتراف بأنها أصبحت قوّة دولية عادية، والتحالف مع الولايات المتحدة والقبول بمنظورها للعلاقات الدولية، وإعطاء التنازلات من طرف واحد. وكان أول تطبيق لذلك زيارة يلتسن للولايات المتحدة، في شباط/ فبراير 1992، وفيها أكّد سعي بلاده لبناء سياسة خارجية غير أيديولوجية، وأنها ستبذل قصارى جهدها للتعاون مع الغرب، ولن توجّه صواريخها النووية صوب المدن والقواعد العسكرية الأميركية، فأميركا لم تعد عدوًا محتملًا لها، بعد أن تغيرت العقيدة العسكرية الروسية، وجسّد ذلك في “وثيقة التعاون الأميركي – الروسي”، التي وقعها مع الرئيس الأميركي بوش (الأب). وفي العام نفسه، أجريت مناورات مشتركة للأسطولين الأميركي والروسي في البحر المتوسط، ووافقت روسيا على فرض عقوبات على يوغوسلافيا، والعراق، وليبيا[5]. لكن سلبية الغرب تجاه مبادرات يلتسن أدت إلى تبنّيه سياسة خارجية مختلفة، أهم ركائزها أن روسيا دولة أوروبية – آسيوية (أوراسية)، وبالتالي عليها توجيه سياستها الخارجية نحو هذا العالم، ففي العالم الأوراسي تقع روسيا وتكمن مصالحها، ومنه تنبع مصادر التهديد الأساسية للأمن القومي الروسي. ومن ناحية أخرى، الغرب لن يُخرج روسيا من أزمتها، لأنه حريص على بقائها دولة ضعيفة أطول فترة ممكنة، والدليل أنه لم يقبل إدماجها في مؤسساته[6].

ومع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000، شرع يعمل على استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية، ذلك أنّه على الرغم من تناقص رصيدها في ميزان القوى العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فإنها احتفظت بالكثير من إرثه، من مثل العضوية الدائمة في مجلس الأمن، والنزوع التوسّعي المسنود بترسانة نووية هائلة، فضلًا عن تأثيرها في أسواق الطاقة، كونها من أكبر مصدّري النفط والغاز في العالم. وبالتدريج، استطاعت موسكو الخروج من محنتها، وإعادة ترتيب أوراقها للعودة إلى التأثير في السياسة العالمية، بالتفاهم حينًا وبإثارة المشاكل أحيانًا.

    نبذة عن العقيدة البحرية الروسية الجديدة

في أثناء الاحتفال بيوم الأسطول البحري الروسي، في مدينة سانت بطرسبورغ، بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2022، وقع الرئيس الروسي وثيقة “العقيدة البحرية الروسية” الجديدة. وتعدّ هذه الوثيقة الثالثة من نوعها، بعد أول “عقيدة بحرية” صدرت في تاريخ روسيا الحديث، في حزيران/ يونيو 2001، والثانية الصادرة في تموز/ يوليو 2015.

حدّدت الوثيقة المكونة من 55 صفحة الأهدافَ الاستراتيجية الواسعة للبحرية الروسية، ومن ضمنها طموحاتها “كقوة بحرية عظيمة” تمتد إلى العالم بأسره. وفي حين أقرّت عقيدة 2015 السابقة أربعةَ أبعاد وظيفية لاستراتيجية روسيا البحرية، هي تعزيز نشاط النقل البحري، والكشف عن الموارد الطبيعية في البحر المفتوح، وتكثيف البحوث العلمية البحرية، والاهتمام بالنشاط العسكري البحري، فإنّ البعد العسكري احتلّ المرتبة الأولى في وثيقة 2022، والتي صدرت في ضوء التغيرات التي شهدها العالم خلال السنوات السبع الماضية، وما فرضته من تحديات وتهديدات، زادت حدّتها بعد الحرب الروسية في أوكرانيا. وعلى عكس وثيقة 2015 التي لم تشر إلى أعداء أو خصوم، نصّت السياسة الجديدة للبحرية الروسية على أن التهديد الرئيسي لموسكو هو السياسة الاستراتيجية للولايات المتحدة للهيمنة على محيطات العالم، وتحرّك حلف شمال الأطلسي العسكري بالقرب من حدود روسيا، وكذلك تعزيز شامل لموقع روسيا الجيوسياسي في البحر الأسود وبحر آزوف، وتوسيع البنية التحتية العسكرية في شبه جزيرة القرم، وبناء حاملات طائرات حديثة. إلى ذلك، نصّت الوثيقة على أن “عدم وجود عدد كاف من القواعد ونقاط التمركز خارج حدود روسيا الاتحادية المخصصة لتموين السفن التابعة للقوات البحرية الروسية، يعتبر نقطة خطرة”، وأنّ “مضائق الكوريل والبلطيق والبحر الأسود والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط مهمّة لضمان الأمن القومي لروسيا”[7]. وجدير بالذكر أنّ “روسيا ستدافع عن مصالحها في هذه المناطق من المياه الدولية بكل الوسائل المتاحة، بما فيها القوة العسكرية”، وفقًا لفلاديمير بوشنين، أحد المشاركين في صياغة الوثيقة، في تصريحات نشرتها وكالة (سبوتنيك) الروسية للأنباء[8].

للمصادفة التاريخية، جاءت العقيدة البحرية السابقة، الصادرة في حزيران/ يونيو 2015، بعد نحو أربعة أشهر من ضمّ روسيا شبهَ جزيرة القرم، وفي مناخ متوتّر بينها وبين أوروبا والولايات المتحدّة على خلفية الأزمة الأوكرانية. وبالمثل صدرت العقيدة البحرية الجديدة بعد ستة أشهر من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، في ظلّ تصعيد متزايد بين موسكو والدول الغربية، مع استمرار القتال على الأراضي الأوكرانية، التي نجحت روسيا في احتلال ما يقارب ثلث مساحتها.

وفي حدثٍ استعراضي، يمكن عدّه مؤشرًا على أهمّية القاعدة العسكرية الروسية في سورية، أقيم احتفال رسمي على شاطئ مدينة طرطوس، “بمناسبة عيد الأسطول البحري لروسيا الاتحادية”، بالتزامن مع توقيع بوتين الوثيقة، حضره “قادة وكبار ضباط القوات الروسية في سورية والسفير الروسي بدمشق”. تخلّل الاحتفال “عرض بحري يحاكي الأعمال القتالية الحقيقية”، شارك فيه طرّاد صواريخ وسفينة مضادة للغواصات، وفرقاطتان وبعض الغواصات، إضافة إلى الطيران الحربي والحوامات القتالية البحرية”[9].

    أهمية سورية الاستراتيجية بالنسبة لروسيا

أعادت وثيقة العقيدة البحرية الروسية الجديدة تأكيد أهمية وجود روسي دائم في البحر المتوسط، وتحديدًا في الشرق منه. هذه الجزئية تعني أن القواعد العسكرية الروسية في سورية ركنٌ رئيس في الاستراتيجية الروسية عمومًا، وضمن العقيدة البحرية الجديدة على نحو خاصّ. أي أن خطط روسيا السياسية والميدانية في سورية ستركّز على تكريس الوضع الراهن، وضمان وجود عسكري طويل الأمد فيها.

سبقت الإشارة إلى أهمية سورية تاريخيًا في المنظور الروسي، وهو أمر تطوّر باستمرار، فالعلاقة مع دمشق شكّلت لبنة أساسية في سياسات موسكو الشرق أوسطية، منذ ما قبل مرحلة نظام الأسد، مما أتاح لروسيا حضورًا فاعلًا شرقي المتوسط، وهو ما كانت تطمح إليه منذ قرون. ويمكن القول إنّ حرص روسيا على تثبيت نفوذها العسكري والاقتصادي في سورية، وموقفها الداعم للنظام في مواجهة ثورة 2011، يندرج ضمن الوسائل الأساسية لتحقيق طموحات بوتين، في استعادة دور بلاده بوصفها “قوّة عظمى” في العالم.

تعدّ سورية أحد أهم الشركاء التجاريين لروسيا في العالم العربي، إذ تشكل التجارة الروسية – السورية ما نسبته 20% من إجمالي التجارة العربية الروسية. وتعدّ القاعدة البحرية في مدينة طرطوس السورية القاعدة الوحيدة لروسيا على شواطئ البحر المتوسط. وبالرغم من أنها موجودة، عملًا باتفاقية قديمة بين البلدين تعود لعام 1971، فإن استمرارها كلّف روسيا إعفاء سورية من ديون بلغت 9.8 مليار دولار عام 2006. وسورية من الدول المهمة في سوق السلاح الروسي، إذ شكّل نصيبها من تجارة روسيا العسكرية حوالي 7% عام 2010، فضلًا عن صفقات عسكرية بقيمة أربعة مليارات دولار حتى عام 2013. ما يعني أنّ روسيا قاربت الثورة السورية من منظور جيواستراتيجي، حيث ترى أن بقاء النظام السوري هو نفوذ جيواستراتيجي لها في منطقة الشرق الأوسط، لذلك قررت مناهضة الثورة ومواجهة من يؤيدها، ومساندة النظام من خلال استخدام حق النقض، واستخدام القوة العسكرية[10]. زاد من تصلّب موقف الروس في سورية استياؤهم مما عدّوه “خديعة” تعرّضوا لها على يد (حلف الناتو)، حين تحوّل إصدار قرار دولي لحماية المدنيين من بطش القذافي، إلى ذريعة للتدخل العسكري الغربي وفرض وصاية على ليبيا، الأمر الذي شكّل ضربة لمصالحهم الحيوية في البحر المتوسط.

بالتالي، فإنّ تدخّل روسيا العسكري المباشر في سورية على النحو المستمر منذ 30 أيلول/ سبتمبر 2015، لم يكن مدعاةً للدهشة، بصرف النظر عن الموقف منه، حيث جاء تتويجًا للسياسة التي انتهجتها موسكو حيال “الملف السوري”، منذ اندلاع الثورة ضد نظام الأسد عام 2011، فلم تتوانَ عن استخدام حق النقض (الفيتو) مرارًا في مجلس الأمن الدولي، للحيلولة دون صدور قرارات ضدّه، ولو لمجرّد إدانة جرائمه بحق الشعب السوري، وواظبت على مدّه بالعتاد والسلاح والمستشارين. وعندما وجدت أنّ ذلك كلّه لم يعد كافيًا، في ضوء التطورات الميدانية على الأرض والانكسارات والهزائم المتلاحقة التي مُنيت بها قوات النظام، “حليفها” في سورية، لم تجد بدًّا من تصعيد تدخّلها، والزجّ بقواتها المسلّحة مباشرة في الحرب السورية، إدراكًا منها بأن سقوطه قد يعني خسارة منطقة نفوذها الأهمّ في الشرق الأوسط، والتي تؤمّن إطلالتا اليتيمة على البحر الأبيض المتوسط. هكذا، من الوجهة التاريخية، ونظرًا إلى ثقل الحضور الروسي في سورية وحيوية المصالح الروسية الاستراتيجية فيها، سيبدو “منطقيًا” أن تسعى للحفاظ على قواعدها فيها، مهما كان الثمن.

    حرب أوكرانيا وتحدّيات الوجود العسكري الروسي في سورية

على الرغم من اختلاف المقاربتين الروسية والأميركية بشأن الملف السوري، وبصرف النظر عن عبارات الشجب والاستنكار الغربية، فإنّ التدخّل العسكري الروسي المباشر في سورية، نهايةَ أيلول/ سبتمبر 2015، حدث “بموافقة ضمنية، إن لم تكن صريحة، من واشنطن”، وفق تصريح الرئيس الإيراني (وقتذاك) حسن روحاني، لشبكة (سي إن إن)، بتاريخ 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وفي المقابلة ذاتها، قال روحاني إنّ بوتين أخبره “أنه تحدّث حتى إلى السيد أوباما عن هذا الموضوع، وأنّه يودّ أن يجدّد التزامه بقتال داعش وهزيمتها”. وأن “السيد أوباما رحّب بتحليله وبخطّته. ولذا فحتى مسبقًا، أُخطرت الولايات المتحدة الأميركية”[11]. إذن، لم تقم روسيا بخطواتها في سورية منفردةً تمامًا، والترتيبات اللاحقة بشأن تنسيق العمليات الجوية في السماء السورية، ما بين طيرانها وطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، لم تكن سوى نقاشات في التفاصيل، بعد أن تمّ الاتفاق على الجوهر، في إطار تنسيق المواقف في سورية، تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، ومنع “انهيار الدولة” والفوضى.

لم يكن دعم روسيا لنظام الأسد بالمجّان، إذ أصبح مطار حميميم على الساحل السوري قاعدةً روسية، وأحكمت قبضتها على القاعدة البحرية في طرطوس، وفق اتفاقيات طويلة الأمد وقّعتها مع حكومة النظام، فضلًا عن عديد من القواعد العسكرية الأخرى، وأبرمت عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، مُنِحت الشركات الروسية بموجبها امتيازات هائلة في سورية. في المقابل، كان عليها إيجاد سبل للتفاهم مع إيران، التي تشاركها دعمَ الأسد، وتنافسها في الاستحواذ على الموارد ومناطق النفوذ في سورية، والتوصل إلى تفاهمات مع تركية ذات التأثير الواسع في الملف السوري، خصوصًا بعد تدخّل أنقرة العسكري، وبسط نفوذها على مساحات واسعة من الأراضي السورية، سواء بصورة مباشرة، أو عبر الميليشيات السورية التابعة لها. هذا يعني أنّ التنسيق الروسي – الإيراني – التركي المشترك ضمن “مسار آستانة”، لا يلغي تضارب المصالح، واختلاف المقاربات السياسية والأولويات الاستراتيجية، بين أطراف هذه الشراكة الاضطرارية.

مجمل المعطيات السابقة (الموقف الأميركي، المصالح التركية والإيرانية في سورية)، مرشحة لأن تكون عوامل تزيد من تعقيد المهمة الروسية في سورية، كون الظروف تغيّرت عمّا كانت عليه قبل سبعة أعوام. التنظيم الإرهابي الذي من أجل قتاله تواطأت إدارة أوباما مع الخطوة الروسية هُزِم عسكريًا، ولم يبق منه سوى مجموعات تشنّ عمليات محدودة، انطلاقًا من جيوب معزولة داخل البادية السورية. والتوتّرات التي كان يجري احتواؤها سابقًا في إطار الأقنية الدبلوماسية بشأن أوكرانيا، تحوّلت إلى حرب تشارك فيها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون، عسكريًا بصورة غير مباشرة، من خلال دعم كييف بالعتاد والسلاح، وبشكلٍ مباشر على جبهة الاقتصاد، بأسلحة العقوبات الاقتصادية والمالية. وانشغال روسيا في حربها الأوكرانية، ومحاولاتها التأقلم مع العقوبات الغربية الشاملة المفروضة عليها، سيتيح لتركيا وإيران هامشًا للمناورة والمساومة، من أجل اغتنام الفرصة وتحصيل مزيد من النقاط في صراعهم الخفي مع روسيا في سورية.

لعل من ضمن السيناريوهات الأسوأ لروسيا في سورية، أن تتطوّر الأمور باتجاه الضغط عليها عسكريًا هناك، وإن بصورة غير مباشرة، في إطار تحرّك غربي يكون (الناتو) جزءًا منه، وأن تنحاز أنقرة إلى عضويتها في الحلف، على حساب تفاهماتها مع موسكو.

    خاتمة

من السمات التي ميّزت العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أنّ القوى الكبرى عندما تنجح في التوصّل إلى اتفاقات بينية ترضي حاجاتها وطموحاتها، فإنّها تجد دومًا الوسائل الكفيلة بإظهار الأمور بالشكل الدبلوماسي، بدءًا من التعبير المتبادل عن “احترام” كل منها لـ “مناطق نفوذ” الأطراف الأخرى و”تفهّم” مصالحها، وصولًا إلى عقد اتفاقيات واضحة. وغالبًا ما يجري ذلك على حساب دول أعضاء في الأمم المتحدة، ويُفترض أنها مستقلة وذات سيادة. لكن في غياب ذلك التفاهم، قد تجنح إحداها إلى تعزيز مواقعها، وتقويض مصالح بقية الأطراف، سعيًا إلى إحداث تغيير في ميزان القوى لصالحها.

وبناءً على ما تضمّنته العقيدة البحرية الروسية الجديدة، يمكن القول إنّ مساعي بوتين لم تعد مقتصرةً على استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية، وإنما انتقل إلى تحدّي القوى الأخرى، خصوصًا الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، بما يعنيه ذلك من تكلفة متزايدة يفرضها التوسّع العسكري، وما يتطلّبه من نمو اقتصادي وقوّة سياسية، “فالتفاعل بين الاقتصاد والسياسة خاصّية جوهرية من خصائص عملية التغيير السياسي الدولي. فمن جهة توفر الرغبة في المكسب الاقتصادي حافزًا قويًا للسعي إلى تغيير النظام الدولي، ومن جهة أخرى، يتوقف توزيع القوى نفسها في نهاية المطاف على القاعدة الاقتصادية”[12].

لكن يبدو أن المعطيات والمؤشّرات الاقتصادية لن تكون في صالح الاستراتيجية الروسية الطموحة، فضلًا عن أنّه في ظروف الصراع المتصاعد مع الغرب، لن يكون من السهل الحفاظ على استقرار مناطق نفوذ موسكو الحالية، ومن ضمنها سورية. ذلك أنّه مع مرور الوقت ترتفع تكلفة الحفاظ على الوضع الراهن بما يفوق منافعه الاقتصادية، “وفي النهاية، تصبح الموارد الناتجة عن التوسع السياسي والإقليمي والاقتصادي غير كافية لسداد تكاليف الموقف الإمبريالي أو المهيمن”[13]. في هذه الحالة، يمكن خفض النفقات من خلال “الدخول في تحالفات مع القوى الأقل إثارة للتهديد أو السعي إلى التقارب معها”، حيث “تقدم القوة المسيطرة والمتراجعة تنازلات في الواقع إلى دولة أخرى، وتوافق على تقاسم منافع الوضع الراهن معها، مقابل التشارك في تكاليف المحافظة عليه”[14]، وهذا قد ينطبق، بصورة أو بأخرى، على آفاق التفاهمات بين روسيا وكلّ من إيران وتركيا على الصعيد السوري، وكذلك ما قد يسفر عنه التوجّه الروسي نحو الصين والهند في السياق العالمي الأوسع. إنها إحدى مفارقات السياسة الدولية، حيث يشكّل تشابك المصالح، في الآن ذاته، عامل تفاهم وتوتّر.

يبقى أنّ الصعوبات التي تنتظر روسيا في سورية لن تقتصر على ما يتعلّق بمصالح الدول فقط، إذ تشمل موقف السوريين أنفسهم (الشعب وليس النظام). ففي نهاية المطاف، روسيا مرفوضة شعبيًا في مناطق سيطرة المعارضة، نظرًا لمساندتها نظامَ الأسد، وارتكابها جرائم حرب بحق المدنيين. ومن ناحية ثانية، بدأ سكّان “المناطق الموالية” يدركون أنّها ليست بالحليف ولا الشريك، وتتصرّف كأي دولة احتلال تعمل وفق مصالحها فحسب، عسكريًا واقتصاديًا، دون اكتراث لما يعانونه، تحت سطوة نظام يمعن في إذلالهم، وما كان لينجح في البقاء، لولا الدعم الروسي له.

المصادر والمراجع

    بازيلي، قسطنطين سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، طارق معصراني (مترجمًا)، ط1، موسكو: دار التقدم، 1989

    المنيّر، حنانيا. الدرّ المرصوف في تاريخ الشوف، د. ط، د. م، منشورات جرّوس – برس، د. ت.

    الخاني، عبد الله فكري. سورية بين الديمقراطية والحكم الفردي، ط1، دمشق، دار النفائس، 2004

    خبّاز، حنّا. وحدّاد، جورج. فارس الخوري حياته وعصره، د.ر. بيروت، مطابع صادر ريحاني، 1952

    الأشقر، جلبير. انتكاسة الانتفاضة العربية، عمر الشافي (مترجمًا)، ط1، بيروت، دار الساقي، 2016

    غيلبن، روبرت. الحرب والتغيير في السياسة العالمية، عمر سعيد الأيوبي (مترجمًا)، ط1، بيروت، دار الكتاب العربي، 2009.

    قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، طارق معصراني (مترجمًا)، ط1 (موسكو: دار التقدم، 1989)، ص 56 في الهامش.

    المصدر نفسه، ص 58، 59. للاطلاع على مزيد من التفاصيل يُنظر: حنانيا المنيّر، الدرّ المرصوف في تاريخ الشوف، د. ط (د. م: منشورات جرّوس – برس، د. ت). ص 13 – 15

    قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص5

    عبد الله فكري الخاني، سورية بين الديمقراطية والحكم الفردي، ط1 (دمشق: دار النفائس، 2004) ص31، ويُنظر أيضًا: حنّا خبّاز وجورج حدّاد، فارس الخوري حياته وعصره، د.ر. (بيروت: مطابع صادر ريحاني، 1952) ص158، 159.

    حسيبة مخبي، “توجهات الاستراتيجية الروسية نحو منطقة الشرق الأوسط: دراسة حالة سوريا”، مجلة مدارات سياسية، عدد ديسمبر 2017 (بتصرّف)

    المصدر نفسه.

    سكاي نيوز عربية: “من 2015 إلى 2022.. ماذا تغيّر في العقيدة البحرية الروسية؟”، 31 تموز/ يوليو 2022 (بتصرّف). يُشار أنّ مصالح روسيا، وفق الوثيقة، تكاد تشمل كافة المحيطات والبحار في العالم، من المتجمّد الشمالي، إلى الأطلسي والهادي والهندي، والبحر الأحمر، فضلًا عن البحر الأسود وبحر قزوين.

    سبوتنيك عربي: “أحد مطوري العقيدة العسكرية الروسية الجديدة يكشف تحديها “الهيمنة الأمريكية” في المحيطات الدولية“، 31-7-2022

    وكالة سانا: “احتفال مركزي للقوات الروسية في طرطوس بمشاركة سوريّة بمناسبة عيد الأسطول البحري الروسي“، 2022-07-31

    حسيبة مخبي، “توجهات الاستراتيجية الروسية نحو منطقة الشرق الأوسط”.

    جلبير الأشقر، انتكاسة الانتفاضة العربية، عمر الشافي (مترجمًا)، ط1 (بيروت: دار الساقي، 2016)، ص 68،

    روبرت غيلبن، الحرب والتغيير في السياسة العالمية، عمر سعيد الأيوبي (مترجمًا)، ط1 (بيروت: دار الكتاب العربي، 2009). ص 91, 92

    روبرت غيلبن، الحرب والتغيير في السياسة العالمية. ص 208

    روبرت غيلبن، الحرب والتغيير في السياسة العالمية. ص 234

مركز حرمون

—————————–

عن الانتصارات الأوكرانية/ بيار عقيقي

منذ مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، يتابع المهتم بملف الغزو الروسي أوكرانيا نجاح جيش كييف في تحرير آلاف الكيلومترات المربّعة من البلاد، شرقاً وجنوباً. يمكن عزو ذلك إلى أسباب عدة، بدءاً من التدريبات الغربية للجيش الأوكراني والأسلحة التي يحصل عليها من الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة. وأيضاً بسبب التكتيكات العسكرية، كنقل القوات من جبهة إلى أخرى. ولكن في كل الأحوال، تُسجّل للأوكرانيين شجاعتهم في القتال دفاعاً عن بلادهم.

قد يبدو هذا الأمر غريباً بعض الشيء، في زمنٍ تبدو فيه القوميات لدى بعضهم وكأنها فعل ماض ناقص، لا يشبه قروناً غابرة. في المقابل، أدهش التراجع الروسي مراقبين عسكريين، رأوا فيه أمراً لم تشهده روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، سوى في حرب الشيشان الأولى (1994 – 1996). وهو تراجع تُمكن قراءته في تفاصيل عدة، تبدأ في حالة الاستنزاف الذي تشهده القوات الروسية، بعد نحو سبعة أشهر من الحرب. وبمعزل عن الحديث عن هبوط في المعنويات، إلا أن تحوّل الجيش المهاجم إلى جيش مدافع، في اجتياح كان يفترض أن ينتهي خلال أسابيع على الأكثر، يطرح مسألة قدرة الجيش الروسي على الحفاظ على النَفَس الطويل، ومدى تقبّل جنوده عقيدة محفّزة لحمل البندقية في أوكرانيا.

أغلب الظن أن الجيش الروسي، وبحكم سبب الانخراط في صفوفه على العموم، أي الفقر، لا يكون الحافز للجندي الروسي “السعي إلى رفع راية الأمة”، بقدر ما يكون بحثاً عن شقّة في ضواحي موسكو، والحصول على امتيازات طبية وبعض الرفاهية المفقودة في مسقط رأسه. ومهما حاولت القيادتان، السياسية والعسكرية، فإنها فشلت في إقناع الجنود بجدوى القتال في أوكرانيا. طبعاً، سيختلف الأمر لو سعت أي دولة لاجتياح روسيا. درسا نابوليون بونابرت وأدولف هتلر نموذجان في كيفية تحوّل المجتمع الروسي إلى جيش واحد لصدّ الغزو. والفشل في المحافظة على التقدّم في ضواحي العاصمة كييف، والانسحاب بعد ارتكاب انتهاكات عدة في إربين وبوتشا، في الربيع الماضي، ثم التراجع في منطقتي خاركيف وخيرسون، تُظهر وكأن الجيش الروسي تمدّد في بدايات هجومه، قبل الانسحاب من دون عودة. وهنا يصبح درس أفغانستان بالنسبة للجيش السوفييتي (1979 – 1989) أكثر واقعية، ولكن في زمن أقصر بكثير للغاية.

لا يجب أن يغيب عن البال أن لروسيا قدرات صاروخية واسعة النطاق، وقد تلجأ إليها لوقف التقهقر السريع لقواتها، لكن في ذلك مخاطر أكبر من القتال الميداني. هنا، سيتحوّل الجيش الروسي إلى جيش يخشى القتال المباشر، ويكتفي بالقصف عن بعد، ويسعى إلى الإمعان في تدمير المواقع المدنية في أوكرانيا. وما فعله للرد على خسائره المتلاحقة في الأسبوعين الماضيين، بقصف محطات الكهرباء والمياه في خاركيف وكريفيي ريه، مثالٌ لما يمكن أن يحققه القصف الصاروخي بعيد المدى. وهو في الوقت نفسه إقرارٌ بالهزائم الأخيرة، حتى إن التعبئة العامة، في حال حصلت في موسكو، ستؤكد المأزق الذي غرق به الكرملين، كما سيسمح لمن يناصر روسيا، سواء في دونباس أو شبه جزيرة القرم، أن يستشعر عدم القدرة الروسية على “حمايته”، ما سيدفعه إلى اللجوء إليها، لإدراكه في لاوعيه أن كييف ستستعيد أراضيها، وفقاً لاستقلال 1991. وسيشعر هذا الفرد أنه إما ارتكب خطيئةً بالتمرّد على كييف، أو أنه يعلم أن أوكرانيا ما بعد الحرب لن ترحم ذوي الأصول الروسية ولا من يتحدث لغتها.

تبقى نقطة جوهرية: هل من خلافاتٍ بدأت بالظهور إلى العلن في الدوائر الأمنية في روسيا؟ من دون تخمينات، يكفي أن مقتل داريا دوغين، في انفجار كان يستهدف والدها المفكر ألكسندر دوغين، في 20 أغسطس/ آب الماضي، مرّ وكأن شيئاً لم يكن، فلو كان لكييف يد في الاغتيال، لما تردّد الرئيس فلاديمير بوتين في قصفها بعنف… الحرب باتت في ظلال الكرملين.

العربي الجديد

————————–

قراءة في المفهوم الإستراتيجي الجديد للناتو/ حسن نافعة

لم تكن قمّة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في مدريد أواخر شهر يونيو/ حزيران الماضي، مجرّد قمة عادية تشبه ما سبقها من قمم. بدت مختلفة إلى درجة تدفع إلى الاعتقاد أنها قد تشكّل نقطة تحول مهمة في مسار الحلف، الأمر الذي يعود، في تقديري، إلى سببين رئيسيين مترابطين:

الأول: أن هذه القمّة عقدت بعد أربعة أشهر من بداية الحرب التي شنّتها روسيا على أوكرانيا. ولأنها حربٌ شكلت تحدّيا غير مسبوق لحلف الناتو، بسبب تعرض إحدى الدول الأوروبية المرشحة لعضويته لغزو عسكري روسي مباشر، لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتالي في تاريخ الحلف، فمن الطبيعي أن تتحوّل أي قمة تعقد بعدها إلى ما يشبه الترمومتر الذي لا يقيس فقط درجة تماسك الحلف في مواجهة تحدٍّ على هذا القدر من الخطورة، وإنما أيضا مدى جهوزيته للرد عليه، وعلى كل التحدّيات المشابهة والمحتملة في المستقبل.

الثاني: أن عقدها تزامن مع توقيتٍ تعين فيه على الحلف أن يُصدر وثيقة جديدة تحدّد مفهومه الإستراتيجي للسنوات العشر المقبلة. ولأن آخر وثيقة من هذا النوع صدرت عام 2010، فقد كان يُفترض أن يكون عام 2020 موعد صدور الوثيقة التي تغطّى الحقبة الثالثة من القرن الواحد والعشرين، وهو ما لم يحدُث بسبب تفشي جائحة كوفيد 19 التي عطّلت انعقاد القمة خلال عامي 2020 و2021. وهكذا شاءت الأقدار أن يتواكب موعد قمة على عاتقها مهمة بلورة رؤية إستراتيجية جديدة للحلف مع اندلاع أزمة كبرى لا يستبعد بعضهم أن تكون بمثابة ضربة البداية في حرب عالمية ثالثة، ما أضفى على وثيقة “المفهوم الإستراتيجي” التي وقعها قادة حلف الناتو يوم 29 يونيو/ حزيران الماضي عن الفترة الممتدة حتى عام 2030 أهمية مضاعفة واستثنائية.

تتضمّن وثيقة 2022، والتي تقع في 11 صفحة، 49 بندا موزعة على ثلاثة محاور: الأهداف والمبادئ، البيئة الإستراتيجية، والمهام الرئيسية للحلف (الردع والدفاع، الوقاية وإدارة الأزمات، الأمن التعاوني) رؤية تؤكد بوضوح على أن المفهوم الإستراتيجي لحلف الناتو طرأت عليه تغييرات جوهرية، خصوصا إذا ما قورن بالمفهوم الذي تضمّنته الوثيقة الصادرة عام 2010، وذلك من زوايا متعددة: فهي تعكس، أولا، تغيرا واضحا في رؤية الحلف إلى مصادر تهديد أمنه، لأن الوثيقة السابقة الصادرة عام 2010، والتي عكست المفهوم الإستراتيجي للحلف عن الفترة حتى 2020، وضعت الإرهاب على رأس قائمة مصادر تهديد السلم والأمن على مختلف المستويات، بينما تراجع هذا المصدر خطواتٍ إلى الوراء في وثيقة 2022، ولم يعد يُنظر إليها باعتبارها مصدر التهديد الرئيسي لأمن الحلف واستقراره. وتقدّمت روسيا الاتحادية لتحتل موقع الصدارة على رأس هذه القائمة، فقد تحدثت هذه الوثيقة عن روسيا الاتحادية باعتبارها “أكبر وأهم تهديد مباشر لأمن الحلف وللسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية .. لأنها تهدف إلى زعزعة استقرار دول شرقنا وجنوبنا، في أقصى الشمال”. وهنا، يلاحظ مدى التأثير المباشر للحرب في أوكرانيا على تغيير رؤية الحلف إلى مصادر تهديد أمنه واستقراره، كما يلاحظ أن الحلف لم يعد ينظر إلى روسيا تهديدا محتملا أو غير مباشر، وإنما باعتبارها تهديدا عسكريا مباشرا. تقول الوثيقة “إن قدرة الاتحاد الروسي على تعطيل تعزيزات الحلفاء وحرية الملاحة عبر شمال الأطلسي تعدّ تحدّياً إستراتيجياً له، وإن الحشد العسكري لموسكو، بما في ذلك في مناطق البلطيق والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، إلى جانب تكاملها العسكري مع بيلاروسيا، يتحدّى أمننا ومصالحنا”.

على صعيد آخر، يلاحظ أن وثيقة 2010 كانت تتجنّب النظر إلى الصين باعتبارها مصدرا لتهديد الحلف، مكتفية بالإشارة إليها منافسا طموحا يسعى إلى تعزيز مكانته على الصعيدين، الإقليمي والعالمي، عبر زيادة قدراته الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية. أما وثيقة 2022 فلم تكتف بالنظر إلى الصين منافسا شريفا، وإنما مصدرتهديد لا يقلّ خطورة عن روسيا. صحيحٌ أنها لا ترى في الصين خطرا عسكريا مباشرا على الحلف، مثلما هو الحال بالنسبة لروسيا، لكنها ترى، في الوقت نفسه، أن “الطموحات المعلنة لجمهوية الصين الشعبية، واعتمادها مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية لزيادة وجودها العالمي وإظهار القوة، واستخدامها أساليب خبيثة تستهدف التحكم في القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسية، والبنية التحتية الحيوية، والمواد الإستراتيجية وسلاسل التوريد، واستخدام نفوذها الاقتصادي لإيجاد التبعيات الإستراتيجية وتعزيز نفوذها .. إلخ، تشكل تهديدا مباشرا لمصالح الحلف وأمنه وقيمه”. الأخطر أن هذه الوثيقة ترى “إن تعميق الشراكة الإستراتيجية بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي ومحاولاتهما المتعاضدة تقويض النظام الدولي القائم على القواعد يتعارضان وقيمنا ومصالحنا”، ومن ثم ينبغي مواجهتها بالحزم الواجب.

وهي تعكس، ثانيا، تغيرا واضحا في رؤية الحلف إلى كيفية مواجهة مصادر تهديد أمنه واستقراره، فبعد أن كان الحلف يركّز، في وثائقه السابقة، على “التعاون وبناء الشراكات والتشبيك مع الآخرين”، باعتبارها وسائل فعالة في مواجهة مختلف مصادر التهديد، نجده يركّز في الوثيقة الحالية على “بناء القدرات الذاتية وحشد الموارد وزيادة النفقات العسكرية”. صحيحٌ أن الوثيقة أكّدت بوضوح أن الحلف “لا يسعى إلى مواجهة روسيا، ولا يريد أن يكون مصدر تهديد لها”، لكنها حرصت، في الوقت نفسه، على إبراز “تصميم الحلف على تعزيز القدرات الردعية والدفاعية لجميع أعضائه، وأنه سيردّ على التهديدات بطريقة موحدة ومسؤولة، وسيبقي على قنوات اتصاله مفتوحة مع الروس لمنع التصعيد”.

على صعيد آخر، يلاحظ أن الوثيقة لم تعترف بأي دور لدول الحلف أو للنظام الحاكم في أوكرانيا في استفزاز روسيا، ودفعها إلى استخدام القوة في أوكرانيا، بذريعة الحرص على حماية المواطنين من أصل روسي، كما لم تشر، من قريب أو بعيد، إلى مشاعر القلق التي انتابت الرئيس بوتين، بعد إقدام أوكرانيا على توقيع اتفاقية للشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، ولا للمطالب التي تضمنتها رسالته إلى الدول الأعضاء في حلف الناتو، كرد فعل على هذه الاتفاقية، والتي شملت: التعهد بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وعدم وضع أسلحة هجومية على حدود روسيا، وسحب قوات الناتو من منطقة شرق أوروبا إلى غربها، وهي المطالب التي رفضت الولايات المتحدة مجرّد مناقشتها، ما أدّى، في النهاية، إلى اندلاع الحرب. وبدلا من ذلك، راحت الوثيقة تؤكد على حق كل دول المنطقة، وخصوصا دول أوروبا الشرقية، في تحديد مصيرها ومستقبلها، بما في ذلك الانضمام إلى “الناتو” وإلى الاتحاد الأوروبي، ورفض أي تدخل لروسيا الاتحادية في الشؤون الداخلية لهذه الدول.

إذا ربطنا بين ما جاء في هذه الوثيقة والمسار الذي سلكته الحرب الدائرة على الساحة الأوكرانية، فسوف نتوصل إلى مجموعة من الاستنتاجات: الأول، يتعلق بكيفية الانزلاق نحو المواجهة العسكرية المحتدمة حاليا على الساحة الأوكرانية، فليس من المستبعد على الإطلاق أن تكون الولايات المتحدة، من خلال أجهزتها ومؤسساتها المعبرة عن فكر الدولة العميقة وتوجهاتها، قد تعمّدت استدراج روسيا إلى مواجهة على الساحة الأوكرانية، وأنها كانت تستعد جدّيا لهذه المواجهة منذ إقدام روسيا على احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014.

الثاني: يتعلق بجوهر الصراع الدائر حاليا على هذه الساحة. فجميع الأطراف المنخرطة فيه تدرك أن هدفه الأساسي يدور حول وضع حد للهيمنة الغربية المنفردة على النظام العالمي الراهن وتأسيس نظام عالمي متعدد القطبية أو، على الأقل، نظام ثلاثي القطبية تشارك فيه روسيا والصين، وهو ما يرفضه الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ويفسّر عودة التماسك لحلف الناتو بعد أن كان مهدّدا بالانهيار، كما يفسّر، في الوقت نفسه، إصرار الغرب على إلحاق هزيمة عسكرية بروسيا على الساحة الأوكرانية، لأن انتصارها يعني، على الفور، انهيار النظام الدولي أحادي القطبية.

الثالث: يتعلق بالأدوات المستخدمة في هذا الصراع، فالدول الغربية تدرك أن روسيا هي القوة النووية الأولى في العالم، ما يجبرها على عدم الانخراط بشكل مباشر في الصراع الدائر معها على الساحة الأوكرانية، والاقتصار من ثم على سلاح العقوبات الشاملة على روسيا، من ناحية، وتقديم أقصى دعم عسكري وسياسي واقتصادي ممكن لأوكرانيا، لتمكينها من كسب الحرب، من ناحية أخرى.

الرابع: يتعلق بمستقبل هذا الصراع، فالمسار الذي سلكه يشير، من ناحية، إلى أن العقوبات الاقتصادية لم تؤت الثمار المرجوة منها، وأن روسيا ربما تكون في طريقها إلى كسب هذه الجولة من الصراع، لكنه يشير، من ناحية أخرى، إلى أن الدعم المقدّم لأوكرانيا لم يمكّنها فقط من الصمود ومنع روسيا من تحقيق انتصار سريع وحاسم، ولكن أيضا من استعادة أراضٍ عديدة فقدتها، والشروع في تحرير ما بقي منها، بما فيها جزيرة القرم. ولأنه يستحيل تصوّر أن تقبل روسيا النووية بهزيمة عسكرية في أوكرانيا، لم يعد التصعيد واستخدام الأسلحة النووية التكتيكية مستبعدين، خصوصا أن أحداث الشهور الأخيرة أثبتت أن الولايات المتحدة سخّرت كل إمكاناتها التكنولوجية والاستخباراتية في خدمة أوكرانيا، ما قد تفسّره موسكو انخراطا أميركيا مباشرا في الصراع. لذا أعتقد أن العالم كله ربما يكون على وشك الدخول في نفق مظلم خلال الشهور القليلة المقبلة. وما لم ينتبه كل قادته إلى أن البشرية كلها، وليس فقط روسيا أو حلف الناتو، تواجه مصادر تهديد جمّة، ليس أقلها التغيرات المناخية والأمراض المعدية، ومن ثم باتت في حاجة ماسّة إلى نظام عالمي جديد يواجه جميع مصادر التهديد لأمنها المشترك، فلن يكون في مقدور أحد أن ينجو بمفرده من شبح حربٍ نوويةٍ بدأ يقترب ببطء.

العربي الجديد

——————————-

ما بعد عملية خاركيف/ عبد الحليم قنديل

قد لا تعدم من يقول لك، إن روسيا سحقت عسكريا، وإن ساعة النهاية تدق لصالح الجيش الأوكراني، الذي اجتاح بسرعة البرق مناطق وجود القوات الروسية في مقاطعة «خاركيف»، واستعاد السيطرة على بلدات مهمة استراتيجيا من نوع «بلاكليا» و»كوبيانسك» و»إيزيوم»، وبما ضاعف من نشوة الرئيس الأوكراني الصهيوني فولوديمير زيلينسكي، الذي زار «إيزيوم» قرب حدود روسيا محتفلا بالنصر، وقفز بجدول الضرب إلى سقف هلوسات المنام، وأضفي من طبعه الكوميدى مزاحا منفلتا.

ففي ثلاثة أيام تلت توقف الهجوم الأوكراني، زاد «الجنرال زيلينسكي» المساحة التي استولت عليها أو استعادتها قواته، على طريقة مبارزات «الخواجة بيجو وأبو لمعة الأصلي» في الاسكتشات المصرية الكوميدية الشهيرة، وقال في أول يوم إنها ثلاثة آلاف كيلومتر مربع، زادها في اليوم التالى إلى ستة آلاف كيلومتر مربع، وأضاف إليها مددا في اليوم الثالث جعلها ثمانية آلاف كيلومتر مربع، ثم أصابت العدوى الجنونية بعض مساعديه، الذين زاد أحدهم مساحة الاسترداد إلى سبعين ألف كيلومتر مربع، ومن دون أن يغلق بعد مزاد الهلوسات.

الميديا الغربية المشجعة المتحمسة للأوكران على الدوام، توقفت عند رقم زيلينسكي الأول، وراحت تقارن مساحة الثلاثة آلاف كيلومتر مربع بعواصم الغرب الكبرى، وقالت إنها تساوى مساحة لندن الكبرى، وتساوى ضعف مساحة نيويورك، ولم يتسع خيالها إلى مساحة الثمانية آلاف كيلومتر مربع التي زعمها جنرال الكوميديا، فمدينة «خاركيف» نفسها، التي هي عاصمة المقاطعة وثانى أكبر مدن أوكرانيا بعد العاصمة «كييف»، لا تزيد مساحتها على 350 كيلومترا مربعا، وقد تركها الروس بعد بداية عمليتهم العسكرية مع التراجع عن حصار كييف، واكتفت القوات الروسية بالسيطرة على أجزاء من مقاطعة «خاركيف»، وما استعاده الأوكران في العملية الخاطفة الأخيرة، هو نصف ما كان تحت سيطرة الروس في الأجزاء الشرقية من مقاطعة «خاركيف»، وهو تقدم كبير بلا شك للقوات الأوكرانية، التي لم تنكر دور التخطيط أو التسليح الأمريكي والغربي في العملية، ولا دور راجمات «هيمارس» الأمريكية ومدفعية «جيبارد» الألمانية المضادة للطائرات، ولا التزويد بالمعلومات المخابراتية، والإدارة الأمريكية المباشرة، لكن صدمة الاجتياح السريع، وبعيدا عن المبالغات والمضاعفات المساحية، كشفت خللا ظاهرا في إدارة عمليات القوات الروسية في الميدان الأوكراني، قاد لانسحاب فوضوى من بلدات مهمة في مقاطعة «خاركيف»، ترك من ورائه أسلحة ومهمات روسية، وزاد من وقع دراما الاجتياح الأوكراني الخاطف، ونقل الأوكران من خانة الدفاع إلى الهجوم لأول مرة في سيرة حرب أوكرانيا الراهنة، ولكن من دون أن يمثل ذلك نقطة تحول استراتيجي مؤثر، وهو ما مالت إليه التصريحات الأمريكية الرسمية، مع توقف الهجوم المباغت، وبلوغه لنهايته، فقد تحدث أنتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكية في زيارة للمكسيك، وقال بالنص «إنه من السابق لأوانه التكهن بنتائج الهجوم الأوكراني المضاد»، وبعد بلينكن تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، ومن قبله جنرالات البنتاغون، ومالوا جميعا إلى عدم الجزم باعتبار ما جرى نقطة تحول حاسمة في حرب أوكرانيا، وأشاروا إلى ما وصفوه بوجود قوات عسكرية روسية ضخمة على الأرض الأوكرانية، وإلى عدم التأكد من قدرة القوات الأوكرانية على الحفاظ على مواقعها الجديدة. وبديهي، أن الأقوال الأمريكية أقل عبثية من تهيؤات زيلينسكي، فأمريكا هي التي تقود الحرب ضد روسيا في الميدان الأوكراني، وليس زيلينسكي الأشبه بعروسة «ماريونيت» تتحرك بالخيوط الممدودة، وخلف أمريكا أكثر من ثلاثين دولة في حلف شمال الأطلنطي «الناتو»، ونحو عشر دول أخرى من خارج «الناتو»، تعقد اجتماعاتها العسكرية في قاعدة «رامشتاين» في ألمانيا، وتضخ إلى الميدان الأوكراني عشرات تلو عشرات المليارات من الدولارات، وتفرغ مخازن سلاحها المتطور في الحجر الأوكراني، وتقود العمليات على الأرض من مراكز عمل متقدمة في «كييف» و»لفيف» وغيرها، وكل هذا معروف ومعلن للكافة، وحين كسر الروس موجة الهجوم المضاد إلى «خيرسون» جنوبا، تحولت الخطة إلى هجوم مضاد في شمال الشرق، خصوصا بعد رصد ما جرى في المعسكر الروسي، ونقل عشرين ألف جندي من مقاطعة «خاركيف» لدعم الدفاع عن «خيرسون»، وإبقاء أعداد محدودة في قطاعات «خاركيف» الشرقية، كانت نسبة عديدها واحد على ثمانية من قوات الهجوم الأوكراني، وهي المفاجأة التي غفلت عنها أجهزة مخابرات الروس، ودفعت بعض قياداتهم الميدانية لاتخاذ قرار الانسحاب المخزي الأشبه بالفرار تجنبا لخسائر دموية محققة، وهو ما أدى إلى ما جرى، وإلى توجيه ضربة مجانية لهيبة الجيش الروسي، يفوق تأثيرها المعنوي أثرها العسكري الفعلي، فهي مجرد عملية في معركة متعددة الساحات، ولا يزال الروس يحتفظون بالسيطرة على أجزاء من مقاطعة «خاركيف»، ويقولون إنهم يعيدون تنظيم قواتهم هناك، ويطمحون لإعادة السيطرة على بلدات ضاعت منهم في أيام، والتجاوب مع ظواهر سخط شعبي عند الشباب الروسي، قد تدفع غالبا إلى كسر جمود ران على خطوط القتال على مدى شهرين ويزيد، وهو ما بدا ظاهرا جزئيا في ميادين مقاطعة «دونيتسك» المجاورة والأهم للروس، حيث عاودت قواتهم تنشيط التحرك باتجاه المدن الثلاث الكبرى المتبقية خارج سيطرتها في «دونيتسك»، وهي «كراما تورسك» و»سلافيانسك» و»باخموت»، التي تقدم إليها مسلحو جماعة «فاغنر» الروسية غير الرسمية، وسيطروا على بعض القرى في الطريق إلى «باخموت»، على الرغم من أن ردود أفعال «الكرملين» على ما يجري بدت متحفظة، ونفت وجود قرار بإجراء تعبئة عامة أو جزئية، تضاعف عدد القوات الروسية المنفذة لما تصفه موسكو بالعملية العسكرية الخاصة، وعديدها الكلي متواضع نسبيا قياسا للمهمة، ولا يزيد في أعلى تقدير على 150 ألفا، إضافة لآلاف المتطوعين من مقاطعتي الدونباس «لوغانسيك ودونيتسك»، ويسيطرون على مساحات شاسعة من أوكرانيا، تكاد تصل إلى نحو 180 ألف كيلومتر مربع، إذا أضفنا مساحة مقاطعة شبه جزيرة القرم، التي سبق لروسيا ضمها من أوكرانيا عام 2014، ومن دون قتال فعلي، وهو ما يعنى أن ما يقارب الثلاثين في المئة من مساحة أوكرانيا البالغة 603 آلاف كيلومتر مربع، صار في يد روسيا، وبحجم قوات لا يكاد يصل مع الحلفاء إلى ثلث عديد القوات الأوكرانية.

والمعنى في المحصلة لليوم، أن الاختراق الذي تحقق للأمريكيين في مقاطعة «خاكيف»، لا يعد بحال تحولا استراتيجيا في مجرى الحرب، بقدر ما هو ضربة معنوية هائلة للروس، الذين لا تزال لهم اليد العسكرية العليا في الميدان الأوكراني، وبوسعهم قبل غيرهم إنهاء الحرب أو توسيع نطاقها، ليس فقط بالرد على ما حدث في «خاركيف»، بل في تسريع عملية السيطرة على ما تبقى في مقاطعتي «دونيتسك» و»زاباروجيا»، وقد جرى تكثيف مضاف للهجمات الروسية الجوية والصاروخية بعد عملية «خاركيف»، وإن كان لا أحد يعرف على وجه الدقة ما يدور في عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لا يكاد يلتفت علنا إلى الجانب العسكري في الحرب متعددة المسارات، ويركز على ما يصفه بفشل الحرب الاقتصادية الغربية وعقوباتها ذات العشرة آلاف صنف، ويشدد حصار الغاز على أوروبا المنهكة، التي عجزت عن التوصل لاتفاق بتحديد سقف تحكمى لسعر الغاز الروسي، الذي توقفت غالبية إمداداته بالفعل عن أوروبا، وشقت طريقها إلى أسواق أخرى، أهمها سوق الحليف الصيني، الذي تتجه شراكة موسكو معه إلى آفاق أبعد، جرى تتويجها بلقاء بوتين مع الزعيم الصيني شى جين بينج مؤخرا في سمرقند الأوزبكية، فيما لا يكاد بوتين يلقي بالا لاتصالات الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني شولتس المتجددة معه، ويصمم على مراجعة اتفاق الحبوب الأوكرانية في أقرب وقت، ربما إفساحا في المجال لعمل يعتزمه، ويحقق به ما هو أوسع من الأهداف المعلنة لعمليته العسكرية الخاصة، التي يحرص على تحجيم تأثيرها في الاقتصاد الروسي، ويراكم أموالا هائلة في الخزينة الروسية، قدرت «الإيكونومست» البريطانية فوائضها التجارية بما يزيد على 265 مليار دولار نهاية العام الجاري وحده، ما قد يوحى مع مؤشرات أخرى بقفزة واردة في الميدان الحربي، قد يعلن بها الحرب رسميا ضد أوكرانيا مع مطالع الشتاء، ويزيد عديد قواته هناك إلى 500 ألف جندي، وينتقل بالمعركة من تحصين مواقعه إلى دوائر الاجتياح الشامل، بعد أن انسدت سبل التفاوض على ما يريد في قوس الشرق والجنوب الأوكراني، وبعد أن بينت عملية «خاركيف»، أن التناقض مع واشنطن صار حديا لأقصى درجة، وأن الحسم العسكري، وليس مجرد التقدم العسكري، صار واجب الوقت الروسي.

كاتب مصري

القدس العربي

—————————-

فايننشال تايمز: حسابات بوتين الخاطئة في أوكرانيا انقلبت عليه.. وهذه مخاطرها

أكدت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية أن حسابات بوتين الخاطئة في أوكرانيا انقلبت عليه، وقالت في افتتاحيتها “إن هزيمة أوكرانيا للقوات الروسية في منطقة خاركيف لا تنذر بالضرورة بإنهاء سريع للصراع، لكنها تسلط الضوء مجددا على توقع الكرملين الخاطئ بأن حجم روسيا ومواردها العسكرية يعني أن أوكرانيا الأصغر ستقع في حضنها، وأن الأوكرانيين سيرحبون بـ”محرريهم الروس بالورود”.

وأشارت إلى خطأ بوتين ورجاله في افتراض أن القوات التي حُشدت ستكون كافية لتحقيق الهدف المصغر المتمثل في الاستيلاء على شرق أوكرانيا والسيطرة عليه بالكامل؛ بمجرد سحب موسكو قواتها من محيط كييف والشمال، من دون تعبئة عامة.

والافتراض الخاطئ الآخر لبوتين هو “أن الدول الغربية قد تفقد الرغبة في فرض عقوبات تأديبية على روسيا يمكن أن تضرّ باقتصاداتها أيضا، وقد تتلاشى الوحدة بسرعة وتضغط على كييف لإنهاء الحرب، وقد ثبت العكس”، كما تؤكد الصحيفة.

واعتبرت أن معارضة الغرب المنسقة أجبرت بوتين على التراجع عن افتراض آخر، هو أن الدول غير الغربية الرائدة، وفي مقدمتها الصين، ستقف معه من خلال مصلحة مشتركة في تحدي النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

لكن الصحيفة شددت على أن هذا الافتراض تبدّد في أول اجتماع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ منذ الغزو، عندما أقرّ بوتين هذا الأسبوع بـ”تساؤلات ومخاوف” الزعيم الصيني بشأن “أزمة أوكرانيا”، وبدت تصريحاته في قمة أوزبكستان أول اعتراف علني بالخلافات مع بكين بشأن الصراع.

ونوهت أنه بعد يوم من لقاء بوتين مع شي، انتقد رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي علنا غزو أوكرانيا لأول مرة، قائلا للرئيس الروسي في القمة نفسها إن الوقت الحالي “ليس حقبة حرب”.

وختمت الصحيفة بالقول “إن إدراك مدى سوء تقدير بوتين هو سبب تشجع الديمقراطيات الغربية، ولكنه أيضا سبب للحذر، لأن القائد المحاصر يمكن أن يكون خطيرا. وإذا وجد بوتين نفسه فعلا في مواجهة هزيمة أوسع في أوكرانيا، فإن توالي حساباته الخاطئة حتى الآن لا يعطي ثقة كبيرة بحكمة قراراته اللاحقة”.

—————————

البوتينيون العرب وأعراض الصدمة/ أسامة الرشيدي

بعد هجومٍ مخطّط له بعناية، تمكّنت القوات الأوكرانية من استعادة عشرات البلدات وطرد القوات الروسية منها. لكن المفاجأة لم تكن في الانتكاسة الروسية المؤلمة، بل في انسحاب الجنود الروس بسرعة، وترك أسلحتهم ومعدّاتهم وحتى ملابسهم، ليستولي عليها الأوكرانيون، حتى إن بعضهم سخر مما حدث، واصفا روسيا بأنها تحوّلت إلى أهم مصدر من مصادر السلاح للجيش الأوكراني.

امتدّت هذه السخرية أيضا إلى التبريرات الرسمية الروسية عن “إعادة تجميع القوات”، وهو ما يذكّر بالحجج التي تطلقها الأنظمة العربية لتبرير هزائمها العسكرية، من قبيل “الانسحاب إلى خط الدفاع الثاني”، أو “الانسحاب التكتيكي”، أو “إعادة التموضع”، وغيرها من الأكاذيب.

جاءت هذه الانتكاسة لروسيا لتقضي على أوهامٍ روجتها موسكو وأذرعها السياسية والإعلامية، فضلا عن المهووسين بالرئيس فلاديمير بوتين، والمتأثرين بالدعاية الروسية عن قوة الجيش الروسي، وذلك منذ بداية الحرب. من هذه الأوهام، أن العاصمة الأوكرانية كييف ستسقط لا محالة خلال ساعات أو أيام على أقصى تقدير، وأن الأسلحة الروسية لا تُقهر وقادرة على سحق المقاومة الأوكرانية. بالإضافة إلى أن روسيا بشنّها الحرب ستؤسّس نظاما عالميا جديدا مع الصين، للقضاء على هيمنة الولايات المتحدة والغرب.

تبخّرت كل تلك الأوهام مع استمرار الحرب حتى تجاوزت ستة أشهر. ولكن المعجبين ببوتين وروسيا أصيبوا، بعد الهزيمة الروسية أخيرا، بصدمة كبيرة، جعلت بعضهم يتخبّط في حالة إنكار مثيرة للسخرية، وبدأنا نرى آراء وسيناريوهات وضعها هؤلاء المصدومين، لم تدُر بخلد الروس أنفسهم، وذلك في محاولة منهم لتبرير ما حدث.

من هذه الحجج والتبريرات ما قاله رئيس إدارة منطقة خاركيف الموالي لروسيا عن أن انسحاب القوات الروسية حدث بسبب التفوق العددي الكاسح لأوكرانيا، والذي وصل إلى ثمانية أضعاف. وهو تبرير يؤكد فشل القيادة الروسية وسوء تخطيطها الشنيع، لأن “ثاني أقوى جيش في العالم” لم يكن ينبغي أن يواجِه هذا التفوق الأوكراني الكبير بأي حال.

ويبدو أن بعضهم لا يزال حبيسا في زمن الحرب العالمية الثانية، إذ علّق أحد المصدومين بأن الشتاء سيقلب الموازين لصالح روسيا، لأن “الشتاء حليف دائما لروسيا!”، في محاولة لتشبيه المعارك الدائرة حاليا مع الحرب التي خاضها الجيش السوفييتي ضد قوات هتلر، وهو كلام مضحكٌ أيضا، لأن الجيش الأوكراني لا يُقارن على الإطلاق بجيش هتلر، فقد كان مفترضا أن تُحسم الحرب سريعا وفقا للدعاية الروسية نفسها، كما أن انتظار الشتاء يطرح تساؤلات عن جدوى الجيش الروسي من الأساس إذا كان الطقس هو الذي يرجّح كفته في كل معركة.

بينما تحدث آخرون وكأنهم مسؤولون عسكريون في الجيش الروسي، مؤكّدين أن بوتين لن يقبل الهزيمة، ومهدّدين بأن موسكو سترد باستخدام السلاح النووي! وهو دليل إضافي على الفشل الروسي الذريع، ولا يعتبر دليل قوة على الإطلاق إذا حدث، كما أن هذا الكلام يهين بوتين نفسه، إذ يصوّره وكأنه طفل متشبثٌ بلعبة ويريد الحصول عليها مهما كان الثمن.

وأخيرا، وبعد انكشاف حقيقة الهزيمة وأبعادها، لجأ بعضهم إلى التشبيح المباشر والعلني لإظهار عدم تأثره بما حدث، عبر التعبير عن السعادة لقصف القوات الروسية محطات الكهرباء في خاركيف، ما أدّى إلى انقطاع الكهرباء عن المدينة، وهو سلوكٌ منحطّ يناسب شبّيحة بشار الأسد وأمثالهم ممن لا يستطيعون الانتصار إلا على المدنيين. لكن حتى هذا الانتصار الوهمي فشل بعد نجاح أوكرانيا في إعادة الكهرباء، ليبقى المصدومون يتخبّطون في عالمهم الموازي ونظامهم العالمي الجديد الذي لم يجدوه!

العربي الجديد

—————————

“إذلال” روسيا/ أسامة أبو ارشيد

أعادت الهزائم العسكرية الروسية المهينة في أوكرانيا بعث النقاش حول ما إذا من الحكمة “إذلال” روسيا إلى الحد الذي قد يدفع الكرملين إلى تبنّي خياراتٍ أكثر قسوة ودموية لمعاقبة كييف وحفظ ماء الوجه في ساحة المعركة. وكانت القوات الأوكرانية قد أطلقت، في الأيام القليلة الماضية، هجوماً مضادّاً واسعاً في شمال شرق البلاد، تمكّنت على أثره من استعادة آلاف الكيلومترات من الأراضي التي تحتلها القوات الروسية، وتحديداً في إقليم خاركيف. وبسبب تعثّر جهود الحرب والعجز الذريع الذي أبانت عنه قواته على أرض المعركة، يجد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نفسه في وضع حرج، إذ إن “العملية الخاصة” التي أطلقها في أوكرانيا قبل ثمانية أشهر تقريباً، وأراد منها ترسيخ صورة بلاده قوة دولية لا يستهان بها، تكاد الآن تقوّض أسس حكمه وشرعيته. ومع استمرار تدفق الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، خصوصاً من الولايات المتحدة، والعقوبات الاقتصادية الخانقة على موسكو، والتقدّم المضطرد للقوات الأوكرانية على الأرض، ثمَّة من يحذّر من أن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد كبير، وتداعيات قد تهدّد استقرار أوروبا كلها، إن لم يكن أبعد من ذلك.

واحد من السيناريوهات التي قد تلجأ إليها روسيا لتعويض تراجعها وانكسار هيبتها يتمثل في رفع التكلفة البشرية والعسكرية والاقتصادية على أوكرانيا، عبر شنِّ عمليات قصف جوي ومدفعي عنيف على مدنها الرئيسة، بما في ذلك العاصمة كييف، تطاول المدنيين والبنى التحتية، على غرار ما فعلته أواخر التسعينيات في العاصمة الشيشانية، غروزني. وقد اتّبعت روسيا، لاحقاً، الإستراتيجية المتوحشة نفسها في سورية، وخصوصاً في حلب عام 2016، وهو ما أدّى إلى سقوطها في يد النظام. وثمَّة من يذهب في هواجسه إلى أبعد من ذلك، إذ يحذّرون من أن بوتين اليائس قد لا يتردّد في استخدام الأسلحة الكيميائية في ساحة المعركة، بل وحتى النووية التكتيكية لدبّ الرعب بين الناس وإرغام أوكرانيا على الاستسلام. ويتوسّط هذين التحذيرين القاتمين ثالث يقترح أن بوتين قد يجد نفسه مضطرّاً إلى إعلان الحرب والدعوة إلى التعبئة العامة وفرض التجنيد الإجباري لزيادة عدد القوات النظامية المقاتلة في أوكرانيا ضمن ما تسمّيه موسكو إلى حينه “عملية خاصة”.

ورغم أن أيّاً من هذه الخيارات غير مرجّح بعد، لما لكل واحد منها من تداعيات سلبية على روسيا نفسها، تشمل مكانتها وسمعتها وأمنها، وحتى تحالفاتها مع دول مثل الصين، إلا أنه لا ينبغي استبعادها بالكلية. وشهدت الآونة الأخيرة تصاعداً للضغوط على بوتين، حتى من أقرب حلفائه في روسيا، لتقديم حلول سريعة وناجعة للإهانات المتتالية التي تتلقّاها القوات الروسية في أوكرانيا. يضاعف من حجم تلك الضغوط تأكيدات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عزم قواته على تحرير كل الأراضي المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي احتلتها روسيا عام 2014 وضمّتها إليها لاحقاً، فضلاً عن تقدّم القوات الأوكرانية نحو المنطقتين الانفصاليتين في دونيتسك ولوغانسك، في إقليم دونباس في شرق أوكرانيا. وإذا أضفنا إلى التعثر العسكري ذاك وطأة الضغوط الاقتصادية الغربية على موسكو وتزايد عزلتها العالمية، وتداعيات ذلك على المواطنين الروس، وخشية بوتين على استقرار نظام حكمه، فإن دفع هذا الأخير إلى مربع اليأس لن يكون أمراً حكيماً.

يتبنّى الألمان والفرنسيون، تحديداً، الدعوة إلى عدم الذهاب بعيداً في “إذلال” روسيا، مع تأكيدهم، في الوقت نفسه، على ضرورة حرمانها من إمكانية تحقيق نصر عسكري في أوكرانيا. ولا يُخفي مؤيدو هذه المقاربة في التعامل مع موسكو أن أهدافهم تتجاوز أوكرانيا إلى استقرار أوروبا نفسها، والتي تئن اليوم تحت وطأة نقص موارد الطاقة الروسية. في المقابل، ثمَّة معسكر آخر تتزعمه الولايات المتحدة وبريطانيا، يرى ضرورة إبقاء الضغوط على روسيا إلى الحد الذي يُفقدها القدرة على شنِّ حروب أخرى مستقبلاً. إلا أن هذا المعسكر، حريصٌ هو الآخر على عدم دفع موسكو إلى حافّة الهاوية، حيث يكون استقرار النظام أو أمن الدولة مهدّدين، بشكلٍ قد يؤدّي إلى عواقب غير محسوبة، مثل اللجوء إلى السلاح النووي.

في كل الأحوال، من الواضح أن الغرب، بقيادة واشنطن، قد نجح، إلى حد كبير، في استنزاف روسيا، وربما إجهاض كثير من قدراتها في المدى المنظور. وبدل أن تكون أوكرانيا بوابة بوتين لإعادة تأكيد العظمة الروسية دولياً ولجم خطط حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمحاصرتها، فإنها تبدو اليوم أقرب إلى مقبرة لتلك الطموحات. إلا أن ذلك يقتضي الاعتراف، أيضاً، بأن المشهد النهائي للقصة لم يُكتب بعد، وأن أشياء كثيرة قد تتغير، بحيث تؤدّي إلى قلب الموازين القائمة اليوم.

العربي الجديد

——————————-

روسيا تحاكم إنتكاسة حربها الاوكرانية/ بسام مقداد

حين أطلق بوتين حربه على أوكرانيا الشتاء المنصرم، أشاع بين الروس إنطباعاً بأنها نزهة لمدة أيام لإسقاط “النازيين الجدد” في كييف وتجريدها من سلاحها. وفيما يشبهه البعض بالفخ الأميركي لصدام حسين بنزهته إلى الكويت، رسخت المخابرات الأميركية قناعة بوتين بنزهة كييف في ما أشاعته عشية  الحرب بان سقوط كييف لن يستغرق أكثر من 72 ساعة.

 بعد 6 أشهر على النزهة ــــ المغامرة، يقف الروس شبه مصعوقين أمام مشاهد فرار عسكرييهم من قطاع في جبهة القتال، مخلفين السلاح ومئات الاليات العسكرية وراءهم، ما اطلق النكتة بأن روسيا تنضم إلى الغرب في تسليح أوكرانيا.  لم يتوقع الروس هذه الإنعطافة في الحرب التي غدت بعد مدة قصير من إندلاعها تفصيلاً شبه روتيني في يوميات سكان المدن الكبرى منهم، والذين بقوا على مسافة شاسعة من مآسي هذه الحرب في يوميات شعوب روسيا غير الروس في الشرق الأقصى الروسي والمناطق الإسلامية. واللافت أن الإنسحاب الروسي أطلق سيلاً من الأسئلة عن اسباب ما حصل، وبالدرجة الأولى، في أوساط المتحمسين للحرب على أوكرانيا، بمن فيهم من ساهم بنشاط في البروباغندا التي زينت الحرب وابتدعت المبررات لها. على أن البعض من هؤلاء البروباغانديين في مواقع الإعلام الرسمية إما صمت في البداية عن الحدث كلياً، وكأن شيئاً لم يطرأ على يوميات الجبهة، أو صوره حدثاً عادياً “لايستحق الهلع وسط الروس”، قام به زيلنسكي قبل إجتماع حلفاء أوكرانيا في ألمانيا، حيث يناقش مشاركوه حزمة جديدة من المساعدات لأوكرانيا، حسب موقع  zona.media  الروسي المعارض.

لم تتوقف أوكرانيا عند إنجازها العسكري على الجبهة، بل تبدو واثقة من أنها ليست مجرد  انتكاسة مؤقتة للجيش الروسي، بل هي إنعطافة في مسار الحرب. ويعتبرها المحلل السياسي الأوكراني يوري رومانينكو على موقعه في الفايسبوك إنعطافة  إستراتيجية أنهت سلطة بوتين الفعلية في الكرملين. وقد تكون قناعة أوكرانيا هذه تقف وراء إعلانها بعد الإنسحاب الروسي مباشرة “مشروع معاهدة كييف للأمن” توجهت به إلى العالم والغرب ، وليس إلى روسيا، وعددت  في المشروع الضمانات التي تريدها مكتوبة في المعاهدة لأمنها من العدوانية الروسية. ورفضت مشاركة روسيا في هذه الضمانات، وعادت تصر على سعيها للإنضمام إلى الناتو، حسب موقع Meduza الروسي المعارض في 14 الجاري.

الكرملين علق على مشروع معاهدة كييف، وقال دمتري بيسكوف الناطق بإسمه بأن “القيادة الأوكرانية وحدها تستطيع أن تعطي ضمانات الأمن لبلادها”. لكنه إستدرك ولفت إلى “أنهم” لا يخفون أن المعاهدة معدة لما قبل إنضمام أوكرانيا إلى الناتو، “أي أن التوجه لعضوية الناتو لا يزال قائماً”. ويرى أن ذلك لا يزال تهديدا “لأمن وطننا”، بل التهديد الرئيسي لها، ويصبح ملحاً أكثر أحد الأسباب التي جعلت “العملية العسكرية الخاصة” ضرورية، كما نقلت عنه صحيفة NG الروسية.

على الرغم مما يتحدث عنه المحللون السياسيون الأوكران والليبراليون الروس  عن وضع بوتين “المنهار” في الكرملين، إلا أنه لم تلاحظ، حتى الأن على الأقل، أية تحركات إعتراضية جماهيرية على الحرب في روسيا. فلم تلق أي صدى يذكر عريضة أعضاء المجالس البلدية في بعض مناطق موسكو وبطرسبورغ التي يطالبون فيها بإستقالة بوتين لأنهم يعتقدون ” أن تصرفات الرئيس بوتين تضر بمستقبل روسيا ومواطنيها”. وحملت العريضة حتى أمس الجمعة 100 توقيع، حسب الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية. وعدا نفي الناطق بإسم الكرملين الحاسم، لم يترك أي أثر أيضاً ما نشرته The Sun البريطانية عن تعرض بوتين لمحاولة إغتيال أثناء مرور موكبه في موسكو صبيحة الأربعاء المنصرم، في طريقه إلى أستانا لحضور موئتمر “منظمة شنغهاي للتعاون” SCO.

 الصدمة التي أحدثها وسط المؤيدين للحرب إنسحاب القوات الروسية من مناطق أوكرانية، جعلت هؤلاء يطالبون بمعرفة حقيقة ما جرى وأسبابه، ومحاسبة من يتحمل مسؤوليته. لكنهم برأوا بوتين من المسؤولية، بل عقدوا الأمل عليه بالرد المناسب، بعد أن يمسك بزمام الأمور بيد حديدية، كما اعتادوا على النظر إليه.

القوميون الروس يؤيدون بشدة بوتين في سياسته التوسعية وسعيه لإحياء الإتحاد السوفياتي من جديد، لكنهم يعارضون سياساته الإجتماعية في الداخل بتشدد لا يقل عن تـأييدهم. فقد نشرت صحيفتهم PS في 14 الجاري نصاً بعنوان “العملية الخاصة Z: أين ذاب في أوكرانيا جيش الدبابات الأول الذي كان قادراً على بلوغ (بحر) المانش زمن الإتحاد السوفياتي؟”. وقدم الكاتب لنصه بالتساؤل لماذا لم يقع العدو ولو مرة في تطويق عملياتي خلال سير المعركة في أوكرانيا، في حين واصل طيلة 7 أشهر قصف دانتسك بمدفعية الهاون العادية؟

يقول الكاتب  بأنه لا يشك أبداً في أن “العملية الخاصة” الروسية في أوكرانيا سوف تدرس قريباً في جميع الأكاديميات العسكرية. ويخشى أن تتضمن جميع كتب التدريس أن حاصل علامات قائد الجيش الأوكراني ورئيس أركان القوات الروسية حتى تشرين الأول/ اوكتوبر العام 2022 سيكون واحد ـــــ صفر لصالح الأوكراني وحلفائه الغربيين. وقد بدا ذلك واضحاً حين “أسقطونا” بالضربة القاضية خلال 5 أيام في منطقة خاركوف. وقد برهنت القيادة العسكرية الأوكرانية ومساعدوها في هيئات أركان الناتو كيف ينبغي إعداد وقيادة التشكيلات المؤللة التي توجه الضربات إلى العمق العملياتي للعدو. وفي النتيجة، وبعد 6 أيلول/سبتمبر إخترق الجيش الأوكراني المواقع الروسية لعمق يصل إلى 70 كيلومتراً في بعض الأماكن، وإحتل أكثر من 3000 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي، أي أكثر من كل الذي إحتلته القوات الروسية في جميع العمليات.

وبعد أن يتحدث الكاتب عن فشل القيادة العسكرية الروسية في توقع مخططات العدو في الوقت المناسب، يتساءل عما منع هذه القيادة خلال 7 أشهر من العملية القيام بالمثل في إختراق الدفاعات الأوكرانية “ولو مرة” في مكان ما على خط الجبهة الممتد لأكثر من 2000 كلم؟

يستعرض الكاتب كافة المواقع على الجبهة التي فشلت فيها القيادة العسكرية الروسية بمحاصرة القوات الأوكرانية، ويقول أنه في العام 2015 أُعيد تشكيل جيش الدبابات الأول الذي لا مثيل له في الولايات المتحدة وأوروبا وأوكرانيا. ويتحدث عن أوجه إستخدامات جيوش الدبابات، ويؤكد “هكذا إنتصرنا في الحرب العالمية الثانية. وهكذا كنا نستعد للحرب مع الناتو”.

وبعد أن يستطرد في الحديث عن اسباب عدم إستخدام جيش الدبابات الأول في الحرب الأوكرانية، يرى أن المشكلة الرئيسية برأيه  تكمن في أن هذا الجيش لم يستثن من الصعوبات التي كانت تصطدم بها قبل الحرب الأوكرانية كل قوات المشاة في الجيش الروسي.

ينقل الكاتب عن خبير عسكري أميركي قوله بأن روسيا لم تكن تستعد لمثل هذه الحرب التي تدور الآن في اوكرانيا. وإحدى مشكلات موسكو الرئيسية في بناء القوات المسلحة كانت في أوامر وزارة الدفاع العام 2016 في مضاعفة إنتشار الكتائب التكتيكية إلى الحد الأقصى.

وبعد الكثير من التفاصيل العسكرية وإنتقاد “حرب المواقع” التي دامت لأشهر، والسخرية من القول بأن الخطة هكذا كانت تفترض منذ البداية، وهكذا كان “مقدراً لنا”، يرى الكاتب ما رآه “رئيسنا” منذ مدة قصيرة بأن هذا “المقدر لنا” سيستمر حالياً إلى أن تبدأ روسيا “ما هو جدي”. ويعتبر أن على الروس أن يتحلوا بالصبر إلى أن يحين ال”ما هو جدي” البوتيني.   

المدن

———————-

ما المفاجأة التي يخبئها بوتين بعد هزيمة جيشه في خيرسون؟/ محمد خلف

أكثر ما يخشاه القادة الأوروبيون الذين يضغطون على كييف الان هو ان تحقق أوكرانيا انتصاراً وصفه دبلوماسي أوروبي لـ”درج” بالكارثي، ما يعني ان يلحق الاوكرانيون بالجيش الروسي هزيمة منكرة، تدفع بوتين نحو قرارات مدمرة مثل استفزاز حادث في محطة الطاقة النووية (زابوروجيا) او اللجوء الى استخدام اسلحة نووية تكتيكية.

في أيار/ مايو 2022، تنبأ مركز دراسات الحرب الأميركي في بحث مطول عن مسارات الحرب الروسية في أوكرانيا بانتصار ساحق ستحققه القوات الأوكرانية في الهجوم المضاد الذي تزمع شنه لاسترداد الأراضي التي احتلها الجيش الروسي في الجزء الجنوبي من إقليم خيرسون، ما دفع قوات القيادة العسكرية الروسية إلى نقل أعداد كبيرة من قواتها وتجهيزاتها العسكرية من الجبهة الشمالية الشرقية أي من دونباس، التي كان تعدادها يصل إلى 25 ألف عسكري إلى الجزء الجنوبي.

وفقاً للمحلل العسكري اولغ جدانوف “إعادة توزيع ونقل هذه التشكيلات أدى إلى انخفاض عدد أفرادها في الشمال الى 10 الاف عسكري فقط”. أوكرانيا نجحت في تمرير هذه الخدعة التي قدمت لها ما تريده على طبق من ذهب بإفراغ هذه الجبهة الاستراتيجية من دفاعاتها وجعلها مفتوحة أمام أي هجمات محتملة، وهو ما فات إدراكه من جانب الضباط الروس الذين تناسوا أن مثل هذه المناورات والخدع تعد من  قواعد الحروب التقليدية. الأوكرانيون وبدلاً من الهجوم على الجنوب حيث كانت بانتظارهم القوات الروسية، توجهوا إلى الجبهة الشمالية الشرقية، في إقليم خيرسون، ونجحوا في اختراق الدفاعات الروسية التي اندحرت وتدافع الجنود الروس في محاولة للفرار، تاركين وراءهم المعدات والتجهيزات العسكرية، وبهذا استعاد الاوكرانيون سيطرتهم على مدينة ايزيوم الاستراتيجية.

وعزا نائب مدير برنامج الأمن والدفاع عبر الأطلسي في مركز تحليل السياسة الأوروبية، جويل هيكمان، هذا النصر إلى الذكاء الأوكراني في توجيه “الرسائل الخادعة”، مشيرا إلى أن “أوكرانيا قالت إنها تخطط لاستهداف منطقة خيرسون التي يسيطر عليها الروس في جنوب البلاد”. ولكن “ما فعلوه في الواقع هو جذب الروس من أماكن في الشمال”، مضيفاً “أدى ذلك إلى ظهور نقاط ضعف تمكنوا من استغلالها”.

إلا أن هذا الانتصار وغيره من الانتصارات التي حققها الجيش الأوكراني لم تكن لتحصل من دون الدعم متعدد الاشكال الذي حصلت عليه كييف من الولايات المتحدة. وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز” أن “كييف استخدمت بيانات استخباراتية أميركية خلال التخطيط لهجومها المضاد ضد القوات الروسية في خاركيف”، وذكرت أن “واشنطن زودت أوكرانيا منذ بدء الحرب الروسية بمعلومات عن مركز القيادة والتحكم ومستودعات الذخيرة وغيرها من المعلومات الاستراتيجية عما يحدث على طول الخطوط العسكرية الروسية”.

لماذا ايزيوم موقع استراتيجي مهم للقوات الأوكرانية؟

كانت إيزيوم، التي تقع بالقرب من الحدود بين منطقتي خاركيف ودونيتسك، تحت الاحتلال الروسي لأكثر من خمسة أشهر وأصبحت مركزاً مهماً للجيش الغازي. استخدمه كمنصة انطلاق لشن هجمات جنوبا على منطقة دونيتسك وكوبيانسك على بعد حوالي 48 كيلومترا إلى الشمال من إيزيوم، كمحور للسكك الحديدية لإعادة إمداد قواتها. ووصف فريدمان هجوم أوكرانيا بأنه “مذهل للغاية” وتوقع أن تكون له “آثار غير مباشرة” مثل تقويض الدعاية الروسية. وأوردت مجلة “لوبوان” Le Point تقريراً لموفدها الخاص في أوكرانيا بوريس مابيلار اكد فيه أن اختراق الجيش الأوكراني الدفاعات الروسية شرق خاركيف شمال البلاد مكنه من إلحاق ضحايا وخسائر كبيرة في القوات الروسية بعدما هاجمها حيث لم تكن تتوقع. وأكد أن “الهجوم مزق الصفوف الروسية في المنطقة وجعل الجنود يتفرقون لدرجة أن السلطات الروسية اعترفت، بالصعوبات التي واجهتها. وهو أمر نادراً ما يحدث”.

الا ان هذه المعركة بتأكيد محللين عسكريين لا تعني الانتصار النهائي فأوكرانيا لم تحرر إلا أن نسبة قليلة من أراضيها التي تحتلها روسيا.

يقتصر الفوز الأقل خطراً على “طرد أوكرانيا القوات الروسية من الجانب الغربي لنهر “دنيبر”، وإنشاء محيط دفاع حول المناطق التي تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا وجنوبها، وتأمين وصولها إلى البحر الأسود. ومع مرور الوقت، بإمكان القوات الأوكرانية التقدم، وكسر الجسر البري الروسي المؤدي إلى شبه جزيرة القرم التي تقع في جنوب شرقي أوكرانيا وقد احتلتها روسيا وضمتها في 2014”. وهذا ما بدأت أوكرانيا القيام به في الأشهر الماضية.

تمكنت القوات الأوكرانية باستعادة السيطرة على نحو ستة آلاف كيلومتر كانت محتلة من القوات الروسية، ما يعكس فشلاً استراتيجياً لما يسمى المرحلة الثانية من العملية العسكرية الخاصة. وليس مصادفة ان يعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد ساعات على الانتصار الاوكراني في تصريح مثير للمرة الثانية  في يومين، أن بلاده لم ترفض أبداً التفاوض مع أوكرانيا”، موضحاً أن “كييف هي التي صعبت مثل هذه المفاوضات بهجومها على القوات الروسية”.

هذه المعركة بتأكيد محللين عسكريين لا تعني الانتصار النهائي فأوكرانيا لم تحرر إلا أن نسبة قليلة من أراضيها التي تحتلها روسيا.

ما يستحق الاهتمام بعد تصريح لافروف هو ما صرح به وزير الدفاع الاوكراني اولكسي ريزنيكوف بأن “بلاده لن تتفاوض مع موسكو الا بعد انهائها وبشكل كامل احتلالها الاراضي الأوكرانية، بما فيها دونباس والقرم”. ووفقا للموقع الالكتروني الأميركي (HB)، فإن “كييف رفضت الاستجابة لمناشدة من الرئيس الأميركي جو بايدن” بالبدء بالتفاوض مع روسيا لأن أوانها قد حان”، مؤكداً أن وزير الخارجية انتوني بلينكي حمل رسالة بهذا الخصوص شخصياً الى الرئيس زيلينسكي، إلا أن أي تأكيد رسمي من واشنطن وكييف لم يصدر حول ذلك.

مخاوف أوروبية من انتصارات كارثية

أكثر ما يخشاه القادة الأوروبيون الذين يضغطون على كييف الان هو ان تحقق أوكرانيا انتصاراً وصفه دبلوماسي أوروبي لـ”درج” بالكارثي، ما يعني ان يلحق الاوكرانيون بالجيش الروسي هزيمة منكرة، تدفع بوتين نحو قرارات مدمرة مثل استفزاز حادث في محطة الطاقة النووية (زابوروجيا) او اللجوء الى استخدام اسلحة نووية تكتيكية.

ما تأكد حتى  الآن هو أن القوة العسكرية الثانية في العالم حسب التصنيفات الدولية، أظهرت ضعفا لم يكن متوقعا بشكل تحطمت معه اسطورة الجيش الروسي الذي لا يقهر الذي يجب أن تخافه الدول الأخرى، ناهيك بمحاولة مجاراته. في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” وأعده ثلاثة محللين هم هيلين كوبر (Helene Cooper)، وإيريك شميت (Eric Schmitt)، وجوليان بارنز (Julian E. Barnes)، أشاروا  فيه إلى أن “بوتين المحبَط، لديه القوة النارية لتحويل أوكرانيا ببساطة إلى أنقاض، على رغم أنّه بذلك سيدمّر الجائزة ذاتها التي يريدها.

العقيدة العسكرية الروسية المتآكلة

أظهرت حرب روسيا على أوكرانيا أن مشكلات الجيش الروسي حقيقية، وأن الرأي العام حول القتال الدائر يتبدّل مع الحقائق والمتغيرات. وهذا يوضح سبب اصرار القيادة الروسية وحرصها على التقليل من أهميّة الحرب، وعدم تقديمها سوى القليل من المعلومات حول انتصاراتها أو هزائمها، وهو ما يساهم في رسم صورة غير كاملة.

لكنّ تشريحاً لأداء الجيش الروسي حتى الآن، تم تجميعه من مقابلات مع عشرين من المسؤولين الأميركيين، ومن حلف شمال الأطلسي، ومن المسؤولين الأوكرانيين يقدم صورة واستنتاجات عن مجنّدين شباب عديمي الخبرة، لم يُمكَّنوا من اتخاذ قرارات فورية، وضباط غير مفوّضين، وغير مسموح لهم باتخاذ القرارات أيضاً. القيادة العسكرية الروسية، مركزيّة جدّاً. ويقول مسؤولون أميركيون اشترطوا عدم الكشف عن هويّتهم إنّه “على الضباط الروس أن يطلبوا ممن الجنرال غيراسيموف الإذن حتى في الأمور الصغيرة”.

إضافة إلى ذلك، أثبت كبار الضباط الروس حتى الآن رغبتهم في تجنّب المخاطر. وقال مسؤولون أميركيون إنّ حذر الضباط الروس يفسّر جزئياً سبب عدم تمتّعهم بتفوّق جوّيّ على جميع أنحاء أوكرانيا، على سبيل المثال. وقال مسؤول كبير في البنتاغون إنّه في مواجهة سوء الأحوال الجويّة في شمال أوكرانيا، منع الضبّاط الروس بعض الطائرات والمروحيّات الهجومية الروسية من التحليق، وأجبروا أخرى على التحليق على ارتفاعات منخفضة، ما جعلهم أكثر عرضة للنيران الأرضية الأوكرانية.

وقال مايكل كوفمان (Michael Kofman)، مدير الدراسات الروسية في CNA، في رسالة إلكترونية: “كانت معظم القدرات الروسية على الهامش”. وأضاف: “توظيف القوة غير عقلاني تماماً. والاستعدادات لحرب حقيقية شبه معدومة. والروح المعنوية منخفضة بشكل لا يصدّق، لأنّ من الواضح أنّه لم يتمّ إخبار الجنود بأنّهم سيُرسلون إلى هذه المعركة”.

تمزق جبهة بوتين الداخلية

للمرة الأولى منذ شروع روسيا بما سمته “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”، تخرق المحظورات التي صيغت في قانون خاص للكرملين يمنع توجيه أي انتقادات لهذه الحرب. وظهرت على شاشات القنوات الروسية شخصيات معروفة بمعارضتها للحرب وانتقاداتها اللاذعة لزج البلاد في حرب عبثية. ورأى مراقبون ان هذه الاصوات والهزيمة المنكرة في الايام الاخيرة ستمثل صداعاً عسكرياً وسياسياً لبوتين. فجهود الكرملين لرسم صورة براقة عن الحرب في أوكرانيا تمزقت، إذ بدأ مدونون ومراكز أبحاث وحتى ساسة يعبرون عن غضبهم من الهزائم التي تعرض لها الجيش الروسي في جبهات القتال. وتعرض بوتين نفسه لانتقادات، ووصل الأمر إلى عريضة مع قائمة تواقيع نُشرت على “تويتر”، تطالبه بالاستقالة.

وقال الخبراء إن بوتين سيواجه الآن ضغوطاً متزايدة للرد بقوة، إذ تدعو الأصوات القومية الروسية المؤثرة والمؤيدة للحرب بشكل متزايد إلى اتخاذ خطوات جذرية، بما في ذلك التعبئة الكاملة والضربات المكثفة ضد البنية التحتية المدنية الأوكرانية، حتى أن البعض يقترح استخدام أسلحة نووية تكتيكية. إلا أن الجنرال المتقاعد بالقوات الجوية الأميركية والذي كان القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي من 2013 إلى 2016 فيليب بريدلوف، إنه لا ينبغي الاحتفال بالنصر السابق لأوانه لأن “روسيا لا تزال لديها أوراق يمكنها لعبها. وأعتقد أنه إذا قام الغرب بتجهيز أوكرانيا بشكل صحيح، فسيكونون قادرين على التمسك بمكاسبهم في الشرق والشمال”.

أظهرت حرب روسيا على أوكرانيا أن مشكلات الجيش الروسي حقيقية، وأن الرأي العام حول القتال الدائر يتبدّل مع الحقائق والمتغيرات.

ونقلت صحيفة واشنطن بوست (The Washington Post) عن مسؤولين بأجهزة الاستخبارات الأوروبية والأميركية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات معزولاً على ما يبدو، وأنه يعتمد على ثلة من المستشارين الذين لم يخبروه عن مدى صعوبة وتكلفة احتلال أوكرانيا وما يترتب على ذلك من مآلات. ووصف التقرير بوتين بأنه “قائد عصبي مدفوعاً بجنون العظمة، استخف بالعزيمة الموحدة التي أبداها الغرب، ومن المحتمل أن يقوم بعمل متهور عندما يشعر بأنه محاصر”.

الصحوة الأوروبية المتأخرة

الآن وبعد أكثر من عقدين على وصول بوتين الى الكرملين واستقباله في أوروبا كالابطال، تعترف المفوضية الاوروبية على لسان رئيستها أورسولا فون دير لاين في خطاب بأن أحد الدروس المستفادة من هذه الحرب هو أنه كان يجب أن نصغي لمن يعرف بوتين، مثل آنا بوليتكوفسكايا وجميع الصحافيين الروس الذين كشفوا الجرائم ودفعوا الثمن الأعلى حياتهم”. وأضافت، “كان ينبغي أن نستمع الى تحذيرات أصدقائنا في أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا والمعارضة في بيلاروسيا الذين قدموا لنا ما يكفي من الأدلة والبراهين عن خطورة هذا الرجل على أوروبا وخططه السرية للانقضاض على ديمقراطيتنا وطريقة حياتنا وقيمنا”. واستدركت: “كان علينا أن نستمع إلى الأصوات داخل اتحادنا – في بولندا ودول البلطيق وفي جميع دول أوروبا الوسطى والشرقية. لقد أخبرونا لسنوات أن بوتين لن يتوقف”. يفيد تقرير صادر عن الاستخبارات الاميركية نشرت تفاصيله صحيفة “الواشنطن بوست” أن روسيا منحت  ما لا يقل عن 300 مليون دولار منذ بداية عام 2014  لأحزاب سياسية ومسؤولين وسياسيين في أكثر من 20 دولة في محاولة للتأثير على القرارات السياسية.

ولم يذكر البيان الاستخباري الرسمي دولاً أو أفراداً معينين استهدفهم هذا التمويل، لكنه قال إنه “امتد إلى أربع قارات”. ولكنه اشار الى ان الكرملين استخدم بروكسل أيضاً كمركز للأموال التي تدعم المرشحين اليمينيين المتطرفين، واستخدمت الشركات الوهمية لتمويل الأحزاب الأوروبية وشراء النفوذ في البلدان الأخرى. وتعد ألبانيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود من بين هذه البلدان. واستخدمت السفارات الروسية لتقديم الأموال بشكل مباشر لعدم اثارة الانتباه والشكوك في السياسيين والاحزاب المعنية. شارك في  في عمليات التمويل السري رجل الأعمال ومؤسس شركة PMC “Wagner” يفغيني بريغوزين الذي يشتهر أيضاً بأنه طباخ بوتين، وكذلك ألكسندر باباكوف، نائب رئيس البرلمان الروسي، الذي اتُهم عام 2022 في واشنطن بالتآمر للتأثير في السياسة الأميركية. كان التمويل السياسي في بعض الأحيان تحت سيطرة مسؤولي الدولة والمشرعين الروس أو من قبل وكالة الاستخبارات الفيدرالية الروسية FSB.

ماذا لو استخدم بوتين السلاح النووي؟

 مواجهة الخطر النووي الروسي واحتمال أمر بوتين باستعدادات تقنية لاستخدام محتمل للأسلحة النووية كانت موضوع تحليل لمجلة “فورين أفيرز”، اعده الباحثان ليانا فيكس ومايكل كيماج، ودعا الغرب إلى الرد بالردع على مثل تلك التهديدات، والإشارة بوضوح إلى أن بوتين لن يحرز مكاسب تذكر من استخدام الأسلحة النووية. إذا لم ينجح ذلك، ونفذ بوتين تهديداته، فعلى حلف الناتو أن يعد العدة لرد تقليدي محدود، إما ضد القوات الروسية في أوكرانيا أو داخل روسيا نفسها. في غضون ذلك، يحتاج الغرب إلى بناء تحالف واسع لإدانة قرع طبول الحرب النووية وردعها من خلال الجمع بين العقوبات والتهديدات بالرد  على سياسة المجازفة النووية التي يعتمدها بوتين من جهة أخرى. قد لا تشارك الصين في ذلك، بيد أنها قد توافق على الفكرة، خوفاً من عدم الاستقرار النووي.

 درج

 —————————-

“حماس” وتركيا وروسيا.. والنظام السوري/ خيرالله خيرالله

ليس ما يدل على الإفلاس الروسي أكثر من الضغوط التي مارستها موسكو من أجل مصالحة حركة “حماس” مع النظام السوري، وهي ضغوط ترافقت مع جهود من أجل تقارب بين تركيا والنظام السوري.

توّجت المصالحة بين النظام السوري و”حماس” ببيان صدر حديثا عن الحركة، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين في العالم. يتجاهل النظام السوري أنّه يتصالح عمليا، عبر “حماس”، مع الإخوان المسلمين الذين يعتبرهم من ألدّ أعدائه. يشير البيان الصادر عن “حماس” والقاضي باستئناف العلاقات بينها وبين النظام السوري إلى أنّ تلك الحركة لا تمتلك أيّ مبدأ من أيّ نوع باستثناء خدمة إسرائيل.

قال البيان: “أكّدت حركة حماس مضيّها في بناء وتطوير علاقات راسخة (مع النظام السوري)، خدمة لأمتنا وقضاياها العادلة وفي القلب منها قضية فلسطين لاسيما في ظل التطوّرات الإقليمية والدولية المتسارعة التي تحيط بقضيتنا وأمتنا”. لم توضح “حماس” ما هي هذه التطورات المتسارعة، اللهمّ إلّا إذا كانت تتحدث عن حاجة روسيا إلى تعويم النظام السوري في ضوء الهزائم التي لحقت بها في أوكرانيا. إنّها هزائم لا يزال فلاديمير بوتين يحاول التخفيف من وقعها، على الرغم من أنّها بدأت تدقّ أبواب الكرملين.

أعربت “حماس” في بيانها أيضا عن تقديرها لـ”الجمهورية السورية قيادة وشعبا لدورها في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة”. هل سألت “حماس”، قبل أن تخرج بمثل هذا النوع من المواقف المؤيدة للنظام السوري الذي قتل في تاريخه من الفلسطينيين أضعاف مضاعفة ما قتلت إسرائيل، عن مصير مخيّم اليرموك قرب دمشق أو عمّا حلّ بالفلسطينيين المعتقلين في السجون السوريّة منذ سنوات طويلة؟

واضح أنّ تصرّف “حماس” يشبه إلى حدّ كبير تصرّف صغار الانتهازيين مثل الرئيس اللبناني ميشال عون وصهره جبران باسيل اللذين عقدا صفقة مع النظام السوري ولم يعد في بالهما اللبنانيون القابعون في السجون السوريّة منذ عشرات السنين.

الأكيد أنّ “حماس” تعمل، ظاهرا فقط، بموجب أجندة روسيّة ليست بعيدة عن الرغبات الإيرانيّة في الوقت ذاته. اعتذرت من النظام السوري عن طريق إبداء “تقديرها للجمهوريّة العربية السورية قيادة وشعبا” متجاهلة رأي الشعب السوري بنظام أقلّوي أخذ على عاتقه تطويع الفلسطينيين وتحويلهم ورقة لديه. ما لبثت هذه الورقة أن انتقلت إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران في أعقاب تحوّلها إلى اللاعب الأساسي والمحوري في سوريا بشكل تدريجي.

لا تعكس مصالحة “حماس” للنظام السوري، بالطريقة التي تمّت بها، سوى مدى الضعف الروسي وحاجة فلاديمير بوتين إلى إظهار أنّه لا تزال لديه أوراقه في حين أنّه صار في الحضن الإيراني. في النهاية، إن إيران هي التي لعبت دورا حاسما في جعل “حماس” ترضخ لمطالب النظام السوري في وقت لم يعد من فائدة تذكر للحركة خارج إطار الإستراتيجية الإقليميّة لـ”الجمهورية الإسلاميّة” ومشروعها التوسعي… وعدم اعتراض إسرائيل على ذلك!

رضخت “حماس”، لكنه من الصعب رضوخ تركيا التي لديها شروطها من أجل مصالحة النظام السوري. لا يمكن تجاهل أن تركيا، بعثت برئيس جهاز المخابرات فيها هاكان فيدان إلى دمشق أخيرا لعقد سلسلة من اللقاءات مع مسؤولي الأجهزة الأمنيّة التابعة للنظام السوري على رأسهم اللواء علي مملوك. كان ذلك بناء على إصرار روسي وبعد سلسلة من اللقاءات بين الجانبين عقدت في روسيا نفسها. هل لدى فلاديمير بوتين ما يكفي من النفوذ لحمل الرئيس رجب طيب أردوغان على الاعتذار من بشّار الأسد وعلى التخلي عن توسيع المنطقة الأمنية التركية في الأراضي السوريّة؟

يريد النظام السوري انسحابا تركيا من الأراضي السوريّة. هذا الأمر غير وارد في ضوء حسابات مختلفة لأنقرة التي تسعى إلى تطوير اتفاق أضنة الذي يسمح لها بالتدخل عسكريا في سوريا. أين تقف موسكو من ذلك كلّه وما قدرتها على التأثير على أردوغان الذي استفاق أخيرا على إعادة مدّ الجسور بين تركيا وإسرائيل وتبادل الزيارات ذات الطابع العسكري معها؟

يبدو الضعف الروسي العامل المشترك بين “حماس” وتركيا والرغبة في مصالحتهما مع النظام السوري. إنّه ضعف كشفته الحرب الأوكرانيّة التي قرّر فلاديمير بوتين خوضها بسبب جهله بالعالم وموازين القوى فيه أوّلا. مثلما لم يدرك الرئيس الروسي معنى شنّ حرب على أوكرانيا، البلد الأوروبي الذي يمتلك أهمّية إستراتيجية كبيرة، لا يدرك حاليا أنّ لا فائدة من تعويم النظام السوري. ليس هناك ما يمكنه تعويم نظام أقلّوي مرفوض من الأكثرية الساحقة من شعبه. الأهم من ذلك كلّه، أن “حماس” تنظيم لا يمكن الوثوق به. ما الذي تمثله “حماس” على الأرض باستثناء أنّها تؤمّن استمرار الانقسام الفلسطيني وتكريس قطاع غزّة إمارة إسلاميّة على الطريقة الطالبانيّة؟

باختصار شديد، إن “حماس” حاجة إسرائيليّة أكثر مما هي حاجة روسيّة، وهي أيضا حاجة إيرانيّة في ضوء رغبة “الجمهوريّة الإسلاميّة”، بين حين وآخر، في إظهار أنّ لديها ورقة فلسطينيّة مميّزة تمتلك صواريخ تحرّكها في إطار يخدم مشروعها التوسّعي.

يظلّ الموضوع التركي أكثر تعقيدا بمراحل. لا يعود ذلك إلى حجم تركيا وموقعها فحسب، بل إلى حسابات داخليّة وإقليميّة ودوليّة خاصة بها أيضا. لا تقتصر هذه الحسابات على العلاقة بروسيا، بل تتعداها إلى مستقبل العلاقات مع دول أوروبا ومع أميركا نفسها. تشمل هذه الحسابات الهمّين الكردي والاقتصادي الداخلي اللذين يقلقان أردوغان وحزبه، بل يمكن اعتبارهما بمثابة هاجس من هواجسه اليوميّة.

يلعب فلاديمير بوتين في الوقت الضائع ويتلهّى بالقشور. لن ينقذه تعويم النظام السوري في شيء. لا لشيء سوى لأن مشكلته في أوكرانيا وفي القرار الخاطئ الذي اتخذه والذي جعله يغرق في وحولها. لم تكشف أوكرانيا ضعف الجيش الروسي وأسلحته فقط. كشف قبل كلّ شيء أنّ بوتين لم يتعلّم شيئا من انهيار الاتحاد السوفياتي وأسباب موته!

إعلامي لبناني

العرب

——————————

الاستخبارات البريطانية تقول إن روسيا تقيم خطاً دفاعياً في شرق أوكرانيا

ما حققه الأوكرانيون مؤخراً ليس «نقطة تحوُّل» في الحرب وقرارات الشتاء ستكون حاسمة

لندن – نيويورك: «الشرق الأوسط»

شهدت الحرب الدائرة في أوكرانيا تحوّلاً دراماتيكياً في أعقاب قيام قوات كييف، في أقل من أسبوع، بتحرير نحو 3400 ميل مربع (نحو 8800 كيلومتر مربع) من الأراضي في منطقة خاركيف، شمال شرقي البلاد. وتحسباً لهجمات أوكرانية جديدة على مناطق الإمدادات بدأت روسيا بتعزيز خط دفاعها على طول حدود منطقة لوهانسك التي يعد «تحريرها» أحد أهم الأهداف المعلنة للحرب الروسية. ولهذا تقول تقارير استخباراتية بريطانية إن «أي خسارة إقليمية جوهرية في لوهانسك سوف تقوض بشكل واضح الاستراتيجية الروسية». ويقول الدبلوماسي الأميركي ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي للأبحاث، إن من الواضح أن المخططين الاستراتيجيين الروس الذين كانوا يركزون على الهجوم الأوكراني المضاد الجاري في جنوب البلاد، لم يكونوا مستعدين للهجمات الأوكرانية في شمال شرقي البلاد، ولم تكن لدى الجنود الروس الذين يفتقرون للتدريب الجيد والقيادة المميزة، القدرة على مواجهة نظرائهم الأوكرانيين المتحمسين الذين يتمتعون بكفاءة عالية. ويوضح هاس، في مقال نشره مجلس العلاقات الخارجية على موقعه الإلكتروني، أن ما حدث كان تحولاً، ولكن لا يعد حتى الآن «نقطة تحول» في الحرب، فمن السابق لأوانه كثيراً التعويل على مكاسب أوكرانيا في منطقة واحدة، ناهيك عن استنتاج أن ما حدث في خاركيف هو بشير خير لكل أوكرانيا.

وتابع تقييم للاستخبارات البريطانية أنه «من المرجح أن تحاول روسيا أن تدافع بقوة عن منطقة لوهانسك، ولكن من غير الواضح ما إذا كانت قوات خط الجبهة الروسية لديها ما يكفي من الاحتياطيات أو المعنويات المناسبة لصد هجوم أوكراني منسق آخر». وقالت وزارة الدفاع البريطانية، أمس (السبت)، نقلاً عن استخباراتها، إن روسيا تعزز مواقعها في شرق أوكرانيا ضد الهجمات الأوكرانية وإن الروس أقاموا خطاً دفاعياً بين نهر أوسكيل وبلدة سفاتوف الصغيرة في منطقة لوهانسك، تحسباً لهجوم أوكراني في المنطقة، وإنها عاقدة العزم على الاحتفاظ بالسيطرة، حيث إن أحد خطوط الإمداد القليلة التي تسيطر عليها الوحدات الروسية تمر عبر هذه المنطقة. ويرى هاس أنه، رغم ذلك، يعد ما حققته أوكرانيا مهماً بكل المقاييس، وقد أدى إلى تحول كبير في التفكير داخل الحكومة الأوكرانية. فقبل أشهر مضت، كان الهدف بالنسبة للكثير من الأوكرانيين هو بقاء أوكرانيا مستقلة قابلة للحياة – حتى لو كانت الدولة لا تسيطر على كل أراضيها. ولكن أهداف الحكومة من وراء الحرب أصبحت أكثر طموحاً، بسبب مكاسب القوات الأوكرانية الأخيرة على الأرض. وقال هاس إنه، رداً على سؤال منه، طالب وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف بعودة جميع أراضي أوكرانيا، بما في ذلك ما استولت عليه روسيا عام 2014. وأضاف إلى ذلك مطلباً بالحصول على تعويضات اقتصادية لتمويل تكاليف إعادة الإعمار التي تقدر بنحو 350 مليار يورو، كما أنه أكد ضرورة المحاسبة القانونية للمسؤولين في روسيا عن هذا العمل العدواني وجرائم الحرب المتصلة به. ويرى هاس أن التطورات العسكرية الأخيرة ستؤثر أيضاً على سياسات الدول الأوروبية الأخرى، التي أدى ارتفاع أسعار الطاقة فيها إلى إثارة المعارضة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة والمال. ولكن ثبت الآن خطأ ما يتردد بأن التفوق العسكري الروسي أظهر عدم جدوى تقديم الدعم لأوكرانيا. ففي ظل وقف روسيا لإمدادات الغاز، سوف تجعل النجاحات العسكرية الأوكرانية الأخيرة من السهل على الحكومات الأوروبية تبرير التضحيات الاقتصادية والشخصية خلال ما يتوقع أن يكون شتاء صعباً.

وفي الوقت الحالي، هناك احتمال بأن تشهد عدة شهور أخرى قتالاً مكثفاً في شمال شرقي وجنوب أوكرانيا. ومع ذلك، فإنه في نهاية المطاف، سوف تتضاءل جهود القتال نتيجة للطقس القارس وعدم قدرة الطرفين على مواصلة العمليات العسكرية الكبيرة. ويرى هاس، كما جاء في تحقيق الوكالة الألمانية، أن هذا الانخفاض في حجم القتال سوف يوفّر وقتاً للتفكير؛ حيث سيحتاج قادة أوكرانيا إلى دراسة أهدافهم الموسعة في الحرب وما إذا كانت ذات أولوية متساوية. وسيكون هناك أمر محل دراسة رئيسي، وهو التكاليف المتزايدة للحرب: فقدان ثلث الإنتاج تقريباً، والتضخم الكبير للغاية، وتدهور قيمة العملة، وزيادة حجم الديون، والاعتماد المتزايد الذي لم يسبق له مثيل على المساعدات الخارجية. وسوف تشهد إعادة البناء الاقتصادي تباطؤاً نتيجة الغموض فيما يتعلق بما إذا كانت الحرب سوف تستمر.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك التكاليف البشرية؛ فقد منيت أوكرانيا بعدد كبير من الخسائر في الأرواح بين قواتها المسلحة، والمدنيين، بينما نزح نحو 13 مليون أوكراني داخلياً أو صاروا يعيشون كلاجئين في أنحاء أوروبا. وسوف تضغط أوكرانيا من أجل تحقيق انتصار عسكري كامل، ولكن يرتبط بهذا الهدف مسألة ما إذا كان هناك احتمال للحاجة لبحث بعض التنازلات بالنسبة للأهداف، ربما على أساس مؤقت.

ويقول هاس إن روسيا تواجه أيضاً اختيارات؛ حيث يحتفظ الرئيس بوتين بكثير من الخيارات التي سوف تجعل من الصعب على أوكرانيا استعادة المزيد من الأراضي التي تحتلها روسيا. وحتى الآن، يرفض بوتين الاعتراف بأن روسيا في حالة حرب تتطلب عملية تجنيد وتعبئة واسعة النطاق، إما للتقليل من قدرات عدوه وإما لشعوره بالقلق بالنسبة لردود الفعل السياسية المحلية. ومن الممكن أن يتغير هذا في أي لحظة، وكذلك الحال بالنسبة لتجنب الكرملين مهاجمة دولة ترغب في الانضمام للناتو أو استخدام الأسلحة الكيماوية، أو حتى النووية.

والأمر الذي يهم بوتين هو رد الفعل العسكري والاقتصادي من جانب الغرب، وما إذا كان ذلك سيجعل وضعه أفضل أو أسوأ في بلاده. ويتعين على الغرب، من ناحيته، مواصلة تزويد أوكرانيا بالدعم العسكري والاقتصادي الذي تحتاج إليه، من حيث النوع والكم. وهناك أسباب استراتيجية قوية للقيام بذلك، بما في ذلك ردع أي عدوان في المستقبل من جانب روسيا أو الصين أو أي دولة أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي العمل على أن يدرك بوتين والآخرون في روسيا الثمن الذي سوف يدفعونه نظير توسيع نطاق الحرب جغرافياً أو استخدام أسلحة الدمار الشامل. وهناك حاجة لأن تكون الخطط لتنفيذ ردود الفعل هذه جاهزة إذا فشل الردع.

واختتم هاس مقاله بالقول: «نحن، هكذا، نواجه شتاء ليس فقط شتاء استياء (كما وصفه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اجتماع له بالعاصمة كييف الأسبوع الماضي) ولكن أيضاً شتاء قرار. والأمر الذي يبدو مؤكداً هو أن الحرب سوف تستمر طوال المستقبل القريب. فمن غير المتصور أن يوافق بوتين على مطالب أوكرانيا، تماماً كما هو من المستحيل أن تقبل أوكرانيا بما هو أقل كثيراً من مطالبها. وما بقي لنراه هو كيف ستؤثر القرارات التي يتم اتخاذها بعيداً عن أرض المعركة هذا الشتاء على مسار الحرب عندما يحين الربيع».

————————-

خيارات بوتين بعد هزيمته في أوكرانيا/ عمران سلمان

 السؤال الذي يطرح اليوم في الحرب الأوكرانية هو ليس ما إذا كان الجيش الروسي قادر على تغيير مسار الحرب أو تحقيق إنجاز عسكري ما، الواقع أنه لن يتمكن من تحقيق شيء يذكر بعد أن فشل في انجاز أهدافه الأساسية في الأيام والأسابيع الأولى من الحرب، والتي تحولت، ويا للمفاجأة، لصالح الأوكرانيين، ولكن السؤال هو ما الذي سوف يفعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إزاء الهزيمة العسكرية التي باتت تلوح في الأفق وما هي الخيارات التي يملكها؟

بعض المحللين العسكريين يخشون من أن يلجأ بوتين إلى خيارات كارثية من قبيل استخدام أسلحة الدمار الشامل وخاصة ضد المدن الأوكرانية المأهولة بالسكان، وهناك من يخشى تحديدا من أن يصب جام غضبه على البنية التحتية من مساكن ومنشآت أوكرانية وذلك انتقاما للهزائم التي لحقت بقواته.

الواقع أن هذا الاحتمال يظل قائما، ليس فقط بسبب الرغبة في الانتقام ولكن أيضا بسبب انسداد الأفق أمام الجيش الروسي لتحقيق أي تقدم رغم مرور أكثر من ستة أشهر على بدء الحرب، وربما لرفع الحالة المعنوية لجنوده والتي تشهد تراجعا ملحوظا.

إن ما حدث ويحدث حتى الآن هو عملية إذلال كبيرة تتعرض لها القوات الروسية. فهي راهنت على السيطرة على المدن الأوكرانية الرئيسية بما في ذلك العاصمة كييف خلال أيام أو أسابيع قليلة من الحرب، وكانت خططها هي عزل الحكومة الأوكرانية وتنصيب أخرى موالية لموسكو، واعتقال أو قتل المعارضين للهيمنة الروسية.

لم تفشل موسكو في تحقيق أي من هذه الأهداف فحسب، ولكنها لم تصمد أيضا أمام مقاومة الأوكرانيين في هذه المدن. واليوم تشن القوات الأوكرانية هجمات مضادة مكنتها حتى الآن من تحرير آلاف الكيلومترات ومطاردة الجنود الروس حتى الحدود الدولية.

وفي حال استمر هذا الزخم العسكري الأوكراني فلن يكون مستبعدا أن تستعيد كييف السيطرة على مناطق مهمة من الإقليمين الانفصاليين لوغانسك ودونيتسك، اللتين أعلن الرئيس الروسي أنهما هدف حملته العسكرية لحفظ ماء الوجه.

بعض المحللين العسكريين يرون أن بوتين ربما يضطر إلى تغيير التسمية من العملية العسكرية إلى الحرب، كي يتمكن من تفعيل التجنيد الالزامي وزج أعداد كبيرة من الروس في ساحات القتال.

ولكن هذا الخيار الذي استبعد حتى الآن له ثمن سياسي كبير، ليس فقط بسبب الخسائر الكبيرة المتوقعة في الأرواح، ولكن أيضا لأنه سوف يعني أن جميع الروس سيكونون معنيين بهذه الحرب بشكل أو بآخر، الأمر الذي قد يولد نقمة شعبية ضد الرئيس الروسي. 

يبقى العمل التفاوضي أو السياسي هو الأقل كلفة لإنهاء هذه الحرب، ولكنه مرهون بميزان القوى على الأرض. وفي الأسابيع الأولى من الحرب كان بإمكان القيادة الروسية أن تجري مفاوضات بشأن وضع قواتها في بعض المناطق الأوكرانية التي سيطرت عليها في ذلك الوقت.

لكن من الواضح أن التطورات الميدانية الأخيرة جعلت من الصعب على الأوكرانيين قبول فكرة تخليهم عن منطقتي لوغانسك ودونيتسك ليتم إلحاقهما بروسيا. فالأرجح أن هذه التطورات سوف تدفع القيادة الأوكرانية لتصليب موقفها التفاوضي، وتقوية وضعها العسكري وربما طموحها أيضا في استعادة جميع المناطق التي خسرتها خلال هذه الحرب وما سبقها بما في ذلك شبه جزيرة القرم.

ويبدو أن الدول الغربية تشاطر كييف هذه الأهداف حتى النهاية، بما في ذلك استنزاف روسيا والقضاء على أحلام بوتين وربما مستقبله السياسي أيضا.

ويمكن القول من دون مبالغة أن جزءا من هذه الأهداف قد تحقق بصورة مذهلة. فقد قضت الحرب الأوكرانية على العديد من الإنجازات التي تفاخر الرئيس الروسي بتحقيقها في السنوات الماضية.

فقد أضرت بشدة بموقع روسيا العسكري حيث كشفت عن ضعف قوته وتخبط جيشه وتخلف أسلحته.

كما أضرت بموقع روسيا الاستراتيجي مع انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو وتبني معظم دول الاتحاد الأوروبي عقيدة سياسية وعسكرية تعتبر التهديد الروسي وجوديا بالنسبة لها.

أما اقتصاديا فمن المتوقع أن تحدث العقوبات الغربية أضرارا بنيوية يصعب إصلاحها في الاقتصاد الروسي. وتعتبر خسارة السوق الأوروبية والتعامل التجاري مع أوروبا على المدى المتوسط والبعيد مدمرا لموسكو.

أما دوليا فقد انضمت روسيا بجدارة إلى الدول المارقة المعروفة مثل كوريا الشمالية وإيران وغيرها.

أمر واحد يمكنه أن يعكس مجرى الأحداث الحالية وهو تمرد الروس على بوتين وعزله، وهو أمر ليس من السهل حدوثه، ولكنه غير مستبعد بالنظر إلى حجم الأضرار التي ألحقها ببلده وشعبه.

الحرة

—————————————–

ملامح الهزيمة تلاحق بوتين إلى سمرقند/ جويس كرم

“نتفهم أسئلتك وقلقك”، بهذه العبارة خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرئيس الصيني شي جينبينغ في قمة سمرقند يوم الخميس، وفي لقاء كان بالشكل والمضمون ملخصا لحجم التغيرات التي أتت بها حرب أوكرانيا على المشهد الجيوسياسي، وإسقاطها لروسيا من موقع اللاعبين الأكبر على الساحة الدولية.

بوتين كان يسترضي الزعيم الصيني، ويحاول طمأنته بأن مغامرة أوكرانيا التي خسرت فيها روسيا حتى الآن أكثر من سبعين ألف جندي وهدت اقتصادها وآلتها العسكرية، “تسير حسب الخطة”.

تناسى بوتين أن باقي العالم يقرأ الأخبار خارج شبكة “روسيا اليوم” ويدرك حجم المستنقع الذي تغرق فيه موسكو، وأنها خسرت ما يقارب 6000 كلم مربع في غضون أسبوعين وفي هجوم معاكس لأوكرانيا على إزيوم وخاركيف. باقي العالم يقرأ ويتابع بأن 65 شخصية من مجالس محلية في روسيا وقعت عريضة ضد الحرب وطالبت بوتين بالتنحي ويدرك بأن الآلة العسكرية الروسية تواجه أكبر خسارة منذ الحرب العالمية الثانية.

من بين هؤلاء الذين يدركون تراجع روسيا، الرئيس الصيني الذي اختار كلماته بدقة بالتأكيد لبوتين على العمل “لغرس الاستقرار في عالم تسوده الفوضى.”  فالصين تدرك ورطة بوتين، وهي ليست مجبرة على إنقاذه بل تستفيد من أزمته اقتصاديا بشراء النفط والغاز بأسعار مخفضة وبدخول الاقتصاد الروسي لاستبدال القوى الغربية.

إنما الصين تحفظ خط الرجعة أيضا وهي لم تقبل ببيع بوتين أسلحة وعتادا عسكريا، ما اضطره للذهاب لإيران بحثا عن طائرات من دون طيار، وإلى كوريا الشمالية بحثا عن صواريخ.

هذا هو حجم بوتين اليوم، يسترضي إيران لشراء طائرات “شاهد” فيما قواته تهرول أمام قوة السلاح الغربي في يد أوكرانيا، وتترك وراءها الدبابات والقذائف والراجمات.

بوتين كان يجلس مقابل شي إنما في الحقيقة هما ليسا في مستويات متساوية على الإطلاق اليوم. الصين تستخدم بوتين وتستغل ضعف روسيا، وهي تدرك ماذا سيعنيه فوز أوكرانيا في حال تحقق لها في تايوان، إنما غير مستعدة لركوب حصان بوتين والمغامرة معه ضد الغرب.

ضعف بوتين اتضح أيضا في مواجهات أذربيجان وأرمينيا، وحيث اشتمت باكو ضعف روسيا التي تدعم ييرافان وقامت بهجوم عسكري أوقع أكثر من 100 قتيل في صفوف أرمينيا. أدركت أذربيجان بأن روسيا ليس بإمكانها الرد، ليس الآن على الأقل، وأن الاتحاد الأوروبي أسكته رفع باكو صادراتها للغاز بـ 30 في المئة.

على الأرض في أوكرانيا تعني خسارة روسيا لمدينتي إزيوم وخاركيف قطع طريق إمداداتها شرقا وسلبها بوابة إلى البحر الأسود. إنما الأهم من ذلك تعني زخما معنويا لأوكرانيا وفرصة لاستكمال المعركة شرقا وإمكانية مدها إلى جزيرة القرم.

يحدث ذلك في وقت بات زوار موسكو يقتصرون على حركة حماس والرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي التقى بوتين للمرة الرابعة قبل أن يبتسم معه للشاشة من سمرقند.

منذ خمسة أشهر كان بوتين يتخيل نفسه راكبا على حصان وهو يدخل كييف منتصرا لـ”روسيا الأم”، أما اليوم فهو غير قادر على الإمساك بإقليم مجاور لروسيا يتحدث سكانه اللغة الروسية وميليشياته تابعة للكرملين.

الحرب طويلة والوقائع قد تتبدل إنما الانتصار ليس لجيش يهرول بعيدا عن ثكناته ويترك دباباته وعتاده إلى “العدو”.

—————————-

الإنجازات الأوكرانيّة “تؤدّب” بوتين و”تُلهم”.. البكّائين!/ فارس خشّان

في الأيّام القليلة الماضية، لم تُحرّر القوّات الأوكرانيّة ستّة آلاف كيلومتر مربّع من أصل مائة وعشرين ألف كيلومتر مربّع احتلّها الجيش الروسي، على مراحل منذ العام 2014، فحسب بل فتحت، أيضًا ثغرة استراتيجيّة في الدعاية التي يعتمدها الكرملين ضدّ الجيش الأوكراني وضدّ معارضيه الداخليين وضدّ الغرب عمومًا والاتّحاد الأوروبي، خصوصًا.

قبل هذا التطوّر العسكري النوعي لم يعد الصمود الأسطوري لكييف في وجه ثاني أقوى جيش في العالم يكفي، إذ إنّ كلفته على الدول الداعمة بدا أكبر بكثير من “فوائده”، ذلك أنّ الوقوف الى جانب أوكرانيا، ماديًّا ومعنويًّا ودبلوماسيًّا وسياسيًّا ومخابراتيًّا وعسكريًّا، راح يرتد سلبًا على البنى الاقتصاديّة والماليّة والإجتماعيّة والكيانيّة للاتّحاد الأوروبي، من دون أن يحقّق النتائج المرجوّة منه.

وفيما كانت الجبهات شبه جامدة، كانت الدعاية الروسيّة ناشطة جدًّا، فروّجت لتواصل عسكري أوكراني روسي يمهّد لانقلاب على السلطة الحاكمة في كييف، بالتزامن مع بثّ أفلام تُنبئ الأوروبيين بالموت بردًا مع حلول فصل الشتاء، بمجرّد أن توقف شركة “غازبروم” آخر خطوط الإمداد “الغازيّة”، وصوّرت أنّه في وقت تتآكل فيه قوّة العملة الأوروبية الموحّدة وتتضخّم الأسعار وتنقص المواد الأوّلية، تعوم روسيّا على “بحر” من العملات التي يتسيّدها “الروبل”، وأظهرت فلاديمير بوتين، وهو ينتقل من أقصى البلاد الى أقصاها، بأنّه أصبح فعلًا إمبراطورًا يهزّ الغرب بيمينه والشرق بيساره، وبيّنت أنّ المساعدات العسكريّة التي يقدّمها الغرب لأوكرانيا يستحيل استخدامها في المعارك لأنّ الجيش الروسي يفجّرها، في مهدها، ممّا يحول دون وصولها الى الجبهات.

وكان رهان موسكو على فصل الشتاء كبيرًا، لأنّه سوف يجمّد الجبهات، من جهة ويحرّك الإضطرابات الشعبية في أوروبا، من جهة ثانيّة، ويفرض الضغوط على القيادة الأوكرانيّة للجلوس، من موقع الضعف، إلى طاولة المفاوضات، من جهة ثالثة.

ولكن، مرّة جديدة، يتأكّد أنّ المخططات الدفتريّة للقيادة الروسية لا تتطابق مع الوقائع الميدانيّة، فكما أسقطت المقاومة الأوكرانية خطّة “الإجتياح البرقي” التي على أساسها انطلق الغزو في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير الماضي، كذلك أحبط الجيش الأوكراني خطّة” صقيع الشتاء” التي راهن الكرملين عليها.

في الأيّام الأولى للهجوم التحريري الأخير الذي بدأه الجيش الأوكراني على جبهتين متزامنتين، لم يكن الإعلام الغربي يُعطي صدقيّة عالية للمعلومات التي تتحدّث عن اختراقات نوعيّة ضد القوات الروسيّة. كان المحللون العسكريّون يشكّكون بالمعطيات التي تصل إليهم، على اعتبار أنّ أوكرانيا ليست سهلة أبدًا في “الحرب الناعمة”، وتاليًا فهي قد تكون في وضعيّة إسماع الرأي العام الغربي ما يستهويه حتى لا تكبر ضغوطاته على حكوماته، من أجل دفع أوكرانيا دفعًا الى طاولة المفاوضات، على اعتبار أنّ ما يمكن أن تخسره عليها يبقى أسهل ممّا بدأ الغربيون يدفعونه في يوميّاتهم التي “اخشوشنت” جدًّا.

لكن سرعان ما انقلب هذا التشكيك الى “مفاجأة مبهرة”، فالصمود الأوكراني الذي حطّم خطط الهجوم الروسي، في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير الأخير بدا متواضعًا جدًّا أمام تحرير الجيش الأوكراني لمساحة ستّة آلاف كيلومتر مربّع بما تحتويه من مناطق عالية الأهميّة على المستوى الإستراتيجي.

والتقييم “الأسطوري” لهذه المفاجأة لم ينبع من فراغ، فالجيش الروسي احتلّ بين بداية حزيران/ يونيو ونهاية آب/أغسطس الأخيرين مساحة 1700 كيلومتر مربّع، وها هو الجيش الأوكراني بين السادس من أيلول/ سبتمبر والثاني عشر منه يحرّر ضعف هذه المساحة في ستّة أيّام، فيما “الحبل” لا يزال “على …الجرّار”.

أوّل انعكاس لهذا الإنجاز الأوكراني، كان في أخذ قادة الرأي العام الأوروبي “نفحة أوكسيجين” أعانتهم في الضغط على الحكومات الأوروبيّة من أجل إهمال كلّ المطالبات التي تحمل لواءها أحزاب “اليمين المتطرّف” وتهدف الى إعادة النظر بالعقوبات التي يفرضها “الاتّحاد الأوروبي” على روسيا، وقد تقدّمت صحيفة “لوموند” هؤلاء حيث طرحت، غداة تأكّد التقدّم الأوكراني الميداني الكبير، بعدما فصّلت التأثيرات الكبيرة لهذه العقوبات على “الدولة الغازية” واقتصادها وصناعاتها العسكريّة، سؤالًا مهمًّا جدًّا ترك أصداءه في مراكز القرار الأوروبي:” إذا كانت العقوبات الأوروبية من دون أيّ تأثير، فلماذا هذا الضغط من أجل رفعها، بسرعة، إذن؟”.

ثاني انعكاس لهذا “الإنجاز الأوكراني” كان في إعادة الاعتبار الى المساعدات العسكريّة الغربية، إذ ثبت أنّ لكل سلاح نوعي قدّمه الأميركيون والفرنسيون والألمان والبريطانيون وغيرهم، دورًا في التقدّم النوعي الأوكراني، في مقابل تراجع فاعلية السلاح الروسي.

وأحيا الدور الذي لعبه السلاح الغربي المقدّم الى أوكرانيا المعادلة التي تسعى روسيا الى إخفائها، في إعادة كتابتها لحقائق الحرب العالمية الثانية.

وتُبيّن المعطيات التاريخيّة أنّه لولا جسور الإمداد العسكري التي وفّرها الغرب عمومًا والولايات المتّحدة خصوصًا للإتّحاد السوفياتي، في ضوء الغزو النازي، لما كانت روسيا قد تفوّقت على ألمانيا، وألحقت بها هزيمة ساحقة.

والمعادلة التي صبّت في الحرب العالمية الثانية لمصلحة الإتّحاد الأوروبي ضدّ “ألمانيا الهتلريّة” تصب حاليًا، ولكن مع آفاق عسكريّة محدّدة سلفًا بالبعد التحريري حصرًا، لمصلحة أوكرانيا ضد “روسيا البوتينيّة”.

وقد ولّد هذا التقدّم الأوكراني “عقدة نقص” لدى الدول الأوروبيّة التي لا تزال تتحفّظ على فتح مخازنها لمصلحة دعم المجهود الأوكراني، كما بدت عليه الحال في ألمانيا، حيث بدأت الضغوط على المستشار الألماني أولاف شولتس للإسراع في إرسال دبّابات “ليوبارد 2” الى الجيش الأوكراني.

وبدا لافتًا ما قالته في هذا الصدد وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بايربوك، دعمًا لهذا الطلب الأوكراني الملح، إذ استندت، بشكل كامل الى الإنجاز العسكري النوعي:” يجب أن نسأل أنفسنا، وبشكل ملح، كيف يمكننا أن نساعد في تحرير مزيد من البلدات”.

ولم يعد سرًّا أنّ المعلومات التي زوّد بها الغرب أوكرانيا، بفضل آليّاته المخابراتيّة البشريّة والتقنيّة، في ظلّ التقدّم التكنولوجي الهائل، لعبت دورًا حاسمًا في التطوّرات الأخيرة التي كانت لها تمهيدات نوعيّة، مثل تفجير مخازن الأسلحة واحتياطات الوقود واستهداف طرق الإمداد والتحرّك الصاعق وراء خطوط “العدوّ”.

وثالث انعكاسات “الإنجاز الأوكراني” ظهر، في مدينة سانت بطرسبوغ والعاصمة موسكو، حيث، وعلى الرغم من القمع المؤكّد ضدّ الأصوات المعارضة لإرادة الكرملين وجّهت شخصيات روسيّة منتخبة رسائل الى “مجلس الدوما” الروسي لا تطالب فقط بإقالة فلاديمير بوتين بل بمحاكمته أيضًا بتهمة “الخيانة العظمى”.

وقد فصّلت هذه الرسائل التي لن تكون لها متابعة مؤسساتية روسيّة بطبيعة الحال “الجرائم ” التي ارتكبها بوتين ضدّ الشعب الروسي وموقع روسيا العالمي، في غزوه لأوكرانيا.

وتكمن أهميّة هذه الرسائل في أنّها تعكس حقائق موجودة ضمن الشرائح الشعبية الروسيّة التي يحول النظام الإستبدادي والأدوات القمعية التي وضعها دون تمكينها من التعبير عن نفسها.

وإذ بدا أنّ التفاعل الروسي مع مضمون هذه الرسائل التي تُذكّر بالحقبة الأخيرة للإحتلال السوفياتي لأفغانستان، بقي “مضبوطًا”، فإنّ التفاعل الغربي عمومًا والأوروبي خصوصًا جاء كبيرًا، الأمر الذي ألحق أضرارًا بالغة بالدعاية الروسيّة الهادفة الى شيطنة الغرب وتقويض قدرات صموده الشعبيّة.

والأهمّ من ذلك أنّ الخسائر التي لحقت، في الأيّام الأخيرة الماضية، بالقوات الروسية العاملة في أوكرانيا، بيّنت أنّ الشريحة “القوميّة” التي طالما دعمت بوتين قد بدأت في “المزايدة” عليه، مصوّبة على طريقة إدارته للحرب وعلى القيادات التي يمحضها ثقته.

وهذا يعني أنّ بوتين الذي أسقط الهجوم الأوكراني المضاد هيبته العسكريّة، بدا محاصرًا في داخل بلاده بتيّارات تقف عن يساره تتّهمه بارتكاب جرائم عظمى وبتيّارات تقف عن يمينه تعتبره فاشلًا.

بطبيعة الحال، لا يمكن الإعتماد على هذه الظواهر العسكريّة والسياسيّة والإعلامية للتوهّم بأنّ بوتين وصل الى القعر، إذ إنّه لم يستعمل بعد كلّ الأوراق المتوافرة لديه، ولكن، في المقابل، فإنّ ما حصل يسمح لخصوم بوتين بالإعتقاد أنّ قدرته على الصمود في القمة التي وصل إليها باتت ضعيفة جدًّا، الأمر الذي يضخ تفاؤلًا في الغرب فيواصل دعم أوكرانيا حتى تواصل “تقليم أظافر الدبّ الروسي”، ويعين الشعوب الأوروبيّة التي لم تنس تداعيات تهاونها مع صعود هتلر، على تحمّل التبعات الناجمة عن الوقوف الى جانب أوكرانيا، ويعيد الى الولايات المتّحدة الأميركية اعتبارها الإستراتيجي الذي كانت قد فقدته، في محطات كثيرة آخرها “الانسحاب الفوضوي” من أفغانستان.

وفي مطلق الأحوال، فإنّ أوكرانيا لم تعد ساحة حرب فقط، بل أضحت، أيضًا درسًا للشعوب التي تنشد التحرّر، فهي لم تحظ بالدعم الغربي، لأنّها “دلّوعة” العالم، بل لأنّها أثبتت، في الميدان، أنّها قادرة على تحويل المساعدات التي تصلها الى إنجازات ميدانيّة.

ومن يبكِ في الشرق أو الغرب مصيره، يجب أن يتوقّف قليلًا عن النواح ليتمكّن من استلهام الدرس الأوكراني، لأنّ من يطلب دعم العالم له، فعليه، بادئ ذي بدء، أن يكون…موجودًا!

الحرة

————————

حرب أوكرانيا إذ تخلط أوراق التحالفات الدولية/ طارق عزيزة

مضت سبعة أشهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، والمؤشّرات الميدانية والدبلوماسية ترجّح امتداد الحرب سنوات، ما يعني استمرار تداعياتها على المستويات كافّة، السياسية والاقتصادية والإنسانية. ويمكن ملاحظة الانعكاس على تحالفات الدول وشراكاتها، سواء ما هو قائم منها، إذ يزداد بعضها متانةً، ويضعف بعضها الآخر، أو من خلال نشوء شراكات جديدة، في ضوء المصالح والأولويات المتبدّلة، فضلاً عن “فرص” تتيحها الحرب، اقتصادياً واستراتيجياً، في مشهد يزخر بالتناقضات والمفارقات التي يتّسم بها عالم العلاقات الدولية المعقّد.

منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، حظيت إيران بدعم روسيا الصريح لبرنامجها النووي، حين وقّع الجانبان اتّفاقاً، في يناير/ كانون الثاني 1995، يقضي ببيع إيران مفاعلات نووية لبناء محطة بوشهر الكهرذرية. تطوّرت الشراكة النووية بينهما، وصولاً إلى مساندة موسكو المساعي الإيرانية لإحياء المفاوضات مع الغرب، من أجل التوصّل إلى اتفاقٍ بشأن برنامج طهران النووي، ورفع العقوبات الأميركية والأوروبية عنها. لكن، في الوقت الذي تستخدم روسيا ورقة الطاقة بشكل حاسم، وتقطع إمدادات الغاز عن الدول الأوروبية للضغط عليها، بغية الحدّ من دعمها أوكرانيا وإرغامها على التفاوض مع الروس، تعلن إيران عن استعدادها لمساعدة أوروبا، في تجاوز أزمة الطاقة الحالية، في حالة نجاح المفاوضات النووية، في محاولة للاستفادة من تداعيات الحرب.

أمّا الهند، وعلى الرغم من مصلحتها المشتركة مع الولايات المتحدة، في تطويق التمدّد الصيني الهائل في آسيا والمحيط الهندي، ومن أنّها “شريك دفاعي رئيسي” وفق تصنيف واشنطن، ويربطهما اتفاق عسكري منذ عام 2016، يتيح لهما الاستخدام المتبادل للقواعد العسكرية لأغراض الصيانة والتزود بالإمدادات، إلّا أنّها لم تتبنَّ المقاربة الأميركية للحرب الأوكرانية. فضّلت الهند عدم اتّخاذ موقف واضح، والتمسّك بخطاب دبلوماسي عام، عن احترام القانون الدولي وحل النزاعات بالوسائل السلمية، ورفض استخدام القوة. لكنّها امتنعت عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة، التي تدين العدوان على أوكرانيا، وتطالب روسيا بالانسحاب الفوري، وبعدما فرضت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون عقوباتٍ اقتصادية ومالية مشدّدة على موسكو، تضاعفت كميات النفط الروسي الذي تشتريه الهند مستفيدةً من الأوضاع الناجمة عن العقوبات، حتى أنّ التعاملات المالية بينهما باتت تجري بالروبل والروبية. على ذلك، يمكن لمضيّ نيودلهي بعيداً في وجهتها الروسية أن يؤثّر سلباً على شراكتها مع واشنطن (الداعمة عسكرياً ودبلوماسيا لأوكرانيا في وجه روسيا). هذا سيزيد من حظوظ الصين الاقتصادية والعسكرية في المحيط الهندي وجنوب آسيا، لكسر انفراد القوة البحرية الأميركية في تلك المنطقة، والإمعان في تطويق الهند، أبرز منافسيها في آسيا.

على صعيد آخر، جاء التضييق الأميركي على روسيا في مصلحة الصين، خصم واشنطن الصاعد بثبات لينافسها على المسرح الدولي. فقد لعبت الأزمة الأوكرانية دوراً مهما في تعزيز العلاقات بين موسكو وبكين، والعقوبات التي فُرِضت على روسيا، من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دفعتها إلى تمتين الروابط الاقتصادية مع الصين. صحيح أنّ المصالح الروسية هي الدافع الرئيس لهذا التطور في العلاقات الثنائية، لكنها أتاحت للصين توسيع نفوذها داخل الأسواق ومصادر الطاقة الروسية، وفي مقدمها الغاز الطبيعي. من جهة أخرى، جذبت أوكرانيا الانتباه الغربي بعيدًا عن أنشطة بكين في بحر الصين الجنوبي، وهي المنطقة المرشّحة لأن تكون مسرحاً لتصعيد عسكري متزايد، يصعب التكهّن بنتائجه.

لقد وصل الخلاف بشأن الحرب الأوكرانية إلى أروقة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث إنّ مواقف الدول الأعضاء متباينة، في قراءتها السياسية وكذلك من ناحية المساهمة في دعم أوكرانيا، ومستوى هذا الدعم. يمكن ملاحظة ذلك من خلال معاينة موقف تركيا، صاحبة ثاني أكبر جيش في الحلف، بعد الولايات المتحدة.

يدعم الحلف أوكرانيا رسمياً، وهو ما تعبّر عنه بوضوح تصريحات أمينه العام، ينس ستولتنبرغ. في المقابل، يؤكّد الرئيس التركي أردوغان أنّ بلاده حافظت على سياسة التوازن بين روسيا وأوكرانيا، وأنها ستواصل اتباع سياسة التوازن هذه، متهماً الدول الغربية بـ”اتباع سياسة تقوم على استفزاز” روسيا، وفق تصريحات أدلى بها خلال زيارته إلى بلغراد في 7 سبتمبر/ أيلول الحالي. على الرغم من ذلك، ومن رفض تركيا المشاركة في فرض عقوبات على روسيا، إلا أنّها تزود القوّات الأوكرانية بطائرات مسيَّرة من دون طيّار. تركيا التي ترى في الولايات المتحدة حليفاً يجب الحفاظ على صداقته، وتدرك أهمّية ذلك في تعزيز المكانة الإقليمية التي تطمح إليها، تحرص في الوقت عينه على إيجاد نوع من التوازن في علاقاتها الدولية، بما يخدم مصالحها بالدرجة الأولى. ومما يكرّس هذا التوجّه لدى الساسة الأتراك، تقلّب المواقف الأميركية تجاه العديد من الملفّات التي تعدّ من المحركّات الأساسية في السياسة التركية، وفي مقدّمتها الملفّ الكردي، داخل تركيا وخارجها.

يرى بعض منظّري العلاقات الدولية أنّ “النظام الدولي”، بتحالفاته وخصوماته، يبقى متوازناً ما دامت المصالح والقوى النسبية للدول الرئيسية فيه مستقرّة، بصرف النظر عن هويات المتحالفين والمتخاصمين وتبدّل مواقعهم، وما يخلخل النظام، ويضع الأسس لنظام آخر هو صراعات الهيمنة، حيث تليها إعادة هيكلة إقليمية واقتصادية وديبلوماسية، تكون أكثر انسجاماً مع التوزيع الجديد لنسبة القوى وفق نتائج الصراع. فهل تعيد حرب أوكرانيا تشكيل النظام الدولي، بعد أن خلطت أوراق تحالفاته ومصالح أطرافه؟

العربي الجديد

——————–

السوريون وهزيمة “البوتينية”/ رستم محمود

ليس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ وحده في مأزق كبير، بسبب ما ستؤول إليه “الهزيمة العسكرية في أوكرانيا”، من نتائج وارتدادات. بل كامل “البوتينية” -إن جاز التعبير- صارت تعيش محنتها الأصعب بسبب ذلك.

البوتينية؛ باعتبارها إيديولوجيا، ومنهجية، وسلوك في الفعل السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والثقافي، داخل أي من البلدان، وعلى مستوى العالم، تلك التي صارت تعرِض نفسها منذ عقدٍ ونصف على الأقل، كمناهض وبديل عن سياقات “ثورات الدمقرطة”؛ التي بدأت تجتاح مختلف بلدان العالم منذ أواسط التسعينات.

عاشت مختلف بلدان العالم؛ انقسامات حادّة على دفتي ما تعرضه وتسلكه هذه البوتينية. فحتى البلدان الأوروبية، الأكثر أصالة ورسوخاً في ممارسة وتبنّي القيم الديمقراطية، صارت تلاقي في دواخلها من ينزعون للتعبير، والإعجاب، والتصرُّف بشكلٍ “بوتيني”، هؤلاء الذين يجمعون ذواتهم نزعةً لتقديس فائض القوة، ومركزية الزعيم، وتبجيل الانضباط والعسكرة، في ظلال عبادة الاستقرار كقيمة مطلقة، أياً كانت فداحة شروطه، مع ما يلزمها من قومية محلية ونبذ للآخَر المُختلِف في هوياته الدينية، والعرقية، والثقافية، وشعور دائم بثقل مستلزمات الديمقراطية، والمساواة الجندرية، ومنظومة حقوق الإنسان والحريات العامة.

حدث ذلك لأسباب مُركّبة، على رأسها؛ طبيعة النظام الحاكم للبلاد، الذي كان مُستعصياً على أية آلية للتطوُّر، أو التحسُّن من داخل نفسه، مقابل “استحالة” تغييره من قِبل المجتمع السوري، بنفس الأدوات التي استعملتها المجتمعات في تجارب البلدان الأُخرى، هذا الاستعصاء، كان الأرضية الخصبة لبزوغ البوتينية بأوضح صورها.

إلى جانب ذلك، فإن الروح السياسية العمومية؛ الأكثر رواجاً ضمن سوريا، ومن مختلف الأحزاب والتطلُّعات السياسية، البعثية واليسارية، والقومية السورية، والإسلامية الإخوانية، كانت على الدوام تحمل الكثير من بذور وبصمة البوتينية هذه، وحسب مختلف تلك السِّمات المذكورة سابقاً.

الأمر الأخير؛ كان يتعلّق بالموقع الجيوسياسي لسوريا، ككيان يتوسّط بُلداناً إمبراطورية أكبر منه حجماً، وذات ذاكرة تاريخية صراعية مديدة، وما شكّلته المسألة الفلسطينية/الإسرائيلية؛ من تعقيد إضافي، الأمر الذي خلق من سوريا ككيان ولاعب خارجي، على حساب أي داخل، وهو ما يُناسب البوتينية تماماً.

كل ذلك، كان الأرضية الصلبة لحضور البوتينية الدائم في سوريا، لكن بجرعة مُكثّفة خلال السنوات العشر الماضية، لأنها السنوات التي سمحت بتفجُّر كل ذلك. حضور الأشياء “عارية” وواضحة، ومعفية، من آداب الكلام الإيديولوجي المُنمَّق، فصارت سوريا؛ الحَلَبة الأكثر تعبيراً؛ عن “قوة” وجموح هذه “البوتينية”.

في سوريا، يبدو بوضوح؛ أن النظام الحاكم سيكون أكثر الأطراف السورية تأثُّراً بانكسار البوتينية هذه. فهذا النظام فعلياً؛ هو جزء عضوي من “شبكة الفاعلية” البوتينية؛ على مستوى العالم، وبالذّات في منطقة شديدة الحساسية مثل الشرق الأوسط، فالنظام السوري في علاقته مع البوتينية راهناً، لا يُشبه ما كان عليه النظام السوري مع الاتحاد السوفياتي السابق؛ في العقود الماضية، حيث كانت تلك العلاقة قائمة على توليفة من التوافق الإيديولوجي، والشراكة العسكرية، والتعاون الإقليمي، والاستضافات العالمية، وهي أشياء لم يعدّ النظام السوري الراهن يملُكها قطّ، فكل استقراره، وحتى وجوده، مرتبط بما تُوفّره البوتينية من مظلة استقرار.

لكن ليس صحيحاً؛ أن النظام السوري وحده يعيش هذا المأزق، فالغالب الأعمّ من قِوى المعارضة السورية، بالذات منها الإسلامية المُتطرِّفة، والطائفية، والمُسلّحة، والأكثر ارتباطاً بتركيا، تلك التي لم تَعُد ترى في المسألة السورية إلا مجرد حرب مفتوحة على السلطة، والهيمنة، والثروة؛ بدون أية قيمة سياسية مُضافة، مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمساواة الجندرية، واللامركزية، والإقرار بالحقوق المتساوية للجماعات، إنما ترى في البوتينية؛ أداتها الأكثر حيوية في خلق توافقات وتوازنات داخل سوريا، بالذّات عبر الشراكة التي خلقها أردوغان؛ مع نظيره بوتين، فيما خصّ سوريا منذ سنوات.

في هذا السّياق، فإن هزيمة بوتين بالنسبة لهؤلاء السورين الأخيرين؛ ليست مجرد تفكيك لتلك الشراكة وأدوات التعاون الأردوغانية/البوتينية؛ بل هي أيضاً نوع من انكسار عقائدهم، وخطاباتهم، وأشكال وعيهم؛ التي كانت قائمة على الصرح البوتينيّ؛ الذي هو المضادّ الواضح لكل قيم الدمقرطة. وبذا؛ فإن الهزيمة البوتينية، قد تكون أداة لتفكُّك أشكال السيطرة، والمخادعة؛ التي كانوا يستعملونها مع مجتمعاتهم الداخلية.

أخيراً، فإن هزيمة البوتينية؛ في أوكرانيا؛ ستعني شيئاً واضحاً للفاعلين السوريين، هو أن شرط الديمومة لا يتعلّق بقدرة العسكر، والعنف؛ على الهيمنة وخلق وقائع جديدة على الأرض، وأن الاستقرار المديد يتطلّب ما هو أبعد من ذلك بكثير، تبدأ بالسياسة، واحترام الحريّات العامة، والحق المتساوي في التمثيل والتعبير، ولا تنتهي بالاقتصاد والتوافقات المجتمعية، والتحوُّل إلى جزء من فضاء العالم، لغته واهتماماته ونوعية قيمه الإنسانية العليا.

نورث برس

—————————–

200 يوم من حرب أوكرانيا/ مروان قبلان

غصّت وسائل الإعلام في الأيام القليلة الماضية بأخبار “النكسات” العسكرية الروسية (إذا شئنا استخدام المصطلح العربي للتخفيف من وطأة الهزيمة) في الساحة الأوكرانية، من خاركيف في الشمال إلى خيرسون في الجنوب. قد يكون من المبكر، وحتى من المبالغة، الحديث عن هزيمة عسكرية روسية كاملة في أوكرانيا، كما تفعل بعض وسائل الإعلام في بريطانيا والولايات المتحدة خصوصاً، إذ ما زالت روسيا قوة عسكرية كبرى، ولديها قدراتٌ لا يُستهان بها، بما في ذلك إمكانية استخدام أسلحة نووية تكتيكية إذا اضطرّت لذلك. لكن بعد 200 يوم على اندلاعها صار ممكناً الخروج باستنتاجات مهمة عن الحرب الكاشفة في أوكرانيا، إذ نجحت إدارة الرئيس بايدن، في ما يبدو، في استخدام أوكرانيا “طُعماً” لإعادة روسيا إلى حجمها الفعلي على الساحة الدولية، وتصفية حسابات قديمة مع الرئيس فلاديمير بوتين منذ “شبّ عن الطوق” في خطابه الشهير في ميونخ (2007) مروراً بغزوه جورجيا (2008) ثم القرم (2014) والتدخل العسكري في سورية (2015) ثم في ليبيا (2019-2020).

استغل بوتين، طوال عقدين، غرق الولايات المتحدة في “وحول” العالم الإسلامي لإعادة بناء قدرات روسيا ونفوذها في جوارها الإقليمي وعلى الساحة الدولية. لكن ما إن أنهت رسمياً عقدين من حروبها الكارثية في العالم الإسلامي، بانسحابها من أفغانستان في أغسطس/ آب 2021، حتى عادت واشنطن إلى التركيز على التحدّيات الاستراتيجية الفعلية التي غفلت عنها (روسيا والصين). ومن خلال توريطه في أوكرانيا، عبر إرسالها إشاراتٍ مضللة بأنّها لن تتدخّل لدعم كييف، تمكّنت واشنطن من تقويض كلّ ما بناه بوتين خلال عقدين بضربة واحدة، بعدما حوّلت أوكرانيا الى أفغانستان روسية جديدة. لم تمنع حرب الوكالة الأميركية في أوكرانيا الرئيس بوتين من تحقيق نصر سهل فحسب، بل باتت تمنّي النفس اليوم بإلحاق هزيمة به قد تقضي على حكمه، وقد تقود حتى إلى تفكيك بلاده، بعدما كشفت الحرب هشاشة قدرات روسيا العسكرية والاستخباراتية، وتخلفها تكنولوجياً مقارنة بحلف شمال الأطلسي، وعجزها عن تعويض خسائرها، إلى درجة الاستعانة بدول من وزن إيران وكوريا الشمالية. ومن خلال إطالة أمد الحرب وتكبيد روسيا مزيداً من الخسائر، تأمل واشنطن في إحداث شروخٍ في صفوف النخبة الحاكمة الروسية، مع احتمال أن يقود الشعور بالعجز والإهانة التي لحقت بالعسكرية الروسية إلى انقلاب يطيح بوتين والعصبة التي تحكم معه، وما آخر انقلاب عسكري في روسيا عنا ببعيد (أغسطس/ آب 1991 ضد غورباتشوف).

لا تقتصر الورطة الروسية في أوكرانيا على الفشل العسكري والاستخباراتي، بل تمتد أيضاً لتشمل تجريد موسكو من عوامل قوتها الاقتصادية. منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي وصف روسيا، تقليلاً من شأنها، بأنّها “قوة إقليمية لديها بعض النفط وسلاح نووي” والولايات المتحدة تسعى إلى تحييد قدرات روسيا الطاقوية. ورغم الإعجاب والودّ اللذين كان يكنّهما الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لبوتين، فإنّ الأول وضع نصب عينيه منع تشغيل خط نورد ستريم2 الذي كان يأمل الثاني من خلاله في تعزيز قبضته على أوروبا، عبر زيادة اعتمادها على روسيا في مجال الغاز. كان هذا الخط أول ضحايا حرب أوكرانيا، إذ أوقفت ألمانيا العمل به يوم 22 فبراير/ شباط 2022، أي قبل يومين من انطلاق الحرب، رداً على اعتراف بوتين باستقلال مقاطعتي لوغانتسك ودونيتسك في الدونباس. لم يقتصر نجاح واشنطن على وقف نورد ستريم2، بل تمكّنت، على مدى الشهور الستة الماضية، من دفع أوروبا إلى تقليص اعتمادها على النفط والغاز الروسيين بنسب كبيرة، حتى كان الثمن موت الأوروبيين برداً هذا الشتاء.

من خلال حرب أوكرانيا، ضربت واشنطن عدة عصافير بحجر واحد، فمن جهةٍ تنتزع من روسيا أداة ضغط استراتيجية على أوروبا. ومن جهة ثانية، تسرق منها أسواقها الأوروبية، إذ صارت الولايات المتحدة أحد أكبر مورّدي النفط والغاز إلى أوروبا (15% تقريباً)، وتحرم من جهة ثالثة بوتين من العوائد المالية التي تسمح له بتمويل آلته العسكرية وطموحاته على الساحة الدولية، كما تقوّض وضعه في الداخل الروسي. أما التأثير السيكولوجي للتنكيل بروسيا في نفس حلفائها (إيران، والصين وكوريا الشمالية .. إلخ)، فهو يأتي بمثابة مكسب إضافي “على البيعة” (bonus).

العربي الجديد

—————————

انقلاب الموازين بين روسيا وإيران وعواقبه الإقليمية/ جلبير الأشقر

باتت الأفشال التي نجمت حتى الآن عن قرار فلاديمير بوتين زجّ الجيش الروسي في غزو أوكرانيا كافية لإدراج بوتين على قائمة الغزاة الفاشلين في التاريخ الحديث، وبمرتبة عالية تضاهي أفشال عظيمة كالغزو الأمريكي لفيتنام والغزو السوفييتي لأفغانستان والغزو الإسرائيلي للبنان والغزو الأمريكي للعراق. ويبدو أن جنون العظمة والطمع الاستعماري حالا دون أن يتّعظ بوتين من تلك السوابق، التي تشمل سابقة خاضت فيها بلاده، وجعلاه يعتقد أن تدخل قواته الجوّية الناجح في سوريا ضد مقاومة متشرذمة ومحرومة، بقرار أمريكي، من السلاح المضاد للطيران، دليلٌ على جبروت روسيا العسكري.

هذا ونظراً للدور المتعاظم الذي لعبته روسيا في منطقتنا في السنوات الأخيرة، من الطبيعي أن تترتّب عن إخفاق بوتين في أوكرانيا عواقب إقليمية بالغة الأهمية، لا بدّ كي ننظر فيها من التذكير أولاً بأوجه الدور الروسي الإقليمي. فمنذ غزوه الأول لأراضي أوكرانيا في عام 2014 وضمّه لشبه جزيرة القرم، وما نتج عنهما من عقوبات فرضتها على روسيا الدول الغربية، وجدت موسكو نفسها في خانة واحدة مع طهران التي سبق لروسيا أن شاركت في فرض العقوبات عليها. وقد يسّر هذا الأمر تدخّل روسيا في سوريا إلى جانب القوات الإيرانية وأعوانها الإقليميين في تدعيم نظام بشّار الأسد. بيد أن تفوّق الدور الروسي، المستند إلى القوات الجوّية، بينما اقتصر الدور الإيراني على القوات البرّية، أتاح لبوتين لعب دور خبيث في نصب نفسه حَكَماً في الساحة السورية بين إيران وتركيا، والتظاهر بأنه قادر على الإشراف على إخراج البلدين من سوريا لتبقى تحت هيمنة روسية بلا منازع.

وقد راق هذا الوضع لدول الخليج التي خاصمت إيران وتركيا معاً طوال هذه السنين، فربطت مع روسيا أواصر سياسية وعسكرية، وصلت في حالة أبو ظبي إلى التدخّل المشترك في ليبيا، دعماً لخليفة حفتر، وفي السودان دعماً للطغمة العسكرية. وتدعّمت كذلك علاقات عبد الفتّاح السيسي، حليف المحور الخليجي، مع روسيا، وقد شاركت مصر في التدخّلين المذكورين. وعلى هذه الخلفية أخذت موسكو تعرض على أصدقائها العرب الجدد شراء أسلحتها، مبيّنة الفرق بينها وبين الدول الغربية التي تواجه حكوماتها معارضة شعبية لتزويد بعض الدول بالسلاح، على غرار الاعتراضات التي واجهت تسليح أمريكا للمملكة السعودية في حرب اليمن.

أما تبدّل الموازين مؤخراً، فأسطع دليل عليه الخبر الذي ذاع قبل أيام عن امتناع مصر عن استلام 24 طائرة سوخوي سو-35 كانت قد تعاقدت على شرائها، وذلك خوفاً من إغضاب الولايات المتحدة. وقد قرّرت إيران شراء تلك الطائرات عوضاً عن مصر، الأمر الذي من شأنه أن يشكّل تغييراً نوعياً في الترسانة الجوّية الإيرانية التي لم تحُز على طائرات بمثل هذا المستوى التكنولوجي حتى الآن. ولا شك في أن تزويد موسكو لطهران بهذه الطائرات سوف يغيّر نظرة الخليجيين إلى روسيا تغييراً جذرياً ويحيلهم مجدّداً إلى الاتكال حصراً على الحماية الأمريكية بينما تستحيل موسكو حليفة لطهران في نظرهم. ومما يدعّم هذا الأمر أن روسيا نفسها أخذت تتزوّد بالطائرات المسيّرة من إيران، وهو دليل ساطع آخر على ضعف روسيا وعامل آخر في انحطاط صورة الجبروت التي نجمت عن حربها في سوريا.

أما النتيجة الأهم لتبدّل الموازين المذكور، فهي أن كفة إيران في المعادلة السورية باتت راجحة على حساب الكفة الروسية (ناهيكم من كفة تركيا، التي يعاني حكمها من أزمة اقتصادية شديدة أدّت به إلى مراجعة حساباته الإقليمية وتخفيض طموحاته). ونظراً لمركزية الساحة السورية في المشرق العربي، يترتّب عن رجحان كفة إيران فيها تدعيم دور طهران في الساحتين المجاورتين اللتين لها سطوة عليهما، ألا وهما العراق ولبنان. وفي المحصّلة، يعني كل هذا أن التوتّر قابلٌ على التصاعد في هذين البلدين الأخيرين، الّا إذا اتّعظت طهران بتبدّل الموازين الدولي الناجم عن إضعاف روسيا وقرّرت القبول بالشروط الأوروبية لتجديد الاتفاق النووي مع أمريكا وتليين موقفها نحو تشجيع المساومة في ساحات تدخّلها.

وقد سبق لطهران أن تصرّفت على هذا النحو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى أولى سنوات القرن الراهن، فدخلت في تعاون بالأفعال، من خلف التخاصم بالأقوال، مع الولايات المتحدة وصولاً إلى تعاون أعوانها العراقيين مع الاحتلال الأمريكي، وتعاون أعوانها اللبنانيين مع رفيق الحريري. كانت تلك سنوات طغيان المعتدلين في الحكم الإيراني، مثّلهما الرئيسان أكبر هاشمي رفسنجاني (1989-1997) ومحمد خاتمي (1997-2005) وقد انتهت المرحلة بوصول محمود أحمدي نجاد إلى الرئاسة (2005-2013) ممثلاً الجناح المتشدّد. غير أن الصعوبات الاقتصادية التي نجمت عن ذلك أدّت إلى وصول رجل مساوم إلى الرئاسة بعده، هو حسن روحاني (2013-2021) الذي أشرف على عقد الاتفاق النووي في عام 2015. بيد أن النهج المساوم مُني بهزيمة من جرّاء وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2017 بما أعاد المتشدّدين إلى رئاسة إيران مع إبراهيم رئيسي في عام 2021. وهذا يعني، للأسف، أن لا مجال للتفاؤل في تليين المواقف في منطقتنا في المستقبل المنظور.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

———————-

بوتين الجريح أخطر من القوي/ منال نحاس

ليست الهزيمة الحالية نهاية المطاف في القارة الأوروبية، ويبدو أن لسان حال روسيا  اليوم هو “خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب”، وعمليات الانتقام بدأت بقصف البنى التحتية الأوكرانية

تثير الخسائر العسكرية الأخيرة في شمال شرقي أوكرانيا قلق المراقبين. وعلى رغم أن الأوكرانيين بدأوا بالاحتفال في كييف إلا أن فلاديمير بوتين هو اليوم جريح على ما وصفته صحيفة “ذي تايمز” البريطانية. ولذا، هو مصدر خطر أكثر من أي وقت مضى، على حد قولها.

وكانت “فورين أفيرز” تناولت احتمالات مآل الحرب في أوكرانيا إلى هزيمة روسية أو نصر روسي. وفي مقالة عنوانها “ماذا لو انتصرت أوكرانيا؟” خلص الباحثان ليانا فيكس ومايكل كيماج إلى أن النصر في الحرب لن يطوي صفحة الصراع مع روسيا حتى لو كسبت كييف الحرب. وينبه الكاتبان إلى أن الفوز “الصغير” أو المتواضع قد يكون مقبولاً على المدى القصير وقد يسع موسكو التكيف معه ولكن لا شيء قد يثنيها عن الانتقام. ومثل هذا الفوز الأقل خطراً يقتصر على  “طرد أوكرانيا القوات الروسية من الجانب الغربي لنهر “دنيبر”، وإنشاء محيط دفاع حول المناطق التي تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا وجنوبها، وتأمين وصولها إلى البحر الأسود. ومع مرور الوقت، يمكن للقوات الأوكرانية التقدم، وكسر الجسر البري الروسي المؤدي إلى شبه جزيرة القرم التي تقع في جنوب شرقي أوكرانيا وقد احتلتها روسيا وضمتها في 2014”. وهذا ما بدأت أوكرانيا القيام به في الأشهر الماضية.

أما عن التراجع الروسي فهو كان سريعاً في شمال شرقي أوكرانيا وواسع النطاق. فالهجوم المضاد الأوكراني كان خاطفاً ونجح في حمل القوات الروسية على مغادرة بلدات بارزة مثل إيزيوم وكوبيانسك في منطقة خاركيف. ووقع في قبضة أوكرانيا عدد من المركبات الروسية والدبابات والعتاد الروسي بعد أن استعادت السيطرة على أكثر من 6 آلاف  متر مربع من الأراضي في شمال شرق أوكرانيا.. ونقلت “ذي تايمز” عن مسؤول أوكراني على رأس مجلس الأمن القومي الأوكراني أن جيش بلاده قد يسعى إلى تقويض آلة حرب الكرملين، ولو اقتضى ذلك مطاردة قوات بوتين إلى داخل الأراضي الروسية حين تعود أدراجها.

وعزت الصحيفة البريطانية هذا الكلام إلى نشوة النصر. والجدير بالذكر أن مدينة بلغورود الروسية تبعد 25 ميلاً فحسب عن خاركيف، وكانت في مرمى هجمات صاروخية منذ بدء الحرب. ونشر أوليسيكي اريستفيتش، وهو مستشار رفيع المستوى للرئيس الأوكراني، صورة على “تويتر” ساخرة تظهر جنوداً أوكرانيين على حدود هذه المدينة الروسية.

ولكن التصريحات عن اللحاق بالقوات الروسية إلى عقر دارها بالغة الخطورة على ما تنبه “ذي تايمز”. فالرئيس الروسي لوّح العام الماضي بأن تلجأ بلاده إلى السلاح النووي. وبعد أيام على تصريحه هذا في فبراير (شباط) الماضي، وضع القوات النووية المسلحة في أهبة الاستعداد والجاهزية. وذهبت مديرة تلفزيون “روسيا اليوم”، مارغيريتا سيمونيان، إلى أن بلادها لن تتوانى عن استخدام السلاح النووي إذا شارفت على هزيمة في أوكرانيا. وإلى الخيار النووي، يملك بوتين شن وابل هجمات صاروخية على كييف، وهذا ما دعاه إليه الصقور في روسيا طوال أشهر.

وفي وقت سعت موسكو إلى تصوير التقهقر السريع لقواتها في أوكرانيا على أنه “إعادة تموضع”، خسارتها أجزاء كبيرة من خاركيف تؤجج النزاعات الداخلية الروسية. وتسري إشاعات في روسيا مفادها بأن سيرغي شويغو، وزير الدفاع، سيقال من منصبه، على ما تقول “ذي تايمز”.

التلويح بالنووي

وعن سبل مواجهة الخطر النووي الروسي واحتمال أمر بوتين باستعدادات تقنية لاستخدام محتمل للأسلحة النووية، يدعو الباحثان في “فورين أفيرز” ليانا فيكس ومايكل كيماج، اللذان تقدم ذكرهما، الغرب إلى الرد بالردع على مثل تلك التهديدات، والإشارة بوضوح إلى أن بوتين لن يحرز مكاسب تذكر من استخدام الأسلحة النووية. إذا لم ينجح ذلك، ونفذ بوتين تهديداته، فعلى حلف الناتو أن يعد العدة لرد تقليدي محدود، إما ضد القوات الروسية في أوكرانيا أو داخل روسيا نفسها. في غضون ذلك، يحتاج الغرب إلى بناء تحالف واسع لإدانة قرع طبول الحرب النووية وردعها من خلال الجمع بين العقوبات والتهديدات بالرد  على سياسة المجازفة النووية التي يعتمدها بوتين من جهة أخرى. قد لا تشارك الصين في ذلك، بيد أنها قد توافق على الفكرة، خوفاً من عدم الاستقرار النووي.

وحري بكييف وشركائها الاستعداد لسنوات من الصراع المتواصل الفصول حتى لو انتصرت أوكرانيا على نطاق صغير، على نحو ما ينبه الكاتبان في خلاصة مقالة “فورين أفيرز” الآنفة الذكر. وهذا ما لم يخف الرئيس الأوكراني الذي أشار إلى غياب الاستقرار في بلاده بالقول إن أوكرانيا ما بعد الحرب ستشبه إسرائيل في سعيها الدائم نحو الدفاع عن النفس، في وقت يواصل بوتين استكشاف نقاط الضعف الغربية واستغلالها. فهو رد على سبيل المثال على عقوبات الغرب في عام 2014 من طريق التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016. بالتالي، فمن المرجح أن يعد مزيجاً من الهجمات الإلكترونية والمعلومات المضللة وغيرها من محاولات زعزعة الاستقرار الداخلي في الدول “المعادية لروسيا”، وتقويض وحدة حلف شمال الأطلسي والتحالفات المماثلة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. إذاً، سيضطر الغرب إلى احتواء روسيا في المستقبل المنظور. في نهاية المطاف، لا يستطيع الغرب التأثير في روسيا ولا يسعه غير أن يعقد الأمل على ظهور قيادة روسية أقل عدوانية.

وليست الهزيمة الحالية نهاية المطاف في القارة الأوروبية، ويبدو أن لسان حال روسيا  اليوم هو “خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب”، وعمليات الانتقام بدأت بقصف البنى التحتية الأوكرانية وتكر سبحتها اليوم على وقع وابل من القصف الجوي والمدفعي، ولا يسعنا سوى تمني استبعاد أمضى الأسلحة، الخيار النووي.

——————————-

خسائر متسارعة في الميدان.. الهجوم الأوكراني يضع روسيا أمام “الخيار الأصعب

الحرة / ترجمات – دبي

وضعت أوكرانيا نصب عينيها تحرير جميع الأراضي التي احتلتها القوات الروسية في هجوم مضاد سريع في شمال شرق البلاد، وهو هدف بدأت كييف بتحقيقه عبر استعادة السيطرة على عشرات البلدات في تحول مذهل في مسار القتال.

ولا تزال القوات الروسية تسيطر على حوالي خُمس مساحة أوكرانيا في الجنوب والشرق، لكن كييف الآن في حالة هجوم في كلا المنطقتين، حسب “رويترز”.

وخسرت روسيا بشكل “سريع”، أكثر من 2300 ميل مربع من الأراضي في شمال شرق أوكرانيا، مما قد يحد من قدرة الرئيس الروسي ، فلاديمير بوتين، على الدفاع عن الأراضي الأوكرانية التي احتلها بالفعل، وفقا لتقرير لصحيفة “واشنطن بوست“.

وأمضى بوتين أكثر من عقدين من الزمن في محاولة “ترسيخ صورته السياسية الداخلية بعناية كاستراتيجي قوي يمكنه التفوق على القادة الغربيين وإعادة روسيا إلى مجدها السابق”، وفقا لتقرير لشبكة “سي إن إن“.

لكن تلك الصورة تعرضت لأضرار كبيرة في الأيام القليلة الماضية، حيث كشف الهجوم المضاد الأوكراني في شرق أوكرانيا “أوجه القصور في خطة موسكو الرئيسية وأجبر القوات الروسية على التراجع”، وفقا للشبكة.

جيش منهمك وضغوط على “بوتين”

ومن شأن المكاسب الإضافية التي حققتها أوكرانيا، لا سيما حول مدينة خيرسون الجنوبية، توجيه “ضربات إضافية إلى الروح المعنوية الروسية وزيادة الضغوط على بوتين”، وفقا لـ”واشنطن بوست”.

ويري الخبراء أن الانهيار الروسي في منطقة خاركيف الأوكرانية يمثل التحدي الأكبر في مسيرة بوتين المهنية، مؤكدين أن “الخيارات تنفذ أمام زعيم الكرملين”، وفقا لـ”سي إن إن”.

ويرى مدير الدراسات الروسية في معهد أبحاث “سي أن إيه” في أرلينغتون بولاية فيرجينيا، مايكل كوفمان، أن الانهيار السريع للجبهة الروسية حول خاركيف “يعكس المشكلات الهيكلية المتعلقة بالقوى العاملة وانخفاض الروح المعنوية في الجيش الروسي المنهك”.

وقال إن القوات الروسية “مرهقة”، وتعاني من “تدهور” الفعالية القتالية، وفقا لـ”واشنطن بوست”.

ويؤكد القائد السابق للجيش الأميركي في أوروبا، الجنرال المتقاعد بن هودجز، أن الجيش الروسي  لا يستطيع “المضي قدما في هجماته”.

وقال: “ما يحدث الآن هو تتويج لشهرين من العمل الأوكراني الشاق لتعطيل الخدمات اللوجستية الروسية، وتدمير مراكز القيادة، وتدمير مدفعية وإمدادات الذخيرة”.

ويرى هودجز أن “شركاء أوكرانيا الغربيين سيواصلون إرسال الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية إلى كييف لتمكين القوات الأوكرانية من مواصلة الضغط على موسكو”.

وأشار إلى الروس ليس لديهم فقط مشاكل في “القوة البشرية والإرادة للقتال”، لكنهم “يفتقرون وجود أصدقاء يساعدونهم”.

ويشير المحلل السياسي الروسي، أنتون بارباشين، إلى أن “الوضع الحالي قد يشكل مشكلة أكبر بكثير لبوتين”، وفقا لـ”سي إن إن”.

وكانت الدعاية الروسية تصف السيطرة على إقليم دونباس بـ”أولوية قصوى”، ولكن بعد انسحاب القوات الروسية من خاركيف لوغانسك، فمن الصعب “تبرير ذلك”، وفقا لحديثه.

انهيار جديد في خيرسون؟

من المحتمل أن يتحول تركيز الجيش الأوكراني إلى خيرسون، المدينة المحتلة في الجنوب، حيث تدافع القوات الروسية عن رقعة صغيرة من الأراضي على الجانب الشرقي من نهر دنيبر، وفقا لــ”واشنطن بوست”.

وتقول دارا ماسيكوت، وهي إحدى كبار الباحثين السياسيين في مؤسسة البحث والتطوير الأميركية “راند”، إن روسيا تتجنب “الانهيار في خيرسون”، مضيفة “أعتقد أنه سيكون من الصعب جدا عليهم التعافي من حادثتين سريعتين”.

وتشير إلى تزايد الضغوط على موسكو، مع بدء تمرد المقاتلين الانفصاليين وانسحاب الوحدات العسكرية الروسية في بعض الحالات قبل الانخراط في القتال، مرجعة ذلك إلى “الطريقة التعسفية للغاية التي أدارت بها روسيا قوتها القتالية”.

خيارات بوتين

كان لنجاحات أوكرانيا في “الهجوم المضاد”، تداعايات داخل روسيا وصلت إلى حد “المطالبة باستقالة بوتين”، وفقا لتقرير لصحيفة سابق لصحيفة “نيويورك تايمز“.

ووقع أكثر من 40 من المسؤولين المحليين المنتخبين في جميع أنحاء البلاد، الاثنين، عريضة مؤلفة من جملتين انتهت بـ: “نطالب باستقالة فلاديمير بوتين من منصب رئيس الاتحاد الروسي”، وفقا للصحيفة.

بينما اتهم السياسيون المؤيدون للغزو “القيادة العسكرية الروسية”، بعدم خوض الحرب بما يكفي من “الحسم والكفاءة”، وعدم وضع “كل الحقائق أمام بوتين”، حسب الصحيفة.

ولذلك فقد يخاطر بوتين “سياسيا”، بإعلان التعبئة العامة في روسيا، لمواجهة الأزمات المتصاعدة في أوكرانيا، لكن ذلك قد يستغرق “شهورا لتدريب وتجهيز جنود جدد وستظل العديد من مشاكل ساحة المعركة الروسية دون حل”، وفقا لـ”واشنطن بوست”.

لكن ماسيكوت تشكك في قدرة “النظام الروسي على إعلان التعبئة”، نظرا لافتقاد موسكو “المتطلبات اللازمة لذلك”.

وترى نائبة مدير مركز أوراسيا في المجلس الأطلسي، ميليندا هارينغ، أن بوتين قد “يستمع إلى الأصوات المتشددة من داخل روسيا ويصعد الهجمات على شحنات الأسلحة والبنية التحتية الحيوية، أو يشن المزيد من الهجمات الإلكترونية”، مضيفة “لكنه بذلك قد يخاطر برد أكبر”.

وقال هارينغ إن أفضل خيار لبوتين الآن هو” الضغط من أجل التفاوض مع أوكرانيا”، وفقا لشبكة “سي إن إن”.

واتخذت موسكو بالفعل بعض الخطوات المبدئية في هذا الاتجاه بالفعل، وفي بيان مفاجئ، الاثنين، أشار وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف إلى أن موسكو قد تكون مستعدة للتفاوض مع أوكرانيا.

لكن الكرملين أكد، الاثنين، أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا سيستمر .

وقال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إن “العملية العسكرية الخاصة ستستمر حتى تتحقق الأهداف المحددة في البداية”، وفقا لـ”فرانس برس”.

وردا على سؤال بشأن احتمالات محادثات سلام مع كييف، رأى بيسكوف إنه “لا يوجد أي احتمال للتفاوض”.

وتشير هارينغ إلى أن الضغط من أجل المفاوضات سيسمح لروسيا بوقف التقدم الأوكراني و”الاستمرار في التعبئة وإعادة التجمع”.

——————-

كيف سيتعامل بوتين مع خسائره في أوكرانيا؟

موسكو: «الشرق الأوسط»

عندما شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه على أوكرانيا قبل أكثر من ستة أشهر، توقع الكثير من مؤيديه من السياسيين والمعلقين والمحللين انتهاء ما يسميه الكرملين بـ«العملية العسكرية الخاصة» في غضون أيام، وزعموا أن الحكومة الأوكرانية ستنهار وتتفتت بسرعة كبيرة، وأن الشعب الأوكراني سوف يرحب بالقوات الروسية لتحريرهم من «النازيين الجدد»، حسب وصفهم.

لكن هذا لم يحدث. وبدلاً من ذلك، فقد الجيش الروسي مؤخراً الكثير من الأراضي التي سيطر عليها، في واحدة من أكثر نكسات الحرب إحراجا، وفقاً لشبكة «بي بي سي» البريطانية.

وأثارت هذه الخسائر غضب واستياء الكثير من مؤيدي بوتين.

وأول من أمس (الأحد) قال ديمتري كيسيليف مقدم البرامج الشهير على التلفزيون الرسمي الروسي «روسيا 24» بوجه وصوت بدت عليهما الكآبة: «فيما يتعلق بالعملية الخاصة في أوكرانيا، كان هذا أصعب أسبوع حتى الآن».

وأضاف: «كان الأمر صعباً بشكل خاص على طول جبهة خاركيف، حيث أجبرت القوات الروسية على مغادرة البلدات التي حررتها سابقاً بعد هجوم من قبل قوات العدو فاق عددنا».

وقال محلل عسكري لصحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» الروسية: «من الواضح أننا قللنا من تقدير العدو. استغرقت القوات الروسية وقتاً طويلاً للرد على الضربات، ونتيجة لذلك، عانينا من الهزيمة وحاولنا تقليل خسائرنا بسحب قواتنا».

وأثارت هذه «الهزيمة» الكثير من الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي الموالية لروسيا، ومن قبل المدونين الروس المؤيدين للحرب الذين اتهموا جيشهم بارتكاب أخطاء.

ولم يتوقع الكثيرون أن يشارك في هذه الانتقادات الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، أحد أقوى مؤيدي بوتين، والذي أثار بعض التساؤلات عن الانسحاب الروسي.

وقال قديروف، في رسالة نشرها عبر تطبيق «تلغرام» يوم الأحد إن «بوتين قد لا يكون على علم بوضع قواته في الميدان بأوكرانيا وسأضطر للاتصال معه إذا لم يتم تدارك أخطاء الجيش الروسي هناك».

إذن، هل ستكون لهذه الانتقادات للتراجع الروسي عواقب سياسية على بوتين؟

لأكثر من 20 عاماً، نظرت النخبة الروسية لبوتين باعتباره «لا يقهر»، وأن لديه قدرة على التخلص والانفلات من جميع العقد التي يتم تقييده بها.

إلا أن ذلك تغير مؤخراً، حيث بدا للنخبة أن بوتين غير قادر على تحقيق نصر سريع وأن قراره غزو أوكرانيا «سوء تقدير كبير».

ويمكن أن يتسبب تلاشي هالة «القائد الذي لا يقهر» في مشاكل وعواقب سياسية كبيرة له.

فبالنسبة للقادة الروس السابقين الذين خاضوا حروباً ولم يفوزوا بها، لم ينته الأمر بشكل جيد.

فقد أدت هزيمة روسيا على يد اليابان إلى قيام الثورة الروسية الأولى عام 1905. وأشعل الفشل العسكري في الحرب العالمية الأولى ثورة عام 1917 والتي أنهت الحكم القيصري.

لكن علناً، ليس لدى الرئيس بوتين أي نية لإعلان هزيمته في هذه الحرب.

وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للصحافيين أمس (الاثنين): «العملية العسكرية الخاصة لروسيا مستمرة وستستمر حتى يتم تنفيذ جميع المهام التي تم تحديدها في البداية».

فما الذي سيفعله بوتين بعد ذلك؟

من الصعب معرفة ما يفكر فيه بوتين وما يخطط له في الوقت الحالي، حيث ستعتمد قراراته في الأغلب على مدى دقة المعلومات التي يتلقاها من قادة الجيش والمخابرات.

لكن الشيء الذي أكده الكثير من المحللين السياسيين هو أن بوتين «لن يتراجع تحت أي ظرف».

ويظن أولئك المحللون أن بوتين قد يسعى لشن «حرب نووية» إذا لم يستطع تحقيق النصر عبر الأسلحة التقليدية.

وقبل أيام قليلة فقط، قال قائد الجيش الأوكراني فاليري زالوجني إن «هناك مخاوف من استخدام القوات المسلحة الروسية أسلحة نووية تكتيكية».

ولفت المحللون إلى أن احتفال بوتين يوم السبت بمناسبة مرور 875 عاماً على تأسيس موسكو وحرصه على عدم إظهار أي بوادر ذعر من التراجع الروسي يؤكد على تصميمه على «الانتصار» بأي ثمن.

———————-

القضاء على أحلام بوتين في أوكرانيا.. متى تكون معركة الخسارة الأخيرة؟/ عاصم الزعبي

في تقرير لصحيفة “ديلي تلغراف”، أُشير من خلاله إلى أن حلم بوتين الإمبراطوري سينهار، وذلك عطفاً على التطورات التي شهدتها ساحة المعارك شرق أوكرانيا، وحقق فيها الجيش الأوكراني انتصارات بارزة ضد الجيش الروسي.

محرر شؤون الدفاع في صحيفة “ديلي تليغراف”، كون كوغلين، قال في تقريره في الصحيفة، “إن الغزو الروسي لا يسير وفق ما كان مخططا له”، وعلامة ذلك “أن يقر المسؤولون الروس بأنهم عانوا من هزيمة كبرى خلال الهجوم الأوكراني الأخير”.

كسر عظم

معارك مستمرة بين روسيا وأوكرانيا، بلغت أشدها خلال الأيام الأخيرة حيث يحاول كل طرف تحصيل مكاسب عسكرية واستراتيجية على الأرض، ما يوحي بأن هذه الحرب لن تنتهي قريبا.

الباحث في الشأن الروسي، سامر إلياس، يرى خلال حديثه لـ”الحل نت”، أنه حتى الآن لا توجد أي مؤشرات على أن الحرب الروسية في أوكرانيا سوف تنتهي قريبا، فالجانب الروسي مصرّ على تحقيق أهدافه وهي استعادة دونتيسك ولوغانسك، وما أعلنه بوتين في بداية الغزو من نزع سلاح أوكرانيا، ومنعها من امتلاك سلاح نووي، ثم تطورت هذه الأهداف لتشمل أهدافا جغرافية لضم مناطق في جنوب وشرق أوكرانيا.

وفي مقابل ذلك، يصر الجانب الأوكراني، على المقاومة وعدم الرضوخ للشروط الروسية، لاتفاق سلام، أو وقف الحرب، أو تسوية سياسية توقف الحرب، كما يواصل مقاومته مستفيدا من التغيرات الجديدة على الأرض في منطقتي خاركيف، وخيرسون، ومدعوما بموقف أوروبي، وأميركي حتى الآن لا يزال مؤيدا وداعما لأوكرانيا بالسلاح والاقتصاد.

الجيش الروسي في وضع مزري

في تقرير الـ”ديلي تلغراف”، أوضح كون كوغلين، أن روسيا كانت تمارس التكتم عند مواجهة أي انتكاسة كبيرة طوال هذا الصراع لكن اعتراف المعلقين الروس بسهولة، بأن الأوكرانيين حققوا “نصرا مهما”، من خلال هجومهم الدراماتيكي على الجبهة الشمالية لروسيا، يشير، وفق كوغلين، إلى أنه “على الرغم من كل مغامرات الكرملين، فإن مغامرة بوتين، العسكرية في أوكرانيا، في ورطة حقيقية”.

وفي هذا السياق، يوضح إلياس، أن هناك خسارات كبيرة حتى الآن في صفوف الجيش الروسي، لكن روسيا لا تقر بها، وواضح تماما أن هناك مشاكل تتعلق بالإمدادات والقضايا اللوجستية، وحتى موضوع تعويض القذائف، والذخائر المستخدمة بكثافة في الغزو.

ويضيف إلياس، أن هناك مشكلات كبيرة في الجيش الروسي، ومن الصعب التّوقع كيف يمكن أن تتواصل المعارك في الفترة القريبة القادمة، وعلى الرغم من أن روسيا تمتلك أدوات عسكرية مؤثرة كالأسلحة النووية التكتيكية، والأسلحة الباليستية، إلا أنه من الواضح تماما أن وضع الجيش الروسي مزري للغاية، سواء في وضع القيادات على الأرض، أو الإمدادات، أو اللوجستيات، إضافة للمعدات القديمة في وجه الأسلحة الحديثة التي زوّدت بها الولايات المتحدة، وأوروبا أوكرانيا، والتي لعبت دورا حاسما في صمود أوكرانيا، وحاليا تعلب دورا حاسما في شن أوكرانيا هجمات مضادة ضد روسيا.

ماهي عوامل نهاية الحرب؟

كوغلين، وفي تقريره، اعتبر أن الاستيلاء على بلدة كوبيانسك، المهمة استراتيجيا بمثابة نكسة كبيرة للقوات الروسية، لأن هذه البلدة مستودع الإمداد الرئيسي لعشرات الآلاف من القوات الروسية العاملة في منطقة خاركيف، ويعني الاستيلاء عليها أن ما يصل إلى 15000 جندي روسي محاصرون بالكامل الآن، دون الوصول إلى الإمدادات العسكرية.

واختتم كوغلين، تحليله بالقول: “إذا تمكن الأوكرانيون من الحفاظ على المكاسب العسكرية الرائعة، التي حققوها خلال الأيام القليلة الماضية، فسيجد بوتين نفسه قريبًا مُحدّقا في هاوية هزيمة كارثية”.

سامر إلياس، يرى أن المعارك في أوكرانيا مستمرة حاليا، وتوقف المعارك ونهاية الحرب يتوقف على عدة عوامل رئيسية، في مقدمتها مواصلة الدعم الأميركي، والأوروبي لأوكرانيا بأنواع مختلفة من الأسلحة للقيام بهجمات مضادة ضد روسيا من جهة، وللدفاع عن الأراضي الأوكرانية، من جهة أخرى.

وختم إلياس، بأن العامل الأخير هو حرمان روسيا من الكثير من التقنيات الغربية المهمة في الصناعات، ومن بينها الصناعات العسكرية، ومدى التزام أوروبا بوقف صادرات النفط بشكل كامل حسب الحزمة السادسة من العقوبات المفروضة على روسيا، والقدرة على تسديد سقف لأسعار النفط والغاز.

نقاط الضعف الروسية في أوكرانيا

بحسب تقرير سابق لـ”الحل نت”، فإن هناك خطة سرية لأوكرانيا تحدث عنها المستشار السياسي للرئيس الأوكراني، لصحيفة “الغارديان البريطانية”، في وقت سابق.

حيث بيّن المستشار ميخايلو بودولاك، أنه سيتم استهداف خطوط الإمداد الروسية كما أنه يتوقع هجمات مماثلة للانفجار الذي وقع مؤخرا في قاعدة جوية روسية بالقرم.

 سامر إلياس، أوضح في وقت سابق لـ”الحل نت”، أن أبرز نقاط الضعف لدى الروس، حيث يرى أن طول خط المواجهات بين الجيشين الروسي والأوكراني، من خاركيف، إلى خيرسون، وميكلايف بطول 1200 كم، يجعل خطوط الإمداد والقضايا اللوجستية، ونقل الأسلحة والغذاء، والوقود للقوات الروسية المتقدمة أمرا بالغ الصعوبة، وما زاد من تفاقم المشكلة هو استهداف أوكرانيا للجسور على نهر النيبر في منطقة خيرسون، ما يعني انقطاعا في الإمدادات القادمة من دونتيسك، ولوغانسك باتجاه المناطق الجنوبية في أوكرانيا، أي جبهتي خيرسون وميكلايف.

ولذلك اضطر الروس لاتباع أسلوب جديد، وهو تشكيل خطوط إمداد جديدة في شبه جزيرة القرم، وتكثيف وجودهم فيها عسكريا ولوجستيا، وهي تحاذي منطقة خيرسون من جهتين وهما شرق وغرب دنيبر، وتحاول روسيا نقل المعدات من هذه المناطق.

وبحسب إلياس، فإن الخطوة الروسية في شبه جزيرة القرم، جعلت الأهداف بالنسبة للجانب الأوكراني أكثر سهولة، إضافة للدعم الغربي باستهداف خطوط الإمداد في شبه الجزيرة.

وأضاف إلياس، أن أحد عوامل الضعف الروسي، هو الأسلحة الجديدة التي حصلت عليها أوكرانيا من الغرب، فهي ساعدتها على استهداف نقاط بعيدة للقوات الروسية، وبالإضافة لذلك فهناك عوامل أخرى كانت سببا بالضعف الروسي من أهمها، عدم قناعة عدد كبير من الجنود الروس بعدالة الحرب ضد أوكرانيا، إضافة للخسائر الكبيرة التي مُنيت بها روسيا منذ بداية الحملة وحتى شهر أيار/ مايو الماضي، ما أدى لوجود نقص في العنصر البشري بشكل لافت في القوات الروسية.

من الواضح أن أوكرانيا، استطاعت إغراق روسيا في المستنقع الأوكراني، كما تمكنت من خلق الفوضى في الجيش الروسي من خلال الاختراقات المهمة التي حققها الجيش الأوكراني في أكثر من جبهة نتج عنها خسائر فادحة في صفوف الروس، لتبقى المرحلة القادمة هي الأكثر أهمية، وحساسية سواء بالنسبة لأوكرانيا أو لروسيا.

——————————–

=================

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

تحديث هذا الملف يومي، نضيف العديد من المقالات المهمة والمختارة التي تناولت الحدث. 

======================

تحديث 22 أيلول 2022

——————————–

روسيا وأوكرانيا: مدّ الحسابات وجزر الكوابيس/ صبحي حديدي

الجيش الروسي، سلاح القوة الكونية الثانية عسكرياً، صرف أسابيع ممضة منذ أيار (مايو) الماضي لاجتياح مناطق واسعة من أوكرانيا، تحت طائلة خسائر باهظة في الأرواح والمعدات؛ وكان أنه، خلال أسبوع واحد وفي إطار هجمات أوكرانية مضادة، خسر نحو 6,000 كم مربع في عمق منطقة خاركيف، ضمنها 3,000 كم مربع في جبهة الشمال. مبكّر، بالطبع، الحديث عن منعطف حاسم يمكن أن يقود الاجتياح الروسي إلى أعتاب تعثّر جديدة، لا يُستبعد أن يرقى بعضها إلى سوية الانتكاسات الموجعة؛ ولكن قد يكون مواتياً تصنيف المجريات العسكرية الراهنة في خانة التحوّل النوعي في ميادين القتال، الأمر الذي سوف يفرز أكثر من منطق متغيّر في ميادين السياسة، أو سياسة الحرب على وجه التحديد.

على صعيد الداخل الأوكراني، ليست محطة عابرة أن يسارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى زيارة مدينة إزيوم، التي تمّ تحريرها مؤخراً من الاحتلال الروسي، فيرفع علم بلاده على وقع النشيد الوطني؛ ثمّ أن يقرن رمزية هذه الخطوة بما يقارب ابتزاز أوروبا والولايات المتحدة، والبناء على هذا الانتصار للمطالبة بمزيد من شحنات الأسلحة الثقيلة التي ستكفل إنجاز انتصارات أخرى. وزير خارجيته لم يتردد في الغمز من قناة المستشار الألماني أولاف شولتس، المتردد في إرسال مدرعات «ليوبارد 2» وعربات «ماردير»، قائلاً: ما الذي يخيف برلين، إذا كانت كييف غير خائفة؟ وللمرء أن ينتظر صدى هذه التصريحات في باريس ولندن، بما يُترجم بالفعل إلى «سياسة صلبة» في تزويد الجيش الأوكراني بالأحدث والأكثر تطوراً في ميادين التسلّح، اقتداء أيضاً بما فعلت واشنطن في حزمة مساعدات جديدة بقيمة 675 مليون دولار، تُضاف إلى مليارات سابقة خرجت من صندوق البنتاغون المستقلّ عن الصندوق الرئاسي للبيت الأبيض.

وكان تطوراً منطقياً، كذلك، أن تصل أصداء مكاسب الجيش الأوكراني إلى الداخل الروسي، ولكن على هيئة خيبات وجراح نرجسية؛ فيحدث، للمرة الأولى منذ بدء الاجتياح العسكري الروسي في أوكرانيا، أن يتوافق حفنة من مسؤولي 18 بلدية في محيط موسكو وبطرسبورغ على توقيع بيان مشترك يطالب باستقالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأن يضطرّ دمتري بيسكوف الناطق باسم الكرملين إلى منحهم الحقّ في التعبير (فهم منتخبون، في نهاية المطاف)؛ وألا يفوته، في الآن ذاته، تذكيرهم بأنّ تعدّد الآراء يحكمه خطّ رفيع للغاية لا يصحّ تجاوزه. وليس من المبالغة الافتراض بأنّ انتكاسات الجيش الروسي في خاركيف كانت على الأجندة المضمرة في مباحثات قمة «منظمة شنغهاي للتعاون» في سمرقند، خاصة لقاءات بوتين مع أمثال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (حيث الخلافات الروسية – التركية تُطبخ عادة على نيران إقليمية خافتة)، أو رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي (حيث الخلافات الروسية – الهندية أقرب إلى نار تحت الرماد). ورغم أنّ الإدارة الأمريكية ابتهجت تماماً، وكما يُنتظر منها، إزاء انتكاسات الجيش الروسي الأخيرة، فإنّ «الحكماء» من مستشاري البيت الأبيض، خاصة العارفين بما يمكن لأيّ دبّ روسي جريح أن يذهب إليه ضمن ردّات الفعل، نصحوا بالتريث في تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى تتجاوز أمديتها 300 كم.

البعض في الغرب يذهب، على سبيل تثمين المكاسب الأوكرانية الأخيرة، إلى درجة استرجاع الحقيقة التي تقول إنّ آخر اختراق عسكري ميداني شهدته أوروبا كان في صيف 1995 حين نجح الجيش الكرواتي في تحرير 17,000 كم مربع من أٍراضي كرايينا الصربية، متناسين أنّ نحو 150,000 صربي هُجّروا يومئذ من مساكنهم. ولا عجب أن يترافق رفع العلم الأوكراني في إزيوم مع الإعلان عن اكتشاف مقبرة جماعية تحوي 445 جثة، فهذا تفصيل شبه محتوم في حرب روسية بدأت من مفاجآت حساباتها المتضاربة، ولا تكفّ عن المسير نحو مدٍّ في تطوراتها وجزرٍ، يُبقي الكثير من كوابيسها معلّقة محتمَلة.

القدس العربي

———————–

«الفراغ الروسي» في سوريا و«رسائل النار» والتطبيع/ إبراهيم حميدي

يوماً بعد يوم، تتصاعد مؤشرات التطبيع بين دمشق وأنقرة. ويوماً بعد يوم، تتسع توغلات إيران في سوريا. أيضاً، يوماً بعد يوم، تتسع مروحة الغارات الإسرائيلية على مواقع إيرانية وسورية، مع انخراط أميركي أكثر في هذه الاستهدافات. لكن، هل من رابط بين هذه التطورات الثلاثة؟

الخيط الذي يربط بينها هو تراجع الوجود الروسي في سوريا؛ فقد سحبت موسكو منظومة «إس 300»، ونقلت نخبة من الطيارين وعناصر وقيادات من مرتزقة «فاغنر»، ونشرت عشرات من القوات البيلاروسية. وهناك إحساس بـ«فراغ روسي» في سوريا بسبب الحرب الأوكرانية والانتكاسات التي تتعرض لها قوات موسكو هناك. ومع أن التموضع الروسي الاستراتيجي لا يزال على حاله، لكن هناك تقديراً بأن استدامة «حرب الاستنزاف» تعني حتماً تغييرات كبيرة في سوريا.

رد طهران على ذلك، تمثل في رفع مستوى الوجود العسكري في سوريا، وتجنيد الميليشيات شرق البلاد، وتعميق مستوى التعاون العسكري مع دمشق وعبرها مع «حزب الله» في لبنان وحلفاء آخرين في المنطقة. وكانت إيران تقوم بذلك عبر الممرات البرية، وحاولت القيام بذلك عبر الممرات البحرية، لكنها كثفت في الفترة الأخيرة شحناتها وجهودها عبر المطارات الجوية.

أيضاً، سعت طهران إلى مصالحة بين دمشق وأنقرة. تقديرها، أنه في حال تراجع الوجود الروسي، فإن تركيا ستكون في موقع عسكري أفضل بدعم فصائل موالية للضغط على «الحليف» في قوات دمشق، وأيضاً، لأن هناك مصلحة إيرانية – تركية – سورية لخنق «وحدات حماية الشعب» الكردية، كما أن هناك مصلحة ثلاثية وروسية للتحرش بالقوات الأميركية شمال شرقي سوريا.

من هنا يأتي التطور الثاني، الذي يتعلق بتوسيع الغارات الإسرائيلية. صحيح، أن مئات الغارات شنت خلال السنوات الماضية، لكن تل أبيب، وبتفاهم مع موسكو، تجنبت القوات الروسية وقوات دمشق والمؤسسات المدنية السورية، واكتفت باستهدافات لـ«مواقع إيرانية». غير أن جديد الأسابيع الأخيرة، هو قصف إسرائيلي على ريف طرطوس، قرب القاعدة الروسية غرب البلاد، وقصف مطاري دمشق وحلب مرتين لكل منهما، وإخراجهما عن الخدمة لفترة معينة، وكذلك استهداف القوات الجوية السورية.

واضح أن تل أبيب وطهران دخلتا في سباق على «الفراغ الروسي». و«رسالة» إسرائيل هي منع «التموضع الإيراني» في الجهات الشمالية، بل إن بعض المسؤولين في تل أبيب قالوا ما مفاده أن «معركة إنهاء التموضع بدأت». ولا شك في أن هذا التصعيد محرج لموسكو ودمشق، وموضع ترقب من طهران وحلفائها؛ لذلك لم تكن صدفة أن «حماس» ودمشق استجابتا لوساطات وضغوط إيران و«حزب الله» ووافقتا على بدء مرحلة صعبة من العمل على «فتح صفحة جديدة». أيضاً، لم تكن صدفة أن البيان الأخير للقمة الروسية – التركية – الإيرانية لـ«مسار آستانة» في طهران، خصص الكثير من مفرداته لانتقاد الوجود العسكري الأميركي و«الأجندات الانفصالية» والغارات الإسرائيلية.

ضمن هذا وذاك، يمكن وضع هجوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب إردوغان لدفعهما إلى بدء «مشوار التطبيع» واستعادة «غرام» سنوات خلت. فهو يريد ترتيب البيت السوري مع انشغاله في «المستنقع الأوكراني». والأسد وإردوغان متفقان على عدم الرغبة في ذلك، وعلى عدم تجرع «كأس التطبيع»، لكنهما متفقان أيضاً على أن مصلحتهما تكمن في ركوب القطار. والتطبيع سيكون تحولاً أساسياً في الدعم التركي للمعارضة السورية، كما سيكون تحولاً في قبول دمشق بالوجود العسكري التركي. والجامع بين الطرفين هو القلق من تعاظم الدور الكردي شرق الفرات. وأغلب الظن أن «الوحدات» الكردية والفصائل السورية مرشحة لدفع الثمن.

ولم يعد سراً أن اجتماعات أمنية كثيرة بين مسؤولين أتراك وسوريين عقدت في موسكو ودمشق وريف اللاذقية وفي طهران. الجانب السوري يريد تعهداً علنياً مسبقاً بالانسحاب، وجدولاً زمنياً لذلك، حتى لو تأخر التنفيذ. والجانب التركي يريد انقلاباً سورياً ضد الأكراد وفتحاً لأبواب سوريا لعودة مئات آلاف اللاجئين قبل انتخابات إردوغان منتصف العام المقبل.

والواضح أن الطرفين وصلا إلى حافة الانتقال من المستوى الأمني إلى المنصة السياسية. دبلوماسياً، قد يعين كل طرف ضابطاً أمنياً للتنسيق في سفارته بالعاصمة الأخرى. سياسياً، تبدو نيويورك مرشحة لاستضافة اجتماع بين وزيري الخارجية السوري فيصل المقداد ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو، أو بين نوابهما، أو الانضمام إلى اجتماع وزاري روسي – تركي – إيراني لصيغة آستانة، يضغط الوزير سيرغي لافروف لعقده على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع المقبل.

الأمر اللافت أن الاجتماع الوزاري لصيغة آستانة ولقاءات المبعوث الأممي غير بيدرسن في نيويورك، هي الاجتماعات الوحيدة التي تعقد عن سوريا. فقد باتت «سوريا منسية» بالفعل، سياسياً وإنسانياً، في الأروقة الدولية، لكنها حاضرة على الأرض والجو كمسرح للصراع بين خمسة جيوش، الأميركي والروسي والتركي والإيراني والإسرائيلي، لتصفية الحسابات وتوجيه «رسائل النار» والتطبيع… والسباق على «ملء الفراغ».

الشرق الأوسط

————————-

بوتين ينتظر الشتاء/ فاطمة ياسين

آخر أيام الشتاء الماضي في أوروبا ظن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنّه قادر على القيام بهجوم خاطف نحو كييف، ليستولي عليها خلال أيام، وينهي وحدة الكيان الأوكراني، لكنّه بعد أسابيع من القصف والهجمات البرّية الفاشلة، عجز عن تحقيق ذلك. وبقيت العاصمة، رغم الدمار الذي لحق بها، بعيدة عن قبضته، ليغيّر خططه العسكرية منكفئا نحو الشرق، بإحكام الطوق على إقليم دونباس، وتركيز هجومه على مدينة خاركيف، وما حولها، فيحقّق بذلك تقدّماً بطيئاً وصعباً، ثم يمدّ قوته في الجنوب، ليضع قدمه على شواطئ البحر الأسود، محاولاً كسب أكبر مساحة ممكنة، معتمداً على ضرب البنية التحتية الأوكرانية، بشكلٍ متعمّد، لتغرق البلاد في ظلام دامس بعد انقطاع الكهرباء .. وفجأة يتعطّل سير هذه الخطّة، وتُمنى قوات بوتين بضربة قاصمة في الأسبوعين الماضيين، فتهيم على وجهها متخلّية عن أسلحتها، وهاربة باتجاه الحدود الدولية، بعد قيام الجيش الأوكراني بهجوم معاكس، أجبر القوات الروسية على ترك كلّ ما احتلته من أراضٍ في الشرق منذ إبريل/ نيسان الماضي، ليحاول بوتين تجربة أسلحة جديدة، منها سلاح الشتاء الذي اقترب، متمنياً أن يكون هذا الشتاء قاسياً بدرجة كافية تُكسبه الحرب.

يبدو أنّ الشتاء عامل حاسم في سير الحروب التي تخوضها روسيا، فقد كان الاعتماد على الفصل البارد صائباً، عندما استطاع هذا العدو الطبيعي أن يحسم أمر نابليون بونابرت الذي لاحق جيش القائد الروسي، ميخائيل كوتوزوف، حتى وصل إلى موسكو، لكنّ أسلوب كسب الوقت انتظاراً للمعجزة الجوية أتى بثماره كما رغب الروس، فعانى نابليون وجيشه من البرد ونقص المؤن، ما أفقد الجيش تماسكه، فتبدّد في الصحاري المتجمّدة، ثم أُجبر نابليون على العودة إلى باريس ليواصل التمسّك بكرسيه الإمبراطوري. وفي تكرار لمشهد من بطولة الشتاء الروسي، تفرّقت الجيوش الألمانية التابعة لهتلر في الوحول الثلجية العميقة، فأُجبرت هذه الجيوش الجرّارة المتخمة بالسلاح الحديث على التراجع عن موسكو، بعدما كانت الطلائع الألمانية العسكرية على مشارف الكرملين. كسبت روسيا في الحربين بفضل دخول شتائها القارس ميدان المعركة. أما في حربها اليوم فتختلف القواعد كثيراً، لأنّ الطرف المهاجم هو الروس أنفسهم، فاقتحم بوتين أوكرانيا متقمّصاً بجدارة دور نابليون العسكري المتعطش لمزيد من الفتوحات، ودور هتلر الغول الجغرافي الذي يريد التهام أوروبا.

يعرف بوتين أنّه لا يجب أن يخرج من هذه الحرب بهزيمةٍ مذلّة، لأنّ ذلك سيجعله يقف عارياً أمام أنصاره في الداخل، ولن يترك له المتطرّفون القوميون، ولا من بقي من متطرّفي الشيوعية، مجالاً ليبقى في منصة الرئاسة، لكنّ الخطر الأكبر الداخلي عليه يأتي من المجموعات الشعبية الكثيفة التي تؤمن بالخطاب البوتيني، وتجري خلفه بعفويةٍ وسذاجة، فهؤلاء قادرون على تحطيم سلطته بسرعة أكبر. لذلك، سيلجأ بوتين إلى استغلال الشتاء، ليقطع إمدادات الطاقة عن أوروبا، وقد باشر بالفعل في تجربة هذا الخيار وهو يتطلع إلى استمالة الناخب الأوروبي الذي يؤمن بقوت يومه قبل أي حزب سياسي، وقد يؤثر فيه قطع الطاقة، الأمر الذي سيُجبر سياسيي بلده على مجاملة بوتين. لذلك لا بد أنّ الأخير يأمل بشتاء قاسٍ إلى درجة كافية، أما الحكومات الأوروبية، خصوصاً في ألمانيا، وهي الدولة الرائدة في أوروبا، فقد قامت بتخزين كلّ ما تستطيع تخزينه من الغاز في خطوةٍ احترازية. وهذا بالطبع لن يمنع الأسعار من الارتفاع، لكنّها تأمل ألّا تصل إلى درجة تجعل مزاج مواطنيها يميل لصالح بوتين. وإذا استطاعت الدول الغربية تجاوز الشتاء مع استمرار الدعم الأميركي العسكري اللامحدود لأوكرانيا، فعندها قد يصبح بوتين أمام خيار شديد المرارة، وهو مدّ يده إلى الأسلحة غير التقليدية، وهذا ما يعتبره جو بايدن خطّاً أحمر. عندها، يمكن اكتشاف مدى جدّية خطوط بايدن الحمراء، وإنْ كانت شبيهة بالخطوط التي رسمها أوباما لبشار الأسد، عندما استخدم الأسلحة الكيميائية.

العربي الجديد

—————————-

انقلاب المواقف على الأرض بعد الهجوم الأوكراني الأخير/ صادق الطائي

عندما شن الرئيس بوتين حربًا غير مبررة ضد أوكرانيا قبل أكثر من ستة أشهر، قلل بشكل كبير من استعداد الحكومات الغربية للانخراط في الصراع بين جارتين سوفيتيتين سابقتين، وقد رأى بعض الخبراء أن هذا التقدير الخاطئ ظهرت نتائجه بشكل واضح في 10 ايلول/سبتمبر الجاري، حيث حققت أوكرانيا أحد أكبر انتصاراتها حتى الآن عندما تم إطلاق هجومين رئيسيين في الشمال الشرقي والجنوب في محاولة فعالة لاستعادة الأراضي التي احتلها الجيش الروسي. التصريحات الرسمية الأوكرانية حول الهجوم الأخير جاءت على لسان عدد من القيادات الأوكرانية، إذ قال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إن قوات بلاده استعادت 6000 كيلومتر مربع من الأراضي التي سيطرت عليها روسيا في جنوب وشرق البلاد. كما قال نائب وزير الدفاع الأوكراني، حنا ماليار، إن القتال لا يزال مستعرا في منطقة خاركيف شمال شرق أوكرانيا. وأضاف أن «الهدف هو تحرير منطقة خاركيف وما وراءها، أي جميع الأراضي التي تحتلها روسيا» وبين أن «القتال مستمر، ولا يزال من المبكر القول بأن السيطرة الكاملة على منطقة خاركيف قد تمت بالفعل. أن قوتنا تنبع من حقيقة أننا متحمسون للغاية، وقد خططنا بدقة للعمليات».

وقال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين للصحافيين في مكسيكو سيتي إن «القوات الأوكرانية أحرزت تقدمًا مهمًا في هجومها المضاد ضد القوات الروسية، رغم أنه من السابق لأوانه التنبؤ بالنتيجة. من الواضح أننا شهدنا تقدمًا كبيرًا من جانب الأوكرانيين، لا سيما في الشمال الشرقي، وهذا نتاج الدعم الذي قدمناه، ولكنه أولاً وقبل كل شيء نتاج شجاعة القوات المسلحة الأوكرانية ومرونتها في التحرك». وقد زعمت وزارة الدفاع الروسية يوم السبت 10 ايلول/سبتمبر أن ما أسمته «إعادة التجميع» تمت دون خسارة روسية، بينما كانت الخسائر الأوكرانية بالمقابل مقتل حوالي 4000 عسكري، وهي تأكيدات لا تدعمها الوقائع على الأرض. من جانبه قال المتحدث باسم الرئيس فلاديمير بوتين، دميتري بيسكوف، يوم الاثنين 12 ايلول/سبتمبر إن الحرب «ستستمر حتى تتحقق الأهداف التي تم تحديدها». ومع ذلك، من الصعب معرفة ما هي هذه الأهداف، وبالرغم من الانتكاسات، يصر الكرملين على أن الحرب ستستمر، وبالامكان توسيع نطاقها.

لقد ردت روسيا على الهجوم الأوكراني بشن ضربات مدفعية وصاروخية مكثفة، وقطعت إمدادات الكهرباء والمياه عن مدينة خاركيف، وألغيت 80 في المئة من المرافق التي كانت موجودة. ويبدو أن الرئيس بوتين فعل كل ما في وسعه لتجنب التعبئة العسكرية الإلزامية التي تخاطر بإثارة معارضة عامة أوسع للحرب، على الرغم من أن العديد من الخبراء العسكريين الروس يعتقدون أنه لا توجد طريقة لهزيمة أوكرانيا عسكريًا سوى إعلان التعبئة العامة، كما يعتقد البعض عدم استبعاد نشر سلاح دمار شامل في الحرب الأوكرانية، إلا أن العديد من الخبراء ما زالوا مصرين على تقليل المخاوف من قيام بوتين بذلك، لأنه سيدمر دعمه الدولي المتضائل وبشكل خاص من شركاء مهمين مثل الصين والهند.

الوضع المتشنج في روسيا

عندما أطلقت الألعاب النارية في سماء العاصمة الروسية احتفالًا بيوم مدينة موسكو يوم السبت 10 ايلول/سبتمبر، في تلك الليلة كان الفصيل المتشدد في إدارة بوتين المؤيد للحرب في أوكرانيا غاضبا، لانه كان مدركًا للحجم الفعلي لخسائر روسيا نتيجة الهجوم الأوكراني. لكن الرئيس فلاديمير بوتين بدا أصمًا بشكل مذهل، وحافظ على صمت واضح بشأن الانتكاسة العسكرية، على الرغم من أن أخبار الانسحاب بدأت تتسلل إلى وسائل الإعلام الحكومية. وبشكل سريالي إلى حد ما، شارك بوتين في افتتاح دولاب هواء فيريس العملاق في موسكو، وقال متفاخرا «لا يوجد شيء من هذا القبيل في أوروبا» وذكر بشكل عابر الصراع في أوكرانيا في خطابه، إذ أشار إلى «الجنود الذين يقاتلون من أجل حياة سلمية في الدونباس» ووجه تحية لأسر رفاق السلاح «الذين لقوا حتفهم، وضحوا بأرواحهم من أجل روسيا». المفارقة أن دولاب الهواء تعطل في غضون ساعات، وطالب الناس باسترداد قيمة التذاكر. لكن سرعان ما تم إصلاح فيريس، لكن يبدو إن إصلاح ما تعطل من إستراتيجية بوتين الحربية سيكون أصعب بكثير. الكثير من الضغوط باتت تشكل ازعاجا للرئيس بوتين الذي يتعرض لتدقيق متزايد على الرغم من حملة موسكو القمعية لانتقادات الحرب. إذ وقع نواب في البرلمان الروسي عن عدد من البلديات طلبا في الأيام الأخيرة لإقالة بوتين، وهي علامة نادرة على معارضة علنية في روسيا. وقال محللون إن معظم الروس العاديين لم يعودوا يهتمون كثيرًا بأخبار الحرب، وربما لم يكونوا على دراية بالتراجع الكبير. لكن إذا واجهت روسيا المزيد من الانتكاسات، فقد يزداد الغضب من المتشددين المؤيدين للحرب، وسيزداد الوعي العام، ومعه الضغط على بوتين.

يشير مايكل كوفمان، مدير الدراسات الروسية في مركز التحليلات البحرية ومقره أرلينغتون إلى أن «فلاديمير بوتين لديه بالتأكيد الإرادة على مواصلة هذه الحرب، لكنه كان يعمل إلى حد كبير تحت وهم أن الجيش الروسي كان يحقق الانتصارات وأنه سيفوز في النهاية». وأضاف كوفمان «كان العديد من الروس فاترين إلى حد ما فيما يتعلق بدعم الحرب، أو حتى عدم الاهتمام بها، حيث رأوا أن حياتهم لم تتأثر إلى حد كبير بتلك الحرب لأنهم يعتقدون أن أولادهم لن يتم إرسالهم للقتال، لكن ستتغير مواقف الناس بالتأكيد إذا علموا أن اولادهم سيتم إرسالهم لهذه المحرقة». وعلق عالم الاجتماع بوريس كاجارليتسكي على الوضع الروسي بالقول، إن نسبة تصل إلى 80 في المئة من الشعب الروسي تحول إلى كتلة من المخلصين (السلبيين) لحكم الرئيس بوتين، إذ اعتبروا أنفسهم خارج السياسة، وباتوا يركزون على حياتهم الخاصة، ويرون أن الحرب ليست من شأنهم». ويضيف كاجارليتسكي، أن «هؤلاء الناس لا يثقون بالتلفزيون الروسي، لكنهم لا يثقون بمعلومات شبكة الإنترنت أيضًا، لذا فإن الدعاية التلفزيونية لا تعمل معهم، ولكن أي نوع من الدعاية المناهضة للحرب أو خطاب المعارضة لا يعمل معهم أيضًا، لأنهم لا يشغلون بالهم بأي شيء له علاقة بالسياسة أو القضايا الاقتصادية أو القيم العامة أو أي شيء لا يؤثر عليهم بشكل مباشر». وأضاف أن هؤلاء المواطنين يبحثون في مواقع الإنترنت عن مقاطع فيديو عن صيد الأسماك والطهي وعروض الأزياء والحيوانات وما شابه ذلك. ليخرج بخلاصة يمكن أن تصف عهد بوتين مفادها: «المواطن الروسي الصالح اليوم هو المواطن السلبي، الذي لا يتورط في أي شيء.»

وقالت المحللة السياسية تاتيانا ستانوفايا، من مؤسسة مجموعة آر بوليتيك التحليلية، إنه حتى مع تصاعد الإخفاقات والضغط من اللوبي المتشدد المؤيد للحرب، كان بوتين مترددًا في المخاطرة بإثارة غضب الجماهير السلبية، لا سيما مع إشارة استطلاعات الرأي التي أظهرت تراجع الاهتمام بالحرب. بدلاً من ذلك، كان الكرملين يحافظ بعناية على رواية أنه لم تكن هناك حرب، إنما فقط «عملية عسكرية خاصة» حيث يتم التخطيط لكل شيء ويمكن أن تستمر الحياة، بالنسبة لمعظم الناس، كالمعتاد.

المواقف الأوروبية بعد الهجوم الأوكراني

لقد استهدفت روسيا إمدادات الغاز الطبيعي في القارة الأوروبية، حيث أغلقت خط أنابيب نورد ستريم 1 وتركت خط أنابيب رئيسيًا واحدًا فقط ينقل الغاز إلى أوروبا بأكملها رداً على العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا. ولا تزال آفاق الطاقة في جميع أنحاء أوروبا قاتمة إلى حد ما، ويتوقع المراقبون أن بوتين سيحاول دفع أوروبا إلى أقصى حدودها مع حلول فصل الشتاء في غضون أشهر قليلة.

وجاء في تقرير أعد بتكليف من الرئيس الأوكراني، وشارك في كتابته الأمين العام السابق لحلف الناتو، أندرس فوغ راسموسن «أن أقوى ضمان أمني لأوكرانيا يكمن في قدرتها على الدفاع عن نفسها ضد المعتدين. وللقيام بذلك تحتاج أوكرانيا إلى الموارد اللازمة للحفاظ على قوة دفاعية كبيرة قادرة على الصمود أمام القوات المسلحة والقوات شبه العسكرية التابعة للاتحاد الروسي، وهذا أمر يتطلب جهدًا على مدى عقود من الاستثمار المستمر في القاعدة الصناعية الدفاعية في أوكرانيا، ونقل أسلحة قابل للتطوير ودعم استخباراتي من الحلفاء، ومهام تدريبية مكثفة وتدريبات مشتركة بعلم الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي».

موقف ألمانيا، الدولة الأكبر في الاتحاد الأوروبي، من التغيرات التي أحدثها الهجوم الأوكراني على خاركيف بدا متذبذبا بشكل واضح، إذ صرحت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبريخت، يوم الاثنين 12 ايلول/سبتمبر بالقول: «أن مكاسب أوكرانيا في ساحة المعركة لن تغير من رفض برلين تزويد الجيش الأوكراني بدبابات قتالية» وخلال زيارة إلى كييف، تعرضت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك لضغوط من نظيرها الأوكراني دميترو كوليبا بشأن حاجة بلاده إلى دبابات قتالية. إذ رفضت بربوك تقديم أي التزامات فيما يتعلق بالدبابات، واكتفت بالقول إن حكومتها ما تزال في مداولات مكثفة بهذا الشأن.

لذلك قال رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويكي لصحيفة دير شبيغل: «تردد برلين، وتقاعسها عن العمل، يثيران تساؤلات جدية حول القيمة والتحالف مع ألمانيا». وأضاف الزعيم البولندي، الذي كانت بلاده من بين أكثر موردي الأسلحة سخاءً لأوكرانيا، أن «العديد من القادة الحكوميين الآخرين في أوروبا يشاطرونه الرأي». في الواقع، قامت ألمانيا بتسليم أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا، بما في ذلك 10 مدافع هاوتزر وأنظمة مضادة للطائرات وأسلحة دفاعية أخرى بشكل أساسي. ويشير المتابعون إلى أن المساعدة العسكرية الألمانية بلغت 1.2 مليار يورو حتى منتصف آب/أغسطس الماضي. وبالمقارنة، التزمت الولايات المتحدة بنحو 25 مليار يورو كمساعدات عسكرية لأوكرانيا.

وتعاملت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بشكل عام مع برلين بقفازات حريرية، لكنها بدأت مؤخرا بالتحول إلى نبرة أكثر قوة. إذ قالت آمي جوتمان، سفيرة الولايات المتحدة في برلين، للتلفزيون الألماني: «بقدر ما أنا معجبة وأثني على كل ما تفعله ألمانيا، لكني أقول يجب أن نفعل المزيد» مضيفة أن «السلام والازدهار الخاصين بالغرب على المحك».

———————

هل العودة الأميركية للمنطقة لا تزال متاحة؟/ سام منسى

كشف مضمون كلمة الرئيس فلاديمير بوتين خلال المنتدى الاقتصادي الشرقي في مدينة فلاديفوستوك نيات موسكو، بل عزمها على الاستمرار في حربها ضد أوكرانيا «بغضّ النظر عن مدى رغبة البعض في عزل روسيا، ومن المستحيل تحقيق ذلك» حسبما قال، مضيفاً أن «حمى العقوبات في الغرب… تهدد العالم بأسره». ووجّه أيضاً رسائل اقتصادية وعسكرية كثيرة إلى الغرب بعد أن حضر مناورات عسكرية واسعة النطاق شاركت فيها الصين ودول أخرى عدة تعد صديقة لروسيا. كل ذلك يعني أن النفق الذي دخلته العلاقات بين الشرق والغرب لا يزال طويلاً وأن القضية لا تقتصر حدودها على أوكرانيا. إلى هذا، تخلُّف بوتين عن حضور الجنازة غير الرسمية للرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف له رمزيته ودلالاته، إنْ لجهة رفضه سياسة البيريسترويكا التي اعتمدها الراحل وأدت إلى إصلاحات سياسية واقتصادية داخلية وسمحت لأوروبا الشرقية بالإفلات من السيطرة الشيوعية مساهماً في انهيار الاتحاد السوفياتي الذي وصفه بوتين بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، أو لجهة موقفه العدائي من الغرب بعامة.

الحرب الأوكرانية ستكون طويلة، ومن غير المرجح أن يتراجع بوتين أو يُقلب داخلياً، إذ يبدو أكثر صلابة مما كان عليه في أوقات السلم، فمعدلات الثقة به في الداخل مرتفعة وليس من بديل له يعوّل عليه. الحرب في أوكرانيا تتصدر الهموم الأميركية لا سيما تلك المتعلقة بمواجهة روسيا وتمدد الصين والأوضاع الاقتصادية العالمية ومشكلات التغيير المناخي إلى جانب تفاقم التجاذبات الداخلية الحادة والانتخابات النصفية وبعدها الرئاسية. هذه الخلفية مقدمة لمحاولة استشراف سياسة واشنطن في المنطقة، في وقت عادت فيه أصوات من أكثر من جهة تتحدث عن سياستها المبهمة تجاهها، خصوصاً وسط زئبقية مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي بعد أن كادت تصل إلى خواتيمها، ما يعيد الأوضاع كلها في الإقليم إلى المربع الأول ويُبقي المراوحة سيدة الموقف.

العراق غارق في مشكلات قد تصل إلى حدود حرب أهلية بين الشيعة أنفسهم وذلك بعد موجة عنف مميتة بين قوات مقتدى الصدر و«الإطار التنسيقي» المتحالف مع إيران، ما أعاد الوضع في بغداد إلى طريق مسدود. وسوريا على حالها تحت وتيرة عمليات عسكرية إسرائيلية شبه يومية وتعثر المحادثات بين الحكومة والمعارضة التي كان من المفترض أن تبدأ في 25 يوليو (تموز) في جنيف بسبب زعم حكومة الرئيس بشار الأسد أن سويسرا ليست محايدة لأنها تدعم عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد حليفته روسيا. لبنان في غياهب النسيان متروكاً لقدره، وحتى اليمن الذي تمر حربه في هدنة هشة لم يهتدِ بعد إلى طريق السلام.

تتباين المواقف في تفسير السياسة الأميركية إزاء هذه النزاعات، إنما يُجمعون على أن قدرة الولايات المتحدة على التأثير فيها تراجعت بشكل كبير وملموس وباتت محدودة. البعض يرى مثلاً أن أميركا محايدة في العراق إرضاءً لإيران، بينما يرى آخرون أن المشكلة هي عراقية – إيرانية بالدرجة الأولى أكثر منها أميركية – إيرانية. كذلك، من الواضح في نظرهم أن التخلي عن لبنان وسوريا مرده اعتبارهما سقطا تحت سطوة إيران وفي فلكها. مهما تباينت الآراء، فإن الواضح أن حجم وشكل التدخل الأميركي في شؤون المنطقة لن يخرج عن إطار المواقف «بالقطعة» كما يقال، أو تدخلات جراحية محدودة إذا اقتضت الضرورة أو تلزيم بعض الشؤون الأمنية لأطراف محلية، ومن غير المرجح أن تتغير هذه السياسة من دون تطورات جسيمة وغير مسبوقة تهدد الأمن القومي الأميركي.

السؤال اليوم هو بشأن واقعية سياسة واشنطن وما إذا كانت تستطيع الاستمرار بها بعد التدهور الكبير الحاصل في العلاقات الروسية مع الغرب والتنسيق والتناغم الكبيرين بين موسكو وبكين وإيران وغيرها من الدول المناهضة للغرب؟ أصحاب وجهة النظر الثانية يقولون إنه لا يمكن لأميركا على المدى القريب وهي تواجه روسيا والصين التنازل عن الشرق الأوسط لأكثر من سبب، بدءاً من الطاقة مروراً بالأهمية الاستراتيجية للمنطقة وبُعدها المتوسطي وقربها من أوروبا، وصولاً إلى وجود إسرائيل فيها. ولا يمكنها تركه لإيران التي أثبتت هي والميليشيات التي تدعمها قدرتها على قصف البنية التحتية في الخليج من بعيد وتمتلك أعمق مخزون من الذخائر الموجهة بدقة في المنطقة (باستثناء إسرائيل) وبات مدى صواريخها الباليستية يصل اليوم إلى أجزاء من أوروبا.

يعتقد البعض أن الرهان اليوم على أن تغيير سياسة واشنطن في المنطقة مرتبط كذلك بنتائج الانتخابات النصفية، وبشكل خاص خسارة الديمقراطيين وفوز الجمهوريين، بينما آخرون لا يرجحون من جهة خسارة مدوية للديمقراطيين، أولاً لأن الرئيس جو بايدن حقق الكثير في الشأن الداخلي وتجسدت إنجازاته بحزمة التشريعات التي أقرها الكونغرس وغير المسبوقة منذ أكثر من ربع قرن والتي تتناول إضافةً إلى التغيير المناخي، الصحة والتربية والبنية التحتية وغيرها. أما خارجياً، فيستحيل تجاهل موقف الرئيس بايدن وإدارته من الحرب الروسية في أوكرانيا وحجم ونوعية المساعدات المقدمة لكييف التي عرقلت الأهداف الروسية من الحرب، إضافةً إلى موقف الإدارة من الصين بعامة وسياستها تجاه تايوان بخاصة والنية الأميركية بتزويد الأخيرة أسلحة في صفقات تقدَّر بالمليارات. ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من «الضجيج الترمبي» لا يرجحون اكتساح جناحه ضمن الحزب الجمهوري بل تبقى حظوظ الجناح التقليدي المتشدد متاحة. في كل الأحوال المستجدات الدولية لا سيما حرب روسيا ضد أوكرانيا وتداعياتها على الأمن الاقتصادي العالمي لن تغيّر الكثير من سياسة واشنطن الخارجية.

كل ذلك للقول إن الستاتيكو في المنطقة سيبقى أحصلت المتغيرات الأميركية أو لم تحصل، والعراق أو سوريا أو لبنان وحتى اليمن مقبلون على المراوحة، وللتذكير كلهم تحت الهيمنة الإيرانية ما سوف يرتب تداعيات مكلفة لإيران وقد تكون مؤلمة لحلفائها وأدواتها.

السؤال الأساسي الآخر هو: هل تغيير إيجابي لسياسة واشنطن في المنطقة سيكون مؤثراً؟ لا شك أن ذلك سيزيل الكثير من التوتر، لكنّ دول المنطقة، لا سيما محور الاعتدال العربي، لم تعد في الفلك الأميركي كلياً وباتت اليوم تتحرك وفق مصالحها الوطنية العليا على اختلافها. ولعل الشاهد الأكبر هو تعزيز علاقاتها لا سيما الاقتصادية مع روسيا والصين بعد تراجع الاهتمام الأميركي بها. هذه الدول تعيش حالة ترقب وانتظار والأوضاع فيها مستقرة إلى حد كبير وقد تستمر مواقفها غير محسومة بين مثلث الدول الكبرى المتنازعة روسيا والصين والولايات المتحدة، بينما إسرائيل البراغماتية والمتحالفة مع بعض دول الاعتدال، لا تملك ترف الوسطية أو الحياد لحاجتها في حال نزاع عسكري كبير للسلاح والدعم الأميركي.

هل عودة الاهتمام الأميركي بالمنطقة متاحة؟ وهل هي الحل السحري لمشكلاتها؟ وهل ستؤشر لنهاية لعبة موسكو في الشرق الأوسط أو للمد الإيراني الجامح فيها؟ في الواقع مضمون السياسات مهم ولكن الواقفين وراء وضعها أهم، واليوم وهن الغرب بحكام يُشهد لهم بالضعف وتواضع الإمكانات والخيال، هو ما يساعد روسيا وإيران والصين على تنفيذ سياسات استعادة الإمبراطوريات. يبقى أن أميركا ليست سبب كل ما نعانيه ولن يكون بمقدورها وحدها أن تجترح الحلول. تغييرات كثيرة مقبلة على المستويين الإقليمي والدولي وفي العلاقات الدولية على الصعد كافة يصعب إهمالها، عسى أن تحفّز العقلاء في دول الإقليم على السعي لملء الفراغ الأميركي بأنفسهم من دون الانجرار إلى الخارج والدخول في مغامرات عالية المخاطر.

الشرق الأوسط

————————————-

كيف تلبي أوروبا حاجاتها من الطاقة في الشتاء المقبل بتكلفة معقولة؟/ آدم جابر

ينما يعيش الأوروبيون على وقع أزمة مستمرة خانقة وغير مسبوقة تسببت فيها الحرب في أوكرانيا، زارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين كييف الخميس الماضي، وذلك غداة خطابها الذي كان منتظراً بقوة حول حالة الاتحاد الأوروبي، أمام أعضاء البرلمان الأوروبي المجتمعين في ستراسبورغ يوم الأربعاء الماضي، والذي طغت عليه أزمة الطاقة والحرب في أوكرانيا.

في كييف، التي زارتها فون دير لاين يوم الخميس والتقت بالرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينكسي، تعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية بدعم أوكرانيا «طالما اقتضت الضرورة» في مواجهة روسيا، مشددة على أن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى بذل قصارى جهده كي يضمن لكييف «مزيدا من الأعمال ومزيدا من الدخل». وأكدت رئيسة المفوضية الأوروبية، خلال هذه الزيارة الهادفة أيضاً إلى مناقشة عملية اندماج أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، تقديم خمسة مليارات يورو كمساعدة مالية لهذا البلد الذي أنهكته الحرب والذي يصر رئيسه فلوديمير زيلينسكي منذ اجتياحه في الرابع والعشرين من شهر شباط/فبراير الماضي على أنه غير قادر على كسب الحرب دون مساعدات مالية غربية كبيرة ومعدات غربية متطورة جدا. بل إن الرئيس الأوكراني ظل يردد دوما عبر تقنية «الفيديو كونفرانس» أمام برلمانات الدول المنخرطة في دول الاتحاد الأوروبي أنه على هذه الدول التحرك بسرعة وبجدية لمساعدة بلاده لأن الحرب على حدودها وفي عقر القارة الأوروبية.

مطالب عسكرية

ومالية وهموم طاقية

يذكر أن زيارة أورسولا فون دير لاين الأخيرة التي حصلت خلالها على وسام أوكراني من فلوديمير زيلينسكي هي الثالثة من نوعها، لكنها الأولى منذ أن أصبحت أوكرانيا مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، على خلفية مصادقة الأوروبيين في حزيران/يونيو الماضي على هذا الترشح وشبه قناعة اليوم لدى كثير من الأكورانيين أن انضمام بلادهم إلى الحلف الأطلسي هي الطريقة المثلى لاختبار نوايا روسيا التوسعية من جهة وقدرة الغرب على الصمود أمام روسيا. والواقع هذا الاحتمال تنظر إليه موسكو على أنه تهديد وجودي وأنه يبرر إقدامها على شن حرب على أوكرانيا في شباط/فبراير الماضي. أما الغرب فقد سارع إلى تبني سلسلة من العقوبات ضد روسيا وتكثيف مساعداته إلى أوكرانيا ولاسيما المساعدات العسكرية. وهو دعم حاسم مكن القوات الأوكرانية في الأسابيع الأخيرة من استعادة آلاف الكيلومترات المربعة من الأراضي التي كانت القوات الروسية قد سيطرت عليها بعد اجتياح أوكرانيا. ومع ذلك، يلح الرئيس الأوكراني يوما بعد آخر على أن هذه المساعدات ينبغي أن تُكثَّف وكذا الشأن بالنسبة إلى المساعدات المالية خاصة بعد أن أثرت الحرب سلبا في اقتصادها. وتحتاج البلاد، وفقًا لتقديرات وزير ماليتها سيرجي مارشينكو، إلى خمسة مليارات دولار شهريًا لتغطية عجز ميزانيتها.

لقد أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عشية زيارتها إلى كييف، أمام أعضاء البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، خلال كلمتها حول حالة الاتحاد، أن الاتحاد الأوروبي سيؤسس بنكًا عامًا مخصصًا لتطوير طاقة الهيدروجين القادرة على استثمار ثلاثة مليارات يورو «لبناء سوق الطاقة في المستقبل» بالنسبة إلى دول الاتحاد. وقد تطرقت في جزء كبير من خطابها إلى هذا الموضوع، مؤكدة أيضًا أن الاتحاد سيجري «إصلاحًا عميقًا» لسوق الكهرباء الأوروبية للتعامل مع الارتفاع في أسعار الكهرباء والطاقة. ففي محاولة للتعامل مع هذه الأزمة، كانت رئيسة المفوضية الأوروبية قد قدمت في أيار/مايو خطتها «RePower EU» التي تنص على تسريع الطاقات المتجددة داخل الاتحاد الأوروبي لتحرير نفسه بأسرع ما يمكن من واردات الغاز الروسي، وذلك رداً على غزو أوكرانيا من قبل روسيا.

الاستثمار الأوروبي

في الهيدروجين

في هذا الإطار، وافق قادة المؤسسات الأوروبية، في تموز/يوليو الماضي، على مشروع بحث وتطوير لصالح الهيدروجين، وهو قطاع استراتيجي لإزالة الكربون من الاقتصاد، من خلال توحيد إحدى وأربعين مبادرة تضم خمساً وثلاثين شركة (مجموعات كبيرة، شركات صغيرة ومتوسطة أو شركات ناشئة) بدعم من خمسة عشر بلداً عضوا في الاتحاد، بما في ذلك ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا. وقد سمحت بروكسل بتمويل عام يصل إلى 5.4 مليار يورو، وتقدر أن هذه المساعدات الحكومية يجب أن تتيح تعبئة 8.8 مليار استثمارات خاصة إضافية وخلق 20 ألف فرصة عمل في جميع أنحاء أوروبا. ويفترض أن يلعب الهيدروجين دورًا مركزيًا في تمكين الصناعة من إنتاج الصلب أو الأسمنت أو المواد الكيميائية والمستحضرات الصيدلانية دون انبعاث ثاني أكسيد الكربون. وبالتالي يمكن أن يحل محل الفحم في الصناعة ويجعل من الممكن تخزين الطاقات المتجددة المتقطعة والشمسية أو طاقة الرياح عبر خلايا الوقود. ويمكن أيضا ان يستخدم النقل الثقيل (القطارات والسفن ومركبات الطرق وما إلى ذلك) الهيدروجين ليحل محل الوقود الأحفوري. وتعهدت فون دير لاين أيضًا بأن يقوم الاتحاد الأوروبي بإنشاء «احتياطيات استراتيجية» لتجنب انقطاع الإمدادات في المواد الخام «الحرجة» لصناعتها. وأكدت في النهاية أن الاتحاد الأوروبي سيضاعف قدراته على مكافحة الحرائق العام المقبل من خلال شراء عشر طائرات برمائية خفيفة وثلاث طائرات هليكوبتر إضافية.

كلمة رئيسة المفوضية الأوروبية الأربعاء المُنصرم حول حالة الاتحاد الأوروبي، سبَقها اجتماع مهم في بروكسل، من حيث السياقُ والتوقيت، لوزراء الطاقة الأوروبيين، ناقشوا خلاله وضع الطاقة في أوروبا في سياق الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وسط استمرار ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء.

مخاض عسير

تعلمت دول الاتحاد الأوروبي من أخطائها الكثيرة في مواجهة الشطر الأول من أزمة كورونا. وهي تثني عموما على رئيسة المفوضية الأوروبية التي تولت بنفسها الإشراف على شراء لقاحات ضد الفيروس المتسبب في الوباء باسم الاتحاد كله. وكان للمفوضية أيضا دور مهم في بلورة استراتيجية مواجهة روسيا والتخلص من تبعيتها تجاه الغاز الروسي. وتقوم هذه الاستراتيجية على ثلاثة محاور هي التالية:

أولا، محور التخلي التدريجي عن الغاز الروسي والتخلي عنه كليا بنهاية عام 2027 وذلك عبر تنويع مصادر التزود بالغاز من بلدان أخرى في أوروبا وفي منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية. ثانيا، تعزيز منظومة مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة. ثالثا، ترشيد استهلاك الطاقة والحرص على أن يتم إشراك الأفراد والمؤسسات العامة والخاصة في هذا الجهد.

وعلى الرغم من أن هذه التوجهات تبدو منطقية جدا وفي الطريق الصحيح، فإن تجسيدها على أرض الواقع يبدو عملية صعبة ومعقدة لعدة اعتبارات، منها مثلا أنه لا يمكن إقامة شراكات جديدة واعدة ومنتظمة مع بلدان أخرى للحصول على الغاز بين ليلة وأخرى، بل إن ذلك يحتاج إلى سنوات بل إلى عقود. وتنطبق الملاحظة ذاتها على عملية توسيع الاعتماد على مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة. وبالتالي فإن هم المسؤولين في دول الاتحاد الأوروبي يتمثل في السعي إلى سؤال جوهري ذي أبعاد ثلاثية هو التالي: كيف تلبي أوروبا حاجاتها من الطاقة في الشتاء المقبل بتكلفة معقولة؟

في هذا السياق أيَّد وزراء الطاقة الأوروبيون تحديد سقف لدخل منتجي الطاقة النووية والمتجددة (طاقة الرياح والطاقة الشمسية والكتلة الحيوية والطاقة الكهرومائية) الذين يبيعون الكهرباء بسعر أعلى من تكاليف إنتاجهم. في الواقع، يتم ربط سعر الكهرباء بسعر الغاز الذي ارتفع بشكل حاد منذ بداية الحرب في أوكرانيا.

من بين الإجراءات التي تم النظر فيها، إجبار الدول على تقليل استهلاكها للكهرباء قبل فصل الشتاء المخيف. وقال كادري سيمسون، المفوض الأوروبي للطاقة: «سنقترح أهدافًا ملزمة لخفض استهلاك الكهرباء في أوقات الذروة». وتريد الهيئة أيضًا وضع حد أقصى لعائدات مشغلي الطاقة النووية والمتجددة، مثل طاقة الرياح، الذين يبيعون الكهرباء بسعر مرتفع للغاية مقارنة بتكاليف إنتاجهم. وسيجتمع الدول الأعضاء الـ 27 مرة أخرى الأسبوع المقبل، على أمل التوصل إلى اتفاق توافقي يضمن أمن الإمدادات.

وقدمت المفوضية الأوروبية إلى الدول الأعضاء عدة آليات ممكنة لوقف ارتفاع أسعار الطاقة مع اقتراب فصل الشتاء. واتفق الوزراء على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية، لكنهم طلبوا من المفوضية تقديم مقترحات جديدة بحلول منتصف أيلول/سبتمبر الجاري للتوصل إلى توافق في الآراء. هذه الأخيرة (المفوضية الأوروبية) تقترح جني الإيرادات من هذه الشركات بتكاليف إنتاج منخفضة لإعادة توزيع الدخل على الأسر والشركات الضعيفة. كما تقترح إنشاء مساهمة تضامنية لشركات الوقود الأحفوري (الغاز والفحم والنفط) بحيث تساهم جميع مصادر الطاقة في حل أزمة الطاقة هذه. وللحد من تأثير ارتفاع أسعار الغاز على أسواق الكهرباء الأوروبية، تقترح المفوضية الأوروبية وضع حد أقصى لأسعار الغاز التي يشتريها الاتحاد الأوروبي وبالتالي الاتفاق على سعر مشترك لا يجب تجاوزه. لكن الدول الأعضاء في الاتحاد ما تزال منقسمة بشأن هذه القضية خاصة وأن عدة بلدان أوروبية تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، تخشى من العواقب الاقتصادية لمثل هذا الإجراء، حيث أعلنت روسيا أنها ستقطع شحنات الغاز في حالة فرض سقف للسعر.

وكان الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين قد هدد الأسبوع الماضي بوقف كل شحنات المحروقات في حال فرض حد أقصى للأسعار، وذلك وسط تزايد مخاوف الدول الأوروبية من حدوث نقص. وشدد بوتين على أن موسكو لن تسلم المزيد من النفط أو الغاز إلى الدول التي من شأنها أن تضع سقفًا لأسعار الهيدروكربونات التي تبيعها موسكو، معتبراً أن وضع سقف لأسعار المحروقات الروسية يعد «قرارا غبيا». بل إن النرويج التي أصبحت اليوم أهم بلد يزود دول الاتحاد الأوروبي بالغاز الطبيعي بعد تقلص الإمدادات الروسية ترفض بدورها وضع سقف لأسعار غازها.

أما الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فقد كانت قد توصلت في تموز/يوليو الماضي إلى اتفاق لخفض استهلاكها من الغاز بنسبة 15 في المئة خلال الفترة الممتدة من اب/أغسطس المُنصرم إلى آذار/مارس من العام المُقبل. ويمكن تعزيز هدف التخفيض هذا، حيث يطلب وزراء الطاقة الأوروبيون من المفوضية الأوروبية تقديم اقتراح تحفيز التخفيض المنسق في الطلب على الكهرباء في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي لتخفيف الضغط على توليد الكهرباء ومعالجة نقص الطاقة.

صحيح أن أحد دروس غزو أكورانيا من قبل روسيا يتمثل في اقتناع دول الاتحاد الأوروبي بضرورة وضع استراتيجية أوروبية مشتركة في مجال الطاقة تساعدها على تحقيق الأمن الطاقي، ويدرك القادة الأوروبيون أن هذا المخاض سيكون عسيرا جدا لأن أوروبا لا تزال بحاجة كبيرة إلى الغاز الروسي بدليل أن الأموال التي دفعتها بلدانها إلى روسيا لشراء محروقاتها ولاسيما الغاز بلغت 87 مليار يورو منذ نشوب الحرب الروسية على أوكرانيا. وهم، اليوم، يشترون الغاز أقل بأربع مرات من روسيا، غير أنهم يدفعون مقابل ذلك عشرة أضعاف. وبينما تهدد روسيا بوقف عمليات التسليم، ترغب الدول الــ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في التخلص من التبعية الطاقية تجاه روسيا أيا كان الثمن.

—————————

بعد فقدان إيزوم… روسيا قد ترفع من مستوى هجماتها لحسم الحرب قبل نهاية السنة الجارية/ حسين مجدوبي

 لندن ـ «القدس العربي»: نجحت القوات الأوكرانية في استعادة مدينة إيزوم من سيطرة القوات الروسية. وهذا التطور العسكري يطرح أسئلة كثيرة حول مسار الحرب: هل بدأت القوات الروسية تتعرض لنكسات أم هو نتيجة التهاون والثقة الزائدة أو هي استراتيجية من طرف موسكو للمراوغة لاسيما وأن المدينة لا تنتمي إلى إقليم دونباس الذي ترغب موسكو في جعله مستقلا نهائيا؟ وتأتي تصريحات زعيم الكرملين فلاديمير بوتين لتبرز مؤشرات خطيرة حول مسار هذه الحرب خلال الأسابيع المقبلة.

تأويلات هزيمة إيزوم

وعمليا، تعد استعادة القوات الأوكرانية لمدينة إيزوم ومناطق مجاورة حدثا هاما، ولكن التساؤل العريض هنا هل يرقى إلى المنعطف القادر على تغيير مسار هذه الحرب. ويوجد احتمالان لخسارة روسيا السيطرة على إيزوم وهما:

في المقام الأول، وقوع تهاون من طرف روسيا، إذ لم يتم تقييم الوضع العسكري الحقيقي، وبالتالي تم سحب قوات عسكرية لصالح التمركز في مناطق أخرى. وكانت المفاجأة العسكرية التي خلقتها القوات الأوكرانية، لاسيما وأن روسيا خففت من الضغط العسكري وأصبحت في موقف المدافع عما غزته بدل التقدم في الميدان نحو مناطق جديدة. لم تعد موسكو تهدف إلى غزو أي منطقة أخرى باستثناء تعزيز وجودها العسكري في منطقة الشرق المحاذية لها، أي إقليم دونباس. وفي الوقت ذاته، لا يمكن استبعاد أن أوكرانيا وبدعم من الغرب، بدأت تنجح في حرب استنزاف ضد الجيش الروسي، استنزاف محدود، ولكن أتى أكله في حالة إيزوم.

في المقام الثاني، قد تكون موسكو قد خططت للانسحاب من إزوم، وهو ما أكدته الصحافة القريبة من الكرملين لاحقا، بسبب إعادة الانتشار العسكري في شرق البلاد. في هذا الصدد، مدينة إيزوم المنتمية إلى منطقة خاركوف قريبة جدا من الحدود الروسية، وذات كثافة سكانية لا تتعدى 46 ألفا. وهذا القرب الجغرافي يعني بإمكان روسيا استعمال الطيران العسكري بكثافة وكذلك الصواريخ الذكية لوقف أي تقدم عسكري أوكراني تجاه الشرق، لكن ذلك لم يحدث.

وتشير المؤشرات إلى أن ما جرى في إيزوم هو خليط هذه العوامل مجتمعة، فمن جهة، هناك الثقة الزائدة في النفس من طرف روسيا على الرغم من إعادة انتشار قواتها العسكرية، فهي تظن أن ما سيطرت عليه يصعب على الأوكرانيين استعادته، وحصل العكس.

ولجأت البروباغاندا الروسية إلى التقليل من معركة إيزوم واعتبارها حدثا لا قيمة له. في المقابل، حاولت الصحافة والسياسيون في الغرب تضخيم هذا الحدث ومحاولة إقناع الرأي العام الدولي بأن روسيا بدأت بخسارة الحرب بفضل الدعم العسكري الغربي.

ووسط كل هذا، يبقى هناك معطى ثابت ويتجلى في القوة الكبيرة لروسيا على جميع المستويات، وهي لم تستعمل كامل قواتها لأنها تتخوف من احتمال تطور الحرب إلى مواجهة شاملة مع الغرب وستحتاج إلى قواتها بالكامل لأنها ستواجه وقتها منظمة شمال الحلف الأطلسي. هذا الحرص الشديد، أي عدم الدفع بقوات كبيرة في أوكرانيا قد يكلفها بعض الهزائم والتراجعات النسبية أمام القوات الأوكرانية.

تطورات الحرب

في غضون ذلك، قد تشهد الحرب الروسية ضد أوكرانيا تطورات عسكرية خطيرة خلال الأسابيع المقبلة على ضوء تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين الجمعة من الأسبوع الماضي. في هذا الصدد، كشف بوتين في مؤتمر صحافي ما يلي: «نفذت القوات الروسية بضع ضربات حساسة، سنعتبر أنها تحذيرية، وإذا استمر الوضع على هذا النحو، فإن الرد سيكون أكثر جدية». وأضاف: «الخطة لا تخضع للتعديل، هيئة الأركان العامة تتخذ قرارات عملياتية في سياق العملية، هناك ما يعتبر أساسيا، الهدف الرئيسي هو تحرير إقليم دونباس بأكمله. وسيستمر هذا العمل على الرغم من محاولات الهجوم المضاد من قبل الأوكرانيين». وأبرز في تصريحاته أن روسيا لا تستعمل قواتها كلها بل فقط المتعاقدين، مشددا على أن الهدف النهائي هو تحرير دونباس «ونحن لسنا في عجلة من أمرنا».

في اليوم نفسه، أي الجمعة من الأسبوع الجاري، أوضح بوتين لرئيس وزراء حكومة الهند ناريندرا مودي، أن روسيا ستعمل على إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن. ولم يتحدث عن مفاوضات السلام، وهذا يعني إشارة الحرب.

وعلى ضوء هذه المعطيات الجديدة، يمكن للحرب الحالية أن تشهد منعطفا خطيرا للغاية، يتجلى في دفع روسيا بقوات إضافية لمنع الجيش الأوكراني من تحقيق أي انتصار جديد أو تحقيق أي تقدم في الميدان تجاه الشرق، ذلك أن كل تقدم سيعني ضربة قوية لسمعة روسيا العسكرية. هذه الخطة قد يرافقها تدمير عنيف للبنيات التحتية الأوكرانية، وفق قول بوتين بأنه جرى ضرب مناطق حساسة وهذا هو تحذير فقط في انتظار القادم وهو أسوأ.

——————–

إدارة بايدن تواجه المزيد من التحديات بعد المكاسب الأوكرانية الأخيرة في الحرب مع روسيا/ رائد صالحة

حرص المسؤولون في إدارة الرئيس جو بايدن على عدم الاحتفال بالانتصارات الأوكرانية الأخيرة في المعركة مع روسيا بسبب معرفتهم بأنه لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الكثير من الموارد في الحرب المستمرة كما أن قواته لا تزال تسيطر على مساحات شاسعة في شرق وجنوب أوكرانيا، وهناك مخاوف من قدرة موسكو على تغيير مجرى الأمور.

وقال محللون أمريكيون إن المكاسب الأوكرانية الأخيرة قد فرضت المزيد من التحديات على الرئيس الأمريكي جو بايدن، وحذروا من أن الشتاء المقبل قد لا يحمل الكثير من الأخبار السارة بالنسبة إلى الأوروبيين أو الأمريكيين فيما يتعلق بتداعيات الحرب في أوكرانيا.

وبالنسبة لإدارة بايدن، فإن الأهمية تأتي في المقام الأول للحفاظ على زخم المساعدات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا وتوسيع نطاق تدريب القوات الأوكرانية.

ولاحظ المحللون أن التحول الكبير في مسار الحرب جاء بسبب الأسلحة الدقيقة وأنظمة الصواريخ الجوية، التي أرسلتها أمريكا لأوكرانيا، وهناك توقعات بأن توفر واشنطن لكييف أسلحة أكثر تطوراً وتدريبات أكثر كثافة للقوات، بما في ذلك أنظمة دفاع جوي جديدة.

ولم يعد سراً أن الاستخبارات الأمريكية تقدم الكثير من المعلومات للقوات الأوكرانية، بما في ذلك معلومات مفصلية في الهجوم الأخير، وكشف مسؤولون أن وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» كانت منخرطة بعمق في التخطيط للهجمات، ولكن واشنطن رفضت مراراً الإفصاح عن حجم المساعدة، على الرغم من أن التسريبات تشير إلى أن الوكالات الأمريكية قد وضعت خطة كاملة للقوات الأوكرانية لطرد القوات الروسية بشكل مباغت.

وعلى الرغم من النتائج الجيدة للمساعدات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا، إلا أن علامات الاستفهام تتصاعد في واشنطن بشأن مدى رغبة الكونغرس والشعب الأمريكي في الإنفاق على الحرب في أوكرانيا.

وقال مشرعون أمريكيون إنهم لم يلاحظوا أي نقص في «الشهية» بالنسبة لتمويل الحرب، ولكن المخاوف تزداد مع اقتراب الشتاء ورغبة بوتين في قلب الرأي العام في جميع أنحاء المنطقة بسبب إغلاق إمدادات الوقود إلى أوروبا، وبالتالي زيادة الأسعار في جميع أنحاء العالم.

الصواريخ بعيدة المدى والخط الأحمر

وقد وجهت روسيا، الخميس الماضي، تهديداً آخر للولايات المتحدة قائلة إنها ستتجاوز «الخط الأحمر» إذا زودت واشنطن أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية إن موسكو «ستحتفظ بحق الدفاع عن نفسها».

وقدمت الولايات المتحدة بالفعل 16 من أنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة، التي يبلغ مداها حوالي 50 ميلاً في حين تواصل كييف دعوتها لأمريكا ودول أخرى لتقديم المساعدة لها وهي تدفع بخط المواجهة إلى الشرق وتستعيد السيطرة على الأراضي في منطقة خاركيف الشمالية، وجادلت كييف أنها بحاجة إلى قدرات صاروخية بعيدة المدى، مثل نظام الصواريخ التكتيكية للجيش، الذي يبلغ مداه حوالي 160 ميلاً، للتعامل مع جبهة القتال.

ويمكن أن تكون أنظمة الصواريخ طويلة المدى مفيدة جداً للقوات الأوكرانية ولكن الخارجية الروسية حذرت بأنه إذا قررت واشنطن تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى فهذا يعني أنها تتجاوز الخط الأحمر، وستصبح طرفاً مباشراً في الصراع.

وقال البيت الأبيض مراراً بأنه بينما يعد بمواصلة أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والإنسانية فإنه ليس مستعداً لإرسال أنظمة صواريخ معينة، وأعربت إدارة بايدن عن مخاوف بشأن اندلاع الحرب العالمية الثالثة، وهو تخوف أثار سخرية كييف، التي قالت إنها لا تنوي لإطلاق النار على الأراضي الروسية.

خيارات عسكرية محدودة

واتفق المحللون الأمريكيون على أن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً بشكل مباشر في الحرب في أوكرانيا، وقالوا إن خيارات واشنطن تنحصر في خطوات غير درامية ولكنها محفوفة بالمخاطر، خاصة فيما يتعلق بدعم المقاومة الأوكرانية.

وقال المحللون إن التدخل الأمريكي المباشر في الحرب يعني ببساطة الدخول في حرب عالمية ثالثة أو تبادل نووي مخيف، وأشاروا إلى أن الولايات المتحدة ليست ملزمة بالدفاع عن البلاد لأنها ليست من أعضاء حلف شمال الأطلسي.

واستبعد بايدن مراراً إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا، وتكهن بأن الرئيس الروسي لا يريد حرباً شاملة، وبالنسبة للعديد من المشرعين الأمريكيين، فإنه من الضروري البحث عن طرق لمساعدة أوكرانيا بدون تدخل مباشر من الجيش ألأمريكي.

وإلى جانب التسليح الأمريكي الكثيف والمتواصل لأوكرانيا، برزت خطوات تشير إلى تحول جذري في عمليات نقل الأسلحة في الوقت المناسب إلى كييف إلى جهد طويل لتجهيز دول أوروبا الشرقية، بما في ذلك مساعدة تزيد قيمتها عن 2.8 مليار دولار تنوي الولايات المتحدة تقديمها إلى أوكرانيا والحلفاء في الجبهة الشرقية لحلف شمال الأطلسي.

وستذهب مساعدات أمريكية تزيد عن مليار دولار إلى 18 دولة من بحر البلطيق إلى البحر الأبيض المتوسط، مما يشمل رقعة واسعة على طول الحدود الغربية لروسيا بأكملها.

وقال محللون أمريكيون إن إدارة بايدن تدرك أن المشكلة أكبر من أوكرانيا، وأن هناك تحديات ضخمة الآن في دول أخرى في الناتو.

وتمثل هذه الخطوة تحولاً كبيراً في السياسة الأمريكية بعد ستة أشهر من بدء الحرب في أوكرانيا، وأشار الخبراء إلى أن المساعدات الأمريكية ستؤدي إلى تخفيف بعض المخاوف في المنطقة تجاه التزام أمريكا وقدرة دول المنطقة على الدفاع عن نفسها .

ولم تقدم إدارة بايدن تفاصيل حول القدرات المحددة التي ستوجه الأموال نحوها، ولكن من المحتمل أن تتطلع واشنطن إلى معونات من الذخيرة، التي تم إرسالها إلى أوكرانيا، وحذر الخبراء من عدم قدرة خطوط الإنتاج لعناصر مثل الأسلحة المضادة للدروع على تعويض الخسائر على المدى القريب.

وحذر محللون أمريكيون، أيضاً، من أن الولايات المتحدة ليست لديها ذخيرة كافية لأي نوع من الصراع الطويل، بما في ذلك أي صراع مع الصين في مضيق تايوان غير الدفاعات الجوية في المنطقة الشرقية لحلف شمال الأطلسي، وخاصة في بولندا وفنلندا.

المساعدات وانتخابات الكونغرس

وفي الكونغرس، هناك بعض القلق بشأن تغيير الأولويات بعد انتخابات التجديد النصفي، خاصة إذا حصل الجمهوريون على الأغلبية في مجلس النواب، كما تساءل العديد من المرشحين عن حزم المساعدات التي تقدر بمليارات الدولارات لأوكرانيا.

وتوقع جمهوريون أنه سيكون من الصعب الحصول على المزيد من حزم المساعدات لأوكرانيا إذا فاز الحزب الجمهوري بانتخابات التجديد النصفي، وقال محللون إن هناك مخاوف بشأن قدرة القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية بشأن تجديد المخزون الأمريكي في حال إندلاع صراع طويل، بما في ذلك أي صراع مع الصين في مضيق تايوان.

———————–

أوكرانيا بين الميدان والأمم المتحدة: مواجهة مستمرة/ عبد الحميد صيام

 تنطلق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة والسبعين الثلاثاء المقبل. وكالعادة تفتتح البرازيل كلمات رؤساء الوفود يليها كلمة البلد المضيف الولايات المتحدة الأمريكية. ونعتقد جازمين أن الحرب الروسية الأوكرانية ستستحوذ على الجزء الأكبر من الكلمات التي ستزيد عن 190 إضافة إلى توابع تلك الأزمة وتأثيراتها والأزمات المنبثقة عنها وخاصة أزمتي الغذاء والطاقة. وسيلقي رؤساء الوفود نصائح عديدة حول ضرورة وقف الحرب والعودة إلى طاولة المفاوضات ومطالبة الدول المعنية بالالتزام بمبادئ القانون الدولي واحترام ميثاق الأمم المتحدة الذي يلزم كافة الدول الأعضاء بتنفيذ قراراته ثم يعودون إلى بلادهم وتبقى الأمور على ما هي عليه. فلا الدعوات إلى وقف إطلاق النار أعيرت أي اهتمام ولا الجلوس حول طاولة المفاوضات أثرت في موقفي بوتين أو زيلينسكي.

لم تنشغل الأمم المتحدة في مسألة واحدة مثلما فعلت على مدى 200 يوم من الحرب في أوكرانيا. يذكرني هذا الانشغال بما حدث مباشرة بعد احتلال القوات العراقية للكويت في الثاني من آب/أغسطس 1990 والشهور اللاحقة. لكن الصورة مقلوبة الآن. فالفيتو الروسي الآن في المرصاد لأي محاولة لإدانة الغزو الروسي بينما تصرف مجلس الأمن في تلك الأيام بشبه إجماع دون معارضة من أي من الدول دائمة العضوية.

القضية الأوكرانية في مجلس الأمن

عندما بدأت العمليات العسكرية في أوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي كان مجلس الأمن الدولي يعقد جلسة بطلب من الولايات المتحدة حول التهديدات الروسية لأوكرانيا وبينما كان يحاجج السفير الروسي، فاسيلي نيبنزيا، أن مجرد عقد هذه الجلسة يبين أن قرار الحرب ضد بلاده قد اتخذ، وصلت الأخبار أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا قد بدأ فعلا. ومنذ ذلك اليوم والمشهد يتكرر- عمليات عسكرية على الأرض، دعوة أمريكية وأوروبية لعقد جلسة لمجلس الأمن تتناوب فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الخطابات الحادة ضد «العدوان الروسي» فيرد عليهم جميعا نيبنزيا ببرود أعصاب ويذكرهم بجرائمهم في العراق وليبيا وصربيا وفيتنام و«من ارتكب كل تلك الجرائم غير مؤهل أصلا أن يتكلم في القانون الدولي والتمسك بميثاق الأمم المتحدة».

لا يكاد يمر أسبوع واحد دون عقد جلسة أو جلستين للمجلس لبحث المسألة الأوكرانية تحت عدة عناوين أولها «تهديد الأمن والسلم الدوليين» أو تحت البند الإنساني المتعلق بملايين اللاجئين والمشردين داخليا، أو بند التسلح وسلامة المنشآت النووية، ثم أضيف بند رابع يتعلق بالأمن الغذائي. في كل اجتماع يتكرر الاصطفاف الدولي: ست دول تقرع روسيا وتتهمها بكافة الموبقات التي لا يتخيلها أحد، وتصنفها دولة مارقة ومجرمة حرب، وهي الدول دائمة العضوية الثلاث الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا. وتصطف إلى جانبها الدول الأوروبية الثلاث النرويج وإيرلندا وألبانيا، والأخيرة أكثرهن صراخا وتطرفا كأنها دولة عظمى طمعا في قبولها عضوا في الاتحاد الأوروبي. وهناك مجموعة من ست دول تأخذ موقفا وسطيا مع بعض التنويعات برفض العدوان على أوكرانيا وتطالب بالتسوية السلمية وباستخدام نفس المعايير في كل الصراعات الدولية، ويتمنون على مجلس الأمن أن يتحمل مسؤولياته في فرض الأمن والسلام. والدول الست هي البرازيل والمكسيك والإمارات العربية والدول الأفريقية الثلاث غانا وكينيا وغابون. الصين تتفرد بموقف غامض تحتاج إلى شيفرة لتحليله والخروج بموقف يفهم منه أنها أقرب إلى روسيا في رفض الهيمنة والتفرد وتفصيل القوانين على مقاس الدول الكبرى، ومن جهة أخرى تؤكد الصين على التزامها بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومبدأ سيادة الدول واحترام وحدتها الترابية في إشارات مبطنة إلى مبدأ «الصين الواحدة» الذي اتفق عليه منذ الاعتراف الأمريكي بالصين رسميا في 15 كانون الأول/ديسمبر 1978.

يتفرد السفير الروسي بموقف لا يجد من يدافع عنه ولا يهمه ذلك. فهو دائما مسلح بالمعلومات المغايرة والاقتباسات من مصادر غربية حول تشويه الحقائق على الأرض. وقد دأب السفير الروسي على عقد جلسة موسعة خارج إطار مجلس الأمن تدعى «صيغة أريا» وهو اجتماع موسع مفتوح غير رسمي لأعضاء مجلس الأمن بالإضافة لعدد واسع من الدول المعنية والمنظمات الإقليمية والأفراد المختصين من أجل طرح رواية مغايرة لسرديات الدول الغربية في مجلس الأمن. وما دام مجلس الأمن عاجزا عن اتخاذ أي قرار لذا تقل الفروق بين «صيغة أريا» وجلسات مجلس الأمن. كلها تنتهي إلى لا شيء.

أجهزة الأمم المتحدى الأخرى

بعد أن أطاح الفيتو الروسي بمحاولة إدانة الغزو لأوكرانيا في مجلس الأمن يوم 25 شباط/فبراير حيث حصل مشروع قرار الإدانة على 11 صوتا إيجابيا بينما صوتت الصين والهند والإمارات بـ «امتناع» واستخدم مندوب روسيا حق النقض «الفيتو» تحول المشهد إلى الجمعية العامة وطرح مشروع الإدانة فحصل على 141 صوتا إيجابيا وصوتت خمس دول ضد القرار (روسيا وسوريا وكوريا الشمالية وبيلاروسيا وإيرتريا) بينما صوت بـ«امتناع» 35 عضوا. وعقدت تلك الجلسة يوم 2 آذار/مارس تحت بند «متحدون من أجل السلام» وهي آلية قوية تستخدم في حالات عجز المجلس عن اتخاذ أي موقف بشأن نزاع دولي ما. وقد أكدت الجمعية العامة في ذلك القرار على الالتزام بسيادة واستقلال ووحدة وسلامة أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دوليًا، بما في ذلك مياهها الإقليمية. كما استنكر القرار ما سماه «عدوان الاتحاد الروسي على أوكرانيا» وطالب الاتحاد الروسي بالتوقف على الفور عن استخدامه للقوة ضد أوكرانيا والانسحاب الفوري والكامل من دون قيد أو شرط من أراضي أوكرانيا خارج حدودها الدولية المعترف بها.

وبعد ذلك قامت الدول الغربية بطرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان وتطوع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان وأرسل 42 محققا إلى الميدان وعقد اتفاقيات للتعاون في التحقيق مع أوكرانيا ولاتفيا وبولندا.

التطورات على الأرض

كان العديد من الدول متوجسا من أن الاتحاد الروسي سيستخدم القوة المتطورة لحسم المعركة بسرعة لكن الأمور لم تسر بتلك الوتيرة بعد 200 يوم من الحرب. ويبدو أن خضوع روسيا لمنظومة عقوبات هي الأوسع في التاريخ المعاصر، أضف إلى هذا رفع مستوى جاهزية الجيش الأوكراني وتسليحه بكل أنواع الأسلحة المتطورة التي يملكها الغرب هي التي أبطأت عمليات الجيش الروسي. لقد تعثرت العمليات العسكرية الروسية وتباطأ تقدمها، كما يبدو، ما أعطى فرصة لبعض الدول المترددة أن تعيد النظر في مواقفها. وهناك عدة مؤشرات على هذا التباطؤ:

– قيام القوات الأوكرانية باسترجاع أكثر من 8000 كيلو متر مربع وتحرير مناطق واسعة في خاركيف.

– هناك معلومات تشير إلى أن عدد ضحايا الجيش الروسي مرتفع وأن منظر اشتعال دباباته وتصيّد طائرته أصبح أمرا معتادا.

– الإعلان عن شراء صفقة من الطائرات المسيرة الإيرانية التي دخلت المعركة فعلا وأسقط بعضها.

– تقليص وجود القوات الروسية في سوريا وسحب بطارية س-300.

– كما أن خبر محاولة اغتيال بوتين واعتقال بعض المعارضين للحرب واغتيال أبنة الفيلسوف ألكسندر دوغين الأقرب إلى فكر بوتين، يشير إلى أن المجتمع الروسي بدأ يضيق ذرعا بالحرب وبنتائجها وبمنظومة العقوبات التي تطال الناس في حياتهم.

ونعتقد أن الأصوات المناهضة للحرب والضاغطة باتجاه وقفها سترتفع وتيرتها خلال جلسات الجمعية العامة بعد أن ظهر، على الأقل حاليا، أن روسيا غير قادرة على حسم الحرب بأسرع ما يمكن وبأقل الخسائر. ويبدو أن بوتين وقع في فخ الاستزاف طويل المدى الذي جربته روسيا في أفغانستان واضطرت أن تنسحب كسيرة بعد عشر سنوات من حرب عجزت عن حسمها. فهل نحن أمام أفغانستان جديدة؟

—————————–

سوريا: لجنة التحقيق الدولية توثق انتهاكات وتتهم القوات الروسية بصراحة لأول مرة/ منهل باريش

الجهات الدولية لا تنفك تحذر من أن سوريا ليست بلداً آمناً لعودة اللاجئين، وخاصة مناطق سيطرة النظام، وهذا ما أكد عليه التقرير الأخير للجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا.

أشار تقرير لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا إلى أن الأوضاع في مناطق سيطرة النظام لا تزال تشكل «عقبات أمام عودة آمنة وكريمة ومستدامة للاجئين». وحذرت اللجنة الدولية المستقلة المعنية بسوريا والتابعة للأمم المتحدة، من احتمالية تصعيد عسكري جديد في سوريا، معتبرة أنه سيزيد من معاناة السوريين خلال الحرب التي تجاوزت العقد من الزمن. ونشر الموقع الرسمي للأمم المتحدة بيانا للجنة الصادر الأربعاء الماضي، تحذيرات من صعوبة الوضع الذي وصفته بأنه «لا يطاق» والذي يعاني خلاله ملايين السوريين و«يموت بعضهم في مخيمات النزوح مترافقا مع قلة الموارد وتراجع دعم المانحين الدوليين».

وأصدرت اللجنة تقريرا يحتوي على 50 صفحة، ترصد واقع حقوق الإنسان في سوريا خلال الفترة الممتدة بين الأول من كانون الثاني (يناير) ونهاية شهر حزيران (يوينو) من العام الجاري، وحذر رئيس اللجنة، باولو بينيرو من «التعبئة القتالية بين القوات التركية وحلفائها، تقابلها حشود للقوات الكردية وحلفائها في الشمال السوري لا تزال مستمرة». واتهم التقرير قوات النظام بقتل وإصابة 92 مدنيا وتدمير المنازل والمدارس والمساجد والمنشآت الطبية في قصفها الذي طال غرب وشمال سوريا.

في حين، ما زال التحقيق جاريا بآخر قصف على مدينة الباب في شهر آب (أغسطس) الفائت والذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 16 مدنيا، بينهم خمسة أطفال، و36 جريحا.

كذلك، اعتبرت عضو لجنة التحقيق، المفوضة لين ولشمان أن عمليات الاستهداف المستمرة من طرف إسرائيل في سوريا قد أوقفت المساعدات لما يقارب أسبوعين في شهر حزيران (يونيو) الماضي بسبب القصف على مطار دمشق الدولي.

من جانبه، ثمن رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة واعتبر أنه من الطبيعي أن يكرس القسم الأكبر من التقرير لانتهاكات النظام «كونه يستمر بالممارسات الأمنية والعسكرية خصوصا في درعا، والتي أسفرت عن مقتل العشرات من المنشقين والمعارضين السابقين» وأضاف عبد الغني في اتصال مع «القدس العربي» أن النظام السوري هو الجهة الرسمية المصادقة على الاتفاقيات الدولية ويشغل عضوية الأمم المتحدة.

وفي تعليقه على صغر حجم الانتهاكات المخصصة بمنطقة سيطرة هيئة «تحرير الشام» في شمال غرب سوريا الواردة في التقرير، أكد عبد الغني على «صعوبة عمل المنظمات الحقوقية في إدلب بسبب القبضة الأمنية للهيئة» إلا أنه وصف التقرير بـ «المتوازن» من حيث تسجيل الانتهاكات التي قامت بها «قسد» و«تحرير الشام» و«الجيش الوطني السوري» المعارض.

ولفت إلى أهمية «اعتبار اللجنة أن سوريا بلد غير آمن ولا يمكن عودة اللاجئين إليه. حيث يعرض ذلك حيواتهم للخطر، وهو ما يخالف المحاولات الروسية لترويج مسألة ضمان سلامة العائدين وتشجيع بلدان الجوار على إعادة اللاجئين».

ويحاول نظام الأسد استغلال أجواء الحديث عن إعادة اللاجئين ويبدي في كل مناسبة ترحيبه بالفكرة طامعًا بتدفق المساعدات الدولية بحجة إعادة تأهيل مناطق المهجرين، إضافة إلى الانفتاح السياسي الدولي المبني على خطة إعادة توطين النازحين والمهجرين، ولاقتران فكرة إعادة الإعمار بعودة اللاجئين، غير أن العديد من الجهات الدولية لا تنفك تحذر من أن سوريا ليست بلداً آمناً لعودة اللاجئين، وخاصة مناطق سيطرة نظام الأسد، وهذا ما أكد عليه بشكل واضح التقرير الأخير للجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا.

وفي هذا السياق، وجهت منظمات، «العفو» الدولية و«هيومن رايتس ووتش» ومراقبة حماية اللاجئين، رسالة إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين مفادها أن سوريا غير آمنة للعودة، ودعت الرسالة الأمم المتحدة إلى وقف كافة البرامج التي من شأنها تحفيز العودة المبكرة وغير الآمنة.

وفي سياق منفصل، وتعليقا على الضغوط الروسية على اللجنة ومحاولات إيقاف عملها، قال رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، المحامي السوري أنور البني «إن اللجنة تابعة لمجلس حقوق الإنسان ولا يوجد صلاحية لروسيا أو أي دولة لإيقافها». مشيرا إلى أن مجلس حقوق الإنسان «يعرض تقاريره أمام مجلس الأمن ويرفع توصياته فقط وهي ليست ملزمة بطبيعة الحال. إلا أن التقارير هي عبارة عن إدانة معنوية تفضح جرائم المنتهكين لكنها لا تملك تأثيرا مباشرا، ولكنها في نفس الوقت تساهم بتشكيل رأي عام وتحشيد دولي مناصر للقضية السورية» وعن إدانة القوات الروسية بشكل صريح رجح البني في تصريح لـ «القدس العربي» أن «الإجرام الروسي في أوكرانيا شجع لجنة التحقيق على الإشارة إلى الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها في سوريا».

وفي الجزء المخصص لشمال سوريا، وتحديدًا في فقرة «سير الأعمال العدائية» وحول القصف الممنهج لمدينة الباب ومقتل مدنيين يومي الثاني من شباط (فبراير) و16 نيسان (أبريل) حملت اللجنة قوات النظام وقوات سوريا الديمقراطية «قسد» المسؤولية لأن مصادر القصف الصاروخي من مناطق سيطرة مشتركة بين الطرفين، وأشار إلى أن الصواريخ أطلقت إما «من قاعدة الرادار في قرية الشعالة غرب مدينة الباب» بريف حلب الشرقي الخاضعة لسيطرة قوات النظام أو «من قرية النيربية المجاورة» والتي تخضع لسيطرة «قسد».

ولم يغفل التقرير دور القوات الروسية في عدة أماكن تشهد فلتانا أمنيا كما في جنوب سوريا وشمالها، حيث أشار التقرير إلى مقتل ثلاثة مدنيين يوم 27 شباط (فبراير) بنيران مصدرها مناطق انتشار النظام والقوات الروسية والميليشيات الإيرانية. ورغم عدم اتهام الطيران الحربي الروسي بقتل المدنيين إلا ان التقرير أشار إلى وجود الطائرات المسيرة الروسية لحظة القصف على منازل المدنيين، واعتمد التقرير على معلومات المراصد المحلية التي تراقب حركة الطيران الجوية.

وتضمن تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة حملة قوات سوريا الديمقراطية «قسد» وقوات الأمن الداخلي التابعة لها «أسايش» في مخيم الهول في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، واصفا الوضع الأمني في المخيم بانه يزداد سوءا، اذ سُجلت 34 جريمة قتل بين 1 من كانون الثاني (يناير) و31 من آب (أغسطس) الماضيين داخل المخيم، إضافة إلى عدة اشتباكات دامية بين قوى الأمن الداخلي «أسايش» وسكان المخيم.

وفي ردود الفعل على التقرير، قال كبير المفاوضين السابق في وفد الهيئة العليا للمفاوضات، المحامي محمد صبرة في جنيف لـ «القدس العربي»: «التقرير جاء متوازنا وفق معايير مجلس حقوق الإنسان وإن كنا نتمنى عليه التركيز على السبب الأساسي في المأساة السورية وهي قضية حق السوريين في تقرير مصيرهم وفي بناء نظام سياسي ديمقراطي يحلمون به وناضلوا وضحوا من أجله بمئات آلاف الشهداء» وعلق على النقطة التي تتحدث عن الإتجار بالمخدرات بمناطق سيطرة النظام «هذه النقطة على غاية من الأهمية لأنها عمليا تنسف كل رواية بشار الأسد ولا سيما أن ذكر سيطرة الميليشيات في منطقة يدعي أن ما يسمى بالحكومة، هي التي تسيطر عليها، تفقده أي أساس قانوني وموضوعي لمفهوم نظام الحكم وبالتالي لا يمكن اعتبار بشار سوى ميليشيا تسيطر على جزء من الجغرافية السورية بالتحالف مع ميليشيات أخرى».

وكشف تقرير اللجنة عن مقتل أكثر من 350 ألفا بسبب الحرب في سوريا منذ بدء الانتفاضة في آذار (مارس) 2011 وحتى آذار 2021 وأشارت إلى ان 14 مليونا و600 ألف شخص بحاجة إلى المساعدات الإنسانية. وفي الناحية المعاشية، قال التقرير أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بنسبة 800 في المئة في أسعار المواد الغذائية منذ عام 2020.

وخلال الأشهر الستة الأولى من عام 2022 اعتقل قسم «الأمن الجنائي» في درعا نحو 150 شخصاً، أغلبهم أجرى «مصالحة» مع النظام منذ فرض القوات الروسية التسوية على فصائل الجبهة الجنوبية عام 2018.

وفصل تقرير اللجنة استمرار عمليات التعذيب الممنهج وسوء المعاملة والاعتقالات التعسفية التي تمارسها قوات النظام العسكرية وأجهزته الأمنية في مناطق سيطرتها في عموم البلاد، ووثقت اللجنة عمليات اعتقال شعبة المخابرات (العسكرية) لمواطنين سوريين وسوء معاملة.

ولم يفت اللجنة التذكير بمجزرة التضامن التي جرت في عام 2013 والتي ارتكبها عناصر وضباط يتبعون لنفس الشعبة، أعدموا خلالها 41 مدنيا معصوبي الأعين. وانتقدت اللجنة الدولية في تقريرها عدم مسائلة من ارتكب «الانتهاكات الجسمية وجرائم الحرب» من كل الأطراف وفي مقدمتها قوات النظام.

القدس العربي

————————–

انتخابات السويد: نواقيس القلق الثلاثة/ حازم صاغية

لم يحظ الحدث السويديّ الأخير بالأهميّة التي يستحقّها: أحزاب يمينيّة مؤتلفة تمكّنت من الفوز في الانتخابات النيابيّة، ولو بفارق ضيّق (176 مقابل 173 مقعداً). «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ السويديّ»، وهو الطرف الأبرز في الائتلاف الحاكم حتّى اليوم، بقي الحزب الأوّل في البرلمان، لكنّه لم يعد يملك الأكثريّة. ماغدالينا أندرسن، رئيس الحكومة، استقالت. أهمّ من ذلك، أنّ حزب «الديمقراطيّين السويديّين»، الذي كان يُعدّ «نازيّاً جديداً»، بات الحزب الثاني في البرلمان، والأوّل بين أحزاب الائتلاف اليمينيّ، مُقصياً حزب «المعتدلين» التقليديّ عن هذا الموقع.

و«الديمقراطيّون السويديّون» قد لا يُمثّلون في الائتلاف الحكوميّ الجديد، لكنّهم سيتحوّلون رقيباً عليه، أو «صانعي الملوك»، وفق التعبير الذي استخدمه الإعلام.

السويد، بهذا، انضمّت إلى وجهة أوروبيّة شهدنا عيّنات منها في فرنسا وألمانيا وفنلندا والدنمارك والنمسا وإستونيا وهنغاريا وغيرها، حيث تحوّل اليمين المتطّرف إلى أحد أحزاب المتن العريض. إيطاليا خصوصاً قد تندفع أبعد فأبعد في هذه الوجهة إذا تمكّنت جيورجيا ميلوني، «الما بعد فاشيّة»، من أن تحلّ في رئاسة الحكومة بنتيجة الانتخابات التي ستُجرى هذا الشهر.

الخطر السويديّ مثلّث الأضلاع:

أوّلاً، هناك البُعد السياسيّ والاستراتيجيّ المباشر. صحيح أنّ قيادة «الديمقراطيّين السويديّين» تفرّدت عن باقي تنظيمات اليمين الأوروبيّ المتطرّف بتأييدها الموقف الأوكرانيّ في الحرب الراهنة، وبتغيير موقفها من انضمام السويد إلى الناتو، والذي ظلّت تعارضه حتّى اندلاع الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، قبل أن تنتقل إلى دعمه. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ قاعدة الحزب لا تخفي إعجابها بالزعيم الروسيّ، كما لم يفُت بعض المراقبين ملاحظة ذاك التناسق بين حملة إعلاميّة روسيّة مضلّلة ركّزت على «خطر الأجانب واللاجئين» في السويد وبين مركزيّة هذا الموضوع في لغة «الديمقراطيّين السويديّين» وسياساتهم.

فإذا افترضنا الاحتمال الأسوأ غدت نتائج الانتخابات السويديّة تعويضاً يناله فلاديمير بوتين عن الهزائم الموجعة الأخيرة التي نزلت بجيشه في أوكرانيا، والتي رأى بعض المراقبين أنّها دفعته إلى طلب المعونة من الزعيم الصينيّ شي جينبينغ الذي التقاه مؤخّراً في سمرقند.

أكثر من هذا، يجوز، وفق هذا الافتراض، أن يتحوّل انضمام السويد إلى حلف الناتو من مكسب للأخير إلى حصان طروادة روسيّ في أوروبا والناتو. أمّا ارتفاع أسعار الوقود والسلع الغذائيّة فقد يؤجّج المطالبات الشعبويّة بـ«الكفّ عن التضحية من أجل أوكرانيا».

ثانياً، هناك النموذج. فالبلد الذي لا يزيد عدد سكّانه على أحد عشر مليوناً حوّلته اشتراكيّته الديمقراطيّة إلى نموذج عملاق. لقد جمعت السويد بين أفضل ما في الرأسماليّة، أي الحرّيّة، وأفضل ما في الاشتراكيّة، أي المساواة، وقدّمت لنفسها وللعالم خير ما أنتجته البشريّة حتّى الآن من صيغ الاجتماع الإنسانيّ والسياسيّ.

وكان اقتصاد الاشتراكيّة الديمقراطيّة الاسكندنافيّة قد نهض تاريخيّاً على أعمدة ثلاثة: سياسة اقتصاديّة تركّز على العمالة الكاملة، ونظام رفاهية سخيّ وشامل، وسوق عمل منظّم. لكنْ منذ الثمانينات، وتحت وطأة التغّير الديمغرافيّ، بدأت تتراجع قدرة نظام الرفاهية على الوفاء بوعوده: أعداد مَن هم أكبر سنّاً راحت تتزايد بسبب تقدّم العلم والطبّ، كما تتزايد سنوات الدراسة والتخصّص للشبّان، ما يؤخّر نزولهم إلى سوق العمل، وهذا كلّه في ظلّ تراجع نسب الولادة.

هذا النقص في القوّة العاملة المُعيلة للمجتمع افتتح الأزمة التي ما لبثت أن عثرت على معادلها السياسيّ: في أواسط الثمانينات شرع الاشتراكيّون الديمقراطيّون السويديّون يقلّصون دور الدولة في تنظيم الاقتصاد، وارتفعت الأصوات القائلة إنّ الدعم الرسميّ للبرامج الاجتماعيّة كماليّات لا يحتملها الاقتصاد، فيما بدأت خصخصة بطيئة للخدمات العامّة. في مطالع التسعينات خسر الاشتراكيّون الديمقراطيّون الانتخابات وسلّموا السلطة إلى المحافظين.

أغلب الظنّ أن الانتصار الأخير لأحزاب اليمين سيشكّل نقلة كبرى وجديدة في هذا الاتّجاه.

وثالثاً، هناك مسألة العنصريّة وتماسك النسيج الاجتماعيّ. في 2015 وحده قبلت السويد 163 ألف لاجئ معظمهم من سوريّا والعراق وأفغانستان، وتفاخر بذلك رئيس الحكومة الاشتراكيّ الديمقراطيّ آنذاك ستيف لوفين. السويديّون العرب باتوا يعدّون الآن أكثر من 5 في المائة من مجموع السكّان، وبين 2014 و2018 احتلّ السوريّون الموقع الأوّل بين جنسيّات اللاجئين والمهاجرين إلى السويد.

لكنْ في مقابل هذه السياسة التي جمعت بين الموقف الأخلاقيّ النبيل والحاجة إلى سدّ النقص في اليد العاملة، تبنّى «الديمقراطيّون السويديّون» موقفاً مغايراً، لا بل أسّسوا سياساتهم وأفكارهم على هذا الموقف. لقد قالوا: إنّ تنامي أعمال العنف والجريمة الصغرى سببه المهاجرون واللاجئون، ولهذا لا بدّ من «صفر تسامح» مع عنفهم، ومن حصر الهجرة واللجوء بما يقارب الصفر.

السويد، هي الأخرى، مرشّحة لأن تتغيّر في وجهة مثيرة للقلق. مَن الذي يفعل العكس اليوم؟

الشرق الأوسط

————————-

اختراع سياسي روسي جديد في سوريا/ محمود الحمزة

بعد أكثر من 11 سنة من تمرد السوريين على واقع الاستبداد والفساد، حيث قدموا تضحيات كبيرة جداً بالمقاس التاريخي للثورات، مقابل وحشية منفلتة لعصابة الأسد التي استولت على سوريا منذ 50 عاما، وفي ظل صمت دولي وتمرير لجرائم تلك العصابة، ورافق ذلك ظهور قوى سياسية ومسلحة تصدرت مشهد المعارضة، لكنها غرقت في همومها الخاصة وأجندات الآخرين، وذلك مع إبعاد كل النخب الوطنية المؤهلة لمساعدة الثورة السورية التي زعزعت أركان النظام المستبد الإرهابي في دمشق، وأثبتت بأنه أضعف من الشعب رغم جبروته الأمني والعسكري وبأن الصمت عليه غير مبرر. وأن العصابة لم تستمر حتى اليوم لولا تدخل سافر من قبل إيران والميليشيات الطائفية التابعة لها من لبنان والعراق وأفغانستان ولولا تدخل روسيا بقوتها الجوية الفتاكة.

لكن النظام يتدلل على حلفائه الروس بشكل خاص. والغريب أنهم يتحملونه. وقد تحدثت مع خبراء روس حول تناقضات الأسد مع روسيا ومعاكسته لتوجهاتها سواء في اللجنة الدستورية، حيث أعلن أن وفد المعارضة تابع لتركيا ولا مجال للحوار معه، أما في موضوع اللاجئين، فقد صرح لقناة روسيا اليوم بأن الظروف غير آمنة لعودة اللاجئين بينما الروس نظموا أكثر من مؤتمر حول اللاجئين وقاموا بزيارات لمختلف دول العالم وخاصة دول الخليج العربي لإقناعهم بضرورة عودة اللاجئين السوريين وهذا يتطلب إعادة الاعمار ولو بالتدريج. ويلفت الانتباه إعلان النظام الكاذب بعدم رغبته في حضور القمة العربية، علما أنه يعرف تماماً استحالة دعوته في الوقت الحالي، لمعارضة ذلك من قبل دولة قطر والمملكة العربية السعودية ومصر، ولكن الغريب كيف يفسر الروس موقف النظام السوري في وقت عمل لافروف والخارجية الروسية ولافرينتيف لسنوات على إقناع العرب بضرورة التطبيع مع الأسد وإعادته إلى حضن الجامعة. واكتشفنا أن الأسد يرى نفسه فوق الجامعة العربية ويريد أن يعود العرب إلى حضنه مثلهم مثل اللاجئين. علماً أن المتابعين يعلمون بأن آلاف المعتقلين العرب ما زالوا يقبعون في سجون العصابة الأسدية.

ولطالما ردد بعض الشخصيات السورية والقوى السياسية المختلفة وأغلبها غير بعيد عن النظام وحلفائه مزاعم، بأننا لم نعرف كيف نتعامل مع الروس لكي نقنعهم بضرورة إيجاد حل عادل للمشكلة السورية.

ولكنني اقتنعت بعد 11 سنة بأن موسكو لا تملك الخيارات ولم تقدم أي مشروع للحل سوى تكرار شعارات فارغة حول تطبيق القرارات الدولية انتقلوا بعدها إلى إقحام الناس بموضوع اللجنة الدستورية الفاشل من أصله والذي اعتبر التفافاً واضحاً على القرارات الدولية بخصوص الحل في سوريا مثل قرارات جنيف-1 للعام 2012 وقرار مجلس الأمن 2254 للعام 2015، وأفرغها من محتواها لكسب الوقت للنظام وحلفائه.

    ومنذ أيام التقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف بوفد “معارضة سورية خلبية” يمثل منصات ملتبسة تدور في فلك روسيا وليست بعيدة عن النظام، ومنها مسد التي تتبع حزب العمال الكردستاني المعروف بولائه لإيران وقربه من نظام الأسد ودوره المعادي للثورة السورية، وجاء في بيان الخارجية الروسية بأن ميخائيل بوغدانوف استقبل وفداً من المعارضين السوريين، يمثلون جميع المنصات المذكورة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وعدداً من المنظمات والجمعيات الأخرى، مضيفةً أنه جرى تبادل متعمّق لوجهات النظر حول الوضع في سوريا وما حولها، مع التركيز على مهام تعزيز تسوية شاملة. ولا نعرف كيف استنتجت الخارجية الروسية بأن الوفد يمثل جميع المنصات المذكورة في قرار مجلس الأمن؟ ولكن وجود رئيس حركة التجديد برئاسة عبيدة النحاس في الوفد المزعوم، وهو محسوب على الإخوان المسلمين، اعتبرته تمثيلا لكل المعارضة السورية (التي تعتبرها موسكو أنها ذات طابع إسلامي).

    اليوم تخرج روسيا على لسان أتباعها من المنصات الوهمية بمشروع جديد يقضي بانتهاء عمل اللجنة الدستورية والبدء بمفاوضات مباشرة في دمشق بحماية روسية

وأعلن أحد أعضاء الوفد خالد المحاميد المقرب من موسكو والقاهرة وأبو ظبي، بأن الوفد قدم مشروعا لبوغدانوف لإجراء مفاوضات مباشرة بين المعارضة “الخلبية” والنظام. وأكد أن الروس موافقون على المشروع وينتظرون رد دمشق، وأن موسكو ترى بأن اللجنة الدستورية انتهى دورها. وبرأيي المتواضع فإن كلام المحاميد جزء من إخراج مسرحي. فالمشروع هو مشروع روسي بامتياز ولكن قدري جميل والمحاميد ومن معهم أعلنوا وكأنهم هم من قدم المشروع. وبمتابعة التطورات السياسية وكل ما يقال حول ضرورة الحل السياسي يمكن ملاحظة ما يلي:

    إن المشاريع الروسية المختلفة من المطالبة سابقا في ضم مسد وأخواتها إلى المفاوضات في جنيف كممثلين عن الكرد وصلت اليوم إلى شكلها الواضح في تركيبة وفد مزعوم للمعارضة مكون من منصات ملتبسة ومن أشباه معارضات بدأت علنا تروج لمشاريع روسية أسدية.

    والمرحلة الثانية في الموقف الروسي هي اقتراح تشكيل لجنة الإصلاح الدستوري في مؤتمر سوتشي 2018، الذي ادعى منظموه زورا بأنه للحوار السوري – السوري، علماً أن المشاركين فيه عمليا كلهم يدورون في فلك النظام. فعن أي حوار وطني سوري يمكن الحديث؟!

    واليوم تخرج روسيا على لسان أتباعها من المنصات الوهمية بمشروع جديد يقضي بانتهاء عمل اللجنة الدستورية والبدء بمفاوضات مباشرة في دمشق بحماية روسية. وهذه الفكرة طرحها في جنيف أحد زملاء قدري جميل في منصة موسكو منذ سنوات وقال حينها بضرورة نقل المفاوضات إلى دمشق وتم فصله من هيئة التفاوض (يبدو أن منصة موسكو ملتبسة بكاملها وترى أن دمشق مكان آمن لحوار مستقل وشفاف بعيد عن سيطرة القوى الخارجية. ولكنهم نسوا تأثير مخابرات النظام).

وهنا يبرز تساؤل مهم: هل فعلاً هناك تناقض في المشاريع الروسية والأسدية؟

    هل النظام يفكر بعقله ويقرر فيما إذا كان الطرح الروسي مناسبا أم لا؟ وما هي آلية التنسيق الروسي السوري والدور الإيراني في ذلك؟

    بتقديري أن موسكو تتبع آليات عمل أمنية بحتة ويتم إخراجها بغلاف سياسي، ولا علاقة للقوى السياسية والمنصات والنظام السوري بذلك. ولذلك لا نستغرب كيف تلقى المواقف الروسية في سوريا في البداية رفضاً من بعض الدول والقوى ثم يجمع الكل على تأييد تلك المواقف. فهل هذا صدفة أم هو نتيجة قدرة روسيا في التأثير في الساحة الدولية والإقليمية، أم هو تفاهمات كبرى حددت الأطر الجيوسياسية والاستراتيجية وكل لاعب يعمل في الكوريدور المسموح له. وبالرغم من أن هناك صراعا جيوسياسيا جديا بين روسيا والغرب في أوكرانيا، فإن هناك تفاهمات دولية حول سوريا مرتبطة باتفاق الجميع على حماية آمن إسرائيل.

    وهنا نتساءل أيضا كيف تقوم أميركا برعاية ودعم قسد الموالية للنظام وإيران، بينما تتعهد موسكو في مباحثاتها مع أنقرة حول إخراج قسد من المناطق الحدودية لتركيا؟ في وقت تصرح موسكو ليلا نهارا بأن الوجود الأميركي غير شرعي وأن أميركا تدعم الانفصاليين أي قسد، وأن أميركا وقسد تنهبان الثروات النفطية في سوريا، والأميركان ساكتون عن علاقات قسد بالروس والنظام، لا بل يشجعونهما على الحوار.

    كل ذلك هي أمور متداخلة ومتشعبة وتبدو للمتابع العادي على أنها صراع كبير جيوسياسي وجيواستراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة ومعهم الدول الإقليمية في سوريا، لكن الحقيقة هناك تكامل بالأدوار الدولية والإقليمية. أما الصراعات التي نشهدها يوميا فهي على زيادة المكاسب الخاصة وليست حول مسار التطور السياسي أو الحل السياسي في سوريا. فسوريا أصبحت ساحة صراع وبلد مستباح للجميع بفضل نظام سافل باع البلاد بشكل مباشر لإيران وروسيا، وكان السبب في دخول أميركا وتركيا وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا.

    ولا ننسى أن التطورات الأخيرة في الموقف السياسي التركي تصب في هذا الاتجاه الروسي. فاليوم تركيا تنتقد النظام بدبلوماسية وتعبر عن دعمها للمعارضة، ولكن الوقائع تقول إن هناك اتصالات أمنية مكثفة بين أنقرة ودمشق تجهز لاتصالات سياسية وقد يتبعها خطوات عملية باتجاه المصالحة على حساب الثورة السورية.

وماذا بعد؟

يفكر العديد من النخب السورية والناشطين والثوار بالمخرج من هذا الواقع المأساوي، الذي يساهم في استمراره وجود هياكل معارضة رسمية فاشلة وهزيلة.

وأنا على قناعة بأنه لا طريق أمام السوريين الأحرار سوى الاعتماد على النفس والابتعاد عن أي وصاية خارجية مهما كان نوعها. فاستقلالية القرار الوطني السوري مهمة تاريخية كبرى أمام السوريين. ويمكن تحقيق ذلك بعد إيجاد جسم سياسي عريض مستقل له أجندة وطنية سورية وله قيادة من الشخصيات النزيهة المستقلة ذات السمعة الوطنية، ليمثلوا مصلحة كل السوريين.

ولذلك يجب السير خطوة أولى، نحو ذلك المشروع الكبير، بالتنسيق والتعاون مع كل الوطنيين سواء أفرادا أم جماعات والعودة للحاضنة الشعبية الثورية التي قامت بالثورة، والكف عن المماحكات السياسية والنقاشات البيزنطية التي لا تغني ولا تسمن بل تطيل أمد المأساة. فشعبنا يعاني الأمرين من انتشار الجوع والمرض وانعدام الأمن وتجارة المخدرات التي يرعاها نظام الأسد ونظام الملالي وحزب الشيطان، والتي تؤدي إلى تدمير شباب سوريا وتهدد مستقبل البلاد لعقود قادمة.

ولا بد من تذكير القائمين على الأنظمة العربية والشعوب العربية بأن سوريا والشعب السوري يضحون ويجابهون مشروعا إيرانيا يتقاطع مع المشروع الصهيوني الأميركي، يريد جعل سوريا مرتعا للفوضى والمخدرات والقتل وانعدام الأمن، ونشهد النتائج الخطيرة لذلك وهي هجرة آلاف الشباب بشكل يومي من كل أنحاء سوريا إلى الخارج، أي أن هناك حربا ديموغرافية يقودها الأسد وحلفاؤه وأميركا وإسرائيل وقسد ومسد الانفصاليون لإفراغ سوريا من قدراتها البشرية. فأين العرب من كل ذلك؟

أين مشروع الأمن القومي العربي الذي يجابه المشروع الاستعماري الجديد بوجهيه الإيراني والصهيوني تشارك فيه شاءت أم أبت قوى دولية وإقليمية بحثا عن أجنداتها الخاصة.

تلفزيون سوريا

————————–

روسيا تسائل بوتين عن “حرب” أوكرانيا وشي لا يستعجل الصين لمساعدته/ راغدة درغام

صعبٌ جداً وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعقاب التراجع العسكري للقوات الروسية في أوكرانيا وانحسار هيبتها داخل روسيا. صعبٌ عليه الإمساك بزمام المبادرة العسكرية في خاركوف لأن تكلفة تلك المعركة باهظة إذا حققت النجاح لصالح روسيا، في حين باتت واقعياً معركةً لا غنى عن شراستها من أجل تجنّب خسارة روسية كبرى ومفصليّة. لم تعد هذه “عملية عسكرية محدودة”، كما تعمّد فلاديمير بوتين وصف غزوه لأوكرانيا، لأنها الآن باتت “حرباً” واضحة في نظر الشعب الروسي والخبراء العسكريين الروس الذين يطالبون رئيسهم بالإقرار وبالتشخيص الجدّي لما آلت اليه الأمور تجنّباً للمزيد من الأخطاء الاستراتيجية والانهيار المعنوي.

لم يعد في الإمكان إخفاء ما يحدث اليوم وما أدّى الى هذه “المفاجأة” التي صدمت أكثرية الروس وجزءاً كبيراً من العالم وهي أداء الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية. الخوف لا يزال قائماً من احتمال استخدام الأسلحة النووية التكتيكية- وهناك مفاعل نووي علمي بالقرب من خاركوف. لا أحد يعرف ماذا يدور اليوم في ذهن فلاديمير بوتين أمام انحسار هيبته وهيبة جيشه لا سيّما أن الحديث العلني داخل روسيا تحوّل نوعيّاً وبدأ الناس بالمساءلة. بل فوجئ كثيرون في روسيا عندما قرّر فلاديمير بوتين مغادرة الكرملين في ظروف دقيقة للمشاركة في قمّة “منظمة شانغهاي” في سمرقند. وراء هذا القرار- المغامرة اجتماع بالغ الأهمية للرئيس الروسي باعتباره في رأيه مصيرياً له ولروسيا وحربها الأوكرانية ومواجهتها للغرب برمته: اللقاء مع الرئيس الصيني شي جينبينغ.

الأسباب بديهية، لكن نتائج اللقاء معقّدة كما هي العلاقة الثنائية في هذه المرحلة. فبناء محور الترويكا الأوتوقراطية التي تضم الصين وروسيا وإيران وتركّز على الشرق الأوسط أمرٌ مهم بالتأكيد. إنما ما يحدث داخل الحزب الشيوعي الحاكم في الصين له الأولوية في هذا المنعطف لا سيّما على مصير ولاية ثالثة للرئيس شي جينبينغ. ثم إن في ذهن الصين مشاريع كبرى في الجمهوريات السوفياتية السابقة قد لا تعجب الرئيس الروسي كما لا يعجبه انحسار حظوظ إبرام الصفقة النووية مع إيران. ففلاديمير بوتين يمر في مرحلة صعبة ومعقدة قد تكون عابرة لكنها تحمل في طياتها خطراً منه وعليه.

التراجع العسكري الروسي في أوكرانيا في الأيام القليلة الماضية ليس حادثة منعزلة في عالم اليوم لأن الانطباع بحد ذاته له تداعيات وعواقب في أكثر من مكان. سوريا مثال واضح حيث لم يعد لروسيا في هذه الحقبة من التاريخ ذلك الاهتمام أو الاكتراث بما زرعته في سوريا عبر السنوات بسبب الأولوية الأوكرانية. وهذا ينعكس على الدور الذي ظنّت موسكو أن في وسعها مجرد إيلائه الى طهران بمعنى إيكال الدور الروسي في سوريا الى “الحرس الثوري” الإيراني. فليس مُستهجناً أن الأوضاع الأمنية داخل سوريا تتدهور وأن الطاقة الإيرانية ليست بمستوى الحدث والتحديات.

تطورات أوكرانيا ألقت ظلالها أيضاً على نفوذ روسيا مع إسرائيل بالذات في إطار العمليات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية في سوريا. في الأمس القريب، كان هناك نوع من تفاهمات الأمر الواقع بين روسيا وإسرائيل في سوريا. اليوم، تنفّذ إسرائيل استراتيجية جديدة في سوريا قوامها قطع الإمدادات العسكرية الإيرانية ليس فقط الى سوريا وإنما أيضاً الى “حزب الله” في لبنان.

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي سيحتفل بانتماء إيران الى منظمة شانغهاي بدفعٍ من نظيره الروسي، وهو ينوي التوجه الى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع المقبل. قد يبدو رئيسي مرتاحاً لزيارته بالرغم مما سيواجه فيها من حملات شخصية ضده بسبب دوره في قمع المعارضة الإيرانية. فانتماء إيران الى منظمة شانغهاي يزيل عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية صبغة العزلة الدولية.

إنما بالرغم من طموحات النظام في طهران على الصعيدين الأمني والاقتصادي، يبقى انضمام طهران الى المنظمة رمزيّاً لأن فعالية منظمة شانغهاي تبقى محدودة مع أن عضويتها تشمل 40 في المئة من التعداد السكاني العالمي و20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ذلك بسبب التنافس الشديد بين أهم أعضائها مثل الصين والهند، كما بسبب عدم اندفاع الدول الأعضاء في المنظمة على المغامرة بعقوبات أميركية ضدها بسبب نشاطات محظورة مع إيران. وما دامت الصفقة النووية بموجب محادثات فيينا مُستبعدة، لن تغامر هذه الدول بعقوبات عليها بسبب طهران.

المصادر المطلِعة على التفكير في طهران أكدت أن الرسالة الأساسية التي يحملها الرئيس الإيراني الى نيويورك هي “أن هذه هي الفرصة الأخيرة للغرب” لأن يوافق على إحياء الاتفاقية النووية مع إيران JCPOA “وإلا، فإن الأمور ستتجه الى الأسوأ”. ما هو الأسوأ؟ تتحفظ هذه المصادر عن الإجابة بدقة، لكنها تذكر الخيارات الإيرانية من “تكثيف البرنامج النووي، الى مواجهات عسكرية، الى الكثير من وجع الرأس للغرب”.

هذا لا يعني أن النظام في طهران في أفضل حالاته. فالمواجهة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA ليست في مصلحة النظام الإيراني، في نهاية المطاف، وهو قد قيّد نفسه في قفص هذه المواجهة. حتى ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، وجد نفسه يقول هذا الأسبوع إن المفاوضات وصلت الى طريق مسدود محمّلاً إيران المسؤولية. وبالتالي، قد يكون القادة الأوروبيون أقل اندفاعاً للدفاع عن إيران وأكثر انتقاداً لها أثناء وجود إبراهيم رئيسي في الأمم المتحدة لهذه الدورة.

الجميع يعي اليوم أن لا مجال للعودة الى التفاوض للاتفاق على الصفقة النووية قبل شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وأن الضغوط الأميركية الداخلية ستتضاعف بسبب ازدياد المعارضة للصفقة كما بسبب حدّة وجزم المعارضة الإسرائيلية لها. المبعوث الأميركي لإيران روبرت مالي يواجه حملة استياء وغضب من أعضاء في الكونغرس، والبعض يطالب بتحييده عن الملف موجِهاً إليه تهمة استرضاء إيران وحجب عناصر الاتفاقية وبنودها عن الكونغرس الأميركي.

مشاركة الرئيس جو بايدن في الجمعية العامة للأمم المتحدة ستكون لافتة بالذات من منطلق الحرب الأوكرانية وما يعتبره إنجازاً لحلف شمال الأطلسي- وليس من منطلق الصفقة النووية مع إيران. لن يهم الرئيس الأميركي إذا شعرت إيران بأنها مُطوَّقة دولياً. ما يهمّه هو أن يكون فلاديمير بوتين مطوّقاً دولياً فعلاً وكليّاً. هذا قد لا يعاني منه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عندما يشارك في الجمعية العامة، ليس فقط لأنه مخضرم سياسياً ويحاول التحدّث بلغة الدبلوماسية وإنما إيضاً لأن الأمم المتحدة هي داره لسنوات.

الصين ستكون مهمّة، كالعادة، في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، وهي ستقدّم الدعم السياسي والدبلوماسي لروسيا وستعارض مشاريع القرارات ضدها. لكن الصين لن تقدم لروسيا في هذه المرحلة ما يحتاج له فلاديمير بوتين أن تقدّمه وهو- الدعم الاقتصادي الذي يحتاجه بوتين لروسيا. فالصين لن تغامر بـ”عقوبات ثانوية” Secondary أي عقوبات تفرض على الطرف الثالث الذي يتعاطى مع روسيا تجارياً. ثم إن أولويات الرئيس الصيني ليست روسية في هذا المنعطف، وإنما صينية.

بالطبع للاجتماع الأول بين الرئيسين الصيني والروسي في سمرقند أهمية لا سيّما في إطار بيانات التعاون العسكري وتعابير العداء للغرب وبالذات للولايات المتحدة. لكن الصين لا تريد فن الخطابة rhetoric في هذه المواقف، وإنما التحضير لها بكل دقة وحذر. اللقاء بين الرئيسين له أهمية للبلدين، هذا الاجتماع أتى في خضم أزمة فلاديمير بوتين داخلياً في روسيا وجاء ليؤكد أن الرئيس الروسي وجد في اللقاء طوق نجاة بالرغم من أن الصين لا تقدم لروسيا المساعدة التي يريدها بوتين منها.

لن تتغيّر المواقف الصينية قبل الاجتماع الذي يُعقد مرتين كل عقد للحزب الشيوعي الحاكم والمزمع عقده في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. من المتوقع أن يوافق الحزب على كسر قاعدة الرئاسة لولايتين فقط وأن يدعم الرئيس شي جينبينغ لولاية ثالثة. وهذا بحد ذاته قد يجعل من الرئيس شي رهينة للمؤسسة العسكرية الصينية التي قد تطالبه بأن يصبح راديكالياً وأكثر قسوة وحدّة في مواقفه الاستراتيجية.

الوقت ليس لصالح الرئيس بوتين ما لم يتخذ قرارات راديكالية تنقلب على الحسابات الخاطئة وسوء التقدير للمؤسسة العسكرية الروسية التي قلّلت من قدرات الجيش الأوكراني والمقاومة الأوكرانية كما من مستوى وأهمية الدعم العسكري لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو) الى أوكرانيا. ما سيحتاجه بوتين هو مضاعفة عدد القوات الروسية في أوكرانيا وتكثيف الذخائر وشن هجوم شرس على مدينة يسكنها مليون نسمة.

“هذه الآن حرب وليست عمليات عسكرية ولا يمكننا الاستمرار بلطف” قال مصدر روسي، مشيراً الى أن معركة خاركوف تشكّل مفتاحاً أساسياً الى كييف. وأضاف: “لا مناص من تغييرٍ جذري نحو عقلية حرب بمعنى الحرب الجدّية… وأمامنا أسبوعان قبل أن نعرف إن كان لهجوم روسي مضاد فرصة النجاح أم لا. فنحن اليوم على الحافة- لسنا بعيدين جداً ولسنا قريبين جداً” من الهاوية.

النهار العربي

————————–

التراجع الروسي في أوكرانيا والملف السوري.. ماهي الانعكاسات المتوقعة؟

الطريق- فراس علاوي

بعد مرور أكثر من مئتي يوم على انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، من أجل دعم الأقاليم والجماعات الانفصالية الأوكرانية في إقليمي لوغانسك ودونيتسك والمعروفة بالدونباس، لم يكن أكثر المتشائمين من داعمي العملية يتوقع أن تصل العملية لشهرها السادس دون إحراز الكثير من الأهداف المعلن عنها كدعم الانفصاليين ومحاربة “العنصريين الأوكران” حسب الرواية الروسية التي أسمت أتباع الرئيس الأوكراني زيلنسكي/ بالنازيين/ على لسان وزير خارجيتها لافروف.

والرغبة الروسية غير المعلنة بالسيطرة على كييف وإسقاط حكومة زيلنسكي التي تمثل نموذجاً ديموقراطياً يهدد الكيان الروسي الهش والمهدد بربيع روسي مع تنامي الاحتجاجات الروسية على سياسات بوتين الاقتصادية، والتي كانت أحد أسباب محاولات تصدير الأزمة الداخلية الروسية، إذ رغبت حكومة روسيا من خلال تدخلها في أوكرانيا في إكمال النطاق الجغرافي والجيو سياسي الموالي لها، وإيجاد نظام شبيه بأنظمة الشيشان وبيلاروسيا وتركمانستان وغيرها من دول المحيط الروسي.

الدعم الغربي المفاجئ، والذي جاء مختلفاً عن المواقف السابقة من التدخلات الروسية سواء كان في جورجيا أو القرم، زاد من صعوبة التدخل الروسي وأبطأ العمليات العسكرية وزاد من الخسائر التي لحقت بالجيش الروسي في الأرواح والعتاد، على الرغم من سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها الروس، وسياسة القضم التي نقل الروس استراتيجيتها من سوريا إلى الدونباس، حيث شارك عدد من الجنرالات الروس الذين قاتلوا في سوريا في الحرب على أوكرانيا.

لم يقتصر الدعم الغربي على المواقف السياسية الداعمة لأوكرانيا وللرئيس زيلنسكي الذي استقبل في أوكرانيا الكثير من زعماء الاتحاد الاوربي ووزراء خارجيتها، وكذلك مشاركته عبر تقنية الاتصال كثيراً من الاجتماعات المتعلقة بأوكرانيا، وإنما أخذ أشكالاً اجتماعية من خلال استقبال اللاجئين الأوكران في الدول الأوربية وتقديم التسهيلات لهم، وتقديم الدعم العسكري واللوجستي والاستشاري وكذلك الاستخباراتي. ولعل الدعم الأخير والمفتوح من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، عبر إرسال أسلحة نوعية، خاصة الأسلحة المضادة للدروع والصواريخ المضادة للطائرات، عقدت العمليات العسكرية الروسية وتسببت بتراجع حدة العمليات فيها.

في الثامن من الشهر الجاري وبعد استيعاب الهجوم الروسي، بدأ الجيش الأوكراني الذي تلقى دعماً غربياً من خلال قوافل الأسلحة التي أرسلت إليه، هجوماً معاكساً الغرض منه قطع خطوط الإمداد  عن القوات الروسية المتقدمة والسيطرة على مناطق استراتيجية كانت القوات الروسية قد سيطرت عليها في وقت سابق، حيث أعلنت الوحدة 130 في الجيش الأوكراني، يوم الأحد 11 سبتمبر، أن القوات الأوكرانية وصلت إلى الحدود الروسية شمالي مقاطعة خاركيف.

وقالت الوحدة 130 في الجيش الأوكراني:”وصلنا إلى الحدود الدولية مع روسيا في مدينة جوبتوفكا شمالي مقاطعة خاركيف”.

وبدأت القوات الأوكرانية تتقدم شرقاً عبر مدن فولوخيف يار، وشيفتشينكوف، متجهة نحو كوبيانسك، وهي مدينة استراتيجية وتعتبر مركزاً رئيساً للسكك الحديدية التي يتم تزويد القوات الروسية من خلالها بالعتاد والذخائر في الجنوب.

كذلك صرّح أوليكسي أريستوفيتش أحد كبار مستشاري الرئيس زيلينسكي، أن “القوات الأوكرانية اخترقت الدفاعات الروسية في عدة نقاط وقطاعات على خط المواجهات بالقرب من مدينة خيرسون في إطار الهجوم المضاد الذي تشنه في الجنوب”

من جهتهم، اعترف المحللون العسكريون الروس بتراجع القوات الروسية، وأكد هذا التراجع ما قاله الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف واصفاً التراجع الروسي بأن “القوات الروسية ارتكبت أخطاء وسأتحدث مع قيادتها في حال لم يتم تدارك ذلك”.

هذا التراجع الروسي لابد وأن ينعكس على السياسات الروسية، سواء في الميدان أو في مناطق النفوذ الروسية الأخرى؛ أو في محيطها الإقليمي كما حصل

في استغلال الجيش الأذربيجاني الانخراط الروسي في أوكرانيا، ومهاجمة مواقع في مناطق النزاع مع أرمينيا في ناغورني كارباغ، بالرغم من وجود “قوات سلام روسية” انتشرت بعد التصعيد الذي حدث مؤخراً.

إذاً، فالتراجع الروسي قد ينعكس سلباً على مناطق نفوذها في العالم، لذلك قد نرى تصعيداً روسياً في بعض الملفات من أجل استعادة الهيبة الروسية من جهة ورفع سقف المفاوضات مع الغرب، وبالتالي قد نشاهد خلطاً بهذه الملفات، بما فيها الملف السوري الذي قد يشهد تصعيداً روسياً ما يزال محكوماً حتى اللحظة بتفاهمات مع الحكومة التركية عبر اتفاقات خفض التصعيد.

لكن في حال استمرار الضغط الغربي والتراجع الروسي في أوكرانيا قد نشاهد تصعيداً روسياً في شمال سوريا أو السماح لمليشيات تتبع لروسيا بالتصعيد شرق سوريا من أجل خلط الأوراق في الملف السوري.

الفصل الذي تستخدمه أوربا بين الملفات المختلفة قد يربك التصعيد الروسي ويجعله غير ذي فائدة، لكن من المؤكد بأن أي تراجع روسي في أيٍّ من الملفات التي تنخرط فيها روسيا سيكون له تأثير مباشر على الملف السوري، يصبح هذا التأثير إيجابياً في حال حصول ضغط أوربي أمريكي حقيقي لحل جميع الملفات العالقة مع روسيا بما فيها الملف السوري.

———————-

هل أعلن بوتين الحرب على الغرب؟/ توران قشلاقجي

في خضم الهجمات التي تشنها روسيا على أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط 2022، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التعبئة الجزئية في بلاده من قوات الاحتياط، وممن يمتلكون الخبرة في القتال. وقال بوتين إن «الغرب يستخدم الابتزاز النووي ضدنا»، مؤكدا أن روسيا تمتلك ما يكفي من الأسلحة للرد على الغرب، وإن «هذا ليس خداعا». وأعرب الرئيس الروسي عن تأييده لانضمام مناطق دونيتسك ولوغانتسك وخيرسون وزاباروجيا إلى روسيا. ومن المقرر أن يستدعي الجيش الروسي 300 ألف جندي احتياط في هذا الإطار.

من جهته قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، إن بلاده لم تعد تحارب أوكرانيا، وإنما تحارب الغرب ككل، وزعم مشاركة مستشارين عسكريين من حلف شمال الأطلسي (الناتو) في قيادة الجيش الأوكراني. وكشف أن عدد قتلى الجنود الروس في أوكرانيا بلغ 5 آلاف و937 لغاية اليوم. وبعد فترة وجيزة من تصريحات بوتين وشويغو، انتهت جميع تذاكر السفر من موسكو إلى إسطنبول، وبدأ الناس يطالبون بإطلاق رحلات إضافية.

من الواضح أن الزعيم الروسي بعث العديد من الرسائل إلى الغرب عبر تصريحاته الأخيرة، والتي تهم تركيا والعالم العربي أيضا، وليس الدول الغربية فقط، لأنه إذا اتسع نطاق الحرب من المجال الإقليمي إلى العالمي (لا قدر الله)، فإن هناك كوارث كبيرة جدا تنتظر العالم بأسره والمنطقة التي نعيش فيها. يمكن قراءة قرار بوتين الاستراتيجي على أنه خطوة ردع وتحد، فضلا عن كونه بمثابة استكمال للنواقص. ويبدو جليا أن إعلان الرئيس الروسي للتعبئة الجزئية في بلاده يتضمن رسالتين للغرب؛ الأولى تنادي بالاعتراف باستفتاء دونباس لإنهاء الحرب، والثانية هي توسيع نطاق الحرب هذه لتشمل العالم، لاسيما أوروبا الشرقية. يقول بوتين إن الحرب في أوكرانيا هي حرب مع الغرب، ويدعي أن هدف الدول الغربية هو القضاء على روسيا، وإن الأخيرة ستدافع عن وحدة أراضيها، وإن الغرب الذي يزود أوكرانيا بالسلاح، لا يتصرف بطريقة سلمية. وأشار إلى أن الجيش الروسي سوف يستدعي 300 ألف جندي جديد للخدمة بسبب التعبئة، مشددا على أن تصريحاته ليست خداعا. ويمكن أن نفهم من ذلك، أن بوتين ألمح إلى أن روسيا يمكنها استخدام جميع أنواع الأسلحة، بما في ذلك السلاح النووي. يرى بعض الخبراء العسكريين في تركيا، أن إعلان التعبئة لا يكفي، وإنما هناك حاجة لأن تكون الأجهزة الإدارية والعسكرية المعنية بالتنفيذ جاهزة بصورة تامة، لكن هذا الأمر يعد المشكلة الأهم بالنسبة إلى روسيا لأنها لا تمتلك أجهزة تعبئة منتظمة ومحكمة. ويشير الخبراء إلى أن بوتين عندما شن الحرب على أوكرانيا كان يظن بأنه سيحقق النصر بسرعة، وأنه شارك في الحرب بيد واحدة مقيدة، لأنه لم يستطع وصف الحرب باسمها الحقيقي بسبب التكلفة المترتبة على السياسة الداخلية. ويقول الخبراء إن بوتين يحاول الآن ابتكار صيغ من شأنها أن تساعده على تجاوز العقبات السياسية والقانونية بذريعة التعبئة الجزئية. وكانت التصريحات التي أدلى بها بوتين أمس بمثابة حجر زاوية جديد وحاسم بشأن الحرب في أوكرانيا. يجب النظر جيدا إلى توقيت خطاب بوتين. لأن الولايات المتحدة مقبلة على انتخابات نصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وبات من الممكن في هذه المرحلة ممارسة الضغوط على إدارة جو بايدن. كما أن التصريحات تأتي بعد نحو أسبوع من إعلان بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ، عن اتفاقهما حول قضايا معينة، وذلك خلال لقاء جرى بينهما على هامش قمة منظمة شانغهاي للتعاون في سمرقند. تعتقد روسيا أنها لا تمتلك الإمكانية لاستخدام القوة ضد الناتو، لكنها تستطيع توسيع نطاق الظروف العالمية القائمة (مثل مخاطر الحرب والاقتصاد والطاقة) بما يتماشى مع هدفها. ومن المعلوم أن أوروبا بدأت تشعر بقلق عميق إزاء أزمة الطاقة والاقتصاد مع حلول الشتاء. وفي هذا الصدد، قالت وزيرة الخارجية البريطانية، جيليان كيجان، في بيان لها، إن تصريحات بوتين تبعث على القلق ويجب أخذها على محمل الجد. بدوره قال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، في تصريحات لوكالة رويترز، إن إعلان التعبئة الجزئية دليل على ذعر بوتين.

خلاصة الكلام؛ من الواضح أن خطوة بوتين الاستراتيجية سوف تثير جدلا واسعا. وتظهر لنا هذه الأيام التي تشهد تشكل النظام العالمي الجديد أن الأشهر والسنوات المقبلة ستكون مؤلمة أكثر. ذلك، يجب على تركيا والدول العربية تنحية صراعاتها الداخلية جانبا وطرح شراكات واستراتيجيات من شأنها تعزيز وجودها في النظام العالمي الجديد.

كاتب تركي

القدس العربي

—————————–

نيويورك تايمز : ثلاثة مسارات نحو نهاية لعبة حرب بوتين

محمد نون

يتحدث توماس فريدمان عن قلق يساور العديد من حلفاء أوكرانيا الأوروبيين بعد جولة أفق كانت له في أوروبا مع خبراء في الأمن القومي ومسؤولين ورجال أعمال بشأن كيفية نهاية الحرب في هذا البلد على الرغم من التقدم العسكري الذي سجله الجيش الأوكراني الأسبوع الماضي في معاركه ضد الجيش الروسي، وينقل عن رجل دولة أوروبي سابق خشيته من “اشتداد الخلاف داخل الاتحاد الأوروبي مع حلول برد الشتاء ونقص إمدادات الغاز في أوروبا ما قد يدفع نحو القبول بصفقة مع الرئيس بوتين لأنهاء الحرب”.

وبعيدا عن الضجيج الإعلامي – كما يقول – يحاول فريدمان وضع تفسير لما لا يتم البوح به بشأن مستقبل الحرب فيطرح بنفسه هذه الإشكالية بالقول :”نعم ، إنه لأمر رائع أن تدفع أوكرانيا الروس إلى التراجع، لكن هل يمكنك أن تجيبني على السؤال الذي ظل عالقا منذ بدء القتال: كيف يمكن لهذه الحرب أن تنتهي بخاتمة مستقرة؟ لا يعرف فريدمان الجواب لكن ما لاحظه خلال حديثه مع من التقاهم في أوروبا يشير إلى ثلاث نتائج محتملة بعضها جديد تمامًا ، والآخر مألوف ، ولكنها جميعا لها آثار جانبية معقدة وغير متوقعة.

الفرضية الأولى وهي أن تنتهي الحرب بنصر كامل لأوكرانيا، وهو أمر محفوف بخطورة أن تؤدي إلى دفع بوتين للقيام بعمل جنوني إذا ذاق الهزيمة والإذلال.

الفرضية الثانية تتمثل في التوصل إلى “صفقة قذرة” مع بوتين توقف إطلاق النار والتدمير، لكنها فرضية تجازف بحصول انقسام بين الحلفاء الغربيين وتثير غضب العديد من الأوكرانيين.

الفرضية الثالثة هي حصول صفقة “أقل قذارة” تعيد الوضع إلى الحدود التي كان يقف عندها الجميع قبل غزو بوتين لأوكرانيا في فبراير/ شباط الماضي.

وقد تكون أوكرانيا مستعدة للتعايش مع ذلك، وأيضا الشعب الروسي أيضا، لكن ذلك يستلزم الإطاحة ببوتين أولاً، لأنه لن يذعن للواقع الذي لا يمكن إنكاره حينها بأن حربه كانت عبثية تماما.

يقر فريدمان في مقالته بصحيفة نيويورك تايمز بوجود تباين عميق بين تلك الحصيلة المفترضة لنهاية الحرب ثم يحاول الغوص أكثر فيها فيرى أنه وبالنسبة للفرضية الأولى أي تحقيق نصر كامل لأوكرانيا فإنه ليس هناك من يتوقع أن يكون الجيش الأوكراني قادرًا على المتابعة الفورية للمكاسب العسكرية الكبيرة التي حققها خلال الأسبوعين الماضيين، والقيام باجتياح بقية المناطق التي يسيطر عليها الجيش الروسي عبر الحدود.

لكن للمرة الأولى سمعت البعض يسألون: “ماذا لو انهار الجيش الروسي بالفعل؟.

بالتوازي مع ذلك فإن الجنود الروس والأوكرانيين الناطقين بالروسية الذين يقاتلون إلى جانب الجيش الروسي، يعتقدين أنهم سينتصرون ويبقون معا إلى الأبد”.

أما بشأن الفرضية الثانية، فيقول فريدمان إنه لا يستطيع أن يتخيل أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي يقبل وقف إطلاق النار أو شيئا قريبا منه الآن، حيث تتمتع قواته حاليًا بقدر كبير من الزخم وهو ملتزم باستعادة كل شبر من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.

لكن الكاتب يدعو إلى “أن لا يغيب عن الأذهان ما يمكن أن يكون عليه الحال مع حلول فصل الشتاء في ظل رفض بوتين بيع الغاز الطبيعي إلى أوروبا والذي أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة لدرجة أنه يجبر المزيد من المصانع على الإغلاق ويؤدي بالأوروبيين الأكثر فقرًا إلى الاختيار بين الحصول على التدفئة أو تناول الطعام”.

ويرى الكاتب أنه على الرغم أن ذلك قد يعني عدم تحقيق الأهداف الكثيرة لبوتين لكنه قد يكون مهتما بالحصول على تلك المكاسب لإظهارها في مقابل ما تكبده من خسائر بما يجنبه الشعور بالذل. ويتوقع فريدمان أن كثيرا من القادة الأوروبيين سيؤيدون هذه الصفقة حتى لو لم يقولوا ذلك بصوت عالٍ.

وهنا ينقل الكاتب ما سمعه من رجل دولة أوروبي متقاعد، تحدث عن هذا الأمر في ندوة لكنه طلب عدم الكشف عن إسمه ، إذ  قال :”إن هدف أوكرانيا هو الفوز في الحرب  لكن هدف الاتحاد الأوروبي مختلف بعض الشيء إنه تحقيق السلام، وإذا كان هناك ثمن لذلك، فإن بعض القادة في أوروبا سيكونون مستعدين لدفع الثمن المناسب”.

ويضيف رجل الدولة الأوروبي السابق أن “الولايات المتحدة بعيدة، وبالنسبة لها، ليس بالأمر السيء أن تستمر الحرب في إضعاف روسيا والتأكد من أنها لا تملك الطاقة لأي مغامرات أخرى”.

وبتابع “من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي صار أكثر اتحادًا مما كان عليه قبل بدء الحرب، لكن ومع ذلك ستصبح الأمور صعبة للغاية في الأشهر القليلة المقبلة. سيكون هناك انقسام كبير في الاتحاد الأوروبي، وستزداد صعوبة الأمر أكثر فأكثر لأن الأهداف ستصبح – بدورها – مختلفة أكثر فأكثر، وحتى لو كانت التصريحات العلنية هي نفسها، فإن الاتحاد الأوروبي منقسم حول كيفية التعامل مع الحرب، وهذا الانقسام ليس حول السؤال الكبيربشأن ما إذا كان بوتين على حق أم أنه يشكل تهديدا، بل حول كيفية التعامل مع الوضع برمته، لا سيما عندما تظهر ردود الفعل الشعبية، فعندما يتوتر الناس تمامًا هذا الشتاء سيبدأ بعض القادة الأوروبيين في التساؤل، هل هناك طريقة للخروج بحل من خلال المفاوضات؟”.

ثم ينقل فريدمان أيضا ما قاله له مايكل ماندلباوم، مؤلف كتاب “العصور الأربعة للسياسة الخارجية الأمريكية”: بأن بوتين قد يقرر فضح الانقسامات في الاتحاد الأوروبي من خلال الإعلان عن استعداده للتفاوض على وقف إطلاق النار واستئناف شحنات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي إذا كان من الممكن إبرام صفقة، لكن هذا سيتطلب بالتأكيد تقديم ضمانات أمنية إلى زيلينسكي على أن تكون ضمانات أمنية دائمة وملزمة – ربما العضوية الكاملة في الناتو”.

ويتحدث الكاتب ضمن هذة الفرضية عن إمكانية أن يقتطع بوتين أجزاء من أوكرانيا بعدما أقر البرلمان (الروسي) تشريعًا لتمكين أربع مناطق أوكرانية تحتلها روسيا من إجراء “استفتاءات” بشأن الانضمام إليها.

وبالانتقال إلى الفرضية الثالثة وهي المتمثلة في حصول صفقة أقل قذارة كما يسميها فريدمان تكون مع الشعب الروسي وليس مع بوتين.

في هذا السيناريو، يقترح الناتو والأوكرانيون وقف إطلاق النار على أساس خطوط 24 فبراير حيث كانت تقف القوات الروسية والقوات الأوكرانية قبل غزو بوتين.

هذا سيعني أن أوكرانيا ستنجو من المزيد من الدمار، ويتم التمسك بمبدأ عدم جواز تغيير الحدود بالقوة. لكن على بوتين حينها أن “يعترف لشعبه بأنه فقد من حوالي 70 ألف قتيل والآلاف من الدبابات والعربات المدرعة مع معاناة كبيرة من عقوبات اقتصادية رهيبة دون الحصول بالمقابل على شيء”.

وهنا يضيف فريدمان “بالطبع، من المستحيل تخيل بوتين وهو يقول ذلك”.

وفي النهاية لا يتوصل فريدمان إلى خلاصة حاسمة للكيفية التي يمكن أن تنتهي بها الحرب رغم إدراك محدثيه في أوروبا بأن هذه الحرب يمكن أن تنتهي بعدة طرق مختلفة، بعضها أفضل، وبعضها أسوأ لكن أيا منها لن يكون سهلا.

وهذه حصيلة رابعة: أنها شيء لا يمكن لأحد أن يتنبأ به…

القدس العربي

—————————-

هل تنتج الحرب الأوكرانية إسرائيل أوروبية؟/ عيسى الشعيبي

بعيداً عن قائمة الخسائر الطويلة للحرب الجارية في أوكرانيا منذ نحو سبعة أشهر حافلة بالدماء والدمار والدموع، وبصرف النظر عن السجال المحتدم بشأن وجاهة المبرّرات المسوّغة لحربٍ طالت أكثر من التوقعات، يمكن حصر النقاش المجدي، وتكثيف الضوء الشديد ليس فقط على الأرباح والخسائر التكتيكية لهذا الطرف أو ذاك، وإنما على الأخطاء الاستراتيجية عميقة الغور، باهظة الكلفة، وواسعة المضاعفات، التي ارتكبتها موسكو في حربٍ تبدو بلا نهاية وشيكة، ومن ثمّ استشراف أهم النتائج طويلة الأمد لأم المعارك الروسية في زمن ما بعد الاتحاد السوفييتي، سيما وأن تداعيات هذه الحرب فاضت عن حدود البلدين المشتبكين بالحديد والنار إلى دول العالم كله.

ما يخاطبنا نحن من هذه الحرب ليس أمراً افتراضياً، ولا هو من بنات خيالٍ جامح يجعل من الحبّة قُبة، بل هي حقيقة في طور التشكّل، بشّر بها فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني المعجب بالتجربة الصهيونية، وألح عليها في بداية الغزو الروسي لبلاده، حين دعا حلفاءه في الغرب إلى تحويل أوكرانيا، بالدعم والمساندة، إلى إسرائيل أوروبية كبيرة، تماثل نظيرتها الشرق أوسطية بالقوة العسكرية النوعية المتفوقة على جميع جيرانها، وبالقدرات التكنولوجية التي جعلتها بمثابة حاملة طائرات أميركية غير قابلة للغرق، ترابط في أكثر البحار دفئاً، قبالة أغنى أراضي الدول ثروة نفطية وغازية.

ولا أحسب أن زيلينسكي، الممثل الكوميدي المغمور قبل الحرب، وقد صيّرته هذه بطلاً قومياً وزعيماً دوليا تُصغي له برلمانات أوروبا وأميركا، كان معنياً، في تلك اللحظة العصيبة، بتقريظ مثله الأعلى الهجين في ديارنا العربية، أو كان يبعث رسائل مفتوحة إلينا نحن العرب، وإنما كان يبثّ لواعجه على أثير البثّ التلفزيوني المباشر إلى روسيا، بعد أن غزته واحتلت خُمس أراضي بلاده، إن لم نقل إنه كان يُنذر جارته القوية الكبيرة، ويتوعدها بالويل والثبور عاجلاً، وعظائم الأمور آجلاً، إثر تدفق الأسلحة الغربية إلى جيشٍ لم يحسب الكرملين له حساباً، حيث صار في وسع المستهدف في كييف أن يهدّد أعداءه بالفم الملآن، وأن يُهوّل عليهم بمضاء أشد، بعد أن اشتدّ عود قواته قليلاً، وصمد شعبه في وجه الآلة الحربية الروسية الهائلة.

بعد نحو مائتي يوم من الحرب الطاحنة، تبدو أوكرانيا مختلفةً كثيراً عما كانت عليه قبل الغزو، حيث تتجلّى لديها اليوم عناصر قوة حربية جديدة، وتتراكم على أرضها عوامل تفوّق نوعي مكتسبة حديثاً، الأمر الذي نقلها من حالة الدفاع المتراجع إلى وضعية الهجوم التكتيكي الناجح، على نحو ما أظهرته معركة استرداد مقاطعة خاركيف، سواء بفضل كفاءة مقاتلين يخوضون حرباً وجودية، أو بفعل تكنولوجيا الجيل الخامس المتطوّرة، وهو ما شكّل نقطة فارقة في مسار هذه الحرب الضروس، وسجّل سابقة عسكرية مهمة، لا تكمن في أهمية خاركيف ذاتها، وإنما في أنها انتصار جزئي ضد ثاني أكبر جيش في العالم، كان يثير رهبة أوروبا كلها.

إذا ما استمرّت مثل هذه المكاسب العسكرية الأوكرانية المتفرّقة، وهو ما بات واقعياً، وتراكمت هذه الإنجازات على المدى المتوسط، فهذا سيضع روسيا أمام متغيّر لم يخطر على بال بوتين، وهو يخطّط لمعركة حاسمة تنتهي في أيام، ومن ثمّ سوف يشكّل هذا المتغير أكبر خسارة استراتيجية بعيدة المدى للروس الذين كسبوا عدواً جديداً، قوامه نحو 80 مليون كاره لجارٍ أثخن جراحهم، ونحو 645 ألف كيلومتر مربع، أين منها مساحة دولة الاحتلال الإسرائيلي، المفتقرة مثل هذين العنصرين الحيويين، الجغرافيا والديموغرافيا، أهم نقاط الضعف الاستراتيجي لدولةٍ بنت قوتها على أجنحة الطائرات الحربية.

ويمكن للمرء أن يعدّد، بلا تحفظ، سلسلة طويلة من الخسائر الروسية في الشوط الأول من حربٍ ذات أشواط غير معروفة سلفاً، إلا أن أشدّ هذه الخسائر وقعاً على مستقبل الاتحاد الروسي تحويل أوكرانيا من جار غُلب على أمره قبل ثماني سنوات في معركة شبه جزيرة القرم، ورضي واقعياً بالهزيمة، إلى دولة من فصيلة النمور العسكرية الضارية، خرجت من معمودية النار والدم بعصبيةٍ قوميةٍ متطرّفة، وغدت قادرة على الهجوم والمباغتة، وتحوّلت من بلدٍ باهت الحضور والهوية، يراه بوتين أحد أخطاء التاريخ واجبة التصحيح، إلى دولةٍ تحاكي إسرائيل المتمكّنة من فرض نفسها على المحيط المجاور، وإملاء إرادتها على العرب، اعتماداً على أميركا وعلى قوتها العسكرية الذاتية.

العربي الجديد

———————

ما خيارات بوتين للشتاء المقبل؟/ عبدالناصر العايد

ثمّة لحظة خطرة في العالم اليوم، يعتمد وقوعها من عدمه على عقلانية بوتين. فالعالم الغربي يقود حرباً شبه معلنة عليه في أوكرانيا، وهو يعاني الإذلال على نحو مفضوح، مع أنه يضع يده على زر إطلاق ثاني أضخم ترسانة نووية في العالم. وبعدما قاتلت قواته جيداً في الربيع، ثم كبح جماحها في الصيف، ها هو يتقهقر في الخريف.. فما الذي يحمله له شتاؤه القاسي المقبل؟

منذ أن تعرض مطار ساكي في جزيرة القرم، لضربة صاروخية أوكرانية دقيقة وبعيدة المدى، في حزيران/يونيو الماضي، قلنا أن بصمات الناتو لم تعد ملاحظة في التسليح والتذخير الأوكراني فقط، بل تجاوزتها إلى الخطط والتنظيم والقيادة المباشرة، وتمضي القوات الأوكرانية الآن بخطة عسكرية مُحكمة، مع موارد محدودة لكنها كافية لتحطيم آلة موسكو العسكرية بدقة وابتكارية عالية في المعركة البرية.

وكشفت لائحة نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية مؤخراً عن الأسلحة “المعلومة” المقدمة إلى كييف من قبل دول حلف الناتو، وهي في مجملها أسلحة لا يتجاوز تأثيرها مسافة 50 كيلومتراً، باستثناء سلاح استخدم مرة واحدة يبلغ مداه 300 كيلومتراً يُحتمل أنه منظومة ATACMS الصاروخية، والتي نُفّذ هجوم مطار ساكي بواسطتها. لكن هذه الأسلحة، وعلى الأخص منظومة هيماروس الصاروخية الأميركية، استُثمرت بإبداع لتدمير مخازن قذائف المدفعية الروسية في خط الجبهة، وتركت القوات هناك من دون أي غطاء. فيما استُخدمت منظومات الدفاع الجوي المتقدمة لمنع أي جسم طائر، سواء كان طائرة نفاثة أو حوامة أو طائرة بلا طيار، من التحليق في سماء المعركة. ثم اندفع المقاتلون الأوكران بمعلومات دقيقة ومعنويات عالية، لتمزيق شمل القوات الروسية سيئة التنظيم والمصدومة، وفرّت من ميدان المعركة بطريقة فوضوية مُخلّفة أسلحتها وراءها.

كيف حدث أن دُمّرت مخازن الذخيرة الروسية على وجه التحديد؟ هذا يقود إلى سر تلك المعركة المكشوف. فالتفوق الغربي في مجال الاستطلاع والاستخبارات، تُرجم هنا إلى معرفة دقيقة بكل قطعة سلاح وذخيرة عبرت الحدود الأوكرانية، والمكان الذي خُزّنت فيه، ولم يعد القادة الأوكران بحاجة سوى للحصول على إحداثيات تلك المواقع، وتحميلها على منظومة هيماروس التي تستخدم نظام تحديد الموقع العالمي GPS ليتكفل صاروخ واحد بإخراج كتيبة مدفعية دبابات من المعركة بحرمانها من الذخيرة، مع مواصلة استهداف سلاسل الإمداد وتحطيمه قبل وصوله إلى وجهته النهائية في ميدان القتال.

يخيم ما يشبه هذا المثال على كامل القوات الروسية، في البر والجو والبحر. وعملية استهداف الطرّاد “موسكوفا” تشهد على ذلك. بل أن حال الانكشاف وتفوق الطرف الآخر، تنسحب على المجالات غير العسكرية أيضاً، مثل السياسة والاقتصاد والإعلام. وعلى الرغم من عزلة بوتين وصمته، إلا أن الخبراء الغربيين يلاحقون أدق التجاعيد في وجهه لمعرفة ما إذا كان يخضع لعلاج من مرض ما، والآلة الإعلامية والدعائية تلاحق أبسط التعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي لتحصي عدد قتلاه الذين لا يُعلن عنهم رسمياً. إنهم يخنقونه، فما الخيارات المتاحة أمامه؟

بوسع بوتين أن يواجه المآزق بطُرق ثلاث. واحدة سياسية، وأخرى عسكرية، وثالثة مختلطة. ففي المقام الأول، هو ما زال قادراً على عقد صفقة مع الغرب تمنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو مقابل إنهاء “العملية الخاصة” وانسحابه من أراضيها، وسيكون رفع العقوبات الهائلة المفروضة على بلاده بمثابة مكافأة لإسكات الانتقادات التي ستوجه إليه في الداخل الروسي، خصوصاً من قبل المعسكر اليميني الذي أيده عند إعلان الحرب، لكنه اليوم يشن عليه وعلى قادته العسكريين أقسى الحملات احتجاجاً على أداء القوات العسكرية والهزائم التي لحقت بها، لا سيما على جبهة خاركيف. وهذا الخيار “الصعب” يمكنه أن يحفظ ماء وجه بوتين، لكنه عملياً سيأذن بأفول نجم حكمه، وربما سقوطه في وقت لاحق، كما يحدث عادة في روسيا مع القادة الذين يخسرون معارك كبرى.

أما الاحتمال العسكري، فيتلخص في إعلان الحرب الكاملة على أوكرانيا، وفرض التعبئة العامة، وتوجيه كل الجيش الروسي غرباً حتى الوصول إلى كييف وإعلان الانتصار فيها. وهذا الخيار خطر. فماذا لو رفع الغرب مستوى دعمه للجيش الأوكراني وحطم الجيوش الروسية هنا أيضاً؟

إن الخيار الثالث المختلط، يبدو الطريق الأكثر احتمالاً، بالنظر إلى شخصية بوتين كمقامر عقلاني. إذ يمكنه اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل التي لطالما أشار إليها، واستخدامها تكتيكياً، وربما على نطاق واسع، لكن لمرة واحدة وبطريقة لا يمكن معها إثبات استخدامه لها. كأن يفجر سلاحاً كيميائياً أو بيولوجياً، وليس نووياً، في منطقة صراع تعج بالمدنيين من الناطقين بالروسية، واتهام القوات الأوكرانية باستخدامها، والتهديد بالردّ بالمثل. وهذا سيجبر الغرب على التوقف عن ضربه، وعرض صفقة محسنة معه، تبدأ بعمليات وقف لإطلاق النار في المناطق المشتعلة وبدء سلسلة مفاوضات طويلة، يعيد خلالها ترتيب أوراقه ووضعه الداخلي والدولي.

إن الفساد البنيوي في الدولة الروسية، خصوصاً في المؤسسة العسكرية، التي صار واضحاً أنها لن تستطيع إنجاز مهماتها بسبب تأخر تسليحها مقارنة بالغرب، وعدم كفاءة قادتها، وضعفها اللوجستي، يصب في إمكانية انتقاء بوتين للخيار الثالث. أي التلويح بأسلحة الدمار الشامل، مع فتح باب السياسة والتسويات، ومقايضة عدم انضمام أوكرانيا للناتو، بالأراضي المحتلة، وضخ الغاز إلى أوروبا مقابل رفع العقوبات، وإنهاء مسار هذا الصراع عند هذا المستوى، الذي يجب على الدول الغربية بدورها أن تحرص على عدم تجاوزه، ليس لأنها عاجزة عن التفوق في المسارات الأخرى، لكن لأن مُضيّ بوتين في أحدها، سيفضي إلى سقوط سلطته، ولن يكون بديله سوى النخب اليمينية الأكثر شعبوية وعداء للغرب، والتي لا يمكن أن يُترك المخزون النووي الروسي ليقع تحت يدها.

المدن

—————————

بوتين والخيار النووي!/ عثمان ميرغني

ليس من السهل توقع ما يمكن أن يحدث خلال الأيام والأسابيع المقبلة بعد نكسة القوات الروسية في أوكرانيا. كثيرون في الغرب حذروا من خطر إذلال روسيا، والآن يواجه العالم هذا الخطر الذي أصبح أكثر جدية من أي وقت مضى بعد الهزائم التي تلقتها القوات الروسية في منطقة خاركيف، وبات السؤال الذي يتردد هو، هل تزيد هذه الهزائم من مخاطر حرب نووية؟

في خطابه المتوتر الذي استمر نحو 7 دقائق، أمس، لوّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجدداً بالسلاح النووي وبكل وسائل التدمير المختلفة في ترسانة روسيا العسكرية، مهدداً بأنه لا يمزح. وألقى باللائمة على الغرب قائلاً إنه «تجاوز كل الخطوط» بتوفير أنظمة أسلحة متقدمة لأوكرانيا، وأن الهدف الغربي هو «إضعاف روسيا وتقسيمها وتدميرها في نهاية المطاف».

ما يجعل التهديد أكثر جدية هذه المرة أن بوتين يجد نفسه محشوراً في زاوية ضيقة. فالحرب الروسية في أوكرانيا كشفت عن نقاط ضعف في السلاح وفي الخطط العسكرية، وأحرجت الكرملين داخلياً وخارجياً. وقد شعر بوتين بهذا الأمر بشكل مباشر الأسبوع الماضي في قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي عقدت في أوزبكستان، وذلك عندما انتقد رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، الحرب الأوكرانية علناً، قائلاً إن «العصر الحالي ليس عصر حرب». كذلك اعترف بوتين بأن الرئيس الصيني شي جينبينغ لديه «أسئلة ومخاوف» بشأن هذه الحرب.

وإذا كان الرئيس الروسي بحاجة إلى مزيد من الإشارات على أن تراجع قواته في أوكرانيا بدأ يؤثر على نفوذه، فإنه بلا شك تلقاها من الاشتباكات العسكرية الأخيرة على الحدود بين أرمينيا وأذربيجان التي بعثت برسالة واضحة، مفادها أن بعض جيران موسكو بدأوا يشعرون بالضعف الروسي، واستغلوا ذلك لاستئناف معاركهم التي جمدوها في السابق بعد تدخل موسكو.

وزيادة في الضغوط على بوتين، فإن آثار الحرب بدأت تظهر داخلياً من خلال الانتقادات سواء من معارضي الحرب، أو من القوميين المتشددين الذين ينادون باستخدام روسيا لمزيد من إمكاناتها العسكرية في القتال بالدفع بقوات إضافية وإعلان التعبئة الشاملة. فقد نقلت وسائل الإعلام عن مارغريتا سيمونيان، رئيسة تحرير قناة «آر تي» الروسية كلاماً يفترض أن يزيد القلق من مآلات التطورات المقبلة، وذلك عندما قالت إنه «بالحكم على ما يحدث، وما هو على وشك الحدوث، يمثل هذا الأسبوع إما عتبة انتصارنا الوشيك أو عتبة حرب نووية. لا يمكنني رؤية أي خيار ثالث».

من الناحية الاقتصادية أيضاً، تزداد الضغوط على موسكو مع تراجع شحنات الغاز إلى أوروبا، وآثار العقوبات الغربية، ما يعني أن المواطنين الروس سيشعرون بتأثيرات الحرب بشكل متزايد في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، سواء من الناحية المعيشية أو من خلال رؤية مزيد من أبنائهم يرسلون للقتال في أوكرانيا.

في ظل هذه الضغوط المتراكمة، أعلن بوتين أمس عن أول تعبئة في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، وإن كانت تعبئة جزئية. وبمقتضى هذا القرار، سوف يستدعى نحو 300 ألف مقاتل إضافي من الاحتياط ممن لديهم خبرة سابقة في حمل السلاح. وكان البرلمان الروسي قد مهّد لذلك بإجازة مشروع قانون يفرض عقوبات مشددة على الفرار من الجيش أو رفض القتال والتهرب من التجنيد الإجباري.

تطبيق القرار الجديد سيرفع عدد القوات الروسية المشاركة في الحرب الأوكرانية إلى نحو نصف مليون، من بينهم قوات الانفصاليين القوميين في دونباس الذين ظلوا يقاتلون كييف منذ أكثر من 7 سنوات. لكن الأهم والأخطر من ذلك هو تهديد بوتين باستخدام السلاح النووي وكل أسلحة الدمار الأخرى بحوزته.

التلويح بالسلاح النووي ينظر إليه على أنه تهديد بالأسلحة النووية التكتيكية الصغيرة، وليس بالقنابل النووية الكبيرة التقليدية. فأثر هذه الأسلحة التكتيكية يبقى محدوداً في محيط المنطقة التي تستخدم فيها، وينظر إليها على أنها للردع النووي، وليس للدمار الشامل الذي تحدثه القنابل النووية التقليدية. ويعتقد أن روسيا تملك آلافاً منها في ترسانتها، وتعتبرها وسيلة للتعويض عن قوة حلف الناتو في الأسلحة التقليدية المتقدمة. في كل الأحوال، فإن استخدام مثل هذه الأسلحة سيعني كسر محظور في الحروب منذ آخر مرة استخدمت فيها الأسلحة النووية في هيروشيما وناغازاكي قبل 77 عاماً، كما أنه يرفع التهديد باحتمال انفلات الأمور وتطور الحرب الأوكرانية من حرب بالوكالة بين روسيا والغرب إلى حرب مباشرة وواسعة، عواقبها وخيمة على العالم كله.

ما يجعل التهديدات الروسية اليوم أكثر جدية، بالإضافة إلى الضغوط المتزايدة على بوتين، هو خطوة الاستفتاءات التي ستجرى في 4 مناطق أوكرانية، هي دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزابوريزهيا، خلال الفترة بين 23 و27 سبتمبر (أيلول) الحالي، ما يعني ضم هذه المناطق التي تمثل 15 في المائة من مساحة أوكرانيا، لروسيا. فهذه الخطوة ستعطي المبرر لموسكو لاعتبار الهجمات الأوكرانية على مناطق دونباس عدواناً على أراضٍ روسية، وتهديداً للدولة، يسمح لها بإرسال مزيد من قواتها إلى ساحة المعارك واستخدام «كل الوسائل المتاحة» للرد على التهديد، وهو ما أشار إليه بوتين في خطابه أمس، متوعداً الغرب بأنه لا يمزح وأن كلامه هذا ليس خدعة.

هناك من يرى أن بوتين يستخدم التهديدات بأسلحة الدمار لتخويف أوكرانيا ودفعها للعودة إلى طاولة التفاوض، وفي الوقت ذاته توجيه رسالة ردع للغرب لكي يحد من الدعم العسكري المكثف لأوكرانيا الذي قلب الموازين وكلّف روسيا خسائر فادحة في ميدان القتال. هؤلاء يرون التهديدات مجرد مناورة يائسة، يمكن تجاهلها، لأن الرئيس الروسي لن يقدم على استخدام السلاح النووي التكتيكي أو أي من أسلحة الدمار الأخرى لأنه يعرف أن الثمن سيكون باهظاً عليه، وأنه سبق له ولعدد من مسؤوليه أن لوّحوا بها أكثر من مرة، وبقي الأمر مجرد فرقعة إعلامية، لم تمنع الغرب من تسريع وتيرة المساعدات لأوكرانيا ومدّها بأسلحة متطورة كشفت قصور السلاح الروسي وتخلف بعضه، مثلما عرت مشكلات في التخطيط العسكري لموسكو.

استخدام هذه الأسلحة يحمل بالتأكيد مخاطر كبيرة لبوتين، لأنه حتماً سيزيد من عزلة روسيا، وربما يفقدها ما تبقى من تعاطف حلفائها مثل الصين والهند، ويعرضها لعقوبات غربية أشد. أضف إلى ذلك أنه قد يصبح مبرراً لبعض الدول الغربية لإرسال مزيد من السلاح، وربما قوات أيضاً إلى أوكرانيا.

المشكلة أنه لا أحد يعرف على وجه الدقة المدى الذي يمكن أن يذهب إليه بوتين إذا شعر بأن الحرب تهدد روسيا وفقاً لرؤيته. بوتين هو الوحيد الذي يعرف ذلك تاركاً بقية العالم تخمّن ما إذا كان الأمر مجرد مناورة، أم نقلة إلى عتبة الانزلاق نحو كارثة نووية.

الشرق الأوسط

————————–

أربعة عوامل تفسّر نجاح أوكرانيا العسكري الاستثنائي/ ماكس بوت

كتبت الأسبوع الماضي أن القوات الأوكرانية تمتلك العزيمة وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخسر الحرب التي اختلقها. بالتزامن، توجّهت الأنظار نحو هجوم القوات الأوكرانية في الجنوب تجاه خيرسون، والذي كان حتى ذلك الوقت يحقق تقدّماً تدريجياً. لكن في الأسبوع الماضي، شنّت أوكرانيا هجوماً مفاجئاً في مقاطعة خاركيف محققّة تقدّماً  في شمال شرق البلاد.

تمتلأ شبكة الإنترنت بصور المدنيين الأوكرانيين الذين تم تحريرهم من الاحتلال الروسي. بشكلٍ عام، تؤكد القوات الأوكرانية أنها حررت أكثر من 1000 ميل مربع من الأراضي (نحو 2500 كيلومتر مربع)، أي أكثر من مساحة مدينتي لوس أنجلوس ونيويورك الأميركيتين مجتمعتين، وأن الهجوم لم ينته بعد. كان من المهم بشكل خاص تحرير السكك الحديدية الرئيسية والنقاط اللوجستية مثل مدينة إيزيوم الأوكرانية التي تم استخدامها لدعم العمليات الروسية في منطقة دونباس الشرقية.

يعد هذا أكبر انتصار أوكراني منذ الدفاع الناجح عن كييف في الأيام الأولى للصراع. لقد تغيّرت خطط بوتين بشأن الحرب التي كان من المفترض أن تستغرق ثلاثة أيام فقط، بعد ما يقارب سبعة شهور قاسية . كيف نجحت أوكرانيا في التفوق على جارتها الكبرى؟ هناك أربعة عوامل تشرح ذلك:

أولاً، كانت المساعدات الغربية مهمة جداً، إذ شكّل قرار الرئيس ]الأميركي جو[ بايدن في يونيو/حزيران تزويد أوكرانيا بأنظمة صواريخ المدفعية عالية الحركة (HIMARS) نقطة تحوّل. استهدفت الصواريخ بعيدة المدى مستودعات الذخيرة ومراكز القيادة الروسية. سمح القرار الأميركي الأخير بإرسال صواريخ عالية السرعة مضادة للإشعاع (HARM) بضرب رادارات الدفاع الجوي الروسية، ما منح المقاتلات والمسيّرات الأوكرانية هامشاً أكبر لدعم أي هجوم بري. وفي الوقت نفسه، سمحت الأنظمة المضادة للطائرات مثل Gepard ألمانية الصنع للقوات الأوكرانية بتعميق مأزق الطائرات الروسية، بالتزامن مع تزويد واشنطن الأوكرانيين معلومات استخباراتية مهمة.

ومن الجدير ذكره، أن القوّات الأفغانية تلقّت أيضاً أطناناً من المعدات العسكرية الغربية، لكنها انهارت أمام حركة طالبان. السبب الرئيسي لهذا الانهيار هو قتالهم من أجل نظام فاسد وغير شعبي.

ثانياً، الفارق الرئيسي في أوكرانيا والعامل  الذي يفسّر نجاحها الاستثنائي، هو وحدة الشعب الأوكراني وراء حكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي. قراره البقاء في كييف في الأيام الأولى للحرب، مع وجود خطر كبير على حياته، حجز له مكاناً بين القادة العظماء في زمن الحروب. لكن الأمر يتجاوز موضوع زيلينسكي. فالأوكرانيون يقاتلون للدفاع عن ديمقراطيتهم وحقهم في تقرير المصير.

حاول بوتين، جزار بوتشا، كسر إرادة أوكرانيا بهجمات بربرية على المدنيين. ولكن تماماً كما حدث مع قصف لندن من قبل ]الزعيم النازي أدولف[ هتلر، أدت تكتيكاته إلى نتائج عكسية بتوحيد ضحاياه ضده، لتتحوّل المجازر التي ترتكبها القوات الروسية في كل مكان إلى دافع إضافي بالنسبة إلى الأوكرانيين لمواصلة القتال.

العامل الثالث الذي يفسّر نجاح أوكرانيا هو براعة ومهارة وروح القتال العالية لقوّاتها المسلّحة، والتي تمت إعادة تجهيزها منذ عام 2014 لتصبح شبيهة بنظيراتها في الغرب. إذ يمكن للقادة في المستويات الأدنى اتخاذ قراراتٍ مستقلة على عكس مركزية السلطة في التراتبية العسكرية الروسية. ما نفّذه الأوكرانيون من تحوّلات في جيشهم تمكّنهم من دمج كمّيات هائلة من الأسلحة غير المألوفة أثناء مشاركتهم في عمليات قتالية ثقيلة، يشبه إعادة تأهيل طائرة أثناء الطيران. تم عرض مهاراتهم التكتيكية بشكل متكرر الأسبوع الماضي من خلال الإعلان عن هجوم خيرسون. كانت خطتهم إجبار الروس على تحريك قوّاتهم من الشرق إلى الجنوب، لينكشف الشرق أمام هجوم مفاجئ.

العامل الرابع والأخير الذي يفسر المسار غير المتوقع للحرب هو فساد وغباء نظام بوتين. لقد أهدر القادة الروس أفضليتهم الملموسة من خلال القيادة غير الكفؤة التي تفاقمت بسبب الاستخبارات الفاشلة. في هجومهم على كييف، أظهر الروس عدم القدرة على القيام بعمليات هجومية سريعة، على غرار تلك التي ينفّذها الأوكرانيون الآن.

الشيء الوحيد الذي يجيده الروس هو التركيز على القصف المدفعي لتدمير كل شيء في طريقهم. لكن صواريخ HIMARS حيّدت ميزة المدفعية الروسية من خلال قطع إمداد القذائف، ما كشف وحشية وعيوب الغزاة. لقد تصيّد الأوكرانيون الروس الأسبوع الماضي على حين غرة إذ لم يتوقعوا هجوم خاركيف. سيكون من الصعب على الروس التعافي لأن قواتهم صغيرة جداً ومنتشرة على مساحة أكبر من طاقتها، وسط تكبّدها خسائر فادحة على مدى الشهور الماضية.

بالطبع، كان من المفترض أن تؤدي الحرب إلى نصرٍ روسي سريع. وعندما لم يحدث ذلك، فإنها انتقلت إلى طريق مسدود. لكن كما كتبت في 29 يونيو/حزيران: “على الرغم من أن الحرب في الشرق تبدو في طريق مسدود، لكن يمكن أن ينكسر الجمود العسكري بسرعة صادمة”. لقد حدث هذا الآن. ومن دواعي سروري أن نشاهد الأوكرانيين يتقدمون.

لكن لا ينبغي لنا أن نفترض أن أوكرانيا ستتقدم بسرعة لتحقيق النصر من دون مقاومة. يمكن أن تنهار القوات الروسية، لكن القوات الأوكرانية قد تصبح عاجزة عن تحمّل تبعات أكبر من طاقتها أو قد يأمر بوتين أخيراً بتعبئة كاملة، أو حتى استخدام أسلحة نووية تكتيكية. فالحرب شيء لا يمكن التنبؤ بطبيعته.

المصدر:واشنطن بوست

————————–

===================

تحديث 28 أيلول 2022

———————–

بصمات الأيام الأوكرانية/ غسان شربل

استولت الأيام الأوكرانية على أيامنا. كأنَّ العالمَ الجديدَ يُولد هناك. من الدم الأوكراني والدم الروسي وبكاء البيوت المحترقة، وركام القانون الدولي وأشباح الرعب النووي. عالمٌ شائكٌ ومقلقٌ ومفتوح على كل الأخطار. على الألماني أن يتذوَّقَ النوم على أطراف الصقيع. على البريطاني أن يتعلَّمَ التواضع. على الفرنسي أن يقتصدَ في إنارة المتاحف والمنازل. على المواطن البعيد التدرب على مائدة أقل وخبز أصعب. وعلى الحكومات أن تتحسَّسَ ترساناتِها وتوفّر الصواريخَ والمسيرات لجنرالاتها.

نحن الآن في أيام بالغة الخطورة. لا غموض حول نتائج الاستفتاءات التي شهدتها المناطق الأوكرانية «الانفصالية». واضح أنَّ السكانَ سيقترعون لمصلحة الاستقالة من الخريطة الأوكرانية للالتحاق بروسيا. إجراء الاستفتاء في ظلّ الوجودِ العسكري الروسي لا يترك للغرب أيَّ فرصة لقبول نتائجه. وموسكو مفرطةٌ في الوضوح والحزم. بعد صدور النتائج ستعتبر الأقاليمُ التائهة جزءاً من ترابها، ولن تتردَّدَ في استخدام كامل ترسانتِها إذا تعرَّضت الأرضُ الروسية للاعتداء.

تتصرَّف روسيا وكأنَّ ما كُتب قد كتب. وأنَّ على العالم أن يسلّمَ بالحقائق الجديدة. وأنَّ سيدَ الكرملين لا يملك رفاهيةَ التراجع عما أقدم عليه. اتَّخذت الأزمةُ بعداً مخيفاً حين مُني الجيش الروسي بانتكاسات مفاجئة تركت جروحاً في صورة بلاده وزعيمها. وسببُ الجروح معلن. إنَّه الأسلحة الأطلسية والمعلومات الأميركية التي أتاحت للجيش الأوكراني أن يرفعَ علمَ بلاده فوق الدبابات الروسية المتروكة في أرض المعركة.

أمام المشاهد المؤلمة كان على فلاديمير بوتين أن يتَّخذَ قراراً صعباً. إمَّا خفض الأضرار والبحث عن مخرج، أو الذهاب أبعد وجعل الأزمة أشدَّ خطورة على أوكرانيا والعالم وروسيا أيضاً.

اعتمد بوتين الخيار الثاني. الأول لم يكن مطروحاً. روسيا لا يحكمها إلا رجلٌ قوي. في أزمة الصواريخ الكوبية لم يغفر جنرالاتُ الجيش والحزب لنيكيتا خروشوف أنَّه أبدى مرونة في مواجهة جون كينيدي. صادروا منه الأختام ودفعوه إلى التقاعد والوحشة. روسيا تحتاج دائماً إلى قوي. لهذا لم تحب غورباتشوف «الضعيف». ولم تحتضن يلتسين «المترنح». أمام الخسائر اتَّخذ بوتين قرار المقامرة بكامل رصيده. أعلن التعبئةَ الجزئية، واستدعى مئات آلاف الجنود إلى المعركة. لهجةُ الكرملين توحي بالاندفاع في حرب مقدسة شبيهة بالحرب الوطنية الكبرى التي خاضها ستالين. حرب لا مجال فيها للتراجع أو الخسارة. لهذا تكرَّر التلويح بالأسلحة النووية أو التذكير بوطأتها. ارتفاع شعبية بوتين لا يلغي مشهد طوابير الروس الذين يحاولون الفرار إلى الدول المجاورة. لا يريدون أن يكونوا وقوداً في «الحرب المقدسة».

أخطر الأزمات هي تلك التي تطلب فيها من المنخرطين بالحريق أن يقدموا ما لا قدرةَ لهم على تقديمه. بعد أيامٍ ومع إعلان المناطق الانفصالية الأوكرانية جزءاً لا يتجزأ من روسيا يقفل بوتين طريق العودة. لن يكونَ قادراً على التراجع. يصعب الاعتقاد أيضاً أنَّ فولوديمير زيلينسكي سيكون مستعداً للتوقيع على «الطلاق» مع جزء من خريطة بلاده. سيكون من الصعب جداً على أوروبا التسليم بعودة القارة إلى مشاهد تغيير الخرائط بالقوة. وسيكون من الصعب أيضاً على أميركا القبول بأن تحقّق انتفاضة بوتين على عالم القطب الواحد، مكاسبَ تغريه بمواصلة انتفاضته في وقت لاحق.

إنَّها حفنة أيام تنذر بتغيير العالم بأسره. إذا كان يحق لروسيا أن تُلحقَ مناطق أوكرانية بخريطتها، فكيف لا يحق للصين استعادة تايوان وهي جزء من لحمها أصلاً؟ وهل يمكن التسليم بحق القوي في استخدام القوة، بذريعة درء أخطار يزعم أنَّها تحدق بأمنه؟ وماذا عن النزاعات الحدودية هنا وهناك؟ وعن الدول المجروحة المتبرمة بحدودها الحالية بفعل ذاكرتها الإمبراطورية؟ وفي منطقتنا ماذا ستستنتج إيران وتركيا وإسرائيل؟

ثمة من يتخوَّف أنَّنا في الطريق إلى الفصول الأكثر هولاً في الحريق الأوكراني. لهذا يسري القلق في عروق العالم. هزَّت الأزمة عصبين رئيسيين فيما كان يُدعى «القرية الكونية» وهما الطاقة والغذاء. لا يستطيع أحدٌ الادعاء أنَّ هذه الأزمة لا تعنيه. العالم القديم يتصدَّع والعالم الجديد يولد من مخاض دموي مفتوح.

دفعت العاصفةُ الأوكرانية دولاً كبرى إلى إعادة النظر في سياسات ومواقف وحسابات. الذين اعتقدوا أنَّ منطقة الخليج العربي تراجعت أهميتُها، ويمكن الابتعاد عنها أدركوا خطأ حساباتهم. هذا يصدق على إدارة بايدن وحكومات غربية أخرى. زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى السعودية والإمارات وقطر دليلٌ واضحٌ على هذه اليقظة.

في العاصفة الأوكرانية تتصرَّف السعودية بدرجة عالية من المسؤولية الدولية. إنَّها لاعبٌ كبير في مجال الطاقة، لكن ترسانة العلاقات الدولية والشراكات التي نسجها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في السنوات الأخيرة ترشحها لدور أكبر. القدرة على التحدّث إلى الجميع على رغم حدة الاصطفافات. واتخاذ القرارات في ضوء المصالح، وفي ضوء المسؤولية الدولية. التمهّل في قطع الالتزامات والوفاء بها بعد قطعها. في هذا السياق يمكن فهم الوساطة التي قادها محمد بن سلمان وأدَّت إلى الإفراج عن أسرى من جنسيات مختلفة. خطوة كانت موضعَ ثناء في موسكو وكييف وواشنطن ولندن وعواصم أخرى.

لا مبالغة في القول إنَّ الأيامَ الأوكرانية ستغيَّر العالم. بعد ضمّ مناطق من أوكرانيا إلى روسيا يصعب توقّع لقاء بوتين وزيلينسكي الذي يسعى إليه إردوغان. عودة بلاد بوتين إلى البيت الأوروبي أو الغربي لا يمكن أن تكون قريبة. دفع روسيا إلى مصير آسيوي أو مستقبل آسيوي ليس حدثاً بسيطاً على الإطلاق. الأيام الأوكرانية قد تفتح الباب لإلحاق إصابات مؤلمة بدور أوروبا وتماسكها. لهذا يتزايد الحديث عن الصين التي بخلت على بوتين، في سمرقند كما في نيويورك، بمفردات التأييد التي كان يشتهي سماعها. يحتاج العالم إلى من يخرجه من الحريق الأوكراني. لا يمكن أن يمشيَ إلى وقت طويل على الحبل الأوكراني المشدود من دون أن يقعَ في النار. من يستطيع طمأنةَ بوتين الخائف؟ من يستطيع وقفَ بوتين المخيف؟ بعد أيام تتغير خريطة أوكرانيا. بعد أيام تتغيَّر خريطة العالم. طُويت صفحةُ ما بعد جدار برلين. بعد أيام ستعيد ولادة «الجدار الأوكراني» صياغة التحالفات والاصطفافات.

الشرق الأوسط

———————————-

هل فلاديمير بوتين في خطر؟ هذه 5 سيناريوهات محتملة

بتعبئة 300 ألف جندي احتياطي، اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التصعيد ضد أوكرانيا، وذلك يفرض عليه العمل على إسكات انتقادات القوميين القلقين من الوضع على الأرض وكذلك استياء شعبه الذي وعده بـ “عملية عسكرية خاصة” لا أكثر، وقد أثار هذا الموقف الدقيق الذي يعيشه بوتين تساؤلات عن مستقبله على رأس جهاز الدولة.

وفي هذا السياق، تقدم صحيفة “لوفيغارو” (LeFigaro) الفرنسية ما تعدّه تمرينا للتنبؤ، في مقال بقلم هوغ مايو وأموري كوتانسيه بيرفينكيير، يشرح فيه مجموعة من الخبراء بالتفصيل 5 سيناريوهات مختلفة متعلقة بمستقبل زعيم الكرملين.

أولا: الاندفاع المتهور ضد القوميين

أوضح المقال أن بوتين اختار التصعيد مع التعبئة الأخيرة والتلويح بالتهديد النووي، ورأى أن هذا السيناريو الأكثر منطقية لأنه قائم بالفعل، فالحرب لم تضعف بوتين سياسيا مع ما أحدثته من توترات لأنه هو من يشكل نقطة التوازن بين المترددين والأكثر قومية، و”لكن الوضع يمكن أن يتغير إذا استمرت الانتكاسات” كما يعلق جان روبرت رافيو الأستاذ المتخصص في القضايا الأمنية والصراعات الدولية بمعهد العلوم السياسية الفرنسي.

وتبقى الحقيقة -حسب الأستاذ جوليان تيرون بمعهد العلوم السياسية الفرنسي- أن بوتين قد اختار التصعيد، ويجب أن ينتصر لأنه لا يستطيع الاعتراف بارتكابه خطأ (…) وستعطيه الاستفتاءات الجارية في الأراضي الواقعة تحت الاحتلال مبررا سياسيا وقانونيا لخوض الحرب لحماية “أراضي روسيا الجديدة” فذلك يسمح له بإعلان التعبئة العامة.

مدة الفيديو 02 minutes 13 seconds 02:13

ثانيا: استقالة.. ولكن لمصلحة أي خليفة؟

ويبدو لـ رافيو أن الاستقالة خيار “أكثر جدّية من غيره، لأنها -كما يعتقد أرنو دوبين المتخصص في الشأن الروسي- يمكن أن تكون وسيلة لاستبعاد سيناريوهات الإقالة والانقلاب، وستسمح لبوتين بترك السلطة بهدوء مع حصانة مدى الحياة” رغم أنه لا يبدو في عجلة من أمره للتخلي عنها بعد 20 عاما من الحكم.

ولكن الأستاذ بمعهد العلوم السياسية الفرنسي ينبه إلى صعوبة تحديد خليفة بوتين في حال الاستقالة رغم تداول بعض الأسماء، كما يشير دوبين إلى أن بوتين قد لا يترشح مرة أخرى عام 2024.

ثالثا: انقلاب.. لكن بقيادة من؟

من جهة أخرى، تم تداول احتمال حدوث انقلاب في روسيا منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وقال السيناتور الأميركي ليندسي غراهام “هل هناك بروتوس (في إشارة إلى اشتراك هذا الرجل في مؤامرة اغتيال يوليوس قيصر سنة 44 قبل الميلاد) في روسيا؟” داعيا إلى الإطاحة بزعيم الكرملين، غير أن رافيو يرى أنه “لا يوجد تقليد بونابارتي في روسيا” رغم أنها شهدت 5 انقلابات، نجح 3 منها، وفشل آخرها ضد ميخائيل غورباتشوف في أغسطس/آب 1991.

وتساءل المقال عمن يمكن أن يقود محاولة انقلابية في روسيا، فاستبعد وزير الدفاع لقربه من بوتين، كما استبعد تيرون “السياسي الروسي البارز سيرغي إيفانوف” مع أنه “يتمتع بميزة أنه كان مسؤولًا عن صناعة الدفاع ومن ثم له صلات بالجيش” لأنه من جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق (كي جي بي) ويعدّ حليفا لبوتين.

رابعا: الهجوم

يعدّ مقتل بوتين في هجوم عسكري، سواء كان من عمل كوماندوز أوكراني أو من داخل حكومته، خيارا يحلم به العديد من القادة الغربيين سرا، كما أن “بوتين نفسه يخشى هذا الخيار لأنه على اطلاع على ممارسات غربية معينة، إذ رأى ما حدث للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي وما وقع للرئيس العراقي صدام حسين” كما يقول رافيو و”حتى في الشيشان، قُتل قديروف الأب في هجوم على ملعب”.

هذه السوابق وجنون العظمة لدى بوتين عوامل تجعله شديد الحذر، ولذلك يؤكد دوبيان أن “رئيس الدولة الروسي يتمتع بحماية مماثلة لتلك التي يتمتع بها الرؤساء الأميركيون ورؤساء الوزراء الإسرائيليون” وهو بالإضافة إلى ذلك لا يدخل الحمامات العامة ولا يخرج من الكرملين على دراجة بخارية.

خامسا: الإقالة.. المهمة المستحيلة

ومن بين جميع الاحتمالات، يبدو أن العزل هو الأكثر احتمالا لسبب وجيه وبسيط، هو أن المادة 93 من الدستور الروسي “فعلت كل شيء لتجنب” هذا الخيار، كما يؤكد تيرون، فهي تنص بوضوح على أنه “لا يمكن عزل رئيس الاتحاد الروسي من منصبه إلا من قبل مجلس الاتحاد (الشيوخ) إذا اتهمه مجلس الدوما (النواب) بالخيانة العظمى أو أي جريمة خطيرة أخرى، بعد إقرارها بقانون صادر عن المحكمة العليا للاتحاد (…) وبقانون صادر عن المحكمة الدستورية”.

لكن الدوما، مثل المحكمة العليا والمحكمة الدستورية ومجلس الاتحاد، تم تشكيله ليكون متوافقا مع الكرملين، مع أن محاولة العزل أخفقت 3 مرات ضد الرئيس السابق بوريس يلتسين على الرغم من أن وضعه في البرلمان كان أكثر هشاشة.

المصدر : لوفيغارو

——————————-

بوتين… معركة رد الاعتبار/ مصطفى فحص

يحاول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بشتى السبل استعادة زمام المبادرة، ولجأ سريعا بعد هزيمة جيشه القاسية في منطقة خاركوف إلى الدعوة للتعبئة الجزئية، وأفسح المجال أمام المرتزقة الأجانب في الالتحاق بجبهات القتال، وسن قانون يمنحهم الجنسية الروسية، ومع بروز التردد الشعبي في تلبية رغبات بوتين القتالية دخل رأس الكنيسة الروسية، البطريرك كيريل، إلى جانب بويتن وأعلن الحرب المقدسة معتبرا أن من يُقتل في الحرب الأوكرانية ستغفر ذنوبه وسيدخل الجنة، ومع ذلك يبدو أن أغلب المواطنين الروس يستجيبون مرغمين لقرارات رئيسهم، الذي اتخذ تدابير عقابية تصل إلى 15 سنة سجن لكل من يتخلف عن أداء واجبه.

المشكلة أن بوتين المتعجل في تحشيد قواته مجددا على الجبهة الأوكرانية يتخوف من تقدم أوكراني جديد على جبهة إقليم دونباس، وهذا ما قد يؤدي إلى فشل ذريع لمشروع الغزو، ولكن حتى قرار التعبئة الجزئية الذي يطال 300 ألف شاب قد لا يغير المعادلة لأن أغلبهم غير مدربين لخوض المعارك، وقد خضعوا سابقا لتدريبات عسكرية محدودة لا تؤهلهم لهكذا مواجهة، لكن بوتين يستعجل التحرك بعدما تركت هزيمته الأخيرة تداعيات خطيرة على الداخل الروسي خصوصا داخل المعسكر المؤيد للحرب، الذي شكل غطاء نخبويا وشعبيا لقراراته، فقد انخرط التيار القومي المعادي للغرب في هذه المعركة باعتبارها فرصة حقيقة للانتصار على أعداء روسيا، لكنه الآن مصاب بخيبة أمل وغير قادر على تقبل الهزيمة، ولا يمكنه التراجع، وهو مدعوم من مجموعة السيلافيكي (مراكز القوة الأمنية والعسكرية)، والأخطر أنه يصعب السيطرة عليه بحال تعرضت روسيا إلى هزيمة جديدة أو بحال فشل الكرملين في تحقيق الأهداف التي كان يراهن عليها. ما يعني أن معسكر الكرملين مهدد بانقسامات داخلية تفرض على سيده اتخاذ قرارات ترضي توجهات داعميه.

لذلك وتجنبا لتفكك الجبهة الداخلية أو انقلابها عليه، وتجاوزا لأي هزيمة عسكرية جديدة أو اخفاق في الميدان يؤجج الشارع المعادي للحرب من جهة ويثير الشارع المؤيد من جهة أخرى، وضع الرئيس الروسي يده على الزناد النووي، ولوح بإمكانية قيامه بضربة نووية تكتيكية، إذا تعرضت بلاده لخطر وجودي أو هجوم خارجي، ولكي يوسع نطاق الردع قرر توسيع حدود بلاده، لذلك لجأ إلى استفتاء مستعجل في إقليم دونباس، لكي يعلن ضمه رسميا إلى روسيا الاتحادية، وتصبح معه الحرب التي يخوضها الجيش الأوكراني في هذه المناطق حربا ضد الدولة الروسية، الأمر الذي يتيح له استخدام السلاح النووي التكتيكي ضد كييف.

يراهن فلاديمير بوتين في هذه المرحلة من الحرب الأوكرانية على سلاح الردع، ولتحقيق غايته النهائية قد يذهب إلى استخدامه، بالرغم من تحذيرات البيت الأبيض الغامضة بشأن الرد عليه بحال استخدم السلاح النووي، لكن بالنسبة للكرملين هناك بنك أهداف نووية استهدافها سيغير المعادلة نهائيا، وستمكنه من فرض الاستسلام على الأوكران، لذلك هناك مخاوف جدية من أنه في حال تعرض الجيش الروسي إلى هزيمة جديدة، قد يقوم بوتين باستخدام النووي التكتيكي لتدمير إحدى المدن الأوكرانية بالكامل على غرار هيروشيما ونجازاكي، الأمر الذي دفع اليابان إلى الاستسلام نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تكون هذه المدينة هي العاصمة كييف خصوصا إذا تمكن من القضاء على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وفريقه، ولكن بعض الاحتمالات تستبعد هكذا هجوم مدمر، وتعتقد أن  في حسابات الكرملين أيضا موقف الغرب من فعلته، لذلك ترجح أن يقوم باختبار نووي داخل أوكرانيا يتجنب فيه سقوط عدد كبير من الضحايا، ولكن يستخدمه كرسالة إنذار أخيرة  للغرب والناتو.

الحرة

————————

أيهما أشد خطراً.. بوتين المنتصر أم بوتين المهزوم؟/ عريب الرنتاوي

أين تقع النقطة التي يتعين عند بلوغها، وقف الحرب في أوكرانيا وعليها، وانتقال الأطراف من ميادين القتال إلى غرف التفاوض؟ … سؤال، ربما كان الأصعب، من بين عشرات الأسئلة التي أثارها الاجتياح الروسي لأوكرانيا، والحرب الكونية التي تخوضها الولايات المتحدة والغرب، ضد موسكو…هل تتمثل في طرد القوات الروسية من الدونباس وإعادتها إلى خطوط ما قبل الرابع والعشرين من شباط / فبراير 2022، أم يتعين كذلك، إخراجها من جزيرة القرم، والعودة بها إلى خطوط ما قبل العام 2014؟

هل يتعين ملاحقة روسيا إلى ما وراء أوكرانيا، في عمقها الاستراتيجي، اقتصادياً ودبلوماسياً على الأقل، وإلحاق إعاقة مزمنة بقدرتها على تهديد أي من جاراتها، كما تعهد بذلك الرئيس الأمريكي، وغير زعيم غربي، وكيف يمكن للغرب التأكد من أن روسيا فقدت القدرة على شن المزيد من الحروب والمغامرات، وأن “نزعتها التوسعية” قد انطفأت، ومتى يمكن للغرب أن يعرف ذلك؟…هل ثمة لحظة محددة في سياق هذه المواجهة المحتدمة الدائرة حالياً، يمكن عندها القول بإن الهدف المعلن للغرب: منع روسيا من تكرار “التجربة الأوكرانية”، قد تحقق…والأهم، هل يمكن تحقيق هذا الهدف من دون الدفع بـ”القيصر” إلى “خيار شمشون”، و”هدم المعبد” فوق رؤوس الجميع؟

إن كان الهدف الرئيس للحملة الأمريكية – الغربية – الأطلسية على روسيا، هو تجريدها من القدرة على تهديد جاراتها والغرب عموماً، فأعتقد أن وقائع الأشهر السبع الماضية، أظهرت للرئيس بوتين، وبما لا يدع مجالاً للشك، بأن زمن “القفزات السريعة والخاطفة”، خارج الحدود قد ولّى … فالجيوش الروسية تكابد أصعب الظروف وتتكبد أشد الخسائر، ومنذ أن تعذّر عليها حسم الموقف الميداني في الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع الأولى لـ”العملية العسكرية الخاصة”، بدا أنها دخلت مساراً انسحابياً، غير منظم، وأن ثاني أقوى جيش في العالم، قد أصابه الكثير من الوهن، على غير ما كنّا نظن ونتوقع.

ليس هذا فحسب، فرهانات الحرب من الجانب الروسي، بُنيت على هشاشة “الهوية القومية” لأوكرانيا، ومتانة الرابطة القومية الروسية في المقابل، قبل أن يتأكد للكرملين عكس هذه الفرضية تماماً، فالأوكرانيون يقاتلون بروح “الحرب الوطنية الكبرى”، وبدوافع قومية فوّاره، بخلاف الروس، الذين يعتقد قسم منهم أن هذه الحرب ليست حربه، بدلالة ردود أفعاله على قرار التعبئة الجزئية التي أتخذه بوتين مؤخراً.

والرهان على انشطار “الناتو” وانقسام المعسكر الغربي، سقط منذ الأيام الأولى للحرب، وحتى بعد اشتداد الحاجة للطاقة الروسية من نفط وغاز، وبدا أن الغرب أكثر تماسكاً مما كان عليه زمن الحرب الباردة، كما تبدى للعيان أن الأصوات “الناشزة” في الغرب، التي تتحدث بخطاب مغاير، إنما تصدر عن دول وأطراف هامشية، وهي غالباً، دول تعتمد كلياً على الغاز والنفط الروسيين (هنغاريا) أو أحزاب وقوى من “قماشة” اليمين الشعبوي المتطرف، في أوروبا والولايات المتحدة، سواء بسواء.

والحقيقة أن قرار اجتياح أوكرانيا، لم يكن صدمةً لكييف وحدها، أو حتى للغرب والمجتمع الدولي فحسب، بل مثّل بتداعياته الفورية والمبكرة، صدمة للكرملين ذاته، إذ من كان يتوقع أن تنهمر شحنات السلاح والمال والدعم الدبلوماسي والإعلامي، بغزارة منقطعة النظير من كل عواصم الغرب إلى كييف؟ … ومن كان ينتظر من الأوكرانيين، كل هذه الشجاعة والصلابة في ميادين المعارك … هاتان صدمتان، وليست صدمة واحدة.

بهذا المعنى، فإن ما حصل حتى الآن، يكفي لردع موسكو عن مقارفة أية مغامرة عسكرية في المستقبل القريب أو حتى البعيد، وهذا هو الهدف المعلن للغرب على أقل تقدير… أما إن كانت للغرب نوايا وأجندات أخرى، كما تقول موسكو، فإن الباب سيظل مشرعاً لسيناريو “هدم المعبد”، وليس صدفة أبداً أن تصدر في وقت متزامن، تصريحات عدة، لقادة عالميين، تحذر من خطر اندلاع حرب نووية، والقول أن المسافة التي تفصل البشرية عنها، باتت تعد بالخطوات والأمتار الأخيرة…وليست مستغربة كذلك، كل هذه التحركات العسكرية الاستراتيجية للمعسكرين المتقابلين، وتلك الإشارات المتكررة لـ “العقيدة النووية الروسية”.

لكن بفرض أن بوتين وصحبه، أدركوا أن كُلَف “المغامرات العسكرية”، لن تكون محتملة بعد اليوم، وأنهم تَمثّلوا دروس الحرب الأوكرانية جيداً، فماذا عن مستقبل الأراضي الأوكرانية التي بسطت روسيا سيطرتها عليها، وأخذت تُجري لسكانها “الاستفتاءات” على الانضمام لروسيا، وهل يمكن التسامح مع فكرة السماح لبوتين بضم هذه الأراضي إلى امبراطوريته، حتى لا يصبح “شمشون العصر الحديث”، أم أنه لا بد من استعادة هذه الأراضي إلى السيادة الأوكرانية أولاً، قبل الجلوس على موائد التفاوض وفتح طريق آمن للدبلوماسية؟

إن خرج بوتين بالدونباس، وضمها إلى القرم، فستكون لديه ورقة قوية، يمكنه الاتكاء عليها، لتبرير صوابية قرار الحرب والاجتياح، لكن نتيجةً كهذه، هي هزيمة صافية لكييف وواشنطن والغرب، وهذا ما لن تسمح به هذه الأطراف … وإن فُرض عليه الانسحاب عنوة إلى حدود الرابع والعشرين من شباط الماضي، ستكون هزيمة مدويّة له، ليس أمام كييف وواشنطن فحسب، بل وفي قلب عاصمة ملكه السعيد كذلك، وستكون لخاتمة من هذا النوع، تداعيات لا تطال شخصه وشخصيته المتضخمة فحسب، بل وربما تطاول “الاتحاد الروسي” كذلك، وقد نكون أمام سيناريو “انهيار كبير” ثانٍ بغد الانهيار الكبير الأول في العام 1990، وهذا أمرٌ لن يسمح بوتين بحدوثه.

عند نقطة الاستعصاء هذه، يتعين على الدبلوماسية أن تجترح المعجزات، وهو أمرٌ لطالما فعلته من قبل، سيما إن توفرت النوايا والإرادات، وأدرك اللاعبون الكبار، أن ثمن المضي في الحرب والمواجهة، غير محتمل، ولا يتعين دفعه، وأن التنازل على مائدة التفاوض، على قسوته وكلفته الباهظة، يظل أقل قسوة وكلفة، من المضي في الحرب والتصعيد، سيما حين تكون القوى الكبرى، مصطفة في الخنادق المتقابلة، مُشهرة أسلحتها للإفناء الشامل.

يمكن التفكير باجتراح وضعية خاصة لإقليم الدونباس، تكفل لروسيا دوراً ما في الإقليم، ولأهله الناطقين بالروسية، حقوقهم وحرياتهم وأمانهم في إطار فيدرالي أو كونفدرالي، ويمكن في هذا السياق، وضع جدول زمني مرن، لانسحاب القوات الروسية منه، ويمكن للأمم المتحدة، أن تكون مظلة هذه الحلول وضمانتها.

ومع أن مقترحاً كهذا شديد التعقيد، ويواجه عقداً وعراقيل كأداء كثيرة، لكن من شأنه أن يوفر للأطراف المتحاربة فرصة الادعاء بتحقيق الفوز، بوتين بتأمينه سلامة الإقليم وأهله من بطش القوميين المتطرفين الأوكرانيين، وزيلينسكي بالادعاء أنه أرغم الروس على إبرام اتفاق، يسقط فكرة الضم والإلحاق، ويحفظ لأوكرانيا سلامة أراضيها وسيادتها …. وسيكون بمقدور واشنطن وعواصم الغرب كذلك، الزعم بأنها “ردعت” روسيا، في أوكرانيا وما ورائها.

معادلة “رابح – رابح”، يمكن أن تكون الطريق الأقصر لوقف الحرب، ومنع الانزلاق لسيناريو “هدم المعبد”، يمكن أن تحفظ ماء وجه الأطراف، وأن تهبط بهم بسلام، عن قمم الأشجار التي صعودا إليها في الأشهر الأخيرة، والأهم، إنقاذ البشرية.

الحرة

—————————

أوزباكستان تتراجع قبل أن يجف حبر “قمة سمرقند”/ سامي عمارة

لكم كان من الغريب والمثير للدهشة معاً أن تعلن أوزباكستان عن قرارها حول تعليق العمل بالبطاقات الائتمانية الروسية “مير”، ولم يكن مضى على “قمة سمرقند” التي استضافتها أكثر من أيام معدودات. وكانت أوزباكستان التي استضافت قمة رؤساء بلدان منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند أسهبت في تأكيد عمق وأهمية علاقاتها الوثيقة مع روسيا، التي كان رئيسها فلاديمير بوتين منح الرئيس الأوزبكي شوكت ميرضيايف بوسام ألكسندر نيفسكي، أحد أعلى أوسمة الدولة الروسية، في احتفال مهيب عقد على هامش أعمال “قمة سمرقند”، وفي أعقاب توقيع البلدين “إعلان الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين أوزباكستان وروسيا”، فضلاً عن توقيع “حزمة من اتفاقات الاستثمار بقيمة تقدر بـ4.6 مليار دولار في مجالات الهندسة الميكانيكية والكيمياء والبتروكيماويات والجيولوجيا”.

العقوبات الأميركية

وعلى الرغم من أن أحداً في روسيا لم يكشف بعد عن احتمالات أن يكون القرار الأوزبكي حول تعليق العمل ببطاقات “مير” نزولاً على تهديدات وزارة الخزانة الأميركية بضرورة مراعاة ما فرضته الإدارة الأميركية وبريطانيا من عقوبات ضد روسيا، فإن مراقبين كثيرين ومنهم عدد من المعلقين السياسيين في روسيا عزوا ذلك إلى ما تمارسه الولايات المتحدة من ضغوط على بلدان آسيا الوسطي.

وكان قاسم توكايف رئيس كازاخستان أول من اعترف بقسوة هذه العقوبات وما تفرضه الإدارة الأميركية حول ضرورة الالتزام بها، وكشف عما يساوره وبلاده من مخاوف في شأن تبعات انتهاك هذا النظام، وفي هذا الصدد توقف مراقبون كثيرون عند ما تقوم به الإدارة الأميركية من تكثيف لنشاطها المضاد لروسيا في هذه البلدان.

وأشار هؤلاء إلى نجاح واشنطن في تأجيج الخلافات بين اثنتين من جمهوريات آسيا الوسطى وهما طاجيكستان وقيرغيزستان، بل واختيارها موعد افتتاح “قمة سمرقند” لاندلاع المواجهة العسكرية بين البلدين، في محاولة لإفساد أجواء هذه القمة.

وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها منظمو القمة ومعهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد استأنف الجانبان مواجهتهما العسكرية من دون اعتبار لنتائج ما توصل إليه الرئيسان الطاجيكي إمام علي رحمون، والقيرغيزي صدير جباروف من نتائج في مباحثاتهما الثنائية على هامش أعمال قمة رؤساء بلدان منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند الأوزبكية.

ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيراً لما أولته “قمة سمرقند” لمحاولات تصفية الخلافات الداخلية من اهتمام بدا أكثر وضوحاً من جانب كل من روسيا والصين، من أجل احتواء أبعاد وتبعات التدخلات الأميركية، الأمر الذي تطلب في أعقاب القمة إيفاد روسيا أمين مجلسها القومي نيكولاي باتروشيف إلى بكين، سعياً وراء مزيد من التنسيق مع عدد من كبار القيادات السياسية والأمنية والعسكرية هناك.

وكانت “اندبندنت عربية” في تقرير سابق لها من موسكو، أشارت إلى النزاع الذي اندلع بين أرمينيا وأذربيجان في وقت مواكب لافتتاح “قمة سمرقند”، ما اتخذه رئيس الحكومة الأرمنية نيكولا باشينيان “ذريعة” للاعتذار عن عدم المشاركة في هذه القمة، في الوقت الذي كان يستعد لاستقبال نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي في يريفان.

وكشفت المصادر عما دار خلال هذه الزيارة من مباحثات تناولت في بعض جوانبها الموقف من العلاقات الأرمنية والإيرانية، وما ترومه واشنطن من أدوار مضادة يجب أن يقوم بها الجانب الأرمني.

وقد وصف مراقبون روس هذه الزيارة بأنها “تدخل سافر في الشؤون الداخلية الأرمنية”، وإن قال بعضهم إنه يجب أن يكون نموذجاً لسياسات روسيا في المنطقة، وأيضاً في آسيا الوسطى.

رسالة أميركية إلى أرمينيا

ولتأكيد مشروعية ذلك، أشار سيميون باجدوساروف العقيد السابق والمحلل المتميز في شؤون الشرق الأوسط وآسيا الوسطى من خلال مشاركته في برنامج “أمسية مع سولوفيوف” على شاشة القناة الإخبارية الروسية الرسمية “روسيا-2” إلى أن بيلوسي التقت في معرض زيارتها يريفان ممثلي المعارضة الأرمنية، وأضاف أن ذلك “شيء محمود” يستهدف إبلاغ الرسالة إلى السلطة الشرعية حول أنها “منتبهة” إلى ما يدور بين جنبات الساحة السياسية الأرمنية الداخلية، بما يمكن أن يكون محاولة للتأثير المباشر في السلطة الرسمية من جانب، والاستعداد مستقبلاً للتعامل مع عناصر المعارضة في حال احتمالات توليها مقاليد الحكم في وقت لاحق من جانب آخر.

وقال بوجداساروف إن ذلك هو ما يجب أن تقوم به روسيا في آسيا الوسطى، شأن ما تفعل القيادات الأميركية أيضاً خلال زياراتها للعاصمة الروسية. ولتأكيد مثل هذه التوجهات ضرب مثالاً بما تقوم به الصين في طاجيكستان، وما تنعم به من امتيازات لقاء ما تقدمه لهذه الجمهورية، على عكس روسيا التي طالما “اكتفت” بكلمات الشكر والثناء فارغة المضمون “خالية الدسم” إذا جاز هذا القول.

وفي ذلك إشارة غير مباشرة إلى ما جرى من اتصالات وما تم توقيعه من اتفاقات على هامش “قمة سمرقند”، ومنها مع أوزباكستان حول التعاون في “إنشاء مجمعات صناعية مشتركة في مناطق أوزباكستان، لعقد المنتدى المقبل لمنطقتي أوزباكستان وروسيا في أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام.

وتقول المصادر الرسمية إن الرئيسين الروسي والأوزبكي أعربا عن تقديرهما العالي للتعاون الثقافي والإنساني الغني والمتنوع على نحو بدا فيه ارتياح الجانب الروسي أكثر وضوحاً، وأشارت المصادر الروسية إلى “أن أوزباكستان اليوم هي الرائدة من حيث عدد الفروع الأجنبية للجامعات الروسية” على مدى السنوات الأربع الماضية، بعد افتتاح فروع لـ12 جامعة روسية بما يصل مجموعها إلى 15 جامعة.

وأضافت أن الرئيسين تبادلا وجهات النظر حول قضايا الأجندة الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك”، فضلاً عن توقيع الإعلان المشترك حول الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين أوزباكستان وروسيا، ينص على تطوير التعاون في عدد من المجالات المحددة في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والطاقة النووية والنقل والثقافة والإنسانية وغيرها، ما يمثل مرحلة جديدة في تطوير التعاون الأوزبكي- الروسي متعدد الأوجه.

مقدمة لقرارات أخرى

وكان من الغريب في مثل هذه الحال أن يعقب ذلك قرار تعليق العمل بالبطاقات الائتمانية الروسية، بما قد يكون مقدمة لقرارات أخرى تأتي في سياق الاستجابة للضغوط الأميركية. ومن الملاحظ أيضاً وجود بعض المؤشرات التي تقول بنجاح الإدارة الأميركية في إملاء إرادتها على بلدان أخرى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر كازاخستان وتركيا، في قائمة تضم البلدان التي كانت سارعت وأعلنت العمل بالبطاقة الائتمانية “مير”، ومنها فيتنام وأرمينيا وأوزباكستان وبيلاروس وقرغيزستان وطاجيكستان، وكذلك أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا المعترف بهما فقط من جانب روسيا وعدد محدود من أصدقائها.

وحول نظام البطاقة الائتمانية “مير” تقول المصادر الروسية إنه “نظام دفع يعمل بشكل مستقل عن النظام المالي الغربي، ويسمح للدول بالتعامل مع البنوك الروسية خارج نظام الدفع “سويفت”، كما يسمح للمواطنين بإجراء معاملات رقمية”.

وأكدت هذا المصادر أن دوراً حيوياً أضحى لهذا النظام بعد خروج “فيزا” و”ماستر كارد” من البلاد، وكانت وكالة “ريا نوفوستي” الروسية أشارت إلى أن البنوك التركية ومنها “Bankası Is ” و”Deniz Bank” توقفت عن خدمة بطاقات “مير” الروسية، أشارت مصادر بنك “Bankasi İş ” إلى أن القرار اتخذ نزولاً عند ما تفرضه العقوبات الأميركية والبريطانية ضد روسيا.

ومن اللافت أن بعض الدول العربية مثل مصر والإمارات العربية والبحرين كانت قد استجابت لعرض قبول التعامل بالبطاقة الائتمانية الروسية “مير”، التي وجدت فيها القاهرة فرصة لاحتمالات التخلي عن الدولار في التعاملات الثنائية، واعتماد عملتها المحلية في التعاملات بين البلدين.

ونقلت المصادر عن فخري الفقي رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري ما قاله حول أن مصر ستربط شبكة “ميزة”، وهي عبارة عن بطاقة دفع مصرية تحمل شعار الشبكة المحلية للمدفوعات من طريق شركة “بنوك مصر”، مع نظام “مير” الروسي للدفع بالروبل نهاية 2022. 

وقال الفقي إن “هذه الخطوة تأتي ضمن خطة للبنك المركزي وبتوجيهات رئاسية للحكومة، من أجل تعزيز المعاملات التجارية وتقليص العجز وتعزيز الصادرات”.

وأضاف أن ربط شبكة “ميزة” مع نظام “مير” الروسي يساعد في دعم سداد فواتير القمح لموسكو، ويدعم تنشيط السياحة الروسية في مصر”.

“مناورات” أميركية

وعودة إلى نشاط الولايات المتحدة الأميركية في آسيا الوسطي، أعاد كثير من المراقبين استعراض ما جرى من مناورات مشتركة بين بلدان آسيا الوسطى مع الولايات المتحدة، وهي المناورات التي جرت تحت اسم “التعاون الإقليمي – 2022” في طاجيكستان، وسارعت موسكو إلى إعلان رفض إجرائها على مقربة مباشرة من الحدود الروسية، وكذلك الصينية في أغسطس (آب) الماضي.

وكان نيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي أعلن صراحة عن احتجاجه على إجراء هذه المناورات، مشيراً، في تحذير مباشر له إلى بلدان آسيا الوسطي، إلى أن مثل هذه المناورات تستهدف بالدرجة الأولى دراسة أبعاد وقدرات مسرح العمليات العسكرية، وتحديد الأهداف المحتملة للأسلحة فائقة الدقة.

وأضاف باتروشيف في تحذيراته لبلدان المنطقة ومنظمة شنغهاي للتعاون، أنه يأمل في أن تستوعب هذه البلدان المخاطر التي تعنيها مثل هذه المبادرات الأميركية على الأمن القومي.

 وأعاد المسؤول الأمني الروسي الكبير إلى الأذهان أن الولايات المتحدة طالما حاولت في السابق التغلغل إلى المنطقة بما يسمح بنشر وبناء البنية التحتية الموقتة اللازمة لعملياتها المضادة لروسيا، ولعل ذلك يمكن أن يكون إشارة غير مباشرة لما سبق وشهدته هذه المنطقة من جولات لعدد من الوفود الدبلوماسية الأميركية التي قامت بزيارة كل من كازاخستان وأوزباكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان في نهاية مايو (أيار) الماضي، في توقيت مواكب للحملة الضارية التي شنها الرئيس الأميركي جو بايدن ضد الصين الخصم الجيوسياسي الرئيس للولايات المتحدة، خلال جولته في عدد من بلدان منطقة المحيطين الهندى والهادئ.

ذلك كله ما تدركه موسكو ومعها بكين على اعتبار أنهما المستهدفتان بالدرجة الأولى من كل ما تقوم به الولايات المتحدة من نشاط يهدف في المرحلة الراهنة إلى الحيلولة دون التفاف بلدان المنطقة على العقوبات الغربية ضد روسيا، على خلفية الصراع والمواجهات المسلحة مع أوكرانيا والقوى التي تقف وراءها.

اندبندنت عربية

———————————–

يوم الحسم… ماذا سيقول بوتين للروس الجمعة؟

قرار الضم الكامل سيدخل حيز التنفيذ ويحول مسار معركة أوكرانيا

موسكو: رائد جبر

يترقب العالم خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الهيئة التشريعية المقرر يوم الجمعة بكثير من القلق، ليس فقط بسبب توقعات بإعلان إطلاق مسار ضم المناطق الأوكرانية الأربع دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا التي أطلقت فيها موسكو استفتاءات أحيطت بكثير من الشكوك، بل لأن الخطوة ستكون لها تداعيات كبرى تلقي بظلال ثقيلة على الوضع الروسي الداخلي، وعلى المواجهة المتفاقمة مع أوكرانيا والغرب عموماً.

في مساء 25 سبتمبر (أيلول)، أي بعد يومين على إطلاق الاستفتاءات في المناطق الأربع تلقى النواب الروسي في مجلس الدوما وأعضاء مجلس الاتحاد (الشيوخ) إخطارات بالتحضير لحدث كبير. تم الإبلاغ عن اجتماع في الكرملين للاستماع لخطاب الرئيس الروسي.

السيناريوهات المتوقعة لمسار هذا الخطاب تبدو واضحة ومحددة، تكاد تكون تكراراً حرفياً لسيناريو خطاب بوتين أمام الهيئة التشريعية في 16 مارس (آذار) 2014 عندما قدم تمهيداً مطولاً حمل إحاطة «تاريخية» وإشارات متعددة إلى ضرورات الخطوة، قبل أن يصل إلى اللحظة الحاسمة لإعلان قرار ضم شبه جزيرة القرم والطلب من نواب الشعب القيام بالتدابير القانونية والتشريعية اللازمة لضمان تنفيذ القرار بأسرع وقت ممكن.

في تلك المرة كان البرلمان مستعداً تماماً. وفي اليوم التالي مباشرة تم إقرار ضم القرم وتشكيل وحدة إدارية جديدة على الأراضي الروسية.

السيناريو مماثل تماماً هذه المرة. والعنصر المركزي فيه بعد تكرار الرواية التاريخية ورؤية بوتين للصراع الجاري، يستند إلى الاستفتاءات التي تنتهي اليوم (الثلاثاء) في المناطق الأربع، والتي تبدو نتيجتها معروفة جيداً.

ينتظر أن يعلن بوتين إقرار نتائج الاستفتاءات و«الاستجابة» لرغبة مواطني دونباس والمناطق الأخرى التي تنتمي إلى «العالم الروسي» ويفتح الباب بذلك أمام المسار الأكثر خطورة منذ اندلاع الحرب قبل ثمانية أشهر.

يتضح هذا المسار أيضاً من حقيقة أن مجلس الدوما ينظر في 29 سبتمبر، أي قبل يوم واحد من الخطاب الرئاسي، في مشاريع قوانين تتعلق بدخول مناطق جديدة إلى روسيا بناءً على نتائج الاستفتاءات التي تجري هناك.

لكن، ماذا يمكن أن يقول بوتين أيضاً، وكيف تنعكس الخطوة على الصراع الجاري؟

يتفق معظم النواب على أنه يتم بالفعل التحضير لحدث تاريخي. اللافت أن الكرملين لم يحدد حتى الآن طبيعة الاجتماع من ناحية البروتوكول، وهل يخاطب بوتين الهيئة الاشتراعية، بطلبات محددة، أم سيوجّه خطاباً إلى الأمة بحضور نوابها في الهيئة التشريعية؟

الفارق قد يظهر من خلال مضمون الخطاب الذي يحتمل ألا يركز فقط على فكرة ضم المناطق الجديدة، بل يرفق ذلك بتدابير جديدة توضح ملامح التحركات الروسية خلال المرحلة المقبلة في أوكرانيا.

بين التوقعات الأكثر تشاؤماً أن يحمل الخطاب دعوة إلى التعبئة الشاملة وربما فرض حالة الأحكام العرفية على خلفية المخاوف الروسية المتزايدة بسبب تعثر تطبيق التعبئة الجزئية التي أعلن عنها في وقت سابق، فضلاً عن القلق المتنامي بسبب الأخبار عن حالات نزوح واسعة نحو البلدان المجاورة. تقول بعض تعليقات الصحافة، إن بوتين قد يعلن قرارات تحظر السفر أو تضع قيوداً مشددة على مغادرة فئات عمرية للبلاد. لا يوجد ما يؤكد هذه الفرضية؛ ما يعني أن الروس سيكون عليهم انتظار الخطاب لتحري المدى الذي يمكن أن يذهب إليه بوتين وهو يفتح باب المواجهة في شكلها ومضمونها الجديدين.

العنصر الثاني المهم هنا، هو أن قرار ضم أراضي جديدة، مرتبط بسلسلة من القوانين والتشريعات الجديدة التي تتعامل مع انضمام ملايين المواطنين الجدد إلى الدولة مع كل ما يفرض ذلك من تعديلات تشريعية وسن أحكام جديدة، في ظروف صعبة ومعقدة مع استمرار المعارك على الجزء الأكبر من الأراضي «المحررة». وقد بدأت تظهر بالفعل تسريبات تتحدث عن إنشاء دائرة فيدرالية روسية جديدة مركزها القرم وتضم كل الأراضي الروسية «الجديدة». وهناك إشارات إلى أن ديمتري روغوزين أحد أكثر «الصقور» ميولاً قومية سوف يرأس هذه الدائرة.

لكن الأهم من البعد الداخلي الذي يثير حالياً قلقاً واسعاً لدى فئات كثيرة من الروس، يتمثل في انعكاسات الخطوات المنتظرة على المعركة في أوكرانيا.

أول العناصر التي تلفت الأنظار هنا، هو أن روسيا تستعد لضم مناطق لا تسيطر عليها بشكل كامل.

وفي مقابل السيطرة على نحو ثمانين في المائة تقريباً من منطقة لوغانسك الصغيرة نسبياً بالمقارنة مع المناطق الأخرى، فإن مساحة السيطرة في إقليم دونيتسك لا تزيد على نصف أراضي المنطقة إدارياً وفقاً لتوزيع النفوذ عندما وقع التمرد العسكري فيها عام 2014 (بعض التقديرات تشير إلى الثلث فقط).

لتوضيح هذه النقطة، ينبغي التذكير بأن الانفصاليين في تلك الفترة نجحوا بمساعدة روسيا في فرض سيطرة على مناطق محدودة من الإقليم، وعلى مدى الأشهر السبعة الماضية وعلى الرغم من توسيع هذه المساحات بدرجة معينة فإنهم فشلوا في إحكام سيطرة مطلقة على أكثر من نصف الإقليم. ينسحب الوضع نفسه على زابوريجيا التي تحكم القوات الروسية السيطرة على ثلثي مساحتها فقط، بينما يبدو الوضع أفضل نسبياً في خيرسون التي تخضع غالبية مناطقها الإدارية للسيطرة الروسية.

اللافت أيضاً هنا، أنه حتى المناطق التي تخضع لسيطرة موسكو والقوات المتحالفة معها لا تعد هادئة، بل تشهد مواجهات ضارية على طول خطوط التماس.

يفتح هذا الوضع الباب على سؤال مهم طرح منذ اللحظة الأولى عندما اعترفت روسيا في 21 فبراير (شباط) باستقلال لوغانسك ودونيتسك، ما هي الحدود التي تضمها روسيا؟

تتحدث الأوساط الروسية عن ضم كامل وفقاً للحدود الإدارية قبل 2014؛ ما يعني أن روسيا سوف تعلن بعد ذلك عن وجود مناطق «محتلة» من أراضيها تقع خلف خطوط التماس الحالية.

هنا تظهر معضلتان أمام موسكو، الأولى تتمثل في ضرورة مواصلة المعارك حتى إنجاز تحرير «الأراضي الروسية»، وهذا أمر مع مراعاة مسار المعارك خلال الشهور الماضية يبدو مكلفاً وصعباً للغاية؛ والثانية ترتبط بإعلان موسكو السابق حول عدم السماح بمهاجمة أراضيها؛ ما يعني أن أي اعتداء على هذه المناطق سوف يشكل عدواناً عسكرياً مباشراً على أراضٍ روسية؛ ما يستدعي رداً سريعاً وحاسماً.

هنا يبرز سؤال: ماذا لو استخدمت القوات الأوكرانية أسلحة غربية لشن هجمات على الأراضي التي أصبحت روسية؟ ألا يعني ذلك اضطرار موسكو للرد على «الناتو» الذي بات شريكاً في «الهجوم على أراضيها»؟

يفضل كثير من الخبراء الروس حالياً عدم وضع إجابات على الأسئلة الكثيرة المطروحة، لكن الأكيد أن خطاب بوتين الجمعة سوف يعني نقطة اللاعودة، ليس فقط بالنسبة إلى أوكرانيا التي باتت أمام واقع التقسيم، أو أمام أوروبا التي تواجه انتهاكا صارخا على صعيد تغيير خرائط الدول في القارة للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

يميل كثيرون في موسكو إلى أن بوتين قد لا يذهب بعيداً في اتخاذ قرارات يمكن أن تثير الغضب داخلياً، بمعنى أنه لن يتوقف طويلاً أمام مسائل التعبئة والأحكام العرفية وغيرها، وأنه سوف يركز أكثر على الحق التاريخي والمعنى الإنساني لمساعدة مواطنين روس طلبوا الحماية، لكن في كل الأحوال يبدو أن سيد الكرملين يذهب بخطى واثقة وهو يحضّر خطابه هذه المرة نحو وضع الصراع على مسار جديد لا يمكن التكهن بعد بكل تداعياته المحتملة.

——————————

خبير روسي: قرار التعبئة قد يؤدي لانهيار الاقتصاد الروسي ونهاية عهد بوتين

موسكو: «الشرق الأوسط»

في الأشهر السبعة الأولى لغزو روسيا لأوكرانيا، جادل بعض الخبراء والمحللين بأن العقوبات الدولية المفروضة على موسكو لم تكن قوية بما يكفي لإضعافها أو الضغط عليها اقتصادياً، حيث استمر الروس في السفر والتسوق، وكانوا يعيشون حياة طبيعية بشكل عام.

أما الآن، فقد أكد خبير اقتصادي روسي أن الاقتصاد الروسي قد «يحتضر» بشكل تام بحلول الشتاء، بسبب إجراء تم اتخاذه من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وليس من قبل الدول الغربية، وهو التعبئة الجزئية لمئات الآلاف من جنود الاحتياط للقتال في أوكرانيا.

وقال الاقتصادي الروسي فلاديسلاف إينوزيمتسيف، في مقال بصحيفة «ذي انسايدر»، إن هذه التعبئة ستكون لها «عواقب كارثية حقاً»، بما في ذلك موت الاقتصاد الروسي وسقوط نظام بوتين.

وأضاف قائلاً: «أتوقع أن ينهار الاقتصاد الروسي تماماً بحلول الشتاء. فهذه التعبئة التي أعلن عنها بوتين قبل أيام ستكون علامة فارقة في التاريخ الروسي، حيث إنني أعتقد أن العد التنازلي الأخير لعهد بوتين قد بدأ في لحظة الإعلان عن التعبئة الجزئية».

وأكمل بقوله إنه يتوقع أن تركيز الكرملين الحصري على جهود التعبئة والحرب يعني أن الأموال الحكومية ستوجه إلى كل ما يخص هذه الجهود على حساب الاستثمار في الأعمال والاقتصاد.

وقال إينوزيمتسيف، وهو مدير مركز دراسات المجتمعات ما بعد الصناعية في موسكو، إنه، قبل قرار بوتين، كان يتفق مع التوقعات الاقتصادية بأن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا سينخفض بنحو 4 – 5 في المائة بحلول نهاية العام. لكنه أكد أنه يعتقد الآن أن الناتج المحلي سينخفض إلى هذا الحد في شهر أكتوبر (تشرين الأول) وحده، قبل أن ينهار بشكل أكبر في بقية أشهر السنة.

وتابع: «ستنخفض الاستثمارات في الأعمال التجارية بشكل حاد في الأشهر القليلة المقبلة، وقد تنخفض بورصة موسكو إلى ما دون 1500 نقطة قبل نهاية العام. وفي المناطق الأكثر فقراً في روسيا مثل بورياتيا، ستكون العواقب الاقتصادية كارثية، حيث ستُترك آلاف العائلات بدون دخل، وستختفي الشركات المحلية المتوسطة والصغيرة ببساطة».

ولفت الخبير الروسي إلى أن كل هذه التوقعات لا تأخذ في الاعتبار الموجة الجديدة الحتمية من العقوبات الغربية التي سيتم الإعلان عنها في المستقبل القريب.

وأنهى إينوزمتسيف مقاله بقوله إن «الآثار المالية للتعبئة – على المدى المتوسط – ستكون أكبر بكثير من العواقب الفعلية للحرب في أوكرانيا».

————————–

النووي الروسي ضد الإيراني؟/ عمر قدور

ربما يستخدم بوتين السلاح النووي لإنهاء حربه على أوكرانيا، بفرْض الاستسلام على كييف، وعلى الغرب من ورائها. إعلامه الذي يُظهر صراحةً التهديدَ بالنووي قد لا يتأخر عن تسويق الكارثة بأنها مسبوقة بفعل أمريكي مماثل لإنهاء الحرب العالمية الثانية، وبهذا يستأنف الإعلام ذاته سرديته عن محاربة النازيين في أوكرانيا. الخيار النووي البوتيني ليس تهويلاً من الغرب، فالإعلام الموالي للكرملين يتولى المهمة مهدِّداً بعدم بقائها في حيز التهويل.

تهديد بوتين ليس خبراً ساراً لطهران، خاصة وهي تماطل في ملف مفاوضات إحياء الاتفاق النووي. شبح التهديد الروسي سيخيّم على أذهان المفاوضين، فإذا كان بوتين عازماً على استخدام النووي لن يكون مستبعداً لجوء حكام طهران إلى الخيار ذاته. على صعيد متصل، لم يعد مستبعداً أن تكون طهران قد أنجزت قسماً معتبراً مما يسمح لها بالتحول بسرعة إلى دولة نووية، سواء مع نقض الاتفاق مرة أخرى إذا أُعيد إحياؤه، أو مع انقضاء مدته الأصلية في أمد لم يعد بعيداً.

وإذا ذهبنا مع الافتراض المعاكس، أي أن التهديد النووي الروسي سيستعجل إدارة بايدن كي تقبل بشروط طهران للعودة إلى الاتفاق، فإن هذه الفرضية لا تنفي اضطرار الإدارة الأمريكية إلى التشدد في الضمانات النووية المطلوبة من طهران، وإن تساهلت “للمقايضة” في ملفات أخرى أكثر مما سبق. واستخدام بوتين السلاح النووي سيدفع واشنطن إلى التفكير سريعاً في سيناريوهات اليوم التالي لانقضاء الاتفاق مع طهران، في حال العودة إليه، إما بالضغط من أجل تمديد سريانه، أو بوضع سيناريوهات لا تستثني الخيار العسكري.

يطرح تهديد بوتين النووي علامة استفهام كبرى حول سلوك حكام طهران، إذا امتلكوا السلاح النووي. فبوتين، إلى عهد قريب، نُظر إليه في الغرب كشريك، وكانت السياسات الغربية ماضية في إرضائه بما يفوق إمكانيات روسيا أحياناً، وإن بقيت أقل مما تزيّن له طموحاته الإمبراطورية. لقد سُمح لبوتين بالتدخل العسكري في سوريا بلا منغصات على الإطلاق، وانطلاقاً منها بدأت عودة موسكو إلى المنطقة باتفاقيات بيع أسلحة وأخرى اقتصادية، وصولاً إلى التدخل العسكري في ليبيا. أما العقوبات التي فُرضت عليه جراء اجتياحه وضمه القرم فقد كانت بمثابة رسالة أكثر مما هي مؤثرة على اقتصاده، بل كان هناك اتجاه إلى الالتفاف عليها وجعلها شبه ملغية لو لم يقم بغزو أوكرانيا.

خان بوتين تلك الشراكة والثقة المضمرة فيها، ليقدِّم بذلك مثلاً سيئاً عما يمكن أن يفعله حكام آخرون ليس لديهم السجل نفسه من التعاون مع الغرب. في الحالة الإيرانية، لدينا سلطة تبني مشروعيتها على العداء الجوهري لقيم الغرب، وهو خطاب لن تدحضه الحدود المسموح بها لبراغماتية الجناح المعتدل للملالي. حصول هذه السلطة على النووي سيجعلها تستقوي أكثر فأكثر على الداخل الإيراني، وتستقوي عليه وعلى الجوار أكثر فأكثر بطموحات وتوسع خارجيين، مع قدرة دولية أقل من الآن على ردع تلك الطموحات.

خارج المعلن، كان واحداً من الاحتمالات هو التسليم بإيران نووية، يسنده أن حكامها لن يفعلوا ما لم يفعله حكام الهند وباكستان وكوريا الشمالية. بمعنى أن السماح للملالي بامتلاك النووي سيكون بمثابة طمأنة حاسمة لهم فيما يخص وجودهم وبقاءهم في السلطة، بقياس هذه السلطة على ما هو متفق عليه لجهة عدم استخدام السلاح النووي إلا في حال تعرض البلد لتهديدات وجودية، فضلاً عن كونه سلاح ردع يمنع الخصوم من الوصول إلى تلك العتبة.

السابقة الخطيرة المخيفة التي يسجّلها بوتين هي النزول بالسلاح النووي من الاستراتيجي، واستخدامه أو التهديد به لخدمة أطماع توسعية. في الأيام الأخيرة توالى مسؤولون روس على مهزلة تفسير التهديد الوجودي باعتبار الأراضي الأوكرانية التي ستُضم إلى روسيا روسيةً يسري عليها حق “الدفاع” عنها بالنووي، قالها صراحة يوم الخميس ديمتري ميدفيدف الدوبلير “البديل” السابق لبوتين في كرسي الرئاسة، ثم لافروف وزير الخارجية يوم السبت في مؤتمر صحفي بعد إلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

كان بوتين، في خطابه عندما أعلن التعبئة الجزئية، كأنما وضع كييف والغرب من ورائها أمام خيار الهزيمة أمام 300 ألف مقاتل روسي إضافي، أو لجوئه إلى استخدام النووي في حال هزيمتهم. الحديث عن استخدام محدود لقنابل نووية “تكتيكية” لا يهوّن من التهديد، فعليه ينبغي تخيُّل لجوء باقي القوى النووية إلى تهديدات مشابهة من أجل احتلال أراضي الغير. هو تهديد إذا خضع لها الغرب والأواكران، أو وُضِع في التنفيذ، سيكون له عواقب مؤثرة جداً على شكل الصراعات المستقبلية التي يكون أحد أطرافها قوة نووية، وأمام فظاعة هذا الاحتمال ينبغي تنحية البلاغة والإنشاء من قبيل القول أن احتلال أراضي الغير حدث ويحدث بالنووي ومن دونه.

أن يُسمح بإيران نووية وفق السيناريو السابق، هذا مستبعد جداً، لأنه ببساطة ينطوي على السماح بصراعات في المنطقة تهون بالمقارنة معها كافة الصراعات الدامية السابقة. ووجود القوة النووية الإسرائيلية لن يكون سلاح توازن وردع أمام الإيرانية، إذ من المرجح بقوة أن تدفع المنطقة ثمن وجود الاثنتين معاً، وأن تسعى دول أخرى إلى امتلاك سلاحها النووي بذريعة الدفاع والردع، لتستخدمه لاحقاً، أسوة بسابقاتها، كأداة للتهديد المباشر والهيمنة.

نظرياً، على الأقل، يعمل التهديد النووي الروسي ضد الطموح النووي الإيراني بقدر ما يُبرِز مخاطر نووية لم تكن واردة طيلة ستة عقود منذ أزمة نشر الصواريخ السوفيتية في كوبا، بل لم تبرز يوماً على هذا النحو الصريح جداً. السيناريو الماثل أمام البشرية هو هيروشيما جديدة هنا وناغازاكي جديدة هناك، والوحش النووي متى انطلق لن يتوقف عند بضعة آلاف الكيلومترات من الأراضي الأوكرانية، فهو سيكبر كلما انضم عضو جديد إلى النادي النووي الذي لم تصمد عقلانية جميع أعضائه القدامى. المفارقة أن الحالة الأوكرانية “بخلاف تهديدات بوتين” هي ما قد يبرر الطموح الإيراني، لأن كييف تخلت عام 1994 عن حصتها النووية من الإرث السوفيتي، ولو لم تفعل لتردد بوتين كثيراً قبل اجتياح أراضيها، وما كانت مسيَّراته المستوردة من إيران تقصف أوديسا في الأمس.

—————————-

روسيا تتوجس من إصلاح مجلس الأمن الدولي

مجلس الأمن الدولي، أو حكومة العالم، كما يسميه البعض، أوجدته الحرب العالمية الثانية، وتثير الحرب الروسية على أوكرانيا وسط أوروبا شكوكاً جدية حول إستمراره في الوجود وفعاليته. فمسألة إعادة تشكيله أو “إصلاحه” كانت المسألة الرئيسية التي طرحها العديد من زعماء الدول في الدورة السنوية الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة. وأبرز من طرح المسألة كان الرئيس الأميركي جو بايدن بمطالبته شمول عضوية المجلس الدائمة كلاً من اليابان وألمانيا. وأيدت روسيا فكرة توسيع العضوية الدائمة، بل أكد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف أنها تطرح منذ زمن بعيد فكرة توسيع عضوية مجلس الأمن. لكن وزير الخارجية سيرغي لافروف، وفي كلمته أمام الجمعية العامة، رفض فكرة منح اليابان وألمانيا العضوية الدائمة، ورأى أن توسيع المجلس يجب أن يكون فقط من دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وسبق للصحيفة الرسمية للحكومة الروسية RG أن نقلت عن الرئيس الروسي الأسبق دمتري ميدفيديف توقعه أن تلقى منظمة الأمم المتحدة  مصير”عصبة الأمم التي أفلست”، في حال “الإفتئات على صلاحيات الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي”. وكانت الصحيفة قد نقلت أيضاً في 9 من الجاري عن المندوبة الدائمة للولايات المتحدة في المنظمة الأممية ليندا توماس غريفيلد قولها بأن الرئيس الأميركي ووزير خارجيته سيطرحان في أسبوع دورة الجمعية العامة للمنظمة موضوع إصلاح مجلس الأمن الدولي. وأضافت غرينفيلد حينها أن على الدول ألا تدافع عن الوضع الراهن للمجلس، بل ينبغي عليها إظهار الإستعداد للحلول الوسط.

ترى روسيا في طرح فكرة توسيع العضوية الدائمة في مجلس الأمن محاولة لإنتزاع  حق الفيتو منها. فقد نقلت الصحيفة المذكورة عن النائب الأول للمندوب الدائم لروسيا في الأمم المتحدة دمتري بوليانسكي قوله لقناة التلفزة الروسية الرئيسية “روسيا ـــــ 1” بأن دعوات الولايات المتحدة لإنتزاع حق الفيتو من روسيا في مجلس الأمن الدولي لا تستند إلى أسس قانونية. ومثل هذه الآلية ليست متوفرة في إطار المنظمة، لأن من شأن ذلك أن يقوض الأساس الذي تقوم عليه المنظمة. ورأى الدبلوماسي الروسي أن الولايات المتحدة كانت في ما سبق أقل كلاماً بشأن إعادة تشكيل مجلس الأمن الدولي، لكنها قررت إستغلال اللحظة الراهنة في الظروف الحالية.

موقع صوت بروباغندا الكرملين الدولي الرئيسي RT نشر في 21 الجاري نصاً يوجز الموقف الروسي من دعوات إصلاح محلس الأمن الدولي، إذ إعتبر أنهم “”يبحثون عن ثغرة لإزاحة روسيا”: لماذا يطرح عدد من الدول إعادة تشكيل مجلس الأمن الدولي”. قال نص هيئة تحرير الموقع بأن الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني ورئيس الوزراء الياباني رأوا ضرورة إعادة تشكيل مجلس الأمن الدولي. وأكد هؤلاء الساسة في كلماتهم بالجمعية العامة أن مثل هذا الإصلاح ضروري بسبب أعمال روسيا في أوكرانيا، والتي تهدد النظام العالمي برمته. ويعتقد الخبراء، برأي الموقع، بأن رؤساء الدول هؤلاء منحازون في الوضع الراهن،  ويستهدفون في طرحهم الحد من نفوذ روسيا في المنظمة الدولية. وإذا جرى الإصلاح وفقاً لهذه المواقف، فهو لن يؤدي سوى إلى تشويش هيكلية المنظمة والمساهمة في زيادة ضغط الغرب عليها.

ينقل الموقع عن خبير روسي بأن مسألة إصلاح مجلس الأمن نضجت منذ زمن بعيد، “منذ قصف الناتو ليوغوسلافيا، والحرب في العراق، وفي أفغانستان، وليبيا وتدخل الولايات المتحدة في الشؤون السورية”. وفي كل مرة تُطرح المسألة حين يقع حدثٌ جديٌ في العالم ويختلف بشأنه أعضاء مجلس الأمن. وهي ستطرح مجدداً، إلا أنه لا يبدو أن هناك حلاً لها، وذلك لأنه يفترض إعادة النظر في مبدأ تشكل مجلس الأمن. ويقول بأن عدداً كبيراً من الدول يطمح لمكان في المجلس، ولكل منها أسبابه وحججه الوجيهة. ويرى أن من المتعذر بلورة هيكلية جديدة للمجلس من دون المساس بمشاعر طرف ما. وفي حال التطرق إلى توسيع العضوية الدائمة فيه، فالأمر يتطلب إجماع الأعضاء الدائمين الحاليين و”أشك في أنهم سيتوصلون سريعاً إلى توافق في هذا الشأن، على الأقل الآن”. فالولايات المتحدة سوف تحاول الدفع بتلك البلدان التي، إذا لم تكن تدور في فلكها، فهي شريكة مقربة منها. فهي تقترح ضم الهند واليابان إلى عضوية المجلس الدائمة، وتنتظر من الأولى الإعتراف بالجميل على إقتراحها، والثانية ليست دولة مستقلة برأيه. وبمساعدة هذين البلدين سوف تحاول الولايات المتحدة إضعاف دور روسيا في الأمم المتحدة، حسب الخبير.

ويتوافق آخر مع رأي هذا الخبير، ويرى أن التغييرات المقترحة لا علاقة لها بخطط تحسين عمل الأمم المتحدة ورفع فعاليته، بل ترمي إلى حل الصراع السياسي بين الغرب وروسيا. الإصلاحات تم إقتراحها من قبل، حين كانت الولايات المتحدة تتدخل في شؤون الدول الأخرى متجاهلة الأمم المتحدة. وهي تبحث الآن عن ثغرة لإزاحة روسيا، البلد المؤسس للمنظمة ويمتلك حق الفيتو، “لكن روسيا لن تقدم أبداً على مثل هذه الإصلاحات”.

وفي اليوم عينه نشر الموقع نصاً لخبير روسي عنونه بالقول”المنظمة تحتاجها الولايات المتحدة لا حية ولا ميتة”. ورأى أن الرئيس الأميركي خصص القسم الأعظم من كلمته في الجمعية العامة لإدانة روسيا، بعد “الخطاب القوي” لفلاديمير بوتين في 21 الجاري. واضطره هذا الأمر ليزيح إلى الظل فكرته الرئيسية التي جاء من أجلها إلى الجمعية العام’،إلا أن محيطه حرص على تسويقها بأمانة. والفكرة تقوم على المطالبة بإصلاح مجلس الأمن الدولي على نحو يحرم روسيا ليس فقط حق الفيتو، بل ومن أي نفوذ لها في هذه المؤسسة التي كانت حتى وقت قريب تعتبر المؤسسة الدولية الأهم. والأمم المتحدة تمر بأزمة عميقة واضحة للجميع، إلا أنها لم تصبح كذلك في شباط/فبراير 2022، بل اتضحت منذ آب/أغسطس 2008، حين تحاشت المنظمة المشاركة في تسوية الأزمة السياسية التي أعقبت هجوم نظام ساكاشفيلي (رئيس جورجيا حينها) على قوات حفظ السلام الروسية في أسيتيا الجنوبية. بعد تلك الفترة، الأمم المتحدة كأداة لحفظ السلام العالمي، أصبحت “ليس ميتة، بل بالتأكيد ليس على قيد الحياة”.

موقع zona.media الذي أطلقته إثنان من الثلاثي الشهير Pussy Riot نشر في تموز/يوليو المنصرم نصاً مترجماً للروسية، لكاتب سياسي في The Atlantic بعنوان “إصلاحه، لا يمكن حله. هل بوسع مجلس الأمن أن يصبح مجدداً مؤسسة فعالة لدرء الصراعات المسلحة؟”. قال الكاتب بأنه، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، كان مجلس الأمن محط الأنظار، لكن من المستبعد أن كان أحد ينتظر منه عملاً جديا لتسوية الصراع، بل كان الجميع يتابع مواقف وحجج مندوبي أطراف الصراع. لقد فقد مجلس الأمن اليوم عملياً كل أدوات التحكم بالأمن العالمي، وأخذت تتردد آراء بضرورة إصلاحه.

ينقل الكاتب عن محلل سياسي آخر تصوره “منصة إستثنائية” تعمل بموازاة مجلس الأمن، وتوحد بلداناً أعضاء في المنظمة الدولية والمؤسسات والوكالات المالية الدولية التي بإمكانها المساعدة في تجاوز مختلف أنواع الأزمات في الإقتصاد العالمي ومنظومة العلاقات الدولية.

ويرى هذا المحلل أن التعاون الدولي سيتحقق، على الأغلب، في مجموعات غير شكلية تتكون وفقا للمتطلبات الظرفية الجارية. وللأسف سوف تظهر هذه المجموعات بسبب وجود أزمة، والمؤسسات الموجودة عاجزة عن معالجتها.

————————————-

====================

تحديث 02 تشرين الأول 2022

———————-

الأزمة الأوكرانية بعد الاستفتاء والضم إلى أين؟/ حسن نافعة

دخلت الأزمة الأوكرانية، خصوصا بعد قرار الرئيس الروسي بوتين تنظيم استفتاء في أربعة أقاليم أوكرانية، تمهيدا لضمها إلى روسيا، مرحلة جديدة، ليس من الواضح بعد ما إذا كانت ستفتح الطريق أمام تسوية سياسية باتت ضرورية بحكم الأمر الواقع، أم أنها، على العكس، ستؤدّي إلى تصعيدٍ خطير قد يشعل شرارة حرب عالمية ثالثة، يُخشى أن تستخدم فيها الأسلحة النووية بالفعل، ما يعني انزلاق البشرية نحو مجهولٍ ربما يقترب بها من حافّة الهاوية، ويعرض الحضارة الإنسانية المعاصرة للفناء.

تبلغ مساحة المناطق التي احتلتها روسيا في أوكرانيا حوالي مائة ألف كيلومتر مربع، وهو ما يمثل خُمس مساحة أوكرانيا تقريبا، ويعيش فيها ما يقرب من سبعة ملايين نسمة، يمثلون حوالي 15% من إجمالي سكانها، أغلبهم من أصول روسية ويتحدّثون اللغة الروسية باعتبارها لغتهم الأم. ولأن الأقليم الأربعة التي جرى فيها الاستفتاء، لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا، تمثل مركز الثقل الأساسي للإنتاج الصناعي والزراعي الأوكراني، فسوف يؤدّي سلخها عن الوطن الأم، بصرف النظر عن مدى نجاح روسيا في تحقيق أهدافها، وما قد ينجم عن ذلك من تأثيرات جيوستراتيجية على الصعيدين الأوروبي والعالمي، إلى إضعاف أوكرانيا إلى درجةٍ قد تجعلها غير قادرة على البقاء والاستمرار دولة موحدة ومستقلة في المستقبل المنظور، ما قد يؤدّي إلى تعريضها آجلا أو عاجلا للتجزئة، وربما التهام جيران جشعين لا يُخفي بعضُهم أطماعه في أراضيها. ومن هنا خطورة ما اتخذه بوتين من قراراتٍ لن يكون من السهل على الغرب ابتلاعها. فنجاحه في ضم ما يقرب من خمس الأراضي الأوكرانية لا يعني فقط هزيمةً مؤكّدة لكل الدول الأعضاء في حلف الناتو، خصوصا الولايات المتحدة، وإنما يعني أيضا انتصارا واضحا لروسيا ولبوتين شخصيا.

تركز الدعاية الغربية، في حربها الإعلامية على بوتين، على عدم مشروعية استفتاء يجري تنظيمه في ظل احتلال عسكري غير مشروع أصلا، ورغم أنف الدولة المعنية صاحبة الشأن المعترف لها قانونا بالسيادة على أراضيها وبحقها في الدفاع عن سلامة هذه الأراضي ووحدتها. من هنا التأكيد على بطلانه، والإصرار على عدم الاعتراف بأيٍّ من النتائج التي ستتمخض عنه. صحيح أن هذا الطرح القانوني للقضية لا يخلو من وجاهة، وقد يفيد الدول التي تتبنّاه في التأكيد على حقها، ليس فقط في رفض كل ما يترتب على هذا الاستفتاء من نتائج، ولكن أيضا ما تعتبره واجبها في تقديم كل ما تطالب به أوكرانيا من أوجه الدعم، بما في ذلك الأسلحة النوعية التي تمكّنها من تحرير كل أراضيها المحتلة، غير أن من المشكوك فيه أن يكون له تأثير يُذكر في مسار الأحداث على أرض الواقع، فالرفض الغربي لما تسمّيها روسيا “عملية عسكرية خاصة”، والدعم العسكري المقدّم لأوكرانيا من أجل إفشالها، والذي يتزايد باضطراد، والعقوبات الاقتصادية الشاملة المفروضة على روسيا لحملها على وقفها، والتي تتسع كل يوم كمّا ونوعا، هي وسائل تم استخدامها منذ اللحظة الأولى لاندلاع شرارة المواجهة العسكرية في أوكرانيا في 26 فبراير/ شباط الماضي، من دون أن تفلح في وقف العملية، ولا في حمل بوتين على التخلى على أيٍّ من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها من ورائها، بل على العكس، يمكن القول إنها زادته إصرارا على مواصلتها، بدليل إقدامه أخيرا ليس فقط على تنظيم استفتاءٍ لضم المقاطعات الأربع السابق الإشارة إليها، وإنما على إعلان تعبئةٍ جزئيةٍ يفترض أن تزوّده بحوالي 300 ألف مقاتل جديد، جاهزين لمواجهة كل الاحتمالات.

معروف أنه سبق لبوتين رفض سياسة حلف الناتو التوسّعية نحو الشرق، وكان على قناعة تامة بأنها تستهدف، منذ البداية، احتواء روسيا الاتحادية ومنعها من النهوض مجدّدا، تمهيدا لمحاصرتها والضغط عليها، على أمل تفكّكها مثلما تفكّك الاتحاد السوفييتي من قبل. وعندما وصلت موجات التوسع المتلاحقة إلى حدود روسيا المباشرة، وراح حلف الناتو يخطّط ويستعد لضم دول رئيسية كانت فيما مضى جزءا هاما من الاتحاد السوفييتي سابقا، مثل جورجيا وأوكرانيا، وتواكب هذا التطور مع بداية استعادة روسيا قوتها غير المفعّلة طوال سنوات العزلة والانكفاء على الذات، راح بوتين يعبّر علنا عن معارضته الشديدة لهذه السياسة التوسّعية، ولم يكتف بالمعارضة الشفهية وإنما قرن القول بالفعل، ومن ثم لم يتردّد في التدخل عسكريا، عندما اندلعت أزمة في جورجيا عام 2008، انتهت باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا واعتراف روسيا باستقلالهما، ما اعتبره كثيرون نصرا واضحا له. وعندما جاء الدور على أوكرانيا، الأكثر أهمية لروسيا على الصعيد الاستراتيجي بالنسبة له، حاول بوتين أن يدافع عن مصالح روسيا في أوكرانيا عبر الاعتماد على حكومة موالية له في كييف. وحين نجح الغرب في إطاحتها عام 2014، لم يتردّد في التدخل عسكريا لحماية الروس الأوكرانيين الذين استنجدوا به لحمايته من عسف الحكومة الجديدة الموالية للغرب واضطهادها، لتنتهي الأزمة بإعلان انفصال شبه جزيرة القرم، ثم انضمامها إلى روسيا، ما اعتبره كثيرون انتصارا جديدا له. ولأن الأزمة الأوكرانية لم تنته عند هذا الحد، خصوصا بعد رفض الحكومة الأوكرانية تنفيذ اتفاقية مينسك التي تم إنجازها عام 2015 بوساطة ألمانية وفرنسية، فقد كان من المتوقع عودتها إلى الانفجار في أية لحظة، وهو ما حدث بالفعل. إذ تدلّ سياسة الشد والجذب التي اتسمت بها العلاقة بين روسيا وحلف الناتو خلال الفترة من نهاية عام 2014 وحتى إقدام روسيا على عمليتها العسكرية في 26 فبراير/ شباط 2022، على أن روسيا تسعى، منذ ذلك الحين، إلى تحقيق هدفين رئيسيين، وأن بوتين لم يلجأ إلى استخدام القوة إلا بعد إخفاقه في تحقيق أي منهما بالوسائل السياسية والدبلوماسية. الأول: وقف سياسة التوسّع شرقا من حلف الناتو مع التزامه بعدم ضم أوكرانيا لعضويته، خصوصا بعد طلبها الانضمام له رسميا، وتجاوب الولايات المتحدة مع هذا الطلب. الثاني: حماية الأوكرانيين من أصل روسي، والذين وصلت نسبتهم قبل اندلاع القتال إلى حوالي 22% من مجمل سكان أوكرانيا، خصوصا في الأقاليم الشرقية والجنوبية التي يشكلون فيها أغلبية عددية، ووقف الاعتداءات المستمرّة عليهم.

ربما يكون بوتين قد خطّط في البداية لعملية عسكرية خاطفة، تستهدف إسقاط حكومة كييف الموالية للغرب، وتنصيب حكومة موالية تبدي استعدادها لتنفيذ اتفاق مينسك، والتعهد بعدم الانضمام إلى “الناتو”، وعندما فشلت خطته الرئيسية قام بتعديلها، وتضمّنت الخطة ب الاكتفاء باحتلال الأقاليم التي تقطنها أغلبية روسية، معرّضة لخطر الاعتداء الدائم، لكن أهدافه ظلت كما هي لم تتغير: أمن روسيا الاتحادية، من خلال المطالبة بضوابط تحدّ من توسع “الناتو” شرقا، وتأمين المواطنين الأوكرانيين من أصل روسي، سواء من خلال حكم ذاتي كامل أو الانفصال وإقامة جمهوريات مستقلة. لذا يبدو لي أن إقدام بوتين على تنظيم استفتاء في هذه الأقاليم يعكس يأسه من إمكانية التوصل إلى أي تسوياتٍ تضمن أمن روسيا داخل حدودها وأمن الروس في أوكرانيا، كما يبدو لي أن إقدامه على التعبئة الجزئية يؤكّد تشبثه الكامل بأهدافه الثابتة، واستعداده التام للدفاع عن حدود روسيا الجديدة، بعد انضمام الأقاليم الأوكرانية الأربعة إلى روسيا. والسؤال: كيف سيتصرّف الغرب بقيادة الولايات المتحدة بعد هذا التطوّر الحاسم؟

الأرجح أن يواصل الغرب سياسته المتمحورة، من ناحية، حول دعم أوكرانيا عسكريا وتزويدها بكل ما يلزم من سلاح لتمكينها من تحرير الأراضي التي ضمّتها روسيا، وكذلك الاستمرار، من ناحية أخرى، في فرض أقصى عقوباتٍ اقتصاديةٍ ممكنةٍ لدفع روسيا نحو الاستسلام، حين تتأكّد من عجزها عن تحقيق أيٍّ من الأهداف التي تسعى إليها، غير أن موقف الغرب بعد قرارات الاستفتاء والضم والتعبئة، يبدو لي أضعف بكثير مما كان قبلها، على الرغم من كل ما حققه الجيش الأوكراني من إنجازات عسكرية خلال الأسابيع التي سبقت هذه القرارات، فبعد الاستفتاء أصبحت الأقاليم المنضمّة هي حدود روسيا الجديدة، وأصبح الجيش الواقف عند هذه الحدود جيشا روسيا، ما سيغير من قواعد اللعبة العسكرية في المرحلة المقبلة، سواء من حيث نوعية الأسلحة المحتمل استخدامها في الصراع، أو من حيث النطاق الجغرافي لهذا الاستخدام، ومن ثم سيكون على الغرب أن يقرّر ما إذا كان سيضطر للتدخل المباشرة في حال وصلت المواجهات العسكرية على الأرض إلى عتبة معينة. على صعيد آخر، لم يعد هناك المزيد مما يمكن عمله في مجال العقوبات، من دون إصابة الاقتصاد العالمي ككل، بما في ذلك اقتصاديات الدول الغربية، بأضرار فادحة. لذا يبدو لي أن الوقت قد حان لبدء الدخول في مفاوضات جادّة للبحث عن تسوية بالوسائل السلمية، وفي موعد أقصاه نهاية العام الحالي (2022)، وإلا فإن خطر المواجهة المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا سيصبح ليس فقط احتمالا واردا، ولكن مرجّحا أيضا. وهذه هي الكارثة التي أصبح العالم يقترب منها، وبأسرع مما كان متصوّرا. ولأن الصراع الدائر فوق الساحة الأوكرانية يتعلق برفض القواعد السائدة في النظام الدولي الحالي، ينبغي ألّا تقتصر التسوية المطلوبة على الأوضاع المتعلقة بالأزمة الأوكرانية، وإنما أن تتجاوزها للاتفاق على قواعد جديدة لنظام دولي لا يمكن إلا أن يكون متعدّد القطبية.

العربي الجديد

————————

أوراق بوتين في هجومه المضادّ/ بيار عقيقي

كان لا بدّ، بعد سلسلة الهزائم الميدانية شرقاً وجنوباً، أن يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الردّ بصورة هجومية. استعجل استفتاءات ضمّ أقاليم لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون الأوكرانية، من دون الاكتراث بمعارضة الغرب أو الأمم المتحدة، ولا حتى تردّد حلفائه، من الصين التي ترفض مبدأ ضم أراضٍ بالقوة، كي لا يرتدّ الأمر عليها في ملف جزيرة تايوان، وكذلك الهند الرافضة تسجيل موقفٍ مؤيدٍ للروس، كي لا تتحرّر كشمير منها. أما التركي فحساباته مختلفة قليلاً، إذ يلاقي وضعاً مشابهاً لوضع روسيا في أوكرانيا، ويتعلق بمنطقة شمال قبرص، الأزمة الموروثة منذ سبعينيات القرن الماضي، لكنه كطرف أساسي في حلف شمال الأطلسي، وثاني أكبر الجيوش فيه بعد الولايات المتحدة، ويؤدّي دور الوسيط في الملف الأوكراني ـ الروسي، يرفض منح صكّ الحق للروس في ضمّ مزيد من المناطق الأوكرانية.

يدرك بوتين أن عليه لعب أوراق إضافية، لم يكن يعتقد أنه سيستخدمها عشية تفكيره في إعلان اجتياح أوكرانيا. رفع سقف دعوته إلى عالم متعدّد الأقطاب، لكنه، بطبيعة الحال، سيرفض أي نوعٍ من التساوي مع الصين والهند، لاعتباراتٍ متعلقة بـ”العظمة الروسية” من جهة، ولحديثه شبه الدائم عن الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى، والذي كان مع الأميركيين جزءاً من سيادة قطبين على امتداد الكرة الأرضية، بين عامي 1945 و1991.

يعلم بوتين أن الدول التي كانت جزءاً من هذا الاتحاد ترفض مجرّد التفكير في العودة إلى كنفه، مهما كانت المغريات. سارع بعض هذه الدول إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، وبعضها الآخر، خصوصاً الواقعة في الوسط الآسيوي، عمد إلى إصلاح علاقاته مع الغرب، وملاءمة أنشطته المالية مع الشروط المصرفية الغربية. وبلغ الأمر بكازاخستان حتى، تلك التي تدخّل الجيش الروسي لمساعدة نظامها على قمع التظاهرات ضده في يناير/ كانون الثاني الماضي، أن أوقفت العمل ببطاقات الدفع الإلكتروني الروسية “مير” في مصارفها، امتثالاً للعقوبات الغربية على موسكو.

كازاخستان نفسها أعلنت عن فتح أبوابها أمام الروس الهاربين من “التعبئة الجزئية” التي أعلنها بوتين الأسبوع الماضي. ولعمليات الفرار رواية أخرى، تتّخذ مساراً جدلياً في جورجيا مثلاً، التي استقبلت المواطنين الروس، لكنها تشهد، في المقابل، تظاهرات ضد وجودهم. قد يكون الأمر موروثاً من الاتحاد السوفييتي، أو من الغزو الروسي جورجيا في عام 2008. وفي الحالتين، لم تعد جورجيا بلداً ينوي رفع العلم الروسي فيه، واهتمامها بمتحف الزعيم السوفييتي، الجورجي، جوزيف ستالين في منطقة غوري، ينبع من تسويقه في القطاع السياحي، كمفهوم رأسمالي.

أما الشباب الروس، فعدا عن أن معظمهم ينتمي إلى طبقة متوسّطة، ساهم بوتين بنفسه في تشكيلها، إلا أن لا عقيدة تحفّزهم، على قاعدة أن الحرب خارج بلادهم و”ليسوا مضطرّين” للخوض فيها. آباؤهم في أفغانستان لم يملكوا مثل هذه الخيارات. وغياب العقيدة القتالية سيبقى أزمة مستقبلية، لا في روسيا فحسب، بل في شتى أنحاء العالم. وهو ما تنبّهت إليه جيوش عدة، باشرت بالاعتماد على التقنيات أكثر من العامل البشري.

أما في قضية أنابيب الغاز “نوردستريم 1” و”نوردستريم 2″، فإنّ الانفجارات المتلاحقة التي حصلت فيها أخيراً لا يمكن ربطها بعوامل مناخية. لكن ربطها باعتداءاتٍ غربية مسألة بالغة الحساسية، فالروس يجولون في بحري الشمال والبلطيق، وحتى مداخل اسكتلندا، منذ ما قبل انفجار الوضع الأوكراني في عام 2014، بحراً بصورةٍ شبيهةٍ بالغوّاصات الألمانية في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وجواً بتحليقهم فوق جزيرتي غوتلاند السويدية وبورنهولم الدانماركية. لا يمكنهم تحمّل اختراق عسكري في حيّزهم، لأنه يعني “هزيمة معنوية”.

أما في موضوع النووي، فإن بوتين، وهو دارس للتاريخ، يعلم أن السلاح النووي أنهى الحرب العالمية الثانية، واستولد نظاماً عالمياً جديداً، وبالتالي، فإن وأده وبناء عالم مغاير سيكون بالنووي أيضاً.

العربي الجديد

—————————-

روسيا تحوّل «مغامرتها» السورية إلى نقطة تحوّل لتعزيز مكانتها

بعد سبع سنوات على التدخل العسكري المباشر لـ«منع سقوط دمشق»

موسكو: رائد جبر

قبل سبع سنوات، عندما أعلنت روسيا في 30 سبتمبر (أيلول) 2015 رسمياً تلبية طلب القيادة السورية للمساعدة في «مواجهة الإرهاب»، دارت التوقعات في الأوساط الروسية حول عملية عسكرية محدودة يمكن أن تستمر لشهرين أو ثلاثة أشهر، تنجز خلالها موسكو المهام الأساسية التي أرسلت جيشها لتحقيقها. كان النقاش دائراً في ذلك الوقت عن «مغامرة» قد توقع الكرملين في مستنقع يسبب أضراراً أكثر مما قد يعود بفوائد.

لم يكن الروس، على ما يبدو، يتوقعون في تلك المرحلة أن هذه المهمة سوف تستمر لسنوات طويلة، وأن سوريا التي كان جزء كبير من الروس لا يعرفون أين تقع على الخريطة عندما سمعوا بقرار التدخل العسكري فيها للمرة الأولى، سرعان ما ستتحول إلى واحدة من أولويات التحركات الروسية على الصعيدين العسكري والدبلوماسي.

فاخر القادة العسكريون الروس أكثر من مرة بعد ذلك، بأن العاصمة السورية دمشق «كانت ستسقط في أيدي الإرهابيين في غضون أسبوعين أو ثلاثة أسابيع على الأكثر» لو لم تسارع موسكو لنجدتها. كانت تلك رسالة عنوانها ليس فقط الغرب والمحيط الإقليمي بل والنظام السوري نفسه الذي اضطرت موسكو أكثر من مرة على مدى السنوات السابقة لكبح اندفاعاته وتقليم أظافره أحياناً.

من البوابة السورية، عبرت موسكو نحو إعادة ترتيب حضورها الدولي والإقليمي على أسس جديدة، مغايرة لتلك التي انتهجها الرئيس السابق ديمتري مدفيديف الذي تغاضى – في مرحلة انتقالية مهمة غاب فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن سدة الحكم لبرهة – عن الهجوم الأطلسي على ليبيا. وتحوّل الملف الليبي بكل تداعياته لاحقاً إلى مناسبة دائمة للتذكير الروسي بأن موسكو «لن تقبل أن تُخدع مرتين».

ذهبت موسكو إلى سوريا بعدما حصلت على صفقة مهمة في عام 2015، منحتها وجوداً عسكرياً دائماً في البحر المتوسط، بداية عبر قاعدة حميميم الجوية ثم في قاعدة طرطوس البحرية. كان الرئيس الروسي يراقب بارتياح خلال زياراته النادرة إلى سوريا التي كان يتعمد أن يظهر فيها صاحب القرار والدار، كيف ينتشر جنوده حوله، وكيف تتكاثر النصب التذكارية للقادة العسكريين الروس من أيام القياصرة إلى العهد الروسي الحديث في حدائق القاعدتين العسكريتين اللتين تحولتا إلى منصة أمامية لتحركات موسكو العسكرية في الشرق الأوسط وحوض المتوسط كله.

لكن هذا لم يكن الإنجاز الوحيد للروس، إذ أظهرت الحرب الأوكرانية في وقت لاحق كيف اكتسب الوجود العسكري في سوريا أهمية مضاعفة على خلفية تفاقم المواجهة الحالية بين روسيا والغرب. وبرز ذلك في مسارين؛ الأول عندما تحدثت روسيا عن تحوّل مهام قواعدها التي تكاثرت بعد ذلك في سوريا لتولي مهام لا ترتبط فقط بالعمليات الجارية داخل سوريا، بل تمتد لتشمل تعزيز النفوذ الحربي الروسي في كل حوض المتوسط والبحر الأحمر، والثاني برز من خلال إدراج الحضور الروسي في طرطوس في العقيدة البحرية الجديدة التي أقرها الرئيس بوتين قبل شهرين. عكس ذلك مستوى أهمية هذا الوجود بالنسبة إلى الخطط الاستراتيجية الكبرى لروسيا على صعيد تطوير حضورها العسكري في كل البحار العالمية.

مع تلك الإنجازات، نجحت موسكو في قلب موازين القوى في سوريا، بشكل جذري، وبعدما كان النظام يسيطر في 2015 على أقل من 20 في المائة من أراضي سوريا بات يفرض نفوذاً متفاوتاً على نحو ثلثي الأراضي السورية. لكن الأهم من ذلك أن موسكو نجحت في تقويض المعارضة بشكل كامل إما بالطرق العسكرية المباشرة وإما عبر الالتفافات الدبلوماسية التي أسفرت عن تحويل ما تبقى من معارضة مسلحة إلى مجموعة كتائب تتلقى أوامرها من تركيا شريكة الروس في مسار آستانة.

على الصعيد الدبلوماسي، نجحت موسكو أيضاً خلال السنوات السبع الماضية في تفكيك القرارات والآليات الدولية، انطلاقاً من شل قدرات مجلس الأمن على تحويل الملف السوري إلى البند السابع ومنع أي محاولة للتدخل الدولي لا بالشكل العسكري ولا حتى عبر ملف المساعدات الإنسانية التي عملت موسكو على تقويض مجالاتها حتى غدت محصورة بمعبر واحد يمر بباب الهوى ويخضع كل ستة أشهر لمفاوضات عسيرة من أجل تجديد ولايته.

في ملف المفاوضات، شكّل تفكيك القرار 2254 العنصر الأساسي لتحركات الدبلوماسية الروسية التي قدمت بند الإصلاح الدستوري وحجبت النقاش عن البند الأساسي المتعلق بإنشاء هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية. وكان ملاحظاً أن موسكو سعت تدريجياً بعد ذلك إلى خفض السقف السياسي للمعارضة وتعزيز فرص الحكومة في التلاعب بمسارات جولات التفاوض.

في هذا الإطار وعلى الرغم من التخبط الذي ظهر أكثر من مرة، كما حدث مثلاً من خلال دعوة اجتماع سوتشي الأول لما وُصف بأنه «مؤتمر الشعوب السورية» الذي لم ينجح في الخروج بنتائج تُذكر فضلاً عن أن التمثيل فيه كان محدوداً وضعيفاً، فإن الدبلوماسية الروسية سعت إلى الإفادة من هذه الثغرات عبر إطلاق مسار الإصلاح الدستوري ونسب الموضوع إلى «قرار السوريين أنفسهم في المؤتمر».

بين المكاسب الروسية خلال السنوات السبع الماضية يمكن أيضاً إدراج ضبط التحركات التركية وتحويل أنقرة إلى شريك في عملية آستانة، وبرغم أن هذا الشريك كان مشاكساً في أكثر من موقعة، لكن الكرملين أثبت قدرته على التوصل إلى تفاهمات مع الجانب التركي في أصعب اللحظات. الأمر نفسه تقريباً ينسحب على الشريك المُتعب الثاني – إيران. وأظهرت تطورات السنوات الماضية أن موسكو نجحت أحياناً في ضبط التحركات الإيرانية، كما حدث عند توقيع اتفاق الجنوب الذي قضى بإبعاد إيران والميليشيات التابعة لها 80 كيلومتراً عن الحدود الجنوبية، لكن الروس في المقابل استخدموا بقوة ورقة الوجود الإيراني لتعزيز وضعهم التفاوضي مع الغرب، وثمة مؤشرات حالياً إلى أن موسكو تغض الطرف متعمدة عن عودة إيران إلى التمدد في سوريا في إطار سياسة المناكفة التي تتبعها ضد الوجود الأميركي في هذا البلد.

أخيراً، لا بد من التوقف عند رؤية موسكو نفسها لهذا الوجود بعد مرور سبع سنوات عليه.

الدبلوماسيون الروس يلخصون مجريات السنوات السبع بالقول إن روسيا نجحت في «إنقاذ دمشق من الدمار الذي كان سيوقع نحو مليون مدني على الأقل». كما نجحت موسكو في «الحفاظ على الدولة السورية ومؤسساتها التي تمثل السيادة السورية المعترف بها دولياً بغض النظر عن الأوضاع الحالية التي حلّت بهذه السيادة». ويشير بعضهم إلى أن موسكو «هي التي أتاحت التوصل إلى الاتفاق على إصدار قرار مجلس الأمن 2234»، فضلاً عن أن إطلاق مجموعة آستانة يعد بين النتائج الأساسية «الإيجابية». وأخيراً، التوصل إلى نظام التهدئة ووقف الاقتتال بين السوريين.

الشرق الأوسط

———————–

مستقبل سوريا في ظل الاحتلال الروسي/ مصطفى صبّاغ

هي الذكرى السابعة لبداية الاحتلال الروسي لبلادنا بتوطئة من نظام غير شرعي استقدّم مختلف الميليشيات الطائفية العابرة للحدود، ومن خلفها إيران كي يبقى موجوداً على رأس السلطة بالتعاون معهم، ومع ذلك لم يكن كافياً له ذلك فجاء بعدئذٍ بروسيا التي فرضت نفسها بحكم الأمر الواقع كقوة عسكرية على البحر الأبيض المتوسط، وفوضت نفسها بالحصول على امتيازات كبيرة كبناء القواعد العسكرية وتدمير البلاد وتهجير ملايين المدنيين..

خدعة واضحة

نظام الأسد الذي استقدم المحتل الروسي لسوريا بصورة استدعاء (شرعي) من حكومة “معترف بها” حسب الأمم المتحدة، ما هي إلا خدعة واضحة بالنسبة لعموم السوريين لأن الاتفاق على دخول روسيا إلى سوريا، وتفويضها بالملف السوري، ووضع اليد على بلادنا وسط صمت واضح من الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية يعتبر أمراً مريباً للغاية يبعث الشكوك في وجود تفاهمات بين هذه روسيا والولايات المتحدة الأمريكية قد تمت في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، لأن أوباما حين أعلن نيته استهداف نظام الأسد بضربة عسكرية لاختراقه “الخطوط الحمراء” في استخدام السلاح الكيميائي في الغوطتين، ومقتل أكثر من 1400 ضحية جلّهم من الأطفال، تصوّر كثيرون أن نهاية الأسد قريبة، وإذ بصوت طبول الحرب تخمد بسبب اتفاق بين أمريكا وروسيا تحت عنوان “التخلّص” من السلاح الكيميائي للنظام، والانتهاء منه في منتصف عام 2014.

بدء حرب الجحيم

الاتفاق، وكما أظهرت الوقائع لاحقاً، لم يقتصر على السلاح الكيميائي، وإنما تناول قضايا سورية ودولية مختلفة، وظهرت النتائج في 30 أيلول/ سبتمبر 2015 حين دخلت روسيا بقواتها العسكرية وبدء حرب الجحيم ضد الشعب السوري والفصائل المسلحة التابعة للمعارضة، وصولاً إلى وضع اليد الروسية على الملفّ السوري، وإن شاب ذلك بعض التنافس مع المحتل الإيراني الآخر الذي يقوم بفعل أشدّ خطورة مما تقوم به روسيا عبر اختراقه للمجتمع السوري من داخله، والعمل على ولتغيير الديمغرافي والثقافي وغيرهما.

لم يقتصر القصف الروسي على المدنيين وحسب بل ترافق مع ضرب البنى التحتية من مستشفيات ومدارس ومخابز ومراكز صحية ومنشآت تقوم برعاية المواطنين وتأمين الحد الأدنى من وسائل المعيشة لهم، واستخدمت لتحقيق ذلك ـ كما صرّحت مراراً ـ أحدث تقنياتها العسكرية، بما فيها الجديدة التي قامت بتجربتها على رؤوس المواطنين وضدّ وسائل حياتهم.

لذلك كان طبيعياً أن يكون المحتلّ الروسي أحد أهم داعمي النظام في التنصّل من الالتزام بالقرارات الدولية، والقبول بدخول العملية السياسية، رغم ما يحكى عن ممارسة ضغوط روسية لحثّه على الذهاب لجنيف في إطار ما يعرف بالمفاوضات حول اللجنة الدستورية التي لم تتقدّم خطوة واحدة وما تزال تراوح مكانها.

عملياً ورغم التصريحات الغامضة، والملتبسة عن مصير رأس النظام ومستقبل النظام، فالنهج الروسي واضح المنحى باتجاه الحفاظ على النظام ـ ربما مع بعض الرتوشات الطفيفة والسماح لرأس النظام بخوض الانتخابات وكأنه لم يجرم بحق الشعب السوري، وكأنه لا يتحمل المسؤولية الأولى في نكبة الوطن وإبادة أكثر من مليون سوري، وإجبار الملايين على اللجوء والنزوح والهجرة، واعتقال وتصفية مئات آلاف المعتقلات والمعتقلين.

القرارات الدولية

لقد أفسحت أمريكا المجال لروسيا أن تضع يدها على الملف السوري، وما زالت بعيدة عن اتخاذ قرارات بمستوى إجبار النظام على الخضوع للقرارات الدولية، الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن تجنب في خطابه الأخير أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة ذكر سوريا في رسالة مفادها وبشكل واضح أن الملف السوري مازال خارج الأولويات الأمريكية، في أرض بسطت فيها روسيا نفوذها.

ورغم الإقرار بالدور الروسي المفروض في العملية السياسية حسب قرار مجلس الأمن 2254، والحاجة إلى خوض مفاوضات ولقاءات مع المحتل الروسي للوصول إلى حلول تفضي إلى حل سياسي خصوصاً بعد زيادة التعقيدات السياسية المستمرة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، إلا أن كل ذلك لا يلغي حقيقة أن طبيعة الوجود الروسي كقوة احتلال موصوفة، ولا يُنسي الشعب السوري ما قامت به من جرائم بحقه، ومن دعم نظام قاتل يقف ضد مصالح وإرادة الشعب السوري في إقامة الدولة المدنية وتحقيق حلم السوريين.

رئيس مجلس إدارة “المنتدى السوري”

القدس العربي

——————-

روسيا ـ أوكرانيا: إلحاق تحت التهديد النووي!

جرت «استفتاءات» في مناطق أوكرانية تخضع للهيمنة الروسية على عجل شديد، وخلال ثلاثة أيام من بدء تلك الإجراءات فحسب أعلنت موسكو أن أغلبية تصل إلى 99٪ من سكان تلك الأقاليم قد صوّتت لصالح الانضمام إلى روسيا.

تبع ذلك حفل خطب فيه الرئيس فلاديمير بوتين وأعلن فيه إلحاق أقاليم لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا، بروسيا.

أصبح سكان تلك المناطق «مواطنين روسا إلى الأبد»، على حد قول بوتين، الذي طلب من الحكومة الأوكرانية (التي وصفها بـ«نظام كييف») «احترام الإرادة الشعبية»… وإلا: «سنقوم بكل شيء للدفاع عن أراضينا».

أعاد بوتين هذه الجملة التي استخدمها في خطابه الذي أعلن فيه تعبئة 300 ألف جندي احتياط روسي، وتكفّل باقي المسؤولين بتظهيرها بالأبيض والأسود، حيث أعلن ديمتري مدفيديف، رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، صراحة أن موسكو ستستخدم كل سلاح في ترسانتها، بما في ذلك الأسلحة النووية الاستراتيجية لحماية الأراضي الأوكرانية التي تنضم لروسيا، وكرّر ذلك وزير خارجيته سيرغي لافروف، خلال خطابه الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث قال إن «جميع القوانين الروسية بما فيها تلك المتعلقة باستخدام الأسلحة النووية تسري على كافة الأرضي التابعة لروسيا».

تحمل هذه الوقائع والتصريحات المرتبطة بها مجموعة من المفارقات المثيرة، بدءا من التسرّع الشديد الذي جرى في تنظيم تلك الاستفتاءات في مناطق حربية عمليا، غادرها مئات الآلاف من سكانها، وقد أعلنت موسكو، عدة مرّات، مشاركتها في تنسيق عمليات إجلاء لعشرات الآلاف من سكان تلك المناطق، كما حصل مع 140 ألف مدني غادروا مدينة ماريوبول، وليس هؤلاء غير جزء بسيط من 13 مليون أوكرانيّ فرّوا من بلادهم.

المفارقة الأخرى في هذا السياق، أنه ما أن أعلن بوتين عن بدء «التعبئة الجزئية»، حتى تعالت صيحات عن الاعتباطية والأخطاء الفادحة في طريقة تجنيد المدنيين، وعن استهدافها للمناطق الفقيرة، وعن حصول عمليات احتجاج، بما فيها هجوم على مركز تجنيد، وصولا إلى تدفّق كبير للروس نحو بلدان مثل تركيا وفنلندا وكازاخستان وبيلاروسيا، هربا من تجنيدهم، وربما من مخاطر الحرب النووية التي هدد بها رئيسهم العالم.

تتعارض وقائع تصويت 90٪ من سكان المناطق، مع المنطق البسيط.

يتكشّف تفكك هذه السرديّة الروسية عن «الإرادة الشعبية» حين نسترجع ما حدث في المناطق التي تمكّن الأوكرانيون من تحريرها، والتي تكشّفت عن مقابر جماعية تضم المئات من القتلى، وهو ما يدفع للسؤال عن «السكان» الذين صوّتوا، وتحت أية ظروف، ويتّضح تهافت كل الدعاية الروسية على ضوء محاولات آلاف الروس «الأصليين» مغادرة بلدهم الأمّ، وكذلك الاحتجاجات الشعبية التي حصلت داخل روسيا ضد التجنيد والحرب في أوكرانيا.

لا تؤدي جمل مثل «الإرادة الشعبية» و«حق تقرير المصير» غير تظهير صور المقابر الجماعية المكتشفة في المناطق التي تراجع عنها الجيش الروسي، وصور الروس الهاربين من التجنيد إلى أي بلد يستقبلهم، ولا يبقى من تصريحات المسؤولين الروس سوى التهديدات باستخدام الحرب النووية.

القدس العربي

—————————-

نيويورك تايمز: بوتين يزيد الضغط على الغرب لعقد صفقة مع روسيا/ محمد نون

ترسم صحيفة نيويورك تايمز صورة من الغضب التي اجتاحت الغرب بعد إعلان روسيا ضم أربع مقاطعات أوكرانية إليها هي زابوروجيا، خيرسون، دونيتسك ولوغانسك، لكنها لا تستبعد ازدياد الضغوط على أوروبا لعقد صفقة مع روسيا.

ويرى الكاتب توماس ل. فريدمان بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعمل من خلال ضم أجزاء من أوكرانيا على تحويل روسيا إلى نسخة أخرى من كوريا الشمالية، ستكون دولة مصابة بجنون العظمة ومعزولة، ولكن على عكس كوريا الشمالية، فإن النسخة الروسية التي ستكون ممتدة على 11 منطقة زمنية – من المحيط المتجمد الشمالي إلى البحر الأسود ومن حدود أوروبا إلى حدود ألاسكا – ستكون أيضا معززة بالآلاف من الرؤوس الحربية النووية.

يرى الكاتب أن روسيا لن تكون مجرد تهديد جيوسياسي بل ستلحق الضرر بنفسها ولن تبقى موردا موثوقا للطاقة في العالم على المدى الطويل.

ويعتبر فريدمان أن ضم أجزاء من أوكرانيا قد يكون محاولة من بوتين للتوصل إلى تسوية تفاوضية مناسبة. وسيكون من غير المفاجئ إذا أعلن قريباً عن استعداده لوقف إطلاق النار واستعداده لإصلاح خطوط الأنابيب واستئناف شحنات الغاز إلى أي دولة مستعدة للاعتراف بضم روسيا لأجزاء من أوكرانيا.

ويمكن لبوتين بعد ذلك أن يدّعي لقاعدته القومية أنه حصل على شيء ما مقابل حربه، حتى لو كانت باهظة الثمن وهو الآن جاهز لوقفها، لكنه سيواجه هناك مشكلة واحدة فقط وهي أنه لا يسيطر فعليًا على كل الأراضي التي يقوم بضمها وهذا يعني أنه لا يمكنه تمرير أي صفقة حتى يتم طرد الأوكرانيين من جميع الأراضي التي يطالب بها الآن وإلا فإنه سيتنازل عما يعتبره أرضا روسية ذات سيادة.

ويذهب الكاتب إلى القول إنه ومن خلال مطالبة بوتين بأراض لا يسيطر عليها بشكل كامل، تبرز خشية بأنه يضع نفسه في زاوية قد يشعر ذات يوم أنه لا يمكنه الخروج منها إلا بسلاح نووي.

ثم يضيف الكاتب أن بوتين يجر أوكرانيا وحلفاءها الغربيين نحو مواصلة الحرب في الشتاء عندما تكون إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا مقيدة ويمكن أن تكون الأسعار فلكية، فهل ستتنازل أوكرانيا والغرب ويعقدون صفقة قذرة مع بوتين لوقف حربه؟ أم أن أوكرانيا والغرب ستواجهانه بشكل مباشر من خلال الإصرار على عدم حصوله على أي إنجاز من هذه الحرب والتمسك بمبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة؟

 ويدعو الكاتب إلى عدم الانخداع لأنه سيكون هناك ضغط داخل أوروبا للتنازل وقبول عرض بوتين الذي يريد تقسيم التحالف الغربي والخروج بانتصار يحفظ ماء الوجه.

لكن هناك خطرا آخر على المدى القصير بالنسبة لبوتين إذا لم يتنازل الغرب للتوصل إلى اتفاق معه، بل قام بإرسال المزيد من الأسلحة والمساعدات المالية لأوكرانيا، فهناك احتمال أن ينهار جيش بوتين.

 لكن الكاتب يستدرك بأن هذا ما لا يمكن التنبؤ به.

أما الواضح الآن فهو وجود ديناميكية ستدفع روسيا أكثر نحو نموذج كوريا الشمالية، انطلاقا من قرار بوتين قطع معظم إمدادات الغاز الطبيعي عن أوروبا الغربية.

 لكن لذلك مخاطر على روسيا نفسها، إذ إنها أصبحت مورداً غير موثوق به أبداً حتى بين بعض أقدم وأفضل عملائها ومنهم ألمانيا وجزء كبير من دول الاتحاد الأوروبي، فهؤلاء جميعًا يبحثون الآن عن إمدادات بديلة طويلة الأجل للغاز الطبيعي وبناء المزيد من مصادر الطاقة المتجددة.

ويشير الكاتب إلى مصادر للغاز قد تكون بديلة عن روسيا فيقول: “سيستغرق الأمر من سنتين إلى ثلاث سنوات حتى تبدأ شبكات الأنابيب الجديدة القادمة من شرق البحر المتوسط والغاز الطبيعي المسال القادم من الولايات المتحدة وشمال إفريقيا في استبدال الغاز الروسي على نطاق واسع”.

 ولكن عندما يحدث ذلك وعندما تزداد إمدادات الغاز الطبيعي في العالم بشكل عام للتعويض عن فقدان الغاز الروسي ومع ظهور المزيد من مصادر الطاقة المتجددة فقد يواجه بوتين تحديًا اقتصاديًا حقيقيًا.

حينها قد يستمر عملاؤه القدامى بشراء بعض الطاقة من روسيا، لكنهم لن يعتمدوا بشكل كامل على روسيا مرة أخرى، وسوف تضغط عليه الصين للحصول على تخفيضات كبيرة.

باختصار، يعمل بوتين على تآكل أكبر مصدر وربما مصدره الوحيد للدخل المستدام طويل الأجل، بينما يؤدي الضم غير القانوني لمناطق من أوكرانيا إلى استمرار العقوبات الغربية على روسيا أو حتى تسريعها، الأمر الذي سيؤدي إلى الإسراع في تحويل روسيا إلى وضع الدولة الفاشلة.

ويختم الكاتب بدعوة الزعماء الغربيين أن يكونوا أذكياء وأقوياء، فلربما لم يترك لنا بوتين أي خيار سوى تعلّم كيفية التعايش مع كوريا الشمالية الروسية حيث سيكون العالم أكثر اضطراباً.

———————-

الحرب الأوكرانية:روسيا تنسحب من منطقة استراتيجية

أعلنت وزارة الدفاع الاوكرانية أن جنوداً اوكرانيين “دخلوا” السبت، بلدة ليمان، وهي تقاطع مهم للسكك الحديد في شرق أوكرانيا تقع تحت سيطرة القوات الروسية.

وكتبت الوزارة الأوكرانية على تويتر: “قوات الهجوم الجوي الأوكرانية تدخل ليمان بمنطقة دونيتسك”. وأرفقت التغريدة بمقطع مصور، يُظهر جنديين أوكرانيين يلوحان ثم يعلقان العلم الوطني باللونين الأزرق والأصفر بجانب لافتة كُتب عليها “ليمان” عند مدخل المدينة.

قال أحد الجنديين مبتسما: “نرفع علمنا الوطني وننصبه في أرضنا. ستظل ليمان دائمًا جزءًا من أوكرانيا”.

    Ukrainian Air Assault Forces are entering Lyman, Donetsk region. #UAarmy has and will always have the decisive vote in today’s and any future “referendums”. pic.twitter.com/gGIIk9rNkG

    — Defense of Ukraine (@DefenceU) October 1, 2022

وفي وقت سابق السبت، قال الجيش الأوكراني إنه “يطوق” آلافًا من الجنود الروس في هذه البلدة الواقعة في منطقة دونيتسك. وقال المتحدث باسم الجيش الأوكراني في الشرق سيرجيو تشريفاتيتش للتلفزيون الأوكراني، إن “القوات الروسية محاصرة في ليمان… نحو خمسة آلاف أو 5500 روسي” تحصنوا في ليمان وحولها في الأيام الأخيرة.

ومنح حاكم منطقة لوغانسك المجاورة سيرغي غايداي من جانبه، “ثلاثة خيارات” للجنود الروس الموجودين في ليمان “الفرار أو الموت بمجملهم معاً أو الاستسلام”.

روسيا تعترف

وتقع ليمان في شمال دونيتسك التي أعلنت موسكو ضمها الجمعة، رغم أن قواتها لا تسيطر إلا على جزء منها. وستشكل خسارتها انتكاسة جديدة للجيش الروسي بعد أن مُنيَ بإخفاقات عسكرية منذ بداية أيلول/سبتمبر، مع إطلاق كييف هجوماً مضاداً في جنوب وشرق أوكرانيا.

واعترفت روسيا ب”انسحاب” قواتها من ليمان. لكن وزارة الدفاع الروسية قالت في بيان، إنه “بعد تهديدها بالتطويق، تم سحب القوات الحليفة من ليمان إلى خطوط ملائمة أكثر”. وأضافت “رغم الخسائر التي لحقت بالعدو والتفوق الكبير في القوات والوسائل إلا أنه جلب احتياطيات وواصل هجومه على هذا المحور”.

هجوم على مدنيين

من جهة ثانية، عُثر على جثث 20 شخصاً بعد هجوم استهدف قافلة سيارات تقل مدنيين قرب بلدة كوبيانسك في شمال شرق أوكرانيا، بحسب ما أفاد حاكم منطقة خاركيف السبت.

وقال أوليغ سينيغوبوف على موقع تلغرام: “في منطقة كوبيانسك، عثر على قافلة سيارات تحمل مدنيين تعرّضت لإطلاق نار. بحسب المعلومات الأولية، قتل 20 شخصا في السيارات.. هاجم المحتلون مدنيين كانوا يحاولون الفرار من القصف. هذه قسوة لا يوجد أي مبرر لها”.

وأفاد الجنود الأوكرانيون الذين عثروا على السيارات المدنية المدمّرة حيث وجد القتلى الذين بدت جثث بعضهم محترقة، عن اعتقادهم بأن الجنود الروس هاجموا قافلة مدنية. وبقيت الجثث في مكانها داخل ست سيارات وحولها على الطريق المؤدي إلى خارج قرية كيريليفكا، حوالى 70 كلم شرق خاركيف.

نهاية الحرب مستحيلة

وتأتي هذه التطورات بعد يوم واحد من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في احتفال في الكرملين، ضم مناطق لوغانسك ودونتسك وخاركيف وزباروجيا. واعتبر وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل السبت، أن ضم موسكو للمناطق ال4 يجعل انتهاء الحرب في أوكرانيا “أكثر صعوبة بكثير شبه مستحيل”.

وقال إن “روسيا في صدد خسارة” الحرب، “لقد خسرتها على الصعيدين المعنوي والسياسي”، لكن “أوكرانيا لم تنتصر بعد”، مدافعاً عن العقوبات الاوروبية التي فرضت على موسكو وعن المساعدة العسكرية لكييف، ودعا الى الاستمرار في هذا المنحى.

وأضاف بوريل “ينبغي القيام بأفضل من ذلك” و”جعل العالم يدرك أسباب هذه الحرب ونتائجها”، مذكراً بأن البرازيل والهند امتنعتا عن إدانة عملية الضم الروسية في مجلس الأمن الدولي.

ورأى أن الاوروبيين أقاموا “حديقة محاطة بالأدغال”. وتابع محذراً: “إذا كنا لا نريد أن تغزو الأدغال الحديقة (…) علينا أن نتدخل”، داعيا أوروبا خصوصا الى تعزيز ترسانتها العسكرية. وقال: “هذا ليس ترفا.. إنه أمر ضروري ولا غنى عنه للبقاء”.

——————————-

العدوان الروسي والكارثة السورية/ حسن النيفي

تزامناً مع حلول الذكرى  السابعة للعدوان الروسي على الشعب السوري، تستمر طائرات بوتين وقاذفاته في استهداف المدنيين، ويبدو أن المخيمات باتت الهدف الذي يشعر الروس أن عليهم إزالتها باعتبارها باتت معلماً من معالم إجرامهم، إذ لم يكتفوا بحمم الموت التي تتهاطل فوق رؤوس السوريين منذ أواخر أيلول عام 2015، بل ربما باتت شهوة القتل لدى موسكو لا تستثني من تشردوا ونزحوا من بيوتهم منذ سنوات، إذ استهدفت الطائرات الروسية صباح يوم الثلاثاء الماضي قرى ومخيمات في منطقتي كفر لوسين والبردغلي القريبتين من معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية، وما تزال الطائرات الروسية في سماء جسر الشغور والريف الجنوبي من إدلب مبعثاً دائماً للرعب من موت مباغت في أية لحظة، في حين أن ما يثير الدهشة والاستغراب هو تساؤل الكثيرين في أعقاب كل مجزرة روسية: ما الرسالة التي يحملها التصعيد الروسي على البلدة الفلانية أو المخيم الفلاني؟ هل هي رسائل لتركيا أم لأميركا أم لمن؟ وكأن أرواح السوريين باتت صندوق بريد لرسائل الروس إلى الآخرين، بينما واقع الحال يؤكّد أن الرسالة الوحيدة التي يريد بوتين ترجمتها هي موجهة للسوريين وليس لسواهم، إذ إن المطلوب قتلهم أو تهجيرهم أو استئصالهم وتمكين نظام الأسد من السيطرة على الأرض، هذا فحوى الرسائل الروسية التي لم تتبدّل منذ سبع سنوات وحتى هذه اللحظة.

 ولعل المفارقة الأكثر ريبةً أن تتزامن هذه الذكرى الكارثية أيضاً مع زيارة وفد من شخصيات سورية معارضة إلى موسكو قبل أيام قليلة بهدف استكمال التنسيق مع الروس لإيجاد حل سياسي بات (ضرورة) بحسب أحد أعضاء الوفد الذي ادّعى على الملأ بأن الروس هم أصحاب المشروعية في قيادة أي حل سياسي نظراً للدور الروسي الذي حارب الإرهاب في سوريا وحال دون وصول الجماعات المتطرفة إلى الحكم، وهذا بالطبع ليس كلاماً جديداً يقال للمرة الأولى من المعارضات التابعة لموسكو، ولكن كان من المفترض عليهم القول: إن ما يخوّل روسيا بفرض رؤيتها ويعطيها أولوية التحكّم في الشأن السوري هو أن بوتين كان الأكثر إيغالاً بالدم السوري والأكثر حصاداً لأرواح السوريين كما هو الأبرع دون منازع في اقتلاع السوريين من بيوتهم وبلداتهم وتشريدهم داخل سوريا وخارجها.

ما من شك في أن المنجز الإجرامي الروسي في سوريا ما كان ليتحقق لولا مباركة دولية وإقليمية، بل ربما كان قرار بوتين بالتدخل العسكري المباشر ليس تلبية لدعوة من نظام الأسد وإلحاحٍ إيراني فحسب، بل وبتأييد أميركي وجدت فيه حكومة أوباما آنذاك فرصة للتنصل من مسؤولياتها الأخلاقية حيال القضية السورية، كما وجدت فيه إسرائيل وسيطاً مقبولاً بينها وبين إيران لرعاية تفاهمات الكيان الصهيوني وطهران على مواقع النفوذ داخل الجغرافية السورية، وكذلك وجد الأوروبيون في ذرائع الروس التي زعمت أنها سوف تحارب القوى الإرهابية في سوريا حجةً تعفيهم من الخوض بما لا مصلحة مباشرة لهم فيه، وهكذا وجد الروس أنهم حيال فرصة تاريخية تتيح لهم أن يمارسوا كل أشكال وفنون الإجرام بلا أي رادع، ولم يعد بوتين مسؤولاً عن تمكين نظام الأسد من قتل السوريين وتقديم كل أشكال الدعم له فحسب، بل أصبح الروس مدافعين عن أمن النظام وحمايته أمام المجتمع الدولي بشكل عام، بل لعل بوتين هو المنقذ الحقيقي لبشار الأسد من جريمة الكيماوي في الغوطة الشرقية (آب عام 2013) حين أقنع أوباما بمصادرة أداة الجريمة وترك المجرم طليقا، وكذلك كان الفيتو الروسي في مجلس الأمن هو الحصانة الحقيقية لنظام الأسد أمام  أي إجراء عقابي له من المجتمع الدولي.

ربما بات من العسير حصر المفاصل الأساسية للعدوان الروسي في جوانب محدّدة، وذلك لشمولية هذا العدوان الذي لم يستثن أي جانب من حياة السوريين، ولكن يمكن الوقوف بإيجاز شديد عند أحد أهمّ تلك المفاصل، وأعني مسار أستانا (مطلع العام 2017) إذ استطاع الروس من خلاله تحقيق منجزين متوازيين، فعلى المستوى الميداني استمرت روسيا بعملية احتواء للفصائل العسكرية، سواء باستهدافها عسكرياً والإجهاز على تموضعات الجيش الحر، أو من خلال استدراجها إلى طاولة مفاوضات أستانا ضمن شروط لا تتحقق فيها أدنى نسبة من التكافؤ أو التوازن، إذ ترافقت مفاوضات أستانا بوقف لإطلاق النار من جانب الفصائل العسكرية المعارضة فحسب، بينما استمر الروس ونظام الأسد بعمليات القتل والترويع والاستئصال، وقد تكللت مساعي أستانا من الناحية العسكرية باتفاق ما يسمى (خفض التصعيد) وهذا الاتفاق في حقيقته لا يعدو كونه مجرّد تفاهمات بين رعاة أستانا (روسيا وإيران وتركيا)، ولم يكن يحظى بالرعاية الدولية الكافية لتحصينه، ما جعل الروس يسارعون إلى خرقه وتجاوزه متى أرادوا، وبالفعل فإن اجتياح قوات النظام مدعومةً – جوياً – من الروس للغوطة الشرقية والقلمون ودرعا، كانت المآل الحقيقي لما يُدعى بتفاهمات خفض التصعيد. وفي موازاة هذا المُنجَز العسكري الروسي، ثمة مُنجَز سياسي موازٍ، بل ربما كان نتيجة للأول، ويتمثل بالتفاف روسيا على القرارات الأممية، وخاصة قرار جنيف 1 حزيران 2012، 2118، 2254، وإفراغها من مضامينها، عبر استخدام الضغط العسكري في استهداف المدنيين والبنى التحتية وفصائل الجيش الحر من جهة، وأيضاً عبر التحكّم والهيمنة على نشاط الأمم المتحدة والوسطاء الدوليين الذين لم يكن يخفى تماهيهم مع التوجه الروسي، ولا حاجة للتأكيد على أن ديمستورا كان له الدور الأبرز في طرح فكرة

(السلال الأربعة) في لقاء جنيف الرابع (2 شباط 2017) مدفوعاً من روسيا، تمهيداً لتجزئة الحل السياسي الذي تضمنته القرارات الأممية، حيث أفضت فكرة السلال الأربع – بعد موافقة هيئة التفاوض – إلى انحسار أهمّ السلال (الانتقال السياسي) واختزال العملية السياسية في (سلة الدستور) التي وجد فيها نظام الأسد وحلفاؤه فرصة ثمينة لاستثمار الوقت، بل ملهاةً مناسبة لمشاغلة المجتمع الدولي من خلال إيهامه أن نظام دمشق يتفاعل مع القرارات الأممية.

لعله ليس مُستغرباً أن تتحوّل مباركات المجتمع الدولي للعدوان الروسي على السوريين إلى إدانات شديدة، وذلك بعد الرابع والعشرين من شباط الماضي، حين بدأ بوتين بغزو أوكرانيا، ذلك أن المعيار الناظم أو التخوم الفاصلة بين الإدانة والمباركة ليست هي قيم الحق والعدالة على الإطلاق، بل هي البواعث المصلحية بكل تأكيد، وربما هذا ما جعل إدانة الغرب عموماً للغزو الروسي لأوكرانيا تتحوّل إلى دعم غير محدود بالسلاح النوعي وكذلك دعم مطلق بالمال والمواقف السياسية معاً، أمّا إدانات الغرب للإجرام الروسي في سوريا فما تزال تُستخدم كآليات في إدارة الصراع وليس إجراءات عملية تعيد نوعاً من الاعتبار للدم السوري وتسهم في وضع حدّ للعدوان الذي ما يزال مستمراً، فهل مردّ ذلك إلى أن بوتين في أوكرانيا يواجه خصماً يدافع عن أرضه ويقاتل أصالة عن شعبه، بينما لا يجد في سوريا سوى جيوش لا تملك من أمرها شيئاً؟

تلفزيون سوريا

————————-

تسرب النفط الروسي..جبهة حرب جديدة/ بسام مقداد

أحاط بوتين ضم المناطق الأوكرانية المحتلة، جزئيا أو كلياً، إلى الأراضي الروسية بصخب إعلامي كبير ومراسم جمعت البرلمان ومجلس الإتحاد وحكام المناطق الروسية. كما حرص على إبراز صورة ممثلي  المناطق الأوكرانية المعنية وهم ينقلون إليه بشرى نجاح إستفتاءاته للإلتحاق ب”العالم الروسي بنسبة 99% المحببة لدى الأنظمة التسلطية. هذا الصخب الذي أحاط به بوتين “تشريع” ضم الأراضي الأوكرانية إلى روسيا، ليس من المستبعد أن يكون قد تقصده في رده على ما يشتبه به الغرب من جبهة جديدة في حربه، ليس على أوكرانيا فحسب هذه المرة، بل على البنية التحتية للطاقة الأوروبية. الغرب حسم أمر تسرب الغاز الروسي من أنابيب نقله إلى أوروبا، وأعلن أنه ليس حدثاً طارئاً، بل عملية تخريب متعمد يرجح أن تكون روسيا قامت بها، وإن كان بعضه (البولونيون) يؤكد ذلك.

التصعيد الجديد المشتبه به بوتين في الحرب على البنية التحتية للطاقة الأوروبية، يحرص هو على تصويره عدواناً على الممتلكات الروسية، وقرر نقله إلى مجلس الأمن الدولي الذي دعاه إلى الإجتماع في آخر الشهر المنصرم. لكن الولايات المتحدة سارعت مع ألبانيا إلى دعوة المجلس إلى عقد جلسة أخرى للنظر في الإستفتاءات بشأن ضم المناطق الأوكرانية إلى روسيا، والذهاب إلى الجمعية العامة للمنظمة في حال إستخدمت روسيا الفيتو ضد إدانة الإستفتاءات ورفض هذا الضم. ويحرص بوتين في المرحلة “الجديدة” من حربه على إنتهاج سياسته المعهودة في محاولة شق الإتحاد الأوروبي وإبعاده عن الولايات المتحدة. ولذا فهو يقدم نفسه بأنه المتضرر الرئيسي مع الإتحاد الأوروبي من تعطيل أنابيب “سيل الشمال” 1 و2، وأن الولايات المتحدة هي المستفيد الأول من هذا التعطيل، ولا يستبعد قيامها به.

في هذا السياق نشرت صحيفة الكرملين vz في 27 المنصرم نصاً بعنوان “من بوسعه تفجير خطي “سيل الشمال”. “سيل الشمال ــــ 1″ سبق أن قلصت  روسيا تصدير الغاز بواسطته وحظرته نهائياً مطلع الشهر الفائب، و”سيل الشمال ــــ 2” لم تصادق ألمانيا على مباشرته بالعمل بعد إعلان بوتين حربه على أوكرانيا، وكل منهما يتكون من خطين. لكن الصحيفة، رغم ذلك، تقدم للنص بالقول إن تعطيل الخطوط الثلاثة من السيلين حدث فريد في تاريخ أوروبا. ويتحدثون عن روايات عديدة لما حدث، لكن الأساسية منها تبقى التخريب المتعمد. وتطرح أسئلة باشرتها بالإستهجان كيف كان من الممكن تفجير أنابيب الغاز في قعر بحر البلطيق ويبقى الجاني غير مكشوف؟ من كان بحاجة لمثل هذا التخريب، وماذا ينتظر بقية خطوط نقل الغاز الروسي إلى أوروبا؟

تنقل الصحيفة عن خبير روسي تفرده بسرد رواية لما حدث تقول بأنه تم إختبار صلابة الأنابيب بإسقاط مرساة سفينة عليها من فوق سطح المياه، وأن إختباراً مماثلاً سبق أن أجري في هونغ كونغ على أنابيب نقل تحت المياه لم تصمد لصدمة المرساة. لكنه ينفي مثل هذه الرواية في حالة الأنابيب الروسية لأن إنخفاض الضغط حدث دفعة واحدة فيها جميعا، وليس بالتوالي. إضافة إلى ذلك، يقول الخبير بأن منطقة الحدث تعج  بالسفن المدنية والعسكرية، ولم يكن بوسع الجاني أن يبقى متخفياً عن أنظار العسكريين السويديين والدانماركيين. كما أنه ينفي كلياً إمكانية حدوث تسرب تلقائي من الأنابيب، وذلك لأسباب يعددها، ومن بينها أن الأنبوب الأول يعمل منذ 11 عاماً، وأن التحقق التقني من سلامة الأنابيب تم في تموز/يوليو المنصرم.

 رأت الصحيفة أن تشير إلى أن ما حدث لخطوط الغاز الروسي في البلطيق تزامن مع إفتتاح خط نقل الغاز في قعر البحر عينه من النروج إلى شمال غرب بولونيا، لكنها تشير إلى أنه لايستطيع، بقدرته المحدودة، منافسة الخطين الروسيين. ولا تنسى أن تذكر أن بولونيا مدت الخط بالأموال الأوروبية “خصيصاً كي لا تشتري الغاز الروسي”، وسيتعين عليها الإشتباك مع ألمانيا من أجل الغاز النرويجي.

خبير روسي آخر تنقل عنه الصحيفة بأن أوروبا وروسيا هما الطرفان المتضرران مما حدث لخطوط الغاز الروسي، والولايات المتحدة هي فقط المستفيدة منه، حيث أنها تثابر على نسف جسور التعاون الأوروبي الروسي في مجال الغاز. وتؤكد بأنه “لا تتوفر “لدينا” الآن الإمكانية التقنية لتوريد الكميات الضرورية من الغاز لأوروبا، حيث أن “عملية الإصلاح ستكون طويلة”. ويرى الخبير أن أحداً لم يكن ليتصور حتى أن مثل هذا الأمر ممكن الحدوث لخطوط الغاز الروسية البحرية، ويصفه بأنه “حدث فريد من نوعه في التجربة الأوروبية” لم يطرأ منذ الحرب العالمية الثانية. ويعتبر بأنه إشارة تعني الجميع، وأن كل خطوط نقل الغاز هي في دائرة الخطر، ويشكل مقدمة جديدة كلياً في سياسة الطاقة الأوروبية. 

وبعد أن يشير الخبير إلى إحتمال بقاء خطي الغاز الروسي خارج الخدمة لسنوات قادمة، يرى أن إحتمال تراجع الإقتصاد الصناعي الأوروبي الذي تفيد منه الولايات المتحدة أيضاً، يصبح أكثر واقعية. ويتحدث عن إحتمال تعرض خطي الغاز الروسي الجنوبيين عبر تركيا إلى عدد من بلدان شرق أوروبا إلى مصير خطي الشمال عينه، ويرى أن البلدان الأوروبية لايمكنها أن تعتمد على مساعدة بعضها في حقل الطاقة، لأن المصادر الأوروبية والبديلة لا يمكنها تعويض مصادر الطاقة الروسية.

الأسبوعية الأوكرانية ZN  نقلت في 28 المنصرم عن صحيفة Politico الأميركية قولها بأن “تخريب “سيل الشمال” يشي بجبهة جديدة في حرب روسيا على أوكرانيا”. وتقول ترجمة نص الأميركية إلى الروسية بأنه إذا كانت بنية الطاقة والمواصلات تحت سطح البحر قد أصبحت هدفاً لروسيا، فعلى الأساطيل الغربية أن تسارع إلى العمل. ويبدو أن أزمة الطاقة الأوروبية تدخل في مرحلة جديدة خطرة. فإذا تأكدت أو تعززت الشكوك بأن روسيا بالذات تقف وراء التفجيرات التي أفضت إلى تسرب الغاز من “سيل الشمال”في بحر البلطيق، فإن العواقب ستكون وخيمة على أمن القارة. وعلى الجيوش الأوروبية أن تستعد لظهور جبهة جديدة مفاجئة في الحرب الروسية على أوكرانيا. وسوف يتعين على هذه الجيوش أن تنخرط في مواجهة مباشرة مع الأسطول الروسي. بريطانيا أبدت منذ زمن بعيد تخوفها من إقدام الغواصات الروسية على محاولة الإضرار بكابلات الإنترنت الممددة في قاع البحر.

تفجيرات البلطيق تجعل هذه المخاوف أكثر واقعية وتثير ذكريات الحرب الباردة، حين كانت أساطيل الناتو والإتحاد السوفياتي، وخاصة غواصاتهما، تتصيد بعضها في بحر البلطيق. وتستند الصحيفة الأميركية إلى تصريح وزير الطاقة النرويجي لتقول بأن البلدان الأوروبية تتعجل بإتخاذ خطوات لرفع مستوى إستعداداتها حول البنية التحتية للنفط والغاز.

تقول الصحيفة الأميركية بأن تسرب الغاز من “سيل الشمال” وقع بعد يوم من دعوة السلطات النرويجية إلى الحذر من ظهور مسيّرات مجهولة قرب البنية التحتية للنفط والغاز. وتشير إلى أن الأسطول البريطاني أصدر في تموز/يوليو المنصرم تصريحا تحدث فيه عن خطوات ستتخذ لرفع مستوى الإستعداد حول البنية التحتية للنفط والغاز. ومثل هذا القرار تـم إتخاذه في اوسلو بعد مناقشة شاركت فيها الحكومة، الجيش، الشرطة وهيئات الطاقة. 

وبعد أن تستعرض الصحيفة ما ذكرته رئيستا وزراء الدانمارك والسويد عن أن التفجيرات مقصودة وخطيرة جداً، تقول بانه يبدو أن الزعماء الأوروبيين الآخرين قد حددوا من المسؤول عن التفجيرات.

—————————-

التّدخلات العسكريّة الروسيّة… سبعة أعوام سوريّة وسبعة أشهر أوكرانيّة/ ماجد كيالي

مضت سبعة أعوام على التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا (أيلول/سبتمبر 2015)، وسبعة أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد نجمت عن هذين الحدثين مآس وكوارث وتداعيات خطيرة، بينها خسائر مادية وبشرية فادحة، ضمنها ملايين اللاجئين السوريين والأوكرانيين، وتقويض الاستقرار على الصعد المحلية والإقليمية والدولية.

ورغم مرور هذا الزمن الطويل في الحدثين (لنأمل ألا تصل الكارثة الأوكرانية إلى سبع سنوات)، فإن القوة العسكرية لروسيا لم تثبت نفسها تماماً، إذ لم تحقق النتائج المرجوة منها، رغم جبروتها، وتفوقها في النيران والقوة الصاروخية، فلا هي استطاعت إعادة الاستقرار إلى سوريا، ولا استطاعت فرض إملاءاتها على الشعب الأوكراني، بل إن ذلك التدخل في الحالتين تحول إلى ورطة أو فخ لروسيا، لا أحد يستطيع التكهن بكيفية تأثيره في مكانة روسيا ونظامها السياسي في المستقبل القريب.

ثمة مفارقات في مقاربة الحالتين، أهمها: أولاً، أن التدخل العسكري الروسي في سوريا أتى بدعوى الحفاظ على وحدتها وسيادتها (بتغطية من النظام)، فيما حصل غزو أوكرانيا لقضم مناطق منها (دونيتسك ولوغانتس وزابوريجيا وخرسون)، أي لقضم سيادة البلد ووحدته.

ثانياً، جاء التدخل في سوريا لدعم النظام الحاكم (منذ أكثر من نصف قرن)، وعلى الضد من فكرة حق تقرير المصير للشعب السوري، فإنه أتى في أوكرانيا بحجة دعم الأقلية الروسية في تلك المناطق، وبحجة حقها في تقرير المصير.

ثالثاً، بررت روسيا وجودها العسكري في سوريا بمحاربة الإرهاب أو المتطرفين الإسلاميين، نازعة عن الحراك الشعبي للتغيير السياسي في سوريا شرعيته وعدالة مطلبه، بينما بررته في أوكرانيا بادعاء محاربة النازيين، كأن الشعب الأوكراني كله بات نازياً!

رابعاً، بينما توخّت روسيا من تدخلها في الحالة السورية تعزيز مكانتها الدولية، فإنها في الحالة الأوكرانية ادعت أن تدخلها يستهدف التخلص من الأحادية القطبية، ومن الهيمنة الأميركية، وتأمين التحول نحو عالم متعدد الأقطاب، وتالياً فرض احترام روسيا كدولة عظمى.

طبعاً، ثمة اختلافات بين القضيتين، لكن الفكرة هنا أن روسيا ادعت في الحالتين أن تدخلها أتى للدفاع عن أمنها القومي، ومصالحها الاستراتيجية كدولة عظمى، فيما بررت وجودها في كل حالة بشكل يتناقض مع الأخرى، كما حمّلت تدخلها العسكري أكثر مما يحتمل، من دون أن تدرس قدرتها على إنجاز المهمات، أو الأهداف التي ادعتها أو طمحت إليها.

بالمحصلة، فإن روسيا بتدخلها العسكري في سوريا، رغم أنها استطاعت فرض ذاتها طرفاً فاعلاً في الصراع السوري، وصاحبة القرار باستمرار نظام الأسد، في مقابل تحجيم دور إيران التي كانت تعتبر نفسها صاحبة القرار في الشأن السوري، وفي مقابل تعطيل الحل الدولي، المتمثل ببيان جنيف 1 (2012)، وقرار مجلس الأمن الدولي (2254، 2015)، بإقامتها تحالف أستانة (روسيا، تركيا، إيران/2017) لإدارة الصراع السوري، وبمحاولتها فرض مسار تفاوضي جديد، هو مسار آستانة، إلا أنها رغم ذلك كله لا تزال عاجزة عن جلب الاستقرار لهذا البلد، أو تمكين النظام من السيطرة والسيادة على أراضيه.

هكذا، ثمة في سوريا اليوم أطراف عدة فاعلة (الولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، وتركيا، وإسرائيل)، ومناطق نفوذ عدة (في الشمال تركيا، وفي الشرق الولايات المتحدة، وثمة تداخل في النفوذ في مناطق النظام بين إيران وميليشياتها العسكرية والقوات الروسية).

أيضاً، فإن روسيا، بحكم ضعف إمكاناتها المادية واللوجستية، تجد نفسها عاجزة عن تقديم الدعم للنظام لتمكينه من النهوض بأوضاعه، كما أنها عاجزة عن تأمين عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وبيوتهم، وعاجزة عن تأمين مستلزمات إعادة الإعمار.

وفي الواقع، فإن روسيا باتت تجد نفسها مقيدة، أو في ورطة، إذ بإمكانها أن تقصف، وأن تدمّر، وأن تشرّد، ولكنها لا تستطيع جلب الاستقرار، ولا إعادة الإعمار، كما تجد نفسها أسيرة حدود إمكاناتها، فيما الولايات المتحدة، ومع 800 أو 1000 عسكري فقط، تسيطر على ثلث الأراضي السورية (شرق الفرات)، كما أنها هي التي تملك قرار الاستقرار، وعودة اللاجئين، والإعمار في يدها.

هذا يعيدنا إلى اللحظة التي تدخلت فيها روسيا في سوريا (قبل سبعة أعوام)، فقد أتى ذلك بعد اقتطاعها منطقتين من جورجيا (أبخازيا، وأوسيتا في 2008)، والاعتراف بهما دولتين مستقلتين، بدعوى حق تقرير المصير (لم يعترف بهما أحد غيرها)، وهو ما تكرر باقتطاع مناطق من أوكرانيا (دونتيستك ولوغانسك وشبه جزيرة القرم، 2014)، وبعده أتى التدخل الروسي العسكري والوحشي في سوريا، في ظل سكوت دولي.

وفي الحقيقة، فإن ذلك السكوت بدا نتاجاً للا مبالاة أميركية لما يجري في سوريا، إذ ليس ثمة مصالح حيوية لها فيها، باستثناء ضمان أمن إسرائيل، أو ربما رغبة منها لاستدراج روسيا للتورط في سوريا، بهدف استنزافها سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ووضع الأطراف الفاعلة في الشأن السوري للتصارع أو التنافس في ما بينها (روسيا، وتركيا، وإيران)، وأيضاً لاعتبارات إسرائيلية ربما، تقتضي مزيداً من الإنهاك والتمزق لهذا البلد. وقد شهدنا مدى التساوق الأميركي – الروسي في الملف السوري في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في التعاطي مع ملف السلاح الكيماوي، وفي الالتفاف على بيان جنيف 2012، أو تمييعه.

ومشكلة روسيا أن تدخلها في الحالتين جرى نتيجة تملك روح الغطرسة، وأوهام العظمة، لدى الرئيس بوتين (ما يذكّر بما فعله صدام حسين في الكويت / 1990)، كما جرى ذلك وفق إدراكات خاطئة تبالغ بالجبروت العسكري الروسي، ما يؤكده انشغال قادتها من الرئيس إلى كل مستويات القيادة بالدعاية للسلاح الروسي، إلى درجة أن وزير دفاعها تباهى باعتبار سوريا مجرد حقل رماية ومضمار تدريب للجيش الروسي.

وفي تقرير لوزارة الدفاع الروسية (كانون الثاني/يناير 2019)، تم تأكيد “خوض 68 ألف عسكري روسي، بينهم 460 جنرالاً، عمليات قتالية في سوريا (إلى حينه فقط في ظرف 3 أعوام)، اكتسبوا خلالها “خبرات قتالية كبيرة”، وأن بين هؤلاء كل قادة الدوائر العسكرية الروسية وقادة جيوش القوات البرية وجيوش القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي وقادة الفرق العسكرية و96 في المئة من قادة الألوية والأفواج… و87 في المئة من طواقم الطيران التكتيكي و91 في المئة من طواقم طيران الجيش و97 في المئة من طواقم طيران النقل العسكري و60 في المئة من طواقم الطيران الاستراتيجي”، وأنه تم خلال تلك العمليات “اختبار أكثر من 300 طراز من الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية، بما فيها مقاتلات الجيل الخامس “سوخوي – 57″، ومنظومات الدفاع الجوي “بانتسير – إس 2″، ومدرعات “ترميناتور – 2” والروبوت القتالي “أوران – 9″ المدرع وغير ذلك من صنوف جديدة من الأسلحة”.

(موقع “المنار”، أيضاً: رائد جبر، “الشرق الأوسط”، 4/1/2019).

الآن، ووفقاً للظروف والمعطيات الراهنة، يبدو أن التوظيف أو الاستثمار الأميركي في استدراج روسيا إلى هذه الورطة أو تلك، هذا الاستنزاف أو ذاك، في سوريا وأوكرانيا، قد أتى أكله، لذا فإن الاستراتيجية الأميركية تشتغل اليوم على قاعدة عدم السماح لروسيا بالفوز، لا في أوكرانيا، ولا في أي مكان آخر، على الأرجح من ضمنها سوريا.

مع ذلك ثمة ميزتان رئيستان في الوضع الأوكراني بالقياس إلى الوضع السوري. الأولى، أن ثمة قيادة مركزية لإدارة الشعب الأوكراني، وترتيب مقاومته ضد الغزو الروسي، وهي تقوم بدورها بطريقة ناجحة ولافتة. والثانية، أنه قُيّض لأوكرانيا دعمٌ دولي غير مسبوق، لجهة حجم الضغط الموجه ضد نظام بوتين، ولجهة إغداق الدعم المادي والعسكري للشعب وللجيش الأوكرانيين، وكل ذلك لعب دوراً كبيراً في كبح الهجوم الروسي، وفرملته، وإظهار تخبطه، رغم كل الدمار الذي حصل ورغم تشريد ملايين الأوكران؛ وهما ميزتان افتقدهما الحراك السوري.

لذا فثمة مشكلة كبيرة لروسيا، إذ إنها ظنت أن سلاحها المدمر الذي واجهت به السوريين العزل من السلاح تقريباً، واستغلته في تلك الدعاية، سيفعل فعله ذاته أمام الأوكرانيين، مع قيادة موحدة، وسلاح متطور، ودعم غربي، إضافة إلى أنها ظنت أن العالم سيسكت عن محاولتها إلغاء أوكرانيا، أو تغيير المعادلات السياسية في أوروبا.

من المبكر معرفة انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا في الصراع الجاري في سوريا، منذ 11 عاماً، والذي باتت فيه الأطراف الخارجية أكثر فاعلية من الأطراف الداخلية، لذا لا يفيد هنا التسرع في الاستنتاج أن ذلك التأثير سيحصل ميكانيكياً رغم كل التشابه بين الحالتين، إذ إن روسيا التي تقاتل الشعب الأوكراني في أوكرانيا، تقاتل الشعب السوري في سوريا.

النهار العربي

————————

في الذكرى السابعة للتدخل الروسي في سوريا: آلاف القتلى ومئات المجازر/ منهل باريش

في الذكرى السابعة للتدخل الروسي في سوريا، والتي حصلت في 30 أيلول (سبتمبر) 2015 ارتفع عدد القتلى المدنيين السوريين على يد القوات العسكرية الروسية إلى 6943 قتيلاً بينهم 2044 طفلاً وتم تسجيل 1243 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية، إضافة للدور الحاسم للقوات الروسية بفرض مناطق خفض التصعيد الأربع في ريف دمشق ودرعا وحمص وحماة وإدلب وحلب، وهو الاتفاق الذي مهد لهزيمة فصائل المعارضة عسكريا وإخراجها من مناطق خفض التصعيد الثلاث في وسط وجنوب البلاد، وقضم نصف مساحة منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب ومحيطها.

واستخدمت موسكو حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن 13 مرة بعد تدخلها العسكري في سوريا، بعد أن استخدمته ثلاث مرات فقط قبل التدخل ليبلغ مجموع تصويتها لصالح النظام 17 مرة. كما صوتت 21 مرة في مجلس حقوق الإنسان ضد القرارات التي من شأنها إدانة عنف ووحشية النظام وحشدت دول الصين وفنزويلا والجزائر وكوبا وغيرها للتصويت لصالح النظام.

وفي ذكرى التدخل الروسي، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بيانا اتهمت من خلاله القوات الروسية بارتكاب ما لا يقل عن 360 مجزرة، وأظهر تحليل البيانات أن العام الأول للتدخل الروسي قد شهد الحصيلة الأعلى من الضحايا، قرابة 52 في المئة من الحصيلة الإجمالية، تلاه العام الثاني، قرابة 23 في المئة، فيما شهدت محافظة حلب الحصيلة الأعلى من الضحايا قرابة41 في المئة بين المحافظات السورية، تلتها إدلب 38 في المئة.

كما وثق التقرير قتل القوات الروسية 70 من الكوادر الطبية، بينهم 12 سيدة، جلهم في محافظة حلب، وكانت الحصيلة الأعلى لهؤلاء الضحايا في العام الأول، إضافة إلى مقتل 44 من كوادر الدفاع المدني، نصفهم في محافظة إدلب التي سجلت الحصيلة الأعلى بين المحافظات، وكانت الحصيلة الأعلى من الضحايا في العام الأول من التدخل العسكري الروسي قرابة 35 في المئة وفق ما أورده التقرير. وسجل مقتل 24 من الكوادر الإعلامية جميعهم قتلوا في محافظتي حلب وإدلب.

وطبقاً للتقرير فقد نفذت القوات الروسية منذ تدخلها العسكري حتى 30 أيلول (سبتمبر)2022 – الجمعة الماضي- ما لا يقل عن 1243 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنيَّة، بينها 223 مدرسة، و207 منشأة طبية، و60 سوقاً. وتشير الرسوم البيانية للتقرير أن حصة منطقة إدلب من حوادث الاعتداء بلغت 626 حادثة، أي 51 في المئة من الحصيلة الإجمالية لتلك الحوادث.

وسجل تقرير «الشبكة» ما لا يقل عن 237 هجوماً بذخائر عنقودية، إضافةً إلى ما لا يقل عن 125 هجوماً بأسلحة حارقة، شنَّتها القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في سوريا 2015.

وحمل التقرير القوات الروسية المسؤولية عن حركة النزوح والتّشريد القسري، وساهمت هجماتها بالشراكة مع قوات النظام والميليشيات الإيرانية بتشريد قرابة 4.8 مليون نسمة، معظمهم تعرضوا للنزوح أكثر من مرة بسبب العنف المتصاعد من التحالف الثلاثي المذكور.

ويعتقد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني «أن إفلات روسيا من العقاب في سوريا شجعها على المضي قدماً في سياستها وانتهاكها للقانون الدولي في أوكرانيا، لا بد من محاسبة روسيا على ما قامت به ضد الشعب والدولة السورية». وصرح في اتصال مع «القدس العربي» انه من المفيد ربط المسارين السوري والأوكراني، وخصوصا على المستوى السياسي، وزاد «من المهم تذكير المجتمع الدولي والفاعلين بجرائم القوات الروسية في سوريا» معتبرا أن «العقوبات على روسيا بسبب غزوها أوكرانيا هي جزء من المحاسبة ولو كانت منقوصة». ودعا المجموعة الدولية إلى «فرض عقوبات على روسيا بسبب جرائمها في سوريا. بالإمكان تصحيح الخطأ ولو متأخرا، كما يجب تعزيز دور المقاومة ضد روسيا من خلال دعم مؤسسات المجتمع المدني والدعم الإنساني والإغاثي».

وفي ذرائع التدخل الروسي قال القيادي السابق في جيش العزة، النقيب مصطفى معراتي إن :»في أول التدخل الروسي قصفوا مقرات الجيش الحر بشكل همجي بحجة انهم يقصفون مقرات داعش، علما أن المسافة التي تفصلنا عن مناطق سيطرة التنظيم كانت مئات الكيلو مترات، ولم يتم قصف مواقع التنظيم مطلقاً» ويستذكر القيادي البارز في حديث مع «القدس العربي» المواجهات الحامية الوطيس مع القوات الروسية وأهمها مجزرة الدبابات، حيث دمر رماة الجيش الحر أكثر من 21 دبابة وعربة مزنجرة جرى استهدافها بصواريخ مضادة للدروع م/د.

وحول الأدوات المحتملة لتغيير قواعد الصراع «لو فرض حظر الطيران لكان الجيش الحر قادرا على سحق القوات الروسية والميليشيات الإيرانية وقوات النظام. لقد أوقفت أمريكا قرار تسليم الصواريخ المضادة للطيران م/ط» ولفت «لم تتمكن روسيا من تحقيق شيء على الأرض رغم كل القوة التدميرية الوحشية الهائلة التي استخدمتها ضد الحجر والشجر والبشر».

سياسيا اتهم «الائتلاف الوطني» المعارض روسيا بارتكاب «مئات جرائم الحرب ضد المدنيين السوريين في المناطق المحررة وأجبرت الملايين منهم على النزوح واللجوء بسبب قصفها الوحشي الذي أدى خلال سبع سنين إلى مقتل وإصابة أكثر من 12 ألف مدني، وارتكبت ما يزيد عن 357 مجزرة». ونوه الائتلاف في بيان له الجمعة، إلى أن عدم محاسبة روسيا على جرائمها في سوريا «شجعها على تكرار العدوان في أوكرانيا».

ودعا «الائتلاف» المعارض المجتمع الدولي لإيجاد آلية دولية لإخراج القوات الروسية من سوريا وإقصائها مع نظام الأسد من «المحافل الدولية وعدم تسخير أي منبر لهم في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية» كما طالب بمحاكمة نظام الأسد على جرائم الحرب التي ارتكبها بمساعدة روسية، ودعم الانتقال السياسي وفق القرار 2254 بشكل جاد وفعال، وخلق بيئة آمنة لعودة اللاجئين السوريين بما يتناسب مع متطلبات الشعب السوري.

من جهة أخرى، بنت روسيا شرعية تدخلها العسكري في النزاع السوري على مسألتين قانونيتين أولهما أن التدخل جاء تلبية للحكومة الشرعية الممثلة في الأمم المتحدة، وعلى قرار مجلس الأمن رقم 2249 لعام 2015 وهو القرار الذي صدر بعد شهرين من التدخل على الأرض والذي نص على الطلب من «الدول الأعضاء التي لديها القدرة المطلوبة لاتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع وقمع الأعمال الإرهابية على الأراضي الواقعة تحت سيطرة داعش في سوريا والعراق». وبررت روسيا من خلاله الحرب على تنظيم الدولة بقرار من مجلس الأمن في حين أهملت باقي نص القرار والقرارات ذات الصلة. وتبين لاحقا أن موسكو جهزت نفسها لإقامة طويلة في سوريا من خلال السيطرة على مطار حميميم قرب القرداحة في غرب سوريا وتحويله إلى قاعدة جوية عسكرية في المتوسط، وإنشاء قاعدة بحرية عسكرية ملاصقة لميناء طرطوس التجاري، وحصلت روسيا على مجمل عقود الفوسفات والغاز والنفط في سوريا.

————————-

شطرنج الحرب الأوكرانية/ حسام كنفاني

منذ بداية الحرب في أوكرانيا قبل أكثر من ستة أشهر، تدور تطوراتها في سياق الفعل وردّة الفعل، فكل طرفٍ يترقب حركة الطرف الآخر لقياس الخطوة التالية في إطار تصعيد هذه الحرب، تماماً كما هو الحال في لعبة الشطرنج.

في الأيام الأخيرة، اتضح أكثر مدى تطابق اللعبة مع ما يجري على الأرض، وفق أدوات مختلفة يملكها كل فريق لحشر الآخر في الزاوية وانتظار حركته المقبلة، بداية من استعمال سلاح الغاز ثم الهجمات المضادّة والتعبئة العامة، والآن الضم، وصولاً ربما إلى الخيار النووي الذي لا يتوانى الروس عن التلويح به.

من النظر إلى رقعة المعارك وتطوراتها، لا يمكن إلا تبيان أن روسيا في موقفٍ حرجٍ لا تحسد عليه، لكن لا يزال لديها بعض الحركات التي يمكنها إيلام الخصوم، ولا سيما الأوروبيين. الغاز هو واحد من الأسلحة الفتاكة التي اعتمدت عليها روسيا في الرد على التحركات الغربية التي أفشلت “خطة نابليون” الشهيرة في عالم الشطرنج، والتي تقضي على الخصم في ثلاث أو أربع حركات. فقد بات معلوماً أن حسابات الغزو الروسي لأوكرانيا كانت قائمة على الوصول إلى العاصمة كييف خلال شهر كحد أقصى، وإطاحة حكومة فولوديمير زيلينسكي، وتعيين حكومة موالية لموسكو، والعودة إلى القواعد بالحد الأدنى من الخسائر. غير أن الحركات الغربية أسقطت الحسابات الروسية، وأدخلت موسكو في دوّامة من الاستنزاف، خسرت بموجبها حتى الآن، وباعتراف وزارة الدفاع، أكثر من خمسة آلاف جندي روسي، وهو بالتأكيد ما لم يكن في حساب قيادة الكرملين.

خلال الشهور الماضية، لجأت الأطراف إلى كل الاستراتيجيات الممكنة لضمان إنهاء الحرب لصالحها، غير أن كل المحاولات لم تفلح في “إنهاء اللعبة”. المحاولة الأخيرة كانت بالهجوم المضادّ الذي شنه الأوكرانيون على المناطق التي استولت عليها روسيا، مستفيدين من تدفق السلاح الغربي الكاسر للتوازن مع الترسانة الروسية، وهو ما دفع موسكو إلى حركة “إعلان التعبئة” لصد التقدّم الأوكراني. روسيا لم تكتف بذلك، بل عمدت إلى هجوم مضادّ آخر عبر الإعلان عن ضم أربع مناطق أوكرانية إلى السيادة الروسية، وهي دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا، وذلك بعد استفتاءات شعبية أجريت على عجل، وفق الحاجة الروسية إلى مكاسب على رقعة الحرب.

الحركة الروسية الأخيرة وضعت الغرب في حرج، لا سيما أنها تأتي بعد تحذيرات كثيرة، من الولايات المتحدة تحديداً، من تداعيات الإعلان الروسي عن ضم أراض أوكرانية. تحذيرات لم تلق أذاناً صاغية في موسكو التي أقدمت على الضم، منتظرة الحركة الغربية المضادّة. الخيارات الغربية في الرد على موسكو محدودة، خصوصاً في ظل الجزم الغربي بعدم التدخل المباشر في الحرب الأوكرانية، والاكتفاء بدعم البيادق الأوكرانية بالأسلحة والعتاد. واحدة من خيارات الرد كانت التوجه إلى مجلس الأمن الدولي، والذي فشل في إدانة قرار موسكو بضم المناطق الأوكرانية، بعد فيتو روسي أسقط مشروع القرار. ويمكن القول إنه إضافة إلى التنديد والوعيد، فإن هذا قد يكون سقف الرد الغربي على خطوة الضم، بعدما استنفد كل أوراق العقوبات والتسليح والتي لم تزد الحرب إلا استعاراً.

يعلم الغرب خطورة الدخول في صدام مباشر مع الروس، كما يدرك محاذير حشر “الملك الروسي” في الزاوية، ويفضل إنهاء اللعبة بالتعادل من دون قتل الملك، ولكن بعد تحجيمه وتفريغه من كل الأسلحة التي يمكن أن يستخدمها، خصوصاً أن هذا “الملك” يمكن أن يقلب رقعة الشطرنج على الجميع، وسبق له أن أعلن نيّته القيام بذلك في حال بات وجوده مهدداً.

غير أن الرغبات الغربية لا تتماشى مع تطورات اللعبة/ الحرب، والتي لا تنفكّ تسير باتجاه تصعيدي لا أفق لنهايته. الدور في اللعب الآن على الجانب الغربي، والذي عليه أن يضع الكثير من الحسابات في الاعتبار قبل الإقدام على تحريك أي حجر على رقعة شطرنج الحرب الأوكرانية.

العربي الجديد

—————————–

بوتين .. ماذا بعد ورقة الغاز؟/ فاطمة ياسين

يشكّل تسرّب الغاز من المواضع التي أصابها الضرر قبل أيام في خط أنابيب نورد ستريم الذي يصل روسيا بألمانيا خطراً بيئياً داهماً. ورغم أنّ الأنبوب متوقفٌ حالياً، لكنّه يحتوي على كميات ضخمة من الغاز المسال الذي تسرّب بعد انفجارٍ أصابه في عدة مواضع. ويثير الغاز المتسرّب من جديد مسألة الطاقة في أوروبا، ومدى التورّط الذي وقعت فيه القارّة بعدما اعتمدت خلال الفترة السابقة على الغاز الروسي، وتقدّر كميته التي تُضَخّ من روسيا بحدود الثلث، وترتفع في بعض البلدان إلى أكثر من 40%، ويبدو أنّ التسريب أخيراً بمثابة رسالة إنذار عاجلة، أنّ الإمداد سيتوقف كلياً، ولن يعود، خصوصاً أنّ الضرر الذي لحق بأنابيب بحر البلطيق من النوع الذي يصعُب إصلاحه، فقد تسرّبت المياه المالحة إلى داخل الأنبوب الذي لن يستطيع مقاومة الأملاح طويلاً، وسيتآكل بسرعة، ما يعني أنّ الضرر سيلحق بأوروبا، لكنّه، في الوقت ذاته، سيلغي ورقة الضغط التي يعتمد عليها فلاديمير بوتين، وهو يبني الكثير من سياساته في أوروبا على أساس امتلاكه اليد العليا في موضوع الطاقة وتوريد الغاز، وقد قاد سياسةً بطيئةً وهادئةً ليتمكّن من التغلغل عبر شبكات الغاز في أوروبا، مستغلاً المسافة القريبة نسبياً ووفرة المادة.

تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا قديم، ويعود إلى العهود السوفييتية التي كانت حريصةً على إمداد دول منظومتها الشيوعية بالطاقة، بالإضافة إلى بعض بلدان أوروبا الغربية، مستفيدةً من القطع الأوروبي اللازم لتجارتها الخارجية. وكانت خطوط الغاز مقتصرةً على خطّين افتتحا في عام 1980: خط ميغا، ويصل إلى فرنسا وشمالي ألمانيا، وشبكة تسمّى سويوز (الاتحاد)، وتمرّ من كازاخستان وأوكرانيا لتصل إلى حدود النمسا. ومع وصول بوتين إلى السلطة في بداية الألفية الجديدة، بدأ بتعزيز شبكات الغاز التي تصل إلى أوروبا، فعقد صفقات واتفاقيات كثيرة نشأت عنها مجموعة كبيرة من الخطوط والشبكات، وبدأت مع افتتاح خط بلو ستريم الذي يربط روسيا بتركيا، ويمر عبر البحر الأسود وافتتح عام 2003، ثم في 2005 استكمل تشغيل خط يامال الضخم الذي يمتد من شبه جزيرة يامال في شمال سيبيريا ويمرّ عبر بيلاروسيا وأوكرانيا ليصل إلى حدود النمسا.

الخط الأكبر كان “نورد ستريم” الذي يربط روسيا بألمانيا مباشرةً عبر بحر البلطيق، وافتتح عام 2011، وقد جعل هذا الخط ألمانيا شريكاً لروسيا في الغاز، ما شجّع الروس على بناء توأم له باسم “نوردستريم2” الذي علق ببعض المشكلات عندما بدأ بوتين يثير الغبار في أوروبا، ولم يوضَع قيد التشغيل. وكانت روسيا بالشراكة مع جمهورية التشيك قد أقامت في 2013 خط غازيلا الذي يصل إلى ألمانيا أيضاً، بالإضافة إلى نظام معقد من الخطوط يسمّى براتستفو (الأخوة)، يمر بأوكرانيا وبيلاروسيا ويمتد داخل أراضي أكثر من خمس دول مجاورة، أعطت هذه الشبكات العملاقة لروسيا دوراً في عملية التنمية والتصنيع في أوروبا عبر الاعتماد على الغاز الذي يضخّ منها.

انخفضت نسبة الضخّ في هذه الأنابيب من الطرف الروسي، وذلك للضغط على أوروبا حتى تعطيه بعض المزايا في حربه التي شنّها بوتين على أوكرانيا، ولكن الدول التي أبدت مرونةً بعض الشيء في البداية أصبحت، مع الوقت، أكثر تصلباً. وبدأت بالفعل بالبحث عن مصادر أخرى لتُحيّد السيطرة الروسية، وقد تجوّل زعماء الدول الأوروبية في منطقة الخليج تحديداً لمحاولة استكشاف سبل تعاون جديدة، منها زيارة المستشار الألماني شولتز. ومع الحادث الأخير، يتعرض خط طاقة رئيسي للضرر الكامل، ما يدفع دول أوروبا إلى غضّ النظر عن الغاز الروسي وسحب هذه الورقة نهائياً من بوتين. وعندها لن يكون في يده إلّا مواجهة اقتصاد منهار، وربما نقمة في الشارع تهدّد مركزه.

العربي الجديد

———————–

توماس فريدمان: بوتين يحوّل روسيا إلى “كوريا شمالية كبرى” وعلى الغرب التصرف بصرامة وذكاء

قال الكاتب الأميركي توماس فريدمان –في مقال له نشر بصحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times)- إن الوقت قد حان للقوى الغربية لتتعامل بصرامة وذكاء مع التطورات في أوكرانيا، مشيرا إلى أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الكرملين تذهب في اتجاه جعل روسيا “كوريا شمالية كبرى”.

وأوضح فريدمان أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -بضمه مناطق من أوكرانيا بشكل رسمي- أطلق مسار تحويل روسيا الاتحادية إلى “كوريا شمالية كبرى” ذات 11 توقيتا زمنيا، وذات ترسانة عسكرية تضم آلافا من الرؤوس الحربية النووية.

وذكر أن هذا التحول الرهيب لا يمكن اعتباره تهديدا “جيوسياسيا” فحسب، بل سيكون كذلك مأساة إنسانية كبرى تقتل الطاقات البشرية الروسية التي لطالما أبهرت الإنسانية بإبداعاتها في مجالات مختلفة، من بينها الثقافة والفن والصناعة.

وأشار فريدمان إلى أنه لن يتفاجأ إذا أعلن بوتين استعداده للتفاوض بعد ضمه مناطق أوكرانية، إذ إن هذا التصعيد -وكذلك التعبئة الجزئية- قد يكون محاولة منه لإرضاء أنصاره الغاضبين من “الإذلال العسكري” الذي عاشته القوات الروسية في أوكرانيا خلال الأسابيع الأخيرة، وفي الوقت نفسه قد يكون مناورة لإنجاح تسوية تفاوضية مواتية.

سيطرة؟

وشرح أن مشكلة كبيرة تواجه بوتين حاليا تتمثل في عدم سيطرة قواته على الأراضي التي قام بضمها لروسيا، وهذا يعني أنه لا يستطيع القيام بأي تسوية ما لم يطرد الأوكرانيين من كل تلك الأراضي وإيقاف كل هجماتهم، علما بأن جيشه منهك في أوكرانيا ويخسر أراضي يوما بعد يوم.

وحذر الكاتب من أن هذا السيناريو قد يجعل الرئيس الروسي يشعر بأنه حوصر في زاوية ضيقة لن يخرجه منها إلا استخدام سلاح نووي.

وبيّن فريدمان أن ما قام به بوتين “يشجع” كييف وحلفاءها الغربيين على مواصلة الحرب شتاء، لاستعادة الأراضي التي تحتلها روسيا، وبعضها محتل منذ 2014، وذلك رغم أن إمدادات الغاز الطبيعي ستكون مقيدة والأسعار قد تبلغ مستوى فلكيا.

وأكد أن قرارا مثل قطع إمدادات الغاز عن أوروبا الغربية سيكون كارثيا على روسيا، التي ستفقد ثقة زبائنها الذين سيضطرون للبحث عن وسائل بديلة لتجنب الاعتماد بشكل كلي على روسيا في توريد هذه المادة الضرورية، موضحا أن الثقة بمجال الطاقة هي العملة الأهم وفقدها يعني ضياعها للأبد.

تسوية أم تصعيد؟

وتساءل فريدمان هل ستضطر أوكرانيا والغرب “لإغلاق أنفهما” وعقد صفقة “قذرة” مع بوتين لوقف الحرب، أم ستستمر المواجهة المباشرة لتكريس مبدأ عدم جواز الاستيلاء بقوة على أراضي الغير، ومن ثم حرمان بوتين من الحصول على أي إنجاز إقليمي؟

وقال إنه من المحتمل أن تظهر أصوات تدعو أوروبا للموافقة على عرض تسوية يقدمه بوتين الذي يسعى لإحداث تصدع في الموقف الغربي، وفي الوقت نفسه يريد الخروج بـ”انتصار ما” يحفظ ماء وجهه.

وأضاف أن الزعماء الغربيين ملزمون بمعرفة متى “ينحرفون” عن الطريق لئلا يحدث اصطدام مع “السائق” القادم من الجهة المقابلة (بوتين)، ومتى يتخلون عن “بعض الكرامة” لـ”السائق الآخر”؛ حتى “ينحرف” ولا يحدث اصطدام، رغم أنه يتجاهل كل الآخرين.

وأكد فريدمان أن بوتين -بقراراته- يبدو وكأنه لم يترك للجميع من حل سوى البحث عن كيفية للتعايش مع “كوريا الشمالية الروسية”، موضحا أن هذا السيناريو يعني البحث عن تحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذا الوضع، وأفضل ما فيه -يوضح فريدمان- هو عالم أكثر اضطرابا.

المصدر : نيويورك تايمز

—————————–

ميديا بارت: استخبارات المصادر المفتوحة.. فن الحرب الأوكراني الجديد

إذا كانت حرب الخليج كرّست القدرة المطلقة للتلفزيون، فإن حرب أوكرانيا تؤكد ظهور استخبارات المصادر المفتوحة، فقد رصد جيفري لويس، الأستاذ في معهد “ميدلبري” للدراسات الدولية بالولايات المتحدة، أول آليات روسية تخرج من قواعدها، عندما كان يراقب المنطقة ضمن مشروع مع طلابه، ليعلن دخول الجيش الروسي على تويتر قبل وصوله إلى الأراضي الأوكرانية، ولتبقى متابعة تقدم القتال في الوقت الحقيقي على الشبكات الاجتماعية ممكنة بعد 7 أشهر من بدء الحرب.

وقال موقع “ميديا بارت” (Mediapart) الفرنسي إن الأجهزة الأميركية حذرت على مدى أسابيع طويلة، في خريف 2021، من اقتراب إطلاق “العملية الخاصة” الروسية التي كان من المتوقع أن تقطع فيها رأس الحكومة الأوكرانية في 72 ساعة، وذلك استنادا إلى زيادة في الإشارات التي تنبئ عن نشاط مكثف للجيش الروسي في منطقة بيلغورود بالقرب من الحدود الأوكرانية.

الذكاء المفتوح المصادر

ونبّه الموقع إلى إنتاج آلاف الصور الفوتوغرافية والشهادات والتسجيلات يوميا من قبل الصحفيين على الأرض، وحتى من قبل المدنيين والجنود والقادة السياسيين، إضافة إلى الأوامر العسكرية من كلا الجانبين. يقول كيفين ليمونير المحاضر في المعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية “الحرب في أوكرانيا هي أول نزاع شديد الحدّة يحدث في منطقة يكون فيها معدل انتشار الإنترنت جيدا نسبيا وقد تجنب فيها الطرفان البنى التحتية الرقمية بوجه عام، بل تم تحميل الجنود على كلا الجانبين بأجهزة استشعار تشمل الهواتف الذكية، وذلك يعني أن كتلة الآثار الرقمية الناتجة عن الصراع فلكية. وبالجمع بين هذه البيانات المتاحة مجانًا وتحليلها، يمكننا إنتاج معلومات لم يكن من المفترض نشرها على الإطلاق، وهذا ما يسمى بالذكاء المفتوح المصادر”.

وأشار الموقع، في مقال للمصور المحترف لوران جيسلين، إلى أن ممارسات تحقيقية وتحليلية كانت محصورة لدى الأجهزة الأمنية على مدى عشرات السنين قد انتشرت داخل مجتمعات الهواة والمهنيين، لتظهر حسابات يتابعها مئات الآلاف من المشتركين، وبهذا المعنى “يبدو أن الأجهزة الحكومية فقدت احتكار الاستخبارات”، كما تؤكد الباحثة صوفي بيرو في العدد الأخير من مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy)، موضحة أن “الناشطين أثبتوا على تويتر أنهم عملاء استخبارات يتتبعون تحركات القوات، ويجمعون الأدلة على جرائم الحرب ويحاربون المعلومات المضللة في العلن، بعيدا عن سرّية التقارير”.

وهكذا أصبح موقع “أوريكس” (Oryx) مصدرا أساسيا لوسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم -كما يقول الموقع- لأنه يتتبع الخسائر المؤكدة بصريا للجيوش الروسية والأوكرانية، حيث يجمع الصور ومقاطع الفيديو، كما تتخصص بعض الحسابات -كما يقول الموقع- في تتبع الرحلات الجوية وتحليل أنواع الذخيرة المستخدمة وفك تشفير المحادثات الصوتية.

وبتجميع ملاحظات الأقمار الصناعية وتحديد مواقع الحرائق والقصف ومقاطع الفيديو القتالية، من الممكن توفير خرائط موثوقة نسبيا لتقدم الخطوط الأمامية على أساس يومي، وذلك ما رفع جزئيا ضباب الحرب الذي نصبه المتحاربون، ومن وجهة نظر منهجية -كما ترى صوفي بيرو- لا يوجد فرق بين الاستخبارات ذات المصادر المفتوحة والذكاء المستند إلى مصادر مغلقة.

وبعد عرض نجاحات بعض المنظمات التي تعتمد على المصادر المفتوحة في تحقيقاتها، تساءل الموقع الفرنسي: هل يمكن أن تضع الاستخبارات ذات المصادر المفتوحة نفسها في خدمة العدالة، بعد أن نجحت تحقيقات صحفية عدة في تحديد مرتكبي جرائم الحرب المزعومين، وفنّدت دعاية موسكو وغير ذلك؟

وفي هذا السياق، يرى باتريك لوبيز تيريس، المدير السابق للتحقيقات في المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، أن من الضروري لتحقيق العدالة وقبل بدء أي إجراءات قانونية، جمع أكبر قدر من الأدلة، بما في ذلك البيانات الرقمية ذات المصدر المفتوح.

وبالفعل يعترف بروتوكول بيركلي، الذي صيغ عام 2020 من قبل مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ومركز حقوق الإنسان في جامعة كاليفورنيا، باستخدام البيانات الرقمية العامة، بما فيها الصور ومقاطع الفيديو والمعلومات الأخرى المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ كدليل في التحقيقات الجنائية وفي مجال حقوق الإنسان الدولية.

سلاح جديد للحرب

من جهة أخرى، هناك نتائج عسكرية ملموسة لتضاعف الآثار الرقمية التي خلفها الصراع، كما يقول الموقع. فقد نشر صحفي روسي عن غير قصد صورة تكشف عنوان مقر مجموعة مرتزقة فاغنر في بلدة بوباسنا بشرق أوكرانيا، فأدى ذلك إلى تدمير المبنى بعد بضعة أيام بقصف أوكراني، فضلا عن حوادث أخرى.

وبالإضافة إلى تطبيقاتها القضائية والعسكرية، أصبحت استخبارات المصادر المفتوحة أداة اتصال هائلة، يستثمر فيها جميع الأطراف لدعم الروح المعنوية لمقاتليهم وحلفائهم، كما تُنشر عبرها صور القصف التي صوّرتها طائرات مسيّرة من قبل الجيشين، وتعرض العديد من الوحدات بفخر قائمة الصيد الخاصة بها على الشبكات الاجتماعية.

وهكذا اندلعت حروب المعلومات الحقيقية في الأشهر الأخيرة، يتم فيها التعرف وتحديد الموقع الجغرافي للصور التي تثير الجدل، مثل صورة بثها موال للروس على أنها تُظهر تدمير مروحيات الكرملين لمركبة إنزال أوكرانية، إلا أن حسابا أوكرانيا حدد البارجة المعنية على أنها بقايا جسر بناه الفيرماخت فوق النهر في الحرب العالمية الثانية.

وخلص الموقع إلى أن المرحلة التي نمر بها اليوم تشبه مرحلة ازدهار القرصنة في التسعينيات، ولكن أفضل خبراء الاستخبارات المفتوحة المصادر سيجدون طريقهم “لتقديم يد المساعدة” لبلدانهم، وسيقوم مالكو بعض الحسابات الأكثر متابعة بإنشاء شركات، وستصبح البيئة مؤسسية تدريجيا.

المصدر : ميديابارت

—————————————

بعد تحذيره من هزيمة “محرجة” لروسيا.. كيسنجر يغيّر موقفه من حرب أوكرانيا ويقر بخسارة موسكو

واشنطن- تغير موقف هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق من الحرب الروسية في أوكرانيا، بصورة كبيرة، منذ بدء المعارك في 24 فبراير/شباط الماضي.

وفي ندوة بمجلس العلاقات الخارجية، أشار كيسنجر (99 عاما) -في حديث مع رئيس المجلس ريتشارد هاس- إلى أن “روسيا، بطريقة ما، خسرت الحرب بالفعل في أوكرانيا”.

كما انتقد ما سماه شيطنة أميركا والغرب للرئيس فلاديمير بوتين، وعدّها عملا غير سياسي، ودليلا على غياب السياسة.

وندد كيسنجر بشخصنة الصراع مع روسيا واختزاله في شخص الرئيس الروسي معتبرا أن هذا ليس عملا حكيما، شأنه شأن محاولات الولايات المتحدة ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).

يٌذكر أنه بعد انضمام جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ومقاطعتي خيرسون وزاباروجيا إلى روسيا الجمعة الماضية إثر استفتاءات اعتبرتها كييف والغرب “صورية” قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن بلاده ستتقدم بطلب للانضمام إلى الناتو بشكل عاجل.

وفي تلك الندوة التي عقدت افتراضيا، قال كيسنجر إن غزو روسيا لأوكرانيا أظهر أن “قدرة موسكو على التهديد باكتساح أوروبا بالأسلحة التقليدية قد تم التغلب عليها الآن بشكل واضح”.

وأضاف كيسنجر أن السؤال الهام الآن “ما علاقة روسيا مع أوروبا في المستقبل؟” منوها إلى أنه نهاية المطاف يجب أن يبدأ الحوار بين الغرب وروسيا.

وقال إننا نحتاج بشدة “بعض الحوار” ربما على مستوى غير رسمي، وربما بطريقة استكشافية “لأن ذلك مهم جدا، خاصة أننا في بيئة نووية يكون فيها الحوار أفضل بكثير من قرارات ساحة المعركة”.

ويمثل موقف كيسنجر هذا تغيرا كبيرا خاصة بعدما اقترح قبل عدة أشهر تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها لروسيا للمساعدة في إنهاء الغزو، وهو ما سبب حرجا كبيرا له حيث هاجمه الكثير من المسؤولين والخبراء بواشنطن وعواصم أوروبية على رأسها كييف.

وكان الوزير الأسبق قد حث الولايات المتحدة والغرب، أثناء مشاركته بالمنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس في مايو/أيار، على عدم السعي لهزيمة محرجة لروسيا في أوكرانيا، محذرا من أن ذلك قد ينعكس سلبا على استقرار أوروبا على المدى الطويل.

ويستبعد كيسنجر أن تتم العودة لحدود ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، في الوقت ذاته أكد زيلينسكي أن جزءا من شروطه للدخول في محادثات سلام مع روسيا سيشمل استعادة حدود ما قبل الحرب.

ومنذ اندلاع المعارك قبل أكثر من 7 أشهر، كرر كيسنجر دعوته للدول الغربية بأن تتذكر أهمية روسيا بالنسبة للقارة العجوز، وأن يضغط الغرب لإجبار كييف على قبول المفاوضات مع موسكو.

مواجهة غير مفيدة

كما طرح مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق تصورا عاما قبل عقد من الزمان محذرا من الانزلاق لمواجهة غير مفيدة مع روسيا، وإمكانية تجنب أي صراع حول أوكرانيا أو فيها.

وكتب كيسنجر عقب ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 مطالبا إدارة الرئيس باراك أوباما بضبط النفس.

ويرى كيسنجر أن أيا من هذه الحقائق لم يتغير لدى واشنطن على مدار السنوات الأخيرة أو بسبب التطورات الجارية، حيث إن مخاطر التصعيد ضد موسكو لا تزال مرتفعة جدا رغم عدم أهمية أوكرانيا إستراتيجيا للمصالح الأميركية.

وأقر بأن مهارات السياسة الحقيقية تظهر في كيفية إنهاء الحروب وليس في إشعالها، قائلا “إذا كان لأوكرانيا أن تبقى على قيد الحياة وتزدهر، فيجب ألا تكون موقعا متقدما لأي من الجانبين ضد الآخر (الغرب أو روسيا) بل يجب أن تعمل كجسر بينهما”.

واختتم وزير الخارجية الأميركي الأسبق بقوله “يتعين على الغرب أن يدرك أن أوكرانيا في نظر روسيا لا يمكن أبدا أن تكون مجرد دولة أجنبية عادية”.

المصدر : الجزيرة

——————————

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

=====================

تحديث 10 تشرين الأول 2022

————————–

الرأسمالية الروسية في عهد بوتين: مثال عن «أولوية السياسة»؟/ جايروس بناجي

نشر النص لأول مرة في نيسان/أبريل ٢٠٢٢

الأوليغارشية

لا تضليل أكبر من إعادة التأكيد على رأسمالية الدولة، بمعناها الواسع، كتعريف للسنوات العشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة. فهنا المكمن الذي يسمح بنقد النظرية. على سبيل المثال، يشير كريس ميلر في كتابه «بوتينوميكس» (٢٠١٨) إلى «الأوليغارشية التي تسيطر على الشركات المملوكة من الدولة في الطاقة وقطاعات رئيسية أخرى»، ما يدلّ على أن رأسمالية الدولة في حدّ ذاتها لا يمكن أن تكون وصفًا دقيقًا للطرق المُعقّدة التي تتمظهر فيها سلطة رأس المال الخاص في عهد بوتين.

لنأخذ الحالة الأبرز: يُنظَر إلى الشركات الحكومية التي أنشأها بوتين على أنها مؤسّسات فاسدة وسيّئة الإدارة، لا سيّما أنّ «المقرّبين منه يديرون أكبر الشركات الحكومية وهم مسؤولون أمامه فقط». يُعدّ كلّ من إيغور سيشين من شركة «روزنفت»، وفلاديمير ياكونين من شركة السكك الحديدية الروسية، مثالين معبّريَن عن الرؤساء التنفيذيين في القطاع العام الذين يتعاملون مع الشركات المملوكة من الدولة كما لو أنّها ملكٌ لهم. تبرز أيضًا دائرة لرجال أعمال مؤلّفة من أصدقاء بوتين الشخصيين في مرحلة طفولته وشبابه في سانت بطرسبرغ، والذين «أصبحوا مليارديرات بحصولهم على صفقات تفضيليّة مع الحكومة الروسية، لا سيّما عقود الشراء الضخمة المُبرمة من دون مناقصات مع شركة «غازبروم»، وعبر شراء أصولها بثمن بخس». هنا يبرز أيضًا الأخوان أركادي وبوريس روتنبرغ اللذان بنيا خطوط أنابيب الغاز لشركة «غازبروم»، وهما صديقان مقرّبان من بوتين ومن زملائه في رياضة الجودو وهما عضوان في «دائرته المقرّبة»، فضلاً عن جينادي تيمشينكو الذي تقدّر ثروته الصافية بنحو ٢٢ مليار دولار، ما يجعله سادس أغنى ملياردير روسي على قائمة مجلة «فوربس» لعام ٢٠٢١.

حقّقت شركة تابعة لروتنبرغ مليارات الدولارات من خلال العقود التي أبرمتها مع «غازبروم» ولم تخضع لأي مناقصة تنافسية، ويُقال إن هذه الأخيرة تُفرِط في الاستثمار في بناء خطوط أنابيب غير «مُجدِية تجاريًّا». أيضًا، أضيفت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي إلى لائحة المشاريع التي مُنحت لأعضاء حاشية بوتين بعد أن وثّقت مؤسّسة نافالني [لمكافحة الفساد (أف بي كاي)] العديد من حالات الفساد المُتعلقة بمشاريع البناء، فضلاً عن فوز أركادي روتنبرغ في العام ٢٠١٥ بعقد إنشاء جسر «كيرتش» الضخم الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا.

تواطؤ الغرب

على الطرف الآخر من التدفّقات المالية التي تنطلق من الإدارة الفاسدة في المؤسّسات الحكومية والخاصة، يوجد المصرفيون وسلطات الملاذات الخارجية في الغرب الذين يتواطؤون في غسل الأموال لصالح بوتين وأقرب أصدقائه. إن الحجم الهائل لرأس المال الروسي المهرَّب، والمقدّر بأكثر من تريليون دولار، يجعل من «حكم السرّاق» (الكليبتوقراطية) بُعدًا أساسيًّا للرأسمالية الروسية. وكما هو الحال في دول مثل الهند، من المستحيل دراسة الطرق التي تُنظَّم بها الشركات الكبرى، وتلك التي تعمل بموجبها، من دون اعتبار هذا البعد بعدًا محوريًّا في طبيعة هذه الأنظمة الاقتصادية. بالتعريف، وبطبيعة الحال، يقلّل رأس المال المهرَّب من كتلة فائض القيمة المتاحة للتراكم محلّيًّا، فيغذّي تاليًا الركود الاقتصادي. وإن ملاحقة الحسابات الخارجية للأوليغارشية الروسية تعني فتح ملفّات كاملة عن تهريب رؤوس الأموال وتداولها، وهو ما يورّط البلدان ذات معدّلات هروب رأس المال المُرتفعة كما يورّط الأنظمة المصرفية في الغرب. لذلك لن تكون هذه الحسابات محور الهجوم المُضاد الذي قد يفكّر فيه الرئيس الأميركي جو بايدن، أو غيره، عبر استهدافها بالعقوبات. يمتلك بوتين نفسه أصولاً بعشرات مليارات الدولارات في الخارج، ولقد انزعج من نشر «وثائق بنما». يقدّر الاقتصادي السويدي أندرس أسلوند بأنّ بوتين حوّل ما بين ١٠٠ و١٦٠ مليار دولار إلى حسابات خارجية منذ العام ٢٠٠٦، وهو ما يقلّ عن تقديرات بيل براودر، رجل الأعمال الأميركي الذي ينشط في كشف الأوليغارش الروس وفضائح عهد بوتين، والذي يشير إلى تحويله ٢٠٠ مليار دولار.

صفقة بوتين مع الأوليغارشية

طالما أن أوليغارشيي بوتين حقّقوا ثرواتهم من الدولة، فإن ذلك يشير إلى وجود تكافل بين قطاعين رئيسيين من رأس المال الروسي هما الأوليغارشية الجديدة من جهة، والشركات الحكومية المختلفة التي أنشأها بوتين في مجالات الطاقة والنقل والمصارف وإنتاج الأسلحة من جهة أخرى. لكنّه تكافل بعيد جدًّا من نموذج التنافس بين رأس المال الحكومي والخاص الذي سيطر على التوسّع الصناعي في الهند خلال الخمسينيات. تجادِل كارين دويشا في كتابها «كليبتوقراطية بوتين» بأن الرئيس الروسي بوصوله إلى السلطة أراد أن يُفهِم الأوليغارشية أنهم سيحصلون على ريوع من هذه الشركات (خصوصًا شركات الصناعات الاستخراجية التي تتصدّر مراتب قيادية في الاقتصاد) كمكافأة على موالاتهم للدولة وخدمتها. بالنسبة إلى الأوليغارشية الموالية لبوتين لن تكون هناك قيود على الأرباح التي يمكن تحقيقها. وهذا ما يجسّد الصفقة ويشرح سبب تكوين هذه الثروات الهائلة واختلاسها في فترة زمنية قصيرة. أمّا ثمن هذا الولاء فقد تجسّد بابتعاد الأوليغارشية عن المعارضة، وهو ما يستحضر صورة تروتسكي عن الطابع الميت للّيبرالية الروسية والطبيعة البائدة للبرجوازية الروسية.

بين الاقتصاد والسياسة

يُعبَّر عن الصراع بين الاقتصاد والسياسة، الذي يقع في قلب الاقتصاد الروسي، على أنه صدام بين المنطق التكاملي لرأس المال و«أولوية السياسة» المُتجسّدة في دولة بوتين. ويُمثّل عليه في السعي إلى تدمير سيطرة ميخائيل خودوركوفسكي على شركة «يوكوس» واستيعاب أصولها المجدية اقتصاديًّا ضمن شركة «روزنفت» العملاقة المملوكة من الدولة، والتي كانت، مثل «غازبروم»، مجرّد بقرة نقدية حلوب لطموحات بوتين الجيوسياسية.

كانت «يوكوس» أكبر شركة نفطية خاصّة في روسيا وأكثرها توحشًّا، وكان مالكها مدافعًا شرسًا عن الرأسمالية الحديثة المتكاملة عالميًّا، ويُنظر إليها في الغرب على أنها نموذج يُحتذى به في حوكمة الشركات. تقول الصحافية كاثرين بيلتون، مؤلفة كتاب «رجالات بوتين»: «من بين كلّ أوليغارشيي موسكو، كان ميخائيل خودوركوفسكي أكثر من سعوا إلى دمج شركته بالغرب، وأكثرهم محاباةً للمستثمرين والقادة الغربيين قصد الحصول على الدعم الغربي لأعماله. كان يقود مسيرة استيعاب قواعد الشفافية وأساليب حوكمة الشركات الغربية في شركته، بعد سنوات من لعبه دور الولد الشقي في مشهد الأعمال الدارويني الروسي. أمّا الصراع الذي اندلع حين حاربت «مجموعة سيلوفيكي» [النخبة الأمنية المحيطة ببوتين والتي خدم العديد من أعضائها في جهاز الاستخبارات السوفيتية «كي جي بي»] لانتزاع سيطرة خودوركوفسكي على حقول نفط «يوكوس» في غرب سيبيريا، فقد كان صراعًا على الرؤى المتعلقة بمستقبل روسيا، وصراعًا من أجل الإمبراطورية في الوقت نفسه، يهدف إلى تحديد شكل النهوض الإمبريالي لروسيا وإظهار جهود بوتين في استعادة دور بلاده كقوّة مستقلّة ضدّ الغرب. لكن الصراع كان أيضًا صدامًا شخصيًّا للغاية. فمن الواضح أن بوتين وخودوركوفسكي كان يكره واحدهما الآخر، ليس بالمعنى الشخصي، إنّما لما يمثّله كلّ منهما للآخر. كان خودوركوفسكي صريحًا إلى حدّ الغطرسة، وغالبًا ما يهاجم مسؤولي الدولة في وسائل الإعلام، ويندِّد بالفساد علنًا، ولم يكن من السهل ضربه حتى عندما جاءت المحاولة من بوتين. أفادت بيلتون بأنّ خودوركوفسكي «كان يضخّ عشرات الملايين من الدولارات لتمويل الشيوعيين»، وأنّ اثنين من كبار المديرين التنفيذيين في «يوكوس» «ترأّسا قائمة مرشّحي الحزب الشيوعي».

ومن الواضح أن تمويله أحزاب المعارضة في مجلس الدوما أثار حفيظة بوتين. يُذكر أنه دعي في أيار/ مايو ٢٠٠٣ هو و[رومان] أبراموفيتش إلى مأدبة عشاء خاصّة أمره بوتين خلالها بـ«التوقّف عن تمويل الشيوعيين». ويقال إن خودوركوفسكي رفض الأمر بشكل قاطع مشيرًا إلى أن «دعم الديموقراطية في روسيا لا يقلّ أهمية عن دعم الأعمال». وفي وقت لاحق، في تموز/ يوليو من ذاك العام، أخبر بوتين رئيس الوزراء ميخائيل كاسيانوف أن «خودورسكوفسكي تجاوز الحدود بتمويل الشيوعيين من دون إذنه». في كتابه اللامع عن عجلة الثروة في صناعة النفط الروسية، قدّم ثاين غوستافسون وصفًا مسهبًا وواضحًا لقضايا الخلاف، التي تعارضت فيها مواقف بوتين والمدير التنفيذي لقطاع النفط، واشتبكا عليها علنًا، بما فيها خطّ الأنابيب الذي يصل إلى الصين وكانت شركة «يوكوس» تؤيّده بشدّة، في مواجهة فكرة بوتين عن بناء خطّ يمتدّ لآلاف الأميال ويصل إلى ساحل المحيط الهادئ، والتي سخر منها خودوركوفسكي علنًا. ثم كانت هناك خطّة لدمج «يوكوس» مع «شيفرون» الأميركية لإنشاء أكبر شركة نفط في العالم.

تكمن المشكلة الأوسع في وجود نسقين في التطوّر الرأسمالي. فمن جهة، ثمة التطور عبر خدمة الدولة لتراكم رأس المال- وهو النموذج المرتبط بالديموقراطيات الليبرالية التي تهيمن عليها مصالح كبريات الشركات – وثمة مراكمة رأس المال لخدمة الدولة، من جهة أخرى – وهو النسق الاستبدادي الحكومي غير النموذجي الذي يذكّر بما سمّاه تيم ماسون «أولوية السياسة»، ويمثّله السعوديون في عهد محمد بن سلمان بقدر ما تمثّله روسيا في عهد بوتين.

جامعي ومؤرخ ماركسي، الهند. يدّرس في «كلية الدراسات الآسيوية والأفريقية» بجامعة لندن. آخر أعماله «تاريخ موجز للرأسمالية التجارية» (2020)

بدايات

——————————–

طريق بوتين المسدود/ بكر صدقي

في خطوة من نوع الهروب إلى الأمام، أعلن الرئيس الروسي رسمياً ضم أربع مقاطعات أوكرانية إلى روسيا «إلى الأبد» حسب تعبيره. وذلك بعد استفتاءات شكلية لم يعترف أحد في العالم بصدقيتها «قرر» فيها سكان تلك المقاطعات الانضمام إلى الاتحاد الروسي، حسب المزاعم الروسية.

ففي الوقت الذي كان بوتين يحتفل فيه بهذا «الانتصار» كانت القوات الأوكرانية تتقدم بسرعة على الأرض وتستعيد المزيد من الأراضي التي سبق واحتلتها روسيا، بما في ذلك مناطق من تلك التي أعلن ضمها للتو. وفقاً للمنطق الروسي المعلن تكون القوات الأوكرانية قد «احتلت» أراضي روسية سبق وضمها بوتين «إلى الأبد»! أي أن دولة صغيرة نسبياً قد غزت أراضي روسية، في الوقت الذي يتبجح فيه بوتين بأن روسيا دولة عظمى على الغرب أن يعاملها بندية. هذا وحده كافٍ لرؤية عمق الهوة التي ينحدر إليها القيصر المزعوم ويستمر في الحفر لنفسه باطراد.

للمقارنة، يتردد حلف شمال الأطلسي في الاستجابة لطلب أوكرانيا بالانضمام إليه لأنه، إذا حدث ذلك ستضطر دول الناتو للانخراط المباشر في الحرب دفاعاً عن أوكرانيا وفق ميثاق الحلف. لذلك فضلت واشنطن وحلفاؤها دعم أوكرانيا بالسلاح والعتاد والمال بدلاً من المشاركة العملية في الحرب. في حين أن «الإذلال الروسي» ذائع الصيت سينحدر إلى أعماق إضافية باطراد كلما استعاد الأوكرانيون المزيد من أراضيهم.

هذا غير الحالة الفضائحية التي تكشفت عنها القدرات العسكرية الروسية أمام صمود الجيش الأوكراني وانتقال الأخير من الدفاع إلى الهجوم. فقرار بوتين بالتعبئة العامة الجزئية كشف عن حاجته إلى تعبئة ما بين 200 – 300 ألف جندي ليتمكن من مواصلة حربه الحمقاء على البلد المجاور، وما تهديده باستخدام السلاح النووي إلا تعبيراً عن عجز سياسي وعسكري أمام الورطة الكبيرة التي ورط نفسه وبلده فيها.

لا يعني ما سبق أن روسيا بوتين ستندحر مهزومة في موعد قريب. فقد وضع بوتين نفسه في موقف لا يستطيع فيه الخروج مهزوماً ولا تحقيق أي انتصار. من المحتمل أن قراره بضم المقاطعات الأوكرانية الأربع كان بهدف وضع العالم أمام أمر واقع على أمل أن تبدأ مفاوضات لإنهاء الحرب بلا هزيمة روسية، أي ليتمكن من التفاوض من موقع القوة ويخرج بشروط تحفظ له ماء الوجه. لكن الوجه الآخر لقرار الضم هو أن روسيا «الدولة العظمى» المزعومة ظهرت عاجزة عن الدفاع عن «أراضيها» الجديدة. أما التهديد باستخدام السلاح النووي، فهو ابتزاز العاجز حتى لو حرص على القول إنه ليس ابتزازاً. فهو يعرف أن استخدام النووي لا يؤدي إلى انتصار بل إلى خراب متبادل وحسب. في حين أن محاولته كسر إرادة الأوكرانيين بقصف المدن وارتكاب مجازر بحق المدنيين قد فشلت، بل أدت إلى نتائج عكسية، فزادت من عزيمتهم وبدأوا يدحرون الجيش الروسي من أراضيهم.

على المستوى السياسي، أظهرت قمة مجموعة شنغهاي التي انعقدت مؤخراً تفاقم عزلة روسيا بدلالة تصريحات الصينيين والهنود الذين رفضوا الذرائع الروسية في الحرب على أوكرانيا. أما داخلياً فقد بدأت تصدر انتقادات علنية في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي وإن كانت موجهة للقادة العسكريين بوصفهم الدريئة السهلة التي يمكن التصويب عليها، فالمهم في الأمر هو الحديث الروسي العلني عن الإخفاقات العسكرية الكبيرة في الأسابيع الماضية. قد يلجأ بوتين إلى إقالة قادة عسكريين وتحميلهم مسؤولية الإخفاقات، فهذا ما يفعله القادة الدكتاتوريون المتفردون بالحكم والحريصون عليه. لكن تواضع الإمكانات العسكرية الروسية، بخلاف ما كان شائعاً، لن يتغير بتغيير القادة العسكريين.

سيبقى السؤال الحقيقي هو إلى متى يتحمل النظام الحاكم مغامرات رأسه التي أدت إلى انكشاف روسيا إلى هذا الحد؟ لا نعرف إلى أي درجة يفرض بوتين سيطرته على النواة الصلبة لنظامه، وحجم القاعدة الاجتماعية للنظام. فلا يمكن الركون إلى استطلاعات الرأي التي تظهر ارتفاع شعبية بوتين في المجتمع الروسي، ولم تجر إلى الآن صراعات بين مراكز القوى داخل النظام للاستدلال بها. لذلك يبقى التساؤل عن مصير بوتين ونظامه معلقاً في الفراغ.

على الضفة الأخرى من الحرب الباردة الجديدة تطرح تساؤلات من نوع مختلف: إلى أي درجة يمكن للدول الأوروبية أن تتحمل مقاطعة النفط والغاز الروسيين، إضافة إلى تحمل أكلاف الدعم العسكري لأوكرانيا واستقبال اللاجئين الأوكرانيين وكذلك الروس الفارين من التعبئة العامة أو من ظروف الحرب؟ الخلاصة السياسية لهذه الأسئلة هي السؤال الأهم: إلى متى يبقى التحالف الغربي متماسكاً موحداً في موقفه الصارم ضد روسيا؟

هذه هي المتغيرات التي من شأنها أن تحدد أمد الحرب الدائرة ونتائجها.

كاتب سوري

القدس العربي

————————

هل يدخل العالم مرحلة العطالة؟/ غازي دحمان

يبدو ما يجري من أحداث في العالم مجرّد هامش للحرب الأوكرانية التي تزداد تعقيدا بفعل غياب أي أفق للتسوية بين أطرافها، مع تصاعد وتيرة المخاطر التي أصبحت لها دينامياتها، والتي تمتلك آليات تشغيلها بشكل مستقل، من دون القدرة على التحكّم بمخرجاتها.

ثمة توقعات أن الحرب قد تستمرّ حتى 2024، موعد الانتخابات الرئاسية في كل من الولايات المتحدة وروسيا، عندما يمكن وصول قيادات جديدة لها مقاربات أخرى للتعاطي مع هذه الأزمة الدولية، ما يعني استحالة حصول تغيير حتى ذلك الوقت. ويعني هذا التقدير أن سنة 2023 ستشهد ذروة هذه الحرب التي ستنتقل من الحرب بالوكالة، إلى حد ما، إلى حرب مباشرة بين الفاعلين الأساسيين، روسيا والغرب، وما يعنيه ذلك من احتمالات اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل. واللافت هنا أن مسؤولي الاستخبارات الأميركية، وليام بيرنز الحالي، وديفيد بتريوس السابق، قد أكّدا بشكل صريح أن الرئيس الروسي بوتين، وفي حال استمرّت متوالية خساراته، سيلجأ إلى استخدام الأسلحة النووية.

كيف سيكون العالم في المرحلة المقبلة؟ وبصيغة أدقّ، كيف ستكون فعاليته وشكل ممارسته الحياة وطبيعة انشغالاته وحركية آلياته التشغيلية؟ تتسارع وتيرة الأحداث بشكل مذهل، ما كان يحصل على مدار أعوام يحصل اليوم في أيام قليلة، انهيار العملات، ارتفاع أسعار الطاقة، وصول أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية إلى حدودٍ تتجاوز المحتمل، وندرتها في أحيان كثيرة، ارتفاع معدّلات الجرائم وبأنماط وأشكال جديدة، حركة هجرة عالمية واسعة، وقوع بلدان عديدة في مستنقع الإفلاس، رغم عدم الإعلان عن ذلك، والتحايل على الأمر عبر ضخ مزيد من البروباغندا المنتهية صلاحيتها.

هذه عناوين عريضة، تخفي تحتها تفاصيل مرعبة، أهمها توقف النمو الاقتصادي، أو تراجعه وانهياره في حالات كثيرة، وهي القاطرة التي ستجرّ الحياة البشرية إلى واقع كابوسي، بحيث تذهب الكيانات: دولاً ومؤسسات وشركات ومنظمات، إلى تخفيض فعالياتها إلى أبعد الحدود وتوقيف كل البرامج والأنشطة غير الضرورية، والبحث عن خطط جديدة لترشيد الموارد والنفقات ضمن أضيق الحدود. ويعني هذا أننا قد نشهد إعادة توجيه حادّة للموارد، تستثني الأنشطة التي ليس لها مردود مادي فعلي ومباشر، الأمر الذي سيطاول، بدرجة كبيرة، الفعاليات والأنشطة الثقافية، ومجالات المساعدة والدعم الأممية للمجتمعات الضعيفة، وكل الأنشطة خارج الحدود ذات الطابع الإنساني، هذه المجالات والقطاعات ستكون الضحية الأولى لعالم توقف نموه الاقتصادي، في وقتٍ سيشهد هبوط فئات وشرائح واسعة على المستوى العالمي إلى مستنقعات الفقر والعوز.

وبالتبعية، سيشهد العالم إعادة توجيه للسياسات الدولية، حيث ستشهد مناطق التوتر والصراعات شراسة استثنائية، سواء بسبب تغيّر الأولويات، أو الصراع على الموارد المحدودة وانقطاع الدعم الخارجي عن أطرافها، أو بسبب اعتبار هذه الظروف بمثابة فرصة يستوجب استثمارها قبل أن يعود العالم إلى وتيرته السابقة. وستشكل هذه الظروف قوة تحويلية لعوالم باردة، ليس بسبب انقطاع شحنات الغاز عن بعض مناطق العالم، بل بسبب تراجع حرارة علاقات البشرية بالقضايا الحيوية، والتي تتشكًل على أسها مستقبلات البشرية، مثل قضايا البيئة والتنوع البيئي وعوالم الثقافة والفكر والفن، إذ ستدخل في ظل هذه التحولات جميع هذه القيم في خانة التسليع، وحسابات التكاليف والجدوى والمردودية.

وفي خلاصة هذه التطورات، أو نتيجة لها، ستعمّ العطالة، على جميع المستويات، بدءا من السياسة، في شقّيها الداخلي والدولي، حينما تتحوّل جميع الطاقات والفعاليات إلى وضع تقديرات للمراحل المتسارعة للتطورات الميدانية في أوروبا، وتحديد طبيعة الاستجابات المناسبة لهذه التطورات، وتبيان أحجام تكاليفها وماهية المخاطر المترتّبة عليها.

ولكن اللافت أن استراتيجيي العالم، والمؤثرين في صناعة القرار وتوجيه السياسات، ما زالوا عند مرحلة استكشاف موازين القوى للفاعلين وحساب عدد القنابل التكتيكية والاستراتيجية التي يملكها كل طرف، وتحليل مزايا الأطراف في ساحة المعارك، وليس سرّاً أن من يتابع التفصيلات اليومية لأخبار الحرب واستعدادات اللاعبين واستجاباتهم للتطورات والمخاطر التي تنطوي عليها، سيلحظ حجم الانشغال بحدود الرد الغربي على ضربة بوتين النووية الأولى لأوكرانيا، هل ستكون على شكل تدمير القوات التقليدية الروسية ضمن مناطق محدودة، أم الإجهاز على قطاعاتها وصنوف أسلحتها بشكل كامل؟ لكن، ماذا لو بدأت الحرب على الساخن فوراً، أي أنها لم تمر عبر المراحل التي يتصوّرها هؤلاء الاستراتيجيون، هل سيجري حينها استدراك هذا الخطأ التقديري، وإعادة بناء خطط مرحلية جديدة؟

على عكس ما يُشاع، تنطوي هذه المرحلة على فرصة، أو خطر، نشوء نظام دولي جديد، إذ ليس ثمًة مؤشّرات إلى حصول مثل هذا الأمر، إما بسبب ضعف روافع النظام الجديد، أو عدم رغبة فاعلين دوليين كثيرين تحمّل تكاليف تغيير المعادلات القائمة، والضوابط التي تُسيّر هذا العالم، فإن الأرجح أن العالم سائر إلى مرحلة عطالة وانعدام، قد تستنفد جزءاً كبيراً من موارده وطاقاته للخروج منها وإعادة تصحيح الأوضاع إلى مرحلة ما قبل الانهيار الذي بات يطرق الأبواب. ومن يدري، قد تتحوّل العطالة، بكل سلبياتها، إلى أفضل الخيارات المتاحة؟

العربي الجديد،

—————————————

استهداف جسر القرم وما بعده؟/ يمان دابقي

بدأت طموحات القيصر الروسي في التلاشي، مع استهداف الرمز الأهم له في شبه جزيرة القرم. جسر كريتش الاستراتيجي يعد أهم إنجاز للرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ ضمّه شبه جزيرة القرم 2014. حقّق حينها أحد أهم طموحاته القيصرية بعبوره الجسر بسيارته الخاصة في 2018، وعدّ الشعب الروسي هذا الإنجاز بمثابة فخر للأمة الروسية. ومع استهدافه اليوم على خلفية توسّع الصراع الروسي الأوكراني المدعوم غربياً، سينتقل الصراع إلى محطّة مغايرة عن التي شهدناها طوال سبعة أشهر مضت، بسبب أنّ جسر القرم يعد رسالة مباشرة إلى الرئيس بوتين شخصياً، وهو من أرسل رسالة مباشرة إلى حكومة كييف في الأسابيع الأولى من بدء حملته العسكرية في أوكرانيا، مفادها بأنّ أي محاولةٍ لاستهدافه سيتّرتب عليها عقاب وردّ خاص، وهو ما أعيد تفسيره من خلال تصريحات مسؤول السياسة الدولية لمجلس الدوما بعد مضي ساعاتٍ على واقعة تفجير الجسر، إذ اعتبر هذا العمل التخريبي بمثابة إعلان حرب، مضيفاً “أنّ الرد ليس بالضرورة أن يأتي في الجبهة”؟ في إشارة إلى تحديد بنك أهداف نوعية وعمليات أمنيّة أبعد من النطاق الأوكراني، وهذا يعني أن روسيا ستترّيث كثيراً في ردّها إلى ما بعد انتهاء التحقيقات التي أوعز بها الرئيس بوتين بلجنة عمل خاصة، وهذا بحد ذاته سيفيد موسكو قادماً في بناء نهج التعاطي، إذا ما أثبت أن أيادي غربية لها صلة بعملية التفجير، أو أنّ خللاً أمنياً قد حدَث لقواته بعملية اختراق مدبّرة استطاعت النفاذ لتنفيذ أعمال التخريب، وهذا ما يعكس تفسير رواية الرئاسة الأوكرانية التي أظهرت موقفاً موارباً حول العملية، ففي الساعات الأولى من يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري صدّر مستشار الرئيس الأوكراني موقفاً ألمح فيه إلى تبنّي بلاده عملية التفجير، بقوله: “هي البداية فقط وسندمّر كل شيء غير شرعي”، عقبها تصريح من وزارة الدفاع الأوكرانية تعمدّت فيه خلط الأوراق، حينما قالت إنّ واقعة جسر كريتش هي نتاج صراع داخلي بين الأجهزة الأمنية الاستخبارية الروسية مع الجيش ودوائر صُنع القرار. وفي الوقت نفسه، صرّح مسؤول حكومي أوكراني (لم يتم ذكر اسمه) لصحيفة واشنطن بوست أنّ “الخدمات الخاصة الأوكرانية أو القوات الخاصة هي من قامت بالعملية”. ويتّضح من الرواية الأوكرانية المتضاربة تعمّد مقصود لخلط الأوراق أمام روسيا، لتعقيد كشف ملابسات العملية من جهة، ووضعها في مشهدٍ ضبابي أمام الرئيس الروسي بوتين لزيادة حالة الهلع والتوتر مع دائرته الخاصة، ما قد يسمح بزيادة الهوّة والانقسامات في إطار الحرب النفسية أو “حروب الصدمة”، والتي تضع المتلقي في حالة توتر دائم لإيقاعه في خطأ تقييم شامل للحدث المعني؟

بطبيعة الحال، يعدّ تفجير جسر القرم سابقةً وحدثاً مفصلياً في سياق الحرب الجارية، وضربة وخسارة معنوية وسياسية، قبل أن تكون اقتصادية لروسيا، والسياقات والدلالات التي جاءت بها مهمة جداً، لا سيما بعد مضي أيام قليلة على خطاب بوتين الشهير في 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، وإعلانه خطاب النصر بضمّه الأقاليم الأربعة الذي عدّه انتصاراً للأمة الروسية، داعياً الغرب وأوكرانيا إلى العودة إلى المفاوضات والمثول أمام شروط روسيا، إذا ما أرادوا إيقاف الحرب. لكن المفاجأة التي لم يكن يتوقعها بوتين إصرار الغرب وأوكرانيا على استمرارهما في الحرب إلى النهاية، من دون الإذعان له ولتهديداته النووية على الأقل حتى هذا اللحظة. الجدير ذكره أنّ خطاب بوتين جاء كمحاولة ومراوغة لانتزاع أهدافه سياسياً ما عجز عن تحقيقه عسكرياً، والمُتتبّع لتطورات الحرب سيقرأ جيداً أنّ بوتين سعى إلى قلب معادلة الصراع على الأرض بعد تعرّض قواته في خاركيف وإيزيوم لخسائر كبيرة، قادت إلى كشف فضائح قواته من سوء إدارة العمليات وفساد ضباطه.

كذلك جاء تفجير جسر كريتش على خلفية انحسار وانكسار للقوات الروسية في ليمان وخيرسون، وتقدّم ملحوظ للقوات الأوكرانية في لوغانسك ودونيتسك، إلى جانب حدوث تفجيراتٍ في خطوط الغاز الروسية نورد ستريم 1 و2. وسياسياً، جاء في ظل سعي غربي أوروبي إلى زيادة عزلة روسيا دولياً وفرض حزمة عقوبات جديدة، وزيادة الدعم لحكومة كييف، عبر إعلان صندوق شهري لمنح مالية كان قد أعلن عنها الرئيس الفرنسي في قمة براغ، والتي حضرتها 44 دولة أوروبية.

يثبت جميع ما سبق فرضية غير نهائية مفادُها بدء تلاشي أحلام بوتين وتآكل شرعيته بعد الخسارات المتتالية التي مُني بها من كييف إلى إغراق الطراد موسكوفا، وصولاً إلى فشل عملياته العسكرية على الأرض. مع ذلك، كل ما ذُكر في كفّة وتفجير جسر القرم في كفّة أخرى، فهو شريان روسيا الأهم عبر القرم، ومنه تصل المعدّات اللازمة العسكرية، وإلى الجبهات المشتعلة في الجنوب خيرسون ومنطقة آزوف، وتهديده اليوم وعرقلة العمل به إلى 23 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تحت ذريعة تمديد حالة الطوارئ للتهديدات الإرهابية في القرم كما جاء في صحيفة ريا نوفوستي يعني مزيداً من الخسائر لروسيا، وتوجيه أنظار حكومة كييف نحو مدينة ميليتوبول الاستراتيجية هدفاً ثانياً، على اعتبار أنها الوحيدة حالياً التي ستمر منها مركبات ومعدّات إلى جزيرة القرم.

لأجل هذه الأسباب كلها، لن تسكت روسيا عن هذه الواقعة، والتي أصابت ضمير بوتين شخصياً وإرثه. وحتى اللحظة، لم يصدُر موقف وتصريح معلن منه عن حادثة جسر القرم، ولم يتم توجيه اتهام رسمي وكامل لأوكرانيا، بل ظهر تريّث كبير هذه المرّة، للنظر في مسبّبات التفجير، ذلك لأنّ سيناريوهات التفجير تبدو معقّدة وشائكة، وتحتاج لبعض الوقت، لتقييمٍ شاملٍ لما جرى، فمن المفترض أن الجسر له حماية وتأمين خاص به لمنع أي مهددات، وإن ثَبُت تفجير الجسر عبر شاحنة، فإنّ عمليات اختراقٍ نوعية حدثت جرى التخطيط والتدبير لها بتعاون مع شخصياتٍ من داخل القرم، فكيف لشاحنةٍ أن تخرج من الطرف الروسي، وتنفجر في منتصف الجسر في عملٍ كأنه بتنفيذ انتحاري، أو تفجير عن بعد لشاحنةٍ محمّلة بمتفجراتٍ عبرت من دون كشفها. وفي الحالتين، حدث اختراق أمني لمنظومة جسر القرم الأمنية.

من هذه الفرضيات، ستكون عمليات الرد الروسي مرهونةً بما سيصدُر عن تقييم شامل للجنة العمل الخاصة التي استلمت مهمة التحقيق في ملابسات الحادثة. وفي حال أثبتت روسيا تورّط أوكرانيا في العملية سيكون أول خياراتها استخدام القوة المفرطة في استهداف البنى التحتية والجسور والمنشآت الأوكرانية بضرباتٍ بعيدة المدى. ومن خلال تعين الجنرال الجديد، سيرغي سورويفكي، قائداً للعملية الروسية في أوكرانيا، على الأرجح أنّ سياسة الأرض المحروقة التي أشرف عليها الجنرال الجديد في الشيشان وسورية سوف يتم تطبيقها في المناطق الروسية الجديدة التي ضمّتها بغرض تحقيق حسم سريع للمعركة، وقد لا تتوانى عن استخدام أسلحةٍ محرّمة دولية، لتحقيق ذلك، وربما أسلحة نووية تكتيكية، وهو السيناريو الذي سيفتح أبواب جهنم على بوتين من حلف الناتو ودول أوروبا، من خلال تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى لتدمير القوات الروسية ومعدّاتها، وإغراق كامل للأسطول الروسي في البحر الأسود.

في جميع الأحوال، ستكون نتائج ردود روسيا على تفجير جسر القرم عكسيةً ومدمرةً على الرئيس بوتين، لسبب بسيط، أنّ نكساته وخساراته السابقة طوال سبعة أشهر أفقدته شرعيته داخل روسيا. وخارجياً، انتهى صيته ورصيده على الساحة الدولية.

العربي الجديد

—————————

تفجير القرم: روسيا تستخدم صورة لعنصر من «الكردستاني» نفّذ عملية انتحارية ضد الجيش التركي على أنها لـ«المفجّر السوريّ»… ليظهر أن مالك الشاحنة روسيّ من أصل أذربيجاني!

 وائل عصام

نشرت مصادر إخبارية روسية صوراً لشخص سوري قالت إنه منفذ تفجير جسر القرم بالشاحنة المفخخة، ليتضح لاحقاً أن صورة الشخص تعود لعنصر من حزب “العمال” الكردستاني كان قد نفذ عملية “انتحارية” ضد مواقع للجيش التركي في وقت سابق.

واتهمت مصادر إعلامية روسية المخابرات الأوكرانية بأنها وراء حادث تفجير جسر القرم من خلال إرسال “انتحاري سوري”، مستفيدة من حالة العداء بين المعارضة السورية وروسيا التي ساندت النظام السوري.

ويبدو أن المزاعم الروسية هذه تندرج في إطار ربط ما تدعيه من “الحرب على الإرهاب” في سوريا بالحرب في أوكرانيا، وهو الخطاب الذي اعتادت عليه الآلة الدعائية الروسية لتبرير تدخلها في سوريا، وغزوها أوكرانيا.

وبعد ادعاء مصادر روسية أن سائق الحافلة التي انفجرت في جسر كريتش الذي يصل الأراضي الروسية بشبه جزيرة القرم من الجنسية السورية، جاء التكذيب من مالك الشاحنة الشاب الروسي المسلم من أصول أذربيجانية، سمير يوسوبوف(25 عاماً).

ويعلق الكاتب والمحلل السياسي الدكتور باسل المعراوي، أنه لا شك أن تفجير جسر كريتش الذي يعتبر رمزاً لحقبة بوتين وتجسيداً لانتصاره في القرم، أدى لزيادة تصدعات الهالة التي بناها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول نفسه أولاً، وحول روسيا ثانياً. وأضاف لـ”القدس العربي” أن التفجير بالشكل الذي حدث فيه يعد خرقاً استخباراتياً كبيراً للمؤسسة الأمنية التي بناها بوتين.

أما عن الأسباب وراء الحديث عن ضلوع سوري في تنفيذ العملية، فيقول المعراوي إن “روسيا تريد إثبات روايتها عن الإرهاب ومحاربته في سوريا وأوكرانيا”. ويضيف أن “اتهام شخص سوري بالحادثة يخدم الدعاية الروسية الموجهة للداخل، حول خطر الإرهاب ومشروعية الحروب التي تخوضها البلاد في الخارج، في سوريا وأوكرانيا”.

وسخر سوريون من هذه التهم، وغرد عبد الرحمن:” بدأ بعض الحسابات يتناقل أنباء عن ضلوع شخص سوري في الهجوم على جسر القرم، طبعاً لقوا مع الشخص كيلو شنكليش وقطرميز مكدوس، بدأنا أفلاما”.

الشاب الروسي المسلم من أصول أذربيجانية، سمير يوسوبوف الذي يقيم في إقليم كراسنودار جنوب روسيا، ظهر في مقطع مصور وأكد ملكيته للشاحنة، لكنه نفى في الوقت ذاته أن يكون له أي صلة بالتفجير، موضحاً أن ابن عم والده ماهر يوسوبوف (52 عاماً) يعمل على الشاحنة في نقل البضائع لصالح موقع تسوق إلكتروني.

ووفق الشاب، فإن ماهر سائق الشاحنة لم يتصل بأحد من أقاربه منذ الخميس الماضي، أي قبل حادثة التفجير بيوم واحد. وذكرت تقارير روسية أن محققين تابعوا حركة الشاحنة منذ غادرت الجنوب الروسي في 22 أيلول/ سبتمبر الماضي، فوجدوا أنها مرت بعدد من المواقع في إقليم “كراسنودار” إلى أن ظهرت الجمعة الماضية في منطقة كانفسكي، ومنها توجهت إلى بولتافا، ثم إلى أرمافير، حيث بقيت 4 ساعات تقريباً، ثم ظهرت الساعة11 مساء في قرية “سفيتلي بوت” بمنطقة تمريوك، وبعدها اختفت عن الأنظار مدة 6 ساعات متواصلة.

وتابعت أنه في الخامسة صباح السبت ظهرت الشاحنة بقرية كان بإمكانها الوصول إليها بنصف ساعة “لكن الأمر استغرق منها 6 ساعات لتصل” وعند الساعة 5:52 صباحاً، قادها سائقها إلى الجسر، وفيه دوّى الانفجار الساعة6:05 تماماً”.

القدس العربي

——————————–

حسابات النووي في ميزان الغوطة/ حسام كنفاني

رغم التأكيدات الروسية بأن موسكو ملتزمة بعدم اندلاع حرب نووية، إلا أن ذلك لا يعني بالمطلق أن روسيا لن تلجأ إلى أسلحة غير تقليدية في حربها الأوكرانية، خصوصا في حال تعقد الوضع الميداني الذي تعيشه قوات فلاديمير بوتين هناك. النصائح لـ “القيصر الروسي” الجديد باللجوء إلى خيارات استثنائية كثيرة، وهو أمر، بالتأكيد، ليس خارج حسابات القيادة في الكرملين. فحتى الإعلان الروسي مبهم، إذ لم يشر صراحة إلى عدم استخدام أسلحة نووية، بل أعلن التزام تجنّب حرب نووية. وهنا يمكن النظر إلى الحسابات الروسية في قياس ردّة الفعل الغربية على لجوء موسكو إلى أسلحة غير تقليدية، سواء كانت نووية أو من أخواتها الكيماوية أو البيولوجية.

القياس الروسي ربما يعتمد على تجارب سابقة استخدمت فيها أسلحة غير تقليدية، وكيف كان التعاطي الغربي معها. ولعل المثال الأوضح والأقرب لهذا القياس هو مجزرة الغوطة التي ارتكبها نظام الأسد ضد المدنيين المعارضين قبل تسع سنوات، وتحديدا في أغسطس/ آب 2013، وأوقعت مئات القتلى، حتى أن بعض التقديرات تشير إلى 1500 قتيل، معظمهم من الأطفال. فكيف كانت ردّة الفعل الغربية عموما، والأميركية خصوصا على مجزرة النظام السوري؟

في ذلك الوقت، أرغى الغرب وأزبد، ورفع سقف التهديدات إلى حدّه الأقصى، لكنه انتهى إلى لا شيء. فالمجزرة أتت في عهد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، والذي كان قد أخذ على عاتقه الانكفاء إلى الداخل وتجنيب الولايات المتحدة الدخول في حروب خارجية، حتى إن كان مبرّرها استخدام أسلحة غير تقليدية. فبعد التهديدات الأميركية والسيناريوهات التي رسمت للرد المحتمل، والذي وصل إلى حد قصف قصر المهاجرين، انتهى الأمر بغارة أميركية محدودة على أحد المواقع السورية، بعدما أطلق نظام الأسد تعهدا بتسليم مخزونه من الأسلحة الكيماوية. وهكذا طوى الغرب صفحة مجزرة الغوطة، فيما سلّم الأسد جزءا من مخزونه الكيماوي وأبقى على الجزء الآخر الذي استعمله في مجازر أخرى، تعامى عنها الغرب، ولعل أبرزها مجزرة خان شيخون.

قياس ردة الفعل الغربية تجاه مجزرة الكيماوي سيكون موجودا في ذهن الإدارة الروسية في حال قررت اللجوء إلى أسلحة غير تقليدية في الحرب الأوكرانية، خصوصا إذا زادت الأمور تعقيدا على الأرض. لا يرى الروس خسائر كبيرة مرتقبة كرد على هجوم كيماوي أو بيولوجي، أو حتى نووي محدود. فموسكو على يقين بأن ردة الفعل الغربية لن تزيد عن التنديد وفرض عقوبات إضافية، إذا كان هناك عقوبات لم تفرض بعد، إضافة إلى تسليح إضافي للقوات الأوكرانية، وهي التي حصلت حتى الآن على كل ما يمكن للترسانة الغربية أن تقدمه، باستثناء الأسلحة غير التقليدية والتي لن يضعها الغرب في يد الأوكرانيين. الأمر نفسه بالنسبة إلى عزل النظام الروسي، والذي بات فعليا معزولا باستثناء دول حليفة في محور ضيق، وهو ما لن يتغير في حال لجأ إلى التصعيد النووي، فحلفاؤه لن يتخلوا عنه.

وإذا كان رد “حفظ ماء الوجه” الأميركي على مجزرة الغوطة غارة مباشرة محدودة، فإن أي رد أميركي أو غربي على أي ضربة روسية غير تقليدية ليس في الوارد أن يكون مباشراً، لأنه في تلك اللحظة سيكون بداية فعلية للحرب النووية، والتي تعلن روسيا التزامها عدم اندلاعها، إلا في حال بدأها الطرف الآخر، وهو ما يبدو أن موسكو تدفع باتجاهه.

أخطار الحرب النووية، أو استخدام أسلحة غير تقليدية، قائمة. وتحريك موسكو لقطاعات نووية، ونقل صواريخ بالستية إلى هذه الجبهة أو تلك، ليس بغرض إرسال رسائل إلى الغرب فحسب، بل هي فعليا للاستخدام عندما تدعو الحاجة. وهذه الحاجة ستكون أكثر إلحاحا كلما تصاعد الضغط الغربي، العسكري والسياسي، على بوتين غير المستعد للسقوط وحيدا.

العربي الجديد

—————————————

سيفعلها بوتين…ومن يعِش يرَ !/ ساطع نور الدين

يقول علماء  المناخ والرصد الجوي، أن فصلي الخريف والشتاء هما موسم الرياح الشمالية التي تهب على سكان النصف الشمالي للكرة الارضية، محملة بالأمطار والثلوج ..وربما هذه السنة بالاشعاعات الذرية.

في ربيع العام 1986، وتحديداً في السادس والعشرين من شهر نيسان/ابريل، حصلت أكبر كارثة نووية عرفها البشر، بعد القنبليتن الاميركيتين اللتين أحرقتا مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في العام 1945، عندما إنفجر مفاعل تشيرنوبيل النووي، وارتفع عدد ضحايا الانفجار تدريجياً من 30 عاملاً أوكرانياً، سقطوا على الفور، الى ما يصل الى ثلاثين ألفاً من الاوكران، ومعهم الروس، والبيلوروس، ماتوا تباعاً، لا سيما بسرطان الغدة الدرقية الفتاك، بعدما بلغت الاشعاعات الذرية التي حملتها الرياح الجنوبية، المتجهة شمالاً، في ذلك الموسم، أطراف روسيا وبيلوروسيا.

الآن، هو فصل الخريف، والارجح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ينام وفي حضنه الحقيبة النووية، يدرس أحوال المناخ ومسار الرياح، ويستنتج أن طقس هذه الايام عامل مساعد، بل مشجع لكي يضغط بإصبعه على زرِ الاطلاق ليحرق مئات الالاف من الاوكران، من دون أن يقلق من تسرب الاشعاع الذري مرة أخرى نحو الشمال الروسي أو البيلاروسي.. ومن دون أن يخشى على جيشه من الموت تحت ثلوج الشتاء المقبل على جبهات القتال الاوكرانية القاتلة. 

الرجل الذي كان متهماً بجنون العظمة، وصار اليوم مشتبهاً بهذيان الثأر، كان ولا يزال يختزل في شخصيته المضطربة، بعضاً من روسيا،”البلد المريض” الذي ينهار تحت وطأة تاريخ عظيم، عجز عن حمله والدفاع عنه، وانفضح جيشه الجبار الذي يغير قادته الميدانيين، ويرقي القائد العسكري الشيشاني “الفذ” رمضان قاديروف الى رتبة عميد، ومرشد للقيادة وموجه للعمليات على الجبهات، حيث يقاتل الجنود الروس مثل الكشافة، بأسلحة بالية كان يعتقد أنها مرهوبة ومتفوقة، فإذا هي مدمّرة فقط للمستشفيات والمدارس والافران السورية التي سحقتها الصواريخ الروسية البالستية والمجنحة والعابرة للقارات طوال السنوات السبع الماضية.

يتباهى بوتين، ومعه معظم الروس، بالقنابل النووية  التكتيكية، ذات القدرات التفجيرية المحدودة المصممة لاحراق مدينة كبرى مع ضواحيها فقط لا غير!! وتمتلك منها روسيا ضعف ما يمتلكه الاميركيون وحلف الاطلسي. أما الاشعاعات التي يمكن ان تخلفها، والمساحة الجغرافية الفعلية التي يمكن تغطيها، فهي أمور متروكة كما يبدو حتى الآن لعلماء الأحوال الجوية.. ومن يبقى حياً من الخبراء الاوكران، ومن الجنود الروس المنتشرين على الاراضي الاوكرانية.

لا، لن يفعلها بوتين. لا بد أن زعيم الكرملين ما زال يتمتع بقدر من الحس السليم، وبالحد الادنى من العقل والمنطق لكي يتجنب الكارثة الاكبر. لكن البديل الوحيد لديه، هو أن يسلم بالهزيمة، ويرفع الراية البيضاء، فيقتل على الفور من قبل أحد قادته العسكريين أو أحد مستشاريه الامنيين..على الاقل لمنع الجنرال قاديروف من تولي قيادة أركان القوات المسلحة الروسية بناء على وصية صديقه الاقرب، بوتين!

ليس في روسيا اليوم ما يحول دون هذا الخيار المدمر، المبني على مزاج شخص واحد، يهابه الجميع، لأنه يمتلك وحده قرار الحرب والسلم، مهما كبرت واتسعت طاولة الاجتماعات السياسية والعسكرية التي يجلس بوتين على رأسها، ويتوزع حولها رفاقه الاربعة الكبار من قادة جهاز الاستخبارات الموروث من العصر السوفياتي، ومعهم بعض المسؤولين الاخرين الذين لا يسمع صوتهم إلا للثناء على حكمة الرئيس وبُعدِ نظره وصلابة موقفه.

أصوات روسية خافتة حتى الآن، نادت بوقف الحرب وتجنب الانزلاق نحو الكارثة النووية، لكنها لم ولن تصبح مسموعة بوضوح. ربما لأن الروس جميعاً مطمئنون الى أن أميركا لن تلجأ الى سلاح يوم الآخرة، أو أنها لن تصيب أهدافها! فجيشها هو الأخر إكتسب خبرات ومهارات هائلة في تحييد الجيوش وقتل المدنيين، ولو بأسلحة أشد فتكاً وأكثر دقة من تلك الموجودة لدى روسيا.

بلى، سيفعلها بوتين بالتأكيد. ومن يعِش يرَ، ومن يمت لن يجادل أصلاً..وسيروح ضحية رياح الخريف الشمالية العاتية.    

المدن

—————————

استخدام النووي: بوتين لا يمزح..لكنه لا يستطيع!/ عبدالناصر العايد

يتمحور النقاش العالمي اليوم حول احتمال استخدام روسيا للسلاح النووي في معركتها الأوكرانية، خصوصاً بعد تفجير جسر القرم الذي يُعدّ، وفق خرائط موسكو، ضربة في العمق الروسي، ولا شك أن بوتين لا مشكلة أخلاقية لديه باستخدام السلاح النووي. لكن الرجل، المعروف بأنه مغامر عقلاني، لا بد أنه ما زال يتمتع ببعض تلك العقلانية ليدرك أن إقدامه على ذلك لن يحقق أياً من أهدافه، بل سيضعه في مأزق أكبر، هذا إذا لم يُطِح به تماماً.

تتمثل معضلة الكرملين في أوكرانيا، في كون الجيش الروسي، أقل قدرة وكفاءة من القوات الأوكرانية المدعومة من “الناتو”، أو بوضوح أكبر، أسلحته أضعف من الأسلحة الغربية. ولا بد أن ذلك ينسحب على السلاح النووي، ولا بد أن بوتين والأوليغارشية المحيطة به تساورهم شكوك كثيرة بشأن قدرة القذائف النووية الروسية على تجاوز الحدود الروسية والوصول إلى أهدافها فيما لو نشبت الحرب النووية الشاملة. فوفق المعطيات الميدانية في أوكرانيا، قد لا تؤدي تلك الحرب إلى نهاية العالم، بل إلى نهاية روسيا وحدها، خلافاً للتهديد الشهير لبوتين: “ما نفع العالم إن لم تكن روسيا فيه”.

لم يعلن الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، ما الذي سيفعله رداً على استخدام بوتين للسلاح النووي، سواء كان تكتيكياً استراتيجياً. وتم الاكتفاء على الدوام بالتهديدات الغامضة، مع التقليل من احتمالات وفرص استخدام هذا السلاح في الدوائر الغربية بالعموم، بما في ذلك التوضيح الذي صدر عن البيت الأبيض بخصوص تصريحات بايدن التي قال فيها إن بوتين يفكر في استخدام السلاح النووي. لكن لدينا تصريحاً واحداً غير رسمي، من الجنرال الأميركي المتقاعد، ديفيد بترايوس، قال فيه إن استخدام روسيا للسلاح النووي في أوكرانيا، وهو يقصد في هذه الحالة السلاح التكتيكي، سيجبر الولايات المتحدة على تدمير الجيش الروسي في أوكرانيا، وأسطولها في البحر الأسود. ولم يقل الجنرال، الذي لا بد أنه يحسب كلماته جيداً، ما الذي يمكن أن يحدث بعد ذلك. لكن المراقب لا يستطيع أن يتجاهل هذا الجزء من تصريحات هذا الرجل المطلع جداً، رغم إنه ليس صاحب قرار اليوم. وهو يعني إن النهج الغربي، فيما لو استخدمت روسيا السلاح النووي، سيكون تصاعدياً، شأنه شأن المواجهة القائمة حالياً في أوكرانيا.

فالردّ الغربي على تفجير سلاح نووي في أوكرانيا، حتمي إذن، وخسارة موسكو في المواجهة مؤكَّدة، بالنظر إلى موازين القوة بينها وبين خصومها. ولا مفر لموسكو، والحال هذه، من البحث عن سيناريوهات جديدة لا تستبعد استخدام السلاح النووي، وتحقق في الوقت عينه بعضاً من أهدافها. وهنا يمكن التفكير في استخدام أسلحة دمار شامل أخرى، مثل الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية، فهي لا تندرج عملياً ضمن الخطوط الحُمر الواضحة التي رسمها الغرب، ومن ناحية أخرى يستطيع بوتين أن يلعب بشأنها اللعبة التي يتقنها وهي الإنكار المعقول. فقد تم التمهيد جيداً لامتلاك أوكرانيا لأسلحة كيمياوية وجرثومية. وهو، باستخدامه لها في مناطق تتحدث الغالبية الروسية، يستطيع شدّ العصب القومي الروسي من ناحية، وامتلاك ذريعة لاستخدام أسلحته الأخطر، على اعتبار أن بلاده تتعرض لخطر وجودي، وأخيراً بذريعة أن خصومه قد تجاوزوا كل المحرمات. وعلى الصعيد الداخلي أيضاً، يمكن استثمار ضربة مثل هذه، لإعلان حالة الحرب الشاملة، والتجنيد الشامل الذي يمكّنه من إسكات منتقديه وامتلاك فائض قوة بشرية قد يغير في مجريات المعارك الميدانية، خصوصاً إذا ما تضافر مع التلويح الجدّي باستخدام الأسلحة النووية، وربما نشرها على الحدود مع “الناتو” ومع أوكرانيا.

إن ما يعرف بالعقيدة النووية للدول التي تمتلك هذا السلاح، هي غامضة بالعموم، ولم يجرِ اختبارها قط. لذا، فإن الحديث عن استخدامها وردعها والعواقب التي تترتب على ذلك، ما زال في إطار السيناريوهات الذهنية المتخيلة. فالنتائج الفعلية، المادية والنفسية، لن يكون في الإمكان التنبؤ بها مسبقاً. وحتى ذلك الحين، فإن ما يمكن تأمله والتركيز على نتائجه، هو ذلك الاستهداف الأوكراني المتواصل للقوات الروسية وأسلحتها ومستودعات ذخيرتها، بنيران غربية دقيقة وبعيدة المدى، والتي تشبه تجريدياً نوعاً من عمليات الإعدام الممنهجة لقوة روسيا العسكرية. وهو مشهد يؤلم بوتين، بلا شك، لكن استبداله بعملية قد تؤدي إلى “قطع رأس” روسيا، لن يكون خياره الملائم للردّ بالتأكيد.

المدن

———————————

بوتين يهدد أوكرانيا بالمزيد من الردود..وبيلاروسيا تستعد لدخول الحرب

أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها حققت الأهداف التي حددت لضرباتها المكثفة في أوكرانيا الاثنين، مؤكدة إصابة كل المواقع المستهدفة. فيما حذر الرئيس فلاديمير بوتين السلطات الأوكرانية من مغبة تكرار “الهجمات الإرهابية” على الأراضي الروسية.

وقالت الدفاع  الروسية في بيان: “اليوم وجهت القوات الروسية ضربة مكثفة بأسلحة عالية الدقة بعيدة المدى لمواقع القيادة العسكرية وأنظمة الاتصالات والطاقة في أوكرانيا. تم تحقيق هدف الضربة حيث أصيبت كل المواقع التي حددت”.

وقالت الشرطة الأوكرانية إن القصف الروسي أدى إلى مقتل عشرة أشخاص على الأقل وجرح نحو 60 آخرين في جميع أنحاء البلاد، مشيرة إلى أن العمل جارٍ على جمع “أدلة الفظائع الروسية”.

بوتين يهدد

بدوره، هدد بوتين في مستهل اجتماعه بمجلس الأمن القومي الروسي الاثنين، بردّ صارم وقاسٍ على أي “هجمات إرهابية” على الأراضي الروسية، مضيفاً أن “موسكو من المستحيل أن تترك جرائم نظام كييف دون رد”.

واتهم بوتين أوكرانيا بتنفيذ تفجير جسر القرم قائلاً: “من الواضح كذلك أن العملاء ومدبري ومرتكبي العمل الإرهابي هي الأجهزة الخاصة الأوكرانية”، مضيفاً أنه “جرى إطلاق صواريخ بحرية وبرية طويلة المدى عالية الدقة صباح اليوم بناء على اقتراح من وزارة الدفاع، ووفقاً لخطة هيئة الأركان الروسية، ضد مرافق الطاقة والقيادة العسكرية والاتصالات في أوكرانيا”.

وقال: “لقد وضعت كييف نفسها على قدم المساواة مع أكثر الجماعات الإرهابية الكريهة”، معتبراً أن “النظام في كييف لطالما استخدم الأساليب الإرهابية منذ فترة طويلة، حتى أنه حاول تدمير خط أنابيب السيل التركي لنقل الغاز الروسي، علاوة على المحاولات المتكررة لتنفيذ هجمات إرهابية على منشآت الطاقة الروسية”.

وأضاف أن “الأجهزة الخاصة الأوكرانية قامت بالفعل بتنفيذ 3 هجمات إرهابية ضد محطة الطاقة النووية في مدينة كورسك الروسية، وهو ما أدى إلى تقويض خطوط التوتر العالي للمحطة. ونتيجة للهجمة الثالثة تضررت 3 خطوط في وقت واحد، إلا أنه قد تم القضاء على الضرر الحادث في أقصر وقت ممكن، ولم يسمح بعواقب وخيمة”.

تدخل بيلاروسيا

وفي تصعيد جديد للحرب الأوكرانية، اتهم رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو الاثنين، أوكرانيا بالتحضير لشن هجوم على بلاده، مؤكداً أنه “سيتم نشر قوات مشتركة روسية وبيلاروسية”، من دون أن يحدد موقع انتشارها.

وقال لوكاشنكو خلال اجتماع مع مسؤولين أمنيين: “قلت بالفعل إن أوكرانيا اليوم لا تبحث فحسب، بل تخطط لضربات على أراضي بيلاروسيا”. وأضاف “اتفقنا على نشر قوة إقليمية لجمهورية روسيا الاتحادية وجمهورية بيلاروسيا”.

وأفاد بأن تشكيل هذه القوة بدأ قبل يومين، تزامناً مع الانفجار على الجسر الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا. وقال: “من دون تصعيد الوضع، عليكم أن تفهموا: إذا أردتم السلام، فعليكم الاستعداد للحرب، دائماً”.

وأشار إلى أن على بيلاروسيا “أن تضع خططا مسبقة لمواجهة جميع الأوغاد الذين يحاولون جرنا إلى القتال”. وأضاف “يجب ألا تندلع أي حرب على أراضي بيلاروسيا”.

وتعليقاً، قال المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن إنشاء مجموعة إقليمية مشتركة من القوات الروسية والبيلاروسية، يأتي ضمن التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات. وأضاف أن الرئيسين الروسي والبيلاروسي يتعاونان في مختلف المجالات، بما في ذلك في مجال الدفاع.

———————————–

الدول النفطية إذ تتمرّد على السياسة الأميركية/ ماجد كيالي

تمرد الدول النفطية العربية على السياسة الأميركية هو دليل على خواء كلام بوتين عن أن العالم أحادي القطب، ودليل على أن العالم متعدد الأقطاب، لكن التعددية القطبية لا تعني المساواة بين أطراف غير متساوين، إذ تبقى الولايات المتحدة هي الأكثر امتلاكاً للقوة.

لم يكن قرار دول منظمة “أوبك +”، في شأن تخفيض إنتاجها من النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، والذي أتى في ظل أزمة الطاقة العالمية، وعلى الضد من الرغبة، أو المصلحة، الأميركية، في تعزيز الضغط على روسيا، مجرد موقف طارئ أو عفوي. كانت للموقف سوابق، تتمثل في التوتر الذي يشوب علاقات بعض الأنظمة العربية، بخاصة النفطية الخليجية، ومصر، مع الولايات المتحدة الأميركية.

وكنا شهدنا أن زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المملكة السعودية، ولقاءه بقادة دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر والأردن والعراق الصيف الماضي، لم يستطعا تحقيق النتائج المرجوة، نحو إزالة عوامل التوتر في تلك العلاقات، وبالتالي دفع الدول النفطية للمساهمة الفعالة في إمداد الدول الأوربية بالنفط والغاز.

هكذا، شكل اللقاء المذكور فرصة للقادة العرب الحاضرين لطرح ملحوظاتهم الاعتراضية، أو تخوفاتهم، من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، التي يتمثل أهمها في الآتي:

أولاً، لا مبالاة الولايات المتحدة بصعود النفوذ الإيراني في المنطقة، إن عبر ميلشياتها الطائفية المسلحة، أو عبر برنامجها النووي، أو عبر ترسانتها الصاروخية.

ثانياً، رفض أي محاولة من الولايات المتحدة الأميركية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، تحت مسمى الدفاع عن حقوق الإنسان او نشر الديمقراطية، بدعوى أن لكل بلد ظروفه وخصوصيته وثقافته.

ثالثاً، اعتبار أن الولايات المتحدة تخلت عن مسؤولياتها الدولية المتعلقة بالحفاظ على الأمن القومي العربي، إزاء الكثير من التحديات الأمنية (خاصة الحوثيين في اليمن ومداخلات تركيا في ليبيا)، ويأتي ضمن ذلك تحفظها إزاء صفقات التسلح مع بعض الأنظمة العربية.

بيد أن ما يفترض التذكير به هنا هو أن هذا التوتر لم يكن نتاج وجود إدارة أميركية ديمقراطية في البيت الأبيض الأميركي، أو نتاج وجود رئيس أميركي كجو بايدن، ذلك أن أساس هذا التوتر نشأ في ظل وجود الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، الذي تبنى في ولايته (2001ـ 2009) مشروع “نشر الديمقراطية” في العالم العربي، ومشروع “الشرق الأوسط الكبير”، وفقاً للتداعيات الناجمة عن الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن (11/9/2001)، وعلى أساس فكرة مفادها أن مشكلة العالم العربي تتأتى من الجمود السياسي، والظلم، والاستبداد، وأن الحل يكمن في التغيير السياسي وتعزيز الحرية والتنمية والديمقراطية فيه.

ومعلوم أن تلك الفكرة كانت وراء غزو العراق، وإسقاط نظام صدام حسين (2003)، وفي حينه بدا وكأن الولايات المتحدة الأميركية تخلت عن ركن أساسي في استراتيجيتها التقليدية إزاء المنطقة العربية (أمن إسرائيل، أمن النفط، الحفاظ على الأنظمة الصديقة، الحؤول دون هيمنة قوة معادية في المنطقة/المقصود الاتحاد السوفييتي السابق).

وعليه، فمنذ ذلك الوقت، بدأت الضغوط الأمريكية لدفع الأنظمة العربية نحو إدخال إصلاحات سياسية، وهو ما تم ترجمته في قرارات مؤتمرات القمة العربية منذ ذلك التاريخ (في العشرية الأولى من هذا القرن)، ولو أنها ظلت مجرد حبر على ورق. وقد عبر “تقرير التنمية الإنسانية العربية” عن ذلك (تقرير سنوي بدأ في الظهور في العام 2002)، في التأكيد على النواقص التي تعاني منها البلدان العربية، وهي نقص الحرية، ونقص المعرفة، ونقص تمكين المرأة، طبعاً إضافة إلى نقص التنمية.

في عهد الرئيس بادراك أوباما، ومع انطلاق ثورات “الربيع العربي”، مع كل الوعود والآمال التي بشرت بها، بدا وكأن الولايات المتحدة بمثابة عامل إلهام أو تشجيع، حتى ولو كانت تلك الثورات لمصلحة تيار الإسلام السياسي، علماً أنه في ما بعد تبين أن تلك الإدارة غير معنية، عملياً، إلى الدرجة المناسبة بالتورط بدعم التغيير، بخاصة في المحطة السورية، ووفقاً لحسابات إسرائيلية خاصة؛ هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، بدت تلك الإدارة أكثر ميلاً لعقد صفقة مع إيران (بعد صفقة الكيماوي مع النظام السوري في تموز/ يوليو 2013)، بخصوص المقايضة على برنامجها النووي، لمصلحة إسرائيلية، مع غض النظر، بل والتسهيل، في ما يخص تزايد نفوذها الميليشياوي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بما يهدد مباشرة الأنظمة العربية في الخليج.

وفي الواقع، فإن هاتين الخطوتين أدتا إلى تضعضع الثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في المنطقة العربية، ومع إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حاول ترميم تلك العلاقات بطريقته الفجة، والشخصانية، والوظيفية، إلا أن أغلب تركيزه كان يتعلق بالحفاظ على أمن إسرائيل، وإقامة منظومة إقليمية، سياسية واقتصادية وأمنية، تكون إسرائيل ضمنها، وفق ما اصطلح عليه باتفاقات “إبراهام”، بمعنى أن ترامب في عهده لم يخفف من مخاوف الأنظمة المعنية.

الآن، ومع مجيئ جو بايدن إلى البيت الأبيض، بخطاباته المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية (ولو نظريا)، فقد دق مجدداً ناقوس الخطر لدى عديد من الأنظمة العربية، التي وجدت ربما في الظرف الحالي، أي في ظرف الصراع الدولي، وفي ظل أزمة الطاقة (التي تتميز بامتلاكها)، بمثابة الفرصة السانحة لها لمعاقبة الولايات المتحدة، أو لتوجيه رسالة لها بأن تقف عند حدها، وأن عليها أن تأخذ في الاعتبار مصالح حلفائها التقليديين، وألا تستخدمهم عند الحاجة، وترميهم على قارعة الطريق عند انتفاء الحاجة إليهم.

مثل تلك الخطوة قد تعطي مبرراً للولايات المتحدة لمعاودة تفعيل مباحثاتها مع إيران بخصوص الملف النووي، بما يفيد إيران.

ما يفترض الانتباه إليه هنا هو أن الأنظمة العربية باتت متحررة من الولايات المتحدة الأميركية، فالعالم لم يعد كما كان بعد الحرب العالمية الثانية، في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات، والحرب الباردة انتهت منذ عقود، ولم يعد ثمة اتحاد سوفياتي، ولا حركة شيوعية، أي أن الصراع الدولي اليوم يدور بين قوى النظام الرأسمالي.

في هذا الإطار، ربما تلك الأنظمة في مقارنتها بين روسيا بوتين، من جهة، وأميركا بايدن أو ألمانيا شولتز، من جهة أخرى، باتت تجد نفسها أقرب إلى روسيا بوتين، التي لا تتحدث عن الديمقراطية وتنبذ حقوق الإنسان، وهذه رؤية قاصرة، وضيقة طبعاً، فالمقارنة يفترض أن تكون بين أي من النموذجين أفضل، أو أكثر تقدماً، من الناحية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، والعسكرية.

هذا هو الإطار السياسي لقرار أوبك، فما حصل ليس محض عملية جدوى اقتصادية، إذ سبق أن قامت المملكة السعودية مراراً في مراحل سابقة بإغراق السوق بفائض من الإنتاج النفطي لكسر أطراف أخرين، خاصة روسيا وإيران، حدث ذلك في 2014 ما أدى إلى هبوط سعر البرميل إلى النصف، وحدث ذلك عام 2020 لإجبار روسيا على تخفيض حصتها من الإنتاج، وحينها تراوح سعر برميل النفط بين 65 و55 دولاراً.

في أي حال، ربما من المبكر التكهن بتداعيات هذه الخطوة، التي اعتبرت بمثابة طوق إنقاذ لروسيا- بوتين، وكمحاولة إضعاف لمساعي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إضعافها وعزلها، في الصراع الدائر الآن، سواء بخصوص العلاقات الدولية والإقليمية، أو بما يتعلق بمكانة الدول النفطية العربية في هذا الصراع.

طبعا لا أظن أن ما حصل هو أمر نهائي، أو أنه سينجم عنه قطيعة بين الدول العربية المعنية والغرب، ذلك أن العلاقات التي تجمع الطرفين، وطيدة وراسخة، في مختلف المجالات، لكن ما حصل لا بد سيترك بصمته على العلاقات بين الطرفين في تضعضع الثقة بينهما مستقبلاً، كما أن مثل تلك الخطوة قد تعطي مبرراً للولايات المتحدة لمعاودة تفعيل مباحثاتها مع إيران بخصوص الملف النووي، بما يفيد إيران، وهو بالتأكيد آخر ما تريده الأطراف العربية التي ساندت الموقف الروسي في هذه الظروف الدولية الحساسة. 

في أي حال، فإن تمرد الدول النفطية العربية على السياسة الأميركية هو دليل على خواء كلام بوتين عن أن العالم أحادي القطب، ودليل على أن العالم متعدد الأقطاب، لكن التعددية القطبية لا تعني المساواة بين أطراف غير متساوين، إذ تبقى الولايات المتحدة هي الأكثر امتلاكاً للقوة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والعسكرة، كما أن عظمة دولة ما لا تتأتى من عضلاتها العسكرية وحسب، ولا من امتلاكها ينابيع النفط أو الغاز، وإنما من مسائل أخرى أيضاً، وهو ما تفتقده روسيا.

درج

—————————————

روسيا تضرب بالصواريخ والمسيّرات الايرانية كييف وكبرى المدن الاوكرانية

أعلن الجيش الأوكراني أنّ روسيا أطلقت 75 صاروخاً صباح الإثنين، في حملة قصفٍ استهدفت العاصمة كييف ومدناً أوكرانية، مشيراً إلى أن الدفاعات الجوية الأوكرانية أسقطت 41 منها.

ووقعت انفجاراتٍ في العاصمة الأوكرانية كييف ومدن لفيف وترنوبل ودنيبرو الإثنين، بعدما اتّهمت روسيا أوكرانيا بتدبير انفجارٍ قويٍ ألحق أضراراً بجسر رئيسيّ يربط بين روسيا وشبه جزيرة القرم.

وأعلن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي أنّ روسيا استهدفت البنية التحتية للطاقة في حملة القصف التي شنّتها على جميع أنحاء أوكرانيا، مشيراً إلى استخدام عشرات الصواريخ وطائرات مسيّرة إيرانية.

وفي حصيلة أوّلية أعلنت الشرطة الأوكرانية مقتل خمسة أشخاصٍ على الأقلّ وإصابة 12 بجروح في حملة القصف التي استهدفت كييف مشيرةً إلى أنّ “معظم” عمليات القصف استهدفت وسط العاصمة.

وفي تعليق على القصف قال زيلينسكي عبر تطبيق “تيليغرام”: “إنّهم يحاولون تدميرنا ومحونا من وجه الأرض”، مضيفاً أنّ “صافرات الإنذار لا تهدأ في جميع أنحاء أوكرانيا. هناك صواريخ تسقط. للأسف هناك قتلى وجرحى”.

هجوم إرهابي

تأتي حملة القصف الروسية بعد انفجار شاحنة استهدف جسر كيرتش الذي يربط شبه جزيرة القرم بالأراضي الروسية، ما أدى إلى تعطيله بشكل جزئي.

واتّهمت روسيا أجهزة الاستخبارات الأوكرانية بتنفيذ الانفجار، وفي لقاء له مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قدم رئيس لجنة التحقيق الروسية في التفجير ألكسندر باستريكين، ما خلص إليه تحقيق في الانفجار.

وكشف باستريكين مساء الأحد، أنّ مواطنين من روسيا ودول أجنبية ساعدوا الاستخبارات الأوكرانية في التحضير للهجوم، وأن الشاحنة انطلقت من بلغاريا إلى جورجيا، ثم إلى أرمينيا، قبل أن تصل إلى أوسيتيا الشمالية في روسيا، وتتابع مسيرها نحو إقليم كراسنودار جنوب غرب روسيا المحاذي للقرم.

وقال بوتين خلال اجتماعٍٍ مع باستريكين إنّه “ما من أدنى شكّ في أنّه هجوم إرهابي استهدف تدمير موقع حسّاس في البنية التحتية الروسية”.

من جهة أخرى، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤول أوكراني كبير أنّ المخابرات الأوكرانية هي من دبّرت تفجير جسر القرم بقنبلة محمّلة على شاحنة.

وأظهرت صور أقمار اصطناعية التقطت السبت، ونشرتها شركة “مكسار”، حجم الدمار الذي ألحقه التفجير بجسر القرم، حيث ظهر انهيار قاع الطريق على خطّ واحد للمركبات، واشتعال النيران في خزانات الوقود بقطار على خطّ السكة الحديدية الموازي للجسر.

انتكاسة بوتين

وينظر إلى التفجير الذي استهدف الجسر الرابط بين روسيا والقرم، على أنّه “إحراج” كبير للرئيس الروسي.

واعتبر الهجوم انتكاسة كبيرة لموسكو من الناحيتين الرمزية والعملية، حيث أضرّ بفترة تحمل أهمية شخصية لبوتين وهي ضرورية لإعادة إمداد القوات الروسية أثناء دفاعها ضدّ هجومٍٍ مضادٍ أوكرانيّ مكثّف على طول الجبهة الجنوبية، وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”.

وعندما افتتح الجسر لأول مرة في عام 2018، كان ينظر إليه على أنه انتصار هندسي وسياسي، وهي طريقة ترمز إلى أن روسيا ستسيطر على شبه الجزيرة إلى الأبد.

واستخدمت أوكرانيا السبت، أيضاً صواريخ هيمارس لتدمير مركز للسكك الحديدية يستخدمه الجيش الروسي في الجزء الجنوبي من منطقة دونيتسك والذي كان يمكن أن يكون بمثابة طريق آخر لإعادة الإمداد إلى الجنوب المحتل.

ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن اللواء الأميركي المتقاعد بن هودجز قوله: “إذا لم يتمكّنوا من إصلاح الجسر واستخدامه بالقدر الذي يحتاجون إليه، وإذا قطعوا الرابط البري، فإنّ هذا سيكون وضعاً صعباً للغاية لإعادة الإمداد”.

ووصف الأدميرال مايك مولين الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة بوتين بأنه “محاصر”، وقال إنه بسبب ذلك لا ينبغي للولايات المتحدة أن تقلّل من شأن استعداده لاستخدام الأسلحة النووية أو اتخاذ تدابير متطرّفة أخرى.

وأضاف “إنه أكثر خطورة… وقد تمّ ضرب هذا الجسر، الذي كان حاسماً من الناحية اللوجستية وكذلك رمزياً للغاية”.

——————————-

بوتين في فخّ بوتين/ خيرالله خيرالله

يعطي تدمير جسر يربط الأراضي الروسيّة بشبه جزيرة القرم فكرة عن الصعوبات التي تواجه فلاديمير بوتين والحرب التي شنها على أوكرانيا. أكثر من ذلك، يعطي تدمير الجسر، ذي الأهمّية الإستراتيجية الكبيرة بالنسبة إلى الجيش الروسي، فكرة أخرى عن الجانب الأهمّ في الحرب. يتمثّل هذا الجانب في تصميم أوروبا والولايات المتحدة على إلحاق هزيمة بروسيا وجعلها تتراجع عن احتلال أوكرانيا وفرض إرادتها عليها.

يشير كلام مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخائيل بودولياك إلى مدى التصميم الأميركي والأوروبي على معاقبة بوتين. نشر بودولياك صورة للجسر المحترق والمدمّر عبر تويتر، قائلاً إنّه “يجب تدمير كلّ ما هو غير شرعي، وإعادة كلّ ما هو مسروق إلى أوكرانيا، واسترجاع كلّ ما احتُل”، مضيفاً أن “هذه هي البداية”. الأكيد أن مستشار الرئاسة الأوكرانيّة ما كان ليخرج بمثل هذه التغريدة لولا شعور بثقة في الدعم الغربي من جهة والضعف الواضح للجيش الروسي من جهة أخرى. لا يريد العسكري الروسي القتال في أوكرانيا. ليس ما يدعوه إلى ذلك، خصوصا أنّ هذا الجيش لا يمتلك القدرة سوى على قتل مدنيين عزل، كما يحدث في سوريا…

يتبيّن كلّما مرّ يوم ضعف الجيش الروسي وعجزه عن خوض حروب والفارق الشاسع بين مستوى الأسلحة الروسيّة والأسلحة الغربيّة، خصوصا الأميركيّة. كذلك، يتبيّن أن فلاديمير بوتين، الذي جاء تفجير الجسر الذي يربط البرّ الروسي بشبه جزيرة القرم في يوم عيد ميلاده السبعين، لا يعرف العالم. هناك جوانب في شخصيته تشبه ما كان في شخصيّة صدّام حسين الذي اجتاح الكويت صيف العام 1990 بعدما تحكّم به جهله بالتوازنات الإقليميّة والدوليّة. لم يفهم ما قالته له السفيرة الأميركيّة أبريل غلاسبي عن أن الولايات المتحدة لن تتدخل عندما يتعلّق الأمر بخلاف كويتي – عراقي في شأن حقل نفطي. ظنّ أن ذلك بمثابة ضوء أخضر لاجتياح الكويت. لم يفهم أيضا أن العالم تغيّر وأن الاتحاد السوفياتي لم يعد قوّة عظمى في اللحظة التي سقط فيها جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1989. اتكل على توازن دولي لم يعد موجودا. ما لم يفهمه على وجه التحديد أنّ عوامل عدّة سمحت للجيش العراقي بتحقيق شبه انتصار على إيران، وهو شبه انتصار لا يمكن استثماره بالذهاب إلى الكويت والدخول في مساومة مع أميركا من موقع قوّة.

يدفع بوتين بدوره ثمن عدم معرفته بالعالم. خاض مغامرته الأوكرانيّة من دون إدراك لأهمّية هذا البلد بالنسبة إلى أوروبا وأنّ سقوطه يعني سقوط أوروبا كلّها. لم يدرك أن مثل هذا السقوط ليس مسموحا به، لا أميركيا ولا أوروبيا. كلّ ما في الأمر أنّ الرئيس الروسي، الذي يجهل حقيقة الوضع في داخل الجيش الروسي، يجهل أيضا ما هو مسموح به وما هو محظور على دولة مثل الاتحاد الروسي. مسموح لروسيا ممارسة القمع في جورجيا وقبل ذلك شنّ حرب على الشيشان. مسموح لها باستعادة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا من منطلق أن شبه الجزيرة هذه كانت روسيّة في الماضي. مسموح لها التدخّل في سوريا وقتل الآلاف من السوريين وتدمير مستشفيات ومدارس إرضاء لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي لديها مصلحة في المحافظة على النظام الأقلّوي في هذا البلد.

بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، اختلط المحظور عليه بالمسموح به. لم يعرف أنّ تهديد العالم بسلاح النفط والغاز خطيئة لا يمكن لأوروبا أن تغفرها له. لا يصلح سلاح الغاز لابتزاز أوروبا، مثلما لا يصلح السلاح النووي لممارسة مثل هذا الابتزاز. بكلام أوضح، ليس مقبولا في القرن الحادي والعشرين احتلال دولة لأراضي دولة أخرى ثم دعوتها هذه الدولة إلى التفاوض… أي إلى الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع.

انتهى الاتحاد السوفياتي إلى غير رجعة. توقعت المؤرخة الفرنسية هيلين كارير دو أنكوس منذ أواخر سبعينات القرن الماضي انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابها المشهور الذي عنوانه “الإمبراطوريّة المتشظّية”. صدر الكتاب في العام 1978. استندت في توقعاتها إلى أن الاتحاد السوفياتي كان يضمّ جمهوريات إسلاميّة يرفض مواطنوها الأيديولوجية التي تفرضها موسكو. ظهر مع الوقت أن توقعات المؤرخة الفرنسية، وهي من أصول جورجية، لم تكن في محلها كلّيا. بدأ انهيار الاتحاد السوفياتي بخروج بلدان البلطيق (إستونيا وليتوانيا ولاتفيا) منه. لكنّ المفارقة، في ضوء الحرب الأوكرانيّة، أنّ جمهوريات في آسيا، كانت في الماضي جمهوريات سوفياتيّة، بدأت تظهر عداء لموسكو وترفض أي هيمنة روسية عليها، حتّى لو كانت هذه الهيمنة من بعيد.

لم يقع فلاديمير بوتين في فخّ نصبه له الغرب، مثلما لم يقع صدّام حسين في فخّ نصبته له أميركا، كما يدّعي الكثيرون. ما هي المهمّة الأولى لأيّ رئيس في أي دولة؟ الوظيفة الأولى تفادي الوقوع في الأفخاخ. من دعا بشّار الأسد، على سبيل المثال وليس الحصر، إلى تغطية جريمة تفجير موكب رفيق الحريري في بيروت، وهي جريمة معروف من نفّذها، بما أدّى إلى خروجه من لبنان وحلول الاحتلال الإيراني مكان الاحتلال السوري؟

تتجاوز المسألة مسألة تدمير جسر روسي يربط بشبه جزيرة القرم، جسر تفاخر فلاديمير بوتين بافتتاحه شخصيّا في العام 2018 بعد أربع سنوات من احتلال الجيش الروسي لشبه الجزيرة وسيطرته على موانئها.

المسألة كيف يمكن لحاكم يمتلك حدّا أدنى من المنطق والواقعيّة خوض حرب في القارة العجوز متّكلا على الروح الوطنيّة الروسيّة… في حين أن الاقتصاد الروسي، على الرغم من كلّ ما تمتلكه روسيا من ثروات، دون حجم الاقتصاد الإيطالي؟ كيف يمكن لحاكم اتخاذ قرار باجتياح بلد آخر من دون معرفته بحقيقة قدرات جيشه وإمكاناته ومدى تخلّف السلاح الذي يمتلكه هذا الجيش.

خلاصة الأمر أنّ فلاديمير بوتين وقع في فخّ نصبه لنفسه لا أكثر. فخّ نصبه بوتين لبوتين.

إعلامي لبناني

العرب

—————————

صناعة الهويّات القاتلة والمقتولة: أوكرانيا/ أحمد البرهو

للحرب تكاليف باهظة، ولبذل أقصى الجهود فيها بأقلّ التكاليف منطق اقتصادي، خاصّة إذا كانت بين شعبٍ كالشعب الأوكراني مثلاً، ودولة بحجم روسيا الاتحاديّة التي اتّهم رئيسها، خلال خطابه الأخير أمام الكرملين، حكومة أوكرانيا بممارسة العنصريّة ضد مواطنين أوكران ينحدرون من الإثنيّة الروسيّة. فلم يجد بوتين بدّا من “تحرير” شرق أوكرانيا وإعادته إلى الوطن الأم روسيا!

بوتين عثر على منطقه أيضاً!

نحتاج إلى البدء من نقطة ما غير الجغرافيا الأوكرانيّة المعرّضة للتقسيم بذريعة “الحرب الأهليّة”، وغير التاريخ الذي يمكن أنْ يقرأه بوتين أو بايدن بطريقة تناسبه هو فقط.. ربّما يمكننا البدء من عتبة إنسانيّة محايدة، تفترض مواطناً أوكرانيّاً بسيطاً، غير مسيّس وغير منتم إلّا لرغبته في أن يكون بخير.

لسنا نحتاج إلى دليل إذا افتراضنا أنّ كلّ إنسان يريد الحريّة والعيش بسلام، والحصول على مستوى دخل مناسب يؤمّن له حياة كريمة. ولا نحتاج إلى أدلّة لنظنّ أنّ المواطن الأوكراني إنْ كان قد دعم “اتفاق الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي” سنة 2014، فإنّ ذلك عائد إلى رغبته الطبيعيّة في أن يكون بخير، فيما يصعب الربط بين دوافع تلك الرغبة، وبين الأهداف السياسيّة المعقّدة سواء لزعماء النّاتو أو لبوتين!.

مثل كل شعوب الربيع.. شهدت أوكرانيا في 2014 تظاهرات أطاحت بحكومة “يانوكوفيتش” ردّاً على مماطلة الرئيس في التوقيع على “عقد الشراكة الأوروبية الأوكرانيّة”. ثمّ عيّن البرلمان حكومة جديدة برئاسة “ياتسينيوك”، وأجرت هذه الحكومة إجراءات عديدة، بينها: “إلغاء قانون متعلق باللغات المحلّيّة للأقاليم..”. ربّما يمكن اعتبار ذلك “الإلغاء” على وجه الخصوص حدثاً نافراً على “الرغبة الطبيعيّة” لمواطننا الأوكراني البسيط. إذ ما فائدة إلغاء تعدد اللغات في سيرورة بحث الأوكراني عن الحريّة!

على أيّة حال فإنّ تلك الإجراءات أعادت إحياء مظاهرات أخرى بدت، من حيث السياق، ردّا على المظاهرات الأولى، ووقع العديد من الضحايا..

ذكر بوتين في خطابه الأخير أمام الكرملين الفئة الثانية من المتظاهرين قائلاً: (سنتذكّر أسماء أبطال “الربيع الروسي” الذين قتلوا عام 2014 من أجل حماية حقوقهم في الحياة والتكلّم باللغة الروسيّة)!

بين حرب بوتين بذريعة حماية الأمّة والقيم القوميّة و”التعدّدية”، وبين حرب بايدن بذريعة الدفاع عن القيم العالميّة و”الانفتاح”، بحسب خطابه الأخير أيضاً أمام الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة، دائماً ثمّة ما يبدو منطقيّاً  لكن لا بأس من طرح بعض الأسئلة حوله مثل: هل على الأوكراني، وإن كان من اثنية روسيّة، أن يدافع عن مصالح روسيا في أوكرانيا حتّى يسميّه بوتين “ثائرا” من أجل التعدّديّة؟!

في المقابل: مَن المستفيد من قرار إلغاء الاعتراف باللغات الأخرى، ومن منح بوتين ذريعة للتدخّل العسكري عام 2014 في دونيتسك ولوغانسك. وإجراء استفتاء في جزيرة القرم!

لعل السيرورة الزمنيّة لذلك المواطن البسيط، أسوة بأقرانه من الشعوب، تفترض حدوث تحوّلات على هويّته مع توالي الحقب التّاريخيّة:

ذكر بايدن “العولمي” خلال خطابه الأخير ” فضل الانفتاح وحريّة التنافس” على ازدهار الدّول. وحثّ العالم على الإيمان بمبدأ  “المساواة” وذكر الأقلّيات، والأفراد، والمرأة، والمثليين، والأطفال..

بوتين “الإقليمي” لم يتحدّث خلال خطابه الأخير نيابة عن العالم، لكنّه شكّكَ في أنّ الشعارات الأميركيّة تنطلق بالفعل من بعد قيمي، في حين عزف بوتين على وتر المساواة بين الشعوب.

ثمة أسئلة بسيطة من جديد: هل يمكن لبايدن أن يؤمن بالمساواة بالفعل بين مِثلي فلسطيني من خلفيّة إسلامية أو روسي من خلفيّة أرثوذوكسيّة، أو حتّى مكسيكي من خلفيّة كاثوليكيّة، وبين مثلي إسرائيلي أو أميركي من خلفيّة بروتستانتيّة أو كاثوليكيّة!؟

وهل يؤمن بوتين بالتساوي بين حق الشعب الروسي وحق الشعب الأوكراني!؟

ثمة أسئلة كثيرة يمكن أن تُحرج منطقاً ذرائعيّاً يناسبه رفع شعار “المساواة” بين الأفراد في الدّول ويدعم إلغاء التعدديّة في واحديّة الشعب الأوكراني، أو يتحدث عن تعدّدية الشعوب ويُلغي المساواة بين الشعوب!

في حين يخضع المواطن الأوكراني البسيط لإرباك هويّاتي، بين أن يكون مواطناً أوكرانيّاً من اثنيّة روسيّة ويتبع الكنيسة الأرثوذوكسيّة الروسيّة، أو قوميّاً أوكرانياً يتبع الكنيسة الروسيّة، أو أوكرانيّاً يتبع كنيسة كيّيف بالذّات.. وهي  أرثوذوكسيّة!

حسناً، تبدو حرباً أهليّة، لا ثورة، ولا بد من تقسيم أوكرانيا، تبعاً لحريّة إرادة الأوكرانيين، حتى تعيش كل فئة بسلام.. لكن إلى أين يمكن أن يذهبَ الأوكراني من الإثنيّة الروسيّة إذا اختار أن يتبع كنيسة كيّيف، أو أن يؤيّد  التحالف الأوكراني الأوروبي!؟

ليس معروفاً مصدر ثقة الاستراتيجي الأميركي “هنتجتون” في كتابه “صراع الحضارات” بأن الشعوب الشرقيّة، بعد انهيار الشيوعيّة، ستبحث عن هويّات جديدة عبر النكوص إلى الهوية “القوميّة/الدّينيّة” حتماً. إلّا أنّ تصوّره ينطوي، بلا ريب، على عدم اعتراف ضمني بالتجربة الحداثيّة لتلك الشعوب، ويُلغي نحو قرن من عمرها.

تبع “هنتجتون” في موضوعة “الهويّة الحضاريّة” كثير من المفكّرين المؤثّرين عالميّا  وعلى رأسهم “فرانسيس فوكوياما”،  فقدّم  تصوّراً عن حدود حضاريّة بين عالمين: عالم ما بعد تاريخي، ديمقراطي تجاوز التجربة القوميّة. وهو الذي افترضنا أنّ رغبة المواطن الأوكراني بالوصول أو الانضمام إليه لا تحتاج إلى تبرير، وعالم تاريخي لن يصل إلى الديمقراطيّة قبل خوض التجربة القوميّة!.

ثمّة توافق آخر بين “هنتجتون وفوكوياما” بأنّ قيم الديمقراطيّة الليبراليّة مرتبطة عضويّاً بسيرورة الثقافة الغربيّة “الكاثوليكيّة البروتستانتيّة”! إذن يبدو، بحسب المفكّرين، أنّ ثمّة حائلين آخرين غير بوتين يحولان بين الأوكران وبين الاعتراف بهم كشعب يستحق الديمقراطية، يتمثّل الحائلان بـ: الهويّة الثقافيّة الأرثوذوكسيّة (غير الكاثوليكية البروتستانتيّة). وأزمة الحقبة القوميّة!.

لكن هل كان الشعب الأوكراني، الراغب بحياة أفضل، ذاهباً باتجاه التشدّد القومي قبل تعرّضه لاستفزازات متعلّقة باللغات وبروز من يسمّيهم بوتين “النّازيّين الجدد”، وحرب بوتين القوميّة على الأوكران، أمّ أنّ المنطق الاقتصادي لحرب أقل كلفة وأكثر فعّاليّة، بين بوتين والنّاتو، يتطلّب كل ذلك!

يقول هنتجتون: (حين يكون صراع، فإنّ ثأر الله يبقى الورقة الرابحة)، وتوقّع في كتابه المنشور قبل ثلاثين سنة، تخلي أوكرانيا عن ولاياتها الشرقيّة لصالح روسيا، وكتب تحت عنوان: سياسة الهويّة: (السياسة الكونية يعاد تشكيلها الآن، الحدود السياسية يعاد رسمها لكي تتوافق مع الحدود الثقافية: العرقية والدينية والحضارية)!.

قال: سيتحوّل سؤال “إلى أي جانب أنت؟” ليحل محلّه سؤال: “من أنت؟”. وهذا سينتج حتما هويّة أحاديّة وصلبة بطبيعة الحال!.

حين يستحوذ التشدّد القومي أو الديني على هويّة المتحاربين فإنّ السؤال عمّن سيفوز أو سيخسر غير مفيد. إذ الجميع خسر الحريّة “ما بعد الحداثيّة” منذ بدء القتال بشروط حريّة أخرى!

في النهاية، يصعب فهم التحوّلات التي حدثت للهويّة في الدول التي شهدت ثورات حريّة، بوصفها تحوّلات مرتبطة بالثقافة المحلّية فحسب، دون ملاحظة تأثير دور ما مشترك بين الأنظمة المستبدّة محليّاً وإقليميّاً، وبين القوى العالميّة التي تمتلك تصوّرات حتميّة عن العالم وتريد ترسيخها.

تلفزيون سوريا

—————————-

انفجار جسر القرم… ثلاث فرضيات أساسية/ جورج عيسى

استيقظت روسيا صباح السبت على ضربة قويّة تمثّلت بانهيار أقسام من جسر كيرتش (او جسر القرم) بفعل انفجار غير واضح الأسباب تماماً. وقع الانفجار على القسم المخصص لمرور السيارات والشاحنات فانتقل اللهيب إلى ناقلات النفط التي تسير على القسم المحاذي المخصص للسكك الحديدية وفقاً للرواية الروسية.

يبلغ طول الجسر نحو 19 كيلومتراً ويربط منطقة كراسنودار الروسية بشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا سنة 2014. ويعلو الجسر المضيق الذي يربط بحر آزوف بالبحر الأسود والمعروف باسم مضيق كيرتش. افتتحت روسيا الجسر سنة 2018، وبلغت كلفته نحو 4 مليارات دولار. وقامت مؤخراً باستخدامه لإمداد الجيش الروسي في جنوب أوكرانيا بالعتاد والعناصر.

“البداية”

غرّد ميخائيلو بودولياك، وهو مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أنّ ما حصل هو مجرد “بداية” كاتباً أنّ “كل ما هو غير شرعي يجب أن يدمّر، وكل ما سُرق يجب أن يعاد إلى أوكرانيا…” لكنّه لم يشر إلى مسؤولية أوكرانية عمّا حدث.

أعلنت لجنة التحقيق الروسيّة أنّ صهريجاً انفجر على الجسر. وقالت في بيان على تيليغرام إنّه “وفقاً للمعلومات الأولية، قُتل ثلاثة أشخاص في الحادثة، هؤلاء، من المفترض أن يكونوا ركاب السيارة التي كانت بالقرب من الصهريج الذي انفجر”. وأضافت اللجنة أنّ محقّقيها “جمعوا بيانات عن الصهريج وصاحبه، وهو يسكن في كراسنودار كراي، وباشرت فرق التحقيق عملها في مكان سكنه، وتجري دراسة طريق حركة المركبة والوثائق المتعلّقة بها”. لكنّ آخرين شكّكوا على وسائل التواصل الاجتماعي بأن تكون الشاحنة سبب الانفجار، على قاعدة أنّ قسمين من الجسر، لا قسماً واحداً، انفصلا عن الجسر بعد الانفجار.

للجسر المتضرر أهمية معنوية بالنظر إلى ربطه منطقة يرى فيها الروس “أرضاً تاريخية” لهم بالدولة-الأم. ولعلّ هذه الأهمّيّة تجلّت في افتتاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً ذلك الجسر. ويأتي الاستهداف بعد يوم واحد على احتفال بوتين بعيد ميلاده السبعين.

فرضيّة ثانية

طُرحت أيضاً فرضيّة استهداف الجسر بصاروخ. حالياً، تملك أوكرانيا منظومة “هيمارس” الأميركية التي تطلق نوعين من المقذوفات: مجموعة صواريخ متعدّدة وموجّهة (جي أم أل آر أس) ويصل مداها إلى نحو 80 كيلومتراً. تبعد نقطة الاستهداف عن المناطق التي تسيطر عليها أوكرانيا نحو 150 كيلومتراً. يجعل ذلك من هجوم أوكراني صاروخي على الجسر أمراً مستبعداً. لكنّ المعادلة تتغيّر كلياً في حال أرسلت الولايات المتحدة نوعاً جديداً من المقذوفات إلى أوكرانيا يعرف باسم “منظومة الجيش للصواريخ التكتيكية” واختصارها “أتاكمس”. يبلغ مدى الأخيرة 300 كيلومتر مما يجعل إمكانية استهداف الجسر ضمن نطاق النيران الأوكرانية.

لو صحّت هذه الفرضية فسيكون عنصر تأجيجيّ آخر قد أضيف إلى معادلة الصراع الأوسع بين روسيا والولايات المتحدة. لكنّ هذه الفرضيّة تبقى ضئيلة جداً بالنظر إلى أنّ الأوكرانيين ظلّوا يعبّرون حتى الأمس القريب عن استيائهم من رفض واشنطن إرسال هذه الصواريخ. وقد ذكرت “سي أن أن” أواسط سبتمبر (أيلول) أنّه من غير المرجّح قيام الإدارة الأميركية بتسليم هذه الصواريخ إلى كييف.

استهداف من الأسفل

ثمّة فرضيّة ثالثة يجري تداولها أيضاً. قال خبير في شؤون المتفجرات لشبكة “بي بي سي” إنّ عدم وجود أضرار واضحة عن الانفجار/التشظي على سطح الطريق يقترح عدم استخدام سلاح يسلّم من الجوّ”. ويقترح احتمالاً مفاده أنّ “هجوماً مخططاً له بعناية من الأسفل أمكن أن يكون السبب”.

ونقلت “إنترفاكس” الروسية عن رئيس مجلس الدولة في جمهورية القرم فلاديمير قسطنطينوف قوله إن “مخرّبين أوكرانيين تمكّنوا من الوصول إلى جسر القرم بأيديهم الملطّخة بالدماء”.

تحذيرات سابقة

بصرف النظر عن طريقة الاستهداف، يبقى أنّ أوكرانيا أرسلت تهديدات سابقة بإمكانية ضرب الجسر. في أغسطس (آب) الماضي، قال الميجور جنرال الأوكراني دميترو مارشنكو في حديث إلى “آر بي سي” الأوكرانية إنّ الهجوم على جسر كيرتش كان “إجراء ضرورياً لحرمانهم (الروس) من فرصة توفير الاحتياط وتعزيز قواتهم من الأراضي الروسية”.

وفي آب أيضاً، نشرت وزارة الدفاع الأوكرانية مقطع فيديو للجسر على موقع “تويتر” تحت تعليق “نحن نراقبك”. في الشهر نفسه كذلك، وقعت انفجارات في قاعدة ساكي الجوية في القرم تسببت بتدمير أكثر من ست مقاتلات روسية.

وفي أبريل (نيسان)، قال سكريتير مجلس الدفاع والأمن القومي أوليكسي دانيلوف خلال مقابلة إعلامية إنّ الجسر سيتعرض للاستهداف “حتماً” إذا حصلت أوكرانيا على الفرصة. ردّ حينها الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف على البيان قائلاً إنه “إعلان هجوم إرهابي محتمل”.

وعلّق أيضاً الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي الحالي دميتري مدفيديف عمّا سمعه من المسؤولين الأوكرانيين من تهديدات بشأن ضرب الجسر: “تحدّث أحد الجنرالات الأوكرانيين عن الحاجة إلى ضرب جسر القرم. آمل أن يفهم ما الذي سيكون عليه الهدف الانتقامي”.

من الأسئلة المطروحة الآن ما إذا كانت روسيا ستردّ فعلاً على الاستهداف أو أنّ تفادي إعلان أوكرانيا تبنّي عملية الاستهداف قد يمكّن موسكو من تخطّي فكرة شنّ ضربة انتقاميّة يمكن أن تثير غضب العالم من دون أن تغيّر بالضرورة موازين القوى على الأرض.

النهار العربي

—————————————

======================

———————————

المخرج الفرنسي جان لوك غودار: الفلسفة رفيقتنا السرية

حاوره: روبرت ماجيوري

ترجمة عبدالله الحيمر

تأتي النهاية في حلة الموت الرحيم للمخرج الفرنسي لوك غودار (1930-2022) الذي عاش الحياة كأنها فيلم طويل لا ينتهي. صنع فيها ذاكرة إنسانية موشومة بالبحث والمكاشفة، وبسينما تجمع كل الفنون وعلى رأسها الفلسفة.

جل موضوعات أفلامه ذات أبعاد فلسفية عميقة تطرح سؤالا ورؤية جديدة بالفكر السينمائي وبصناعة الأفلام. ممارسته النقدية مستندة إلى قراءاته الفلسفية، وعلاقته الوثيقة مع الفلاسفة والكتاب الفرنسيين. رحل تاركاً تراثا سينمائيا، أكثر من سبعين فيلماً، تعد من كلاسيكيات السينما، مثل «أن تعيشي حياتك» (1962) و»الازدراء» (1963) و»بييرو المجنون» (1965) و»هنا وهناك» (1976) و»أنقذْ ما استطعت إنقاذه: الحياة» (1980) ناهيك من سلسلة «تاريخ السينما» التي أنجزها عام 1998، عن تاريخ السينما وعلاقتها بالقرن العشرين.

□ هل تقرأ كتبا فلسفية؟

■ أنا حقا أحب الكتب، وأحب كتبا ذات حجم الجيب (الفرنسية) لأنه يمكنك وضعها في جيبك (في الواقع، هم الذين يضعونك في جيبك). لكنني لا أقرأ بطريقة جادة، فمن النادر أن أقرأ كتابا، حتى رواية، من البداية إلى النهاية. اليوم، أعدت قراءة بعضها، ببطء، والتي عالقة في ذاكرتي فقط، لكنني بالتأكيد قرأتها بشكل سيئ. مثل نهاية «منتصف الليل» للكاتب جوليان غرين، حيث لا يزال هناك حديث عن الانتحار: لدينا انطباع بأن الفتاة ترمي نفسها، لكن في الواقع هي الأرض التي ترتفع نحوها بسرعة مذهلة.. بصراحة أقولها لك، أنا غير قادر على قراءة كتب تعالج «إشكاليات» فلسفية، وأنا غير قادر كذلك على قراءة الفيلسوف هايدغر، إلا إذا كان الحديث عن شعر، وخصوصا للشاعر فريدرش هولدرلي. أحببت المسارات التي لا تؤدي إلى أي مكان، لكنها تمر عبر الصورة.

□ ومع ذلك أنت تقتبس الكثير من هايدغر؟

■ هذه أجزاء من الأفكار، من قبل كنت أضعها كعلامات أقوال، أما الآن فأضعها كحالات. في الأصل، كنت سأذهب إلى سراييفو، وكنت سأضع لقطة واحدة، وهايدغر عليها. ما هو موجود في فيلم «موسيقانا» وجدته عند الفيلسوف إيمانويل ليفيناس، في كتاب قديم اسمه «الزمن والآخر». إنها مجرد رؤوس أقلام في أسفل الصفحة. أنا حقا أحب الحواشي الطويلة جدا، سأبدأ بذلك. يقول إيمانويل ليفيناس، إن الموت ممكن من المستحيل، وليس المستحيل الممكن، كما قال مؤرخ الفلسفة والفيلسوف الفرنسي جون واهل عن هايدغر.. حاولت قراءة تأملات الفيلسوف إدموند هوسرل الديكارتية، لكنني لم أكمل قراءته. الفيلسوف جيل دولوز (1925 – 1995) عندما تستمع إليه، إنه أمر رائع للغاية، عندما أقرأ بعض نصوصه الأكثر صعوبة، يبدو الأمر وكأنني أقوم بالرياضيات العليا. يجب أن تسمى جميع كتب الفلسفة، مثل كتب الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد، بالفتات الفلسفي، حتى لا نشعر بالذنب لأننا قادرون على قراءتها فقط من خلال «بقايا الفتات» على وجه التحديد.

□ هل كان لديك أي علاقات مع بعض المفكرين المعاصرين، فوكو، دريدا، ليفي شتراوس؟

■ قليلا مع الفيلسوف الفرنسي فلاديمير يانكيلفيتش (1903-1985) مدافع كبير عن فكره الأخلاق المعاصرة، مثل هايدغر، خاصة الفيلسوف هنري برغسون، الذي احتقرناه منذ فترة طويلة. حضرت والدتي دروسه، في وقت دراستها الطبية، وأتذكر دائما عبارة تعلمتها عن ظهر قلب، على وجه التحديد لأن الأسلوب يساعد على تذكرها، وأنني وضعتها مرتين أو ثلاث مرات في أفلامي. إنه في نهاية المادة والذاكرة: «يستعير العقل من المادة التصورات التي يستمد منها غذاءه ويعيدها إليه في شكل حركة طبع عليها حريته». لكنني لا أفهم تماما كلمة «تصورات». قد يكون ليفيناس فيلسوفا جيدا، لكنه كاتب سيئ. سأظهر في فيلمي فقرات من كتابه «بيننا» (1991). أنا أصور جسرا، يقول الرجل «نحن بيننا» لذلك انتقلت من صورة إلى أخرى وقرأت نص ليفيناس. يبدو لي ليفيناس حاضرا في فيلم «موسيقانا « بطريقة مختلفة. تظهر لك الكثير من» الوجوه» إذا كنا نعني بذلك ما هو خاص بالفرد، طوله، لون بشرته، لكن فسيفساء «الوجوه» اليهودية، العربية، البوسنية، الهنود الحمر، إلخ، هي التي تنتهي بصنع «الوجه» وهذا يعني، وفقا ليفيناس، ما يحظر القتل. إنه اللاوعي للرسام أو المخرج، هو الذي يفعل هذا! الفيلسوف بلانشو يتحدث عن «غير مرئية للصورة». يقول: «الصورة هي السعادة، لكن بالقرب منها يبقى العدم». في الدين، تم فرض الصورة كنص للقانون، أو النص كصورة للقانون. لكن في الواقع لا يمكن رؤية الصورة، فهي تقريبية، كما هو الحال عند الفيلسوف الألماني والتر بنيامين، إنها بعيدة، مهما كانت قريبة. في السينما، هناك شكل الحقل مقابل الحقل: نعرض وجهين واحدا تلو الآخر لكن في الواقع نرى الوجه نفسه مرتين، لأن الحقل المضاد السينمائي يجب أن يتم من خلال النص، لإحضار عنصر ثالث يمكن أن أسميه الصورة الحقيقية أو النص الحقيقي، ما يجعل الصورة، أو الذي يجعل النص. يقول الفيلسوف الفرنسي ليون برونشفيك، الذي نصحتني والدتي بقراءته، في مكان ما: أحدهما في الآخر والآخر في واحد، وهؤلاء هم الأشخاص الثلاثة. إذا كان لدينا حوار مع بعضنا بعضا، وإذا أردنا التحدث عنك، يجب ألا نتراجع عني، لكن يجب علينا أولا تصويري من الخلف وعدم رؤيتك، ثم نقرر، وفقا لموضوع الفيلم، ما إذا كنا سنضع هذه الخطة أو تلك الأخرى.

□ تأخذ الثلاثية الكلاسيكية لتقسيم، الجحيم، المطهر، الجنة. لكن البقاء في العذاب هو الأطول، حيث تكون الأخلاق، يبدأ العمل البطيء لـ«المطهر»؟

■ لقد لاحظت أن الصحافيين يذهبون دائما إلى العالم السفلي، والسياح إلى الجنة! نادرا ما نذهب إلى المطهر. اليوم، نضع الشر على جانب واحد، والخير من جهة أخرى، هذا كل شيء! في السينما، هناك إنتاج وتوزيع و.. الاستغلال، بينما بالنسبة للكتاب نتحدث عن الكتابة والنشر والتوزيع. هذا بالنسبة لي استعارة لعالم ليس كبيرا بلا حدود ولا صغيرا بلا حدود، لكنه «متوسط بلا حدود». كانت السينما مسؤولة عن ذلك، ثم خيانة المسؤولين، والجمهور أيضا. في الولايات المتحدة، كانت الأفلام التافهة تسمى أفلام الاستغلال.الإنتاج، وهو التصوير، السيناريو، هو بالنسبة لي واحدة من أفضل اللحظات: نشعر، وهناك شيء أخلاقي، شيء يدعونا، كما يقول «نجم الراعي» أينما كان، لكننا لا نعرف حتى الآن… علينا التحقق بانتظام، والتفكير في الأمر، وتدوين بعض الملاحظات التي نسقطها بعد ذلك، والتي لا نشاهدها مطلقا. ثم هناك إطلاق النار، الذي هو بالنسبة لي، بالفعل جزء من النهاية. الإنتاج هو الجنة، والتوزيع هو المطهر: أخيرا يأتي الجحيم، وهو الاستغلال، المسمى على نحو مناسب! نجد الوظائف الثلاث التي درستها قليلا عند العالم الفرنسي في فقه اللغة المقارن جورج دوميزيل (1898 – 1986) الأنبياء، المحاربون والمزارعون، المزارعون الذين أصبحوا «الخدمات» «الجمهور العام».

□ ما هي الوحدة بالنسبة لك؟

■ ما زلنا جميعا هنا، جعلتني آن ماري ميفيل كاتبة السيناريو والمخرجة السويسرية أقرأ نصا بقلم حنة آرنت (1906 – 1975) قالت إن الوحدة ليست عزلة. في العزلة، نحن لسنا وحدنا مع أنفسنا. نحن دائما اثنان في واحد، ونصبح واحدا… فقط بفضل الآخرين، وعندما نجد أنفسنا معهم. أحب أن أكون على طاولة نضحك فيها ونأكل، لكنني أفضل أن أكون في نهاية الطاولة وألا أجبر على المشاركة. في الوقت نفسه، أريد أن أكون هناك والاستمتاع بها… عزل السجين هو شيء آخر تماما.

□ هل عانيت في أي وقت مضى شكلا من أشكال العزلة؟

■نعم، مرة واحدة. بعد محاولة انتحار، التي كنت قد قمت فيها بدور دجال إلى حد ما، حتى ينتبه الناس لي. كان بعد ثورة «68» على ما أعتقد. كنت في منزل أحد الأصدقاء، لكن والدي، الذي كان طبيبا، وضعني بالفعل في عيادة للأمراض النفسية في الماضي، وأخذني هذا الصديق إلى مدينة جارش. هناك، الذي منعني على الأرجح من القيام بإيماءات مؤسفة، وضعوني في سترة مقيدة». قلت لنفسي: «من الأفضل أن تبقى هادئا، وإلا فلن يسمحوا لك بالرحيل أبدا. أثّر فيّ كتاب عندما كنت صغيرا، «القدم الحديدية» للكاتب الأمريكي جاك لندن. هي قصة «داريل ستاندنغ» السجين المحكوم عليهم بالإعدام، الذي ينتظر في سجن ولاية كاليفورنيا في سان كوينتين. وضعوه في سترة مقيدة، ويستخدمها كمهرب، مما يدفع حارسه إلى الجنون: فكلما زاد عدد الأيام التي يقدمون له سترة مقيدة، كان أكثر سعادة! يصنع عالما لنفسه ويهرب من خلال الفكر، فهو في باريس تحت حكم لويس الثالث عشر، ومرة في روما كالقاضي بيلاطس البنطي… لقد قمت مؤخرا بإعادة قراءة كتاب آخر من تأليف جاك لندن، «مايكل كلب سيرك». لقد أحببته حقا في ذلك الوقت، ربما لأنني رأيت نفسي أيضا ككلب سيرك، مع رغبة في الأمومة. الكلب يجد نفسه وحيدا على الشاطئ، وهناك نادل مقهى قديم الذي يدعوه لمرافقته، وأخذه بعيدا، والذي يصبح سيده، رئيسه، نبيه. وكان اسم هذا النادل «داغ دوغتري» وكان قبل بضعة أسابيع فقط، عندما سمعت كلمة «الآخرين». كنت بحاجة إلى «الآخرين» ولم تكن حتى عائلتي من طينة هؤلاء الآخرين.

□ لكن الرسام، الكاتب، يلتقي دائما «بالآخرين» من خلال أعمالهم، فقط لأنهم يغذون حساسية الآخرين وفكرهم وخيالهم.

ـ من بين الفنانين الذين ينتحرون، أعتقد أن الرسامين هم رقم واحد، والكتاب هم التصنيف الثاني. في السينما، لا يمكننا الانتحار. هناك استثناءات، لكن القليل منها، مثل المخرج جان اوستاش في فرنسا. كما قال المخرج روبير بريسون، بمجرد دخولك الفيلم، لا يمكنك تركه. في فرنسا، غادر واحد منهم فقط، المخرج ماوريس ريجامي الذي صنع أفلاما من الفئة الرابعة وأصبح ممثلا للنبيذ والمشروبات الكحولية في منطقة «ميدي» جنوب فرنسا. في الكتابة، هناك لحظة نترك فيها العزلة ونحن في عزلة. قال شخص مثل الأديب الأمريكي رايموند تشاندلر: «منذ اللحظة التي أكون فيها على المسار الصحيح، كل ما أفعله قراءة رواية، إشعال سيجارة، طهي بيضة، والتجوال، وكل شيء إذن هو نوع من العزلة وهي حالة صعبة للغاية». بسبب هذا، يمكننا الانتحار، الرسام يمكنه فعل ذلك. في السينما، لا يمكننا، لأن العمل السينمائي عمل جماعي، يتم بشكل سيئ، بشكل أو بآخر، وأسوأ بكثير اليوم، حتى بين الأمريكيين، لكن القيام بذلك يتطلب اثنين على الأقل، ثم نأخذ طاقما سينمائيا من المتعاونين والمساعدين والموظفين، وهذا يخلق صورة مصغرة. نرى الناس يعيشون معا، هناك رجال ونساء ومال وقوة وكل شيء. لهذا السبب يمكن أن تكون هناك أحداث لم تحدث بعد، وهذه علامات، إذا كنت تعرف كيف تراها: ترى مثل هذا الفيلم وأنت تعلم أنه في غضون ستة أشهر ستكون هناك ثورة مايو/أيار «68» أو هذا أو ذاك.

□ هل كان لديك إغراء للكتابة؟

■ نعم، مثل أي شخص آخر، لكنني لم أكن أعرف كيف أستمر – أنا دائما معجب بالجمل الأولى التي كتبها دوستويفسكي وفلوبير، لكنهم يعرفون كيف يستمرون! جربت الترجمات. قضيت عاما في أمريكا الجنوبية، أحببت رواية «حديقة للموت» لماريا بولينا ميديروس (1929–1983) من أوروغواي، وترجمتها وأرسلتها إلى أراغون… قالت لي الكاتبة مارغريت دوراس، عندما كنا معا، وكنا نحاول وضع أكبر عدد ممكن من الكلمات في صورة «إنك ملعون» يجب أن يكون ذلك بسبب الكتب، أو ما هو موجود في الكتب. الكتب، بدأت بسماعها. كان لدى والدي قارب صغير يسمى «الجسر الواصل». كان صديقا للشاعر بول فاليري، وتلقيت دروسا في اللاتينية من طرف بول فاليري، حتى إنني فكرت للحظة في صنع فيلم عنه، عن السيد «تيست». خلال الحرب، كان هناك متعاونون في عائلتي، على الأقل في الروح، لأنه لم يفعل أحد شيئا سيئا، ذهبنا إلى منزل جدي عبر البحيرة وقرأنا بصوت عالٍ. أتذكر سماع «ممرات الجحيم « للكاتب دومينيك بونشاردييه (1917-1986) بطل المقاومة.

□ أنت لا تحب التعريفات، لكن ما هي الفلسفة بالنسبة لك؟

■ كتب المفكر موريس بلانشو: «ستكون الفلسفة رفيقنا، ليلاً ونهارا، حتى لو فقدت اسمها، حتى لو كانت غائبة، ستظل صديقة سرية»… هذه هي الفلسفة، إنها صديقة، والرواية صديق.

ترجمة بتصرف عن المجلة الفرنسية Liberation.

كلمات مفتاحية

لقدس العربي

———————————-

———————————

رحيل مظفّر النوّاب: الشعر خبز الحريّة وخمرتها الصافية

أنا أنتمي للفداء

ولرأس الحسين

وللقرمطية كلّ انتمائي

وللماركسيين شرطَ الثبات مع الفقراء

وشرط القيام بها بالسلاح كما هي أصلاً

بدون التفاف ودون رياء

بغياب الشاعر العراقي مظفّر النوّاب (١٩٣٤- ٢٠٢٢)، فقدت قصيدة «الغضب» و«الجماهير العربية» أحد أهمّ أركانها، وصوت سخطها المحموم على الحكّام والأنظمة العربية المتخاذلة. لم يكن مظفّر النوّاب أول من يصرخ في وجه الطغاة ولا سيما في بلاد الرافدين، فالشاعر عبد الوهاب البيّاتي عُرف بـ«شاعر الراية» والراية في يده أمميّة حمراء، كما أنّ الشاعر سعدي يوسف طعّم قصائده بثورية تطبعها الجمل المشبّعة هادئة الوقع، لكنّ النوّاب كان العلامة الفارقة في القصيدة الاحتجاجية الحديثة، فبحسب الباحث العراقي سلام عبود «يميل (مظفر) إلى صناعة كلمة ملتاعة، مشحونة إلى حدّ الانفجار، تشبه الألغام الأرضية التي تنفجر كلّما رفعنا أرجلنا عنها، وأنت تقرأه بصوت عالٍ تخشى أن تنفلق جدران الكلمات في فمك، أو تنفجر في وجهك وأنت تقرأ صامتًا أو تقف مستمعًا، وفي دماغك وأنت تتمعّن بها متأملاً، متتبّعًا هزّاتها الراعدة في أعماق روحك».

شاعرٌ نموذجيّ

الشاعر الغاضب الذي عُرف بقصائد مثل «وتريّات ليلية» و«القدس عروس عروبتكم» و«تلّ الزعتر» التي حفظتْها جموع الغاضبين والرافضين عن ظهر قلب بمقاطعها الناريّة مثل: «القدس عروس عروبتكم/ فلماذا أدخلتم كلَّ زناة الليل إلى حجرتها/ ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها/ وسحبتم كلَّ خناجركم/ وتنافختم شرفًا/ وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض/ فما أشرفكم!/ أولاد القحبة هل تسكت مغتصَبة/» سيثير برحيله كما في حياته الكثير من الزوابع حول طبيعة الشعر ذاته والجدل الذي لا ينتهي حول دوره ووظيفته في الحياة والسياسة والاجتماع، فإذا كان الشعر هو الناطق الرسمي باسم الجماعة والحامل لتطلّعاتها وقلقها وانتصاراتها وانكساراتها كما في ينابيعه الأولى في الشعر الجاهلي والمرحلة الأولى من صدر الإسلام، فإنّ مظفّر النوّاب يبدو ضمن هذه الرؤية الشاعرَ النموذجي لمجتمعات كانت أحوج ما يكون إلى تنفيس غضبها وردّات فعلها على الخيبات المتتالية من الاستعمار إلى النكبة فالنكسة فتخاذل الأنظمة واستباحة التراب العربي من البحر إلى النهر. قلّما جمع شاعرٌ كلّ شرائح المجتمع المتعطّشة إلى نسمةٍ من كرامة كما فعل مظفّر النوّاب، الخارج من كنف أسرة أرستقراطية تعود بنسبها إلى الإمام السابع عند الشيعة موسى بن جعفر الكاظم كانت قد حكمت إحدى الولايات الهندية ثم نُفيت إلى العراق مطالع القرن العشرين لمقاومتها الاحتلال البريطاني، وذاق الأمرّين في حياته تعذيبًا في أعتى السجون البعثية ومشرّدًا في الأهوار بعد أن حفر ومجموعة من رفاقه نفقًا للهرب نحو الأهوار في الجنوب العراقي ثم إلى كل منافي الدنيا.

كان مظفّر النوّاب من قلّةٍ من الشعراء يجتمع به مريدوه في أمسياته فيطربهم ويضحكهم ويبكيهم ويرجّع في صوته كالمراثي الكربلائية ويرفع الأدرينالين في أرواحهم وينفعل هو الآخر مع كلّ لغة جسده ليسقط مغشيًّا عليه بينهم أو يتعتعه الخمرُ الذي لا يفارقه أثناء قراءة الشعر ليعين جسدَه على قوّة الكلمات التي تشبه صاعقة الوحي في جسد الأنبياء. التعريف الآخر للشعر الذي ينفي عنه صفةَ الالتزام ويريد حصره بتجربة داخلية متخفّفة من السياسة والقضايا الكبرى (وهي نظرية تناقَش لأنّ الشعر في أصله شحنٌ للّغة وتحويرٌ للخطاب السائد، وفي كلّ تحويرٍ للخطاب ضربٌ من السياسة) تستند إلى تجربة السيّاب، أب الحداثة الشعرية العراقية، الذي كانت لديه مناعة عالية ضدّ إغواء السياسة، وهي وليدة انسحاب كليّ من التاريخ المشترك إلى أسطورة عالمه الداخلي، ومملكة موتاه، هذا التعريف الآخر يعيب إذن على النوّاب منبريّته التي جعلت الجماهير تتمغنط حول نبرة صوته الموشّحة بالحزن العراقي الكربلائي، واعتبرت شعره أشبه بالخطب السياسية التحريضية والبيانات الراديكالية البذيئة. إلا أنّ صاحب «وتريات ليلية» لم يكن هذا ولا ذاك، إذ بقيت طبقاتٌ رقيقة الكلمات والمعنى، لا سيّما في الشعر الشعبي لمظفّر النوّاب وحتى في ثنايا بعض القصائد «النارية»، مطمورةً تحت الكتلة الصلبة من الجمل الموجّهة كراجمات الصواريخ من أعلى المنابر في تجربته التي جمعت بين التدوين والمشافهة، فلا بدّ لكلّ دارسٍ لشعر النوّاب من أن يدرس الجانبين، إذ إنّ للشعر العامّي عند النوّاب مزاياه وعالمه، وللشعر الفصيح أيضًا مزاياه وعالمه، وذلك يشبه تمامًا الشغل على مادتين مختلفتين في الخلق، إذ يختلف فعل الشاعر عندما ينحت في الصخر (القصائدَ الفصحى) عمّا يفعله حين يشكّل تكوينات بواسطة الطين (القصيدة العامّية).

قصائدُ من طين

أول ما اشتهر مظفّر النوّاب بقصيدة «للرّيل وحمد» التي لا يزال العراقيون يردّدونها عن ظهر قلب:

مرّينا بيكم حمد واحنا بغطار الليل

اسمعنا دكّ قهوة وشمّينا ريحة هيل

الرّيل يعني في لهجة جنوب العراق القطار، وقد كتبها الشاعر بعد لقاءٍ مع امرأةٍ من قرية أمّ الشامات في مقصورة الدرجة الثالثة في القطار المتوجّه إلى البصرة وأخبرته بقصة هروبها من أهلها ومدينتها لوصال حبيبها في قصة العشق الممنوع والخارج عن تقاليد العُرف والأهل والعشيرة. يقول مظفّر النوّاب في أحد حواراته إنه لم يكن يدور في ذهنه أنه سيطبع هذه القصيدة يومًا ما، أو أنها ستنتشر كالنار في الهشيم لتدخل كلّ بيت في العراق وسيحفظها القرّاء ويطلبون أن يقرأها بصوته في مختلف الأقطار العربية، إذ إنّ القصيدة التي كُتبت عام ١٩٥٦ واستكمُلت عام ١٩٥٨ استلّها الأديب العراقي علي الشوك من دفتر الشاعر ونشرها دون علمه، ثم كتب عنها الشاعر سعدي يوسف بوصفها «زهرة عراقية نادرة في بستان الشعر العربي»:

القصيدة التي كُتبت بروح الشاعر المتأثّرة بالألوان (كان النوّاب رسامًا أيضًا) والأجواء العائلية المشبّعة بالموسيقى (والده كان يعزف على العود وأمّه تعزف على البيانو وتترنّم بالمراثي الكربلائية) فتحت بمفرداتها المتداولة بين الناس أبوابًا جديدةً في لمس الشعر بليونة ويُسر: كان يطيب لمظفّر النواب أن يقارن شعره العامّي أو الشعبي بطمي الفرات أو الطين، لكون اللغة العامية مطواعة وبعيدة عن موضوع النحو والإرث البلاغي الذي يشدّ شاعر الفصحى إلى أثقال الوزن والعروض والبلاغة المتكلّفة، ثم إنّ مرونة العامّية وتراكيبها تمنح الشاعر سعةً وحريةً في اشتقاق المفردات وتشكيلها مثل الطين المختمر الذي اكتشفه النوّاب إثر هربه من سجون البعثيين نحو الأهوار في جنوب العراق، فالهور مائيّ وطينيّ وطبيعته انسيابية والماء فيه يتشكّل، وكذلك الطين بأشكال متعددة. ألهمت لكنةُ نساء الجنوب العراقي وهنّ يتنزّهن في القوارب ولغتُهنّ العامية مظفّرَ النوّاب كثيرًا، كثيرًا، لكنة كان يشبّهها بالموسيقا الرقراقة لا سيّما عند تصغير الأسماء (صاحب وجاسم تتحولان مثلاً في لهجة نساء العمارة إلى «صويحب» و«جويسم») ويجيد التعامل معها برفق ومحبة حتى يتشكل الطين كما نقرأ مثلاً في قصيدة (زرازير البراري):

جفنك جنح فراشة غض

وحجارة جفني وما غمض

يلتمشي بيّه ويا النبض

روحي على روحك تنسحن

حن بويا حنْ

قصيدة النوّاب العامّية باللهجة الدارجة الجنوبية والمطعّمة بلهجة بغدادية أحيانًا غلب عليها الغزل كما في «للرّيل وحمد»، و«زرازير البراري»، أو جمعت بين الغزل والسياسة كما في «سفن غيلان أزيرج»، أو كانت سياسية محضة مثل «مضايف هيل»، أو «عشاير سعود». هذه القصائد العامّية سيظهر طيفها في ما بعد حتى في شعره الفصيح في نسيجه الذي يقترب أحيانًا إلى التركيب العامّي منه إلى النحو المحكم أو الجملة البلاغية، فتعثر مثلاً في الحركة الأولى من «وتريات ليلية» على إحدى العبارات الدارجة في جنوب العراق:

«في العاشر من نيسان بكيت على أبواب الأهواز/ فخذاي تشقّق لحمهما من أمواس مياه الليل»، فعبارة مثل «أمواس الليل» كناية عامية عن شدّة برد الماء، ومن هذا التركيب العامّي قوله في قصيدة أخرى «ملكٌ من يجلس في زاوية يرضع ربعية»، فهو لم يكتفِ بأن يُقحم في الفصحى جملةً تتردد على ألسنة العامّة من المولعين بالخمر، وإنما تعمّد إقحام لفظتهم العامية «ربعية» واستعارتهم الجميلة «يرضع» لوصف أحوالهم في ارتشاف الشراب. دافع النوّاب بقوة عن قصيدته الشعبية بوجه الاتهامات التي اعتبرت العامّية لغة شعوبية تؤذي جمالية اللغة العربية، فاعتبر أن العامّية قادرة على التحريك واستثارة الناس لقدرتهم على استذكارها وتداولها أكثر من الفصحى. كما أنه في قصيدة مثل «للرّيل وحمد» لم يكن لينقل حديث قرويّة فلاحة تتحدث بهذه اللغة الشاعرية، وإنما الشاعر الذي ينقل مفرداته وعالمه والرّنين الذي أحدثته نبرة الشجن العذبة في صوت الفلّاحة الجنوبية في مخيّلته وروحه.

قصائدُ خشنة

الجناح الآخر من قصائد النوّاب، وهي القصائد بالفصحى انطلق فيها الشاعر من رؤية شرحها في أحد حواراته: «المفروض بالشاعر طبقًا لتركيبته وحساسيته وحدسه ألّا يتعالى على قضايا الناس. نحن أمّة مهددة بكوارث ونرى ماذا يحدث، فإذا بقي المثقفون جالسين في منازلهم لكتابة قصائد تُقرأ في الليل على ضوءٍ خافتٍ وموسيقى ناعمة، فأين نحن من الصراع، بل أين نحن كأمّة؟».

إنها قصائد تحريضية بامتياز وإنْ شابتْها نبرة انكسارٍ دائمة بعد وصولها إلى نقطة الذروة في الفتك بالخصم وتقريعه وتوبيخه: صارت قصيدة النوّاب السياسية الخشنة إذن نقيض قصيدة الطين الليّنة، إنها حجر الإدانة، وصلابة اللغم، واحتشاد الرموز الثوريّة التي استلّها النوّاب من قاموس تاريخي حافل بفهرس من العصاة والمشاغبين والخارجين على سلطة الخليفة والحاكم والسلطان، إذ يشير الشاعر العراقي سعد الياسري في التفاتةٍ ذكيةٍ إلى نوعٍ من «الماركسية العراقية الشعبية» التي تظهر في شعر الشعراء الشيوعيين المتحدّرين من بيئة الريف والبادية، ومن عائلات تتعبّد بالإسلام الشيعي، «حيث ستلعب شخصيات بعينها، دورًا حاسمًا في تطور أفكار الإنسان العادي بتلك البيئة… إنّ شخصياتٍ تنمو لتصبح موضوعاتٍ مركّبة، ذات بعدين أو أكثر (ثقافي، اجتماعي، سياسي، إلخ) كالمسيح، يحيى المعمدان، يوشع بن نون، علي بن أبي طالب، الحسين بن علي، عمّار بن ياسر، أبي ذر الغفاري، كفّ وأفعى وعصا موسى، نار إبراهيم، شخصية القرمطي المتخيّلة، ثورة الزنجي المتخيّلة، بعض سور القرآن (مريم، الرحمن نموذجًا)، بعض أسفار الكتاب المقدّس بعهدَيه (المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الأنشاد، الرؤيا نموذجًا)، المجوس، الوضوء، بابل، سومر، تموز، عشتار، آشور، إنكيدوا، هاشم، أمية… كلّ هذه الموضوعات وسواها تحضر لدى الشاعر العراقي المعاصر، الجادّ، بطريقة لا يكاد يشابهه في طريقة وأسلوب توظيفها شاعرٌ يكتب بالعربية في الشام أو مصر أو شمال أفريقيا أو الخليج. ومظفّر كان أستاذًا في توظيف بعض هذه الموضوعات وأسطرتها لأغراض اليسار الحماسيّة، في لحظةٍ مفصليةٍ كان الخطاب فيها يحتمل هكذا صوت وتعبير، من دون أن يذكر عنه معاشروه والمقرّبون منه في العراق وسوريا أيّ مسحة تديّن فعلي أو مزيّف». فسيظهر الإمام علي مثلاً في البعد الاشتراكي الثوري من شخصيته في المقطع الشهير:

أنبّيك عليا!

ما زلنا نتوضأ بالذلّ ونمسح بالخرقة حدّ السيف

ما زلنا نتحجج بالبرد وحرّ الصيف

ما زالت عورة بن العاص معاصرة

وتقبّح وجه التاريخ

ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية!

ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء

يؤلّب باسم اللّات

العصبيّات القبَلية

ما زالت شورى التجّار ترى عثمان خليفتها

وتراك زعيم السوقية!

لو جئتَ اليوم

لحاربك الداعون إليك

وسمّوكَ شيوعيّا

أو حين يستحضر حسين الأهوازي، زعيمَ القرامطة في مقطعٍ آخر:

لقد علّمهم ذاك حسين الأهوازي

عشيةَ يومٍ في القرن الرابع للهجري

وكانت قدمي الملويّة قد تَركت

بقعًا خضراءَ من الدم المخلص

واستجوبت الأشجار فلم ينطقْ حجر

كيف نسينا التاريخ؟

وكيف نسينا المستقبل؟

كان القرن الرابع للهجرة فلّاحًا

يطلِق في أقصى الحنطة نارًا

تلك شيوعيةُ هذي الأرض

وكان الله معي يمسح عن قدمي الطين فقلتُ له

اشهدْ أني من بعض شيوعية هذي الأرض.

كما أنّ النوّاب سيوظّف من جديد كلّ مخزون التقاليد الدينية الشعبية في قصيدته بالفصحى مثل قوله: «لكنّ الناموس تجمّع في خيط الفردوس كنذر في رِجلي»، فقد درج أهل الريف في العراق على زيارة أضرحة الأئمة والأولياء، ودرج سدنة هذه الأضرحة على إعطائهم خيوطًا خضراءَ يشدّونها كالسوار حول المعصم أو كالخلخال حول الكاحل وهم يسمّونها كما في قصيدة النوّاب «خيوط النذر»، ومن المعتقدات الشعبية ما نراه أيضًا في الحركة الثانية في «وتريات ليلية»:

وهبّت نسمات أعرف كيف أفيق عليها

بين الغيبوبة والصحو تماوج وجه فلسطين

فهذي المتكبّرة الثاكل

تحضر حين يعذّب أي غريب

أسندني الصبر المعجز في عينيها

فنهضت، وقفت أمام الجلّاد، بصقت عليه من الأنف إلى القدمين،

ففي المأثورات الشعبية، يُعتقد أنّ فاطمة الزهراء وقد قُتل ابنُها الحسين بن علي غريبًا في كربلاء، تحضر في غربة كلّ غريب تخفّف عنه من مكابدته في المِحن. وهذا الخاطر الشعبي الذي مرّ في ذهن مظفّر أثناء هروبه لإيران عبر الأهوار عام ١٩٦٣ لا يلبث أن يعمّمه لتتماهى صورة فلسطين مع صورة بنت النبي الثاكل الغريبة. لكنّ النوّاب لم يرتضِ للغته السياسية أن تكون لغة مقعّرة بالأساطير وبالماركسية الشعبية فحسب، بل أراد لرأس جبل الجليد أن يكون حادًّا وجارحًا أيضًا، فكان أن ضمّن قصائده جملَ البذاءة النارية مثل «إنّ حظيرة خنزيرٍ أطهرَ من أطهركم»، و«قمم، قمم/ معزى على غنم/ جلالة الكبش/ على سمو نعجة/ على حمار بالقِدم/ مضرطةٌ لها نغم»، والتي كانت أشبه ببيان الرفض والمانيفستو الثوري الذي ينتقل على أشرطة الكاسيت في الزمن الرومنسي الجميل، وتنتقل كبارودةٍ لا تتعب في كلّ قضايا العرب المحقّة والمؤلمة، فمن ينسى قصيدته حول سقوط تلّ الزعتر إبّان الحرب اللبنانية بيد المليشيات اليمينية الفاشية:

لقد سقطت عاصمةُ الفقراء

لقد سقطت نسفًا والنسوة يرفعن

أياديهنّ ويمشين فرادى

والحامل بيت أنوثتها

طرحوا الحامل أرضا

سحبوا رحمًا فيها في الليل فدائي

أسمعتم عرب الصمت

أسمعتم عرب اللعنة

لقد وصل الحقد إلى الأرحام

أسمعتم عرب اللعنة

إنّ فلسطينَ تُزال من الرحم

أو ما كتبه في المقاومة اللبنانية:

بماء العنبر والشالات الوردية والحزن

ورقرقة الجسد الصيفيّ تشابك بالرشاشات

تَسلّل بين مدرّعتين

رقيقًا كالزيت

ولا أسمع غير الموت

ولا أسمع غير تنفّسه الخافت

والحزن ينوح على شجر الموز

وزقزقتي عصفورين حزينين

بحفرة كعبيه

الرائعتين الواثقتين القارئتين أغاني الدرب

ولا أعرف من أيّ قرى عامل

من صيفين تخرج

لا أعرف من أيّ قرى عامل

من صيفين تخرج

لا أعرف إلا أحرفه الأولى أر..بي .. جي

أيلول الممطر

كان لعينه تألّق حقل اللوز

منذ نهارين

كآبة حقل الألغام

لقد أومض حين اخترقته الرشاشات

bid35_p.140-141.jpeg

التزام سياسي

لم يتخلّ مظفر النوّاب عن التزامه السياسي بالقضايا المحقّة حتى الرمق الأخير، ولم يبنِ مثل الكثير من الشعراء علاقات مع الحكّام المتسلّطين على شعوبهم، فلم يمتلك شاعر الجماهير مطالبَ شخصية بقدر ما هي مطالب الشعب الذي اعتبر نفسه الطائر الشجيّ الذي ينطق باسمه، والمطلب الوحيد هو كرامة الإنسان التي يجب ألّا يُعتدى عليها. ولم تنفع كلّ محاولات الحكّام في تدجين الشاعر وشراء صوته، وهو عبّر عنه شعرًا بالمقطع الشهير:

سبحانكَ ربي..

كلّ الأشياء رضيت.. سوى الذل

وأن يوضع قلبي في قفصٍ في بيت السلطان..

وقنعتُ بكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير..

لكن سبحانك.. حتى الطير لها أوطان..

وتعود إليها..

وأنا لا زلت أطير…

فهذا الوطن الممتدّ من البحر إلى البحر

سجون متلاصقة

سجّان يمسك سجان!

«مظفّر الصوفي»

نقطة أخرى لا بدّ أن تستوقف الدارس لشعر النوّاب، هي البعد الصوفي الذي يظهر في معظم قصائده ولا يكاد بعضُ القرّاء يلتفت إليه لانشغاله بالمقاطع الناريّة المتفجرة، إذ غالبًا ما يوازن الشاعر بين قسوة السياسة ورقّة الغزل، فلو أخذنا مطلع الوتريات الذي يذكّرنا بمطالع القصائد الجاهلية القديمة:

في تلك الساعة من شهوات الليل

وعصافير الشوك الذهبية

تستجلي أمجادَ ملوك العرب القدماء

وشجيرات البرّ تفوح بدفء مراهقةٍ بدوية

يكتظّ حليب اللوز

ويقطر من نهديها

وأنا تحت النهدين إناء

فالدارس للقاموس المعجمي لهذا المقطع الرقيق (عصافير- دفء- حليب اللوز- نهد) سيجدها أقرب إلى نعومة النهد منها إلى قساوة الشتيمة في مقاطع أخرى من القصيدة ذاتها. كما أنّ البعد العرفاني لا يلبث أن يتجلّى في مقطعٍ آخر لتتبدّى قصيدة النوّاب مركبة فعلاً من طبقاتٍ مختلفةٍ من الحجر والطين يجيد الشاعر الانتقال بين مناطقها الصلبة والرخوة، فنقرأ مثلاً:

سقطت زهرةُ لوزٍ في قدحي،

يا ربّ ما هذا النقا

غرقَت لم أستطع إنقاذها

أصبعي زاغت من السُّكر، وقلبي شهقا

ما لها الكرمة لا تعرفني، أمس رقرقت لها خمرتها

وأنا اليوم على خمرتها، دمعي وأمسي رقرقا.

في هذه القصيدة نوعٌ من الصوفية المادية كما نظّر أدونيس في كتابه حول الصوفية والسوريالية، وروحانية أرضية يحدو بها القلق إلى الاتصال بالمطلق، كما أنها تفيض بشفافية هي أقرب لمقامات الصوفيين وأحوالهم عند ابن الفارض وحافظ الشيرازي وعمر الخيّام.

قسّم الناقد والشــــــــــــــــــــاعر العراقي الراحل فوزي كريم شــعراء العراق، وخصوصًا الجيل الستّيني، منهم إلى «شعراء المتاهــــــــــــــــــــــــــــــــة» ممّن انشغلوا بمتاهة عوالمهم الداخلية وتجنّبوا السياسة والخوض في غمارها شعرًا، ومنهم بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة ومحمود البريكان، قبل أن تتخطفهم العقائد والإيديولوجيات وتفسد أشعارهم. ووَضع في طليعة «شعراء الراية» عبد الوهاب البيّاتي وسعدي يوسف ومظفّر النوّاب. في هذا التصنيف مقدارٌ من الصوابيّة في بلادٍ انفصلت فيها السياسة عن الخبز اليومي ولم يلقَ بالشعراء في الزنازين وأقبية التعذيب، لكن في بلاد «سجّان يمسك سجّان» كان لا بدّ من اختراع شاعرٍ مثل مظفّر النوّاب لو لم يوجد صاحب «وتريات ليلية»، ليحمل راية الهدم حيث يجب الهدم، وليبقى الشعر خبز الحرية وجسدها وماءها وخمرتها الصافية.

بدايات

—————————-

====================

تحديث 18 تشرين الأول 2022

————————

الخط الأحمر في أوكرانيا ليس “الأخضر” السوري/ سميرة المسالمة

بين فترة وأخرى، وعلى وقع تعثّر خطط روسيا العسكرية في حربها على أوكرانيا، يغير الرئيس فلاديمير بوتين أو يقيل “جنرالاته” القادة العسكريين، رغم حداثة تعييناتهم في مناصبهم ومراكز تموضعهم الميدانية على الأراضي الأوكرانية. والملاحظة اللافتة للانتباه هنا أنّ معظم هؤلاء المعينين، والمقالين، كانوا في مواقع عسكرية، وخاضوا تجاربهم وتمرّنوا في الحرب ضد السوريين العزّل من السلاح، منذ التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية عام 2015، ضد المعارضين والمتضرّرين من نظام بشار الأسد، فقتلوا ودمروا وشرّدوا سوريين كثيرين، لم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم، ولم يقدّم المجتمع الدولي خلال 11 عاماً أي قراراتٍ ملزمةٍ لروسيا والنظام السوري وداعميه من المليشيات الإيرانية والطائفية تنهي أعمالهم القتالية في سورية. وعلى الرغم من التصريحات الأميركية والغربية عن وجود خطوط حمراء لن يسمح بتجاوزها، كاستخدام الأسلحة الكيميائية، فقد ثبت تعدّد استخداماتها من النظام السوري ضد مناطق المعارضة السورية، بل بدا كأنّ الخطوط الحمراء في سورية هي إشارات خضراء، وأنّ الأطراف الدولية المعنية أولجت لروسيا بوتين مهمة اللعب في سورية، إن لتوريطها، أو للاستثمار في دورها، بما يخدم فكرة ضمان أمن إسرائيل في محيطها الاستراتيجي في المشرق العربي عقوداً.

تغيّر المشهد الدولي في 24 فبراير/ شباط، أي قبل ثمانية أشهر تقريباً، واستعادت الأطراف الأميركية والأوروبية موقعها لاعباً فاعلاً، تاركة مقاعد المتفرّجين والمندّدين، فبدا مسرح العمليات الأوكراني مختلفاً تماماً عن مسرح العمليات السوري (منذ التدخل العسكري في سبتمبر/ أيلول 2015)، وحتى عن مسرح العمليات في الحرب الشيشانية وتدمير غروزني (أواخر التسعينيات)، واقتطاع منطقتين (أبخازيا وأوسيتيا) من جورجيا (2008)، وضم شبه جزيرة القرم مع دعم انفصاليي الدونباس على حساب أوكرانيا (2014). ففي كلّ تلك “المسارح”، ترك المجتمع الدولي للجيش الروسي حرية الحركة والمساحة للعمل فيها، مكتفياً بإدانات إعلامية وعقوبات اقتصادية أقرب إلى منطق “رفع العتب” أمام الشعوب المنكوبة، ما ترك المجال لبوتين للإمعان في الهجمات الوحشية بالصواريخ وبقذائف المدفعية وبالقصف الجوي، وكأن الأمر مجرّد تمرين عسكري، في حقل رماية، من دون مبالاة بحياة البشر، وعمرانهم.

لقد صوّرت موسكو حروبها كأنها أفلام دعائية لمقدرات قواتها العسكرية، بل إن بوتين ذاته، ووزير دفاعه، لطالما اعتبرا تلك “التمارين” كإعلانات تجارية لأسلحتهما، في تشدّقهما المتكرّر أنهم جرّبوا أكثر من ثلاثمائة نوع من الأسلحة في سورية، وأن عشرات الجنرالات وعشرات الألوف من العسكريين تدرّبوا في ذلك البلد، أي باللحم الحي للشعب السوري، الذي لم تكن لديه أسلحة ولا قوة عسكرية، ولا مضاد طائرات واحد، ولا قائد يمشون خلفه. هكذا، ففي مسرح العمليات الأوكراني الحالي، تبيّن، منذ البداية، أن الوضع مختلف، سواء بالنسبة لجاهزية الشعب الأوكراني لصد الغزو الروسي، أو بالنسبة لتفاعل الأطراف الدولية والإقليمية وطبيعة ردّة فعلها، وإغداق المساعدات العسكرية، على اختلاف أنواعها وتوظيفاتها، ما أسهم في توازنٍ حقيقيٍّ بين القوتين المتصارعتين ميدانيا، خلافاً لما جرى في سورية التي بقيت فصائلها المسلحة المعارضة لنظام الأسد في حالة عجز عن الدفاع أو تحقيق النصر للثورة التي ادّعت مناصرتها، بل استخدمت تلك الفصائل كأنها ذريعة لروسيا وإيران والنظام السوري في استمرار عدوانهم العسكري على المناطق السورية المعارضة.

الانتصارات على الشعب الأعزل التي حققتها روسيا في معاركها في سورية صعبت على الرئيس الروسي فهم حيثيات إخفاق جيشه بإسقاط نظام الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أو احتلال العاصمة كييف، أو فهم مغزى صمود الجيش الأوكراني، في استيعابه الهجمات الأولى، ثم في استبساله بتوجيه ضرباتٍ موجعة للقوات الروسية، وبعدها نجاحه في استرجاع مناطق عديدة خسرها في بداية الغزو، طبعا من دون إغفال دور السلاح الغربي المتطوّر الذي فتحت بوابات مستودعاته على مصراعيها لأوكرانيا.

تماماً مثل ما أنه لم يستوعب مغزى ردّة فعل المجتمع الدولي، لا سيما الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وعزلته الفاضحة في الأمم المتحدة، إذ دانت غزوه 141 دولة، ولم تقف معه سوى بيلاروسيا، والنظام السوري، وكوريا الشمالية وأريتريا، الأمر الذي تكرّر في الأيام الماضية، إذ دانت 143 دولة قرارات ضمّه مناطق من أوكرانيا، ولم تؤازره سوى بيلاروسيا والنظام السوري وكوريا الشمالية ونيكاراغوا (حتى إيران نأت بنفسها وامتنعت عن التصويت من باب المواربة والمخاتلة والمصلحة). وبدلا من استيعاب ذلك كله وتدارك الأمر، هرب بوتين إلى الأمام، أي إلى مزيد من الحرب، وتاليا مزيد من الغرق في “المستنقع” الأوكراني، ومزيد من التورّط في اعتباره أن الصراع ضد الغرب، وليس ضد أوكرانيا وحدها، وعلى أساس أنه يريد تغيير النظام الدولي، وفرض عالم متعدّد الأقطاب، ضمن منظوره بإخضاع العالم لمنطقه في اقتطاع أراض من دولةٍ ذات سيادة وضمّها إلى دولته الشاسعة!

لم يستوعب بوتين أو لم يدرك أن اللعبة اختلفت، وأنّ الخط الأحمر في أوكرانيا هو أحمر فعلياً، وليس أخضر كما كان الحال في سورية ومع بشار الأسد، وفي الغوطة تحديداً في 21 أغسطس/ آب 2013، وأن زمن السماح، أو التوظيف أو الاستثمار الدولي، لروسيا انتهى، إذ اعتبر غزوه أوكرانيا عدوانا على الدول الأوروبية كلها، وعدواناً على قيم أوروبا (حقوق الإنسان والديمقراطية) وعلى نمط عيشها وسلمها، وما زاد الاستنفار الدولي ضد بوتين تلويحه أكثر من مرّة بأنّ روسيا دولة نووية، وأنّ أيّ حلٍّ للحرب يقتضي الإذعان لضمّها مناطق من أوكرانيا.

من ذلك كله، لا يبدو أنّ الطرفين، أي روسيا من جهة، وأوكرانيا من جهة أخرى (ومعها أوروبا وأميركا) سيتوصلان إلى حلول قريبة تنهي ذلك الصراع الدامي، الذي شرّد الملايين، وتسبّب بخسائر اقتصادية فاضت عن روسيا وأوكرانيا إلى العالم، في ارتفاع الأسعار، والتضخّم النقدي وأزمة الطاقة، والإحساس بالخوف القادم من جنون الحرب.

وباختصار، لم يعد ما يجري يتعلق بمصير أوكرانيا فقط، بل بات يتعلّق أكثر بمصير روسيا ذاتها، صورتها، ومكانتها، وشكل تموضعها، في العالم. وما لم يدرك بوتين هذا الواقع الصعب، فستجبره التطورات على إدراك ذلك، بطريقة أو بأخرى، وكلما تورّط أكثر وكلما تعنّت أكثر، غرق أكثر، وغرقت روسيا معه. وفي هذه الحال، ما الذي لدى أنظمة بيلاروسيا وسورية وكوريا الجنوبية ونيكاراغوا وإريتريا ومعها ايران، كي تقدّمه له، وحتى الصين، لن تستطيع، أو لا يمكنها، أو لا تريد أن تقدّم له شيئاً على حساب مصالحها مع العالم، كلّ العالم.

العربي الجديد

—————————-

هل تُشعل الحرب في أوكرانيا فتيل حرب عالمية ثالثة؟/ عائشة البصري

عقب توقيع الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، على طلب انضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسي كردٍّ على ضمّ أراضٍ أوكرانية إلى روسيا، حذّر مسؤول روسي كبير من أن هذا الانضمام سيشعل فتيل حرب عالمية ثالثة، وقد سبقه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف في التحذير من هذا الخطر. ويستمر التلويح بهذه الحرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في سياقاتٍ مختلفة شملت الحرب الباردة والحرب على الإرهاب، إلا أن هذا الحديث في سياق مواجهة روسيا والغرب في أوكرانيا يشوبه قدر من الترهيب والمغالطة وتجاهل لواقع العلاقات الدولية في القرن 21، البعيد كل البعد عن سياق الحربين العالميتين الإمبرياليتين، اللتين جرّتا جزءا كبير من الدول إلى ساحة القتال، ما أضفى عليها طابع العالمية، فالحرب العالمية الأولى التي اصطُلح على تسميتها “الحرب الكبرى” أو “الحرب العظمى”، كانت إمبرياليةً، خاضتها كبرى الإمبراطوريات وحلفائها عبر العالم، من أجل التوسّع والهيمنة، وليس من أجل الدفاع عن الحرية والقانون الدولي وحقوق “الدول الصغرى” كما يحلو لبعض السياسيين البريطانيين والفرنسيين توصيفها في الاحتفالات الرّسمية بذكرى هذه الحرب.  إذ فجّرت حادثة اغتيال طالب صربي ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته، عام 1914، صراع الإمبراطوريات الأوروبية على الهيمنة على دول البلقان وطرد الإمبراطورية العثمانية منها، وتنافسها الاقتصادي والتجاري من أجل بسط نفوذها عبر العالم بما يتيح لها التزوّد بالمواد الأولية والسيطرة على الأسواق العالمية. 

بدأت الحرب بين الإمبراطوريات الأوروبية، فواجَه الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا وصربيا)، دول المركز، بزعامة النمسا وهنغاريا (المجر) وألمانيا. اتّسعت رقعة الحرب إلى ما وراء أوروبا وانضمت أميركا واليابان وإيطاليا إلى الحلفاء، بينما التحقت الصين والإمبراطورية العثمانية وبلغاريا بصفّ دول المركز، ثم تحولت إلى حرب إمبراطورياتٍ مع دخول جيوش مُستعمَرات كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا ساحة القتال التي امتدّت من جنوب شرق أوروبا، إلى غربها وشرقها، لتتعدّاها إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كانت هذه الحرب عالميةً بكل المقاييس، إذ فاق عدد الدول المشاركة فيها 70 دولة شملت كل القارّات، وبلغ عدد الجنود 70 مليونا، بمن فيهم حوالي 2،5 مليون مسلم شاركوا ضمن جيوش بريطانيا وفرنسا وروسيا ومملكة الحجاز.

لم تختلف الحرب العالمية الثانية عن الأولى كثيرا، بل يعتبرها مؤرّخون امتدادا لها نظرا إلى خلفية الأطراف المتحاربة وطموحاتها الإمبريالية وإخفاقات تنفيذ معاهدة فرساي. كانت عالميةً بدورها، وشهدت مشاركة حوالي مائة مليون جندي، من أكثر من 30 دولة، وامتدّت رقعة القتال من آسيا إلى أوروبا، ومن الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا.  وتقدّر مشاركة العرب والمسلمين فيها بحوالي خمسة ملايين جندي، اصطفت أغلبيتهم الساحقة إلى جانب الحلفاء.

وما زالت الرواية الغربية الرّسمية تردّد أن توسّع بلدان المحور، أو “قوى الشر”، هو الذي أشعل شرارة الحرب، بينما سعى الحلفاء، “قوى الخير”، إلى صدّ هذا التوسّع ومحاربة النازية والفاشية.  لكن المؤرّخ البريطاني ريتشارد أوفيري، في كتابه “دماء وأنقاض: الحرب الإمبريالية الكبرى، 1931-1945” الذي صدر السنة الماضية، يقدّم قراءة جديدة تكذّب هذه السردية، ويعزو أسباب هذه الحرب إلى ذروة الاستعمار الأوروبي في أواخر القرن 19، ويجادل بأن بريطانيا وفرنسا وأميركا كانت راضيةً عن وضعها الإمبريالي، وعن سيطرتها على معظم أجزاء العالم، وحريصة على الاحتفاظ بها، وعدم تقاسمها مع ألمانيا واليابان وإيطاليا التي كانت تسعى إلى التوسّع بالقوة، ولتصحيح ما جاء في معاهدة فرساي التي لم تعتبرها منصفة لها. 

لقد غيرت الحربان جغرافيا العالم، وأسقطتا الإمبراطوريات التقليدية، ونالت جل شعوب العالم استقلالها، وإنْ كان مبتورا ومشروطا وصوريا أحيانا، وتغيّرت أسس العلاقات الدولية التي كانت آنذاك تعتبر اللجوء إلى الحرب حتميا وضروريا لحلّ النزاعات التي تنشأ بينه الأمم.  لكن، مع تأسيس الأمم المتحدة سنة 1945، ولأول مرّة في تاريخ البشرية أصبح القانون الدولي الذي يجسّده ميثاق المنظمة يُلزم الدول بتسوية النزاعات الدولية عبر الوسائل السلمية.  لم تتغيّر قواعد العلاقات الدولية منذ ذلك الحين، رغم غزوات أميركا من فيتنام إلى العراق، ورغم غزوات روسيا من جورجيا إلى أوكرانيا، ورغم استمرار انتهاك فرنسا سيادة دول أفريقية عديدة. ما تغيّر هو انتهاك القانون الدولي من القوى التي ساهمت كثيرا في وضعه، وأمّنتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على حماية الأمن والسّلم الدوليين.

اليوم، وفي ضوء تفكّك الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، يصعب التفكير في سيناريو يُجبر دولا صغيرة أو متوسّطة في آسيا وأفريقيا أو أميركا اللاتينية على الدفع بجيوشها إلى حربٍ تنذر باستعمال الأسلحة النووية، وتتواجه فيها روسيا البوتينية والغرب في الساحة الأوكرانية، بقيادة واشنطن. لقد تغيّرت الحرب أيضا، ولم تعد تقتصر على حرب الدبابات والمدافع والخنادق، وطوّرت العلوم والتقنية الحديثة طبيعة الحروب صنّعت أسلحة كيميائية وبيولوجية وقنابل نووية وسهّلت الهجومات السيبرانية، فضلا عن حروب طائرات بدون طيارين.  ويتفوّق الغرب على روسيا، ويقف وراء أوكرانيا بحلفه الأطلسي (الناتو)، الذي يضم 30 دولة أوروبية، ويتوفر على جيش من 3.5 ملايين جندي، ويمتلك ترسانة أسلحةٍ لا تملكها نصف دول العالم مجتمعة، وتقوده واشنطن التي تصفع أي دولةٍ تخالف أوامرها بفرضها أقصى العقوبات المالية والاقتصادية والعسكرية، وتصادر احتياطاتها النقدية وغيرها. 

من الحماقة أن تجازف أي دولةٍ بوجودها من أجل دعم روسيا التي يبدو أنها لم تحسِب حساب حرب الوكالة الغربية، وهي اليوم تخوضُ حربا بلا حلفاء، باستثناء بيلاروسيا التي أعارت أراضيها للجيش الروسي في غزوه أوكرانيا، وسمحت بنشر قواتٍ قتاليةٍ مشتركةٍ مع روسيا على حدودها، لكنها تمتنع عن المشاركة في القتال في أوكرانيا. وفي ضوء قوة الغرب الضاربة، تراقب الصين مسار الحرب بحذر، وتدرك روسيا أن شريكها الاستراتيجي لن يغامر بمكتسبات عقود من النمو الاستثنائي، من أجل توسّع موسكو في محيطيها الآسيوي والأوروبي.

ولأن جلّ الدول تعي خطورة العودة إلى الوراء، إلى اللجوء إلى القوة لحل الخلافات الدولية وانتهاك سيادة الدول وضم أراضيها بالقوة، دانت 143 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضمّ روسيا مناطق من أوكرانيا واعتبرته “غير قانوني”.  وفيما امتنعت 35 دولة عن التصويت، عارضته روسيا، إلى جانب بيلاروسيا، وكوريا الشمالية، ونيكاراغوا، وسورية؛ ما يؤكّد افتقاد روسيا حلفاء بإمكانهم أن يُدخلوا العالم في حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ على خلفية الصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا. “روسيا لديها حليفان فقط: جيشها وبحريّتها”، مقولة اعتاد القيصر ألكسندر الثالث على ترديدها، ويدرك بوتين صوابها، وهو يحضّر جيشا عرمرماً لمواجهة أوكرانيا وحلفائها في شتاء الحسم.

العربي الجديد

—————————–

هل يكسب بوتين الحرب؟/ مأمون فندي

رغم تقدم القوات الأوكرانية خلال الأسابيع الفائتة، واستعادتها لأراض سيطرت عليها القوات الروسية، فإن مصير هذه الحرب حتى الآن يبقى مجهولاً، وربما نتيجتها تصب في تحقيق أهداف بوتين من الحرب أكثر مما تحقق رغبات الولايات المتحدة. أقول ذلك بناء على ما نعرفه من العلوم السياسية التي ترشدنا في فهم ما يجري وربما نتائجه على مستوى النظام العالمي. إلا أن العلوم السياسية تقول لنا القليل عن اللاعبين أنفسهم؛ لأن ذلك يتعلق بعوامل كثيرة؛ أولها ما يعرف في فرع جديد من العلوم السياسية بـ«البايوبولتكس (biopolitics)»، وكنت محظوظاً أن أتعرف على هذا الفرع من أستاذنا غليندون شوبرت (Glendon A Schubert)، وهو مؤسس هذا الفرع الأكاديمي من العلوم السياسية الذي يرى اللاعبين ككائنات بيولوجية تحركها دواع غريزية وسيكولوجية، وهذا يصعب معرفته دونما دراسة جادة لشخصية مثل بوتين ومحركاتها البيولوجية والسيكولوجية والتفاعل فيما بينها. فالعلاقات الدولية كما علّمنا روبرت جيرفيز هي مزيج من انطباعات القادة عن طبيعة الأزمة ومجموعة من إساءة قراءة ما يجري. إذن القائد وإدراكه أمران مهمان في فهم العلاقات الدولية. ولكننا في العلوم السياسية لا نعرف كيف نقرأ النوايا وما تضمره، وهنا يكون علم السياسة فناً أكثر من كونه علماً.

الذي شجعني على كتابة مقال اليوم عن مستقبل الحرب في أوكرانيا، هو مقال الصديق الدكتور عبد المنعم سعيد على صفحات هذه الجريدة الأسبوع الفائت، بعنوان «بين الحماقة والحكمة» الذي أخذ الحوار إلى مستوى أكاديمي رفيع بعيداً عن كتابة الهواة التي في معظمها ردود فعل صحافية على آخر مجريات الحرب وينقصها التدريب العلمي. ملخص ما طرحه الدكتور سعيد قادم من عالم أستاذنا كينيث والتز وكتابه الكلاسيكي «الإنسان والدولة والحرب (Man, the state, and war)» الذي يمثل إنجيل المدرسة الواقعية في فهم العلاقات الدولية.

ولكي نفهم أين نحن في النزاع الأميركي – الروسي، أو الغربي – الروسي الذي تمثل أوكرانيا مركزيته، لا بد أن نعود إلى البداية في التسعينات من القرن الماضي في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون عندما قررت الولايات المتحدة توسيع نطاق حلف الناتو، مما خلق ما تعرفه المدرسة الواقعية بالمعضلة أو الورطة الأمنية (security dilemma)، مما دفع روسيا إلى التدخل في جورجيا عام 2008، وكذلك في أوكرانيا مرتين في عام 2014 واحتلال وضم شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا، ثم الحرب الأخيرة التي بدأت هذا العام والمستمرة معنا ربما لفترة طويلة، والتي تهدف إلى نزع سلاح أوكرانيا أو قضم أراضٍ أكبر تحقق الأمن للدولة الروسية. بدعوة دول مثل جورجيا وأوكرانيا وتشجيعها لدخول حلف الناتو، خلقت الولايات المتحدة هواجس عند روسيا فرضت عليها فكرة الغزو وخلق منطقة عازلة بينها وبين الناتو كضرورة للأمن القومي الروسي. ومع ذلك لم يكن تمدد حلف الناتو وحده الذي يهدف إلى ضم أوكرانيا إلى الغرب عسكرياً، ولكن كانت هناك أيضاً محاولة ضم أوكرانيا اقتصادياً من خلال تمدد الاتحاد الأوروبي (تمدد عسكري: ناتو، وتمدد اقتصادي: الاتحاد الأوروبي)، ومع هذين العاملين: استراتيجية القوة الناعمة من خلال دمقرطة أوكرانيا، وتشجيع الثورة وتغيير النظام فيها… كل هذه العوامل مجتمعة هي التي استنفرت القوة الروسية التي لا تقبل بأن يكون حلف الناتو على حدودها مباشرة.

كانت رؤية ميرشيمار ووالت وكيسنجر وكوهن ترى أن معادلة توازن القوة الحقيقي هي بين الصين من ناحية، وأميركا وحلفائها الغربيين من ناحية أخرى، وفي هذا السياق أي طرف يستطيع استمالة روسيا إليه سيكون الفائز، ولكن أميركا والغرب باستعدائهما لروسيا دفعا بها إلى المدار الصيني، ومن هنا تعكس الحرب في أوكرانيا قصر نظر غربي في مجال فهم طبيعة العلاقات المستقبلية في النظام العالمي.

ومع ذلك، وفي كتابه الأخير عن دور القادة، وقد ركز كيسنجر على ستة منهم (كونراد أديناور، ديغول، نيكسون، أنور السادات، وليكوان يو، ومارغريت ثاتشر)، يرى كسينجر أن للقادة الدور الأهم في قضايا الحرب والسلام وبناء الدولة، فهو نعم يرى النظام العالمي على أنه نظام فوضى تحكمه القوة، كما يرى كل أساتذة المدرسة والواقعية، ولكنه في كتابه الأخير يعظم دور القادة أو اللاعبين بشكل أكبر، ومن هنا تكون الحالة الذهنية لبوتين ومن حوله مهمة.

إن الصراع في أوكرانيا هو حربان في واحدة؛ الحرب الأولى والأهم فيما يخص توازن القوى في النظام الدولي وهي حرب أميركا والصين، والثانية هي حرب الناتو مع روسيا. حرب الصين وأميركا هي إعادة أو ريمونتادا للحرب الكورية في خمسينات القرن الماضي، والتي كانت نزاعاً أميركياً صينياً على أرض كوريا أو في المسرح الباسيفيك. اليوم هي ذات المنافسة، ولكن على أرض أوكرانيا وفي المسرح الأوروبي. كان تصور المدرسة الواقعية هو أن استمالة روسيا في صف الغرب يحسم الصراع مع الصين لصالح الغرب، ولكن والحال أن الغرب حوّل روسيا إلى عدو، فتبقى مسألة من يتسيد النظام الدولي خلال الخمسين سنة المقبلة أمراً مفتوحاً، ولكن الإشارات الأولية تقول إنه سيكون نظاماً تتسيده الصين أو في أحسن الأحوال متعدد القطبية، معتمداً على الناحية التي تنجذب إليها كل من روسيا والهند.

ما هي أدوات الغرب تجاه بوتين؟ الأدوات الغربية محدودة متمثلة في حصار اقتصادي ودعم القوات الأوكرانية، أو إدارة الحرب بالتمني، بمعنى أن يتمنى الغرب انقلاباً على بوتين في روسيا. الحصار الاقتصادي لم يسقط كاسترو حتى يسقط بوتين. أما قدرات أوكرانيا على هزيمة الجيش الروسي فهو أمر يصعب تخيله. فحتى هذه اللحظة أوكرانيا ليست جزءاً من الدمج الاقتصادي (الاتحاد الأوروبي)، وليست جزءاً من الدمج العسكري (ناتو).

الموقف الغربي تجاه أوكرانيا ضعيف مقارنة برغبة روسيا وجموحها. الغرب لا يستطيع اليوم إجبار روسيا على العودة إلى حدودها كما كان الحال في إعادة الوضع إلى سابقه في حالة احتلال صدام للكويت، أو حتى إنهاك روسيا كما كان الحال في أفغانستان. مدرسة احترام السيادة والقانون الدولي في حالة أوكرانيا في أسوأ حالاتها. نهاية المشهد كما يشير سلوك اللاعبين هي القبول بسيطرة بوتين على أجزاء من أوكرانيا، خصوصاً الروسي ثقافة منها، وتحييد أوكرانيا عسكرياً مع قبول روسيا بإدماج أوكرانيا اقتصادياً مع الاتحاد الأوروبي. محصلة كل هذا هو انتصار لاستراتيجية بوتين على الاستراتيجية الغربية ليعود توازن القوى في نظام دولي إلى ما قبل الحرب مع ميل لصالح التحالف الروسي – الصيني على حساب الغرب. الحرب الأوكرانية ليست مشكلة طاقة وغذاء، بل هي مشكلة تحدد طبيعة النظام الدولي المقبل… وللحديث صلة.

الشرق الأوسط

—————————–

حرب نووية مع روسيا!/ روبرت فورد

صدمني الرئيس بايدن عندما صرح في 6 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، بأننا أقرب ما نكون إلى حرب نووية منذ عام 1962 وأزمة الصواريخ الكوبية. وأشار بايدن إلى الرئيس بوتين، وقال إنه من الصعب، في حال استخدام الأسلحة النووية التكتيكية الصغرى، وقف التصعيد إلى مستوى الحرب النووية الشاملة.

معذرة! ولكن هذا الأمر يبدو أكثر إلحاحاً من موضوع منظمة «أوبك» التي تعتزم خفض إنتاج النفط بنسبة 5 في المائة، أو الحياة الخاصة للمرشح الجمهوري لمجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، وهي المواضيع التي ركزت عليها وسائل الإعلام الأميركية لمدة أسبوع كامل.

الأميركيون، مثلي، يتذكرون التدريبات في المدرسة حيث كان يُطلب إلينا الاختباء تحت مكاتبنا في الفصول الدراسية في حالة وقوع هجوم نووي (كنا جميعاً قد نحترق تماماً على أية حال). وقد رحبنا باتفاقات خفض الأسلحة النووية مع الاتحاد السوفياتي، ثم مع روسيا. ورغم أن روسيا والصين قد تضرباننا بالأسلحة النووية، فحتى الشهور الماضية فقط، لم يكن أحد يشعر هنا بالقلق الشديد من اندلاع حرب نووية. بعد ذلك، يجعل بايدن من الأمر احتمالاً وارد الحدوث بصورة حقيقية. يا للهول!

من المعروف عن بايدن مبالغته في بعض الأحيان، أو استخدامه الكلمات الخاطئة. وقد سارع البيت الأبيض والبنتاغون في 7 أكتوبر إلى التأكيد على عدم وجود معلومات استخباراتية تشير إلى أن روسيا تتأهب لاستخدام الأسلحة النووية. ثم أكدوا، في محاولة للطمأنة، أن قوات الصواريخ النووية الروسية والأميركية لم تكن في حالة تأهب معينة. وكان جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، وهو مفكر هادئ جداً وحريص للغاية، قد صرح في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، بأن الأميركيين يأخذون تهديدات بوتين لاستخدام الأسلحة النووية بجدية، ويرسلون تحذيرات واضحة إلى موسكو عبر قنوات خاصة. مع ذلك، هنالك حقيقة كان بايدن يتحدث عنها.

فلاديمير بوتين شخصية كتومة بطبيعته. ونحن لا ندرك خطوطه الحمراء بصورة كاملة. وتمتزج الخدع بالتهديدات في السياسة الخارجية في بعض الأحيان. ونحن لا نعرف ما إذا كانت أوكرانيا ستستعيد كل الأراضي التي ضمتها روسيا رسمياً في 30 سبتمبر (أيلول)، ولا نعرف ما إذا كان بوتين قد يقبل بهزيمة مُهينة من دون اللجوء لأسلحة الدمار الشامل. كما لم نكن نعلم ما إذا كان خروتشوف قد يُطرد أو يواجه الموت إذا ما مُنيت روسيا بهزيمة مُهينة، وما إذا كان سوف يستخدم أسلحة الدمار الشامل للفرار من ذلك المصير. نحن نعلم أن روسيا قد دافعت ضمنياً عن استخدام بشار الأسد للأسلحة الكيماوية، ونعلم أيضاً أن بوتين لا يكترث بالضحايا المدنيين، واسألوا أي سوري أو شيشاني عن ذلك. بيد أن بايدن لا يثق ببوتين، وهذا هو السبب الذي يجعل الرئيس الأميركي يشعر بالقلق إزاء إمكانية استخدام روسيا للأسلحة النووية.

لم تحدد إدارة بايدن علناً كيف سترد على بوتين في حال استخدامه أسلحة الدمار الشامل. وصرح جيك سوليفان بأن واشنطن سوف تتصرف «بحزم»، وأن النتائج ستكون «كارثية» بالنسبة لروسيا. ومن الذكاء لواشنطن أن تكون غامضة علناً وواضحة في الجلسات الخاصة. فكثير من التفاصيل في التصريحات العامة يزيد من صعوبة تراجع روسيا عن تهديداتها باستخدام «كل الوسائل المتاحة» لحماية الأراضي الروسية، بما في ذلك المناطق الأربع التي ضمتها في 30 سبتمبر. وقد توقع الجنرال ومدير الاستخبارات المركزية الأسبق ديفيد بترايوس، في 2 أكتوبر، أنه رداً على إطلاق روسيا لأسلحتها النووية التكتيكية، سوف تقود الولايات المتحدة حلف «الناتو» في مهاجمة القوات البرية الروسية بأوكرانيا وتدميرها، ثم إغراق الأسطول الروسي في البحر الأسود. ويبدو لي هذا كأنه خطة تحرك عسكرية أميركية، وليس قراراً نهائياً قد اتخذه بايدن في حال استخدام بوتين للأسلحة النووية التكتيكية.

يدرك بايدن وفريقه في البيت الأبيض حدود المصلحة العامة الأميركية في أوكرانيا. فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «أوراسيا» في أوائل سبتمبر، واشتمل على 2000 مواطن أميركي، أن الهدف الأعلى الذي يروم الأميركيون تحقيقه في حرب أوكرانيا يتلخص في تجنب الحرب المباشرة مع روسيا. وكان الدفاع عن البلدان الديمقراطية أو إضعاف روسيا من أدنى الأولويات على قائمة الأميركيين في استطلاع الرأي. وبالتالي، لتجنب الحرب المباشرة، يمكن لإدارة بايدن تطبيق عقوبات أكثر صرامة ضد الاقتصاد الروسي، ومواصلة الجهود الدبلوماسية الرامية لفصل الصين والهند أكثر عن روسيا. ومن المحتمل أيضاً لإدارة بايدن تزويد أوكرانيا بأسلحة أكثر تطوراً تمكنها من ضرب الأهداف داخل روسيا. وفي هذه الحالة، سوف يكون الأوكرانيون هم المستخدمين لهذه الأسلحة، لا الأميركيون أو بلدان حلف «الناتو» الأخرى.

وقد حذر رئيس الوزراء السوفياتي خروتشوف، واشنطن، إبان أزمة الصواريخ الكوبية قائلاً: «إن أردتم لنا جميعاً الالتقاء في الجحيم، فالأمر متروك لكم». والآن، يُدرك المؤرخون الذين يدرسون الأزمة أن لكل جانب أخطاءه الاستخباراتية. على سبيل المثال، لم يكن الأميركيون في ذلك الوقت على علم بالأسلحة النووية التكتيكية السوفياتية الرابضة في كوبا. إضافة إلى ذلك، لم تكن واشنطن ولا موسكو تسيطران على كل خطوة عسكرية صغيرة في هذا الشأن. وكان العالم أقرب إلى الكارثة النووية مما كان يُدرك حقاً في ذلك الوقت. والآن، بعد مرور 60 عاماً، هل يُقدم بوتين على ما أقدم عليه خروتشوف قبلاً ويقبل بالهزيمة المُهينة، أم لعله سوف يُفاقم الأزمة مرة تلو الأخرى؟

الشرق الأوسط

—————————–

انتفاضة إيران وحرب أوكرانيا!/ أكرم البني

على الرغم من أن الانتفاضة الشعبية في إيران والحرب في أوكرانيا هما حدثان من طبيعتين مختلفتين، لكنهما متشابكان بمقاربات لافتة وتحكمهما وجوه كثيرة من التشابه والترابط.

أولاً، وحدة موقف محور الممانعة والمقاومة من الحدثين، حيث سارع مثقفوه وسياسيوه لاستحضار، كما درجت العادة، فكرة المؤامرة لتفسير ما يحصل، وتالياً تحميل الولايات المتحدة والدول الأوروبية المسؤولية، إنْ تجاه الحراك الشعبي العارم الذي شهدته إيران، وإنْ تجاه الحرب الأوكرانية، ولسان حالهم يقول: لا شيء عفوياً، وليس للعنف المفرط والاستهتار بأرواح الناس أو للفساد المستشري والتهميش والفقر والتمييز خلال أربعة عقود، أي دور في الانتفاضة العفوية التي شهدتها إيران، بل ثمة أدوار مرتبطة بالخارج وبعملاء ينفذون أجندة مغرضة من أجل إضعاف محور المقاومة في المنطقة وإجبار سلطة طهران على الخضوع للاشتراطات الغربية في الملف النووي. أيضاً تم تسويغ الحرب على أوكرانيا بأنها دفاع مشروع عن النفس لوضع حد لما يسمونها «البلطجة والمؤامرات الغربية» التي تتقصد إضعاف روسيا وتحجيمها، ولا تسمح بقيام نظام عالمي متعدد الأقطاب، والأسوأ انسياق هؤلاء الآيديولوجيين وراء اندفاعات دينية مضللة لحرف الأنظار عن الحقائق الملموسة وفصل الناس عن واقعهم الموضوعي، مثل الترويج لما ورد على لسان الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني بأن على أنصار إيران ألا يحزنوا أو يتألموا مما يحدث، ما دام الحاكم الحقيقي لإيران هو الإمام المهدي! ومثل توصيف الحرب في أوكرانيا على أنها حرب روحية وثقافية، واستحضار نظرة الشعب الروسي خلال العهود القيصرية إلى حاكم البلاد الذي لا يُهزَم بصفته مختاراً من الله لقيادة الأمة وإعلاء شأنها.

ثانياً، يصح النظر إلى الحدثين بصفتهما انعكاساً لتداعيات الطموح الإمبراطوري للنخبة الحاكمة في كل من روسيا وإيران وتطلعهما لاستعادة أمجاد غابرة، وما يستدعيه ذلك من إشهار المعاداة لأميركا وأوروبا وقيم الحضارة الغربية، وشحن العصبيات المتخلفة، القومية والمذهبية، وتسويغ استخدام مختلف أشكال القوة والعنف لتوسيع النفوذ والسيطرة على مناطق ومجتمعات الغير، وفي الطريق حرف الانتباه عن مشكلات الداخل المتفاقمة وإقناع الناس بأوهام التفوق والتميز لمقارعة الآخرين، على حساب حريتهم وازدهارهم الاقتصادي، بما في ذلك تسويغ الانخراط في سباق تسلح مرهق تدفع الشعوب، من شروط حياتها ومستقبلها، أثمانه الباهظة.

ثمة حنين إمبراطوري عبّرت عنه قيادة الكرملين غير مرة، عن ضرورة إعادة بسط سلطتها على كل الأراضي المحيطة بروسيا الاتحادية، كأنها لا تزال تعد نفسها الوريث الشرعي والامتداد الطبيعي للاتحاد السوفياتي، كذلك لم يخفِ زعماء طهران مطامعهم لاستعادة الإرث الإمبراطوري الفارسي، والترويج عبر شعارات دينية وأدوات طائفية لأوهام التفوق القومي والتمايز كشعب على الآخرين، ومثلما تفاخرت وتتفاخر موسكو بضم شبه جزيرة القرم ومناطق من جورجيا ومؤخراً ضم أربعة أقاليم من أوكرانيا، فإن حكام إيران يفاخرون بدورهم في سيطرتهم على أربع عواصم عربية، متوسلين رايات مذهبية وأذرعاً عسكرية منفلتة من كل وازع أو رادع.

ثالثاً، يترابط الحدثان بتأثيرهما المباشر على الوضع السوري، فحرب روسيا في أوكرانيا وعواقبها كما تداعيات الانتفاضة الشعبية في إيران، تضع بالضرورة مسألة الراهن السوري ومستقبله على بساط البحث، يحدو ذلك الانشغال الموضوعي للطرفين الرئيسيين، روسيا وإيران، بهمومهما، وهما اللذان يملكان ركائز عسكرية واقتصادية قوية في سوريا، الأمر الذي قد يبدّل بعض معادلات الاستقرار الهش، كما يُضعف أكثر فأكثر الاهتمام العالمي بالملف السوري وفرص معالجته، ويزيد من تفاقم أزماته المتنوعة، كما من حالة التفسخ والاستنقاع التي لا تزال تحكمه، ويمكن أن نضيف أن الحدثين يترابطان أيضاً مع الوضع السوري، في تشابه صور القهر والعنف والتدمير التي مورست هناك، بما في ذلك توظيف الخبرات التي امتلكت في قمع الشعب السوري لمواجهة الشعبين في أوكرانيا وإيران، والأسوأ حين يتشجع الطرفان عبر تغطيتهما استخدام الأسلحة المحرمة دولياً في سوريا، كالسلاح الكيماوي، على استخدام مثلها، ما قد يفسر، ربما، التهديدات الروسية المتكررة باستخدام السلاح النووي، وذاك الإصرار الإيراني على التشدد في الملف النووي ورفض تفتيش بعض مراكز تخصيب اليورانيوم، ولا يغير من حقيقة ترابط الحدثين بالوضع السوري، حين يميل بعض المعارضين السوريين إلى قراءة معاكِسة جوهرها الرهان على أن يفضي انشغال سلطة إيران بالانتفاضة وقيادة الكرملين بحربها، إلى تجميد مسارَي الآستانة وسوتشي اللذين كرستهما التوافقات الروسية والإيرانية مع تركيا، ما قد يفعّل دور المجتمع الدولي ويشدد على التمسك بعملية الانتقال السياسي وفق القرار الأممي (2254) ويدرجون في هذا السياق بعض الحماس العربي الذي ظهر مؤخراً للعب دور في معالجة الملف السوري.

النقطة الرابعة، تتعلق بالاختلال الكبير في ميزان القوى بين شعبي أوكرانيا وإيران من جهة، وبين حكام طهران وقادة الكرملين من جهة أخرى، وأيضاً بتلك الدرجة من الاستهتار بأرواح الناس، واستسهال استخدام مختلف أنواع الفتك والتنكيل للنيل منهم، كأنّ ليس من حقهم الحياة والاختيار وتقرير المصير، ثم بتشابه الحدثين في كشف ضعف الالتفاف الشعبي حول السلطتين الإيرانية والروسية، حيث بدا لافتاً الهروب الواسع للشبان الروس من قرار التعبئة الجزئية الذي أصدرته قيادتهم لتسعير الحرب، بينما ظهرت الاحتجاجات الإيرانية كأن لا سابق لها من حيث الانتشار والاتساع، فشملت غالبية المدن والمناطق ومختلف فئات المجتمع، عدا عن تكرار الإشارات عن رفض أو تردد بعض المجندين الإيرانيين، وربما لأول مرة، في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين العُزل، ويبقى الأهم تشابه الحدثين في إظهار القوة الكامنة لدى الشعوب في السعي لنيل حقوقها، ومثلما هي المفاجأة التي أحدثها الأوكرانيون في دفاعهم عن أرضهم وكرامتهم، كمشاهد الصمود في جزيرة الثعبان ومصانع آزوفستال! كانت المفاجأة في شجاعة المرأة الإيرانية بانقلابها على موروث اضطهادها التاريخي وعلى الأنظمة الأبوية الصارمة، ليأسر العقول والأرواح شعار «المرأة، الحياة، الحرية» بمعانيه البسيطة والشاملة، ولتذهل العالم صور فتيات إيرانيات يتحدين السلطة ويطالبن بإسقاطها وهن ينزعن حُجبهن ويقصصن شعورهن احتجاجاً على مقتل مهسا أميني.

الشرق الأوسط

————————-

تهديد بوتين النووي… جدي؟/ بسام مقداد

يستخدم أو لن يستخدم، سلاحاً إستراتيجياً أو تكتيكياً؟ أحجية نووي بوتين تزداد تشويقاً وقلقاً منذ إعلان بوتين حربه على أوكرانيا. وكلما تفاقمت إنتكاسات الكرملين في الحرب، يرفع لهجته في الحديث عن هذا السلاح وإحتمالات إستخدامه، ويرتفع معه منسوب القلق لدى الغرب وحيرته بين جدية التهديد أو الإبتزاز به. يكرر الكرملين في حال النووي ما قام به قبل إعلان حربه،  حين كان يحشد قواته من كافة الجهات المحيطة بأوكرانيا ويستعد لغزوها، كان يكثف التصريحات على مختلف مستوياته، بأن الحرب لن تقع، وأن روسيا ما اعتادت أن تغزو بلداً آخر. وكثرت في تلك الفترة تنبؤات الأجهزة الأمنية بشأن نوايا الكرملين الحقيقة بشأن غزو أوكرانيا. وتفردت المخابرات الأميركية حينها بأن توقعت فترة 72 ساعة ليصل بوتين إلى كييف.   تعددت حينها تفسيرات التأكيد الأميركي بين جهل الواقع الأوكراني على الأرض، وبين محاولة تكرار سيناريو العراق، حين شجعت الولايات المتحدة صدام حسين على غزو الكويت بتزيينها سهولة إنتصاره فيها.

 موقع The Moscow Timesنشر في 10 الجاري نصاً شديد المغالاة بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير ليس وفق يوكوهاما”، وأردفه بآخر ثانوي “بوتين سيبدأ حرباً نووية بسبب حبه الشديد لحياته التي تحافظ على سلطته المطلقة بأي ثمن.

التوقف عند نص الموقع ذي الملكية الهولندية، الذي حظرت السلطات الروسية الربيع المنصرم صدور طبعته الروسية، جاء لما يعكسه من مستوى التوتر والمشاعر السلبية المتبادلة بين روسيا والغرب، والذي يهدد بتطورات شديدة الخطورة في الحرب الأوكرانية، يعزز القول بنوع من واقعية السيناريو النووي فيها.

يقول الموقع بأن الحرب النووية تهديد لكل ما هو حي على الأرض، لكن بوتين مستعد لإشعالها، ولا يتوقف أمام الفناء الشامل للبشرية. فلاديمير بوتين لا يؤمن إطلاقاً بأية أيدولوجيات، وبالتأكيد ليس متعصباً دينياً، إلا أنه شديد التعلق بحياته. فقد أنشأ حول نفسه نظاماً أمنياً غير مسبوق، يمول بسخاء أية أبحاث بشأن إطالة الحياة، بما فيها غير العلمية، ويظهر رغبة متحرقة للعيش الأبدي.

فلاديمير بوتين يتمتع بأكبر سلطة بين الأحياء على الأرض، وليس لأن سلطته تتمدد على 1/7 من مساحة اليابسة وتحد في نفس الوقت أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية، بل لأن سلطته لا يحدها شيء سوى رغباته. حتى أعتى ديكتاتوريي القرن العشرين، لم يتمكنوا من العمل عكس أيديولوجياتهم وإلتزامهم بنهج أحزابهم. وبهذا المعنى، بوتين أسوأ بما لايقاس من ستالين وهتلر، ليس فقط لأن لا قيود حقوقية عليه، بل لا وجود لأية قيود. والأهم في الأمر أن نطاق سلطته يشمل طاقة نووية قادرة على تدمير كل ما هو حي على الأرض عدة مرات.

ويقول الموقع أن السلطة المطلقة وصلت بالصدفة إلى بوتين، ويتوقف عليها بقاؤه على قيد الحياة. والحياة هي القيمة الأرفع لديه، والسلطة هي الضمانة الوحيدة لأبديتها. وهنا تكمن جذور الخطر الذي يمثله بوتين للعالم.

بوتين لا يستطيع أن يسمح لنفسه بخسارة الحرب، لأن هذا يفضي عملياً لخسارته السلطة، وبالتالي حياته. وللكفاح من أجل حياته والسلطة التي تضمنها، هو مستعد لاستخدام كافة الوسائل المتاحة له، وسوف يرفع الرهانات إلى أقصى مستوياتها. وقد خسر في هذه الحرب الرهان الأول، والذي فاق عدد ضحاياه 100 ألف قتيل. وإذا لم تقبل أوكرانيا بوقف الحرب الآن وعلى الفور، وهي لن تفعل، ولن يتمكن بوتين من إعلان نفسه منتصراً بعد ضم المناطق الأوكرانية الجديدة، فسوف يرسل إلى الجبهة ما لايقل عن مئة ألف مجند جديد توفرهم التعبئة. وسيرفع ذلك عدد الضحايا الجدد إلى مئات الالآف، لكن هذا لن يغير في الأمر شيئاً، ولن يتمكن الجيش الروسي، على الأغلب ، من تحقيق أية ميزة كبيرة، ولن يجبر أوكرانيا على التراجع. وفي هذه الحالة بوتين على إستعداد لرفع عدد الضحايا إلى ملايين، وإلى إستخدام السلاح النووي التكتيكي.

موقع قناة التلفزة الأميركية currenttime التي تبث بالروسية من براغ، نشر في 5 الجاري نصاً بعنوان “”لا شيئ بواسطة السلاح النووي يمكن فعله هنا”. كيف يمكن أن ينفذ بوتين تهديداته وما سيعقب ذلك”.

يقول الموقع بأنه، على عكس إستخدام السلاح الإستراتيجي، فإن إستخدام السلاح التكتيكي لا يتطلب قراراً مركزياً، بل يتخذ في الجبهة مباشرة، وبوتين لا يراقب كل ضابط. وينقل عن ضابط روسي سابق في قوات الصواريخ الروسية  قوله بأن الترسانة النووية الروسية، إضافة إلى الرؤوس النووية الإستراتيجية، لا تزال تحتفظ من الترسانة السوفياتية بقنابل نووية تطلقها المدفعية، وكذلك بحقائب صغيرة  تُحمل على الظهر وتحتوي على متفجرات نووية تعادل قوة تفجير أكثر من كيلوطن. الحقائب مخصصة لوحدات التخريب، وما على العسكري سوى تمرير الحقيبة إلى الموقع المخصص للتفجير ويشغلها عن بعد آمن. ويقدر الضابط إحتمال توجيه ضربة نووية روسية إلى أوكرانيا بنسبة 90%.

ويقول الضابط بأن الصاروخ التكتيكي هو سلاح ميدان. وفي كل فوج عسكري ثمة قائد لوحدة الصواريخ يملك الحق بإطلاق الصاروخ. ويعلل منح الحق هذا بإحتمال إنقطاع كافة وسائل الإتصال مع القيادة في ظروف المعركة، ولذلك سبق أن منح مثل هذا الحق لقائد قوات الصواريخ السوفياتية في كوبا لقصف الولايات المتحدة.

وبعد أن يشير الموقع إلى تدني توقع المسؤولين الأميركيين إستخدام بوتين للسلاح النووي التكتيكي، ينقل عن خبير في معهد الأمم المتحدة لنزع السلاح قوله بأنه ليس للسلاح النووي التكتيكي قيمة كبيرة كسلاح في المعركة. وخاصة في هذه الحرب التي تدور كما هي الآن، إذ حتى لو استخمت القيادة الروسية السلاح النووي التكتيكي لتحسين الوضع على الجبهة، فلن ينجح الأمر الآن برأي الخبراء. في حال إستخدام هذا السلاح في المعركة، قد ينشأ وضع لن يكون لدى روسيا كمية كافية من الرؤوس لتغيير ما في هذا الوضع. فليس في هذه الحرب تجمعات عسكرية كبيرة، مما يعني أنه لتحقيق أي تغيير ينبغي قصف كل هدف موجود.

ويقول الخبير بأن التقديرات المتدوالة بأن لدى روسيا 2000 رأس نووي مبالغ بها. فهذا العدد بضم تلك الرؤوس التي تنتظر تفكيكها.

موقع إذاعة موسكو m24 نقل في 9 الجاري عن مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون تحذيره بوتين من أنه سيصبح هدفاً مشروعاً، في حال إستخدم السلاح النووي في أوكرانيا. وقال بولتون بأن بوتين هو مركز إتخاذ القرار وقيادة الجيش الروسي، أي ما ندعوه هدفاً مشروعاً. وعلى الرغم من أن “بوسعنا” القيام بأمور كثيرة أخرى، إلا أن على بوتين أن يعرف أنه على قائمة “أهدافنا”. 

ولإيضاح ما قصده بولتون، يذكّر الموقع بما سبق للرئيس الأميركي أن صرح به من أنه، وللمرة الأولى بعد الحرب الباردة وأزمة الكاريبي،  تهدد العالم حرب نووية. كما يذكّر أيضاً بما سبق أن صرح به  نائب سكرتير الأمن القومي الروسي دمتري ميدفيديف من أن روسيا تملك الحق بإستخدام السلاح النووي بما يتطابق مع عقيدتها الرسمية في حال نشوء مثل هذه الضرورة. كما حذر ميدفيديف الناتو من محاولات التدخل في النزاع في حال إستخدام السلاح النووي ضد الجيش الأوكراني.

المدن

——————————–

بلورة بوتين السحرية!/ سمير صالحة

الغاز هو كلمة السر في رسم الكثير من العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية الجديدة. تماما كما فعل النفط لعقود طويلة. لكن ذلك لا يعني أن أحدهما سيأخذ مكان الآخر في العقدين المقبلين على الأقل، والدليل هو ردة الفعل الأميركية وحالة الغضب والهلع الشديد التي أصابت عواصم أوروبية في أعقاب قرار تحالف أوبك + بقيادة السعودية وروسيا خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا بداية من تشرين الثاني المقبل، مما وتر العلاقة الأميركية الخليجية. تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن وهو يحمل البلدين مسؤولية ارتفاع أسعار النفط، وقوله إن هناك “عواقب لما فعلوه” كانت المؤشر الأول حول التصعيد المرتقب. ثم جاءت الخطوة الأميركية الثانية من خلال إلغاء الاجتماعات العسكرية لمجموعة العمل الأميركية – الخليجية، التحالف الإقليمي الذي يضم واشنطن والعديد من شركائها في المنطقة.

بالعودة إلى الطاقة الغازية فالحدث الأبرز في الآونة الأخيرة جاء مع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بخصوص تركيا التي أثبتت أهميتها لتكون الطريق الأكثر موثوقية بتزويد الاتحاد الأوروبي بالغاز، وأن ذلك حصل بفضل نهج أردوغان حيال خط أنابيب “السيل التركي “. بوتين ذهب أبعد من ذلك عندما ذكر الغرب بالقيمة الاستراتيجية لتركيا والواجب عدم التفريط بها لأن موسكو جاهزة لملء هذا الفراغ من دون تردد.

بوتين وفي أعقاب القمة الرابعة التي عقدها مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش أعمال منظمة “سيكا” الأسيوية في الأستانا، فاجأ الجميع أيضا عندما توقف عند أهمية تحويل تركيا إلى جسر تواصل للغاز بين الشرق والغرب، وقدرتها على لعب هذا الدور الذي يجعل منها الخزان العالمي لهذه المادة. مبديا استعداد بلاده في إطار تفاهمات وضمانات محددة إنشاء خط غاز جديد يمر عبر البحر الأسود باتجاه الأراضي التركية لإيصال المادة إلى أوروبا، وأن الكمية التي ستوفرها روسيا لأوروبا قد تصل إلى أكثر من 60 مليار متر مكعب في العام. المنصة التركية حسب موسكو لن تكون فقط لنقل الغاز إلى أوروبا، ولكن لتحديد السعر العالمي أيضا “حيث نستطيع معها أن نضبط الأسعار على مستوى السوق من دون تسييس”.

توقيت ومضمون رسائل بوتين لا يمكن فصلهما عن:

توصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام بعد التصويت بأغلبية ساحقة على إدانة ضم روسيا لأربعة أقاليم أوكرانية ورفض الاعتراف بهذه الخطوة الروسية.

وقمة براغ قبل أسبوعين التي أعلنت تشكيل كيان أوروبي موسع خارج منظومة المجلس الأوروبي ومنظمة التعاون الأوروبية التي تعتبر روسيا حلقة فيها.

والعودة الأميركية السريعة والمفاجئة إلى مناطق الشرق الأوسط وشرق المتوسط والبحر الأسود والقوقاز والبلقان لمواجهة التمدد والانتشار الروسي، كما حدث في اتفاقية ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية التي صنعتها واشنطن بالتفاهم غير المباشر مع إيران.

الحديث يتركز بين الرئيسين التركي والروسي على موضوع الطاقة وخطط تفعيل الدور التركي في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، لكن الصفقات ستكون مرتبطة ببحث تمديد العمل باتفاق الحبوب ومساعي التوصل إلى وقف لإطلاق النار واستئناف مباحثات السلام حول الحرب في أوكرانيا، إلى جانب طرح خطط استراتيجية تتعلق بغاز شرق المتوسط والحصص التركية الروسية هناك.

الخدمات المتبادلة بين أنقرة وموسكو كثيرة ومتنوعة بطابع سياسي واقتصادي على خط سوريا والبحر الأسود والقوقاز وشرق المتوسط. الورقة الأهم التي تريد موسكو لعبها بشكل مزدوج هي الجمع بين عملية دفع الحوار السياسي الدبلوماسي المباشر بين أنقرة والنظام في دمشق، ومسألة تفعيل الدور التركي في عملية استخراج وتصدير الغاز السوري إلى الخارج. عادي أن تبدأ موسكو بالرد عبر الاقتراح الذي أعلنه بوتين أولا، ثم الاستعداد لتحريك ورقة الغاز السوري لتذكير الجميع بدورها وتموضعها في قلب شرق المتوسط ثانيا. وعادي جدا أن نسمع البعض في أنقرة يذكر الغرب بضرورة مواصلة دعم جهود الحلحلة على خط كييف – موسكو وفتح الطريق أمام خروج مئات الأطنان من الحبوب والأسمدة والزيوت الروسية أيضا إلى منتظريها.

تشييد جسر التواصل بين الشرق والغرب في مادة الغاز هو حلم تركي استراتيجي قديم. لذلك من الطبيعي أن ترحب أنقرة على الفور بالمقترح الروسي. لكن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو توقف عند متطلبات وتفاهمات تسبق التحرك بهذا الاتجاه، بينها بحث مسائل التمويل وتجاوز العقوبات الغربية على روسيا والتحضيرات الفنية واللوجستية والتفاهمات المالية والاقتصادية والعرض والطلب بين روسيا وأوروبا. لا تريد أنقرة أن تناقش خطة بهذه الأهمية مع روسيا وحدها، فهناك الغرب الواجب أن يقول ما عنده أيضا. من لذع الحليب لسانه ينفخ على اللبن قبل أن يشربه، كما يقول المثل الشعبي.

اتجهت الأنظار في أوروبا بعد اندلاع المعارك على الجبهات الأوكرانية وقرارات الحظر والقطيعة مع روسيا، نحو تنويع مصادر الطاقة والبحث عن أسواق جديد لسد النقص المحتمل في احتياجاتها خلال الأسابيع المقبلة. وتسعى الدول الأوروبية إلى اتفاقيات عاجلة مع دول آسيوية وأفريقية لتجاوز أزمتها. الحل المتوفر أمام أوروبا هو تحريك تفاهمات دول شرق المتوسط ودعم خطط ترسيم الحدود البحرية هناك للحصول على الغاز خلال فترة زمنية معقولة. أو فتح الطريق أمام أنقرة للوصول بوساطاتها على خط كييف – موسكو إلى تفاهمات هدنة وتسوية سياسية للأزمة.

هناك احتمال كبير بأن تصبح تركيا الدولة المحورية في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا لكن المطلوب أولا وقف الحرب في أوكرانيا وإنهاء التوتر الغربي الروسي ثانيا، وتخلي أوروبا عن عمليات مطاردة بدائل وخيارات استراتيجية جديدة للخروج من عباءة الغاز الروسي ثالثا. خصوصا أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تقول إن ضم روسيا غير الشرعي لأربع مناطق أوكرانية، يرفع التحدي ضد النظام الدولي إلى مستوى جديد وأن نتائج هذه الحرب يمكنها أن تحدد مستقبل العالم بأسره.

الكرة هي في ملعب واشنطن لتقول ما عندها بعد حملة التقريب بين بيروت وتل أبيب بمساعدة إيرانية. هي عرقلتْ مشروع خط أنابيب “ميد إيست” الذي استبعد تركيا عن منطقة شرق المتوسط وهي دعمت التطبيع بين أنقرة وتل أبيب أيضا. لكنها لم تحسم موقفها في التأزم التركي اليوناني واستمرار التباعد التركي المصري. والأهم من كل ذلك هو معرفة كيف ستعقب على التفاهمات التركية الروسية الجديدة في خطط الطاقة حيث التصعيد العسكري على الجبهات الأوكرانية في ذروته.

تلعب روسيا ورقة التباعد بين أنقرة وواشنطن حتى النهاية. الحليف المفترض هو الغرب لكن التنسيق والقمم والمواقف المتقاربة هي بين تركيا وروسيا. بالمقابل تتمسك أنقرة بجهود وساطتها بين كييف وموسكو من جهة وبين سيناريو طاولة حوار أوسع تجمع روسيا وعواصم غربية فاعلة ومؤثرة في الملف الأوكراني، بينها واشنطن وباريس وبرلين ولندن من جهة أخرى. لكن المستشار الألماني أولاف شولتس يتهم روسيا وقياداتها، بشن “حرب صليبية” ضد الغرب والنظام الدولي. دون أن نغفل مسألة الإجابة على سؤال ما الذي قد يجري عند حدوث أي توتر في العلاقات التركية الروسية وكيف سيؤثر ذلك على خطط نقل الغاز إلى أوروبا؟

مهمة أنقرة لن تكون سهلة فالغرب متمسك بمواجهة الكرملين وسياساته والتصعيد من أجل ذلك.

الطريق الأقصر والأسهل لفتح الأبواب أمام حصول تركيا على مثل هذه الفرصة الاستراتيجية هو مسارعة موسكو لإعلان قرار وقف الحرب ضد أوكرانيا والانسحاب من أراضيها ومحاولة إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام فهل تفعل موسكو ذلك؟

——————————–

=====================

تحديث  23 تشرين ألأول 2022

—————————–

التقديرات الخاطئة للحسابات الروسية في الحرب الأوكرانية/ ماجد كيالي

لم يشكّل غزو روسيا لأوكرانيا مفاجأة للعالم، إذ كان ذلك واضحاً في العديد من المعطيات والممهدات، لكن المفاجأة الكاملة تقريباً تمثلت بحجم التقديرات الخاطئة، أو الأوهام الخطيرة، التي عشعشت في أذهان صانعي القرار في روسيا، لا سيما الرئيس فلاديمير بوتين، باعتباره صانع القرار الوحيد، أو الأساسي في ذلك البلد.

مثلاً، بدل أن تنتهي تلك الحرب، أو الغزو، في أوكرانيا خلال أيام معدودة، فإذا بها تستمر لأشهر (هي تكاد تختم الشهر الثامن الآن)، ولا أحد يعرف متى ستضع أوزارها، أو إلى ماذا ستنتهي. وبدل أن تؤدي إلى انهيار النظام السياسي في أوكرانيا، وإخضاع الأوكرانيين، بحسب توقعات سيد الكرملين، فإذا بهذا النظام متمثلاً برئيسه يغدو كملهم لصمود الشعب الأوكراني، ومقاومته للغزو، وكعنوان له لدى معظم الأطراف الدولية، بل يمكن القول إن تلك الحرب أدت إلى فتح صفحة جديدة في تاريخ الشعب الأوكراني، وفي صوغ هويته القومية المستقلة عن روسيا.

وعلى الصعيد الدولي، بدل أن تؤدي تلك الحرب إلى إبعاد حلف “الناتو” عن روسيا إذ بهذا الحلف يغدو أكثر قرباً لها من ذي قبل بما لا يقاس، وبدل أن تؤدي إلى تعزيز علاقة روسيا مع أوروبا، وفك علاقة تلك القارة بالولايات المتحدة، وتالياً بحلف “الناتو”، إذا بها بتداعياتها تشتغل بعكس ذلك، أي تؤدي إلى نهوض وتوحّد أوروبا ضد الغزو الروسي، باعتباره يشكل تهديداً لها ولقيمها ونمط عيشها، وإلى تعزيز علاقاتها بالولايات المتحدة، كما إلى دفعها للتحول نحو زيادة موازناتها العسكرية، للدفاع عن نفسها، مع تعزيز وجودها في الحلف المذكور.

فوق كل ذلك فإن تعثّر العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا أدى إلى تضعضع صورة روسيا كدولة قوية، وتزعزع مكانتها الدولية، بعدما كان الرئيس الروسي يطمح، من مدخل تلك الحرب، إلى فرض بلده كقطب أو كقوة عظمى، إذ بدا السلاح الروسي غير كفؤ، وأقل فاعلية، حتى مقابل مستوى متوسط من السلاح الغربي الذي قدم لأوكرانيا، كما بدت التكنولوجيا الروسية أقل قدرة مما أتاحته الأقمار الاصطناعية الأميركية (إيلون ماسك مثلاً) لأوكرانيا.

وفي كل الحالات، فإن هذا الغزو في مساراته المتعثرة أدى إلى عزل روسيا، كما شهدنا في تصويت 141 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ هناك فقط أربع دول صوتت إلى جانب روسيا هي سوريا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وإريتريا، في حين حتى الصين وإيران امتنعتا عن التصويت، بل إن وقائع “قمة شنغهاي للتعاون” (سمرقند في أيلول/سبتمبر الماضي) كشفت عن ابتعاد موقف الصين والهند عن روسيا، في تعبير الرئيس الصيني عن قلقه مما يجري، وفي كلام الرئيس الهندي الذي خاطب به نظيره الروسي، أن هذا ليس زمن الحروب.

عدا عن كل تلك التقديرات والتوهمات التي ثبت وهنها، فإن مشكلة روسيا تكمن في أنها أكبر وأغنى دولة في العالم بمساحتها وثرواتها الباطنية، الا أنها ليست بين الدول العشر الأقوى اقتصادياً في العالم (إيطاليا وكوريا الجنوبية أقوى منها)، وهي ليست بين الدول العشر الأقوى بالتصدير (هولندا تفوقها)، وأغلب صادراتها من النفط والغاز والفحم الحجري والأسمدة والقمح والسلاح، أي لا طائرات ولا سيارات ولا كومبيوترات ولا تلفزيونات ولا غسالات ولا برادات، ولا سلع استهلاكية عادية؛ فما تنتجه من كل ذلك لا يضاهي البتة الصناعات الكورية الجنوبية والإيطالية والفرنسية والبريطانية والألمانية واليابانية والأميركية.

على ذلك فإن مشكلة روسيا الأساسية إنها لا تدرك حدود قدراتها، وفقاً للمعطيات الآتية:

أولاً: تظن روسيا أن قوتها العسكرية، ومساحتها الشاسعة (17 مليون كلم مربع)، وغنى ثرواتها المعدنية، تتيح لها أن تفرض ذاتها كقوة عظمى، أو كقطب دولي، وأن تفرض على الآخرين احترامها وفقاً لذلك بعضلاتها، التي جربتها في سوريا (لم يكن ثمة أحد يقف في وجهها)، لكن تلك العضلات لم تثبت في التجربة أو في المغامرة الأوكرانية، على نحو ما شهدنا في الأشهر الثمانية الماضية.

ثانياً: تأخرها في مجال العلوم والتكنولوجيا وفي إدارة مواردها البشرية وبالطبع في نظامها السياسي، الذي يفتقد للديموقراطية، والتعددية الحزبية، وحقوق المواطنة، وتلك هي الفجوة الأساسية بينها وبين الدول الرأسمالية الأخرى. هكذا فإن الأوكران استطاعوا تبديد هجماتها وقوتها العسكرية، بفضل الأسلحة المتفوقة نوعاً (رغم تدني قدراتها)، وأيضاً، بفضل تمتعهم بنظام معلومات واتصالات أفضل؛ بمعنى أنه ليس ثمة تطابق ميكانيكي بين المساحة والغنى بالمواد الخام وعدد أفراد الجيش مع القوة الفعلية لدولة ما.

ثالثاً: من مراجعة الاحصاءات، والمعطيات الاقتصادية، يمكن الاستنتاج أن عهد بوتين لم يكن عهد تطور اقتصادي وتكنولوجي وعلمي في روسيا، بل كان عهد ركود، على كل الأصعدة، إذ تحكمت فيه الصادرات من النفط والغاز والأسمدة والقمح، ففي تلك المجالات فقط تطور الناتج المحلي لروسيا بين الأعوام 2000 ـ 2022، مع ملاحظة التركيز على قطاع السلاح، كونه الأكثر نمواً بين القطاعات الاقتصادية، وهذا هو سر النمو الكبير في السنوات الأولى من عهد بوتين، لكن ذلك توقف منذ العام 2008، ثم تراجع أكثر بعد احتلال شبه جزيرة القرم ومع العقوبات الاقتصادية الغربية منذ العام 2015.

ولتوضيح ذلك يمكن المقارنة بين روسيا والصين، فبينما كان الناتج المحلي الإجمالي للصين يناهز 1.2 تريليون دولار في العام 2000، كان في العام ذاته في روسيا يناهز 1.1 تريليون دولار، فيما وصل الناتج المحلي الاجمالي الروسي إلى 1.8 تريليون دولار، في 2008، وفي العام 2014 وصل إلى 2.1 تريليوني دولار، لكنه في العام 2021 تراجع إلى 1,6 تريليون دولار. في حين إنه في العام ذاته أي 2021 بلغ في الصين 17 تريليوناً من الدولارات وكان في 2016، 11 تريليون دولار، وقبلها في 2010، 6 تريليونات، بمعنى أن الصين تقدمت ونمت وتطورت بفضل تركيزها على التكنولوجيا والتجارة والاقتصاد وإدارة الموارد، وليس بناء على الحروب واستخدام العضلات العسكرية، وأنها تطورت بقفزات ملحوظة، في مقابل الركود في الاقتصاد الروسي.

اللافت أن روسيا تروّج إلى أن تعثرها في أوكرانيا لكونها تواجه الغرب بأكمله (أميركا وأوروبا)، وفي ذلك تصميم على عدم رؤية حقيقة أو حدود قدراتها، ودليل على غطرسة ونرجسية وانفصام عن الواقع، إذ إن ذلك الغرب يحرص على تجنب توسيع الحرب، وعدم خروجها عن السيطرة، ويحرص على تقديم أسلحة متوسطة المدى، والفعالية، بحيث لا تمكّن روسيا من الفوز، وبحيث تمكّن الأوكرانيين من الدفاع عن أنفسهم داخل حدود بلدهم، إلى حين اقتناع بوتين أن اللعب في أوكرانيا يختلف عن اللعب في سوريا، كي يجلس إلى الطاولة.

أخيراً، ما يفترض أن تدركه القيادة الروسية إنها وضعت روسيا كشعب وكبلد وكموارد وكتاريخ في مواجهة العالم، بمحاولتها تقويض مبدأ من مبادئ السلم الدولي، وبمحاولتها ضم أراض من دولة أخرى ذات سيادة، أما حق تقرير المصير فله قواعد وأصول، وضمن ذلك ثمة مخارج لإيجاد حلول للأقليات (دينية أو قومية) في أي بلد، ليس على غرار ما فعل في الشيشان وفي جورجيا وأوكرانيا ومالدوفيا، وإنما على غرار سويسرا وبلجيكا وتجربة الحكم الذاتي للأكراد في العراق، مثلاً.

وعليه، فمن غير المعقول تمرير فكرة حق تقرير المصير بواسطة الدبابات، وتحت الاحتلال، فهذا النموذج لن يجذب حتى الصين، التي تحاول إيجاد حل لمسألة تايوان، كما لن يكون ذلك مناسباً في العالم العربي إلا لإسرائيل التي سنّت قانون ضم للقدس والجولان، وربما لإيران التي تدعي الهيمنة على عواصم عربية عدة، أو لتركيا التي تريد منطقة آمنة في الشمال السوري، وذلك بعد طي تجربة صدام حسين المأساوية والكارثية في ضم الكويت للعراق.

لنأمل بأن تنتهي هذه المحنة لصالح الشعبين الروسي والأوكراني ولصالح السلم والاستقرار في أوروبا والعالم.

النهار العربي

————————–

دليل بوتين في الأحكام العرفية/ بسام مقداد

تصطدم قرارات بوتين في الفترة الأخيرة بتطورات وقائع جبهات القتال، فتجعلها مادة للتندر والفكاهة. فبينما كان يعلن فرض الأحكام العرفية في المناطق الأوكرانية التي ضمها إلى روسيا، كانت قيادته العسكرية في أوكرانيا تعلن عن إجلاء سكان خيرسون الأوكرانية من الضفة الغربية لنهر دنيبر تمهيداً، كما يشير المراقبون، للإنسحاب من المنطقة. وأطلق الإنسحاب المفترض سخرية ناشطي الإنترنت الروس، فبرز بين التعليقات واحد سخر من الإدعاء الروسي لدى كل إنسحاب جديد بأنه “إعادة تجميع القوى”، وقال “لا تقلقوا يا سادة، قواتنا تعيد تجميع نفسها تمهيداً لاستعادة منطقة خيرسون.  

تجاهل المسؤولون الروس كلياً ذكر المسيّرات الإيرانية التي يستخدمها الكرملين لقصف االأهداف الأوكرانية، في حين كان مجلس الأمن الدولي يناقش القضية، ويفرض الإتحاد الأوروبي العقوبات على طهران، ويعرض الإعلام العالمي صور حطام هذه الطائرات. وعلى خلفية هذا التجاهل تذكر ناشطو شبكات التواصل الإجتماعي نكتة روسية قديمة عن تلميذ المدرسة الشهير فوفا، حين طلبت المدرسة من التلامذة ذكر كلمة تبدأ بحرف الميم، فما تذكر فوفا سوى كلمة “مؤخرة”. نهرته المدرسة ووبخته على قلة أدبه، وقالت “مافي هيك كلمة”. جلس فوفا متمتماً: “غريب، مؤخرة في، بس كلمة ما في!”.

مرسوم فرض الأحكام العرفية بمستويات مختلفة في روسيا، أشدها في “المناطق الروسية الجديدة” كما يسمي الإعلام الروسي المناطق الأوكرانية التي جرى ضمها إلى روسيا، أثار الكثير من القلق والتخمينات بشأن الهدف منه، وأشكال التصعيد التي سيلجأ إليها الكرملين في أوكرانيا، وما إن كان يبعد أو يقرب إستخدام السلاح النووي فيها.

مواقع إعلام أوكرانية عديدة نقلت عن The Hill الأميركية، بما فيها الأسبوعية ZN  قولها أن لدى بوتين أربع وسائل لتصعيد الحرب ضد أوكرانيا من دون إستخدام النووي. أولى الوسائل التي يذكرها نص الأسبوعية المترجم والمنشور في 19 الجاري هي الأسلحة البيولوجية. ويقول بأن روسيا إتهمت غير مرة الولايات المتحدة بإنتاج الأسلحة البيولوجية في أوكرانيا. وحذرت واشنطن من أن موسكو نفسها تعد لهجوم بيولوجي أو كيميائي. وينقل عن محلل أميركي في مركز الأمن البيولوجي قوله بأنه، على الرغم من عدم وجود إثباتات على وجود برنامج إنتاج سلاح بيولوجي، إلا أن المعلومات المنشورة تشير إلى أن موسكو تحتفظ وتطور ما بقي لديها من الإتحاد السوفياتي.

وبشأن الهجوم الكيميائي، يقول المحلل بأنه سيكون من السهل إثبات حصول مثل هذا الهجوم إذا قامت به روسيا. ولذلك فإن الخبراء على قناعة بأن موسكو ستحاول القيام بالهجوم “تحت علم غريب”، وتحاول تقديم ذلك بأن أوكرانيا تقتل مواطنيها لتشويه سمعة روسيا.

بين الوسائل الأخرى التي تبحث فيها روسيا لصد الهجوم الأوكراني في الجنوب، هو تفجير السدود على نهر الدنيبر. ويقول البروفسور الجامعي الأميركي الذي أشار إلى هذا السيناريو بأن الجيش الروسي قد يلجأ إلى تفجير سدين في أعالي مجرى النهر. ويؤدي مثل هذا التفجير إلى إغراق كل الضفة اليسرى من النهر، وعدا عن عدد الضحايا الكبير، ستنشغل أوكرانيا بإجلاء مئات الالآف من المدنيين بدل الهجوم على خيرسون.

وبشأن الوسائل العادية ــــ الوسيلة الرابعة ــــ لخوض الحرب، يقول النص بأن القصف الصاروخي الروسي للبنية التحتية الأوكرانية خلال الشهر الأخير، أظهر أن روسيا قادرة على تصعيد الحرب بالوسائل التقليدية. وتعبئة مئات آلاف الجنود  الجدد، تثبت رغبة بوتين في زج قوات جديدة، بغض النظر عن المخاطر السياسية.   

أرفق بوتين مرسوم فرض الأحكام العرفية في المناطق الأوكرانية التي ضمها إلى روسيا بإصدار قائمة إرشادات (دليل) للعاملين في مواقعه الإعلامية عن كيفية تقديم المرسوم للجمهور، والتأكيد بأنه لا يحمل أي تغيير في واقع الروس. يقول موقع Meduza المعارض في 20 الجاري بأنه تمكن من الحصول على نسخة من “الدليل” كيف ينبغي على البروباغنديين أن يتحدثوا عن الأحكام العرفية، وكيف ينبغي أن يقارنوه مع جائحة كورونا، والتي فشلت روسيا في مواجهتها، كما يقول الموقع. في 19 الجاري وقع بوتين مرسوماً فرض بموجبه وضع “الأحكام العرفية” الشامل في المناطق الأوكرانية المحتلة، والجزئي في بقية الأنحاء الروسية. وعلى الفور تلقت وسائل الإعلام الرسمية والموالية من الكرملين “دليل إرشادات” كيف ينبغي تقديم مرسوم بوتين للقراء والمشاهدين.

يبدأ دليل الأرشادات بالتأكيد على أن “المهم تهدئة المتلقين ــــــ لا شيئ مهماً قد تغير”. وهو ينطلق في تأكيده أن هذه المناطق أصبحت روسية، غير ملتفت إلى رفض معظم العالم والمنظمات الدولية الإعتراف بشرعية هذا الضم. ولذلك يعتبر أن “لا شيء مهماً قد تغير”، حيث أن المناطق المعنية سبق أن كانت في الواقع تحت “الأحكام العرفية”.

يلفت دليل إرشادات ديوان الرئاسة الروسية نظر الإعلام إلى ضرورة تفسير القيود المفروضة في المناطق الروسية الأخرى على أنه إهتمام بحماية “البنية التحتية الحيوية”. كما ينصح بمقارنة فرض الأحكام العرفية بتجربة محاربة وباء الكورونا في روسيا. حينها، وكما الآن، حصل حكام المناطق الروسية على صلاحيات إضافية، وتولى الرقابة على الصعيد الإتحادي كل من رئيس مجلس الوزراء ورئيس بلدية موسكو.

يشير الدليل على البروباغنديين بالتركيز على أن الموظفين الرسميين سيتولون “تعبئة الصناعة وتوجيه الإقتصاد للعمل على تيسير مهمات الجيش وتدابير دعم المجندين وأسرهم”. ويعتبر أن هذا سيترافق مع “تخفيض البيروقراطية”.

يقول الموقع بأن البروباغنديين وبوتين نفسه يؤكدون دوماً أن روسيا تصدت بنجاح للجائحة. فقد ذكر بوتين في العام المنصرم أن في الغرب صناعة ونظاماً صحياً على مستوى رفيع،  وإنجازات باهرة “لا نزال نحن بعيدين عنها” على عدد من الإتجاهات. لكن هذا كله لفئة محددة من الناس، أما “عندنا” فللغالبية العظمى من الناس. واستنفار النظام الصحي والصناعة في روسيا كانت على مستوى “أرفع بما لايقاس” مما في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة.

لكن الموقع يؤكد أن هذا التقييم لا علاقة له بالواقع. وفقاً لإحصاءات العلماء فإن معدل الوفيات في روسيا واحد من الأرفع في العالم، حيث بلغت 1,2 مليون وفاة ، وبنسبة 800 وفاة لكل 100 ألف شخص.

في تأكيد غير مباشر لنص الموقع السابق، نشرت صحيفة NG الروسية الموالية في 19 الجاري نصاً تحدثت فيه عن تفاصيل المرسوم وضرورة الحديث عن أن الأحكام العرفية لاتغير شيئاً في واقع المناطق “الروسية الجديدة”، ولا في بقية أنحاء روسيا. وجاء النص بعنوان “بوتين يُدخل روسيا في وضع نصف عسكري”، وأرفقته بآخر ثانوي “مسؤولية تأمين العملية الخاصة أُسندت إلى الحكومة والمناطق في صيغة كوفيد 19”.

تتحدث الصحيفة عن ثلاثة مستويات متفاوتة لوضع الأحكام العرفية، أرفعها في المناطق”الروسية الجديدة”. وبعد إقرار المرسوم من قبل بوتين سارع حكام المناطق إلى الإعلان عن تسليم كل مقاليد الحكم للعسكريين. وأرفق بوتين المرسوم بآخر “حول التدابير المتخذة في وحدات الإتحاد الإدارية بشأن مرسوم الرئيس…” (لا علاقة له بدليل الإرشادات للإعلام) ، بما يعني إستخدام الأحكام العرفية لوضع البلاد على سكة التعبئة، برأي الصحيفة. وتقول الصحيفة أن المرسوم الثاني هو وثيقة تشريعية، وليس تنفيذية، وينسخ القانون الذي استخدم لمواجهة وباء كوفيد 19.

————————-

تسريبات برلسكوني المثيرة تُقلق إيطاليا والغرب… لماذا؟/ خلدون زين الدين

كان يمكن بقاء التسريبات عادية. مثيرةً قد تكون… ولكن عادية، بلا مخاوف أو قلق من تداعيات ما. سيلفيو برلسكوني، “صديق بوتين”، فعلها بما هو فوق العادي، وفي توقيت غير عادي. بالصوت أرادَ “السرية التامة” لما يقول، فانتشر كلامُه مُقلِقاً مَن في الداخل وخارج الحدود. لماذا كل هذا؟ ماذا جرى؟

برلسكوني رئيس وزراء إيطالي “سابق”، أما بلاده فتتحضر “الآن” للإعلان عن ائتلاف حكومي خلال أيام برئاسة جورجيا ميلوني، بعد فوز الائتلاف اليميني في الانتخابات الشهر الماضي. روسيا في الميزان، كيف؟ “نيويورك تايمز” الأميركية تحدثت في تقرير لها عن مخاوف حقيقية في إيطاليا من تصدع الائتلاف الحكومي المرتقب، بسبب وجود نظرتين مختلفتين داخل تشكيلة تقودها جيورجيا ميلوني، وفيها أسماء قريبة من برلسكوني. هنا مكمن القلق، لماذا؟

خلال مكالمة هاتفية حديثة، سُرّب صوت برلسكوني ملقياً باللوم على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لـ”إجباره” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “على غزو بلاده”. عليه، حتى قبل أن تؤدي الحكومة اليمين الدستورية، أثبت الملياردير البالغ من العمر 86 عاماً أنه “لن يشكل قوة مستقرة ومعتدلة لإيطاليا، بل مصدر قلق متجدداً”، تقول “نيويورك تايمز”، بعد تسريب ملاحظاته حول الحرب الروسية، وهي تسريبات سجلت خلسة وكشفت موقفه من الحرب.

رسالة لطيفة وفودكا

ليست تسريبات وحسب، ولا هي ملاحظات فقط… الحديث عن روسيا “في هذا التوقيت ليس عادياً”، وفق المراقبين، و”ما زاد الطين بلة”، هو ما كشف عنه برلسكوني بحديثه عن تلقيه “رسالة لطيفة من بوتين وفودكا”. الكلام المُسرّب لرئيس الوزراء الإيطالي السابق وبحضور مقربين منه في الائتلاف، أثار مخاوف من أن الحكومة الجديدة، بقيادة ميلوني، وهي نفسها مؤيد قوي لأوكرانيا، “ستكون منعدمة التوازن أكثر مما كان متوقعاً، ويمكن أن تقود إيطاليا الى تقويض الجبهة الموحدة لأوروبا ضد روسيا”، وفق الصحيفة.

موقع La Presse الكندي ذكر أن برلسكوني أعاد الاتصال ببوتين. وخلال حديث رئيس الوزراء الإيطالي السابق مع مقربين منه، ضمن اجتماع لأعضاء حزبه، قال إن الرئيس الروسي أرسل له 20 زجاجة فودكا “ورسالة طيبة للغاية” لمناسبة عيد ميلاده الـ86 الشهر الماضي. برلسكوني لم ينفِ صحة ما نُسب إليه، لكن تصريحات أخرى سُرّبت قبل يومين “تسببت بقدر أكبر من الضرر”، بحسب “نيويورك تايمز”.

تفاصيل

“هل تعرف كيف نشأت قضية روسيا؟ أرجو منك أن تحافظ على هذا في سرية تامة (…)”، يمكن سماع برلسكوني يقول هذا في التسجيل “متوجهاً إلى أحدهم”، يخبرنا La Presse. برلسكوني ألقى باللوم على أوكرانيا لخرقها اتفاق مينسك حول أراضي دونباس، وقتل “كما قيل لي (برلسكوني) 5، 6 أو 7 آلاف شخص في تلك المناطق، ما أدى إلى مناشدة بوتين حمايتهم”. ثم تابع نقلاً عن مصادره: “يقولون، فلاديمير، لا نعرف ماذا نفعل، دافع عنا”، قبل أن يبرر موقف بوتين بالقول: “لذلك قرر إطلاق عملية خاصة: كان من المفترض أن تدخل القوات أوكرانيا، وتصل إلى كييف في غضون أسبوع، وتطيح الحكومة الحالية، زيلينسكي وما إلى ذلك، وتنصيب حكومة اختارها بالفعل الأوكرانيون تتألف من قادة أكثر عقلانية”.

مباشرة بعد ذلك، يمكن سماع برلوسكوني وهو يعرب عن مخاوفه بشأن إرسال أسلحة وأموال لدعم أوكرانيا. ووفقاً لـ La Presse وصف برلوسكوني أيضاً بوتين بـ”رجل السلام”، رغم أن هذا “لم يتم تضمينه في التسجيل الصوتي المنشور”.

“يجب أن تسألوهم”

“تعليقات برلسكوني أُخرجت من سياقها”، كما قال النائب البارز من “فورتسا إيطاليا” أليساندرو كاتانيو. “يمكن نسخ المقاطع الصوتية وإعادة لصقها”، قال. حزب “فورتسا إيطاليا” بزعامة برلسكوني أكد دعمه سياسة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن أوكرانيا.

“فرانشيسكو لولوبريغيدا” أحد المساعدين المقربين من ميلوني، قال في تصريحات صحافية أخيرة: “نبقى داعمين للشعب الأوكراني ومدافعين عن الديموقراطية، ليس في هذا البلد فحسب، بل أيضاً وبقوة في المحور الغربي (…) وفي ما يتعلق بتعليقات الآخرين يجب أن تسألوهم”.

حجر الزّاوية

في موازاة تسريبات برلسكوني، ومحاولة التصويب والتأكيد، تتواصل في إيطاليا المحادثات بشأن تشكيل حكومة جديدة  برئاسة ميلوني. برلسكوني هنا، “فَقَدَ هدوءه واعترف لاحقاً بالانزعاج الشديد من مناقشات الائتلاف حول كيفية تقاسم المناصب الوزارية” تكتب “نيويورك تايمز”، لكنه لاحقاً، “عقد اجتماعاً مع ميلوني لتصفية الأجواء، وبعد ذلك نشرا صورة لهما وهما يبتسمان”.

زعيمة حزب “إخوة إيطاليا” اليميني جورجيا ميلوني، حذرت حليفها في الائتلاف المكلف تشكيل الحكومة، رئيس حزب “فورتسا إيطاليا” سيلفيو برلسكوني، من أن “من لا يشاطر الأسس التي يقوم عليها الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فهو خارج الحكومة”.

وكالة “آكي” الإيطالية ذكرت أن تسريبات برلسكوني “أثارت خلافات جديدة في تيار يمين الوسط وأدخلته في حالة من الفوضى”.

ميلوني بدت حاسمة. صرحت بما لا يدع مكاناً للشك بموقفها من وحدة أوروبا غامزة من قناة برلسكوني: “إيطاليا المؤهلة بالكامل، وبرأس مرفوع، تشكل جزءاً من أوروبا وحلف الأطلسي”. قالت ذلك محذرة رئيس الوزراء السابق من أنه “إن كنت لا تتفق مع حجر الزاوية هذا، فلن تكون قادراً على أن تمثل جزءاً من الحكومة، حتى لو حال ذلك دون تشكيل الحكومة”.

…تسريبات برلسكوني تثير القلق. القلق متواصل. إيطاليا تنتظر حكومتها، والحكومة مهددة بالتناقضات، يقول المراقبون ويكتب الإعلام الغربي. الساعات المقبلة قد تُظهّر الصورة بوضوح أكبر.

النهار االعربي

—————————

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى